التشيع ومسؤولية تمثيل الإسلام

هویة الکتاب

التشيع ومسؤولية تمثيل الإسلام

صفات الشيعة والمشاكل الداخلية الإسلامية وقضايا الوحدة والتكفير

من خطب سماحة المرجع الديني الشیخ محمد الیعقوبي

دار الصادقين

للطباعة والنشر والتوزيع

النجف الاشرف / شارع الرسول (صلی الله علیه و آله)

07808289364

الطبعة الأولى

1438 ه- - 2015م

ص: 1

اشارة

طبع في لبنان

جمیع الحقوقه محفوظة ومسجلة

الطبعة الأولى

1438 ه- - 2015م

دار الصادقين

للطباعة والنشر والتوزيع

النجف الاشرف / شارع الرسول (صلی الله علیه و آله)

ص: 2

التشيع ومسؤولية تمثيل الإسلام

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 4

الفصل الأول : نعمة الإسلام والنقلاب بعد وفاة النبی صلی الله علیه و آله وسلم و عوامل ازدهار التشیع

اشارة

ص: 5

ص: 6

الذين بدّلوا نعمة الله كفراً

الذين بدّلوا نعمة الله كفراً (1)

يرجون وعده ويخشون عذابه

من آداب تلاوة القرآن الكريم أن نقف عند كل آية عذاب وتحذير وتخويف وتهديد لنتوقع استحقاقنا لها، وأن نقف عند كل آية وعد وترغيب وتكريم ونعيم لنرجو أن نكون مشمولين بها، ولا نتصور أننا في مأمن ومنأى من آيات التخويف والتهديد، ورد في وصف سيرة الإمام الرضا (علیه السلام) إنه كان (يكثر بالليل في فراشه من تلاوة القرآن فإذا مرّ بآية فيها ذكر جنة أو نار بكى وسأل الله الجنة وتعوّذ من النار)(2)وروي عن الإمام الصادق (علیه السلام) في صفة الذين يتلونه حقتلاوته قال (علیه السلام) (ويرجون وعده ويخشون عذابه)(3)ولنأخذ ذلك مثلاً قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) (إبراهيم/28).

ص: 7


1- كلمة سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع طلبة فروع جامعة الصدر الدينية في المحافظات المتفوّقين في الامتحان المركزي الذي أُجريَ لهم في النجف الأشرف، يوم الأحد 28/ذ.ح/1434 الموافق 3/11/2013.
2- عيون أخبار الرضا: 2/182 ح5.
3- تنبيه الخواطر: 2/236.

ص: 8

كم من مُنعَم عليه وهو لا يعلم

يتصور أكثر الناس أن النعمة هي المال والحياة المرفّهة، وهذا لا شك مصداق مهم للنعمة لكن مصاديقها أوسع من ذلك بكثير مما لا يلتفت إليه أغلب الناس، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال (الصحة والفراغ نعمتان مكفورتان) وعنه (2) (نِعمتان مكفورتان: الأمن والعافية) وعنه (2) (نعمتان مفتون فيهما كثير من الناس: الفراغ والصحة).(1)

وكل نعمة من هذه النعم تتحلل إلى ما لا يعد ولا يحصى من النعم، قال تعالى (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا) (النحل/18) وقد شرحنا في بعض خطبنا السابقة أمثلة على ذلك، ولكن الإنسان يغفل عنها غالباً، عن الإمام الصادق(علیه السلام)قال (كم من مُنعَم عليه وهو لا يعلم) ولا يحسّ بقيمتها إلا إذا فقدها لا سامح الله، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (من كان في النعمة جهل قدر البليّة) وعن الإمام الحسن (علیه السلام) قال (تجهل النعم ما أقامت، فإذا ولّت عُرفت)، وإن كان في غنى عن الوصول إلى هذه المرحلة، إذ يكفي تذكرها والالتفات إليها أو تخيّل أضدادها لمعرفة قيمتها، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (إنما يُعرف قدر النعم بمقاساة ضدّها).

ص: 9


1- تجد مصادر هذه الروايات في: ميزان الحكمة: 9/72.

نعمة الإيمان بالله ورسوله وولاية أهل البيت (علیهم السلام):

ولابد أن نلتفت إلى أن الأهم من النعم المادية المذكورة النعم المعنوية، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (إن من النعم سعة المال، وأفضل من سعة المال صحة البدن، وأفضل من صحة البدن تقوى القلب) وعن الإمام الباقر (علیه السلام) قال (لا نعمة كالعافية، ولا عافية كمساعدة التوفيق).

ومن النعم المعنوية اجتماع الكلمة على الإيمان بالله تعالى وبرسوله وولاية أهل البيت (علیهم السلام) كما ورد في تفسير قوله تعالى (وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَقُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا) (آل عمران/103) قالت الصدّيقة الزهراء (علیها السلام) في خطبتها (فأنقذكم الله بأبي محمد (صلی الله علیه و آله) وروى العياشي في تفسيره قال: كان أبو عبد الله (علیه السلام) إذا ذكر النبي (صلی الله علیه و آله) قال: (بأبي وأمّي ونفسي وقومي وعترتي عجبٌ للعرب كيف لا تحملنا على رؤوسها والله يقول في كتابه (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) فبرسول الله (صلی الله علیه و آله) والله أنقذوا)(1)ما ورد عن النبي (صلی الله علیه و آله) في تفسير قوله تعالى (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) (لقمان/20) (أما ما ظهر فالإسلام وما سوّى الله من خلقك، وما أفاض عليك من الرزق،

ص: 10


1- تفسير العياشي: 1/218 ح126.

وأما ما بطن فستر مساوئ عملك ولم يفضحك به)، وعن الإمام الباقر (علیه السلام) (النعمة الظاهرة النبي (صلی الله علیه و آله) وما جاء به النبي من معرفة الله عز وجل وتوحيده، وأما النعمة الباطنة ولايتنا أهل البيت وعقدُ مودتنا) وعن الإمام الصادق (علیه السلام) (ما أنعم الله على عبد أجلّ من أن لا يكون في قلبه مع الله عز وجل غيره) وعنأمير المؤمنين (علیه السلام) (إن من النعمة تعذّر المعاصي)، وعن الإمام الكاظم (علیه السلام) (النعمة الظاهرة الإمام الظاهر، والباطنة الإمام الغائب).

كيفية الحفاظ على النعمة:

وبعد الاطلاع على سعة النعمة وتنوعها وأهميتها ينفتح السؤال عن كيفية الحفاظ عليها وإدامتها لأنها معرضة للزوال –والعياذ بالله- فلابد من الحذر، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال (أحسنوا مجاورة النعم، لا تملّوها ولا تنفرّوها، فإنها قلما نفرت من قوم فعادت إليهم) وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (أحسنوا صحبة النعم قبل فراقها، فإنها تزول وتشهد على صاحبها بما عمل فيها).

شكر النعمة:

والذي يوجب بقاء النعمة ودوامها ويمنع من نفورها شكر النعمة، والذي يوجب نفور النعمة وزوالها كفر النعمة، وهما معنيان متضادان يعرف معنى كل منهما بعكس معنى الآخر عن أمير المؤمنين (علیه السلام) (أحسن الناس حالا في النعم من استدام

ص: 11

حاضرها بالشكر وارتجع فائتها بالصبر) وعنه (علیه السلام) (إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر) وعن الإمام الصادق (علیه السلام) (لا تدوم النعم إلاّ بثلاث: معرفة بما يلزم لله سبحانه فيها، وأداء شكرها، والتعب فيها) وعن الإمام الهادي (علیه السلام) (القوا النعم بحسن مجاورتها والتمسوا الزيادة فيها بالشكر عليها).

أشكال الشكر والكفر بالنعم:

إن كفر النعمة وما يقابله من شكرها له معانٍ وأشكال عديدة:

عدم استعمالها في طاعة الله تعالى كما مرّ في الأحاديث الشريفة التي وصفت الفراغ والصحة والأمن بأنّها نعم مكفورة لأنّها لم تُستثمر في طاعة الله تعالى، والأسوأ أن تستخدم في معاصيه، عن أمير المؤمنين (علیه السلام): (أقل ما يلزمكم لله ألاّ تستعينوا بنعمه على معاصيه) وعنه (علیه السلام) قال (استتموا نِعم الله عليكم بالصبر على طاعته، والمجانبة لمعصيته).

وعن الإمام الصادق (علیه السلام) (إن أردت أن يُختم بخير عملك حتى تُقبض وأنت في أفضل الأعمال فعظّم لله حقّه أن لا تبذل نعماءه في معاصيه).

عدم أداء حقوق النعمة كمن لا يؤدي ما بذمته من الحقوق الشرعية أو يهمل أداء فريضة الحج وهو مستطيع أو لا يصوم شهر رمضان وهو قادر وهكذا، وفي ذلك قال أمير المؤمنين (علیه السلام)

ص: 12

(اضرب بطرفك حيث شئت من الناس، فهل تبصر إلاّ فقيراً يكابد فقراً، أو غنيّاً بدّل نعمة الله كفراً، أو بخيلاً اتّخذ البخل بحقّ الله وفرا)(1)ومحل الشاهد تطبيق الإمام الآية بالنص على من لم يؤدي حقوق الله تعالى في أمواله، وعنه (علیه السلام) قال: (يا أيّها الناس: إنّ لله في كلّ نعمة حقّاً، فمن أدّاهُ زاده، ومن قصّر عنه خاطر بزوال النعمة وتعجّل العقوبة، فليراكم الله من النعمة وجلين كما يراكم من الذنوب فرقين) ويشرحها الإمام الرضا (علیه السلام) بقوله: (إنّ صاحب النعمة على خطر، إنه يجب عليه حقوق الله فيها، واللهِ إنّه لتكون عليَّ النعم من الله عزّ وجل فما أزال منها على وجل-وحرّك يده- حتّى أخرج من الحقوق التي تجب لله عليّ فيها).

فكلّ نعمة تستوجب حقّاً، الوالدان نعمة ولهم حقوق، والمرجعية المخلصة العاملة نعمة ولها حقوق، والجاه والموقع نعمة وعلى صاحبه حقوق، عن الإمام الرضا (علیه السلام) قال: (استعمال العدل والإحسان مؤذن بدوام النعم)، وهكذا.

ومن كفر النعمة التقصير باستعمال ما أنعم الله تعالى عليه في خدمة الناس وقضاء حوائجهم وإدخال السرور عليهم،عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال (إن لله عباداً اختصهم بالنعم يُقرّها فيهم ما بذلوها للناس فإذا منعوها حوّلها منهم إلى غيرهم) وعن أمير المؤمنين

ص: 13


1- نهج البلاغة: الخطبة 129 في ذكر المكاييل والموازين.

(علیه السلام) قال (من كثرت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس إليه، فمن قام لله فيها بما يجب فيها عرّضها للدوام والبقاء، ومن لم يقم فيها بما يجب عرّضها للزوال والفناء).

فالذي يمكّنه الله تعالى في الأرض ويضع تحت تصرفه موارد الدولة والشعب وهو يسخّرها لمصالحه الشخصية والحزبية فهو ممن بدّل نعمة الله كفراً، والذي يستعمل الوسائل العلمية الحديثة التي أنعم الله تعالى بها على عباده في غير مرضاة الله فهو ممن بدّل نعمة الله كفرا وهكذا.

عدم التحديث بها ونشرها قال تعالى (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (الضحى/11) روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله (إنّ الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده) وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال (إذا أنعم الله على عبده بنعمة فظهرت عليه سُمّي حبيب الله محدثاً بنعمة الله، وإذا أنعم الله على عبدٍ بنعمة فلم تظهر عليه سُمي بغيض الله مكذّباً بنعمة الله) فاعتباره مكذّباً بنعمة الله مبغوضاً عند الله تعالى لأنّه لم يحدّث بنعمة الله ولم يظهرها، وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (إنّي لأكره للرجل أن يكون عليه نعمة من الله فلا يظهرها).

كمال النعمة وتمامها:

وإنّ أعظم النعم على الإطلاق الإسلام كما دلّت عليه الروايات الشريفة عن الإمام الحسين (علیه السلام) في قوله تعالى (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ

ص: 14

فَحَدِّثْ) (الضحى/11) قال (علیه السلام) (أمره أن يحدّث بما أنعم الله به عليه في دينه)، وتمام هذه النعمة التي كمُل بها الإسلام نعمة ولاية أهل البيت (علیهم السلام) بدلالة النصوص القرآنية ومنها الآية الشريفة التي نزلت في واقعة الغدير وتنصيب أمير المؤمنين (علیه السلام) إماماً وهادياً للأمة وخليفة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) فنزل قوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً)(المائدة/3) وما ورد في تفسير قوله تعالى «ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ »التكاثر8 من حديث الإمام الصادق (علیه السلام) مع أبي حنيفة قال: (نحنُ –أهل البيت- النعيم الذي أنعم الله بنا على العباد وبنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين وبنا ألّف الله بين قلوبهم وجعلهم اخواناً بعد أن كانوا أعداءاً وبنا هداهم الله إلى الإسلام وهي النعمة التي لا تنقطع، والله سائلهم عن حقّ النعيم الذي أنعم الله به عليهم وهو النبي (صلی الله علیه و آله) وعترته)(1)فأهل البيت ليسوا نعمة فقط بل نعمة باقية ثابتة مقيمة فتكون كثيرة مباركة لذا وصفهم بالنعيم.

ومن مجموع هذه المقدمات نصل إلى نتيجة: أن أوضح مصاديق تبديل نعمة الله كفراً هم الذين لم يؤمنوا بالإسلام وأشركوا بالله تعالى وأنكروا نبوة الرسول محمد (صلی الله علیه و آله).

ص: 15


1- راجع الروايات في تفسير البرهان: 10/230.

الإعراض عن ولاية أهل البيت (علیهم السلام):

وممن تنطبق عليهم الآية كلّ من أعرض عن ولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) ولم يلتزم بوصية النبي (صلی الله علیه و آله) فضلاً عمّن ظلم أهل البيت (علیهم السلام) ونصب لهم العداوة والبغضاء فهو ممن بدّل نعمة الله كفراً.

وهذه النتيجة مذكورة نصّاً في القرآن الكريم بلفظ الانقلاب الذي هو معنى آخر لتبديل النعمة كفراً قال تعالى (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران/144) فالألفاظ المستعملة نفسها وهي الانقلاب المرادف للتبديل والشكر المقابل للكفر.

ووردت في ذلك روايات عديدة ففي الكافي بسنده عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (ما بال أقوام غيّروا سنّة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعدلوا عن وصيّه لا يتخوّفون أن ينزل بهم العذاب) ثمّ تلا هذه الآية (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ* جهنّم يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ) (إبراهيم/28-29) ثمّ قال (نحن النعمة التي أنعم الله بها على عباده، وبنا يفوز من فاز)(1).

وعلينا أن نتذكر أن من كفر النعمة عدم إظهارها والتحديث بها

ص: 16


1- الكافي: 1/169 ح1.

وعدم القيام بحقوقها كما دلّت عليه الروايات المتقدّمة، فمن قصّر في إظهار نعمة ولاية أهل البيت (علیهم السلام) ولم يتحرّك لإقناع الناس بها بأيّ وسيلة خصوصاً مع توسّع وسائل تبادل المعلومات ونقلها، أو لم يحفظ حرمة أهل البيت (علیهم السلام) في سلوكه وصفاته فهو ممّن لم يشكر هذه النعمة وربّما انطبقت عليه الآية بمعنى من المعاني.

فليتفقّه كلّ شيعة أهل البيت (علیهم السلام) في دينهم وليطلعوا على سيرة أهل البيت (علیهم السلام) ومناقبهم وفضائلهم ومحاسن كلامهم ليوصلوها إلى البشرية جمعاء إذا أردنا أن نكون من الشاكرين على هذه النعمة، وحتى نكون صادقين مع الله تعالى ومع أنفسنا حينما نتبادل التهاني والتبريكات في مثل هذه الأيام ونحمد الله تعالى على التشرّف بولاية أميرالمؤمنين (علیه السلام) ومباهلة النبي (صلی الله علیه و آله) ونزول سورة هل أتى والتصدّق بالخاتم وغيرها من المناقب الكثيرة.

وعلينا أن نُحيي أمر أهل البيت (علیهم السلام) خصوصاً الشعائر الفاطمية والحسينية شكراً لله تعالى على نعمة مودّتهم وولايتهم وقد كثرت الروايات عنهم (علیهم السلام) أنّهم هم النعمة التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم وبهم يفوز من فاز، وقد مرّ في الأحاديث الشريفة أن شكر النعمة يتحقق بإظهارها والتحدّث بها.

ص: 17

ص: 18

الإسلام والمسلمين بعد وفاة النبي (صلی الله علیه و آله)

ما الذي يستوقفنا في ذكرى وفاة النبي (صلی الله علیه و آله):

تستوقفنا في ذكرى وفاة رسول الله(1)صلی الله علیه و آله عدة أمور:

الأول: كانت وفاته (صلی الله علیه و آله) شهادة على أن البقاء لله وحده قال تعالى: «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ» (الزمر:30) وقال الإمام الحسين (علیه السلام) ليلة عاشوراء لأخته العقيلة زينب (علیه السلام) : (إن أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون) ولو استحق أحد أن يبقى لكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأنه أكمل الخلق وأفضلهم وجعل الكون بما فيه طوع إرادته وهو عند الله تعالى أكرم من نبيه سليمان بن داود الذي قال فيه أمير المؤمنين (علیه السلام): (ولو أن أحداً يجد إلى البقاء سلّماً، أو لدفع الموت سبيلاً، لكان ذلك سليمان بن داود (علیه السلام)، الذي سُخّر له مُلك الجن والإنس، مع النبوة وعظيم الزلفة. فلما استوفى طُعمته، واستكمل مدّته، رمَته قِسيُّ الفناء بنبال الموت، وأصبحت الديار منه خالية والمساكن معطّلة، وورثها قومٌآخرون)(2)وفي ذلك موعظة للخلق جميعاً.

ص: 19


1- حديث سماحة الشيخ اليعقوبي من قناة (أهل البيت) الفضائية ليلة وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) في 28 صفر 1430 المصادف 24/2/2009.
2- نهج البلاغة، الخطبة 182، صفحة 262، شرح د. صبحي الصالح، بيروت 1967.

الثاني: هوان الدنيا على الله تبارك وتعالى حين يُخليها من رسول الله (صلی الله علیه و آله) فما قيمتها بدونه (صلی الله علیه و آله) فأصبحت الدنيا بفقده مظلمة، والآخرة بنوره مزهرة، وفي ذلك عبرة لمن تطمح عينه إلى الدنيا ويجعلها هدفاً لحياته، قال أمير المؤمنين (علیه السلام): (ولقد كان في رسول الله (صلی الله علیه و آله) كافٍ لك في الأسوة، ودليل لك على ذم الدنيا وعيبها، وكثرة مخازيها ومساويها، إذ قُبضت عنه أطرافها، وَوُطِّئت لغيره أكنافها، وفُطمَ عن رضاعها، وزوي عن زخارفها) (فتأسَّ بنبيِّك الأطيب الأطهر (صلی الله علیه و آله) فإن فيه أسوةً لمن تأسّى، وعزاءً لمن تعزّى. وأحبُّ العباد إلى الله المتأسّي بنبيه والمقتصّ لأثَرِه) (عُرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها، وعلمَ أن الله سبحانه أبغضَ شيئاً فأبغضه، وحقَّر شيئاً فحقّره، وصغّر شيئاً فصغّره. ولو لم يكن فينا إلا حبُّنا ما أبغضَ اللهُ ورسولُه وتعظيمُنا ماصغّرَ اللهُ ورسولُه، لكفى به شقاقاً لله، ومحادَّةً عن أمر الله)(1)

الثالث: انقطاع جملة من البركات كانت مرتبطة بشخصه المبارك ووجوده بين الناس (منها) الوحي المباشر الذي كان ينزل عليه (صلی الله علیه و آله) (ومنها) ارتفاع ألوان من العذاب، قال تعالى: «وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» (الأنفال:33) وورد في أخبار الفريقين أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (أنزلَ الله عليَّ أمانين لأمتي: «وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ

ص: 20


1- نهج البلاغة، الخطبة 160، صفحة 226-228.

اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة)(1)،

ومع ذلك فإن خيره وبركاته متواصلة حتى بعد وفاته، عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) مقامي بين أظهركم خير لكم فإن الله يقول: «وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ»، ومفارقتي إياكم خير لكم. فقالوا: يا رسول الله مقامك بين أظهرنا خير لنا فكيف يكون مفارقتك خير لنا؟ فقال: أما مفارقتي لكم خير لكم فإن أعمالكم تعرضعلي كل خميس واثنين فما كان من حسنة حمدت الله عليها، وما كان من سيئة أستغفر الله لكم)(2).

الرابع: انفتاح باب الظلم والعدوان على آل بيت النبي (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) وقد قال (صلی الله علیه و آله) لأهل بيته: (أنتم المستضعفون بعدي) وحصل ما حصل على دار علي وفاطمة (صلوات الله عليهما وآلهما) - لذا لا يكاد ينفك الحديث عن وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الحديث عما تعرضت له الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیه السلام) - مخالفين بذلك قول الله تبارك وتعالى: «قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» (الشورى: 23) ووصايا نبيه الأكرم (صلی الله علیه و آله) الكثيرة.

ص: 21


1- الميزان في تفسير القرآن، في ذيل الآية 33 من سورة الأنفال.
2- الميزان في تفسير القرآن: 9/86.

الخامس: الانقلاب على الأعقاب ومخالفة وصية رسول الله (صلی الله علیه و آله) في أمير المؤمنين (علیه السلام) بالإمامة والخلافة، قال تعالى: «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ» (آل عمران:144)وهذه أهم قضية بلّغها رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأدّاها عن ربه بنص القرآن الكريم قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» (المائدة:67).

وكل واحد من هذه الأمور يستحق أن نطيل الوقوف عنده والتأمل فيه، ولكن الوقت لا يسع لذلك فنقتصر على الأخير لأهميته.

قضية الإمامة:

إن قضية الإمامة والخلافة أعظم قضية في الإسلام فهي مفتاح كل خير لو أن الأمة اهتدت إليها وأخذت بها، ومفتاح كل شرّ - والعياذ بالله- من سفك دماءٍ وتخريب ديار وانحرافٍ عن الدين، عندما يتخلفون عنها، وقد كان النبي (صلی الله علیه و آله) بدأ التصريح بها والدعوة إليها منذ أيام الإسلام الأولى عندما نزلت الآية الشريفة «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ» (الشعراء:214) فقد روى الفريقان أن النبي (صلی الله علیه و آله) جمع بني عبد المطلب وكانوا أربعين رجلاً ودعاهم إلى الإيمان

ص: 22

ومؤازرته واختار علياً ليكون وصيه وخليفته(1)

ثم والى (صلی الله علیه و آله) الإعلان والتبليغ بها حتى دعاه الله تبارك وتعالى إلى إكمال الدين وإتمام النعمة بإلزام المؤمنين بولاية علي بن أبي طالب (علیه السلام) في غدير خم قبل وفاته (صلی الله علیه و آله) بشهرين وعشرة أيام، لكن بعض الصحابة ولأسباب معلومة نكثوا البيعة، وعندما حاول (صلی الله علیه و آله) تأكيدها قبل وفاته بأربعة أيام أي يوم الخميس الذي سبق وفاته يوم الاثنين حصل لغط وخلاف بين الصحابة فقال (صلی الله علیه و آله) لهم: قوموا، ثم أوصى أهل بيته بالاستعداد للبلاء واتخاذ الصبر جلباباً، هذه الحادثة التي أطلق عليها عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن: (رزيّة يوم الخميس) لأنها أساس المصائب والانحراف عن خط الرسالة.

تعاظم الانحراف:

الانحراف الذي بدأ –كأي خط مائل عن الخطالمستقيم- يسيراً ثم ازداد بعداً كلما تقدم الزمن فبدأت عُرى الإسلام تُنقَض، ومقدساته تنتهك ولم تبق حرمة له حتى آلت الخلافة إلى أناس يقتلون أولاد النبيين ويحرقون الكعبة ويشربون الخمر ويفعلون المنكرات جهاراً على منابر المسلمين، ونشأت أجيال من المسلمين لا تفقه من أحكام الإسلام شيئاً لأن الناس على دين ملوكهم، ولا سبيل للوصول إلى الأئمة الهداة الحقيقيين

ص: 23


1- |الميزان في تفسير القرآن: ذيل تفسير الآية 214 من سورة الشعراء.

فهم معتقلون ومعذبون ومحاصرون، وكان الداخلون الجُدد في الإسلام من الأمم التي غزاها المسلمون لا يرون من الإسلام إلا ما يظهر على سلوك الأمراء، ولولا جهاد وجهود الأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) والثلة المباركة من أصحابهم لما بقي للدين عين ولا أثر كأبان بن تغلب الذي قال فيه الإمام الصادق (علیه السلام) لما بلغه موته: (لولا أبان لمات فقه أبي).

الآثار الكارثية للانقلاب على الوصية النبوية:

وكان لهذا الانقلاب على وصية رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مستحقي الإمامة والخلافة من بعده وإقصاء القادة الحقيقيين للأمة آثار(1) كارثية وويلات عظيمة على الأمة:

منها: تصدي غير المؤهلين للخلافة بل الفاسدين من بني أمية وبني العباس وأضرابهم مما أدى إلى:

تشوّه صورة الإسلام نفسه لأن أي دين أو نظام أو آيديولوجية تُقيَّم من خلال سلوك القائمين عليها لعدم التفكيك بين النظرية والممارسة والتطبيق، فلما يتصدى للحكم باسم الإسلام قتلةٌ ومجرمون وفاسدون فإنهم يشوّهون صورته.

ص: 24


1- تجد تفصيل هذه النقاط في خطاب سابق لسماحة الشيخ اليعقوبي بعنوان (ماذا خسرت الأمة حينما ولّت أمرها من لا يستحق) وهو منشور في كتاب (الأسوة الحسنة).

2- طمع أعداء الإسلام في الكيد له واستئصال قواعده وتعاليمه حيث وجدوا لهم منفذاً بل حظوة لدى أولئك المتسلطين الجبابرة.

3- ضياع مقاييس ومعايير الاستحقاق لهذا المنصب العظيم فأصبحت هدفاً لكل الطامعين في السلطة والحكم ولو بالقهر والسيف ما دام الحكم لمن غلب.ومنها: ابتداع وسائل من صنع الإنسان للوصول إلى التشريعات كالقياس والشورى وأمثالها لابتعادهم عن مصادر التشريع الأصلية ولحاجتهم إلى قوانين تؤصّل لسلطتهم وتعطيهم الشرعية؛ لذا تبدلت الأحكام وصارت القوانين التي تحكم الحياة وضعية وليست إلهية.

ومنها: عرقلة تربية البشرية وتكاملها، لأن المعلم يجب أن يكون عالماً والواعظ متّعظاً والمصلح صالحاً فكيف يربي الأمة من يتبع هواه ويطلق لنفسه الأمارة بالسوء العنان وقد جعل الشيطان ولياً له من دون الله العظيم فافتقدت الأمة الأسوة الحسنة والمربي الصالح الحنون إلا القليل ممن اهتدى إلى الحق ورزقه الله اتباعه، وعلى العكس من ذلك فقد شجعت تلك السلطات الفساد والانحراف وكانت تمارسه علناً وتوفّر أسبابه.

ومنها: تمزّق الأمة وتشتتها إلى فرق وأحزاب وطوائف متناحرة يستحل بعضهم دماء البعض الآخر «كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ

ص: 25

فَرِحُونَ» (المؤمنون: 53) ولم يلتفتوا إلى وصية الله تبارك وتعالى: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاتَفَرَّقُوا» (آل عمران:103) وقوله تعالى: «وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ» (الأنفال:46) وقد فسّرت الأحاديث الشريفة حبل الله بالقرآن الكريم وعترة النبي (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته.

ومنها: انحسار دور الدين عن التأثير في حياة الأمة، فبعد أن كانت رسالته تنظيم شؤون الحياة كلها اقتصر أثره على عدد من المتدينين من خلال طقوس وعبادات يؤدونها، وقد عمل الطغاة على ذلك لأنهم يعلمون أن إعطاء دور شامل للدين يعني الحاجة إلى الرجوع إلى القيّمين الحقيقيين عليه مما يعني خسارة الحكام الجائرين لسلطتهم ومواقعهم فقرروا عزل الدين ليعزلوا أئمته والأدلاّء عليه.

ومنها: تأخر ركب الحضارة الإنسانية، لأن أوصياء النبي (صلی الله علیه و آله) كان لديهم كل ما تحتاجه البشرية من علوم وقد احتوت المصادر على نظريات علمية في الفيزياء والفلك والرياضيات والفسلجة والكيمياء والطب وغيرها لأئمة أهل البيت (راجع كتاب قضاء أمير المؤمنين (علیه السلام) وتوحيد المفضّل ورسائل جابر بن حيّان في الكيمياء) فلو أُتيحت الفرصة لأئمة أهل البيت لإظهار علومهم وثنيت لهمالوسادة، لما احتجنا إلى أربعة عشر قرناً

ص: 26

لنصنع الطائرة والكومبيوتر والإنسان الآلي والتكنولوجيا النووية وغيرها مما يضمن للبشرية حياةً أفضل وأهنأ وأسعد.

وعلى أي حال فقد كانت خسارتنا برسول الله (صلی الله علیه و آله) عظيمة بعظم النتائج التي حصلت بوفاته (صلی الله علیه و آله) فما أصيبت البشرية بمثل رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعلى مثله فليبك الباكون وليندب النادبون:

أنسَتْ رزيّتُكم رزايانا التي *** سلفتْ وهوّنت الرزايا الآتية

ص: 27

ص: 28

احذروا مدّعي الزعامة بغير حق

احذروا مدّعي الزعامة بغير حق(1)

كثر في هذا الزمن مدعوا الزعامات سواءً على الصعيد الديني أو السياسي أو الاجتماعي، وهي قضية خطيرة بل لعلها أخطر القضايا التي تواجهها الأمة، لأن بها صلاح الأمة وفسادها في دينها ودنياها وآخرتها، ففي الحديث عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال: (صنفان من أمتي إذا صلحا صلحتأمتي وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل يا رسول الله ومن هما؟ قال (صلی الله علیه و آله) : الفقهاء والأمراء)(2).

شروط القيادة:

فللزعامة والقيادة والرئاسة على الناس شروط ومواصفات وخصائص يجب توفّرها ليكون مؤهلاً لهذا الموقع الشريف والروايات في ذلك كثيرة لا يسع المجال ذكرها، وإنما نورد شيئاً منها للاتعاظ والتدبر.

ص: 29


1- كلمة سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع حشد الطلبة والشباب الذي يقضون المعايشة، مدّتها عشرة أيام في العشر الأواخر من شهر رمضان إلى جوار مرقد أمير المؤمنين (علیه السلام) وتعدّ لهم برامج دينية وتوعويّة وقد استقبلهم سماحته يوم الثلاثاء 25 رمضان 1433 الموافق 14/8/2012.
2- («1» ) الخصال للشيخ الصدوق (قده)، باب الإثنين، حديث 12.

ملكة الاجتهاد:

ومن تلك الشروط: توفّر ملكة الاجتهاد والإحاطة العلمية التامة بأصول الشريعة وكيفية تحصيل الحكم الشرعي والموقف إزاء أي قضية تواجه الأمة من تلك المصادر، ففي رواية صحيحة في الكافي بسنده عن العيص بن القاسم قال: (سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له وانظروا لأنفسكم ، فوالله إن الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فاذا وجد رجلا هو أعلم بغنمه من الذي هو فيهايخرجه ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها ، والله لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرب بها ثم كانت الأخرى باقية تعمل على ما قد استبان لها ، ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة فأنتم أحق أن تختاروا لأنفسكم ، إن أتاكم آت منا فانظروا على اي شيء تخرجون)(1).

وفي رواية صحيحة أخرى له بسنده عن عبد الكريم بن عتبة الهاشمي عن الإمام الصادق (علیه السلام)، جاء فيها (وأنتم أيها الرهط فاتقوا الله فإن أبي حدثني وكان خير أهل الأرض وأعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه (صلی الله علیه و آله) إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: من ضرب الناس بسيفه ودعاهم إلى نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضال متكلّف)(2).

ص: 30


1- وسائل الشيعة، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 13 ح1.
2- وسائل الشيعة، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب9، ح2.

الملكات النفسية والمعنوية:

ومن مؤهّلات الزعامة: الخصائص والملكات النفسية والمعنوية، روى الشيخ الصدوق (رحمة الله علیه) في الخصال بسنده عن الإمام الصادق (علیه السلام) عن أبيه قال (إن الإمامة لا تصلح إلا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن المحارم، وحلم يملك به غضبه، وحسن الخلافة على من وُلّي حتى يكون له كالوالد الرحيم)(1).

التحذير من الزعامات الباطلة:

وقد ورد التحذير الشديد من دعوى الزعامة والقيادة والرئاسة بغير حق، والتحذير موجّه إلى الشخص نفسه ليثوب إلى رشده ويقلع عن فتنته ويتّقي ربَّه، وموجّه أيضاً إلى الناس لكي لا يتبّعوا مثل هذه الزعامات البائسة الخاوية الحمقاء، قال الإمام الصادق(علیه السلام) (إياكم وهؤلاء الرؤساءالذين يترأسّون، فوالله ما خفقت النعال خلف رجل إلا هلك وأهلك)(2).

وعن الإمام الرضا (علیه السلام) –بعد ما ذكر الإمام (علیه السلام) رجلاً وقال إنه يحب الرئاسة- (ما ذئبان ضاريان في غنم قد تفرّق رعاؤها بأضرّ في دين المسلم من الرئاسة)(3).

ص: 31


1- الخصال: 116 أبواب الثلاثة ح97.
2- منتخب ميزان الحكمة: 263 عن أمالي الصدوق: 131.
3- منتخب ميزان الحكمة: 263 عن أمالي المفيد: 283.

ومما ورد فيما ناجى الله تعالى به موسى (علیه السلام) (لا تغبطنّ أحداً برضا الناس عنه حتى تعلم أن الله راضٍ عنه ولا تغبطنّ أحداً بطاعة الناس له فإنّ طاعة الناس واتباعهم إياه على غير الحق هلاك له ولمن تبعه)(1).

كونوا على حذر:

وهذا التحذير يجب أن نستحضره دائماً لكثرة الطامحين إلى مواقع الزعامة والرئاسة في هذا اليوم وفي كل يوم، وهم يعلمون أنهم ليسوا من أهلها، ولأنهم فاشلون لايستطيعون السعي لبلوغ هذا الاستحقاق، فإنهم يسلكون أساليب ملتوية وماكرة تخدع السذّج من الناس والمهوسين باتباع كل ناعق من أصحاب هذه الدعوات، أو الذين يبحثون عن عناوين ومواقع تحقق لهم الجاه والامتيازات.

من اساليب الالتواء:

وهذه الأساليب الماكرة الخادعة للناس لا يصعب إيجادها مع وجود شياطين الجن والإنس، كالذي حدث بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، روى ابن هشام في السيرة بسنده عن أبي هريرة قال: (لما توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله) قام عمر بن الخطاب، فقال: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد توفى، وإن رسول الله (صلی الله علیه و آله)

ص: 32


1- بحار الأنوار: 73/ 72.

ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات؛ ووالله ليرجعن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) مات.قال: وأقبل أبو بكر حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر ، وعمر يكلم الناس ، فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه «وآله» وسلم في بيت عائشة ، ورسول الله (صلی الله علیه و آله) مسجى في ناحية البيت ، عليه برد حبرة ، فأقبل حتى كشف عن وجه رسول الله (صلی الله علیه و آله).

قال: ثم أقبل عليه فقبله، ثم قال : بأبي أنت وأمي ، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها ، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدا . قال : ثم رد البرد على وجه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ثم خرج وعمر يكلم الناس ، فقال : على رسلك يا عمر ، أنصت ، فأبى إلا أن يتكلم ، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس ، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر ؛ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس ، إنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت . قال : ثم تلا هذه الآية : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين.قال : فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى

ص: 33

تلاها أبو بكر يومئذ ؛ قال : وأخذها الناس عن أبي بكر ، فإنما هي في أفواههم ؛ قال : فقال أبو هريرة : قال عمر : والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها ، فعقرت حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي ، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه «وآله» وسلم قد مات)(1).

لكي يقطعوا الطريق على أمير المؤمنين (علیه السلام):

أقول بهذه الحيلة قطعوا الطريق على كل من يفكر بتنفيذ وصية رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الخليفة من بعده حتى يحبكوا مؤامرتهم ويرتّبوا وضعهم ويأتي خليفتهم المزعوم الذي كان خارج المدينة، فهل كان الرجل يعتقد فعلاً أن محمد (صلی الله علیه و آله) لن يموت؟ فهو جاهل بكتاب الله تعالى إذ يقول (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) (الزمر/30) ويقول سبحانه (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) (آل عمران/144) وبعمومات الكتاب(أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) (النساء/78)، وأين كان حين نعى رسول الله (صلی الله علیه و آله) نفسه مرات بقوله (يوشك أن ادعى فأجيب)(2)(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) شاهداً على ذلك أن جبرئيل كان يعارضه بالقرآن في كل سنة مرة وعارضه هذه السنة مرّتين، ووصيته بالتمسك بالثقلين بعد وفاته (صلی الله علیه و آله) .

ص: 34


1- السيرة النبوية لابن هشام: ج4، ص224.
2- البحار: ج23 ص113.

وإذا كان جاهلاً بكل هذه الواضحات فكيف جاز له أن يكون خليفة على المسلمين وكيف يسيّر أمورهم؟.

إذن هو لا يخفى عليه ذلك لذا كان من الفارّين يوم أحد حينما صاح أحدهم أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد قتل، ولكن هذه الدعوى كانت لكسب الوقت حتى يجري ترتيب الأمور لمن يريدون، كالذي تفعله بعض الحكومات اليوم حينما تؤجّل إعلان موت الحاكم حتى تمهّد الأمور لولي عهده، وإلى اليوم توجد مثل هذه الحيل للاستمرار في خداع الناس وتوجيههم إلى ما يريدون.

التظاهر بالقداسة:

ومن أساليب الخداع التي يتبعها الطامعون في الرئاسات التظاهر بالقداسة والابتعاد عن الدنيا، وهم إنما يتركون بعض متع الدنيا الزهيدة ليفوزوا بدنيا أهم وأوسع، وهنا رواية مهمة عن الإمام السجاد (علیه السلام) يجب أن نستفيد منها دائماً؛ روي عن الإمام الرضا (علیه السلام) قال (قال علي بن الحسين إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه وتماوت في منطقه وتخاضع في حركاته فرويداً لا يغرنكم، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها لضعف نيته ومهانته وجبن قلبه، فنصب الدين فخاً لها فهو لا يزال يختل الناس بظاهره فإن تمكن من حرامٍ اقتحمه.

ص: 35

وإذا وجدتموه يعف عن المال الحرام فرويداً لا يغرنّكم، فإن شهوات الخلق مختلفة فما أكثر من ينبو عن المال الحرام وإن كثر ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة فيأتي منها محرما.

فإذا وجدتموه يعف عن ذلك فرويداً لا يغركم حتى تنظروا ما عقده عقله، فما أكثر من ترك ذلك أجمع ثم لايرجع إلى عقل متين فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله.

فإذا وجدتم عقله متيناً فرويداً لا يغركم حتى تنظروا أمع هواه، يكون على عقله أو يكون مع عقله على هواه، وكيف محبته للرئاسات الباطلة وزهده فيها، فإن في الناس من خسر الدنيا والآخرة، يترك الدنيا للدنيا ويرى أن لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللّة، فيترك ذلك أجمع طلباً للرئاسة حتى َإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ، فهو يخبط خبط عشواء، يقوده أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة، ويمده ربه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه، فهو يحل ما حرم الله ويحرّم ما أحلّ الله لا يبالي بما فات من دينه إذا سلمت له رئاسته التي قد يتقي من أجلها، فأولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم عذاباً مهيناً.

ولكنّ الرّجل كلّ الرجل نِعْمَ الرجل ، الذي جعل هواه تبعاً لأمر الله ، وقواه مبذولة في رضى الله ، يرى الذلّ مع الحقّ أقرب إلى

ص: 36

عزّ الأبد من العزّ في الباطل ، ويعلم أنّقليل ما يحتمله من ضرّائها يؤدّيه إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفد ، وأنَّ كثير ما يلحقه من سرَّائها - إن اتبّع هواه - يؤدِّيه إلى عذابٍ لا انقطاع له ولا يزول ، فذلكم الرجل نِعْمَ الرجل ، فبه فتمسّكوا ، وبسنّته فاقتدوا ، وإلى ربّكم به فتوسّلوا ، فإنّه لا تُردّ له دعوة ، ولا تخيب له طلبة)(1).

العناوين البراقة:

أقول: يبيِّن الإمام السجاد (علیه السلام) في هذه الرواية بعض أساليب المكر والخداع للوصول إلى الزعامة والرئاسة، وهي متنوعة وعديدة، ومحورها جميعاً أناس يفشلون في الوصول إلى المرتبة التي تؤهلهم لقيادة الأمة، فيبتدعون الطرق التي تستهوي العامة وتنطلي عليهم، فبعضهم يتجه إلى معارضة السلطة وحمل السلاح لمواجهتها كبعض العلويين في زمان الأئمة وواجهوا أئمتنا بكلمات وقحة.

وبعضهم يدعي الانتساب إلى الإمام المهدي مع أن مراجعة بسيطة لسجل الأحوال المدنية يكشف زيف دعواه.وبعضهم يلتجئ إلى الغيبة والاحتجاب عن الناس وإطلاق الادعاءات الغيبية.

ص: 37


1- بحار الأنوار: 2/ 84-85 عن الاحتجاج وتفسير العسكري.

وبعض يتلفع بثياب القداسة والزهد في الدنيا لخداع الناس ويشتري ضمائر جماعة يضفون عليه أسمى الألقاب طمعاً بفتات الدنيا الذي يرميه إليهم.

ناهيك بأساليب بعض أبناء مراجع الدين عند وفاة آبائهم فيبتكرون الأفكار التي تحافظ على استمرار استفادتهم من امتيازات واستحقاقات المرجعية مع وضوح أن هذه الامتيازات هي للموقع فتنتقل إلى المؤهل له، وليست لشخص المرجع حتى يرثها أبناؤه.

والعجب كل العجب ليس من هؤلاء المدّعين المتقمصين ما ليس لهم، وإنما ممن يصدقهم ويتبعهم بغير دليل ولا مراجعة وفحص عن مصداقيتهم، ومع وضوح بطلان دعاواهم لتنافيها مع ما أسّسه الأئمة الأطهار من الرجوع إلى العلماء المجتهدين العاملين الذين وصفهم الحديث السابق بأنّهم يشفقون على الأمة كالوالد الرحيم، لذا وصفهم الحديث الشريف بأن أشد الناس حسرة يوم القيامة من باعآخرته لدنيا غيره، فالله الله في دينكم ولا تقعوا في فخوخ الدجالين.

وإلى الله المشتكى وعليه المعوَّل في الشدة والرخاء.

ص: 38

عوامل ازدهار التشيّع بين الأمس واليوم

عوامل ازدهار التشيّع بين الأمس واليوم(1)

الماضي المؤلم لشيعة أهل البيت (علیهم السلام):

تشهد هذه الأيام توسعاً ملحوظاً وازدهاراً للتشيّع ومدرسة أهل البيت (علیهم السلام) بعد أن كان أهل البيت وشيعتهم مبعدين محاصرين لا يسمح لهم بتحرك معتدٍ به وكان مصيرهم القتل والسجن والتعذيب والحرمان ومصادرة الممتلكات، يتحدث الإمام الباقر (علیه السلام) عن هذه المحنة المهولة بقوله (وقتلت شيعتنا بكل بلدة وقطّعت الأيدي والأرجل على الظنّة وكان من يُذكر بحبنا والانقطاع إلينا سُجن أو نُهب ماله أو هُدّمت داره)(2)وسُئل كيف أصبحت؟ قال(علیه السلام): (أصبحت برسول الله (صلی الله علیه و آله) خائفاً وأصبح الناس كلهم برسول الله (صلی الله علیه و آله) آمنين)(3).

وقد تعرض شيعة أهل البيت لألوان القتل والتعذيب والتنكيل، كتب معاوية إلى عماله نسخة واحدة جاء فيها: انظروا إلى من قامت

ص: 39


1- خطبتا صلاة عيد الأضحى للعام 1434 التي أقامها سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) يوم الأربعاء 16/10/2013.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 11/ 420.
3- موسوعة سيرة أهل البيت للمرحوم الشيخ باقر القرشي: 18/132، عن ميزان الاعتدال: 4/160.

عليه البيّنة أنه يحب علياً وأهل بيتهفامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه(1)وأوعز إليهم بهدم دور الشيعة فقاموا بنقضها(2)وعهد إلى جميع عماله بعدم قبول شهادتهم في القضاء وغيره مبالغة في إذلالهم، وأجلى زياد بن أبيه خمسين ألفاً من الشيعة من الكوفة إلى خراسان(3).

وروى أبو بصير قال: (قلت لأبي جعفر (علیه السلام) جعلت فداك اسم سُمّينا استحلت به الولاة دماءنا وأموالنا وعذابنا، قال ما هو؟ قال: الرافضة، قال (علیه السلام) ذلك اسم قد نحلكموه الله)(4).

حركة التبليغ:

لذا كانت حركة التشيّع محدودة جداً كالنقش في الحجر روى الشيخ الكليني بسنده عن إسماعيل بن عبد الخالق قال: (سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول لأبي جعفر الأحول وأنا أسمع:أتيتَ البصرة؟ فقال: نعم، قال (علیه السلام): كيف رأيت مسارعة الناس إلى هذا الأمر ودخولهم فيه؟ قال: والله إنّهم لقليل، ولقد فعلوا وإنّ ذلك لقليل، فقال (علیه السلام): عليك بالأحداث، فإنّهم أسرع إلى كل خير).(5)

ص: 40


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 11/45.
2- السابق.
3- راجع المصادر في موسوعة أهل البيت للمرحوم القرشي: 13/179.
4- المحاسن للبرقي: 119 كتاب الصفوة وصور، باب24: الرافضة.
5- الكافي: 8/93 ح66.

هكذا كان الإمام (علیه السلام) يتفقّد حركة المبلّغين والمرشدين ويطّلع على نتائج أعمالهم ويعطيهم التوجيهات المناسبة حتى لا يدخلهم اليأس من الحصار الخانق المفروض عليهم واليوم وصل صوت أهل البيت (علیهم السلام) إلى العالم كلّه ويأوي إلى هذا الكهف الشريف الناس أفواجاً.

سرّ الصمود في إيمان أتباع أهل البيت (علیهم السلام):

ونجد من مسؤوليتنا البحث في جواب السؤال الذي يستحق التأمل فيه عن سر ديمومة هذا الكيان الشريف وصموده رغم كل تلك الحرب الجهنّمية التي أحاطت به حتى حافظ على وجوده بل نمى وازدهر وتوسّع وفرضنفسه على الجميع مما أصاب الحاسدين والحاقدين من بعض طوائف المسلمين الأخرى أو غير المسلمين بالذهول والدهشة، ولم يجد أعداء هذا الكيان الشريف حلاًّ إلاّ استخدام الوسائل الوحشية من القتل والتدمير والتفجير والتخريب بلا أي خطوط حمراء من أجل إيقاف زحف هذا التمدّد المبارك وتطويقه لأنّهم يجدون في مبادئ هذه المدرسة السامية وثقافتها العدوّ الوحيد والخصم العنيد لمشاريعهم الاستكبارية واتخاذ مال الشعوب دولاً وعباده خولاً أما غير أتباع أهل البيت (علیهم السلام) –مسلمين كانوا أو غير مسلمين- فلم يعبأوا بهم كثيراً لإمكان ترويضهم وامتلاك زمامهم بشكلٍ من الأشكال.

ص: 41

وإنّما جعلنا إثارة هذا السؤال والبحث في الجواب عنه واجباً علينا لأنّه يحمّلنا مسؤولية إدامة عناصر القوة والازدهار هذه، والتحرّك بها لإقناع الآخرين وهدايتهم إلى هذا الحق المبين.

أسباب الديمومة والتوسع في التشيع:

وما يمكن أن نذكره من أسباب الديمومة والازدهار والتوسّع ما يلي:

الحفظ الإلهي، فقد تعهّد الله تبارك وتعالى بحفظ كتابه الكريم وعترة النبي (صلی الله علیه و آله) الذين هم عدل الكتاب، قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر/9) والذكر شامل لأهل البيت (علیهم السلام) لأن ذكرهم ذكر الله تعالى، قال تعالى (قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً . رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ) (الطلاق/10-11)، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (إنّ شيعتنا الرحماء بينهم، الذين إذا خلوا ذكروا الله، إنّ ذكرنا من ذكر الله، إنّا إذا ذكرنا ذُكر الله وإذا ذُكر عدوّنا ذُكر الشيطان) (1).

وفي روايتين عن الإمامين الباقر والصادق ((علیهما السلام)) (في قول الله عز وجل (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) قال:قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): الذكر أنا والأئمة أهل الذكر وقوله عز وجل (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون) قال أبو جعفر (علیه السلام): نحن قومه ونحن المسئولون)(2).

ص: 42


1- الكافي: ج2، باب: تذاكر الأخوان، ح1.
2- وسائل الشيعة، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي باب7، ح4، 6.

وقد أخبر النبي (صلی الله علیه و آله) عن هذا الحفظ في حديث الثقلين المشهور (إنّي مخلّفٌ فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي أبداً: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وقد نبأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض يوم القيامة).

رعاية إمام العصر كل عصر ودعاؤه، في الكافي (عن عبد الله بن أبان الزيّات وكان مكيناً عند الرضا (علیه السلام) قال: قلتُ للرضا (علیه السلام): ادعُ الله لي ولأهل بيتي فقال: أولستُ أفعل؟ والله إنّ أعمالكم لتُعرض عليّ في كل يومٍ وليلة، قال: فاستعظمتُ ذلك فقال لي: أما تقرأ كتاب الله عزّ وجل (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (التوبة/105) قال: هو والله عليّ بن أبي طالب (علیه السلام).وفي رواية أخرى (هم الأئمة (علیهم السلام).

وفي الرسالة المروية عن الإمام المهدي (عج الله فرجه) للشيخ المفيد (إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء- أي الشدّة وضيق المعيشة- أو اصطلمكم الأعداء).

2- أصالة هذه المدرسة واقترانها بالإسلام نفسه فهي محفوظة بحفظ الإسلام لأنها ليست شيئاً آخر غير الإسلام المحمدي الأصيل فالتشيّع هو الإسلام وليس مذهباً من مذاهبه التي نشأت لاحقاً.

ص: 43

فقد غرس النبي (صلی الله علیه و آله) نبتة التشيّع لأمير المؤمنين (علیه السلام) منذ الأيام الأولى للإسلام عندما نزل قوله تعالى (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَالْأَقْرَبِينَ) (الشعراء/214) وبقي يصرّح بفضل علي (علیه السلام) وإنّه خليفته ووارثه والإمام بعده حتّى حسم الأمر في يوم الغدير وألزم أصحابه بأن يبايعوا علياً بإمرة المؤمنين قبيل وفاته (صلی الله علیه و آله) وكان الله يبارك هذه الحركة وينزل الآيات تلو الآيات ومنها البشارة لعلي وشيعته في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ . جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (البينة/7-8)، فقد روى الفريقان أنّها نزلت في عليّ وشيعته.

وكان من شيعته أعيان أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) الآخذين بسنّته كسلمان الفارسي والمقداد بن الأسود وأبي ذر الغفاري وعمّار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وأبي أيوب الأنصاري وخالد بن سعيد بن العاص الأموي وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين وأبي الهيثم بن التيهان ونظرائهم، وروى الخطيب الخوارزمي في مناقبه بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاريقال: (كان أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا أقبل عليٌ قالوا: جاء خير البرية).(1)

ص: 44


1- أصول الكافي، ج1، كتاب الحجة، باب عرض الأعمال على النبي (صلی الله علیه و آله) ح4.

وتأكيداً لهذا الانتماء الأصيل روى جابر قال (قلت لأبي جعفر (علیه السلام): إذا حدثتني بحديث فأسنده لي، فقال: حدثني أبي عن جدي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن جبرئيل عن الله تبارك وتعالى، وكلما أحدّثك بهذا الأسناد)(1) ولذلك لم يحتج الأئمة إلى ذكر سند أحاديثهم كما يفعل غيرهم، روى حفص بن البختري قال (قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): نسمع الحديث منك فلا أدري منك سماعه أو من أبيك فقال: ما سمعته مني فاروه عن أبي وما سمعته مني فأروه عن رسول الله (صلی الله علیه و آله).(2)

ومن آثار هذه الأصالة جعل الكتاب الكريم وسنة النبي (صلی الله علیه و آله) المعيار لقبول روايات أهل البيت (علیهم السلام) فقد روى عبدالكريم بن أبي يعفور قال (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به، ومنهم من لا نثق به قال (علیه السلام): إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله وإلا فالذي جاءكم به أولى به)(3).

سموّ المبادئ والقيم الإنسانية العليا التي احتوت عليها مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) والتي تُلهم البشرية السعادة وتضمن لها العدالة والحياة الكريمة خُذ مثلاً عهد الإمام علي (علیه السلام) إلى مالك الأشتر

ص: 45


1- المناقب للخوارزمي: 3/ 69.
2- وسائل الشيعة، باب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب8 ح67- 86.
3- وسائل الشيعة، باب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب9 ح11.

لمّا ولاّهُ مصر أو الأهداف التي أعلنها الإمام الحسين (علیه السلام) لثورته المباركة(1)أو رسالة الحقوق للإمام السجاد (علیه السلام) وهكذا كلمات الأئمة الآخرين (علیهم السلام) وفي ذلك يقول الإمام (علیه السلام): (فإنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا) (2).

ولذلك وجدنا التفاف الناس حول هذه المدرسة كلما أعطيت فرصة للناس لكي ينصتوا إليها ويأخذوا منها كالذي حدث في زمان الإمام الصادق (علیه السلام) حيث وجد فرصة لبثّ علوم آبائه وأجداده الطاهرين فوجد العلماء من شتى الاتجاهات عنده ما لم يجدوا عند غيره لأن هذا الصوت كان محجوباً ومحاصراً فالتفوا حوله وأخذوا منه حتى من صاروا بعد ذلك أئمة للمذاهب.

وكشاهد على اعتراف المجتمع الدولي بريادة وسبق أهل البيت (علیهم السلام) في تثبيت حقوق الإنسان فقد اعتمدت الأمم المتّحدة عام 2000 عهد أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى مالك الأشتر كوثيقة تأسيس لمبادئ حقوق الإنسان.

السلوك السامي وطريقة التعامل المثالية التي كان يظهرها أئمة أهل البيت (علیهم السلام) إلى درجة كان يذهل العدو قبل الصديق ويجعل الجميع يذعن لهم بالتقدّم على كلّ الناس، حيث كانوا يتعاملون برحمة ونبل وشهامة مع الأعداء والأصدقاء.

ص: 46


1- راجع كمثال خطابنا عن (ثورة الإمام الحسين (علیه السلام) وتأصيل مبادئ حقوق الإنسان).
2- جواهر البحار: ج2 كتاب العلم، ص30.

والروايات في ذلك كثيرة من سيرة الأئمة (علیهم السلام)، فالإمام الحسين (علیه السلام) يسقي الجيش المعادي الذي اعترضه في الطريق بقيادة الحر الرياحي وهم ألف فارس مع خيولهم وكان آخرهم منهكاً فسقاه الإمام بيده الشريفة مما أثّر في قلب القائد الحر وجعله ينقلب على قيادته ويلتحق بالإمام الحسين (علیه السلام) يوم عاشوراء.

هذا السمو والعفاف والطهارة والنبل جعل الأمة تعشق أهل البيت (علیهم السلام) وإن لم يكونوا من شيعتهم لأنّ أغلب الناس على دين ملوكهم كما قيل، لاحظ كمثال انفراج الناس سماطين عن الإمام السجاد (علیه السلام) عندما تقدّم إلى الكعبة لاستلام الحجر الأسود بينما عجز الأمير الأموي بجيشه الكبير عن تحقيق ذلك، ومن اعترافات أعدائهم بذلك قول هارونالعباسي لولده المأمون عن الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام): (هذا إمام القلوب وأنا إمام الأبدان).

يقول أبو حنيفة إمام مذهبه (ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد، لما قدم المنصور بعث إليّ، فقال: يا أبا حنيفة إنّ الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمد فهيّئ له من المسائل الشداد)(1)إلى آخر الرواية.. ومحل الشاهد اعتراف المنصور العباسي بافتتان الناس بالإمام الصادق (علیه السلام).

ص: 47


1- جامع مسانيد أبي حنيفة 1 / 222، تذكرة الحفاظ للذهبي 1 / 166.

التعاطف الإنساني الذي تجاوز حدود الطائفة والدين مع أهل البيت (علیهم السلام) وشيعتهم بسبب شدة الظلم والبطش والقسوة التي تعرض لها أهل البيت (علیهم السلام) وارتكبت في حقّهم أبشع الجرائم:

أنست رزيتكم رزايانا التي *** سلفت وهوّنت الرزايا الآتية

من دون أن يرتكبوا جريمة أو يصدر منهم فعل مشين لذا ألّف غير الشيعة من المسلمين وغير المسلمين كثيراً في أهل البيت وصدرت منهم كلمات رائعة فيهم، فكانت هذهالمظلومية سبباً لاجتذاب كثيرين إلى مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) خصوصاً قضية أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء والإمام الحسين (صلوات الله عليهم أجمعين).

تواصل وجود القيادة المتمثلة بالمرجعية الدينية الرشيدة العارفة بزمانها والتي تتوفر فيها شروط الشرعية التي أعطاها الأئمة (علیهم السلام) لورثتهم من العلماء الذين يقومون مقامهم في ولاية أمور الأمة وقد صدرت من الأئمة كلمات مهمة في وجوب طاعة نوّابهم المستحفظين على شريعتهم وحرمة التمرّد عليهم كقول الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) (وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجة الله عليهم)(1)وقوله (علیه السلام)

ص: 48


1- كمال الدين وإتمام النعمة: 484 الباب(45) ذكر التوقيعات، وسائل الشيعة 27: 140 الباب(11) حديث (33424) من أبواب صفات القاضي.

(الراد عليهم، كالراد علينا وعلى الله تعالى، وأنه شرك بالله)(1).

مما أعطى لحركة المرجعية زخماً كبيراً في حياة الأمة وهيبة وطاعة عظيمة عزّزها ما يتمتع به هؤلاء النوّاب من علمٍ جم وأخلاقٍ رفيعة وشفقة كبيرة على رعاياهم.

2- الانفراج السياسي وتخفيف قبضة السلطات الجائرة وقد تصل الفرصة أحياناً إلى حد التمكين في الأرض من خلال الحصول على السلطة والحكم أو الحضور فيها أو وجود ظروف سياسية مناسبة كالفترة التي عاشها الإمام الصادق (علیه السلام) بين ضعف الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية فاستثمر الإمام (علیه السلام) تلك الفرصة واتسعت مدرسته حتى سمي المذهب باسمه.

أما التمكن من السلطة والحكم النافذ فإنه من أقوى مصاديق قوله تعالى (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ)(الأنفال/60) وقد كان التمكين في الأرض وتهيئة الأسباب (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) (الكهف/84) من أعظم الوسائل التي آتاها الله أنبيائه العظام لنشر دعواتهم، ولنأخذ مثلاً النبي (صلی الله علیه و آله) فقد وصف الله تعالى أصحابه عندما كانوا في مكة بأنّهم (قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) ثمّ حصل التمكين (فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ) (الأنفال/26) وتحقق هذا

ص: 49


1- الكافي: 7 / 412 الحديث 5، الاحتجاج للطبرسي: 2 / 356.

التأييد بالهجرة إلى المدينة وتأسيس دولة الإسلام الكريمة المباركة حتى انتشر الدين ودخل فيه الناس أفواجاً.

وقد حظي التشيّع على مدى القرون بدول اتخذته شعاراً –بغضّ النظر عن مصداقيتها في تبنّي هذا الشعار- وأعطت فرصاً ثمينة لمذهب أهل البيت (علیهم السلام) بالانتشار والتوسّع، والمتابع لتاريخ المدارس الفقهية وتطورها يجد ازدهارها مقترناً بالوضع السياسي الملائم كالعصر الذهبي أيام الصدوق والمفيد والمرتضى والطوسي الذي زامن نفوذ الدولة البويهيّة في بغداد، ومثله ما حصل في أيام الدولة الحمدانية في الشام والفاطمية في مصر والصفوية في إيران والأدارسة فيالمغرب، وما نشهده اليوم من انطلاق صوت مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) بعد أن تمكن الشيعة في بعض بلدان المنطقة.

الشعائر الدينية، فقد كان لهذه الشعائر وخصوصاً الشعائر والمجالس الحسينية وزيارات مراقد المعصومين (علیهم السلام) الأثر الفاعل في هداية الكثير من الناس وإلفات أنظارهم إلى مظلومية أهل البيت (علیهم السلام) ومناقبهم وفضائلهم وتوضيح مبادئ وأصول هذه المدرسة المباركة، خصوصاً بعد التطور التكنولوجي الهائل في وسائل الإعلام والاتصالات حتى صار العالم كلّه يرى ويتابع هذه الحركة المباركة ويتساءل عنها ويتفاعل معها.

ص: 50

كما أنّ لهذه الشعائر والمجالس الأثر الكبير في تمسّك الشيعة بعقيدتهم والتعرّف على تفاصيل مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) عقيدةً وأحكاماً وأخلاقاً وأفكاراً، وكانوا كلما شرّقتبهم الأهواء وغرّبت أعادتهم هذه الشعائر إلى هذه الجنة المباركة.

انتشار المبلغين والدعاة والمؤمنين المتحمّسين لنشر مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) حيث شيّدوا المساجد والحسينيات وأقاموا الشعائر الدينية ورفعوا شعارات أهل البيت (علیهم السلام) في كل بقاع الأرض، وعلى طريقة الآية الكريمة (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم) والمثل المعروف (ربّ ضارة نافعة) فقد كان تشريد وتهجير أهل البيت (علیهم السلام) وشيعتهم في بقاع الأرض سبباً لانتشار هذا الصوت الإلهي المقدّس، ويحيى ذكر أهل البيت (علیهم السلام) الآن في أقصى نقطة من شمال شرق الكرة الأرضية في روسيا وفي أبعد نقطة غرب الأرض في الولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية وما بينهما.

الالتفات الى أسباب الخذلان التي تطال التشيع:

إن الالتفات إلى عناصر القوّة والديمومة والإقناع في مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) تزيد إيماننا بصحتها وأحقيتها وبنفس الوقت توجب علينا مسؤولية المحافظة على هذه العناصر وإدامتها وتنميتها، وتجنّب كل ما يضعفها ويحجّم دورها وأثرها، فنكون –والعياذ بالله- سبباً في خيانة هذه الرسالة العظيمة وخذلان أئمتنا الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين).

ص: 51

ومن أشكال هذا الخذلان:

توظيف هذه العقيدة الحقّة لمكاسب دنيوية كالذي يفعله بعض السياسيين الشيعة مما يوجب النفور من هذه العقيدة وسوء الظن بها للارتباط الوثيق بين الأيديولوجية وسلوك حاملها فلابد من فضح المتاجرين بالدين وتبرئة الدين من أفعالهم.

2- تسقيط العلماء وامتهان كرامتهم وانتهاك حرماتهم وتشويه صورتهم والافتراء عليهم مما يؤدي إلى توهين المذهب وسقوطه في أعين الناس. سوء تصرف أتباع المذهب وابتعادهم عن تعاليم هذه المدرسة الشريفة إلى حدّ المباينة بحيث يصبحون شيعة بلا تشيّع أي بالاسم فقط فيجلبون العار للتشيّع ويصبحون عائقاً دون انتشاره لأنهم يعرضون مثلاً سيئاً.

2- ترويج الأخبار المكذوبة والممارسات المبتدعة ظناً منهم أنه زيادة في إظهار الولاء والتعصّب للمذهب مما يوجب استفزاز الآخر ونفوره كبعض أخبار الغلو والحكايات الخيالية والطقوس الدخيلة على الشعائر الحسينية ونحو ذلك.

إن من المؤسف التفات أعداء التشيّع إلى مكامن القوّة فيه أكثر من أبنائه فعملوا بجد على إضعافها من خلال تشويه صورة المذهب و تسقيط المرجعية وتحجيمها والقضاء على العاملين

ص: 52

الرساليين وإلقاء الفتن بين الشيعة واستدراجهم وإبعادهم عن الصورة الناصعة لمدرسة أهل البيت (علیهم السلام)ونحوه من الأساليب والشيعة غافلون عن ذلك منشغلون بلعق شيء من العسل غطوا به سمومهم ولكن الله تعالى يقيض لهذا المذهب الشريف ولأتباع أهل البيت (علیهم السلام) من يوقظهم من غفلتهم وفاءاً بوعده الحق في الحفظ والتمكين.

ص: 53

ص: 54

الفصل الثاني: التخطیط النبوي لحفظ الإسلام

اشارة

ص: 55

ص: 56

كيف خطط رسول الله (صلی الله علیه و آله) للخلافة من بعده

كيف خطط رسول الله (صلی الله علیه و آله) للخلافة من بعده(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ضرورة الإمامة:

الإمامة ضرورة عقلائية:

إن الإمامة وولاية أمر الناس ضرورة اجتماعية لا يختلف فيها اثنان، وقد أطبق عليها جميع العقلاء، ولا يمكن لحياة المجتمع المتحضر ونظام معاشه أن يستقيم بدون إمام ورئيس يدير مع جهازه شؤون الأمة ويدبر أمورها. فوجود النظام الحاكم في المجتمع بمنزلة العقل في جسم الإنسان الذي يوجّه بوصلة الحياة، وبدونه تحصل الفوضى والتشتت والصراعات وتضييع مصالح العباد والبلاد.

ص: 57


1- محاضرتان ألقاهما سماحة الشيخ محمد اليعقوبي على طلبة الحوزة العلمية في مسجد الرأس الشريف المجاور لمرقد أمير المؤمنين (علیه السلام)، في النجف الأشرف بمناسبة عيد الغدير يومي (16، 17 ذي الحجة 1421ه- -12 ، 13/آذار/2001) وقد أضاف إليهما بعض الزيادات الضرورية.

ومن كلمات أمير المؤمنين (علیه السلام) في ذلك: (لا بد للناس من أمير برّ أو فاجر، يعمل ف إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ويبلغ الله فيها الأجل ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو وتأمن به السبُل ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح برّ أو يُستراح من فاجر)(1).

ضرورة الإمامة في الشرع:

والحكم في الشرع ضروري كذلك فقد أجمع علماء الإسلام على ضرورة وجود إمام، وإذا كان بينهم خلاف ففيالتفاصيل ككيفية تعيين الإمام ومؤهلاته وصلاحياته لا في أصل احتياج الأمة، فأبناء العامة يقولون بالشورى(2)، أو أن الأمر لمن غلب حتى لو قهر الأمة بالسيف(3)وتقمّص إمامتها قهراً، ونحن –الإمامية- نقول أنها بالنص(4)، وأنها حق جعله الله تبارك وتعالى لمن اجتمعت فيه شروطها، سواء سمحت له الظروف بالقيام فعلاً

ص: 58


1- نهج البلاغة: 1/87 الخطبة 40.
2- البخاري/باب رجم الحبلى 4/120 عن معالم المدرستين، المراجعات المراجعة 80.
3- الأحكام السلطانية ص7-11 لقاضي القضاة أبو يعلي الفراء الحنبلي - عن معالم المدرستين - أقوال مدرسة الخلفاء ص558.
4- أحصى الصافي الكلبايكاني في كتابه (منتخب الأثر) أكثر من خمسين رواية في هذا المجال، وقال بعد ذلك النصوص الواردة في ساداتنا الأئمة الاثنا عشر بلغت في الكثرة حداً لا يسعه مثل هذا الكتاب وكتب أصحابنا في الإمامة وغيرها مشحون بها واستقصاؤها صعب جداً (منتخب الأثر ص145 والرواية الأولى منتخب الأثر ص97 باب 8 فيما يدل على الأئمة الاثنا عشر بأسمائهم (نقلا عن مدخل إلى الإمامة).

بالأمر أو صودرت حريته ومُنِع من ممارسة دوره كاملاً، كما في الحديث الشريف: (الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا)(1)أي قاما بالأمر أو قعدا عنه لأي سبب من الأسباب.

وقد اهتم رسول الله (صلی الله علیه و آله) بهذا الأمر بدقة، فكان (صلی الله علیه و آله) لا يُخرج سرية إلا عليها أمير مهما قلّ أفرادها، بل في الحديث عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): (الإمام الجائر خير من الفتنة)(2)و: إذا خرج اثنان للسفر فليؤمرا أحدهما(3)، وكان (صلی الله علیه و آله) إذا خرج لغزوة لا يترك المدينة بدون خليفة له(4)، بل روي في حديث: (والٍ ظلومٌ غشوم خيرٌ من فتنة تدوم)(5)؛ لأنه به تحفظ الثغور وتقوم مصالح العباد، لذا تعامل الأئمة بإيجابية مع السلطات الحاكمة في ما فيه مصالح العبادوحفظ النظام الاجتماعي ورقي الدولة الإسلامية وصيانة كرامتها، إلى درجة أنهم جوزّوا في بعض الظروف دفع الزكاة والخراج إلى السلطة وجعلوها مبرئة للذمة كأنها واصلة إليهم(6).

ص: 59


1- البحار ج16 باب 11 ص 307.
2- شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني: 2/103.
3- كتاب المحجة ج4 آداب السفر عن أبو داود ج2 ص34 عن أبي هريرة عن النبي ص قوله (إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمروا أحدكم).
4- معالم المدرستين / ج1 / ذكر من استخلف الرسول (صلی الله علیه و آله) على المدينة في غزواته.
5- ميزان الحكمة للريشهري: 3/2367 والغرر والدرر: ح 10109.
6- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب المستحقين، باب 20.

المصالح المهمّة من تعيين الخليفة:

في ضوء هذه الضرورة المجمع عليها عقلاً وشرعاً كان من مسؤوليات حامل الرسالة –أي رسالة- ووظائفه بل أهمها على الإطلاق تعيين الخليفة والإمام البديل لعدة مصالح مهمة:

ديمومة الرسالة واستمراريتها في أداء دورها، فإن أية رسالة مهما كانت تمتلك من نقاط قوة - كرسالة الإسلام - تموت بموت صاحبها، فإنه من المقطوع به ارتباط الرسالات والدعوات بحامليها القيّمين عليها المدافعين عنها المستوعبين لأسرارها، لذلك فإنها تنتهي بنهاية صاحبها إلا أن يواصل الطريق من هو جدير بحملها، وأنت ترى الرسالات السماوية - وهي أكمل الدعوات - حُرِّفت وشُوِّهت بعد فترة يسيرة من غياب أصحابها(1).

قطع الطريق أمام غير المؤهلين لهذا المنصب الإلهي، فإن الإمرة والزعامة خصوصاً الزعامة الدينية بما لها من قدسية وهيبة وجاه من أهم ما تنزع إليه النفس الأمّارة بالسوء، ففي الحديث: (آخر ما ينزع من قلوب الصديقين حب الجاه)(2)إذن سيكون المتربصون بها كثيرين والحالمون بها والساعون إلى تحصيلها

ص: 60


1- كمثال على ذلك المسيحية بمجرد أن رفع عيسى (علیه السلام) أصبح الإنجيل الذي هو حاوي على كل ما يتعلق بالرسالة عدة أناجيل مزورة وموضوعة كإنجيل متي ويوحنا ولوقا ومرقس فلم يبق من الدين المسيحي إلا الاسم.
2- المحجة البيضاء ج6 / فصل حب الجاه ص107.

أكثر. وقد اعترفوا أنه ما عانت الأمة من شيء كما عانت من مسألة الإمامة والخلافة وأن الويلات التي أصابتها والدماء التي سفكت ترجع في الأصل إلى هذا الأمر، وهذا واضح تأريخياً.

صيانة الأمة من التشتت وحمايتها من التمزق، فإن من شأن تعدد المتصدين لهذا المنصب أن تتعدد الأحزاب والفرق الموالية لهم، وكلٌّ يجرُّ النار إلى قرصه، فيتمزق أمر الأمة وتصبح طرائق قدداً، وها هي الأجيال بعد الأجيال تدفع ثمن التيه والضياع وآل أمرها إلى الانحلال، لذا قال تعالى: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا»(آل عمران:103) «وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ»(الأنفال:46) وحبل الله الممدود إلى الخلق هما الثقلان كتاب الله وأهل بيت نبيه (صلوات الله عليهم أجمعين) كما دلت عليه النصوص الشريفة(1). وقد أشارت الزهراء (سلام الله عليها) إلى هذه الفكرة المهمة في خطبتها فقالت: (وجعل إمامتنا نظاماً للملة)(2)أي بها تنتظم أمورهم وتستقر.

إن حامل الرسالة لا يستطيع أن يستمر بمشروعه حتى النهاية ويقدم كل ما عنده قبل أن يطمئن إلى وجود البديل؛ لأنه قبل ذلك يخشى على مستقبل الرسالة، فإذا أحرز اجتماع الشروط في

ص: 61


1- راجع كتاب (شكوى القرآن) وقد تقدم في هذا الكتاب.
2- البحار ج6 باب 23 ص 315.

الشخص البديل استطاع أن يتقدم بلا تردد أو خوف على مستقبل الرسالة، هذا الخوف الذي أشار إليه نبي الله موسى (علیه السلام)، لذا كان أول دعاء له: «وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي» (طه: 29-32) وفي كلمات أمير المؤمنين (علیه السلام): (لَمْ يُوجِسْ مُوسَى (علیه السلام) خِيفَةً عَلَى نَفْسِهِ، بَلْ أَشْفَقَ مِنْ غَلَبَةِ الجُهَّالِ وَدُوَلِ الضَّلالِ)(1).

شرفية موقع الإمامة في الفكر الإسلامي:

هذه أمور يدركها كل عاقل، ويزداد الأمر وضوحاً كلما ازدادت أهمية الرسالة كدين الإسلام الذي جاء رحمة للعالمين وخالداً إلى يوم القيامة، فهو - أي الإسلام - بهذه السعة والشمول طولاً –على مدى الزمان- وعرضاً –لجميع البشر-، وكلما تعاظم منصب الشخص الراحل والغائب عن الساحة ازدادت المسؤولية والأخطار حول المنصب.

وأشرف موقع هو إمامة المسلمين وولاية أمورهم وخلافة رسول الله (صلی الله علیه و آله) التي قدّر لها أن تشمل شرق الأرض وغربها، كما بشر بذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله) عندما كان يحفر مع المسلمين في الخندق وضرب على صخرتين فأضاءتا له(2)ولهم، وأكدها

ص: 62


1- نهج البلاغة، خطبة 4 ص39.
2- سيرة الأئمة الاثني عشر لهاشم معروف الحسني ج1 ص 290.

القرآن «وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً»(الفتح:20) «وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ»(الصف:13)، فكيف لا تتناوشه المطامع وتتجاذبه الأهواء.

«مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى»:

أفمثل رسول الله (صلی الله علیه و آله) يجهل هذه الأمور الواضحة، وهو المتصل بسبب إلى الله تبارك وتعالى، «وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى»(النجم، 3-4)، وهو القائل: (من مات ولم يوصِ مات ميتة جاهلية)(1)فهل يكون هو (صلی الله علیه و آله) أول من يخرج عن ربقة الإسلام ويموت على الجاهلية «كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ»(الكهف:5)، أم يقال أن هذا الحديث وارد في الوصية بالمال ونحوه للورثة وغيرهم؟ فهل هذه الأمور أهم من الوصية بالأمة وحفظ كيانها من الضياع؟!.

أم يقال أنه (صلی الله علیه و آله) فوجئ بأجله قبل أن يفكر بمستقبل الأمة وقبل أن يستعد للتخطيط للبديل مهما كان شكله وصيغته، وهو الذي نعى نفسه مراراً وصرح بقرب وفاته في حجة الوداع، وحينما قال: (إن جبرائيل كان يعارضني بالقرآن في السنة مرة، وعارضني في هذه السنة مرتين، وما ذلك إلا لدنو أجلي)(2).

ص: 63


1- مناقب آل أبي طالب بن شهر آشوب ج1 ص 217.
2- صحيح البخاري باب عرض جبرائيل القرآن على النبي.

أم يقال أنه (صلی الله علیه و آله) لم يكن حريصاً على الأمة ولا مهتماً بأمرها، فلتواجه قدرها بنفسها ولو آل أمرها إلى الفناء، ولتذهب أتعابه سدى «كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً»(النحل:92)، وهذا لا يصدر من أبسط الناس؛ فالراعي لا يترك غنمه إذا خرج لحاجة أو سفر حتى يعين لها راعياً، ولم يفعلها الخلفاء من بعده، فالأول نص على الثاني، وهو يقول: إني أخشى أن ألقى الله وقد تركت أمة محمد (صلی الله علیه و آله) دون أن أولي عليها أحداً(1)، وجعل الثاني الأمر شورى بين ستة من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله)(2)، وقد أرسلت إليه أم المؤمنين عائشة بعدما طُعِن: أن أوصِ من يخلفك، ولا تترك أمة محمد بعدك هملاً وبدون راعٍ.

خطر الاعتراض من الداخل الإسلامي:

فكيف برسول الله (صلی الله علیه و آله) أكمل العقلاء وسيد الحكماء، وهو يرى بعينه الأخطار المحدقة بالأمة من الداخل والخارج، ففي الداخل كان المنافقون والمرجفون في المدينة - على تعبير القرآن - والقائلون: «لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ» (المنافقون:8) وقد ازدادت شوكتهم بعد الفتح حيث استسلم الكثير ممن يتربص بالإسلام وبنبيه السوء رضوخاً للأمر الواقع، ولم يسلموا ولم

ص: 64


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ص164 - 165 في شرحه للخطبة الشقشقية.
2- راجع معالم المدرستين ج1 ص544.

يقتنعوا بالإسلام و«قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ»(الحجرات:14).

وكانوا يعارضون تصرفات رسول الله (صلی الله علیه و آله) علناً وينتقدونه ويشككون في صحة أفعاله، والشواهد على ذلك كثيرة كما في صلح الحديبية(1)حينما منعوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) من التوقيع على وثيقة الصلح، وعندما عارضوا الإحلال من الإحرام في متعة الحج(2)، وحينما منعوه من كتابة كتاب لايضلون بعده أبداً في رزية يوم الخميس(3)، وحينما كانوا يصلّون نوافل رمضان جماعة

ص: 65


1- راجع نظريات الخليفتين: ج1.
2- عن معالم المدرستين ج2 : في رواية الصحابي البراء بن عازب بسنن بن ماجة ومسند أحمد ومحمد الزوائد قال: خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأصحابه فأحرمنا بالحج فلما قدمنا مكة، قال: (اجعلوا حجّكم عمرة) فقال الناس: يا رسول الله قد أحرمنا بالحج فكيف نجعلها عمرة؟ قال: (انظروا ما أمركم به فافعلوه) فردوا عليه القول، فغضب فانطلق ثم دخل على عائشة غضبان فرأت الغضب في وجهه، فقالت: من أغضبك أغضبه الله ، قال: (ما لي لا أغضب وأنا آمر أمراً فلا أُتبع).
3- رزية يوم الخميس: ما أخرجه البخاري بسنده عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس، قال: لما حضر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبي (صلی الله علیه و آله) هلم اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، فقال عمر: إن النبي قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت فاختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم النبي كتاباً لا تضلوا بعده ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي قال لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) تحوموا عني، فكان بن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. (وقد تم التصرف في الحديث إذ نقلوا المعنى فقط لان اللفظ الثابت هو أن النبي يهجر ولكنهم حرفوه تهذيباً للعبارة ودفاعاً عن عمر. (المراجعات : المراجعة 86).

في المسجد وقد نهاهم (صلی الله علیه و آله) عن ذلك مراراً(1)، وحينما تخلفوا عن جيش أسامة رغم لعنه (صلی الله علیه و آله) للمتخلفين عنه(2).

مضافاً إلى أن الانتشار السريع للإسلام وقصر فترته بالنسبة لعظمة الوظيفة التي جاء من أجلها، وهي نقل أمة كاملة من حضيض الجاهلية وظلماتها إلى نور الإسلام وسعادته أدّى إلى وجود قاعدة عريضة في المجتمع لم تصل إلى درجة كافية من فهم الرسالة واستيعابها والتفاعل مع تفاصيلها، وهم معرضون للانهيار والهزيمة مع أول امتحان يواجههم في حالة غيابه (صلی الله علیه و آله) ، وقد أخبره بذلك القرآن الكريم: «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ»(آل عمران:144) وهو ما وقع فعلاً حين ارتدت الجزيرة ولم يبق على الإسلام إلا تلكالثلة القليلة في المدينة المنورة التي عركتها التجارب وصلّبت عودها الامتحانات المتتالية مع رسول الله (صلی الله علیه و آله)(3).

ص: 66


1- الوسائل : كتاب الصلاة باب عدم جواز الجماعة في صلاة النوافل في شهر رمضان، الحديث الأول.
2- راجع في استقصاء هذه الموارد كتاب (النص والاجتهاد) للسيد شرف الدين.
3- وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى ذلك في سورة المائدة آية 54: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ».

نموذج من الانحراف الإسلامي:

وقد أشارت أم المؤمنين عائشة إلى هذا الانحراف الذي حصل في مسيرة المسلمين عندما كانت تحرّض على الثورة ضد الخليفة الثالث عثمان، يروي الطبري(1): كانت السيدة عائشة من أشد الناس على عثمان، حتى أنها أخرجت ثوباً من ثياب رسول الله (صلی الله علیه و آله) فنصبته في منزلها، وكانت تقول للداخلين إليها: هذا ثوب رسول الله لم يبلَ وقد أبلى عثمان سنته، وقالوا إنها كانت أول من سمّى عثمان نعثلاً(اسم أحد اليهود بالمدينة) وكانت تقول: (اقتلوا نعثلا ! قتل الله نعثلاً) هذا ولم يمرّ على وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) أكثر من عقدين من الزمان.

حملات اليهود بعد وفاة النبي (صلی الله علیه و آله):

وكان في الداخل اليهود الذين لا ينسون لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وللإسلام القضاء عليهم وتهجيرهم من ديارهم وقتل رجالهم وسبي نساءهم وزوال دولتهم ونفوذهم في المدينة، لذلك كانت هجمة التشكيكات التي بثّوها في الأمة بعد وفاته (صلی الله علیه و آله) ، وأسئلتهم المتنوعة الكثيرة التي كانت تعجز خليفة المسلمين وأصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فأصيب المسلمون بالإحباط والضعف والهزيمة أمامهم، وكانت حملة منظمة وليست اعتباطية ظهرت فجأة

ص: 67


1- تأريخ الطبري 3/477 وقد نقلناه عن كتاب (بنور فاطمة اهتديت)/190.

بعد غياب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإقصاء الخليفة الحق الذي كان لهم بالمرصاد رغم إبعاده عن القيادة الدنيوية، لكنه كان يرى مصلحة الدين وإعلاء كلمة التوحيد فوق كل شيء، حتى اشتهرت كلمة الخليفةالثاني: (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن)(1)وما علمنا أنه احتاج إلى أحد سواه(2).

العدو الخارجي والكيد بالإسلام:

ومن الخارج كان هناك المتربصون بالإسلام شراً الذين أعيتهم الحيل في القضاء عليه، حيث بدأوا بتعذيب أصحابه (صلی الله علیه و آله) وقتلهم، ثم حاصروه ومن معه في شعب أبي طالب اقتصادياً واجتماعياً، ثم تآمروا على قتله فهاجر إلى المدينة(3)وبات علي في فراشه(4)ثم جهزوا الجيوش لقتاله واستئصال أمره فلم يفلحوا في القضاء عليه (صلی الله علیه و آله) (5)، ولم يبقأمامهم إلا نهاية حياته لتموت دعوته بموته (صلی الله علیه و آله) ، بل حاول بعضهم فعلاً اغتياله أكثر من مرة كمحاولة رؤساء بني عامر، والمحاولة التي جرت أثناء مسيره إلى تبوك حيث حاول بعض

ص: 68


1- أخرجه سبط بن الجوزي ، أسد الغابة 4/22 ، الإصابة القسم 1/270 ، تهذيب التهذيب 7/327، عن نظريات الخليفتين لنجاح الطائي.
2- جعل الخليل بن أحمد الفراهيدي ذلك دليلاً على إمامته حينما سئل ما الدليل على إمامة أمير المؤمنين وخلافته لرسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: احتياج الكل إليه وعدم احتياجه للكل.
3- حياة محمد (صلی الله علیه و آله) نهاية الفصل السادس والفصل السابع لمحمد حسين هيكل.
4- حياة محمد (صلی الله علیه و آله) الفصل العاشر لمحمد حسين هيكل.
5- حياة محمد (صلی الله علیه و آله) الفصل الثالث عشر لمحمد حسين هيكل.

المتآمرين تنفير ناقته (صلی الله علیه و آله) ليلقوه من السفح وتتقطع أوصاله، وقد أعلم (صلی الله علیه و آله) الصحابيَّ حذيفة بن اليمان بأسمائهم حتى سمي صاحب سر رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وكان الخليفة الثاني لا يصلي على أحد حتى يصلي حذيفة ليعلم أنه ليس من المنافقين(1).

وفي الخارج كانت أيضاً الدولتان الرومية والفارسية اللتان بدأتا تفكران جدياً في أمره (صلی الله علیه و آله) بعد أن غطى نوره الجزيرة كلها من اليمن جنوباً إلى تخوم الشام والعراق شمالاً، بل إنه (صلی الله علیه و آله) بدأ التحرش بالدولة الرومية في معركة مؤتة(2)وغزوة تبوك، وأرسل الرسائل إليهم يدعوهم إلى الإسلام بلهجة الواثق بالنصر والمستعلي عليهم (أسلم تسلم).

التحديات الجسيمة أمام النبي (صلی الله علیه و آله) :

كل هذه المصاعب والتحديات التي تواجه الأمة بعد وفاته (صلی الله علیه و آله) كانت نصب عينه (صلی الله علیه و آله) وهو صاحب القلب الرحيم الذي نذر حياته لله تبارك وتعالى ولإصلاح الإنسانية وإنقاذها من الظلمات إلى النور، وقد وصفه القرآن الكريم: «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ»(التوبة:128)، فكيف يترك أمر الأمة سدى؟! «فَمَا لَكُمْ

ص: 69


1- راجع (المحلى) لابن حزم الأندلسي، (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد عن (نظريات الخليفتين: محاولة اغتيال النبي).
2- معركة مؤتة: كانت في سنة ثمان من الهجرة.

كَيْفَ تَحْكُمُونَ»(يونس:35) و«فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ»(فاطر:3) فهذا الاحتمال –أي ترك الأمة سدىً من دون إرشادها إلى من يتولى أمرها- مرفوض قطعاً.

بقي احتمالان آخران تبنّت كل واحدٍ منهما طائفة من المسلمين.

عقيدة العامة في الإمامة:

الأول: -وهو الذي التزم به العامة- إيكال الأمر إلى الأمة نفسها فهي تختار من تشاء، وهو مرفوض أيضاً لعدة وجوه:

قصور الأمة عن تحمل مثل هذه المسؤولية، وقد عجزت عن أقل من هذا الأمر عندما واجهت التحديات بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، حتى بعد أن نالت تربية إضافية خلال عقود من السنين.

ففي خلافة أمير المؤمنين (علیه السلام) عندما بدأ أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) يتقاتلون بينهم لم يعرفوا حكم هذه الحالة، وقد نسب إلى أبي حنيفة قوله: (أنه لولا قتال علي للبغاة من المسلمين لما عرفنا حكم قتالهم إلى يوم القيامة).

وبعد ذلك بعقود مرّت الدولة الإسلامية بأزمة مع الدولة الرومية، عندما أرادت أن تسكّ عملة فيها شتم نبي الإسلام وتتداول في بلاد المسلمين، فأنقذ الموقفالإمام الباقر (علیه السلام)(1)، وهكذا ظلّت

ص: 70


1- رواه الدميري في حياة الحيوان عن المحاسن والمساوئ للبيهيقي ورواه بهذا المضمون عن شذرات العقود للمقريزي عن سيرة الأئمة الاثني عشر/القسم الثاني/الإمام الخامس محمد الباقر (علیه السلام) لهاشم معروف الحسني.

الأمة عاجزة عن حل مشكلاتها لولا وجود الأئمة (علیهم السلام)(1)، حتى اكتملت التربية بعد (260) عاماً بوفاة الإمام الحسن العسكري (علیه السلام)، فدخلت الأمة مرحلة (وسطية) بين الوجود الفعلي للإمام والغيبة التامة، فكانت الغيبة الصغرى التي استمرت (70) عاماً لتبدأ الغيبة الكبرى بعد أن رسم الأئمة كل المعالم الرئيسية والخطوط العامة لمسيرة الأمة، وقبل هذه المراحل المتتابعة من التربية كانت الأمة عاجزة.

وكان هذا العجز واضحاً في الصدر الأول للإسلام لقرب عهدهم بالجاهلية الهمجية وقلة فترة الرسالةوانشغالهم عن استيعاب تفاصيلها، كما عبّر الخليفة الثاني حينما سئل عن قلة استفادته من رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (ألهانا الصفق بالأسواق)(2)، ويقول بعضهم: كنّا نغتنم فرصة مجيء الإعرابي يسأل من رسول الله (صلی الله علیه و آله) لنتعلم أحكام ديننا. فمع عجزهم عن هذه الأمور الجزئية، كيف يوكل إليهم أمر الإمامة التي بها قوام الأمة.

2- لو كان لهذا الأمر وجود لبيّن رسول الله (صلی الله علیه و آله) تفاصيله إلى الأمة، فيوضح صيغة الاختيار، ومن الذين لهم هذا الحق، وما هي

ص: 71


1- الغيبة الصغرى والكبرى للسيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر (رحمة الله علیه).
2- صحيح مسلم 2 ص234 في كتاب الآداب، صحيح البخاري 3 ص837، مسند أحمد 3 ص19، سنن الدارمي 2 ص274، سنن ابن داود 2 ص320، مشكل الآثار ج1 ص499. (عن كتاب الغدير ج6 ص158).

شروط المرشحين للإمامة وضوابط الاختيار، ومن هو الحاكم فيها عند الاختلاف، وهكذا. ونحن نعلم أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لم يغفل عن أبسط تفاصيل الشريعة، كآداب المائدة وأحكام التخلي، فكيفيغفل عن مسألة الإمامة وهي أصل الشريعة وأساسها ؟! .

3- عدم التزام نفس الخلفاء الذين أعقبوه بمبدأ الاختيار، فالأول نص على الثاني(1)، والثاني جعله بين ستة من المهاجرين، فهل تراهم أول مخالفين لسنة رسول الله (صلی الله علیه و آله)(2)، بل إن الخليفة الثاني يقر ويعترف (أن بيعة أبي بكر فلتة (أو فتنة) وقى الله شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه كائناً من كان)(3).

4- إن هذا المنصب العظيم له مؤهلاته الدقيقة التي لا يعلمها إلا المطلع على الأسرار ومن لا تخفى عليه خافية في السماوات ولا في الأرض، وأولها العصمة؛لاشمئزاز الناس من الأخذ ممن يتورط في الذنوب، وكما يظهر من الآية الشريفة «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ»(البقرة:124)، إنها مرتبة فوق النبوة والرسالة ولا يبلغها الرسول إلا بعد اجتيازه لامتحانات عسيرة،

ص: 72


1- شرح النهج لابن أبي الحديد / ج1 شرح الخطبة الشقشقية.
2- شرح النهج لابن أبي الحديد / ج1 شرح الخطبة الشقشقية، سيرة الأئمة ج1، وسيأتي في الهوامش القادمة مزيد من التفصيل.
3- شرح النهج ج2 ص23، المراجعات / المراجعة 80، مسند أحمد 1/55، البخاري 4/111، تأريخ الطبري 2/446. (عن نظريات الخليفتين).

وقد ورد في تفسيرها أن الله اتخذ إبراهيم عبداً خالص العبودية، أي معصوماً قبل أن يتخذه نبياً، واتخذه نبياً قبل أن يتخذه رسولاً، واتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً، ثم ابتلاه ربه بكلمات فأتمهن، ونجح في تلك الاختبارات فاستحق التكريم الإلهي «إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً»(1). وأنت لو استقرأت الآيات الشريفة وجدتها تنسب الإمامة إلى الجعل الإلهي، كالآية المتقدمة وقوله تعالى: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ»(الأنبياء:73)، وقوله تعالى: «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَىالَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ»(القصص:5)، وقوله تعالى: «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ» (السجدة:24)، لذا قال تعالى: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ»(القصص:68) «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ»(الأحزاب:36).

5- إن كون الإمامة بالتعيين والنص الإلهي مرتكز في أذهان المسلمين عامة حتى عند من لم يعتقدوا به ظاهراً، لكن كلماتهم وأفعالهم تبرز ذلك، والشاهد على ذلك ما ورد في روايات عديدة أن الناس كانوا يرددون قوله تعالى: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ»(الأنعام:124) عند ما يطلع أحدهم عن كثب على سيرة

ص: 73


1- سورة البقرة : 124، راجع تفسير الميزان وأصول الكافي/كتاب الحجة.

أهل البيت ومواقفهم النبيلة السامية، فكأنه مرتكز في أذهانهم جميعاً أن حمل الرسالة أمر مجعول من قبل الله تبارك وتعالى، وليس لأحد أن يتدخل فيه.

6- إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) نفسه لم يعط لنفسه الحق في تنصيب من يلي الأمة، وإنما أوكل الأمر إلى الاختيار الإلهي، ففي سيرة ابن هشام(1)لما دعا الرسول بني عامر للإسلام، وقد جاءوا في موسم الحج إلى مكة قال رئيسهم: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ قال النبي (صلی الله علیه و آله): (الأمر لله يضعه حيث يشاء). إذا كان الأمر كذلك فكيف يُدعى إيكاله إلى الأمة.

ص: 74


1- السيرة النبوية 2/424 .

عقيدة مدرسة أهل البيت في الإمامة:

الثاني: ولم يبق إلا الاحتمال الآخر، وقد تبنته مدرسة أهل البيت (علیهم السلام)، وأرسى قواعده رسول الله (صلی الله علیه و آله) واستوعبه الصفوة من أصحابه ودافعوا عنه وصرحوا به رغم الوعيد والتهديد ومضوا عليه شهوداً وشهداء.

وهذا موافق لسنة الله التي جرت في أنبيائه ورسله حيث كان لهم جميعاً أوصياء(1)، فلماذا لا يكون لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وصي «قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ»(الأحقاف:9) «فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً»(فاطر:43)، وقد أُلفت كتب عديدة في هذا المجال بعنوان (إثبات الوصية) وأشهرها للمسعودي(2)،

ص: 75


1- وقد سلسل المسعودي في كتاب (إثبات الوصية) اتصال الحجج وأوصياء الأنبياء من لدن آدم حتى خاتم النبيين -صلوات الله عليهم أجمعين- وأوصياءه. عن معالم المدرستين ج1 ص283.
2- المسعودي هو: أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي ينتهي نسبه إلى الصحابي عبد الله بن مسعود توفي سنة 346ه-، وفي ترجمته بطبقات الشافعية 2/307 قيل كان معتزلي العقيدة، وأشار إلى هذا الكتاب الكتبي في فوات الوفيات 2/45، وياقوت الحموي في معجم الأدباء 13/94 وقالا: له كتاب البيان في أسماء الأئمة، وفي الميزان لابن حجر 4/224: له كتاب تعيين الخليفة، سماه في الذريعة وغيرها: إثبات الوصية. (معالم المدرستين ج2).

وهذا المسلك يقتضي تهيئة الشخص البديل وإعداده ليكون مؤهلاًلمواصلة وظائف ومسؤوليات الإمام والخلافة والقيادة النائبة بشكل تام وكامل وفاعل.

وهذا الاحتمال يبدو منسجماً مع النتائج التي تمخضت عن التحليل السابق وفي ضوء القابليات والمؤهلات التي اجتمعت في أمير المؤمنين(1)الذي قيل في كثرة فضائله: (لقد أخفى أولياؤه فضائله خوفاً، وأخفاها أعداؤه حسداً وحقداً، وظهر ما بين ذلك ما ملأ الخافقين)(2)، وعن أحمد بن حنبل: (ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الفضائل ما جاء لعلي بن أبي طالب)(3).

وكان تميزه واضحاً عن بقية أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) بكل صفات الكمال، وكان التفاف الواعين المخلصينمن أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) حوله معروفاً في حياة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبعد وفاته

ص: 76


1- وأنا إلى هنا أتكلم بشكل موضوعي ووفق الظروف المنظورة بعيداً عن النصوص وأقيم سلوك رسول الله (صلی الله علیه و آله) كمؤسس أمة ومنشئ مجتمع مدني جديد وقائد ناجح حكيم.
2- سيرة الأئمة الاثني عشر ج1 علي وبيت المال ص319 … القول للحسن البصري في جواب من سأله عما يحدّث الناس عنه.
3- مستدرك الحاكم 3/107 بحسب كتاب (بنور فاطمة اهتديت) /136.

(صلی الله علیه و آله) ، كسلمان(1)، وأبي ذر(2)، والمقداد(3)، وعمار(4)، وعزّز ذلك الرعاية الخاصة والإعدادالمركز الذي كان يحيطه به (صلی الله علیه و آله) منذ نعومة أظفاره والتي وصفها أمير المؤمنين نفسه بقوله: (وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ- بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، وَالْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ: وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إلى صَدْرِهِ، وَيَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ، وَيُمِسُّنِي جَسَدَهُ، وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ. وَكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ، وَمَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ، وَلاَ خَطْلَةً فِي فِعْلٍ. وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ - مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلاَئِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، وَمَحَاسِنَ أَخْلاَقِ الْعَالَمِ، لَيْلَهُ

ص: 77


1- سلمان الفارسي أو المحمدي: كان أكثر أصحاب الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) علماً وحكمة، وكان والياً على المدائن في زمن الخليفة عمر بن الخطاب، توفي في المدائن التي كان والياً عليها في آخر خلافة عثمان سنة خمس وثلاثين وقيل أول سنة ست وثلاثين وغسله ودفنه أمير المؤمنين (علیه السلام).
2- أبو ذر: جندب بن جنادة: تقدم إسلامه وتأخرت هجرته، فشهد ما بعد بدر من غزوات رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، توفي منفياً بالربذة سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة.
3- المقداد بن الأسود الكندي: قال الرسول (صلی الله علیه و آله) : (إن الله عز وجل أمرني بحب أربعة من أصحابي واخبرني أنه يحبهم، فقيل: من هم ؟ فقال: علي والمقداد وسلمان وأبو ذر) .. توفي سنة 33 هجرية. (الاستيعاب بهامش الإصابة 3/451، والإصابة 3/433 -434 عن معالم المدرستين ج1).
4- أبو اليقظان عمار بن ياسر: أسلم هو وأبوه وأمه وأسلم قديماً بعد بضعة وثلاثين رجلاً، وكان المشركون يخرجون عماراً وأباه وأمه إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء يعذبونهم فمر بهم النبي (صلی الله علیه و آله) فقال (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)، فمات ياسر في العذاب وطعنت أمه بحربة أبي جهل، شهد عمار المشاهد كلها مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقتل بصفين مع علي (علیه السلام) وقد جاوز التسعين من عمره.

وَنَهَارَهُ، وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لي فِي كُلِّ يَوْمٍ عَلَماً مِنْ أخْلاقِهِ، وَيَأْمُرُني بِالْإِقْتِدَاءِ بِهِ. وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَة بِحِرَاءََ فَأَرَاهُ, وَلاَ يَرَاهُ غَيْرِي، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإسلام غَيْرَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ - وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ. وَلَقَدْسَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْه ِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ- فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: (هذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَى مَا أَرَى، إِلاَّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيّ، وَلكِنَّكَ وَزِيرٌ، وَإِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ)(1).

وهكذا هو منه (صلی الله علیه و آله) حتى فارقت روحه الدنيا، يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): (وَلَقَدْ عَلِمَ الْمُسْتَحْفَظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ - أَنِّي لَمْ أَرُدَّ عَلَى اللهِ وَلاَ عَلَى رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ. وَلَقَدْ وَاسَيْتُهُ بِنَفْسِي فِي الْمَوَاطِنِ الَّتي تَنْكُصُ فِيهَا الْأَبْطَالُ وَتَتَأَخَّرُ الْأَقْدَامُ، نَجْدَةً أَكْرَمَنِي اللهُ بِهَا. وَلَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ - وَإِنَّ رَأْسَهُ لَعَلَى صَدْرِي. وَلَقَدْ سَالَتْ نَفْسُهُ فِي كَفِّي، فَأَمْرَرْتُهَا عَلَىُ وَجْهِي. وَلَقَدْ وُلِّيتُ غُسْلَه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ - وَالْمَلاَئِكُةُ أَعْوَانِي، فَضَجَّتِ الدَّارُ والأَفْنِيَةُ: مَلاٌَ يُهْبِطُ، وَمَلاٌَ يَعْرُجُ، وَمَا فَارَقَتْسَمْعِي هَيْنَمَةٌ(2)مِنْهُمْ، يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى وَارَيْنَاهُ فِي ضَرِيحِهِ. فَمَنْ ذَا أَحَقُّ بِهِ مِنِّي حَيّاً وَمَيِّتاً؟)(3).

ص: 78


1- نهج البلاغة بشرح الشيخ محمد عبده، ج2 ص157.
2- الهينمة: الصوت الخفي.
3- نهج البلاغة بشرح الشيخ محمد عبده، ج2 ص17 172.

الدور العلوي في الحفاظ على الدين:

ولقد أدى (علیه السلام) دوره بنجاح بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وحفظ الإسلام من الضياع، وكان وجوده والأئمة من بنيه بحق أماناً للأمة من الانحراف، بحيث يستغيث الخليفة الثاني ويتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن(1)، فكانت خلافة أمير المؤمنين لمقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإمامة الخلق من بعده نتيجة طبيعية ومنطقية لتسلسل التفكير أعلاه لا يسع أي منصف أن يحيد عنها، ولم يكن النص الذي سنشير إليه - وهو حديث الغدير - هو الذي جعل من علي (علیه السلام) إماماً وخليفة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى يناقشوا في دلالته والمراد منه، لا لشيء إلا لتصحيح الواقع الذي حصل بأي ثمن كانوبأية طريقة، ولو بإنكار وجود الشمس في رابعة النهار. فعلي(علیه السلام) هو الإمام بما حمله من صفات الكمال قبل النص وإنما جاء النص للإشارة إليه ولتعريفه ولقطع العذر وإتمام الحجة على المخالفين ولحسم الموقف ووضع النقاط على الحروف - كما يقولون - .

ص: 79


1- أشار إلى كلمته المشهورة (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن).

التخطيط للخلافة:

ولعظمة هذه المسألة وأهميتها فقد كان التخطيط والتمهيد لها يؤرق عين رسول الله (صلی الله علیه و آله) ويقضّ مضجعه، فإنه يخشى ردود الفعل من هذه الأمة وهو خوف محمود كخوف موسى (علیه السلام) الذي ذكره القرآن وأشرنا إليه، ليس شخصياً وإنما على مستقبل الأمة التي هي جديدة عهد بالإسلام وما زالت رواسب الجاهلية لم تنمحِ من ذاكرتها، ومازال التعصب يتحكم فيها(1)، فكيف يستطيع أن يضمن ولاءها لهذا القرارالهام الذي يصعب على النفوس الحالمة بالخلافة والقلوب المملوءة حسداً وحقداً على علي (علیه السلام) أن تنصاع إليه، كذاك الفهري الذي ما إن سمع بحديث الغدير وتنصيب علي (علیه السلام) خليفة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومبايعة المسلمين له حتى جاء إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فقال له: هذا الأمر منك أم من الله؟ فقال (صلی الله علیه و آله) : إنه من الله. فقال: إن كان هذا من الله فأمطر علينا حجارة من السماء

ص: 80


1- لاحظ كشاهد على ذلك كيف أن بشير بن سعد وأسيد بن حضير بادرا إلى بيعة أبي بكر خشية أن يفوز بها سعد بن عبادة. عن كتاب النص والاجتهاد المورد الأول يوم السقيفة ص80 .. واجتماع أكثر الأنصار في السقيفة يرشحون سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، لكن ابن عمه بشير بن سعد بن ثعلبه الخزرجي وأسيد بن الخضير سيد الأوس كانا ينافسانه في السيادة، فحسداه على هذا الترشيح وخافا أن يتم له الأمر فأضمرا له الحبكة مجمعين على صرف الأمر عنه بكل ما لديهما من وسيلة وصافقهما على ذلك وعويم بن ساعدة الأوسي، ومعن بن عدي حليف الأنصار .. وكان مع ذلك ذوي بغض وشحناء لسعد بن أبي عبادة…

أو أئتنا بعذاب أليم. فما خرج منه (صلی الله علیه و آله) حتى نزلت عليه صاعقة من السماء. وقد ورد أنه سبب نزول قوله تعالى: «سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ، لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ» (المعارج: 2)(1).

الإعلان العظيم تكلل في يوم الغدير:

وبالمقابل كان (صلی الله علیه و آله) لا يستطيع السكوت عن إنفاذ هذا الأمر وهو يرى نهايته تقترب، والأعداء يتربصون بدينه الدوائر، فكيف يهدأ له بال ويقرّ له قرار قبل أن تنعقد البيعة لعلي (علیه السلام).

حتى أذن الله تبارك وتعالى له بالتبليغ، بل أمره به وطمأنه من مخاوفه هذه بأنه سيعصمه من الناس، وبين أهمية هذا الأمر بأنه وحده في كفة وباقي الرسالة كلها في كفة، فقال عز من قال:

ص: 81


1- روى الثعلبي الذي هو من قدوة مفسري المخالفين في شأن نزولها -انظر هامش ج8 تفسير الرازي لأبي مسعود ص292 والسيرة الحلبية ج3 ص302 ونور الأبصار ص69- أنه لما كان النبي (صلی الله علیه و آله) بغدير خم نادى الناس فاجتمعوا فأخذ بيد علي (علیه السلام) فقال من كنت مولاه فعلي مولاه فشاع ذلك وطار في البلاد فبلغ الحارث بن النعمان الفهري فأتى ... النبي (صلی الله علیه و آله) وهو في ملأ من أصحابه، فقال: يا محمد أمرتنا من الله أن نشهد أن لا اله إلا الله وانك رسول الله ففعلناه وأمرتنا أن نصلي خمساً فقبلنا وأمرتنا أن نصوم شهر رمضان فقبلناه وأمرتنا أن نحج البيت فقبلناه ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك وفضلته علينا وقلت من كنت مولاه فعلي مولاه وهذا شيء منك أم من الله، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): والذي لا اله إلا هو من الله، فولى الحارث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء واتنا بعذاب اليم، فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله وانزل الله تعالى «سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ، لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ، مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ» (حق اليقين في معرفة أصول الدين ج1 / الآية الثالثة الدالة على أن الإمام بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) هو علي (علیه السلام).

«يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ»(المائدة:67).

فليس غريباً أن تدرج هذه الآية المباركة وآية الولاية التي سبقتها «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ»(المائدة:55) في سورة المائدة التي يستشف المتأمل فيها أن غرضها تأسيس المجتمع المسلم، وبيان مميزاته الرئيسية ومقوماته وأسس كيانه، وعرض نقاط الفرق بين المجتمع الذي يقوم على أساس الإسلام والمجتمع الذي ليس كذلك كائناً ما كان وإنسمى نفسه مسلماً، فإنه في مفهوم القرآن (مجتمع جاهلي)، فالبينونة بين المجتمعين كاملة في الأحكام (كآيات أوفوا بالعقود وحرمة الكلب والخنزير وغيرها) وفي من له حق الولاية (فقد تكررت كثيراً آيات ولاية المؤمنين والبراءة من الكافرين)، وفي الشريعة التي تنظم الحياة «أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ، وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، هُمُ الظَّالِمُونَ، هُمُ الْفَاسِقُونَ»(المائدة، 44، 45، 47، 50) وتمامها وعقد نظامها آية التبليغ وآية الولاية.

أعظم الأعياد في الإسلام:

ثم جعل يوم الحسم هذا أعظم عيد في الإسلام، ففيه كمل الدين وتمت النعمة بعقد البيعة والولاية لأمير المؤمنين (علیه السلام)، وامتنَّ الله

ص: 82

تبارك وتعالى على عباده بذلك فقال عز من قائل: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً»(المائدة:3).

وجلس رسول الله (صلی الله علیه و آله) يتقبل التهاني بهذا الإنجاز العظيم ويقول لأصحابه: هنئوني هنئوني بابن عمي أميرالمؤمنين. وأفرد له خباءً ليسلموا عليه ويبايعوا علياً خليفة من بعده وأميراً للمؤمنين، واستأذنه شاعره حسان بن ثابت أن يقول شعراً في المناسبة، فأذن له فأنشأ:

يناديهمُ يوم الغدير نبيهم *** بخمٍّ فأسمع بالرسول مناديا

وفيها يقول:

فقال له: قم يا عليُّ فإنني *** رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

وأول من سلم عليه الشيخان وهما يقولان له: بخٍ بخٍ لك يابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة(1).

ص: 83


1- أخرج الإمام الواحدي في تفسير (يا أيها الرسول بلغ …) من طريقين معتبرين عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية يوم غدير خم بعلي بن أبي طالب، فلما بلغ الرسالة بنصه (صلی الله علیه و آله) على علي (علیه السلام) بالإمام وعهد إليه بالخلافة أنزل الله عز وجل «اليوم أكملت لكم …» وأول من هنأ علي (علیه السلام) في يوم الغدير هما: أبو بكر وعمر بقولهما: أمسيت يا بن أبي طالب مولى كل مؤمن ومؤمنة. (أخرجه الدار قطني - الفصل الخامس من الباب الأول من صواعق بن حجر ص26 وأحمد نحو هذا القول عن عمر من حديث البراء بن عازب ص281 ج4 من مسنده). (المراجعات 54 وما بعدها).

وقد نظم هذه الحقيقة التأريخية الدامغة أجيال من الشعراء جيلاً بعد جيل(1)، ومنهم عمرو بن العاص الخصم الألدَّ لعلي بن أبي طالب في قصيدته الجلجلية التي بعثها إلى معاوية يذكّره ببعض الحقائق التي تناساها، ومما جاء فيها(2):

وكم قد سمعنا من المصطفى *** وصايا مخصصةً في علي

فأنحلَ-ه إمرة المؤمنين *** من الله مستخلف المنحل

وقال: فمن كنت مولىً له *** فهذا له اليوم نعم الولي

فبخبخَ شيخُ-ك لما رأى *** عُرى عقد حيدر لم تُحلل

فقال: وليكم فاحفظوه *** فمدخله فيكم مدخلي

وقد جاء هذا البيان - خطبة الغدير - منه (صلی الله علیه و آله) متوّجاً لبيانات سابقة لا تقل عنه وضوحاً: (إن علياً مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)(3)، وإن: (علي مع الحق والحق مع علي)(4)وإنه (علیه السلام) وأهل بيته كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها

ص: 84


1- راجع الموسوعة الفريدة (الغدير) للشيخ الأميني (رحمة الله علیه).
2- (راجع كتاب الغدير في ترجمة عمرو بن العاص).
3- حديث المنزلة: عن الإمام أحمد في الجزء الأول من مسنده في آخر صفحة 330 والإمام النسائي في خصائصه العلوية ص6 والحاكم في ج3 من صحيحه المستدرك ص123 والذهبي في تلخيصه معترفاً بصحته عن عمرو بن ميمون (المراجعات : 26).
4- البحار ج10 باب 26 ص432.

هلك(1)، وأنهم والقرآن صنوان لا يفترقان، وثقلان ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي أبدا(2).. وغيرها كثير.

لماذا كان يوم الغدير أعظم عيد في الإسلام؟

إن عظمة هذا اليوم لها مناشئ عديدة فهو:

يوم الطمأنينة على بقاء الرسالة واستمراريتها بعد أن انتقل ارتباطها من شخص رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فيمكن أن تموت بموته، إلى نوع رسول الله (صلی الله علیه و آله)، أي إلى كل من تتجمع فيه صفات وشروط الإمامة فلم يعد وجودها منوطاً بشخصه (صلی الله علیه و آله) .

وهو يوم الانتصار النهائي على مكائد الأعداء الذين لم يبق في جعبتهم من سلاح إلا موت رسول الله (صلی الله علیه و آله) لتنتهي دعوته ففقدوا هذا الأمل الشيطاني بتنصيب أمير المؤمنين (علیه السلام) خليفة.

وهو يوم حماية الأمة من التشتت ومن الضياع بتعيين الحبل الذي إن اعتصموا به بقي ريحهم وكيانهم وانتشر أمرهم وعلت كلمتهم.

وهو يوم صيانتها من الانحراف بعد أن نصب لهم العلم والمحور الذي يلتفون حوله.

ص: 85


1- الوسائل : كتاب القضاء، صفات القاضي، باب5، حديث10.
2- الإمام أحمد والترمذي بعدة طرق تجدها في المراجعات : المراجعة 80.

وهو يوم أمان الأرض ومن عليها من الفناء، لما ورد في الحديث: (إن الأرض لا تخلو من حجة ظاهر أو مستور، ولولاه لساخت الأرض بأهلها)(1).

وهو يوم الهداية إلى الدين ووضوح الحق بمعرفة الحجة كما في الدعاء: (اللهم عرفني نفسك، فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف رسولك، اللهم عرفني نبيك، فإنك إن لم تعرفني نبيك لم أعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك، فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني)(2).

وهو يوم الإمامة التي هي أس الإسلام وسنامه، فهو لا يقل أهمية عن يوم البعثة النبوية الذي انبثق فيه نور الإسلام.

التشيع يزداد وضوحاً بيوم الغدير:

لأجل هذا كله كان يوم الغدير أعظم عيد في الإسلام كما نطقت به الروايات الشريفة، وفي ذلك اليوم تبلورتفكرة (التشيع) ونضجت ثمارها وأينعت بعد أن كان قد زرع بذورها رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مناسبات عديدة، ابتداءً من يوم الدار وإنذار عشيرته

ص: 86


1- البحار ج36، باب41، ص315.
2- مفاتيح الجنان : الفصل السادس ، دعاء زمن الغيبة.

الأقربين في أوائل البعثة الشريفة(1).ولهج رسول الله (صلی الله علیه و آله) بهذا الاسم المحبب له ولأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين) في مناسبات عديدة، أنقل بعضها من كتب العامة ليكون الخطاب أبلغ في الحجة:

1- في الدر المنثور للسيوطي ج8/ص589: روى بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: كنّا عند النبي (صلی الله علیه و آله) فأقبل علي (علیه السلام)، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): (والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة)، فنزل قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ»(البينة:7).

2- ابن حجر في الصواعق المحرقة الباب (11) الفصل الأول: الآية الحادية عشرة:

ص: 87


1- حياة محمد : الفصل الخامس، ص142، لمحمد حسين هيكل، المراجعات: مراجعة 20 قال فيها حين أنزل الله تعالى على الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ» فدعاهم إلى دار عمه أبي طالب وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيد رجلاً أو ينقصونه، وفيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب، والحديث في ذلك من صحاح السنة المأثورة، وفي آخره قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على أمري هذا على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ فأحجم القوم عنها غير علي -وكان أصغرهم- إذ قام فقال: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه، فأخذ رسول الله برقبته وقال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا، فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع.

عن ابن عباس قال: لما أنزل الله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ»، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): (هم أنت وشيعتك تأتون يوم القيامة راضين مرضيين ويأتي عدوك غضاباً مقمحين).

3- القندوزي الحنفي في ينابيع المودة ج2 ص61.

عن أم سلمة (رضي الله عنها) قالت: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (علي وشيعته هم الفائزون يوم القيامة)، ومن المصادر التي ذكرت هذه الرواية في تفسير الآية الشريفة: تفسير الطبري وروح المعاني وكفاية الكنجي الشافعي وغيرها(1).

كيف خطط رسول الله (صلی الله علیه و آله) للخلافة من بعده:

أشكال التخطيط النبوي لتعيين الخليفة:

لقد كان تخطيط رسول الله (صلی الله علیه و آله) لهذا الأمر أي تعيين الخليفة والامتداد له على ثلاثة أشكال:

الأول: النص المباشر والواضح عليه، وعدم ترك الأمر مجملاً تتقاذفه التأويلات والتفسيرات، وقد تقدم فيما مضى فكرة عنه،

ص: 88


1- نقلاً عن كتاب (بنور فاطمة اهتديت) للكاتب والمحامي السوداني عبد المنعم حسن/ص49.

وأنصح بقراءة كتاب (المراجعات) للسيد شرفالدين(1)للاطلاع على المزيد من الأدلة والنصوص ببيان قوي وحجة دامغة، مما لو دخلت فيه سأخرج عن الاتجاه العام الذي رسمته لهذا البحث.

الثاني: الإشادة بالأشخاص المخلصين الواعين الذين يعلم (صلی الله علیه و آله) منهم أنهم ثابتون على الخط وواعون للهدف وراسخون في المبدأ، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقولون كلمة الحق مهما كان الثمن، كسلمان والمقداد وأبي ذر وعمار وذي الشهادتين وبلال الحبشي وأم ايمن وأم سلمة، فكان (صلی الله علیه و آله) يردد: (سلمان منّا أهل البيت)(2)(إن الجنة لتشتاق إلى أربعة: سلمان والمقداد وأبي ذر وعمار)(3)(ماأظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء ذا لهجة أصدق من أبي ذر)(4)(مُلئ عمار إيماناً من قرنه إلى أخمص قدميه)(5)

ص: 89


1- السيد عبد الحسين بن السيد يوسف بن السيد جواد بن السيد إسماعيل بن محمد جد الأسرتين آل الصدر وآل شرف الدين بن السيد إبراهيم (الملقب بشرف الدين) ولد في الكاظمية سنة 1290 هجرية، كتابه المراجعات: هو مجموعة مراجعات جرت بينه وبين المرحوم علامة مصر الشيخ سليم البشري شيخ الأزهر، توفي السيد في 8 جماد الثانية 1377 هجرية.
2- البحار ج1، باب8، ص123.
3- وسائل الشيعة: ج22 خاتمة الكتاب، باب10، ص324.
4- الوسائل ج10، باب2، ص23، سنن ابن ماجه المقدمة باب11، وسنن الترمذي كتاب المناقب، مناقب أبي ذر، ومسند أحمد، وطبقات ابن سعد. (عن معالم المدرستين).
5- الوسائل : ج19، باب6، ص35.

و(أم أيمن امرأة من أهل الجنة)(1)و(بلال من أهل الجنة)(2)وقال لأم سلمة: (لستِ من أهل البيت، لكنك على خير)(3).

فكانت هذه الأوسمة تخطيطاً منه (صلی الله علیه و آله) للمستقبل إذا انقلبت الأمة على الأعقاب وتاهت بها السبل في بحر الظلمات، فسيكون هؤلاء أعمدة نور تضيء لطلاب الحقيقة الدرب، وتدلّهم على شاطئ الإيمان وقد أدّوا دورهم وقالوا كلمة الحق فثبتوها في لوح التأريخ(4)لو كان هناك من يسمع، بينما لم نسمع منه (صلی الله علیه و آله) كلمة واحدة في أولئك الذين انحرفوا عن علي (علیه السلام) وخذلوه، رغم أن منهم من كان له مواقف مشهورة كالزبير بن العوام.

الثالث: وضع ضوابط يُعرف بها المستحقون لهذا الأمر وتمييزهم عمّن هم ليسوا أهلاً له، والذين يستخدمون أساليب لم يقم عليها دليل شرعي من أجل تثبيت استحقاقهم، أو تشويه صورة أهل الحق وإزالتهم عن موقعهم، كما كانوا يقولون: (إن قريش نظرت فاختارت، وإنها أبت أن تجتمع النبوة والخلافة في بني

ص: 90


1- البحار : ج17، باب4، ص378.
2- البحار : ج22، باب37، ص142.
3- أخرجه الطبراني في الدر المنثور، وروي عن طريق الخاصة.
4- راجع كتاب الاحتجاج للطبرسي.

هاشم)(1)و(إن فلان - وهو الأول - أسنّ من عليّ)(2)و(إن علياً فيه دعابة)(3)، والله تبارك وتعالى يخاطبهم «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواتَسْلِيماً»(النساء:65)، ويقول تعالى «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(الحشر:7)، وقال تعالى «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ»(القصص:68) «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ»(الأحزاب:36) فما قيمة رأي أحد واختياره كائناً من كان بعد قضاء الله تبارك وتعالى واختياره «بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ»(البقرة:90).

الضوابط والمعايير لتولّي الخلافة:

فبهذه المعايير والضوابط التي سنذكرها إن شاء الله تعالى تستطيع الأمة أن تفرز هؤلاء المتطفلين مهما مارسوا من أساليب

ص: 91


1- ابن أبي الحديد : ص107 من المجلد الثالث في شرح النهج، ابن الأثير : ص24 ج3 من كامله. (عن المراجعات : مراجعة 84). سيرة الأئمة : ج1 ص332 هاشم معروف الحسني.
2- الغدير : ج2 ص128.
3- شرح النهج : ج1 لابن أبي الحديد عن شيخه أبو عثمان في كتابه السفيانية، سيرة الأئمة : ج1 ص338.

الخداع والتضليل، المتقمصين لأمرها بغير حق:

(فمنها) قوله تعالى: «لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ»(البقرة: 124)، والعهد هو الإمامة؛ لأنها جاءت جواباً على سؤال إبراهيم (علیه السلام) بعد جعله إماماً، قال: «وَمِنْ ذُرِّيَّتِي»، وقد فُسّرتفي الروايات الشريفة بمن سجد لصنم يوماً ما(1)، فإن من فعل ذلك سفيه، ولا يكون السفيه إمام التقي كما في الحديث(2)، ويشهد له قوله تعالى: «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ»(لقمان:13).

(ومنها) قوله تعالى: «لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا»(الحديد:10).

(ومنها) قوله (صلی الله علیه و آله) : (لا يلي أمر هذه الأمة طليق).

(ومنها) قوله (صلی الله علیه و آله) : (فاطمة بضعة مني، يرضى الله لرضاها، ويغضب لغضبها)(3).

ص: 92


1- روى الفقيه ابن المغازي الشافعي مسنداً عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): انتهت الدعوة إلي وإلى علي (علیه السلام) ولم يسجد أحدنا لصنم فاتخذني نبياً واتخذ علي وصياً. (حق اليقين في معرفة أصول الدين - الحادي عشر من الآيات الدالة على إمامة علي (علیه السلام).
2- الكافي : كتاب الحجة، حديث 438، المجلد الثاني.
3- الإمامة والسياسة لابن قتيبة : 1/14، أعلام النساء : 3/314. (عن نظريات الخليفتين ج1).

وقال (صلی الله علیه و آله) : (يا عمار تقتلك الفئة الباغية)(1).

(ومنها) حشدُهُ (صلی الله علیه و آله) المعادين لخط الإمامة، وفيهم شيوخ قريش في جيش أسامة ذي السبعة عشر ربيعاً، ولعنه من تخلف عن جيش أسامة، وأمر بإنفاذه فوراً(2)، وكان ذلك منه (صلی الله علیه و آله) لإخلاء الساحة من الذين لا ينصاعون لإمامة أمير المؤمنين (علیه السلام).

تطبيق الضوابط على المتصدين للخلافة بغير حق:

وبملاحظة هذه المعايير والضوابط تكتشف كيف خطط رسول الله (صلی الله علیه و آله) لحصر الأمر بعلي (علیه السلام)، فبعض المتصدين ممن أغضب فاطمة (علیه السلام) وماتت وهي واجدة عليهم، كما أشهدتهم (صلوات الله عليها) على ذلك، فنالوا بذلك غضب الله تبارك وتعالى، وهل يلي أمر الأمة أحد من المغضوب عليهم، ثم هم من الظالمين الذين سجدوا للأصنامردحاً طويلاً من الزمن، فلا ينالهم عهد الله تعالى، فكيف يكون أحدهم إماماً لمن كرم الله وجهه عن ذلك -كما يعترفون- وهم أيضاً ممن تخلفوا عن جيش أسامة فينالهم حكمه.

ص: 93


1- الكافي: 5/11.
2- الشهرستاني في المقدمة الرابعة من كتاب الملل والنحل. (المراجعات : مراجعة 90، النص والاجتهاد - سرية جيش أسامة).

وبعضهم لم يقاتلوا لا قبل الفتح ولا بعده، وهزائمهم في الحروب معروفة، ومنهم من ولّى منهزماً في معركة أحد لا يلوي على شيء ثلاثة أيام، حتى بلغ تخوم الشام، فقيل له: إن الأمر لا يستحق ذلك وقد عاد رسول الله (صلی الله علیه و آله) سالماً إلى المدينة.

ومعاوية ومروان ممن أسلموا بل استسلموا بعد الفتح، فلا يستوون مع من آمن وأنفق من قبل الفتح وقاتل، وهم منالطلقاء(1)فلا يحق لهم ولاية أمر الأمة. وهم من البغاة، لأنهم قتلوا عماراً في صفين، فكيف يلي أمر الأمة باغٍ أثيم(2).

فلو كانت الأمة واعية لتلمست طريقها بوضوح، حيث لم يترك لها رسول الله (صلی الله علیه و آله) عذراً، فهل كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) عاطفياً وبدافع الحب لابنته حين قال هذا الكلام، وهل سمعت بأحد غيور يرتقي المنبر ويثني على مزايا ابنته ؟! لا طبعاً خصوصاً في مثل رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي يصفه القرآن «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى»(النجم:3-4). وإنما المسألة أبعد من ذلك، إنه يريد أن ينصب لهم ميزاناً يعرفون به الحق والباطل لو اختلطا عليهم، وإن كان الأمر واضحاً لكن قلبه الكبير ورحمته ورأفته بالأمة أبت

ص: 94


1- مستدرك نهج البلاغة : الباب الثاني، كتاب أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى معاوية وقوله: (…واعلم يا معاوية أنك من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة ولا تعقد معهم الإمامة…).
2- البحار : ج36، باب41، ص327، النص والاجتهاد : المورد 95 حرب معاوية لعلي (علیه السلام).

إلا أن يوالي الحجج على هذه الأمة وينصب لها العلامات تلوالعلامات حتى وهو على فراش المرض في رزية الخميس كما يسميها ابن عباس(1). ولأنه (صلی الله علیه و آله) كان يعلم أن أساليب التضليل كثيرة ووسائل الضغط قوية وشرسة، فالنص - وهو الشكل الأول من التخطيط - يُؤوَّل ويُحرَّف، وهذه الثلة المخلصة - وهو الشكل الثاني - يُضيَّق عليها وتحبس أنفاسها، فأبو ذر ينفى إلى الربذة حتى يموت غريباً(2)، وعمار وعبد الله بن مسعود(3)يداس بطنه وتوجأُ عنقه، وأم أيمنامرأة أعجمية لا تقبل لها شهادة(4)، والحسن والحسين طفلان صغيران(5)، وعليّ يجر النار إلى قرصه فلا تقبل له ولا لولديه شهادة(6)، والزهراء (علیه السلام) تتجرع الآلام غصة بعد غصة حتى لحقت بأبيها بعد أيام وهكذا …، لذا كان الشكل

ص: 95


1- المراجعات : المراجعة 86.
2- الوسائل : ج22 باب 12 ص395، معالم المدرستين ج1 ص459.
3- ابن مسعود: أسلم قديماً وأجهر قديماً في مكة فضربوه حتى أدموه وهاجر إلى الحبشة والمدينة، شهد بدراً وما بعدها، وقطع عثمان عطاءه سنتين لإنكاره على الوليد ما ارتكبه زمان ولايته على الكوفة ومات سنة اثنتين وثلاثين. (أسد الغابة: 3/256-260، مستدرك الحاكم : 3/315،320 وراجع أحاديث عائشة 62-65) (عن معالم المدرستين ج2)، وحول مقتله راجع للتفصيل سيرة الأئمة ج1 ص370 وكذلك ضرب عمار بن ياسر.
4- بحار الأنوار: ج28، باب4، ص302، سيرة الأئمة: القسم الأول ص118 لهاشم معروف الحسني.
5- سيرة الأئمة : القسم الأول ص119.
6- سيرة الأئمة : القسم الأول، ص118.

الثالث من التخطيط ضرورياً ليكون شاهد عدل مدى الأجيال، تملأ أفواه مزوري الحقائق بالتراب.

ولعلك تعجب مع وضوح هذا التخطيط وقوة الحجج المتوالية التي لم تنقطع حتى وفاته (صلی الله علیه و آله) وإذا بالأمر يزول عن مستقره ويتقمص الخلافة غير علي (علیه السلام)، وهو يعلم أن محل ابن أبي طالب منها محل القطب من الرحى، ينحدر عنه السيل، ولا يرقى إليه الطير(1).وانه لعجيب فعلاً، ولو لم يكن حقيقة ثابتة أجمع عليها المؤرخون لما صدّقنا به، وقد أوجدت في عين أمير المؤمنين قذى، وفي الحلق شجى، وفي القلوب جمرة لا تطفأ إلى يوم القيامة حتى ينتصف المظلوم من الظالم، ونعم الحكم الله والخصم محمد (صلی الله علیه و آله) (2)، يقول الإمام الصادق (علیه السلام) بهذا الصدد: (إن حقوق الناس تثبت بشهادة شخصين، وقد أنكر حق جدي أمير المؤمنين وعليه سبعون ألف شاهد كانوا مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في غدير خم)(3).

المرجعية الدينية ومسؤوليات التخطيط لإعداد البديل:

وعلى أية حال، فليست هذه الحالة فريدة في التأريخ، بل هي تتكرر كلما تكررت ظروفها الموضوعية، وما دامت النفس الأمارة

ص: 96


1- من كلمات لأمير المؤمنين (علیه السلام) في الخطبة الشقشقية في نهج البلاغة.
2- من خطبة الزهراء التي احتجت بها على الصحابة في مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله). (المصنف). راجع شرح النهج لابن ابي الحديد : ج16 ص210.
3- بحار الأنوار: ج37 باب52 ص158.

بالسوء الميالة لاتباع الهوى وإشباع الشهوات والنزوع إلى التسلط وحب الجاه، وقد عشنا مثلها فإلى الله المشتكى(1).

والذي أريده من هذا البيان ليس فقط ترسيخ هذه العقيدة والدفاع عنها وإن كان هذا مطلباً مهما، لكني بالإضافة إليه أقول: إن العلماء وعلى رأسهم المرجعية الشريفة هم ورثة الأنبياء(2)، ليس فقط في الحقوق والامتيازات، وإنما في الوظائف والمسؤوليات والواجبات، خصوصاً وقد أمرنا بالتأسي برسول الله (صلی الله علیه و آله) بقوله تعالى: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً»(الأحزاب:21).

ومن تمام التأسي والوراثة إعداد البديل بغض النظر عن كونه واحداً أو أكثر، وتربيته وتأهيله لهذا المنصب الإلهي الشريف، وأي تقصير فيه غير مغتفر لا عند الله سبحانهولا عند رسوله (صلی الله علیه و آله) ولا أوليائه العظام ولا عند المجتمع، وبعد أن يطمئن إلى إكمال إعداد البديل علمياً وفكرياً وأخلاقياً وعقائدياً - وهي المقومات الأربعة لشخصية العالم الديني، بل كل مسلم واعٍ مخلص- يجب أن يشير إليه صريحاً، وهذا هو الشكل الأول من التخطيط.

ص: 97


1- يشير (دام ظله) بذلك إلى ما حصل من حركات (انقلابية) على وصية السيد الشهيد الصدر الثاني (رحمة الله علیه) رغم النصوص والإشارات المتكررة.
2- الكافي: 1/32.

وأما الشكل الثاني فيؤدى بالإشادة بمجموعة من الفضلاء الورعين المخلصين من أهل الخبرة الذين يطمئن إلى استقامتهم على الطريقة وإنصافهم الحق ونزاهتهم في بيانه وبصيرتهم في الأمور، حتى يرشدوا المجتمع بإخلاص وبلا لبس وإجمال وغموض إلى المرجع البديل.

وأما الشكل الثالث ففيه صنفان من الضوابط والمعايير والشروط، فمنها شروط ثابتة، وهي الاجتهاد والعدالة وغيرها من المذكورات في الرسائل العملية، ومنها شروط متحركة بحسب الزمان والمكان والظروف الموضوعية التي تعيشها المرجعية الشريفة، وهذه يجب طرحها بحسب الحاجة وفي وقتها المناسب. وهذا الكلام كله على نحو الإشارة والإجمال، وللتفصيل محله المناسب.

مسؤولية الأمّة في البحث عن المرجع البديل:

هذا بالنسبة لتكليف المرجعية، وفي مقابله توجد مسؤولية على الأمة يجب أن تعيها وتؤديها، وهي سؤال المرجع عن البديل، فإذا عينه كان من واجبهم الالتفاف حوله والإشادة به ودلالة المجتمع عليه، وقد تكاملت هذه التربية عند أصحاب الأئمة (علیهم السلام)، فكانوا يسألونهم: (مَنْ الحجة بعدك)(1)و(إلى من المفزع إذا حدث

ص: 98


1- أصول الكافي : كتاب الحجة باب الإشارة والنص على الأئمة.

حادث)(1)وهكذا، وإذا ذهب إمام فلم يكونوا يصدّقون كل من يدعي الإمامة، بل يجرون له الامتحانات التي لا ينجح فيها أي إمام(2)، كامتحانهم لجعفر أخي الإمام العسكري (علیه السلام) الذي ادعى الإمامة بعد أخيه (علیه السلام).

ص: 99


1- نفس المصدر.
2- راجع كتاب أصول الكافي/كتاب الحجة.

ص: 100

الفصل الثالث: ماذا خسرت الأمة حین ولت أمرها من لایستحق؟

اشارة

ص: 101

ص: 102

ماذا خسرت الأمة

حينما ولت أمرها من لا يستحق؟

حينما ولت أمرها من لا يستحق؟(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق، والحمد لله الذي جعلنا من الموفين بعهده وميثاقه الذي واثقنا به من ولاية ولاة أمره والقوّام بقسطه، ولم يجعلنا من الجاحدين المكذبين بيوم الدين، وصلى الله على رسوله والأئمة الميامين من آله وسلم تسليماً كثيراً.

رزية الخميس:

كانت وفاة النبي(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) يوم الاثنين الثامن والعشرين من صفر على ما هو المشهور(2)، فتكون رزية يوم الخميس كما سماه عبد

ص: 103


1- محاضرة ألقاها سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على حشد من فضلاء وطلبة الحوزة العلمية يوم 25 صفر 1423 ه- المصادف 8 آيار2002م في مسجد الرأس الشريف مجاور الصحن الحيدري المطهر بمناسبة ذكرى وفاة رسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) .
2- منتهى الآمال في تواريخ النبي والآل للشيخ عباس القمي ج1 الفصل السابع، تأريخ الطبري المجلد الثاني ص197 ، سيرة بن هشام ج4/ اليوم الذي قبض الله تعالى فيه نبيه الأكرم(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) .

الله بن عباس(1)يوم الرابع والعشرين من صفر أي في مثل يوم أمس، وكانت رزية حقاً، إذ انقطع في ذلك اليوم آخر أمل لتمسك الأمة بوصية رسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) في الإمام والخليفة من بعده، وأعلنوا معارضتهم الصريحة والواضحة لهذا التعيين، لذلك قال(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) لأهل بيته: (أنتم المستضعفون بعدي)(2)، وأوصى أمته بهم خيراً، ولو كان يعلم أن الأمر يؤول إليهم لما احتاج إلى الوصية بهم، وفي حديث للإمام الصادق(علیه السلام) يعبر فيه عن ألمه العميق من تضييع الأمة لبيعة يوم الغدير ولحق أمير المؤمنين فيقول: (إن حق الرجل يثبت بشاهدين، وقد أضيع حق جدي أمير المؤمنين وعليه سبعونألف شاهد)(3).

النزاع بين الخط الإلهي والخط البشري:

ولا أريد أن أناقش أسباب هذا التضييع وإهمال الأمة لهذا الحق الذي أخذه الله على كل المؤمنين، فلهذه المناقشة محل آخر، لكنني أعتقد أن أحد هذه الأسباب والذي لا زال في ذهن الناس مما يقلّل من خطورة هذا التضييع هو القصور في فهم النزاع، فقد فهموه على أنه نزاع بين شخصين، هما علي بن أبي طالب(علیه السلام) ومن نازعه الأمر، فهم لا ينكرون فضل علي(علیه السلام) وسابقته وجهاده

ص: 104


1- تأريخ الطبري المجلد الثاني السنة الحادية عشر.
2- منتهى الآمال ج1 ص205.
3- البحار ج37 باب52 ص158.

وعلمه وقربه من رسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) وشجاعته وفناءه في الله، لكنهم يرون أن المقابل أيضاً من السابقين إلى الإسلام وثاني اثنين إذ هما في الغار وصهر رسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) وبدري وأحدي، بل حاولوا تلفيق بعض المناقب ليساووه بأمير المؤمنين أو يقتربوا منه(علیه السلام)، وإزاء هذه المقارنة لم يجدوا المسألة مهمة بهذه الدرجة ولاتستحق أن ينشق المسلمون إلى طائفتين عظيمتين، ولا جدوى في البحث فيها فقد أكل عليها الدهر وشرب.

ولو فهموها بصورتها الصحيحة لغيروا عقيدتهم، ولما وجدوا أي تردد في قبول المذهب الحق، لأن الخلاف ليس بين شخصين -- وإن كان بحد ذاته دليلاً كافياً لسمو علي على غيره كسموّ الثريا على الثرى -- وإنما بين مبدأين وخطين كان علي(علیه السلام) رمز الأول ومنافسه رمز الثاني:

الأول: مبدأ وخط رسمه الله تبارك وتعالى خالق السموات والأرض العالم بخفيات الأمور وبواطن النفوس وبما كان وسيكون، واختاره للأمة لتصل إلى كمالها المنشود، وبلّغه رسوله الكريم(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) في يوم الغدير.

يقف في أول الخط علي بن أبي طالب(علیه السلام)، ومن بعده الحسنان سبطا رسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) ، ومن بعدهما الأئمة الطاهرون الذين أطبقت الأمة على نزاهتهم وعلمهم وتمثيلهم الكامل للشريعة الإلهية،

ص: 105

ومن بعدهم العلماء العارفون الأتقياء الصالحون حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

الثاني: خطٌّ يصنعه البشر بأهوائهم وأساليبهم الشيطانيةمن قهر وإذلال أو إغراء بالمال أو ظلم وتعسف أو تضليل وتمويه وادعاءات باطلة، وكان الآخر رأس هذا الخط، فقد اختارته قريش -- كما يقول الخليفة الثاني -- وليس الله الذي اختاره، ويتتابع على هذا الخط معاوية الذي يقول: والله ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتزكوا، وإنما لأتأمّر عليكم(1)، ومن بعده يزيد شارب الخمر على منابر المسلمين والذي أحرق الكعبة بالمنجنيق وقتل ريحانة رسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) (2)، ومن بعده الآخرون الذين سفكوا الدماء وهتكوا الأعراض ونشروا الفساد وضلّوا وأضلّوا «كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا» (الأعراف:38).

مع الوعي في الطرح:

عندما تعرض المقارنة بهذا الشكل، ولو استوعبها الصحابة والأجيال جميعاً بهذا الشكل لما ترددوا في الإيمان بصحة الخط

ص: 106


1- منتهى الآمال: الفصل الثالث ص435 عن البحار ج44 ص49.
2- تأريخ الطبري المجلد الثالث، سيرة الأئمة لهاشم معروف الحسني ج2 منتهى الآمال ج1 الباب الخامس ، معالم المدرستين ج5/ يزيد في أفعاله وأقواله (روى صاحب الأغاني: أن يزيد بن معاوية أول من سن الملاهي في الإسلام من الخلفاء وآوى المغنين وأظهر الفتك وشرب الخمر وكان ينادم عليها سرجون النصراني مولاه…).

الأول والتمسك به، على أنهم غير معذورين من أول الأمر، لأن القرآن صريح «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً»(الأحزاب:36)، وقال تعالى: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» (القصص:68)، بل إن رسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) نفسه لم يكن له هذا الحق حينما عرض عليه بنو عامر أن يسلموا مقابل أن يجعل لهم الأمر من بعده، فقال(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) : (ليس الأمر لي، وإنما هو بيد الله يختار له من يشاء)(1).

ماذا خسرت الأمة؟

ومحل الشاهد أني اعتقد أن طرح الموضوع بهذا الشكل يكون أجدى وأوضح، ولكي نزيده وضوحاً نطرحسؤالاً، وهو: ماذا خسرت الأمة بتضييعها وصية رسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) في الخليفة من بعده؟ وماذا ترتب على هذا الإهمال من نتائج سلبية؟ وحينما أتناول هذا البحث فإني لا أريد فقط أن أناقشها كقضية تأريخية، وإن كانت من الأهمية بمكان؛ لابتناء أصل من أصول الدين وهو أصل الإمامة عليها.

ص: 107


1- السيرة النبوية: ج2/ عرض الرسول نفسه على بني عامر.

ولكن الذي أريده هو الاستفادة من هذا الدرس واستخلاص العبرة، لأن الإمامة بالحمل الأولي وإن كانت مختصة بالأسماء المعينة إلا أنها بالحمل الشايع أعني النيابة العامة عن الإمام وولاية أمر المسلمين المتمثلة بالمرجعية الشريفة الجامعة لشروط القيادة مستمرة إلى أن يرث الأرض ومن عليها الإمام المنتظر(علیه السلام)، فإذن يبقى باب هذه النتائج السلبية التي سنتعرض لها بإذن الله تعالى مفتوحاً لها كلها أو بعضها كلما ولت الأمة أمرها إلى من لا يستحق، فيكون من الضروري الالتفات إليها، فنعود إلى أصل السؤال، وهو: ماذا خسرت الأمة عندما ولّت أمرها غير صاحب الحق الشرعي؟ وماذا ترتّب على ذلك من نتائج سلبية؟

النتائج الوخيمة لتولي غير المؤهلين لإمامة الأمة:

النتيجة الأولى: تصدي أناس غير مؤهلين لإمامة الأمة:

فمن المعلوم أن أية رسالة وأية آيديولوجية - بتعبير اليوم - لا بدَّ أن يكون حاملها مستوعباً لها بشكل كامل فهماً وتطبيقاً، بحيث تكون هذه العقيدة هي الموجهة له في كل سلوكه وتصرفاته وأفكاره وعلاقاته، ولم يكن القوم كذلك، وإنما هم أناس عاديون كبقية أفراد المجتمع، ويوجد كثير غيرهم ممن استوعب الرسالة وجسَّدها في حياته خيراً منهم، وقد كانوا يعترضون على رسول

ص: 108

الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) في حياته ويتمردون على أوامره(1)حتى آخر حياته؛ بتخلفهم عن جيش أسامة(2)، وعدم تلبية أمره(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) حينما طلب قرطاساً في رزية يوم الخميس(3).

وكانت الجاهلية تعيش في نفوسهم، حيث قضوا أكثر أعمارهم فيها، وقد كشف عن عدم أهليتهم جهلهم وتخبّطهمفي الأمور، ويصف أمير المؤمنين إمرتهم المنحرفة في الخطبة الشقشقية: (فَيَا عَجَباً، بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُها فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ -- لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا -- فَصَيَّرَهَا في حَوْزَةٍ خَشْنَاءََ، يَغْلُظُ كَلْمُهَا -- أي تجرح جرحاً عظيماً--، وَيَخْشُنُ مَسُّهَا، وَيَكْثُرُ العِثَارُ فِيهَا وَالاِعْتَذَارُ مِنْهَا، فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ، إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ، وَإِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ، فَمُنِيَ النَّاسُ -- لَعَمْرُ اللهِ -- بِخَبْطٍ وَشِمَاسٍ -- وهو إباء الفرس عن ركوب ظهره --، وَتَلَوُّنٍ وَاعْتِرَاضٍ -- أي سير غير مستقيم --)(4). حتى قال الثاني: (كل الناس أفقه من عمر حتى ربات الحجال)(5)بعد أن نهى عن زيادة المهر عن حد معين، فأجابته امرأة: أما سمعت قوله تعالى: «وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً» (النساء:20).

ص: 109


1- راجع هامش (4) ص188، والهوامش ص189.
2- السيرة النبوية لابن هشام: ج4/ أمر الرسول بإيفاد بعث أسامة.
3- راجع هامش (1) ص 189.
4- شرح النهج لابن أبي الحديد: ج1 شرح الخطبة الشقشقية.
5- الغدير: المجلد الأول ص182 والمجلد السادس ص98.

وقد أشكلت عليهم الكثير من المسائل حتى الاعتيادية منها التي كانت تتكرر في حياة رسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) كالصلاة علىالجنائز، ولما سئل الثاني عن سبب قلة استفادتهم من رسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) قال: ألهانا الصَّفْقُ بالأسواق(1)، وكانوا يشككون حتى بنبوة رسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) وعصمته، فيقول له أحدهم وجهاً لوجه: (أنت الذي تزعم أنك رسول الله)، أو يقولون عنه: (إن الرجل ليهجر)(2).

الإعداد النبوي للخليفة الحق:

في مقابل ذلك كان هناك شخص يعدّه رسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) إعداداً خاصاً لكي يتسلم هذا الموقع، ذاك هو علي بن أبي طالب(علیه السلام)، فاستمع إليه يتحدث عن هذه التربية الخاصة: (وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِالْقَرَابَةِ الْقَريبَةِ، وَالْمَنْزِلَةِ الْخَصيصَةِ، وَضَعَني في حِجْرِهِ وَأَنَا وَلَدٌ، يَضُمُّني إِلى صَدْرِهِ ، وَيَكْنُفُني في فِرَاشِهِ، وَيُمِسُّني جَسَدَهُ، وَيُشِمُّني عَرْفَهُ وَكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْ ءَ ثُمَّيُلْقِمُنيه، وَمَا وَجَدَ لي كَذْبَةً في قَوْلٍ، وَلاَ خَطْلَةً في فِعْلٍ).. إلى أن قال(علیه السلام): (وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لي في كُلِّ يَوْمٍ عَلَماً مِنْ أَخْلاَقِهِ، وَ يَأْمُرُني بِالاِقْتِدَاءِ بِهِ وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ في كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ ، فَأَرَاهُ وَ لاَ يَرَاهُ غَيْري وَلَمْ يَجْمَعْ

ص: 110


1- صحيح مسلم بشرح النووي الجزء الرابع عشر، ص 134.
2- تأريخ الطبري: المجلد الثاني ج3 السنة الحادية عشر، سيرة الأئمة الاثنى عشر: القسم الأول/ مع النبي في ساعة الوداع.

بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلاَمِ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَخَديجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسالَةِ، وَأَشُمُّ ريحَ النُّبُوَّةِ، وَ لَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّهَ الشَّيْطَانِ حينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: هذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرى مَا أَرى، إِلاَّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ، وَلكِنَّكَ وَزيرٌ، وَإِنَّكَ لَعَلى خَيْرٍ)(1)، وفي نهاية خطبة مماثلة أخرى يسأل(علیه السلام) مستنكراً: (فَمَنْ ذَا أَحَقُّ بِهِ مِنّي حَيّاً وَ مَيِّتاً؟)(2).

آثار خطيرة:

هكذا كان يتم تهيئة الإمامة البديلة، أما هؤلاء فلم يتلقوا شيئاً من ذلك، لذا فقد أفرز تصدي هؤلاء غير المؤهلين عدة آثار خطيرة:

1- تشوّه صورة الإسلام نفسه، لأن كثيراً من الأمم والشعوب دخلت الإسلام بعد رسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) ، فهي لم تأخذه من مصدره، وإنما نقل لها عبر كلام وسلوك أصحابه، ولما كان هؤلاء غير مؤهلين لتمثيل الإسلام بصورته النقية الكاملة ولم يعرف المسلمون الجدد غير هذه الصورة المعروضة أمامهم فَتَبنّوها على أنها الإسلام الحقيقي، وتزايد هذا البعد عن الإسلام بمرور الزمن،

ص: 111


1- نهج البلاغة: شرح الشيخ محمد عبده ج2 ص157.
2- نهج البلاغة: شرح الشيخ محمد عبده ج2 ص17 172.

حتى صرت ترى أقواماً لا تفقه من الإسلام شيئاً غير الاسم وبعض الشكليات.

2- تجرّي أعداء الإسلام خصوصاً اليهود عليه، وما كانوا يستطيعون أن يظهروا شيئاً منه في عهد رسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) ، لعدم وجود ثغرة يمكن أن يدخلوا منها، أما وقد تصدّى لهذا الموقع العظيم ناس غير مؤهلين لهذا الموقع، ويمكن التغلب عليهم وإحراجهم، فمن السهولة إذن هزّ ثقة المسلمين بدينهم بتكرر الفشل من قادتهم، وبالنتيجة تخليهم عن هذا الدين،فلم يكن من الغريب حصول هذه الهجمة العنيفة من الامتحانات العسيرة والمتنوعة التي أحرج بها اليهود الخليفة الاول والثاني وتزعزعت ثقة المسلمين وشعروا بالإحباط، وكادوا يرتدون لولا وجود أمير المؤمنين(علیه السلام) بالمرصاد، الذي كان يجيبهم على كل أسئلتهم ويردّ كيدهم إلى نحورهم(1).

3- انفتاح باب الطمع بهذا المنصب الشريف لكلّ محبي الرئاسات والجاه واتباع الهوى، بعد أن أصبح نيله ليس بالاستحقاق وفق معايير الرسالة، وإنما هو لمن غلب وقهر ولو بالسيف، حتى أصبح مستساغاً أن يولي معاوية ابنه يزيد المعروف بالفسق والفجور على رقاب المسلمين.

ص: 112


1- الغدير: المجلد السابع ص177 – 179.

النتيجة الثانية: فتح باب الاجتهاد مقابل النص:

أي الحكم والتشريع بالآراء الشخصية خلافاً للنص الإلهي الحكيم، وهو يعني أن الإنسان ينصّب نفسه مشرعاً وإلهاً يطاع في مقابل ألوهية الله تبارك وتعالى الذي هو وحده له حق التشريع والحاكمية، وهو ما رفضه الله تباركوتعالى رفضاً قاطعاً، وجعل كل حكم وتشريع ليس مستنداً إلى الشريعة المقدسة جاهلية، فقال تعالى: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ»، وفي آية أخرى «الظَّالِمُونَ»، وفي ثالثة «الْفَاسِقُونَ» (المائدة:44 ،45 ،47)، وكان من شروط الإيمان الكامل: التسليم والإذعان لحكم الله تعالى «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» (النساء:65)، لكن القوم فتحوا باب الاجتهاد واسعاً، ولم يكترثوا كثيراً للنص الشرعي لعدة أسباب:

1- جهلهم وعدم اطلاعهم الكامل على أحكام الشريعة، فراحوا يستنبطون من أنفسهم ما يسدّ نقصهم.

2 - لأجل المحافظة على الأغراض والمصالح التي أرادوها فلا بد من تعطيل النصوص التي تتعارض مع المنهج الذي اختطوه، وتبرير الأفعال المخالفة بصراحة لحكم الله تبارك وتعالى.

3- تغييب الممثل الحقيقي واللسان الناطق بالشريعة.

ص: 113

وقد عطل هذا الاجتهاد الكثير من التشريعات التيكانت مصدر خير للأمة، ومنها الزواج المؤقت الذي قال عنه أمير المؤمنين(علیه السلام): (لولا نهي فلان عن المتعة ما زنى إلا شقي)(1)،وبالمقابل برّر هذا الاجتهاد أشنع المنكرات، فمثل مالك بن نويرة(2)الذي شهد له رسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) بالجنة يُقتل، ويدخل خالد بزوجته في نفس الليلة، ويأتي جواب الخلافة ببرود: تأوّل خالد فأخطأ(3). ويخرجون لقتال إمام زمانهم بكل المقاييس التي عندهم في معارك طاحنة في الجمل(4)وصفين(5)، وكله اجتهاد يؤجرون عليه وإن أخطأوا فلهم أجر واحد.وقد تأصل هذا الاجتهاد فيما بعد وتعمق، ووضعوا له أصولاً وقوانين، وأصبحت مذاهب في مقابل مذهب الحق.

النتيجة الثالثة: عرقلة تربية الأمة وتكاملها:

فقد شاءت الإرادة الإلهية أن تنقذ البشرية بهذه الرسالة المباركة من حضيض الجاهلية التعبة إلى سمو التوحيد وطهارة

ص: 114


1- الكافي:5/448.
2- مالك بن نويرة الحنفي اليربوعي من أرادف الملوك ومن شجعان عصره وفصحائهم وكان من أصحاب رسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) ومن خلّص أصحاب أمير المؤمنين(علیه السلام)، انتظر بقومه بعد وفاة الرسول(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) إلى أن يتبين موقف أمير المؤمنين(علیه السلام) فأرسل أبو بكر إليهم خالد بن الوليد فغدر بهم وقت الصلاة وأمر بقتل مالك حين رأى جمال امرأته.
3- راجع كتاب السقيفة للشيخ المظفر: 26.
4- تأريخ الطبري المجلد الثالث الجزء الخامس.
5- نفس المصدر.

الإيمان وسعادة الدارين، وقد قدر لهذه المسيرة أن تتكامل لتنشأ أمة متكاملة على يد رسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) والأئمة المعصومين من آله، لكن إبعاد الأئمة(علیه السلام) عن موقع قيادة المجتمع أدى إلى عرقلة هذه المسيرة وبطئها من عدة جهات:

1- إن من العناصر المهمة في التربية هو القدوة والأسوة الحسنة على تعبير القرآن، لأنه يمثل التطبيق للأفكار التربوية، فإذا غاب القدوة أو كان القدوة منحرفاً فلا ينفع الكلام مهما كثر، ويبقى مجرد حبر على ورق، والقوم لم يكونوا يمثلون قدوة حسنة، ولم يستطيعوا عكس صورة نقية للسلوك الإسلامي، بل إنه على مرور الأيام كان النموذجالمعروض مناقضاً تماماً لتعاليم الإسلام، فكيف نتوقع منه أن يربي الأمة ويقودها نحو التكامل؟ ففي حين يقرأ المسلم في أخلاق الإسلام (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) يجد في التعامل تفضيل العرب على غيرهم الذين يسمونهم الموالي، ويعتبرونهم مواطنين من الدرجة الثانية، وبينما يقرأ في القرآن «قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» (الشورى:23) يجد الخلافة تتبع أهل بيت النبي(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) تحت كل حجر ومدر قتلاً وتشريداً وسجناً، وبينما يقرأ حرمة شرب الخمر في القرآن يجد حاكم المسلمين يشربه على منابر المسلمين ويتقيأه في محرابهم.

ص: 115

2- فرص الانحراف الكثيرة التي توفرت للناس في ظل الخلافة المنحرفة، والنفس بطبيعتها ميالة للشهوات مع غياب الرادع الذي يحصّن الأمة من الانحراف وهم الذين عناهم الله تعالى: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» (آل عمران: 104) وقد بدأت هذه النفوس الأمارة بالسوء تظهر في أيام الخلافة الأولى في وقت مبكر، وبدأت الدنيا تنمو في قلوبهم،وأصبحت هذه الامتيازات والمصالح واقعاً ثابتاً لا يرضون بتغييره، بحيث أن عبد الرحمن بن عوف الذي جُعل حكماً في أمر تعيين الخليفة من بين الستة أهل الشورى يشترط على علي(علیه السلام) أن يبايعه بشرط أن يعمل بكتاب الله وسنة نبيه(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) وسيرة الشيخين(1)، فما هي سيرة الشيخين التي يضمّها عبد الرحمن إلى كتاب الله وسنة رسوله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) ؟ إنها هذه الامتيازات الطبقية وهذه الدنيا المحضة التي وفرتها لهم الخلافة الأولى، بحيث أن عبد الرحمن هذا وأمثاله تركوا من الذهب ما يُكسّر بالفؤوس -- حسب ما ينقل التأريخ -- ولم يكن أمير المؤمنين(علیه السلام) ليوافق على هذا الشرط فيكون منه إمضاءً واعترافاً بهذه السيرة، لأن هذه السيرة إن كانت موافقة للكتاب والسنة فلا داعي لذكرها، وإن كانت مخالفة فارمِ بها عرض الجدار، فما الوجه لضمِّها إلى أصلَي التشريع.

ص: 116


1- بحار الأنوار: 31/399.

3- الصورة المشوهة للشريعة التي كانت معروضة للأمة من خلال العلماء والرواة المتزلفين للخلفاء والطامعينبما في أيديهم، فكيف نتوقع من شخص لم يشاهد رسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) ولم يطلع على مواقف علي(علیه السلام) مباشرة أن يوالي علياً ويتبعه، وهو يسمع صحابياً يروي أن رسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) قال: إن الآية الشريفة: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ» (البقرة: 204-205) نزلت في علي بن أبي طالب.

فلا نتوقع من أغلب المسلمين في الأرض إلا أن يحملوا هذه الصورة المشوهة للإسلام، لأنهم لم يسمعوا غيرها، ولم يشاهدوا غيرها، فكان طبيعياً أن يعتقدوا جازمين أن هذا هو الإسلام.

ومن هنا اقتضت الحكمة الإلهية أن تغيّب الإمام الثاني عشر(علیه السلام) هذه المدة الطويلة إلى أن يأذن الله تعالى له بالظهور، كل ذلك لتستمر تربية الأمة مدة أطول، ولتمر بتجارب وابتلاءات وتمحيصات أكثر، حتى تصل إلى مستوى النضج والكمال المطلوب الذي يؤهلها لمواصلة مسيرة الكمال مع الإمام المهدي(علیه السلام)، بينما لو قدر لهذه الأمة أنتتربى في أحضان الأئمة المعصومينلوصلت إلى درجة الكمال قبل هذا التأريخ بكثير.

ص: 117

النتيجة الرابعة: تمزق الأمة وتشتتها: وتفرقها شيعاً وأحزاباً

«كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» (الروم:23).

وهذه نتيجة طبيعية للابتعاد عن الإمامة الحقيقية، لأن سر تشريع الإمامة هو تحصين الأمة من التمزق والانحراف، كما قالت الزهراء(علیه السلام) في خطبتها الشهيرة بعد وفاة أبيها(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) : (وَجَعَلَ إمَامَتَنَا نِظَاماً للمِلَّةِ)(1)أي تنتظم بها أمورهم وتستقر، وقال تعالى: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا» (آل عمران:103) «ولا تَنَازَعوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ» (الأنفال:46)، وحبل الله الممدود من السماء إلى الأرض هما الثقلان كتاب الله وعترة رسوله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) -- كما بينتُ في شكوى القرآن(2)--. مضافاً إلى أن هذا الموقع بعد أن خرج عن مستقره وأبعد عنه أهله أصبح مطمعاً لكل حالم به، وشهوة التسلط أقوى الشهوات، وفيها استجابة للأنانية واستكبارالنفس، فمن الطبيعي أيضاً أن تكثر الصراعات حول هذا المنصب، وتداس في خضم هذا الصراع كل القيم والأخلاق.

وتكفي وقفة تأمل واستطلاع بسيط للتأريخ لنقرأ بكل أسف وألم يفتت القلوب المآسي التي جرَّها التنازع على السلطان، والخسائر الفادحة في الأنفس والأعراض والأموال التي هدرت

ص: 118


1- البحار: ج6 باب 23 ص315.
2- راجع صفحة 91 من هذا المجلد.

في هذا الصراع، فمن الذي يتحمل هذه المسؤولية؟ ومن الذي فتح هذا الباب على المسلمين؟ وماذا يجني من يحدث هذا الفتق في أمة الإسلام؟

وخير معبر عن هذه الآلام وهذه الخسائر أحد الأدعية الواردة في لعن أعداء آل محمد(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) والبراءة منهم إلى أن يقول: (اللهم العنهم بعدد كل منكر آتوه، وحق أخفوه، ومنبر علوه، ومؤمن أرجوه، ومنافق ولّوه، وولي آذوه، وطريد آووه، وصادق طردوه، وكافر نصروه، وإمام قهروه، وفرض غيروه، وأثر أنكروه، وشر آثروه، ودم أراقوه، وخير بدلوه، وكفر نصبوه، وإرث غصبوه، وفيء اقتطعوه، وسحت أكلوه، وخمس استحلوه، وباطل أسسوه، وجور بسطوه، ونفاق أسرّوه، وغدر أضمروه، وظلم نشروه، ووعد أخلفوه، وأمانخانوه، وعهد نقضوه، وحلال حرموه، وحرام أحلوه، وبطن فتقوه، وجنين أسقطوه، وضلع دقوه، وصك مزقوه، وشمل بددوه، وعزيز أذلوه، وذليل أعزوه، وحق منعوه، وكذب دلسوه، وحكم قلبوه، اللهم العنهم بكل آية حرفوها، وفريضة تركوها، وسنة غيروها، ورسوم منعوها، وأحكام عطلوها، وبيعة نكثوها، ودعوة أبطلوها، وبينةٍ أنكروها، وحيلة أحدثوها، وخيانة أوردوها، وعقبة ارتقوها، وشهادات كتموها، ووصية صنعوها)(1).

ص: 119


1- البحار: 82/261.

ولو شئنا لذكرنا أمثلة وشواهد على كل فقرة، لكنها مما لا تخفى على المطلع على التأريخ، فأي قلب لا يذوب أسىً على ما سببه ذلك التضييع للحق الصريح؟!.

النتيجة الخامسة: عزل الدين عن إدارة الحياة بكل أبعادها وتفاصيلها:

واقتصاره على الطقوس التعبدية والشؤون الفردية فقط، فإن القوم وإن استطاعوا بالترغيب والترهيب أن يسلبواالسلطة الدنيوية من الإمام(علیه السلام)، إلا إنهم لا يستطيعون بأي حال من الأحوال أن يسلبوا مكانته من القلوب وهيبته في النفوس، ورجوع الناس إليه في شؤونهم الدينية، هذا الانفصال الذي عبر عنه هارون الرشيد -- كما يسمونه -- لولده المأمون حينما استغرب من تكريمه للإمام الكاظم(علیه السلام) بما لا نظير له، فقال: (ويلك، هذا إمام القلوب وأنا إمام الأبدان)(1)، والإمام وإن سكت عن المطالبة بحقه في السلطة الدنيوية من أجل حفظ الإسلام وكيان المسلمين، إلا أنه لا يمكنه بأي حال من الأحوال التنازل لهم عن الإمامة الدينية أو الاعتراف بهم وإمضاؤهم كممثلين لهذه السلطة، فإن في ذلك خيانة لله ولرسوله وللإسلام، على أن هذا الحق لا يتصور التنازل عنه، فإنه ليس امتيازاً أو موقعاً حتى يتخلى عنه، بل قدرة وقابلية

ص: 120


1- سيرة الأئمة الاثني عشر: القسم الثاني: ص390.

على تلبية احتياجات الأمة، فكل من كان قادراً على ذلك ووجدت الأمة حاجتها وآمالها وطموحاتها عنده أصبح إماماً، وهكذا كان علي(علیه السلام) فما سمعنا انه احتاج إلىأحد في شيء، بل على العكس كانوا يرجعون إليهم في مسائلهم ومشاكلهم وقراراتهم، حتى اشتهر قول الثاني: (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن)(1)، ولذا استدل بعضهم على إمامة أمير المؤمنين(علیه السلام) باحتياج الناس إليه واستغنائه عن الناس(2).

وهذا الفصل بين السلطتين ترسخ وتعمق وانعكس على الدين نفسه، فأصبح مرتكزاً في الأذهان أن إدارة شؤون الحياة ليس من شؤون الإمامة الدينية، وأن دورها يقتصر على العبادات وبعض الأحكام الشخصية، والتقوا بذلك مع نظرة الجاهلية: (ما لله لله وما لقيصر لقيصر)، وهذا هو الشرك بعينه، فإن الملك كله لله وحده والحكم كله لله وحده، وما من واقعة إلا ولله فيها حكم، أترى أن الشريعة التي لم تغفل عنتنظيم أبسط التصرفات الحياتية، كالتخلي والنوم والاكل والجماع ووضعت لها أحكاماً وآداباً، فهل تغفل عن وضع أنظمة وقوانين تنظم حياة المجتمع

ص: 121


1- سيرة الأئمة الاثني عشر: القسم الأول: ص304.
2- نسب الاستدلال إلى الخليل الفراهيدي (رحمه الله) وروي عن الحارث بن المغيرة قال: (قلت لأبي عبد الله(علیه السلام): بأي شيء يُعرف الإمام؟ قال بالسكينة والوقار،... وتعرفه بالحلال والحرام، وبحاجة الناس إليه، ولا يحتاج إلى أحد) (بحار الأنوار: 25/156).

من جميع الجهات؟ وهذه حقيقة دامغة لا تقبل الشك، إلا أنهم لا يذعنون لها لعدة أمور:

1- إن الشريعة لا تنسجم مع أهوائهم وأنانيتهم وحبهم للاستئثار بالفيء وسائر الامتيازات وتتعامل مع الجميع على حد سواء.

2- إن تحكيم الشريعة فيه إظهار لجهلهم وقصورهم وتقصيرهم، وهو ما تأباه نفوسهم الأمارة بالسوء.

3- إن ذلك أيضاً يعني احتياجهم للإمامة الدينية، وبالتالي يعني تفوق أولئك عليهم واستحقاقهم لهذا الموقع بدلاً عنهم.

النتيجة السادسة: حدوث الانفصال بين الأمة والخلافة:

لأن الأمر لم يعد في نظر المتصدين أمر إصلاح وهداية وتكميل النفوس ونيل رضا الله تبارك وتعالى حتىتتعلق بهم الأمة وتهفو إليهم القلوب، بل زعامة وملك ومصالح واستئثار واستعلاء، وقد عبر عنه القوم من أول يوم وهم بعد في السقيفة فكان لسانهم: إنما السلطان سلطان قريش فلا ينازعنا فيه أحد(1)، وكانت المسألة أوضح بالنسبة للأقوام الأخرى التي دخلت الإسلام، وقد

ص: 122


1- سيرة الأئمة: القسم الأول ، السقيفة.

أشعروهم بأن الخلافة ملك للعرب، فإذا كان ملكاً عضوضاً وهم المستفيدون منه فما الذي يشد سائر قطاعات الأمة إليهم؟ وما الذي يحثهم على الدفاع عنهم؟ وما هي العلقة التي تربطهم بهم؟ بل على العكس سادت روح الكراهية والحقد والانتقام كما حصل لأبي لؤلؤة الفارسي غلام المغيرة بن شعبة الذي سأم من كثرة التعيير لقومه الفرس والاستهزاء بهم، فثار لعنصريته ولعصبيته الجاهلية(1).

بالمقابل كان هناك علي بن أبي طالب (علیه السلام):

وبالمقابل كان هناك علي (علیه السلام) وبنوه الذين ملكواالقلوب، فاستجاب الله تعالى بهم دعوة جدهم إبراهيم «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ»(2)والذي لم تستطع الخلافة بكل جبروتها أن تنتزعه منهم، وقضية هشام بن عبد الملك واضحة في أذهانكم عندما عجز عن الوصول إلى الحجر لازدحام الناس، فتنحى إلى زاوية في البيت الحرام، وما أن قدم الإمام السجاد(علیه السلام) حتى انفرج عنه الناس سماطين، فمشى بكل وقار وهيبة حتى وصل إلى

ص: 123


1- تأريخ الطبري المجلد الثالث الجزء الخامس.
2- إبراهيم: 37.

الحجر الأسود، وهشام ينظر(1).

وكان أمير المؤمنين(علیه السلام) رغم تواضعه بين أصحابه حتى كأنه أحدهم إلا أن له هيبة عظيمة في نفوسهم كما وصفه ضرار بن ضمرة لمعاوية(2).

وذاب أصحابهم في حبهم قربة إلى الله تعالى ووفاء لجدهم رسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) وعرفاناً لحقهم عليهم، وتحملوا في سبيل ذلك ما تقشعر منه الأبدان، فهذا ميثم بن يحيى التمارتقطع يداه ورجلاه ويصلب على جذع نخلة، فيطلب من الناس الاجتماع حتى يحدثهم بفضائل أمير المؤمنين(علیه السلام)، فلم يمهله الفسقة حتى قطعوا

ص: 124


1- رواها السبكي في طبقات الشافعية أن هشام بن عبد الملك حج في بعض السنين فطاف حول البيت وحاول أن يلمس الحجر الأسود فلم يجد لذلك سبيلاً من كثرة الزحام.. وفي ما هو ينظر إلى الناس إذ أقبل الإمام زين العابدين وكان من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم أرَجاً.. فانفرج له الناس عنه ووقفوا له إجلالاً وتعظيماً حتى إذا استلم الحجر وقبله والناس وُقّفٌ ينظرون إليه وكأنما على رؤوسهم الطير فلما مضى عنه عادوا إلى طوافهم، هذا وهشام بن عبد الملك ومن معه من أهل الشام يرون كل ذلك ونفس هشام يعبث فيها الحقد والحسد.، وفي هذه الحادثة ارتجل الشاعر الفرزدق أبياته المشهورة والتي مطلعها: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته *** هذا ابن خيرِ عادِ اللهِ كلهم والبيتُ يعرفهُ والحِ-لُّ والحرمً *** هذا التقي النقي الطاهر العلمُ
2- نقل الرواة عن ضرار بن ضمرة أنه دخل على معاوية يوماً فقال له يا ضرار صف لي علياً، فقال له: اعفني يا معاوية، فقال له: لا أعفيك، فقال له ضرار: أما إذا كان ولا بد من ذلك، فقد كان والله بعيد المدى شديد القوى … إلى أن قال … ونحن والله مع قربه منا ودنوه إلينا لا نكلمه هيبة له ولا نبتدئه لعظمه في نفوسنا …

لسانه(1)، وهذا حجر بن عدي يؤخذمقيداً إلى الشام ويحفر له القبر ويفرش له النطع ويؤمر بسب أمير المؤمنين وإلا فالقتل ومعه ابنه، فيختار ولاية أمير المؤمنين(علیه السلام)، ويقدم ابنه ليحتسبه عند الله تبارك وتعالى ولئلا يعظم على الابن قتل أبيه فيتراجع، ثم قدم فقتل صابراً محتسباً(2).

وهذا عمار بن ياسر يقاتل في صفين على كبر سنه ويقول: (والله لو ضربونا بأسيافهم حتى أبلغونا سعفات هجر لعلمنا أننا

ص: 125


1- إن عبيد الله بن زياد قال لميثم التمار بعد أن قبض عليه: تبرأ من علي بن أبي طالب، فقال له: فإن أنا لم افعل؟ قال: إذن والله لأقتلك، قال: لقد أخبرني مولاي أنك ستقتلني مع تسعة أخر على باب عمرو بن حريث، قال ابن زياد: لنخالفنه كي يظهر كذبه، قال ميثم: كيف تخالفه، فوالله ما أخبر إلا عن النبي(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) عن جبرئيل عن الله تعالى، فكيف تخالف هؤلاء؟ ولقد عرفت الموضع الذي أصلب فيه وأين هو من الكوفة وأنا أول خلق الله أُلجم في الإسلام، فلما رفع على الخشبة اجتمع الناس حوله على باب عمرو بن حريث، قال عمرو: قد كان والله يقول إني مجاورك، فأمر جاريته بكنس تحت خشبته ورشه وتجميره، فجعل ميثم يحدث بفضائل أهل البيتومثالب بني أمية وما سيصيبهم من القتل والانقراض، فقيل لابن زياد قد فضحكم هذا العبد، فقال: ألجموه، فألجموه كي لا يتكلم فجاءه في اليوم الثالث لعين بيده حربتين وهو يقول: أما والله لقد كنت ما علمتك إلا قوّاماً صوّاماً، ثم طعنه في خاصرته فأجافه (أي حصل جوف في خاصرته من الطعنة) ثم انبعث منخراه دماً في آخر النهار فخضب لحيته بالدماء واستشهد قبل قدوم الإمام الحسين(علیه السلام) إلى العراق بعشرة أيام.
2- حجر بن عدي الكندي الكوفي من أصحاب أمير المؤمنين ومن الإبدال كان أميراً على بني كنده من قبل أمير المؤمنين(علیه السلام) في معركة صفين وكان أمير الجيش يوم النهروان، وقد استشهد حجر وجمع من أصحابه بسعاية زياد بن أبيه وبحكم معاوية بن أبي سفيان سنة إحدى وخمسين للهجرة.

على الحق وأنهم على الباطل)(1).

وأصحاب الحسين(علیه السلام)، وما أدراك ما أصحاب الحسين(علیه السلام)، الذين لم ير لهم نظير في الولاء والصدق والإخلاص والتضحية، يقدم أحدهم على الموت وهو مبتسم،فيقال له: ما عهدناك هازلاً قبل اليوم؛ قال: وكيف لا أبتسم وما بيني وبين معانقة الحور العين إلا أن يميل عليَّ هؤلاء بأسيافهم فألتحق بالأحبة محمد وصحبه(2).

النتيجة السابعة: تأخر ركب الحضارة الإنسانية.

بحيث احتجنا إلى أربعة عشر قرناً لكي نصنع الطائرة والكومبيوتر ونغزو الفضاء، وكان يمكن لهذه الأمور وغيرها مما لم يصل إليه العقل الإنساني إلى الآن أن تتحقق قبل مدة طويلة، لأن اليد الإلهية واضحة التأثير في قيادة ركب الحضارة البشرية بفضل ما بثه الأنبياء والأئمةمن علوم، أو من خلال الإلهام والإيحاء، ولولا الرعاية الإلهية لما استطاع الإنسان أن يهتدي إلى أبسط الأمور، حتى دفن موتاه في التراب لا يعرفه، حتى بعث الله

ص: 126


1- تقدمت ترجمته وأسرته، سيرة الأئمة: القسم الأول ص474.
2- برير بن خضير الهمداني كان زاهداً عابداً سيد القراء ومن أشراف الكوفة. منتهى الآمال: ج1/ ليلة العاشر من محرم. ونفس الموقف لحبيب بن مظاهر رحمة الله عليه.

له غراباً يبحث في الأرضليريه كيف يواري سوأة أخيه(1).

وإن القرآن الكريم ليضم أسرار ومفاتيح العلوم كلها فيه «تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ» (النحل:89)، فيشير إلى غزو الفضاء بالوسائل العلمية: «يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إلا بِسُلْطَانٍ» (الرحمن:33)، وهو سلطان العلم والتكنولوجيا، كل هذه الأسرار ومفاتيح العلوم كانت عند أمير المؤمنين(علیه السلام) علّمه إياه رسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) : (علمني رسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) ألف باب من العلم، ينفتح لي من كل باب ألف باب من العلم)(2).

وإن شئت الاطلاع على ما كان يمكن أن يقدمه علي وبنوهليقدموا ركب الحضارة الإنسانية وليوفروا لها السعادة والحياة الطيبة فراجع عدة كتب ألفت في هذا المجال، ولم يكن يحتاج إلى تطبيق معادلات وقوانيناحتمالية أو يخوض تجارب طويلة حتى يصل الحقيقة، بل كانت الحقائق العلمية كلها حاضرة في ذهنه، يراها بالبصيرة والوجدان رأي العين، فحفر الكثير من الآبار والعيون وأوقفها للمسلمين في وقت كان الآخرون يعجزون عن التعرف على مواقع وجود الماء، فأين علم الجيولوجيا من هذه

ص: 127


1- إشارة إلى قصة ابني آدم(علیه السلام) هابيل وقابيل، وذلك عندما قتل قابيل هابيل ولم يكن يعرف عملية الدفن لولا أن بعث الله غراباً يبحث في الأرض فعرف قابيل ذلك، في الآيات من سورة المائدة: 27 – 31.
2- منتهى الآمال: ج1 في علم أمير المؤمنين(علیه السلام).

المعرفة الدقيقة بطبقات الأرض وما تحتها من كنوز ومعادن، وكان يقول: (لو شئت لاتخذت لكم من هذا الماء نوراً) يقصد توليد الطاقة الكهربائية من شلالات الماء، وغيرها الكثير في مختلف حقول العلم والمعرفة، ثم جاء أولاده من بعده ليبثوا ما تسمح به الحال من علوم الكيمياء والرياضيات والفلك والفيزياء والنبات والحيوان وغيرها.

فإن قلت: إذن ما الذي حبسهم عن إعطاء هذه العلوم التي يحملونها إلى البشرية، وهي مسألة لا تتعلق بتسلمهم موقع القيادة والإمامة وعدمها؟.

قلت: إن التقدم المادي مرتبط تماماً بالتكامل الروحي من خلال البناء الصحيح للعقيدة، ولا بد أن يتقدّما معاً، وإن الأول بدون الثاني يصبح وبالاً على البشرية ويقودها نحوالدمار، كالذي نشاهده اليوم ممن يسمون أنفسهم بالقوى العظمى والدول الكبرى، ولما كانت البشرية قد تخلفت وتدنت في الجانب الثاني وهو العقائدي والأخلاقي فلا يمكن إعطاؤها من الجانب الأول إلا بالمقدار الذي لا يكون خطراً عليها، هكذا اقتضت الإرادة الإلهية أن يلهم الإنسان بعض الأفكار التي طورت حضارة البشر ودلته على اكتشافات وحقائق علمية مهمة في أوقاتها المناسبة، وبالشكل الذي يحفظ توازن المجتمع الإنساني «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ

ص: 128

خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ» (القمر:49)، ولو كانت مستحقة للمزيد بالتزامها بخط الخلافة الإلهية لما بخل عليها الله تبارك وتعالى بالعطاء، فلا يغتر الإنسان ويظن أنه هو الذي يحقق ذلك، بل هو من إلهام الله تبارك وتعالى وإيحائه، وللعلماء والمكتشفين كلمات تدل على ذلك، ولو خليّ إلى نفسه لما عرف كيف يتخلص من موتاه بالدفن حتى علمه الغراب –كما ذكرنا-.

لماذا نحتفل بعيد الغدير؟

هذه بعض النتائج التي أفرزها عدم التزام الأمةبحديث الغدير، وإذا كانت الأمور تعرف بأضدادها كما قالوا، فيمكن أن نعرف سمو المعاني والآثار التي نالها الملتزمون بولاية أمير المؤمنين(علیه السلام)، فحق لهم أن يحتفلوا بهذا العيد الأغرّ أعظم عيد في الإسلام، سئل الإمام الصادق(علیه السلام): هل للمسلمين عيد غير يوم الجمعة والأضحى والفطر؟ قال: نعم، أعظمها حرمة، قال الراوي: وأي عيد هو؟ قال: اليوم الذي نصب فيه رسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) أمير المؤمنين(علیه السلام)، وقال: من كنت من مولاه فعلي مولاه)(1). وفي حديث أبي نصر عن الرضا (صلوات الله عليه) قال: (يا ابن أبي نصر، أينما كنت فاحضر يوم الغدير عند أمير المؤمنين(علیه السلام)، فإن الله تبارك وتعالى يغفر لكل مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة ذنوب ستين سنة، ويعتق من النار

ص: 129


1- بحار الأنوار: 37/169.

ضعف ما أعتق في شهر رمضان وليلة القدر وليلة الفطر، ولدرهمٌ فيه بألف درهم لإخوانك العارفين، وأفضل على إخوانك في هذا اليوم، وسرَّ فيه كل مؤمن ومؤمنة، والله لو عرف الناس فضل هذا اليوم بحقيقته لصافحتهم الملائكةفي كل يوم عشر مرات)(1).

لنأخذ الدرس في فهم أشكال المرجعية الدينية:

ونحن كما تعودنا في مثل هذه الكلمات لا نستهدف فقط تثبيت العقيدة وترسيخها والدفاع عنها، وإن كان هذا في نفسه نفيساً، إلا أنه مما لا يقل عنه أهمية أخذ الدروس والعبر منه، وهنا تكمن روح العلم والمعرفة، فالعلم بلا عمل وبلا استفادة منه في الحياة لا قيمة له.

ونحن إذا توسعنا في فهم هذا الموضوع فسنطبق هذه التجربة على كل رسالة إصلاحية تعمل على هداية الناس وتكميل نفوسهم كالمرجعية الشريفة وهي لها شكلان:

الأول: المرجعية الفردية التي يقتصر عملها على استنباط الحكم الشرعي من دون العمل على تطبيقه ودفع المجتمع إلى امتثاله، والأمر راجع إلى المكلف إن شاء طبق أو لا، ولا تتدخل إلا في حدود الشؤون الفردية وما يبرئ ذمم المكلفين كأفراد، وهو عمل ليس بالهين، وقد قاموابجهود مضنية حفظت لنا فقه آل

ص: 130


1- بحار الأنوار: 94/119.

محمد (صلوات الله عليهم أجمعين)، لكن هذا الشكل خارج عن موضوعنا، لانحسار دورها عن الإمامة الاجتماعية أصلاً.

الثاني: المرجعية الاجتماعية التي لا تكتفي بمستوى النظرية، أي مجرد التقنين والتشريع، وإنما تعمل على تهيئة كل الفرص واتخاذ مختلف الأساليب لإقناع الناس بتطبيق الشريعة في كل تفاصيل حياتهم، وإذا لم تنفع وسيلة جربت أخرى، وقد شبهت الأولى بالأمّ التي تهيئ الطعام لولدها المريض وتترك الباقي عليه، إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل، وقد لا يعرف مصلحته فيموت جوعاً. والثانية تشبه الأمّ التي لا تكتفي بإعداد الطعام، بل تطيبه وتعمل كل المرغبات والمحفزات لولدها كي يأكل ويحفظ حياته ويستعيد عافيته، ولا شك أن الثانية أرحم وأرأف وأكرم وأصبر من الأولى، أو قل إنها أكثر اتصافاً بالأسماء الحسنى التي ورد الحث على التخلّق بها.

المرجعية الحركية هي الأجدر:

وهذه المرجعية الثانية هي الأكثر التصاقاً بالناس وأعمق تأثيراً فيهم والأكثر تعلقاً بهم، وهي الأجدر بتمثيل دور المعصومين(علیهم السلام)، فلا غرو أن تكون عرضة لطمع المتنافسين، فإذا تصدى لها غير المؤهل لها وصنع (سقيفة) ثانية لإبعاد مستحقيها، ترتبت كل أو بعض الآثار التي ذكرناها، ولا بدَّ أن نستفيد من تلك التجربة لنكون واعين وحذرين من تكرارها.

ص: 131

وقد ذكرنا في محاضرتين(1)بمناسبة عيد الغدير عام 1421 -- وطبعت كمقدمة لكتاب أصل الشيعة وأصولها للشيخ كاشف الغطاء -- الأشكال الثلاثة التي خطط بها رسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) للخليفة من بعده، وكيفية تأسي المرجعية به(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) في هذا المجال، ومسؤولية الأمة في صيانة هذا الموقع الشريف والتمسك بأهله، فيكون هذا البحث مكملاً له، ومما ذكرنا هناك أن لهذا الموقع شروطاً صنفتها إلى ثابتة ومتحركة، والأولى هي التي دأبت على ذكرها الرسائلالعملية، أما المتحركة فتتغير تبعاً للظروف الموضوعية التي تعيشها المرجعية.

ص: 132


1- المحاضرتان (كيف خطط رسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) للخلافة من بعده) وقد سبقا في هذا الفصل من هذا الكتاب.

الفصل الرابع: قضایا في الوحدة الإسلامیة و تصویب الأخطاء التکفیریة في المجتمع المسلم

اشارة

ص: 133

ص: 134

الصدق في الدعوة إلى الوحدة والمؤاخاة

الصدق في الدعوة إلى الوحدة والمؤاخاة(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله كما يستحقه وكما هو أهله وصلى الله على سيد خلقه وحبيبه محمد المصطفى وآله الطيبين الطاهرين.

أبارك لكم انعقاد هذا الشمل الميمون الذي اكتسب هيبته وجلاله وأهميته من زمان انعقاده المرتبط بصاحب الذكرى الرسول الأكرم محمد (صلی الله علیه و آله) ، ومن مكان انعقاده وهي ارض الجمهورية الإسلامية المباركة في إيران، ومن الحاضرين الذين يمثلون قادة الأمة وأهل الحل والعقد فيها،ومن الظروف التي تعيشها الأمة بكل تحدياتها ومخاطرها ومشاكلها وتعقيداتها ومن الهدف الذي يتمحور حوله المؤتمر وهو تحقيق الوحدة بين طوائف المسلمين ومذاهبهم.

ص: 135


1- نص الكلمة التي وجهها سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) إلى مؤتمر الوحدة الإسلامية الذي عقد في طهران برعاية المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية للفترة 15-17 ربيع الأول 1426 المصادف 26/4/2005، وقد قرأ سماحة الشيخ التسخيري رئيس المؤتمر ورئيس المجمع مقاطع منها في الجلسة الأخيرة.

التأسي بالنبي (صلی الله علیه و آله):

أيها الأحبّة:

لقد حثنا الله تبارك وتعالى على التأسي برسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال عظمت آلاؤه «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً»(1) وهذا التأسّي لا يقتصر على حياته الشخصية الشريفة وإن كان في ذلك غنى وكفاية، وإنما تدعو الآية الشريفة إلى الاستفادة من طريقة معالجته لقضايا الأمة وحلّ مشاكلها ووضع الخطط الكفيلة لإصلاحها وقيادتها نحو سعادة الدارين وكمالها المنشود وتنظيم علاقة أمته ودولته داخل كيانها ومع الأمم والدول الأخرى، وحينئذ سنجد في حياته الشريفة كل ما نحتاج.

القرآن الناطق:

أليس هو صنو القرآن بل هو القرآن الناطق؟! فكلُّ ما وصف القرآن نفسه من خصائص شريفة فهي لرسول الله (صلی الله علیه و آله) ومنها قوله تعالى «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ»(2) ومنها قوله تعالى «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ»(3)،

ص: 136


1- سورة الأحزاب الأیة 21
2- سورة النحل الأیة 89
3- سورة الأنعام الأیة 38

فسيرته (صلی الله علیه و آله) في أقواله وأفعاله سفر خالد فيه تبيان لكل شيء ولكن حقائقه الواقعية كحقائق القرآن الكريم «فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ، لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ» الذين طهرت قلوبهم من الرين وصفت أنفسهم من التعلق إلا بالله تبارك وتعالى «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهل الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»، وبمقدار طهارة قلب الإنسان وصفاء نفسه يستحق من الفيوضات الإلهية ونور المعرفة بالله تبارك وتعالى «أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا».

الدعوة الى المؤاخاة من أوائل الدعوة النبوية:

ومما نستفيده من حياته (صلی الله علیه و آله) كقائد حكيم وباني حضارة خالدة ومؤسس أمة ومنقذها من الضلال والضياع والتشتت والجاهلية، انه (صلی الله علیه و آله) أول ما فعل قبل أن يؤسس دولته المباركة حينما وطأت قدماه مدينته المنورة، إنه آخى بين المهاجرين والأنصار ودعا كل واحد من الأنصار إلى أن يؤاخي واحداً من المهاجرين ويقاسمه كل شيء حتى أن أحدهم إذا كانت له زوجتان وليس للمهاجر زوجة طلق إحداهما وزوجها الآخر، وعلى هذا الأساس الرصين انطلق ليفتح العالم كله ولو لم يكن وراءه مجتمع موحد لانشغل

ص: 137

بمشاكله الداخلية وما يستتبعها من تداعيات التناحر والتقاطع والتباعد وعجز عن تنفيذ مشروعه الرسالي العظيم.

وحدة الأمّة هي الركن المتين في قوتنا:

من هنا كانت المساعي المباركة لتوحيد الأمة وتآخيها ركناً أساسياً في إعادة هيبة الأمة الإسلامية وقوتها وممارستها لدورها الحضاري الرائد.

ومؤتمركم الميمون هذا خطوة على هذا الطريق اللاحب الطويل، ولكنه رغم معاناته لذيذ يفيض على القلب بالسعادة وعلى الروح بالسمو.

لنتعامل بواقعية في نتائج حركتنا:

والذي أريد أن أثيره في هذا اللقاء المبارك هو تقييم نتائج هذه المؤتمرات التي تواصلت عقوداً من الزمان وهل إنها حققت نتائجها المنشودة؟ يؤسفني أن أقول لا على الأقل من الزاوية التي انظر إليها وأعيش همومها وقضاياها.

وحينئذ يتحتم علينا كنخبة واعية هادفة نتعامل مع الأمور بجدية، ولا مكان للهو والعبث وإزجاء الوقت في فراغ، أن نقيّم هذا المشروع الإصلاحي العظيم واعني به تحقيق وحدة الأمة ومؤاخاة أبنائها، وأن نحدّد أسباب التلكؤ والتعثر ومعوقات العمل، فنحن لا نريد أن نخدع أنفسنا وننظر إلى الأمور بعين واحدة وهي عين

ص: 138

الرضا عن النفس فإنها من المهلكات «لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» وأعيذ نفسي وأخواني أن نكون من أهل هذه الآية وأخواتها المباركات.

فقد كنا من المبادرين لإعلان الأيام المتخللة بين الثاني عشر والسابع عشر من ربيع الأول المتشرفة بذكرى ولادة الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) أسبوعا للمؤاخاة تأسياً بسيرتهالشريفة (صلی الله علیه و آله) ، ولكنكم تسمعون وتشاهدون الجرائم الفظيعة التي ترتكب في حق أتباع أهل البيت في الحلة والموصل وبغداد واللطيفية والمدائن والحصوة واليوسفية وحديثة، وانتهكت حرمات أهل البيت في النجف وكربلاء والكاظمية وراح ضحيتها الأبرياء من نساء وأطفال وشيوخ وشباب لا ذنب لهم إلا أنهم التزموا بقوله تعالى «قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى».

تبريرات للإجرام:

وهؤلاء المجرمون لا يمثلون أنفسهم، وإنما وراءهم أمة من الناس تؤويهم وتقدّم لهم الدعم والخدمات وتخفيهم عند الاضطرار وتحتفظ برهائنهم ومخطوفيهم، وتقدّم لهم المعلومات

ص: 139

الاستخباراتية الدقيقة عن ضحاياهم، كما أن وراءهم من يبرر أفعالهم من علماء السوء ويعطيهم المشروعية ويبارك لهم سفك الدم الحرام في البلد الحرام في الشهر الحرام، ويجعلها من أقرب الطاعات لله تبارك وتعالى وأقصر الطرق إلى الجنة؟فهي إذن منظومة كاملة تعبئ للجريمة وتدفع إليها وتحتضنها وتدعمها وتشترك فيها وتتقاسم غنائمها من السحت الذي يغلي في بطون آكليه ناراً وسيصلون سعيراً، ولو لم يكونوا شركاء في الجريمة فلماذا لم تحصل مثل هذه الشبكات المنظمة للفساد في الأرض في المدن الملتزمة بتعاليم أهل البيت وتتبع مرجعيتها الرشيدة؟

هذا كله ما يجري في المناطق التي يكثر فيها المنتسبون إلى أهل السنة والجماعة وهم برءاء منهم إلا أنهم يخافون سطوتهم، ويتبجحون بهذه الأفعال ويفخرون بها ويسمونه (مثلث الموت) هل سألوا أنفسهم لمن هذا الموت؟ إن من يقتل من المحتلين لا تعدو نسبته واحد بالمئة فالموت إذن للأبرياء والإخوان في الدين والوطن الذين لهم رب واحد ودين واحد وكتاب واحد ونبي واحد وقبلة واحدة ويتربص بهم عدو واحد لا يفرق بين سني وشيعي ولم يستهدف السني لسنيته ولا الشيعي لشيعيته وإنما استهدفهما معاً لإسلامهما !.

ص: 140

هل من المصادفة أن يتعرض الشهيد السيد محمدباقر الحكيم في النجف الأشرف والشهيد الشيخ أحمد ياسين في فلسطين المحتلة لحادثي اغتيال في أسبوع واحد(1)فاستشهد الأول ونجا الثاني ثم استشهد في محاولة أخرى؟ وهل من المصادفة أن تنتهك المقدسات في القدس الشريف والنجف وكربلاء المقدستين في آن واحد؟ إلا يكفي هذا رادعاً لإخواننا لكي يكفوا عن الغدر والطعن من الخلف ولا يكونوا إلباً لأعدائهم على إخوانهم.

كلمات خجولة:

إن كلمات الاستنكار الخجولة التي تصدر لذر الرماد في العيون لم تعد تنطلي على أحد ولا قيمة لها ما دام تسميم الأجواء مستمراً والتعبئة والتثقيف نحو الجريمة يوظف كل وسيلة إعلامية من الفضائيات إلى الإذاعات والصحفوالمجلات ومنابر الجمعة والجماعة غير الجلسات الخاصة وما دام التضليل ودفع الهمج الرعاع والمتحجرين والقساة الذين قست قلوبهم «فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أو أَشَدُّ قَسْوَةً»(2).

ص: 141


1- استهدفت سيارة مفخخة موكب السيد الحكيم يوم الجمعة 1 رجب 1424 المصادف 29/8/2003 واستهدفت غارة إسرائيلية منزل الشيخ أحمد ياسين والقيادي في حركة حماس إسماعيل هنية يوم 9 رجب فجرح الأول ونجا الثاني.
2- سورة البقرة الأیة 74

لقد حذر الله تبارك وتعالى من المكر السيئ فقال عز من قائل «وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً»؛ ولذا حذّرت في عدة بيانات الإخوة الذين يغذون الفساد في الأرض من داخل العراق وخارجه، أن عاقبة البغي وخيمة و(من سل سيف البغي قتل به) وانه (لو بغى جبل على جبل لتدكدك)، فهذا الفساد في الأرض الذي يفتون به ويدعمونه لإهلاك الحرث والنسل في هذا البلد الكريم سيعود عليهم قريباً جرياً مع سنة الله تبارك وتعالى التي لا تقبل التحويل والتبديل وسينوؤن بثقله وسيكتوون بنار الفساد، أو ما يسمونه بالإرهاب الذي صنعوه بأيديهم بغياً على شعب العراق المسلم الأبي.

نحن ضد الاحتلال من غير أن نكون ارهابيين:

لماذا يكون الفعل الواحد جريمة تندى لها الإنسانية إذا وقع في بلادهم ضد العدو الذي يتحكم في سياستهم واقتصادهم وثقافتهم ويكون (مقاومة) و(جهاداً) إذا وقع ضد المدنيين الأبرياء في أرض العراق؟ إن أهداف هؤلاء المستندة إلى عصبية جاهلية ومصالح أنانية ونظرة ضيقة لم تعد خافية على احد.

إن رفض الاحتلال وكل أشكال التبعية والتحرر منه والعبودية

ص: 142

الخالصة لله تبارك وتعالى واجب إنساني لا يناقش فيه أحد، وهو حق للعراقيين قبل غيرهم وهم من أوائل الشعوب التي سعت إلى الحرية وضحت من أجل نيلها.

وهذا الرفض له آلياته وأشكاله وظروفه وللمقاومة ثقافة ولها أخلاق فنقرأ في سيرة رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه كان كلما بعث سرية أو جيشاً حملهم مع السلاح توجيهات ونصائح وأخلاق بأن لا يقتلوا امرأة ولا طفلاً ولا شيخاً ولا يقطعوا شجرة وأن يقبلوا إسلام من أعلن الشهادتين وأن لا يجهزوا على جريح ونحوها مما حوته جوامع الحديث، ولماارتكب أحد أمراء جيشه خطأ تبرأ رسول الله (صلی الله علیه و آله) من فعله وأرسل علياً أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى المتضررين فوداهم حتى ميلغة الكلب ثم فرق فيهم مالاً إضافياً احتياطاً لرسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي سُرَّ بما قام به علي (علیه السلام) فأين أدعياء المقاومة من هذه الأخلاق النبوية الشريفة؟!.

لئلا نزوّق الباطل:

أيها السادة المحترمون:

علينا أن نكون صادقين مع الله تبارك وتعالى ومع أنفسنا فإننا حينما تحملّنا العلم ووضعنا أنفسنا في هذا الموقع المقدس، رضينا بأن نحمل الأمانة التي عرضها الله تبارك وتعالى «عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا

ص: 143

الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً»(1) إذا لم يؤدِّها ولم يكن أمينا عليها والعلماء أمناء الرسل وورثتهم ليس فقط في الامتيازات والجاه والتقديس والحقوق وإنما ورثتهم في تحمل مسؤولية الرسالة من جميع جوانبها وقد قال تبارك وتعالى عن أنبيائه الكرام «وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْوَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً، لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً»(2) ثم أمر عباده باتباع الرسل والكون معهم على خطهم ونهجهم فقال عظمت آلاؤه «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ»(3).

الدعوة الى الصدق في المؤاخاة:

فإن كنا حقاً علماء وقادة للأمة فلنكن صادقين في الدعوة إلى الوحدة والتآخي بخلق ثقافة المحبة والأخوة واحترام الرأي الآخر والشراكة معه، ولا تتحقق هذه الثقافة إلا بقيام صناع الرأي في الأمة من علماء ومفكرين وكتاب وخطباء وأدباء وصحفيين وإعلاميين في إشاعة هذه الأجواء الايجابية وحينئذ ستتوجه الأمة كلها بهذا الاتجاه، أما أن تكون اللغة السائدة هي التكفير والإلغاء والاتهام

ص: 144


1- سورة الأحزاب الأیة 72
2- سورة الأحزاب الأیة 7-8
3- سورة التوبة الأیة 119

والحقد فلا معنى للحديث عن الوحدة والمؤاخاة، ويكون مثل هذا الحديث لغواً بل نفاقاً وقد حذركم الله نفسه والله بصير بالعباد ويقول لكم «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ»(1).

أيها الأحبة:

أرجو أن تقبلوا هذه الشقشقة التي هي نصيحة وتذكار وتحذير من اللعب بالنار التي لا تبقي ولا تذر «وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ»(2) وإنما شكوت إليكم بثي وحزني فلأنكم إخواني في الله ومن شكا إلى أخيه المؤمن فقد شكى إلى الله عز وجل.

أسأل الله أن يمدكم بنصره ويأخذ بأيديكم لما فيه صلاح الأمة ورضا الله تبارك وتعالى «وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أكبر ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»(3) «وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ»(4) ويغفر الله لي ولكم وهو أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

النجف الأشرف – محمد اليعقوبي

13 ربيع الأول 1426 الموافق 22/4/2005

ص: 145


1- سورة الصف الأیة 2-3
2- سورة المومنون الأیة 100
3- سورة التوبة الأیة 72
4- سورة المطففین الأیة 29

ص: 146

الزهراء (علیه السلام) العارفة بالسر المكنون تدلّنا على سبيل

توحيد المسلمين

الزهراء (علیه السلام) العارفة بالسر المكنون تدلّنا على سبيل

توحيد المسلمين(1)

احياء ذكر سيدة النساء (علیه السلام) :

ليس بدعاً من الأمم أن تحتفل أمتنا بذكرى الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، فإنها سنّة عقلائية جارية أن تحتفل الأمم بعظمائها وبناة حضارتها وتشيد بمآثرهم وفاءاً لحقهم واستنهاضاً لهمم الأجيال اللاحقة لكي يسيروا على هداهم ، ولا يتخلف عن هذه السُنة إلا الأمم المتخلّفة المتوحشة لأنها لا حضارة لها ولا تاريخ حتى تهتم به وتجدده.

والزهراء فاطمة (علیه السلام) من القمم الشامخة التي يتضاءل أمامها كل العظماء وتفخر بها البشرية جمعاء ، يكفي أنها من أهل البيت الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا بنصّ الآية الشريفة «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» (الأحزاب:33).

ص: 147


1- تقرير للحوار الذي أجرته فضائية (العراقية) مع سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) وعُرِض بمناسبة ذكرى استشهاد الصديقة الزهراء (علیه السلام) يوم 3/ج2/1428 المصادف 19/6/2007.

وخصّ النبي (صلی الله علیه و آله) أهل البيت بنفسه الشريفة وعلي وفاطمة والحسن والحسين (صلوات الله عليهم أجمعين) وعندما سألته أم المؤمنين أم مسلمة أن تكون منهم،فقالت: (يا رسول الله ألست من أهل بيتك؟) ، فقال (صلی الله علیه و آله) : (لا لكنك على خير)(1)لجلالة قدرها وعظم شأنها.

معرفة أهل البيت للحقائق :

ومن خصائص أهل البيت المعرفة الكاملة بالحقائق الإلهية التي أودعها الله بارك وتعالى في كتابه الكريم وجعل ألفاظه كالأمثال التي لها تأويل وحقائق قال تعالى: «وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ» (العنكبوت:43).

وقد وصف الله تبارك وتعالى هذه الحقائق والمعارف بأنها «فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ» (الواقعة:78-79).

فهذه المعارف الإلهية لا يمسّها ولا يصلها ويعرف كنهها إلا المطهرون من الرجس والدنس والدرن وهم منعرفّتهم الآية الشريفة المتقدمة في آهل البيت «وَيُطَهِّرَكُم تَطْهِيراً».

فكفى بفاطمة شرفاً وعظمة أنها ممن عنتهم الآية وأعطتهم هذه المنزلة الرفيعة ، لذلك لا نستغرب من وجود حديث قدسي عن الله تبارك وتعالى مضمونه (إنني ما خلقت الكون إلا لأجل هذه

ص: 148


1- البحار: ج23 ص157.

الأنوار الخمسة) لان الله تبارك وتعالى خلق الكون وما فيه لكي يُعرف ويعبد قال تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ» (الذاريات:56)، وفسرها الإمام (علیه السلام) ب-(ليعرفوه) ولم يتحقق هذا الهدف كاملاً إلا عند هؤلاء الخمسة، وتحقق بدرجات متفاوتة عند الآخرين من كرام الخلق وعلى رأسهم الأنبياء والرسل ثم العلماء والصالحين وهكذا، لذا ورد في الحديث الشريف إن درجات الخلق في الجنة تتفاوت بحسب معرفتهم فأكمل الخلق أكملهم معرفة وهو رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومعه أهل بيته.

وأُقرّب هذه الفكرة بمثال لدفع الاستغراب ، فمثلا تحتاج الدولة ضمن خطّتها إلى ألف من الأطباء والمهندسين وهي تعلم أن ليس كل من ينتمي إلى المدارس يصل إلىهذه النتيجة فتقبل مئة ألف طالب في الدراسة الابتدائية وباستمرار الدراسة يتناقص العدد حتى يتحقق في النهاية العدد المطلوب فيصّح عندئذٍ أن تقول الدولة أنني ما أسست تلك المدارس وأنفقت تلك الأموال الطائلة إلا من أجل هؤلاء الألف لأنهم حققوا الهدف النهائي.

سر عظمة فاطمة (علیه السلام) :

فعظمة فاطمة (علیه السلام) في ذاتها وصفاتها وليس لأنها البنت الوحيدة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) بدليل قولها سلام الله عليها في خطبتها على أصحاب أبيها صلوات الله عليه (أيها الناس اعلموا: أني فاطمة

ص: 149

وأبي محمد (صلی الله علیه و آله) ) إلى أن قالت (فإن تعزوه وتعرفوه: تجدوه أبي دون نسائكم ) وليس لأنها الزوجة المثالية لأمير المؤمنين (علیه السلام) وليس لأنها أم السبطين الحسن والحسين عليهم الإسلام والأئمة المعصومين وإن كان كل ذلك شرفاً ما بعده شرف.

وهذا يفسّر لنا سر اهتمام رسول الله (صلی الله علیه و آله) بفاطمة والإشادة بفضائلها على المنبر وأمام الملأ لأجل هذا الكمال المتجسد فيها وليس لأنها ابنته فقط.

وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الوسيلة:

والاحتفال بذكرى الزهراء (علیه السلام) سبب لنزول البركات ونيل الألطاف الإلهية امتثالاً لقوله تعالى: «وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الوسيلة» (المائدة:35)، ومن أعظم من الزهراء وسيلة وهي التي (يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها) حسب ما نصّ عليه الحديث الشريف حتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقصد فاطمة كما في حديث الكساء المعروف الذي يُروى عن الزهراء (علیه السلام) حين اشتكى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ضعفاً في بدنه فقصدها وطلب أن تغطيه بالكساء اليماني إلى آخر الحديث الشريف.

وما أحوجنا اليوم للتوسل إلى الله تبارك وتعالى بأحب الخلق إليه ليكشف ما بنا من ضرّ ومحن ولا كاشف له إلا هو تبارك وتعالى.

ص: 150

دروس من حياتها (علیها السلام) :

وسأكتفي هنا بالإشارة إلى درسين نأخذهما من معين الزهراء الذي لا ينضب لمعالجة ما نعانيه من مشاكل:

الأول: يتعرض الإسلام لحملة تشويه واسعة من أعدائه مستغلين بعض الممارسات الشائنة لمنتحلي اسم الإسلام فخلطوا الأوراق على الناس ليضّلوهم ويبعدوهم عن الإسلام ويكون الرد عليهم في بعض أشكاله(1)ببيان الصورة الناصعة للإسلام التي جسدها المصطفون الأخيار وببيان فلسفة أحكام الإسلام وأسرار تشريعاته ليتميز الخبيث من الطيب، وقد أشارت الزهراء (علیها السلام) في خطبتها في مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى مفاتيح هذه الأسرار ، ومما قالت (علیها السلام) (فجعل الله الإيمان: تطهيراً لكم من الشرك ، والصلاة: تنزيها لكم عن الكبر ، والزكاة: تزكية للنفس ونماء في الرزق ، والصيام: تثبيتاً للإخلاص).

ثم عدّدت الكثير من أحكام الإسلام وتشريعاته واعتقد إننا لو استطعنا تقديم نموذج الزهراء (علیها السلام) في مسلسل تلفزيوني أو فيلم يعرض سيرة الزهراء لتأثر بها ليس فقطنساء العالمين بل الرجال أيضاً ولاعترف الجميع بأنها سيدة نساء العالمين حقاً.

ص: 151


1- ذكرنا في بيان مستقل الأسباب التي تدفع الغرب إلى شن هذه الحملة المسعورة للإساءة إلى شخص رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأشرنا إلى الخطوات العملية المتكاملة للرد عليهم.

الثاني: إن دعوات –لا أتهم إخلاصها وصدق نواياها- انطلقت في العالم الإسلامي منذ ثلاثينيات القرن الماضي تدعوا إلى توحيد المسلمين ونبذ الخلاف وأسسوا في الأربعينات داراً للتقريب بين المذاهب الإسلامية سعت بمقدار ما تتيسر له لتحقيق هذا الهدف السامي ولا زالت المساعي مستمرة، ولكن يؤسفني أن أقول أنها لم تحقق الثمرة المنشودة وأحياناً يحصل العكس فحينما تثار نقاط الخلاف من أجل تسويتها وردم الهوة بينها يتم التركيز على هذا الخلاف وتفشل الحلول في التقريب بينها حتى صرنا نرجو أحياناً أن لا تنعقد مثل هذه اللقاءات والندوات والمؤتمرات حتى لا نستثير كوامن الاختلاف.

خطوات في سبيل الوحدة:

وتعل-ّمنا الزهراء (سلام الله عليها) العلاج الصحيح للفرقة بين المسلمين والسبيل إلى لم شملهم وتوحيد كلمتهمكما أراد الله تعالى لهم ذلك ، قال تبارك وتعالى: «وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ» (آل عمران:103)، فقالت سلام الله عليها (فجعل الله طاعتنا نظاماً للملة، وإمامتنا أماناً للفرقة) فالوحدة والاجتماع يتحقق بالرجوع إلى مصادر الإسلام الأصلية كتاب الله وسنة رسول الله (صلی الله علیه و آله) الثابتة عنه غير المكذوبة عليه والمأخوذة عن طريق الثقات من أهل بيته وأصحابه النجباء.

ص: 152

كنت قبل أيام في اتصال هاتفي مطول مع أحد علماء فلسطين(1)من المهتمين بالتقريب بين المسلمين وتوحيد كلمتهم حتى يتمكنوا من إعزاز دينهم ودحر الأعداء المتكالبين عليه وناقشنا ما تقدم من عدم تحقق الثمرة من مؤتمرات التقريب وقلت له أن على إخواننا أبناء أهل السنة أن يتخذوا خطوتين على الطريق الصحيح:

الدعوة الى فتح باب الاجتهاد الفقهي:

الأولى: فتح باب الاجتهاد لاستخراج الأحكام الشرعية من مصادرها الأصلية وهي الكتاب والسنة الشريفة لأنهما المصدران للتشريع أما كلمات الفقهاء فمع إجلالنا إلا أنها تمثل فهمهم وما بلغه نظرهم في الدليل الشرعي وان الأدوات المتوفرة لدى الأجيال اللاحقة أعظم من السابقين تبعاً لتطور العلوم وتعميقها ثم أن الحوادث متجددة ومتنوعة وان كثيراً منها لم يتعرض لها السلف الصالح.

فالانغلاق على مذاهب عمرها أزيد من ألف عام يجمّد الفكر ويفتح الباب واسعاً أمام كل من يشتهي أن يطبق ما يشاء من الفتاوى والنصوص على الحادثة المعينة ليحقق مبتغاه لذا نرى التضارب والتشتت وعدم الانضباط في إصدار الفتاوى التي لا تتورع عن سفك الدم الحرام فلابد من ضبط الحالة وفق مقاييس علمية دقيقة

ص: 153


1- هو الشيخ محمود عبد العزيز جودة المقيم في غزة.

ومؤهلات وهذا ما يتوفر لدى مراجع شيعة أهل البيت حيث لا يحق لأحد إصدار الفتوى إلا بعد بلوغه هذه المرتبة العلمية السامية ونضج علمي وعملي لا يتيسر إلا للأفذاذ.

الدين يحكم السياسة لا أن السياسة تحكمه:

الثاني: عدم تسييس الدين وامتناع الفقهاء من السير في ركاب السلطة وإضفاء الشرعية على تصرفاتها المبنية على المصالح الدنيوية الضيقة وهي متقاطعة بين متسلط وآخر مما يولد نفوراً من الدين وتعارضاً بين مواقف العلماء وتصل إلى التشاجر والقتال، ولو تسامى الفقهاء عن حب الدنيا وعملوا مخلصين لله تبارك وتعالى وتكون علاقتهم بالحكام من أجل التوجيه والإرشاد والموعظة وتصحيح المسيرة وإصلاح الخط والفساد وتقديم المشورة وهذا الشرط أساسي في مراجع الشيعة وسموه (بالعدالة) .

الخطوات العملية لمشروع الوحدة الإسلامية:

ولتحقيق هاتين الخطوتين يتطلب الأمر إجراء تعديلات في مناهج دراسة العلوم الدينية لتنتج مجتهدين، وأن تؤسس هذه الحواضن للدراسات الدينية بعيداً عن تدخل السلطات الحاكمة كالحوزات العلمية الشيعية المستقلة عبر أكثر من ألف عام عن تدخل الحكومات، و آامل أن يمنّ الله تبارك وتعالى على بغداد

ص: 154

الحبيبة بالأمن والاستقراروالاستقلال والحرية لتكون هي الحاضنة لهذا الصرح العلمي العظيم كما كانت في عصورها المزدهرة، فقد كانت للشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي كما كانت لأبي حنيفة والشيباني والغزالي والكيلاني.

وكان طلاب العلم في كل من المدرستين يأخذ علوم المدرسة الأخرى وقد يكون بارعاً فيها فلا يعرف انتماؤه لأي منهما وأل-ّف الشيخ الطوسي كتاب الخلاف الذي يستعرض فيه أراء علماء المسلمين من جميع المذاهب ويذكر أدلتهم ثم يختار ما هو الصحيح.

وحينئذ سيجد الباحث (كما وجدت أنا من خلال البحث الذي القيه في الحوزة العلمية في النجف الأشرف واخترت له المسائل الخلافية) أن المصدر واحد وان كثيراً من الأحاديث التي نستند إليها متطابقة بحيث لا تشعر عندئذ بوجود فرق وإنما هو بحث علمي مستند إلى أدلة معتمدة وتستغرب حينئذ من هذا التباعد والاختلاف بين طوائف المسلمين.

ص: 155

ص: 156

يوم الغدير أساس وحدة المسلمين

يوم الغدير أساس وحدة المسلمين (1)

لماذا العجز؟

يتحدث المسلمون بجميع طوائفهم عن ضرورة الوحدة ونبذ الخلاف ويعقدون المؤتمرات و الندوات والحوارات تحت هذا العنوان وتصرف الأموال الضخمة في هذا السبيل دون أن يتحقق تقدّم يذكر وربما ازدادوا بعداً عن بعضهم، فأين الخلل ولماذا هذا العجز عن الوصول إلى الحل؟.

الوحدة بالالتفاف حول وصية القرآن الكريم:

يدلّنا القرآن الكريم على ما تتحقق به الوحدة بين المسلمين فانه يقول: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُواوَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» (آل عمران:103).

ص: 157


1- كلمة سماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) التي ألقاها فضيلة السيد محمد الغريفي في الحفل الذي أقامته ممثلية المرجعية الرشيدة في العاصمة الألمانية برلين بمناسبة عيد الغدير الأغر لسنة 1428المصادف 29/12/2007.

وقد وردت الروايات في تفسير الآية بأن حبل الله هو القرآن الكريم وولاية علي بن أبي طالب والأئمة المعصومين (سلام الله عليهم) من ذريته، وتشهد نفس الآية على هذا التفسير، لأنها ذكرت أن العرب كانوا أعداء متباغضين فوحدّهم الله تبارك وتعالى وجمع كلمتهم بنعمة الإسلام، وقد أشارت آية أخرى إلى أن تمام هذه النعمة ونظام عقدها ولاية أمير المؤمنين (علیه السلام)، قال تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً» (المائدة:3) وقد روى المفسرون من الطائفتين أنها نزلت بعد تنصيب رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأخيه وابن عمه علي بن أبي طالب (علیه السلام) خليفة وولياً وهادياً للأمة بعده يوم الغدير بعد حجة الوداع.

الإمامة نظام الملّة:

وإلى هذا أشارت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء في خطبتها في مسجد أبيها (صلی الله علیه و آله) : (فجعل إمامتنا نظاماً للملة، وطاعتنا أماناً من الفرقة).

وولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) ليست قضية عاطفية تجاه شخصيته العظيمة ولا عقيدة نظرية نؤمن بها وإنما هي باب ينفتح منه ألف باب من الاعتقادات والأحكام والآداب تكون برنامجاً كاملاً في المعتقد والسلوك على صعيد الفرد والأمة.

ص: 158

والأمة لم تقع فيما وقعت فيه من التخبّط والصراع والفتن المضلّة التي تسببت في إزهاق أرواح الأجيال بعد الأجيال من الأبرياء وخراب البلاد وانهيار الحضارة وعدم الاهتداء إلى الحق إلا بسبب عدم تمسكها بحبل الله المتين وصراطه المستقيم وعروته الوثقى التي لا انفصام لها. وهذا ما دعا عبد الله بن العباس وغيره من الصحابة العارفين يتأوه إلى نهاية عمره مما حصل في رزية يوم الخميس التي سبقت وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأيام، ويقول عن مسألة (العول) أي النقص في فرائض الميراث التي قال بها من لم يأخذ العلم من نميرهالصافي وفندّها أمير المؤمنين (علیه السلام) والأئمة من بعده (سلام الله عليهم) وفيها يقول عبد الله بن العباس بعد أن اثبت بطلان القول بالعول في رواية طويلة: قال (وأيمُ الله لو قدَّم من قدَّم الله وآُخّر من آخّر الله ما عالت فريضة)(1)وهو يقصد بحسب الظاهر التقديم والتأخير في استحقاق الميراث لكنه كان يريد معنى أعمق من ذلك بأن الأمة لو قدّمت لولاية أمرها من قدّمه الله تبارك وتعالى واختاره لخلافة رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما نقصت فريضة أو عُطّلت سُنّة.

خلافة الإمام (علیه السلام) كانت أصيلة قبل يوم الغدير:

إن استحقاق أمير المؤمنين (علیه السلام) للخلافة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان

ص: 159


1- وسائل الشيعة، كتاب الميراث، أبواب موجبات الإرث باب 17ح6.

سابقاً على يوم الغدير، أما الاحتفال الذي أقامه رسول الله (صلی الله علیه و آله) في غدير خم في طريق عودته إلى المدينة بعد حجة الوداع ودعا المسلمين إلى مبايعة علي بن أبي طالب (علیه السلام) بالولاية والإمامة بعده (صلی الله علیه و آله) تلبية لأمر الجليل تبارك وتعالى حيث انزل الآية الكريمة «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَاأُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ»، أقول أما هذا الاحتفال فكان كاشفاً عن هذا الاستحقاق وإعلاناً رسمياً للتنصيب، وقد كان الكثير من الصحابة الأجلاء (رضوان الله تعالى عليهم) يعلمون أحقية أمير المؤمنين (علیه السلام) وبولايته وعرفوا بتشيعهم له في وقتٍ مبكر من حياة رسول الله (صلی الله علیه و آله).

شبهة مقابل البديهة التاريخية:

فالنقاش إذن في دلالة قول النبي ((صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) يوم الغدير (من كنت مولاه فهذا علي مولاه) أو المناقشة في نزول الآية في قضية الغدير لا يقدّم ولا يؤخر وهي شبهة مقابل البديهة –كما يقول العلماء- لأن حق أمير المؤمنين في خلافة رسول الله (صلی الله علیه و آله) لم يكتسبه من ذلك اليوم بل استحقه بما يحمل من صفات تؤهله لهذا المقام الشريف وقد أعلن رسول الله (صلی الله علیه و آله) هذا الاستحقاق في مناسبات عديدة سبقت قضية الغدير بسنين وكان بعضها-كحديث الدار-

ص: 160

في وقت مبكر من البعثة في مكة المكرمة وفي حياة أبيه أبي طالب (رضي الله عنه)حتى تهكم بعض مشركي قريش من أبي طالب وقال له أن محمداً يدعوك إلى طاعة ولدك الصغير عليّ.

لنتوحد حول كتاب الله تعالى:

أيها الأحبة من كل طوائف المسلمين.

إنني أريد بهذا الكلام أن أقول أن الوحدة بين المسلمين تتحقق بالعودة إلى كتاب الله تبارك وتعالى وسنّته الشريفة الصحيحة بعد تنقيحها من التلاعب والتزوير والدس الذي قام به المنافقون، وحينئذ سيلتقي جميع المسلمين عند الحقائق التي يعلمها الله تبارك وتعالى.

انكشاف الحقيقة رهن العقول المتحررة:

والوصول إلى الحقيقة وكشفها للناس وظيفة العلماء الأجلاء، ولا نصل إلى الحقيقة إلا بتحرير العقول من التقليد والتعصب والتحجّر وذلك بفتح باب الاجتهاد ودعوة العلماء الذين حصّلوا العلوم التي تؤهل لممارسة عملية استنباط الحكم الشرعي من مصادره الأصلية إلى عدم الوقوف على المذاهب المعروفة وتطبيق فتاوى أئمة المذاهب على الحالات التي تعرض عليهم وإنما يرتقون بمداركهم إلى استنباط الحكم الشرعي من الكتاب والسنة، وسيجد علماء المسلمين جميعاً أنفسهم عند تلك القمة

ص: 161

السامقة متفقين متوحدين ينهلون من معين واحد ولا يختلفون إلا بالمقدار الطبيعي الذي يحصل بين علماء أي حقل من حقول العلم والمعرفة.

وقد وجدتُ خلال بحثي الفقهي الاستدلالي أن كثيراً من الروايات التي يستند إليها الفقهاء السنة و والشيعة في استنباط الحكم الشرعي متطابقة الألفاظ فضلاً عن المعاني، ويعود الفضل في ذلك إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) والأئمة من بنيه الطاهرين حيث بثوا عدداً ممن حملوا جملة من أحكامهم ومعارفهم ولا يجد المسلمون من غير أتباع أهل البيت حزازة في الأخذ عنهم كعبد الله بن العباس ونقل هؤلاء إلى عموم المسلمين علوم الشريعة من معدنها الصافي، وهذا نابع من رحمتهم وحبّهم للناس جميعاً حتى وإن أعرضت الأمة عن إعطائهم المكانة التي يستحقونها.أرجو أن يساهم السادة الحضور وكل من يسمع هذا النداء المخلص لتفعيل هذه الدعوة المباركة في أروقة حواضر العلم صانها الله تبارك وتعالى في بلاد المسلمين.

ص: 162

مسؤولية الكلمة في صناعة كيان الإسلام

مسؤولية الكلمة في صناعة كيان الإسلام (1)

أهمية الكلمة ودورها:

(الكلمة) من أوسع القنوات الموصلة إلى رضا الله تبارك وتعالى فمن خلالها تكون النصيحة وبها تتم الموعظة وتجري الهداية ويتحقق الإصلاح وينتشر العلم والمعرفة وتُبنى الحضارة وتتقدم الإنسانية وتتكامل التربية فهي وعاء لهذه الطاعات العظيمة وغيرها.

لذلك جاء رجل إلى الإمام السجاد (علیه السلام) وسأله: عن الكلام والسكوت أيهما أفضل؟ فقال (علیه السلام): (لكل واحد منهما آفات فإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت، قيل: وكيف ذاك يا بن رسول الله؟ فقال: لأن الله عز وجل ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت، إنما بعثهم بالكلام، ولا استحقت الجنة بالسكوت، ولا استوجبت ولاية الله بالسكوت، ولا وقيت النار بالسكوت،

ص: 163


1- كلمة سماحة الشيخ محمد اليعقوبي التي ألقيت نيابة عنه في احتفال أقيم يوم 4 رجب 1426 المصادف 10/8/2005 في وزارة الثقافة بمناسبة مرور عام على افتتاح إذاعة البلاد وقد أضاف سماحته عليها مقاطع مهمّة.

ولا تجنب سخط الله بالسكوت، إنما ذلك كله بالكلام)(1). قال تعالى: «لا

خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أمر بِصَدَقَةٍ أو مَعْرُوفٍ أو إصلاح بَيْنَ النَّاسِ»(النساء:114) حتى عُدّت (الكلمة الطيبة صدقة)(2)في بعض الأحاديث.

وفي المقابل فإن الكلمة السيئة لها ضرر بليغ ومدمّر وإن كثيراً من الكبائر التي وعد الله بها النار مرتبطة بالكلمة كالغيبة والنميمة والبهتان والكذب والافتراء والسب والشتم والإيذاء وإشاعة الفاحشة وغيرها لذا ورد في الحديث عن رسول (صلی الله علیه و آله) انه قال: (وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم)(3)

وألّف العلماء والمربّون والأخلاقيون كتباً في (آفات اللسان).

تهذيب الكلمة:

لذلك خصص المشرع الأقدس حصة كبيرة من تعاليمه لتهذيب هذه الكلمة وتوجيهها لتكون نافعة بنّ-اءة فرسم ملامح الكلمة الطيبة «كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بإذن رَبِّهَا»(إبراهيم:24-25) وحذر من ضرر الكلمة الخبيثة «وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ» (إبراهيم: 26) وحذر من مغبّة الكلمة

ص: 164


1- الوسائل: ج12 ص188.
2- السابق: ج5 ص233.
3- الكافي: ج2 ص155.

الضارة.

فمثلاً اعتبر من يقول ولو شطر كلمة في المشرق فقُتل بها شخص في المغرب اعتبره قاتلاً، كما يفعل اليوم صناع ثقافة التكفير والقتل والظلم والعدوان فيطيعهم وينخدع بضلالاتهم شخص في المشرق أو المغرب ويقوم بعملية إجرامية يكون وزرها الأول على صانع هذه الثقافة.

ويوجد بهذا الصدد حديث شريف مهم ويشكّل ضربة قاضية لهؤلاء الذين يروّجون صناعة القتل والرعب لمجرد الاختلاف في الرأي أو تضرّر المصالح فقد روى الإمام الصادق (علیه السلام) عن جده رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال (يعذّب اللهُ اللسان بعذابٍ لا يعذّبُ به شيئاً من الجوارح فيقول: أي ربِّ عذّبتني بعذابٍ لم تعذّب به شيئاً، فيقال له: خرجت عنك كلمة فبلغت مشارق الأرض ومغاربها فسفك بها الدم الحرام وعزّتي لأعَذّبنَّك بعذابٍ لا أعذّبُ به شيئاً من جوارحك)(1).

فإذا استشعرنا هذه الأهمية فإن هذا الشعور سينظّم برامج التعامل مع الكلمة وسيراقبها ويتحكم بها، فإن الكلمة في وثاقك وتحت سيطرتك ما دمت لم تطلقْها فإذا أطلقتها فستكون أنت في وثاقها وتتحمل تبعتها ومسؤوليتها، وكم شخص ذهب ضحية

ص: 165


1- وسائل الشيعة، مج8، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب4، ح4.

الكلمة سواء في الدنيا أو في الآخرة كقاضي القضاة للمعتصم العباسي الذي وشى بالإمام الجواد (علیه السلام) وهو يعلم أن ذلك سيخلّده في النار كما قال هو نفسه.

استثمار الاتصالات الحديثة لصالح الإسلام:

ونحن اليوم نشهد ثورة معلوماتية هائلة وتكنولوجيا اتصالات عظيمة لم تحلم بها البشرية من قبل، تفتح لنا الأبواب الواسعة لإيصال خطاب السلام والسعادة للبشرية، ولم يعد الطغاة قادرين على حبس الكلمة ومنع وصولها إلى الناس كما كانوا يفعلون عبر التأريخ ولسانهم واحد «مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى» (غافر: 29)، واضطر الإسلام لحمل السيف في وجوه هؤلاء الطغاة ليحرّر شعوبهم من عبادتهم ويترك لهم الخيار في اعتناق العقيدة التي يقتنعون بها تحت شعار «لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ» و«لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» (الأنفال:42) و«فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» (الكهف:29) و«إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا» (الإنسان:3) وشجّع الحوار وثقافة الرأي الآخر «قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ» (البقرة: 111) «وَلا تُجَادِلُوا أهل الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (العنكبوت:46) «ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (النحل: 125).

كما أننا نعيش بفضل الله تبارك وتعالى فرصة عظيمة لإيصال الكلمة الطيبة إلى مسامع العالم التوّاق للسلام والسعادة والخير،

ص: 166

بعد أن فشلت أمامه كل الأيديولوجيات وبعد أن فشل غير اتباع أهل البيت في عرض الإسلام بشكله الصحيح مما اوجب نفوراً وارتداداً لدى معتنقيه، فالعالم كله ينتظر منكم يا اتباع أهل البيت أن تعكسوا لهم الصورة النقية الناصعة للإسلام المملوءة بالرحمة وحبالخير والسلام والطمأنينة لكل البشر.

عوامل نجاحنا في إيصال كلمة الإسلام:

وقد مرّت علينا عقود من سنيّ الكبت وسلب الحرّيات والحجر على الكلام، وقد أزاله الله تعالى ليبلوَنا أنشكر ونؤدي حق هذه النعمة، أم نكفر والعياذ بالله ونسيء استخدام هذه الحرية.

فهذه عوامل ثلاثة:

وسائل الاتصالات المتطورة.

2- فشل الإيديولوجيات في تحقيق السعادة للبشرية وتوفير الأمن والسلام والطمأنينة لها.

3-توفر الحرية الكاملة لممارسة الدعوة إلى الله تبارك وتعالى والحق والهداية والصلاح.

تضاعف علينا مسؤولية استثمار (الكلمة) في أداء الرسالة التي ائتمنا الله تبارك وتعالى وقبلنا حملها بعد أن اعتذرت السماوات والأرض وسائر المخلوقات عن حملها «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنيَحْمِلْنَهَا

وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً »الأحزاب72.

ص: 167

ص: 168

الصورة الإسلامية بين آلة الإعلام الغربي وتكفير الحركات الإسلامية

الصورة الإسلامية بين آلة الإعلام الغربي وتكفير الحركات الإسلامية(1)

الإساءة لرموز الإسلام تُشعرنا بالفخر:

لا زلنا نعيش تداعيات ما قيل من إنتاج فيلم يسيء إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) في السينما الأمريكية بإخراج وتمويليهوديين وقد نشرت بعض المواقع دقائق منه قبل عرضه، مما استفزّ مشاعر المسلمين فخرجوا في تظاهرات واحتجاجات في بلدان إسلامية عديدة، وهاجم بعض المتظاهرين عدة مقرات لسفارات ومؤسسات غربية.

ولم تكن هذه الإساءة هي الأولى فقد دعا بعضهم إلى حرق المصحف الشريف علنا وآخرون رسموا صوراً كاريكاتورية مسيئة، وآخر يؤلف كتاباً شيطانياً أو يؤدون حركات عبثية للسخرية من عبادات المسلمين وشعائرهم. وهكذا.

ص: 169


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع عدة وفود منها مدرسة أشبال المنتظر في الناصرية، ومجموعة الطلبة المتفوّقين في الدراسة الإعدادية في المشخاب يوم الأربعاء 2/ذ.ق/1433 المصادف 19/9/2012 وقام فتيان المدرسة بعدة فعاليات قرآنية وأناشيد.

ومن وجهة نظري فإن هذه الأفعال تشعرنا بالزهو والفخر والانتصار لأن صدورها منهم تعني إفلاسهم وهزيمتهم وتدل على اعترافهم بانتصار الإسلام وتقدمه وغزوه لهم وفشل كل مشاريعهم للقضاء على حركته المباركة وإيقاف مدِّها إلى عقر دورهم فلجأوا إلى هذه الأساليب للتضليل وللتشويه، ولو كان الإسلام هزيلاً مهزوماً ضعيفاً لما خافوا منه وقلقوا وقاموا بهذه الأفعال البائسة.

لا نقف عند الردود العاطفية:

لكننا يجب أن لا نقف عند ردود الأفعال العاطفية المؤقتة فإنها لا تستطيع مقاومة مشاريع أعداء الإسلام المتنوعة من إفساد أخلاقي وتخريب ثقافي وتمزيق لحمة المجتمع وحصار اقتصادي و تجفيف الأنهار وتلويث المياه ونشر الأمراض الخطيرة من خلال أدوية فاسدة، ولا تنتهي عند الاحتلالات العسكرية والهيمنة على القرار السياسي وغيرها مما يخفى على كثيرين حيث يضع المستكبرون لكل بلد وشعب السيناريو المناسب له من وجهة نظرهم.

مشروع (هارب HAARP)

وألفت نظركم إلى واحد من مشاريعهم التخريبية كُشف عنه خلال هذه الأيام فقد كشفت دائرة الأنواء والرصد الزلزالي انها تملك أدلة على أن التغيير الحاصل بالجو في العراق بفعل فاعل

ص: 170

وليس أمراً مناخياً طبيعياً وانهم وبعد جهود مضنية على مدى خمس سنوات استطاعوا الحصول على أدلة تثبت تورط الولايات المتحدة بالتحكم في المناخ العراقي. وانهم قد رصدوا وجود طاقة صناعية تم توجيهها عبر مركزابحاث الترددات العليا للشفق القطبي الشمالي، بما يعرف بمشروع (هارب H(علیه السلام)(علیه السلام)RP) باعتباره المركز الوحيد القادر على افتعال زلازل وفيضانات وأعاصير ورفع وخفض درجات الحرارة التي تبدو طبيعية، وتوقع خبراء الأرصاد أن ترتفع درجات حرارة العراق في السنوات الثلاثة المقبلة إلى سبعين درجة مئوية مما سيجعل الحياة فيه شديدة الصعوبة.

وبذلك انضمَّ العراق إلى الدول التي يتحكم بمناخها مشروع هارب الذي تديره الولايات المتحدة الأمريكية وقد كشف الموقع الاخباري النيوزلاندي (ناتشرنيوز) عن دراسة تشير إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية هي التي تسببت في الزلزال الذي ضرب اليابان في 11/آذار/2011.

وسواءً ثبت وجود مثل هذه القدرة عندهم أو لم يثبت، فإن المهم هو معرفة توجهاتهم الأخلاقية وأنماط سلوكهم العدواني.

تعقيم النسل لإبادة الشعوب الإسلامية:

والمثال الآخر توجّه الحكومة الأمريكية لقطع نسل ملايين الناس بإحداث العقم لدى نسائهم وهو نموذج للإبادةالبشرية التي تقوم بها الدول المستكبرة المستمدة من ثقافة الصهاينة في

ص: 171

احتلال أرض الغير واستبدال شعب بشعب وثقافة وتاريخ بثقافة وتاريخ غيرهما.

فهذه التصرفات والخطط الهدّامة متوقعة منهم وهم ماضون فيها (لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) (التوبة/10) وإلا بماذا يستحلّون الإساءة إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) المبعوث رحمة للعالمين، والذي كان مصدر خير لجميع البشر إلى يوم القيامة وهم يعترفون بذلك حتى جعله أحد مفكريهم على رأس أعظم مئة شخصية صنعت التاريخ والحضارة الإنسانية.

وبماذا جاء رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟ جاء مبلّغاً لرسالات ربه مكملاً لرسالات الأنبياء السابقين يأمر بالعدل والإحسان ورفض الظلم والبغي والفحشاء والمنكر، فيجب على كل إنسان أن يحبّه ويحترمه ويعظّمه حتى لو كان من غير دين، كما نحترم نحن العلماء الذين قدّموا خدمات للبشرية رغم اختلافنا في الدين وندرس نظرياتهم ونشيد بانجازاتهم العلمية.فسلوكهم هذا يعني انهم لا يحترمون الإنسانية والعقل والأخلاق الفاضلة والمبادئ السامية.

فهم بذلك يسيئون إلى أنفسهم ويفضحونها وليس إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي هو أعزّ وأكرم وأعلى من أن تناله حماقاتهم (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (الحجر/95) (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (التوبة/32).

ص: 172

الإساءة الى التشيع:

وإلى جانب هذه الحملة المسعورة التي تستهدف الإسلام، توجد حملة تضاهيها تستهدف التشيّع بالتشويه والتسقيط والاجتثاث والاستئصال بالقتل والإبادة، أو التخلي عن الهوية بالترويع والإرهاب، وجرائمهم التي يندى لها جبين الإنسانية في العراق وأفغانستان وباكستان وغيرها مما لا حصر له. وهو أيضاً دليل هزيمتهم أمام تقدّم التشيع وانتشار تعاليم أهل البيت (علیهم السلام)، فيحاولون إطفاء نور الله بهذه الأساليب الوضيعة.

الإساءة الأشد إيلاماً:

إن الكثير من هؤلاء الذين يتظاهرون ويحتجون بحماس في شوارع المدن الإسلامية في باكستان وافغانستان وغيرهما هم الذين يقتلون الأبرياء ويفجّرونهم في المدارس والأسواق والمساجد والأماكن العامة باسم الإسلام واسم رسول الله (صلی الله علیه و آله) فهم أشد إساءة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) من صنّاع الفلم والرسوم والروايات الشيطانية، لأن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان يغفر لمن يسيء إلى شخصه المبارك بقول أو فعل لكنه كان لا يسكت على أي ظلم يوجَّه إلى الإنسان خصوصاً إذا بلغ الدماء.

كان أمير المؤمنين (علیه السلام) ربيب رسول الله (صلی الله علیه و آله) يخطب في مسجد الكوفة، فقال كلاماً أذهل الجالسين، فقال رجل من الخوارج

ص: 173

(قاتله الله كافراً ما أفقهه) فوثب إليه القوم ليقتلوه، فقال (علیه السلام): (رويداً إنما هو سبٌّ بسبّ أو عفوٌ عن ذنب)(1)ولا مجال لأي عقوبة أخرى، ولما لم يكن منأخلاق أمير المؤمنين (علیه السلام) مقابلة السيئة بمثلها فقد عفا عنه وهو رئيس الدولة الإسلامية.

لكن امرأة أتته يوماً تشتكي والي البصرة فحرّر كتاباً على الفور يعزل فيه ذلك الوالي.

من أهداف الاستكبار العالمي:

وليعلم هؤلاء المحتجون أن من أهداف الاستكبار في إثارة هذه الأفعال المسيئة إنما هو ليستفزّوا مشاعر المسلمين ويدفعوهم فالرد على هؤلاء الأعداء الذي يريدون منا التخلّي عن هويتنا (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ) (البقرة/120) أو اجتثاث وجودنا واستئصاله، هو بمزيد من الالتزام بديننا وقرآننا وتعاليم أهل بيت النبوة (صلوات الله عليهم أجمعين) والأخذ بسيرتهم وهديهم خصوصاً منكم معاشر الشباب والفتيان الذين تتلون القرآن وتنشدون الأناشيد في حب الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) وأهل البيت وتتعهدون بالثبات والنصرة وأنتم في عمر الزهور والغرائز

ص: 174


1- نهج البلاغة، الحكمة 420.

المتدفقة، وبذلك تشعرونهم باليأس والإحباط والفشل لأن كل هدفهم سلخنا من مبادئنا ومعتقداتنا.

الرد على المسيئين يكون بالنجاح والإبداع:

وأن تردّوا بمزيد من النجاح والتفوّق والإبداع والانجاز في كل الميادين التي تتواجدون فيها، فحينما أسمع من بعض الوفود الحاضرة أن عدد من أعفوا بكل الدروس في المرحلتين الرابعة والخامسة الاعدادية في مدينة المشخاب وحدها هو (160) طالباً وطالبة، وان عدد من نجحوا بمعدل يفوق 90% في الامتحانات العامة للدراسة الإعدادية في المدينة من الدور الأول هم (25) طالباً وطالبة فهذا نموذج لما أقصده من الرد العملي وإدخال اليأس على الأعداء.

اغتيال العلماء العراقيين بدم بارد:

ربما سمعتم بما حصل قبل اسبوعين حينما قاممسلحون مجهولون باغتيال عالم نووي عراقي(1)مقيم في بريطانيا منذ أكثر من 30 عاماً حينما كان في زيارة إلى فرنسا فقتلوه وزوجته وامرأة

ص: 175


1- وقع الحادث يوم 5/9/2012 في منطقة (شيفالين) شرق فرنسا، والمستهدف اسمه (سعد الحلي) وهو عالم نووي عامل في مختبر نووي سري للغاية في بريطانيا، وكان معروفاً بكرهه للأمريكيين، هرب من العراق عام 1978، وقد ذاع صيته أخيراً بعد نجاحه في إنتاج مسرّع جسيمات عملاق يستطيع صنع مواد مشعّة. وقد عمل في مختبر (روثر فورد ابليتون) للأبحاث الذي حظي بشهرة عالمية في ثمانينات القرن الماضي.

مسنّة معهما وجرحت ابنة له مع اختها، وحصل كل ذلك بدم بارد ولم يهتم الإعلام بالحدث ولا تحرك ملف التحقيق لكشف ملابسات الحادث.

الرد بالالتزام بتعاليم الدين:

وأن تردّوا بتوسيع قاعدة الالتزام بالدين والرجوع إلى الله تبارك وتعالى فتحثون الذي لا يصلي على المحافظة عليها، وتقنعون غير المحجبة بالالتزام بالحجاب العفيف لأنه رمز جمالها وكمالها، وتدعون إلى التحابب والألفة وحل المشاكل بالحوار ونحوها واذكروا لهم قوله تعالى (يوم ندعوكل أناس بإمامهم) فمع أي إمام يحبون أن يحشروا، ولاشك انهم لا يستبدلون برسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) وفاطمة الزهراء والحسن والحسين والأئمة المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين) أحداً غيرهم، إذن فليأخذوا بسيرتهم وتعاليمهم.

أكثروا من النسل:

وان تردّوا على خططهم الشيطانية في استئصال وجود المسلمين بزيادة الانجاب وتكثير النسل لإدخال السرور على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولزيادة النسمات التي تشهد لله تعالى بالوحدانية ولرسول الله (صلی الله علیه و آله) بالرسالة ولأمير المؤمنين بالولاية، فقد روي عنه

ص: 176

قوله (صلی الله علیه و آله) : (اطلبوا الولد فإني مكاثر بكم الأمم غداً)(1)وعنه (صلی الله علیه و آله) : قال (تزوّجوا فإني مكاثر بكم الأمم غداً في القيامة حتى ان السقط يجيء محنبطاً على باب الجنة فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: لا حتى يدخل أبوايالجنة قبلي)(2)، مع الاهتمام بتربيتهم تربية صالحة وجعلهم عناصر مثمرة مباركة.

وقد قلت في أكثر من مناسبة أن عدد الأطفال المطلوب لكل زوجين هو أربعة على الأقل للمحافظة على الوجود، ولتكثير النسل، فإذا قصّر المسلمون في تحقيق الهدف وهو تكثير النسل، فقد خالفوا وصية رسول الله وأعانوا أعدائهم على أنفسهم.

إن مقولة (تحديد النسل) و (تقليل الإنجاب) هي من الثقافة المدمّرة التي دسّها الأعداء في عقول المسلمين، وأكثر الأسباب التي تُقال في تبريرها ليست مقبولة كصعوبة المعيشة وزيادة تكاليف الحياة، لأن الله تعالى هو الرازق لعباده وليتذكر الوالدان اللذان يقولان مثل هذا الكلام انهما كانا حملين في بطن الأم ويأتيهما رزقهما رغداً هنيئاً سائغاً، فلا يعول الفرد على نفسه ويغفل عن لطف الله تعالى، روي عن رسول الله قوله (اتخذوا الأهل فإنهم أرزق لكم).

ص: 177


1- وسائل الشيعة، كتاب النكاح، أبواب مقدماته، باب1 ح2.
2- وسائل الشيعة، كتاب النكاح، أبواب مقدماته، باب 2ح 4.

ص: 178

أي خدمة للأعداء قدمها مرتكبو جريمة بقيع سامراء

أي خدمة للأعداء قدمها مرتكبو جريمة بقيع سامراء(1)

الفرق بين الإسلام الحقيقي وغيره:

يوماً بعد يوم يتسامى أتباع أهل البيت (سلام الله عليهم) ويزدادون بهاءً وكمالاً بما يظهرون من حكمة وضبط نفس وترفّع عن الإساءة إلى الآخرين وبدأ العالم يلتفت إلى هذه المدرسة التي غُيّبت طيلة أربعة عشر قرناً.

وبالمقابل يتسافل الآخرون وينزلون إلى درجات الحضيض بما يرتكبون من جرائم تتقزز منها الإنسانيةوتقشعرّ لها الأبدان.

لقد قدّم المجرمون الذين أقدموا على تفجير الروضة العسكرية الشريفة أعظم خدمة للمعسكر المعادي للإسلام والذي قاد حملة من نشر الصور المسيئة إلى شخصية النبي الأكرم محمد (صلی الله علیه و آله) ؛ لأنه

ص: 179


1- من حديث سماحة الشيخ مع موكب أبناء كربلاء الذين جاءوا لتعزيته يوم السبت 26 محرم 1427 المصادف 25/2/2006بمصيبة تفجير الروضة العسكرية الشريفة في سامراء يوم الأربعاء 23/محرم/1427 المصادف 22/2/2006، حيث قام نواصب حاقدون على أهل بيت العصمة والطهارة، وخطط لهم صداميون مجرمون بزرع متفجرات ضخمة في القواعد الأساسية لبناء الروضة العسكرية وفجّروها صباح ذلك اليوم، هذا والائتلاف الشيعي الحاكم في غفلة عن حماية مقدساته لانشغاله في الصراع على تشكيل الحكومة فإنا لله وإنا إليه راجعون.

لا يستطيع المسلمون –بعد هذا- أن يستنكروا مثل هذه الأفعال إذا قام من ينتسب إلى الإسلام بهذا الاعتداء الشنيع على أئمة الإسلام- وليس الشيعة فقط- فيعذر غير المسلمين أنفسهم على ما فعلوا.

المشاريع التكفيرية تخدم الأجندات الصهيونية:

وقدّموا خدمة إلى الصهيونية التي تسعى لإزالة كل مقدّس لدى الشعوب حتى تبقى بلا قيم وثوابت مما يسّهل استعبادهم بقيم ومعايير يضعونها لهم، وهو ما أرادوا تحقيقه من نشر الرسوم المسيئة إلى النبي (صلی الله علیه و آله).

وقدموا خدمة عظيمة للاحتلال الذي لا يزال يرفع ورقة الحرب الأهلية والوضع الأمني غير المستقر وعجز القوات العراقية عن حماية المواطن والمؤسسات والمقدساتلتبرير وجوده.

وقطعوا الطريق على المسلمين للمطالبة بأي حق فإذا أراد الصهاينة أن يهدموا بيت المقدس بحجة البحث عن هيكل سليمان فماذا سيقول المسلمون وقد دمروا بأيديهم هذه الحضرة الشريفة التي ضمت جَسدي إمامين معصومين؟ هذا ما جنوه بجهلهم وحقدهم وعصبيتهم الجاهلية والطائفية واقتفوا به أثار أسلافهم الذين فتحوا لهم باب الجرائم وانتهكوا كل المقدسات ولم يُبقوا خطوطاً حمراء لأي مقدس، فاعتدوا على بيت النبي الطاهر (صلی الله علیه و آله)

ص: 180

وبنته وقتلوا أئمة الإسلام، حتى الرضيع لم يسلم من بطشهم وساقوا عقائل النبوة سبايا وهدموا البيوت وقطعوا الأرزاق وداسوا الأجساد الطاهرة بحوافر الخيل وجروها بالحبال في الشوارع، فما الذي يقعد أبنائهم عن القيام بجريمتهم الأخيرة؟.

صحيح أن الذين نفذوا الجريمة لهم هدفهم الخاص لكن كان ورائهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة أكثر من جهة لها أهدافها الخاصة، فمنهم من أراد نقل التركيز الإعلامي من قضية الإساءة إلى النبي (صلی الله علیه و آله) بالرسوم التي بدأت تهددفاعليها إلى ساحة أخرى، ومنهم من أراد تدمير العملية السياسية في العراق، ومنهم من أراد إفشال الحكومة ومنهم من أراد إظهار حقده الطائفي الدفين، ومنهم من أراد إلقاء الفتنة بين السنة والشيعة في العراق ومن ثم ليعممها إلى الدول المجاورة.

وعي العلماء هو الذي أنقذ الموقف:

لكن المرجعية الشريفة كانت واعية لهذه المؤامرة وهي تعلم جيداً إن الفعل لم يقم به أهل السنة في سامراء، بل أنهم كانوا أول الغاضبين على هذا الفعل، وظهر ذلك من حشدهم الثائر في الصحن الشريف عقب الحادث، وإنما قام به تكفيريون جهلة متعصبون وصداميون مجرمون سخروهم بالتضليل والتشويش وخلط الأوراق، وساعدهم على ذلك فتاوى بعض المحسوبين على علماء الدين من مرتزقة وطائفيين ووعاظ سلاطين.

ص: 181

ولكن هؤلاء الأشرار يتخفون بين تلك الشريحةالكبيرة ولا يمكن أن نتورط بدم بريء من أجل الوصول إليهم وإنما علينا أن نصل إلى المجرمين بدقة تعذرنا أمام الله تبارك وتعالى وهذا ما دفعنا إلى دعوتكم إلى أن تكونوا أكثر صبراً وحكمة !.

خذوا الدرس من أمير المؤمنين فإنه لما فلق أبن ملجم هامته الشريفة التفت إلى أقربائه وذويه وقال (لا ألفينكم يا بني عبد المطلب تخوضون في دماء الناس تقولون قتل علي بن أبي طالب) كما فعل الذين أظهروا المطالبة بدم عثمان واستبطنوا الحرص على السلطة والحكم، وإنما يؤاخذ المجرم فقط بجريمته ! فهذا منطقنا لأننا أصحاب دين وإيمان بالآخرة ونؤمن بالجزاء على ما يكتسبه الإنسان من أعمال ولا يمكن أن نصلح دنيانا بفساد أخرتنا وإن كان هذا يكلفنا كما كلف أئمتنا وقادتنا من قبل.

مخاطر الفتنة الطائفية والرد المعاكس:

وإذا اشتعلت فتنة طائفية فأنها ستحرق الجميع ويذهب فيها الأبرياء والحديث الشريف يقول (إن دم المؤمنأشد حرمة عند الله من الكعبة) فلا بد أن نحمي دماء الأبرياء من القتلة البشعين الذي قتلوا في نفس اليوم الحزين (47) من أتباع أهل البيت قرب النهروان وهم متوجهون إلى بغداد للمشاركة في مراسم العزاء والاستنكار.

ص: 182

إن بقاء الثلة الصالحة المؤمنة التي تديم الوجود المبارك لأتباع أهل البيت هو أعظم رد على كل الأعداء لأنهم يريدون إخلاء الساحة منهم كما فعلوا بعد قتل الشهيد الصدر الأول (رحمة الله علیه) عام 1980 ونجحوا في فصل الناس عن دينهم حتى أذن الله تبارك وتعالى بانبعاث الحياة وانتفاض الروح من جديد , ألم يقل صدام أني لا أسلم العراق إلا أرضاً جرداء بلا إنسان، وها هم أيتامه يكملون صفحات جرائمه فكونوا منهم على وعي وحذر.

وإذا كان في يوم ما تكليف المؤمنين هي التضحية في سبيل الله فأنهم سوف لا يقصرون ولا يترددون وسيكونون كما قال الشاعر:

لبسوا الدروع على القلوب *** واقبلوا يتهافتون على ذهاب الأنفسِ

وهذا يتطلب منهم إدامة الروح الثورية والتواجد في الساحة والتواصل مع تعاليم دينهم تعليماً وتطبيقاً، والحذر والوعي لما يحاك لهم من مؤامرات، والالتفاف حول قيادتهم الرشيدة التي هي أمان لهم من الوقوع في المزالق.

لقد كان الحضور المليوني للمؤمنين في الساحة عقب الحادث والالتزام بوصايا المرجعية الرشيدة رسالة مهمة أوصلتها الأمة إلى كل المراقبين وعلى المتصدين استثمارها في الاتجاه الصحيح، وأولها الحزم في محاكمة الجناة والاقتصاص من القتلة والمجرمين وإسكات الأصوات المحرضة على الإرهاب وقتل

ص: 183

الشعب سواء كانوا يحملون لافتات سياسية أو دينية أو اجتماعية وأن يحافظ الجميع على حرمات الشعب ومقدساته وعلى رأسها الإنسان.

ص: 184

الفصل الخامس: الاتصاف بالتشیع مسؤولیة دراسة في ضوء کلمات أهل العصمة علیهم السلام

اشارة

ص: 185

ص: 186

من مسؤولية القائد بيان خصائص جماعة أهل الحق

من مسؤولية القائد بيان خصائص جماعة أهل الحق(1)

في الحديث الشريف: (شيعتنا خلقوا من فاضل طينتنا يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا)، أي أن الله تبارك وتعالى لما خلق أنوار محمد وآله محمد (عليهم الصلاة والسلام) والطينة الطيبة الطاهرة، فلما فضل من تلك الطينة شيء خلق منها شيعتهم.

فاحتفالكم هذا وفرحكم دليل على ولائكم وقد تفرحون في مناسبات أهل البيت أكثر من فرحكم لمناسباتكم حيث لم يُبق الظلم الذي حاق بأنصار أهل البيت مجالا للفرح والسرور (ونحن أعيادنا مآتمنا).

عنوان التشيع مسؤولية:

ولكن يجب أن لا نفهم من عنوان (الشيعة) كل من ولد من أبوين شيعيين وعاش في بيئة شيعية وكانت له عاطفة معأهل البيت (علیهم السلام)، بل أن هذا الوصف وسام رفيع له مقامات عالية في الجنان لا يخرج المؤمن الموالي من الدنيا حتى يراها فيفرح ويُسر قلبه ويطلب تعجيل لقاء ربه.

ص: 187


1- نشر في الصفحة الثانية من العدد (22) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 26 ربيع الأول 1426 الموافق 5 آيار 2005.

الفرق بين المحب والشيعي:

روي أن الإمام الرضا (علیه السلام) حجب قوماً استأذنوا للدخول عليه وقالوا: إننا من شيعتك ونحب لقاءك فلم يأذن لهم وعادوا عليه الكرة ستين يوماً حتى أذن لهم وقال: لا تقولوا: نحن شيعة علي، إنما شيعة علي: الحسن والحسين وسلمان وعمار والمقداد وأبو ذر ولكن قولوا: نحن موالوكم ومحبوكم فقالوا ذلك، فأذن لهم وقربهم وعوضهم عن ذلك الإبعاد والصدود.

ونقل عن كبار أصحاب الأئمة انه دعي للشهادة عند القاضي فقال له القاضي –وهو من السائرين بركاب السلطة-: إنك رجل صالح وثقة وورع إلاّ إننا لا نقبل شهادتك لأنك من الشيعة فأخذ الرجل يبكي، فسُئل إن كان بكاؤه من رد شهادته؟ قال: لا وإنما لأنه وصفني من شيعةعلي ومن أنا حتى أستحق هذا الوصف.

التشيع فعل وإيمان لا يتأتى بالادعاء:

ومحل الشاهد أن هذا المقام الرفيع لا يتحقق بالادعاء والدنيء من الأفعال وإنما له استحقاقات عالية بمقدار درجته الرفيعة.

ولما تصنفت المذاهب في عهد الإمام الصادق (علیه السلام) فبدأ يقال هذا جعفري رأى من مسؤولياته المهمة بيان خصائص المسلم الجعفري الشيعي الموالي لأهل البيت الذي يسرّ الإمام أن يقال عنه جعفري، وقال لشيعته: (كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً).

ص: 188

صفات الشيعي:

وقد صدر من الإمام الصادق (علیه السلام) أكثر من غيره من الأئمة للفسحة التي عاشها بعد أن كان السيف جزاء من يقول بولاية علي (علیه السلام) عدد كبير من الروايات الشريفة التي تبين صفات الشيعي، وقد جمعنا جزءاً كبيراً منها مع تصنيفها وفق أطر واضحة في محاضرة (عناصر شخصية المسلم في مدرسةأهل البيت (علیهم السلام)(1) المنشورة في كتاب (نحن والغرب) و(شكوى الإمام) حينما شكى الإمام المهدي الموعود من شيعته أنهم ليسوا على ما كان عليه السلف الصالح لذا فإنهم حرموا من نعمة التشرف بلقائه (علیه السلام) واحتجنا إلى أن نقوم باستقراء لما كان عليه السلف الصالح وما يجب أن يكون عليه المسلم الحقيقي وهو الموالي لأهل البيت والملتزم بخطهم لقوله تعالى «فَلا وَرَبَِّكَ لا يُؤمِنُونَ» أي لا يبلغون حقيقة الإيمان ومصداقيته «حَتَّى يُحَكِّمُوكَ» ويرجعوا إليك «فِيمَا شَجَرَ بَينَهُمْ» واختلفوا فيه وجهلوه من الأمور الصغيرة والكبيرة «ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً» ولا تمرداً ولا عصياناً «مِمَّا قَضَيتَ» وحكمت به وأعلنته للأمة ومنها تنصيب علي بن أبي طالب (علیه السلام) أميرا للمؤمنين وإماماً للأمة وخليفة له (صلی الله علیه و آله) «وَيُسَلَّمُوا تَسْلِيماً» (النساء:65) وينفذوا ويطيعوا طاعة تامة.

ص: 189


1- وقد أدرجناها في هذا الفصل فانتظر.

واجب القيادة الحقّة في بيان خصائص الاتباع:

ونحن نسمع اليوم مصطلحات مثل (الصدريين)، (الإسلاميين) وغيرها وهي أسماء مباركة لها امتيازات وعليها استحقاقات، فيكون من واجب القيادة الحقة بيان ملامح وخصائص وسمات هذه الفئات لئلا يدعيها أحد بغير حق ويسيء إليها بسوء تصرفه الذي ينعكس على أصل المبدأ سلباً، فنحن نفهم من (الصدريين) الرساليين الواعين الذين يسعون بكل جهدهم للالتزام بشريعة سيد المرسلين وإقناع الأمة بتطبيق النظام الإسلامي في جميع شؤون حياتها السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية والأخلاقية، وهم يمثلون سلسلة طويلة من النجوم المضيئة وابرز من حمل لواء هذه الحركة في الزمان المعاصر الشهيدان الصدران فانتسب الخط إليهما، ولكن بناء هذا الخط جاء نتيجة تراكم جهود جبارة ومضيئة لتلك السلسلة الطويلة. ولذا أعددت محاضرة (عناصر المسلم في مدرسة أهل البيت (علیهم السلام)) التي أشرت إليها آنفا التي استقرأناها من مئات الأحاديث.

ص: 190

في ذكرى استشهاد الإمام جعفر الصادق (علیه السلام)

مسؤولية المرجعية عن بيان خصائص أتباعها ((1)

لماذا نسمى بالجعفرية؟

تسمى الشيعة الأمامية الاثنا عشرية ب-(الجعفرية) نسبةإلى الإمام الصادق جعفر بن محمد (صلوات الله عليهما وعلى آبائهما) وهو شرف عظيم في الدنيا والآخرة «يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَ-ئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً، وَمَن كَانَ فِي هَ-ذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً» (الإسراء: 7 72).

فيُدعى الشيعة بأئمتهم من أهل بيت النبي(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ويدعى الآخرون بأئمتهم الذين أطاعوهم واتبعوهم من شياطين الإنس والجن ونعم الحكم الله تبارك وتعالى.

والسؤال هو أنه لماذا اختص الإمام الصادق(علیه السلام) بالانتساب إليه والشيعة أتباع جدّه رسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) وأمير المؤمنين(علیه السلام) وبقية الأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم.

ص: 191


1- (1) من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع وفد مؤسسة أهل البيتفي مدينة الفضيلية ببغداد يوم 26/شوال/1428 المصادف 7/11/2007 بمناسبة ذكرى استشهاد الإمام الصادق(علیه السلام).

وقد أجيب هذا السؤال بأن فقه الأمامية وأحكامهم وتفاصيل عقائدهم أخذت بشكل رئيسي من الإمام الصادق(علیه السلام) فيُعدّ هو مشيد أركان هذه الطائفة المباركة.

وهو جواب يشهد له الواقع فإن أكثر الأحكام الفقهية المروية عنه سلام الله عليه، باعتبار الفسحة الواسعة التيسنحت له أبان الدولة الأموية وانهيارها وبداية تأسيس الدولة العباسية وازدهار الحياة العلمية في تلك الفترة.

وذكر سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني(رحمة الله علیه) في إحدى خطبه وجهاً آخر وهو أن تشكل المذاهب الإسلامية والطوائف بدأ في زمان الإمام الصادق وما بعده ومن الطبيعي أن تنسب كل طائفة إلى زعيمها المعاصر فنسبت الشيعة إلى الإمام الصادق(علیه السلام).

وهو وجه مقبول أيضا وبدأت هذه النسبة بالانتشار في نفس زمان الإمام(علیه السلام) بحيث يقال هذا جعفري وقد نشأت من هذه الحالة مسؤولية على الإمام(علیه السلام) أن يبين معالم مدرسته وخصوصياتها وصفات من ينتسب إليها؛ لأن أي حسنة تصدر من أصحابه تحسب له وأي سيئة -- والعياذ بالله -- تحسب عليه بشكل من الأشكال ويتحمل مسؤوليتها من وجهة نظر البعض، لذا ورد في تفسير قوله تعالى مخاطباً نبيه الكريم(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ» (الفتح:2)، عدة وجوه احدها أن الله تعالى

ص: 192

يزيل عنه أثار التبعات التي تحسب عليه بسبب تصرفات أتباعه وهو برئعنها ورافض لها.

وقد سبقه جدّه إبراهيم خليل الرحمن (صلوات الله عليه) بقوله: «رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» (إبراهيم:36).

وفي هذا الصدد وردت روايات عديدة عن الإمام الصادق(علیه السلام):

منها: عن زيد الشحام قال: قال لي أبو عبد الله(علیه السلام) (اقرأ على من ترى أنه يطيعني منهم ويأخذوا بقولي السلام، وأوصيكم بتقوى الله عز وجل، والورع في دينكم والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) ، وأدوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها براً أو فاجراً، فإن رسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط، صلوا عشائركم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدى الأمانة وحسن خلقه مع الناس، قيل هذا جعفري، فيسرّني ذلك ويدخل عليّ منه السرور، وقيل هذا أدب جعفر، وإذا كان على غير ذلك دخل علي بلاؤهوعاره، وقيل هذا أدب جعفر)(1)الحديث.

ص: 193


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أحكام العشرة في السفر، الباب1، ح2.

وقال(علیه السلام): (إنما شيعة جعفر من عف بطنه وفرجه، واشتد جهاده وعمل لخالقه ورجا ثوابه، وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر)((1).

ومن خلال هذا الحديث بيّن الأئمة سلام الله عليهم ما يجب أن تتوفر في المسلم من صفات ليكون شيعياً وألّف الشيح الصدوق (رضوان الله عليه) كتاباً في ذلك سماه (صفات الشيعة) وليقيموا الحجّة على المدّعين لهذا الشرف العظيم.

وكانت الحالة تقتضي أحياناً أن يصدر الإمام(علیه السلام) براءة ولعناً صريحين في بعض الأشخاص لعزلهم عن الأمة كالمغيرة بن سعيد الذي قال فيه الإمام الصادق(علیه السلام) (لعن الله المغيرة بن سعيد انه كان يكذب على أبي فأذاقه الله حر الحديد).

لماذا يبين الإمام (علیه السلام) صفات شيعته؟

وفي الحقيقة فإن الإمام (علیه السلام) حينما يبين صفات شيعته بهذا الوضوح إنما يوجه رسائل لعدة فئات:-

1. شيعته ليبيّن لهم واجباتهم.

2. الذين يدّعون الانتساب إليه نفاقا لتحقيق مآربهم وخداع الأمة لفضحهم وكشف زيفهم حينما يقارن الناس بين أفعالهم وبين ما يريده الإمام(علیه السلام) منهم.

ص: 194


1- (2) وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب 22، ح13.

3. الفئات الأخرى من غير أتباعه ليدعوهم إلى هذا الحق الصريح ويقيم الحجة عليهم وليقول لهم أن منهجاً بهذه التفاصيل أحق أن يتّبع.

4. أعدائه الذين يسعون إلى قتله معنويا ومحاربته وتصفيته جسدياً بأن من كان على هذا الهدى هل يستحق منكم ما تفعلون به؟

مسؤولية المرجعية:

وهذه مسؤولية لا تختص بالإمام الصادق لان هذهالنسبة يمكن أن تحصل باستمرار لكثير من القادة والمرجعيات، فعلى المراجع الذين يُنظر إليهم كامتداد للائمة المعصومينأن يعوا هذه المسؤولية ويتحمّلوها أمام الأمة فيوضحوا لهم ما يجب أن يتصفوا به ويتبرأوا ممن لا يلتزم بتلك الأوصاف، وإلا فإن الأخطاء والمظالم والذنوب ستحسب عليهم، كما ترون اليوم أن الذين تلفّعوا بعباءة المرجعية وتصدّوا للحكم فإن الناس لا تقتصر باللوم عليهم لسوء تصرفاتهم وإنما تنتقد المرجعية التي دعت الناس لانتخابهم ثم تخلت عن مسؤولياتها في تقويم المسيرة وردع المسيء وإنصاف المظلوم.

إن الذين يدّعون الانتساب إلى فئة شريفة ولا يلتزمون بتعاليمها هم اشد خطراً عليها من أعدائها الخارجيين لأنهم ينخرون بناءها من داخلها فلابد من فضحهم والبراءة منهم لدفع خطرهم.

ص: 195

ص: 196

درس حركي من قادة التشيع الأوائل في الحفاظ على مبادئ وقيم الإسلام العظيمة:

كلمة امير المؤمنين (علیه السلام) (فزت ورب الكعبة)

وصلح الامام الحسن (علیه السلام) نموذجاً(1)

الحمد لله كما هو اهله وصلى الله علة نبيه وسيد رسله ابي القاسم محمد وعلى اله المعصومين

الفوز بوعد الله تعالى:

نقف اليوم عند موقفين لأعظم قائدين في الاسلام بعدرسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) وهما امير المؤمنين والحسن المجتبى (صلوات الله عليهما) لنتأمل فيهما ونأخذ منهما درساً حركيا في بناء الامة الصالحة المطيعة لربها.

فعندما وقع امير المؤمنين(علیه السلام) في محراب الشهادة في مسجد الكوفة مضمخا بدمه الشريف قال (فزب ورب الكعبة)(2)كان(علیه السلام) يريد انه فاز ببلوغه المقام المحمود الذي وعده الله تعالى ورسوله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) اوانه فاز بلقاء الله تعالى

ص: 197


1- الخطبة الثانية لصلاة عيد الفطر المبارك لسنة 1432 التي امّها سماحة المرجع الشيخ محمد اليعقوبي يوم الاربعاء 3 8-2011.
2- البحار: ج41 ص2.

و رسوله الكريم(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) والزهراء (صلوات الله عليها)، وفاز لأنه نجح في الامتحان وأنهى كل حياته على الاستقامة التي أرادها الله تبارك وتعالى ورسوله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) وغيرها من المعاني.

نصرة الأمة شرط النهوض:

ولكننا ألان نريد أن نبين وجهاً آخر لهذه الكلمة الشريفة، نستفيد منه في العمل الحركي الإسلامي، ومن هذا الوجه ننطلق لفهم موقف الإمام الحسن(علیه السلام) مع معاوية مما سمي صلحاً أو هدنة أو غيرها.وبيان هذا الوجه يحتاج الى مقدمة ملخصها: إننا نعتقد أن الإمام المعصوم(علیه السلام) أولى من الناس بأنفسهم وأموالهم ، وان ولاية أمر الأمة ثابتة له(علیه السلام) واقعاً سواء قام بالأمر أو قعد عنه لمانع ما، ولذا ورد في الحديث النبوي الشريف (الحسن و الحسين إمامان قاما أو قعدا)(1).

ولان ولاية أمر الأمة ممارسه عملية واسعة تدير شؤون الحياة بكل تفاصيلها فإنها تحتاج الى مؤازرة ونصرة، وقدرة لدى الانصار على تحمل المسؤوليات على مختلف مستوياتها كالعسكرية، و السياسية، والاقتصادية، و الإدارية، و الفكرية،

ص: 198


1- البحار: ج44 ص2.

والإعلامية، و الاجتماعية، وغيرها، ومالم يجد الإمام العدد الكافي من القادرين على النهوض بمفاصل المشروع المخلصين له و المطيعين لأوامره ، فانه لا يتحرك بمشروعه في ولاية أمر الأمة وإدارة شؤونها مع انه حق حصري به ، خوفاً على الرسالة من الفشل و الضياع وتعريضها لضربةً قاضيةً من الأعداء.لذا نعتقد إن عرض الأمة نصرتها الصادقة للمعصوم(علیه السلام) وقناعته بقدرتها على تحمل المسؤولية شرط ومقدمة لإعمال المعصوم هذا الحق وتنفيذه على الأرض، والشاهد على ذلك أن رسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) لم يقم دولته المباركة ويمارس صلاحياته في سياسة أمر الأمة في مكة بل في المدينة المنورة بعد أن بايعه أهلها في العقبة الأولى و الثانية واشترط عليهم أن ينصروه ويحموه كما يحمون نسائهم وأموالهم.

ولما لم يجد امير المؤمنين(علیه السلام) عدداً كافياً من الأنصار بعد وفاة رسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) اعتزل أمر الناس وتركهم وما أرادوا، فانقلبوا على أعقابهم لكنه(علیه السلام) استمرار في أداء وظائف الامامة الاخرى.

ولما وجد الأنصار بعد مقتل الثالث وانثال الناس عليه بالبيعة نهض بالأمر وولي أمر الأمة ، وقال(علیه السلام) في خطبته الشقشقية (أما والذي فلق الحبّه وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجة بوجود الناصر ، وما اخذ الله على العلماء ألاّ يقارّوا على كظّةِ

ص: 199

ظالم ، ولا سَغَبِ مظلوم ، لألقيتحَبلها على غاربها ، ولسقيتُ آخرها بكأس أَوّلِها ، وألفيتم دنياكُم هذه ازهد عندي من عفطَة عنز)(1).

وقد ورد في عدة روايات ان الاصحاب كانوا يطلبون من الائمة(علیه السلام) القيام بالأمر خصوصاً في فترة الامام الصادق(علیه السلام)، وكان الامام(علیه السلام) يُرجع السبب الى قلة الانصار ، وهو لا يعني بالضرورة قلة عدد الاصحاب والمضحين ، وانما قد يكون لقلة الاصحاب القادرين على النهوض بمسؤولية بناء الدولة وتطبيق شريعة الله تعالى في كل مفاصل الحياة ، وولاية شؤن الامة ، ولذا لم يصح مقايسة الامر مع نهضة الامام الحسين(علیه السلام) لان النتائج المطلوبة من الحركتين مختلفة و البحث عميق.

غياب الناصر:

وهذا الشرط كما هو ملاحظ في بداية النهوض بالأمر، كذلك هو مطلوب لاستدامة التصدي، فمتى ما شعرتالقيادة الدينية إن الأمة قد تغيرت، وانها لا تريد هذه القيادة وهذا النظام، ولم تعد مستعدة للدفاع عنهما ونصرتهما ، بسبب شقوتها وسوء اختيارها ولانسياقها وراء الشهوات وتزيين الشيطان وتضليل الأعداء، فان الإمام والقائد يعيد إليها أمرها وليتولاه من تشاء إن كانت لها أراده، أو يتولاها من يقهر إرادتها ويتسلط عليها بالقوة.

ص: 200


1- نهج البلاغة: الخطبة: 3.

النكوص الرسالي:

هذا النكوص و الانقلاب على الأعقاب عاشته الأمة في النصف الثاني من خلافة امير المؤمنين(علیه السلام) بعد أن تثاقلت الى الأرض وأصغت الى المرجفين ، وبعد ان استشهد خيارها وصلحائها كعمار بن ياسر وذي الشهادتين وابن التيهان ومالك الاشتر ونظرائهم ، وخَفَتَ بريق الحماس و الوهج الذي استُقبِلت به حكومة امير المؤمنين(علیه السلام)، وتقوضت أطراف دولته المباركة وانحسرت سلطته حتى حوصر في الكوفة وسط مجتمع متباين مشكك متردد متخاذل ، فمن خطبةً له(علیه السلام) لما تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحابمعاوية على البلاد وقدم عليه عاملاه على اليمن، فقال(علیه السلام) موبخاً أصحابه لتثاقلهم عن الجهاد (ما هي الا الكوفة: اقبضها وابسطها، وان لم تكوني إلا أنت تهًبُّ أعاصيرك فقبحكِ الله)(1).

وكان هذا الخط التنازلي لطاعة الأمة وصلاحها مستمراً بالهبوط و الانحدار، وانه سيصل في لحظة ما الى الانهيار قال(علیه السلام) في نفس الخطبة (واني والله لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم ، وتفرقكم عن حقكم ، وبمعصيتكم إمامكم في الحق، وطاعِتهم إمامهم في الباطل، وبأدائهم الأمانة

ص: 201


1- نهج البلاغة، ج1، خطبة /25.

الى صاحبهم وخيانتكم ، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم)(1).

معنى جديد لقوله (علیه السلام): فزت ورب الكعبة:

ولو وصلوا الى تلك النقطة، فلا يكون أمام امير المؤمنين(علیه السلام) إلا إرجاع أمرهم إليهم وفك الميثاق الغليظ بينهوبينهم بعد أن نكلوا بواجباتهم ، وهذا يعني تسلط معاوية على الأمة لأنه متربص بالأمر وأعدَّ له عُدتهَّ من الأموال و الجيوش و المعدات و الإعلام المضلِّل و الدعاوى المقدسة لنفسه -- ككونه خال المؤمنين و المطالب بدم الخليفة المقتول عثمان -- ، وهذا ما كان يخشاه امير المؤمنين(علیه السلام) على الأمة ، ويدعو الله تبارك وتعالى أن لا يريه هذا الموقف ففي نفس الخطبة قال(علیه السلام) (اللهم إني قد مللتهم وملوني، وسئمتهم وسئموني، فأبدلني بهم خيراً منهم ، وأَبدلِهم بي شراً مني)(2).

وهذا الدعاء منه(علیه السلام) ليس فراراً من تحمل أي ذلة ومهانة ظاهرية في سبيل الله تعالى لأنه(علیه السلام) كان مستعداً لتحمل أي شيء في طاعة الله تعالى كما صبر على عدوان القوم على بضعة المصطفى(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) فاطمة الزهراء(علیه السلام) بنصب عينيه وإنما لان قيامه(علیه السلام) هو شخصياً بهذا الموقف يعرض الاسلام و التشيع الى خطر جسيم، وقد حقق الله

ص: 202


1- نهج البلاغة: الخطبة: 25.
2- السابق.

تعالى له(علیه السلام)أمنيته واستجاب دعائه فرزقه الشهادة قبل أن يبتلى بهذا الموقف ، فقوله(علیه السلام) (فزت ورب الكعبة)(1)، أي نجوت بفضل الله تبارك وتعالى من هذا البلاء العظيم ، ولم أبقى الى اليوم الذي أرى فيه معاوية يتحكم بأمور المسلمين ، وهو(علیه السلام) يرى الموت أهون عليه من رؤية فعل من أفعال معاوية فكيف يطيق تسلطه على رقاب المسلمين، فمن خطبة له(علیه السلام) لما أغارت خيل معاوية على الانبار وقتلوا وسلبوا وعادوا الى أهلهم سالمين قال(علیه السلام) (فلو إن امرءأُ مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوماً ، بل كان به عندي جديرا)(2).

بلاء الإمام الحسن (علیه السلام):

لكن الله تبارك وتعالى ادّخر هذا البلاء العظيم للإمام الحسن السبط المجتبى(علیه السلام) ، إذ إن حال الأمة رجع الى التقاعس والخذلان وحب الدعة والسلامة والإخلاد الىالأرض ، ولم تنفع في إصلاحه الصدمة القوية باستشهاد امير المؤمنين(علیه السلام)، ولا الجرعة القوية بتصدي الإمام الحسن(علیه السلام) سبط رسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) وسيد شباب أهل الجنة الذي لم يستطع حتى معاوية وإعلامه المضلل من التشكيك في أهليته واستحقاقه.

ص: 203


1- البحار: ج41 ص2.
2- نهج البلاغة، ج1، خطبة /27.

ولم تمض الا عدة أشهر حتى وصل الحال بالإمام الحسن(علیه السلام) الى ما سأل أبوه(علیه السلام) من الله تعالى أن يعفيه منه ، حيث استسلم اقرب الناس إليه وقائد جيوشه الى إغراءات معاوية، وكتب بعض قادة جيشه الى معاوية(1)(أن إذا شئت تسليم الحسن سلمّناه إليك) ودبَّ اليأس و الشك و التردد في قواعده الشعبية، وكان تكليفه(علیه السلام) أن يعيد أمر الأمة إليها ويلقي حبلها على غاريها كما عبَّر امير المؤمنين(علیه السلام) ليقودها من يقودها الى الضلال.

علة صلح الإمام الحسن (علیه السلام):

وكان معاوية المتربص بالأمر قد قويت شوكته وازداد نفوذه وكثرت أنصاره وأمواله لذا كان من الواضح إن الأمر سيؤول إليه بحسب المعطيات الموجودة على ارض الواقع ، وهنا تصرف الإمام الحسن(علیه السلام) بحكمة وشجاعة ورحمة للبقية الباقية من شيعة أبيه(علیه السلام) وأنصاره، فحول هزيمة الامة هذه الى نصر وتحقيق مكاسب ، ولم يترك الامر مجاناً ومن دون مقابل يحفظ كيان الاسلام ويحمي ابنائه البررة فعقد اتفاقاً مع معاوية وأملى عليه شروطه التي تقتضي تسليم الأمر بعده الى الامام الحسن(علیه السلام)، وان لا يتعرض لشيعة أبيه بالسوء، وان لا يمنع عنهم أرزاقهم وان يخصّص مبالغ لعوائل الشهداء مع أبيه(علیه السلام)، وان يحكم على طبق

ص: 204


1- انظر: البحار: ج44 ص47، وصلح الحسن: للشيخ راضي آل ياسين: ص69.

كتاب الله وسنة رسوله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) وبذلك فقد صنع الإمام الحسن(علیه السلام) من تقاعس الأمة وخيانتها وتخاذلها نصراً حققه(علیه السلام) له ولشيعته.

واقل ما يتحقق من هذا النصر إذا لم يفِ معاوية بالشروط -- والإمام يعلم انه لا يفي بشيء منها -- هو فضح معاوية وكشف زيف دعواه ورفع الغشاوة عن أبصار المضلَلينَ به الى قيام يوم الدين ، واحسَّ معاوية في الأيامالأولى بالفضيحة التي أوقعه فيها الإمام الحسن(علیه السلام) لذا كشف عن حقيقته بمجرد دخوله الكوفة بعد توقيعه على شروط الإمام الحسن(علیه السلام) وقال لهم: (إني ما قاتلتكم لتصلوا ، ولا لتصوموا ، ولا لتحجوا ولا لتزكوا، إنكم لتفعلون ذلك، وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم)(1).

حقيقة الصلح الحسني:

فموقف الإمام الحسن(علیه السلام) لم يكن صلحاً مع معاوية ولا هدنة ولا أي شيء آخر مما يرتبط بمعادلة الصراع معه ، وإنما هو مرتبط بطاعة الأمة و التفافهم حول قيادتهم وبمقومات قيامه بولاية أمر الأمة، واذا ورد لفظ الصلح في الوثيقة فليس هو معنى الصلح بالمصطلح العسكري و السياسي ، بل بالمعنى المعروف فقهياً الذي هو الاتفاق بين طرفين على أمر ما.

ص: 205


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج16 ص46.

وهذا المعنى لا يفهمه إلا من مارس القيادة وفهم بمقدار استحقاقه سيرة الأئمة المعصومون(علیهم السلام)، وتعرضلمستوى من المستويات لما تعرضوا له.

نتائج الدرس:

ومن نتائج هذا الدرس:

تصحيح فهم موقف الامام الحسن(علیه السلام) ودفع ما قيل من الشبهات.

2- بيان وحدة الهدف و المسؤولية التي تحملها الائمة المعصومين(علیه السلام)، وان كانت مواقفهم مختلفة ظاهراً بحسب اختلاف ظروفهم ولو كان ايُّ منهم مكان الاخر لاتخذ نفس الموقف.

3- ايضاح هذا الشرط لإعمال ولاية المعصوم(علیه السلام) ومن بعده نائبه الفقيه الجامع للشرائط وبذلك نجيب عن جملة من الاشكالات كتعدد الولي الفقيه او وجوب طاعته اذا اعلن عن نفسه كولي لأمر المسلمين ونحوها.

4- اعطاء درس للامة لكي تلتفت الى إن تخاذلها وتقاعسها واستسلامها للشكوك و الظنون يجعل امير المؤمنين يتمنى الموت ويرى ضرب رأسه بالسيف فوزاً، ويدفع تخاذلالأمة الإمام الحسن(علیه السلام) الى اتخاذ ذلك الموقف الذي لم يستطع تحمله الكثير من أصحابه المقربين ، والله ولي التوفيق.

ص: 206

درس من حياة الإمام الباقر (علیه السلام)في ترتيب وضع الشيعة

درس من حياة الإمام الباقر (علیه السلام)في ترتيب وضع الشيعة(1):

الفترة العصيبة على الشيعة:

الإمام الباقر(علیه السلام) قلّما تُخصّص له المجالس والمحافل، وبمناسبة ذكرى ميلاده الميمون نستعرض صفحة من سفر حياته المباركة لنستفيد منها في حياتنا وواقعنا اليوم وهي رعايته لشيعته وترتيب أوضاعهم حينما سُلّطت الأضواء عليهم.

اشتد البلاء على الشيعة بعد استشهاد الإمام الحسن(علیه السلام) وأمعن معاوية في قتلهم وسجنهم ومصادرة أموالهم وتهديم دورهم وصارت قوافل الشهداء تساق إلى ساحات الإعدامات أفواجاً أفواجاً، وقبل ذلك كان الإمام الحسن(علیه السلام) يوفّر غطاءاً قوياً لحمايتهم بهيبته وشروطه التي أملاها على معاوية وعدم سكوته على انتهاكاته.

يصف الإمام الباقر(علیه السلام) ما مرّت به الشيعة في تلكالفترة بقوله (وقتلت شيعتنا بكل بلدة وقطّعت الأيدي والأرجل على الظِنّة، وكان من يُذكّر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجِن أو نهب ماله، أو هدمت داره)((2).

ص: 207


1- محاضرة القيت بمناسبة ذكرى ميلاد الإمام الباقر(علیه السلام) في 1 رجب 1434 المصادف 12/5/2013.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 11/ 43.

وسُئل(علیه السلام) كيف أصبحت؟ قال(علیه السلام) (أصبحتُ برسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) خائفاً، وأصبح الناس كلّهم برسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) آمنين).((1)

وكان الشيعة يشكون إلى الأئمة ما يحلُّ بهم، وروى أبو بصير قال (قلت لأبي جعفر(علیه السلام) جُعلتُ فداك اسم سُمّينا به استحلّت به الولاة دماءنا وأموالنا وعذابنا قال: ما هو؟ قال الرافضة), فأجابه الإمام(علیه السلام) بما يطيّب خاطره ويخفّف عنهم آلامهم وقال(علیه السلام) (ذلك اسم قد نحلكمه الله) وشرح له منشأ التسمية فقال(علیه السلام) (إن سبعين رجلاً من عسكر فرعون رفضوا فرعون فأتوا موسى(علیه السلام) فلم يكن في قوم موسى(علیه السلام) أحد أشدّ اجتهاداً ولا أشدّ حباً لهارون منهم فسماهم قوم موسىالرافضة، فأوحى الله إلى موسى أن ثبت لهم هذا الاسم في التوراة فإني قد نحلتهم).(2)

فرض الواقع من خلال توسعة قاعدة المؤمنين بإمامتهم علیهم السلام

ولكن بلطف الله تعالى وبفضل السياسة الحكيمة للإمام السجاد(علیه السلام) وامتداد إمامته الشريفة (34) عاماً تحوّل وضع الشيعة من قلة مستضعفين يتخطّفهم الأعداء إلى رقم صعب على الساحة، وواقع ممتد على طول البلاد الإسلامية وفيهم الفقهاء والعلماء وذوو النفوذ ممن رباهم الإمام السجاد(علیه السلام) ونشرهم

ص: 208


1- ميزان الاعتدال: 4/160 بواسطة موسوعة سيرة أهل البيت(علیه السلام) للمرحوم الشيخ القرشي: 18/132 وكذا بعض المصادر الآتية.
2- المحاسن للبرقي 119 كتاب الصفوة والنور- باب24: الرافضة، ح92.

في البلدان، وكان وجودهم يستمد القوة والمنعة من هيبة الإمام السجاد وامتلاكه قلوب جميع طوائف المسلمين، كما تشهد به واقعة انفراج المسلمين عند تقدمه لاستلام الحجر الأسود بينما عجز الخليفة الأموي بجيشه وبطشه عن تحقيق ذلك.

مسؤولية في حفظ الواقع الجديد:

هذا الواقع الجديد الذي تسلّمه الإمام الباقر(علیه السلام) للشيعة وهي الجماعة المؤمنة بإمامته وقيادته والمطيعة لأوامره وتسليط الأضواء عليهم ووضعهم تحت الدراسة والنظر من جميع المراقبين للتعرف على هذه الجماعة الرصينة التي تجاوزت كل الكوارث وحافظت على وجودها ونمت وازدهرت أوجد مسؤوليات جديدة، منها:

1. حفظ وحدة الجماعة وتماسكها ومنع حالات التشرذم والانقسام وهو ما نجح به الإمام الباقر(علیه السلام) تماماً حيث لم تنشق أي فرقة كما حصل بعده في الزيدية والإسماعيلية والواقفة والفطحية ونحوهم.

2. التعريف بهوية الجماعة وخصائص من ينتمي إليها لكي يعمل بها الأتباع ويُميّز بها المندسّون والمنتحلون ولإقامة الحجة على من عاداهم وفارقهم لأنه سيبتعد عن هذا المنهج الرصين.

ومن كلماته(علیه السلام) في ذلك (ما شيعتنا ألا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يُعرفون إلا بالتواضع والتخشّع وأداء الأمانة وكثرة

ص: 209

ذكر الله والصوم والصلاة، والبر بالوالدين وتعهّدالجيران من الفقراء، وذوي المسكنة، والغارمين، والأيتام وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكفِّ الألسن عن الناس ألا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم والأشياء).(1)

وقال(علیه السلام) (إنما شيعة علي(علیه السلام) المتباذلون في ولايتنا، المتحابّون في مودّتنا، والمتزاورون لإحياء أمرنا، الذين إذا غضبوا لم يظلموا، وإذا رضوا لم يُسرفوا، بركةٌ على من جاورهم، وسلم لمن خالطوا).

وقال(علیه السلام) (ليُعِن قويّكم ضعيفكم، وليعطف غنيّكم على فقيركم، ولينصح الرجل أخاه كنصيحته لنفسه)(2) وقال(علیه السلام) (بلّغ شيعتنا السلام وأوصهم بتقوى الله العظيم وبأن يعود غنيّهم على فقيرهم، ويعود صحيحهم عليلهم، ويحضر حيّهم جنازة ميتهم، ويتلاقوا في بيوتهم، فإن لقاء بعضهم بعضاً حياةُ لأمرنا، رحم الله امرءا أحيا أمرنا وعمل بأحسنه، وقل لهم: إنّا لن نغني عنهم من الله شيئاً إلا بعمل صالح، ولن ينالوا ولايتنا إلا بالورع والاجتهاد، وإن أشدّ الناس حسرة يومالقيامة لمن وصف عملاً ثم خالفه إلى غيره).(3)

ص: 210


1- تحف العقول: 295.
2- («2») أمالي الطوسي: 232.
3- («1») عيون الأخبار وفنون الآثار: 223.

3. تحذيرهم من مخالفة توجيهات الإمام وتأويل كلامه بما يناسب أهوائهم ومصالحهم فيشوهون صورة الإمام وينفرون الناس من منهجه الشريف من أجل دنيا تافهة لأنّ الناس تنسب أفعال المنتمين لجماعة إلى رئيس تلك الجماعة حسنة كانت أو سيئة، وفي ذلك يقول(علیه السلام) (رحم الله عبداً حبّبنا إلى الناس، ولم يبغّضنا إليهم، أما والله لو يروون عنا ما نقول ولا يحرّفونه، ولا يبدّلونه علينا برأيهم ما استطاع أحدٌ أن يتعلق عليهم بشيء، ولكن أحدهم يسمع الكلمة فينيط إليها عشراً، ويتأولها على ما يراه).(1)

4. تعليمهم التقية والتصرف بحكمة مع الآخرين وأن يبتعدوا عن المواقف العاطفية والعصبية والانفعالية ليحموا أنفسهم من الأعداء ويحافظوا على وجودهم واتساع أمرهم، قال(علیه السلام) (التقية ديني ودين آبائي ولا إيمان لمن لا تقية له).(2)وقال(علیه السلام) (اكتموا أسرارنا، ولا تحملوا الناس على أعناقنا، وانظروا أمرنا وما جاءكم عنّا، فإن وجدتموه للقرآن موافقاً فخذوا به، وإن لم تجدوه موافقاً فردّوه، وإن اشتبه عليكم الأمر فقفوا عنده، وردّوه إلينا حتى نشرح لكم من ذلك ما شُرح لنا)(3).

ص: 211


1- عيون الأخبار وفنون الآثار 223.
2- الكافي للكليني (329 ه-) الجزء2 صفحة219 باب التقية.
3- أمالي الطوسي: 232.

تفقد الشيعة وزرع الأمل في قلوبهم:

وكان(علیه السلام) يتفقد الشيعة ويسأل عنهم ويحنو ويشفق عليهم ويقضي حوائجهم ويطيّب خواطرهم ويخفف آلامهم ويزرع الأمل في قلوبهم، وفد عليه جماعة من شيعته من خراسان وفيهم رجل اسمه زياد الأسود وقد تشققت رجلاه من المشي، فقال(علیه السلام) له: (ما هذا يا زياد؟) فذكر له زياد انه مشى على قدميه عامة الطريق لأن بعيره لا يقوى على حمله، فرقّ الإمام(علیه السلام) لحاله وبكى وقال له: أبشر فأنت والله معنا تحشر) فقال زياد: معكم يابن رسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) ، قال(علیه السلام) (نعم، ما أحبّنا عبدٌ إلا حشره الله معنا، وهل الدين إلا الحب، إن اللهتبارك وتعالى يقول في كتاب «قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ» (آل عمران/31).(1)

وقال(علیه السلام) لجماعة من شيعته (إنما يغتبط أحدكم إذا بلغت نفسه هاهنا –وأومأ بيده إلى حلقه- ينزل عليه ملك الموت فيقول له: أما ما كنت ترجوه فقد أعطيته، وأما ما كنت تخافه فقد أمنت منه، ويُفتّح له بابٌ إلى منزله من الجنة فيقول له: انظر إلى مسكنك من الجنة فهذا رسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) وعلي والحسن والحسين(علیه السلام) هم رفقاؤك، وهو قول الله عز وجل «الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ

ص: 212


1- عيون الأخبار وفنون الآثار: 226.

الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ» (يونس/63-64)(1)، فهذه البشرى يتلقّاها في الحياة الدنيا قبل البشرى بنعيم الآخرة).

ومن حبّه(علیه السلام) لشيعته خصوصاً العلماء وحملة الحديث والرواية فقد أوصى ولده الإمام جعفر الصادق بهذه الرعاية الشاملة لكل شؤونهم وأن يغدق عليهم، فقال له (ياجعفر أوصيك بأصحابي خيراً) فقال له الإمام الصادق(علیه السلام) (جُعلت فداك، والله لأدعنهم والرجل منهم يكون في المصر فلا يسأل أحداً)(2).

لنأخذ الدرس:

أيّها الأحبّة:

علينا اليوم أن نستفيد من هذه الصفحة المباركة من حياة الإمام الباقر(علیه السلام) لأن الشيعة اليوم تحت الأضواء بعد أن انطلقوا من القمقم الذي حبسه فيه أعداؤهم طيلة أربعة عشر قرناً وبهروا العالم بعدة أمور كشعائرهم المليونية وتاريخهم المشرق وهيكلية تنظيمهم الرصينة وسعة انتشارهم وطاعتهم لقيادتهم وتمسكهم بدينهم، وحركتهم الدؤوبة في توسيع مدرستهم وإقناع العالم بها وعمق جذورهم الفكرية وقدرتها على حل كل المشاكل التي تواجه البشرية وغيرها.

ص: 213


1- («2») عيون الأخبار وفنون الآثار: 227.
2- («1») الإرشاد: 2/174.

وهذا الوضع يلزمنا بمسؤوليات إضافية تجاه أنفسنا ومذهبنا وأئمتنا سلام الله عليهم، كتلك التي قام بها الإمامالباقر(علیه السلام) ، وهي بنفس الوقت فرصة عظيمة لنا أن تشملنا الألطاف الإلهية فنكون ممن اختارهم الله تعالى لتحمّل هذه المسؤولية المباركة.

ص: 214

عناصر شخصية المسلم في آثار أهل البيت (علیهم السلام)

عناصر شخصية المسلم في آثار أهل البيت (علیهم السلام)(1)

الإمام (علیه السلام) يستعرض أعمالنا كل يوم:

للإمام المهدي (علیه السلام) شكاوى(2)عديدة من شيعته، جعلها (علیه السلام) هي المانعة عن التشرف بلقائه ونيل بركات ظهوره، ولا يعني شكواه من شيعته عدم وجود شكوى من غيرهم، بل الخطبُ عند أولئك أفضع، ولكنّه باعتبار المسؤولية الخاصة عن شيعته وأحاطتهم برعاية إضافية باعتبارهم الشريحة المؤمنة بإمامته (علیه السلام) والموالية له والمبادرة إلى نصرته، كالأب الذي إذا أساء ولده يزجره ويوبخه، وربما يعاقبه، بينما لا يهتم بنفس الدرجة فيما لو أخطأ الغريب عنه، وما ذلك إلاّ لشعوره الخاص بالمسؤولية عن تربية ولده، وهكذا الإمام (علیه السلام) يحيط شيعته بتربية خاصة وعناية إضافية، وانطلاقاً من هذه المسؤولية ينبّههم إلى ما فيسيرة بعضهم من أخطاء

ص: 215


1- محاضرة ألقيت في مسجد الرأس الشريف على حشد كبير من فضلاء وطلبة الحوزة العلمية والزوار الذين وفدوا إلى النجف الأشرف بتأريخ 13/رجب/1423 ه- الموافق 20/9/2002م بمناسبة ذكرى ميلاد أمير المؤمنين (علیه السلام)، وهي المحاضرة الأطول حيث استغرقت ساعة و(26) دقيقة.
2- عرض سماحة الشيخ (دام ظله) عدة منها في محاضرات عديدة ثم جمعت في كتاب بعنوان (شكوى الإمام (علیه السلام).

وانحرافات، فإنه (علیه السلام) يستعرض أعمالنا كل يوم أو كل أسبوع، فعن يعقوب بن شعيب قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله عز وجل: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ»(التوبة:105)؟ قال: هم الأئمة(1)، وفي بعض الروايات: إن أعمال العباد تعرض على نبيّكم كل عشية خميس وعلى الأئمة (علیه السلام)، فليستحي أحدكم أن يعرض على نبيه العمل القبيح، فلا تسوؤا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسرّوه(2)، وقال أحدهم للإمام الرضا (علیه السلام): إن قوماً من مواليك سألوني أن تدعو الله لهم، فقال (علیه السلام): (والله إني لأعرض أعمالهم على الله في كل يوم)(3)، والإمام المهدي (علیه السلام) هو الإمام الفعلي لهذا العصر فتعرض عليه جميع أعمالنا.

ص: 216


1- مستدرك سفينة البحار: 7/165.
2- ميزان الحكمة: 3/2134.
3- بحار الأنوار:23/348.

الإمام (علیه السلام) يشكو ابتعادنا عن الصفات الحقيقية التي كان عليها السلف الصالح:

وأول هذه الشكاوى ما يناسب عرضها اليوم في ذكرى ميلاد أمير المؤمنين (علیه السلام) الذي هو يوم فرح وسرور ليس للشيعة فقط، بل لكل المسلمين، بل لكلّ الإنسانية التي تنشد العدالة والسمو والطهارة المتمثلة بعلي (علیه السلام)، ولكن الشيعة أولى الناس به (علیه السلام)، فنرفع نيابة عن الإمام المهدي (علیه السلام) هذه الشكوى التي ذكرها في رسالته الشريفة إلى الشيخ المفيد (رحمة الله علیه) الأولى والثانية.

فقال في الرسالة الثانية: (ولو أن أشياعنا وفّقهم الله لطاعته على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخّر عنهم اليُمن بلقائنا، ولتعجّلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلاّ ما يتصل بنا مما نكرهه ولا نؤثره منهم، والله المستعان، وهوحسبنا ونعم الوكيل)(1)وقال (علیه السلام) في رسالته الأولى: (فأنّا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يُعزبُ عنا شيءٌ من أخباركم ومعرفتنا بالذل الذي أصابكُم مُذ جنح كثيرٌ منكم

ص: 217


1- الاحتجاج: 2 / 325.

إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً، ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون)(1). وقد تحقق مثل ذلك لبائع الأقفال(2).فما هي صفات الشيعي الحقيقي التي يشكو الإمام (علیه السلام) من ابتعادنا عنها ويجعل هذا الابتعاد سبب حرماننا من ألطاف اللقاء به وبركات ظهوره (علیه السلام)؟ هذه الصفات التي استحق بها الشيعي ما سنسمع من الأحاديث في فضله وعلو منزلته عند الله تعالى، وما مدى مصداقيتنا لهذا العنوان العظيم؟

ص: 218


1- الاحتجاج: 2 / 323.
2- خلاصة هذه القصة: (أن عابداً كان يتمنى لقاء إمام الزمان (علیه السلام) وبعد فترة من الرياضات الروحية والتعب والمشقة لم يصل إلى شيء واخذ اليأس يدب إلى قلبه، وفي ليلة من الليالي بينما كان قائما يتعبد إذا بهاتف يناديه: (الوصول إلى المولى يعني شد الرحال إلى ديار الحبيب) فشدَّ الرحال من جديد واخذ يزيد من الصلاة والتعبد حتى انتهى الأمر به إلى المكوث في المسجد أربعين يوماً فأتاه نداء آخر يقول: (إنّ سيدك تجده في سوق الحدادين يجلس في باب رجل عجوز يصنع الأقفال) فذهب مسرعا فوجد الإمام (علیه السلام) يشع نوراً فارتعدت فرائص العابد إلاّ أنّ الإمام (علیه السلام) طلب منه أن ينظر ما سيحصل، فجاءت عجوز منحنية الظهر بيدها قفل عاطل وقالت للبائع: أرجوك اشترِ هذا القفل بثلاثة دنانير فقال البائع: إن هذا القفل بثمانية دنانير وإذا أصلحته (يصبح بعشرة فتصورت العجوز إنهّ يسخر منها إلاّ أنه بادر بإعطائها سبعة دنانير وقال لها: لاني أبيع) واشتري أخذته بسبعة دنانير لأربح ديناراً فذهبت العجوز مسرورة فالتفت الإمام (علیه السلام) إلى العابد وقال: (كونوا هكذا كهذا العجوز كي نأتيكم نحن بأنفسنا لا حاجة إلى التعبد أربعين يوماً ولا فائدة من الجفر والحروف فقط أصلحوا أعمالكم).

الظاهر إنهم قليلون أولئك الذين ينطبق عليهم العنوان كما قال تعالى: «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ، ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ ، وَقَلِيلٌ مِنَ الأخِرِينَ»(الواقعة:10-14)، ولكن لا تضجروا ولا تقنطوا؛ فإنالكمال يُنال بالتدريج، فعندما نزل قوله تعالى: «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ»(آل عمران:102) قعد الصحابة يبكون وأصيبوا بالإحباط؛ فمن الذي يستطيع أن يتقي الله حق تُقاته؟ فكان جوابهم في قوله تبارك وتعالى: «اتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ»(التغابن:16)، فإذا اتقيتم وعملتم بما تستطيعون تأهلّ-تم للدرجة الأعلى، فتتقون ما تستطيعون وفق هذه الدرجة الجديدة فتتأهلون للأعلى، وهكذا حتى تبلغوا حق تقاته.

الخطاب ليس للشيعة فقط:

وحينما نذكر صفات الشيعي الحقيقي فإنما نخاطب بهذا الكلام جميع الناس: الشيعة والمسلمين من غير الشيعة وغير المسلمين، فهذه فئات ثلاث يترتب على مخاطبتها ثلاثة أغراض:

أما الشيعة فلكي يراقبوا أنفسهم، ويعرضوا أعمالهم على هذا الميزان الدقيق، وليحكموا على أنفسهم: هل أنهم شيعة حقاً يستحقون تلك المقامات العالية والدرجات الرفيعة أم لا؟.وأما المسلمين من غير الشيعة فلكي يعرفوا من هم الشيعة، وليحكموا حينئذٍ: هل يحلّ خلافهم وسبّهم والقطيعة معهم وربما الحكم بكفرهم ومنابذتهم؟.

ص: 219

وأما غير المسلمين فلأنهم بدؤوا صراعاً حضارياً مع المسلمين جعلوا أهم أدواته تشويه صورة المسلمين، فكان من أهم وظائفنا في هذا الصراع بيان مقومات وعناصر شخصية المسلم التي بيّنها بوضوح أهل البيت وجسّدوها عملياً في حياتهم، وكان على رأسهم أمير المؤمنين (علیه السلام).

لذلك كان التشيع روح الإسلام وجوهره بحسب ما بيّنه رسول الله (صلی الله علیه و آله) مما ستسمعه بعد قليل بإذن الله تعالى، وفهمه كبار الصحابة كسلمان المحمدي وأبي ذر الغفاري والمقداد بن الأسود الكندي وعمار بن ياسر وذي الشهادتين وابن التيهان وأبي أيوب الأنصاري وخالد بن سعيد بن العاص الأموي وغيرهم، حتى استشهد الكثير منهم من أجله.

ما ورد في فضل شيعة علي (علیه السلام):

وقبل الإجابة عن السؤال: (ما هي صفات الشيعي؟) يحسن أن نذكر بعض ما ورد في فضل شيعة علي (علیه السلام) وعلو مقامهم في كتب الفريقين.

فقد ُنقل في الدر المنثور للسيوطي في تفسير قوله تعالى في نهاية سورة البينة: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ»

ص: 220

(البينة:7-8): عن أبي هريرة قال: أتعجبون من منزلة الملائكة من الله؟ والذي نفسي بيده لمنزلة العبد المؤمن عند الله يوم القيامة أعظم من منزلة ملك، واقرؤا إن شئتم: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة».

وعن جابر بن عبد الله قال: (كنّا عند النبي (صلی الله علیه و آله) فأقبل علي (علیه السلام)، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): (والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة)، ونزلت: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة»، فكانأصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) إذا أقبل علي (علیه السلام) قالوا: جاء خير البرية(1).

وعن ابن عباس قال: لما نزلت: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة»، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): هم أنت وشيعتك تأتون يوم القيامة راضين مرضيين ويأتي عدوك غضاباً مُقمحين)(2)، وفي الصواعق المحرقة لابن حجر وغيره: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): (أما ترضى أنّك معي في الجنة والحسن والحسين، وذريتنا خلف ظهورنا، وأزواجنا خلف

ص: 221


1- زبدة الأفكار: ص209 -- 210. عن الدر المنثور 8: 588 -- 589 تذكرة الخواص: 18 وقال أوردها الطبري في تفسيره والآلوسي والشوكاني في فتح القدير والمناوي في كنوز الحقائق والحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل.
2- بنور فاطمة اهتديت: ص49، عن الصواعق المحرقة الباب (11) الفصل الأول الآية الحادية عشر.

ذريتنا، وشيعتنا عن إيماننا وعن شمائلنا)(1).وإذا أردنا معرفة صفات الشيعي فإنهّ يجب علينا أن نذكر كل ما أراد الله تعالى وأحبّ من فضائل ونبذ كل ما كره من رذائل، فلا يمكن اختصاره بمحاضرة واحدة، ولكني سأحيل على بعض المصادر ككتاب (صفات الشيعة)، و(ثواب الأعمال وعقاب الأعمال) للشيخ الصدوق والجزء الحادي عشر من كتاب وسائل الشيعة تحت أبواب (جهاد النفس) و(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) والجزء الثامن من الوسائل تحت عنوان (آداب العشرة) وكتاب (تحف العقول).

ويكفي أن تقرأ خطبة أمير المؤمنين (علیه السلام) في وصف المتقين لتعرف منها أوصاف شيعة علي (علیه السلام)، وغيرها كثير، وتوجد رسالة مهمة -- رغم أن الكثير غافل عنها -- وطويلة وجهّها الإمام الصادق (علیه السلام) إلى شيعته وأمرهم بمدارستها والنظر فيها وتعاهدها والعمل بها(2)، فكانوا -السلف الصالح -- يضعونها في مساجد بيوتهم، فإذا فرغوا من الصلاة نظروا فيها.

ص: 222


1- زبدة الأفكار: ص211 عن الصواعق المحرقة لابن حجر: 161.
2- فلنسأل أنفسنا نحن النخبة المؤمنة أولاً كم منا تدارس هذه الرسالة وتعاهدها وعمل بها؟ أعتقد أن الجواب هو إن القلة القليلة منا قد عمل بها! فكيف إذن نقود المجتمع على طريق الإمام الصادق (علیه السلام) ونحن لم نعمل: (شيعتنا من عمل عملنا).

هكذا كان السلف الصالح يراقب نفسه ويزن أعماله في ضوء المنهج الذي رسمه لهم أهل البيت وتجد الرسالة بطولها في كتاب روضة الكافي للكليني ص325 -- 336.

محاور صفات المؤمن:

ويمكن باستقراء المصادر أن نصنّف الصفات ضمن ثلاثة محاور:

الأول: مع الله تبارك وتعالى.

الثاني: مع نفسه.

الثالث: مع الآخرين.والتصنيف من ناحية فنية فقط، وإلاّ فإن المؤمن الحقيقي ينظّم كلّ علاقاته وتصرفاته وفق ما يريده الله تبارك وتعالى فهو مع الله في كلّ شيء(1).

المحور الأول: مع الله تبارك وتعالى

معرفة الله تعالى أساس الدين:

1- المعرفة بالله تبارك وتعالى: وهي أساس الدين وأصله(2)،

ص: 223


1- فالمؤمن الحقيقي مع نفسه يلاحظ الله ومع الآخرين يلاحظ الله تعالى ويعيش مع الله تعالى دائما »إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ« (الأعراف: 201).
2- وهي الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجل السير نحوها فقد سُئٍل الإمام الحسين (علیه السلام) كما في مضمون الرواية عن معنى قوله تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ». (الذاريات: 56). فقال (علیه السلام): يعني إلا ليعرفونِ.

كما قال أمير المؤمنين (علیه السلام): (أوّل الدين معرفته)، ويمكن أن يكون منشأها عقلي مستفاد من البراهين(1)، وهذهلابدّ منها ولو ببراهين مبسطة تخاطب الفطرة(2)، لأنّ العقائد يجب أن تؤخذ عن دليل ويمكن أن تكون قلبية بالوجدان، والثانية خيرٌ من الأولى، كما في الحديث: (المعرفة الأنفسية خير من المعرفة الآفاقية)(3)إشارة إلى قوله تعالى: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقّ»(فصلت:53).

وخير مصدر للمعرفة القلبية: التدبر، والتفكر في القرآن الكريم، والأدعية، والأحاديث الواردة عن المعصومين خصوصاً دعاء الصباح ودعاء كميل ودعاء الإمام الحسين (علیه السلام) -- يوم عرفة -- ودعاء أبي حمزة الثمالي ومناجاة العارفين، بل عموم المناجاة الخمس عشرة للإمامالسجاد (علیه السلام)، وتكون الفائدة أكمل إذا انضمّ إليها بعض أفكار وشروح العلماء المخلصين.

ص: 224


1- الموجودة في كتب العقائد والكلام.
2- فمثلا الدليل على التوحيد قوله تعالى: «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ» (الأنبياء: 22).
3- روي عن أهل البيت (علیهم السلام): (من عرف نفسه عرف ربه)، (معرفة النفس أنفع المعارف)، (من جهل نفسه كان بغير نفسه أجهل)، (أكثر الناس معرفة لنفسه أخوفهم لربه)، (أعظم الجهل جهل الإنسان أمر نفسه).

فضل معرفة الله تعالى:

وفي فضل معرفة الله تعالى(1)قال أبو عبد الله الصادق (علیه السلام): (لو يعلم الناس ما في فضل معرفة الله عزّ وجلّ ما مدّواأعينهم إلى ما منح الله به الأعداء من زهرة الحياة الدنيا ونعيمها، وكانت دنياهم أقلّ عندهم مما يطؤونه بأرجلهم، ولنعموا بمعرفة الله جلّ وعزّ، وتلذّذوا بها تلذّذ من لم يزل في روضات الجنان مع أولياء الله، إنّ معرفة الله عز وجل آنَس من كلّ وحشة، وصاحب من كلّ وحدة، ونور من كلّ ظلمة، وقوة من كلّ ضعف، وشفاء من كل سقم). ثم قال (علیه السلام): (وقد كان قبلكم قوم يُقتلون، ويُحرقون ويُنشرون بالمناشير، وتضيق عليهم الأرض برحبها، فما يردهم عمّا هم عليه شيء ممّا هم فيه من غير ترة وتروا من فعل ذلك بهم، ولا أذى بل ما نقموا منه إلاّ أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، فاسألوا ربكم درجاتهم

ص: 225


1- عن أبى جَعْفَر (علیه السلام): (إِنَّمَا يَعْبُدُ اللَّهَ مَنْ يَعْرِفُ اللَّهَ فَأَمَّا مَنْ لا يَعْرِفُ اللَّهَ فَإِنَّمَا يَعْبُدُهُ هَكَذَا ضَلالا قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ فَمَا مَعْرِفَةُ اللَّهِ قَالَ:تَصْدِيقُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَصْدِيقُ رَسُولِهِ (صلی الله علیه و آله) وَمُوَالاةُ عَلِيٍّ (علیه السلام) وَالإئْتِمَامُ بِهِ وَبِأَئِمَّةِ الْهُدَى وَالْبَرَاءةُ إلى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ عَدُوِّهِمْ هَكَذَا يُعْرَفُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ) الكافي، (جاء رجل إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال ما رأس العلم قال: معرفة الله حق معرفته قال وما حق معرفته قال أن تعرفه بلا مثال و لا شبه و تعرفه إلها واحدا خالقا قادرا أولا و آخرا و ظاهرا وباطنا لا كفو له ولا مثل له فذاك معرفة الله حق معرفته) بحار الأنوار، وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (خرج الحسين بن علي (علیه السلام) على أصحابه فقال أيها الناس إن الله جل ذكره ما خلق العباد إلا ليعرفوه فإذا عرفوه عبدوه فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة ما سواه فقال له رجل يا ابن رسول الله بأبي أنت وأمي فما معرفة الله قال معرفة أهل كل زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته). بحار الأنوار:3/14.

واصبروا على نوائب دهركم تدركوا سعيهم).

قبول الأعمال مقرون بولاية أهل البيت (علیهم السلام):

2- ولاية أهل البيت ومحبتهم ومعرفة حقهم حيث جعل الله تبارك وتعالى مودتهم وولايتهم أجر الرسالة: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)(1)، فبهم تقبل الأعمال؛ لأنهم واسطة الفيض والعطاء الإلهي.

وإن لم تستوعب ذلك(2)وقلتَ إن عطاء الله لا يحتاج إلى واسطة فقسه على التشريع، فإنهم واسطة لتبليغ الأحكام إلى المخلوقين، والله قادر على أن يوصل تشريعاته بلا واسطة، فالأمر في العطاء التكويني كذلك، وللتعرف على حقيقة أهل البيت ومنزلتهم الرفيعة اقرأ بتدبر الزيارةالجامعة الكبيرة المروية عن الإمام الهادي (علیه السلام)، وهي من أقوى الزيارات متناً وسنداً(3).

ص: 226


1- سورة الشورى: 23.
2- وكيف نستكثر ذلك على أهل البيت ويوجد من هو أقل مرتبة منهم له عطاء تكويني كعزرائيل (علیه السلام) حيث يروى أن الدنيا كالدرهم بيده يقلبه كيف يشاء وأنه ينظر في وجه كل إنسان في اليوم خمس مرات بعدد الصلوات اليومية، وكذلك عيسى (علیه السلام) حيث أعطاه الله تعالى إحياء الموتى وخلق الطير وغيرها.
3- وقد أوصى بها الإمام الحجة (علیه السلام) ثلاث مرات للرجل الذي ضل الطريق في الحج وفيها إشارات واضحة عن الولاية التكوينية كما في المقطع (بِكُمْ فَتَحَ اللَّهُ وَبِكُمْ يَخْتِمُ وَبِكُمْ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَبِكُمْ يُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ وَبِكُمْ يُنَفِّسُ الْهَمَّ وَيَكْشِفُ الضُّرَّ).

وعن الإمام الصادق (علیه السلام): (من أحبنا كان معنا أو جاء معنا يوم القيامة، ثم قال (علیه السلام): والله لو أنّ رجلاً صام النهار وقام الليل ثم لقي الله عز وجل بغير ولايتنا أهل البيت لَلَقِيه وهو عنه غير راض أو ساخط عليه)(1)، وقال الصادق (علیه السلام): (إن أمير المؤمنين (علیه السلام) كان يقول: لا خير في الدنيا إلاّ لأحد رجلين: رجل يزداد فيها كل يوم إحساناً، ورجل يتدارك منيَّته بالتوبة، وأنى له بالتوبة؟ فوالله أن لو سجد حتى ينقطع عنقه ما قبل الله عزّ وجلّ منه عملاً إلاّ بولايتنا أهل البيت)(2).ولا أحتاج أن أذكّر أن المحبة العاطفية(3)وحدها لا تكفي، بل لا بدَّ من المحبة الحقيقية التي تستلزم التأسي والاتباع والطاعة، كما أنشد الإمام الصادق (علیه السلام):

تعصي الإله وأنت تظهر حبه *** هذا محال في الفعال بديع

لو كانَ حبُّك صادقاً لأطعته *** إن المحب لمن أحبّ مطيع

وقال (علیه السلام): (والله ما أنا إمام إلا من أطاعني، فأما من عصاني فلستُ لهم إماماً، فو الله لا يجمعني الله وإياهم في دار)(4).

الإيمان لا يكون إلا بعقيدة وعمل:

ص: 227


1- الكافي، الروضة: 8/92.
2- المصدر السابق: ص111.
3- فاللطم في وفيات المعصومين والمواليد في ولاداتهم لا يكفي وحده ونحن نخالف أعمالهم.
4- الكافي، الروضة: 8/374..

3- الإيمان بالعقائد الحقة: والتي جمعها القرآن تحت عنوان «يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْب»(البقرة:3) ومدح أصحابها وأثنىعليهم، فيؤمن بالله وملائكته وأنبيائه ورسله وأن الموت حق ومسائلة القبر حق والبعث والنشور والحساب كله حق، وهذا الإيمان سيحفزه على العمل الصالح ويدفعه له: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ»(فاطر:10)، إذ من غير المعقول أن يؤمن الإنسان بذلك كله ولا يعمل له، فالذي يعلم بل يظن أن خطراً في جهة ما فإنه يحترز منه ويتخذ التدابير اللازمة للنجاة منه، وإلا فلا معنى لإيمانه وعلمه، لذا جاء في الحديث عن الإمام الصادق (علیه السلام): (لا يثبت له الإيمان إلا بالعمل، والعمل منه)(1)والإيمان بالغيب من الفروق الأساسية بيننا وبين الغرب؛ فهم يؤمنون بالحسيّات ويسعون لتحقيق لذائذهم الحسيّة، فنشأ بسبب ذلك الاستئثار والاستكبار والظلم والحرص والحسد والطمع وغيرها من الرذائل التي انعكست على علاقتهم مع غيرهم من الشعوب.

حديث جامع لكل العقائد:

ومن الأحاديث التي جمعت العقائد الحديث المعروف عن السيد عبد العظيم الحسني قال: (دخلتُ على سيدي علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر الصادق (علیه السلام) فلما أبصرني

ص: 228


1- بحار الأنوار:66/23.

قال لي: (مرحباً بك يا أبا القاسم، أنت وليُّنا حقاً). قال: فقلت: يا ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) إني أريد أن أعرض عليك ديني فإن كان مرضياً أثبت عليه حتى ألقى الله عز وجل، فقال: هات يا أبا القاسم، فذكر عقيدته في توحيد الله تعالى ونفي الصفات عنه ونبوة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإنه خاتم الأنبياء وشريعته خاتمة الشرائع، ثم ذكر الأئمة واحداً بعد واحد حتى وصل إلى الإمام الهادي (علیه السلام) فقال: ثم أنت يا مولاي، فقال (علیه السلام): ومن بعدي الحسن ابني، وكيف الناس بالخلف من بعده؟. فقلت: وكيف ذلك يا مولاي؟ قال (علیه السلام): (لأنه لا يرى شخصه حتى يخرج فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً)، قال: فقلت: أقررت، وأقول: إنّ وليهم ولي الله وعدوهم عدو الله، وطاعتهم طاعة الله ومعصيتهم معصية الله، وأقول: إنّ المعراج حق والمساءلة في القبر حق وإنّ الجنة والنار حق والصراط حق والميزان حقوإنّ الساعة آتية لا ريب فيها وإنّ الله يبعث من في القبور، وأقول: إنّ الفرائض الواجبة بعد الولاية الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحقوق الوالدين، فقلت: هذا ديني ومذهبي وعقيدتي ويقيني قد أخبرتك به، فقال علي بن محمد (علیه السلام): يا أبا القاسم، هذا والله دين الله الذي ارتضاه لعباده، فاثبت عليه، ثبتّك الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة)(1).

ص: 229


1- صفات الشيعة: ح68.

أداء الواجبات:

4- أداء الواجبات الشرعية: كالصلاة والصوم والخمس والزكاة والحج مع الاستطاعة، فعن أبي الحسن (علیه السلام) قال: (شيعتنا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويحجّون البيت الحرام ويصومون شهر رمضان ويوالون أهل البيت ويتبرؤون من أعدائهم)(1)، وعن جابر الجعفي قال: قال أبو جعفر (علیه السلام): (يا جابر يكتفي من اتخذ التشيع أن يقول بحبّناأهل البيت؟ فو الله ما شيعتنا إلاّ من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يُعرفون إلا بالتواضع والتخّشع وأداء الأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبر بالوالدين والتعهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكفّ الألسن عن الناس إلاّ من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء(2)، قال جابر: يا ابن رسول الله، ما نعرف أحداً بهذه الصفة، فقال لي: يا جابر، لا تذهبّن بك المذاهب، حسب الرجل أن يقول أحب علياً وأتولاه، فلو قال: إني أحب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ورسول الله (صلی الله علیه و آله) خير من علي ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنته ما نفعه حبه إياه شيئاً، فاتقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحدٍ قرابة، أحبّ العباد إلى الله وأكرمهم عليه

ص: 230


1- المصدر السابق: ح5.
2- تأمل وتدبر جيدا بقول الإمام (علیه السلام) فلعمري إن كل فقرة من هذه الفقرات تحتاج إلى عمل كثير فلا يكفي أن تقرأها فقط.

أتقاهم له وأعملهم بطاعته، يا جابر، ما يتقرب العبد إلى الله تبارك وتعالى إلاّ بالطاعة، مامعنا براءة من النار(1)، ولا على الله لأحدٍ منكم حجة، من كان لله مطيعاً فهو لنا ولي، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدو، ولا تُنال ولايتنا إلاّ بالعمل والورع)(2).

ولما فتح رسول الله (صلی الله علیه و آله) مكة قام على الصفا فقال: (يا بني هاشم، يا بني عبد المطلب، إني رسول الله إليكم، وإني شفيق عليكم، لا تقولوا إنّ محمداً منا، فو الله ما أوليائي منكم ولا من غيركم إلاّ المتقون)(3)، وهو أدب قرآني، فعندما طلب نوح (علیه السلام) نجاة ابنه أتاه الجواب: «إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ»(هود:46)، وقال إبراهيم (علیه السلام): «فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي»(إبراهيم:36).

اجتناب المحرمات:

5- اجتناب المحرمات(4)والذنوب، سواء كانت من الكبائر وهي التي وعد الله عليها النار كالزنا واللواط وشرب الخمر وأكل مال اليتيم وشهادة الزور وأكل الربا وقتل النفس المحترمة(5)

ص: 231


1- كما هو موجود عند بعض الأديان حيث يعطون قومهم صكوك الغفران بالرغم من أعمالهم السيئة.
2- صفات الشيعة: ح22.
3- المصدر السابق: ح8.
4- روي أنه: (روح الإيمان يلازم الجسد ما لم يعمل كبيرة فإذا عمل بكبيرة فارق الروح).
5- كما يحصل عند بعض العشائر فإنهم يتقاتلون وتذهب نفوس محترمة من اجل أسباب تافهة.

أو البخس في المكيال(1)، وحتى الصغائر، وإن كان الوارد في الحديث الشريف: (لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت)، فعن الصادق (علیه السلام): (منزنى خرج من الإيمان، ومن شرب الخمر خرج من الإيمان، ومن أفطر يوماً من شهر رمضان متعمداً خرج من الإيمان(2).

ومن الكبائر قذف المحصنة(3)وعقوق الوالدين والتعّرب بعد الهجرة(4)ومعونة الظالمين وحبس الحقوق من غير عسروالسحر واليمين الغموس، بل ورد التحذير من كل الذنوب، فعن الباقر (علیه السلام):

ص: 232


1- كما يتفنن البعض اليوم بالبخس في الميزان بطرق عديدة كوضع المغناطيس في إحدى الكفتين أو حفر جوف العيار أو اللعب بإحدى العتلتين وغيرها ولا يعلمون أن هذا من الكبائر التي وعد الله تعالى عليها في كتابه العزيز أقصى العقاب فلماذا تلقون بأنفسكم في هذه المهالك من اجل بضعة دنانير والتي لو اتقيتم الله تعالى لرزقكم أضعافها «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً» (الطلاق: 2 -- 3).
2- كما يحدث ذلك وللأسف الشديد من قبل بعض شبابنا وتجده يتباهى بذلك ولا يعلم أنه بعمله هذا قد خرج من الإيمان وأُلحِقَ بالأعراب «قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(الحجرات: 14). بحار الأنوار: 66/197.
3- وعشائرنا أيضاً مبتلية بهذه الكبيرة فببساطة شديدة يقذفون المحصنة ويقتلونها غسلاً للعار ولا يعلمون إنّ القذف وحده يعاقب عليه الشرع بالجلد ثمانين سوطاً وهو من الكبائر ولا يحقّ لأحد ذلك إلاّ بعد حضور أربعة شهود فاتقوا الله ولا تسخطوه.
4- كما يحدث اليوم فبمجرد ما يحصل الشاب على فرصة للسفر غادر بلده المسلمة إلى أي بلد كافر يضيع فيه دينه، ولا يعلم أنّ هذا من مصاديق التعرب بعد الهجرة أي يصبح أعرابياً فالأعراب ليس الذين يسكنون البدو وإنما غير المتفقه في دين الله.

(الذنوب كلها شديدة)(1)، ويقول الإمام الصادق (علیه السلام): (اتقوا المحقرات من الذنوب فإنها لا تغفر، قلت: وما المحقّرات قال: الرجل يذنب الذنب فيقول: طوبى لي إن لم يكن لي غير ذلك(2).

ويضرب لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) مثالاً من الواقع، فقد نزل (صلی الله علیه و آله) بأرض قرعاء فقال لأصحابه: (ايتوا بحطب. فقالوا: يا رسول الله، نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب، فقال (صلی الله علیه و آله) : فليأتِ كل إنسان بما قدر عليه. فجاءوا به حتى رموا بين يديه بعضه على بعض، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): هكذا تجتمع الذنوب، ثم قال: إياكم والمحقرات من الذنوب؛ فإنلكل شيء طالباً، ألا وإن طالبها يكتبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)(3).

ويحذرّون شيعتهم إن كل ما يحصل لهم من مصائب هو بسبب الذنوب، فعن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (يا مفضّل، إياك والذنوب وحذّرها شيعتنا، فو الله ما هي إلى أحد أسرع منها إليكم، إن أحدكم لتصيبه المعرّة من السلطان وما ذلك إلاّ بذنوبه، وإنه ليصيبه السقم وما ذلك إلا بذنوبه، وإنه ليُحبس

ص: 233


1- الكافي:2/270.
2- أي أن ذنوبي هينة ولا تساوي شيئاً أو يقارن نفسه بالذي اقترف ذنوباً أكبر من ذنوبه فيقول: (مهما فعلت فأنا لست كفلان) وهذا المسكين قد خدعه الشيطان بهذا العذر الذي سيعاقب عليه أقسى عقاب لاستهانته بالذنب المقترَف بحق الله مالك الملك الجبار المتعال!!!. الكافي:2/287.
3- الكافي:2/288.

عنه الرزق وما هو إلاّ بذنوبه، وإنهّ ليُشدَّد عليه عند الموت وما ذاك إلاّ بذنوبه حتى يقول من حضره: لقد غم بالموت. فلما رأى ما قد دخلني(1)قال: أتدري لم ذاك؟ قلت: لا، قال: ذاك والله إنكم لا تؤاخذون بها في الآخرة وعُجّلت لكم في الدنيا(2)، فمن أراد أن يقي نفسه هذه الصعوبات فليجتنب الذنوب.

التقوى والورع:

6- التقوى والورع: أحد وجوه التفريق بينها ما قاله سيدنا الأستاذ (رحمة الله علیه): إن الورع اجتناب المحارم وفعل الواجبات، أمّا التقوى فتضاف لها اجتناب الشبهات وعدم ترك المستحبات(3)، فعن الإمام الصادق (علیه السلام): (إنما أصحابي من اشتد ورعه وعمل لخالقه ورجا ثوابه، هؤلاء أصحابي)(4)، وفي وصيّة للإمام الصادق (علیه السلام) لأحد أصحابه: (أوصيك بتقوى الله والورع والاجتهاد، واعلم إنه لا ينفع اجتهاد لا ورع فيه)(5)، ووعظ (علیه السلام) شيعته فقال: (عليكم بالورع؛ فإنه لا يُنال ما عند الله إلا بالورع)، (ليس منّا ولا كرامة من كان في مصر فيه مائة ألف أو يزيدون وكان في ذلك المصر

ص: 234


1- أي لماذا تسرع الذنوب إلى الموالين للأئمة والمفروض إنهم أقرب إلى الله تعالى من غيرهم.
2- بحار الأنوار:6/157.
3- عدم ترك المستحبات كلياً وليس بعضها فقد يترك بعضها أحياناً.
4- بحار الأنوار:65/166.
5- بحار الأنوار:67/296.

أحد أورع منه)، وقوله (علیه السلام): (كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم، ليروامنكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير، فإن ذلك داعية)(1)، وأيضاً: (عليكم بالورع؛ فإنه الدين الذي نلازمه وندين الله تعالى به ونريده ممن يوالينا)(2).

وفي التقوى كان أمير المؤمنين (علیه السلام) يقول: (لا يقل عمل مع تقوى، وكيف يقلُّ ما يُتقِّبل؟!) إشارة إلى قوله تعالى: «إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» (المائدة:27)، وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (من أخرجه الله عزّ وجلّ من ذلّ المعاصي إلى عز التقوى أغناه الله بلا مال وأعزّه بلا عشيرة وآنسه بلا أنيس، ومن خاف الله أخاف الله منه كلّ شيء، ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء(3)، ومن رضي من اللهباليسير من الرزق رضي منه باليسير من العمل)(4)،

ص: 235


1- ولتقريب هذه الفكرة إلى الذهن تصور أنّ رجلاً عالماً معروفاً بالصلاح والتقوى قد مرَّ من أمامك ولم يتكلم معك بحرف ألا تذكرك رؤيته بالله تعالى ويخفق قلبك له؟ فهذا الرجل إذن داعية لله تعالى ولكن بغير لسانه وهكذا أرادنا المعصومون (علیهم السلام).
2- بحار الأنوار:67/306.
3- عندما تأملت كثيراً في هذه المعاني العظيمة حاولت أن أفهمها من خلال ربطها بصفات الله تعالى فكلّما اقترب الإنسان من الله تعالى تخلق بأخلاقه وصفاته كما في مضمون الرواية: (تخلقوا بأخلاق الله) فالله تعالى العزيز وهو يهب العزة لمن يشاء إن قال تعالى: «مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً» (فاطر: 10). «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ» (المنافقون: 8). والله تعالى القوي ويهب القوة لمن يشاء وهكذا تستطيع فهم المعاني الأخرى (وكذلك تستطيع أن تربط ذلك بأهل البيت فهم الأسماء الحسنى).
4- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس وما يناسبه، باب20، ح5.

ولأمير المؤمنين (علیه السلام) خطبة في وصف المتقين صعق من سماعها صاحبه الوفي همّام فمات من ساعته(1).

7- الموازنة بين الخوف والرجاء: عن الإمام الصادق (علیه السلام)، قال: (كان أبي (علیه السلام) يقول: ليس من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نوران: نور خيفة، ونور رجاء، لو وُزِن هذا لم يزد على هذا، ولو وزِن هذا لم يزِد على هذا)(2). ويقول (علیه السلام): (كان فيما أوصى به لقمان لابنه أن قال: يا بني خفالله خوفاً لو جئته ببرّ الثقلين خفتَ أن يعذَّبك الله، وارجُ الله رجاءًَ لو جئته بذنوب الثقلين رجوتَ أن يغفر الله لك(3)(4)، ويقول بعض شيعته قلت له: قومٌ يعملون بالمعاصي ويقولون نرجو، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم الموت، فقال: هؤلاء قوم يترجحون(5)في الأماني، كذبوا ليسوا براجين، من رجا شيئاً طلبه، ومن خاف من شيء هرب منه(6)، وقال (علیه السلام) عنهم:

ص: 236


1- راجع نهج البلاغة: ص303، لصبحي الصالح.
2- وسائل الشيعة: كتاب جهاد النفس، أبواب جهاد النفس، باب 13، ح1 وح4.
3- المصدر السابق: ح6.
4- نقل الإمام (علیه السلام) كلام لقمان لتوضيح الموازنة بين الخيفة والرجاء وهي معادلة دقيقة حيث لا ينبغي للخوف أن يزيد بحيث لا رجاء لرحمة الله بعده وهو المسمى بالقنوط الذي هو من الكبائر كما يقول البعض ان ذنوبي كثيرة ولا يغفرها الله لي.
5- رجح الميزان: يرجح رجحاناً أي مال، وترجحت الأرجوحة بالغلام أي مالت، الصحاح: 1 / 364، مادة (رجح).
6- وسائل الشيعة: نفس الباب، ح2.

ليسوا لنا بموالٍ)(1)، وهو (علیه السلام) به يستقي ذلك من قوله تعالى: «إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ»(الأعراف: 56)،«وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى» (الأنبياء:28).

8 - تقديم رضا الله تعالى على هوى النفس ورضا المخلوقين: عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (يقول الله عز وجل: وعزّتي وجلالي وكبريائي ونوري وعلّوي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبدٌ هواه على هواي إلا شتّتُ عليه أمره، ولبست عليه دنياه، وشغلت قلبه بها، ولم آتِه منها إلا ما قدّرتُ له، وعزّتي وجلالي وعظمتي ونوري وعلوّي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواي على هواه إلا استحفظته ملائكتي، وكفلت السماوات والأرضين رزقه، وكنتُ له من وراء تجارة كل تاجر، وأتته الدنيا وهي راغمة)(2)، وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): من طلب مرضاة الناس بما يسخط الله عز وجل كان حامده من الناس ذامّاً، ومن آثر طاعة الله عزّ وجلّ بما يغضب الناس كفاه الله عزّ وجلّ عداوة كل عدو(3)وحسد كل حاسد، وبغي كل باغٍ وكان الله له ناصراً وظهيراً)(4).

ص: 237


1- المصدر السابق: ح3.
2- المصدر السابق: باب32، ح3.
3- تأمل جيداً في هذه العبارة وما يشابهها واجعلها دوماً نصب عينيك ومنهاجاً لك في حياتك، فبعد هذا الضمان الإلهي، لا ينبغي للمرء أن تقف بوجهه كل الاعتبارات، بل يؤدي ما فيه رضا الله تعالى ولا تأخذه في الله تعالى لومة لائم.
4- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب الأمر والنهي، باب7، باب 11، ح2.

وصفات أخرى لا يتسع المقام لذكرها كاليقين بالله في الرزق والعمر والنفع والضرّ، فعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (كان علي بن أبي طالب (علیه السلام) يقول: لا يجد عبد طعم الإيمان حتّى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأنّ ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وإنّ الضار النافع هو الله عز وجل)(1)، والاعتصام بالله والتوكل على الله وقطع الأمل عن غير الله تعالى، قال تعالى: «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ»(الطلاق:3)، والبكاء لله تعالى، كما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (كلّ عين باكية يوم القيامة إلا ثلاثة أعين: عين بكت من خشية الله، وعين غضّت عن محارم الله، وعين باتتساهرة في سبيل الله)(2)، ومن صفاتهم حسن الظن بالله تعالى، فإن الله عند حسن ظن عبده.

ص: 238


1- وسائل الشيعة: كتاب جهاد النفس، أبواب جهاد النفس، باب، 7، ح1.
2- المصدر السابق، باب 15، ح8.

المحور الثاني: صفاته في نفسه:

محاربة الهوى:

1 -- أن يجعل أهواءه النفسية عدواً له لا يغفل عن مجاهدته؛ للحديث: (أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك)، ولا يجعلها إلهاً يطيعه ويسير وفق رغبات نفسه، قال تعالى: «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ» (الجاثية:23)، وبعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) سرية فلما رجعوا قال: (مرحباً بقومٍ قضوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم الجهاد الأكبر، فقيل: يا رسول الله ما الجهاد الأكبر؟ قال جهاد النفس)(1).

إصلاح العيوب:

2 -- أن يشتغل بإصلاح عيوب نفسه بدل التفتيش عن عيوب الناس، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (ثلاث خصال من كُنَّ فيه أو واحدة منهنّ كان في ظل عرش الله يوم لا ظلّ إلا ظلّه: رجل أعطى الناس من نفسه ما هو سائلهم، ورجلٌ لم يقَدّم رجلاً ولم يؤخر رجلاً

ص: 239


1- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب1، ح1.

حتى يعلم أنّ ذلك لله رضا، ورجل لم يعب أخاه المسلم بعيب حتى ينفي ذلك العيب عن نفسه فإنّه لا ينفي منها عيباً إلا بدا له عيب، وكفى بالمرء شغلاً بنفسه عن الناس)(1).

انصاف الناس من نفسه:

3 -- أن ينصف الناس من نفسه، فيحب لهم ما يحب لها، ويكره لهم ما يكره لها، ويقول الحق ولو علىنفسه. قال أمير المؤمنين (علیه السلام): (ألا إنّه من ينصف الناس من نفسه لم يزده الله إلا عزاً)(2).

ترك التعصب:

4 -- أن لا يتعصّب لنفسه، أو لعشيرته، أو قوميته، أو أي شيء آخر سوى الله تبارك وتعالى. قال الإمام الصادق (علیه السلام): (من تعصّب أو تُعصِبَ له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه)(3).

انتهاز فرص الخير:

5 -- أن ينتهز فرص الخير، قال تعالى: «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات» (البقرة: 148)، وقال تعالى: «وَسَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ»(آل عمران:133)، وفي

ص: 240


1- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب 36، ح1. فإن العمر سينتهي لا محالة وأنت لم تنته من إصلاح عيوب نفسك فلا مجال إذن للاشتغال بعيوب الآخرين.
2- المصدر السابق، باب 24، ح3.
3- المصدر السابق: باب 36، ح1.

وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): (يا عليّ، بادر بأربع قبل أربع: شبابك قبل هرمك، وصحتكقبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك)(1)، وأن يجعل حياته زيادة في كلّ خير، قال الصادق (علیه السلام): (من استوى يوماه فهو مغبون(2)، ومن كان آخر يوميه خيرهما فهو مغبوط، ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون، ومن لم يرَ الزيادة في نفسه فهو إلى النقصان، ومن كان إلى النقصان فالموت خير له من الحياة)(3).

المحاسبة:

6 -- أن يحاسب نفسه، عن موسى الكاظم (علیه السلام)، قال: (ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسناً استزاد الله، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب عليه)، وفي وصيّة النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر: (يا أبا ذر، لا يكون الرجل من المتّقين حتّى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة الشريكشريكه، فيعلم من أين مطعمه، ومن أين مشربه، ومن أين ملبسه، أمن حلالٍ أو من حرام(4)، يا أبا ذر، من لم يبالِ من أين اكتسب المال لم يبال الله من أين ادخله النار)(5).

ص: 241


1- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب91، ح1.
2- لأن الله تعالى لم يخلقنا لحياة لا تكامل فيها، بل خلقنا من أجل أن نتكامل ونرتقي.
3- المصدر السابق: باب 95، ح5.
4- البعض ممن وفقه الله تعالى لطاعته أعد لنفسه دفتراً صغيراً يضعه في جيبه يكتب فيه ما أقترفه من ذنوب في النهار، وقبل أن ينام يفتح هذا الدفتر ليحاسب نفسه.
5- المصدر السابق: باب 96، ح7.

التحلي بالصدق:

7 -- أن يتحلى بالصدق،ومطابقة قوله لفعله، وسره لعلانيته. قال الإمام الصادق (علیه السلام): (أبلغ شيعتنا أن أعظم الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلاً ثم يخالفه إلى غيره(1)(2)، وقال (علیه السلام): (ليس من شيعتنا من قال بلسانه، وخالفنا في أعمالنا وآثارنا، ولكن شيعتنا من وافقنا بلسانه وقلبه واتّبعآثارنا وعمل بأعمالنا، أولئك شيعتنا)(3). وفي وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر: (يا أبا ذر، يطلع قوم من أهل الجنّة إلى قومٍ من أهل النار فيقولون: ما أدخلكم النار، وإنمّا دخلنا الجنة بفضل تعليمكم وتأديبكم؟! فيقولون: إنّا كنّا نأمركم بالخير ولا نفعله)(4)، قال تعالى: «كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ» (الصف:3).

الصبر:

8 -- أن يتصفوا بالصبر،فمن

وصية للإمام الصادق (علیه السلام): (اصبروا على الدنيا فإنّما هي ساعة، فإن ما مضى منه لا تجد له ألماً ولا سروراً، وما لم يجئ فلا تدري ما هو، وإنّما هي ساعتك التي أنت فيها، فاصبر فيها على طاعة الله، واصبر فيها عن معصية

ص: 242


1- والوصية علينا نحن الحوزويون آكد.
2- المصدر السابق: باب 38، ح1.
3- المصدر السابق: باب 21، ح19.
4- المصدر السابق: باب 9، ح12.

الله)(1). وقال الإمام الباقر (علیه السلام): (لما حضرت أبي الوفاة ضمّني إلى صدره وقال: يا بني، اصبر على الحقوإن كان مراً تُوفَّ أجرك بغير حساب)(2)، وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (سمعت أبا جعفر (علیه السلام) يقول: إني لأصبر من غلامي هذا ومن أهلي على ما هو أمرّ من الحنظل؛ إنّه من صبر نال بصبره درجة الصائم القائم، ودرجة الشهيد الذي قد ضرب بسيفه قدّام محمد (صلی الله علیه و آله) (3).

تقديم الآخرة:

9 -- يقدّمون الآخرة على الدنيا(4)، فمن خطبة النبي (صلی الله علیه و آله): (ومن عرضت له دنيا وآخرة فاختار الدنيا وترك الآخرة لقي الله وليست له حسنة يتقي بها النار، ومن أخذ الآخرة وترك الدنيا لقي الله يوم القيامة وهو عنه راضٍ)(5)،فهم يحقرّون الدنيا لأنهّا تشغل عن الآخرة، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (من أحبّ دنياه أضرّ بآخرته)(6)، وقال الإمام الصادق (علیه السلام): (حبّ الدنيا رأس كل خطيئة)(7)، وفي

ص: 243


1- المصدر السابق: باب 19، ح5.
2- المصدر السابق: ح8.
3- المصدر السابق: باب 25، ح4.
4- لا بد أن نعرف إن الدنيا الممقوتة في الروايات ليست كل دنيا، وإنّما التي يجعلها الإنسان غاية وهدفاً له، أما إذا كانت الدنيا وسيلة وطريقاً للآخرة فلا تكون ممقوتة لأنهّا ستكون رأس مال الإنسان يتاجر فيه مع الله تعالى.
5- المصدر السابق: باب 52، ح2.
6- المصدر السابق: باب 61، ح5.
7- المصدر السابق: ح4.

وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي: (يا علي، إنّ الله أوحى إلى الدنيا: اخدمي من خدمني، وأتعبي من خدمك(1)، يا علي، إنّ الدنيا لو عدلت عند الله جناح بعوضة لما سقى الكافر منها شربة من ماء، يا علي، ما أحدٌ من الأولين والآخرين إلا وهو يتمنّى يوم القيامة أنّه لم يُعطَ من الدنيا إلا قوتاً)(2)، وشبّه الإمام الباقر (علیه السلام) قائلا: (مثل الحريص على الدنيا مثل دودة القز(3)؛ كلما ازدادت على نفسها لفّاً كان أبعد لها من الخروج حتى تموتغمّاً)(4)؛ لذلك رغّبوا شيعتهم في الزهد بالدنيا، قال الإمام الصادق (علیه السلام): (من زهد في الدنيا أنبت الله الحكمة في قلبه، وأنطق بها لسانه، وبصّره عيوب الدنيا داءها ودواءها، وأخرجه منها سالماً إلى دار السلام)(5).

الأدب في الحديث والدعوة بالحسنى:

10 --والشيعي لا يكون كلامه بذيئاً ولا فاحشاً ولا لعّاناً أو سبّاباً، فقد بلغ الإمام الصادق (علیه السلام) أنّ أحد أصحابه قال مثل هذه الكلمات لرجل ظلمه، فقال (علیه السلام): (إنّ هذا ليس من فعالي ولا آمر

ص: 244


1- فتجد أن طلاب الدنيا لا يجدون طعم الراحة فكلما ملكوا شيئاً أرادوا الآخر كما في الرواية: (منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا) بحار الأنوار:1/182.
2- وسائل الشيعة: باب 63، ح4.
3- قال الشاعر: كدودة القز ما تبنيه يهلكها وغيرها بالذي تبنيه ينتفعُ
4- المصدر السابق: باب 64، ح1.
5- المصدر السابق: باب 62، ح1.

به شيعتي، استغفر ربّك ولا تعد)(1)، وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (إذا رأيتم الرجل لا يبالي ما قال ولا ما قيل له فهو شرك الشيطان)(2)، ولا يبغي الشيعي على أحد؛ ففي وصية الإمام الصادق (علیه السلام) لأصحابه: (وإيّاكم أن يبغيبعضكم على بعض؛ فإنهّا ليست من خصال الصالحين، فإنّه من بغى صيّر الله بغيه على نفسه، وصارت نصرة الله لمن بُغي عليه، ومن نصره الله غلب وأصاب الظفر من الله)(3)، ومن ألفاظ رسول الله (صلی الله علیه و آله): (لو بغى جبل على جبل لجعله الله دكاً، اعجل الشر عقوبة البغي، وأسرع الخير ثواباً البر).

التوبة:

11 -- وإذا فعلوا فاحشة، أو ظلموا أنفسهم، أو مسَّهم طائف من الشيطان تذكروا والتفتوا إلى خطأهم الكبير في حق ربهم الكريم، فتداركوا أمرهم بالتوبة، واستغفروا الله تعالى. ففي حديث: إنّ الله أعطى التائبين ثلاث خصال لو أعطي خصلة منها جميع أهل السماوات والأرض لنجوا بها، قوله عزّ وجلّ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ»(البقرة:222)، فمن أحبّه الله لم يعذّبه، وقوله: «فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ» (غافر:7)، وذكر الآيات، وقوله: «إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ

ص: 245


1- المصدر السابق: باب 71، ح7.
2- المصدر السابق: باب 49، ح15.
3- المصدر السابق: باب 74، ح6.

يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً»(الفرقان:70). ويقول الإمام الباقر (علیه السلام): (إنّ الله تبارك وتعالى أشّد فرحاً بتوبة عبده من رجل أضلّ راحلته وزاده في ليلة ظلماء فوجدها، فالله أشد فرحاً بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها)(1).

ويتخوفون الاستدراج والإملاء فقد سُئل أبو عبد الله (علیه السلام) عن الاستدراج؟ فقال: (هو العبد يذنب الذنب فيُملي له، ويجدّد له عندها النعم فيلهيه عن الاستغفار؛ فهو مستدرج من حيث لا يعلم)(2).

البطن والفرج:

12 -- عفيف البطن عفيف الفرج(3)، قال الإمام الصادق (علیه السلام): (والله ما شيعة علي إلا من عفّ بطنه وفرجه وعمللخالقه ورجا ثوابه وخاف عقابه)(4)، وروي أنّ قوماً تبعوا أمير المؤمنين (علیه السلام) فالتفت إليهم فقال: ما أنتم عليه؟ قالوا: شيعتك يا أمير المؤمنين. قال: مالي لا أرى عليكم سيماء الشيعة. قالوا: وما سيماء الشيعة؟. قال (علیه السلام): (صفر الوجوه من السهر، خمص البطون من الصيام، ذبل الشفاه من الدعاء، عليهم غبرة الخاشعين).

ص: 246


1- المصدر السابق: باب 86، ح6.
2- المصدر السابق: باب 90، ح4.
3- أي لا يدخل بطنه إلا الطعام الحلال ويحفظ فرجه إلا فيما أحل الله تعالى له.
4- صفات الشيعة: 7، ح12.

التفقه:

13 -- التفقه في الدين ولا أقل من المسائل الابتلائية كما يسميها الفقهاء. أي تلك التي يتعرض لها كثيراً في عباداته، أو في معاملاته. وسئل أبو الحسن (علیه السلام): هل يسع الناس ترك المسألة عما يحتاجون إليه؟ فقال: لا(1)، وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (طلب العلم فريضة على كل مسلم، ألا إنّ الله يحبّ بغاة العلم)(2)، وقال الإمام الصادق (علیه السلام): (لوددتأنّ أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا)(3)، وخاطب (علیه السلام) أصحابه: (عليكم بالتفقّه في دين الله ولا تكونوا أعراباً، فإنهّ من لم يتفقه في دين الله لم ينظر إليه يوم القيامة ولم يزكِّ له عملاً)(4)، وقال الإمام الصادق (علیه السلام) لبشير الدهان: (لا خير فيمن لا يتفقهّ من أصحابنا، يا بشير، إنّ الرجل منهم إذا لم يستغنِ بفقهه احتاج إليهم، فإذا احتاج إليهم أدخلوه في باب ضلالتهم وهو لا يعلم)(5)، ونقل الإمام الصادق (علیه السلام) عن جده رسول الله (صلی الله علیه و آله) انزعاجه ممن لا يتفقه في دينه، فقال (صلی الله علیه و آله) : (أُفٍّ لرجل لا يفرّغ نفسه في كل جمعة لأمر دينه فيتعاهده

ص: 247


1- أصول الكافي: كتاب فضل العلم، الباب1، ح3.
2- المصدر السابق: ح5.
3- المصدر السابق: ح6.
4- المصدر السابق: ح7.
5- المصدر السابق: باب 2، ح6.

ويسأل عن دينه)(1).

وتوجد صفات كثيرة أخرى وردت في النصوص، ومنها كونه: (ليّناً قوله، غائباً منكره، قريباً معروفه، صادقاً قوله، حسناً فعلُه، مقبلاً خيره، مدبراً شرّه، فهو في الهزاهروقور، وفي المكروه صبور، وفي الرخاء شكور، لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم على من لا يحب، لا يدّعي ما ليس له، ولا يجحد حقّاً هو عليه، يعترف بالحق قبل أن يُشهد عليه، ولا يضيّع ما استُحفظ، ولا ينابز بالألقاب، ولا يبغي على أحد، ولا يهمّ بالحسد، ولا يضرّ بالجار، ولا يشمت بالمصائب)(2).

ص: 248


1- المصدر السابق: باب 9، ح6.
2- صفات الشيعة: ح35.

المحور الثالث: العلاقة مع الآخرين:

1 -- يصنع المعروف إلى كلّ أحد: فقد أوصى الإمام السجاد (علیه السلام) ولده الباقر (علیه السلام): (يا بني، افعل الخير إلى كل من طلبه منك، فإن كان من أهله فقد أصبت موضعه، وإن لم يكن من أهله كنت أنت من أهله، وإن شتمك رجل عن يمينك ثمّ تحول إلى يسارك فاعتذر إليك فاقبل عذره)(1)، وأصله في القرآن الكريم في قوله تعالى: «ادْفَعْبِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ»(المؤمنون:96).

2 -- ويتجنبون الظلم والاعتداء على الآخرين بغير حق. فأمير المؤمنين (علیه السلام) يعلم أنّ قاتله عبد الرحمن بن ملجم يريد به الشر، فقيل له: لِمَ لا تقتله أو تسجنه دفعاً لشره؟ قال (علیه السلام): (لا يجوز القصاص قبل الجناية)، وفي المقابل ترى الولايات المتحدة نموذج الغرب المتحضر تتوعد البشرية بالدمار والويل والثبور تحت عنوان (الضربات الوقائية والاستباقية) دفعاً للأخطار المحتملة، فأين هم من أدب الإسلام وأهل البيت (علیهم السلام)؟!.

ص: 249


1- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب3، ح3.

وقد حذّر الأئمة بشدة من الظلم مهما كان بسيطاً، فقد ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام): (قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة)، وفي حديث للإمام السجاد (علیه السلام): (ما يأخذ المظلوم من دين الظالم أكثر مما يأخذ الظالم من دنيا المظلوم)(1)، وعدّ حديث للإمام الباقر(علیه السلام) ظلم الناس من الذنوب التي لا يدعها الله تبارك وتعالى: لذا فهم يأمرون بردّ المظالم إلى أهلها قبل أن يفاجئهم الموت، وحذّروا من معونة الظالمين. قال الإمام الصادق (علیه السلام): (العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاثتهم)(2)، ويقول (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام) في هؤلاء: (يا علي، شرّ الناس من باع آخرته بدنياه، وشرّ منه من باع آخرته بدنيا غيره)(3).

3 -- يوالون في الله ويعادون في الله، وهو مبدأ قرآني مهم أكّد عليه الله تعالى كثيراً، وإذا ضاع هذا المقياس مُحق الدين. قال تعالى: «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(المجادلة:22).

ص: 250


1- عقاب الأعمال: ص272.
2- المصدر السابق: باب 80، ح1.
3- المصدر السابق: باب 68، ح11.

فأين من هذه الحقيقة القرآنية هؤلاء الذين يلهثون وراء الغرب وقوى الاستكبار الذين آخر ما أمروهم به أن يغيروا مناهج التعليم الديني(1)وعلى رأسها القرآن الكريم لأنهّا تشجّع على الإرهاب كما يزعمون، قال الإمام الصادق (علیه السلام): (كذب من زعم أنّه من شيعتنا وهو متمسك بعروة غيرنا)، ويقول الإمام أبو الحسن الرضا (علیه السلام): (من والى أعداء الله فقد عادى أولياء الله، ومن عادى أولياء الله فقد عادى الله تبارك وتعالى، وحقّ على الله عزّ وجلّ أن يدخله في نار جهنم)(2)، وعن الإمام الرضا (علیه السلام) أيضاً قال: (إن ممن ينتحل مودتنا أهل البيت لمن هو أشّد لعنة على شيعتنا من الدجال، فقلتُ له: يا ابن رسول الله، بماذا؟ قال: بموالاة أعدائنا ومعاداة أوليائنا، إنه إذا كان كذلك اختلط الحقّ بالباطل واشتبه الأمر فلم يعرف مؤمن من منافق)(3)، وعن الإمام الباقر (علیه السلام) قال:(ودّ المؤمن للمؤمن في الله من أعظم شعب الإيمان، ألا ومن أحبّ في الله وأبغض في الله وأعطى في الله ومنع في الله فهو من أصفياء الله)(4).

4 -- يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر: وهي من أهم

ص: 251


1- كان هذا أحد أوامر الولايات المتحدة للدول الإسلامية السائرة في ركابها بعد أحداث أيلول/2001.
2- صفات الشيعة: 1124.
3- صفات الشيعة: 8، ح14.
4- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب 15، ح3.

صفات خير أمة أخرجت للناس كما نطق القرآن الكريم، روي عن النبي (علیه السلام) أنَّهُ قال: (لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات وسُلّط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء)(1)، وكتب الإمام الصادق (علیه السلام) إلى الشيعة: (ليعطفنَّ ذوو السنِّ منكم والنهى على ذوي الجهل وطلاب الرئاسة، أو لتصيبنَّكم لعنتي أجمعين)(2)، وأقل مراتبه الإنكار القلبي، فعن الإمام علي (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (من شهد أمراً فكرهه كان كمنغاب عنه، ومن غاب عن أمر فرضيه كان كمن شهده)(3)، وقال الإمام علي (علیه السلام): (أدنى الإنكار(4)أن تلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرة)(5)، وقال الإمام الصادق (علیه السلام) لأصحابه: (إنه قد حقَّ لي أن آخذ البريء منكم بالسقيم، وكيف لا يحقُّ لي ذلك وأنتم يبلّغكم عن الرجل منكم القبيح فلا تنكرون

ص: 252


1- المصدر السابق: باب 1، ح18.
2- المصدر السابق: ح8.
3- المصدر السابق: باب 5، ح2.
4- ولكن يجب فهم ذلك بشكل صحيح وليس كما يفعله بعض شبابنا سامحهم الله تعالى فإنهم أول ما يبدأون في وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستعملون الغلظة والشدة والوجوه المكفهرة، وهذا غير صحيح، بل لا بد أن نبدأ بالحكمة والموعظة الحسنة ونقابلهم بأخلاق طيبة لكي يتأثروا بنا وبكلامنا وبالتدريج نحاول معهم بطرق الإصلاح المختلفة.
5- المصدر السابق: باب6، ح1.

عليه ولا تهجرونه ولا تؤذونه حتى يترك)(1)، وقال الإمام الصادق (علیه السلام): (لا ينبغي للمؤمن أن يجلس مجلساً يُعصى الله فيه، ولا يقدر على تغييره)(2).

5 -- الاهتمام بأمور المسلمين في شرق الأرض وغربها: قال الإمام الصادق (علیه السلام): (من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم)(3)، وعن الإمام أبي جعفر الباقر (علیه السلام): (إنّ المؤمن لتردّ عليه الحاجة لأخيه فلا تكون عنده، فيهتّم بها قلبه، فيدخله الله تبارك وتعالى بهمّه الجنة)(4).

6 -- أمروهم بالتزاور بينهم وتكثير اللقاءات الهادفة الواعية التي يستغلّونها للتذاكر بأمور مفيدة. قال الإمام الصادق (علیه السلام): (تزاوروا فإن في زيارتكم إحياءً لقلوبكم وذكراً لأحاديثنا، وأحاديثنا تعطف بعضكم على بعض، فإن أخذتم بها رشدتم ونجوتم، وإن تركتموها ضللتم وهلكتم، فخذوا بها وأنا بنجاتكم زعيم)(5)، ويقول (علیه السلام): (أما والله لوددتُ أني معكم في بعض تلك المواطن)(6).

ص: 253


1- المصدر السابق: باب7، ح4.
2- المصدر السابق: باب38، ح4.
3- المصدر السابق: باب18، ح1.
4- المصدر السابق: باب 18، ح4.
5- المصدر السابق: باب 23، ح3.
6- المصدر السابق: ح5.

7 -- وأعطى الأئمة أهمية كبرى لقضاء حوائج المؤمنين: قال الإمام الصادق (علیه السلام): (ما قضى مسلم لمسلم حاجة إلا ناداه الله تبارك وتعالى: عليَّ ثوابك، ولا أرضى لك بدون الجنّة)(1)، وقال الإمام أبو الحسن (علیه السلام): (من أتاه أخوه المؤمن في حاجة فإنّما هي رحمة من الله تبارك وتعالى ساقها إليه، فإن قبل ذلك فقد وصله بولايتنا، وهو موصول بولاية الله، وإن ردّه عن حاجته وهو يقدر على قضائها، سلّط الله عليه شجاعاً من نار ينهشه في قبره إلى يوم القيامة، مغفوراً له أو معذباً)(2)وجعلوا هذه القضيّة أفضل من سائر القربات كالحج والعمرة والاعتكاف والطواف المندوبات، بحيث إن الإمام (علیه السلام) يقطع طوافه بالبيت الحرام ويخرج ليقضي حاجة المؤمن، ويهددّون شيعتهم إن قصروا في ذلك أنواع التهديد؛ يقول الإمام الصادق (علیه السلام): (أيّما رجل من شيعتنا أتى رجلاً من إخوانه فاستعان به في حاجته، فلم يعنهوهو يقدر، إلا ابتلاه الله بأن يقضي حوائج عدة من أعدائنا، يعذبّه الله عليها يوم القيامة)(3)وهي حالة مجرّبة.

8 -- ومن الحوائج التي اهتموا بها مساعدة الفقراء وإقراض المحتاجين وإنظار المعسرين: فعن أبي بصير قال: ذكرنا عند

ص: 254


1- المصدر السابق: باب 25، ح4.
2- المصدر السابق: 16ح5.
3- المصدر السابق:باب 37، ح3.

أبي عبد الله (علیه السلام) الأغنياء من الشيعة فكأنّه كره ما سمع منّا فيهم، فقال: (يا أبا محمد، إذا كان المؤمن غنياً وصولاً رحيماً له معروف إلى أصحابه أعطاه الله أجر ما ينفق من البر مرتين ضعفين، لأنّ الله يقول في كتابه: «وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ»(سبأ:37) )(1)، وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (الصدقة بعشرة والقرض بثمانية عشر، وصلة الإخوان بعشرين، وصلة الرحم بأربعة وعشرين)(2).

9 -- وأمور أخرى كثيرة؛ كإدخال السرور على المؤمن حيث جعلوه إدخالاً للسرور على النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة المعصومين(3)، والستر على المؤمن وحفظ كرامته وسمعته، والمنع من تشويه صورته لدى الناس(4)، والنصيحة للمؤمنين وعدم الغش((5)، والرفق بالمؤمنين وعدم تحميلهم ما لا يطيقون(6)، واستشعار الرحمة لجميع الناس كما في عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الاشتر: (وأشعِرْ قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا

ص: 255


1- وسائل الشيعة: باب1، ح13.
2- المصدر السابق: باب 11، ح4.
3- مستدرك الوسائل: 21 / 395، ح5.
4- وسائل الشيعة: 12 / 294، ح2.
5- ((«3»المصدر السابق: 17 / 466، ح1.
6- المصدر السابق: 23 / 237، ح4.

تكونّن عليهم سبُعاً ضارياً تغتنمُ أكلَهم؛ فإنهم صنفان: إما أخٌ لك في الدين، أو نظيرٌ لك في الخلق، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحبُّ وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه)، فأين أدعياء حقوق الإنسان الذين تتبرأ حتى وحوش الغاب من أفعالهم من هذه التعاليم؟!.

غيض من فيض:

هذا غيض من فيض ممّا أدّب به الأئمة (علیه السلام) شيعتهم وأرادوهم أن يكونوا كذلك، لذلك أحبوهم ومنحوهم المقامات الرفيعة. يقول الإمام الصادق (علیه السلام) لشيعته: (أما والله إنيّ لأحبُّ ريحكم وأرواحكم)(1)، ويقول الإمام الرضا (علیه السلام): (شيعتنا ينظرون بنور الله، ويتقلّبون في رحمة الله، ويفوزون بكرامة الله؛ ما من أحدٍ من شيعتنا يمرض إلا مرضنا لمرضه، ولا اغتمّ إلا اغتممنا لغمَّه، ولا يفرح إلا فرحنا لفرحه، ولا يغيب عنّا أحدٌ من شيعتنا أين كان في شرق الأرض أو غربها)(2)وقال شخص: (دخلنا على أبي عبد الله (علیه السلام) في زمن مروان -- وهو الملقب بالحمار آخر ملوك بني أمية -- فقال (علیه السلام): من أنتم؟ فقلنا: من أهل الكوفة؟ فقال: ما من بلدةٍ من البلدان أكثر محبّاً لنا من أهل الكوفة، ولاسيّما هذه

ص: 256


1- المصدر السابق: 1 / 88، ح11.
2- صفات الشيعة: ح5.

العصابة، إنّ الله جلّ ذكره هداكم لأمر جهله الناس،وأحببتمونا وأبغضنا الناس، واتبّعتمونا وخالفنا الناس، وصدَّقتمونا وكذَّبنا الناس، فأحياكم الله محيانا وأماتكم الله مماتنا، فأشهد على أبي إنهّ كان يقول: ما بين أحدكم وبين أن يرى ما يقرّ الله به عينه وأن يغتبط إلا أن تبلغ نفسه هذه -- وأهوى بيده إلى حلقه --)(1)وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (خرجت أنا وأبي حتّى إذا كنّا بين القبر والمنبر إذا هو بأناس من الشيعة، فسلّم عليهم ثم قال: أنتم شيعة الله، وأنتم أنصار الله، وأنتم السابقون الأولون والسابقون الآخرون والسابقون في الدنيا والسابقون في الآخرة إلى الجنة، قد ضمنّا لكم الجنّة بضمان الله عزّ وجلّ وضمان رسول الله (صلی الله علیه و آله).. في حديث طويل لكنّه (علیه السلام) قال: (واعلموا أنّ ولايتنا لا تُنال إلا بالورع والاجتهاد، من ائتمّ منكم بعبدٍ فليعمل بعمله)(2).اللهم أحينا حياة محمد وآل محمد (صلی الله علیه و آله) ، وأمتنا مماتهم واحشرنا معهم ولا تفرّق بيننا وبينّهم يا أرحم الراحمين، وصلّى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 257


1- الكافي، الروضة: 8/ 81، ح38.
2- المصدر السابق: ح259.

ص: 258

الفصل السادس: کیف واجه أئمة أهل البیت خطر الانشقاقات الداخلية

اشارة

ص: 259

ص: 260

الإمام الرضا (علیه السلام)

في مواجهة الانشقاق الداخلي

في مواجهة الانشقاق الداخلي(1)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

فتنة الواقفة:

في ذكرى الإمام أبي الحسن الرضا(علیه السلام) نشير إلى صفحة من سفر حياته المباركة آلمت قلبه الشريف واستنزفت الكثير من وقته وجهده الثمينين، وهي الفتنة التيقادها جملة من رموز أصحاب أبيه الإمام الكاظم(علیه السلام) المؤثرين في اتباع أهل البيتمما أدى إلى انشقاق داخل الكيان الشريف ونشوء فرقة ضمت عدداً كبيراً من حملة علم أهل البيتعبر أكثر من جيل سُمّوا بالواقفة، لا لسبب الا الطمع في الدنيا وحطامها الزائل وعناوينها الزائفة وجاهها الخادع.

روي عن يونس بن عبد الرحمن –وهو من كبار أصحاب الإمامين الكاظم والرضا(علیهما السلام) والفقهاء الأجلاء –قال: (مات أبو

ص: 261


1- كلمة ألقاها سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي(دام ظله) ضمن بحثه الشريف يوم 11/ذق/1432 المصادف 10/10/2011 في ذكرى ميلاد الإمام الرضا(علیه السلام).

الحسن(علیه السلام) وليس من قوامه أحد إلا وعنده المال الكثير فكان ذلك سبب وقوفهم وجحودهم موته طمعاً في الأموال، كان عند زياد بن مروان القندي سبعون ألف دينار وعند علي بن أبي حمزة ثلاثون ألف دينار).(1)

قال الشيخ الطوسي(رحمة الله علیه) في الكلام عن الواقفة (أولمن أظهر هذا الاعتقاد علي بن أبي حمزة البطائني وزياد بن مروان القندي وعثمان بن عيسى الرؤاسي، طمعوا في الدنيا، ومالوا إلى حطامها واستمالوا قوماً فبذلوا لهم شيئاً مما اختانوه من الأموال) وممن بذلوا له يونس بن عبد الرحمن حيث اطمعوه بمبلغ ضخم جداً وهو عشرة آلاف دينار إلا أنه رفض مفارقة الإمام الحق.

وكان الإمام الكاظم(علیه السلام) يقرأ في سلوك ابن أبي حمزة حبّه للدنيا، وتزلفه إلى الإمام(علیه السلام) ليكون له جاه يخدع به الناس، فقد كان يلازم أبا بصير -- وهو من كبار أصحاب الإمامين الباقر والصادق وأدرك إمامة الكاظم(علیه السلام) -- ويقوده لأنه كان كفيف البصر، وينقل عنه علوم أهل البيت(علیه السلام) لذا أخذ عن البطائني كبار الأصحاب لأنهم يجدون عنده ما لا يجدون عند غيره لطول ملازمته، لكن الإمام الكاظم(علیه السلام) كان يشبهه منذ ذلك الوقت المبكر بأنّه كالحمار مطبقاً عليه قوله

ص: 262


1- الروايات المذكورة كلها أوردها الكشي في رجاله والشيخ الطوسي(رحمة الله علیه) وغيرهما، وقد جمعها من مصادرها السيد الخوئي(رحمة الله علیه) في معجم رجال الحديث: 11/229-241.

تعالى في سورة الجمعة «مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُأَسْفَاراً» (الجمعة/5) إشارة إلى أن ابن أبي حمزة يحمل علماً جماً إلا أنه لم يستفد منه، ووقع فيما وقع فيه، روى أبو داود المسترق قال: (كنت أنا وعيينة بياع القصب عند علي بن أبي حمزة، فسمعته يقول: قال لي أبو الحسن موسى(علیه السلام) إنما أنت يا علي وأصحابك أشباه الحمير، قال: فقال عيينة أسمعت؟ قال: قلت أي والله قال: فقال: لقد سمعت والله لا أنقل قدمي إليه ما حييت).

تألم الإمام الرضا (علیه السلام) لانحراف اتباعه:

وكان الإمام الرضا(علیه السلام) لا يتوقف عن إظهار ألمه لحصول هذا الانحراف لدى اتباعه والتنديد به وبأهله، فعن محمد بن سنان قال (ذكر علي بن أبي حمزة عند الرضا(علیه السلام) فلعنه ثم قال: إن علي بن أبي حمزة أراد أن لا يعبد الله في سمائه وأرضه فأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون ولو كره اللعين المشرك، قلت المشرك؟ قال نعم والله وإن رغم انفه كذلك هو في كتاب الله يريدون أنيطفئوا نور الله وقد جرت فيه وفي أمثاله أنه أراد أن يطفئوا نور الله..).

وعن يونس بن عبد الرحمن قال: (دخلت على الرضا(علیه السلام) فقال لي: مات علي بن أبي حمزة؟ قلت نعم، قال: قد دخل النار! قال:

ص: 263

ففزعت من ذلك! قال: أما انه سئل عن الإمام بعد موسى أبي فقال: لا أعرف إماماً بعده!! فقيل لا؟! فضرب في قبره ضربة اشتعل قبره ناراً).

لكن الإمام(علیه السلام) كان يستغرب في نفس الوقت من الذين انخدعوا بهذه الدعوة الفاسدة أو أصابهم التشكيك والتردد مع وضوح ضلالها وكذب ادعاءاته، روى محمد بن الفضيل عن الإمام الرضا(علیه السلام) قال: (سمعته يقول في ابن أبي حمزة: أما استبان لكم كذبه؟ أليس هو الذي يروي أن رأس المهدي يُهدى إلى عيسى بن موسى وهو صاحب السفياني؟

وقال: إن أبا الحسن -- يعني أباه الكاظم(علیه السلام) -- يعود إلى ثمانية أشهر؟!!) ولم يحصل شيء من ذلك، بينماكان الإمام(علیه السلام) يقيم لهم البينات ويخبرهم بالمغيبات التي يثبت صدقها كإخباره بأن هارون العباسي لا يمسُّه سوء.

لكي لا تستفزنا الحركات الانفعالية أو الوصولية:

وكان(علیه السلام) يصبّر شيعته ويقوي عزيمتهم ليثبتوا على الصراط المستقيم، وأن لا تستفزهم تلك الحركات وأن يقابلوها بالحكمة والموعظة الحسنة والحوار المبني على الدليل، روى محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا قال: (قلت: جعلت فداك إني خلفت ابن أبي حمزة وابن مهران وابن أبي سعيد اشد أهل

ص: 264

الدنيا عداوة لك!! فقال لي: ما ضرك من ضل إذا اهتديت انهم كذبوا رسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) وكذّبوا أمير المؤمنين(علیه السلام) وكذبوا فلاناً وفلاناً وكذبوا جعفراً وموسى(علیه السلام)، ولي بآبائياسوة قلت جعلت فداك إنا نروي أنك قلت لابن مهران: اذهب الله نور قلبك وادخل الفقر بيتك؟ فقال: كيف حاله وحال بنيه؟ فقلت: يا سيدي أشد حال، هم مكروبون ببغداد لم يقدر الحسين أن يخرج إلى العمرة فسكت) وإنما سكت لأنّه(علیه السلام) لم يكنيحب أن يراهم بهذا الحال.

لا نجزع لقلة الناس حولنا:

وقال(علیه السلام) (إنه لما قبض رسول الله(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) جهد الناس في إطفاء نور الله فأبى الله إلا أن يتم نوره بأمير المؤمنين(علیه السلام) فلما توفي أبو الحسن(علیه السلام) جهد علي بن أبي حمزة في إطفاء نور الله فأبى الله إلا أن يتم نوره. وإن أهل الحق إذا دخل فيهم داخل سرواً به وإذا خرج منهم خارج لم يجزعوا عليه وذلك انهم على يقين من أمرهم وإن أهل الباطل إذا دخل فيهم داخل سروا به(1)وإذا خرج منهم خارج جزعوا عليه وذلك انهم على شك من أمرهم إن الله جل جلاله يقول: (فمستقر ومستودع) قال: ثم قال أبو عبد الله(علیه السلام): المستقر الثابت والمستودع المعار).

ص: 265


1- فرّق سماحته بين سرور أهل الحق وأهل الباطل في الغرض، فإن الأول نابع من حبهم الخير والهداية لكل الخلق، أما الثاني فلاغترارهم بكثرتهم وشكهم في أمرهم فيجعلون التحاق الغير بهم دليلاً على سلامة موقفهم.

محاورة الإمام (علیه السلام) لهم واقامة الحجة عليهم:

وبقي الإمام(علیه السلام) يحاور أولئك المنحرفين ويقيم عليهم الحجج الدامغة انطلاقاً من مسؤوليته في هداية الخلق جميعاً والأخذ بأيديهم إلى ما يسعدهم في الدنيا والآخرة، خصوصاً إذا كانوا من داخل الكيان الموالي لأهل البيتلأن الخطر عندما ينطلق من الداخل يكون أشد فتكاً في بناء الأمة وقد نجح(علیه السلام) في إرجاع كثيرين إلى جادة الصواب.

روى أحد أصحاب الإمام الرضا(علیه السلام) قال: كنت عند الرضا(علیه السلام) فدخل عليه علي بن أبي حمزة، وابن السرّاج، وابن المكارى، فقال له ابن أبي حمزة: ما فعل أبوك؟ قال: مضى، قال: مضى موتاً؟ قال: نعم، قال: إلى من عهد؟ فقال: إلىّ، قال: فأنت إمام مفترض الطاعة من اللّه؟ قال: نعم، قال ابن السراج وابن المكارى: قد واللّه أمكنك من نفسه، قال: ويلك وبما أمكنت، أتريد أن آتي بغداد وأقول لهارون أنا إمام مفترض الطاعة، واللّه ما ذلك عليّ وإنّما قلت ذلكلكم عندما بلغني من اختلاف كلمتكم وتشتّت أمركم لئلاّ يصير سرّكم في يد عدوّكم، قال له ابن أبي حمزة: لقد أظهرت شيئاً ما كان يظهره أحد من آبائك ولا يتكلّم به، قال: بلى لقد تكلّم خير آبائي رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) لمّا أمره اللّه تعالى أن ينذر عشيرته الأقربين، جمع من أهل بيته أربعين رجلاً وقال لهم: أنا رسول اللّه

ص: 266

إليكم، فكان أشدّهم تكذيباً له وتأليباً عليه عمّه أبو لهب، فقال لهم النبيّ (صلی الله علیه و آله) : إن خدشني خدش فلست بنبي، فهذا أوّل ما أبدع لكم من آية النبوة، وأنا أقول: إن خدشني هارون خدشاً فلست بإمام فهذا أوّل ما أبدع لكم من آية الإمامة، فقال له على: إنّا روينا عن آبائك أنّ الإمام لا يلي أمره إلاّ أمام مثله، فقال له أبو الحسن(علیه السلام): فأخبرني عن الحسين بن علي(علیه السلام)، كان إماماً أو كان غير إمام؟ قال: كان إماماً، قال: فمن ولي أمره؟ قال: علي بن الحسين، قال: وأين كان علي بن الحسين(علیه السلام)؟ قال: كان محبوساً في يد عبيد اللّه بن زياد في الكوفة، قال: خرج وهم كانوا لا يعلمون حتى وليّ أمرأبيه ثم انصرف، فقال له أبو الحسن(علیه السلام): إنّ هذا الذي أمكن علي بن الحسين(علیه السلام) أن يأتي كربلاء فيلي أمر أبيه فهو أمكن صاحب هذا الأمر أن يأتي بغداد فيلي أمر أبيه ثم ينصرف، وليس في حبس ولا في إساءة، قال له علي: إنّا روينا أنّ الإمام لا يمضي حتى يرى عقبه(1)، قال: فقال أبو الحسن(علیه السلام): أما رويتم في هذا الحديث غير هذا؟ قال: لا، قال: بلى واللّه لقد رويتم إلاّ القائم وأنتم لا تدرون ما معناه ولم قيل، قال له علي: بلى واللّه إنّ هذا لفي الحديث، قال له أبو الحسن(علیه السلام): ويلك كيف اجترأت على شى ء تدع بعضه، ثم قال: يا شيخ اتّق اللّه ولا تكن من الصّادين عن دين اللّه تعالى).

ص: 267


1- ولد الإمام الجواد(علیه السلام) لأبيه الرضا(علیه السلام) بعد أن تجاوز السادسة والأربعين من عمره الشريف ممن وفّر فرصة لأصحاب الفتن ليثيروا هذه الإشكالات.

وروى الشيخ الصدوق(رحمة الله علیه) بسنده عن أبي مسروق قال: (دخل على الرضا(علیه السلام) جماعة من الواقفة فيهم عليبن أبي حمزة البطائنى، ومحمد بن إسحاق بن عمّار، والحسين بن مهران، والحسن بن أبي سعيد المكارى، فقال له علي بن أبي حمزة جعلت فداك أخبرنا عن أبيك(علیه السلام) ما حاله، فقال له: إنه قد مضى، فقال له: فإلى من عهد؟ فقال إلىّ: فقال له: إنّك لتقول قولاً ما قاله أحد من آبائك علي بن أبي طالب(علیه السلام) فمن دونه، قال: لكن قد قاله خير آبائي وأفضلهم رسول اللّه(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) ، فقال له: أما تخاف هؤلاء على نفسك؟ فقال: لو خفت عليها كنت عليها معيناً(1)، إنّ رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) أتاه أبو لهب فتهدّده، فقال له رسول اللّه(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) : إن خدشت من قبلك خدشة فأنا كذّاب، فكانت أوّل آية أنزع نزع بها رسول اللّه(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) ، وهي أوّل آية لكم إن خدشت خدشة من قبل هارون فأنا كذّاب، فقال له الحسن بن مهران: قد أتانا ما نطلب أن أظهرت هذا القول، قال: فتريد ماذا؟ أتريد أن أذهب إلى هارون فأقول له: إنّي إماموأنت لست في شي ء، ليس هكذا صنع رسول اللّه(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) في أوّل أمره، إنّما قال ذلك لاهله ومواليه ومن يثق به، فقد خصّهم به دون الناس، وأنتم تعتقدون الامامة لمن كان قبلي من آبائى، ولا تقولون إنه أنّما يمنع علي بن موسى أن يخبر أنّ أباه حيّ تقية، فإنّي لا أتقيكم في أن أقول: إنّي إمام فكيف أتقيكم في أن أدعي أنه حيّ لو كان حيّاً).

ص: 268


1- شرح سماحته وجهاً لهذه الفقرة في كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية).

الابتلاء مستمر:

هذا ما حصل في زمان الإمام الرضا(علیه السلام) بعد رحيل سلفه الإمام الكاظم(علیه السلام) وحصل مع أجداده من قبل، وفي كل زمان، ما دامت النفوس الأمّارة بالسوء المحبة للدنيا الزائلة الزائفة والطموحة إلى تقمّص هذه المواقع المقدسة «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ» (آل عمران/144). وقد قلنا في كلمة سابقة ان الله تعالى عندما يخاطب النبي(صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِه) بوصفه رسولاً –كقوله تعالى يا أيها الرسول بلغ- فإنها ليست خاصة بشخصه الشريف وإنما هي سنة إلهية ترتبط بموقعه المبارك.

ص: 269

ص: 270

التحديات التي واجهها الإمام الرضا (علیه السلام)

التحديات التي واجهها الإمام الرضا (علیه السلام)(1)

التحديات المختلفة:

لقد واجهت الإمام الرضا(علیه السلام) مجموعة معقدة من التحديات وبمختلف الاتجاهات، أحدها باتجاه السلطة التي بلغت ذروة النفوذ والاتساع في الإمكانات البشرية والمادية والعسكرية في عصري هارون والمأمون العباسيين وكانت ترى في الأئمة(علیه السلام) الضد النوعي والبديل المعارض فتراقبه وتحاصره وتحسب عليه أنفاسه.

والتحدي الآخر كان الانفتاح الفكري والعلمي على الحضارات الأخرى كالإغريق والرومان والصين والهند والفرس حيث اتسعت حركة الترجمة وتبادل الإرث العلمي وسادت روح الإعجاب بتلك الحضارات ونقل آثارها وتجاربها وكثير منها مناقض للدين ويطرح نظريات تعارضعقيدة الإيمان وتدعو إلى الإلحاد والكفر بالرسالات السماوية وكان لها مروّجون ودعاة، فوقف الإمام(علیه السلام) لهم بالمرصاد وناظرهم وأبطل نظرياتهم، وقد

ص: 271


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع ممثلي هيئة المواكب الحسينية في الناصرية يوم السبت 23/ذ.ق/1432ه- المصادف 22/10/2011.

حفل كتاب الاحتجاج للطبرسي بجملة من تلك المناظرات، التي كانت مظهراً من مظاهر (صراع الحضارات) الذي يتبنونه اليوم.

انهيار القيم الأخلاقية في زمن الإمام الرضا (علیه السلام):

والتحدي الثالث هو انهيار القيم الأخلاقية وانتشار الفساد والخلاعة والمجون ومجالس اللهو والطرب وكانوا يتقربون إلى السلطة بالجواري والمغنين والغلمان ليحظوا بالجوائز والامتيازات ولسعة هذه الحالة في ذلك العصر، ألّف أحدهم كتاباً من عدة مجلدات اسمه (عصر المأمون) يتناول جوانب الحياة في ذلك العصر.

الانشقاقات الداخلية:

مضافاً إلى ذلك فقد واجهته(علیه السلام) مشاكل وتحديات داخل الكيان الشريف أي من داخل أتباع مدرسة أهلالبيت(علیه السلام) وأحدها الانشقاق الداخلي الذي تحوّل إلى فرقة اسمها (الواقفة) انقطعت جزءاً مهماً من علماء المدرسة ورواتها وقواعدها، وأضيفت إلى قائمة الفرق المنشقة (الزيدية) التي قالت بإمامة زيد بن علي السجاد(علیه السلام) دون الإمام الصادق(علیه السلام)، و (الفطحية) الذين قالوا بإمامة عبد الله الأفطح ابن الإمام الصادق(علیه السلام) دون أخيه موسى بن جعفر(علیه السلام)، وكانت الواقفة تقول بعدم وفاة الإمام موسى بن جعفر(علیه السلام) وبالتالي فإن علي بن موسى ليس إماماً ولا نسلّم ودائع أبيه الضخمة إليه ولا نرجع إليه في الأحكام والمواقف العامة.

ص: 272

تحدي التشكيك بإمامته:

ومن التحديات الداخلية التشكيك بالإمام(علیه السلام) وقراراته فجعلوا من أنفسهم قيمين على الإمام ولا يطيعونه إلا عندما يتبع إرادتهم ويأخذ بمواقفهم، كالذي حصل عند وقوع الصراع بين الأمين والمأمون على السلطة، واستطاع المأمون خداع جملة من الشيعة لينضموا إليه من دونالرجوع إلى الإمام(علیه السلام) من باب دفع الأفسد بالفاسد أو أن المصلحة تقتضي ذلك فجعلوا من أنفسهم وقوداً لهذه الحرب الشيطانية بحماقتهم وغرورهم، ولما انتصر المأمون جازى الشيعة بكل بطش وقسوة وقتل إمامهم و إمام الخلق أجمعين الرضا(علیه السلام).

هذا كله والإمام لا يستطيع أن يقول كل ما عنده وإنما يكتفي بالإشارات والتوجيهات العامة لأن السلطات تتربص به الدوائر وتكيد له، وهو لا يبخل بنفسه على الله تبارك وتعالى لكنه صاحب رسالة ومشروع إلهي ولابد من البقاء للمضي فيه ولم ينتهي دوره حتى يقدم على الشهادة التي أقدم عليها بكل طمأنينة حينما حلّ وقت البديل.

وشككوا بصحة إمامته من جهة عدم وجود ولد له، ولابد للإمام أن يكون له خلف من أهله، وقد تأخرت ولادة الإمام الجواد(علیه السلام) إلى سنة 195ه- والإمام الرضا(علیه السلام) في السابعة والأربعين من

ص: 273

العمر، ثم اتهموه بصحة انتساب ولده الجواد(علیه السلام) وطلبوا التحاكم إلى القافة –من القيافة وهيفراسة احراز التشابه بين شخصين لإلحاقه به وكانوا في الجاهلية يعتمدونها لإثبات الأنساب-، وإذا علمنا أن الإمام الكاظم(علیه السلام) استشهد سنة 183 فهذا يعني أن الإمام الرضا قضى (12) سنة من إمامته بهذه التشكيكات حتى ولد ابنه الجواد(علیه السلام).

كي نعيش بمسؤولية:

تعرضنا على نحو الاختصار لهذه المحطات من حياة الإمام الرضا(علیه السلام) لنعيش معه همومه وآلامه ومسؤولياته بمقدار فهمنا وادراكنا، ولنعلم أن هذه الأحداث ليست تاريخاً يقرأ على المنابر لاستدرار العواطف وإنما هي دروس نستفيد منها في حياتنا الحاضرة.

فكم من اتباع أهل البيتوقفوا إلى جانب الاحتلال الأمريكي والغربي عام 2003 بحجة دفع الأفسد وهو صدام – بالفاسد ولا أدري ما الذي جعلهم يعتقدون ذلك؟

وكم من اتباع أهل البيتوضعوا أيديهم بأيديالإرهابيين القتلة بعنوان مقاومة المحتل ونحوه فنشروا الخراب والدمار وأهلكوا الحرث والنسل ونخروا كيان الدولة وضاع الشعب وثرواته ومؤسساته بين هذا وذاك.

ص: 274

أما التشكيك بالمرجعية والقيادة فمستمر. لماذا لم تفعل كذا، ولماذا فعلت كذا؟ وهل تعلم بكذا أو لا تعلم وكأنهم هم القيمون عليها وأن المرجعية أُمرت بطاعتهم لا العكس.

ونتيجة هذا التشكيك التقاعس والتخاذل والتنازع والتمرد وهي أسباب لانهيار الكيان واضمحلاله «وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» (الأنفال/46) والأمة هي التي تدفع ثمن هذه النتائج كما تشهد به وقائع التاريخ.

ص: 275

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.