إيضاح کفاية الأصول

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحسیني الشیرازي، السيدجعفر، 1349 -

عنوان العقد: کفایه الاصول .شرح

عنوان واسم المؤلف: إيضاح کفاية الأصول/ تالیف السيدجعفر الحسیني الشیرازي.

تفاصيل المنشور: قم: دارالفکر، 1397.

مواصفات المظهر: 5 ج.

ISBN : دوره 978-600-270-236-4 : ؛ 120000 ریال: ج.1 978-600-270-237-1 : ؛ 120000 ریال: ج.2 978-600-270-238-8 : ؛ 120000 ریال: ج.3 978-600-270-239-5 : ؛ 120000 ریال: ج.4 978-600-270-240-1 : ؛ 120000 ریال: ج.5 978-600-270-241-8 :

حالة الاستماع: فیپا

ملاحظة : العربیة.

ملاحظة : ج. 2 - 5 (چاپ اول: 1397)(فیپا).

ملاحظة : هذا الكتاب هو وصف لكتاب "کفاية الأصول" الذي المؤلف آخوند الخراساني.

ملاحظة : فهرس.

قضية : آخوند الخراساني، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق. . کفاية الأصول -- النقد والتعليق

قضية : Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein . Kefayat ol - osul -- Criticism and interpretation

قضية : أصول الفقه الشيعي

* Islamic law, Shiites -- Interpretation and construction

المعرف المضاف: آخوند الخراساني، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق . کفایه الاصول. شرح

المعرف المضاف: Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein. . Kefayat ol - osul

ترتيب الكونجرس: BP159/8/آ3ک7021326 1397

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 5279147

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فیپا

ص: 1

المجلد 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

وبعد: فحينما باحثت الكفاية للمحقق المدقق الآخوند الخراساني قدّس سرّه، كنت أكتب بعض المطالب في قصاصات أوراق - للحاجة إلى المراجعة إليها حين الدرس - ثم اقترح علي بعض الأعزّة أن أتوسع فيها قليلاً لتكون كتاباً توضيحياً ليراجع إليها هو وغيره من الطلاّب حين الحاجة، فاستجبت للطلب رغم كثرة شروح الكفاية التوضيحيّة، والذي أفضلها كتاب (الوصول إلى كفاية الأصول) للسيد الوالد أعلى الله درجاته، والذي قد استفدت منه كثيراً في هذا الكتاب، وغيره من الشروح؛ وذلك لاختلاف أذواق الطلبة واختلاف نمط الشروح، أسأل الله القبول، وأن يجعل النفع في هذا الكتاب، إنه ولي التوفيق.

قم المقدسة

جعفر بن محمد الحسيني الشيرازي

5 / ربيع الأول / 1431

ص: 5

ص: 6

المقدمة

اشارة

ص: 7

ص: 8

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسَّلام على محمّد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

وبعد، فقد رتّبته على مقدّمة ومقاصد وخاتمة. أما المقدمة[1] ففي بيان أمور:

الأول[2]:

-----------------------------

[1] إنّما كانت مقدمة لأنها خارجة عن مسائل العلم، ولكنها تمهيد له. فمعرفة موضوع العلم وتعريفه، والغرض منه تكشف للإنسان ملامح ذلك العلم؛ ولأنّ المجلد الأول من الأصول هو بحث في الألفاظ، كان من المناسب معرفة الوضع وأقسامه، ومُصححاته وعلائمه.

ولمّا كانت للشارع اصطلاحات خاصة به تَمَّ البحث عن الحقيقة الشرعية أو المتشرعيّة، وعن ألفاظ العبادات وأنها للصحيح أم للأعم، وألفاظ المعاملات وأنها للسبب أو المسبب.

ولمّا ارتبطت بعض الأحكام ببعض حالات المكلف - كالعدالة والفسق - وهي حالات متبدّلة، كان من المناسب بحث المشتق، وأنه حقيقة في المتلبس بالمبدأ أو في الأعم، وغيرها من البحوث.

كل هذه خارجة عن مسائل الأصول، لكنها ممهّدة له، بحثها المصنف في ثلاثة عشر أمرا في المقدمة.

الأمر الأول موضوع علم الأصول وتعريفه

اشارة

[2] في موضوع علم الأصول، ومسائله، وتعريفه.

ص: 9

إنّ موضوع كل علم - وهو الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة[1]، أي بلا واسطة

------------------------

وقد بدأ المصنف ببيان معنى الموضوع في كل علم، وكذا معنى المسائل، وتمايز العلوم بعضها عن بعض، تمهيداً لتطبيقها على علم الأصول.

ولا يخفى أن كل علم مركب من الموضوع والمسائل والمبادئ.

1- موضوع العلوم

[1] اعلم أن ثبوت شيء لشيء آخر على أربعة أقسام:

القسم الأول: أن يكون هذا الثبوت باقتضاء الذات، من غير أن تكون هناك علة، ومثاله: زوجية الأربعة، فإن الزوجية من اقتضاء ذات الأربعة من غير واسطة.

القسم الثاني: أن يكون الثبوت بواسطة - ويعبر عنه بہ (الواسطة في الثبوت) - وهذا على ستة أصناف:

1- الثبوت بواسطة داخلية مساوية - أي: بواسطة الفصل - مثل ثبوت التكلم للإنسان بواسطة كونه ناطقاً.

2- الثبوت بواسطة خارجية مساوية - أي: بواسطة العَرَض الخاص - مثل ثبوت الضحك للإنسان بواسطة التعجب، فالتعجب الذي هو خارج ذات الإنسان - لأنه عرض خاص - ومساوٍ للإنسان - لعدم وجود متعجب آخر غيره - صار سببا لضحك الإنسان.

3- الثبوت بواسطة داخلية أعم - أي: بواسطة الجنس - مثاله: ثبوت المشي للفرس بواسطة كونه حيواناً.

4- الثبوت بواسطة خارجية أعم - أي: بواسطة العَرَض العام - مثاله: التعب الثابت للإنسان بواسطة المشي.

5- الثبوت بواسطة خارجية أخص، مثاله: الضحك العارض للحيوان بواسطة

ص: 10

--------------------------

التعجب، فقد ثبت الضحك للحيوان بواسطة عرض أخص، وهو التعجب؛ لأن التعجب خاص بنوع من الحيوان وهو الإنسان.

ولا يخفى عدم وجود واسطة داخلية أخص؛ لأن الداخلي: إما فصل - وهو مساوٍ - أو جنس - وهو أعم - ولا ثالث.

6- الثبوت بواسطة أمر مباين، مثاله: ثبوت الحرارة للماء بواسطة النار؛ إذ بين النار والماء تباين - لايجتمعان - .

القسم الثالث: الواسطة في العروض، أي: لا يكون عارضاً للشيء حقيقة، بل عارض على غيره، ولكن ينسب إلى الشيء مجازاً، مثل: (جرى الميزاب)، مع أن الجاري حقيقة هو الماء، ولكن نُسب الجريان إلى الميزاب مجازاً، بعلاقة الحال والمحل.

القسم الرابع: الواسطة في الإثبات، أي: الواسطة في علمنا، مثل: كون الدخان واسطة لعلمنا بوجود النار، وهذا القسم خارج دائرة البحث الآن.

ثم اعلم أن موضوع العلم هو ما يبحث عن عوارضه الذاتية، لا ما يبحث عن عرضه الغريب.

وقد اختلفوا في تعيين العرض الذاتي والعرض الغريب. فالمصنف يرى أن القسم الأول والثاني - بأصنافه الستة - هي من العرض الذاتي، والقسم الثالث هو العرض الغريب.

والمشهور على أن الذاتي هو القسم الأول، والصنف الأول والثاني من القسم الثاني، وأما الغريب فهو الصنف الرابع والخامس والسادس وكذا القسم الثالث، واختلفوا في الصنف الثالث.

والصحيح هو ما يراه المصنف؛ لأن مبنى المشهور يستلزم خروج كثير من مسائل العلوم عنها، والتزام الاستطراد فيها.

ص: 11

في العروض[1] - هو نفس موضوعات مسائله عيناً[2] وما يتحد[3] معها خارجاً،

------------------------

مثلاً: الرفع يعرض الكلمة بواسطة كونها فاعلاً - وهذا من الصنف الخامس؛ إذ الواسطة هي الفاعل، وهو أخص من الكلمة - فهل

يلتزم أحد بأن بحث رفع الفاعل ليس من مسائل النحو؟

ثم اعلم أن للعرض تقسيمات متعددة، كالعرض العام والخاص، وكالعرض اللازم البين وغير البين... وغير ذلك من التقسيمات، إلاّ أن الغرض هنا كان التقسيم من جهة عروضه لشيء آخر، وأنه هل هو بواسطة أو بغير واسطة؟ ... الخ.

[1] فالعرض الذاتي - عند المصنف - هو القسم الأول، والقسم الثاني - بجميع أصنافه - وأما إذا كان واسطة في العروض - وهو القسم الثالث - فهو العرض الغريب. خلافاً للمشهور حيث ادخلوا بعض أصناف القسم الثاني في العرض الغريب - كما عرفت شرحه مفصلاً - .

[2] فإن كل مسألة من مسائل العلم تتركب من موضوع ومحمول، والموضوع في المسألة هو نفس موضوع العلم خارجاً، والتغاير في المفهوم، فموضوع العلم كلي، وموضوع المسألة مصداق لذلك الكلي.

مثلاً: موضوع علم النحو: (الكلمة)، والكلمة متحدة مع (الفاعل) خارجاً، في مسألة (الفاعل مرفوع)، والفرق أن (الكلمة) كلي، و(الفاعل) مصداق لذلك الكلي.

[3] عطف تفسيري، وإنّما يلزم الاتحاد لكي تكون المسائل بحث عن موضوع العلم، أما لو كان موضوع المسألة مغايراً لموضوع العلم لزم خروج تلك المسائل عن ذلك العلم، حيث لا تبحث عن موضوع العلم، بل عن موضوع آخر.

ص: 12

وإن كان يُغايرها مفهوماً تغاير[1] الكلي ومصاديقه والطبيعي[2] وأفراده.

والمسائل: عبارة[3] عن جملة من قضايا متشتتة، جَمَعَها اشتراكها في الدخل[4] في الغرض الذي لأجله دُوِّنَ هذا العلم، فلذا[5] قد يتداخل بعض العلوم في بعض المسائل، مما كان له[6] دخل في مُهِمَّين، لأجل كل منهما دُوِّنَ علم على حِدَة، فيصير

-------------------------

[1] أي: تغاير موضوع العلم مع موضوع المسألة، كتغاير الكلي ومصاديقه.

[2] عطف تفسيري على (الكلي ومصاديقه).

2- مسائل العلوم

[3] العلم هو مجموعة مسائل - أي: قضايا لها موضوع ومحمول - وهذه القضايا المختلفة يجمعها وحدة الهدف.

مثلاً: الهدف من علم النحو هو صيانة اللسان عن الخطأ في الإعراب، وهذا الهدف يجمع بين مسألة (الفاعل مرفوع) و(المفعول منصوب) و(المضاف إليه مجرور)؛ لأن العلم بكل مسألة من هذه المسائل وتطبيقها يصبّ في الهدف العام لعلم النحو، وهو صيانة اللسان.

[4] «جَمَعَها» جمع تلك القضايا في علم واحد، «اشتراكها» أي: القضايا، «الدخل»: أي التأثير، «دُوّن» من التدوين بمعنى التأليف.

[5] أي: لأن الغرض هو الجامع بين القضايا المتشتتة نجد أن بعض المسائل تُبحث في علوم مختلفة.

مثلاً: مسألة التجري يبحث عنها في الفقه والأصول والكلام؛ لأن أغراض هذه العلوم تنطبق عليها، فمن جهة ارتباطها بفعل المكلف، يقال: هل التجري حرام؟ ومن جهة ارتباطها باستنباط الأحكام الشرعية، يقال: هل التجري قبيح؟ ومن جهة ارتباطها بالمعاد، يقال: هل التجري يوجب استحقاق العقوبة؟

[6] «مما» من المسائل التي، «كان له» لبعض المسائل، «مهمّين» غرضين، «منهما» من المهمّين، «على حدة» بانفراده، «فيصير» يصير ما كان له دخل في مهمين.

ص: 13

من مسائل العلمين.

لا يقال[1]: على هذا[2] يمكن تداخل عِلْمين في تمام مسائلهما في ما كان هناك مُهمّان متلازمان في الترتب على جملة من القضايا لا يكاد[3] انفكاكهما.

فإنه يقال[4]:

-------------------------

[1] إشكال على جعل الضابطة في المسائل هي (اشتراكها في الدخل في الغرض).

وحاصله: إنه لو كان الاشتراك في الغرض هو الجامع لمسائل العلم الواحد - مع إمكان أن يترتب على مسألة واحدة غرضان - للزم اتحاد علمين في كل المسائل لو اتفق ترتب غرضين على كل مسألة مسألة.

وأنت ترى أنه من القبيح كتابة علمين - مع اتحادهما في كل المسائل - وهذا يكشف عن أن الضابط في (المسائل) ليس الاشتراك في الغرض، بل الضابط هو وحدة الموضوع - مثلاً - .

[2] أي: كون علة التدوين هو الغرض، «في ما كان» أي: التداخل في هذه الصورة، «متلازمان» اتفاقاً، «جملة من القضايا» التي تشكل مسائل العلمين.

[3] عطف بيان لقوله (متلازمان).

[4] الجواب من وجهين:

الأول: إنا لا نتكلم في الفرضيات، وإنما نتكلم في العلوم الخارجية، ولا يوجد علمان يترتب غرضان متلازمان على كل مسائلهما.

الثاني: إنه لو فرض ذلك فلا يحسن تأليف علمين، بل يكتب كتاب واحد، ويقال: إن هذه المسائل يترتب عليها غرضان.

وبعبارة أدق: إنا ادعينا أن المسائل يجمعها وحدة الغرض، ولم ندّعِ أن وحدة الغرض هي سبب وحدة العلم، حتى ينقض بأنه يمكن فرض علم واحد مع ترتب غرضين.

ص: 14

- مضافاً[1] إلى بُعد ذلك بل امتناعه عادةً[2] - لا يكاد[3] يصح لذلك تدوين علمين وتسميتهما باسمين، بل تدوين علم واحد، يُبحث فيه تارة[4] لكلا المهمين وأخرى لأحدهما، وهذا بخلاف التداخل في بعض المسائل، فإن حسن تدوين علمين كانا مشتركين في مسألة أو أزيد في جملة مسائلهما المختلفة لأجل مهمين[5] مما لا يخفى.

وقد انقدح بما ذكرنا[6] أن تمايز العلوم إنما هو باختلاف الأغراض الداعية إلى

-------------------------

[1] هذا الجواب الأول.

[2] الممتنع العادي: هو ما يمكن بالذات، لكنه لم يتحقق ولن يتحقق أصلاً، كطيران الإنسان من غير وسيلة.

[3] هذا الجواب الثاني، «لذلك» لوجود غرضين في كل المسائل.

[4] أي: قد يكون القصد من التأليف كلا الغرضين، وقد يكون القصد أحد الغرضين.

ولا يخفى أن قصد المؤلف لا دخل له في المسائل، فالمسائل متحدة والعلم واحد، سواء كان قصد المؤلف كلا الغرضين أم أحدهما.

[5] «لأجل» متعلق بقوله: (حسن تدوين)، «مما لايخفى» خبر قوله: (فإن حسن...).

3- تمايز العلوم

[6] حيث قال المصنف: (والمسائل: عبارة عن جملة من قضايا متشتتة جَمَعَها اشتراكها في الدخل في الغرض، الذي لأجله دوّن هذا العلم).

والكلام في المائز بين العلوم، كعلم النحو والفقه.

1- قيل: المائز هو الموضوع(1)،

فموضوع علم النحو هو الكلمة والكلام، وموضوع علم الفقه هو فعل المكلّف.

ص: 15


1- الفصول الغروية: 11.

التدوين، لا الموضوعات ولا المحمولات، وإلاّ[1] كان كل بابٍ[2] - بل كل مسألة[3] - من كل علم علماً على حدة - كما هو واضح لمن كان له أدنى تأمل - فلا يكون الاختلاف بحسب الموضوع أو المحمول موجباً للتعدد، كما لا يكون وحدتهما[4] سبباً لأن يكون من الواحد.

-------------------------

2- وقيل: المائز هو المحمول(1)،

ففي النحو الإعراب - الرفع والنصب والجر - وفي الفقه الأحكام - الوجوب والحرمة والإباحة والاستحباب والكراهة - .

3- والمختار: إن المائز هو الغرض، فكلما اتحد الغرض من مسألتين كانتا من علم واحد - حتى مع اختلاف موضوعها ومحمولها - وذلك لأن المهم عند الناس هو الهدف والغرض من العلم، ولا يَهِمُّهُم ما إذا كان الموضوع واحداً أم لا.

ويرد على القول بأن التمايز بالموضوع أو المحمول: إن تعدد أبواب العلم الواحد، وكذا تعدد المسائل، إنما هو لتعدد الموضوع أو المحمول - وإلاّ كان العلم كله باباً واحداً ومسألة واحدة - فهذا التعدد يستلزم تعدد العلم الواحد، بل يستلزم أن تكون كل مسألة علماً مستقلاً؛ لاختلاف موضوعها أو محمولها عن سائر المسائل!!

[1] أي: وإن لم يكن التمايز بالغرض، بل كان بالمحمولات أو الموضوعات.

[2] بناءً على أن التمايز بالموضوع؛ لأن موضوع كل باب يختلف عن موضوع سائر الأبواب، مثلاً: الموضوع في باب الفاعل هو الفاعل، وفي باب المفعول هو المفعول وهكذا.

[3] بناءً على أن التمايز بالمحمول، فمسألة (الفاعل مرفوع) تختلف محمولاً عن مسألة (الفاعل لايتقدَّم على الفعل) وهكذا.

[4] أي: الموضوع والمحمول، كوحدة موضوع علم النحو وعلم الصرف - وهو الكلمة والكلام - فإنه لا يوجب وحدة عِلمي النحو والصرف.

ص: 16


1- بدائع الأفكار: 32.

ثم إنه[1] ربما لا يكون لموضوع العلم - وهو الكلي المتحد[2] مع موضوعات المسائل - عنوان خاص واسم مخصوص، فيصح أن يعبر عنه بكل ما دل عليه[3]، بداهة عدم دخل ذلك[4] في موضوعيّته أصلاً.

-------------------------

4- موضوع علم الأصول
اشارة

[1] يريد المصنف بيان موضوع علم الأصول، ويُمهّد لذلك مقدمة، وهي: إن موضوع كل مسألة من مسائل العلم هي مصداق جزئي لموضوع العلم، مثلاً: (الفاعل مرفوع) و(المفعول منصوب) و(المضاف إليه مجرور) هذه مسائل موضوعاتها جزئيات للكلي، وهو (الكلمة)، فإنها الجامع بين هذه الموضوعات المختلفة.

وبذلك يتبيّن أن موضوع علم الأصول هو الكلي الجامع بين موضوعات مختلف مسائل علم الأصول.

وإن سألت: ما هو ذلك الموضوع الجامع لعامة مواضيع المسائل؟

فجوابنا: إنه لا يشترط المعرفة التفصيلية لذلك الجامع الكلي، بل يكفي أن نعلم أن هناك شيئاً كلياً هو الجامع.

[2] لأن الكلي الطبيعي لا وجود له في الخارج إلاّ بوجود أفراده، فالإنسان لا يوجد إلاّ في ضمن الأفراد الجزئية كزيد وعمرو...، «واسم مخصوص» عطف تفسيري على قوله (عنوان خاص).

[3] سواء كانت دلالة تفصيلية، كقولنا: موضوع علم النحو: الكلمة والكلام، أم كانت دلالة إجمالية، كقولنا: موضوع علم الأصول: هو الكلي الجامع لموضوعات مسائله.

[4] أي: ما دل عليه، وبعبارة أخرى: عدم دخل الاسم في كونه موضوعاً، فإن الموضوع إنّما هو الحقيقة الخارجية، سواء كان لها اسم أم لم يكن لها اسم؛ لأن

ص: 17

وقد انقدح بذلك[1] أن موضوع علم الأصول هو الكلي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتتة، لا خصوص[2]

-------------------------

الاسم إنّما هو للإشارة إلى تلك الحقيقة، «موضوعيته» أي: موضوعيّة الموضوع.

[1] أي: بهذه المقدمة وأنه لا يشترط معرفة الاسم في موضوعيّة الموضوع.

[2] قال المشهور: إن موضوع علم الأصول هو الأدلة الأربعة(1)

- الكتاب والسنة والإجماع والعقل - .

وذهب المحقق القمي إلى أن الموضوع هو (الأدلة الأربعة بما هي أدلة)(2) فجعل موضوع علم الأصول مركبا من: (الأدلة) و(بما هي أدلة).

وقد اُشكل عليه(3):

بأن كلامه يستلزم عدم اُصولية البحوث المتعلقة بإثبات حجية هذه الأربعة، كالبحث عن حجية ظاهر القرآن والسنة، وكالبحث عن حجية الإجماع والعقل، مع أن البحث عن حجية هذه الأربعة من أهم مسائل علم الأصول.

بيان الإشكال: إن مسائل العلم هي البحث عن عوارض الموضوع - بعد ثبوت الموضوع - أما البحث عن أصل وجود الموضوع فهو من المقدمات، والتي يعبر عنه بالمبادي التصديقية.

فلو جعلنا موضوع علم الأصول هو (الأربعة بما هي أدلة) كان (دليليتها) جزء الموضوع، فالبحث عن (الدليليّة) بحث عن أصل ثبوت الموضوع، فيكون هذا البحث من المبادئ لا من المسائل.

ولأجل هذا الإشكال التزم صاحب الفصول بأن موضوع علم الأصول هو (الأدلة الأربعة بما هي هي)، فأخرج (الدليلية) عن الموضوع، وبذلك يكون البحث عن

ص: 18


1- أوثق الوسائل في شرح الرسائل: 121.
2- قوانين الأصول 1: 9.
3- الحاشية على كفاية الأصول 1: 13.

الأدلة الأربعة بما هي أدلة[1]، بل ولا بما هي هي[2]، ضرورة أن البحث في غير واحد من مسائله المهمة ليس من عوارضها[3].

وهو واضح[4] لو كان المراد بالسنة منها هو نفس قول المعصوم أو فعله أو تقريره، كما هو المصطلح فيها؛ لوضوح عدم البحث في كثير من مباحثها المهمة

-------------------------

الدليلية - أي الحجيّة - بحث عن عوارض الموضوع؛ لأن الحجية تعرض على هذه الأربعة.

ويرد عليه: إن كلامه يستلزم دخول جميع العلوم المرتبطة بالقرآن والسنة - كعلم التفسير - في علم الأصول.

ثم إن المصنف أورد إشكالاً عاماً على كلا القولين - قول القوانين وقول الفصول - وحاصله: إن جعل الأدلة الأربعة موضوعاً لعلم الأصول يستلزم خروج كثير من المسائل الأصولية المهمة عن علم الأصول، كالبحث عن حجية الخبر الواحد، وكبحث تعارض الخبرين.

[1] كما ذهب إليه المحقق القمي.

[2] كما ذهب إليه صاحب الفصول.

[3] أي: ليس من عوارض الأدلة الأربعة.

[4] يذكر المصنف أن جعل الموضوع: الأدلة الأربعة، يستلزم خروج بعض أهم المسائل الأصولية من علم الأصول، وهو بحث حجية الخبر الواحد، وبحث تعارض الخبرين؛ وذلك لأنه ما هو المراد من السنة؟

فيه احتمالان:

1- السنة: هي قول وفعل وتقرير المعصوم، فخروج الخبر عن السنة واضح، ويرشدك إلى الفرق: أن (السنة) حجة قطعا، فإنه لا خلاف في حجية قول وفعل وتقرير المعصوم، ولكن (الخبر) وهو الحاكي عن السنة، قد اختلف في حجيته، بل بعض أقسام الخبر ليس بحجة أصلاً.

ص: 19

- كعمدة مباحث التعادل والتراجيح[1]، بل ومسألة حجية خبر الواحد - لا عنها ولا عن سائر الأدلة.

ورجوع البحث فيهما[2] في الحقيقة إلى البحث عن ثبوت السنة بخبر الواحد في مسألة حجية الخبر - كما أفيد(1)

- وبأي الخبرين في باب التعارض، فإنه[3] أيضاً بحث

-------------------------

2- السنة: هي الخبر مضافاً إلى قول المعصوم وفعله وتقريره، فعلى هذا الاحتمال يكون الخبر من السنة، لكن يرد إشكال آخر سيأتي شرحه.

أولاً: القول بأن السنة لاتشمل الخبر
اشارة

[1] عمدة مباحثهما في تعارض الخبرين، والبحث ليس في عوارض الأدلة الأربعة، بل في عوارض الخبر - نعم، بعض مباحث التعادل والتراجيح ترتبط بتعارض ظاهر آيتين، أو تعارض إجماعين منقولين، وهذه المباحث هي بحث عن عوارض الأدلة، فتكون داخلة في مسائل الأصول.

دفاع الشيخ الأعظم

[2] دافع الشيخ الأعظم في بحث الخبر الواحد عن كون موضوع علم الأصول هو الأدلة الأربعة، وأرجع البحث عن حجية (الخبر الواحد) إلى البحث عن (السنة)؛ وذلك بأن يقال: هل السنة تثبت بالخبر الواحد أم لا؟

فالموضوع في هذه المسألة هو (السنة)، فكان البحث عن حجية الخبر الواحد بحثاً عن عوارض (السنة) التي هي أحد الأدلة الأربعة.

وكذا في بحث التعادل والتراجيح يمكن القول: إن السنة تثبت بأيّ الخبرين؟

«البحث فيهما» أي: في حجية الخبر وفي تعارض الخبرين، «كما أفيد» أفاده الشيخ الأعظم.

[3] أي: البحث عن ثبوت السنة بأي واحد من الخبرين، هو في الحقيقة بحث عن حجية الخبر - الراجح - وحينئذٍ يقال: إن السنة هل تثبت بهذا الخبر الراجح أم لا

ص: 20


1- فرائد الأصول 1: 238.

في الحقيقة عن حجية الخبر في هذا الحال، غير مفيد[1]؛ فإن البحث عن ثبوت الموضوع وما هو[2] مفاد كان التامة ليس بحثاً عن عوارضه[3]،

-------------------------

تثبت؟ «في هذا الحال» أي: في حال التعارض.

الإشكال على دفاع الشيخ

[1] حاصل الإشكال: إن كان الموضوع هو (الأدلة بما هي أدلة) أو (الأدلة بما هي هي)، فالبحث عن ثبوت السنة بالخبر هو بحث عن أصل وجودها - وهو من المبادئ التصديقية - وليس بحثا عن عوارض السنة، فلا يكون هذا البحث من مباحث علم الأصول.

ثم اعلم أنه قد اصطلح على إثبات أصل الوجود ب(مفاد كان التامة)، وعلى إثبات عوارض الوجود ب(مفاد كان الناقصة)؛ وذلك لأن (كان) قد تكون بمعنى (وجد) فلا خبر لها، كما يقال: (كان الله)، وهذا إثبات لأصل الوجود فقط، وقد تكون لإثبات شيء لشيء موجود، كما يقال: (كان زيد عالماً) حيث محط الكلام ليس عن إثبات وجود زيد، بل عن إثبات علمه، فكان هنا ناقصة، أي: تحتاج إلى الخبر.

كما اصطلح على نفي الشيء ب(ليس التامة)، وعلى نفي وصف عن شيء موجود ب(ليس الناقصة) كقولنا: (ليس زيد عالماً).

كذلك اصطلح على السؤال عن أصل الوجود ب(هل التامة)، وعلى السؤال عن وصف لشيء موجود ب(هل الناقصة)، كقولنا: (هل زيد عالمٌ؟)

ولا يخفى أن هذا مجرد اصطلاح، وإلاّ فليس في اللغة العربية (هل التامة) ولا (ليس التامة).

[2] عطف تفسيري على قوله (ثبوت الموضوع).

[3] أي: ليس بحثاً عن عوارض الموضوع - الذاتية - حتى تكون من مسائل العلم، بل هو بحث عن أصل الوجود، وهو من المبادئ التصديقية.

ص: 21

فإنها[1] مفاد كان الناقصة.

لا يقال[2]: هذا[3] في الثبوت الواقعي، وأما الثبوت التعبدي[4] - كما هو المهم في هذه المباحث[5] - فهو في الحقيقة يكون مفاد كان الناقصة.

فإنه يقال[6]: نعم[7]، لكنه مما لا يعرض السنة، بل الخبر الحاكي لها، فإن

-------------------------

[1] أي: فإن العوارض هي مفاد كان الناقصة، أي: إثبات وصف لشيء موجود.

إشكال وجوابه

[2] حاصل الإشكال: إنا لا نبحث عن الوجود الواقعي للسنة، فإن هذا الوجود معلوم مقطوع به؛ لأنه لا شك في أن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ والأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ كانت لهم أقوال وأفعال وتقارير، بل البحث هو عن الثبوت الجعلي التعبدي، الذي هو بمعنى وجوب العمل - وهذا هو معنى الحجيّة - وهذا بحث عن عوارض الموضوع، وليس بحثا عن أصل وجوده.

[3] أي: صيرورة البحث عن ثبوت السنة بالخبر بحثاً عن المبادئ التصديقية ومفاد كان التامة.

[4] أي: الجعل الشرعي، والذي هو بمعنى لزوم العمل على طبقه - أي: الحجية - .

[5] مباحث الخبر الواحد ومباحث التعادل والتراجيح.

[6] حاصل الجواب: إن السنة التعبدية هي الخبر الواحد، وحينئذٍ فوجوب العمل والحجية صارت عوارض للخبر لا للسنة، فلا يكون البحث عن حجية الخبر الواحد بحثا عن عوارض موضوع علم الأصول. فالموضوع في قولنا: (الخبر الواحد تثبت به السنة التعبدية) هو الخبر لا السنة.

[7] أي: نسلم أن الثبوت التعبدي من العوارض، وأنه مفاد كان الناقصة، «لكنه» لكن الثبوت التعبدي.

ص: 22

الثبوت التعبدي يرجع إلى وجوب العمل على طبق الخبر، كالسنة المحكية[1] به، وهذا من عوارضه لا عوارضها، كما لا يخفى. وبالجملة: الثبوت الواقعي ليس من العوارض، والتعبدي وإن كان منها إلاّ أنه ليس للسنة، بل للخبر، فتأمل جيداً.

وأما[2] إذا كان المراد من السنة ما يعم حكايتها[3]،

-------------------------

[1] أي: كما يجب العمل بالسنة، كذلك يجب العمل بالخبر، «المحكية به» أي: السنة التي نعرفها عن طريق الخبر، فإن الخبر حاكٍ عنها، «عوارضه» الخبر، «عوارضها» السنة.

ثانياً: القول بأن السنة تشمل الخبر

[2] قلنا: إنّ موضوع علم الأصول إن كان الأدلة الأربعة، فإن ذلك يستلزم خروج بعض أهم المباحث عن علم الأصول، مثلاً: يقال: السنة... إما يراد بها نفس قول المعصوم وفعله وتقريره، وقد بيّنا خروج مثل مباحث الخبر الواحد، وعمدة مباحث التعادل والتراجيح.

وإما يراد بالسنة قول المعصوم وفعله وتقريره والخبر الحاكي عنه، فحينئذٍ تدخل بحوث الخبر الواحد، وبحوث التعارض في علم الأصول، لكن كثير من المباحث لا تدخل في علم الأصول؛ لأنها ليست بحثاً عن العوارض الذاتية لهذه الأربعة - أي: فعل المعصوم وقوله وتقريره والخبر الواحد - بل هي عوارض غريبة؛ لأن الواسطة أعم؛ وذلك لأن البحث في دلالة الأوامر والنواهي ونحوها هي بحوث عامة لا تختص بالكتاب والسنة، فعروضها عليهما إنما هو بواسطة أعم.

أقول: هذا الإشكال يرد على مبنى المشهور من كون العروض بواسطة (خارجية أعم) من العرض الغريب، أما على مبنى المصنف فهذا أيضاً عرض ذاتي - فراجع أول الكتاب - .

[3] أي: إضافة إلى فعل المعصوم وقوله وتقريره تشتمل الخبر الواحد الحاكي عن السنة.

ص: 23

فلأنَّ[1] البحث في تلك المباحث وإن كان عن أحوال السنة بهذا المعنى، إلاّ أن البحث في غير واحد من مسائلها - كمباحث الألفاظ وجملة من غيرها - لا يخص الأدلة[2]، بل يعم غيرها، وإن كان المهم معرفة أحوال خصوصها، كما لا يخفى.

ويؤيّد ذلك[3] تعريف الأصول بأنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية(1)،

وإن كان الأولى[4] تعريفه بأنه:

-------------------------

[1] أي: فأيضاً تخرج كثير من المباحث على القول بأن الموضوع هو الأدلة الأربعة؛ لأن البحث في... الخ.

[2] الأربعة، فيكون البحث فيها بحثاً عن العارض الأعم الخارج.

5- تعريف علم الأصول

[3] أي: يؤيد كون موضوع علم الأصول هو (الكلي المتحد مع موضوعات المسائل).

وجه التأييد: إن القواعد المُمَهَّدة أعم من الأدلة الأربعة، فهذه القواعد سواء كانت من الأدلة أم لم تكن، فأصول الفقه هو العلم بها.

وإنّما كان مؤيدا لا دليلاً؛ لأن التعاريف عند المصنف هي شرح للاسم، ويراد بها تقريب المعنى إلى الذهن، كقولهم: (سعدانة نبت)، فلا يلزم في التعاريف الطرد والعكس.

[4] لما كان تعريف المشهور لا يخلو عن عدة إشكالات، أعرض المصنف عنه، وعرّف الأصول بتعريف أقرب إلى الواقع، وحيث إن هذه التعاريف شرح للاسم، فلذا قال: (الأولى). ثم إن الإشكالات في تعريف المشهور هي:

1- قولهم: (العلم)، مع أن هذه المسائل هي أصول الفقه، سواء علم بها أحد أم لم يعلمها، وهكذا سائر العلوم، فإنها تلك المسائل من غير دخل لعلم الناس. نعم، العلم بها هو مقدمة للاستفادة منها، لا أنه داخل في حقيقتها؛ ولذا بدل المصنف لفظ (العلم) إلى (صناعة يُعرف بها).

ص: 24


1- قوانين الأصول 1: 5.

صناعة[1] يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام، أو التي يُنتهى إليها[2] في مقام العمل[3]، بناءً[4] على أن مسألة حجية الظن على

-------------------------

2- قولهم: (القواعد الممهدة)، أي: التي مهَّدها السابقون، مع أن المسائل التي تضاف إلى أصول الفقه مما استنبطها اللاحقون أيضاً داخلة في أصول الفقه؛ ولذا بدّل المصنف (القواعد الممهدة) إلى (القواعد التي يمكن أن تقع...).

هذا بناء على قراءة (الممهَّدة) بفتح الهاء حتى تكون اسم مفعول، أما على قراءتها بكسر الهاء فلا يرد الإشكال.

3- قولهم: (لاستنباط الأحكام الشرعية) يخرج به بحث (الانسداد على الحكومة)، وكذا الأصول العملية العقلية؛ إذ لا يستنبط منها حكم شرعي، بل هي وظائف عقلية في مقام العمل؛ لذا أضاف المصنف: (أو التي يُنتهى إليها في مقام العمل).

وهناك فروق أخرى مذكورة في مظانها، كما أنه على تعريف المصنف إشكالات أخرى، فراجع المفصلات.

وقوله: (الأولى) بمعنى الأفضلية؛ لأن تعريف المصنف أقرب إلى حقيقة (أصول الفقه) من تعريف المشهور، ولكن حيث إن التعاريف شرح للاسم فلا فرق بينها، إلاّ أن بعضها أولى من بعض لقربها إلى الحقيقة.

[1] (الصنع): إجادة الفعل، و(الصناعة): الفن الذي يحتاج إلى ملكة لفعله، كالحدادة والتجارة. ومعنى كلام المصنف أن (أصول الفقه) ليس تلك القواعد، بل هو ملكة تعرف بها تلك القواعد.

[2] «يُنتهى» بالمجهول، أي: القواعد التي يَنتهي إليها الفقيه في مقام العمل بعد أن لا يجد طريقاً إلى الحكم الشرعي.

[3] لا في مقام استنباط الحكم الشرعي؛ لعدم وجود دليل على حكم الشرع.

[4] أي: إنّ إضافة (أو التي يُنتهى إليها في مقام العمل) إنما هو على مبنى كون هاتين المسألتين من مسائل علم الأصول.

ص: 25

الحكومة[1] ومسائل الأصول العملية[2] في الشبهات الحكمية[3]

-------------------------

[1] سيأتي في بحث الانسداد - إن شاء الله تعالى - أنه لو قلنا بانسداد العلم والظن الخاص - بأن لم نتمكن من إثبات حجية الخبر الواحد - فحينئذٍ يحكم العقل بحجية الظن مطلقاً - بعد تمامية مقدمات الانسداد - وقد اختلف في أن هذا الظن هل يكشف عن حكم الشارع، أم أنه لا يكشف عن حكمه، وإنّما لزم العمل به لحكم العقل؟

فعلى الأول - أي: الكشف - : يكون الانسداد قاعدة لاستنباط الحكم الشرعي، فيدخل في تعريف المشهور.

وعلى الثاني - أي: حكومة العقل - : لا يكون الانسداد قاعدة لاستنباط الحكم الشرعي، فلا يدخل في تعريف المشهور، لكنه يدخل في تعريف المصنف.

[2] قيل المراد: الأصول العملية العقلية، كالتخيير في المتزاحمين، والاحتياط في العلم الإجمالي، وأما الأصول العملية الشرعية فيستنبط منها حكم شرعي ظاهري.

وقيل: الأصول العملية الشرعية لا تدل على حكم شرعي - لا واقعي ولا ظاهري - بل هي وظيفة في مقام العمل، فتأمل.

وعلى كل حال لا تدخل الأصول العملية - كلها أو خصوص العقلية منها - في تعريف المشهور، لكنها تدخل في تعريف المصنف.

[3] أما الأصول العملية في الشبهات الموضوعية فهي ليست من الأصول، بل هي مرتبطة بالفقه.

والفرق أن الأصول العملية المرتبطة بالشبهات الحكمية يستنبط منها الأحكام الشرعية الكلية، مثلاً: أصالة البراءة يستنبط منها حِلّية التدخين - وهو حكم كلّي فقهي - وكذا حليّة كل شيء شك في حليته أو حرمته، وإجراء هذه الأصول من وظيفة الفقيه.

أما الأصول العملية المرتبطة بالشبهات الموضوعية فإنها لا يستنبط منها الأحكام

ص: 26

من الأصول[1]، كما هو كذلك، ضرورة أنه لا وجه لالتزام الاستطراد في مثل هذه المهمات.

الأمر الثاني: الوضع[2] هو نحو اختصاص للّفظ[3] بالمعنى وارتباط خاص بينهما[4]، ناشٍ(1)

-------------------------

الشرعية الكلية، ويمكن إجرائها للعامي أيضاً، بل ترتبط بالجزئيات الخارجية، كما لو شك في حلية هذا الطعام أو حرمته، أو شك في طهارة هذا الثوب أو نجاسته، وهذه الأصول العملية أمور فقهية وليست مسائل أصولية.

[1] «من الأصول» خبر (أن) في قوله: (بناء على أن مسألة... الخ)، «كما هو كذلك» أي: نحن نقول: إنّ هاتين المسألتين من الأصول؛ لعدم وجه لإخراجهما عن علم الأصول بزعم الاستطراد فيهما.

الأمر الثاني في الوضع

اشارة

[2] عَرَّفوا الوضع: بأنه تخصيص اللفظ بالمعنى - كتخصيص لفظ زيد للمولود - .

وبما أن هذا المعنى لا يشمل الوضع التعيّني، لذلك عدل عنه المصنف إلى قوله: (نحو اختصاص) ثم فسّره بقوله: (وارتباط خاص بينهما).

والحاصل: إن هناك ارتباطاً بين هذا اللفظ وهذا المعنى، بحيث يحضر المعنى إلى الذهن حين سماع ذلك اللفظ، وكذا يستعمل ذلك اللفظ حين إرادة نقل المعنى إلى السامع.

و«نحو اختصاص» أي: كيفية مخصوصة بربط اللفظ بالمعنى.

[3] هنا ثلاثة لامات: اللام الجارة، ولام التعريف، وفاء الفعل، وفي رسم الخط إذا اجتمعت لامات ثلاث تكتب بلامين مع وضع التشديد على الثانية.

[4] عطف تفسيري لشرح معنى الاختصاص.

ص: 27


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «ناشئ».

من تخصيصه به تارةً[1] ومن كثرة استعماله فيه أخرى[2]؛ وبهذا المعنى[3] صح تقسيمه إلى التعييني والتعيّني، كما لا يخفى.

-------------------------

[1] هذا هو الوضع التعييني، أي: يأتي الواضع ويقول: وضعت هذا اللفظ لهذا المعنى، وهذا النوع يكثر في تسمية الأشياء الخاصة، كتسمية المواليد، والاختراعات ونحوهما.

[2] هذا هو الوضع التعيّني، أي: يكثر استعمال لفظ في معنى حتى يختص به.

والظاهر أن اللغات كلّها من هذا القبيل - إلاّ القليل النادر من ألفاظها - فإن المجتمعات الإنسانية - في مسيرة تاريخها - حينما تلتقي بشيء جديد لم تعهده من قبل، أو حالات جديدة، فإنها تستعمل فيه لفظاً، ثم يكثر استعمال ذلك اللفظ في ذلك المعنى حتى يصير حقيقة، وهذا ما يفسر تطور اللغات، وانفصال بعضها عن بعض، بحسب هجرة بعضهم أو ابتعاد أماكنهم.

[3] أي: بتفسير الوضع ب(نحو اختصاص) يصح هذا التقسيم؛ لأن الاختصاص قد يكون منشؤه التخصيص، وقد يكون كثرة الاستعمال، وأما على تفسير الوضع ب(التخصيص) فإنه لا يصح التقسيم؛ لعدم شموله للوضع التعيّني؛ لأنه ليس تخصيص، بل تخصّص.

أقسام الوضع
اشارة

لا بأس بالتنبيه على بعض الأمور:

الأول: الوضع في مرحلة التصور الذهني على أقسام أربعة، وفي مرحلة الإمكان الخارجي على ثلاثة، وفي مرحلة الوقوع الخارجي على قسمين.

أما في مرحلة التصور، فالمتصوّر أربعة أقسام:

1- الوضع العام والموضوع له العام.

2- الوضع العام والموضوع له الخاص.

3- الوضع الخاص والموضوع له الخاص.

ص: 28

ثم إن الملحوظ[1] حال الوضع إما يكون[2] معنىً عاما فيوضع اللفظ له تارة، ولأفراده[3] ومصاديقه أخرى، وإما يكون[4] معنىً خاصاً

-------------------------

4- الوضع الخاص والموضوع له العام.

وأمّا في مرحلة الإمكان، فيمكن الثلاثة الأوائل، ويمتنع الرابع.

وأما في مرحلة الوقوع، فقد وقع القسم الأول والثالث فقط.

الثاني: في معنى (الوضع) و(الموضوع له) و(العام) و(الخاص).

1- المعنى الذي يتصوره الواضع يقال له (الوضع) - وهذا تعبير مجازي - .

2- المعنى الذي يضع الواضع اللفظ له يُسمّى (الموضوع له).

3- المراد من (العام): هو (المطلق)، وهذا هو حسب المعنى اللغوي للعام، وليس المراد هو المعنى الاصطلاحي له.

4- المراد من (الخاص) هو المعنى الجزئي.

الثالث: ثمرة هذا البحث علمية، وقد يقال ببعض الثمرات العملية له - كاستحالة تقييد الهيئة؛ لأنها معنى حرفي - بناء على كون الموضوع له في الحروف خاصاً.

1- مرحلة التصور

[1] إشارة إلى مرحلة التصور.

[2] هذا القسم الأول: وهو الوضع العام والموضوع له العام، مثل وضع (النساء)، فإن المعنى المتصور عام، واللفظ وضع لذلك المعنى لا لغيره.

[3] هذا القسم الثاني: وهو الوضع العام والموضوع له الخاص، مثل: (الإنسان)، فإن المعنى الذي تصوره الواضع هو معنىً مطلق، لكن اللفظ وضع على خصوص الأفراد - هذا على بعض المباني، وإلاّ فسيأتي من المصنف إنكار وقوع هذا القسم فانتظر - .

[4] هذا إشارة إلى القسم الثالث، والرابع. فالثالث: هو الوضع الخاص والموضوع له الخاص، كوضع اسم (زيد) على المولود، فقد تصور الأب الواضع

ص: 29

لا يكاد يصح[1] إلاّ وضع اللفظ له دون العام، فتكون الأقسام ثلاثة[2]. وذلك[3]

-------------------------

معنى خاصاً هو هذا الوليد، ثم وضع لفظ (زيد) عليه فقط دون غيره. والرابع: هو الوضع الخاص والموضوع له العام.

2- مرحلة الإمكان
اشارة

[1] هذه المرحلة الثانية، وهي مرحلة الإمكان. فلا إشكال في إمكان الوضع الخاص والموضوع له الخاص، لكن يستحيل الوضع الخاص والموضوع له العام، «له» للخاص.

[2] أي: في مرحلة الإمكان.

استحالة الوضع الخاص والموضوع له العام

[3] قد يُتسائل عن سبب إمكان الوضع العام والموضوع له الخاص، واستحالة العكس، فأي فرق بين الصورتين بحيث أمكنت إحداهما وامتنعت الأخرى؟

والمصنف في مقام الجواب يبيّن الفرق، وهو: إن تصور العام يستلزم تصور الخاص إجمالاً، فإن الكلي الطبيعي لا وجود خارجي له إلاّ في ضمن أفراده، فكلّما تصورنا كلياً طبيعياً فقد تصورنا أفراده إجمالاً، أي: تصورنا له أفراداً وإن لم نميّز تلك الأفراد بالتفصيل؛ ولذا كان الكلي وجهاً - ومرآةً - للمصاديق الجزئية؛ ولذا أمكن (الوضع العام والموضوع له الخاص) بأن يتصور الواضع معنىً كلياً كالإنسان، ثم يضع اللفظ لأفراده ومصاديقه الجزئية، من غير تشخيص وتمييز لتلك الأفراد في ذهنه.

ولكن تصوّر الخاص لا يستلزم تصور العام - لا إجمالاً ولا تفصيلاً - إذ مع تصور فرد جزئي بمشخصاته الفردية لا تصور للمعنى العام أصلاً؛ ولذا لا يكون الخاص وجهاً ومرآةً للعام. نعم، قد يلاحظ معنىً جزئياً، ثم ينتقل ذهنه إلى كلي ذلك المعنى، ثم يضع اللفظ للكلي - كما لو رأى حيواناً جديداً فوضع لفظاً لكلي

ص: 30

لأن العام يصلح لأن يكون آلة للحاظ أفراده ومصاديقه بما هو كذلك[1]، فإنه من وجوهها[2]، ومعرفة وجه الشيء معرفته بوجهٍ[3]؛ بخلاف الخاص[4]، فإنه - بما هو خاص - لا يكون وجهاً للعام ولا لسائر الأفراد[5] فلا يكون معرفته وتصوره معرفة له، ولا لها[6] أصلاً ولو بوجه.

نعم[7] ربما يوجب تصوره تصور العام بنفسه، فيوضع له اللفظ، فيكون الوضع

-------------------------

ذلك الحيوان - لكن هذا ليس من (الوضع الخاص)، بل من (الوضع العام والموضوع له العام)؛ لأن تصور الجزئي صار سبباً لتصور الكلي ثم وضع اللفظ لذلك الكلي، فتأمل.

[1] أي: بما هو عام.

[2] أي: فإن العام وجه للأفراد، ومرآة لها، إذ لا وجود للعام إلاّ في ضمن الأفراد.

[3] أي: إجمالاً، فإذا تصورنا العام - الذي هو مرآة للأفراد - فقد تصورنا الأفراد إجمالاً، ومع تصور الشيء يمكن وضع اللفظ له.

[4] أي: لا يمكن أن يكون الخاص مرآةً للعام، فإن الواضع يتصور معنىً جزئياً ولم يتصور المعنى العام، فكيف يضع اللفظ لمعنى لم يتصوره؟

[5] أي: لا يكون فرد مرآة لفرد آخر، لعدم تصور ذلك الفرد الآخر أصلاً.

[6] أي: لا يكون معرفة وتصور الخاص معرفة للعام ولا لسائر الأفراد، «ولو بوجه» أي: ولو بنحو المرآتيّة.

[7] إشارة إلى أن الواضع قد يتصور الخاص ثم ينتقل ذهنه إلى العام فيتصوره، ثم يضع اللفظ للعام، وهذا من (الوضع العام والموضوع له العام) وليس من (الوضع الخاص والموضوع له العام)؛ وذلك لأن الواضع تصور بالاستقلال المعنى العام ثم وضع اللفظ له، منتهى الأمر أن منشأ تصوره للمعنى العام هو الخاص، «يوجب تصوره» أي: يكون تصور الخاص سبباً لتصور العام، كما لو رأى حيواناً ثم فكّر في نوع ذلك الحيوان، فوضع لفظاً للنوع.

ص: 31

عاماً، كما كان الموضوع له عاماً. وهذا بخلاف[1] ما في الوضع العام والموضوع له الخاص، فإن الموضوع له - وهي الأفراد - لا يكون متصوراً إلاّ بوجهه وعنوانه، وهو العام، وفرق واضح بين تصور الشيء بوجهه[2] وتصوره بنفسه[3] ولو كان بسبب تصور أمر آخر[4].

ولعل خفاء ذلك[5] على بعض الأعلام(1)

وعدم تمييزه بينهما كان موجباً لتوهم إمكان ثبوت قسم رابع، وهو أن يكون الوضع خاصاً مع كون الموضوع له عاماً. مع أنه واضح لمن كان له أدنى تأمل.

-------------------------

[1] أي: في الوضع العام والموضوع له الخاص لا يتصور الواضع الأفراد بالاستقلال، بل يتصور العام فقط بما هو مرآة للأفراد.

وغرض المصنف دفع إشكال حاصله: إنه في (الوضع العام والموضوع له الخاص) - الذي حكمتم بإمكانه - أيضاً لمّا يتصور العام ينتقل ذهنه إلى تصور الخاص، وحينئذٍ لا يكون الوضع عاماً، بل الوضع خاص.

والجواب: إنه لا يتصور الخاص بالاستقلال - ولذا لا تأتي إلى ذهنه الأفراد جميعاً، بل ولا فرد واحد - لكنه يتصور الأفراد إجمالاً؛ وذلك لأن العام مرآة لأفراده، فتصور الواضع للأفراد ليس بالاستقلال.

[2] كما في الوضع العام والموضوع له الخاص.

[3] كما في الوضع العام والموضوع له العام.

[4] أي: لو كان تصور الخاص سبباً لتصور العام فإنه حينئذٍ يتصور العام بالاستقلال.

[5] أي: خفاء الفرق بين تصور الشيء بنفسه وبالاستقلال، وبين تصور الشيء بوجهه.

ص: 32


1- بدائع الأفكار: 40.

ثم إنه لا ريب[1] في ثبوت الوضع الخاص والموضوع له الخاص، كوضع الأعلام. وكذا الوضع العام والموضوع له العام، كوضع أسماء الأجناس. وأما الوضع العام والموضوع له الخاص فقد توهم(1)[2]

-------------------------

3- مرحلة الوقوع
اشارة

[1] هذه المرحلة الثالثة وهي مرحلة الوقوع الخارجي.

لا شك في وقوع (الوضع الخاص والموضوع له الخاص) كأسماء الأعلام، فإن الواضع يتصور معنى جزئياً ويضع اللفظ لذلك المعنى.

كما لا شك في وقوع (الوضع العام والموضوع له العام) كأسماء الأجناس - أي: الطبائع الكلية - مثل أسامي الحيوانات ونحوها، فإن الواضع يتصور معنى عاماً - أي: مطلقاً كما مرّ - ثم يضع اللفظ لذلك المعنى المطلق الذي له مصاديق كثيرة، فلم يضع الرجل - مثلاً - لخصوص رجلٍ جزئي، بل وضعه للمعنى المطلق القابل للانطباق على كل رجال الدنيا.

أما (الوضع العام والموضوع له الخاص) فليس له مورد خارجي، حيث لا نجد وضعاً من هذا القسم. نعم، قد توهم أن وضع الحروف وأسماء الإشارة والضمائر من هذا القبيل.

فلابد - لتوضيح الأمر - من بيان كيفية الوضع في الحروف وما اُلحق بها، ليتبيّن أنها ليست من (الوضع العام والموضوع له الخاص).

المعنى الحرفي

[2] في الحرف وما اُلحق به ثلاثة أقوال(2):

القول الأول: إن الوضع عام والموضوع له عام، والمستعمل فيه عام - وهذا مختار المصنف - أي: تصوّر الواضع معنى مطلقاً، ثم وضع اللفظ لذلك المعنى

ص: 33


1- الفصول الغروية: 16.
2- أصول الفقه 1: 56.

-------------------------

المطلق، والناس يستعملون اللفظ في نفس ذلك المعنى المطلق.

مثلاً: تصور الواضع الابتداء المطلق، ثم وضع لفظ (مِن) لهذا المعنى، والناس يستعملون (مِن) في نفس ذلك المعنى، وكذا لفظ (هذا) مثلاً، وُضع لما يشار إليه، ويُستعمل في نفس المعنى.

القول الثاني: إن الوضع عام والموضوع له خاص.

وسيتضح عدم صحة هذا القول عند بيان الإشكالات الواردة على القول الثالث.

القول الثالث: إن الوضع عام والموضوع له عام والمستعمل فيه خاص.

والإشكال الوارد على كلا القولين هو: إن الخصوصية - التي أوجبت كون (الموضوع له) أو (المستعمل فيه) خاصاً - إمّا خصوصية خارجية - كمكان معيّن - وإمّا خصوصية ذهنية.

أما الخصوصية الخارجية، فيرد عليها: إن الحرف قد يستعمل عاماً، كما في قوله (سِر من البصرة)، حيث لم يعيّن الآمر نقطة انطلاق معيّنة، بل لو انطلق من أية نقطة في البصرة كان ممتثلاً.

هذا مضافاً إلى أنه يرد على القول الثالث أن الموضوع له كان عاماً، فالاستعمال في المعنى الخاص يكون مجازاً؛ لأنه لم يستعمل الكلمة في المعنى الذي وضعه الواضع، فمثل: (سرت من البصرة) يصبح مجازاً على هذا القول، وهذا واضح البطلان، وهذا الإشكال لم يُشر إليه المصنف لأنه سيتضح مما سيأتي.

وأما الخصوصية الذهنية، فيرد عليها:

أولاً: إن الخصوصية الذهنية هي اللحاظ - أي: تصور المعنى - وهذا اللحاظ إذا كان جزءاً من المعنى فإنه حين الاستعمال لابد من تصوره؛ إذ في مقام الاستعمال

ص: 34

أنه[1] وضع الحروف وما ألحق بها من الأسماء[2]؛ كما توهم(1)[3]

أيضاً أن المستعمل فيه فيها خاص مع كون الموضوع له كالوضع عاماً.

والتحقيق - حسبما يؤدي إليه النظر الدقيق - أن حال المستعمل فيه والموضوع له

-------------------------

لابد من تصور المعنى، وحيث إن المعنى يشتمل على الخصوصية الذهنية - التي هي اللحاظ - فلابد من لحاظ هذا اللحاظ.

وبعبارة أخرى: لابد من تصور المعنى حين الاستعمال، وحيث إن ذلك المعنى مركب من (الابتداء في مِن)، و(الخصوصية الذهنية التي هي اللحاظ)، فقد اجتمع لحاظان اثنان، وبالوجدان لا يوجد حين التلفظ إلاّ لحاظ وتصور واحد.

وثانياً: إن تقييد المعنى بالخصوصية الذهنية يستلزم كون المعنى ذهنياً؛ لأن المقيّد بالأمر الذهني لا يكون إلاّ في الذهن.

فالقول: إنّ (المستعمل فيه) خاص يستلزم إما عدم إمكان امتثال مثل: (سِر من البصرة) لعدم تعقل تقييد السير الخارجي بالأمر الذهني، وإما المجاز في الكلمة بحيث لم تستعمل (من) في معناها - وهو الابتداء المقيد بالخصوصية الذهنية - .

وثالثاً: إن تقييد المعنى الحرفي بالخصوصية الذهنية يستلزم تقييد المعنى الاسمي بتلك الخصوصية؛ إذ لا فرق بين (مِن) وبين (الابتداء) من حيث المعنى، إلاّ أن (الابتداء) ملاحظ بنفسه، و(من) ملاحظ في غيره، وأما في سائر الجهات فهما سواء.

[1] أي: إن (الوضع العام والموضوع له الخاص) هو وضع الحروف ونحوها، وهذا هو القول الثاني.

[2] أي: الأسماء التي فيها شباهة بالحرف؛ ولذا كانت مبنيّة؛ لأن سبب البناء هو الشباهة بالحروف.

[3] هذا هو القول الثالث، «فيها» في الحروف وما ألحق بها.

ص: 35


1- الفصول الغروية: 16.

فيها حالهما[1] في الأسماء. وذلك لأن الخصوصية المتوهمة[2] إن كانت هي الموجبة لكون المعنى المتخصص بها[3] جزئياً خارجياً، فمن الواضح[4] أن كثيراً ما لا يكون المستعمل فيه فيها كذلك[5]، بل كلياً؛ ولذا[6] التجأ بعض الفحول(1)

إلى جعله جزئياً إضافياً، وهو كما ترى.

-------------------------

[1] «فيها» في الحروف، «حالهما» حال (الموضوع له) و(المستعمل فيه)، كما أن الوضع عام أيضاً، وإنّما لم يذكره المصنف لوضوحه؛ لأنه لو كان الموضوع له والمستعمل فيه عامين فلابد من كون الوضع عاماً؛ لاستحالة الوضع الخاص والموضوع له العام كما مرّ.

[2] تلك الخصوصية التي سبَّبت التحوّل من العمومية في (الوضع العام)، إلى الخصوصية في الموضوع له الخاص والمستعمل فيه الخاص؛ لأنه لا يمكن تحوّل العام إلى الخاص إلاّ بمشخصات فردية، وهذه المشخصات يعبر عنها ب(الخصوصية). وهذا إشارة إلى البند (ألف) من الإشكال.

[3] أي: المعنى الذي صار خاصاً بسبب تلك الخصوصية. وقوله: «جزئياً خارجياً» خبر قوله: (لكون المعنى...).

[4] هذا هو الإشكال الذي يرد على كلا القولين: الثاني والثالث.

[5] «فيها» في الحروف، «كذلك» أي: خاصا.

[6] أي: لتصحيح كون (الموضوع له) و(المستعمل فيه) خاصاً التجأ الشيخ محمد تقي صاحب الحاشية إلى القول بأنهما - أي: الموضوع له والمستعمل فيه - جزئيان إضافيان.

لكنه من الواضح أن الجزئي الإضافي هو كلي - ينطبق على كثيرين - لكنه أضيق دائرة من الكلي الذي يقع فوقه، مثل الإنسان بالنسبة إلى الحيوان، فالجزئي الإضافي في الحقيقة عام لا خاص.

ص: 36


1- الفصول الغروية: 16.

وإن كانت هي[1] الموجبة لكونه جزئياً ذهنياً - حيث إنه[2] لا يكاد يكون المعنى حرفياً إلاّ إذا لوحظ حالة لمعنى آخر ومن خصوصياته القائمة به[3] ويكون حاله كحال العرض ، فكما لا يكون في الخارج إلاّ في الموضوع[4]، كذلك هو لا يكون في الذهن إلاّ في مفهوم آخر؛ ولذا قيل في تعريفه: بأنه ما دل على معنى في غيره(1) - فالمعنى[5] وإن كان لا محالة يصير جزئياً بهذا اللحاظ[6] بحيث يباينه إذا لوحظ ثانياً كما لوحظ أولاً ولو كان اللاحظ واحداً[7]، إلاّ أن هذا اللحاظ لا يكاد مأخوذاً

-------------------------

[1] إشارة إلى البند (باء) من الإشكال، «كانت» الخصوصيّة المتوهمة، «لكونه» لكون (الموضوع له) أو (المستعمل فيه).

[2] الغرض من هذا الكلام هو بيان كيفية كون تلك الخصوصية ذهنية، وهذا يتوقف على بيان معنى الحرف: فنقول: إن الفرق بين الاسم والحرف هو أن (الاسم) يُلاحظ بما هو هو وبالاستقلال، أي: مع قطع النظر عن المعاني الأخرى، كالجوهر الّذي هو وجود قائم بالذات لا يتوقف على شيء. وأما (الحرف) فهو يلاحظ بما أنه حالة في المعاني الأخرى، كالعَرَض الذي لا يوجد إلاّ في ضمن جوهر.

وحينئذٍ فقد لزم (اللحاظ) حين استعمال الحرف، وهذا اللحاظ هو (الخصوصية الذهنية)؛ لأن الموجود في الذهن هو الجزئي الحقيقي، حيث إنه لا يوجد شيء - في الخارج أو في الذهن - إلاّ بعد التشخص.

[3] أي: من خصوصيات المعنى الآخر، تلك الخصوصيات القائمة بذلك المعنى الآخر.

[4] أي: الجوهر، «كذلك هو» أي: المعنى الحرفي، «في تعريفه» تعريف الحرف.

[5] «فالمعنى» جزاء (إنْ) في قوله: (وإن كانت هي الموجبة لكونه جزئياً ذهنياً).

[6] أي: بلحاظ كونه حالة لمعنى آخر، ومن خصوصياته القائمة به.

[7] لأن الموجود يكون جزئياً - سواء كان في الخارج أم في الذهن - وهنا المعنى

ص: 37


1- شرح الرضي على الكافية 1: 30.

في المستعمل فيه[1]، وإلاّ[2] فلابد من لحاظ آخر متعلق بما هو ملحوظ[3] بهذا اللحاظ، بداهة أن تصور المستعمل فيه مما لابد منه في استعمال الألفاظ، وهو كما ترى[4].

مع أنه[5] يلزم أن لا يصدق على الخارجيات، لامتناع صدق الكلي العقلي[6]

-------------------------

الملاحظ أولاً هو وجود جزئي ذهني، والملاحظ ثانياً وجود جزئي آخر. «كما لوحظ أولاً» أي: مثل اللحاظ الأول.

[1] أي: ليس جزءاً من المعنى الذي استعمل ذلك اللفظ في ذلك المعنى.

[2] إشارة إلى الإشكال الأول، و«إلاّ» أي: وإن أخذ اللحاظ في المعنى المستعمل فيه.

[3] أي: الجزء الثاني من المعنى، مثلاً: معنى (من) مركب من (الابتداء) و(اللحاظ)، وحيث إنه لابد من تصور المعنى حين الاستعمال فلابد من لحاظ آخر يتعلق ب- (الابتداء)، فمعنى «ما هو ملحوظ» أي: جزء المعنى الذي هو (الابتداء)، وقوله «بهذا اللحاظ» أي: اللحاظ الذي هو الجزء الآخر من المعنى.

[4] أي: تعدد اللحاظ خلاف الوجدان، فإن الناس حين الاستعمال لهم تصور واحد للمعنى، لا تصوران.

[5] إشارة إلى الإشكال الثاني، «أنه» للشأن، «لا يصدق» أي: لايصدق المعنى الحرفي.

[6] مراد المصنف من «الكلي العقلي» هو الأمر الذهني، وهذا خلاف الاصطلاح، لأنهم اصطلحوا بالكلي العقلي على مثل قولهم: (الإنسان كلي)، فهذه الجملة يقال لها الكلي العقلي، حيث إن المبتدأ (كلي طبيعي) والخبر كلمة (كلي).

وبعبارة أخرى: الكلي عندهم على ثلاثة أقسام:

1- الكلي الطبيعي: وهو ما يمكن أن يصدق على كثيرين، مثل: (الإنسان).

2- الكلي المنطقي: وهو كلمة (كلي).

3- الكلي العقلي: وهو المركب من الكلي الطبيعي والكلي المنطقي.

ص: 38

عليها[1]، حيث لا موطن له إلاّ الذهن، فامتنع امتثال مثل: (سر من البصرة) إلاّ بالتجريد وإلغاء الخصوصية[2]، هذا.

مع أنه[3] ليس لحاظ المعنى حالة لغيره في الحروف إلاّ كلحاظه في نفسه[4] في الأسماء، وكما لا يكون هذا اللحاظ[5] معتبراً في المستعمل فيه فيها، كذلك ذاك اللحاظ في الحروف، كما لا يخفى.

وبالجملة: ليس المعنى في كلمة (من) ولفظ (الابتداء) - مثلاً - إلاّ الابتداء. فكما لا يعتبر في معناه لحاظه[6] في نفسه ومستقلاً، كذلك لا يعتبر في معناها لحاظه في غيرها وآلة، وكما لا يكون لحاظه فيه[7] موجباً لجزئيته، فليكن كذلك فيها.

إن قلت[8]:

-------------------------

[1] على الخارجيات.

[2] أي: إلاّ بالاستعمال المجازي، بأن لم يستعمل اللفظ في معناه الموضوع له - كالابتداء، واللحاظ - ، بل في جزء من معناه - وهو الابتداء فقط - وهذا مجاز.

[3] إشارة إلى الإشكال الثالث، «أنه» للشأن.

[4] أي: كلحاظ المعنى في نفسه، من غير أن يكون حالة لغيره.

[5] أي: لحاظ المعنى في نفسه - بالاستقلال - «فيها» أي: في الأسماء، «ذاك اللحاظ» أي: لحاظ المعنى في غيره - آلياً - .

[6] «معناه» أي: معنى الابتداء، «لحاظه» لحاظ المعنى، «معناها» أي: (من)، «لحاظه» لحاظ المعنى.

[7] أي: لحاظ المعنى في الاسم لا يوجب جزئية معناه، «كذلك» لا يوجب جزئية معناها، «فيها» في الحروف.

[8] حاصل الإشكال هو أنكم قلتم: إنّ معنى (مِن) و(الابتداء) واحد، ولحاظ الاستقلالية والآلية غير مأخوذ في المعنى، فعلى هذا يلزم الترادف بين الكلمتين، وجواز استعمال كل واحد منهما مكان الآخر!! وهو بديهي البطلان.

ص: 39

على هذا[1] لم يبق فرق بين الاسم والحرف في المعنى، ولزم كون مثل كلمة (من) ولفظ (الابتداء) مترادفين صح استعمال كل منهما في موضع الآخر[2]، وهكذا[3] سائر الحروف مع الأسماء الموضوعة لمعانيها، وهو باطل بالضرورة، كما هو واضح.

قلت[4]: الفرق بينهما إنما هو في اختصاص كل منهما بوضعٍ[5]، حيث إنّه وُضِعَ الاسم ليُراد منه معناه بما هو هو وفي نفسه، والحرف ليُراد منه معناه لا كذلك، بل بما هو حالة لغيره، كما مرت الإشارة إليه غير مرة. فالاختلاف بين الاسم والحرف في الوضع يكون موجباً لعدم جواز استعمال أحدهما في موضع الآخر وإن اتفقا في ما له الوضع[6]. وقد عرفت[7] بما لا مزيد عليه: أن نحو إرادة

-------------------------

[1] أي: بناء على اتحاد معنى الحرف والاسم، وأن الآلية والاستقلالية غير مأخوذة في المعنى.

[2] شأن كل مترادفين، حيث يجوز تبديل أحدهما بالآخر.

[3] أي: كما يقال في (من والابتداء) كذلك يقال في سائر الحروف والأسماء التي معناها واحد.

[4] حاصل الجواب عن الإشكال: إنه لا فرق بين معنى الحرف والاسم، ولكن الفرق في كيفية الوضع، أي: في شرط الواضع، فإنه تصور معنىً واحداً ثم وضع لذلك المعنى لفظاً، واشترط أن يستعمل حين النظر الاستقلالي، وهذا هو الاسم، ثم وضع لذلك المعنى لفظاً آخر، واشترط استعماله حين النظر الآلي، فتأمل.

[5] أي: بكيفية وضع، وقوله: (حيث إنه...) شرح لكيفية الوضع.

[6] أي: اتفقا في المعنى الذي وضع اللفظ لأجل ذلك المعنى.

[7] بيان أن كيفية الوضع لا ربط لها بالمعنى، فالحاصل أن الآلية والاستقلالية ترتبط باللحاظ، وقد بينا أن اللحاظ غير مأخوذ في المعنى.

ص: 40

المعنى لا يكاد يمكن أن يكون من خصوصياته ومقوماته[1].

ثم لا يبعد[2] أن يكون الاختلاف في الخبر والإنشاء أيضاً كذلك[3]، فيكون الخبر موضوعاً ليستعمل[4] في حكاية ثبوت معناه في موطنه[5]، والإنشاء ليستعمل

-------------------------

[1] أي: ليس جزءاً من المعنى أو قيداً فيه، بل هو خارج عن حريم المعنى، فتأمل.

الخبر والإنشاء

[2] الخبر: هو نسبة شيء إلى شيء في الخارج، سواء صدقت النسبة أم كذبت، مثل: (جاء زيد).

والإنشاء: هو النسبة من غير أن يكون لها خارج، فلذا لا يحتمل الصدق والكذب، مثل: (صلِّ).

ثم هناك جُمل تستعمل تارة في الإخبار، وتارة في الإنشاء، مثل: (أنكحت) و(بعت)، فما هو الفرق؟

يذهب المصنف إلى أنه لا فرق في الخبر والإنشاء بين المعنى (الموضوع له)، والمعنى (المستعمل فيه)، بل الفرق إنما هو في كيفية الاستعمال. فمعنى (بعتُ) هو إثبات نسبة البيع إلى نفسه، فحين إرادة الإخبار يستعمل (بعتُ) لهذه النسبة، ولكن بغرض الحكاية عمّا فعله سابقاً، وحين إرادة الإنشاء يستعمل (بعتُ) لنفس هذه النسبة، ولكن بغرض إيجاد البيع، فالحكاية والإيجاد خارجان عن حريم المعنى (الموضوع له)، والمعنى (المستعمل فيه).

[3] أي: الاختلاف في كيفية الاستعمال، لا في المعنى (الموضوع له)، ولا في المعنى (المستعمل فيه).

[4] أي: الغرض من الاستعمال هو الحكاية، فيكون الخبر موضوعاً لمعنى - وهو إثبات النسبة - ويستعمل في ذلك المعنى، ولكن بغرض الحكاية.

[5] «معناه» معنى الخبر، «موطنه» أي: في محله من الماضي أو الحال أو المستقبل.

ص: 41

في قصد تحققه وثبوته[1]، وإن اتفقا في ما استعملا فيه[2]، فتأمل[3].

ثم إنه قد انقدح مما حققناه[4] أنه يمكن أن يقال: إن المستعمل فيه[5] في مثل أسماء الإشارة والضمائر أيضاً عام[6]، وأن تشخصه إنما نشأ من قِبَل طور

-------------------------

[1] أي: قصد إيجاد المعنى.

[2] أي: اتفق الخبر والإنشاء في المعنى المستعمل فيه، وكذلك في المعنى الموضوع له.

[3] لعله إشارة إلى أن الأقسام ثلاثة: 1- ما يكون إنشاءً فقط كالأمر والنهي، 2- ما يكون إخباراً فقط كالجحد، مثل لم يضرب، 3- ما يستعمل في الإخبار والإنشاء، فما ذكرناه يجري في القسم الثالث فقط. أو هو إشارة إلى أن الألفاظ المستعملة في الإخبار والإنشاء إنّما وضعت للإخبار فقط، واستعمالها في الإنشاء مجاز.

أو أن الإيجاد والحكاية هي نفس معنى الهيئة في مثل: (بعتُ) ولا معنى آخر لهذه الهيئة، فلا يصح جعلهما - الإيجاد والحكاية - من كيفية الاستعمال، بل هما المعنى (الموضوع له) و(المستعمل فيه)، وقيل غير ذلك.

أسماء الإشارة والضمائر

[4] من أن الآلية والاستقلالية خارجان عن معنى الاسم والحرف، وكذا الحكاية والإيجاد خارجان عن معنى الإنشاء والإخبار، بل هي من كيفية الاستعمال.

[5] إذا كان (المستعمل فيه) عاماً، فلابد من كون (الموضوع له) عاماً؛ ولذا اكتفى المصنف بذكر (المستعمل فيه).

[6] مثلاً: تصوّر الواضع (المفرد المذكر) فوضع لفظة (هذا) له، والناس يستعملون (هذا) في نفس المعنى الذي تصوره الواضع ووضع لفظ (هذا) له، أي: (المفرد المذكر)، أما خصوص كون (هذا) هو (زيد) فمما لا يرتبط بالمعنى، بل هو خصوصية ناشئة من الاستعمال، مثلاً: يذكر المتكلم (زيداً) أولاً ثم يقول (هذا فعل كذا)، أو يشير إلى زيد بيده ويقول: (هذا جاء) فإن تشخص (هذا) في (زيد) لا يرتبط بالمعنى - لا بالمعنى الموضوع له، ولا بالمعنى المستعمل فيه - وهكذا في الضمائر.

ص: 42

استعمالها[1]، حيث إن أسماء الإشارة وضعت ليشار بها[2] إلى معانيها، وكذا بعض الضمائر[3]، وبعضها ليخاطب به المعنى[4]، والإشارة والتخاطب يستدعيان التشخص[5]، كما لا يخفى. فدعوى: «أن المستعمل فيه في مثل: (هذا) أو (هو) أو (إياك) إنما هو المفرد المذكر، وتشخصه إنما جاء من قِبَل[6] الإشارة أو التخاطب بهذه الألفاظ إليه، فإن الإشارة أو التخاطب لا يكاد يكون إلاّ إلى الشخص أو معه» غير مجازفة[7].

فتلخص مما حققناه: أنّ التشخّص الناشئ من قِبَل الاستعمالات لا يوجب تشخص المستعمل فيه[8]، سواء كان تشخّصاً خارجياً - كما في مثل أسماء

-------------------------

[1] أي: كيفية استعمال أسماء الإشارة والضمائر.

[2] أي: وضعت لمعنى وتستعمل في ذلك المعنى، لكن الغرض هو الإشارة، ومن المعلوم أن الإشارة إما إلى الموجود الذهني أو الموجود الخارجي، والشيء الموجود إنما هو جزئي.

[3] وهي ضمائر الغائب والمتكلّم، حيث إن معناها المفرد أو المثنى أو الجمع - مذكراً أم مؤنثاً - والغرض من وضعها واستعمالها هو الإشارة إلى المعنى، لكن هذا الغرض هو من كيفيات الاستعمال، ولا دخل له في المعنى.

[4] وهي ضمائر المخاطب، فمعناها هو المفرد أو المثنى أو الجمع - مذكراً أم مؤنثاً - ولكن الغرض من الوضع والاستعمال هو التخاطب مع المعنى.

[5] لأنه لا يمكن الإشارة أو التخاطب إلاّ مع الموجود، ولا يكون الشيء موجوداً إلاّ إذا كان جزئياً متشخصاً بالخصوصيات الفردية.

[6] أي: جهتهما وطرفهما؛ وذلك لا يرتبط بالمعنى - الموضوع له والمستعمل فيه - أصلاً.

[7] لكن قد يقال: إن مجرد الإمكان ليس دليلاً على الوقوع، فراجع المفصّلات.

خلاصة البحث

[8] أي: لا يدخل التشخص في المعنى - لا في المعنى (الموضوع له) ولا في المعنى

ص: 43

الإشارة[1] - أو(1) ذهنياً - كما في أسماء الأجناس[2] والحروف ونحوهما -، من غير فرق في ذلك[3] أصلاً بين الحروف وأسماء الأجناس[4]، ولعمري هذا واضح. ولذا ليس في كلام القدماء من كون الموضوع له أو المستعمل فيه خاصاً في الحرف عين ولا أثر، وإنما ذهب إليه بعض من تأخر[5]. ولعله لتوهم كون قصده بما هو في غيره[6]، من خصوصيات[7] الموضوع له أو المستعمل فيه، والغفلة من أن قصد المعنى من لفظه على أنحائه[8] لا يكاد يكون من شؤونه وأطواره، وإلاّ[9] فليكن

-------------------------

(المستعمل فيه) - .

[1] أي: الإشارة إلى الخارجيات، أما في الإشارة إلى الذهنيات فإن التشخص ذهني.

[2] مثل: رجل وفرس وكتاب، لأن اسم الجنس كلي طبيعي، ووجوده ذهني، ولا وجود خارجي له إلاّ في ضمن الأفراد الجزئية.

[3] أي: ذلك التشخص الكائن من جهة الاستعمال.

[4] ففي كليهما (الوضع) و(الموضوع له) و(المستعمل فيه) عام، والجزئية إنما هي في كيفية الاستعمال.

[5] قيل منهم: التفتازاني، وسيد شريف، وصاحب الفصول(2).

[6] أي: قصد المعنى بالنظرة الآلية.

[7] أي: توهم أنه جزء المعنى أو قيد له.

[8] أي: قصد المعنى - كالابتداء - «من لفظه» أي: من اللفظ الموضوع لذلك المعنى - مثل: (مِن) - «على أنحائه» أي: كيفيات المعنى - كالآليّة - «شؤونه» شؤون المعنى.

[9] أي: إن كانت الآلية جزءاً من المعنى فلتكن الاستقلالية أيضاً جزءاً منه، فيصير الموضوع له أو المستعمل فيه في أسماء الأجناس ونحوها خاصاً أيضاً، وهذا ما لا يقولون به، «كذلك» أي: من خصوصيات المعنى.

ص: 44


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «أم».
2- الفصول الغروية: 16.

قصده بما هو هو وفي نفسه كذلك. فتأمل في المقام، فإنه دقيق وقد زل فيه أقدام غير واحد من أهل التحقيق والتدقيق.

الثالث: صحة استعمال اللفظ[1] في ما يناسب ما وُضِع له[2] هل هو بالوضع[3] أو بالطبع؟ وجهان، بل قولان(1). أظهرهما أنه بالطبع، بشهادة

-------------------------

الأمر الثالث الاستعمال بالطبع

كان الأمر الثاني في المعنى، فإن المعنى يتصوره الواضع ثم يضع اللفظ له أو لغيره، ثم يستعمل الناس اللفظ في ذلك المعنى أو غيره. وأما هذا الأمر وما بعده فهو في اللفظ.

[1] لا إشكال في استعمال اللفظ في المعنى الموضوع له، ولكن الكلام في استعمال اللفظ في غير ما وضع له، فهل هذا الاستعمال بحاجة إلى وضع الواضع أم يكفي ملاءمته للطبع؟

إختار المصنف الثاني، واستشهد له بالوجدان، فإنا نشاهد أن العقلاء يستعملون اللفظ في غير ما وضع له إذا لاءم الطبع حتى مع منع الواضع، كمن سمّى ولده زيداً ثم منع من استعمال اسمه في من يشابهه، فإن العقلاء لا يهتمون بمنعه، وكذا لا يجوّزون استعمال اللفظ في غير ما وضع له إذا لم يلاءم الطبع حتى مع تسويغ الواضع، مثلاً: لا يجوزون إطلاق القلب على الإنسان مع وجود العلاقه النوعية، التي أجازها الواضع - وهي استعمال الجزء وإرادة الكل إذا كان الجزء مُقَوّماً للكل، كالرقبة في الإنسان - .

[2] أي: المعنى الذي وضع له ذلك اللفظ.

[3] ولذا قالوا: إنّ جميع العلائق المجوزة للاستعمال المجازي هي بوضع نوعي من الواضع.

ص: 45


1- قوانين الأصول 1: 64؛ الفصول الغروية: 25.

الوجدان بحسن الاستعمال فيه[1] ولو مع منع الواضع عنه، وباستهجان الاستعمال في ما لا يناسبه[2] ولو مع ترخيصه، ولا معنى لصحته إلاّ حسنه[3]. والظاهر أن صحة استعمال اللفظ في نوعه أو مثله[4] من قبيله[5]. كما يأتي الإشارة إلى تفصيله.

الرابع: لا شبهة[6] في صح-ة إطلاق اللفظ

-------------------------

[1] أي: في غير ما وضع له، «عنه» أي: عن الاستعمال.

[2] أي: في معنى لا يناسب ما وضع له، «ترخيصه» أي: ترخيص الواضع.

[3] أي: انعقد بناء العقلاء على (أن حسن الاستعمال كافٍ في صحته وجوازه)، وفي العبارة قلب أي: (لا معنى للحسن إلاّ صحة الاستعمال) فتدبر.

[4] «النوع» كقولنا: (زيد اسم) ف- «زيد» اسم دائماً، والمراد من النوع هو ما يشمل جميع الأفراد. و«المثل» كقولنا: (ضرب فعل) ف«ضرب» في هذا المثال هو (اسم) لأنه مبتدأ، لكن مثله من حيث اللفظ هو فعل ماضٍ. وهكذا «الصنف» كما سيأتي في البحث القادم.

[5] أي: بالطبع لا بالوضع.

الأمر الرابع استعمال اللفظ وإرادة نوعه وصنفه...

اشارة

[6] حاصل هذا الأمر أن اللفظ قد يستعمل ولا يراد به معناه الموضوع له، بل يراد معنى آخر، وهذا على أقسام منها:

1- استعمال اللفظ وإرادة نوعه - أي: الكلي الشامل لجميع أفراده - كقولنا: (ضَرَبَ كلمةٌ)، فكل لفظ هو (ضَرَبَ) يكون كلمة حتماً.

2- استعمال اللفظ وإرادة صنفه - أي: الكلي الشامل لبعض أفراده لا جميعها - كقولنا: (زيد في «قام زيد» فاعل)، فإن لفظ (زيد) قد يكون فاعلاً وقد لا يكون فاعلاً بل مفعولاً مثلاً.

ص: 46

وإرادة نوعه به[1]، كما إذا قيل: (ضرب - مثلاً - فعل ماضٍ)[2]؛ أو صنفه[3]، كما إذا قيل: (زيدٌ في «ضرب زيد» فاعلٌ)[4]، إذا لم يقصد به شخص القول[5]؛ أو مثله[6] ك(ضرب) في المثال[7]

-------------------------

3- استعمال اللفظ وإرادة مثله - أي: جزئي آخر من اللفظ - كقولنا: (ضَرَبَ فعل ماضٍ)، فإن نفس لفظ (ضَرَبَ) المستعمل في هذه الجملة ليس فعلاً ماضياً، بل هو اسم مبتدأ، ولكنا أردنا مثله.

4- استعمال اللفظ وإرادة شخصه - أي: نفس الكلمة التي خرجت من الفم - كقولنا: (زيد لفظ) مع إرادتنا نفس كلمة (زيد) التي استعملناها في هذه الجملة.

يقول المصنف: لا إشكال في الثلاثة الأولى، لإجازة الطبع لهذا الاستعمال. وإنّما الكلام في القسم الرابع، وسيأتي بيان الإشكال فيه مع جوابه.

[1] المراد من النوع: الكلي الشامل لجميع الأفراد، فيدخل الجنس المنطقي في هذا القسم، «نوعه» نوع اللفظ، «به» بهذا الإطلاق.

[2] الصواب التمثيل ب- (ضرب كلمة)، لأن المثال المذكور في المتن هو للمثل لا للنوع، فإن (ضرب) هنا مبتدأ فلا يشملها (فعل ماضٍ) بل يراد أن مثلها فعل ماضٍ.

[3] أي: الكلي الذي يشمل بعض الأفراد لا كلها.

[4] ف(زيد) قد يكون فاعلاً، كما لو صدر منه الفعل واستعمل بعد الفعل، مثل: (ضرب زيد)، لكن (زيد) قد يكون مبتدأ أو مفعولاً أو غير ذلك.

[5] أي: نفس لفظ (زيد) الخارج من الفم في هذا المثال، بل يقصد كل لفظ (زيد) وقع عقيب الفعل مع صدور الفعل منه.

[6] وهو أن لا يراد نفس المذكور بالكلام، بل ما يشابهه لفظاً.

[7] أي: في المثال الأول وهو (ضرب - مثلاً - فعل ماضٍ)، فإن نفس (ضرب) المستعمل في الجملة ليس فعلاً، بل اسم مبتدأ.

ص: 47

في ما إذا قُصِدَ[1]. وقد أشرنا[2] إلى أن صحة الإطلاق كذلك وحسنه إنما كان بالطبع لا بالوضع، وإلاّ[3] كانت المهملات موضوعة لذلك؛ لصحة الإطلاق كذلك فيها[4]، والالتزام بوضعها كذلك كما ترى[5].

وأما إطلاقه[6] وإرادة شخصه - كما إذا قيل: (زيد لفظ)، وأريد منه شخص

-------------------------

أما لو كان مراد المصنف من قوله (في المثال) هو المثال الثاني، أي: (زيد «في ضرب زيد» فاعل) ففيه إشكال، بل لابد من أن تكون العبارة (أو مثله ك«زيد» في المثال).

[1] أي: إذا لم يقصد شخص القول، بل قصد نظيره.

[2] الغرض بيان أن استعمال اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو مثله ليس بالوضع، بل بالطبع، ويدل على ذلك جواز استعمال الألفاظ المهملة وإرادة نوعها أو صنفها أو مثلها، كقولنا: (ديز لفظ)، ولو كان هذا الاستعمال بالوضع لكانت جميع المهملات موضوعة عن طريق الواضع، وأن لا يكون هناك لفظ مهمل، وهذا خلف.

[3] أي: وإن كان صحة الاستعمال بالوضع، «لذلك» أي: للنوع أو الصنف أو المثل.

[4] «كذلك» أي: بأحد الثلاثة - النوع، الصنف، المثل - ، «فيها» أي: في المهملات.

[5] لأنه خلف، حيث إنها مهملة، والالتزام بالوضع معناه أنها ليست مهملة، مضافاً إلى بداهة عدم الوضع فيها.

إرادة الشخص

[6] أي: إطلاق اللفظ، «شخصه» أي: نفس الكلمة التي خرجت من الفم الآن. كما لو قال: (زيد لفظ)، ويقصد نفس كلمة (زيد) التي قالها الآن.

وقد أشكل في ذلك الفصول(1)،

وقال باستحالته.

ص: 48


1- الفصول الغروية: 22.

نفسه - ففي صحته بدون تأويل[1] نظر، لاستلزامه اتحاد الدال والمدلول[2] أو تركب القضية من جزءين كما في الفصول(1). بيان ذلك: إنه إن اعتبر دلالته على نفسه،

-------------------------

واستدل: بأن (القضية) هي ما تركبت من: الموضوع، والمحمول، والنسبة - أي: الهيئة التركيبية بينهما - فلو أطلق اللفظ وأريد به شخصه لزم أحد محذورين:

1- إن قلنا: أنّ (ز ي د) تدل على نفسها، وكان نفس (زيد) الملفوظ هو الموضوع، لزم اتحاد الدال؛ والمدلول، لأن المعنى المراد هو نفس لفظ (زيد)، فكان لفظ (زيد) دالاً ومدلولاً.

2- وإن لم تدل (ز ي د) على شيء فإن الجملة تكون بلا موضوع، فيلزم تركب الجملة من المحمول والنسبة فقط، وهذا محال أيضاً؛ لأن النسبة لا تكون إلاّ بين شيئين - الموضوع والمحمول - .

والجواب: أما الشق الأول: فيمكن الالتزام به؛ وذلك بتغاير الدال والمدلول اعتباراً - رغم اتحادهما ذاتاً - وهذا يكفي في رفع الاستحالة.

وأما الشق الثاني: فيمكن الالتزام بأن الموضوع هو نفس الوجود الخارجي للفظ (زيد).

وكما تصح النسبة إذا كان الموضوع حاكياً عن معنى، كذلك تصح النسبة إذا كان الموضوع حاضراً بنفسه، فلفظ زيد في (زيد لفظ) حاضر، فيكون هو الموضوع، وليس الموضوع شيئاً يحكي عنه اللفظ - كما في سائر القضايا - فتحقق الموضوع والمحمول وصحت النسبة.

[1] كأن يقدّر (هو) - مثلاً - فيكون المعنى (زيد هو لفظ)، فتأمل.

[2] هذا الشق الأول، وقيل في وجه الاستحالة: إنّ المدلول علّة للدال، كالنار التي هي علة للدخان، ولا يمكن اتحاد العلة ومعلولها. وقيل: إن المدلول ملاحظ استقلالياً، والدال ملاحظ آلياً، ويمتنع اجتماع اللحاظين، وقيل غير ذلك.

ص: 49


1- الفصول الغروية: 22.

حينئذٍ[1] لزم الاتحاد، وإلاّ[2] لزم تركبها من جزءين[3]، لأن القضية اللفظية على هذا[4] إنما تكون حاكية عن المحمول والنسبة، لا الموضوع[5]، فتكون القضية المحكية بها مركبة من جزءين، مع إمتناع التركب إلاّ من الثلاثة، ضرورة استحالة ثبوت النسبة بدون المنتسبَين.

قلت[6]: يمكن أن يقال: إنه يكفي[7] تعدد الدال والمدلول اعتباراً، وإن اتحدا ذاتاً؛ فمن حيث إنه لفظ صادر عن لافظه كان دالاً، ومن حيث إن نفسه وشخصه مراده كان مدلولاً.

مع أن[8] حديث تركب القضية من جزءين لو لا اعتبار الدلالة[9] في البين إنما يلزم إذا لم يكن الموضوع نفس شخصه[10]،

-------------------------

[1] أي: حين دلالة لفظ (زيد) على نفس لفظه، بأن لا يكون للفظ (زيد) معنى آخر، بل المعنى نفس هذا اللفظ.

[2] هذا الشق الثاني، أي: وإن لم نقل بالاتحاد، بل قلنا: إنّ لفظ (زيد) ليس دالاً على شيء، فلا مدلول، فلا يلزم المحذور الأول.

[3] أي: من المحمول والنسبة، وهذا مستحيل؛ لعدم إمكان النسبة إلاّ بين شيئين.

[4] أي: بناءً على عدم دلالة اللفظ على نفسه.

[5] لأن لفظ (زيد) لم يدل على معنى، لكي يحكي عنه.

[6] جواب المصنف عن كلا الشقين اللذين ذكرهما الفصول.

[7] جواب الشق الأول.

[8] جواب الشق الثاني.

[9] أي: إن لم نقُل بدلالة اللفظ على المعنى، بل كان نفس لفظ (زيد) هو المعنى المراد.

[10] أي: نفس اللفظ الذي خرج من الفم، بأن نقول: لا يشترط في الموضوع

ص: 50

وإلاّ[1] كان أجزاؤها الثلاثة تامة وكان المحمول فيها منتسباً إلى شخص اللفظ ونفسه، غاية الأمر[2] أنه نفس الموضوع، لا الحاكي عنه، فافهم، فإنه لا يخلو عن دقة.

وعلى هذا ليس من باب استعمال اللفظ[3] بشيء. بل يمكن[4] أن يقال: إنه

-------------------------

كونه حاكياً عن شيء، بل يكفي حضور ذلك الشيء. كما لو أردنا تعداد شيء فأشرنا إلى الأول وقلنا: واحد، وأشرنا إلى الثاني وقلنا: اثنان، وهكذا، فالموضوع هو نفس الوجود الخارجي بلا حاكٍ عنه، والمحمول هو: واحد، اثنان... .

[1] أي: وإن كان الموضوع نفس الوجود الخارجي، «أجزاؤها» أي: أجزاء القضيّة، «فيها» في القضية.

[2] أي: هنا ليس اللفظ حاكياً عن الموضوع كما في القضايا المتعارفة، بل اللفظ هو نفس الموضوع - بلا حكاية - «أنّه»: أي: إن شخص اللفظ، «عنه»: عن الموضوع.

[3] أي: ليس من استعمال اللفظ في معنى، بل يكون اللفظ نفس المعنى.

احتمال في النوع والصنف

[4] لما بيّن المصنف أن الموضوع هو نفس شخص اللفظ في ما لو اُطلق اللفظ وأريد شخصه، أراد أن يعمّم هذا الكلام حتى في ما اُطلق اللفظ وأريد نوعه أو صنفه، كما لو قيل: (ضرب كلمة) أو (زيد فاعل في «ضرب زيد»). فيقول: إنه يمكن القول: إن (ضرب) في المثال الأول، و(زيد) في المثال الثاني ليسا حاكيين عن الموضوع، بل هما بأنفسهما الموضوع.

بيان ذلك: إن الجزئي قد يكون له حكم، لا من حيث خصوصياته الفردية، بل بما هو مصداق للكلي، وحينئذٍ فالحكم يعمم على سائر المصاديق لذلك الكلي، كما لو قيل: (زيد ناطق) فنطق زيد ليس لخصوصياته الفردية، بل بما هو إنسان، وفي ما نحن فيه نقول: يمكن أن يكون الموضوع نفس لفظ ضرب في قولنا: (ضرب كلمة) ولكن بما هو مصداق للنوع.

ص: 51

ليس أيضاً من هذا الباب[1] ما إذا أطلق اللفظ وأريد به نوعه أو صنفه، فإنه فرده ومصداقه[2] حقيقة، لا لفظه[3] وذاك معناه[4]، كي يكون مستعملاً فيه استعمال اللفظ في المعنى، فيكون اللفظ نفس الموضوع الملقى إلى المخاطب خارجاً، قد أحضر في ذهنه بلا وساطة حاكٍ، وقد حُكم عليه ابتداءً، بدون واسطة أصلاً، لا لفظه، كما لا يخفى، فلا يكون في البين لفظ قد استعمل في معنىً، بل فرد قد حكم في القضية عليه بما هو مصداق لكلي اللفظ، لا بما هو خصوص جزئيّه.

نعم[5]، في ما إذا أريد به فرد آخر مثله كان من قبيل استعمال اللفظ في المعنى. اللهم إلاّ أن يقال[6]:

-------------------------

[1] أي: ليس من استعمال اللفظ في المعنى، بحيث يكون اللفظ حاكياً عن معنى، بل اللفظ هو المعنى.

[2] «فإنه» اللفظ، «فرده» أي: فرد النوع أو الصنف، والمقصود: إن اللفظ المذكور هو أحد مصاديق النوع أو الصنف، فيمكن الحكم على الفرد بحكمٍ هو للنوع والصنف.

[3] عطف على (نفس الموضوع)، أي: فيكون اللفظ - مثلاً ضرب - هو الموضوع، لا أن الموضوع هو اللفظ الحاكي عن معنى، وذلك المعنى هو النوع أو الصنف، «لفظه» أي: لفظ الموضوع.

[4] أي: لا أن اللفظ هو حاكٍ عن النوع أو الصنف، بأن استعمل اللفظ وأريد النوع أو الصنف، «لفظه»: لفظ النوع أو الصنف، «ذاك» أي: النوع أو الصنف، «معناه» أي: معنى اللفظ، «كي يكون» اللفظ، «مستعملاً فيه» في المعنى.

[5] أي: ما ذكرناه في النوع والصنف لا يجري في المِثْل؛ وذلك لأن المِثْل ليس مصداقاً لمثله.

إشكالات على هذا الاحتمال

[6] هذا الاحتمال الذي ذكره المصنف بقوله: (بل يمكن أن يقال...) يرد عليه

ص: 52

إن لفظ (ضرب) وإن كان فرداً له[1] إلاّ أنه إذا قصد به حكايته[2] وجعل عنواناً له ومرآته كان لفظه[3] المستعمل فيه، وكان حينئذٍ كما[4] إذا قصد به فرد مثله.

وبالجملة: فإذا أطلق[5] وأريد به نوعه - كما إذا أريد به فرد مثله - كان من باب

-------------------------

ثلاثة أمور:

الأول: إنه في إطلاق اللفظ وإرادة النوع أو الصنف، كما يمكن جعل اللفظ نفس الموضوع - لأنه مصداق للكلي - كذلك يمكن جعل اللفظ حاكياً عن المعنى الكلي، فلا يمكن الجزم بالاحتمال الأول.

الثاني: إن المتعارف بين الناس: كون اللفظ حاكياً عن المعنى - حتى في مورد النوع أو الصنف - فلا وجه للحمل على الاحتمال الأول.

الثالث: أحياناً لا يمكن جعل اللفظ نفس الموضوع، وذلك في ما كان الحكم على النوع أو الصنف لكنه لا يشمل شخص اللفظ الخارج عن الفم، كقولنا: (ضَرَب فعل ماضٍ)، فإن الحكم على النوع ولكنه لا يشمل (ضرب) في نفس هذا المثال؛ لأنه مبتدأ وليس فعلاً ماضياً.

[1] أي: فرداً للكلي، لا لفظاً حاكياً عن المعنى الكلي.

[2] أي: كونه فرداً إنما يصح على الاحتمال الأول، «أنه» للشأن، «به» ب(ضرب)، «حكايته» حكاية الكلي، «جعل» أي: جُعل (ضرب)، «له» للكلي.

[3] «كان» جزاء (إذا)، «كان» أي: كان ضرب، «لفظه» أي: اللفظ الذي أريد به المعنى الكلي الذي استعمل لفظ (ضرب) في ذلك المعنى.

[4] أي: كان اللفظ حاكياً عن معنى، كما أن المِثْل يحكي عن مِثله - في ما لو اُطلق اللفظ وأريد به مثله - «كان» أي: كان لفظ ضرب، «حينئذٍ» أي: حين قصد حكاية المعنى.

[5] «أطلق» اللفظ.

ص: 53

استعمال اللفظ في المعنى، وإن كان فرداً منه[1] وقد حكم في القضية بما يعمه؛ وإن أطلق[2] ليحكم عليه بما هو فرد كلّيّه ومصداقه، لا بما هو لفظه وبه حكايته[3]، فليس من هذا الباب، لكن[4] الإطلاقات المتعارفة ظاهراً ليست كذلك، كما لا يخفى. وفيها[5] ما لا يكاد يصح أن يراد منه ذلك مما كان الحكم في القضية لا يكاد يعم شخص اللفظ، كما في مثل: (ضرب فعل ماض).

الخامس: لا ريب[6] في كون الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها من حيث هي،

-------------------------

[1] «إن» وصلية، «كان» اللفظ، «منه» من الكلي - النوع أو الصنف - .

[2] هذا هو الاحتمال الآخر، وأما الاحتمال الأول فهو ما أشار إليه بقوله: (فإذا أطلق وأريد...)، و«أطلق» أي: اللفظ.

[3] «لا بما هو» اللفظ - ض ر ب - ، «لفظه» أي: اللفظ الدال على المعنى، «به» باللفظ، «حكايته» المعنى، «هذا الباب» أي: باب استعمال اللفظ في المعنى.

[4] إشارة إلى الإشكال الثاني.

[5] إشارة إلى الإشكال الثالث. «فيها» في الإطلاقات المتعارفة - أي: إطلاق اللفظ على المعنى - «منه» من اللفظ، «ذلك» نفس الشخص الملفوظ - الخارج من الفم - ففي المثال: (ضرب) اسم ومبتدأ، فلا يكون - بشخصه - موضوعاً ل(فعل ماضٍ)، بل هو حاكٍ.

الأمر الخامس معنى تبعية الدلالة للإرادة

اشارة

[6] هل أنّ إرادة المتكلم جزء معنى الألفاظ التي ينطق بها؟

لا إشكال في عدم كون إرادته جزءاً للمعنى، فاللفظ يدل على معنى وليست الإرادة جزءاً منه.

ويدل على ذلك ثلاثة أمور:

الأول: إن الإرادة هي قصد المعنى ولحاظه، واللحاظ ليس جزءاً من المعنى - كما

ص: 54

لا[1] من حيث هي مرادة للافظها[2]، لما عرفت[3] بما لا مزيد عليه من أن

-------------------------

مرّ تفصيله في المعنى الحرفي - بل هو من مقومات الاستعمال، فإنّ من يريد استعمال لفظ في معنى لابد له من تصور ذلك المعنى، وهذا التصور متأخر عن المعنى وعارض عليه، فليس جزءاً منه.

الثاني: لا إشكال في الإسناد - أي: نسبة المحمول إلى الموضوع - من غير مجازية في الكلام، ولو كانت الإرادة جزءاً من المعنى للزم أحد محذورين:

1- إما عدم صحة الإسناد؛ لأن الموضوع هو (المعنى المراد)، والمحمول أيضاً (معنىً مراد)، والإرادتان وجودان ذهنيان جزئيان، ولا يصح اتحاد الوجودين أصلاً، ففي مثل: (زيد قائم)، الموضوع هو: (زيد المراد)، وهي إرادة جزئية في ذهن المتكلم، المحمول هو: (قائم المراد)، وهذا أيضاً إرادة جزئية، فلا يمكن الإسناد؛ لأن ملاكه هو الاتحاد، وهنا إرادتان جزئيتان غير متحدتين.

2- وإما المجاز في الكلام، بأن نجرّد الموضوع والمحمول عن معناهما الموضوع له - وذلك عبر إخراج الإرادة عن المعنى - والمجازية بديهية البطلان.

الثالث: إن الإرادة جزئية، فإذا كانت جزء المعنى لزم أن لا يكون هناك موضوع له عام، بل يكون وضع جميع الألفاظ من الموضوع له الخاص، وهذا لا يلتزم به أحد.

[1] أي: لم توضع الألفاظ للمعاني بحيث تكون إرادة المتكلم جزءاً للمعنى أو شرطاً له.

[2] فهي (لا بشرط) عن الإرادة.

[3] هذا هو الدليل الأول، وقد عرفت في المعنى الحرفي أن اللحاظ لا يكون جزءاً من المعنى؛ لاستلزام الاستعمال اجتماع لحاظين؛ ولاستلزام عدم إمكان امتثال الأوامر والنواهي إلاّ بالتجريد والمجازية.

ص: 55

قصد[1] المعنى على أنحائه من مقومات الاستعمال، فلا يكاد[2] يكون من قيود المستعمل فيه.

هذا مضافاً[3] إلى ضرورة صحة الحمل والإسناد في الجمل بلا تصرف في ألفاظ الأطراف[4]، مع[5] أنه لو كانت موضوعة لها بما هي مرادة لما صح بدونه، بداهة أن المحمول على (زيد) في (زيد قائم) والمسند إليه[6] في (ضرب زيد) - مثلاً - هو نفس القيام والضرب، لا بما هما مرادان. مع[7] أنه يلزم كون وضع عامة الألفاظ[8] عاماً والموضوع له خاصاً، لمكان اعتبار خصوص إرادة اللافظين في ما وضع له اللفظ، فإنه[9] لا مجال لتوهم أخذ مفهوم الإرادة

-------------------------

[1] والقصد هو اللحاظ والإرادة، «أنحائه» أي: كيفيات القصد، من الآلية والاستقلالية وإرادة المعنى وأمثال ذلك.

[2] أي: لا يكاد يكون (قصد المعنى) من قيود المعنى المستعمل فيه، وإلا لزم الدور؛ لأن قصد المعنى متأخر عن المعنى، فلا يمكن أخذه في المعنى.

[3] هذا هو الدليل الثاني.

[4] أي: الموضوع والمحمول، والتصرف في اللفظ يكون عبر تغيير معناه الموضوع له.

[5] هذا تتمة الدليل الثاني، وبيان وجه الدليل، «أنه» للشأن، «كانت» الألفاظ، «لها» للمعاني، «لما صح» الحمل، «بدونه» بدون التصرف.

[6] أي: المسند إلى زيد، وإنّما مَثّل المصنف بمثالين لبيان عدم الفارق بين الجملة الاسمية والجملة الفعلية.

[7] هذا هو الدليل الثالث.

[8] وذلك في غير الأعلام ونحوها، حيث إن الوضع في سائر الألفاظ عام والموضوع له عام أيضاً - كما مرّ - .

[9] أي: إن قلت: إن الإرادة المأخوذة في المعنى هي مفهوم الإرادة لا مصداقها

ص: 56

فيه[1]، كما لا يخفى، وهكذا[2] الحال في طرف الموضوع.

وأما ما حكي عن العلمين[3] الشيخ الرئيس والمحقق الطوسي - من مصيرهما إلى

-------------------------

- وهي إرادة المتكلم - ومفهوم الإرادة عام، فلا يلزم الموضوع له الخاص.

قلت: لا إشكال في عدم أخذ مفهوم الإرادة في معاني الألفاظ؛ وذلك لعدم خطورها في الذهن عند سماع الكلمات، ولو كانت الإرادة جزءاً للمعنى لتبادرت إلى الأذهان عند سماع الألفاظ.

ثم إن مفهوم الإرادة هو معنى كلمة (الإرادة)، وهو معنى اسمي.

[1] أي: في اللفظ.

[2] هذا المقطع راجع إلى الدليل الثاني، أي: كما أن المحمول في (زيد قائم)، والمسند إلى زيد في (ضرب زيد) هو نفس القيام والضرب، لا بما هما مرادان، كذلك الحال في الموضوع أيضاً. ولو قدم المصنف هذا المقطع كان أفضل لنظم العبارة.

كلام ابن سينا والطوسي

[3] بعد أن ذكرنا أن الألفاظ موضوعة للمعاني بما هي، لا بما هي مرادة، يذكر المصنف كلاماً للفصول، حيث نسب إلى العَلَمين بأنهما يقولان: إنّ الإرادة جزء المعنى.

وحيث لم يرتضِ المصنف هذه النسبة، بيّن كلام العلمين وفسره بما يتطابق مع مدعاه.

قال العَلَمان: (الدلالة تتبع الإرادة)، ويقول المصنف: ليس معنى هذا الكلام أن الإرادة جزء من المعنى وشرطه كي يدل اللفظ على ذلك المعنى مضافاً إلى الإرادة؛ وذلك لأن الدلالة على نوعين:

1- الدلالة التصورية: وهي خطور المعنى إلى الذهن بمجرد سماع اللفظ، وهذا لا يحتاج إلى إرادة أصلاً، فلو صدر اللفظ من حيوان، كالببغاء أو من النائم والساهي، فإنه يخطر المعنى إلى الذهن.

2- الدلالة التصديقية: وهي الدلالة على كون المتكلم قاصداً للمعنى وليس

ص: 57

أن الدلالة تتبع الإرادة - فليس ناظراً[1] إلى كون الألفاظ موضوعة للمعاني بما هي مرادة - كما توهمه بعض الأفاضل(1)

-، بل ناظر إلى أن دلالة الألفاظ على معانيها بالدلالة التصديقية - أي: دلالتها على كونها[2] مرادة للافظها - تتبع إرادتها منها وتتفرع عليها - تبعية مقام الإثبات للثبوت وتفرّع الكشف على الواقع المكشوف -، فإنه لو لا الثبوت في الواقع لما كان للإثبات والكشف والدلالة مجال[3]، ولذا لابد من إحراز[4] كون المتكلم بصدد الإفادة في إثبات إرادة ما هو ظاهر كلامه ودلالته على الإرادة[5]، وإلاّ[6] لما كانت لكلامه هذه الدلالة،

-------------------------

ساهياً أو غالطاً، وهذا يتم بالقرائن - ولو بالأصول العقلائية - .

وكلام العَلَمين هو في النوع الثاني، أي: دلالة اللفظ على أن المتكلم قاصد للمعنى، متوقف على إرادة المتكلم، فلو لم يُرِد المتكلم المعنى لم يكن للّفظ دلالة على أنه قاصد؛ وذلك لأن الدلالة هي في مرحلة الإثبات، والإرادة في مرحلة الثبوت، ومن الواضح توقف مرحلة الإثبات على الثبوت.

[1] أي: ليس نظر (ما حكي) إلى ما فهمه صاحب الفصول من أن الإرادة جزء المعنى.

[2] أي: دلالة الألفاظ على كون المعاني، «إرادتها» أي: المعاني، «منها» من الألفاظ، «وتتفرع» عطف على (تتبع)، «تبعية» مفعول مطلق نوعي، أي: دلالة الألفاظ على أن المعاني مرادة للمتكلم هي من قبيل تبعية مقام الإثبات لمقام الثبوت.

[3] أي: بل كان المتكلم قاصداً واقعاً، ولذا كانت دلالة وكشف.

[4] ولو بأصل عقلائي - كأصالة الجِدّ، لا الهزل مثلاً - .

[5] أي: دلالة ظاهر كلامه على أنه قد أراد المعنى.

[6] أي: وإن لم يُحرز كون المتكلم بصدد الإفادة، كما لو لم يكن في مقام البيان، «هذه الدلالة» بأنّه قد قصد ظاهر الكلام.

ص: 58


1- الفصول الغروية: 17.

وإن كانت[1] له الدلالة التصورية - أي: كون سماعه موجباً لإخطار معناه الموضوع له، ولو كان من وراء الجدار[2] أو من لافظ بلا شعور ولا اختيار -.

إن قلت[3]: على هذا[4]، يلزم أن لا يكون هناك دلالة عند الخطأ والقطع بما ليس بمراد، أو الاعتقاد بإرادة شيء ولم يكن له من اللفظ مراد.

قلت[5]: نعم، لا يكون حينئذٍ دلالة، بل يكون هناك جهالة وضلالة، يحسبها الجاهل دلالة. ولعمري ما أفاده العلمان من التبعية - على ما بيناه - واضح لا محيص عنه[6]. ولا يكاد ينقضي تعجبي كيف رضي المتوهم أن يجعل كلامهما ناظراً إلى ما لا ينبغي صدوره عن فاضل، فضلاً عمّن هو عَلَم في التحقيق والتدقيق؟!

-------------------------

[1] «إن» وصلية، أي: ليس له دلالة تصديقية مع أن له دلالة تصورية.

[2] بحيث لا نعلم أن المتكلم إنسان أم بغبغاء مثلاً.

[3] حاصل الإشكال: هو أن لازم كلامكم - من أن الدلالة التصديقية تتبع الإرادة - أن لا يكون للكلام دلالة في صورتين:

1- إذا أراد المتكلم شيئاً، ولكن فهم السامع شيئاً آخر خطأً، فإنه لا إشكال في أن للكلام دلالة، ولكن على ما قلتم لا دلالة للكلام!

2- إذا تكلم المتكلم بكلام له ظهور أو نص، لكنه لم يكن قاصداً شيئاً أصلاً، فكذلك للكلام دلالة، ولكن على قولكم لا دلالة للكلام!

[4] أي: تبعية الدلالة التصديقية للإرادة.

[5] حاصله: نعم، لا توجد دلالة تصديقيّة، بلى توجد دلالة تصورية، وقد خلط المستشكل بين الدلالتين.

[6] بل بالعكس، فكلامهما ليس على ما بيّنه المصنف، بل على ما ذكره الفصول - فراجع المفصلات - .

ص: 59

السادس: لا وجه[1] لتوهم وضعٍ للمركبات[2] غير وضع المفردات، ضرورة عدم الحاجة إليه[3] بعد وضعها بموادها، في مثل: (زيد قائم) و(ضرب عمرو بكراً)،

-------------------------

الأمر السادس وضع المركبات

[1] إذا لاحظنا جملة اسمية أو فعلية، مثل «زيد قائم» أو «ضرب عمرو بكراً»، نجد مفردات وتركيباً، ف(زيد) لفظ مفرد، و(قائم) لفظ مفرد آخر، وتركيب للمفردين (زيد قائم)، فهنا ثلاثة أوضاع:

الأول: مادة المفردات مثل: (ق و م) و(ز ي د).

الثاني: هيئة المفردات، أي: طريقة اجتماعها وحركاتها وهي (فاعل) و(فَعْل).

الثالث: الهيئة التركيبية من المفردات، وهي الجملة الاسمية والفعلية. وهذه الأوضاع الثلاثة لا كلام فيها.

إنما الكلام في وضع رابع، وهو أن تكون كل جملة - من الجمل المستعملة - لها وضع يخصها، بأن نقول بوضع (زيد قائم) بهذا التركيب زائداً على وضع (زيد) و(قائم) و(الهيئة التركيبية)، يقول المصنف: إنه لا وجه لتوهم وجود هذا الوضع الرابع؛ وذلك لجهتين:

1- عدم الحاجة إليه؛ إذ وضع المفردات والهيئات التركيبية وافية بالمقصود من الوضع - وهو الإفصاح عما في الضمير - .

2- استلزامه الدلالة على المعنى مرتين، مرة باعتبار وضع المفردات، وأخرى باعتبار وضع المركب، وهذا خلاف الوجدان.

مضافاً إلى استلزامه عدم تناهي الوضع؛ إذ كيفية تركيب الكلمات ينتج عدداً غير محدود من الجمل، وعدم تناهي الوضع باطل بداهةً.

[2] أي: وضع شخصي لكل جملة مستعملة بخصوصها.

[3] أي: إلى وضع المركبات، «وضعها» أي: المفردات، ومثّل المصنف بمثالين: للجملة الاسمية، وللجملة الفعلية.

ص: 60

شخصياً[1]، وبهيئاتها[2] المخصوصة من خصوص إعرابها[3] نوعياً، ومنها[4] خصوص هيئات المركبات الموضوعة لخصوصيات النسب[5] والإضافات بمزاياها الخاصة من تأكيد وحصر وغيرهما نوعياً[6]،

-------------------------

[1] هذا الوضع الأول، أي: وضع مواد المفردات بوضع شخصي، مثلاً: (ز ي د) و(ق و م) و(ض ر ب) كلها لها وضع شخصي، فقد تصوّر الواضع هذه المواد بنفسها ووضع لها معنى.

[2] هذا الوضع الثاني، أي: وضع هيئة المفردات بوضع نوعي، فتصور الواضع هيئة خاصة - أي: صورة مخصوصة - فوضع لها معنى، مثلاً: هيئة (فاعل) تدل على صدور الفعل منه أو قيامه به، وهيئة (مفعول) تدل على وقوع الفعل عليه، وهيئة (فعّال) تدل على المبالغة، وهكذا.

[3] الظاهر أن مراد المصنف من (الإعراب) هو: (التصريف) أي: قد وُضع لكل معنى - في المشتق - هيئة خاصة من: (فاعل) و(مفعول) و(فعّال) و(مفعل)... الخ، وهذه الهيئات غير خاصة بفعل خاص، بل تجري في أغلب الأفعال؛ لذا كان الوضع فيها نوعياً وليس شخصياً.

[4] هذا هو الوضع الثالث، أي: ومن الهيئات المخصوصة، هو الهيئة التركيبية بين المفردات، كالجملة الاسمية الدالة على الثبوت، مثل: (زيد قائم)، والجملة الفعلية الدالة على أصل الصدور، مثل: (قام زيد)، وكذلك الجملة الدالة على التأكيد مثل: (إن زيداً قائم)، والدالة على الحصر مثل: (إياك نعبد... الخ).

[5] كنسبة فعلٍ إلى فاعل مثل: (زيد قائم) أو (قام زيد)، و«الإضافات» عطف تفسيري على (النسب).

[6] أي: وضع هيئة المركبات إنما هو بوضع نوعي.

ثم اعلم أنا شرحنا العبارة بما هو أقرب إلى مراد المصنف، وفي بعض الشروح شرحها بكيفية أخرى، فارجعوا ضمير (بعد وضعها) إلى المركبات، و(بموادها)

ص: 61

بداهة[1] أن وضعها كذلك وافٍ بتمام المقصود منها[2]، كما لا يخفى، من غير حاجة إلى وضع آخر لها بجملتها[3]، مع[4] استلزامه الدلالة على المعنى تارةً بملاحظة وضع نفسها وأخرى بملاحظة وضع مفرداتها.

ولعل المراد من العبارات الموهمة لذلك[5] هو وضع الهيئات على حدة غير

-------------------------

أي: مواد المفردات مع عدم ذكر المصنف لهيئات المفردات، و(بهيئاتها) أي: المركبات؛ وذلك بأن يقال بوضع الإعراب - أي: الرفع والنصب والجر - للدلالة على الفاعلية والمفعولية... الخ، فيكون معنى (إعرابها) هو المعنى المصطلح، فيكون الوضع أربعة أقسام مع نفي الوضع الخامس، أي: وضع مادة المفردات، وهيئة المفردات، وإعراب المفردات، والهيئة التركيبية من الجمل، فهذه أوضاع ثابتة، وأما ما ينفيه المصنف فهو وضع خامس، وهو وضع كل جملة على حدة وبانفرادها، فتأمل.

[1] الدليل الأول على بطلان وضع خاص للمركبات - أي: لكل جملة على انفرادها - «وضعها» أي: المركبات، «كذلك» أي: بوضع مفرداتها - مادةً وهيئةً - ووضع الهيئة التركيبية نوعاً.

[2] أي: من المركبات، فإن الوضع تابع للغرض، وحيث يفي وضع المفردات ووضع الهيئة التركبية بالغرض فلا حاجة إلى وضع آخر.

[3] أي: للمركبات، «بجملتها» أي: بمجموعها، بأن يقال: إن كل جملة هي موضوعة بوضع مستقل بنفسها.

[4] هذا الدليل الثاني، أي: لو قلنا: إنّ كل جملة لها وضع مستقل فهذا يستلزم أن تكون لكل جملة دلالتان، مثلاً في (زيد قائم)، يقال: وُضِع (زيد) و(قائم) و(الهيئة التركيبية) مرةً، ومرةً أخرى وضع تركيب (زيد قائم)، فهنا وضعان ودلالتان، وهذا بديهي البطلان، «وضع نفسها» أي: المركبات بجملتها.

[5] أي: هذا الوضع الرابع، أي: وضع المركبات بجملتها. «وضعها» أي:

ص: 62

وضع المواد، لا وضعها بجملتها علاوةً على وضع كلّ منهما(1).

السابع: لا يخفى أنّ تبادر المعنى من اللفظ، وانسباقه[1] إلى الذهن من نفسه - وبلا قرينة - علامة كونه حقيقة فيه، بداهة[2] أنّه لو لا وضعه له لما تبادر.

لا يقال[3]:

-------------------------

المركبات، «بجملتها» أي بخصوصها، «منهما» أي: من الهيئات والمواد.

الأمر السابع علائم الحقيقة والمجاز

اشارة

الحقيقة: استعمال اللفظ في ما وُضِع له، والمجاز: استعمال اللفظ في غير ما وُضِع له لوجود علقة مع المعنى الحقيقي، كاستعمال الأسد في الرجل الشجاع.

وطريق تمييز الحقيقة عن المجاز أحد الأمور التالية:

1- التبادر، بمعنى فهم أهل اللسان المعنى من اللفظ من غير قرينة.

2- عدم صحة السلب.

3- الاطراد، بمعنى عموم اللفظ لكل مصاديق المعنى.

4- تنصيص أهل اللغة، وسيأتي البحث عنه في (المقصد السادس) من هذا الكتاب.

1- التبادر
اشارة

[1] عطف تفسيري، لبيان معنى التبادر، «وبلا قرينة» عطف تفسيري لقوله: (من نفسه) أي: من نفس اللفظ، «كونه» اللفظ، «فيه» في المعنى.

[2] إذ فهم معنى من لفظ لا يكون بغير علّة، وإلاّ لزم معلول من غير علّة، وهو محال، إذاً فلابد من منشأ للتبادر، ولا منشأ إلاّ الوضع.

[3] حاصل الإشكال: إن الوضع هو سبب العلم بالمعنى الحقيقي؛ إذ لو لا الوضع لما علمنا به، فكيف يكون التبادر سبباً للعلم بالمعنى الحقيقي، أليس هذا دوراً مصرحاً؟

ص: 63


1- قوانين الأصول 1: 264.

كيف يكون[1] علامةً؟ مع توقفه على العلم بأنه موضوع له - كما هو واضح -، فلو كان العلم به موقوفاً عليه[2] لدار.

فإنه يقال[3]: الموقوف عليه غير الموقوف عليه[4]، فإن العلم التفصيلي بكونه موضوعاً له[5] موقوفٌ على التبادر، وهو موقوف على العلم الإجمالي الارتكازي[6] به، لا التفصيلي، فلا دور.

-------------------------

[1] أي: كيف يكون التبادر علامة على المعنى الحقيقي، «توقفه» أي: التبادر، «بأنه» بأن اللفظ، «موضوع له» أي: للمعنى.

[2] «به» بالمعنى الحقيقي، «عليه» على التبادر.

[3] هنا جوابان:

الأول: التبادر يتوقف على العلم الارتكازي بالوضع، والتبادر سبب للعلم التفصيلي بالوضع، فلا دور لاختلاف سبب التبادر ومسبّبه.

العلم الارتكازي التبادر

العلم التفصيلي

الثاني: تبادر أهل اللسان سبب علم غير أهل اللسان بالوضع، فلا دور أيضاً.

[4] أي: العلم المتوقف على التبادر يختلف عن العلم الذي هو سبب للتبادر، فالعلم (الموقوف) ذلك التبادر (عليه) على ذلك العلم، بأن كان ذلك العلم سبباً للتبادر، (غير) العلم (الموقوف عليه) التبادر، بأن كان ذلك العلم معلولاً للتبادر.

[5] بكون اللفظ موضوعاً للمعنى، «موقوف على التبادر» أي: معلول له، فالتبادر سبب للعلم التفصيلي - أي: كونه حقيقة لا مجازاً - «وهو» أي: التبادر.

[6] ليس المقصود بالعلم الإجمالي هو ما اصطلح عليه الأصوليون من كون المعلوم مردداً بين فردين أو أفراد، بل المراد هو العلم الارتكازي.

وتوضيح ذلك: إن الطفل يسمع الألفاظ، وبالتدريج يحصل له ارتكاز في ذهنه بحيث يتصور المعنى كلّما سمع اللفظ، مع الغفلة عن كونه معنىً حقيقياً، ثم لمّا يريد معرفة المعاني الحقيقية فإنه يلاحظ التبادر، فكل لفظ تبادر معناه في ذهنه من غير

ص: 64

هذا إذا كان المراد به[1] التبادر عند المستعلم. وأما[2] إذا كان المراد به التبادر عند أهل المحاورة فالتغاير أوضح من أن يخفى.

ثم[3]

-------------------------

معونة قرينة يعرف بأنه معنىً حقيقي، وإلاّ عرف بأنه مجاز.

[1] أي: بالتبادر الذي هو علامة الحقيقة.

[2] إشارة إلى الجواب الثاني.

شرط التبادر

[3] المعنى الحقيقي يتبادر من غير معونة قرينة، فلو سمعنا لفظ (أسد) مثلاً، فإنا حينئذٍ نتصور الحيوان المفترس حتى في ما لم تكن قرينة أصلاً.

أما لو انسبق إلى الذهن معنى، لكن بمعونة قرينة، كما يتبادر الرجل الشجاع من قولنا (أسد على المنبر)، فهذا ليس أمارة على المعنى الحقيقي.

ومنه: ما لو كان بمعونة مقدمات الحكمة، فهذا النوع من التبادر لا يجدي نفعاً.

ثم إنه لو شككنا في أن هذا التبادر هل هو من حاق اللفظ أم أنه بمعونة قرينة - كالشهرة مثلاً - فهل نتمكن من التمسك بأصالة عدم القرينة لإثبات أن التبادر من حاق اللفظ، فيكون المعنى حقيقياً؟

والجواب: إن أصالة عدم القرينة لها موردان:

الأول: ما لو علمنا بالمعنى الحقيقي والمعنى المجازي، كما في لفظ (أسد)، وشككنا في أن مراد المتكلم هل هو الحيوان المفترس أم الرجل الشجاع؟ فهنا تجري أصالة عدم القرينة، فيحمل اللفظ على معناه الحقيقي.

الثاني: ما لو علمنا بمراد المتكلّم، ولكن لم نعلم بأن هذا المراد هو المعنى الحقيقي من اللفظ أم المعنى المجازي، كما لو علمنا أن قوله: (اغتسل للجمعة) دال على الاستحباب، وشككنا في وجود قرينة دالة على الاستحباب فلا يكون (اغتسل) مستعملاً في معناه الحقيقي، أو عدم وجود قرينة فيكون (اغتسل)

ص: 65

إن هذا[1] في ما لو عُلِم استناد الانسباق إلى نفس اللفظ، وأما في ما احتمل استناده إلى قرينة فلا يُجدي أصالة عدم القرينة في إحراز كون الاستناد إليه[2]، لا إليها - كما قيل(1) - لعدم الدليل على اعتبارها[3] إلاّ في إحراز المراد[4] لا الاستناد[5].

ثم إن عدم صحة[6] سلب اللفظ - بمعناه المعلوم المرتكز في الذهن

-------------------------

مستعملاً في المعنى الحقيقي، فهنا لا تجري أصالة عدم القرينة؛ وذلك لأن أصالة (عدم القرينة) إنما هي أصل عقلائي، والعقلاء يجرونها في الصورة الأولى - وهي عدم معرفة مراد المتكلم مع معرفتهم بالمعنى الحقيقي - ولا يجرونها في الصورة الثانية - وهي معرفة مراد المتكلم مع عدم معرفة الحقيقة عن المجاز - .

وسبب بنائهم هذا هو أنهم يريدون فهم مقصود المتكلم، ولا يهُمُّهم ما إذا كان بمعناه الحقيقي أم بمعناه المجازي، فإذا لم يعرفوا مقصوده التجأوا إلى أصل - هو أصالة عدم القرينة - وأما إذا عرفوا مقصوده فلا يلتجئون إلى شيء أصلاً.

[1] أي: كون التبادر علامة للحقيقة، «نفس اللفظ» من غير معونة قرينة - ولو مقدمات الحكمة - .

[2] «إليه» إلى نفس اللفظ، «إليها» إلى القرينة، خلافاً للمحقق القمي.

[3] أي: اعتبار أصالة عدم القرينة.

[4] أي: المراد من الكلمة، لكن بعد معرفة المعنى الحقيقي هل أراده المتكلم أم أراد المعنى المجازي؟ فتجري أصالة عدم القرينة.

[5] أي: استناد التبادر إلى حاق اللفظ لا إلى القرينة، وهذا في ما عُلم المراد ولم يعلم أنه معنى حقيقي أم مجازي.

2- عدم صحة السلب

[6] ثاني العلامات - التي يذكرها المصنف - لتمييز الحقيقة عن المجاز، هي عدم صحة السلب في الحقيقة، وصحة السلب في المجاز، بيانه: إن حمل شيء على شيء

ص: 66


1- الفصول الغروية: 33.

إجمالاً[1] كذلك - [2] عن معنى[3] تكون علامة كونه حقيقةً فيه، كما أن صحة سلبه عنه[4] علامة كونه مجازاً في الجملة[5].

-------------------------

- بأن يسند المحمول إلى الموضوع - على نوعين:

1- الحمل الأولي الذاتي: بأن يوجد اتحاد في الماهية بين المحمول والموضوع، إلاّ أن اللفظ مختلف، كقولنا: (الإنسان بشر) وقولنا: (الإنسان حيوان ناطق)، وهذا الحمل علامة الحقيقة؛ إذ لا يصح السلب، فلا يصح القول إنّ الإنسان ليس بشراً - مثلاً - .

وأما لو صح السلب فهذا علامة المجاز، فيصح أن يقال: (ليس زيد أسدا).

2- الحمل الشايع الصناعي: بأن يختلف مفهوم الموضوع والمحمول، ولكن يتحدان في الخارج مصداقاً، مثل: (زيد عالم) فإن مفهوم (زيد) يختلف عن مفهوم (العالم)، لكنهما متحدان خارجاً، فهذا الرجل هو (زيد) وهو (العالم). فصحة الحمل دليل على أن هذا الموضوع هو من أفراد ذلك المحمول حقيقة، وأما لو صح السلب مثل قولنا للبليد (فلان حمار) فإنه يصح سلب (الحمار) عنه حقيقة، فهذا دليل المجازية.

[1] أي: عدم صحة السلب يتوقف على العلم الارتكازي بالمعنى، وأما العلم التفصيلي بالمعنى فهو يتوقف على عدم السلب، فلا دور، وسيشير المصنف إلى الدور ودفعه بعد قليل.

[2] أي: كالتبادر الذي كان متوقفاً على العلم الارتكازي بالمعنى.

[3] «عن» متعلقه بقوله: (سلب اللفظ)، أي: عدم صحة سلب اللفظ عن معنى، «يكون» عدم صحة السلب، «علامة كونه» كون اللفظ، «حقيقة فيه» في المعنى.

[4] سلب اللفظ عن المعنى.

[5] إشارة إلى الخلاف بين المشهور والسكاكي، فصحة السلب علامة المجاز في الجملة، أي: إما في الكلمة - على المشهور - وإما في الإسناد - كما ذهب إليه السكاكي(1) - وسيأتي بعد قليل الفرق بين القولين.

ص: 67


1- مفتاح العلوم: 156.

والتفصيل: إن عدم صحة السلب عنه[1] وصحة الحمل عليه بالحمل الأوّليّ الذاتي[2] - الذي كان ملاكه الاتحاد مفهوماً - [3]، علامة[4] كونه نفس المعنى، وبالحمل الشائع الصناعي[5] - الذي ملاكه الاتحاد وجوداً، بنحو من أنحاء الاتحاد[6] - علامة كونه من مصاديقه وأفراده الحقيقية[7].

-------------------------

[1] أي: عدم صحة سلب اللفظ عن المعنى، وقوله: (وصحة الحمل عليه) عطف تفسيري.

[2] إنّما سمي (أولياً) لأنه أوّليّ الصدق والكذب - كذا قيل - وسمي (ذاتياً) لأنه في الذاتيات، أي: الجنس والفصل.

[3] لا يخفى أن الحمل الأولي الذاتي على قسمين:

1- المترادفان: مثل: (الإنسان بشر)، وفي هذا القسم يكون الاتحاد مفهومياً وماهويّاً.

2- التعريفات: مثل: (الإنسان حيوان ناطق)، وهنا يكون الاتحاد ماهويّاً فقط، أي: ماهية الإنسان نفس ماهية الحيوان الناطق.

[4] «علامة» خبر (أنّ عدم صحة السلب... الخ)، «كونه» كون اللفظ.

[5] إنما سمي بذلك لأنه شائع ومشهور في الصناعات، حيث يكثر فيها كون شيء مصداقاً لشيء آخر.

[6] كالاتحاد الصدوري، بمعنى صدور الفعل من الفاعل، مثل: (زيد ناصر). وكالاتحاد القيامي، بمعنى قيام الفعل بالموضوع، مثل: (زيد ميّت). وكالاتحاد الحلولي، بمعنى حلول الشيء في آخر، مثل: (زيد أبيض)، وسيأتي تفصيله في بحث المشتق.

[7] كون اللفظ من مصاديق المعنى - أي: كون المحمول من مصاديق الموضوع - إنّما هو في أحد أقسام الحمل الشايع الصناعي؛ وذلك لأن أقسامه ثلاثة:

ص: 68

كما أن صحة سلبه كذلك[1] علامة أنه ليس منها، وإن لم نقل[2] بأن إطلاقه

-------------------------

1- الموضوع فرد جزئي للمحمول الكلي، مثل: (زيد ضاحك)، وهذا الحمل دليل على أن زيداً مصداق حقيقي للضاحك.

2- الموضوع كلي لكنه أخص من المحمول، مثل: (الزنجي ضاحك) وهذا الحمل علامة لكون الموضوع من أصناف المحمول حقيقة، لا من أفراده.

3- الموضوع كلي متساوٍ مع المحمول، مثل: (الإنسان ضاحك)، وهذا الحمل علامة اتحاد الموضوع والمحمول خارجاً، لا أن الموضوع من أفراد المحمول؛ ولذا قال المصنف في تعليقه: (في ما إذا كان المحمول والمحمول عليه كلياً وفرداً، لا في ما إذا كانا كليين متساويين، أو غيرهما)(1).

قوله: (متساويين) إشارة إلى القسم الثالث، وقوله: (أو غيرهما) إشارة إلى القسم الثاني، ولا يوجد قسم آخر؛ لعدم جواز كون الموضوع أعم من المحمول، فلا يصح القول: إن (الحيوان فرس).

[1] «سلبه» اللفظ، «كذلك» بأي نحو من الأنحاء، «أنه» أن اللفظ، «منها» من مصاديق المعنى.

[2] أي: صحة السلب علامة المجاز حتى لو قلنا بما قاله السكاكي؛ وذلك لأنّ كلا القولين متفقان على المجازية، وإنّما الخلاف في محل المجاز، فهل المجاز في الكلمة - كما عليه المشهور - أم أن المجاز في الإسناد؟ - كما عليه السكاكي - .

بيانه: إن مثل: (زيد أسد) لا إشكال في أنه مجاز، لكن أين محل المجاز؟

1- المشهور(2):

على أن المجاز في الكلمة، أي: إن (أسد) لم يستعمل في معناه الموضوع له - وهو الحيوان المفترس الخاص - بل استعمل في الشجاع.

2- السكاكي: على أن (أسد) بنفس معناه - أي: الحيوان المفترس الخاص - ولكن

ص: 69


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 131.
2- فوائد الأصول 1: 94.

عليه[1] من باب المجاز في الكلمة، بل من باب الحقيقة، وأن التصرف فيه[2] في أمر عقلي - كما صار إليه السكاكي(1)- .

واستعلام[3] حال اللفظ وأنه حقيقة أو مجاز في هذا المعنى بهما[4] ليس على وجهٍ دائر، لما عرفت في التبادر من التغاير بين الموقوف والموقوف عليه[5] بالإجمال

-------------------------

المجاز في توسعة أفراد (الأسد)، وادعاء أنّ (زيد) من مصاديق الأسد المفترس، فعلى هذا القول لا مجاز في كلمة (الأسد)، بل هي على معناها، وإنّما المجاز في إدخال (زيد) ضمن مصاديق الحيوان المفترس، وهذا ما يعبر عنه ب(المجاز في الإسناد) أو (المجاز في الأمر العقلي).

[1] إطلاق اللفظ على المعنى.

[2] أي: التصرف المجازي، «فيه» في الإطلاق - أي: الإسناد - ، «في أمر عقلي» وهو توسعة مصاديق (الأسد المفترس) لتشمل (زيداً) أيضاً.

[3] ردّ إشكال الدور، الذي مرّ نظيره في التبادر.

حاصل الإشكال: إنه لا يمكن الحمل إلاّ بعد العلم بالوضع - ولذا من لا يعرف اللسان لا يتمكن من الحمل - فلو كان العلم بالوضع يتوقف على الحمل لدار دوراً مُصرّحاً، وهكذا في عدم صحة السلب؛ إذ هي تتوقف على العلم بالوضع، فلو توقف العلم بالوضع عليها لكان دوراً.

والجواب: أولاً: إنّ العلم الارتكازي هو علة صحة الحمل، ثم إن صحة الحمل هي علة العلم التفصيلي، وهكذا في صحة السلب.

وثانياً: الفرق بين العالم باللغة وبين المستعلم.

[4] بصحة السلب وعدم صحة السلب.

[5] «الموقوف» أي: العلم بالوضع الذي يتوقف عليه صحة السلب أو عدمها، «الموقوف عليه» أي: العلم بالوضع الذي يتوقف هو على صحة السلب أو عدمها.

ص: 70


1- مفتاح العلوم: 156.

والتفصيل، أو الإضافة إلى المستعلم والعالم، فتأمل جيداً.

ثم إنه قد ذُكر(1)

الاطّراد[1] وعدمه علامة للحقيقة والمجاز أيضاً[2].

ولعله[3] بملاحظة نوع العلائق[4] المذكورة في المجازات،

-------------------------

3- الاطراد

[1] الاطراد: هو صحة استعمال اللفظ في المعنى - في جميع الأفراد أو الحالات - ف(زيد) يطلق على الرجل الخاص في كل حالاته، و(ضارب) يطلق على كل من صدر عنه الضرب في جميع الأحوال.

وعدّ البعض الاطراد من علائم الحقيقة، وعدم الاطراد من علائم المجاز.

واُشكل عليه: بأنه يصح استعمال اللفظ في المعنى المجازي في كل الأفراد والحالات، فيصح - مثلاً - استعمال (الأسد) في (الرجل الشجاع) في كل الرجال، وفي كل أحوالهم.

والجواب: إن المراد هو نوع العلاقة لا صنفها، ونوع العلاقة خاص بالمعنى الحقيقي دون المعنى المجازي.

مثلاً: استعمال (الأسد) في غير الحيوان المفترس الخاص إنّما هو بعلاقة (الشجاعة)، ولكن ليس كل شجاعة، بل الشجاعة التي في الإنسان، فيقال: (زيد أسد)، ولا يقال: (الديك أسد) إذا كان شجاعاً، وهكذا خصوص الشباهة في الشجاعة، فلا يطلق الأسد على الرجل الأبخر ولا المُشعِر، بسبب شباهته بالأسد في بخر الفم أو كثافة الشعر.

ولصاحب الفصول جواب آخر سيأتي مع رده.

[2] «أيضاً» كما ذُكر التبادر أو عدمه، وصحة السلب أو عدمها.

[3] إشارة إلى جواب الإشكال المذكور.

[4] لا صنفها، ونوع تلك العلاقة هي الحيثية التي أوجبت صحة استعمال اللفظ في المعنى.

ص: 71


1- الفصول الغروية: 38.

حيث لا يَطَّرِد[1] صحة استعمال اللفظ معها، وإلاّ[2] فبملاحظة خصوص[3] ما يصح معه الاستعمال، فالمجاز مطرد كالحقيقة.

وزيادة قيد[4]:

-------------------------

[1] أي: لا يَطَّرِد في المجازات، «معها» مع نوع العلائق.

[2] أي: إذا لم نلاحظ نوع العلاقة، بل لاحظنا صنفها، فإن المجاز مُطَّرِد أيضاً، حيث يصح استعمال الأسد في كلّ رجل شجاع وفي جميع الحالات.

[3] أي: بملاحظة صنف العلاقة، كالشجاعة في الرجل - في مثال الأسد - .

[4] هذا الجواب ذكره صاحب الفصول - ولم يرتضه - وحاصله:

إن الاطراد قد يكون على نحو الحقيقة، وقد يكون على نحو المجاز، والأول علامة الحقيقة دون الثاني.

وفيه: إنه لا نعرف أن الاطراد على أية كيفية - من الحقيقة أو المجاز - إلاّ بعد معرفة الحقيقة عن المجاز تفصيلاً، وحينئذٍ يكون الاطراد متوقفاً على معرفة الحقيقة، فإذا كان علامة لها - حيث تتوقف معرفة الحقيقة عليه - لزم الدور المصرح.

إن قلت: ندفع الدور بالتزام العلم الارتكازي والعلم التفصيلي، أو باختلاف العالم والمستعلم - كما مرّ في التبادر - .

قلت: الاطراد على نحو الحقيقة لا يتوقف على العلم الارتكازي، بل يتوقف على العلم التفصيلي بالحقيقة؛ إذ معرفة أن اللفظ شائع في معناه وأنه على نحو الحقيقة لا المجاز ليس علماً ارتكازياً، بل هو علم تفصيلي بالحقيقة والمجاز.

وكذا المستعلم إذا علم بأن الاطراد عند أهل اللسان على وجه الحقيقة، فإنّ معنى ذلك أنه يعلم المعنى الحقيقي؛ لذا علم بأن ذلك الاطراد عند أهل اللسان ليس بالمجاز، بل بالحقيقة، وحينئذٍ فأي حاجة له إلى الاطراد؟ فإنه يعلم الحقيقة، فإذا أراد تحصيل العلم بها عن طريق الاطراد كان من تحصيل الحاصل.

ص: 72

«من غير تأويل»[1]، أو: «على وجه الحقيقة»[2]، وإن كان موجباً لاختصاص الاطّراد كذلك[3] بالحقيقة، إلاّ أنه حينئذٍ لا يكون علامة لها[4] إلاّ على وجهٍ دائر. ولا يتأتى التفصي عن الدور بما ذكر في التبادر هاهنا[5]، ضرورة أنه مع العلم بكون الاستعمال على نحو الحقيقة لا يبقى مجال لاستعلام حال الاستعمال[6] بالاطّراد أو بغيره.

الثامن: انّه للّفظ[7] أحوال خمسة، وهي:

-------------------------

[1] هذا على مذهب السكاكي، حيث يتم التأويل في اللفظ؛ وذلك عبر توسعته ليشمل الأفراد المجازية.

[2] هذا على رأي المشهور - من المجاز في الكلمة - .

[3] «كذلك» أي: (من غير تأويل) أو (على وجه الحقيقة).

[4] للحقيقة، والوجه الدائر:

العلم بالمعنى الحقيقي الاطراد على نحو الحقيقة العلم التفصيلي بالمعنى الحقيقي.

[5] «هاهنا» متعلق بقوله: (ولا يتأتى التفصي)، و«ما ذكر في التبادر» من توقفه على العلم الارتكازي، وتوقف العلم التفصيلي عليه، وكذا الفرق بين العالم والمستعلم.

[6] أي: إنّ الاستعمال على نحو الحقيقة أم المجاز.

الأمر الثامن أحوال اللفظ

[7] أي: بملاحظة المعنى، له أحوال متعددة، ذكر المصنف منها خمسة - كمثال - وإلاّ فالأحوال حدود الخمسة عشرة.

ثم اعلم أن البحوث ثلاثة:

الأول: إذا استعمل اللفظ في معنى، ولم يعلم أن الاستعمال على نحو الحقيقة أم المجاز.

-------------------------

فالسيد المرتضى على أن الاستعمال علامة الحقيقة، والمشهور على أنه أعم من الحقيقة، وقد مرّ الإشارة إلى هذا البحث في الأمر السابع.

ص: 73

الثاني: إذا علمنا بالمعنى الحقيقي والمجازي، ثم استعمل اللفظ:

1- ولم نعلم أن المراد هو المعنى الحقيقي أو المجازي، فإن الأصل العقلائي هو حمل اللفظ على المعنى الحقيقي، كحمل الأسد على الحيوان المفترس الخاص، دون الرجل الشجاع.

2- وكذا لو دار الأمر بين معنى حقيقي معلوم وبين الاشتراك، فإن الأصل العقلائي هو أصالة عدم الاشتراك، كالعين في الجاسوس، حيث لا ندري أنه مجاز بعلاقة نظر الجاسوس بعينه، أم حقيقة فيكون مشتركاً مع العين الباصرة.

3- وكذا لو دار الأمر بين إرادة العموم من لفظ العام وبين إرادة الخصوص، فالأصل العقلائي هو أصالة العموم.

4- وكذا إن دار الأمر بين المعنى الحقيقي وبين النقل، فأصالة عدم النقل مُحكّمة.

5- وكذا إذا دار الأمر بين المعنى الحقيقي وبين الإضمار - بتقدير شيء - مثل: (طاب زيد) فلا ندري هل مراده (طاب زيد بنفسه) أم بتقدير الأخلاق، أي: (طابت أخلاق زيد)، فأصالة عدم الإضمار محكّمة.

ومرجع هذه الأصول كلها إلى أصالة الظهور، حيث إنها أصل معتبر عند العقلاء، ويبنون أمورهم عليها، والشارع قد أمضى هذه الأصول - كما سيأتي في بحث أصالة الظهور - .

الثالث: إذا دار الأمر بين هذه الأحوال الخمسة فلا وجه للترجيح إلاّ الظهور، أي: ظهور اللفظ في أحد المعنيين.

ص: 74

التجوّز[1] والاشتراك[2] والتخصيص[3] والنقل[4] والإضمار[5] لا يكاد يصار إلى أحدها في ما إذا دار الأمر بينه[6] وبين المعنى الحقيقي[7] إلاّ بقرينة صارفة عنه إليه.

وأما إذا دار الأمر بينها، فالأصوليون وإن ذكروا(1) لترجيح بعضها على بعض وجوهاً[8]، إلاّ أنها استحسانية لا اعتبار بها[9] إلاّ إذا كانت موجبة لظهور اللفظ في المعنى[10]، لعدم مساعدة دليل على اعتبارها بدون ذلك[11]، كما لا يخفى.

-------------------------

[1] كالأسد في الرجل الشجاع.

[2] كالمولى في العبد والسيد، وكالعين في الذهب والفضة.

[3] كأكرم العلماء إلاّ فساقهم.

[4] كنقل لفظ الصلاة من الدعاء إلى الأركان المخصوصة.

[5] وذلك بتقدير شيء، كقوله تعالى: {وَسَۡٔلِ ٱلۡقَرۡيَةَ}(2) أي أهل القرية، والإضمار من أقسام المجاز، فذكر المصنّف له يكون من قبيل ذكر الخاص بعد العام.

[6] أي: بين أحد هذه الخمسة.

[7] لا يخفى أن كلا المعنيين في الاشتراك والنقل حقيقي، وكذا في التخصيص، فإنه لا خروج عن المعنى الحقيقي، بل الإرادة الجدية تخالف الإرادة الاستعمالية، كما سيأتي تفصيله.

فقول المصنف: (بينه وبين المعنى الحقيقي) لا يخلو من مسامحة.

[8] كترجيح المجاز على الاشتراك؛ لأن المجاز أكثر وأفصح، وعدم الحاجة فيه إلاّ لقرينة واحدة، عكس الاشتراك، وأمثال هذه المرجحات.

[9] لا من الشرع، ولا من بناء العقلاء.

[10] فإن بناء العقلاء - وقد أمضاه الشارع - على العمل بظهور الألفاظ.

[11] اعتبار هذه الوجوه بدون الظهور.

ص: 75


1- الفصول الغروية: 40.
2- سورة يوسف، الآية: 82.

التاسع: إنه اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعية[1] وعدمه على أقوال[2].

وقبل الخوض في تحقيق الحال لا بأس بتمهيد مقالٍ[3]، وهو: أن الوضع التعييني

-------------------------

الأمر التاسع الحقيقة الشرعية

اشارة

[1] غالب ألفاظ العبادات والمعاملات كانت مستعملة قبل الإسلام في لغة العرب، بمعانٍ أخرى، فالصلاة بمعنى الدعاء، والحج بمعنى القصد، والزكاة بمعنى النمو، والنجاسة بمعنى القذارة، والطهارة بمعنى النظافة، وهكذا.

وبعد الإسلام استعملت هذه الألفاظ في معانٍ استحدثها الشارع، بحيث تتبادر عند المتشرعة تلك المعاني من هذه الألفاظ، لا المعاني اللغوية.

والسؤال أنّه متى وكيف صارت تلك الألفاظ حقائق في المعاني الشرعية؟

إن قلنا: إنها صارت حقائق في زمن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فهذا هو الحقيقة الشرعية، وإن صارت بعد زمانه فهذا الحقيقة المتشرعية، وإن قلنا: إنها كانت مستعملة قبل الإسلام في هذه المعاني فلا حقيقة شرعية ولا متشرعية، بل هي حقائق لغوية.

[2] منها: الثبوت مطلقاً، أو النفي مطلقاً، أو التفصيل بين العبادات ففيها حقائق شرعية وبين المعاملات فلا، وغير ذلك.

ومختار المصنف: إن قلنا: إنّ هذه المعاني مستحدثة في شرعنا فهي حقائق شرعية، وطريقة وضعها هي: الوضع التعييني الاستعمالي، أي: استعمل الشارع تلك الألفاظ لتلك المعاني - في المرة الأولى - بقصد الوضع.

وإن قلنا: إنّ هذه المعاني ثابتة في الشرائع السابقة فهي حقائق لغوية، كانت مستعملة قبل الإسلام، والرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ استعملها في نفس تلك المعاني اللغوية - وهذا ما يرجحه المصنف - .

[3] لأجل إثبات الحقيقة الشرعية عن طريق إثبات أن الوضع فيها هو وضع تعييني استعمالي.

ص: 76

كما يحصل بالتصريح بإنشائه[1] كذلك[2] يحصل باستعمال اللفظ في غير ما وضع له كما إذا وضع له[3]، بأن[4] يقصد الحكاية عنه، والدلالة عليه بنفسه لا بالقرينة، وإن كان[5] لابد حينئذٍ[6] من نصب قرينةٍ، إلاّ أنه[7] للدلالة على ذلك، لا على إرادة المعنى كما في المجاز، فافهم[8].

-------------------------

[1] أي: بإنشاء الوضع، مثل أن يقول: وضعت اسم (علي) على هذا الوليد الجديد، وهذا النوع الأول من الوضع التعييني وقد مرّ سابقاً.

[2] أي: يحصل الوضع التعييني بنوع ثانٍ، وهو أن يستعمل اللفظ في المعنى بقصد الوضع، مثل أن يقول لابنه المولود جديداً: (ناولوني محمداً) قاصداً وضع لفظ (محمد) على الوليد الجديد.

[3] أي: يستعمل اللفظ في المعنى الجديد، ولكن بكيفية استعماله في المعنى الموضوع له، أي: من غير مجاز ولا قرينة مجازية.

[4] تفسير لقوله: (كما إذا وضع له)، «الحكاية عنه» أي: يُخبر عن الوضع، «عليه» على الوضع، «بنفسه» بنفس الاستعمال.

[5] أي: للدلالة على الوضع الاستعمالي - بالمعنى المذكور - لابد من نصب قرينة بأنه يريد وضع اللفظ للمعنى الجديد بهذا الاستعمال، لكن هذه القرينة ليست قرينة المجاز؛ لأن قرينة المجاز إنّما هي للدلالة على أن اللفظ مستعمل في غير ما وضع له، وهذه القرينة هي للدلالة على وضع اللفظ على المعنى الجديد بهذا الاستعمال، ففرق بين القرينتين.

[6] أي: حين إرادة الوضع التعييني الاستعمالي.

[7] جواب عن إشكال، وهو: إذا لزم نصب قرينة فهذا استعمال مجازي.

والجواب: إن القرينة قسمان - كما بيناه - ، «أنه» أي: إن نصب القرينة، «ذلك» أي ذلك القصد - وهو الوضع التعييني الاستعمالي - .

[8] لعله إشارة إلى أن الوضع التعييني الاستعمالي ممتنع؛ لاستلزامه اجتماع

ص: 77

وكون[1] استعمال اللفظ فيه كذلك[2] في غير ما وضع له بلا مراعاة ما اعتبر في المجاز، فلا يكون بحقيقة ولا مجاز، غير ضائرٍ[3] بعد ما كان مما يقبله الطبع

-------------------------

اللحاظين الآلي والاستقلالي.

أو إشارة إلى أن القرينة على إرادة المعنى ليست خاصة بالمجاز، بل القرينة في الوضع التعييني الاستعمالي أيضاً دالة على إرادة المعنى، فالفرق من جهة أخرى.

[1] دفع إشكال، وحاصل الإشكال: إن الحقيقة هي استعمال اللفظ في ما وضع له، والمجاز هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له بعلاقة، ولا تخرج الألفاظ المستعملة عن أحدهما، فلا يصح الوضع التعييني الاستعمالي؛ لأنه ليس بحقيقة؛ لأنه لم يستعمل اللفظ في ما وضع له، بل بنفس هذا الاستعمال يراد الوضع، ولا مجاز؛ إذ لم يراعَ فيه علاقات المجاز.

والجواب: إن لزوم كون اللفظ إما حقيقة أو مجازاً، مما لا دليل عليه، بل يجوز استعمال كل ما لاءم الطبع حتى وإن لم يكن بحقيقة ولا بمجاز، والوضع التعييني الاستعمالي ملائم للطبع، فلا مانع منه.

[2] «فيه» في المعنى، «كذلك» أي: بقصد الوضع، «ما اعتبر في المجاز» من العلاقات النوعية المذكورة في علم البلاغة، مثلاً: الصلاة في اللغة بمعنى الدعاء، فاستعمالها في الأركان المخصوصة لم يكن لعلقة أصلاً؛ إذ العلقة المتوهمة هي اشتمال الأركان المخصوصة على الدعاء، فيكون من استعمال الجزء في الكل، كالرقبة في الإنسان، لكن لا تصح هذه العلقة؛ لأن استعمال الجزء وإرادة الكل إنّما هو في ما إذا كان وجود الكل يتوقف على الجزء - كتوقف حياة الإنسان على الرقبة - وليست الصلاة متوقفة على الدعاء، بل الدعاء جزء من الصلاة لكنه ليس بركن؛ ولذا تصح الصلاة لو نسي الأدعية الواجبة فيها!!

[3] جواب عن الإشكال، «بعد ما كان» أي: كان هكذا استعمال - وهو الاستعمال بقصد الوضع - .

ص: 78

ولا يستنكره. وقد عرفت سابقاً[1] أنه في الاستعمالات الشايعة في المحاورات ما ليس بحقيقة ولا مجاز.

إذا عرفت هذا، فدعوى الوضع التعييني[2] في الألفاظ المتداولة في لسان الشارع هكذا قريبة جداً، ومدعي القطع به غير مجازف قطعاً. ويدل[3] عليه[4] تبادر المعاني الشرعية منها في محاوراته.

-------------------------

[1] في بحث استعمال اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه.

[2] أي: النوع الثاني منه، وهو الوضع التعييني الاستعمالي، بأن يكون النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ استعمل لفظ الصلاة لأول مرة قاصداً وضعها للأركان المخصوصة، كما لو قال: (صلّوا كما رأيتموني أصلي)(1)

قاصداً هذا الوضع!!، «القطع به» أي: بالوضع التعييني الاستعمالي.

[3] استدل المصنف لإثبات الحقيقة الشرعية عن طريق الوضع التعييني الاستعمالي، بأمرين:

الأول: التبادر في زمن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، فالأصحاب كانوا يفهمون هذه المعاني الشرعية من ألفاظه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.

الثاني: إن استعماله إن كان مجازياً بقرينة فلابد من وجود علقة بين المعاني اللغوية والمعاني الشرعية، ولا نجد علقة أصلاً.

وهذا جعله المصنف مؤيداً؛ لأنه لا يشترط العلقة، بل يكفي ملاءمة الطبع - كما مرّ مراراً - .

ولا يخفى أن هذين يدلان على أصل الحقيقة الشرعية، لا على أنها بالوضع التعييني الاستعمالي.

[4] أي: على الوضع التعييني الاستعمالي، «منها» أي: من تلك الألفاظ، «محاوراته» محاورات النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.

ص: 79


1- عوالي اللئالي 1: 198.

ويؤيد ذلك أنه ربما لا يكون علاقة معتبرة[1] بين المعاني الشرعية واللغوية، فأي علاقة بين الصلاة شرعاً والصلاة بمعنى الدعاء؟ ومجرد اشتمال الصلاة على الدعاء لا يوجب ثبوت ما يعتبر من علاقة الجزء والكل[2] بينهما، كما لا يخفى.

هذا كله[3] بناءً على كون معانيها مستحدثة في شرعنا.

وأما بناءً على كونها[4] ثابتة في الشرائع السابقة - كما هو قضية غير واحدٍ من الآيات، مثل قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ}(1)، وقوله تعالى: {وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ}(2)، وقوله تعالى: {وَأَوۡصَٰنِي بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَيّٗا}(3)... إلى غير ذلك - فألفاظها حقائق لغوية لا شرعية،

-------------------------

[1] من العلاقات المصححة للاستعمال المجازي.

[2] لأنه - كما ذكرنا - لابد من كون الجزء مما ينتفي الكل بانتفائه، كالرقبة في الإنسان.

[3] من إثبات الحقيقة الشرعية عن طريق الوضع التعييني الاستعمالي، «معانيها» أي: معاني الألفاظ المعهودة.

[4] أي: كون تلك المعاني، وحاصله: إن هذه المعاني كانت موجودة في الشرائع السابقة، فهي ليست مستحدثة في شرعنا، وكان في العرب قبل الإسلام مَن يدين بتلك الشرائع، وكان يستعمل هذه الألفاظ في تلك المعاني على نحو الحقيقة، مثلاً: كان لليهود صوم، وكان عرب اليهود يصومون ويستعملون لفظ (الصوم) في هذا المعنى الشرعي، وهكذا سائر الألفاظ، وكان سائر العرب يفهمون هذه المعاني من تلك الألفاظ، بل كانوا يستعملونها أيضاً، فثبت أن تلك الألفاظ ليست حقائق شرعية، بل حقائق لغوية.

ص: 80


1- سورة البقرة، الآية: 183.
2- سورة الحج، الآية: 27.
3- سورة مريم، الآية: 31.

واختلاف الشرائع فيها[1] جزءاً وشرطاً لا يوجب اختلافها في الحقيقة والماهية، إذ لعله كان من قبيل الاختلاف في المصاديق والمحققات[2]، كاختلافها بحسب الحالات في شرعنا، كما لا يخفى.

ثم لا يذهب عليك أنه مع هذا الاحتمال[3] لا مجال لدعوى الوثوق، فضلاً عن القطع بكونها حقائق شرعية، ولا لتوهم[4] دلالة الوجوه التي ذكروها على ثبوتها لو سلم دلالتها على الثبوت لولاه.

ومنه[5] قد انقدح حال دعوى الوضع التعيني معه. ومع الغض عنه فالإنصاف أن منع حصوله[6] في زمان الشارع في لسانه ولسان تابعيه

-------------------------

[1] «فيها» في هذه المعاني الشرعية، «اختلافها» أي: اختلاف الحقيقة.

[2] عطف تفسيري؛ لأن هذه الأجزاء هي تحقق الصلاة؛ لأنها كلٌ مركب من أجزاء، والأجزاء هي التي تُحَقِّق الكل.

[3] أي: احتمال كون هذه المعاني الشرعية ثابتة في الشرائع السابقة، «بكونها» أي: بكون هذه الألفاظ.

[4] أي: بعد إثبات أنها حقائق لغوية، فإنه تبطل جميع الأدلة التي أقاموها لإثبات الحقيقة الشرعية، كدعوى التبادر في زمن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ؛ لأنه تبادر مستند إلى ما قبل الإسلام، كتبادر سائر الكلمات بمعانيها اللغوية في عصره صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، فلا حاجة إلى ذكر تلك الأدلة ومناقشتها - على رغم ضعفها - «ثبوتها» أي: ثبوت الحقيقة الشرعية، «دلالتها» أي: دلالة تلك الوجوه، «لولاه» أي: لو لا هذا الاحتمال - وهو كونها حقائق لغوية - .

[5] أي: من هذا الاحتمال، يظهر عدم إمكان القول بالوضع التعييني الاستعمالي، «معه» أي: مع هذا الاحتمال، «عنه» عن الاحتمال المذكور.

[6] حصول الوضع التعييني.

ص: 81

مكابرة[1]. نعم[2]، حصوله في خصوص لسانه ممنوع، فتأمل[3].

وأما الثمرة[4]

-------------------------

[1] لوضوح تبادر المعاني الشرعية من هذه الألفاظ في زمان النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ؛ ولذا لم يتوقف فقيه في حمل ألفاظه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ على المعاني الشرعية.

[2] أي: القول بحصول الوضع التعييني في خصوص لسان الشارع - بأن يكون قد استعمل اللفظ بقصد الوضع - هذا القول ممنوع، بل حصل الوضع التعييني في لسانه ولسان الأصحاب.

[3] لعله إشارة إلى منافاة هذا المنع مع ما مرّ، حيث ذهب المصنف إلى الوضع التعييني الاستعمالي في لسان النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، حيث قال: (فدعوى الوضع التعييني في الألفاظ المتداولة في لسان الشارع هكذا قريبة جداً).

مضافاً إلى أن الوضع التعييني الاستعمالي يتحقق من شخص واحد فقط - كما مرّ في مثال تسمية الطفل الوليد - لا من أشخاص متعددين.

الثمرة

[4] هل للقول بالحقيقة الشرعية أو عدم القول بها تأثير عملي في الفقه؟

يقول المصنف:

أ: إن لم نقل بالحقيقة الشرعية فلابد من حمل ألفاظ الشارع على معانيها اللغوية - إن لم تكن قرينة - .

ب: وإن قلنا بالحقيقة الشرعية، فهنا صورتان:

الصورة الأولى: إذا علمنا بأن استعمال اللفظ كان بعد تحقق الحقيقة الشرعية - كما في آخر حياة النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ - فهنا لابد من حمل ألفاظه على المعاني الشرعية.

الصورة الثانية: إذا جهلنا بأن استعمال اللفظ كان بعد تحقق الحقيقة الشرعية أم قبل تحققها فلابد من الاحتياط؛ إذ لا يوجد ما يُعيّن مراده صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.

ص: 82

-------------------------

ولكن قد يقال بلزوم الحمل على المعنى الشرعي، وقد يقال بلزوم الحمل على المعنى اللغوي.

أما الأول - وهو لزوم الحمل على المعنى الشرعي - فقد استدل له بدليلين:

الدليل الأول: استصحاب عدم الاستعمال إلى حين تحقق الحقيقة الشرعية، فإن اللفظ أمر حادث، ونحن نشك في وقت صدور هذا اللفظ عن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، فنستصحب عدم استعماله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لهذا اللفظ إلى حين تحقق الحقيقة الشرعية.

وفيه: أولاً: إن هذا الأصل معارض باستصحاب عدم تحقق الحقيقة الشرعية إلى حين الاستعمال؛ لأنها أمر حادث أيضاً، ومع تعارض الأصلين فإنهما يتساقطان.

وثانياً: إن هذا الاستصحاب أصلٌ مثبت، وهو ليس بحجة.

والأصل المثبت: هو لو لم يكن أثر الاستصحاب أمراً شرعياً، بل كان أمراً عادياً أو عقلياً.

وهنا: استصحاب (عدم الاستعمال إلى حين تحقق الحقيقة الشرعية) إنّما أثره: (تحقق الاستعمال بعد الوضع الشرعي)، والاستعمال بعد الوضع ليس حكماً شرعياً، بل أمر عقلي، فإنّه إذا ثبت أصل الاستعمال وثبت أنه لم يكن قبل الوضع فالعقل يحكم بأن الاستعمال كان بعد الوضع.

الدليل الثاني: بناء العقلاء على أنه لو شك في وقت الاستعمال فإنه يحمل اللفظ على تأخر الاستعمال عن الوضع.

وفيه: إنه ليس للعقلاء هذا الأصل، بل يتوقفون ويحتاطون.

وأما الثاني - وهو لزوم الحمل على المعنى اللغوي - فقد استدل له: بأصالة عدم النقل، فكلّما شككنا في نقل لفظ عن معناه إلى معنى آخر فلابد من الحمل على معناه الأصلي.

ص: 83

بين القولين[1] فتظهر في لزوم حمل الألفاظ الواقعة في كلام الشارع بلا قرينة[2] على معانيها اللغوية مع عدم الثبوت[3]، وعلى معانيها الشرعية على الثبوت، في ما إذا علم تأخر الاستعمال. وفي ما إذا جهل التاريخ[4] ففيه إشكال[5]. وأصالة تأخر الاستعمال[6] - مع معارضتها[7] بأصالة تأخر الوضع - لا دليل[8] على اعتبارها تعبداً إلاّ على القول بالأصل المثبت. ولم يثبت[9] بناء من العقلاء على التأخر مع

-------------------------

وفيه: إن أصالة عدم النقل هي أصل عقلائي، والعقلاء يجرونها في ما لو شكوا في أصل النقل، لا في ما إذا علموا بالنقل وشكوا في تاريخه، بل في هذه الصورة يتوقفون ويحتاطون.

[1] ثبوت الحقيقة الشرعية مطلقاً، ونفيها مطلقاً.

[2] إذ لو كانت هناك قرينة على مراده فلابد من حمل اللفظ على ذلك المراد، سواء كان مطابقا للمعنى اللغوي أم المعنى الشرعي، وسواء قلنا بالحقيقة الشرعية أم لم نقل.

[3] أي: مع عدم ثبوت الحقيقة الشرعية.

[4] سواء جهل تاريخ الوضع والاستعمال، أم جهل تاريخ أحدهما، على تفصيل سيأتي في بحث الاستصحاب.

[5] أي: لا يوجد ما يعيّن أحد المعنيين - اللغوي أو الشرعي - فلابد من الاحتياط.

[6] هذا الدليل الأول للزوم الحمل على المعنى الشرعي، وهذه الأصالة هي الاستصحاب.

[7] هذا الإشكال الأول على هذا الدليل.

[8] هذا الإشكال الثاني، «تعبداً» أي: بحكم الشارع.

[9] إشارة إلى الدليل الثاني.

ص: 84

الشك، وأصالة عدم النقل[1] إنما كانت معتبرة في ما إذا شك في أصل النقل، لا في تأخره، فتأمل[2].

العاشر: أنه وقع الخلاف[3] في أن ألفاظ العبادات[4] أسامٍ لخصوص الصحيحة أو للأعم منها.

وقبل الخوض في ذكر أدلة القولين يذكر أمور[5]: منها[6]: إنّه لا شبهة في تأتّي

-------------------------

[1] هذا دليل لزوم الحمل على المعنى اللغوي.

[2] لعله إشارة إلى سقوط هذه الثمرة؛ إذ مراده صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ واضح في جميع استعمالاته، فهناك قرائن تدل على أنه قصد المعنى الشرعي، فلا ثمرة عملية لهذا البحث.

أو إشارة إلى أن صور الجهل بالتاريخ مختلفة - فقد يكون جهل بتاريخهما، وقد يكون جهل بتاريخ أحدهما - وفي جريان الاستصحاب أو عدم جريانه في بعض هذه الصور خلاف، سيأتي في مباحث الاستصحاب.

الأمر العاشر الصحيح والأعم

اشارة

[3] لا إشكال في أن المأمور به هو الصحيح، فلا يريد الشارع الفاسد ولا يأمر به، وإنّما الخلاف في (الاسم)، بمعنى أن الصلاة - مثلاً - هل هي اسم للصلاة الصحيحة، أم هي اسم للصلاة مطلقاً - صحيحة كانت أم فاسدة -؟

[4] وأما المعاملات فسيأتي في الأمر الأول في خاتمة البحث.

[5] هي مقدمات البحث.

المقدمة الأولى: تحرير محل النزاع

[6] في ثبوت الحقيقة الشرعية أو عدمها أقوال ثلاثة - هي أهم الأقوال - :

1- ثبوتها، وحينئذٍ يجري البحث في أن الشارع هل وضع الاسم لخصوص الصحيح أم وضعه للأعم.

ص: 85

الخلاف على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة[1]. وفي جريانه على القول بالعدم[2] إشكالٌ.

-------------------------

2- عدم ثبوت الحقيقة الشرعية، وأن الشارع استعمل هذه الألفاظ في العبادات مجازاً، فمثل قوله تعالى: {أَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ}(1) يراد بها الأركان المخصوصة على نحو المجاز في الكلمة.

فتصوير النزاع على هذا القول مشكل؛ إذ كما يكون الصحيح مجازاً، كذلك يكون الأعم مجازاً، وكلاهما يحتاج إلى القرينة، وبعبارة أخرى: لا تكون الألفاظ أسامي للعبادات، بل الألفاظ مجاز فيها.

وللشيخ الأعظم طريقة تصوير جريان النزاع على هذا القول، وسيأتي توضيحه.

3- عدم ثبوت الحقيقة الشرعية، ولا مجاز في كلام الشارع، بل المعاني الشرعية هي مصاديق للمعنى اللغوي - فهي حقائق لغوية - وعلى هذا القول أيضاً يشكل تصوير محل النزاع؛ إذ لا تسمية أصلاً حتى نبحث عن أنها تسمية للصحيح أم تسمية للأعم.

ولكن يمكن تصوير جريان النزاع - على نفس طريقة الشيخ الأعظم في القول السابق - وسيأتي بيانه.

[1] إذ يتم البحث عن أن الشارع هل وضع لفظ العبادة لخصوص الصحيح، أم وضعها للأعم؟

[2] أي: عدم ثبوت الحقيقة الشرعية - سواء قيل: إنها مجازات، أم قيل: إنها مصاديق للمعاني اللغوية - «جريانه»: أي: الخلاف.

نعم لو قلنا: إنها حقائق كانت قبل الإسلام والعرب قد استعملوا هذه الألفاظ فيها، فحينئذٍ يجري النزاع أيضاً، لكن المصنف لم يذكر هذه الصورة.

ص: 86


1- سورة الأنعام، الآية: 72.

وغاية ما يمكن أن يقال في تصويره[1]: إن النزاع وقع على هذا[2] في أن الأصل[3] في هذه الألفاظ المستعملة مجازاً في كلام الشارع هو استعمالها في خصوص الصحيحة أو الأعم، بمعنى أن أيهما قد اعتبرت العلاقة بينه وبين المعاني اللغوية ابتداءً وقد استعمل في الآخر بتبعه ومناسبته، كي ينزل عليه[4] كلامه مع القرينة

-------------------------

[1] هذا بناء على القول الثاني - وهو أنها مجازات في معانيها الشرعية - «تصويره» أي: تصوير الخلاف.

وحاصل التصوير: هو أن يقال بسبك مجاز من مجاز، ثمّ يُتسائل بأن أيَّ المجازين هو الأول؟

بيانه: إنه قد يستعمل اللفظ في غير معناه الحقيقي لوجود علقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، ثم يستعمل اللفظ في معنى مجازي آخر لوجود علقة بين المعنى المجازي الأول والمعنى المجازي الثاني، مثلاً: يستعمل الأسد في زيد لعلاقة الشجاعة، ثم يستعمل الأسد في عمرو لشباهة عمرو بزيد، فهذا هو سبك مجاز من مجاز.

فهنا يقال: هل المجاز الأول - الذي روعيت العلاقة بينه وبين المعنى الحقيقي - هو الصحيح، ثم سبك منه مجاز ثانٍ، وهو الأعم، أم بالعكس؟

ثم إنه في سبك مجاز من مجاز توجد قرينة نوعية - وهي العلاقة الأصلية - تدلّ على أن المراد هو المجاز الأول، وللحمل على المجاز الثاني لابد من وجود قرينة شخصية - أي قرينة ثانية - فكلّما علمنا بأن المعنى الحقيقي ليس بمراد لابد من الحمل على المعنى المجازي الأول، إلاّ إذا قامت قرينة أخرى على أن المراد المعنى المجازي الثاني.

[2] أي: هذا القول، وهو عدم ثبوت الحقيقة الشرعية.

[3] أي: المجاز الأول، الذي لوحظت علاقته بالمعنى الحقيقي.

[4] لأنه - كما ذكرنا - مع عدم إرادة المعنى الحقيقي توجد قرينة نوعية على أن المراد هو المجاز الأول، وتلك القرينة النوعية هي العلقة بين المعنى المجازي الأول وبين المعنى الحقيقي، «ينزل عليه» أي: على الأول - الذي اعتبرت العلاقة بينه وبين

ص: 87

الصارفة[1] عن المعاني اللغوية وعدم قرينة أخرى معيّنةٍ للآخر.

وأنت خبير[2] بأنه لا يكاد يصح هذا[3] إلاّ إذا علم أن العلاقة إنما اعتبرت كذلك، وأن بناء[4] الشارع في محاوراته استقر - عند عدم نصب قرينة أخرى - على إرادته، بحيث كان هذا قرينة عليه من غير حاجة إلى قرينة معينة أخرى، وأنّى لهم بإثبات ذلك.

وقد انقدح بما ذكرنا تصوير النزاع على ما نُسب إلى الباقلاني[5]، وذلك بأن يكون

-------------------------

المعنى اللغوي ابتداءً - «كلامه» كلام الشارع.

[1] أي: وجود قرينة على المجاز، «قرينة أخرى» هي القرينة الشخصية الثانية، المعيّنة للمجاز الثاني.

[2] هذا إشكال على هذا التصوير، وحاصله: إن التصوير المذكور ممكن في مرحلة الواقع - وعالم الثبوت - ولكن لا طريق إلى إثباته؛ إذ نحتاج إلى أمرين:

1- إثبات أن بناء الشارع على ملاحظة العلاقة بين المعنى اللغوي وبين أحدهما - الصحيح أو الأعم - ولكن لا طريق لنا لإثبات بنائه، وأنه لاحظ العلاقة بين المعنى اللغوي وبين الصحيح، أو بين المعنى اللغوي وبين الأعم.

2- إثبات أنه لو أراد المعنى المجازي الأول اكتفى بالقرينة الأولى، وأنه لو أراد المعنى الثاني جاء بقرينة ثانية، وأيضاً لا طريق لإثبات هذا البناء.

[3] هذا التصوير، «كذلك» أي: بين المعنى اللغوي وبين خصوص أحدهما - الصحيح أو الأعم - وهذا هو الأمر الأول.

[4] هذا هو الأمر الثاني، «إرادته» أي: المجاز الأول، «هذا» أي: عدم نصب قرينة ثانية، «عليه» على المجاز الأول.

[5] وهذا هو القول الثالث، فقد نُسب إلى الباقلاني أنه قال: إنّ الشارع استعمل ألفاظ العبادات في نفس المعاني اللغوية، وإن المعاني الشرعية هي مصاديق للمعاني اللغوية.

ص: 88

النزاع في أن قضية القرينة المضبوطة[1] التي لا يتعدى عنها إلاّ بالأخرى الدالة على أجزاء المأمور به وشرائطه هو تمام الأجزاء والشرائط أو هما في الجملة، فلا تغفل.

ومنها: إن الظاهر أن الصحة عند الكل بمعنى واحد، وهو التمامية[2]. وتفسيرها بإسقاط القضاء - كما عن الفقهاء - أو بموافقة الشريعة - كما عن المتكلمين -

-------------------------

فالصلاة في لسان الشارع استعملت بمعنى الدعاء، ولكن دعاء بكيفية مخصوصة، والأجزاء والشرائط هي مشخصات فردية.

وأما كيفية تصوير النزاع على هذا القول الثالث فهو أن يقال: إن القرينة الدالة على أن المراد من الصلاة - مثلاً - هو المصداق الجامع لجميع الأجزاء والشرائط - وهو الصحيح - أو المصداق الذي فيه الأجزاء والشرائط في الجملة - وهو الأعم - .

وهذه القرينة ليست قرينة المجاز، بل هي القرينة المعيّنة للمعنى الحقيقي في أحد مصاديقه، كقولنا: (جاء رجل كريم)، حيث إن (كريم) عيّنت الرجل في (زيد) مثلاً، وهو مصداق حقيقي للرجل.

[1] وهي القرينة النوعية التي توجد في كلام الشارع - عادة - ، «إلاّ بالأخرى» أي: إلاّ إذا كانت قرينة شخصية تمنع عن التمسك بالقرينة النوعية.

المقدمة الثانية: في معنى الصحة والفساد

[2] أي: جامع للأجزاء والشرائط، فاقد للموانع والقواطع، فكل عبادة كانت كذلك كانت صحيحة، وإلاّ كانت فاسدة. وهذا معنى الصحة.

وللصحة لوازم، منها: عدم لزوم الإعادة والقضاء، فإن العبادة الجامعة للشرائط والأجزاء الفاقدة للقواطع والموانع تكونُ محقِّقة لغرض المولى، وبتحقق الغرض يسقط الأمر، ولا أمر جديد بإعادة أو قضاء.

ومن اللوازم: إن العبادة الصحيحة توافق الشرع، وما وافق الشرع استحق عليه الثواب.

ص: 89

أو غير ذلك[1] إنما هو بالمهمّ من لوازمها، لوضوح اختلافه[2] بحسب اختلاف الأنظار. وهذا لا يوجب تعدد المعنى، كما لا يوجبه اختلافها[3] بحسب الحالات من السفر والحضر والاختيار والاضطرار إلى غير ذلك، كما لا يخفى.

ومنه[4] ينقدح: أن الصحة والفساد أمران

-------------------------

ومن ذلك يتضح: أن تفسير الفقهاء(1)

للصحة بأنها ما أسقط القضاء، وتفسير المتكلمين بأنها ما وافق الشرع(2)،

إنما هو تفسير باللازم، لا أن هناك اختلافاً في معنى الصحة.

وكل من الفقهاء والمتكلمين فسّر الصحة بلازمها الذي يهمّه، فالمهم عند الفقيه هو فعل المكلف من القضاء وعدمه، والمهم عند المتكلم الثواب والعقاب؛ لأن علم الكلام هو ما يرتبط بالله وأفعاله، والثواب مترتب على موافقة الشرع، والعقاب على مخالفته. وبعبارة أخرى: صحة الصلاة لازمها موافقة الشرع، ولازم الموافقة هو ترتب الثواب.

[1] كتفسير الصحة ب(ترتب الأثر)، كترتب (النهي عن الفحشاء) على الصلاة الصحيحة - مثلاً - أو ترتب بطلان الجمعة الثانية في ما لو اُقيمت صلاة جمعة صحيحة في أقل من فرسخ.

[2] أي: اختلاف المهم من اللوازم، «وهذا» أي: اختلاف الأثر المهم في كل علم.

[3] «لا يوجبه» أي: تعدد المعنى، «اختلافها» أي: الصحة؛ إذ هذا الاختلاف إنما هو تعدُّدٌ في المصاديق، وليس اختلافاً في المفهوم - كي يتعدد المعنى - فصلاة المسافر تختلف عن صلاة الحاضر في عدد الركعات، ولكن مفهوم الصلاة واحد، وإنّما الاختلاف في الفرد - أي: المصداق - .

[4] أي: من اختلاف الصحة بحسب اختلاف الحالات يتضح أن الصحة والفساد أمران إضافيان، فقد يكون الفعل صحيحاً في حالة، فاسداً في حالة أخرى، مثلاً:

ص: 90


1- قوانين الأصول 1: 158.
2- تقريرات المجدد الشيرازي 3: 73.

إضافيان[1]، فيختلف شيء واحد صحةً وفساداً بحسب الحالات، فيكون تاماً بحسب حالةٍ، وفاسداً بحسب أخرى، فتدبر جيداً.

ومنها: إنه لابد[2] على كلا القولين من قدر جامع[3] في البين كان هو المسمى بلفظ كذا[4].

ولا إشكال في وجوده بين الأفراد الصحيحة[5]، وإمكان[6] الإشارة إليه بخواصه

-------------------------

صلاة الظهر بركعتين صحيحة للمسافر، فاسدة على الحاضر.

[1] لأن الماهية - في المركبات المخترعة - قد تحصل بفعلٍ في حالة، ولا تتحقق بنفس الفعل في حالة أخرى.

المقدمة الثالثة: في الجامع بين الأفراد
اشارة

[2] إن للصلاة - مثلاً - أفراداً كثيرة جداً، فإن لم يكن جامع بين تلك الأفراد - بحيث تكون الأفراد مصاديق لذلك الجامع - لزم كثرة الوضع بحيث يكون لكل فرد وضع، فتكون الصلاة مشتركاً لفظياً بين تلك الأفراد، وهذا بديهي البطلان، فلابد من وجود قدر جامع، وقد وضع لفظ الصلاة لذلك الجامع، وتكون أفراد الصلاة من مصاديق ذلك الجامع.

والأثر يدل على وجود الجامع، لأنا نجد أن لجميع أفراد الصلاة الصحيحة أثراً - كالنهي عن الفحشاء والمنكر - ووحدة الأثر تكشف عن وحدة المؤثر.

[3] المراد من «القدر الجامع» هو الماهية التي تكون كلياً طبيعياً، ولها اتحاد في الخارج مع الأفراد - وسيأتي تفصيله بعد قليل - .

[4] مثلاً: الصلاة، الزكاة، الصوم... الخ.

الجامع على الصحيح
اشارة

[5] لأن لها الآثار، ووحدة الأثر تكشف عن وحدة المؤثّر.

[6] أي: ليس من الضروري أن نعرف ذلك الجامع بالتفصيل - بجنسه وفصله -إذ

ص: 91

وآثاره، فإن الاشتراك في الأثر كاشف عن الاشتراك في جامعٍ واحد يؤثر الكل فيه بذاك الجامع[1]، فيصح[2] تصوير المسمى بلفظ الصلاة مثلاً: (بالناهية عن الفحشاء) و(ما هو معراج المؤمن) ونحوهما.

والإشكال(1)

فيه[3]: «بأن الجامع لا يكاد يكون أمراً مركباً، إذ كل ما فرض

-------------------------

حقائق أكثر الأشياء مجهولة عندنا، بل يكفي علمنا بأصل وجوده، وذلك عن طريق آثاره.

[1] «فيه» في الأثر؛ وذلك لقاعدة (الواحد لا يصدر إلاّ من الواحد)، وإلاّ لصدر كل شيء من كل شيء.

ولا يخفى التأمل في هذه القاعدة؛ وذلك لأنهم فرضوا لزوم السنخية بين العلة والمعلول، وهذا لا يتم على مبنى التوافي، ولا مبنى الإعداد، بل حتى على مبنى التوليد؛ إذ العليّة ليست ذاتية للعلة، بل هي بالجعل، وقد ذكرنا بعض التفصيل في شرح أصول الكافي(2)، فراجع.

[2] أي: بعد علمنا بوجود الجامع لا يلزم معرفتنا التفصيليّة به، بل يكفي الإشارة إليه عبر الإشارة إلى آثاره.

إشكال الشيخ الأعظم

[3] أشكل الشيخ الأعظم على وجود الجامع، بأن الجامع لا يخلو من أحد أمرين:

1- أن يكون مركباً، وهذا غير ممكن؛ لأن كل مركب يمكن فرضه صحيحاً في حالة، فاسداً في حالة أخرى: مثلاً: الصلاة الكاملة من كل الأجزاء والشرائط تكون صحيحة للمختار ولكنها باطلة للمضطر.

2- أن يكون بسيطاً - مفهوماً - والجامع البسيط لا يخلو من أحد أمرين:

ص: 92


1- مطارح الأنظار 1: 46-49.
2- شرح أصول الكافي 2: 543.

-------------------------

الأول: أن يكون ذلك الجامع البسيط هو: (المطلوب).

وفيه: أولاً: استلزامه الدور؛ لأن معنى (الصلاة واجبة) هو: (المطلوب واجب)، فالموضوع هو (المطلوب)، والحكم (واجب)، ولا يكون الشيء مطلوباً إلاّ إذا كان مأموراً به، فقد اُخذ الوجوب في (المطلوب)، ومعنى ذلك تقدم (الوجوب) على (المطلوب)؛ إذ أجزاء الموضوع متقدمة على الموضوع.

فتحصّل أن (الوجوب) يكون متأخراً عن (المطلوب)؛ لأن الوجوب هو الحكم، ويكون متقدماً لأنه من أجزاء الموضوع.

وثانياً: استلزامه الترادف بين (الصلاة) وبين (المطلوب)، وهذا واضح البطلان.

وثالثاً: إن كون الصلاة هي العنوان البسيط - وهو المطلوب - يستلزم أن تكون الأجزاء والشرائط مقدمات لتحقق هذا العنوان، فالواجب هو ذلك العنوان، والأفعال مقدمات له، ومعنى ذلك أنه لو شككنا في جزء أو شرط فلا نتمكن من إجراء أصالة البراءة، بل يجب الاحتياط، وهذا خلاف مبنى المشهور.

بيانه: إن الواجب إن كان أمراً مركباً، فكلّما شككنا في وجوب جزء أو شرط أجرينا أصالة البراءة؛ لأن الشك يكون في أصل التكليف، فنشك في أن الشارع هل أوجب هذا الجزء - مثلاً - أم لا؟ فنقول: الأصل عدم الوجوب، وأما إذا كان الواجب أمراً معلوماً، وشككنا في ما يتحقق به الواجب، فإن الشك يكون في المكلَّف به - أي: في المحصِّل للواجب - وهنا يكون مجرى أصالة الاحتياط؛ إذ لا شك في التكليف، حيث نعلم بتعلقه بذمتنا، ولكن نشك في خروجنا عن عهدة هذا التكليف المعلوم فلابد من الاحتياط؛ لأن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.

وفي الصلاة - مثلاً - إن قلنا: إنّ الواجب هو المركب من الأجزاء والشرائط فإنه يمكن إجراء البراءة في كل جزء أو شرط مشكوك، ولكن لو كانت الصلاة هي العنوان البسيط، وكانت الأجزاء مقدمة للوصول إلى ذلك العنوان، فكلما شككنا

ص: 93

جامعاً يمكن أن يكون صحيحاً وفاسداً، لما عرفت[1]. ولا أمراً بسيطاً، لأنه لا يخلو إما أن يكون هو عنوان المطلوب، أو ملزوماً مساوياً له[2]، والأول[3] غير معقول، لبداهة استحالة أخذ ما لا يتأتى إلاّ من قبل الطلب[4] في متعلقه؛

-------------------------

في جزء فإنّا نشك في تحقق ذلك العنوان لو لم نأت بذلك الجزء وكذا في الشرط، فلابد من إجراء الاحتياط.

لكن المشهور يُجرون البراءة مع ذهابهم إلى الصحيح، فلا يمكن أن يقولوا: إنّ الجامع هو ذلك الأمر البسيط.

الثاني: أن يكون الجامع البسيط هو عنوان ملازم للمطلوب، مثل: (المحبوب) أو (ذي المصلحة) ونحوهما.

ويرد عليه الإشكال الثالث، بل إشكال الترادف أيضاً.

هذا حاصل إشكال الشيخ الأعظم، ولذا التزم بأن الألفاظ موضوعة لتمام الأجزاء والشرائط في حق القادر المختار العامد العالم، فتكون الصلاة الواقعة من غيره بدلاً مسقطاً للواقع، وليست بصلاة، ويكون استعمال لفظ الصلاة فيها مجازاً - كذا في الحقائق(1) عن التقريرات - .

[1] من أن الصحة والفساد أمران إضافيان.

[2] كعنوان المحبوب، حيث يكون المحبوب ملزوماً، والمطلوب لازماً، وهما لا ينفكان خارجاً، فلذا كانا متساويين، كنور الشمس، حيث إن النور لازم، والشمس ملزوم.

[3] أي: عنوان المطلوب، «لبداهة» هذا الإشكال الأول، وهو الدور.

[4] أي: الحكم، فما يكون الحكم سبباً له يكون متأخراً عن الحكم، فلا يمكن أخذه في الموضوع؛ لأن الموضوع متقدم على الحكم، «في متعلقه» أي: في موضوع الطلب، و(في) تتعلق بقوله: (أخذ).

ص: 94


1- حقائق الأصول 1: 56.

مع[1] لزوم الترادف بين لفظة الصلاة والمطلوب؛ وعدم[2] جريان البراءة مع الشك في أجزاء العبادات وشرائطها، لعدم الإجمال حينئذٍ[3] في المأمور به فيها، وإنما الإجمال في ما يتحقق به[4]، وفي مثله لا مجال لها[5] - كما حقق في محله -، مع أن المشهور القائلين بالصحيح، قائلون بها في الشك فيها[6]. وبهذا[7] يشكل لو كان البسيط هو ملزوم المطلوب أيضاً».

مدفوع[8]:

-------------------------

[1] هذا هو الإشكال الثاني.

[2] هذا هو الإشكال الثالث.

[3] أي: حين كون المأمور به هو عنوان (المطلوب)، فهو واضح لا شك فيه، والبراءة إنما تجري في ما لو شك في التكليف، «فيها» في العبادات.

[4] أي: في المحصِّل للتكليف، وهنا مجرى الاحتياط، مثلاً: لو أمر المولى بإكرام زيد، ثم شككنا في أن زيداً هل هو الرجل الأول أم الثاني؟ فلابد من إكرامهما حتى نتيقن من براءة الذمة من التكليف المعلوم.

[5] «مثله» أي: في ما إذا كان الإجمال في (المكلّف به) مع العلم بأصل التكليف، «لها» للبراءة.

[6] قائلون بالبراءة في أجزاء العبادات وشرائطها.

[7] أي: بهذا الإشكال الثالث، يستشكل أيضاً في ما لو كان الجامع البسيط هو عنوان آخر غير المطلوب، بل كان ملزوماً للمطلوب.

الجواب عن الإشكال

[8] حاصل جواب المصنف: إن الجامع هو كلي طبيعي - له مفهوم بسيط - وهذا الكلي الطبيعي متحد مع الأجزاء والشرائط خارجاً، بمعنى كونه منتزعاً عنها، كما أن الإنسان له مفهوم بسيط وهو كلي طبيعي، وهو متحد مع الأفراد في الخارج.

ص: 95

بأن الجامع إنما هو مفهوم واحد[1] منتزع[2] عن هذه المركبات المختلفة - زيادةً ونقيصةً، بحسب اختلاف الحالات - متحد معها نحو اتحادٍ[3]، وفي مثله تجري البراءة[4]، وإنما لا تجري في ما إذا كان المأمور به أمراً واحداً خارجياً[5] مسبباً عن مركبٍ مرددٍ بين الأقل والأكثر، كالطهارة[6] المسببة عن الغسل والوضوء في ما إذا

-------------------------

وفي طلب الكلي الطبيعي يكون الطلب متعلقاً بالأفراد - واقعاً - وفي مثله تجري البراءة من كل جزء أو شرط مشكوك.

مثلاً: الإنسان متحد مع الأفراد خارجاً، فلو قال المولى: أكرم الإنسان، وشككنا في أن مراده هل يشمل قطيع اليد؟ فإنا نجري البراءة عن اشتراط اليد؛ لأن الطلب في الحقيقة تعلق بالكلي المتحد مع الأفراد الخارجية.

[1] أي: مفهوم بسيط، وستأتي الإشارة إلى أن المراد من (البسيط مفهوماً) هو ما يكون له معنى واحد، ولا يكون المعنى شيئين، حتى وإن كان مركباً خارجياً، أو مركباً ذهنياً من الجنس والفصل، فالشجرة - مثلاً - مفهومها بسيط، مع أنها مركبة خارجاً من الأغصان والأوراق وغيرهما، ولها ماهية مركبة من الجنس والفصل؛ ولذا ف(زيد) بسيط مفهوماً و(غلام زيد) مركب مفهوماً.

[2] أي: كلي طبيعي متحد مع الأفراد، وذلك بانتزاعه عنها.

[3] أي: بإحدى كيفيّات الاتحاد وهي اتحاد الكلي الطبيعي مع أفراده.

[4] لأن التكليف في الواقع تعلق بالأفراد.

[5] أي: له وجود خارجي بسيط.

[6] وقد اختلف فيها: فقيل(1):

إن الطهارة هي نفس الغسلات والمسحات - في الوضوء - وقيل(2):

إنها النور الباطني الذي يحصل بسبب هذه الغسلات والمسحات، وهذا النور أمر بسيط وجوداً.

ص: 96


1- شرح العروة الوثقى 9: 40.
2- مصباح الهدى 7: 305.

شك في أجزائهما. هذا[1] على الصحيح.

وأما على الأعم، فتصوير الجامع في غاية الإشكال[2]، فما قيل في تصويره أو يقال وجوه:

أحدها[3]: أن يكون عبارةً عن جملةٍ[4] من أجزاء العبادة كالأركان في الصلاة

-------------------------

فعلى القول الأول تجري البراءة عن الأجزاء أو الشرائط المشكوكة، وعلى الثاني يجب الاحتياط، لأنه شك في المكلّف به.

[1] أي: تصور الجامع - المذكور - .

الجامع على الأعم
اشارة

[2] إذ الفاسد لا أثر له، فلا يمكن اكتشاف الجامع بين الصحيح والفاسد عن طريق الأثر، مضافاً إلى الإشكال في كل جامع ذكروه.

الوجه الأول

[3] أي: أحد الوجوه، ما عن المحقق القمي(1)،

من أن الجامع هو بعض الأجزاء - كالأركان - .

وفيه: أولاً: إنه قد يُسمّى الفاقد لبعض الأركان صلاة، بل قد يقع صحيحاً، حتى مع فقدان كل الأركان كصلاة الغريق، حيث هي صلاة صحيحة مع فقدانها للأركان.

وقد لا يُسمّى الواجد للأركان صلاة، فمن نوى وكبر وركع وسجد فقط ثم قام وذهب، لا يسمى عمله صلاة أصلاً.

وثانياً: إذا كانت الأركان فقط هي المسماة بالصلاة فلا يصح إطلاق اسم الصلاة على الأركان الذي انضم إليها سائر الأجزاء إلاّ مجازاً - من باب إطلاق اسم الجزء على الكل - مثلاً: الرقبة اسم للعضو المعلوم، فلو أطلقت على الإنسان كان مجازاً.

[4] أي: بعض الأجزاء.

ص: 97


1- مطارح الأنظار 1: 51.

- مثلاً - وكان الزائد عليها معتبراً في المأمور به، لا في المُسمّى[1].

وفيه: ما لا يخفى، فإن التسمية[2] بها حقيقةً لا تدور مدارها، ضرورةَ صدق الصلاة مع الإخلال ببعض الأركان، بل وعدم الصدق عليها مع الإخلال بسائر الأجزاء والشرائط عند الأعمّي[3]؛ مع أنه[4] يلزم أن يكون الاستعمال في ما هو المأمور به بأجزائه وشرائطه[5] مجازاً عنده، وكان من باب استعمال اللفظ الموضوع للجزء[6] في الكل، لا[7] من باب إطلاق الكلي على الفرد والجزئي - كما هو

-------------------------

[1] أي: الاسم للأركان فقط، أما انضمام سائر الأجزاء فهو شرط في المأمور به الواجب، مثلاً: الرقبة اسم للعضو المخصوص، والمأمور به في قول المولى: (أعتق رقبة) هي ذلك العضو منضماً إلى أعضاء أخرى، والذي يكون مصداقاً للإنسان.

[2] هذا هو الإشكال الأول، «بها» بالصلاة، «مدارها» مدار الأركان.

[3] «عند» متعلق ب(الصدق وعدم الصدق).

[4] إشارة إلى الإشكال الثاني، «أنه» للشأن.

[5] أي: بجميع الأجزاء والشرائط المأمور بها، «عنده» عند الأعميّ.

[6] «للجزء» الأركان، «للكل» الأركان مع سائر الأجزاء.

[7] هذا دفع لإشكال وحاصله:

إن قلت: لفظ الصلاة موضوع للأركان فقط، وسائر الأجزاء والشرائط هي مشخصات فردية، كالكلي الطبيعي الذي يكون موضوعاً للماهية، وأما سائر الأجزاء فهي مشخصات.

قلت: إذا كان لفظ الصلاة موضوعاً للأركان فاستعماله في الصلاة الجامعة للأركان وسائر الأجزاء استعمالٌ في غير ما وضع له؛ لأنه من استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل.

وبعبارة أخرى: المركب من (الأركان) يباين المركب من (الأركان والأجزاء الأخرى)، فالأركان لها وجود خاص، والأركان مع الأجزاء الباقية لها وجود

ص: 98

واضح[1]، - ولا يلتزم به[2] القائل بالأعم، فافهم[3].

ثانيها[4]:أن تكون موضوعةً(1)

لمعظم الأجزاء التي تدور مدارها التسمية

-------------------------

آخر، فهما متباينان؛ إذ لا يعقل أن يكون وجودٌ خارجي مصداقاً لوجود خارجي آخر، فلابد من القول: إنه استعمال لفظ الجزء وإرادة الكل، كالرقبة التي هي مباينة لسائر الاجزاء، وقد صح استعمالها فيها - مجازاً - .

[1] لما ذكرنا من تباين الوجودات الخارجية.

[2] بالمجاز - بعلاقة الجزء والكل - .

[3] لعلّه إشارة إلى أن أسماء العبادات - كالصلاة - إذا اُخذت (لا بشرط) عن الأجزاء لم يكن إطلاق لفظ الصلاة على (الأركان مع الأجزاء) مجازاً. نعم، لو اُخذت الأركان (بشرط لا) فإطلاقها على (الأركان مع الأجزاء) مجاز.

الوجه الثاني

[4] أي: ثاني الوجوه - التي ذكروها للجامع الأعميّ - هو: إن الجامع هو معظم الأجزاء بحيث يصدق عليها الصلاة - مثلاً - فلو فرضنا أن أجزاء الصلاة خمسة عشرة، فالمعظم هو عشرة - مثلاً - .

وفيه: أولاً: ما مرّ من الإشكال في الوجه الأول، من أن ذلك يستلزم المجاز في الصلاة الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط.

وثانياً: يلزم الاختلاف في الماهية؛ إذ قد يكون جزء داخلاً في المعظم تارة، وخارجاً عنه تارة أخرى، مثلاً: لو صلى وقرأ الحمد فيكون الحمد داخلاً في الماهية، ولو صلى ولم يقرأ الحمد يكون الحمد خارجاً عن الماهية.

وهذا أمر غير معقول؛ إذ أجزاء الماهية الواحدة معلومة منحصرة، فلا يمكن أن يكون شيء داخلاً في الماهية تارة وخارجاً عنها أخرى.

وثالثاً: يلزم الترديد في الماهية - في مرحلة الثبوت - وذلك في ما لو أتى بالصلاة مع

ص: 99


1- مطارح الأنظار 1: 54.

عرفاً[1]، فصدق الاسم كذلك يكشف عن وجود المسمى، وعدم صدقه عن عدمه[2].

وفيه: - مضافاً[3] إلى ما أورد على الأول أخيراً -: إنه عليه[4] يتبادل ما هو المعتبر في المسمى، فكان شيء واحد داخلاً فيه تارةً، وخارجاً عنه أخرى، بل[5] مردداً بين أن يكون هو الخارج أو غيره عند اجتماع تمام الأجزاء، وهو كما ترى، سيما[6] إذا لوحظ هذا مع ما عليه العبادات من الاختلاف الفاحش بحسب الحالات.

ثالثها[7]:

-------------------------

جميع الأجزاء والشرائط، وحينئذٍ فكل جزء يمكن أن يكون من المعظم أو خارجاً عنه. والترديد في الماهية - ثبوتاً - غير معقول.

ورابعاً: إن الصلاة - مثلاً - لا يمكن ضبط (المعظم) فيها؛ لأن لها مصاديق تختلف من حيث الأجزاء في كل شيء، فمن صلاة الظهر للمقيم المختار إلى صلاة الغريق، وبينهما مراتب، كصلاة الوتر وصلاة المضطر، وصلاة تتضمن جميع المستحبات... الخ.

[1] فمعظم الأجزاء بشرط صدق اسم الصلاة - مثلاً عليها - «كذلك»، أي: عرفاً.

[2] «صدقه» أي: الاسم، «عدمه» عدم المسمى.

[3] هذا الإشكال الأول.

[4] هذا الإشكال الثاني، «أنه» للشأن، «عليه» أي: بناءً على كون (المعظم) هو الجامع، «فيه» في المسمى.

[5] هذا الإشكال الثالث، أي: بل يكون الشيء الواحد مردداً... الخ.

[6] إشارة إلى الإشكال الرابع، وهو عدم انضباط المعظم في مثل الصلاة، «هذا» أي: التبادل أو الترديد.

الوجه الثالث

[7] هذا الوجه هو محاولة القياس بين الجامع على الأعم وبين الأعلام الشخصيّة، وحاصله: إن الأعلام وضعت لوجود خاص، واختلاف حالاته لا

ص: 100

أن يكون وضعها[1] كوضع الأعلام الشخصية[2]، ك(زيد)، فكما لا يضر في التسمية فيها تبادل الحالات المختلفة من الصغر والكبر ونقص بعض الأجزاء وزيادته، كذلك فيها[3].

وفيه: إن الأعلام إنّما تكون موضوعة للأشخاص، والتشخص إنما يكون بالوجود الخاص[4]، ويكون الشخص حقيقةً باقياً ما دام وجوده باقياً وإن تغيرت

-------------------------

ترتبط بأصل وجوده، بل ترتبط بالعوارض اللاحقة بالوجود مما هي خارج عن ذات الشيء، مثلاً: حينما يولد طفل فيسمّى زيداً، فإن اسم زيد إنّما هو لحصة خاصة من الوجود، وأما الحالات التي تعرض هذه الحصة - كالصغر والكبر، أو العلم والجهل، أو الصحة والمرض، أو سلامة الأعضاء ونقصانها... الخ - فكلّها خارجة عن ذات (زيد) وإنّما هي من العوارض، كذلك في العبادات لا يضرّ بالتسمية تبادل الحالات أو الأجزاء أو الشروط، ولا زيادتها أو نقصانها، فيطلق الاسم على العبادات بكل تلك الحالات.

وفيه: إنه قياس مع الفارق؛ فإن الأعلام الشخصية وضعت لوجود جزئي، والتشخّص عارض على الوجود - فإن الشيء ما لم يوجد لم يتشخص - وأما العبادات فهي أمور كليّة قابلة للانطباق على مصاديق كثيرة، فلابد من وجود جامع يجمع كل تلك الأفراد كي يكون انطباق الاسم عليها على نحو الحقيقة، فتأمّل.

[1] أي: وضع ألفاظ العبادات.

[2] حيث إنها وضعت لحصة من الوجود، وأما التشخصات فهي خارجة عن حقيقة الأعلام.

[3] أي: كذلك لا يضر الزيادة والنقصان وتبادل الحالات، «فيها» أي: في ألفاظ العبادات.

[4] أي: هذه الحصة من الوجود كان لها حدود، وتلك الحدود سبّبت التشخص؛

ص: 101

عوارضه من الزيادة والنقصان وغيرهما من الحالات والكيفيات[1]، فكما لا يضر[2] اختلافها في التشخص لا يضر اختلافها في التسمية، وهذا بخلاف مثل ألفاظ العبادات[3] مما كانت موضوعة للمركبات والمقيدات[4]، ولا يكاد يكون موضوعاً له[5] إلاّ ما كان جامعاً لشتاتها وحاوياً لمتفرقاتها[6]، كما عرفت في الصحيح منها.

رابعها[7]: إن ما وضعت له الألفاظ ابتداءً هو الصحيح التام الواجد لتمام

-------------------------

ولذا قالوا: (الشيء ما لم يوجد لم يتشخص)(1)، وقد أشكلوا في قول البعض: (ما لم يتشخص لم يوجد)، وذلك لأن التشخص عارض على الوجود، لا العكس، فتأمل.

[1] عطف تفسيري، أو (الحالات) هي عوارض الجسد كالمرض والصحة، و(الكيفيات) هي عوارض النفس كالعلم والجهل.

[2] عدم الضرر بسبب أن الحصة الخاصة من الوجود لم تتبدل، بل تبدلت العوارض، والحاصل أن اختلاف العوارض لا يتسبب في تبدل الوجود، كذلك لا يتسبب في تغيّر الاسم واختلافه.

[3] لأنها موضوعة للكلي، لا للوجود الجزئي الخاص.

[4] التركيب من حيث الأجزاء، والتقييد من حيث الشروط وعدم الموانع.

[5] أي: للمركب والمقيّد.

[6] وذلك الجامع هو كلي، فيبقى السؤال بحاله: ما هو ذلك الجامع - على الأعم - ؟

الوجه الرابع

[7] هذا الوجه هو قياس الجامع الأعمّي على المعاجين المركبة.

وحاصله: إن لفظ العبادات وضع ابتداءً للصحيح الجامع لجميع الأجزاء والشرائط الخالي عن جميع الموانع والقواطع، ثم العرف يتسامحون فيطلقون تلك

ص: 102


1- هداية المسترشدين 2: 692.

الأجزاء والشرائط، إلاّ أن العرف يتسامحون - كما هو ديدنهم - ويطلقون تلك الألفاظ على الفاقد للبعض تنزيلاً له منزلة الواجد، فلا يكون مجازاً في الكلمة[1] - على ما ذهب إليه السكاكي(1)

في الاستعارة[2] -

-------------------------

الألفاظ على الفاقد لبعض الأجزاء أو الشرائط، أو الواجد لبعض الموانع أو القواطع.

ويمكن أن يصوّر ذلك التسامح على أحد نحوين:

الأول: إنهم يفترضون الفاقد من مصاديق الواجد، على نحو الحقيقة الادعائية - كما هو مذهب السكاكي - فلا يكون استعمال اللفظ في الفاقد مجازاً.

الثاني: إنهم يستعملون لفظ العبادة في الفاقد مجازاً - ابتداءً - ولكن بعد الاستعمال لدفعات محدودة صار اللفظ حقيقة في الفاقد أيضاً على نحو الوضع التعيّني.

وهذا النوع من الوضع التعيّني لا يحتاج إلى كثرة الاستعمال، بل يكفي الاستعمال مرات متعددة؛ وذلك بسبب المشابهة في الصورة - في المصداق الفاسد - أو المشاركة في الأثر - في الفرد الصحيح - .

ونظير ذلك المعاجين المركبة من عدة مواد، وُضِع اسمها ابتداءً على الواجد لجميع الأجزاء، ثم استعمل في الفاقد لبعض تلك الأجزاء إما بنحو الحقيقة الادعائية أو بنحو الوضع التعيّني، لمشابهة المعجون الناقص للمعجون الكامل في الشكل أو في الأثر.

[1] لأن تنزيل الفاقد منزلة الواجد إنّما هو بمعنى اعتبارهم الفاقد مصداقاً من مصاديق الكلي - الموضوع للواجد - .

[2] قد مرّ في بحث علائم الحقيقة والمجاز تفصيل كلام السكاكي، وقد مرّ أن (الاستعارة) هي تشبيه شيء بشيء، ثم ذكر (المشبّه به) مع عدم ذكر (المشبَّه)، مثل: (رأيت أسداً يخطب).

ص: 103


1- مفتاح العلوم: 156.

بل يمكن[1] دعوى صيرورته حقيقةً فيه بعد الاستعمال فيه كذلك دفعةً أو دفعات، من دون حاجةٍ إلى الكثرة والشهرة[2]، للأنس الحاصل من جهة المشابهة في الصورة أو المشاركة في التأثير، كما في أسامي المعاجين الموضوعة ابتداءً لخصوص مركبات واجدة لأجزاء خاصة، حيث يصح إطلاقها على الفاقد لبعض الأجزاء المشابه له صورةً، والمشارك في المهم أثراً، تنزيلاً أو حقيقةً[3].

وفيه[4]: إنه إنما يتم في مثل أسامي المعاجين وسائر المركبات الخارجية مما يكون الموضوع له فيها[5] ابتداءً مركباً خاصاً، ولا يكاد يتم في مثل العبادات التي عرفت

-------------------------

[1] هذا النحو الثاني، وهو على مذهب المشهور القائلين بالمجاز في الكلمة. «صيرورته» أي: لفظ العبادة، «حقيقة»، بالوضع التعيّني، «فيه» أي: في الفاقد، «كذلك» أي: بنحو الاستعارة - وتنزيل الفاقد منزلة الواجد - .

[2] على عكس غالب الأوضاع التعيّنيّة، وإنّما لم يحتج إلى الكثرة أو الشهرة بسبب أحد أمرين:

1- المشابهة في الصورة - وهذا في الفاسد غالباً - .

2- المشاركة في الأثر، كالنهي عن الفحشاء في الصلاة - وهذا في الصحيح - .

[3] التنزيل على مذهب السكاكي، والحقيقة على مذهب المشهور.

[4] حاصل الجواب: إن المعاجين وضعت ابتداءً لشيء معلوم الأجزاء ثم استعمل الاسم في الفاقد مسامحة، ولكن في العبادات - كالصلاة - لم يكن الوضع لشيء معلوم الأجزاء والشرائط، بل هناك اختلاف كبير في عامة الأجزاء والشرائط في الصلوات، فصلاة الظهر للمختار المقيم صلاة، وصلاة الغريق أيضاً صلاة، وبينهما صور كثيرة، بل قد تكون كيفية واحدة صحيحة في حالة، فاسدة في حالة أخرى.

[5] «الموضوع له» أي: المعنى الذي وضع اللفظ له، «فيها» في المعاجين.

ص: 104

أن الصحيح منها يختلف حسب اختلاف الحالات وكون الصحيح بحسب حالةٍ فاسداً بحسب حالةٍ أخرى، كما لا يخفى، فتأمل جيداً.

خامسها[1]: أن يكون حالها حال أسامي المقادير

-------------------------

الوجه الخامس

[1] حاصله: القياس بأسامي المقادير والأوزان بأحد تصويرين:

الأول: إنّ الواضع قد لاحظ فيها قدراً معيناً - كثمانية عشرة حمصة - ثم وضع الاسم - كالمثقال - لحدود ذلك المقدار، سواء زاد قليلاً أم نقص أم كان مساوياً.

وفي العبادات لاحظ الشارع أجزاء خاصة ثم وضع الاسم لتلك العبادة، سواء زادت عن تلك الأجزاء أم نقصت أم تساوت.

والفرق بين هذا الوجه وسابقه، أن الوضع في الوجه الرابع متعدد، فوضع ابتداءً في الواجد لتلك الأجزاء، ثم وضع مرة أخرى في الأقل أو الأكثر، وفي هذا الوجه الوضع واحد، فقد وضعه للأعم من الزائد والناقص.

الثاني: إن الوضع كان خاصاً بالواجد للأجزاء، ثم بكثرة الاستعمال المجازي صار الأقل والأكثر حقيقة بالوضع التعيني.

وفرقه عن الوجه السابق أن ذاك كان الوضع التعيّني فيه بسبب الأنس من غير احتياج إلى كثرة الاستعمال، وفي هذا الوجه الوضع التعيني بكثرة الاستعمال.

وفيه: أولاً: ما مرّ من أن الأوزان والمقادير مضبوطة معينة، ثم يتسامح العرف في الناقص والزائد قليلاً، وليس في العبادات الصحيحة مقدار معيّن من الأجزاء والشرائط حتى يُلاحظ الناقص والزائد بالنسبة إليها.

وثانياً: إن هذا يستلزم الوضع الخاص والموضوع له العام، وقد مرّ بطلانه، ولكن المصنف لم يذكر هذا الإشكال لأن قائل هذا الوجه - وهو الميرزا حبيب الله الرشتي(1) على ما قيل - يصحح هذا الوضع.

ص: 105


1- بدائع الأفكار: 139.

والأوزان[1]، مثل المثقال والحقّة والوزنة إلى غير ذلك ممّا لا شبهة[2] في كونها حقيقةً في الزائد والناقص في الجملة[3]، فإنّ الواضع وإن لاحظ مقداراً خاصّاً إلاّ أنّه لم يضع له بخصوصه، بل للأعمّ منه ومن الزائد والناقص، أو[4] أنّه وإن خصّ به أوّلاً، إلاّ أنّه بالاستعمال كثيراً فيهما - بعناية أنّهما منه - قد صار حقيقةً في الأعمّ ثانياً.

وفيه: إنّ الصحيح[5] - كما عرفت في الوجه السابق - يختلف زيادةً ونقيصةً، فلا يكون هناك ما يلحظ الزائد والناقص بالقياس عليه كي يوضع اللفظ لما هو الأعمّ، فتدبّر جيّداً.

منها[6]:

-------------------------

وثالثاً: لا يخفى أنّ استعمال الأوزان في الزائد والناقص إنما هو للمسامحة العرفية، لا لأجل الوضع؛ ولذا لو كان ثمن الشيء غالياً - كالذهب - لا يتسامحون بالزيادة والنقيصة، كما هو واضح.

[1] عطف الخاص على العام؛ لأن المقادير تشمل الأوزان والمساحات والأحجام وغيرها.

[2] بل العكس فإنها لا شبهة في كونها حقيقة في المقدار المعين فقط.

[3] أي: الزيادة والنقيصة المناسبة لذلك المقدار، كالغرام في الكيلو - مثلاً - لا خمسمائة غرام في الكيلو.

[4] إشارة إلى التصوير الثاني، «أنه» الواضع، «خص به» بذلك المقدار الخاص، «فيهما» في الزائد والناقص، «منه» من ذلك المقدار.

[5] في العبادات.

المقدمة الرابعة: ضرورة تصوير الجامع على الأعم

[6] هذه المقدمة هي من تتمة المقدمة السابقة؛ وذلك لأنه قد يقال بعدم ضرورة تصوير الجامع - على الأعم - وذلك لأن ألفاظ العبادات لم توضع للجامع حتى

ص: 106

إنّ الظاهر أن يكون الوضع والموضوع له في ألفاظ العبادات عامّين[1]. واحتمال كون الموضوع له خاصّاً بعيد جدّاً، لاستلزامه[2] كون استعمالها في الجامع - في مثل: «الصلاة تنهى عن الفحشاء»(1)

و«الصلاة معراج المؤمن»(2)،

و«الصوم جُنّة من النار»(3)

- مجازاً، أو منع[3] استعمالها فيه في مثلها، وكلّ منهما بعيد إلى الغاية، كما لا يخفى على اُولي النهاية.

-------------------------

نحتاج إلى تصويره، بل وضعت للأفراد، فيكون الوضع عاماً والموضوع له خاصاً.

وفيه: إن القول: إنّ (الموضوع له خاص) يستلزم أحد محذورين:

الأول: القول بالمجازية في ما لو استعمل لفظ العبادة في الكلي، كقوله: (الصلاة عمود الدين) و(الصوم جنة من النار... الخ)، حيث استعمل اللفظ في خلاف ما وضع له؛ إذ الموضوع له الخاص، وفي هذه الأمثلة استعمل في العام.

الثاني: أن يقال: إنّ اللفظ استعمل في الأفراد فلا مجازية، ولكن هذا يستلزم أن تكون أفراد الصلاة عموداً للدين، فكل صلاة بمفردها عموده، وهذا لا يمكن الالتزام به؛ لأن الظاهر أن الآثار مترتبة على طبيعة الصلاة لا على الأفراد، فتأمل.

[1] فلابد من تصوير الجامع الكلي.

[2] إشارة إلى المحذور الأول.

[3] إشارة إلى المحذور الثاني، «استعمالها» أي: ألفاظ العبادات، «فيه» أي: في الجامع، «مثلها» أي: مثل هذه الموارد، فيقال: إنّ هذه الألفاظ لم تستعمل في الجامع، بل استعملت في الأفراد.

ص: 107


1- إشارة لقوله تعالى: {إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ} سورة العنكبوت، الآية: 45.
2- التفسير الكبير 1: 266.
3- الكافي 2: 19.

ومنها:[1]

-------------------------

المقدمة الخامسة: ثمرة بحث الصحيح والأعم
اشارة

[1] ذكر المصنف ثلاثة ثمرات لهذا البحث:

الثمرة الأولى

الثمرة الأولى: إجمال الخطاب على الصحيح، وعدم إجماله على الأعم.

بيانه: إن (الشبهة) قد تكون في المفهوم وقد تكون في المصداق:

أما الأول: فكما لو قال المولى: (أكرم العادل)، وشككنا في أن العدالة هل هي حسن الظاهر، أم أنها ملكة نفسانية؟ فلو كان زيد حسن الظاهر فإنه لا يجوز التمسك بإطلاق (أكرم العادل) لإثبات وجوب إكرامه؛ لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المفهومية، حيث لا نعلم انطباق العادل عليه، فكيف ندخله في قوله (أكرم العادل)؟

وأما الثاني: فكما لو كان مفهوم (العادل) معلوماً واضحاً، وشككنا في أن زيداً عادل أم ليس بعادل، فلا يجوز التمسك بالعام أيضاً؛ لأنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

وفي ما نحن فيه قول المولى: (أقم الصلاة) مطلق، فهل يجوز التمسك بهذا الإطلاق لنفي الأجزاء والشرائط المشكوكة؟

1- لا يمكن ذلك على الصحيح؛ لأن الشك إنما هو في أصل التسمية، فهل الأفعال من دون ذلك الجزء صلاة أم ليست بصلاة؟ فلو أردنا التمسك بإطلاق (أقم الصلاة) كان تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية؛ لأن مفهوم الصلاة معلوم وهو الصلاة الصحيحة، والشك إنما هو في أن هذه الأفعال صلاة أم لا.

2- أما على الأعم، فيمكن التمسك بالإطلاق، لأنه يصح إجراء اسم الصلاة على الأفعال الفاقدة لبعض الأجزاء أو الشرائط، فحينئذٍ هذا الفعل الفاقد صلاة

ص: 108

أنّ ثمره النزاع إجمال الخطاب[1] على القول الصحيحي وعدم[2] جواز الرجوع إلى إطلاقه في رفع ما إذا شك[3] في جزئية شيء للمأمور به أو شرطيته أصلاً، لاحتمال[4] دخوله في المسمى كما لا يخفى، وجواز الرجوع إليه في

-------------------------

حتماً، فنتمسك بإطلاق الصلاة لنفي وجوب ذلك الجزء أو الشرط. هذا إذا تحقق الإطلاق اللفظي، بأن تحققت مقدمات الحكمة، ككون المولى في مقام البيان ولم ينصب قرينة على الخلاف... الخ.

أما إذا لم تتم مقدمات الحكمة، أو رجع الشك في الجزئية أو الشرطية إلى الشبهة المفهومية أو المصداقية، فلا يمكن التمسك بالإطلاق حتى على القول بالأعم.

مثلاً: بناءً على الجامع الأول على القول بالأعم - وهو كون الأركان هي الجامع - فلو شككنا في شيء أنه ركن أم ليس بركن، فهنا شك في مفهوم الصلاة، فلا يمكن التمسك بإطلاق (أقم الصلاة) لنفي كونه ركناً؛ لأنه تمسك بالعام في الشبهة المفهومية.

وهنا بعد عدم وجود الإطلاق لابد من الرجوع إلى الأصل العملي، وهو البراءة عن الجزء أو الشرط الزائد، أو الاشتغال - على خلاف بين الأصوليين - .

[1] (المجمل) هو الكلام الذي ليس له ظاهر، فلا يمكن الاستدلال به، فيلزم الرجوع إلى الأصل العملي.

[2] هذا نتيجة الإجمال، أي: لما كان الخطاب مجملاً فإنه لا يجوز التمسك بإطلاقه؛ لأنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية. «إطلاقه» أي: إطلاق الخطاب.

[3] أي: في رفع الشك في الجزئية...، «أصلاً» قيد لقوله: (عدم جواز).

[4] إذ يتوقف اسم العبادة على الواجد لجميع أجزائها وشرائطها، وهذا الجزء المشكوك إن كان من أجزائها واقعاً فالاسم متوقف عليه، وإن لم يكن من أجزائها فلا توقف، إذن توقف اسم العبادة عليه محتمل، وبعد الشك في أن الفعل الفاقد

ص: 109

ذلك[1] على القول الأعمّي في غير ما احتمل دخوله فيه[2] مما شك في جزئيته أو شرطيته. نعم لابد في الرجوع إليه[3] في ما ذكر من كونه وارداً مورد البيان[4]، كما لابد منه[5] في الرجوع إلى سائر المطلقات؛ وبدونه[6] لا مرجع أيضاً[7] إلاّ البراءة أو الاشتغال، على الخلاف في مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين[8].

-------------------------

هل يطلق الاسم عليه أم لا، يكون التمسك بالإطلاق تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية.

[1] «إليه» إلى الإطلاق «ذلك» أي: رفع جزئية أو شرطية المشكوك.

[2] أي: في غير الجزء أو الشرط الذي يحتمل دخول ذلك الجزء أو الشرط في الاسم، كما مثلنا في الشك في ركنية شيء - بناءً على الجامع الأعمي الأول - .

[3] أي: إلى الإطلاق - على الأعم - «في ما ذكر» أي: رفع جزئية أو شرطية المشكوك، «كونه» أي: الخطاب.

[4] أي: تتم مقدمات الحكمة - التي منها كون المتكلم في مقام البيان - وإنما ذكر خصوص هذه المقدمة كمثال، أو أنه خصّها بالذكر لأهميتها.

[5] أي: من كونه وارداً مورد البيان.

[6] أي: بدون البيان، بأن لم تتم مقدمات الحكمة، فلا يمكن التمسك بالإطلاق، ولابد من الرجوع إلى الأصول العملية.

[7] أي: كما لا يكون الإطلاق مرجعاً فكذلك لا مرجع آخر إلاّ الأصول العملية.

[8] الشك في (المكلّف به) على قسمين:

1- الشك بين المتباينين، كما لو شك في أن النجس هل هو الإناء الأول أم الثاني؟ والأصل هنا هو الاحتياط؛ وذلك للعلم الإجمالي.

2- الشك بين الأقل والأكثر، وهو على قسمين:

ص: 110

وقد انقدح بذلك[1]: أن الرجوع إلى البراءة أو الاشتغال في موارد إجمال الخطاب أو إهماله[2] على القولين[3]، فلا وجه[4] لجعل الثمرة هو الرجوع إلى

-------------------------

أ: غير الارتباطيين، كالشك بأنه مديون عشرة أم عشرين، وهنا العشرة معلومة، والأكثر مشكوك فيجري فيه أصل البراءة؛ لأنه شك في التكليف الزائد.

ب: الارتباطيين، وذلك في المركب، كالشك في جزئية شيء أو شرطيته في الصلاة، وقد اختلفوا في أن الأصل هو البراءة - كما هو المشهور - أم الاحتياط.

[1] أي بأن شرط التمسك بالإطلاق هو أن يكون في مقام البيان - إضافة إلى سائر مقدمات الحكمة - .

[2] الإجمال: هو تعلق الحكم بالطبيعة مع تشريع التفاصيل، ولكن لا دلالة عليها لقصور في اللفظ، كما لو قال: (إيتني بعين) ولم ينصب قرينة على أن مراده الذهب أم الفضة، أو نصب قرينة لكنها خفيت على السامع.

والإهمال: هو تعلق الحكم بالطبيعة مع عدم تشريع التفاصيل، بل التفاصيل اُرجئت إلى وقت آخر، فالقصور ليس من اللفظ، بل بسبب المصلحة في تأخير البيان.

[3] أي: القول بالصحيح أو القول بالأعم؛ وذلك لأنه بعد إجمال الخطاب لا يوجد أصل لفظي يرجع إليه، فلابد من الرجوع إلى الأصل العملي.

الثمرة الثانية

[4] هنا ثمرة ثانية ذكرها المحقق القمي(1)،

وهي أن الأصل على الصحيح هو الاشتغال؛ لأن التكليف معلوم - وهو الصحيح - والشك في كيفية إبراء الذمة منه، وفي مثله يجري الاحتياط.

وأما على الأعم، فإن اسم الصلاة يصدق على الفاقد لذلك الجزء، فيحمل

ص: 111


1- قوانين الأصول 1: 43.

البراءة على الأعم والاشتغال على الصحيح، ولذا[1] ذهب المشهور إلى البراءة مع ذهابهم إلى الصحيح.

وربما قيل[2]: بظهور الثمرة في النذر أيضاً.

-------------------------

الأمر عليه، أي، يقال: إنه مأمور به.

وفيه: إنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ إذ بعد سقوط الإطلاق لا نعلم أن الفاقد مأمور به أم ليس مأموراً به، فلا يمكن التمسك بمثل قوله: (أقم الصلاة).

بل مسألة الأقل والأكثر لا ربط لها بمسألة الصحيح والأعم؛ إذ هي مرتبطة بإرجاع الشك في الجزء والشرط إلى الشك في التكليف أو الشك في المكلف به؛ ولذا ذهب المشهور إلى الصحيح، ومع ذلك ذهبوا إلى البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين.

[1] أي: لأجل عدم ابتناء الأصل العملي في الارتباطيين على مسألة الصحيح والأعم.

الثمرة الثالثة

[2] وقد ذكرها المحقق القمي(1)

أيضاً، وهي أنه لو نذر إعطاء درهم - مثلاً - لمن يصلّي، فعلى الصحيح لابد للوفاء بالنذر من إعطائه لمن صلى صحيحاً، وأما على الأعم فيمكن إعطائه لمن لا نعلم بصحة صلاته.

وفيه: أولاً: إن هذه ثمرة فرعية وليست ثمرة للمسألة الأصولية التي يشترط أن تكون حكماً كلياً.

وثانياً: حتى لو أرجعنا البحث إلى بحث كلي، فإنه لا ينبغي البحث في مسألة مهمة كمسألة الصحيح والأعم ثم جعل الثمرة في النذر.

وثالثاً: النذر تابع لنية الناذر، فلو نذر أن يعطى الدرهم لمن صلاته صحيحة فلا يكفى إعطائه لمن لا يعلم بصحة صلاته، حتى على القول بالأعم، وكذا العكس.

ص: 112


1- قوانين الأصول 1: 43.

قلت: وإن كان تظهر[1] في ما لو نذر لمن صلّى إعطاء درهم في البرء(1) - في ما لو أعطاه لمن صلّى ولو علم بفساد صلاته[2]، لإخلاله بما لا يعتبر في الاسم - على الأعم، وعدم البرء على الصحيح، إلاّ أنه ليس بثمرة لمثل هذه المسألة[3]، لما عرفت من أن ثمرة[4] المسألة الأصولية هي أن تكون نتيجتها واقعة في طريق استنباط الأحكام الفرعية، فافهم[5].

وكيف كان[6]، فقد استدل للصحيحي بوجوه:

أحدها: التبادر، ودعوى[7] أن المنسبق إلى الأذهان منها هو الصحيح.

-------------------------

[1] أي: تظهر الثمرة و«إعطاء» مفعول (نذر)، «في البرء» متعلق بقوله: (يظهر).

[2] مع أنه قد نسب إلى المحقق القمي أنه جعل الثمرة: في ما لم يعلم بفساد صلاته أو صحته «لإخلاله» متعلق ب- (فساد).

[3] حيث إن الوفاء بالنذر أو عدم الوفاء به حكم فرعي، والمسألة الأصولية ما كان نتيجتها حكماً كلياً - كما مرّ - .

[4] الأولى حذف (ثمرة) وحذف (نتيجتها)، لأن المسألة الأصولية هي التي تقع في طريق الاستنباط، وليس ثمرتها أو نتيجتها.

[5] لعله إشارة إلى أن بحث (الصحيح والأعم) ليس بحثاً أصولياً؛ ولذا جعله المصنف في مقدمات علم الأصول، فلا يهم كون نتيجته بحثاً فرعياً!

[6] أي: سواء صحت هذه الثمرات أم لم تصح.

أدلة القول بالصحيح
الدليل الأول: التبادر

[7] عطف تفسيري لبيان التبادر، والتبادر أمر وجداني لا يمكن إقامة البرهان عليه، فمن كان خالي الذهن يجد في نفسه أنه لو سمع كلمة الصلاة - مثلاً - فإنه

ص: 113


1- هكذا في بعض النسخ، وفي نسخة أخرى: «البر» بمعنى الطاعة.

ولا منافاة[1] بين دعوى ذلك[2] وبين كون الألفاظ على هذا القول مجملات، فإن المنافاة[3] إنما تكون في ما إذا لم يكن معانيها على هذا مبيّنة بوجه، وقد عرفت كونها مبيّنة بغير وجه.

ثانيها: صحة السلب[4] عن الفاسد، بسبب الإخلال ببعض أجزائه أو شرائطه[5]

-------------------------

ينسبق إلى ذهنه الصلاة الصحيحة دون الفاسدة.

[1] دفع لإشكال وحاصله: إن قلت: قد ذكرتم أن الصحيح أمر مجمل، فلا نعرف الجامع بين أفراده - وهو المسمى بالصلاة مثلاً - فكيف تدعون هنا التبادر، مع أنه لابدّ أن يكون المعنى مبيناً واضحاً ليتبادر من اللفظ؟

قلت: يكفي في التبادر كون المعنى مبيناً من جهة، حتى وإن كان مجملاً من جهات أخرى، وهنا العبادات مبيّنة من جهة الآثار، فنعلم أن الصلاة الصحيحة ناهية عن الفحشاء والمنكر - مثلاً - وهذا يكفي للتبادر، فيتبادر من لفظ (الصلاة) العمل الذي له هذا الأثر - وهو الصحيح - .

[2] أي: التبادر، «هذا القول» أي: على القول: إنّ الألفاظ للصحيح «مجملات» لأنا لا نعرف الجامع الذي وضع الاسم له.

[3] إشارة إلى جواب الإشكال، «معانيها» أي: معاني ألفاظ العبادات، «بوجه» من الوجوه، «بغير وجه» واحد، بل بوجوه متعددة؛ وذلك عن طريق الآثار المتعددة، كعمود الدين، ومعراج المؤمن، وناهية عن الفحشاء، وغيرها.

الدليل الثاني: صحة السلب

[4] أي: إطلاق لفظ العبادة على الفاسد إنما هو بالمجاز، والعلاقة هي الشباهة الظاهرية بين الصحيح والفاسد، وإلاّ فبالدقة فإن العرف ينفون الاسم عن الفاسد فيقال: هذه ليست بصلاة واقعاً وإن كانت شبيهة بها.

[5] أي: أجزاء العبادة وشرائطها، وتذكير الضمير باعتبار (الفاسد) «عليه» على الفاسد.

ص: 114

بالمداقّة، وإن صح الإطلاق عليه بالعناية.

ثالثها[1]: الأخبار الظاهرة في إثبات بعض الخواص والآثار للمسمّيات[2]، مثل: «الصلاة عمود الدين»(1)

أو «معراج المؤمن»(2)

و«الصوم جُنة من النار»(3)،

-------------------------

الدليل الثالث: إثبات الآثار أو نفيها

[1] حاصله: مركب من شقّين:

الأول: إن الأخبار أثبتت آثاراً للعبادات من غير تقييدها بالصحيحة، فالصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر، ومن المقطوع به أن الأثر إنما هو للصحيح دون الفاسد.

وهنا يدور الأمر بين شيئين:

1- إما أن نقول: إنّ هذه الأسامي إنما هي اسم للصحيح؛ ولذا رتّبت الآثار على هذه المسمّيات، وهو المطلوب.

2- وإما أن نقول بالمجازية، وتقدير لفظ (الصحيحة)، أي: الصلاة الصحيحة ناهية عن الفحشاء والمنكر، والمجاز خلاف الظاهر.

الثاني: إن الأخبار نفت الماهية عن الفاقد لبعض الأجزاء والشرائط، كقوله: (لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب)، وهنا أيضاً يدور الأمر بين شيئين:

1- حمل (لا) على حقيقتها، وهو نفي الجنس، فتنتفي ماهية الصلاة بفقدان الجزء الذي هو فاتحة الكتاب.

2- حمل (لا) على نفي الصحة، أي: لا صلاة صحيحة إلاّ بالفاتحة، وهذا مجاز لا يصار إليه مع إمكان الحقيقة.

[2] من دون تقييدها ب- (الصحيحة)؛ وذلك يدل على التساوي بين المسميات - كالصلاة - وبين الصحيح؛ إذ لو كان الاسم للأعم لم تكن الآثار إلاّ لبعض المسميات.

ص: 115


1- وسائل الشيعة 4: 27.
2- التفسير الكبير 1: 266.
3- الكافي 2: 19.

إلى غير ذلك، أو نفى ماهيتها وطبائعها[1]، مثل: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»(1)،

ونحوه مما كان ظاهراً في نفي الحقيقة[2] بمجرد فقد ما يعتبر في الصحة شطراً أو شرطاً.

وإرادة[3] خصوص الصحيح من الطائفة الأولى ونفي الصحة من الثانية لشيوع استعمال هذا التركيب[4] في نفي مثل الصحة أو الكمال، خلاف الظاهر لا يصار إليه مع عدم نصب قرينة عليه.

-------------------------

[1] العطف تفسيري، والضمير للمسميات، والمعنى نفي ماهية المسمى عند فقدان جزء، كقوله: (لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب)، أو فقدان شرط كقوله: (لا صلاة إلاّ بطهور).

[2] إذ (لا) نافية للجنس، أي: الماهية والحقيقة.

[3] دفع لإشكال، وحاصله:

إن قلت: نقدّر (صحيحة) في الأخبار، ففي الطائفة الأولى نقول: الصلاة الصحيحة عمود الدين، وفي الطائفة الثانية نقول: لا صلاة صحيحة إلاّ بفاتحة الكتاب، وهكذا سائر الأخبار؛ وذلك لشيوع هذا النوع من الاستعمال.

قلت: أولاً: هذا التقدير خلاف الظاهر؛ لأنه مجاز فلا يُصار إليه مع إمكان الحقيقة.

وثانياً: في الطائفة الثانية يمكن القول: إنه مع إرادة نفي الكمال، كما في: (لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد) لم تستعمل لفظ (لا) إلاّ في معناها وهو نفي الحقيقة، ادعاءً، بأن يقال: إن الغرض لما كان التأكيد على الوصف فقد فرض المتكلم أن العبادة الفاقدة لذلك الوصف كأنها باطلة، وأنها ليست عبادة ادعاءً، على نمط الحقيقة الادعائية التي ذهب إليها السكاكي.

[4] أي: إثبات الأثر للشيء مع إرادة خصوص الصحيح، وكذا نفي الحقيقة ب- (لا) مع قصد نفي الكمال لا نفي الصحة.

ص: 116


1- مستدرك الوسائل 4: 158.

واستعمال[1] هذا التركيب في نفي الصفة ممكن المنع[2]، حتى في مثل: «لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد»(1)

مما يعلم[3] أن المراد نفي الكمال، بدعوى[4] استعماله في نفي الحقيقة في مثله أيضاً بنحوٍ من العناية[5]، لا على الحقيقة، وإلاّ لما دلّ على المبالغة[6]، فافهم[7].

-------------------------

[1] إشارة إلى الجواب الثاني، و«استعمال...» مبتدأ، و«ممكن...» خبره.

[2] بأن نقول: إن (لا) النافية للجنس لم تستعمل في نفي صفة الكمال، حتى مجازاً.

[3] «من» بيان لقوله: (في مثل...) أي: مما يعلم خارجاً بأن العبادة صحيحة لكنها فاقدة لوصف الكمال.

[4] متعلق بقوله: (ممكن المنع)، أي: المنع بسبب هذه الدعوى، و«استعماله» أي: استعمال هذا التركيب، «في مثله» مثل: (لا صلاة لجار المسجد... الخ).

[5] فتكون حقيقة ادعائية - على ما ذهب إليه السكاكي - .

[6] أي: التأكيد على أهمية الوصف، فلو قلنا: إن المعنى (لا صلاة كاملة إلاّ في المسجد) فهذا لا يفيد البلاغة والجمال الأدبي، ولا يستفاد منه أهمية الصلاة في المسجد.

أما لو قلنا: إنّ المعنى هو أن هذه الصلاة ك- (لا صلاة)، وأنها من أفراد الصلاة غير الصحيحة ادعاءً، فهذا يفيد الأهمية للوصف.

[7] قال المصنف في الحاشية: (إشارة إلى أن الأخبار المثبتة للآثار وإن كانت ظاهرة في ذلك لمكان أصالة الحقيقة، ولازم ذلك كون الموضوع له للأسماء هو الصحيح، ضرورة اختصاص تلك الآثار به، إلاّ أنه لا يثبت بأصالتها كما لا يخفى؛ لإجرائها العقلاء في إثبات المراد، لا في أنه على نحو الحقيقة لا المجاز، فتأمل جيداً)(2)، انتهى.

ص: 117


1- مستدرك الوسائل 3: 356.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 187.

رابعها[1]: دعوى القطع بأن طريقة الواضعين وديدنهم وضع الألفاظ للمركبات التامة - كما هو قضية الحكمة الداعية إليه[2] - ، والحاجة وإن دعت أحياناً إلى استعمالها في الناقص أيضاً، إلاّ أنه لا يقتضي أن يكون بنحو الحقيقة، بل - ولو كان - مسامحة[3]، تنزيلاً للفاقد منزلة الواجد. والظاهر أن الشارع غير متخطٍ عن هذه الطريقة.

ولا يخفى أن هذه الدعوى وإن كانت غير بعيدة إلاّ أنها قابلة للمنع[4]،

-------------------------

وحاصله: إن لفظ العبادات في هذه الأخبار استعمل في العبادة الصحيحة، ولكن الاستعمال أعم من الحقيقة، وأما اصالة الحقيقة فإجراؤها انما يكون في ما لو علمنا المعنى الحقيقي عن المجازي، ولم نعلم بمراد المتكلم. أما لو علمنا مراده، ولكن لم ندرِ أنه استعمال مجازي أو حقيقي فلا تجري أصالة الحقيقة، وقد مرّ تفصيل ذلك.

الدليل الرابع: طريقة الواضعين

[1] حاصل الدليل مركب من أمرين:

1- إن العقلاء حينما يخترعون مركباً فإنهم يضعون الاسم لذلك المركب التام الأجزاء؛ لأن غرضهم من الوضع هو التفهيم، وهذا الغرض مترتب على المركب التام؛ لأنه منشأ الأثر، وليس لهم غرض في الناقص الذي لا أثر له.

2- والشارع لم يكن له طريقة خاصة في الوضع، بل جرى على نفس المنوال الذي جرى فيه العقلاء.

ومن الواضح أن منشأ الأثر في العبادات هو الصحيح، لا الأعم منه ومن الفاسد، فلابد أن يكون الوضع له لا للفاسد..

[2] أي: إلى الوضع، وتلك الحكمة هي التفهيم «استعمالها» الألفاظ.

[3] أي: بل الاستعمال في الناقص إنما هو بنحو المسامحة.

[4] إذ غرض الواضعين كما يتعلق بإفهام الصحيح، كذلك يتعلق بإفهام الفاسد

ص: 118

فتأمل[1].

وقد استدل للأعمي أيضاً بوجوه:

منها: تبادر الأعم[2].

وفيه[3]: إنه قد عرفت الإشكال في تصوير الجامع الذي لابد منه[4]، فكيف يصح معه دعوى التبادر؟

-------------------------

أيضاً، وشاهده كثرة استعمال اللفظ وإرادة الفاسد منه، فمن أين أتى القطع بطريقة الواضعين؟

[1] في العناية: (ولعله إشارة إلى ضعف قوله: إلاّ أنها قابلة للمنع، فإن المنصف إذا راجع وجدانه بعد ما تتبع أوضاع المركبات العرفية والعادية واستقرأها، وفرض نفسه واضع اللفظ لمعنى مخترع مركب يجد من نفسه في مقام الوضع: عدم التخطي عن الوضع لما هو المركب التام)(1).

وقيل غير ذلك(2).

أدلة القول بالأعم
الأول: التبادر

[2] أي: تبادر الجامع بين الصحيح والفاسد.

[3] حاصله عدم إمكان تصوير الجامع على الأعم؛ إذ يلزم منه دخل الشيء في المسمى وعدم دخله، فإن كان الجزء أو الشرط موجوداً كان دخيلاً في الاسم، وإن كان مفقوداً لم يكن دخيلاً فيه، وهذا تناقض واضح.

[4] لأن الجامع هو (الموضوع له)، ولا يمكن وضع لفظ لمعنى إلاّ مع تصور ذلك المعنى، «معه» مع الإشكال على تصوير الجامع، بل قد ثبت تبادر الصحيح، كما مرّ في الدليل الأول من أدلة القائلين بالصحيح.

ص: 119


1- عناية الأصول 1: 90.
2- منتهى الدراية 1: 143.

ومنها: عدم صحة السلب عن الفاسد[1].

وفيه منع، لما عرفت[2].

ومنها: صحة التقسيم إلى الصحيح والسقيم[3].

وفيه[4]: إنه إنما يشهد على أنها للأعم لو لم تكن هناك دلالة على كونها موضوعة للصحيح، وقد عرفتها، فلابد[5] أن يكون التقسيم بملاحظة ما يستعمل

-------------------------

الثاني: عدم صحة السلب

[1] فلا يصح القول: إنّ الصلاة الباطلة ليست بصلاة - مثلاً - بل يصح الحمل فيقال - مثلاً - : صلاة الحائض صلاة.

[2] عرفت في الدليل الثاني من أدلة الصحيحي من صحة السلب بالمداقة، وإن صح الإطلاق بالعناية.

الثالث: صحة التقسيم

[3] حيث يصح أن يقال: الصلاة إما صحيحة وإما فاسدة، والتقسيم دليل وجود المقسم في الأقسام، ولو لا ذلك لزم تقسيم الشيء إلى نفسه وغيره، وهو محال، فلا يصح أن يقال: الاسم إمّا اسم وإمّا فعل.

فلو كانت الصلاة اسم للصحيح لم يصح تقسيمها إلى الصحيح والفاسد؛ إذ معناه هو أن الصلاة الصحيحة إما صحيحة وإما فاسدة، وهذا من تقسيم الشيء إلى نفسه وإلى غيره، وهو محال.

[4] حاصل الجواب: إن الاستعمال أعم من الحقيقة، وهنا المقسم هو الأعم، لكن لا دليل على كون هذا الاستعمال حقيقياً، بل دلّ الدليل على أن الأسماء وضعت للصحيح، فيكون استعمالها في المقسم مجاز، «أنه» أن التقسيم، «أنها» أن الأسامي، «كونها» كون الأسامي، «عرفتها» عرفت الدلالة.

[5] أي: بعد أن دل الدليل على أن الصلاة - مثلاً - اسم للصحيح، فيكون أخذها في المقسم إنما هو بمعناها المجازي.

ص: 120

فيه اللفظ ولو بالعناية.

ومنها[1]: استعمال الصلاة وغيرها في غير واحد من الأخبار في الفاسدة، كقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «بُني الإسلام على خمس: الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية، ولم يناد أحد بشيء كما نودي بالولاية، فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه»(1)، «فلو

-------------------------

الرابع: الإطلاق في الأخبار

[1] حاصل الاستدلال: إنه قد أطلقت ألفاظ هذه العبادات في الأخبار على الأعم، وقد مثَّل المستدل بمثالين:

الأول: حديث: (بُنِيَ الإسلام على خمس...)، فإن هناك فقرات أطلق فيها ألفاظ هذه العبادات على الأعم، منها:

أ: قوله: (فأخذ الناس بأربع)، وهذه الأربع من غير ولاية فاسدة قطعاً، ولو كانت هذه العبادات أسامي للأعم للزم أن يقول: (فترك الناس الخمس ولم يأخذوا بشيء منها).

ب: قوله: «فلو أن أحداً صام نهاره» فإن هذا صومه فاسد لعدم ولايته، ومع ذلك أطلق الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لفظ (الصوم) عليه، فلو كانت العبادات أسامي للصحيح للزم أن يقول: (فلو أن أحداً أمسك نهاره).

والجواب:

أولاً: إن الاستعمال أعم من الحقيقة.

وثانياً: إن الألفاظ في هذه الرواية مستعملة في الصحيح فقط، وإنما أطلقت هذه الألفاظ على عباداتهم لزعمهم بأنها صحيحة، فالمعنى إن هؤلاء زعموا بأنهم أخذوا بالأربع الصحيحة، وأنه لو زعم أحد بأنه صام نهاره... الخ.

وثالثاً: يمكن القول: إنّ استعمال هذه الألفاظ في الأعم بالعناية والمجاز، بعد

ص: 121


1- الكافي 2: 18.

أن أحداً صام نهاره وقام ليله ومات بغير ولاية لم يقبل له صوم ولا صلاة»(1)،

فإن الأخذ بالأربع[1] لا يكون بناءً على بطلان عبادات تاركي الولاية إلاّ إذا كانت أسامي للأعم. وقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «دعي الصلاة أيام أقرائك[2]»(2)،

ضرورة[3] أنه لو لم يكن المراد منها الفاسدة لزم عدم صحة النهي عنها؛ لعدم قدرة الحائض على الصحيحة منها.

-------------------------

قيام الدليل على أن هذه الألفاظ موضوعة للصحيح.

[1] هذا وجه الاستدلال على أن هذه الألفاظ أطلقت على غير الصحيح، فإنه بناءً على الصحيح فإن هؤلاء لم يأخذوا بشيء من الخمس أصلاً.

[2] هذا المثال الثاني من الأخبار التي استعملت الأسامي في الأعم.

وحاصل الاستدلال: إن الحائض غير قادرة على الصلاة الصحيحة أصلاً، فلو كانت الصلاة اسماً للصحيح كان النهي في هذا الخبر متوجهاً إلى غير المقدور، وهو قبيح، فلا يصح أن يأمر المولى بغير المقدور، مثل أن يقول: (لا تطر) فلابدّ من القول: إنّ الصلاة موضوعة على الأعم ليصح هذا النهي؛ وذلك لقدرة الحائض على الصلاة الفاسدة.

والجواب: أولاً: إنّ الاستعمال أعم من الحقيقة.

وثانياً: إنّ النهي هنا ليس مولوياً؛ لعدم حرمة إتيانها بصورة الصلاة، كما في حالة تمرين الصغار. بل النهي إرشادي، أي: هو إرشاد إلى عدم قدرتها على الإتيان بالصلاة، وهذا لا محذور فيه، كالنهي عن الصلاة في جلود ما لا يؤكل لحمه، فإنه إرشاد إلى عدم التمكن من الصلاة فيها. نعم، لو أتت بصورة الصلاة بقصد القربة كان تشريعاً محرماً، لكن هذا مرتبط بالنية لا بالعمل.

[3] وجه الاستدلال بهذا الحديث على الأعم، «أنه» للشأن، «منها» من الصلاة.

ص: 122


1- وردت بمضمونه أحاديث كثيرة، راجع بحار الأنوار 27: 166.
2- الكافي 3: 85.

وفيه[1]: إن الاستعمال أعم من الحقيقة.

مع أن المراد[2] في الرواية الأولى هو خصوص الصحيح بقرينة أنها مما بني عليها الإسلام. ولا ينافي[3] ذلك بطلان عبادة منكري الولاية، إذ لعلّ أخذهم بها إنما كان بحسب اعتقادهم، لا حقيقة، وذلك[4] لا يقتضي استعمالها في الفاسد أو

-------------------------

[1] إشكال مشترك على الاستدلال بكلا الخبرين. وحاصله كما مرّ: إن استعمال لفظ في معنى لا يدل على كونه معنىً حقيقياً، ولا تجري هنا أصالة الحقيقة؛ لأنها إنما تجري في ما لو لم يعلم المراد، فيحمل اللفظ على معناه الحقيقي، أما مع العلم بالمراد والشك في أنه حقيقي أم مجازي فلا تجري هذه الأصالة؛ لأن همّ العقلاء هو معرفة المراد، ولا يهمّهم بعد معرفة المراد أنه معنى حقيقي أم مجازي.

هذا مضافاً إلى أن هذه الأصالة - كسائر الأصول - إنما تجري مع عدم الدليل على خلافها، وهنا قد دلّ الدليل على أن الألفاظ موضوعة للصحيح، فيكون الاستعمال غير دال على الحقيقة قطعاً.

[2] الجواب الثاني عن الاستدلال بالحديث الأول، وحاصله: إن ألفاظ العبادات هنا أطلقت على خصوص الصحيح، بقرينة قوله: (بني الإسلام على خمس...) ومن المعلوم أن الإسلام مبنيٌّ على خصوص الصحيح منها، فليست الصلاة الباطلة مما بُنيَ عليها الإسلام، كما هو واضح.

[3] أي: إن قلت: إن صدر الرواية وإن كان العبادة الصحيحة، ولكن تتمتها يراد بها الأعم، حيث قال: فأخذ الناس بأربع.

قلت: تتمة الرواية أيضاً يراد بها الصحيح أيضاً، ولكن بمعنى أنهم أخذوا باعتقادهم بالأربع، وإلاّ ففي الحقيقة لم يأخذوا بشيء منها، وهذا هو الجواب الثاني عن الاستدلال بالحديث الأول، «ذلك» كون المراد خصوص الصحيح، «إذ لعل...» بيان لعدم المنافاة.

[4] أي: أخذهم بحسب اعتقادهم، «استعمالها» استعمال ألفاظ العبادات.

ص: 123

الأعم؛ والاستعمال في قوله: «فلو أن أحداً صام نهاره...» كان كذلك[1] - أي بحسب اعتقادهم - أو للمشابهة والمشاكلة[2]. وفي الرواية الثانية[3]، الإرشاد إلى عدم القدرة على الصلاة؛ وإلاّ كان الإتيان بالأركان وسائر ما يعتبر في الصلاة بل بما يسمى في العرف بها - ولو أخل بما لا يضر الإخلال به بالتسمية عرفاً - محرماً على الحائض ذاتاً[4]، وإن لم تقصد به القربة، ولا أظن أن يلتزم به المستدل بالرواية، فتأمل جيداً.

ومنها[5]:

-------------------------

[1] أي: بمعنى أخذهم بها حسب اعتقادهم.

[2] هذا الجواب الثالث عن الحديث الأول، وحاصله: استعمال اللفظ مجازاً في عباداتهم الفاسدة، وسبب المجاز هو المشابهة.

[3] عطف على قوله: (مع أن المراد في الرواية الأولى...)، وحاصله: إن الأمر بترك الصلاة - وهو يلازم النهي عنها - إنما هو للإرشاد إلى عدم وقوع الصلاة صحيحة، وليس أمراً مولوياً؛ إذ لو كان مولوياً لكان فعل هذه الصلاة محرمة على الحائض حتى لو كان للتعليم والتمرين، وهذا ما لا يقولون به. وبعبارة أخرى: الأصل في الأوامر والنواهي المولوية، إلاّ إذا كانت قرينة على الإرشاد، وهنا توجد قرينة، وهي عدم حرمة الأفعال بنفسها، ولو كان الأمر مولوياً لكانت محرمة، كما هو واضح.

[4] (الحرمة الذاتية) بمعنى حرمة الأفعال بنفسها، ويقابلها (الحرمة التشريعيّة) أي: نسبة الفعل إلى الشارع، فهذا محرم لكنه لا يرتبط بالأفعال، بل بالقصد، فقوله: (وإن لم تقصد...) شرح للحرمة الذاتية.

الخامس: تعلق النذر

[5] أي: من الوجوه التي استدل بها الأعمي، وهذا الوجه يتركب من مقدّمتين:

ص: 124

أنه لا شبهة[1] في صحة تعلق النذر وشبهه بترك الصلاة في مكان تكره فيه وحصول الحنث[2] بفعلها، ولو كانت الصلاة[3] المنذور تركها خصوص الصحيحة لا يكاد يحصل به الحنث أصلاً، لفساد الصلاة المأتي بها، لحرمتها[4]، كما لا يخفى؛ بل يلزم المحال[5]، فإن النذر - حسب الفرض[6] - قد تعلق بالصحيح منها ولا تكاد تكون معه صحيحة، وما يلزم من فرض وجوده عدمه محال[7].

-------------------------

الأولى: لا إشكال في صحة نذر ترك الصلاة في الأماكن المكروهة كالحمّام - مثلاً - .

الثانية: لو خالف النذر وصلّى في الحمام حنث نذره، ووجبت عليه الكفارة.

والنتيجة: إن الصلاة لو كانت موضوعة للصحيح لزم محذوران:

1- عدم حصول الحنث لو صلّى في الحمام؛ وذلك لأن هذه الصلاة محرّمة بسبب النذر، فتكون فاسدة؛ لأن النهي في العبادة موجب لفسادها، والصلاة الفاسدة لم تكن متعلقة للنذر، فلا حنث للنذر.

2- لزوم المحال؛ وذلك لأن النذر تعلق بالصلاة الصحيحة، وبتحقق النذر تبطل هذه الصلاة، فلزم من فرض صحة الصلاة عدم صحتها، وسيأتي توضيحه.

[1] هذا المقدمة الأولى، «وشبهه» أي: شبه النذر كالعهد واليمين.

[2] هذا المقدمة الثانية، «بفعلها» أي: بالإتيان بالصلاة.

[3] إشارة إلى اللازم الأول، «به» بفعل الصلاة.

[4] لحرمة الصلاة بسبب النذر، والنهي في العبادة موجب للفساد.

[5] إشارة إلى اللازم الثاني.

[6] أي: فرض أن الصلاة اسم للصحيح فقط، «منها» من الصلاة، «ولا تكاد» الصلاة، «معه» مع النذر.

[7] لأنه يكون موجوداً ومعدوماً في وقت واحد، مضافاً إلى أن الشيء لا يكون علة لعدمه. ولبيان الاستحالة وجوه ثلاثة، كما في الحقائق(1):

ص: 125


1- حقائق الأصول 1: 76.

قلت[1]: لا يخفى أنه لو صح ذلك[2] لا يقتضي إلا عدم صحّة تعلق النذر بالصحيح[3]، لا عدم وضع اللفظ له شرعاً، مع أن الفساد[4] من قبل النذر لا ينافي

-------------------------

1- إن صحة النذر يقتضي عدم صحته؛ وذلك لأن النذر تعلق بالصلاة الصحيحة، ومقتضى نفوذ النذر هو حرمة هذه الصلاة، وإذا حرمت الصلاة كانت فاسدة، ومقتضى فسادها عدم تعلق النذر بها - لإنه تعلّق بالصحيحة - فتحصل أن لازم صحة النذر هو عدم صحته.

2- إن صحة العبادة تقتضي عدم صحتها، لأن صحتها توجب تعلق النذر بتركها، والنذر يقتضي بطلان تلك العبادة.

3- إنه يلزم من تحقق الحنث عدم تحققه؛ لأن تعلق الحنث بها يوجب فسادها، والفساد موجب لعدم تحقق الحنث؛ لأن الحنث إنما يكون بفعل الصحيح المنذور تركه.

[1] هذا الجواب عن الدليل الخامس، من وجهين:

الأول: إن عدم تعلق النذر بالصحيح لا يكشف عن كون العبادة اسماً للأعم؛ إذ هنا استعمل لفظ العبادة في الأعم، والاستعمال لا يدل على الحقيقة.

وبعبارة أخرى: لا يمكن تعلق النذر بالصحيح، سواء قلنا: إنّ العبادة اسم للصحيح أم للأعم، فحتى على القول بالاعم لا يصح أن ينذر عدم الصلاة الصحيحة بأن يقول: (لله عليَّ أن لا أصلي في الحمام صلاة صحيحة).

الثاني: إن النذر يتعلق بالصحيح لو لا النذر، وسيأتي توضيحه.

[2] أي: هذا الوجه الخامس من الاستدلال. وهذا جواب عن كلا المحذورين، أي: عدم حصول الحنث، ولزوم المحال.

[3] سواء كانت العبادات أسامي للصحيح أم للأعم، فلا يصح تعلق النذر بالصحيحة.

[4] وهذا جواب عن المحذور الثاني فقط، وحاصله: إن النذر تعلق بالصحيح من كل الجهات لو لا تعلق النذر به، فلو صلّى بلا وضوء - مثلاً - لم يكن حانثاً؛

ص: 126

صحة متعلقه، فلا يلزم من فرض وجودها عدمها[1].

ومن هنا انقدح أن حصول الحنث إنما يكون لأجل الصحة[2] لو لا تعلقه. نعم[3]، لو فرض تعلقه بترك الصلاة المطلوبة بالفعل[4] لكان منع حصول الحنث بفعلها بمكان من الإمكان.

-------------------------

لعدم تعلق النذر بهذه الصلاة؛ لأنها فاسدة في نفسها، أما لو استجمعت كل الأجزاء والشرائط مع عدم الموانع كانت صلاة صحيحة لو لا النذر. وبعبارة أخرى: لا يمكن أن يُؤخذ النذر في متعلق النذر، لأن المتعلق هو موضوع النذر؛ فهو مقدّم على النذر إذن، فالنذر تعلق بالعمل الصحيح من كل الجهات لو لا النذر، «من قبل النذر» أي: الفساد الناشئ بسبب النذر، «متعلقة» أي: متعلق النذر؛ وذلك لأن المتعلق هو الصحيح من كل الجهات لو لا النذر.

[1] فرض وجود الصحة عدم الصحة.

[2] أي: لأجل ارتكاب متعلق النذر - وقد كان نذر أن لا يأتي بذلك المتعلق - وذلك المتعلق هو الصلاة الصحيحة لو لا النذر، «تعلقه» تعلق النذر.

[3] أي: لو نذر أن لا يأتي في الحمام بصلاة صحيحة من كل الجهات، ثم صلّى في الحمام، لم يكن حانثاً؛ لأن متعلق النذر الصلاة الصحيحة حتى مع النذر، لكن الذي أتى به هو صلاة فاسدة من جهة النذر.

لكن لا يخفى بطلان هذا النذر من أساسه؛ لعدم القدرة على المتعلق أصلاً، كما أشار المصنف في الحاشية، فقال(1):

(أي ولو مع النذر، ولكن صحته) أي: النذر (كذلك) أي: المتعلق بترك الصلاة المطلوبة بالفعل (مشكل، لعدم كون الصلاة معه) مع هذا النذر (صحيحة مطلوبة، فتأمل جيداً).

[4] أي: الصحيحة من كل الجهات بحيث يتعلق بها الأمر.

ص: 127


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 195.

بقي أمور الأول[1]: إن أسامي المعاملات[2] إن كانت موضوعة للمسبَّبات فلا مجال للنزاع في كونها موضوعة للصحيحة أو للأعم، لعدم اتّصافها بهما[3]، كما لا يخفى، بل بالوجود تارةً وبالعدم أخرى.

-------------------------

بقي أمور
الأمر الأول: في أسامي المعاملات

[1] هنا بحوث:

1- هل المعاملات اسم للسبب كعقد البيع، أم للمسبَّب كالملكية؟

2- هل أنها اسم للصحيح أم للاعم؟

3- اختلاف الشرع والعرف في بعض المعاملات - كالبيع الربوي - هل هو في المفهوم أم في المصداق؟

فقد يقال: إن البيع - مثلاً - اسم للمسبَّب كالملكية. وقد يقال: إنه اسم للسبب وهو العقد.

فعلى الأول: لا يمكن فرض الصحة والفساد؛ لأن الملكية أمر بسيط، ولا يمكن فرض الصحة والفساد في الأمر البسيط؛ لأنه دائر بين الوجود والعدم، وإنما يمكن فرضهما في المركب، فيكون التام صحيحاً، والناقص فاسداً - مثلاً - .

وأما على الثاني - وهو كون المعاملات أسامي للأسباب - : فإن العقد مركب من إيجاب وقبول وله شرائط؛ فلذا يمكن فرض التام والناقص فيه، فيجري البحث بأنها أسامٍ للصحيح أم للأعم.

[2] بالمعنى الأعم، فيشمل الإيقاعات كالطلاق.

[3] لعدم اتصاف المعاملات بهذا المعنى بالصحة والفساد؛ وذلك لبساطة المسببات، «بل بالوجود...» أي: بل تتصف بالوجود تارة إن تحقق السبب، وبالعدم تارة أخرى إن لم يتحقق السبب.

ص: 128

وأما إن كانت[1] موضوعة للأسباب، فللنزاع فيه مجال.

لكنه[2] لا يبعد دعوى كونها موضوعة للصحيحة أيضاً، وأن الموضوع له[3] هو العقد المؤثر لأثر كذا شرعاً وعرفاً[4].

والاختلاف[5]

-------------------------

[1] أي: كانت ألفاظ المعاملات، «فللنزاع فيه» أي: في كونها موضوعة للصحيح أم للأعم، فالصحيحي يقول: إنها موضوعة للتام المؤثر، والأعمّي يقول: إنها اسم لمطلق العقد، سواء كان تاماً ومؤثراً أم لا.

[2] للشأن، أي: لا يبعد دعوى كونها للصحيح، كما ادعينا ذلك في العبادات؛ وذلك للتبادر، وصحة السلب من الفاسد، وغير ذلك من الأدلة التي ذكرناها في الصحيح.

بل إمكانه هنا أسهل؛ وذلك لصعوبة تصوير الجامع في العبادات - لاختلافها كما مرّ - وسهولة تصوير الجامع في المعاملات؛ لعدم وجود ذلك الاختلاف في الأسباب، بل هي منحصرة قليلة، «أيضاً» كما ادعينا في العبادات.

[3] عطف تفسيري لبيان معنى (كونها موضوعة للصحيحة).

[4] فقد يقال: إن المعاملات اسم للعقد المؤثر شرعاً، وقد يقال: للمؤثر عرفاً، وقد يقال: للمؤثر شرعاً وعرفاً، والمصنف اختار الثالث، أي: العقد الذي يؤثر في الشرع والعرف هو اسم للمعاملة.

[5] أي: إن قلت: كيف تكون المعاملة اسم للعقد المؤثر شرعاً وعرفاً مع أنّا نرى الاختلاف بينهما، فالعقد الربوي غير مؤثر شرعاً مع كونه مؤثر عرفاً - مثلاً - .

قلت: اختلاف الشرع والعرف ليس في مفهوم البيع، فكلاهما متفق على أن البيع هو (المؤثِّر للأثر)، وإنما الاختلاف في المصداق، فهل العقد الربوي مؤثّر أم لا؟ فالشرع على عدم تأثيره والعرف على تأثيره.

ص: 129

بين الشرع والعرف في ما يعتبر[1] في تأثير العقد لا يوجب[2] الاختلاف بينهما في المعنى، بل الاختلاف في المحققات والمصاديق، وتخطئة[3] الشرع العرفَ في تخيل كون العقد بدون ما اعتبره[4] في تأثيره محققاً لما هو المؤثر كما لا يخفى، فافهم[5].

الثاني[6]:

-------------------------

وهذا نظير اختلاف القائلين بالصحيح في العبادات، مثلاً: البعض(1) يعتبر تكرار التسبيحات ثلاث مرات، والبعض يكتفي بواحدة منها، فلو صلّى رجل وقرأ التسبيحات مرة واحدة كانت صلاته باطلة على الأول، وصحيحة على الثاني، مع اتفاقهما في المفهوم، وأن الصلاة اسم للصحيح، ولكن اختلافهما في المصداق.

[1] أي: في الشرائط التي تعتبر.

[2] خبر قوله: (والاختلاف)، وهو جواب عن الإشكال، «بينهما» بين الشرع والعرف، «في المعنى» أي: في مفهوم المعاملة.

[3] عطف على قوله: (المحققات والمصاديق)، أي: بل الاختلاف في تخطئة الشرعِ العرفَ.

[4] أي: بدون الشرط الذي اعتبره الشرع، والمعنى إن الشرع يُخطِّئ العرف حيث تخيل العرف صحة المعاملة الربوية مثلاً الفاقدة للشرط الذي اعتبره الشرع.

[5] لعله إشارة إلى أن اختلاف الشرع والعرف في المفهوم لا في المصداق، فالشرع لا ينكر أن البيع الربوي بيع، ولكنه ينكر صحته، فتأمل.

الأمر الثاني: عدم الإجمال في ألفاظ المعاملات

[6] قد مرّ أن ثمرة النزاع هو إجمال ألفاظ العبادات بناء على القول بالصحيح، وعدم إجمالها بناءً على الأعم.

ولكن هذه الثمرة لا تجري في المعاملات؛ وذلك لأن المعاملات إمضائيات - أي:

ص: 130


1- روضة المتقين 2: 308؛ مصابيح الظلام 7: 265.

إن كون ألفاظ المعاملات أسامي للصحيحة لا يوجب إجمالها كألفاظ العبادات[1]، كي لا يصح التمسك بإطلاقها[2] عند الشك في اعتبار شيء في تأثيرها شرعاً؛ وذلك[3] لأن إطلاقها لو كان مسوقاً في مقام البيان[4] ينزّل على أن المؤثر عند

-------------------------

إن الشارع أمضى ما يجريه العرف من معاملات - وقد ذكرنا في الأمر الأول أنه لا اختلاف في مفهوم المعاملات بين الشرع والعرف.

وعليه: إذا شككنا في شرطية شيء أو جزئيته في المعاملات - كالعقد باللغة العربية - ورأينا أن العرف يعتبرون المعاملة بدون ذلك الشرط أو الجزء، فحينئذٍ يمكن التمسك بإطلاق مثل: {أَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ }(1) لنفي ذلك الجزء أو الشرط، وصحة المعاملة بدونه.

والحاصل: إنّ ألفاظ العبادات مخترعات شرعية، ومع الشك في كل جزء أو شرط يكون المفهوم مجملاً، فلا يمكن التمسك بالإطلاق، وأما ألفاظ المعاملات فهي إمضائية، فمع الشك في جعل الشارع شرطاً أو جزءاً يمكن مراجعة العرف، وحيث نراهم يطلقون لفظ المعاملة على الفاقد لذلك الشرط أو الجزء، فيمكن التمسك بإطلاق مثل: {أَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ } لنفي ذلك الشرط أو الجزء، بعد صدق كونه بيعاً عرفاً.

[1] التي كانت تصبح مجملة بناءً على القول بالصحيح.

[2] لأن اللفظ إذا صار مجملاً لا تجري فيه مقدمات الحكمة، فلا إطلاق له حتى يمكن التمسك بذلك الإطلاق، لكن ألفاظ المعاملات لا تصير مجملة.

[3] دليل عدم إجمال ألفاظ المعاملات حين الشك في دخل شيء فيها، «إطلاقها» أي: إطلاق ألفاظ المعاملات.

[4] بأن تمَّ الإطلاق؛ وذلك بتمامية مقدمات الحكمة، وإلاّ لم يكن إطلاق أصلاً.

ص: 131


1- سورة البقرة، الآية: 275.

الشارع هو المؤثر عند أهل العرف[1] ولم يعتبر[2] في تأثيره عنده غير ما اعتبر فيه عندهم، كما ينزّل عليه إطلاق كلام غيره حيث إنه منهم[3]، ولو اعتبر[4] في تأثيره ما شك في اعتباره كان عليه البيان[5] ونصب القرينة عليه، وحيث لم ينصب بانَ[6] عدم اعتباره عنده أيضاً. ولذا[7] يتمسكون بالإطلاق[8] في أبواب المعاملات مع ذهابهم إلى كون ألفاظها موضوعةً للصحيح.

نعم[9]،

-------------------------

[1] لأن المعاملات إمضائيات.

[2] عطف على (ينزّل...)، والمعنى: لأن إطلاقها لم يعتبر في تأثير... الخ. «تأثيره» أي: تأثير المؤثر وهو المعاملة، «عنده» عند الشارع، «فيه» في التأثير، «عندهم» عند العرف.

[3] أي: الشارع من العرف، كما قال تعالى: {وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ}(1)، فكل كلام الشارع يحمل على ما هو المتعارف في العرف، إلاّ إذا جاء بماهية مخترعة كالعبادات، وليست المعاملات ماهيات شرعية مخترعة، بل هي إمضاء لما في العرف.

[4] أي: اعتبر الشارع «تأثيره» تأثير المؤثر وهو المعاملة «ما شك» من شرط أو جزء.

[5] لئلا يكون ناقضا للغرض، وملقياً للناس في المخالفة.

[6] أي: انكشف عدم اعتبار ذلك المشكوك عند الشارع أيضاً كالعرف.

[7] أي: لكون المعاملات إمضائية، وأنّ وضعها للصحيح لا يوجب إجمالها.

[8] لنفي الجزء أو الشرط المشكوك، «ألفاظها» ألفاظ المعاملات.

[9] أي: لو كان الشرط أو الجزء المشكوك يحتمل دخله في المعاملة العرفية، فحينئذٍ تكون المعاملة مجملة عرفاً، فتكون مجملة عند الشارع أيضاً؛ وذلك لأنه

ص: 132


1- سورة إبراهيم، الآية: 4.

لو شك في اعتبار شيء فيها عرفاً، فلا مجال للتمسك بإطلاقها[1] في عدم اعتباره، بل لابد من اعتباره[2]، لأصالة عدم الأثر[3] بدونه، فتأمل جيداً.

الثالث[4]:

-------------------------

مع فقدان ذلك الشرط أو الجزء يشك في صدق عنوان المعاملة عرفاً، فلا نعلم أنها بيع أم لا، وحيث كان الشك في المفهوم لا تصل النوبة إلى التمسك بالإطلاق؛ إذ يكون تمسكاً بالعام في الشبهة المفهومية.

[1] إطلاق ألفاظ المعاملات «عدم اعتباره» أي: عدم اعتبار ذلك الشيء المشكوك.

[2] أي: اعتباره في صحة المعاملة، فيلزم الإتيان بذلك الشرط أو الجزء المشكوك؛ وذلك لأنه مع عدمه لا نعلم بانتقال الملك وتحقق البيع، فبمقتضى الاستصحاب يكون كل شيء على ملك مالكه قبل إجراء البيع، ويُعَبَّر عن هذا الاستصحاب بأصالة الفساد في المعاملات.

[3] وهو الاستصحاب، وقد شرحناه في الهامش السابق، «بدونه» بدون ذلك الشيء المشكوك.

الأمر الثالث: الأجزاء والشرائط الدخيلة في المُسمّى

[4] الغرض من هذا الأمر هو ردّ تفصيل منسوب إلى المحقق البهبهاني(1)،

حيث ذهب إلى أن الأسامي هي للصحيح من حيث الأجزاء وللأعم من حيث الشرائط.

وقبل ذلك قدّم المصنف مقدمة، ذكر فيها أن دخالة شيء في العبادة - مثلاً - على خمسة أقسام:

1- أن يكون جزءاً للماهية، بحيث تنتفي الماهية بانتفائه، وفي الحقيقة فإن المأمور به ليس إلاّ تلك الأجزاء، كالركوع والسجود في الصلاة، فإن ماهية الصلاة متحدة مع هذه الأجزاء.

ص: 133


1- تقريرات المجدد الشيرازي 1: 329.

إن دخل شيء وجودي أو عدمي[1] في المأمور به تارةً[2] بأن يكون داخلاً في ما

-------------------------

وبناء على الصحيح فإن انتفاء أيّ جزء من أجزاء الماهية يوجب انتفاء تلك الماهية، فلا يصدق الاسم على الباقي.

2- أن يكون شرطاً للماهية، بحيث تنتفي الماهية بانتفائه، وفي الواقع فإن ذات الشرط خارج عن الماهية، ولكن الشرط يوجب خصوصية في المشروط، وتكون تلك الخصوصية جزءاً للماهية، مثلاً: الوضوء - بناءً على كونه الغسلتين والمسحتين - شرط للصلاة، وهو خارج عن ماهيتها، لكن الخصوصية التي يوجبها الوضوء في الصلاة هي الجزء، ولذا قيل: (تقيّدٌ جزءٌ وقيدٌ خارجي)(1).

وعليه: فإن انتفاء شرط الماهية يوجب انتفاءها.

3-4- أن يكون جزءاً أو شرطاً للفرد لا للماهية، بمعنى أن الماهية قد توجد في ضمن هذا الفرد وقد توجد في ضمن فرد آخر، فانتفاء شرط أو جزء الفرد لا يوجب انتفاء الماهية، مثلاً: الصلاة في المسجد شرط لفرد الصلاة لا لماهيتها، فانتفاء شرط المسجدية لا يوجب بطلانها، وكذا القنوت جزء لفرد الصلاة لا لماهيتها، وهذا شرط أو جزء موجب للمزيَّة، وقد يكون موجباً للمنقصة كالصلاة في الحمام.

5- أن يكون المأمور به ظرفاً لذلك الشيء، فلا يكون الشيء شرطاً ولا جزءاً للمأمور به - لا لماهيته ولا لفرده - فيكون من قبيل المطلوب في المطلوب، كلبس ثوبي الإحرام حال الحج، فهو واجب مستقل نفسي ظرفه الحج - على ما قيل - .

ومن الواضح أن هذا القسم غير دخيل في المسمى ولا في المأمور به أصلاً.

[1] العدمي بمعنى كون وجود ذلك الشيء مُخِلاًّ؛ لأن العدم لا يؤثر ولا يتأثر، بل ذلك من خصائص الوجود.

[2] هذا هو القسم الأول - وهو الأجزاء التي يتكوّن منها الماهية - «يكون» ذلك الشيء، «منه» من ذلك الشيء، «ومن غيره» وهي سائر الأجزاء.

ص: 134


1- شرح المنظومة 2: 27.

يأتلف منه ومن غيره، وجُعِل[1] جملته متعلقا للأمر، فيكون جزءاً له وداخلاً في قوامه. وأخرى[2] بأن يكون خارجاً عنه، لكنه كان مما لا يحصل الخصوصية المأخوذة فيه بدونه[3]، كما إذا أخذ شيء[4] مسبوقاً أو ملحوقاً به أو مقارناً له متعلقاً للأمر، فيكون[5] من مقدماته لا مقوماته.

-------------------------

ولا يخفى أن أجزاء المركب هي وجودات مستقلة، ووحدتها اعتبارية - إمّا لدخالتها في الغرض، أو للأمر بها منضمَّة - .

فإن لوحظت تلك الوجودات بشرط الانضمام كانت هي الكل، وإن لوحظت لا بشرط الانضمام كانت هي الجزء، فالركوع إن لوحظ منضماً إلى سائر الأجزاء كانت الصلاة، وإلاّ فهي الركوع، فتأمل.

[1] فعل ماضٍ مجهول، عطف على (يأتلف)، «جملته» أي: مجموع ذلك الشيء وغيره، «فيكون» ذلك الشيء مع غيره، «له» للمأمور به.

[2] هذا هو القسم الثاني - وهو الشرائط التي لها دخل في الماهية - «يكون» الشيء، «عنه» عن المأمور به، «لكنه» أي: لكن ذلك الشيء.

[3] أي: ذلك الشرط وإن كان خارجاً، لكنه يوجب خصوصية، وتلك الخصوصية هي جزء المأمور به، «فيه» في المأمور به، «وبدونه» بدون ذلك الشيء - الذي هو الشرط - .

[4] أي: مأمور به كالصوم، إذا تعلق الأمر به بشرط الطهارة مثلاً، فقد تكون هذه الطهارة سابقة كغسل المستحاضة الكثيرة قبل طلوع الفجر، وقد يكون مقارناً كغسلها ظهراً، وقد يكون لاحقاً كغسلها بعد غروب الشمس - على بعض الأقوال(1)

- «به» أي: بهذا الخارج، «له» لهذا الخارج، فمعنى العبارة: كما لو أخذ الشيء كالصوم متعلقاً للأمر حال كونه مسبوقاً أو ملحوقاً أو مقارناً للطهارة.

[5] أي: فيكون هذا الخارج عن الشيء «من مقدماته» من مقدمات الشيء؛ لأنه

ص: 135


1- كشف الغطاء 2: 238؛ مصباح الفقيه 4: 311.

وثالثة[1] بأن يكون مما يتشخص به[2] المأمور به بحيث يصدق على المتشخص به عنوانه، وربما يحصل له بسببه مزية[3] أو نقيصة[4]، ودخل هذا فيه[5] أيضاً طوراً بنحو الشطرية وآخر بنحو الشرطيّة.

فيكون[6] الإخلال بما له دخل بأحد النحوين[7] في حقيقة المأمور به وماهيته

-------------------------

ليس جزءاً للشيء لكن يتوقف الشيء عليه.

[1] إشارة إلى القسم الثالث والرابع، بأن لا يكون الشيء جزءاً أو شرطا للماهية، مع كونه جزءاً أو شرطاً للفرد الموجود.

[2] أي: يكون من مقومات الوجود لا الماهية، حيث لا يوجد الشيء إلاّ إذا كان متشخصاً في ضمن فرد، «المتشخص به» أي: الفرد الموجود الخارجي، «عنوانه» أي: عنوان المأمور به، فالصلاة في المسجد فرد للصلاة المأمور بها.

[3] يحصل للمأمور به بسبب ذلك الشيء، كالمسجدية التى تضاعف ثواب الصلاة.

[4] كالصلاة في الحمام، فإن إيجاد ماهية الصلاة في هذا الفرد المتشخص بالحمام يوجب قلّة ثوابها.

[5] «هذا» أي: ما يتشخص به المأمور به، «فيه» في المأمور به، «بنحو الشطرية» الجزئية كالقنوت في الصلاة، «بنحو الشرطية» كالأذان والإقامة، وهما شرطان لفرد الصلاة - على ما قيل - لا لماهيتها.

[6] بيان لأحكام الصور الأربع، وحاصلها: إن الإخلال بشرط الماهية أو جزئها يوجب انتفاء الاسم والبطلان، أما الإخلال بشرط أو جزء الفرد فلا يوجب إخلالاً بالاسم ولا البطلان.

[7] الشرطية والجزئية، «وماهيته» عطف تفسيري على (حقيقة المأمور به)، «موجباً» خبر قوله: (فيكون)، «لفساده» فساد المأمور به.

ص: 136

موجباً لفساده لا محالة؛ بخلاف[1] ما له الدخل في تشخصه وتحققه مطلقاً، شطراً كان أو شرطاً، حيث لا يكون الإخلال به[2] إلاّ إخلالاً بتلك الخصوصية مع تحقق الماهية بخصوصية أخرى غير موجبة لتلك المزية، بل كانت[3] موجبة لنقصانها، كما أشرنا إليه[4]، كالصلاة في الحمام.

ثم إنه[5] ربما يكون الشيء مما يندب إليه فيه، بلا دخل له[6] أصلاً - لا شطراً ولا شرطاً - في حقيقته، ولا في خصوصيته وتشخصه، بل له[7] دخل ظرفاً في مطلوبيته

-------------------------

[1] أي: بخلاف الإخلال بشرط أو جزء الفرد، «في تشخصه» أي: في وجوده الخارجي، وشرح قوله: (مطلقاً) بقوله: (شرطاً كان أو شطراً).

[2] أي: الإخلال بجزء أو شرط الفرد، «بتلك الخصوصية» كخصوصية المسجدية، «خصوصية أخرى» كخصوصية البيتيّة - أي: الصلاة في البيت - .

[3] أي: بل قد توجب الخصوصية الأخرى للنقصان، كالصلاة في الحمام حيث يوجب قلة ثواب الصلاة، «نقصانها» أي: نقصان الماهية، والمراد نقصان ثوابها.

[4] في قوله قبل قليل: (وبما يحصل بسببه مزية أو نقيصة).

[5] بيان للقسم الخامس - وهو كون المأمور به ظرفاً للشيء من غير دخالة الشيء في ذلك المأمور به - لا في ماهيته ولا في فرده، فيكون من باب مطلوب في مطلوب.

«إنه» للشأن «يندب فيه» أي: إلى ذلك الشيء، بمعنى الأمر به - سواء بنحو الوجوب أم بنحو الاستحباب - .

[6] أي: بلا دخالة ذلك الشيء في حقيقة المأمور به، فليس هو شرطه ولا جزءه، كما لا دخالة لذلك الشيء في فرد المأمور به أصلاً.

[7] أي: للمأمور به، والمعنى أنه حين تحقق المأمور به تكون هناك مصلحة نفسية في فعل ذلك الشيء، فيكون المأمور به ظرفاً فقط، «مطلوبيته» أي: مطلوبية ذلك الشيء الذي ندب إليه، «أثنائه» أي: أثناء المأمور به.

ص: 137

بحيث لا يكون مطلوباً إلاّ إذا وقع في أثنائه فيكون مطلوباً نفسياً[1] في واجب أو مستحب[2]، كما إذا كان مطلوبا كذلك قبل أحدهما أو بعده، فلا يكون الإخلال به[3] موجباً للإخلال به ماهيةً ولا تشخصاً وخصوصية أصلاً.

إذا عرفت هذا كله[4]، فلا شبهة[5] في عدم دخل ما ندب إليه في العبادات نفسياً في التسمية بأساميها، وكذا[6] في ما له دخل في تشخصها مطلقاً.

وأما[7] ما له الدخل شرطاً في أصل ماهيتها فيمكن الذهاب أيضاً إلى عدم دخله

-------------------------

[1] أي: في حد ذاته بلا تعلقه بالمأمور به - لا كشرط له ولا كجزء - .

[2] أي: المأمور به قد يكون واجباً وقد يكون مستحباً، ومع ذلك يكون ظرفاً للشيء المطلوب نفسياً.

كما أن هناك مطلوبات نفسية ظرفها قبل المأمور به، كالمضمضمة قبل الوضوء، فهي ليست شرطاً ولا جزءاً منه - على ما قيل - لكن ظرف استحبابها قبل الوضوء، وقد تكون مطلوبات نفسية ظرفها بعد المأمور به، كتعقيبات الصلاة - على ما قيل - فإنها ليست شرطاً ولا جزءاً من الصلاة، لكنها مستحبات نفسية ظرفها بعد الصلاة، كذلك قد تكون مطلوبات نفسية ظرفها حين العمل.

[3] أي: بما ندب إليه في أثناء المأمور به، «للإخلال به» بالمأمور به.

[4] كل ما مرّ كان مقدمة لبيان التفصيل بين الصحة من حيث الأجزاء والصحة من حيث الشرائط، وردّ هذا التفصيل.

[5] أي: لا شبهة في عدم دخل القسم الخامس، وكذا عدم دخل القسم الثالث والرابع؛ وذلك لعدم ارتباطها بالماهية، فلا ارتباط لها باسم العبادات والمعاملات، و«في التسمية» متعلق بقوله: (عدم دخل).

[6] أي: لا شبهة في عدم دخل جزء أو شرط الفرد في التسمية، «مطلقاً» جزءاً أو شرطاً.

[7] أي: وأما القسم الثاني - وهو شرط الماهية - «فيمكن» أي: يمكن التفصيل

ص: 138

في التسمية بها، مع الذهاب إلى دخل ما له الدخل جزءاً فيها[1]، فيكون الإخلال بالجزء مخلاً بها دون الإخلال بالشرط، لكنك عرفت[2] أن الصحيح اعتبارهما فيها.

الحادي عشر[3]:

-------------------------

بين شرط الماهية فلا دخل له في التسمية، وبين جزء الماهية فله دخل في التسمية، «بها» بأسماء العبادات.

[1] «فيها» في التسمية، «بها» بالتسمية، ولعل دليل هذا التفصيل - المنسوب إلى الوحيد البهبهاني - : هو أن الشرط ليس مؤثراً في المصلحة، وإنّما المؤثر تمام الأجزاء، ويكون دخل الشرط في الأجزاء باعتبار توقف تأثيرها في المصلحة على الشرط، فيمكن الوضع للأجزاء والإشارة إليها بمفهوم المقتضي للتأثير، وحيث أمكن الوضع للأجزاء فقط أمكن إثبات ذلك ببعض الأدلة الدالة على الأعم - كذا في الحقائق(1)

بتصرف - .

[2] ردّ لهذا التفصيل من وجهين:

الأول: إن الجامع قد اكتشفناه عن طريق الآثار - كالنهي عن الفحشاء والمنكر - ومن المعلوم أن الآثار مترتبة على الصحيح من كل الجهات - سواء الأجزاء أم الشرائط - .

الثاني: إن الأدلة الدالة على الصحيح - كالتبادر وصحة السلب عن الفاسد وغيرها - كلّها تدل على الصحيح من جميع الجهات، لا الصحيح من حيث الأجزاء فقط، «اعتبارهما» الأجزاء والشرائط، «فيها» في التسمية.

الأمر الحادي عشر الاشتراك اللفظي

اشارة

[3] الاشتراك اللفظي هو وضع لفظ واحد مرات متعددة على معنيين أو أكثر، كلفظ (العين) الذي وضع على الباصرة والذهب والفضة... الخ والبحث في عدة نقاط:

ص: 139


1- حقائق الأصول 1: 87.

الحق وقوع الاشتراك[1]، للنقل والتبادر وعدم صحة السلب بالنسبة إلى معنيين أو أكثر للفظ واحد؛ وإن أحاله بعض(1)[2]،

لإخلاله بالتفهم المقصود من الوضع،

-------------------------

1- في وقوع الاشتراك في اللغة.

2- ردّ القول باستحالة الاشتراك مطلقاً.

3- ردّ القول باستحالة الاشتراك في القرآن فقط مع إمكانه في غير القرآن.

4- ردّ القول بوجوب الاشتراك.

1- وقوع الاشتراك في اللغة

[1] أي: الاشتراك اللفظي، أما الاشتراك المعنوي فلا إشكال في وقوعه، ومعنى الاشتراك المعنوي أن يوضع لفظ واحد لمعنى واحد، ويكون لذلك المعنى مصاديق متعددة، كلفظة الإنسان.

وقد استدل المصنف لوقوع الاشتراك اللفظي بثلاثة أدلة:

الأول: نقل أهل اللغة، مما يوجب القطع في وقوع الاشتراك.

إن قلت: ان المصنف لم يذكر تنصيص أهل اللغة ضمن علائم الحقيقة، فكيف يستدل به هنا؟

قلت: النقل هنا أوجب القطع، فالدليل هو القطع، وليس التنصيص بنفسه، فتأمل.

الثاني: التبادر، فمن لفظة (العين) مثلاً يتبادر كل معانيها.

الثالث: عدم صحة السلب، فلا يصح القول: إنّ الذهب ليس بعين، أو الباصرة ليست بعين... وهكذا.

2- رد القول بالاستحالة

[2] أي: قالوا باستحالة الاشتراك، أي: الاستحالة الوقوعية بعد وضوح عدم

ص: 140


1- مفاتيح الأصول: 23.

لخفاء القرائن. لمنع الإخلال[1] أولاً، لإمكان الاتكال على القرائن الواضحة، ومنع كونه مخلاً بالحكمة ثانياً، لتعلق الغرض بالإجمال أحياناً.

كما[2] أن استعمال المشترك في القرآن ليس بمحال كما توهم(1)،

لأجل[3] لزوم التطويل بلا طائل مع الاتكال على القرائن، والإجمال[4] في المقال لو لا الاتكال

-------------------------

استحالته ذاتاً، واستدلوا لذلك: بأن الاشتراك خلاف حكمة الوضع - وهي التفهيم - ولا يمكن التفهيم باللفظ المشترك لخفاء القرائن في كثير من الاحيان، «لإخلاله» أي: الاشتراك.

[1] أي: وهذا فاسد لجهتين:

الأولى: إنه يمكن الاعتماد على القرائن الواضحة، مما لا يبقى معها إجمال في المقصود، فالدليل أخص من المدعى.

الثانية: إن الإجمال ليس خلاف حكمة الوضع، بل قد يتعلق غرض العقلاء بإجمال كلامهم.

3- وقوع الاشتراك في القرآن

[2] حيث زعموا أن الاشتراك وإن كان ممكناً وواقعاً في اللغة والعرف، لكنه مستحيل في القرآن.

واستدلوا لذلك بأنه إمّا تُنصب قرينة أو لا تُنصب.

والأول: موجب للتطويل بلا فائدة، وهذا باطل؛ لأن القرآن مبني على الفصاحة، والإيجاز من الفصاحة، فإذا أمكن الإتيان بلفظ واحد دال على المعنى لا وجه للإتيان بلفظين - المشترك مع قرينة - .

والثاني: موجب لإجمال المراد، وهو لا يليق بالقرآن الذي أنزل لهداية الناس.

[3] هذا الشق الأول - وهو إيضاح المراد عبر القرينة - .

[4] هذا الشق الثاني - وهو عدم الإتيان بالقرينة - .

ص: 141


1- الفصول الغروية: 31.

عليها، وكلاهما غير لائق بكلامه تعالى، كما لا يخفى. وذلك[1] لعدم لزوم التطويل في ما كان الاتكال على حال أو مقال أتي به لغرض آخر[2]؛ ومنع[3] كون الإجمال غير لائق بكلامه تعالى مع كونه مما يتعلق به الغرض، وإلاّ[4] لما وقع المشتبه في كلامه، وقد أخبر في كتابه بوقوعه فيه، قال الله تعالى: {مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ}(1).

-------------------------

[1] تعليل لعدم استحالته في القرآن، ورد دليل الاستحالة: أما الشق الأول، وهو التطويل بلا طائل، ففيه: إن القرائن قد تكون حالية فلا تطويل، كما أن القرينة اللفظية قد يؤتى بها لغرض آخر، وقرينيتها تكون بالملازمة، فيكون ذكرها بفائدة، كقوله تعالى: {عَيۡنٗا يَشۡرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفۡجِيرٗا}(2) حيث جاء تعالى بلفظ (يشرب) بغرض بيان نعيم أهل الجنة، وهذه اللفظة بالتبع صارت قرينة لتعيين المراد من قوله (عيناً).

[2] غير تعيين المراد.

[3] أي: وأما الشق الثاني - وهو إجمال المراد - ففيه: إنه يليق بكلامه تعالى؛ إذ قد يتعلق الغرض بالإجمال؛ ولذا كانت آيات متشابهة في القرآن الكريم. «كونه» أي: كون الإجمال.

[4] أي: وإن لم يكن الإجمال لائقاً بكلامه لما كانت متشابهات في القرآن، ومن المعلوم وقوع المتشابه في القرآن.

ولا يخفى أن للمتشابه فوائد مهمة، منها: اضطرار الناس للرجوع إلى الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ والعترة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ليفسروا لهم، وكذا امتحان الناس، وغير ذلك.

ص: 142


1- سورة آل عمران، الآية: 7.
2- سورة الإنسان، الآية: 6.

وربما توهم(1)[1]

وجوب وقوع الاشتراك في اللغات، لأجل عدم تناهي المعاني وتناهي الألفاظ المركبات[2]، فلابد من الاشتراك فيها.

وهو فاسد[3]، لوضوح امتناع[4] الاشتراك في هذه المعاني، لاستدعائه الأوضاع الغير(2)

المتناهية؛

-------------------------

4- ردّ القول بوجوب الاشتراك

[1] حاصله: وجوب الاشتراك في اللغات؛ لأن الألفاظ متناهية، والمعاني غير متناهية، ولابد من الدلالة على تلك المعاني غير المتناهية، ولا طريق إلاّ بالاشتراك اللفظي.

[2] أي: المركبة من الحروف الهجائية، «فيها» في الألفاظ.

[3] أي: هذا التوهم - بوجوب الاشتراك - باطل لجهات متعددة:

الأولى: إن لازم كلامه هو عدم تناهي الأوضاع للدلالة على المعاني غير المتناهية، وهذا مستحيل؛ لأن الوضع من الإنسان المتناهي، فيستحيل صدور غير المتناهي عنه، هذا مضافاً إلى ضرورة تناهي الألفاظ المشتركة، بل هي قليلة جداً.

الثانية: لو فرض عدم تناهي الأوضاع - لصدورها من الله تعالى بناءً على كونه الواضع - فلا فائدة في الأوضاع غير المتناهية؛ وذلك لأن حاجة البشر إنما هي إلى مقدار متناهٍ من المعاني.

الثالثة: منع عدم تناهي المعاني؛ وذلك لأن الكليات متناهية، فالوضع للكليات - التي تنطبق على مصاديق كثيرة - يُغنينا عن الوضع لجزئيات المعاني.

الرابعة: يمكن استعمال الألفاظ مجازاً، فإذا لم تفِ الألفاظ بالمعاني أمكن استعمال تلك الألفاظ مجازاً في المعاني التي لا لفظ لها.

[4] هذا الجواب الأول، «استدعائه» أي: الاشتراك.

ص: 143


1- الفصول الغروية: 31.
2- هكذا في بعض النسخ، والصحيح «غير المتناهية».

ولو سلّم[1] لم يكد يجدي إلاّ في مقدارٍ متناهٍ؛ مضافاً[2] إلى تناهي المعاني الكلية، وجزئياتها وإن كانت غير متناهية إلاّ أن وضع الألفاظ بإزاء كلياتها يغني عن وضع لفظ بإزائها، كما لا يخفى؛ مع[3] أن المجاز باب واسع، فافهم[4].

الثاني عشر[5]:

-------------------------

[1] هذا الجواب الثاني، أي: لو سلمنا بأن صدور غير المتناهي من الواضع ممكن، «لم يكد» غير المتناهي، «مقدار متناه» من المعاني.

[2] هذا الجواب الثالث، «جزئياتها» أي: جزئيات الكليات «بإزائها» أي: بإزاء الجزئيات.

[3] هذا الجواب الرابع.

[4] لعله إشاره إلى عدم تناهي المركبات، فلا يشترط إفهام اللفظ عبر وضع مستقل لكل معنى، بل يمكن إفهام كثير من المعاني عبر تركيب الكلمات، مثلاً: الروائح كثيرة ولم يوضع لها لفظ خاص، ومع ذلك يمكن عبر الإضافة إفهام أنواعها، كأن يقول رائحة اللحم، رائحة الخبز... الخ.

أو إشارة إلى عدم الحاجة إلى هذا البحث بعد وقوع الاشتراك قليلاً في اللغات، وضرورة وقوعه في القرآن الكريم، فجميع الأدلة في عدم إمكانه أو عدم وقوعه مغالطة ينبغي أن لا يُعتنى بها.

الأمر الثاني عشر في استعمال اللفظ في أكثر من معنى

اشارة

[5] إذا كان اللفظ موضوعاً لمعنيين أو أكثر، كالعين الجارية والباصرة، فهل يجوز استعمال لفظ واحد وإرادة المعنيين أو المعاني؟

وكذلك هل يجوز استعمال لفظ واحد وإرادة معناه الحقيقي والمجازي معاً؟

وقبل الخوض في البحث لابد من تمهيد مقدمتين:

المقدمة الأولى: ليس الكلام هنا في المشترك المعنوي، فإن استعمال لفظه وإرادة جميع الأفراد جائز بلا إشكال، مثل لفظ: (الإنسان) يراد به القدر المشترك بين أفراده.

ص: 144

-------------------------

ولا في المركبات التي تتكوّن من عدة أجزاء، ثم يطلق اللفظ على ذلك المركب، كالدار، حيث تطلق على المركب من أجزاء كثيرة، فهذا أيضاً لا إشكال فيه.

وإنما الكلام هنا في استعمال لفظ واحد وإرادة معنيين مستقلين، كالعين في الجارية والباصرة، والأسد في المفترس والرجل الشجاع.

المقدمة الثانية: في الاستعمال، وقد مرّ سابقاً بحث الوضع، وهو عمل الواضع، بأن يختار لفظاً فيضعه على معنى.

ونبحث الآن عن الاستعمال، بأن يستعمل الناس اللفظ الموضوع لمعنى في ذلك المعنى حقيقةً أو في غير مجازاً.

قد يقال: إن الاستعمال هو جعل اللفظ علامة لإرادة المعنى، فكلّما أراد المتكلم إفهام معنى للسامع جعل اللفظ علامة على بيان مراده.

ومن الواضح جواز جعل علامة واحدة لشيئين، كالدخان الذي هو علامة النار والطبخ والضيف وأمثال ذلك.

لكن الصحيح أن اللفظ يُوجِد المعنى في ذهن السامع، فذهن السامع خالٍ عن المعنى، ولكنه بمجرد سماعه اللفظ يُوجَد المعنى في ذهنه.

وسبب ذلك أن اللفظ صار مرآة للمعنى بحيث يكون اللفظ مغفولاً عنه، وإنما يكون كل التوجه إلى المعنى؛ ولذا يسري حسن أو قبح اللفظ إلى المعنى.

والحاصل: إن حقيقة الاستعمال هي جعل اللفظ فانياً في المعنى بحيث يكون اللفظ وجوداً للمعنى؛ ولذا يكون اللفظ مغفولاً عنه، ويكون كل التوجه إلى المعنى.

بعد هاتين المقدمتين يتبين استحالة استعمال اللفظ في أكثر من معنى - كما سيأتي توضيحه - .

ص: 145

إنه قد اختلفوا في جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى على سبيل الانفراد والاستقلال[1] - بأن يراد منه كل واحد كما إذا لم يستعمل إلاّ فيه[2] - على أقوال[3].

أظهرها عدم جواز الاستعمال في الأكثر عقلاً. وبيانه: إنّ حقيقة الاستعمال[4] ليس مجرد جعل اللفظ علامةً لإرادة المعنى، بل جعله وجهاً[5] وعنواناً له، بل بوجهٍ نفسه[6] كأنه الملقى[7] ولذا[8] يسري إليه قبحه أو حسنه، كما لا يخفى.

-------------------------

[1] هذا القيد لإخراج المشترك المعنوي، ولإخراج المركبات، كما تمّ توضيحه في المقدمة الأولى، «بأن يراد» بيان لمعنى الاستقلال والانفراد، «منه» من اللفظ، «كل واحد» من المعنيين أو المعاني.

[2] لم يستعمل اللفظ إلاّ في ذلك المعنى الواحد فقط.

[3] يذكر المصنف - هنا - من الأقوال(1):

1- الاستحالة العقلية، وهو مختار المصنف.

2- جوازه عقلاً، وعدم وقوعه خارجاً؛ وذلك لشرط الواضع، وهو مختار المحقق القمي.

3- جوازه في المفرد مجازاً، وفي التثنية والجمع حقيقة، وهو مختار صاحب المعالم.

[4] بيان للمقدمة الثانية.

[5] أي: جعل اللفظ وجهاً للمعنى، بمعنى جعل اللفظ وجوداً للمعنى.

[6] أي: بل اللفظ بوجه صحيح يكون نفس المعنى، أي: يكون مرتبة من مراتب وجود المعنى.

[7] أي: الملقى عبر التلفظ يكون نفس المعنى، مثلاً: من يريد إفهام القلم، فتارة يأتي بالقلم نفسه، وتارة يأتي بلفظ (ق ل م)، فكأنّ اللفظ نفس المعنى.

[8] أي: لأن اللفظ صار نفس المعنى، نجد أن آثار المعنى تكون للّفظ أيضاً، مثلاً: حسن المعنى يسري إلى اللفظ، وكذا قبحه.

ص: 146


1- الفصول الغروية: 54؛ قوانين الأصول 1: 70.

ولا يكاد[1] يمكن جعل اللفظ كذلك[2] إلاّ لمعنى واحد، ضرورة[3] أن لحاظه هكذا[3] في إرادة معنى ينافي لحاظه كذلك في إرادة الآخر، حيث إنّ لحاظه كذلك[5] لا يكاد يكون إلاّ بتبع لحاظ المعنى فانياً فيه فناء الوجه في ذي الوجه والعنوان في المعنون[6]، ومعه[7] كيف يمكن إرادة معنى آخر معه كذلك في استعمال واحد؟ ومع استلزامه[8] للحاظ آخر غير لحاظه كذلك في هذا الحال.

-------------------------

[1] أي: بعد هاتين المقدمتين اتضح أن استعمال اللفظ في أكثر من معنى محال؛ إذ لا يعقل فناء شيء واحد في شيئين؛ لأن ذلك مستلزم اجتماع لحاظين؛ وذلك محال؛ لأن اللحاظين متضادان فلا يمكن اجتماعهما في شيء واحد.

وبعبارة أخرى: إن اللفظ حينما يكون بتمامه وجهاً لتمام المعنى وفانياً فيه، فلا يبقى شيء لكي يجعل بتمامه وجهاً للمعنى الآخر.

[2] أي: لا يمكن جعل اللفظ وجهاً وعنواناً إلاّ لمعنى واحد فقط؛ إذ لا يعقل فناء شيء واحد في شيئين.

[3] دليل الاستحالة: وهو اجتماع لحاظين في شيء واحد، وهو محال.

[4] أي: لحاظ اللفظ، «هكذا» أي: وجهاً وفانياً، «إرادة معنى» واحد، «لحاظه» لحاظ ذلك اللفظ، «كذلك» وجهاً وفانياً، «الآخر» المعنى الآخر.

[5] حاصله: إن لحاظ اللفظ فانياً في المعنى الأول يُوجب عدم بقاء شيء ليكون فانياً في المعنى الثاني، «لحاظه» لحاظ اللفظ، «كذلك» وجهاً.

[6] عطف تفسيري، فالوجه وذي الوجه بنفس معنى العنوان والمعنون، أي: المعنى الذي جعل اللفظ عنواناً ووجهاً له.

[7] أي: مع لحاظ اللفظ فانياً في المعنى، «معه» مع المعنى الأول، «كذلك» بحيث يكون اللفظ فانياً في المعنى الثاني أيضاً.

[8] هذا بيان لوجه الاستحالة، وحاصله: إن ذلك يستلزم اجتماع اللحاظين

ص: 147

وبالجملة لا يكاد يمكن في حال استعمال واحد، لحاظه وجهاً لمعنيين وفانياً في الاثنين، إلاّ أن يكون اللاحظ أحول العينين[1].

فانقدح بذلك[2] امتناع استعمال اللفظ مطلقاً[3] - مفرداً كان أو غيره - في أكثر من معنى، بنحو الحقيقة أو المجاز.

ولو لا امتناعه[4]

-------------------------

في شيء واحد، وذلك محال - كما مرّ تقريبه - «استلزامه» استلزام استعمال اللفظ في المعنى الثاني، «غير لحاظه» اللفظ، «كذلك» فانياً في المعنى الأول.

[1] فيرى لفظين، فيكون كل لفظ فانياً في معنى!

[2] بامتناع إرادة معنيين من لفظ واحد.

[3] شَرَح قوله: (مطلقاً) بقوله: (مفرداً...) و(بنحو الحقيقة...) خلافاً لصاحب المعالم(1) حيث جوّزه في المفرد مجازاً، وفي التثنية والجمع حقيقةً.

[4] أي: الوجه في عدم جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى هو استحالة ذلك، ولو لا الاستحالة لجاز ذلك.

أما ما ذهب إليه صاحب المعالم من أن اللفظ موضوع للمعنى بقيد الوحدة، فاستعماله في معنيين إلغاء لقيد الوحدة فيكون مجازاً؛ لأنه استعمال اللفظ في غير ما وضع له. فغير صحيح؛ لأن (الوحدة) لم تُؤخذ في المعاني أصلاً، مثلاً: لفظ (الإنسان) وضع للحيوان الناطق، وليس المعنى الحيوان الناطق مقيداً بالوحدة كما هو واضح.

وكذا ما ذهب إليه المحقق القمي من أن اللفظ موضوع للمعنى في حال الوحدة، فلا يجوز استعماله في معنيين؛ لأن اللغات توقيفية فلابد من مراعاة الوحدة في حال الاستعمال.

وهذا أيضاً غير صحيح؛ لأن حالات الوضع غير دخيلة في المعنى، ولا تُقيّده،

ص: 148


1- معالم الدين: 38-39.

فلا وجه لعدم جوازه[1]، فإنّ اعتبار الوحدة في الموضوع له[2] واضح المنع[3].

وكون الوضع في حال وحدة[4] المعنى وتوقيفيته[5] لا يقتضي عدم الجواز بعد ما لم تكن الوحدة قيداً للوضع ولا للموضوع له، كما لا يخفى.

ثم لو تنزّلنا عن ذلك[6] فلا وجه للتفصيل بالجواز على نحو الحقيقة في التثنية

-------------------------

مثلاً: لو كان الوضع في الليل فهذا لا يوجب عدم جواز الاستعمال في النهار، كذلك الوضع في حال الانفراد لا يوجب عدم جواز الاستعمال في غير حال الانفراد.

[1] أي: لعدم جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

[2] كما ذهب إليه صاحب المعالم.

[3] لعدم الدليل على اعتبار الواضع قيد الوحدة، بل نُلاحظ في الأوضاع المختلفة - كتسمية المواليد - الغفلة عن قيد الوحدة.

بل قد يقال: إنه لو أريد لحاظ المستعملين فإن هذا اللحاظ يمتنع أخذه في الوضع؛ لأن الاستعمال متأخر عن الوضع، فلا يمكن أخذه في الموضوع له.

[4] كما ذهب إليه المحقق القمي(1).

[5] أي: توقيفية الوضع، وهذا دليل المحقق القمي، كما شرحناه آنفا، «لا يقتضي...» بيان للجواب.

[6] أي: عن الاستحالة العقلية، وهذا شروع للإشكال على تفصيل صاحب المعالم بين استعمال المفرد في أكثر من معنى فيكون مجازاً، وبين استعمال التثنية والجمع في الأكثر فيكون حقيقة.

واستدلال صاحب المعالم(2)

من شقين:

1- إنّ لفظ المفرد موضوع للمعنى بقيد الوحدة، فاستعماله في أكثر من واحد

ص: 149


1- قوانين الأصول 1: 70.
2- معالم الدين: 39.

والجمع، وعلى نحو المجاز في المفرد، مستدلاً على كونه[1] بنحو الحقيقة فيهما لكونهما بمنزلة تكرار اللفظ، وبنحو المجاز فيه[2] لكونه موضوعاً للمعنى بقيد الوحدة، فإذا استعمل في الأكثر لزم إلغاء قيد الوحدة، فيكون مستعملاً في جزء المعنى[3] بعلاقة الكلّ والجزء، فيكون مجازاً(1).

وذلك[4] لوضوح أن الألفاظ لا تكون موضوعة إلاّ لنفس المعاني بلا ملاحظة قيد الوحدة[5]، وإلاّ[6] لما جاز الاستعمال في الأكثر، لأن الأكثر ليس جزء المقيد بالوحدة، بل يباينه مباينة الشيء بشرط شيء، والشيء بشرط لا، كما لا يخفى.

-------------------------

هو إلغاء لقيد الوحدة، فيكون استعمال اللفظ في جزء المعنى وهو مجاز، والعلاقة المصححة لهذا الاستعمال هي علاقة الكل والجزء.

2- وإن لفظ التثنية والجمع في قوة تكرار المفرد، فلفظ (عينان) في قوة قولك: (عين وعين) فكل لفظ استعمل في معناه الحقيقي، أي: المعنى بقيد الوحدة.

[1] كون اللفظ، و«فيهما» «لكونهما» أي: التثنية والجمع.

[2] في المفرد، «لكونه» المفرد.

[3] لأن المعنى مركب من مفهوم الشيء مقيداً بالوحدة.

[4] شروع في رد التفصيل، «وذلك» الذي قلناه بأنه (لا وجه للتفصيل... الخ)، وحاصله: أما الشق الأول، فيرد عليه إشكالان:

الإشكال الأول: إنّ قيد الوحدة ليست قيداً للمعنى أصلاً - لا بنحو الجزئية ولا بنحو الشرطية - فإن الألفاظ موضوعة لنفس المعنى بلا هذا القيد، والدليل هو تبادر المعنى فقط، وعدم تبادر قيد الوحدة أصلاً.

[5] عبارة «بلا ملاحظة قيد الوحدة» توضيح لقوله: (نفس المعاني).

[6] أي: إن لم يكن اللفظ موضوعاً لنفس المعنى، بل كان موضوعاً للمعنى بقيد الوحدة.

ص: 150


1- معالم الدين: 39.

والتثنية والجمع[1] وإن كانا بمنزلة التكرار في اللفظ، إلاّ أن الظاهر أنّ اللفظ

-------------------------

وهذا الإشكال الثاني، وحاصله: إنه لو فرض أن الألفاظ وضعت للمعاني مع قيد الوحدة كان لازم ذلك عدم جواز استعمال الألفاظ في أكثر من معنى حتى مجازاً؛ وذلك لعدم العلاقة المُصحِّحة للاستعمال المجازي؛ لتباين المعنى بقيد الوحدة مع المعنى بقيد الانضمام، فالمعنى بقيد الوحدة هو (بشرط لا)، والمعنى بقيد الانضمام هو (بشرط شيء) ومن المعلوم التباين بينهما، فلا يكون من قبيل علاقة الكل والجزء.

وبعبارة أخرى: (المعنى بقيد الانضمام) ليس جزءاً من (المعنى بقيد الوحدة)، بل هو مباين له.

[1] شروع في ردّ الشق الثاني، فإنه يرد عليه إشكالان:

الإشكال الأول: إن المتبادر من التثنية والجمع هو تكرار المعنى الواحد، لا أنه فردان لمعنيين، مثلاً: (عينان) يتبادر منه فردان من المعنى الواحد كالباصرة، لا فردان من معنيين كالباصرة والجارية، فإن ذلك خلاف المتبادر، فيكون مجازاً لا حقيقة.

إن قلت: إن التثنية في الأعلام الشخصية تكرار لمعنيين، حيث إنه لا معنى كلّي للأعلام، بل كل لفظ له معنى يغاير معنى اللفظ الآخر، مثلاً: (زيدان) يراد به معنيان، هما: زيد بن عمرو، وزيد بن خالد - مثلاً - .

قلت: التثنية في الأعلام بتأويل المسمى، أي: فردان من المسمى بزيد، فنفرض كلياً اعتبارياً هو عنوان (المسمى بزيد) ثم نُكرِّر هذا المعنى بلفظ التثنية. هذا أولاً.

وثانياً: لو فرض عدم الحاجة إلى التأويل إلى (المسمى بكذا) بل قلنا بكفاية الاتحاد في اللفظ في صحة التثنية على نحو الحقيقة، فنقول: إن ذلك ليس من استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

ص: 151

فيهما[1] كأنه كرّر وأريد من كل لفظ فرد من أفراد معناه، لا أنه أريد منه معنى من معانيه. فإذا قيل مثلاً: (جئني بعينين) أريد فردان من العين الجارية، لا العين الجارية والعين الباكية.

والتثنية والجمع في الأعلام إنما هو بتأويل المفرد إلى المسمى بها[2]. مع أنه[3] لو قيل بعدم التأويل وكفاية الاتحاد في اللفظ في استعمالهما[4] حقيقة، بحيث جاز إرادة عين جارية وعين باكية من تثنية العين حقيقةً، لما كان هذا من باب استعمال اللفظ في الأكثر، لأنّ هيئتهما[5] إنما تدل على إرادة المتعدد مما يراد من مفردهما، فيكون استعمالهما وإرادة المتعدد من معانيه[6] استعمالهما في معنى واحد، كما إذا استعملا[7] وأريد المتعدد من معنى واحد منهما، كما لا يخفى.

-------------------------

[1] في التثنية والجمع، «كأنّه» كأنّ اللفظ، «أفراد معناه» الواحد لا أفراد معنيين أو معاني، «أنه» أن اللفظ، «منه» من اللفظ.

[2] أي: المفرد الذي تمّت تثنيته هو مأوّل إلى (المسمى بزيد) مثلاً، وهو جامع عنواني اعتباري.

[3] الإشكال الثاني - على الشق الثاني من استدلال صاحب المعالم - وحاصله: إنه لو قلنا بكفاية الاتحاد اللفظي في جواز التثنية والجمع حقيقة - حتى مع اختلاف المعنى - فليس هذا من استعمال اللفظ في أكثر من معنى، بل هو استعمال اللفظ في معنى واحد؛ لأن التثنية وضعت للاثنين، وهنا استعملنا لفظ التثنية في معناه الموضوع له، فليس استعمالاً للّفظ في أكثر من معنى، وكذلك في الجمع.

[4] استعمال التثنية والجمع على نحو الحقيقة لا المجاز، «هذا» أي: هذا الاستعمال.

[5] أي: هيئة التثنية والجمع، «مما يراد» أي: من المعنى الذي يراد.

[6] أي: معاني المفرد.

[7] أي: فلا يكون - حينئذٍ - فرق في استعمال لفظ التثنية والجمع بين إرادة أفراد

ص: 152

نعم[1] لو أريد - مثلاً - من عينين[2] فردان من الجارية وفردان من الباكية كان من استعمال العينين في المعنيين، إلاّ أن حديث[3] التكرار لا يكاد يجدي في ذلك[4] أصلاً، فإن فيه إلغاء قيد الوحدة المعتبرة أيضاً، ضرورة أن التثنية عنده إنما تكون لمعنيين أو لفردين بقيد الوحدة، والفرق[5] بينها وبين المفرد إنما يكون في أنه موضوع

-------------------------

متعددة من معنى واحد، وبين أفراد من معانٍ مختلفة، فكلاهما استعمال اللفظ في المعنى الموضوع له، وليس استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

[1] أي: يكون استعمال التثنية من استعمال اللفظ وإرادة أكثر من معنى، في صورة إرادة أربعة أفراد - مثلاً - كما لو أراد فردين من العين الجارية، وفردين من الباكية في قوله: (عينان)، لأنها بمنزلة (عين وعين) والأولى أريد بها فردان من الجارية، والثانية أريد بها فردان من الباكية، فكان من استعمال اللفظ وإرادة أكثر من معنى.

[2] أي: من لفظ (عينين)

[3] أي: في هذه الصورة (وهي إرادة فردين من الجارية وفردين من الباكية) لا يكون استعمال اللفظ في معناه الحقيقي - خلافاً لما ذهب إليه صاحب المعالم - وذلك لأن (عينين) هي تكرار عين مرتين، فكل (عين) دلت على فردين، وفي ذلك إلغاء لقيد الوحدة.

[4] أي: في كون الاستعمال حقيقياً، «فيه» استعمال التثنية في أربعة أفراد، «أيضاً» كما في المفرد إذا استعمل وأريد أكثر من معنى، «عنده» عند صاحب المعالم.

[5] أي: بناء على كلام صاحب المعالم فإنّ قيد الوحدة مأخوذة، سواء في المفرد أم في المكرر في التثنية، والفرق بين المفرد وبين مكرر التثنية غير فارق، ففي المفرد يراد من اللفظ الطبيعة بقيد الوحدة، وفي التثنية يراد تكرار الفرد مع قيد الوحدة، أو فردين من معنيين بقيد الوحدة، «بينها» بين التثنية، «أنه» أن المفرد، «هي» التثنية، «منها» من الطبيعة.

ص: 153

للطبيعة، وهي موضوعة لفردين منها أو معنيين، كما هو أوضح من أن يخفى.

وهم ودفع: لعلّك تتوهم[1] أن الأخبار الدالة على أن للقرآن بطوناً سبعة(1) أو سبعين[2] تدل على وقوع استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد فضلاً عن جوازه.

ولكنك غفلت عن أنه لا دلالة لها[3] أصلاً على أن إرادتها كان من باب إرادة المعنى من اللفظ، فلعله[4] كان بإرادتها في أنفسها حال الاستعمال في المعنى، لا من

-------------------------

وهم ودفع

[1] حاصل الإشكال: إنه قد دلت الروايات على أن للقرآن ظهراً بطناً، فكما يراد الظاهر من ألفاظه كذلك يراد بطنه، وهذا من استعمال اللفظ في أكثر من معنى، فيدل على إمكانه؛ لأن الوقوع أدل دليل على الإمكان.

والجواب من وجهين:

الأول: لعل اللفظ يدل على الظاهر، وأما الباطن فهو أريد بنفسه - من غير دلالة اللفظ عليه - لكن إرادته كانت مقارنة لإرادة الظاهر من اللفظ.

الثاني: أن يكون البطن من لوازم المعنى الظاهر، فإذن لم يستعمل اللفظ إلاّ في المعنى الظاهر، ولازمه كانت تلك البطون، ومن المعلوم أن اللفظ غير مستعمل في اللوازم، كما لو قال: (جاء الحاج) ولازم مجيئه الضيافة، فلم يستعمل اللفظ في الضيافة، بل استعمل في معناه الظاهر وهو مجيء الحاج، لكن يُفهم اللازم من غير أن يكون استعمال اللفظ فيه.

[2] قيل: إن الروايات دالة على سبعة دون سبعين، «جوازه» جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

[3] أي: للأخبار، «ارادتها» أي: إرادة البطون.

[4] بيان الجواب الأول، والضمير للشأن، «بإرادتها» البطون.

ص: 154


1- عوالي اللئالي 4: 107.

اللفظ كما إذا استعمل فيها[1]، أو كان المراد[2] من البطون لوازم معناه المستعمل فيه اللفظ، وإن كان أفهامنا قاصرة عن إدراكها[3].

الثالث عشر: إنه اختلفوا[4] في أن المشتق حقيقة في خصوص ما تلبس بالمبدأ[5] في الحال[6] أو في ما يعمه وما انقضى عنه على أقوال(1)،

بعد الاتفاق على كونه[7] مجازاً في ما يتلبس به في الاستقبال.

-------------------------

[1] أي: ليست البطون مرادة من اللفظ بحيث يكون اللفظ مستعملاً فيها.

[2] بيان الجواب الثاني «معناه» معنى اللفظ، الذي ذلك المعنى استعمل اللفظ فيه.

[3] إدراك تلك اللوازم؛ وذلك لأن الله تعالى أفاض علمها إلى حججه عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ حصراً.

الأمر الثالث عشر بحث المشتق

اشارة

[4] الغرض هو تحرير محل النزاع، فيقال: مثل: (ناصر) مشتق، ويطلق في ثلاث حالات:

1- من نصر في الماضي، وهنا محل الخلاف بأن استعمال (ناصر) على من صدر منه النصر سابقاً هل هو استعمالاً حقيقياً أم مجازياً.

2- من هو مشغول بالنصر حالاً، ولا إشكال في أن الاستعمال فيه حقيقي.

3- من سينصر في المستقبل، وهذا لا إشكال في كونه مجازاً لعدم اتصاف الذات بالمبدأ.

[5] أي ارتباط المبدأ بالذات، وإنّما عبر بالتلبس، لأن أنحاء ارتباط الذات بالمبدأ - أي المصدر - مختلفة، كما سيأتي بعد قليل.

[6] أي حال النسبة - كما سيأتي توضيحه - «يعمّه» أي يعمّ الحال والماضي، فيكون المشتق موضوعاً لكليهما.

[7] كون المشتق، «به» بالمبدأ.

ص: 155


1- نهاية الدراية 1: 113.

وقبل الخوض في المسألة، وتفصيل الأقوال فيها، وبيان الاستدلال عليها ينبغي تقديم أمور:

أحدها[1]: إنَّ المراد بالمشتق هاهنا ليس مطلق المشتقات، بل خصوص ما يجري منها على الذوات[2] مما يكون مفهومه[3] منتزعاً عن الذات بملاحظة[4] اتصافها

-------------------------

الأمر الأول: معنى المشتق

[1] لا يخفى أن هناك عموماً من وجه بين المشتق الأصولي، والمشتق الصرفي؛ لأن المشتق في الصرف هو كل ما أخذ من المصدر، سواء كان فعلاً أم اسماً كضارب ويضرب، ولا يطلق على الجامد الذي لا مصدر له كزيد وزوج ونحوهما.

والمشتق الأصولي هو الذات الذي جرى عليها المبدأ، فلا يشمل الأفعال؛ لأنها ليست للذات، وقد يشمل بعض الجامدات، مثل: (زوج) فإنه اسم جامد، ولكن معناه ذات تلبست بالزوجيّة.

فاتضح أن بين المشتق الصرفي والمشتق الأصولي عموماً من وجه، فيجتمعان في الأسامي المشتقة من المصدر، كاسماء الفاعل والمفعول والآلة... الخ. ويفترق الصرفي في الأفعال، ويفترق الأصولي في الجوامد التي يجري عليها المبدأ، كالزوج والرق ونحوهما.

[2] أي: ما يكون دالاً على ذات متصفة بالمبدأ، وبعبارة أخرى: ذات ينتزع عنها مفهوم المشتق؛ لاتصاف تلك الذات بمبدأ خارج عنها، ولكنه متحد معها.

[3] أي: من المشتقات التي يكون مفهومها منتزعاً عن الذات؛ لأنها ليست داخلة في الذات ولا هي أمر اعتباري، بل هي أمر حقيقي انتزاعي.

[4] أي: سبب الانتزاع هو اتصاف الذات بالمبدأ، فلا يدخل في المشتق ما كان منتزعاً عن نفس الذات بلا اتصاف بأمر خارج عنها، كالإنسانية المنتزعة عن الإنسان.

ص: 156

بالمبدأ واتحادها معه بنحوٍ من الاتحاد[1]، كان بنحو الحلول أو الانتزاع أو الصدور والإيجاد، كأسماء الفاعلين والمفعولين والصفات المشبهات، بل وصيغ المبالغة وأسماء الأزمنة والأمكنة والآلات، كما هو[2] ظاهر العنوانات وصريح بعض المحققين(1).

مع عدم صلاحية[3] ما يوجب اختصاص النزاع بالبعض إلاّ

-------------------------

[1] أي: أنحاء الاتحاد أربعة، وكيفية ذلك الاتحاد لا يوجب اختلافاً في حقيقة المشتق، وتلك الأنحاء:

1- الحلول: بأن يحلّ المبدأ في الذات، مثل زيد عالم، فالعلم حلّ في زيد.

2- الانتزاع: بأن ينتزع المبدأ عن الذات، كالسابق والفوقية والتحتية، فإنها تنتزع عن الذات باعتبار اتصافها بالسبق والفوق والتحت ونحوها.

ثم إنه يدخل في هذا النحو الأمور الاعتبارية، كالملكية والزوجية ونحوها؛ وذلك لأن المصنف لم يفرق بين الاعتبار والانتزاع، فتأمل.

3- الصدور: بأن كان الفعل قائماً بغير الفاعل، كالضارب، فإن الفعل قائم بالمضروب.

4- الإيجاد: بأن يكون الفعل قائماً بالفاعل، كالآكل والمتكلم ونحوهما.

[2] أي: عدم الفرق ظاهر عنوان البحث في كتب الأصوليين، حيث عنونوا البحث بالمشتق، وكل هذه مشتقات.

[3] احتمل صاحب الفصول(2)

تخصيص البحث باسم الفاعل وما في معناه - من الصفات المشبهة - فلا يشمل أسماء المفعول والزمان والمكان والآلة... الخ.

ومنشأ هذه الاحتمال ثلاثة وجوه:

1- التمثيل: حيث مثّلوا للمشتق باسم الفاعل وما في معناه، لكن من الواضح أن التمثيل لا يوجب حصر البحث في المُمَثَّل به.

ص: 157


1- هداية المسترشدين 1: 369.
2- الفصول الغروية: 60.

التمثيل به[1]، وهو غير صالح[2]، كما هو واضح.

فلا وجه لما زعمه بعض الأجلة[3] من الاختصاص باسم الفاعل وما بمعناه[4] من الصفات المشبهة وما يلحق بها، وخروج سائر الصفات.

ولعل منشأه[5] توهم كون ما ذكره لكل منها - من المعنى[6] - مما اتفق عليه الكل،

-------------------------

2- توهم أن المعاني التي ذكرها لتلك المشتقات هي معانٍ متفق عليها، فلا مورد للنزاع، لكن الصحيح هو أنهم قد اختلفوا في تلك المعاني أيضاً.

فتحصّل أنه لا وجه لتخصيص النزاع باسم الفاعل وما يشابهه، بل يجري في جميع المشتقات، أي: الذوات التي جرى عليها المبدأ.

3- اختلاف كيفية التلبس، وسيأتي توضيحه.

[1] أي: بذلك البعض، أي: من المشتقات.

[2] أي: التمثيل غير صالح لتخصيص البحث في المُمَثَّل به.

[3] وهو صاحب الفصول(1).

[4] مما صدر الفعل عن الفاعل أو قام به، وذلك كأسماء الفاعل والصفات المشبهة التي تكون بمعنى قيام الفعل، «وما يلحق بها» كالمصادر المستعملة بمعنى اسم الفاعل، وكالمنسوبات مثل الكوفي والبصري وأمثالهما.

[5] منشأ هذا الزعم، وهذا هو الوجه الثاني.

[6] ومن المعاني التي ذكرها متوهماً الاتفاق عليها:

1- اسم المفعول: حقيقة في الذات التي وقع عليها المبدأ في الحال.

2- اسم الزمان: حقيقة في الزمن الذي وُجِد فيه المبدأ في الحال أو الماضي، ومجاز في غيره.

3- اسم الآلة: حقيقة في ما اُعِدَّ للآليّة، أو اختص بها، سواء حصل به المبدأ أم لم يحصل.

ص: 158


1- الفصول الغروية: 60 وفيه: «أو يختص باسم الفاعل وما بمعناه كما يدل عليه تمثيلهم به...».

وهو كما ترى.

واختلاف[1] انحاء التلبّسات حسب تفاوت مبادئ المشتقات بحسب الفعلية[2] والشأنية والصناعة والملكة - حسبما نشير إليه[3] -

-------------------------

4- صيغ المبالغة: حقيقة في الذات التي كَثُرَ اتصافها بالمبدأ، ولا يعتبر الاتصاف حال النطق.

ويرد عليه: إن النزاع يجري فيها أيضاً، فاسم المكان والزمان هل هو حقيقة في المكان والزمان الذي وقع فيه الفعل حالاً أو أعمّ من الحال والماضي؟ وكذا البواقي.

[1] هذا هو الوجه الثالث للتوهم، وحاصله: إن بعض المشتقات موضوعة للأعم بالاتفاق، فهي خارجة عن حريم النزاع، مثلاً: (الخيّاط) يطلق حقيقة على من مهنته الخياطة حتى إذا لم يكن مشغولاً بالخياطة، فهذا المشتق - الخياط - موضوع للأعم من المتلبس بالمبدأ والمنقضي عنه.

ثم إن منشأ اختلاف المشتقات هو اختلاف المادة، فبعض المواد لا تطلق إلاّ على المتلبس بها، وبعضها تطلق حتى على الذي انقضت عنه.

[2] الفعلية: كالقائم والقاعد، فهي تطلق على من تلبس فعلاً بالمبدأ.

والشأنية: كالمُثمِر، فهي تطلق على الشجرة التي لها شأنية الاثمار وإن لم يخرج ثمرها بعد.

والصناعة: كالخياطة، فإنها تطلق على الذي يمتهن هذه المهنة.

والملكة: كالاجتهاد، فهي تطلق على من له ملكة الاجتهاد.

[3] هذا كلام صاحب الفصول، فقال: (إن المشتق إن كان مأخوذاً من المبادئ المتعدية إلى الغير كان حقيقة في الحال والماضي، أعني القدر المشترك بينهما، وإلاّ كان حقيقة في الحال)(1).

وقال أيضاً: (إنه قد يطلق المشتق ويراد به المتصف بشأنية المبدأ وقوته، كما يقال

ص: 159


1- الفصول الغروية: 60.

لا يوجب[1] تفاوتاً في المهم من محل النزاع[2] هاهنا، كما لا يخفى.

-------------------------

هذا الدواء نافع كذا أو مضرّ، وشجرة كذا مثمرة، والنار محرقة إلى غير ذلك. وقد يطلق ويراد به المتصف بملكة المبدأ، وباتخاذه حرفة وصناعة، كالكاتب والصانع والتاجر والشاعر ونحو ذلك. ويعتبر في المقامين حصول الشأنية والملكة والاتخاذ حرفة في الزمان الذي أطلق المشتق على الذات باعتباره، وفي الثاني خاصة سبق مزاولة مع عدم الإعراض)(1).

[1] هذا الجواب، وحاصله: إن كيفية التلبس بالمبدأ تختلف، لكن ذلك لا يوجب اختلافاً في جهة البحث. فتلبّس الذات بالمبدأ قد يكون بكيفية هي الملكة، ومن المعلوم أن التلبس بالملكة ليس بمعنى المزاولة الفعلية، فالمجتهد حتى وإن كان نائماً فإنه متلبس بالاجتهاد؛ لأن معنى تلبسه هو كونه ذا ملكه. نعم، لو زالت الملكة يكون قد انقضى عنه المبدأ.

وكذا تلبّس النجّار ليس بمعنى مزاولة النجارة فعلاً، بل بمعنى أن تكون النجارة حرفته، وهذه الحرفة تكون مستمرة ما دامه لم يُعرض عن النجارة وينشغل بالحِدادة مثلاً، والانقضاء يحصل بهجرانه النجارة وانشغاله بالحدادة مثلاً.

وكذا تلبس الشجرة بالثمرة ليس بمعنى وجود الثمرة فعلاً على الشجرة، بل بمعنى قابليتها للإثمار، وهذا الإثمار موجود حتى لو كانت الشجرة يابسة في الشتاء - مثلاً - وانقضاء المبدأ إنما يكون بزوال الشأنية... وهكذا.

فتحصل أن كيفية التلبس تختلف، وكيفية انقضاء المبدأ أيضاً تختلف، لكن ذلك لا يوجب تفاوتاً في بحث المشتق.

[2] وهو أن المشتق حقيقة في خصوص المتلبس، أم أنه حقيقة في الأعم من المتلبس ومن المنقضي عنه المبدأ.

ص: 160


1- الفصول الغروية: 60.

ثم إنه لا يبعد[1] أن يراد بالمشتق في محل النزاع مطلق ما كان مفهومه ومعناه جارياً على الذات ومنتزعاً عنها بملاحظة اتصافها بعَرَض أو عَرَضي[2] ولو كان جامداً، كالزوج والزوجة والرق والحر.

وإن أبيت[3] إلاّ عن اختصاص النزاع المعروف بالمشتق - كما هو قضية الجمود

-------------------------

[1] بيان أن المشتق الأصولي قد يطلق على أسماء وهي ليست مشتقاً صرفياً، وكما ذكرنا فإن بين المشتق الأصولي والصرفي عموماً من وجه، فالزوج مشتق أصولي ويجري فيه النزاع، مع عدم كونه مشتقاً صرفياً؛ لأنه اسم جامد.

وإنما كان مشتقاً أصولياً لأن (زوج) هو بمعنى ذات متصفة بالزوجية، فبسبب هذا الاتصاف انتزعت لفظ الزوجية وأطلقت على الذات، فيقال بعد الطلاق أو وفاة الزوجة: هل إطلاق (الزوج) عليه حقيقي، أم مجازي باعتبار انقضاء المبدأ عنه؟

وإنما يجري الكلام فيه لأن غرض البحث يجري هنا أيضاً، فعموم البحث وخصوصه يتبع عموم الغرض وخصوصه.

[2] مراد المصنف من (العَرَض) ما كان أمراً خارجياً متأصلاً قائماً بالغير، أي: الشيء الذي له وجود خارجي، كالبياض والسواد.

ومراده من (العرضي) الاعتبارات العقلائية التي ليس لها ما بإزاء في الخارج، كالزوجية والملكية.

وهذا الاصطلاح يخالف اصطلاح أهل المعقول، فإن (العرض) عندهم المبدأ كالبياض، و(العرضي) عندهم المشتق كالأبيض، كما قال السبزواري:

وعرضي

الشيء غير العرضِ

ذا

كالبياض ذاك مثل الأبيضِ(1)

ولا مشاحة في الاصطلاح.

[3] أي: إذا قيل: إنهم أرادوا المشتق الصرفي فقط، فنقول: إن ملاك البحث يجري في هذه الجوامد، بل إنَّ بعض الفقهاء أجروا بحث المشتق في لفظ (الزوجة)،

ص: 161


1- شرح المنظومة 1: 29.

على ظاهر لفظه - فهذا القسم من الجوامد أيضاً محل النزاع. كما يشهد به[1] ما عن الإيضاح في باب الرضاع، في مسألة من كانت له زوجتان كبيرتان أرضعتا زوجته الصغيرة، ما هذا لفظه: «تحرم المرضعة الأولى والصغيرة مع الدخول بالكبيرتين[2]،

-------------------------

وهذا يدل على عموم البحث أو لا أقل من وجود ملاك البحث، وهذا المقدار يكفي في تعميم البحث.

[1] إن فخر المحققين ابن العلامة(1)

أجرى البحث في لفظ (الزوجة) في مسألة الرضاع، وحاصل المسألة: إنه لو كان لرجل ثلاث زوجات: كبيرتان وصغيرة رضيعة، مع الدخول بالكبيرتين.

1- فإذا أرضعت إحدى الكبرتين هذه الصغيرة فإن الكبيرة تحرم؛ لأنها صارت أم الزوجة، وتحرم الصغيرة أيضاً لأنها صارت بنت الزوجة المدخول بها.

2- وبعد ذلك أرضعت الكبيرة الثانية الصغيرة، فإن حرمة هذه الكبيرة يتوقف على بحث المشتق؛ وذلك لأن الصغيرة قد كانت زوجة، وحين رضاعها من الثانية ليست بزوجة؛ لانفساخ نكاحها بإرضاع الأولى.

فإن قلنا: إنّ المشتق حقيقة في الأعم فالصغيرة زوجة، والكبيرة الثانية تصير أم الزوجة، فتحرم.

وإن قلنا: المشتق حقيقة في خصوص المتلبس فالصغيرة ليست بزوجة، فلا تصبح الكبيرة الثانية أماً للزوجة.

[2] بل الصحيح هو (مع الدخول بإحدى الكبيرتين) فإن الدخول بإحداهما يكفي في التحريم. أمّا تحريم الكبيرتين كلاهما فلصيرورتهما أُماً للزوجة. وأمّا تحريم الصغيرة فللدخول بأمها الرضاعية؛ لأن المدخول بها قد أرضعتها حتى لو لم تكن الأخرى مدخول بها.

ص: 162


1- إيضاح الفوائد 3: 52.

وأما المرضعة الأخيرة، ففي تحريمها خلاف، فاختار والدي المصنف وابن إدريس تحريمها، لأن هذه يصدق عليها أم زوجته، لأنه لا يشترط في المشتق بقاء المشتق منه[1]، هكذا هنا[2]»(1).

وما عن[3] المسالك في هذه المسألة: من ابتناء الحكم فيها على الخلاف في مسألة المشتق(2).

فعليه[4] كلُّ ما كان مفهومه منتزعاً عن الذات بملاحظة اتصافها بالصفات الخارجة عن الذاتيات[5]

-------------------------

[1] «المشتق منه» هو المبدأ.

[2] أي: المرضعة الثانية أرضعت الصغيرة التي كانت زوجة، وقد انقضى عنها الزوجية ف- «هكذا» قد انقضى المبدأ، «هنا» في هذه المسألة، وقيل معنى (هكذا هنا) أي: هكذا عبارة الإيضاح هنا في مسألة الرضاع!

[3] عطف على قوله: (ما عن صاحب الإيضاح).

[4] أي: بناءً على شمول بحث المشتق لبعض الجوامد.

[5] أي: بشرط أن لا يكون المبدأ ذاتياً؛ وذلك لأن الذاتي قسمان:

1- ذاتي باب الكليات الخمس، وهو الجنس والفصل.

2- ذاتي باب البرهان، وهو ما ينتزع من نفس الذات بلا ضم ضميمة، كانتزاع الإمكان من الممكن.

أما الأول: فإن انقضاء المبدأ سبب عدم صدق اللفظ قطعاً، فإذا تحوّل الإنسان إلى تراب لا يقال له إنسان قطعاً.

وأما الثاني: فلا يتصور انقضاء المبدأ؛ لامتناع انفكاك لوازم الذات عن الذات.

وأما إذا لم يكن المبدأ ذاتياً فانفكاكه عن الذات ممكن، فيمكن بقاء الذات مع

ص: 163


1- إيضاح الفوائد 3: 52.
2- مسالك الأفهام 7: 268.

- كانت عرضاً أو عرضياً[1]، كالزوجية والرقية والحرية وغيرها من الاعتبارات والإضافات[2] - كان محل النزاع وإن كان جامداً. وهذا بخلاف ما كان مفهومه منتزعاً عن مقام الذات والذاتيات[3]، فإنه لا نزاع[4] في كونه حقيقة في خصوص ما إذا كانت الذات باقية بذاتياتها.

ثانيها[5]:

-------------------------

زوال المبدأ، كالزوج حيث يمكن بقاء الرجل مع زوال الزوجية عنه.

[1] قد مرّ أن مراد المصنف من (العرض) هو ماله وجود خارجي متأصل قائم بالغير كالبياض والسواد، ومراده من (العرضي) الاعتبارات العقلائية كالزوجية ونحوها.

[2] العطف تفسيري، أو يقال: إن الفرق بينهما أن (الاعتبار) قائم بنفس المعتبر حتى لو لم يكن تصوره أو وجوده متوقفاً على الغير، و(الإضافة) متوقفة على الغير.

[3] «الذات» كالنوع وهو تمام الذات، و«الذاتي» كالجنس والفصل وهو جزء الذات، وكالإمكان وهو خارج عن الذات لكنه ملازم له.

[4] قد مرّ سبب عدم الخلاف قبل قليل.

الأمر الثاني: في اسم الزمان

[5] الغرض من عقد هذا الأمر هو بيان دخول (اسم الزمان) في النزاع، وأنّه هل وُضِع لخصوص المتلبس بالمبدأ أم للأعم؟

حيث إنه أشكل(1)

على دخول اسم الزمان في النزاع، بأن البحث إنما هو في الذات الباقية بعد انقضاء المبدأ، ولا يجري البحث مع زوال الذات.

و(الذات) في ما نحن فيه هي نفس الزمان، ومع انقضاء المبدأ تنقضي الذات أيضاً، فلا مجال للنزاع - وهو زمان انقضاء المبدأ - وذلك لأن الزمان الثاني فردٌ مباين للزمان الأول (وهو زمان التلبس).

ص: 164


1- نهاية الدراية 1: 118.

قد عرفت[1] أنه لا وجه لتخصيص النزاع ببعض المشتقات الجارية على الذوات، إلاّ أنه ربما يشكل بعدم إمكان جريانه في اسم الزمان، لأن الذات فيه[2] - وهي الزمان - بنفسه ينقضي ويتصرّم[3]. فكيف يمكن أن يقع النزاع في أن الوصف الجاري عليه حقيقةٌ في خصوص المتلبس بالمبدأ في الحال أو في ما يعم المتلبس به في المضي؟

ويمكن حل الإشكال[4]

-------------------------

ومن الواضح أنه لا يصح إطلاق وصف فرد على فرد آخر مباين، مثلاً: لو كان زيد عالماً، وعمرو جاهلاً، فلا يصح إطلاق العلم على عمرو، وهكذا في اسم الزمان، فإن الزمان الأول الذي تلبس بالمبدأ فرد، والزمان الثاني بعد انقضاء المبدأ فرد آخر مباين.

مثلاً: (المقتل) وضع لزمان القتل، فالذات هي زمان خاص والمبدأ هو القتل، ومع انقضاء القتل ينقضي زمانه أيضاً، فلم تبق الذات بعد انقضاء المبدأ كي يقال: إن إطلاق المبدأ عليها حقيقة أم مجاز.

[1] في الأمر الأول، «الجارية على الذات» أي: المحمولة على الذات، «جريانه» أي: النزاع.

[2] أي: في اسم الزمان.

[3] والزمان الثاني - بعد الانقضاء - هو فرد مباين، «الوصف» أي: المبدأ كالقتل، «الجاري عليه» على الزمان في المقتل مثلاً.

[4] حاصل الجواب: إن لفظ المشتق لم يوضع للمصداق كي يقال: إنّ مصداق اسم الزمان واحد - وهو المتلبس بالمبدأ - بل وُضع لفظ المشتق للكلي، والوضع للكلي لا ينافي انحصار المصداق في فرد واحد.

ولنذكر لذلك مثالين:

1- لفظ (الله)، قيل: هو اسم للكلي! لكنه منحصر خارجاً في فرد واحد، هو الباري تعالى، لكن لا يخفى بطلان هذا التوهّم.

ص: 165

بأن انحصار مفهوم عام بفرد - كما في المقام[1] - لا يوجب أن يكون وضع اللفظ بإزاء الفرد دون العام، وإلاّ[2] لما وقع الخلاف في ما وضع له لفظ الجلالة؛ مع أن الواجب[3] موضوع للمفهوم العام مع انحصاره فيه تبارك وتعالى.

ثالثها[4]: إنّه من الواضح روج الأفعال والمصادر المزيد فيها[5] عن حريم

-------------------------

2- (واجب الوجود) اسم للكلي، لكن لا يوجد خارجاً إلاّ فرد واحد فقط، هو الله سبحانه وتعالى.

وهنا - في اسم الزمان - يمكن أن يقال: إنّ الواضع وضع هيئة اسم الزمان للأعم، لكن خارجاً لا يوجد إلاّ مصداق واحد وهو خصوص المتلبس بالمبدأ في الحال.

[1] وهو اسم الزمان، «بإزاء الفرد» أي: انحصار الوضع في المصداق، «العام» أي: وضع الهيئة للأعم من المتلبس والمنقضي.

[2] أي: لو كان انحصار المصداق في فرد موجب للوضع لذلك الفرد دون الكلي.

[3] هذا هو المثال الثاني.

الأمر الثالث: في الأفعال والمصادر
اشارة

[4] يذكر في هذا الأمر خروج المصادر والأفعال عن البحث؛ وذلك لأن الكلام حول ما إذا كانت الذات متصفة بوصف فانقضى ذلك الوصف مع بقاء الذات، ولا تدل المصادر على الذات أصلاً، بل تدل على المبدأ فقط، كما أن الأفعال لا تدل على الذات أيضاً، بل الأفعال تدل على النسبة فقط - أي: نسبة المبدأ إلى الذات - فليس مدلولها الذات أصلاً.

والحاصل: إن المصادر المزيد فيها وكذلك الأفعال هي مشتقات نحوية، لكنها ليست بمشتقات أصولية - كما مرّ توضيحه - .

[5] إنما خصص (المزيد فيها) - كالإكرام والاستخراج - بالذكر، مع أن المصدر

ص: 166

النزاع، لكونها غير جارية على الذوات[1]، ضرورة أن المصادر المزيد فيها كالمجردة[2] في الدلالة على ما يتصف به[3] الذوات ويقوم بها[4] كما لا يخفى، وأنّ الأفعال[5] إنما تدل على قيام المبادئ بها قيام صدور أو حلول[6]، أو طلب فعلها

-------------------------

المجرد خارج عن البحث أيضاً؛ لأن المصدر المزيد فيه مشتق نحوي، فقد يتوهم دخوله في البحث؛ فلذا أراد المصنف بيان خروجه عن البحث؛ لأنه ليس بمشتق أصولي، وأما المصدر المجرد فهو مبدأ الاشتقاق - على رأي البصريين(1)

- فلا يطلق عليه (المشتق) أصلاً.

[1] أي: لا تدل على وصف في الذات؛ ولذا لا يصح حملها على الذات بنحو الحقيقة.

[2] أي: كالمصدر المجرد، مثل: (نَصْر)، فإن المصادر مطلقاً - مجردة أم مزيدة - تدل على الوصف ولا تدل على الذات، فلا تكون مشتقاً أصولياً، الذي هو الذات التي يجري عليها الوصف.

[3] «ما» أي: الوصف الذي، «به» الضمير يرجع إلى (ما) الموصولة.

[4] عطف تفسيري، أي: يقوم ذلك المبدأ بالذات.

[5] وجه خروج الأفعال عن البحث هو أن للأفعال مادة وهيئة...

أما المادة: فلا تدل إلاّ على نفس الطبيعة من حيث هي هي - وهي المبدأ - من غير دلالة على الذات.

وأما الهيئة: فلا دلالة لها إلاّ النسبة - أي: نسبة المبدأ إلى الذات - ولا دلالة لها على الذات أصلاً.

فمثل: (نَصَرَ) لا يدل على ذات أصلاً حتى يبحث فيه عن انقضاء المبدأ عن الذات.

[6] هذا في الأفعال الخبرية، وذكر الصدور والحلول إنما هو للمثال، وقد مرّ قول المصنف في صدر بحث المشتق: (كان بنحو الحلول أو الانتزاع أو الصدور أو الإيجاد).

ص: 167


1- تعليقة على معالم الأصول 2: 391.

أو تركها[1] منها على اختلافها[2].

إزاحة شبهة[3]: قد اشتهر في ألسنة النحاة(1) دلالةُ الفعل على الزمان حتى أخذوا الاقتران بها[4] في تعريفه. وهو اشتباه[5]، ضرورة عدم دلالة الأمر ولا النهي

-------------------------

[1] في الأفعال الإنشائية، كالأمر والنهي، «منها» من الذات.

[2] أي: تعدد أنحاء الأفعال:

فطلب الترك: قد يكون تنزيهياً - كالمكروه - أو تحريمياً، أو إرشادياً.

ومبادئ الأفعال: قد تكون فعلية أو شأنية أو صناعة أو ملكة - كما مرّ - .

وطلب الفعل: قد يكون بنحو الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة.

وأنحاء القيام: قد يكون صدورياً أو حلولياً أو انتزاعياً.

عدم دلالة الفعل على الزمان

[3] هذا المطلب استطراد في البحث، حيث ذكر أن الفعل لا يدخل في المشتق الأصولي، فانجرَّ الكلام إلى البحث عن حقيقة الفعل.

فقد قال النحاة: إن الفعل ما دلّ على معنى مستقل مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة، فمعنى الفعل عند النحويين مركب من معنى مستقل والزمان.

وبهذا فرّقوا بين الاسم والفعل، حيث إن الاسم ما دلّ على معنى مستقل من غير اقتران بزمان.

[4] أي: بالدلالة على الزمان، «تعريفه» تعريف الفعل.

[5] حاصل الإشكال على كلام النحاة: إن الأفعال قد تكون إنشائية - كالأمر والنهي - وقد تكون إخبارية - كالماضي والمضارع - .

أما الإنشائية: فإنها تدل على طلب الفعل أو الترك فقط، ولا دلالة لها على الزمان أصلاً، فمثل: (اُنصُر) يدلّ على طلب إيجاد النصر فقط.

ص: 168


1- شرح الرضي على الكافية 4: 5.

عليه[1]، بل على إنشاء طلب الفعل أو الترك، غاية الأمر[2] نفس الإنشاء بهما[3] في الحال، كما هو الحال[4] في الإخبار بالماضي أو المستقبل أو بغيرهما[5]

-------------------------

إن قلت: إن نفس الأمر صدر في حال التكلم.

قلت: كل الزمانيات يكون الزمان ظرفاً لها؛ لاستحالة خروج الزمانيات عن الزمان، فالزمان كالمكان هما ظرف للأجسام والأفعال الزمانيّة، لكن لم يُؤخذ الزمان ولا المكان في مدلول تلك الاجسام والأفعال. فمثل: (زيد) داخل في الزمان والمكان، لكن باعتبارهما ظرفاً له، وليسا داخلين في معنى زيد.

وكذلك اسم الفاعل مثل: (زيد ناصر) لا دلالة له على الزمان - باعتراف النحويين أنفسهم بعدم دلالة الاسم على الزمان - مع أن الزمان ظرف للنصرة، فلابد من وقوع النصر في أحد الأزمنة الثلاثة.

وأما الأفعال الخبرية - كالماضي والمضارع - : فلا تدل على الزمان أيضاً، كما سيأتي توضيحه.

[1] أي: على الزمان.

[2] دفع لتوهم وهو: إنّ الطلب وقع في الزمان الحال، أي: حال التكلّم.

والجواب: إن الزمان الحال هو ظرف وليس جزء المعنى، فكل الكلمات - من اسم أو فعل أو حرف - تصدر من المتكلم في الحال، مع وضوح عدم كون الحال جزء المعنى.

[3] أي: بالأمر والنهي، والمعنى إيجاد الطلب بالفعل والترك كان ظرفه زمان الحال.

[4] أي: الشأن في سائر الكلمات كذلك.

[5] بغير الماضي والمستقبل، كالجملة الاسمية مثل: (زيد ناصر).

ص: 169

كما لا يخفى، بل يمكن[1] منع دلالة غيرهما[2] من الأفعال على الزمان إلاّ[3] بالإطلاق والإسناد إلى الزمانيات، وإلاّ[4] لزم القول بالمجاز والتجريد[5] عند

-------------------------

[1] أي: الأفعال الإخبارية أيضاً لا تدل على الزمان؛ وذلك لوجوه - بعضها دليل وبعضها مؤيد - .

وأما الدليل فهو:

1- إن الأفعال قد تسند إلى الزمان، فيقال: (مضى الزمان)، ومن المعلوم عدم دلالة (مضى) على الزمان، وإلاّ لزم وقوع الزمان في الزمان؛ وهو محال؛ لأن الشيء لا يكون ظرفاً لنفسه.

2- يقال: (عَلِم الله)، والله سبحانه ليس في الزمان، وكذا صفاته الذاتية خارجة عن الزمان؛ لأنه سبحانه خالق الزمان، والزمان مخلوق، ويستحيل إحاطة المخلوق بالخالق.

وحينئذٍ إذا كان الزمان جزء مدلول الأفعال لزم المجاز في هذين الموردين - أي: في نسبة الفعل إلى الزمان وإلى الله - وذلك لعدم دلالة الفعل فيهما على الزمان مع كونه جزء المعنى - بناءً على هذا القول - .

مع وضوح أنا لا نرى أيّة مجازية في مثل: (مضى الزمان) و(علم الله).

[2] غير الأمر والنهي، والمراد: الأفعال الإخبارية.

[3] أي: قد تكون دلالة على الزمان بشرطين:

1- الإطلاق، بأن لم تكن قرينة على الإضافة، وسيأتي بعد قليل توضيحه.

2- الإسناد إلى الزمانيات - أي: الأجسام والأفعال التي لا تنفك عن الزمان - .

ومن الواضح أن الدلالة حينئذٍ ليست بالوضع كي يكون الزمان جزء المعنى.

[4] أي: لو قيل بدلالة الفعل على الزمان.

[5] «والتجريد» عطف تفسيري على (المجاز)؛ لأن الفعل في نفس الزمان، وكذا

ص: 170

الإسناد إلى غيرها[1] من نفس الزمان والمجردات[2].

نعم[3] ،لا يبعد أن يكون لكل من الماضي والمضارع بحسب المعنى[4] خصوصية أخرى[5] موجبة للدلالة على وقوع النسبة في الزمان الماضي في الماضي، وفي الحال أو الاستقبال في المضارع في ما كان الفاعل من الزمانيات[6].

-------------------------

في المجرد لا يدل على الزمان، فصار مجازاً؛ لعدم دلالة الكلمة على معناها الموضوعة له، بل على جزء المعنى.

[1] غير الزمانيات.

[2] أي: الموجودات التي لا تكون ماديّة، ولا يخفى أنه لا مجرد سوى الله سبحانه وتعالى، وكل المخلوقات هي أجسام - كثيفة أو لطيفة - .

[3] الزمان ليس جزء معنى الفعل، ولكن قد يدل الفعل على الزمان بالدلالة الالتزامية؛ وذلك لوجود خصوصية في تلك الأفعال تلازم الزمان. فالماضي له خصوصية التحقُّق، أي: وقوع الفعل؛ وذلك يلازم الزمان الماضي. والحال له خصوصية التلبُّس والاشتغال فعلاً؛ وذلك يلازم الزمان الحال. والمستقبل له خصوصية الترقّب، وهو يلازم الزمان القادم. وعلى كل حال لم يوضع الفعل للزمان، فليس الزمان من معناه، بل بالدلالة الالتزامية دلّ على الزمان، ومن المعلوم أن هذه الدلالة لا ترتبط بالمعنى.

[4] أي: هذه الخصوصية ترتبط بالمعنى لا باللفظ، أي: لا ارتباط لها بدلالة اللفظ لتكون بالوضع.

[5] غير خصوصية الإخبار - الذي يكون ذلك الإخبار في حال النطق - ، «للدلالة» الالتزامية، «النسبة» أي: نسبة الفعل إلى الفاعل.

[6] أي: هذه الخصوصية إنما هي في ما لو كان الذي صدر عنه الفعل من الزمانيات، وإلاّ فلو كان مجرداً، وكان الفعل من صفاته الذاتية فلا توجد تلك الخصوصية، فلا دلالة التزامية على الزمان، مثل: (علم الله)، كما مرّ توضيحه.

ص: 171

ويؤيده[1] أن المضارع يكون مشتركاً معنوياً بين الحال والاستقبال، ولا معنى له[2] إلاّ أن يكون له خصوص معنى صح انطباقه على كل منهما، لا أنه[3] يدل على مفهوم زمان يعمهما، كما أن الجملة الاسمية[4] ك- (زيد ضارب) يكون لها معنى[5] صح انطباقه على كل واحد من الأزمنة،

-------------------------

[1] هذا المؤيد الأول على عدم كون الزمان جزء معنى الفعل، وحاصله: إنّ الفعل المضارع يدل على الحال والاستقبال، مع عدم وجود جامع بينهما. ومن المعلوم أنّه لابدّ في المشترك المعنوي من وجود جامع يشترك فيه الأفراد، وهنا نتسائل: ما هو الجامع بين الحال والمستقبل؟

فإن قيل: الجامع هو نفس الزمان.

قلنا: لا يوجد زمان جامع بين الحاضر والمستقبل؛ لأن مصداق الزمان جزئي مع وضوح كون الجامع كلياً، ومفهوم الزمان عام يشمل الماضي أيضاً، مع بداهة عدم دلالة المضارع على الزمان الماضي.

ثم إن اعتبار هذا مؤيداً لأجل احتمال أن يكون الاشتراك لفظياً، بمعنى أن المضارع وضع مرّةً للحال ومرّةً أخرى للاستقبال، وفي المشترك اللفظي لا حاجة إلى الجامع، بل قد يوضع لفظ واحد لمعانٍ متباينة بأوضاع متعددة.

[2] أي: للاشتراك المعنوي، «يكون له» أي: للمضارع، والحاصل: إنّ المشترك المعنوي بحاجة إلى جامع، «انطباقه» ذلك المعنى، «منهما» من الحال والمستقبل.

[3] أي: لا يدل المضارع يدل على الزمان المطلق ليكون جامعاً.

[4] أي: ما ذكرنا من عدم دلالة الفعل على الزمان، بل الزمان يستفاد بالالتزام من الخصوصيات، كذلك نقول في الجملة الاسمية، فهي لم توضع للزمان بالاتفاق، ولكن قد تكون فيها خصوصية تسبِّب الدلالة على الزمان بالالتزام، مثل اسم الفاعل في (زيد ناصرٌ) أمس أو اليوم أو غداً.

[5] هو صدور حدث من الفاعل، ومن المعلوم أن الزمان ظرف للحدث.

مع عدم دلالتها[1] على واحد منها أصلاً، فكانت الجملة الفعلية مثلها[2].

ص: 172

وربما يؤيد ذلك[3] أن الزمان الماضي في فعله[4] وزمان الحال أو الاستقبال في المضارع لا يكون[5] ماضيا أو مستقبلاً حقيقة لا محالة، بل ربما يكون في الماضي[6] مستقبلاً حقيقة وفي المضارع ماضياً كذلك، وإنما يكون ماضياً أو مستقبلاً في فعلهما

-------------------------

[1] أي: الجملة الاسمية، «منها» من الأزمنة الثلاثة.

[2] في عدم الدلالة على الزمان وضعاً، واستفادة الزمان من الإطلاق لوجود تلك الخصوصية.

[3] هذا المؤيد الثاني على عدم كون الزمان جزء معنى الفعل، وحاصله: إنه قد تستعمل الأفعال في الزمان الإضافي، بمعنى أنه قد يستعمل الفعل الماضي في الزمان المستقبل، ولكن كونه ماضياً بالإضافة إلى شيء لاحق له من غير أن يكون مجازاً، كما يقال: (سيجيء زيد بعد سنة وقد أكمل دراسته)، فإكمال الدراسة لم يتحقق الآن، بل سيتحقق بعد أحد عشر شهراً مثلاً، ومع ذلك استعمل الفعل الماضي من غير مجازيّة؛ لأن إكمال الدراسة يقع قبل السنة، فبهذا الاعتبار استعمل الفعل الماضي.

ولو كان الفعل الماضي يدل على الزمان الماضي لكان هذا الاستعمال استعمالاً في غير ما وضع له فيكون مجازاً، مع وضوح عدم المجازيّة. وإنما جعله مؤيداً لاحتمال أن يكون مرادهم دلالة الفعل على الزمان أعم من كونه حقيقياً أم إضافياً.

[4] أي: في الفعل الماضي.

[5] أي: قد لا يكون الزمان الماضي حقيقة، بل يتحقّق في الزمان المستقبل، وكذا الفعل المضارع قد لا يستعمل في الحال أو الاستقبال الحقيقي، بل قد يكون ماضياً حقيقة.

[6] أي: في الفعل الماضي، «كذلك» حقيقة، «فعلهما» أي: فعل الماضي والمضارع.

ص: 173

بالإضافة، كما يظهر من مثل قوله: (يجيء زيد بعد عام وقد ضرب قبله بأيام)، وقوله: (جاء زيد في شهر كذا وهو يضرب في ذلك الوقت أو في ما بعده مما مضى)، فتأمل جيداً.

ثم لا بأس[1] بصرف عنان الكلام إلى بيان ما به يمتاز الحرف عما عداه بما يناسب المقام، لأجل الاطراد[2] في الاستطراد في تمام الأقسام.

فاعلم أنه وإن اشتهر بين الأعلام(1)

أن الحرف ما دل على معنى في غيره[3] - وقد بيناه في الفوائد(2)

بما لا مزيد عليه - إلاّ أنك عرفت في ما تقدم[4] عدم

-------------------------

الفرق بين الاسم والحرف

[1] كان البحث حول الفرق بين الاسم والفعل، حيث زعم النحاة أن الفرق هو دلالة الفعل على الزمان وعدم دلالة الاسم عليه، وهو بحث استطرادي؛ لعدم ارتباطه ببحث المشتق، ثم لكي يكمل البحث عن الفرق بين الكلمات نبحث حول الفرق بين الاسم والحرف، «عما عداه» أي: عن الاسم.

[2] أي: لتعميم البحث. وحاصل الفرق هو: إن معنى الاسم والحرف واحد، لكن الاسم وضع ليُلاحَظ استقلالاً، والحرف وضع ليلاحظ آلةً، من غير كون لحاظ الآليّة والاستقلالية جزءاً في المعنى، بل هما في مقام الاستعمال، مثلاً: (من) و(الابتداء) بمعنى واحد، لكن (من) وُضعت لتلاحظ آلة في الغير في مقام الاستعمال، و(الابتداء) وضع ليلاحظ مستقلاً في حال الاستعمال.

[3] أي: وجوده متوقف على الغير، فيكون معنى الحرف آلياً.

[4] في المقدمة الثانية التي عقدها المصنف للتحقيق عن (الوضع)، حيث قال: (إن حال المستعمل فيه والموضوع له فيها حالهما في الاسماء... الخ)، «بينه» بين الحرف.

ص: 174


1- شرح الكافية 1: 7.
2- فوائد الأصول 1: 38.

الفرق بينه وبين الاسم بحسب المعنى[1] وأنه فيهما[2] ما لم يلحظ فيه الاستقلال بالمفهومية[3] ولا عدم الاستقلال بها. وإنما الفرق[4] هو أنه[5] وُضع ليستعمل وأريد منه معناه حالةً لغيره وبما هو في الغير، ووُضِعَ غيره[6] ليستعمل وأريد منه معناه بما هو هو. وعليه[7] يكون كل من الاستقلال بالمفهومية وعدم الاستقلال بها إنما اعتبر في جانب الاستعمال[8]،

-------------------------

[1] أي: ذات المعنى (الموضوع له) و(المستعمل فيه) واحد، وهو طبيعة الشيء من غير لحاظ الاستقلالية أو الآلية، مثلاً: (الابتداء) و(من) بمعنى واحد، والفرق إنما هو في مقام الاستعمال.

[2] أي: إن المعنى في الاسم والحرف، «فيه» في المعنى.

[3] بعدم ملاحظته آلة في الغير - كما توهم في الاسم - «بها» أي: عدم الاستقلال بالمفهومية بأن تلاحظ حالة في الغير - كما توهم في الحرف - .

[4] أي: الفرق بين الاسم والحرف إنما هو في حال الاستعمال، فالواضع اشترط استعمال الاسم حين إرادة الاستقلال، واستعمال الحرف حين إرادة الآلية.

وبعبارة أخرى: (الابتداء) - مثلاً - له حالتان: حالة استقلالية بملاحظته بما هو هو، وحالة آلية بملاحظته حالة في غيره، ولا ربط لهاتين الحالتين بمعنى (الابتداء) بل هما من الصفات العارضة عليه، فالمعنى (الموضوع له) و(المستعمل فيه) هو الطبيعة المجردة الكلية لذلك الابتداء، لكن حين الاستعمال قد يلتصق بها صفة عارضية هي الاستقلالية والآلية.

[5] ضمائر «أنه» و«منه» و«معناه» و«لغيره» ترجع إلى (الحرف).

[6] غير الحرف - وهو الاسم - .

[7] أي: بناء على هذا الفرق بين الاسم والحرف، «الاستقلال بالمفهومية» في الاسم، و«عدم الاستقلال بها» في الحرف.

[8] أي: حين الاستعمال تعرض إحدى هاتين الصفتين - الاستقلالية والآلية - ،

ص: 175

لا في المستعمل فيه، ليكون بينهما[1] تفاوت بحسب المعنى؛ فلفظ الابتداء[2] لو استعمل في المعنى الآلي ولفظة (من) في المعنى الاستقلالي لما كان مجازاً واستعمالاً له في غير ما وضع له[3]، وان كان بغير ما وضع له.

فالمعنى في كليهما[4]

-------------------------

«لا المستعمل فيه» أي: المعنى، ومن المعلوم أن الاستعمال متأخر عن المعنى، فلا يمكن أخذ ما ينتج من الاستعمال - وهو الآلية أو الاستقلالية - في المعنى الذى هو متقدم على الاستعمال، كما مرّ تفصيله.

[1] أي: لو كانت الآلية والاستقلالية مأخوذة في المعنى (المستعمل فيه) لكان الفرق بين الاسم والحرف في المعنى.

[2] أي: لفظا (الابتداء) و(من) بمعنى واحد، فلو استعمل أحدهما مكان الآخر لم يكن مجازاً؛ إذ المجاز هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له، والمفروض هو أن معناهما واحد، فاستعمال أحدهما في مكان الآخر إنما هو استعمال اللفظ في ما وضع له، نعم، هذا الاستعمال لا يجوز لمنع الواضع عن ذلك.

فتحصل أن استعمال اللفظ في المعنى على ثلاثة أنحاء:

1- استعمال اللفظ في غير ما وضع له لوجود علاقة، وهذا هو المجاز.

2- استعمال اللفظ في ما وضع له مع مراعاة شرط الواضع، وهذا هو الحقيقة.

3- استعمال اللفظ في ما وضع له مع عدم مراعاة شرط الواضع، وهذا ليس بحقيقة ولا مجاز، بل قد يعتبر غلطاً.

[3] «له» للّفظ، «بغير ما وضع له» أي: على خلاف شرط الواضع.

[4] أي: الاسم والحرف يشتركان في ثلاثة أمور:

الأول: المعنى في نفسه - من غير ملاحظة الأوصاف العارضة عليه - وهذا المعنى كلي طبيعي، سواء في الحروف أم في الأسماء كافة، سوى الأعلام.

ص: 176

في نفسه كلي طبيعي[1] يصدق على كثيرين؛ ومقيداً[2] باللحاظ الاستقلالي أو الآلي كلي عقلي، وإن كان[3] بملاحظة أن لحاظه وجوده ذهناً كان جزئياً ذهنياً، فإن الشيء ما لم يتشخص لم يوجد[4] وإن كان[5] بالوجود الذهني، فافهم وتأمل في ما وقع في المقام من الأعلام من الخلط والاشتباه[6] وتوهم كون الموضوع له أو المستعمل فيه في الحروف خاصاً، بخلاف ما عداه، فإنه عام.

-------------------------

الثاني: المعنى في مقام الاستعمال، حين تعرض عليه الآلية أو الاستقلالية، فكلاهما - أي: الاسم والحرف - يكونان ذهنيين؛ لأن الآلية والاستقلالية تكونان باللحاظ، واللحاظ هو بمعنى وجود الشيء في الذهن.

الثالث: إن وجودهما - الاسم والحرف - في الذهن يكون سبباً لجزئيتهما، حيث إن كل موجود - خارجي أو ذهني - يكون جزئياً حقيقياً؛ لأن الشيء ما لم يتشخص لم يوجد. فالمعنى في نفسه كلي، ولكن باعتبار وجوده في الذهن يكون جزئياً.

[1] المراد أن المعنى هو طبيعة الشيء.

[2] هذا الأمر الثاني من نقاط الاشتراك، «كلي عقلي» أي: أمر ذهني؛ لأن الآلية والاستقلالية إنما هما باللحاظ.

وقد مرّ أن اصطلاح المصنف في (الكلي العقلي) يغاير الاصطلاح المنطقي. فالاصطلاح في المنطق في مثل: (الإنسان كلي) الموضوع هو كلي طبيعي، والمحمول هو الكلي المنطقي، ومجموع الموضوع والمحمول هو كلي عقلي.

[3] هذا هو الوجه الثالث من نقاط الاشتراك، «لحاظه» أي: إن لحاظ المعنى هو نفس الوجود الذهني؛ لأن اللحاظ هو الوجود في الذهن.

[4] فوجود الشيء يساوق الجزئية؛ إذ لو بقي كلياً من دون مشخصات جزئية لم يوجد في الخارج، ومع التشخص يوجد لكنه يصير جزئياً.

[5] أي: لا فرق في كون الموجود جزئياً بين الوجود الخارجي أو الوجود الذهني.

[6] حيث جعلوا اللحاظ دخيلاً في المعنى، مع كونه متأخر عن الاستعمال - كما

ص: 177

وليت شعري[1] إن كان قصد الآلية فيها[2] موجباً لكون المعنى جزئياً فلِمَ لا يكون قصد الاستقلالية فيه موجباً له؟! وهل يكون ذلك[3] إلاّ لكون هذا القصد

-------------------------

وضّحناه - ، «وتوهم» عطف على الخلط والاشتباه، «ما عداه» أي: ما عدا الحرف وهو الاسم.

[1] يستدل المصنف بدليلين على أن الآلية ليست جزءاً من معنى الحروف:

الأول: إن لحاظ الآلية لو كان جزءاً من معنى الحروف، فلابد أن يكون لحاظ الاستقلالية جزءاً من معنى الأسماء؛ لأن الفرق بين الأسماء والحروف هو في هذا اللحاظ، فإذا كان اللحاظ في أحدهما دخيلاً في المعنى فلابد أن يكون دخيلاً في المعنى الآخر.

ومن المعلوم أن لحاظ الاستقلالية إذا أخذ في الاسم صار الاسم جزئياً، لما ذكرنا من أن اللحاظ هو بمعنى الوجود الذهني، والموجود - سواء كان خارجياً أم ذهنياً - يكون جزئياً.

الثاني: إن أخذ لحاظ الآلية في معنى الحروف يستلزم عدم إمكان امتثال التكاليف؛ لأن اللحاظ أمر ذهني، وحيث إن الحروف مقيدة باللحاظ فتكون الحروف ذهنية، ولأن الأسماء قيدت بالحروف تكون تلك الأسماء ذهنية أيضاً. مثلاً في قوله: (سر من البصرة إلى الكوفة) السير والبصرة والكوفة مقيدة بالحرف - من وإلى - والمقيَّد بالأمر الذهني يكون ذهنياً؛ لعدم إمكان تقييد الوجود الخارجي بالأمور الذهنية، وحينئذٍ يكون المطلوب هو السير الذهني والبصرة والكوفة الذهنيان! فلا يمكن امتثال هذا الأمر خارجاً.

[2] هذا هو الدليل الأول، «فيها» أي: في الحروف، «فيه» في الاسم، «له» أي: لكون معنى الاسم جزئياً.

[3] «ذلك» أي: عدم كون قصد الاستقلالية في الأسماء موجباً لجزئية المعنى، «هذا القصد» أي: قصد الاستقلالية.

ص: 178

ليس مما يعتبر في الموضوع له ولا المستعمل فيه، بل في الاستعمال؟ فلِمَ لا يكون فيها كذلك[1]؟! كيف[2]؟ وإلاّ لزم أن يكون معاني المتعلقات[3] غير منطبقة على الجزئيات الخارجية، لكونها - على هذا - كليات عقلية[4]، والكلي العقلي لا موطن له إلاّ الذهن، فالسير والبصرة والكوفة في: (سرت من البصرة إلى الكوفة) لا يكاد يصدق على السير والبصرة والكوفة، لتقيدها[5] بما اعتبر فيه القصد،

-------------------------

[1] أي: إن قصد الاستقلالية لا يوجب جزئية المعنى الاسمي، فكذلك قصد الآلية لا يوجب جزئية المعنى الحرفي؛ وذلك لأن قصد الاستقلالية والآلية ليس جزءاً من المعنى، بل هو في مقام الاستعمال، فالاستعمال هو سبب اللحاظ - إذ لابد من تصور المعنى حين الاستعمال - ومن المعلوم أن الاستعمال متأخر عن المعنى، وحينئذٍ فلا يمكن أخذ اللحاظ في المعنى.

وبعبارة أخرى: المعنى متقدم رتبة على الاستعمال، والاستعمال هو سبب اللحاظ، فيكون اللحاظ متأخراً عن المعنى بمرتبتين، فلا يمكن أخذه في المعنى.

«لا يكون» قصد الآلية، «فيها» في الحروف، «كذلك» كالأسماء غير دخيل في المعنى، بل مرتبط بالاستعمال.

[2] هذا هو الدليل الثاني. والمعنى: كيف يكون قصد الآلية مأخوذاً في معنى الحروف وموجباً لجزئية معناها؟

[3] أي: ما تعلقت به الحروف، مثل: (السير) و(البصرة) و(الكوفة) في مثال: (سر من البصرة إلى الكوفة)، «لكونها» لكون معاني المتعلقات، «على هذا» على تقدير دخل اللحاظ الآلي في معاني الحروف.

[4] أي: أمور ذهنية.

[5] أي: لتقيد السير والبصرة والكوفة، «بما اعتبر فيه القصد» أي: لتقيدها بالحروف التي اعتبر، «فيها» أي: في الحروف، «القصد» أي: اللحاظ، فصارت الحروف ذهنية، فالمقيد بها يكون ذهنياً أيضاً.

ص: 179

فتصير عقلية[1]، فيستحيل انطباقها على الأمور الخارجية.

وبما حققنا[2] يوفق بين جزئية المعنى الحرفي بل الاسمي والصدق على كثيرين، وأن[3] الجزئية باعتبار تقيد المعنى باللحاظ في موارد الاستعمالات آلياً أو استقلالياً، وكليته بلحاظ نفس المعنى.

ومنه[4] ظهر عدم اختصاص الإشكال والدفع بالحرف، بل يعم غيره. فتأمل في المقام، فإنه دقيق ومزال الأقدام للأعلام، وقد سبق في بعض الأمور[5] بعض الكلام، والإعادة مع ذلك لما فيها من الفائدة والإفادة، فافهم.

رابعها[6]:

-------------------------

[1] أي: فتصير المتعلقات ذهنية أيضاً، «انطباقها» أي: انطباق المتعلقات.

[2] هذا جواب عن شبهة، وحاصلها: إنكم قلتم: إن معاني الحروف والأسماء كلية، ثم قلتم: إنها تلاحظ حين الاستعمال، وحينئذٍ تكون جزئية، فهل هذا إلاّ تناقض بين الكلامين؟!

والجواب: إن الكلية إنما هي باعتبار المعنى في نفسه ومن حيث هو هو، والجزئية إنما هي باعتبار مقام الاستعمال، فلا منافاة.

[3] بيان كيفية التوفيق، وهو جواب عن الشبهة، «كليته» أي: كلية المعنى.

[4] أي: مما حققناه تبين أن الإشكال والجواب غير مختص بالحروف، بل يجريان في الأسماء أيضاً، «غيره» أي: غير الحرف - وهو الاسم - .

[5] أي: الأمر الثاني من مقدمات علم الأصول، حيث تمّ البحث عن الوضع.

الأمر الرابع: اختلاف مبادئ المشتقات

[6] الغرض هو رد التفصيل المنسوب إلى الفاضل التوني(1):

بين ما إذا كان الاتصاف أكثرياً بحيث يكون عدم التلبس مضمحلاًّ في جنب التلبس، فلا يعتبر فيه التلبس في الحال مثل النجّار والعالم.

ص: 180


1- قوانين الأصول 1: 78؛ بدائع الأفكار: 178.

إنّ اختلاف المشتقات في المبادئ - وكون المبدأ في بعضها حرفةً وصناعةً[1]، وفي بعضها قوةً وملكةً[2]، وفي بعضها فعلياً - لا يوجب[3] اختلافاً في دلالتها بحسب الهيئة

-------------------------

وبين ما لم يكن الاتصاف أكثرياً فيشترط فيه التلبس في الحال في صدق المشتق كالضارب والقائم.

ويرد عليه: إن البحث في المشتق هنا في الهيئة، وإنها حقيقة في خصوص المتلبس أم الأعم. نعم، كيفية التلبس تختلف - وهذا يرتبط بالمادة وهي غير مرتبطة بالبحث - فقد يكون التلبس بالحرفة، فالبقال مثلاً متلبس بهذه الحرفة حتى وإن كان في منزله. نعم، لو ترك البقالة واشتغل بعمل آخر يكون قد انقضى عنه المبدأ.

وقد يكون التلبس بالصناعة - وهي الأعمال التي بحاجة إلى ملكة كالصياغة والنجارة - فما دام لم يهجر ذلك العمل يكون متلبساً بالصناعة.

وقد يكون التلبس بالملكة، كالمجتهد والكاتب، فما دامت الملكة موجودة يكون متلبساً حتى لو كان مشتغلاً بالأكل والنوم مثلاً.

وقد يكون التلبس بالشأنية، مثل سيف قاطع.

وقد يكون التلبس بالفعلية، كالقائم والقاعد.

ففي كل هذه الموارد البحث في أن الهيئة هل هي حقيقة في خصوص المتلبس أم في الأعم؟ وأما كيفية التلبس فذلك يرتبط بالمادة - وهي لا ترتبط ببحثنا هنا - .

[1] الحرفة: هي امتهان عمل لا يحتاج إلى ملكة كالبقالة، و«الصناعة» امتهان عمل يحتاج إليها كالنجارة والصياغة، وقيل: العطف تفسيري.

[2] وهي امتلاك صفة تُمكّنه من ذلك الأمر، كالاجتهاد الذي هو ملكة تُمكِّن المجتهد من الاستنباط.

[3] خبر (إن)، وهذا بيان الإشكال على التفصيل المزبور، «الجهة المبحوث عنها» وهي دلالة هيئة المشتق.

ص: 181

أصلاً، ولا تفاوتاً في الجهة المبحوث عنها، كما لا يخفى. غاية الأمر[1] أنّه يختلف التلبس به في المضي أو الحال، فيكون التلبس به فعلاً[2] لو أخذ حرفةً أو ملكةً ولو لم يتلبس به إلى الحال[3] أو انقضى عنه[4]، ويكون مما مضى أو يأتي لو أخذ فعلياً[5]، فلا يتفاوت فيها[6] أنحاء التلبسات وأنواع التعلقات[7]، كما أشرنا إليه[8].

خامسها[9]:

-------------------------

[1] أي: التفاوت هو في المادة - في كيفية التلبس - ، «أنه» للشأن، «به» بالمبدأ، «لو أُخذ» أخذ المبدأ.

[2] «فعلاً» أي: التلبس حاصل ولم ينقض عنه حتى لو كان مشغولاً بأمر آخر.

[3] أي: حال الإخبار، والمعنى أنه حصل على الحرفة أو الملكة لكنه لم يزاول لحد الآن، مثلاً: أصبح مجتهداً لكنه لم يشتغل فعلاً بالاستنباط.

[4] كأن يكون المجتهد في حال النوم - مثلاً - مع بقاء الملكة.

[5] أي: لو أخذ المبدأ أمراً فعلاً - لا ملكة وحرفة... الخ - كالضرب والأكل، فحينئذٍ يكون التلبس حين الفعل فقط، «مما مضى» لو انقضى عنه كما لو أنهى الأكل، «أو يأتي» لو لم يتلبس بالحال.

[6] في الجهة المبحوث عنها - أي: الهيئة - .

[7] عطف تفسيري على (أنحاء التلبسات).

[8] في الأمر الأول من بحث المشتق.

الأمر الخامس: معنى «الحال» في العنوان

[9] في تحقيق معنى (الحال) المذكور في العنوان في قولهم: (هل المشتق حقيقة في المتلبس بالحال). وحاصل الكلام أن هنا أحوالاً ثلاثة:

1- حال النطق: وهو زمان التكلّم.

2- حال التلبس: وهو وقت اتصاف الشيء بالصفة.

ص: 182

إنّ المراد بالحال في عنوان المسألة هو حال التلبس[1] لا حال النطق، ضرورة[2] أن مثل: (كان زيد ضارباً أمس)، أو (سيكون غداً ضارباً) حقيقةً[3] إذا كان متلبساً بالضرب في الأمس في المثال الأول، ومتلبسا به في الغد في الثاني، فجريُ[4] المشتق

-------------------------

3- حال الجري: وهو حال نسبة الصفة إلى الشيء.

مثلاً: لو قلنا: زيد عالم أمس، فحال النطق هو وقت التفوّه بهذه الكلمات. وحال الجري هو وقت النسبة الإيقاعية، أي: نسبة العلم إلى زيد، وهو أمس. وحال التلبس هو الوقت الذي كان عالماً، فلنفرض أنه كان عالماً منذ يومين فيكون حال التلبس أمس وقبل أمس.

يقول المصنف: ليس المراد من (الحال) في العنوان حال النطق لجهتين:

1- إن مثل: (كان زيد ضارباً أمس) و(سيكون ضارباً غداً) حقيقة بلا إشكال، مع أن الضرب لم يتحقق في حال النطق.

2- اتفاق أهل العربية على عدم دلالة الاسم على الزمان، فالمشتق - وهو اسم - لا يدل على زمان النطق.

وأما احتمال أن يراد ب- (الحال): زمان النطق، فاستدل له بأمرين:

1- إن ظاهر كلمة (الحال) هو زمان النطق.

2- إن المشتقات تدل على زمان الحال إما للانصراف أو بمقدمات الحكمة.

لكن كلا الوجهين غير صحيحين، كما سيأتي الإشكال عليهما.

[1] مراد المصنف من (حال التلبس) هو حال الجري - النسبة الإيقاعية - كما سيصرح به في طيّ كلامه.

[2] هذا هو الدليل الأول للمدعى.

[3] مع أنه لو كان المعيار في الحقيقة هو حال النطق لكان المثالان مجازاً؛ لعدم اتصاف زيد بالضرب في حال النطق.

[4] أي: نسبة الوصف إلى الذات كان بلحاظ حال التلبس، فلذا قلنا: (كان

ص: 183

حيث كان بلحاظ حال التلبس - وإن مضى زمانه في أحدهما، ولم يأت بعد في الآخر - كان حقيقةً بلا خلاف.

ولا ينافيه[1] الاتفاق على أن مثل: (زيد ضارب غدا) مجاز، فإن الظاهر[2] أنه في ما إذا كان الجريُ في الحال - كما هو قضية الإطلاق[3] - ، والغد إنما يكون لبيان زمان التلبس، فيكون الجريُ والاتصاف في الحال والتلبس في الاستقبال.

ومن هنا ظهر الحال في مثل: (زيد ضارب أمس)، وأنه داخل في محل الخلاف[4] والإشكال. ولو كانت[5] لفظةُ (أمس) أو (غد) قرينةً على تعيين زمان النسبة

-------------------------

أمس)، (وسيكون غداً).

[1] هذا إشكال على ادعاء عدم الخلاف في كون المشتق حقيقة في المثالين؛ وذلك لاتفاقهم على المجازية في مثل: (زيد ضارب أمس)، و(زيد ضارب غداً)، مع أن زمان الجري هو أمس وغد، ولكن حيث لم يكن متلبساً بالضرب في زمان الحال مجازاً! «لا ينافيه» الضمير يرجع إلى ما ادعاه من كونه حقيقة بلا خلاف.

[2] جواب الإشكال، وحاصله: إن المجازية ليست لعدم التلبس في حال النطق، بل لأجل أن الجري - والنسبة الإيقاعية - هي باعتبار الحال، مع أن الجري كان في الماضي، أو سيكون في المستقبل، فالمعنى (زيد متصف بالضرب الآن) وهذا مجاز؛ لأن اتصافه كان في الماضي أو سيكون في المستقبل، «أنه» أن الاتفاق على المجازية.

[3] أي: مقتضى حمل ضارب على زيد، فالإطلاق - هنا - بمعنى الحمل، كما نقول: (أطلقنا هذا الاسم على هذا المولود).

والمعنى أن حمل ضارب على زيد يقتضي كون النسبة في زمان الحال، وأما قولنا: (غداً) و(أمس) فهو بيان لزمان الضرب.

[4] بين القائل بكون المشتق حقيقة في خصوص المتلبس وبين القائل بالأعم.

[5] أي: لو جعلنا قيد (أمس) و(غد) في المثالين لبيان زمان النسبة، لا لبيان زمان الضرب، كان المثالان حقيقة.

ص: 184

والجري أيضاً كان المثالان حقيقةً.

وبالجملة: لا ينبغي الإشكال في كون المشتق حقيقةً في ما إذا جرى على الذات بلحاظ حال التلبس[1]، ولو كان في المضي أو الاستقبال؛ وإنما الخلاف في كونه حقيقةً في خصوصه[2] أو في ما يعم ما إذا جرى عليها في الحال بعد ما انقضى عنه التلبس، بعد الفراغ عن كونه مجازاً في ما إذا جرى عليها فعلاً بلحاظ التلبس في الاستقبال.

ويؤيد ذلك[3] اتفاق أهل العربية على عدم دلالة الاسم على الزمان، ومنه[4] الصفات الجارية على الذوات. ولا ينافيه[5] اشتراط العمل في بعضها بكونه بمعنى

-------------------------

والحاصل: إن في قولنا: (زيد ضارب أمس)، و(زيد ضارب غداً):

أ: إن كان قيد (أمس) و(غداً) لبيان زمان الضرب مع كون النسبة في الحال كان مجازاً.

ب: وإن كان القيدان لبيان زمان النسبة كان حقيقةً.

[1] أي: باتحاد حال الجري وحال التلبس، سواء كانا في الماضي أم في الحال أم في المستقبل.

[2] أي: في خصوص المتلبس بالمبدأ، «جرى عليها» على الذات، «في الحال» حال النطق، «عنه» عن الذات، أي: نسبنا الصفة إلى الذات في حال النطق مع كون التلبس ماضياً.

وبتعبير آخر: انفكاك حال الجري عن حال التلبس الماضي. نعم، لو انفكّ حال الجري عن حال التلبس المستقبلي فإنه مجاز بلا إشكال.

[3] هذا هو الدليل الثاني على أن المقصود من كلمة (الحال) في العنوان هو حال الجري - النسبة الإيقاعية - لا حال النطق.

[4] أي: من الاسم، «الصفات الجارية على الذات» بمعنى المشتقات،مثل اسم الفاعل واسم المفعول... الخ.

[5] أي: لا منافاة بين قولهم بعدم دلالة الاسم على الزمان، وقولهم باشتراط

ص: 185

الحال أو الاستقبال، ضرورة[1] أن المراد الدلالة على أحدهما بقرينة، كيف لا[2] وقد اتفقوا على كونه مجازاً في الاستقبال.

لا يقال: يمكن أن يكون[3] المراد بالحال في العنوان زمانه، كما هو الظاهر منه

-------------------------

عمل المشتقات بكونها دالة على زمان الحال أو الاستقبال، فإن مثل: (ضارب) و(مضروب) يمكن أن تعمل في الأسماء لكن بشرط دلالتها على الحال أو الاستقبال، فيقال: أضارب زيدٌ عمراً غداً؟ أو أمقتول زيد الآن؟ ولا تعمل إذا كانت بمعنى الماضى.

[1] هذا وجه عدم المنافاة، فإن قولهم: إنّ الاسم لا يدل على الزمان معناه أن الزمان ليس جزءاً لمعناه؛ إذ الاسم لم يوضع للزمان، وأما اشتراطهم العمل بأن يكون دالاًّ على المستقبل أو الحال فإن معناه دلالته لا بنفسه، بل بالقرينة الخارجية.

ففي المثالين المذكورين الدال على الحال كلمة (الآن)، والدال على الاستقبال كلمة (غداً)، وليس الدال (ضارب) و(مقتول).

[2] أي: كيف لا تكون الدلالة على الزمان بدال آخر، مع أنهم قد اتفقوا على أن المشتق إذا استعمل في الاستقبال كان مجازاً؟ وهذا يدل على أن اشتراطهم العمل بكونه بمعنى الحال أو الاستقبال لا يراد منه دلالته بنفسه وضعاً، وإلاّ كان كلامهم متناقضاً.

[3] يذكر المصنف هنا وجهين لكون المراد من (الحال) في العنوان حال النطق.

الأول: إن ظاهر كلمة (الحال) هو الحال المقابل للماضي والمستقبل، لا حال الجري أو التلبس؛ وذلك للتبادر الإطلاقي المستند إلى كثرة الاستعمال.

والجواب - ولم يذكره المصنف لوضوحه - أنه مع قيام الدليل على أن (حال النطق) غير مراد فلا وجه للتمسك بهذا الظهور، «الظاهر» والمقصود من الظهور هو الانصراف.

ص: 186

عند إطلاقه، وادعي(1) أنه الظاهر[1] في المشتقات، إما لدعوى الانسباق من الإطلاق أو بمعونة قرينة الحكمة.

لأنا نقول[2]: هذا الانسباق وإن كان مما لا ينكر إلاّ أنهم في هذا العنوان بصدد تعيين ما وضع له المشتق، لا تعيين ما يراد بالقرينة منه.

سادسها[3]: إنّه لا أصل في نفس هذه المسألة يعول عليه عند الشك.

-------------------------

[1] هذا هو الوجه الثاني، وحاصله: إن ألفاظ المشتقات - مثل ضارب وناصر ومقتول... الخ - حينما تطلق على شخص فإن ظاهرها اتصافه بها في الزمان الحال. وهذا الظهور إما من الانصراف، فإن المنصرف من الضارب هو الضارب الآن. وإما مقدمات الحكمة، فإن المولى الحكيم في مقام البيان، فلو كان مراده زمان الجري أو التلبس لوجب التنبيه عليه.

[2] هذا الجواب عن الوجه الثاني، وحاصله: إنا نسلّم بالظهور في زمان الحال إما للانصراف أو لمقدمات الحكمة، لكن هذا الظهور لا يرتبط بوضع المشتق، بل منشؤه إما كثرة الاستعمال أو مقدمات الحكمة، وكلاهما قرينة تدل على المراد، وكلامنا ليس في ذلك، بل كلامنا إنما هو في تعيين الوضع في المشتق.

وتظهر الثمرة في ما لو علمنا بعدم إرادة زمان النطق، فإنه حينئذٍ لا انصراف ولا مقدمات حكمة، فإن معرفة المعنى الموضوع له يكون مفيداً حينئذ في تشخيص مراد المتكلّم، «هذا العنوان» في بحث المشتق، «منه» من المشتق.

الأمر السادس: في تأسيس الأصل
اشارة

[3] وحاصله: إنه لو لم نتمكن من إقامة الدليل على كون الوضع لخصوص المتلبس أو للأعم، فهل هناك أصل يرجّح أحدهما؟

فنقول: إن الأصل إما لفظي وإما عملي:

ص: 187


1- الفصول الغروية: 60.

وأصالة عدم ملاحظة الخصوصية[1] - مع معارضتها بأصالة عدم ملاحظة العموم[2] - لا دليل على اعتبارها في تعيين الموضوع له[3].

-------------------------

الأول: الأصل اللفظي

والمراد به الأصل الذي يشخّص الموضوع له، وهنا أصلان:

1- أصالة عدم الوضع لخصوص المتلبّس، بمعنى أن الواضع لم يلاحظ هذه الخصوصية.

ويرد عليها:

أ: معارضتها بأصالة عدم الوضع للأعم من المتلبس والمنقضي، أي: إن الواضع لم يلاحظ المعنى الأعم حين الوضع.

ب: مضافاً إلى عدم الدليل على اعتبار هذه الأصالة؛ وذلك لأن الأصول اللفظية هي أصول عقلائية، فلابد من إحراز بناء العقلاء فيها، وفي المشتق لا إحراز لبناء العقلاء على أصالة الخصوصية، بل قد يقال بإحراز عدم اعتبار هذه الأصالة عندهم.

2- ترجيح الاشتراك المعنوي على المجاز، وسيأتي توضيحه مع الإشكال فيه.

[1] أي: عدم ملاحظة الواضع لخصوص التلبس بالمبدأ في الحال.

[2] أي: عدم ملاحظة الواضع للأعم من التلبس والمنقضي عنه المبدأ.

[3] وذلك لأن غرض العقلاء هو تشخيص مراد المتكلّم، فإذا عرفوا مراده فلا يهمّهم بعد ذلك معرفة كون استعماله حقيقياً أم مجازياً، فلا تجري الأصول لمعرفة مراده، مثلاً: لو عرفوا المعنى الحقيقي من المجازي ثم شكّوا في مراد المتكلم يجرون أصالة الحقيقة لتشخيص المراد، ولكن لا تجري الأصول لتشخيص الوضع.

وبعبارة أخرى: إنما يجرون الأصول اللفظية لترتب ثمرة عملية عليها، وهي تشخيص المراد، فلو لم تترتب ثمرة عملية، بل انحصرت في ثمرة علمية نظرية فلا

ص: 188

وأما ترجيح الاشتراك المعنوي[1] على الحقيقة والمجاز إذا دار الأمر بينهما لأجل الغلبة، فممنوع[2]، لمنع الغلبة أولاً، ومنع نهوض حجة على الترجيح بها[3] ثانياً.

وأما الأصل العملي[4]

-------------------------

يجرون الأصول اللفظية.

وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنه بعد معرفة مراد المتكلم من المشتق فلا يهمهم كونه حقيقياً أم مجازياً.

[1] هذا هو الأصل اللفظي الثاني، وحاصله: إن المشتق لو كان موضوعاً للأعم كان استعماله في المتلبس وفي المنقضي حقيقة؛ لكونهما مصداقين من الأعم، فيكون اشتراكاً معنوياً - وهو وضع اللفظ للعام الذي ينطبق على مصاديقه - .

أما لو قلنا بالوضع لخصوص المتلبس فيكون الاستعمال في المنقضي مجازاً. والاشتراك المعنوي خير من المجاز؛ وذلك لكثرة الاشتراك المعنوي، فلابد من حمل اللفظ عليه.

[2] وجوابه: أولاً: المجاز أيضاً كثير، بل قد يقال: إنه أكثر من المشترك المعنوي، حتى قيل: إن أكثر لغة العرب مجازات.

وثانياً: لا دليل على أن الغلبة من المرجحات، وقد مرّ بأن المعيار هو الظهور، أما الوجوه الأخرى - ومنها الغلبة - فمجرد استحسانات لا توجب ظهوراً فلا اعتبار بها.

[3] أي: لا حجة عقلائية في الترجيح بالغلبة.

الثاني: الأصل العملي

[4] أي: بعد عدم وجود أصل لفظي يُرجِّح الوضع لخصوص المتلبس أو الوضع للأعم، تصل النوبة إلى الأصول العملية، وهي التي تشخص وظيفة المكلّف في مقام العمل.

فنقول: لا يوجد أصل عملي يُرجِّح الوضع للمتلبس أم للأعم، بل الوظيفة

ص: 189

فيختلف في الموارد[1]، فأصالة البراءة في مثل: (أكرم كل عالم) يقتضي عدم وجوب إكرام ما انقضى عنه المبدأ قبل الإيجاب، كما أن قضية الاستصحاب وجوبه[2] لو كان الإيجاب قبل الانقضاء.

فإذا عرفت ما تلونا عليك فاعلم أن الأقوال في المسألة وإن كثرت[3] إلاّ أنها

-------------------------

العملية تختلف باختلاف الموارد. فالأصل الحكمي قد يكون البراءة وقد يكون الاستصحاب.

1- البراءة، مثلاً: لو كان زيد عالماً يوم السبت ثم نسي علمه يوم الأحد، ثم قال المولى يوم الاثنين: أكرم العلماء، فهنا نشك في وجوب إكرام زيد؛ لأن لفظ (العالم) إن وضع لخصوص المتلبس فلا يجب إكرامه، وإن وضع للأعم فيجب إكرامه، وحيث إن الشك في التكليف - بوجوب إكرام زيد - ولا حالة سابقة فأصالة البراءة تقتضي عدم الوجوب.

2- الاستصحاب، مثلاً: لو كان زيد عالماً في يوم السبت، فقال المولى: أكرم العلماء، ثم بعد ذلك نسي علمه، فهنا لنا يقين بوجوب إكرام زيد يوم السبت، ونشك في زوال هذا الوجوب بنسيانه، فالاستصحاب يقتضي الاستمرار في وجوب إكرامه.

[1] حسب الحالة السابقة، فإن وجب الإكرام سابقاً جرى الاستصحاب، وإلاّ جرت البراءة.

[2] أي: وجوب الإكرام، «قبل الانقضاء» أي: قبل انقضاء المبدأ.

الأقوال في المشتق
اشارة

[3] عن المحقق القمي: والظاهر أنها - أي: الأقوال - مُحدَثة من إلجاء كل واحد من الطرفين في مقام العجز عن ردّ شبهة خصمه.

وقد أشار المصنف في مطاوي كلامه إلى بعض تلك التفصيلات:

ص: 190

حدثت بين المتأخرين - بعد ما كانت ذات قولين بين المتقدمين(1)

-، لأجل توهم اختلاف المشتق باختلاف مبادئه في المعنى[1] أو بتفاوت ما يعتريه من الأحوال[2]. وقد مرت الإشارة[3] إلى أنه لا يوجب التفاوت في ما نحن بصدده، ويأتي له مزيد بيان في أثناء الاستدلال على ما هو المختار، وهو اعتبار التلبس في الحال، وفاقاً لمتأخري الأصحاب والأشاعرة، وخلافا لمتقدميهم والمعتزلة.

ويدل عليه[4]:

-------------------------

فمنها: التفصيل بين ما إذا كان الاتصاف أكثرياً فلا يعتبر بقاء المبدأ، وبين ما لم يكن كذلك فيعتبر بقاء المبدأ.

ومنها: التفصيل بين كون المشتق لازماً فيعتبر البقاء، وبين كونه متعدياً فلا يعتبر.

ومنها: التفصيل بين التلبس بضده فلا يصدق عليه المشتق، وبين عدم التلبس بضده فيصدق.

ومنها: التفصيل بين كونه محكوماً عليه فلا يشترط بقاء المبدأ، وبين كونه محكوماً به فيشترط.

[1] من كون المبدأ ملكة وحرفة كالنجّار، أو كونه فعلاً كالضارب.

[2] مثل كونه محكوماً عليه، كقوله: {وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ}(2) حيث يصدقان على من انقضى عنه السرقة، وكونه محكوماً به، مثل: (زيد ضارب) حيث لا يصدق على من انقضى عنه الضرب.

[3] في مقدمات بحث المشتق، وخاصة في الأمر الرابع.

أدلة القول بالوضع لخصوص المتلبس
اشارة

[4] استدل المصنف على أن وضع المشتق لخصوص المتلبس في الحال بثلاثة أدلة:

1- التبادر في خصوص المتلبس.

ص: 191


1- قوانين الأصول 1: 76.
2- سورة المائدة، الآية: 38.

تبادر[1] خصوص المتلبس بالمبدأ في الحال.

وصحةُ السلب مطلقاً[2] عما انقضى عنه - كالمتلبس به في الاستقبال[3] -؛ وذلك لوضوح أن مثل القائم والضارب والعالم وما يرادفها من سائر اللغات لا يصدق على من لم يكن متلبساً بالمبادئ، وإن كان متلبساً بها قبل الجري والانتساب[4]، ويصح سلبها عنه. كيف[5]؟

-------------------------

2- صحة السلب عن المنقضي عنه المبدأ.

3- التضاد بين الصفات.

الدليل الأول: التبادر في خصوص المتلبس

[1] فمثل: (زيد عالم) يتبادر منه خصوص من هو عالم حال الجري والنسبة الإيقاعية، دون من كان عالماً ثم نسي علمه، وهكذا جميع المشتقات يتبادر منها خصوص المتلبس دون المنقضي عنه المبدأ، وهذا التبادر إنما هو من حاقّ اللفظ فيكون أمارة الحقيقة، وليس التبادر مستنداً إلى الانصراف أو مقدمات الحكمة؛ وذلك يُعلم بالوجدان.

الدليل الثاني: صحة السلب عن المنقضي

[2] «مطلقاً» مقابل جميع التفاصيل المذكورة وغيرها، أو إن «مطلقاً» بمعنى في ما إذا لم يقيّد لفظ المشتق بزمان مثل: (الآن) أو (أمس) أو (غد) ونحوها.

[3] أي: كما يصح سلب المشتق عن المتلبس في المستقبل مطلقاً، كذلك يصح سلبه عن المنقضي عنه المبدأ مطلقاً.

[4] أي: قبل نسبة المشتق إلى الذات، وبعبارة أخرى: قبل حمله عليها، «سلبها» سلب المبادئ، «عنه» عمّن لم يكن متلبساً بالمبادئ.

[5] هذا تأييد لصحة السلب عن المنقضي عنه المبدأ، وحاصله: إنه كيف يصح صدق المشتق على من انقضى عنه المبدأ في الوقت الذي اتصفت الذات بما يضاد

ص: 192

وما يضادها[1] بحسب ما ارتكز من معناها[2] في الأذهان يصدق عليه، ضرورة صدق القاعد عليه في حال تلبسه بالقعود بعد انقضاء تلبسه بالقيام، مع وضوح التضاد بين القاعد والقائم بحسب ما ارتكز لهما من المعنى، كما لا يخفى.

وقد يقرر هذا وجهاً على حدة[3]، ويقال: لا ريب في مضادة الصفات المتقابلة[4]

-------------------------

ذلك المبدأ؟ «كيف» يصدق المشتق على المنقضي، «وما يضادها» يُضادّ المبادئ، مثلاً: هل يصح أن نطلق القائم على القاعد فعلاً باعتبار أنه كان قائماً في ما مضى؟

[1] أي: يضاد تلك المبادئ، «ما ارتكز» بالوجدان، «معانيها» معاني المبادئ، «عليه» على من كان متلبساً بالمبدأ.

[2] هذا ردّ لما قاله المحقق الرشتي من إنكار التضاد بناء على الوضع للأعم، حاصله: إن الارتكاز العرفي - وهو الوجدان - يقضي بالمضادة مع قطع النظر عن هذه الأقوال. واللازم هو كشف الحقيقة عن طريق الوجدان والارتكاز، لا ترك الارتكاز والوجدان بسبب بعض الوجوه التي لا صحة لها.

الدليل الثالث: المضادة بين الصفات

[3] أي: دليلاً ثالثاً - غير دليل صحة السلب - .

[4] اعلم أن التقابل - بمعنى عدم إمكان اجتماع شيئين - على أقسام:

1- تقابل النقيضين: بأن لا يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما مطلقاً، كالوجود والعدم.

2- تقابل العدم والملكة: بأن لا يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما عن المحل القابل، كالعمى والبصر.

3- التضايف: بأن يكونا وجودييّن ويتوقف تصور أحدهما على تصور الآخر، كالأبوة والبنوة.

4- الضدين: بأن يكونا وجوديين لا يمكن اجتماعهما مع إمكان ارتفاعهما، ولايتوقف تعقل أحدهما على الآخر، كالبياض والسواد.

ص: 193

المأخوذة من المبادئ المتضادة على ما ارتكز لها من المعاني[1]، فلو كان المشتق حقيقة في الأعم لما كان بينها مضادة، بل مخالفة[2]، لتصادقها في ما انقضى عنه المبدأ وتلبس بالمبدأ الآخر.

ولا يرد[3] على هذا التقرير ما أورده بعض الأجلة من المعاصرين(1)

من عدم

-------------------------

وهذه الأوصاف لا يمكن اجتماعها مع تحقق شروط التناقض، وهي وحدة الزمان والمكان، والموضوع والمحمول، والشرط والإضافة، وكذا القوة والفعل، وكذا الجزء والكل.

نعم، لو لم يكن بين الأوصاف تضاد، بل تخالف أمكن اجتماعها في محل واحد، كالسواد والحلاة، حيث يجتمعان في التمر - مثلاً - .

وعليه: فإن مثل القيام والقعود متضادان، فلا يمكن اجتماعهما في محل واحد، ولو كان المشتق حقيقة في الأعم من المتلبس والمنقضي لجاز إطلاق القائم على القاعد باعتبار كونه متلبساً بالقيام في ما مضى، وكان معنى ذلك كون القيام والقعود متخالفين لا متضادين.

[1] هذا استشهاد لتضادها بالوجدان، وهو تمهيد لردّ إشكال المحقق الرشتي.

[2] لجواز إطلاق القائم على القاعد فعلاً - مثلاً - واجتماع وصفين في محل واحد دليل على عدم تضادهما، بل تخالفهما، وهذا أمر يخالف الوجدان كما هو واضح، «بينها» بين الأوصاف المتضادة.

والحاصل: لو صدق القائم على زيد القاعد لما كان بين القيام والقعود مضادة، لكن التالي باطل بالوجدان، فالمقدم مثله.

[3] حاصل الإشكال هو أنه لو اشترطنا التلبس بالمبدأ في الحال لكانت مضادة بين تلك الأوصاف، أما لو لم نشترط التلبس فلا مضادة.

ص: 194


1- بدائع الأفكار: 181.

التضاد على القول بعدم الاشتراط[1]، لما عرفت من ارتكازه بينها، كما في مبادئها.

إن قلت[2]: لعل ارتكازها لأجل الانسباق من الإطلاق لا الاشتراط.

قلت[3]:

-------------------------

وبعبارة أخرى: لا نسلّم المضادة بين تلك الصفات بناءً على القول بأن المشتق وضع للأعم.

وجوابه: إن التضاد أمر وجداني فلا يمكن رفع اليد عنه، وأما اشتراط التلبس بالمبدأ في الحال فهو أمر غير معلوم، فلا يمكن رفع اليد عن الأمر الوجداني بسبب أمر غير معلوم.

[1] أي: عدم اشتراط التلبس بالمبدأ في صدق المشتق، «ارتكازه» ارتكاز التضاد، «بينها» بين الصفات التي مبادئها متضادة.

إشكال وجوابه

[2] حاصل الإشكال: هو أننا لا ننكر دلالة الارتكاز على المضادة بين الصفات المتقابلة، لكن هذا الارتكاز إنما يفيد كون المضادة بالوضع لو كان منشؤه حاقّ اللفظ، وأما الارتكاز الإطلاقي - أي: الذي مستنده الانصراف - فلا يفيد شيئاً في معرفة الوضع، وقد مرّ في بحث التبادر أن التبادر إنما يكون علامة الحقيقة إذا كان مستنداً إلى حاقّ اللفظ، لا الانصراف أو مقدمات الحكمة، وكلامنا الآن في تشخيص وضع المشتق لا معناه بمعونة القرائن - من الانصراف أو مقدمات الحكمة - .

«ارتكازها» ارتكاز المضادة، «الانسباق» التبادر في خصوص المتلبس، «من الإطلاق» بمعونة مقدمات الحكمة أو الانصراف، «لا الاشتراط» أي: اشتراط الواضع التلبس بالمبدأ في الحال.

[3] حاصل الجواب: إن هذا الارتكاز ليس بسبب الانصراف؛ وذلك لأن الانصراف إنما يكون بسبب كثرة الاستعمال أو كثرة الأفراد، وليس المتلبس بأكثر

ص: 195

لا يكاد يكون لذلك، لكثرة استعمال المشتق[1] في موارد الانقضاء لو لم يكن بأكثر.

إن قلت[2]: على هذا[3] يلزم أن يكون في الغالب أو الأغلب مجازاً، وهذا بعيد ربما لا يلائمه حكمة الوضع[4].

-------------------------

استعمالاً ولا أكثر أفراداً من المنقضي، فلا وجه للانصراف، فلم يبق إلاّ أن يقال: إنّ الارتكاز إنما هو مستند إلى حاق اللفظ.

[1] وهو استعمال مجازي.

إشكال آخر

[2] حاصله: إن استعمال المشتق في المنقضي لو كان مجازاً - وهذا الاستعمال كثير أو أكثر - فمعنى ذلك أن المعنى المجازي يكون أكثر استعمالاً من المعنى الحقيقي، وهذا خلاف حكمة الوضع.

لا تقولوا: إنّ أكثر لغة العرب مجازات، فليكن استعمال المشتق في المنقضي عنه المبدأ مجازاً شائعاً وأكثر من المعنى الحقيقي، فلا محذور في ذلك.

لأنا نقول: أولاً: لا نسلم أن أكثر لغة العرب مجازات.

وثانياً: المراد كثرة أنواع المجاز لا كثرة أفراده، مثلاً: الأمر حقيقة في الوجوب، وهو أكثر استعمالاً في المعني الحقيقي. نعم، المعاني المجازية كثيرة كالتهديد والدعاء والاستحباب... الخ، فمعنى حقيقي واحد ولكن المعاني المجازية متعددة، لكن الاستعمال في المعنى الحقيقي أكثر من جميع الاستعمالات المجازية.

[3] أي: كون استعمال المشتق في المنقضي عنه المبدأ كثيراً أو أكثر، «يكون» المشتق، «وهذا» غلبة المجاز.

[4] وهي وضع اللفظ لكي يستعمل في ما وُضع له بغرض التفهيم والتفهّم؛ وذلك يقتضي استعمال اللفظ في ما وضع له، فلو كثر استعماله في المجاز استلزم صعوبة التفهيم والتفهم للاحتياج إلى إضافة قرينة.

ص: 196

لا يقال[1]: كيف وقد قيل بأن أكثر المحاورات مجازات. فإن ذلك[2] - لو سلم - فإنما هو لأجل تعدد المعاني المجازية بالنسبة إلى المعنى الحقيقي الواحد[3]. نعم ربما يتفق ذلك بالنسبة إلى معنى مجازي، لكثرة الحاجة إلى التعبير عنه. لكن أين هذا مما إذا كان دائماً كذلك، فافهم[4].

قلت[5]: - مضافاً إلى أن مجرد الاستبعاد غير ضائر بالمراد بعد مساعدة الوجوه

-------------------------

[1] هذا من تتمة الإشكال، فالمستشكل يدفع عن نفسه النقض بالمقولة المعروفة وهي (أكثر لغة العرب مجازات)(1).

[2] هذا دفع المستشكل لما أورد عليه، وحاصله جوابه: أولاً: بعدم تسليم هذه المقولة - وإن كانت معروفة - ، وثانياً: إنّ المراد منها ليس الأكثرية في الأفراد، بل في الأنواع.

[3] أي: لا ننكر غلبة استعمال المعنى المجازي أحياناً، لكن هذا نادر وقليل، فلا يحمل عليه سائر الموارد.

[4] لعله إشارة إلى أنه في تلك الموارد القليلة لم يكن أكثرية المجاز خلافاً لحكمة الوضع، فليكن كذلك في المشتق، فيقال: إن استعماله في المنقضي مجازاً لا ينافي حكمة الوضع أيضاً!

الجواب عن الإشكال

[5] حاصل الجواب عن الإشكال:

أولاً: إن قولكم «يلزم أن يكون في الغالب أو الأغلب مجازاً، وهو بعيد» ليس دليلاً، فإنه مجرد الاستبعاد، وهو استحسان لا يُعتمد عليه في مقام الاستدلال، وخاصة أن هناك وجوهاً - من التبادر وصحة السلب والمضادة - تدل على هذا الأمر الذي اعتبرتموه بعيداً، «بالمراد» أي: كون المشتق حقيقة في المتلبس فقط.

ص: 197


1- قوانين الأصول 1: 29؛ مطارح الأنظار 2: 173.

المتقدمة عليه - إن ذلك[1] إنما يلزم لو لم يكن استعماله في ما انقضى بلحاظ حال التلبس[2]، مع أنه بمكان من الإمكان. فيراد من (جاء الضارب، أو الشارب) - وقد انقضى عنه الضرب والشرب - جاء الذي كان ضارباً[3] وشارباً قبل مجيئه حال التلبس بالمبدأ، لا حينه بعد الانقضاء، كي يكون[4] الاستعمال بلحاظ هذا الحال،

-------------------------

[1] أي: غلبه المجاز، وهذا هو الوجه الثاني، وحاصله: إنا لا نسلّم كثرة أو أكثرية استعمال المشتق في المعنى المجازي؛ وذلك لما مرّ من أن المعنى الحقيقي إنما هو باعتبار حال التلبس والجري، فعندما نستعمل الضارب والشارب مثلاً فيمن انقضى عنه الضرب والشرب، فهنا احتمالان:

1- أن يكون المراد ضارب حالاً باعتبار ضربه في ما مضى، وهذا معنى مجازي.

2- أن يكون المراد من كان ضارباً، وهذا معنى حقيقي، كما مرّ؛ إذ هو نسبة الضرب إليه باعتبار حالة تلبسه به، ومع إمكان الحمل على المعنى الحقيقي لا وجه للحمل على المعنى المجازي، وعليه: فاستعمال المشتق في المنقضي عنه المبدأ وإن كان كثيراً أو أكثر لكنه ليس معنىً مجازياً، بل هو معنى حقيقي باعتبار حالة التلبس، «استعماله» استعمال المشتق.

[2] وذلك باتحاد زمان الجري - النسبة الإيقاعية - وزمان التلبس، «مع أنه» الاستعمال بلحاظ حال التلبس.

[3] أي: يُراد جاء الذي كان ضارباً، وكونه ضارباً كان قبل المجيء حينما كان مشغولاً بالضرب، «لا حينه» فليس ضربه حين المجيء - وقد انقضى الضرب - بل قبل المجيء، والحاصل: نسبة الضرب إليه ليست في حالة المجيء، بل النسبة إليه باعتبار ضربه قبل المجيء.

[4] أي: لو كان المراد كونه ضارباً حين المجيء بعد انقضاء الضرب يكون استعمال لفظ الضارب بلحاظ «هذا الحال» وهو حال الانقضاء.

ص: 198

وجعله[1] معنونا بهذا العنوان فعلاً بمجرد تلبسه قبل مجيئه، ضرورة[2] أنه لو كان للأعم لصح استعماله بلحاظ كلا الحالين.

وبالجملة[3]: كثرة الاستعمال في حال الانقضاء يمنع عن دعوى انسباق خصوص حال التلبس من الإطلاق[4]

-------------------------

[1] عطف على (بلحاظ هذا الحال) أي: ويكون الاستعمال، «وجعله» أي: بجعل ذلك الشخص، «معنوناً بهذا العنوان» أي: بعنوان الضرب فيصير ضارباً، «فعلاً» في حال النطق، «تلبسه» تلبس الشخص.

[2] في توضيح العبارة احتمالات، والأقرب ما ذكره الوالد في الوصول(1): «ضرورة أنه» أي: المشتق «لو كان للأعم» بأن أمكن جريه بلحاظ حال التلبس الموجب للحقيقة، وبلحاظ حال التكلّم الموجب للمجازية «لصح استعماله بلحاظ كلا الحالين» وحينئذٍ فلا يتعيّن كونه مجازاً، حتى يرد أنه يلزم كون المجاز أكثر من الحقيقة.

[3] الظاهر أن هذا المقطع هو تلخيص لأمور ذكرها المصنف:

1- فقوله: (كثرة الاستعمال... من الإطلاق) جواب الإشكال الأول - بأن تبادر المتلبس لعلّه للانصراف - فيقول المصنف: إن الاستعمال في المنقضي كثير فلا وجه للانصراف، فيكون تبادر المتلبس إنما هو من حاق اللفظ.

2- وقوله: (إذ مع عموم... ملاحظة العلاقة) جواب عن الإشكال الثاني - بأن الاستعمال في المنقضي أكثر فإذا كان مجازاً لزم أكثرية المجاز على الحقيقة - فيقول المصنف: إن الاستعمال في المنقضي إنما هو بلحاظ حال التلبس فلا يكون مجازاً، ومع إمكان الحمل على هذا المعنى - وهو معنى حقيقي - لا وجه للحمل على المعنى المجازي، وهو استعماله باعتبار حال النطق.

[4] أي: تمنع من دعوى «أن تبادر خصوص حال التلبس إنما هو ناشٍ عن الانصراف».

ص: 199


1- الوصول إلى كفاية الأصول 1: 269.

إذ مع عموم المعنى[1] وقابلية كونه حقيقة في المورد - ولو بالانطباق[2] - لا وجه لملاحظة حالة أخرى[3]، كما لا يخفى. بخلاف ما إذا لم يكن له العموم[4]، فإن استعماله[5] حينئذ مجازاً بلحاظ حال الانقضاء وإن كان ممكناً، إلاّ أنه لما كان بلحاظ حال التلبس على نحو الحقيقة بمكان من الإمكان، فلا وجه لاستعماله وجريه على الذات مجازاً وبالعناية وملاحظة العلاقة، وهذا[6] غير استعمال اللفظ في ما لا يصح

-------------------------

[1] كما ذكرنا فإن هذا المقطع هو تلخيص لجواب الإشكال الثاني وإنما عبر ب- (إذ) لارتباط الجوابين، فالمتبادر هو خصوص حالة تلبس، وأما الاستعمال في حال الانقضاء فهو أيضاً باعتبار حالة التلبس، «عموم المعنى» أي: معنى المشتق يشمل المنقضي عنه المبدأ أيضاً، «كونه» كون المعنى، «في المورد» أي: في المورد الذي انقضى عنه المبدأ.

[2] بأن ينطبق الجري مع التلبس، أي: تكون النسبة باعتبار حال التلبس لا باعتبار حال النطق.

[3] وهي حالة النطق حتى يكون مجازاً.

[4] أي: إذا لم يمكن إرادة المعنى الحقيقي فلابد من الحمل على المعنى المجازي، مثلاً: لو قال: (رأيت أسداً يخطب) فلا طريق إلاّ الحمل على المجاز؛ لوجود القرينة القطعية، أما لو قال: (رأيت أسداً في الصحراء) فهنا وإن أمكن إرادة المعنى المجازي لكن حيث أمكن الحمل على المعنى الحقيقي فهو المتعيّن.

[5] هذا توضيح لقوله: (لا وجه لملاحظة حال أخرى)، «استعماله» استعمال المشتق، «حينئذٍ» حين كان له عموم، «وإن كان ممكناً» لجواز استعمال المعنى المجازي، «إلاّ أنه» أن الاستعمال، «بمكان...» خبر كان في قوله: (لما كان بلحاظ...)، «لاستعماله» استعمال المشتق.

[6] أي: هذا المورد الذي يمكن الحمل على المعنى الحقيقي وعلى المعنى المجازي، يختلف عن المورد الذي لا يمكن الحمل على الحقيقي، فلابد من الحمل على المعنى المجازي.

ص: 200

استعماله فيه حقيقةً، كما لا يخفى، فافهم[1].

ثم إنه ربما أورد[2] على الاستدلال بصحة السلب بما حاصله(1):

إنّه إن أريد بصحة السلب صحته مطلقاً[3] فغير سديد[4]، وإن أريد مقيداً[5] فغير مفيد؛ لأن علامة المجاز هي صحة السلب المطلق[6].

-------------------------

[1] لعله إشارة إلى أن هذا الكلام هو بمعنى (أن الاستعمال علامة الحقيقة)، وهذا ما لا يقولون به، أو إشارة إلى أنه بعد وضوح مراد المتكلّم فلا يوجود أصل يدل على أن ذلك المراد هو معنى حقيقي أم مجازي.

الإشكال على الاستدلال بصحة السلب

[2] الإشكال على الاستدلال بصحة السلب عن المنقضي لإثبات كون المشتق حقيقة في المتلبس بالحال.

وخلاصته: إن صحة السلب مطلقاً غير صحيح، وصحة السلب في الجملة غير مفيد.

أما الأول: فإن زيداً المنقضي عنه الضرب لا يصح أن نقول فيه: إنه ليس بضارب مطلقاً - لا في الماضي ولا في الحال ولا في المستقبل - وذلك لثبوت ضربه في الماضي.

وأما الثاني: فإن سلب المقيّد ليس علامة للمجاز، فإنه يصح - مثلاً - سلب (الإنسان العالم) عن زيد، وليس ذلك علامة على كون الإنسان مجازاً في زيد؛ لأن سلب المقيّد لا يلازم سلب المطلق، وهكذا هنا فإن سلب الضرب عن زيد في حال الانقضاء ليس علامة على مجازية إطلاق الضارب على زيد لو انقضى عنه الضرب.

[3] صحة السلب في جميع الحالات.

[4] فإنه كذب؛ إذ لا إشكال في كون زيد - في المثال - ضارباً في الماضي.

[5] أي: صحة سلب الضرب عنه في حال الانقضاء.

[6] في كل الحالات، وإلاّ فالسلب المقيّد يمكن حتى من المعنى الحقيقي كما مرّ مثاله.

ص: 201


1- الفصول الغروية: 60؛ بدائع الأفكار: 180.

وفيه[1]:

-------------------------

الجواب عن الإشكال

[1] حاصل الجواب: إن القيد يمكن أن يرجع إلى ثلاثة احتمالات:

1- رجوعه إلى المحمول - وهو المسلوب - فقولنا: (ليس زيد بضارب الآن) يراد نفي الضاربية المقيّدة ب(الآن) عن زيد.

2- رجوعه إلى السلب، بمعنى كون النفي في الحال، أي: ليس الآن زيد ضارباً.

3- رجوعه إلى الموضوع، أي: زيد مقيداً بالحال ليس بضارب.

فعلى الأول: لا تكون صحة السلب علامة المجاز؛ لأن نفي الضاربية المقيدة بقيد الحال لا تدل على نفي الضاربية بشكل مطلق.

وعلى الثاني: فإن صحة السلب علامة للمجاز؛ وذلك لأن اللفظ لو كان حقيقة في معنى كان حقيقة في جميع حالاته، فالإنسان حقيقة في الحيوان الناطق، سواء كان عالماً أم جاهلاً، أسود أم أبيض، رجلاً أم امرأة... وهكذا.

فلو صحّ سلب اللفظ عن بعض الحالات كان ذلك دليلاً على عدم كونه حقيقة في تلك الحالة؛ إذ لو كان حقيقة فيها لما صحّ سلبه عنها.

وهذا السلب مطلق، أي: سلب اللفظ عن تلك الحالة مطلقاً في جميع الموارد، فيكون علامة المجاز.

وهكذا في ما نحن فيه؛ لأن السلب حالاً عن كون زيد ضارباً دليل على عدم كون الضارب حقيقة في زيد في حال انقضاء الضرب؛ إذ لو كان حقيقة في تلك الحالة لما صحّ سلبه عنه.

وعلى الثالث: فكذلك؛ لأن زيداً المقيّد بكونه في الحال ليس بضارب في جميع الأزمنة؛ وذلك لأن الضارب في الزمان الماضي ليس زيد المقيد بالحال، وإلاّ لزم التناقض، فإن الضارب في الماضي هو نفس زيد لكن لا بقيد كونه في الحال، فدقق.

ص: 202

إنه إن أريد بالتقييد تقييد المسلوب[1] الذي يكون سلبه أعم من سلب المطلق[2] - كما هو واضح - فصحة سلبه[3] وإن لم تكن علامةً على كون المطلق مجازاً فيه إلاّ أن تقييده ممنوع؛ وإن أريد[4] تقييد السلب فغير ضائر[5] بكونها علامة، ضرورة[6] صدق المطلق على أفراده على كل حال، مع إمكان[7]

-------------------------

[1] وهو الاحتمال الأول، و«المسلوب» المحمول - الذي هو المشتق - ففي قولنا: (زيد ليس بضارب)، الذي تمّ سلبه هو (الضارب) لذلك أطلق عليه المسلوب.

[2] أي: سلب المقيّد لا يلازم سلب المطلق، فسلب الإنسان العالم عن زيد لا يلازم سلب الإنسان المطلق عنه.

ومعنى قوله: (أعم) هو أنه قد يصح السلب المقيّد ولا يصح السلب المطلق، وقد ثبت في علم المنطق أن المطلق أعم من المقيّد، لكن نقيض المطلق أخص من نقيض المقيد، فالحيوان أعم من الإنسان، لكن اللاحيوان أخص من اللاإنسان.

[3] أي: نعترف بأن صحة السلب عن «المسلوب المقيّد» ليست علامة للمجاز، لكنا نمنع رجوع القيد إلى المسلوب، «مجازاً فيه» أي: في المنقضي عنه المبدأ، «تقييده» أي: تقييد المسلوب.

[4] هذا الاحتمال الثاني.

[5] أي: إن تقييد السلب لا يضرّ بكون (صحة السلب) علامة للمجاز.

[6] بيان عدم الضرر في تقييد السلب؛ وذلك لأن المعنى الحقيقي لا يصح سلبه عن أفراده، فلو صحّ سلبه عن فرد من الأفراد كشف ذلك عن عدم كون ذلك الفرد معنىً حقيقياً. وفي ما نحن فيه: المشتق إذا كان حقيقة في الأعم كان المنقضي عنه المبدأ أحد أفراده، فلا يصحّ السلب عنه، ولكنا حيث وجدنا صحة سلب المشتق عن المنقضي عنه المبدأ عرفنا أنه ليس حقيقة فيه.

[7] هذا الاحتمال الثالث.

ص: 203

منع تقييده[1] أيضاً بأن يلحظ حال الانقضاء في طرف الذات[2] الجاري عليها المشتق، فيصح سلبه مطلقاً[3] بلحاظ هذا الحال، كما لا يصح سلبه بلحاظ حال التلبس، فتدبر جداً[4].

ثم لا يخفى[5] أنه لا يتفاوت في صحة السلب عما انقضى عنه المبدأ بين كون

-------------------------

[1] أي: لا توجد ضرورة في إرجاع القيد إلى (السلب) بل يمكن إرجاع القيد إلى الموضوع، ومع ذلك تكون صحة السلب حينئذٍ علامة للمجاز، «أيضاً» كما منعنا من رجوع القيد للمسلوب.

[2] أي: الموضوع الذي اتصف بتلك الصفة، فيقال: زيد بقيد كونه في الحال ليس بضارب.

[3] أي: فيصح سلب المشتق «مطلقاً» من دون تقييده بحال الانقضاء «بلحاظ هذا الحال» أي: حال الانقضاء في الموضوع، فالمعنى أن الموضوع مقيداً بحال الانقضاء يصح سلب المشتق منه بشكل مطلق - من غير تقييد المشتق بحال الانقضاء - .

مثلاً: (زيد المقيد بكونه في الحال) غير ضارب، لا في الماضي ولا في الحال، وأما الضرب الحاصل في الماضي من زيد فليس من زيد بقيد كونه في الحال.

وبعبارة أخرى إن هنا موضوعين:

الأول: زيد في الآن، ومن المعلوم أن زيداً بقيد كونه في الحال لم يكن ضارباً أصلاً.

الثاني: زيد مطلقاً أو زيد في حال التلبس، وهو الذي كان ضارباً في ما مضى.

[4] لأن المطلب دقيق، حتى لا تستشكل بأنه كيف يكون زيد المقيد بزمان الحال غير ضارب مطلقاً، مع صدور الضرب من زيد في الماضي؟ وقد عرفت الجواب بتعدد الموضوع.

عموم صحة السلب
اشارة

[5] حاصله: إن صحة السلب عن المنقضي عامة لكل الحالات، فلا تصح

ص: 204

المشتق[1] لازما وكونه متعدياً، لصحة سلب[2] الضارب عمّن يكون فعلاً غير متلبس بالضرب، وكان متلبساً به سابقاً. وأما إطلاقه عليه في الحال[3]، فإن كان

-------------------------

التفاصيل المذكورة هنا؛ وذلك لأن الكلام حول دلالة هيئة المشتق، وأما دلالات المادة فلا دخل لها في المعنى المشتق، والمصنف يشير إلى تفصيلين، ويردّهما، ومن ذلك يتضح الإشكال في سائر التفصيلات.

1- التفصيل بين اللازم والمتعدي

[1] وهو ما ذهب إليه صاحب الفصول(1):

بأن المشتق إن كان متعدياً مثل: (ضارب) فهو حقيقة في الأعم؛ وذلك لصحة إطلاق الضارب على من انقضى عنه المبدأ، فيقال: جاء الضارب مثلاً، وأما إن كان لازماً مثل: (قائم) فهو حقيقة في خصوص المتلبس؛ لعدم صحة إطلاق القائم على من انقضى عنه المبدأ.

ولعل وجه هذا التفصيل هو أن الفعل اللازم يقوم بالذات، فانقضاؤه عن الذات سبب سلب لفظ المشتق عنها، وهذا بخلاف الفعل المتعدي فإنه يقوم بالغير - وهو المفعول - فلذا لا يعتبر في صدق المشتق على الذات بقاء المبدأ فيها.

[2] وهذا بيان الإشكال على هذا التفصيل، وحاصله: صحة السلب مطلقاً عمن انقضى عنه المبدأ، سواء كان الفعل لازماً أم متعدياً، فكما يصح سلب القيام عمن هو قاعد الآن وإن كان قائماً سابقاً، كذلك يصح سلب الضرب عمن ليس بضارب الآن وإن كان ضارباً في ما مضى.

[3] دفع وهم، وحاصل الوهم: إنه يصح إطلاق (الضارب) على من انقضى عنه المبدأ، وهذا دليل الحقيقة.

وحاصل الدفع: إن الإطلاق إن كان بلحاظ حال التلبس فهذا لا إشكال في كونه حقيقة - بلا فرق بين اللازم والمتعدي - فلا فرق في كونه حقيقة بين قولنا: (كان زيد أمس ضارباً) وبين قولنا: (كان أمس قائماً).

ص: 205


1- الفصول الغروية: 60.

بلحاظ حال التلبس، فلا إشكال كما عرفت، وإن كان بلحاظ الحال فهو وإن كان صحيحاً إلاّ أنه لا دلالة على كونه بنحو الحقيقة، لكون الاستعمال أعم منها، كما لا يخفى.

كما لا يتفاوت[1] في صحة السلب عنه بين تلبسه بضد المبدأ وعدم تلبسه، لما عرفت[2] من وضوح صحته مع عدم التلبس أيضاً، وإن كان معه أوضح.

-------------------------

وإن كان الإطلاق بلحاظ الحال فهو مجاز، ومجرد الاستعمال ليس دليلاً على الحقيقة.

«إطلاقه» المشتق، «عليه» على المنقضي، «فلا إشكال» أي: في كونه حقيقة، بلا فرق بين اللازم والمتعدي فهذا ليس مورداً للخلاف، «وإن كان» الإطلاق، «فهو» فالإطلاق، «منها» من الحقيقة.

2- التفصيل بين التلبس بالضد وعدمه

[1] وهذا تفصيل آخر نسب إلى الشهيد، وحاصله: إنه بعد انقضاء المبدأ: تارة تتلبس الذات بضد المبدأ، كالقائم إذا قعد، وحينئذٍ لا يكون إطلاق القائم على الذات حقيقة، وتارة لا تتلبس الذات بالضد، كالأسود إذا صار بلا لون، فيكون إطلاق الأسود عليها حقيقة.

والدليل هو أنه مع اتصاف الذات بالضد فإن إطلاق المبدأ المنقضي يستلزم منه الجمع بين الضدين، فنقول: هذا قائم وقاعد حقيقة، وهذا واضح البطلان، بخلاف ما لو انقضى المبدأ ولم تتصف الذات بالضد، فلا يستلزم محذور اجتماع الضدين، «عنه» عن المنقضي.

[2] حاصل الإشكال على هذا التفصيل: هو صحة السلب عن المنقضي حتى لو لم يتلبس بالضد، فما كان أسود ثم صار بلا لون يصحّ أن نقول فيه: هذا ليس بأسود، «عنه» عن المنقضي، «تلبسه» أي: تلبس الذات، وتذكير الضمير باعتبار (المنقضي عنه)، «صحته» صحة السلب، «معه» مع التلبس بالضد.

ص: 206

ومما ذكرنا[1] ظهر حال كثير من التفاصيل، فلا نطيل بذكرها على التفصيل.

حجة القول بعدم الاشتراط وجوه:

الأول[2]: التبادر. وقد عرفت أن المتبادر هو خصوص حال التلبس.

-------------------------

[1] أي: ما ذكرناه من صحة السلب عن المنقضي بلحاظ الحال مطلقاً، و«من التفاصيل»: التفصيل بين كون المشتق محكوماً عليه أو محكوماً به، وبين كونه ملكة أو عدم كونه ملكة، ونحو ذلك من التفاصيل.

والحاصل: إن هيئة المشتق تدل على اتصاف الذات بالمبدأ في حال التلبس، وهذا هو المعنى الحقيقي لها، ولا فرق في ذلك بين اختلاف المبادئ من أية جهة من الجهات.

أدلة القول للأعم
الدليل الأول: التبادر

[2] استدلوا بأنه حين إطلاق لفظ المشتق فإنه يتبادر إلى الأذهان من تلبس بالمبدأ ولو آناً ما.

ويرد عليه: إن التبادر إنما هو في خصوص المتلبس بالمبدأ، كما مرّ.

ولعل منشأ خطأ هؤلاء هو أنهم رأوا إطلاق لفظ المشتق على ما انقضى عنه المبدأ من دون عناية المجاز، مثل إطلاق لفظ القاتل - مثلاً - على من قتل في الماضي، لكنهم غفلوا عن أن هذا الإطلاق إنما هو بلحاظ حال التلبس، وهذا لا خلاف في كونه حقيقة.

وحيث إن التبادر أمر وجداني، وكل واحد يمكن أن يدعي خلاف ما يدعيه الآخر ويستدل له بالوجدان، لذلك لابدّ من البحث عن المنبّهات على الوجدان، ومنها: مراجعة العرف وأهل اللسان وإعطاؤهم أمثلة ليحكموا بحكمهم، مثلاً: هل يصح في الليل أن نقول: هذا صائم الآن؟ كلاّ. نعم، يصحّ أن نقول: كان صائماً، فإطلاق الصائم عليه بلحاظ حال التلبس لا بلحاظ حال الانقضاء.

ص: 207

الثاني[1]: عدم صحة السلب في مضروب ومقتول عمن انقضى عنه المبدأ.

وفيه[2]:

-------------------------

الدليل الثاني: عدم صحة السلب

[1] فالمقتول - مثلاً - قد انقضى عنه المبدأ - وهو القتل الذي وقع في ما مضى وانتهى - ومع ذلك لا يصح سلب المقتول عنه، فهل يصح أن نقول: (إن حمزة رضوان الله عليه ليس بمقتول)!

[2] حاصل الجواب من وجوه ثلاثة:

1- التصرف في المبدأ، أي: (القتل) - مثلاً - يراد منه خروج الروح بسبب قهري مثلاً، وهذا المعنى مستمر إلى الأبد، فقولنا: (حمزة مقتول) يراد به هذا المعنى، لا الطعن وقطع الرأس ونحو ذلك، وهكذا في (مضروب) يراد منه أثر الضرب، وهو مستمر أبداً.

وبعبارة أخرى: هيئة المشتق تدل على خصوص المتلبس بالحال، والمثالان - المبدأ أي: القتل والضرب - أريد منهما معنىً مجازي، والمجاز في المادة لا يلازم المجاز في الهيئة، فهيئة المشتق باقية على معناها الحقيقي، وصحة إطلاق المقتول والمضروب لأجل عدم انقضاء القتل والضرب بمعناهما المجازي.

2- أن يكون إطلاق المضروب والمقتول باعتبار حالة التلبس، أي: كان مضروباً وكان مقتولاً، إذا أريد المعنى الحقيقي للضرب والقتل، وهو الطعنة الموجبة لزهوق الروح واللطمة، وقد ذكرنا مراراً أنه إذا أريد حالة التلبس يكون إطلاق المشتق على نحو الحقيقة.

3- إنه يصح السلب بلحاظ الحال، بأن نقول: إنه ليس بمقتول الآن ولا بمضروب الآن، بل هو مقتول ومضروب في الماضي.

والحاصل: إن عدم صحة السلب إن كانت بلحاظ حالة التلبس، أو باعتبار التصرف في معنى القتل والضرب فهذا لا يدل على وضع المشتق للأعم. وإن كانت بلحاظ الحال فعدم صحة السلب ممنوعة، كما اتضح.

ص: 208

إنّ عدم صحته في مثلهما إنما هو لأجل[1] أنه أريد من المبدأ معنىً يكون التلبس به باقياً في الحال ولو مجازاً، وقد انقدح من بعض المقدمات[2] أنه لا يتفاوت الحال في ما هو المهم في محل البحث والكلام، ومورد النقض والإبرام اختلاف ما يراد من المبدأ في كونه حقيقةً أو مجازاً.

وأما لو أريد[3] منه نفس ما وقع على الذات مما صدر عن الفاعل، فإنما لا يصح السلب في ما لو كان بلحاظ حال التلبس والوقوع كما عرفت، لا بلحاظ الحال أيضاً، لوضوح[4] صحة أن يقال: (إنه ليس بمضروب الآن، بل كان).

الثالث[5]: استدلال الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ - تأسياً بالنبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ - كما عن غير واحد من

-------------------------

[1] إشارة إلى الجواب الأول، «أنه» للشأن، «التلبس به» بالمبدأ، «ولو مجازاً» أي: ذلك المعنى مجازي، لكنه يرتبط بالمادة ولا يرتبط بهيئة المشتق - التي هي محلّ البحث - .

[2] أي: المقدمة الرابعة، وحاصل الكلام: إن كلامنا ليس في المادة، فقد تكون حقيقة وقد تكون مجازاً - وفي المثالين معناها مجازي - وإنما الكلام في مدلول الهيئة، وفي هذين المثالين الهيئة دالة على معناها الحقيقي، وهو إطلاقها على المتلبس بالمبدأ.

[3] إشارة إلى الجواب الثاني، «منه» من المبدأ، «نفس ما وقع على الذات» أي: المعنى الحقيقي للقتل، وهو الطعن الموجب لزهوق الروح، والمعنى الحقيقي للضرب وهو اللطمة.

[4] إشارة إلى الجواب الثالث.

الدليل الثالث: استدلال الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ

[5] حاصله: إن ابراهيم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ دعا الله تعالى أن يجعل الإمامة في ذريته، فأجابه تعالى بقوله: {لَا يَنَالُ عَهۡدِي ٱلظَّٰلِمِينَ}(1)، ثم إن الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ استدل على عدم

ص: 209


1- سورة البقرة، الآية: 124.

الأخبار بقوله تعالى[1] {لَا يَنَالُ عَهۡدِي ٱلظَّٰلِمِينَ}(1) على عدم لياقة من عبد صنماً أو وثناً[2] لمنصب الإمامة والخلافة[3]؛ تعريضاً بمن تصدى لها ممن عبد الصنم

-------------------------

صحة إمامة خلفاء الجور بأنهم قبل الإسلام كانوا مشركين يعبدون الأصنام فلذا لا يصلحون للإمامة بنص الآية الدالة على نيل الظالمين عهد الله تعالى بالإمامة، والشرك هو ظلم عظيم لقوله تعالى: {إِنَّ ٱلشِّرۡكَ لَظُلۡمٌ عَظِيمٞ}(2).

و هذا الاستدلال يتوقف على كون المشتق حقيقة في الأعم؛ إذ لو كان حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدأ لأمكن للخصم أن يقول: إن هؤلاء أسلموا فانقضى عنهم الظلم، فلا يصدق عليهم الظالم بعد إسلامهم!

[1] «بقوله» متعلق ب- (استدلال الإمام)، أي: استدل الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بهذه الآية، فعن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (أوحى الله عزوجل إلى ابراهيم {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامٗاۖ}(3) فاستخف إبراهيم الفرح، فقال: يارب ومن ذريتي أئمة مثلي؟ فأوحى الله عزوجل إليه... قال: لا أعطيك عهداً لظالم من ذريتك، قال: يارب ومَن الظالم من ولدي الذي لا ينال عهدك؟ قال: من سجد لصنم من دوني لا أجعله إماماً أبداً، ولا يصلح أن يكون إماماً...)(4)

الحديث.

[2] قيل في الفرق بينهما: إن الصنم مصوّر، والوثن حجارة لا صورة لها، كانوا يتخذونهما للعبادة من دون الله تعالى.

[3] كلمتان مترادفتان إلاّ أن الفرق بينهما اعتباري، فباعتبار الناس هو إمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، وباعتبار الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ هو خليفته.

ص: 210


1- سورة البقرة، الآية: 124.
2- سورة لقمان، الآية: 13.
3- سورة البقرة، الآية: 124.
4- الأمالي (للشيخ الطوسي): 379.

مدة مديدة. ومن الواضح توقف ذلك[1] على كون المشتق موضوعاً للأعم، وإلاّ لما صح التعريض، لانقضاء تلبسهم بالظلم وعبادتهم للصنم حين التصدي للخلافة.

والجواب: منع التوقف على ذلك[2]، بل يتم الاستدلال ولو كان موضوعاً لخصوص المتلبس.

-------------------------

[1] أي: الاستدلال بالآية، «وإلاّ» أي: إن كان المشتق حقيقة في خصوص المتلبس.

[2] أي: على وضع المشتق للأعم.

والجواب يتوقف على مقدمة، وهي أن الأوصاف التي تؤخذ في موضوعات الأحكام على ثلاثة أقسام:

1- ما لا دخل لها في الحكم أصلاً، وإنما اُخذ الوصف للإشارة إلى الموضوع، كقوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (الإمام خاصف النعل)(1)

ومن المعلوم أن خصف النعل لا دخل له في الإمامة، وإنما أراد الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ الإشارة إلى الإمام علي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ حيث كان في تلك الحالة مشغولاً بترقيع نعله.

2- ماله دخل في الحكم حدوثاً ولا دخل له في بقاء الحكم، كقوله: (الماء المتغيّر بالنجاسة نجس)، فوصف التغير له تأثير في حدوث النجاسة في الكر، لكن لا تأثير له في بقائها، فلو زال التغيّر بقيت النجاسة.

3- ما له دخل في الحكم حدوثاً وبقاءً، مثل: (صلّ خلف العادل) فالحكم - وهو جواز الصلاة - يتوقف على حدوث العدالة وبقائها، فلا يكفي مجرد حدوثها.

إذا اتضح ذلك نقول في الجواب: إن الاستدلال بالآية إنما هو لأجل كون الظلم من قبيل القسم الثاني، أي: إن الظلم - ولو آناً ما - يمنع عن الإمامة أبداً؛ وذلك

ص: 211


1- الكافي 5: 12.

وتوضيح ذلك يتوقف على تمهيد مقدمة، وهي: إنّ الأوصاف العنوانية[1] التي تُؤخذ في موضوعات الأحكام تكون على أقسام:

أحدها: أن يكون أخذ العنوان لمجرد الإشارة إلى ما هو في الحقيقة موضوعاً للحكم، لمعهوديته بهذا العنوان[2] من دون دخل لاتصافه به في الحكم أصلاً.

ثانيها: أن يكون لأجل الإشارة إلى عِلّية المبدأ للحكم[3] مع كفاية مجرد صحة جري المشتق عليه ولو في ما مضى.

-------------------------

لأن الآية في صدد بيان عظم منزلة الإمامة وجلالة قدرها بحيث لا يليق بها إلاّ من لم يظلم في كلّ عمره.

ويمكن الجواب بنحو آخر، وهو أن المشتق حقيقة في خصوص المتلبس، لكن في الآية أريد الأعم؛ وذلك بقرينة جلالة منصب الإمامة، فالقرينة هي الدالة على عدم لياقة من عبد صنماً للإمامة أبداً، ولا يخفى أن هذا إنما هو في مقام الاحتجاج على الخصم، وإلاّ فجميع خلفاء الجور كانوا متلبسين بالظلم حين تصديهم للإمارة بمختلف أنواع الظلم، ومنها: عبادة الأصنام باطناً وعدم الإيمان بنبوة الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وعدم الإطاعة للإمام الحق، فضلاً عن جورهم على الناس.

[1] أي: التي أخذت في موضوع الأحكام، وإنما سميت (عنوانية) لأنها تُؤخذ عنواناً للموضوع، كقولنا: (العادل يُصلّى خلفه).

[2] أي: لمعرفة الناس بأن الموضوع متصف بهذا العنوان، ففي المثال كان الناس في المسجد يرون الإمام علياً عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ مشغولاً بخصف النعل، وبعبارة أخرى: اتخذ الوصف طريقاً لتفهيم الموضوع، «معهوديته» أي: الموضوع، «لاتصافه» أي: الموضوع، «به» بالعنوان.

[3] أي: إن الحكم متوقف على اتصاف الموضوع بذلك الوصف، فالنجاسة في المثال متوقفة على اتصاف الكرّ بالتغيّر، بحيث لو لم يتغيّر لم تنجس، لكن التغيّر

ص: 212

ثالثها: أن يكون لذلك[1] مع عدم الكفاية، بل كان الحكم دائراً مدار صحة الجري عليه[2] واتصافه به حدوثاً وبقاءً.

إذا عرفت هذا فنقول[3]:

-------------------------

علة مُحدثة للحكم لا مُبقية، فالحكم باقٍ حتى مع زوال التغيّر، «مع كفاية» أي: يكفي في استمرار الحكم، «عليه» على الموضوع كالماء في المثال.

[1] أي: يكون أخذ الوصف في الموضوع، «لذلك» أي: للإشارة إلى عِلّية المبدأ للحكم، «عدم الكفاية» أي: عدم كفاية الحدوث لاستمرار الحكم، بل لابد من بقاء الوصف ليبقى الحكم، فإن زال الوصف زال معه الحكم.

[2] أي: جري المبدأ على الموضوع، فلابد من اتصافه به استمراراً ليستمر الحكم، وقوله: (واتصافه به) عطف تفسيري، أي: اتصاف الموضوع بالمبدأ.

[3] حاصله: إنه لا إشكال في عدم كون (الظالمين) في الآية من القسم الأول؛ لعدم إرادة أشخاص معينين، بل أريد كل ظالم في كل زمان ومكان، فيدور الأمر في (الظالمين) بين القسم الثاني والثالث.

فإذا لم تكن هناك قرينة على التعيين في أحدهما فلا يمكن الاستدلال بالآية على أن المشتق أعم، فلعلّ (الظالمين) في الآية من القسم الثاني، أي: إن الظلم سبب عدم صلاحية الظالم للإمامة حدوثاً لا بقاءً، بمعنى أن حدوث الظلم - حتى لو لم يبق - سبب عدم الصلاحية للإمامة، فيكون استدلال الإمام بالآية لهذه الجهة، لا لكون المشتق حقيقة في الأعم.

ولكن قامت القرينة على أن (الظالمين) في الآية من قبيل القسم الثاني، وتلك القرينة هي ما دلت عليه الآية من عظم منزلة الإمامة - بحيث إن إبراهيم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لم ينلها إلاّ بعد نبوته بسنوات طوال، وبعد أن اجتاز الابتلاءات والامتحانات الصعبة، فإذا كان حال إبراهيم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ هكذا فهل يمكن أن ينال الإمامة من كان أكثر عمره عابداً للصنم؟!

ص: 213

إن الاستدلال بهذا الوجه[1] إنما يتم لو كان أخذ العنوان في الآية الشريفة على النحو الأخير، ضرورة[2] أنه لو لم يكن المشتق للأعم لما تمّ بعد عدم التلبس بالمبدأ ظاهراً حين التصدي، فلابد أن يكون[3] للأعم، ليكون حين التصدي حقيقةً من الظالمين ولو انقضى عنهم التلبس بالظلم، وأما إذا كان[4] على النحو الثاني فلا، كما لا يخفى.

ولا قرينة على أنه على النحو الأول[5]،

-------------------------

[1] أي: الدليل الثالث للأعم، وهو استدلال الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بهذه الآية، «العنوان» أي: (الظالمين)، «النحو الأخير» من كون الظلم حدوثاً وبقاءً سبباً لعدم القابلية للإمامة.

[2] بيان أن الاستدلال يتوقف على أخذ (الظالمين) على النحو الأخير، «أنه» للشأن، «لما تمَّ» الاستدلال بالآية، «عدم التلبس بالمبدأ ظاهراً» أي: تركهم لعبادة الأصنام في الظاهر؛ لأن المقام مقام احتجاج على المخالفين القائلين بإسلام خلفاء الجور واقعاً، «حين التصدي» للخلافة.

[3] أي: يكون المشتق، «للأعم» أي: حقيقة في الأعم، «ليكون» أي: ليكون الخليفة الجائر، ولو قال (ليكونوا) لكان أحسن، «ولو انقضى» في الظاهر.

[4] أي: إذا كان أخذ عنوان الظالمين في الآية، «النحو الثاني» من كون المبدأ - وهو الظلم - سبباً حدوثاً لا بقاءً، «فلا» أي: فلا يتم الاستدلال بالآية.

[5] أي: القسم الثالث، وإنما عبّر عنه بالنحو الأول لأنه ذكره أولاً في الجواب عن الاستدلال، حيث قال: (إن الاستدلال بهذا الوجه... الخ).

والمقصود بيان أن الاستدلال بالآية على الأعم يتوقف على كون (الظالمين) من القسم الثالث، ولكن لا قرينة تعيّن هذا، بل يحتمل أن يكون من القسم الثاني، فلا يمكن الاستدلال بالآية على الأعم.

ص: 214

لو لم نقل[1] بنهوضها على النحو الثاني، فإن الآية الشريفة في مقام بيان جلالة قدر الإمامة والخلافة وعظم خطرها ورفعة محلها، وأنّ لها خصوصية[2] من بين المناصب الإلهيّة، ومن المعلوم أن المناسب لذلك هو أن لا يكون المتقمص بها متلبساً بالظلم أصلاً، كما لا يخفى.

إن قلت[3]: نعم، ولكن الظاهر أن الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ إنما استدل بما هو قضية ظاهر العنوان وضعاً، لا بقرينة المقام مجازاً، فلابد[4] أن يكون للأعم، وإلاّ لما تَمَّ.

-------------------------

[1] أي: بل القرينة دالة على أن (الظالمين) في الآية من القسم الثاني، أي: الظلم سبب لعدم القابليّة للإمامة حدوثاً، فحتى لو تاب فإنه لا يصلح لها، «بنهوضها» أي: القرينة.

[2] لأنها أعلى من النبوة، فإبراهيم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ كان نبياً، وبعد اجتيازه الاختبارات الصعبة استحق نيل منصب الإمامة، «لذلك» المنصب المهم، «المتقمص بها» أي: الذي يتبوأ منصب الإمامة، «أصلاً» في كل حياته.

[3] حاصله: إن الظاهر أن الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بصدد الاستدلال بالمعنى الحقيقي لكلمة (الظالمين)، لا أنه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بصدد التمسك بقرينة المقام، فإن القرينة تدل على المجازية؛ لعدم حاجة المعنى الحقيقي إليها.

وبناءً على إرادة المعنى الحقيقي وعدم الحاجة إلى القرينة لابد من القول بوضع المشتق للأعم ليتم استدلاله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، «نعم» أي: نقبل أن المناسب لمنصب الإمامة هو عدم الظلم في كل العمر، «ظاهر العنوان» أي: (الظالمين)، «وضعاً» أي: المعنى الحقيقي الموضوع له، «مجازاً» لأن الاحتياج إلى القرينة دليل المجازية.

[4] أي: لما كان مقصوده عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ الاستدلال بالمعنى الحقيقي من غير قرينة لابد في صحة الاستدلال من كون المشتق حقيقة في الأعم ليتم الاستدلال، فإن الوضع لخصوص المتلبس لا ينسجم مع الاستدلال، «وإلاّ» أي: لو لم يكن المشتق للأعم، «لما تمّ» أي: لما صحّ الاستدلال.

ص: 215

قلت[1]: لو سلم، لم يكن[2] يستلزم جري المشتق على النحو الثاني كونه مجازاً، بل يكون حقيقةً لو كان بلحاظ حال التلبس، كما عرفت؛ فيكون معنى الآية - والله العالم -: من كان ظالماً ولو آناً في زمان سابق لا ينال عهدي أبداً. ومن الواضح أن إرادة هذا المعنى لا يستلزم الاستعمال لا بلحاظ حال التلبس[3].

ومنه[4]

-------------------------

[1] حاصل الجواب: أولاً: لا نسلّم أن الإمام يريد الاستدلال بالوضع من دون التمسك بالقرينة، بل هو عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ يريد الاستدلال بالظهور، ولا فرق في حجية الظهور بين كونه مستنداً إلى الوضع أو إلى القرينة.

وثانياً: إنه لا يلزم المجازية حتى لو قلنا: إنّ المشتق حقيقة في خصوص المتلبس، فإن من تصدّى للخلافة بعد تركه عبادة الأصنام يصح إطلاق (الظالم) عليه باعتبار حال التلبس، كما صحّ إطلاق السارق والقاتل على من انقضى عنه القتل والسرقة، ولكن باعتبار تلبسه بهما في الماضي - كما مرّ تفصيله - فيكون معنى الآية من تلبس بالظلم ولو آناً ما فلا يناله عهد الله تعالى في الإمامة.

وأما القرينة فهي لتعيين أحد المصاديق للمعنى الحقيقي، فإن استعمال (الظالم) في المتلبس بالظلم معنى حقيقي، وله مصاديق، أحدهما: من كان متلبساً، والآخر: من لا زال متلبساً، والثالث: من تلبس سواء استمر تلبسه أم لا، فالقرينة المذكورة لتعيين المصداق الثالث.

[2] اسم (لم يكن) ضمير الشأن، والخبر جملة (يستلزم... الخ)، «كونه» أي: المشتق، «لوكان» الجري.

[3] كي يستلزم المجازية، بل الاستعمال إنما هو بلحاظ حال التلبس، وهو المعنى الحقيقي.

دليل التفصيل بين المحكوم عليه والمحكوم به

[4] أي: من أن استعمال المشتق بلحاظ حال التلبس هو استعمال في المعنى الحقيقي.

ص: 216

قد انقدح ما في الاستدلال على التفصيل[1] بين المحكوم عليه والمحكوم به - باختيار عدم الاشتراط في الأول(1)- بآية[2] حد السارق والسارقة والزاني والزانية. وذلك[3] حيث ظهر أنه[4] لا ينافي إرادة خصوص حال التلبس دلالتها على ثبوت القطع والجلد مطلقاً ولو بعد انقضاء المبدأ؛ مضافاً[5] إلى وضوح بطلان تعدد الوضع حسب وقوعه محكوماً عليه أو به، كما لا يخفى.

-------------------------

[1] حاصله: إن المشتق إن كان محكوماً عليه - أي: موضوعاً - فهو موضوع للأعم، بدليل آية حد السرقة والزنا، فإنه لو كان الوضع لخصوص المتلبس لما أمكن إجراء الحدّ أبداً؛ لأنهما حين اعتقالهما وسوقهما إلى المحكمة قد انقضى عنهما السرقة والزنا.

وأما إذا كان المشتق محكوماً به - أي: حكما - مثل: (زيد قائم) فهو موضوع لخصوص المتلبس، ولعلّ دليلهم هو التبادر وصحة السلب ونحو ذلك.

[2] متعلق ب- (الاستدلال).

[3] هذا إشكال على التفصيل:

أولاً: إنّ (السارق) و(الزاني) استعملا بلحاظ حال التلبس، أي: من كان سارقاً ومن كان زانياً.

وثانياً: استلزام هذا التفصيل تعدد الوضع في كل مشتق؛ لأن المشتق كما يستعمل محكوماً عليه كذلك يستعمل محكوماً به، فحين الأول يكون موضوعاً للأعم، وحين الثاني يكون موضوعاً لخصوص المتلبس، وهذا واضح البطلان.

[4] هذا الإشكال الأول، «أنه» للشأن، و«دلالتها» مفعول (لا ينافي) والضمير للآية، أي: إرادة المتلبس من كلمة السارق والزاني لا تنافي إجراء الحدّ، وفسّر المصنف قوله: (مطلقاً) بقوله: (ولو بعد انقضاء... الخ).

[5] هذا هو الإشكال الثاني؛ وذلك لوضوح أن كلمة (السارق) مثلاً لها معنى واحد لا معنيان.

ص: 217


1- الحدائق الناضرة 1: 122.

ومن مطاوي ما ذكرنا هاهنا وفي المقدمات ظهر حال سائر الأقوال، وما ذكر لها من الاستدلال، ولا يسع المجال لتفصيلها، ومن أراد الاطلاع عليها فعليه بالمطولات.

بقي أمور: الأول: إن مفهوم المشتق[1] - على ما حققه المحقق الشريف في بعض حواشيه(1) - بسيط منتزع عن الذات[2] باعتبار[3] تلبسها بالمبدأ واتصافها به، غير

-------------------------

أمور ترتبط ببحث المشتق
الأمر الأول: في بساطة المشتق
اشارة

[1] أما مصداقه الخارجي فهو مركب عادة، والمفهوم: هو ما ينقدح في الذهن، والمصداق: هو الوجود الخارجي، مثلاً: حينما نسمع لفظة (العالم) ينقدح في ذهننا معنىً واحد، لا معنيان، مع أن المصداق الخارجي للعالم هو (زيد) مثلاً، ولا إشكال في كونه مركباً.

[2] أما كونه بسيطاً فلأنّه لا ينقدح في الذهن إلاّ شيء واحد، لا شيئان، وهذا أمر وجداني وسيأتي البرهان له، عكس مثل: (غلام زيد) فإنه ينقدح في الذهن شيئان.

وأما كونه منتزع عن الذات فلأن العقل حينما يرى الوجود الخارجي المتصف بالمبدأ فإنه ينتزع عنه المشتق، مثلاً: حينما نرى (زيداً) وهو متصف بصفة (العلم) ننتزع منه (العالم)؛ وذلك لأن الانتزاع إنما هو عملية ذهنية، لكن منشأها الوجود الخارجي - عادة - مثلاً (الأربعة) الموجودة في الخارج ينتزع الذهن منها (الزوجية).

[3] هذا منشأ الانتزاع، وقوله: (واتصافها به) عطف تفسيري لقوله: (تلبسها بالمبدأ)، وكذا قوله: (غير مركب) عطف بيان لقوله: (بسيط).

ص: 218


1- شرح المطالع: 11.

مركب. وقد أفاد في وجه ذلك[1]: «إن مفهوم الشيء لا يعتبر في مفهوم الناطق - مثلاً -، وإلاّ لكان العرض العام[2] داخلاً في الفصل؛

-------------------------

الدليل الأول لبساطة المشتق

[1] وهو الدليل البرهاني، وحاصله:

إن مفهوم المشتق لو كان مركباً كان التركيب من أمرين (الشيء) و(المبدأ)، فيكون مفهوم (العالم) مثلاً (شيء له العلم)، فنقول: إن (الشيء) المأخوذ في المفهوم هل هو مفهوم الشيء أم مصداق الشيء؟ وفي كليهما المحذور، وحيث بطل التالي فالمقدم - وهو تركب المشتق - مثله في البطلان.

1- أما (مفهوم الشيء) فهو عرض عام؛ لأنه يعرض كل الموجودات؛ إذ ليس مفهوم الشيء داخلاً في جنسها ولا فصلها.

وحيث إن (الناطق) مشتق فعلى هذا يكون معناه (شيء له النطق)، فدخل (مفهوم الشيء) في الفصل - وهو الناطق - ولازم ذلك دخول العرض العام في الفصل، وهو محال؛ لأن الفصل ذاتي، والعرض العام غير ذاتي، فدخول العرض العام في الفصل معناه كون مثل: (الناطق) ذاتياً وغير ذاتي وهو تناقض.

2- وأما (مصداق الشيء) فهو الوجود الخارجي لذلك المفهوم، فعلى القول بتركب المشتق منه ومن المبدأ يكون معنى (الإنسان كاتب) هو (الإنسان إنسان له الكتابة)، ومن المعلوم أن قضية (الإنسان كاتب) قضية ممكنة، أما (الإنسان إنسان له الكتابة) فهي قضية ضرورية؛ لأن حمل الشيء على نفسه ضروري. فلازم التركب هو انقلاب القضية الممكنة إلى قضية ضرورية، وهو باطل بداهة.

[2] وهو ما كان خارجاً عن الذات لكنه يعرض عليها، وكونه عاماً لأنه غير خاص بنوع من الأنواع كالمشي، عكس العرض الخاص الذي يعرض على نوع واحد كالضاحك.

ص: 219

ولو اعتبر فيه[1] ما صدق عليه الشيء انقلبت مادة الإمكان الخاص[2] ضرورة[3]، فإن الشيء الذي له الضحك هو الإنسان، وثبوت الشيء لنفسه ضروري»(1).

هذا ملخص ما أفاده الشريف على ما لخصه بعض الأعاظم(2).

وقد أورد عليه في الفصول[4]، ب- : «أنّه يمكن أن يختار الشق الأول[5]، ويدفع الإشكال[6] بأن كون الناطق - مثلاً - فصلاً مبني على عرف المنطقيين، حيث اعتبروه

-------------------------

[1] أي: في المشتق، «ما صدق عليه الشيء» أي: المصداق الخارجي.

[2] (المادة) أي: النسبة بين الموضوع والمحمول، وهذا حسب اصطلاح المنطقيين، وقوله: (الخاص) لأن القضية الممكنة تنقسم إلى قسمين: (الممكنة العامة) وهي التي حُكم فيها بعدم ضرورة كلا الجانبين - السلبي والإيجابي - .

مثلاً قولنا: (الإنسان كاتب) قد نلاحظ فيه أن عدم الكتابة ليس بضروري فقط، فهذا الإمكان العام، وقد نلاحظ أن الكتابة وعدمها ليسا بضروريين، فهذا الإمكان الخاص.

[3] أي: إلى قضية ضرورية.

1- إيراد الفصول على الشِق الأول
اشارة

[4] حاصله: إمكان دفع الإشكال سواء أريد من (الشيء) المفهوم أم المصداق.

أما لو أريد من (الشيء) المفهوم، فنقول: إن كلامنا في المعنى اللغوي للمشتق، وأما المنطقيون فقد استعملوا المشتق في الفصل بعد تجريده عن العرض العام - أي: الشيء - فالناطق لغةً هو (شيء له النطق) وكلامنا في تحقيق معنى المشتق حسب اللغة، لا حسب اصطلاح المنطقيين.

[5] أي: كون (الشيء) في المشتق هو (مفهوم الشيء).

[6] بدخول العرض العام في الفصل، «اعتبروه» أي: الناطق، «مفهوم الذات»

ص: 220


1- شرح المطالع: 11.
2- الفصول الغروية: 61.

مجرداً عن مفهوم الذات، وذلك لا يوجب وضعه لغةً كذلك»(1).

وفيه[1]: إنّه من المقطوع أن مثل الناطق قد اعتبر فصلاً بلا تصرف في معناه أصلاً، بل بما له[2] من المعنى، كما لا يخفى.

والتحقيق[3]: أن يقال: إن مثل الناطق ليس بفصل حقيقي، بل لازم ما هو الفصل وأظهر خواصه[4]،

-------------------------

أي: مفهوم الشيء، «وذلك» اعتبار المنطقيين، «وضعه» أي: المشتق، «كذلك» مجرداً عن الذات.

إشكال المصنف على الفصول

[1] حاصله: إنا نعلم أن المنطقيين لم يُريدوا من (الناطق) مثلاً إلاّ المعنى اللغوي، وليس لهم اصطلاح آخر.

[2] أي: بل اعتبروه فصلاً بما للناطق من المعنى اللغوي.

[3] بعد أن لم يرتضِ المصنف جواب صاحب الفصول أجاب هو بجواب آخر، وهو: إن الفصول المنطقية ليست فصولاً حقيقية؛ وذلك لعدم معرفتنا بحقائق الأشياء، فلا يعلمها إلاّ الله تعالى، فلا نعلم جنسها ولا فصلها، وإنما يذكر المنطقيون ما هو لازم الفصل، وأظهر خواصه للدلالة عليه، والحاصل: إن الفصل المنطقي هو (فصل مشهوري) أي: ما اشتهر بينهم، وليس فصلاً حقيقياً، فالناطق في الحقيقة هو عرض خاص لكنه لازم للفصل الحقيقي، وعليه فلا مانع من دخول العرض العام - وهو مفهوم الشيء - في العرض الخاص؛ لأن كلا العرضين خارجان عن الذات، فلا يلزم محذور دخول العرض في الذات.

[4] هذا عطف تفسيري لبيان المقصود من (لازم ما هو الفصل)، فإن لازم الفصل الحقيقي قد يكون لازماً عاماً، وهذا لا يستعمل في الإشارة إلى الفصل الحقيقي، وقد يكون لازماً خاصاً وهو ظاهر، فهذا يستعمل للإشارة إلى الفصل الحقيقي.

ص: 221


1- الفصول الغروية: 61.

وإنما يكون فصلاً مشهورياً[1] منطقياً يوضع مكانه إذا لم يُعلم نفسه، بل لا يكاد يُعلم، كما حقق في محله، ولذا[2] ربما يجعل لازمان مكانه إذا كانا[3] متساويي النسبة إليه، كالحساس والمتحرك بالإرادة في الحيوان؛ وعليه[4] فلا بأس بأخذ مفهوم الشيء في مثل الناطق، فإنه وإن كان عرضاً عامّاً، لا فصلاً مقوّماً للإنسان، إلاّ أنه بعد تقييده بالنطق واتصافه به[5] كان من أظهر خواصه.

وبالجملة: لا يلزم من أخذ مفهوم الشيء في معنى المشتق إلاّ دخول العرض في الخاصة[6]

-------------------------

[1] أي: ما اشتهر بين المنطقيين، «مكانه» أي: مكان الفصل الحقيقي، «إذا لم يعلم» أي: لم يُعلم الفصل الحقيقي.

[2] هذا تأييد لكون الفصول المنطقية ليست فصولاً حقيقية، وحاصله: اتفاق المنطقيين على أن الفصل لا يكون إلاّ شيئاً واحداً غير مركب، ومع ذلك قد يجعلون الفصل مركباً من شيئين، كما في (الحيوان) حيث إن فصله (الحساس المتحرك بالإرادة)، وهذا يكشف عن أن الفصول التي يذكرونها ليست فصولاً حقيقية، وإلاّ كان كلامهم متناقضاً، حيث إنّهم من جهة يلتزمون بعدم تركب الفصل، ومن جهة أخرى يجعلون بعض الفصول مركبة، «مكانه» مكان الفصل.

[3] هذا تعليل لجعل فصلين، فإن أظهر الخواص إذا كان واحداً - كالناطق في الإنسان - جعلوه فصلاً لوحده، ولكن لو تعددت الخواص وكانت متساوية فيجعلونها كلها في الفصل، «كانا» اللازمان، «إليه» إلى الفصل.

[4] أي: لما لم تكن الفصول المنطقية فصولاً حقيقية، «فإنه» أي: إن مفهوم الشيء.

[5] أي: اتصاف الشيء بالنطق فيقال: شيء له النطق.

[6] أي: دخول العرض العام في العرض الخاص، فإن الناطق عرض خاص وليس فصلاً حقيقياً.

ص: 222

التي هي من العرضي[1]، لا في الفصل الحقيقي الذي هو من الذاتي، فتدبر جيداً.

ثم قال: «إنه يمكن أن يختار الوجه الثاني أيضاً[2]، ويجاب بأن المحمول ليس مصداق الشيء والذات مطلقاً[3]،

-------------------------

[1] أي: الخاصة ليست من الذاتي حتى يلزم محذور دخول العرض العام في الذاتي، بل الخاصة من العرضي، ولا بأس بدخول العرض العام فيه.

ثم في اصطلاحهم (العَرَض) هو المبدأ الذي يقوم بالغير كالبياض، و(العَرَضي) هو المشتق من هذا المبدأ، كالأبيض، قال السبزواري:

وعرضيّ

الشيء غير العرضِ

ذا

كالبياض ذاك مثل الأبيضِ(1)

2- إيراد الفصول على الشق الثاني
اشارة

[2] أي: كما يمكن اختيار الشِق الأول - وهو كون الشيء مفهوم الشيء - ويدفع به الإشكال، كذلك يمكن اختيار الشق الثاني، أي: كون الشيء مصداق الشيء، ويدفع الإشكال أيضاً.

وحاصل الجواب: إن قولنا: (الإنسان ضاحك) مثلاً ينحل إلى (الإنسان إنسان له الضحك)، ومن المعلوم أن الإنسان المقيّد بالضحك ليس ضرورياً للإنسان، بل هو ممكن؛ لأن المقيّد بالممكن ممكن، وعليه فلا يلزم انقلاب القضية الممكنة إلى قضية ضرورية.

ويمكن دفع هذا الجواب بوجهين:

الأول: ما ذكره المصنف بقوله: (ويمكن أن يقال... الخ).

الثاني: ما ذكره صاحب الفصول، ولكن المصنف لم يرتضه، وسيأتي توضيحهما.

[3] أي: في (الإنسان ضاحك) ليس المحمول هو الإنسان من غير قيد حتى تكون

ص: 223


1- شرح المنظومة 1: 29.

بل مقيداً بالوصف،وليس ثبوته[1] للموضوع حينئذٍ بالضرورة، لجواز[2] أن لا يكون ثبوت القيد ضرورياً»(1)، انتهى.

ويمكن أن يقال[3]:

-------------------------

القضية هكذا (الإنسان إنسان) فتكون ضرورية، بل المحمول هو (الإنسان المقيّد بالضحك)، ومن المعلوم أن هذا ليس ضرورياً للإنسان.

[1] أي: ليس ثبوت الشيء، «حينئذٍ» حين تقيّده بالوصف.

[2] أي: لو كان القيد غير ضروري فلا يكون ثبوت المقيّد ضرورياً، ففي (الإنسان إنسان له الضحك) ثبوت (إنسان له الضحك) للإنسان ليس بضروري؛ لأن القيد ليس ضرورياً.

نعم، لو كان القيد ضرورياً كان ثبوت المقيّد ضرورياً، فمثل: (الإنسان إنسان له النطق) قضية ضرورية.

أ- إشكال المصنف على إيراد الفصول

[3] حاصل إشكال المصنف أن في قولنا: (إنسان له الضحك) مثلاً احتمالان:

الأول: أن يكون القيد - وهو الضحك - خارجاً عن المحمول، وإنما التقيّد بالضحك هو الداخل في المحمول، فيكون المحمول ذا جزءين: الذات والتقيّد، نظير الوضوء للصلاة، فليس الوضوء جزءاً من الصلاة، لكن التقيّد بالوضوء جزءاً منها، فالصلاة مركبة من أجزاء كالركوع والسجود ونحوهما، ومن تلك الأجزاء تقيّدها بالوضوء، وكما قال السبزواري: (تقيّد جزء وقيد خارجي)(2).

الثاني: أن يكون القيد والتقيّد كلاهما داخلين في المحمول، فالكتابة والتقيّد بها جزءان من المحمول، فيكون المحمول ذا أجزاء ثلاثة: الذات والقيد والتقيّد.

ص: 224


1- الفصول الغروية: 61.
2- شرح المنظومة 2: 27.

إنّ عدم كون ثبوت القيد ضرورياً لا يضرُّ بدعوى الانقلاب، فإن المحمول إن كان[1] ذات المقيد، وكان القيد خارجاً - وإن كان التقيّد داخلاً[2] بما هو معنى حرفي[3] -

-------------------------

فعلى الأول: يلزم الانقلاب، فيعود المحذور؛ وذلك لأن قيد (الضحك) خارج، و(التقيّد) معنى حرفي لا يمكن لحاظه مستقلاً، فلا يمكن حمله - إذ في الحمل يلزم النظرة الاستقلالية للشيء - وحينئذٍ يحصل الانقلاب؛ لأن معنى (الإنسان ضاحك) هو (الإنسان إنسان) مع تقيّدٍ لكنه غير ملاحظ، وهذا المعنى قضية ضرورية.

وعلى الثاني: يلزم الانقلاب في جزء المحمول؛ وذلك لأن المحمول إذا كان مركباً انحلت القضية إلى قضيتين، مثلاً قولنا: (زيد عالم عادل) تنحل إلى (زيد عالم) و(زيد عادل)، وفي ما نحن فيه المحمول ينحل إلى (الإنسان إنسان) و(الإنسان له الضحك)، ومن المعلوم أن القضية الأولى ضرورية.

والحاصل: إنه يلزم الانقلاب على كل حال.

[1] بيان للاحتمال الأول، «ذات المقيّد» وهو الإنسان في المثال.

[2] بيان أن دخول (التقيّد) في المحمول حتمي، لكنه لا يمنع الانقلاب.

أما ضرورة دخوله: فلأن المقصود من (الإنسان ضاحك) ليس هو حمل الإنسان على نفسه، بل المقصود بيان أنه ضاحك، فإذا كان القيد والتقيّد خارجين لزم حمل الإنسان على نفسه، وهو غير المقصود، فلابد من ربط الضحك بالإنسان، ويكون ذلك عن طريق دخول التقيّد بها في المحمول.

وأما عدم منعه الانقلاب فلما ذكره المصنف وسيأتي توضيحه.

[3] لأن التقيّد هو النسبة بين القيد والمقيّد، والنسبة هي معنى حرفي، ومن المعلوم أن المعنى الحرفي لا يُلاحظ في نفسه، فالمُلاحظ هو ذات الشيء.

ص: 225

فالقضية لا محالة تكون ضروريةً[1]، ضرورة ضرورية ثبوت الإنسان الذي يكون مقيداً بالنطق[2] للإنسان، وإن كان[3] المقيد به بما هو مقيد - على أن يكون القيد داخلاً - فقضية (الإنسان ناطق) تنحلُّ في الحقيقة إلى قضيتين[4]: إحداهما: قضية (الإنسان إنسان)، وهي ضرورية، والأخرى: قضية (الإنسان له النطق)، وهي ممكنة. وذلك[5] لأن الأوصاف قبل العلم بها أخبار، كما أن الأخبار بعد العلم تكون أوصافاً، فعقد الحمل[6] ينحلّ إلى القضية، كما أنّ عقد الوضع ينحلُّ إلى

-------------------------

[1] هذا بيان دليل الانقلاب إلى قضية ضرورية.

[2] الصحيح أن يقول: (بالضحك)، لأن الكلام في انقلاب القضية الممكنة إلى قضية ضرورية، فقوله: (بالنطق) من سهو القلم، وكذا قوله بعد قليل: (الإنسان ناطق)، وقوله: (الإنسان له النطق).

[3] بيان للاحتمال الثاني، «كان» المحمول، «بما هو مقيد» أي: بملاحظة القيد، لا ملاحظ ذات المقيد بانفراده من دون لحاظ القيد، «داخلاً» في المحمول.

[4] لأن تعدد المحمول يستلزم تعدد القضية.

[5] هذا دليل تعدد القضية، وحاصله: إنه لا فرق بين القيود والأخبار، فكل قيد خبر، وكل خبر قيد، مثلاً: لو لم نعلم بأن زيداً شاعر فيقال: (زيد شاعر) فهنا كان (شاعر) خبراً، لكن بعد علمنا بذلك يقال: (جاء زيد الشاعر) فهنا يكون (الشاعر) قيداً، وعليه: فقيد الضحك يمكن أن يؤخذ في قضية مستقلة من غير أن يكون قيداً، وبذلك تتشكل القضية الثانية، أي: (الإنسان له الضحك)، كما تشكلت القضية الأولى وهي (الإنسان إنسان)، و«ذلك»: أي: الانحلال.

[6] «عقد الحمل» هو اتصاف الذات بوصف المحمول، و«عقد الوضع» هو اتصاف الذات بالوصف العنواني للموضوع.

مثلاً: في قولنا (زيد عالم)، عقد الوضع هو الذات المتصفة بكونها زيداً، وعقد الحمل هو الذات المتصفة بكونها عالمة.

ص: 226

قضية مطلقة عامة عند الشيخ، وقضية ممكنة عند الفارابي(1)،

فتأمل[1]. لكنه قدّس سرّه

-------------------------

وعقد الحمل ينقسم إلى ثمانية أقسام مذكورة في المنطق(2)، وأما عقد الوضع ففيه خلاف(3) هل هو قضية (مطلقة عامة) أم (ممكنة عامة).

و«المطلقة العامة» هي القضية التي دلّت على وقوع النسبة فعلاً، أي: خرجت من القوة إلى الفعل، سواء كانت ضرورية أم لا، وسواء كانت دائمة أم لا، وسواء كانت في الماضي أم الحاضر أم المستقبل، نظير قولنا: (كل إنسان ناطق بالفعل).

و«الممكنة العامة» ما دلت على عدم ضرورة الطرف المقابل، فإن كانت القضية موجبة دلت على عدم ضرورة سلبها، وإن كانت سالبة دلت على عدم ضرورة إيجابها، ومعنى ذلك هو أن النسبة في القضية غير ممتنعة، سواء كانت ضرورية أم لا، وسواء كانت واقعة أم لا، وسواء كانت دائمة أم لا، نظير قولنا: (الإنسان عالم بالإمكان العام) بمعنى عدم امتناع اتصافه بالعلم، فعدم العلم ليس بضروري.

ففي مثل: (كل كاتب متحرك الأصابع)، عقد الوضع هو (الذات التي لها الكتابة)، فعلى الأول تكون القضية (الذات التي لها الكتابة بالفعل هي متحركة الأصابع)، وعلى الثاني (الذات التي يمكن أن يكون لها الكتابة هي متحركة الأصابع).

ولا يخفى أن كلامنا هنا في عقد الحمل، وأمّا عقد الوضع وكيفيته فهو غير مرتبط بالبحث، لكن المصنف ذكره تتمة للكلام.

[1] لعله إشارة إلى صحة كلام الفصول وعدم ورود الإشكال عليه؛ وذلك لأنه على الاحتمال الأول - من دخول التقيّد وخروج القيد - فإن كون التقيد معنى حرفياً لا يمنع عن لحاظه آلياً، فالتقيّد بعد كونه أمراً ممكناً يكون سبباً لبقاء القضية ممكنة، وعدم انقلابها إلى ضرورية.

ص: 227


1- شرح المطالع: 128.
2- المنطق: 97.
3- المنطق: 178.

تنظر[1] في ما أفاده بقوله: «وفيه نظر، لأن الذات المأخوذة مقيدة بالوصف[2] - قوةً أو فعلاً[3] - إن كانت مقيدة به واقعاً صدق الإيجاب بالضرورة[4]، وإلاّ صدق السلب بالضرورة، مثلاً: لا يصدق: زيدٌ كاتبٌ بالضرورة، لكن يصدق: زيدٌ

-------------------------

وأما على الاحتمال الثاني - من دخول القيد أيضاً - فلا تنحل القضية إلى قضيتين تامتين، بل تنحل إلى قضيتين: إحداهما تامة، وهي (الإنسان إنسان له الضحك) وأخراهما ناقصة - وهي المحمول في القضية التامة - أي: (إنسان له الضحك)، وكلا القضيتين ممكنتان - كذا في عناية الأصول -(1).

ب - إشكال الفصول على إيراده

[1] أي: أشكل على إيراده، وقال: إن إشكال انقلاب القضية الممكنة إلى ضرورية وارد.

وحاصله: إن الموضوع إذا لوحظ بشرط المحمول كانت القضية ضرورية، وإن لوحظ بشرط عدم المحمول كانت القضية ممتنعة.

مثلاً: قولنا: (الإنسان كاتب) إن لوحظ الإنسان بوصف الكتابة صارت القضية هكذا (الإنسان بوصف الكتابة كاتب) وهذه ضرورية، وإن لوحظ الإنسان بوصف عدم الكتابة، فقضية (الإنسان بوصف عدم الكتابة كاتب) قضية ممتنعة.

[2] أي: الذات التي هي الموضوع حال كونها مقيدة بالوصف الذي هو المحمول.

[3] أي: سواء كان الوصف بالقوة أم بالفعل، فزيد قد يكون كاتباً بالفعل، وقد يكون كاتباً بالقوة، «كانت» أي: الذات، «به» أي: بالوصف، «واقعاً» أي: في الثبوت والخارج، و«إلاّ» أي: إن لم تكن مقيدة بالوصف، بل كانت مقيدة بعدم الوصف.

[4] في نسخ الكفاية هكذا: (زيد الكاتب بالقوة أو بالفعل كاتب بالضرورة) وعلى هذا شرحنا كلام الفصول، وهو الذي فهمه المصنف من كلامه فأشكل عليه بما سيأتي.

ص: 228


1- عناية الأصول 1: 152.

الكاتب بالقوة أو بالفعل كاتبٌ بالضرورة»(1)، انتهى.

ولا يذهب عليك[1] أنّ صدق الإيجاب بالضرورة بشرط كونه[2] مقيداً به واقعاً لا يصحح دعوى الانقلاب إلى الضرورية، ضرورة صدق الإيجاب بالضرورة بشرط المحمول في كل قضية ولو كانت ممكنة؛ كما لا يكاد يضرّ بها[3] صدق السلب كذلك بشرط عدم كونه مقيداً به واقعاً؛ لضرورة السلب بهذا الشرط[4]، وذلك[5] لوضوح أن المناط في الجهات ومواد القضايا[6] إنما هو بملاحظة أن نسبة هذا المحمول

-------------------------

ج - ردّ إشكال الفصول

[1] حاصله: إنه في القضايا يُنظر إلى الموضوع بما هو هو، أي: (لا بشرط)، وحينئذٍ تلاحظ نسبة المحمول إليه، فقد تكون ضرورية مثل الإنسان ناطق، وقد تكون ممتنعة مثل الإنسان واجب، وقد تكون ممكنة مثل الإنسان كاتب، أما ملاحظة الموضوع بشرط المحمول فهو يوجب ضرورية تمام القضايا الممكنة، فالإنسان مقيداً بالكتابة كاتب بالضرورة، وهكذا سائر القضايا.

[2] كون الموضوع، «دعوى الانقلاب» ما ادعاه الشريف من أن المشتق إذا كان مركباً لزم انقلاب القضية الممكنة إلى ضرورية.

[3] أي: لا يضر بالقضية الممكنة، «كذلك» أي: بالضرورة، «عدم كونه» كون الموضوع، «به» بالمحمول، فالإنسان بشرط عدم الكتابة ليس بكاتب بالضرورة، ومقصود المصنف من (عدم كونه مقيداً) هو (تقيّده بالعدم).

[4] بشرط تقيّد الموضوع بعدم المحمول.

[5] بيان لعدم صحة دعوى الانقلاب.

[6] «المادة» هي كيفية النسبة، وهي ثمانية أنواع مذكورة في المنطق(2)، و«الجهة» هي الألفاظ الدالة عليها، كالإمكان والضرورة ونحو ذلك.

ص: 229


1- الفصول الغروية: 61.
2- الإشارات والتنبيهات 1: 141؛ المنطق: 172.

إلى ذاك الموضوع موجّهةٌ بأيّ جهة منها[1]، ومع أية منها في نفسها صادقة؛ لا[2] بملاحظة ثبوتها له واقعاً أو عدم ثبوتها له كذلك، وإلاّ[3] كانت الجهة منحصرة بالضرورة، ضرورة صيرورة الإيجاب أو السلب بلحاظ الثبوت وعدمه[4] واقعاً ضرورياً، ويكون من باب الضرورة بشرط المحمول.

وبالجملة: الدعوى[5] هو انقلاب مادة الإمكان بالضروة في ما ليست مادته واقعاً في نفسه وبلا شرط غير الإمكان.

وقد انقدح بذلك[6] عدم نهوض ما أفاده بإبطال الوجه الأول كما زعمه قدّس سرّه،

-------------------------

[1] من الجهات الثمانية، وقوله: (ومع أية...) عطف تفسيري، «منها» من الجهات، «في نفسها» أي: مع قطع النظر عن تقييدها بشيء.

[2] أي: ليس المناط ملاحظة اتصاف الموضوع بالمحمول حتى يكون الموضوع بشرط المحمول، وحينئذٍ تكون القضية ضرورية، وكذلك ليس المناط ملاحظة اتصاف الموضوع بعدم المحمول، وحينئذٍ تكون القضية ممتنعة، «ثبوتها» النسبة، «له» للموضوع، «كذلك» واقعاً.

[3] أي: لو لم تلاحظ النسبة في نفسها، بأن لم يكن الموضوع لا بشرط، «منحصرة» في جميع القضايا.

[4] أي: الإيجاب بلحاظ الثبوت، والسلب بلحاظ عدم الثبوت.

[5] أي: ما ادعاه الشريف في استدلاله على بساطة المشتق، «بالضرورة» أي: الانقلاب إلى الضرورة، وقوله: (غير الإمكان) خبر (ليست).

3- إيراد آخر للفصول على الشق الأول

[6] قد مرّ أن المشتق إذا كان مركباً فهو مركب من (شيءٌ له الكتابة) مثلاً، وقلنا: إن (الشيء) إما مفهوم الشيء وإما مصداقه، فأشكل الشريف على الشق الأول - مفهوم الشيء - بأنه يلزم منه دخول العرض العام في الفصل، وأشكل على

ص: 230

فإن[1] لحوق مفهوم الشيء والذات لمصاديقهما إنما يكون ضرورياً مع إطلاقهما، لا مطلقاً ولو مع التقيد، إلاّ بشرط تقيد المصاديق به أيضاً[2]، وقد عرفت حال الشرط[3]، فافهم[4].

-------------------------

الشق الثاني - أي: مصداق الشيء - بأنه يلزم منه الانقلاب، وهنا يريد صاحب الفصول تعميم إشكال الانقلاب إلى الشق الأول أيضاً، وحاصله: إن عروض مفهوم الشيء على مصاديقه ضروري، مثلاً: (الإنسان شيء له الكتابة)، فالإنسان هو مصداق من مصاديق الشيء، وانطباق المفهوم على مصاديقه أمر ضروري.

[1] هذا إشكال المصنف على كلام الفصول، وحاصله: إن (الشيء) إذا كان مطلقاً كان انطباقه على المصاديق ضرورياً، ففي (الإنسان كتاب) لو كان (الإنسان شيء) كانت القضية ضرورية، ولكن ليس الأمر هكذا، بل (الشيء) مقيّد بالكتابة، وثبوت الشيء المقيد بالكتابة للإنسان ليس بضروري، «لحوق» أي: عروض، «إطلاقهما» أي: الشيء والذات، وقوله (مطلقا) فسّره بقوله (ولو مع التقييد).

[2] أي: إلاّ إذا كان المصداق - وهو الموضوع في المثال - مقيداً، بأن كان بشرط المحمول، فتكون القضية هكذا: (الإنسان المقيد بالكتابة هو شيء له الكتابة).

[3] أي: قد أجبنا عن ذلك، حينما قلنا: إنّ الموضوع في القضايا يُلاحظ بنفسه، ولا يُلاحظ مقيداً.

[4] لعله إشارة إلى المنافاة بين ما ذكر هنا من عدم ضرورية (الإنسان شيء له الكتابة)، وبين ما ذكره قبل قليل من ضرورية (الإنسان شيء له الكتابة)، حيث ذكر أن هذه القضية تنحل الى قضيتين: والأولى: ضرورية، فكما أن (الإنسان إنسان) قضية ضرورية، كذلك (الإنسان شيء) أيضاً قضية ضرورية.

ص: 231

ثم إنه[1] لو جعل التالي في الشرطية الثانية[2] لزوم أخذ النوع في الفصل - ضرورة أن مصداق الشيء الذي له النطق هو الإنسان - كان أليق بالشرطيّة الأولى،

-------------------------

4- تعديل الشق الثاني من البرهان

[1] حاصله: إن البرهان الذي أقامه الشريف على بساطة المشتق هو أن المشتق لو كان مركباً فإما مركب من مفهوم الشيء مع المبدأ، وإما مركب من مصداق الشيء مع المبدأ، ثم أشكل على الشق الأول بأنه يلزم منه دخول العرض العام في الفصل، وأشكل على الشق الثاني بلزوم الانقلاب، يقول المصنف: لو بدّلنا الإشكال في الشق الثاني إلى (دخول النوع في الفصل) كان أليق وأولى.

أما كونه أليق: فلصيرورة المحذورين في كلا الشقين على نمط واحد، ففي الشق الأول: دخول العرض العام في الفصل، وفي الشق الثاني: دخول النوع في الفصل، ففي مثل: (الإنسان ناطق) يكون (الإنسان) هو النوع، ومعنى التركب أن يكون الناطق هو (إنسان له النطق)، فدخل النوع في الفصل.

أما كونه أولى: فلأن محذور الانقلاب كان فيه تأمّل، أو لأن الإشكال في الشق الأول لم يكن وارداً، لما مرّ من أن الناطق ليس بفصل حقيقي، بل هو ملازم للفصل، فلم يدخل العرض العام في الفصل، بل دخل العرض العام في العرض الخاص، ولا محذور فيه.

وأما هذا الإشكال فهو وارد على الشق الثاني حتى لو لم نقل: إنّ (الناطق) فصل حقيقي؛ وذلك لعدم صحة أخذ النوع في العرض الخاص؛ وذلك لأن النوع ذاتي، والعرض الخاص عرضي، ويستحيل أخذ الذاتي في العرضي.

[2] وهو ما عبّرنا عنه بالشِق الثاني من البرهان، «ضرورة» بيان لكيفية لزوم دخول النوع في الفصل.

ص: 232

بل كان أولى، لفساده مطلقاً[1] ولو لم يكن مثل الناطق بفصل حقيقي، ضرورة بطلان أخذ الشيء[2] في لازمه وخاصته، فتأمل جيداً.

ثم إنه يمكن أن يستدل على البساطة بضرورة[3] عدم تكرار الموصوف في مثل: (زيد الكتاب)، ولزومه[4] من التركّب وأخذ الشيء مصداقاً أو مفهوماً في مفهومه.

إرشاد[5]: لا يخفى: أنّ معنى البساطة - بحسب المفهوم - وحدته إدراكاً وتصوراً،

-------------------------

[1] أي: لفساد دخول النوع في الفصل، وشرح قوله: (مطلقاً) بقوله: (ولو لم يكن مثل... الخ).

[2] أي: ذات الشيء، بأن تؤخذ الذات في العرض.

الدليل الثاني على بساطة المشتق
اشارة

[3] وهو استدلال بالوجدان؛ وذلك لأن معنى التركب هو تكرار الموصوف، ففي مثل: (جاء زيد الكاتب) يكون المعنى بناءً على التركب من المفهوم والمبدأ هو (جاء زيد الشيء الذي له الكتابة)، وبناء على التركب من المصداق والمبدأ هو (جاء زيد زيد الذي له الكتابة)، والحال أننا بالوجدان لا نرى تكراراً للموصوف أصلاً.

[4] أي: لزوم التكرار، وقوله: «وأخذ...» عطف تفسيري على (التركب)، «في مفهومه» مفهوم المشتق.

إرشاد: في معنى البساطة

[5] قد يتوهم التنافي بين ما اشتهر من أن المشتق بسيط، وبين قولهم: إن معناه هو شيء له المبدأ.

ولدفع هذا التوهم يقول المصنف: إن البساطة والتركب قد تكون في مقام التصوّر، وقد تكون في مقام التحليل العقلي.

فالأول: نظير المعنى المتصوّر من الشجر والحجر وزيد، فإن ما يأتي في الذهن ويُتصوَّر هو معنى واحد.

ص: 233

بحيث لا يتصور عند تصوره إلاّ شيء واحد لا شيئان، وإن انحل بتعمل من العقل إلى شيئين، كانحلال مفهوم الشجر والحجر إلى شيء له الحجرية أو الشجرية مع وضوح بساطة مفهومهما[1].

وبالجملة: لا تنثلم بالانحلال إلى الاثنينية بالتعمل العقلي وحدة[2] المعنى وبساطة المفهوم، كما لا يخفى.

وإلى ذلك[3] يرجع الإجمال والتفصيل الفارقان بين المحدود والحد مع ما هما عليه[4] من الاتحاد ذاتاً، فالعقل بالتعمل يحلل النوع ويفصله إلى جنس وفصل بعد

-------------------------

والثاني: هو أن العقل يحلل الأشياء فيقول: الشجر (شيء له الشجرية) والحجر: (شيء له الحجرية) وهكذا، فالبساطة في عالم التصوّر، والتركّب في عالم التحليل العقلي، فلا تنافي.

ومن ذلك يتضح دفع الإشكال على (الحدّ) في الحمل الأولي الذاتي، نظير (الإنسان حيوان ناطق)، حيث إن المحدود الذي يراد تعريفه - وهو الإنسان - عين الحدّ، وهو الحيوان الناطق، لكن الفرق بالإجمال والتفصيل، أي: إن الإنسان شيء بسيط له مفهوم واحد، لكن حين التحليل العقلي نُحلِّله إلى جزءين.

[1] لأنه لا ينسبق إلى الذهن من كلمة الحجر مثلا إلاّ مفهوم واحد، وكذلك الشجر.

[2] «وحدة» فاعل (لا تنثلم)، وقوله: «وبساطة المفهوم» عطف تفسيري على (وحدة المعنى).

[3] أي: البساطة في التصوّر، والتركب بالتعمّل العقلي.

[4] «هما» الحدّ والمحدود، «عليه» الضمير يرجع إلى ما الموصولة، و«من الاتحاد ذاتاً» بيان ل(ما) الموصولة.

فلا يرد الإشكال: (بأن الحدّ لو كان عين المحدود لزم إحالة تعريف الشيء على نفسه، وإن كان بجزئه كان تعريفاً بجزء نفسه الأخفى، وإن كان بخارجه فإن المباين

ص: 234

ما كان أمراً واحداً إدراكاً، وشيئاً فارداً تصوراً، فالتحليل[1] يوجب فتق ما هو عليه من الجمع والرتق.

الثاني[2]:

-------------------------

لا يصير معرفاً). - كذا في الوصول(1)

- .

والجواب: إن الحدّ عين المحدود ذاتاً، ولكن غيره تصوراً، ولا نريد بالحدّ تصور مفهوم الشيء، بل نريد معرفة أجزائه العقلية.

[1] «فتق» أي: تفصيل، «ما» المعنى الذي، «هو» المحدود، «عليه» على ذلك المعنى، «الرتق» الإجمال الذهني.

الأمر الثاني: الفرق بين المشتق والمبدأ

[2] هذا الأمر تتمة لبحث بساطة المشتق، والغرض منه دفع توهم: أنه لو كان المشتق بسيطاً لم يصح حمله على الذات، كما أن المبدأ لا يصحّ حمله على الذات؛ لأنه معنى بسيط، مع أنه بالبداهة يصح الحمل في مثل: (زيد ناصر).

بيان التوهم: هو أنه لابد في حمل شيء على شيء من الاتحاد من جهة، والاختلاف من جهة أخرى، ففي الحمل الأولي الذاتي: يكون الاتحاد من حيث الحقيقة، والاختلاف في الإجمال والتفصيل، مثل: (الإنسان حيوان ناطق)، وفي الحمل الشائع الصناعي: يكون الاتحاد في الذات والاختلاف في المفهوم مثل: (زيد ضارب).

فلو كان المشتق مركباً صحّ الحمل؛ لأن معنى المشتق حينئذ (ذات لها الضرب) فالاتحاد في الذات صحّح الحمل.

أما لو كان المشتق بسيطاً فحيث لم تؤخذ الذات في معناه فكيف يصح الحمل؟ كما أن المبدأ حيث لم تؤخذ الذات فيه لم يصح حمله على الذات، فلا يصح (زيد ضَرْبٌ).

ص: 235


1- الوصول إلى كفاية الأصول 1: 322.

الفرق بين المشتق ومبدئه مفهوماً[1]: أنه بمفهومه لا يأبى عن الحمل على ما تلبس بالمبدأ ولا يعصي عن الجري عليه، لما هما عليه[2] من نحو من الاتحاد. بخلاف المبدأ، فإنه بمعناه[3] يأبى عن ذلك، بل إذا قيس ونسب إليه كان غيره، لا هو هو، وملاك الحمل والجري إنما هو نحو من الاتحاد والهوهوية.

وإلى هذا[4] يرجع ما ذكره أهل المعقول في الفرق بينهما، من أن المشتق يكون لا بشرط، والمبدأ يكون بشرط لا، أي: يكون مفهوم المشتق غير آبٍ عن الحمل، ومفهوم المبدأ يكون آبياً عنه.

وصاحب الفصول[5] - حيث توهم أن مرادهم إنما هو بيان التفرقة بهذين

-------------------------

والجواب: هو أن المبدأ والمشتق كلاهما بسيطان، وإنما الفرق هو أن المشتق وضع لمعنى بسيط غير آبٍ عن الحمل، لكن المبدأ وضع لمعنى بسيط آبٍ عن الحمل.

[1] أي: لا باعتبار التحليل العقلي، «أنه بمفهومه» أن المشتق بسبب مفهومه الذي وضع المشتق لذلك المفهوم، وقوله: (لا يعصي عن الجري عليه) عطف تفسيري، «عليه» على ما تلبس بالمبدأ.

[2] بيان سبب صحة الحمل، وهو الاتحاد من جهة، «لما» اللام للتعليل، «هما» المشتق والذات المتلبسة بالمبدأ، «عليه» الضمير يرجع للموصول، (من الاتحاد) بيان (ما) الموصولة.

[3] فإن المبدأ، «ذلك» الحمل، «قيس» المبدأ، «إليه» إلى المتلبس بالمبدأ، «الهوهوية» عطف تفسيري، وكلمة (الهوهوية) مصدر جعلى من (هو هو).

[4] أي: الاباء عن الحمل في المبدأ، وعدم الإباء عن الحمل في المشتق.

[5] حاصله: إن لقولهم (بشرط لا) و(لا بشرط) و(بشرط شيء) معنيين:

الأول: - وهو المعنى المشهور - إن الذات قد تلاحظ بالنسبة إلى شيء من العوارض الخارجة عنها بأحد الأنحاء الثلاثة، مثلاً (الرِقبة) قد تلاحظ بشرط

ص: 236

الاعتبارين[1] بلحاظ الطوارئ والعوارض الخارجية مع حفظ مفهوم واحد - أورد عليهم بعدم استقامة الفرق بذلك[2]، لأجل[3] امتناع حمل العلم والحركة على الذات وإن اعتبرا لا بشرط. وغفل[4] عن أن المراد ما ذكرنا،

-------------------------

الإيمان، وقد تلاحظ بشرط عدم الإيمان، وقد تلاحظ لا بشرط أي: من غير فرق بين كونها مؤمنة أم لا، وفي كل ذلك مفهوم (الرقبة) شيء واحد.

والثاني: - وهو ما استعمله أهل المعقول - هو الإباء عن الحمل وعدم الإباء عنه.

وحيث إن أهل المعقول فرّقوا بين المبدأ والمشتق بأن المبدأ (بشرط لا) والمشتق (لا بشرط)... تصور صاحب الفصول بأن مرادهم من ذلك حسب المعنى الأول، بأن يكون (الحمل) و(عدم الحمل) من العوارض الخارجة عن الذات، فيكونان مرتبطين بكيفية لحاظ المتكلّم. فأشكل عليهم: بأن الأمر لا يرتبط بكيفية اللحاظ، فهل يصح أن نلاحظ المبدأ بشرط الحمل فنقول: (زيد ضَرْبٌ)؟ فالاختلاف بين المبدأ والمشتق ليس حسب العوارض الذاتية، بل باعتبار الذات.

لكن المصنف بيّن أن مراد أهل المعقول هو المعنى الثاني، أي: الإباء وعدم الإباء عن الحمل، فلا يرد عليهم إشكال صاحب الفصول.

[1] أي: (بشرط لا) و(لا بشرط)، «بلحاظ...» أي: حسب المعنى الأول بأن تكون حقيقة المشتق والمبدأ واحدة، والفرق بينهما باعتبار كيفية اللحاظ.

[2] أي: بالاعتبارين - بشرط لا ولا بشرط - بلحاظ الطورئ والعوارض الخارجية.

[3] أي: لو كانت الحقيقة واحدة والفرق بالاعتبار لأمكن اعتبار المبدأ (لا بشرط) فيصح الحمل، مع وضوح عدم صحة هذا الاعتبار، فلا يصح (زيد علمٌ وحركةٌ) ونحو ذلك.

[4] هذا جواب المصنف عن إشكال صاحب الفصول، «ما ذكرنا» أي: إن مرادهم المعنى الثاني، وهو الإباء عن الحمل أو عدم الإباء عنه.

ص: 237

كما يظهر منهم[1] من بيان الفرق بين الجنس والفصل وبين المادة والصورة، فراجع.

الثالث[2]:

-------------------------

[1] أي: إن المعنى الثاني هو مراد أهل المعقول في موارد متعددة، منها: ما ذكروه في الفرق بين الجنس والمادة، والفرق بين الفصل والصورة، حيث قالوا: إن الجنس لا بشرط، والمادة بشرط لا، وكذا الفصل لا بشرط، والصورة بشرط لا.

بيان ذلك: إن الإنسان - مثلاً - حسب التحليل الذهني مركب من جنس وفصل، وهما الحيوان الناطق، وحسب الخارج مركب من مادة هي البدن، وصورة نوعية هي الصورة الإنسانية. فقال أهل المعقول: إن الفرق بين الجنس والمادة أن الجنس لا بشرط عن الحمل، فيصح أن يقال: الإنسان حيوان، وأما المادة فهي بشرط لا عن الحمل، فلا يصح أن يقال: الإنسان بدنٌ؛ لعدم صحة حمل الكل على الجزء الخارجي.

وكذا في الفرق بين الفصل والصورة، فيصح أن نقول: الإنسان ناطق، ولا يصح أن نقول: الإنسان صورة.

ومن الواضح أن مرادهم من (بشرط لا) و(لا بشرط) هنا هو المعنى الثاني - أي: الإباء أو عدم الإباء عن الحمل - فكذلك مرادهم في بحث المشتق.

الأمر الثالث: ملاك الحمل

[2] الغرض من عقد هذا الأمر بيان اشتباه وقع فيه صاحب الفصول(1)، حيث توهم أنه لو أردنا حمل شيء على آخر لابد من اعتبار التركب بينهما.

والمصنف في مقام الرد عليه يذكر أن مصحح الحمل هو الاتحاد من جهة والمغايرة من جهة أخرى، وأما اعتبار التركب فيرد عليه إشكالات متعددة، منها:

الإشكال الأول: عدم الحاجة إلى هذا الاعتبار، فيكون اشتراطه لغواً، فإنه

ص: 238


1- الفصول الغروية: 62.

ملاك الحمل - كما أشرنا[1] إليه - هو الهوهويّة والاتّحاد من وجه والمغايرة من وجه آخر[2]، كما يكون[3]

-------------------------

يكفي في صحة الحمل الاتحاد من جهة والمغايرة من جهة أخرى، ومع كفايته لا وجه لاعتبارٍ آخر.

الإشكال الثاني: إنه لو اعتبرنا الموضوع والمحمول شيئاً واحداً بالتركيب كان كل من الموضوع والمحمول جزءاً من الكل - الذي هو المركب منها - وحينئذٍ يلزم حمل أحد الجزءين على الآخر، وهو باطل قطعاً، مثلاً: الإنسان مركب من يد وعين... الخ، فهل يصح أن نقول (اليدُ عينٌ)؟!

الإشكال الثالث: إن الوجدان يدل على عدم اعتبار التركب، سواء في التعريفات مثل: (الإنسان حيوان ناطق) أم في غير التعريفات مثل: (زيد قائم)، فإن الوجدان يقضي بأن الموضوع - الإنسان، زيد - لم يؤخذ فيه قيد التركب، وكذا المحمول (قائم، حيوان ناطق).

[1] في الأمر الثاني حيث قال: (وملاك الحمل والجري إنما هو نحوٌ من الاتحاد والهوهوية).

[2] وهذا على أقسام ثلاثة:

1- الاتحاد الخارجي، والاختلاف في المفهوم والماهية، مثل: زيد عالم.

2- الاتحاد الماهوي والخارجي، والاختلاف في المفهوم، مثل: الإنسان حيوان ناطق.

3- الاتحاد المفهومي والخارجي والماهوي، والتغاير الاعتباري، مثل الحمل في اللغة كقولهم: (البشر إنسان) فهما واحد خارجاً ومفهوماً وماهية، لكن باعتبار العلم بأحد المترادفين والجهل بالمرادف الآخر صحّ الحمل.

[3] أي: نظير ما يكون في المشتق والذات، فهما متحدان وجوداً، ومتغايران مفهوماً.

ص: 239

بين المشتقات والذوات، ولا يعتبر معه[1] ملاحظة التركيب بين المتغايرين واعتبار[2] كون مجموعهما بما هو كذلك واحداً، بل يكون لحاظ ذلك مخلاًّ[3]، لاستلزامه المغايرة[4] بالجزئية والكلية، ومن الواضح[5] أن ملاك الحمل لحاظ نحو اتحاد[6] بين الموضوع والمحمول؛ مع وضوح[7] عدم لحاظ ذلك في التحديدات وسائر القضايا في طرف الموضوعات، بل لا يلحظ في طرفها[8] إلاّ نفس معانيها، كما هو الحال في

-------------------------

[1] أي: مع هذا الملاك - الاتحاد من جهة والمغايرة من جهة أخرى - وهذا تلميح للإشكال الأول.

[2] عطف تفسيري على (ملاحظة التركيب بين المتغايرين)، «بما هما كذلك» أي: بما هما مجموع.

[3] بيان للإشكال الثاني، «ذلك» أي: لحاظ المجموع أمراً واحداً، «لاستلزامه» أي: لاستلزام هذا اللحاظ.

[4] «المغايرة» بين الموضوع والمحمول من جهة وبين المجموع منهما من جهة أخرى.

[5] فإن الكل ليس متحداً مع الجزء، فكيف صحّ الحمل؟

[6] في تركيب العبارة خلل، والأفضل أن يقول: (لحاظ نحو الاتحاد) أو (لحاظ الاتحاد).

[7] بيان الإشكال الثالث، وهو أن اعتبار التركيب خلاف الوجدان، «ذلك» التركيب، «التحديدات» أي: الحدود والتعريفات، و«سائر القضايا» غير التعريفات.

[8] أي: جهة الموضوعات، «معانيها» أي: معاني الموضوعات، «حملها» حمل المحمولات، «عليها» على الموضوعات، «هما» الموضوع والمحمول، «عليه» الضمير يرجع إلى (ما) الموصولة، «من نحو...» بيان للموصول.

ص: 240

طرف المحمولات، ولا يكون حملها عليها إلاّ بملاحظة ما هما عليه من نحوٍ من الاتحاد مع ما هما عليه من المغايرة ولو بنحوٍ من الاعتبار[1].

فانقدح بذلك[2] فساد ما جعله في الفصول(1) تحقيقاً للمقام. وفي كلامه موارد للنظر[3] تظهر بالتأمل وإمعان النظر.

الرابع[4]:

-------------------------

[1] بأن لا يكون المغايرة في الذات، بل باعتبار الإجمال والتفصيل مثلاً، وقد ذكرنا قبل قليل الأقسام الثلاثة للمغايرة، فراجع.

[2] أي: بما ذكرناه من مناط الحمل، من الاتحاد من وجه والمغايرة من وجه آخر، وعدم اعتبار التركب.

[3] منها: إن مجرد اعتبار التركب لا يُصحِّح حمل أحد المتغايرين على الآخر، فهل يصح حمل الحجر على الإنسان بمجرد اعتبار اتحادهما؟ فتأمل.

الأمر الرابع: في صفات الله تعالى

[4] حاصله: إن صاحب الفصول ادعى الاتفاق على لزوم المغايرة بين المبدأ والذات، ولو لا المغايرة لزم حمل الشيء على نفسه، وهو قبيح. وحيث إن صفات الله تعالى الذاتية هي عين ذاته فلا مغايرة بينه وبين علمه وقدرته وحياته، فكيف صحّ الحمل في قولنا: (الله عالم قادر حيّ)؟

وبعبارة أخرى: المبدأ - وهو العلم والقدرة والحياة - هو عين المشتق - وهو العالم والقادر والحيّ - فكيف صحّ الحمل؟

فأجاب صاحب الفصول(2)

بأن المشتقات في صفات الذات نُقِلَتْ إلى غير معناها الموضوع له، فكلمة (العالم) في الله تختلف عن (العالم) في الناس.

وأشكل عليه المصنف بأنه لا ريب في لزوم المغايرة بين المبدأ والذات، لكن لا

ص: 241


1- الفصول الغروية: 62.
2- الفصول الغروية: 62.

لا ريب في كفاية مغايرة المبدأ مع ما يجري المشتق عليه[1] مفهوماً، وإن اتحدا عيناً وخارجاً[2]، فصدق الصفات مثل[3] - العالم والقادر والرحيم والكريم إلى غير

-------------------------

يشترط كونها مغايرة في الوجود الخارجي، بل تكفي المغايرة في المفهوم، فمفهوم كلمة (الله) تختلف عن مفهوم كلمة (العالم) مع اتحادهما خارجاً. ولا اتفاق بين العلماء على لزوم المغايرة في الخارج حتى يحتاج إلى القول بالنقل.

[1] أي: الذات التي يحمل المشتق عليها، فزيد يغاير العلم؛ فلذا صح أن نقول: (زيد عالم).

[2] العطف في (عيناً وخارجاً) تفسيري.

[3] لا يخفى أن صفات الله تعالى على ثلاثة أقسام:

1- صفات الذات: وهي عين ذاته بلا تفاوت بينه تعالى وبينها، كالعلم والقدرة والحياة... الخ.

2- صفات الفعل: وهي ما تُنتزع من أفعاله تعالى، كالخلق والرزق والإحياء... الخ، وهذه لا تتحد مع ذاته؛ فلذا يصح أن نقول: لم يرزق ثم رزق، ولم يخلق ثم خلق.

3- الصفات السلبية: وهي ما يجلّ الله تعالى عن الاتصاف بها، كالتركب والجسمية... الخ.

والكلام الآن في القسم الأول، حيث اتحاد المبدأ مع الذات.

ولا يخفى أن (الرحيم) من صفات الفعل، فهو خارج عن محل البحث، وأما (الكريم) فإن أريد منه العلو الذاتي فهو من صفات الذات، وإن أريد منه السخاء فهو من صفات الفعل.

ثم إن (صفات الجلال) اصطلاح في الصفات السلبية، فإن الله يجلّ عن الاتصاف بها، فعطفها على صفات الكمال في كلام المصنف خلاف الاصطلاح؛ لعدم اتحاد

ص: 242

ذلك من صفات الكمال والجلال - عليه تعالى - على ما ذهب إليه أهل الحق من عينية صفاته[1] - يكون على الحقيقة[2]، فإنّ المبدأ فيها[3] وإن كان عين ذاته تعالى خارجاً إلاّ أنه غير ذاته تعالى مفهوماً.

ومنه[4] قد انقدح ما في الفصول(1) من الالتزام بالنقل أو التجوّز[5] في ألفاظ الصفات الجارية عليه تعالى - بناءً على الحق من العينية -، لعدم[6] المغايرة المعتبرة بالاتفاق.

وذلك[7] لما عرفت من كفاية المغايرة مفهوماً، ولا اتفاق على اعتبار غيرها إن لم نقل بحصول الاتفاق على عدم اعتباره، كما لا يخفى؛ وقد عرفت ثبوت المغايرة

-------------------------

الصفات السلبية مع ذاته - كما هو واضح.

والحاصل: إن الكلام في خصوص صفات الذات.

[1] أي: صفاته الذاتية، كما اتضح في التعليقة السابقة.

[2] أي: من دون نقل أو تجوّز.

[3] أي: في صفات الذات، «أنه» أن المبدأ، «غير ذاته مفهوماً» أي: مفهوم كلمة (العلم) غير مفهوم كلمة (الله) و(العالم) مثلاً.

[4] أي: مما ذكرنا من كفاية المغايرة المفهومية، «ما في الفصول» أي: من الإشكال، أو فساد ما في الفصول.

[5] لم يذكر الفصول (التجوّز) بل اقتصر على (النقل).

[6] هذا وجه التزام الفصول بالنقل، «المعتبرة بالاتفاق» أي: أطبق الكل على لزوم المغايرة بين المبدأ والذات في المشتقات، وحيث إنه لا مغايرة في صفات الذات فلابد من النقل فيها.

[7] بيان وجه فساد ما في الفصول، «غيرها» غير المغايرة المفهومية، «عدم اعتباره» أي: عدم اعتبار غير المغايرة المفهومية بأن تكون مغايرة خارجاً.

ص: 243


1- الفصول الغروية: 62.

كذلك[1] بين الذات ومبادئ الصفات.

الخامس[2]: إنه وقع الخلاف - بعد الاتفاق على اعتبار المغايرة كما عرفت[3] بين المبدأ وما يجري عليه المشتق - في اعتبار قيام المبدأ به في صدقه على نحو الحقيقة.

-------------------------

[1] «كذلك» أي: مفهوماً «الذات» أي: ذات الله تعالى.

الأمر الخامس: في عدم النقل في صفاته تعالى
اشارة

[2] الغرض من هذا الأمر بيان أنه يشترط في المشتق قيامه بالذات، ولكن أنواع القيام تختلف، فتارة باختلاف المادة، فالضارب قيام الضرب به صدوري بمعنى صدور الضرب عنه، والعالم قيام العلم به حلولي بمعنى حلول العلم فيه، وتارة باختلاف الهيئات، فالضارب والمضروب - مثلاً - يختلفان في كيفية القيام؛ لاختلاف الهيئة فيهما، ففي الضارب القيام صدوري، وفي المضروب حلولي.

ومن ذلك يتضح الإشكال في ما زعمه بعض من عدم اشتراط قيام المبدأ بالذات، مستدلين بأنه في مثل الضارب لم يقم الضرب بذات الفاعل، بل قام بالمفعول.

كما يتضح الإشكال على ما ذهب إليه صاحب الفصول، من أنه يشترط القيام، ولكنه ذهب إلى النقل في صفات الله تعالى الذاتية، حيث لا قيام للمبدأ بالذات - لاشتراط الاثنينية في القيام - بل صفاته الذاتية عين ذاته المقدسة.

أما الإشكال على الأول: فلأنه لا يشترط في القيام كونه صدورياً، بل القيام في المثال حلولي، حيث حلّ الضرب في المفعول.

وأما الإشكال على الثاني: فلأنّه من أنواع القيام هو القيام العيني بأن تكون الذات عين المبدأ.

[3] في الأمر الرابع، «وما يجري عليه المشتق» أي: الذات، «في اعتبار» متعلق ب- (الخلاف)، «به» بالذات، «في صدقه» متعلق ب- (اعتبار)، أي: هل يعتبر في كون المشتق حقيقة لا مجازاً أن يقوم المبدأ بالذات أم لا؟

ص: 244

وقد استدل من قال بعدم الاعتبار بصدق الضارب والمؤلم مع قيام الضرب والألم بالمضروب[1] والمؤلم - بالفتح - .

والتحقيق: إنّه لا ينبغي أن يرتاب من كان من أولي الألباب في أنه يعتبر في صدق المشتق على الذات وجريه عليها من التلبس[2] بالمبدأ بنحوٍ خاص، على اختلاف أنحائه[3] - الناشئة من اختلاف الموادّ[4] تارةً، واختلاف الهيئات[5] أخرى - من القيام[6]

-------------------------

[1] دون الضارب، ففي كلمة (الضارب) لم يقم (الضرب) بالمشتق - الذي هو الضارب - بل قام بغيره وهو المضروب.

[2] «جريه» جري المشتق، «عليها» على الذات، «من التلبس» (التلبس) فاعل (يعتبر) فكلمة (من) هنا لا وجه لها.

[3] أي: أنحاء التلبس، وقوله «الناشئة» صفة ل- (أنحائه).

[4] فتارة: يكون القيام صدورياً إذا كان الفعل متعدياً كالضارب، وأخرى: يكون حلولياً إذا كان الفعل لازماً كالعلم، وثالثة: يكون انتزاعياً اعتبارياً كالمالك، ورابعة: يكون انتزاعياً إضافياً كالسابق، وخامسة: يكون انتزاعياً مع الاتحاد خارجاً، كوصف الله تعالى بالعالم.

ففي كل هذه الأمثلة تكون الهيئة واحدة، وهي صيغة (فاعل)، ولكن الاختلاف في كيفية القيام والتلبس كان بسبب المادة.

[5] فتارة يكون صدورياً كالضارب، وأخرى وقوعاً عليه كالمضروب، وثالثة: باعتبار الوقوع فيه زماناً أو مكاناً كالمقتل.

[6] هذا بيان لاختلاف المواد والهيئات، وقد اتضح أن (الصدوري) يرتبط بالمادة والهيئة، و(الوقوع عليه) و(الوقوع فيه) يرتبطان بالهيئة، و(الحلولي) و(الانتزاعي) يرتبطان بالمادة.

ص: 245

صدوراً، أو حلولاً، أو وقوعاً عليه أو فيه، أو انتزاعه عنه[1] مفهوماً مع اتحاده معه خارجاً، كما في صفاته تعالى - على ما أشرنا إليه آنفاً[2] - ، أو[3] مع عدم تحقق إلاّ للمنتزع عنه، كما في الإضافات والإعتبارات التي لا تحقق لها، ولا يكون بحذائها في الخارج شيء، وتكون من الخارج المحمول لا المحمول بالضميمة[4].

-------------------------

[1] أي: انتزاع المبدأ عن الذات؛ وذلك لأن الانتزاع أمر ذهني ويكون في المفاهيم، وهو على أقسام:

1- انتزاع المفهوم مع عينية المبدأ والذات خارجاً، فالعلم ينتزع عن الله تعالى، لكن مع اتحاده تعالى مع العلم.

2- الانتزاع عنه مفهوماً مع عدم وجود المبدأ في الخارج، ويكون ذلك بالإضافة إلى شيء آخر، كالسابق، فلا يوجد وجود في الخارج هو السبق، لكن الذهن بملاحظة إضافة الأول إلى الثاني ينتزع عنوان السبق.

3- الانتزاع المفهومي، مع عدم وجود ما بإزاء في الخارج، ويكون ذلك باعتبار المعتبر، كالمالك.

[2] أي: قبل قليل في الأمر الرابع.

[3] عطف على (مع اتحاده).

[4] مراد المصنف من «الخارج المحمول» هو العارض الاعتباري، كالزوجية والملكية ونحوهما، ومن «المحمول بالضميمة» العارض المتأصل كالسواد والبياض.

ولا يخفى أن هذا يخالف اصطلاح أهل المعقول، فإنهم اصطلحوا الأول على ما يقتضيه ذات الموضوع، من غير ضمّ ضميمة مثل: (البياض أبيض)، واصطلحوا الثاني على ما يقتضيه الموضوع مع احتياجه إلى ضمّ ضميمة، مثل: (الورق أبيض)، فإن ذات الورق لا تقتضي حمل الأبيض عليه، بل لابد من ضمّ البياض إلى الورق ليصح الحمل.

ص: 246

ففي صفاته الجارية عليه تعالى يكون المبدأ مغايراً له تعالى مفهوماً، وقائماً به عيناً، لكنه بنحو من القيام[1]، لا بأن يكون هناك اثنينية، وكان ما بحذائه غير الذات، بل بنحو الاتحاد والعينية، وكان ما بحذائه عين الذات. وعدم اطلاع العرف[2] على مثل هذا التلبس[3]

-------------------------

[1] أي: لكن القيام في صفاته إنما هو بنحو القيام العيني، من غير اثنينية بينه وبين صفاته الذاتية، «بحذائه» أي: بازاء المبدأ، وهذا لازم الاثنينية، حيث يكون ما بازاء المبدأ غير ما يكون بإزاء الذات.

إشكال وجوابه

[2] ذكر المصنف أنه لابد في المشتق من قيام المبدأ بالذات، وأن أحد أنحاء القيام هو القيام بنحو العينية.

وأشكل عليه: بأن المرجع في الألفاظ هو العرف، والعرف لا يفهم القيام بنحو العينية، فكيف نحمل ألفاظ صفاته تعالى على معنى لا يفهمه العرف؟

والجواب: هو أن العرف حجة في تعيين مفاهيم الألفاظ، وليس حجة في تعيين المصاديق، مثلاً: العرف حجة في تعيين مفهوم (الماء) ولكن ليس حجة في تعيين أن هذا السائل المعيّن هل هو ماء أم لا؟

والدليل على حجية العرف في المفاهيم هو أن الشرع نزل بلسان العرف لغرض إفهامهم، فما يفهمونه من الألفاظ يكون هو مراد المولى، وإلاّ كان نقضاً للغرض.

ولكن بعد معرفة العرف لمعنى الكلمات ومفاهيمها فلا دليل على حجية تطبيقهم ذلك المفهوم على مورد من الموارد، وعدم الدليل على الحجية يكفي في عدم الحجية.

[3] أي: قيام المبدأ بالذات بنحو العينية، وقوله: (من الأمور الخفية) بيان لقوله: «مثل هذا التلبس»، أي: المصاديق الخفية للمفهوم، فالعرف يعرف المفهوم لكن يخفى عليه بعض المصاديق.

ص: 247

من الأمور الخفية لا يضر[1] بصدقها عليه تعالى على نحو الحقيقة إذا كان لها مفهوم صادق عليه تعالى حقيقةً ولو[2] بتأمّل وتعمّل من العقل، والعرف إنما يكون مرجعاً في تعيين المفاهيم، لا في تطبيقها على مصاديقها.

وبالجملة: يكون مثل العالم والعادل وغيرهما من الصفات الجارية عليه تعالى وعلى غيره جارية عليهما[3] بمفهوم واحد ومعنى فارد، وإن اختلفا في ما يعتبر في الجري[4] من الاتحاد وكيفية التلبس بالمبدأ، حيث إنّه بنحو العينية فيه تعالى، وبنحو الحلول أو الصدور في غيره.

فلا وجه لما التزم به في الفصول(1) من نقل الصفات الجارية عليه تعالى عمّا هي عليها من المعنى[5]، كما لا يخفى. كيف[6]!

-------------------------

[1] خبر (عدم اطلاع...) أي: عدم إطلاق العرف على هذا المصداق لا يضر في كونه مصداقاً حقيقياً لذلك المفهوم، «لها» للصفات.

[2] أي: لم يكن مصداقيته واضحة للعرف، إلاّ باعمال الدقة العقلية.

[3] أي: على الله تعالى وعلى غيره.

[4] أي: اختلفا في كيفية القيام - المعتبر ذلك القيام في المشتق - وقوله: (من الاتحاد...) بيان ل- (ما) الموصولة، «إنه» إن الاتحاد.

[5] «عما» عن المعنى الذي، «هي» الصفات، «عليها» الضمير يرجع إلى (ما) الموصولة، وكان الأولى تذكيره، «من المعنى» بيان للموصول.

[6] بيان لإشكال آخر على صاحب الفصول في قوله بالنقل، وحاصله: إنا نتساءل: إن كلمة (العالم) في الله إذا نقلت إلى معنى آخر، فذلك المعنى إمّا ما يقابل العالم - أي: الجاهل - وقد تعالى الله عن الجهل علواً كبيراً، وإما إلى معنى آخر لا نعرفه، فيكون قولنا: (إنه عالم) مجرد لقلقة لسان من غير فهم للمعنى.

ص: 248


1- الفصول الغروية: 62.

ولو كانت بغير معانيها العامة[1] جارية عليه تعالى كانت صرف لقلقة اللسان وألفاظ بلا معنى، فإن غير تلك المفاهيم العامة الجارية على غيره تعالى غير مفهوم ولا معلوم إلاّ بما يقابلها؛ ففي مثل ما إذا قلنا: (إنّه تعالى عالم) إما أن يعني أنه من ينكشف لديه الشيء فهو ذاك المعنى العام، أو أنه مصداق لما يقابل ذاك المعنى[2]، فتعالى عن ذلك علواً كبيراً، وإما أن لا نعني شيئاً فتكون كما قلنا من كونها صرف اللقلقة وكونها بلا معنى، كما لا يخفى.

والعجب[3] أنه جعل ذلك علة لعدم صدقها في حق غيره، وهو كما ترى.

-------------------------

وحيث بطل كلا اللازمين فلابد من القول: إنّ استعمال العالم فيه بنفس المعنى المستعمل في غيره، فلا نقل.

أقول: سيأتي الإشكال على كلام المصنف في شرح قوله: (فتأمل) فانتظر.

[1] أي: المعاني الجارية على عموم الموجودات، كالعالم فهو بمعنى واحد في كل المخلوقات - وهو المنكشف لديه الشيء - .

[2] أي: غير المنكشف لديه الأشياء، وهذا بمعنى الجهل، وقد تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

[3] أي: إن صاحب الفصول بعد أن التزم بالنقل في تلك الصفات، قال: إنه بعد النقل لا يصح استعمال تلك الصفات في الممكنات؛ لأن معنى (العالم) مثلاً صار (الذات المتحدة مع العلم من غير قيام) وهذا المعنى لا يصدق على الممكنات؛ لأن العالم فيها هو (قيام العلم بالذات).

والمصنف يرد عليه بأنه كما ترى، أي: عجيب جدا، فهل لا يصح أن نقول: (زيد عالم) مثلاً؟

وسيأتي الإشكال على المصنف عند قوله: (فتأمل)، «أنه» صاحب الفصول، «ذلك» النقل، «صدقها» الصفات.

ص: 249

وبالتأمل في ما ذكرنا[1] ظهر الخلل في ما استدل من الجانبين[2] والمحاكمة[3] بين الطرفين، فتأمل[4].

-------------------------

[1] من أنه لابد في المشتق من قيام المبدأ بالذات، ولكن القيام أنواع منها العينية، والحلول، والصدور... الخ.

[2] القائلين بعدم اشتراط القيام أصلاً، وصاحب الفصول القائل باشتراط القيام مع القول بالنقل في صفاته تعالى.

[3] عطف على (الخلل) أي: ظهرت المحاكمة بينهما، والحاصل: إنه يمكن الحكم بين الطرفين بأن القائل باعتبار القيام يريد القيام بأي نحو من الأنحاء، وإن القائل بعدم اعتبار القيام يريد عدم اعتبار القيام الخاص من الحلول والصدور ونحو ذلك.

[4] لعله إشارة إلى عدم ورود الإشكال على صاحب الفصول.

أولاً: إنّ كلامه في نقل الهيئة لا المادة، فهيئة (العالم) نقلت في صفة الله إلى المتحد مع العلم من غير قيام، ولا يقصد نقل مادة (العلم) إلى معنى آخر حتى يشكل عليه بأنه نقل إلى جهل أو معنى لا نعرفه.

وثانيا: إنه حتى لو أراد النقل في المادة فلا يلزم المحذوران؛ وذلك لأنه يمكن أن يكون مراده أن معنى العلم هو (الانكشاف الزائد على الذات) فنقل في الله تعالى إلى (الانكشاف غير الزائد).

وثالثاً: إن مقصوده من عدم استعمال الصفات بعد النقل في غير الله هو أن المعنى الجديد - أي: الانكشاف غير الزائد - لا يستعمل في غيره، وليس مقصوده أن كلمة (العالم) لا تستعمل في غيره تعالى.

ثم اعلم أن صفاته الذاتية - كالعلم - حيث إنها عين ذاته فكُنهها وحقيقتها مجهولة لدينا، فادعاء المصنف أنها بنفس المعنى العام محل نظر واضح، ولا يلزم من ذلك

ص: 250

السادس[1]:

-------------------------

كون وصفه بتلك الصفات مجرد لقلقة لسان، بل نقول: إن كنه علمه تعالى مجهول لنا، ولكن المقدار الذي نتعقّله من علمه أنه ليس بجاهل، لا بمعنى أن أوصافه سلوب، بل بمعنى أن أوصافه حقيقية، وهي عين ذاته، ولكنا لا نفهم منها إلاّ السلوب.

ولكن مع ذلك ليس استعمال هذه الأوصاف فيه على سبيل المجاز؛ وذلك لأنها تستعمل بنفس المفهوم العرفي على نحو الإرادة الاستعمالية - التي هي مناط الحقيقة والمجاز - ولكن بالإرادة الجدية يراد ما ذكرناه، وللكلام تفصيل لا يسعه المجال، فراجع شرحنا على أصول الكافي(1)،

والله العاصم وهو المستعان.

الأمر السادس: في الإسناد المجازي للمشتق

[1] الغرض من عقد هذا الأمر هو بيان أنه لا يشترط في كون المشتق حقيقة أن يكون اتصاف الذات بالمبدأ على نحو الحقيقة، بل يمكن أن يكون المشتق مستعملاً في معناه الحقيقي، مع كون اتصاف الذات بالمبدأ مجازياً.

بيان ذلك: قد يكون اتصاف الذات بالمبدأ بنحو حقيقي، كقولنا: (الماء جارٍ) فالذات - وهي الماء - متصفة بالجريان حقيقة، وقد يكون اتصاف الذات بالمبدأ بنحو مجازي، كقولنا: (الميزاب جارٍ)، فالذات - وهي الميزاب - غير جارية حقيقة، وإنما جريانها مجازي باعتبارها ظرفاً للماء، ولكن مع ذلك فإن كلمة (جارٍ) مستعملة بمعناها الحقيقي، فلا يراد منها إلاّ السيلان والحركة.

وسبب ذلك أن المجاز قد يكون في الإسناد، كمثال: (جرى الميزاب)، فإن الجريان والميزاب بمعناهما الحقيقي، وإنما المجاز في أنه اُسند الجريان إلى الميزاب بدلاً من إسناده إلى الماء، وقد يكون المجاز في الكلمة، مثل: (رأيت أسداً يرمي) فالمراد من (الأسد) هو الرجل الشجاع مجازاً.

ص: 251


1- شرح أصول الكافي 2: 218 و 265.

الظاهر أنّه لا يعتبر في صدق المشتق وجريه على الذات حقيقة[1] التلبس[2] بالمبدأ حقيقة وبلا واسطة في العروض، كما في الماء الجاري، بل يكفي التلبس به ولو مجازاً[3] ومع هذه الواسطة، كما في الميزاب الجاري، فإسناد الجريان إلى الميزاب وإن كان إسناداً إلى غير ما هو له[4] وبالمجاز إلاّ أنه في الإسناد، لا في الكلمة. فالمشتق في

-------------------------

ومن ذلك كلّه يتضح الإشكال في ما ذهب إليه صاحب الفصول(1) من أنه لابد من كون الإسناد حقيقياً حتى يكون المشتق حقيقياً، وقد عرفت وجه الإشكال في كلامه.

[1] أي: لا يشترط في كون لفظ المشتق مستعملاً في معناه الحقيقي، و«حقيقة» أي: على نحو الحقيقة دون المجاز.

[2] «التلبّس» فاعل «لا يعتبر»، وقوله: «حقيقة» فسّره بقوله: (وبلاواسطة في العروض).

ومقصود المصنف من (الواسطة في العروض) عدم كون الشيء متصفاً بالعرض، بل المتصف به هو الواسطة، فالجاري هو الماء حقيقة، لكن نسب الجريان إلى الميزاب لكونه الواسطة في الجريان؛ إذ إن الماء جرى فيه.

وهذا اصطلاح للمصنف، وهو يغاير اصطلاح أهل المعقول في (الواسطة في العروض) فإنهم يقصدون أن الشيء متصف حقيقة بالعرض بواسطة اتصاف الواسطة بذلك العرض حقيقة، مثلاً: تحرّك الجالس في السفينة إنما هو بواسطة حركة السفينة نفسها، فالحركة عرضت على هذا الجالس بواسطة عروضها على السفينة.

[3] أي: يكفي في كون المشتق بمعناه الحقيقي التلبس «به» أي: بالمبدأ، «مجازاً» أي: في الإسناد، «هذه الواسطة» أي: في العروض.

[4] «ما» أي: شيء - وهو الميزاب - «هو» الجريان، «له» الضمير يرجع إلى الموصول، «أنه» أن المجاز.

ص: 252


1- الفصول الغروية: 62.

مثل المثال بما هو مشتق[1] قد استعمل في معناه الحقيقي، وإن كان مبدؤه مسنداً إلى الميزاب بالإسناد المجازي، ولا منافاة بينهما أصلاً، كما لا يخفى.

ولكن ظاهر الفصول(1)

بل صريحه اعتبار الإسناد الحقيقي[2] في صدق المشتق حقيقة، وكأنه من باب الخلط بين المجاز في الإسناد والمجاز في الكلمة؛ وهذا[3] - هاهنا - محل الكلام بين الأعلام. والحمد لله، وهو خير ختام.

-------------------------

[1] أي: من جهة هيئته، فالمشتق مستعمل في معناه الموضوع له، وهو (ذات لها الجريان)، وليس معنى (جارٍ) في المثال أنه (محلّ الجريان) مثلاً.

[2] أي: لابد من أن يكون الإسناد حقيقياً حتى يكون المشتق حقيقة، وإلاّ كان المشتق أيضاً مجازاً، ففي مثال: (الميزاب جارٍ) كما يكون مجازاً في الإسناد كذلك يكون مجازاً في كلمة (جارٍ).

[3] «هذا» أي: المجاز في الكلمة، «هاهنا» في بحث المشتق، ومراد المصنف أن بحث المشتق في أنه حقيقة في خصوص المتلبس ومجاز في غيره، أم أنه حقيقة في الأعم، إنما هو في الحقيقة والمجاز في الكلمة، فلا يرتبط المجاز في الإسناد بالبحث.

ص: 253


1- الفصول الغروية: 62.

ص: 254

المقصد الأول في الأوامر

اشارة

ص: 255

ص: 256

المقصد الأول: في الأوامر وفيه فصول:

الأول: في ما يتعلق بمادة الأمر[1] من الجهات، وهي عديدة:

الجهة الأولى[2]: إنه قد ذكر للفظ الأمر معانٍ متعددة، منها: الطلب، كما يقال: (أمره بكذا). ومنها: الشأن، كما يقال: (شغله أمر كذا). ومنها: الفعل، كما في قوله تعالى: {وَمَآ أَمۡرُ فِرۡعَوۡنَ بِرَشِيدٖ}(1). ومنها: الفعل العجيب، كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا}(2). ومنها: الشيء، كما تقول: (رأيتُ اليوم أمراً عجيباً).

-------------------------

الفصل الأول في مادة الأمر

اشارة

[1] أي: لفظة (أ- م - ر)، ويقابلها صيغة الأمر مثل: (افعل).

الجهة الأولى: معنى مادة الأمر
اشارة

[2] يذكر المصنف في هذه الجهة الأبحاث التالية:

1- المعنى اللغوي لمادة الأمر، ويرجّح المصنف هنا أن المعنى مشترك بين الطلب في الجملة والشيء، وأما المعاني الأخرى فهي مصاديق للشيء، وليست معاني لكلمة الأمر.

2- المعنى الاصطلاحي للأمر، فقد يقال: إنه حقيقة في (صيغة افعل) وأمثالها، ويشكل المصنف عليه.

ص: 257


1- سورة هود، الآية: 97.
2- سورة هود، الآية: 66 و 82.

ومنها: الحادثة[1]. ومنها: الغرض، كما تقول: (جاء زيدٌ لأمر كذا).

ولا يخفى أن عد بعضها[2] من معانيه من اشتباه المصداق بالمفهوم[3]، ضرورة[4] أن الأمر في (جاء زيدٌ لأمر) ما استعمل في معنى الغرض، بل اللام قد دل على الغرض[5]؛ نعم، يكون مدخوله مصداقه، فافهم[6].

-------------------------

3- كلمة (الأمر) استعملت في الكتاب والسنة في معانٍ متعددة، فهل هي استعمالات بنحو الحقيقة والمجاز أم بنحو الاشتراك اللفظي أم بنحو الاشتراك المعنوي؟

فإن كان ظهور في أحد المعاني فهو، وإلاّ فتصل النوبة إلى الأصل العملي.

1- المعنى اللغوي لمادة الأمر

[1] كقولك: (وقع أمرٌ) أي: حادثة.

[2] وهي غير (الطلب) و(الشيء) من المعاني.

[3] «المفهوم» هو المعنى العام للشيء الذي ينقدح في الذهن حين السماع إلى لفظه، و«المصداق» هو الفرد الخارجي أو الذهني لذلك المعنى، مثلاً: كلمة (رجل) لها مفهوم، و(زيد) مصداق لهذا المفهوم، فلا يصح أن نقول: إن لكلمة رجل معنيين أحدهما: (الإنسان البالغ الذكر) والآخر: (زيد)، فليس زيد من معاني رجل، بل هو مصداق لمعنى الرجل.

[4] بيان مصداقية الأمثلة المذكورة لمعنى الأمر.

[5] لأن معنى اللام الجارة هو (التعليل)، فقولك: (جئت للصلاة) تدل اللام على أن الغرض من المجيء هو الصلاة، والصلاة هي مصداق الغرض، كذلك في (جاء لأمر كذا) الدال على الغرض هو اللام، والأمر مصداق لذلك الغرض، وأما معنى الأمر هنا فهو الشيء، أي: (جاء لغرض شيء هو كذا)، و«مدخوله» مدخول اللام وهو (أمر)، «مصداقه» أي: مصداق الغرض.

[6] لعلّه إشارة إلى أن اللام غير مستعملة في (الغرض) وإلاّ لكان معنى (جئت لغرض كذا) جئت غرض غرض كذا، بل اللام مستعملة في التعليل.

ص: 258

وهكذا الحال[1] في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا}(1) يكون مصداقاً للتعجب، لا مستعملاً في مفهومه، وكذا في الحادثة والشأن.

وبذلك[2] ظهر ما في دعوى الفصول(2) من كون لفظ الأمر حقيقةً في المعنيين الأولين[3].

ولا يبعد[4] دعوى كونه حقيقةً في الطلب - في الجملة[5] - والشيء.

هذا بحسب العرف واللغة.

وأما بحسب الاصطلاح فقد نقل الاتفاق على أنه[6]

-------------------------

اللهم إلاّ أن يقال: إن (اللام) تدل على المعنى الحرفي للغرض، وكلمة (غرض) تدل على المعنى الاسمي له، وهذا متعارف كقولهم: (زيد على فوق السطح).

[1] أي: في اشتباه المفهوم بالمصداق، فالمعنى في الآية: فلما جاء الشيء المرتبط بنا، وحيث إن هذا الشيء هو العذاب فهو أمر عجيب، فليس معنى (أمرنا) الفعل العجيب، بل هو مصداق له.

[2] أي: بالفرق بين المفهوم والمصداق، ولزوم عدم الخلط بينهما، يتضح أن (الشأن) ليس معنىً للأمر، بل هو مصداق للمعنى، فحينما نقول: (شغله أمر كذا) معناه شغله شيء هو كذا، وهذا الشيء هو مصداق للشأن.

[3] أي: الطلب والشأن.

[4] هنا يبين المصنف رأيه، ويقول: إنه لا يبعد أن يكون (الأمر) مشتركاً لفظياً بين معنيين، هما (الطلب)، و(الشيء).

[5] أي: الطلب المقيّد بأمور ستذكر تباعاً، ككونه صادراً عن العالي ونحو ذلك.

2- المعنى الاصطلاحي لمادة الأمر

[6] «أنّه» أي: أن مادة الأمر، وتذكير الضمير باعتبار (لفظ الأمر).

ص: 259


1- سورة هود، الآية: 66.
2- الفصول الغروية: 62.

حقيقة في القول المخصوص[1]، ومجازٌ في غيره(1).

ولا يخفى[2] أنه عليه[3] لا يمكن منه الاشتقاق، فإن معناه حينئذٍ[4] لا يكون معنىً حدثياً[5]، مع أن الاشتقاقات[6] منه ظاهراً تكون بذلك المعنى المصطلح عليه

-------------------------

[1] أي: صيغة أفعل ونحوها من الصيغ، «غيره» غير القول المخصوص، من سائر المعاني فإنها مجازية بحسب الاصطلاح.

[2] المصنف يستشكل على هذا الاصطلاح، ثم يأوّل كلامهم بما يدفع عنه الإشكال.

أما الإشكال: فهو إن (صيغة افعل) اسم ذات، وليست اسماً للحدث، ومن المعلوم أنه لا يصح الاشتقاق من الذات، بل الاشتقاق إنما هو في الحدث، مثلاً: لا يصح الاشتقاق من كلمة (رجل) لأنه اسم للذات، ويصح الاشتقاق من كلمة (النصر) فيقال: نَصَرَ يَنصُر ناصر منصور... الخ.

وعليه: فلو كان المعنى الاصطلاحي لمادة الأمر هو (صيغة افعل)، لما صحَّ أن يقولوا: أمر يأمر آمر مأمور... الخ، مع أن الأصوليين حينما يستعملون هذه الاشتقاقات لا يريدون المعنى اللغوي - الذي هو الطلب - بل يريدون المعنى المصطلح بينهم.

فاتضح أن المعنى المصطلح ليس هو (صيغة افعل).

[3] «أنه» للشأن، «عليه» أي: بناءً على هذا المعنى الاصطلاحي، «منه» من لفظ الأمر.

[4] «معناه» معنى الأمر، «حينئذٍ» حين إرادة هذا الاصطلاح وهو (صيغة افعل).

[5] لأنه حسب هذا الاصطلاح هو اسم للقول المخصوص، أي: صيغة افعل، وهي لا تدل على الحدث، بل هي هيئة مخصوصة جامدة.

[6] دفع لإشكال المقدر، أي: لعلك تقول: إنهم حينما يستعملون الاشتقاقات يريدون المعنى اللغوي، أي: الطلب الذي هو معنىً حدثي.

ص: 260


1- الفصول الغروية: 63.

بينهم، لا بالمعنى الآخر، فتدبر[1].

ويمكن[2] أن يكون مرادهم به هو الطلب بالقول[3] لا نفسه[4] - تعبيراً[5] عنه بما يدل عليه -. نعم[6]، القول المخصوص - أي: صيغة الأمر - إذا أراد العالي بها الطلب يكون من مصاديق الأمر، لكنه بما هو طلب مطلق أو مخصوص[7].

-------------------------

والجواب: إن ظاهر حالهم هو أنهم يتكلمون في اصطلاحاتهم، لا بحسب المعنى اللغوي، «منه» من الأمر، «المعنى الآخر» أي: المعنى اللغوي.

[1] لعلّه إشارة إلى منع هذا الظهور، فالأصوليون كما يستعملون الألفاظ حسب اصطلاحاتهم، كذلك قد يستعملونها بحسب المعنى اللغوي.

[2] هذا توجيه لكلامهم بما يدفع الإشكال عنهم، وحاصله: إن اصطلاح الأصوليين لا يختلف عن المعنى اللغوي، بل المعنى اللغوي هو (الطلب بشكل مطلق)، والمعنى الاصطلاحي هو(الطلب بصيغة افعل)، فيكون المعنى الاصطلاحي من مصاديق المعنى اللغوي، وهو معنى حدثي فيصح الاشتقاق منه.

[3] أي: بصيغة افعل، وهذا أحد مصاديق المعنى اللغوي العام.

[4] أي: لا نفس القول - الذي هو صيغة افعل - .

[5] أي: حينما قالوا: إن الأمر اصطلاحاً هو القول المخصوص أرادوا بذلك هو الطلب بصيغة افعل، ولكن بدلاً عن هكذا تعبير ذكروا الدال (وهو القول المخصوص) وأرادوا المدلول (وهو الطلب بهذا القول)، «عنه» عن الطلب، «بما» بقولٍ، «يدل عليه» على الطلب.

[6] بيان: إنه الاصطلاح وإن كان هو الطلب بالقول المخصوص ولذا يصح الاشتقاق، إلاّ أنه قد يستعمل لفظ الأمر ويراد به نفس القول المخصوص؛ وذلك لكون القول المخصوص من مصاديق الأمر.

[7] أي: صيغة الأمر كما يمكن أن تكون مصداقاً للمعنى اللغوي وهو الطلب

ص: 261

وكيف كان فالأمر سهل لو ثبت النقل[1]، ولا مشاحة في الاصطلاح، وإنما المهمُّ بيان ما هو معناه عرفاً ولغةً ليحمل عليه في ما إذا ورد بلا قرينة.

وقد استعمل في غير واحد من المعاني في الكتاب والسنة[2]،

-------------------------

المطلق، كذلك يمكن أن تكون مصداقاً للمعنى الاصطلاحي وهو الطلب المخصوص، فمثل قوله: (انصر) مصداق لكليهما.

[1] لكن يمكن القول: إنه لا اصطلاح خاص للأصوليين في مادة الأمر، بل يستعملونها بنفس المعنى اللغوي.

3- مادة الأمر في الكتاب والسنة

[2] استعملت مادة الأمر في الكتاب والسنة في معانٍ متعددة، فهل المعاني كلها حقيقة أم بعضها مجاز؟ فلابد من ذكر مطالب:

أولاً: إنه لا دليل على كون هذه المعاني بنحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي أو الحقيقة والمجاز - إلاّ ما سنذكره في المطلب الخامس - .

ثانياً: إنه قد مرّ في الأمر الثامن من المقدمات أنه حين تعارض الأحوال لا يوجد دليل على ترجيح بعضها على بعض، فلا دليل على ترجيح الاشتراك على المجاز أو العكس. وفي ما نحن فيه: استعملت مادة الأمر في الكتاب والسنة في معانٍ متعددة، فلا وجه لحملها على المجاز أو الاشتراك أو نحو ذلك، لأجل الوجوه المذكورة في تعارض الأحوال.

ثالثاً: لو وصلت النوبة إلى الأصل العملي، أي: لو رأينا كلمة (أمر) في الكتاب والسنة، ولم نعلم أن المراد أيٌ من المعاني فهل المراد الطلب أم غيره؟ فحينئذٍ نجري أصل البراءة؛ لأنه شك في الطلب وهو شك في التكليف، فالأصل البراءة عنه.

رابعاً: إنه بعد معرفة المراد من اللفظ لا يوجد دليل على أن استعمال اللفظ في ذلك المعنى هل كان على نحو الحقيقة أم المجاز؟ فإن الاستعمال أعم من الحقيقة،

ص: 262

ولا حجة[1] على أنه على نحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي أو الحقيقة والمجاز.

وما ذكر في الترجيح[2] عند تعارض هذه الأحوال - لو سلم، ولم يعارض بمثله - فلا دليل على الترجيح به، فلابد مع التعارض[3] من الرجوع إلى الأصل في مقام

-------------------------

فلو كان اللفظ ظاهراً في أحد المعاني فهو حجة، حتى لو لم نعلم منشأ ذلك الظهور هل هو الوضع أم الإطلاق أم الانصراف.

نعم، لو علمنا بالمعنى الحقيقي والمجازي، ثم رأينا استعمال اللفظ ولم نعلم المراد، فإن بناء العقلاء حينئذٍ على حمل اللفظ على معناه الحقيقي دون المجازي؛ وذلك لأن غرض العقلاء هو فهم المراد، فجعلوا طُرُقاً لمعرفته، ومن تلك الطرق حمل اللفظ على المعنى الحقيقي، أما بعد معرفة المراد فلا يهمّهم كون اللفظ حقيقة فيه أم لا.

خامساً: لا يبعد دعوى أن لفظ الأمر المستعمل في الكتاب والسنة يتبادر منه الطلب، فلا تصل النوبة إلى الأصل العملي.

[1] إشارة إلى المطلب الأول، «أنه» الاستعمال في تلك المعاني.

[2] إشارة إلى المطلب الثاني، وحاصله: هناك ثلاثة إشكالات - طُوليّة - على هذه المرجحات:

1- عدم تسليم وجود تلك المرجحات.

2- على فرض تسليمها، فهي معارضة بمثلها؛ لأن لكل حال من الأحوال مرجحات.

3- على فرض عدم معارضتها بمثلها فلا دليل على الترجيح بها.

«لو سلم» إشارة إلى الإشكال الأول، «ولم يعارض بمثله» إشارة إلى الإشكال الثاني، و«فلا دليل...» إشارة إلى الإشكال الثالث، «به» بما ذكر من المرجحات.

[3] إشارة إلى المطلب الثالث، أي: مع تعارض الأحوال بحيث لم نعلم بأن اللفظ ظاهر في أيّة واحدة منها.

ص: 263

العمل[1]. نعم[2]، لو علم ظهوره في أحد معانيه - ولو احتمل أنه كان للانسباق من الإطلاق[3] - فليحمل عليه وإن لم يعلم أنه حقيقةٌ فيه بالخصوص أو في ما يعمه، كما لا يبعد[4] أن يكون كذلك في المعنى الأول.

الجهة الثانية[5]:

-------------------------

[1] أي: الأصل العملي، لا الأصل اللفظي؛ إذ مع وجود الأصل اللفظي لا تصل النوبة إلى الأصل العملي.

[2] إشارة إلى المطلب الرابع.

[3] أي: نحتمل أن يكون الظهور لأجل الإطلاق، لا لأجل الوضع أو الانصراف، «فليحمل عليه» جزاء الشرط في (ولو احتمل...)، «عليه» على ذلك المعنى الظاهر، «أنه» أن لفظ (الأمر)، «فيه» في ذلك المعنى الظاهر، «في ما يعمه» بنحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي.

[4] إشارة إلى المطلب الخامس، «كذلك» أي: ظاهراً، «المعنى الأول» أي: الطلب.

إن قلت: في أوائل البحث في هذه الجهة قال المصنف: (ولا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة والشيء). وهذا ينافي ما يذكره هنا حيث قال: (كما لا يبعد أن يكون كذلك في المعنى الأول).

قلت: كان الكلام هناك في المعنى الحقيقي لمادة الأمر لغةً، فذكر المصنف أنه مشترك بين معنيين. والكلام هنا في ظهور مادة الأمر المستعملة في الكتاب والسنة، فيذكر المصنف أنها ظاهرة في الطلب. فلا منافاة بين الكلامين، كما نقول: إن لفظة العين مشتركة بين كذا وكذا لغة، لكن في استعمال زيد ظاهرة في العين الباصرة، فتأمل.

الجهة الثانية: في اشتراط العُلوّ

[5] اختلفوا في أنه هل يشترط في صدق الأمر: العلو، أم الاستعلاء، أم كليهما؟

ص: 264

الظاهر اعتبار العلوّ في معنى الأمر[1]، فلا يكون الطلب من السافل أو المساوي أمراً، ولو أطلق عليه كان بنحوٍ من العناية، كما أن الظاهر عدم اعتبار

-------------------------

القول الأول - وهو مختار المصنف - : اشتراط العلو فقط، ويدل عليه التبادر، وأما الطلب الصادر من المساوي أو السافل فليس بأمر حقيقة، ولو أطلق عليه الأمر كان مجازاً.

القول الثانى: اشتراط الاستعلاء(1) فقط - سواء كان من العالي أم المساوي أم السافل - .

ويرد عليه: إن الوجدان والتبادر يدل على عدم اشتراطه؛ ولذا لو تواضع المولى وطلب شيئاً صدق عليه الأمر مع أنه غير مستعلٍ.

القول الثالث: اشتراط أحد الأمرين(2) - من العلو والاستعلاء - على سبيل منع الخلو.

واستدل لاشتراط الاستعلاء أو كفايته - وهذا دليل للقول الثاني والثالث معاً - بأنه يطلق (الأمر) على السافل المستعلي، وتوبيخه على أمره.

ويرد عليه: إن استعمال لفظة (الأمر) على طلب السافل المستعلي ليس على نحو الحقيقة؛ لأن الاستعمال أعم منها، بل يصح سلب (الأمر) عن طلب المساوي والسافل، وهذا يدل على أن الاستعمال فيه مجازي.

وأما التوبيخ فليس على أمره، بل على استعلائه، فمعناه: إنك ليست بعالٍ فلماذا تستعلي على العالي؟!

[1] ودليله التبادر، «أطلق» أي: استعمل لفظ الأمر، «عليه» على طلب المساوي والسافل، «بنحو العناية» أي: المجاز، وسيأتي دليل المجازية وهو صحة السلب.

ص: 265


1- معارج الأصول: 62.
2- إشارات الأصول: 80.

الاستعلاء[1]، فيكون الطلب من العالي أمراً ولو كان مستخفضاً لجناحه.

وأما احتمال اعتبار أحدهما[2] فضعيف(1)، وتقبيح[3] الطالب السافل من العالي المستعلي عليه[4]، وتوبيخه بمثل: (إنّك لِمَ تأمره) إنما هو[5] على استعلائه[6]، لا على أمره حقيقةً بعد استعلائه، وإنما يكون[7] إطلاق الأمر على طلبه بحسب ما هو قضية استعلائه. وكيف كان[8] ففي صحة سلب الأمر عن طلب السافل ولو كان مستعلياً كفايةٌ.

الجهة الثالثة[9]:

-------------------------

[1] ودليله التبادر أيضاً، «مستخفضاً لجناحه» أي: متواضعاً في طلبه.

[2] على سبيل منع الخلو، أي: إما العلو وإمّا الاستعلاء.

[3] إشارة إلى دليل اعتبار الاستعلاء أو كفايته.

[4] «المستعلي عليه» صفة للسافل، «عليه» على العالي، «وتوبيخه» عطف على (تقبيح).

[5] هذا ردّ الدليل المذكور، «هو» التقبيح والتوبيخ.

[6] أي: ليس التوبيخ على أنه أمر أمراً حقيقياً بسبب استعلائه.

[7] هذا بيان وجه الاستعمال المجازي، فإنه لابد في المجاز من علاقة مع المعنى الحقيقي، وفي ما نحن فيه الشبه في الاستعلاء، فكما أن العالي حين الأمر يستعلي عادة، كذلك هذا المساوي أو السافل قد استعلى، فلذا شابه الآمر الحقيقي.

[8] سواء كان التوبيخ على أمره أم على استعلائه، «كفاية» في عدم اشتراط الاستعلاء أصلاً.

الجهة الثالثة: الأمر حقيقة في الوجوب
اشارة

[9] والمقصود فيها هو بيان أن الأمر يدل على الوجوب وضعاً، وفي دلالة الأمر

ص: 266


1- قوانين الأصول 1: 81؛ هداية المسترشدين 1: 577.

-------------------------

على الوجوب أو على مطلق الطلب الشامل للوجوب وللاستحباب قولان:

القول الأول: دلالته على الوجوب(1)،

ولهذا القول دليل ومؤيدات.

أما الدليل: فهو التبادر، فإن مادة الأمر يتبادر منها الوجوب، وهو دليل على الوضع للوجوب.

وأما المؤيدات فهي أربعة:

1- التحذير من مخالفة الأمر في قوله {فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ يُصِيبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(2)، والتحذير يدل على الوجوب؛ إذ لا معنى للتحذير عن مخالفة المستحب.

وإنما كان هذا مؤيداً لأن (أمره) استعمل في الوجوب، والاستعمال أعم من الحقيقة، مضافاً إلى أن التحذير قرينة على أن المراد من الأمر الوجوب، فلعلّ الأمر يدل على الأعم، لكن أريد هنا خصوص الوجوب بالقرينة المذكورة.

2- المقابلة بين الأمر وبين الاستحباب، في قوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك)(3) فإن استحباب السواك لا ريب فيه، فالحديث يدل على أنه لو لا المشقة لكان السواك واجباً.

وأيضاً إنما جعل هذا مؤيداً لأنه استعمال للأمر في الوجوب، ولوجود قرينة المشقة، فإنه لا مشقة في المستحب، وأيضاً وجود قرينة أخرى خارجية هي علمنا بالاستحباب.

3- ما ورد في قصة بُريرة، حيث كانت أمة وكان زوجها عبداً فاُعتقت، فخيّرها رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بين بقائها على نكاح زوجها وبين فسخها للنكاح، فاختارت

ص: 267


1- هداية المسترشدين 1: 595.
2- سورة النور، الآية: 63.
3- الكافي 3: 22.

لا يبعد كون لفظ الأمر حقيقةً في الوجوب، لانسباقه[1] عنه عند إطلاقه.

ويؤيده قوله تعالى: {فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ}(1)؛ وقوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك»(2)؛

وقوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ - لبريرة بعد قولها: أتأمُرني يا رسول الله - : «لا، بل إنما أنا شافع»(3) ... إلى غير ذلك؛ وصحة[2] الاحتجاج

-------------------------

الفسخ، فقال لها رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ (لو راجعتيه فإنه أبو ولدك)، فقالت: يارسول الله أتأمرني؟ فقال: (لا بل أنا شفيع)(4)،

فقالت: لا حاجة لي فيه.

وجه التأييد هو مقابلة الأمر مع الشفاعة، وأنها استعملت الأمر في الوجوب، أي: هل توجب عليّ، وإنما كان مؤيداً لما ذكرناه من أن الاستعمال أعم من الحقيقة.

4- صحة مؤاخذة العبد لو خالف الأمر، مع أنه لا مؤاخذة على ترك المستحب، كما وبّخ الله تعالى إبليس بتركه السجود في قوله {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ}(5).

ويحتمل أن يكون هذا دليلاً ثانياً على دلالة الأمر على الوجوب. نعم، الآية مؤيدة؛ لأن الأمر بالسجود استعمل في الوجوب، والاستعمال أعم من الحقيقة، مضافا إلى أن الأمر بالسجود كان بصيغة الأمر في قوله تعالى: {فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ}(6) ولم يكن بمادة الأمر، وكلامنا الآن في المادة لا في الصيغة.

[1] أي: لانسباق الوجوب من مادة الأمر، وهذا الاستدلال بالتبادر، «إطلاقه» من غير قرينة، «يؤيده» أي: يؤيد الدلالة على الوجوب.

[2] «صحة» إما معطوف على (قوله تعالى)، فيكون هذا مؤيداً رابعاً، وإما معطوف على (لانسباقه) فيكون دليلاً ثانياً.

ص: 268


1- سورة النور، الآية: 63.
2- الكافي 3: 22.
3- مستدرك الوسائل 15: 32.
4- مستدرك الوسائل 15: 32.
5- سورة الأعراف، الآية: 12.
6- سورة الحجر، الآية: 29؛ سورة ص، الآية: 72.

على العبد، ومؤاخذته بمجرد مخالفة[1] أمره، وتوبيخه على مجرد مخالفته، كما في قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ}(1).

وتقسيمه[2]

-------------------------

[1] من غير بحث عن أن الأمر كان للوجوب أم للاستحباب، فإن التوبيخ بمجرد المخالفة دليل على كون الأمر للوجوب.

أدلة كون الأمر للطلب المطلق

[2] القول الثاني(2):

هو دلالة مادة الأمر على الطلب الشامل للوجوب والاستحباب، واستدل له بأمور:

الأول: صحة تقسيم الأمر إلى الوجوب والاستحباب، ولو كان الأمر دالاً على خصوص الوجوب لما صحّ التقسيم؛ لاستلزامه تقسيم الشيء إلى نفسه وإلى غيره، فهل يصح أن نقول: الاسم إما اسم أو فعل أو حرف؟

والجواب: إن في التقسيم استعمل الأمر في المعنى الأعم، والاستعمال أعم من الحقيقة.

الثاني: إن مادة الأمر استعملت في الوجوب وفي الندب، فإما أن يكون الأمر مشتركاً معنوياً بينهما، بأن يكون موضوعاً للطلب المطلق، وإما مشتركاً لفظياً بينهما، وإما حقيقة في أحدهما ومجاز في الآخر، ولا ريب أن الاشتراك المعنوي أرجح منهما؛ لأنه أكثر، والأكثر أرجح.

والجواب: عدم اعتبار هذه المرجّحات، كما مرّ في الجهة الأولى من بحث مادة الأمر، وفي المقدمة الثامنة في تعارض الأحوال.

الثالث: الاستدلال ببرهان مركب من صغرى وكبرى، أما الصغرى فهي: (فعل المستحب طاعة للمولى)، وأما الكبرى فهي: (كل طاعة مأمور بها)،

ص: 269


1- سورة الأعراف، الآية: 12.
2- قوانين الأصول 1: 81 - 82.

إلى الإيجاب والاستحباب إنما يكون قرينةً[1] على إرادة المعنى الأعم منه في مقام تقسيمه. وصحة الاستعمال في معنى أعم من كونه على نحو الحقيقة، كما لا يخفى.

وأما ما أفيد(1)

من أن الاستعمال فيهما[2] ثابت، فلو لم يكن موضوعاً للقدر المشترك بينهما لزم الاشتراك أو المجاز؛ فهو[3] غير مفيد، لما مرت الإشارة إليه في الجهة الأولى وفي تعارض الأحوال، فراجع.

والاستدلال[4] بأنَّ فعل المندوب طاعة، وكل طاعة فهو فعل المأمور به(2).

فيه: ما لا يخفى من منع الكبرى[5]

-------------------------

فالنتيجه: (فعل المستحب مأمور به) وهو المطلوب.

وفيه: الإشكال على الكبرى، لأنه إن أريد المعنى الحقيقي للمأمور به فلا نسلّم أن كل طاعة مأمور بها، وإن أريد المعنى المجازي للمأمور به فلا يفيد المستدل؛ لأن كلامنا حول المعنى الحقيقي للأمر، لا المعنى الأعم من الحقيقي والمجازي.

[1] هذا جواب عن الدليل الأول، وحاصله: إن التقسيم دليل على استعمال المقسم في المعنى الجامع بين الأقسام، لكن الاستعمال أعم من الحقيقة، «منه» من الوجوب، «تقسيمه» تقسيم الأمر، لا في كل المقامات حتى يكون دليلاً على كونه حقيقة في المعنى الأعم.

[2] في الإيجاب والاستحباب، وهذا الدليل الثاني.

[3] جواب عن الدليل، «الجهة الأولى» من مباحث مادة الأمر، «في تعارض الأحوال» وهو الأمر الثامن من المقدمات.

وحاصله: إن المناط في الترجيح هو الظهور، لا الوجوه الاستحسانية.

[4] هذا الدليل الثالث.

[5] وهي (كل طاعة فهي فعل للمأمور به)، وحاصله: إن أردتم المعنى الحقيقي

ص: 270


1- مبادئ الوصول: 93.
2- قوانين الأصول 1: 82.

لو أريد من المأمور به معناه الحقيقي، وإلاّ[1] لا يفيد المدعى.

الجهة الرابعة[2]: الظاهر أن الطلب الذي يكون

-------------------------

للأمر فهذه الكبرى غير صحيحة؛ إذ ليس كل طاعة فعل للمأمور به، وإن أردتم المعنى المجازي للأمر فالكبرى صحيحة لكنها لا تفيدكم؛ لأنكم تريدون إثبات المعنى الحقيقي لا المجازي.

[1] أن لا يراد المعنى الحقيقي من الأمر.

الجهة الرابعة: في الطلب والإرادة
اشارة

[2] أصل البحث في هذه الجهة في بيان معنى (الطلب) الذى تدل عليه (مادة الأمر)، حيث ذكرنا أن الأمر يدل على الطلب، فيريد المصنف بيان معنى الطلب، ثم ينجر الكلام إلى بحث كلامي حول اتحاد الطلب والإرادة، ثم ردّ أدلة الأشاعرة على الكلام النفسي، ثم ينجر الكلام إلى بحث الجبر وهو أيضاً من البحوث الكلامية، فالكلام في مقامات أربع:

المقام الأول: معنى الطلب في مادة الأمر

وحاصل كلام المصنف أن (الطلب) يطلق على ثلاثة أشياء:

1- الكيفية النفسانية: وهي الشوق المؤكّد الحاصل بأسبابه، وهذا له وجود خارجي عيني، وهو من مقولة الأعراض.

2- الإنشاء بألفاظ مخصوصة: كالإنشاء بمادة الأمر، أو صيغة الأمر، أو الجملة الخبرية، ونحو ذلك، نحو (آمرك بكذا)، أو (افعل كذا)، أو (يعيد صلاته) قاصداً وجوب الإعادة.

3- المفهوم الجامع بين المعنيين.

ثم إن (مادة الأمر) تدل على الطلب حسب المعنى الثاني، أي: إن لفظة (الأمر) تدل على الطلب الإنشائي، وهذه الدلالة بحسب الوضع. ولو أنكر أحد الوضع فلا

ص: 271

هو معنى الأمر[1] ليس هو الطلب الحقيقي[2] - الذي يكون طلباً بالحمل الشائع[3] الصناعي -، بل الطلب الإنشائي - الذي لا يكون بهذا الحمل[4] طلباً مطلقاً، بل طلباً

-------------------------

أقل من الانصراف إلى الطلب الإنشائي.

ثم يذكر المصنف أن لفظة (الطلب) وضعت لمفهوم الطلب الجامع بين الطلب الحقيقي والإنشائي، لكنها تنصرف إلى الطلب الإنشائي. عكس لفظة (الإرادة) فإنها وضعت للمفهوم الجامع، لكنها تنصرف إلى الإرادة النفسانية، دون الإرادة الإنشائية.

[1] أي: معنى مادة الأمر، وقد ذكر المصنف في الجهة الأولى أن معنى مادة الأمر هو الطلب والشيء، فيريد الآن بيان معنى هذا الطلب.

[2] أي: الذي له وجود حقيقي خارجي، وهو الشوق المؤكد، الذي هو من الكيفيات النفسانية.

[3] أي: يكون مصداقاً للطلب ومتحداً معه وجوداً، فإن مفهوم الطلب له مصداقان: أحدهما الطلب الحقيقي، والآخر الطلب الإنشائي، ولفظة (الطلب) موضوعة للمصداق الأول.

ولا يخفى أن تعبير المصنف بالحمل الشائع الصناعي هنا خلاف الاصطلاح، فإن اصطلاحهم في (الحمل الشائع) هو ما إذا كان مفهومان لكنهما اتحدا خارجاً في مصداق مثل العالم والعادل، فهما مفهومان قد يكون مصداقهما واحداً هو زيد، فنحمل أحدهما على الآخر فنقول: (العالمُ عادلٌ)، وأما حسب اصطلاح المصنف - هنا - فأن يكون شيء مصداقاً لمفهوم، فالطلب الحقيقي مصداق لمفهوم الطلب الجامع بين الطلب الحقيقي والطلب الإنشائي.

[4] أي: بالحمل الشائع الصناعي، فلا يصح أن نقول: (الطلبُ الإنشائي طلبٌ) بل لابد من أن نقول: (الطلب الإنشائي طلبٌ إنشائي)، «مطلقاً» من غير تقييد بالإنشائي.

ص: 272

إنشائياً -، سواء أُنشئ[1] بصيغة إفعل، أو بمادة الطلب، أو بمادة الأمر، أو بغيرها.

ولو أبيت[2] إلاّ عن كونه موضوعاً للطلب، فلا أقل من كونه منصرفاً إلى الإنشائي منه عند إطلاقه، كما هو[3] الحال في لفظ (الطلب) أيضاً، وذلك[4] لكثرة الاستعمال في الطلب الإنشائي، كما أن الأمر[5] في لفظ (الإرادة) على عكس لفظ (الطلب)، والمنصرف عنها عند إطلاقها هو الإرادة الحقيقية.

واختلافهما[6] في ذلك ألجأ بعض أصحابنا(1) إلى الميل إلى ما ذهب إليه الأشاعرة

-------------------------

[1] المقصود أن هذا البحث ليس خاصاً بمادة الأمر، بل يجري في صيغة الأمر، وفي «غيرهما» غير المادة والصيغة، كالجلمة الخبرية الواقعة في مقام الطلب.

[2] بعد أن ذكر المصنف أن الأمر موضوع لخصوص الطلب الإنشائي يذكر أنه لو أنكر أحد هذا الوضع، وادعى أن الأمر موضوع للطلب المطلق، فنقول: إن الأمر وإن كان موضوعاً للأعم لكنه منصرف إلى خصوص الطلب الإنشائي، ومنشأ هذا الانصراف هو كثرة الاستعمال، «كونه» كون الأمر، «للطلب» أي: مفهومه الجامع، «منه» من الطلب، «إطلاقه» إطلاق الأمر.

[3] أي: كما أن الانصراف إلى الطلب الإنشائي هو حال لفظة (الطلب)، فهي موضوعة للمعنى الجامع لكنها تنصرف إلى الإنشائي.

[4] هذا بيان لمنشأ الانصراف.

[5] أي: الشأن، أي: كما أن عكس هذا هو شأن لفظة (الإرادة)، بمعنى أنها وُضعت للمعنى الجامع لكنها تنصرف إلى الإرادة الحقيقية، «عنها» عن الإرادة، «الإرادة الحقيقية» التي هي الكيفية النفسانية.

المقام الثاني: في اتحاد الطلب والإرادة

[6] أي: اختلاف لفظ الإرادة ولفظ الطلب، «في ذلك» في المعنى الذي ينصرف اللفظ إليه.

ص: 273


1- هداية المسترشدين 1: 586.

من المغايرة بين الطلب والإرادة، خلافاً لقاطبة أهل الحق والمعتزلة من اتحادهما(1).

فلا بأس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما هو الحق في المقام، وإن حقّقناه في بعض فوائدنا(2)[1]

إلاّ أن الحوالة لما لم تكن عن المحذور خالية، والإعادة بلا فائدة ولا إفادة، كان المناسب هو التعرض هاهنا أيضاً.

فاعلم، أن الحق كما عليه أهله[2] - وفاقاً للمعتزلة وخلافاً للأشاعرة - هو اتحاد الطلب والإرادة، بمعنى[3] أن لفظيهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد، وما بإزاء أحدهما في الخارج يكون بإزاء الآخر، والطلب المُنشأ بلفظه أو بغيره عين الإرادة الإنشائية.

-------------------------

وحاصل ما أفاده المصنف: إن الطلب والإرادة هما بمعنى واحد، وهو المفهوم الجامع بين الكيفية النفسانية الخاصة وبين إنشائها باللفظ، إلاّ أن المنصرف من لفظ (الإرادة) هو الكيفية النفسانية، والمنصرف من لفظ (الطلب) هو الإنشاء المخصوص.

وهذا الانصراف كان سبب توهم بعض أصحابنا اختلاف معناهما، كما هو مذهب الأشاعرة، خلافاً لمذهب العدلية من اتحادهما معنىً.

[1] وهو حاشية المصنف على رسائل الشيخ الأعظم، «من المحذور خالية» كعدم توفر كتاب الفوائد، «الإعادة» أي: لما لم تكن الإعادة بلافائدة... .

[2] «عليه» على ذلك المطلب الحق، «أهله» أهل الحق وهم العدلية الشيعة.

[3] أي: اتحادهما في المفهوم وفي الوجود الخارجي وفي الإنشاء.

أما في المفهوم: فهما مترادفان، أي: يدلان على معنى واحد كالإنسان والبشر.

وأما في الوجود الخارجي: فإن هناك مصداقاً خارجياً واحداً لكليهما، وهذا لازم ترادف المعنيين.

وأما في الإنشاء: فإن إصدار الأمر باللفظ أو بالكتابة هو طلب وهو إرادة.

ص: 274


1- كشف المراد: 223.
2- فوائد الأصول: 23.

وبالجملة: هما متحدان مفهوماً وإنشاءً وخارجاً، لا[1] أن الطلب الإنشائي الذي هو المنصرف إليه إطلاقه[2] - كما عرفت - متحد مع الإرادة الحقيقية التي ينصرف إليها إطلاقها أيضاً، ضرورة[3] أن المغايرة بينهما أظهر من الشمس وأبين من الأمس.

فإذا عرفت المراد من حديث العينية والاتحاد[4]، ففي مراجعة الوجدان[5] - عند طلب شيء والأمر به حقيقةً - كفايةٌ، فلا يحتاج إلى مزيد بيان وإقامة برهان، فإن[6]

-------------------------

[1] المقصود بيان أن الطلب والإرادة متحدان في العوالم الثلاثة - عالم المفهوم والذهن، وعالم المصداق والوجود الخارجي، وعالم الإنشاء - وليس المراد أن أحدهما في أحد العوالم متحد مع الآخر في العالم الآخر، ضرورة اختلاف العوالم.

والحاصل: إنا لا نقصد اتحاد الطلب في عالم الإنشاء مع الإرادة في عالم الخارج.

نعم، منشأ الخلط عند الأشاعرة أنهم لمّا رأوا أن لفظ (الطلب) ينصرف إلى الطلب الإنشائي، و(الإرادة) تنصرف إلى الإرادة الحقيقية، لذا قالوا بالتغاير بين الطلب والإرادة.

[2] أي: إذا أطلق (الطلب) ولم يقيّد بقيد فإنه ينصرف إلى الطلب الإنشائي، «إليها» إلى الإرادة الحقيقية، «إطلاقها» إطلاق لفظ الإرادة من غير تقييد، «أيضاً» كانصراف لفظ الطلب.

[3] دليل عدم اتحاد الإرادة الحقيقية مع الطلب الإنشائي، وإنما كانت المغايرة واضحة؛ لأن عالم الإنشاء يختلف عن عالم الخارج.

[4] أي: الاتحاد في كل واحد من العوالم الثلاثة، لا مع اختلاف العالمين.

[5] هذا دليل اتحاد الطلب والإرادة، وهو استدلال بالوجدان، «ففي مراجعة...» خبر مقدّم، «كفاية» مبتدأ مؤخّر.

[6] هذا منبّه للوجدان، فقد يغفل الإنسان عن وجدانه فيحتاج إلى منبّه ليلتفت

ص: 275

الإنسان لا يجد غير الإرادة القائمة بالنفس صفة أخرى قائمة بها يكون هو الطلب غيرها سوى[1] ما هو مقدمة تحققها عند خطور الشيء والميل وهيجان الرغبة إليه والتصديق لفائدته، وهو[2] الجزم بدفع ما يوجب توقفه عن طلبه لأجلها[3].

وبالجملة: لا يكاد يكون غير الصفات المعروفة[4] والإرادة هناك صفة أخرى

-------------------------

إليه، «بها» بالنفس، «غيرها» غير الإرادة، وهذه الكلمة تأكيد لقوله: (لا يجد غير الإرادة...).

[1] أي: توجد في النفس مبادئ الإرادة ومقدمتها، ولكنها ليست طلباً كما هو واضح.

ومبادئ الإرادة هي:

1- «خطور الشيء» وهو تصوره، مثل أن يتصوّر الماء.

2- و«التصديق بفائدته» بأن يذعن بفائدة شرب الماء مثلاً.

3- «الميل» أي: حصول الرغبة إليه، فقد يتصور الإنسان الشيء ويذعن بفائدته لكن لا يرغب إليه فلا تتحقق الإرادة.

4- «هيجان الرغبة» وهو العزم على أن يفعل الشيء.

وبعد حصول هذه الأربعة يأتي دور مقدمة الإرادة، وهي الجزم بمعنى رفع الموانع، وبعد ذلك تتحقق الإرادة.

ولا يخفى أن الأفضل اعتبار كل هذه الخمسة مقدمات للإرادة.

[2] عطف تفسيري لبيان (ما هو مقدمة تحققها)، أي: بعد المبادئ الأربعة تصل النوبة إلى مقدمة الإرادة وهي الجزم، ثم فسّره بقوله: (بدفع ما...)، «توقفه» الإنسان، «طلبه» طلب الشيء.

[3] أي: لأجل الفائدة يدفع الإنسان الموانع.

[4] التي هي مبادئ الإرادة ومقدمتها، والمعنى لا توجد صفة أخرى في النفس غير الإرادة ومقدماتها، «صفة» اسم (يكون)، «بها» بالنفس، «يكون هو» أي:

ص: 276

قائمة بها يكون هو الطلب، فلا محيصَ عن اتحاد الإرادة والطلب، وأن يكون[1] ذاك الشوق المؤكد - المستتبع لتحريك العضلات في إرادة فعله بالمباشرة، أو المستتبع لأمر عبيده به في ما لو أراده لا كذلك[2] - مسمىً[3] بالطلب والإرادة، كما يعبّر به تارةً وبها أخرى، كما لا يخفى.

وكذا الحال[4] في سائر الصيغ الإنشائية والجمل الخبرية، فإنه لا يكون غير الصفات

-------------------------

تكون تلك الصفة، وتذكير الفعل والضمير باعتبار الخبر وهو (الطلب).

[1] عطف على (اتحاد...)، أي: ولا محيص عن أن يكون... الخ.

ثم ان الإرادة على قسمين: تكوينية وتشريعية.

1- أما التكوينية: فهي أن يريد فعل نفسه بالمباشرة، كأن يريد أن يشرب الماء، فيحرّك عضلاته نفسه نحو شرب الماء.

2- وأما التشريعية: فهي أن يريد فعل الغير باختياره، ويكون ذلك عبر إصدار الأمر إليه ليفعل ذلك الفعل بالاختيار، كأن يأمر عبده بشرب الماء، فهنا المريد لا يحرك عضلاته لكن يأمر العبد لكي يشرب ذلك العبد الماء. ف- (ذلك الشوق المؤكد) هو الإرادة، و(المستتبع لتحريك العضلات) في التكوينية، و(المستتبع لأمر عبيده) في التشريعيّة.

[2] أراد الفعل لا بالمباشرة.

[3] خبر (يكون) في قوله: (وأن يكون ذلك الشوق...)، «به» بالطلب، و«بها» بالإرادة.

[4] بعد أن ذكر المصنف اتحاد الطلب والإرادة، وأنه نشعر بالوجدان عدم وجود صفة أخرى في النفس، بعد ذلك يعمّم البحث إلى سائر صيغ الإنشاء، وكذا الجمل الخبرية:

1- ففي صيغ الإنشاء كالتمني، هناك تمنٍّ إنشائي بقوله: (ليت الأمر كذا)، وهناك صفة في النفس بالرغبة إلى حصول الشيء، وبالوجدان لا نرى صفة أخرى في النفس.

ص: 277

المعروفة القائمة بالنفس - من الترجي والتمني والعلم إلى غير ذلك - صفة أخرى[1] كانت قائمة بالنفس، وقد دلّ اللفظ عليها[2]، كما قيل[3]:

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما

جعل اللسان على الفؤاد دليلاً(1)

وقد انقدح بما حققناه ما في استدلال الأشاعرة على المغايرة - بالأمر مع عدم

-------------------------

2- وفي الجمل الخبرية: نرى لفظاً دالاً عليها، ونرى في النفس (العلم) بتحقق النسبة أو عدم تحققها، ولا شيء آخر في النفس.

خلافاً للأشاعرة حيث زعموا وجود صفة أخرى في النفس عبروا عنها ب- (الكلام النفسي).

[1] قوله: «صفة أخرى» اسم قوله: (فإنه لا يكون...).

[2] أي: زعموا أن في النفس صفتين، إحداهما: الكلام النفسي ويدل عليه اللفظ، والأخرى: التمني والترجي والعلم ونحوها ولا يدل عليها شيء من الألفاظ.

[3] الشعر للأخطل، وقد استدل به للأشاعرة على وجود الكلام النفسي.

وبطلان الاستدلال واضح، فإن قول الشاعر ليس بحجة قطعاً، مضافاً إلى أن مراده هو أن الكلام دليل على ما في الضمير، مثلاً من يقول: (ليت الشباب يعود) كشف كلامه عن وجود صفة التمني في نفسه، وليس مراد الشاعر إثبات صفة أخرى هي الكلام النفسي، ولوضوح بطلان هذا الاستدلال لم يجعله المصنف من الأدلة على الكلام النفسي، وإنما ذكره لتوضيح مراد الأشاعرة.

المقام الثالث: أدلة تغاير الطلب والإرادة وردّها
اشارة

وبعض هذه الأدلة أقامها الأشاعرة لإثبات الكلام النفسي، وبعضها أقامها آخرون لإثبات التغاير بين الطلب والإرادة، والمصنف يذكر هنا ثلاثة أدلة، وفي آخر البحث يذكر دليلاً رابعاً.

ص: 278


1- البيت للأخطل، حكاه الرازي في التفسير الكبير 1: 20.

الإرادة[1]، كما في صورتي الاختبار والاعتذار[2] - من الخلل، فإنه[3] كما لا إرادة حقيقةً في الصورتين لا طلب كذلك فيهما، والذي يكون فيهما إنما هو الطلب الإنشائي الإيقاعي[4] الذي هو مدلول الصيغة أو المادة، ولم يكن بيناً

-------------------------

الدليل الأول: الأوامر الامتحانية والتعذيرية

[1] الدليل الأول للأشاعرة: هو انفكاك الأمر والإرادة في موردين، ففيهما يوجد أمر ولا توجد إرادة، وهذا دليل على تغاير الطلب والإرادة.

الأول: الأوامر الامتحانية، كأمر إبراهيم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بذبح إسماعيل، حيث كان طلباً، لكن لم يُرِدْ الله تعالى تحقق الذبح.

الثاني: الأوامر التعذيرية، وهي ما إذا أراد المولى تأديب العبد، لكنه يحتاج إلى مبرّر لذلك؛ إذ لا يصحّ عقوبته بلا مخالفة، فحينئذٍ يأمره بما يعلم عصيانه له، فهنا يوجد طلب من غير إرادة.

[2] أي: إظهار عذر المولى في عقوبة العبد، «من الخلل» بيان لقوله: (ما في استدلال الأشاعرة).

[3] هذا بيان الخلل والإشكال في هذا الدليل، وحاصله: إن في صورة الاختبار والاعتذار لا يوجد طلب حقيقي ولا إرادة حقيقية، وإنما الموجود الطلب والإرادة الإنشائيين، وبعبارة أخرى: حصل في الاستدلال خلط بين مرتبتين، فالطلب الموجود هو الطلب الإنشائي، والإرادة غير الموجودة هي الإرادة الحقيقية، فنقول: كما يوجد الطلب الإنشائي فكذلك توجد الإرادة الإنشائية، وكما لا توجد الإرادة الحقيقية فكذلك لا يوجد الطلب الحقيقي، «الصورتين» الاختبار والاعتذار، «كذلك» حقيقي، «فيهما» في الصورتين.

[4] «الإيقاعي» توضيحٌ ل- (الإنشائي)، «الذي هو» الطلب الإنشائي مدلول لصيغة افعل أو لمادة الأمر.

ص: 279

ولا مبيناً[1] في الاستدلال مغايرته مع الإرادة الإنشائية.

وبالجملة: الذي يتكفله الدليل ليس إلاّ الانفكاك بين الإرادة الحقيقية والطلب المنشأ بالصيغة الكاشف[2] عن مغايرتهما، وهو مما لا محيصَ عن الالتزام به - كما عرفت - ولكنّه لا يضر بدعوى الاتحاد أصلاً، لمكان[3] هذه المغايرة والانفكاك بين الطلب الحقيقي والإنشائي، كما لا يخفى.

ثم إنه يمكن مما حققناه[4] أن يقع الصلح بين الطرفين، ولم يكن نزاعٌ في البين، بأن يكون المراد بحديث الاتحاد ما عرفت من العينية مفهوماً ووجوداً، حقيقياً وإنشائياً، ويكون المراد بالمغايرة والاثنينية هو اثنينية الإنشائي من الطلب - كما هو[5]

-------------------------

[1] أي: لم يكن واضحاً من الدليل، ولا الأشاعرة وضّحوا كيفية دلالة هذا الدليل على مغايرة الطلب الإنشائي للإرادة الإنشائية، فإن غاية ما يدل عليه الدليل هو مغايرة الطلب الإنشائي مع الإرادة الحقيقية، وهذا لا خلاف فيه، وإنما النزاع في مغايرة الإرادة الحقيقية للطلب الحقيقي.

[2] صفة للانفكاك، «مغايرتهما» الطلب الإنشائي والإرادة الحقيقية، «وهو» هذا الانفكاك، «لكنه» لكن الانفكاك.

[3] بيان عدم ضرره بالدعوى، وحاصله: إن الطلب أيضاً قسمان: حقيقي وإنشائي، والاتحاد إنما يكون مع اتحاد الرتبة بأن يكونا من عالم واحد، وادّعاء الأشاعرة هو المغايرة في عالم الخارج، لكن دليلهم هو التغاير في عالمين، وهذا لا يثبت دعواهم.

[4] وهو إثبات اتحاد الطلب والإرادة في العوالم الثلاثة: المفهوم، والخارج، والإنشاء، «الطرفين» العدلية القائلين بالاتحاد والأشاعرة القائلين بالمغايرة، «نزاع» حقيقي، بل النزاع يرجع لفظياً.

[5] أي: كما الطلب الإنشائي «لفظه» لفظ الطلب، «والحقيقي...» عطف على (الإنشائي من الطلب)، «هو» الإرادة الحقيقية، «منها» من لفظة الإرادة.

ص: 280

كثيراً ما يراد من إطلاق لفظه - والحقيقي من الإرادة - كما هو المراد غالباً منها حين إطلاقها - ، فيرجع النزاع لفظياً، فافهم[1].

دفع وهم[2]: لا يخفى أنه ليس غرض الأصحاب والمعتزلة - من نفي غير الصفات

-------------------------

[1] إشارة إلى أن النزاع بين الطرفين ليس لفظياً، كيف والأشاعرة يريدون إثبات الكلام النفسي لله سبحانه بهذه الأدلة، والعدلية ينفون الكلام النفسي؟

الدليل الثاني: معاني الكلمات

[2] من أدلة الاشاعرة(1)

على تغاير الطلب والإرادة هو إثباتهم للكلام النفسي.

وحاصل دليلهم هو: إنه حين التلفظ بالإنشاء كالأمر والنهي والتمنى ونحوها، وكذا التلفظ بالأخبار، لابد أن يكون لهذه الألفاظ معنى، وذلك المعنى موطنه النفس، فيدور المعنى بين الكلام النفسي، وبين الصفات النفسية المشهورة كالعلم في الأخبار، وكالتمني في الإرادة ونحوهما في الإنشاء.

والثاني باطل لوضوح مغايرة المعنى للعلم في الإخبار، فحينما نقول: (جاء زيد) ليس مدلول هذا الكلام علمنا بمجيئه، بل مدلوله هو النسبة بين المجيء وبين زيد، وكذا وضوح مغايرة المعنى للترجي والتمني والإرادة ونحوها في الإنشاء، فليس معنى (ليت الشباب يعود) هو صفة التمني الموجودة في النفس، وكذا ليس مدلول (انصر) الإرادة الموجودة في النفس، بل المدلول شيء آخر هو الكلام النفسي، فثبت مغايرة الطلب النفسي المدلول عليه بصيغة (انصر) مثلاً، للإرادة النفسية التي هي صفة أخرى في النفس.

والجواب: إن لهذه الكلمات معنى، ولكن ليس موطن المعنى في النفس ليثبت الكلام النفسي المغاير للصفات المشهورة، فيكون طلباً نفسياً يدل عليه الأمر والنهي مثلاً، مغايراً للإرادة النفسية - التي هي من الصفات المشهورة - بل موطن المعنى هو:

ص: 281


1- فوائد الأصول: 25.

المشهورة[1] وأنه ليس صفة أخرى قائمة بالنفس كانت كلاماً نفسياً مدلولاً للكلام اللفظي كما يقول به[2] الأشاعرة - أنّ هذه الصفات المشهورة مدلولات للكلام[3].

-------------------------

أ: في الإخبار هو الخارج أو الذهن، مثلاً حينما نقول: (الإنسان كاتب) مدلول هذا الخبر هو ثبوت النسبة بين الإنسان والكتابة في الخارج، وحينما نقول: (الإنسان نوع) مدلول هذا الخبر هو ثبوت النسبة بين الإنسان والنوعية في عالم الذهن، وليست هذه النسبة صفة نفسية لتثبت بذلك صفة أخرى غير العلم.

وكذلك حينما نقول: (الإنسان ليس بناهق) مدلول هذا الخبر هو سلب النسبة بينهما في الخارج، وفي مثل: (الإنسان ليس بجنس) المدلول هو سلب النسبة بينهما في عالم الذهن.

ب: وفي الإنشاء ليس موطن المعنى النفس، بل موطنه عالم الإنشاء؛ وذلك لأن الصيغ الإنشائية تُوجِد معانيها، وهذه المعاني بعد إيجادها في عالم الإنشاء قد تكون مؤثرة لآثار شرعية أو عرفية، مثلاً: صيغة النكاح إنشاء ويترتب عليها الأثر الشرعي وهو الزوجية.

فتحصّل أن مدلول الإخبار والإنشاء ليس الصفات النفسية المشهورة، ولا الكلام النفسي، وإنما المدلول في الإخبار هو النسبة أو سلبها في عالم الذهن أو الخارج، وفي الإنشاء هو الإيجاد الذي قد يترتب عليه أثر شرعي أو عرفي.

[1] أي: الصفات النفسية المعلومة من العلم والإرادة والتمني... الخ، و«أنه» للشأن، والعطف تفسيري.

[2] أي: بالكلام النفسي، وقوله: «أن هذه...» خبر (ليس غرض...).

[3] كي يرد عليهم إشكال أنه من الواضح أن مدلول (جاء زيد) مثلاً ليس (علم المتكلم بالنسبة)، وأن مدلول (ليت الشباب يعود) ليس هو صفة التمني القائمة بالنفس.

ص: 282

إن قلت: فماذا يكون مدلولاً عليه عند الأصحاب والمعتزلة؟

قلت: أما الجمل الخبرية فهي دالة على ثبوت النسبة بين طرفيها[1] أو نفيها في نفس الأمر[2] من ذهن أو خارج ك(الإنسان نوعٌ) أو (كاتبٌ).

وأما الصيغ الإنشائية فهي - على ما حققناه في بعض فوائدنا(1)

- موجدة لمعانيها في نفس الأمر[3] - أي: قصد ثبوت معانيها وتحققها بها - وهذا نحو من الوجود[4]، وربما يكون هذا[5] منشأ لانتزاع اعتبار مترتب عليه - شرعاً وعرفاً - آثارٌ، كما هو الحال في صيغ العقود والإيقاعات.

-------------------------

[1] طرفي النسبة وهما الموضوع والمحمول، «أو نفيها» عطف على (ثبوت النسبة) أي نفي النسبة.

[2] و«نفس الأمر» هو الشامل لعالم الخارج، والذهن، والإنشاء؛ ولذا فسره بقوله: (من ذهن أو خارج)، ولم يذكر عالم الإنشاء؛ لأنه من أقسام الوجود الذهني.

[3] والمراد (عالم الإنشاء) الذي هو من مصاديق (نفس الأمر)، وقوله: (أي قُصد...) بيان لمعنى الإيجاد، وقوله: (وتحققها بها) عطف على (ثبوت) أي: قُصد تحقق معاني هذه الكلمات بهذه الألفاظ.

[4] أي: الوجود في عالم الإنشاء من أقسام الوجود.

[5] أي: هذا الوجود في عالم الإنشاء؛ لأنه نوع من أنواع الوجود قد يكون منشأً لآثار عقلائية وشرعية.

مثلاً: حينما تجرى صيغة النكاح توجد الزوجية في عالم الإنشاء، فيعتبر العقلاء أو الشرع الزوجية، ثم يرتبون عليها الآثار كوجوب النفقة والإرث... الخ.

وإنما قال: (ربما يكون...) لأن بعض الإنشاءات لا يترتب عليها أثر، فالتمني لا يرتب عليه العقلاء والشرع أثراً عادة.

ص: 283


1- فوائد الأصول: 17.

نعم[1]، لا مضايقة في دلالة مثل صيغة الطلب والاستفهام والترجي والتمني بالدلالة الالتزامية على ثبوت هذه الصفات حقيقةً، إما لأجل وضعها[2] لإيقاعها في ما إذا كان الداعي إليه ثبوت هذه الصفات، أو انصراف إطلاقها[3] إلى هذه الصورة، فلو لم تكن هناك قرينة[4] كان إنشاء الطلب أو الاستفهام أو غيرهما بصيغتها لأجل كون الطلب والاستفهام وغيرهما قائمةً بالنفس وضعاً أو إطلاقاً.

-------------------------

و«العقود» ما كان بين طرفين بأن يحتاج إلى إيجاب وقبول كالنكاح، و«الإيقاعات» ما كان من طرف واحد كالطلاق.

[1] بعد أن ذكرنا أن مدلول الخبر والإنشاء ليس أمراً نفسياً، يأتي المصنف ويذكر أنه لا مشكلة في أن نقول: إنّ هناك دلالة التزامية على وجود الصفات المشهورة في النفس، لكنها ليست مدلولة للّفظ، مثلاً من يقول: (ليت كذا...) لازم كلامه أن هناك صفة تمنٍّ في نفسه.

[2] أي: منشأ هذه الدلالة الالتزامية أحد أمرين:

الأول: الوضع بأن يكون الواضع قد اشترط استعمال الإنشاء حين تحقق هذه الصفات المشهورة، «وضعها» أي: وضع هذه الصيغ، «لإيقاعها» أي: لإيجاد هذه المعاني، «إليه» إلى الإيقاع.

[3] الثاني: أن يكون منشأ هذه الدلالة الالتزامية هو الانصراف لا الوضع، فلم يشترط الواضع هذا الشرط، لكن كثرة الاستعمال مع وجود هذه الصفات صار سبباً لانصراف إطلاق هذه الصيغ إلى صورة كون الإيجاد بداعي وجود هذه الصفات المشهورة في النفس.

[4] قرينة على خلاف هذا الوضع أو الانصراف، ومثال وجود القرينة: الأوامر الامتحانية، حيث لا توجد إرادة في النفس، «بصيغتها» أي: بصيغة الطلب والاستفهام وغيرهما، «لأجل» خبر (كان إنشاء...).

ص: 284

إشكال ودفع[1]:

أما الإشكال[2]: فهو أنّه يلزم - بناءً على اتحاد الطلب والإرادة - في تكليف الكفار بالإيمان[3]، بل مطلق أهل العصيان[4] في العمل بالأركان إما أن لا يكون

-------------------------

الدليل الثالث: عدم تخلف الإرادة عن المراد

[1] هذا دليل آخر للأشاعرة على تغاير الطلب والإرادة.

[2] حاصله: إنه من الواضح أن الكفار والعُصاة مكلّفون تكليفاً جدّياً؛ ولذا يصح عقابهم لمخالفتهم الأمر، كما أنه من الواضح عدم تخلف إرادة الله عن المراد، فإنه إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.

ولكن بناءً على اتحاد الطلب والإرادة يلزم أحد محذورين:

الأول: إذا لم تكن إرادة في تكليف الكفار والعُصاة فلا يكون طلباً حقيقياً - لاتحادهما - بل طلب صوري غير جدّي، فلا يصح عقابهم على المخالفة.

الثاني: إذا كانت إرادة حقيقية فيكون طلب حقيقي، لكن مخالفة الكفار والعصاة سيكون بمعنى تخلّف الإرادة عن المراد، فقد أراد الله الإيمان والطاعة لكن لم يتحقق مراده!!

وحيث إن كلا الأمرين باطل، فيثبت تغاير الطلب والإرادة، ففي تكليف العصاة والكفار يوجد طلب حقيقي لكن لا توجد إرادة حقيقية.

[3] لا إشكال في كون الكافر مكلفاً بالإيمان، فيجب عليه بحكم العقل أن يؤمن، وقد اختلف الأصحاب في تكليف الكفار بالفروع كتكليفهم بالأصول، والأقرب هو عموم التكليف لكل المؤمنين والكفار؛ لإطلاق الأدلة، مع قدرة الكافر على العمل الصحيح؛ وذلك بأن يؤمن، فهو قادر على العمل الصحيح بواسطة قدرته على مقدمته، والمقدور بالواسطة مقدور.

[4] أي: المسلمين العصاة، و«العمل بالأركان» أي: فروع الدين لأنها ترتبط

ص: 285

هناك تكليف جدي[1] إن لم يكن هناك إرادة، حيث إنّه لا يكون حينئذٍ طلب حقيقي، واعتباره[2] في الطلب الجدي ربما يكون من البديهي، وإن كان هناك إرادة[3] فكيف تتخلف عن المراد؟ ولا يكاد يتخلف، إذا أراد الله شيئاً يقول له كن فيكون.

وأما الدفع[4]:

-------------------------

بالجوارح عادة، عكس أصول الدين حيث ترتبط بالقلب عادة.

[1] وهو المحذور الأول؛ إذ لا إرادة للعمل فلا طلب - لاتحادهما - .

[2] أي: اعتبار الطلب الحقيقي، وقوله: (في الطلب الجدي) أي: في التكليف الجدّي «من البديهي» الواضح جداً، ففي طلب الهازل أو الساهي والغالط في الموالي العرفية، وكذا بعض أقسام الأوامر الامتحانية لا يوجد تكليف حقيقي؛ لعدم وجود طلب جِدّيّ.

[3] وهذا المحذور الثاني، يعني إذا كان طلباً حقيقياً فاتحاده مع الإرادة يستلزم وجود إرادة حقيقية من المولى جلّ وعلا، فكيف لم يتحقق مراده مع وجود إرادة منه تعالى؟ مع وضوح عدم تخلّف إرادته عن مراده.

[4] وحاصله: إنا نلتزم بالشق الثاني، وهو وجود إرادة حقيقية، ولكن لا يلزم محذور تخلّف الإرادة عن المراد، بيان ذلك:

إن الإرادة نوعين:

1- الإرادة التكوينية: وهي تعلق الإرادة بفعل نفس المريد، بأن يريد الله تعالى خلق زيد ورزق عمرو وإماتة بكر... الخ، فهذه فبمجرد أن يريد الله ذلك يتحقق المراد بلا فصل.

2- الإرادة التشريعية: وهي تعلق الإرادة بصدور الحكم الشرعي، بأن يريد الله تحريم الخمر وإيجاب الصلاة... الخ، فكذلك بمجرد إرادته صدور الحكم فإن الحكم

ص: 286

فهو أنّ استحاله التخلف[1] إنما تكون في الإرادة التكوينية - وهو العلم بالنظام على النحو الكامل التام[2] -

-------------------------

يصدر بلا فصل، والغرض من التشريع هو أن يعلم به المكلّفين، ويلتزمون به ويطيعونه باختيارهم، وليست إرادته تعالى تعلّقت بفعل المكلفين مباشرة؛ لأن ذلك خلاف المصلحة بأن يصدر الفعل منهم بالإلجاء والقسر.

إذا تبيّن ذلك فنقول: في تكليف الكفار والعصاة ليس المراد هو تحقق الفعل أو الترك منهم قسراً، بل المراد هو تكليفهم، وهذا قد تحقَّق، والغرض هو إطاعتهم بالاختيار، فارتبطت الإطاعة باختيارهم إن شاؤوا أطاعوا وإن شاؤوا عصوا، وبذلك يستحقون الثواب أو العقاب.

فتبيّن أنه كما يوجد طلب حقيقي كذلك توجد إرادة حقيقية - لاتحادهما - مع عدم لزوم تخلّف الإرادة عن المراد.

[1] أي: تخلّف الإرادة عن وقوع الفعل خارجاً.

[2] اعلم أنه قد اختلفوا في معنى الإرادة.

1- فقال جمعٌ: إنها من صفات الذات، وأرجعوها إلى العلم، أي: العلم بأفضل الأمور في الخلق بحيث يكون النظام على أحسن الوجوه وأتمّها.

وحيث أشكل عليهم: بأن العلم قديم، فإذا كانت الإرادة بهذا المعنى قديمة لزم قدم المخلوقات كلّها.

فأجاب بعض الفلاسفة: بالتزامهم بهذا اللازم، وابتدعوا اصطلاح القديم الزماني.

وحيث إن هذا كلام واضح البطلان؛ لذلك أجاب آخرون: بأن هذا العلم هو مقيّد، أي: العلم بوجود المصلحة في الأشياء في أوقاتها.

وهذا أيضاً جواب سقيم؛ لأن العلم - حتى المقيّد منه - قديم، فإذا كان العلم

ص: 287

دون الإرادة التشريعية - وهو العلم بالمصلحة في فعل المكلف[1] - وما لا محيصَ عنه في التكليف إنما هو هذه الإرادة التشريعية[2]، لا التكوينية. فإذا توافقتا[3] فلابد من الإطاعة والإيمان، وإذا تخالفتا فلا محيصَ عن أن يختار الكفر والعصيان.

-------------------------

إرادةً لزم قدم الإرادة، وحيث لا تتخلّف الإرادة عن المراد لزم قدم الأشياء، فعاد المحذور من جديد.

2- وقال آخرون - تبعاً للروايات - بأن الإرادة من صفات الفعل، وهي إيجاد الأشياء وخلقها.

إن قلت: يظهر من بعض الآيات والروايات أن الإرادة قبل الخلق فكيف تكون نفس الخلق؟

قلت: لابد من تأويل تلك الأدلة، كما نؤوّل الاستواء على العرش، واليد، والعين... الخ الواردة في الآيات؛ وذلك لتواتر الروايات الدالة على أن الإرادة من صفات الفعل وأنها مُحدَثة، مضافاً إلى الدليل العقلي، وإن شئت التفصيل فراجع الجزء الثاني من شرحنا على أصول الكافي(1).

[1] أي: في فعله اختياراً، فلا مصلحة في إلجائه وقسره، وهذا أيضاً أحد القولين في الإرادة التشريعية، والقول الآخر - وهو الصحيح - إن الإرادة التشريعية هي إصدار الحكم، كما عرفت.

[2] وهي أيضاً لا تتخلف عن المراد؛ لأن المراد ليس هو صدور الفعل من المكلف قسراً، بل المراد صدور الحكم، وقد صدر، والغرض منه هو امتثال المكلّف باختياره - كما عرفت - .

المقام الرابع: في شبهة الجبر والجواب عنها
اشارة

[3] أي: توافقت الإرادة التكوينية والتشريعية، بأن أراد الله تكويناً الإيمان والطاعة، فلابد من تحقق إيمان العبد وطاعته، ثم جزاؤه بالثواب.

ص: 288


1- شرح أصول الكافي 2: 220.

-------------------------

ولكن لو تخالفت الإرادة التكوينية عن الإرادة التشريعية، بأن أراد الله تكويناً كفر العبد وعصيانه، فلابد من تحقق ما أراده الله تكويناً من كفره وعصيانه.

وهنا ينشأ إشكالان، يحاول المصنف الجواب عنهما، لكنه يذهب إلى أمر غريب، كما سيتضح:

الإشكال الأول: إذا تعلقت إرادته تعالى التكوينية على الإيمان والطاعة أو على الكفر والمعصية، فكيف يصحّ التكليف؟ وذلك لأن إرادته التكوينية لا تتخلّف عن المراد، فإن أراد الإيمان والطاعة وقعا بلا تخلّف من غير قدرة العبد على المخالفة، وإن أراد تعالى كفر العبد وعصيانه وقعا أيضاً حتماً بلا قدرة للعبد على خلاف إرادته تعالى، فيكون العبد مضطراً ملجأً فكيف يصح تكليفه؟

وجواب المصنف: هو أن الله تعالى أراد الإيمان الصادر عن اختيار العبد، وكذا أراد الكفر الصادر عن اختيار العبد، فلو صدر الإيمان والكفر لا عن اختيار العبد وبالاضطرار والإلجاء لكان تخلفاً للإرادة عن المراد، وكذا الكلام في الطاعة والعصيان.

الإشكال الثاني: إن الله قد أراد الكفر الصادر عن اختيار العبد، وكذا الإيمان الصادر عنه، لكن الكفر والإيمان الصادرين عن اختيار العبد مستندان إلى إرادته تعالى، وإرادته تعالى ليست باختيار العبد، فانتهى أمر الكفر والإيمان إلى ما ليس باختيار العبد، فكيف تصح مؤاخذة العبد على ما ليس باختياره؟

وجواب المصنف: إن العقاب ليس بسبب الاستحقاق، حتى يستشكل بأن المضطر المُلجأ لا يستحق العقاب، بل العقاب هو من اللوازم الذاتية للكفر والعصيان، وهما بسبب الشقاوة الذاتية للعبد الكافر، وهكذا الثواب بسبب السعادة الذاتية.

ص: 289

-------------------------

إن قلت: كيف صار هذا الكافر شقيّاً حتى تلزمه المخالفة ثم العقاب؟

قلت: شقاوته ذاتية، والذاتي لا يعلل!!

هذا حاصل جواب المصنف عن الإشكالين.

أقول: يرد على ما ذكره المصنف أمور منها:

أولاً: التهافت بين الجوابين، ففي الجواب عن الإشكال الأول أسند الكفر والإيمان والطاعة والعصيان إلى الإرادة الأزلية، لكنه في الجواب عن الإشكال الثاني أسندها إلى الشقاوة والسعادة الذاتيتين!!

وثانياً: لزوم الجبر بناءً على كلا الجوابين...

أما على الأول: فلأنه أسند الفعل إلى إرادة الله التكوينية المتعلقة بصدور الفعل عن العبد باختياره، وهذا عين الجبر؛ لأنه هل يتمكن العبد من اختيار غير ما أراده الله تعالى؟ بل في الكلام تناقض، فإذا تعلقت الإرادة الأزلية لا يكون الفعل صادراً عن اختيار العبد، وإذا كان الفعل صادراً باختيار فلم تتعلق به الإرادة الأزلية.

وأما على الثاني: فلأنه أسند الفعل إلى الشقاوة والسعادة الذاتيتين، وهذا عين الجبر أيضاً؛ وذلك لأنهما مجعولان تبعاً لأصل جعل الذات، فاستند الفعل إلى جعله تعالى - ولو تبعاً - وهذا هو الجبر بعينه.

وإن شئت التفصيل أكثر فراجع (الوصول إلى كفاية الأصول)(1)

للسيد الوالد و(عناية الأصول)(2)، وغيرهما، وقد بينا شطراً من جواب شبهة الجبر في شرح أصول الكافي(3)،

فراجع.

والجواب الصحيح هو: إن الله أراد أن يكون العبد مختاراً، فإذا أراد العبد الفعل أراده الله، وإذا لم يُرد العبدُ الفعل لم يُرده الله. وحيث بينّا أن الإرادة من صفات

ص: 290


1- الوصول إلى كفاية الأصول 1: 401 - 406.
2- عناية الأصول 1: 196-199.
3- شرح أصول الكافي 2: 501 فما بعد.

إن قلت[1]: إذا كان الكفر والعصيان والإطاعة والإيمان بإرادته تعالى التي لا تكاد تتخلف عن المراد، فلا يصح أن يتعلق بها[2] التكليف لكونها خارجة عن الاختيار المعتبر فيه عقلاً.

قلت[3]: إنما يخرج بذلك عن الاختيار لو لم يكن تعلق الإرادة بها مسبوقة بمقدماتها الاختيارية[4]، وإلاّ[5] فلابد من صدورها بالاختيار،

-------------------------

الفعل، فلا يرد إشكال تبعية إرادته لإرادة المكلّف، بل هو نظير إرادته تعالى لإثابة المحسن لمّا أحسن، وإرادته عقاب المسيء لمّا أساء، وإرادته استجابة الدعاء لمّا يدعو الداعي وهكذا.

ولا يرد إشكال: لماذا أراد العبد هكذا؛ وذلك لأنّ إراديَّة كل شيء بالإرادة، وإرادية الإرادة بذاتها.

[1] هذا بيان للإشكال الأول، «بإرادته» أي: التكوينية.

[2] بالكفر والعصيان والطاعة والإيمان، «لكونها» أي: هذه الأربعة، وهذا وجه عدم صحة التكليف، «المعتبر» صفة الاختيار، «فيه» في التكليف.

[3] جواب المصنف عن الإشكال الأول، «بذلك» بتعلق الإرادة التكوينية، «الإرادة» أي: التكوينية الإلهية، «بها» بهذه الأربعة.

[4] أي: بالمقدمات الاختيارية لهذه الأربعة، فإن التصور والتصديق والعزم والجزم - كما مرّ - هي مقدمات إرادة العبد، فإذا كانت إحداها اختيارية كان الفعل اختيارياً؛ لأن النتيجة تابعة لأخس المقدمات، فلنفرض أنه تصوّر الشيء بلا اختيار ثم صدّق به وبفائدته بلا اختيار أيضاً، ثم اشتاق إليه بلا اختيار، لكن الجزم كان بالاختيار، فارتكابه للفعل يكون اختيارياً، كما هو واضح.

[5] أي: وإن تعلقت إرادة الله تعالى بالإيمان عن اختيار العبد، وكذا بالطاعة والكفر والمعصية.

ص: 291

وإلاّ[1] لزم تخلف إرادته عن مراده، تعالى عن ذلك علواً كبيراً.

إن قلت[2]: إن الكفر والعصيان - من الكافر والعاصي - ولو[3] كانا مسبوقين بإرادتهما، إلاّ أنهما منتهيان إلى ما لا بالاختيار، كيف[4] وقد سبقهما الإرادة الأزلية[5] والمشية الإلهية، ومعه[6] كيف تصح المؤاخذة على ما يكون بالأخرة بلا اختيار؟!

قلت[7]: العقابُ إنما بتبعة الكفر والعصيان[8] التابعين للاختيار الناشئ عن

-------------------------

[1] أي: وإن لم تصدر هذه الأربعة عن اختيار.

[2] بيان للإشكال الثاني.

[3] «لو» وصلية، «بإرادتهما» إرادة الكفر والعصيان، «ما لا بالاختيار» أي: ما ليس باختيار العبد وهو الإرادة الإلهية.

[4] أي: كيف لا يكونان مسبوقين بشيء غير اختياري؟ «وقد» أي: والحال أنه قد... الخ.

[5] بناءً على أن الإرادة من صفات الذات، لكنّك قد علمت أنها من صفات الفعل فليست بأزلية.

[6] أي: ومع سبق الإرادة الأزلية.

[7] جواب المصنف عن الإشكال الثاني، وإنما خصّ المصنف الكلام في العقاب لأنه لا إشكال على إعطاء الثواب على أمر غير اختياري، فإن الثواب حينئذٍ تفضّل، إنما الإشكال في العقاب على غير الاختياري، فإنه ظلم، والله تعالى منزّه عن الظلم.

[8] أي: العقاب ليس عن استحقاق حتى يستشكل بأنه لا استحقاق للعقاب على الأمر غير الاختياري، وإنما العقاب لازم ذاتي للكفر والعصيان، وذلك الكفر والعصيان تابعان لاختيار العبد؛ وذلك الاختيار ناشئ عن مقدماته، وتلك المقدمات ناشئة عن الشقاوة الذاتية، وتلك الشقاوة ليست لها عِلّة حتى نبحث عنها.

ص: 292

مقدماته، الناشئة عن شقاوتهما[1] الذاتية اللازمة لخصوص ذاتهما، فإنّ السعيد سعيد في بطن أمه، والشقي شقي في بطن أمه(1)[2]،

والناس معادن كمعادن الذهب والفضة(2)[3] - كما في الخبر - والذاتي لا يعلل[4]، فانقطع سؤال أنّه لم جعل السعيد

-------------------------

وحاصل مراد المصنف: إن العقاب له أسباب ولتلك الأسباب أسباب إلى أن تنتهي إلى الشقاوة الذاتية، وهذه ليست لها علّة، فلم تنتهِ الأسباب إلى إرادة الله تعالى كي يستشكل بقبح العقاب فيقال: إنّه تعالى أجبره ثم يعاقبه!!

أقول: قد تبين لك بما ذكرناه قبل قليل ضعف هذا الكلام، وتهافته مع جواب الإشكال الأول، فليس سبب إرادة العبد للكفر شقاوته الذاتية، بل ليست لإرادته سبب؛ لأنها بالذات وهي التي لا تعلّل، فإراديّة كل شيء بالإرادة، وإراديّة الإرادة بنفسها، فدقق.

[1] أي: شقاوة الكافر والعاصي.

[2] أقول: ليس معنى الحديث ما رامه المصنف، بل معنى الحديث ما فسّره الإمام الكاظم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، فعن ابن أبي عمير قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عن معنى قول رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (الشقي شقي في بطن أمه، والسعيد سعيد في بطن أمه»؟ فقال: الشقي من علم الله - وهو في بطن أمه - أنه سيعمل أعمال الأشقياء، والسعيد من علم الله - وهو في بطن أمه - أنه سيعمل أعمال السعداء)(3).

[3] أقول: أيضاً ليس معنى الحديث ما فهمه المصنف، بل معناه هو اختلاف قابليات الناس، بل الحديث يدل على أن الكلّ له قابلية الخير، كما أن الذهب والفضة كلاهما خير - وإن كان أحدهما خير من الآخر - .

[4] ليس معنى هذه الكلمة: (أن الشيء الذاتي لا يحتاج إلى علة في وجوده)،

ص: 293


1- ورد بهذا المضمون في توحيد (للشيخ الصدوق): 357.
2- الكافي 8: 177.
3- التوحيد: 356.

سعيداً والشقي شقياً؟ فإنّ السعيد سعيدٌ بنفسه والشقي شقيٌ كذلك، وإنما أوجدهما الله تعالى (قلم اينجا رسيد سر بشكست)، قد انتهى الكلام في المقام إلى ما ربما لا يسعه كثير من الأفهام، ومن الله الرشد والهداية، وبه الاعتصام.

وهم ودفع[1] لعلك تقول: إذا كانت الإرادة التشريعية منه تعالى عين علمه بصلاح الفعل لزم - بناءً على أن تكون[2] عين الطلب - كونُ المنشأ بالصيغة في الخطابات الإلهية هو العلم، وهو بمكان من البطلان.

لكنك[3] غفلت عن أن اتحاد الإرادة مع العلم بالصلاح إنما يكون خارجاً،

-------------------------

فإن احتياج الممكن إلى علة من البديهيات، بل معناها: إن الذاتي لا يحتاج إلى علة أخرى غير علة أصل وجوده، مثلاً: زوجية الأربعة لا تحتاج إلى عِلة أخرى غير أصل عِلة وجود الأربعة.

وبعبارة أخرى: إن عِلة أصل الوجود هي عِلة للذاتي أيضاً، فتدبّر.

دليل رابع: على تغاير الطلب والإرادة، وردّه

[1] هنا يذكر المصنف دليلاً رابعاً لمن ذهب إلى تغاير الطلب والإرادة، ثم يبيّن وجه الخلل فيه.

أما الدليل: فهو أن الإرادة التشريعية هي (العلم بالمصلحة في فعل العبد)، فلو قال المولى: (أقيموا الصلاة) كان هذا إنشاءً للطلب، وبناءً على اتحاد الطلب والإرادة يلزم أن يكون هذا الأمر إنشاءً للعلم، وهذا واضح البطلان؛ لبداهة أن المولى بقوله: (أقيموا الصلاة) لم يُنشئ العلم.

وعليه يتبيّن أن المولى أنشأ طلباً ولم ينشئ إرادة، وبذلك ثبت تغاير الطلب والإرادة.

[2] أي: تكون الإرادة، و«كون» فاعل (لزم).

[3] هذا جواب الوهم، وحاصل جواب المصنف: إن المراد من اتحاد الطلب

ص: 294

لا مفهوماً، وقد عرفت[1] أن المنشأ ليس إلاّ المفهوم لا الطلب الخارجي، ولا غَرْوَ[2] أصلاً في اتحاد الإرادة والعلم عيناً وخارجاً، بل لا محيصَ عنه في جميع

-------------------------

والإرادة هو اتحادهما في الوجود الخارجي، وليس المراد اتحاد مفهوميهما، فإنه من الواضح أن مفهوم الطلب يغاير مفهوم الإرادة، وهكذا في سائر صفات الذات، فإن العلم والقدرة والحياة... الخ هي عين ذات الله تعالى، بمعنى اتحادها وعدم الفرق بينها في الوجود، مع وضوح اختلاف مفهوم العلم عن مفهوم القدرة، وهكذا فالمُنشأ بصيغة الأمر هو مفهوم الطلب، وهو يغاير مفهوم الإرادة، فليس مفهوم الإرادة - وهي العلم بالمصلحة - مُنشأ بالصيغة، فلا يرد الإشكال.

أقول: الصحيح في الجواب أن يقال:

أولاً: إن الإرادة ليست (العلم بالمصلحة في فعل العبد) بل هي من صفات الفعل، مع أن العلم من صفات الذات، كما مرّ توضيحه.

وثانياً: إن الإرادة - التي هي من الصفات - إنما هي الإرادة الخارجية لا الإرادة الإنشائية، وليست الإرادة الإنشائية بمعنى العلم، وإنما الإرادة التي ذهب المصنف إلى أنها بمعنى العلم هي الإرادة الخارجية.

وعليه: فلا محذور في أن نقول: إن صيغة الأمر تُوجِد الإرادة الإنشائية، وهي ليست العلم.

وثالثاً: إن الذي يوجد بالأمر ليس المفهوم، بل طلب إنشائي.

[1] حينما قال المصنف: (وأما الصيغ الإنشائية فهي على ما حققناه في بعض فوائدنا... الخ)، «المُنشأ» بصيغة الأمر أو بمادته، «إلاّ المفهوم» أي: مفهوم الطلب، ومقصود المصنف الطبيعة المهملة - بنحو اللابشرط المقسمي - .

[2] أي: لا عجب، «اتحاد الإرادة والعلم» بناءً على أن الإرادة من صفات الذات، ولكن قد عرفت أنها من صفات الفعل.

ص: 295

صفاته تعالى[1]، لرجوع الصفات إلى ذاته المقدسة. قال أميرالمؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «وكمالُ توحيده الإخلاصُ له، وكمالُ الإخلاص له نفيُ الصفات عنه[2]»(1).

الفصل الثاني في ما يتعلق بصيغة الأمر، وفيه مباحث:

المبحث الأول: إنّه ربما يذكر للصيغة معانٍ[3]

-------------------------

[1] أي: صفاته الذاتية، «لرجوع» أي: لاتحادها مع ذاته المقدسة، فليست هي زائدة على ذاته.

[2] أي: نفي الصفات الزائدة عنه، بأن تكون صفات الذات مغايرة لذاته، فإن ذلك يستلزم تعدد القدماء، والتركب في ذاته، والاحتياج في رتبة ذاته، وكل ذلك محال في حقه تعالى. عصمنا الله وإياكم من الزلل، ووفقنا للاستضاءة بنور القرآن ومعارف أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

الفصل الثاني في صيغة الأمر

اشارة

[3] معنى صيغة الأمر هو الطلب الإنشائي - لا مفهوم الطلب ولا الطلب النفساني - .

وأما سائر المعاني المذكورة فهي ليست معاني للصيغة، بل هي موارد استعمالها، وفي كل تلك الموارد يكون المعنى هو الطلب الإنشائي.

وبعبارة أخرى: استعمال الصيغة في معناها - وهو الطلب الإنشائي - تارة يكون بداعي الطلب الحقيقي، وتارة أخرى يكون بداعٍ آخر.

ومن المعاني التي ذكروها:

1- الترجي: وهو ترقب حصول شيء محبوب لا وثوق بحصوله.

ص: 296


1- نهج البلاغة، الخطبة الأولى.

قد استعملت فيها[1]، وقد عُدَّ منها الترجي والتمني والتهديد والإنذار والإهانة والاحتقار والتعجيز والتسخير... إلى غير ذلك[2].

-------------------------

2- التمني: وهو طلب محال أو ممكن يعلم بعدم وقوعه، كقوله: (ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي)(1).

3- التهديد: كقوله تعالى: {ٱعۡمَلُواْ مَا شِئۡتُمۡ}(2).

4- الإنذار: أي: الإخبار بخطر محدق، كقوله تعالى: {فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمۡ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٖۖ}(3).

5- الإهانة: كقوله تعالى: {ذُقۡ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡكَرِيمُ}(4).

6- الاحتقار: كقوله تعالى: {أَلۡقُواْ مَآ أَنتُم مُّلۡقُونَ}(5)، لأن سحرهم كان في مقابل المعجزة.

7- التعجيز: وهو بيان لعجز الطرف المقابل، كقوله تعالى: {فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ}(6).

8- التسخير: أي: تبديل حقيقة إلى أخرى، وقيل: هو بمعنى الاستهزاء بهم، كقوله تعالى: {كُونُواْ قِرَدَةً خَٰسِِٔينَ}(7).

[1] أي: ادّعوا أن الصيغة قد استعملت في هذه المعاني مجازاً لا على نحو الحقيقة.

[2] منها: الإباحة، كقوله: {كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ}(8)، ومنها: الإرشاد، كقوله:

ص: 297


1- لسان العرب 11: 361.
2- سورة فصلت، الآية: 40.
3- سورة هود، الآية: 65.
4- سورة الدخان، الآية: 49.
5- سورة يونس، الآية: 80؛ سورة الشعراء، الآية: 43.
6- سورة البقرة، الآية: 23.
7- سورة البقرة، الآية: 65؛ سورة الأعراف، الآية: 166.
8- سورة البقرة، الآية: 60 و 187؛ سورة الأعراف، الآية 31.

وهذا كما ترى[1]، ضرورة أن الصيغة ما استعملت في واحدٍ منها، بل لم يستعمل إلاّ في إنشاء الطلب[2]، إلاّ أن الداعي إلى ذلك[3] كما يكون تارةً هو البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي[4] يكون أخرى أحد هذه الأمور، كما لا يخفى.

قصارى ما يمكن أن يُدَّعى[5] أن تكون الصيغة موضوعة لإنشاء الطلب في ما إذا

-------------------------

{وَٱسۡتَشۡهِدُواْ شَهِيدَيۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ}(1)، ومنها: الامتنان، كقوله: {كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ}(2)، ومنها: الدعاء، كقوله: {رَبِّ ٱغۡفِرۡ لِي}(3).

[1] أي: ما ذكر من استعمال الصيغة في المعاني المتعددة، «كما ترى» أي: واضح البطلان، «منها» من المعاني المذكورة.

[2] مقصوده (الطلب الإنشائي) مقابل الطلب النفساني، ومفهوم الطلب.

[3] أي: الدواعي تختلف، لكن المعنى واحد، «ذلك» أي: إنشاء الطلب.

[4] أي: الفعل الذي يريد الآمر تحقّقه في الخارج واقعاً، «أخرى» أي: تارة أخرى، «الأمور» المذكورة بعنوان معاني الصيغة.

[5] أي: غاية ما يمكن أن يقال: إن استعمال الصيغة في الموارد المذكورة مجاز، لكن ليس مجازاً في الكلمة بأن تكون الصيغة بهذه المعاني، بل لأنه خلاف شرط الواضع.

بيان ذلك: إنه قد يقال: إنّ الواضع وضع صيغة الأمر على معنى الطلب الإنشائي، وبشرط أن يكون الداعي هو البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي، فإذا كان الداعي شيئاً آخر - من التمنّي والتهديد... الخ - كان استعمالاً للصيغة بمعناها، وهو الطلب الإنشائي، ولكن مع مخالفة لشرط الواضع، فيكون استعمالاً مجازياً.

ص: 298


1- سورة البقرة، الآية: 282.
2- سورة المائدة، الآية: 88؛ سورة الأنعام، الآية: 142.
3- سورة الأعراف، الآية: 151؛ سورة ص، الآية: 35؛ سورة نوح، الآية: 28.

كان بداعي البعث والتحريك، لا بداعٍ آخر منها، فيكون إنشاء الطلب بها[1] بعثاً حقيقةً، وإنشاؤه بها[2] تهديداً مجازاً. وهذا[3] غير كونها مستعملة في التهديد وغيره، فلا تغفل.

إيقاظ[4]: لا يخفى أن ما ذكرناه في صيغة الأمر جارٍ في سائر الصيغ الإنشائية،

-------------------------

[1] «بها» بالصيغة، «بعثاً» مفعول لأجله، أي: لأجل البعث وتحريك العبد نحو المطلوب، و«حقيقة» خبر يكون.

[2] أي: إنشاء الطلب بالصيغة، «تهديداً» أي: لأجل التهديد وكذا سائر الأمور المذكورة.

[3] أي: إنشاء الطلب بالصيغة لأجل التهديد ونحوه ليس استعمالاً للصيغة بمعنى التهديد ونحوه، «كونها» كون الصيغة، «غيره» غير التهديد من سائر الأمور المذكورة.

[4] الغرض هو تعميم هذا الكلام إلى سائر الصيغ الإنشائية، فكما أن صيغة الأمر موضوعة للطلب الإنشائي فقط، كذلك صيغة التمني والترجي والاستفهام موضوعات للتمني المُنشأ، والترجي المُنشأ، وطلب الفهم، وأمّا سائر المعاني المذكورة لها فإنّما هي دواعي الاستعمال، لا أنها معانٍ لهذه الصيغ.

ومن ذلك يتضح الإشكال على ما ذهب إليه البعض، من أن هذه الصيغ إذا استعملت في كلامه تعالى فهي مجاز.

بيان ذلك: إن التمني والترجي الحقيقيان سببهما العجز وعدم القدرة، وإلاّ فالقادر يُحقِّق مطلوبه من غير تمنٍّ وترجٍّ له، وكذا الاستفهام الحقيقي سببه الجهل، فيطلب الفهم ليرفع جهله، وأما العالم بكل شيء فلا وجه للاستفهام الحقيقي فيه.

وعليه: فالله القادر العالم لم يستعمل هذه الصيغ في معناها الحقيقي، بل في معناها المجازي.

ص: 299

فكما يكون الداعي إلى إنشاء التمني أو الترجي أو الاستفهام بصيغها تارةً هو ثبوت هذه الصفات[1] حقيقةً يكون الداعي غيرها أخرى. فلا وجه للالتزام بانسلاخ صيغها عنها[2]، واستعمالها في غيرها إذا وقعت في كلامه تعالى - لاستحالة[3] مثل هذه المعاني في حقه تبارك وتعالى مما لازمه العجز أو الجهل[4] -، وأنه لا وجه له[5]، فإن المستحيل إنما هو الحقيقي منها[6]، لا الإنشائي الإيقاعي الذي

-------------------------

وفيه نظر: لأن التمني الإنشائي، والترجي الإنشائي، والاستفهام الإنشائي هو معنى هذه الصيغ، وقد استعملت في كلامه بنفس هذه المعاني، لكن لا بداعي إظهار ثبوت هذه الصفات فيه تعالى، فإن ذلك مستحيل في حقه، بل لدواعٍ اُخرى، سيأتي بيان بعضها.

[1] أي: صفة التمني والترجي والاستفهام تكون موجودة في نفس المتكلّم، «يكون» أي: كذلك يكون، «غيرها» أي: غير ثبوت هذه الصفات، «أخرى» أي: تارة أخرى.

[2] حتى تكون مجازاً في الكلمة، «صيغها» أي: صيغ التمني والترجي والاستفهام، «عنها» عن التمني الإنشائي والترجي الإنشائي والاستفهام الإنشائي، «استعمالها» أي: استعمال هذه الصيغ، «غيرها» غير معانيها الحقيقية.

[3] وجه التزامهم بالانسلاخ عن معانيها الحقيقية.

[4] العجز في التمني والترجي؛ لأن القادر يفعل ما يريد ولا يتمنى ولا يترجى، والجهل في الاستفهام؛ لأن العالم لا يطلب الفهم لأنه يعلم.

[5] هذا تأكيد لقوله: (فلا وجه للالتزام...)، وبيان وجه الإشكال في هذا الالتزام، «أنه» للشأن، «له» لهذا الالتزام.

[6] أي: التمني والترجي والاستفهام الحقيقيّة، أما الإنشائي منها فلا محذور فيه، وقوله: «الإيقاعي» عطف بيان لقوله: (الإنشائي).

ص: 300

يكون[1] بمجرد قصد حصوله بالصيغة - كما عرفت -. ففي كلامه تعالى قد استعملت في معانيها الإيقاعية الإنشائية أيضاً[2]، لا لإظهار ثبوتها حقيقةً، بل لأمر آخر - حسبما يقتضيه الحال - من إظهار المحبة أو الإنكار أو التقرير... إلى غير ذلك.

ومنه[3] ظهر أن ما ذُكر من المعاني الكثيرة لصيغة الاستفهام ليس كما ينبغي

-------------------------

[1] أي: الذي يتحقق ذلك التمني الإنشائي - وكذا أخويه - بمجرد كون الداعي هو حصول التمني وأخويه بالصيغة.

والمعنى إنه لا يوجد تمنٍّ حقيقي في نفس المولى، لكن الغرض من استعمال صيغة التمني هو حصول التمني الإنشائي - وكذا أخويه - «كما عرفت» في صيغة الأمر، وأنها للطلب الإنشائي - سواء كان بداعي الطلب الحقيقي - الذي هو البعث والتحريك نحو المطلوب - أم كان بداعٍ آخر.

[2] أي: مثل كلامنا، حيث نستعملها في هذا المعنى، لكن الدواعي تختلف، «ثبوتها» أي: تحقق هذه المعاني في ذاته تعالى، فإن ذلك مستحيل، «لأمر آخر» أي: لداعٍ آخر، ومنها:

1- إظهار المحبة: كقوله تعالى: {وَمَا تِلۡكَ بِيَمِينِكَ يَٰمُوسَىٰ}(1) حيث إن الاستفهام لبيان محبته تعالى لموسى عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

2- الإنكار: كقوله تعالى: {أَفَأَصۡفَىٰكُمۡ رَبُّكُم بِٱلۡبَنِينَ}(2).

3- التقرير: كقوله: {ءَأَنتَ فَعَلۡتَ هَٰذَا بَِٔالِهَتِنَا يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُ}(3).

[3] أي: مما ذكرناه من أن الصيغة ليس لها إلاّ معنى واحد، سواء في التمني أم الترجي أم الاستفهام.

ص: 301


1- سورة طه، الآية: 17.
2- سورة الإسراء، الآية: 40.
3- سورة الأنبياء، الآية: 62.

أيضاً[1].

المبحث الثاني: في أن الصيغة حقيقةٌ[2] في الوجوب أو في الندب أو فيهما[3] أو في المشترك بينهما وجوه، بل أقوال.

لا يبعد[4]

-------------------------

[1] كما لم يكن ينبغي المعاني المتعددة في صيغة الأمر.

المبحث الثاني: هل الصيغة تدل على الوجوب وضعاً

[2] قد مرّ في البحث السابق أن صيغة الأمر وضعت للطلب، فهل هذا الطلب خصوص الطلب الوجوبي أم غيره؟

اختلفوا على أقوال(1)،

منها:

1- إنها وضعت لخصوص الوجوب.

2- وضعها للندب فقط.

3- وضعها لهما بنحو الاشتراك اللفظي.

4- وضعها لهما بنحو الاشتراك المعنوي.

5- وضعها للوجوب، لكن لكثرة استعمالها في الندب نُقلت إليه، أو صارت مجازاً مشهوراً في الندب.

[3] بنحو الاشتراك اللفظي، «المشترك بينهما» أي: الجامع بينهما وهو الطلب الراجح، فيكون مشتركاً معنوياً.

[4] يختار المصنف القول الأول، وهو وضع الصيغة لخصوص الوجوب، ويذكر دليلاً ومؤيداً.

أما الدليل: فهو تبادر الوجوب من الصيغة عند عدم وجود أيّة قرينة.

وأما المؤيد: فهو عدم قبول عذر العبد المخالف، فإذا أمره المولى بصيغة الأمر

ص: 302


1- قوانين الأصول 1: 83؛ معالم الدين: 46؛ بدائع الأفكار 1: 197.

تبادر الوجوب عند استعمالها[1] بلا قرينة.

ويؤيده[2] عدم صحة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب مع الاعتراف بعدم دلالته عليه بحالٍ أو مقالٍ.

وكثرة الاستعمال فيه[3] في الكتاب والسنة وغيرهما لا توجب نقله

-------------------------

ولم تكن هناك قرينة، فخالف العبد، واعتذر باحتمال إرادة الندب، فلا يقبل عذره، مع أن الأمر لو كان موضوعاً لخصوص الندب لقبل عذره، وكذا لو كان موضوعاً للقدر المشترك أو كان مشتركاً لفظياً لصح اعتذاره، لكنا نرى عدم قبول عذره، وليس ذلك إلاّ لكون صيغة الأمر موضوعة لخصوص الوجوب.

وإنما اعتبر المصنف هذا مؤيداً لاحتمال أن تكون الدلالة على الوجوب بسبب الإطلاق ومقدمات الحكمة، أو للقرينة العقلية بعدم الترخيص في الترك، لا بسبب الوضع.

وكذا قوله في الدليل: (لا يبعد)، لأجل احتمال أن يكون التبادر بسبب مقدمات الحكمة، أو القرينة العقلية، فلا يكون حجة.

[1] استعمال الصيغة، «بلا قرينة» إذ التبادر بمعونة القرينة لا يدل على الوضع.

[2] أي: يؤيد الوضع للوجوب، «باحتمال» أي: الاعتذار بسبب هذا الاحتمال، «الاعتراف» أي: اعتراف المخالف، «دلالته» دلالة الأمر، أي: صيغة الأمر، «عليه» على الندب.

[3] أي: في الندب، وهذا دليل القول الخامس، وحاصله: إنا نسلّم بأن صيغة الأمر وُضعت للوجوب، ولكنّها استعملت في الروايات في الاستحباب بكثرة بحيث نقلت إلى الاستحباب، أو لا أقل من صيرورة الاستحباب مجازاً مشهوراً، فعلى النقل لابد من حمل الصيغة على الاستحباب، وعلى المجاز المشهور يتمّ التوقف، فلا تحمل على الوجوب ولا على الاستحباب حتى تكون قرينة دالة على أحدهما.

ص: 303

إليه[1] أو حمله عليه[2]، لكثرة استعماله[3] في الوجوب أيضاً؛ مع أن[4] الاستعمال وإن كثر فيه إلاّ أنه كان مع القرينة المصحوبة، وكثرة الاستعمال كذلك[5] في المعنى المجازي لا توجب صيرورته مشهوراً فيه ليرجح[6] أو يتوقف - على الخلاف في المجاز المشهور - كيف[7]! وقد كثر استعمال العام في الخاص حتى

-------------------------

ويرد عليه:

أولاً: إن الاستعمال كثيراً في الحقيقة يمنع عن النقل وعن الحمل على المجاز المشهور، وقد استعملت صيغة الأمر في الوجوب كثيراً.

وثانياً: كثرة الاستعمال في المعنى المجازي إذا كان مع القرينة يمنع عن النقل، وكذا يمنع عن صيرورته مجازاً مشهوراً.

[1] «نقله» نقل الأمر، أي: صيغة الأمر، «إليه» إلى الندب.

[2] هذا في المجاز المشهور، أي: حمل الأمر على الندب.

[3] هذا الإشكال الأول، «استعماله» أي: الأمر، «أيضاً» ككثرة استعماله في الندب.

[4] هذا هو الإشكال الثاني، «فيه» في الندب، «أنه» أن الاستعمال في الندب.

[5] أي: مع القرينة، «صيرورته» أي: صيرورة اللفظ، «فيه» في المعنى المجازي.

[6] أي: لو كان مجازاً مشهوراً رُجّح على المعنى الحقيقي، فيحمل عليه حتى لو لم تكن قرينة، أو يُتوقّف فلا يُحمل لا على المعنى الحقيقي ولا على المعنى المجازي، بل لابد من قرينة على أحدهما.

[7] هذا جواب نقضي، أي: كيف تكون كثرة الاستعمال مع القرينة موجبة للحمل على المجاز المشهور أو التوقف، والحال أن لفظ العام يستعمل في الخاص كثيراً، ولكن مع ذلك يبقى العام ظاهراً في العموم دون الخصوص الذي هو أكثر؟

وفيه نظر، لما سيأتي من أن تخصيص العام لا يوجب استعمال العام في الخاص.

ص: 304

قيل: (ما من عام إلاّ وقد خص)، ولم ينثلم به[1] ظهوره في العموم، بل يحمل عليه ما لم تقم قرينة بالخصوص على إرادة الخصوص.

المبحث الثالث: هل الجمل الخبريّة التي تستعمل في مقام الطلب والبعث[2] - مثل

-------------------------

[1] أي: بكثرة استعمال العام في الخاص، «ظهوره» ظهور العام، «يُحمل» لفظ العام، «عليه» على العموم.

المبحث الثالث: في دلالة الجمل الخبرية على الوجوب
اشارة

والبحث في مقامين: في دلالة الجملة الخبرية على الوجوب، وفي أنها مستعملة في نفس معناها وإنما المجاز في الداعي.

المقام الأول: في دلالتها على الوجوب

[2] في كثير من الأخبار، بل الاستعمالات العرفية، قد يطلب المولى من عبده شيئاً من غير أن يأتي بصيغة الأمر، بل يستعمل جملة خبرية، مثلاً: يسأل العبد عمّا يصنع حال الجنابة، فيُجاب (يغتسل)، والمقصود الطلب والأمر أي: (ليغتسل) أو يسأل عن خلل في الصلاة، فالجواب (يعيد صلاته) أي: ليُعد صلاته.

ففي هذه الألفاظ وأشباهها لا يُراد المعنى الحقيقي - وهو ثبوت النسبة في الخارج - قطعاً، بل المراد هو الطلب، وقد اختلف في أن هذا الطلب ظاهر في الوجوب أم في الندب أم في القدر المشترك بينهما:

1- فقد يقال: بعدم ظهوره في الوجوب ولا في الندب، بل يبقى الكلام مجملاً، فلابد من قرينة لتعيين أحدهما.

واستدل له بأن المعنى الحقيقي غير مراد، والمجازات متعددة - لأن الوجوب والندب ومطلق الطلب كلها مجازات - ولا قرينة تعيّن أحدها.

2- وقد يقال - وهذا ما يرجحه المصنف - : بأن الجملة الخبرية في مقام الطلب ظاهرة في الوجوب، بل هي أظهر في الوجوب من الصيغة.

ص: 305

(يغتسل) و(يتوضأ) و(يعيد) - ظاهرة في الوجوب، أو لا - لتعدد المجازات[1] فيها، وليس الوجوب بأقواها[2] بعد تعذر حملها على معناها من الإخبار بثبوت النسبة[3] والحكاية عن وقوعها -؟

الظاهر الأول[4]، بل يكون أظهر من الصيغة[5]؛ ولكنه لا يخفى[6] أنه ليست الجمل الخبرية الواقعة في ذلك المقام - أي الطلب - مستعملة في غير معناها، بل تكون

-------------------------

[1] هذا دليل القول بعدم ظهورها في الوجوب، «فيها» في الجمل الخبرية المستعملة في مقام الطلب.

[2] أي: ليس هو الأظهر حتى تحمل الجملة الخبرية عليه، «حملها» أي: الجملة الخبرية.

[3] في الجملة الموجبة، أو عدم ثبوت النسبة في الجملة السالبة، وقوله: «والحكاية عن وقوعها» عطف تفسيري على (ثبوت النسبة).

[4] وهو ظهورها في الوجوب.

[5] ووجه الأظهرية هو ما سيأتي في قوله: (حيث إنه أخبر بوقوع مطلوبه... الخ).

المقام الثاني: في أن استعمالها في معناها

[6] حاصله: إن الجملة الخبرية في مقام الطلب مستعملة في نفس معناها الحقيقي - وهو ثبوت النسبة أو عدم ثبوتها - ولكن الداعي هو الطلب، ففي قوله: (يعيد صلاته) معنى الجملة هو الإخبار عن ثبوت إعادة الصلاة لهذا المصلّي، ولكن الداعي لهذا الإخبار هو إنشاء الطلب.

وقد مرّ في الأمر الثاني من المقدمات: أن المعنى في الإنشاء والإخبار واحد، وإنما الفرق بينهما هو في أن (الخبر) وُضع ليستعمل في حكاية ثبوت معناه في موطنه، و(الإنشاء) وُضع ليستعمل في قصد إيجاد المعنى. مثلاً: (جاء زید) و(ليجئ زيد)

ص: 306

مستعملة فيه[1]، إلاّ أنه ليس بداعي الإعلام، بل بداعي البعث بنحوٍ آكد[2]، حيث إنّه[3] أخبر بوقوع مطلوبه في مقام طلبه إظهاراً بأنه لا يرضى إلاّ بوقوعه، فيكون آكد في البعث من الصيغة، كما هو الحال[4] في الصيغ الإنشائية - على ما عرفت من أنها أبداً تستعمل في معانيها الإيقاعية لكن بدواعٍ أخر -، كما مر.

-------------------------

معناهما واحد، وهو ثبوت نسبة المجيء إلى زيد، لكن الداعي في الأول هو حكاية النسبة، والداعي في الثاني طلب إيجاد النسبة.

ثم إن المصنف يُبيّن أن دلالة الجمل الخبرية في مقام الطلب على الوجوب بوجهين طوليين:

الوجه الأول: هو ظهورها في الوجوب بنحو آكد وأبلغ.

الوجه الثاني: دلالة الإطلاق ومقدمات الحكمة على الوجوب.

[1] أي: في نفس معناها، «أنه» أن الاستعمال في معناها.

[2] وهذا هو الوجه الأول، وحاصله: إن الغرض من الطلب هو الإيجاد، فصيغة الأمر تدل على الطلب، أما الجملة الخبرية فتدلّ على تحقق الغرض من الطلب، وهو إيجاد العبد لما أمره به المولى، فكأنّ المولى يفترض أن العبد أطاع وتحقّق ما أراده في الخارج.

وبعبارة أخرى: إن المولى - وهو في مقام الطلب - قد أخبر بوقوع ما طلبه، إظهاراً بأنه لا يريد إلاّ الوقوع ولا يرضى بغيره، وهذا أكثر تأكيداً للوجوب.

[3] «إنه» إن المولى، «في مقام طلبه» لأن المولى في مقام تكليف العبد، «بأنه» أن المولى، «بوقوعه» بوقوع المطلوب.

[4] أي: حال الجملة الخبرية في أن معناها واحد مع اختلاف الدواعي، كحال الصيغ الإنشائية التي معناها واحد مع تعدد الدواعي، كما مرّ قبل قليل، «الإيقاعية» أي: الإيجادية.

ص: 307

لا يقال[1]: كيف[2] ويلزم الكذب كثيراً، لكثرة عدم وقوع المطلوب كذلك[3] في الخارج، تعالى الله وأولياؤه عن ذلك علواً كبيراً.

فإنه يقال[4]: إنما يلزم الكذب إذا أتي بها[5] بداعي الإخبار والإعلام، لا لداعي البعث. كيف! وإلاّ[6] يلزم الكذب في غالب الكنايات، فمثل: (زيد كثير

-------------------------

[1] حاصله: إنّ الجملة الخبرية في مقام الطلب لا يمكن أن تكون مستعملة في معناها الحقيقي - وهو ثبوت النسبة خارجاً - وذلك لاستلزامه الكذب إذا عصى العبد أو لم يأت بالتكليف، حيث لم تتحقق النسبة، وكان قد أخبر عنها.

[2] أي: كيف تكون الجملة الخبرية في مقام الطلب مستعملة في ثبوت النسبة؟ «ويلزم» أي: والحال أنه يلزم من ذلك.

[3] أي: المطلوب بالجملة الخبرية، بمعنى أن طلبه كان عبر الجملة الخبرية.

[4] حاصل الجواب: إنّ الغرض من الخبر هو الذي يُخرجه عن الكذب، فمن يُخبر عن تحقق شيء لكن لا بغرض الإخبار، بل بغرض الكناية لا يكون كاذباً حتى لو لم يتحقق ذلك الشيء.

مثلاً: يتعارف التعبير عن (السخيّ) ب- (كثير الرماد) فيقال: زيد كثير الرماد، وهذا ليس بكذب حتى لو لم يكن طبخه بالحطب، ولم يوجد رماد في داره؛ وذلك لأن هذا القول لا يراد منه الإخبار، بل يراد منه الدلالة على شدة كرمه، نعم، لو لم يكن كريماً كان الإخبار عن كثرة رماده كذباً.

[5] أي: بالجملة الخبرية، «والإعلام» عطف تفسيري، «كيف» أي: كيف يكون كذباً والحال أن غالب الكنايات إخبار عما لم يتحقق في الخارج مع أنها صادقة قطعاً؛ لأن الغرض ليس الإخبار، بل الغرض شيء آخر وهو ملزوم المُخْبَر به؛ لأن الكريم يُهيِّئ الطعام للضيوف، فيكثر الحطب والنار فيكثر الرماد، فالمراد الملزوم - وهو الكرم - ولكن بطريقة بيان اللازم عادة الذي هو كثرة الرماد.

[6] أي: إذا لم يكن الداعي مخرجاً للكلام عن الكذب.

ص: 308

الرماد، أو مهزول الفصيل)[1]، لا يكون كذباً إذا قيل كنايةً عن جوده ولو لم يكن له رماد أو فصيل أصلاً، وإنما يكون كذباً[2] إذا لم يكن بجواد، فيكون الطلب بالخبر في مقام التأكيد أبلغ[3]، فإنه مقال بمقتضى الحال[4].

هذا مع أنه[5]

-------------------------

[1] لأن الكريم يسقي الضيوف حليب الناقة، فلا يبقي شيئاً للفصيل - وهو ولدها - فيصير مهزولاً ضعيفاً.

[2] أي: لو لم يتحقق الملزوم - الذي هو المراد من الكلام - يكون قوله كذباً، فإذا قلنا: فلان كثير الرماد، ولم يكن له رماد لكنه كان كريماً، كان الكلام صادقاً، ولكن إذا لم يكن كريماً كان الكلام كذباً؛ لأنه كان يقصد الإخبار عن كرمه، والحال إنه ليس بكريم، فصار الخبر مخالفاً للواقع.

[3] أي: أبلغ من الطلب بالصيغة، فكما هو آكد كذلك هو أبلغ؛ لأن البلاغة هي الكلام بحسب مقتضى الحال.

[4] «مقال» هو الكناية، «بمقتضى الحال» الذي هو تأكيد الطلب.

والحاصل: إنه جمع بين أمرين: بين الطلب وبين الإخبار عن أنه لا يرضى إلاّ بتحقق المطلوب.

[5] هذا بيان للوجه الثاني، فقد مرّ أن دلالة الجملة الخبرية على الوجوب بوجهين، أحدهما: الظهور في الوجوب بنحو آكد وأبلغ، والآخر: هو أنه إن لم يكن ظاهراً في الوجوب فإن مقدمات الحكمة تقتضي الحمل على الوجوب.

بيانه: إن في مثل: (يعيد صلاته) احتمالات ثلاثة: مطلق الطلب، أو الندب، أو الوجوب.

والاحتمال الأول - وهو مطلق الطلب - منتفٍ، لأن المفروض أن المولى في مقام البيان، ومطلق الطلب الدائر بين الوجوب والندب سبب إجمال الكلام. فيدور

ص: 309

إذا أتي بها[1] في مقام البيان فمقدمات الحكمة مقتضيةٌ لحملها على الوجوب، فإن تلك النكتة[2] إن لم تكن موجبة لظهورها فيه فلا أقلّ من كونها موجبة لتعينه من بين محتملات ما هو بصدده[3]، فإن شدّة مناسبة الإخبار بالوقوع مع الوجوب موجبةٌ لتعين إرادته[4] إذا كان بصدد البيان مع عدم نصب قرينة خاصة على غيره، فافهم[5].

-------------------------

الأمر بين الندب والوجوب، لكن النكتة المتقدمة - وهي شدة مناسبة الإخبار للوقوع - تناسب الوجوب؛ لأن تحقق الشيء مع الوجوب أكثر وأقوى من تحقق الشيء مع الندب، الذي يجوز تركه لكل أحد، فلا يتحقق المطلوب كثيراً.

والحاصل: إن الواجب أقرب إلى التحقق من المندوب، فحيث إن المولى في صدد البيان، ولم ينصب قرينة على الاستحباب، فلابد من الحمل على الوجوب لتلك النكتة.

[1] أي: بالجملة الخبرية، «لحملها» أي: الجملة الخبرية.

[2] أي: شدة مناسبة الإخبار للوقوع، «ظهورها» الجملة الخبرية، «فيه» في الوجوب، «كونها» أي: كون تلك النكتة، «تعيّنه» تعيّن الوجوب.

[3] أي: الحكم الذي كان المولى بصدد بيانه.

[4] أي: إرادة المولى للوجوب، «غيره» غير الوجوب.

[5] لعله إشارة إلى أن مقدمات الحكمة تقتضي نفي القيد الزائد، ولا تقتضي تعيين أحد المحتملات إذا لم يكن في جميعها قيداً زائداً، وسيأتي تفصيله في بحث المطلق والمقيد.

وفي ما نحن فيه، قد يقال: إن للندب قيداً زائداً - وهو عدم المنع عن الترك - فالإطلاق ينفي هذا القيد، فيثبت الوجوب.

لكن يرد عليه: بساطة الأحكام، فالندب بسيط كما أن الوجوب بسيط، ولو

ص: 310

المبحث الرابع[1]: إنّه إذا سلم أن الصيغة لا تكون حقيقةً[2] في الوجوب هل لا تكون ظاهرةً فيه أيضاً، أو تكون؟

قيل[3]:

-------------------------

قيل بتركّب الندب من الطلب مع عدم المنع عن الترك، يقال ذلك أيضاً في الوجوب بأنه مركب من الطلب مع المنع عن الترك، وسيأتي في المبحث اللاحق بيان المصنف لهذا الكلام.

المبحث الرابع: هل الصيغة تدل على الوجوب بالإطلاق؟
اشارة

[1] عقد المصنف المبحث الثاني لبحث دلالة صيغة الأمر على الوجوب بالوضع، فلو لم تنهض الأدلة على ذلك، فهل يمكن إثبات دلالة الصيغة على الوجوب بالانصراف أو بالإطلاق؟ وهذا ما عقد له المبحث الرابع، وكان الأولى دمج المبحثين في مبحث واحد.

[2] أي: بالوضع، «ظاهرة» بالانصراف أو الإطلاق، «فيه» في الوجوب «هل لا تكون» أي: لا تكون غير ظاهرة، والمراد أن تكون ظاهرة في الوجوب؛ لأن نفي النفي إثبات.

أ- الانصراف إلى الوجوب

[3] القول بظهور الصيغة في الوجوب بالانصراف(1)،

وقد استدل له بثلاثة أدلة:

1- إن استعمال الصيغة في الوجوب أكثر من استعمالها في الندب، وكثرة الاستعمال توجب الانصراف.

وفيه: منع الصغرى، فإن استعمال الصيغة في الندب إن لم يكن أكثر، فلا أقل من كثرته، مما يمنع الانصراف إلى الوجوب.

2- إن الوجوب أكثر من الندب، وفرق هذا عن سابقه أن ذاك كان في أكثرية

ص: 311


1- هداية المسترشدين 1: 596.

بظهورها فيه، إما لغلبة الاستعمال فيه[1]، أو لغلبة وجوده، أو أكمليته.

والكلُّ كما ترى، ضرورة[2] أن الاستعمال في الندب وكذا وجوده ليس بأقل لو لم يكن بأكثر؛ وأما الأكملية[3] فغير موجبة للظهور، إذ الظهور لا يكاد يكون إلاّ لشدة أنس اللفظ بالمعنى بحيث يصير وجهاً له[4]، ومجرد الأكملية لا يوجبه، كما لا يخفى.

نعم[5]، في ما كان الآمر بصدد البيان فقضية مقدمات الحكمة هو الحمل على

-------------------------

استعمال الصيغة، وهذا في أكثرية الوجوب، سواء كان بالصيغة أم بالجملة الخبرية أم بدليل لبّي كالإجماع ونحوه.

وفيه: منع الصغرى أيضاً.

3- إن الوجوب أكمل من الندب، واللفظ ينصرف إلى الفرد الأكمل.

وفيه: منع الكبرى، فإن الأكملية لا توجب الانصراف، فهل قوله: (أعتق رقبة) ينصرف إلى الفرد الأكمل منها، وهو الرقبة العالمة العادلة... الخ؟ كلاّ.

[1] هذا الوجه الأول، «الاستعمال» استعمال الصيغة، «فيه» في الوجوب.

وقوله: (أو لغلبة وجوده) هو ثاني الوجوه.

وقوله: (أو أكمليته) هو ثالث الوجوه.

[2] ردّ الوجه الأول والثاني؛ وذلك بمنع الصغرى.

[3] ردّ الوجه الثالث؛ وذلك بمنع الكبرى.

[4] أي: اللفظ يصير مرآة للمعنى، بحيث يفنى المعنى في اللفظ، وقد مرّ تفصيله في بحث الوضع فراجع، «يصير» اللفظ، «له» للمعنى، «لا يوجبه» أي: لا يوجب شدة الأنس.

ب - دلالة الإطلاق على الوجوب

[5] بعد الإشكال على انصراف الصيغة إلى الوجوب، يذهب المصنف إلى دلالة إطلاقها على الوجوب.

ص: 312

الوجوب، فإن الندب كأنه[1] يحتاج إلى مؤونة بيان التحديد والتقييد بعدم المنع من الترك، بخلاف الوجوب، فإنه لا تحديد فيه للطلب ولا تقييد، فإطلاقُ اللفظ وعدم تقييده مع كون المطلق في مقام البيان كافٍ في بيانه[2]، فافهم[3].

-------------------------

وحاصله: إن للندب مؤنة زائدة وهي تحديده بعدم المنع عن النقيض، وأما الوجوب فلا قيد زائد فيه؛ إذ هو مجرد الطلب من غير تحديده بحدّ، ومقتضى مقدمات الحكمة أن المولى الحكيم لو أراد القيد لوجب عليه أن يذكره، وحيث إنه لم يذكر القيد فلابدّ من عدم إرادته.

وبعبارة أخرى: إن الوجوب هو طلب الفعل مع المنع عن الترك، ولكن (المنع عن الترك) هو بمعنى طلب عدم الترك، وهذا يساوق طلب الفعل، فحقيقة الوجوب هي الطلب فقط.

أما الندب فهو طلب الفعل مع عدم المنع عن الترك، و(عدم المنع عن الترك) ليس طلباً كي نقول: إنه نفس الطلب، بل هو قيد زائد على الطلب.

وعليه: فإطلاق الكلام يدل على عدم القيد الزائد - وهو عدم المنع عن الترك - فيكون الأمر طلباً فقط، وهذا يساوق الوجوب كما عرفت.

[1] يبدو أن المصنف غير مطمئن بهذه المقالة؛ لذا عبّر عنها ب- (كأنّه).

[2] أي: بيان الوجوب.

[3] لعله إشارة إلى ضعف هذا الوجه؛ وذلك لأن الوجوب والندب كلاهما بسيطان غير مركبين، أحدهما: المرتبة الشديدة من الطلب، والآخر: المرتبة الضعيفة منه، فلا قيد زائد في أيّ منهما.

ويحتمل أن يكون إشارة إلى أن هذا الوجه لا يرتبط بالإطلاق، بل هو وجه عقلي، قد ذهب إليه جمع من أن دلالة صيغة الأمر على الوجوب ليست بالوضع ولا بالإطلاق، بل هي بدلالة العقل.

ص: 313

المبحث الخامس[1]: إنّ إطلاق الصيغة[2] هل يقتضي كون الوجوب توصلياً - فيجزئ إتيانه مطلقاً[3] ولو بدون قصد القربة - أو لا[4] - فلابد من الرجوع في ما شك في تعبديته وتوصليته إلى الأصل -؟

لابد في تحقيق ذلك من تمهيد مقدمات:

أحدها[5]: الوجوبُ التوصلي هو ما كان الغرض منه يحصل بمجرد حصول

-------------------------

المبحث الخامس: في التوصلي والتعبدي
اشارة

[1] بعض الواجبات لابد من قصد القربة فيها كالصلاة والصوم، وبعضها نعلم بعدم لزوم قصد القربة فيها، كغسل الثوب عن النجاسة، وكنفقة الزوجة.

والكلام هو في ما لو شككنا في أن هذا الواجب توصلي أو تعبدي، فهل هناك أصل لفظي يدل على أحدهما؟ ولو فرض عدم وجود أصل لفظي فما هو مقتضى الأصل العملي؟

[2] أي: هل للصيغة إطلاق من هذه الجهة بأن يقال: إن اشتراط قصد القربة قيدٌ زائد، فلو كان مراداً للمولى كان لابد من بيانه، وحيث لم يذكره المولى فالإطلاق ينفيه، فيدل على التوصلية.

ثم إن الظاهر أن البحث عام للصيغة ولغيرها.

[3] أي: يكفي في الامتثال وتحقق غرض المولى، «إتيانه» أي: الواجب، وفسّر قوله: (مطلقاً) بقوله: (ولو بدون قصد القربة).

[4] أي: أو أن إطلاق الصيغة لا يقتضي التوصلية، «فلابد» أي: بعد عدم الإطلاق لابد لتعيين التوصلية أو التعبدية من الرجوع إلى الأصول العملية.

المقدمة الأولى: في معنى التوصلي والتعبدي

[5] في تعريف التوصلي والتعبدي، وحاصل كلامه:

إن التوصلي: هو ما يحصل الغرض منه بمجرد تحقق الفعل في الخارج، ولو من

ص: 314

الواجب، ويسقط[1] بمجرد وجوده، بخلاف التعبدي، فإن الغرض منه لا يكاد يحصل بذلك[2]، بل لابد في سقوطه وحصول غرضه من الإتيان به متقرباً به منه تعالى.

ثانيها[3]:

-------------------------

غير قصد القربة، وبتحقق الغرض يحصل الامتثال، فيسقط الأمر.

وأما التعبدي: فهو ما لا يحصل الغرض بمجرد تحقق الفعل في الخارج، بل لابد من إتيانه بقصد القربة.

ولم يعرّفه بأنه ما يشترط فيه قصد القربة، وما لا يشترط فيه قصدها؛ وذلك لما سيتضح في المقدمة الثانية.

ثم لا يخفى أن التوصلية والتعبدية يرتبطان بالمادة لا الهيئة، أي: يرتبطان بالفعل الواجب، لا بالوجوب، فالأولى التعبير بالواجب التوصلي والتعبدي بدلاً عن الوجوب التوصلي والتعبدي.

[1] أي: يسقط الواجب، «وجوده» أي: وجود الواجب - وهو الفعل - أي: يحصل الغرض فيسقط التكليف.

[2] أي: بمجرد وجود الفعل في الخارج، «سقوطه» أي: سقوط الواجب، وكذا ضمائر «غرضه» و«به».

المقدمة الثانية: في امتناع أخذ قصد القربة في متعلق الأمر
اشارة

[3] وحاصلها: هو استحالة تعلق الأمر الشرعي بقصد القربة، بل دخالتها في العبادة إنما هو بحكم العقل؛ وذلك لأن معنى (قصد القربة) أحد أشياء: منها: قصد امتثال الأمر، ومنها: الإتيان بالفعل بداعي حسنه، ومنها: الإتيان به لكونه ذا مصلحة، ومنها: الإتيان به لله تعالى.

أما الأول: فيستحيل أخذه في متعلق الأمر، لمحذورين.

ص: 315

إن التقرب المعتبر في التعبدي إن كان بمعنى قصد الامتثال[1] والإتيان بالواجب بداعي أمره، كان[2] مما يعتبر في الطاعة عقلاً، لا مما أخذ[3] في نفس العبادة شرعاً. وذلك[4]

-------------------------

وأما الأخريات: فلا استحالة في أخذها في متعلقة، لكن من المقطوع به عدم اشتراطها في قصد القربة.

[1] أي: الإتيان بالعمل لأنّ المولى أمر به، لا لغرض آخر من رياء أو سمعة أو منفعة مالية ونحو ذلك من الأغراض، وقوله: (والإتيان به...) عطف تفسيري.

[2] «كان» جزاء الشرط في قوله: (إن كان بمعنى قصد...)، أي: اشتراط قصد القربة بهذا المعنى بحكم العقل، لا بحكم الشرع، «في الطاعة» أي: إطاعة المولى وتحقيق ما أراده، وبعبارة أخرى: هو دخيل في غرض المولى.

[3] شرطاً أو جزءاً، أي: ليس مأخوذاً بحكم الشرع في العبادة بنحو الشرط أو الجزء.

1- استحالة تعلق الأمر الشرعي بقصد القربة

[4] هذا هو المحذور الأول، وحاصله: لزوم الدور؛ وذلك لأن التكليف متأخر رتبة عن متعلّقه الذي هو الموضوع؛ لأن التكليف عارض، مثلاً: وجوب الصلاة متأخر عن نفس الصلاة - التي هي الأجزاء والشرائط المعلومة - وبعد صدور التكليف يمكن الامتثال؛ لأن الامتثال فرع صدور الحكم من المولى؛ إذ لو لم يكن هناك حكم لا يكون امتثال قطعاً.

إذا اتضح ذلك قلنا: إن اشتراط قصد الامتثال في العبادات يستلزم تأخره وتقدمه، وهو واضح البطلان:

1- أما تقدمه، فلأنّ قصد امتثال الأمر شرط أو جزء في الصلاة، فيكون متعلقاً للأمر، فلابد أن يكون متقدماً.

2- وأما تأخره، فلأنه لا يمكن قصد امتثال الأمر إلاّ بعد صدور الأمر، فلابد من تأخره عن الأمر ليمكن قصد امتثاله.

ص: 316

لاستحالة أخذ ما لا يكاد يتأتّى[1] إلاّ من قبل الأمر بشيء في متعلق ذاك الأمر[2] مطلقاً - شرطاً أو شطرا - . فما لم تكن[3] نفس الصلاة[4] متعلقة للأمر لا يكاد يمكن إتيانها بقصد امتثال أمرها.

-------------------------

فتحصّل: أن (قصد الامتثال) متقدم؛ لأنه متعلق للأمر، ومتأخر؛ لأن قصد الامتثال لا يكون إلاّ بعد صدور الأمر.

[1] أي: لا يمكن الإتيان به إلاّ بعد صدور الأمر، «ما لا يكاد...» وهو قصد الامتثال؛ إذ لو لم يوجد أمرٌ لما أمكن قصد امتثاله.

[2] «في» متعلق ب- (أخذ)، أي: لا يمكن أخذه في موضوع ذلك الحكم، (مطلقاً) فسّره بقوله : (شرطاً أو شطراً).

[3] هذا هو المحذور الثاني، وحاصله: عدم إمكان امتثال المكلّف لهذا الأمر؛ وذلك لأنه يجب على المكلّف الإتيان بجميع الأجزاء والشرائط ليكون ممتثلاً لأمر المولى، فلو أخلّ بأحدها لم يكن ممتثلاً.

وفي ما نحن فيه لابد من قصد القربة بإتيان المتعلّق، وحيث إن قصد الامتثال مأخوذ في المتعلق، فيدور المكلّف بين أمرين:

1- إما أن يقصد هكذا: (الصلاة التي منها قصد القربة آتي بها بقصد القربة) وهذا واضح البطلان؛ لأنه قصد للقربة مرتين، ومن الواضح عدم لزوم التكرار في قصد القربة.

2- وإما أن يقصد هكذا: (الصلاة - بكل أجزائها وشرائطها سوى قصد القربة - آتي بها بقصد القربة)، فمعنى ذلك عدم إتيانه بالمتعلّق، بل أتى ببعض المتعلّق، فلابد من الحكم بعدم صحة صلاته، وهذا أيضاً واضح البطلان.

فتحصّل: أن أخذ قصد القربة في المتعلّق يلزم منه أحد أمرين واضحي البطلان.

[4] أي: ذاتها من غير أخذ قصد القربة في متعلقها، والمعنى أنه لو كان المتعلّق

ص: 317

وتوهم[1] إمكان[2] تعلق الأمر بفعل الصلاة بداعي الأمر، وإمكان الإتيان[3] بها بهذا الداعي - ضرورة[4] إمكان تصور الآمر لها مقيدةً، والتمكن من إتيانها كذلك

-------------------------

هو ذات الصلاة من غير أخذ قصد القربة فيه فحينئذٍ يمكن الامتثال، أما لو كان قصد القربة جزءاً من المتعلّق لم يمكن الإتيان بهذه الصلاة بقصد القربة.

2- إشكالان على الاستحالة

[1] غرض المتوهم هو الإشكال على كلا المحذورين:

أما الأول: - وهو الدور - فأشكل عليه: بأن السابق على الأمر ومتعلّقه هو (قصد الامتثال تصوّراً)، فكما أن المولى يتصوّر سائر الأجزاء والشرائط كذلك يتصور قصد الامتثال أيضاً، وأما المتأخر عن الأمر فهو (قصد الامتثال خارجاً).

مثلاً: المولى يلاحظ الركوع فيأمر به فيأتي به العبد خارجاً، فالركوع المتصوَّر متعلّق للأمر وسابق عليه، وأما الركوع الخارجي فهو متأخر عن الأمر، بل لا يمكن أن يكون الركوع الخارجي متعلقاً للأمر؛ لأن الغرض من الأمر هو إيجاد الشيء في الخارج، فلو كان الشيء موجوداً في الخارج كان طلبه لغواً؛ لأنه من طلب الحاصل.

وأما الثاني: - وهو عدم القدرة على الامتثال - فأشكل عليه: بأنه بعد صدور أمر المولى يمكن للعبد الإتيان بالعمل بقصد امتثال ذلك الأمر، فحين العمل العبد قادر، والمهم في صحة التكليف هو قدرة العبد حين العمل لا قبله.

والحاصل: إن العبد قبل أمر المولى لم يكن قادراً على الإتيان بالعمل بقصد الامتثال، لكن هذا لا يضرّ بصحة التكليف وإمكان امتثاله؛ وذلك لأن العبد قادر على ذلك حين العمل.

[2] خلافاً لما ذكر في المحذور الأول من عدم إمكانه للدور.

[3] خلافاً لما ذكر في المحذور الثاني من عدم القدرة عليه.

[4] هذا إشكال على المحذورين، «إمكان تصور الأمر...» بيان دفع المحذور

ص: 318

بعد تعلق الأمر بها،والمعتبر[1] من القدرة المعتبرة عقلاً في صحة الأمر[2] إنما هو في حال الامتثال لا حال الأمر - واضح الفساد[3]، ضرورة أنه[4] وإن كان تصورها كذلك بمكان من الإمكان، إلاّ أنه[5] لا يكاد يمكن الإتيان بها بداعي أمرها، لعدم الأمر بها[6]، فإن الأمر حسب الفرض تعلق بها مقيدة بداعي الأمر،

-------------------------

الأول، «لها» للصلاة، «مقيّدة» بقصد امتثالها، «والتمكن من...» بيان دفع المحذور الثاني، «إتيانها» أي: الصلاة، «كذلك» أي: مقيّدة، «بها» بالصلاة.

[1] بيان لعدم ورود المحذور الثاني، وحاصله: صحيح أن العبد لا يقدر على الامتثال قبل تعلق الأمر، لكن بعد تعلق الأمر هو قادر عليه، والقدرة المعتبرة في صحة التكليف هي القدرة حين العمل.

[2] إذ لا يصح أمر غير القادر، بل هو قبيح، وإنما يصح ويحسن أمر القادر.

3- دفع الإشكال الثاني

[3] أما الإشكال على الأول فلم يتعرض المصنف للجواب عنه، وكأنّه سلَّم به.

وأما الإشكال على الثاني، فأجاب عنه، وحاصل الجواب: هو استمرار المحذور إلى حال الامتثال أيضاً؛ وذلك لأن متعلّق الأمر ليست هي ذات الصلاة، بل المتعلّق هو الصلاة مع قصد القربة، فلابد أن يأتي بهذا المتعلّق بقصد القربة، فيلزم إما اشتراط قصد القربة مرتين وهو واضح الفساد، وإما عدم إمكان الإتيان بالمتعلق، فإن ذات الصلاة ليست هي المتعلّق، فلو أتى بذات الصلاة قاصداً القربة لم يكن قد أتى بالمتعلّق.

[4] الضمير للشأن، «تصورها» أي: الصلاة، «كذلك» أي: مقيّدة بداعي الأمر، «بمكان من الإمكان» فلا يرد المحذور الأول.

[5] الضمير للشأن، أي: إلاّ أنه يبقى المحذور الثاني بحاله، «بها» بالصلاة.

[6] أي: ذات الصلاة غير مأمور بها، بل المأمور به إنما هو الصلاة المقيدة، «بها» بالصلاة.

ص: 319

ولا يكاد[1] يدعو الأمر إلاّ إلى ما تعلق به، لا إلى غيره.

إن قلت[2]: نعم[3]، ولكن نفس الصلاة أيضاً صارت مأمورا بها بالأمر[4] بها مقيدة.

-------------------------

[1] بيان لعدم إمكان الامتثال «إلاّ إلى ما تعلق به» وهو الصلاة المقيدة، «غيره» وهو ذات الصلاة.

نعم، يمكن ذلك إذا قلنا باشتراط قصد القربة مرتين، مرّة في المتعلق ومرّة أخرى في الامتثال، وهو بديهي البطلان كما عرفت.

4- وجوه ثلاثة انتصارا للإشكال الثاني
الوجه الأول: الأمر الضمني بالشرط

[2] لما بيّن المصنف عدم إمكان إتيان المتعلّق بداعي أمره، أورد على ذلك ثلاثة إيرادات:

الوجه الأول: هو أن ذات الصلاة وإن لم تكن مأموراً بها بأمر استقلالي، لكنها مأمور بها بأمر ضمني، فإن المولى إذا أمر بشيء مقيّد فالمأمور به ينحل إلى شيئين: المقيّد، والقيد، وكذلك الأمر ينحل إلى أمرين.

مثلاً: يأمر المولى بالصلاة مقيدة بالوضوء، فالمأمور به ينحل إلى شيئين، وكذلك الأمر ينحل إلى أمرين.

وفي ما نحن فيه: المأمور به هو الصلاة المقيدة بقصد امتثال أمرها، فينحل إلى ذات وإلى قيد، فالأمر بها أيضاً ينحل إلى أمر بذات الصلاة، وأمر بالقيد الذي هو قصد امتثالها، فأمكن الإتيان بذات الصلاة بداعي أمرها!!

[3] أي: نسلّم عدم الأمر بذات الصلاة بأمر استقلالي، لكنها مأمور بها بأمر ضمني، «أيضاً» كالصلاة المقيّدة، «مأمورة بها» أي: بأمر ضمني.

[4] أي: سبب الأمر الضمني لذات الصلاة هو الأمر بالصلاة المقيّدة.

ص: 320

قلت[1]: كلا[2]، لأن ذات المقيد لا تكون مأموراً بها، فإن الجزء التحليلي العقلي لا يتصف بالوجوب أصلاً، فإنه[3] ليس إلاّ وجود واحد واجب بالوجوب النفسي، كما ربما يأتي في باب المقدمة[4].

-------------------------

[1] جواب عن هذا الوجه، وحاصله: إن الأمر لا ينحل إلى أمرين - أحدهما استقلالي والآخر ضمني -؛ وذلك لأن الأجزاء قد تكون خارجية، وقد تكون تحليلية... .

أما الأجزاء الخارجية - كالركوع والسجود - فإن تركيبها انضمامي، بمعنى أنها وجودات متعددة، فالأمر بالمركب أمر بها؛ لأنها حينما تنضم تشكّل المجموع المسمى بالصلاة، فيمكن القول: إنّ الأمر بالصلاة أمرٌ بكل واحد من هذه الأجزاء ضمناً.

وأما الأجزاء التحليلية، فإنها لا وجود لها خارجاً، بل بالتحليل العقلي يتجزأ الشيء إليها، مثلاً قولنا: (رقبة مؤمنة) ليس هناك وجودان أحدهما ذات الرقبة والآخر المؤمنة، بحيث ينحل الأمر إلى أمرين: ذات الرقبة والمؤمنة، بحيث لو أعتق رقبة غير مؤمنة قلنا: إنها كانت جزء المأمور به.

وما نحن فيه - قصد الامتثال - قيدٌ وهو جزء بالتحليل العقلي لا بالوجود الخارجي، فلا ينحل الأمر إلى أمرين أحدهما بالصلاة والآخر بقصد الامتثال.

[2] أي: لا يمكن أن تتصف (ذات الصلاة) بالوجوب، «مأمور بها» أي: بالوجوب الضمني.

[3] أي: فإن المأمور به، «وجود واحد» حيث إن التركيب ليس انضمامياً حتى تكون وجودات متعددة بتعدد الأجزاء، كي يقال بوجوب كل وجود بنحو الوجوب الانضمامي.

[4] حيث توهم البعض أن الأجزاء مقدمة للكل، فلها وجوب مقدميّ، وسيأتي الإشكال فيه.

ص: 321

إن قلت[1]: نعم[2]، لكنه إذا أخذ قصد الامتثال شرطاً[3]، وأما إذا أخذ شطراً[4] فلا محالة نفس الفعل الذي تعلق الوجوبُ به مع هذا القصد يكون متعلقاً للوجوب[5]، إذ المركب ليس إلاّ نفس الأجزاء بالأسر، ويكون تعلقه[6] بكلٍّ بعين تعلقه بالكلّ، ويصح أن يؤتى به[7] بداعي ذاك الوجوب، ضرورة صحة[8] الإتيان بأجزاء الواجب بداعي وجوبه.

قلت[9]:

-------------------------

الوجه الثاني: الأمر الضمني بالجزء

[1] حاصله: إن الإشكال يرد لو أخذنا قصد القربة شرطاً، أما لو أخذناه جزءاً فلا يرد الإشكال؛ وذلك لأن الأمر بالكل ينحل إلى أوامر بالأجزاء، فكل جزء من أجزاء الصلاة مأمور به بأمر ضمني.

[2] أي: نسلّم عدم انحلال الأمر إلى أمرين، «لكنه» أي: لكن عدم الانحلال.

[3] فيكون التقيّد به جزءاً تحليلياً عقلياً، فيرد الإشكال.

[4] أي: جزءاً، «نفس الفعل» أي: سائر أجزاء الصلاة من الركوع والسجود... الخ، وبعبارة أخرى: ذات الصلاة من غير قصد القربة.

[5] أي: الوجوب الضمني، «إذ...» دليل تعلّق الوجوب الضمني بالأجزاء، «بالأسر» أي: كلّها.

[6] تعلّق الوجوب «بكلٍّ» أي: بكل جزءٍ جزءٍ «بالكل» أي: بالمركب.

[7] أي: بكل جزءٍ، «ذلك الوجوب» المتعلّق بالكل.

[8] مثلاً: يأتي بالركوع بداعي أمر المولى بالصلاة، فإن وجوب الكل يصحِّح الإتيان بالأجزاء بداعي ذلك الوجوب.

[9] يُجيب المصنف عن الوجه الثاني بجوابين - صغروي وكبروي - :

الأول: الجواب الصغروي، وحاصله: عدم إمكان جزئية قصد القربة؛ وذلك

ص: 322

مع امتناع اعتباره كذلك[1]، فإنه يوجب تعلق الوجوب بأمر[2] غير اختياري، فإن الفعل وإن كان بالإرادة[3] اختيارياً إلاّ أن إرادته[4] - حيث لا تكون بإرادة أخرى

-------------------------

لأنه لابد في الأجزاء من كونها اختيارية، فلا يصح كون بعض أجزاء الواجب غير اختيارية، و(القصد) هو(إرادة الفعل)، والإرادة غير اختيارية؛ لأنها لو كانت اختيارية فتكون اختياريّتها بإرادة أخرى، فننقل الكلام إلى تلك الإرادة الأخرى، فحيث إنها اختيارية فلابد لها من إرادة ثالثة، وهكذا، فيتسلسل، فإذن (قصد القربة) أمر غير اختياري فلا يصح كونه جزءاً من الواجب!!

[1] أي: اعتبار قصد الامتثال، «كذلك» جزءاً، «فإنه» أي: فإن هذا الاعتبار، وهذا دليل عدم جزئيته.

[2] أي: بشيء غير اختياري - وهو القصد - .

[3] أي: كون الاعمال اختيارية إنما هو بسبب أن الإنسان يريدها أو لا يريدها، فإن أرادها تحققت، وإن لم يردها لم تتحقق، فالفعل يكون اختيارياً بسبب الإرادة، لكن الإرادة ليست اختيارية لعدم تعلق إرادة أخرى بها.

وبعبارة أخرى: اختيارية كل شيء بالإرادة، ونفس الإرادة لا تكون اختيارية، وإلاّ لاحتاجت إلى إرادة أخرى، فيتسلسل.

[4] أي: نفس الإرادة المتعلّقة بالفعل، «ليست» خبر (أنّ).

أقول: في كلام المصنف مواقع للنظر تعرف بمراجعة المفصلات، ونشير مختصراً إلى بعضها:

منها: إن هذا الوجه - لوصح - فكما يمنع عن جزئية قصد القربة، كذلك يمنع عن شرطيتها؛ لعدم تعلق الوجوب بالشرط غير المقدور.

ومنها: إن الإرادة اختيارية، لكن لا بإرادة أخرى ليلزم منه التسلسل، بل بنفسها، فإن اختيارية كل شيء بالإرادة، واختيارية الإرادة بنفسها.

ص: 323

وإلاّ لتسلسلت - ليست باختيارية، كما لا يخفى؛ إنما[1] يصح الإتيانُ بجزء الواجب بداعي وجوبه في ضمن[2] إتيانه بهذا الداعي، ولا يكاد[3] يمكن الإتيانُ بالمركب عن قصد الامتثال بداعي امتثال أمره.

-------------------------

[1] الجواب الثاني - وهو الجواب الكبروي - وحاصله: إن تعلّق الوجوب بالأجزاء إنما هو لو كانت في ضمن الكل، بأن يأتي بالكل فيكون لكل جزء منه وجوب ضمني، لكن لو لم يأت بالكل فحينئذ لا وجوب ضمني لباقي الأجزاء، مثلاً: من يأتي بالصلاة كاملة فيقال: إن ركوعه كان واجباً ضمناً، لكن من أتى بها ناقصة فحيث لم يتعلق الوجوب بالناقص فلا يتعلق بأجزائه، فمن صلّى الظهر ثلاث ركعات مثلاً، لا يكون ركوعه واجباً بالوجوب الضمني، كما هو واضح.

وفي ما نحن فيه: إذا كان متعلّق الوجوب هو (ذات الصلاة مع قصد القربة)، فذات الصلاة لوحدها لا أمر لها، لا أمراً استقلالياً ولا أمراً ضمنياً، فعاد المحذور.

[2] «في» متعلقة ب- (الإتيان)، «وجوبه» وجوب الواجب - الذي هو الكل - ، «إتيانه» أي: إتيان الواجب، «بهذا الداعي» أي: قصد امتثال الكل.

[3] أي: فيرجع المحذور السابق، وهو أن يأتي الإنسان بالصلاة - المركبة من الأجزاء مع قصد القربة - بقصد القربة، بأن يكرّر قصد القربة مرتين، أو يأتي بجزء المتعلق بقصد القربة، فرجع الأشكال كما مرّ تفصيله.

وقد تفسر العبارة: بأن الأمر لا يدعو إلى داعوية نفسه؛ وذلك لأن الأمر يدعو إلى الإتيان بالمتعلّق، فإذا كان (قصد الامتثال) جزءاً من المتعلّق كان معناه أن الأمر يدعو إلى قصد الامتثال؛ وهذا محال، فإن الأمر بالصلاة يدعو إلى إيجاد الصلاة، ولا يدعو إلى قصد امتثالها، فراجع المفصّلات.

ص: 324

إن قلت[1]: نعم[2]، لكن هذا كلّه إذا كان اعتباره في المأمور به بأمرٍ واحد، وأما إذا كان بأمرين[3] تعلق أحدهما بذات الفعل، وثانيهما بإتيانه بداعي أمره فلا محذور أصلاً كما لا يخفى. فللآمر أن يتوسل بذلك[4] في الوصلة إلى تمام غرضه ومقصده، بلا منعة.

قلت[5]: - مضافاً إلى القطع بأنه ليس في العبادات إلاّ أمر واحد،

-------------------------

الوجه الثالث: رفع المحذور بالتزام أمرين

[1] الوجه الثالث في تصحيح أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر هو: التوسل إلى ذلك بأمرين، فالأمر الأول يتعلق بذات الفعل، والأمر الثاني يتعلق بذاته مع قصد امتثال الأمر الأول، فحينئذٍ لا يلزم أي محذور من المحاذير المتقدمة، لا الدور؛ وذلك لفرض تعدد الأمر، فأحدهما المقدّم والآخر المؤخّر، ولا عدم إمكان الإمتثال؛ وذلك لأنه بعد الأمر الثاني يتمكن من الإتيان بالصلاة بداعي أمرها الأول، أي: بقصد امتثال الأمر الأول.

[2] أي: نسلم المحذورات في أخذ قصد الامتثال في متعلق الأمر، لكنها إنما ترد لو كان الأمر واحداً، «اعتباره» اعتبار قصد الامتثال، «المأمور به» أي: متعلّق الأمر.

[3] بأن يقال: إن الأوامر العبادية تعلّقت بذات الأجزاء والشرائط، ثم يستفاد وجوب قصد القربة من الإجماع أو الآيات والروايات.

[4] أي: بتعدد الأمر، «الوصلة» أي: الوصول، «تمام غرضه» وهو الإتيان بالأجزاء والشرائط مع قصد القربة، و«مَنَعة» مصدر بمعنى الفاعل، أي: بلا مانع.

[5] أي: يرد على تعدد الأمر إشكالان:

الإشكال الأول: إننا نعلم جزماً بأنه ليس في العبادات أمران: أحدهما تعلق بذات الفعل، والآخر تعلّق بالفعل مع قصد الامتثال. فلا فرق بين التعبديات والتوصليات من هذه الجهة، فكما لا يوجد في التوصليات إلاّ أمر واحد، كذلك في التعبديات.

ص: 325

كغيرها[1] من الواجبات والمستحبات، غاية الأمر يدور مدار[2] الامتثال وجوداً وعدماً فيها المثوبات والعقوبات[3]، بخلاف ما عداها[4]، فيدور فيه خصوص

-------------------------

وإنما الفرق بينهما، أنه في التوصليات يحصل الامتثال بالإتيان بالعمل مطلقاً - سواء قصد الامتثال أم لم يقصد - لكن الثواب يتوقف على قصد الامتثال، فإن أتى بالعمل بقصد الامتثال اُثيب، وإن أتى به لا بقصد الامتثال حصل الامتثال ولكن لا ثواب.

وأما في التعبديات، فلا يحصل الامتثال إلاّ بقصد الامتثال، فإن قَصَده حصل الامتثال واُثيب، وإن لم يقصده لم يحصل الامتثال، بل ويعاقب لعدم إتيانه بالمأمور به - إن كانت عبادة واجبة - .

وبعبارة أخرى: في التوصليات يدور الثواب مدار قصد الامتثال، ولا يدور العقاب مدار عدم قصده، بل حصول الامتثال يتوقف على الإتيان بالفعل فقط، وأما في التعبديات فيدور الثواب مدار قصد الامتثال، ويدور العقاب مدار عدم قصد الامتثال - في الواجبات - فلا يمكن امتثاله إلاّ بقصد الامتثال.

[1] كغير العبادات، أي: التوصليات، «غاية الأمر» أي: في الفرق بين التوصليات والتعبديات.

[2] أي: في العبادات يدور الثواب مدار الامتثال بأن يقصد الامتثال، كما يدور العقاب مدار عدم الامتثال، و«مدار» مفعول (يدور)، و«المثوبات والعقوبات» فاعل (يدور)، «فيها» في العبادات.

[3] هذا في خصوص العبادة الواجبة، دون المستحبة حيث لا عقاب فيها.

[4] أي: ما عدا العبادات، وهي التوصليات، «فيه» في ما عداها، أي: في التوصليات، والمعنى أن الثواب يدور مدار الامتثال - بأن يأتي بالواجب بقصد الامتثال - وأما سقوط الأمر فلا يدور مدار الامتثال، بل لو أتى بالعمل ولو رياءً

ص: 326

المثوبات، وأما العقوبة فمترتبة على ترك الطاعة[1] ومطلق الموافقة - إنّ الأمر الأول[2]

-------------------------

أو لغرض آخر سقط الأمر، كمن يغسل الثوب النجس لا بقصد امتثال أمر طهارة لباس المصلي، فهذا لم يمتثل الأمر - حيث لم يقصده - ولكن يسقط الأمر بوجوب الغَسل.

[1] أي: عدم الإتيان بالفعل، وقوله: (ومطلق الموافقة) عطف تفسيري.

[2] حاصله: إن الأمر الأول المتعلق بذات الصلاة - مثلاً - حيث لم يشترط فيه قصد القربة يكون توصلياً، والتوصلي يسقط بالإتيان به بأيّ نحو كان.

فنقول: لو أتى بذات الصلاة من غير قصد القربة فلابد من سقوط الأمر الأول - لأنه كان توصلياً - وحينئذٍ لا يبقى مجال للأمر الثاني؛ وذلك لانتفاء موضوعه، حيث إن الأمر الثاني تعلّق (بذات الصلاة مع قصد امتثال الأمر الأول)، لكن الأمر الأول قد سقط، فلا يمكن الإتيان بالصلاة بداعي أمرها الأول - لعدم بقاء الأمر الأول - .

وأما لو قلتم: إنّ الأمر الأول لا يسقط بمجرد الإتيان به، قلنا: إنّ عدم سقوطه إنما هو لأجل عدم تحقق غرض المولى؛ إذ لا غرض له بذات الصلاة، بل غرضه متعلق (بذاتها مع قصد القربة)، فإذا كان كذلك فلا داعى لتطويل المسافة، بل من الأول نقول: ان هناك أمراً واحداً لكن حيث لا يتحقق الغرض إلاّ بقصد القربة فلذا يحكم العقل بلزوم هذا القصد.

وبعبارة أخرى: هل يسقط الأمر الأول بمجرد الإتيان به أم لا يسقط؟

والأول: يلزم منه سقوط الأمر الثاني، فالنتيجة هي تحقق العبادة بدون قصد القربة، وهذا واضح البطلان.

والثاني: يلزم منه كون الأمر الأول عبادياً، ودخل قصد القربة فيه يكون بحكم العقل، وحيث اضطررتم إلى اشتراط قصد القربة بحكم العقل فلماذا تطويل المسافة عبر الالتزام بأمرين؟ بل قولوا: إنّ هناك أمراً واحداً واشتراط قصد القربة فيه بحكم العقل.

ص: 327

إن كان يسقط بمجرد موافقته[1] ولو لم يقصد به الامتثال - كما هو[2] قضية الأمر الثاني - فلا يبقى مجال[3] لموافقة الثاني مع موافقة الأول بدون قصد امتثاله، فلا يتوسل[4] الآمر إلى غرضه بهذه الحيلة والوسيلة؛ وإن لم يكد يسقط[5] بذلك، فلا يكاد يكون له وجهٌ إلاّ عدم حُصول غرضه بذلك من أمره، لاستحالة[6] سقوطه

-------------------------

[1] أي: موافقة الأمر الأول، بمعنى أن الأمر الأول كان توصلياً لا يحتاج إلى قصد القربة، «به» أي: بفعله التي أتى به.

[2] أي: كما أن السقوط إنما يكون بقصد الامتثال في الأمر الثاني؛ لأن المفروض في الأمر الثاني هو لزوم الإتيان بالعمل بقصد الأمر الأول.

[3] لما عرفت من سقوط الأمر الأول، فكيف يأتي بالأمر الثاني الذي تعلق بالإتيان بالفعل بقصد الأمر الأول؟

[4] أي: حيث إن المولى يريد إيجاد العبد للعمل بقصد القربة لا يمكنه التوسل بهذه الطريقة للوصول إلى غرضه؛ لأن الأمر الأول لا يشترط فيه قصد القربة، والأمر الثاني يسقط لو أتى بالأول من غير قصد القربة، فلم يتحقق غرض المولى من إيجاد العمل بقصد القربة.

[5] أي: إذا كان الأمر الأول يشترط فيه قصد القربة فلا يسقط بالإتيان به مجرداً عن قصدها، «بذلك» أي: بمجرد الموافقة، «له» لعدم السقوط، «غرضه» غرض الآمر، «بذلك» بمجرد الموافقة.

[6] أي: إن سبب صدور الأمر إنما هو لغرض المولى، فإذا لم يتحقق الغرض يستحيل سقوط الأمر، ولو سقط الأمر من غير تحقق غرض المولى كان معناه أن ذلك الأمر لم يكن له غرض، وهذا عبث، وهو مستحيل على المولى جلّ وعلا، «سقوطه» سقوط الأمر، «حصوله» حصول الغرض، و«إلاّ» أي: وإن سقط الأمر مع عدم حصول الغرض، «لحدوثه» أي: لحدوث الأمر.

ص: 328

مع عدم حصوله، وإلاّ لما كان موجباً لحدوثه، وعليه[1] فلا حاجة في الوصول إلى غرضه إلى وسيلة تعدد الأمر، لاستقلال العقل[2] - مع عدم حصول غرض الآمر بمجرد موافقة الأمر - بوجوب الموافقة على نحوٍ يحصل به غرضه فيسقط أمره.

هذا كله[3] إذا كان التقرب المعتبر في العبادة بمعنى قصد الامتثال.

وأما إذا كان بمعنى الإتيان بالفعل بداعي حسنه أو كونه ذا مصلحة، فاعتباره[4] في متعلق الأمر[5]

-------------------------

[1] أي: لو قلنا بعدم سقوط الأمر الأول بالإتيان به؛ وذلك لعدم تحقق غرض المولى.

[2] أي: عدم سقوط الأمر الأول إنما هو لحكم العقل بعدم تحقق الغرض، فلماذا التطويل والتمسك بأمرين، بل من أول المطاف نقول: إنّ هناك أمراً واحداً، وإن العقل يحكم بعدم سقوطه إلاّ لو أتى بالعمل بقصد القربة، «بوجوب» متعلق ب- (استقلال) أي: يستقل العقل بوجوب... الخ، «يحصل به» أي: يحصل بذلك النحو، «غرضه» أي: غرض الآمر.

سائر معاني قصد القربة

[3] قال المصنف في أول المقدمة الثانية: (إن التقرب المعتبر في التعبدي إن كان بمعنى قصد الامتثال... الخ)، ثمَّ بيّن الإشكال على أخذه في العبادات شرعاً، وإنما هو شرط بحكم العقل، وبعد الانتهاء من ذلك يذكر المصنّف أن قصد القربة بسائر معانيه أيضاً لا يدفع المحذور، فلا يصح أخذها شرعاً في العبادة.

[4] أي: اعتبار قصد القربة بهذه المعاني.

[5] حاصله: إن سائر المعاني لقصد القربة: إما تشترط على نحو التعيين بأن لا يجوز (قصد الامتثال) في القربة، وإما تشترط بنحو التخيير بين تلك المعاني وبين قصد الامتثال، وكلاهما باطل.

ص: 329

وإن كان بمكان من الإمكان[1] إلاّ أنه غير معتبر فيه قطعاً، لكفاية[2] الاقتصار على قصد الامتثال الذي عرفت[3] عدم إمكان أخذه فيه بداهة.

تأمل في ما ذكرناه في المقام تعرف حقيقة المرام، كيلا تقع في ما وقع فيه من الاشتباه بعض الأعلام.

ثالثها[4]: إنه إذا عرفت بما لا مزيد عليه عدم إمكان أخذ قصد الامتثال في

-------------------------

أما الأول: فلأنّه لم يذهب فقيه إلى عدم كفاية (قصد الامتثال)، بل أطبق الجميع على أن المكلّف لو أتى بالعبادة بقصد الامتثال صحّت عبادته.

وأما الثاني: فلا يدفع المحذور؛ إذ لا فرق - بناءً على الاستحالة - بين أخذ الشيء على نحو التعيين أو على نحو التخيير؛ لأنه يستحيل التخيير بين الممكن والمستحيل، فإذا استحال أخذ (قصد الامتثال) في العبادة شرعاً، فلا فرق في ذلك بين تعيينه أو التخيير بينه وبين سائر المعاني.

[1] لعدم لزوم المحاذير المذكورة، «فيه» في متعلّق الأمر.

[2] هذا ردّ التعيين، أي: لا إشكال في تحقق قصد القربة ب- (قصد الامتثال).

[3] هذا ردّ للتخيير، «أخذه» أي: أخذ قصد الامتثال، «فيه» في متعلق الأمر، «بداهة» للزوم الدور وعدم إمكان الامتثال، كما مرّ مفصلاً.

المقدمة الثالثة: امتناع الإطلاق لو امتنع التقييد
اشارة

[4] حاصل هذه المقدمة: إنه لو امتنع الإطلاق امتنع التقييد؛ لأن الإطلاق والتقييد على نحو العدم والملكة، وعليه: فلا يمكن التمسك بإطلاق الصيغة لإثبات التوصلية.

بيان ذلك: إن النسبة بين المتخالفين قد تكون عدم الملكة، بمعنى أنهما يحتاجان إلى المحل القابل، فلا يصح (العمى) إلاّ على المحل القابل للبصر؛ فلذا لا يطلق العمى على الجدار مثلاً.

ص: 330

المأمور به[1] أصلاً، فلا مجال للاستدلال بإطلاقه[2] - ولو كان مسوقاً في مقام البيان - على عدم اعتباره[3] ،كما هو أوضح من أن يخفى، فلا يكاد يصح التمسك به[4]

-------------------------

والإطلاق هو عدم القيد في المحلّ القابل، ومعنى الإطلاق هو شمول الحكم لجميع الأفراد، فلو قال: (أكرم العالم) ولم يقيّده بالعادل، فالإطلاق يقتضي أن حكم الإكرام شامل لكل أفراد العلماء حتى غير العدول منهم.

ولكن لو امتنع شمول الحكم لفرد من الأفراد فلا يعقل الإطلاق فيه؛ إذ معنى الإطلاق هو شمول الحكم لذلك الفرد ولغيره من الأفراد.

وحيث قرّرنا في المقدمة الثانية أن (قصد الامتثال) لا يمكن أخذه في متعلق الأمر، اتضح أن متعلق الأمر ليس له إطلاق أيضاً من جهة قصد الامتثال؛ لأنه لو امتنع التقييد امتنع الإطلاق.

[1] أي: في متعلّق الأمر، «أصلاً» لا بنحو الشرط، ولا بنحو الجزء.

[2] أي: بإطلاق المأمور به، والمراد الإطلاق اللفظي.

[3] أي: الاستدلال على عدم اعتبار قصد الامتثال، والحاصل: إ نّه لا يمكن التمسك بالإطلاق لنفي اعتبار قصد القربة، كما نتمسك بالإطلاق لنفي كل جزء مشكوك جزئيته، وكذا نفي كل شرط مشكوك شرطيته. وإنما يكون التمسك في ما لو أمكن الإطلاق، وكان المولى في مقام البيان بأن تمت مقدمات الحكمة، ولم يكن في مقام الإهمال أو الإجمال.

[4] أي: بالإطلاق، «في ما» في الأجزاء أو الشرائط التي...، «اعتباره» مرجع الضمير إلى الموصول، «فيه» في المأمور به، أي: المتعلَّق.

إلى هنا تنتهي المقدمات الثلاث، وبعد ذلك يبدأ المصنف ببيان أصل المطلب، وهو أنه لا يوجد أصل لفظي أو عملي يثبت التوصلية أو التعبدية في ما لو شككنا في كون المأمور به عبادياً أو توصلياً، كالعتق.

ص: 331

إلاّ في ما يمكن اعتباره فيه.

فانقدح بذلك[1] أنه لا وجه لاستظهار التوصلية من إطلاق الصيغة بمادتها[2]، ولا لاستظهار عدم اعتبار مثل الوجه[3]

-------------------------

فالكلام في مقامات ثلاثة: الأصل اللفظي، والإطلاق المقامي، والأصل العملي.

المقام الأول: في الأصل اللفظي

[1] أي: بما مهّدناه في المقدمة الثانية والثالثة اتضح أنه لا يوجد أصل لفظي - أي: إطلاق مستفاد من اللفظ - لإثبات التوصلية، بأن يقال: إن المولى كان في مقام البيان، فلم يُبيِّن جزئية أو شرطية قصد القربة، وعدم بيانه دليل على عدم أخذه قصد القربة في متعلّق الأمر؛ وذلك لاستحالة أخذ قصد القربة في متعلق الأمر - كما اتضح في المقدمة الثانية - وإذا استحال التقييد استحال الإطلاق - كما اتضح في المقدمة الثالثة - .

[2] فإن لصيغة (افعل) هيئة ومادة، أما الهيئة فهي وزنها الصرفي، وهو يدل على الوجوب، وأما المادة فهي الفعل الذي تعلق به الوجوب كالصلاة.

ومن المعلوم أن شرط قصد القربة لا يرتبط بمفاد الهيئة - الذي هو الوجوب - بأن يكون كالاستطاعة إن حصلت وجب الحج، وإن لم تحصل لم يجب الحج، بل قصد القربة يرتبط بالصلاة - التي هي المادة - أي: الصلاة التي تعلّق بها الوجوب مركبّة من كذا وكذا وقصد القربة.

[3] أي: ما ذكرناه من عدم إمكان التمسك بالإطلاق لا يختص بقصد القربة، بل هو يجري في جميع القيود المتأخرة عن الأمر؛ لوجود جميع المحاذير المتقدمة في هذه القيود أيضاً، مثلاً: هل يشترط في العبادات (قصد الوجه)؟ أي: تعيين الوجوب والاستحباب، بأن يقصد الإنسان في صلاة الظهر مثلاً: (آتي بها لوجوبها)، ويقصد في النافلة: (آتي بها لاستحبابها).

ص: 332

مما هو ناشئ من قبل الأمر من إطلاق[1] المادة في العبادة لو شك في اعتباره فيها[2].

نعم[3]، إذا كان الآمر في مقامٍ بصدد بيان تمام ما له دخل في حصول غرضه

-------------------------

ومن المعلوم أن قصد الوجوب أو الاستحباب متأخر عن الأمر؛ إذ لو لا الأمر لم يكن وجوب واستحباب، فحكمه كحكم قصد القربة في عدم إمكان أخذه في متعلق الأمر. فلا يمكن التمسك بالإطلاق لنفي قصد الوجه أيضاً.

[1] «من» متعلق ب- (لاستظهار)، ثم لا يخفى أن (قصد الوجه) أخص من (قصد الامتثال)، فقد يقصد الإنسان امتثال أمر المولى وهو لا يدري أنه على نحو الوجوب أم على نحو الاستحباب، وقد يقصد امتثاله وهو يعلم على أيِّ نحوٍ هو فيقصد ذلك النحو. و(قصد الوجه) خاص بالعبادة؛ ولذا قيّده المصنف بقوله: (في العبادة).

[2] «اعتباره» اعتبار مثل قصد الوجه، «فيها» في العبادة.

المقام الثاني: في الإطلاق المقامي

[3] أي: مع عدم إمكان الإطلاق اللفظي يمكن الاستناد إلى الإطلاق المقامي لإثبات عدم اشتراط قصد القربة في المأمور به، والفرق بين الإطلاقين هو أن...

1- الإطلاق اللفظي يكون باستفادة الشمول من اللفظ، كأن يقول: (أعتق رقبة) ولم يقيّدها بالمؤمنة، فللرقبة شمول، وحيث كان المولى في مقام البيان ولم يذكر القيد علمنا بأنه لا يريد القيد.

2- والإطلاق المقامي يكون باستفادة الشمول من القرائن الحالية، بأن يكون المولى بصدد بيان كل ما يرتبط بغرضه، وكان الناس يغفلون عن دخالة قيد من القيود في الغرض، فلو لم يبيّن المولى اشتراط ذلك القيد علمنا بعدم اشتراطه؛ إذ لو كان شرطاً لوجب على المولى بيانه؛ لأن عدم بيانه إخلال بالغرض - حيث إن المفروض غفلة عامة الناس عنه - .

ص: 333

وإن لم يكن[1] له دخل في متعلق أمره، ومعه[2] سكت في المقام، ولم ينصب دلالة على دخل قصد الامتثال في حصوله[3]، كان هذا قرينةً[4] على عدم دخله في غرضه، وإلاّ[5] لكان سكوته نقضاً له وخلاف الحكمة.

فلابد عند الشك وعدم إحراز هذا المقام[6] من الرجوع إلى ما يقتضيه الأصل، ويستقل به العقل.

فاعلم[7]:

-------------------------

وفي ما نحن فيه: لو أمر المولى بشيء، وكان في مقام بيان تمام ما له دخل في غرضه، ولم يُبيّن اشتراط قصد القربة، اكتشفنا عدم اشتراطها؛ لأنها لو كانت دخيلة في الغرض كان عدم بيانها إخلالاً به.

[1] أي: والمفروض عدم إمكان أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر.

[2] أي: مع كونه في صدد بيان تمام ما له دخل في الغرض.

[3] أي: في حصول الغرض، وقوله: (كان هذا...) جزاء قوله: (إذا كان الآمر...)، «هذا» أي: سكوته.

[4] أي: قرينة حالية بحكم العقل: بأن المولى حكيم ولا يمكن أن يُخِلّ بغرضه، «دخله» دخل قصد الامتثال، «غرضه» غرض الآمر.

[5] أي: وإن كان قصد الامتثال دخيلاً في الغرض ومع ذلك سكت، «له» للغرض.

المقام الثالث: الأصل العملي
أولاً: الأصل العقلي بالاشتغال

[6] أي: مقام كون الآمر بصدد بيان تمام ما له دخل في حصول غرضه.

[7] حاصل الكلام: إن الشك قد يكون في (أصل التكليف) فتجري البراءة العقلية؛ لقبح العقاب بلا بيان، وقد يكون الشك في (المكلّف به) بأن يعلم التكليف

ص: 334

-------------------------

لكن يشك في امتثاله فيجري الاشتغال العقلي، ويجب الاحتياط عقلاً؛ لأنه قد بيّن المولى، ولا يقبح العقاب حينئذٍ، مثال الأول: لو شك في وجوب غسل الجمعة، ومثال الثاني: لو شك في أداء الدين بعد علمه بأنه مديون.

ثم قد يكون الشك في الأقل والأكثر، بمعنى أنه يعلم بتكليفه بالأقل ويشك في تكليفه بالأكثر، فهنا صورتان:

الأولى: الأقل والأكثر الاستقلاليين، بأن يكون كل تكليف مستقل، وامتثال كل واحد منهما لا يرتبط بامتثال الآخر، بمعنى أنه يمكن امتثال كل واحد على حدة، مثلاً: لو شك في أنه مديون بدينار أو بدينارين، فلو دفع ديناراً فقد أدى التكليف بدفعه، وحينئذٍ يكون التكليف بالأقل معلوماً، وأما التكليف بالأكثر فهو مشكوك، فيكون من مصاديق الشك في أصل التكليف، فتجري البراءة.

الثانية: الأقل والأكثر الارتباطيين، وهو في مورد الشك في الأجزاء والشرائط، بأن يكون هناك تكليف واحد تعلّق بكل الأجزاء والشرائط، ثم شككنا في جزئية شيء أو شرطيته، وهنا لا يكون امتثالات متعددة بل امتثال واحد، كما لو شككنا في وجوب القنوت في الصلاة، فلو كان القنوت جزءاً وأتى المكلّف بكل الأجزاء والشرائط ولم يأت بالقنوت لم يكن ممتثلاً أصلاً.

وفي الأقل والأكثر الارتباطيين قد اختلف الأصوليون(1)

بين جريان البراءة أو جريان الاشتغال، وسيأتي تفصيله في بحث الاحتياط.

إذا اتضح ذلك نقول: إن الشك في شرطية قصد القربة في واجب من الواجبات هو مجرى الاشتغال، فيجب الاحتياط، حتى لو قلنا بجريان البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين؛ وذلك لخصوصية في (قصد القربة) وأمثالها. وتلك الخصوصية هي:

ص: 335


1- بدائع الأفكار: 141؛ إيضاح كفاية الأصول 4: 253.

أنه لا مجال هاهنا[1] إلاّ لأصالة الاشتغال - ولو قيل بأصالة البراءة في ما إذا دار الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين - . وذلك لأن الشك[2] هاهنا[3] في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم، مع استقلال العقل[4] بلزوم الخروج عنها، فلا يكون العقاب[5]

-------------------------

علمنا بعدم وجوب قصد القربة بالوجوب الشرعي، بل اشتراطها بحكم العقل؛ لدخالتها في الغرض - في العبادات - فلا يوجد شك في التكليف الشرعي كي نجري أصالة البراءة عن الأكثر، بل نعلم بعدم اشتراطها شرعاً، ومع العلم لا معنى لإجراء الأصول العملية.

وحينئذٍ: فلا أصل إلاّ أصالة الاشتغال؛ لأنا نعلم باشتغال الذمة بالعتق مثلاً، ولا نعلم هل تبرأ ذمتنا من هذا التكليف المعلوم بالعتق من غير قصد القربة، أم تبرأ بالعتق مع قصد القربة؟ وحيث كان التكليف معلوماً والشك في (المكلّف به) فلابد من الاحتياط بإتيان العتق بقصد القربة.

وهكذا الشك في كل شرط لا يمكن أخذه في متعلّق التكليف، كقصد الوجه والتمييز.

[1] أي: في اعتبار قصد القربة، «لأصالة الاشتغال» فيجب الاحتياط بإتيان العمل بقصد القربة، فيكون نتيجة الأصل العباديّة لا التوصلية.

[2] أي: سبب جريان أصالة الاشتغال.

[3] في كل مورد شك في اشتراط قصد القربة، كمن وجب عليه العتق - لكفارةٍ أو نذرٍ - فقد اشتغلت ذمته بتكليف معلوم، ويشك في أن العتق بلا قصد القربة يوجب فراغ ذمته من ذلك التكليف أم أن التكليف يبقى.

[4] لقاعدة الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية، وهذا حكم عقلي قطعي، «عنها» أي: عن عهدة التكليف.

[5] أي: فلا تجري البراءة العقلية، المستندة إلى قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)؛

ص: 336

مع الشك وعدم إحراز الخروج[1] عقاباً بلا بيان والمؤاخذة[2] عليه بلا برهان، ضرورة[3] أنه بالعلم بالتكليف تصح المؤاخذة على المخالفة وعدم الخروج عن العهدة لو اتفق[4] عدم الخروج عنها بمجرد الموافقة بلا قصد القربة. وهكذا الحال[5] في كل ما شك دخله في الطاعة[6] والخروج به عن العهدة مما لا يمكن اعتباره[7]

-------------------------

لأن معلومية التكليف ووجوب الخروج القطعي عن عهدته هو بيان، ولا يقبح العقاب مع البيان.

[1] أي: مع الشك في اشتراط قصد القربة، وعدم معلومية الخروج عن عهدة التكليف لو أتى بالأقل.

[2] عطف تفسيري على (العقاب...)؛ وذلك لأن المصحح للعقوبة هو البيان، وذلك البيان موجود هاهنا.

[3] دليل عدم جريان قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، «أنه» للشأن، «وعدم...» عطف على المخالفة، أي: وتصح المؤاخذة على عدم الخروج... الخ.

[4] أي: لو كان قصد القربة شرطاً واقعاً فلم يأت بالعمل بقصد القربة، فحينئذٍ لم يُؤدِّ التكليف، وصحّت مؤاخذته؛ لأنه أخلّ بالتكليف من غير عذر.

أما لو لم تكن قصد القربة شرطاً واقعاً فإنه قد أدّى التكليف، فلا تصح مؤاخذته على ترك التكليف. نعم، هو قد تجرّى، وقد يقال بصحة مؤاخذته على التجري، «عنها» عن عهدة التكليف، «بمجرد الموافقة» أي: بمجرد الإتيان بالعمل، لفرض كونه توصلياً واقعاً.

[5] من جريان الاشتغال ووجوب الاحتياط في كل شرط لم يمكن أخذه في (متعلق الأمر) شرعاً.

[6] أي: في امتثال أمر المولى، وضميرا «دخله» و«به» للموصول.

[7] أي: من شرط لا يمكن اعتبار ذلك الشرط في متعلّق الأمر.

ص: 337

في المأمور به، كالوجه والتمييز[1].

نعم[2]، يمكن أن يقال: إن كل ما ربما يحتمل بدواً[3] دخله في الامتثال أمراً كان مما يغفل عنه غالباً العامة، كان على الآمر بيانه ونصب قرينة على دخله واقعاً[4]، وإلاّ لأخل بما هو همّه وغرضه. أما إذا لم ينصب[5] دلالة على دخله كشف عن

-------------------------

[1] «قصد الوجه» هو الإتيان بالعبادة بقصد وجوبها أو استحبابها، و«التمييز» هو تمييز الأجزاء والشرائط الواجبة عن المستحبة، فيأتي بكل جزء بقصد وجوبه أو استحبابه.

وهذان أيضاً - كقصد القربة - يرتبطان بالامتثال، فهما متأخران عن الأمر، فلا يمكن أخذهما في (متعلق الأمر).

[2] بعد أن ذكر المصنف أن الأصل العملي العقلي هو (الاشتغال)، يعود فيقول: إنّه لا تصل النوبة إلى هذا الأصل؛ وذلك لوجود (الإطلاق المقامي)، وهذا الإطلاق هو بيان عقلي على عدم اشتراط قصد الوجه والتمييز، كما مرّ نظيره في عدم اشتراط قصد القربة أيضاً.

ثم إن المصنف يبيّن أن للإطلاق المقامي شروطاً ثلاثة:

1- كون الآمر في صدد بيان كل ما له دخل في غرضه.

2- كون ذلك الشرط مما يغفل عنه عامة الناس.

3- عدم الإشارة إلى ذلك الشرط في الروايات.

[3] أي: بالنظر البدوي الابتدائي، «في الامتثال» المقصود في حصول غرض المولى، وقوله: «كان على الآمر...» خبر (إنّ).

[4] أي: دخله في غرضه؛ لأنه لا يمكن دخله في المأمور به، للمحاذير السابقة، «وإلاّ» أي: لو لم يبيّنه.

[5] أي: لم ينصب الآمر، «على دخله» في غرضه، «كشف» جزاء (أما)،

ص: 338

عدم دخله. وبذلك[1] يمكن القطع بعدم دخل الوجه والتمييز في الطاعة بالعبادة، حيث ليس منهما عين ولا أثر[2] في الأخبار والآثار، وكانا مما يغفل عنه[3] العامة، وإن احتمل اعتباره بعض الخاصة(1)، فتدبر جيداً.

ثم إنه لا أظنك[4] أن تتوهم وتقول: «إن أدلة البراءة الشرعية مقتضية لعدم الاعتبار[5] وإن كان قضية الاشتغال عقلاً هو الاعتبار»؛

-------------------------

أي: عدم نصب القرينة كاشف عن عدم دخالة ذلك الشيء في غرضه؛ لأن المولى حكيم فلا يُخلّ بغرضه.

[1] أي: بهذا الإطلاق المقامي.

[2] هذا مثل معروف، و«عين» بالدلالة المطابقية، و«أثر» بالدلالة الالتزامية.

[3] «عنه» عن قصد الوجه والتمييز، وكذا ضمير (اعتباره).

ثانياً: الأصل الشرعي بالبراءة

[4] بعد أن أثبت المصنف عدم جريان البراءة العقلية لنفي شرطية قصد القربة، يذكر هنا عدم جريان البراءة الشرعية أيضاً؛ وذلك لأن البراءة الشرعية إنما تجري في كلّ شيء كان قابلاً للوضع والرفع شرعاً، وأما ما لا يقبل الوضع شرعاً فلا يقبل الرفع أيضاً، وفي ما نحن فيه (المرفوع) إما دخل قصد القربة في الغرض، وإما اشتراط قصد القربة في التكليف:

والأول: لا يمكن رفعه شرعاً؛ لأن الدخل في الغرض أمر تكويني، والشارع - بما هو شارع - لا يرفع إلاّ الأحكام الشرعية.

والثاني: أيضاً لا يمكن رفعه شرعاً؛ لأن الاشتراط لم يكن بحكم الشارع حتى يكون رفعه بيده، بل كان بحكم العقل.

[5] أي: عدم اعتبار قصد القربة في كل ما شك في كونه عباديّاً أو توصلياً؛

ص: 339


1- مفتاح الكرامة 2: 314، نسبت اعتبار قصدهما إلى جماعة من الفقهاء منهم: الراوندي وابن البرّاج وأبي الصلاح والمحقق في الشرائع والشهيدين والمحقق الثاني... .

لوضوح[1] أنه لابد في عمومها من شيء قابل للرفع والوضع شرعاً، وليس هاهنا[2]، فإن دخل قصد القربة ونحوها في الغرض ليس بشرعي، بل واقعي[3]. ودخل[4]

-------------------------

وذلك لأن الأصل العقلي بالاشتغال إنما كان لأجل حفظ حكم المولى، فإذا لم يُرِد المولى ذلك الحكم وأجرى البراءة حين الشك فحينئذٍ لا يحكم العقل بالاشتغال.

فلا يستشكل أحد بأنه كيف يخالف الحكم الشرعي الحكم العقلي؟ فإنه قد اتضح أن حكم العقل كان معلقاً على عدم إجراء الشارع للبراءة، فإذا أجرى الشارع البراءة فلا معنى لبقاء حكم العقل بالاشتغال.

[1] دليل عدم جريان البراءة الشرعية، «أنه» للشأن، «عمومها» شمول أدلة البراءة الشرعية «من شيءٍ...» أي: من كون الشيء المشكوك فيه قابلاً للرفع والوضع شرعاً.

[2] أي: لا يوجد في ما نحن فيه شيءٌ قابل للرفع والوضع، «نحوها» كقصد الوجه والتمييز.

[3] أي: تكويني؛ ولذا يحكم العقل بلزوم الإتيان به.

[4] هذا إشكال، وحاصله: إن دخل الجزء والشرط في الغرض واقعي تكويني أيضاً، فكيف تجري البراءة الشرعية فيهما؟

والجواب: بالفرق بين قصد القربة وبين الأجزاء والشرائط؛ وذلك لأن قصد القربة لا يمكن تعلق الأمر به، وأما الأجزاء والشرائط فيمكن تعلق الأمر بهما، وحيث أمكن التكليف الشرعي بهما لذا يمكن الرفع الشرعي فيهما.

وبعبارة أخرى: إننا لا نجري في الأجزاء والشرائط البراءة عن الدخل في الغرض، بل نجري البراءة عن تعلق التكليف بهما، وهذا لا يمكن في (قصد القربة)؛ لعدم إمكان تعلق التكليف به، فلا يكون قابلاً للوضع فلا يكون قابلاً للرفع الشرعي.

الجزء والشرط فيه[1] وإن كان كذلك إلاّ أنهما قابلان للوضع والرفع[2] شرعاً. فبدليل الرفع[3] - ولو كان أصلاً - يكشف أنه ليس هناك أمر فعلي[4] بما يعتبر[5] فيه المشكوك يجب الخروج عن عهدته عقلاً[6]، بخلاف المقام[7]، فإنه علم بثبوت الأمر الفعلي، كما عرفت، فافهم[8].

ص: 340

-------------------------

[1] «فيه» في الغرض، «كذلك» واقعي تكويني، «أنهما» الجزء والشرط.

[2] باعتبار منشأ انتزاعهما - وهو التكليف - فإذا تعلق الوجوب بالركوع مثلاً انتزعنا من هذا الوجوب جزئية الركوع، كما أن تعلق الوجوب بالقبلة ينتزع منه شرطيتها، فوضع ورفع منشأ الانتزاع - الذي هو الوجوب - بيد الشارع بما هو شارع.

[3] هذا تلخيص للعبارات السابقة، فبدليل الرفع الذي هو من أدلة البراءة حيث قال صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (رفع عن أمتي تسع... وما لا يعلمون)(1)،

«ولو كان أصلاً» أي: أصلاً عملياً، فإنه لا يشترط في الرفع الدليل الاجتهادي، بل يكفي الأصل العملي، «يُكشف» بصيغة المجهول، «أنه» للشأن.

[4] لأن الأصل العملي لا ينفي الحكم الواقعي، بل يدل على عدم تنجزّ الحكم - حتى لو كان في الواقع حكم شرعي - .

[5] أي: بالمركب الذي يعتبر فيه ذلك الجزء المشكوك أو الشرط المشكوك، وبعبارة أخرى: لا نعلم بأنه هل التكليف تعلق بالصلاة مع القنوت، أم تعلّق بها من غير قنوت؟ فنجري أصل البراءة عن الأول.

[6] فلا نعلم بالتكليف لكي يكون مجرى أصالة الاشتغال عقلاً.

[7] وهو الشك في اشتراط قصد القربة.

[8] لعلّه إشارة إلى إمكان جريان البراءة العقلية؛ وذلك لأن المولى يتمكن من بيان عدم دخالة قصد القربة في الغرض، فعدم هذا البيان مسرح للبراءة العقلية بقبح العقاب بلا بيان.

ص: 341


1- تحف العقول: 50؛ وراجع التوحيد: 353.

المبحث السادس: قضية إطلاق الصيغة[1] كون الوجوب نفسياً تعيينياً عينياً، لكون كل واحد مما يقابلها[2] يكون فيه تقييد الوجوب وتضيق دائرته. فإذا كان في مقام البيان ولم ينصب قرينةً عليه[3]، فالحكمة تقتضي كونه مطلقاً، وجب هناك

-------------------------

أو إشارة إلى إمكان جريان البراءة الشرعية؛ لأن وضع التكليف ورفعه ليس بيد الشارع، أما وضع ورفع العقاب فهو بيده، فقصد القربة وإن لم يكن جعله بيد الشارع إلاّ أن وضع ورفع العقاب على عدم الإتيان به بيد الشارع!!

المبحث السادس: أصالة النفسيّة العينيّة التعيينية

[1] إذا شك في أن الوجوب هل هو غيري - بمعنى أن الوجوب مقدمة فلا يجب إلاّ لو وجب الغير - أم أن الوجوب نفسي - بمعنى أن وجوبه لا يتوقف على وجوب الغير - . وكذا لو شك في أن الوجوب تعييني فلا بديل له، أم أنه تخييري فالمكلّف مخيّر بينه وبين غيره. وكذلك لو شك في أن الوجوب عيني فلا يسقط إذا قام به الغير، أم أنه كفائي فيسقط إذا قام به من به الكفاية.

فإطلاق الصيغة حينئذٍ يقتضي النفسية العينيية التعيينية؛ وذلك لأن الغيري يحتاج إلى قيد زائد وهو وجوب الغير - الذي هو ذو المقدمة - والتخييري أيضاً يحتاج إلى قيد زائد هو العِدل الآخر، وكذا الكفائي يحتاج إلى قيد زائد هو بيان كفاية قيام الآخر به، فإطلاق الصيغة ينفي كل هذه القيود الزائدة، فيثبت الوجوب النفسي التعييني العيني.

ولا يخفى أن المراد إطلاق الهيئة؛ لأن الوجوب لا يرتبط بالمادة وإنما يرتبط بالهيئة، ولا مانع من الإطلاق والتقييد في الهيئة؛ لأنها معنى حرفي وهو عام - على ما مرّ من المصنف - .

[2] أي: يقابل النفسي التعييني العيني، وهي الغيري التخييري الكفائي.

[3] أي: على التقييد، «كونه» كون الوجوب.

ص: 342

شيء آخر[1] أو لا، أتى بشيءٍ آخر[2] أو لا، أتى به آخر[3] أو لا، كما هو واضح لا يخفى.

المبحث السابع: إنه اختلف القائلون بظهور صيغة الأمر في الوجوب - وضعاً أو إطلاقاً[4] - في ما إذا وقع عقيب الحظر أو في مقام توهمه[5] على أقوال[6].

-------------------------

[1] كما في الوجوب الغيري؛ إذ لا تجب المقدمة إلاّ مع وجوب ذي المقدمة، كوجوب طيّ الطريق للحج.

[2] كما في الوجوب التخييري، كخصال الكفارة.

[3] كما في الوجوب الكفائي، كردّ السلام.

المبحث السابع: الأمر عقيب الحظر

[4] وقد مرّ تفصيل ذلك في المبحث الثاني والرابع، حيث إن القائلين بدلالة الصيغة على الوجوب اختلفوا في أن منشأ هذه الدلالة هل هو الوضع أم الإطلاق؟ فراجع.

[5] «الحظر» أي: المنع، والأمر عقيب الحظر كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ}(1)، وعقيب توهمه كما لو زعم المريض ضرر أكل شيء عليه فقال له الطبيب: كُلْهُ.

[6] يذكر المصنف هنا ثلاثة منها، وهي:

1- ظهور الصيغة في الإباحة، إما بمعناها الخاص، أو بمعناها العام، أي: رفع المنع الجامع للوجوب والاستحباب والإباحة، وقد استدل هؤلاء بمثل قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ} حيث إن الصيد بعد الإحلال من الإحرام مباح.

2- ظهور الصيغة في الوجوب، وقد استدلوا بمثل قوله تعالى: {فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ}(2) الآية، حيث يجب قتالهم بعد حظره في الأشهر الحُرُم.

ص: 343


1- سورة المائدة، الآية: 2.
2- سورة التوبة، الآية: 5.

نسب إلى المشهور ظهورها[1] في الإباحة(1)، وإلى بعض العامة ظهورها في الوجوب(2)،

وإلى بعض تبعيته لما قبل النهي إن علق الأمر بزوال علة النهي... إلى غير ذلك.

والتحقيق[2]: إنّه لا مجال للتشبث بموارد الاستعمال، فإنه قلَّ مورد منها يكون خالياً عن قرينة على الوجوب أو الإباحة أو التبعية. ومع فرض التجريد عنها[3]

-------------------------

3- إن ظهور الصيغة تابع للحكم قبل الحظر، فإذا كان الأمر بسبب زوال علة النهي رجع الحكم السابق، فحرمة الصيد كانت بسبب الإحرام فحيث أحلّ زال سبب التحريم. وأما لو لم يعلّق الأمر على زوال علة النهي كانت الصيغة ظاهرة في الوجوب.

والمصنف يشكل على الكل كما سيأتي.

[1] أي: ظهور الصيغة، «تبعيتها» أي: الصيغة في ظهورها.

[2] حاصله: إن هؤلاء استدلوا بموارد الاستعمال، ومن الواضح أن موارد الاستعمال لا تخلو من قرينة، ولا ينفع الظهور الناشئ عن القرينة في الدلالة على حال اللفظ عند الخلو عن القرينة.

وعليه: فإنه يمكن القول: إنّه لو لم تكن هناك قرينة على تعيين المراد فلا يبعد القول بأن الصيغة ظاهرة في نفس معناها - أي: في الوجوب - .

نعم، يمكن ادعاء أن (الوقوع عقيب الحظر) قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي، ولا تعيّن أحد المعاني، فيكون (الأمر) حينئذٍ مجملاً، لا يدل على شيء من الوجوب أو الإباحة، فلابد من الرجوع إلى الأصول العملية.

[3] أي: خلو المورد عن القرينة، «لظهورها» أي: الصيغة، «غير ما» أي: غير الوجوب الذي، «فيه» الضمير يرجع إلى الموصول.

ص: 344


1- العدة في أصول الفقه 1: 183.
2- المحصول 2: 96.

لم يظهر بعدُ كون عقيب الحظر موجباً لظهورها في غير ما تكون ظاهرة فيه، غاية الأمر يكون[1] موجباً لإجمالها، غير ظاهرةٍ في واحد منها إلاّ بقرينة أخرى[2] كما أشرنا[3].

المبحث الثامن[4]: الحق أن الصيغة مطلقاً[5] لا دلالة لها على المرة ولا التكرار،

-------------------------

[1] أي: يكون وقوع الصيغة عقيب الحظر، «لإجمالها» أي: إجمال الصيغة؛ وذلك لأنه لا ظهور في أيٍّ من المعاني، ولا يمكن التمسك بأصالة عدم القرينة؛ لأنها إنما تجري مع الشك في أصل وجود القرينة، لا مع الشك في قرينيّة الموجود، وقوله: «غيرَ ظاهرةٍ...» حال، أي: حال كونها غير ظاهرة... الخ.

[2] أي: غير الوقوع عقيب الحظر، فإنه قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي فقط، فلابد من قرينة أخرى معيّنة لأحد المعاني.

[3] في قوله: (فإنه قلّ مورد منها... الخ).

المبحث الثامن: في المرة والتكرار
اشارة

[4] اختلفوا في أن صيغة الأمر تدل على المرة أو التكرار أو على الطبيعة على أقوال متعددة.

ولكن الصحيح هو عدم الدلالة لا على المرة ولا على التكرار؛ وذلك لأن الصيغة مركبة من مادة وهيئة، أما المادة فهي تدل على الماهية من غير قيد، وأما الهيئة فتدل على الطلب - أي: النسبة الطلبيّة - ، فمن أين الدلالة على المرة أو على التكرار؟

بل التبادر يدل على مجرد طلب الماهية، فمثل: (صلّ) لا يدل على الصلاة مكرراً أو مرةً واحدة، ولا على الوجوب مكرراً أو مرة واحدة، بل يدل على (طلب ماهية الصلاة فقط).

[5] أي: بمادتها وهيئتها.

ص: 345

فإن المنصرف عنها[1] ليس إلاّ طلب إيجاد الطبيعة المأمور بها، فلا دلالة لها على أحدهما، لا بهيئتها ولا بمادتها.

والاكتفاء[2] بالمرة فإنما[3] هو لحصول الامتثال بها في الأمر بالطبيعة، كما لا يخفى.

ثم لا يذهب عليك[4]

-------------------------

[1] هذا دليل عدم دلالتها لا على المرة ولا على التكرار، وهو استدلال بالانصراف - ويراد منه التبادر - ، «عنها» عن الصيغة، «لها» للصيغة، «أحدهما» المرة والتكرار.

[2] هذا دليل القائلين بالمرّة، وحاصله: إن المولى لو أمر عبده بشيء، فأتى به العبد مرّة واحدة، سقط عنه التكليف وكان ممتثلاً للأمر.

والجواب: إن حصول الامتثال وسقوط الأمر إنما هو لأجل تحقق الطبيعة المأمور بها.

وبعبارة أخرى: إن هذا الدليل أعم من المدعى؛ لأن سقوط الأمر بالإتيان به مرة واحدة كما يمكن أن يكون لأجل دلالة الأمر على المرة، كذلك يمكن أن يكون لأجل دلالته على الطبيعة، ومن المعلوم أنه بالإتيان مرة واحدة تتحقق الطبيعة.

[3] هذا ردّ الاستدلال، «بها» بالمرة.

عموم النزاع للمادة والهيئة

[4] ذهب صاحب الفصول(1)

إلى أن النزاع إنما هو في دلالة الهيئة، فهل تدل على المرة أو التكرار أو الطبيعة، وأما المادة فلا نزاع فيها، بل الكل متفق على دلالتها على الطبيعة.

واستدل لذلك بأمور، منها: دعوى الاتفاق على أن المصدر المجرد من الألف واللام والتنوين يدل على الماهية - وهي الطبيعة - وحيث إن المصدر هو المادة في

ص: 346


1- الفصول الغروية: 71.

أن الاتفاق على أن المصدر المجرد عن اللام والتنوين[1] لا يدل إلاّ على الماهية[2] - على ما حكاه السكاكي(1) - لا يوجب[3] كون النزاع هاهنا في الهيئة - كما في الفصول(2) - فإنه غفلةٌ وذهولٌ عن كون المصدر كذلك[4] لا يوجب الاتفاق على

-------------------------

صيغة الأمر فهذا الاتفاق يدل على أن المادة دالة على الطبيعة ولا خلاف فيه، وإنما الخلاف في دلالة هيئة الأمر - مثل صيغة افعل - على المرة أو التكرار أو الطبيعة.

وأشكل عليه المصنف بأن المصدر ليس مادة المشتقات لجهتين:

الأولى: إن المصدر مركب من مادة وهيئة كسائر المشتقات، فكيف صار مادة لها؟ بل قد ذهب الكوفيون إلى العكس فقالوا: إن الفعل الماضي هو الأصل واشتق منه المصدر وسائر المشتقات.

الثانية: إن معنى المصدر يباين معنى المشتقات، فكيف يكون مادة لها؛ إذ المصدر يدل على المادة بشرط لا عن الحمل، والمشتقات تدل على المادة لا بشرط عن الحمل، كما مرّ تفصيله في بحث المشتق.

[1] لأن المصدر مع اللام يدل على الجنس أو العهد ونحو ذلك، وكذا المصدر مع التنوين يدل على التنكير أو الوحدة ونحو ذلك، فلا يكون حينئذٍ مادة لسائر المشتقات؛ إذ لابدّ من حفظ معنى المصدر في كل المشتقات، مع وضوح أن العهد والجنس والتنكير والوحدة... الخ لا توجد في المشتقات.

[2] وهي الطبيعة المهملة - من اللابشرط المقسمي - .

[3] هذا إشكال المصنف على كلام الفصول، «في الهيئة» أي: في خصوص الهيئة دون المادة.

[4] أي: عدم دلالته إلاّ على الماهية.

ص: 347


1- مفتاح العلوم: 93.
2- الفصول الغروية: 71.

أن مادة الصيغة[1] لا تدل إلاّ على الماهية، ضرورة[2] أن المصدر ليست مادة لسائر المشتقات، بل هو[3] صيغة مثلها. كيف[4]! وقد عرفت في باب المشتق مباينة المصدر وسائر المشتقات بحسب المعنى[5]، فكيف[6] بمعناه يكون مادة لها؟ فعليه[7] يمكن دعوى اعتبار المرة أو التكرار في مادتها[8]، كما لا يخفى.

-------------------------

[1] أي: المادة الموجودة في صيغة الأمر، والمعنى: إنهم مع اتفاقهم على أن المصدر المجرد عن اللام والتنوين يدل على الماهية، مع ذلك يمكن اختلافهم في مادة الصيغة، وأنها هل تدل على المرة أو التكرار أو الطبيعة؟

[2] حاصله: إن المصدر ليس هو مادة الصيغة، فلا يجري فيها ما جرى فيه.

[3] إشارة إلى الإشكال الأول، «هو» المصدر، «مثلها» مثل سائر المشتقات؛ وذلك لأنه مركب من مادة هي (ض ر ب) مثلاً، وهيئة هي (فَعْل) مثلاً.

[4] إشارة إلى الإشكال الثاني، أي: كيف يمكن أن يكون المصدر مادة للمشتقات؟ وقد مرّ في الأمر الثاني من الأمور التي ذكرت في بحث المشتق... الخ.

[5] حيث ذكرنا أن الفرق بينهما أن المصدر آبٍ عن الحمل فهو (بشرط لا) عن الحمل، والمشتق غير آبٍ عنه فهو (لا بشرط) عن الحمل.

[6] لأن المباين لا يكون مادة للمباين الآخر، بل لابد من حفظ المادة بخصوصياتها في كل المشتقات، «بمعناه» أي: مع حفظه لمعناه الآبي عن الحمل.

وقد مرّ أن المادة هي الحروف مجردة عن الهيئة فلا يمكن النطق بها، مثلاً: مادة (ناصر) و(منصور...) هي (ن ص ر) من غير هيئة معينة، ثم تعرض عليها الهيئات المختلفة في المشتقات.

[7] أي: بناءً على عدم كون المصدر مادة للمشتقات.

[8] المقصود إمكان جريان النزاع في أن مادة المشتقات هل تدل على المرة أو التكرار أو الطبيعة: «مادتها» أي: مادة الصيغة.

ص: 348

إن قلت[1]: فما معنى ما اشتهر من كون المصدر أصلاً في الكلام؟

قلت - مع أنه محل الخلاف - : معناه أن الذي وُضع أولاً بالوضع الشخصي ثم بملاحظته وُضع نوعياً أو شخصياً سائر الصيغ التي تناسبه[2] - مما جمعه معه مادة لفظ متصورة في كل منها ومنه بصورة[3]،

-------------------------

[1] حاصله: إن ما ذكرتم - من أن المصدر ليس أصلاً للكلام - يخالف ما اشتهر من أنه الأصل!

والجواب: أولاً: إن الكوفيين خالفوا في ذلك، فاعتبروا الفعل الماضي هو الأصل في الكلام، فليس هناك اتفاق، مضافاً إلى عدم حجية هذا الاتفاق.

وثانياً: إن مراد من ذهب إلى أن المصدر أصل الكلام هو سبق وضع المصدر، بمعنى أن الواضع وضع المصدر أولاً، ثم بملاحظته وضع سائر الصيغ؛ لا أنه اشتق تلك الصيغ من المصدر، مثلاً: وضع (نَصْر) أولاً، ثم وضع (ناصر) (منصور)... الخ، والوضع في سائر الصيغ على قسمين:

1- وضع نوعي - وهذا يرتبط بالهيئة - مثلاً وضع (ناصر) على هيئة (فاعل)، وهذه الهيئة لا تختص بهذه الكلمة، بل هناك وضع نوعي لها للدلالة على من صدر منه أو قام به الفعل.

2- وضع شخصي - وهذا يرتبط بالمادة - فمادة ناصر هي (ن ص ر) وهي وضعت وضعاً شخصياً للدلالة على معنى معيّن.

[2] أي: التي تناسب المصدر، «مما» من الصيغ التي، «جَمَعه» الضمير للموصول، «معه» مع المصدر، «مادة» فاعل جَمَعه، والمعنى: ثم بملاحظة المصدر وضع سائر الصيغ، التي تناسب المصدر من الصيغ التي جمعها مع المصدر مادةٌ واحدة، لكن الصورة - أي الهيئة - تختلف فوزن المصدر يختلف عن وزن المشتقات.

[3] أي: من الصيغ ومن المصدر بصورة مختلفة عن الأخرى.

ص: 349

ومعنى كذلك[1] - هو المصدر[2] أو الفعل، فافهم[3].

ثم المراد بالمرة والتكرار[4] هل هو الدفعة والدفعات أو الفرد والأفراد؟

-------------------------

[1] و«معنى» عطف على (مادة لفظ)، «كذلك» أي: متصورة، والمعنى: كما أن الجامع هو مادة اللفظ كذلك الجامع معنى اللفظ، مثلاً: نَصْر وناصر يجمعهما (ن ص ر)، كذلك المعنى الحدثي في كليهما واحد.

[2] قوله: «هو المصدر...» خبر (أن) في قوله: (أن الذي وضع أولاً... الخ).

[3] لعله إشارة إلى أن هذا التوجيه لكلامهم غير مراد لهم قطعاً، بل يريدون أن سائر الصيغ اشتقت من المصدر، فالأولى حينئذٍ الإشكال على مبناهم، لا توجيهه.

معنى المرة والتكرار

[4] للمرة والتكرار معنيان، ويمكن البحث عن دلالة الصيغة عليهما بكلا المعنيين...

الأول: الدفعة والدفعات، وهذا هو الظاهر من لفظ المرة والمرات.

الثاني: الفرد والأفراد.

كما لو أمره المولى بالعتق، فأعتق العبيد دفعة واحدة، فهنا أفراد ودفعة واحدة، ولو أعتقهم بالتدريج فهنا أفراد ودفعات، ولو أعتق عبداً واحداً فقط فهنا فرد ودفعة.

فاتضح أن النسبة بينهما هي العموم من وجه؛ وذلك لعدم إمكان الفرد مع الدفعات؛ لأن كل دفعة يكون فرداً، فلو كرر كان فرداً آخر لا نفس الفرد السابق.

وتظهر الثمرة: في ما لو كان الأمر يدل على الدفعات فأعتق العبيد معاً، فليس امتثاله بكاملٍ؛ لعدم امتثاله بالدفعات.

ولو كان الأمر يدل على الدفعة فأعتق العبيد معاً تحقق الامتثال، وكذا لو أعتق عبداً واحداً أيضاً تحقق الامتثال؛ لأن المطلوب كان الدفعة، وقد تحققت في كلا الصورتين.

ص: 350

التحقيق: أن يقعا[1] بكلا المعنيين محل النزاع، وإن كان لفظهما ظاهراً في المعنى الأول.

وتوهم[2] أنه لو أريد بالمرة الفرد لكان الأنسبُ، بل اللازم أن يجعل هذا المبحث تتمةً للمبحث الآتي من[3] أن الأمر هل يتعلق بالطبيعة أو بالفرد؟ فيقال عند ذلك: «وعلى تقدير تعلقه بالفرد هل يقتضي التعلق بالفرد الواحد أو المتعدد، أو لا يقتضي شيئاً منهما؟». ولم يحتج إلى إفراد كل منهما بالبحث كما فعلوه، وأما لو أريد بها[4]

-------------------------

ولو كان الأمر يدل على الفرد فالزائد على العبد الواحد ليس امتثالاً، بل هو غير مأمور به، سواء أعتقهم معاً أم بالتدريج.

[1] أي: يقع المرة والتكرار، «المعنيين» الفرد والأفراد، والدفعة والدفعات، «المعنى الأول» الدفعة والدفعات.

[2] هذا ما ذهب إليه صاحب الفصول(1)،

وحاصله: إنه لو أريد من المرة والمرات هنا الفرد والأفراد لكان المناسب أن يكون هذا المبحث من تتمة المبحث الآتي، حيث يبحث هناك عن أن الأمر هل يدل على الطبيعة أم على الفرد؟ فلابد من إدماج هذا البحث بذلك البحث بأن يقال: بناءً على دلالته على الفرد فهل يدل على الفرد الواحد أم الأفراد المتعددة؟

وحيث إن العلماء أفردوا هذا البحث عن ذاك علمنا أن أحد البحثين لا يتوقف على الآخر، ولا يكون تتمة له، فسواء قلنا: إنّ الأمر يدل على الطبيعة أم على الفرد يجري النزاع في أن الأمر يدل على المرة أو التكرار، فيمكن أن نقول هناك: إنّ الأمر يدل الطبيعة ونقول هنا: إنّه يدل على المرة بمعنى الفرد، أو المرات بمعنى الأفراد.

[3] هذا بيان للبحث الآتي، «ذاك» أي: في تتمة ذلك المبحث.

[4] أي: لو كان معنى المرة والتكرار هو الدفعة والدفعات فلا يكون هذا البحث تتمة لذلك البحث، بل يمكن هناك اختيار الدلالة على الأفراد مع الاختيار هنا بأنه

ص: 351


1- الفصول الغروية: 71.

الدفعة فلا عُلقة بين المسألتين كما لا يخفى؛ فاسدٌ[1]، لعدم العلقة بينهما[2] لو أريد بها الفردُ أيضاً، فإن الطلب[3] - على القول بالطبيعة - إنما يتعلق بها باعتبار وجودها

-------------------------

لابد من الإتيان بالأفراد دفعة واحدة أو في دفعات متعددة، أو اختيار الدلالة على الطبيعة هناك مع اختيار الدفعة أو الدفعات هنا.

[1] إشكال على كلام الفصول، وحاصله: إن (الفرد) في المسألتين بمعنيين، لا بمعنى واحد كما توهمه الفصول. وهما:

1- الوجود الواحد، والوجودات المتعددة، وهذا هو المراد في مسألة المرة والتكرار.

2- الوجود بما له من مشخصات فردية، وهذا هو المراد في مسألة الطبيعة والفرد.

وعليه فيمكن أن نقول هناك: إنّ الأمر يدل على الطبيعة، ومع ذلك نقول هنا بدلالته على الفرد أو الأفراد، بمعنى وجود واحد أو وجودات متعددة من الطبيعة، فلا يلزم من القول بالطبيعة هناك عدم القول بالفرد هنا.

وبعبارة أخرى: إن اختيار أيٍّ من القولين هناك لا يلازم اختيار قول معيّن هنا، فلذا يمكن هناك أن نختار الدلالة على الفرد وهنا نختار الدلالة على الطبيعة، وذلك لأن المراد بالفرد هناك ليس الفرد بمشخصاته الخارجية حتى يتنافى مع الدلالة على الطبيعة، بل المراد الوجود، وهذا كما ينسجم مع الدلالة على الفرد بمشخصاته الخارجية كذلك ينسجم مع الدلالة على الطبيعة.

[2] أي: عدم توقف إحدى المسألتين على الأخرى، «بها» بالمرة، «أيضاً» كما لا علقة بينهما لو أريد بها الدفعة.

[3] بيان معنى (الفرد) هنا، وهو الوجود الخارجي، وحاصله: إنه حينما نقول: الأمر يدل على الطبيعة لا نريد دلالته على الطبيعة الصِرفة المهملة - وهي اللابشرط المقسمي - بل نريد الطبيعة باعتبار اتصافها بالوجود الخارجي، «بها» بالطبيعة.

ص: 352

في الخارج، ضرورة[1] أن الطبيعة من حيث هي ليست إلاّ هي، لا مطلوبة ولا غير مطلوبة. وبهذا الاعتبار[2] كانت مرددةً بين المرة والتكرار بكلا المعنيين، فيصح[3] النزاع في دلالة الصيغة على المرة والتكرار بالمعنيين وعدمها؛ أما بالمعنى الأول فواضح[4]؛ وأما بالمعنى الثاني فلوضوح[5] أن المراد من الفرد أو الأفراد وجود واحد أو وجودات، وإنما عبر بالفرد لأنّ وجود الطبيعة في الخارج هو الفرد، غاية الأمر[6] خصوصيته وتشخصه - على القول بتعلق الأمر بالطبائع - يلازم المطلوب وخارج عنه، بخلاف القول بتعلقه بالأفراد، فإنه مما يقومه.

-------------------------

[1] دليل أن متعلق الأمر هو الطبيعة باعتبار وجودها، وحاصله: إن الطبيعة المهملة هي مَقْسَم، فنقول: الطبيعة إما موجودة أو معدومة، ولو كانت الطبيعةُ موجودةً لم يصح جعلها مقسماً؛ لأنه من تقسيم الشيء إلى نفسه وإلى غيره.

[2] أي: الطبيعة باعتبار وجودها هي مرددة بين الدفعة والدفعات أو الفرد والأفراد، وإلاّ فالطبيعة المهملة لا ترديد فيها؛ لأنها ليست إلاّ هي.

[3] هذا محصّل الكلام: بأن النزاع هنا لا يتوقف على النزاع هناك، «بالمعنيين» الدفعة والدفعات، والفرد والأفراد، «عدمها» أي: عدم الدلالة.

[4] لصحة أن يقال: إن الطبيعة هل يجب الإتيان بها دفعة واحدة أم دفعات متعددة؟

[5] لصحة أن يكون المطلوب إيجاد الطبيعة في ضمن وجود واحد أم وجودات متعددة، «المراد» في بحث المرة والتكرار.

[6] هذا بيان للفرق بين معنى الفرد هنا ومعنى الفرد هناك، وحاصله: إن الفرد هنا هو الوجود بدون ملاحظة المشخصات الفردية، والفرد هناك هو الوجود مع ملاحظتها «خصوصيته» أي: خصوصية الفرد، «عنه» عن المطلوب، «بتعلقه» بتعلّق الأمر، «فإنه» فإن الخصوصية والتشخص، «يقوّمه» أي: يقوّم المطلوب.

ص: 353

تنبيه: لا إشكال[1] بناء على القول بالمرة في الامتثال[2]، وأنه لا مجال للإتيان

-------------------------

تنبيه: في ثمرة البحث، وهي في الامتثال

[1] 1- بناء على القول بالتكرار لا يكفي الإتيان مرّة واحدة، بل لابد من تكرار الامتثال.

2- وبناء على القول بالمرة - سواء بمعنى الدفعة أم الفرد - يكفي الإتيان مرّة واحدة، فيتحقق غرض المولى، فيسقط الأمر، فلا يبقى مجال لتكرار الامتثال.

3- وبناء على المختار من دلالة الأمر على الطبيعة... .

فتارة: لا يكون المولى في مقام البيان، فلابد من الرجوع إلى الأصول العملية، وهي تدل على البراءة عن الزائد.

وتارة يكون المولى في مقام البيان، فالكلام في مقامين:

الأول: في جواز الاكتفاء بالمرّة؛ وذلك لإطلاق الأمر - أي: المادة في الصيغة - ، فلو كان المولى يريد التكرار كان عليه البيان بأن يقيّد الأمر بالتكرار، فيقول: (صلّ مرتين أو ثلاث مرات) مثلاً.

الثاني: في عدم إمكان التكرار بدفعات؛ وذلك لأن الأمر تابع للغرض، فإذا تحقق الغرض سقط الأمر، ومع سقوطه لا مجال للامتثال مرّة أخرى في ضمن فرد ثانٍ وثالث وهكذا، إلاّ إذا أمكن تبديل الامتثال، وسيأتي توضيحه.

نعم، لو أتى بعدة أفراد دفعة واحدة تحقق الامتثال بمجموعها؛ لأن إطلاق الأمر يدل على جواز الإتيان بالطبيعة دفعة واحدة في ضمن فرد واحد أم أفراد متعددة، فلو أتى بالطبيعة - سواء في ضمن فرد أم أفراد - سقط الأمر، فلا مجال لامتثالٍ آخر.

[2] بمعنى أنه لو أتى مرّة واحدة حصل الامتثال، وأن المّرات الأخرى ليست بامتثال قطعاً؛ لعدم الأمر بها أصلاً.

ص: 354

بالمأمور به ثانياً على[1] أن يكون أيضاً به الامتثال، فإنه من الامتثال بعد الامتثال[2]. وأما على المختار - من دلالته[3] على طلب الطبيعة من دون دلالة على المرة ولا على التكرار - فلا يخلو الحالُ: إما أن لا يكون هناك إطلاق الصيغة في مقام البيان - بل في مقام الإهمال أو الإجمال[4] - فالمرجع هو الأصل[5]؛ وإما أن يكون إطلاقها في ذلك المقام[6] فلا إشكال في الاكتفاء بالمرة في الامتثال[7]. وإنما الإشكال[8] في جواز أن لا يقتصر عليها، فإن لازم[9] إطلاق الطبيعة المأمور بها

-------------------------

[1] أي: لا يمكن اتصاف المرة الثانية بأنها امتثال للأمر؛ وذلك لعدم الأمر بها أصلاً، فلا تكون امتثالاً، فلو كرّر الفعل لم يكن الفعل الثاني متصفاً بصفة الامتثال.

[2] وهو محال؛ إذ بالامتثال الأول يسقط الأمر، فلا يبقى مجال للامتثال الثاني.

[3] أي: دلالة الأمر.

[4] المراد من «الإهمال» هو تعمّد عدم البيان بأن يكون للمولى غرض في عدم البيان، ومن «الإجمال» هو أن يكون المولى قد بيّن لكن اللفظ صار مجملاً عندنا لاختفاء؛ القرائن مثلاً.

[5] أي: البراءة عن وجوب التكرار.

[6] أي: في مقام البيان.

[7] هذا هو المقام الأول، وإنما يكتفي بالمرة لإطلاق الصيغة؛ لأن المولى في مقام البيان، فإذا كان غرضه في التكرار كان عليه البيان، فالإطلاق ينفي هذا القيد الزائد - وهو التكرار - .

[8] شروع في المقام الثاني، «لا يقتصر» أي: لا يكتفي، «عليها» على المرة، فقد يتوهم إمكان تحقق الامتثال بالمرة الثانية؛ وذلك لأن للصيغة إطلاقاً من هذه الجهة، فقوله: (انصر) مثلاً مطلق يشمل النصر الأول والثاني والثالث... وهكذا، أي: كما تشمل الطبيعة الأفراد العرضية كذلك تشمل الأفراد الطولية.

[9] هذا بيان التوهم.

ص: 355

هو الإتيان بها مرةً أو مراراً، لا لزوم الاقتصار على المرة، كما لا يخفى.

والتحقيق[1]: إنّ قضية الإطلاق إنما هو جواز الإتيان بها مرةً في ضمن فرد أو أفراد[2]، فيكون إيجادها في ضمنها نحواً من الامتثال كإيجادها في ضمن الواحد، لا[3] جواز الإتيان بها مرةً ومرات، فإنه[4] مع الإتيان بها مرةً لا محالة يحصل الامتثال، ويسقط به الأمر في ما إذا كان امتثال الأمر علة تامة لحصول الغرض الأقصى[5] بحيث

-------------------------

[1] هذا دفع التوهم، وحاصله: إن هناك مانعاً عن شمول الأمر للأفراد الطولية، ومع وجود المانع لا يتحقق الإطلاق من هذه الجهة، فإن من مقدمات الإطلاق أن لا تكون هناك قرينة على خلاف الإطلاق، ولكن في ما نحن فيه توجد القرينة العقلية في المرة الثانية والثالثة وهكذا.

[2] ولكن في دفعة واحدة، فلو قال: (اعتق)، فأعتق مجموعة من العبيد دفعة واحدة كان المجموع امتثالاً، «إيجادها» أي: الطبيعة، «ضمنها» أي: في ضمن الأفراد دفعة، «نحواً من الامتثال» أي: نوعاً منه، كما أن إيجاد الطبيعة في ضمن فرد واحد نوع آخر من الامتثال.

[3] عطف على (هو جواز الإتيان بها مرة...)، «بها» بالطبيعة، أي: ليس مقتضي الإطلاق هو جواز الدفعة والدفعات.

[4] بيان القرينة العقلية المانعة عن انعقاد الإطلاق من جهة الأفراد الطولية، «فإنه» للشأن، «بها» بالطبيعة.

[5] حاصل كلام المصنف هو أنه يمكن تبديل الامتثال في ما لو لم يتحقق غرض المولى الأقصى، بيان ذلك: إن المأمور به على قسمين:

1- أن لا يكون مقدمة لشيء آخر، بل هو الغرض الأساسي، كما لو أمره بسقي المزرعة، فمع سقيها يتحقق ما أراده المولى، ولا شيء آخر يريده المولى بعد ذلك.

2- أن يكون مقدمة لشيء آخر، كما لو أمره بالإتيان بالماء، فإن ذلك مقدمة

ص: 356

يحصل بمجرده[1]، فلا يبقى معه مجال لإتيانه ثانياً بداعي امتثال آخر[2]، أو بداعي أن يكون الإتيانان امتثالاً واحداً، لما عرفت من حصول الموافقة بإتيانها[3]، وسقوط الغرض معها، وسقوط الأمر بسقوطه، فلا يبقى مجال لامتثاله أصلاً. وأما إذا لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض[4]، كما إذا أمر بالماء ليشرب أو يتوضأ، فأتى به ولم يشرب أو لم يتوضأ فعلاً، فلا يبعد صحة تبديل الامتثال بإتيان فرد آخر أحسن منه[5]، بل مطلقاً[6]، كما كان له ذلك[7] قبله على ما يأتي بيانه في الإجزاء.

-------------------------

لشربه للماء، فمع إتيان العبد بالماء لا يتحقق ما أراده المولى من رفع العطش، وإنما تحقق مقدمة ذلك، وحينئذٍ يمكن للعبد تبديل الامتثال بأن يأتي بماء آخر مرّة أخرى.

ولا يخفى أنه بالمرة الأولى يسقط الأمر لكن يبقى ملاكه، فلذا أمكن تبديل الامتثال؛ وذلك لبقاء الملاك لا لبقاء الأمر.

[1] أي: يحصل الغرض الأقصى بمجرد الامتثال، «معه» مع حصول الغرض الأقصى، «لإتيانه» أي: إتيان متعلق الأمر.

[2] أي: يكون امتثال ثانٍ مستقل عن الامتثال الأول، «امتثالاً واحداً» بأن يكون المجموع امتثالاً واحداً.

[3] أي: يحصل الامتثال بإتيان الطبيعة في المرة الأولى، «معها» مع الموافقة، «بسقوطه» أي: بسقوط الغرض، «لامتثاله» مرة أخرى.

[4] أي: الغرض الأقصى، بأن كان الامتثال مقدمة لحصوله.

[5] وقد يمثّل له بإعادة الصلاة جماعة، فإن الجماعة أحسن من الفرادى، فتأمل.

[6] أي: حتى لو لم يكن الثاني أحسن من الأول، بأن كان مساوياً له أو أدون.

[7] «له» للمكلّف، «ذلك» أي: الإتيان بالفرد الأحسن أو المساوي أو الأدون، «قبله» قبل الإتيان بالفرد الأول؛ وذلك لأن المكلف مخيّر بين الأفراد، فكما يتمكن من اختيار أيّ واحدٍ منها قبل الامتثال، كذلك بعد الامتثال يمكنه تبديله إلى أيِّ فردٍ منها.

ص: 357

المبحث التاسع: الحق[1] أنه لا دلالة للصيغة لا على الفور ولا على التراخي. نعم[2]، قضية إطلاقها جواز التراخي.

والدليل عليه[3] تبادر طلب إيجاد الطبيعة منها بلا دلالة على تقييدها بأحدهما. فلابد في التقييد من دلالة أخرى[4]، كما أدعي دلالة[5] غير واحد من الآيات على الفورية، وفيه[6] منع،

-------------------------

المبحث التاسع: في الفور والتراخي
اشارة

[1] وذلك لأن المادة في صيغة الأمر لا تدل إلاّ على الطبيعة المجردة، ولا تدل الهيئة إلاّ على النسبة الطلبية، كما مرّ تفصيله في بحث المرة والتكرار.

[2] أي: يجوز التراخي، لا لدلالة الصيغة عليه، بل لأن مقتضى الإطلاق هو عدم التقييد لا بالفور ولا بالتراخي، فيجوز للمكلّف الإتيان به كيف يشاء بالفور أو بالتراخي، «إطلاقها» أي: إطلاق الصيغة.

[3] أي: على عدم دلالة الصيغة لا على الفور ولا على التراخي، «منها» من الصيغة، «بأحدهما» الفور أو التراخي.

[4] غير الصيغة، كأن يصرّح المولى بأنه يريده فوراً، أو يريده في وقت لاحق.

أدلة القائلين بالفور والإشكال عليها

[5] استدلوا(1)

بقوله تعالى: {فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ}(2)، وقوله سبحانه {وَسَارِعُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ}(3)، حيث إن (استبقوا) و(سارعوا) صيغة أمر، فتدل على وجوب الاستباق والمسارعة، وذلك معنى الفور.

[6] والإشكال على الاستدلال من وجوه ثلاثة:

الإشكال الأول: إن في الآيتين قرينة تدل على عدم إرادة الوجوب من (استبقوا)

ص: 358


1- الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 134؛ العدة في أصول الفقه 1: 229؛ معارج الأصول: 66.
2- سورة البقرة، الآية: 148؛ سورة المائدة، الآية: 48.
3- سورة آل عمران، الآية: 133.

ضرورة أن سياق[1] آية {وَسَارِعُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ}(1)، وكذا آية {فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ}(2) إنما هو البعث نحو المسارعة إلى المغفرة والاستباق إلى الخير من دون استتباع تركهما للغضب والشر[2]، ضرورة[3] أن تركهما لو كان مستتبعاً للغضب والشر كان البعث بالتحذير[4] عنهما أنسب، كما لا يخفى، فافهم[5].

-------------------------

و(سارعوا)، بل يراد منهما الاستحباب؛ وتلك القرينة هي أنه لو كان المراد الوجوب لكان التحذير عن ترك الاستباق والمسارعة أنسب - وهي قرينة تستفاد من سياق الكلام - .

وبعبارة أخرى: إنهما لو كانا دالّين على الوجوب لكان تركهما موجباً لغضب الله وعقابه، فكان الأنسب حينئذٍ بيان العقاب على تركهما لا بيان الثواب عليهما؛ لأن الخوف من العقاب أكثر تأثيراً وتحريكاً للإنسان من الشوق إلى الثواب.

وفي هذا الجواب إشكال سيأتي بيانه في قول المصنف: (فافهم).

[1] هذا بيان للقرينة الصارفة عن الوجوب.

[2] وهذا هو الاستحباب، «تركهما» أي: ترك المسارعة والاستباق، وعطف (الشر) على (الغضب) تفسيري؛ لأن غضبه تعالى هو العقاب؛ إذ إنه ليس محلاً للحوادث ولا للكيفيات النفسانية.

[3] بيان وجه عدم استتباع تركهما للغضب والشر، «تركهما» ترك المسارعة والاستباق.

[4] أي: البعث نحو المسارعة والاستباق عبر التحذير، بأن يقول: احذروا عن مخالفة المسارعة، أو لو لم تستبقوا فعليكم غضب وعقاب، وأمثال ذلك، «عنهما» أي: عن الغضب والشر، والمراد عن سبب الغضب والشر الذي هو المخالفة.

[5] إشارة إلى عدم صحة هذا الإشكال؛ وذلك لأن الحال في جميع الواجبات

ص: 359


1- سورة آل عمران، الآية: 133.
2- سورة البقرة، الآية: 148؛ سورة المائدة، الآية: 48.

مع لزوم كثرة تخصيصه[1] في المستحبات[2] وكثير من الواجبات بل أكثرها، فلابد[3] من حمل الصيغة فيهما على خصوص الندب أو مطلق الطلب.

ولا يبعد[4] دعوى استقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق، وكان ما ورد من

-------------------------

كذلك، حيث إن المولى بيّن وجوبها بصيغة الأمر عادة دون التحذير عن المخالفة، فهل يلتزم أحد بعدم وجوبها؟!!

[1] هذا هو الإشكال الثاني، وحاصله: إنه قد قام الدليل على عدم وجوب الفور في جميع المستحبات وأكثر الواجبات، فلو كانت الصيغة دالّة على الفور للزم تخصيص الأكثر، وهو مستهجن، «تخصيصه» أي: تخصيص وجوب الفور.

[2] أي: في جميعها؛ لأنها داخلة في الآيتين، حيث إن المستحبات سبب المغفرة، كما أنها من الخيرات، ومن الواضح عدم وجوب المسارعة والاستباق إليها.

[3] أي: استهجان تخصيص الأكثر قرينة عقلية على أن المراد في الآيتين هو استحباب الفور لا وجوبه، أو أن المراد «مطلق الطلب» الشامل للوجوب والاستحباب.

[4] هذا هو الإشكال الثالث، وحاصله: إن الأوامر الشرعية على قسمين:

1- الأمر المولوي: وهو بعث المولى عبده نحو الشيء، بحيث يكون في موافقته الثواب، وفي مخالفته العقاب.

2- الأمر الإرشادي: وهو مجرد إلفات العبد على منافع الشيء أو مضارّه، من غير أن يترتب قُرب ولا ثواب ولا عقاب، مثل أوامر الطبيب للمريض.

وكلّ ما لا يُدرك العقل حُسنه يكون الأمر به مولوياً، وأمّا ما يُدرك العقل حسنه يكون الأمر به للإلفات إلى وجود المصلحة فيه.

إذا اتضح ذلك نقول: إن العقل يُدرك حسن المسارعة والاستباق، فلا يكون أمر الشارع بهما مولوياً، بل أمره إرشاد إلى ما يُدركه العقل.

ص: 360

الآيات والروايات في مقام البعث[1] نحوه إرشاداً إلى ذلك - كالآيات والروايات الواردة في الحثّ على أصل الإطاعة[2] -، فيكون الأمر فيها[3] لما يترتب على المادة بنفسها[4] ولو لم يكن هناك أمرٌ بها، كما هو الشأن في الأوامر الإرشادية، فافهم[5].

-------------------------

[1] أي: ما ورد لأجل التحريك نحو المسارعة والاستباق، «إرشاداً» خبر (كان)، «ذلك» إلى ما استقل به العقل.

[2] كقوله تعالى: {أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ}(1)، فقد قالوا: إن هذه الأوامر إرشادية؛ لعدم ترتب ثواب أو عقاب مستقل عليها، وإلاّ لزم ترتب ثوابين على امتثال كل واجب، أحدهما على امتثال أمر ذلك الواجب، والآخر على امتثال الأمر بالطاعة، وكذلك لزم ترتب عقابين على مخالفة كل واجب، أحدهما على مخالفة أمره، والآخر على مخالفة أمر الطاعة.

[3] في آيات وروايات المسارعة.

[4] أي: للفائدة التي تترتب على نفس الفعل مع قطع النظر عن تعلق الأمر به، مثلاً: شرب المريض للدواء فيه مصلحة مع قطع النظر عن أمر الطبيب، فإذا قال الطبيب: (اشرب الدواء) كان غرضه بيان فائدته، وأن في شرب الدواء المصلحة للمريض سواء أمر به الطبيب أم لم يأمر.

[5] لعلّه إشارة إلى أن مجرد إدراك العقل للمصلحة لا يكون سبباً لكون الأمر إرشادياً، فالعقل يدرك حسن الصلاة، فهل الأمر المتعلق بالصلاة إرشادي لا ثواب فيه؟! وكذلك في النواهي، فالعقل يدرك قبح الظلم، فهل النهي عنه إرشاد إلى ضرره ولا عقاب فيه؟! بل كثير من الأوامر والنواهي المولوية يدرك العقل المصلحة أو المفسدة فيها، فليس الملاك في المولوية والإرشادية ذلك.

ص: 361


1- سورة النساء، الآية: 59.

تتمة[1]: بناءً على القول بالفور، فهل قضية الأمر الإتيان فوراً ففوراً - بحيث لو عصى لوجب عليه الإتيان به[2]

-------------------------

تتمة: في الإتيان فوراً ففوراً

[1] حيث إن هذا البحث يرتبط بأحد القولين في مسألة الفور والتراخي، لذلك كان تتمة للبحث السابق.

وحاصله: إنه بناءً على القول بالفور لو عصى المكلف ولم يمتثل فوراً، فما هو تكليفه بعد ذلك؟ فهل يسقط التكليف رأساً، أم إنه يسقط الفور دون أصل التكليف، أم أنه لا يسقط شيئاً منهما، بل يجب الإتيان فوراً ففوراً؟ احتمالات ثلاثة في مرحلة الثبوت.

وهذه الاحتمالات تبتني على مسألة تعدد المطلوب أو وحدته:

1- فلو قلنا بوحدة المطلوب - أي: إنّ المولى يريد شيئاً واحداً هو (الفعل الفوري) بحيث لا توجد مصلحة لو أخّر - فحينئذٍ يسقط أصل التكليف، كما لو أمر بتحضير الطعام لضيف يريد السفر بعدد قائق، بحيث لو أخّر الطعام لسافر الضيف.

2- ولو قلنا بتعدد المطلوب، بأن يكون لأصل العمل مصلحة مطلقاً، وللفور مصلحة ثانية، ولم تكن مصلحة الفور بنحو تشكيكي، فحينئذٍ لا يسقط أصل التكليف مع سقوط مصلحة الفور، فيجوز له الإتيان بالعمل متى ما شاء.

3- ولو قلنا بتعدد المطلوب، بأن يكون لأصل العمل مصلحة، وللفور مصلحة ثانية ولكن بنحو مشكِّك، بأن يكون الإتيان به في الزمان الأول أولى من الزمان الثاني، والزمان الثاني أولى من الثالث، وهكذا، فحينئذٍ يجب الإتيان به فوراً ففوراً، كما لو أمره بإزالة النجاسة عن المسجد، فيجب عليه فوراً ففوراً.

هذا كلّه في مرحلة الثبوت، أما مرحلة الإثبات فسيأتي البحث عنها.

[2] أي: بمتعلّق الأمر، «أيضاً» كوجوبه في الزمان الأول، وهذا هو الاحتمال الثالث.

ص: 362

فوراً أيضاً في الزمان الثاني - أو لا[1]؟ وجهان مبنيان على أن مفاد الصيغة - على هذا القول[2] - هو وحدة المطلوب[3] أو تعدده[4].

ولا يخفى[5]: أنه لو قيل بدلالتها على الفورية لما كان لها دلالةٌ على نحو المطلوب[6] من وحدته أو تعدده، فتدبر جيداً.

الفصل الثالث الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء

-------------------------

[1] أي: أو لا يجب الإتيان به في الزمان الثاني، وهذا هو الاحتمال الأول والثاني؛ لأن عدم وجوب الإتيان في الزمان الثاني إما لأجل سقوط أصل الأمر، أو لأجل سقوط الفورية مع بقاء أصل الأمر.

[2] أي: القول بدلالة صيغة الأمر على الفور.

[3] فيسقط الأمر رأساً كما هو مقتضى الاحتمال الأول.

[4] فيبقى أصل الأمر، لكن المطلوب الثاني وهو الفور إن قلنا: إنه غير مشكّك سقط الفور ويجوز التراخي، وإن قلنا: إنّه مشكِّك بقي الأمر بالفور فيجب الإتيان فوراً ففوراً.

[5] هنا شروع في بحث مرحلة الإثبات، فقد ذكرنا أن المحتملات ثلاثة ثبوتاً، فأيٌّ منها هو مقتضى الدليل؟

والجواب: هو عدم دلالة الصيغة لا على وحدة المطلوب ولا على تعدده؛ وذلك لأن الأمر يدل على الطبيعة، ولا دلالة له على كيفية المصلحة، فلابد حينئذٍ من الرجوع إلى الأصل العملي، وهو أصل البراءة عن التكليف في الزمان الثاني، فيسقط التكليف رأساً، فتأمل.

[6] أي: كيفيته.

الفصل الثالث في الإجزاء

اشارة

أي: لو امتثل المكلّفُ الأمر فهل يكتفي بذلك من غير حاجة إلى الإتيان بالعمل مرة أخرى، أم لا يكتفي بذلك؟

ص: 363

في الجملة[1] بلا شبهة. وقبل الخوض في تفصيل المقام وبيان النقض والإبرام ينبغي تقديم أمور[2]:

أحدها[3]: الظاهر أن المراد

-------------------------

ولا يخفى أن الأوامر على ثلاثة أقسام:

1- الأمر الواقعي الأولي، كالوضوء للصلاة.

2- الأمر الواقعي الثانوي، كالتيمم لها.

3- الأمر الظاهري، كالصلاة باستصحاب الوضوء.

ومن الواضح أنه مع الإتيان بالمأمور به في كل واحد من هذه الأقسام يسقط أمر نفسه، وإنما البحث في أنه يسقط الأمر الآخر أم لا.

مثلاً: من صلّى باستصحاب الوضوء فهل يسقط الأمر بالصلاة واقعاً أم لا بحيث لو تبيّن له أنه لم يكن متوضئاً واقعاً، فهل تلك الصلاة صحيحة أم بحاجة إلى إعادة أو قضاء؟

[1] أي: يكفي عن أمر نفسه قطعاً؛ إذ لا معنى لبقاء الأمر مع تحقق متعلقه، وإنما الكلام في إجزائه عن الأمر الآخر.

[2] أمور أربعة، ثلاثة منها ترتبط بتفسير كلمات العنوان، وهي (وجهه) و(يقتضي) و(الإجزاء)، والرابع في الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرة والتكرار، والفرق بينها وبين مسألة تبعية القضاء للأداء.

[3] في معنى (وجهه)، وفيه احتمالات ثلاثة:

الأول: كيفيته شرعاً وعقلاً.

الثاني: كيفيته شرعاً.

الثالث: قصد الوجه - أي: تعيين الوجوب أو الاستحباب - .

والصحيح هو الأول؛ لأن الإنسان إذا لم يأت بأجزاء أو شروط المأمور به - سواء كانت عقلية أم شرعية - كان عمله باطلاً، فلا إجزاء قطعاً، فلا معنى للبحث

ص: 364

من «وجهه» في العنوان هو النهج[1] الذي ينبغي أن يؤتى به على ذاك النهج شرعاً وعقلاً، مثل أن يؤتى به بقصد التقرب في العبادة. لا خصوص[2] الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعاً، فإنه عليه يكون «على وجهه» قيداً توضيحياً[3]، وهو بعيد[4]؛

-------------------------

عن الإجزاء وعدمه.

أما الثاني فيرد عليه إشكالان:

1- إنه يلزم منه كون (على وجه) قيداً توضيحياً؛ لأن قوله: (الإتيان بالمأمور به) معناه هو الإتيان بالوجه الشرعي؛ لأنّ الفاقد لشرط أو لجزء شرعي ليس مأموراً به، مثلاً: الصلاة بلا ركوع ليس مأموراً بها، بل المأمور به هي الصلاة بكل أجزائها وشرائطها الشرعية، فقولنا: (المأمور به) يساوي (على وجهه) أي: بجميع الأجزاء والشرائط، فصار قيداً توضيحياً، والمناسب في العناوين عدم كون القيود توضيحية.

2- إن المكلّف لو أخلّ بقصد القربة في العبادات كان عمله باطلاً قطعاً وغير مجزٍ، حتى لو أتى بكل الأجزاء والشرائط الشرعية، مع أن (على وجهه) لو كان بمعنى الكيفية الشرعية لدخلت العبادة بلا قصد القربة في البحث؛ لأن قصدها ليس بشرط شرعي، بل هو لدلالة العقل، كما مرّ في بحث التوصلي والتعبدي.

فلذا لابد من تعميم (على وجهه) ليشمل الكيفية العقلية أيضاً.

وأما الثالث فيرد عليه ثلاثة إشكالات، سيأتي توضيحها.

[1] أي: الكيفية والطريقة، «شرعاً» بكل الأجزاء والشرائط التي كانت متعلقة للأمر، «عقلاً» بما يدل العقل على لزومه مما كان متأخراً عن الأمر كقصد القربة.

[2] إشارة إلى الاحتمال الثاني في معنى (وجهه)، ثم الإشكال عليه، «فإنه» للشأن، «عليه» أي: بناءً على كون معنى (وجهه) هو الكيفية الشرعية.

[3] أي: توضيح عبارة (المأمور به)، كما عرفت.

[4] لأنهم التزموا بعدم زيادة القيود في العناوين، وإنما يوضّحون العنوان في البحث لا في نفس العنوان.

ص: 365

مع أنه[1] يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع، بناءً على المختار - كما تقدم - من أن قصد القربة من كيفيات الإطاعة[2] عقلاً، لا من قيود المأمور به شرعاً[3]. ولا الوجه[4] المعتبر عند بعض الأصحاب(1)،

فإنه[5] - مع عدم اعتباره عند المعظم، وعدم اعتباره[6] عند من اعتبره إلاّ في خصوص العبادات لا مطلق الواجبات -

-------------------------

[1] هذا هو الإشكال الثاني، «أنه» للشأن، «المختار» من أن اشتراط قصد القربة بحكم العقل لا بأمر الشرع، «تقدم» في بحث التوصلي والتعبدي.

[2] أي: لاحقة للأمر، وليست مأخوذة في متعلّق الأمر، وإنما كانت من كيفيات الإطاعة عقلاً لأن الغرض يتوقف عليها؛ فلذا يستقل العقل بلزومها.

[3] فلو كان المقصود من (وجهه) الكيفية الشرعية، للزم خروج العبادات عن بحث الإجزاء.

[4] هذا هو الاحتمال الثالث، بأن يراد من (وجهه) في العنوان (قصد الوجه) أي: الوجوب أو الاستحباب، ويرد عليه ثلاثة إشكالات:

1- عدم اعتبار (قصد الوجه) عند معظم العلماء، ومع ذلك جعل هؤلاء (وجهه) في عنوان بحثهم في الإجزاء، فيدل على أنهم لم يقصدوه هنا.

2- لو تنزلنا وقلنا باشتراط قصد الوجه، لكن نقول: إن (قصد الوجه) - عند من اشترطه - خاصٌ بالعبادات، وبحث الإجزاء عام للعبادات وللتوصليات، فجعل هذا القيد في عنوان البحث مما لا وجه له؛ إذ مع عمومية البحث لا وجه لتخصيصه ببعض الأوامر.

3- ولو تنزلنا عن الإشكال السابق فنقول: إن (قصد الوجه) أحد شروط العبادات، فلماذا ذكر هذا الشرط دون سائر الشروط كالقبلة والطهارة... الخ؟!!

[5] أي: فإن قصد الوجه، وهذا إشارة إلى الإشكال الأول.

[6] إشارة إلى الإشكال الثاني، «اعتبره» أي: اشترط قصد الوجه، «لا مطلق

ص: 366


1- مفتاح الكرامة 2: 314 حيث نسب ذلك إلى جمع كثير من الفقهاء، كابن البرّاج والشهيد والمحقق والعلامة... .

لا وجه[1] لاختصاصه به بالذكر على تقدير الاعتبار. فلابد[2] من إرادة ما يندرج فيه من المعنى، وهو ما ذكرناه، كما لا يخفى.

ثانيها[3]:

-------------------------

الواجبات» فلم يشترطوه في التوصليات قطعاً.

[1] إشارة إلى الإشكال الثالث، «لا وجه» أي: لا داعي، «لاختصاصه» أي: قصد الوجه.

[2] هذا من تتمة الإشكال الثالث، أي: فلابد أن يراد من كلمة (وجهه) معنىً أعم يشمل قصد الوجه، كما يشمل سائر الشرائط والأجزاء، «ما» أي: معنىً عام، «فيه» الضمير للموصول، «من المعنى» بيان للموصول، و«هو» أي: ذلك المعنى، «ما ذكرناه» في الاحتمال الأول.

[3] في معنى كلمة (الاقتضاء) في العنوان، فاعلم أن للاقتضاء معنيين:

الأول: العِليّة، كقولنا: النار تقتضي الإحراق، أي: هي عِلّة له.

الثاني: الكاشفيّة، كقولنا: الدخان يقتضي النار، أي: كاشف عنها.

فأيّ واحدٍ من المعنيين هو المراد هنا؟

يقول المصنف: إن المراد هو المعنى الأول؛ لأن البحث في الإجزاء عقليّ، وليس في دلالة اللفظ؛ ولذا كان العنوان هو (الإتيان بالمأمور به على وجهه...)، ولم يكن العنوان (هل الأمر يقتضي الإجزاء أم لا).

وبعبارة أخرى: إن (الإتيان) ليس كاشفاً عن السقوط، بل هو علة له؛ لأن الإتيان سبب لحصول غرض المولى، ومعه لا معنى لبقاء الأمر، وهذه دلالة عقلية، وليست لفظية حتى تكون كاشفة.

نعم، الألفاظ لها دلالة، فهي كاشفة عن المعاني، ولكن ليس كلامنا في الإجزاء في دلالة الصيغة.

ص: 367

الظاهر أن المراد من «الاقتضاء» هاهنا[1] الاقتضاء بنحو العلية والتأثير، لا بنحو الكشف والدلالة، ولذا نُسب[2] إلى الإتيان، لا إلى الصيغة.

إن قلت[3]: هذا[4] إنما يكون كذلك بالنسبة إلى أمره، وأما بالنسبة إلى أمر آخر

-------------------------

[1] في بحث الإجزاء، عكس كلمة (الاقتضاء) في بحوث أخرى كقولنا: هل الصيغة تقتضي الفور أو التراخي؟ أو هل الصيغة تقتضي المرة والتكرار؟ ونحو ذلك، ففي تلك الموارد يراد الكشف؛ لأن الكلام في دلالة الصيغة، وهي دلالة لفظية، فهي تكون كاشفة عن مراد المولى.

[2] أي: أسند الاقتضاء في العنوان إلى الإتيان، فقلنا: هل الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء أم لا؟

[3] حاصل الإشكال: إن لنا مقامين:

الأول: في الإتيان مطابقاً لأمر نفسه، مثلاً: يأتي بالمأمور به بالأمر الاضطراري، فهنا يكون هذا الإتيان علة لسقوط الأمر الاضطراري، وهكذا في الأمرين الآخرين - الواقعي والظاهري - .

الثاني: في إتيان المأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري، فهل يسقط به الأمر الواقعي أم لا؛ كمن يتيمم ويصلي؟ فهل يسقط الإمر الواقعي بالوضوء؟ فهنا يكون النزاع في الحقيقة في دلالة دليل الاضطراري والظاهري، فهل لدليل التيمم دلالة على سقوط الأمر بالوضوء بعد ارتفاع الاضطرار أم لا؟ وهل لدليل الاستصحاب دلالة على سقوط الأمر الواقعي أم لا؟

فتحصل أنه في المقام الأول يكون البحث عقلياً، أي: في العِلية، وأما في المقام الثاني فالبحث لفظي، أي: في الدلالة والكشف.

[4] «هذا» الاقتضاء، «كذلك» بمعنى العلية، «أمره» أي: أمر المأتي به، مثلاً: أتى بالاضطراري فيكون علة للإجزاء عن الأمر الاضطراري.

ص: 368

- كالإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري بالنسبة إلى الأمر الواقعي - فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما[1] على اعتباره بنحوٍ يفيد الإجزاء أو بنحوٍ آخر لا يفيده.

قلت[2]: نعم[3]، لكنه لا ينافي كون النزاع فيهما كان في الاقتضاء بالمعنى المتقدم، غايته[4] أن العمدة في سبب الاختلاف فيهما إنما هو الخلاف في دلالة دليلهما - هل

-------------------------

[1] أي: دليل الأمر الاضطراري والظاهري، «اعتباره» أي: اعتبار المتعلّق - وهو المأمور به - «بنحو» أي: أخذ في الدليل بكيفية له دلالة على وفائه بالغرض الواقعي فيسقط الأمر الواقعي، أو بكيفية لا دلالة له على الوفاء بالغرض فلا يسقط.

[2] حاصله: إنه في الأمر الاضطراري والظاهري يوجد نزاعان:

1- يرتبط بالكبرى، وهي أن الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري هل يقتضي الإجزاء أم لا؟ بمعنى هل إنه علّة للإجزاء أم لا؟

2- يرتبط بالصغرى، وهي في منشأ النزاع الأول، حيث إن سبب النزاع في الإجزاء هو دلالة الدليل، فهل يدل الدليل على وفاء الاضطراري والظاهري بتمام الغرض من الأمر الواقعي أم لا يفي؟

وصورة القياس هكذا:

الصغرى: الأمر الاضطراري أو الظاهري يكشف عن كون متعلّقه وافياً بالمصلحة - إما بتمامها أو بالمقدار المُلزم منها - .

الكبرى: كل شيء وفى بالمصلحة فهو علة للإجزاء واقعاً.

[3] أي: نسلّم أن هناك نزاعاً في مقدار دلالة دليل الاضطراري والظاهري، وهذا هو النزاع الثاني، «لكنه» أي: لكن النزاع في دلالة الدليل، «فيهما» في الاضطراري والظاهري، «المعنى المتقدم» أي: العِلية.

[4] أي: غاية الأمر أن سبب النزاع في الاضطراري والظاهري - وأنه هل يجزيان عن الواقعي أم لا؟ - هو النزاع في دلالة الدليل.

ص: 369

أنه[1] على نحوٍ يستقل العقل بأن الإتيان به موجب للإجزاء ويؤثر فيه[2] - وعدم دلالته، ويكون النزاع فيه[3] صغروياً أيضاً[4]. بخلافه[5] في الإجزاء بالإضافة إلى أمره، فإنه لا يكون إلاّ كبروياً لو كان هناك نزاع، كما نقل عن بعض[6]، فافهم[7].

-------------------------

[1] «أنه» أن دليلهما، «على نحو» أي: بكيفية يدل على الوفاء بالغرض، وحينئذٍ يستقل العقل بالإجزاء، «به» بمتعلّق الأمر.

[2] عطف تفسيري على (موجب للإجزاء)، أي: هل هو عِلة له أم لا؟ لأن العِلة هي التي تؤثر، أما الكاشف فلا تأثير له.

[3] أي: في إجزاء الاضطراري والظاهري عن الواقعي.

[4] أي: كما يجري فيه النزاع الكبروي - وهو النزاع الأول - .

[5] أي: بخلاف النزاع في الإجزاء عن أمر نفسه، فإنه لا نزاع صغروي فيه؛ لأن متعلّق كل أمرٍ يكشف عن وفائه بتمام مصلحة ذلك الأمر.

ولو فرض أن هناك نزاعاً فإنما هو نزاع في الكبرى، أي: هذا الاضطراري أو الظاهري إذا وفى بمصلحة الواقع فهل يسقط بذلك الأمر الواقعي أم لا؟

[6] من العامة(1)،

لكنه كلام ضعيف جداً.

[7] لعله إشارة إلى أن المشهور عنونوا المسألة بأن (الأمر هل يقتضي الإجزاء؟) وحيث ربطوا المسألة بصيغة الأمر فلابد من أن تكون كلمة الاقتضاء في عنوانهم بمعنى الدلالة والكشف.

أو إشارة إلى أن عمدة النزاع في الاضطراري والظاهري هو في دلالة الدليل - وهو النزاع الصغروي - فلا وجه لتخصيص العنوان بالنزاع الكبروي الذي لا بحث فيه.

ص: 370


1- مفاتيح الأصول: 126.

ثالثها[1]: الظاهر أن «الإجزاء» هاهنا[2] بمعناه لغةً، وهو الكفاية، وإن كان يختلف ما يكفي عنه[3]، فإن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي يكفي فيسقط به التعبد[4] به ثانياً، وبالأمر[5] الاضطراري أو الظاهري الجعلي[6]، فيسقط به[7] القضاء،

-------------------------

[1] في معنى كلمة (الإجزاء) في العنوان، يقول المصنف: إن الإجزاء هنا هو بنفس معناه اللغوي وهو الكفاية، أي: هل يكفي أم لا؟ وليس للأصوليين اصطلاح خاص بأن يكون مرادهم من الإجزاء: عدم الإعادة وعدم القضاء.

نعم، مصاديق الكفاية تختلف... .

1- فيكفي الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي عن التعبد به ثانياً.

2- ويكفي الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري والظاهري عن الإعادة والقضاء.

[2] أي: في عنوان البحث.

[3] أي: قد يكفي عن التعبد ثانياً، وقد يكفي عن الإعادة والقضاء.

وبعبارة أخرى: الاختلاف في متعلّق الكفاية ومصداقها، لا في نفس الكفاية، فهي معنى الإجزاء في كل الصور هنا.

[4] أي: فيسقط بالإتيان بالمأمور به الواقعي التعبد بالمأمور به مرّة أخرى.

والمقصود ب- «التعبد» هو امتثال الأمر، فإنه مع امتثاله في المرة الأولى يحصل غرض المولى، فيسقط الأمر لا محالة.

ولا يخفى أنه كما يسقط التعبد بالأمر الواقعي بالإتيان به، كذلك بالإتيان بالأمر الاضطراري والظاهري يسقط التعبد بهما.

[5] أي: والإتيان بالأمر الاضطراري والظاهري يكفي فتسقط الإعادة والقضاء.

[6] أي: المجعول بدلاً عن المأمور به بالأمر الواقعي.

[7] أي: بالإتيان، وقوله: «القضاء» يشمل الإعادة أيضاً؛ لأن سقوط القضاء لازم لسقوط الإعادة، إلاّ لو دلّ دليل خاص على عدم سقوط الإعادة مع سقوط القضاء.

ص: 371

لا أنه[1] يكون هاهنا اصطلاحاً - بمعنى إسقاط التعبد أو القضاء - فإنه بعيدٌ جداً[2].

رابعها[3]: الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرة والتكرار لا يكاد يخفى، فإن البحث هاهنا[4] في أن الإتيان بما هو المأمور به يجزئ عقلاً؟ بخلافه في تلك المسألة،

-------------------------

[1] معطوف على صدر الكلام، أي: الظاهر أن الإجزاء هاهنا بمعناه لغة، لا أنّ للأصوليين اصطلاح خاص بأن يكون الإجزاء بمعنى سقوط التعبد أو القضاء.

«أنه» أن الإجزاء، «يكون» تامة بمعنى يوجد، «هاهنا» في العنوان، «اصطلاحاً» النصب بالحالية، فالمعنى: لا أن الإجزاء يوجد حال كونه اصطلاحاً بمعنى... الخ.

[2] لعدم الحاجة إلى هذا الاصطلاح مع وفاء المعنى اللغوي بالمقصود كاملاً.

[3] عقد هذا الأمر لدفع توهمين.

التوهم الأول: عدم الفرق بين مسألة الإجزاء، ومسألة المرة والتكرار، فإن المرة تساوق الإجزاء، والتكرار يساوق عدم الإجزاء.

ويرد عليه: وضوح الفرق بين المسألتين، فإن مسألة المرة والتكرار في تعيين المأمور به، وإن المولى أمر بأيِّ شيءٍ، فهل أمر بفعل الشيء مرّة واحدة أم مرات متعددة؟ فالبحث صغروي. وأما مسألة الإجزاء فهي في أن الإتيان بالمأمور به المعلوم هل يُجزي أم لا؟ فالبحث كبروي.

مضافاً إلى أن تلك المسألة لفظية في دلالة الصيغة على المرة أو التكرار، وهذه المسألة عقلية، كما مرّ بيانه.

[4] في مسألة الإجزاء وقد دمج المصنف الفرقين معاً، ففي الإجزاء (الإتيان بالمأمور به) أي: المعيَّن، (عقلاً) فالمسألة عقلية، وفي تلك المسألة (ما هو المأمور به) فهو غير معيّن ويراد تعيينه، و(بحسب دلالة الصيغة) فالمسألة لفظية.

«بخلافه» أي: بخلاف البحث، «تلك المسألة» المرة والتكرار، «فإنه» إن البحث.

ص: 372

فإنه في تعيين ما هو المأمور به شرعاً بحسب دلالة الصيغة بنفسها أو بدلالة أخرى[1]. نعم[2]، كان التكرار عملاً موافقاً بعدم الإجزاء، لكنه لا بملاكه.

وهكذا[3]

-------------------------

[1] أي: بقرينة عامة، ولا يخفى أن الدلالة الأخرى لم تبحث في مسألة المرة والتكرار، بل بحثت في مسألة الفور والتراخي، فلا ارتباط لها بموضوع البحث هنا.

[2] الغرض بيان أن التكرار قد يوافق عدم الإجزاء عملاً؛ إذ عدم الإجزاء بمعنى لزوم الإتيان بالعمل مرّة أخرى، وهذا يتطابق مع لزوم التكرار، لكن هذا التوافق المصداقي لا يجعل المسألتين مسألةً واحدة؛ لأن الملاك فيهما مختلف؛ إذ الملاك في عدم الإجزاء عدم سقوط الغرض الداعي للأمر فلا يمكن الاكتفاء به، وملاك التكرار هو أن المأمور به كان متعدداً.

«عملاً» أي: في المصداق الخارجي، «لكنه» لكن التكرار، «لا بملاكه» أي: لا بملاك عدم الإجزاء.

[3] التوهم الثاني: إن مسألة الإجزاء هي نفس مسألة تبعية القضاء للأداء؛ وذلك لأن معنى تلك المسألة: أن من لم يأت بالمأمور به في الوقت، هل يجب عليه القضاء في خارج الوقت بنفس الأمر الأول، أم لا يجب عليه القضاء بالأمر الأول، بل بأمر جديد؟ وعليه: فإن دلالة الأمر الأول على وجوب القضاء يساوق عدم الإجزاء، وعدم دلالته على القضاء يساوق الإجزاء.

ويرد عليه أولاً: إن مسألة التبعية لفظية، أي: هل صيغة الأمر تدل على التبعية أم لا؟ ومسألة الإجزاء عقلية.

وثانياً: إن تلك المسألة في خصوص القضاء، وهذه تشمل الإعادة في الوقت والقضاء خارجه.

وثالثاً: - وهو العمدة ولم يذكره المصنف - إن تلك المسألة إنما هي فيمن لم يأت بالعمل أصلاً، وهذه المسألة فيمن أتى بالعمل.

ص: 373

الفرق بينها[1] وبين مسألة تبعية القضاء للأداء[2]، فإن البحث في تلك المسألة في دلالة الصيغة[3] على التبعية وعدمها. بخلاف هذه المسألة، فإنه - كما عرفت - في أن الإتيان بالمأمور به يجزئ عقلاً عن إتيانه ثانياً - أداءً أو قضاءً[4] - أو لا يجزئ؟ فلا علقة بين المسألة والمسألتين أصلاً.

إذا عرفت هذه الأمور فتحقيق المقام يستدعي البحث والكلام في موضعين:

الموضع الأول[5]: إنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي، بل بالأمر الاضطراري

-------------------------

[1] أي: بين مسألة الإجزاء.

[2] وحاصل تلك المسألة: إن الواجب الموقّت إذا انقضى وقته ولم يأت به المكلّف في الوقت، فهل يجب عليه القضاء بدلالة نفس دليل الوجوب، أم أنه لا دلالة لذلك الدليل على وجوب القضاء، بل لابد من قيام دليل آخر على القضاء؟

وسبب الخلاف هو أن دليل الوجوب هل يدل على وحدة المطلوب، أي: إن المطلوب هو المتعلَّق في الوقت، أم يدل على تعدّد المطلوب، أي: إن هناك مطلوبين أحدهما الإتيان بالعمل، والآخر مراعاة الوقت، فإذا سقط الثاني بقي الأول؟

[3] هذا هو الفرق الأول، «عدمها» أي: عدم الدلالة، «فإنه» فإن البحث.

[4] إشارة إلى الفرق الثاني، «المسألة» أي: مسألة الإجزاء، «المسألتين» مسألة المرة والتكرار، ومسألة تبعية القضاء للأداء.

الموضع الأول: الإجزاء عن أمر نفسه

[5] حاصله: إن أمر المولى إنما هو لغرض يدعو لذلك الأمر، فإذا أتى بمتعلق الأمر فقد تحقق الغرض، وبتحقق الغرض يسقط الأمر، وهذا هو معنى الإجزاء.

فلو أتى بالمأمور به بالأمر الواقعي - كما لو صلّى بوضوء - سقط الأمر الواقعي؛ لتحقق متعلّقه، فتحقق الغرض من الأمر.

ص: 374

أو الظاهري أيضاً يجزئ عن التعبد به[1] ثانياً، لاستقلال العقل[2] بأنه لا مجال مع موافقة الأمر[3] بإتيان المأمور به على وجهه لاقتضائه التعبد به ثانياً.

نعم[4]، لا يبعد أن يقال بأنه يكون للعبد[5] تبديل الامتثال، والتعبد به ثانياً بدلاً عن التعبد به أولاً، لا منضماً إليه[6]

-------------------------

وكذا لو أتى بالمأمور به بالأمر الاضطراري، كما لو صلّى بتيمم، فإن الأمر الاضطراري يسقط؛ لتحقق متعلقه أيضاً، فلا مجال للصلاة بالتيمم مرّة أخرى.

وكذلك في المأمور به بالأمر الظاهري، كما لو صلّى باستصحاب الوضوء، فإن الأمر الظاهري يسقط، فلا مجال لتكرار الصلاة باستصحاب الوضوء.

نعم، يمكن تبديل الامتثال لو لم يتحقق الغرض الأقصى، كما مرّ في بحث المرة والتكرار، ويعيد المصنف بيانه هنا بتفصيل أكثر.

[1] أي: امتثال أمر المولى، «به» بذلك الأمر.

[2] فإن العقل يدلّ على أن عِلّة التكليف هي الغرض، وأنه بتحقق الغرض يسقط التكليف؛ لأن المعلول يدور مدار العلة ثبوتاً وسقوطاً، «بأنه» للشأن.

[3] أي: امتثاله، بأن أتى بمتعلقه كاملاً، «بإتيان» متعلق بالموافقة، «لاقتضائه» متعلق ب- (لا مجال)، «به» بالمأمور به.

[4] أي: نعم، يمكن التعبد ثانياً في صورة عدم تحقق الغرض الأقصى، وذلك عبر تبديل الامتثال.

[5] أي: يجوز له، وقوله: «والتعبّد به» عطف تفسيري على (الامتثال)، «التعبد به» أي: بالمأمور به، وهو متعلّق التكليف.

[6] بحيث يكون كلاهما امتثالاً؛ وذلك لما عرفت من أن الغرض إنما تعلّق بوجود واحد لا بأكثر، فلا يكون كلاهما تعبداً، بل أحدهما، «إليه» أي: إلى التعبد أولاً.

ص: 375

- كما أشرنا إليه في المسألة السابقة[1] - وذلك[2] في ما علم أن مجرد امتثاله لا يكون علة تامة لحصول الغرض[3] وإن كان[4] وافياً به لو اكتفى به؛ كما إذا أتى بماء أمر به مولاه ليشربه فلم يشربه بعدُ، فإن الأمر[5] بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد؛ ولذا لو أهريق(1)

الماء واطلع عليه العبد وجب عليه إتيانه ثانياً[6]، كما إذا لم يأت به

-------------------------

[1] أي: مسألة المرة والتكرار، وهي المسألة السابقة على السابقة.

[2] أي: تبديل الامتثال إنما يجوز.

[3] أي: الغرض الأقصى؛ وذلك لأنه لو كان الإتيان علة تامة لحصول الغرض الأقصى لاستحال تبديل الامتثال؛ إذ مع تحقق الغرض الأقصى لا يبقى الأمر، فلا يمكن امتثال جديد.

وجه الاستحالة: هو أن الشيء لا ينقلب عما هو عليه، وأن تحصيل الحاصل محال، ويلزم الأول في ما لو قلنا: إنّ الامتثال السابق ينقلب عن الامتثال إلى عدم الامتثال، ويلزم الثاني في ما لو قلنا ببقاء الامتثال السابق.

أما لو لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض الأقصى فملاك الأمر - الذي هو الغرض الأقصى - باقٍ، فلذا يتمكن من تبديل الامتثال.

[4] أي: وإن كان الامتثال الأول له القابلية لأن يتحقق به الغرض الأقصى، «اكتفى به» بالامتثال الأول فلم يبدّله.

[5] هذا تعليل جواز التبديل، وقوله: (وملاكه) عطف تفسيري على (بحقيقته).

[6] لبقاء ملاك الوجوب وهو عطش المولى - مثلاً - فكما كان يجب الامتثال الأول، كذلك لو لم يتحقق غرض المولى - بأن أريق الماء - يجب تكرار الامتثال لبقاء غرض المولى.

ص: 376


1- هكذا في بعض النسخ، وفي نسخة أخرى: «أهرق».

أولاً، ضرورة بقاء طلبه[1] ما لم يحصل غرضه الداعي إليه، وإلاّ[2] لما أوجب حدوثه، فحينئذٍ[3] يكون له الإتيان بماءٍ آخر موافق للأمر، كما كان له[4] قبل إتيانه الأول، بدلاً عنه.

نعم[5]، في ما كان الإتيانُ علةً تامةً لحصول الغرض[6]، فلا يبقى موقع للتبديل، كما إذا أمر بإهراق الماء في فمه لرفع عطشه فأهرقه. بل[7] لو لم يعلم أنه من أي

-------------------------

[1] أي: بقاء إرادته حتى وإن سقط الأمر - للإتيان بمتعلقه - «الداعي» ذلك الغرض، «إليه» إلى طلبه.

[2] أي: إن لم يجب الإتيان به ثانياً مع بقاء الغرض لما كان هناك سبب لحدوث الأمر أصلاً؛ لأن الأمر معلول للسبب.

وبعبارة أخرى: الغرض هو علة للتكليف، فيدور الحكم - بقاءً وحدوثاً - مداره، فكما أن الغرض علة لحدوث الحكم فكذلك هو علة لبقائه، فلو لم يبق الحكم مع بقاء الغرض كشف ذلك عن عدم حدوث الحكم أصلاً، لعدم كونه غرضاً أصلاً.

[3] أي: حين بقاء الغرض الأقصى، «له» للعبد، «موافق للأمر» أي: متطابق مع مواصفات متعلّق الأمر، كما لو كان المولى يريد ماءً حلواً فيبدل الأول بماء حلو ثانٍ.

[4] أي: كان يمكنه من الأول أن يأتي بهذا المصداق الآخر، فكذلك له تبديل الأول بهذا الآخر.

[5] أي: مع حصول الغرض الأقصى لا مجال لتبديل الامتثال أصلاً، لسقوط الغرض، فيسقط الأمر، فلا يمكن امتثال ثانٍ.

[6] أي: الغرض الأقصى، «موقع» أي: مجال.

[7] أي: لو علم بعدم تحقق الغرض الأقصى فله التبديل، ولو علم بتحققه فلا مجال للتبديل، أما لو لم يعلم وشك فله التبديل أيضاً؛ وذلك بقصد الرجاء

ص: 377

القبيل فله التبديل باحتمال أن لا يكون علة، فله إليه سبيل.

ويؤيد ذلك[1]، بل يدل عليه[2] ما ورد من الروايات في باب إعادة من صلى فرادى جماعة[3] وأن الله تعالى يختارُ أحبَّهما إليه(1).

الموضع الثاني: وفيه مقامان:

المقام الأول: في أن الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري هل يجزئ عن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي ثانياً[4] بعد رفع الاضطرار في الوقت إعادةً وفي خارجه

-------------------------

واحتمال تحقق الامتثال بالثاني بدلاً عن الأول، «أنه» أن الإتيان، «فله» للعبد، «إليه» إلى التبديل.

[1] أي: جواز تبديل الامتثال، وإنما قال: (يؤيده) لاحتمال أن تكون إعادة الصلاة جماعة ليس بالأمر الأول، وإنما لأجل أمر جديد استحبابي، وهذا خارج عن البحث؛ لأن بحثنا الآن في تبديل امتثال الأمر الأول، لا الامتثال الجديد بأمر آخر.

[2] قيل في وجه الدلالة: إن قوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في بعض روايات الباب: (ويجعلها الفريضة) يدل على أن ذلك بيد المكلّف، ومن المعلوم أن الفريضة إنما هي بالأمر الأول لا بأمر جديد.

[3] أي: الإعادة جماعة، ففي صحيحة هشام بن سالم عن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (في الرجل يصلّي الصلاة وحده، ثم يجد جماعة؟ قال عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: يصلّي معهم ويجعلها الفريضة إن شاء)(2).

الموضع الثاني: الإجزاء عن أمر غيره
المقام الأول: في إجزاء الأمر الاضطراري عن الأمر الواقعي
اشارة

[4] متعلّق ب- (الإتيان)، أي: يكفي عن الإتيان به ثانياً، «إعادة» حال أي: حال

ص: 378


1- وسائل الشيعة 8: 401-403.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 384.

قضاءً أو لا يجزئ؟

تحقيق الكلام فيه يستدعي التكلم فيه تارةً في بيان ما يمكن أن يقع عليه الأمر الاضطراري من الأنحاء وبيان ما هو قضية كل منها من الإجزاء وعدمه، وأخرى في تعيين ما وقع عليه.

فاعلم[1]

-------------------------

كونه إعادة، وكذا «قضاءً»، ومثاله ما لو تيمّم فصلّى ثم وجد الماء في الوقت أو خارجه، فهل عليه إعادة الصلاة أو قضاؤها؟

1- الكلام في مرحلة الثبوت
اشارة

[1] أي: في مرحلة الثبوت، والصور أربعة:

1- أن يكون الاضطراري مشتملاً على تمام المصلحة، وحينئذٍ لابدّ من الإجزاء؛ وذلك لأن سبب الأمر هو الغرض وقد تحقق هذا الغرض.

ولا يخفى أن وفاء الأمر الاضطراري بتمام المصلحة إنما هو في صورة الاضطرار فقط، وأما في صورة الاختيار فلا يفي؛ إذ لو كان وافياً لوجب التخيير بينهما.

2- أن لا يكون الاضطراري مشتملاً على تمام المصلحة، بل على بعضها، مع عدم إمكان تدارك الباقي من المصلحة أصلاً، لا في الوقت ولا في خارجه، وفي هذه الصورة لابد من الإجزاء، وهل يجوز المسارعة إلى امتثال الأمر الاضطراري أم لابد من الانتظار؟ فيه تفصيل سيأتي الإشارة إليه.

3- أن لا يكون الاضطراري مشتملاً على تمام المصلحة، وكان المقدار الباقي من المصلحة لازماً، مع إمكان التدارك، فحينئذٍ تجوز المبادرة مع عدم الإجزاء، فيلزم التكرار لإدراك باقي المصلحة.

4- الصورة السابقة، مع عدم كون المصلحة المتبقية ملزمة، وحنيئذٍ فالإجزاء مع

ص: 379

أنّه يمكن أن يكون[1] التكليف الاضطراري في حال الاضطرار كالتكليف الاختياري في حال الاختيار وافياً بتمام المصلحة وكافياً[2] في ما هو المهم والغرض؛ ويمكن أن لا يكون وافياً به[3] كذلك، بل يبقى منه شيء أمكن استيفاؤه، أو لا يمكن؛ وما أمكن[4] كان بمقدار يجب تداركه أو يكون بمقدار يستحب.

ولا يخفى: أنه[5] إن كان وافياً به يجزئ[6]. فلا يبقى مجال أصلاً للتدارك، لا قضاءً ولا إعادةً.

-------------------------

استحباب المبادرة، ولكن تستحب الإعادة لإدراك ما تبقى من المصلحة.

[1] بيان الصورة الأولى، «التكليف» أي: متعلّق التكليف، وقوله: «في حال الاضطرار» لبيان أن وفاءه بتمام المصلحة إنما هو في حال الاضطرار فقط.

[2] العطف تفسيري، لبيان معنى الوفاء بتمام المصلحة.

[3] وهذا إشارة إلى سائر الصور، «به» بالغرض، «كذلك» بتمامه، «منه» من الغرض، «أمكن استيفاؤه» إشارة إلى الصورة الثالثة والرابعة، «لا يمكن» إشارة إلى الصورة الثانية.

[4] أي: الذي أمكن التدارك فيه على قسمين: فتارة يكون المتبقي من المصلحة بمقدار واجب التدارك وهو الصورة الثالثة، وتارة أخرى يكون بمقدار غير واجب التدارك وهو الصورة الرابعة.

الصورة الأولى

[5] «أنه» الاضطراري، «به» بتمام المصلحة.

[6] أي: يُجزي، حيث عقلاً تحقق غرض المولى، فلا مجال لبقاء التكليف أصلاً، فلا يجب التدارك؛ لعدم فوت شيء من الغرض.

وأما المبادرة في هذه الصورة فيسأتي حكمها في ذيل الصورة الثانية.

ص: 380

وكذا[1] لو لم يكن وافياً ولكن لا يمكن تداركه. ولا يكاد[2] يسوغ له البدار في هذه الصورة إلاّ لمصلحة كانت فيه[3]، لما[4] فيه من نقض الغرض وتفويت مقدار من المصلحة لو لا مراعاة ما هو فيه[5] من الأهم، فافهم[6].

-------------------------

الصورة الثانية

[1] وهذه الصورة الثانية، أي: وكذا يُجزي مع عدم مجال للتدارك، أما الإجزاء فلتحقق جزء من غرض المولى، وأما عدم التدارك فلعدم إمكانه حسب فرض هذه الصورة.

[2] أي: هذا المكلّف لا يجوز له المبادرة إلى امتثال التكليف الاضطراري في أوّل الوقت؛ لأنه بذلك يفوّت جزءاً من غرض المولى.

[3] أي: لو كان في البدار مصلحة متساوية مع المقدار الذي يفوت من المصلحة أو أكثر منه، حيث إنه قد يكون إدراك الوقت مهماً، فيتعارض مع الجزء المتبقي من المصلحة - الذي يمكن إدراكه خارج الوقت - فإن تساويا كان المكلّف مخيّراً بين الإتيان بالاضطراري في الوقت، أو الإتيان بالاختياري خارج الوقت.

وإن كانت مصلحة الوقت أهم بحدّ الإلزام وجب الإتيان بالاضطراري في الوقت.

[4] هذا دليل عدم جواز البدار في هذه الصورة، «وتفويت مقدار...» عطف تفسيري على (لما فيه من نقض الغرض).

[5] هذا دليل جواز البدار لو كان في البدار مصلحة، «ما» أي: مصلحةٍ، «هو» يعود للموصول، «فيه» في البدار، «من الأهم» بيان للموصول، والمعنى لا يجوز البدار إلاّ لو كانت مصلحة أهم في البدار كمصلحة الوقت.

[6] لعلّه إشارة إلى أن هذه الصورة تنقسم إلى قسمين؛ لأن المقدار الذي لا يمكن إدراكه من الغرض قد يكون ملزماً وقد لا يكون ملزماً، فهذه الصورة في الحقيقة صورتان لا واحدة.

ص: 381

لا يقال[1]: عليه[2] فلا مجال لتشريعه ولو بشرط الانتظار[3]، لإمكان استيفاء الغرض بالقضاء.

فإنه يقال[4]: هذا كذلك[5] لو لا المزاحمة بمصلحة الوقت.

وأما تسويغ البدار[6] أو إيجاب الانتظار في الصورة الأولى

-------------------------

[1] حاصله: إنه لو كان الاضطرار لا يفي بتمام المصلحة مع عدم إمكان التدارك، فلماذا تمَّ تشريعه أصلاً؟!، بل على المولى أن يأمر بالصبر إلى زوال الاضطرار ليأتي بالعمل الاختياري فيدرك تمام المصلحة.

[2] أي: بناءً على لزوم نقض الغرض، «لتشريعه» أي: الاضطراري.

[3] أي: الانتظار إلى آخر الوقت، «لإمكان» عِلة عدم المجال لتشريع الاضطراري، «الغرض» أي: بتمامه.

[4] حاصله: إن للوقت مصلحة أيضاً، فالمولى يشرّع العمل الاضطراري في آخر الوقت لإدراك مصلحة الوقت.

[5] أي: هذا الذي ذكرتم صحيح إذا لم تكن للوقت مصلحة، فحينئذٍ تتعارض مصلحة الوقت مع المقدار المتبقي من مصلحة العمل، «هذا» ما ذكرتم من الإشكال «كذلك» أي: صحيح ووارد.

البدار في الصورة الأولى

[6] أي: مع كون المأمور به بالأمر الاضطراري وافياً بتمام الغرض فهل يجوز البدار والمسارعة إلى امتثال الأمر الاضطراري؟

هنا ثلاث حالات:

1- أن يكون الوفاء بتمام المصلحة مطلقاً، سواء في أوّل الوقت أم في وسطه أو آخره، وسواء كان يائساً عن زوال الاضطرار أم لا، وحينئذٍ فيجوز البدار بلا كلام.

ص: 382

فيدورُ[1] مدار كون العمل بمجرد الاضطرار - مطلقاً[2]، أو بشرط الانتظار، أو مع اليأس عن طرو الاختيار - ذا مصلحة ووافياً بالغرض.

وإن لم يكن[3] وافياً وقد أمكن تدارك الباقي في الوقت[4] أو مطلقاً ولو بالقضاء خارج الوقت، فإن كان الباقي مما يجب تداركه فلا يجزئ[5]، بل لابد من إيجاب الإعادة أو القضاء، وإلاّ[6] فيجزئ.

-------------------------

2- أن يكون الوفاء بتمام المصلحة إنما هو في آخر الوقت فقط، وحينئذٍ ففي جواز البدار وعدمه، وكذا في الإجزاء وعدمه حالات مختلفة.

3- أن يكون الوفاء بتمام المصلحة حين اليأس عن زوال الاضطرار في الوقت، كمن يعلم من أول الوقت بأنه لا يتمكن من الوضوء أصلاً إلى نهاية الوقت، فحينئذٍ يجوز البدار ويُجزئ.

[1] أي: تسويغ البدار يرتبط بكيفية إدراك تمام المصلحة، والحالات ثلاث كما عرفت.

[2] أي: من غير تقييد بآخر الوقت أو باليأس، «بشرط الانتظار» أي: إلى آخر الوقت، و«ذا مصلحة» خبر (كون)، وقوله: «وافياً بالغرض» بيان للمراد من المصلحة، أي: المصلحة كاملةً.

الصورة الثالثة والرابعة

[3] أي: لم يكن الاضطراري وافياً بتمام المصلحة، بل كان يفي ببعضها، وهذا صورتان.

[4] بزوال الاضطرار قبل خروج الوقت، «أو مطلقاً» أي: يمكن التدارك في الوقت أو في خارج الوقت.

[5] لأن المفروض أن المقدار المتبقي من المصلحة ممكن التدارك مع لزومه، وهذا هو الصورة الثالثة.

[6] أي: لم يكن المقدار المتبقي مما يجب تداركه، وهذا هو الصورة الرابعة.

ص: 383

ولا مانع عن البدار في الصورتين[1]، غاية الأمر يتخير في الصورة الأولى[2] بين البدار والإتيان بعملين - العمل الاضطراري في هذا الحال[3]، والعمل الاختياري بعد رفع الاضطرار - أو الانتظار[4] والاقتصار بإتيان ما هو تكليف المختار؛ وفي الصورة الثانية[5] يتعين عليه استحباب البدار ويستحب إعادته بعد طرو الاختيار[6].

هذا كله في ما يمكن[7] أن يقع عليه الاضطراري من الأنحاء.

وأما ما وقع عليه[8]:

-------------------------

[1] وذلك لعدم تفويت شيء من الغرض الملزم، أما في الصورة الثالثة فلإمكان الإعادة أو القضاء، وأما في الصورة الرابعة فلعدم كون الفائت ملزماً مع إمكان تداركه استحباباً.

[2] من هاتين الصورتين، والمقصود الصورة الثالثة من مجموع الصور.

[3] أي: حال الاضطرار؛ لأنه بذلك يدرك جزءاً من غرض المولى، ولا مانع عقلاً من ذلك.

[4] حتى يرتفع الاضطرار، «الاقتصار» الاكتفاء.

[5] من الصورتين، والمقصود الصورة الرابعة من مجموع الصور.

[6] أما استحباب البدار: فلإدراك فضيلة أول الوقت، أو للعمل بآية الاستباق والمسارعة.

وأما استحباب الإعادة، فلإدراك ما تبقى من الغرض - الذي لم يكن تداركه واجباً - .

وفي بعض نسخ الكفاية (يتعين عليه البدار ويستحب إعادته... الخ) وفي بعضها (يتعين البدار ويستحب الإعادة).

[7] أي: هذه الصور إنما هي في عالم الواقع والثبوت.

2 - الكلام في مرحلة الإثبات

[8] أي: ما دلّ عليه الدليل في مرحلة الإثبات، والدليل إما الإطلاق اللفظي

ص: 384

فظاهر إطلاق دليله[1] - مثل قوله تعالى: {فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا}(1)، وقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «الترابُ أحد الطهورين»(2)، و«يكفيك عشر سنين»(3) - هو الإجزاء وعدم وجوب الإعادة أو القضاء. ولابد[2] في إيجاب الإتيان به ثانياً من دلالة دليل بالخصوص.

-------------------------

أو الأصل العملي، وهما يتطابقان مع الصورة الأولى أو الرابعة.

أما الإطلاق اللفظي، فهو في ما كان المولى في مقام البيان، ولم يُبيّن وجوب الإعادة أو القضاء بعد رفع الاضطرار، كما أن الدليل مطلق من جهة الوقت، أي: لم يُقيّد باليأس عن رفع الاضطرار، ولا قُيّد بالانتظار، فيجوز البدار، ويجزي حسب هذا الإطلاق.

وأما الأصل العملي، فهو في ما لم يكن هناك إطلاق لفظي، ومقتضى الأصل هو البراءة عن الإعادة أو القضاء؛ لأنهما شك في أصل التكليف الزائد.

[1] دليل الاضطراري، فقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُواْ} مطلق، حيث بينت الآية أن الوظيفة هي التيمم مطلقاً بدون بيان الإعادة أو القضاء، وبدون بيان أن الحكم مقيّد باليأس أو بالانتظار.

وكذا قوله: (التراب أحد الطهورين) حيث أطلق البدلية، ومن المعلوم ثبوت جميع أحكام (المُبْدَل منه) للبدل، وكذا قوله: (يكفيك عشر سنين) حيث أطلق الكفاية من كل الجهات، ومنها الكفاية حتى بعد رفع الاضطرار، وحتى لو بادر.

[2] أي: حيث إن الدليل مطلق فلا يمكن التقييد إلاّ بدليل آخر يدل على التقييد، كحال كل مطلق ومقيّد.

ص: 385


1- سورة النساء، الآية: 43؛ سورة المائدة، الآية: 6.
2- الكافي 3: 64، وفيه: إن التيمّم... .
3- من لا يحضره الفقيه 1: 108، وفيه: يكفيك الصعيد... .

وبالجملة: فالمتبع هو الإطلاق لو كان، وإلاّ[1] فالأصل، وهو يقتضي البراءة من إيجاب الإعادة، لكونه شكّاً في أصل التكليف[2]؛ وكذا عن إيجاب القضاء بطريق أولى[3]. نعم[4]، لو دلّ دليله[5] على أن سببه فوت الواقع ولو لم يكن هو فريضة كان القضاء واجباً عليه لتحقق سببه[6] وإن أتى بالفرض[7]،

-------------------------

[1] أي: إن لم يكن هناك إطلاق لفظي، كما لو دلّ الإجماع على الوجوب، أو لم تتم مقدمات الحكمة، «وهو» أي: الأصل العملي.

[2] وذلك لأن التكليف الواقعي قد سقط في حال الاضطرار، وبعد الإتيان بالتكليف الاضطراري وارتفاع الاضطرار هل هناك تكليف بالإعادة أو القضاء مطابقاً للتكليف الاختياري؟ فهنا شك في أصل التكليف.

[3] لأنه لو لم يجب التكرار والوقت موجود فعدم وجوبه والوقت قد خرج بطريق أولى، وبعبارة أخرى: إذا لم يكن هناك غرض في الفعل مع حفظ مصلحة الوقت فعدم وجود الغرض في خارج الوقت بطريق أولى.

[4] هذا دفع لإشكال، وحاصل الإشكال هو: إن (القضاء) إنما هو لفوت الواقع حتى لو لم يكن ذلك الواقع فريضة في حال فوته، فمن كان فاقد الماء قد فاته الأمر الواقعي بالوضوء، حتى لو لم يكن الوضوء تكليفه في ذلك الحين.

والجواب: إن سبب وجوب القضاء ليس هو فوت الواقع، بل فوته حال كونه فريضة، وفي ما نحن فيه لم يتحقق شرط القضاء؛ إذ لم يفت حال كونه فريضة، بل فات الواقع حال كون الفريضة شيئاً آخر.

[5] أي: دليل إيجاب القضاء، «سببه» سبب إيجاب القضاء، «لم يكن هو فريضة» في حال فوته، «عليه» على المكلّف.

[6] أي: سبب القضاء حينئذٍ وهو فوت الواقع الذي لم يكن فريضة.

[7] أي: بواسطة الإتيان بالاضطراري، فيكون الأمر بالقضاء أمراً جديداً، وبغرض آخر غير غرض أصل التكليف.

ص: 386

لكنه[1] مجرد الفرض.

المقام الثاني: في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري[2] وعدمه[3].

والتحقيق: إنّ ما كان منه[4] يجري في تنقيح ما هو موضوع التكليف وتحقيق متعلقه، وكان بلسان تحقق[5]

-------------------------

[1] هذا الجواب، وحاصله: إن هذا الفرض غير واقع خارجاً، بل ظاهر دليل القضاء هو فوت الفريضة الفعلية فقط.

المقام الثاني: في إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي
اشارة

[2] ويراد به الأعم من الأمارات والأصول العملية.

[3] أي: عدم الأجزاء، والكلام في أمرين:

الأمر الأول: في ما لو كان الأمر الظاهري بالنسبة إلى الجزء أو الشرط، كما لو قامت بينة على طهارة ثوت المصلي، أو أجرى أصالة الطهارة بالنسبة إلى ثوبه.

الأمر الثاني: في ما لو كان الأمر الظاهري بالنسبة إلى أصل التكليف، كما لو قام الدليل على وجوب الجمعة في زمان الغيبة، ثم تبين وجوب الظهر.

الأمر الأول: في الأمر الظاهري المتعلق بالجزء أو الشرط
اشارة

[4] أي: من الأمر الظاهري، «تنقيح» أي: إثبات، والعطف في (وتحقيق متعلقه) تفسيري، فإن موضوع التكليف هو نفس متعلقه، وقيل: موضوعه بمعنى شرطه، ومتعلقه بمعنى جزءه.

وحاصل كلام المصنف: إنّ لسان الدليل الظاهري على نحوين:

أ: ما كان بلسان الحكومة، أي: توسيع أو تضييق الشرط والجزء، فحينئذٍ نقول بالإجزاء.

ب: ما كان بلسان الكشف عن الواقع فلا إجزاء.

أ- ما كان بلسان الحكومة

[5] اعلم أن الحكومة هي بمعنى أن يكون الدليل الثاني ناظراً إلى الدليل الأول،

ص: 387

-------------------------

فيوسّع موضوعه أو يضيّقه تعبداً، مثلاً: لو قال المولى (أكرم العلماء) ثم قال: (زيد عالم) مع كونه جاهلاً، فمعنى ذلك أنه وسّع دائرة العلماء بحيث شملت زيداً أيضاً، أو قال: (عمرو ليس بعالم) مع كونه عالماً فمعنى ذلك أنه ضيّق دائرة العلماء بحيث خرج منها عمرو.

ومثاله الشرعي قوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (لا شك لكثير الشك)(1)

فإن هذا الدليل ناظر إلى أدلة الشكيّات، فضيّق (الشاكّ) بحيث أخرج منه (كثير الشك).

إذا اتضح ذلك، قلنا: إن دليل الأمر الظاهري قد يكون بلسان الحكومة، مثلاً: يشترط في الصلاة طهارة الثوب، فلو صلّى في ثوب لا يعلم بطهارته استناداً على أصالة الطهارة، ثم تبيّن أن الثوب كان نجساً واقعاً، فصلاته صحيحة ومجزية؛ لأن (أصالة الطهارة) حاكمة على دليل (اشتراط طهارة الثوب)، أي: توسّع دائرة الشرط، فيكون الشرط الطهارة، سواء كانت واقعية أم ظاهرية.

وبعبارة أخرى: إن الحكم تابع للموضوع، فإذا تبدل الموضوع يتبدل الحكم، فيكون ما أتى به حسب الموضوع الأول مُجزياً، مثلاً: من كان مسافراً فوظيفته القصر، فلو صلّى قصراً ثم رجع إلى بلده والوقت باقٍ فليس عليه الإعادة؛ لأنه قد أدّى وظيفته حسب ما كان عليه من الموضوع.

وهكذا الذي صلّى في ثوب أحرز طهارته بأصالة الطهارة، فإن شرط الصلاة - وهو طهارة الثوب - كان متحققاً - حيث إن أصالة الطهارة وسعت في الشرط - وبعد ذلك لو علم بالنجاسة فإن الموضوع يتبدّل فلا تصحّ الصلوات الآتية بهذا الثوب، لكن صلاته السابقة صحيحة؛ لأنها كانت مع شرطها.

ص: 388


1- وسائل الشيعة 8: 227.

ما هو شرطه أو شطره[1]، كقاعدة الطهارة أو الحلية - بل واستصحابهما[2] في وجهٍ قويٍ[3] - ونحوها[4] بالنسبة[5] إلى كل ما اشترط بالطهارة أو الحلية، يجزئ[6]، فإن[7] دليله يكون حاكماً على دليل الاشتراط، ومبيناً[8] لدائرة الشرط، وأنه[9] أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية، فانكشاف الخلاف فيه[10] لا يكون موجباً لانكشاف فقدان العمل لشرطه، بل بالنسبة إليه[11] يكون من قبيل ارتفاعه[12] من حين ارتفاع الجهل.

-------------------------

[1] أي: شرط التكليف أو جزء التكليف، والمراد شرط أو جزء متعلّق التكليف.

[2] الفرق أن قاعدة الطهارة والحلية في ما لم يعلم الحالة السابقة، وأما استصحابهما ففي ما كانت الحالة السابقة هي الطهارة والحلية.

[3] وهو كون الاستصحاب أصلاً عملياً، لا أمارة كاشفة عن الواقع، وأما لو قلنا: إنّه أمارة فيدخل في النحو التالي.

[4] أي: نحو قاعدة الطهارة والحلية واستصحابهما، كقاعدة الفراغ والتجاوز وقاعدة الصحة، وسائر الأصول العملية التي لها نظر إلى الواقع.

[5] متعلق بقاعدة الطهارة والحلية واستصحابهما.

[6] قوله: «يجزي» خبر (أن) في قوله: (أن ما كان منه في تنقيح... الخ).

[7] هذا عِلة الإجزاء، «دليله» أي: دليل الأمر الظاهري.

[8] عطف تفسيري لتوضيح الحكومة، أي: الدليل الظاهري ناظر إلى دليل اشتراط الطهارة مثلاً فيوسّعه.

[9] أيضاً عطف تفسيري، «أنه» أن الشرط.

[10] أي: في الشرط، بأن صلّى بذلك الثوب ثم تبيّن عدم طهارته واقعاً - مثلاً - .

[11] أي: بل انكشاف الخلاف بالنسبة إلى الشرط.

[12] أي: ارتفاع الشرط؛ وذلك لتبدل الموضوع، كما مر في مثال المسافر

ص: 389

وهذا بخلاف ما كان منها[1] بلسان أنه[2] ما هو الشرط واقعاً - كما هو لسان

-------------------------

والحاضر، فلو حضر المسافر لا تبطل صلاته التي صلاّها في السفر قصراً؛ لأنه قد أداها بشرطها، لكن من حين حضوره يجب عليه التمام في الصلوات الآتية.

وكذلك من صلّى بأصالة الطهارة، فلو تبيّن نجاسة الثوب لا تبطل تلك الصلاة، بل هي صحيحة؛ لأنه أداها بشرطها - وهي الطهارة الظاهرية - لكن من حين العلم يتبدل الموضوع، ففي الصلوات الآتية لا يتمكن من الصلاة بنفس ذلك الثوب، بل لابد من تطهيره.

ب - ما كان بلسان الكشف عن الواقع

كالأمارات، فتارة نقول بطريقيّتها فلا إجزاء.

وتارة أخرى نقول بسببيّتها ففي مرحلة الثبوت تكون الصور أربعة، كالصور التي مرت في إجزاء الأمر الاضطراري، وأما إثباتاً فالإطلاق المقامي يدل على الإجزاء.

وتارة ثالثة نشك فنتيجة الأصل عدم الإجزاء.

1 - بناءً على الطريقيّة

[1] أي: من الأوامر الظاهرية، كالأمارات والطرق التي هي كاشفة عن الواقع، فإن الشارع لم يجعل في موردها حكماً ظاهرياً، فلو قامت البينة على طهارة الثوب مثلاً فبناءً على الطريقيّة لا إجزاء؛ لعدم جعل حكم ظاهري كي يتوسع الشرط بهذا الجعل، وحينئذٍ يبقى الشرط كما هو، أي: إن الشرط هو الطهارة الواقعية فقط، فمع انكشاف الخلاف يتبيّن أن الصلاة كانت فاقدة للشرط فتكون باطلة؛ لأن المشروط عدم عند عدم شرطه.

[2] «أنه» أي: الموضوع - وهو الشرط أو الجزء - «ما» موصولة، والمعنى بخلاف الأوامر الظاهرية التي تكون كاشفة عن الواقع، ولا تجعل حكماً ظاهرياً.

ص: 390

الأمارات، فلا يجزئ، فإن[1] دليل حجيته حيث كان بلسان أنه[2] واجد لما هو شرطه الواقعي، فبارتفاع الجهل ينكشف أنه لم يكن كذلك، بل كان لشرطه فاقداً.

هذا[3] على ما هو الأظهر الأقوى في الطرق والأمارات[4] من أن حجيتها ليست بنحو السببية[5].

وأما بناءً عليها[6] -

-------------------------

[1] هذا دليل عدم الاجزاء، وحاصله: إن الأمارة لا توسّع الشرط، بل لسانها هو أن هذا الذي دلّت عليه الأمارة هو الواقع، وحينئذٍ فيبقى الشرط هو نفس الشرط الواقعي، ثم بعد انكشاف خطأ الأمارة يتبيّن أن العمل كان فاقداً لشرطه، فيكون باطلاً، «حجيته» الضمير يرجع إلى الموصول في (ما كان منها...).

[2] «أنّه» أن الفعل الذي أتي به المكلّف، «شرطه» شرط الفعل، «أنه» أن الفعل، «كذلك» واجداً للشرط.

[3] عدم الإجزاء في الأمارات والطرق.

[4] الفرق بينهما اصطلاحاً هو أن (الطرق) في الأحكام الشرعية كخبر الواحد، و(الأمارات) في موضوعاتها كالبينة.

[5] بل على نحو الطريقيّة، بأن لا تُوجِد الأمارة مصلحة أخرى في متعلّق التكليف، وسيأتي تفصيل بحث الطريقية والسببيّة في المقصد السادس من مقاصد الكتاب - في الجزء الثالث من هذا الشرح - .

2 - بناءً على السببيّة

[6] أي: بناء على السببيّة، فهنا تارة يكون البحث في مقام الثبوت، وأخرى في مقام الإثبات.

أما مقام الثبوت فالصور أربعة، نظير الصور التي مرت في الأمر الاضطراري، فالمصلحة التي حدثت بسبب قيام الطريق إما تكون وافية بتمام مصلحة الواقع، فلا إشكال في الإجزاء.

ص: 391

وأن العمل[1] بسبب أداء أمارة إلى وجدان شرطه أو شطره يصير حقيقةً صحيحاً كأنه[2] واجد له مع كونه فاقده - فيجزئ لو كان الفاقد معه[3] في هذا الحال كالواجد في كونه وافياً بتمام الغرض؛ ولا يجزئ[4] لو لم يكن كذلك، ويجب الإتيان بالواجد[5]

-------------------------

وإما أن تفي ببعض مصلحة الواقع مع كون ما تبقى ملزماً مع إمكان استيفائه فلا إجزاء.

وإما أن تفي ببعضها مع عدم كون ما تبقى ملزماً، فلا إشكال في الإجزاء مع استحباب الإعادة أو القضاء.

وإما أن تفي بالبعض مع كون ما تبقي ملزماً ولا يمكن استيفاؤه، فلا إشكال في الإجزاء مع عدم جواز البدار.

وقد مرّ تفصيل الصور في بحث الاضطراري، فراجع.

[1] عطف تفسيري لبيان معنى السببيّة، والمعنى أنه بسبب قيام الأمارة تحدث مصلحة في ذلك العمل، «إلى» متعلق ب- (أداء) «يصير...» خبر (أنّ)، «حقيقة» أي: في الواقع.

[2] أي: كأن العمل واجد لذلك الشرط أو الجزء مع أنه فاقده؛ وذلك بسبب حدوث مصلحة في المؤدّى.

[3] هذا إشارة إلى الصورة الأولى، «له» للشرط أو الجزء، «هذا الحال» أي: حال قيام الأمارة أو الطريق.

[4] عدم الإجزاء في الصورة الثانية فقط، «كذلك» أي: لم يكن وافياً بتمام الغرض.

[5] هذا نتيجة عدم الإجزاء، «الواجد» للشرط أو الجزء، «الباقي» من غرض المولى، «إن وجب» أي: كان الباقي بمقدار واجب الاستيفاء.

ص: 392

لاستيفاء الباقي إن وجب،وإلاّ[1] لاستحب. هذا[2] مع إمكان استيفائه، وإلاّ[3] فلا مجال لإتيانه - كما عرفت في الأمر الاضطراري - .ولا يخفى[4] أن قضية إطلاق دليل الحجية على هذا[5] هو الاجتزاء بموافقته أيضاً.

هذا في ما إذا أحرز أن الحجية بنحو الكشف والطريقية أو بنحو الموضوعية والسببية.

وأما إذا شك[6]

-------------------------

[1] هذه الصورة الثالثة، أي: وإن لم يجب استيفاء الباقي، «لاستحب» أي: استحب الإتيان بالواجد مرة أخرى.

[2] أي: وجوب أو استحباب الاستيفاء، «استيفائه» أي: استيفاء ما تبقى من الغرض.

[3] هذه الصورة الرابعة، أي: وإن لم يكن مجال لاستيفاء الباقي، «لإتيانه» أي: الإتيان بالواجد للشرط والجزء. هذا كله في مقام الإثبات.

[4] هذا في مقام الإثبات بناء على السببيّة، وحاصله: إن لأدلة حجية الأمارات إطلاقاً، فإنه لو وجبت الإعادة أو القضاء كان من اللازم بيانهما، فعدم بيانهما دليل على عدم الحاجة إليهما، وهو معنى الإجزاء.

[5] بناء على السببيّة، «بموافقته» أي: موافقة الأمر الظاهري، «أيضاً» كإطلاق دليل الأمر الاضطراري.

3 - لو شك في الطريقية والسببيّة

[6] أي: لو شككنا بأن الأمارة طريقية كي لا تُجزي عند انكشاف الخلاف، أم أنها سببيّة كي تجزي، فحينئذٍ نتكلم تارة في الإعادة، وأخرى في القضاء.

أما بالنسبة إلى الإعادة: فأصالة اشتغال الذمة بالتكليف جارية، بمعنى أن المكلّف علم بثبوت التكليف الواقعي في ذمته، ولم يعلم بسقوطه حينما عمل بمقتضى الأمارة، فاستصحاب بقاء التكليف مُحَكَّم.

ص: 393

ولم يحرز أنها على أي الوجهين[1]، فأصالةُ[2] عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف مقتضيةٌ للإعادة في الوقت.

واستصحاب[3]

-------------------------

[1] أي: لم يحرز أن الأمارة طريقية أم سببيّة.

[2] وهذا هو استصحاب بقاء التكليف في الذمة، «بما» أي: بفعل، «معه» الضمير للموصول، أي: مع ذلك الفعل.

[3] هذا دفع لتوهم أن (أصالة عدم الإتيان بالمسقط) معارضة باستصحاب آخر، وهو: إن التكليف الواقعي لم يكن فعلياً حين قيام الأمارة على خلافه، فنستصحب عدم فعليته حين انكشاف خطأ الأمارة، ومقتضى ذلك الإجزاء؛ إذ لا يجب امتثال التكليف غير الفعلي.

ويرد عليه: أن هذا أصل مثبت، والأصل المثبت ليس بحجة.

أما الكبرى - وهي عدم حجية الأصل المثبت - فسيأتي دليلها مفصلاً في تنبيهات الاستصحاب.

وأما معنى الأصل المثبت: فهو الأصل العملي الذي يُراد به إثبات اللوازم العقلية والعادية، كما لو استصحبنا حياة زيد فأردنا بذلك إثبات نبات اللحية في وجهه، أو استصحبنا بقاء أحد الضدين لإثبات عدم ترتب آثار الضد الآخر.

وأما الصغرى - وهي كون الاستصحاب المعارض هنا من الأصل المثبت - فلأن استصحاب عدم فعلية التكليف لازمه العقلي إجزاء ما أتى به مطابقاً للأمارة.

وبعبارة أخرى: إن إجزاء الصلاة في الثوب النجس، الذي قامت البينة على طهارته عن الصلاة في الثوب الطاهر، ليس هذا الإجزاء بحكم الشارع؛ إذ لا يوجد دليل شرعي على ذلك، بل هذا الإجزاء بحكم العقل؛ لأن التكليف بالصلاة في الثوب الطاهر إذا لم يكن فعلياً كان لازمه عقلاً عدم لزوم الإتيان به؛ لأن العقل يستقل بعدم لزوم الإتيان بالتكليف غير الفعلي.

ص: 394

عدم كون التكليف بالواقع فعلياً في الوقت[1] لا يجدي[2]، ولا يثبت كون ما أتى به مسقطاً، إلاّ على القول بالأصل المثبت، وقد علم[3] اشتغال ذمته بما يشك[4] في فراغها عنه بذلك المأتي.

وهذا بخلاف[5]

-------------------------

وعليه فإن استصحاب عدم فعلية التكليف لازمه العقلي هو الإجزاء، وهذا أصل مثبت.

[1] لأن كلامنا الآن حول الإعادة، وأما القضاء فسيأتي الحديث عنه.

[2] هذا ردّ للاستصحاب المذكور، وقوله: (ولا يثبت...) بيان سبب عدم فائدة هذا الاستصحاب، «مسقطاً» للتكليف الواقعي وهذا هو الإجزاء.

[3] أي: مع عدم جريان الاستصحاب الثاني، لأجل كونه أصلاً مثبتاً، يبقى الاستصحاب الأول سليماً عن المعارض، وهو يقتضي بقاء الذمة مشغولة بالتكليف الواقعي.

[4] «بما» أي: بتكليفٍ - هو التكليف الواقعي - ، «فراغها» أي: الذمة، «عنه» الضمير للموصول، أي: عن ذلك التكليف الواقعي، «بذلك المأتي» الذي أتى به طبقاً للأمارة.

[5] هذا بيان للفارق بين ما نحن فيه حيث يجري اشتغال الذمة، وبين الأمر الاضطراري وكذا الأمر الظاهري بناء على السببيّة حيث تجري براءة الذمة في الشرط أو الجزء.

وبعبارة أخرى: لو قامت أمارة - لا نعلم بطريقيتها أو سببيّتها - على شرط أو جزء، وعمل المكلف بحسبها، ثم انكشف الخلاف في الوقت، فحينئذٍ تجب الإعادة؛ للعلم باشتغال الذمة وأصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف.

وأما في المأمور به بالأمر الاضطراري أو الأمر الظاهري بناء على السببية،

ص: 395

ما إذا علم أنه[1] مأمور به واقعاً، وشك في أنه يجزئ عما هو المأمور به الواقعي الأولي - كما في الأوامر الاضطرارية أو الظاهرية، بناءً[2] على أن يكون الحجية على نحو السببية - فقضيةُ الأصل فيها[3] - كما أشرنا إليه[4] - عدم وجوب الإعادة، للإتيان[5] بما اشتغلت به الذمة يقيناً،

-------------------------

فحينئذٍ لا تجب الإعادة؛ لأصالة براءة الذمة عن الوجوب.

والسؤال: ما هو الفرق بين الموردين؟

والجواب: هو أن ما نحن فيه تعلّق التكليف بالواقع، فبانكشاف الخلاف نشك في سقوطه، فالاستصحاب يقتضي بقاءه.

وأما في الاضطراري والظاهري السببي فقد تعلّق التكليف بهما واقعاً لا بالاختياري، وبعد ارتفاع الاضطرار أو كشف الخلاف نشك في تعلّق التكليف بالاختياري لتجب الإعادة في الوقت، فأصل البراءة عن التكليف الجديد بالاختياري.

[1] «أنه» أن ما قامت عليه الأمارة، «واقعاً» أي: حكم واقعي ثانوي، كما لو شك في إجزاء الصلاة مع التيمم عن الصلاة بالوضوء.

[2] «بناءً» قيد للظاهرية، أي: الأوامر الظاهرية بناءً على القول بالسببيّة.

[3] أي: في الاضطرارية والظاهرية بناءً على السببيّة.

[4] في بحث الأمر الاضطراري حيث قال المصنف: وإلاّ فالأصل وهو يقتضي البراءة من إيجاب الإعادة.

[5] علة عدم وجوب الإعادة؛ لأن الذمة لم تشتغل بالصلاة مع الوضوء مثلاً، بل اشتغلت بالصلاة مع التيمم، وقد أدّى هذا التكليف قطعاً، ثم بعد رفع الاضطرار هل اشتغلت الذمة بإعادة الصلاة بالوضوء؟ لا يقين بذلك، فالأصل البراءة.

ص: 396

وأصالة عدم فعلية التكليف الواقعي[1] بعد رفع الاضطرار وكشف الخلاف.

وأما القضاء[2] فلا يجب، بناءً على أنه فرض جديد، وكان الفوتُ المعلّق عليه

-------------------------

وهكذا الكلام في الأمر الظاهري بناءً على السببيّة.

والحاصل: إنه قد أدّى التكليف الذي اشتغلت به الذمة، وأما التكليف الواقعي الأوّلي فلا يقين باشتغال الذمة به، فالأصل البراءة عنه.

وبعبارة أخرى: إن ما اشتغلت به الذمة قد أدّاه قطعاً، وما لم يؤدّه لم يُعلم اشتغال الذمة به.

[1] أي: الواقعي الأولي، كالصلاة بالوضوء.

[2] كان كلامنا في الأمارة مع انكشاف خطئها، وقد ذكرنا أنه على الطريقيّة لا إجزاء، وعلى السببيّة يثبت الإجزاء، ولو شك في أنها طريقيّة أو سببيّة فالأصل يقتضي وجوب الإعادة في الوقت، وهذا كلّه قد مرّ الحديث عنه.

و الآن يتم البحث عن القضاء في خارج الوقت - مع الشك في السببيّة أو الطريقيّة - .

وحاصل الكلام المصنف: إن القضاء منوط بأمور ثلاثة، إذا اجتمعت لم يجب القضاء، وإن لم يتحقق واحد منها وجب القضاء:

1- كون القضاء بأمر جديد، بمعنى أن الأمر بالصلاة في الوقت يسقط بخروج الوقت، وأما قضاؤها فلقيام دليل آخر عليه؛ فلذا لا يجب قضاء الفرائض الموقتة إذا فات وقتها، إلاّ إذا دلّ دليل على وجوب القضاء.

أمّا لو كان القضاء بنفس الأمر السابق، فنفس الأمر السابق يدل على وجوب القضاء حيث لم يأت بمتعلقه.

2- أن يكون الأمر الجديد بالقضاء معلّقاً على عنوان (الفوت) لا على (عدم الإتيان)، لأنه لو كان معلقاً على عدم الإتيان لوجب استصحابه، أي: نستصحب عدم الإتيان، فيجب القضاء، أما لو كان معلّقاً على الفوت فلا يمكن الاستصحاب؛

ص: 397

وجوبه[1] لا يثبت بأصالة عدم الإتيان إلاّ على القول بالأصل المثبت، وإلاّ[2] فهو واجب[3]، كما لا يخفى على المتأمل، فتأمل جيداً.

-------------------------

لأنه أصل مثبت؛ لأن الفوت ليس له حالة سابقة، بل الحالة السابقة هي عدم الإتيان، فاستصحاب عدم الإتيان لازمه العقلي الفوت، فلا يجري هذا الاستصحاب.

3- أن يكون (الفوت) أمراً وجودياً؛ لأنه لو كان أمراً عدمياً لكان نفس (عدم الإتيان).

والحاصل: إنه لو قلنا: إنّ القضاء بأمر جديد وإنه معلّق على الفوت وإن الفوت أمر وجودي فحينئذٍ لا يجب القضاء.

وأما لو قلنا: إنّ القضاء بنفس الأمر الأول، أو قلنا: إنه معلّق على عدم الإتيان، أو قلنا: إنه معلّق على الفوت لكن الفوت أمر عدمي، فحينئذٍ يجب القضاء.

[1] «عليه» على الفوت، «وجوبه» وجوب القضاء.

[2] أي: إن لم يكن القضاء بفرض جديد، وكان القضاء معلقاً على عدم الإتيان، أو كان معلقاً على الفوت مع كونه أمراً وجودياً.

[3] أي: فالقضاء واجب.

الأمر الثاني: الأمر الظاهري المتعلق بأصل التكليف

كل ما مرّ من كون الدليل بلسان الحكومة، أو بلسان الكشف عن الواقع، سواء على الطريقية أم السببية أم مع الشك فيهما، كل ذلك كان يرتبط بالبحث في الأمر الأول، وهو الأمر الظاهري الذي تعلّق بالجزء أو الشرط.

وكلامنا الآن في ما لو تعلق الأمر الظاهري بنفس التكليف، كما لو قام الدليل على وجوب الجمعة في عصر الغيبة، ثم انكشف خطؤه وأن الواجب الظهر مثلاً.

وحينئذٍ فلا إجزاء إن قلنا بالطريقيّة؛ وذلك لعدم تحقق غرض المولى، كما مرّ

ص: 398

ثم إن هذا كله في ما يجري في متعلق التكاليف[1] من الأمارات الشرعية والأصول العملية.

وأما ما يجري في إثبات أصل التكليف - كما إذا قام الطريق أو الأصل على وجوب صلاة الجمعة يومها في زمان الغيبة، فانكشف بعد أدائها وجوب صلاة الظهر في زمانها[2] - فلا وجه لإجزائها مطلقاً[3]؛ غاية الأمر أن تصير صلاة الجمعة فيها أيضاً ذاتَ مصلحة لذلك[4]؛ ولا ينافي هذا[5] بقاء صلاة الظهر على ما هي

-------------------------

نظيره في الأمر الأول.

وكذلك لا إجزاء إن قلنا بالسببيّة؛ وذلك لأن قيام الأمارة يُحدث مصلحة في متعلقها، وهذا لا ينافي بقاء مصلحة الواقع على حالها، والوصول إلى إحدى المصلحتين لا يلازم سقوط المصلحة الأخرى، ففي مثال صلاة الجمعة فإن قيام الدليل الظاهري على وجوبها في عصر الغيبة يكون سبباً لحدوث مصلحة فيها، ولكن مع بقاء مصلحة الواقع في الظهر، فلذا مع تبيّن خطأ الأمارة يجب عليه إعادة الصلاة ظهراً أو قضاؤها، وهذا معنى عدم الإجزاء.

نعم، يستثنى من ذلك ما لو قام الدليل على عدم وجوب الجمع بينهما، كأن يقوم الدليل على عدم وجوب صلاتين لوقت واحد، فمع صحة الجمعة - في المثال - تسقط الظهر، لأجل هذا الدليل الخاص.

[1] أي: الجزء أو الشرط، «من الأمارات...» بيان للموصول في قوله: (في ما يجري).

[2] زمان الغيبة، «لإجزائها» أي: صلاة الجمعة.

[3] أي: سواء قلنا بالطريقية أم بالسببية، «غاية الأمر» بناءً على السببيّة، «فيها» في زمان الغيبة، «أيضاً» كصلاة الظهر.

[4] أي: لأجل قيام الطريق أو الأصل العملي.

[5] أي: حدوث مصلحة في صلاة الجمعة لا ينافي بقاء مصلحة الواقع في صلاة الظهر، «من المصلحة» بيان للموصول في (على ما هي عليه).

ص: 399

عليه من المصلحة كما لا يخفى، إلاّ[1] أن يقوم دليلٌ بالخصوص على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد.

تذنيبان الأول[2]: لا ينبغي توهم الإجزاء في القطع بالأمر في صورة الخطأ[3]،

-------------------------

[1] استثناء من عدم المنافاة، والمعنى قد يدل الدليل الخاص على المنافاة، وبالنتيجة فحيث كانت صلاة الجمعة - في المثال - صحيحة وذات مصلحة فلا يبقى مجال لصلاة الظهر.

التذنيب الأول: عدم الإجزاء مع القطع

[2] حاصله: إن المكلّف لو قطع بتكليف أو قطع بجزء أو شرط ثم تبيّن خطأ قطعه، فلا إجزاء عن الواقع؛ وذلك لأنه لا يوجد أمر ظاهري في حالة القطع، بل مجرد تنجيز إن أصاب، وتعذير إن أخطأ، كما أن المكلّف لم يمتثل الأمر الواقعي، فلا وجه حينئذٍ للإجزاء.

وبعبارة أخرى: إن الإجزاء إنما هو لموافقة الأمر الظاهري أو موافقة الأمر الواقعي، وفي حالة القطع لا يوجد أمر أصلاً - لا واقعي، ولا ظاهري - كما أنه لم يمتثل الأمر الواقعي.

نعم، يستثنى من ذلك ما لو كان (المقطوع به) في حالة القطع مشتملاً على مصلحة الواقع، أو مشتملاً على مقدار من مصلحة الواقع مع عدم إمكان تدارك الباقي، وقد مرّ تفصيل هذه الصور في إجزاء الأمر الاضطراري، ومثاله: ما لو صلّى المسافر تماماً وهو جاهل بحكم القصر، أو جهر في موضع الإخفات أو العكس جهلاً أو نسياناً، فحيث قام الدليل الخاص على صحة الصلاة في هذه الصور الثلاث اكتشفنا قيام المصلحة في (المقطوع به) - كلّها أو جزء منها مع عدم إمكان تدارك الباقي - .

[3] أما في صورة الصواب فلا إشكال في الإجزاء؛ لأنه امتثل الأمر الواقعي.

ص: 400

فإنه[1] لا يكون موافقة للأمر فيها، وبقي الأمر[2] بلا موافقة أصلاً، وهو أوضح من أن يخفى.

نعم[3]، ربما يكونُ ما قطع بكونه مأموراً به مشتملاً على المصلحة في هذا الحال[4]، أو على مقدارٍ منها[5] ولو في غير الحال[6] غير[7]

-------------------------

[1] فإن الإجزاء «للأمر» لا الظاهري ولا الواقعي، وعِلة الإجزاء هي موافقة الأمر، «فيها» في صورة الخطأ.

[2] أي: الأمر الواقعي، «أصلاً» لا موافقة حقيقية، ولا موافقة ظاهرية.

[3] بيان لحالة الاستثناء، «ما قطع» بالخطأ «بكونه» الضمير للموصول «على المصلحة» أي: تمامها.

[4] أي: في حال القطع، والمعنى أن المصلحة في المقطوع به خاصة بحالة القطع؛ لأنه لو كانت المصلحة على كل حال للزم التخيير بين هذا وبين متعلق الأمر الواقعي، ففي مثال تمام المسافر لو كانت مصلحة التمام مطلقة حتى في غير حالة القطع لكان اللازم تخيير المسافر بين التمام والقصر مطلقاً، لكن من الواضح أن مصلحة التمام منحصرة في حالة القطع بكونه الوظيفة.

[5] أي: إن (المقطوع به) مشتمل على جزء من المصلحة في كل الحالات، لكن مع عدم إمكان استيفاء باقي المصلحة، ولم يكن تخيير بينهما؛ لأن ما تبقى من المصلحة لازمة.

وحينئذٍ ففي حالة القطع قد أتى بالمقطوع به، وحصل على جزء من المصلحة مع عدم إمكان استيفاء الباقي، فلابد من الإجزاء عقلاً.

[6] أي: ولو في غير حالة القطع.

[7] «غير» مبتدأ، و«استيفاء الباقي...» خبره، والجملة وصف ل- (المقدار)، والمعنى أو على مقدار من المصلحة ذلك المقدار موصوف بأنه مع استيفائه لا يمكن استيفاء الباقي.

ص: 401

ممكن مع استيفائه[1] استيفاء الباقي منها، ومعه[2] لا يبقى مجال[3] لامتثال الأمر الواقعي، وهكذا الحال[4] في الطرق. فالإجزاء[5] ليس لأجل اقتضاء امتثال الأمر القطعي أو الطريقي للإجزاء، بل إنما هو[6] لخصوصية اتفاقية في متعلقهما، كما في الإتمام والقصر[7] والإخفات والجهر[8].

الثاني[9]: لا يذهب عليك أن الإجزاء في بعض موارد الأصول والطرق

-------------------------

[1] أي: مع استيفاء ذلك المقدار من المصلحة، «منه» من المصلحة.

[2] أي: مع اشتمال (المقطوع به) على تمام المصلحة أو على جزء منها.

[3] لتحقق الغرض منه، ومع تحقق الغرض يسقط الأمر، أو لتحقق جزء من الغرض مع عدم إمكان تحقق ما تبقى منه، فالتكليف يسقط أيضاً.

[4] أي: عدم الإجزاء مع خطأ الطريق كخبر الواحد، إلاّ لو كان متعلق الطريق مشتملاً على تمام مصلحة الواقع - في حال قيام الطريق - أو كان مشتملاً على جزء منه مع عدم إمكان استيفاء الباقي.

[5] أي: لو دلّ الدليل على الإجزاء فليس لأجل أن العمل بالقطع أو الطريق سبب للإجزاء، بل لأجل الاشتمال على المصلحة أو على جزء، منها مع عدم إمكان تدارك الباقي، «للإجزاء» متعلق ب- (اقتضاء).

[6] أي: الإجزاء، «متعلقهما» متعلق القطع أو الطريق.

[7] المراد كما لو أتمّ المسافر بدلاً عن القصر جهلاً بالحكم، أما في صورة العكس فلا إجزاء، وكذا لا إجزاء في صورة النسيان والغفلة.

[8] أي: الإخفات في موضع الجهر أو العكس، سواء كان جهلاً أم نسياناً أم غفلة، للنص الخاص الكاشف عن اشتماله على تمام مصلحة الواقع أو جزء منها، مع عدم إمكان تدارك الباقي.

التذنيب الثاني: الفرق بين الإجزاء والتصويب

[9] حاصله: إن قد يتوهم أن الإجزاء هو التصويب الباطل، وعدم الإجزاء

ص: 402

والأمارات[1] - على ما عرفت تفصيله - لا يوجبُ التصويب المجمع على بطلانه[2] في تلك الموارد، فإن الحكم الواقعي بمرتبته[3]

-------------------------

هو التخطئة، فإن عدم الإجزاء هو مقتضى بقاء الواقع، وأما الإجزاء فهو مقتضى عدم بقاء الواقع.

والإشكال عليه: إن التصويب الباطل هو خلوّ الواقعة عن الحكم الواقعي، وأن ما أدّى إليه رأي المجتهد يصير حكماً واقعياً. وهذا يخالف الإجزاء الذي معناه وجود الحكم الواقعي، لكنه يسقط مع تحقق الغرض منه عبر امتثال الحكم الظاهري أو الاضطراري.

وبعبارة أخرى: إن الحكم الواقعي موجود بناء على الإجزاء، لكنه يسقط بالعمل طبقاً للأصل أو الإمارة، وهذا غير التصويب الذي معناه عدم وجود الحكم الواقعي أصلاً.

[1] «الأصول» العملية، و«الطرق» الأدلة على الأحكام الشرعية، و«الأمارات» الأدلة على الموضوعات.

[2] لأن للتصويب معاني متعددة، والمعنى الذي أجمعت الشيعة على بطلانه هو (خلوّ الواقعة عن الحكم) بأن يصير ما أفتى به المجتهد حكماً واقعياً، فلو اختلف المجتهدون صارت جميع فتاواهم المتناقضة أحكاماً واقعية!!

[3] وهي المرتبة الإنشائية، وهذا دفع للتوهم، وبيانه: إنه على الإجزاء لا تخلو الواقعة عن الحكم، بل الحكم بمرتبة الإنشاء موجود، لكن لا يصل الحكم إلى مرتبة الفعلية؛ لعدم قيام دليل عليه؛ وذلك لأن للحكم مراحل: الاقتضاء، أي: وجود الملاك فيه، ثم الإنشاء، أي: صدور الحكم من المولى، ثم الفعلية، أي: تحقق شرائطه ورفع موانعه، ثم التنجز، أي: وصوله إلى العبد بحيث يجب العمل على طبقه ويعاقب على تركه.

ص: 403

محفوظٌ فيها[1]، فإن الحكم المشترك بين العالم والجاهل والملتفت والغافل ليس إلاّ الحكم الإنشائي المدلول عليه بالخطابات المشتملة على بيان الأحكام للموضوعات بعناوينها الأولية بحسب[2] ما يكون فيها من المقتضيات، وهو[3] ثابت في تلك الموارد كسائر موارد الأمارات[4].

-------------------------

وغير خفيّ أنه مع قيام الأمارات والطرق على خلاف الواقع لا يكون التكليف الواقعي فعلياً، سواء انكشف الخلاف بعد ذلك أم لم ينكشف.

والقائل بالإجزاء لا ينكر وجود الحكم الإنشائي الواقعي، بل يقول بعدم فعليته حين قيام الأمارة أو الطريق، ويقول بسقوطه حين تحقق غرضه، أو جزء من غرضه مع عدم إمكان تدارك الباقي، فالحاصل أن القائل بالإجزاء يعترف بوجود الحكم الإنشائي في مورد الإجزاء، منتهى الأمر يقول بعدم فعليته وسقوطه بعد العمل طبقاً للأمارة أو الأصل، وهذا يفترق بوضوح عن التصويب، الذي هو عدم وجود الحكم - حتى الإنشائي منه - .

[1] في موارد الأصول والطرق والأمارات، «فإن الحكم» أي: الواقعي، والمعنى أن الحكم الواقعي على الجميع ليس الحكم بمرتبته الفعلية، بل الحكم بمرتبته الإنشائية.

[2] أي: بيان الأحكام للموضوعات لأجل وجود الملاك في ذلك الحكم؛ لأن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، «فيها» في الموضوعات، «المقتضيات» وهي ملاكات الأحكام.

[3] أي: الحكم الإنشائي، «تلك الموارد» التي أخطأت فيها الأصول أو الطرق أو الأمارات.

[4] التي أصابت الواقع، والمراد أن الحكم الإنشائي موجود على كل حال، سواء أصابت تلك الأدلة الواقع أم أخطأت.

ص: 404

وإنما المنفي فيها[1] ليس إلاّ الحكم الفعلي البعثي، وهو منفي في غير موارد الإصابة وإن لم نقل بالإجزاء. فلا فرق[2] بين الإجزاء وعدمه إلاّ في سقوط التكليف بالواقع بموافقة الأمر الظاهري وعدم سقوطه بعد انكشاف[3] عدم الإصابة. وسقوط[4] التكليف بحصول غرضه أو لعدم إمكان تحصيله غير التصويب المجمع على بطلانه - وهو[5] خلو الواقعة عن الحكم غير ما أدت إليه

-------------------------

[1] أي: في موارد الإجزاء، «الفعلي البعثي» أي: الحكم بمرتبته الفعلية، «وهو» الحكم الفعلي، ومراده أن الحكم الفعلي غير موجود، سواء قلنا بالإجزاء أم قلنا بعدم الإجزاء؛ لأنه لا وجه لفعلية الحكم مع عدم قيام دليل شرعي عليه، بل مع قيام الدليل الشرعي على خلافه؛ لأن معنى فعلية الحكم هو وجوب العمل على طبقه، ومن لا يعلم بالحكم أو قام دليل شرعي على خلافه فهو معذور، ولا يجب عليه العمل طبقاً للواقع.

[2] بعد أن تبين أن الحكم الإنشائي موجود مطلقاً، سواء قلنا بالإجزاء أم بعدمه، وأنه مع خطأ الدليل لا يوجد الحكم الفعلي مطلقاً أيضاً. بعد ذلك يتبيّن أن الإجزاء لا يساوي التصويب، وإنما الفرق بين الإجزاء وعدمه أنه على الإجزاء يسقط ذلك الحكم الإنشائي؛ لتحقق غرضه أو جزء منه، مع عدم إمكان تدارك الباقي، وأنه على عدم الإجزاء لا يسقط ذلك الحكم الإنشائي.

[3] أي: السقوط وعدم السقوط إنما هو بعد هذا الانكشاف.

[4] «سقوط» مبتدأ، و«غير التصويب» خبره، «غرضه» أي: تمام الغرض من التكليف، «أو لعدم...» أي: السقوط بسبب حصول جزء من الغرض مع عدم إمكان تحصيل الباقي.

[5] بيان للتصويب المجمع على بطلانه، حيث قالوا: إنه لا حكم واقعي، وأنه حينما تقوم الأمارة يصير متعلقها هو الحكم الواقعي.

ص: 405

الأمارة -. كيف[1]! وكان الجهل بها بخصوصيتها[2] أو بحكمها[3] مأخوذاً في موضوعها[4]، فلابد من أن يكون الحكمُ الواقعي بمرتبته[5] محفوظاً فيها، كما لا يخفى.

فصل في مقدمة الواجب. وقبل الخوض في المقصود ينبغي رسم أمور:

الأمر الأول[6]: الظاهر أن المهم المبحوث عنه في هذه المسألة البحث عن الملازمة

-------------------------

[1] هذا توضيح لما سبق ببيان آخر، وحاصله: إن موضوع الدليل الشرعي أو ظرفه هو الجهل بالحكم الواقعي، فلابد أن يكون هناك حكم شرعي واقعي حتى يجهل به الإنسان، وهذا بخلاف التصويب الذي معناه عدم وجود الحكم الواقعي أصلاً، «كيف» أي: كيف يكون الإجزاء هو التصويب؟

[2] بخصوصية الواقعة، وهذا في الشبهة الموضوعية، أي: مع العلم بالحكم ولكن مع الشك في الموضوع، كما لو تردد المائع بين كونه خمراً أو خلاّ، مع العلم بحرمة الخمر وحليّة الخلّ.

[3] هذا في الشبهة الحكمية، أي: مع الجهل بالحكم حتى لو علم بالموضوع، كما لو تردد في طهارة العصير العنبي إذا غلى ولم يذهب ثلثاه، فالموضوع معلوم لكن الحكم مجهول.

[4] في موضوع الأصول والطرق والأمارات، ففي الأصول كان الجهل جزءاً من الموضوع، وفي الطرق والأمارات كان الجهل ظرفاً لها.

[5] وهي مرتبة الإنشاء، «فيها» في الأصول والطرق والأمارات.

فصل في مقدمة الواجب

المقصد الأول في الأوامر، فصل في مقدمة الواجب
اشارة

[6] يتضمن هذا الأمر بحثان: الأول: في كون هذه المسألة أصولية، والثاني: في كونها عقلية.

ص: 406

بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته، فتكون مسألة أصولية. لا عن نفس وجوبها[1] - كما هو المتوهم من بعض العناوين(1) - كي تكون فرعية. وذلك لوضوح أن البحث كذلك[2] لا يناسب الأصولي؛ والاستطراد لا وجه له بعد إمكان أن يكون البحث على وجهٍ تكون من المسائل الأصولية.

ثم الظاهر أيضاً[3] أن المسألة عقلية، والكلام في استقلال العقل بالملازمة وعدمه[4]. لا لفظية - كما ربما يظهر من صاحب المعالم[5] حيث استدل على النفي

-------------------------

أما كونها أصولية فلأن ضابط المسألة الأصولية هو (صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام... الخ)، كما مرّ عن المصنف في أول الكتاب، في تعريف علم الأصول.

وهذا الضابط ينطبق على مسألة مقدمة الواجب؛ لأن البحث فيها عن (الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته)، وهذه الملازمة تقع في طريق الاستنباط، فنقول: هذه مقدمة الواجب، وهناك تلازم بين وجوب الشيء ووجوب مقدمة، فهذه المقدمة واجبة.

[1] أي: ليس البحث عن وجوب المقدمة لتكون مسألة فقهية؛ لأن ضابط المسألة الفقهية هو ما كان من عوارض فعل المكلّف، والوجوب يعرض على فعله؛ وذلك لأنه مع إمكان بحثها أصولية لا وجه لجعل البحث فقهياً.

[2] أي: عن نفس الوجوب.

[3] أي: كما أنها أصولية لا فقهية، كذلك هي بحث عقلي لا لفظي، وقوله: (والكلام في...) عطف تفسيري لبيان كيفية كونها عقلية.

[4] أي: أو عدم استقلاله بالملازمة.

[5] أي: كما ربما يظهر كونها لفظية من استدلال صاحب المعالم(2)، ومن جعل

ص: 407


1- كما في تعليقة السيد القزويني على القوانين: 99.
2- معالم الدين: 60.

بانتفاء الدلالات الثلاث، مضافاً[1] إلى أنه ذكرها في مباحث الألفاظ -، ضرورة أنه[2]

-------------------------

المسألة في مباحث الألفاظ.

أما استدلاله: فإنه استدل على عدم وجوب المقدمة بانتفاء الدلالات الثلاث - المطابقيّة، والتضمينة، والالتزامية - مثلاً: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ}(1) لا يدل على وجوب مقدمة الحج - كالزاد والراحلة - فليس معنى الآية وجوبها، ولا هذا الوجوب جزء المعنى، ولا أنّه لازم أو ملازم للمعنى.

ثم لا يخفى أن الفرق بين الملازمة اللفظية والملازمة العقلية هي أن الملازمة اللفظية ما كانت من (البين بالمعنى الأخص) أي: تصوّر أحد الطرفين يكفي في انتقال الذهن إلى ملازمته مع الآخر، إما عقلاً كالعمى والبصر، وإما عرفاً كالجود وحاتم.

وأما لو كان من (البين بالمعنى الأعم) وهو ما احتاج إلى تصور الطرفين لكي ينتقل الذهن إلى الملازمة، أو كان من (غير البيّن) وهو أن لا ينتقل الذهن إلى الملازمة حتى لو تصوّر الطرفين، بل يحتاج إلى فكر، فحينئذٍ لا تكون الملازمة لفظية، بل عقلية.

ومن الواضح أنه من تصور دليل وجوب الحج - مثلاً - لا ينتقل الذهن إلى وجوب مقدماته.

[1] هذا وجه آخر يُعلم منه أن صاحب المعالم كان يرى أن المسألة لفظية، وهو أنه بحثها في مباحث الألفاظ.

[2] «أنه» للشأن، وهذا دليل عدم كون المسألة لفظية، وحاصله: إن هناك إشكالاً في أصل الملازمة ثبوتاً، ومع الإشكال في مرحلة الثبوت لا مجال للبحث في مرحلة الإثبات.

ص: 408


1- سورة آل عمران، الآية: 97.

إذا كان نفس الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ثبوتاً محل الإشكال فلا مجال لتحرير النزاع في الإثبات والدلالة عليها[1] بإحدى الدلالات الثلاث، كما لا يخفى.

الأمر الثاني: إنه ربما تقسم المقدمة إلى تقسيمات:

منها[2]: تقسيمها إلى الداخلية - وهي الأجزاء المأخوذة في الماهية المأمور بها - والخارجية وهي الأمور الخارجة عن ماهيته مما لا يكاد[3] يوجد بدونه.

-------------------------

مثلاً: لو كان هناك إشكال في إمكان الشيء فلابد من البحث في الإمكان وعدمه، ولا معنى للبحث في أن اللفظ هل يدل على ذلك الشيء أم لا؟

[1] أي: الدلالة اللفظية على الملازمة.

الأمر الثاني: في تقسيمات المقدمة
1 - المقدمة الداخلية والخارجية
اشارة

[2] أما المقدمة الداخلية: فهي الأجزاء التي تكون داخلة في ماهية المركب، كالركوع والسجود في الصلاة.

وأما المقدمة الخارجية: فهي ما كانت خارجة عن ماهية المركب، ولكن يتوقف وجود المركب عليها، كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة.

ولا يخفى أن هذا التقسيم باعتبار كيفية دخل المقدمة في ذي المقدمة.

[3] أي: لا يمكن وجود ذلك المركب إلاّ إذا وجدت تلك المقدمات، كالشرط والمقتضي ونحوهما، «يوجد» المركب، «بدونه» أي: بدون تلك الأمور، وتذكير الضمير باعتبار رجوعه إلى الموصول.

ثم إن هاهنا بحثين:

البحث الأول: في إمكان المقدمة الداخلية وعدم إمكانها.

والبحث الثاني: بعد فرض إمكانها فهل يمكن تعلق الوجوب المقدّمي بها أم لا؟

ص: 409

وربما يشكل(1)[1]

في كون الأجزاء مقدمة له[2] وسابقة عليه بأن المركب ليس إلاّ نفس الأجزاء بأسرها.

والحل[3]: إنّ المقدمة هي نفس الأجزاء بالأسر[4]، وذا المقدمة هو الأجزاء بشرط الاجتماع، فيحصل المغايرة[5] بينهما.

-------------------------

البحث الأول: في إمكان المقدمة الداخلية

[1] على المقدمة الداخلية، وحاصله: إن لازم كون الأجزاء مقدمة هو تقدم الشيء على نفسه؛ وذلك لأن المركب هو نفس الأجزاء، فكيف تكون الأجزاء مقدمة له، مع وضوح أن المقدمة سابقة على ذي المقدمة؟ مضافاً إلى أن الأجزاء كيف يتعلق بها وجوبان، أحدهما نفسي حيث إنها المركب، والآخر غيري لأنها مقدمة؟

[2] «له» للواجب، وقوله: (وسابقة عليه) عطف تفسيري؛ إذ كل مقدمة سابقة على ذي المقدمة، «بأن المركب...» بيان للإشكال.

[3] جواب الإشكال: هو أن للأجزاء اعتبارين، فبأحدهما كانت ذي المقدمة، وبالاعتبار الآخر كانت مقدمة.

بيانه: إن الجزء قد يلاحظ (لا بشرط عن الاجتماع) فيكون مقدمة، وقد يلاحظ (بشرط الاجتماع) فيكون ذا المقدمة، فتكون المقدمة سابقة على ذي المقدمة رتبة.

وبعبارة أخرى: إن هنا جهتين: إحداهما سابقة على الأخرى في الرتبة. فقد عرض الاجتماع على الإجزاء، فالأجزاء بذاتها متقدمة على الأجزاء بصفة اجتماعها.

[4] أي: كلها، حال كونها (لا بشرط) عن الاجتماع.

[5] في الرتبة، وهي مغايرة اعتبارية، وذلك كافٍ لمقدميّة الأجزاء.

ص: 410


1- هداية المسترشدين 2: 164.

وبذلك[1] ظهر أنه لابد في اعتبار الجزئية أخذ الشيء بلا شرط، كما لابد في اعتبار الكلية من اعتبار اشتراط الاجتماع.

وكونُ[2] الأجزاء الخارجية - كالهيولى والصورة[3] - هي الماهية المأخوذة بشرط لا، لاينافي ذلك[4]، فإنه إنما يكون في مقام الفرق[5] بين نفس الأجزاء الخارجية والتحليلية - من الجنس والفصل - وأن الماهية[6] إذا أخذت بشرط لا، تكون هيولى

-------------------------

[1] أي: بما ذكرناه من وجه التغاير بين المقدمة الداخلية وبين ذيها ظهر الفرق بين الجزء والكل، فالجزء هو لا بشرط عن الاجتماع، والكل هو بشرط الاجتماع.

[2] هذا إشكال، وحاصله: إن أهل المعقول ذكروا أن الأجزاء الخارجية أخذت (بشرط لا)، فكيف تقولون بأن الأجزاء أخذت (لا بشرط)؟

والجواب: إن قولهم هو (بشرط لا عن الحمل)، وقولنا هو (لا بشرط عن الاجتماع)، فلا تنافي بين القولين، بل كل واحد من جهة غير جهة الآخر.

[3] «الهيولى» هي المادة الجسميّة، و«الصورة» حالة تلك المادة.

[4] أي: لا ينافي ما ذكرناه من أن الأجزاء أخدت (لا بشرط)، «فإنه» أي: فإن كلام أهل المعقول.

[5] فهناك أجزاء خارجية هي المادة والصورة، وأجزاء تحليلية عقلية هي الجنس والفصل، فما هو الفرق بينهما؟

مثلاً: الإنسان خارجاً مركب من جسم وصورة، وعقلاً مركب من الحيوان والناطق، فالفرق هو عدم صحة الحمل في الأجزاء الخارجية، فلا يصح أن نقول: الإنسان صورة أو الإنسان مادة، وصحة الحمل في الأجزاء التحليلية العقلية بأن نقول: الإنسان حيوان أو الإنسان ناطق.

[6] بيان للفرق، «بشرط لا» عن الحمل، «أخذت» الماهية.

ص: 411

أو صورة، وإذا أخذت لا بشرط تكون جنساً أو فصلاً، لا بالإضافة[1] إلى المركب، فافهم[2].

ثم لا يخفى[3] أنه ينبغي خروج الأجزاء عن محلّ النزاع[4] - كما صرح به بعض(1) -. وذلك لما عرفت من كون الأجزاء بالأسر عين المأمور به ذاتاً، وإنما كانت

-------------------------

[1] أي: فليس كلام أهل المعقول في جهة الاجتماع، أي: (لا بشرط عن الاجتماع) و(بشرط لا عن الاجتماع).

[2] لعله إشارة إلى ضعف الجواب حيث قال: (والحلّ أن المقدمة هى... الخ)؛ وذلك لأن المقدميّة أمر خارجي وليس أمراً اعتبارياً، فلا يرتبط باللحاظ بأن نلاحظ الأجزاء بشرط لا أو لا بشرط، ومن المعلوم أن قيد الاجتماع ليس أمراً خارجياً، بل هو أمر انتزاعي.

البحث الثاني: في عدم وجوب المقدمة الداخلية
اشارة

[3] بعد أن أثبت المصنف إمكان المقدمة الداخلية، يأتي الكلام في أنه هل يمكن تعلّق الوجوب المقدّمي بها أم لا؟

يقول: إنه لا يمكن تعلّق الوجوب المقدّمي الغيري بالمقدمة الداخلية؛ لاستلزامه اجتماع وجوبين وهو محال؛ لأنه من اجتماع المثلين.

بيانه: إن الوجوب المتعلّق بالكل هو وجوب نفسي، وحيث إن الكل هو نفس الأجزاء فإن هذا الوجوب يتعلق بكل الأجزاء، فهي واجبة بوجوب نفسي ضمني، فالوجوب المتعلق بالصلاة هو وجوب كل جزء من الأجزاء ضمناً، فإذن كل جزء هو واجب بوجوب نفسي ضمني، فلا يعقل تعلّق الوجوب المقدّمي الغيري به، فإنه من اجتماع المثلين.

[4] النزاع في ملازمة وجوب ذي المقدمة مع وجوب نفس المقدمة أو عدم الملازمة، «وذلك» خروجها عن محل النزاع.

ص: 412


1- هداية المسترشدين 2: 165.

المغايرة بينهما اعتباراً[1]، فتكون[2] واجبة بعين وجوبه، ومبعوثاً إليها[3] بنفس الأمر الباعث إليه، فلا تكاد تكون واجبة بوجوب آخر[4]، لامتناع اجتماع المثلين، ولو قيل[5]

-------------------------

[1] وهو ملاحظة قيد الانضمام أو عدم الانضمام.

[2] أي: فتكون الأجزاء واجبة بنفس وجوب الكل، وبعبارة أخرى: الوجوب النفسي الذي تعلّق بالصلاة ينبسط على الأجزاء، فتكون واجبة بوجوب ضمني.

[3] العطف تفسيري، «إليها» إلى الأجزاء، «إليه» إلى المأمور به وهو الكل.

[4] وهو الوجوب المقدمي، وسبب ذلك امتناع اجتماع وجوبين - نفسي وغيري - على متعلّق واحد؛ لأنه من اجتماع المثلين، وهو محال.

[5] وحاصل الإشكال: إنه في بحث اجتماع الأمر والنهي لو قلنا بكفاية تعدد الجهة في رفع اجتماع الضدين، نقول مثل ذلك في ما نحن فيه بأن تعدد الجهة يرفع اجتماع المثلين.

بيانه: إنهم اختلفوا في إمكان اجتماع الأمر والنهي، مثلاً: لو صلّى في المغصوب، فعمله مأمور به لأنه صلاة، ومنهي عنه لأنه غصب، فقال جمع: إنه محال؛ لأنه اجتماع الضدين في محلّ واحد، وقال آخرون: بإمكانه وأنه ليس من اجتماع الضدين لتعدد الجهة، فالعمل من جهة كونه صلاة مأمور به، ومن جهة كونه غصباً منهي عنه.

وعلى مبنى هؤلاء يمكن أن نقول في ما نحن فيه: إنّ الأجزاء من جهة كونها نفس الكل فهي واجبة بوجوب نفسي، ومن جهة كونها مقدمة للكل فهي واجبة بوجوب غيري.

وحاصل الجواب: إن المسوّغ لاجتماع الأمر والنهي هو تعدد العنوان، وهذا التعدد غير موجود في ما نحن فيه؛ لأن الواجب هناك هو عنوان الصلاة، والحرام هو عنوان الغصب، فاجتمع العنوانان في محل واحد، وأما الواجب الغيري هنا فليس

ص: 413

بكفاية تعدد الجهة وجواز اجتماع الأمر والنهي معه[1]، لعدم[2] تعددها هاهنا، لأن الواجب بالوجوب الغيري - لو كان - إنما هو نفس الأجزاء، لا عنوان مقدميتها[3] والتوسل[4] بها إلى المركب المأمور به، ضرورة[5] أن الواجب بهذا الوجوب ما كان بالحمل الشائع مقدمةً[6]، لأنه[7] المتوقف عليه، لا عنوانها.

-------------------------

عنوان المقدمة، بل هو ذات المقدمة وهي نفس الأجزاء، فليس لنا إلاّ عنوان واحد وهو الصلاة، فلم يتعدد العنوان كي نقول بإمكان اجتماع وجوبين.

[1] أي: إمكان اجتماعهما مع تعدد الجهة.

[2] هذا جواب الإشكال، «تعددها» الجهة، «هنا» في الأجزاء.

[3] لأن وجوب ذي المقدمة يترشح على الوجود الخارجي للمقدمة، لا لعنوان مقدميتها، مثلاً: بعد وجوب الحج فإن توقفه على الزاد والراحلة يكون سبباً لترشح هذا الوجوب عليهما بما هما وجودان يتوقف عليهما الحج، لا على عنوانهما المنتزع عنهما؛ لأن الحج لا يتوقف على العنوان، بل على نفس الوجود الخارجي للزاد والراحلة.

[4] عطف تفسيري على (عنوان مقدميتها).

[5] هذا دليل أن الواجب الغيري ليس عنوان المقدمية، «بهذا الوجوب» الوجوب الغيري المقدمي.

[6] أي: مصداق المقدمة، لا مفهومها، مثلاً: نقول: زيد بالحمل الشائع إنسان، أي: زيد مصداق الإنسان مع اختلاف مفهوم الكلمتين، والحاصل: إن المقدمة بالمعنى الشائع هي مصداق المقدمة، والمقدمة بالحمل الأولى الذاتي هي مفهوم المقدمة.

[7] أي: لأن ما كان بالحمل الشائع مقدمة - أي: مصداق المقدمة - هو الذي يتوقف عليه وجود ذي المقدمة، لا على عنوان المقدمية.

ص: 414

نعم[1]، يكون هذا العنوان علة لترشّح الوجوب على المعنون.

فانقدح بذلك[2] فساد توهم اتصاف كل جزء من أجزاء الواجب بالوجوب النفسي والغيري باعتبارين، فباعتبار كونه في ضمن الكل واجب نفسي، وباعتبار كونه مما يتوسل به إلى الكل واجب غيري.

اللهم إلاّ أن يريد[3] أن فيه ملاك الوجوبين، وإن كان واجباً بوجوب واحد[4] نفسي، لسبقه، فتأمل[5].

-------------------------

[1] أي: عنوان المقدميّة (حيثٌ تعليلي) لا(حيثٌ تقيدي) بمعنى أن سبب وجوب المصداق هو كونه مقدمة، لكن الوجوب لم يتعلق بهذا العنوان، مثلاً: سبب وجوب الزاد والراحلة هو كونهما مقدمة للحج، ولم ينصبّ الوجوب الغيري على عنوان مقدميّة الزاد والراحلة، بل على نفسهما.

[2] أي: بما ذكرناه من امتناع اجتماع المثلين، وأن العنوان غير متعدد.

[3] أي: يريد القائل باتّصاف الأجزاء بوجوبين، والمعنى أنه يرى وجود ملاك الوجوبين مع إنشاء أحدهما فقط؛ إذ لا تنافي بين الملاكات، فيمكن أن يكون لشيء ملاكات وجوبات متعددة لكن لا يمكن إلاّ إنشاء وجوب واحد، «فيه» في الجزء.

[4] أي: ما صدر من المولى وجوب واحد وهو الوجوب النفسي، مثلاً: لمّا أمر المولى بالصلاة فهذا الوجوب ينبسط على كل الأجزاء، فلكل جزء وجوب نفسي ضمني.

[5] قال المصنف في الهامش: (وجهه أنه لا يكون فيه أيضاً ملاك الوجوب الغيري، حيث إنه لا وجود له غير وجوده في ضمن الكل يتوقف على وجوده، وبدونه لا وجه لكونه مقدمة كي يجب بوجوبه أصلاً، كما لا يخفى. وبالجملة: لا يكاد يُجدي تعدد الاعتبار الموجب للمغايرة بين الأجزاء والكل في هذا الباب، وحصول ملاك الوجوب الغيري المترشح من وجوب ذي المقدمة عليها لو قيل

ص: 415

هذا كله في المقدمة الداخلية.

وأما المقدمة الخارجية، فهي ما كان خارجاً عن المأمور به[1] وكان له[2] دخل في تحققه، لا يكاد يتحقق بدونه. وقد ذكر لها[3] أقسام، وأطيل الكلام في تحديدها[4]

-------------------------

بوجوبها، فافهم)(1)،

انتهى.

وحاصل كلامه: هو الإشكال على هذا التوجيه، فإنه لابد من تعدد وجود المقدمة وذي المقدمة حتى يتوقف أحدهما على الآخر، ومن المعلوم أن الأجزاء ليس لها إلاّ وجود واحد، وتعدد الاعتبار أمر ذهني يرتبط بالانتزاع عن هذا الوجود الواحد، فلا يكون سبباً لتعدد الوجود.

المقدمة الخارجية

[1] أي: عن حقيقته وماهيته، فالزاد والراحلة - مثلاً - ليسا من ماهية الحج، وإنما يتوقف تحقق الحج خارجاً عليهما.

[2] الضمير يرجع إلى الموصول في (ما كان خارجاً...)، «تحققه» أي: تحقق المأمور به، فلا يمكن تحقق المأمور به بدون ذلك الأمر الخارج عن الماهية.

[3] الضمير للموصول المراد به المقدمة الخارجية، «أقسام» كالمقتضي، والمُعدّ، والشرط، وعدم المانع، والعلة التامة.

[4] ففسروا (المقتضي) بأنه هو السبب الذي يؤثر في تحقق الشيء إن لم يكن مانع، كالنار في الإحراق.

و(المعدّ) بأنه ما يوجب التهيّؤ من غير أن يكون سبباً للشيء، كالزاد والراحلة في الحج.

و(الشرط) بأنه ما له تأثير في تحقق الشيء بحيث يلزم من عدمه العدم، ولكن لا يلزم من وجوده الوجود، كالوضوء للصلاة.

ص: 416


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 456.

بالنقض والإبرام، إلاّ أنه غير مهم في المقام[1].

ومنها[2]: تقسيمها إلى العقلية والشرعية والعادية.

فالعقلية: هي ما استحيل واقعاً[3] وجود ذي المقدمة بدونه.

والشرعية - على ما قيل(1) - : ما استحيل وجوده بدونه شرعاً[4]. ولكنه

-------------------------

و(عدم المانع) أي: عدم ما يمنع من تأثير المقتضي، كالرطوبة المانعة عن الإحراق.

و(العلة التامة) أي: اجتماع المقتضي والشرط والمعدّ وعدم المانع، فحينئذٍ يتحقق المعلول قهراً، بلا تأخر زماني، وإنما التأخر في الرتبة.

[1] لأن المهم هو ثبوت الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته أو عدم الملازمة، ومن المعلوم أن جميع هذه الأقسام داخلة في محل الكلام، فإن قلنا بالملازمة ثبت وجوبها أجمع لتوقف الواجب عليها، وإن قلنا بعدم الملازمة ثبت عدم وجوبها أجمع.

2 - المقدمة العقلية والشرعية والعادية

[2] وهذا تقسيم باعتبار الحاكم بالمقدميّة، فقد يكون العقل، وقد يكون الشرع، وقد يكون العادة.

[3] أي: تكويناً، سواء كانت الاستحالة ذاتية أم وقوعية، ومثاله: توقف الكون في مكان بعيد على طيّ المسافة، فإن طيّها مقدمة عقلية؛ وذلك لاستحالة الطفرة، «بدونه» أي: بدون المقدمة، وتذكير الضمير باعتبار رجوعه للموصول.

[4] أي: يستحيل وجود ذي المقدمة بدون وجود المقدمة، لكن بحكم الشرع، حيث قيّد الشارع الواجب بتلك المقدمة، كتوقف الصلاة على الطهارة.

ص: 417


1- مطارح الأنظار 1: 214.

لا يخفى[1] رجوع الشرعية إلى العقلية، ضرورة[2] أنه لا يكاد يكون مستحيلاً ذلك شرعاً إلاّ إذا أخذ فيه[3] شرطاً وقيداً، واستحالة المشروط والمقيد بدون شرطه وقيده يكون عقلياً.

وأما العادية[4]: فإن كانت بمعنى أن يكون التوقف عليها بحسب العادة - بحيث يمكن تحقق ذيها بدونها إلاّ أن العادة جرت على الإتيان به بواسطتها[5] - فهي وإن

-------------------------

[1] هذا إشكال على اعتبار هذه المقدمة شرعية، بل هي عقلية؛ وذلك لأن العقل يستقلّ بامتناع تحقق المقيد بدون قيده، فبعد أن حكم الشارع بشرطية الوضوء للصلاة يستقلّ العقل بالمقدميّة، من ثَمَّ وجوب المقدمة بناءً على الملازمة.

[2] بيان وجه رجوع الشرعية إلى العقلية، «أنه» للشأن، «مستحيلاً» خبر (يكون)، «ذلك» اسم (يكون)، أي: وجود ذي المقدمة بدون المقدمة.

[3] أي: أخذ وجود المقدمة في وجود ذي المقدمة، والعطف في (شرطاً وقيداً) تفسيري.

[4] أي: ما كان التوقف بحكم العادة، فما هو المراد من العادة؟

1- إن كان المراد ما جرت عادة الناس عليه من غير توقف وجود ذي المقدمة عليه، كتوقف الخروج من الدار على لبس النعل وارتداء الثوب، فهذا ليس توقفاً حقيقياً كي يتوهم ترشح وجوب ذي المقدمة على هذه الأمور.

2- وإن كان المراد ما يقابل الاستحالة الذاتية، كتوقف الصعود على السطح على نصب السُلّم ونحوه، فإن الكون على السطح من غير نصب سلم ليس محالاً ذاتياً؛ لعدم استلزامه اجتماع النقيضين، وإنما هو محال عادي، أي: لوجود قوانين الجاذبية وثقل الجسم لا يمكن الطيران، فحينئذٍ ترجع المقدمة العادية إلى المقدمة العقلية.

[5] أي: الإتيان بذي المقدمة بواسطة تلك المقدمات العادية، «فهي» فالمقدمة العادية بهذا المعنى.

ص: 418

كانت غير راجعة إلى العقلية[1] إلاّ أنه[2] لا ينبغي توهم دخولها في محل النزاع.

وإن كانت[3] بمعنى أن التوقف عليها وإن كان فعلاً واقعياً - كنصب السلم ونحوه للصعود على السطح - إلاّ أنه[4] لأجل عدم التمكن عادةً من الطيران الممكن عقلاً، فهي أيضاً راجعة إلى العقلية، ضرورة[5] استحالة الصعود بدون مثل النصب عقلاً لغير الطائر فعلاً[6]، وإن كان طيرانه ممكناً ذاتاً، فافهم[7].

-------------------------

[1] لاستقلال العقل بعدم التوقف.

[2] هذا إشكال على المقدمة العادية بالمعنى الأول، «أنه» للشأن.

[3] إن كانت المقدمة العادية بالمعنى الثاني، «عليها» على هذه المقدمة، و«فعلاً» كلمة معترضة، أي: في ظرف عدم القدرة على غيرها، و«واقعياً» خبر (كان).

وحاصل المعنى: إنه إن كان معنى العادية هو أن التوقف عليها واقعي تكويني لكن ذلك التوقف لأجل عدم القدرة على غيرها، كتوقف الصعود على السطح على نصب السُلَّم لأجل عدم القدرة على الطيران، فهذا يرجع إلى العقلية.

[4] أن التوقف التكويني، «الممكن» ذلك الطيران، «عقلاً» بالذات لعدم استلزامه اجتماع النقيضين. نعم، هو غير ممكن وقوعاً.

[5] بيان كيفية رجوعها إلى العقلية، وحاصله: إن الاستحالة العقلية قد تكون استحالة ذاتية، وقد تكون استحالة وقوعية.

[6] حتى لو كان طائراً شأناً، أي: يمكن تغيّر قوانين الجاذبية وثقل الجسم؛ فحينئذٍ يمكن طيران الإنسان بغير آلة.

[7] لعلّه إشارة إلى أن المقصود من هذا التقسيم ليس مرحلة الثبوت حيث ترجع الشرعية وكذا العادية بالمعنى الثاني إلى العقلية، بل المقصود هو مرحلة الإثبات، فقد يدرك العقل الاستحالة الذاتية - أي: يستحيل ذاتاً وجود ذي المقدمة بدون وجود المقدمة - فهذه هي المقدمة العقلية، وقد يدرك العقل الاستحالة الوقوعية

ص: 419

ومنها[1]: تقسيمها إلى مقدمة الوجود ومقدمة الصحة ومقدمة الوجوب ومقدمة العلم.

لا يخفى[2] رجوع مقدمة الصحة إلى مقدمة الوجود - ولو على القول بكون الأسامي

-------------------------

فهذه هي العادية، وقد لا يدرك العقل التوقف وإنما يكشف عنه الشرع فهذه هي الشرعية.

3- مقدمة الوجود والصحة والوجوب والعلم

[1] (مقدمة الوجود) هي ما يتوقف عليها وجود الواجب خارجاً، كطي المسافة للحج، وهذه قد تُسمّى مقدمة الواجب أيضاً.

و(مقدمة الصحة) هي ما يتوقف عليها صحة الواجب، كالوضوء للصلاة.

و(مقدمة الوجوب) هي ما يتوقف عليها وجوب الواجب، ولولاها لما كان واجباً، كالاستطاعة للحج.

و(مقدمة العلم) هي ما يتوقف عليها العلم بوجود الواجب خارجاً، كالصلاة إلى الجهات الأربع حين اشتباه القبلة.

ولا يخفى أن محل البحث هو الأول - أي: مقدمة الوجود - فقط، وسائر الأقسام خارجة عن محل البحث، كما سيتضح.

[2] بيان لخروج مقدمة الصحة عن محل البحث، فإنه:

1- إن قلنا بوضع الألفاظ للصحيح فلا وجود للشيء إلاّ إذا كان صحيحاً، مثلاً: إن وُجدت الطهارة تحققت الصلاة الصحيحة، فتحقق الوجود والصحة، وإن لم توجد الطهارة فلا وجود ولا صحة للصلاة، إذن فمقدمة الصحة هي مقدمة للوجود دائماً.

2- وإن قلنا بوضع الألفاظ للأعم فالواجب هو الصلاة الصحيحة، لا المسمّى بالصلاة، وكلامنا هنا في ترشح الوجوب من ذي المقدمة إلى المقدمة، فمُسمّى

ص: 420

موضوعة للأعم - ، ضرورة[1] أن الكلام في مقدمة الواجب لا في مقدمة المسمى بأحدها، كما لا يخفى.

ولا إشكال في خروج مقدمة الوجوب[2] عن محل النزاع، وبداهة[3] عدم اتصافها بالوجوب من قِبَل الوجوب المشروط بها.

وكذلك[4] المقدمة العلمية وإن استقل العقل بوجوبها إلاّ

-------------------------

الصلاة ليس بواجب كي تجب مقدمته، وإنما الواجب خصوص الصلاة الصحيحة، وعليه فصارت مقدمة الصحة هي مقدمة لوجود الصلاة الصحيحة؛ التي انصبّ الوجوب عليها.

وبعبارة أخرى: الطهارة وإن لم تكن مقدمة لوجود مسمى الصلاة لكنها مقدمة لوجود الصلاة الصحيحة، ومن المعلوم أن الصلاة الصحيحة هي الواجبة، فنبحث حينئذٍ عن ترشح الوجوب إلى مقدمتها.

والحاصل: إنه يرجع شرط الصحة إلى شرط الوجود أيضاً.

[1] بيان وجه رجوع شرط الصحة إلى شرط الوجود حتى على القول بالأعم.

[2] كالاستطاعة للحج، فإنه قبل تحقق الاستطاعة لا وجوب للحج كي يترشح الوجوب منه إلى مقدمته. وبعد تحقق الاستطاعة يجب الحج، لكن لا يترشح منه وجوب إلى الاستطاعة؛ لأنه من طلب الحاصل.

[3] عطف على (خروج مقدمة...) أي: ولا إشكال في بداهة عدم...، «اتصافها» أي: المقدمة، «من قِبَل» أي: بالوجوب الغيري الناشئ عن ترشح الوجوب من ذي المقدمة إلى المقدمة «بها» بتلك المقدمة كالاستطاعة.

[4] أي: في خروجها عن محل البحث؛ وذلك لأن كلامنا هنا في ترشح الوجوب من ذي المقدمة إلى المقدمة، وهو وجوب مولوي، وليس هذا سبباً في وجوب المقدمة العلمية، وإنما لوجوبها سبب آخر، وهو أن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينيّة، وهذا وجوب إرشادي.

ص: 421

أنه[1] من باب وجوب الإطاعة إرشاداً ليؤمن من العقوبة على مخالفة الواجب المنجّز، لا مولوياً من باب الملازمة وترشّح[2] الوجوب عليها من قبل وجوب ذي المقدمة.

ومنها[3]: تقسيمها إلى المتقدم والمقارن والمتأخر بحسب الوجود[4] بالإضافة إلى ذي المقدمة[5].

وحيث[6]

-------------------------

وبعبارة أخرى: إن وجوب المقدمة العلمية ليس لأجل الملازمة، وترشح الوجوب عليها من وجوب ذي المقدمة، بل وجوبها لاستقلال العقل بوجوب إفراغ الذمة من التكليف اليقيني.

[1] «أنّه» أن استقلال العقل بوجوبها، «وجوب الإطاعة» أي: وجوب امتثال أمر المولى يقيناً، «إرشادا» بيان أن هذا الوجوب إنما هو إرشادي لا مولوي، «ليؤمن» وجه كونه إرشادياً.

[2] «وترشح» عطف تفسيري على (الملازمة)، «عليها» على المقدمة.

4- المقدمة المتقدمة والمقارنة والمتأخرة
اشارة

[3] وهذا تقسيم باعتبار الزمان، أي: زمان تحقق المقدمة وزمان تحقق ذي المقدمة، فالمتقدمة: كالوضوء للصلاة - بناءً على أن الوضوء هو الغسلتان والمسحتان - والمتقارنة: كالستر والاستقبال في الصلاة، والمتأخرة: كأغسال المستحاضة ليلاً، حيث إنها شرط صحة صوم اليوم السابق عند بعض الفقهاء.

[4] لا بالمرتبة ونحوها، فالكلام في التقدم والتأخر والتقارن الزماني، بأن يكون وجود أحدهما أسبق زمانا من الآخر، أو متقارناً معه، أو متأخرا عنه.

[5] أي: وجود المقدمة بالنسبة إلى وجود ذيها، والحاصل: إن هذا التقسيم إنما هو باعتبار زمان وجود المقدمة، وزمان وجود ذي المقدمة.

إشكال على الشرط المتأخر والمتقدم

[6] هذا بيان لإشكال معروف على الشرط المتأخر، ثم يُعمّم المصنف الإشكال

ص: 422

إنّها كانت من أجزاء العلة - ولابد من تقدمها[1] بجميع أجزائها على المعلول - أشكل الأمر[2] في المقدمة المتأخرة، كالأغسال الليلية[3] المعتبرة في صحة صوم المستحاضة عند بعض(1)، والإجازة في صحة العقد على الكشف كذلك(2)[4]؛

-------------------------

إلى الشرط المتأخر أيضاً، وحاصله: إنه لابد من تقارن العلة والمعلول زماناً؛ وذلك لأن العلة لو كانت سابقة زماناً أو متأخرة، فإمّا تؤثر في المعلول، أو لا تؤثر، ولازم الأول تأثير المعدوم وهو محال، ولازم الثاني عدم تأثير العلة وهو خلف.

وعليه فلابد من تقارن العلة - بكلّ أجزائها - مع المعلول، ومن أجزاء العِلة الشرط، فكيف يمكن تصور الشرط المتأخر؟

[1] أي: حيث إن المقدمة من أجزاء العلة - وتلك الأجزاء هي وجود المقتضي والشرط وعدم المانع - فلابد من تقدمها رتبة وتقارنها زماناً، أما تقدمها رتبة فلأنه لو لا التقدم الرتبي لما كانت العلة أولى من المعلول في التأثير فيه، وأما تقارنها زماناً فلما عرفت من أنه يستحيل تأثير المعدوم في الموجود.

[2] شروع في بيان الإشكال.

[3] فإن وظيفة المستحاضة الكثيرة هو الغسل كل يوم ثلاث مرات قبل الصلوات، فمرة قبل صلاة الفجر، وأخرى قبل الظهرين، وثالثة قبل العشاءين، هذا إذا جمعت بين الظهرين والعشاءين، ولو فرّقت وجب عليها خمسة أغسال.

ثم إن هذه الأغسال شرط في صحة صومها أيضاً، وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أنّ الغسل ليلاً شرط صحة صومها في اليوم الماضي، فلو صامت إلى الليل ثم لم تغتسل الغسل الليلي بطل صومها السابق.

[4] أي: عند بعض الفقهاء، فالأقوال ثلاثة في ما لو باع الفضولي شيئاً ثم أجاز المالك، وهي:

ص: 423


1- السرائر 1: 407؛ شرائع الإسلام 1: 197.
2- كتاب المكاسب 3: 408.

بل[1] في الشرط أو المقتضي المتقدم على المشروط زماناً المتصرّم حينه[2]، كالعقد[3] في الوصية والصرف والسلم؛ بل في كل عقد[4] بالنسبة إلى غالب أجزائه، لتصرّمها

-------------------------

1- إن الإجازة ناقلة، بمعنى أن ملك المشتري يحدث من حين إجازة المالك.

2- إن الإجازة كاشفة حكماً.

3- إن الإجازة كاشفة كشفاً حقيقياً، ومعنى ذلك أن الملكية تحدث من حين البيع الفضولي، لكن بشرط أن يجيز المالك بعد ذلك، وهذا هو الشرط المتأخر، فإنه حين العقد لم يكن هذا الشرط - وهو الإجازة - موجوداً ومع ذلك أثّر في صحة العقد، فكيف يؤثر المعدوم في الموجود؟

[1] غرض المصنف تعميم الإشكال إلى الشرط المتقدم أيضاً، وكذا المقتضي المتقدم، فإنهما غير موجودين حين تحقق المعلول، فلزم تأثير المعدوم في الموجود أيضاً.

[2] أي: الزائل حين تحقق المشروط؛ لأن المتقدم إذا استمر إلى حين وجود المشروط فهو شرط مقارن لا متقدم، مثلاً: بناءً على أن الطهارة هي حالة نفسانية، فإن المتوضّي يحصل فيه ذلك النور المعنوي، وهو شرط في صحة الصلاة، وهذا النور المعنوي مستمر إلى حين الصلاة فهو متقارن معها. نعم، لو قلنا: إنّ الطهارة هي الغسلتان والمسحتان كانت شرطاً متقدماً.

[3] لأنه حين الوصية لا يتحقق الملك، بل تحصل ملكية المُوصى له بالموت، وكذا حين بيع الصرف والسلم لا تحصل الملكية، بل بالقبض، فالعقد غير متقارن مع الملكية، بل هو متقدم، و(بيع الصرف) هو بيع الدينار والدرهم، و(بيع السَلَم) هو أن يكون تسليم الثمن نقداً وتسليم البضاعة بعد ذلك بأجل، عكس النسيئة.

[4] غرضه تعميم الإشكال في جميع العقود؛ لأن الملكية لا تحصل إلاّ بإكمال الإيجاب والقبول، فلو قال البائع: (بعت) لم يحصل شيء، ثم لو قال المشتري:

ص: 424

حين تأثيره مع ضرورة[1] اعتبار مقارنتها معه زماناً. فليس إشكال انخرام القاعدة العقلية مختصاً بالشرط المتأخر في الشرعيات - كما اشتهر في الألسنة -، بل يعمّ الشرط والمقتضي[2] المتقدمين المتصرّمين حين الأثر.

والتحقيق[3] في رفع هذا الإشكال أن يقال: إن الموارد التي توهم انخرام القاعدة فيها لا يخلو: إما أن يكون المتقدم أو المتأخر شرطاً للتكليف أو الوضع، أو المأمور به.

-------------------------

(قبلت) فعند نطقه بالحروف الثلاثة الأولى - ق ب ل - لم يحصل شيء أيضاً، وإنما تحصل الملكية حين نطقه بالتاء.

فالإشكال أن كل الحروف الأولى شرط متقدم لحصول الملكية، وهي معدومة حين حصولها، فكيف أثّر المعدوم في الموجود؟

«غالب أجزائه» أي: جميع الحروف إلاّ الحرف الأخير - وهو تاء قبلتُ في المثال - «لتصرّمها» أي: انعدام تلك الأجزاء، «تأثيره» أي: تأثير العقد.

[1] أي: مع أن القاعدة العقلية المعروفة بديهيّة، وهي لزوم تقارن العلة والمعلول زماناً، «مقارنتها» مقارنة العِلة بكلّ أجزائها، «معه» مع الأثر الذي هو المعلول.

[2] قد مرّ في آخر التقسيم الأول الفرق بينهما، فالمقتضي هو السبب الذي يؤثر في تحقق الشيء إن لم يكن مانع، والشرط ماله التأثير في تحقق الشيء بحيث يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود.

الجواب عن الإشكال

[3] حاصل جواب المصنف، هو أن الشرط - باعتبار المشروط - على أقسام ثلاثة:

1- أن يكون شرطاً للتكليف.

فالمتقدم: كالاستطاعة للحج، فلا تكليف بالحج قبل الاستطاعة.

والمتأخر: كاشتراط وجوب الصوم في أول النهار بعدم السفر قبل الظهر، فلو سافر قبل الظهر كان صومه في أول النهار غير واجب.

ص: 425

أما الأول[1]: فكونُ أحدهما[2] شرطاً له[3] ليس إلاّ أن للحاظه دخلاً في تكليف الآمر، كالشرط المقارن بعينه[4]، فكما أن اشتراطه بما يقارنه ليس إلاّ أن

-------------------------

2- أن يكون شرطا للوضع - أي: للحكم الوضعي - :

فالمتقدم: كالعقد في بيع الصرف والسَلَم.

والمتأخر: كإجازة المالك في العقد الفضولي بناء على الكشف الحقيقي.

3- أن يكون شرطاً لمتعلّق التكليف - وهو المأمور به - .

فالمتقدم: كالغسل الليلي للمستحاضة بالنسبة إلى اليوم اللاحق.

والمتأخر: كغسلها ليلاً بالنسبة إلى اليوم الماضي - بناءً على رأي بعض الفقهاء(1)

- .

الأول: شرط الحكم
اشارة

[1] أي: شرط الحكم يعني حينما يشرّع المولى تكليفاً يشرّع شرطا لذلك التكليف.

وهذا الحكم تارة حكم تكليفي، وأخرى حكم وضعي، والشرط في كليهما ليس الوجود الخارجي، بل اللحاظ، وهو مقارن دائماً مع تشريع الحكم.

أ- شرط التكليف

[2] أي: المتقدم أو المتقارن.

[3] أي: للتكليف؛ وذلك لأن التكليف من الأفعال الاختيارية للمولى، فهو يحكم بوجوب شيء وبحرمة آخر وهكذا، والمولى يلاحظ (المتعلّق) بكل أجزائه وشرائطه فيشرع الحكم، فكان لحاظ ذلك الشيء شرطاً، وهذا اللحاظ متقارن لتشريع الحكم.

[4] أي: كما أن الشرط المقارن للتكليف ليس هو الوجود الخارجي للشيء، بل لحاظ ذلك الشيء، «اشتراطه» أي: اشتراط التكليف، «يقارنه» يقارن التكليف، «لتصوره» تصور ذلك المقارن، «أمره» أمر المولى الآمر.

ص: 426


1- السرائر 1: 407؛ شرائع الإسلام 1: 197.

لتصوره دخلاً في أمره بحيث لولاه[1] لما كاد يحصل له الداعي إلى الأمر، كذلك[2] المتقدم أو المتأخر.

وبالجملة: حيث كان الأمر من الأفعال الاختيارية، كان من مبادئه - بما هو كذلك[3] - تصور الشيء بأطرافه ليرغب في طلبه والأمر به، بحيث لولاه[4] لما رغب فيه، ولما أراده واختاره، فيسمى كل واحد من هذه الأطراف - التي لتصورها دخل في حصول الرغبة فيه وإرادته[5] -: «شرطاً» لأجل دخل لحاظه في حصوله، كان[6] مقارناً له أو لم يكن كذلك، متقدماً أو متأخراً، فكما في المقارن يكون لحاظه في الحقيقة شرطاً، كان فيهما[7] كذلك، فلا إشكال[8].

-------------------------

[1] أي: لو لا تصوره.

[2] أي: كالمقارن في أن الشرط هو تصوّره.

[3] أي: بما هو فعل اختياري.

[4] أي: لو لا تصور الشيء بأطرافه، وقوله: «واختاره» عطف على المنفيّ، أي: ولما اختاره.

[5] «ارادته» عطف تفسيري على (حصول الرغبة)، و«شرطاً» مفعول يُسمّى، و«لأجل» وجه تسميته بالشرط، «لحاظه» لحاظ كل واحد من الأطراف، «حصوله» حصول الرغبة وإرادة الشيء.

[6] أي: سواء كان خارجاً مقارناً أم متقدماً أم متأخراً، فليس الوجود الخارجي شرطاً للتكليف، بل شرطه هو لحاظ الآمر، «كذلك» أي: مقارناً.

[7] أي: في المتقدم والمتأخر، «كذلك» أي: اللحاظ شرط.

[8] لأن اللحاظ متقارن دائماً مع تشريع الحكم، فلا يرد إشكال تأثير المعدوم، كما عرفت تفصيله.

ولا يخفى الخلط هنا بين القضية الخارجية والقضية الحقيقية، وبين شرائط الجعل والمجعول، فراجع المفصلات.

ص: 427

وكذا الحال في شرائط الوضع[1]، مطلقاً[2]، ولو كان مقارناً، فإن دخل شيء[3] في الحكم به[4] وصحة[5] انتزاعه لدى الحاكم به[6] ليس إلاّ ما كان بلحاظه يصح انتزاعه[7]، وبدونه لا يكاد يصح اختراعه عنده، فيكون دخل كل من المقارن وغيره

-------------------------

ب - شرط الحكم الوضعي

[1] أي: كذلك في الأحكام الوضعية ليس الشرط هو المتقدم أو المتأخر زماناً، بل الشرط هو اللحاظ، وهو متقارن دائماً، مثلاً: الحكم بالملكية في العقد الفضولي مشترط بلحاظ المولى الإجازة اللاحقة، فيقول: شرّعت الملكية بهذا العقد.

[2] شرح (مطلقاً) بقوله: (ولو كان مقارناً...) أي: سواء كان الشيء متقدماً أم متأخرا أم متقارناً فليس هو الشرط، بل الشرط هو لحاظ المولى، وهذا اللحاظ مقارن دائماً.

[3] أي: إن دخل شيء في الحكم الوضعي ليس بمعنى دخل وجوده الخارجي - الذي قد يكون متقدماً أو متأخراً أو متقارناً - بل بمعنى دخل لحاظه وهو متقارن دائماً.

[4] أي: الحكم بالوضع.

[5] عطف تفسيري على (الحكم به)، ومقصوده بيان معنى الحكم الوضعي، مثلاً: لا يوجد شيء بإزاء الملكية في الخارج، وإنما الحاكم يلاحظ الشيء ويلاحظ المالك، ثم ينتزع من ذلك الشيء الملكية.

ثم اعلم أن هناك فرقاً بين الانتزاع والاعتبار، فالأمر الانتزاعي كزوجية الأربعة، والأمر الاعتباري كالملكية، ولكن حيث إنهما أمران غير متأصلين لذا يعبّر المصنف عنهما بتعبير واحد عادة.

[6] أي: بالوضع، و«ليس...» خبر (فإنّ)، و«الحاكم» هو الشارع أو العقلاء.

[7] «ما» أي: الشرط الذي، «بلحاظه» بلحاظ ذلك الشرط، «انتزاعه» انتزاع ذلك الوضع، و«بدونه» أي: بدون ذلك اللحاظ، «عنده» عند الحاكم.

ص: 428

بتصوره ولحاظه[1]، وهو مقارن. فأين انخرام القاعدة العقلية[2] في غير المقارن؟ فتأمل تعرف.

وأما الثاني[3]:

-------------------------

[1] أي: الدخل ليس بالوجود الخارجي، بل باللحاظ، والعطف بين التصور واللحاظ تفسيري.

ولكن قد ذهب البعض إلى أن التصور هو حضور صورة الشيء لدى النفس، وأما اللحاظ فهو توجه النفس إليه مضافاً إلى حضور الصورة.

ثم اعلم أن التصور إنما هو في المولى العرفي، وأما الله سبحانه فلا يعقل التصور فيه، بل هو علمه بالتوقف ثم إرادته لذلك.

[2] وهو وجوب تقارن المعلول مع جميع أجزاء العلة.

الثاني: شرط المأمور به

[3] وهو شرط (متعلَّق التكليف)، أما الأول فكان نفس الحكم، سواء كان تكليفياً أم وضعياً.

وحاصل الجواب: إن الشرط قد يكون دخيلاً في تحقق ذات المشروط، كاشتراط الاحتراق بمحاذاة النار للورق مثلاً، فهنا لابد من التقارن في وجود الشرط والمشروط خارجاً.

وقد يكون الشرط الحقيقي هو عنوان منتزع عن (إضافة خاصة)، فهذا العنوان لابدّ من أن يتقارن مع المشروط، لكن طرف الإضافة لا يشترط تقارنه، بل يمكن تقدمه أو تأخره.

مثلاً: آدم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ سابق على ذريته، والذرية لاحقة له، فيوم خلق الله آدماً لم تكن الذرية موجودة، لكن كان يصح وصف آدم بالسبق، والآن آدم غير موجود لكن يصح وصف الذرية باللحوق، وسبب ذلك أنه في تحقق الإضافة لا يشترط وجود كلا طرفي الإضافة.

فكون شيء شرطاً للمأمور به ليس إلاّ ما يحصل[1] لذات المأمور به بالإضافة إليه[2] وجهٌ وعنوانٌ به يكون حسناً[3] أو متعلقاً للغرض[4]

-------------------------

إذا اتضح ذلك يتبيّن أن (المتقدم) أو (المتأخر) ليس شرطاً حقيقة، وإنما هما طرف الإضافة، والشرط الحقيقي هو العنوان المنتزع عن

ص: 429

تلك الإضافة، وذلك العنوان مقارن دائماً.

إن قلت: إن الإضافة أمر انتزاعي، فقد يتحقق طرفها فتتحقق تلك الإضافة، وقد لا يتحقق طرفها فلا تتحقق، فكيف يرتبط (المأمور به) بتلك الإضافة؟

قلت: إن الشيء قد يكون حسناً أو قبيحاً بالوجوه والاعتبارات، و أحد تلك الوجوه والاعتبارات العنوان المنتزع عن (الإضافة الخاصة).

مثلاً: الخروج إلى خارج المدينة لا يتصف بالحسن أو بالقبح بذاته، لكن إن كان سابقاً على قدوم الحاجّ مثلاً، فإن هذه الإضافة كانت سبباً لتحقق عنوان الاحترام، وهو سبب في حُسن ذلك الخروج، أو إذا كان الخروج لاحقاً على تفشي الوباء فإنه يتصف بالحسن؛ لأن هذه الإضافة أوجبت تحقق عنوان موجب لحسنه.

ومثاله الشرعي: إن الصوم السابق على الغسل الليلي للمستحاضة يتصف بعنوان السَبق، وهذا العنوان يوجب حُسن ذلك الصوم، وهو عنوان متقارن، مع أن طرف الإضافة - أي: الغسل - متأخر.

[1] في بعض النسخ، (يُحصِّل) من باب التفعيل، وقوله: (وجهاً وعنواناً) مفعوله، وفي بعض النسخ (يَحصَل) من المجرد، و(وجهٌ وعنوانٌ) فاعله.

[2] أي: بالنسبة إلى ذلك الشيء، «به» أي: لأجل ذلك العنوان.

[3] بناء على مذهب العدلية، من أن الحسن يرتبط بالأفعال، سواء بذاتها أم لأجل الوجوه والاعتبارات.

[4] بناء على ما نُسِب إلى الاشاعرة، من عدم تبعية الأحكام للحسن والقبح، بل تبعيتها لغرض المولى، هكذا قيل.

ص: 430

بحيث لولاها[1] لما كان كذلك، واختلاف[2] الحسن والقبح والغرض باختلاف الوجوه والاعتبارات الناشئة من الإضافات[3] مما لا شبهة فيه ولا شك يعتريه. والإضافة[4] كما تكون إلى المقارن تكون إلى المتأخر أو المتقدم بلا تفاوتٍ أصلاً، كما لا يخفى على المتأمل. فكما تكون إضافة شيء إلى مقارن له[5] موجباً لكونه

-------------------------

[1] أي: لو لا الإضافة، «كذلك» حسناً أو متعلقاً للغرض.

[2] دفع لتوهم أن الحسن والقبح ذاتيان.

وجوابه: إنه قد ثبت في علم الكلام أن اتصاف الفعل بالحسن والقبح على أقسام:

منها: الحسن والقبح الذاتي، بحيث يكون ذلك الفعل علة تامة، كقبح الظلم وحسن العدل.

ومنها: الحسن والقبح بنحو الاقتضاء، بحيث يمكن أن يمنع مانع عن تحققهما، كالصدق والكذب الذي لهما اقتضاء الحسن أو القبح، لكن قد يجب الكذب انقاذاً لنفس مؤمن، أو يحرم الصدق الموجب لهلاكه.

ومنها: أن لا يكون اتصاف الشيء بهما لا بالذات ولا بنحو المقتضي، بل يرتبط بالوجوه والاعتبارات. كالنوم إن كان لحاجة البدن فهو حسن، وإن كان فراراً عن طاعة فهو قبيح.

[3] أي: من نسبة ذلك الشيء إلى أمور أخرى.

[4] أي: لا يشترط في (الإضافة) تحقق أطرافها في زمان واحد، بل يمكن تقدم أحد الأطراف وتأخر الطرف الآخر؛ وذلك لأن الإضافة أمر انتزاعي، وهو يرتبط بلحاظ نسبة الأشياء بعضها إلى البعض.

[5] كالقيام مقارناً مع قدوم زيد، حيث يتصف القيام بعنوان التعظيم، فبهذا الاعتبار - أي: باعتبار اتصافه بعنوان التعظيم - صار هذا القيام حسناً، «شيء»

ص: 431

معنوناً بعنوان يكون بذلك العنوان حسناً ومتعلقاً للغرض، كذلك إضافته[1] إلى متأخر أو متقدم، بداهة أن الإضافة إلى أحدهما ربما توجب ذلك أيضاً، فلو لا[2] حدوث المتأخر في محله[3] لما كانت للمتقدم تلك الإضافة الموجبة لحسنه الموجب لطلبه[4] والأمر به، كما هو الحال في المقارن أيضاً، ولذلك[5] أطلق عليه الشرط مثله بلا انخرام للقاعدة[6] أصلاً، لأن[7] المتقدم أو المتأخر كالمقارن ليس إلاّ طرف الإضافة[8] الموجبة

-------------------------

كالقيام في المثال، «مقارن له» كقدوم زيد، «لكونه» لكون الشيء - وهو القيام - «معنوناً» أي: متصفاً، «بعنوان» كالتعظيم، «يكون» الشيء كالقيام.

[1] أي: إضافة الشيء إلى متقدم أو متأخر قد توجب اتصافه بالحسن، «أحدهما» المتأخر أو المتقدم، «ذلك» أي: الإتصاف بالعنوان الحسن، «أيضاً» كالمتقارن.

[2] هنا يذكر المصنف خصوص الشرط المتأخر، ثم بعد ذلك يعمّم الكلام للمتقدم أيضاً.

[3] أي: في زمانه، مثلاً: لو لا الغسل الليلي لم يكن صوم اليوم السابق حسناً؛ لعدم وجود الإضافة الخاصة، وهي لحوق الصوم بالغُسل مثلاً.

[4] أي: ذلك الحسن يوجب أمر المولى بالمتقدّم؛ وذلك لتبعية الأحكام للحسن والقبح، كما هو مذهب العدلية، «طلبه» أي: طلب المتقدم.

[5] أي: لأجل أن هذه الإضافة قد توجب اتصاف الشيء بالحسن، «عليه» على المتأخر، «مثله» مثل المقارن.

[6] العقلية من استحالة تأثير المعدوم في الموجود؛ فلذا يستحيل انفكاك المعلول عن العلة.

[7] بيان وجه عدم انخرام القاعدة العقليه.

[8] فليس هو الشرط حقيقة، بل الشرط هو العنوان المنتزع من الإضافة.

ص: 432

للخصوصية الموجبة للحسن، وقد حُقّق في محلّه[1] أنه بالوجوه(1)

والاعتبارات[2]، ومن الواضح أنها[3] تكون بالإضافات. فمنشأ توهم الانخرام إطلاق الشرط على المتأخر؛ وقد عرفت[4] أن إطلاقه عليه فيه كإطلاقه على المقارن إنما يكون لأجل كونه طرفاً للإضافة الموجبة للوجه[5] الذي يكون بذاك الوجه مرغوباً ومطلوباً، كما كان[6] في الحكم لأجل دخل تصوره فيه[7] كدخل تصور سائر الأطراف والحدود التي لو لا لحاظُها[8] لما حصل له الرغبة في التكليف، أو لما صحّ عنده الوضع.

وهذه خلاصة ما بسطناه من المقال في دفع هذا الإشكال في بعض فوائدنا(2)،

ولم يسبقني إليه أحد في ما أعلم، فافهم واغتنم.

-------------------------

[1] في علم الكلام «أنه» أي: الحسن.

[2] غالباً. نعم، قد يكون حسنه ذاتياً في موارد قليلة كحسن العدل.

[3] أي: إن الوجوه والاعتبارات، «بالإضافات» أي: بملاحظة النسبة إلى أمور أخرى، فضرب اليتيم تأديباً حسن، وضربه بلا وجه قبيح - مثلاً - .

[4] بأن المتأخر ليس شرطاً في الحقيقة، «إطلاقه» أي: إطلاق الشرط، «عليه» على المتأخر، «فيه» في المأمور به، «كإطلاقه» أي: الشرط، و«إنما يكون...» خبر (أن إطلاقه...)، «كونه» كون المتأخر.

[5] أي: تكون سبباً لتحقق عنوان، «الذي يكون» الفعلُ.

[6] أي: كما أن شرط الحكم التكليفي أو الوضعي لم يكن الوجود الخارجي للشرط، بل لحاظه وتصوره، كذلك في شرط المأمور به ليس الشرط هو الوجود الخارجي للمتأخر أو المتقدم، بل الشرط هو العنوان المنتزع عن الإضافة الخاصة.

[7] أي: تصور ذلك الشيء في الحكم - تكليفياً أو وضعياً - .

[8] أي: لو لا لحاظ سائر الأطراف والحدود.

ص: 433


1- أصول الفقه 1: 229.
2- فوائد الأصول: 59-60.

ولا يخفى: أنها[1] بجميع أقسامها داخلة في محل النزاع، وبناءً على الملازمة يتصف اللاحق بالوجوب كالمقارن والسابق، إذ بدونه[2] لا يكاد تحصل الموافقة، ويكون[3] سقوط الأمر بإتيان المشروط به[4]

-------------------------

[1] بعد أن ذكر إمكان المقدمة المتأخرة والمتقدمة شرع في بيان دخولها - بكل أقسامها - في محل البحث، فإن قلنا بالملازمة بين وجوب ذي المقدمة ووجوب المقدمة كانت المقدمة - سواء متقدمة أم متأخرة أم مقارنة - واجبة، وإن لم نقل بالملازمة لم تكن المقدمة واجبة.

ثم اعلم أن الكلام إنما هو في المقدمة المرتبطة بالمأمور به، وأما المقدمة المرتبطة بالتكليف أو بالوضع فخارجة عن محل البحث... .

أما مقدمة التكليف، كالاستطاعة للحج، فلما مرّ من أنه لا وجوب للحج قبل الاستطاعة، فلا يترشح الوجوب إلى المقدمة، وبعد الاستطاعة يجب الحج لكن لا معنى لوجوب الاستطاعة حينئذٍ؛ لأنه من طلب الحاصل.

وأما مقدمة الوضع فلأن الأحكام الوضعية غير واجبة عادة، فالملكية غير واجبة حتى يترشح وجوبها إلى الإجازة التي هي مقدمتها - مثلاً - نعم، لو وجبت جرى البحث فيها أيضاً.

[2] بدون اللاحق؛ لأن اللاحق طرف الإضافة، فبدونه لا تتحقق تلك الإضافة، التي هي سبب لاتصاف الفعل بعنوان حسن، فلا يكون الفعل مصداقاً للمأمور به حينئذٍ.

[3] عطف على (يتصف اللاحق...)، أي: وبناءً على الملازمة يكون سقوط الأمر... الخ.

[4] لأن الأمر يسقط بأشياء، ومنها: الإتيان بمتعلّق الأمر، فيتحقق الغرض، فلا يعقل بقاء الأمر، كما مرّ تفصيله في بحث المرة والتكرار.

ص: 434

مراعى بإتيانه[1]، فلو لا اغتسالها في الليل - على القول بالاشتراط[2] - لما صحّ الصوم في اليوم.

-------------------------

[1] أي: بإتيان اللاحق، وقوله: (فلو لا...) مثال لما ذكره.

[2] أي: اشتراط صحة صومها في اليوم باغتسالها في الليل، «لما صحّ» لعدم كون ذلك الصوم مصداقاً للمأمور به؛ لأن المأمور به هو الصوم الذي كان طرفاً للإضافة، وهذا الصوم لم يكن طرفاً، فلم يكن مصداقاً للمأمور به.

انتهى الجزء الأوّل ويليه الجزء الثاني في بحث:

الأمر الثالث: في تقسيمات الواجب

ص: 435

ص: 436

فهرست الموضوعات

المقدمة

الأمر الأول: موضوع علم الأصول وتعريفه... 9

1- موضوع العلوم... 10

2 - مسائل العلوم... 13

3 - تمايز العلوم... 15

4 - موضوع علم الأصول... 17

أولاً: القول بأن السنة لاتشمل الخبر... 20

دفاع الشيخ الأعظم... 20

الإشكال على دفاع الشيخ... 21

إشكال وجوابه... 22

ثانياً: القول بأن السنة تشمل الخبر... 23

5 - تعريف علم الأصول... 24

الأمر الثاني: في الوضع... 27

أقسام الوضع... 28

ص: 437

1 - مرحلة التصور... 29

2 - مرحلة الإمكان... 30

استحالة الوضع الخاص والموضوع له العام... 30

3 - مرحلة الوقوع... 33

المعنى الحرفي... 33

الخبر والإنشاء... 41

أسماء الإشارة والضمائر... 42

خلاصة البحث... 43

الأمر الثالث: الاستعمال بالطبع... 45

الأمر الرابع: استعمال اللفظ وإرادة نوعه وصنفه... 46

إرادة الشخص... 48

احتمال في النوع والصنف... 51

إشكالات على هذا الاحتمال... 52

الأمر الخامس: معنى تبعية الدلالة للإرادة... 54

كلام ابن سينا والطوسي... 57

الأمر السادس: وضع المركبات... 60

الأمر السابع: علائم الحقيقة والمجاز... 63

1 - التبادر... 63

شرط التبادر... 65

2 - عدم صحة السلب... 66

3 - الاطراد... 71

الأمر الثامن: أحوال اللفظ... 73

ص: 438

الأمر التاسع: الحقيقة الشرعية... 76

الثمرة... 82

الأمر العاشر: الصحيح والأعم... 85

المقدمة الأولى: تحرير محل النزاع... 85

المقدمة الثانية: في معنى الصحة والفساد... 89

المقدمة الثالثة: في الجامع بين الأفراد... 91

الجامع على الصحيح... 91

إشكال الشيخ الأعظم... 92

الجواب عن الإشكال... 95

الجامع على الأعم... 97

الوجه الأول... 97

الوجه الثاني... 99

الوجه الثالث... 100

الوجه الرابع... 102

الوجه الخامس... 105

المقدمة الرابعة: ضرورة تصوير الجامع على الأعم... 106

المقدمة الخامسة: ثمرة بحث الصحيح والأعم... 108

الثمرة الأولى... 108

الثمرة الثانية... 111

الثمرة الثالثة... 112

أدلة القول بالصحيح... 113

ص: 439

الدليل الأول: التبادر... 113

الدليل الثاني: صحة السلب... 114

الدليل الثالث: إثبات الآثار أو نفيها 115

الدليل الرابع: طريقة الواضعين... 118

أدلة القول بالأعم... 119

الأول: التبادر... 119

الثاني: عدم صحة السلب... 120

الثالث: صحة التقسيم... 120

الرابع: الإطلاق في الأخبار... 121

الخامس: تعلق النذر... 124

بقي أمور... 128

الأمر الأول: في أسامي المعاملات... 128

الأمر الثاني: عدم الإجمال في ألفاظ المعاملات... 130

الأمر الثالث: الأجزاء والشرائط الدخيلة في المُسمّى... 133

الأمر الحادي عشر: الاشتراك اللفظي... 139

1 - وقوع الاشتراك في اللغة... 140

2 - رد القول بالاستحالة... 140

3 - وقوع الاشتراك في القرآن... 141

4 - ردّ القول بوجوب الاشتراك... 143

الأمر الثاني عشر: في استعمال اللفظ في أكثر من معنى... 144

وهم ودفع... 154

الأمر الثالث عشر: بحث المشتق... 155

الأمر الأول: معنى المشتق... 156

ص: 440

الأمر الثاني: في اسم الزمان... 164

الأمر الثالث: في الأفعال والمصادر... 166

عدم دلالة الفعل على الزمان... 168

الفرق بين الاسم والحرف... 174

الأمر الرابع: اختلاف مبادئ المشتقات... 180

الأمر الخامس: معنى «الحال» في العنوان... 182

الأمر السادس: في تأسيس الأصل... 187

الأول: الأصل اللفظي... 188

الثاني: الأصل العملي... 189

الأقوال في المشتق... 190

أدلة القول بالوضع لخصوص المتلبس... 191

الدليل الأول: التبادر في خصوص المتلبس... 192

الدليل الثاني: صحة السلب عن المنقضي... 192

الدليل الثالث: المضادة بين الصفات... 193

إشكال وجوابه... 195

إشكال آخر... 196

الجواب عن الإشكال... 197

الإشكال على الاستدلال بصحة السلب... 201

الجواب عن الإشكال... 202

عموم صحة السلب... 204

1 - التفصيل بين اللازم والمتعدي... 205

2 - التفصيل بين التلبس بالضد وعدمه... 206

ص: 441

أدلة القول للأعم... 207

الدليل الأول: التبادر... 207

الدليل الثاني: عدم صحة السلب... 208

الدليل الثالث: استدلال الإمام... 209

دليل التفصيل بين المحكوم عليه والمحكوم به... 216

أمور ترتبط ببحث المشتق... 218

الأمر الأول: في بساطة المشتق... 218

الدليل الأول لبساطة المشتق... 219

1 - إيراد الفصول على الشِق الأول... 220

إشكال المصنف على الفصول... 221

2 - إيراد الفصول على الشق الثاني... 223

أ- إشكال المصنف على إيراد الفصول... 224

ب - إشكال الفصول على إيراده... 228

ج - ردّ إشكال الفصول... 229

3 - إيراد آخر للفصول على الشق الأول... 230

4 - تعديل الشق الثاني من البرهان... 232

الدليل الثاني على بساطة المشتق... 233

إرشاد: في معنى البساطة... 233

الأمر الثاني: الفرق بين المشتق والمبدأ 235

الأمر الثالث: ملاك الحمل... 238

الأمر الرابع: في صفات الله تعالى... 241

الأمر الخامس: في عدم النقل في صفاته تعالى... 244

ص: 442

إشكال وجوابه... 247

الأمر السادس: في الإسناد المجازي للمشتق... 251

المقصد الأول في الأوامر

الفصل الأول في مادة الأمر... 257

الجهة الأولى: معنى مادة الأمر... 257

1 - المعنى اللغوي لمادة الأمر... 258

2 - المعنى الاصطلاحي لمادة الأمر... 259

3 - مادة الأمر في الكتاب والسنة... 262

الجهة الثانية: في اشتراط العُلوّ... 264

الجهة الثالثة: الأمر حقيقة في الوجوب... 266

أدلة كون الأمر للطلب المطلق... 269

الجهة الرابعة: في الطلب والإرادة... 271

المقام الأول: معنى الطلب في مادة الأمر... 271

المقام الثاني: في اتحاد الطلب والإرادة... 273

المقام الثالث: أدلة تغاير الطلب والإرادة وردّها 278

الدليل الأول: الأوامر الامتحانية والتعذيرية... 279

الدليل الثاني: معاني الكلمات... 281

الدليل الثالث: عدم تخلف الإرادة عن المراد... 285

المقام الرابع: في شبهة الجبر والجواب عنها... 288

دليل رابع: على تغاير الطلب والإرادة، وردّه... 294

الفصل الثاني في صيغة الأمر... 296

ص: 443

المبحث الأول: في معنى صيغة الأمر... 296

المبحث الثاني: هل الصيغة تدل على الوجوب وضعاً... 302

المبحث الثالث: في دلالة الجمل الخبرية على الوجوب... 305

المقام الأول: في دلالتها على الوجوب... 305

المقام الثاني: في أن استعمالها في معناها 306

المبحث الرابع: هل الصيغة تدل على الوجوب بالإطلاق؟... 311

أ- الانصراف إلى الوجوب... 311

ب - دلالة الإطلاق على الوجوب... 312

المبحث الخامس: في التوصلي والتعبدي... 314

المقدمة الأولى: في معنى التوصلي والتعبدي... 314

المقدمة الثانية: في امتناع أخذ قصد القربة في متعلق الأمر... 315

1 - استحالة تعلق الأمر الشرعي بقصد القربة... 316

2 - إشكالان على الاستحالة... 318

3 - دفع الإشكال الثاني... 319

4 - وجوه ثلاثة انتصارا للإشكال الثاني... 320

الوجه الأول: الأمر الضمني بالشرط... 320

الوجه الثاني: الأمر الضمني بالجزء... 322

الوجه الثالث: رفع المحذور بالتزام أمرين... 325

سائر معاني قصد القربة... 329

المقدمة الثالثة: امتناع الإطلاق لو امتنع التقييد... 330

المقام الأول: في الأصل اللفظي... 332

المقام الثاني: في الإطلاق المقامي... 333

ص: 444

المقام الثالث: الأصل العملي... 334

أولاً: الأصل العقلي بالاشتغال... 334

ثانياً: الأصل الشرعي بالبراءة... 339

المبحث السادس: أصالة النفسيّة العينيّة التعيينية... 342

المبحث السابع: الأمر عقيب الحظر... 343

المبحث الثامن: في المرة والتكرار... 345

عموم النزاع للمادة والهيئة... 346

معنى المرة والتكرار... 350

تنبيه: في ثمرة البحث، وهي في الامتثال... 354

المبحث التاسع: في الفور والتراخي... 358

أدلة القائلين بالفور والإشكال عليها 358

تتمة: في الإتيان فوراً ففوراً 362

الفصل الثالث في الإجزاء... 363

الموضع الأول: الإجزاء عن أمر نفسه... 374

الموضع الثاني: الإجزاء عن أمر غيره... 378

المقام الأول: في إجزاء الأمر الاضطراري عن الأمر الواقعي... 378

1 - الكلام في مرحلة الثبوت... 379

الصورة الأولى... 380

الصورة الثانية... 381

البدار في الصورة الأولى... 382

الصورة الثالثة والرابعة... 383

2 - الكلام في مرحلة الإثبات... 384

ص: 445

المقام الثاني: في إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي... 387

الأمر الأول: في الأمر الظاهري المتعلق بالجزء أو الشرط... 387

أ- ما كان بلسان الحكومة... 387

ب - ما كان بلسان الكشف عن الواقع... 390

1 - بناءً على الطريقيّة... 390

2 - بناءً على السببيّة... 391

3 - لو شك في الطريقية والسببيّة... 393

الأمر الثاني: الأمر الظاهري المتعلق بأصل التكليف... 398

التذنيب الأول: عدم الإجزاء مع القطع... 400

التذنيب الثاني: الفرق بين الإجزاء والتصويب... 402

فصل في مقدمة الواجب... 406

الأمر الأول: في أصولية المسألة وعقليتها 406

الأمر الثاني: في تقسيمات المقدمة... 409

1 - المقدمة الداخلية والخارجية... 409

البحث الأول: في إمكان المقدمة الداخلية... 410

البحث الثاني: في عدم وجوب المقدمة الداخلية... 412

المقدمة الخارجية... 416

2 - المقدمة العقلية والشرعية والعادية... 417

3 - مقدمة الوجود والصحة والوجوب والعلم... 420

4 - المقدمة المتقدمة والمقارنة والمتأخرة... 422

إشكال على الشرط المتأخر والمتقدم... 422

الجواب عن الإشكال... 425

ص: 446

الأول: شرط الحكم... 426

أ- شرط التكليف... 426

ب - شرط الحكم الوضعي... 428

الثاني: شرط المأمور به... 429

فهرست الموضوعات... 437

ص: 447

ص: 448

المجلد 2

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحسیني الشیرازي، السيدجعفر، 1349 -

عنوان العقد: کفایه الاصول .شرح

عنوان واسم المؤلف: إيضاح کفاية الأصول/ تالیف السيدجعفر الحسیني الشیرازي.

تفاصيل المنشور: قم: دارالفکر، 1397.

مواصفات المظهر: 5 ج.

ISBN : دوره 978-600-270-236-4 : ؛ 120000 ریال: ج.1 978-600-270-237-1 : ؛ 120000 ریال: ج.2 978-600-270-238-8 : ؛ 120000 ریال: ج.3 978-600-270-239-5 : ؛ 120000 ریال: ج.4 978-600-270-240-1 : ؛ 120000 ریال: ج.5 978-600-270-241-8 :

حالة الاستماع: فیپا

ملاحظة : العربیة.

ملاحظة : ج. 2 - 5 (چاپ اول: 1397)(فیپا).

ملاحظة : هذا الكتاب هو وصف لكتاب "کفاية الأصول" الذي المؤلف آخوند الخراساني.

ملاحظة : فهرس.

قضية : آخوند الخراساني، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق. . کفاية الأصول -- النقد والتعليق

قضية : Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein . Kefayat ol - osul -- Criticism and interpretation

قضية : أصول الفقه الشيعي

* Islamic law, Shiites -- Interpretation and construction

المعرف المضاف: آخوند الخراساني، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق . کفایه الاصول. شرح

المعرف المضاف: Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein. . Kefayat ol - osul

ترتيب الكونجرس: BP159/8/آ3ک7021326 1397

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 5279147

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فیپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

متواصل المقصد الأول في الأوامر

اشارة

الأمر الثالث: في تقسيمات الواجب:

منها: تقسيمه إلى المطلق والمشروط.

وقد ذكر لكل منهما تعريفات وحدود[1] تختلف[2] بحسب ما أخذ فيها من

-------------------------------------------------------------------

الأمر الثالث: في تقسيمات الواجب

التقسيم الأول: المطلق والمشروط
1- في تعريفهما

المقصد الأول في الأوامر، فصل في مقدمة الواجب

[1] منها: ما نسب إلى المشهور(1)

بأن (المطلق): ما لا يتوقف وجوبه على ما يتوقف عليه وجوده، كالصلاة التي يتوقف وجودها على الوضوء، لكن وجوبها غير متوقف عليه، فسواء توضأ المكلف أم لا كانت الصلاة واجبة، و(المشروط) بالعكس، كحجة الإسلام يتوقف وجوبها على الاستطاعة، وكذلك وجودها، فلو حجّ من غير استطاعة لم تكن حجة الإسلام.

وأشكل عليه(2):

بعدم الطرد والعكس، فإن صلاة الظهر - مثلاً - يتوقف وجوبها ووجودها على الوقت، مع أنها واجب مطلق عندهم.

[2] أي: الفرق بين تلك التعريفات هو في القيود التي أخذت في تلك التعريفات، كقيد (الأمر الزائد على الشرائط العامة) في تعريف بعضهم بأن (المطلق) ما لا يتوقف وجوبه على أمر زائد على الشرائط العامة للتكليف - البلوغ والعقل والقدرة والعلم - و(المقيد) بالعكس، وهكذا.

ص: 5


1- قوانين الأصول 1: 100؛ هداية المسترشدين 2: 87.
2- بدائع الأفكار: 304.

القيود، وربما أطيل الكلام بالنقض والإبرام في النقض[1] على الطرد والعكس(1)،

مع أنها[2] - كما لا يخفى - تعريفات لفظية لشرح الاسم[3]، وليست بالحد ولا بالرسم.

والظاهر أنه ليس لهم اصطلاح جديدٌ[4] في لفظ المطلق والمشروط، بل يطلق[5]

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: في الإشكال على تلك التعريفات بعدم طردها للأغيار، فتدخل بعض الواجبات المطلقة في تعريف المشروط، وبعدم عكسها، أي: لا تشمل بعض أفراد المعرَّف، فتعريف المطلق مثلاً لا يشمل بعض أفراده.

[2] أي: لا وقع للإشكالات على التعريفات؛ لأنها ليست تعريفات حقيقية، فلا هي تعريف بالحدّ - الجنس والفصل - ولا هي تعريف بالرسم - الجنس والعرض الخاص - ، بل هي تعريفات لفظية يُراد بها تقريب المعنى إلى الذهن، كقول اللغويين: (سعدانة نبتٌ)(2)

ولا وقع للإشكال عليهم بأنه تعريف بالأعم، فيدخل فيه كل النباتات!!

[3] هذا حسب اصطلاح المصنف، حيث جعل (التعريف اللفظي) نفس (شرح الاسم).

لكن لأهل المعقول اصطلاح آخر، ف- : (شرح الاسم) هو تبديل لفظ بآخر، كما يفعله اللغويون، و(التعريف اللفظي) هو بيان المفهوم التقريبي للّفظ، و(التعريف الحقيقي) وهو بيان الحدّ أو الرسم.

[4] إذ لو كان لهم اصطلاح خاص فلا معنى للنقض والإبرام فيه؛ إذ لا مشاحة في الاصطلاح.

[5] أي: يستعمل كل من لفظ المطلق والمشروط بنفس المعنى اللغوي، يقال: دابة مطلقة، أي: غير مقيّدة بشيء، ويقال: هذا الشيء مشروط بكذا، أي: مقيّد به.

ص: 6


1- مطارح الأنظار 1: 223؛ بدائع الأفكار: 304.
2- مجمع البحرين 3: 70.

كل منهما بما له من معناه العرفي. كما أن الظاهر[1] أن وصفي الإطلاق والاشتراط وصفان إضافيان[2]، لا حقيقيان، وإلاّ[3] لم يكد يوجد واجب مطلق، ضرورة اشتراط وجوب كل واجب ببعض الأمور، لا أقل من الشرائط العامة[4]، كالبلوغ والعقل.

فالحري[5] أن يقال: إن الواجب مع كل شيء يلاحظ معه، إن كان وجوبه غير مشروط به فهو مطلق بالإضافة إليه، وإلاّ[6] فمشروط كذلك، وإن كانا[7] بالقياس

------------------------------------------------------------------

[1] حاصله: إن الإطلاق والاشتراط أمران نسبيّان فلذا لابد من ملاحظة الوجوب بالنسبة إلى القيود المختلفة، فقد يكون مقيّداً بقيد، فهو مشروط بالنسبة إلى ذلك القيد، وقد لا يكون مقيّداً بقيد آخر، فهو مطلق بالنسبة إليه.

[2] أي: نسبيّان؛ لأنهما يُلاحظان بالنسبة إلى القيود، عكس الوصف الحقيقي الذي لا يُلاحظ بالنسبة إلى شيء أصلاً.

[3] أي: إن لم يكونا إضافيين، بمعنى عدم ملاحظتهما كذلك.

[4] أي: شرائط التكليف التي يشترك فيها الجميع، وبعضها اشتراطه عقلي، كالعقل والقدرة والعلم، وبعضها اشتراطه قد يكون عقلياً وقد يكون شرعياً كالبلوغ، ففي المميّز شرط شرعي، وفي غيره شرط عقلي، فتأمل.

[5] أي: بعد أن ذكرنا أن المطلق والمشروط بنفس المعنى اللغوي، وأنهما وصفان إضافيان، بعد ذلك نقول: المناسب تعريفهما كالتالي: إن كان وجوبه... الخ.

[6] أي: وإن كان وجوبه مشروط به فهو واجب مشروط، «كذلك» أي: بالإضافة إليه.

مثلاً: بالنسبة إلى الزوال، وجوب صلاة الظهر مشروط به، ووجوب صلاة الآيات غير مشروط به.

[7] أي: كان المطلق والمشروط، مثلاً: بالنسبة إلى الكسوف فوجوب صلاة الآيات مشروط به، ووجوب صلاة الظهر غير مشروط به.

ص: 7

إلى شيء آخر كانا بالعكس.

ثم الظاهر[1] أن الواجب المشروط - كما أشرنا إليه[2] - أن نفس الوجوب فيه مشروط بالشرط، بحيث لا وجوب حقيقةً ولا طلب واقعاً قبل حصول الشرط[3]، كما هو[4] ظاهر الخطاب التعليقي، ضرورة أن ظاهر خطاب (إن جاءك زيدٌ فأكرمه)

-------------------------------------------------------------------

2- رجوع القيد إلى الهيئة أو المادة
اشارة

[1] حاصله: إن هناك خلافاً في الواجب المشروط، في أن القيد يرجع إلى الهيئة - أي: الوجوب - أو يرجع إلى المادة - أي: المتعلق كالصلاة - ففي مثل: (إن جاءك زيد فأكرمه) هل الشرط يُقيّد (الوجوب)، فالمعنى لا وجوب قبل المجيء، وإنما يحدث الوجوب حين المجيء، أم أن الشرط يُقيّد (المجيء) ويكون الوجوب مطلقاً، فالمعنى الإكرام على تقدير المجيء واجب؟

والفرق بينهما أنه على الأول لا وجوب قبل تحقق الشرط، فلا يترشح الوجوب إلى المقدمات، وأما على الثاني فالوجوب مطلق حتى قبل تحقق الشرط، فيترشح الوجوب إلى المقدمات بناءً على الملازمة.

والمصنف يذهب إلى أن الشرط يُقيّد الهيئة، أي: الوجوب، والشيخ الأعظم يذهب إلى أنه يُقيّد المادة أي: المجيء - في المثال - ونحوه.

[2] في قوله: (إن كان وجوبه غير مشروط فمطلق...)، وفي قوله: (ضرورة اشتراط وجوب كل واجب ببعض الأمور).

[3] لأن المشروط عدمٌ عند عدم شرطه، فقبل الاستطاعة لا وجوب للحج أصلاً - مثلاً - .

[4] أي: اشتراط الوجوب هو ظاهر تعليق الجزاء على الشرط، والمراد الظهور العرفي، فإن العرف يفهم من مثل: (إن جاءك زيد فأكرمه) أن الوجوب معلّق على المجيء، لا أن الوجوب يتحقق من حين أمر المولى وإنما الفعل - أي: الإكرام - متوقف

ص: 8

كون الشرط من قيود الهيئة وأن[1] طلب الإكرام وإيجابه معلق على المجيء؛ لا أن الواجب فيه[2] يكون مقيداً به - بحيث يكون الطلب والإيجاب في الخطاب فعلياً ومطلقاً[3]، وإنما الواجب يكون خاصاً ومقيداً - ، وهو الإكرام على تقدير المجيء، فيكون[4] الشرط من قيود المادة لا الهيئة، كما نسب ذلك إلى شيخنا العلامة (أعلى الله مقامه) مدعياً[5]

-------------------------------------------------------------------

على المجيء.

وفي الوصول: (ومن البديهي أنه لو قيل: وجوب الإكرام مشروط بالمجيء فهم العرف منه أن المضاف - أعني لفظ الوجوب - مقيد بالمجيء، لا أن المضاف إليه - أعني لفظ الإكرام - مقيد به... من أن عند الانحلال يكون مضافاً ومضافاً إليه، والحال وسائر القيود يرجع إلى المضاف، بل لا يجوز الإتيان بالقيد للمضاف إليه إلاّ مع القرينة، كما قال ابن مالك: ولا تجز حالاً مع المضاف له، الخ)(1)، انتهى.

[1] عطف تفسيري لبيان كيفية كونه من قيود الهيئة.

[2] «الواجب» هو متعلّق الأمر كالإكرام في المثال، «فيه» في الخطاب، «به» بالمجيء.

[3] فتعلق الوجوب بذمته ومن غير تقييد، والعطف في (فعلياً ومطلقاً) تفسيري.

[4] أي: فبناءً على ما ذكرنا من أن الشرط من قيود الهيئة - أي: الطلب - لا يكون الشرط من قيود المادة - أي: الإكرام مثلاً - .

دليلان على امتناع رجوع القيد إلى الهيئة
اشارة

[5] حاصل كلام الشيخ الأعظم - على ما نُسب إليه في تقريرات درسه(2) - هو أن الشرط يرجع إلى المادة، ولا يرجع إلى الهيئة، واستدل لذلك بأمرين:

أحدهما: برهاني، باستحالة تقييد الهيئة؛ لأنها معنى حرفي، والمعنى الحرفي

ص: 9


1- الوصول إلى كفاية الأصول 2: 44 - 45.
2- مطارح الأنظار 1: 237.

لامتناع كون الشرط من قيود الهيئة واقعاً[1]، ولزوم كونه من قيود المادة لباً[2]، مع الاعتراف[3] بأن قضية القواعد العربية أنه من قيود الهيئة ظاهراً.

أما امتناع كونه[4] من قيود الهيئة: فلأنه لا إطلاق في الفرد الموجود من الطلب[5]

-------------------------------------------------------------------

جزئي، ولا يعقل تقييد الجزئي، بل التقييد خاص بالكليات؛ وذلك عبر إخراج بعض المصاديق وحصر الأمر في مصاديق أخرى.

والثاني: وجداني، بأنا نشعر بأن طلب المولى غير مقيّد بشيء، بل المقيّد هو متعلّق الطلب وهو الفعل؛ إذ الفعل هو الذي تختلف مصالحه ومفاسده باعتبار القيود العارضة عليه.

ولا يخفى أن الدليلين طوليّان.

[1] أي: ثبوتاً؛ وذلك للمحذور العقلي في تقييد الهيئة، وهذا إشارة إلى الدليل الأول.

[2] «لبّاً» أي: وجداناً، «كونه» كون الشرط، وهذا إشارة إلى الدليل الثاني.

[3] أي: يُسلّم الشيخ الأعظم بأن ظاهر اللفظ رجوع الشرط إلى الهيئة، لكن لابد من رفع اليد عن هذا الظاهر، «أنه» أن الشرط، «ظاهراً» حسب الظهور اللفظي.

[4] كون الشرط، «فلأنه» الضمير للشأن، وهذا تفصيل للدليل الأول، وحاصله: إن الشيخ الأعظم يرى أن وضع الحروف من (الوضع العام والموضوع له الخاص)، أي: تصور الواضع المعنى الكلي ثم وضع الحروف على المصاديق الجزئية، و(الهيئة) معنى حرفي كما مرّ، فهي جزئية، فلا إطلاق لها حتى يقيّد ذلك الإطلاق بالشرط ونحوه، فإذا استحال الإطلاق استحال التقييد؛ لأنهما من العدم والملكة.

[5] أي: مصداق الطلب، «المُنْشَأ» أي: الذي وُجد ذلك المصداق بواسطة هيئة افعل - مثلاً - .

ص: 10

المتعلق بالفعل المنشأ بالهيئة حتى[1] يصح القول بتقييده بشرط ونحوه[2]، فكل ما يحتمل رجوعه إلى الطلب الذي يدل عليه الهيئة فهو عند التحقيق راجع إلى نفس المادة[3].

وأما لزوم كونه[4] من قيود المادة لباً: فلأن العاقل إذا توجه إلى شيء والتفت

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: لا إطلاق حتى يصحّ التقييد؛ لان - كما عرفت - التقييد هو إخراج بعض المصاديق، وهذا إنما يصحّ في الكليّات التي لها مصاديق متعددة، لا في الجزئيات.

[2] من سائر القيود كالوصف والحال والغاية.

[3] فيكون الوجوب فعلياً من حين الأمر، لا من حين تحقق الشرط.

[4] كون الشرط، وهذا تفصيل الدليل الثاني وهو الدليل الوجداني، ويتخذ الشيخ الأعظم طريقة في الاستدلال للتنبيه على هذا الوجدان، فيقول:

1- إذا توجّه المولى إلى شيء فحالته تدور بين أن يطلب ذلك الشيء أو لا يطلبه، ولا كلام في ما لو لم يطلبه.

2- وإذا طلبه، فإما يطلبه في كل الحالات، أو يطلبه في حالة معينة، ولا كلام في ما لو طلبه في كل الحالات.

3- وإذا طلبه في حالة معينة، فإما تكون تلك الحالة غير اختيارية أو تكون اختيارية، ولا كلام في ما كانت غير اختيارية.

4- وإذا كان الطلب في حالة معينة اختيارية، فإما أن يتعلق بالفعل على تقدير تحقّق تلك الحالة بشكل اتفاقي - كما لو استطاع اتفاقاً بالنسبة إلى الحج - وإمّا لم يتعلق الطلب بتحققها الاتفاقي - كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة - فعلى الأول لا يجب تحصيل تلك الحالة كالاستطاعة، وعلى الثاني يجب تحصيلها كالوضوء.

فتبيّن أن الذي تختلف مصالحه باعتبار الوجوه والحالات هو الفعل، فهو الذي يتعلّق به القيد، لا الطلب!!

ص: 11

إليه فإما أن يتعلق طلبه به، أو لا يتعلق به طلبه أصلاً. لا كلام على الثاني[1]. وعلى الأول[2]، فإما أن يكون ذاك الشيء مورداً لطلبه وأمره مطلقاً[3] على اختلاف طوارئه أو على تقدير خاص؛ وذلك التقدير تارة يكون من الأمور الاختيارية[4]، وأخرى لا يكون كذلك[5]؛ وما كان من الأمور الاختيارية قد يكون مأخوذاً فيه على نحوٍ يكون مورداً للتكليف[6]، وقد لا يكون كذلك[7] على اختلاف الأغراض[8]

-------------------------------------------------------------------

ولا يخفى أن المنبّه الوجداني يحصل بما ذكره في المرحلة الأولى والثانية، ولكن أضاف المرحلة الثالثة والرابعة زيادة في التنبيه، وأيضاً لدفع إشكال: أنه إذا كان القيد يرجع إلى المادة فما هو الفرق بين الاستطاعة والوضوء، حيث لا يجب تحصيل الاستطاعة للحج، لكن يجب الوضوء للصلاة؟

[1] لخروجه عن محل البحث؛ لأن كلامنا في القيد الراجع إلى صيغة الأمر.

[2] أي: في ما لو تعلّق به طلبه.

[3] شرح (مطلقاً) بقوله: (على اختلاف طوارئه) أي: في جميع الحالات التي تعرض عليه.

[4] كالاستطاعة والوضوء حيث يمكن تحصيلهما.

[5] أي: لا تكون اختيارية كالوقت للصلاة، وكالبلوغ لعامة التكاليف.

[6] كالوضوء الذي يترشح عليه وجوب غيري من الصلاة، فيجب الوضوء - بناء على الملازمة - .

[7] كالاستطاعة، فإنه لا يجب تحصيلها مع كونها من الأمور الاختيارية عادة، لكن إذا حصلت الاستطاعة اتفاقاً فيتحقق شرط الحج.

[8] أي: الطلب وعدمه، ثم الطلب المطلق أو المقيّد، ثم الطلب المقيد بأمر اختياري أو غير اختياري... الخ، كل ذلك لأجل أن غرض المولى يختلف، فقد لا يكون له غرض في طلب الشيء فلا يطلبه، وقد يتعلق غرضه به بشكل مطلق

ص: 12

الداعية إلى طلبه والأمر به، من غير فرق في ذلك[1] بين القول بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد والقول بعدم التبعية، كما لا يخفى.

هذا موافق لما أفاده بعض الأفاضل المقرر لبحثه بأدنى تفاوت(1).

ولا يخفى ما فيه: أما حديث عدم الإطلاق في مفاد الهيئة[2]: فقد حققناه سابقاً أنّ كل واحد من الموضوع له والمستعمل فيه في الحروف يكون عاماً كوضعها[3]، وإنما

-------------------------------------------------------------------

فيطلبه كذلك... الخ.

[1] أي: لا فرق في ما ذكرناه بين مذهب العدلية والأشاعرة، فإنه على الأول يكون الاختلاف ناشئاً من اختلاف المصالح، وعلى الثاني يكون الاختلاف ناشئاً من اختلاف الأغراض، والحاصل: إن الطلب وعدمه أو الطلب المتعلّق بالمطلق أو بالمقيّد،... إما لأجل اختلاف المصالح أو لأجل اختلاف الأغراض، فلا فرق في متعلق الطلب من هذه الجهة.

الإشكال على الدليل الأول

[2] حاصل الإشكال على الدليل الأول:

أولاً: بإشكال مبنائي، بأنا قد ذكرنا في بحث الوضع أن وضع الحروف من (الوضع العام والموضوع له العام والمستعمل فيه العام) فالهيئة ليست جزئية حتى يمتنع الإطلاق والتقييد فيها، بل تدل على معنى كلّي، وقد استعملت في ذلك المعنى الكلي، فيمكن تقييدها.

وثانياً: إنه لو سلّمنا جزئية المعاني الحرفية، فنقول: إن الهيئة بعد وجودها لا تقبل القيد، أما قبل وجودها فيمكن القيد، بمعنى إيجادها مقيدة؛ وذلك لأن كل وجود جزئي له مشخصات فردية، فليكن الشرط أحد تلك المشخصات.

[3] أي: كما أن الوضع عام، وقد مرّ في بحث المعنى الحرفي أن المراد (بالوضع) هو المعنى الذي تصوّره الواضع، و(بالعام) المطلق، أي: الكلي الطبيعي،

ص: 13


1- مطارح الأنظار 1: 267.

الخصوصية من قبل الاستعمال كالأسماء[1]؛ وإنما الفرق[2] بينهما أنها وضعت لتستعمل وقصد بها المعنى بما هو هو، والحروف وضعت لتستعمل وقصد بها معانيها بما هي آلة وحالة لمعاني المتعلقات؛ فلحاظ الآلية كلحاظ الاستقلالية ليس من طوارئ المعنى، بل من مشخصات الاستعمال[3] - كما لا يخفى على أولي الدراية والنُهى[4] - ؛ فالطلب المفاد من الهيئة المستعملة فيه مطلق قابل لأن يقيد.

مع[5] أنه لو سلم أنه فرد فإنّما يمنع عن التقييد لو أُنشأ أولاً غير مقيد، لا ما إذا

-------------------------------------------------------------------

و(بالموضوع له) المعنى الذي وضع الواضع اللفظ لذلك المعنى، و(بالمستعمل فيه) هو المعنى الذي أراده المتكلّم حين استعمال اللفظ، فالواضع يتصور معنىً، ثم يضع اللفظ لذلك المعنى، ثم يستعمل أهل اللسان ذلك اللفظ في ذلك المعنى، فالواضع تصور الإنسان المذكر فوضع له لفظ الرجل، ثم استعمل أهل اللسان الرجل لنفس المعنى، أما كون هذا الرجل هو زيد فهو من خصوصيات الاستعمال، فراجع.

[1] أي: أسماء الأجناس؛ لأن الوضع والموضوع له والمستعمل فيها عام.

[2] الفرق في شرط الواضع، حيث اشترط استعمال الاسم في ما لو أريد المعنى استقلالاً، والحرف في ما لو أريد المعنى آلة، فلا فرق في معنى (الابتداء) و(من) إلاّ في كيفية الاستعمال حسب شرط الواضع، «بينهما» بين الاسم والحرف، «أنها» أن الأسماء.

[3] فالآلية والاستقلالية توجب تشخص المعنى وجزئيته، لكنها من شؤون الاستعمال، وهو متأخر عن المعنى، فلا يمكن أخذهما قيداً في المعنى؛ لأنه لا يمكن أخذ المتأخر قيداً في المتقدم.

[4] «الدراية» الفهم، و«النُهى» العقل.

[5] هذا هو الجواب الثاني، «أنه» للشأن، «أنه فرد» أن الطلب في الهيئة فرد جزئي.

ص: 14

أُنشئ من الأول مقيداً، غاية الأمر قد دلّ عليه بدالّين[1]، وهو غير إنشائه أولاً ثم تقييده ثانياً، فافهم[2].

فإن قلت[3]: على ذلك[4] يلزم تفكيك الإنشاء من المُنشأ[5] حيث لا طلب قبل حصول الشرط[6].

-------------------------------------------------------------------

[1] الأول: الهيئة الدالة على الطلب، والثاني: الشرط الدال على القيد.

[2] لعله إشارة إلى أنه قد يكون القيد متأخراً عن الطلب، فبعد أن وُجد الطلب يقيّده، فلا يصح هذا الجواب حينئذٍ، وما أكثر القيود المنفصلة، كما لو قال: أكرم زيداً، ثم قال بعد ذلك: إكرامه مقيد بمجيئه.

[3] هذا إشكال على أصل المطلب، وهو كون الطلب مقيداً بشرط، كتقييد وجوب الحج بالاستطاعة، وحاصله: إن لازم تقييد الطلب هو تفكيك الإنشاء عن المُنشأ، وهو محال؛ وذلك لأن (الإنشاء) هو الإيجاد، و(المُنشأ) هو الوجود، والإيجاد هو علة للوجود فلا يعقل انفكاكهما؛ وذلك لتقارن العِلة والمعلول في الزمان، وإن اختلفا في الرتبة، بل قد يقال: إن الإيجاد عين الوجود، فإن نُسب إلى الفاعل كان إيجاداً، وإن نُسب إلى القابل كان وجوداً، وعليه: فكيف يمكن إيجاد الطلب من غير تحقق ذلك الطلب، بل توقف تحققه على حصول الشرط؟ ففي مثال: (حج إن استطعت) فالمولى بقوله: (حج) أوجد الطلب، لكن لا يتحقق ذلك الطلب إلاّ بعد الاستطاعة!!

[4] أي: بناء على رجوع الشرط إلى الهيئة - أي: الوجوب - .

[5] وذلك محال؛ لاستلزامه تفكيك العلة عن المعلول، أو تفكيك الشيء عن نفسه.

[6] فلا يطلب المولى الحج قبل الاستطاعة، مع أنه أنشأ الطلب بقوله: حُجّ إن استطعت - مثلاً - .

ص: 15

قلت[1]: المُنشأ إذا كان هو الطلب على تقدير حصوله[2] فلابد أن لا يكون قبل حصوله طلب وبعث، وإلاّ[3] لتخلّف عن إنشائه، وإنشاء أمر[4] على تقدير كالإخبار به بمكان من الإمكان، كما يشهد به[5] الوجدان، فتأمل جيداً.

وأما حديث[6] لزوم رجوع الشرط إلى المادة لبّاً: ففيه أنّ الشيء إذا

-------------------------------------------------------------------

[1] حاصل كلام المصنف أنه حتى مع رجوع الشرط إلى الهيئة فلا تفكيك بين الإنشاء والمنشأ؛ وذلك لأن الإنشاء والإيجاد إنما تعلّق بالطلب المشروط، لا بالطلب المطلق، ومع تعلق الإنشاء بالطلب المشروط لا يعقل وجود الطلب قبل تحقق الشرط.

وبعبارة أخرى: إن الإنشاء تعلّق بالطلب المقيّد، فإذا وُجد الطلب المطلق كان ذلك تفكياً بين الإنشاء والمنشأ، فالإشكال وارد على المستشكل لا على المصنف.

[2] أي: حصول الشرط.

[3] أي: إن تحقق الطلب قبل حصول الشرط، «لتخلّف» أي: المنشأ.

[4] هذا إشكال آخر، وحاصله: استحالة إنشاء الطلب المقيّد؛ وذلك لأن الإنشاء إيجاد ولا يعقل تقييد الإيجاد، فحال الإيجاد دائر بين الوجود والعدم.

والجواب: ان الإنشاء ليس مقيداً، بل المقيّد هو متعلّق الإنشاء - أي: المُنشأ - ، فالمولى أوجد الطلب المقيّد، فليس الإيجاد مقيداً.

وهذا نظير الإخبار كما لو قال: إن جاء زيد غداً فيُكرمه عمرو. وقد تحقق (الإخبار) لكن (المخبر به) هو المقيد، فلا نقول: إن المتكلّم لم يُخبر بشيء، فالخبر يتحقق حين تحقق الشرط، بل نقول: إن المتكلّم أخبر فعلاً لكن (المخبر به) هو الإكرام المقيّد.

[5] بإمكان إنشاء أمر على تقدير.

الإشكال على الدليل الثاني

[6] كان الدليل الثاني للشيخ الأعظم هو أن الوجدان قاضٍ بأن الشرط يرجع إلى المتعلّق لا إلى نفس الطلب.

ص: 16

-------------------------------------------------------------------

وجوابه: إن المصلحة قد تكون في نفس الحكم والتكليف، وقد تكون في متعلّق الحكم.

أما على الأول: فإن المولى قد يتوجه إلى الشيء ويرى وجود مصلحة فيه، لكنه لا يطلبه لوجود مانع عن الطلب، فحينئذٍ لا يصح أن يطلب ذلك الشيء بطلبٍ مطلق، بل لابد من تقييد الطلب بزوال المانع.

وأما على الثاني - أي: وجود المصلحة في المتعلّق - : فإن تلك المصلحة تكون سبباً للطلب الواقعي، فالمصلحة في الشيء تقتضي أن يطلبه المولى واقعاً، لكن قد يمنع مانع عن فعلية ذلك الطلب، وحينئذٍ لابد من كون الطلب الفعلي مقيداً بزوال المانع، وهناك موارد كثيرة في الشرع لا فعلية فيها للأحكام الواقعية، منها:

1- في موارد الأصول والأمارات المخالفة للواقع، فإن الطلب المتعلق بالواقع ليس فعلياً، بل نفس الطلب مقيّد.

2- في الأحكام في أوائل البعثة المباركة، فإن القرآن نزل على الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ جملة واحدة في ليلة القدر من السنة الأولى - كما يظهر من بعض الأخبار(1)

- لكن عامة التكاليف الواردة فيه لم تكن فعلية، بل فعليتها كانت منوطة بنزول تلك الآيات مرة أخرى وبالتدريج.

3- في بعض الأحكام التي تصير فعلية بعد ظهور صاحب العصر والزمان عج الله تعالی فرجه الشریف، فهي أحكام نزلت على الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وبلّغها الرسول إلى الأئمه عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ لكنها لا تصير فعليه إلاّ بعد الظهور المبارك.

والحاصل: إنه في هذه الموارد وغيرها ليس الطلب مطلقاً، بل هو مقيد بشرط.

ص: 17


1- الاعتقادات في دين الإمامية: 82؛ بحار الأنوار 18: 250.

تُوُجّه[1] إليه وكان موافقاً للغرض بحسب ما فيه من المصلحة أو غيرها كما[2] يمكن أن يبعث فعلاً إليه ويطلبه حالاً لعدم مانع عن طلبه، كذلك[3] يمكن أن يبعث إليه معلّقاً ويطلبه[4] استقبالاً على تقدير شرط متوقّع الحصول لأجل مانع عن الطلب والبعث فعلاً قبل حصوله، فلا يصح منه إلاّ الطلب والبعث معلقاً بحصوله، لا مطلقاً[5] ولو متعلقاً بذاك على التقدير، فيصح منه طلب الإكرام بعد مجيء زيد[6]، ولا يصح منه الطلب المطلق الحالي للإكرام المقيد بالمجيء.

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: توجّه المولى، و«كان» ذلك الشيء، «للغرض» أي: لغرض المولى إما لأجل كونه ذا مصلحة فوافق الغرض كما عليه العدلية، أو لغير جهة المصلحة كما نُسِب إلى الأشاعرة.

وظاهر كلام المصنف أنه لابد من الغرض على كلا القولين، فتارة هذا الغرض لوجود مصلحة، وتارة الغرض لجهة أخرى، ولكن الظاهر أن الأشاعرة كما لا يشترطون المصلحة كذلك لا يشترطون الغرض، بل يربطون التكليف بإرادة المولى فقط.

[2] «كما...» جزاء الشرط في قوله: (إذا توجه إليه...)، «يبعث» المولى، وقوله: «ويطلبه حالاً» عطف تفسيري على (يبعث فعلاً إليه).

[3] «كذلك» أي: بطلب فعلي.

[4] العطف تفسيري، لبيان معنى الطلب المعلّق، وقوله: «لأجل» متعلق ب- (معلّقاً)، أي: سبب الطلب المعلّق هو وجود مانع عن الطلب المطلق، «حصوله» حصول الشرط، «منه» من المولى.

[5] وشرح قوله: (مطلقاً) بقوله: (ولو متعلقاً... الخ)، «بذاك» أي: الشيء الذي توجه إليه، «على التقدير» أي: على تقدير تحقق الشرط، والمعنى لا يصح الطلب المطلق بحيث يكون متعلقه مقيداً، بأن يقال: إن الطلب الآن موجود لكن متعلقه مقيد، بل الطلب غير موجود، وإنما يحدث الطلب حين تحقق الشرط.

[6] بأن يكون الظرف - وهو بعد - متعلق بالطلب.

ص: 18

هذا[1] بناءً على تبعية الأحكام لمصالح فيها في غاية الوضوح.

وأما بناءً على تبعيتها للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهي عنها فكذلك[2]، ضرورة أن التبعية كذلك إنما تكون في الأحكام الواقعية بما هي واقعية[3]، لا بما هي فعلية، فإن المنع عن فعلية تلك الأحكام غير عزيز، كما في موارد الأصول والأمارات على خلافها[4]، وفي بعض الأحكام في أول البعثة، بل إلى قيام القائم، مع أن[5] حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرامٌ إلى يوم القيامة(1). ومع ذلك[6] ربما يكون المانع عن فعلية بعض الأحكام باقياً مر الليالي والأيام إلى أن تطلع شمس الهداية ويرتفع الظلام، كما يظهر من الأخبار المروية عن الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ[7].

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: تعليق الطلب على حصول الشرط، بأن يكون القيد للهيئه لا للمادة، «فيها» في نفس الأحكام، مثل أمر إبراهيم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بذبح إسماعيل عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، فلم تكن المصلحة في المتعلّق، وإنما المصلحة في نفس الحكم.

[2] أي: في غاية الوضوح، «كذلك» أي: للمصالح والمفاسد في المأمور به.

[3] أي: المصلحة توجب الحكم الإنشائي، ولا توجب فعلية الحكم؛ وذلك لوجود موانع أحياناً عن الفعلية.

[4] أي: خلاف الأحكام الواقعية.

[5] فلا يمكن أن نقول: إن تلك الأحكام ستشرّع حين ظهوره؛ وذلك لأن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بلّغ جميع الأحكام، وحلاله وحرامه لا ينسخ إلى يوم القيامة، بل نقول: إن تلك الأحكام شرّعت في زمان الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لكن فعليتها تتوقف على الظهور.

[6] أي: مع أن حلال محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وحرامه باقيان إلى يوم القيامة.

[7] كما روي: (لو قد قام القائم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لحكم بثلاث لم يحكم بها أحد قبله: يقتل

ص: 19


1- الكافي 1: 58.

فإن قلت[1]: فما فائدة الإنشاء إذا لم يكن المُنشأ به طلباً فعلياً وبعثاً حالياً.

قلت[2]: كفى فائدةً له[3] أنه يصير بعثاً فعلياً بعد حصول الشرط، بلا حاجة إلى خطاب آخر، بحيث لولاه[4]

-------------------------------------------------------------------

الشيخ الزاني، ويقتل مانع الزكاة، ويورث الأخ أخاه في الأظلّه)(1).

أقول: قد ذكرنا في شرح أصول الكافي(2) أن القائم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ يسير بسيرة الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ والإمام علي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ولا يأتي بحكم جديد أصلاً، بل يُحيي ما اندرس من الأحكام حتى يعود الإسلام غضاً طرياً، ولطول ما ترك الناس أحكام الشرع فكأنه يأتي بدين جديد، وقد ذكرنا معنى حكمه بحكم آل داود لا يسأل الناس بينة، وأما الروايات التي لا يمكن تأويلها فلابد من ردّ علمها إلى أهلها لمعارضتها للأخبار الصحيحة الصريحة.

[1] هذا إشكال وحاصله: إنه لو توقف الطلب على تحقق الشرط، فما هي فائدته؟ أليس هذا من اللغو؟ أما لو كان الطلب مطلقاً - بأن يرجع القيد إلى المادة - فلا لغوية فيه؛ وذلك لوجود الفائدة في هكذا طلب كوجوب مقدمته.

وبعبارة أخرى: لا فائدة في إنشاء الحكم قبل تحقق شرط الحكم، فلابد من الانتظار إلى حين تحقق شرط الحكم فيصدر الحكم حينئذٍ.

[2] الجواب من وجهين:

الأول: إنه قد يكون مانع عن إنشاء الوجوب حين تحقق الشرط، فيُشئ المولى الوجوب مقيداً بتحقق الشرط.

الثاني: إن هذا الخطاب المشروط يكون فعلياً لواجد الشرط، ومشروطاً لفاقد الشرط، من غير حاجة إلى توجيه خطاب جديد للفاقد حينما يجد الشرط.

[3] أي: للإنشاء إذا لم يكن المنشأ طلباً فعلياً.

[4] أي: لو لا الإنشاء قبل الشرط، «فعلاً» بعد حصول الشرط.

ص: 20


1- الخصال: 169.
2- شرح أصول الكافي 6: 83.

لما كان فعلاً متمكناً من الخطاب. هذا مع[1] شمول الخطاب كذلك للإيجاب فعلاً بالنسبة إلى الواجد للشرط، فيكون بعثاً فعلياً بالإضافة إليه، وتقديرياً بالنسبة إلى الفاقد له، فافهم وتأمل جيداً.

ثم الظاهر[2] دخول المقدمات الوجودية للواجب المشروط في محل النزاع أيضاً[3]،

-------------------------------------------------------------------

[1] هذا الجواب الثاني، «كذلك» أي: مشروطاً، «فيكون» ذلك الخطاب المشروط، «بالإضافة إليه» إلى الواجد.

3- المقدمات الوجودية للواجب المشروط

[2] المقدمات الوجودية: هي ما يتوقف عليها وجود ذي المقدمة، ولا يتوقف عليها وجوبه، كالوضوء للصلاة، ولا إشكال في دخول المقدمات الوجودية للواجب المطلق في محلّ البحث والنزاع، فإن الواجب قد تحقق، وهو يتوقف على المقدمة، فهل يترشح وجوبه على المقدمة أم لا؟

وأما المقدمات الوجودية للواجب المشروط، كحفظ الزاد والراحلة للحج، فقد يتوهم خروجها عن محل البحث؛ إذ لا وجوب قبل الاستطاعة، فكيف يجب حفظ الزاد والراحلة؟

ويرد عليه: إنه إن وجب الشيء وجبت مقدماته - بناءً على الملازمة - فلو كان وجوبه مطلقاً كان وجوب مقدماته مطلقاً أيضاً، وإن كان وجوبه مشروطاً كان وجوب مقدماته كذلك، ففي المثال: وجوب الحج مشروط بالاستطاعة، فكذلك وجوب حفظ الزاد والراحلة أيضاً مشترط بها.

وبعبارة أخرى: لا نريد القول: إنّ المقدمات الوجودية للمشروط واجبة على كل حال، حتى يستشكل بأنه قبل تحقق الشرط لا وجوب فكيف يترشح على المقدمة؟ بل قولنا هو: إنه لو تحقق الشرط وجب ذو المقدمة، فيترشح الوجوب على المقدمة - بناء على الملازمة - .

[3] كدخول المقدمات الوجودية للواجب المطلق في محل البحث والنزاع

ص: 21

فلا وجه لتخصيصه بمقدمات الواجب المطلق، غاية الأمر[1] تكون في الإطلاق والاشتراط تابعة لذي المقدمة، كأصل الوجوب[2]، بناءً على وجوبها من باب الملازمة.

وأما الشرط[3]

-------------------------------------------------------------------

«لتخصيصه» أي: تخصيص محل النزاع.

[1] في الفرق بين المقدمات الوجودية للواجب المطلق والواجب المشروط، «تكون» أي: المقدمات الوجودية.

[2] أي: كما أن المقدمات الوجودية تتبع ذي المقدمة في أصل الوجوب بناء على الملازمة، «وجوبها» وجوب المقدمات الوجودية.

[3] المقدمات الوجوبية: هي ما يتوقف عليها وجوب ذي المقدمة كالاستطاعة للحج، فلو لا الاستطاعة لما وجب الحج، ولا إشكال في خروج هذه المقدمات عن محل البحث والنزاع.

أما على مبنى المصنف - من رجوع القيد إلى الهيئة أي: تقييد الوجوب بالشرط - فلأنه قبل تحقق المقدمة لا وجوب لذي المقدمة حتى يترشح على المقدمة، وبعد تحقق المقدمة يجب ذو المقدمة لكن لا يترشح الوجوب على المقدمة؛ لأنها موجودة، فيكون طلب إيجادها طلباً للحاصل. مثلاً: قبل الاستطاعة لا وجوب للحج كي تجب مقدمته، وبعد الاستطاعة يجب الحج لكن لا يترشح وجوبه على الاستطاعة؛ لأنها موجودة، فلا معنى لطلب إيجادها.

وأما على مبنى الشيخ الأعظم، من رجوع القيد إلى المادة، أي: تقييد الفعل بالشرط لا تقييد الوجوب، فلأنّ الشروط على قسمين - كما مرّ في دليله الثاني - :

فتارة يطلب ذا المقدمة على تقدير تحقق ذلك الشرط اتفاقاً، وتارة أخرى يطلب ذا المقدمة بدون هذا التقدير، فالأول كما لو قال: (الحج على تقدير حصول الاستطاعة اتفاقاً واجب)، فهنا الوجوب غير مقيّد بشيء وإنما الواجب - وهو الحج - مقيد بالتحقّق الاتفاقي للاستطاعة، والثاني كما لو قال: (الصلاة على تقدير

ص: 22

المعلق عليه الإيجاب في ظاهر الخطاب[1] فخروجه مما لا شبهة فيه ولا ارتياب. أما على ما هو ظاهر المشهور والمنصور[2] فلكونه مقدمة وجوبية[3]. وأما على المختار لشيخنا العلامة (أعلى الله مقامه) فلأنه[4] وإن كان من المقدمات الوجودية للواجب إلاّ أنه[5] أخذ على نحوٍ لا يكاد يترشّح عليه الوجوب منه،

-------------------------------------------------------------------

حصول الوضوء مطلقاً واجب) فهنا الوجوب غير مقيّد، والواجب مقيّد بالوضوء لكن لا بوجوده الاتفاقي، فيجب تحصيل الوضوء.

ومن المعلوم عدم وجوب المقدمة المأخوذة بنحو الوجود الاتفاقي، وبعبارة أخرى: الحج واجب من الآن على من سيستطيع في المستقبل، لكن لا يترشح وجوبه على الاستطاعة؛ وذلك لأن المولى صرّح بأخذ (الاستطاعة الاتفاقية) في الحج.

[1] إنما قال: «في ظاهر الخطاب» لأنه على مبنى الشيخ الأعظم لابد من رفع اليد عن هذا الظاهر، وإرجاع الشرط إلى الفعل الواجب، لا إلى الوجوب؛ لوجود المحذور في العمل بهذا الظاهر، وأما على مبنى المصنف فلابد من الأخذ بهذا الظاهر لوجوب العمل بالظواهر إذا لم يكن هناك محذور، ولا محذور في ما نحن فيه.

[2] من إمكان رجوع القيد إلى الهيئة، وبذلك يُقيّد الطلب والوجوب، «فلكونه» أي: الشرط المعلق عليه الإيجاب.

[3] فلا وجوب قبل الشرط، وبعد تحقق الشرط يجب ذو المقدمة، لكن لا يترشح الوجوب منه على الشرط؛ لأن الشرط موجود فلا معنى لطلب إيجاده.

[4] أي: لأن الشرط المعلّق عليه الإيجاب ظاهراً ليس هو شرط الإيجاب واقعاً، بل هو شرط الوجود.

[5] «أنه» أن هذا الشرط، «على نحو» وذلك النحو هو تحقُّقه اتفاقاً، «عليه» على هذا الشرط، «منه» من الواجب الذي هو ذوالمقدمة.

ص: 23

فإنه[1] جعل الشيء واجباً على تقدير حصول ذاك الشرط، فمعه[2] كيف يترشّح عليه الوجوب ويتعلق به الطلب؟ وهل هو[3] إلاّ طلب الحاصل؟

نعم[4]، على مختاره+ لو كانت له مقدمات وجودية غير معلق عليها

-------------------------------------------------------------------

[1] «فإنه» الضمير للشأن، «جُعِل» بالمجهول، «الشيء» كالحج، وحاصل المعنى: إن الشرط ليس هو الاستطاعة المطلقة، بل الشرط هو الاستطاعة الاتفاقية، ولا معنى لترشح الوجوب على الاستطاعة الاتفاقية؛ لأنه لو وجب تحصيلها لم تكن اتفاقية، والمفروض أن الشرط هو وجودها الاتفاقي.

[2] أي: ومع حصول الشرط، وقوله: (ويتعلق به...) عطف تفسيري، أي: وكيف يتعلق بالشرط الطلب؟

[3] «هو» أي: الوجوب، وهذا بيان وجه عدم تعلّق الوجوب بالشرط بعد تحققه.

[4] هذا بيان للفرق بين ما ذهب إليه الشيخ الأعظم وما ذهب إليه المصنف، وحاصله: إن الاستطاعة لا يجب تحصيلها، أما سائر المقدمات الوجودية للحج فعلى رأي المصنف لا يجب تحصيلها أيضاً؛ لعدم وجوب للحج قبل الاستطاعة كي يترشح على سائر المقدمات، وأما على رأي الشيخ الأعظم فيجب تحصيل تلك المقدمات؛ لأن الوجوب فعلي من حين صدور الأمر، لكن الاستطاعة أُخذت بوجودها الاتفاقي، فلا يترشح عليها الوجوب، أما سائر المقدمات - كحفظ الزاد والراحلة - فلم تؤخذ بوجودها الاتفاقي، وحينئذٍ يترشّح الوجوب عليها.

وبعبارة أخرى: على رأي المصنف من عدم الوجوب قبل الاستطاعة لا تجب كل المقدمات؛ لعدم وجوب ذي المقدمة، أما على رأى الشيخ الأعظم من الوجوب من حين الأمر فلا يجب تحصيل الاستطاعة؛ لأنها شرط اتفاقي، ولكن يجب تحصيل سائر المقدمات؛ لأنها شرط مطلق.

ص: 24

وجوبه[1] لتعلق بها الطلب في الحال[2] على تقدير اتفاق وجود الشرط في الاستقبال[3]. وذلك لأنّ إيجاب ذي المقدمة على ذلك[4] حالي، والواجب إنما هو استقبالي - كما يأتي في الواجب المعلق[5] - ، فإن الواجب المشروط على مختاره هو بعينه ما اصطلح عليه صاحب الفصول من المعلق، فلا تغفل.

-------------------------------------------------------------------

[1] في ظاهر الدليل، لأنه لو كان كذلك كانت شروطاً اتفاقية، أما لو لم يُعلّق عليها الوجوب في ظاهر الدليل كانت شروطاً مطلقاً.

[2] أي: حتى قبل تحقق الاستطاعة - في المثال - .

[3] بأن علم المكلّف بأن الاستطاعة - مثلاً - ستتحقق في المستقبل، فيجب عليه من الأول تحصيل سائر المقدمات، كمَن يعلم بأنه سيستطيع في شهر ذي القعدة، وكانت سائر مقدمات الحج في شهر شوال، كالتسجيل وأخذ التأشيرة والبطاقة... الخ. فيجب عليه فعل هذه المقدمات طُرّاً؛ لأن وجوب الحج سابق على الاستطاعة.

أما على رأي المصنف فحيث لا وجوب قبل الاستطاعة فلا يجب عليه تحصيل هذه المقدمات، إلاّ لو قلنا بوجوب تحصيل المقدمات المفوتة، وسيأتي الحديث عنها.

[4] «ذلك» أي: بناءً على مختار الشيخ، «حالي» لعدم تقييد الطلب، «والواجب» وهو الفعل - أي: المادة - ، «استقبالي» لتوقفه على شرط سيتحقق في المستقبل.

[5] «الواجب المعلّق» هو ما كان زمن الوجوب سابقاً على زمن الواجب، كالحج فإنه يجب من أول شوال، لكن وقت القيام به هو التاسع من ذي الحجة، ويقابله (الواجب المُنجَّز) وهو ما تقارن وقت الوجوب والواجب كالصلوات اليومية، فإن وقت الوجوب والواجب هو حين دخول الوقت.

ص: 25

هذا[1] في غير المعرفة والتعلم[2] من المقدمات.

-------------------------------------------------------------------

4- تعلّم مسائل الواجب المشروط قبل الشرط

[1] أي: ما ذكرنا من أن مقدمات الواجب المشروط مشروطة أيضاً، إنما هو في كل المقدمات الوجودية للواجب المشروط، لكن يستثنى من ذلك المعرفة، وهي تعلّم أحكام الواجب المشروط، فإنها مقدمة للواجب، لكنها غير مشروطة بشرطه، فيجب تعلّم مسائل الواجب المشروط - سواء تعلّم أصل وجوبه أم تعلم تفاصيل مسائله - حتى قبل تحقق الشرط.

وهنا نتسائل كيف وجبت هذه المقدمة حتى قبل تحقق الشرط، وما هو الوجه في استثنائها؟

والجواب: أما على مسلك الشيخ الأعظم فواضح؛ لأن الوجوب في الواجب المشروط فعلي، فيمكن ترشح الوجوب إلى مقدماته والتي منها المعرفة.

وأما على مسلك المصنف فلا يمكن القول بترشح وجوب ذي المقدمة على المعرفة؛ وذلك لعدم وجوب ذي المقدمة قبل تحقق الشرط، وإنما تجب المعرفة بحكم العقل.

بيانه: إن الإنسان يعلم إجمالاً بتوجه تكاليف إليه، وهذا العلم الإجمالي منجزّ عليه، ولا ينحل إلاّ بعد الفحص والظفر بمجموعة من التكاليف، بحيث لا يبقى علمٌ بوجود تكاليف أخرى، وهذا الفحص هو عبارة أخرى عن تعلّم المسائل، ثم بعد الفحص إن لم يظفر بالتكليف جاز له إجراء البراءة.

والحاصل: إن وجوب معرفة الأحكام الشرعية وتفاصيلها ليست لأجل كونها مقدمة، حتى يرد إشكالٌ في وجوبها قبل تحقق الشرط في الواجب المشروط، بل وجوب المعرفة بسبب آخر هو حكم العقل بتنجزّ العلم الإجمالي.

[2] العطف تفسيري؛ لأن معرفة الأحكام الشرعية وتفاصيلها تكون عادة عبر التعلّم.

ص: 26

وأما المعرفة: فلا يبعد القول بوجوبها - حتى في الواجب المشروط بالمعنى المختار[1] - قبل حصول شرطه، لكنه لا بالملازمة، بل من باب استقلال العقل[2] بتنجّز الأحكام على الأنام بمجرد قيام احتمالها إلاّ مع الفحص[3] واليأس عن الظفر بالدليل على التكليف، فيستقل بعده[4] بالبراءة، وأنّ العقوبة على المخالفة بلا حجة وبيان، والمؤاخذة عليها بلا برهان، فافهم[5].

-------------------------------------------------------------------

[1] من رجوع القيد إلى الهيئة، فلا وجوب قبل تحقق الشرط، وقوله: «قبل حصول...» متعلق ب- (القول بوجوبها)، «لكنه» أي: الوجوب.

[2] فإن العقل يستقل بأن التكليف الواقعي الذي صدر من المولى يتنجزّ على العبد لو احتمل العبد وجوده، فلابدّ على العبد من الفحص حتى ييأس عن الظفر بالتكليف، فحينئذٍ يستقل العقل باجراء البراءة؛ لأنه لو كان هناك تكليف واقعي لم يظفر به العبد رغم فحصه فإن العقاب عليه عقاب بلا بيان، وهو قبيح، وسيأتي تفصيل هذا في بحث البراءة.

[3] والفحص عبارة أخرى عن التعلّم.

[4] أي: بعد الفحص، وهذا أحد المباني، ومن المباني أنه يستقل بالاحتياط لو لا البراءة الشرعية، وقوله: «وأن العقوبة...» تفسير للبراءة العقلية.

[5] لعلّه إشارة إلى أن هذا الكلام - بوجوب تحصيل المعرفة - إنما يصح لو لم يمكن الاحتياط، ومع إمكانه لا يجب الفحص، مثلاً: من يحتمل وجوب شيء إذا أراد الاحتياط بإتيانه فلا يجب عليه الفحص - الذي هو تحصيل المعرفة - .

أو إشارة إلى أنه قبل حصول الشرط لا وجوب قطعاً، فالمكلف لا يحتمل التكليف فكيف يتنجز عليه التكليف مع القطع بعدم وجوده؟!

أو إشارة إلى أنه قد يمكن تحصيل المعرفة بعد حصول الشرط، فلا يستقل العقل بوجوبها من قبل.

ص: 27

تذنيب[1]: لا يخفى[2]: أن إطلاق الواجب على الواجب المشروط بلحاظ حال حصول الشرط[3] على الحقيقة مطلقاً.

وأما بلحاظ حال قبل حصوله[4]: فكذلك - على الحقيقة - على مختاره+ في الواجب المشروط، لأن الواجب وإن كان أمراً استقبالياً[5] عليه إلاّ أن تلبسه بالوجوب

-------------------------------------------------------------------

5 - في إطلاق الواجب على الواجب المشروط

[1] يبحث المصنف في هذا التذنيب في موضوعين:

الأول: في أن إطلاق الواجب على الواجب المشروط هل هو على نحو الحقيقة أم هو مجاز؟

الثاني: في أن صيغة الأمر في الواجب المشروط استعملت في معناها الحقيقي - وهو الطلب - .

[2] شروع في الموضوع الأول، ومحصّله: إنه بعد تحقق الشرط لا إشكال في أن إطلاق الواجب على المشروط إطلاق حقيقي، فالحج بعد الاستطاعة واجب قطعاً على جميع المباني.

وأما قبل تحقق الشرط، فعلى مبنى الشيخ الأعظم يكون الإطلاق حقيقياً؛ لأن الوجوب فعلي، وإنما وقت الإتيان به مستقبلي، وأما على مبنى المصنف يكون الإطلاق مجازياً؛ إذ لا وجوب ولا واجب فعلاً، وإنما صحّ هذا المجاز بعلاقة الأَوْل أو المشارفة.

[3] كأن نقول: إن الحج بعد تحقق الاستطاعة واجب، «مطلقاً» سواء على مبنى الشيخ من أن القيد يرجع إلى الهيئة، أم على مبنى المصنف من رجوع القيد إلى المادة.

[4] قبل حصول الشرط، وشرح قوله: (فكذلك) بقوله: (على الحقيقة)، «مختاره» ما اختاره الشيخ الأعظم.

[5] أي: زمان الفعل إنما هو في المستقبل، «الواجب» هو الفعل الذي تعلق به الوجوب كالحج، «عليه» أي: على مختاره.

ص: 28

في الحال[1]. ومجاز على المختار، حيث لا تلبس بالوجوب عليه قبله[2]، كما عن البهائي(1) تصريحه بأن لفظ الواجب مجاز في المشروط بعلاقة الأوْل أو المشارفة[3].

وأما الصيغة[4]

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: في حال إطلاق الوجوب عليه - حتى قبل تحقق الشرط - .

[2] «عليه» على المختار، «قبله» قبل تحقق الشرط.

[3] والفرق بينهما: أن «الأَوْل» هو تبدل ذات إلى أخرى، كالعنب إلى الخمر، فإطلاق الخمر على العنب مجازي، كما في قوله: {إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَعۡصِرُ خَمۡرٗاۖ}(2)، و«المشارفة» تبديل الوصف مع وحدة الذات، كإطلاق الميّت على المحتضر، كما في قولهم: (إذا مات الميت).

[4] شروع في الموضوع الثاني، ومحصّله: إن صيغة الأمر تدل على الطلب المبهم - أي: الطلب الكلي الجامع بين الطلب المطلق والطلب المقيّد - وأما الإطلاق والاشتراط فيستفادان من دالٍّ آخر، فالإطلاق من مقدمات الحكمة والتقييد من الشرط.

فلو قال: (أكرم زيداً) فصيغة الأمر دلت على أصل الطلب، وإطلاق الوجوب استفيد من مقدمات الحكمة، ولو قال: (إن جاء زيد فأكرمه) فقد دلت الصيغة على أصل الطلب، ودلّ الشرط على تقييد الوجوب بالمجيء.

ومن كل ذلك نعلم أن استعمال الصيغة في الواجب المشروط هو استعمال بالمعنى الحقيقي، وأن القول بالمجازية فيه يستلزم القول بالمجازية في الواجب المطلق أيضاً؛ لأن معنى الصيغة هو الطلب المبهم.

والحاصل: إنّ الصيغة في كليهما استعملت في معناها الحقيقي، وأمّا الإطلاق والتقييد فقد استفيدا من دال آخر، فلا مجازية في كليهما أصلاً.

ص: 29


1- زبدة الأصول: 46؛ مطارح الأنظار 1: 229.
2- سورة يوسف، الآية: 36.

مع الشرط: فهي حقيقة على كل حال[1]، لاستعمالها على مختاره+ في الطلب المطلق[2]، وعلى المختار في الطلب المقيد على نحو تعدد الدال والمدلول[3]. كما هو الحال[4] في ما إذا أريد منها المطلق المقابل للمقيد، لا المبهم المقسم[5]، فافهم[6].

ومنها: تقسيمه[7] إلى المعلق والمنجّز.

-------------------------------------------------------------------

[1] سواء على مبنى الشيخ الأعظم أم على مبنى المصنف.

[2] أي: غير المقيّد بالشرط؛ وذلك لأن الشرط يرجع إلى المادة على مختاره.

[3] فلا مجازية أصلاً؛ لأن الصيغة استعملت على كل حال في معناها الحقيقي وهو الطلب المبهم.

[4] أي: إن تعدد الدال والمدلول ليس خاصاً بمبنى المصنف، بل يجرى على مبنى الشيخ الأعظم أيضاً؛ لأن أصل الطلب استفيد من الصيغة، والإطلاق استفيد من مقدمات الحكمة، «منها» من الصيغة.

[5] وهو اللابشرط المقسمي، فحينما نقول: (الطلب إما مطلق وإما مقيد) يكون المقسم هو (الطلب) ولابد من أن يكون جامعاً للمطلق والمقيد ليكونا من أقسامه، وليس هذا المقسم هو الطلب المطلق، وإلاّ لزم تقسيم الشيء إلى نفسه وإلى غيره وهو محال، بل هو طلب مبهم، الذي يمكن اتصافه بالإطلاق وبالتقييد.

[6] لعله إشارة إلى أن هذا الكلام إنما يصح لو قلنا: إنّ الصيغة وضعت للطلب، وأما على مبنى أن استفادة (الطلب) من الإطلاق أو بدلالة العقل فلا أساس لكل هذا البحث.

التقسيم الثاني: تقسيم الواجب إلى معلّق ومنجّز
اشارة

[7] أي: تقسيم الواجب، وفي الواقع إنه تقسيم للواجب المطلق إلى المنجز والمعلّق - كما سيتضح - .

ص: 30

قال في الفصول: «إنه ينقسم باعتبار آخر[1] إلى ما يتعلق[2] وجوبه بالمكلف ولا يتوقف حصوله على أمر غير مقدور له كالمعرفة، وليُسَمَّ: «منجّزاً»، وإلى ما يتعلق[3] وجوبه به، ويتوقف حصوله على أمر غير مقدور له، وليسمَّ: «معلقاً»، كالحج، فإن وجوبه يتعلق بالمكلف من أول زمن الاستطاعة[4] أو خروج الرفقة، ويتوقف فعله على مجيء وقته، وهو[5] غير مقدور له، والفرق بين هذا النوع[6] وبين الواجب المشروط هو أن التوقف هناك للوجوب وهنا للفعل»(1)، انتهى كلامه،

-------------------------------------------------------------------

[1] وهو باعتبار زمان الواجب.

[2] أي: هو واجب مطلق؛ لأن زمان وجوبه فعلي، كما أن زمان الواجب فعلي أيضاً، بمعنى أن الواجب لا يتوقف على شيء مستقبلي غير مقدور للمكلف كالزمان، مثلاً: معرفة أصول الدين زمان وجوبها فعلي، كما أن تلك المعرفة غير متوقفة على شيء.

[3] وهو أيضاً واجب مطلق؛ لأن زمان وجوبه فعلي أيضاً، لكن زمان الواجب مستقبلي، فيتوقف الواجب على أمر غير مقدور للمكلف كالزمان، مثلاً: الحج وجوبه من حين الاستطاعة، لكن زمان الواجب - أعني مناسك الحج - هو في التاسع من ذي الحجة، ومجيء هذا الزمان غير مقدور للمكلّف.

«وجوبه» وجوب الواجب - أي: الفعل - ، «به» بالمكلّف.

[4] على مبنى كثير من الفقهاء، وعلى مبنى آخرين وجوبه يتوقف على أمرين: الاستطاعة وخروج الرفقة، وفي مبنى آخر على الاستطاعة وحلول شهر شوال، وهو أول أشهر الحج، «فعله» أي: فعل الحج ومناسكه، وهذا هو الواجب.

[5] أي: ومجيء الوقت غير مقدور للمكلّف.

[6] أي: الواجب المعلّق، وحاصله: إن القيد قد يكون للمادة - أي: الفعل الواجب - فهذا هو المعلّق، وقد يكون للهيئة - أي: للوجوب والطلب - فهذا هو المشروط.

ص: 31


1- الفصول الغروية: 79.

رفع مقامه[1].

لا يخفى[2]: أن شيخنا العلامة (أعلى الله مقامه) - حيث اختار في الواجب المشروط ذاك المعنى[3]،

-------------------------------------------------------------------

إشكالات على الواجب المعلّق
اشارة

[1] وقد أشكل على الواجب المعلّق إشكالات متعددة:

منها: ما يرجع إلى عدم فرقه عن المشروط كإشكال الشيخ الأعظم.

ومنها: ما يرجع إلى عدم فائدته كإشكال المصنف.

ومنها: ما يرجع إلى استحالته كإشكال المحقق النهاوندي(1).

ومنها: ما يرجع إلى عدم القدرة عليه.

ومنها: إرجاع المعلّق إلى المشروط بواسطة الشرط المتأخر.

الإشكال الأول: للشيخ الأعظم

[2] قد اتضح أن الفرق بين المشروط والمعلق هو أن المشروط ما رجع القيد فيه إلى الهيئة، والمعلّق ما رجع القيد فيه إلى المادة. ولكن حيث أنكر الشيخ الأعظم رجوع القيد إلى الهيئة - أي: الطلب - لاستحالة ذلك على رأيه، فأرجع جميع القيود إلى المادة - أي: الفعل الواجب - فحينئذٍ لا فرق بين المشروط والمعلّق؛ لرجوع القيد في كليهما إلى المادة؛ ولذا أشكل الشيخ الأعظم على صاحب الفصول هذا التقسيم.

ولا يخفى أن إنكار الشيخ يرجع إلى إنكار الواجب المشروط بالمعنى الذي ذكره المشهور - وهو رجوع القيد إلى الهيئة - ففي الحقيقة يسلّم الشيخ بالواجب المعلق - الذي هو رجوع القيد إلى المادة - ولكنه يُسمّيه مشروطاً.

[3] بعدم رجوع الشرط إلى الهيئة - أي: الطلب - وإنما يرجع إلى المادة - أي: الفعل - .

ص: 32


1- تشريح الأصول: 191.

وجعل الشرط[1] لزوماً من قيود المادة ثبوتاً وإثباتاً[2]، حيث ادعى[3] امتناع كونه من قيود الهيئة كذلك، أي إثباتاً وثبوتاً[4]، على خلاف القواعد العربية[5] وظاهر المشهور[6]، كما يشهد به[7] ما تقدم آنفاً عن البهائي - أنكر[8] على الفصول هذا التقسيم(1)،

ضرورة[9] أن المعلّق بما فسّره يكون من المشروط بما اختار له من المعنى

-------------------------------------------------------------------

[1] هذه العبارة إلى قوله: (... عن البهائي) جملة معترضة، وهي تكرار لكلام الشيخ الأعظم في الواجب المشروط، كما مرّ.

[2] أي: واقعاً وظاهراً.

[3] هذا دليل لزوم رجوع القيد إلى المادة، «كونه» كون الشرط.

[4] «ثبوتاً» باستحالة رجوع القيد إلى الهيئة كما ذكره في دليله الأول، و«إثباتاً» بشهادة الوجدان برجوع القيد إلى المادة، كما ذكره في دليله الثاني.

[5] أي: خلاف ظاهر الشرط.

[6] أي: وعلى خلاف ظاهر مشهور الأصوليين من رجوع القيد إلى الهيئة.

[7] أي: بكونه خلاف القواعد العربية وخلاف ظاهر المشهور، «ما تقدم عن البهائي» حيث قال: إن إطلاق الواجب على المشروط مجاز، ومن الواضح أنه لا مجاز بناءً على رجوع القيد إلى المادة، لأن الوجوب موجود فعلاً حتى قبل تحقق الشرط، أما بناء على رجوع القيد إلى الهيئة فلا وجوب قبل تحقق الشرط، فإطلاق الوجوب عليه مجاز بعلاقة الأَوْل أو المشارفة - كما مرّ - ومن المعلوم أن مقتضى القواعد العربية وكذا ظاهر المشهور عدم المجازية.

[8] «أنكر» خبر (أن) في قوله: (لا يخفى أن شيخنا... الخ).

[9] بيان لوجه إنكاره، «بما فسره» أي: بالمعنى الذي بينه الفصول، «بما اختار» الشيخ الأعظم، «له» للمشروط.

ص: 33


1- مطارح الأنظار 1: 263.

على ذلك[1]، كما هو واضح، حيث لا يكون حينئذٍ هناك معنى آخر معقول كان هو المعلّق المقابل للمشروط.

ومن هنا[2] انقدح أنه في الحقيقة إنما أنكر الواجب المشروط بالمعنى الذي يكون هو ظاهر المشهور والقواعد العربية، لا الواجب[3] المعلق بالتفسير المذكور. وحيث[4] قد عرفت بما لا مزيد عليه إمكان رجوع الشرط إلى الهيئة، كما هو ظاهر القواعد وظاهر المشهور، فلا يكون مجال لإنكاره عليه[5].

نعم[6]، يمكن أن يقال:

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: على جعل الشرط من قيود المادة - ثبوتاً وإثباتاً - .

[2] من كون المعلّق هو المشروط عند الشيخ، «أنه» أن الشيخ، والمقصود أن الشيخ في الواقع يقبل الواجب المعلّق لكنه ينكر المشروط بالمعنى المشهور، فكان عليه أن يذكر هذا الإشكال في التقسيم السابق، ويكون إشكاله على المشهور لا على صاحب الفصول.

[3] أي: لا أنه ينكر الواجب المعلّق، «التفسير المذكور» الذي ذكره صاحب الفصول.

[4] هذا إشكال من المصنف على الشيخ، وحاصله: إمكان الواجب المشروط على حسب تفسير المشهور - من رجوع القيد إلى الهيئة أي: الطلب - وحينئذٍ فلا يرجع المشروط إلى المعلّق - الذي هو رجوع القيد إلى المادة، أي: الفعل - .

[5] أي: لا مجال لإنكار الشيخ الأعظم على الفصول.

الإشكال الثاني: عدم فائدة هذا التقسيم

[6] هذا هو الإشكال الثاني على الواجب المعلّق، وهو إشكال ارتضاه المصنف، وحاصله: إنه لا ثمرة تترتب على الواجب المعلّق، ومن الواضح أنه لا يصح التقسيم إلاّ لفائدة.

ص: 34

إنه لا وقع لهذا التقسيم، لأنه[1] بكلا قسميه من المطلق[2] المقابل للمشروط، وخصوصية[3] كونه حالياً أو استقبالياً لا توجبه ما لم توجب الاختلاف في المهم[4]، وإلاّ[5] لكثر تقسيماته لكثرة الخصوصيات، ولا اختلاف فيه[6]، فإن[7]

-------------------------------------------------------------------

بيانه: إن الواجب المطلق - الذي لا تقييد لوجوبه - قد يكون الفعل فيه حالياً فهو المنجّز، وقد يكون استقبالياً فهو المعلّق، ففي كليهما الوجوب مطلق لا قيد فيه، فتجب مقدمة هذا الواجب مطلقاً إن قلنا بالملازمة بين وجوب ذي المقدمة ووجوب المقدمة، فلا فرق بين المنجّز والمعلّق من هذه الجهة، ولا ثمرة أخرى تترتب، فيكون هذا التقسيم لغواً ومن غير فائدة.

[1] أي: لأن الواجب - سواء كان منجزاً أم معلقاً - .

[2] أي: نُسلّم بأن وقت الفعل - أي: الواجب - قد يكون استقبالياً وقد يكون حالياً، لكن الوجوب فعلي في كليهما، فيكونان من الواجب المطلق الذي لا قيد للوجوب فيه، المقابل للواجب المشروط الذي قُيّد الوجوب بحصول شرط.

[3] أي: الفرق بينهما بأن المنجز ما كان وقت الفعل الواجب حالياً، وبأن المعلّق ما كان وقت الفعل الواجب استقبالياً، «كونه» كون الواجب، «لا توجبه» أي: لا تكون سبباً لهذا التقسيم.

[4] أي: في الغرض، وهو ترشح الوجوب على المقدمة بناء على الملازمة.

[5] أي: لو كانت كل خصوصية موجبة للتقسيم.

[6] أي: ولا اختلاف في الأثر في الواجب المعلّق والمنجّز.

[7] أي: إن الثمرة التي رتبها صاحب الفصول على هذا التقسيم - وهي وجوب المقدمة فعلاً - إنما هي ثمرة للواجب المطلق، فهي تجري في كلا القسمين، أي: المعلّق والمنجز، حيث إن الوجوب في كليهما فعلي فيترشح على مقدمته بناء على الملازمة.

«ما رتبه» صاحب الفصول، «عليه» على هذا التقسيم، «فعلاً» أي: قبل تحقق الشرط.

ص: 35

ما رتبه عليه من وجوب المقدمة فعلاً - كما يأتي - إنما هو من أثر إطلاق وجوبه وحاليته[1]، لا من استقبالية الواجب[2]، فافهم[3].

ثم إنه ربما حكي عن بعض أهل النظر[4] من أهل العصر إشكال في الواجب

-------------------------------------------------------------------

[1] وحيث إن المنجز والمعلّق من أقسام المطلق فتجب المقدمة فيهما فعلاً بلا فرق.

[2] أي: الفعل الواجب حيث إنه استقبالي في المعلّق، وحالي في المنجز، ووجوب المقدمة لا يرتبط بهذا، بل يرتبط بما يشترك فيه المنجز والمعلّق.

[3] لعلّه إشارة إلى أن صاحب الفصول لم يكن بصدد بيان الفرق بين المنجزّ والمعلّق حتى يرد عليه هذا الإشكال، بل كان بصدد بيان الفرق بين المشروط والمعلّق، وأن الثمرة هي أنه في المشروط لا تجب المقدمة؛ لأن الوجوب استقبالي، وأنه في المعلّق تجب المقدمة؛ لأن الوجوب حالي رغم أن الفعل الواجب استقبالي، فمثلاً: قبل الزوال لا يجب حفظ الماء الذي هو مقدمة، أما قبل التاسع من ذي الحجة فإنه تجب الحركة إلى الحج على المستطيع.

الإشكال الثالث: انفكاك الإرادة عن المراد

[4] قيل هو المحقق النهاوندي في كتاب تشريح الأصول(1)،

وحاصل الإشكال: هو استحالة انفكاك الإرادة عن المراد في الإرادة التكوينية وكذلك في الإرادة التشريعية، فيستحيل الواجب المعلّق؛ لأن الطلب - وهو إرادة تشريعيّة - في المعلّق فعليٌ، لكن المراد وهو الواجب استقبالي.

أمّا استحالة الانفكاك في الإرادة التكوينية فلأنّها الشوق المؤكد المحرّك للعضلات نحو المراد، فإذا لم يكن تحريك لم تكن إرادة.

وأما استحالة الانفكاك في الإرادة التشريعية فلأنّه لا فرق بين الإرادتين إلاّ في المتعلّق، فحقيقتهما واحدة، غاية الأمر في التكوينية يكون المراد هو فعل النفس، وفي التشريعية يكون المراد فعل الغير.

ص: 36


1- تشريح الأصول: 191.

المعلق، وهو: أن الطلب والإيجاب إنما يكون بإزاء الإرادة المحركة للعضلات نحو المراد[1]. فكما لا تكاد تكون الإرادة[2] منفكة عن المراد فليكن الإيجاب غير منفك عمّا يتعلق به، فكيف يتعلق بأمر استقبالي؟! فلا يكاد يصح الطلب والبعث فعلاً نحو أمر متأخر.

قلت[3]:

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: هو كالإرادة التكوينية.

[2] أي: التكوينية، «الإيجاب» وهو إرادة تشريعيّة، «عما يتعلق به» أي: عن الفعل الواجب، «فكيف يتعلّق» أي: الإيجاب.

[3] يجيب المصنف عن الإشكال بثلاثة أجوبة، فجوابان في المقيس عليه، أي: في الإرادة التكوينية، وجواب في المقيس، أي: في الإرادة التشريعية.

أما الجوابان في المقيس عليه فهما جوابان طوليان:

الجواب الأول: إمكان تأخر المراد عن الإرادة؛ وذلك لأنّ الإرادة التكوينية: تارة تتعلّق بشيء لا مقدمات له، فتتقارن الإرادة مع المراد، وتارة أخرى تتعلّق بشيء له مقدمات، فلا محالة يكون الانفكاك؛ وذلك لأن الإنسان يتحرك نحو المقدمات، وبعد الانتهاء منها أجمع يصل إلى المراد، وقد تكون المقدمات كثيرة وتحتاج إلى زمان طويل، مثلاً: من يريد السفر إلى مكان بعيد فإن المراد - وهو الوصول إلى ذلك المكان - لا يتحقق إلاّ بعد الإتيان بالمقدمات من الزاد والراحلة وقطع المسافة ونحو ذلك.

وحاصل هذا الجواب هو تسليم الاحتياج إلى التحريك الفعلي، لكن (المتحرّك إليه) تارة يكون المراد، وتارة أخرى يكون مقدمة له.

الجواب الثاني: ليس المراد من (التحريك) التحريك الفعلي؛ إذ لا يشترط في الإرادة (التحريك الفعلي)، ومقصودهم في تعريف الإرادة ب- (الشوق المؤكد المستتبع

ص: 37

فيه أن الإرادة[1] تتعلق بأمر متأخر استقبالي، كما تتعلق بأمر حالي، وهو أوضح من أن يخفى على عاقل، فضلاً عن فاضل، ضرورة[2] أن تحمل المشاق في تحصيل المقدمات في ما إذا كان المقصود[3] بعيد المسافة وكثير المؤونة ليس إلاّ لأجل تعلق إرادته به، وكونه مريداً له قاصداً إياه لا يكاد يحمله على التحمل إلاّ ذلك[4].

ولعلّ[5] الذي أوقعه في الغلط ما قرع سمعه من تعريف الإرادة بالشوق المؤكد(1)

المحرك للعضلات نحو المراد، وتوهم[6] أن تحريكها نحو المتأخر مما لا يكاد.

-------------------------------------------------------------------

لتحريك العضلات) هو التحريك الشأني، أي: إن الإرادة هي الشوق الأكيد الذي يمكن أن يُحرّك نحو المراد؛ وذلك لإمكان تعلّق الإرادة بشيء متأخر لا مقدمات له، فلا توجد حينئذٍ حركة لا نحو الفعل ولا نحو مقدماته.

والحاصل: إن معنى الإرادة هي الشوق الأكيد بحيث لو تعلق بشيء حالي لا مقدمات له لكان سبباً للحركة نحوه، ولو تعلق بشيء استقبالي له مقدمات لكان سبباً للحركة نحو مقدماته، ولو تعلق بشيء استقبالي لا مقدمات له لم يكن سبباً للحركة أصلاً.

وحاصل هذا الجواب عدم تسليم الاحتياج إلى التحريك الفعلي.

[1] هذا الجواب الأول، «الإرادة» التكوينية، «بأمر» أي: بشيء.

[2] بيان كيفية تعلقها بأمر استقبالي.

[3] أي: المراد الأصلي، وقوله: «ليس إلاّ...» خبر (أن تحمل...)، «إرادته» أي: إرادة المريد، «به» بالمقصود البعيد، و«كونه» كون المريد.

[4] أي: تعلق الإرادة.

[5] شروع في الجواب الثاني.

[6] أي: تصور استحالة الحركة نحو شيء متأخر.

ص: 38


1- شرح المنظومة: 184.

وقد غفل[1] عن أن كونه محركاً نحوه يختلف حسب اختلافه في كونه مما لا مؤونة له كحركة نفس العضلات[2]، أو مما له مؤونة[3] ومقدمات قليلة أو كثيرة. فحركة العضلات تكون أعم من أن تكون بنفسها مقصودة أو مقدمة له[4]، والجامع[5] أن يكون نحو المقصود.

بل مرادهم[6] من هذا الوصف في تعريف الإرادة بيان مرتبة الشوق الذي يكون هو الإرادة، وإن لم يكن هناك فعلاً تحريك، لكون[7] المراد وما اشتاق إليه كمال الاشتياق أمراً استقبالياً غير محتاج إلى تهيئة مؤونة أو تمهيد مقدمة، ضرورة[8] أن شوقه إليه ربما يكون أشد من الشوق المحرك فعلاً نحو أمر حالي أو استقبالي محتاج إلى ذلك[9] هذا.

-------------------------------------------------------------------

[1] ردّ للتوهم المذكور، وحاصله: إنه لا يراد الحركة الفعلية، بل الحركة الشأنية، «كونه» كون الإرادة، وكان الأولى تأنيث الضمير، «نحوه» نحو المراد، «اختلافه» أي: اختلاف كيفية المراد، «كونه» كون المراد.

[2] أي: ككون المراد حركة العضلات.

[3] أي: لا يحتاج إلى مقدمات أصلاً، كما لو أراد نفس حركة العضلات، فلا يحتاج إلى مقدمة، فحينئذٍ لا تنفك الإرادة عن المراد فعلاً.

[4] أي: مقدمة للمقصود.

[5] أي: الجامع بين هاتين الحركتين هو أن تكون الحركة نحو المقصود، سواء بالمباشرة أم عبر المقدمات.

[6] هذا الجواب الثاني، «هذا الوصف» أي: الشوق المحرّك للعضلات.

[7] بيان سبب عدم وجود التحريك الفعلي.

[8] هذا دليل وجود الإرادة مع عدم تحريك، «شوقه» أي: المريد، «إليه» إلى المراد.

[9] أي: إلى تمهيد مقدمة.

ص: 39

مع أنه[1] لا يكاد يتعلق البعث إلاّ بأمر متأخر عن زمان البعث، ضرورة[2] أن البعث إنما يكون لإحداث الداعي للمكلف إلى المكلف به بأن يتصوره[3] بما يترتب عليه من المثوبة وعلى تركه من العقوبة، ولا يكاد يكون هذا[4] إلاّ بعد البعث بزمان، فلا محالة يكون البعث نحو أمر متأخر عنه بالزمان، ولا يتفاوت[5] طوله وقصره في ما هو ملاك الاستحالة[6] والإمكان في نظر العقل الحاكم في هذا الباب[7].

-------------------------------------------------------------------

[1] هذا هو الجواب الثالث، وهو يتعلق ب- (المقيس) أي: في الإرادة التشريعية، كما أن الجوابين الأول والثاني كانا يتعلقان (بالمقيس عليه) أي: الإرادة التكوينية.

وحاصل الجواب الثالث: إنه لابد من انفكاك الإرادة عن المراد في الإرادة التشريعية - حتى لو لم نلتزم بالانفكاك في الإرادة التكوينية - ؛ وذلك لأنه بعد أن يُصدر المولى أمره لابد للعبد من أن يتصوّر ذلك الأمر، ويتصوّر ما فيه من الثواب وفي تركه من العقاب، وبعد ذلك يتحرّك نحو الامتثال، ومن الواضح أن المراد قد انفكّ عن الإرادة ولو بزمان قصير، فإذا أمكن الانفكاك بمقدار قليل كما في المنجزّ، فلا محذور من الانفكاك بمقدار كثير كما في المعلّق، «أنه» الضمير للشأن.

[2] دليل تأخر المراد في الإرادة التشريعية.

[3] أي: يتصوّر (المكلّف به) وهو الفعل المأمور به.

[4] أي: إيجاد الداعي المتوقف على تصوره وتصور الثواب فيه والعقاب على تركه، و«نحو» خبر يكون، «أمرٍ» أي: شيء، و«متأخرٍ» صفة (أمرٍ).

[5] أي: إذا أمكن التأخير فلا فرق حينئذٍ بين (المنجزّ) الذي يكون التأخير فيه قليلاً، و(المعلّق) الذي يكون التأخير فيه كثيراً.

[6] أي: انفكاك البعث عن الانبعاث، فلو كان الانفكاك مستحيلاً فلا فرق في الاستحالة بين المقدار القصير والمقدار الطويل، وحيث ثبت إمكان الانفكاك القصير ثبت أيضاً إمكان الانفكاك الطويل.

[7] أي: باب الإرادة.

ص: 40

ولعمري ما ذكرناه واضح لا سترة عليه، والإطناب إنما هو لأجل رفع المغالطة الواقعة في أذهان بعض الطلاب.

وربما أشكل[1] على المعلق أيضاً بعدم القدرة على المكلَّف به في حال البعث، مع أنها من الشرائط العامة.

وفيه[2]: إنّ الشرط إنما هو القدرة على الواجب في زمانه[3]، لا في زمان الإيجاب والتكليف، غاية الأمر يكون من باب الشرط المتأخر[4]، وقد عرفت بما لا

-------------------------------------------------------------------

أقول: إن المصنف بنى على أن المراد في الإرادة التشريعية هو الإرادة المتعلقة بفعل الغير، ولذا ذهب إلى انفكاكها عن المراد، ولكن الصحيح أن المراد في الإرادة التشريعيّة هو صدور نفس الحكم، فلا انفكاك بين إرادة المولى ومراده الذي هو صدور الحكم منه، وأما فعل الغير فهو الغرض من التشريع، وليس هو المراد، فتأمل.

الإشكال الرابع: عدم القدرة على المكلّف به

[1] حاصله: إن (القدرة) من الشرائط العامة للتكليف، فإذا لم يكن قادراً لا يكون مكلفاً؛ وذلك بحكم العقل، وفي الواجب المعلّق لا قدرة على الفعل قبل تحقق الشرط، فقبل حلول التاسع من ذي الحجة لا يتمكن المكلّف من أداء الحج، فكيف يكون الوجوب فعلياً قبل تحقق الشرط؟

[2] حاصل الجواب: إن الشرط عقلاً هو القدرة في زمان الفعل لا القدرة في زمان الوجوب، فإذا قال المولى: (أكرم زيداً غداً) فإن كان قادراً على إكرامه في الغد صحّ التكليف، حتى ولو لم يكن قادراً حين صدور الأمر، ولو انعكس الفرض لم يصح التكليف، كما لو كان قادراً على الإكرام الآن وكان عاجزاً عنه في الغد.

[3] أي: في زمان الواجب، لا في زمان الوجوب.

[4] أي: يكون الوجوب حالياً بشرط القدرة على الواجب في وقته، ففي المثال يكون وجوب الإكرام من حين صدور الأمر بشرط كونه قادراً عليه في يوم غد.

ص: 41

مزيد عليه أنه[1] كالمقارن من غير انخرام للقاعدة العقلية[2] أصلاً، فراجع.

ثم[3]

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: إن الشرط المتأخر.

[2] وهي لزوم تقارن العِلة - بكل أجزائها - مع المعلول.

الإشكال الخامس: إرجاع المعلّق إلى المشروط

[3] هذا شروع في إشكال خامس على الواجب المعلّق، وحاصله: إنه يمكن الحصول على نتيجة الواجب المعلّق من الواجب المشروط إذا قلنا: إنّ الشرط في الواجب المشروط من الشرط المتأخر، بل كلّ واجب معلَّق يمكن أن نعتبره واجباً مشروطاً بشرط متأخر.

وبيان ذلك يتوقف على تمهيد مقدمة، وهي: إن صاحب الفصول(1)

خصّ الواجب المعلّق في بداية كلامه بما إذا توقف الواجب على أمر غير مقدور، كحلول التاسع من ذي الحجة، ثمّ عمَّم الواجب المعلّق بما إذا توقف الواجب على أمر استقبالي، سواء كان غير مقدور أم كان مقدوراً، فأشكل عليه المحقق الرشتي(2)

بأن التعميم اشتباه، بل لابد من حصر المعلّق بما إذا توقف الواجب على أمر استقبالي غير مقدور.

والمصنف يقول: إنه لابد من تعميم الواجب المعلّق، كما فعله صاحب الفصول.

وعليه: فإذا توقف الواجب على أمر استقبالي - سواء كان مقدوراً أم غير مقدور - مع كون الوجوب فعلياً، فحينئذٍ يترشح الوجوب إلى المقدمات الوجودية، عكس الواجب المشروط الذي لا يكون واجباً قبل تحقق الشرط، فلا يترشح الوجوب على مقدماته.

ص: 42


1- الفصول الغروية: 79 - 80.
2- بدائع الأفكار: 321.

لا وجه لتخصيص المعلّق بما يتوقف حصوله على أمر غير مقدور[1]، بل ينبغي تعميمه إلى أمر مقدور متأخر[2]، أخذ على نحوٍ يكون[3]

-------------------------------------------------------------------

إذا اتضحت هذه المقدمة، يقول المصنف: إنّه يمكن أن نحصل على هذه النتيجة - أي: وجوب المقدمات قبل تحقق الشرط - حتى في الواجب المشروط؛ وذلك بأن نعتبر الشرط من الشرط المتأخر، مثل أن نقول: إن الحج واجب من الآن بشرط حصول الاستطاعة في ما بعد، فلذا يجب تهيئة المقدمات، مثلاً: لو توقف الحج على التسجيل، وهذا التسجيل يكون في شهر رمضان مثلاً، وهذا الشخص غير مستطيع في شهر رمضان، لكنه يعلم بحصول الاستطاعة له في شهر شوال، فيمكن القول: إن وجوب الحج ثابت في ذمته من شهر رمضان، رغم عدم تحقق الشرط الذي هو الاستطاعة، وكانت الاستطاعة في شوال شرطاً متأخراً، وحينئذٍ تجب مقدمات الحج من شهر رمضان - بناءً على الملازمة - فإذن أمكن الحصول على نتيجة الواجب المعلّق - وهي وجوب المقدمات الوجودية - من الواجب المشروط بنحو الشرط المتأخر، فتبيّن أنه لا حاجة إلى الواجب المعلّق، بل في الحقيقة كان الواجب المعلّق من مصاديق الواجب المشروط دائماً.

[1] قال بعض المحشين والشرّاح(1):

إنه إشكال على صاحب الفصول، لكن قد عرفت أن صاحب الفصول عمّم الواجب المعلّق، فأشكل عليه المحقق الرشتي، والمصنف هنا يريد الانتصار لصاحب الفصول والإشكال على المحقق الرشتي.

[2] كما لو قال: (إكرام زيد على تقدير زيارتك له اتفاقاً واجب) فالوجوب فعلي، لكن الواجب - وهو الإكرام - استقبالي، وهو متوقف على أمر مقدور - وهو الزيارة - لكن مع عدم وجوب الزيارة، بل أخذت الزيارة الاتفاقية شرطاً للواجب.

[3] وفي بعض النسخ (لا يكون) وفي الوصول: (اختلفت النسخ في حذف حرف النفي - أعني كلمة لا - وإثباته، والمعنى واحد على التقديرين؛ إذ لو كان نفياً كان

ص: 43


1- حقائق الأصول 1: 248.

مورداً للتكليف ويترشح[1] عليه الوجوب من الواجب أو لا، لعدم تفاوت[2] في ما يهمّه من وجوب تحصيل المقدمات التي لا يكاد يقدر عليها في زمان الواجب المعلق[3] دون المشروط، لثبوت[4] الوجوب الحالي فيه، فيترشح منه الوجوب على المقدمة - بناءً على الملازمة - دونه[5]، لعدم ثبوته فيه إلاّ بعد الشرط.

نعم[6]، لو كان الشرط على نحو الشرط المتأخر وفرض وجوده[7] كان الوجوب

-------------------------------------------------------------------

قوله بعد (أوْ لا) إثباتاً، لأنه نفي النفي، وإن كان هذا إثباتاً كان قوله (أوْ لا) نفياً، والمعنى: إنه لا يفرق في تعلق الواجب بأمر مقدور متأخر بين أن لا يكون المتأخر مورداً للتكليف... أو لا يكون كذلك، بل كان مورداً للتكليف)(1)،

انتهى.

[1] «يترشح» عطف على (يكون).

[2] هذا دليل التعميم، «يهمّه» يهمّ صاحب الفصول، فإن غرضه من إبداع الواجب المعلّق هو حل العويصة المشكلة، بأنه كيف تجب المقدمات مع عدم وجوب ذي المقدمة؟ فكان الحلّ هو الالتزام بالوجوب الفعلي والواجب الاستقبالي، ولا فرق في هذا الحلّ بين كون الشرط المستقبلي غير مقدور كالوقت، وبين كونه مقدوراً، كالزيارة في المثال الماضي.

[3] أي: إن المهم هو أن المقدمات يجب تحصيلها في المعلّق دون المشروط، ولا فرق في وجوب تحصيلها في المعلّق بين القدرة على القيد أو عدم القدرة عليه.

[4] دليل وجوب تحصيل المقدمات في المعلّق، «منه» من الوجوب الحالي.

[5] أي: دون المشروط فلا يترشح الوجوب على المقدمة؛ وذلك لعدم ثبوت الوجوب في المشروط إلاّ بعد تحقق الشرط.

إلى هنا ينتهي التمهيد للإشكال الخامس.

[6] شروع في بيان الإشكال الخامس.

[7] أي: تحقق الشرط بعد ذلك، «المشروط به» أي: بذلك الشرط، «أيضاً»

ص: 44


1- الوصول إلى كفاية الأصول 2: 75.

المشروط به حالياً أيضاً، فيكون[1] وجوب سائر المقدمات الوجودية للواجب أيضاً حالياً؛ وليس الفرق بينه[2] وبين المعلّق حينئذٍ إلاّ كونه مرتبطاً بالشرط، بخلافه وإن ارتبط به الواجب.

تنبيه: قد انقدح من مطاوي ما ذكرناه أن المناط في فعلية وجوب المقدمة الوجودية وكونه[3] في الحال بحيث يجب على المكلف تحصيلها هو[4] فعلية وجوب

-------------------------------------------------------------------

كالواجب المعلّق.

[1] أي: فنحصل من الواجب المشروط على نفس النتيجة في الواجب المعلّق، بل في الحقيقة يكون الواجب المعلق دائماً من مصاديق الواجب المشروط بالشرط المتأخر.

[2] وهذا الفرق غير فارق في المهم، «بينه» أي: بين المشروط، «حينئذٍ» أي: حين كون الشرط مأخوذاً على نحو الشرط المتأخر، «كونه» كون الوجوب في المشروط، «بخلافه» أي: بخلاف الواجب المعلّق، فإن الشرط يرتبط بالواجب لا بالوجوب «به» أي: بالشرط.

تنبيه: في المقدمات المفوتة

الغرض من عقد هذا التنبيه هو حل مشكلة المقدمات المفوتة، أي: المقدمات التي لو لم يأتِ بها لم يتمكن من أداء الواجب في وقته، كالغسل في الليل لصوم يوم غد، وكحفظ الماء قبل الوقت للوضوء لمن يعلم بعدم تمكنه من الماء بعد الوقت، وكوجوب الحركة إلى الحج قبل أشهر الحج لمن كان في مكان بعيد يحتاج إلى زمان طويل للوصول إلى مكة. فإن الفقهاء حكموا بوجوب هذه المقدمات قبل زمان ذي المقدمة، والسؤال إنه كيف وجبت قبل زمان ذيها؟ والمصنف في هذا التنبيه يشير إلى أربعة أجوبة، سنذكرها لاحقاً.

[3] العطف تفسيري لبيان معنى (فعلية وجوب المقدمة)، «كونه» كون وجوب المقدمة.

[4] خبر قوله: (أن مناط...)، «فعلية» أي: كون الوجوب حالياً زماناً.

ص: 45

ذيها ولو كان[1] أمراً استقبالياً - كالصوم في الغد، والمناسك في الموسم - كان[2] وجوبه مشروطاً بشرط موجود[3] أخذ فيه[4] ولو متأخراً، أو مطلقاً - منجزاً كان أو معلقاً - في ما إذا[5]

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: حتى لو كان ذو المقدمة، «أمراً» أي: شيئاً استقبالياً بأن يكون زمان الفعل في المستقبل.

[2] أي: سواء كان وجوب ذي المقدمة مشروطاً بشرط متأخر - كما هو مقتضى الجواب الثالث - أم كان وجوبه مطلقاً منجزّاً - كما في الجواب الثاني - أم كان وجوبه مطلقاً معلقاً - كما في الجواب الأول - .

[3] أي: موجود في ظرفه، سواء كان ذلك الظرف متقدماً أم متأخراً أم مقارناً.

[4] في الوجوب، وقوله: «أو مطلقاً» عطف على (مشروطاً...).

[5] أي: فعلية وجوب المقدمة بشروط ثلاثة:

الشرط الأول: أن لا تكون المقدمةُ الوجودية مقدمةً وجوبية أيضاً، كالاستطاعة في الحج، فإنها مقدمة وجوبية ووجودية، فلو لا الاستطاعة لم يجب الحج، كما لا يمكن الوصول إلى الحج إلاّ بالاستطاعة؛ وذلك لأنها لو كانت مقدمة وجوبية فإنه لا يمكن أن تجب بالوجوب الغيري، لما مرّ من أنه قبل الاستطاعة لا وجوب للحج فكيف يترشح الوجوب منه إليها؟ وبعد الاستطاعة لا معنى لترشح الوجوب عليها؛ لأنها موجودة، فيكون وجوبها وطلبها طلباً للحاصل.

الشرط الثاني: أن لا تكون المقدمة عنواناً للواجب، مثل المسافر يقصّر، فمقدمة القصر هي السفر، ولكنها أخذت عنواناً - أي: موضوعاً - للتكليف بالقصر؛ وذلك لأن المقدمة لو كانت عنواناً فقبل السفر لا وجوب للقصر؛ لعدم تحقق موضوعه؛ فلا معنى لترشح الوجوب على مقدمته التي هي السفر، وبعد السفر يكون السفر حاصلاً، فيكون ترشح الوجوب عليه طلباً للحاصل.

ص: 46

لم تكن مقدمة للوجوب أيضاً[1] أو مأخوذة في الواجب[2] على نحوٍ يستحيل أن يكون مورداً للتكليف، كما إذا أخذ[3] عنواناً[4] للمكلف، كالمسافر والحاضر والمستطيع... إلى غير ذلك، أو جُعل[5] الفعل المقيد باتفاق حصوله وتقدير وجوده - بلا اختيار أو باختياره[6] - مورداً[7] للتكليف، ضرورة[8] أنه لو كان مقدمة

-------------------------------------------------------------------

الشرط الثالث: أن لا تؤخذ المقدمة قيداً في الواجب بوجودها الاتفاقي؛ وذلك للزوم الخلف، فإن وجوب تحصيلها يتنافى مع أخذها بوجودها الاتفاقي.

[1] «أيضاً» أي: ككونها مقدمة للوجود، وهذا هو الشرط الأول.

[2] هذا هو الشرط الثاني، أي: أو لم تكن تلك المقدمة مأخوذة... الخ.

[3] أي: أخذت المقدمة الوجودية، فالأولى تأنيث الضمير، وكذا الضمير في «حصوله» و«وجوده»، ولعل التذكير باعتبار أن المقدمة هي شرط.

[4] فيكون موضوعاً للتكليف، كقوله: (المسافر يقصّر) فإن المسافر عنوان للمكلّف، وهو موضوع لوجوب القصر.

[5] هذا هو الشرط الثالث، و«جُعل» معطوف على (أخذ عنواناً...)، «حصوله» أي: حصول المقدمة، وقوله: «تقدير وجوده» عطف تفسيري على (اتفاق حصوله).

[6] أي: سواء كان هذا القيد الاتفاقي مقدوراً كالاستطاعة، فإنه يمكن تحصيلها، لكن لم تؤخذ في الحج إلاّ الاستطاعة الاتفاقية، بحيث لو استطاع اتفاقاً لوجوب الحج، أم كان هذا القيد الاتفاقي غير مقدور، كحلول التاسع من ذي الحجة.

[7] «مورداً» مفعول ثانٍ لقوله: (جُعل)، وأما المفعول الأول فقد صار نائباً للفاعل، وهو الضمير الراجع إلى المقدمة، «تعلّقه» تعلق التكليف، «به» بالمقدمة.

[8] هذا دليل اشتراط هذه الشروط الثلاثة، «أنه» أن المقدمة، «حصوله» حصول وتحقق المقدمة.

ص: 47

الوجوب أيضاً لا يكاد يكون هناك وجوب إلاّ بعد حصوله، وبعد الحصول يكون وجوبه طلب الحاصل، كما أنه[1] إذا أخذ على أحد النحوين يكون كذلك، فلو لم يحصل لما كان الفعل مورداً للتكليف، ومع حصوله لا يكاد يصح تعلقه به[2]، فافهم[3].

إذا عرفت ذلك[4] فقد عرفت: أنه لا إشكال أصلاً في لزوم الإتيان بالمقدمة قبل

-------------------------------------------------------------------

[1] «أنه» أن المقدمة، «أحد النحوين» أي: إذا أخذت عنواناً، أو بوجودها الاتفاقي، وشرح المصنف قوله: (كذلك) بقوله: (فلو لم يحصل...).

[2] أي: تعلّق التكليف بالمقدمة.

[3] لعله إشارة إلى أن محذور طلب الحاصل لا يجري في الشرط الثالث؛ لأنه لو فرض حصول الاستطاعة في ما بعد يكون وجوب الحج فعلياً؛ لتحقق شرطه بنحو الشرط المتأخر، فلا يكون طلب تحصيل الاستطاعة الآن من طلب الحاصل؛ لعدم وجودها فعلاً، وإنما ستوجد في ما بعد.

فالأولى الاستدلال لهذا الشرط الثالث ببرهان الخُلف، كما شرحناه آنفاً.

[4] من هنا يبدأ المصنف في حلّ مشكلة المقدمات المفوّتة، وأنها كيف وجبت قبل وجوب ذي المقدمة، فيذكر أربعة أجوبة:

الجواب الأول: الالتزام بالواجب المشروط بالشرط المتأخر، مثلاً: من يبقى حياً قادراً في يوم عرفة فإنه يجب عليه الحج منذ لحظة الاستطاعة، فحينئذٍ تجب مقدمات الحج من تهيئة الزاد والراحلة وطيّ المسافة... الخ.

وبعبارة أخرى: إن وجوب الحج من حين الاستطاعة مشروطٌ بشرط متأخر، كالحياة والقدرة يوم عرفة الذي هو زمان الواجب، وهذا هو الجواب الذي ارتضاه المصنف.

الجواب الثاني: الالتزام بالواجب المعلّق، بأن يكون وجوب ذي المقدمة وجوباً فعلياً نفسياً قبل زمان الواجب - أي: يوم عرفه الذي هو زمان الحج - فحينئذٍ لا

ص: 48

زمان الواجب إذا لم يقدر عليه[1] بعد زمانه في ما كان وجوبه[2] حالياً مطلقاً[3]، ولو كان مشروطاً بشرطٍ متأخر كان معلوم الوجود[4] في ما بعد كما لا يخفى، ضرورة[5] فعلية وجوبه وتنجزه بالقدرة عليه بتمهيد[6]

-------------------------------------------------------------------

محذور في ترشح الوجوب منه إلى مقدماته، وهذا هو الطريق الذي سلكه صاحب الفصول.

الجواب الثالث: الالتزام بأن الشرط من قيود المادة لا الهيئة، فيكون الوجوب فعلياً، وهذا ما ارتضاه الشيخ الأعظم(1)،

ولكن لا يخفى رجوعه إلى الواجب المعلّق كما مرّ تفصليه.

الجواب الرابع: الالتزام بالوجوب النفسي للمقدمات، تهيُّؤاً لذي المقدمة؛ وذلك في ما لو علمنا بوجوب المقدمة وعدم وجوب ذي المقدمة قبل الوقت، وهذا ما سلكه صاحب الحاشية وتبعه المصنف أيضاً.

[1] على الإتيان بالمقدمة، «زمانه» زمان الواجب، «وجوبه» وجوب الواجب، فالكلام إنما هو في المقدمة المفوّتة، أما إذا قدر على المقدمة بعد زمان الواجب فلا كلام.

[2] بيان للجواب الأول.

[3] شرح (مطلقاً) بقوله: (ولو كان مشروطاً... الخ).

[4] أي: مع العلم بتحقق الشرط فيكون الوجوب ثابتاً، كمن يعلم بأنه سيستطيع في أشهر الحج، فيجب عليه الحج من الآن، فلابد أن يأتي بالمقدمات الوجودية، كالتسجيل للحج مثلاً، التي لا يتمكن منها في أشهر الحج.

[5] دليل عدم الإشكال، والمعنى أنه ما دُمنا نعلم بتحقق الشرط في ظرفه يثبت وجوب ذي المقدمة من البداية؛ وذلك لأن ذا المقدمة مقدور بواسطة الإتيان بمقدمته قبل تحقق الشرط، «وتنجزه» أي: تنجّز الوجوب، «عليه» على الواجب.

[6] أي: القدرة هي بواسطة تمهيد المقدمة.

ص: 49


1- مطارح الأنظار 1: 237.

مقدمته، فيترشح[1] منه الوجوب عليها - على الملازمة - ولا يلزم منه[2] محذور وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها، وإنما اللازم[3] الإتيان بها قبل الإتيان به، بل لزوم[4] الإتيان بها عقلاً - ولو لم نقل بالملازمة - لا يحتاج إلى مزيد بيان ومؤونة برهان، كالإتيان[5] بسائر المقدمات في زمان الواجب قبل إتيانه.

فانقدح بذلك[6]: أنه لا ينحصر التفصي عن هذه العويصة[7] بالتعلق بالتعليق[8] أو بما يرجع إليه[9] من جعل الشرط من قيود المادة في المشروط.

-------------------------------------------------------------------

[1] هذا نتيجة فعلية الوجوب، «منه» من ذي المقدمة، «عليها» على المقدمة.

[2] أي: من ترشح الوجوب من ذي المقدمة على المقدمة.

[3] أي: غاية الأمر هو وجوب الإتيان بالمقدمة قبل ذي المقدمة، وهذا لا محذور فيه، حيث إن هذه المقدمة ليست عِلّة تامة، بل هي مُعِدّ.

[4] أي: حتى مع عدم القول بوجوب المقدمة شرعاً، فإن العقل يستقل بوجوبها.

[5] أي: الإتيان بالمقدمات المفوّتة كالإتيان بالمقدمات غير المفوّته، إما نقول بالملازمة الشرعية، أو نقول بلوزم الإتيان بها عقلاً.

[6] أي: بهذا الجواب الأول، وهو فعليّة وجوب ذي المقدمة عبر الشرط المتأخر.

[7] وهي إنه كيف تجب المقدمة قبل وجوب ذي المقدمة؟

[8] أي: بالذهاب إلى الواجب المعلّق، كما صنعه صاحب الفصول(1)، وهذا إشارة إلى الجواب الثاني.

[9] إشارة إلى الجواب الثالث، وهو الالتزام بأن القيود لا ترجع إلى الهيئة، بل إلى المادة، كما صنعه الشيخ الأعظم(2)، «بما يرجع إليه» أي: إلى المعلّق؛ لأنك قد عرفت أن الواجب المشروط عند الشيخ هو نفس الواجب المعلّق عند صاحب الفصول.

ص: 50


1- الفصول الغروية: 79 - 80.
2- مطارح الأنظار 1: 251.

فانقدح بذلك[1]: أنه لا إشكال في الموارد التي يجب في الشريعة الإتيان بالمقدمة قبل زمان الواجب، كالغسل في الليل في شهر رمضان وغيره[2] مما وجب عليه الصوم في الغد، إذ[3] يكشف به بطريق الإن[4] عن سبق وجوب الواجب، وإنما المتأخر هو زمان إتيانه ولا محذور فيه[5] أصلاً.

ولو فرض العلم بعدم سبقه[6] لاستحال اتصاف مقدمته بالوجوب الغيري. فلو نهض دليل[7] على وجوبها فلا محالة يكون وجوبها نفسياً تهيّؤيّاً(1)،

ليتهيّأ بإتيانها، ويستعد لإيجاب ذي المقدمة عليه، فلا محذور أيضاً[8].

-------------------------------------------------------------------

[1] بالجواب الأول، أي: الواجب المشروط بالشرط المتأخر.

[2] غير شهر رمضان، أو غير الغسل كالنية قبل الفجر ولو بلحظة، وكحرمة النومة الثالثة لمن عليه غسل.

[3] هذا بيان لعدم الإشكال، «به» أي: بواسطة وجوب المقدمة.

[4] وهو الاستدلال بالمعلول على العلة، كمن يرى الدخان فيستدل به على وجود النار، وعكسه (الدليل اللمّي) وهو الاستدلال بالعلة على المعلول، كمن يرى ناراً من بعيد فيستدل به على وجود الحرارة هناك.

[5] أي: في تأخر زمان الواجب عن زمان الوجوب.

[6] أي: بعدم سبق الوجوب، والمعنى أنه لو قلنا: إنه لا وجوب قبل تحقق الشرط، فحينئذٍ يستحيل الوجوب الغيري للمقدمات المفوّتة؛ إذ لا وجوب لذي المقدمة حتى يترشّح على المقدمة.

[7] إشارة إلى الجواب الرابع، «بإتيانها» أي: بإتيان المقدمة، وقوله: (ويستعد...) عطف تفسيري لتوضيح معنى التهيّؤ.

[8] كما لم يكن محذور بناءً على الجواب الأول.

ص: 51


1- هكذا في بعض النسخ، وفي نسخة أخرى: «ولو تهيّؤاً».

إن قلت[1]: لو كان وجوب المقدمة في زمان كاشفاً عن سبق وجوب ذي المقدمة لزم وجوب جميع مقدماته ولو موسعاً[2]، وليس كذلك[3] بحيث[4] يجب عليه المبادرة لو فرض عدم تمكّنه منها لو لم يبادر.

قلت[5]:

-------------------------------------------------------------------

[1] حاصله: إنه لو كان الوجوب فعلياً ووجبت المقدمات المفوّتة فلازم ذلك وجوب المقدمات غير المفوّتة أيضاً؛ لأنه ما دام الوجوب حالياً فإنه كما يترشح الوجوب على مقدماته المفوتة كذلك يترشح على المقدمات غير المفوّتة، فهل يلتزم بوجوب شراء الهدي وثوب الإحرام... الخ من حين وجوب الحج قبل زمانه؟

ولا يخفى أن هذا إشكال على الدليل الإنّي الذي ذكره قبل الإشارة إلى الجواب الرابع.

[2] أي: ما دامت تلك المقدّمات ليست مفوّتة، فإن وجوب الإتيان بها يكون موسعاً، أي: يمكنه التأخير فيها؛ لعدم فوت الواجب بذلك التأخير.

[3] هذا بيان للإشكال، أي: مع وضوح أن تلك المقدمات غير واجبة قبل زمان الواجب، حتى لو علم بعدم تمكنه منها في وقته.

مثلاً: من يعلم بأنه لا يتمكن من الهدي في يوم النحر فهل يجب عليه تهيئة الهدي من حين وجوب الحج عليه في شهر رمضان - مثلاً - ؟!! كلاّ، لا يمكن الالتزام بذلك.

وحاصل الإشكال: إنّه كما لا تجب المقدمات غير المفوّتة حتى في ما لم يتمكن منها لو لم يبادر، كذلك لا تجب المقدمات المفوّتة.

[4] شرح المنفيّ، أي: لا يجب كل المقدمات بحيث تجب المبادرة... الخ، «تمكنه» أي: المكلف، «منها» من المقدمات.

[5] حاصل الجواب: إننا - بناء على الملازمة - نلتزم بوجوب كل المقدمات حتى غير المفوتة قبل زمان الواجب، ولا محذور فيه.

ص: 52

لا محيص عنه[1]، إلاّ إذا أخذ في الواجب من قِبَل سائر المقدمات قدرة خاصة، وهي: القدرة عليه[2] بعد مجيء زمانه، لا القدرة عليه في زمانه من زمان وجوبه[3]، فتدبر جيداً.

تتمة[4]:

-------------------------------------------------------------------

نعم، لو دلّ دليل خاص على أنه لا تجب تلك المقدمات قبل زمان الواجب، بل تجب في زمانه، فحينئذٍ لا يترشح عليها الوجوب؛ لوجود ذلك الدليل الخاص، وبعبارة أخرى: قد يأخذ الشارع - لوجوب المقدمة - قدرةً خاصة، هي القدرة في زمان الواجب لا قبله،

كالقدرة على شراء الهدي في يوم النحر لا قبله، فحينئذٍ لا تجب تلك المقدمة قبل زمان الواجب.

[1] أي: عن الالتزام بوجوب جميع المقدمات، «من قِبَل» أي: من جهة، «سائر المقدمات» وهي غير المفوّتة، «قدرة» نائب الفاعل ل- (أُخذ).

[2] أي: على سائر المقدمات، «زمانه» زمان الواجب.

[3] «عليه» أي سائر المقدمات، «زمانه» أي: الواجب، و«من» ابتدائية متعلقة بالقدرة، أي: القدرة التي ابتدأت من زمان الوجوب، وحاصل المعنى: ولم تُؤخذ القدرة المطلقة شرطاً بحيث تجب المقدمات من حين الوجوب حتى قبل زمان الواجب.

تتمة
في دوران القيد بين الرجوع إلى المادة أو الهيئة
اشارة

[4] قد ذكرنا أن القيد قد يرجع إلى الهيئة، أي: الطلب، فلا وجوب قبل القيد، كالحج الذي لا وجوب له قبل الاستطاعة، وقد يرجع إلى المادة، أي: فعل المكلّف، كالصلاة المقيّدة بالوضوء، فتجب الصلاة سواء توضأ أم لم يتوضأ، لكن وجود الصلاة خارجاً متوقف على الوضوء.

ص: 53

قد عرفت اختلاف القيود في وجوب التحصيل وكونه[1] مورداً للتكليف وعدمه. فإن علم حال قيد فلا إشكال، وإن دار أمره ثبوتاً[2] بين أن يكون راجعاً إلى الهيئة نحو الشرط المتأخر أو المقارن[3] وأن يكون راجعاً إلى المادة - على نهج يجب

-------------------------------------------------------------------

وعليه: لو علمنا برجوع القيد إلى المادة أو الهيئة فلا كلام، ولو لم نعلم وكان هناك دليل لفظي يُعيّن الرجوع إلى أحدهما فهو المُتَّبَع، ولو لم يكن دليل لفظي وصلت النوبة إلى الأصل العملي، ومقتضاه هو البراءة عن الوجوب قبل تحقق الشرط.

[1] «كونه» معطوف على (وجوب التحصيل)، «مورداً للتكليف» في ما لو كان قيداً للمادة، «أو عدمه» أي: عدم كونه مورداً للتكليف في ما لو كان قيداً للهيئة.

[2] أي: الصور المحتملة في مرحلة الثبوت أربعة:

1- أن يكون قيداً للهيئة على نحو الشرط المتأخر، وحينئذٍ يكون الوجوب فعلياً والواجب استقبالياً، فلو علمنا بتحقق القيد في المستقيل فحينئذٍ يترشح الوجوب إلى سائر المقدمات، كما لو علمنا بتحقق الاستطاعة لاحقاً، فيجب من الآن المقدمات الأخرى، أما لو لم نعلم بتحقق القيد في المستقبل فلا وجوب فعلي، ولا ترشح إلى سائر المقدمات.

2- أن يكون قيداً للهيئة على نحو الشرط المقارن، وحينئذٍ لا وجوب قبل تحقق القيد، فلا تجب المقدمات.

3- أن يكون قيداً للمادة، وحينئذٍ الوجوب فعلي، فيجب تحصيل القيد وسائر المقدمات.

4- أن يكون قيداً للمادة بوجوده الاتفاقي، أو كان القيد عنواناً للمكلّف، أو كان غير اختياري، فحينئذٍ لا يجب تحصيل ذلك القيد.

[3] قيل: لم يذكر الشرط المتقدّم لأنه مع فرض تقدّمه لا معنى للشك في

ص: 54

تحصيله[1] أو لا يجب[2] - فإن كان في مقام الإثبات ما يعين حاله[3] وأنه راجع إلى أيهما من القواعد العربية[4] فهو، وإلاّ[5] فالمرجع هو الأصول العملية.

وربما قيل[6] في الدوران بين الرجوع إلى الهيئة أو المادة بترجيح الإطلاق في طرف الهيئة وتقييد المادة، لوجهين:

أحدهما[7]: إنّ إطلاق الهيئة يكون شمولياً، كما في شمول العام لأفراده، فإن

-------------------------------------------------------------------

وجوب تحصيله؛ لأنه قد انتهى وقته، ومع فرض استمرار الوقت فيدخل في الشرط المقارن، فتأمل.

[1] تحصيل القيد، وهذه هي الصورة الثالثة.

[2] أي: أو لا يجب تحصيل القيد، وهذه هي الصورة الرابعة.

[3] أي: حال القيد، بأن يدل الدليل على أنه من أية صورة من الصور الأربعة.

[4] (من) بيان لقوله: (ما يعيّن حاله)، والمراد من «القواعد العربية» ما يوجب الظهور.

[5] أي: إن لم يكن هناك ظهور فالمرجع الأصل العملي، وهو يدل على البراءة.

[6] أي: قيل بوجود الدليل اللفظي في ترجيح رجوع القيد إلى المادة دون الهيئة، والقائل هو الشيخ الأعظم على ما في تقريرات بحثه(1).

إن قلت: إن الشيخ الأعظم ذهب إلى استحالة رجوع القيد إلى الهيئة، فلا معنى للشك في رجوعه إلى الهيئة أو المادة؟

قلت: لعل بحثه هنا على سبيل التنزّل والتسليم، أي: إنه يذهب إلى استحالة رجوع القيد إلى الهيئة، لكن لو فرض جواز رجوعه إلى الهيئة وشك في أنه راجع إليها أو إلى المادة فالترجيح مع رجوعه إلى المادة.

الوجه الأول: في ترجيح تقييد المادة

[7] وهو مركب من صغرى وكبرى:

ص: 55


1- مطارح الأنظار 1: 251.

وجوب الإكرام[1] على تقدير الإطلاق يشمل جميع التقادير التي يمكن أن يكون تقديراً له[2]، وإطلاق المادة يكون بدلياً غير شامل لفردين في حالة واحدة[3].

-------------------------------------------------------------------

أما الصغرى: فإن إطلاق الهيئة شمولي، بمعنى أن الوجوب شامل لحالة فقدان القيد، فالفعل واجب سواء كان القيد موجوداً أم غير موجود. وأما إطلاق المادة فهو بدلي؛ لأن مدلول المادة هو الطبيعة، وهي تنطبق على أيِّ فرد من أفرادها.

مثلاً: لو قال: (إن زرت زيداً فأكرمه) فرجوع القيد إلى الهيئة معناه تقييد وجوب الإكرام بحالة الزيارة، مع كون المادة - وهي الإكرام - على البدل بمعنى مصداق من مصاديق الإكرام، وأما رجوع القيد إلى المادة فمعناه بقاء الوجوب مطلقاً، فسواء زرته أم لم تزره فإن وجوب الإكرام محقق، مع كون الإكرام مقيداً بحالة المجيء.

وأما الكبرى: فهي ترجيح الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي، ووجهه: إن التقييد في البدلي لا يوجب تصرّفاً في الحكم الشرعي؛ لأن الحكم تعلّق بالطبيعة التي تتحقق بفرد واحد، فسواء قيّدنا البدلي أم لم نقيّده فالحكم الشرعي يتحقق بفرد واحد، غاية الأمر تحديد دائرة الانطباق على الأفراد، وذلك بواسطة إخراج الأفراد التي لا قيد فيها.

بخلاف التقييد في الشمولي، فإن التقييد يوجب رفع الحكم عن بعض الأفراد، فلا وجوب للأفراد التي لا قيد فيها.

[1] هذا دليل كون إطلاق الهيئة شمولياً، فالوجوب شامل لكل الحالات.

[2] لا ما يستلزم المحال، كتقدير حرمة الإكرام، فإن (وجوب الإكرام على تقدير حرمة الإكرام) مثلاً اجتماع للضدين وهو محال، فالمعنى كل حالة يمكن أن يعرضها الوجوب فإن الإطلاق الشمولي يدل على شمول الوجوب لتلك الحالة.

[3] أي: الإكرام - مثلاً - شامل لأحد أفراد الإكرام على سبيل البدل، ولا يشمل فردين معاً، ففي حالة الإتيان بأحدهما لا يكون الواجب الآخر، فمراده من «حالة واحدة» هو حالة الإتيان بأحد الفردين.

ص: 56

ثانيهما[1]: إنّ تقييد الهيئة يوجب بطلان محل الإطلاق في المادة[2] ويرتفع به مورده[3]، بخلاف العكس[4]، وكلّما دار الأمر بين تقييدين كذلك[5] كان التقييد الذي لا يوجب بطلان الآخر أولى[6].

-------------------------------------------------------------------

الوجه الثاني: لترجيح تقييد المادة
اشارة

[1] وهذا الدليل أيضاً مركب من صغرى وكبرى.

أما الصغرى: فهي إن تقييد الهيئة يستلزم تقييدين، لكن تقييد المادة يستلزم تقييداً واحداً؛ وذلك لأنه لو قلنا برجوع القيد إلى الهيئة، ففي المثال لا يجب الإكرام في حالة عدم الزيارة، فكما أن الوجوب يُقيّد، فكذلك الإكرام يُقيّد أيضاً، فإن المولى يريد بيان مقصوده، ولا غرض له في الإكرام غير الواجب، فلا إطلاق لحالة عدم الزيارة.

وأما لو قلنا برجوع القيد إلى المادة، أي: الإكرام على تقدير الزيارة واجب مطلقاً، فحينئذٍ لا وجه لتقييد الوجوب، فيكون الوجوب فعلياً والواجب مقيد بحالة الزيارة، وللمولى غرض في الوجوب قبل الزيارة؛ وذلك لترتيب آثار الوجوب كوجوب المقدمات، بل قد يكون أصل الوجوب غير متوقف على القيد كالطهارة للصلاة، فإن الصلاة واجبة سواء تطهّر أم لم يتطهّر.

وأما الكبرى: فهي أنه لو دار الأمر بين تقييد واحد أو تقييدين، فالتقييد الواحد أولى.

[2] فلا يمكن انعقاد إطلاق في المادة؛ إذ لا غرض للمولى في الإكرام غير الواجب، فلا يكون في مقام البيان من هذه الجهة.

[3] أي: يرتفع بتقييد الهيئة مورد إطلاق المادة.

[4] أي: تقييد المادة لا يوجب بطلان محل إطلاق الهيئة.

[5] أحدهما يوجب تقييدين، والآخر يوجب تقييد واحد.

[6] لأن التقييد خلاف الظاهر، وخلاف ظاهر واحد أولى من خلاف ظاهرين.

ص: 57

أما الصغرى: فلأجل أنه لا يبقى مع تقييد الهيئة محل حاجة وبيان لإطلاق المادة، لأنها[1] لا محالة لا تنفك عن وجود قيد الهيئة؛ بخلاف تقييد المادة، فإن محل الحاجة[2] إلى إطلاق الهيئة على حاله، فيمكن الحكم بالوجوب على تقدير وجود القيد وعدمه.

وأما الكبرى[3]: فلأنّ التقييد وإن لم يكن مجازاً[4]، إلاّ أنه خلاف الأصل[5]، ولا فرق[6] في الحقيقة بين تقييد الإطلاق وبين أن يعمل عملاً يشترك مع التقييد في

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: لأن المادة تُقيّد أيضاً؛ إذ لا غرض للمولى في المادة غير الواجبة، فينحصر غرضه في المادة المقيّدة، كالإكرام المقيّد بالزيارة كما عرفت.

[2] وهو وجود الوجوب حتى مع عدم القيد، ففائدة الوجوب قبل زمان الواجب هي وجوب المقدمات، وكذا قد لا تكون المصلحة من الوجوب متوقفة على القيد، فمصلحة الصلاة موجودة سواء توضأ أم لم يتوضأ.

[3] وهي أولوية تقييد واحد على تقييدين.

[4] فليست المشكلة في كثرة المجاز وقلّته؛ وذلك لأن التقييد ليس مجازاً، فمثل: (أعتق رقبة مؤمنة) لا مجاز فيه، بل كل الألفاظ استعملت في معانيها، وإنما هو من باب تعدد الدال والمدلول، وفي ما نحن فيه للهيئة إطلاق وللمادة إطلاق، وإنما التقييد استفيد من دالٍ آخر وهو الشرط في المثال.

وإنما المشكلة في أن التقييد خلاف الظاهر، وخلاف ظاهرٍ واحدٍ أولى من خلاف ظاهرين.

[5] أي: خلاف الظاهر.

[6] هذا دفع لإشكال، وحاصل الإشكال: هو أن تقييد الهيئة أيضاً يستلزم تقييداً واحداً؛ وذلك لأنه مع تقييد الهيئة لا يوجد إطلاق للمادة أصلاً، فهو من السالبة بانتفاء الموضوع، فلا محل لإطلاق المادة.

ص: 58

الأثر وبطلان[1] العمل به.

وما ذكرناه من الوجهين موافق لما أفاده بعض مقرري بحث الأستاذ العلامة (أعلى الله مقامه)(1).

وأنت خبير بما فيهما:

أما في الأول[2]: فلأن مفاد إطلاق الهيئة وإن كان شمولياً بخلاف المادة، إلاّ أنه[3] لا يوجب ترجيحه على إطلاقها، لأنه[4] أيضاً كان بالإطلاق ومقدمات الحكمة، غاية الأمر أنّها[5] تارةً تقتضي العموم الشمولي وأخرى البدلي، كما ربما تقتضي التعيين أحياناً، كما لا يخفى.

-------------------------------------------------------------------

والجواب: إن ما ذكرتم صحيح، لكن لا فرق في أن نُقيّد المادة أو نعمل عملاً نمنع من انعقاد الإطلاق بأن نضيّق دائرة المادة من الأساس، فكلاهما خلاف الظاهر.

[1] عطف تفسيري على (الأثر)، «به» بالإطلاق.

الإشكال على الوجه الأوّل

[2] حاصله: هو أن المدار على الظهور، فيُقدّم الأظهر على غيره، وإذا تساويا في الظهور تساقطا. وليس المناط هو العموم الشمولي أو البدلي، بل يقدم الأظهر منهما سواء كان العموم شمولياً أم بدلياً، ومع عدم الأظهرية يتساقطان فنرجع إلى الأصل العملي.

وفي ما نحن فيه الشمول في الهيئة والبدليّة في المادة كلاهما مستندان إلى الإطلاق ومقدمات الحكمة، فيتساويان، ولا مرجّح لأحدهما على الآخر.

[3] «أنه» أي: إن شمولية مفاد الهيئة، «ترجيحه» أي: ترجيح إطلاق الهيئة، «إطلاقها» أي: إطلاق المادة.

[4] وجه عدم الترجيح، «لأنه» لأن شمولية الهيئة.

[5] أن مقدمات الحكمة، وهذا بيان أن مفاد الإطلاق مختلف حسب الموارد وذلك

ص: 59


1- مطارح الأنظار 1: 251.

وترجيح[1] عموم العام على إطلاق المطلق إنما هو لأجل كون دلالته[2] بالوضع، لا لكونه شمولياً[3]؛ بخلاف المطلق[4] فإنه بالحكمة، فيكون العام أظهر

-------------------------------------------------------------------

لخصوصية كل مورد:

1- فتارة مفاده شمولي، كقوله تعالى: {أَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ}(1) فإنه يشمل جميع البيوع، إلاّ ما دلّ الدليل على حرمته.

2- وتارة أخرى مفاده بدلي، كقوله: (أعتق رقبة) فإنه يجب عتق رقبة واحدة على سبيل البدل.

3- وتارة ثالثة مفاده يقتضي التعيين، كإطلاق صيغة الأمر، حيث يقتضي الوجوب النفسي العينيّ التعيينيّ.

فخصوصية الأول هي الامتنان المقتضي لتحليل كل البيوع، وخصوصية الثاني هو حكم العقل بعدم إمكان كل الأفراد، وخصوصية الثالث هو أن ما يقابلها يحتاج إلى مؤونة زائدة، فخصوصية هذه الموارد أوجبت اختلاف نتيجة الإطلاق.

[1] هذا دفع لإشكال، وحاصل التوهم: إنه لماذا يقدّم العام على المطلق حين تعارضهما؟ أليس هذا يدل على ترجيح الشموليّة على البدلية؟

وحاصل الدفع: هو أن المرجِّح هو أن العام أظهر من المطلق؛ لأن ظهور العام مستند إلى الوضع، وظهور المطلق مستند إلى مقدمات الحكمة؛ ولذا لو انعكس الفرض بأن دلّ العام على البدلية، ودلّ المطلق على الشمول، فحينئذٍ كان الترجيح مع العام، وليس ذلك الترجيح إلاّ لكون العام أظهر.

[2] دلالة العام، «بالوضع» فيكون أظهر.

[3] أي: ليس ترجيحه لكون العام شمولياً.

[4] فليس دلالته بالوضع، بل بمقدمات الحكمة، فيكون ظهوره أضعف، «منه» من المطلق، «فيقدّم» العام، «عليه» على المطلق.

ص: 60


1- سورة البقرة، الآية: 275.

منه فيقدم عليه. فلو فُرض أنهما[1] في ذلك على العكس - فكان عام بالوضع دل على العموم البدلي ومطلق بإطلاقه دل على الشمول - لكان العامُّ يقدم بلا كلام.

وأما في الثاني[2]: فلأن التقييد وإن كان خلاف الأصل[3]، إلاّ أن العمل الذي يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة وانتفاء[4] بعض مقدماته لا يكون على خلاف الأصل أصلاً، إذ معه[5] لا يكون هناك إطلاق كي يكون بطلان العمل به في الحقيقة

-------------------------------------------------------------------

[1] «أنهما» العام والمطلق، «ذلك» الشمول والبدلية.

الإشكال على الوجه الثاني

[2] حاصله: إنه لو انعقد الإطلاق فحينئذٍ يكون التقييد مخالفاً للظاهر، ولكنّ الحيلولة عن انعقاد الإطلاق ليس مخالفاً للظاهر.

وفي ما نحن فيه: تقييد الهيئة يوجب عدم تمامية مقدمات الحكمة في المادة، فلا ينعقد لها إطلاق، وهذا ليس خلافاً للظاهر، فإذن في كل من تقييد المادة وتقييد الهيئة خلافُ ظاهرٍ واحدٍ فيتساويان.

ويستثنى من ذلك ما لو جرت مقدمات الحكمة في المادة والهيئة معاً وانعقد الإطلاق لهما، وذلك في ما لو كان المقيِّد منفصلاً، فحينئذٍ يدور الأمر بين تقييد واحد وتقييدين، وحيث إن التقييد خلاف الظاهر فيكون التقييد الواحد بإرجاع القيد إلى المادة، أولى من تقييدين عبر إرجاع القيد إلى الهيئة.

[3] أي: خلاف الظاهر.

[4] عطف تفسيري لبيان المراد من عدم جريان مقدمات الحكمة، وقد عرفت أنه مع تقييد الهيئة تنتفي المقدمة الأولى من مقدمات الحكمة، وهي كون المولى في مقام البيان، فإنه من المعلوم أنه لا شأن للمولى في الإكرام غير الواجب.

[5] أي: مع انتفاء بعض مقدمات الحكمة، وهذا دليل عدم كون التقييد مخالفاً للظاهر، «به» بالإطلاق.

ص: 61

مثل التقييد الذي يكون على خلاف الأصل.

وبالجملة لا معنى لكون التقييد خلاف الأصل إلاّ كونه[1] خلاف الظهور المنعقد للمطلق ببركة مقدمات الحكمة، ومع انتفاء المقدمات[2] لا يكاد ينعقد له هناك ظهور كان ذاك العمل[3] - المشارك مع التقييد في الأثر[4] وبطلان العمل بإطلاق المطلق - مشاركاً معه في خلاف الأصل أيضاً.

وكأنه[5] توهم أن إطلاق المطلق كعموم العام ثابت ورفع اليد عن العمل به تارةً لأجل التقييد وأخرى بالعمل المبطل للعمل به.

وهو فاسد، لأنه لا يكون إطلاق إلاّ في ما جرت هناك المقدمات. نعم[6]، إذا كان

-------------------------------------------------------------------

[1] كون التقييد، والمقصود شرح معنى (خلاف الأصل) بأنه خلاف الظهور.

[2] أي: بعضها، «له» للّفظ الذي هو ذات المطلق، «ظهور» أي: في الإطلاق.

[3] أي: مع انتفاء مقدمات الحكمة لا ينعقد ظهور في الإطلاق، فلا يكون زوال محلّ الإطلاق مخالفاً للظاهر، كما كان التقييد مخالفاً له، «ذلك العمل» أي: تقييد الهيئة المستلزم لعدم جريان مقدمات الحكمة في المادة.

[4] وفسّر «الأثر» بقوله: (وبطلان العمل...)، «معه» مع التقييد، «أيضاً» كما كان التقييد خلافاً للظاهر.

[5] أي: كأنّ صاحب التقريرات تصوّر أن الإطلاق كالعموم، فكما أن رفع اليد عن العموم خلاف الظاهر مطلقاً كذلك رفع اليد عن الإطلاق.

ولكن يرد على هذا التوهم: أن عموم العام بالوضع، فرفع اليد عنه خلاف الظاهر دائماً، عكس إطلاق المطلق، فإنه يتوقف على مقدمات الحكمة، ومع عدم جريانها لا مخالفة للظاهر في عدم الإطلاق، «العمل به» أي: بإطلاق المطلق.

[6] هذا استثناء حالة كون القيد منفصلاً، فإنه حينئذٍ ينعقد ظهور للمطلق لجريان مقدمات الحكمة، فيكون للمادة إطلاق وللهيئة إطلاق، ويكون التقييد حينئذٍ خلاف الظاهر.

ص: 62

التقييد بمنفصل، ودار الأمر بين الرجوع إلى المادة أو الهيئة، كان لهذا التوهم مجالٌ حيث انعقد للمطلق إطلاق، وقد استقرّ له ظهور ولو بقرينة الحكمة، فتأمل[1].

ومنها: تقسيمه إلى النفسي والغيري. وحيث كان[2] طلب شيء وإيجابه[3] لا يكاد يكون بلا داعٍ[4]، فإن كان الداعي فيه هو التوصل به إلى واجب لا يكاد التوصل بدونه إليه لتوقّفه عليه[5] فالواجب غيري، وإلاّ[6] فهو نفسي، سواء كان الداعي[7] محبوبية الواجب بنفسه، كالمعرفة بالله، أو(1)

محبوبيته بما له من فائدة

-------------------------------------------------------------------

[1] لعله إشارة إلى أن الشيخ الأعظم لا يُفرِّق بين المقيّد المتصل والمنفصل في عدم انعقاد ظهور للمطلق، فلا مجال لهذا التوهم أصلاً.

التقسيم الثالث: تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري
تعريف الواجب النفسي والغيري
اشارة

[2] هذا شروع في التعريف، فالنفسي لا يُراد به الوصول إلى واجب آخر، بل وجوبه لنفسه، كمعرفة الله تعالى، والغيري يُراد الوصول به إلى واجب آخر كالوضوء للصلاة.

[3] العطف تفسيري.

[4] لأنه عبث، والله تعالى منزّه عن ذلك، فأحكامه لأجل أغراض، «فيه» في الطلب.

[5] «بدونه» بدون ذلك الشيء كالوضوء، «إليه» إلى الواجب كالصلاة، لتوقف الواجب على ذلك الشيء.

[6] أي: إن لم يكن الداعي التوصل إلى واجب آخر.

[7] أي: لا فرق في الواجب النفسي بين أن يكون الشيء بنفسه محبوباً فيكون ذلك سبباً لإيجابه، وبين أن يكون سبب المحبوبية هو ترتّب فائدة عليه، فتكون الفائدة سبباً لإيجابه.

ص: 63


1- كذا في الأصل، والصحيح: «أم».

مترتبة عليه،كأكثر الواجبات[1] من العبادات والتوصليات. هذا.

لكنه لا يخفى[2]: أن الداعي[3] لو كان هو محبوبيته كذلك - أي بما له من الفائدة المترتبة عليه - كان الواجب[4] في الحقيقة واجباً غيرياً، فإنه[5] لو لم يكن وجود هذه الفائدة لازماً لما دعا[6] إلى إيجاب ذي الفائدة.

فإن قلت[7]:

-------------------------------------------------------------------

[1] وأما القليل منها فإيجابه لمحبوبية نفسه كالمعرفة، «العبادات» التي يشترط فيها القربة، و«التوصليات» التي لا يشترط فيها قصد القربة كدفن الميّت.

إشكال على التعريف
اشارة

[2] هذا إشكال على التعريف بأن سبب وجوب عامة الواجبات النفسية هو ترتب الفائدة عليها، فيكون وجوبها لأجل الفائدة، فانطبق عليها تعريف الغيري، والحاصل: إن عامة الأحكام تابعة للمصالح، فيكون وجوبها لأجل تلك المصالح، فانطبق تعريف الغيري على عامة الواجبات النفسية.

[3] أي: سبب إيجابها.

[4] أي: الواجب النفسي الذي كان وجوبه لأجل الفائدة فيه.

[5] أي: إن الواجب هو في الواقع تلك الفائدة، فإن الوصول إليها كان لازماً، ولو لم يكن الوصول إلى تلك الفائدة لازماً لما صار الطريق إليها واجباً، مثلاً: سبب وجوب الصلاة هو نهيها عن الفحشاء والمنكر، فوجوبها لأجل التوصل إلى هذه الفائدة، التي هي لازمه.

[6] أي: لم يكن وجود هذه الفائدة داعياً إلى إيجاب ذي الفائدة، وهو الصلاة في المثال.

الجواب الأول عن الإشكال

[7] المقصود هو الجواب عن الإشكال، وحاصله: إن تلك الفائدة غير مقدورة

ص: 64

نعم[1]، وإن كان وجودها محبوباً لزوماً، إلاّ أنه حيث كانت من الخواص المترتبة على الأفعال التي ليست داخلة تحت قدرة المكلف لما كاد يتعلق بها[2] الإيجاب.

قلت[3]: بل هي داخلة تحت القدرة، لدخول أسبابها تحتها، والقدرة على السبب قدرة على المسبّب، وهو واضح، وإلاّ لما صح وقوع مثل[4] التطهير والتمليك والتزويج والطلاق والعتاق إلى غير ذلك من المسببات مورداً لحكم من الأحكام التكليفية.

فالأولى أن يقال[5]:

-------------------------------------------------------------------

فلذا لا تكون واجبة؛ فلذا لا يتعلق بها إيجاب، فلم يكن وجوب الواجب النفسي لأجل الوصول إلى واجب آخر.

[1] أي: نسلّم أن وجوب الواجبات النفسية لأجل فوائدها، «وجودها» أي: وجود الفائدة، «أنه» للشأن.

[2] أي: فلا يتعلق بالفوائد الإيجاب والطلب، لأنها غير مقدورة.

[3] حاصله: إن تلك الفوائد مقدورة؛ وذلك بالقدرة على أسبابها، فإن القدرة كما تتعلق ببعض الأشياء بغير واسطة، كذلك تتعلق ببعض الأشياء بالواسطة، «بل هي» أي: الفائدة، «تحتها» تحت القدرة.

[4] فإنها مقدورة بالقدرة على أسبابها، كالوضوء أو صيغة العقد أو صيغة الإيقاع، ومن المعلوم أنه قد يتعلق التكليف بالطهارة والتمليك... الخ، وليس ذلك إلاّ لكونها مقدورة بالواسطة.

الجواب الثاني عن الإشكال

[5] حاصله: إن وجوب عامة الواجبات، بسبب مصلحة في المتعلّق، ولكن مع ذلك فإن للمتعلق عنواناً حسناً أيضاً، مثلاً: الصلاة تتصف بالحُسن، وأيضاً لها فوائد، وحينئذٍ فالفرق بين النفسي والغيري أن الذي يُلاحظه المولى حين الإيجاب إن كان العنوان الحسن في الشيء كان الوجوب نفسياً، وإن كان الفائدة في الشيء كان

ص: 65

إن الأثر المترتب عليه[1] وإن كان لازماً، إلاّ أن ذا الأثر لما كان معنوناً بعنوان حسن يستقل[2] العقلُ بمدح فاعله بل وبذمّ تاركه، صار[3] متعلقاً للإيجاب بما هو كذلك[4]؛ ولا ينافيه[5] كونه مقدمة لأمر مطلوب واقعاً. بخلاف الواجب الغيري، لتمحّض وجوبه[6] في أنه لكونه مقدمة لواجب نفسي؛ وهذا[7] أيضاً لا ينافي أن

-------------------------------------------------------------------

الوجوب غيرياً.

وبعبارة أخرى: إن عامة الواجبات النفسية تتصف بوصفين: أحدهما حُسن الفعل، والآخر ترتب مصلحة عليه، لكن المولى يلاحظ الأول دون الثاني، وبعكسه الواجبات الغيرية التي يلاحظ المولى فوائدها دون عنوانها الحسن.

[1] أي: على الواجب، وذلك الأثر هو الفائدة والمصلحة، «ذا الأثر» وهو متعلق الوجوب، أي: الفعل.

[2] أي: هذا الحُسن ذاتي، بحيث إن العقل يمدح الفاعل، وقوله: (بل وبذمّ التارك) إضراب؛ لأن مجرد المدح لا يكون سبباً للوجوب؛ لأن المستحبات أيضاً قد يُمدح فاعلها، فلابد في الوجوب من استقلال العقل بذمّ التارك؛ إذ لا ذمّ في ترك المستحبات.

[3] «صار» جزاء الشرط في قوله: (لمّا كان معنوناً...)

[4] أي: باعتبار حسنه الذاتي، وكونه معنوناً بعنوان حسن.

[5] أي: الحسن الذاتي الذي كان سبباً للإيجاب لا ينافي كون ذلك الفعل مقدمة لشيء آخر، فاجتمع سبب الوجوب النفسي وسبب الوجوب الغيري، لكن المولى لاحظ الأول دون الثاني، «لا ينافيه» أي: لا ينافي الحسن الذاتي، «كونه» كون الواجب.

[6] أي: سبب وجوبه هو التوصل إلى واجب آخر، «وجوبه» أي: وجوب الغيري، وضميرا «أنه» و«لكونه» يرجعان إلى الواجب الغيري.

[7] أي: ملاحظة كونه مقدمة لا ينافي وجود حسن ذاتي فيه، كالوضوء، حيث إن وجوبه لكونه مقدمة للصلاة، مع أن الوضوء حسن في ذاته وهو نور.

ص: 66

يكون معنوناً بعنوان حسن في نفسه، إلاّ أنه لا دخل له[1] في إيجابه الغيري.

ولعلّه[2] مراد من فسّرهما بما أمر به لنفسه، وما أمر به لأجل غيره(1).

فلا يتوجّه عليه بأن جل الواجبات[3] لو لا الكل يلزم أن يكون من الواجبات الغيرية، فإن المطلوب النفسي[4] قلما يوجد في الأوامر، فإن جُلَّها مطلوبات لأجل الغايات التي هي خارجية عن حقيقتها[5]، فتأمل[6].

ثم إنه لا إشكال في ما إذا علم بأحد القسمين[7]. وأما إذا شك في واجب أنه

-------------------------------------------------------------------

[1] «له» للعنوان الحسن، «إيجابه» أي: إيجاب الواجب.

[2] أي: لعل ما ذكرناه في هذا الجواب الثاني من أن الذي يُلاحظه الآمر هل هو عنوانه الحسن أو مقدميته لغيره؟

[3] أي: النفسية، وقوله: «لو لا الكل» لأجل أنه يمكن أن يقال: إن المعرفة أيضاً واجبة لأجل غيرها، وذلك الغير هو شكر المنعم.

[4] الذي لا يكون سبب وجوبه شيئاً آخر.

[5] فينطبق عليها (أنها وجبت لغيرها)، وإنما كانت خارجة لأنها معلول، ويستحيل اتحاد المعلول مع علته.

[6] لعل وجهه أن انطباق عنوان حسن هو بسبب تلك الفائدة، فلو لا تلك الفائدة لم يكن الفعل حسناً أصلاً، فلا حُسن للصلاة إلاّ لكونها ناهية عن الفحشاء والمنكر ونحو ذلك.

بل يمكن القول: إن بعض الواجبات النفسية لا ينطبق عليها عنوان حسن أصلاً، بل وجوبها النفسي لمجرد ترتب الفائدة عليها، وبعبارة أخرى: إن ترتب الفائدة قد لا يوجب انطباق عنوان حسن عليها أصلاً.

الشك في النفسيّة والغيريّة
اشارة

[7] لو علم أن الواجب نفسي كالصلاة أو غيري كالوضوء فلا إشكال، ولكن

ص: 67


1- الفصول الغروية: 80.

نفسي أو غيري[1]، فالتحقيق أن الهيئة[2] وإن كانت موضوعة لما يعمهما إلاّ أنّ إطلاقها[3] يقتضي كونه نفسياً، فإنه لو كان شرطاً لغيره لوجب التنبيه عليه على المتكلم الحكيم.

-------------------------------------------------------------------

مع الشك في ذلك فهل هناك دليل لفظي أو أصل عملي لتعيين أحدهما؟

فالكلام في مرحلتين:

1- الدليل اللفظي، ويذهب المصنف إلى أن إطلاق الهيئة يدل على النفسيّة؛ لأن الوجوب لأجل الغير قيد زائد، فلابد للمولى إذا كان في مقام البيان من ذكر هذا القيد لو أراده، وحيث لم يُبَيِّن المولى ذلك علمنا بأنه لا يريد هذا القيد.

2- الأصل العملي، وسيأتي تفصيله.

[1] ومن أمثلته الشرعية - كما قيل(1)

- متابعة الإمام في صلاة الجماعة الواجبة، حيث إنها مردَّدة بين كونها واجباً نفسياً، وبين كونها غيرياً بمعنى شرطيّتها لصحة الاقتداء.

ومن أمثلته العرفية: ما لو أمر المولى عبده بالاستحمام، ولم يعلم العبد أن وجوبه لنفسه باعتبار مطلوبية النظافة، أو أنه مقدمة لواجب آخر كاستقبال ضيوف المولى.

وتظهر الثمرة في أنه لو كان واجباً نفسياً لوجب الامتثال مطلقاً، أما لو كان غيرياً فلا يجب الامتثال إلاّ مع وجوب ذي المقدمة، فمع سقوط وجوبه لأيّ سبب من الأسباب يسقط الوجوب الغيري أيضاً.

أ- لو كان للأمر إطلاق

[2] كهيئة (اغسل) في المثال، «لما يعمّهما» أي: ما يشمل النفسي والغيري؛ وذلك لأن الهيئة وُضعت للطلب المطلق، وهو جامع بين النفسي والغيري؛ إذ كلاهما مطلوبان.

[3] أي: إطلاق الهيئة، «كونه» كون الطلب، «فإنه» للشأن، «كان» الواجب،

ص: 68


1- بدائع الأفكار: 326.

وأما ما قيل[1] من: «أنه لا وجه للاستناد إلى إطلاق الهيئة لدفع الشك المذكور بعد كون مفادها[2] الأفراد التي لا يعقل فيها التقييد[3].

-------------------------------------------------------------------

«عليه» على كونه شرطاً.

[1] كما في تقريرات الشيخ الأعظم(1)،

وحاصله: عدم إمكان التمسك بالإطلاق لإثبات النفسيّة؛ وذلك لأن معنى الهيئة جزئي، ولا يعقل الإطلاق في المعنى الجزئي.

أما جزئية معنى الهيئة، فلما مرّ في بحث الوضع، وفي بحث الواجب المشروط، من أن الهيئات كالمعاني الحرفية، والمعنى الحرفي جزئي؛ لأنه من (الوضع العام والموضوع له الخاص)، فالمولى وضع الحروف وما يلحق بها على المعاني الجزئية.

وأما عدم إمكان الإطلاق في المعاني الجزئية، فلأنّ معنى الإطلاق هو قابلية الصدق على كثيرين، والمعنى الجزئي لا يصدق إلاّ على فرد واحد فقط، كما هو واضح.

وفي ما نحن فيه هيئة صيغة الأمر تدل على الطلب الجزئي، وهو الطلب الخارجي، فلا يمكن الإطلاق فيها.

نعم، لو كان معنى الهيئة هو (مفهوم الطلب) لأمكن التقييد؛ لأن هذا المفهوم كلي قابل للانطباق على الأفراد المختلفة، لكن من المعلوم أن معنى (اغسل) مثلاً ليس مفهوم الطلب، بل معناه هو الطلب الحقيقي الخارجي، وهو جزئي.

[2] أي: معنى الهيئة في صيغة الأمر هو فرد الطلب، «الأفراد» أي: أفراد الطلب، «فيها» في الأفراد.

[3] لأن التقييد إنما هو للمعاني الكُلّية، أما المعنى الجزئي فهو متشخّص بكل مشخصاته الفردية - لأن الشيء ما لم يتشخّص لم يوجود - فلا يعقل تقييده.

ص: 69


1- مطارح الأنظار 1: 333.

نعم[1]، لو كان مفاد الأمر هو مفهوم الطلب صحّ القولُ بالإطلاق، لكنه[2] بمراحل من الواقع، إذ لا شك في اتصاف الفعل بالمطلوبية بالطلب المستفاد من الأمر[3]، ولا يعقل[4] اتصاف المطلوب بالمطلوبية بواسطة مفهوم الطلب، فإن الفعل يصير مراداً بواسطة تعلق واقع الإرادة[5] وحقيقتها لابواسطة مفهومها، وذلك واضح لا يعتريه ريب»(1).

-------------------------------------------------------------------

وإذا استحال التقييد استحال الإطلاق أيضاً؛ لأنهما من العدم والملكة، فهما يحتاجان إلى المحلّ القابل، وهو المعاني الكُليّة دون المعنى الجزئي.

[1] أي: لو كان معنى الهيئة كُليّاً أمكن التقييد فيه، «مفهوم الطلب» وهو كلي لقابليته الانطباق على كثيرين.

[2] أي: لكن كون مفاد الهيئة هو مفهوم الطلب «بمراحل عن الواقع» أي: بعيد عن الواقع جداً؛ وذلك لأن العمل لا يتصف بالمطلوبية بواسطة مفهوم الطلب، بل بواسطة طلب خارجي؛ وذلك بأن يريده المولى واقعاً، وهذه الإرادة جزئية.

[3] وهو طلب خارجي، فيكون جزئياً، فحينما قال: (اغسل) صار الفعل - وهو الغَسل - مطلوباً.

[4] بحكم الوجدان، حيث إن ضمّ مفهوم الطلب إلى الشيء لا يجعل ذلك الشيء واجباً، وبعبارة أخرى - كما قيل - إنه لو قلنا: (طلب) و(الغَسل) معاً لما صار الغَسل واجباً، بل لابد من أن يتعلق طلب خارجي - وهو جزئي - بالغَسل ليصير واجباً.

[5] أي: الوجود الخارجي للإرادة، لا المفهوم الذهني لها، وقوله: (وحقيقتها) عطف تفسيري، «مفهومها» أي: مفهوم الإرادة.

ص: 70


1- مطارح الأنظار 1: 333.

ففيه[1]: إنّ مفاد الهيئة - كما مرّت الإشارة إليه[2] - ليس الأفراد، بل هو مفهوم الطلب - كما عرفت تحقيقه في وضع الحروف - ، ولا يكاد يكون[3] فرد الطلب الحقيقي والذي يكون بالحمل الشائع طلباً[4]، وإلاّ[5] لما صحَّ إنشاؤه بها،

-------------------------------------------------------------------

[1] هذا جواب (أما ما قيل)، وحاصله: إن معنى الهيئة - كالمعاني الحرفية - كلّي؛ لأنها من (الوضع العام والموضوع له العام والمستعمل فيه العام)، لا من الموضوع له الخاص، كما مرّ تفصيله في بحث المعنى الحرفي.

وليس الطلب الجزئي الحقيقي هو معنى للهيئة؛ وذلك لأن الطلب الحقيقي شيءٌ تكويني قائم بنفس الآمر، ولا يعقل إيجاد الأمور التكوينية بواسطة الإنشاء.

نعم، الطلب الحقيقي قد يكون سبباً للإنشاء، بمعنى أن المولى إذا أراد (الغَسل) مثلاً فهذه الإرادة جزئية قائمة بنفسه، فقد تكون سبباً لإصداره الأمر، فيقول: (اغسل).

وبعبارة أخرى: إن هناك ثلاثة أشياء:

1- الطلب الحقيقي النفسي وهو جزئي.

2- الإنشاء بأن يقول: (اغسل).

3- معنى هذا الإنشاء، وهو مفهوم الطلب القابل للانطباق على مصاديق مختلفة من الغسل، فالهيئة والمادة كلاهما معنيان كلّيّان.

[2] مرّت الإشارة إلى أن المعاني الحرفية كُليّة، وأن الوضع والموضوع له والمستعمل فيه عام في الحروف، والهيئة ملحقة بالحروف.

[3] أي: لا يكاد يكون مفاد الهيئة هو الطلب الحقيقي القائم بالنفس.

[4] فإن الصفة التي في النفس هي الطلب الحقيقي، وملاك الحمل الشائع هو الاتحاد الوجودي حتى لو اختلف المفهوم.

[5] أي: لو كان مفاد الهيئة هو الطلب الحقيقي - الذي هو فرد الطلب - «بها» أي: بالصيغة.

ص: 71

ضرورة[1] أنه من الصفات الخارجية الناشئة من الأسباب الخاصة. نعم[2]؛ ربما يكون هو السبب لإنشائه كما يكون غيره[3] أحياناً.

واتصاف الفعل[4] بالمطلوبية الواقعية والإرادة الحقيقية - الداعية إلى إيقاع طلبه[5] وإنشاء إرادته بعثاً نحو مطلوبه الحقيقي وتحريكاً إلى مراده الواقعي - لا ينافي اتصافه[6] بالطلب الإنشائي أيضاً، والوجود الإنشائي[7] لكل شيء ليس إلاّ قصد حصول

-------------------------------------------------------------------

[1] هذا علة عدم إمكان إنشاء الطلب الحقيقي، وحاصله: إن الأمور التكوينية لها أسبابها التكوينية الخاصة، وليس الإنشاء أحد تلك الأسباب.

[2] أي: قد يكون الطلب الحقيقي هو سبب للإنشاء، لكن ذلك الطلب ليس مفهوماً للإنشاء.

[3] أي: غير الطلب الحقيقي، كالامتحان فإنه قد يكون أيضاً سبباً للإنشاء.

[4] هذا جواب عن قوله: (ولا يعقل اتصاف الفعل بالمطلوبية...)، وحاصل الجواب: إن تعلق الطلب الحقيقي بالفعل لا ينافي تعلّق الطلب الإنشائي به، مثلاً: المولى الذي يريد (الغَسل) واقعاً فيمكنه إنشاء طلب الغسل، كما هو واضح، فلا تنافي بين الطلب الحقيقي والطلب الإنشائي، فالفعل متصف بكلا الطلبين، والأول جزئي وليس مدلولاً للصيغة، والثاني هو مفهوم الطلب وهو مدلول للصيغة.

[5] أي: طلب الفعل، وقوله: «وإنشاء إرادته» عطف تفسيري، و«بعثاً» مفعول لأجله، أي: الإنشاء لأجل البعث نحو الفعل الذي تعلّقت إرادة المولى به، وقوله: «وتحريكاً...» عطف تفسيري على (بعثاً...).

[6] «لا ينافي» خبر قوله: (واتصاف الفعل...).

[7] المقصود بيان كيفية اتصاف الفعل بالطلب الإنشائي، وحاصله: إن الطلب الحقيقي أو غيره - من الدواعي النفسانية كالامتحان - تكون سبباً لإنشاء مفهوم الطلب بواسطة الصيغة مثلاً، وهذا المفهوم قابل للإطلاق والتقييد؛ لأنه معنى كلّي.

ص: 72

مفهومه بلفظه، كان هناك طلب حقيقي أو لم يكن، بل كان إنشاؤه بسبب آخر.

ولعلّ[1] منشأ الخلط والاشتباه تعارف التعبير عن مفاد الصيغة بالطلب المطلق، فتوهم منه[2] أن مفاد الصيغة يكون طلباً حقيقياً يصدق عليه الطلب بالحمل الشائع. ولعمري أنّه[3] من قبيل اشتباه المفهوم بالمصداق، فالطلب الحقيقي إذا لم يكن قابلاً للتقييد لا يقتضي[4] أن لا يكون مفاد الهيئة قابلاً له، وإن تعارف تسميته[5] بالطلب أيضاً. وعدم تقييده بالإنشائي[6]

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: لعل سبب تصور الشيخ الأعظم أن مفاد الصيغة هو الطلب الحقيقي، و«تعارف» خبر (لعلّ)، وهو سبب هذا التصور، «المطلق» من غير تقييده بالحقيقي أو الإنشائي، مع أن مرادهم هو الطلب الإنشائي.

[2] أي: من تعبيرهم، وقوله: (يصدق عليه...) تفسير للطلب الحقيقي.

[3] إن هذا الخلط والاشتباه؛ وذلك لأن مفاد الصيغة ليس مصداق الطلب وهو الطلب الحقيقي، بل هو مفهوم الطلب.

[4] «لا يقتضي» خبر قوله: (فالطلب الحقيقي...)، «له» للتقييد، والحاصل: إنه لا منافاة بين أن يكون أحدهما جزئياً غير قابل للتقييد والإطلاق، وهو الطلب الحقيقي، وأن يكون الآخر مفهوماً كلياً قابلاً لهما، وهو الطلب الإنشائي.

[5] أي: تسمية مفاد الهيئة، «أيضاً» كتسمية الطلب الحقيقي، والحاصل: إن كليهما يُسمّى طلباً، لكن هذه التسمية لا تمنع من أن يكون أحدهما جزئياً والآخر مفهوماً كلياً.

[6] دفع لتوهم مقدّر، وحاصل التوهم: لو كان مرادهم أن مفاد الهيئة هو الطلب الإنشائي، فلماذا لم يقيدوه ب- (الإنشائي)، بل أطلقوا وقالوا: (إن مفاد الصيغة هو الطلب)؟

والجواب: إن عدم التقييد لوضوح أن الطلب الحقيقي لا يكون مفاداً للصيغة؛ لعدم إمكان إنشائه بها، بل يوجد بأسبابه التكوينية الخاصة، «عدم تقييده» أي:

ص: 73

لوضوح إرادة خصوصه وأن[1] الطلب الحقيقي لا يكاد ينشأ بها، كما لا يخفى.

فانقدح بذلك[2] صحة تقييد مفاد الصيغة بالشرط - كما مر هاهنا بعض الكلام وقد تقدم في مسألة اتحاد الطلب والإرادة ما يجدي في المقام - .

هذا[3] إذا كان هناك إطلاق، وأما إذا لم يكن[4]،

-------------------------------------------------------------------

عدم تقييد مفاد الهيئة، «خصوصه» أي خصوص الإنشائي.

[1] قوله: «وأن الطلب...» عطف تفسيري على (إرادة خصوصه)، «بها» بالهيئة.

[2] بما ذكرناه من أن مفاد الهيئة هو مفهوم الطلب وهو كلّي، «هاهنا» في أول هذا البحث - أي: بحث الشك في النفسية والغيرية - أو في بحث الواجب المطلق والمشروط، حيث ذكر المصنف إمكان رجوع القيد إلى الهيئة.

ب - لو لم يكن للأمر إطلاق

[3] أي: ما ذكرناه من أن مقتضى إطلاق الهيئة هو النفسيّة.

[4] بأن كان الأمر مستفاداً من دليل لُبّي كالإجماع، أو لم تتم مقدمات الحكمة في صيغة الأمر. فحيث لا يوجد دليل لفظي يدل على النفسيّة أو الغيريّة، فلابد من الرجوع إلى الأصل العملي. فلو أمره بالاستحمام إما لنفسه أو لأنه مقدمة لاستقبال الضيوف، فحينئذٍ قد يكون مقتضى الأصل العملي...

1- الاشتغال، كما لو جاء الضيوف وأراد استقبالهم، فإن المكلّف يعلم بوجوب الغَسل عليه إما لنفسه أو لأجل الاستقبال، فهو قاطع بالتكليف وباشتغال ذمته على كل حال. نعم، هو لا يعلم سبب وجوب الغسل، لكن عدم علمه بالسبب لا يضر بوجوب الغسل عليه على كل حال.

2- البراءة، كما لو لم يأتِ الضيوف، فحينئذٍ يشك في وجوب أو عدم وجوب الغَسل عليه، ومقتضى القاعدة هي البراءة حين الشك في التكليف.

ص: 74

فلابد من الإتيان به[1] في ما إذا كان التكليف بما احتمل كونه شرطاً له[2] فعلياً، للعلم بوجوبه[3] فعلاً، وإن لم يعلم جهة وجوبه، وإلاّ فلا[4]، لصيرورة الشك فيه بدوياً[5]، كما لا يخفى.

تذنيبان: الأول[6]:

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: بالفعل المشكوك كونه واجباً نفسياً أم غيرياً، كالغسل في المثال.

[2] «بما» بالواجب الآخر كاستقبال الضيوف، «كونه» كون المشكوك النفسيّة أو الغيرية كالغَسل، «له» الضمير يرجع إلى الموصول، «فعلياً» خبر كان.

[3] أي: وجوب مشكوك النفسية والغيريّة، كالغَسل، «جهة وجوبه» أي: سبب وجوبه.

[4] أي: وإن لم يكن التكليف بذلك الشيء - كاستقبال الضيوف - فعلياً بأن لم يأت الضيوف مثلاً، فحينئذٍ لا يجب الغَسل لجريان البراءة فيه.

[5] أي: شك في أصل التكليف، مع عدم وجود علم إجمالي.

التذنيب الأول: الثواب والعقاب في الواجب الغيري

[6] حاصله: إن الإنسان يستحق الثواب على امتثال الواجب النفسي، والعقاب على مخالفته، وهذا أمر لا ريب فيه عند المصنف.

وأما الواجب الغيري فلا استحقاق للثواب على فعله، ولا للعقاب على تركه.

والدليل على ذلك حكم العقل، فإنه يستقل بأن من امتثل الواجب النفسي استحق ثواباً واحداً، حتى لو كان لذلك الواجب مقدمات كثيرة، كما أنه يستقل بأن من خالف الواجب النفسي استحق عقاباً واحداً، حتى لو ترك مقدمات ذلك الواجب كلها.

وسبب حكم العقل بذلك هو أن الثواب لأجل العمل المقرّب إلى المولى، والعقاب للعمل المُبعِّد عنه، ولا قرب ولا بُعد في الأمر الغيري، بل القرب إنما هو في

ص: 75

لا ريب في استحقاق الثواب على امتثال الأمر النفسي[1] وموافقته، واستحقاق العقاب على عصيانه ومخالفته عقلاً[2].

وأما استحقاقهما على امتثال الغيري ومخالفته: ففيه إشكال[3] وإن كان التحقيق عدم الاستحقاق على موافقته ومخالفته بما هو موافقة ومخالفة[4]، ضرورة[5] استقلال العقل بعدم الاستحقاق إلاّ لعقاب واحد أو لثواب كذلك، في ما خالف الواجب ولم يأت بواحدة من مقدماته على كثرتها، أو وافقه[6] وأتاه بما له من المقدمات.

-------------------------------------------------------------------

امتثال النفسي والبعد في مخالفته؛ لأنه لا غرض للمولى في المقدمات، وإنما غرضه في ذي المقدمة.

[1] لكن الصحيح هو أن الثواب كلّه تفضّل منه تعالى؛ لأن كل الطاعات لا تُكافِئ جزءاً من النِعم التي أنعمها الله تعالى على الإنسان، بل فائدة كل الطاعات ترجع إلى الإنسان نفسه، فكيف يستحق شيئاً على المولى جلّ وعلا؟

نعم، لو كان المقصود الاستحقاق بسبب وعده تعالى فللبحث مجال.

وأما العقاب فلا إشكال في كونه عن استحقاق؛ لأنه تعالى ليس بظلاّم للعبيد.

[2] أي: هذا الاستحقاق هو بحكم العقل.

[3] بل أقوال(1)،

منها: استحقاق الثواب والعقاب، ومنها: عدم استحقاقهما، ومنها: التفصيل بين كون الأمر الغيري ورد في خطاب أصلي أو كونه تبعياً، ومنها: التفصيل بين الثواب والعقاب، وغير ذلك.

[4] أي: لا استحقاق بما هو موافقة ومخالفة للأمر الغيري. نعم، يمكن الاستحقاق بما هو موافقة أو مخالفة للأمر النفسي، كما سيأتي بيانه بعد قليل.

[5] هذا دليل عدم الاستحقاق، وهو استقلال العقل - الحاكم في باب الطاعة والمعصية - «كذلك» أي: واحد، «بواحدة» أي: لم يأت بكل المقدمات.

[6] أي: وافق الواجب عبر الإتيان بكل مقدماته، «بما» أي: مع موافقة كل

ص: 76


1- الوصول إلى كفاية الأصول 2: 112.

نعم، لا بأس باستحقاق العقوبة على المخالفة[1] عند ترك المقدمة، وبزيادة المثوبة على الموافقة[2] في ما لو أتى بالمقدمات بما هي مقدمات له[3] من باب[4] أنه يصير حينئذٍ من أفضل الأعمال حيث صار أشقها، وعليه[5] ينزل ما ورد في الأخبار

-------------------------------------------------------------------

المقدمات، «له» للواجب، وقوله: (من المقدمات) بيان الموصول في (بما).

[1] أي: مخالفة الواجب النفسي، بمعنى أنه لو ترك المقدمة فمن ذاك الوقت يستحق العقوبة لا لترك المقدمة، وإنما لترك الواجب النفسي؛ إذ يمتنع عليه حين ترك المقدمة الإتيان بذي المقدمة.

[2] أي: موافقة الأمر النفسي، والمقصود استحقاق زيادة المثوبة.

[3] أي: بغرض الوصول إلى ذي المقدمة، لا أنه أتى بالمقدمات بغرض آخر.

[4] هذا وجه زيادة الثواب، فكلّما كثرت المقدمات صار الواجب أصعب؛ لذا يكون ثوابه أكثر، فليست زيادة الثواب على المقدمات، بل على العمل حيث صار أصعب بسبب كثرة مقدماته وصعوبتها، «أنه» أن الواجب النفسي، «حينئذٍ» حين الإتيان بالمقدمات.

[5] أي: على زيادة الثواب في ذي المقدمة بسبب كثرة المقدمات أو صعوبتها، والحاصل: إن الآيات والروايات الدالة على الثواب على المقدمات تُحمل على أحد شيئين:

الأول: إن ذا المقدمة يزداد ثوابه بكثرة المقدمات أو صعوبتها.

الثاني: التفضّل من الله تعالى من غير استحقاق للثواب. كقوله تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ لَا يُصِيبُهُمۡ ظَمَأٞ وَلَا نَصَبٞ وَلَا مَخۡمَصَةٞ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَطَُٔونَ مَوۡطِئٗا يَغِيظُ ٱلۡكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنۡ عَدُوّٖ نَّيۡلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِۦ عَمَلٞ صَٰلِحٌۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ}(1).

وكالروايات الواردة في فضل زيارة الإمام الحسين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ماشياً، كقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (من

ص: 77


1- سورة التوبة، الآية: 120.

من الثواب على المقدمات(1)،

أو على التفضّل[1]، فتأمل جيداً.

وذلك[2] لبداهة أن موافقة الأمر الغيري بما هو أمر[3] - لا بما هو شروع في إطاعة الأمر النفسي - لا توجب قرباً[4]، ولا مخالفته بما هو كذلك بُعداً، والمثوبة والعقوبة إنما تكونان من تبعات[5] القرب والبعد.

إشكال ودفع. أما الأول[6]:

-------------------------------------------------------------------

أتى قبر الحسين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ماشياً كتب الله له بكل قدم يرفعها ويضعها عتق رقبة من ولد إسماعيل)(2).

[1] أي: أو ينزّل ما ورد في الأخبار على التفضل.

[2] هذا وجه استقلال العقل بعدم الثواب والعقاب على موافقة أو مخالفة الأمر الغيري، ويحتمل أن يكون هذا وجه تنزيل أخبار الثواب على المقدمات على التفضّل، أو أنه ثواب للأمر النفسي.

[3] أي: بما هو أمر غيري.

[4] لعدم تعلّق غرض المولى بها، «مخالفته» أي: مخالفة الأمر الغيري، «كذلك» بما هو أمر غيري.

[5] يقصد (من توابع)، لأن التبعة هي المظلمة، أو كان تعبيره هذا من باب التغليب، فالعقوبة من تبعات المخالفة، كما أن المثوبة من توابع الموافقة.

الأمر الغيري في الطهارات الثلاث
اشارة

[6] أي: الإشكال، وهو في الحقيقة إشكالان:

الأول: إن الطهارات الثلاث - الغُسل، الوضوء، التيمم - هي واجبات غيرية؛ لأنها مقدمة للصلاة وللطواف ونحوهما، ولا إشكال في كونها مقرّبة، كما لا إشكال في الثواب عليها بنفسها، للأخبار الكثيرة الدالة على الثواب عليها، ولا

ص: 78


1- وسائل الشيعة 14: 380.
2- بحار الأنوار 98: 36.

فهو أنه[1] إذا كان الأمر الغيري - بما هو - لا إطاعة له ولا قرب في موافقته ولا مثوبة على امتثاله، فكيف حال بعض المقدمات، كالطهارات، حيث لا شبهة في حصول الإطاعة والقرب والمثوبة بموافقة أمرها؟ هذا مضافاً[2] إلى أن الأمر الغيري لا شبهة في كونه توصلياً، وقد[3] اعتبر في صحتها إتيانها بقصد القربة.

وأما الثاني[4]:

-------------------------------------------------------------------

يمكن حمل تلك الأخبار على أن الثواب لذي المقدمة أو لأجل التفضّل. وهذا - أي: المقربيّة والثواب - ينافي ما ذكرتموه من أن الأوامر الغيرية لا ثواب ولا قرب فيها.

الثاني: إن الأوامر الغيرية توصلية، فحتى لو أتى بالمقدمات بطريقة محرّمة فإنه لا يكلّف بإعادتها، كمن ركب دابة مغصوبة للحج فلا يكلف بالرجوع والسير مرّة أخرى، فكيف تكون الطهارات الثلاث غيرية مع كونها عبادات يُشترط قصد القربة فيها؟

وقد ذكر المصنف أربعة أجوبة ستأتي تباعاً.

[1] هذا هو الإشكال الأول، «أنه» للشأن، «بما هو» أي: في نفسه، «لا طاعة له» أي: لا امتثال له، وإنما الامتثال للواجب النفسي.

ولا يخفى أن الطاعة والقرب والثواب مترتبة زماناً، فالطاعة أولاً، وبها يحصل القرب، ثم الثواب.

[2] هذا هو الإشكال الثاني.

[3] أي: والحال أن الطهارات الثلاث عبادية يشترط فيها قصد القربة.

الجواب الأول

[4] أي: دفع الإشكال، أما جواب الإشكال الأول: فهو أن الطهارات الثلاث هي مستحبات نفسيّة، فالغسل مستحب في نفسه حتى لو لم يكن مقدمة للصلاة، فالطاعة والقرب والثواب إنما هو لأجل امتثال الأمر النفسي الاستحبابي المتعلّق بها.

ص: 79

فالتحقيق أن يقال: إنّ المقدمة فيها[1] بنفسها مستحبة وعبادة، وغاياتها[2] إنما تكون متوقفة على إحدى هذه العبادات[3]، فلابد أن يؤتى بها عبادةً، وإلاّ[4] فلم يُؤتَ بما هو مقدمة لها. فقصد القربة[5] فيها إنما هو لأجل كونها في نفسها أموراً عبادية ومستحبات نفسية، لا لكونها مطلوبات غيرية.

والاكتفاء[6]

-------------------------------------------------------------------

وأما جواب الإشكال الثاني: فهو أن الذي كان مقدمة للصلاة ليس أفعال الوضوء مجردة عن قصد القربة، بل الذي جعله الشارع مقدمةً هو الوضوء العبادي، فلو أتى بالغسلتين أو المسحتين لا بقصد القربة لم يكن قد أتى بما هو مقدمة، وبعبارة أخرى: إن المقدمة هو الوضوء العبادي لا مجرد الغسل والمسح من غير قربة.

[1] أي: في الطهارات الثلاث، وهذا دفع للإشكال الأول.

[2] أي: والغاية من الطهارات الثلاث، كالصلاة والطواف، وهذا دفع للإشكال الثاني.

[3] أي: المقدمة ليست ذات الأفعال، بل تلك الأفعال بقصد القربة، «أن يؤتى بها» أي: بالطهارات الثلاث.

[4] أي: لو لم يُؤتَ بالطهارات الثلاث بقصد القربة، «لها» أي: لغاياتها.

[5] أي: اشتراط قصد القربة ليس لأجل الأمر الغيري، بل لأجل أن الغايات تتوقف على الطهارات العبادية، «فيها» في الطهارات الثلاث، «كونها» كون الطهارات.

[6] هذا اعتراض على الجواب وحاصله: إن المكلّف إذا لم ينوِ الأمر النفسي في الطهارات، بل أتى بها بنية الأمر الغيري المتعلّق بها، فلا أشكال في صحة تلك الطهارات، مع أن عباديتها لو كانت بسبب الأمر النفسي الاستحبابي لكان اللازم أن يقصد ذلك الأمر النفسي.

ص: 80

بقصد أمرها الغيري فإنما هو[1] لأجل أنه يدعو إلى ما هو كذلك في نفسه، حيث[2] إنه لا يدعو إلاّ إلى ما هو المقدمة(1)،

فافهم[3].

وقد تفصّى عن الإشكال بوجهين آخرين[4]:

-------------------------------------------------------------------

وبعبارة أخرى: إن منشأ العبادية لو كان الأمر النفسي الاستحبابي لكان اللازم قصد ذلك الأمر النفسي، والحال أن الفقهاء أجمعوا على كفاية قصد أمرها الغيري، وهذا يكشف عن أن عباديتها بسبب الأمر الغيري، فعاد المحذور.

[1] هذا جواب عن الاعتراض، وحاصله: إن الاكتفاء بالأمر الغيري هو لأجل أن الأمر الغيري لا يدعو إلاّ لما هو مقدمة وهو الطهارة العبادية، فإذا أتى بالطهارات بداعي أمرها الغيري فقد قصد الإتيان بما هو عبادة في نفسه.

وبعبارة أخرى: الأمر الغيري مرآة للأمر النفسي، فيكون المكلّف قاصداً للأمر الغيري تفصيلاً، وقاصداً للأمر النفسي إجمالاً، «هو» الاكتفاء، «أنه» أن الأمر الغيري، «كذلك» أي: عبادة.

[2] بيان وجه هذه الدعوة، «إنه» إن الأمر الغيري، «المقدمة» وهي الطهارة العبادية.

[3] لعله إشارة إلى أن الكثير من الناس لا يعلمون بالأمر النفسي الاستحبابي، أو قد يغفلون عنه حين الطهارة.

أو إشارة إلى أن الدليل أخص من المدّعى؛ لأن التيمم - على ما قيل(2)

- لا استحباب نفسي له، بل أمره غيري فقط، مع أنه لا شك في اشتراط قصد القربة فيه.

[4] بل ثلاثة أوجه ذكرها في التقريرات(3)،

فمجموع الأجوبة مع جواب المصنف أربعة.

ص: 81


1- مطارح الأنظار 1: 348.
2- مطارح الأنظار 1: 348.
3- مطارح الأنظار 1: 350.

أحدهما[1]: ما ملخصه: إنّ الحركات الخاصة[2] ربما لا تكون محصلة لما هو المقصود منها[3] من العنوان الذي يكون[4] بذاك العنوان مقدمةً وموقوفاً عليها، فلابد في إتيانها[5] بذاك العنوان من قصد أمرها، لكونه[6] لا يدعو إلاّ إلى ما هو

-------------------------------------------------------------------

الجواب الثاني

[1] حاصله: إن المقدمة واقعاً ليست ذوات الحركات الخاصة كالغسلتين والمسحتين، بل المقدمة هي تلك الحركات بعنوان خاص، ولكنّا لا نعلم بالتفصيل ذلك العنوان؛ فلذلك لابد من الإشارة إليه إجمالاً بواسطة الإتيان بتلك الحركات بداعي أمرها الغيري، لأن الأمر لا يدعو إلاّ إلى الإتيان بمتعلقه.

والحاصل: إن اعتبار قصد القربة - الذي هو قصد الأمر - في الطهارات ليس بسبب اشتراط القربة في الواجبات الغيريّة، بل لجهة إشارة قصد الأمر إلى العنوان الخاص الذي له دخل في مقدميتها، حيث لا يتمكن المكلّف من إحراز ذلك العنوان الخاص بالتفصيل.

[2] كالغسلتين والمسحتين في الوضوء.

[3] وهو العنوان الراجح الذي ينضمّ إلى تلك الحركات، فتكون المقدمة هي المجموع من الحركات والعنوان، «من العنوان...» بيان لقوله: (ما هو المقصود منها).

[4] أي: تكون الحركات، فالصحيح تأنيث الفعل، وقوله: «وموقوفاً عليها» عطف تفسيري على (مقدمة).

[5] أي: وحيث إن ذلك العنوان مجهول فلابد من الإشارة الإجمالية إليه؛ وذلك عبر الإتيان بالحركات بقصد القربة - الذي هو قصد الأمر المتعلّق بها - وقوله: «في إتيانها بذلك العنوان» بمعنى لأجل الإتيان بالحركات مع ذلك العنوان معاً، و«من قصد أمرها» خبر (لابدّ).

[6] هذا توقف الإتيان بذلك العنوان على قصد الأمر، وحاصله: إن الأمر لا

ص: 82

الموقوف عليه، فيكون عنواناً إجمالياً ومرآةً لها[1]، فإتيان الطهارات عبادةً وإطاعةً لأمرها[2] ليس لأجل أن أمرها المقدمي يقضي بالإتيان كذلك[3]، بل إنما كان لأجل إحراز نفس العنوان الذي يكون[4] بذاك العنوان موقوفاً عليها.

وفيه[5]: - مضافاً[6] إلى أن ذلك لا يقتضي الإتيان بها كذلك، لإمكان الإشارة

-------------------------------------------------------------------

يدعو إلاّ إلى الإتيان بمتعلقه، وذلك المتعلّق هو الحركات مع عنوانها الخاص، فيكون الأمر مشيراً إجمالياً إلى ذلك العنوان، «لكونه» أي: الأمر الغيري المتعلّق بالمقدمة، «الموقوف عليه» وهو المقدمة.

[1] أي: للمقدمة - التي هي الحركات مع العنوان الخاص - .

[2] أي: لزوم الإتيان بها بقصد القربة.

[3] أي: بنحو العبادة وطاعة أمرها.

[4] أي: تكون الحركات مع ذلك العنوان و«موقوفاً عليها» خبر (تكون).

[5] والمصنف يستشكل على هذا الجواب بإشكالين:

الأول: إن الإشارة إلى ذلك العنوان لا يتوقف على قصد الأمر بنحو الغاية بأن يقول: (أتوضأ بقصد الأمر بالوضوء)، بل يمكن الإشارة إلى العنوان بذكر الأمر وصفاً بأن يكون الداعي شيئاً آخر، كأن يقول: (آتي بالوضوء الواجب بقصد التبريد) ففي هذه النية قد أشار إلى العنوان الخاص عبر جعل الأمر بالوضوء وصفاً لا غاية ثم جعل الغاية شيئاً آخر، ومن الواضح عدم كفاية هذا القصد وبطلان الوضوء بذلك.

والحاصل: إنه إن كان يكفي الإشارة إلى ذلك العنوان الراجح لصحّ جعل قصد الأمر وصفاً لا غاية، لكن التالي باطل، فالمقدم مثله.

الثاني: إن هذا الجواب لا يدفع إشكال ترتب الثواب على امتثال الأمر الغيري.

[6] هذا هو الإشكال الأول، «ذلك» أي: كون المقدمة هي الحركات مع العنوان الراجح، «بها» بالطهارات، «كذلك» أي: بقصد أمرها بأن يكون قصد القربة

ص: 83

إلى عناوينها التي تكون بتلك العناوين موقوفاً عليها بنحوٍ آخر[1] ولو بقصد أمرها وصفاً[2]، لا غايةً وداعياً[3]، بل كان الداعي إلى هذه الحركات الموصوفة بكونها مأموراً بها[4] شيئاً آخر غير أمرها - : غير وافٍ[5] بدفع إشكال ترتب المثوبة عليها، كما لا يخفى.

ثانيهما[6]: ما محصله: إن لزوم وقوع الطهارات عبادة إنما يكون لأجل أن

-------------------------------------------------------------------

- أي: قصد أمرها - غاية، «لإمكان...» هذه دليل قوله: (لا يقتضي...).

[1] غير قصد امتثال الأمر الغيري، «بنحو» متعلق بقوله: (الإشارة إلى عناوينها).

[2] هذا أحد مصاديق النحو الآخر، «أمرها» أمر الطهارات.

وهناك طرق أخرى كأن يقول: (الوضوء بما يتضمن من عناوين لا أعلمها)، أو (الوضوء بالكيفية التي يريده الله)، أو (الوضوء الذي هو مقدمة) ونحو ذلك.

[3] العطف تفسيري، ولا يخفى أن الغاية وإن كانت آخر ما يتحقق إلاّ أنها أول ما ينقدح في الذهن فتكون داعياً إلى العمل.

[4] بالأمر الغيري، و«شيئاً» خبر كان، كالتبريد ونحوه.

[5] هذا هو الجواب الثاني، أي: وفيه - مضافاً إلى الجواب الأول - أنه غير كافٍ لدفع الإشكال؛ وذاك لبقاء إشكال ترتب الثواب على الأمر الغيري.

ولا يخفى عدم ورود هذا الإشكال على الشيخ الأعظم؛ لأنه كان في مقام الجواب عن كيفية اشتراط قصد القربة، لا الجواب عن كيفية ترتب الثواب.

الجواب الثالث

[6] وحاصله: إن الغرض من الأمر بالصلاة - مثلاً - كما لا يحصل إلاّ بإتيان نفس الصلاة بقصد القربة، كذلك لا يحصل إلاّ بإتيان الوضوء بقصد القربة، فليس وجه اشتراط قصد القربة في الوضوء هو أمره الغيري، بل هو عدم حصول الغرض من الصلاة إلاّ بقصد القربة في الوضوء.

ص: 84

الغرض من الأمر النفسي بغاياتها[1] كما لا يكاد يحصل بدون قصد التقرب بموافقته[2]، كذلك لا يحصل[3] ما لم يؤت بها كذلك، لا باقتضاء[4] أمرها الغيري.

وبالجملة: وجه لزوم إتيانها عبادةً إنما هو لأجل أن الغرض في الغايات لا يحصل إلاّ بإتيان خصوص الطهارات من بين مقدماتها[5] أيضاً[6] بقصد الإطاعة.

وفيه[7]: أيضاً إنه غير وافٍ بدفع إشكال ترتب المثوبة عليها.

-------------------------------------------------------------------

وبعبارة أخرى: إن اشتراط قصد القربة في الوضوء ليس لأجل الأمر الغيري بالوضوء، بل لأجل الأمر النفسي بالصلاة.

[1] أي: غايات الطهارات، كالصلاة والطواف.

[2] أي: بموافقة الأمر النفسي المتعلق بالغايات كالصلاة، و«بموافقته» متعلّق ب- (يحصل)، والمعنى لا يحصل الغرض بامتثال الأمر بالصلاة إذا لم يأت بها بقصد القربة.

[3] أي: لا يحصل ذلك الغرض، «بها» بالطهارات، «كذلك» أي: بقصد القربة بموافقة ذلك الأمر النفسي.

[4] أي: ليس اشتراط قصد القربة في الطهارات لأجل اقتضاء أمرها الغيري.

[5] أي: سائر مقدمات الغايات، فللصلاة مقدمات متعددة كلّها واجبة بوجوب غيري، فلا يشترط فيها قصد القربة سوى الطهارات، فإنه يشترط فيها قصد القربة؛ لأجل أن الغرض من الصلاة لا يحصل إلاّ بقصد القربة في خصوص هذه المقدمة التي هي الوضوء مثلاً.

[6] أي: كما لا يحصل الغرض إلاّ بإتيان الصلاة بقصد القربة.

[7] حاصله: إن هذا الإشكال لا يدفع ترتب الثواب على الطهارات، حيث إن ثوابها غيري، ولا يخفى عدم ورود هذا الإشكال على الشيخ الأعظم أيضاً؛ لأن الغرض من جوابه هو دفع إشكال قصد القربة لا إشكال ترتب الثواب.

ص: 85

وأما ما ربما قيل[1] في تصحيح اعتبار قصد الإطاعة في العبادات - من الالتزام بأمرين: أحدهما كان متعلقاً بذات العمل، والثاني بإتيانه بداعي امتثال الأول - لا يكاد يجدي[2] في تصحيح اعتبارها[3] في الطهارات[4]، إذ لو لم تكن[5] بنفسها

-------------------------------------------------------------------

الجواب الرابع

[1] كما في تقريرات الشيخ الأعظم، وحاصله: إن المقدمة هي (ذات الوضوء مع قصد القربة)، وحيث لا يمكن تعلّق أمر واحد بهذه المقدمة فلابد من أمرين: أحدهما يتعلق بذات الوضوء، والآخر يتعلق بالإتيان بالذات مع قصد القربة، وهذا هو أحد

الطرق في تصحيح أخذ قصد القربة في العبادات، كما مرّ تفصيله في التعبدي والتوصلي.

ثم إنه قد اختلفت الأنظار في شرح مقصود الشيخ الأعظم في هذا الجواب، حيث ذكره في كتاب الطهارة(1)

وفي تقريراته - مطارح الأنظار(2) - . فراجع عناية الأصول وبدائع الأفكار(3).

[2] أي: لو نفعنا هذا الجواب في كيفية أخذ قصد القربة في العبادات فإنه لا ينفعنا في هذا المقام، أي: في المقدمات العبادية كالوضوء.

[3] أي: قصد الإطاعة، وتأنيث الضمير باعتبار المضاف إليه - أي: الإطاعة - .

[4] بيان سبب عدم نفع هذا الجواب في ما نحن فيه:

أولاً: إن ذات الوضوء ليس مقدمة للصلاة، فلا يترشح من وجوب الصلاة وجوب غيري على ذات الوضوء، ليكون هو الأمر الأول.

وثانياً: إنا نعلم بعدم وجود أمرين، بل أمر واحد فقط.

[5] إشارة إلى الجواب الأول، «لم تكن» الطهارات، «أمر» غيري.

ص: 86


1- كتاب الطهارة 2: 55.
2- مطارح الأنظار 1: 349.
3- عناية الأصول 1: 362؛ بدائع الأفكار: 335.

مقدمة لغاياتها لا يكاد يتعلق بها أمر من قبل الأمر بالغايات. فمن أين يجيء طلب آخر[1] من سنخ الطلب الغيري متعلق بذاتها ليتمكن به[2] من المقدمة في الخارج؟ هذا مع[3] أن في هذا الالتزام ما في تصحيح اعتبار قصد الطاعة في العبادة على ما عرفته مفصلاً سابقاً، فتذكر.

الثاني[4]:

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: فما هو منشأ تعلّق الأمر الأول بذات الطهارات؟

[2] أي: ليكون الأمر المتعلق بالذات سبباً لتعلّق الأمر الغيري بالمقدمة، التي هي (الذات مع قصد القربة).

[3] إشارة إلى الجواب الثاني، «في هذا...» أي: يرد عليه، «الالتزام» أي: بأمرين، «ما» أي: الإشكال الذي مرّ في تصحيح اعتبار... الخ، «سابقاً» في بحث التوصلي والتعبدي.

التذنيب الثاني: عدم اعتبار قصد الغايات في صحة الطهارات الثلاث

[4] حاصله: إن المكلّف لو أراد الوضوء - مثلاً - فهل يكفي أن يتوضأ من دون قصد التوصل بالوضوء إلى الصلاة، أم لابد في صحة الوضوء من قصد التوصل به إلى الصلاة؟

أما على مبنى المصنف في اختياره الجواب الأول - وهو أن الوضوء مستحب نفسي - فلا حاجة إلى قصد التوصل، بل يأتي بالوضوء لنفسه، ويقع هذا الوضوء صحيحاً.

وأما بناء على سائر الأجوبة - التي ذكرها الشيخ الأعظم - فإن مصحِّح اعتبار قصد القربة في الطهارة أحد وجهين:

الأول: إن المصحِّح هو الأمر الغيري المتعلّق بها؛ إذ في كل تلك الأجوبة كان اللازم قصد الوجوب الغيري ليتحقق العنوان الراجح، كما في الجواب الثاني، أو لتوقف الغرض على قصد الأمر الغيري، كما في الجواب الثالث، أو أن المقدمة

ص: 87

إنّه قد انقدح مما هو التحقيق في وجه اعتبار قصد القربة في الطهارات[1] صحتها ولو لم يؤت بها بقصد التوصل بها إلى غاية من غاياتها. نعم، لو كان المصحّح لاعتبار قصد القربة فيها أمرها الغيري[2] لكان قصد الغاية مما لابد منه في وقوعها صحيحة، فإن[3] الأمر الغيري لا يكاد يمتثل إلاّ إذا قُصد التوصل إلى الغير، حيث لا يكاد[4] يصير داعياً إلاّ مع هذا القصد، بل في الحقيقة[5] يكون هو الملاك لوقوع المقدمة عبادة ولو لم يقصد أمرها، بل ولو لم نقل بتعلق الطلب بها أصلاً.

-------------------------------------------------------------------

تتوقف على قصد الأمر الغيري، كما في الجواب الرابع، وحينئذٍ فلابد في صحة الوضوء من قصد التوصل إلى الصلاة ونحوها، فلا يصح الوضوء لو أتى به لا بقصد الأمر الغيري المتعلق به.

بل يمكن القول: إنه يكفي قصد التوصل إلى الصلاة، حتى لو لم يقصد الأمر الغيري، فمع الغفلة عن الأمر الغيري أو مع القول بعدم وجوب المقدمة - حيث لا أمر غيري حينئذٍ - يكفي قصد التوصل؛ وذلك لتوقف العنوان الراجح أو الغرض من الأمر النفسي، أو توقف المقدمية على قصد التوصل من غير حاجة إلى قصد الأمر.

الوجه الثاني: ما ذكره الشيخ الأعظم، وسيأتي توضيحه.

[1] وهو الجواب الأول الذي اختاره المصنف، من تعلّق الأمر الاستحبابي النفسي بالطهارات، «صحتُها» فاعل انقدح، أي: صحة الطهارات.

[2] كما في الأجوبة الثلاثة للشيخ الأعظم.

[3] هذا دليل اعتبار قصد التوصل، وحاصله: إن قصد القربة في الطهارات يتوقف على قصد أمرها الغيري.

[4] أي: لا يكاد الأمر الغيري.

[5] إضراب عن اشتراط قصد الأمر الغيري إلى كفاية قصد التوصل، حتى لو كان غافلاً عن الأمر الغيري، أو قلنا بعدم وجوب المقدمة شرعاً، «يكون» قصد التوصل، «أمرها» أمر المقدمة الغيري، «بها» بالمقدمة.

ص: 88

وهذا[1] هو السرُّ في اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمة عبادة. لا ما توهم[2] من أن المقدمة إنما تكون مأموراً بها بعنوان المقدمية، فلابد عند إرادة الامتثال بالمقدمة من قصد هذا العنوان[3]، وقصدها كذلك[4] لا يكاد يكون بدون قصد التوصل إلى ذي المقدمة بها؛ فإنه فاسدٌ جداً[5]، ضرورة أن عنوان المقدمية ليس

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: كون الملاك في عبادية الطهارات الثلاث هو قصد التوصل بناء على الأجوبة الثلاثة الأخيرة.

[2] هذا هو الوجه الثاني، وهو ما ورد في تقريرات الشيخ الأعظم(1)، وهو يتوقف على أمور ثلاثة:

1- أخذ (عنوان المقدمية) في متعلّق الأمر الغيري، فالوضوء - مثلاً - لم يتعلق الأمر الغيري بذاته، بل تعلق به بعنوان كونه مقدمة للصلاة.

2- امتثال المقدمة يتوقف على قصد عنوان المقدمية؛ لأن الامتثال إطاعة، ولا إطاعة إلاّ بالقصد.

3- ولا يمكن تحقق (قصد عنوان المقدميّة) إلاّ بقصد التوصل إلى ذي المقدمة.

والحاصل: إنه يجب (قصد التوصل) لأجل إحراز عنوان المقدمية المأخوذة في متعلّق الأمر الغيري.

ف- (إن المقدمة...) إشارة إلى الأمر الأول، و(فلابد عند...) إشارة إلى الأمر الثاني، و(وقصدها كذلك...) إشارة إلى الأمر الثالث.

[3] أي: عنوان المقدمة.

[4] أي: قصد المقدمة بعنوان المقدميّة، «بها» بالمقدمة.

[5] أي: هذا التوهم - وهو الوجه الثاني - غير صحيح؛ للخلل في الأمر الأول، فإن (عنوان المقدمية) لا يتعلّق به الوجوب الغيري؛ لأن ذا المقدمة - كالصلاة لا يتوقف على عنوان مقدمية الوضوء، بل يتوقف على الوجود الخارجي للوضوء.

ص: 89


1- مطارح الأنظار 1: 354.

بموقوف عليه الواجب[1]، ولا بالحمل الشائع مقدمة[2] له، وإنما كان المقدمة هو نفس المعنونات بعناوينها الأولية[3]، والمقدمية إنما تكون علة لوجوبها.

الأمر الرابع[4]: لا شبهة في أن وجوب المقدمة - بناءً على الملازمة - يتبع في الإطلاق

-------------------------------------------------------------------

نعم، سبب ترشّح الوجوب من الصلاة إلى ذات الوضوء هو عنوان المقدمية، لكن هذا العنوان لم يؤخذ في متعلّق الوجوب.

وبعبارة أخرى: إن عنوان المقدميّة (حيثٌ تعليلي) لا (حيثٌ تقييدي).

[1] أي: لا يتوقف الواجب النفسي - كالصلاة - على عنوان المقدمية، ومن المعلوم أن الوجوب الغيري يترشح على ما يتوقف عليه الواجب لا على ما لا يتوقف عليه.

[2] ما كان بالحمل الشائع مقدمة هو الوجود الخارجي للمقدمة.

[3] كذات الوضوء، فإن عنوانه الأصلي هو الوضوء، وليس عنوان المقدمية عنواناً أصلياً له.

الأمر الرابع: في المقدمة الموصلة

اشارة

[4] من الأمور التي قدّمها المصنف تمهيداً لبحث مقدمة الواجب، فكان الأمر الأول: حول أصولية المسألة وعقليتها، والأمر الثاني: في تقسيمات المقدمة، والأمر الثالث: في تقسيمات الواجب، والآن يذكر المصنف الأمر الرابع: في كيفية تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذي المقدمة، والأقوال أربعة:

1- لصاحب المعالم(1):

وهو أنّ وجوب المقدمة تابع لإرادة ذي المقدمة، أي: إن قصد ذا المقدمة فالمقدمة واجبة، وإن لم يقصده فلا تجب.

2- للشيخ الأعظم(2):

بأن وقوع المقدمة على صفة الوجوب تابع لإرادة ذي المقدمة، أي: لو قلنا بالملازمة فالمقدمة واجبة، لكن لو أتى بها من غير قصد ذي

ص: 90


1- معالم الدين: 71.
2- مطارح الأنظار 1: 354.

والاشتراط[1]

-------------------------------------------------------------------

المقدمة لم تقع على صفة الوجوب.

فالفرق بين القولين: إن الأول كان أصل الوجوب متوقف على الإرادة، والثاني كان الوجوب ثابت سواء أراد أم لم يُرد، لكن إذا لم يُرد ذا المقدمة لم تكن المقدمة مصداقاً للواجب.

3- لصاحب الفصول(1):

بأن الواجب خصوص المقدمة الموصلة، أي: لو أوصلت إلى ذي المقدمة انكشف بأنها كانت متصفة بالوجوب، حتى لو لم يقصد ذا المقدمة، وإن لم توصل إلى ذي المقدمة انكشف بأنها لم تكن واجبة، حتى لو قصد ذا المقدمة، فمن توضأ إن صلّى الفريضة بذلك الوضوء انكشف وجوب وضوئه، وإن لم يصلِّ الفريضة انكشف عدم وجوبه.

والفرق بين هذا وبين الثاني، هو بالعموم من وجه، فلو قصد بالوضوء الإتيان بالصلاة ثم لم يأت بها فالوضوء وقع على صفة الوجوب بناءً على الثاني، ولم يقع على صفة الوجوب بناءً على الثالث، ولو لم يقصد به الصلاة لكنه بدا له الصلاة فصلّى، فليس بواجب على الثاني وواجب على الثالث، ومورد الاجتماع ما لو أراد بالوضوء الصلاة ثم أتى بها.

4- للمصنف: بأن المقدمة واجبة - بناءً على الملازمة - سواء قصد التوصل أم لم يقصد، وسواء أتى بذي المقدمة أم لم يأت، فقطع الطريق للحج واجب بالوجوب الغيري مطلقاً.

[1] فلو كان ذو المقدمة واجباً مطلقاً - كالصلاة - وجبت مقدمته مطلقاً أيضاً، ولو كان واجباً مشروطاً - كالحج - ، فوجوب مقدمته تابعة للشرط أيضاً، فلا تجب الراحلة إلاّ بعد تحقق الاستطاعة مثلاً؛ وذلك لأن وجوب المقدمة معلول لوجوب ذي المقدمة، فمع عدم الشرط تنتفي العلة فينتفي المعلول، ومع وجود العلة - إما

ص: 91


1- الفصول الغروية: 81.

وجوب ذي المقدمة، كما أشرنا إليه في مطاوي كلماتنا[1].

ولا يكون[2] مشروطاً بإرادته، كما يوهمه[3] ظاهر عبارة صاحب المعالم في بحث الضد، قال: «وأيضاً فحجة[4] القول بوجوب المقدمة - على تقدير تسليمها - إنما تنهض دليلاً على الوجوب في حال كون المكلف مريداً للفعل المتوقف عليها، كما لا يخفى على من أعطاها حق النظر»(1).

وأنت خبير[5] بأن نهوضها على التبعية واضح لا يكاد يخفى، وإن كان نهوضها[6] على أصل الملازمة لم يكن بهذه المثابة، كما لا يخفى.

-------------------------------------------------------------------

لكون الوجوب مطلقاً أو لتحقق الشرط في المشروط - يوجد المعلول.

[1] كقوله في أوائل الأمر الثالث حين تقسيم الواجب إلى المطلق والمشروط: (ثم الظاهر دخول المقدمات الوجودية للواجب المشروط في محل النزاع... غاية الأمر تكون في الإطلاق والاشتراط تابعة لذي المقدمة كأصل الوجوب).

القول الأول: الوجوب حين إرادة ذي المقدمة

[2] أي: لا يكون وجوب المقدمة مشروطاً بإرادة ذي المقدمة.

[3] وإنّما قال: «يوهمه» لاحتمال أن يكون مقصود صاحب المعالم هو القول الثاني الذي اختاره الشيخ، فقوله: «على الوجوب» كما يحتمل أن يكون (أصل وجوب المقدمة)، كذلك يحتمل أن يكون المراد (وقوع المصداق على صفة الوجوب).

[4] وهو الاستدلال بأنه لو لم تجب المقدمة لجاز تركها... الخ، وسيأتي تفصيله، «تسليمها» أي: تسليم الحجة.

[5] في الإشكال على هذا القول، «نهوضها» أي: نهوض الحجة، «التبعية» أي: في الإطلاق والاشتراط، «لا يكاد يخفى» لما ذكرناه من أن المعلول تابع للعلة.

[6] أي: دليل أصل الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذي المقدمة غير تام، ولكن لو سلمناه فإن دلالته على التبعية واضحة وجلية، «بهذه المثابة» من الوضوح.

ص: 92


1- معالم الدين: 71.

وهل يعتبر[1] في وقوعها على صفة الوجوب أن يكون الإتيان بها بداعي التوصل بها إلى ذي المقدمة - كما يظهر مما نسبه إلى شيخنا العلامة (أعلى الله مقامه) بعض أفاضل مقرري بحثه -(1)

أو ترتب[2] ذي المقدمة عليها بحيث لو لم يترتب عليها لكشف عن عدم وقوعها على صفة الوجوب - كما زعمه صاحب الفصول -(2)

أو لا يعتبر في وقوعها كذلك[3] شيء منهما؟

الظاهر عدم الاعتبار.

أما عدم اعتبار قصد التوصل[4]:

-------------------------------------------------------------------

[1] شروع في بيان سائر الأقوال، «وقوعها» وقوع المقدمة، «على صفة الوجوب» بأن يكون الفعل الذي أتى به مصداقاً للواجب.

[2] أي: أو هل يعتبر في وقوعها على صفة الوجوب أن تُوصِل إلى ذي المقدمة - سواء قصده أم لا -؟ «لم يترتب» ذو المقدمة، «عليها» على المقدمة.

[3] أي: على صفة الوجوب، «منهما» قصد التوصل، وترتّب ذي المقدمة.

القول الثاني: اشتراط الواجب بقصد التوصل

[4] من أدلة اعتبار قصد التوصل هو أنه لو لم يقصد التوصل إلى ذي المقدمة فلا يكون ممتثلاً للأمر الغيري في المقدمة، كمن ذهب إلى مكّة للسياحة ثم بدا له الإتيان بالحج، فلا يكون سيره إلى مكة امتثالاً للأمر الغيري.

والمصنف في مقام مناقشة هذا القول يذكر عدة نقاط:

1- إن ملاك الوجوب موجود حتى لو لم يقصد التوصل، فإن سبب وجوب قطع المسافة هو التمكّن من الحج، وهذا السبب كما هو موجود مع قصد التوصل كذلك موجود لو لم يقصد التوصّل.

2- ولذا يكون قطع المسافة مجزياً حتى لو لم يقصد الحج من غير حاجة إلى إعادته،

ص: 93


1- مطارح الأنظار 1: 354.
2- الفصول الغروية: 81.

فلأجل أن الوجوب لم يكن بحكم العقل[1] إلاّ لأجل المقدمية والتوقف، وعدم دخل

-------------------------------------------------------------------

فلا يقال للذي ذهب إلى مكة للسياحة ثم بدا له الحج: (كرّر قطع المسافة مرّة ثانية).

3- وعدم تحقق قصد الامتثال لو لم يقصد التوصل لا ربط له بالوجوب، فإن الامتثال هو الإطاعة وهي تتوقف على القصد، وأما الوجوب في التوصليات فلا يرتبط بالقصد، فمن غسل ثوبه لأجل النظافة - لا لأجل الصلاة - يكون فعله بالغسل متصفاً بالوجوب التوصلى، لكنه ليس امتثالاً للأمر بالغسل ولا ثواب فيه.

4- وتظهر الثمرة بين القول باعتبار قصد التوصل وعدم اعتباره، وتلك الثمرة هي بقاء المقدمة على حكمها السابق أو عدم بقائها.

مثلاً: لو توقف إنقاذ غريق على الدخول في ملك الغير بغير إذنه، فحينئذٍ يكون هذا الدخول واجباً على رأى المصنف مطلقاً، ولكن قد يكون فيها متجرّئاً لو لم يقصد التوصل.

وأما على رأي الشيخ فلو لم يقصد التوصل كان الدخول في ملك الغير باقياً على حرمته.

5- ولا يرد على كلامنا بأن المقدمة لو كانت محرمة - كما لو ذهب إلى الحج بالدابة المغصوبة - فلا يمكن أن تتصف بالوجوب؛ لاستحالة اجتماع الضدين مع وجود الملاك، وهو توقف ذي المقدمة عليها؛ وذلك لأن عدم اتصاف هذه المقدمة بالوجوب لأجل وجود المانع - وهو استحالة اجتماع الضدين - فلذا لا يؤثّر ملاك الوجوب، وهذا عكس ما نحن فيه، حيث إن الملاك للوجوب موجود من غير مانع، فلابد أن تتصف المقدمة بالوجوب حتى لو لم يقصد التوصل.

[1] إشارة إلى النقطة الأولى، وحاصلها: إن ملاك الوجوب هو التوقف، أي: توقف ذي المقدمة على المقدمة، ومن المعلوم أن هذا الملاك موجود سواء قصد

ص: 94

قصد التوصل فيه واضحٌ. ولذا(1) اعترف[1] بالاجتزاء بما لم يقصد به ذلك في غير المقدمات العبادية[2] لحصول[3] ذات الواجب. فيكون تخصيص الوجوب[4] بخصوص ما قصد به التوصل من المقدمة بلا مخصص، فافهم[5].

-------------------------------------------------------------------

التوصل أم لا، وبعبارة أخرى - كما قيل -(2):

لو كان قصد التوصل دخيلاً في ملاك الوجوب للزم الدور، حيث إن قصد التوصل موقوف على المقدّمية؛ إذ لا معنى لقصد التوصل بواسطة غير المقدمة، فلو توقفت المقدّمية على هذا القصد كان دوراً، «بحكم العقل» وكذا بحكم الشرع لو قلنا بالملازمة.

[1] إشارة إلى النقطة الثانية، «اعترف» الشيخ الأعظم، «بالاجتزاء» أي: الاكتفاء، «بما» أي: بمقدمةٍ، «به» الضمير للموصول، «ذلك» التوصل.

[2] وأما العبادية فقد مرّ أن الشيخ الأعظم اشترط قصد أمرها ليتحقق قصد القربة.

[3] هذا دليل الاجتزاء.

[4] أي: بوجود ملاك الوجوب في المقدمة التي لا يقصد بها التوصل، فلا وجه للقول بعدم وجوبها، وبعبارة أخرى: إن ملاك الوجوب هو التوقف، وهو موجود في المقدمة التي لا يقصد بها التوصل، كما أنه موجود في المقدمة التي يقصد بها التوصل، فلا فرق بينهما.

[5] لعله إشارة إلى أن مجرد الاجتزاء بالشيء لا يكون سبباً لاتصافه بصفة الوجوب، فإن حصول غرض المولى مسقط للأمر لا أنه سبب لوقوع الفعل واجباً، فغير المختار الذي حُمل إلى مكة قسراً لا يقع قطعه للمسافة على صفة الوجوب - لعدم كونه مختاراً - مع أن غرض المولى. وهو التمكن من الحج - قد تحقق، وبعبارة أخرى: لا يكون تخصيص الوجوب بالفعل الذي قُصد به التوصل من غير مخصص؛ وذلك لوجود المانع عن الوجوب في ما لم يقصد التوصل.

ص: 95


1- مطارح الأنظار 1: 354.
2- منتهى الدراية 2: 287.

نعم[1]، إنما اعتبر ذلك في الامتثال، لما عرفت من أنه لا يكاد يكون الآتي بها بدونه ممتثلاً لأمرها[2] وآخذاً في امتثال الأمر بذيها، فيثاب[3] بثواب أشق الأعمال. فيقع[4] الفعل المقدمي على صفة الوجوب ولو لم يقصد به التوصل كسائر الواجبات التوصليه[5]، لا على حكمه السابق[6] الثابت له لو لا عروض صفة

-------------------------------------------------------------------

[1] إشارة إلى النقطة الثالثة، «اعتبر ذلك» أي: قصد التوصل، «لما عرفت» في التذنيب الثاني، «بها» بالمقدمة، «بدونه» بدون قصد التوصل.

[2] لأن الطاعة عنوان قصدي، «وآخذاً» أي: لا يكاد يكون آخذاً، والمعنى: مع عدم قصد التوصل لا يكون فعله امتثالاً لأمرها الغيري، ولا شروعاً في امتثال أمر ذي المقدمة النفسي.

[3] أي: لكي يثاب، والمعنى: ولم يكن عمله شروعاً في امتثال ذي المقدمة حتى يكون ذو المقدمة شاقاً صعباً - لكثرة أو صعوبة مقدماته - فحينئذٍ يكون ثوابه أكثر؛ لأن العمل صار أشق وأصعب.

والحاصل: إن الثواب يترتب على قصد التوصل، أما الوجوب فلا يتوقف على هذا القصد.

[4] إشارة إلى النقطة الرابعة، أي: حيث كان ملاك الوجوب موجوداً حتى مع عدم قصد التوصل فحينئذٍ يقع الفعل المقدمي... الخ، ومن هنا يبيّن المصنف الثمرة بين القول باعتبار قصد التوصل وعدم القول به.

[5] حيث لا يتوقف اتصافها بالوجوب على قصد التوصل.

[6] عطف على (فيقع الفعل المقدمي على صفة الوجوب)، أي: ولا يبقى على حكمه قبل التوقف والمقدمية، بحيث لو كان مباحاً قبل أن يكون مقدمة، فيبقى على إباحته بعد المقدمية إلاّ إذا قصد التوصّل، وكذا في سائر الأحكام، «الثابت له» أي: للفعل.

ص: 96

توقف الواجب الفعلي المنجّز[1] عليه. فيقع الدخول في ملك الغير واجباً[2] إذا كان مقدمةً لإنقاذ غريق أو إطفاء حريق واجبٍ فعليٍ، لا حراماً[3]، وإن لم يلتفت[4] إلى التوقف والمقدمية. غاية الأمر[5] يكون حينئذٍ متجرئاً فيه. كما أنه[6] مع الالتفات يتجرأ بالنسبة إلى ذي المقدمة في ما لم يقصد التوصل إليه أصلاً. وأما إذا قصده[7] ولكنه لم يأت بها بهذا الداعي[8] بل بداعٍ آخر أكّده بقصد التوصل، فلا

-------------------------------------------------------------------

[1] «المنجّز» وصف توضيحي لقوله: (الفعلي)، أي: المقصود من الفعليّة هو التنجّز؛ وذلك لأن الواجب إذا لم يكن منجّزاً لم تجب مقدماته، «عليه» على الفعل.

[2] وترتفع حرمة التصرف في ملك الغير بغير إذنه؛ وذلك لأن الإنقاذ أو الإطفاء أهم، فيترجح عند التزاحم، وقوله: (واجب فعلي) لأنه لو لم يكن كذلك لم يتزاحم مع حرمة التصرّف.

[3] وتلك الحرمة هي حكم التصرف في ملك الغير قبل صيرورة التصرف مقدمة للإنقاذ أو الإطفاء.

[4] أي: الدخول الذي هو مقدمة للإنقاذ يصير واجباً، حتى لو دخل من غير نيّة الإنقاذ، وإنما دخل بنية التنزّه مثلاً.

[5] شروع في بيان صور التجرّي أو عدمه وهي صور ثلاث، «حينئذٍ» أي: حين عدم قصد التوصّل، «فيه» أي: في الدخول.

[6] أي: لو كان يعلم بالغريق أو الحريق، فدخل في ملك الغير من غير قصد لهما، فإنه لا يكون متجرئاً في دخوله لعلمه بأنه مقدمة للواجب، لكنه متجرئ بالنسبة إلى نفس الواجب - أي: الإنقاذ والإطفاء - حيث لم يقصد فعل الواجب.

[7] أي: قصد الواجب كالإنقاذ والإطفاء، ولكن ضمّ إلى هذا القصد قصداً آخر كالتنزه.

[8] أي: لم يأت بالمقدمة بداعي الواجب النفسي فقط، بل ضمّ إلى هذا الداعي داعياً آخر، «أكّده» أي: أكّد ذلك الداعي الآخر.

ص: 97

يكون متجرئاً أصلاً.

وبالجملة[1]: يكون التوصل بها إلى ذي المقدمة من الفوائد المترتبة على المقدمة الواجبة، لا أن يكون قصده قيداً وشرطاً لوقوعها على صفة الوجوب، لثبوت[2] ملاك الوجوب في نفسها بلا دخل له فيه أصلاً، وإلاّ[3] لما حصل ذات الواجب[4] ولما سقط الوجوب به[5]، كما لا يخفى.

ولا يقاس[6] على ما إذا أتى بالفرد المحرم منها، حيث يسقط به الوجوب مع أنه

-------------------------------------------------------------------

[1] حاصله: إن التوصل إلى ذي المقدمة هي ثمرة تترتب على المقدمة، وليس قصد التوصل شرطاً لاتصاف المقدمة بالوجوب، «بها» بالمقدمة، «قصده» أي: قصد التوصّل، «لوقوعها» أي: المقدمة.

[2] هذا دليل وجوب المقدمة حتى لو لم يقصد التوصل، «في نفسها» أي: ذات المقدّمة، «له» لقصد التوصل، «فيه» في الملاك.

[3] أي: لو كان قصد التوصل شرطاً في الواجب للزم إعادة المقدمة؛ وذلك لعدم تحقق الواجب - وهي المقدمة بقصد التوصل - فإن من يترك شرط الواجب لم يتحقق الواجب، فلابد له من الإعادة، مع وضوح أن من سافر إلى مكة للتنزّه ثم بدا له الإتيان بالحج لا يجب عليه تكرار قطع المسافة، بأن يرجع إلى بلده ثم يرجع إلى مكة.

[4] وهو الفعل بقصد التوصل.

[5] أي: وحيث لم يأت بالواجب فلا يسقط وجوب المقدمة، فلابد من التكرار، «به» أي: بالإتيان بغير قصد التوصل.

[6] إشارة إلى النقطة الخامسة، وحاصلها: إن الشيخ الأعظم أجاب عن عدم لزوم التكرار بأن الاجتزاء لا يدل على كون المقدمة مصداقاً للواجب، نظير الركوب على الدابة المغصوبة إلى الحج، فإنه يُجزي مع عدم اتصاف هذا الركوب بالوجوب لكونه محرّماً، وإلاّ لزم اجتماع الضدين.

ص: 98

ليس بواجب؛ وذلك[1] لأن الفرد المحرم إنما يسقط به الوجوب لكونه كغيره في حصول الغرض به بلا تفاوت أصلاً، إلاّ أنه[2] لأجل وقوعه على صفة الحرمة لا يكاد يقع على صفة الوجوب. وهذا بخلاف هاهنا[3]، فإنه إن كان كغيره مما يقصد به التوصل في حصول الغرض فلابد أن يقع[4] على صفة الوجوب مثله، لثبوت المقتضي فيه بلا مانع، وإلاّ[5] لما كان يسقط به الوجوب ضرورةً، والتالي[6] باطل

-------------------------------------------------------------------

وأجاب عنه المصنف بأن ملاك الوجوب موجود في ركوب الدابة المغصوبة، لكن منع عنه مانع اجتماع الضدين، فلا يقاس بما نحن فيه الذي لا يوجد مانع، «لا يُقاس» أي: لا تُقاس المقدمة بدون قصد التوصل، «منها» من المقدمة، «به» بالفرد المحرّم.

[1] هذا إشكال على جواب الشيخ.

[2] أي: الفرد المحرّم.

[3] أي: الفرد من غير قصد التوصل، «فإنه» فإن هذا الفرد، و«مما يقصد» صفة ل- (غيره) أي: كغيره الذي يقصد به التوصل، والمعنى أن الفرد بغير قصد التوصل كالفرد بقصد التوصل كلاهما يحصل بهما الغرض، ولا مانع عن الوجوب فيهما، فالمقتضي للوجوب ثابت - وهو حصول الغرض - والمانع مفقود، فلابد من الوجوب فيهما بلا فرق.

[4] أي: يقع ما لا يقصد به التوصل، «مثله» مثل الذي قُصد به التوصّل. «المقتضي فيه» أي: ملاك الوجوب في الفعل بلا قصد التوصل.

[5] أي: لو لم يكن المقتضي ثابتاً، «به» أي: بالفعل الذي لا يُقصد به التوصّل، وسبب عدم السقوط هو عدم تحقق الملاك والغرض من الأمر، وكلّما لم يتحقق الملاك كان الأمر باقياً بالضرورة.

[6] أي: عدم سقوط الوجوب بالمقدمة الفاقدة لقصد التوصل.

ص: 99

بداهةً، فيكشف هذا[1] عن عدم اعتبار قصده في الوقوع على صفة الوجوب قطعاً، وانتظر لذلك[2] تتمة توضيح.

والعجب[3] أنه شدد النكير على القول بالمقدمة الموصلة واعتبار[4] ترتب ذي المقدمة

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: سقوط الوجوب بهذه المقدمة، «قصده» قصد التوصل.

[2] لعدم اعتبار قصد التوصل؛ وذلك في قول المصنف: (قلت: نعم ولكن لا محيص... الخ).

[3] أي: إن الشيخ الأعظم أشكل على صاحب الفصول - في قوله بوجوب خصوص المقدمة الموصلة - بثلاثة إشكالات، وكلها ترد على كلام الشيخ الأعظم أيضاً في أن الواجب خصوص المقدمة التي قُصد بها التوصل، وهي:

1- سبب حكم العقل بوجوب المقدمة هو أن عدمها يوجب عدم ذي المقدمة، ولا فرق في ذلك بين ترتب ذي المقدمة أو عدم ترتبه.

2- إن القول بوجوب المقدمة الموصلة يستلزم وجوب مطلق المقدمة، حيث إن الأمر بالمقيَّد بقيد خارجي يستلزم الأمر بذات المقيّد.

3- شهادة الوجدان على أن طلب المقدمة يسقط بمجرد وجودها من غير انتظار تحقق المقدمة.

ولا يخفى أن هذه الإشكالات الثلاثة ترد على اعتبار قصد التوصل إلى ذي المقدمة، كما نسب ذلك إلى الشيخ الأعظم.

ثم اعلم أنه قيل: إن نسبة هذا القول إلى الشيخ الأعظم غير صحيحة، فإن كلام التقريرات يأبى عن ذلك، بل ظاهر التقريرات وكذا ظاهر كتاب الطهارة أنه يذهب إلى نفس ما ذهب إليه المصنف.

[4] عطف تفسيري لبيان معنى المقدمة الموصلة - الذى ذهب صاحب الفصول إلى وجوبها بالخصوص - .

ص: 100

عليها في وقوعها على صفة الوجوب(1) - على ما حرره بعض مقرري بحثه+(2) - بما[1] يتوجه على اعتبار قصد التوصل في وقوعها كذلك، فراجع تمام كلامه (زيد في علو مقامه) وتأمل في نقضه وإبرامه.

وأما عدم اعتبار ترتب ذي المقدمة[2] عليها في وقوعها على صفة الوجوب: فلأنه[3]

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: بإشكالاتٍ ترد بعينها على ما ذهب إليه من وجوب المقدمة التي قُصد بها التوصّل، «وقوعها» أي: وقوع المقدمة، «كذلك» أي: على صفة الوجوب.

القول الثالث: وجوب خصوص المقدمة الموصلة
اشارة

[2] خلافاً لصاحب الفصول، حيث اشترط في وجوب المقدمة إيصالها إلى ذي المقدمة، بمعنى أنه لو أتى بذي المقدمة فحينئذٍ نكتشف وجوب المقدمة التي أتي بها، وإن لم يأتِ بذي المقدمة اكتشفنا عدم وجوب المقدمة المأتي بها.

ثم إن المصنف يبدأ أولاً بالإشكال على المقدمة الموصلة ويذكر إشكالين، وربما عُدّت الإشكالات ثلاثة، ثم يذكر أدلة صاحب الفصول ويناقشها.

الإشكال الأول

[3] حاصل الإشكال: إن كل أمر وطلب إنما هو لأجل غرض، وليس الغرض إلاّ ما يترتب على فعل الواجب، مثلاً: الغرض من وجوب الصلاة هو النهي عن الفحشاء والمنكر، وهذا الغرض يترتب على فعل الصلاة الصحيحة.

وبعبارة أخرى: تصوُّر المولى للفائدة المترتبة على الشيء هو سبب لإصداره الأمر، والعبد بامتثاله يصل إلى تلك الفائدة خارجاً.

إذا اتضح ذلك نقول: في ما نحن فيه: الغرض من وجوب المقدمة هو التمكن من الإتيان بذي المقدمة، وهذا الغرض موجود في المقدمة الموصلة وغيرها، فلابد من

ص: 101


1- الفصول الغروية: 81.
2- مطارح الأنظار 1: 368.

لا يكاد يعتبر في الواجب[1] إلاّ ما له دخل في غرضه الداعي إلى إيجابه والباعث[2] على طلبه، وليس الغرض من المقدمة[3] إلاّ حصول ما لولاه لما أمكن حصول ذي المقدمة، ضرورة[4]

-------------------------------------------------------------------

وجوب كليهما، ولا وجه لاختصاص الموصلة بالوجوب مع عموم الغرض لغير الموصلة أيضاً.

وليس الغرض من وجوب المقدمة هو ترتب ذي المقدمة في الخارج، فإن هذا الترتّب ليس أثراً لجميع المقدمات في الغالب، فلا يمكن أن يكون غرضاً، فإن الغرض هو ما يترتب على فعل الواجب؛ وذلك لأن غالب الواجبات لا تتحقق بالإتيان بجميع مقدماتها، بل بعد الإتيان بجميع المقدمات يبقى المكلّف مختاراً بين فعل ذي المقدمة وبين تركه، مثلاً: من أتى بجميع مقدمات الحج من الزاد والراحلة وقطع المسافة إلى أن وصل إلى الميقات فهذا يمكنه الإتيان بالحج أو عدم الإتيان به. إذن، فالإتيان بالحج ليس مترتباً على فعل جميع المقدمات فلا يكون غرضاً من الأمر، وإنما المترتب على فعل المقدمات هو التمكن من الحج، ولا فرق في هذا التمكن بين المقدمات الموصلة والمقدمات غير الموصلة، كمن انصرف عن الحج حين وصوله إلى الميقات.

[1] أي: النفسي وهو ذو المقدمة.

[2] عطف تفسيري على (الداعي إلى إيجابه).

[3] أي: ليس الغرض من إيجاب المقدمة إلاّ التمكن من ذي المقدمة، «حصول ما» أي: حصول المقدمة التي، «لولاه» الضمير للموصول، أي: لو لا تلك المقدمة لم يتمكن من ذي المقدمة.

[4] بيان أن الغرض هو ما يترتب على الفعل، وفي وجوب المقدمة ليس الغرض هو الوصول إلى ذي المقدمة؛ لأن هذا لا يترتب على الوجوب، بل يترتب على شيء آخر هو اختيار المكلّف، «أنه» للشأن.

ص: 102

أنه لا يكاد يكون الغرض إلاّ ما يترتب عليه[1] من فائدته وأثره، ولا يترتب[2] على المقدمة إلاّ ذلك، ولا تفاوت فيه[3] بين ما يترتب عليه الواجب وما لا يترتب عليه أصلاً، وأنه لا محالة[4] يترتب عليهما، كما لا يخفى.

وأما ترتب الواجب[5]، فلا يعقل أن يكون الغرض الداعي إلى إيجابها والباعث على طلبها، فإنه[6] ليس بأثر تمام المقدمات - فضلاً عن إحداها - في غالب الواجبات[7]، فإن الواجب إلاّ ما قلَّ في الشرعيات والعرفيات فعل اختياري يختار

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: إلاّ ما يترتب خارجاً على الفعل؛ وذلك الذي يترتب هو أثر الفعل وفائدته.

[2] أي: والحال أن الشيء الذي يترتب على المقدمة هو التمكن، «ذاك» أي: التمكن من ذي المقدمة.

[3] أي: في الغرض، والمعنى أن هذا الغرض - وهو التمكن - يترتب على المقدمة الموصلة وعلى المقدمة غير الموصلة، فلا فرق بينهما، وحيث إن الوجوب تابع للغرض وكان الغرض في كليهما، فلابد من وجوبهما، لا وجوب خصوص الموصلة.

[4] عطف تفسيري لتوضيح الجملة السابقة، «أنه» الغرض، «عليهما» الموصلة وغير الموصلة.

[5] أي: ليس الغرض هو تحقق الواجب خارجاً؛ وذلك لأن تحقق الواجب لا يترتب على الإتيان بكل المقدمات.

[6] أي: فإن ترتب الواجب، أي: تحققه في الخارج.

[7] وهي الأفعال المباشريّة، وذلك لأن الأفعال على قسمين:

الأول: الفعل المباشري، وهو الذي يبقى اختيار الإنسان في الفعل أو تركه بعد الإتيان بجميع المقدمات، كالإكرام.

ص: 103

المكلف تارةً إتيانه بعد وجود تمام مقدماته وأخرى عدم إتيانه، فكيف يكون اختيار إتيانه[1] غرضاً من إيجاب كل واحدة من مقدماته مع عدم ترتبه على عامّتها - فضلاً عن كل واحدة منها - ؟

نعم، في ما كان الواجب من الأفعال التسبيبية والتوليدية[2] كان مترتباً لا محالة على تمام مقدماته، لعدم تخلف المعلول عن علته.

ومن هنا قد انقدح[3] أن القول بالمقدمة الموصلة يستلزم إنكار وجوب المقدمة في غالب الواجبات[4]، والقول بوجوب خصوص العلة التامة في خصوص الواجبات التوليدية.

فإن قلت[5]: ما من واجب إلاّ وله علة تامة، ضرورة استحالة وجود الممكن

-------------------------------------------------------------------

الثاني: الفعل التوليدي أو التسبيبي، وهو الذي لا يبقى اختيار للإنسان بعد فعل المقدمات، كالإحراق، فإنه بالإتيان بالمقدمة الأخيرة - كالإلقاء في النار - يتحقق الإحراق.

وفي غالب الواجب يبقى اختيار الإنسان في أن يفعل أو يترك، فإذن لا يترتب الفعل على الإتيان بالمقدمات، فلا يكون ترتّب الفعل غرضاً للإيجاب.

[1] أي: إتيان الفعل، والمقصود ترتب الإتيان، «عدم ترتبه» أي: عدم ترتب الواجب، «عامّتها» أي: جميعها.

[2] وهي التي تكون المقدمات علة تامة لذلك الفعل، فلا يبقى اختيار للإنسان بعد تحقق كل المقدمات، «كان» ذلك الواجب.

[3] هذا من تتمة الإشكال الأول، ويمكن عدّه إشكالاً آخر، «من هنا» بما ذكرناه من أن الغرض هو ما يترتب على الفعل... الخ.

[4] وهي الأفعال المباشريّة، «العلة التامة» وهي المقدمات في الأفعال التوليدية.

[5] حاصله: إن الأفعال المباشريّة أيضاً لها علة تامة؛ وذلك لاستحالة وجود المعلول من غير علة، «بدونها» أي: بدون العلة.

ص: 104

بدونها، فالتخصيص[1]بالواجبات التوليدية بلا مخصص.

قلت: نعم[2]، وإن استحال صدور الممكن بلا علة، إلاّ أن مبادئ اختيار[3] الفعل الاختياري من أجزاء علته، وهي لا تكاد تتصف بالوجوب، لعدم كونها بالاختيار[4]، وإلاّ لتسلسل[5]، كما هو واضح لمن تأمل.

ولأنه[6]

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: تخصيص وجوب المقدمة بناء على المقدمة الموصلة.

[2] حاصل الجواب: إن كل معلول له علة، لكن في الأفعال المباشرية الجزء الأخير من العلة هو الاختيار ومقدماته، ومن مقدماته الإرادة، والإرادة غير اختيارية، فلذا لا يمكن تعلّق التكليف بالعلة التامة، حيث إن بعض أجزائها غير اختيارية.

نعم، التكليف يتوجه إلى الأجزاء الاختيارية، لكنها ليست بعلة تامة.

[3] ومنها: الإرادة ومقدماتها، أي: علة الفعل الاختياري، و«هي» أي: تلك المبادئ.

[4] ولا يصح تعلّق التكليف إلاّ بالشيء الاختياري.

[5] أي: لو كانت الإرادة من الأمور الاختيارية للزم التسلسل؛ لأن اختيارية الإرادة بمقدماتها ومنها إرادة أخرى، وتلك الإرادة الأخرى أيضاً اختيارية فمن مقدماتها إرادة ثالثة... وهكذا.

لكن لا يخفى قد مرّ الإشكال على هذا الكلام في (بحث الطلب والإرادة)، وذكرنا أن اختيارية كل شيء بالإرادة، واختيارية الإرادة بنفسها لا بإرادة أخرى، فراجع.

الإشكال الثاني

[6] معطوف على قوله: (فلأنه لا يكاد يعتبر في الواجب...) وهذا هو الإشكال الثاني على القول بالمقدمة الموصلة، وحاصله: إن الوجدان شاهد على سقوط طلب المقدمة بمجرد الإتيان بها بلا انتظار الإتيان بذي المقدمة، مع أنه لو كان الواجب خصوص المقدمة الموصلة لما سقط طلب المقدمة، بل يُراعي سقوطه

ص: 105

لو كان معتبراً فيه[1] الترتب لما كان الطلب يسقط بمجرد الإتيان بها من دون انتظار لترتب الواجب عليها، بحيث[2] لا يبقى في البين إلاّ طلبه وإيجابه كما[3] إذا لم تكن

-------------------------------------------------------------------

بالإتيان بذي المقدمة.

مثلاً: من قطع المسافة إلى مكة سقط عنه طلب قطع المسافة وجداناً، ولكن على القول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة يلزم عدم سقوط هذا الطلب إلاّ بعد الإتيان بالحج، مع أن الوجدان شاهد بسقوط طلب قطع المسافة بمجرد الوصول إلى مكة.

وليس سقوط طلب المقدمة إلاّ لامتثاله، فإن الأمر يسقط إما بالموافقة أو بالمخالفة أو بفوات الموضوع.

فالأول: كما لو أمره بالصلاة، فصلّى صلاة صحيحة، فتفرغ ذمته عن التكليف بالصلاة.

والثاني: كما لو أمره بالصلاة على الميّت، فلم يُصلِّ عصياناً إلى أن دُفن الميت، فتسقط الصلاة عليه.

والثالث: كالسابق ولكن مع فقدان جثة الميّت.

وفي ما نحن فيه، الذي يأتي بالمقدمة فقبل الإتيان بذي المقدمة يسقط طلب المقدمة، وليس هذا عاصياً، ولا الموضوع فائتاً، فلم يبق إلاّ أنه امتثل الأمر، وهذا يكشف عن أن الواجب ليس خصوص المقدمة الموصلة، وإلاّ لم يكن ممتثلاً ولم تكن الموافقة حاصلة.

[1] في اتصاف المقدمة بالوجوب، «لما كان الطلب» أي: الطلب الغيري المتعلَّق بالمقدمة.

[2] متعلق ب- (يسقط)، «إلاّ طلبه» أي: طلب الواجب النفسي، و«إيجابه» عطف تفسيري على (طلبه).

[3] أي: يمتنع هنا تعلق الوجوب الغيري كما يمتنع في موردين، أحدهما: إذا لم يكن الشيء مقدمة فلا معنى لترشّح الوجوب إليه، والثاني: إذا كان مقدمة لكنّها

ص: 106

هذه بمقدمته أو كانت حاصلة من الأول قبل إيجابه، مع[1] أن الطلب لا يكاد يسقط إلاّ بالموافقة، أو بالعصيان والمخالفة، أو بارتفاع موضوع التكليف - كما في سقوط الأمر بالكفن أو الدفن بسبب غرق الميت أحياناً[2] أو حرقه - ، ولا يكون[3] الإتيان بها - بالضرورة - من هذه الأمور غير الموافقة.

إن قلت[4]: كما يسقط الأمر بتلك الأمور، كذلك يسقط بما ليس بالمأمور به

-------------------------------------------------------------------

تحقّقت قبل وجوب ذي المقدمة، كما لو ذهب إلى مكة قبل وجوب الحج عليه، فبعد وجوب الحج لا معنى لترشح الوجوب على هذه المقدمة؛ لأنه من طلب الحاصل.

وبعبارة أخرى: إنه مع الإتيان بالمقدمة وقبل الإتيان بذي المقدمة، فإنه يسقط طلبها، كما لو لم تكن مقدمةً، أو كما لو كانت موجودة قبل وجود ذي المقدمة، «إيجابه» أي: إيجاب ذي المقدمة.

[1] أي: وهنا نتسائل: لماذا سقط طلب المقدمة، هل للعصيان أم لفوات الموضوع أم للموافقة؟

والضرورة قاضية بعدم عصيان هذا المكلّف، ولا الموضوع فائت لتمكنه من تكرار المقدمة، فلم يبق إلاّ الموافقة، ومعنى الموافقة هو امتثال الأمر، وهذا يكشف عن أن الطلب لم يكن خاصاً بالمقدمة الموصلة.

[2] بحيث لم يتمكن من جثته أصلاً.

[3] وصورة البرهان - وهو من القياس الاستثنائي - هكذا:

1- لو كان ترتب ذي المقدمة معتبراً في وجوب المقدمة لم يسقط الطلب بمجرد الإتيان بالمقدمة.

2- لكن الطلب يسقط، لا للعصيان ولا لفوات الموضوع، بل لأجل الموافقة.

3- فترتب ذي المقدمة غير معتبر في وجوب المقدمة.

[4] حاصله: الإشكال على حصر مسقطات الطلب في ثلاثة، بل هناك مُسقط

ص: 107

في ما يحصل به الغرض[1] منه، كسقوطه[2] في التوصليات بفعل الغير أو المحرمات.

قلت[3]: نعم[4]، ولكن لا محيص عن أن يكون ما يحصل به الغرض من الفعل

-------------------------------------------------------------------

رابع وهو حصول الغرض، كما لو أمر المولى عبده زيداً بأن يسقيه الماء، فبادر عمرو فسقاه الماء، فإن التكليف يسقط عن زيد لتحقق غرض المولى.

وفي ما نحن فيه كذلك، ليس سقوط طلب المقدمة حين الإتيان بها قبل تحقق ذي المقدمة بسبب الموافقة، بل بسبب حصول غرض المولى من الأمر الغيري المتعلّق بالمقدمة، وهذا نظير ما لو قطع المسافة بالدابة المغصوبة، فليس هذا القطع مأموراً به - لاستحالة اجتماع الضدين - بل هو منهي عنه، لكن حيث يحصل به غرض المولى في الوصول إلى مكة لذلك يسقط الأمر الغيري المتعلّق بقطع المسافة، وكذا نظير ما لو أتى الغير بالمأمور به فيسقط التكليف عن المكلّف، مع أنه لا موافقة ولا عصيان ولا فوات الموضوع.

[1] أي: بالفعل الذي يحصل به الغرض من المأمور به.

[2] أي: نظير سقوط الأمر، «في التوصليات» التي يكون الغرض منها هو تحقق الفعل بأية كيفية كانت، فإذا أتى بها الغير أو أتي بها بكيفية محرمة سقط التكليف، كما لو طلب منه غسل الثوب فغسله غيره أو غسله بماء مغصوب.

[3] حاصله: إن مقدمة الواجب إذا كانت محقِّقةً للغرض وكانت فعلاً اختيارياً ولم تكن حراماً فلابد أن تكون مأموراً بها.

والمقدمة غير الموصلة محققة للغرض، وهي فعل اختياري وليست بمحرّمة، فلابد أن تكون مأموراً بها؛ لعدم الفرق بينها وبين الموصلة أصلاً، فتخصيص الوجوب بخصوص الموصلة بلا وجه.

[4] أي: نُسلّم أن تحقق الغرض مسقط رابع للأمر، ولكنه في ما نحن فيه لا يكون تحقق الغرض إلاّ لأجل الموافقة.

ص: 108

الاختياري للمكلف متعلقاً للطلب في ما لم يكن فيه مانع[1] - وهو كونه بالفعل[2] محرماً - ، ضرورة[3] أنه لا يكون بينهما تفاوت أصلاً. فكيف[4] يكون أحدهما متعلقاً له فعلاً دون الآخر؟

وقد استدل صاحب الفصول على ما ذهب إليه بوجوه[5]، حيث قال - بعد بيان

-------------------------------------------------------------------

[1] والحاصل: إنه لو اجتمعت أمور ثلاثة فلابد من تعلّق الأمر: 1- أن يكون محصِّلاً للغرض الإلزامي، 2- أن يكون فعلاً اختيارياً، 3- أن لا يكون مانعاً عن توجّه الأمر إليه.

[2] «هو» المانع، «كونه» كون ما يُحصِّل الغرض، «بالفعل» لا في مرحلة الاقتضاء والإنشاء، بل الحرمة الفعليّة حيث لا يمكن اجتماعها مع الوجوب الفعلي.

[3] دليل توجّه الطلب إلى ما يحصل به الغرض إذا لم يكن مانع وكان اختيارياً، «بينهما» بين الموصلة وغير الموصلة.

[4] أي: مع وجود المقتضي لتعلّق الطلب وعدم وجود المانع، يكون تعلّق الطلب بأحدهما دون الآخر ترجيحاً بلا مرجِّح، «أحدهما» أي: الموصلة، «له» للتكليف، «دون الآخر» غير الموصل.

أدلة أربع على وجوب خصوص المقدمة الموصلة
اشارة

[5] الأول: إن الحاكم بالملازمة هو العقل، والعقل لا يحكم إلاّ بالملازمة بين وجوب ذي المقدمة ووجوب المقدمة الموصلة فقط دون غيرها، وهذا دليل وجداني.

الثاني: إن الملازمة بين شيئين إذا كانت بحكم العقل، فإنه لا يمكن الانفكاك بين المتلازمين أو اللازم والملزوم، وفي ما نحن فيه عدم الانفكاك إنما هو بين الواجب وبين المقدمة الموصلة، حيث لا يصحّ أن يقول الآمر: لا أريد المقدمة الموصلة، وأما المقدمة غير الموصلة فيمكن تصريح الآمر بعدم إرادته لها.

الثالث: إن الغرض من وجوب المقدمة هو الوصول إلى ذي المقدمة، وهذا الغرض خاص بالمقدمة الموصلة دون غيرها.

ص: 109

أن التوصل بها إلى الواجب من قبيل شرط الوجود لها[1]، لا من قبيل شرط الوجوب[2] - ما هذا لفظه: «والذي يدلّك على هذا - يعني الاشتراط بالتوصل[3] - أن وجوب[4] المقدمة لما كان من باب الملازمة العقلية، فالعقل لا يدل عليه زائداً على القدر المذكور.

وأيضاً[5] لا يأبى العقل أن يقول الآمر الحكيم: أريد الحج وأريد المسير الذي يتوصل به إلى فعل الواجب دون ما لم يتوصل به إليه، بل الضرورة[6] قاضية بجواز تصريح الآمر بمثل ذلك[7]، كما أنها[8] قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيتها له

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: شرط وجود الواجب، «لها» للمقدمة.

[2] كي لا يلزم طلب الحاصل، فإن اشتراط وجوبها بوجود ذي المقدمة معناه اشتراط وجوبها بوجود نفسها - إذ لا يمكن وجود ذيها إلاّ بعد وجودها - فمع وجودها لا معنى لوجوبها، فإنه طلب للحاصل.

[3] أي: اشتراط اتصاف المقدمة بالوجوب بكونها موصلة.

[4] هذا دليله الأول، «عليه» أي: على الوجوب، «القدر المذكور» أي: الموصلة.

[5] هذا دليله الثاني، «دون ما» أي: دون مسيرٍ، «به» الضمير للموصول، «إليه» إلى الحج.

[6] لعل وجه الاضراب لأن عدم إباء العقل قد يكون بسبب عدم العلم بالواقع، فلا يرى العقل محذوراً لعدم علمه بالمحذور، عكس قضاء الضرورة، فإنه بعد العلم والإطلاع.

[7] أي: إرادة المسير الموصل دون المسير غير الموصل.

[8] أي: الضرورة تقتضي بقبح عدم مطلوبية المقدمة الموصلة - سواء في ضمن عدم مطلوبية مطلق المقدمة أم عدم مطلوبيتها بالخصوص - وقد عرفت سبب القبح، وهو التفكيك بين المتلازمين، أو بين اللازم وملزومه، «مطلوبيتها» المقدمة،«مطلقاً»

ص: 110

مطلقاً أو على تقدير التوصل بها إليه، وذلك[1] آية عدم الملازمة بين وجوبه ووجوب مقدماته على تقدير عدم التوصل بها إليه.

وأيضاً[2] حيث إنّ المطلوب بالمقدمة مجرد التوصل بها إلى الواجب وحصوله، فلا جرم[3] يكون التوصل بها إليه وحصوله معتبراً في مطلوبيتها، فلا تكون مطلوبة إذا انفكت عنه[4]، وصريح الوجدان[5] قاضٍ بأن من يريد شيئاً لمجرد[6] حصول شيء آخر لا يريده إذا وقع مجرداً عنه، ويلزم منه[7] أن يكون وقوعه على الوجه

-------------------------------------------------------------------

موصلة وغير موصلة، «بها» بالمقدمة، «إليه» إلى الواجب.

[1] أي: جواز التصريح بعدم إرادة غير الموصل، «وجوبه» أي: وجوب ذي المقدمة.

[2] هذا دليله الثالث، وهو استدلال بالغرض، فإن الوجوب تابع للغرض، ولا غرض في غير الموصلة، فلا وجوب لها، «المطلوب بالمقدمة» أي: الغرض المترتب على المقدمة.

[3] لأن الحكم - سعة وضيقاً، وجوداً وعدماً - تابع للغرض، «بها» بالمقدمة، «إليه» إلى الواجب، و«معتبراً» خبر يكون.

[4] أي: عن الواجب - وهو ذو المقدمة - .

[5] هذا شاهد وجداني للدليل الثالث، فإنا نجد في أنفسنا أن الغرض من طلب المقدمات إنما هو الوصول إلى ذي المقدمة فقط.

[6] أي: ليست إرادة ذلك الشيء - وهو المقدمة - إلاّ لأجل حصول شيء آخر الذي هو ذو المقدمة، فلا يريد المقدمة لغرض فيها، «لا يريده» أي: لا يريد ذلك الشيء - الذي هو المقدمة - «عنه» عن الشيء الآخر الذي هو ذوالمقدمة.

[7] أي: من صريح الوجدان، «وقوعه» وقوع الشيء الذي هو المقدمة، «الوجه المطلوب» أي: مأموراً به، «بحصوله» حصول الشيء الآخر الذي هو ذو المقدمة.

ص: 111

المطلوب منوطاً بحصوله»(1)

انتهى موضع الحاجة من كلامه (زيد في علو مقامه).

وقد عرفت[1] بما لا مزيد عليه أن العقل الحاكم بالملازمة دل على وجوب مطلق المقدمة، لا خصوص ما إذا ترتب عليها الواجب، في ما لم يكن هناك مانع[2] عن وجوبه - كما إذا كان بعض مصاديقه محكوماً فعلاً بالحرمة - ، لثبوت[3] مناط الوجوب حينئذٍ في مطلقها وعدم اختصاصه[4] بالمقيد بذلك منها.

-------------------------------------------------------------------

الإشكال على الدليل الأول

[1] أي: نُسلّم أن الحاكم بالملازمة هو العقل، لكن حكمه عام للموصلة وغير الموصلة؛ وذلك لما مرّ في ردّ القول الثاني حيث قال المصنف: (أن الوجوب لم يكن إلاّ لأجل المقدمية والتوقف... الخ).

وحاصله: إن الملازمة ثابتة بحكم العقل للموصلة وغير الموصلة؛ لأن سبب وجوب المقدمة هو (التمكن على ذي المقدمة) وهذا السبب موجود في الموصلة وغيرها.

ولا يخفى أن هذا الإشكال وارد أيضاً على دليله الثاني والثالث.

[2] أي: المقتضي للوجوب في كل المقدمات موجود. نعم، قد لا يحكم العقل بالوجوب في بعض المقدمات لوجود المانع، كما لو كانت المقدمة محرمة، وأمّا المقدمة غير الموصلة فلا مانع فيها، فلابد من حكم العقل بوجوبها أيضاً.

[3] هذا دليل حكم العقل بوجوب مطلق المقدمة، «مناط الوجوب» أي: المقتضي له - وهو التمكن على ذي المقدمة - «حينئذٍ» أي: حين عدم المانع، «مطلقها» أي: مطلق المقدمات - موصلة أو غير موصلة - .

[4] «عدم» معطوف على (ثبوت مناط...)، «اختصاصه» أي: المناط، «بذلك» أي: بالموصلة، «منها» من المقدمات.

ص: 112


1- الفصول الغروية: 86، مع اختلاف يسير.

وقد انقدح منه[1]: أنه ليس للآمر الحكيم الغير(1)

المجازف بالقول ذلك التصريح[2]. وأن دعوى أن الضرورة قاضية بجوازه مجازفة، كيف يكون ذا[3]؟! مع ثبوت الملاك في الصورتين بلا تفاوت أصلاً، كما عرفت.

نعم[4]، إنما يكون التفاوت بينهما في حصول المطلوب النفسي في إحداهما وعدم

-------------------------------------------------------------------

الإشكال على الدليل الثاني

[1] «منه» من وجود الملاك في مطلق المقدمات، وحاصل الإشكال هو: عدم التسليم بصحة هذا التصريح، بل الضرورة قاضية بعدم صحته؛ وذلك لأن ملاك الوجوب موجود في غير الموصلة أيضاً، وذلك الملاك هو التمكن من فعل ذي المقدمة.

وبعبارة أخرى: لا تفاوت بين المقدمة الموصلة وغيرها في ملاك الوجوب وهو التمكن، وإنما التفاوت في فعل ذي المقدمة أو عدم فعله، وهذا لا يرتبط بملاك وجوب المقدمة.

مثلاً: لو سار ثلاثة إلى الحج في راحلة واحدة، وبعد الوصول إلى مكة حجَّ أحدهم، وترك الآخر الحج عمداً، وترك الثالث الحج اضطراراً لمانع كالمرض، فإن العقل لا يرى تفاوتاً بين هؤلاء الثلاثة في المقدمة، فالملاك للوجوب الغيري موجود في مسيرهم، وإنما التفاوت في الإتيان بالحج أو عدم الإتيان به، وهذا لا ارتباط له بملاك وجوب المقدمة، وإنما يرتبط بحسن اختيار المكلف أو سوء اختياره أو عدم توفيقه.

[2] أي: التصريح بعدم مطلوبية المقدمة غير الموصلة، «بجوازه» أي: بجواز التصريح.

[3] أي: كيف يمكن التصريح بعدم مطلوبية غير الموصلة؟ «الصورتين» الموصلة وغيرها.

[4] أي: التفاوت الموجود إنما هو في ذي المقدمة، لا في ملاك المقدمة، وهذا لا يوجب اختلافاً في وجوب المقدمات، «بينهما» الموصلة وغير الموصلة، «إحداهما»

ص: 113


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير المجازف».

حصوله في الأخرى، من دون دخل لها[1] في ذلك أصلاً، بل كان بحسن اختيار المكلف وسوء اختياره، وجاز للآمر[2] أن يصرح بحصول هذا المطلوب في إحداهما وعدم حصوله في الأخرى. بل من حيث إنّ الملحوظ بالذات[3] هو هذا المطلوب[4]، وإنما كان الواجب الغيري ملحوظاً إجمالاً بتبعه[5] - كما يأتي أن

-------------------------------------------------------------------

وهي الموصلة، «الأخرى» وهي غير الموصلة.

[1] للمقدمة، «ذلك» في حصول ذي المقدمة.

[2] أي: يجوز للآمر أن يصرّح بعدم حصول ذي المقدمة في غير الموصلة، وبحصول ذي المقدمة في الموصلة، لكن هذا لا يوجب تفاوتاً في المقدمة، بل التفاوت في ذي المقدمة.

[3] حاصله: في غير الموصلة يمكن للمولى أن يصرّح بعدم حصول مطلوبه، لكن ليس تصريحه هذا بمعنى عدم حصول مطلوبه الغيري، حتى يتخذ هذا التصريح ذريعة للقول بعدم وجوب غير الموصلة، بل صحة هذا التصريح باعتبار أن المطلوب الأصلي هو ذو المقدمة، وهو لم يحصل مع المقدمة غير الموصلة، فتعبيره في الحقيقة مسامحة، وإلاّ ففي الواقع فقد حصل المطلوب الغيري ولم يحصل المطلوب النفسي؛ ولذا يصح للمولى أن يقول: حصل ما أردته من المقدمات، ولم يحصل ما أردته من ذي المقدمة.

وبعبارة أخرى: ما يذكره المصنف هنا دفع لدخل مقدّر، وهو أن المولى يمكنه أن يصرّح بعدم حصول مطلوبه، في ما لو أتى بالمقدمة غير الموصلة، وهذا دليل عدم وجوبها، ودفعه: إن هذا تصريح مسامحي لا دقّي.

[4] أي: النفسي وهو ذو المقدمة.

[5] لأن وجوب المقدمة إنما هو بسبب ترشّح وجوب ذي المقدمة على المقدمة، فالمقدمة ليست مطلوبة بالذات، وإنما بتبع مطلوبية ذي المقدمة.

ص: 114

وجوب المقدمة على الملازمة تبعيّ[1] - جاز[2] في صورة عدم حصول المطلوب النفسي التصريح بعدم حصول المطلوب أصلاً، لعدم الالتفات[3] إلى ما حصل من المقدمة فضلاً عن كونها مطلوبة، كما جاز التصريح[4] بحصول الغيري مع عدم فائدته[5] لو التفت إليها، كما لا يخفى، فافهم[6].

إن قلت[7]: لعل التفاوت بينهما في صحة اتصاف إحداهما بعنوان الموصلية دون الأخرى أوجب التفاوت بينهما في المطلوبية وعدمها وجواز[8] التصريح بهما،

-------------------------------------------------------------------

[1] غالباً، فإنه سيأتي أن وجوبها قد يكون تبعياً وقد يكون أصلياً.

[2] قوله: «جاز» جزاء لقوله: (بل من حيث إن الملحوظ).

[3] أي: ذلك التصريح مسامحي، بسبب عدم ملاحظة المقدمة، ولا ملاحظة الأمر الغيري التبعي فيها.

[4] أي: يجوز التعبير الدقي؛ وذلك بالتصريح بحصول... الخ، وقوله: «لو التفت إليها» أي: في حالة الالتفات يصرّح هذا التصريح.

[5] أي: إن المطلوب الغيري حصل، لكن من غير فائدة - أي: من غير ترتب الغرض الأقصى - وهي حصول ذي المقدمة.

[6] لعلّه إشارة إلى أنه لو لم يكن مفيداً فلا معنى لتعلّق الوجوب الغيري به، اللهم إلاّ أن نقول: إن الغرض الأدنى - وهو التمكن - قد حصل، وهذا يكفي في فائدة الوجوب وخروجه عن اللغوية.

[7] حاصله: إن العقل يحكم بتساوي الأفراد إذا كانت الخصوصيات واحدة، وأما إذا اختلفت الخصوصيات فقد لا يحكم بتساويها، باعتبار أن لتلك الخصوصية دخلاً في حكمه، وفي ما نحن فيه تختلف الموصلة وغير الموصلة في وصف الإيصال، فلعل لهذا الوصف دخالة في حكمه بوجوب الموصولة دون غير الموصلة، حتى وإن كان أثرهما واحداً.

[8] أي: وفي جواز التصريح...، بمعنى أن نتيجة التفاوت في المطلوبية هي جواز

ص: 115

وإن لم يكن بينهما تفاوت في الأثر[1]، كما مر.

قلت[2]: إنما يوجب ذلك[3] تفاوتاً فيهما لو كان ذلك لأجل تفاوت في ناحية المقدمة، لا في ما إذا لم يكن في ناحيتها أصلاً، كما هاهنا، ضرورة[4] أن الموصلية إنما تنتزع من وجود الواجب[5] وترتبه عليها من دون اختلاف في ناحيتها، وكونها[6]

-------------------------------------------------------------------

أن يصرّح بأني أريد الموصلة ولا أريد غير الموصلة، «بهما» أي: بالمطلوبية وعدمها.

[1] وهو التمكن من الإتيان بذي المقدمة.

[2] حاصله: إن الخصوصيات قد توجب تفاوتاً في المطلوبية وعدمها إذا كانت توجب تغييراً في الذات أو في عوارض الذات، أما لو لم يكن هناك تغيير أصلاً وإنما كان الفارق أمراً انتزاعياً فلا يوجب تفاوتاً في المطلوبية.

وفي ما نحن فيه الإيصال وعدمه لا يوجب تفاوتاً في ذات المقدمة ولا في عوارضها، بل هو وصف انتزاعي بملاحظة الإتيان بذي المقدمة اختياراً، أو عدم الإتيان به لسوء الاختيار أو لعدم التوفيق، فالأشخاص الذين ذهبوا إلى الحج براحلة واحدة لا تفاوت في قطعهم للمسافة أصلاً، لا في ذاتها ولا في خصوصياتها العرضية، بل نحن ننتزع الإيصال أو عدمه حينما يأتي بعضهم بالحج ولم يأتِ بعضهم به.

[3] «يوجب ذلك» الاتصاف بوصف الإيصال أو عدمه، لو كان «ذلك» التفاوت.

[4] دليل أن الاتصاف بالموصلية لا يوجب تفاوتاً في المقدمة.

[5] أي: وجود ذي المقدمة كالحج في المثال، «ترتبه» الواجب، «عليها» على المقدمة.

[6] عطف على قوله: (أن الموصلية...) أي: كون المقدمة في صورتي الإيصال وعدمه.

ص: 116

في كلتا الصورتين على نحوٍ واحد وخصوصيةٍ واحدة، ضرورة[1] أن الإتيان بالواجب بعد الإتيان بها بالاختيار تارةً وعدم الإتيان به كذلك[2] أخرى لا يوجب تفاوتاً فيها، كما لا يخفى.

وأما ما أفاده+[3] من أن مطلوبية المقدمة حيث كانت بمجرد التوصل بها، فلا

-------------------------------------------------------------------

[1] دليل عدم التفاوت في المقدمة في كلتا الصورتين.

[2] أي: عدم الإتيان بالواجب «كذلك» أي: بالاختيار.

الإشكال على الدليل الثالث

[3] تضمّن الدليلُ الثالث أمرين:

1- إن الغرض هو التوصل إلى ذي المقدمة - وهذا صغرى البرهان - .

2- وإنه لو لم يتحقق التوصل لا تكون المقدمة مطلوبة لشهادة الوجدان - وهذا كبرى البرهان - .

والمصنف يستشكل على كلا الأمرين:

أما الأول: فقد عرفت أن الغرض ليس هو التوصل، بل هو التمكن من ذي المقدمة بالاختيار، والتمكن موجود في المقدمة غير الموصلة أيضاً، كما هو موجود في الموصلة.

وأما الثاني فيرد عليه: أولاً: لزوم انقلاب الواجب النفسي إلى واجب غيري، أي: يكون وجود ذي المقدمة مقدمةً لوجود المقدمة، فتحقق المقدمة يتوقف على قيد الإيصال، وهو متوقف على تحقق ذي المقدمة؛ إذ لو لا تحقق ذي المقدمة لما كانت المقدمة موصلة، فبالنتيجة كان تحقق المقدمة متوقفاً على تحقق ذي المقدمة، فصار وجود الحج - مثلاً - مقدمةً لمقدميّة قطع الطريق، وهذا مع وضوح بطلانه - حيث إن الحج ليس مقدمة - مستلزم للدور.

وثانياً: ما مرّ من أن الغرض ليس هو التوصل، بل التمكن، فتكون المقدمة مطلوبة حتى لو لم يتوصل بها إلى ذي المقدمة.

ص: 117

جرم يكون التوصل بها إلى الواجب معتبراً فيها. ففيه[1]: أنّه إنما كانت مطلوبيتها لأجل عدم التمكن من التوصل بدونها، لا لأجل التوصل بها، لما عرفت[2] من أنه ليس من آثارها، بل مما يترتب عليها أحياناً بالاختيار بمقدمات أخرى[3] - وهي مبادئ اختياره - ، ولا يكاد يكون مثل ذا[4] غاية لمطلوبيتها وداعياً إلى إيجابها.

وصريح الوجدان[5] إنما يقتضي بأن ما أريد لأجل غاية وتجرد عن الغاية بسبب عدم حصول سائر[6] ما له دخل في حصولها يقعُ على ما هو عليه من المطلوبية

-------------------------------------------------------------------

[1] حاصله: إن مطلوبية المقدمة إنما هو لأجل عدم التمكن من ذي المقدمة بدونها، فحيث يريد المولى ذا المقدمة نفسياً يريد المقدمة غيرياً أيضاً، وليس مطلوبيتها لأجل التوصل فعلاً، وهذا جواب عن صغرى البرهان.

[2] حيث ذكرنا أن الغرض هو ما يترتب على الشيء، وليس التوصل مما يترتب على المقدمة في الأفعال المباشريّة - وهي غالب التكاليف - ، «أنه» أن التوصل، «آثارها» أي: المقدمة، «أحياناً» فلا يكون غرضاً؛ لأن الغرض هو ما يترتب على الشيء دائماً.

[3] أي: مع مقدمات أخرى، وهي مبادئ الاختيار، فمن قَطَع المسافة للحج فوصل إلى مكة، فانه لا يتوصل إلى الحج إلاّ لو توفرت مبادئ الاختيار فاختار الحج.

[4] «ذا» أي: ما لا يترتب على الشيء دائماً، بل احياناً، «غاية» وذلك لما مرّ مراراً أن الغرض هو ما يترتب على الشيء دائماً، «مطلوبيتها» أي: المقدمة.

[5] هذا الردّ الأول على الكبرى - وهي عدم مطلوبية المقدمة لو لم يتوصل بها إلى ذي المقدمة - «ما أريد...» أي: المقدمة.

[6] أي: بسبب عدم حصول بقية المقدمات، فالمقدمة التي أتى بها تتصف بالمطلوبية، حتى مع عدم تحقق ذي المقدمة لأجل فقدان مقدمات أخرى و«يقع» خبر قوله: (بأن ما أريد...).

ص: 118

الغيرية، كيف[1]؟ وإلاّ يلزم أن يكون وجودها[2] من قيوده ومقدمة لوقوعه على نحوٍ[3] تكون الملازمة بين وجوبه[4] بذاك النحو ووجوبها، وهو كما ترى[5]، ضرورة أن الغاية لا تكاد تكون قيداً لذي الغاية بحيث كان تخلفها موجباً لعدم وقوع ذي الغاية على ما هو عليه من المطلوبية الغيرية، وإلاّ[6] يلزم أن تكون مطلوبة

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: المقدمة غير الموصلة كيف لا تقع على صفة المطلوبية؟ «وإلاّ» أي: لو لم تكن المقدمة غير الموصلة مطلوبةً للزم الانقلاب والدور - كما عرفت توضيحه - .

[2] أي: وجود الغاية وهي ذي المقدمة - كالحج في المثال - ، «من قيوده» أي: من قيود (ما أريد) وهو المقدمة كقطع المسافة، ثم فسر المصنف كيفية كونها من قيوده بقوله: «ومقدمة لوقوعه» أي: مقدمة لوقوع (ما أريد)، فالحج يكون مقدمةً للمقدمة.

[3] أي: لو كان وجود الحج مقدمةً كان وجوبه غيرياً، عن طريق الملازمة بين وجود المقدمة ووجود الحج، فإن وجود المقدمة الموصلة متوقف على الحج؛ إذ لو لا الحج لما كانت مقدمة موصلة.

[4] أي: وجوب (ما أريد) وهو المقدمة، «بذلك النحو» أي: بوجوب غيري، «وجوبها» أي: وجوب (الغاية) وهي الحج في المثال.

[5] أي: بطلانه واضح كما ترى؛ لاستحالة الدور وبطلان، انقلاب الواجب النفسي إلى واجب غيري، وقوله: (ضرورة...) بيان لوجه البطلان، «الغاية» كالحج، «ذي الغاية» كقطع المسافة، «تخلّفها» أي: الغاية بأن لم يأتِ بالحج، وحاصل المعنى: ضرورة أن الإتيان بالحج لا يكون قيداً لمطلوبية قطع المسافة.

[6] أي: لو كانت الغاية قيداً لذي الغاية، بحيث لو تخلّفت لم يكن مطلوباً، «تكون» الغاية كالحج، «مطلوبة» غيّرياً، «بطلبه» أي: بسبب طلب ذي الغاية، وهو قطع المسافة في المثال.

ص: 119

بطلبه كسائر قيوده[1]، فلا يكون[2] وقوعه على هذه الصفة منوطاً بحصولها كما أفاده[3].

ولعلّ منشأ توهمه[4] خلطه بين الجهة التقييدية والتعليلية.

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: كبقية قيود ذي الغاية، أي: المقدمة، فإن ما يتوقف عليه المقدمة واجب غيري ناشئ من طلب المقدمة، مثلاً: قطع المسافة يتوقف على استئجار الدابة، فهذا الاستئجار يكون مطلوباً غيرياً بسبب طلب قطع المسافة، الذي هو أيضاً مطلوب غيري لأجل الحج.

[2] هذا نتيجة الإشكال على صاحب الفصول، والمعنى: حيث إنّ قيد الإيصال يوجب الدور والانقلاب فلا يكون هذا القيد مأخوذاً في المقدمة الواجبة، «وقوعه» أي: وقع ذي الغاية وهو المقدمة «هذه الصفة» أي: صفة الوجوب، «بحصولها» أي: بحصول الغاية وهو ذو المقدمة.

[3] أي: كما قاله صاحب الفصول(1)،

حيث ذكر أن وقوع المقدمة على صفة الوجوب منوط بالإيصال إلى ذي المقدمة.

[4] هذا توجيه لكلام صاحب الفصول، وحاصله: إن (التوصل) لا شك في دخالته في الوجوب الغيري، لكن لا بنحو التقييد، بل بنحو التعليل.

بيان ذلك: إن الوصف قد يكون جزءاً من الموضوع، فحينئذٍ بانتفاء الوصف ينتفي الموضوع - وهذا ما يُسمّى ب- (الحيث التقييدي) مثل قوله: صلّ خلف الإمام العادل، فوصف العدالة جزء للموضوع بحيث لو لم يكن إمام الجماعة عادلاً لما جازت الصلاة خلفه.

وقد يكون الوصف عِلة للحكم - لا جزءاً من الموضوع - فحينئذٍ بانتفاء الوصف لا ينتفي الموضوع، كما لو قال: (ينجس الماء المتغيّر) فوصف (التغيّر) عِلة لنجاسة ماء الكر، وليس جزءاً من الموضوع؛ ولذا لو زال التغيّر لا تزول النجاسة.

ص: 120


1- الفصول الغروية: 86.

هذا مع ما عرفت[1] من عدم التخلف[2] هاهنا، وأن الغاية إنما هو حصول ما لولاه لما تمكن من التوصل إلى المطلوب النفسي، فافهم واغتنم.

ثم[3]

-------------------------------------------------------------------

ومن الفروق بين الحيث التقييدي والتعليلي، هو عدم صحة الاستصحاب في الأول؛ وذلك لتبدّل الموضوع، وجواز الاستصحاب في الثاني، وذلك لبقاء الموضوع.

[1] هذا الردّ الثاني على الكبرى، «هاهنا» في المقدمة غير الموصلة.

والحاصل: إنه يرد على الكبرى إشكالان: الأول: استحالة أخذ التوصل قيداً في وجوب المقدمة للدور والانقلاب، والثاني: إن التوصل ليس هو الغرض كي يلزم عدم مطلوبية المقدمة غير الموصلة.

[2] أي: علة وجوب المقدمة لا تتخلّف عن مطلق المقدمة - سواء كانت موصلة أم غير موصلة - وذلك لأن علة الوجوب هي التمكن لا التوصل. ثم شرح المصنّف كيفية عدم التخلّف بقوله: (وأن الغاية... الخ).

الدليل الرابع: لوجوب المقدمة الموصلة، وجوابه

[3] وقد يستدل على وجوب خصوص المقدمة الموصلة دون غيرها بدليل رابع - غير الأدلة الثلاثة التي ذكرها صاحب الفصول - وهو صحة المنع عن المقدمة غير الموصلة، ولو كان ملاك الوجوب موجوداً في غير الموصلة لم يصح النهي عنها، لكنّا بالوجدان نرى صحة هذا النهي، وهذا دليل عدم وجود ملاك الوجوب في المقدمة غير الموصلة.

ثم لا يخفى الفرق بين هذا الوجه وبين الوجه الثاني مما ذكره صاحب الفصول؛ لأن هذا في صحة المنع عن غير الموصلة، والوجه الثاني في التصريح بعدم إرادته لا المنع عنه.

ص: 121

إنه لا شهادة على الاعتبار[1] في صحة منع المولى عن مقدماته بأنحائها[2] إلاّ في ما إذا رتب عليه الواجب - لو سُلّم[3] - أصلاً، ضرورة[4] أنه وإن لم يكن الواجب منها حينئذٍ غير الموصلة إلاّ أنه[5] ليس لأجل اختصاص الوجوب بها في باب المقدمة،

-------------------------------------------------------------------

والجواب بوجهين:

الأول: لو سلمنا صحة المنع فنقول: إن الملاك يقتضي الوجوب إذا لم يوجد مانع، والمفروض أن منع المولى هو مانع عن تأثير المقتضي.

وأما صحة المنع فلأجل أنه قد تكون مفسدة في المقدمة، لكن مصلحة ذي المقدمة أقوى، وحينئذٍ فالمقدمة غير الموصلة فيها المفسدة مع عدم تعارضها بمصلحة أقوى؛ فلذا كان لابد من المنع عنها، أما المقدمة الموصلة فمفسدتها معارضة بمصلحة ذي المقدمة، التي هي أقوى، فلابد من وجوبها الغيري.

الثاني: استحالة المنع عن غير الموصلة لاستلزامه أحد محذورين: عدم وجوب ذي المقدمة، أو طلب الحاصل، وسيأتي توضيحه.

[1] أي: على اعتبار ترتب ذي المقدمة على المقدمة لكي تكون المقدمة واجبة، والمعنى: لا تشهد صحة المنع على اشتراط وجوب المقدمة بكونها موصلة، وقوله: «في صحة...» متعلق ب- (لاشهادة).

[2] أي: جميع المقدمات على اختلاف أوصافها وكيفياتها إلاّ الموصلة، «الواجب» أي: ذو المقدمة.

[3] أي: حتى لو سلّمنا بصحة هذا المنع فإنه لا يدل على وجوب خصوص الموصلة.

[4] بيان للجواب الأول، «أنه» للشأن، «منها» من المقدمات، «حينئذٍ» حين المنع.

[5] إن عدم وجوب غير الموصلة، «بها» بالموصلة، والمراد: إن عدم وجوب غير الموصلة ليس لأجل عدم الملاك فيها، بل لأجل وجود المانع مع أن الملاك موجود.

ص: 122

بل لأجل المنع عن غيرها المانع[1] عن الاتصاف بالوجوب هاهنا، كما لا يخفى.

مع أن[2] في صحة المنع عنه[3] كذلك نظراً. وجهه أنه يلزم[4] أن لا يكون تركُ الواجب حينئذٍ مخالفةً وعصياناً، لعدم التمكن شرعاً منه[5]، لاختصاص جواز

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: ذلك المنع يكون مانعاً عن اتصاف المقدمة غير الموصلة بالوجوب، «هاهنا» أي: في المقدمة غير الموصلة؛ وذلك لاستحالة اجتماع الأمر والنهي، فمع فعلية النهي لا يكون ملاك الأمر مؤثراً.

[2] بيان للجواب الثاني، وحاصله: إنه لا يمكن المنع عن المقدمة غير الموصلة، وذلك لمحذورين:

الأول: جواز ترك ذي المقدمة، وبيانه بعبارة الوصول: (إنه إذا كان جواز المقدمة متوقفاً على الإتيان بالواجب فقبل الإتيان بالواجب لا جواز للمقدمة، وحيث لا تجوز المقدمة يكون ذو المقدمة غير مقدور؛ لعدم التمكن شرعاً منه، والممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً)(1)،

انتهى.

االثاني: طلب الحاصل، وبيانه: إنه لا طلب للمقدمة إلاّ بعد الإتيان بذي المقدمة، حيث إن المطلوب هو خصوص الموصلة، ومن المعلوم أن الإتيان بذي المقدمة إنما هو بعد وجود المقدمة، وحينئذٍ فطلب إيجاد المقدمة يكون طلباً للحاصل.

[3] «عنه» عن المقدمات، والأولى تأنيث الضمير، «كذلك» في ما لم يترتب الواجب عليها.

[4] هذا إشارة إلى المحذور الأول، «أنه» للشأن، «حينئذٍ» أي: حين المنع عن غير الموصلة.

[5] «منه» أي: من الواجب؛ وذلك للنهي عن مقدمات الواجب، فيمتنع الواجب شرعاً؛ لامتناع مقدماته.

ص: 123


1- الوصول إلى كفاية الأصول 2: 163.

مقدمته بصورة الإتيان به. وبالجملة[1]: يلزم أن يكون الإيجاب مختصاً بصورة الإتيان، لاختصاص جواز المقدمة بها، وهو محال، فإنه يكون من طلب الحاصل المحال[2]، فتدبر جيداً.

بقي شيء[3] وهو: أن ثمرة القول بالمقدمة الموصلة هو تصحيح العبادة التي يتوقف

-------------------------------------------------------------------

[1] هذا إشارة إلى المحذور الثاني، والتعبير بقوله: «وبالجملة» لأجل أن روح المحذورين واحد، فتأمل، «الإيجاب» أي: إيجاب ذي المقدمة، «الإتيان» بذي المقدمة، «بها» أي: بصورة الإتيان؛ لأن المفروض أن الواجب خصوص المقدمة الموصلة.

[2] قال المصنف في الهامش: (حيث كان الإيجاب فعلاً متوقفاً على جواز المقدمة شرعاً، وجوازها كذلك كان متوقفاً على إيصالها، المتوقف على الإتيان بذي المقدمة بداهة، فلا محيص إلاّ عن كون إيجابه على تقدير الإتيان به، وهو من طلب الحاصل الباطل)(1)، انتهى.

ثمرة المقدمة الموصلة
اشارة

[3] في ثمرة القول بالمقدمة الموصلة، وملخّصها: إنه لو قلنا: إنّ ترك أحد الضدين مقدمة للضد الآخر، وقلنا: إنّ مقدمة الواجب واجبة، وقلنا: إنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام، وقلنا: إنّ النهي في العبادة يوجب الفساد، فحينئذٍ تظهر الثمرة بين القول بوجوب المقدمة الموصلة، أو وجوب مطلق المقدمة.

أما على القول بوجوب مطلق المقدمة: فلو وجبت إزالة النجاسة عن المسجد فوراً، وكانت الصلاة موسعة، فيجب عليه المبادرة إلى الإزالة، فلو لم يبادر إلى الإزالة، بل انشغل بالصلاة، فنقول: ترك الصلاة مقدمة للإزالة، فصار ترك الصلاة واجباً، ووجوب ترك الصلاة يقتضي النهي عن ضده العام، الذي هو الصلاة، فتقع الصلاة فاسدة؛ لأنها عبادة منهي عنها.

ص: 124


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 586.

على تركها فعل الواجب[1]، بناءً على كون[2]

-------------------------------------------------------------------

وأما على القول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة: فالصلاة صحيحة؛ وذلك لوجهين:

الأول: إنه مع الإتيان بالصلاة لا تتحقق الإزالة أصلاً، فلا يكون ترك الصلاة واجباً؛ وذلك لعدم ترتب الإزالة عليه، والمفروض أن الواجب خصوص ترك الصلاة الموصل، فإذا لم يكن ترك الصلاة واجباً لم يكن فعل الصلاة محرّماً، فتصحّ الصلاة لعدم النهي عنها.

وبعبارة أخرى: الواجب هو المقدمة الموصلة، ومع الانشغال بالصلاة لا توجد إزالة، فلا يوجد شيء يوصل إليها، فلا يكون ترك الصلاة واجباً؛ لعدم كونه موصلاً، فلا يكون فعل الصلاة محرّماً.

الثاني: إن الضد العام هو النقيض، و(الصلاة) و(ترك الصلاة الموصل إلى الإزالة) ليسا نقيضين؛ وذلك لإمكان ارتفاعهما، حيث يوجد شقّ ثالث، وهو (ترك الصلاة غير الموصل) كمن لا يصلى ولا يزيل النجاسة، بل نام مثلاً، فارتفعت الصلاة، وارتفع تركها الموصل، بل النقيضان هما (ترك الصلاة الموصل) و(ترك ترك الصلاة الموصل)، فإذا وجب ترك الصلاة الموصل؛ لكونه مقدمة للإزالة، حرم نقيضة وهو ترك الترك، لا الصلاة بنفسها.

ثم اعلم أن المصنف قرّر الثمرة على الوجه الأول، لكن ذكر الإشكال على النحو الثاني.

[1] كتوقف الإزالة الواجبة على ترك الصلاة في سعة من الوقت.

[2] قد عرفت أن الصحة تتوقف على أمور أربعة:

1- مقدمية ترك أحد الضدين للضد الآخر - وهذا ما ذكره المصنف هنا - .

2- وجوب مقدمة الواجب.

ص: 125

ترك الضد مما يتوقف[1] عليه فعل ضده، فإن تركها[2] - على هذا القول - لا يكون مطلقاً واجباً ليكون فعلها محرماً[3] فتكون فاسدة[4]، بل[5] في ما يترتب عليه الضد الواجب، ومع الإتيان بها[6] لا يكاد يكون هناك ترتب[7]، فلا يكون تركها مع ذلك[8] واجباً، فلا يكون فعلها منهياً عنه، فلا تكون فاسدة.

-------------------------------------------------------------------

3- اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده العام - أي: نقيضه - .

4- اقتضاء النهي في العبادة للفساد.

وسيتضح في ما بعد عدم صحة الأول، والإشكال في الثاني، وبحثٌ في الثالث، وأما الرابع فلا إشكال فيه.

[1] أي: يكون ترك الضد مقدمة لوجود الضد الآخر.

[2] أي: ترك العبادة - كالصلاة في المثال - «هذا القول» أي: وجوب خصوص المقدمة الموصلة، وهذا إشارة إلى الأمر الثاني.

[3] إشارة إلى الأمر الثالث.

[4] إشارة إلى الأمر الرابع.

[5] أي: بناءً على وجوب خصوص المقدمة الموصلة لا يكون ترك الصلاة المطلق واجباً، بل الواجب هو ترك الصلاة الموصل إلى الإزالة، «عليه» على الترك.

[6] هذا بيان للوجه الأول، وهو الكيفية التي قرّرها المصنف للثمره، «بها» أي: بالعبادة.

[7] أي: لا يوجد ترتّب بين الترك وبين الإزالة؛ لأنه مع الإتيان بالصلاة لا توجد إزالة، فلا يتحقق الترك الموصل إليها، وبعبارة أخرى: يكون من السالبة بانتفاء الموضوع.

[8] أي: مع عدم ترتب الإزالة، «واجباً» لأن المفروض أن الواجب خصوص الموصلة.

ص: 126

وربما أورد(1)

على تفريع هذه الثمرة بما حاصله[1]: بأن فعل الضد[2] وإن لم يكن نقيضاً للترك الواجب مقدمة - بناءً على المقدمة الموصلة - إلاّ أنه[3] لازم لما هو

-------------------------------------------------------------------

إشكال التقريرات على الثمرة

[1] ملخّص الإشكال أنه لا فرق في صحة أو بطلان العبادة بين القول بوجوب مطلق المقدمة، أو القول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة؛ وذلك لأنه إن قلنا: إنّ الحرمة خاصة بالضد العام، ولا تسري إلى ملازمه، فلا تبطل العبادة على القولين. وإن قلنا: إن حرمة الضد العام تسري إلى لازم النقيض، فالعبادة باطلة مطلقاً على القولين.

بيان ذلك: إنه قد ذكرنا أن الضد العام هو النقيض، وإن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده، فبناء على وجوب مطلق المقدمة فإن ترك الصلاة واجب؛ لأنه مقدمة للإزالة، وليس فعل الصلاة نقيضاً لترك الصلاة؛ لأن نقيض كل شيء رفعه، فنقيض ترك الصلاة هو (ترك ترك الصلاة) وهو ملازم لفعل الصلاة، وأمّا بناء على وجوب خصوص المقدمة الموصلة فالواجب هو ترك الصلاة الموصل، ونقيضه (ترك ترك الصلاة الموصل) لا فعل الصلاة. نعم، هذا النقيض ملازم لفعل الصلاة.

وعليه: فإذا قلنا: إن الحرمة تسري من الشيء إلى ملازمه فتكون الصلاة منهياً عنها على كلا القولين، وإن لم نقل بسراية الحرمة من الشيء إلى لازمه فلا تكون الصلاة منهياً عنها على كلا القولين. إذن، فلا ثمرة بين القولين.

[2] كالصلاة، فهي ليست نقيضاً ل- (ترك الصلاة الموصل) الذي هو مقدمة للإزالة، بل النقيض هو (ترك ترك الصلاة الموصل).

[3] أي: إلاّ أن فعل الضد لازم للنقيض.

ص: 127


1- مطارح الأنظار 1: 378.

من أفراد النقيض[1]، حيث[2] إنّ نقيض ذاك الترك الخاص رفعه، وهو[3] أعم من الفعل والترك الآخر المجرد. وهذا[4] يكفي في إثبات الحرمة، وإلاّ[5] لم يكن الفعل المطلق محرماً في ما إذا كان الترك المطلق واجباً، لأن الفعل أيضاً ليس نقيضاً للترك، لأنه[6] أمر وجودي، ونقيض الترك إنما هو رفعه، ورفع الترك إنما يلازم الفعل مصداقاً، وليس عينه؛ فكما[7] أن هذه الملازمة تكفيفي إثبات الحرمة لمطلق الفعل،

-------------------------------------------------------------------

[1] والأولى إسقاط كلمة (أفراد)، فإن الصلاة لازم لنفس النقيض لا أنه لازم لأفراده.

[2] هذا دليل كون الصلاة لازم للنقيض؛ وذلك لأن (الترك الموصل إلى الإزالة) نقيضُ رفع هذا الترك - أي: ترك الترك الموصل - ومن الواضح أن لهذا النقيض مصداقين أحدهما الفعل كالصلاة، والآخر الترك المطلق بأن لا يفعل شيئاً.

[3] أي: رفع الترك الخاص، «المجرّد» عن الإيصال.

[4] أي: كون الفعل لازماً للنقيض، «إثبات الحرمة» للصلاة حتى على القول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة.

[5] أي: لو لم يكن اللزوم كافياً في الحرمة فلا تحرم الصلاة حتى على القول بوجوب مطلق المقدمة؛ لأن الصلاة ليست نقيضاً لترك الصلاة، بل النقيض هو (ترك ترك الصلاة) كما عرفت.

[6] هذا دليل على عدم كون الصلاة نقيضاً لترك الصلاة؛ وذلك لأن الصلاة أمر وجودي، والحال أن نقيض الترك أمرٌ عدمي، «رفعه» وهو بمعنى عدم الترك. نعم، عدم الترك ملازم للفعل خارجاً لا أنه عينه؛ لأن الوجود ليس متحداً مع العدم، «مصداقاً» أي: في الوجود الخارجي.

[7] هذه هي النتيجة، أي: فثبت عدم وجود الثمرة بين القولين؛ لأن المناط هو سراية الحكم من الملازم إلى ملازمه، ولا فرق في ذلك بين القولين، «لمطلق الفعل» بناء على وجوب مطلق المقدمة، «في المقام» أي: بناء على وجوب خصوص المقدمة الموصلة.

ص: 128

فكذلك تكفي في المقام؛ غاية الأمر[1] أن ما هو النقيض في مطلق الترك[2] إنما ينحصر مصداقه في الفعل فقط، وأما النقيض للترك الخاص فله فردان، وذلك[3] لا يوجب فرقاً في ما نحن بصدده، كما لا يخفى.

قلت[4]:

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: هناك فرق، لكنه غير فارق، وحاصل الفرق: إنه بناء على وجوب مطلق المقدمة فالواجب ترك الصلاة مقدمةً للإزالة، ونقيضه هو (ترك الترك المطلق) وهو يلازم الفعل فقط، أما بناء على وجوب خصوص المقدمة الموصلة فالنقيض هو (ترك الترك الموصل) وهو يلازم الفعل والترك المجرد، فعلى الأول هناك لازم واحد، وعلى الثاني هناك لازمان.

لكن هذا غير فارق؛ وذلك لأن الصلاة في المثال ليست هي النقيض، بل هي لازم النقيض على كلا القولين، فإن كانت الحرمة خاصة بالنقيض فلا تحرم الصلاة على كليهما، وإن كانت الحرمة تسري إلى لازم النقيض فتحرم الصلاة على كليهما.

[2] مراده ما هو لازم النقيض، فإن النقيض هو (ترك الترك) ولازمه الفعل فقط، وكذا قوله: «أما النقيض للترك الخاص» أي: أما لازم النقيض للترك الخاص فله مصداقان: أحدهما الفعل كالاتيان بالصلاة، والآخر ترك الفعل بدون الإتيان بالواجب، كترك الصلاة وترك الازالة معاً.

[3] أي: ذلك الفرق ليس بفارق، «نحن بصدده» من إثبات حرمة الصلاة وفسادها.

الردّ على إشكال التقريرات

[4] المصنف لا يرتضي إشكال التقريرات، ويذهب إلى صحة الثمرة التي ذكرها صاحب الفصول، وحاصل ردّه لإشكال التقريرات هو أنه:

ص: 129

-------------------------------------------------------------------

1- بناءً على القول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة لا تكون الصلاة نقيضاً لترك الصلاة الموصل، بل تكون مقارناً اتفاقياً، ولو سلمنا أن الصلاة لازم فلا نسلّم سراية الحكم إلى اللازم.

بيان ذلك: إن (ترك الصلاة الموصل) واجب باعتبار أنه مقدمة للإزالة الواجبة، ونقيضه هو (ترك الترك الموصل)، وهو غير ملازم لفعل الصلاة؛ وذلك لإمكان تحققه من غير فعل الصلاة، كما لو نام أو انشغل بالأكل، فقد تحقّق ترك الترك الموصل من غير أن تتحقق الصلاة، وهذا يكشف عن عدم الملازمة بينهما؛ وذلك لعدم الانفكاك بين اللازم والملزوم، وعدم الانفكاك بين المتلازمين.

وحتى لو سلمنا الملازمة بين (ترك الترك الموصل) وبين (فعل الصلاة)، فإنا لا نسلّم سراية حكم أحد المتلازمين إلى الآخر.

2- وأما بناء على القول بوجوب مطلق المقدمة - حتى لو لم تكن موصلة - فإن الصلاة هي نفس النقيض لترك الصلاة المطلق، لا أنها مقارن اتفاقي أو لازم، فتكون الصلاة منهياً عنها بناء على حرمة الضد العام، فتكون فاسده.

بيان ذلك: إن المعاندة والتناقض إنما هو بين (ترك الصلاة) وبين (الصلاة)، فإذا وجب ترك الصلاة حرمت الصلاة، وحتى لو قبلنا: إن نقيض (ترك الصلاة) هو (ترك ترك الصلاة)، إذ إن مفهوم ترك ترك الصلاة وإن كان يختلف عن مفهوم الصلاة إلاّ أنهما مصداقاً وخارجاً واحد، مثلاً: نقيض اللا إنسان هو الإنسان، ولو قلتم: إن نقيضه هو (عدم اللا إنسان)، قلنا: إن هذا متحد خارجاً مع الإنسان.

فاتضح أن (ترك ترك الصلاة) منهي عنه باعتباره ضداً للواجب المقدمي، الذي هو (ترك الصلاة)، وترك الترك إما هو نفس الصلاة، وإمّا متحد مع الصلاة خارجاً، فتكون الصلاة منهياً عنها فتقع فاسدة.

ص: 130

وأنت خبير بما بينهما[1] من الفرق، فإن الفعل في الأول[2] لا يكون إلاّ مقارناً[3] لما هو النقيض من رفع الترك المجامع[4] معه تارةً ومع الترك المجرد أخرى، ولا تكاد يسري حرمة الشيء إلى ما يلازمه[5] فضلاً عما يقارنه أحياناً. نعم[6]، لابد أن

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: بين نقيض الترك الموصل ونقيض الترك المطلق.

[2] أي: بناءً على وجوب خصوص المقدمة الموصلة.

[3] فليس الفعل نفس النقيض، ولا ملازماً له، وقوله: «من رفع الترك» بيان للنقيض.

[4] هذا بيان لكونه مقارناً لا أنه نفسه ولا ملازمه، فيجتمع النقيض مع الصلاة أحياناً، وينفصل عنه أحياناً أخرى، كمن لا يصلّي ولا يزيل النجاسة عن المسجد، فهنا تحقق (ترك الترك الموصل) من غير تحقق الصلاة، «معه» أي: مع الفعل، «المجرّد» أي: المجرد عن الإيصال إلى ذي المقدمة.

[5] وذلك لأن الحرمة إنما هي بسبب المفسدة، وقد لا تكون مفسدة في الملازم، بل قد تكون مصلحة فيه، مثلاً: قد يحرم إشعال النار في مكان لوجود مفسدة فيه، ولازم النار هو النور، فقد يكون فيه المصلحة، فلا معنى لسراية الحرمة من النار إلى النور، مضافاً إلى أن الوجدان حاكم بأنه مع تحريم شيء لا يوجد عدة تحريمات بعدد الملازمات أو اللوازم، مثلاً: لو حرم استقبال القبلة في حال التخلي، ولازم الاستقبال هو استدبار الشمال، وكون الشرق على اليسار، وكون الغرب على اليمين، فهل هنا أربعة تحريمات؟

[6] دفع لتوهم، وحاصل التوهم إنه لا تخلو الوقائع من حكم، فإذا لم يكن الملازم محكوماً بحكم ملازمه فلابد أن يكون محكوماً بحكم آخر، وهذا واضح البطلان.

والجواب: إنا لا نسلّم بأنه لا تخلو واقعة عن حكم، فلذا لا يكون الملازم محكوماً بحكم ملازمه، ولا بحكم آخر من الأحكام، وسيأتي تفصيل الكلام في بحث الضد.

ص: 131

لا يكون الملازم محكوماً فعلاً[1] بحكم آخر على خلاف حكمه، لا أن يكون محكوماً بحكمه. وهذا بخلاف الفعل في الثاني[2]، فإنه بنفسه يعاند الترك المطلق وينافيه، لا ملازم لمعانده ومنافيه، فلو لم يكن عين ما يناقضه[3] بحسب الاصطلاح مفهوماً، لكنه[4] متحد معه عيناً وخارجاً. فإذا كان الترك واجباً[5] فلا محالة يكون الفعل منهياً عنه قطعاً، فتدبر جيداً.

ومنها[6]: تقسيمه إلى الأصلي والتبعي.

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: بحكم فعلي منجّز، «حكمه» أي: على خلاف حكم ملازمه، فإذا كان ترك الصلاة واجباً كان ترك الترك حراماً، وملازم ترك الترك - وهو فعل الصلاة - لا يكون حراماً. نعم، لابد أن لا يكون محكوماً بحكم آخر كالوجوب.

إن قلت: إذا لم تكن الصلاة واجبة فكيف يمكن الحكم بصحتها؟

قلت: صحتها لأجل وجود الملاك فيها، كما مرّ توضيحه في بحث التعبدي والتوصلي.

[2] أي: بناءً على وجوب مطلق المقدمة، «فإنه» أي: الفعل كالصلاة، فالصلاة هي نقيض ترك الصلاة، فإذا وجب ترك الصلاة؛ لكونه مقدمة للإزالة، فيحرم نقيضه وهو نفس الصلاة.

[3] أي: لو لم يكن فعل الصلاة عين النقيض، وهو ترك ترك الصلاة من جهة المفهوم، لكنه نفسه مصداقاً، «لم يكن» أي: الفعل، «يناقضه» أي: يناقض الواجب، فإن ترك ترك الصلاة نقيض للمقدمة الواجبة التي هي ترك الصلاة.

[4] أي: لكن الفعل، «معه» أي: مع النقيض.

[5] لكون ترك الصلاة مقدمة للإزالة الواجبة، «قطعاً» بناء على حرمة الضد العام.

التقسيم الرابع: تقسيم الواجب إلى الواجب الأصلي والتبعي
اشارة

[6] لا يخفى أن هذا مرتبط بالأمر الثالث - وهو في تقسيمات الواجب - فذكره في ذيل الأمر الرابع خلاف الترتيب الفنيّ.

ص: 132

والظاهر[1] أن يكون هذا التقسيم بلحاظ الأصالة والتبعية في الواقع ومقام الثبوت[2]؛ حيث يكون الشيء تارةً متعلقاً للإرادة والطلب مستقلاً،

-------------------------------------------------------------------

[1] قد يكون هذا التقسيم بلحاظ عالم الثبوت والواقع، وقد يكون بلحاظ عالم الإثبات ودلالة الدليل.

أما على الأول - أي ملاحظة الثبوت - : ف- (الأصلي) هو كل واجب لاحظه المولى بشكل مستقل، فأراده بإرادة خاصة به، وهذا كما يكون في الواجب النفسي يكون في الواجب الغيري أيضاً، فالمولى يلاحظ الصلاة ويريدها بإرادة مستقلة، وكذا يلاحظ الطهارة من الحدث والخبث للصلاة فيريدها بإرادة مستقلة أيضاً.

و(التبعي) هو ما لم يلاحظه المولى بلحاظ مستقل فلم يرده بإرادة خاصة به، بل أراده بالتبع وارتكازاً، وهذا يكون في الواجب الغيري فقط، كما لو أمره بشراء اللحم، وكان شراؤه متوقفاً على دخول السوق - مثلاً - فلم يلاحظ المولى دخول السوق ولا أراده بإرادة مستقلة، وانما أراده بتبع إرادته شراء اللحم، وهذا القسم لا يمكن في الواجب النفسي؛ لأنه لو لم يلاحظه فلا إرادة تتعلق به - لأنه ليس مقدمة لغيره حتى تتعلق به إرادة غيرية - فلا يكون واجباً.

وأما على الثاني - أي ملاحظة عالم الإثبات -: ف- (الأصلي) هو ما كان بخطاب مستقل - سواء كان نفسياً أم غيرياً - و(التبعي) هو ما كان بتبع خطاب غيره، كالمفاهيم ودلالة الإشارة، وهذا يشمل النفسي كشموله للغيري، فقد يريد الشيء مستقلاً لكن يجعل الدليل عليه مفهوماً أو نحوه.

فالفرق بين الاصطلاحين إنما هي في أن الواجب النفسي قد يكون تبعياً على الثاني، ولا يمكن كونه تبعيّاً على الأول.

ثم إن المصنف يرجّح الاصطلاح الأول، لما سيأتي.

[2] «ومقام الثبوت» العطف تفسيري، «مستقلاً» من غير تبعية لإرادة شيء آخر.

ص: 133

للالتفات[1] إليه بما هو عليه مما يوجب طلبه، فيطلبه، كان[2] طلبه نفسياً أو غيرياً؛ وأخرى متعلقاً للإرادة تبعاً لإرادة غيره لأجل[3] كون إرادته لازمة لإرادته من دون التفات إليه[4] بما يوجب إرادته. لا بلحاظ[5] الأصالة والتبعية في مقام الدلالة والإثبات، فإنه[6] يكون في هذا المقام تارةً مقصوداً بالإفادة وأخرى غير مقصود

-------------------------------------------------------------------

[1] هذا سبب الطلب المستقل، وهو ملاحظة المولى للمصلحة في ذلك الشيء، «إليه» إلى الشيء، «بما هو عليه» من المصلحة، وقوله: (مما يوجب طلبه) بيان لقوله: (بما هو عليه).

[2] أي: سواء كان الطلب نفسياً كالصلاة، أم غيرياً كالوضوء، فكلاهما واجب أصلي لتعلّق إرادة مستقلة به.

[3] هذا بيان لوجه التبعية، فإن إرادة الحج - مثلاً - تلازم إرادة المسير إليه، أي: كون إرادة الشيء لازمة لإرادة الغير.

[4] «إليه» إلى الشيء، أي: لم يلاحظ المولى ذلك الشيء فلم يطلبه بطلب مستقل.

[5] عطف على قوله: (بلحاظ الإصالة والتبعية...)، أي: ليس التقسيم إلى الأصلي والتبعي بلحاظ عالم الإثبات - أي: الخطاب والأمر - والعطف في (الدلالة والإثبات) تفسيري.

[6] أي: فإن الشيء، «هذا المقام» أي: مقام الإثبات، «مقصوداً بالإفادة» بأن يكون اللفظ دالاً على الوجوب بالمطابقة كقوله: {وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ}(1) وقوله: {فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ...}(2).

ص: 134


1- سورة البقرة، الآية: 43.
2- سورة المائدة، الآية: 6.

بها[1]

على حدة، إلاّ أنه لازم الخطاب، كما في دلالة الإشارة[2] ونحوها[3].

وعلى ذلك[4]، فلا شبهة في انقسام الواجب الغيري إليهما[5]، واتصافه بالأصالة والتبعية كلتيهما، حيث يكون متعلقاً للإرادة على حده عند الالتفات إليه بما هو مقدمة[6]، وأخرى لا يكون متعلقاً لها كذلك[7] عند عدم الالتفات إليه كذلك[8]، فإنه يكون لا محالة مراداً تبعاً لإرادة ذي المقدمة على الملازمة[9].

-------------------------------------------------------------------

[1] «بها» بالإفادة، «حدّة» أي: في نفسه فلا يكون مقصوداً بالمطابقة، «أنه» أي: الشيء.

[2] وهي نتيجة الجمع بين دليلين من غير دلالة أيِّ واحد منهما عليها، مثل: أقلّ الحمل فإنه ستة أشهر، وهو يستفاد من جمع بين آيتين، قال تعالى: {وَٱلۡوَٰلِدَٰتُ يُرۡضِعۡنَ أَوۡلَٰدَهُنَّ حَوۡلَيۡنِ كَامِلَيۡنِۖ}(1) وقال: {وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهۡرًاۚ}(2)، فإذا كان الفصال - أي: الفطم عن الرضاع - سنتين كما هو مدلول الآية الأولى، فيبقى للحمل ستة أشهر من الثلاثين المذكورة في الآية الثانية.

[3] كمفهوم الشرط ونحوه، كما مثّل به صاحب الفصول(3)، وقد أشكلوا عليه بأن المفهوم مقصود بالإفادة أيضاً كالمنطوق، فتأمل.

[4] أي: بناءً على ما استظهره المصنف من أن التقسيم بلحاظ عالم الثبوت لا الإثبات.

[5] أي: إلى الأصلي والتبعي، وقوله: (واتصافه...) عطف تفسيري.

[6] أي: يلاحظه المولى ويأمر به باعتباره مقدمةً، لا أنه يأمر به باعتباره واجباً في نفسه.

[7] «لها» للإرادة، «كذلك» أي: على حدّه ومستقلاً.

[8] «إليه» إلى الشيء، «كذلك» أي: بما هو مقدمة، «فإنه» فإن الواجب الغيري.

[9] أي: بناء على الملازمة بين وجوب ذي المقدمة ووجوب المقدمة.

ص: 135


1- سورة البقرة، الآية: 233.
2- سورة الأحقاف، الآية: 15.
3- الفصول الغروية: 82.

كما لا شبهة في اتصاف النفسي أيضاً بالأصالة، ولكنه[1] لا يتصف بالتبعية، ضرورة أنه لا يكاد يتعلق به الطلب النفسي ما لم يكن فيه[2] مصلحة نفسية، ومعها يتعلق بها الطلب مستقلاً ولو لم يكن هناك شيء آخر مطلوب أصلاً، كما لا يخفى.

نعم[3]، لو كان الاتصاف بهما بلحاظ الدلالة اتصف النفسي بهما أيضاً، ضرورة أنه[4] قد يكون غير مقصودة بالإفادة، بل أفيد بتبع غيره المقصود بها.

لكن الظاهر[5] - كما مر - أن الاتصاف بهما إنما هو في نفسه، لا بلحاظ حال الدلالة عليه، وإلاّ[6] لما اتصف بواحدٍ منهما إذا لم يكن بعد مفاد دليل، وهو

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: لكن النفسي لا يتصف بكونه واجباً تبعيّاً؛ لعدم كونه مقدمة للغير حتى يُراد بتبع إرادة ذلك الغير، كما أنّه إذا لم يُلاحظ بشكل مستقل لا يكون واجباً أصلاً؛ لأن الطلب النفسي فرع ملاحظة الشيء بشكل مستقل.

والحاصل: إن كونه نفسياً فرع ملاحظته وطلبه مستقلاً، فصار واجباً أصلياً لا تبعياً.

[2] أي: في الواجب النفسي، «ومعها» أي: مع المصلحة النفسيّة، «بها» أي: بالواجب النفسي، والأولى تذكير الضمير.

[3] أي: بناءً على الاصطلاح الثاني - أي: التقسيم بلحاظ عالم الإثبات - «بهما» الأصلي والتبعي، «أيضاً» كالواجب الغيري.

[4] أن الواجب النفسي، «غيره» واجب آخر كالمنطوق، «المقصود» ذلك الواجب الآخر، «بها» بالدلالة اللفظية.

[5] هذا وجه ترجيح الاصطلاح الأول على الاصطلاح الثاني، فالأولى هو التقسيم بلحاظ عالم الثبوت، «الاتصاف» أي: اتصاف الواجب «في نفسه» بلحاظ عالم الثبوت، «عليه» على الواجب.

[6] أي: لو كان الاتصاف بلحاظ عالم الإثبات لزم خروج بعض الواجبات عن هذا التقسيم، وهي الواجبات التي كان دليلها لُبيّاً من إجماع وعقل ونحوهما، فإن

ص: 136

كما ترى[1].

ثم إنه[2] إذا كان الواجب التبعي ما لم يتعلق به إرادة مستقلة فإذا شك في واجب

-------------------------------------------------------------------

الواجب لا يكون أصلياً ولا تبعيّاً حينئذٍ؛ لعدم كون الوجوب مستفاداً من لفظ بالمطابقة ولا بالالتزام.

[1] لأنه خلاف ظاهر الأصوليين من عدم خلوّ الواجب عنهما!!

الشك في الأصالة والتبعيّة

[2] لو شككنا في واجب أنه أصلي أم تبعي، فقد ذهب الشيخ الأعظم(1)

إلى عدم وجود أصل يعيّن أحدهما، لكن المصنف يرى جريان الأصل لو فسرنا الواجب التبعي بأنه (واجب لا توجد فيه إرادة مستقلة)، ولو فسرناه بأنه (الذي فيه إرادة تبعية) فلا يجري الأصل.

أما على الأول، فلأنّ الموضوع مركب من (واجب) و(ليس فيه إرادة مستقلة)، والجزء الأول ثابت بالعلم حيث نعلم بوجوبه، والجزء الثاني ثابت بالاستصحاب، حيث إن الإرادة أمر حادث، فنشك في تحقق إرادة مستقلة والاستصحاب على عدمها.

وهذا نظير ما لو لاقت نجاسة ماءً غير معلوم الكرية، فالملاقاة للنجاسة ثابتة بالوجدان، وجميع مياه الأرض نزلت بالأمطار، فحين النزول لم تكن كراً فنستصحب عدم الكرية، وحينئذٍ نحكم بنجاسة هذا الماء الملاقي للنجاسة!!

وأما على الثاني، فلا يجري الاستصحاب؛ لأنه أصل مثبت؛ وذلك لأن وجود الإرادة التبعية أمر وجودي ولا حالة سابقة له، فلابد لإثباته من استصحاب عدم تعلّق إرادة مستقلة، ولازمه العقلي تعلّق إرادة تبعية - لعدم خلوّ الإرادة عنهما - فبنفي أحد الضدين نريد إثبات الضد الآخر، وهو مثبت، والأصل المثبت ليس بحجة.

ص: 137


1- مطارح الأنظار 1: 383.

أنه أصلي أو تبعي، فبأصالة[1] عدم تعلق إرادة مستقلة به[2] يثبت أنه تبعي ويترتب عليه آثاره إذا فرض له أثر شرعي، كسائر الموضوعات المتقومة بأمور عدمية[3]. نعم[4]، لو كان التبعي أمراً وجودياً خاصاً غير متقوم بعدمي - وإن كان يلزمه[5] - لما كان يثبت[6] بها إلاّ على القول بالأصل المثبت، كما هو واضح، فافهم[7].

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: فبحسب التفسير الأول، فبأصالة... الخ.

[2] بالواجب، «أنه» أن الواجب، «آثاره» أي: آثار الواجب التبعي، «له» للواجب التبعي، «أثر شرعي» ولا يخفى عدم وجود أثر إلاّ في مثل النذر ونحوه.

[3] حيث إنها مركبة، فأحد الجزءين يثبت بالدليل، والجزء الآخر - وهو الأمر العدمي - يثبت بالاستصحاب، كما عرفت في مثال ملاقاة النجاسة للماء المشكوك الكرية، فالملاقاة ثابتة بالوجدان، وعدم الكرية بالاستصحاب.

[4] حسب التفسير الثاني للواجب التبعي، «وجودياً خاصاً» أي: الواجب الذي تعلّق به إرادة تبعيّة.

[5] لأنهما ضدان لا ثالث لهما، فوجود أحدهما يستلزم عدم الآخر؛ وذلك لأن الإرادة لا تخلو من أن تكون مستقلة أو تبعية ولا شقّ ثالث.

[6] «لما...» جزاء (لو)، «بها» بأصالة عدم تعلق إرادة مستقلة، «بالأصل المثبت» وهو ليس بحجة.

[7] لعله إشارة إلى المعارضة بين أصالة عدم تعلق إرادة مستقلة، وأصالة عدم تعلّق إرادة تبعية، فلا يجري الاستصحاب حتى على القول بحجية الأصل المثبت.

أو إشارة إلى عدم وجود ثمرة في تقسيم الواجب إلى الأصلي والتبعي، فلا يجري الاستصحاب؛ لأن جريانه متوقف على وجود أثر له.

ص: 138

تذنيب: في بيان الثمرة[1] وهي في المسألة الأصولية[2] - كما عرفت سابقاً[3] - ليست إلاّ أن تكون نتيجتها صالحة للوقوع في طريق الاجتهاد واستنباط حكم فرعي[4]. كما لو قيل بالملازمة في المسألة[5]، فإنه بضميمة مقدمة[6] كون شيء مقدمةً لواجب، يستنتج أنه واجب.

-------------------------------------------------------------------

تذنيب:
في ثمرة مسألة مقدمة الواجب
اشارة

[1] ويذكر المصنف خمس ثمرات، ويرتضي الأولى، ثم يشكل على الباقي.

[2] حاصل الثمرة الأولى: هو أنك قد عرفت أن المسألة الأصولية هي ما تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي الكلي، بأن تكون كبرى البرهان، وهذا الضابط ينطبق على مسألة مقدمة الواجب، فإن الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته أو عدم الملازمة تقع في كلّي البرهان.

مثلاً يقال: قطع المسافة هي مقدمة للحج الواجب، وهناك ملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته، فقطع المسافة واجب، أو يقال: وليس هناك ملازمة بين وجوبهما، فقطع المسافة ليس بواجب.

ويكفي في الثمرة أن تترتّب على أحد الأقوال في المسألة.

[3] في أوائل الكتاب في تعريف علم الأصول بأنه: (العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية)، وكذلك في بحث الصحيح والأعم.

[4] أي: حكم فقهي.

[5] أي: مسألة مقدمة الواجب.

[6] أي: صغرى البرهان، فالملازمة هي الكبرى، والصغرى هي كون شيءٍ - كالسير - مقدمة للحج مثلاً، «أنه واجب» أن هذا الشيء الذي هو مقدمة.

ص: 139

ومنه[1] قد انقدح أنه ليس منها[2] مثل برء النذر[3] بإتيان مقدمة واجب عند نذر الواجب؛ وحصول الفسق بترك واجب[4] واحد بمقدماته إذا كانت له مقدمات كثيرة، لصدق[5] الإصرار على الحرام بذلك؛ وعدم جواز أخذ الأجرة على المقدمة.

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: من أن المسألة الأصولية هي ما تقع في طريق الاستنباط.

[2] أي: ليس من الثمرة، فقد ذكر ثمرات أخرى وهي:

الثمرة الثانية: الوفاء بالنذر، فمن نذر أن يأتي بواجب فإنه لو أتى بالمقدمة فقد وفى بنذره، بناءً على وجوب المقدمة، ولم يفِ بنذره بناء على عدم وجوبها.

الثمرة الثالثة: لو ترك واجباً له مقدمات، فبناءً على وجوب المقدمة يصير فاسقاً؛ لأنه ترك عدّة واجبات، إذا كان تركها صغيرة، فهذا قد أصَرّ على الصغائر - والإصرار يحصل بارتكاب صغيرتين - وبناء على عدم وجوب المقدمة لا يصير فاسقاً.

الثمرة الرابعة: عدم جواز أخذ الأجرة على المقدمات بناءً على وجوب المقدمة، وجواز أخذ الأجرة عليها بناءً على عدم وجوبها.

ويرد إشكال عام على كل هذه الثمرات بأنها أحكام جزئية وليست أحكاماً كليّة، فالحكم الكلي هو (وجوب الوفاء بالنذر)، و(حصول الفسق بالإصرار على الصغيرة)، و(عدم جواز أخذ الأجرة على الواجبات)، والثمرات المذكورة هي مصاديق جزئية لهذه الأحكام الفقهية الكلية، بل يمكن القول: إن هذه الثمرات ليست أحكاماً، بل هي تنقيح لموضوع الأحكام الثلاثة، والمسألة الأصولية لا ترتبط بتنقيح الموضوعات، بل لابد أن تكون نتيجتها في طريق استنباط الأحكام.

[3] الأولى (بِرّ النذر) أي: الوفاء به، وإن صحّ التعبير بالبرء باعتبار إفراغ الذمة وبرائتها بالوفاء بالنذر.

[4] إذا كان تركه صغيرة، فبضمّ ترك المقدمات يتحقق الإصرار على الصغيرة.

[5] هذا علة حصول الفسق، «الحرام» أي: الصغيرة المحرّمة.

ص: 140

مع[1] أن البرء وعدمه إنما يتبعان قصد الناذر، فلا برء بإتيان المقدمة لو قصد الوجوب النفسي - كما هو[2] المنصرف عند إطلاقه - ولو قيل بالملازمة. وربما يحصل البرء به لو قصد ما يعم المقدمة[3] ولو قيل بعدمها، كما لا يخفى.

ولا يكاد[4] يحصل الإصرار على الحرام بترك واجب ولو كانت له مقدمات غير عديدة[5]، لحصول العصيان بترك أول مقدمة لا يتمكن معه[6] من الواجب، ولا

-------------------------------------------------------------------

[1] بعد أن أشكل إشكالاً عاماً على كل هذه الثمرات الثلاث، يبدأ المصنف بالإشكال على كل ثمرة على حدة، فيرد على الثمرة الثانية: أن النذر يتبع قصد الناذر، فإن نذر أن يأتي بواجب نفسي فلا يتحقق الوفاء لو أتى بالمقدمة، حتى لو قلنا بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته، وإن نذر أن يأتي بما هو أعم من كونه واجباً شرعياً أم عقلياً فحينئذٍ يحصل الوفاء لو أتى بالمقدمة، حتى لو لم نقل بالملازمة، كما هو واضح.

[2] أي: الوجوب النفسي «إطلاقه» أي: إطلاق الوجوب، ولعلّ مقصود المصنف دفع دخل مقدّر، وهو أنه قد ينذر الإتيان بواجب مع الغفلة عن تقييده بالنفسي أو الغيري أو الأعم، فحينئذٍ تظهر الثمرة، والجواب: إنه حينئذٍ ينصرف إلى الواجب النفسي، فتأمل.

[3] أي: قصد الوجوب الأعم من كونه شرعياً أم عقلياً، «بعدمها» أي: عدم الملازمة.

[4] أي: ويرد على الثمرة الثالثة: إنه بترك المقدمة الأولى يعجز عن ذي المقدمة وعن سائر المقدمات، فلا يحصل إصرار على الصغيرة؛ لأنه ارتكب صغيرةً واحدةً، وهي ترك المقدمة الأولى، وحينئذٍ فلا يقدر على ذي المقدمة، فلا تجب سائر مقدماته.

[5] المقصود: غير معدودة لكثرتها.

[6] أي: مع ترك أول مقدمة لا يتمكن من ذي المقدمة، وحينئذٍ يسقط وجوبه

ص: 141

يكون ترك سائر المقدمات بحرام أصلاً، لسقوط التكليف حينئذٍ[1]، كما هو واضح لا يخفى.

وأخذ الأجرة[2]

-------------------------------------------------------------------

بسبب العصيان، فلا تجب سائر مقدماته؛ لأنها انقلبت إلى مقدمات لشيء غير مقدور وغير واجب.

[1] أي: حين ترك المقدمة الأولى.

[2] أي: ويرد على الثمرة الرابعة: إنّ أخذ الأجرة قد يكون في الواجب التوصلي، وقد يكون في الواجب التعبدي.

أما الواجب التوصلي: فلا دليل على حرمة أخذ الأجرة عليه، إلاّ لو دل دليل خاص على وجوب كونه مجاناً، كما يقال في دفن الميت، بل الدليل يدل على جواز أخذ الأجرة على بعض الواجبات التوصلية، كالصناعات الواجبة كفاية حيث تتوقف عليها الحياة، كالنجارة والحدادة والطبابة... الخ، فإنه لو لم يجز أخذ الأجرة عليها لتركها الناس ولاختلّت الحياة.

وأما الواجب التعبّدي: فأيضاً لا دليل على حرمة أخذ الأجرة عليه، إلاّ إذا تعارضت مع قصد القربة، أو كانت المعاملة عليها سفهية، وأكل المال عليها أكلاً له بالباطل.

ولكن لا تتعارض مع قصد القربة؛ لأجل أن الأجرة هي داعٍ على الداعي، فالذي يأخذ الأجرة على قضاء صلاة الميّت مثلاً، إنّما يأتي بالصلاة قربة إلى الله تعالى، لكن الداعي للصلاة القربيّة هو أخذ الأجرة، فلا يأتي بالصلاة بداعي الأجرة، بل يأتي بالصلاة بداعي القربة، لكن سبب إتيانه بالصلاة بداعي القربة هو أخذ الأجرة.

كما أنه يمكن فرض أخذ الأجرة غير سفهية ولا أكلاً للمال بالباطل، كما لو كان يعود نفع إلى دافع الأجرة، فالولد الأكبر يجب عليه قضاء صلاة والده، وحيث

ص: 142

على الواجب لا بأس به إذا لم يكن إيجابه[1] على المكلف مجاناً وبلا عوض، بل كان وجوده المطلق[2] مطلوباً، كالصناعات الواجبة كفائيةً التي لا يكاد ينتظم بدونها البلاد، ويختل لولاها معاش العباد، بل ربما يجب أخذ الأجرة عليها[3] لذلك - أي لزوم الاختلال وعدم الانتظام لو لا أخذها - . هذا في الواجبات التوصلية.

وأما الواجبات التعبدية: فيمكن أن يقال بجواز أخذ الأجرة على إتيانها بداعي امتثالها[4]، لا على نفس الإتيان كي ينافي عباديتها، فيكون من قبيل الداعي إلى الداعي. غاية الأمر[5] يعتبر فيها كغيرها أن يكون فيها منفعة عائدة إلى المستأجر، كيلا تكون المعاملة سفهية وأخذ[6] الأجرة عليها أكلاً بالباطل.

-------------------------------------------------------------------

يريد الخلاص عن القضاء يستأجر مُصلياً، وهذه معاملة عقلائية.

[1] هذا في الواجبات التوصلية، كما سيصرّح به المصنف بعد قليل.

[2] «وجوده» أي: وجود الواجب، «المطلق» أي: غير المقيد بالمجانية.

[3] أي: على الصناعات الواجبة كفاية، «أخذها» أي: أخذ الأجرة.

[4] بأن يأتي بالعبادة بقصد القربة، ويكون أخذ الأجرة داعياً على هذا الإتيان.

وبعبارة أخرى: يكون أخذ الأجرة داعياً على الإتيان بالعبادة بداعي أمرها - الذي هو قصد القربة - .

وبهذا يدفع الإشكال عن الإتيان بصلاة الحاجة، أو الصلوات التي تزيد في الرزق، ونحو ذلك من الحوائج الدنيوية، فإنه يأتي بالصلاة القُربية بداعي قضاء الحاجة أو زيادة الرزق ونحوه، فتأمل.

[5] أي: لا منافاة مع قصد القربة، لكن يشترط أن يعود نفع إلى المستأجر، «فيها» أي: في الإجارة على العبادات، «كغيرها» كغير العبادات.

[6] أي: وكي لايكون أخذ الأجرة... الخ.

ص: 143

وربما يجعل من الثمرة[1] اجتماع الوجوب والحرمة إذا قيل بالملازمة في ما كانت المقدمة محرمة، فيبتني[2] على جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه، بخلاف ما لو قيل بعدمها.

-------------------------------------------------------------------

الثمرة الخامسة والإشكال عليها

[1] وهي الثمرة الخامسة: وهي منسوبة إلى الوحيد البهبهاني(1)، وحاصلها: إنه لو كانت المقدمة محرّمة - كركوب الدابة المغصوبة للحج - فإن قلنا: بوجوب المقدمة لزم اجتماع الأمر والنهي، وإن قلنا: بعدم وجوبها تكون المقدمة محرّمة فقط ولا أمر فيها.

أما الأول - أي: لو قلنا بوجوب المقدمة - : فالأمر باعتبار وجوب المقدمة، والنهي باعتبار كون المقدمة محرّمة، وحينئذٍ فإن قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي فتكون المقدمة واجبة من جهة، ومحرمة من جهة أخرى، وإن قلنا بعدم جواز اجتماع الأمر والنهي، سقط أحد التكليفين ويبقى الآخر، وهذا ما سيأتي تفصيله في بحث الاجتماع.

وأما الثاني - أي: لو قلنا بعدم وجوب المقدمة - : فلا اجتماع للأمر والنهي أصلاً، بل يوجد نهي عن المقدمة فقط - لفرض كونها محرّمة - .

والحاصل: إن القول بوجوب المقدمة يجعل المقدمة المحرمة - كركوب الدابة المغصوبة - من مصاديق اجتماع الأمر والنهي، وأما على القول بعدم وجوبها فلا اجتماع، بل حرمة فقط.

[2] أي: يبتني اجتماع الوجوب والحرمة في المقدمة على كليِّ مسألة الاجتماع، وبعبارة أخرى: يكون حكم المقدمة حينئذٍ من مصاديق مسألة الاجتماع، «وعدمه» أي: عدم جواز الاجتماع، «بعدمها» أي: عدم الملازمة.

ص: 144


1- مطارح الأنظار 1: 396؛ بدائع الأفكار: 346.

وفيه[1] أولاً: إنّه[2] لا يكون من باب الاجتماع كي تكون مبتنية عليه، لما أشرنا إليه غير مرة أنّ الواجب[3] ما هو بالحمل الشائع مقدمة، لا بعنوان المقدمة، فيكون

-------------------------------------------------------------------

[1] يستشكل المصنف على الثمرة الخامسة بثلاثة إشكالات، فالأول: عدم كون مسألة المقدمة من مصاديق مسألة الاجتماع؛ لعدم تعدد العنوان، والثاني: بعدم لزوم الاجتماع في المقدمة أصلاً؛ لارتفاع أحد التكليفين، والثالث: بعدم الثمرة حتى لو كانت مسألة المقدمة من مصاديق مسألة الاجتماع.

الإشكال الأول: إن مسألة المقدمة ليست من مصاديق مسألة الاجتماع؛ وذلك لأن الاجتماع إنما يكون حين تعلّق الوجوب بعنوانٍ، وتعلّق الحرمة بعنوان آخر، ثم اجتماع العنوانين في شيء خارجي، نظير حرمة الغصب، ووجوب الصلاة، فلو صلّى في المغصوب كانت تلك الصلاة الخارجية مجمعاً للعنوانين.

وليست مسألة المقدمة من هذا القبيل، فإنه لا وجوب لعنوان المقدمية، حتى نقول باجتماع عنوانين في ركوب الدابة المغصوبة، بحيث كانت المقدميّة واجبة والغصب محرّم، فاجتمعا في هذا الركوب!!، بل مرّ مراراً أن الواجب هو واقع المقدمة ووجودها الخارجي، فلا يوجد عنوانان حتى تكون مسألة المقدمة من مصاديق مسألة الاجتماع، بل هذا الوجود الخارجي أخص من العنوان الحرام، فالغصب مطلقاً حرام، وهذا الركوب من مصاديق الغصب، فصار المورد من مصاديق مسألة النهي في العبادة والمعاملة.

[2] أن هذا المورد وهو كون المقدمة محرّمة، «من باب الاجتماع» أي: من مصاديق باب الاجتماع، «كي تكون» ثمرة باب المقدمة، «مبنية عليه» بما يذكر في بحث الاجتماع.

[3] أي: في باب المقدمة، ليس الواجب هو عنوان المقدمية، «ما هو بالحمل الشائع» أي: بوجوده الخارجي، فالوجوب لا يتعلّق بالعنوان، بل بالواقع الخارجي.

ص: 145

على الملازمة[1] من باب النهي في العبادة والمعاملة[2].

وثانياً[3]: لا يكاد يلزم الاجتماع أصلاً، لاختصاص الوجوب[4] بغير المحرّم في غير صورة الانحصار به. وفيها[5] إما لا وجوب للمقدمة لعدم وجوب ذي المقدمة لأجل المزاحمة[6]،

-------------------------------------------------------------------

إذن، فلا يوجد عنوانان حتى يكون من مصاديق باب الاجتماع.

[1] أي: حيث كان عنوان واحد، فذلك العنوان - وهو الغصب مثلاً - منهي عنه، وهذه المقدمة من مصاديق الغصب، فتكون منهياً عنها.

[2] أي: من مصاديق تلك المسألة، فإن كانت المقدمة عبادية - كالوضوء بالمغصوب - كان من النهي في العبادة، وإن كانت المقدمة غير عبادية - كركوب الدابة المغصوبة - كان من النهي في المعاملة - بمعناها العام - .

[3] حاصل الإشكال الثاني: هو ارتفاع أحد التكليفين دائماً، فلا اجتماع أصلاً؛ وذلك لأنه إما لا تنحصر المقدمة في الحرام أو تنحصر، فعلى عدم الانحصار، يترشح الوجوب إلى خصوص المقدمة المباحة، ولا يترشح على المقدمة المحرمة؛ لوجود مانع عن وجوبها.

وعلى الانحصار يحصل تنافٍ بين ذي المقدمة وبين المقدمة المحرمة، كما لو انحصر أداء الدين الواجب بركوب الدابة المغصوبة، فمصلحة أداء الدين تتنافى مع مفسدة الغصب، وحينئذٍ يتقدّم أقواهما ملاكاً فلا يتحقق الاجتماع.

[4] أي: الوجوب الغيري المقدمي.

[5] أي: وفي صورة الانحصار يتنافى وجوب ذي المقدمة مع حرمة المقدمة، فيتقدّم أقواهما ملاكاً.

[6] كما لو انحصر الذهاب إلى الحج بقتل النفس المحترمة، وإنما كان تزاحماً لوجود الملاك في كليهما، عكس التعارض الذي ينحصر الملاك في أحدهما.

ص: 146

وإما لا حرمة لها لذلك[1]، كما لا يخفى[2].

وثالثاً[3]: إنّ الاجتماع وعدمه لا دخل له في التوصل(1) بالمقدمة[4] المحرمة وعدمه

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: لا حرمة للمقدمة لأجل المزاحمة، كما لو انحصر إنقاذ الغريق في المرور في الأرض المغصوبة.

[2] وقد شطب المصنف في النسخة المصحّحة - على ما قيل - على هذا الإشكال؛ وذلك لأن جميع موارد الاجتماع يكون من هذا القبيل، فتأمل.

[3] حاصل الإشكال الثالث: إنه لو سلّمنا كون مسألة المقدمة من مصاديق مسألة الاجتماع، فنقول: إنه لا ثمرة في إدخال المقدمة في مسألة الاجتماع أصلاً؛ وذلك لأن المقدمة إما توصلية وإما تعبديّة...

فإن كانت توصلية، فالغرض يحصل حتى من المقدمة المحرّمة، فسواء ركب الدابة المباحة أم ركب الدابة المغصوبة فإنه يصل إلى مكة، ولا فرق في ذلك بين أن نقول بوجوب المقدمة أم عدم وجوبها، كما لا فرق سواء قلنا بجواز الاجتماع أم امتناعه.

وإن كانت تعبديّة - وهو منحصر في الطهارات الثلاث - فلا فرق في صحة العبادة أو بطلانها، سواء قلنا بوجوب المقدمة أم عدم وجوبها؛ وذلك لأنه لو قلنا بجواز الاجتماع وقع الوضوء صحيحاً مطلقاً؛ لأنه مستحب في نفسه، فسواء كان الوضوء واجباً غيرياً أم لم يكن واجباً فإنه مستحب في نفسه، ولا محذور في اجتماعه مع عنوان محرّم، فلا إشكال في صحته، وكذا لو قلنا بامتناع الاجتماع، فيقع الوضوء باطلاً مطلقاً؛ لأن حرمة الغصب أهم من استحباب الوضوء، وكذا هي أهم من الوجوب الغيري للوضوء، وسبب الأهمية أن الوضوء له بدل وهو التيمم، فلذا تكون حرمة الغصب أقوى ملاكاً، وسيأتي تفصيل ذلك في بحث الاجتماع.

[4] الذي هو علة وجوبها، كما مرّ أن التوصل (حيثٌ تعليلي) لا (حيثٌ تقييدي).

ص: 147


1- في نسخة: «التوسل».

أصلاً، فإنه[1] يمكن التوصل(1)

بها إن كانت توصلية، ولو لم نقل بجواز الاجتماع، وعدم جواز التوصل(2)

بها[2] إن كانت تعبدية على القول بالامتناع - قيل[3] بوجوب المقدمة أو بعدمه - وجواز التوصل(3)

بها على القول بالجواز كذلك - أي قيل بالوجوب أو بعدمه - . وبالجملة: لا يتفاوت الحال في جواز التوصل(4) بها وعدم جوازه أصلاً بين أن يقال بالوجوب أو يقال بعدمه، كما لا يخفى.

في تأسيس الأصل في المسألة.

اعلم أنه لا أصل[4]

-------------------------------------------------------------------

[1] الضمير للشأن، «بها» بالمقدمة.

[2] عطف على (فإنه يمكن التوصل)، وكان الأصح أن يقول: (كما لا يمكن التوصل بها...).

[3] أي: سواء قيل بوجوب المقدمة أم لا، فانتفت الثمرة بين القولين.

أدلة وجوب أو عدم وجوب المقدمة
أولاً: الأصل العملي
اشارة

[4] لو لم تنهض الأدلة التي سنذكرها على الملازمة أو عدم الملازمة، ووصلت النوبة إلى الأصل العملي، فحينئذٍ فقد يكون البحث عن جريان الأصل في المسألة الأصولية، أي: الملازمة، أو جريانه في المسألة الفقهية، أي: الوجوب.

الأول: جريان الأصل في (الملازمة).

فنقول: إن الملازمة أو عدمها أزلية، أي: في نفس الأمر وفي علم الله تعالى من الأزل إما توجد ملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذي المقدمة، أو لا توجد. فإذن، لا حالة سابقة للملازمة أو عدمها كي نستصحب تلك الحالة.

وبعبارة أخرى: القائل بالملازمة يثبتها من الأزل، والنافي لها ينفيها من الأزل، فلا توجد حالة سابقة متيقنة لكي نقول في ذلك الزمان كانت الملازمة أو عدمها

ص: 148


1- ([1] - 4) في نسخة: «التوسل».
2-
3-
4-

في محل البحث[1] في المسألة، فإن الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذي المقدمة وعدمها ليست لها حالة سابقة، بل تكون الملازمة أو عدمها أزلية[2].

نعم، نفس وجوب المقدمة يكون مسبوقاً بالعدم، حيث يكون[3] حادثاً بحدوث وجوب ذي المقدمة، فالأصل عدم وجوبها.

وتوهم[4]

-------------------------------------------------------------------

متيقنة، والآن الملازمة مشكوكة فنستصحب تلك الحالة السابقة.

الثاني: جريان الأصل في (الوجوب)، بأن نقول: قبل وجوب ذي المقدمة لم تكن المقدمة واجبة، ونشك في وجوب المقدمة بعد وجوب ذي المقدمة، فنستصحب عدم الوجوب السابق، مثلاً: قبل الاستطاعة لا وجوب للحج ولا لمقدماته، وبعد الاستطاعة نشك في وجوب المقدمات فنستصحب عدم الوجوب.

[1] وهو الملازمة بين وجوب ذي المقدمة ووجوب المقدمة.

[2] لأن الملازمة شيء ثابت في نفس الأمر، ولا تدور مدار وجود الطرفين، بل هي من لوازم الماهية، التي تجتمع مع الوجوب والامتناع والإمكان، ومع العدم والوجود.

[3] أي: يكون وجوب المقدمة، «فالأصل» أي: الاستصحاب.

الإشكال الأول على جريان الاستصحاب

[4] حاصل التوهم: إنه لا يمكن جريان استصحاب عدم وجوب المقدمة؛ لأنه لابد في الاستصحاب من أن يكون المستصحب مجعولاً شرعياً، كاستصحاب وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة، أو موضوعاً لمجعول شرعي كاستصحاب الخمر لو شك في انقلابها خلاًّ، فإنه موضوع لحكم شرعي وهو الحرمة والنجاسة.

وليس وجوب المقدمة مجعولاً؛ لأن وجوبها - على القول به - لازم لوجوب ذيها، ولوازم الماهية غير مجعولة لا بالجعل البسيط، أي: إيجادها لوحدها، ولا بجعل مركب بأن يكون هناك جعلان أحدهما للماهية والآخر للوازمها.

ص: 149

عدم جريانه[1] - لكون وجوبها على الملازمة من قبيل لوازم الماهية غير مجعولة ولا أثر آخر[2] مجعول مترتب عليه[3]، ولو كان لم يكن بمهم هاهنا - مدفوعٌ[4]

-------------------------------------------------------------------

كزوجية الأربعة، فإن الزوجية غير موجودة لوحدها من غير الأربعة، ولا أنه تجعل الزوجية كما تجعل الأربعة. ودليل ذلك - أي: عدم الجعل البسيط أو المركب للوازم الماهية - هو استحالة وجود الزوجية مع قطع النظر عن الأربعة، كاستحالة إيجادها بعد إيجاد الأربعة، بل كلّما وجدت الزوجية وجدت الأربعة.

والحاصل: إن وجوب المقدمة لازم ذاتي لوجوب ذي المقدمة - على القول بالملازمة - واللوازم الذاتية غير مجعولة شرعاً، فلا يمكن جريان الاستصحاب فيها؛ إذ لابد في الاستصحاب من كون المستصحب مجعولاً شرعياً - بأن كان حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي - .

[1] أي: عدم جريان الاستصحاب، «وجوبها» أي: وجوب المقدمة، «على الملازمة» أي: على القول بملازمة وجوب ذي المقدمة لوجوب المقدمة.

لا يقال: على عدم الملازمة لا يكون عدم الوجوب من لوازم الماهية.

لأنه يقال: إذا لم يكن الوضع شرعيّاً فلا يكون الرفع شرعيّاً أيضاً، فتأمل.

[2] أي: وليس الوجوب موضوعاً لأثر شرعي مجعول، فإنه كما عرفت لابد من أن يكون المستصحب حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي.

إن قلت: النذر وشبهه أثر شرعي، ووجوب المقدمة قد يكون موضوعاً لهذا الأثر.

قلت: هذا ليس أثراً يعتد به، فلا يخرج الجعل عن اللغوية عرفاً بأمثال هذا الأثر.

[3] أي: على وجوب المقدمة، «ولو كان» أي: لو كان أثر كما في النذر.

[4] جواب عن التوهم، وحاصله: إنه يوجد جعل تبعي، أي: جعل وجوب المقدمة بتبع جعل وجوب ذي المقدمة، كما أنه لا شك في جعل الزوجية لكن جعلها بتبع جعل الأربعة، وهذا المقدار يكفي في صحة الاستصحاب وإخراجه عن اللغوية.

ص: 150

بأنه[1] وإن كان غير مجعول بالذات، لا بالجعل البسيط الذي هو مفاد كان التامة[2]، ولا بالجعل التأليفي الذي هو مفاد كان الناقصة[3]، إلاّ أنه[4] مجعول بالعرض وبتبع جعل وجوب ذي المقدمة، وهو[5] كافٍ في جريان الأصل.

ولزوم التفكيك[6] بين الوجوبين مع الشك لا محالة - لأصالة عدم وجوب المقدمة مع وجوب ذي المقدمة[7] - لا ينافي[8]

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: بأن وجوب المقدمة، «بالذات» أي: بنفسه ومستقلاً.

[2] وكان التامة هي التي لا تحتاج إلى خبر، بل يُراد بها إثبات أصل الوجود، كما نقول: (كان زيد) أي: وُجد.

[3] «التأليفي» أي: المركّب، وكان الناقصة هي التي تحتاج إلى خبر؛ إذ يُراد بها إثبات شيء لشيء، كما نقول: (كان زيد قائماً).

[4] أن وجوب المقدمة، وفسّر قوله: (بالعرض) بقوله: (وبتبع جعل... الخ).

[5] أي: الجعل بالتبع يكفي لجريان الاستصحاب؛ لعدم كونه لغواً.

الإشكال الثاني على جريان الاستصحاب

[6] هذا إشكال آخر، وحاصله: إنه مع وجوب ذي المقدمة وإجراء أصل عدم وجوب المقدمة، يثبت التفكيك بين الوجوبين؛ وذلك يعني عدم وجود الملازمة، فكيف قلتم: إنه لا يوجد أصل في الملازمة؟

وبعبارة أخرى: إن استصحاب عدم وجوب المقدمة هو بمعنى عدم وجود الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذي المقدمة.

[7] أي: لو ثبت بالدليل وجوب ذي المقدمة، كما لو استطاع فوجب الحج، فيكون جريان استصحاب عدم وجوب المقدمة بمعنى عدم وجود الملازمة.

[8] جواب عن الإشكال، وحاصله: إن الاستصحاب ينفي وجوب المقدمة ظاهراً، وهذا لا ينافي وجود الملازمة واقعاً.

ص: 151

الملازمة بين الواقعيين[1]، وإنما ينافي الملازمة بين الفعليين[2]. نعم، لو كانت الدعوى هي الملازمة المطلقة حتى في المرتبة الفعلية لما صح التمسك بالأصل[3]، كما لا يخفى.

إذا عرفت ما ذكرنا فقد تصدى غير واحد من الأفاضل(1) لإقامة البرهان على الملازمة[4]؛ وما أتى منهم بواحد[5] خالٍ عن الخلل.

-------------------------------------------------------------------

وهذا نظير ما لو توضأ بماء مشكوك النجاسة، فمقتضي الاستصحاب هو طهارة اليد وبقاء الحدث، مع أنه واقعاً إمّا يده طاهره وهو متوضئ، وإما يده نجسة وهو غير متوضّئ، لكن لا بأس بذلك؛ لأن التفكيك ظاهري لا واقعي.

[1] أي: الوجوب الواقعي للمقدمة، والوجوب الواقعي لذي المقدمة.

[2] أي: لو كان وجوب المقدمة ووجوب ذي المقدمة فعليين وفي الظاهر، فحينئذٍ لا يمكن إجراء استصحاب عدم الوجوب؛ لحصول التنافي بين الوجوب الظاهري وعدم الوجوب الظاهري، لكن لا منافاة بين الوجوب الواقعي وعدم الوجوب الظاهري، كما سيأتي تفصيله في بحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي.

[3] لأن الملازمة الظاهرية تتنافي مع عدم الوجوب الظاهري، لكن الدعوى ليست هذا.

ثانياً: الأدلة الاجتهادية على وجوب المقدمة

[4] يذكر المصنف ثلاثة أدلة على وجوب المقدمة، ويرتضي الأوليين ويناقش في الثالث.

الدليل الأول: الوجدان، فإن مراجعة الوجدان كافية في إدراك استقلال العقل بأن من أراد شيئاً أراد مقدماته، التي يتوقف عليها وجوده أيضاً. نعم، قد يلتفت إلى المقدمات فتتعلّق بها إرادة تفصيلية، وقد لا يلتفت إليها فتتعلّق بها إرادة إجمالية.

[5] أي: بدليل واحد لا إشكال فيه، وقد نقل في التقريرات اثني عشر دليلاً

ص: 152


1- مطارح الأنظار 1: 407، حيث نسبه إلى أبي الحسن البصري وجماعة.

والأولى إحالة ذلك إلى الوجدان حيث إنّه أقوى شاهد على أن الإنسان إذا أراد شيئاً له مقدمات أراد تلك المقدمات لو التفت إليها بحيث ربما يجعلها في قالب الطلب مثله[1]، ويقول مولوياً: (ادخل السوق واشتر اللحم) - مثلاً - ، بداهة[2] أن الطلب المنشأ بخطاب: (ادخل) مثل المنشأ بخطاب: (اشتر) في كونه بعثاً مولوياً، وأنه[3] حيث تعلقت إرادته بإيجاد عبده الاشتراء ترشحت منها له إرادة أخرى بدخول السوق بعد الالتفات إليه[4] وأنه يكون مقدمة له، كما لا يخفى.

ويؤيد الوجدان[5] بل يكون من أوضح البرهان وجود الأوامر الغيرية في الشرعيات

-------------------------------------------------------------------

للقوم، «ذلك» أي: البرهان.

[1] أي: مثل الشيء - الذي هو ذو المقدمة - .

[2] هذا دفع لتوهم أن الطلب إرشادي لا مولوي، والجواب: إنه لا نشعر بالفرق بين الطلبين، فلا فرق بين (ادخل) وبين (اشتر)، «كونه» أي: كون خطاب اشتر.

[3] معطوف على قوله: (أن الطلب المنشأ...)، والمعنى أنا بالوجدان نشعر بأن الطلب مولوي، كما أن الإرادة متعلقة بالمقدمات أيضاً، «أنه» للشأن، «إرادته» أي: المولى، «منها» من إرادته الشراء، «له» للمولى.

[4] إلى دخول السوق، «وأنه يكون...» أي: وبعد الالتفات إلى أن دخول السوق مقدمة للشراء.

[5] هذا هو الدليل الثاني، وحاصله: إن هناك في الشرع والعرف أوامر تعلقت بالمقدمات كقوله: {فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ...}(1) الآية، وليس تعلّق الأمر إلاّ لكونها مقدمة، فإذا كان الملاك في الوجوب هو المقدمية ثبت وجوب كل المقدمات؛ لوجود هذا الملاك فيها.

إن قلت: لعل الملاك هو كون الأوامر الشرعية أو العرفية شرطاً أو سبباً،

ص: 153


1- سورة المائدة، الآية: 6.

والعرفيات، لوضوح أنه[1] لا يكاد يتعلق بمقدمة أمر غيري إلاّ إذا كان فيها مناطه. وإذا كان[2] فيها كان في مثلها، فيصح تعلقه به[3] أيضاً لتحقق ملاكه ومناطه.

والتفصيل[4] بين السبب وغيره(1)

والشرط الشرعي وغيره(2) سيأتي بطلانه.

وأنه[5] لا تفاوت في باب الملازمة بين مقدمة ومقدمة.

ولا بأس بذكر الاستدلال[6] الذي هو كالأصل لغيره مما ذكره الأفاضل عن

-------------------------------------------------------------------

فالوضوء شرط لصحة الصلاة، ودخول السوق سبب لشراء اللحم مثلاً، ولذا أُمر به مستقلاً.

قلت: سيأتي بطلان التفصيل بين الشرط وغيره وبين السبب وغيره، فحينئذٍ لا يكون الملاك إلاّ المقدميّة.

[1] للشأن، وهذا بيان أن الملاك هو المقدميّة، وهذا الملاك موجود في كل المقدمات، «فيها» في المقدمة، «مناطه» أي: ملاك الأمر الغيري.

[2] أي: إذا كان المناط «فيها» في المقدمات التي تعلّق بها أمر شرعي أو عرفي، «في مثلها» لأن حكم الأمثال في ما يجوز وفي ما لا يجوز واحد.

[3] أي: تعلق الأمر الغيري، «به» بمثلها، «أيضاً» كتعلقه بالمقدمات التي صرّح بالأمر فيها، «ملاكه» أي: ملاك الأمر الغيري.

[4] إشارة إلى الإشكال على تعميم الوجوب لكل المقدمات.

[5] عطف تفسيري على (بطلانه).

[6] هذا هو الدليل الثالث، وهو مركب من مقدمتين:

الأولى: إن المقدمة إذا لم تكن واجبة لجاز تركها؛ لأن كل واجب يجوز تركه، مثلاً: لو لم يجب قطع المسافة إلى الحج لجاز الجلوس في البلد إلى أن يحين الحج.

ص: 154


1- وهو ما يفهم من كلام السيد المرتضي في الذريعة 1: 83.
2- هداية المسترشدين 2: 104؛ مطارح الأنظار 1: 447.

الاستدلالات، وهو ما ذكره أبو الحسن الحسين البصري(1)، وهو: أنه لو لم يجب المقدمة لجاز تركها، وحينئذٍ فإن بقي الواجب على وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق، وإلاّ[1] خرج الواجب المطلق عن وجوبه.

وفيه - بعد إصلاحه[2]

-------------------------------------------------------------------

الثانية: وحينئذٍ يلزم أحد محذورين:

1- إما التكليف بما لا يطاق، وهو التكليف بذي المقدمة في حال عدم الإتيان بالمقدمة.

2- وإما سقوط الوجوب المطلق وتحوّله إلى واجب مشروط، أي: لا وجوب للحج أصلاً ما دام لم يأت بالمقدمة، فإذا أتى بالمقدمة صدفة واتفاقاً فحينئذٍ يجب الحج.

وحيث بطل التالي - وهو كلا المحذورين - فالمقدم، وهو جواز ترك المقدمة باطل أيضاً، فلابد من وجوبها.

[1] أي: لو لم يبق الواجب المطلق على وجوبه، بل ينقلب إلى واجب مشروط حيث لا وجوب قبل تحقق المقدمة.

[2] قبل الجواب عن الدليل، لابد من تصحيحه...

أولاً: أن يكون المراد من (لجاز تركه) في المقدمة الأولى هو الجواز بالمعنى الأعم، الشامل للاستحباب والكراهة والإباحة، أما لو كان المراد الجواز بالمعنى الأخص - أي: خصوص الإباحة - فبطلان المقدمة الأولى واضح لا يخفى؛ إذ لا تلازم بين عدم الوجوب وبين الإباحة، فقد لا يكون الشيء واجباً ولا مباحاً، بل يكون مستحباً أو مكروهاً.

وثانياً: أن يكون المراد من (حينئذٍ) في المقدمة الثانية هو حين الترك لا حين جواز الترك، فإن جواز الترك من غير ترك فعلي لا محذور فيه، فلو جاز ترك المسير إلى

ص: 155


1- مطارح الأنظار 1: 407.

بإرادة عدم المنع الشرعي[1] من التالي في الشرطية الأولى، لا الإباحة الشرعية، وإلاّ[2] كانت الملازمة واضحة البطلان؛ وإرادة[3] الترك عما أضيف إليه الظرف[4]، لا نفس الجواز، وإلاّ[5] فمجرد الجواز بدون الترك لا يكاد يتوهم صدق القضية الشرطية الثانية[6] -: ما لا يخفى[7]،

-------------------------------------------------------------------

الحج لكن المكلف لم يتركه، بل سار إلى الحج فلا يلزم لا التكليف بما لا يطاق، ولا خروج الحج عن الوجوب.

[1] وهو الإباحة بالمعنى الأعم، «التالي» وهو قوله: لجاز تركه، «الشرطية الأولى» وهي المقدمة الأولى للدليل.

[2] أي: لو لم يُرِد الجواز بالمعنى الأعم، بل أراد خصوص الإباحة الشرعية «الملازمة» بين عدم الوجوب والإباحة.

[3] هذا التصحيح الثاني، وهو عطف على (إرادة عدم المنع الشرعي...)، أي: وإصلاحه بإرادة الترك.

[4] في قوله: (حينئذٍ)، فإن (حين) ظرف بمعنى الزمان، فأضيف إلى (إذ) وقد أُضيفت (إذ) إلى جملة، وقد حذفت وعُوّض عنها بالتنوين، والحاصل: إن المراد من (حينئذٍ) ليس حين جواز الترك، بل حين الترك فعلاً.

[5] أي: لو كان المراد (حين جواز الترك) لم يلزم المحذوران أصلاً.

[6] فإن التالي يبطل فيبطل المقدم معه؛ لأن جواز الترك لا يلزم منه لا التكليف بما لا يطاق، ولا خروج الواجب المطلق عن وجوبه، مثلاً: من جاز له ترك السفر إلى مكة، لكنه سافر إليها جوازاً، فإنه يقدر على الإتيان بالحج مع بقاء الحج على وجوبه.

[7] أي: وفيه - بعد الإصلاح - ما لا يخفى، وحاصله: إن المقصود من (لجاز تركه) في المقدمة الأولى، هل جواز الترك شرعاً أم جواز الترك شرعاً وعقلاً؟

ص: 156

فإنّ الترك بمجرد عدم المنع شرعاً[1] لا يوجب صدق إحدى الشرطيتين[2]، ولا يلزم أحد المحذورين، فإنه[3] وإن لم يبق له وجوب معه، إلاّ أنه كان ذلك بالعصيان، لكونه[4] متمكناً من الإطاعة والإتيان، وقد اختار تركه[5] بترك مقدمته

-------------------------------------------------------------------

فإن كان المراد الأول - أي: جواز الترك شرعاً - فلا يلزم المحذوران المذكوران في المقدمة الثانية، أي: فلا يسقط وجوب الحج أصلاً؛ لأنه مع جواز ترك قطع المسافة شرعاً يبقى حكم العقل بوجوب السفر، فلو لم يقطع المسافة إلى أن فاته الحج فإنه يكون عاصياً؛ إذ كان يمكنه الحج لكنه لم يحجّ، وقد مرّ سابقاً أن التكليف كما يسقط بالامتثال كذلك قد يسقط بالعصيان.

وإن كان المراد الثاني - أي: جواز الترك شرعاً وعقلاً - فلا تصحّ المقدمة الأولى؛ لأن عدم الوجوب الشرعي لا يلازم جواز الترك عقلاً وشرعاً، فإنه وإن لم يكن مانع شرعي عن الترك إلاّ أنه يمكن أن لا تكون المقدمة محكومة بأيِّ حكم من الأحكام الشرعية، ومع ذلك تكون محكومة بالوجوب العقلي.

[1] أي: لو كان المراد من (لجاز تركه) هو الجواز الشرعي.

[2] أي: الشرطية الثانية، والمعنى أنه لو جاز الترك شرعاً لم يلزم لا التكليف بما لا يطاق، ولا سقوط الواجب عن وجوبه، وفي بعض النسخ (الشرطين) والمراد المحذورين.

[3] للشأن، «له» لذي المقدمة، «معه» أي: مع ترك المقدمة، «ذلك» الترك.

[4] أي: لكون المكلّف، «متمكناً» أي: حين الترك كان متمكناً من عدم الترك، وقد كان العقل يحكم عليه بعدم الترك، فلا يكون معذوراً في تركه، فيكون عاصياً حين ترك ذي المقدمة.

[5] أي: ترك الواجب كالحج في المثال، وهذا الترك كان بسوء اختياره، فلا مانع من عقابه.

ص: 157

بسوء اختياره، مع حكم العقل بلزوم إتيانها[1] إرشاداً[2] إلى ما في تركها من العصيان المستتبع للعقاب.

نعم[3]، لو كان المراد من الجواز جواز الترك شرعاً وعقلاً يلزم أحد المحذورين، إلاّ أن الملازمة[4] على هذا[5] في الشرطية الأولى ممنوعة، بداهة أنه لو لم يجب شرعاً لا يلزم أن يكون جائزاً شرعاً وعقلاً، لإمكان أن لا يكون محكوماً بحكمٍ شرعاً وإن كان واجباً[6] عقلاً إرشاداً، وهذا واضح.

وأما التفصيل بين السبب وغيره(1):

فقد استدل على وجوب السبب[7]، بأن

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: المقدمة، فلا وجوب شرعي فيها، لكن العقل يحكم بلزومها ليتمكن من إطاعة أمر ذي المقدمة.

[2] لا يخفى أن المصنف في الدليل الأول الوجداني ادعى أن وجوبها مولوي لا إرشادي، فكلامه هنا يخالف كلامه هناك، فلاحظ.

[3] أي: لو كان المراد من (لجاز تركها) هو جواز الترك شرعاً وعقلاً فحينئذٍ تصدق المقدمة الثانية، أي: يلزم المحذوران، لكن لا نسلّم بالمقدمة الأولى.

[4] أي: الملازمة في الشرطية الأولى حيث قال: (لو لم تجب المقدمة لجاز تركها).

[5] أي: جواز الترك شرعاً وعقلاً؛ وذلك لأن جواز الترك شرعاً لا يلازم جواز الترك عقلاً وشرعاً، بل قد لا يكون للمقدمة حكم أصلاً.

[6] أي: وإن كانت المقدمة واجبة عقلاً.

التفصيل في وجوب المقدمة
1- التفصيل بين السبب وغيره

[7] حاصله: وجوب المقدمة إذا كانت سبباً، وعدم وجوبها إذا لم تكن سبباً، مثلاً:

ص: 158


1- الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 83.

التكليف لا يكاد يتعلق إلاّ بالمقدور، والمقدور لا يكون إلاّ هو السبب، وإنما المسبب من آثاره المترتبة عليه قهراً[1]، ولا يكون[2] من أفعال المكلف وحركاته أو سكناته، فلابد من صرف الأمر المتوجّه إليه عنه إلى سببه.

ولا يخفى ما فيه[3] من أنه[4] ليس بدليل على التفصيل، بل على أن الأمر النفسي

-------------------------------------------------------------------

إذا وجبت الملكية فمقدمتها، وهو العقد، يكون واجباً، لأنه سبب للملكية فتترتب عليه قهراً، وأما الحج فقطع المسافة ليس سبباً؛ لأنه لا يترتب عليه الحج، بل يتمكن للمكلّف بعد الوصول إلى مكة من الحج أو تركه، وقد مرّ تفصيل الكلام في الأفعال التوليدية والأفعال المباشرية.

والدليل على ذلك أن المسبب غير مقدور؛ فلذا لا يتعلق التكليف به، بل يتعلق بمقدمته وهي مقدورة، أما غير المسبب فإنه مقدور، فيكون واجباً بنفسه، ولا وجوب لمقدمته.

[1] من غير اختيار للمكلّف على تلك الآثار، فهي ليست من أفعاله، والتكليف إنما يتوجه إلى فعل المكلّف، مثلاً: الإلقاء في النار فعل اختياري للمكلف، وأما الإحراق فهو نتيجة قهرية وليست فعلاً للمكلّف!!

[2] أي: لا يكون المسبب.

[3] يستشكل المصنف عليه بإشكالين:

الأول: إن هذا ليس تفصيلاً في المقدمة، بل هو تفصيل في ذي المقدمة، بأن الواجب النفسي قد يكون السبب وقد يكون شيئاً آخر، فالسبب خرج عن كونه مقدمة وواجباً غيرياً إلى أنه واجب نفسي.

الثاني: إن المسبب مقدور وذلك بالقدرة على سببه؛ لأن القدرة قد تتعلق بالشيء بلا واسطة، وقد تتعلق بالشيء مع الواسطة، ومن الواضح صحة التكليف بما هو مقدور بالواسطة.

[4] هذا هو الإشكال الأول، «أنّه» أن هذا الدليل، «التفصيل» في المقدمة، «بل»

ص: 159

إنما يكون متعلقاً بالسبب دون المسبّب. مع[1] وضوح فساده، ضرورة أن المسبب مقدور المكلف وهو متمكن عنه بواسطة السبب، ولا يعتبر في التكليف أزيد من القدرة، كانت[2] بلا واسطة أو معها، كما لا يخفى.

وأما التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره[3]: فقد استدل على الوجوب في الأول[4] بأنه لو لا وجوبه شرعاً لما كان شرطاً[5] حيث[6] إنّه ليس مما لابد منه عقلاً أو عادةً[7].

-------------------------------------------------------------------

تفصيل في ذي المقدمة.

[1] هذا الإشكال الثاني، «فساده» أي: فساد الدليل.

[2] أي: سواء كانت، «معها» أي: مع الواسطة.

2- التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره

[3] أي: غير الشرعي وهو الشرط العادي والعقلي(1).

وحاصله الدليل على التفصيل هو: إنه لا طريق لمعرفة الشرط الشرعي - وهو مقدمة شرعية - إلاّ عن طريق أمر الشارع به أمراً غيرياً، فلو لا أمر الشارع بالوضوء للصلاة لم نكن نعلم بأنه مقدمة شرعية، بخلاف المقدمة العقلية والعادية حيث يمكن معرفتهما عبر العقل أو العادة.

والحاصل: إنه لابد في الشرط الشرعي من الأمر الشرعي فيكون واجباً شرعاً، عكس المقدمة العقلية والعادية.

[4] وهو الشرط الشرعي، «بأنه» للشأن، «وجوبه» أي: وجوب الشرط شرعاً.

[5] إذ لا طريق إلى معرفة شرطيته، فلو لم يأمر الشارع به كشف ذلك عن عدم كونه شرطاً، وإلاّ كان ناقضاً لغرضه.

[6] هذا وجه عدم كونه شرطاً لو لا أمر الشارع، «إنه» إن الشرط الشرعي.

[7] فكيف يمكن معرفة شرطيته؟ أما المقدمة العقلية أو العادية فلا حاجة إلى الأمر

ص: 160


1- هداية المسترشدين 2: 104؛ مطارح الأنظار 1: 447.

وفيه[1] - مضافاً[2] إلى ما عرفت من رجوع الشرط الشرعي إلى العقلي - : أنه[3] لا يكاد يتعلق الأمر الغيري إلاّ بما هو مقدمة الواجب[4]، فلو كانت مقدميته[5] متوقفة على تعلقه بها لدار[6].

والشرطية[7]

-------------------------------------------------------------------

بهما لمعرفة الناس مقدميتهما.

[1] والجواب بوجهين:

الأول: إنه قد ذكرنا في أول بحث المقدمة في تقسيم المقدمة إلى عقلية وشرعية وعادية، أن المقدمة الشرعية ترجع إلى المقدمة العقلية، وحينئذٍ فصارت المقدمة الشرعية عقلية، فلا فرق بينها وبين سائر المقدمات العقلية، فإما أن تجب جميعاً أو لا يجب أيٌّ منها.

الثاني: إنه لا يمكن معرفة الشرطية من الأمر الشرعي بالشرط، وإلاّ لزم الدور؛ وذلك لأن تعلّق الأمر الغيري بشيء متوقف على مقدميته، لأنه لو لم يكن مقدمةً لم يكن مأموراً به غيريّاً، فلو كانت مقدميته متوقفة على الأمر الغيري للزم الدور.

[2] هذا هو الإشكال الأول، «عرفت» في تقسيمات المقدمة.

[3] هذا هو الإشكال الثاني، «أنه» للشأن.

[4] لأن المقدميّة حيثٌ تعليلي، أي: هي علة وجوب المقدمة.

[5] أي: مقدمية الشرط الشرعي، «تعلقه» أي: تعلق الأمر الغيري، «بها» بالمقدمة التي هي الشرط الشرعي.

[6] أي: لصار دوراً صريحاً.

[7] دفع لإشكال، والإشكال هو أن هذا الدور أيضاً يلزم على قول المصنف؛ لأن الشرطية متوقفة على الأمر الغيري؛ إذ لولاه لما كنا نعلم بشرطية الوضوء للصلاة - مثلاً - ، والأمر الغيري متوقف على ثبوت الشرطية؛ إذ لو لا الشرطية لما أمر المولى بالشرط!!

ص: 161

وإن كانت منتزعة عن التكليف[1]، إلاّ أنه عن التكليف النفسي المتعلق بما قُيّد بالشرط[2]، لا عن الغيري[3]، فافهم[4].

تتمة: لا شبهة[5] في أن مقدمة المستحب كمقدمة الواجب، فتكون مستحبة لو

-------------------------------------------------------------------

والجواب: إن الشرطية ليست متوقفة على الأمر الغيري، فانهدم الركن الأول للدور.

بيانه: إن الشرطية ليست متوقفة على الوجوب الغيري، بل هي منتزعة عن الوجوب النفسي بالصلاة المقيدة بالوضوء، فارتفع الدور؛ وذلك لأن الأمر الغيري متوقف على ثبوت الشرطية، وهي متوقفة على الوجوب النفسي.

[1] أي: من الأمر النفسي المتعلّق بذي المقدمة، فإن الأمر النفسي تعلّق بالصلاة المقيدة بالوضوء، ومن ذلك عرفنا مقدمية الوضوء للصلاة!!

[2] كالصلاة المقيدة بالوضوء في المثال.

[3] أي: ليست المقدمية متوقفة على الأمر الغيري.

[4] لعله إشارة إلى أن هذا لا يدفع الدور، بل ينقله من الدور في الأمر الغيري إلى الدور في الأمر النفسي؛ وذلك لأن الأمر النفسي بالصلاة المقيدة بالطهارة يتوقف على مقدمية الطهارة، ومقدمية الطهارة متوقفة على الأمر النفسي بالصلاة المقيّدة بالطهارة، فرجع الدور.

والصحيح في جواب الدور - سواء في الأمر الغيري أم في الأمر النفسي - أن يقال: إن تعلق الوجوب بالوضوء أو بالصلاة المقيدة بالوضوء يتوقف على شرطية الوضوء ثبوتاً وفي الواقع. وانتزاع عنوان الشرطية يتوقف على وجوب الوضوء، أو وجوب الصلاة المقيدة بالوضوء إثباتاً وفي مرحلة معرفة المكلّفين للشرط. فصار أحد الطرفين في مرحلة الإثبات، والآخر في مرحلة الثبوت فلا دور.

تتمة: في مقدمة المستحب والمكروه والحرام

[5] وذلك لوحدة الملاك فيهما؛ لأنه بناء على الملازمة لا يجد العقل فرقاً بين

ص: 162

قيل بالملازمة. وأما مقدمة الحرام والمكروه[1] فلا تكاد تتصف[2] بالحرمة أو الكراهة، إذ منها[3] ما يتمكن معه من ترك الحرام أو المكروه اختياراً[4] كما كان متمكناً قبله[5]،

-------------------------------------------------------------------

مقدمة الواجب ومقدمة المستحب، فإن إرادة ذي المقدمة تتوقف على إرادة المقدمة غيرياً.

[1] مقدمات المكروه والحرام على قسمين:

الأول: ما يبقى الاختيار بعد المقدمة، كمن يريد القتل، فإنّ له مقدمات كشراء السلاح ونحوه، ومن المعلوم أنه بفعل هذه المقدمات لا يتحقق القتل، فلا تترشح الحرمة على المقدمة.

والفرق بين مقدمة الواجب ومقدمة الحرام أن المطلوب في الواجب هو الفعل، والفعل يتوقف على المقدمات، فتجب بناءً على الملازمة، لكن المطلوب في الحرام هو الترك، وهذا الترك لا يتوقف على ترك المقدمات؛ إذ يمكن ترك الحرام مع فعل كل مقدماته.

الثاني: ما لا يبقى الاختيار بعد المقدمة، كمن يُلقي المقتول من فوق مرتفع، فإنه بعد الإلقاء لا يتمكن من منع زهوق روح المقتول، فهذه المقدمة نلتزم بحرمتها بناء على الملازمة.

[2] في القسم الأول، وهي ما يبقى بعدها اختيار فعل الحرام والمكروه أو تركهما.

[3] من مقدمات الحرام والمكروه، «يتمكن» المكلّف «معه» الضمير يرجع إلى الموصول الذي هو المقدمة.

[4] فلم يتوقف تركهما على ترك تلك المقدمات، فلا وجه لترشّح الحرمة أو الكراهة إلى تلك المقدمات؛ لأن مناط الترشّح هو التوقف.

[5] الضمير للموصول، والمراد منه المقدمة.

ص: 163

فلا دخل له[1] أصلاً في حصول ما هو المطلوب من ترك الحرام أو المكروه، فلم يترشح[2] من طلبه طلب ترك مقدمتهما.

نعم[3]، ما لا يتمكن معه من الترك المطلوب لا محالة يكون مطلوب الترك[4]، ويترشّح من طلب تركهما طلب ترك خصوص هذه المقدمة، فلو لم يكن[5] للحرام مقدمة لا يبقى معها اختيارُ تركه لما اتصف بالحرمة مقدمة من مقدماته.

لا يقال[6]: كيف[7]؟ ولا يكاد يكون فعلٌ إلاّ عن مقدمة[8] لا محالة معها يوجد،

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: لترك المقدمة.

[2] أي: حيث لم يتوقف ترك الحرام أو المكروه على ترك هذه المقدمات، فلا يوجد فيها مناط الحرمة، «طلبه» أي: طلب ترك الحرام أو المكروه.

[3] هذا القسم الثاني من مقدمات الحرام والمكروه، «ما» أي: المقدمات التي، «لا يتمكن» أي: المكلّف، «معه» الضمير يرجع للموصول وهو المقدمات، «لا محالة» أي: بعدها يقع الحرام أو المكروه من غير تمكن المكلّف من منع الوقوع.

[4] أي: ترك تلك المقدمات، فتترشح الحرمة أو الكراهة إليها، بناءً على الملازمة.

[5] أي: لو فعل جميع المقدمات، ومع ذلك بقي على اختياره في فعل الحرام والمكروه أو تركهما، بأن كان الحرام من الأفعال المباشرية لا التوليدية، و«لا يبقى» صفة للمقدمة، «تركه» ترك الحرام.

[6] حاصله: كيف تقولون: إنّ جميع المقدمات غير محرّمة لعدم توقف الحرام عليها، مع أنه من الواضح أنه لابد في وجود الشيء من تحقق علته التامة، فالحرام لا يخلو من جزء أخير للعلة، وهذا الجزء لابدّ أن يكون محرّماً؛ لتحقق الحرام به لا محالة!! وكذا في مقدمة المكروه.

[7] أي: كيف لا تتصف المقدمات جميعاً بالحرمة؟

[8] وهي الجزء الأخير من العلة، «معها» أي: مع هذه المقدمة التي هي الجزء الأخير للعلة، «يوجد» ذلك الفعل.

ص: 164

ضرورة أن الشيء ما لم يجب لم يوجد.

فإنه يقال[1]: نعم، لا محالة يكون من جملتها[2] ما يجب معه صدور الحرام، لكنه لا يلزم أن يكون ذلك من المقدمات الاختيارية، بل من المقدمات الغير(1)

الاختيارية، كمبادئ الاختيار[3] التي لا تكون بالاختيار، والاّ لتسلسل[4]، فلا تغفل وتأمّل.

-------------------------------------------------------------------

[1] حاصله: إن الجزء الأخير في الأفعال المباشرية هو الاختيار، فمن فعل جميع المقدمات يبقى مختاراً في أن يفعل الحرام أو يتركه، فكل تلك المقدمات لا تتصف بالحرمة؛ لعدم توقف الحرام عليها، وأما الجزء الأخير - وهو الاختيار - فلا يتصف بالحرمة أيضاً؛ لعدم كونه اختيارياً، وإلاّ لزم التسلسل، بأن يقال: إن سبب الاختيار هو اختيار آخر تعلق بهذا الاختيار الأول، وهكذا، كما مرّ تفصيله في بحث الطلب والإرادة، وحيث لم يكن الجزء الاخير اختيارياً فلا يتعلق به التكليف؛ لأن التكليف لا يتعلق إلاّ بالاختياريات.

[2] أي: من جملة المقدمات، وهو المقدمة التي تكون الجزء الأخير للعلّة، «يجب» أي: يتحقق لا محالة، «لكنه» الضمير للشأن، «ذلك» أي: ما يجب صدور الحرام وهو الجزء الأخير للعلة.

[3] من التصور والتصديق والعزم والجزم الخ، وقد مرّ تفصيلها في بحث الطلب والإرادة.

[4] وقد مرّ الإشكال على هذا الكلام، بأن اختيارية كل شيء بالإرادة، واختيارية الإرادة بنفسها، لا بإرادة أخرى، فراجع.

ص: 165


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير الاختيارية».

فصل: الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده أو لا؟ فيه أقوال(1).

وتحقيق الحال يستدعي رسم أمور:

الأول: الاقتضاء في العنوان أعم[1] من أن يكون بنحو العينية(2)

أو الجزئية أو اللزوم من جهة التلازم بين طلب أحد الضدين وطلب ترك الآخر(3)

أو المقدمية، على ما سيظهر. كما أن المراد بالضد هاهنا هو مطلق المعاند والمنافي، وجودياً كان أو عدمياً[2].

-------------------------------------------------------------------

فصل: هل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده

الأمر الأول:في معني «الاقتضاء» في العنوان

[1] أي: عندما نقول: (يقتضي) نريد به المعنى الأعم للاقتضاء - ليشمل البحث كل الأقوال - «العينية» بأن يكون الأمر بالشيء هو نفس النهي عن ضده، فالفرق يكون في الألفاظ لكن المعنى واحد كالترادف، و«الجزئية» بأن يكون الأمر مركباً من جزءين أحدهما الأمر بالشيء والآخر النهي عن ضده، و«اللزوم» وهو على قسمين:

1- «التلازم» بأن لا ينفك أحدهما عن الآخر من غير أن يكون أحدهما عِلّة ولا جزء عِلّة للآخر.

2- «المقدمية» بأن يكون وجود أحدهما مقدمة لوجود الآخر، فيكون عِلّة أو جزء عِلّة.

[2] فيشمل النقيضين أيضاً، فالعدمي مثل عدم الصلاة منافٍ للصلاة، فهل

ص: 166


1- مطارح الأنظار 1: 554.
2- وهو ما اختاره صاحب الفصول: 92.
3- قوانين الأصول 1: 108 و 113.

الثاني[1]: إن الجهة المبحوثة عنها في المسألة وإن كانت أنه هل يكون للأمر اقتضاء بنحوٍ من الأنحاء المذكورة[2]؟ إلاّ أنّه لما كان عمدة القائلين بالاقتضاء في الضد الخاص[3] إنّما ذهبوا إليه لأجل توهم مقدمية ترك الضد[4]، كان المهم صرف عنان الكلام في المقام إلى بيان الحال وتحقيق المقال في المقدمية وعدمها، فنقول - وعلى الله الاتكال - :

إن توهم(1)[5]

توقف الشيء على ترك ضده ليس إلاّ من جهة المضادة والمعاندة

-------------------------------------------------------------------

الأمر بها يقتضي النهي عن عدمها أم لا؟ والوجودي مثل الأمر بالإزالة هل يقتضي النهي عن الصلاة الموسعة أم لا؟

الأمر الثاني: في عدم مقدميّة أحد الضدين للآخر ولا تلازم
اشارة

[1] ردّ للقول بالمقدميّة، وللقول بالتلازم، وحاصله: أن ترك أحد الضدين ليس مقدمة لوجود الضد الآخر، ولا تلازم بينهما والغرض إبطال أهم دليل للقائلين باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده حيث إن عمدة دليلهم هو المقدميّة، ولذلك خصّ المصنف هذا الأمر لبيان عدم المقدميّة، ولردّ القول الآخر وهو التلازم كما سيتضح.

[2] في الأمر الأول من (العينيّة) و(الجزئية) و(اللزوم) و(المقدميّة).

[3] أما في الضد العام فالكثير ذهبوا إلى العينيّة كما سيتضح لاحقاً.

[4] أي: مقدميّة الترك إلى فعل الضد الآخر، مثلاً: توهموا أن ترك الصلاة الموسعة مقدمة لفعل الإزالة الواجبة.

[5] حاصل الدليل كالتالي:

1- وجود كل ضدٍ مانعٌ عن حصول الضد الآخر، وذلك لاستحالة اجتماع الضدين.

2- وعدم المانع من مقدمات وجود الشيء.

ص: 167


1- والمتوهم هو الحاجبي والعضدي، كما ذكره في مطارح الأنظار 1: 516.

بين الوجودين[1]، وقضيتها الممانعة بينهما، ومن الواضحات[2] أن عدم المانع من المقدمات.

وهو توهم فاسد[3]، وذلك لأن المعاندة والمنافرة بين الشيئين لا تقتضي إلاّ عدم

-------------------------------------------------------------------

3- فعدم كل ضد من مقدمات وجود الضد الآخر.

مثلاً: إزالة النجاسة عن المسجد ضد الصلاة، لعدم إمكان اجتماعهما معاً، فالصلاة مانع عن الإزالة، فترك الصلاة مقدمة لتحقق الإزالة الواجبة.

ثم يضمّ إلى هذا برهان آخر وهو:

أ - إن ترك الصلاة مقدمة للإزالة الواجبة.

ب - ومقدمة الواجب واجبة.

ج - فترك الصلاة حينئذٍ واجب.

د - وإذا كان ترك الصلاة واجباً ففعل الصلاة حرام.

[1] أي: بين وجود الضدين تنافي ومعاندة، «وقضيتها» أي: مقتضى المضادة والمعاندة، «بينهما» بين الضدين.

[2] لأن وجود الشيء يتوقف على وجود المقتضي وعلى عدم المانع، مثلاً الاحتراق يتوقف على وجود النار وعلى عدم الرطوبة مثلاً.

[3] أجاب المصنف عن دليل المقدميّة بجوابين:

الجواب الأول: إن الضدين وعدمهما كلها في رتبة واحدة، فليس أحدهما مقدمة لترك الآخر، بيانه:

1- إن النقيضين في رتبة واحدة، فالصلاة وعدمها في رتبة واحدة.

2- وإن الضدين في رتبة واحدة أيضاً، فالصلاة والإزالة في رتبة واحدة.

3- وينتج من ذلك ببرهان المساواة كون عدم الصلاة والإزالة في رتبة واحدة، هكذا:

الصلاة وعدمها في رتبة واحدة، والصلاة والإزالة في رتبة واحدة، فعدم الصلاة

ص: 168

اجتماعهما في التحقق[1]، وحيث لا منافاة أصلاً بين أحد العينين وما هو نقيض الآخر وبديله[2]، بل بينهما كمال الملاءمة[3]، كان[4] أحد العينين مع نقيض الآخر وما هو بديله في مرتبة واحدةٍ، من دون أن يكون[5] في البين ما يقتضي تقدم أحدهما على الآخر[6]، كما لا يخفى.

-------------------------------------------------------------------

والإزالة في رتبة واحدة.

وبذلك تنتفي المقدميّة، لأن المقدمة من أجزاء علة ذي المقدمة، ومن المعلوم تقدم العلة وجميع أجزائها على المعلول.

[1] من غير اقتضاء لكون ترك أحدهما مقدمة للآخر.

[2] «لا منافاة» لاتحاد الرتبة، «أحد العينين» أي: أحد الشيئين كالإزالة، «نقيض الآخر» كعدم الصلاة التي هي نقيض الصلاة، «بديله» عطف تفسيري على (نقيض الآخر).

[3] الكاشف عن اتحاد الرتبة، فالإزالة وعدم الصلاة متلائمان جداً مما يكشف عن وحدة رتبتهما.

[4] «كان» جزاء قوله: (وحيث لا منافاة اصلاً...)، «أحد العينين» كالإزالة، «نقيض الآخر» كترك الصلاة، «وما هو بديله» عطف تفسيري على نقيض الآخر، لأن أحد النقيضين بديل الآخر إذ لا يجتمعان ولا يرتفعان، فإذا وجد أحدهما ارتفع الآخر.

[5] أي: حيث كانا في رتبة واحدة فلا يعقل تقدّم أحدهما على الآخر.

[6] وذلك لأنّه لا يمكن أن يكون المتقدم الوجود أو العدم، وذلك لعدم وجود مرجح للتقدّم، ولا يمكن أن يرتفع كلاهما معاً وهذا باطل لاستلزامه ارتفاع النقيضين وهو محال، فلم يبق إلاّ عدم وجود متقدّم بينهما، بل كلاهما في رتبة واحدة.

ص: 169

فكما أنّ قضيّة المنافاة بين المتناقضين لا تقتضي تقدم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر، كذلك في المتضادين.

كيف[1]؟! ولو اقتضى التضاد توقّف وجود الشيء على عدم ضدّه[2] - توقف الشيء على عدم مانعه - لاقتضى[3] توقف عدم الضد على وجود الشيء - توقف عدم الشيء على مانعه - ، بداهة[4]

-------------------------------------------------------------------

[1] الجواب الثاني: وحاصله: أن القول بالمقدميّة يستلزم الدور، وذلك لأن كل واحد من الضدين يتوقف على عدم الآخر، ولازم هذا أن عدم الآخر متوقف على وجود هذا لأن عدم الشيء يتوقف على وجود المانع، وهذا دور واضح. مثلاً: الإزالة تتوقف على عدم الصلاة - كما يقول المستدل - حيث إن وجود الشيء يتوقف على عدم مانعه، وكذلك عدم الصلاة يتوقف على الإزالة لأن عدم الشيء يتوقف على وجود مانعه. «كيف» أي: كيف تكون مقدميّة والحال أنه لو اقتضى التضاد... الخ.

[2] كتوقف وجود الإزالة على عدم الصلاة، «توقف الشيء» أي: من باب أن الشيء يتوقف على عدم مانعه.

[3] جزاء (لو) أي: كان لازم المانعية هو توقف عدم الشيء على وجود المانع كعدم الإزالة تتوقف على وجود الصلاة.

[4] كأنه جواب عن إشكال مقدر، والإشكال: أن وجود الشيء يتوقف على عدم مانعه، لكن عدم المانع لا يتوقف على وجود الشيء، مثلاً: الإحراق يتوقف على عدم الرطوبة، لكن عدم الرطوبة لا تتوقف على الإحراق!

والجواب: أن المانعية في مثال الإحراق إنما هي من جانب واحد، أي الرطوبة مانعة عن الإحراق فيتوقف الإحراق على عدم الرطوبة، دون العكس إذ ليس عدم الرطوبة متوقفة على الإحراق.

ص: 170

ثبوت المانعية في الطرفين وكون المطاردة[1] من الجانبين، وهو دور واضح.

وما قيل(1)

في التفصي عن هذا الدور[2] بأنّ التوقف من طرف الوجود فعلي[3]، بخلاف التوقف من طرف العدم[4]، فإنه يتوقف على فرض ثبوت

-------------------------------------------------------------------

وليس ما نحن فيه كذلك، بل المانعية في كلا الجانبين، إذ الصلاة مانعة عن الإزالة كما أن الإزالة مانعة عن الصلاة، فكما أن وجود الإزالة متوقف على عدم الصلاة كذلك عدم الصلاة متوقف على وجود الإزالة.

[1] عطف تفسيري.

[2] جواب المحقق الخوانساري عن الدور، وحاصله: أن توقف الإزالة على عدم الصلاة توقف فعلي، لكن توقف عدم الصلاة على الإزالة توقف تقديري، مع عدم تحقق هذا التقدير، فاندفع الدور.

أما كونه تقديرياً: فلأن عدم الشيء يُنسب إلى عدم المقتضي، لا إلى وجود المانع، نعم لو تحقق المقتضي ولم يتحقق الشيء كان عدم تحققه بسبب وجود المانع، مثلاً: لو لم يحترق الشيء وكان ذلك حين عدم وجود النار ووجود الرطوبة، فإن عدم الاحتراق ينسب إلى عدم وجود النار لا إلى وجود الرطوبة.

وأما عدم تحقق هذا التقدير في ما نحن فيه: فلأنّ الذي يريد الإزالة لا يريد الصلاة لعدم إمكان إرادة الضدين، فعدم الصلاة ليس لأجل وجود المانع الذي هو الإزالة، بل لأجل عدم وجود المقتضي أي عدم إرادة الصلاة.

والحاصل: الإزالة توقفت على عدم الصلاة، لكن عدم الصلاة توقف على عدم إرادة الصلاة لا على وجود الإزالة.

[3] أي: توقف الإزالة على عدم الصلاة، هذا توقف فعلي، بمعنى أن الإزالة تتحقق مع عدم تحقق المانع الذي هو الصلاة.

[4] إذ هو توقف تقديري، مثلاً: عدم الصلاة لا يتوقف على الإزالة إلاّ لو

ص: 171


1- مطارح الأنظار 1: 524، والقائل هو المحقق الخوانساري.

المقتضي له مع شراشر شرائطه غير عدم وجود ضده، ولعلّه[1] كان محالاً، لأجل[2] انتهاء عدم وجود أحد الضدين مع وجود الآخر إلى عدم تعلق الإرادة الأزلية به[3] وتعلقها بالآخر حسب ما اقتضته الحكمة البالغة، فيكون العدم دائماً مستنداً إلى عدم المقتضي، فلا يكاد يكون مستنداً إلى وجود المانع كي يلزم الدور.

إن قلت[4]:

-------------------------------------------------------------------

فرض وجود مقتضي الصلاة وجميع شرائطه، «فإنه» أي: فإن التوقف من طرف العدم، «المقتضي له» أي: المقتضي للصلاة، «شراشر» أي: سائر، «شرائطه» شرائط وجود الصلاة، «غير عدم وجود ضده» أي: المقتضي وجميع شرائط الوجود متحققة لكن وُجد المانع الذي هو الإزالة فحينئذٍ يقال: عدم الصلاة يتوقف على الإزالة.

[1] هذا بيان لعدم تحقق الفرض، «لعلّه» أي: لعلّ ثبوت المقتضي.

[2] أي: المقتضي للصلاة هو إرادة الصلاة، ولكن مع إرادة الإزالة لا يعقل إرادة الصلاة، «عدم وجود أحد الضدين» كعدم الصلاة، «الضد الآخر» كالإزالة.

[3] بيان لعدم وجود المقتضي، إذ لا إرادة للصلاة، فعدمها ينسب إلى عدم الإرادة لا إلى وجود الإزالة.

«الإرادة الأزلية» كأنّه يقصد عدم إرادة الله تعالى من الأزل، ولو كان يقول لعدم تعلق إرادة المكلف لكان أولى وأصح، إذ في كلامه إشكالان:

الأول: إن الإرادة الإلهية من صفات الفعل، وهي إيجاد الشيء كما مرّ في بحث الطلب والإرادة.

الثاني: إن هذا الكلام يشعر بالقول بالجبر، وهو باطل قطعاً كما مرّ.

[4] يريد المحقق الخوانساري دفع إشكال على كلامه، وحاصل الإشكال: أنّه إنما يُنسب عدم الصلاة إلى عدم إرادتها - لا إلى وجود الإزالة - في ما لو كان كلاهما من شخص واحد حيث لا يمكنه إرادة الضدين، وأما لو كان هناك شخصان أحدهما

ص: 172

هذا إذا لوحظا[1] منتهيين إلى إرادة شخص واحد. وأما إذا كان كل منهما متعلقاً لإرادة شخص، فأراد - مثلاً - أحد الشخصين حركة شيءٍ، وأراد الآخر سكونه، فيكون المقتضي لكل منهما[2] حينئذٍ موجوداً، فالعدم[3] لا محالة يكون فعلاً مستنداً إلى وجود المانع.

قلت[4]: هاهنا أيضاً مستند إلى عدم قدرة المغلوب منهما في إرادته[5] - وهي ممّا لابد منه في وجود المراد، ولا يكاد يكون[6] بمجرد الإرادة بدونها - ، لا إلى وجود الضد، لكونه مسبوقاً بعدم قدرته، كما لا يخفى.

-------------------------------------------------------------------

يريد الصلاة والآخر يريد الإزالة، فحينئذٍ لو تحققت الإزالة فيكون عدم تحقق الصلاة لوجود المانع الذي هو الإزالة، لا لعدم المقتضي، إذ المقتضي وهو إرادة الصلاة موجود!

[1] أي: لوحظ الضدين، كالصلاة والإزالة، «منهما» من الضدين.

[2] «المقتضي» وهو إرادتهما، «منهما» من الضدين.

[3] أي: فلو تحقق أحدهما، فعدم الآخر يكون مستنداً إلى وجود مانعه، «فعلاً» أي: لا فرضاً وتقديراً.

[4] جواب المحقق الخوانساري عن الإشكال، وحاصله: أن المقتضي لا ينحصر في الإرادة بل هي جزء منه، وهناك جزء آخر وهو القدرة، وفي المثال: المغلوب لا قدرة له فلذا لم يتحقق ما أراده، فرجع الأمر إلى عدم وجود المقتضي أيضاً لا إلى وجود المانع، أو نقول: إن القدرة من شرائط المقتضي، فرجع الأمر إلى عدم المقتضي لعدم شرطه.

[5] أي: في ما أراده المغلوب، «وهي» أي: القدرة، «في وجود المراد» إما لأنها جزء المقتضي أو لأنها شرطه.

[6] أي: لا يوجد الشيء، «بدونها» بدون القدرة، «وجود الضد» الذي هو المانع، «لكونه» لكون وجود الضد، «بعدم قدرته» عدم قدرة الشخص.

ص: 173

غير سديد[1]، فإنه[2] وإن كان قد ارتفع به الدور، إلاّ أنه غائلة لزوم توقف الشيء على ما يصلح أن يتوقف عليه على حالها، لاستحالة[3] أن يكون الشيء الصالح لأن يكون موقوفاً عليه الشيء موقوفاً عليه، ضرورة[4] أنه لو كان في مرتبة يصلح لأن يستند إليه لما كاد يصح أن يستند فعلاً إليه.

-------------------------------------------------------------------

والحاصل: إنه لا يصح نسبة عدم الصلاة إلى الإزالة، بل ينسب إلى عدم القدرة على الصلاة.

[1] جواب المصنف عن إشكال المحقق الخوانساري، وحاصل الجواب: أن الدور وإن ارتفع، لكن ملاك استحالة الدور لم يرتفع.

بيانه: إنه كما يستحيل توقف الشيء على نفسه، كذلك يستحيل قابلية الشيء للتوقف على نفسه، مثلاً: يستحيل أن تكون (الإزالة) متوقفة فعلاً على (ترك الصلاة)، في حين كون (ترك الصلاة) صالحاً تقديراً لأن يكون متوقفاً على (الإزالة).

وبعبارة أخرى: الشيء الصالح للعلية يستحيل أن يكون معلولاً.

[2] «فإنه» الضمير للشأن، «به» بهذا التفصّي، «توقف الشيء» كالإزالة، «على ما» على ترك الصلاة الذي يصلح، «أن يتوقف» الشيء الذي هو الإزالة، «عليه» الضمير يرجع إلى ما الموصوله، أي: ترك الصلاة في المثال، «على حالها» خبر (غائلة) أي: الغائلة باقية.

[3] «أن يكون الشيء» كالإزالة «الصالح» شأناً «لأن يكون موقوفاً عليه» على تلك الإزالة «الشيء» أي: ترك الصلاة، وقوله: «موقوفاً عليه» خبر (يكون)، والمعنى: أن يكون موقوفاً عليه فعلاً.

[4] بيان وجه الاستحالة، وذلك لأن الصالح لأن يكون موقوفاً عليه إنما هو في رتبة سابقة، فيكون أسبق، في حين أنه متأخر فعلاً فيكون غير أسبق، فصارت رتبته متقدمة ومتأخرة في آن واحد، وهذا محال، «أنه» الشأن، «كان» كان الإزالة، «يستند إليه» أي: يستند عدم الصلاة إلى الإزالة، «أن يستند» الإزالة، «إليه» إلى عدم الصلاة.

ص: 174

والمنع عن صلوحه[1] لذلك - بدعوى أن قضية كون العدم[2] مستنداً إلى وجود الضد لو كان مجتمعاً مع وجود المقتضي وإن كانت صادقة[3]، إلاّ أن صدقها[4] لا يقتضي كون الضد[5] صالحاً لذلك، لعدم اقتضاء صدق الشرطية صدق طرفيها - مساوق[6]

-------------------------------------------------------------------

[1] هذا إشكال على كلام المصنف في وجود ملاك الدور، وحاصله: أن الصلاحية المذكورة مستحيلة لأنّها متوقفة على المحال، وهو وجود المقتضي للصلاة.

وجه المحالية: امتناع اجتماع إرادتين (إرادة الصلاة، وإرادة الإزالة) وحينئذٍ: لا صلاحية لاستناد عدم الصلاة إلى وجود الإزالة، «لذلك» أي: للتوقف الشأني.

[2] أي: عدم الصلاة في المثال، «وجود الضد» كالإزالة، «لو كان» أي: لو كان العدم، «المقتضي» أي: المقتضي للصلاة وهو إرادتهما.

[3] أي: كانت هذه القضية الشرطية صادقة.

[4] أي: صدق القضية الشرطية لا يقتضي إمكان طرفيها، مثلاً قوله تعالى: {لَوۡ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلَّا ٱللَّهُ لَفَسَدَتَاۚ}(1) قضية صادقة، مع وضوح استحالة طرفيها، لاستحالة تعدد الآلهة، ولاستحالة فساد السموات والأرض.

والسبب في ذلك: أن القضية الشرطية تبيّن الارتباط بين طرفيها، لكنها لا تدلّ على وقوع الطرفين، فإنه من الواضح ارتباط الفساد بتعدد الآلهة، لكن هل وقع الطرفان؟ القضية الشرطية لا تدل على الوقوع ولا على عدم الوقوع، بل يستفاد ذلك من دليل آخر.

[5] «الضد» كالإزالة، «لذلك» أي: لأن يتوقف عليه عدم ضده كترك الصلاة.

[6] هذا جواب عن الإشكال، وحاصله: أنه في ما نحن فيه لا يمكن منع الصلاحية وإلاّ لزم الخلف.

بيانه: إن المستدل يقول بأن الإزالة مانعة عن الصلاة لكونهما ضدين وكل

ص: 175


1- سورة الأنبياء، الآية: 22.

لمنع مانعية الضد[1]، وهو يوجب رفع التوقف رأساً من البين، ضرورة أنه لا منشأ لتوهم توقف أحد الضدين على عدم الآخر إلاّ توهم مانعية الضد - كما أشرنا إليه - وصلوحه لها[2].

إن قلت[3]: التمانع بين الضدين كالنار على المنار، بل كالشمس في رائعة النهار، وكذا كون عدم المانع مما يتوقف عليه ممّا لا يقبل الإنكار، فليس ما ذكر إلاّ شبهة في مقابل البديهة.

-------------------------------------------------------------------

ضد مانع عن الضد الآخر.

ولازم ذلك هو صلاحية توقف عدم الصلاة على الإزالة، لأن الإزالة مانعة عن الصلاة، فعدم الصلاة متوقف على الإزالة.

نعم يمكن إنكار الصلاحية بإنكار مانعية الإزالة عن الصلاة وهذا خلاف الفرض، لأن المستدل ذهب إلى أن عدم الصلاة مقدمة للإزالة.

وبعبارة أخرى - كما في عناية الأصول(1)

-: (إن المستدل قد اعترف بالتوقف التقديري من طرف العدم، أي: على تقدير فرض وجود المقتضي لذلك الضد، فكيف يمنع عن صلاحية هذا الضد لاستناد عدم ذلك الضد إليه، وهل التوقف التقديري إلاّ بمعنى صلوحه لذلك)، انتهى.

[1] أي: كون كل ضد مانع عن الضد الآخر، «التوقف» أي: المقدميّة، «ضرورة» بيان وجه رفع التوقف رأساً، «أنه» الضمير للشأن.

[2] عطف على قوله: (مانعية الضد)، «وصلوحه» أي: الضد، «لها» للمانعية.

[3] حاصله: أن إنكار كون أحد الضدين مانعاً عن الآخر، إنما هو إنكار للبديهي، وكذلك إنكار توقف أحد الضدين على عدم الآخر أيضاً إنكار للبديهي، لأننا بوجداننا ندرك التمانع والتوقف، فكل استدلال على عدم التمانع وعدم التوقف إنما هو مغالطة وسفسطة مخالفة للوجدان!

ص: 176


1- عناية الأصول 1: 427 - 428.

قلت[1]: التمانع بمعنى التنافي والتعاند الموجب لاستحالة الاجتماع مما لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه، إلاّ أنه لا يقتضي إلاّ امتناع الاجتماع وعدم وجود أحدهما إلاّ مع عدم الآخر الذي[2] هو بديل وجوده المعاند له، فيكون في مرتبته، لا مقدماً عليه ولو طبعاً. والمانع[3] الذي يكون موقوفاً على عدمه الوجود هو ما كان ينافي ويزاحم المقتضي في تأثيره، لا ما يعاند الشيء ويزاحمه في وجوده.

نعم[4]، العلة التامة لأحد الضدين ربما تكون مانعاً عن الآخر ومزاحماً لمقتضيه

-------------------------------------------------------------------

«التمانع بين الضدين» فالإزالة مانعة عن الصلاة، كما أن الصلاة مانعة عن الإزالة، «عدم المانع مما يتوقف عليه» أي: المأمور به يتوقف عليه، كالإزالة المتوقفة على ترك الصلاة.

[1] حاصل جواب المصنف: إنا لا ننكر التنافي بين الضدين، فإن ذلك أمر بديهي، وإنما أنكرنا كون أحدهما (مانعاً) بالمعنى الاصطلاحي للمانع، وهو: (ما يتوقف وجود الشيء على عدمه) كالرطوبة المانع عن الاحتراق، فإن وجود الاحتراق يتوقف على عدم الرطوبة، وهذا المانع هو المتقدّم على الوجود وجزء من أجزاء العلة، وليس أحد الضدين مانعاً عن الآخر بهذا المعنى.

[2] «الذي» و«المعاند» صفتان ل- (الآخر)، و«هو» و«له» يرجعان إلى (أحدهما)، «فيكون» الآخر، «مرتبته» مرتبة أحدهما، «عليه» على أحدهما، «ولو طبعاً» أي: رتبة.

[3] أي: وأما المانع الاصطلاحي، والذي تعريفه: هو ما يكون موقوفاً... الخ، «عدمه» عدم المانع، «الوجود» إسم يكون، «في تأثيره»، تأثير المقتضي، كالرطوبة التي تمنع النار عن الاحتراق.

[4] هذا استدراك عمّا تقدّم، حيث قلنا: إن بين الضدين تمانع لا مانعيّة، وذلك لأنّه قد تكون علة أحد الضدين مانعاً عن الآخر، وذلك في ما إذا كان المقتضي لكل واحد من الضدين موجوداً، وكان مقتضي أحدهما أقوى من مقتضي الآخر، فالأقوى يؤثر، فيُوجد، ويعدم الآخر، فحينئذٍ عدم أحدهما مستند إلى علة

ص: 177

في تأثيره، مثلاً: تكون شدة الشفقة على الولد الغريق وكثرة المحبة له تمنع عن أن يؤثر ما في الأخ الغريق من المحبة والشفقة لإرادة إنقاذه مع المزاحمة، فينقذ به[1] الولد دونه، فتأمل جيداً[2].

ومما ذكرنا ظهر أنه لا فرق[3] بين الضد الموجود والمعدوم في أن عدمه الملائم للشيء المناقض لوجوده المعاند لذاك لابد أن يجامع معه من غير مقتض ٍ لسبقه، بل قد عرفت ما يقتضي عدم سبقه.

فانقدح بذلك ما في تفصيل بعض الأعلام(1) حيث قال بالتوقف على رفع الضد الموجود، وعدم التوقف على عدم الضد المعدوم[4]. فتأمل في أطراف ما ذكرناه،

-------------------------------------------------------------------

وجود الآخر.

والحاصل: أن عدم هذه العِلّة التامة هي من مقدمات وجود الضد الآخر.

[1] «به» بشدة الشفقة، «دونه» دون الأخ.

[2] وفيه: ما قيل: من أن الشفقة على الولد اقتضت فعلية أثرها، وهو إنقاذ الولد، ولمّا كان إنقاذ الولد مضاداً لإنقاذ الأخ - لأن الضدين لا يجتمعان - فعدم تأثير الشفقة على الأخ في إنقاذه إنّما هو بسبب عدم قابلية الضدين للاجتماع، لا لأجل المانعيّة(2)، فتأمل.

[3] شرح العبارة: «أنه لا فرق بين الضد الموجود والمعدوم» كالصلاة وعدمها، «في أن عدمه» عدم الصلاة، «الملائم للشيء» كالإزالة، «المناقض» عدم الصلاة، «لوجوده» لوجود الصلاة، «المعاند» تلك ا لصلاة، «لذلك» الإزالة، «لابد أن يجامع» عدم الصلاة، «معه» مع الإزالة، «من غير مقتض» أي: سبب وعلة، «لسبقه» سبق عدم الصلاة، فليس بمانع اصطلاحي.

[4] حاصله: الفرق بين الرفع والدفع.

ص: 178


1- وهو المحقق الخوانساري على ما في مطارح الأنظار 1: 524.
2- راجع حقائق الأصول 1: 311.

فإنه دقيق وبذلك حقيق.

فقد ظهر عدم حرمة الضد من جهة المقدمية[1].

وأما[2] من جهة لزوم عدم اختلاف المتلازمين في الوجود في الحكم، فغايته[3] أن لا يكون أحدهما فعلاً[4] محكوماً بغير ما حكم به الآخر، لا أن يكون محكوماً بحكمه.

-------------------------------------------------------------------

مثاله: إذا كان الشيء بلا لون، فحينئذٍ تحقق البياض لا يتوقف على عدم السواد. أما إذا كان ذا لون أسود فإن تحقق البياض يتوقف حينئذٍ على رفع السواد.

وحاصل إشكال المصنف: هو أنه لا مقدميّة، بل تنافي ومعاندة.

[1] بأن يقال: إن عدم أحد الضدين مقدمة للضد الآخر، فإذا حَرُمَ الآخر حرمته مقدمته - وهي عدم الضد الآخر - .

ردّ القول بالتلازم

[2] حاصل هذا القول: أن ترك الصلاة مثلاً ملازم للإتيان بالإزالة، فحينئذٍ لو أمر المولى بالإزالة كان ذلك الأمر مقتضياً للأمر بترك الصلاة، وذلك لأن حكم المتلازمين واحد.

وإنما قلنا بوحدة حكم المتلازمين لأن الاختلاف في حكمهما يوجب عدم تمكن المكلّف من امتثال أحدهما أبداً.

مثلاً: استقبال الشمال يلازم استدبار الجنوب، فالأمر باستقبال الشمال يلازم الأمر باستدبار الجنوب.

[3] ردّ القول بالتلازم، وحاصله: أن الدليل يدل على أنه لابد من عدم مخالفتهما في الحكم، ولا دليل على لزوم توافقهما في الحكم.

مثلاً: في حالة التخلي يحرم استقبال القبلة واستدبارها، ويلازم ذلك كون المنكبين إلى طرف الشرق والغرب مثلاً، فهل حرمة الاستقبال والاستدبار يلازم حرمة ذلك؟ بحيث لو تخلى باتجاه القبلة كان مرتكباً لحرامين؟!

[4] «أحدهما» أحد المتلازمين، «فعلاً» بالحكم الفعلي، «به» الضمير يرجع

ص: 179

وعدم[1] خلو الواقعة عن الحكم فهو[2] إنما يكون بحسب الحكم الواقعي لا الفعلي. فلا حرمة للضد من هذه الجهة أيضاً[3]، بل على ما هو عليه[4] - لو لا الابتلاء بالمضادة للواجب الفعلى - من الحكم الواقعي.

الأمر الثالث[5]:

-------------------------------------------------------------------

إلى «ما» الموصولة، «يكون» أحدهما، «بحكمه» بحكم الآخر.

[1] هذا إشكال، وحاصله: إن لكل شيء حكم، إذ لا يخلو موضوع عن حكم شرعي، فإذا كان لأحد المتلازمين حكم فلا يمكن أن لا يكون للمتلازم الآخر حكم، وهنا نحن بين خيارين: إما أن نقول: بأن حكم الآخر مختلف! وهذا غير ممكن، لما ذكرناه من أنه حينئذٍ لا يمكن امتثال أحدهما. وإما أن نقول: بأن حكم الآخر هو نفس حكم الأول، وهو المطلوب.

[2] هذا جواب عن الإشكال، وحاصله: إن لكل شيء حكماً واقعياً، وهذا الحكم الواقعي قد يصير فعلياً وقد لا يصير، والملازمة ليست من أسباب تشريع الحكم، بل قد ترفع فعلية الحكم الواقعي.

مثلاً: ترك الصلاة حرام واقعاً، وحينما تجب الإزالة - وهي ملازمة لترك الصلاة - لا يصير ترك الصلاة واجباً بسبب الملازمة، بل يبقى على حكمه الواقعي وهو الحرمة، لكن هذه الحرمة لا تكون فعلية حينئذٍ، وعليه: فلا حكم فعلي لترك الصلاة حين وجوب الإزالة، نعم حكمه الواقعي الشأني هو الحرمة.

[3] أي: من جهة التلازم، «أيضاً» أي: كما لا حرمة من جهة المقدميّة.

[4] أي: بل الضد على نفس حكمه الواقعي الشأني - سواء ابتلي بضدّه أم لا - ، وقوله: (من الحكم الواقعي) بيان لقوله: (على ما هو عليه).

الأمر الثالث: حول الضد العام، أي الترك

[5] الكلام حول الضد العام، وهو الترك، مثلاً: لو أمر المولى بالصلاة، فهل

ص: 180

إنّه قيل بدلالة الأمر[1] بالشيء بالتضمن على النهي عن الضد العام - بمعنى الترك -، حيث إنّه يدل على الوجوب المركب من طلب الفعل والمنع عن الترك.

والتحقيق[2]: أنه لا يكون الوجوب إلاّ طلباً بسيطاً ومرتبة وحيدة أكيدة من

-------------------------------------------------------------------

هذا الأمر يقتضي النهي عن ترك الصلاة؟

في المسألة أقوال ثلاثة:

1- قول صاحب المعالم: بالدلالة التضمنية، لأن معنى الوجوب هو: طلب الشيء مع النهي عن تركه، فالوجوب مركب منهما، فيكون دلالته على النهي عن الترك بالدلالة التضمنية.

والإشكال عليه: بأن الوجوب ليس مركباً، بل هو بسيط، إذ معناه الطلب الشديد، فليس النهي عن الترك جزء معناه.

2- قول صاحب الفصول: بالعينية، أي الأمر بالشيء هو نفس النهي عن الترك، فمعنى وجوب الصلاة هو حرمة تركها.

والإشكال عليه: بأن النهي عن الترك إنما يستفاد عبر الدلالة الالتزامية، وهذه الدلالة تقتضي الاثنينيّة، إذ اللازم والملزوم شيئان، ولا معنى لكون الشيء لازماً لنفسه.

3- قول المصنف: باللزوم، أي: الأمر بالشيء يلزم منه النهي عن تركه، وذلك لأن المولى إذا أوجب الصلاة فلا يرضى بتركها قطعاً، فحينما يأمر بالصلاة يلزم منه النهي عن تركها.

[1] القائل صاحب المعالم، حيث استدل بأن الوجوب مركب من أمرين:

1- رجحان الفعل؛ 2- مع المنع عن تركه.

[2] جواب المصنف عن كلام صاحب المعالم، وحاصله: أن الوجوب بسيط، أي له مفهوم واحد، وهو الطلب الأكيد الناشء عن الإرادة الحتمّة، وليس المنع عن الترك إلاّ من لوازم ذلك، وليس جزؤه بالتضمن.

ص: 181

الطلب، لا مركباً من طلبين. نعم[1]، في مقام تحديد تلك المرتبة[2] وتعيينها ربما يقال: «الوجوب يكون عبارة من طلب الفعل مع المنع عن الترك»(1)،

ويتخيل منه أنه يذكر له حداً. فالمنع عن الترك ليس من أجزاء الوجوب ومقوماته، بل من خواصه ولوازمه، بمعنى أنه لو التفت الآمر إلى الترك لما كان راضياً به لا محالة، وكان يبغضه البتة.

ومن هنا انقدح أنه لا وجه لدعوى العينية[3]، ضرورة أن اللزوم يقتضي الاثنينية، لا الاتحاد والعينية. نعم، لا بأس بها[4] بأن يكون المراد بها أنه يكون هناك طلب واحد، وهو كما يكون حقيقة منسوباً إلى الوجود وبعثاً إليه، كذلك يصح أن ينسب إلى الترك بالعرض والمجاز[5]،

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: إن المفهوم وإن كان بسيطاً، لكن بما أنه ماهية فيجب أن يتركب ذهناً من الجنس والفصل، كما أن مفهوم (الإنسان) بسيط، لكنه ماهية مركبة.

فالجنس هو: الطلب، والفصل هو: إنشاء بداعي الإرادة الحتميّة.

لكن هذا لنوع من التركب لا يفيد مقالة صاحب المعالم، لأنه يقصد التركب التحقيقي، لا هذا النوع من التركب الذهني.

[2] أي: بيان ماهيتها لتتميّز عن غيرها، «يتخيل منه» من هذا التحديد، «أنه» للشأن، «له» للوجوب، «حداً» أي: تعريفاً.

[3] وهو قول صاحب الفصول، وذلك لأن اللزوم معناه عدم العينية، لأن الشيء لا يكون لازماً لنفسه، بل هو هو، والملازمة تقتضي المغايرة بين الشيئين.

والحاصل: أنه لا اقتضاء لفظي، لا بالمطابقة، ولا بالتضمن، ولا بالملازمة، نعم يمكن القول بالاقتضاء العقلي بمعنى اللزوم العقلي فقط.

[4] أي: بالعينيّة، «أنه» للشأن، «وهو» ذلك الطلب الواحد.

[5] أي: ليس هو طلب الترك حقيقة، كي يقال: كيف يصح أن نقول إن المولى

ص: 182


1- معالم الدين: 64.

ويكون زجراً وردعاً عنه، فافهم[1].

الأمر الرابع: تظهر الثمرة[2] في أن نتيجة المسألة - وهي النهي عن الضد بناءً على الاقتضاء - بضميمة أن النهي في العبادات يقتضي الفساد، ينتج فساده إذا كان عبادة.

وعن البهائي(1) أنه أنكر الثمرة، بدعوى[3] أنه لا يحتاج في استنتاج الفساد

-------------------------------------------------------------------

يطلب الصلاة ويطلب ترك الصلاة! أ ليس هذا من التناقض، وضد مقصود المولى؟!

بل هو طلب الترك مجازاً، أي: المراد الزجر عن الترك، وعبّر عن الزجر بالطلب مجازاً.

[1] يمكن أن يكون إشارة إلى أنه لا يمكن إرادة الطلب والزجر من شيء واحد لأنه من استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

أو إشارة إلى أن الزجر يختلف عن الطلب فلا يمكن دعوى العينيّة.

أو إشارة إلى أن المجاز يحتاج إلى العلائق المعهودة، ولا أقل من قبول الطبع كما ذهب إليه المصنف، ولا يوجد هنا أيٌّ منهما.

الأمر الرابع: في ثمرة بحث الضد

[2] وحاصلها هو: فساد الضد إن كان عبادة، ومثاله: لو قلنا بوجوب قضاء الصلاة فوراً، لكن المكلّف لم يقضها وبدأ بالصلاة الحاضرة، فإنها تقع باطلة للنهي عنها، وذلك لأن الأمر بقضاء الصلاة الفائتة يقتضي النهي عن ضدها - التي هي الصلاة الحاضرة - ، «فساده» أي: فساد العمل العبادي.

والحاصل: أن ضم (الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده) إلى (النهي في العبادة موجب لفسادها) يقتضي فساد العبادة التي أمر المولى بضدها.

[3] حاصل كلامه: أن الضد لا أمر له، والعبادة التي لا أمر لها تكون باطلة.

بيانه: أنه لا إشكال في عدم الأمر بالضد - سواء قلنا بأنه منهي عنه أم لا - وذلك

ص: 183


1- هداية المسترشدين 2: 275.

إلى النهي عن الضد، بل يكفي عدم الأمر به، لاحتياج العبادة إلى الأمر.

وفيه[1]: إنه يكفي مجرد الرجحان والمحبوبية للمولى، كي يصح أن يتقرب به منه[2]، كما لا يخفى. والضد - بناءً على عدم حرمته - يكون كذلك، فإن

-------------------------------------------------------------------

لعدم إمكان الأمر بالضدين، فسواء قلنا بأن الأمر يقتضي النهي عن ضده أم لم نقل، فإن الضد يقع باطلاً إذا كان عبادة، لعدم الأمر به، مثلاً: لو أمره المولى بالإزالة فوراً فلا يعقل أن يأمره بالصلاة، فحينئذٍ الصلاة لا أمر فيها، والعبادة التي لا أمر فيها باطلة، «أنه» للشأن، «به» بالضد.

والجواب عن الإشكال بأحد وجهين:

الأول: ما اختاره المصنف: من عدم احتياج العبادة إلى الأمر، بل يكفي الرجحان والمحبوبيّة.

الثاني: ما اختاره كاشف الغطاء وآخرون: من أن الضد صحيح مطلقاً سواء قلنا بالاقتضاء أم لا، وذلك للترتب، إذ بناءً على الترتب يكون الضد كالصلاة منهياً عنه، لكن النهي في ظرف عدم العصيان أمر الإزالة، فلو عصى أمر الإزالة فإن المولى يأمره بالصلاة مترتباً.

[1] هذا الجواب الأول، وحاصله: ثبوت الثمرة، أما الكبرى فإنه:

1- إذا قلنا بأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده، فالعبادة المنهي عنها غير راجحة، فتكون باطلة.

2- أما إذا قلنا بعدم الاقتضاء، فإن العبادة - وإن لم تكن مأموراً بها لعدم إمكان طلب الضدين - لكنها راجحة ومحبوبة، فتصحّ، لكفاية الرجحان والمحبوبية في تصحيح العبادة.

وأما الصغرى: فهي ما أشار إليه بقوله: (والضد بناء على... الخ).

[2] «به» بذلك العمل، «منه» من المولى، «كذلك» أي: راجحاً ومحبوباً للمولى.

ص: 184

المزاحمة[1] - على هذا[2] - لا يوجب إلاّ ارتفاع الأمر المتعلق به فعلاً مع بقائه على ما هو عليه من ملاكه من المصلحة - كما هو مذهب العدلية - أو غيرها أي شيء كان[3] - كما هو مذهب الأشاعرة - وعدم حدوث[4] ما يوجب مبغوضيته وخروجه

-------------------------------------------------------------------

[1] دفع إشكال، وحاصل الإشكال: أنه بعد ارتفاع الأمر بالصلاة مثلاً كيف حكمتم ببقاء محبوبية؟

وحاصل الجواب: أن الأمر بالصلاة إنما ارتفع بسبب المزاحمة مع الأهم - الذي هو الإزالة - ، وهذه المزاحمة لا توجد في الملاكات في ما نحن فيه، إذ لا تضاد بين ملاك الصلاة مع ملاك الإزالة.

[2] أي: بناء على عدم الاقتضاء، «به» بالضد كالصلاة، «فعلاً» أي: الحكم الفعلي، دون مرحلة المصلحة والمفسدة في الشيء، «بقائه» بقاء الضد كالصلاة، «على ما هو عليه» أي: على الملاك الذي ذلك الضد عليه، وقوله: (من المصلحة) بيان للموصول في (ما هو عليه).

[3] أي: غير المصلحة، وذلك هو الغرض!

حيث تصوّر المصنف أن الأشعري يجعل الملاك هو غرض المولى، لا المصلحة حيث ينكرها.

لكن الظاهر أن الأشعري ينكرهما معاً، إذ الغرض هو نفس المصلحة أو ملازم لها.

[4] عطف على قوله: (بقائه)، أي: الملاك موجود، ولا شيء يدل على عدم زوال الملاك حين المزاحمة، مثلاً: حين دخول وقت الصلاة توجد مصلحة فيها، فيأمر بها المولى، فإذا وجبت الإزالة فحينئذٍ يسقط الأمر بالصلاة للمزاحمة، لكن المصلحة في الصلاة باقية ولم ترتفع، نعم لو نهى المولى عن الصلاة دلّ ذلك على تبدل مصلحتها إلى المفسدة، إذ لا نهي إلاّ بسبب وجود مفسدة للشيء.

ص: 185

عن قابلية التقرب به، كما حدث[1] بناءً على الاقتضاء.

ثم إنه تصدى جماعة من الأفاضل(1)

لتصحيح الأمر بالضد بنحو الترتب[2] على العصيان[3] وعدم إطاعة الأمر بالشيء بنحو الشرط المتأخر، أو البناء على

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: كما حدث ما يوجب المبغوضية، أي: حدثت مفسدة ولذلك نهى المولى، فالنهي يكشف عنها، إذ النهي تابع للمفسدة، «على الاقتضاء» أي: اقتضاء الأمر للنهي عن ضده.

بحث الترتب
اشارة

الغرض من عقد هذا البحث، هو: تصحيح الضد إذا كان عبادة - حتى على القول بتوقف صحة العبادة على الأمر - . بأن يقال: إنه مع وجود الأمر بالأهم، لو عصى هذا الأمر فإن المولى يأمره بالمهم. وليس فيه طلب الضدين؛ إذ عصيان الأهم موضوع للأمر بالمهم:

الأمر بالأهم كالإزالة

عصيانه الأمر بالمهم كالصلاة.

[2] الترتب على نحوين:

النحو الأول: الترتب على (العصيان) بنحو الشرط المتأخر فقط، دون المتقدم أو المقارن.

النحو الثاني: الترتب على (قصد العصيان) بنحو الشرط المتقدم أو المقارن، دون الشرط المتأخّر.

[3] هذا النحو الأول، وذلك لأن العصيان هو موضوع الأمر بالمهم - كالصلاة - ولا يحدث العصيان إلاّ حين الإتيان بالمهم - كالصلاة - .

فإن قلت: إن العصيان متأخر عن الإتيان بالمهم رتبة (وإن قارنه زماناً)، فكيف يكون موضوعه؟

قلت: إنه على نحو الشرط المتأخر، أي: العصيان المتأخر رتبةً شرطٌ متأخر

ص: 186


1- جامع المقاصد 5: 12؛ كشف الغطاء 1: 171؛ تقريرات المجدد الشيرازي 2: 273.

معصيته[1] بنحو الشرط المتقدم أو المقارن، بدعوى أنه لا مانع عقلاً عن تعلق الأمر بالضدين كذلك[2]، أي بأن يكون الأمر بالأهم مطلقاً[3]، والأمر بغيره[4] معلقاً

-------------------------------------------------------------------

لحصول موضوع الأمر بالمهم.

أما كون العصيان شرطاً: فلأنّه موضوع الأمر بالمهم.

أما كونه متأخراً: فلأنّه يحدث حين الإتيان بالمهم، فالإتيان بالمهم عِلّة للعصيان، والعلة متقدمة رتبة على المعلول.

وأما الشرط المتقدم والمقارن - في عدم الإطاعة - فخارج عن بحث الترتب:

1- إذ المتقدم معناه أزِل فإن عصيت الإزالة فَصَلِّ، ومرجع ذلك إلى سقوط أمر الإزالة بعد العصيان، فالأمر بالصلاة بلا مزاحم.

2- والمقارن كذلك؛ إذ معناه أزِل فإن عصيت الإزالة ومقارناً للمعصية صليت، فصلاتك مأمور بها، وهنا أيضاً حين الصلاة الأمر بالإزالة ساقط بعصيانه، فتأمل.

[1] هذا النحو الثاني، أي: على البناء على المعصية، فيمكن تصور الشرط المتقدم أو المقارن على نحو الترتب.

1- أما المتقدم: بأن يقول المولى: أزِل فإن بنيت على العصيان فصَلِّ، حيث إن البناء على العصيان شرط للصلاة، وهو شرط متقدم.

2- وأما المقارن: بأن يقول المولى: أزِل فإن صليت بانياً على العصيان فإن هذا البناء علة الأمر بالصلاة، وهذا تقدم رتبي وتقارن زماني.

ولم يذكر المصنف الشرط المتأخر هنا لعدم إمكانه؛ وذلك لأن البناء على العصيان لا يكون متأخّراً عن نفس العصيان، فتأمل.

[2] أي: بنحو الترتب.

[3] من غير تقييد بشيء.

[4] بغير الأهم، أي: الأمر بالمهم، «معلقاً على عصيان...» وهو النحو الأول، «أو البناء...» وهو النحو الثاني.

ص: 187

على عصيان ذاك الأمر، أو البناء والعزم عليه، بل هو واقع كثيراً عرفاً[1].

قلت: ما هو ملاك استحالة[2] طلب الضدين في عرض واحد آتٍ في طلبهما كذلك، فإنه[3] وإن لم يكن في مرتبة طلب الأهم اجتماع طلبهما إلاّ أنه كان في مرتبة الأمر بغيره اجتماعهما، بداهة فعلية الأمر بالأهم في هذه المرتبة[4]، وعدم سقوطه بعد بمجرد المعصية في ما بعد ما لم يعص[5]، أو العزم عليها، مع فعلية

-------------------------------------------------------------------

[1] بعد أن أثبت الإمكان العقلي حيث قال: (بدعوى... الخ)، الآن يثبت الوقوع.

ومن أمثلته: لو أمره بالسفر في شهر رمضان فعصى فإنّه عليه الصوم في وطنه، أي: كان يجب عليه السفر وفي السفر يحرم الصوم لكنه بالعصيان وبالبقاء في الوطن يأمره المولى بالصوم، فالأمر بالصوم كان متوقفاً على عصيان الأمر بالأهم وهو السفر.

الإشكال الأول على الترتب

[2] الإشكال الأول على الترتب وهو إرادة وطلب الضدين، «كذلك» أي: بنحو الترتب.

[3] «فإنه» للشأن، وحاصله: إنه يستحيل أن يكون للمولى إرادتان متضادتان؛ وكذا طلبان متضادان، وفي مسألة الترتب لا طلب للضدين في مرتبة الأهم؛ لأنه يريده لا غير، لكن في مرتبة المهم توجد الإرادتان المتضادتان، وكذلك الطلبان المتضادان، أي: بعد العصيان أو بعد البناء عليه، فإن المولى كما يأمره بالأهم كذلك يأمره بالمهم، فاجتمع الضدان، «إلاّ أنه» للشأن، «بغيره» بغير الأهم، أي: بالمهم، «اجتماعهما» اجتماع الضدين - في إرادة المولى وفي طلبه - .

[4] أي: في مرتبة الأمر بالمهم، فالمولى لا زال يريد الأهم ويطلبه، كذلك يريد المهم ويطلبه، «عدم سقوطه» أي: عدم سقوط الأمر بالأهم.

[5] لأن كلامنا أن الترتب محال بسبب أنه (طلبٌ محال)، فنحن لا نتكلم عن مرحلة الامتثال، بل نتكلم عن مرحلة الطلب، وحاصله: كيف يعقل أن يريد

ص: 188

الأمر بغيره أيضاً[1]، لتحقق ما هو شرط فعليته فرضاً.

لا يقال: نعم[2]، لكنه بسوء اختيار المكلف حيث يعصي في ما بعد بالاختيار، فلولاه لما كان متوجهاً إليه إلاّ الطلب بالأهم، ولا برهان على امتناع الاجتماع إذا كان بسوء الاختيار[3].

فإنه يقال: استحالة طلب الضدين[4]

-------------------------------------------------------------------

المولى أمرين متضادين يعلم بتضادهما ولو في مرتبة من المراتب؟

نعم، لو عصى الأمر بالأهم وفات موضوعه فإنه يسقط حينئذٍ، لكن هذا يرتبط بالامتثال، وكلامنا في الإرادة والطلب، فدقق. «ما لم يعص» هذا النحو الأول، «أو العزم...» هذا النحو الثاني، «عليها» على المعصية.

[1] «بغيره» أي: بغير الأهم، وهو المهم؛ وذلك لأنه قد تحقق عصيان الأهم أو نية عصيانه، فتحقق شرط المهم، «فعليته» فعلية المهم، «فرضاً» أي: حسب الفرض وهو عصيان الأمر بالأهم.

[2] حاصل الإشكال: إن هنا طلب الضدين مع عدم تمكن المكلف امتثالهما معاً، لكن ذلك كان بسبب سوء اختيار المكلف، فهو الذي ألقى بنفسه في المحذور، «لكنه» أي: لكن طلب الضدين، «في ما بعد» في ما بعد الأمر بالأهم، «فلولاه» لو لا سوء الاختيار.

[3] وذلك مثل ما لو دخل الأرض المغصوبة عمداً وتوسطها، فإن المولى ينهاه عن البقاء وعن الحركة للخروج؛ لأن كل واحد منهما تصرف في الغصب، وهنا طلب الضدين بسوء الاختيار، «الاجتماع» أي: اجتماع طلب الأهم وطلب المهم.

[4] جواب الإشكال، وحاصله: الفرق بين المثالين؛ وذلك لأنه في مثال الغصب لم يكن الإشكال في مرحلة طلب المولى، بل في مرحلة امتثال العبد - رغم عدم قبولنا طلب الضدين هنالك أيضاً - .

لكنَّ هنا الإشكال في نفس طلب المولى، وسوء الاختيار لا يُصَحِّح طلب

ص: 189

ليس إلاّ لأجل استحالة طلب المحال[1]، واستحالة طلبه من الحكيم الملتفت إلى محاليته لا تختص بحال دون حال، وإلا لصح في ما علق[2] على أمر اختياري في عرضٍ واحد بلا حاجة في تصحيحه إلى الترتب، مع أنه محال بلا ريب ولا إشكال.

إن قلت: فرق بين الاجتماع[3] في عرض واحد والاجتماع كذلك، فإن الطلب في كل منهما في الأول يطارد الآخر، بخلافه في الثاني، فإن الطلب بغير الأهم لا يطارد طلب الأهم، فإنه[4] يكون على تقدير عدم الإتيان بالأهم، فلا يكاد يريد غيره على تقدير إتيانه وعدم عصيان أمره.

-------------------------------------------------------------------

الضدين ولا إرادتهما، «طلبه» طلب المحال.

[1] والمحال هو الجمع بين الضدين، «واستحالة» الواو للاستيناف.

[2] أي: لو كان سوء الاختيار مجوزاً لطلب الضدين لجاز في ما إذا كانا في عرض واحد في غير الترتب، كما لو قال المولى: إنَّ عقوبة العاصي هي وجوب الحركة والسكون عليه في وقت واحد، وبطلان هذا النوع من الطلب بديهي يسلّمه القائل بالترتب، مع أنه بسوء الاختيار، «لصحّ» أي: صحّ طلب المحال، «مع أنه» أن التعليق على أمر اختياري في عرض واحد؛ وذلك لاشتراك العلة في الضدين اللذين في عرض ٍ واحد أو في طوله.

[3] هذا تكرار لدليل الترتب، وحاصله: إنه لا اجتماع في مرتبة الأهم، حيث إنه لو امتثل الأهم لما تحقق موضوع المهم - وهو عصيان الأهم - فلا أمر بالمهم حينئذٍ، «عرض واحد» بلا ترتب، «كذلك» على نحو الترتب، «الأول» أي: لو كانا في عرض واحد، «الثاني» لو كانا طوليين - على نحو الترتب - .

[4] أي: فإن الطلب بالمهم. وضمائر «غيره» و«إتيانه» و«أمره» ترجع إلى (الأهم).

ص: 190

قلت[1]: ليت شعري كيف لا يطارده الأمر بغير الأهم؟ وهل يكون طرده له إلاّ من جهة فعليته، ومضادة متعلقه للأهم؟ والمفروض فعليته ومضادة متعلقه له، وعدم[2] إرادة غير الأهم على تقدير الإتيان به لا يوجب عدم طرده لطلبه مع تحققه على تقدير عدم الإتيان به وعصيان أمره، فيلزم اجتماعهما على هذا التقدير مع ما هما عليه[3] من المطاردة من جهة المضادة بين المتعلقين[4]. مع أنه[5] يكفي الطرد

-------------------------------------------------------------------

[1] جواب الإشكال، وهو جوابان:

الأول: صحيح أنه لو امتثل الأمر بالأهم فإنه لا مطاردة؛ لعدم تحقق موضوع المهم، ولكن في صورة العصيان يتطاردان، فطلب الصلاة يطارد طلب الإزالة، حيث إنه في ظرف العصيان للأهم يقول له المولى: أزل وصلّ - في المثال - ، «لا يطارده» أي: لا يطارد الأمر بالأهم، «طرده» طرد المهم، «له» للأهم، وضمائر «فعليته» و«متعلقه» ترجع إلى المهم، «له» للأهم.

وأما الجواب الثاني فسيأتي بعد قليل.

[2] «وعدم إرادة» الواو استينافيّة، «به» بالأهم، «طرده» الأهم، «لطلبه» لطلب المهم، «تحققه» تحقق طلب المهم، «به» بالأهم، «أمره» أمر الأهم، «اجتماعهما» طلب الأهم والمهم، «هذا التقدير» تقدير عدم الإتيان بالأهم وعصيانه.

[3] «هما» طلب الأهم والمهم، «عليه» الضمير يرجع إلى (ما) الموصولة، وقوله: «من المطاردة» بيان ل(ما) الموصولة.

[4] أي: تنافي الطلبين لأجل تنافي متعلقهما حيث يتضاد الفعلان.

[5] هذا الجواب الثاني: وحاصله: إنه حتى لو لم نقل بالتطارد من الطرفين يكفي في الامتناع كون الأهم طارداً للمهم على كل حال؛ وذلك لأن الأمر بالأهم (كالإزالة) مطلق، فهو جارٍ على كل حال، سواء أطاع أم عصى، فلو أطاع فلا أمر بالمهم (كالصلاة)، ولو عصى الأمر بالأهم (كالإزالة) فإن الأمر به باقٍ لم يسقط

ص: 191

من طرف الأمر بالأهم، فإنه[1] - على هذا الحال - يكون طارداً لطلب الضد، كما كان في غير هذا الحال، فلا يكون له معه[2] أصلاً بمجال.

إن قلت: فما الحيلة في ما وقع كذلك[3] من طلب الضدين في العرفيات[4]؟

قلت[5]:

-------------------------------------------------------------------

لعدم فوات موضوعه، فحينئذٍ مع وجود الأمر بالأهم - ولو في ظرف العصيان - لا يبقى مجال لطلب الضد المهم.

[1] «فإنه» الأمر بالأهم، «على هذا الحال» حال العصيان أو العزم عليه، «يكون طارداً» الطرد هنا بمعنى المنع عن حدوث الأمر بالمهم، «لطلب الضد» الذي هو المهم، «غير هذا الحال» أي: غير حال العصيان أو العزم عليه.

والحاصل: إن طلب الأهم يتنافى مع طلب المهم على كل حال، سواء عصى أو نوى العصيان أم لم يعصِ.

[2] لا يكون للمهم مع الأهم.

[3] على نحو الترتب.

[4] وكذلك في الشرعيات، ومن أمثلته: إذا وجب عليه السفر في شهر رمضان فعصى وأقام، فيجب عليه الصوم، وكذا إذا حرمت عليه الإقامة لكنه أقام، فيجب عليه الصوم.

ومن العرفيات: قول الأب لولده: اذهب هذا اليوم إلى المعلم، فإن عصيت فاكتب في الدار ولا تلعب مع الصبيان.

[5] الجواب من وجهين:

1- إما أن يتنازل المولى - في تلك الأمثلة - عن الأمر بالأهم.

2- وإما يرشد إلى بقاء ملاك المهم ومحبوبيته، وفائدة هذا الإرشاد هو تخفيف العقوبة على ترك الأهم.

ص: 192

لا يخلو إما أن يكون الأمر بغير الأهم بعد التجاوز عن الأمر به[1] وطلبه حقيقةً، وإما أن يكون الأمر به إرشاداً إلى محبوبيته وبقائه على ما هو عليه من المصلحة والغرض لو لا المزاحمة، وأن الإتيان به يوجب استحقاق المثوبة، فيذهب بها بعض ما استحقه من العقوبة على مخالفة الأمر بالأهم، لا أنه[2] أمر مولوي فعلي كالأمر به، فافهم وتأمل جيداً.

ثم[3] إنه لا أظن أن يلتزم القائل بالترتب بما هو لازمه من الاستحقاق في صورة مخالفة الأمرين لعقوبتين، ضرورة قبح العقاب على ما لا يقدر عليه العبد. ولذا كان سيدنا الأستاذ+(1) لا يلتزم به[4] على ما هو ببالي، وكنا نورد به على الترتب، وكان بصدد تصحيحه[5].

-------------------------------------------------------------------

[1] «عن الأمر به» بالأهم، «يكون الأمر به» بالمهم، وهكذا ضمائر «محبوبيته» و«بقائه» و«الإتيان به» ترجع إلى المهم، «بها» بالمصلحة.

[2] أي: لا أن الأمر بالمهم بمعنى الأمر المولوي الفعلي، بل هو أمر إرشادي، «به» بالأهم.

الإشكال الثاني على الترتب
اشارة

[3] شروع في الإشكال الثاني على الترتب.

وحاصله: هو أنه لو خالف الأمرين - فلم يُزِل النجاسة ولم يُصلّ - فإنه يستحق عقوبتين. والعقاب على تركهما قبيح؛ لأنه مؤاخذه على مالا يقدر عليه العبد من فعل الضدين.

وبطلان اللازم وهو تعدد العقاب، يكشف عن بطلان الملزوم وهو وجود أمرين، «لازمه» لازم الترتب.

[4] بتعدد العقاب.

[5] ولعلّ من طرق التصحيح هو أن تعدد العقاب بسوء اختياره فلا قبح فيه،

ص: 193


1- وهو المجدّد الشيرازي الكبير.

فقد ظهر أنه[1] لا وجه لصحة العبادة مع مضادتها لما هو أهم منها إلاّ ملاك الأمر.

نعم[2]، في ما إذا كانت[3] موسعة وكانت مزاحمة بالأهم ببعض الوقت، لا في تمامه، يمكن أن يقال: إنه حيث كان الأمر بها[4] على حاله - وإن صارت مضيقة

-------------------------------------------------------------------

حيث كان يتمكن من إتيان الأمر بالأهم - كالإزالة - ويُنهي الغائلة.

النتيجة

[1] أي: لا يمكن تصحيح العبادة بالأمر الترتبي، بل يمكن تصحيحها بالملاك فقط، «أنه» الضمير للشأن، «مضادتها» مضادة العبارة، «منها» من العبادة.

[2] هذا لتصحيح العبادة بداعي الأمر - لا بالملاك فقط - في بعض الصور، وهو ما إذا كان الأمر بالأهم مضيقاً والأمر بالمهم موسعاً، مثلاً: إنقاذ الغريق واجب مضيق، والصلاة واجب موسّع، فإنّ أمرها من الزوال إلى المغرب.

فإنّه في أول الزوال إلى نصف ساعة - مثلاً - يتوجه الأمر بالأهم وهو الإنقاذ، وفي هذا الوقت لا أمر بالصلاة للتضاد.

ولكن بما أن الأمر توجه إلى طبيعة الصلاة - ولو أنه خرج منه الأفراد الواقعة في أول الوقت - فإن العقل يرى أن الصلاة في أول الوقت لها نفس ملاك الصلاة في آخره، وأنه يؤدي نفس الغرض؛ فلذا يجوِّز العقل قصد الأمر المتعلق بالطبيعة في تلك الأفراد الواقعة في أول الوقت، فتأمل.

والحاصل: هذا الكلام لبيان الفرق بين الأمر بالمهم إذا كان موسعاً أو مضيقاً، فالطبيعة مأمور بها في الموسع، فالفرد وان لم يكن مأموراً به للمزاحمة لكنه يتضمن الطبيعة، وهي مأمور بها، فيأتي بالفرد بداعي الأمر بالطبيعة الموجودة ضمن ذلك الفرد.

[3] كانت العبادة.

[4] أي: بطبيعة الصلاة، «على حاله» أي: لم يسقط الأمر بالصلاة بسبب الأمر بالإنقاذ، بل تضيق الأمر بالصلاة، فإنه كان من الزوال إلى الغروب، لكن بعد

ص: 194

بخروج ما زاحمه الأهم من أفرادها من تحتها - أمكن أن يؤتى بما زوحم منها[1] بداعي ذاك الأمر، فإنه[2] وإن كان خارجاً عن تحتها بما هي مأمور بها إلاّ أنه لما كان وافياً بغرضها - كالباقي تحتها - كان عقلاً مثله[3] في الإتيان به في مقام الامتثال[4] والإتيان به بداعي ذاك الأمر، بلا تفاوت في نظره بينهما أصلاً.

ودعوى[5] أن الأمر لا يكاد يدعو إلاّ إلى ما هو من أفراد الطبيعة المأمور بها، وما زوحم منها[6] بالأهم وإن كان من أفراد الطبيعة لكنه[7] ليس من أفرادها بما

-------------------------------------------------------------------

الأمر بالأهم - وهو الإنقاذ - صار الأمر بالصلاة من بعد نصف ساعة من الزوال إلى الغروب مثلاً، «صارت» الصلاة، «بخروج» أي: بسبب خروج، «ما زاحمه الأهم» مقدار نصف ساعة بعد الزوال، «أفرادها» أفراد الصلاة، «تحتها» تحت الصلاة المأمور بها.

[1] أي: أفراد الصلاة التي زاحمها الأمر بالإنقاذ.

[2] أي: فإن الفرد المزاحَم - بالفتح - «تحتها» تحت الصلاة، «بما هي مأمور بها» أي: ليس فرداً للصلاة المأمور بها، لكنه فرد لطبيعة الصلاة، وهو وافٍ بغرض الصلاة.

[3] أي: كان الفرد الخارج عن المأمور به، مثل الفرد المأمور به، لوفائه بتمام الغرض، فلا فرق لدى العقل بينهما.

[4] أي: يختلف عنه في مقام الأمر، لكن في مقام الامتثال لا فرق حيث يؤدّى الغرض بكليهما، فلذا يمكن قصد الأمر المتعلق بطبيعة الصلاة، وقوله: «والإتيان به بداعي ذلك الأمر» عطف تفسيري على قوله: (الإتيان به في مقام الامتثال).

[5] أي: ادّعاء أن الأمر لم يتعلق بالطبيعة المطلقة، بل بالطبيعة المأمور بها فقط، كما أن الأمر بالصلاة لم يتعلق بالصلاة قبل الوقت.

[6] أي: ومن الواضح أن الأفراد التي زاحمها الأهم.

[7] أي: لكن ما زوحم منها، «أفرادها» أفراد الطبيعة.

ص: 195

هي مأمور بها؛ فاسدة[1]، فإنّه إنّما يوجب ذلك[2] إذا كان خروجه عنها بما هي كذلك تخصيصاً[3]، لا مزاحمة[4]، فإنه معها وإن كان لا تعمه الطبيعة المأمور بها إلاّ أنه ليس لقصور فيه، بل لعدم إمكان تعلق الأمر بما يعمه[5] عقلاً.

وعلى كل حال، فالعقل لا يرى تفاوتاً في مقام الامتثال وإطاعة الأمر بها بين هذا الفرد وسائر الأفراد أصلاً.

هذا على القول بكون الأوامر متعلقة بالطبائع.

وأما بناءً على تعلقها بالأفراد فكذلك[6]، وإن كان جريانه عليه أخفى[7]،

-------------------------------------------------------------------

[1] حاصل الجواب: إن الصلاة قبل الوقت - مثلاً - ليست فرداً للطبيعة لخروجها تخصصاً، أما الفرد المزاحم فإنّ له الملاك، وهو فرد للطبيعة، لكنه خرج عن عنوان المأمور به - لا الطبيعة - لأجل المزاحمة.

[2] «فإنه» فإن خروج الفرد المزاحَم عن تحت الأمر، «ذلك» عدم صحة الإتيان به بداعي الأمر، «عنها بما هي كذلك» أي: عن الطبيعة بما هي مأمور بها.

[3] فلا يكون ملاك الأمر موجوداً في الفرد الخارج.

[4] أي: فيكون الملاك موجوداً، «فإنه» فإن الفرد، «معها» مع المزاحمة، «فيه» في الفرد المزاحَم.

[5] بما يعمّ الفرد المزاحم؛ وذلك لاستلزامه محذور الترتب كطلب الضدين.

[6] لعدم الفرق بين الأفراد، حيث يوجد فيها جميعاً الملاك، فالفرد المأمور به مع الفرد غير المأمور به - للمزاحمة - كلاهما واجد للملاك المُحقِّق لغرض المولى.

فالفرد المزاحَم وإن كان مبايناً للفرد المأمور به لكنه يقوم مقامه حيث يفي بالغرض؛ وذلك كالملاك الموجود في الواجب التخييري، حيث كل فرد من الأفراد يقوم مقام سائر الأفراد؛ لوجود الملاك فيها.

[7] وجه الخفاء هو وجود فرق، والفرق أن الفرد المزاحَم مباين للفرد المأمور به، في حين أن الفرد المزاحم مصداق من مصاديق الطبيعة المأمور بها، لكن هذا الفرق

ص: 196

كما لا يخفى، فتأمل[1].

ثم[2] لا يخفى أنه - بناءً على إمكان الترتب وصحته - لابد من الالتزام بوقوعه من دون انتظار دليل آخر عليه؛ وذلك لوضوح أن المزاحمة على صحة الترتب[3] لا تقتضي عقلاً إلاّ امتناع الاجتماع في عرض واحد، لا كذلك[4].

-------------------------------------------------------------------

ليس بفارق.

[1] لعله إشارة إلى أن خروج الفرد عن تحت الأمر لا يُصَحِّح الإتيان به بداعي الأمر الموجود في الطبيعة أو في فرد آخر.

أما في الطبيعة: فلأن الفرد المزاحَم ليس فرداً للطبيعة المأمور بها، بل للطبيعة المطلقة.

وأما في الفرد: فلا يصح الإتيان بفرد بداعي الأمر في فرد آخر، ولو كانا واجدين للملاك، فهل يصح الإتيان بصلاة الظهر بداعي الأمر بصلاة الصبح مثلاً؟!

الإشكال الثالث على الترتب وردّه

[2] هنا إشكال ثالث هو: أن إثبات إمكان الترتب لا يلازم وقوعه، والقائلون بالترتب لم يذكروا دليلاً على وقوعه.

وحاصل الجواب: إنه حيث وجد أمران تعلق أحدهما بالإزالة - وهو الأهم - والآخر بالصلاة - وهو المهم - فلو قلنا بإمكان الترتب، فإن المهم له أمر، فلا يحتاج إلى أمر آخر لتصحيحه - بناءً على احتياج العبادة للأمر - .

وبعبارة أخرى: كان أمران لهما إطلاق (أزِلْ)، (صَلِّ)، وبالمزاحمة قيدنا الأمر بالمهم، ففي صورة الإتيان بالأهم يسقط الأمر بالمهم، ولا وجه لسقوط الأمر بالمهم مع عدم الإتيان بالأهم، فحينئذٍ الأمر بالمهم باقٍ، فلا نحتاج إلى أمر آخر.

[3] أي: بناءً على القول بصحة الترتب وعدم استحالته.

[4] أي: لا على نحو الترتب، أي: طلب الضدين محال في غير الترتب، وأما بناءً على إمكان الترتب فلا محذور.

ص: 197

فلو قيل بلزوم الأمر في صحة العبادة - ولم يكن في الملاك كفاية[1] - كانت العبادة مع ترك الأهم صحيحةً، لثبوت الأمر بها في هذا الحال[2]، كما إذا لم تكن هناك مضادة.

فصل: لا يجوز أمر[3] الآمر مع علمه بانتفاء شرطه[4]، خلافاً لما نسب إلى أكثر مخالفينا(1)؛

ضرورة[5] أنه لا يكاد يكون الشيء مع عدم علته، كما هو المفروض

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: قلنا: إنه لا يكفي وجود الملاك في صحة العبادة، بل لابد من الأمر حتى تصح العبادة.

[2] أي: في حال ترك الأهم.

فصل أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه

[3] أي: لا يمكن ذلك وقوعاً كما سيأتي، والأمر هو البعث الفعلي نحو متعلقه.

[4] الضمير في «شرطه» يرجع إلى (الأمر)، أي: مع العلم بانتفاء شرط الأمر بمعنى عدم قدرة المكلف على الفعل، ويمكن ارجاعه إلى (المأمور به)، مثلاً: يقول لها: (صلِّ غداً) مع علمه بأنها ستحيض.

[5] إذ فعلية البعث لا تكون إلاّ بحصول عِلتها التامة - التي من أجزائها الشرط - ومع العلم بانتفاء الشرط لا يتحقق البعث الفعلي؛ لفقدان علته.

فشرط صدور الأمر من المولى علمه بقدرة المكلف؛ إذ لو علم بعدم قدرته كيف يبعثه نحوها؟

وبعبارة أخرى - كما قيل(2)

- : الأمر حقيقة في الطلب بداعي الإرادة الحتمية، ومع العلم بانتفاء قدرة المكلف يستحيل تعلق الإرادة القلبية به.

نعم، يمكن الأمر الصوري - كما يأتي - .

ص: 198


1- معالم الدين: 82؛ قوانين الأصول 1: 126.
2- عناية الأصول 1: 431.

هاهنا، فإن الشرط من أجزائها، وانحلال المركب[1] بانحلال بعض أجزائه مما لا يخفى.

وكون الجواز[2] في العنوان بمعنى الإمكان الذاتي بعيد[3] عن محل الخلاف بين الأعلام.

نعم، لو كان المراد من[4] لفظ «الأمر» الأمر ببعض مراتبه، ومن الضمير الراجع إليه بعض مراتبه الأخر - بأن يكون النزاع في أن أمر الآمر يجوز إنشاءً مع علمه بانتفاء شرطه بمرتبة فعلية؟ وبعبارة أخرى: كان النزاع في جواز إنشائه مع العلم بعدم بلوغه إلى المرتبة الفعلية لعدم شرطه - لكان[5] جائزاً، وفي وقوعه في الشرعيات والعرفيات[6] غنىً وكفاية، ولا يحتاج معه إلى مزيد بيان أو مؤونة برهان.

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: انتفاؤه، وهنا المركب هو العلة التامة؛ لأن أحد أجزائها هو الشرط - أي: قدرة المكلّف - .

[2] بيان لتوهم أن: (يجوز) في العنوان بمعنى الإمكان الذاتي، وإن كان ممتنعاً بالغير - أي: في ظرف عدم علته - إذ كل ممكن بالذات ممتنع حين عدم عِلّته.

[3] رد لهذا التوهم فإن القائلين بالجواز لا يقصدون مجرد الإمكان الذاتي، بل مرادهم الوقوع خارجاً أيضاً؛ وذلك لاستدلالهم بنحو أمر إبراهيم بذبح إسماعيل عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[4] لمّا قال المصنف بعدم الجواز استدرك هنا وقال بالجواز على بعض الصور. وهو أنه يجوز الأمر الإنشائي مع العلم بعدم وصوله إلى مرحلة الفعلية، أي: انتفاء شرط الفعلية. فالمتحصل: يجوز للآمر الأمر الإنشائي مع علمه بانتفاء شرط فعليته.

[5] «لكان» جزاء (لو) في قوله: (نعم، لو كان المراد...)، أي: لكان أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه جائزاً.

[6] أي: في وقوع الأمر الإنشائي مع العلم بعدم تحقق شرط الفعلية، «غنىً وكفاية» في إمكانه؛ لأن الوقوع أدلّ دليل على الإمكان.

فأما مثال الشرعيات: فهو كموارد الطرق والأمارات - إذا كانت خلاف الواقع - فإن الواقعيات محفوظة في مرحلة الإنشاء لكنها ليست فعلية.

ص: 199

وقد عرفت سابقاً[1] أن داعي إنشاء الطلب لا ينحصر بالبعث والتحريك جداً حقيقةً، بل قد يكون صورياً امتحاناً، وربما يكون غير ذلك.

ومنع كونه أمراً[2] إذا لم يكن بداعي البعث جداً واقعاً وإن كان في محله[3]، إلاّ أن إطلاق الأمر عليه - إذا كانت هناك قرينة على أنه بداعٍ آخر غير البعث - توسعاً مما لا بأس به أصلاً، كما لا يخفى.

-------------------------------------------------------------------

وكذلك في أوائل البعثة كانت الأحكام إنشائية، ثم وصلت إلى الفعلية بالتدريج - على القول بنزول القرآن دفعة - .

وكذلك الأحكام المودعة عند الإمام الحجة على فرض ثبوتها.

وأما مثال العرفيات: فكالأوامر الصادرة من المجالس النيابية، قبل توقيعها من قبل رئيس الجمهورية، وقبل نشرها في الجريدة الرسمية - مثلاً - .

[1] هنا إشكالٌ وحاصله: كيف يصح الإنشاء مع العلم بعدم وصوله إلى مرتبة الفعلية؟ وهل هذا إلاّ محال أو لغو من الكلام؟

وجوابٌ وحاصله: إن الإنشاء لا ينحصر بداعي البعث والتحريك، بل قد يكون دواعٍ أخرى، كالامتحان والتعجييز والتهديد والتسخير ونحو ذلك؛ فلذا لا استحالة، ولا لغوية.

[2] إشكال ملخصه: إن الأوامر الامتحانية وأمثالها ليست بأمر حقيقة، فإذا علم بعدم وصوله إلى مرحلة الفعلية فلا يوجد أمر إنشائي حقيقة، ففي عنوان البحث في قولهم: (هل يجوز أمر الأمر...) لا ينبغي جعل (الأمر) بمعنى الأمر الإنشائي.

[3] جوابه وملخصه: نعم، ليس بأمر حقيقة إلاّ ما كان بداعي البعث، لكنه أمر مجازاً وتوسعاً، وذلك كثير في عباراتهم، فلا مانع من حمل (الأمر) في العنوان على هذا المعنى المجازي.

ص: 200

وقد ظهر بذلك[1] حال ما ذكره الأعلام(1) في المقام من النقض والإبرام. وربما يقع به التصالح[2] بين الجانبين، ويرتفع النزاع من البين، فتأمل جداً.

فصل: الحق أن الأوامر والنواهي تكون متعلقة بالطبائع دون الأفراد[3].

ولا يخفى: أن المراد[4] أن متعلق الطلب في الأوامر هو صرف الإيجاد، كما أن

-------------------------------------------------------------------

[1] إشارة إلى عدم تنقيح محل النزاع، فالبعض خلط بين مرتبة الفعلية ومرتبة الإنشاء، والبعض خلط بين شرط الوجوب - وهو شرط الأمر - وبين شرط الوجود - وهو شرط المأمور به - .

[2] هذا التصالح تأباه عباراتهم.

فصل تعلق الأوامر والنواهي بالطبائع دون الأفراد

اشارة

[3] الفرق بين القولين هو:

1- إن المتعلق هو شيء واحد وهو الطبيعة.

2- أو أن المتعلق أمران: الطبيعة إضافة إلى الخصوصيات الفردية.

فعلى كلا القولين الطبيعة متعلق للأمر، وإنما الكلام في دخول الخصوصيات الفردية فيها أو عدم الدخول، فكلا القولين يقولان: إن المتعلق كلي لا جزئي. وفي القول الأول يكون مأموراً بإيجاد الطبيعة المحضة، وفي القول الثاني يكون مأموراً بإيجاد الفرد، أي: الطبيعة المنضمة إليها الخصوصيات.

[4] غرضه بيان أن الماهية بما هي ليست قابلة للجعل، فلا تكون تحت الاختيار، فلا يعقل الأمر بها. فمرادنا من قول: (تعلق الأوامر بالطبائع) هو: أن متعلق الأمر هو طلب إيجاد الطبيعة، وأما الخصوصيات الفردية فهي لازم للوجود، ولكنها ليست داخلة تحت الطلب.

ص: 201


1- قوانين الأصول 1: 124، الفصول الغروية: 109؛ هداية المسترشدين 2: 605.

متعلقه في النواهي هو محض الترك، ومتعلقهما هو نفس الطبيعة المحدودة بحدود والمقيدة بقيود[1] تكون بها[2] موافقة للغرض والمقصود، من دون تعلق غرض بإحدى الخصوصيات اللازمة للوجودات[3]، بحيث لو كان الانفكاك عنها بأسرها ممكناً، لما كان ذلك مما يضر بالمقصود أصلاً - كما هو الحال في القضية الطبيعية في غير الأحكام[4]، بل في المحصورة[5] على ما حقق في غير المقام - .

وفي مراجعة الوجدان[6] للإنسان غنىً وكفاية عن إقامة البرهان على ذلك،

-------------------------------------------------------------------

فمثلاً: العطشان يطلب الماء ولا يهمه كونه في أي إناء، ومن أي نهر أو نحو ذلك؟ نعم، في الخارج تلك الخصوصيات لازمة للماء لا ينفك عنها.

وبعبارة أخرى: الأمر هو طلب إيجاد الشيء، وهذا الشيء الطبيعة لا الفرد.

[1] (الحدود) ذاتية، و(القيود) خارجية، كالنطق والضحك، ويمكن أن يكون العطف في قوله: (المحدودة بحدود والمقيدة بقيود) تفسيري.

[2] أي: تكون الطبيعة بتلك الحدود والقيود.

[3] أي: الخصوصيات المقومة لفردية الفرد.

[4] مثلاً: (الإنسان ناطق) فالمحمول وهو (ناطق) ثابت لطبيعة (الإنسان) في ضمن أي خصوصية وفرد كان، ووجه الشبه: عدم النظر إلى الأفراد في كليهما.

[5] القضية المحصورة ما اشتملت على سور، مثلاً: (كل إنسان ناطق) فإن الإنسان هنا وإن كان المراد به الأفراد، ولكن الحكم فيه للطبيعة.

وفي قبال الطبيعية والمحصورة: (القضية المهملة) وهي غير المسوَّرة بما يبيّن كمية الأفراد، كالنكرة مثلاً.

[6] هذا دليل أن متعلّق الأوامر هو طلب إيجاد الطبيعة، ومتعلّق النواهي هو طلب ترك الطبيعة، فإن الوجدان حاكم بأنه في هكذا أوامر لا نرى طلب المولى للخصوصيات، ولا نرى أنها دخيلة في غرضه. «يرى» الإنسان، «راجعه» الوجدان، «له» للمولى، «إليها» إلى الطبائع.

ص: 202

حيث يرى إذا راجعه أنه لا غرض له في مطلوباته إلاّ نفس الطبائع، ولا نظر له إلاّ إليها من دون نظر إلى خصوصياتها الخارجية وعوارضها العينية[1]، وإن نفس وجودها السِعِي[2] بما هو وجودها تمام المطلوب[3]، وإن كان ذاك الوجود لا يكاد ينفك[4] في الخارج عن الخصوصية.

فانقدح بذلك: أن[5] المراد بتعلق الأوامر بالطبائع دون الأفراد أنها بوجودها

-------------------------------------------------------------------

[1] عطف تفسيري لقوله: (خصوصياتها الخارجيّة)، أي: العوارض التي هي خارج عن الذات لكنها مقومة لفردية الفرد.

[2] أي: الذي فيه سعة، حيث إنه يتحد مع وجود كل فرد، بخلاف وجود الفرد حيث لا يتحد مع سائر الأفراد.

[3] عكس القائل بالفردية، فإنه يقول: بتعلق الطلب بالوجود السعي وبوجود الخصوصيات الفردية معاً. أما المصنف فإنه يقول: إن الوجود السعي هو تمام المطلوب من غير طلب للخصوصيات.

[4] إشارة إلى أن الخصوصيات الفردية لازمة، لكن ليس كل لازم داخل تحت طلب الملزوم.

[5] المقصود دفع إشكال، وحاصله: إنه لا يمكن تعلق الطلب بالماهية - بما هي - فإن الطبيعة بما هي ليست مطلوبة وليست غير مطلوبة، أي: الطبيعة في مرحلة ذاتها قابلة للأمرين، ولو كانت مطلوبة في ذاتها لا يعقل طلب تركها وكذا العكس.

كما أن الماهية في حد ذاتها ليست بموجودة ولا معدومة؛ ولذا هي قابلة للوجود والعدم. نعم، في الخارج إما هي موجودة وإما معدومة.

وهذا الإشكال إنّما هو من صاحب الفصول لأنّه ينكر تعلق الأمر بالطبيعة؛ لأن الطبيعة مما يمتنع وجودها في الخارج. وبعبارة أخرى: الماهية هي هي فلا يعقل تعلق الطلب بها، أي: طلب أن تجعل الماهية ماهية.

وأما الجواب: فحاصله: إن المطلوب هو إيجاد الماهية.

ص: 203

السِعِي بما هو وجودها - قبالاً لخصوص الوجود[1] - متعلقة للطلب، لا أنها بما هي هي كانت متعلقة له - كما ربما يتوهم(1)

-، فإنها كذلك ليست إلاّ هي[2]. نعم، هي كذلك تكون[3] متعلقة للأمر، فإنه طلب الوجود، فافهم[4].

دفع وهم[5]: لا يخفى أن كون وجود الطبيعة أو الفرد متعلقاً للطلب إنما يكون

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: الوجود الفردي.

[2] في الحقائق: (من المعلوم ان كل شيء بما هو هو ليس إلاّ هو، ولكن لا ينافي ذلك كونه معروضاً لعوارضه، فإن زيداً من حيث هو - أي: في مرحلة ذاته - لا صحيح ولا مريض، بمعنى أنه ليست الصحة والمرض من مقوماته وذاتياته، وإن كان بلحاظ طروء الصحة عليه أو المرض يكون صحيحاً أو مريضاً، فكون الطبيعة من حيث هي لا مطلوبة ولا غير مطلوبة لا ينافي كونها بلحاظ تعلق الطلب بها تكون مطلوبة، أو عدم تعلقه فلا تكون مطلوبة.

فالعمدة: في عدم تعلق الطلب بالطبيعة من حيث هي أنها كذلك ليست موضوعاً للأثر ومحطاً للغرض)(2).

[3] أي: الماهية بما هي هي تكون متعلقة للأمر؛ لأن الأمر طلب الوجود، فنقول: آمرك بالماهية، أي: أطلب منك إيجادها.

[4] لعله إشارة إلى أنّه إن كان الوجود داخلاً في المفهوم فالطلب والأمر ممكن، وإن لم يكن داخلاً فكلاهما غير ممكن، فلا فرق.

دفع وهم

[5] الوهم - وقد ينسب إلى صاحب الفصول(3)

- هو أن مقتضي تعلق الطلب بالوجود هو عروضه على الوجود:

ص: 204


1- الفصول الغروية: 125.
2- حقائق الأصول 1: 327.
3- الفصول الغروية: 126.

بمعنى أن الطالب يريد صدور الوجود من العبد وجعله بسيطاً[1] - الذي هو مفاد كان التامة - وإفاضته. لا أنه يريد ما هو صادر وثابت في الخارج كي يلزم طلب

-------------------------------------------------------------------

1- فإن كان عروض الطلب قبل الوجود لزم وجود العارض بدون المعروض.

2- وإن كان عروض الطلب بعد الوجود فهو طلب للحاصل.

وكلا الأمرين محال.

مثلاً: لو قال المولى: (صلّ)، فعلى الأول: يكون المعنى (أريد وجود الصلاة المعدومة)، فالطلب تعلق بأمر معدوم، فصار عارضٌ - وهو الطلب - بدون معروض وهو محال أيضاً.

وعلى الثاني: يكون المعنى (أريد وجود الصلاة الموجودة)، فقد أراد الحاصل، وهو محال.

جواب الوهم: إن متعلق الطلب ليس الوجود، بل صدور الوجود - أي: الإيجاد - فلا يطلب المولى الطبيعة من حيث هي - لما تقدم من استحالته - ولا يطلب الطبيعة الموجودة - لأنه طلب للحاصل - بل يطلب إيجاد الطبيعة، وهو فعل المأمور به.

وحينئذٍ نقول في تصحيح هذا الطلب: إن المولى يتصور ذلك الوجود في ذهنه - بنحو المرآتية - ثم يطلبه، بمعنى يطلب إيجاده خارجاً، فليس طلباً للحاصل؛ لأنه بعد لم يوجد في الخارج، ولا عارض بدون معروض، لأن الطلب عرض على الوجود الذهني.

[1] أي: إيجاده في الخارج؛ لأن الوجود ينقسم إلى قسمين:

1- وجود الشيء في نفسه - وهو مفاد كان التامة - مثل: (كان زيد). ويُسمّى الجعل في هذا بسيطاً.

2- وجود الشيء لا في نفسه - وهو مفاد كان الناقصة - مثل: (كان زيد قائماً). ويُسمّى الجعل في هذا جعلاً مؤلفاً - مركباً - .

ص: 205

الحاصل - كما توهم(1)

- . ولا جعل الطلب[1] متعلقاً بنفس الطبيعة وقد جعل وجودها غاية لطلبها. وقد عرفت أن الطبيعة[2] بما هي هي ليست إلاّ هي، لا يعقل أن يتعلق بها طلب لتوجد أو تترك، وأنه لابد في تعلق الطلب من لحاظ الوجود أو العدم معها فيلاحظ وجودها فيطلبه ويبعث إليه كي يكون ويصدر منه[3]. هذا بناءً على أصالة الوجود[4].

-------------------------------------------------------------------

توهم ثان

[1] هذا المتوهم أراد التخلص من إشكال طلب الحاصل أو وجود العارض قبل المعروض فقال بهذا الكلام، وحاصله: إن متعلق الطلب هي الطبيعة من حيث هي، ولكن الغاية من الطلب هو الإيجاد، فالإيجاد ليس متعلقاً للطلب، بل غايته.

[2] جواب عن هذا التوهم، وحاصله: إنه قد مرّ أن الطبيعة من حيث هي لا يعقل أن تكون محلاً للطلب؛ لأنها من حيث هي لا مطلوبة ولا غيرمطلوبة، وحيث إن الغرض:

1- بناءً على أصالة الوجود: تعلق ذلك الغرض بوجودها، فلا يعقل أن يأمر المولى بما لا ربط له بغرضه.

2- وكذلك بناءً على أصالة الماهية: تعلق ذلك الغرض بتحقق الماهية في الخارج، ولم يتعلق بها من حيث هي هي - أي: في مرحلة نفسها - وبعبارة أخرى: تعلق الطلب بالماهية الخارجية، أي: ليجعلها المكلف من الخارجيات.

[3] أي: كي يوجد - بمفاد كان التامة - .

[4] وحاصل أصالة الوجود: هو أن الماهية أمر اعتباري ذهني، والوجود هو المتحقق في الخارج.

ص: 206


1- الفصول الغروية: 126.

وأما بناءً على أصالة الماهية[1] فمتعلق الطلب[2] ليس هو الطبيعة بما هي أيضاً، بل بما هي بنفسها في الخارج، فيطلبها كذلك لكي يجعلها بنفسها من الخارجيات والأعيان الثابتات، لا بوجودها[3]. كما كان الأمر بالعكس على أصالة الوجود.

وكيف كان فيلحظ الآمر ما هو المقصود من الماهية الخارجية أو الوجود فيطلبه ويبعث نحوه، ليصدر منه، ويكون ما لم يكن، فافهم وتأمل جيداً.

فصل: إذا نسخ الوجوب فلا دلالة[4] لدليل الناسخ[5]

-------------------------------------------------------------------

[1] وحاصل أصالة الماهية: هو أن الوجود أمر اعتباري، وأن المتحقق في الخارج هو الماهية، والوجود مجعول بتبعها ومن عوارضها الذهنية.

[2] على أصالة الماهية لا معنى لجعل متعلق الطلب الوجود؛ لأن المطلوب يلزم أن يكون أمراً حقيقياً، والأمر الحقيقي - على أصالة الماهية - هو الطبيعة المتحققة، فطلبها يكون بمعنى طلب تحقيق تلك الماهية، فتأمل.

[3] لأن الوجود - على القول بأصالة الماهية - أمر اعتباري لا يتعلق به الطلب.

فصل في بقاء أو عدم بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب

اشارة

[4] عكس ما ذهب إليه جماعة: ودليلهم أن الوجوب مركب من (جواز الفعل مع المنع عن الترك)، والنسخ رفع المنع، فيبقى الجواز بحاله - كما عن صاحب المعالم -(1).

وفيه: إن الوجوب بسيط وهو المرتبة الشديدة من الطلب - ومعنى البسيط أن له مفهوماً واحداً - فبزواله لا يبقى الجواز الذي كان بضمنه.

[5] وذلك لأن الناسخ نفي للوجوب، ولا دلالة للنفي على إثبات غيره، فلا منشأ لدلالة الناسخ على حكم آخر من الأحكام.

ص: 207


1- معالم الدين: 87 - 88.

ولا المنسوخ[1] على بقاء الجواز بالمعنى الأعم[2]، ولا بالمعنى الأخص[3]، كما لا دلالة لهما[4] على ثبوت غيره من الأحكام، ضرورة[5] أن ثبوت كل واحد من الأحكام الأربعة الباقية بعد ارتفاع الوجوب واقعاً ممكن، ولا دلالة لواحد من دليلي الناسخ والمنسوخ بإحدى الدلالات[6] على تعيين واحد منها، كما هو أوضح من أن يخفى. فلابد للتعيين من دليل آخر.

-------------------------------------------------------------------

[1] لأن المنسوخ كان بسيطاً وقد ارتفع بورود الناسخ.

وحتى على القول بتركبه فإن الجواز كان متقوماً بفصله - وهو المنع من الترك - فبزوال الفصل يزول الجنس معه أيضاً؛ لأن الجنس والفصل موجودان بوجود واحد.

وبعبارة أخرى: إن المنسوخ دل على الجواز المتحصل بالوجوب، وبعد ارتفاع الوجوب لا يكون الجواز على تقدير ثبوته متحصلاً بالوجوب، بل بغيره، فلا يدل عليه. - كما في الحقائق -(1).

[2] الذي هو جنس، ويدخل تحته المستحب والمكروه والمباح والواجب، فلا يدل الناسخ ولا المنسوخ على بقاء الجنس للجواز.

[3] أي: الإباحة الشرعية، التي هي قبال الوجوب والحرمة والكراهة والاستحباب.

[4] أي: لا دلالة لدليل الناسخ ولا المنسوخ على ثبوت غير الإباحة - الجواز بالمعنى الأخص - .

[5] هذا بيان لعدم دلالة دليل الناسخ ولا المنسوخ، وحاصله: إنه بارتفاع الوجوب لا ينحصر الأمر في ثبوت حكم واحد حتى يلزم القول بثبوته، بل بارتفاع الوجوب يحتمل كل واحد من الأحكام الأربعة الأخر، ولا مُعيّن لأحدها.

[6] المطابقية أو التضمنية أو الالتزامية.

ص: 208


1- حقائق الأصول 1: 330.

ولا مجال لاستصحاب الجواز[1] إلاّ بناءً على جريانه في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي، وهو ما إذا شك في حدوث فرد كلي مقارناً لارتفاع فرده الآخر[2]. وقد حققنا في محله أنه لا يجري الاستصحاب فيه ما لم يكن الحادث المشكوك من المراتب القوية أو الضعيفة المتصلة بالمرتفع[3] بحيث عدّ عرفاً[4] - لو كان[5] - أنه باقٍ، لا أنه أمر حادث غيره.

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: الجواز بالمعنى الأعم، فبعد عدم وجود الدليل اللفظي نرجع إلى الدليل العملي.

وقد قيل(1):

باستصحاب الجواز بالمعنى الأعم؛ إذ الفعل حين الوجوب كان جائزاً، ولمّا ارتفع الوجوب نشك في ارتفاع الجواز، فنستصحب بقاء الجواز.

والإشكال عليه هو: إن الجواز الكلي لا يكون إلاّ ضمن أحد الأحكام الأربعة - الوجوب، الكراهة، الإباحة، الاستحباب - وهي متباينات، فإذا ارتفع أحدها فمعنى استصحاب الجواز الذي كان فيه هو إبقاء الجواز في ضمن حكم ثانٍ من تلك الأحكام، وهذا هو القسم الثالث من استصحاب الكلي.

[2] هذه إحدى الصور من القسم الثالث، وله صور أخرى: منها: احتمال حدوث الفرد الثاني مقارناً لحدوث الفرد الأول المعلوم، وحين زوال الفرد المعلوم يحتمل بقاء الفرد المحتمل. ومنها: ما اختلفت المراتب شدة وضعفاً.

[3] كالسواد الذي يشك في زواله أو اشتداده أو ضعفه، فإنه يستصحب كلي السواد.

[4] لأن من أركان الاستصحاب وحدة الموضوع، وفي الوحدة نحتاج إلى الوحدة العرفية لا الدقيّة، وإلاّ لما جرى استصحاب إطلاقاً؛ ولأن الكلام ملقى إلى العرف ففهمه حجة.

[5] أي: لو علمنا ببقاء السواد الخفيف فإنه عرفاً يعتبر السواد باقياً، وحين

ص: 209


1- عناية الأصول 1: 460.

ومن المعلوم[1] أن كل واحد من الأحكام مع الآخر - عقلاً وعرفاً - من المباينات والمتضادات غير الوجوب والاستحباب، فإنه وإن كان بينهما التفاوت بالمرتبة والشدة والضعف عقلاً إلاّ أنهما متباينان عرفاً، فلا مجال للاستصحاب إذا شك في تبدل أحدهما بالآخر، فإن حكم العرف ونظره يكون متبعاً في هذا الباب[2].

-------------------------------------------------------------------

ارتفاع السواد الشديد إذا شككنا في بقاء السواد الخفيف فإنه يجري الاستصحاب لوحدة الموضوع عرفاً.

[1] هذا لبيان أنه لا يجري استصحاب الجواز - في ما نحن فيه - لأنه من القسم الثالث الممتنع فيه جريان الاستصحاب، لا من القسم الثالث الجاري فيه الاستصحاب.

وذلك لأن:

1- الكراهة والإباحة ليستا من الدرجات الضعيفة للوجوب.

2- والاستحباب أيضاً ليس من درجات الوجوب الضعيفة عرفاً، وإن كان كذلك دقة، لكن في الاستصحاب يراعى نظر العرف في التباين أو الشدة والضعف، لا الدقة العقلية، وهنا العرف يرى أن الاستحباب يباين الوجوب، وإن كان دقةً هو مرتبة ضعيفة من الوجوب.

[2] أي: باب الاستصحاب. فلذا يستصحب السواد - في الضعيف والشديد - ويستصحب الليل والنهار وسائر الأمور التدريجية، ويستصحب ما تبدل بعض أوصافه أو حالاته، مع أنه عقلاً تبدل للموضوع، لكن عرفاً الموضوع نفسه.

وفي عكسه: لا يحكم ببقاء النجاسة لو غسل الشيء مع بقاء لون النجاسة - كالدم - لزوال الدم عرفاً مع أنه باقٍ دقة - بأجزائه الصغار - .

تتمة

استصحاب الكلي ثلاثة أقسام:

ص: 210

فصل: إذا تعلق الأمر[1] بأحد الشيئين أو الأشياء ففي وجوب كل واحد على

-------------------------------------------------------------------

1- لو علم بالفرد وشك في زوال الفرد فيستصحب الكلي الذي كان في الفرد، كما لو علم بدخول رجل إلى الدار وشك في خروجه، فيجوز استصحاب بقاء الإنسان في الدار، كما يجوز استصحاب الفرد.

2- لو علم بالفرد لكنه لا يدري الفرد الطويل أم القصير، ثم علم بأنه إن كان الطويل فهو باقٍ، وإن كان القصير فهو زائل قطعاً، فإنه يستصحب الكلي فقط، ولا يجوز استصحاب الفرد؛ لليقين السابق بالكلي وعدم اليقين السابق بالفرد. ومثاله المتعارف مثال الفيل والبَق.

3- لو علم بفرد وعلم بزواله ولكنه يحتمل وجود فرد آخر من حين وجود الفرد الأول، أو حين زوال الفرد الأول.

كما لو دخل زيد إلى الدار ثم خرج، ونحتمل دخول عمرو معه أو دخول عمرو حين خروج زيد، وهنا لا يجري استصحاب الفرد ولا استصحاب الكلي، فلا يجوز استصحاب بقاء الإنسان في الدار.

فصل في الوجوب التخييري

اشارة

[1] بعد عدم الإشكال في مرحلة الإثبات، أي: الاتفاق على وقوع الواجب التخييري، يأتي الكلام في كيفية تصوير الواجب التخييري في مرحلة الثبوت؛ إذ هنا إشكال وحاصله: إن حقيقة الوجوب متقومة بالمنع من الترك. لكن الواجب التخييري يجوز تركه في الجملة، فكيف يكون ما جاز تركه - ولو في الجملة - واجباً؟

وهذا إشكال عام يرد على الكفائي وعلى الموسع أيضاً.

وتوضيحه: في التخييري، ما هو الواجب؟

ص: 211

التخيير[1] - بمعنى عدم جواز تركه[2] إلاّ إلى بدل -، أو وجوب الواحد لا بعينه[3]،

-------------------------------------------------------------------

1- إن كان كل واحد واحد منها، فعليه لا يحصل الامتثال بالواحد.

2- وإن كان المجموع - بما هو مجموع - فكذلك لا يحصل الامتثال بالواحد.

3- وإن كان واحداً معيناً، فلازمه اختصاص الوجوب بذلك المعين وعدم حصول الامتثال بغيره.

4- وإن كان واحداً غير معين، فلازمه وجوب الاحتياط بإتيان الجميع للوصول إلى الواجب غير المعين.

القول الأول

[1] وهو قول أصحابنا(1)

بمعنى أن الواجب كل واحد واحد من الأبدال على التخيير. فالخطاب شرعي والتخيير شرعي، كما لو قال المولى: جئني بهذا الإناء أو ذلك الإناء، فهنا الأمر شرعي، والتخيير أيضاً من الشارع.

[2] هذا بيان لمعنى (التخيير). وحاصله: إن الوجوب التعييني ما لا يجوز تركه حتى إلى البدل، أما التخييري فهو ما لا يجوز تركه إلاّ إلى البدل. وهذا هو الفارق بينهما.

القول الثاني

القول الثاني(2)

[3] وهو قول الأشاعرة(3)

بمعنى أن الواجب واحد وهو الكلي، فيكون المراد: وجوب مفهوم أحدهما، الصادق على كل واحد من مصاديقه لا بعينه - كما عن العضدي - .

وعليه يكون الخطاب شرعياً والتخيير عقلياً، أي: الخطاب توجه إلى الكلي وهو خطاب واحد. وبما أن له مصاديق فإن العقل يرى تخيير المكلف بين تلك المصاديق، كما لو قال المولى: جئني بإناء، وفي الخارج يوجد إنائان، فإن العقل يرى تخيّر المكلف بينهما.

ص: 212


1- العدة في أصول الفقه 1: 220.
2- ذهب إليه الشيخ المفيد في التذكرة بأصول الفقه: 31، ونسبه له الشيخ الطوسي في العدة 1: 220.
3- الإحكام في أصول الأحكام 1: 100، حيث قال: إنه مذهب الفقهاء والأشاعرة.

أو وجوب كل منهما[1] مع السقوط[2] بفعل أحدهما(1)،

أو وجوب المعين عند الله[3]، أقوال.

والتحقيق[4] أن يقال: إنه إن كان الأمر بأحد الشيئين بملاك أنه هناك غرض واحد يقوم به كل واحد منهما بحيث إذا أتى بأحدهما حصل به تمام الغرض، ولذا

-------------------------------------------------------------------

القول الثالث

[1] بمعنى أن كلا الطرفين أو الأطراف واجب تعييني، لكن إذا فعل أحدهما سقط الآخر.

كما قيل: في سقوط الواجب بغير الواجب كقراءة الإمام المسقطة لقراءة المأموم، فتأمل.

[2] أي: سقوط الباقي.

القول الرابع

القول الرابع(2)

[3] فيه وجهان: 1- يستكشف ذلك الواجب باختيار المكلّف.

2- أو أن الواجب معين عند الله ويسقط بالإتيان به أو الإتيان بعدله الآخر.

أما الوجه الأول: ففي غاية السقوط؛ إذ لازمه أن المكلف إذا لم يختر فلا وجوب عليه، ولو فعلها جميعاً دفعة فلا يمكن تمييز الواجب.

وأما الوجه الثاني: فكذلك؛ إذ لا معنى لعدم وجوب الآخر ما دام هو يحصّل الغرض دائماً.

مختار المصنف
اشارة

[4] حاصله: إن الملاك الموجب للأمر التخييري أحد احتمالين:

الأول: إن يكون الملاك واحداً، وكل من أطراف التخيير محصل له، فهنا الواجب واحد - هو الجامع بين الأطراف - والتخيير عقلي، فمرجعه إلى القول الثاني.

ص: 213


1- وهو ما ذهب إليه السيد المرتضى في الذريعة 1: 88.
2- المحصول 2: 160.

يسقط به الأمر[1]، كان[2] الواجب في الحقيقة هو الجامع بينهما، وكان التخيير بينهما بحسب الواقع عقلياً لا شرعياً[3]، وذلك[4] لوضوح أن الواحد لا يكاد يصدر من الاثنين بما هما اثنان، ما لم يكن بينهما جامع في البين، لاعتبار نحوٍ من السنخية بين العلة والمعلول[5]. وعليه فجعلهما متعلقين للخطاب الشرعي لبيان أن

-------------------------------------------------------------------

الثاني: أن تكون الملاكات متعددة، ولا يمكن تحصيلها كُلُّها، بل أحدها فقط، فهنا يكون كل واحد منها واجباً في ظرف عدم الآخر - فمرجعه إلى القول الأول - .

[1] أي: لحصول الغرض يسقط الأمر؛ وذلك لأن المسقط للأمر إما الامتثال أو فوات الغرض بالعصيان، أو بأي كيفية أخرى، وهنا لمّا أتى بأحد الواجبين التخييريين حصل الغرض فيسقط الأمر.

كما لو أمره المولى بإتيان إناء ماء أو عصير لرفع العطش، فإن المسقط للأمر هو: الإتيان بأحدهما وشرب المولى له بحيث يرتفع به العطش.

[2] هذا جزاء (إن) في قوله: (إن كان الأمر... الخ).

[3] التخيير الشرعي: هو أن يأمر الشارع بكل واحد منهما، ولا يكون بينهما جامع.

والتخيير العقلي: هو أن يأمر الشارع بالجامع - لأنه المحصل للغرض - فيحكم العقل بالتخيير بين أفراد ذلك الجامع.

[4] دليل على كون التخيير عقلياً لا شرعياً.

وحاصله: إن الغرض الواحد لا يعقل صدوره من أمرين مختلفين؛ وذلك لأن الواحد لا يصدر إلاّ من الواحد - هكذا قالوا(1)

- .

[5] هذا دليل لقاعدة (الواحد لا يصدر إلاّ من الواحد)، ولو لم يكن اعتبار بالسنخية لصدر كل شيء من كل شيء.

وفيه نظر: لأنه على القول بالتوافي كما قال: (أو بالتوافي عادة الله جرت) فلا تكون العلل حقيقية.

ص: 214


1- مفاتيح الأصول: 27.

الواجب هو الجامع بين هذين الاثنين[1].

وإن كان[2] بملاك أنه يكون في كل واحد منهما غرض لا يكاد يحصل مع حصول الغرض في الآخر بإتيانه[3]، كان كل واحد واجباً بنحوٍ من الوجوب[4].

-------------------------------------------------------------------

وأما على غيره، كما قال: (وهل بتوليد أو إعداد)، فإنه كان يمكن عقلاً إصدار كل شيء لكل شيء في مرحلة الثبوت، ولكن المصلحة في مرحلة الإثبات اقتضت جعل القابلية لصدور بعض الأشياء، وعليه يمكن أن يكون المعلول النوعي صادراً عن أمرين مختلفين، بمعنى أن تكون علة شخصية يصدر منها معلول، وعلة شخصية أخرى يصدر منها معلول آخر مثل المعلول الأول، من دون أن يكون جامع بين العلتين، فتأمل.

[1] لأنه لم يكن الجامع واضحاً للمكلفين، وكذلك لم يكن واضحاً لديهم المُحَصِّل لذلك الجامع، فلذا بيّن الشارع المقدس أفراد التخيير.

[2] هذا الشق الثاني من تحقيق المصنف.

ومثاله العرفي: لو كان المولى مشرفاً على الهلاك من العطش، وكان ولده مشرفاً على الموت غرقاً فيقول المولى له: (جئني بماء) أو (أنقذ ولدي) لعلمه بأن فعل أحدهما يوجب فوت الآخر.

[3] أي: بإتيان ذلك الآخر، فإنه يحصل غرض ذلك الآخر، فلا يمكن تحصيل غرض الأول.

[4] أي: الوجوب التخييري الشرعي الذي ليس بوجوب تعييني، ولا تخييري عقلي.

أما الأول: فلأن الغرض لم يكن مطلقاً - حتى يكون من التعييني الذي يجب فيه الإتيان بهما معاً - بل كان الغرض مقيداً بصورة عدم الإتيان بالآخر.

وأما الثاني: فلأن الغرض لم يكن واحداً حتى يكون الواجب الجامع، بل الغرض متعدد.

ص: 215

يستكشف عنه تبعاته[1] من عدم جواز تركه إلاّ إلى الآخر[2]، وترتب الثواب على فعل الواحد منهما[3] والعقاب على تركهما[4].

فلا وجه في مثله[5] للقول بكون الواجب هو أحدهما لا بعينه مصداقاً[6]؛ ولا

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: لهذا النحو من الوجوب - وهو التخييري الشرعي - لوازم.

وكان الأولى أن يقول: (يستكشف عن تبعاته)؛ لأن تلك اللوازم تكشف عن هذا النحو من الوجوب، وليس العكس - كما توهم العبارة - .

وهذه اللوازم ثلاثة: 1- عدم جواز الترك إلاّ إلى الآخر. 2- ترتب الثواب على فعل الواحد. 3- ترتب العقاب على تركهما معاً.

[2] لأن غير الواجب يجوز تركه مطلقاً، أما هذا فلا يجوز تركه مطلقاً، بل فقط إلى البدل، وهذا يكشف عن نحو من الوجوب.

[3] لأنه لو لم يكن واجباً لم يترتب عليه ثواب، ولو كان كلاهما واجباً تعيينياً لزم الثواب على كليهما، في حين أنه يترتب ثواب على واحد منهما فقط.

[4] ولو لم يكن وجوب لم يكن عقاب إطلاقاً، ولو كان وجوب تعييني لوجب العقاب على ترك واحد منهما، في حين أنه لو تركهما معاً لاستحق العقاب، ولو ترك أحدهما وفعل الآخر لم يستحق العقاب.

[5] أي: بناءً على الشق الثاني - وهو وجود غرضين - لا معنى للاحتمالات التالية:

1- الواجب مصداق أحدهما لا بعينه، 2- الواجب مفهوم أحدهما لا بعينه، 3- الواجب أحدهما المعيّن، 4- الواجب كلاهما تعييناً مع السقوط بفعل أحدهما.

الاحتمال الأول

[6] وذلك لعدم إمكان امتثاله؛ لعدم وجود مصداق له؛ لأن ما في الخارج إما مصداق هذا أو مصداق ذاك، وليس في الخارج شيء يصدق عليه (أحدهما)؛ لأن الفرد الخارجي معين وليس مردَّداً حتى يصدق عليه عنوان (أحدهما).

ص: 216

مفهوماً[1]،

-------------------------------------------------------------------

الاحتمال الثاني
اشارة

[1] لأن ملاكات الأحكام من المصالح والمفاسد تتعلق بالوجودات الخارجيّة، لا الأمور الذهنية، والمفهوم ليس من الأمور الخارجيّة، فلا يكون عنواناً مُحسّناً للتكليف.

شرح الحاشية

قال المصنف في هامش الكتاب: (فإنّه وإن كان (أ) ممّا يصحّ (ب) أن يتعلّق به بعض الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة كالعلم، فضلاً عن الصفات الاعتباريّة المحضة، كالوجوب والحرمة وغيرهما، ممّا كان من خارج المحمول (ج) الّذي ليس بحذائه في الخارج شيء غير ما هو منشأ انتزاعه، إلاّ أنّه لا يكاد يصحّ البعث حقيقة إليه والتحريك نحوه، كما لا يكاد يتحقق الداعي (د) لإرادته والعزم عليه، ما لم يكن نائلاً إلى إرادة الجامع والتحرك نحوه فتأمّل جيّداً)(1).

(أ) إشارة إلى إشكال وجوابه - كما في الوصول -(2): أما الإشكال: فإنه لا مانع في كون الواجب أحدهما المفهومي؛ وذلك لأن سبب الوجوب ترتب غرض على كل واحد منهما يختلف عن الغرض المترتب على الآخر، وهذا السبب يقتضي إيجاب أحدهما لا بعينه.

لا يقال: الوجوب صفة معينة فلا يعقل تعلقه بالمبهم.

فإنه يقال: العلم مع كونه من الصفات الحقيقية يصح تعلقه بأمر مردد، كموارد العلم الإجمالي، فالوجوب وهو أمر اعتباري تعلقه بالمردَّد بطريق أولى.

وأما الجواب: فإن الوجوب للبعث أي: لإحداث الداعي في نفس العبد ليأتي بالمأمور به، والمردَّد لا يعقل إتيانه في الخارج فلا يعقل البعث نحوه.

ص: 217


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 72.
2- الوصول إلى كفاية الأصول 2: 282.

كما هو واضح، إلاّ أن يرجع[1] إلى ما ذكرنا في ما إذا كان الأمر بأحدهما بالملاك الأول من أن الواجب[2] هو الواحد الجامع بينهما. ولا أحدهما معيناً[3] مع كون كل منهما[4] مثل الآخر في أنه وافٍ بالغرض. ولا كل واحد[5] منهما تعيّناً مع

-------------------------------------------------------------------

(ب) فيه تأمل، فإن المعلوم إجمالي وليس العلم، مضافاً إلى أن العلم والتردّد ضدان فكيف يجتمعان؟

(ج) الخارج المحمول - كما أشار المصنف - هو ما ليس بإزائه شيء في الخارج سوى منشأ انتزاعه كزوجية الأربعة، والوجوب كذلك فإن ما في الخارج هو الواجب فقط وينزع منه الوجوب.

أما المحمول بالضميمة فهو ما بإزائه شيء في الخارج، مثل: (زيد عالمٌ) حيث إن العلم بإزائه شيء في الخارج.

(د) وذلك لعدم قدرة العبد على امتثاله، فلا يتحقق الداعي.

[1] أي: يكون رجوع إلى الشق الأول من وحدة الملاك وكونه في الجامع.

[2] هذا بيان لقوله: (ما ذكرنا).

الاحتمال الثالث

[3] عطف على قوله: (بكون الواجب هو أحدهما لا بعينه)، وهو إشارة إلى الاحتمال الثالث، أي: إن الواجب أحدهما المعيّن - وهو رابع الأقوال في صدر المسألة - .

[4] هذا رد للقول بوجوب أحدهما المعين، وحاصل الرد: إنه مع كون كل واحد من الفردين وافياً بالغرض، فإن إيجاب أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح، وهو قبيح.

الاحتمال الرابع
اشارة

[5] وهو إشارة إلى الاحتمال الرابع - وهو ثالث الأقوال في صدر المسألة - .

ص: 218

السقوط بفعل أحدهما، بداهة[1] عدم السقوط مع إمكان استيفاء ما في كل منهما من الغرض وعدم جواز الإيجاب كذلك[2] مع عدم إمكانه، فتدبر[3].

بقي الكلام في أنه هل يمكن[4] التخيير عقلاً أو شرعاً[5] بين الأقل والأكثر، أولا؟

ربما يقال(1) ب«أنه محال[6]،

-------------------------------------------------------------------

[1] هذا رد لهذا القول. وحاصله: إنه مع إمكان استيفاء الغرضين فلا وجه لسقوط الثاني حين استيفاء الأول، ومع عدم إمكان استيفائها فلا وجه لإيجاب كليهما معيناً.

[2] أي: تعييناً.

[3] لعله إشارة إلى أن مرجع هذا القول هو إلى واجبين مشروطين؛ وذلك مما لا إشكال فيه، أي: يجب هذا بشرط عدم الإتيان بذاك وبالعكس.

التخيير بين الأقل والأكثر
اشارة

[4] فلو ثبتت الاستحالة فإنه حينئذٍ لابد من تأويل ما ورد في الشرع مما ظاهره التخيير بين الأقل والأكثر، كأن يقال باستحباب الأكثر مثلاً.

[5] العقلي في ما لو كان الغرض واحداً ومتعلق الوجوب كان الجامع بينهما، والشرعي في ما لو كان الغرض متعدداً - على ما مرّ - .

الإشكال الأول

[6] بيّن بعضهم الاستحالة بأنه مع الإتيان بالأقل يحصل الغرض، وبحصول الغرض يسقط الأمر، فلا مجال لامتثال الأكثر.

لكنه لا ينطبق على كل الموارد؛ إذ منها:

1- ما يحصل الأقل والأكثر دفعة واحدة لا بالتدريج، كالمسح بالأصابع الثلاثة وبالواحد، والنزح دفعة ثلاثين أو أربعين دلواً.

ص: 219


1- جواهر الكلام 10: 43.

فإن الأقل إذا وجد[1] كان هو الواجب لا محالة ولو كان في ضمن الأكثر، لحصول الغرض به[2]، وكان الزائد عليه من أجزاء الأكثر زائداً على الواجب».

لكنه[3] ليس كذلك، فإنه إذا فرض أن المُحصّل[4] للغرض في ما إذا وجد الأكثر

-------------------------------------------------------------------

2- وقوع الأجزاء الزائدة التي يتحقق بها الأكثر في أثناء الأقل، كما في التخيير بين القصر والتمام، فإن الركعتين الزائدتين واقعتان قبل السلام.

فلذا عدل المصنف عن هذا إلى تقريره الذي ذكره.

[1] حاصل الإشكال: إن الأقل يحصل به الغرض مطلقاً - سواء كان في ضمن الأكثر أم لم يكن في ضمنه - ومع قيام الغرض بشيء فإن الزائد عليه لا يكون واجباً قطعاً؛ لعدم الغرض فيه.

[2] أي: لحصول الغرض بالأقل، «عليه» على الأقل، «الواجب» أي: الأقل، وخبر (كان) قوله: (زائداً على الواجب).

الجواب

[3] حاصل الجواب: إن الأقل - في مرحلة الثبوت - على قسمين:

القسم الأول: أن يكون الأقل محصلاً للغرض بشرط عدم انضمام الأكثر إليه، أما إذا انضم الأكثر إليه فإن الأقل لا يكون محصلاً للغرض، بل الأكثر محصل للغرض، فهنا يكون التخيير بين الأقل والأكثر لا محالة، وإلى هذا القسم أشار المصنف بقوله: (فإنه إذا فرض... الخ).

القسم الثاني: أن يكون الأقل محصلاً للغرض مطلقاً - سواء انضم إليه سائر أجزاء الأكثر أم لا - وهنا يرد الإشكال ويستحيل التخيير بينهما، وإلى هذا القسم أشار المصنف بقوله: (نعم، لو كان الغرض مترتباً... الخ).

[4] وحاصله: إن الغرض هو (الأقل بشرط لا) محصل للغرض، فلو انضم إليه الأكثر لا يكون الأقل محصلاً للغرض، بل يكون الأكثر محصلاً للغرض.

ص: 220

هو الأكثر، لا الأقل الذي في ضمنه - بمعنى أن يكون لجميع أجزائه[1] حينئذٍ دخل في حصوله، وإن كان الأقل لو لم يكن في ضمنه كان وافياً به[2] أيضاً - فلا محيص[3] عن التخيير بينهما، إذ تخصيص الأقل بالوجوب حينئذٍ كان بلا مخصص[4]، فإن الأكثر بحده يكون مثله على الفرض[5]، مثل أن يكون الغرض[6]

-------------------------------------------------------------------

ومثاله العرفي: لو أمر المولى ببناء دار، فإن العبد مخير بين بناء دار كبيرة ودار صغيرة. وكما لو أمره بصبغ الشيء، وكان الماء لو وضع فيه مادة بمقدار كيلو مثلاً كان لونه أصفر، وبمقدار كيلوين كان لونه أحمر، وكان المولى لا فرق عنده بين الأصفر والأحمر، فإن العبد مخيّر بين وضع المادة بمقدار الأقل، وبين وضعها بمقدار الأكثر وهكذا.

ومثاله الشرعي: التخيير بين القصر والتمام في مواطن التخيير. وكذا بين التسبيحات ثلاث مرات ومرة واحدة. وكذا نزح ثلاثين أو أربعين دلواً في بعض المنزوحات.

[1] أي: أجزاء الأكثر، «حينئذٍ» أي: حين الإتيان بالأكثر، «حصوله» حصول الغرض.

[2] أي: لو لم يكن في ضمن الأكثر كان وافياً بالغرض أيضاً، أي: كوفاء الأكثر بالغرض.

[3] هذا جزاء (إذا) في قوله: (إذا فرض).

[4] أي: بلا وجه صحيح، حيث إن كلا الأمرين وافيان بالغرض، ولا مانع من وجوبهما، فلا معنى لكون أحدهما واجباً دون الآخر.

[5] أي: يكون الأكثر - بما هو أكثر - مثل الأقل في الوفاء بالغرض، «على الفرض» وهو كون المُحصِّل للغرض إمّا الأقل إن لم ينضم إليه الأجزاء الأخرى، وإمّا الأكثر إن انضم إليه.

[6] فإذا أمر المولى برسم خط، ويحصل غرضه بالخط الطويل وكذلك بالخط

ص: 221

الحاصل من رسم الخط مترتباً على الطويل إذا رسم بما له من الحد، لا على القصير في ضمنه، ومعه[1] كيف يجوز تخصيصه بما لا يعمه؟ ومن الواضح كون هذا الفرض[2] بمكان من الإمكان[3].

إن قلت[4]: هبه[5] في مثل ما إذا كان للأكثر وجود واحد لم يكن للأقل في

-------------------------------------------------------------------

القصير، وكان حصول الغرض بأحد أمرين: إما القصير بحدّه، وإما بالخط الطويل بكلّه لا بالقصير الذي في ضمنه، فإنه حينئذٍ لا وجه لتخصيص الواجب ببعض الخط الطويل.

[1] أي: مع حصول الغرض بالأكثر - بحدّه - كيف يجوز تخصيص الوجوب بشيء لا يشمل الأكثر؟ أي: تخصيصه بالأقل، بل اللازم شمول الوجوب لما يعم الأكثر، أي: للأقل وللأكثر.

[2] أي: دخل خصوصية الوجود - من الأكثر أو الأقل - وبعبارة أخرى: دخل (بشرط لا) و(بشرط شيء) في الغرض.

[3] إذن: لا محذور عقلي في التخيير بين الأقل والأكثر، فلا اضطرار إلى التأويل وحمل الأكثر على استحباب الأجزاء الزائدة مثلاً.

الإشكال الثاني

[4] حاصل الإشكال: هو إمكان التخيير بين الأقل والأكثر في ما لو وجد الأكثر دفعة، أما لو وجد بالتدريج فلا يمكن التخيير؛ وذلك لأنه بمجرد حصول الأقل يحصل الغرض، ومع حصوله يسقط الوجوب، فلا معنى لكون سائر الأجزاء باقية على صفة الوجوب، فلو أتى بالتسبيحات بالمرة الأولى سقط الوجوب؛ لحصول الغرض، فلا معنى لوجوب المرة الثانية والثالثة من التسبيحات.

[5] (هَبْ) بمعنى افرض، والهاء في «هبه» ضمير، أي: لنفرض أن التخيير بينهما ممكن في صورة الوجود الدفعي للأكثر، «ضمنه» ضمن الأكثر.

ص: 222

ضمنه وجود على حدة - كالخط الطويل الذي رسم دفعةً بلا تخلل سكون في البين -، لكنه[1] ممنوع في ما كان له في ضمنه وجود - كتسبيحة في ضمن تسبيحات ثلاث، أو خط طويل رسم مع تخلل العدم في رسمه -، فإن الأقل قد وجد بحده، وبه[2] يحصل الغرض على الفرض، ومعه لا محالة يكون الزائد عليه مما لا دخل له في حصوله، فيكون زائداً على الواجب، لا من أجزائه.

قلت[3]: لا يكاد يختلف الحال بذاك[4]، فإنه مع الفرض لا يكاد يترتب الغرض على الأقل في ضمن الأكثر، وإنما يترتب عليه بشرط عدم الانضمام، ومعه[5] كان مترتباً على الأكثر بالتمام.

وبالجملة: إذا كان كل واحد من الأقل والأكثر بحده[6] مما يترتب عليه الغرض، فلا محالة يكون الواجب هو الجامع بينهما[7]، وكان التخيير بينهما عقلياً إن كان

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: لكن التخيير بين الأقل والأكثر، «له» للأقل، «ضمنه» ضمن الأكثر.

[2] أي: وبوجود الأقل بحده، «الفرض» وهو وجوب الأقل تخييراً، «ومعه» مع حصول الغرض بالأقل، «عليه» على الأقل، «حصوله» حصول الغرض.

الجواب

[3] حاصل الجواب: إن الأقل (بشرط لا) كان محصلاً للغرض، فإذا انضم إليه شيء لا يكون (بشرط لا)، فلا يحصل الغرض به.

[4] أي: لا يختلف الحال بتدريجية الوجود ودفعيته، «فإنه» للشأن، مع الفرض الذي ذكرناه، وهو حصول الغرض (بشرط لا) و(بشرط الزيادة).

[5] مع الانضمام إلى سائر الأجزاء.

[6] حد الأقل: هو وجوده بشرط عدم الانضمام، وحد الأكثر: هو وجوده بشرط الانضمام.

[7] حتى لا يتوهم أحد أنه كيف أمكن صدور الغرض الواحد من أمرين متباينين، وهما (بشرط لا) و(بشرط شيء)؟ فنقول: إن المُحصِّل للغرض هو شيء

ص: 223

هناك غرض واحد، وتخييراً شرعياً في ما كان هناك غرضان على ما عرفت.

نعم، لو كان الغرض[1] مترتباً على الأقل، من دون دخل للزائد، لما كان الأكثر مثل الأقل وعِدلاً له، بل كان فيه اجتماع الواجب وغيره - مستحباً كان أو غيره[2] - حسب اختلاف الموارد، فتدبر جيداً.

فصل: في الوجوب الكفائي[3].

-------------------------------------------------------------------

واحد هو جامع بينهما. أو أن هنا غرضين لا يمكن الجمع بينهما - كما مرّ - .

[1] هذا هو القسم الثاني من القسمين اللذين أشرنا إليهما في دفع شبهة استحالة التخيير بين الأقل والأكثر.

وحاصله: إنّ الغرض إن كان يترتب على الأقل مطلقاً، سواء انضم إليه سائر الأجزاء أم لا، فإنه في هذه الصورة يستحيل التخيير بين الأقل والأكثر.

[2] المستحب: كالتسبيحة الثانية والثالثة - على قول -(1).

والمكروه: كالقِران بين السورتين في الصلاة - على قول -(2).

والمباح: كالعشرة الرابعة في النزح - في ما توهم التخيير بين الثلاثين والأربعين -(3).

والحرام: كالغسل الثالث في الوضوء(4)

- لو قلنا بالحرمة التكليفية - .

فصل الواجب الكفائي

[3] لا إشكال في وقوع الواجب الكفائي في الخارج، إنّما الكلام في كيفية تصويره.

ص: 224


1- الحدائق الناضرة 8: 435؛ روض الجنان 1: 105؛ كشف الغطاء 3: 185.
2- الألفية والنفلية: 86؛ رسائل المحقق الكركي 1: 109؛ تذكرة الفقهاء 1: 116.
3- مختلف الشيعة 1: 201.
4- من لا يحضره الفقيه 1: 47؛ جواهر الكلام 2: 267 - 279.

والتحقيق[1] أنه سنخ من الوجوب، وله تعلق بكل واحد[2]، بحيث لو أخل[3] بامتثاله الكل لعوقبوا على مخالفته جميعاً، وإن سقط عنهم[4] لو أتى به بعضهم. وذلك[5] لأنّه قضية ما إذا كان هناك غرض واحد حصل بفعلٍ واحدٍ[6]، صادرٍ

-------------------------------------------------------------------

وخلاصة الإشكال هو: إن ترك الجميع للواجب الكفائي موجب لاستحقاقهم جميعاً للعقاب لعصيانهم جميعاً، ولازم عصيانهم جميعاً وجوبه على الجميع، في حين أن الكفائي واجب على البعض دون الكل ويسقط بفعل بعضهم.

[1] حاصله: إن الوجوب تعلق بكل المكلفين على نحو الوجوب الاستغراقي، فهنا ثلاث صور:

1- إن تركه جميعهم استحقوا العقاب بأجمعهم؛ لترك كل واحد منهم واجباً.

2- إن أتوا به جميعاً دفعة فقد امتثلوه جميعاً، ويستحقون الثواب جميعاً - إما ثواب واحد موزع عليهم، أو لكل واحد ثواب - .

3- إن أتى به أحدهم سقط عن الباقين؛ لأحد أمرين: إمّا لحصول الغرض، وعليه لا معنى لبقاء الوجوب، كما لو صلى أحدهم على الميت، وإمّا لفوات الموضوع، كما لو أمرهم المولى بقتل حيوان فقتله أحدهم.

[2] أي: هو واجب بنحو عام استغراقي يدخل تحته جميع المكلفين.

[3] إشارة إلى الصورة الأولى.

[4] إشارة إلى الصورة الثالثة.

[5] بيان لعلة السقوط، وإشارة إلى الأمر الأول من عِلّة السقوط، وهو حصول الغرض، فلا معنى لبقاء الوجوب، «لأنّه» لأن السقوط عن الباقين.

نعم، يمكن أن يقال - كما قيل في التخييري - : بإمكان غرضين وسقوط أحدهما بحصول الآخر؛ لعدم تمكن العبد من الإتيان بهما.

[6] «واحد» صفة فعل، أي: المهم هو حصول الفعل؛ لأن الغرض كان متعلقاً بالطبيعة وهذه الطبيعة تحصل بالفعل مرة واحدة، سواء كان الفاعل متعدداً أم واحداً.

ص: 225

عن الكل أو البعض. كما أن الظاهر[1] هو امتثال الجميع لو أتوا به دفعة، واستحقاقهم للمثوبة، وسقوط الغرض بفعل الكل، كما هو قضية[2] توارد العلل المتعددة على معلول واحد.

فصل[3]: لا يخفى أنه وإن كان الزمان مما لابد منه عقلاً[4] في الواجب، إلاّ أنه

-------------------------------------------------------------------

[1] إشارة إلى الصورة الثانية.

ولعل قوله: «الظاهر» للإشارة إلى عدم إمكان ذلك في بعض الصور، كما لو كان غرض المولى يتعلق بتحقق الفعل مستنداً إلى الواحد لا إلى الأكثر - لوجود محاذير في الأكثر مثلاً- .

[2] هذا دليل الصورة الثانية، وحاصله: إن اجتماع الجميع على الفعل الواحد سبب لتحقق المأمور به، فيكون كل واحد جزءاً من العلة؛ لامتناع استقلال كل واحد بحيث يكون الأثر مستنداً إلى كل واحد واحد بالاستقلال؛ لاستحالة تعدد العِلة المستقلة على المعلول الواحد، بل يكون كل واحد جزء العلة.

فصل الواجب الموسع والموقت وغيرهما

اشارة

[3] لا إشكال في الواجب الموسع لا ثبوتاً ولا إثباتاً، كما أنه واقع خارجاً كالصلوات اليومية. وأما الإشكال ثبوتاً: بعدم إمكان الموسع فلابد من تأويل ما ورد في الشرع منه! فهو إشكال باطل كما سيأتي.

[4] لأن المأمور به فعل للممكن، وفعله لا يخرج عن الزمان والمكان.

وبعبارة أخرى: الأفعال زمانية فلابد من وقوعها في زمان، وكذلك مكانية فلابد من وقوعها في المكان، فالزمان والمكان ظرفان مطلقاً.

ص: 226

تارةً[1]

مما له دخل فيه شرعاً[2] فيكون «موقتاً»، وأخرى لا دخل له فيه أصلاً فهو «غير موقت».

والموقت إما أن يكون الزمان المأخوذ فيه بقدره ف«مضيق»، وإما أن يكون أوسع منه ف«موسع».

ولا يذهب عليك[3]: أن الموسع كلي، كما كان له أفراد دفعية[4] كان له أفراد تدريجية[5]، يكون التخيير بينها[6] كالتخيير بين أفرادها الدفعية عقلياً.

-------------------------------------------------------------------

[1] تقسيم للواجب بلحاظ دخالة الوقت.

1- فالموقت: ما جعل الشارع الزمان قيداً للواجب، كالصلاة والصوم.

أ: فإن كان الوقت أكثر من الواجب فهو الموسع، كالصلوات اليومية.

ب: وإن كان الوقت بمقدار الواجب فهو المضيق، كالصوم نهاراً.

2- وغير الموقت: ما لم يجعل الشارع الزمان قيداً فيه، كصلاة الزلزلة،و كقضاء الصلوات - بناءً على المواسعة - .

[2] أي: له دخل في الواجب؛ وذلك لمدخليته في المصلحة.

التخيير عقلي

[3] هذا بيان أن التخيير عقلي لا شرعي؛ وذلك لأنه مع وحدة الغرض فالأمر يكون بالجامع - وهو الطبيعة الكلية - وحينئذٍ يكون التخيير عقلياً لا محالة.

[4] أي: أفراد عرضية كما في أول الوقت يمكنه القيام بالصلاة في أمكنة متعددة وبكيفيات مختلفة.

[5] أي: طولية كأن يأتي بها في الزمان الأول أو الثاني أو الثالث وهكذا.

[6] أي: بناءً على وحدة الغرض، فإنه لا فرق بين الأفعال المختلفة في الزمان الواحد، وبين الأوقات المختلفة - كأول الوقت ووسطه وآخره - من جهة أن مراد المولى الطبيعة، وطريقة إيجاد الطبيعة موكول إلى العبد، وهو تخيير عقلي.

ص: 227

ولا وجه لتوهم أن يكون التخيير بينها شرعياً، ضرورة[1] أن نسبتها إلى الواجب نسبة أفراد الطبائع إليها، كما لا يخفى.

ووقوع الموسع فضلاً عن إمكانه مما لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه، ولا اعتناء ببعض التسويلات[2]، كما يظهر من المطولات[3].

ثم إنه[4]

-------------------------------------------------------------------

[1] بيان وجه كون التخيير عقلياً لا شرعياً، و«نسبتها» أي: نسبة الأفراد الطولية كنسبة الأفراد العرضية في كونها جميعاً أفراداً للطبيعة الواحدة.

ادعاء الاستحالة

[2] منها: إن جواز الترك في بعض الأوقات في الموسع ينافي الوجوب؛ إذ قوام الوجوب عدم جواز الترك.

وفيه: ما مرّ في التخييري، من أن هذا لا يجوز تركه إلاّ إلى بدل، وهو نحو وجوبٍ.

ومنها: لو جاز تركه في أول الوقت لجاز تركه في كل الوقت؛ لأنه يجوز تركه في أي زمان.

وفيه: إن جواز الترك مشروط بكونه إلى بدل.

[3] وهؤلاء القائلون بالاستحالة في الأوامر الظاهرة في الموسع اضطروا إلى تأويلات، منها: إن الواجب في أول الوقت فقط أو أنه في آخر الوقت، لكن لو فعله في أول الوقت كان مستحباً، ولكنه يسقط الواجب.

هل القضاء تابع للأداء؟

[4] لو فات الواجب الموقت فهل يجب تداركه بالقضاء خارج الوقت أم لا؟

والكلام تارة يكون في مقام الثبوت، وتارة في مقام الإثبات:

أما مقام الثبوت: فإنه لو كان بنحو تعدد المطلوب - بأن كان المولى يريد الفعل

ص: 228

لا دلالة للأمر بالموقت[1] بوجه على الأمر[2] به في خارج الوقت بعد فوته في الوقت لو لم نقل بدلالته[3] على عدم الأمر به.

-------------------------------------------------------------------

مطلقاً، ويريد أيضاً الوقت بحيث لو خرج الوقت كان مطلوبه بأصل الفعل باقياً - فإن الوجوب يبقى بعد فوات الوقت، فيجب القضاء.

وإن كان بنحو وحدة المطلوب - بأن كان المولى يريد الفعل في وقت خاص فقط دون غيره - فلا يبقى الوجوب بعد فوات الوقت.

أما في مقام الإثبات، ففيه أقوال، ومنها:

1- قد يقال(1):

إن القضاء تابع للأداء، فلا نحتاج إلى دليل آخر للقضاء، بل يلزم قضاء كل واجب فات.

2- وقد يقال(2):

بعدم تبعية القضاء للأداء، فالقضاء يحتاج إلى دليل مستقل.

3- والمصنف فصّل: بين كون دليل التوقيت متصلاً فلا دلالة، وبين كونه منفصلاً وفيه دلالة في صورة، وعدم الدلالة في ثلاث صور.

[1] هذا في صورة كون دليل التوقيت متصلاً، كقوله: {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمۡسِ...}(3) الآية. فهنا لا دلالة لدليل الأمر على تعدد المطلوب، فلا يلزم القضاء بعد فوت الوقت.

نعم، يمكن إيجاب القضاء بأمر مستقل آخر.

[2] أي: لا دلالة بوجه من الوجوه على تعدد المطلوب، لا الدلالة المطابقية ولا التضمنية ولا الالتزامية ولا الاقتضاء ونحوها.

[3] القول بالدلالة على عدم لزوم القضاء مبني على حجية مفهوم الوصف، فإن الوقت قيدٌ يفيد معنى الوصف - على ما قيل - .

ص: 229


1- تذكرة الفقهاء 4: 354.
2- قوانين الأصول 1: 133.
3- سورة الإسراء، الآية: 78.

نعم، لو كان التوقيت[1] بدليل منفصل لم يكن له إطلاق[2] على التقييد بالوقت، وكان لدليل الواجب إطلاق[3]، لكان قضية إطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت، وكون التقييد[4] به بحسب تمام المطلوب[5] لا أصله.

-------------------------------------------------------------------

[1] هذا في صورة كون التقييد بالوقت بدليل منفصل والأقسام - حينئذٍ - أربعة:

1- كون دليل الوجوب ودليل التوقيت مطلقين.

2- كون الدليلين مهملين أو مجملين.

3- كون دليل الوجوب مهملاً أو مجملاً ودليل التوقيت مطلقاً.

4- عكس الصورة السابقة، بأن كان دليل الوجوب مطلقاً ودليل التوقيت مهملاً أو مجملاً.

ففي الصور الثلاث الأولى لا دلالة على الوجوب خارج الوقت. وفي الصورة الرابعة يبقى الوجوب خارج الوقت؛ لأنه من باب تعدد المطلوب.

[2] «لم يكن له إطلاق» صفة لقوله: (دليل منفصل)، ومعنى إطلاق دليل التوقيت: هو كون التقييد لجميع مراتب المصلحة لا لبعضها، فجميع مراتب المصلحة مقيدة بالوقت، فلا مصلحة في غير الوقت، أما لو لم يكن مطلقاً كان معناه التقييد لبعض مراتب المصلحة دون كلِّها، فيخرج عن هذا القسم.

[3] أي: إطلاق الدليل بأن يكون وجوبه في الوقت وفي خارجه، وهذه الصورة الرابعة.

[4] عطف على ثبوت الوجوب، «به» بالوقت؛ وذلك لأن الوجوب كان مطلقاً في الوقت وفي خارجه الوقت، وكان للوقت مصلحة زائدة، فبانتفاء الوقت يبقى أصل الوجوب.

[5] أي: المطلوب التام؛ وذلك لأن في الوقت مصلحتين، مصلحة أصل الفعل ومصلحة الوقت، أو أنها مصلحة واحدة شديدة، وفي خارج الوقت مصلحة واحدة من مرتبة دانية.

ص: 230

وبالجملة: التقييد بالوقت كما يكون بنحو وحدة المطلوب[1]، كذلك ربما يكون بنحو تعدد المطلوب[2] - بحيث كان أصل الفعل ولو في خارج الوقت مطلوباً في الجملة وإن لم يكن بتمام المطلوب -، إلاّ أنه لابد[3] في إثبات أنه بهذا النحو من دلالة، ولا يكفي الدليل على الوقت إلاّ في ما عرفت[4].

ومع عدم الدلالة[5] فقضية أصالة البراءة[6] عدم وجوبها في خارج الوقت. ولا مجال لاستصحاب وجوب الموقت[7] بعد انقضاء الوقت، فتدبر جيداً.

-------------------------------------------------------------------

[1] وهذه الصورة الثالثة.

[2] وهذه الصورة الرابعة.

[3] أي: يلزم إثبات كون دليل الوجوب مطلقاً، ودليل الوقت مهملاً أو مجملاً.

[4] أي: مجرد كون الدليل على الوقت منفصلاً لا يكفي في إثبات الوجوب بعد الوقت، إلاّ إذا كان بالنحو الذي عرفته من كون الدليل على الوقت مهملاً أو مجملاً، مع كون الدليل على الوجوب مطلقاً.

ومن ذلك يتضح حكم الصورة الأولى والثانية، إذ في الأولى يتعارض الإطلاقان، وفي الثانية دليل الوقت مهمل فلا دلالة على الحكم في خارج الوقت في الصورتين.

الأصل العملي

[5] أي: مع عدم وجود دليل لإثبات تعدد المطلوب - كما في الصور الثلاث الأولى - فلابد من الرجوع إلى الأصل العملي، وهو على أحد نحوين: إما البراءة أو الاستصحاب.

[6] لأنه شك في أصل التكليف في خارج الوقت.

[7] بيان الاستصحاب: هو أنه في الوقت يعلم الوجوب، وبعد الوقت يشك في بقاء الوجوب، فنستصحب الوجوب.

ص: 231

فصل: الأمر بالأمر[1] بشيء أمر به لو كان[2] الغرض حصوله، ولم يكن له غرض في توسيط أمر الغير به إلاّ تبليغ أمره به، كما هو المتعارف في أمر الرسل بالأمر أو النهي.

وأما لو كان الغرض[3] من ذلك يحصل بأمره بذاك الشيء - من دون تعلق غرضه

-------------------------------------------------------------------

بيان عدم جريانه: إنه يلزم في الاستصحاب وحدة الموضوع. وهنا الموضوع هو الوجوب المقيد بالوقت، وبانتفاء القيد ينتفي الموضوع، ببيان (أن الزمان إذا أخذ قيداً للفعل كان الفعل المقيد به غير الفعل الواقع خارجه، فتسرية الحكم من الأول إلى الثاني من قبيل تسرية الحكم من موضوع إلى آخر، فيكون من القياس لا من الاستصحاب) - كما في الحقائق -(1).

فصل الأمر بالأمر

اشارة

[1] تارة يكون البحث في مقام الثبوت، وفيه يمكن أحد أمور:

أ - أن يكون الغرض مجرد التبليغ.

ب - أن لا يكون هنالك غرض إلاّ صدوره من الآمر الثاني.

ج - أن يكون هنالك غرض لا يتحقق إلاّ بشرط صدوره من الآمر الثاني.

وتارة في مقام الإثبات، وهو ما سيأتي في قول المصنف: (وقد انقدح... الخ).

[2] هذه هي الصورة الأولى من مرحلة الثبوت، أي: يريد المولى حصول الفعل في الخارج، والآمر الثاني مجرد واسطة لإيصال وتبليغ الحكم. ففي هذه الصورة يجب على المأمور به الالتزام والعمل بذلك الحكم، حتى إذا لم يبلغه الآمر الثاني - عصياناً أو نسياناً أو لمانع آخر - .

[3] هذه هي الصورة الثانية من مرحلة الثبوت، أي: لو كان غرض المولى من

ص: 232


1- حقائق الأصول 1: 341.

به، أو مع تعلق غرضه[1] به لا مطلقاً، بل بعد تعلق أمره[2] به - فلا يكون أمراً بذاك الشيء، كما لا يخفى.

وقد انقدح بذلك[3]: أنه لا دلالة بمجرد الأمر بالأمر على كونه أمراً به، ولابد في الدلالة عليه من قرينة عليه.

-------------------------------------------------------------------

ذلك الأمر يحصل إذا بلّغ الرسول ذلك الحكم، كما لو أراد اختبار الناس في إطاعتهم للرسول - مثلاً - .

[1] هذه هي الصورة الثالثة من مرحلة الثبوت، أي: مع تعلق غرض المولى بذلك العمل، لكن بشرط صدور أمر الرسول به، فيكون وزانه وزان القطع الموضوعي الذي يكون القطع جزءاً من الموضوع.

[2] أي: أمر الرسول - الواسطة - .

[3] إشارة إلى مقام الإثبات. حيث إنه يمكن في مقام الثبوت الاحتمالات الثلاثة، ولا مرجح في مقام الإثبات لأحدها على الآخر، فلابد من وجود قرينة على أحدها، ومع فقد القرينة فالأصل يقتضي البراءة، وعدم لزوم تنفيذ المأمور به لذلك الأمر، إلاّ بعد صدوره من الآمر الثاني.

وان كان الأقوى هو انعقاد القرينة النوعية العرفية في كونه من التبليغ.

الثمرة

ثم إن ثمرة هذا البحث هو إثبات شرعية عبادات الصبي وأنها ليست تمرينية؛ وذلك لقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين)(1)، فلو قلنا: إنّ الأمر بالأمر بالشيء أمر به فإن صلاة الصبي مأمور بها من الشارع، فتكون شرعية لا تمرينية، فتأمل.

ص: 233


1- الكافي 3: 409.

فصل: إذا ورد أمر بشيء بعد الأمر به[1] قبل امتثاله[2]، فهل يوجب تكرار ذاك الشيء، أو تأكيد الأمر الأول والبعث الحاصل به[3]؟

قضية إطلاق المادة[4] هو التأكيد، فإن الطلب تأسيساً لا يكاد يتعلق بطبيعة واحدة مرتين من دون أن يجيء[5] تقييد لها في البين، ولو كان بمثل «مرة أخرى»،

-------------------------------------------------------------------

فصل الأمر بعد الأمر

اشارة

[1] كأن يقول: (أعتق رقبة) ثم يقول مرة أخرى: (أعتق رقبة). فهل الثاني تأسيس بحيث يجب عليه عتق رقبتين، بمعنى وجوب امتثالين، أم أن الثاني تأكيد، فلا يجب إلاّ عتق رقبة واحدة، بمعنى وجوب امتثال واحد؟

[2] أي: قبل امتثال الأمر الأول، أما لو امتثل الأمر الأول ثم صدر الأمر الثاني فلا معنى للتأكيد، ويجب القول بالتأسيس صوناً لكلام المولى من اللغوية؛ لأن التأكيد بعد الامتثال لغو لا يصدر من الحكيم.

[3] عطف على (الأمر الأول)، أي: تأكيد الأمر الأول وتأكيد البعث الحاصل بالأمر الأول.

[4] فإن المادة وهي (العتق) مطلقة غير مقيدة بشيء، وهذا الإطلاق يقتضي اتحاد المادة، وإلاّ لزم اجتماع المثلين، أي: اجتماع أمرين متماثلين على مأمور به واحد؛ وذلك محال.

ببيان: إن طبيعة العتق واحدة لا تكثر فيها، إلاّ إذا كانت هنالك قيود - توجب تلك القيود تنوع المادة بالنوع أو الصنف أو الشخص - ولو لم تكن قيود فإن الطبيعة تبقى واحدة، وكون الأمر الثاني تأسيساً يقتضي اجتماع أمرين متماثلين على مأمور به واحد؛ وذلك من اجتماع المثلين المحال.

[5] أما لو جاء قيد للمادة الثانية فإنها تختلف عن المادة الأولى؛ لأن المقيد غير

ص: 234

كي يكون متعلق[1] كل منهما غير متعلق الآخر، كما لا يخفى.

والمنساق من إطلاق الهيئة[2] وإن كان هو تأسيس الطلب لا تأكيده، إلاّ أن الظاهر[3] هو انسباق التأكيد عنها في ما كانت مسبوقة بمثلها ولم يذكر هناك سبب[4] أو

-------------------------------------------------------------------

المطلق، فحينئذٍ الظاهر هو التأسيس.

ولا فرق في القيد بين أي نحوٍ من القيود حتى بمثل (مرّة أخرى) كأن يقول: (أعتق رقبة) ثم يقول: (أعتق رقبة مرة أخرى)، فإن العتق الثاني غير العتق الأول؛ لأنهما فردان أو صنفان.

[1] أي: لو قيدنا المادة انتج ذلك كون متعلق الأمرين شيئين متغايرين، فلا يكون اجتماع للمثلين.

إشكال

[2] المراد من الإطلاق هنا هو الأصل المعول عليه في باب دلالة الكلام مع عدم القرينة على خلافه - كما في الحقائق -(1).

وبتعبير آخر: المراد من الإطلاق: الاستعمال.

وحاصل الإشكال: هو أن المتبادر من الهيئة هو التأسيس لا التأكيد، حيث إن الهيئة في الأمر الثاني تكشف عن إرادة أخرى غير الإرادة في الأمر الأول.

الجواب

[3] أي: الأصل هو التأسيس لكن هنا توجد قرينة دالة على التأكيد، وهو الظهور النوعي في التأكيد في مثل هذه الموارد.

[4] أما إذا ذكر لأحدهما سبب ولم يذكر للآخر، فالظاهر هو التأسيس، كما لو قال: (أعتق رقبة) ثم قال: (إن أفطرت فأعتق رقبة) وذلك لعدم التنافي بين المثبتين، فلا يحمل المطلق على المقيد، وعدم وجود القرينة النوعية على التأكيد، فلابد من

ص: 235


1- حقائق الأصول 1: 343.

ذكر سبب واحد[1].

-------------------------------------------------------------------

التمسك بإطلاق الهيئة ووجود إرادتين، مما يلزم كونه أمرين.

[1] أي: ذكر لهما سبب واحد، كما لو قال: (إن أفطرت فأعتق) ثم قال: (إن أفطرت فأعتق)، فإن القرينة النوعية على التأكيد، أما لو كان هنالك سببان، كما لو قال: (إن أفطرت فأعتق) ثم قال: (إن حنثت اليمين فأعتق) فالظاهر التأسيس لا التأكيد.

ص: 236

المقصد الثاني في النواهي

اشارة

ص: 237

ص: 238

المقصد الثاني في النواهي، فصل: الظاهر أن النهي بمادته وصيغته في الدلالة على الطلب مثل الأمر بمادته وصيغته، غير أن متعلق الطلب في أحدهما الوجود وفي الآخر العدم، فيعتبر فيه ما استظهرنا[1] اعتباره فيه بلا تفاوت[2] أصلاً.

نعم، يختص النهي بخلافٍ[3]، وهو أن متعلق الطلب فيه، هل هو الكفّ[4] أو مجرد الترك[5] وأن لا يفعل؟

-------------------------------------------------------------------

فصل مادة النهي وصيغته

اشارة

[1] لما قال: إنّ النهي مثل الأمر، تفرع على ذلك أنّه يعتبر في النهي جميع ما يعتبر في الأمر: كالعلو، والإلزام، وكونه طلباً إنشائياً، وكذا عدم دخل خصوصية المصاديق - كالتهديد والتمني وغيرها - في مفهومه، فإنها من الدواعي لا المعاني، وكذلك عدم دخل الاستعلاء والمرة والتكرار في حقيقته، إلى غير ذلك.

[2] لأن ذلك مقتضى المثليّة.

معنى النهي

[3] لأنه لا إشكال في كون الأمر طلب الفعل - على ما قيل(1)

- وأما النهي فهل هو طلب الكف أم طلب الترك، فيه خلاف.

[4] الكف هو: زجر النفس وصرفها عن إرادة الفعل، وهو أمر وجودي.

[5] فهو عدم محض.

والفرق بين الكف والترك أن بينهما عموماً مطلقاً؛ إذ كلما تحقق الكف تحقق

ص: 239


1- قوانين الأصول 1: 137؛ الفصول الغروية: 119.

والظاهر هو الثاني[1].

وتوهم أن الترك[2] ومجرد أن لا يفعل خارج عن تحت الاختيار فلا يصح أن يتعلق به البعث والطلب؛ فاسد، فإن الترك[3] أيضاً يكون مقدوراً، وإلاّ لمّا كان الفعل مقدوراً وصادراً بالإرادة والاختيار.

وكون العدم الأزلي[4]

-------------------------------------------------------------------

الترك، ولكن قد يتحقق الترك من دون أن يكون كف، كما في الغفلة أو في الأمور التي لا رغبة فيها.

[1] للتبادر العرفي من مادة أو صيغة النهي، حيث إن الغرض يتعلق بمجرد عدم تحقق الشيء في الخارج. نعم، تحقق الكف يتوقف على الرغبة في الشيء، كذلك الثواب أيضاً يتوقف على الكف لا على مجرد الترك. والحاصل: إن الامتثال يحصل بمجرد الترك، لكن الثواب يتوقف على الكف.

إشكال على الترك وجوابه

[2] حاصل الإشكال هو: إنه يلزم في متعلق التكليف أن يكون مقدوراً، والترك ليس بمقدور؛ لأنه بسبب القدرة يحصل أثر في المقدور، والعدم المحض غير قابل لأن يتأثر بالقدرة ولا بغيرها، مضافاً إلى أن القدرة حادثة فكيف تؤثر في العدم الأزلي؟

[3] حاصل الجواب هو: إن القدرة لها طرفان: الفعل والترك، وإن امتنع أحدهما اضطر للآخر، فكان اضطراراً لا قدرة، كالنار التي يمتنع منها البرودة ويصدر منها الحرارة اضطراراً، وعليه: فإن قدرته على الفعل معناها قدرته على الترك أيضاً، ولا يشترط في المقدور أن يكون أثراً للقدرة.

إشكال ثانٍ وجوابه

[4] حاصل الإشكال: استحالة كون العدم تحت القدرة؛ لأنه سابق عليها، ولا يعقل تأثير القدرة اللاحقة في العدم الأزلي.

ص: 240

لا بالاختيار لا يوجب[1] أن يكون[2] بحسب البقاء والاستمرار الذي يكون بحسبه محلاً للتكليف.

ثم إنه لا دلالة لصيغته[3] على الدوام والتكرار، كما لا دلالة لصيغة الأمر، وإن كان قضيتهما عقلاً تختلف[4]، ولو مع وحدة متعلقهما؛ بأن يكون طبيعة واحدة بذاتها وقيدها[5]

-------------------------------------------------------------------

[1] حاصل الجواب: إنا لا ندعي أن العدم الأزلي هو تحت القدرة، بل بعد حدوث القدرة يمكن للمكلف الإيجاد، ويمكنه أن لا يوجد علة الشيء فلا يوجد، وبعبارة أخرى: يمكنه استمرار العدم - إذا صحّ التعبير - .

[2] أي: يكون العدم لا بالاختيار استمراراً.

المرّة والتكرار

[3] أي: لا دلالة لصيغة النهي على الدوام؛ وذلك - لما مرّ - من أن المادة تدل على الطبيعة، والهيئة تدل على طلب الترك، فلا دلالة بوجه من الوجوه على التكرار أو المرّة.

[4] أي: لا توجد دلالة لفظية على المرّة أو التكرار، لكن العقل يحكم بكفاية المرّة في الأمر، ولزوم الدوام في النهي؛ وذلك لأن متعلقهما الطبيعة فقط، والعقل يحكم بأن الطبيعة توجد بوجود أول فرد، ولا تترك إلاّ بترك كل الأفراد الطولية والعرضية. والسر في ذلك - كما في الوصول(1)-

: أن النهي يكشف عن كراهة المولى للطبيعة، فتحقق ولو فرد واحد يكون مكروها. والأمر يكشف عن محبوبية الطبيعة للمولى، ويحصل المحبوب ولو بفرد واحد.

وهذا التفاوت ليس بسبب دلالة الأمر والنهي على المرّة والتكرار، بل بملاحظة حكم العقل.

[5] أقول: هذان القيدان زائدان؛ إذ كلام المصنف عام يشمل الطبيعة المطلقة

ص: 241


1- الوصول إلى كفاية الأصول 2: 309، مع اختلاف يسير.

تعلق بها الأمر مرة والنهي أخرى، ضرورة[1] أن وجودها يكون بوجود فرد واحد وعدمها لا يكاد يكون إلاّ بعدم الجميع، كما لا يخفى.

ومن ذلك يظهر أن الدوام والاستمرار إنما يكون في النهي إذا كان متعلقه طبيعة مطلقة غير مقيدة بزمان أو حال، فإنه حينئذٍ لا يكاد يكون مثل هذه الطبيعة معدومة إلاّ بعدم جميع أفرادها الدفعية والتدريجية[2].

وبالجملة: قضية النهي[3] ليس إلاّ ترك تلك الطبيعة التي تكون متعلقة له، كانت مقيدة أو مطلقة، وقضية تركها عقلاً إنما هو ترك جميع أفرادها.

ثم إنه[4]

-------------------------------------------------------------------

والمقيدة، وهذان يخصصان البحث بالطبيعة المقيدة، كما لو قال: في اليوم والمكان المعلومين افعل كذا أو لا تفعل كذا.

اللهم إلاّ أن يكون تصحيف في العبارة بأن تكون كلمة (أو) بدل (الواو) فالعبارة (بذاتها أو قيدها)، فالأولى تكون للطبيعة المطلقة، والثانية للطبيعة المقيدة.

[1] هذا دليل لاختلاف مقتضاهما عقلاً.

[2] وأما الطبيعة المقيدة فالنهي عنها يمتثل بترك كل أفراد الطبيعة المقيدة - طولياً وعرضياً - ولا يلزم ترك سائر أفراد الطبيعة.

[3] أي: مقتضاه حسب الدلالة اللفظية، «له» للنهي، سواء كانت مقيدة أم مطلقة.

استمرار النهي بعد المخالفة

[4] الكلام تارة في مرحلة الثبوت، وأخرى في مرحلة الإثبات.

أما في مرحلة الثبوت: فالنهي يتصور على ثلاثة أنحاء - كما في العناية -(1):

الأول: أن يكون المطلوب هو مجموع التروك من حيث المجموع، فالمخالفة ولو لمرة واحدة تُسقط غرض المولى كاملاً، فلا يبقى النهي بعد المخالفة، كما لو أمر

ص: 242


1- عناية الأصول 2: 6 - 7 و 4: 116.

لا دلالة للنهي[1] على إرادة الترك لو خولف أو عدم إرادته، بل لابد في تعيين ذلك من دلالة ولو كان إطلاق المتعلق[2] من هذه الجهة، ولا يكفي إطلاقها من سائر

-------------------------------------------------------------------

بالسكوت ساعة لكي لا يشعر بهم العدو، فخالف وتكلّم، فإن غرض المولى سقط بسبب شعور العدو بهم، فلا يفيد السكوت اللاحق. وهذا القسم عكس المأمور به الارتباطي.

الثاني: أن يكون المطلوب متعدداً بتعدد التروك، فكل ترك مطلوب مستقل، كقوله: (لا تكذب)، فلا يسقط غرض المولى بالمخالفة مرة أو مرات، ويلزمه ترك باقي الأفراد. وهذا القسم عكس المأمور به غير الارتباطي.

الثالث: أن يكون المبغوض هو المجموع من حيث المجموع. وهو المحرم الارتباطي وهو على قسمين:

1- أن تكون أجزاؤه وجودية، كالغناء والرقص، فالحركة والصوت الواحد غير محرم، بل المحرم ما صدق عليه الغناء أو الرقص.

2- أن تكون أجزاؤه عدمية، كقوله: لا تهجر الفراش أربعة أشهر، حيث إنّ المحرّم هو مجموع الهجران، أما لو ترك تمام المدة إلاّ يوماً واحداً فإنه لم يخالف النهي؛ لعدم تحقق المنهي عنه وهو المجموع. هذا كله في مرحلة الثبوت.

[1] هذا ذكر لمرحلة الإثبات. فإنّ تعيين كون النهي من أي الأقسام يحتاج إلى دلالة خاصة، حيث إنها تدل على ترك الطبيعة من دون النظر إلى الأفراد، وحيث كان ترك جميع الأفراد بدلالة العقل فلا توجد دلالة لفظية في البين، فلابد من وجود دليل آخر.

[2] المتعلق هو (المنهي عنه)، كالكذب، فإنّ المولى لم يقيد الكذب بكونه مسبوقاً بالمخالفة أو الموافقة للنهي، فقوله: (لا تكذب) معناه أن عليك ترك الكذب مطلقاً - سواء كذبت مرّة أو مرّات أم لم تكذب إطلاقاً - .

ص: 243

الجهات[1]، فتدبر جيداً.

فصل: اختلفوا في جواز اجتماع الأمر والنهي في واحد[2] وامتناعه على أقوال[3]، ثالثها جوازه عقلاً وامتناعه عرفاً[4].

-------------------------------------------------------------------

[1] وذلك لإمكان الإطلاق من جهة والإهمال أو التقييد من جهة أخرى. ومن أمثلة سائر الجهات: الإطلاق من جهة الفور والتراخي، والإطلاق من جهة الزمان والمكان ونحوهما.

فصل في اجتماع الأمر والنهي

اشارة

[2] أي: لو تعلق الأمر والنهي بطبيعتين متصادقتين على موجود واحد فهل يلزم منه اجتماع الأمر والنهي أم لا؟

لأن اجتماع المتضادين محال بالبداهة، فلا خلاف في الكبرى، وإنّما الخلاف في أن ما نحن فيه من مصاديق الاجتماع أم لا.

[3] القول الأول: المنع مطلقاً(1). وهو مذهب أكثر أصحابنا، وجمهور المعتزلة، وبعض الأشاعرة، وأدعي عليه الإجماع، بل والضرورة. لأن تعدد العنوان والوجه لا يوجب تعدد المتعلق، فلا يعقل تعلق الأمر والنهي به؛ إذ هو من اجتماع الضدين المحال.

القول الثاني: الجواز مطلقاً(2).

وهو مذهب أكثر الأشاعرة، ووافقهم المحقق الخوانساري والمحقق القمي وغيرهما، بل حُكي عن الفضل بن شاذان. لأن تعدد الوجه والعنوان يوجب تعدد المتعلق فلا يلزم اجتماع الضدين.

القول الثالث: التفصيل. وهو المحكي عن الأردبيلي.

[4] لأن العقل - بالدقة - يرى التعدد فلا مانع عنده، لكن العرف ينظر بنظرة مسامحيّة فيراه واحداً.

ص: 244


1- الفصول الغروية: 125؛ معالم الدين: 93.
2- قوانين الأصول 1: 140.

وقبل الخوض في المقصود يقدم أمور:

الأول: المراد بالواحد مطلق[1] ما كان ذا وجهين ومندرجاً تحت عنوانين، بأحدهما كان مورداً للأمر وبالآخر للنهي، وإن كان كلياً مقولاً[2] على كثيرين كالصلاة في المغصوب.

وإنما ذكر[3] لإخراج[4] ما إذا تعدد متعلق الأمر والنهي ولم يجتمعا وجوداً - ولو

-------------------------------------------------------------------

الأمر الأول: معنى الواحد

[1] ظن صاحب الفصول أن المراد بالواحد هو الواحد الشخصي، وأما الواحد النوعي أو الواحد بالجنس فلا إشكال في الاجتماع فيه باعتبار أفراده أو أصنافه المختلفة، كالسجود فإنه واجب وحرام، واجب لله، وحرام للصنم.

لكن هذا التخصيص محل إشكال؛ إذ المراد بالواحد هو ما تصادق عنوانان كليان في الخارج على شيء واحد، سواء كان واحداً شخصياً أم نوعياً أم واحداً بالجنس، وليس المراد الواحد بالمفهوم، مثلاً: الصلاة في المكان المغصوب فإنه كلي ينطبق على أفراد كثيرة، لكن في الخارج المصداق واحد، حيث إنّ الذي هو صلاة هو غصب أيضاً.

أمّا مثال السجود، ففيه: إنّ المصداق الخارجي متعدد وليس واحداً؛ لعدم اجتماع السجود لله وللصنم في فرد واحد، بل في مصداقين لا يجتمعان.

فمسألة الاجتماع إنما تكون إذا كان الشيء مصداقاً لعنوانين - كلياً كان أم جزئياً - أما إذا لم يكن الشيء مصداقاً لعنوانين، بل كان فردان أحدهما مصداق لهذا والآخر مصداق لذاك فليس من مسألة الاجتماع في شيء.

[2] أي: كلياً صادقاً على كثيرين.

[3] أي: إنّما ذكر قيد الوحدة لإخراج ما إذا تعدد المصداق.

[4] أي: ليس قيد الوحدة لإخراج الواحد النوعي أو الواحد بالجنس.

ص: 245

جمعهما واحد مفهوماً، كالسجود لله تعالى والسجود للصنم مثلاً - لا لإخراج الواحد الجنسي أو النوعي، كالحركة والسكون[1] الكليين المعنونين بالصلاتية والغصبية.

الثاني[2]: الفرق بين هذه المسألة ومسألة النهي في العبادة هو أن الجهة المبحوث

-------------------------------------------------------------------

[1] فإنهما ليسا واحداً بالشخص، ومع ذلك داخلان في حريم النزاع، حيث ينطبق عليهما عنوان الصلاة والغصب في المصداق الخارجي.

الأمر الثاني: الفرق بين المسألتين
اشارة

[2] توهم البعض عدم الفرق بين مسألة الاجتماع ومسألة النهي عن العبادة؛ وذلك: لأن الأمر والنهي مجتمعان في كلا المسألتين؛ ولذا عقد المصنف هذا الأمر لبيان الفرق.

وما قيل في الفرق عدة أمور:

1- جواب المصنف: حيث يرى تعدد الجهة المبحوث عنها، حيث نبحث أولاً عن إمكان الاجتماع أو عدم الإمكان، ثم بعد ثبوت عدم الإمكان نبحث عن ترجيح أيٍ من الطرفين؟ فهل يُرجَّح جانب الأمر أم جانب النهي؟

2- جواب الفصول(1):

حيث يرى تعدد الموضوع، ففي مسألة الاجتماع الموضوع هو طبيعتان متغايرتان كالصلاة والغصب، وفي مسألة النهي عن العبادة الموضوع طبيعة واحدة - مطلقة في أحدهما ومقيدة في الآخر - .

3- جواب المحقق القمي(2):

في الاجتماع، النسبة بين متعلقي الأمر والنهي عموم من وجه، كالصلاة والغصب. وفي النهي عن العبادة، النسبة بينهما عموم مطلق، كقوله: (صلّ) وقوله: (لا تصلّ في غير المأكول).

4- جواب آخر: حيث يرى أن البحث في أحدهما - الاجتماع - عقلي، وفي الآخر - النهي عن العبادة - لفظي.

ص: 246


1- الفصول الغروية: 140.
2- قوانين الأصول 1: 142.

عنها[1] فيها - التي بها تمتاز المسائل[2] - هي أن تعدد الوجه والعنوان في الواحد يوجب تعدد متعلق الأمر والنهي - بحيث يرتفع به غائلة[3] استحالة الاجتماع في الواحد بوجهٍ واحد - أو لا يوجبه، بل يكون حاله حاله[4]؟ فالنزاع[5] في سراية كل

-------------------------------------------------------------------

[1] المبحوث عن تلك الجهة، «فيها» في مسألة الاجتماع.

[2] تمايز العلوم بالغرض، كما مرّ في صدر الكتاب. وتمايز مسائل العلم الواحد بعضها عن البعض ليس بتعدد الموضوع، بل بتعدد المحمول حتى إذا كان الموضوع واحداً.

وهنا البحث في الاجتماع في إمكانه، فيقال: هل الاجتماع ممكن أم لا؟ وهناك بعد الفراغ عن إمكانه، فيقال: الاجتماع مُبطلٌ أم لا؟

[3] أي: بحيث ترتفع الاستحالة بتعدد متعلق الأمر والنهي؛ لأن اجتماع الضدين في شيء واحد من جهة واحدة محال قطعاً، ومن شروط الاستحالة هو كون الجهة واحدة، وهي شروط ثمانية - في التناقض وكذا في التضاد - جمعها الشاعر:

در تناقض هشت وحدت شرط دان

وحدت

موضوع ومحمول ومكان

وحدت

شرط وإضافه، جزء وكل

قوه

وفعل است در آخر زمان(1)

فلو قلنا بتعدد الجهة خرج عن اجتماع الضدين لفقد أحد شروطه.

[4] أي: يكون حال الشيء متعدد العنوان، كحال الشيء متحد العنوان، فلا ترتفع الاستحالة حينئذٍ.

[5] كقوله: (لا تغصب) و(صلّ)، مع اتحاد المصداق الخارجي لهما، كما في الصلاة في الدار المغصوبة، فهذه الحركات الخاصة من جهة أنها غصب حرام، ومن جهة أنها صلاة واجب. فهل يسري الوجوب إلى الغصب حتى يجتمع الضدان فيه؟ وكذلك هل تسري الحرمة إلى الصلاة بحيث يجتمع فيها الضدان - أي: الوجوب والحرمة -؟

ص: 247


1- الحاشية على تهذيب المنطق: 71.

من الأمر والنهي إلى متعلق الآخر، لاتحاد متعلقيهما وجوداً، وعدم سرايته لتعددهما وجهاً. وهذا بخلاف الجهة المبحوث عنها في المسألة الأخرى، فإن البحث فيها في أن النهي في العبادة أو المعاملة يوجب فسادها بعد الفراغ عن التوجه إليها[1].

نعم، لو قيل بالامتناع[2] مع ترجيح جانب النهي في مسألة الاجتماع يكون مثل الصلاة في الدار المغصوبة من صغريات تلك المسألة.

فانقدح أن الفرق بين المسألتين في غاية الوضوح.

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: توجه النهي إلى العبادة، فتكون مسألة الاجتماع صغرى، ومسألة النهي عن العبادة كبرى. فيقال: - بناءً على أن النهي في العبادة يوجب الفساد - الصلاة اجتمع فيها الأمر والنهي... وكلما اجتمعا غلب جانب النهي... فالصلاة منهي عنها.

[2] أي: بناءً على بعض الأقوال تكون مسألة (الاجتماع) تنقيحاً لمصداق مسألة (النهي عن العبادة).

ببيان: إن النهي عن العبادة موجب لفسادها، ومن مصاديقها الصلاة في الدار المغصوبة؛ لأنها عبادة منهي عنها، حيث امتنع اجتماع الأمر والنهي فيها وقدّمنا جانب النهي.

وعلى هذا القول فلا يمكن تصحيح العبادة مطلقاً، لا بالأمر لفرض سقوطه، ولا بالملاك لأنها منهي عنها مما يكشف عن بغضها، فلا محبوبية.

نظير ما لو قال المولى: (أكرم العالم) فنبحث عن حال (زيد) هل هو عالم أم لا؟ فإن هذا البحث لتنقيح مصداق المأمور به.

ونظيره الشرعي: إثبات أن صلاة الغريق هي صلاة، حيث إن كل مرّة من التسبيحات تعتبر في الغريق ركعة واحدة، فإن إثبات هذا الأمر تنقيح لموضوع مسألة (الصلاة واجبة)، وليس مسألة أخرى.

ص: 248

وأما ما أفاده في الفصول[1]، من الفرق - بما هذه عبارته: «ثم اعلم أن الفرق بين المقام والمقام المتقدم[2] - وهو أن الأمر والنهي هل يجتمعان في شيء واحد أو لا؟ - أما في المعاملات فظاهر[3]، وأما في العبادات فهو أن النزاع هناك في ما إذا تعلق الأمر والنهي بطبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة[4] وإن كان بينهما عموم مطلق[5]،

-------------------------------------------------------------------

كلام الفصول في الفرق

[1] خلاصته إرجاع الفرق إلى تعدد الموضوع.

ففي المعاملات لا يوجد نهي، فلا مصداق لها في بحث الاجتماع، وينحصر البحث فيها في أن النهي يوجب فسادها أم لا.

أما العبادات: فالبحث في (الاجتماع) إنّما هو في توجه الأمر والنهي إلى طبيعتين متغايرتين، سواء كان بينهما عموم من وجه، كالصلاة والغصب، أم كان بينهما عموم مطلق كالناطق والشاعر.

وفي (النهي عن العبادة أو المعاملة) البحث في ما إذا كانا من طبيعة واحدة، لكن إحداهما مطلقة والأخرى مقيدة، كالصلاة، والصلاة في غير المأكول.

[2] المراد بالمقام هو مسألة النهي عن العبادة أو المعاملة. والمراد بالمقام المتقدم هو مسألة الاجتماع؛ لأن الفصول بحث الفرق في المسألة الثانية، أي: مسألة النهي عن العبادة أو المعاملة.

[3] وجه الظهور هو أنه لا يوجد أمر للمعاملات، فلا مورد لمسألة الاجتماع فيها.

[4] أي: تختلف الماهيتان مفهوماً، مع إمكان اجتماعهما في شيء واحد مصداقاً، وهذا مقابل المطلق والمقيد، فإن حقيقتهما وماهيتهما واحدة.

رد الفصول للمحقق القمي

[5] هذا تعريض بالمحقق القمي، حيث رأى أن الفرق بين المسألتين: هو أنّ مسألة الاجتماع من العموم من وجه، ومسألة النهي في العبادة من العموم المطلق.

ص: 249

وهنا[1] في ما إذا اتحدتا حقيقةً وتغايرتا بمجرد الإطلاق والتقييد بأن تعلق الأمر بالمطلق، والنهي بالمقيد[2]»(1)، انتهى موضع الحاجة - فاسد[3]، فإن مجرد تعدد الموضوعات وتغايرها بحسب الذوات لا يوجب التمايز بين المسائل ما لم يكن هناك اختلاف الجهات، ومعه[4] لا حاجة أصلاً إلى تعددها، بل لابد من عقد مسألتين

-------------------------------------------------------------------

فردّه صاحب الفصول بأنّه يمكن في مسألة الاجتماع أن يكون بين الطبيعتين عموم مطلق، كالناطق والشاعر، حيث إنّ الناطق أعم مطلقاً من الشاعر. فالملاك هو تغاير الطبيعتين مفهوماً، سواء كان بينهما عموم من وجه - كالصلاة والغصب - أم عموم مطلق.

[1] أي: في مسألة النهي عن العبادة.

[2] كقوله: (صل) حيث تعلق الأمر بمطلق الصلاة. وقوله: (لا تصل في الحمام) حيث تعلق النهي بصنف من الصلاة، وهو ما كان في مكان مخصوص.

الإشكال على الفصول

[3] أي: ففاسد، لأنه جواب قوله: (أما ما أفاده...) وخلاصة جواب المصنف: إن تعدد الموضوع لا يوجب تعدد المسألة، إلاّ إذا صارت الجهة المبحوث عنها متعددة.

وعلى كلام الفصول هنا الجهة واحدة، فلا يجدي تعدد الموضوع، بل لابد من دمج المسألتين في مسألة واحدة، حيث إن الجهة المبحوث فيها في المسألتين هي صحة الصلاة في المكان المغصوب - مثلاً - فإذن لابد من جعلهما مسألة واحدة!!.

[4] أي: مع اختلاف الجهات لا حاجة إلى تعدد الموضوعات، بل حتى لو كان الموضوع واحداً كانت مسائل متعددة.

مثل: الأمر يدل على الفور أم لا، الأمر ظاهر في الوجوب أم لا، الأمر يدل على المرّة أم لا... الخ، فهي مسائل متعددة وإن كان الموضوع واحداً.

ص: 250


1- الفصول الغروية: 140.

مع وحدة الموضوع وتعدد الجهة المبحوث عنها، وعقد مسألة واحدة في صورة العكس[1]، كما لا يخفى.

ومن هنا انقدح[2] أيضاً فساد الفرق بأن النزاع هنا في جواز الاجتماع عقلاً، وهناك في دلالة النهي لفظاً، فإن مجرد ذلك[3] لو لم يكن تعدد الجهة في البين لا يوجب إلاّ تفصيلاً في المسألة الواحدة، لا عقد مسألتين. هذا مع عدم اختصاص[4] النزاع في تلك المسألة بدلالة اللفظ، كما سيظهر.

-------------------------------------------------------------------

[1] كما لو كانت الجهة واحدة والموضوع متعدداً، مثل: الاستثناء المتعقب للجمل هل يرجع إلى الأخير أم إلى الكل؟ وهكذا الصفة والغاية والحال المتعقبة للجمل.

فتعقد مسألة واحدة للكل مع أن الموضوعات مختلفة؛ وذلك لأن الجهة واحدة، وهي استعلام حال القيد، سواء كان استثناءً أم غيره.

تفريق آخر بين المسألتين

[2] حاصل هذا التفريق: إن هذه المسألة يبحث فيها من الجهة العقلية، أي: هل يمكن الاجتماع عقلاً أم لا؟ وفي تلك المسألة البحث من الجهة اللفظية، أي: هل النهي يدل لفظاً على الفساد أم لا؟

[3] هذا الجواب الأول للمصنف، وحاصله: إنه إذا لم يرجع ذلك إلى اختلاف الجهة فلا معنى لعقد بحثين، بل لابد من بحثهما في مسألة واحدة، بأن يقال: أمّا عقلاً فيجوز أو لا يجوز الاجتماع، وأمّا لفظاً فيدل على الفساد أو لا يدل.

[4] هذا الإشكال الثاني على هذا القول، وحاصله: هو أن بحث دلالة النهي غير منحصر بما إذا كان النهي مستفاداً من لفظ، بل كان مستفاداً من إجماع ونحوه. فالبحث هناك في بيان أنّ الحرمة تنافي العبادية، أياً كان الدليل لفظياً أم غير لفظي.

لا يقال: المصنف هنالك يختار أن المسألة لفظية.

لأنه يقال: إنّ الأكثر على أن المسألة عقلية، ويكفي في الإشكال على هذا القول

ص: 251

الثالث[1]: إنه حيث كانت نتيجة هذه[2] المسألة مما تقع في طريق الاستنباط[3] كانت المسألة من المسائل الأصولية، لا من[4]

-------------------------------------------------------------------

عدم صحته على بعض المباني.

الأمر الثالث: أصولية المسألة

[1] عقد هذا الأمر لأجل إثبات أن مسألة الاجتماع مسألة أصولية، حيث تعددت الآراء.

1- فالمحقق القمي(1)

يرى أنها مسألة كلامية، ولكن لتفرع كثير من الأحكام الشرعية عليها تمَّ بحثها في الأصول.

2- والشيخ الأعظم - كما في التقريرات(2) - يرى أنها من المبادئ الأحكامية.

3- والمحقق النائيني على أنها من المبادئ التصديقية(3).

4- وبعض على أنها مسألة فقهية.

5- والمصنف على أنها مسألة أصولية، وإن أمكن بحثها في غير الأصول.

[2] لأن المسألة الأصولية هي ما تقع كبرى في دليل استنباط الحكم الشرعي.

فيقال هنا: بناءً على جواز الاجتماع - مثلاً - : الصلاة في المغصوب ممّا اجتمع فيها الأمر والنهي (الصغرى)، وكل ما اجتمع فيه الأمر والنهي صحيح (الكبرى)، فالصلاة في المغصوب صحيحة (النتيجة).

[3] أي: طريق استنباط صحة العبادة أو فسادها، أو طريق استنباط الإعادة أو عدمها.

[4] أي: في بحث الأصول لم تذكر للجهات الأربعة الأخرى، بل بحثت لأنها من مسائل الأصول.

ص: 252


1- قوانين الأصول 1: 140.
2- مطارح الأنظار 1: 594.
3- فوائد الأصول 2: 40؛ أجود التقريرات 1: 331.

مبادئها الأحكامية[1] ولا التصديقية[2]، ولا من المسائل الكلامية[3]، ولا من المسائل الفرعية[4]، وإن كانت فيها جهاتها[5]، كما لا يخفى، ضرورة أن مجرد[6]

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: المبادئ الأحكامية للمسائل، وهي أوصاف الأحكام الخمسة ولوازمها والأمور المتعلقة بها، كالبحث عن لوازم الوجوب وأوصافه وتضاده مع الحرمة ونحو ذلك.

ومَن جعل مسألة الاجتماع من المبادئ الأحكامية، قال - كما في التقريرات - : حيث يناسب عند ذكرها وتحقيقها، ذكر بعض أحكامها وأوصافها من ملازمة وجوب شيء لوجوب مقدمته، ومن جواز اجتماع حكمين مع تضادهما، فالتكلم عن الاجتماع بحث عن أمر متعلق بالوجوب والحرمة.

[2] أي: ليست من المبادئ التصديقية، فإنّ المبادئ التصديقية: هي ما تتوقف عليها مسائل العلم، وهنا بحث الاجتماع يبحث عن أن تطابق الأمر والنهي هل هو تعارض أم تزاحم؟ فكان من المبادئ التصديقية لمسألة أصولية وهي (التعارض والتزاحم).

[3] التي تبحث عن أحوال المبدأ والمعاد. فيقال: هل يجوز للحكيم أن يأمر بشيء لجهة وينهى عنه لجهة أخرى؟

[4] أي: المسائل الفقهية التي تبحث عن أحوال المكلف، وذلك إذا حصرنا البحث في صحة الصلاة في المغصوب وعدم الصحة.

[5] أي: وإن كانت في مسألة الاجتماع جهات الأمور المذكورة، أي: المبادئ الأحكامية، والمبادئ التصديقية، والجهة الكلامية، والجهة الفقهية.

[6] مرجع الضمائر: «ضرورة أن مجرد ذلك» أي: وجود سائر الجهات، «لا يوجب كونها» كون هذه المسألة، «منها» أي: من تلك الجهات، «إذا كانت فيها» أي: في مسألة الاجتماع، «يمكن عقدها» أي: هذه المسألة، «معها» أي: مع تلك الجهة، «من المسائل» أي: المسائل الأصولية، «إذ لا مجال حينئذٍ» أي: حين إمكان

ص: 253

ذلك لا يوجب كونها منها إذا كانت فيها جهة أخرى يمكن عقدها معها من المسائل، إذ لا مجال حينئذٍ لتوهم عقدها من غيرها في الأصول، وإن عقدت كلامية في الكلام، وصح عقدها فرعية أو غيرها بلا كلام. وقد عرفت في أول الكتاب[1]: أنه لا ضير في كون مسألة واحدة يبحث فيها عن جهة خاصة[2] من مسائل علمين، لانطباق جهتين عامتين[3] على تلك الجهة، كانت بإحداهما من مسائل علمٍ وبالأخرى من آخر، فتذكر.

الرابع: إنه قد ظهر من مطاوي ما ذكرناه[4]: أن المسألة عقلية، ولا اختصاص

-------------------------------------------------------------------

عقدها أصولية، «لتوهم عقدها» أي: هذه المسألة، «من غيرها» أي: غير الجهة الأصولية من سائر العلوم أو المبادئ.

[1] غرضه جواب إشكال: وهو كيف يمكن للمسألة الواحدة أن تعقد في عدة علوم؟

والجواب: إنّه قد مرّ إمكان تداخل بعض العلوم في بعض المسائل.

[2] أي: عن محمول مخصوص.

[3] أي: لانطباق غرضين مختلفين، بأحد الغرضين كان من مسائل علم، وبالغرض الآخر كان من مسائل علم آخر. وهنا ينطبق غرض علم الكلام، حيث إنها بحث عن جوازه على الله تعالى، وينطبق غرض علم الأصول، حيث إنها بحث عن استنباط الحكم الشرعي، كما ينطبق عليها المبادئ الأحكامية، والمبادئ التصديقيّة.

الأمر الرابع: عقلية المسألة
اشارة

[4] حيث إنّ البحث عن الامتناع والإمكان، وهو بحث عقلي.

وكذلك ما ذكرناه في الفرق بين هذه المسألة والمسألة الآتية - من تعدد الجهة - حيث قلنا: إنّ النزاع في سراية أو عدم سراية الأمر والنهي من متعلق أحدهما إلى الآخر، وهو بحث عقلي وليس بلفظي.

وكذلك ما ذكرناه في آخر الأمر الثاني.

ص: 254

للنزاع في جواز الاجتماع والامتناع فيها[1] بما إذا كان الإيجاب والتحريم باللفظ[2]، كما ربما يوهمه التعبير بالأمر والنهي الظاهرين في الطلب بالقول[3]، إلاّ أنه لكون الدلالة عليهما غالباً بهما، كما هو أوضح من أن يخفى.

وذهاب البعض[4] إلى الجواز عقلاً والامتناع عرفاً ليس[5] بمعنى دلالة اللفظ، بل بدعوى أن الواحد بالنظر الدقيق العقلي اثنين(1)، وأنه بالنظر المسامحي العرفي

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: في هذه المسألة وهي مسألة الاجتماع.

[2] 1- فيجري النزاع حتى إذا كان الوجوب والحرمة مستفادين من أدلة لُبيّة كالإجماع والعقل 2- بل حتى لو انحصر الدليل في الأدلة اللفظية، فإن البحث في الاجتماع ليس من جهة دلالة اللفظ، بل من جهة إمكان أو امتناع الاجتماع من جهة العقل.

[3] وإنّما قال: «الظاهرين» لجهتين:

1- ما مرّ من الاختلاف في معنى الأمر والنهي، وقد رجحنا أن معناهما الطلب بالقول اللفظي.

2- قد يطلق الأمر والنهي على الطلب بالكتابة أو الإشارة، لكن المتبادر منه أو المنصرف هو الطلب بالكلام.

إشكال وجوابه

[4] وحاصل الإشكال أنّ المحقق الأردبيلي(2)

يقول بالجواز العقلي والامتناع العرفي. ولا معنى للامتناع العرفي إلاّ لجهة دلالة اللفظ على عدم الإمكان، وإلاّ فمع الإمكان العقلي ما المحذور لو لا اللفظ؟

[5] أي: دلالة اللفظ على الامتناع، وحاصل الجواب:

1- الفرق بين النظر الدقي والنظر السطحي المسامحي.

ص: 255


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «اثنان».
2- مجمع الفائدة والبرهان 2: 112.

واحد ذو وجهين، وإلاّ فلا يكون معنىً محصلاً[1] للامتناع العرفي. غاية الأمر[2] دعوى دلالة اللفظ على عدم الوقوع بعد اختيار جواز الاجتماع، فتدبر جيداً.

الخامس: لا يخفى[3] أن ملاك النزاع في جواز الاجتماع والامتناع يعم جميع

-------------------------------------------------------------------

2- إن اللفظ يدل على عدم الوقوع لا على الامتناع في الخارج.

بمعنى أنه على القول بجواز الاجتماع عقلاً وفي مرحلة الثبوت، فإنه في مرحلة الإثبات يدل اللفظ على عدم وقوع الاجتماع لا امتناعه.

[1] أي: لو كان مراده الامتناع الحقيقي فلا معنى لدلالة اللفظ عليه؛ لأن الامتناع غير مرتبط باللفظ أصلاً، بل بالعقل حصراً.

[2] لو غير المصنف عبارته فقال: (دعوى عدم دلالة اللفظ على الوقوع) لكانت أبعد من الإشكالات ولصحت العبارة؛ إذ مراد المصنف هو تأويل كلام الأردبيلي: بأن يقال: إنّه في مرحلة الثبوت جائز، ولكن لم يقم دليل على الوقوع الخارجي، وكثير من الأمور لا مانع عقلاً منها لكنها لم تقع في الخارج، والاجتماع جائز في مرحلة الثبوت عقلاً، لكنه ممتنع عرفاً، بمعنى عدم قيام الدليل على وقوعه خارجاً.

الأمر الخامس: ملاك النزاع عام لجميع أقسام الوجوب والتحريم
اشارة

[3] الغرض من هذا الأمر هو تحرير محل النزاع، حيث إن صاحب الفصول(1)

حصره في الأمر العيني التعييني النفسي. والشيخ الأعظم - على ما في التقريرات(2) - أخرج بعض الصور، والمصنف عمَّم البحث لجميع أقسام الوجوب والتحريم. والدليل وجهان:

1- ملاك الامتناع جار في جميع الصور، حيث يمتنع اجتماع الضدين مطلقاً، وكذلك على القول بالجواز لا مانع مطلقاً - لكفاية تعدد الجهة - .

2- إطلاق العنوان، حيث عنون القدماء المسألة ب(اجتماع الأمر والنهي) والأمر والنهي لهما إطلاق لجميع الأقسام.

ص: 256


1- الفصول الغروية: 124.
2- مطارح الأنظار 1: 541.

أقسام الإيجاب والتحريم[1]، كما هو قضية إطلاق لفظ الأمر والنهي.

ودعوى الانصراف[2] إلى النفسيين التعيينيين العينيين في مادتهما[3] غير خالية عن الاعتساف[4]، وإن سلم في صيغتهما، مع أنه فيها ممنوع[5].

-------------------------------------------------------------------

[1] ومنها: 1- النفسيان والغيريان والمختلفان. 2- عينيان أو كفائيان أو مختلفان. 3- تعبديان أو توصليان أو مختلفان.

كلام الفصول

[2] صاحب الفصول يلتزم بالوجه الأول وهو عموم الملاك، لكنه ينكر الوجه الثاني، حيث يدعي أن لفظ الأمر والنهي ينصرفان إلى العيني التعييني النفسي، فنزاع القوم في هذا القسم لانصراف لفظهم إليه.

[3] لأن المستعمل في العنوان هو مادة الأمر والنهي، أي: (أ، م، ر) (ن، ه- ، ي)، فلابد من حمل كلامهم على ظاهره.

الإشكال على الفصول

[4] هذا رد على كلام صاحب الفصول وحاصله:

1- مادة الأمر والنهي لا تنصرف إلى النفسي العيني التعييني؛ لأن هذا الانصراف لا منشأ له.

وما قيل في منشأ الانصراف من غلبة الوجود أو كثرة الاستعمال غير صالح للتقييد؛ لأن المهم الظهور اللفظي، والغلبة والكثرة كثيراً ما لا توجب الظهور أو صرف الظهور.

2- صيغة الأمر، أيضاً لا تنصرف لفظاً، بل بمقدمات الحكمة، ومقدمات الحكمة هنا غير جارية.

[5] أي: إن الانصراف في المادة لا وجه له إطلاقاً، وفيه اعتساف، ولكن في الصيغة قد يكون له وجه، ولكننا نمنع ذلك الوجه.

ص: 257

نعم، لا يبعد دعوى الظهور[1] والانسباق من الإطلاق بمقدمات الحكمة الغير(1)

الجارية في المقام[2]، لما عرفت من عموم الملاك لجميع الأقسام، وكذا ما وقع في البين من النقض والإبرام.

مثلاً: إذا أمر[3] بالصلاة والصوم تخييراً بينهما، وكذلك[4] نهى عن التصرف في الدار والمجالسة مع الأغيار، فصلى فيها مع مجالستهم، كان حال الصلاة فيها حالها كما إذا أمر بها تعييناً ونهى عن التصرف فيها كذلك[5] في جريان النزاع في الجواز والامتناع، ومجيء أدلة الطرفين وما وقع من النقض والإبرام في البين. فتفطن.

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: ما قلناه في صيغة الأمر في البحث السادس، من أن (إطلاق الصيغة يقتضي كون الوجوب نفسياً تعيينياً عينياً) ليس المراد به الانصراف من جهة اللفظ الناشئ من الوضع، بل لجهة مقدمات الحكمة، حيث إن الغيري والتخييري والكفائي بحاجة إلى مؤونة زائدة، ننفيها بمقدمات الحكمة.

[2] أي: مقدمات الحكمة لا تجري هنا؛ لأن من مقدمات الحكمة هو عدم وجود القرينة، وهنا القرينة موجودة، وهي عموم الملاك، وكذلك عموم البحث بين الأعلام فإنه قرينة أخرى.

[3] مثال للواجب والحرام التخييري حيث يجري فيه النزاع.

ولا يخفى أن امتثال الواجب التخييري يتحقق بفعل أحدهما، ولكن مخالفته بتركهما.

أما الحرام التخييري فإن امتثاله يتحقق بترك أحدهما، ومخالفته تتحقق بفعلهما معاً؛ ولذا في مثاله ذكر فعل الصلاة فقط في الأمر، ومخالفة الأمرين معاً في النهي.

[3] أي: تخييراً، فنهى عن أحد الأمرين بالتخيير بأن يترك إما هذا أو ذاك.

[5] أي: تعييناً.

ص: 258


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير الجارية».

السادس: إنه ربما[1] يؤخذ في محل النزاع قيد «المندوحة»(1)

في مقام الامتثال[2]. بل ربما قيل[3] بأن الإطلاق[4] إنما هو للاتكال على الوضوح، إذ بدونها[5] يلزم التكليف بالمحال.

-------------------------------------------------------------------

الأمر السادس: هل المندوحة معتبرة؟

[1] إذا انحصر مصداق الأمر والنهي في واحد، فلا إشكال في سقوط أحدهما أو كليهما، كما لو كان محبوساً في المكان المغصوب، فلا يعقل أن يأمره بالصلاة في غير المغصوب؛ وذلك لأنه تكليف بما لا يطاق.

أما إذا لم ينحصر مصداقهما في واحد، كما لو تمكن من الصلاة في المغصوب وغيره، فلا مانع من أمره بالصلاة ونهيه عن الغصب.

وهذا هو منشأ كلام الفصول ومن تبعه في اشتراط المندوحة في مسألة الاجتماع؛ إذ لو لا المندوحة لا يوجد تكليف بهما؛ لاستلزامه طلب ما لا يطاق.

[2] أي: مقام الطاعة، فحين إرادته لامتثال أمر المولى يتمكن من الإتيان بالمنهي عنه، ويتمكن من عدم إتيان المنهي عنه، كأن يصلي في المغصوب أو في المباح، فهو يقدر على امتثال الأمر والنهي معاً.

[3] القائل صاحب الفصول(2).

[4] أي: عدم تقييد البحث بوجود المندوحة، فكلامهم مطلق لكن مرادهم ليس المطلق، بل المقيد بوجود المندوحة، ولوضوح هذا القيد لم يُذكر.

[5] أي: مع عدم تقييد البحث بالمندوحة يلزم التكليف بالمحال، حيث إنه يكون من المتزاحمين اللذين يكون في كليهما ملاك، لكن لا يتمكن المكلف من الجمع بينهما.

ص: 259


1- قوانين الأصول 1: 140 و 142 و 153؛ الفصول الغروية: 124.
2- الفصول الغروية: 124.

ولكن التحقيق[1] - مع ذلك[2] -: عدم اعتبارها[3] في ما هو المهم في محل النزاع من لزوم المحال[4]، وهو اجتماع الحكمين المتضادين وعدم الجدوى[5] في كون موردهما موجهاً بوجهين[6] في رفع غائلة اجتماع الضدين، أو عدم لزومه[7] وأن

-------------------------------------------------------------------

[1] حيث إنّ الكلام في مسألة الاجتماع يقع في أمرين:

1- مرحلة الجعل وطلب المولى.

2- مرحلة امتثال العبد.

وفي الأولى: لا ننظر إلى امتثال العبد وعدمه، بل ننظر إلى إمكان طلب المولى وإمكان جعله، وهذا يعبر عنه (التكليف المحال) فهل يمكن أن يريد المولى الضدين في شيء لتعدد الجهة أو لا يمكن؟ فلو قلنا بعدم جدوى تعدد الجهة، فإن الاجتماع محال، سواء كان مندوحة أم لم يكن.

وفي الثانية: ننظر إلى أنه لا يجوز تكليف العبد بما لا يقدر، فمع عدم وجود المندوحة يكون التكليف بما لا يطاق - كما مثلنا بإيجاب الصلاة وحرمة الغصب على المحبوس في المغصوب - ومع وجود المندوحة لا يكون تكليفاً بما لا يطاق، فيأمره بالصلاة، وهو قادر على الإتيان بها في المباح، وينهاه عن الغصب.

[2] مع استحالة التكليف بما لا يطاق وهو التكليف بالمحال.

[3] أي: عدم اعتبار المندوحة في ما يرتبط ببحثنا وهو مرحلة الجعل.

[4] إشارة إلى أحد القولين - وهو المختار - من استحالة اجتماع الأمر والنهي في مرحلة الجعل والطلب.

[5] في رفع غائلة طلب الضدين.

[6] أي: كونه ذا جهتين، بإحداهما حرم، وبالأخرى وجب.

[7] إشارة إلى القول الآخر، وهو جواز اجتماع الأمر والنهي في مرحلة الجعل والطلب.

ص: 260

تعدد[1] الوجه يجدي في رفعها. ولا يتفاوت في ذلك[2] أصلاً وجود المندوحة وعدمها. ولزوم التكليف بالمحال بدونها[3] محذور آخر لا دخل له بهذا النزاع.

نعم، لابد من اعتبارها في الحكم بالجواز فعلاً[4] لمن يرى التكليف[5] بالمحال محذوراً ومحالاً، كما ربما لابد[6] من اعتبار أمر آخر في الحكم به[7] كذلك أيضاً.

وبالجملة: لا وجه لاعتبارها إلاّ لأجل اعتبار القدرة على الامتثال وعدم[8] لزوم التكليف بالمحال، ولا دخل له بما هو المحذور في المقام من التكليف المحال[9]. فافهم واغتنم.

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: إن تعدد الجهة يكفي لرفع طلب الضدين، فالاجتماع ممكن.

[2] أي: لا دخل للمندوحة أو عدمها في رفع الاستحالة أو بقائها في مرحلة الجعل.

[3] أي: التكليف بما لا يطاق يرتبط بمرحلة الامتثال، ولا ربط له بمرحلة الجعل، فهو أجنبي عن بحث الاجتماع.

[4] أي: الجواز الفعلي بمعنى التكليف الواصل إلى مرحلة الفعلية لابد من كونه تكليفاً بالمقدور لا بما لا يطاق، الذي هو محال.

[5] أي: العدلية، أما الأشاعرة فيرون جواز التكليف بالمحال.

[6] لتأكيد كون البحث في المندوحة أجنبي عن مسألة الاجتماع، فمرحلة الامتثال لها شروط مختلفة: أحدها المندوحة، والآخر البلوغ، والثالث العقل وهكذا، فهل يصح أن يقال: إن البحث في مسألة الاجتماع هو بشرط البلوغ والعقل وغيرهما؟

[7] أي: في الحكم بالجواز، «كذلك» أي: فعلاً، «أيضاً» كاشتراط المندوحة.

[8] هذا توضيح لاعتبار القدرة على الحكم.

[9] ظهر من مطاوي ما ذكرنا الفرق بين (التكليف المحال) و(التكليف بالمحال). فالأول: في مرحلة الجعل والطلب، كأن يريد المولى المتناقضين.

ص: 261

السابع: إنه ربما يتوهم[1]:

تارةً: أن النزاع في الجواز والامتناع يبتني على القول بتعلق الأحكام بالطبائع. وأما الامتناع على القول بتعلقها بالأفراد فلا يكاد يخفى، ضرورة لزوم[2] تعلق الحكمين بواحدٍ شخصي - ولو كان ذا وجهين - على هذا القول.

وأخرى[3]: إن القول بالجواز مبنيّ على القول بالطبائع، لتعدد متعلق الأمر والنهي ذاتاً عليه[4]، وإن اتحد وجوداً؛ والقول بالامتناع على القول بالأفراد،

-------------------------------------------------------------------

والثاني: في مرحلة الامتثال بأن لا يتمكن العبد من تنفيذ أمر المولى، ومثاله: أن يطلب المولى الطيران من العبد، فإنه تكليف بالمحال، أي: غير المقدور.

الأمر السابع: عدم ارتباط
المسألة بمسألة تعلق الأمر بالطبائع أو الأفراد

[1] التوهم الأول: هو أنه بناءً على القول بتعلق الأمر والنهي بالطبائع فالنزاع جارٍ، وبناءً على القول بتعلقهما بالأفراد فلا نزاع، بل يلزم القوم بالامتناع.

التوهم الثاني: بناءً على القول بتعلقهما بالطبائع فلا نزاع، بل لابد من القول بالجواز، وبناءً على القول بتعلقهما بالأفراد فلا نزاع أيضاً، بل يلزم القول بالامتناع.

فالفرق بين التوهمين: إنّه بناءً على القول بتعلقهما بالطبائع فعلى الأول يجري النزاع وعلى الثاني لا نزاع، وأما بناءً على القول بتعلقهما بالأفراد فلا نزاع أصلاً على كلا التوهمين.

[2] دليل المتوهم، وحاصله: إنه بناءً على الأفراد فإنه لابد من وقوع طلب الضدين فلذا يمتنع؛ لأن الفرد واحد جزئي شخصي، فهذا الفرد الخارجي بخصوصياته الفردية تعلق به الأمر والنهي، فهو من طلب الضدين المحال.

[3] هذا التوهم الثاني.

[4] أي: بناءً على القول بتعلقهما بالطبائع.

ص: 262

لاتحاد متعلقهما شخصاً خارجاً وكونه فرداً واحداً.

وأنت خبير بفساد كلا التوهمين[1]، فإن تعدد الوجه إن كان يجدي بحيث لا يضر معه الاتحاد بحسب الوجود والإيجاد[2] لكان يجدي ولو على القول بالأفراد[3]، فإن الموجود الخارجي[4] الموجه بوجهين يكون فرداً لكل من الطبيعتين، فيكون مجمعاً لفردين موجودين بوجود واحد، فكما لا يضر وحدة الوجود بتعدد الطبيعتين، لا يضر بكون المجمع اثنين بما هو مصداق وفرد لكل من الطبيعتين، وإلاّ لما كان

-------------------------------------------------------------------

[1] إذ لا ارتباط لمسألة الاجتماع بمسألة متعلق الأمر والنهي، وأنه الطبيعة أو الأفراد؛ وذلك لأن المأمور به هي الطبيعة على كلا القولين، وإنّما الفرق في أنه على القول بالطبائع لا دخل للخصوصيات الفردية في المأمور به، وعلى القول بالأفراد تكون الخصوصيات الفردية داخلة في المأمور به.

فسواء قلنا بالطبائع أو الأفراد فإن الطبيعة مأمور بها، وطبيعة أخرى منهي عنها، وكان هذا الفرد الشخصي الجزئي هو مجمع الطبيعتين - على كلا القولين - فإن كان تعدد الوجه يكفي لرفع طلب الضدين فلا فرق بين القولين، وإن لم يكن يجدي فكذلك لا فرق.

[2] الفرق بين الوجود والإيجاد اعتباري؛ لأنا إن نظرنا إلى الوجود من حيث فاعله كان الإيجاد، وإن نظرنا إليه من حيث نفسه كان الوجود.

[3] لأن الطبيعة مأمور بها على هذا القول أيضاً، منتهى الأمر الخصوصيات الفردية أيضاً مأمور بها، وكذلك الطبيعة الأخرى منهي عنها، وكذلك الخصوصيات الفردية.

[4] أي: العقل لا يرى فرقاً بين كون المطلوب هو الوجود السعي، أي: الطبيعة بحيث تكون الخصوصيات من لوازم المطلوب، وبين كون المطلوب الوجود الخاص - أي الفرد - بحيث كانت الخصوصيات داخلة في المطلوب.

ص: 263

يجدي[1] أصلاً حتى على القول بالطبائع كما لا يخفى، لوحدة الطبيعتين وجوداً واتحادهما خارجاً؛ فكما أن وحدة[2] الصلاتية والغصبية في الصلاة في الدار المغصوبة وجوداً غير ضائر بتعددهما[3] وكونهما طبيعتين، كذلك وحدة ما وقع في الخارج من خصوصيات الصلاة فيها[4] وجوداً غير ضائر بكونه فرداً للصلاة فيكون مأموراً به، وفرداً للغصب فيكون منهياً عنه، فهو - على وحدته وجوداً - يكون اثنين، لكونه مصداقاً للطبيعتين، فلا تغفل.

الثامن: إنه لا يكاد يكون[5] من باب الاجتماع إلاّ[6] إذا كان في كل واحد من

-------------------------------------------------------------------

[1] عطف على قوله: (إن كان يجدي بحيث...)، أي: إن تعدد الوجه إن لم يكن مجدياً، فلا فرق بين القولين في عدم الجواز.

[2] هذا مثال لعدم الفرق بين اتحاد الطبيعتين وبين اتحاد الفردين.

[3] أي: بتعدد الطبيعتين.

[4] أي: في الصلاة في الدار المغصوبة، «وجوداً» قيد الوحدة، أي: الوحدة وجوداً، «فهو» أي: ما وقع في الخارج.

الأمر الثامن: اشتراط التزاحم في مسألة الاجتماع
اشارة

[5] يتكلم المصنف في مقامات ثلاثة - وتفصيلها في العناية(1)- :

1- إنه في الاجتماع يشترط التزاحم لا التعارض، وهذا ما عقد له الأمر الثامن.

2- كيفية إحراز المناط في مورد الاجتماع، وعقد له الأمر التاسع.

3- حكم التزاحم بين المقتضيين، وسيأتي في التنبيه الثاني.

البحث ثبوتاً

[6] حاصل الكلام خروج مورد التعارض عن بحث الاجتماع، وانحصار البحث في مورد التزاحم، في مرحلة الثبوت.

ص: 264


1- عناية الأصول 2: 29.

متعلقي الإيجاب والتحريم مناط حكمه[1] مطلقاً حتى[2] في مورد التصادق والاجتماع، كي يحكم على الجواز[3] بكونه فعلاً[4] محكوماً بالحكمين، وعلى الامتناع بكونه[5] محكوماً بأقوى المناطين[6] أو بحكم آخر غير الحكمين في ما لم يكن

-------------------------------------------------------------------

والتعارض: هو ما كان لأحدهما ملاك دون الآخر، فيتعارض الدليلان.

والتزاحم: هو ما كان لكليهما ملاك ولكن لا يمكن الجمع بينهما.

وإنّما لزم كونه من باب التزاحم لكي يكون لكليهما ملاك، فيبحث في جدوى تعدد الجهة فيجتمعان، أو عدم جدواها فلا يجتمعان، أمّا لو لم يكن لأحدهما أو لكليهما ملاك، فبحث الاجتماع يكون من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

[1] أي: مناط حكم كل واحد من الإيجاب والتحريم. بمعنى أن يكون ملاك الحكم بالوجوب في متعلق الوجوب كالصلاة، وملاك الحكم بالحرمة في متعلق الحرمة كالغصب.

[2] «حتى» شرح لقوله: (مطلقاً)، أي: يكون الملاك موجوداً حتى في مورد الاجتماع.

[3] أي: على القول بالجواز يحكم بكون المجمع قد اجتمع فيه الوجوب والحرمة الفعليتين.

[4] أي: في مرحلة الفعلية؛ لأنها مورد البحث، أما مرحلة الاقتضاء ومرحلة الإنشاء فلا كلام فيها، ولو أخّر المصنف كلمة (فعلاً) إلى ما بعد قوله: (بالحكمين) كانت العبارة أوضح، وأبعد عن التوهم.

[5] أي: وعلى القول بالامتناع يحكم (بكونه... الخ).

[6] لأنه في باب التزاحم يترجح الذي له ملاك أقوى، بشرط كون القوة بحدّ الإلزام، كما لو غرق مؤمن عادي ونبيّ فإنه يجب إنقاذهما، وإن لم يتمكن إلاّ من إنقاذ أحدهما ترجّح إنقاذ النبيّ؛ لأن ملاكه أقوى.

ص: 265

هناك أحدهما أقوى[1]، كما يأتي تفصيله[2]. وأما إذا لم يكن للمتعلقين مناط كذلك[3]، فلا يكون من هذا الباب، ولا يكون مورد الاجتماع محكوماً إلاّ بحكم واحد منها إذا كان له مناطه[4]، أو حكم آخر غيرهما في ما لم يكن لواحد منهما[5]، قيل بالجواز أو الامتناع[6]. هذا بحسب مقام الثبوت.

وأما بحسب مقام الدلالة والإثبات: فالروايتان الدالتان على الحكمين متعارضتان

-------------------------------------------------------------------

[1] لأنه في صورة التساوي يتساقطان فنرجع إلى حكم آخر - سواء من الأدلة الاجتهادية أم الأصول العملية - .

وهذا الحكم الآخر قد يكون مماثلاً لأحدهما، وقد يكون مغايراً لهما.

[2] وهو المقام الثالث الذي أشرنا إليه في أول هذا الأمر وسيأتي في التنبيه الثاني، وكذلك في باب التعادل والتراجيح.

[3] أي: مناط مطلقاً، بأن كان الملاك قاصراً عن شمول مورد الاجتماع، وهو صورتان:

الأولى: كان أحد الملاكين شاملاً لمورد الاجتماع دون الآخر.

والثانية: كلا الملاكين لم يشملا مورد الاجتماع.

[4] أي: إذا كان لمورد الاجتماع مناط حكم ذلك الواحد ولم يكن مناط الآخر، كما لو قال: (أكرم العالم وأهن الفاسق)، وعلمنا أن العالم الفاسق لا مناط لإكرامه، ويوجد مناط الإهانة فيه.

[5] أي: لم يكن لأيٍّ منهما مناط.

ولا يخفى أن هذه الصورة خارجة عن بحث التعارض؛ لأن التعارض إنّما يكون في مقام الإثبات، وهنا البحث في مقام الثبوت؛ ولأن التعارض فرع وجود الملاك في أحدهما، والمفروض أنه لا ملاك لأيٍّ منهما.

[6] أي: لا فرق حينئذٍ بين القولين.

ص: 266

إذا أحرز أن المناط من قبيل الثاني[1]، فلابد من عمل المعارضة حينئذٍ[2] بينهما من الترجيح والتخيير، وإلاّ فلا تعارض[3] في البين، بل كان من باب التزاحم[4] بين المقتضيين. فربما كان الترجيح مع ما هو أضعف دليلاً[5] لكونه أقوى مناطاً، فلا مجال حينئذٍ لملاحظة مرجحات الروايات[6] أصلاً، بل لابد من مرجحات المقتضيات

-------------------------------------------------------------------

البحث إثباتاً

[1] وهو وجود المناط في أحدهما دون الآخر.

[2] أي: العمل بقواعد باب التعارض حين وجود المناط في أحدهما فقط، وتلك القواعد تُرَجِّح أحدهما على الآخر، كالجهات السندية أو الدلالية أو جهة الصدور. ومع فقد المرجحات المرجع هو التخيير - على بعض المباني - .

[3] أي: إن لم يكن من قبيل الثاني فلا يوجد تعارض؛ لاحتمال صدقهما معاً، فما هو التكليف؟

الجواب: هو لزوم اعتبارهما من قبيل الأول، وهو وجود الملاك لكل واحد منهما؛ وذلك لاقتضاء دليل حجيّة الروايتين؛ لأنّ كلاً من الروايتين تحكي عن وجود المناط المقتضي للحكم - الذي تضمنته - فدليل حجيتها يقتضي ترتب أثر وجود المناطين معاً، فيقع التزاحم بينهما على القول بالامتناع - كما في الحقائق(1)

- .

[4] بناءً على القول بالامتناع.

[5] لأنّ المتبع في باب التزاحم ليس المرجحات السندية أو الدلالية، بل المتبع هو ترجيح المناط بكونه أقوى. فلو دل الدليل المعتبر على إنقاذ مؤمن، ودل دليل آخر - أقوى سنداً مثلاً - على إنقاذ الإنسان غير المسلم، وتزاحم الدليلان، فإن الترجيح للمؤمن لأقوائية الملاك، وهكذا في باب الاجتماع.

[6] كالمرجحات السندية أو الدلالية أو الخارجية، ونحوها.

ص: 267


1- حقائق الأصول 1: 360.

المتزاحمات[1]، كما يأتى الإشارة إليها[2].

نعم، لو كان كل منها[3] متكفلاً للحكم الفعلي لوقع بينهما التعارض، فلابد من ملاحظة مرجحات باب المعارضة لو لم يوفق بينهما بحمل أحدهما على الحكم الاقتضائي بملاحظة مرجحات باب المزاحمة[4]. فتفطن[5].

التاسع: إنه قد عرفت[6]

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: الملاكات المتزاحمة.

[2] في الأمر التاسع وكذلك في باب التعادل والتراجيح.

[3] إشارة إلى أنه قد يحصل التعارض بين المتزاحمين. ببيان: إنه لو كان كلا الدليلين يدلان على الحكم الفعلي - مع وجود مناط لكليهما - لحصل التعارض بينهما، لكذب أحدهما - لو لا التأويل - .

فإن أمكن التوفيق بين الدليلين، بأن كان مناط أحدهما أقوى للزم حمل الأقوى على الفعلي، والأضعف على الاقتضائي.

ولو لم يمكن التوفيق بينهما، بأن تساوى المناطان أو لم نعلم الأقوى رجعنا إلى المرجحات في باب التعارض.

[4] وهي الأقوائية في الملاك.

[5] لعله إشارة إلى دقة المطلب، أو أن الجمع العرفي منوط بكون أحدهما أظهر، وأقوائية المناط لا توجب الأظهرية.

الأمر التاسع: طريق إحراز المناط في الجمع

[6] عن الشيخ الأعظم - في التقريرات(1)

- : بأنه لو قلنا بالامتناع فالدليلان متعارضان، ولو قلنا بالجواز فالدليلان غير متعارضين بل متزاحمان.

فأراد المصنف ردّ هذا الكلام، فلذا عقد الأمر التاسع، مع أنه كان من المناسب دمج الأمر التاسع في الأمر الثامن؛ لأن الأمر التاسع يبحث عن مرحلة الإثبات التي

ص: 268


1- مطارح الأنظار 1: 614.

أن المعتبر في هذا الباب[1] أن يكون كل واحد من الطبيعة المأمور بها والمنهي عنها مشتملة على مناط الحكم مطلقاً حتى في حال الاجتماع.

فلو كان هناك ما دل على ذلك[2] من إجماع أو غيره[3] فلا إشكال[4]. ولو لم يكن إلاّ إطلاق[5] دليلي الحكمين ففيه تفصيل[6]، وهو: إن الإطلاق لو كان في

-------------------------------------------------------------------

ذكرت في ذيل الأمر الثامن.

[1] أي: باب الاجتماع.

[2] أي: على وجود المناط مطلقاً حتى في حال الاجتماع.

[3] بما يوجب العلم بثبوت المناط فيهما.

[4] أي: لا إشكال في دخوله في مسألة الاجتماع، لكن لم يثبت وجود هكذا دليل، فالبحث فرضي صرف.

[5] أي: لو لم يوجد دليل يدل على وجود المناط فيهما، بل كان هنالك مجرد إطلاق الدليلين، كما لو قال: (صلّ) وقال: (لا تغصب)، فكلاهما مطلق يشمل المجمع.

[6] التفصيل حسب لسان الدليل:

1- فإن دل الدليل على أن المولى في صدد بيان وجود المصلحة ووجود المفسدة، فهنا يكون من باب الاجتماع - سواء قلنا بكفاية تعدد الجهة أم قلنا بعدم الكفاية - لكن هذا الفرض غير واقع.

2- وإن دل الدليل على أن المولى في صدد بيان فعلية الحكم: فعلى القول بالجواز: نستكشف من الدليلين وجود المقتضي في كليهما، حيث لا يكون حكم فعلي إلاّ إذا كان يحتوى على مصلحة أو مفسدة.

وعلى القول بالامتناع: يتنافى الإطلاقان؛ لعدم إمكان فعلية الضدين، فلابد من معاملتهما معاملة المتعارضين.

نعم، لو أمكن الجمع العرفي: بأن كان أحدهما أظهر فيحمل الآخر على أنه

ص: 269

بيان الحكم الاقتضائي[1] لكان دليلاً على ثبوت المقتضي والمناط في مورد الاجتماع، فيكون من هذا الباب[2]. ولو كان بصدد الحكم الفعلي[3] فلا إشكال في استكشاف[4] ثبوت المقتضي في الحكمين على القول بالجواز إلاّ إذا علم إجمالاً[5] بكذب أحد الدليلين، فيعامل معهما معاملة المتعارضين؛ وأما على القول بالامتناع: فالإطلاقان متنافيان[6] من غير دلالة[7] على ثبوت المقتضي للحكمين في

-------------------------------------------------------------------

بصدد بيان المصلحة أو المفسدة، أما لو كانا متساويين في الظهور فيحملان على أنهما بصدد بيان المصلحة أو المفسدة، وليس فعلية الحكم.

[1] أي: المرحلة الأولى من مراحل الحكم الأربع وهي: الاقتضاء، الإنشاء، الفعلية، التنجيز أو الإعذار، ومعنى الاقتضاء وجود المصلحة أو المفسدة.

وهذا الشق الأول من التفصيل.

[2] أي: باب اجتماع الأمر والنهي.

[3] هذا الشق الثاني من التفصيل. ولا يخفى أن جميع الأوامر والنواهي الشرعية من هذا القبيل.

[4] وذلك لتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد، فإن كان هنالك حكم فعلي كشف عن وجود مناط له من مصلحة أو مفسدة، فيكون على هذا من مصاديق اجتماع الأمر والنهي، أي: من باب التزاحم لا التعارض.

[5] بعد أن بيّن: أن الحكمين الفعليين - بناءً على مبنى الجواز - من قبيل المتزاحمين، أراد استثناء صورة واحدة، وهي ما إذا علم بكذب أحد الدليلين، فيدخلان في باب المتعارضين فلا اجتماع؛ وذلك لأن الدليل الكاذب لا يكشف عن وجود المناط، فيدخل في باب التعارض حيث اشتبه الحجة باللاحجة.

[6] حيث يمتنع اجتماع حكمين فعليين؛ لكونه من طلب الضدين، فيحصل التعارض بين الدليلين.

[7] حيث إن مقتضى التعارض هو عدم وجود ملاك في أحدهما.

ص: 270

مورد الاجتماع أصلاً، فإن انتفاء أحد[1] المتنافيين كما يمكن أن يكون لأجل المانع مع ثبوت المقتضي له يمكن أن يكون لأجل انتفائه[2]. إلاّ أن يقال[3]: إن قضية التوفيق[4] بينهما هو حمل كل منهما على الحكم الاقتضائي لو لم يكن أحدهما أظهر، وإلاّ فخصوص الظاهر منهما.

فتلخص: أنّه كلما كانت هناك دلالة على ثبوت المقتضي في الحكمين كان من مسألة الاجتماع، وكلما لم تكن هناك دلالة عليه فهو من باب التعارض مطلقاً[5] إذا كان هناك دلالة[6] على انتفائه في أحدهما بلا تعيين ولو[7] على الجواز، وإلاّ

-------------------------------------------------------------------

[1] تعليل لكونه من التعارض؛ وذلك لأنه على مبنى امتناع الاجتماع فإن ذلك الامتناع قد يكون لإحدى جهتين:

1- وجود المقتضي لكليهما، ولكن مع المانع - وهو طلب الضدين - فإن أحد المقتضيين لا يؤثر أثره، فيكون من باب الاجتماع.

2- لا يوجد مقتضٍ لأحدهما، لكنه اختلط بما له مقتضٍ، فلا يكون من الاجتماع. وحيث لا دليل يعيّن، فلا يمكننا الحكم بدخول المورد في محل الاجتماع.

[2] أي: لأجل انتفاء المقتضي.

[3] لمّا أجرى المصنف أحكام التعارض على الدليلين الدالين على فعلية الحكم - بناءً على الامتناع - استثنى ما إذا أمكن الجمع العرفي بين الدليلين، فلا تصل النوبة إلى إجراء أحكام التعارض.

[4] هذا إذا كان الجمع عرفياً.

[5] كلمة «مطلقاً» تتعلق بكلا الشقين، أي: (من مسألة الاجتماع) و(من باب التعارض). ومعناها سواء قلنا بامتناع اجتماع الأمر والنهي أم قلنا بالجواز.

[6] حيث لا مجال للتزاحم مع العلم بأن أحدهما لا ملاك له؛ إذ باب التزاحم ينحصر في ما إذا كان لهما الملاك.

[7] قوله: «ولو على الجواز» شرح لقوله: (مطلقاً)، أي: حتى لو قلنا بجواز

ص: 271

فعلى الامتناع[1].

العاشر: إنه لا إشكال[2]

-------------------------------------------------------------------

الاجتماع، فهنا لابد من الحمل على التعارض؛ للعلم بانتفاء الملاك في أحدهما غير المعين.

[1] أي: وإن لم تكن دلالة على انتفاء المقتضي في أحدهما: فعلى الامتناع يكون من باب التعارض، وأما على القول بالجواز فلا يكون من باب التعارض.

الأمر العاشر: في ثمرة بحث الاجتماع

[2] حاصل كلام المصنف أنه: على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي فالمجمع مأمور به، فالإتيان به إتيان بالمأمور به، فيحصل الامتثال ويسقط التكليف، ولكنه عاصٍ أيضاً.

وأما على القول بالامتناع: فلو قلنا بترجيح جانب الأمر مع سقوط النهي فالمجمع مأمور به، فيحصل الامتثال بإتيانه، وليس بعاصٍ؛ لعدم وجود نهي.

ولو قلنا بترجيح جانب النهي وسقوط الأمر: فإن كان توصلياً: سقط الأمر بحصول الغرض. وإن كان تعبدياً: فإن كان عالماً لم يحصل الامتثال، وإن كان جاهلاً مقصراً فكذلك؛ لأن فعله حرام، والحرام غير قابل لأن يقع مقرباً. وإن كان جاهلاً قاصراً صحت عبادته؛ وذلك لوجود الملاك وقابلية عمله للتقرب للحسن الفاعلي.

والجدول التالي يوضّح الأقسام:

ص: 272

في سقوط الأمر وحصول الامتثال[1] بإتيان المجمع بداعي الأمر[2] على الجواز[3] مطلقاً، ولو في العبادات[4]، وإن كان معصية للنهي أيضاً.

وكذا الحال[5] على الامتناع[6] مع ترجيح جانب الأمر، إلاّ أنه لا معصية عليه[7].

وأما عليه[8] وترجيح جانب النهي: فيسقط به الأمر به[9] مطلقاً[10] في غير العبادات، لحصول الغرض[11]

-------------------------------------------------------------------

[1] [القسم الأول] وجه عدم الإشكال كون المجمع مأموراً به، وبالإتيان بالمأمور به يحصل الغرض، فيسقط الأمر.

[2] متعلق ب(إتيان)، وهذا القيد يجري في العبادات فقط، حيث إنه يشترط فيها قصد القربة، أما في غيرها فلا حاجة إلى الإتيان بداعي الأمر.

[3] أي: على القول بالجواز.

[4] أي: سواء كان في التوصليات أم التعبديات، فقوله: (ولو...) شرح لقوله: (مطلقاً).

[5] [القسم الثاني] أي: وكذا سقوط الأمر وحصول الامتثال بإتيان المجمع.

[6] أي: على القول بالامتناع.

[7] لسقوط النهي بسبب التزاحم.

[8] [القسم الثالث] أي: على الامتناع.

[9] أي: يسقط بالإتيان بالمجمع الأمر بالشيء الذي كان المجمع مصداقاً لطبيعي ذلك الشيء.

[10] سواء كان عامداً أم جاهلاً، قاصراً أم مقصراً.

[11] لأنه في التوصليات ليس المهم كيفية الوقوع، وإنّما المقصود هو الوقوع بأية كيفية كانت، فلو غسل الثوب بالماء المغصوب طهر الثوب، وصحت الصلاة به بعد يبسه.

وأشكل عليه: بمثل كفن الميت بالثوب المغصوب، وكذا دفنه في المكان المغصوب، فإنه لا يحصل به الامتثال مع أنه توصلي.

ص: 273

الموجب له[1].

وأما فيها[2]: فلا، مع الالتفات إلى الحرمة، أو بدونه تقصيراً[3]، فإنه وإن كان متمكناً مع عدم الالتفات من قصد القربة وقد قصدها، إلاّ أنه مع التقصير[4] لا يصلح لأن يتقرب به أصلاً، فلا يقع مقرباً، وبدونه[5] لا يكاد يحصل به الغرض الموجب للأمر به عبادةً[6]، كما لا يخفى.

وأما إذا لم يلتفت إليها[7] قصوراً وقد قصد القربة بإتيانه: فالأمر يسقط[8]،

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: الغرض الموجب للأمر؛ وذلك لتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.

[2] [القسم الرابع] أي: في العبادات مع العلم بالحرمة موضوعاً وحكماً، فإنه مع ترجيح جانب النهي فالمجمع لا أمر فيه وهو حرام فقط، ولا يمكن فيه قصد القربة لعلمه بالحرمة، فلا يقع عبادة؛ لاشتراط قصد القربة.

[3] [القسم الخامس] أي: بدون الالتفات إلى الحرمة وكان جاهلاً مقصراً، فإنه وإن أمكنه قصد القربة، لكن فعله حرام - ولذا يعاقب عليه - والحرام لا يصلح للمقربية.

[4] أي: المكلف الذي أتى بالمجمع بقصد القربة. فإن عمله حرام؛ ولذا تصح عقوبته، ولا يكون جهله عذراً، حيث إن طرق الطاعة والمعصية عقلائية، والعقلاء يعتبرون المقصّر مرتكباً للحرام، ويرونه مستحقاً للعقاب، والحرام لا صلاحية له للمقربيّة.

[5] أي: بدون وقوعه مقرباً لا يحصل غرض المولى من العبادة.

[6] حال أو تمييز، أي: الأمر به حال كونه عبادة، أو الأمر به من جهة كونه عبادة.

[7] [القسم السادس] أي: إلى الحرمة.

[8] أي: وإن لم يكن المجمع مأموراً به، لفرض ترجيح جانب النهي، لكن بما أنه يُحصِّل الغرض بالإتيان بالمجمع فإن الأمر يسقط.

ص: 274

لقصد التقرب بما يصلح أن يتقرب به، لاشتماله[1] على المصلحة، مع صدوره حسناً، لأجل الجهل[2] بحرمته قصوراً، فيحصل به[3] الغرض من الأمر، فيسقط به قطعاً وإن لم يكن امتثالاً له[4]، بناءً على[5] تبعية الأحكام لما هو الأقوى من

-------------------------------------------------------------------

[1] بيان وجه سقوط الأمر؛ وذلك لاحتواء المجمع على أمرين:

1- المصلحة؛ إذ باب الاجتماع من قبيل التزاحم، وفي التزاحم توجد المصلحة الواقعية، لكن لم يصل الأمر إلى مرتبة الفعلية لغلبة جانب النهي، وهذا الحسن الفعلي.

2- الحسن الفاعلي؛ لأن الجاهل القاصر أتى بالعمل لأجل التقرب إلى المولى عزوجل، فهو ممدوح من طرف العقلاء.

[2] حيث إن الجهل القصوري لا يمنع من الحسن الفاعلي.

[3] أي: بالإتيان بالمجمع.

[4] أي: ليس المجمع امتثالاً للأمر، حيث الفرض سقوط الأمر وغلبة جانب النهي، ولكنه بما أنه يحصل بالمجمع غرض المولى فإنّ الأمر يسقط. وهذا على مبنى المصنف - كما مرّ في بحث الترتب - حيث جوّز سقوط الأمر العبادي بفعلٍ ليس بمأمور به، لكنه مُحصِّل لغرض المولى.

[5] قيد للنفي، أي: كون المجمع غير مأمور به في حال الجهل القصوري مبني على هذا القول، وتوضيحه أن لنا أمرين:

1- المصلحة والمفسدة الواقعيتان.

2- الحسن والقبح.

والأول: مرتبط بالواقع ولا ربط له بالعلم، فسواء علم المكلف أم جهل لا تتغير المصلحة أو المفسدة الواقعيّة.

والثاني: مرتبط بعلم المكلف، فإذا لم يعلم بالمصلحة الواقعية وأتى بالعمل فلا يتصف عمله بالحسن، وكذا لو لم يعلم بالمفسدة الواقعية وأتى به فلا يتصف عمله بالقبح.

ص: 275

جهات المصالح والمفاسد واقعاً، لا لما هو المؤثر منها[1] فعلاً للحسن أو القبح ، لكونهما تابعين[2] لما علم منهما، كما حقق في محلّه[3].

مع أنه يمكن أن يقال[4]

-------------------------------------------------------------------

فالملاك في الأمر والنهي - عند المصنف - هو المصلحة والمفسدة الواقعيان، فالجاهل القاصر لا أمر في فعله، لكن يسقط بفعله الأمر؛ لحصول الغرض. أما لو قلنا بالمبنى الآخر، وهو تبعية الأحكام للحسن والقبح، فإن عمل الجاهل القاصر حسن، فهو مأمور به، فيحصل بالعمل الامتثال فيسقط الأمر.

فالفرق بين مبنى المصنف والمبنى الآخر: هو أنّ المصنف لا يرى وجود أمرٍ، بل حصول غرضٍ فيسقط الأمر، والمبنى الآخر يرى وجود الأمر فيحصل الامتثال فيسقط الأمر.

[1] أي: من جهات المصالح والمفاسد. وهذا هو المبنى الآخر.

[2] الحسن والقبح تابعان لما علم من المصالح والمفاسد، فالمصلحة الواقعية لا تؤثر في الحكم، بل المصلحة المعلومة. وكذلك المفسدة الواقعية لا تؤثر في الحكم، بل المعلومة منها.

[3] حيث يذكر أن الحسن والقبح الفاعلي لا يرتبط بالمصلحة والمفسدة الواقعية إطلاقاً، فالمتجري مذموم حتى وإن كان في فعله مصلحة، والمنقاد ممدوح حتى إذا كان فعله حرام واقعاً.

والحكم الواقعي لا يمكن ربطه بالعلم والجهل؛ لأنهما متأخران عن الحكم، فلا يمكن أن يتوقف الحكم عليهما.

[4] لما قال المصنف بسقوط الأمر لحصول الغرض لا لأجل الامتثال، أضرب عن كلامه وترقى فقال بحصول الامتثال وإن لم يكن المجمع مأموراً به؛ وذلك لما مرّ في بحث الضد ويكرره المصنف هنا، وحاصله: إن العبادة الموسعة لمّا كانت مزاحمة بالأهم - لأن الفرض هنا تقدم جانب النهي - لا يصل الأمر بها إلى مرتبة الفعلية في

ص: 276

بحصول الامتثال مع ذلك[1]، فإن العقل لا يرى تفاوتاً بينه وبين سائر الأفراد في الوفاء بغرض الطبيعة المأمور بها، وإن لم تعمه بما هي مأمور بها[2]، لكنه لوجود المانع لا لعدم المقتضي.

ومن هنا انقدح: أنه يجزئ ولو قيل باعتبار قصد الامتثال[3] في صحة العبادة وعدم كفاية[4] الإتيان بمجرد المحبوبية، كما يكون كذلك في ضد الواجب[5] حيث لا يكون هناك أمر يقصد أصلاً[6].

وبالجملة: مع الجهل قصوراً بالحرمة موضوعاً أو حكماً يكون الإتيان بالمجمع امتثالاً وبداعي الأمر[7] بالطبيعة لا محالة، غاية الأمر أنه لا يكون مما تسعه[8] بما

-------------------------------------------------------------------

الفرد المزاحم. لكنه لما كان هذا الفرد المزاحم وافياً بغرض المولى، لا يرى العقل تفاوتاً بينه وبين سائر الأفراد في أنه امتثال لأمر المولى.

[1] أي: على مبنانا من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد الواقعية، «بينه» بين المجمع.

[2] أي: وإن لم تشمل الطبيعة الفرد المزاحم بما هي طبيعة مأمور بها؛ وذلك لسقوط الأمر بذلك الفرد بالتزاحم، «لكنه» لكن عدم العموم للمجمع، «المانع» وهو المزاحمة بالفرد الأهم.

[3] أي: لزوم إتيان المأمور به بقصد الأمر، مثل أن ينوي (أصلي صلاة الظهر لوجوبها).

[4] عطف على (اعتبار قصد...)، وهو عطف تفسيري.

[5] أي: يكون مجزياً في ضد الواجب، والمراد به الضد المضيّق، أما الموسّع فقد مرّ من المصنف إمكان الإتيان به بقصد الأمر.

[6] ومع ذلك تصح العبادة.

[7] عطف تفسيري على قوله: (امتثالاً).

[8] أي: مما تسعه الطبيعة المأمور بها؛ وذلك لابتلائه بالمزاحم الأهم، لكن

ص: 277

هي مأمور بها لو قيل بتزاحم الجهات[1] في مقام تأثيرها للأحكام الواقعية؛ وأما لو قيل بعدم التزاحم[2] إلاّ في مقام فعلية الأحكام لكان مما تسعه وامتثالاً لأمرها بلا كلام.

وقد انقدح بذلك[3]: الفرق بين ما إذا كان دليلا الحرمة والوجوب متعارضين وقُدِّم دليل الحرمة تخييراً[4] أو ترجيحاً، حيث لا يكون معه[5] مجال للصحة أصلاً، وبين ما إذا كانا من باب الاجتماع وقيل بالامتناع وتقديم جانب الحرمة، حيث يقع صحيحاً في غير مورد[6] من موارد الجهل والنسيان، لموافقته[7] للغرض، بل للأمر.

-------------------------------------------------------------------

التزاحم لا يخرجه عن كونه فرداً للطبيعة بما هي هي، كما لا يسبب عدم وفائه بالغرض، بل يفي بالغرض وإن لم يكن مأموراً به فيسقط الأمر.

[1] إشارة إلى المبنى الذي اختاره المصنف - وقد مرّ - من أن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية بما هي هي.

وعليه: فالإنشاء وإصدار الأمر تابع لما هو المؤثر منها، إذن لا يوجد حكم - حتى في مرحلة الإنشاء - للمهم، بل الحكم الإنشائي منحصر في الأهم.

[2] إشارة إلى المبنى الآخر - الذي مرّ أيضاً - من أن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد المعلومة فقط. فالتزاحم لا يكون في مقام الإنشاء، فلا مانع من إنشاء الحكمين، وإنما التزاحم في مقام الفعلية، فالأمر بالمهم صدر ولكنه ليس بفعلي، فحينئذٍ يكون العمل بقصد ذلك الأمر الإنشائي.

[3] الغرض بيان الفرق بين التعارض فيخرج عن مسألة الاجتماع، وبين التزاحم فيدخل فيه.

[4] إما لعدم وجود المرجحات، أو لعدم القول بالترجيح، بل التخيير رأساً.

[5] أي: مع التعارض وتقديم جانب الحرمة.

[6] أي: في موارد متعددة، كالجهل القصوري بالحكم أو الموضوع أو كليهما.

[7] أي: لموافقة العمل، وهذا دليل للصحة.

ص: 278

ومن هنا عُلِم: أن الثواب عليه من قبيل الثواب على الإطاعة، لا الانقياد[1] ومجرد اعتقاد الموافقة.

وقد ظهر بما ذكرناه وجه حكم الأصحاب بصحة الصلاة في الدار المغصوبة مع النسيان أو الجهل بالموضوع، بل أو الحكم، إذا كان عن قصور، مع أن الجل لو لا الكل قائلون بالامتناع وتقديم الحرمة، ويحكمون بالبطلان في غير موارد العذر[2]، فلتكن من ذلك على ذكر.

إذا عرفت هذه الأمور فالحق هو القول بالامتناع، كما ذهب إليه المشهور(1). وتحقيقه على وجه يتضح به فساد ما قيل أو يمكن أن يقال من وجوه الاستدلال لسائر الأقوال يتوقف على تمهيد مقدمات:

إحداها: إنه لا ريب في أن الأحكام الخمسة متضادة في مقام فعليتها[3]

-------------------------------------------------------------------

[1] مقابل التجري، ومعنى الانقياد كون العبد ذا نيّة حسنة ويريد إطاعة المولى.

[2] كالعمد والجهل تقصيراً.

دليل الامتناع
اشارة

يتوقف على مقدمات أربع:

المقدمة الأولى

[3] مراتب الحكم أربع:

1- الاقتضاء، أي: وجود المصلحة أو المفسدة؛ وذلك لتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.

2- الإنشاء، أي: صدور الحكم من المولى، كأن ينطق به أو يكتبه.

3- الفعلية، أي: تحقق جميع شرائط الحكم وبعث المولى نحوه، أو زجره عن الشيء بمعنى أنه يريده أو يكرهه فعلاً - مثلاً - .

ص: 279


1- الفصول الغروية: 125؛ معالم الدين: 93؛ قوانين الأصول 1: 140.

وبلوغها[1] إلى مرتبة البعث والزجر، ضرورة[2] ثبوت المنافاة والمعاندة التامة بين البعث نحو واحد في زمان[3] والزجر عنه في ذاك الزمان. وإن لم يكن[4] بينها مضادة ما لم يبلغ إلى تلك المرتبة، لعدم المنافاة والمعاندة[5] بين وجوداتها الإنشائية قبل

-------------------------------------------------------------------

4- المنجزية والمعذرية، بمعنى أنه: لو علم المكلف تنجز عليه، ولا عذر له على المخالفة، وإذا لم يعلم - قصوراً - كان معذوراً في المخالفة.

والتضاد لا يكون في مرحلة الاقتضاء، فما أكثر الأشياء التي اجتمعت فيها المصلحة والمفسدة، كقوله تعالى: {قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ}(1).

كما لا يكون تضاد في مرحلة الإنشاء؛ لعدم المعارضة بين الوجودات اللفظية والكتبيّة.

وإنّما التضاد في مقام الفعلية؛ لعدم معقولية اجتماع إرادة الفعل وإرادة الترك - مثلاً بالنسبة إلى شيء واحد - مع تحقق سائر شرائط التناقض.

[1] عطف تفسيري لشرح الفعلية.

[2] دليل تضاد الأحكام - في مرتبة الفعلية - إذ الفعلية إرادة الفعل والبعث نحوه، أو كراهته والزجر عنه، ولا يعقل اجتماعها في شخص واحد.

[3] شروط التناقض والتضاد ثمانية، وذكر المصنف اتحاد الزمان من باب ذكر المثال الواضح، والشروط هي الوحدة في الموضوع والمحمول والزمان والمكان والشرط والإضافة، ثم الجزء والكل ثم القوة والفعل.

[4] أي: لا تضاد في مرحلة الاقتضاء والإنشاء، «تلك المرتبة» أي: الفعلية.

[5] بيان لعدم التضاد في المرحلة الثانية وهي مرحلة الإنشاء. وحاصله: إن الوجود اللفظي أو الكتبي لا تضاد بينه ما لم يصل إلى الإرادة أو الكراهة.

والوجود الإنشائي يصح حتى لو وُجد المانع عن الفعلية؛ لأن الوجود الإنشائي تابع للمصلحة أو المفسدة. نعم، يمكن أن يقال: بلغوية الأمر الإنشائي إذا كان

ص: 280


1- سورة البقرة، الآية: 219.

البلوغ إليها، كما لا يخفى. فاستحالة اجتماع الأمر والنهي في واحد لا تكون من باب التكليف بالمحال[1]، بل من جهة أنه بنفسه محال[2]، فلا يجوّز عند من يجوّز التكليف بغير المقدور أيضاً.

ثانيتها: إنه لا شبهة في أن متعلق الأحكام هو فعل المكلف[3] وما هو في الخارج يصدر عنه، وهو فاعله وجاعله؛ لا ما هو اسمه[4] - وهو واضح - ؛ ولا ما هو عنوانه[5]

-------------------------------------------------------------------

للوجود مانع، لكن هذا غير الامتناع العقلي، «البلوغ إليها» إلى مرتبة الفعلية.

[1] وهو التكليف بما لا يطاق كالأمر بالطيران. وهذا النحو من التكليف يمكن صدوره من المولى الغافل أو الجاهل، وأما صدوره من المولى الملتفت فهو قبيح - خلافاً للأشاعرة - .

[2] أي: يستحيل اجتماع الإرادة والكراهة في شخص واحد بالنسبة إلى شيء واحد، فلذا لا يجوّزه حتى الأشاعرة.

المقدمة الثانية

[3] قصد المصنف هو الإيجاد والإصدار، لا الفعل بما هو هو، كما يتضح من عطفه التفسيري، حيث قال: (ما هو في الخارج يصدر عنه)، وقال: (وهو فاعله وجاعله).

أما الفعل بما هو هو فلا يعقل تعلق التكليف به؛ لأنه إن كان موجوداً فيكون التكليف طلب الحاصل، وإن كان معدوماً فهو من طلب المحال، إلاّ إذا كان بمعنى طلب إيجاده وإصداره، فتأمل.

[4] لأن الغرض لا يتعلق بالاسم، وكذلك المصلحة أو المفسدة لا ترتبط به، بل المصلحة والمفسدة وكذلك الغرض تتعلق بالواقع، أياً كان الاسم.

[5] لعل المراد ما ينتزع من الفعل، مثلاً: قول الشخص: (بعت) اسمه (العقد) وينتزع منه (الملكيّة)، ولا يخفى أن بين الاسم والعنوان عموماً من وجه. فقد

ص: 281

مما قد انتزع عنه[1] - بحيث لو لا انتزاعه تصوراً واختراعه ذهناً لما كان بحذائه شيء خارجاً[2] - ويكون خارج المحمول[3] كالملكية والزوجية والرقية والحرية والمغصوبية إلى غير ذلك من الاعتبارات والإضافات[4]،

-------------------------------------------------------------------

يجتمعان كالصلاة، فإنه اسم للحركات المخصوصة كما أنه ينتزع منها. وقد يكون اسم وليس بعنوان كالعقد. وقد يكون عنوان - منتزع - وليس باسم كالملكية.

[1] اصطلاح المصنف في الانتزاع يشمل الاعتبار أيضاً، في حين أن اصطلاح المشهور هو الفرق بين الانتزاع والاعتبار، فالانتزاع(1)

ما ليس بإزائه شيء في الخارج، لكن لا يمكن للمعتبر رفعه أو جعله إلاّ برفع أو جعل منشأ الانتزاع، كزوجية الأربعة، حيث لا يوجد في الخارج بإزاء الزوجية شيء، ولا يمكن إلغاء زوجية الأربعة برفع منشأ الانتزاع، كأن يعدم أحد الأشياء - المكوَّن منها الأربعة - .

والاعتبار ما ليس بإزائه شيء في الخارج، ويمكن للمعتبر رفعه أو وضعه، كالملكية حيث يمكن للمعتبر إلغائها بدون إلغاء منشأ الاعتبار.

[2] في العبارة قصور، فلا يوجد شيء في الخارج سواء كان هنالك منتزع أم لم يكن.

ولعل مراد المصنف هو أن لا موطن له إلاّ في الذهن.

[3] قدّ مرّ أن «خارج المحمول» هو ما ليس بإزائه شيء في الخارج وينتزع من صميم وحاق الشيء، كالوحدة المنتزعة من الشيء الواحد. وإنّما سُمّي خارج المحمول؛ لأنه يخرج من الشيء ويحمل عليه، مثلاً نقول: (زيد واحد).

ويقابله المحمول بالضميمة، حيث إن بإزائه شيء في الخارج، ويحمل على الشيء - بمعنى أنه يُضَمّ إلى ذلك الشيء - مثلاً: (الجدار أبيض)، فالبياض عرض خارجي - وليس ذهنياً - وقد ضم إلى الجدار.

[4] «الاعتبارات» ما يعتبره المعتبر في الشيء الواحد، مثلاً: الحرية، و«الإضافات» ما يعتبره في شيئين، مثلاً: الرقية حيث إنها نسبة بين شخصين.

ص: 282


1- فوائد الأصول 2: 401.

ضرورة[1] أن البعث ليس نحوه[2]، والزجر لا يكون عنه، وإنما يؤخذ[3] في متعلق الأحكام آلة للحاظ متعلقاتها والإشارة إليها بمقدار الغرض منها والحاجة إليها، لا بما هو هو وبنفسه وعلى استقلاله وحياله.

ثالثتها[4]: إنه لا يوجب تعدد الوجه والعنوان تعدد المعنون، ولا ينثلم به وحدته، فإن المفاهيم المتعددة والعناوين الكثيرة ربما تنطبق على الواحد[5] وتصدق على الفارد الذي لا كثرة فيه من جهة[6]، بل بسيط من جميع الجهات، ليس فيه حيث غير حيث[7]،

-------------------------------------------------------------------

[1] بيان ودليل لعدم تعلق الحكم بالعنوان والاسم.

[2] أي: ليس نحو كل واحد من الاسم والعنوان، ولو قال المصنف: (نحوهما) و(عنهما) لكان أحسن.

[3] أي: الاسم والعنوان إذا جعل موضوعاً للتكليف فإنما هو للإشارة إلى المعنون، حيث هما مرآة له.

المقدمة الثالثة

[4] غرض المصنف بيان أنه أحياناً قد يكون العنوان متعدداً والمعنون واحداً، فلا تلازم بين التعدد في العنوان وبين التعدد في المعنون، وليس مراده الدوام؛ إذ قد يكون العنوان متعدداً والمعنون كذلك متعدد. ولذا قال: (ربما تنطبق... الخ)، «به» بتعدد العنوان، «وحدته» وحدة المعنون.

وبهذه المقدمة يُبطل المصنف دليل المجوزين حيث استدلوا بتعدد العنوان، فيقال لهم: إن تعدد العنوان لا يكفي لتعدد المعنون، بل لابد من دليل لتعدد المعنون.

[5] وذلك إذا لم يكن بينها مضادة مثلاً: (الطويل الأبيض العالم) قد تنطبق على (زيد) وهو واحد، وكذلك صفات الله تعالى.

[6] أي: لا كثرة فيه من أية جهة من الجهات.

[7] أي: لا تعدد في الحيثيات فيه، بمعنى أنه لا تتغاير فيه الحيثيات، كما في

ص: 283

وجهة مغايرة لجهة[1] أصلاً، كالواجب تبارك وتعالى، فهو على بساطته[2] ووحدته وأحديته[3] تصدق عليه مفاهيم الصفات الجلالية[4] والجمالية[5]. له الأسماء الحسنى والأمثال العليا[6]، لكنها بأجمعها حاكية عن ذاك الواحد الفرد الأحد[7].

عباراتنا شتى وحسنك واحدٌ

وكلٌ إلى ذاك الجمال يشير

-------------------------------------------------------------------

الممكنات، فيقال: هذا من حيث إنه ابن زيد فهو ولد، ومن حيث إنه أب عمرو فهو والد.

[1] أي: لا تغاير في الوجود. نعم، في المفهوم الذهني يوجد تغاير.

[2] حيث لا منشأ لانتزاع تلك الصفات إلاّ ذاته وهي بسيطة، بعكس الممكنات حيث إن منشأ انتزاع الصفات منها هو تلبسها بالمبادئ المختلفة.

[3] الألفاظ الثلاثة مترادفة - هنا - ويراد بها معنى واحد، وان كانت بالأساس لمعنيين، فالواحد ما لا شريك له، والبسيط والأحد ما لا جزء له.

[4] أي: الصفات السلبية، فإنّ الله تعالى أجلّ من أن يتصف بها، كالجسمية والتركب والرؤية والمحل... الخ.

[5] أي: الصفات الثبوتية، كالعلم والقدرة والحياة... الخ.

[6] المراد ب- «الأمثال العليا» هنا نفس (الأسماء الحسنى) جيء بها للسجع، وإن كان المراد - في غير هذا المكان - الأمثال التي ضربها الله تعالى لنفسه، كقوله تعالى: {ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ مَثَلُ نُورِهِۦ كَمِشۡكَوٰةٖ}(1) الآية.

[7] يراد بها معنى واحد فهي - هنا - مترادفات، وإن كانت بالأساس لمعانٍ مختلفةٍ، فالواحد ما لا شريك له، والأحد ما لا جزء له، والفرد المستقل في التدبير.

ص: 284


1- سورة النور، الآية: 35.

رابعتها[1]: إنه لا يكاد يكون للموجود بوجودٍ واحد إلاّ ماهية واحدة[2] وحقيقة فاردة، لا يقع في جواب السؤال عن حقيقته بما هو[3] إلاّ تلك الماهية؛ فالمفهومان المتصادقان على ذاك[4] لا يكاد يكون كل منهما ماهية وحقيقة[5] وكانت عينه في الخارج[6]، كما هو شأن الطبيعي وفرده، فيكون[7] الواحد وجوداً واحداً ماهيةً وذاتاً[8] لا محالة؛ فالمجمع وإن تصادق عليه متعلقا الأمر والنهي، إلاّ أنه كما

-------------------------------------------------------------------

المقدمة الرابعة
اشارة

[1] الغرض من عقد هذه المقدمة هو دفع ما يتوهم من أنه يكفي في جواز الاجتماع تعدد الماهية - ولو كان الوجود واحداً - كما سيأتي في الدليل الأول للمجوزين.

مضافاً إلى دفع توهمين أوردهما الفصول.

[2] وذلك لأن الماهية مركبة من الجنس والفصل، وتغاير الماهيات بتباين الفصول، والفصول متضادة، فلا يمكن اجتماعها في وجود واحد.

مثلاً: الإنسان والفرس، بعد اشتراكهما في الجنس - وهو الحيوان - يتغايران بالفصل، وبين الفصلين - الناطق والصاهل - تضاد فلا يجتمعان.

[3] أي: باعتبار ذاته، لا حسب العوارض والطوارئ.

[4] أي: ذلك المجمع وهو موجود بوجود واحد.

[5] فالحركات الخاصة - المنطبق عليها عنوان الصلاة وعنوان الغصب - ليس لها ماهيتان.

[6] أي: فلا يصح أن يقال: كما أن الطبيعي يوجد بوجود فرده في الخارج، كذلك ماهية الصلاة وجدت بوجود هذه الحركات، وكذلك ماهية الغصب، فلدينا ماهيتان؛ وذلك لأن الوجود الواحد له ماهية واحدة فقط.

[7] نتيجة عدم تعدد الماهيات.

[8] «ذاتاً» عطف تفسيري على (ماهية).

ص: 285

يكون واحداً وجوداً يكون واحداً ماهيةً وذاتاً؛ ولا يتفاوت فيه القول بأصالة الوجود أو أصالة الماهية.

ومنه ظهر عدم[1] ابتناء القول بالجواز والامتناع في المسألة على القولين في تلك المسألة - كما توهم في الفصول(1)، كما ظهر عدم الابتناء[2] على تعدد وجود الجنس والفصل في الخارج وعدم تعدده، ضرورة عدم كون[3] العنوانين المتصادقين

-------------------------------------------------------------------

التوهم الأول

[1] حاصل التوهم: إن صاحب الفصول بنى الجواز على أصالة الماهية، والامتناع على أصالة الوجود فقال: إنه على أصالة الوجود، فإن ما في الخارج هو شيء واحد، فلا يعقل أن يتعلق به أمر ونهي؛ للزوم اجتماع الضدين. أما على أصالة الماهية، فإن الماهية متعددة، فالمتحقق في الخارج ماهيتان، إحداهما كانت واجبة، والأخرى محرّمة، فلا اجتماع للضدين.

وجوابه: يظهر ممّا بيناه من أنه لا تعدد للماهية، فالوجود الواحد له ماهية واحدة، سواء قلنا بأصالة الوجود أم بأصالة الماهية.

التوهم الثاني

[2] الجنس والفصل مقومان للماهية؛ لأن الماهية تتركب منهما، وعلى أصالة الماهية فإن الجنس والفصل متحققان في الخارج. فقد يقال بتعددهما - أي: إن المتحقق في الخارج أمران - . وقد يقال باتحادهما - أي: إن المتحقق في الخارج شيء واحد له اعتباران - .

وحاصل توهم الفصول: إنه لو قلنا بتعدد الجنس والفصل في الخارج فيبتنى عليه جواز الاجتماع؛ إذ المأمور به شيء والمنهي عنه شيء آخر. أما لو قلنا بعدم التعدد فلا محيص من الامتناع؛ لاتحاد المأمور به والمنهي عنه.

[3] جواب عن توهم الفصول، وحاصله: إن هذه المسألة لا تبتنى على مسألة

ص: 286


1- الفصول الغروية: 126.

عليه من قبيل الجنس والفصل له، وأن مثل الحركة[1] في دار - من أي مقولة كانت[2] - لا يكاد يختلف حقيقتها وماهيتها ويتخلف ذاتياتها، وقعت جزءاً للصلاة أو لا، كانت تلك الدار مغصوبة أو لا.

إذا عرفت ما مهدناه[3] عرفت:

أن المجمع حيث كان واحداً وجوداً وذاتاً[4] كان تعلق الأمر والنهي به محالاً ولو

-------------------------------------------------------------------

تعدد الجنس والفصل أو اتحادهما؛ لأن عنوان الصلاة وعنوان الغصب ليسا من الجنس والفصل أصلاً؛ وذلك لأن الحركة الخاصة لا يختلف جنسها وفصلها، سواء كانت جزءاً من الصلاة أم لا، وسواء كانت تصرفاً في الغصب أم لا.

[1] لبيان أن عنوان الغصب وعنوان الصلاة ليسا من قبيل الجنس والفصل؛ إذ لو كانا جنساً أو فصلاً لاختلفت حقيقة الحركة الخاصة بتغيرهما، مضافاً إلى أن بين الجنس والفصل عموماً مطلقاً، وبين الصلاة والغصب عموم من وجه.

[2] الظاهر أنها من مقولة الوضع؛ لأن الصلاة - مثلاً - مركبة من:

أ- الكيف المسموع - كالقراءة والذكر - .

ب - الكيف النفساني - كالنية - .

ج - مقولة الوضع - كالهيئة في الركوع والسجود - .

والغصب - مثلاً - هو من مقولة الوضع - ظاهراً - .

النتيجة

[3] أي: نتيجة تلك المقدمات الأربع هو الامتناع؛ لأن: 1- الأحكام متضادة، 2- ومتعلقها إيجاد المكلف للفعل، 3- وتعدد العنوان لا يوجب تعدد المتعلق، 4- وكما أن وجودها واحد كذلك ماهيتها واحدة.

فالنتيجة: أن متعلق الحكم شيء واحد فقط، فلا يعقل أن يكون له حكمان متضادان.

[4] المراد بالذات الماهية.

ص: 287

كان تعلقهما به بعنوانين، لما عرفت من كون فعل المكلف بحقيقته وواقعيته الصادرة عنه متعلقاً للأحكام، لا بعناوينه الطارئة عليه.

وأن غائلة اجتماع الضدين فيه[1] لا تكاد ترتفع بكون الأحكام تتعلق بالطبائع لا الأفراد، فإن غاية تقريبه أن يقال[2]:

إن الطبائع من حيث هي هي[3] وإن كانت ليست إلاّ هي، ولا تتعلق بها الأحكام

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: في المجمع.

أدلة المجوزين
الدليل الأول
اشارة

[2] خلاصة الدليل الأول - وهو من شطرين - هو أن:

1- الأحكام تتعلق بالطبائع، فالواجب طبيعة الصلاة، والحرام طبيعة الغصب.

2- الفرد الخارجي مقدمة لتحقق الطبيعتين؛ وذلك الفرد حرام فقط، لكنه مقدمة للواجب وللحرام. فلم يستلزم اجتماع أمر ونهي في شيء واحد أصلاً؛ لأن الواجب طبيعة والحرام طبيعة أخرى، والفرد - وهو مقدمة للطبيعتين - حرام فقط، فهو حرام ومقدمة للغصب الحرام، كما أنه مقدمة للصلاة الواجبة، ولا محذور في كون الشيء مقدمة لحرام ولواجب، كما لو ركب الدابة المغصوبة للوصول إلى الحج وإلى الخمر معاً. فإن الركوب حرام فقط، ولو وصل وأدى الحج فقد فعل واجباً، ولو شرب الخمر فقد فعل محرماً أيضاً.

[3] أي: في مرحلة ذاتها - كما مرّ - ، «ليست إلاّ هي» أي: (لا بشرط) فلذا تجتمع مع كافة الشروط. ولو كانت الطبيعة في مرحلة ذاتها بشرط الوجود صارت من قبيل واجب الوجود؛ لعدم تخلف الذاتي. ولو كانت في مرحلة ذاتها بشرط العدم صارت من قبيل ممتنع الوجود.

ص: 288

الشرعية[1] - كالآثار العادية والعقلية[2] -، إلاّ أنها[3] مقيدةً بالوجود - بحيث كان القيد خارجاً والتقيد داخلاً[4] - صالحةٌ لتعلق الأحكام بها. ومتعلقا الأمر والنهي[5] على هذا[6] لا يكونان متحدين أصلاً، لا في مقام تعلق البعث والزجر، ولا في مقام

-------------------------------------------------------------------

[1] مثلاً: الكذب في ذاته ليس بحرام ولا واجب، فلذا يمكن أن يتصف بالوجوب - كما في إنقاذ المؤمن - ويمكن أن يتصف بالحرمة - كما في أكثر الموارد - . أما العدل - مثلاً - فإنه في مرحلة ذاته واجب، فلذا الوجوب ضروري له.

[2] (الأثر العادي) ما يمكن انفكاكه مثل حرارة النار، حيث يمكن الانفكاك كنار إبراهيم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ. و(الأثر العقلي) ما لا يمكن انفكاكه كالتحيز للجسم. وكلا الأثرين ممّا لا يدخلان في الماهية، بل هما من لوازم الوجود.

[3] خبر (أن) قوله: (صالحةٌ)، وقوله: (مقيدةً) حال.

فالمعنى أن الماهية من حيث هي وفي مرحلة ذاتها لا يتعلق بها الأحكام، لكنها بشرط الوجود تكون متعلقاً للأحكام. وليس الوجود جزءاً من الماهية، بل التقيد عارض عليها، والوجود خارج، ككل وصف، مثلاً: حينما نقول: (زيد أبيض)، فالبياض ليس جزءاً من ماهية زيد، بل هو خارج عن الذات، لكن في زيد تحقق وصف وحالة سببت ارتباط البياض به.

[4] أي: ليست الطبيعة الموجودة مأموراً بها أو منهيّاً عنها حتى يستلزم اجتماع الضدين، بل المأمور به والمنهي عنه هو الطبيعة بقيد الوجود، بحيث كان الوجود خارجاً عن المأمور به؛ وذلك لأن الطبيعة الموجودة هي أمر حاصل، فلا معنى لطلب حصولها.

[5] أي: حيث تعلق الأمر والنهي بالطبيعة، فالطبيعتان متغايرتان ولا اتحاد بينهما. لا في مرحلة الطلب - أي: البعث في الأمر والزجر في النهي - ولا في مرحلة الامتثال أو العصيان. والأول مرتبط بالمولى، والثاني مرتبط بالعبد.

[6] أي: على القول بتعلق الأمر بالطبائع.

ص: 289

عصيان النهي وإطاعة الأمر بإتيان المجمع بسوء الاختيار[1].

أما في المقام الأول[2]: فلتعددهما بما هما متعلقان لهما وإن كانا متحدين في ما هو خارج عنهما[3]، بما هما كذلك[4].

وأما في المقام الثاني[5]: فلسقوط أحدهما بالإطاعة والآخر بالعصيان بمجرد الإتيان؛ ففي أي مقام اجتمع الحكمان في واحد؟

وأنت خبير[6]:

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: في ما أمكنه فعل الواجب في غير مورد الحرام، كما لو أتى بالصلاة في غير المغصوب. أمّا لو انحصرت الصلاة في المغصوب فوجوبها وحرمة الغصب يكون من التكليف بما لا يطاق، فإما أن يسقط وجوب الصلاة، وإما أن تسقط حرمة الغصب.

[2] أي: مقام طلب المولى؛ وذلك لأن المولى يريد الطبيعتين، ولا تنافي بينهما؛ إذ هما متعددان. نعم، في الوجود يتحدان، لكن الوجود ليس متعلقاً للأمر والنهي حتى يصير طلب الضدين.

[3] أي: خارج المتعلق وهو الوجود.

[4] أي: بما هما متعلقان للبعث والزجر.

وحاصل العبارة: أما في المقام الأول - وهو حين إرادة المولى - فلا تنافي؛ لتعدد الطبيعتين بما هما متعلقان للبعث والزجر، وإن كانت الطبيعتان في مرحلة الوجود متحدتين؛ وذلك الوجود خارج الطبيعتين المتعلقتين للبعث والزجر.

[5] أي: حين فعل العبد لا يجتمع الأمر والنهي أصلاً؛ وذلك لسقوطهما فلا يجتمعان، أمّا سقوط الأمر فبالإطاعة حيث لا يبقى أمرٌ بعد إطاعته. وأمّا سقوط النهي فبالعصيان؛ وذلك لفوات غرض المولى، كما لو قال: (أكرم الضيف) فعصى إلى أن سافر الضيف، حيث يسقط أمر (أكرم) بفوات الغرض.

رد الشطر الأول من الدليل الأول

[6] حاصل الجواب: هو أن الفعل الخارجي - الذي اجتمع فيه الصلاة والغصب -

ص: 290

بأنه لا يكاد يجدي[1] بعد ما عرفت من أن تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون، لا وجوداً ولا ماهيةً، ولا تنثلم به وحدته أصلاً؛ وأن المتعلق للأحكام هو المعنونات لا العنوانات، وأنها إنما تؤخذ في المتعلقات بما هي حاكيات - كالعبارات[2] -، لا بما هي على حيالها واستقلالها.

كما ظهر ممّا حققناه[3]: أنه لا يكاد يجدي أيضاً كون الفرد مقدمة[4] لوجود الطبيعي المأمور به أو المنهي عنه، وأنه لا ضير في كون المقدمة محرمة في صورة عدم الانحصار[5]

-------------------------------------------------------------------

واحد وجوداً، وواحد ماهيةً. وأن انطباق طبيعة الغصب وطبيعة الصلاة عليه لا يوجب تعدده، بل يوجب تعدد عنوانه، وقد مرّ في مقدمات دليل الامتناع أن تعدد العنوان لا يجدي في رفع التضاد.

[1] أي: لا يجدي تعدد العنوان.

[2] بالراء، أي: الألفاظ، فلو قلنا: (أكرم زيداً) يراد به إكرام الشخص الخارجي، لا إكرام اسم (زيد).

الشطر الثاني من الدليل الأول
اشارة

[3] هذا هو الشطر الثاني من الدليل الأول للمجوزين.

[4] وحاصله: إنهم يقولون: إنّ الفرد الخارجي هو حرام فقط، لكنه مقدمة للطبيعي الواجب، ومقدمة للطبيعي الحرام. فلم يلزم من ذلك اجتماع الضدين إطلاقاً.

[5] أي: مع وجود مقدمات مباحة، كما لو وجدت الدابة المستأجرة أو المملوكة، لكنه سافر بالمغصوبة، فإن العقل لا يرى مانعاً من كون التصرف في الدابة المغصوبة حرام، وفي الوقت نفسه مقدمة للواجب بحيث يكون قد أتى بفريضة الحج. أما لو انحصر الذهاب إلى الحج الواجب بركوب الدابة المغصوبة، فإن الأمر بالحج مع النهي عن التصرف في الدابة تكليف بما لا يطاق، ولا يصدر من المولى الحكيم؛ إذ عليه إما أن يرفع اليد عن وجوب الحج، أو أن يرفع اليد عن حرمة التصرف في المغصوبة.

ص: 291

بسوء الاختيار[1]، وذلك[2] - مضافاً إلى وضوح[3] فساده، وأن الفرد هو عين الطبيعي في الخارج، كيف[4] والمقدمية تقتضي الاثنينية بحسب الوجود، ولا تعدد كما هو واضح - أنه إنما يجدي[5] لو لم يكن المجمع واحداً ماهيةً، وقد عرفت بما لا

-------------------------------------------------------------------

[1] متعلق بقوله: (محرمة)، أي: حرمتها بسوء اختيار المكلف، حيث كان يمكنه ركوب المباحة، لكنه عصى بسوء اختياره فركب المغصوبة، فصارت المقدمة محرمة.

[2] شروع في رد هذا الاستدلال (وهو الشق الثاني من الدليل الأول للمجوزين)، والرد من وجهين.

الرد الأول

[3] حاصل الرد: إن الفرد ليس مقدمة للطبيعي، بل الفرد نفس الطبيعي؛ لأن الطبيعي موجود بوجود فرده، فزيد مثلاً ليس مقدمة للإنسان، بل هو الإنسان بعينه.

[4] بيان للعينية وأن الفرد عين الطبيعي. وحاصله: إن الشيء لا يكون مقدمة لنفسه، حيث إن المقدمة علة أو جزء علة، ولا يعقل كون الشيء علة لنفسه، فالمقدمية تقتضي التغاير بين المقدمة وذي المقدمة، في حين أن الطبيعي عين الفرد.

الرد الثاني

[5] أي: إن المقدمية إنما تدفع اجتماع الضدين إذا قلنا: إنّ المجمع له ماهيتان، بإحدى الماهيتين كان مقدمة لطبيعي الصلاة، وبالأخرى كان مقدمة لطبيعي الغصب.

لكنا أثبتنا أن المجمع له وجود واحد وماهية واحدة، فلا يمكن أن يكون مقدمة للطبيعتين.

هذا غاية ما يخطر بالبال لتوجيه كلام المصنف، وإلاّ فالعبارة لا تخلو من غموض.

فإما نجعل الردين رداً واحداً، فيكون قوله: (أنه إنّما يجدي) من تتمة الردّ الأول. وإما أن نشكل على المصنف بأن إشكاله الثاني غير وارد؛ لأن المستدل يرى حرمة المجمع فقط، لكنه مقدمة لواجب ولحرام، فكون المجمع ذا ماهية واحدة لا يضر بما يستدل، فتأمل.

ص: 292

مزيد عليه أنه بحسبها[1] أيضاً واحد.

ثم إنه قد استدل[2] على الجواز بأمور:

منها[3]: إنه لو لم يجز اجتماع الأمر والنهي لما وقع نظيره[4]، وقد وقع، كما في العبادات المكروهة، كالصلاة في مواضع التهمة[5] وفي الحمام(1)، والصيام في

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: المجمع بحسب الماهية.

الدليل الثاني للمجوزين
اشارة

[2] كان الأولى تقديم هذه العبارة؛ لأن هذا هو الدليل الثاني للمجوزين، وقد سبق أن ذكر الدليل الأول - بشقّيه - والجواب عنه.

[3] حاصل الدليل: إن الوقوع دليل الإمكان، وحيث رأينا اجتماع الأحكام - مع تضادها - كالوجوب والكراهة، علمنا أن تعدد الجهة كاف في دفع غائلة اجتماع الضدين.

[4] أي: نظير اجتماع الوجوب والحرمة، والنظير هو الاجتماع في سائر الأحكام؛ وذلك لأن العلة واحدة، حيث إن تعدد الجهة ان كان كافياً في الجواز كان الاجتماع جائزاً، سواء بين الوجوب والحرمة أم بين غيرهما من الأحكام. وإن لم يكن اجتماع الجهة كافياً لما جاز مطلقاً. وحيث رأينا الوقوع في بعض الأحكام علمنا أن تعدد الجهة كاف في رفع التضاد.

[5] 1- التهمة مصدر بمعنى الاتهام، أي: الصلاة في الأماكن التي توجب سوء ظن الناس واتهامهم له، كالصلاة في المخامر والمواخير ونحوها.

2- وعن لسان العرب(2)

(التَهمة) كهمزة، ما يُتهم عليه، والمراد الأمكنة التي يتهم المصلي فيها على استخفافه بالصلاة، كمرابض الغنم، ومعاطن الإبل، والمزابل، والحمام، فيكون قوله: (وفي الحمام) من عطف الخاص على العام.

ص: 293


1- قوانين الأصول 1: 142.
2- لسان العرب 12: 74.

السفر[1] وفي بعض الأيام[2].

بيان الملازمة[3]: إنه لو لم يكن تعدد الجهة مجدياً في إمكان اجتماعهما لما جاز اجتماع حكمين آخرين في مورد[4] مع تعددها، لعدم اختصاصهما[5] من بين الأحكام بما يوجب الامتناع من التضاد[6]، بداهة تضادها بأسرها[7]، والتالي باطل، لوقوع[8] اجتماع الكراهة والإيجاب أو الاستحباب في مثل الصلاة في الحمام، والصيام في السفر[9]

-------------------------------------------------------------------

[1] إن قلنا بجوازه في الصوم المستحب.

[2] كيوم عاشوراء، ويوم عرفة لمن يضعفه عن الدعاء.

[3] أي: بين (امتناع اجتماع الحرمة والوجوب) وبين (امتناع اجتماع سائر الأحكام) حيث إما يجوزان أو لا يجوزان، وحيث جاز في غير الوجوب والحرمة جاز فيهما أيضاً.

[4] أي: في أي مورد من الموارد.

[5] أي: الوجوب والحرمة. والمعنى أن العلة واحدة في كلا الموردين.

[6] بيان ل(ما) في قوله: (بما يوجب)، والمعنى لعدم اختصاص الوجوب والحرمة من بين الأحكام الخمسة، (بما) أي: بتضاد يوجب الامتناع للاجتماع.

[7] كما مرّ في المقدمة الأولى من الدليل للامتناع.

[8] الأمثلة: 1- الوجوب والكراهة: كالصلاة الواجبة في الحمام.

2- الوجوب والاستحباب: كالصلاة الواجبة في المسجد.

3- الوجوب والإباحة: كالصلاة الواجبة في الدار.

4- 5- 6- الاستحباب مع هذه الأحكام كالصلاة المستحبة في هذه الأماكن.

[9] أي: الصيام المستحب على القول بجوازه في السفر، ولعل المشهور(1) عدم الجواز إلاّ بالنذر.

ص: 294


1- المهذب 1: 194؛ الوسيلة: 148؛ المعتبر 2: 645.

وفي العاشوراء[1] - ولو في الحضر - ، واجتماع الوجوب أو الاستحباب مع الإباحة أو الاستحباب في[2] مثل الصلاة في المسجد أو الدار.

والجواب عنه:

أما إجمالاً[3]: فبأنه لابد من التصرف والتأويل في ما وقع في الشريعة مما ظاهره الاجتماع بعد قيام الدليل على الامتناع، ضرورة[4] أن الظهور لا يصادم البرهان.

-------------------------------------------------------------------

[1] أما ما ورد من الروايات(1)

باستحباب الصوم فيه فمحمول على التقية؛ لأن العامة روت استحبابه؛ وذلك لأن الأمويين(2)

صاموا شكراً لقتل الحسين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[2] كالنافلة في المسجد، فيكون من اجتماع الاستحباب والاستحباب، وهذا المثال وإن كان خارجاً عن البحث لكنه داخل في ملاكه حيث اجتمع المثلان، وحيث إنّ اجتماع المثلين محال فنقول بكفاية تعدد الجهة لرفع اجتماعهما.

رد الدليل الثاني

[3] الجواب أمران:

1- بعد قيام الدليل العقلي على امتناع الاجتماع، وعدم كفاية تعدد الجهة لرفع الاجتماع، لابد من تأويل الظواهر الدالة على الاجتماع.

2- إن هذا الإشكال ليس خاصاً بالقول بالامتناع، بل يجري حتى على القول بالجواز؛ وذلك لأن المجوِّز يرى الجواز في صورة تعدد الجهة، ولا يرى الجواز في صورة اتحاد الجهة. وفي هذه الأمثلة الجهة واحدة، فالصلاة في الحمام نفس الصلاة واجبة، ونفس الصلاة مكروهة. فلابد للمجوزين من التفصي عن هذا الإشكال أيضاً.

[4] هذا الجواب الأول، وحاصله: لزوم تأويل ظهور الألفاظ حين قيام الدليل العقلي أو النقلي القطعي على خلاف ذلك الظهور.

ص: 295


1- الاستبصار 2: 134.
2- الاستبصار 2: 134.

مع[1] أن قضية ظهور تلك الموارد اجتماع الحكمين فيها بعنوانٍ واحد[2]، ولا يقول الخصم بجوازه كذلك[3]، بل بالامتناع ما لم يكن بعنوانين وبوجهين. فهو أيضاً لابد له من التفصي عن إشكال الاجتماع فيها، لا سيما إذا لم يكن هناك مندوحة[4]، كما في العبادات المكروهة[5] التي لا بدل لها. فلا يبقى له مجال للاستدلال بوقوع الاجتماع فيها على جوازه أصلاً، كما لا يخفى.

وأما تفصيلاً: فقد أجيب(1)

عنه بوجوه يوجب ذكرها بما فيها من النقض والإبرام طول الكلام بما لا يسعه المقام.

فالأولى الاقتصار على ما هو التحقيق في حسم مادة الإشكال، فيقال - وعلى الله الإتكال -:

إن العبادات المكروهة على ثلاثة أقسام:

-------------------------------------------------------------------

[1] هذا الجواب الثاني.

[2] لأن تلك الموارد من قبيل العام والخاص المطلق أو التساوي، في حين أن موارد اجتماع الأمر والنهي من قبيل العام والخاص من وجه.

[3] أي: من وجه واحد، «فهو» فالخصم المجوِّز للاجتماع.

[4] لأن في مورد وجود المندوحة لعل البعض يقول بالإمكان بشبهة أنه بسوء الاختيار، وما بالاختيار لا ينافي الاختيار، أو يقال: إنه في صورة وجود المندوحة الأمر لم يتوجه إلى هذا الفرد المكروه لكن الملاك موجود، لكن في صورة عدم المندوحة لا توجد شبهة سوء الاختيار، ولا يمكن أن يقال بعدم توجه الأمر إلى هذا الفرد المكروه؛ وذلك لانحصار الوجوب به فقط.

[5] ومنها يتضح اجتماع الوجوب وغيره في غير العبادات، «له» للخصم، وقوله: «على جوازه» متعلق ب(للاستدلال).

ص: 296


1- الفصول الغروية: 128؛ مطارح الأنظار 1: 617.

أحدها: ما تعلق به النهي بعنوانه وذاته[1] ولا بدل له[2]، كصوم يوم العاشوراء[3] والنوافل المبتدئة(1)[4]

في بعض الأوقات[5].

ثانيها: ما تعلق به النهي كذلك[6] ويكون له البدل، كالنهي عن الصلاة في الحمام[7].

ثالثها: ما تعلق النهي به لا بذاته، بل بما هو مجامع معه وجوداً[8] أو ملازم له

-------------------------------------------------------------------

الجواب التفصيلي

[1] «ذاته» عطف تفسيري، والمعنى تعلق النهي بنفس الشيء لا بما يلازمه - كما في القسم الثالث - .

[2] أي: ليس متعلق الأمر شيئاً عاماً ومتعلق النهي شيئاً خاصاً - مطلقاً أو من وجه - بل هنالك تساوٍ في متعلق الأمر والنهي.

[3] حيث إنه مكروه ولا بدل له؛ لأن صوم كل يوم هو مستحب في نفسه، ولا يقع الصوم المستحب بديلاً عن يوم آخر.

[4] أي: النوافل التي ليس لها سبب خاص أو وقت خاص، بل كانت مستحبة حيث إن الصلاة خير موضوع، فيستحب الصلاة في أي وقت من الأوقات بلا سبب خاص.

[5] قيل(2):

بكراهة النوافل المبتدأة عند طلوع الشمس وعند غروبها، ونحوها.

[6] أي: تعلق به النهي بعنوانه وبذاته لكن له البدل.

[7] حيث إن للصلاة عموماً بدلياً بالنسبة إلى المكان، والصلاة في الحمام أخص مطلقاً. فالصلاة في الحمام مكروهة، ولها بدل وهو الصلاة في المسجد، أو في أي مكان آخر، فنفس الحركات هي صلاة واجبة أو مستحبة وفي الوقت نفسه مكروهة.

[8] بأن كان ذلك العنوان جزءاً من الصلاة - لا كلّها عكس الشقين الأولين - .

ومثاله: الصلاة في مواضع التهمة، حيث إن المكروه هو الكون في مواضع

ص: 297


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «المبتدأة».
2- شرائع الإسلام 1: 50؛ مدارك الأحكام 3: 104؛ الحدائق الناضرة 6: 304.

خارجاً[1]، كالصلاة في مواضع التهمة، بناءً على كون النهي عنها لأجل اتحادها مع الكون في مواضعها.

أما القسم الأول: فالنهي تنزيهاً عنه[2] - بعد الإجماع[3] على أنه يقع صحيحاً(1)،

ومع ذلك يكون تركه أرجح كما يظهر من مداومة الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ على الترك[4] - إما لأجل[5] انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك. فيكون الترك

-------------------------------------------------------------------

التهمة، والكون هو جزء من الصلاة - على بعض الأقوال - حيث إن الصلاة مركبة من الكيف والوضع والكون.

وهذا في الحقيقة يرجع إلى القسم الثاني كما سيأتي من المصنف في قوله: (حيث إنه بالدقة يرجع إليه).

[1] أي: النهي لم يتعلق بذات العبادة، بل بما يلازمها خارجاً، ومثاله: الكون في الصلاة بناءً على أن (الكون) ليس جزءاً للصلاة - على بعض الأقوال الأخرى - .

القسم الأول
اشارة

[2] أي: عن هذا القسم الأول، فالنهي عنه ليس نهياً تحريمياً، بل تنزيهياً بمعنى الكراهة.

[3] هذا دليل على أن النهي ليس تحريمياً؛ لأن العبادة المحرمة تقع باطلة - كما سيأتي في بحث دلالة النهي على الفساد - ، «ومع ذلك» أي: مع صحة العبادة.

[4] حيث إن المداومة على ترك شيء دليل على مرجوحيته؛ لأن الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ كانوا ملتزمين بالمستحبات، أو لا أقل من الإتيان بالمستحب أحياناً، فمع مشاهدة تركهم لأمر دائماً يستكشف عدم رجحانه، بل مرجوحيته. وكان الأولى الاستدلال بنفس كلام الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ - حيث نهوا - .

العلة الأولى للنهي

[5] قوله: «إما لأجل...» خبر قوله: (فالنهي)، أي: النهي لأجل أن في الفعل

ص: 298


1- جواهر الكلام 17: 108.

- كالفعل - ذا مصلحة موافقة للغرض[1]، وإن كان مصلحة الترك أكثر[2]، فهما حينئذٍ[3] يكونان من قبيل المستحبين المتزاحمين، فيحكم بالتخيير بينهما لو لم يكن أهم في البين، وإلاّ[4] فيتعين الأهم، وإن كان الآخر يقع صحيحاً حيث إنه كان راجحاً وموافقاً للغرض، كما هو الحال في سائر المستحبات المتزاحمات بل الواجبات[5]. وأرجحية الترك[6] من الفعل لا توجب حزازة ومنقصة فيه أصلاً،

-------------------------------------------------------------------

والترك مصلحة، لكن مصلحة الترك أرجح، مثل: صيام يوم عرفة لمن يضعف عن الدعاء، فإن الصوم مستحب، وترك الصوم مستحب؛ لأن الترك انطبق عليه عنوان التقوّي على الدعاء مما أوجب استحبابه.

[1] المراد أن وجود تلك المصلحة أوجب تعلق غرض المولى بالترك، كما أن وجود مصلحة أخرى أوجب تعلق غرض المولى بالفعل.

[2] أي: أقوى، وقوة ملاك الترك أوجب رجحانه، فالنهي التنزيهي عن العبادة في الواقع هو أمر بالترك.

[3] أي: الفعل والترك حين وجود مصلحة في كليهما.

[4] أي: إن كان أحدهما أهم وكانت الأهمية بحيث لا توجب الإلزام، فإن الأهم يتعين ولكن يقع الآخر صحيحاً أيضاً.

والأهم - هنا - هو الترك؛ لذا كان الترك أرجح، ومع ذلك جاز الفعل؛ لوجود الملاك والأمر به.

[5] إذا لم تكن الأرجحية إلى حد المنع عن النقيض.

[6] دفع توهم، وحاصله: إذا كان الترك أرجح فإن الفعل مرجوح وتوجد فيه منقصة، وما كان فيه منقصة كيف يكون مقرِّباً؟

وحاصل الجواب: إن الأرجحيّة ليست لأجل وجود منقصة في الفعل، بل الفعل فيه المصلحة فقط دون منقصة، ولكن أرجحية الترك لقوة مصلحته.

ص: 299

كما يوجبها[1] ما إذا كان فيه مفسدة غالبة على مصلحته، ولذا لا يقع صحيحاً على الامتناع، فإن الحزازة والمنقصة فيه مانعة عن صلاحية التقرب به، بخلاف المقام[2]، فإنه[3] على ما هو عليه من الرجحان وموافقة الغرض - كما إذا لم يكن تركه راجحاً - بلا حدوث حزازة فيه أصلاً.

وإما لأجل ملازمة[4] الترك لعنوان كذلك[5] من دون انطباقه عليه[6]، فيكون كما[7]

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: يوجب المنقصة. فما نحن فيه يختلف عن المورد الذي تكون في الفعل مفسدة غالبة على المصلحة، حيث تكون في الفعل منقصة، فلا يكون مقرباً - عند القول بالامتناع وترجيح جانب النهي - .

[2] أي: العبادة المكروهة - من القسم الأول - .

[3] أي: فإن الفعل فيه مصلحة فقط ولا مفسدة فيه إطلاقاً.

العلة الثانية للنهي

[4] في هذه الصورة ليس في الترك مصلحة، بل الترك يلازم أمراً؛ وذلك الأمر فيه مصلحة راجحة. ومثاله صيام عاشوراء، حيث إن مخالفة بني أمية أمر راجح ومستحب، وهو يلازم ترك الصوم، فلذا كان ترك الصوم راجحاً لملازمته لأمر مستحب.

والفرق بين صوم عرفة لمن يضعفه عن الدعاء وصوم عاشوراء يتضح مما بيناه. حيث إن ترك الصوم في عرفة مستحب وعلة ذلك التقوية على الدعاء، وترك صوم عاشوراء يلازم مخالفة بني أمية والمخالفة أمر مستحب. وقيل غير ذلك، فتأمل.

[5] أي: عنوان ذي مصلحة وموافق للغرض.

[6] أي: دون انطباق العنوان على الترك.

[7] أي: نتيجة الملازمة أن الترك يكون أرجح - مع أن الترك ليس فيه مصلحة، ولكنه ملازم لما فيه المصلحة الراجحة - .

ص: 300

إذا انطبق عليه[1] من غير تفاوت، إلاّ في أن الطلب المتعلق به حينئذٍ[2] ليس بحقيقي، بل بالعرض والمجاز، فإنّما يكون في الحقيقة متعلقاً بما يلازمه من العنوان بخلاف صورة الانطباق لتعلقه به[3] حقيقةً، كما في سائر المكروهات[4] من غير فرق، إلاّ أن منشأه فيها حزازة ومنقصة في نفس الفعل وفيه رجحان في الترك من دون حزازة في الفعل أصلاً، غاية الأمر كون الترك أرجح.

نعم، يمكن[5] أن يحمل النهي في كلا القسمين[6] على الإرشاد إلى الترك[7] الذي هو أرجح من الفعل[8] أو ملازم لما هو الأرجح[9] وأكثر ثواباً[10] لذلك،

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: فيكون كالقِسم السابق، وهو ما انطبق العنوان الراجح والمصلحة على الترك.

[2] أي: المتعلق بالترك حين كون المصلحة للملازم وليس للترك.

[3] أي: لتعلق الطلب بالترك؛ وذلك لأن المصلحة في الترك نفسه.

[4] أي: كما في المكروهات، حيث إن الطلب - وهو النهي - يتعلق بنفس الفعل. فكذلك في ما نحن فيه يتعلق الطلب - وهو الأمر - بنفس الترك. «فيها» في سائر المكروهات، «فيه» في العبادة المكروهة.

جواب آخر

[5] في هذا الجواب نقول: إنّ النهي التنزيهي هو نهي إرشادي في كلا الشقين، فيكون الطلب الإرشادي حقيقياً.

[6] أي: العنوان المنطبق على الترك، والعنوان الملازم للترك.

[7] أي: ليس طلباً مولوياً - الذي قوامه إرادة المولى أو كراهته للفعل - بل طلب إرشادي لا إرادة ولا كراهة فيه، بل هو في الحقيقة إخبار بالأفضل فقط، وهو الترك هنا.

[8] وهو القسم الأول من القسمين - أي: المصلحة في العنوان المنطبق على الترك - .

[9] وهو القسم الثاني من القسمين - أي: المصلحة في العنوان الملازم - .

[10] هذا وجه الإرشاد، أي: يُرشد المولى إلى أن الترك يكون أكثر ثواباً، أو

ص: 301

وعليه[1] يكون النهي على نحو الحقيقة[2] لا بالعرض والمجاز، فلا تغفل.

وأما القسم الثاني[3]: فالنهي فيه يمكن أن يكون لأجل ما ذكر في القسم الأول[4] طابق النعل بالنعل. كما يمكن أن يكون[5] بسبب حصول منقصة في الطبيعة

-------------------------------------------------------------------

ملازماً لما هو أكثر ثواباً. وكونه أكثر ثواباً لأجل أن الترك أرجح من الفعل.

[1] أي: بناءً على الإرشاديّة.

[2] أي: في كلا القسمين؛ إذ هو إرشاد إلى أن الترك أرجح، وهذا نهي حقيقي، أو إرشاد إلى أن الترك ملازم لما هو أرجح، وهذا حقيقي أيضاً.

القسم الثاني
اشارة

[3] وهو ما تعلق النهي بذات العبادة لكن يوجد بدل للمنهي عنه، وبعبارة أخرى:

للمأمور به عموم بدلي، كالصلاة في أماكن مختلفة، والمنهي عنه أخص مطلقاً؛ إذ هو صنف من الصلاة، كالصلاة في الحمام.

[4] أي: في الجواب الأول من القسم الأول، حيث ذكرنا أن حقيقة النهي هي أمر بالترك لوجود مصلحة في الترك، كما كانت توجد مصلحة في الفعل؛ فلذا أمر بها، لكن مصلحة الترك أكثر؛ لذا كان الترك أرجح.

[5] هذا عمدة الجواب في هذا القسم. وحاصله: إن الطبيعة المأمور بها يمكن أن توجد في الخارج في ضمن أصناف ثلاثة:

1- ما لا مزية زائدة فيه ولا منقصة، ونعبِّر عنه بالفرد المتوسط.

2- ما فيه مزية زائدة، وهو الفرد المستحب.

3- ما هو أقل مزية من الفرد المتوسط، وهو الفرد المكروه.

ولا يخفى أن في عبارة المصنف مسامحة كثيرة وخاصة تعبيره ب- (المنقصة) و(مشخصٌ غير ملائم).

ص: 302

المأمور بها[1]، لأجل تشخّصها في هذا القسم[2] بمشخِّص غير ملائم لها[3]، كما في الصلاة في الحمام، فإن تشخصها بتشخص وقوعها فيه[4] لا يناسب كونها معراجاً، وإن لم يكن نفس الكون في الحمام بمكروهٍ ولا حزازة فيه[5] أصلاً، بل كان راجحاً كما لا يخفى. وربما يحصل لها[6] - لأجل تخصصها بخصوصية شديدة الملاءمة معها - مزية فيها، كما في الصلاة في المسجد والأمكنة الشريفة. وذلك لأن[7] الطبيعة المأمور بها في حد نفسها - إذا كانت مع تشخص لا يكون له شدة الملاءمة ولا

-------------------------------------------------------------------

الصنف الثالث

[1] المراد قلة المزية التي فيها عن الفرد المتوسط.

[2] أي: ما كان النهي عن الشيء بذاته مع وجود بدل.

[3] مثلاً: طبيعة الصلاة تقتضي المعراجية، والكون في الحمام - على رغم أنه مطلوب للنظافة مثلاً - لكنه غير ملائم للمعراجية.

[4] حيث إن المكان من مشخصات الطبيعة؛ لأن الطبيعة أمر ذهني لا توجد في الخارج إلاّ لو تحددت بحدود، ومن تلك الحدود وقوعها في مكان معين.

[5] الفرق بين النقص والحزازة، أن النقص باعتبار نفس الشيء، والحزازة باعتبار كراهة المولى للشيء.

الصنف الثاني

[6] أي: للطبيعة، وهذا الصنف هو ما فيه مزية زائدة عن الفرد المتوسط، وذلك كالصلاة في المسجد، حيث إن المعراجية - مثلاً - لها شدة ارتباط وملاءمة للمسجد. و(مزية) فاعل (يحصل)، وضمائر «تخصصها» و«معها» و«فيها» ترجع إلى الطبيعة.

الصنف الأول

[7] بيان للصنف الأول وهو الفرد المتوسط الذي له المزيّة العاديّة - لا ناقصاً ولا زائداً - .

ص: 303

عدم الملاءمة - لها مقدار من المصلحة والمزية[1]، كالصلاة في الدار - مثلاً -، وتزداد تلك المزية في ما كان تشخصها بما له شدة الملاءمة، وتنقص في ما إذا لم تكن له ملاءمة. ولذلك[2] ينقص ثوابها تارةً، ويزيد أخرى. ويكون النهي فيه[3] - لحدوث نقصان في مزيتها فيه[4] - إرشاداً[5] إلى ما لا نقصان فيه من سائر الأفراد ويكون[6] أكثر ثواباً منه. وليكن هذا مراد[7] من قال: «إن الكراهة في العبادة بمعنى أنها تكون أقل ثواباً».

-------------------------------------------------------------------

[1] قوله: «لها مقدار...» خبر (أن) في قوله: (وذلك لأن). وتركيب الجمله هكذا: وذلك لأن الطبيعة المأمور بها في حد نفسها لها مقدار من المصلحة والمزية - إذا وجدت مع تشخّص لا يكون له شدة الملاءمة ولا عدم الملاءمة - ثم تزداد المصلحة والمزية في فرد، وتنقص في آخر.

[2] أي: لأجل شدة المصلحة في الفرد الملائم، وضعف المصلحة في الفرد غير الملائم.

[3] الضمير راجع إلى (ما) الموصولة، و(في) بمعنى (عن)، أي: النهي عن هذا الفرد المتشخص بما فيه منقصة كالصلاة في الحمام، وقوله: «لحدوث نقصان» خبر (يكون).

[4] أي: في ذلك الفرد. فالمعنى هو: النهي عن ذلك الفرد لوجود نقصان فيه.

[5] خبر ثانٍ لقوله: (يكون النهي)، أو هو تمييز، أي: النهي لأجل الإرشاد إلى نقصان هذا الفرد، ويلازمه البعث نحو سائر الأفراد.

[6] عطف تفسيري لقوله: (ما لا نقصان فيه)، وضمير «منه» راجع إلى الفرد الناقص.

[7] أي: لعل من قال: إنّ الكراهة في العبادة بمعنى أقلية الثواب مراده أن النهي إرشاد إلى منقصة في الصلاة في الحمام - مثلاً - .

ص: 304

ولا يرد عليه(1):

بلزوم اتصاف[1] العبادة التي تكون أقل ثواباً من الأخرى بالكراهة، ولزوم اتصاف[2] ما لا مزية فيه ولا منقصة بالاستحباب، لأنه أكثر ثواباً مما فيه المنقصة. لما عرفت[3] من أن المراد من كونه أقل ثواباً إنما هو بقياسه إلى نفس الطبيعة المتشخصة بما لا يحدث معه مزية لها[4] ولا منقصة من المشخصات[5]، وكذا كونه أكثر ثواباً.

-------------------------------------------------------------------

إشكالان وجوابهما

[1] حاصل الإشكال هو: إنه إذا كانت الكراهة بمعنى الأقل ثواباً فيلزم القول بكراهة أكثر المستحبات؛ لأن بعض مصاديقها أكثر ثواباً من بعضها، مثلاً: الصلاة في مسجد المحلة أقل ثواباً من الصلاة في المسجد الجامع، فهل يلتزم فقيه بكراهة الصلاة في مسجد المحلة - مثلاً -؟!

[2] إشكال ثانٍ وحاصله: إن الفرد الذي لا مزية زائدة فيه - مثل الصلاة في الدار - أكثر ثواباً من الفرد الناقص الثواب، كالصلاة في الحمام، فهل يلتزم أحد بأن الصلاة في الدار مستحبة؛ لأنها أكثر ثواباً من الصلاة في الحمام؟!

[3] حاصل الجواب هو: إن (الأقل ثواباً) و(الأكثر ثواباً) إنما هو بالنسبة إلى الفرد الذي لا مزية زائدة فيه ولا منقصة - وقد عبرنا عنه بالفرد المتوسط - والصلاة في مسجد المحلة هو أكثر ثواباً من هذا الفرد المتوسط؛ لذا كان مستحباً، كما أن الصلاة في المسجد الجامع أكثر ثواباً منه. وأما الصلاة في الدار فهي نفس الفرد المتوسط، وليس ثوابها أكثر من نفسها؛ لذا لا توصف بالاستحباب.

[4] أي: مزية زائدة، والمعنى: الطبيعة المتشخصة بفرد لا يحدث مع ذلك الفرد مزية زائدة للطبيعة.

[5] «من المشخصات» بيان ل- (ما) في قوله: (بما لا يحدث).

ص: 305


1- قوانين الأصول 1: 143.

ولا يخفى: أن النهي في هذا القسم[1] لا يصح إلاّ للإرشاد. بخلاف القسم الأول، فإنه يكون فيه مولوياً، وإن كان حمله على الإرشاد بمكان من الإمكان.

وأما القسم الثالث: فيمكن أن يكون[2] النهي فيه عن العبادة المتحدة مع ذاك

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: القسم الثاني وهو ما تعلق النهي بذاته وله بدل.

ولا يخفى أن هذا بناءً على الجواب الثاني، أما على الجواب الأول الذي أشار إليه بقوله: (فالنهي فيه يمكن أن يكون لأجل ما ذكر في القسم الأول طابق النعل بالنعل) فإنه يمكن أن يكون مولوياً.

ولعل نظر المصنف أن الأقرب في القسم الأول هو المولوية، والأقرب في القسم الثاني هو الإرشادية، وإن أمكنت المولوية والإرشادية في كلا القسمين - على ما مرّ - .

القسم الثالث
اشارة

وهو ما تعلق النهي به لا بذاته، بل بما هو مجامع معه وجوداً أو ملازم له خارجاً.

1- فتارة يكون البحث على القول بجواز الاجتماع.

2- وأخرى على القول بالامتناع في صورة الملازمة.

3- وثالثة على القول بالامتناع في صورة الاتحاد.

1- على القول بالجواز
اشارة

[2] هذا على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي، وهنا جوابان لاجتماع الكراهة والعبادة.

الجواب الأول

إن المأمور به هي العبادة - كالصلاة - والمنهي عنه هو العنوان الآخر - مثل الكون المتحد أو الملازم للصلاة - فإطلاق النهي على الصلاة مجازي، وإنّما صح هذا المجاز بعلاقة الملازمة، كما في جرى الميزاب، حيث إن الجاري هو ماء المطر، ولكن بما أن ماء المطر ملازم للميزاب صح نسبة الجريان إلى الميزاب مجازاً، ولا مانع - على الجواز - من تعلق الأمر والنهي بشيء واحد لتعدد العنوان.

ص: 306

العنوان أو الملازمة له بالعرض والمجاز[1]. وكان المنهي عنه به[2] حقيقة ذاك العنوان. ويمكن أن يكون[3] - على الحقيقة - إرشاداً إلى غيرها[4] من سائر الأفراد مما لا يكون متحداً معه[5] أو ملازماً له[6]، إذ المفروض[7] التمكن من استيفاء مزية العبادة بلا ابتلاء بحزازة ذاك العنوان أصلاً.

هذا على القول بجواز الاجتماع.

-------------------------------------------------------------------

[1] قوله: «بالعرض والمجاز» خبر لقوله: (يكون النهي)، أي: يكون النهي عرضياً ومجازياً.

[2] أي: كان المنهي عنه بذلك النهي هو ذلك العنوان على نحو الحقيقة، مثلاً: الكون هو المنهي عنه حقيقة، وتعلق النهي بالصلاة مجازي.

الجواب الثاني

[3] إن المأمور به العبادة، والمنهي عنه أيضاً العبادة، لكن بالنهي الإرشادي، وهذا النهي يتعلق بالعبادة حقيقة - لا ما اتحد معها أو لازمها - .

[4] أي: إرشاد إلى أفراد أخرى غير الفرد المنهي عنه، وضمير «غيرها» يرجع إلى العبادة المنهي عنها. مثلاً: النهي عن الصلاة في مواضع التهمة هو إرشاد إلى الصلاة في الأماكن الأخرى.

[5] أي: مع ذلك العنوان، مثل الكون في مواضع التهمة على القول بأنه جزء من الصلاة.

[6] أي: ممّا لا يكون ملازماً لذلك العنوان، كالكون على القول بأنه ليس جزءاً من الصلاة.

[7] بيان كيفية كونه إرشادياً. وحاصله: إنه يمكن تحصيل مصلحة العبادة مع الابتلاء بالحزازة - كالصلاة في مواضع التهمة - ويمكن تحصيل المصلحة من غير ابتلاء بالحزازة، فأمر المولى إرشاد له إلى العبادة التي لا حزازة فيها.

ص: 307

وأما على الامتناع: فكذلك[1] في صورة الملازمة. وأما في صورة الاتحاد وترجيح جانب الأمر[2] - كما هو المفروض[3]، حيث إنه صحة العبادة - فيكون حال النهي فيه[4] حاله في القسم الثاني، فيحمل على ما حمل عليه فيه[5] طابق النعل بالنعل، حيث إنه بالدقة يرجع إليه[6]، إذ على الامتناع ليس الاتحاد مع العنوان الآخر[7]

-------------------------------------------------------------------

2- على القول بالامتناع والملازمة

[1] أي: يجري الجوابان المذكوران من المولوية مجازاً، أو الإرشادية حقيقة؛ وذلك لتعدد المتعلق، فيكون حاله كالنظر إلى الأجنبية في الصلاة، حيث إن النظر حرام والصلاة واجبة، ولا اجتماع لتعدد المتعلق.

ولكن على المصنف حل إشكال اختلاف حكم المتلازمين، حيث مرّ منه عدم إمكان اختلافهما.

3- على القول بالامتناع والاتحاد
اشارة

[2] حيث المفروض أنها عبادة صحيحة، فلابد من القول: إنّ جانب الأمر أرجح، أما لو رجحنا النهي فإن العبادة تكون باطلة؛ لاقتضاء النهي في العبادة البطلان.

[3] أي: ترجيح جانب الأمر هو المفروض، «حيث إنه» أي: حيث إن المفروض أن العبادة صحيحة؛ وذلك يقتضي ترجيح جانب الأمر.

[4] أي: في هذا القسم الثالث بناءً على الاتحاد.

[5] أي: فيحمل القسم الثالث في صورة الاتحاد على ما حمل عليه في القسم الثاني.

[6] لأن القسم الثاني هو تعلق النهي بذات العبادة مع وجود بدل، وهذه الصورة - التي هو تعلق النهي بما يتحد مع العبادة في الحقيقة - هي نفس القسم الثاني.

[7] المنهي عنه.

ص: 308

إلاّ من مخصصاته ومشخصاته التي تختلف الطبيعة المأمور بها في المزية - زيادة ونقيصة - بحسب اختلافها[1] في الملاءمة، كما عرفت.

وقد انقدح بما ذكرناه[2]: أنه لا مجال أصلاً لتفسير الكراهة في العبادة بأقلية الثواب في القسم الأول[3] مطلقاً[4]، وفي هذا القسم على القول بالجواز[5].

كما انقدح حال اجتماع الوجوب والاستحباب فيها[6]؛ وأن الأمر الاستحبابي

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: حسب اختلاف المشخصات.

تلخيص معنى الأقلية ثواباً

[2] من أن الأقلية ثواباً إنّما بالنسبة إلى الفرد المتوسط - على ما مرّ - .

[3] حيث إن القسم الأول ليس له إلاّ فرد واحد، وهو (ما تعلّق النهي بذات العبادة مع عدم وجود بديل)، فلا فرد متوسط حتى نقول: إن هذا أقل مزية منه.

[4] أي: على الجواز وعلى الامتناع.

[5] أي: في القسم الثالث على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي. فإنه لا معنى لتأويل الكراهة مع إمكان حملها على المعنى الحقيقي - وهو مبغوضية العمل مع عدم المنع عن النقيض - وذلك لكفاية تعدد الجهة بناءً على القول بالجواز.

أما في القسم الثاني، وفي القسم الثالث على القول بالامتناع، فإنه يمكن أو يلزم تفسير الكراهة بمعنى الأقل ثواباً.

اجتماع الوجوب والاستحباب
اشارة

[6] أي: في العبادة، وحاصل الكلام في اجتماع الوجوب والاستحباب - كالصلاة الواجبة جماعة - أنه يمكن الجواب بأربعة أنحاء:

1- الأمر الاستحبابي للإرشاد، فالصلاة الواجبة لها أفراد مختلفة من حيث الفضيلة، والأمر الاستحبابي بالجماعة إنّما هو إرشاد إلى أن هذا الفرد - وهو الصلاة جماعة - هو أفضل الأفراد. وكان الأولى إضافة قيد - أو من أفضل الأفراد - وذلك لاختلاف درجات الفضيلة - .

ص: 309

يكون على نحو الإرشاد إلى أفضل الأفراد مطلقاً[1] على نحو الحقيقة، ومولوياً اقتضائياً كذلك[2]، وفعلياً بالعرض والمجاز[3] في ما كان ملاكه[4] ملازمتها لما هو

-------------------------------------------------------------------

2- الأمر الاستحبابي مولوي، ولكن في مرحلة الاقتضاء - لا مرحلة الفعلية - وذلك بمعنى وجود مصلحة الاستحباب في هذا الفرد، لكنه لم يصل إلى مرحلة الفعلية؛ لوجود المانع - وهو اجتماع حكمين - وفائدة هذا الأمر الاقتضائي الوصول إلى المصلحة.

وهذا القسم في الحقيقة يرجع إلى الإرشاد، فتأمل.

3- الأمر الاستحبابي مولوي ولكنه مجاز، بمعنى أن المستحب شيء آخر غير الواجب، ولكن بما أن ذلك الشيء الآخر متلازم أو ملازم للواجب جرى الحكم على ذلك الواجب - مجازاً - كما في جرى الميزاب.

و مثاله أن يقال: إن المستحب هو اجتماع المسلمين - مثلاً - لكن نسب الاستحباب إلى صلاة الجماعة لأنها تلازم الاجتماع.

4- على القول بالجواز نقول: إن عنوان المستحب يختلف عن عنوان الواجب، وإن كانا متحدين وجوداً، فالصلاة جماعة بما أنها صلاة فهي واجبة، وبما أنها جماعة فهي مستحبة؛ إذ على القول بالجواز يكفي تغاير العنوانين.

[1] أي: على القولين: الجواز، والامتناع. وهذا النحو الأول.

[2] أي: على نحو الحقيقة، حيث إن الأمر الاقتضائي توجه إلى نفس الواجب. وهذا النحو الثاني.

[3] أي: الأمر الاستحبابي يكون مولوياً فعلياً لكن بنحو المجاز، حيث إن المستحب شيء آخر ملازم للواجب. وهذا النحو الثالث.

[4] أي: ملاك الأمر الاستحبابي، «ملازمتها» أي: ملازمة الطبيعة الواجبة كالصلاة في المثال، «لما هو مستحب» كاجتماع المسلمين في المثال.

ص: 310

مستحب، أو متحداً معه[1] على القول بالجواز.

ولا يخفى: أنه لا يكاد يأتي القسم الأول هاهنا[2]، فإن انطباق عنوان راجح على الفعل الواجب الذي لا بدل له إنما يؤكد إيجابه[3]، لا أنه يوجب[4] استحبابه أصلاً، ولو بالعرض والمجاز[5]، إلاّ على القول بالجواز[6]. وكذا في ما إذا[7] لازم

-------------------------------------------------------------------

[1] هذا النحو الرابع، وكان الأولى وحق العبارة أن تكون (أو الاتحاد معه)، لأن (متحد معه) عطف على ملازمتها.

وحاصل المعنى أنه على القول بجواز الاجتماع يمكن الجواب بنحو رابع، وهو أن عنوان الواجب يختلف عن عنوان المستحب - وإن اتحدا خارجاً - وذلك يكفي في جواز الاجتماع بناءً على القول بالجواز.

الأقسام الممكنة في اجتماع الوجوب والاستحباب

[2] ذكرنا في اجتماع الوجوب أو الاستحباب مع الكراهة ثلاثة أقسام، لكن في اجتماع الوجوب والاستحباب لا يجري القسم الأول، بل يجري القسمان الأخيران فقط؛ وذلك لأن القسم الأول هناك كان وجود المصلحة في الفعل، ووجود المصلحة في الترك. وأما هنا فلا مصلحة في الترك، بل توجد مصلحة في الفعل فقط؛ لذا كان واجباً ومستحباً، ومتعلق كليهما الفعل.

[3] حيث إن المصلحة سببت إيجابه، كما أن قوة المصلحة سببت استحباب هذا الفرد، فالمصلحة في الحقيقة واحدة لكنها صارت قوية.

[4] وذلك لامتناع اجتماع الضدين؛ لأن الوجوب ضد الاستحباب كما مرّ.

[5] لأن المجاز إنّما هو إذا كان شيئان متلازمان فينسب حكم أحدهما إلى الآخر مجازاً، أما ما نحن فيه فهو شيء واحد - أعني الفعل - فلا طريق إلى المجازية أصلاً.

[6] لأنه عليه يكفي تعدد الوجه والعنوان - كما مرّ - .

[7] أي: لا يجري القسم الأول إذا كان (العنوان الراجح استحباباً) متلازماً مع (العنوان الراجح وجوباً)؛ وذلك لأنه:

ص: 311

مثل هذا العنوان[1]، فإنه لو لم يؤكد الإيجاب لما يصحح الاستحباب إلاّ اقتضائياً بالعرض والمجاز، فتفطن.

ومنها: إن أهل العرف[2] يعدون من أتى بالمأمور به في ضمن الفرد المحرم مطيعاً وعاصياً من وجهين، فإذا أمر المولى عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان خاص - كما مثل به الحاجبي والعضدي(1)

- فلو خاطه في ذاك المكان عُدَّ مطيعاً لأمر الخياطة، وعاصياً للنهي عن الكون في ذلك المكان.

وفيه: - مضافاً إلى المناقشة في المثال[3]، بأنه ليس من باب الاجتماع، ضرورة أن الكون المنهي عنه غير متحد مع الخياطة وجوداً أصلاً[4]

-------------------------------------------------------------------

1- لا يمكن اجتماع الوجوب والاستحباب؛ إذ لكل واحد منهما موضوع خاص، فلا معنى لسراية حكم أحدهما إلى الآخر.

2- ولا يمكن تأكيد الوجوب؛ لأن استحباب شيءٍ لا يؤكد وجوب شيء آخر.

3- ولا يمكن أن يكون أحد المتلازمين واجباً والآخر مستحباً فعلياً؛ لأنه قد مرّ عدم إمكان اختلاف المتلازمين في الحكم.

4- فلا يبقى إلاّ القول بأن أحد المتلازمين واجب فعلي، والآخر مستحب اقتضائي، ونسب الاستحباب إلى الواجب مجازاً.

[1] أي: مثل هذا العنوان الراجح يكون متلازماً مع الواجب من غير أن يكون متحداً معه.

الدليل الثالث للمجوّزين

[2] وفيهم العقلاء، مما يكشف عن الجواز العقلي، لأن العقلاء لا يجوّزون غير المعقول.

[3] هذا الجواب الأول.

[4] «الكون» من مقولة الأين. و«الخياطة» من مقولة الفعل. ولا يعقل اتحاد

ص: 312


1- شرح العضدي على مختصر الحاجبي 1: 92.

كما لا يخفى - المنع[1] إلاّ عن صدق أحدهما: إما الإطاعة بمعنى الامتثال[2] في ما غلب جانب الأمر، أو العصيان في ما غلب جانب النهي، لما عرفت من البرهان على الامتناع[3]. نعم، لا بأس بصدق الإطاعة - بمعنى حصول الغرض[4] - والعصيان في التوصليات، وأما في العبادات فلا يكاد يحصل الغرض منها إلاّ في ما صدر من المكلف فعلاً غير محرم[5] وغير مبغوض عليه، كما تقدم.

بقي الكلام في حال التفصيل من بعض الأعلام(1)

والقول بالجواز[6] عقلاً والامتناع عرفاً.

-------------------------------------------------------------------

المقولتين، بل هما أمران، أحدهما واجب، والآخر حرام، مثل النظر إلى الأجنبية في الصلاة.

[1] هذا الجواب الثاني - وهو العمدة - وحاصله: إنه لا يُعدّ عرفاً مطيعاً وعاصياً، بل العرف ينظر إلى الأقوى ملاكاً، فإن كان الوجوب أقوى ملاكاً سقطت الحرمة، ورآه العرف ممتثلاً فقط، وإذا كانت الحرمة أقوى ملاكاً سقط الوجوب، ورآه العرف عاصياً.

[2] وهو المتبادر من كلمة الإطاعة.

[3] أي: لو التفت العرف إلى الامتناع عقلاً فإنه لا يراه مطيعاً عاصياً.

[4] هذا معنى مجازي للإطاعة. وحاصل الكلام: إنه في التوصليات يحصل الغرض حتى بالحرام، مثلاً: لو أمره بغسل الثوب، ونهاه عن الغصب، فغسله بماء مغصوب، فإن غرض المولى - وهو الطهارة - يحصل.

أما في العبادات فقد مرّ بأنه لا يمكن للفعل المحرم أن يكون مقرّباً لله تعالى.

[5] كما لو نسي أو غفل، فإن فعله غير محرم فيمكن أن يكون مقرباً، وعلى مبنى المصنف يكفي وجود الغرض في العبادة حتى لو لم يكن أمر - فراجع - .

القول بالتفصيل وردّه

[6] حاصل كلامه هو: كفاية تعدد الوجه والعنوان، وعليه يجوز اجتماع الأمر

ص: 313


1- مجمع الفائدة والبرهان 2: 112.

وفيه: إنه[1] لا سبيل للعرف في الحكم بالجواز أو الامتناع إلاّ طريق العقل، فلا معنى لهذا التفصيل إلاّ ما أشرنا إليه من النظر المسامحي الغير المبتني(1) على التدقيق والتحقيق، وأنت خبير بعدم العبرة به بعد الاطّلاع على خلافه بالنظر الدقيق.

وقد عرفت في ما تقدم: أن النزاع ليس في خصوص مدلول صيغة الأمر والنهي، بل في الأعم. فلا مجال لأن يتوهم[2] أن العرف هو المحكم في تعيين المداليل؛ ولعله كان بين مدلوليهما حسب تعيينه تنافٍ لا يجتمعان في واحد ولو بعنوانين وإن كان العقل يرى جواز اجتماع الوجوب والحرمة في واحد بوجهين. فتدبر.

وينبغي التنبيه على أمور: الأول[3]:

-------------------------------------------------------------------

والنهي عقلاً. لكن العرف يرى التضاد بين الأحكام وعدم إمكان اجتماعها، وبما أن الأحكام من أوامر ونواهٍ ملقاة إلى العرف، فهو المتبع في تعيين مداليل الألفاظ.

[1] حاصل الرد أمران:

1- الإمكان والجواز أمر عقلي، ولا سبيل في الأمر العقلي إلاّ إلى الدقّة العقلية، ولا يهتم بالمسامحة العرفية.

2- البحث في الاجتماع غير منحصر بالأوامر والنواهي، بل يشمل الأحكام المأخوذة من الإجماع ونحوه أيضاً.

[2] هذا التوهم - في الحقيقة - هو تكميل لدليل المُفصِّل، حيث يقول: إنّ المُحكَّم في معاني ومفاهيم الألفاظ هو العرف، ولعل العرف يرى منافاة بين مدلول الأمر والنهي، فلا يجتمعان في شيء واحد. فقوله: (ولعلّه كان...) هو تتمة لدليل المفصِّل، و«لعلّه» الضمير للشأن، «تعيينه» تعيين العرف.

تنبيهات بحث الاجتماع
التنبيه الأول لو توقف واجب على مقدمة محرمة

[3] عقد هذا التنبيه لبيان حكم (توقف الواجب الأهم على مقدمة محرمة وكان

ص: 314


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير المبتني».

إن الاضطرار[1] إلى ارتكاب الحرام وإن كان يوجب ارتفاع حرمته[2] والعقوبة عليه[3] مع بقاء ملاك وجوبه - لو كان[4] - مؤثراً له[5]، كما إذا لم يكن بحرام بلا

-------------------------------------------------------------------

التوقف بسوء الاختيار). كما لو دخل داراً مغصوبة عالماً عامداً، وكان خروجه من تلك الدار يتوقف على قطع المسافة إلى الباب، فالخروج وهو واجب أهم توقف على التصرف في المغصوب - بأن يقطع المسافة إلى الباب ليخرج - .

[1] إن الأقسام المتصوَّرة للاضطرار أربعة:

1- الاضطرار لا عن سوء اختيار مع عدم ملاك الوجوب، كسقوط الصائم في الماء من غير قصد الغسل.

2- الاضطرار لا عن سوء اختيار مع وجود ملاك الوجوب، كسقوط الصائم في الماء مع قصده للغسل الارتماسي.

3- الاضطرار بسوء الاختيار بلا ملاك للوجوب، كإلقاء النفس من شاهق ليسقط بعده في الماء اضطراراً، ولم يكن قاصداً للغسل.

4- الاضطرار بسوء الاختيار مع وجود ملاك الوجوب، كإلقاء النفس في الماء من شاهق مع نية الغسل.

والكلام في هذا التنبيه في الصورة الثالثة والرابعة.

[2] لأن بقاء الحرمة مع الاضطرار تكليف بما لا يطاق، وهو قبيح عقلاً، مضافاً إلى الأدلة النقلية كحديث الرفع.

[3] أي: ارتفاع العقوبة على ارتكاب الحرام؛ لأنه إذا جاز العمل فلا معنى للعقوبة عليه.

[4] كان تامة، بمعنى لو تحقق ملاك الوجوب فإن هذا الملاك يؤثر أثره بفعلية الوجوب؛ وذلك لوجود المقتضي - وهو الملاك - وزوال المانع - وهو الحرمة - بسبب الاضطرار.

[5] حال من (بقاء الملاك)، أي: يبقى الملاك مؤثراً للوجوب.

ص: 315

كلام، إلاّ أنه إذا[1] لم يكن الاضطرار إليه بسوء الاختيار بأن يختار[2] ما يؤدي إليه لا محالة، فإن الخطاب بالزجر عنه[3] حينئذٍ وإن كان ساقطاً، إلاّ أنه حيث[4] يصدر عنه مبغوضاً عليه وعصياناً لذاك الخطاب[5] ومستحقاً عليه العقاب لا يصلح لأن يتعلق بها الإيجاب[6]. وهذا في الجملة مما لا شبهة فيه ولا ارتياب.

وإنما الإشكال[7]

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: إلاّ أن تأثير ملاك الوجوب بحيث يصير فعلياً إنما هو إذا لم يكن الوقوع في الاضطرار بسوء الاختيار.

[2] بيان لصورة سوء الاختيار، وحاصله: أن يتعمد الإنسان فعل أمر يؤدي به إلى الاضطرار لارتكاب الحرام، كأن يلقي بنفسه من شاهق، فإنه لا محالة يحصل له الارتماس في الماء، ولا يصح الغسل لو نواه؛ لأن هذا الارتماس مبغوض للمولى، فلا يصلح لأن يكون امتثالاً للواجب.

[3] أي: نهي المولى عن ذلك الحرام يسقط بسبب الاضطرار، ووجه سقوطه هو لغوية بقاء النهي؛ إذ النهي إنما يصدر لو كان الانزجار ممكناً، أما لو استحال الانزجار فبقاء النهي لغو لا يصدر عن المولى الحكيم. «حينئذٍ» أي: حين الاضطرار.

[4] أي: إلاّ أن الحرام الذي اضطر إليه حيث يصدر عن العبد.

[5] الظاهر أن مراده ملاك العصيان، وإلاّ فإن المصنف ذكر سقوط الخطاب - بسبب الاضطرار - .

[6] لأن الإيجاب فرع المحبوبية، وهذا المضطر إليه مبغوض فلا أمر فيه. نعم، إذا كان توصلياً قد يتحقق به غرض المولى - من دون أن يكون مأموراً به - .

[7] الفرق بين هذه الصورة، والصورة السابقة - مع اشتراكهما في سوء الاختيار - أن الكلام في السابقة كان حول عدم تأثير ملاك الوجوب - في الجملة - والكلام في هذه حول ثبوت أو عدم ثبوت الوجوب المقدمي للحرام المضطر إليه.

ص: 316

في ما إذا كان ما اضطر إليه بسوء اختياره مما ينحصر به التخلص[1] عن محذور الحرام - كالخروج عن الدار المغصوبة في ما إذا توسطها بالاختيار - في كونه[2] منهياً عنه[3] أو مأموراً به مع جريان حكم المعصية[4] عليه أو بدونه[5]،

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: انحصر التخلص من الحرام في ارتكاب الفعل المضطر إليه، كما لو دخل داراً مغضوبة، فإن تخلصه من الغصب يتوقف على قطع المسافة إلى باب الدار، وهذا القطع للمسافة مضطر إليه لكنه تصرف في المغصوب.

الأقوال في المسألة

[2] خبر ثانٍ لقوله: (إنما الإشكال)، والخبر الأول قوله: (في ما إذا كان).

وحاصل الأقوال خمسة، أربعة على الامتناع، والآخر على الجواز:

1- المقدمة المضطر إليها محرمة، قاله صاحب الإشارات(1).

2- المقدمة واجبة، ويجري عليها أحكام المعصية، قاله صاحب الفصول(2).

3- المقدمة واجبة، ولا يجري عليها أحكام المعصية، نسبه في التقريرات(3) إلى الشيخ الأعظم.

4- المقدمة واجبة ومحرمة، وهو على القول بالجواز، اختاره أبو هاشم الجبائي من العامة(4).

5- المقدمة ليست بواجبة ولا بمحرمة، لكن يجري عليها حكم المعصية، اختاره المصنف.

[3] هذا القول الأول.

[4] وهو استحقاق الذم والعقاب، وهذا القول الثاني.

[5] أي: بدون جريان حكم المعصية عليه، وهو القول الثالث.

ص: 317


1- إشارات الأصول: 113.
2- الفصول الغروية: 138.
3- مطارح الأنظار 1: 709.
4- نسبه إلى أبي هاشم في مطارح الأنظار 1: 707.

فيه أقوال(1).

هذا على الامتناع[1].

وأما على القول بالجواز[2]، فعن أبي هاشم(2):

«أنه مأمور به ومنهي عنه». واختاره الفاضل القمي(3)

ناسباً له إلى أكثر المتأخرين[3] وظاهر الفقهاء.

والحق أنه[4] منهي عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار إليه[5]، وعصيان

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: هذاالخلاف على الأقوال الثلاثة - مضافاً إليها القول الخامس وهو مختار المصنف - إنّما هو على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي.

[2] على هذا القول ينطبق عنوانان على الحرام المضطر إليه، فمن جهة أنه تصرف في الغصب يكون حراماً، ومن جهة أنه مقدمة للواجب يكون واجباً.

[3] (والوجه في النسبة هو قولهم: بوجوب الحج على المستطيع وإن فاتت الاستطاعة الشرعية) - كما في التقريرات(4)

- ، حيث جاز التكليف بما لا يطاق على من سوَّف الحج حتى زالت الاستطاعة، وكذلك ما نحن فيه، حيث إن اجتماع الوجوب والحرمة وإن كان من التكليف بما لا يطاق لكنه جاز بسبب سوء الاختيار.

وفيه: إن كلامهم في حج المتسكع ليس من التكليف بما لا يطاق، بل هو تكليف بما يستطاع عقلاً لكن فيه مشقة.

مختار المصنف
اشارة

[4] هذا القول الخامس وهو مختار المصنف، وكلامه ينحل إلى ثلاث دعاوى:

الأولى: عدم الحرمة فعلاً، حيث ذكر سقوط النهي؛ وذلك للاضطرار. الثانية: جريان حكم المعصية عليه. الثالثة: عدم الوجوب المقدمي.

الدعوى الأولى

[5] أي: كان تصرفه في الغصب منهياً عنه، لكن هنا سقط النهي بسبب مانع،

ص: 318


1- إشارات الأصول: 113؛ مطارح الأنظار 1: 707.
2- مطارح الأنظار 1: 707، وفيه: «فالأقوال فيه ثلاثة: فقيل بالجواز، وهو المحكي عن أبي هاشم».
3- قوانين الأصول 1: 153.
4- مطارح الأنظار 1: 708.

له بسوء الاختيار، ولا يكاد يكون مأموراً به - كما إذا لم يكن هناك[1] توقف عليه أو بلا انحصار به - . وذلك ضرورة أنه[2] حيث كان قادراً على ترك الحرام رأساً[3] لا يكون عقلاً معذوراً في مخالفته في ما اضطر إلى ارتكابه بسوء اختياره، ويكون معاقباً

-------------------------------------------------------------------

وهو عدم إمكان امتثاله، والاضطرار إليه.

[1] لا يجب ما اضطر إليه في ما:

1- إذا لم يتوقف الخروج من الحرام عليه، كما لو تمكن من إرضاء المالك مثلاً.

2- إذا لم ينحصر الخروج من الحرام على المضطر إليه، بأن كان هناك طريقان: أحدهما مباح والآخر مغصوب.

وهذان في الحقيقة خروج موضوعي عن محل الكلام؛ إذ بعدم التوقف أو بعدم الانحصار ينتفي الاضطرار إلى الحرام.

وضمير «عليه» و«به» راجعان إلى (ما اضطر إليه).

وللمصنف تعليقة على قوله: (إذا لم يكن هناك توقف) وحاصلها(1): إن الخروج ليس مقدمة للواجب، بل هو مقدمة للكون في خارج المغصوب، والكون في الخارج ليس من الواجبات حتى تكون مقدمته واجبة. نعم، هو ملازم لترك التصرف في الغصب، لكنا نتكلّم على فرضهم، ونقول حتى على فرض المقدمية فإنه لا وجوب وذلك للمبغوضية.

الدعوى الثانية

[2] دليل لجريان حكم المعصية على ما اضطر إليه. وحاصله: إن استحقاق العقاب والذم وعدمهما أمر عقلي، والعقل لا يرى بأساً في ذم وعقاب من اضطر للحرام بسوء اختياره.

[3] فهو كان قادراً على ترك التصرف في الغصب، بأن لا يدخل فيه حتى لا يضطر إلى التصرف للخروج.

ص: 319


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 167.

عليه[1] - كما إذا كان ذلك[2] بلا توقف عليه أو مع عدم الانحصار به - .

ولا يكاد يجدي[3] توقف انحصار التخلص عن الحرام به، لكونه بسوء الاختيار.

إن قلت: كيف لا يجديه[4]، ومقدمة الواجب واجبة؟

قلت[5]: إنما يجب المقدمة لو لم تكن محرمة، ولذا لا يترشح الوجوب من الواجب إلاّ على ما هو المباح من المقدمات، دون المحرمة، مع اشتراكهما في المقدمية.

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: مستحقاً للعقاب على فعله - كالتصرف في المغصوب بالخروج في المثال - .

[2] أي: إذا كان التخلص من الحرام غير متوقف على التصرف في الغصب، كما إذا أمكن إرضاء المالك، أو كان طريق مباح بجنبه. وضميرا «عليه» و«به» راجعان إلى الحرام - كالتصرف في المغصوب في المثال - .

الدعوى الثالثة

[3] بيان لعدم وجوب الخروج المضطر إليه؛ لأن منشأ القول بالوجوب، توهم أن التخلص من الغصب الحرام منحصر في التصرف بالخروج؛ وذلك الانحصار يوجب الوجوب.

وجوابه: إن انحصار التخلص من الحرام في شيء إذا لم يكن بسوء الاختيار كان كافياً لإثبات الوجوب المقدمي، لكن إذا كان بسوء الاختيار فلا.

أدلة الوجوب
الدليل الأول وجوابه

[4] أي: كيف لا يجدي الانحصار في إثبات الوجوب للخروج؟ وحاصل الدليل: إن الخروج مقدمة للواجب، ومقدمة الواجب واجبة عقلاً، فيكون الخروج واجباً عقلاً.

[5] حاصله: إن المبغوضية مانع شرعي عن الوجوب، فالمقدمة وإن كان فيها مقتضي الوجوب، لكن هذا المقتضي لا يؤثر أثره مع وجود المانع.

ص: 320

وإطلاق الوجوب[1] بحيث ربما يترشح منه الوجوب عليها مع انحصار المقدمة بها إنما[2] هو في ما إذا كان الواجب أهم من ترك المقدمة المحرمة؛ والمفروض هاهنا وإن كان ذلك إلاّ أنه كان بسوء الاختيار، ومعه لا يتغير عما هو عليه من الحرمة والمبغوضية[3]، وإلاّ لكانت الحرمة[4] معلقة على إرادة المكلف واختياره لغيره،

-------------------------------------------------------------------

إشكال وجوابه

[1] حاصل الإشكال: إن بعض الواجبات تسقط عن الوجوب بسبب حرمة المقدمة، وانحصار الوصول إلى الواجب بهذه المقدمة المحرمة. ولكن بعض الواجبات لا تسقط عن الوجوب لحرمة المقدمة، بل المقدمة تتغير حرمتها إلى الوجوب؛ وذلك تبعاً للأهمية، فإن كان ذو المقدمة أهم بقي على وجوبه، وسقطت حرمة المقدمة المنحصرة، وإن كانت المقدمة أهم بقيت على الحرمة، وسقط وجوب ذي المقدمة.

وحيث لا نعلم الأهمية يكون المحكّم هو إطلاق وجوب ذي المقدمة، حيث يثبت وجوبه، سواء كانت المقدمة مباحة أم محرمة مع الانحصار، ومع بقاء ذي المقدمة على الوجوب تسقط حرمة المقدمة.

[2] هذا جواب الإشكال، وحاصله: إن انقلاب المقدمة من المحرمة إلى الواجبة له ثلاثة شروط:

1- إثبات أهمية ذي المقدمة. 2- الانحصار، بأن ينحصر الوصول إلى الواجب بهذه المقدمة المحرمة. 3- عدم سوء الاختيار.

وفي توسط الدار المغصوبة وإن تحقق الشرط الأول والثاني، إلاّ أن الشرط الثالث مفقود؛ لأن المفروض أن دخوله كان بسوء الاختيار.

[3] كان الأولى عدم ذكر الحرمة؛ لأن المصنف صرح بسقوط النهي، ومع السقوط لا حرمة، لكن أثر الحرمة باقٍ لبقاء المبغوضية.

[4] ذكر المصنف دليلين على أن المقدمة لا تخرج عن الحرمة لو كان بسوء

ص: 321

وعدم حرمته مع اختياره له، وهو كما ترى، مع أنه خلاف الفرض[1] وأن الاضطرار[2] يكون بسوء الاختيار.

-------------------------------------------------------------------

الاختيار.

الأول: لو خرجت المقدمة عن الحرمة في صورة سوء الاختيار فإن لازمه تعلق التكليف بإرادة المكلف، والتالي باطل، فالمقدم مثله، بيانه: إن إرادة المكلف للامتثال متأخرة عن الحكم؛ لأن الحكم كالموضوع للامتثال، فلا يعقل تقدم الإرادة على الامتثال.

وهنا لو قلنا بوجوب المقدمة لزم منه توقف التكليف على إرادة المكلف؛ إذ لو لم يُرِد المكلّف الدخول في المغصوب فإن الدخول محرّم والتصرف أيضاً محرّم - ومنه التصرف الخروجي - أما إذا أراد الدخول ودخل في المغصوب، فإن الدخول وإن كان محرماً لكن التصرف - بالخروج - لا يكون محرماً.

وهذا معناه تعلق حرمة التصرف الخروجي بإرادة المكلف.

اللهم إلاّ أن يقال: إنّ الحكم لا يتعلق بإرادة المكلف، لكن إرادته قد تغير موضوع الحكم، فيتغير الحكم بتغير موضوعه.

[1] هذا هو الدليل الثاني على أن المقدمة لا تخرج عن المبغوضية إلى الوجوب - في ما إذا كان بسوء الاختيار - وحاصله: إن القول بانقلاب المقدمة المحرمة إلى واجب معناه أن لا يضطر إلى الحرام، بل يضطر إلى الواجب، مضافاً إلى أن الاضطرار إلى الواجب ليس من سوء الاختيار، بل من حسن الاختيار. فلزم من القول بوجوب المقدمة المحرمة أمران، كلاهما خلاف الفرض:

1- أن لا يكون اضطرار إلى الحرام، بل إلى الواجب.

2- أن لا يكون بسوء الاختيار، بل بحسنه.

[2] بيان للفرض.

ص: 322

إن قلت(1): إن التصرف[1] في أرض الغير بدون إذنه بالدخول والبقاء حرام بلا إشكال ولا كلام[2]. وأما التصرف بالخروج الذي يترتب عليه رفع الظلم[3] ويتوقف عليه التخلص عن التصرف الحرام فهو ليس بحرام في حالٍ من الحالات[4]، بل حاله حال مثل شرب الخمر المتوقف عليه النجاة من الهلاك في الاتصاف بالوجوب[5] في جميع الأوقات.

-------------------------------------------------------------------

الدليل الثاني للوجوب

[1] حاصله: إن التصرف في أرض الغير يتصور على ثلاثة أنحاء: 1- التصرف بالدخول، 2- التصرف بالبقاء، 3- التصرف بالخروج. والأولان محرمان بلا إشكال، أما الثالث فليس بحرام مطلقاً - سواء قبل الاضطرار أم بعده - وذلك لأن التصرف بالخروج لا مفسدة فيه حتى يحرم، بل فيه المصلحة مطلقاً؛ فلذا هو واجب دائماً، وعليه فلا إشكال في وجوب (التصرف بالخروج) من باب المقدمة، ولا يلزم عليه إشكال: أن مقدمة الواجب إذا كانت محرمة فلا يترشح عليها الوجوب.

[2] لأن التصرف بالدخول والتصرف بالبقاء فيهما المفسدة؛ لكونهما من مصاديق الغصب المحرّم، من غير معارض.

[3] أي: ليس كل تصرف بالخروج واجباً، فغاصب الدار إذا سكنها وكان خروجه لأجل شؤونه ليعود إليها - كما يخرج كل مالك من داره لأعماله - فإن خروجه أيضاً تصرف محرّم، بل التصرف بالخروج يجب إذا كان بنية التخلص من الحرام ورفع الظلم.

ويمكن شرح العبارة بنحو مطلق؛ لأن هذا الواجب من الأمور التوصلية التي لا تحتاج إلى النية، فيكون مطلق الخروج مما يترتب عليه رفع الظلم والتخلص من الحرام، فتأمل.

[4] أي: مطلقاً سواء قبل الاضطرار إليه أم بعده.

[5] أي: الشرب المنجي من المهلكة واجب على كل حال - بنحو القضية الحقيقة - .

ص: 323


1- القائل هو الشيخ الأنصاري في مطارح الأنظار 1: 709.

ومنه ظهر[1] المنع عن كون جميع أنحاء التصرف في أرض الغير - مثلاً - حراماً قبل الدخول وأنه يتمكن من[2] ترك الجميع حتى الخروج. وذلك[3] لأنه لو لم يدخل لما كان متمكناً من الخروج وتركه[4]، وترك الخروج بترك الدخول[5] رأساً ليس في الحقيقة إلاّ ترك الدخول. فمن لم يشرب الخمر لعدم وقوعه في المهلكة التي يعالجها به[6] - مثلاً - لم يصدق عليه إلاّ أنه لم يقع في المهلكة، لا أنه ما شرب الخمر

-------------------------------------------------------------------

الدليل الثالث للوجوب

[1] أي: من بيان أن التصرف بالخروج ليس بحرام أصلاً، بل هو واجب دائماً.

[2] عطف على (كون) أي: وظهر المنع عن أنه يتمكن من... الخ.

وحاصله: إن الخروج لا يمكن أن يتصف بالحرمة أصلاً - لا قبل الدخول، ولا بعده - .

أما قبل الدخول: فلأن الخروج غير مقدور، والتكليف لا يتعلق بغير المقدور، وأما التعبير بأنه يتمكن من ترك الخروج لو ترك الدخول فإنّما هو تعبير مجازي.

وأما بعد الدخول: فإن الخروج يكون واجباً؛ لأنه مقدمة للواجب. وعليه فلا يحرم الخروج مطلقاً.

[3] بيان لوجه المنع عن التمكن من ترك الخروج.

[4] حيث إن القدرة تتعلق بالطرفين: الفعل والترك، فلو لم يدخل في الدار فإنه غير قادر لا على الخروج ولا على ترك الخروج.

[5] دفع توهم، وحاصل التوهم: إنه قادر على (ترك الخروج)؛ وذلك بأن يترك الدخول، فلو لم يدخل فإنه متمكن حينئذٍ من ترك الخروج بلا محذور، فإذا قدر على ترك الخروج كان قادراً على الخروج، فيصح أن يتعلق التحريم بالخروج.

وحاصل جوابه: إن التعبير بترك الخروج هو تعبير مجازي من باب السالبة بانتفاء الموضوع، وإلا فإن القدرة تعلقت بالدخول وترك الدخول، لا بالخروج وترك الخروج.

[6] أي: يتجنب من المهلكة بالشرب.

ص: 324

فيها، إلاّ على نحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع[1]، كما لا يخفى.

وبالجملة: لا يكون الخروج - بملاحظة كونه مصداقاً للتخلص عن الحرام أو سبباً له[2] - إلاّ مطلوباً[3]، ويستحيل أن يتصف[4] بغير المحبوبية، ويحكم عليه[5] بغير المطلوبية.

قلت: هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال على كون ما انحصر به التخلص مأموراً به. وهو موافق لما[6] أفاده شيخنا العلامة أعلى الله مقامه - على ما

-------------------------------------------------------------------

[1] فهو بنحو مجازي، لا بنحو حقيقي، فهو في الواقع لم يقع في التهلكة، لا أنه لم يشرب في التهلكة.

[2] كون الخروج مصداقاً للتخلص يستفاد من عبارات المحقق القمي(1)، بل والتقريرات(2)

- كما قيل - ولكن لما كان هذا الكلام لا يخلو من إشكال؛ وذلك لأن الخروج مصداق للتصرف في المغضوب لا أنه مصداق للتخلص، لذا غيّر المصنف العبارة، وقال: - كما سيأتي - بأن الخروج سبب للتخلص من الغصب الحرام.

[3] إن قلنا: إنّ الخروج مصداق للتخلص كان مطلوباً نفسياً، وإن قلنا: إنه سبب للتخلص كان مطلوباً غيرياً؛ لأنه مقدمة الواجب - كذا قيل(3) - .

[4] لأن المطلوب لا يمكن أن يكون مبغوضاً، وإلاّ كيف يطلب المولى ما يبغضه؟

[5] أي: يستحيل أن يحكم عليه بغير المطلوبية؛ لأن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، فإذا كان مصلحة في الفعل أحبّه المولى، وإذا أحبّه طلبه لا غير.

[6] أما الدليل الثاني فهو موافق لما في التقريرات. وأما الدليل الثالث فلا أثر له في التقريرات - على ما قيل(4)

- .

ص: 325


1- قوانين الأصول 1: 154.
2- مطارح الأنظار 1: 709.
3- منتهى الأصول 1: 408.
4- عناية الأصول 2: 96.

في تقريرات بعض الأجلة(1)

- . لكنه لا يخفى[1]: أن ما به التخلص عن فعل الحرام[2] أو ترك الواجب إنما يكون حسناً عقلاً ومطلوباً شرعاً بالفعل[3] - وإن كان قبيحاً ذاتاً - إذا لم يتمكن المكلف من التخلص بدونه ولم يقع بسوء اختياره[4] إما في

-------------------------------------------------------------------

جواب الدليل الثاني

[1] هذا الجواب عن الدليل الثاني وحاصله: إن القبيح الذي به التخلص من الحرام إنما ينقلب إلى الحسن والواجب إذا استجمع ثلاثة شروط:

1- انحصار التخلص من الحرام بذلك القبيح، كما لو انحصر النجاة من المهلكة بأكل الميتة.

2- أن لا يكون وقوعه في ذلك الحرام بسوء الاختيار.

3- أن يكون التخلص من ذلك الحرام أهم من ارتكاب ذلك القبيح، فحفظ النفس من الهلكة أهم من ترك أكل الميتة - في المثال - .

وقد مرت الإشارة إلى الشرط الثالث، ولذا لم يكرره المصنف هنا؛ لأنه خارج عن محل النزاع. فاقتصر بذكر الشرط الأول والثاني.

[2] كالتخلص عن الغصب، «أو ترك واجب» كالتخلص عن ترك نجاة النفس في المهلكة، حيث إن نجاة النفس واجب، والتخلص عن ترك هذا الواجب يكون بأكل الميتة.

[3] كونه مطلوباً شرعاً وفي مرحلة الفعلية إنّما يكون إذا كان ارتكاب القبيح للوصول إلى الواجب الأهم كأكل الميتة لأجل إنقاذ النفس من التهلكة.

[4] في المثال يكون الاضطرار الناشئ من سوء الاختيار بأحد أمرين: 1- البقاء في المغصوب. 2- التصرف بالخروج.

فإنه لو لا سوء اختياره لم يكن مضطراً لأحد هذين الأمرين: إما البقاء وإما التصرف الخروجي، لكن بما أنه كان عامداً عالماً سبَّب لنفسه الاضطرار إلى هذا التصرف.

ص: 326


1- مطارح الأنظار 1: 709.

الاقتحام[1] في ترك الواجب أو فعل الحرام[2]، وإما في الإقدام[3] على ما هو قبيح وحرام لو لا أن به التخلص بلا كلام[4]، كما هو المفروض في المقام، ضرورة تمكنه[5] منه قبل اقتحامه فيه بسوء اختياره.

وبالجملة[6]:

-------------------------------------------------------------------

[1] هذا الأمر الأول من الاضطرار الناشئ من سوء الاختيار. والواجب في مثال المصنف هو حفظ النفس من الهلكة، وهذا الشخص بسوء اختياره سبب لنفسه الاضطرار: إما بأن يترك حفظ النفس حتى يهلك، أو أن يرتكب أكل الميتة.

[2] الحرام في مثال المصنف هو البقاء في الغصب، فهذا الشخص بسوء اختياره سبب لنفسه الاضطرار، إما بأن يرتكب الحرام بالبقاء في المغصوب، أو بأن يتصرف فيه بالخروج.

[3] هذا الأمر الثاني من الاضطرار الناشئ من سوء الاختيار.

[4] متعلق بقوله: (قبيح وحرام)، أي: إذا لم يكن التخلص من الغصب منحصراً في التصرف بالخروج - في المثال - فإن هذا التصرف حرام بلا خلاف من أحد، كما لو تمكن من إرضاء المالك. وإنّما الخلاف في ما إذا كان التخلص من الحرام منحصراً بالتصرف الخروجي.

[5] أي: ضرورة تمكن المكلف من التخلص من الحرام قبل اقتحام هذا المكلف في ذلك الحرام، وهذا دليل اشتراط عدم سوء الاختيار لكي تنقلب المقدمة المحرمة إلى واجب.

وحاصل الكلام هو: إن التكليف بغير الممكن قبيح، وأما التكليف بالممكن فلا إشكال فيه، وهذا الشخص كان متمكناً من (عدم التصرف بالخروج في المغصوب)، لذا صح تكليفه بحرمة هذا التصرف.

جواب الدليل الثالث
اشارة

[6] شروع في جواب الدليل الثالث. والجواب من أوجه:

ص: 327

كان قبل ذلك[1] متمكناً من التصرف خروجاً كما يتمكّن منه دخولاً، غاية الأمر يتمكن منه[2] بلا واسطة ومنه[3] بالواسطة: ومجرد عدم التمكن منه[4] إلاّ بواسطة لا يخرجه عن كونه مقدوراً. كما[5] هو الحال في البقاء؛ فكما يكون تركه[6] مطلوباً في جميع الأوقات فكذلك الخروج، مع أنه مثله في الفرعية على الدخول، فكما لا تكون الفرعية مانعة عن مطلوبيته قبله وبعده[7]، كذلك لم تكن مانعة عن مطلوبيته[8]،

-------------------------------------------------------------------

أولاً

[1] أي: قبل الدخول كان متمكناً من الخروج، وحاصله: إنه لا يشترط كون القدرة بالمباشرة؛ وذلك لأن المقدور بالواسطة مقدور أيضاً، فالإحراق - مثلاً - مقدور للمكلف بواسطة قدرته على إشعال النار، «منه» أي: من التصرف.

[2] أي: من التصرف دخولاً.

[3] أي: ويتمكن من التصرف خروجاً بواسطة الدخول.

[4] أي: من الخروج.

ثانياً

[5] هذا جواب ثانٍ، وهو جواب نقضي. وحاصله: عدم الفرق بين البقاء والخروج؛ لأن البقاء لا يمكن إلاّ بواسطة الدخول، فمن لا يدخل فإنه لا يمكنه البقاء، كذلك من لا يدخل فإنه لا يمكنه الخروج، فكيف قال في التقريرات (التصرف في أرض الغير بدون إذنه بالدخول والبقاء حرام)!! ثم قال باستحالة حرمة الخروج لأنه غير مقدور!! فما الفرق بين الخروج والبقاء؟ حيث إن كليهما غير مقدور بلا واسطة الدخول، وكلاهما مقدور بواسطة الدخول.

[6] أي: ترك البقاء، «أنه» أن البقاء، «مثله» مثل الخروج.

[7] أي: مطلوبية ترك البقاء قبل الدخول وبعد الدخول.

[8] أي: كذلك فرعية الخروج لم تكن مانعة عن مطلوبية الخروج.

ص: 328

وإن كان العقل يحكم[1] بلزومه[2] إرشاداً إلى اختيار أقل المحذورين[3] وأخف القبيحين.

ومن هنا[4] ظهر حال شرب الخمر علاجاً وتخلصاً عن المهلكة، وأنه إنّما يكون مطلوباً على كل حال لو لم يكن الاضطرار إليه بسوء الاختيار، وإلاّ فهو[5] على ما هو عليه من الحرمة، وإن كان العقل يلزمه[6] إرشاداً إلى ما هو أهم وأولى[7] بالرعاية من تركه، لكون الغرض فيه أعظم[8]. فمن ترك الاقتحام[9] في ما

-------------------------------------------------------------------

[1] إنما قال العقل يحكم لأنه قد مرّ من المصنف: سقوط الحرمة الشرعية وبقاء القبح والذم والعقوبة، ولا يمكن أن يكون القبيح والمذموم واجباً شرعياً.

[2] أي: لزوم الخروج.

[3] حيث إن التصرف خروجاً قبيح، والبقاء أقبح، فأخف المحذورين والقبيحين هو التصرف خروجاً.

[4] رد للمثال الذي ذكره التقريرات(1)

- لتقريب المطلب - بعدم قبح الشرب المتوقف عليه النجاة من الهلكة مطلقاً. وخلاصة الرد: إن هذا الشرب قبيح إذا كان الوقوع في الهلكة بسوء الاختيار.

[5] أي: وإن كان الاضطرار بسوء الاختيار، فإن شرب الخمر قبيح وإن توقف عليه النجاة من الهلكة.

[6] أي: يلزم المكلف بالشرب حتى في صورة سوء الاختيار.

[7] أي: النجاة من الهلكة أهم وأولى من ترك الشرب.

[8] أي: للمولى غرض في ترك الشرب، وله أيضاً غرض في النجاة من الهلكة، وحين تزاحم الغرضين يكون الغرض في النجاة أعظم من الغرض في ترك الشرب.

ثالثاً

[9] حاصله: يصح نسبة ترك الشيء إلى المكلف؛ لأنه ترك أسباب ذلك الشيء،

ص: 329


1- مطارح الأنظار 1: 718.

يؤدي[1] إلى هلاك النفس أو شرب الخمر لئلا يقع[2] في أشد المحذورين منهما، فيصدق أنه[3] تركهما ولو بتركه ما لو فعله[4] لأدى لا محالة إلى أحدهما، كسائر الأفعال التوليدية[5]، حيث يكون العمد إليها بالعمد إلى أسبابها واختيار تركها

-------------------------------------------------------------------

فمن لم يشعل النار يصح أن يقال: إنه لم يحرق شيئاً؛ لأنه ترك سبب الإحراق.

وفي هذا رد على التقريرات حيث قال: (فمن لم يشرب الخمر لعدم وقوعه... الخ)(1)، يقول المصنف إنه يصح أن يقال إنه لم يضطر إلى شرب الخمر لأنه لم يوقع نفسه في التهلكة.

[1] أي: ترك الاقتحام في السير في صحراء مثلاً، بحيث إنه لو كان يقتحم فإنه كان سيضطر بعد حين إلى أحد أمرين: 1- الهلاك من شدة العطش. 2- شرب الخمر للنجاة من الهلكة.

[2] تعليل لشرب الخمر، أي: كان الشرب ينجّيه من الهلكة، حيث إن الهلكة أشد محذوراً من الشرب.

[3] أي: يصح أن يقال: إن زيداً لم يقع في الهلكة ولم يشرب الخمر الاضطراري؛ لأنه لم يجازف بالسير في الصحراء - مثلاً - .

[4] أي: يصدق ذلك حتى إذا لم يسر في الصحراء - في المثال - .

[5] قد مرّ أن الأفعال التوليدية ما كانت مقدورة للمكلف بواسطة قدرته على أسبابها، عكس الأفعال المباشرية التي هي مقدورة بلا واسطة، وفي ما نحن فيه هلاك النفس من الأفعال التوليدية، حيث الواسطة هي الاقتحام في الصحراء - في المثال - .

وأما شرب الخمر فإنه من الأفعال المباشرية ولا واسطة فيه. نعم، الاضطرار إلى الشرب إنما يحصل بواسطة الاقتحام، لكن الاضطرار ليس من أفعال المكلف، بل من العوارض.

ص: 330


1- إيضاح كفاية الأصول 2: 324.

بعدم العمد إلى الأسباب. وهذا يكفي[1] في استحقاق العقاب على الشرب للعلاج وإن كان لازماً عقلاً للفرار عما هو أكثر عقوبةً.

ولو سلم[2] عدم الصدق إلاّ بنحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع فهو غير ضائرٍ[3] بعد تمكنه من الترك[4] - ولو على نحو هذه السالبة - ومن الفعل بواسطة

-------------------------------------------------------------------

وكذلك الخروج من المغصوب من الأفعال المباشرية لا التوليدية. نعم، الاضطرار إلى الخروج أو البقاء إنما يحصل بعد الدخول؛ فلذا كان الأولى أن يقول المصنف: (كالأفعال التوليدية) فتأمل.

[1] أي: هذا المقدار من القدرة - وهو التمكن من الشيء بالواسطة - يكفي في استحقاق العقاب.

رابعاً

[2] كان من كلام المستدل إن عدم الاضطرار إلى الشرب بسبب عدم الاقتحام في الهلكة إنما هو من باب السالبة بانتفاء الموضوع. فنقول: إن ما نحن فيه ليس من ذلك الباب؛ لأنه في ذلك الباب يشترط أن يكون المنفي محمولاً لموضوع معدوم، مثلاً: يقال (أب عيسى لم يأكل) حيث إن الموضوع المعدوم هو (أب عيسى) والمحمول المنفي هو (عدم الأكل).

وما نحن فيه: الخروج المنفي ليس محمولاً للدخول المعدوم، بل عدم الدخول سبب لعدم تحقق الخروج.

خامساً

[3] أي: لو سلمنا كون ما نحن فيه من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع، فإن ذلك لا يضر في الحكم على (الخروج) بأنه حرام؛ وذلك لصحة هذا النوع من التكليف؛ إذ إن الخروج بالواسطة مقدور، فلا مانع من كونه محرماً.

[4] أي: يتمكن من الطرفين، أي: من الترك ومن الفعل بالواسطة، فكان مقدوراً - لأن القدرة تتعلق بالطرفين: الفعل والترك - فصح التكليف.

ص: 331

تمكنه مما هو من قبيل الموضوع[1] في هذه السالبة فيوقع نفسه بالاختيار[2] في المهلكة أو يدخل الدار فيعالج بشرب الخمر ويتخلص بالخروج أو يختار ترك الدخول والوقوع فيهما، لئلا يحتاج إلى التخلص والعلاج.

إن قلت[3]: كيف يقع مثل الخروج والشرب ممنوعاً عنه شرعاً ومعاقباً عليه

-------------------------------------------------------------------

[1] وهو الدخول.

[2] في المثال الأول: كان مختاراً بين المهلكة ممّا يضطر إلى الشرب، وبين عدم الاقتحام فيها. وفي المثال الثاني: كان مختاراً بين دخول الدار مما يضطر للتصرف خروجاً وبين عدم الدخول. ففي كلا المثالين كان قادراً على الفعل والترك، فلا مانع من تعلق التكليف به.

إشكال وجوابه

[3] حاصله: هو أنه لا إشكال في سقوط وجوب الشيء بامتناع مقدمته المنحصرة، فمن انحصر وصوله إلى الحج بركوب الطائرة مثلاً، ولكنه لم يتمكن ركوبها، فلا إشكال في سقوط الحج عن الوجوب.

وفي ما نحن فيه (إن مقدمة التخلص) المنحصرة هو (الخروج)، فإذا كانت هذه المقدمة محرمة فإن التخلص يسقط عن الوجوب؛ وذلك لامتناع مقدمته شرعاً، والممتنع الشرعي كالممتنع العقلي - بلا فرق - وكذلك مثال (إنقاذ النفس) المتوقف حصراً على (الشرب) بلا فرق بين سوء الاختيار وحسنه؛ لأنه سواء كان الانحصار بسوء الاختيار أم لا، فإنه إذا امتنعت المقدمة المنحصرة امتنع ذو المقدمة، ولا تكليف بالممتنع.

والحاصل: إن الإشكال مركب من ثلاث مقدمات ونتيجة:

1- بقاء ذي المقدمة على الوجوب.

2- لو امتنعت المقدمة المنحصرة سقط الوجوب.

3- الممتنع الشرعي كالممتنع العقلي.

ص: 332

عقلاً مع بقاء ما يتوقف عليه[1] على وجوبه، ووضوح سقوط الوجوب مع امتناع المقدمة المنحصرة ولو كان بسوء الاختيار، والعقل قد استقل بأن الممنوع شرعاً كالممتنع عادةً أو عقلاً[2]؟!

قلت: أولاً[3]: إنما كان الممنوع كالممتنع[4] إذا لم يحكم العقل بلزومه إرشاداً إلى ما هو أقل المحذورين. وقد عرفت لزومه بحكمه[5]، فإنه مع لزوم الإتيان بالمقدمة عقلاً لا بأس في بقاء ذي المقدمة على وجوبه، فإنه حينئذٍ ليس من التكليف بالممتنع، كما إذا[6] كانت المقدمة ممتنعة.

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: مع بقاء ذي المقدمة على وجوبها - وهو التخلص من الغصب، وإنقاذ النفس في المثالين - لأن ذا المقدمة يتوقف على المقدمة المنحصرة.

[2] الممتنع العادي: كطيران الإنسان بلا وسيلة، فإنه لا امتناع عقلي فيه؛ لعدم رجوعه إلى اجتماع النقيضين، لكنه ممتنع عادة لجريان قوانين في الكون تمنع ذلك.

والممتنع العقلي: ما كان مرجعه إلى اجتماع النقيضين.

[3] حاصل الجواب الأول هو: إنكار إطلاق قاعدة (الممتنع الشرعي كالممتنع العقلي)، بل هذه القاعدة لا تجري في بعض الصور، وهو: ما إذا حكم العقل بلزوم ذلك الممتنع الشرعي، فإنه حينئذٍ ليس الممتنع الشرعي كالممتنع العقلي.

[4] أي: الممنوع شرعاً كالممتنع عقلاً.

[5] أي: عرفت لزوم المقدمة المحرّمة بحكم العقل، وإنّما حكم العقل بلزوم هذه المقدمة المحرمة لدوران الأمر بين المحذورين، والإتيان بالمقدمة الأقل محذورية.

[6] أي: لايكون من التكليف في صورة امتناع المقدمة عقلاً، فإنه محال، أما ما نحن فيه - وهو حرمة المقدمة شرعاً مع لزومها عقلاً - فلا إشكال في وجوب ذي المقدمة وليس بمحال.

ص: 333

وثانياً: لو سلم[1] فالساقط[2] إنما هو الخطاب[3] فعلاً بالبعث والإيجاب، لا لزوم[4] إتيانه عقلاً، خروجاً[5] عن عهدة ما تنجز عليه سابقاً، ضرورة[6] أنه لو لم يأت به لوقع في المحذور الأشد ونقض الغرض الأهم، حيث إنه[7] الآن كما كان عليه من الملاك والمحبوبية بلا حدوث قصورٍ أو طروء فتورٍ فيه[8] أصلاً، وإنّما كان

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: لو سلمنا إطلاق قاعدة (الممنوع شرعاً كالممتنع عقلاً)، وأن بقاء وجوب ذي المقدمة مع حرمة المقدمة أمر ممتنع.

[2] حاصل الجواب هو: بقاء المقدمة على مبغوضيتها مع التزام سقوط الوجوب الشرعي لذي المقدمة، لكن يحكم العقل بلزوم الإتيان بذي المقدمة للوصول إلى غرض المولى؛ وذلك لأنّ ذا المقدمة - إنقاذ النفس والتخلص من الغصب في المثالين - كان واجباً، ولكن يسقط وجوبه لأجل مانع عن تنجز الوجوب في صورة الاضطرار بسوء الاختيار مع بقاء الملاك على حاله؛ لأن المانع كان من تنجز الحكم الشرعي، ولا يوجد مانع يزيل الملاك، فلمّا كان الملاك باقياً حكم العقل بلزوم إتيان ذي المقدمة للوصول إلى غرض المولى.

[3] مراده سقوط التكليف، «فعلاً» أي: المانع إنّما هو في التكليف الفعلي لذا يسقط، وأما التكليف في مرحلة الاقتضاء والإنشاء فلا وجه لسقوطه.

[4] أي: ليس الساقط الملاك - وهو مرحلة الاقتضاء - فلمّا بقي الملاك حكم العقل بلزوم إتيانه.

[5] عِلّة (اللزوم العقلي) أي: بالحكم السابق في وجوب ذي المقدمة اكتشفنا الملاك، فلمّا سقط التكليف بسبب المانع بقي الملاك بحاله.

[6] عِلّة بقاء الملاك وعدم سقوط اللزوم العقلي، «به» بذي المقدمة.

[7] أي: حيث إن ذي المقدمة، «الآن» أي: حين اضطراره بسوء اختياره، وذلك بعد دخوله في المغصوب، وكذلك بعد اقتحامه في المهلكة - في المثالين - .

[8] أي: في الملاك، وهذا دليل على بقاء الملاك بحاله؛ لأن سقوط التكليف لم

ص: 334

سقوط الخطاب لأجل المانع، وإلزام العقل به لذلك[1] إرشاداً كافٍ لا حاجة معه[2] إلى بقاء الخطاب بالبعث إليه[3] والإيجاب له فعلاً، فتدبر جيداً.

وقد ظهر[4] ممّا حققناه فساد القول[5] بكونه مأموراً به مع إجراء حكم المعصية عليه نظراً إلى النهي السابق[6].

-------------------------------------------------------------------

يكن لأجل إشكال في الملاك، بل لجهة أخرى.

[1] أي: إلزام العقل بالإتيان بذي المقدمة لأجل ذلك الملاك.

[2] أي: مع الإلزام العقلي.

[3] إلى ذي المقدمة، «له» لذي المقدمة، «فعلاً» أي: في مرحلة الفعليّة.

القول الثالث
اشارة

القول الثالث - لصاحب الفصول(1)-

[4] ذكرنا مختار المصنف مع أدلته، وكذلك مختار الشيخ وأدلته والجواب عنها. ومن هنا يبدأ المصنف في نقل قول صاحب الفصول والإشكال عليه.

[5] كلام الفصول هو أن مَن دخل في المغصوب بسوء اختياره فإن الخروج مأمور به، ويجري عليه حكم المعصية، وهو الذم واستحقاق العقاب، وحاصل كلامه مركب من ثلاثة أمور:

1- وجوب الخروج؛ لأنه مقدمة للواجب الأهم، وهو التخلص من الغصب - في المثال - ومقدمة الواجب واجبة عقلاً.

2- عدم حرمة الخروج؛ وذلك لعدم إمكان اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد.

3- إجراء حكم المعصية على الخروج - أي: الذم والعقاب - وذلك لوجود المبغوضية وملاك النهي في الخروج.

[6] هذا دليل (إجراء حكم المعصية عليه)، وحاصله: إن النهي السابق وإن سقط لكن أثر النهي باقٍ، يمكن أن يستدل له بأن العقل يرى استحقاقه للعقاب، وعدم ذم المولى إذا عاقبه.

ص: 335


1- الفصول الغروية: 138.

مع ما فيه[1] من لزوم اتصاف فعل واحد بعنوان واحد[2] بالوجوب والحرمة.

ولا يرتفع[3] غائلته[4] باختلاف زمان التحريم والإيجاب قبل الدخول وبعده - كما في الفصول(1)- مع[5] اتحاد زمان الفعل المتعلق لهما، وإنما المفيد اختلاف

-------------------------------------------------------------------

الإشكال على الفصول

[1] الإشكال الأول: أشار إليه المصنف بقوله: (وقد ظهر... الخ). وحاصله: إن الخروج لا يمكن أن يكون واجباً، بل هو مبغوض، وإنما تجب مقدمة الواجب إذا كانت مباحة لا إذا كانت محرمة، فراجع.

الإشكال الثاني: ذكره المصنف بقوله: (مع ما فيه... الخ). وحاصله: إن لازم هذا الكلام اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد بعنوان واحد، وهو محال حتى على القول بالجواز، فالخروج يكون واجباً لأنه مقدمة، وحراماً لأنه تصرف في المغصوب.

[2] قد مرّ أن المقدميّة علة للوجوب وليست عنواناً للواجب، وعليه: فيكون الواجب هو نفس التصرف خروجاً، والحرام أيضاً نفس التصرف خروجاً لأنه غصب، فاجتمع الوجوب والحرمة في شيء واحد بعنوان واحد.

جواب الفصول عن الإشكال الثاني

[3] لقد تنبه صاحب الفصول لمشكلة اجتماع الوجوب والتحريم بناءً على قوله، فقال(2): بأنه لا اجتماع لاختلاف الزمان، فالوجوب بعد الدخول، والحرمة قبل الدخول، كما في البداء حيث يكون الوجوب في زمانٍ قبل البداء، والحرمة في زمانٍ آخر بعد البداء.

[4] أي: مشكلة الاجتماع.

رد الجواب

[5] أي: المجدي لرفع الاجتماع هو اختلاف زمان متعلق الوجوب والتحريم،

ص: 336


1- الفصول الغروية: 138.
2- الفصول الغروية: 139.

زمانه[1] ولو مع اتحاد زمانهما. وهذا أوضح من أن يخفى، كيف ولازمه وقوع الخروج بعد الدخول عصياناً للنهي السابق وإطاعة للأمر اللاحق فعلاً[2]، ومبغوضاً ومحبوباً كذلك[3] بعنوانٍ واحد[4]؟ وهذا ممّا لا يرضى به القائل بالجواز[5] فضلاً عن القائل بالامتناع.

كما لا يجدي[6]

-------------------------------------------------------------------

ولا يفيد اختلاف زمان الإيجاب والتحريم.

ففي غير البداء والنسخ، لو قال المولى: (يحرم عليك كذا يوم الجمعة)، ثم قال في وقت آخر: (يجب عليك نفس الشيء يوم الجمعة) كان متناقضاً. ولو قال في وقت واحد: (يجب عليك كذا يوم الخميس، ويحرم عليك نفس الشيء يوم الجمعة) لم يكن متناقضاً.

وفي ما نحن فيه: الخروج وهو فعل واحد وفي زمان واحد، وفيه حكمان، وهذا من التضاد حتى وإن اختلف زمان الإيجاب وزمان التحريم.

[1] أي: زمان الفعل المتعلق.

[2] أي: يكون الأمر والنهي فعليين وهذا من الاجتماع.

[3] أي: في مرحلة الفعليّة.

[4] أي: التصرف بالخروج يكون واجباً ويكون حراماً، وقد مرّ قبل قليل أن الوجوب لا يتعلق بعنوان المقدمية، بل بنفس المقدمة وهو الخروج.

[5] لأنه يرى إمكان الاجتماع إذا كان بعنوانين - كالغضب والصلاة - لا في ما إذا كان بعنوان واحد.

جواب آخر للفصول عن الإشكال

[6] حاصل كلام الفصول هو أن النهي عن الخروج مطلق، والأمر بالخروج مشروط بما إذا دخل في المغصوب، فارتفعت غائلة الاجتماع بكون أحدهما مطلقاً والآخر مشروطاً.

ص: 337

في رفع هذه الغائلة كون النهي مطلقاً وعلى كل حال[1] وكون الأمر مشروطاً بالدخول، ضرورة[2] منافاة حرمة شيء كذلك مع وجوبه في بعض الأحوال.

وأما القول[3]

-------------------------------------------------------------------

[1] شرح لقوله: (مطلقاً) أي: على كل حال سواء قبل الدخول أم بعد الدخول.

رد الجواب

[2] حاصل الرّد: إن إطلاق الحرمة واشتراط الوجوب لا يرفع الغائلة؛ لأنه من الواضح في صورة تحقق الشرط يكون الفعل واجباً؛ لتحقق الشرط، ويكون حراماً؛ لأن الحرمة كانت مطلقة، فهي تشمل صورة الاشتراط أيضاً، «كذلك» بشكل مطلق، «بعض الأحوال» حين تحقق الشرط.

فلو قال: (أكرم زيداً دائماً حتى في يوم الجمعة)، ثم قال: (لا تكرم زيداً في يوم الجمعة) يكون متضاداً.

القول الرابع - للمحقق القمي -
اشارة

[3] هذا ما اختاره المحقق القمي(1)،

وحاصله: إن الخروج تخلصاً من الغصب واجب وحرام، وسيأتي ذكر دليل هذا القول، لكن المصنف قدّم ردّه عليه.

وحاصل دليله: هو أن المقتضي - وهو إطلاق الأدلة الدالة على حرمة الغصب ووجوب التخلص - موجود، ولا مانع منه؛ لأن المانع: إما اجتماع الضدين، أو التكليف بما لا يطاق، وشيء منهما لا يصلح لذلك.

أما الأول: فلما عرفت من إجداء تعدد الجهتين في اجتماعهما.

وأما الثاني: فلأنه لا نسلم بطلان التكليف بما لا يطاق في ما إذا كان المكلّف سبباً له، فإن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

ص: 338


1- قوانين الأصول 1: 153.

بكونه مأموراً به ومنهياً عنه: ففيه[1] - مضافاً[2] إلى ما عرفت من امتناع الاجتماع في ما إذا كان بعنوانين، فضلاً[3] عما إذا كان بعنوانٍ واحد، كما في المقام، حيث كان الخروج بعنوانه سبباً للتخلص، وكان بغير إذن المالك؛ وليس التخلص[4] إلاّ منتزعاً عن ترك الحرام[5] المسبب عن الخروج، لا عنواناً له[6] - : أن الاجتماع

-------------------------------------------------------------------

ردّ القول الرابع

[1] قد أشكل المصنف على كلامه بعدة إشكالات.

الإشكال الأول والثاني

[2] الإشكال الأول: مبنائي حيث بيّنا استحالة الاجتماع مفصلاً.

[3] الإشكال الثاني: ما مرّ من أن ما نحن فيه ليس فيه عنوانان، وإنما عنوان واحد، فالخروج - بما هو - يكون مأموراً به ومنهياً عنه. وقوله: «سبباً للتخلّص» وجه الوجوب، وقوله: «بغير إذن المالك» وجه الحرمة.

[4] وهذا لبيان أن التخلص الواجب - حسب كلام القوانين - ليس عنواناً للخروج؛ وذلك لأن الخروج سبب للتخلص، ولا يعقل أن يكون المعلول عنواناً للعلة. وبعبارة أوضح: إن التصرف الخروجي ليس تخلصاً، بل هو تصرف في الغصب. نعم، هو سبب للتخلص، حيث إن الغاصب بالتصرف الخروجي يتمكن من الوصول إلى خارج الغصب، فيتخلص منه.

[5] الحرام هو البقاء في المغصوب. وأما الكون في المكان المباح - خارج الغصب - فهو ترك للحرام، وسبب ترك هذا الحرام هو الخروج. فالغاصب بسبب خروجه من المغصوب يكون قد ترك الحرام، وينتزع التخلص من هذا الترك.

[6] أي: ليس التخلص عنواناً للخروج، ثم إنه يرد على المحقق القمي إيرادان:

أولهما: إنه لا يقول بوجوب مقدمة الواجب، فالخروج حتى إذا كان مقدمة للتخلص الواجب، فإنه - على مبناه - لا يكون واجباً.

ص: 339

هاهنا[1] لو سلم أنه لا يكون بمحال، لتعدد العنوان وكونه مجدياً[2] في رفع غائلة التضاد، كان محالاً[3]، لأجل كونه طلب المحال، حيث لا مندوحة هنا، وذلك لضرورة عدم صحة تعلق الطلب والبعث حقيقة[4] بما هو واجب[5] أو ممتنع، ولو

-------------------------------------------------------------------

ثانيهما: ما ذكره المصنف في الحاشية(1)

وحاصله: إن التخلص ليس مسبباً عن الخروج، بل الخروج علّة للكون في خارج المغصوب، والكون في خارجه يلازم ترك الحرام.

الإشكال الثالث

[1] حاصل الإشكال: إن اجتماع الأمر والنهي - على القول بالجواز - إنما يمكن إذا كان المكلّف متمكناً من التخلص من الحرام، كما في الصلاة في المغصوب مع تمكنه من الصلاة في المباح. وأما إذا لم يتمكن المكلّف من التخلص من الحرام فإنه لا يعقل الاجتماع فيه، كصلاة المحبوس في المغصوب، فإن حرمة الغصب ساقطة عنه لاضطراره إلى الغصب. وقد مرّ أن وجود المندوحة شرط حتماً - لكنه خارج عن محل البحث كاشتراط العقل والبلوغ ونحوهما - .

[2] بيان وجه عدم الاستحالة - حيث كان هذا دليل القائلين بالجواز - .

[3] قوله: «كان محالاً» خبر (أن) في قوله: (أن الاجتماع). وحاصل الكلام: إنه على القول بالجواز فإن استحاله الاجتماع هنا ليس من جهة طلب الضدين، بل لأجل طلب الممتنع، والمولى لا يطلب شيئاً مع الالتفات إلى امتناعه، وكذلك ما هو ضروري الوقوع لا يصح تعلق طلب المولى به، كأن يقول للعبد: كن جسماً مع استحالة غير الجسميّة عليه.

[4] أي: مع التفات المولى لا يعقل أن يريد ما يمتنع تحققه، ثم يقبح منه هذا الطلب، إذا كان طلباً حقيقياً.

[5] كلامنا في الممتنع، لكن ذكر المصنف الواجب أيضاً لعدم الفرق بينهما من

ص: 340


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 181.

كان الوجوب أو الامتناع بسوء الاختيار[1].

وما قيل[2]: «إن الامتناع أو الإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار»(1) إنما هو في قبال[3] استدلال الأشاعرة للقول بأن الأفعال غير اختيارية بقضية «إن الشيء ما لم يجب لم يوجد»(2).

-------------------------------------------------------------------

هذه الجهة.

[1] (لأن المانع من تعلق التكليف بالواجب والممتنع ليس إلاّ أن قوام التكليف قصد إحداث الداعي العقلي للفعل أو الترك، وهذا إنّما يكون في ظرف القدرة، الذي هو ظرف الإمكان، لا ظرف الوجوب أو الامتناع، ولو كان بسوء الاختيار) - كما في الحقائق(3) - .

والحاصل: إن الطلب - حتى في صورة سوء الاختيار - يكون لغواً، وهو قبيح لا يصدر من الحكيم.

ردّ تصحيح طلب المحال

[2] حيث إن المحقق القمي(4)

كان ملتفتاً إلى إشكال طلب المحال والتكليف بما لا يطاق، لذلك أجاب عنه بهذه المقولة المعروفة: (ما بالاختيار لا ينافي الاختيار)، حيث إن الغاصب للتخلص من الغصب وإن كان مضطراً للتصرف الخروجي، لكن هذا الاضطرار كان باختياره، أي: هو أوقع نفسه في هذا الاضطرار، فلذا يصح تكليفه بأمر غير مقدور له؛ لأنه هو السبب!!

كلام الأشاعرة وردّهم
اشارة

[3] لنذكر أولاً كلام الأشاعرة، ثم ردهم، ثم بيان عدم ارتباط قاعدة (ما بالاختيار) بما نحن فيه.

ص: 341


1- مفاتيح الأصول: 319؛ قوانين الأصول 1: 153.
2- الفصول الغروية: 322؛ بدائع الأفكار: 344.
3- حقائق الأصول 1: 401.
4- قوانين الأصول 1: 153.

فانقدح(1)

بذلك[1] فساد الاستدلال لهذا القول: بأن الأمر بالتخلص والنهي

-------------------------------------------------------------------

فالأشاعرة قوم يقولون بالجبر، حيث يزعمون أن الإنسان مكره في أعماله ولا اختيار له.

ودليلهم: إن الشيء إذا وجدت علته كان ضروري الوجود؛ لاستحالة تخلف المعلول عن علته، وإن لم توجد علته كان ضروري العدم؛ لاستحالة وجود الشيء من غير علّة.

وأفعال العباد حيث وجدت علّتها كانت ضرورية الوجود، فلا تكون بالاختيار!! فمن صلّى أو قتل كانت صلاته وقتله ضرورية الوجود لوجود علّتها، فلا تكون صلاته ولا قتله باختياره!!

وحاصل الرد عليهم: إن علّة الصلاة وعلّة القتل كانتا باختيار المصلّى والقاتل، وهما أوجدا العلّة فوجد المعلول، والاضطرار إلى وجود المعلول لا يخرجه عن القدرة والاختيار بعد كون العلّة بيدهما واختيارهما، فإن ما بالاختيار لا ينافي الاختيار، فالصلاة والقتل وجدا حيث أوجد الفاعل علتهما، فلا يخرجان عن الاختيار.

فقاعدة (ما بالاختيار) أجنبيّة عن مقامنا، حيث إن كلامنا هنا في عدم إمكان تعلق التكليف بالممتنع. فالداخل في المغصوب حينما يريد التخلص من الغصب يضطر إلى التصرف الخروجي، وهذا التصرف وإن كان بسوء اختياره لكن لا يعقل تكليفه بأنه حرام وواجب، فإن هذا التكليف لغو حيث لا باعثية له - فضلاً عن أنه تكليف محال كما مرّ - .

دليل المحقق القمي

دليل المحقق القمي(2)

[1] كان الأولى تقديم الدليل على الإشكالات عليه.

ص: 342


1- قوانين الأصول 1: 153.
2- قوانين الأصول 1: 153.

عن الغصب دليلان يجب إعمالهما ولا موجب للتقييد[1] عقلاً، لعدم استحالة كون الخروج واجباً وحراماً باعتبارين مختلفين[2]، إذ منشأ الاستحالة إما لزوم اجتماع الضدين وهو غير لازم مع تعدد الجهة، وإما لزوم التكليف بما لا يطاق وهو ليس بمحال إذا كان مسبباً عن سوء الاختيار. وذلك[3] لما عرفت من ثبوت الموجب للتقييد عقلاً ولو كانا بعنوانين، وأن اجتماع الضدين لازم ولو مع تعدد الجهة؛ مع عدم تعددها هاهنا، والتكليف بما لا يطاق محال على كل حال. نعم، لو كان بسوء[4] الاختيار لا يسقط العقاب بسقوط التكليف[5] بالتحريم أو الإيجاب.

ثم لا يخفى[6]: أنه لا إشكال في صحة الصلاة مطلقاً في الدار المغصوبة، على

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: دليل وجوب التخلص مطلق يشمل حتى مورد الاجتماع، وكذلك دليل حرمة الغصب، ولا شيء يوجب تقييد أحد الدليلين، لا شرعاً؛ لعدم وجود خبر ونحوه دال على التقييد، ولا عقلاً؛ لعدم استحالة اجتماع الأمر والنهي.

[2] أي: بعنوانين، أحدهما التخلص، والآخر التصرف في الغصب.

رد الدليل

[3] فإن تقييد أحد الدليلين لازم عقلاً، لاستحالة طلب الضدين وعدم إجداء تعدد الجهة.

[4] التكليف بما لا يطاق محال مطلقاً، لكن استحقاق العقاب ليس بقبيح إذا كان بسوء الاختيار، وهذا فرق بين أقسام (ما لا يطاق)، فإن لم يكن ما لا يطاق بسوء الاختيار قبح العقاب، وإن كان بسوئه لم يقبح، بل يراه العقلاء مستحقاً للعقاب.

[5] قد مرّ أن المصنف يرى سقوط التكليف وبقاء أثره من استحقاق العقاب، وإن كانت عباراته مضطربة.

ثمرة المسألة
اشارة

[6] يبدأ المصنف في بيان ثمرة المسألة، مع الإجابة على إشكال اُورد على

ص: 343

القول بالاجتماع.

وأما على القول

بالامتناع: فكذلك[1] مع الاضطرار إلى الغصب لا بسوء الاختيار،

-------------------------------------------------------------------

المشهور(1)،

حيث حكموا بصحة الصلاة في المغصوب في ضيق الوقت، وبطلانها في سعته.

والإشكال: إنه إن قلنا بجواز الاجتماع صحت الصلاة مطلقاً، وإن قلنا بامتناع الاجتماع بطلت الصلاة مطلقاً، فكيف فصّل المشهور؟

وللجواب عن الإشكال وبيان ثمرة المسألة يذكر حكم الصلاة في المغصوب: فعلى القول بجواز الاجتماع، فالصلاة صحيحة مطلقاً.

وأما على القول بالامتناع ففيها صور:

الأولى: الاضطرار إلى الغصب بلا سوء اختيار فالصلاة صحيحة مطلقاً.

الثانية: الاضطرار إلى الغصب مع سوء الاختيار ووقعت الصلاة في حال الخروج واخترنا قول الشيخ الأعظم من كون الخروج مأموراً به غير منهي عنه، فالصلاة صحيحة مطلقاً.

الثالثة: غلبة ملاك الأمر على النهي في ضيق الوقت فالصلاة صحيحة مطلقاً.

الرابعة: غلبة ملاك الأمر على النهي في سعة الوقت فالصلاة صحيحة على رأي المصنف، إن لم يكن إجماع على البطلان في بعض الصور. وباطلة على رأي من يقول: إنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده، سواء كان بسوء الاختيار أم لا، وسواء كان في ضيق الوقت أم في سعته، وسواء كان في حال الخروج أم لا، وكذلك في جميع الحالات الأخرى.

الصورة الأولى

[1] أي: الصلاة صحيحة؛ وذلك لسقوط النهي بالاضطرار، وبقاء الأمر بالصلاة بلا مزاحم.

ص: 344


1- غاية المسؤول في علم الأصول 1: 316؛ درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 272؛ أجود التقريرات 1: 381.

أو معه[1] ولكنها وقعت في حال الخروج على القول بكونه[2] مأموراً به بدون إجراء[3] حكم المعصية عليه. أو مع غلبة[4] ملاك الأمر[5] على النهي مع ضيق الوقت.

أما مع السعة[6]: فالصحة وعدمها مبنيان على عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي

-------------------------------------------------------------------

الصورة الثانية

[1] أي: مع سوء الاختيار.

[2] كما اختاره الشيخ الأعظم(1)

حيث اختار أن الخروج مأمور به غير منهي عنه، فحينئذٍ تكون الصلاة من غير مزاحم إطلاقاً.

ولا يخفى إمكان الصلاة في حال الحركة مع مراعاة شروطها من الاستقرار والقبلة وسائر الشروط، كما لو كان في سيارة أو سفينة ونحوهما.

[3] لأنه لو أجرينا على الخروج حكم المعصية كان مبغوضاً للمولى، والمبغوض لا يصلح لأن يكون مقرباً، وحكم المعصية هو العقاب والذم.

الصورة الثالثة

[4] عطف على قوله مع الاضطرار، فالمعنى فكذلك الصلاة صحيحة مع غلبة ملاك الأمر... الخ.

[5] أي: المصلحة الموجودة في الصلاة تغلب المفسدة الموجودة في الغصب، أمّا لو كان العكس بأن غلبت مفسدة الغصب فتكون الصلاة حينئذٍ باطلة؛ لعدم صلاحية ما مفسدته أقوى للمقربيّة. فتكون الصلاة صحيحة بشرطين: ضيق الوقت، وغلبة المصلحة.

الصورة الرابعة

[6] أي: مع سعة الوقت وأقوائية ملاك الأمر على النهي، فإن الصلاة باطلة بشرطين:

ص: 345


1- مطارح الأنظار 1: 707.

عن الضد واقتضائه، فإن[1] الصلاة في الدار المغصوبة وإن كانت مصلحتها غالبة[2] على ما فيها من المفسدة، إلاّ أنه لا شبهة في أن الصلاة في غيرها[3] تضادها[4]، بناءً[5] على أنه لا يبقى مجال مع إحداهما للأخرى[6] مع كونها[7] أهم منها[8]،

-------------------------------------------------------------------

1- كون الصلاة في المغصوب ضداً للصلاة في المباح.

2- اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده.

فالأمر بالصلاة خارج الغصب يقتضي النهي عن الصلاة في الغصب - لأنها ضدها - فتكون الصلاة في المغصوب منهياً عنه فتقع باطلة.

أما لو لم نقبل أحد الشرطين كانت الصلاة في المغصوب صحيحة، كما لو رفضنا الشرط الأول؛ إذ الصلاتان متماثلتان لا متضادتان، أو رفضنا الشرط الثاني وقلنا: إن الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده - كما هو مختار المصنف - .

[1] بيان لوجه صحة الصلاة.

[2] لأن مفروض الصورة الرابعة هو غلبة ملاك الأمر على النهي.

[3] أي: الصلاة في غير الدار المغصوبة.

[4] بيان للشرط الأول وهو تضاد الصلاة في المغصوب مع الصلاة في المباح، وبعبارة أخرى - كما قيل - : بتقريب: (أن كلاً منهما وافٍ بالغرض الداعي إلى إيجاب الصلاة، فلا يمكن الجمع بينهما في مقام الامتثال؛ لسقوط الأمر بإتيان إحداهما، وعدم بقاء المجال لإتيان الأخرى).

[5] أي: التضاد بناءً على سقوط الغرض بإتيان أحدهما وعدم بقاء مجال للإتيان بالآخر.

[6] أي: لا يبقى مجال مع الإتيان بالصلاة في المغصوب، للصلاة في المباح.

[7] أي: مع كون الأخرى وهي الصلاة في المباح.

[8] أي: أهم من أحدهما وهي الصلاة في المغصوب.

ص: 346

لخلوها[1] من المنقصة الناشئة من قِبل اتحادها مع الغصب. لكنه عرفت[2] عدم الاقتضاء بما لا مزيد عليه، فالصلاة في الغصب اختياراً في سعة الوقت صحيحة وإن لم تكن مأموراً بها[3].

الأمر الثاني[4]: قد مر في بعض المقدمات أنه لا تعارض بين مثل خطاب (صل) وخطاب (لا تغصب) على الامتناع[5]، تعارض الدليلين[6] بما هما دليلان

-------------------------------------------------------------------

[1] بيان لوجه الأهميّة، أي: الصلاة في المباح فيها مصلحة راجحة من غير مفسدة، والصلاة في المغصوب فيها مصلحة راجحة مع وجود مفسدة الغصب.

[2] بيان لمختار المصنف في الصورة الرابعة، وحاصله: عدم قبول الشرط الثاني؛ لعدم الصحة - وهو اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده الخاص - حيث مرّ من المصنف اختيار عدم الاقتضاء، فحينئذٍ فالمختار في الصورة الرابعة هو صحة الصلاة.

[3] لما مرّ من استحالة الاجتماع، فالصلاة لا أمر فيها لكنها صحيحة لوجود ملاك الأمر، وعلى رأي المصنف يكفي وجود الملاك في صحة العبادة بلا حاجة إلى الأمر - كما مرّ - .

التنبيه الثاني
مرجحات باب الاجتماع
اشارة

[4] الغرض من هذا التنبيه هو بيان المرجحات في باب اجتماع الأمر والنهي، بحيث يرجح بها أحد الجانبين: النهي أو الأمر، وقد قدّم المصنف مقدمة فيها تكرار لما مرّ سابقاً في الأمر الثامن والتاسع من مقدمات بحث الاجتماع، كما أن المصنف كرر ما مرّ في الأمر العاشر من صحة العبادة في موارد الجهل والاضطرار وغيرهما من الاعذار، وفي هذا الأمر بيان لإشكال على ما ذكره الشيخ الأعظم كما سيأتي.

[5] أي: على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي، أمّا على القول بالجواز فعدم التعارض واضح.

[6] أي: كتعارض الدليلين، والمعنى لا تعارض في مورد الاجتماع كتعارض

ص: 347

حاكيان[1]، كي يقدم الأقوى[2] منهما دلالةً أو سنداً، بل إنما هو[3] من باب تزاحم المؤثرين والمقتضيين[4]، فيقدم الغالب منهما[5]، وإن كان الدليل على مقتضى الآخر[6] أقوى من دليل مقتضاه[7].

-------------------------------------------------------------------

الدليلين، بل هو من باب التزاحم، وقوله: «تعارض» مفعول مطلق لبيان النوع، كقولنا: (جلس جلسة العبد).

[1] لأن باب التعارض هو في مرحلة الإثبات، حيث إن أحد الدليلين غير كاشف عن الواقع، بخلاف باب التزاحم، حيث إن الدليلين كاشفان عن الواقع، لكن بما أنه لا يمكن امتثالهما معاً كانا متزاحمين.

[2] هذه الوظيفة في باب التعارض، حيث إنه لما نعلم بعدم كشف أحدهما عن الواقع، فنحتاج إلى ترجيح أحدهما على الآخر بالمرجح الدلالي، كأن يكون أحدهما نصاً والآخر ظاهراً، وإن تساويا دلالة فبالمرجح السندي.

[3] والصور التي ذكرها المصنف:

1- مع فعلية كلا الحكمين وإحراز الغالب ملاكاً فيرجح الغالب.

2- مع فعلية كليهما وعدم إحراز الغالب فيقع التعارض.

3- مع فعلية أحدهما دون الآخر فيرجح الفعلي.

4- مع عدم فعلية كليهما فيرجع إلى الأصول العلمية.

[4] عطف تفسيري، والمراد الملاك - أي: المصلحة أو المفسدة - التي اقتضت صدور الحكم، من وجوب أو تحريم.

الصورة الأولى

[5] أي: من المقتضيين؛ لأنه في باب التزاحم يكون الترجيح للأقوى ملاكاً.

[6] أي: الدليل الذي هو طبق الملاك الآخر كان أقوى سنداً أو دلالة، لكنه أضعف ملاكاً.

[7] أي: من مقتضى الغالب. والحاصل: هو ترجيح الغالب ملاكاً وإن كان

ص: 348

هذا في ما إذا أحرز الغالب منهما، وإلاّ[1] كان بين الخطابين تعارض[2] فيقدم الأقوى منهما دلالةً أو سنداً، وبطريق الإن[3] يحرز به[4] أن مدلوله أقوى مقتضياً. هذا لو كان كل من الخطابين متكفلاً لحكم فعلي، وإلاّ[5] فلابد من الأخذ بالمتكفل

-------------------------------------------------------------------

أضعف دليلاً.

الصورة الثانية

[1] أي: وإن لم يحرز الغالب من الملاكين.

[2] والتعارض إنّما يكون في فعلية الخطابين - لا في مرحلة الإنشاء والاقتضاء - لأن كلا الدليلين يدلان على فعلية الحكم، ومع التزاحم يعلم بعدم فعلية أحدهما، وحيث لا نعلم بالأقوى ملاكاً كان بين الدلالتين الفعليتين تعارض، وفي التعارض نرجع إلى المرجحات الدلالية والسندية - كما مرّ - .

[3] في الحقائق: (بل كان المراد أن الأقوى لما كان دالاً على فعلية مؤداه مطابقة، فقد دلّ على أقوائية ملاكه التزاماً، كما أن الأضعف كذلك، فإذا دلّ دليل الترجيح على حجية الأقوى وعدم حجية الأضعف، فقد دل على ثبوت مدلولي الأقوى المطابقي والالتزامي معاً، فتثبت أقوائية ملاكه ظاهراً)(1).

وقال أيضاً: (وليس المراد كون قوة الدليل معلولة لقوة المدلول، أو هما معاً معلولان لعلة ثالثة، كما هو المصطلح في الطريق الإنيّ؛ لعدم اللزوم بينهما...)(2)

الخ.

[4] «به» بالتقديم، «مدلوله» مدلول الأقوى سنداً أو دلالةً.

الصورة الثالثة

[5] أي: إن لم يكونا متكفلين للحكم الفعلي، بل كان أحدهما متكفلاً فقط دون الآخر، فإنه لا تعارض بين حكم إنشائي وحكم فعلي، بل يرجح الحكم الفعلي.

ص: 349


1- حقائق الأصول 1: 410.
2- حقائق الأصول 1: 410.

لذلك منهما لو كان، وإلاّ[1] فلا محيص عن الانتهاء إلى ما تقتضيه الأصول العملية[2].

ثم لا يخفى[3]: أن ترجيح أحد الدليلين وتخصيص الآخر[4] به في المسألة لا يوجب خروج[5]

-------------------------------------------------------------------

ولا يخفى أنه لا مصداق خارجي لهذه الصورة وكذا الصورة الآتية؛ لأن أدلة جميع الأحكام دالة على الفعلية.

الصورة الرابعة

[1] أي: وإن لم يكن هناك حكم فعلي أصلاً، بل كلا الدليلين دلاّ على مرحلة الاقتضاء أو الإنشاء فقط.

[2] والظاهر أن مقتضاها هنا هو التخيير، لأن الملاكين متزاحمان مع لزومهما وعدم وجود مرجح، فيكون المكلف مخيراً بينهما.

صحة الصلاة في المغصوب مع العذر

[3] يستفاد من كلام التقريرات(1) أنه لو قيل: بترجيح النهي في (لا تغصب) على الأمر في (صل) فإن الصلاة في المغصوب باطلة على كل حال، حتى في حال الغفلة والسهو ونحوهما، فمورد الاجتماع خارج عن المطلوب بجميع أحواله وأطواره، وهو يوجب فساد المورد بواسطة ارتفاع المطلوبية والأمر ولو في حال الغفلة عن الحرمة.

والمصنف بقوله هذا يردّ على التقريرات.

[4] كما لو رجحنا دليل (لا تغصب) على دليل (صل)، وقلنا: إنّ الصلاة قُيّدت فلا يشمل (صل) للصلاة في المغصوب.

[5] هذا بيان للإشكال على كلام التقريرات، وحاصله: إنه مع وجود الملاك في كلا الحكمين وتزاحم الملاكين فإن ترجيح أحدهما لا يوجب سقوط ملاك الآخر، بل ملاكه موجود لكن لا فعلية لحكمه، فإذا حدث عذر - كما لو غفل المكلف

ص: 350


1- مطارح الأنظار 1: 707.

مورد الاجتماع عن تحت الآخر رأساً كما هو قضية[1] التقييد والتخصيص في غيرها[2] ممّا لا يحرز فيه المقتضي لكلا الحكمين، بل قضيته[3] ليس إلاّ خروجه[4] في ما كان الحكم الذي هو مفاد الآخر فعلياً، وذلك[5] لثبوت المقتضي في كل واحد من الحكمين فيها[6]. فإذا لم يكن المقتضي لحرمة الغصب مؤثرا لها - لاضطرار أو

-------------------------------------------------------------------

عن الأقوى ملاكاً، وأتى بالآخر - فإن عمله الآخر كان واجداً للملاك، وقد كان مانع عن فعلية هذا الأمر، ولكن بالعذر يزول ذلك المانع، فيؤثر ملاك الآخر ويوجب فعلية حكمه.

مثلاً: الصلاة لها ملاك وأمر، والغضب له ملاك ونهي، فبترجيح دليل الغصب لا يكون لدليل الصلاة فعلية، ولكن مع بقاء مصلحتها وأمرها الإنشائي لكن من غير فعلية له، وبالعذر - كالغفلة عن الغصب - يزول المانع عن فعلية حكم الصلاة، فأمرها يكون فعلياً، فلو صلّى فصلاته ذات مصلحة وذات أمر، فتقع صحيحة.

[1] أي: خروج الآخر عن الدليل رأساً - ملاكاً وحكماً - هو مقتضى التخصيص والتقييد، كما لو قال: (أكرم العلماء) ثم خصصه بقوله: (لا تكرم فساقهم) فإن العالم الفاسق يخرج عن (أكرم) ملاكاً وحكماً، فليس في إكرام فساقهم مصلحة ولا أمر.

[2] أي: غير هذه المسألة - وهي مسألة الاجتماع - .

[3] أي: مقتضي الترجيح في مسألة الاجتماع هو عدم فعلية أحد الدليلين فقط - صلِّ في المثال - مع بقاء ملاكه وحكمه الإنشائي.

[4] أي: خروج مورد الاجتماع عن فعلية الحكم المرجوح، مثلاً: خروج (الصلاة في المغصوب) عن قوله: (صلِّ) في مرحلته الفعلية.

[5] دليل المدعي وهو أنه في باب الاجتماع لا يسقط ملاك الآخر، ولا حكمه الإنشائي.

[6] أي: في مسألة الاجتماع، «لها» أي: للحرمة؛ لأن الأعذار ترفع فعلية الحكم، كما في حديث الرفع وغيره.

ص: 351

جهل أو نسيان - كان المقتضي لصحة الصلاة مؤثراً لها[1] فعلاً، كما إذا لم يكن دليل الحرمة أقوى[2]، أو لم يكن واحد من الدليلين[3] دالاً على الفعلية أصلاً.

فانقدح بذلك[4] فساد الإشكال[5] في صحة الصلاة في صورة الجهل أو النسيان ونحوهما[6]، في ما إذا قدم خطاب (لا تغصب)، كما هو الحال[7] في ما إذا كان الخطابان من أول الأمر متعارضين ولم يكونا من باب الاجتماع أصلاً. وذلك[8] لثبوت المقتضي في هذا الباب[9]، كما إذا لم يقع بينهما تعارض ولم يكونا متكفّلين للحكم الفعلي. فيكون وزان التخصيص[10] في مورد الاجتماع وزان التخصيص

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: مؤثراً لصحة الصلاة، «فعلاً» أي: في فعلية حكم (صلّ)، - مثلاً - .

[2] أي: موارد العذر عن الدليل الأقوى ملاكاً - لا تغصب في المثال - هي مثل ما إذا لم يكن دليل الحرمة أقوى، بل كان دليل (صلِّ) أقوى، وكذلك مثل ما إذا لم يكن دليل الحرمة فعلياً. فإنه كما يرجح (صلِّ) في المثالين كذلك في مورد العذر عن دليل (لا تغصب). وعدم الفرق هو لأجل وجود الملاك في (صلِّ) وفعليته في كل الصور الثلاث.

[3] وهو دليل الحرمة - في المثال - .

[4] أي: بوجود المقتضي والخطاب الإنشائي في دليل (صلِّ).

[5] الذي ذكره في التقريرات وقد بيناه في ما مرّ.

[6] كالغفلة، كل ذلك إذا كانت عن قصور لا عن تقصير.

[7] أي: فساد الصلاة ثابتة في مورد التعارض وترجيح جانب النهي، كذلك هنا وهو باب التزاحم.

[8] بيان لوجه فساد الإشكال، وقد مرّ مفصلاً.

[9] أي: باب الاجتماع، حيث إنه من باب التزاحم.

[10] (الفرق بين التخصيص العقلي والتخصيص العرفي أن التخصيص العرفي

ص: 352

العقلي الناشئ من جهة تقديم أحد المقتضيين وتأثيره فعلاً، المختص[1] بما إذا لم يمنع عن تأثيره[2] مانع، المقتضي[3] لصحة مورد الاجتماع مع الأمر أو بدونه[4] في ما كان هناك مانع عن تأثير المقتضي للنهي له[5] أو عن فعليته[6]، كما مر تفصيله.

وكيف كان فلابد في ترجيح أحد الحكمين من مرجح. وقد ذكروا(1)

لترجيح

-------------------------------------------------------------------

- كما في العام والخاص - هو ممّا ينقطع به الحكم من أصله، والتخصيص العقلي - كما في المتزاحمين - هو مما ينقطع به الحكم في المرتبة الفعلية والتنجز مع بقاء مرتبة الإنشاء على حالها)(2)

- كما قيل - .

[1] صفة التخصيص العقلي، أي: التخصيص العقلي مختص... الخ.

[2] أي: تأثير أحد المقتضيين.

[3] صفة ثانية للتخصيص، أي: التخصيص يقتضي صحة مورد الاجتماع لو كان مانع عن الملاك الأقوى.

[4] قد مرّ في الأمر العاشر، أنه إن قلنا بتبعية الأحكام لما هو الأقوى فالصلاة لا أمر لها؛ لأن الأقوى هو ملاك النهي، لكنها صحيحة بالملاك. وإن قلنا بتبعية الأحكام لما هو المؤثر منها فعلاً للحسن أو القبح فالصلاة لها أمر. وقيل في شرح العبارة غير ذلك.

[5] أي: مع وجود مانع يمنع عن تأثير المفسدة لإنشاء النهي، فقوله: «المقتضي للنهي» هي المفسدة، و«له» متعلق بالتأثير.

[6] أي: عن فعلية النهي.

وهذا من اللف والنشر المرتب؛ لأنه مع وجود الأمر لا يوجد نهي، وبدون الأمر يوجد نهي لكن من غير فعلية.

ص: 353


1- قوانين الأصول 1: 152؛ الفصول الغروية: 127؛ مطارح الأنظار 1: 701.
2- عناية الأصول 2: 115.

النهي وجوهاً[1]:

منها: إنه أقوى دلالة[2]، لاستلزامه انتفاء جميع الأفراد بخلاف الأمر.

وقد أورد عليه[3]: بأن ذلك فيه[4] من جهة إطلاق متعلقه بقرينة الحكمة،

-------------------------------------------------------------------

مرجحات النهي على الأمر
اشارة

[1] ذكر منها المصنف ثلاثة:

1- النهي دلالته بالوضع، والأمر بمقدمات الحكمة، والوضع أقوى دلالة.

2- دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

3- الاستقراء في موارد أحكام الشرع.

المرجح الأول: أقوائية دلالة النهي
اشارة

[2] لأن دلالته بالوضع؛ لأن النهي يدل على طلب ترك الطبيعة، ولازمه ترك جميع الأفراد، فدلالة النهي بالوضع - مطابقة والتزاماً - بخلاف الأمر، فإن دلالته على طلب الطبيعة، وبمقدمات الحكمة يثبت العموم البدلي لأي فرد من أفراد الطبيعة.

فالحاصل: إن دلالة النهي بالوضع، ودلالة الأمر بمقدمات الحكمة، والدلالة الوضعية أقوى، وهذا الوجه منسوب للإشارات.

إشكال وجوابه

[3] أي: على هذا الدليل بما حاصله: إن النهي أيضاً يحتاج إلى مقدمات الحكمة، فلا فرق بين الأمر والنهي، فلا يكون النهي أقوى.

بيانه: إن النهي له مدخول وهو فعل من أفعال المكلف، ففي (لا تغصب) قد تعلق النهي بالغصب، والغصب قد يكون مطلقاً شاملاً لكل أفراده، وقد يكون مقيداً يشمل البعض دون البعض، وعموم الغضب يستفاد من مقدمات الحكمة؛ إذ لو كان مراد المولى النهي عن بعض أفراد الغضب كان عليه البيان.

[4] «ذلك» انتفاء جميع الأفراد، «فيه» في النهي، «متعلقه» متعلق النهي.

ص: 354

كدلالة الأمر على الاجتزاء بأي فرد كان.

وقد أورد عليه[1]: بأنه لو كان العموم المستفاد من النهي بالإطلاق بمقدمات الحكمة وغير مستند إلى دلالته عليه[2] بالالتزام[3]، لكان استعمال مثل: (لا تغصب) في بعض أفراد الغصب حقيقةً[4]؛ وهذا واضح الفساد. فتكون دلالته[5] على العموم من جهة أن وقوع الطبيعة في حيز النفي أو النهي[6] يقتضي عقلاً[7]

-------------------------------------------------------------------

[1] هذا دفع للإشكال، وانتصار للدليل. وحاصله: إن استعمال المطلق وإرادة بعض أفراده ليس من المجاز، بل هو حقيقة؛ لأن التقييد لا يخرج اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز، فلو قال: (أعتق رقبة مؤمنة) لم يكن لفظ (رقبة) مجازاً؛ لأنه استعمال له في معناه الحقيقي. وأما في النهي لو كان استفادة العموم من النهي بمقدمات الحكمة فلازمه أن يكون استعمال مثل (لا تغصب) وإرادة بعض أفراد الغصب حقيقياً لا مجازياً، وليس كذلك، فإن إرادة البعض منه مجاز قطعاً، مما يكشف أن النهي ليس من المطلق، بل هو موضوع للعموم.

[2] أي: إلى دلالة النهي على العموم.

[3] لما مرّ من أن دلالة لا تغصب على طلب ترك الطبيعة دلالة مطابقية، وبالالتزام يدل على طلب ترك الجميع، وهي دلالة التزامية مستندة إلى الوضع لا إلى مقدمات الحكمة.

[4] لأن استعمال المطلق وإرادة المقيد ليس من المجاز، بل من الحقيقة.

[5] أي: دلالة النهي.

[6] البحث هو في النهي، لكن ذكر النفي - وإن كان خارجاً عن البحث - لاشتراكه مع النهي، وعدم الفرق بينهما من جهة الدلالة على العموم الشمولي.

[7] الدلالة الالتزامية هنا دلالة عقلية لكنها مستندة إلى الوضع، أي: وضع النهي لطلب ترك الطبيعة، ولازم هذا الوضع عقلاً هو ترك جميع الأفراد.

ص: 355

سريان الحكم إلى جميع الأفراد، ضرورة[1] عدم الانتهاء عنها أو انتفائها إلاّ بالانتهاء عن الجميع أو انتفائه.

قلت[2]: دلالتهما[3] على العموم والاستيعاب ظاهراً مما لا ينكر، لكنه من الواضح أن العموم المستفاد منهما كذلك[4] إنما هو بحسب[5] ما يراد من متعلقهما، فيختلف[6]

-------------------------------------------------------------------

[1] دليل المدعي وهو سريان الحكم إلى جميع الأفراد.

مختار المصنف

[2] مختار المصنف هو قبول هذا الوجه - أي: كون دلالة النهي على العموم بالوضع - ولكن في الجملة. وحاصله: إن دلالة النهي والنفي على العموم واضحة، وهذه الدلالة تكون بالوضع وبمقدمات الحكمة معاً، لا كما كان يقول المستشكل: إنه من مقدمات الحكمة، ولا كما كان يقوله المستدل: إنه من الوضع، فبالوضع يدل النهي على استيعاب كل أفراد المتعلق، وبمقدمات الحكمة يتعين سعة أو ضيق المتعلق.

فلو قال: (لا تغصب)، أو قال: (لا تغصب يوم الجمعة)، فكلمة (لا) تدل على استيعاب المتعلق، وهو الغصب، ففي الأول بمقدمات الحكمة يشمل جميع أفراد الغصب، وفي الثاني يشمل بعض أفراد الغصب، وهو الغصب الواقع في يوم الجمعة.

[3] أي: النهي والنفي، «لكنه» الضمير للشأن.

[4] أي: بالدلالة عليه بالوضع.

[5] أي: إنّما ذلك العموم هو حسب المدخول، فلفظة (لا) تدل على عموم جميع ما أريد من مدخولها.

[6] أي: ذلك العموم، فإن أريد من المدخول شيء واسع كانت (لا) دالة على النهي، أو نفي ذلك الشيء الواسع، وإن أريد من المدخول شيء محدود كانت (لا) دالة على النهي، أو نفي بمقدار ذلك الشيء المحدود.

ص: 356

سعة وضيقاً؛ فلا يكاد[1] يدل على استيعاب جميع الأفراد إلاّ إذا أريد منه الطبيعة مطلقةً وبلا قيد؛ ولا يكاد[2] يستظهر ذلك - مع عدم دلالته عليه بالخصوص - إلاّ بالإطلاق وقرينة الحكمة[3]، بحيث لو لم يكن هناك قرينتها[4] - بأن يكون الإطلاق[5] في غير مقام البيان - لم يكد يستفاد[6] استيعاب أفراد الطبيعة. وذلك لا ينافي[7] دلالتهما على استيعاب أفراد ما يراد من المتعلق، إذ الفرض عدم الدلالة

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: لا يكاد المتعلق وهو مدخول (لا)، «منه» من المتعلّق.

[2] بيان أنه في عموم المتعلق يحتاج إلى مقدمات الحكمة، «ذلك» أي: كون الطبيعة مطلقة وبلا قيد، مع عدم دلالة المتعلق على الإطلاق.

[3] قوله: «وقرينة الحكمة» عطف تفسيري على قوله: (بالإطلاق)، والمعنى أن المتعلق إذا كان دالاً بالوضع على العموم فلا نحتاج إلى مقدمات الحكمة، لكن المتعلق إذا لم يكن بالوضع دالاً على العموم فإنا نحتاج إلى مقدمات الحكمة لإثبات إطلاقه، فالنتيجة: إن النهي والنفي دلاّ على استيعاب المتعلق، لكن سعة المتعلق لجميع أفراد الطبيعة يحتاج إلى مقدمات الحكمة.

[4] أي: قرينة الحكمة، كما لو قال: (لا تكرم الفاسق) ولم يكن في مقام البيان، بل كان في مقام ضرب القانون من غير بيان تفاصيلة، وكما لو قال: (لا تُهن العالم) وكان هنالك قدر متيقن وهو العالم بمسائل الدين، فإنه حينئذٍ - لفقدان مقدمات الحكمة - لا يستفاد الاستيعاب لأفراد العالم ولأفراد الفاسق.

[5] بيان لفقدان بعض مقدمات الحكمة.

[6] قوله: «لم يكد...» جزاء (لو) في قوله: (بحيث لو لم يكن... الخ).

[7] أي: عدم استيعاب أفراد الطبيعة لا ينافي دلالة النهي والنفي بالوضع على استيعاب أفراد المتعلق. وفي الحقائق: (إذ الاستيعاب أمر إضافي يختلف باختلاف موضوعه، فتعيينه يجوز أن يستند إلى قرينة الحكمة)(1).

ص: 357


1- حقائق الأصول 1: 412 - 413.

على أنه[1] المقيد أو المطلق.

اللهم إلاّ أن يقال[2]: إن في دلالتهما[3] على الاستيعاب كفايةً ودلالةً[4] على أن المراد من المتعلق هو المطلق - كما ربما يدعى(1) ذلك[5] في مثل: (كل رجل) - وأن مثل[6] لفظة (كل) تدل على استيعاب جميع أفراد الرجل من غير حاجة إلى ملاحظة إطلاق مدخوله وقرينة الحكمة، بل يكفي إرادة ما هو معناه[7] - من الطبيعة المهملة[8]

-------------------------------------------------------------------

والحاصل: (لا) تدل على استيعاب أفراد المتعلق، وسعة المتعلق تحتاج إلى مقدمات الحكمة، ومع فقد بعض تلك المقدمات لا تكون له سعة.

[1] أي: المتعلق.

[2] هذا تأييد لكون دلالة النهي على الاستيعاب بالوضع فقط من غير حاجة إلى مقدمات الحكمة. وحاصله: إنه مع دخول النهي عن الطبيعة يتبادر استيعاب جميع أفراد المدخول من غير حاجة إلى مقدمات الحكمة، وذلك يدل على أن النهي موضوع لاستيعاب جميع أفراد الطبيعة.

[3] أي: النهي والنفي.

[4] من غير احتياج إلى مقدمات الحكمة.

[5] أي: الكفاية وعدم الاحتياج إلى مقدمات الحكمة. فلفظة (كل) في (كل عالم) تدل على استيعاب جميع أفراد العالم من غير احتياج إلى مقدمات الحكمة، ودليل ذلك تبادر الاستيعاب بهذا النحو.

[6] عطف تفسيري على (ذلك) في قوله: (كما ربما يدعى ذلك)، فالمعنى كما ربما يدعى أن مثل لفظة... الخ.

[7] أي: معنى الرجل.

[8] الطبيعة قد تكون (بشرط شيء) كقولنا: (رجل عالم). وقد تكون (بشرط لا) كقولنا: (رجل غير فاسق). وقد تكون (لا بشرط) وهي الطبيعة المهملة، وفي

ص: 358


1- الفصول الغروية: 161.

ولا بشرط - في دلالته[1] على الاستيعاب، وإن كان لا يلزم مجاز[2] أصلاً لو أريد

-------------------------------------------------------------------

الطبيعة المهملة يمكن إرادة العموم والإطلاق، ويمكن إرادة الخصوص والتقييد؛ لأن (لا بشرط) يجتمع مع ألف شرط.

[1] أي: دلالة مثل (كل رجل).

رد إشكال المجازية

[2] جواب عن إشكال طرحه المنتصر للدليل حيث قال - كما مرّ - : (لو كان العموم المستفاد من النهي بالإطلاق بمقدمات الحكمة، وغير مستند إلى دلالته عليه بالالتزام، لكان استعمال مثل لا تغصب في بعض أفراد الغصب حقيقة، وهذا واضح الفساد... الخ)(1).

وهنا المصنف رجح أن دلالة النهي والنفي على استيعاب جميع أفراد المتعلق إنما هو بالوضع، من غير حاجة لمقدمات الحكمة، فلذا يبيّن دفع هذا الإشكال، وأنه لا مجازية إذا أريد عدم الاستيعاب بنصب قرينة.

وحاصل كلام المصنف: إنه لو نصبت قرينة على إرادة بعض الأفراد فلا يلزم مجازية إطلاقاً؛ لأن المجاز هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له، وهنا استعمل اللفظ في ما وضع له - حتى لو أريد التقييد - ؛ وذلك لأن النهي استعمل في معناه، وهو طلب ترك جميع أفراد المتعلق، والمدخول أيضاً استعمل بمعناه، وهو الطبيعة المهملة. نعم، الخصوصية استفيدت من لفظ آخر وهو القيد، وذلك مما لا يوجب المجازية أصلاً، مثلاً: لو قال: (لا تكرم الرجل الفاسق) فكلمة (لا) دلت على معناها الموضوع له وهو طلب ترك ما يستوعبه المدخول، و(الرجل) يدل على ما وضع له، وهو جنس الرجل الذي هو مقابل المرأة، وأما الفسق فإنه استفيد من لفظة أخرى من غير أن يتغيّر معنى الرجل. فكلمة (الرجل) معناها واحد سواء قلنا: (لا تكرم الرجل) أو قلنا: (لا تكرم الرجل الفاسق).

ص: 359


1- إيضاح كفاية الأصول 2: 355.

منه خاص بالقرينة[1]، لا فيه[2] لدلالته[3] على استيعاب أفراد ما يراد من المدخول، ولا فيه[4] إذا كان بنحو تعدد الدال والمدلول[5]، لعدم استعماله[6] إلاّ في ما وضع له، والخصوصية مستفادة من دال آخر، فتدبر[7].

ومنها[8]: إن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة[9].

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: لو أريد من المتعلق. وهذه القرينة ليست قرينة المجازية، بل هي قرينة التخصيص أو التقييد.

[2] أي: لا يلزم مجاز في كلمة (لا) الناهية أو النافية، وكذا لفظ (كل).

[3] أي: دلالة مثل: (كل) و(لا)، وهذا دليل عدم المجازية فيه لاستعماله في ما وضع له.

[4] أي: ولا يلزم مجاز في المتعلق وهو مدخول مثل: (كل) و(لا).

[5] فكل لفظ يدل على معناه الحقيقي من غير أن يتغير ذلك المعنى.

[6] وجه عدم المجازية في المدخول - أي: المتعلق - .

[7] لعلّه إشارة إلى الفرق بين (كل) وبين النفي والنهي، حيث يتبادر عموم المتعلق من لفظة كل، وليس كذلك في النفي والنهي، فلا تبادر لعموم المدخول.

أو يكون إشارة إلى أن إثبات كون النهي وضع للعموم، وأنّ الأمر لم يوضع للعموم، بل يحتاج إلى مقدمات الحكمة لا يكفي لترجيح النهي على الأمر؛ لأن الأقوائية يجب أن تكون عرفيّة، والعرف لا يرى (لا تغصب) أقوى من (صلِّ) في مورد الاجتماع.

المرجح الثاني: أولوية دفع المفسدة
اشارة

[8] أي: مما ذكر من مرجحات النهي على الأمر في مورد الاجتماع.

[9] فقول المولى: (لا تغصب) يكشف عن مفسدة في الغصب، وقوله: (صل) يكشف عن مصلحة في الصلاة، فدفع المفسدة في الغصب بترك المجمع أولى من جلب مصلحة الصلاة.

ص: 360

وقد أورد(1)

عليه - في القوانين[1] -: بأنه مطلقاً ممنوع[2]، لأن في ترك[3] الواجب أيضاً مفسدة إذا تعين[4].

ولا يخفى ما فيه[5]، فإن الواجب - ولو كان معيناً - ليس إلاّ لأجل أن في فعله مصلحة يلزم استيفاؤها من دون أن يكون في تركه مفسدة. كما أن الحرام ليس إلاّ لأجل المفسدة في فعله بلا مصلحة في تركه.

-------------------------------------------------------------------

إشكال القوانين وردّه

[1] لعل مراد القوانين هو أن قاعدة (دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة) لا تنطبق على ما نحن فيه وهو باب الاجتماع؛ وذلك لأن في مخالفة الأمر أيضاً مفسدة، كما أن في مخالفة النهي مفسدة، فصار من تزاحم دفع مفسدتين، لا تزاحم جلب مصلحة مع دفع مفسدة.

[2] لعل المراد أن انطباق القاعدة على ما نحن فيه ممنوع بشكل مطلق.

[3] بيان لعدم انطباق القاعدة على ما نحن فيه.

[4] أي: الواجب المعيّن في تركه مفسدة، كما لو انحصرت الصلاة في المغصوب، أما لو كان الواجب مخيراً فليس في ترك بعض أفراده مفسدة، كما لو كان يمكنه الصلاة في خارج المغصوب، فإن ترك الصلاة في المغصوب حينئذٍ لا مفسدة فيه.

[5] حاصل الإشكال: هو الفرق بين المفسدة وبين فوات المنفعة، فلو منعه عن التكسب فلم يربح، فلا يقال إن الممنوع تضرر، بل يقال إنه لم ينتفع، وتفصيله مذكور في قاعدة لاضرر. وفي الحقائق(2):

(لأن الوجوب والتحريم المتعلقين بشيء واحد، يحكيان عن الإرادة والكراهة، والإرادة إنما تكون لأجل المصلحة، والكراهة إنما تكون لأجل المفسدة، فاجتماع الواجب والحرام في واحد يقتضي اجتماع المصلحة والمفسدة فيه، فيكون في فعله مفسدة، وفي تركه ترك المصلحة).

ص: 361


1- قوانين الأصول 1: 153.
2- حقائق الأصول 1: 413.

ولكن يرد عليه: أن الأولوية مطلقاً ممنوعة[1]، بل ربما يكون العكس أولى، كما يشهد به مقايسة فعل بعض المحرمات مع ترك بعض الواجبات[2]، خصوصاً مثل الصلاة وما يتلو تلوها[3].

ولو سلم[4]

-------------------------------------------------------------------

الإشكال على المرجح الثاني
أولاً

[1] أي: هذا الأولوية ليست مطلقة، بل بعض الأحيان دفع المفسدة أولى، وأحياناً العكس، حيث يكون جلب المنفعة أولى.

[2] كما لو توقف إنقاذ غريق على التصرف في ملك الغير بلا إذن منه، فإن جلب المنفعة في الواجب - وهو إنقاذ الغريق - أولى من دفع مفسدة الغصب.

[3] أي: ما بُني عليها الإسلام في قوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (بُني الإسلام على خمس: على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية)(1).

فإنها تتقدم عادة على أكثر المحرمات لو تعارضت معها أو زاحمتها.

ثانياً

[4] أي: لو سلّم إطلاق قاعدة (دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة) وأنها تجري في كل الموارد، «فهو» أي: دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة، «المقام» وهو باب الاجتماع؛ وذلك لأن هذه القاعدة إنما هي في مقام امتثال المكلف للحكم، ولا ترتبط بمقام جعل المولى للحكم، ببيان أن المولى حين إرادته لجعل الحكم ينظر إلى حسن الفعل عقلاً فيأمر به، أو إلى قبحه عقلاً فينهى عنه، ولا ينظر إلى المصلحة أو المفسدة حتى تكون إحداهما أولى من الأخرى. نعم، المكلف حين الامتثال يرجح دفع المفسدة على جلب المنفعة، وما نحن فيه في باب الاجتماع هو من مقام جعل الحكم لا من مقام الامتثال.

ص: 362


1- الكافي 2: 18.

فهو أجنبي عن المقام، فإنه[1] في ما إذا دار بين الواجب والحرام[2]، ولو سلم[3] فإنّما يجدي في ما لو حصل به القطع[4].

ولو سلم أنه[5]

-------------------------------------------------------------------

وهذا حاصل ما ذكره المصنف في الحاشية حيث قال: (فإن الترجيح به إنّما يناسب ترجيح المكلف واختياره للفعل أو الترك بما هو أوفق بغرضه، لا المقام، وهو مقام جعل الأحكام، فإن المرجح هناك ليس إلاّ حسنها وقبحها العقليين لا موافقة الأغراض ومخالفتها كما لا يخفى، تأمل تعرف)(1)،

انتهى.

ويمكن أن يرد عليه بأن الحسن والقبح العقليين تابعان للمصلحة والمفسدة غالباً، بل دائماً.

[1] أي: فإن أولوية دفع المفسدة من جلب المنفعة.

[2] أي: في مقام الامتثال كما لو تردد الحكم بين وجوب صلاة الجمعة وبين حرمتها في زمن الغيبة - وهذا مثال الشبهة الحكمية - . وكما لو تردد بين وجوب الوضوء وحرمته للمريض - وهذا مثال الشبهة الموضوعية - .

ثالثاً

[3] أي: لو سلم جريان القاعدة حتى في مرحلة جعل الحكم، ودخول باب الاجتماع تحتها.

[4] وليس كذلك؛ لأن هذه القاعدة ظنيّة، مبتنية على الاستحسان، والظن ليس بحجة إلاّ إذا دل دليل على حجيته.

رابعاً

[5] أي: الظن بأولوية دفع المفسدة من جلب المنفعة، «يجدي» أي: في ترجيح النهي على الأمر.

ص: 363


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 194.

يجدي ولو لم يحصل[1] فإنّما يجري[2] في ما لا يكون هناك مجال لأصالة البراءة أو الاشتغال، كما[3] في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة التعيينيين[4]، لا في ما يجري[5]، كما في محل الاجتماع، لأصالة البراءة عن حرمته[6]، فيحكم بصحته،

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: ولو لم يحصل القطع.

[2] حاصل الإشكال هو: أن الأصول العملية حاكمة، بل واردة على هذه القاعدة؛ لأنه بالأصل العملي نحرز عدم المفسدة - ظاهراً - فيسقط النهي، ويبقى الأمر بلا معارض، وفي ما نحن فيه - وهو باب الاجتماع - قد تجري أصالة البراءة عن الحرمة، وحينئذٍ لا حرمة حتى يقال إن دفع المفسدة أولى.

[3] مثال لعدم وجود مجال للأصل العملي، فإنه في دوران الأمر بين المحذورين يتساقط الأصلان بالتعارض، أو لا يجريان أصلاً، فلا تجري أصالة البراءة من الوجوب، ولا أصالة البراءة من الحرمة، كما أنه لا تجري أصالة الاشتغال؛ لعدم إمكان العلم بالموافقة أو المخالفة، بل يؤول أمره إلى التخيير.

[4] فيكون من قبيل الدوران بين المحذورين، أما إذا كان أحدهما تخييرياً والآخر تعيينياً، فعلى رأي المصنف يجري الأصل في التعييني بلا معارض، ولا يجري في التخييري.

[5] أي: في مورد جريان الأصل العملي لا تصل النوبة إلى قاعدة (دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة)، بل نعمل طبقاً للأصل، وفي ما نحن فيه - وهو باب الاجتماع - قد يرجح الأصل جانب الوجوب.

[6] أي: عن حرمة محل الاجتماع، فإن الحرمة تعيينيّة - حيث يحرم بالتعيين الغصب - وأما الوجوب فهو تخييري، حيث يكون المكلّف مختاراً في الصلاة في أي مكان شاء.

وحين التزاحم - كما لو صلى في المغصوب - فإن وجوب الصلاة كان تخييرياً فلا يجري فيها أصالة البراءة، أما الغصب فإن حرمته تعيينياً فيجري فيه أصالة البراءة.

ص: 364

ولو قيل[1] بقاعدة الاشتغال في الشك في الأجزاء والشرائط، فإنه[2] لا مانع عقلاً إلاّ فعلية الحرمة[3] المرفوعة بأصالة البراءة عنها[4] عقلاً ونقلاً.

نعم[5]،

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: هناك فرق بين باب الاجتماع وبين الشك في الجزئية أو الشرطية، فلذا نحكم هنا بالبراءة من الحرمة، ونحكم هناك بالاحتياط؛ وذلك لأن أصل البراءة في باب الشك في الجزئية أو الشرطية لا يرفع المانع عن الصحة إلاّ في الظاهر، مع احتمال البطلان واقعاً إذا كان الشيء جزءاً أو شرطاً واقعاً؛ لأن الكل عدم عند عدم جزئه، وكذلك المشروط عدم عند عدم شرطه، فإذا أجرينا أصل البراءة عن الجزء أو الشرط فإنا لا نجزم بالصحة؛ لأن البراءة حكم ظاهري، فلذا صح القول بأننا لا نجزم ببراءة الذمة إلاّ بالاحتياط.

وأما في باب الاجتماع فإن المانع هو فعلية حرمة الغصب، وبأصل البراءة ترتفع تلك الفعلية، فلا يوجد مانع عن صحة الصلاة أصلاً، فتصح واقعاً؛ لوجود المقتضي لصحة الصلاة مع ارتفاع المانع.

[2] تعليل للحكم بصحة المجمع في باب اجتماع الأمر والنهي.

[3] حيث لا يمكن قصد القربة بالحرام الفعلي، فإذا ارتفعت الحرمة الفعلية بأصالة البراءة أمكن قصد القربة.

[4] أي: عن فعلية الحرمة، بأصل البراءة العقلي الذي منشأه قبح العقاب بلا بيان، وبأصل البراءة الشرعي الذي من أدلته حديث الرفع.

[5] استدراك على الإشكال الرابع، وذكر عدم فائدة جريان أصالة البراءة.

ببيان أن المصنف أشكل على قاعدة (دفع المفسدة أولى) إشكالاً رابعاً حاصله: إن هذه القاعدة لا تجري مع جريان الأصول العملية، وفي ما نحن فيه تجري أصالة البراءة عن الحرمة.

ص: 365

لو قيل[1]

-------------------------------------------------------------------

وفي هذا الاستدراك يبيّن المصنف عدم جريان أصالة البراءة ولا غيرها من الأصول العملية، ولازمه جريان قاعدة (دفع المفسدة أولى)، واندفاع الإشكال الرابع.

ثم إن للمصنف هاهنا حاشية قال فيها: (كما هو غير بعيد كله، بتقريب أن إحراز المفسدة والعلم بالحرمة الذاتية كافٍ في تأثيرها بما لها من المرتبة، ولا يتوقف تأثيرها كذلك على إحرازها بمرتبتها؛ ولذا كان العلم بمجرد حرمة شيء موجباً لتنجز حرمته على ما هي عليه من المرتبة، ولو كانت في أقوى مراتبها، ولاستحقاق العقوبة الشديدة على مخالفتها حسب شدتها، كما لا يخفى.

هذا لكنه إنما يكون إذا لم يحرز أيضاً ما يحتمل أن يزاحمها ويمنع عن تأثيرها المبغوضية، وأما معه فيكون الفعل كما إذا لم يحرز أنه ذو مصلحة أو مفسدة مما لا يستقل العقل بحسنه أو قبحه، وحينئذٍ يمكن أن يقال بصحة عبادة لو أتى بها بداعي الأمر المتعلق بما عليه من الطبيعة، بناءً على عدم اعتبار أزيد من إتيان العمل قربياً في العبادة وامتثالاً للأمر بالطبيعة، وعدم اعتبار كونه ذاتاً راجحاً. كيف ويمكن أن لا يكون جل العبادات ذاتاً راجحاً، بل إنما يكون كذلك في ما إذا أتى بها على نحو قربي. نعم، المعتبر في صحة العبادة إنما هو أن لا يقع منه مبغوضاً عليه كما لا يخفى، وقولنا: (فتأمل) إشارة إلى ذلك)(1)،

انتهى.

[1] حاصل الاستدراك: إن المفسدة الغالبة مؤثرة في مبغوضية العمل، وفي باب الاجتماع يحتمل أن تكون المفسدة غالبة، فالعمل يحتمل أن يكون مبغوضاً، ومع هذا الاحتمال لا يمكن قصد القربة، فلا تصح العبادة، والمصنف في صدر حاشيته إلى قوله: (كما لا يخفى) رجّح هذا الاستدراك، وحاصله: إن للمفسدة مراتبَ،

ص: 366


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 201.

بأن المفسدة الواقعية الغالبة[1] مؤثرة في المبغوضية ولو لم يكن الغلبة بمحرزة، فأصالة البراءة غير جارية[2]، بل كانت أصالة الاشتغال[3] بالواجب - لو كان عبادة[4] - محكمة، ولو قيل[5] بأصالة البراءة في الأجزاء والشرائط[6]، لعدم[7]

-------------------------------------------------------------------

فقد تكون غالبة على المنفعة، وقد تكون متساوية، وقد تكون مغلوبة، ومجرد إحراز المفسدة - حتى إذا لم نعلم درجتها - يكفي في تأثيرها للمبغوضية، وكذلك الحرمة مراتب، ومجرد إحرازها يكفي لتنجزها بالمرتبة القوية. فتأمل.

[1] حتى إذ شك المكلف في غلبتها؛ إذ مع احتمال الغلبة لا يمكنه قصد القربة.

[2] لعدم أثر لجريانها، والأصل إذا لم يكن ذا أثر فلا يجري؛ وذلك لأن أصالة البراءة ترفع الحرمة الفعلية، ولكنها لا ترفع احتمال غلبة المفسدة - لأن هذا الاحتمال وجداني - ومعه لا يمكن قصد القربة، فلا تصح العبادة.

وفي بعض النسخ (فأصالة البراءة غير مجدية) وهو أقرب للتوضيح الذي ذكرناه، وقيل في توضيح عدم جريان أصالة البراءة غير ذلك.

[3] للعلم بانشغال الذمة بالواجب، والاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.

[4] لأن وجه عدم جريان البراءة هو عدم تأتي قصد القربة، وفي غير العبادات لا حاجة إلى قصد القربة، فلا مانع من جريان أصل البراءة.

[5] «لو» وصلية، وهذا القول هو مبنى بعض الأصوليين حيث يُجرون أصالة البراءة في الشك في الأجزاء والشرائط - أي: في الأقل والأكثر الارتباطيين - .

[6] وذلك لما مرّ من عدم ارتباط مسألة الاجتماع بمسألة الشك في الأجزاء والشرائط؛ لوجود الفارق بينهما.

[7] هذا دليل جريان قاعدة الاشتغال.

والصحيح هو عدم جريان قاعدة الاشتغال أيضاً، وذلك للقطع ببطلان الصلاة بلا قصد القربة، ومع احتمال غلبة المبغوضية حيث لا يمكنه قصد القربة، فإن

ص: 367

تأتي قصد القربة مع الشك في المبغوضية، فتأمل[1].

ومنها[2]: الاستقراء[3]، فإنه يقتضي ترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب، كحرمة الصلاة في أيام الاستظهار[4]، وعدم جواز الوضوء من الإناءين

-------------------------------------------------------------------

صلاته باطلة جزماً، ومع القطع بالبطلان لا تصل النوبة إلى الأصول العملية التي مجراها هو الشك.

[1] أشار المصنف في الحاشية(1) إلى وجه هذا التأمل من قوله: (لكنه إنما يكون... الخ)، وحاصله: إن احتمال غلبة المبغوضية لا يمنع من قصد القربة؛ لأنه لا يشترط في العبادة أن يكون العمل راجحاً ذاتاً، بل يكفي إتيان العمل بقصد القربة لامتثال الأمر المتوجه إلى طبيعة الصلاة - مثلاً - (إذ ربما يتعلق أمر عبادي بشيء من دون رجحان متعلقه لكون الغرض متعلقاً بإتيانه بداعي الأمر) - كما قيل - ، وما نحن فيه - وهو المجمع في باب الاجتماع - من هذا القبيل، حيث بالصلاة في المغصوب يقصد امتثال الأمر المتوجه إلى طبيعة الصلاة، ولا يحتاج إلى العلم برجحان هذه الصلاة ذاتاً، بل يكفي عدم العلم بمبغوضيتها.

المرجح الثالث: الاستقراء
اشارة

[2] أي: من مرجحات النهي على الأمر.

[3] وهو تتبع الأشباه والنظائر، فوجدنا أن الشارع يرجح النهي على الأمر كلّما دار الحكم بين الوجوب والحرمة.

[4] وهي الأيام المشكوك كونها من الحيض أو الاستحاضة بعد انتهاء أيام العادة، فإن المرأة تطلب ظهور حالها، وذلك لأن ذات العادة العددية - كالتي عادتها ثلاثة أيام - إذا رأت الدم بعد العادة - كاليوم الرابع في المثال - فإنها تنتظر انقطاع الدم، فإن انقطع الدم بعد عشرة أيام تبيّن أن ما بعد العادة كان استحاضة، وإن انقطع الدم

ص: 368


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 201.

المشتبهين[1].

وفيه: إنه لا دليل على اعتبار الاستقراء[2] ما لم يفد القطع[3].

ولو سلم[4] فهو لا يكاد يثبت بهذا المقدار[5].

-------------------------------------------------------------------

قبل تجاوز العشرة فيتبيّن أنه حيض.

وخلال هذه المدة، أي: اليوم الرابع - في المثال - إلى انقطاع الدم، يكون أمرها في الصلاة مردد بين الحرمة إذا كان حيضاً، وبين الوجوب إذا كان استحاضة. والشارع هنا رجح جانب الحرمة ونهى عن الصلاة. نعم، إذا تجاوز الدم العشرة يتبين أنه كان استحاضة، فيجب عليها قضاء ما فاتها من الصلاة.

[1] فلو انحصر ماء الوضوء بإناءين أحدهما طاهر والآخر نجس واشتبها، فإن أمر المكلف دائر بين وجوب الوضوء بهما لطهارة أحدهما، وبين حرمة الوضوء بهما لنجاسة أحدهما الآخر. والشارع هنا رجح جانب الحرمة وأمر بإراقة الإناءين والتيمم.

إشكالات على المرجح الثالث

[2] هذا هو الإشكال الأول: وذلك لأن الحجية إما ذاتية كالقطع، وإما تعبدية بجعل الشارع، وكلاهما مفقود في الاستقراء، فإنه لا يوجب القطع - عادة - ولا يوجد دليل شرعي على اعتباره.

[3] أي: القطع بعلّة الحكم، حتى نجري ذلك الحكم في كل مورد ثبتت تلك العلة، وفي ما نحن فيه من المثالين لا قطع بكون علّة التقديم هو ترجيح جانب الحرمة على الوجوب - بما هما هما - فلا يفيدنا هذا الاستقراء.

[4] هذا هو الإشكال الثاني: أي لو سلّم عدم لزوم القطع في حجية الاستقراء، بل يكفي الظن.

[5] وهو مثالان، فإنه لا يتم الاستقراء الموجب للظن إلاّ بعد تحصيل أمثلة كثيرة.

ص: 369

ولو سلم[1] فليس حرمة الصلاة في تلك الأيام ولا عدم جواز الوضوء منهما مربوطاً بالمقام[2]، لأن حرمة الصلاة فيها[3] إنما تكون لقاعدة الإمكان[4] والاستصحاب[5] المثبتين[6] لكون الدم[7] حيضاً، فيحكم بجميع أحكامه[8] ومنها

-------------------------------------------------------------------

[1] هذا هو الإشكال الثالث، أي: لو سلّم حصول الاستقراء بموردين.

[2] أي: مقام ترجيح الحرمة على الوجوب.

أما مثال الصلاة فعدم ارتباطه بالمقام لجهتين:

الأولى: إن الترجيح ليست بهذه العلة، بل لأسباب أخرى، فلا يفيدنا هذا الاستقراء لكشف علة الترجيح.

الثانية: في المثال لا توجد حرمة، ولا نهي مولوي.

الجهة الأولى

[3] أي: في تلك الأيام - وهي أيام الاستظهار - .

[4] وهي قاعدة (كل دم أمكن أن يكون حيضاً فهو حيض) الثابتة هذه القاعدة بالنصوص.

وفي أيام الاستظهار يمكن أن يكون الدم حيضاً؛ لاحتمال انقطاعه قبل العشرة، فلذا جرى عليه أحكام الحيض.

[5] أي: استصحاب كون المرأة حائضاً؛ لأنها بانتهاء العادة واستمرار الدم تشك في استمرار كونها حائضاً أو انقطاعه، فتستصحب كونها حائضاً. كما يمكن استصحاب كون الدم حيضاً - لوحدة الدمين عرفاً - فتجري عليه الآثار الشرعية لدم الحيض.

[6] صفة ل- (قاعدة الإمكان) و(الاستصحاب)، فإنهما يثبتان أن الدم حيض، كما يثبتان كون المرأة حائضاً.

[7] بعد انتهاء العادة واستمرار الدم.

[8] أي: أحكام الحيض، كحرمة دخول المساجد، وحرمة قراءة العزائم،

ص: 370

حرمة الصلاة عليها، لا لأجل تغليب جانب الحرمة[1] كما هو المدعى. هذا[2] لو قيل بحرمتها الذاتية في أيام الحيض، وإلاّ[3] فهو خارج عن محل الكلام.

ومن هنا[4] انقدح: أنه ليس منه ترك الوضوء من الإناءين، فإن[5] حرمة الوضوء

-------------------------------------------------------------------

وحرمة الوطء، وعدم العفو عن قليله في الصلاة ونحوها، «ومنها» أي: ومن أحكام الحيض.

[1] أي: إن الترجيح لم يكن لأجل العلة التي يراد كشفها من الاستقراء حتى تجري في سائر الموارد، وتلك العلة المزعومة هي ترجيح النهي بما هو هو على الأمر بما هو هو.

الجهة الثانية

[2] أي: ترجيح النهي على الأمر في المثالين، «بحرمتها» أي: حرمة الصلاة، «الذاتية» مقابل الحرمة التشريعيّة.

[3] أي: لو لم نقل بحرمة الصلاة الذاتية، بل قلنا بجواز الصلاة أيام الاستظهار، كما عن المحقق المشكيني(1)

نسبته إلى المشهور، وأن حرمة الصلاة إنما تكون للتشريع، وحينئذٍ فإن لم تقصد التشريع كانت الصلاة جائزة من باب الاحتياط، وإن قصدت التشريع كانت الصلاة محرمة بلا احتمال للوجوب أصلاً، فلا يكون المثال من دوران الأمر بين الحرمة والوجوب أصلاً.

[4] أي: مما بيناه في المثال الأول، وأنه لا حرمة في البين أصلاً - إلاّ الحرمة التشريعية وهي أجنبية عن المقام - ، «أنه» الضمير للشأن، «منه» أي: من ترجيح النهي على الأمر، والحرمة على الوجوب.

[5] بيان لوجه الانقداح، وتوضيح عدم كون المثال من ترجيح الحرمة. وحاصله: إن الوضوء بالماء المتنجس القطعي ليس حراماً بحرمة تكليفية، فكيف بالماء المشتبه؟ إلاّ من باب التشريع - وهو خارج عن محل الكلام - .

ص: 371


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 203.

من الماء النجس ليس إلاّ تشريعياً، ولا تشريع في ما لو توضأ منهما[1] احتياطاً[2]، فلا حرمة في البين غلب جانبها. فعدم جواز الوضوء منهما ولو كذلك[3]، بل إراقتهما - كما في النص[4] - ليس إلاّ من باب التعبد[5] أو من جهة الابتلاء بنجاسة البدن[6] ظاهراً بحكم الاستصحاب[7]،

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: من الإناءين، أي: بالماء الموجود فيهما.

[2] أو بقصد الرجاء، ولو لا النص لوجب الاحتياط بأن يتوضأ بأحدهما ويصلي بهذا الوضوء، ثم بالماء الثاني يطهر أعضاء الوضوء، ويتوضأ به ويصلي مرّة أخرى، فإنه بهذه الكيفية يحصل له القطع بوقوع إحدى الصلاتين بوضوء صحيح.

[3] أي: ولو احتياطاً.

[4] ومنه ما عن أبي عبدالله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنه: (سئل عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر، لا يدري أيهما هو؟ وليس يقدر على ماء غيرهما؟، فقال عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: يهريقهما جميعاً ويتيمم)(1).

[5] أي: عدم جواز الوضوء ليس إلاّ لأجل النص من غير أن تكون العلّة معلومة لنا، ولو لا النص لوجب الاحتياط بالطريقة السابقة.

[6] فدار أمر هذا الشخص بين الصلاة بتيمم أو الصلاة مع احتمال النجاسة واقعاً، وثبوتها ظاهراً، ولعل الشارع رأى أن المصلحة مع الأول دون الثاني، فلم يكن ذلك لأجل ترجيح النهي على الأمر.

[7] أي: النجاسة ظاهرية؛ وذلك بحكم الاستصحاب الذي مجراه حين الشك، حيث لا يعلم بنجاسة الأعضاء - واقعاً - بعد الوضوء بالثاني، بل يشك في النجاسة فيستصحبها، هذا إذا طهّر الأعضاء بالماء الثاني ثم توضأ به، وإلاّ فلا حاجة للاستصحاب، بل يقطع بالنجاسة الواقعيّة.

ص: 372


1- وسائل الشيعة 3: 345.

للقطع[1] بحصول النجاسة حال ملاقاة المتوضئ من الإناء الثانية إما بملاقاتها أو بملاقاة الأولى[2] وعدم[3] استعمال مطهّر بعده ولو[4] طهّر بالثانية مواضع الملاقاة بالأولى. نعم[5]،

-------------------------------------------------------------------

[1] بيان لعلة جريان الاستصحاب. وحاصله: إنه مع علمه بنجاسة أحد الإناءين فإن توضأ بهما، فإنه يحصل له القطع بنجاسة أعضاء الوضوء في زمانٍ ما، ثم يشك في بقاء هذه النجاسة أو زوالها، فتمت أركان الاستصحاب، وهي اليقين السابق بالنجاسة والشك اللاحق في زوالها؛ وذلك لأنه حينما يتوضأ بالإناء الأول فإنه لا يعلم بنجاسة أعضائه، لكنه بمجرد ملاقاة أعضائه لماء الإناء الثاني - وقبل انفصال الغسالة - فإنه يقطع بنجاسة الأعضاء، إما بسبب الماء الأول أو بسبب الماء الثاني، وبعد انفصال غسالة الماء الثاني يحتمل طهارة الأعضاء؛ لاحتمال أن يكون الماء الأول هو النجس، والماء الثاني طاهراً، وبملاقاة الأعضاء للماء الثاني وانفصال الغسالة يكون قد طهرت الأعضاء، ومع اليقين السابق بالنجاسة والشك اللاحق في زوالها يجري استصحاب النجاسة.

[2] هذا منشأ القطع بنجاسة أعضاء الوضوء.

[3] عطف على (القطع) في قوله: (للقطع بحصول النجاسة... الخ)، أي: منشأ الاستصحاب هو القطع بالنجاسة مع عدم العلم باستعمال مطهّر بعد حصول هذا القطع، بل يشك في حصول المطهّر، «بعده» أي: بعد القطع بحصول النجاسة.

[4] «لو» وصلية، أي: حتى لو طهّر بالآنية الثانية أعضاء الوضوء ثم توضأ بها؛ وذلك لأنّ اليقين بالنجاسة حصل بمجرد استعمال الثانية، وبانفصال الغسالة في الثانية يحتمل الطهارة، فيكون مورداً لاستصحاب النجاسة.

[5] بيان لصورة لا يجري فيها الاستصحاب، فلا يحتمل كون الأمر بإهراق الإناءين هو لأجل احتمال النجاسة؛ وذلك لعدم حكم الشارع بالنجاسة.

ص: 373

لو طهرت[1] - على تقدير نجاستها[2] - بمجرد ملاقاتها بلا حاجة إلى التعدد وانفصال الغسالة[3] لا يعلم[4] تفصيلاً بنجاستها[5] وإن[6] علم بنجاستها حين ملاقاة الأولى أو الثانية إجمالاً[7]،

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: طهرت مواضع الملاقاة - وهي أعضاء الوضوء - .

[2] أي: نجاسة أعضاء الوضوء، فعلى تقدير كون الماء الأول نجساً فإن أعضاء الوضوء أصبحت متنجسة، ولكنها تطهر بمجرد غمسها دفعة في الماء الكر - مثلاً - أما لو كان الماء الثاني هو النجس فإن الأعضاء تتنجس به.

ولمّا لم يعلم بنجاسة الأول أو الثاني فلا يحصل العلم بالنجاسة في أي زمان من الأزمان؛ إذ بمجرد الملاقاة مع الأول لا قطع بالنجاسة، وبالملاقاة بالثاني أيضاً لا يحصل قطع؛ إذ المفروض أن الثاني كر - مثلاً - ولا تحتاج الطهارة به إلى التعدد ولا إلى انفصال الغسالة - حتى يكون فاصلاً زمنياً يحصل فيه القطع بالنجاسة - .

[3] كما لو كان الإناء الثاني كراً، وغمس فيه أعضاء الوضوء دفعة.

[4] قوله: «لا يعلم...» جزاء (لو) في قوله: (نعم لو طهرت... الخ).

[5] أي: بنجاسة مواضع الملاقاة وهي أعضاء الوضوء.

[6] «إن» وصلية، أي: لا يجري الاستصحاب حتى مع العلم الإجمالي.

[7] أي: علم إجمالاً بتعاقب الطهارة والنجاسة على أعضاء الوضوء؛ وذلك لأنه لمّا أصاب الماءان أعضاء الوضوء يعلم بأنها تنجست وطهرت، لكنه لا يعلم المتقدم منهما، فلا يجري الاستصحاب، نظير من توضأ وأحدث ولا يعلم السابق منهما.

هذا إذا لم يعلم الحالة السابقة على استعمال الإناءين، وإلاّ فيجري استصحاب ما يخالفها - على تفصيل - .

ص: 374

فلا مجال لاستصحابها[1]، بل كانت قاعدة الطهارة محكمةً.

الأمر الثالث[2]: الظاهر لحوق تعدد الإضافات بتعدد العنوانات والجهات[3] في أنه لو كان تعدد الجهة والعنوان كافياً مع وحدة المعنون وجوداً في جواز الاجتماع

-------------------------------------------------------------------

[1] لأنه بعد عدم جريان الاستصحاب في أي من الطرفين نرجع إلى الأصول الأخرى، وهنا الأصل في الأشياء الطهارة، للنصوص ومنها قوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر)(1).

التنبيه الثالث في تعدد الإضافات

[2] ما تعلق به الأمر والنهي يسمى عنواناً. وهذا العنوان قد يتعلق بشيء ويسمى ذلك الشيء (مضافاً إليه) مثلاً: لو قال: (أكرم العلماء) فالأمر تعلق بالإكرام، وهذا الإكرام أضيف إلى العلماء.

والمشهور تعاملوا مع تعدد الإضافات معاملة المتعارضين، فلو قال: (أكرم العلماء) و(لا تكرم الفساق)، ففي (العالم الفاسق) يقع التعارض بين الدليلين.

والمصنف يرى لزوم إجراء أحكام التزاحم؛ وذلك لعدم الفرق بين تعدد العنوان - كالصلاة والغصب - وبين تعدد الإضافات. ثم يوجه المصنف كلام المشهور بأحد أمرين:

1- إن المشهور قائلون بامتناع الاجتماع، وحيث لم يعلم الأقوى مقتضياً يلزم الرجوع إلى مرجحات باب التعارض - كما مرّ من المصنف اختياره - .

2- أو إنهم لا يرون وجود المقتضي لأحد الدليلين في مورد الاجتماع، فلا محيص عن التعارض وإجراء أحكامه.

[3] قوله: «والجهات» عطف توضيحي (للعنوانات)، «في أنه» متعلق بقوله: (لحوق)، «في جواز...» متعلق بقوله: (كافياً).

ص: 375


1- تهذيب الأحكام 1: 285.

كان تعدد الإضافات مجدياً[1]، ضرورة[2] أنه يوجب أيضاً اختلاف المضاف بها بحسب المصلحة والمفسدة والحسن والقبح عقلاً[3]، وبحسب الوجوب والحرمة شرعاً[4]. فيكون مثل: (أكرم العلماء) و(لا تكرم الفساق) من باب الاجتماع ك(صل) و(لا تغضب) لا من باب التعارض، إلاّ[5] إذا لم يكن للحكم في أحد الخطابين في مورد الاجتماع مقتضٍ، كما[6] هو الحال أيضاً في تعدد العنوانين.

-------------------------------------------------------------------

[1] لأنه على القول بالجواز يكفي التغاير بالعنوان حتى لو اتحدا في الوجود، وهنا يكفي انطباق عنوان (العالم) وعنوان (الفاسق) على شخص واحد لجريان الحكمين.

[2] تعليل لكون تعدد الإضافات مجدياً.

[3] أي: بناءً على القول بالجواز يكون الفعل ذا مصلحة وحسن عقلاً باعتبار إضافة، ويكون ذا مفسدة وقبح باعتبار إضافة أخرى.

ولعل الحسن هو منشأ المصلحة، والقبح هو سبب المفسدة، ويمكن أن يكون العكس، فتأمل.

[4] أي: تعدد الإضافات توجب الوجوب باعتبار، والحرمة باعتبار آخر، ويمكن الإشكال على كلام المصنف بأن القائل بجواز الاجتماع يرى إمكانه مع وجود مندوحة، كالصلاة في المغصوب مع إمكانها في المباح، أما مع عدم وجود المندوحة فيكون من التكليف بما لا يطاق وهو محال، وما نحن فيه لا يوجد مندوحة، فوجوب وحرمة إكرام العالم الفاسق من التكليف بما لا يطاق وهو محال، بل هو تكليف محال، فتدبر جيداً.

[5] أي: لا يكون من باب الاجتماع إذا لم يكن مقتضٍ لأحد الحكمين، كوجوب الإكرام أو عدم وجوبه؛ لأن باب الاجتماع هو في التزاحم وهو ما كان لكليهما مقتضٍ.

[6] أي: حتى في صورة تعدد العنوان لا يكون من باب الاجتماع إذا لم يكن لأحد الحكمين مقتضٍ، فلا فرق بين تعدد الإضافات وتعدد العنوانات، فإن كان

ص: 376

فما يتراءى منهم[1] - من المعاملة مع مثل: (أكرم العلماء) و(لا تكرم الفساق) معاملة تعارض العموم من وجه - إنما يكون بناءً على الامتناع[2] أو عدم المقتضي[3] لأحد الحكمين في مورد الاجتماع.

فصل: في أن النهي عن الشيء هل يقتضي فساده أم لا[4]؟ وليقدم أمور:

-------------------------------------------------------------------

في الحكمين مقتضٍ كان من باب التزاحم في كليهما، وإن لم يكن مقتضٍ في أحدهما كان من باب التعارض في كليهما.

[1] شروع من المصنف لتوجيه كلام المشهور حيث تعاملوا مع تعدد الإضافات معاملة التعارض، ففي العالم الفاسق - في المثال - أجروا مرجحات باب التعارض لا باب التزاحم، وقد وجه المصنف كلامهم بأحد وجهين.

[2] هذا هو التوجيه الأول، وحاصله: إن المشهور قائلون بامتناع اجتماع الأمر والنهي، وقد مرّ بأنه لو علمنا بالأقوى مقتضياً فهو المرجح، وإن لم نعلم نرجع إلى مرجحات باب التعارض، فنأخذ بالأقوى سنداً - مثلاً - وبدليل الإن نكتشف أنه الأقوى مقتضياً.

[3] هذا هو التوجيه الثاني، وحاصله: إن المشهور استظهروا من ظاهر الدليلين عدم وجود المقتضي لأحدهما، فلو اُلقي مثل: (أكرم العلماء) و(لا تكرم الفساق) إلى العرف رأى التعارض في العالم الفاسق، وأنه يوجد مقتضٍ لواحد من الإكرام أو من عدم الإكرام.

فصل في أن النهي عن الشيء هل يقتضي فساده أم لا؟

[4] كالنهي عن البيع وقت النداء لصلاة الجمعة، قال تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ فَٱسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلۡبَيۡعَۚ}(1)، وكالنهي عن الصلاة في جلود

ص: 377


1- سورة الجمعة، الآية: 9.

المقصد الثاني في النواهي، فصل في أن النهي عن الشيء هل يقتضي فساده أم لا؟

اشارة

الأول[1]: إنه قد عرفت في المسألة السابقة[2] الفرق بينها وبين هذه المسألة[3]، وأنه لا دخل للجهة المبحوث عنها في إحداهما بما هو جهة البحث في الأخرى، وأن البحث في هذه المسألة في دلالة النهي - بوجه يأتي تفصيله - على الفساد، بخلاف تلك المسألة، فإن البحث فيها في أن تعدد الجهة يجدي في رفع غائلة اجتماع الأمر والنهي في مورد الاجتماع أم لا.

الثاني[4]: إنه لا يخفى أن عدّ هذه المسألة من مباحث الألفاظ إنما هو لأجل أنه

-------------------------------------------------------------------

ما لا يؤكل لحمه.

الأمر الأول الفرق بين مسألة الاجتماع ومسألة اقتضاء الفساد

[1] عقد هذه المقدمة لبيان الفرق بين هذه المسألة، والمسألة السابقة - وهي مسألة اجتماع الأمر والنهي - .

[2] في المقدمة الثانية من بحث الاجتماع.

[3] وحاصل الفرق هو: إنه في مسألة الاجتماع كان البحث حول إمكان تعلق الأمر والنهي بشيء واحد أو عدم إمكانه. وفي هذه المسألة البحث في أنه بعد إمكان التعلق هل يقع العمل صحيحاً أم فاسداً؟

وقد مرّ أنه على بعض الأقوال في تلك المسألة وهو الامتناع مع ترجيح جانب النهي تتحد المسألتان، حيث تكون أمثلة باب الاجتماع هي من صغريات هذه المسألة، فراجع.

الأمر الثاني في كون المسألة من مباحث الألفاظ
اشارة

[4] عقد هذا الأمر لبيان كون المسألة من مباحث الألفاظ، وحاصله: إن هذه المسألة هي مسألة عقلية - واقعاً - وذلك لأن محور البحث حول الملازمة بين الحرمة والفساد، ولكن يوجد قول في المسألة وهو أن لفظ النهي يدل على الفساد في المعاملات من غير أن تكون ملازمة عقلية، ولأجل هذا القول تم عقد هذه المسألة في مباحث الألفاظ.

ص: 378

في الأقوال قول بدلالته على الفساد في المعاملات مع إنكار الملازمة بينه وبين الحرمة التي هي مفاده فيها[1]. ولا ينافي ذلك أن الملازمة[2] على تقدير ثبوتها في العبادة إنما تكون بينه[3] وبين الحرمة ولو لم تكن مدلولة بالصيغة، وعلى تقدير عدمها[4] تكون منتفية بينهما، لإمكان[5] أن يكون البحث معه[6] في دلالة الصيغة بما تعم دلالتها بالالتزام، فلا تقاس بتلك المسألة[7] التي لا يكاد يكون لدلالة اللفظ بها مساس، فتأمل جيداً.

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: التي الحرمة مفاد النهي في المعاملات.

كلام التقريرات والإشكال عليه

[2] وعن الشيخ الأعظم في التقريرات: (ومن هنا يظهر أن المسألة لا ينبغي أن تعد من مباحث الألفاظ، فإن هذه الملازمة على تقدير ثبوتها إنما هي موجودة بين مفاد النهي المتعلق بشيء، وإن لم يكن ذلك النهي مدلولاً عليه بالصيغة اللفظية، وعلى تقدير عدمها إنّما يحكم بانتفائها بين المعنيين)(1).

[3] أي: بين الفساد.

[4] أي: على تقدير عدم الملازمة، وحاصل المراد: إن الملازمة إثباتاً ونفياً تدور بين الحرمة وبين الفساد، ولا دخل للّفظ في ذلك.

[5] علة لقوله: (ولا ينافي)، وهو جواب عن كلام التقريرات، وحاصله: إرجاع الدلالة إلى اللفظ ولكن بالالتزام، بأن يقال: إن النهي يدل بالمطابقة على الحرمة، ويدل بالالتزام على الفساد؛ وذلك للملازمة بين الحرمة والفساد، فإذن كان اللفظ هو منشأ الدلالة على الفساد.

[6] أي: مع القائل بدلالة اللفظ على الفساد في المعاملة مع إنكاره الملازمة بين الحرمة والفساد، فنحن نناقش هذا القائل ونثبت الدلالة الالتزامية.

[7] أي: مسألة اجتماع الأمر والنهي، حيث إنها عقلية صرفة.

ص: 379


1- مطارح الأنظار 1: 728.

الثالث[1]: ظاهر لفظ النهي وإن كان هو النهي التحريمي[2]، إلاّ أن ملاك البحث[3] يعم التنزيهي. ومعه[4] لا وجه لتخصيص العنوان[5]. واختصاص[6] عموم ملاكه[7]

-------------------------------------------------------------------

الأمر الثالث عموم النهي لكل أنواعه
اشارة

[1] عقد هذا الأمر لبيان عموم النهي، وأنه يشمل النهي التنزيهي في المكروهات أيضاً، وكذلك النهي الغيري - أصلياً أم تبعياً - .

[2] لما مرّ من أن إطلاق النهي يتبادر منه النهي التحريمي التعييني العيني النفسي.

[3] وهو التنافي بين المرجوحية وبين الصحة، فإن علة البطلان هو مرجوحية الشيء وكونه مبغوضاً، والمرجوح المبغوض لا يمكن أن يكون مقرباً في العبادات، وقد مرّ البحث في العبادات المكروهة وتصوير معنى الكراهة فيها وأقسامها.

[4] أي: مع عمومية الملاك.

[5] لأن المقصود في البحوث هو معرفة الملاكات والعلل للنتائج؛ ولذا يشكلون على اختيار عنوان خاص مع كون البحث في العام، ولفظ النهي وإن كان ينصرف إلى خصوص التحريمي لكنه عام وضعاً ومعناً، ومع عمومية الملاك لا داعي إلى حمل اللفظ على ما ينصرف إليه.

إشكال وجواب

[6] حاصل الإشكال: إن النهي التنزيهي يوجب الفساد في العبادة فقط، ولكنه لا يوجب فساد المعاملة؛ لأنه لا إشكال في صحة المعاملات المكروهة كبيع الأكفان مثلاً، فلكي يكون البحث عاماً للعبادات والمعاملات لابد من القول بأن المراد من النهي هو التحريمي فقط.

[7] أي: ملاك البحث.

ص: 380

بالعبادات لا يوجب[1] التخصيص به[2]، كما لا يخفى.

كما لا وجه لتخصيصه[3] بالنفسي، فيعم الغيري[4] إذا كان أصلياً[5]. وأما إذا كان تبعياً[6] فهو وإن كان خارجاً عن محل البحث - لما عرفت أنه[7] في دلالة النهي،

-------------------------------------------------------------------

[1] جواب الإشكال، وحاصله: إنه يلزم أن يكون العنوان شاملاً لجميع المصاديق الممكنة، حتى إذا كان بعض المصاديق خاصاً لبعض الصور، فلو حملنا لفظ النهي في العنوان على المعنى الأعم من التحريمي والتنزيهي كان العنوان شاملاً لجميع الصور، بما فيها النهي التنزيهي في العبادة.

[2] أي: بالنهي التحريمي.

إشكال وجوابه

[3] أي: تخصيص النهي، حيث إن النهي ظاهر في النفسي - كما مرّ - ولكن لا وجه للتخصيص به؛ لعموم الملاك للغيري أيضاً، خلافاً لما يظهر من المحقق القمي(1) في النهي التبعي - كما سيأتي - .

[4] أي: البحث في دلالة النهي على الفساد يعمّ النهي الغيري، وهو النهي عن المقدمة، كما لو نهى عن الصلاة لكون تركها مقدمة لإزالة النجاسة عن المسجد.

[5] الغيري الأصلي: ما تعلقت به إرادة مستقلة فذكره المولى باللفظ كما لو قال: (لا تصل في جلد مالايؤكل لحمه).

[6] الغيري التبعي: ما كان مقدمة، ولكن لم تتعلق به إرادة مستقلة، ولم يذكره المولى باللفظ، لكنه كان لازماً للمراد عقلاً، كما لو أمر بالإزالة فوراً وكانت الإزالة متوقفة على ترك الصلاة، فتكون الصلاة منهياً عنها لا باللفظ، بل بدلالة العقل - بناءً على أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده الخاص - .

[7] أي: إن البحث في الألفاظ وهو دلالة لفظ النهي، «منه» من النهي.

ص: 381


1- قوانين الأصول 1: 102.

والتبعي منه من مقولة المعنى[1] -، إلاّ أنه داخل في ما هو ملاكه، فإن دلالته[2] على الفساد - على القول به[3] في ما لم يكن للإرشاد[4] إليه - إنما يكون لدلالته على الحرمة من غير دخل لاستحقاق العقوبة[5] على مخالفته في ذلك، كما توهمه القمي+[6].

-------------------------------------------------------------------

[1] لأن الدلالة عليه عقلية لا لفظية، «أنه» أي: النهي التبعي، «ملاكه» أي: ملاك البحث، وهو - كما مرّ - التنافي بين المرجوحية وبين الصحة.

[2] أي: دلالة النهي، وحاصل الكلام: إنه لو قلنا: إنّ المنهيّ بالنهي التبعي يقع فاسداً فلا وجه لفساده إلاّ حرمته؛ لأن هذا النهي إما للإرشاد إلى الفساد، وإما لأجل الدلالة على الحرمة، وهو يقتضي الفساد في كلتا الصورتين، أما الأول فواضح، وأما الثاني فلأن الحرمة تقتضي الفساد - على المبنى - .

[3] أي: على القول: إنّ النهي يدل على الفساد.

[4] لأنه لا معنى للنهي الإرشادي إلاّ البطلان والفساد؛ وذلك لأن النهي إذا لم يكن للتحريم فلابد من أن يكون للإرشاد إلى البطلان؛ لعدم وجود معنى آخر متصور للنهي الإرشادي، فالنهي عن الصلاة في جلد غير المأكول حيث لا يدل على الحرمة فلابد من دلالته على بطلان الصلاة في الجلد.

[5] أي: الحرمة تقتضي الفساد - على المبنى - سواء كانت المخالفة توجب العقاب كما في النهي النفسي، أم لا توجبه كما في الغيري، وقد مرّ أنه في الغيري العقاب على ترك ذي المقدمة لا على ترك المقدمة، فمن ترك المسير إلى الحج فإنه يعاقب على تركه للحج لا على تركه الزاد والراحلة.

[6] نقل عنه أنه قال: (إن النهي المستلزم للفساد ليس إلاّ ما كان فاعله معاقباً)(1) ولازم هذا الكلام خروج النهي الغيري - أصلياً كان أم تبعياً - عن محل البحث.

ص: 382


1- قوانين الأصول 1: 102.

ويؤيد ذلك[1] أنه جعل[2] ثمرة النزاع في أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده فساده[3] إذا كان عبادة[4]، فتدبر جيداً.

الرابع[5]: ما يتعلق به النهي إما أن يكون عبادة أو غيرها. والمراد بالعبادة هنا

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: دخول النهي الغيري التبعي في محل البحث.

[2] الضمير للشأن، والفعل مجهول، والجاعل هم مشهور الأصوليين.

[3] مفعول ثانٍ ل«جعل» أي: جعلت الثمرة الفساد.

[4] فإن النهي عن الصلاة في المثال نهي تبعي؛ إذ الأمر تعلق بالإزالة، ولازمه العقلي النهي عن الضد الخاص وهو الصلاة - بناءً على القول بالملازمة - وهذا النهي لم يكن بدلالة اللفظ، بل كان لازماً عقلياً فهو نهي تبعي، ومع ذلك حكموا بفساد هذه الصلاة، وهذه الثمرة تدل على أن بحثهم في الفساد أعم فيشمل النهي التبعي أيضاً.

الأمر الرابع في معنى العبادة
اشارة

[5] عقد هذا الأمر لبيان معنى العبادة - التي تفسد بالنهي عنها - . حيث أشكل بأن العبادة مأمور بها، فكيف يتعلق بها النهي؟ أليس هذا من اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد؟

وقد أجاب المصنف بأمرين يُدفع بهما هذا الإشكال:

1- العبادة الذاتية: وهي ما لا تحتاج إلى أمر حتى تكون عبادة، بل هي عبادة حتى لو لم يكن أمر، فحينئذٍ لو تعلق بها نهي فإنها عبادة منهي عنها من غير أن تكون مأموراً بها.

2- العبادة الشأنية: وهي ما لو تعلق بها الأمر كانت عبادية لا توصلية، كالصلاة التي لو أمر بها كانت عبادة، فحينئذٍ لو تعلق بها النهي لا يتعلق بها الأمر، فلا يكون اجتماع.

ص: 383

ما يكون بنفسه[1] وبعنوانه[2] عبادةً له تعالى، موجباً بذاته للتقرب[3] من حضرته لو لا حرمته، كالسجود والخضوع والخشوع[4] له وتسبيحه وتقديسه[5]؛ أو[6] ما لو تعلق الأمر به كان أمره أمراً عبادياً لا يكاد[7] يسقط إلاّ إذا أتي به بنحوٍ قربي، كسائر أمثاله[8]،

-------------------------------------------------------------------

[1] حتى لو لم يتعلق به أمر الشارع، وهي عادة تكون في الأمور التي يفهم عباديتها كل أحد حتى غير المسلمين، وهذا هو المعنى الأول للعبادة.

[2] عطف تفسيري، أي: السجود مثلاً بوجوده الخارجي وبعنوانه يعتبر عبادة.

[3] بحكم العقل حيث إن العقل يرى العبادة الذاتية مقرباً للخالق تعالى.

[4] «الخضوع» الانقياد وهو عادة يكون بالأعضاء والجوارح، قال تعالى: {فَظَلَّتۡ أَعۡنَٰقُهُمۡ لَهَا خَٰضِعِينَ}(1)، و«الخشوع» هو السكون من الذل، قال تعالى: {وَخَشَعَتِ ٱلۡأَصۡوَاتُ لِلرَّحۡمَٰنِ}(2)، أي سكنت من الذل، وقال سبحانه: {خُشَّعًا أَبۡصَٰرُهُمۡ}(3).

[5] «التسبيح» هو التنزيه، أي: التبرئة عما لا يليق به، و«التقديس» هو ذكر طهارته من الأدناس، وفي القرآن: {وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ}(4).

[6] هذا المعنى الثاني للعبادة، وبه يدفع إشكال الاجتماع أيضاً.

[7] شرح للأمر العبادي، أي: لا يسقط ذلك الأمر العبادي إلاّ بالامتثال، وذلك بالإتيان بالعمل بقصد القربة.

[8] بمعنى أنّ نوع ذلك الفعل كان عبادياً يحتاج إلى قصد القربة، فهذا العمل المنهي عنه لو كان مأموراً به كان عبادة، كالصلاة أيام الحيض، فإنه منهي عنه، لكنه لو كان مأموراً به بأن كان الشارع أوجب عليها الصلاة كان يجب عليها الإتيان بها بقصد القربة؛ لأن نوع الصلاة عبادي.

ص: 384


1- سورة الشعراء، الآية: 4.
2- سورة طه، الآية: 108.
3- سورة القمر، الآية: 7.
4- سورة البقرة، الآية: 30.

نحو صوم العيدين والصلاة في أيام العادة. لا[1] ما أمر به لأجل التعبد به؛ ولا ما يتوقف صحته على النية[2]؛ ولا ما لا يعلم انحصار المصلحة فيها في شيء[3] - كما عرّفت بكل منها العبادة - . ضرورة[4] أنها بواحدٍ منها لا يكاد يمكن أن يتعلق

-------------------------------------------------------------------

تعاريف العبادة

[1] أي: ليس معنى العبادة في هذا البحث ما ذكره التقريرات(1):

من أن الأمر بذلك الشيء ليس لأجل مجرد حصوله في الخارج؛ بل لأجل أن يعبد المخلوق الخالق بذلك الفعل، كالصلاة حيث يراد بها حصول التعبد.

[2] وليس التعريف ما ذكره جمع من الأصوليين، و«النية» أي: قصد القربة، فعلى هذا التعريف كل عمل لا يحتاج إلى قصد القربة - كغسل الثوب - لا يكون عبادة، وما احتاج إليها بحيث لا يصح لولاها - كالصلاة - يكون عبادة.

[3] قاله المحقق القمي والظاهر أن مراده التعريف الثاني، قال في القوانين في المقدمة الأولى: (المراد بالعبادات هنا ما احتاج صحتها إلى النية)(2)

ثم قال: (وبعبارة أخرى: ما لم يعلم انحصار المصلحة فيها في شيء)(3).

ومعناه أن الشيء الذي لا ينحصر في غرض ويمكن إتيانه لأغراض مختلفة فلابد من تعيين المراد، أما ما انحصر فإن نفس قصده هو النية من غير حاجة إلى نية التعيين. فتأمل.

الإشكال على التعاريف

[4] فالصلاة في حال الحيض لا أمر فيها حتى ينطبق عليها تعريف التقريرات، ولا تصح بأي وجه من الوجوه حتى ينطبق عليها التعريف الثاني، ولا مصلحة فيها أبداً حتى ينطبق عليها التعريف الثالث، «أنها» أن العبادة، «بواحدٍ منها» أي: بأي

ص: 385


1- مطارح الأنظار 1: 729.
2- قوانين الأصول 1: 154.
3- قوانين الأصول 1: 154.

بها[1] النهي؛ مع ما أورد عليها[2] بالانتقاض طرداً[3]

-------------------------------------------------------------------

واحد من هذه التعاريف.

[1] أي: بالعبادة: وذلك لأن ما أمر به لا يعقل تعلق النهي به، وكذلك ما هو صحيح يمكن إتيانه بقصد القربة لا يتعلق النهي به، وكذا ما فيه المصلحة لا يعقل النهي عنه لأنه تابع للمفسدة.

[2] أما التعريف الأول فيشمل جميع الواجبات التوصلية إذا أتى بها لأجل أمر المولى، فمن يغسل الثوب النجس امتثالاً لأمره تعالى يكون متعبداً بفعله هذا.

وأما التعريف الثاني، فإن كان المراد بالصحة: الامتثال، فيدخل في التعريف الواجبات التوصلية إذا أتى بها لامتثال أمرها قاصداً القربة.

وإن كان المراد بها سقوط الإعادة أو القضاء فتخرج العبادات التي لا إعادة فيها، مثل الخمس حيث إنه إذا أتى به سقط الواجب مطلقاً، حتى لو كان دفعه للخمس من غير قصد للقربة - لحصول الغرض - .

مضافاً إلى إشكال الدور؛ لأن معرفة العبادة متوقفة على معرفة الصحة، حيث أخذت (الصحة) في تعريف العبادة، ومعرفة الصحة متوقفة على معرفة العبادة، حيث لا يمكن معرفة صحة شيء من فساده إلاّ بعد معرفة ذلك الشيء، وهذا دور مصرح.

وأما التعريف الثالث: فلأن المصلحة في بعض العبادات منحصرة في شيء واحد كالوضوء، حيث إنّ مصلحته منحصرة في الطهارة. كما أن مصلحة بعض التوصليات غير معلومة فقد لا تكون منحصرة في شيء، كتوجيه الميت نحو القبلة - كذا عن الفصول(1)،

وفيه تأمل - .

[3] أي: بعض التعاريف لا تطرد الأغيار، كالتعريف الأول، والثالث، والمعنى الأول للتعريف الثاني.

ص: 386


1- الفصول الغروية: 139.

أو عكساً[1]، أو بغيره[2] - كما يظهر من مراجعة المطولات - . وإن كان الإشكال بذلك[3] فيها في غير محله، لأجل كون مثلها من التعريفات ليس بحدٍ ولا برسم، بل من قبيل شرح الاسم[4]، كما نبهنا عليه غير مرة، فلا وجه لإطالة الكلام بالنقض والإبرام في تعريف العبادة، ولا في تعريف غيرها كما هو العادة.

الخامس[5]:

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: لا تشمل كل أفرادها، كالتعريف الثالث، والمعنى الثاني للتعريف الثاني.

[2] أي: بغير الانتقاض طرداً وعكساً، كالدور على التعريف الثاني.

[3] أي: بالانتقاض طرداً وعكساً وبغير الانتقاض، «فيها» أي: في هذه التعاريف.

[4] وهو الإتيان بالمرادف أو بلفظ آخر لتقريب المعنى إلى الذهن، كما يقال: (سعدانة نبت)، ولا يشكل عليه بأنه تعريف بالأعم؛ لأن الغرض تقريب المعنى إلى الذهن لا بيان حقيقته. ولا يخفى أن مراد المصنف من (شرح الاسم) هو (التعريف اللفظي اللغوي).

الأمر الخامس في معنى المعاملة

[5] عقد هذا الأمر لبيان المقصود من (المعاملة) في قولنا: (النهي عن المعاملة يقتضي الفساد أم لا).

ويقسّم المصنف المعاملة - بالمعنى الأعم - إلى أقسام ثلاثة:

1- ما يكون قابلاً للصحة والفساد وله أثر شرعي، كالصلاة.

2- ما لا أثر شرعي له، كشرب الماء.

3- ما لا يكون قابلاً للصحة والفساد وله أثر شرعي، كالغصب حيث لا يوجد غصب فاسد، بل الفعل إمّا غصب أو ليس بغصب، وأثره الشرعي الضمان مثلاً.

والداخل في البحث هو القسم الأول فقط؛ لأن القسمين الأخيرين لا معنى للفساد فيهما كي يبحث بأن النهي يوجبه أم لا.

ص: 387

إنه لا يدخل في عنوان النزاع إلاّ ما كان قابلاً[1] للاتصاف بالصحة والفساد[2]، بأن يكون تارةً تاماً يترتب عليه ما يترقب عنه من الأثر، وأخرى لا كذلك[3]، لاختلال بعض ما يعتبر في ترتبه[4].

أما ما لا أثر له شرعاً[5]، أو كان أثره مما لا يكاد ينفك عنه[6] - كبعض أسباب الضمان -[7] فلا يدخل في عنوان النزاع، لعدم طروء الفساد عليه[8] كي ينازع في أن

-------------------------------------------------------------------

[1] المراد القابلية التي تصل إلى الفعليّة.

[2] أي: ما كان مركباً من أجزاء وشرائط ونحوها، فإنه حينئذٍ يمكن أن يكون تاماً بكل الأجزاء والشرائط وعدم الموانع فيكون صحيحاً، ويمكن أن ينقص منه شيء من الأجزاء أو يفقد بعض الشرائط أو يوجد بعض الموانع فحينئذٍ يكون الشيء فاسداً.

أما ما لا أجزاء له بأن كان بسيطاً فأمره دائر بين الوجود والعدم، فلا يتصور فيه الفساد؛ لأن الفساد بمعنى نقصان بعض الأجزاء ونحوها والبسيط لا أجزاء له، فإتلاف مال الغير سبب للضمان، ولا أجزاء له، أي: لا يوجد إتلاف فاسد وإتلاف صحيح، بل إما الإتلاف موجود وإما معدوم.

[3] أي: لا يكون تاماً فلا يترتب عليه الأثر المتوقع منه.

[4] أي: في ترتب الأثر، كفقده لبعض الأجزاء أو الشرائط أو لوجود بعض الموانع.

[5] هذا القسم الثاني.

[6] هذا القسم الثالث.

[7] كالغصب حيث يوجب الضمان، فليس هنالك غصب صحيح وآخر فاسد.

[8] أما القسم الثاني فلعدم وجود أثر شرعي مترقب له، حتى نقول: إنه صحيح لترتب الأثر، أو فاسد لعدم ترتبة.

وأما القسم الثالث فلعدم انفكاك الأثر الشرعي عنه، حيث إنه غير مركب، فأمره دائر بين الوجود فيترتب الأثر، وبين العدم فلا يترتب.

ص: 388

النهي عنه يقتضيه[1] أو لا.

فالمراد بالشيء في العنوان هو العبادة[2] بالمعنى الذي تقدم[3]، والمعاملة بالمعنى الأعم[4] مما يتصف بالصحة والفساد، عقداً كان[5] أو إيقاعاً[6] أو غيرهما[7]، فافهم[8].

السادس[9]:

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: الفساد.

[2] هذه العبارة استطراد لإكمال البحث؛ لأن العبادة دائماً من القسم الأول؛ لأنها مركبة ولها أثر شرعي، وهذا الأمر إنما عقد لأجل المعاملة - بالمعنى الأعم - لأنها التي تنقسم إلى الأقسام الثلاثة.

[3] تقدم في الأمر الرابع: وهو ما كان عبادة بالذات أو ما كان عبادة لو أمر بها.

[4] فتشمل العقد، والإيقاع، وسائر الأفعال التي لها أثر شرعي كالتحجير والرضاع، أما المعاملة بالمعنى الأخص فيراد منها العقود.

[5] العقد ما احتاج إلى الإيجاب والقبول، كالبيع والنكاح.

[6] الإيقاع ما يحتاج إلى الإيجاب فقط، ولا يحتاج إلى القبول، كالطلاق.

[7] أي: ما لا يحتاج لا إلى إيجاب ولا إلى قبول، بل هو فعل يترتب عليه أثر شرعي، كالتحجير والرضاع.

[8] لعله إشارة إلى أن علة عدم دخول القسم الثالث في البحث هو عدم التركب، حيث ليس له أجزاء وشرائط، لا عدم انفكاك الأثر، وقيل في معنى (فافهم) أمور أخرى فراجع الوصول والحقائق(1).

الأمر السادس في معنى الصحة
اشارة

[9] عقد هذا الأمر لبيان معنى الصحة في العنوان، وأن الصحة في العبادة والمعاملة بمعنى واحد، وكذلك مراد الفقيه والمتكلم من الصحة شيء واحد، وفيه

ص: 389


1- الوصول إلى كفاية الأصول 2: 475؛ حقائق الأصول 1: 426.

إن الصحة والفساد وصفان إضافيان[1] يختلفان بحسب الآثار والأنظار. فربما يكون شيء واحد صحيحاً بحسب أثر أو نظر، وفاسداً بحسب آخر.

ومن هنا[2] صح أن يقال: إن الصحة في العبادة والمعاملة لا تختلف، بل فيهما[3] بمعنى واحد وهو «التمامية[4]»، وإنما الاختلاف في ما هو المرغوب منهما من الآثار التي بالقياس عليها[5] تتصف بالتمامية وعدمها.

وهكذا الاختلاف بين الفقيه والمتكلم[6] في صحة العبادة إنما يكون لأجل

-------------------------------------------------------------------

ردّ على ما قاله المحقق القمي.

[1] لأنهما - في ما نحن فيه - من الأمور الاعتبارية التي يمكن ملاحظتها بالنسبة إلى الأشياء المختلفة، وقوله: «يختلفان» عطف بيان يشرح معنى الوصف الإضافي، أي: الوصف الإضافي هو ما يختلف بحسب الآثار والأنظار، وقوله: «بحسب الآثار» فقد يترتب أثر فيكون صحيحاً بالنسبة إليه، ولا يترتب أثر آخر فيكون فاسداً بالنسبة إليه، وقوله: «والأنظار» فمن يريد أثراً فلم يجده يعتبر الشيء فاسداً، ومن أراد أثراً آخر

فوجده يعتبر الشيء صحيحاً.

[2] أي: من إثبات أن الصحة والفساد أمران إضافيان.

[3] أي: في العبادة والمعاملة.

[4] أي: استجماع الأجزاء والشرائط، مضافاً إلى فقد الموانع.

[5] أي: على تلك الآثار، فيقال: إن الصحة في العبادة هو سقوط الإعادة والقضاء لأنه الأثر المترقب، وفي المعاملة يقال: إن الصحة فيها هو تحقق الأمر الاعتباري كالملكية والزوجية ونحوهما.

[6] الفقيه فسّرها: بما يسقط القضاء والإعادة في العبادة، وأما المتكلم فقد فسّرها: بالموافق للأمر أو الشريعة. ولا اختلاف بينهما واقعاً، وإنّما ذكر كل واحد منهما الأثر الذي يبحث عنه في علمه. فلمّا كان موضوع الفقه فعل المكلفين كان

ص: 390

الاختلاف في ما هو المهم لكل منهما من الأثر - بعد الاتفاق ظاهراً[1] على أنها بمعنى التمامية، كما هي معناها لغةً[2] وعرفاً[3] - ، فلما كان غرض الفقيه[4] هو وجوب القضاء أو الإعادة أو عدم الوجوب فسّر صحة العبادة بسقوطهما؛ وكان غرض المتكلم[5] هو حصول الامتثال الموجب عقلاً لاستحقاق المثوبة فسّرها بما يوافق الأمر تارةً، وبما يوافق الشريعة أخرى[6].

وحيث[7] أن الأمر في الشريعة يكون على أقسام - من الواقعى الأولي والثانوي،

-------------------------------------------------------------------

البحث في القضاء والإعادة، وأما علم الكلام فموضوعه المبدأ والمعاد فلذا كان البحث في الامتثال واستحقاق الثواب وعدم العقاب.

[1] أي: الفقيه والمتكلم متفقان في معنى الصحة - وهي التمامية - لكن كل واحد عبّر عنها بالأثر الذي يبحثه في علمه، «أنها» أي: الصحة.

[2] قيل(1): لم نجد في كتب اللغة ذكر هذا المعنى. ولكن الصحيح ما ذكره المصنف، لأن المعنى اللغوي لا يأخذ من كتب اللغة فقط، بل لمعرفته طرق متعددة منها الكتب، ومنها التبادر، والاستعمال - إذا وجدت قرينة على أنه في المعنى الحقيقي - .

[3] أي: استعمال أهل اللسان. وهو قد يتطابق مع المعنى اللغوي - كما هو العادة - وقد يختلف بسبب النقل أو غيره.

[4] لأنه يبحث عن فعل المكلفين.

[5] لأنه يبحث عن أحوال المبدأ والمعاد.

[6] الفرق بين موافقة الأمر وموافقة الشريعة، هو أن الثاني يكفي فيه الملاك حتى لو لم يكن أمر، كما مرّ من المصنف.

النسبة بين كلام الفقيه والمتكلم

[7] المقصود هو الرّد على من زعم أن الصحة عند المتكلم أعم مطلقاً من الصحة عند الفقيه، حيث توهم أن الصحة لما كانت عند المتكلم بمعنى موافقة الأمر، سواء

ص: 391


1- كفاية الأصول، تعليق السبزواري 2: 75.

-------------------------------------------------------------------

كان واقعياً أم ظاهرياً، ولما كانت عند الفقيه بمعنى سقوط القضاء والإعادة، وهما لا يسقطان بالأمر الظاهري؛ لعدم إجزائه عن الواقعي، فحينئذٍ الصلاة بالأمر الظاهري صحيحة عند المتكلم لموافقتها للأمر، وغير صحيحة عند الفقيه لعدم سقوط القضاء والإعادة بها، مع اتفاق الفقيه والمتكلم في الصحة لو وافق الأمر الواقعي، فالنتيجة أن الصحة عند المتكلم أعم مطلقاً من الصحة عند الفقيه.

والجواب عن ذلك أن الصحة عندهما بمعنى واحد هي التمامية - كما مرّ - والنسبة تختلف باختلاف الأنظار:

1- فقد تكون التساوي، كما لو أراد المتكلم من مطابقة الأمر: المطابقة مع الواقعي، ولم يقل الفقيه بالإجزاء، فحينئذٍ الصلاة المأمور بها بالأمر الظاهري لا توافق الأمر الواقعي، فليست صحيحة عند المتكلم، كما أنها غير مجزية فليست صحيحة عند الفقيه، وفي العكس تكون صحيحة عندهما، كما لو صلّى بالأمر الواقعي فصلاته مطابقة للأمر ومجزية.

2- وقد تكون النسبة عموماً مطلقاً، مع كون العموم من طرف المتكلّم، كما لو أراد المتكلم من مطابقة الأمر: المطابقة مع الأمر الظاهري أو الواقعي، ولم يقل الفقيه بالإجزاء، فحينئذٍ لو صلى بالأمر الظاهري فهي صحيحة عند المتكلم، غير صحيحة عند الفقيه؛ لعدم سقوط القضاء والإعادة لو تبين أنها خلاف الواقع.

3- وقد تكون النسبة عموماً مطلقاً، مع كون العموم من طرف الفقيه، كما لو أراد المتكلم من مطابقة الأمر: المطابقة مع الأمر الواقعي فقط، وقال الفقيه بالإجزاء، فحينئذٍ لو صلى بالأمر الظاهري فهي ليست صحيحة عند المتكلم؛ لعدم مطابقتها للأمر الواقعي - لو تبين الخلاف - وصحيحة عند الفقيه لقوله بإجزاء الأمر الظاهري عن الواقع.

ص: 392

والظاهري[1] - ، والأنظار تختلف في أن الأخيرين يفيدان الإجزاء أو لا يفيدان، كان[2] الإتيان بعبادة موافقةً لأمر ومخالفة لآخر[3]، أو مسقطاً للقضاء والإعادة بنظر وغير مسقط لهما بنظر آخر[4]. فالعبادة[5] الموافقة للأمر الظاهري تكون صحيحة عند المتكلم والفقيه، بناءً على أن الأمر في تفسير الصحة بموافقة الأمر أعم من الظاهري مع اقتضائه للإجزاء. وعدم[6] اتصافها بها[7] عند الفقيه بموافقته[8] - بناءً على عدم الإجزاء، وكونه[9] مراعى بموافقة الأمر الواقعي - وعند[10] المتكلم - بناءً على كون الأمر في تفسيرها[11] خصوص الواقعى - .

-------------------------------------------------------------------

[1] مثال الواقعي الأولي الصلاة بوضوء، والواقعي الثانوي الصلاة بتيمم، والظاهري الصلاة باستصحاب الوضوء.

[2] قوله: «كان» جزاء (حيث).

[3] لاختلاف أنظار المتكلمين في المطابقة مع الأمر، هل هو خاص بالمطابقة مع الواقعي أو أعم؟

[4] حسب اختلاف الفقهاء في إجزاء الأمر الظاهري والاضطراري عن الواقع.

[5] بيان للقسم الأول وهو التساوي.

[6] بيان للقسم الثاني وهو كون الصحة عند المتكلم أعم مطلقاً.

[7] أي: عدم اتصاف العبادة بالصحة.

[8] أي: بموافقة الأمر الظاهري.

[9] أي: كون الإجزاء.

[10] بيان للقسم الثالث وهو كون الصحة عند الفقيه أعم مطلقاً، وقوله: «عند المتكلم» عطف على قوله: (عند الفقيه) أي: وعدم اتصاف العبادة بالصحة عند المتكلّم.

[11] أي: في تفسير الصحة، وفي بعض النسخ لا يوجد (واو) في قوله: (وعند المتكلم) فتضطرب العبارة ويتعسر شرحها، فراجع.

ص: 393

تنبيه[1]: وهو أنه لا شبهة[2] في أن الصحة والفساد عند المتكلم وصفان اعتباريان ينتزعان[3] من مطابقة المأتي به مع المأمور به[4] وعدمها[5].

-------------------------------------------------------------------

[1] الغرض من عقد هذا التنبيه هو الإشكال على (التقريرات)(1)

حيث ذهب إلى أن الصحة والفساد انتزاعيان مطلقاً. فيقول المصنف: إنهما قد يكونان انتزاعيين، وقد يكونان بحكم العقل، وقد يكونان بحكم الشرع.

أولاً: في العبادات
1- انتزاع الصحة والفساد

[2] بيان للمورد الذي يكونان وصفين انتزاعيين، وذلك عند المتكلمين، حيث عرّفوهما بأثرهما المقصود في علم الكلام، وهو (مطابقة المأتي به للمأمور به)، والمطابقة ليس لها ما بإزاء في الخارج، بل مما ينتزع من الأفعال الخارجيّه الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط مع عدم الموانع، فتلك الأفعال الخارجيّة منشأ الانتزاع. وفي هذا المورد يتفق المصنف مع التقريرات.

[3] لا يخفى أن اصطلاح المصنف يختلف عن اصطلاح المشهور، حيث إنهم فرّقوا بين الاعتباري والانتزاعي، فالأول: ما يكون أمره بيد المعتبر وجوداً وعدماً، كالقوة الشرائية في النقود، والثاني: ما لا يكون بيد المعتبر إلاّ منشأ الانتزاع، مثلاً: زوجية الأربعة لا تنفك عنها، ولا يمكن اعتبار عدمها. نعم، يمكن إزالة الأربعة فتزول الزوجية بزوالها.

ولعل المصنف رأى عدم الفرق بين القسمين عملاً فاعتبرهما واحداً.

[4] هذا في انتزاع الصحة.

[5] هذا في انتزاع الفساد، والضمير في «عدمها» راجع إلى المطابقة.

ص: 394


1- مطارح الأنظار 1: 737.

وأما الصحة[1] - بمعنى سقوط القضاء والإعادة - عند الفقيه: فهي من لوازم الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي عقلاً[2]، حيث[3] لا يكاد يعقل ثبوت الإعادة أو القضاء معه[4] جزماً. فالصحة بهذا المعنى فيه وإن كان[5] ليس بحكمٍ وضعي مجعول بنفسه أو بتبع تكليف[6]، إلاّ أنه[7] ليس بأمر اعتباري ينتزع - كما

-------------------------------------------------------------------

2- حكم العقل

[1] بيان للمورد الذي تكون الصحة والفساد فيه بحكم العقل.

[2] «عقلاً» متعلق ب- (لوازم) أي: السقوط لازم عقلي للإتيان.

[3] بيان وجه اللزوم العقلي، وحاصله: إن المكلّف إذا أتى بالمأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي - كما لو صلى بالوضوء واجداً لكل الشرائط والأجزاء مع عدم الموانع - فإن غرض المولى يتحقق فيسقط أمره قهراً؛ لأن الأحكام تابعة للأغراض، وهذا السقوط عقلي، فتبيّن أن الصحة بمعنى سقوط القضاء والإعادة كانت بحكم العقل.

[4] مع الإتيان، «بهذا المعنى» أي: بمعنى سقوط القضاء والإعادة، «فيه» أي: في المأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي.

[5] اسم كان هو الضمير الراجع إلى الصحة، وتذكيره باعتبار قوله: (بهذا المعنى).

[6] جملة معترضة لبيان قسمي الحكم الوضعي وهما:

1- ما وضع بنفسه، كالحكم بالملكية والزوجية والنجاسة.

2- ما وضع بتبع تكليف، كما لو أمر بقراءة السورة في الصلاة، وبتبع هذا الوجوب جعلت الجزئية - التي هي من الأحكام الوضعيّة - .

[7] أي: إن الصحة. والتوهم من التقريرات(1)

- حسب النقل - .

ص: 395


1- مطارح الأنظار 1: 737.

توهم(1)

-، بل مما يستقل به[1] العقل، كما يستقل[2] باستحقاق المثوبة به. وفي غيره[3] فالسقوط ربما يكون مجعولاً[4] وكان الحكم به[5] تخفيفاً ومِنّةً على العباد مع ثبوت المقتضي لثبوتهما[6] - كما عرفت في مسألة الإجزاء - كما ربما يحكم بثبوتهما[7]، فيكون الصحة والفساد فيه حكمين مجعولين، لا وصفين انتزاعيين.

نعم[8]،

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: بهذا المعنى وهو سقوط القضاء والإعادة.

[2] أي: كسائر الأحكام العقلية التي لا تنتزع من الوجودات الخارجيّة، بل يحكم بها العقل مستقلاً، مع قطع النظر عن المنشأ.

3- حكم الشرع

[3] بيان للمورد الذي تكون الصحة والفساد فيه بحكم الشرع، وضمير «غيره» راجع إلى المأمور به بالأمر الواقعي الأولي، فالمعنى: وفي الظاهري أو في الثانوي الصحة - بمعنى السقوط - تكون بحكم الشرع.

[4] كما في الأوامر الاضطرارية، وكذا في غيرها على مبنى القائلين بالإجزاء.

[5] أي: بسقوط القضاء.

[6] وهو عدم الإتيان بما أراده المولى، أو عدم تحقق غرضة، أو غير ذلك، والعذر يرفع العقاب ولا يرفع التكليف.

[7] أي: القضاء والإعادة على مبنى عدم الإجزاء.

[8] أي: بالنسبة إلى الحكم الكلي الفقهي تكون الصحة والفساد مجعولين، ولكن بالنسبة إلى المصاديق الجزئية يكونان انتزاعيين؛ وذلك لأن انطباق الكلي على الجزئي - بمعنى كون هذا الفعل الخاص الخارجي مصداقاً للحكم الكلي - يكون بالانتزاع، أي: نلاحظ وجدان الفعل الخارجي لجميع الأجزاء والشرائط مع فقدانه للموانع، فننتزع منه أنه مصداق لذلك الكلي.

ص: 396


1- مطارح الأنظار 1: 737.

الصحة والفساد في الموارد الخاصة[1] لا يكاد يكونان مجعولين[2]، بل إنما هي[3] تتصف بهما بمجرد الانطباق[4] على ما هو المأمور به[5]. هذا في العبادات.

وأما الصحة في المعاملات: فهي تكون مجعولة[6]، حيث كان ترتب الأثر على معاملة إنما هو بجعل الشارع وترتيبه عليها[7] ولو إمضاءً، ضرورة أنه لو لا جعله لما كان يترتب عليه، لأصالة الفساد[8].

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: المصاديق الجزئية الخارجية.

[2] أي: لا تكون الصحة والفساد مجعولة شرعاً.

[3] أي: الموارد الخاصة الجزئية، «بهما» أي: بالصحة والفساد.

[4] بلا حاجة إلى جعل شرعي أو حكم عقلي، أي: إذا انطبق ذلك الكلي - كالصلاة - على هذه الأفعال الخارجية فإنها تكون صحيحة، وإن لم ينطبق فإنها تكون فاسدة، وهذا الانطباق أمر قهري ليس بمجعول شرعاً أو عقلاً.

[5] أي: الأمر الكلي الذي أمر به الشارع، مثلاً قوله: (أقيموا الصلاة) الصلاة فيها كلي قابل للانطباق على كثيرين، فمتى أتى العبد بالأفعال الخارجية من التكبيرة إلى التسليم كانت هذه الأفعال مصداقاً للصلاة المأمور بها، فتكون صحيحة، وإلاّ كانت فاسدة.

ثانياً: في المعاملات

[6] لأن الصحة فيها هو ترتب الأثر كنقل الملك في البيع مثلاً، وهذا الأثر هو بحكم الشرع - ولو إمضاءً - .

[7] عطف لتفسير معنى (جعل الشارع)، أي: ترتيب الشارع الأثر على المعاملة.

[8] وهو عبارة أخرى عن الاستصحاب، ففي البيع - مثلاً - يستصحب ملكية البائع على بضاعته، وملكية المشتري على الثمن، وفي الإجارة يستصحب جواز تصرف المؤجر في ملكه وعدم جواز تصرف المستأجر، وكذا سائر العقود والإيقاعات ونحوهما.

ص: 397

نعم[1]، صحة كل معاملة شخصية وفسادها ليس إلاّ لأجل انطباقها مع ما هو المجعول سبباً وعدمه[2]، كما هو الحال في التكليفية من الأحكام[3]، ضرورة أن اتصاف المأتي به بالوجوب أو الحرمة أو غيرهما[4] ليس لانطباقه[5] مع ما هو الواجب أو الحرام.

السابع[6]:

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: إن وجدت الشرائط وفقدت الموانع فالمعاملة الجزئية الخارجية ينطبق عليها الكلي، فيكون ذلك بالانتزاع لا بحكم الشرع أو العقل، كما مرّ نظيره في العبادات.

[2] أي: أو عدم الانطباق فيكون فاسداً.

[3] الحكم الشرعي بالوجوب أو الحرمة وغيرهما كلي، وهو مجعول من طرف الشارع، أما المصاديق الجزئية فإن الكلي إذا انطبق عليها كانت صحيحة وإلاّ كانت فاسدة.

والأحكام التكليفية - في غير العبادات الواجبة أو المستحبة - وإن كانت خارجة عن محل البحث والكلام، لكن التنظير بها باعتبار أن الكلي مجعول والجزئي انتزاعي كالعبادات والمعاملات.

[4] أي: غير الوجوب والحرمة، وهي سائر الأحكام التكليفية كالاستحباب والكراهة والإباحة.

[5] أي: انطباق الفرد الجزئي على الموضوع الكلي المحكوم بالوجوب أو الحرمة.

الأمر السابع الأصل العملي في المسألة

[6] عقد هذا الأمر لبيان أنه لو لم تكف الأدلة الدالة على الفساد أو عدم الفساد ووصلت النوبة إلى الأصل العملي، فهل هنالك أصل يعتمد عليه؟ فيقول المصنف:

1- في المسألة الأصولية: لا يوجد أصل عملي.

ص: 398

لا يخفى: أنه لا أصل في المسألة[1] يعول عليه لو شك في دلالة النهي على الفساد. نعم[2]، كان الأصل في المسألة الفرعية الفساد لو لم يكن هناك إطلاق أو عموم يقتضي الصحة في المعاملة.

-------------------------------------------------------------------

2- في المسألة الفقهية: فالاستصحاب في المعاملة يقتضي بقاء الملك أو التصرف ونحوهما على ما كان عليه، فتكون نتيجة الأصل الفساد، والاشتغال في العبادة يقتضي عدم فراغ الذمة.

[1] أي: في مسألة دلالة النهي على الفساد وعدمه، ففي هذه المسألة الأصولية لا يوجد أصل عملي يرجح أحد الطرفين.

إن قلت: الأصل عدم الدلالة على الفساد.

قلت: لا يجري هذا الأصل، قال في الحقائق: (لأن الدلالة كالعلم من الأمور الوجدانية التي لا تقبل الشك، فيمتنع الشك في الحجيّة أيضاً)(1)، بمعنى أن الشك في الدلالة مساوق للقطع بعدم الدلالة، ولو فرض جريان الأصل فإنه أصل مثبت؛ لأن الصحة لازم عقلي لعدم الدلالة على الفساد.

[2] أي: في المسألة الفقهية: إن كان هنالك عموم أو إطلاق يقتضي الصحة أخذنا به، كما لو شككنا في فساد العقد وقت نداء يوم الجمعة، فإن عموم {أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ}(2) يدل على صحة ذلك العقد.

وإن لم يكن هنالك عموم أو إطلاق فاستصحاب بقاء الملك لمالكه يقتضي عدم تحقق أثر المعاملة، فيكون الأصل دالاً على الفساد؛ ولذا ذكروا أن الأصل في المعاملات الفساد، أي: عدم ترتب الأثر، وكذا في العبادات، فإن اشتغال الذمة اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، وبالإتيان بالعبادة المنهي عنها يشك في براءة ذمته، فيجب عليه الإتيان مرة أخرى ليتيقن منها.

ص: 399


1- حقائق الأصول 1: 431.
2- سورة المائدة، الآية: 1.

وأما العبادة فكذلك[1]، لعدم الأمر بها مع النهي عنها[2]، كما لا يخفى.

الثامن[3]: إن متعلق النهي إما أن يكون نفس العبادة، أو جزأها، أو شرطها

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: الأصل في المسألة الفقهية هو الفساد.

[2] لأن العبادة المنهي عنها لايعقل أن تكون مأموراً بها؛ لاستحالة اجتماع الأمر والنهي، فإذن لا أمر فيها، وحيث لا أمر في العبادة فتكون فاسدة.

أقول: قد مرّ من المصنف عدم احتياج العبادة إلى الأمر، بل يكفي فيها وجود الملاك، وحينئذٍ لو وصلت النوبة إلى الأصل العملي فيكون هو الاشتغال - كما مرّ في التعليقة السابقة - .

الأمر الثامن أقسام تعلق النهي بالعبادة
اشارة

[3] عقد هذا الأمر لبيان أقسام النهي عن العبادة، وبيان حكم كل واحد من الأقسام، ليتضح محل النزاع بين الأعلام.

فيقول المصنف إن الأقسام خمسة:

1- النهي عن نفس العبادة، كالصلاة في حال الحيض، وهذا القسم داخل في محل النزاع، ويرجّح المصنف دلالته على فساد العبادة.

2- النهي عن جزء العبادة، كقراءة العزائم في الصلاة، وهذا أيضاً داخل في محل النزاع، لكن بطلان الجزء لا يوجب بطلان العبادة إلاّ في موردين:

الأول: لو اكتفى بهذا الجزء المنهي عنه، فإنه تبطل العبادة؛ لفقدان جزئها، حيث لم يأت بالقراءة في المثال.

الثاني: إذا استلزم محذوراً آخر مبطلاً للعبادة، كالجمع بين السورتين أو فوات الموالاة مثلاً.

3- النهي عن شرط العبادة الخارج عنها، كالوضوء أو التطهر بالماء المغصوب، فهنا صورتان:

ص: 400

الخارج عنها[1]، أو وصفها الملازم لها كالجهر والإخفات للقراءة[2]، أو وصفها

-------------------------------------------------------------------

الأولى: إن كان الشرط عبادة دخل في محل النزاع؛ لأنه بالنهي عن الشرط يبطل، وببطلان الشرط يبطل المشروط، كالوضوء حيث إنه عبادة يبطل بالنهي عنه.

الثانية: إن لم يكن الشرط عبادة لم يكن داخلاً في محل النزاع، كما لو أزال الخبث عن جسمه بالماء المغصوب ثم صلّى، فإن صلاته صحيحة.

4- النهي عن الوصف الملازم، كالنهي عن الجهر في قراءة صلاة الظهر، فإن الجهر لا يمكن أن يوجد إلاّ في ضمن القراءة، فكان وصفاً ملازماً، وهذا أيضاً داخل في محل النزاع، ويرى المصنف بطلان القراءة حينئذٍ، ولا تبطل الصلاة إلاّ في الموردين المذكورين في القسم الثاني.

5- النهي عن الوصف غير الملازم، كالنهي عن الغصب في الصلاة، فإنّ أكوان الصلاة قد تكون ضمن الغصب، وقد تكون ضمن المباح، فالنهي لا يسري من الغصب إلى الصلاة، إلاّ إذا اتحدت الصلاة مع الغصب، كما مرّ في مسألة الاجتماع.

[1] عبارة «الخارج عنها» قيد توضيحي؛ لأن كل شرط هو خارج. نعم، التقيّد به داخل.

[2] وحيث كان هنا مظنة إشكال حيث يمكن أن يقال: إن القراءة تنفك عن الجهر كالقراءة الإخفاتية، وكذلك تنفك عن الإخفات في القراءة الجهرية، أجاب المصنف عن هذا الإشكال فقال في الهامش: (فإن كل واحد منهما لا يكاد ينفك عن القراءة، وإن كانت هي تنفك عن أحدهما، فالنهي عن أيهما يكون مساوقاً للنهي عنها، كما لا يخفى)(1).

ص: 401


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 232.

الغير(1)

الملازم كالغصبية لأكوان الصلاة[1] المنفكة عنها.

لا ريب في دخول القسم الأول في محل النزاع. وكذا القسم الثاني، بلحاظ أن جزء العبادة عبادة، إلاّ أن بطلان الجزء لا يوجب بطلانها، إلاّ مع الاقتصار عليه[2]، لا مع الإتيان بغيره مما لا نهي عنه، إلاّ أن يستلزم محذوراً آخر[3].

وأما القسم الثالث: فلا يكون حرمة الشرط والنهي عنه موجباً لفساد العبادة إلاّ في ما كان عبادة[4] كي تكون حرمته موجبة لفساده المستلزم لفساد المشروط به[5].

وبالجملة: لا يكاد يكون النهي عن الشرط موجباً لفساد العبادة المشروطة به لو لم يكن موجباً لفساده كما إذا كان عبادةً.

وأما القسم الرابع: فالنهي عن الوصف اللازم مساوق للنهي عن موصوفه[6]،

-------------------------------------------------------------------

[1] قد مرّ أن الأكوان ليست جزءاً من الصلاة، فلو كان المثال كالغصبية في الركوع والسجود كان أصح. والحاصل: إن بين الغصب وأكوان الصلاة عموماً من وجه، فقد يكون غصباً بلا صلاة، وقد تكون صلاة في المكان المباح، وقد يجتمعان.

[2] لأنه لو اكتفى بالجزء المنهي عنه فحيث إن ذلك الجزء باطل للنهي عنه، صارت العبادة بلا ذلك الجزء، فتبطل لفقدانها للجزء؛ لأن الكل عدم عند عدم جزئه.

[3] كفقدان الموالاة، أو الجمع بين سورتين ونحوهما.

[4] أي: إذا كان الشرط عبادة، كالوضوء حيث يشترط فيه قصد القربة، فلو بطل الوضوء بطلت الصلاة؛ لأنها وقعت من غير شرطها.

[5] أي: المشروط بذلك الشرط.

[6] فإذا كان الوصف الملازم وصفاً لكل العبادة بطلت تلك العبادة، وإن كان وصفاً لجزئها، بطل ذلك الجزء ورجع إلى القسم الثاني.

ص: 402


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير الملازم».

فيكون النهي عن الجهر في القراءة - مثلاً - مساوقاً للنهي عنها، لاستحالة[1] كون القراءة التي يجهر بها مأموراً بها مع كون الجهر بها منهياً عنه فعلاً، كما لا يخفى.

وهذا بخلاف ما إذا كان مفارقاً، - كما في القسم الخامس - ، فإن النهي عنه[2] لا يسري إلى الموصوف إلاّ في ما إذا اتحد معه وجوداً، بناءً على امتناع الاجتماع. وأما بناءً على الجواز: فلا يسري إليه، كما عرفت في المسألة السابقة[3].

هذا حال النهي المتعلق بالجزء أو الشرط أو الوصف.

وأما النهي عن العبادة لأجل أحد هذه الأمور[4]:

-------------------------------------------------------------------

[1] دليل لما ادعاه المصنف من أن النهي عن الوصف الملازم نهي عن الموصوف. وحاصله: إن النهي عن الوصف الملازم مع الأمر بالموصوف تكليف بما لا يطاق فيكون محالاً.

ولكن قد مرّ من المصنف أن المحال هو الاتصاف بحكم مخالف، ولا استحالة في ما إذا لم يتصف بحكم مخالف، كما لو كان الجهر منهياً عنه مع عدم كون القراءة مأموراً بها، بل صحتها من باب وجود الملاك فيها، فراجع.

[2] أي: عن الوصف المفارق.

[3] أي: مسألة اجتماع الأمر والنهي.

النهي عن العبادة بسبب النهي عن الجزء ونحوه

[4] أي: نهي عن الصلاة مثلاً؛ لأن الجزء أو الشرط أو الوصف مبغوض له، فحينئذٍ يكون النهي على صورتين:

1- النهي عن تلك الأمور لا عن العبادة، ولكن تعلق النهي بالعبادة مجازاً، كانت العبادة واسطة في العروض، بمعنى أن المولى يريد النهي عن الجزء واقعاً، ولكن تعبيره كان نهياً عن العبادة مجازاً، كما في (جرى الميزاب) فإن الميزاب واسطة في العروض، أي: النسبة، فإن المتكلم يريد نسبة الجريان إلى الماء، ولكن بتعبير جريان الميزاب مجازاً. وحكم هذه الصورة هي أحكام الثاني إلى الخامس من الأقسام

ص: 403

فحاله حال[1] النهي عن أحدها إن كان من قبيل الوصف بحال المتعلق[2]؛ وبعبارة أخرى: كان النهي عنها بالعرض. وإن كان[3] النهي عنها على نحو الحقيقة، والوصف بحاله[4] - وإن كان بواسطة أحدها، إلاّ أنه من قبيل الواسطة في الثبوت لا العروض[5] - كان حاله حال النهي في القسم الأول[6]، فلا تغفل.

وممّا ذكرنا في بيان أقسام النهي في العبادة يظهر حال الأقسام في المعاملة[7]، فلا

-------------------------------------------------------------------

التي مرّت قبل قليل.

2- النهي عن نفس العبادة، ولكن كانت علة النهي هي الخلل في الجزء أو الشرط أو الوصف، فيكون الخلل في أحدها واسطة لثبوت النهي في نفس العبادة، وحكم هذه الصورة هو حكم القسم الأول من الأقسام السابقة.

[1] إشارة إلى الصورة الأولى.

[2] كما في المثال: (زيد قائم أبوه) ف- (قائم) وصف ل- (زيد) ولكن ليس له حقيقة، بل الوصف حقيقة لمتعلق زيد وهو (أبوه)، وهنا النهي ليس للعبادة واقعاً، بل لتلك الأمور - من الجزء أو الشرط أو الوصف - .

[3] إشارة إلى الصورة الثانية، «عنها» أي: عن العبادة.

[4] أي: الوصف ليس باعتبار المتعلق، بل الوصف لنفس الشيء، كما نقول: (زيد قائم) حيث المسند إليه - وهو القيام - وصف لنفس زيد.

[5] قد مرّ الفرق بينهما، وحاصله: إن كان الشيء علة للحكم - مثلاً - كان واسطة في الثبوت، أي: علة لثبوت الشيء.

وإن لم يكن الشيء علة للحكم، بل كان واسطة في الإسناد فقط كان واسطة في العروض، كما في قولنا: جرى الميزاب.

[6] وهو ما كان النهي عن نفس العبادة.

[7] حيث النهي:

1- قد يكون عنها بنفسها، كالبيع الربوي، ونكاح الخامسة.

ص: 404

يكون بيانها على حدة بمهم. كما أن تفصيل الأقوال في الدلالة على الفساد وعدمها، التي ربما تزيد على العشرة - على ما قيل[1] - كذلك[2].

إنما المهم بيان ما هو الحق في المسألة، ولا بد في تحقيقه على نحو يظهر الحال في الأقوال من بسط المقال في مقامين:

الأول: في العبادات فنقول - وعلى الله الاتكال -: إن النهي المتعلق بالعبادة بنفسها ولو كانت جزء عبادة[3] بما هو عبادة - كما عرفت[4] - مقتضٍ لفسادها،

-------------------------------------------------------------------

2- وقد يكون عن جزئها، كبيع الشاة بالخنزير.

3- وقد يكون عن شرطها، كبيع العنب بشرط أن يعمل خمراً.

4- وقد يكون عن وصفها اللازم كبيع الحصاة، وهو ما يكون تعيين المبيع برمي الحصاة عليه، وهذا الوصف ملازم لكي يكون البيع بيع الحصاة.

5- وقد يكون عن الوصف المفارق، كالنكاح في حال الإحرام.

[1] كما في تقريرات(1)

الشيخ الأعظم.

[2] أي: ليس بمهم.

المقام الأول
اقتضاء النهي عن العبادة للفساد
اشارة

[3] أي: فساد الجزء لأجل كونه عبادة في نفسه، لا باعتبار جزئيته، مثلاً: قراءة العزائم في الصلاة منهي عنها، فيوجب النهي فساد هذه القراءة؛ وذلك ليس لأجل كونها جزءاً من الصلاة، بل لأجل أن القراءة هي عبادة، «بما هو عبادة» أي: بما أن الجزء هو عبادة أيضاً، فالنظر إلى الجزء ليس من حيثية جزئيته، بل من حيثية عباديته.

[4] حيث قال في الأمر الثامن: (إلاّ أن بطلان الجزء لا يوجب بطلانها إلاّ مع الاقتصار عليه... الخ). وحاصل الدليل: إن ركن العبادة هو المحبوبية الموجبة

ص: 405


1- مطارح الأنظار 1: 749.

لدلالته[1] على حرمتها ذاتاً، ولا يكاد[2] يمكن اجتماع الصحة - بمعنى موافقة الأمر أو الشريعة[3] - مع الحرمة، وكذا[4] بمعنى سقوط الإعادة، فإنه[5] مترتب على

-------------------------------------------------------------------

للمقربية، ومع النهي لا توجد محبوبية، بل مبغوضية؛ لأن النهي لأجل المفسدة، وهي موجبة لبغض الشارع لذلك العمل.

ولازم الصحة - وهو موافقة الأمر - مفقود في العبادة المنهي عنها؛ وذلك لعدم وجود أمر لامتناع اجتماع الأمر والنهي.

ولا يوجد ملاك الأمر - وهو المصلحة والمحبوبية - لما عرفت من أن العمل المنهي عنه فيه مفسدة ومبغوض.

كما أن اللازم الآخر للصحة - وهو سقوط الإعادة - أيضاً لا يترتب على العبادة المنهي عنها؛ وذلك لأن السقوط فرع حصول غرض المولى بإتيانها بقصد القربة، والمنهي عنها لا يمكن إتيانها بقصد القربة للعلم بمبغوضيتها، وحتى مع الجهل بالمبغوضية فإنها لا تصلح للمقربية لما فيها من المفسدة.

[1] «لدلالته» أي: النهي، والحرمة الذاتية هي ما كانت لأجل مفسدة في العمل، ويقابلها الحرمة التشريعيّة: وهي ما كانت لأجل التقوّل، أي: نسبة العمل إلى الشارع كذباً، كما قال تعالى: {قُلۡ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمۡۖ أَمۡ عَلَى ٱللَّهِ تَفۡتَرُونَ}(1).

[2] أي: اللازم الأول للصحة - وهو موافقة الأمر - لا يمكن حصوله مع النهي.

[3] «موافقة الأمر» في ما كان أمر مولوي من الشارع، وموافقة «الشريعة» يشمل ما كان الملاك موجوداً من غير أمر.

[4] أي: اللازم الآخر للصحة وهو (سقوط القضاء والإعادة) أيضاً لا يمكن حصوله مع النهي.

[5] أي: سقوط الإعادة - وكذا القضاء - فرع تحقق أمرين:

1- أن يقصد القربة، ومع العلم بالحرمة لا يمكن قصد القربة، فمن يعلم بأن

ص: 406


1- سورة يونس، الآية: 59.

إتيانها بقصد القربة وكانت مما يصلح لأن يتقرب به، ومع الحرمة لا تكاد تصلح لذلك[1] ويتأتى قصدها[2] من الملتفت إلى حرمتها، كما لا يخفى.

لا يقال[3]:

-------------------------------------------------------------------

المولى يبغض العمل ونهى عنه، كيف يمكنه الإتيان به بقصد التقرب إلى المولى؟

2- أن يكون للعمل - في حد نفسه - صلاحية التقرب، فلو كان يجهل النهي فإنه وإن أمكنه قصد القربة - لجهله بالحرمة - لكن العمل بحد ذاته إن لم يكن صالحاً للمقربيّة فإنه لا يقع بكيفية أرادها المولى، فلا يتحقق غرضه من الأمر، فلا تسقط الإعادة.

[1] أي: للمقربية فيفقد العمل الأمر الثاني - وهو صلاحية المقربية - .

[2] أي: لا يكاد يتأتى قصد القربة، فيفقد العمل الأمر الأول - وهو قصد القربة فعلاً - .

إشكال على الفساد وجوابه

[3] حاصل الإشكال هو: إن الحرمة إما ذاتية وإما تشريعية: فأما الذاتية فغير ممكنة في العبادات؛ لأنها دائرة بين صورتين:

1- بدون قصد القربة، وحينئذٍ لا توجد حرمة أصلاً، كالحائض التي تأتي بصورة الصلاة لتعليم الصغار، ولا إشكال في جوازه.

2- مع قصد القربة، وهذا غير ممكن؛ لأنه مع العلم بالمفسدة كيف يمكن قصد القربة؟

وحيث امتنعت الحرمة الذاتية انحصر أمر الحرمة في التشريعيّة، وهو الإتيان بالعمل منسوباً إلى الشارع، ومع الحرمة التشريعية لا توجد حرمة ذاتية أخرى؛ لاستحالة اجتماع حرمتين في عمل واحد؛ لأنه اجتماع للمثلين، فيبقى ملاك العبادة موجوداً في هذه العبادة المنهي عنها، فتصح هذه العبادة للملاك - إن لم يقصد التشريع - .

ص: 407

هذا[1] لو كان النهي عنها دالاً على الحرمة الذاتية، ولا يكاد يتصف بها العبادة[2]، لعدم الحرمة بدون قصد القربة[3]، وعدم القدرة عليها مع قصد القربة[4] بها إلاّ تشريعاً، ومعه[5] تكون محرمة بالحرمة التشريعية لا محالة[6]، ومعه لا تتصف بحرمة أخرى، لامتناع اجتماع المثلين كالضدين.

فإنه يقال[7]:

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: الفساد في العبادة المنهي عنها.

[2] أي: لا تتصف العبادة بالحرمة الذاتية أصلاً.

[3] إشارة إلى الصورة الأولى.

[4] إشارة إلى الصورة الثانية، أي: ولعدم القدرة على العبادة المقترنة بقصد القربة.

[5] أي: ومع التشريع وهو: نسبة الشيء إلى الشارع كذباً.

[6] حتى لا يكون نهي الشارع لغواً؛ لأن الحرمة إما ذاتية وإما تشريعية، فإذا امتنع الأول تعين الثاني، «ومعه» مع الحرمة التشريعيّة.

[7] المصنف أجاب عن الإشكال بثلاثة أجوبة:

الأول: إن مرادنا من العبادة هو: ما لو لا النهي لكان عبادة، فلو لم ينه الشارع عن صلاة الحائض لكان يشملها عمومات وجوب الصلاة، فلا محذور من النهي عن العبادة بهذا المعنى، مضافاً إلى أن بعض أقسام العبادة لا تحتاج إلى قصد القربة - وهي العبادة الذاتية كالسجود - فهي عبادة منهي عنها - كما مرّ - .

الثاني: اجتماع الحرمة الذاتية مع الحرمة التشريعية لا مانع منه، وليس من قبيل اجتماع المثلين لاختلاف متعلقهما، فالتشريعية متعلقها الاعتقاد وهو فعل القلب، والذاتية متعلقها العمل وهو فعل الجوارح.

الثالث: إن الحرمة التشريعية تدل على الفساد أيضاً؛ لأنه مع وجود النهي والحرمة التشريعية فإنه يستحيل وجود أمر؛ لامتناع اجتماع الأمر والنهي، كما أنه لا يوجد ملاك الأمر وذلك لوجود المفسدة.

ص: 408

لا ضير[1] في اتصاف ما يقع عبادة - لو كان مأموراً به[2] - بالحرمة الذاتية، مثلاً: صوم العيدين كان عبادةً منهياً عنها بمعنى أنه لو أمر به كان عبادةً لا يسقط الأمر به إلاّ إذا أتى به بقصد القربة، كصوم سائر الأيام. هذا[3] في ما إذا لم يكن ذاتاً عبادةً، كالسجود لله تعالى ونحوه، وإلاّ[4] كان محرماً مع كونه فعلاً عبادةً[5]، مثلاً: إذا نهي الجنب والحائض عن السجود له تبارك وتعالى كان[6] عبادة محرمة ذاتاً حينئذٍ، لما فيه من المفسدة والمبغوضية في هذا الحال.

مع[7] أنه لا ضير في اتصافه بهذه الحرمة مع الحرمة التشريعية، بناءً[8] على أن

-------------------------------------------------------------------

[1] هذا هو الجواب الأول.

[2] أي: لو كان دليل عام يشمل هذا المورد، كأدلة وجوب الصلاة، حيث إن هذا الدليل يدل على أن الصلاة عبادة وواجبة على كل أحد، لكن خرج منه الصلاة المنهي عنها، كصلاة الحائض، كما مرّ تفصيله في (الأمر الرابع) من مقدمات البحث.

[3] أي: حمل معنى العبادة على (ما يقع عبادة لو لم ينه عنه).

[4] أي: وإن كان عبادة ذاتية - كالسجود - فلا يستحيل النهي عنه مع كونه عبادة فعليّة.

[5] أي: عبادة فعلية لا عبادة شأنية، أي: هو عبادة حقيقة مع كونه منهياً عنه.

[6] أي: كان السجود، «محرمة ذاتاً» لوجود المفسدة، لا حرمة تشريعية، «حينئذٍ» أي: حين النهي عنها.

[7] هذا هو الجواب الثاني، أي: لا مانع من اجتماع الحرمة الذاتية مع الحرمة التشريعية، ولا يستلزم اجتماع المثلين، «اتصافه» أي: اتصاف ما يقع عبادة، «بهذه الحرمة» أي: بالحرمة الذاتية.

[8] أي: وجه عدم اجتماع المثلين هو تغاير متعلق الحرمتين، فإحداهما مرتبطة بالقلب، والأخرى مرتبطة بالعمل.

ص: 409

الفعل فيها[1] لا يكون في الحقيقة متصفاً بالحرمة، بل إنما يكون المتصف بها ما هو من أفعال القلب، كما هو الحال في التجري والانقياد[2]، فافهم[3].

هذا مع[4] أنه لو لم يكن النهي فيها دالاً على الحرمة لكان دالاً على الفساد، لدلالته[5] على الحرمة التشريعية، فإنه لا أقل من دلالته على أنها ليست بمأمور بها[6] وإن عمّها[7] إطلاق دليل الأمر بها أو عمومه.

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: متعلق الحرمة في الحرمة التشريعيّة.

[2] فلو شرب ماءً بزعم أنه خمر فإن الحرمة ترتبط بهذا الاعتقاد، وكذا لو صلى من غير وضوء جهلاً، فإن الثواب يرتبط باعتقاده.

[3] إما إشارة إلى أن الاعتقاد لوحده ليس حراماً، ولا يوجب التشريع ولا التجري، بل الاعتقاد المنضم إلى العمل هو ما يوجب، فإذن العمل اجتمع فيه حرمة ذاتية وتشريعيّة.

وإما إشارة إلى أنه لا مانع من وجود حرمتين، ولا يلزم اجتماع مثلين، بل تندك الحرمتان في بعضهما، ويصير العمل محرماً شديداً، كما في كل مورد يجتمع عنوانان محرمان في عمل واحد.

[4] إشارة إلى الجواب الثالث، وحاصله: إن الحرمة التشريعية توجب الفساد أيضاً؛ وذلك لكشفها عن عدم وجود أمر وعدم ملاك أمر.

[5] أي: لدلالة النهي.

[6] لامتناع اجتماع الأمر والنهي، مثلاً: دليل وجوب الصلاة وإن كان مطلقاً لكنه خرج منه بالتقييد صلاة الحائض، فلا أمر في صلاتها، كما أن هذه الصلاة لا ملاك فيها - وإلاّ لم تكن منهياً عنها - وحينئذٍ العبادة التي لا أمر فيها ولا ملاك الأمر لا تكون صحيحة.

[7] أي: الدليل العام أو المطلق كان شاملاً لها، لكنها خرجت عن عمومه أو إطلاقه لأجل النهي.

ص: 410

نعم[1]، لو لم يكن النهي عنها[2] إلاّ عرضاً[3]، كما إذا نهي عنها في ما كانت ضد الواجب[4] - مثلاً - لا يكون مقتضياً للفساد، بناءً على عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضد إلاّ كذلك - أي عرضاً - فيخصص به أو يقيد[5].

-------------------------------------------------------------------

النهي عن العبادة مجازاً

[1] حاصله: إن النهي إذا لم يتعلق بالعبادة حقيقة، وإنما تعلق بشيء آخر، أو كان المراد الأمر بشيء آخر لا النهي عن العبادة، فإنه حينئذٍ لا تكون العبادة فاسدة؛ وذلك لعدم النهي عنها حقيقةً.

[2] كما لو أمر المولى بإزالة النجاسة عن المسجد، وكانت الصلاة ضد الإزالة، فالصلاة منهي عنها، لكن لا بالنهي الحقيقي، بل المجازي، أي: هو دعوة إلى الإزالة لا نهي حقيقي عن الصلاة، هذا على مبنى من يقول: إنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده مجازاً، أما على مبنى المصنف فلا نهي عن الضد حتى مجازاً، وأما على مبنى القائلين بالدلالة فإن الصلاة باطلة؛ لتعلق النهي بها حقيقة.

[3] أي: مجازاً، بحيث لا يراد النهي عن العبادة حقيقة.

[4] الواجب كالإزالة الفورية، والانشغال بالصلاة ضد الإزالة؛ لعدم إمكان الجمع بينهما.

[5] أي: قولنا: إنّ (النهي يقتضي الفساد مطلقاً) يخصّص أو يقيّد بهذا النوع من النهي، وهو النهي العرضي، فإنه لا يقتضي الفساد.

ويمكن إرجاع هذه الفقرة إلى قبل قوله: (نعم)، أي: (وإن عمها إطلاق دليل الأمر بها أو عمومه فيخصص به أو يقيد).

ص: 411

المقام الثاني: في المعاملات ونخبة القول: إن النهي الدال على حرمتها لا يقتضي الفساد، لعدم الملازمة[1] فيها - لغةً ولا عرفاً - بين حرمتها وفسادها أصلاً، كانت الحرمة متعلقة[2]

-------------------------------------------------------------------

المقام الثاني
عدم اقتضاء النهي عن المعاملة للفساد
اشارة

[1] حاصل الدليل: إن الدلالة إما عقلية أو لفظية.

أما الدلالة العقلية: فإنه لا منافاة بين الحرمة وبين الصحة عقلاً؛ وذلك لأن الصحة بمعنى التمامية ولازمها ترتب الأثر على المعاملة، ولا يرى العقل منافاة بين النهي وبين الصحة.

وأما الدلالة اللفظية: فليس الفساد مدلولاً للفظ النهي لا لغةً ولا عرفاً؛ لأن النهي ظاهر في الحرمة، ومع عدم دلالة النهي على الفساد لا بالمطابقة ولا بالتضمن ولا بالالتزام.

اقسام النهي عن المعاملة

[2] النهي المتعلق بالمعاملة يتصور على أربعة أنحاء:

1- النهي عن السبب، أي: العقد، مثلاً: نهى المولى عن إجراء الصيغة، كحرمة البيع - أي: التلفظ بالعقد - وقت نداء يوم الجمعة.

2- النهي عن المسبب، مثلاً: ملكية الكافر للمسلم، فإن المبغوض ليس الألفاظ، بل الملكية، وهي مسببة عن العقد.

3- النهي عن التسبيب، أي: ليس المبغوض السبب ولا المسبب، وإنما تحقق هذا المسبب بهذا السبب الخاص، مثلاً: البيع الربوي، فليس المنهي البيع، ولا إعطاء الزيادة إلى الغير، فإنها تجوز في الهدية، وإنما الحرام هو إعطاء الزيادة عبر البيع الربوي.

ص: 412

بنفس المعاملة بما هو فعل بالمباشرة[1]، أو بمضمونها بما هي فعل بالتسبب[2]، أو بالتسبيب بها إليه[3] وإن لم يكن السبب ولا المسبّب - بما هو[4] فعل من الأفعال - بحرام. وإنما يقتضي الفساد[5] في ما إذا كان دالاً على حرمة ما لا يكاد يحرم مع صحتها[6]، مثل النهي عن أكل الثمن أو المثمن في بيع[7]

-------------------------------------------------------------------

4- النهي عن مقتضى العقد، أي: النهي عن الأثر الذي يترتب على المعاملة الصحيحة، بحيث إذا كانت المعاملة صحيحة ترتب الأثر لا محالة، مثلاً: النهي عن تصرف البائع في الثمن، كقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (ثمن العذرة من السحت)(1).

[1] هذا القسم الأول، فالمبغوض هو الفعل المباشر الذي يأتي به الإنسان مباشرة، كالإيجاب والقبول من غير أن يكون المسبب، وهو الملكية الحاصلة من العقد - مثلاً - مبغوضاً، ومثاله العرفي: ما لو كان الكلام مضراً، فنهيه عن العقد - وهو لفظ - لأجل المفسدة في اللفظ.

[2] هذا القسم الثاني، فالمبغوض ليس السبب، وإنّما المسبب الذي أتي به بواسطة الإتيان بسببه، ومثاله العرفي: ما لو نهاه عن بيع ماله لعدوه، فإن المفسدة في انتقال ماله إلى عدوه.

[3] هذا القسم الثالث، فالمبغوض ليس السبب ولا المسبب، وإنما المبغوض الوصول إلى ذلك المسبب بهذا السبب.

[4] قوله: «بما هو فعل من الأفعال» متعلق بقوله: (وإن لم يكن السبب)، أي: السبب بما هو فعل ليس بمحرم ولا مبغوض.

[5] هذا هو القسم الرابع، «كان» أي: كان النهي، «ما» موصولة بمعنى الأثر.

[6] وهو ينحصر - ظاهراً - في ما كان النهي عن مقتضى العقد، أي: الذي كان به حقيقة العقد وماهيته، فمعنى النهي عنه هو الإرشاد إلى فساد المعاملة.

[7] كالنهي عن صنف خاص من أصناف المعاملات، كالبيع الربوي.

ص: 413


1- الاستبصار 3: 56.

أو بيع شيء[1].

نعم، لا يبعد دعوى ظهور[2] النهي عن المعاملة في الإرشاد إلى فسادها[3]، كما[4] أن الأمر بها يكون ظاهراً في الإرشاد إلى صحتها من دون دلالته على إيجابها أو استحبابها، كما لا يخفى. لكنه[5] في المعاملات بمعنى العقود والإيقاعات، لا المعاملات بالمعنى الأعم المقابل للعبادات[6].

-------------------------------------------------------------------

[1] كالنهي عن بيع الخمر، فالفرق بينهما أن الأول: النهي باعتبار نفس المعاملة، والثاني: باعتبار متعلق المعاملة.

دليل اقتضاء النهي للفساد في المعاملة

[2] أي: إن النهي وإن كان ظاهراً في الحرمة التكليفية - كما مرّ - إلاّ أنه في خصوص المعاملات لا ظهور له فيها؛ وذلك لأن الغرض من بيان أحكام المعاملات هو بيان الصحيح من الفاسد، فلذا فالأوامر في المعاملات لا ظهور لها في الوجوب، بل ظهورها في صحة هذه المعاملة، وأن الشارع أمضاها، كذلك النواهي في المعاملات لا ظهور لها في التحريم التكليفي، بل ظهورها في عدم الصحة والفساد.

[3] أي: عدم تمامية المعاملة، مما يستلزم منه عدم ترتب الأثر المطلوب عليها.

[4] استيناس للظهور في الحكم الوضعي لا التكليفي، أي: النهي في المعاملات لا يدل على الحرمة التكليفية، كما أن الأمر بها لا يدل على الوجوب التكليفي.

[5] أي: هذا الظهور في الوضع، أي: الفساد في العقود والإيقاعات موجود، أما في سائر التوصليات فلا ظهور في الفساد، بل الظهور في المعنى المتبادر الأولي، وهو الحرمة التكليفية، مثلاً: النهي عن غسل الثوب بالماء المغصوب لا يدل على فساد هذا الغسل وبقاء النجاسة، بل ظاهر في حرمة هذا العمل تكليفاً.

[6] أي: التوصليات المنهي عنها مما لا تحتاج إلى قصد القربة.

ص: 414

فالمعوّل[1] هو ملاحظة القرائن في خصوص المقامات، ومع عدمها[2] لا محيص عن الأخذ بما هو قضية صيغة النهي من الحرمة[3]؛ وقد عرفت أنها غير مستتبعة للفساد، لا لغةً ولا عرفاً.

نعم[4]، ربما يتوهم استتباعها له شرعاً من جهة دلالة غير واحد من الأخبار عليه:

منها: ما رواه في الكافي والفقيه عن زرارة عن الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، سأله عن مملوك تزوج بغير إذن سيده، فقال: «ذلك إلى سيده، إن شاء أجازه وإن شاء فرّق بينهما». قلت: - أصلحك الله تعالى - إن الحكم بن عتيبة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون: «إن أصل النكاح فاسد ولا يحل إجازة السيد له». فقال أبو جعفر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «إنه لم يعص الله، إنما عصى سيده، فإذا أجاز فهو له جائز»(1).

حيث دل بظاهره[5] أن النكاح لو كان مما حرمه الله تعالى عليه كان فاسداً.

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: المعوّل في المعاملات بالمعنى الأعم هو ملاحظة القرائن، فإن كانت قرينة توجب حمل النهي على الإرشاد إلى الفساد فهو، وإن لم توجد قرينة لزم حمل النهي على معناه الأوّلي، وهو الحرمة التكليفية، وهي لا تستتبع الفساد.

[2] أي: عدم القرائن.

[3] أي: التكليفية دون الدلالة على الفساد.

دليل آخر لاقتضائة للفساد في المعاملة

[4] استدراك عن قوله: (غير مستتبعة للفساد لا لغةً ولا عرفاً)، فالحرمة لا تلازم الفساد لغةً وعرفاً، ولكنها تلازم الفساد شرعاً، بمعنى أن الشارع المقدس لم يمض المعاملات المنهي عنها.

[5] أي: بمفهومه، فهذه العبارة (لم يعص الله) دلت على أنه إذا كان عصياناً لله كانت المعاملة باطلة، فنكاح العبد غير المأذون إنّما لم يفسد مع لحوق الإجازة؛ لأنه

ص: 415


1- الكافي 5: 478؛ من لا يحضره الفقيه 3: 541.

ولا يخفى[1]:

-------------------------------------------------------------------

لم يعص الله فيه، فيدل على أن عصيان الله في النكاح - الذي هو من أقسام المعاملة - يوجب الفساد، كذا عن الفصول(1)

- .

رد الدليل

[1] ويوضح هذا الرد ما في الروايات الأخرى، ومنها: (فقلت لأبي جعفر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: فإن: أصل النكاح كان عاصياً؟ فقال أبو جعفر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: إنما أتى شيئاً حلالاً وليس بعاص لله، إنما عصى سيده ولم يعص الله، إن ذلك ليس كإتيان ما حرم الله عزّ وجلّ عليه من نكاح في عدة وأشباهه)(2).

وتوضيح الرد، كما في الحقائق، حيث قال: (إنّ حقيقة المعصية: الجري على خلاف مقتضى التكليف، مقابل الإطاعة: التي هي الجري على وفق مقتضاه. والوضع لما لم يكن له اقتضاء لم يكن له طاعة ولا معصية، فالعاقد فضولاً على مال الغير ليس عاصياً لله تعالى. نعم؛ الجري على مقتضى العقد وترتيب آثار الصحة من دفع المال إلى المشتري وقبض المشتري له معصية؛ لحرمة التصرف في مال الغير.

وحينئذٍ نقول: عقد العبد بدون إذن سيده - المفروض في مورد السؤال في الرواية - : إن كان من التصرف في ملك الغير المحرم شرعاً ففعله معصية لله تعالى، وليس معصية للسيد؛ لعدم نهيه عنه. وإن لم يكن منه فليس معصية لله تعالى ولا للسيد. فقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (إنه لم يعص الله تعالى وإنما... الخ) لابد أن يكون تطبيق معصية السيد فيه على نكاح العبد، ونفي معصية الله تعالى عنه، مبنياً على أن يكون المراد من المعصية عدم الإذن.

فمعنى قوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (لم يعص الله) أن عقده في نفسه مأذون فيه من قبله سبحانه، قوله: (عصى سيده) أن عقده غير مأذون فيه من قبل السيد، فتكون أجنبية عن

ص: 416


1- الفصول الغروية: 144.
2- الكافي 5: 478.

أن الظاهر أن يكون المراد بالمعصية المنفية هاهنا[1] أن النكاح ليس مما لم يمضه الله ولم يشرعه كي يقع فاسدا[2]، ومن المعلوم استتباع المعصية بهذا المعنى[3] للفساد[4] كما لا يخفى، ولا بأس[5] بإطلاق المعصية على عمل لم يمضه الله ولم يأذن به، كما أطلق عليه بمجرد عدم إذن السيد فيه أنه معصية[6].

-------------------------------------------------------------------

الدلالة على دلالة النهي على الفساد)(1)،

انتهى.

[1] أي: في هذه الرواية وأشباهها، فالمعصية لها معنيان:

1- مخالفة المولى في أمره أو نهيه، وهذا يستتبع الحرمة التكليفية.

2- عدم الإذن منه، وهذا يستتبع الفساد؛ لأن ما لم يمضه الشارع باطل.

والمتبادر هو المعنى الأول، ولكن هنا لوجود القرينة لابد من أن يكون المراد المعنى الثاني، والقرينة هي: أولاً: الروايات الأخرى في هذا الباب - كما مرّ أحدها - . وثانياً: تقابل (لم يعص الله) ب- (عصى سيده)، حيث إنه من الواضح أن عصيان السيد ليس تكليفياً، بل بمعنى عدم استئذانه.

[2] أي: لو لم يكن ممضى لكان فاسداً، سواء أجاز المولى أم لم يجز.

[3] أي: بمعنى عدم الإذن.

[4] لأن المعاملات إمضائية، فما أجازه الشارع فإنه يترتب عليه الآثار، أما ما لم يُجزه الشارع فلا يترتب عليه أي أثر شرعي.

[5] إشارة إلى القرينة على حمل لفظ (المعصية) على خلاف ظاهره، وهو ما ذكرناه في ثاني القرائن.

[6] قال المصنف في الهامش: (وجه ذلك أن العبودية تقتضي عدم صدور فعل عن العبد إلاّ عن أمر سيده وإذنه. حيث إنه كَلٌّ عليه لا يقدر على شيء، فإذا استقل بأمر كان عاصياً، حيث أتى بما ينافيه مقام عبوديته، لا سيما مثل التزوج الذي كان خطيراً.

ص: 417


1- حقائق الأصول 1: 443.

وبالجملة: لو لم يكن ظاهراً في ذلك[1] لما كان ظاهراً في ما توهم[2].

وهكذا حال سائر الأخبار الواردة في هذا الباب، فراجع وتأمل.

تذنيب: حكي(1)

عن أبي حنيفة والشيباني دلالة النهي على الصحة[3]، وعن الفخر[4] أنه وافقهما في ذلك(2).

والتحقيق[5]:

-------------------------------------------------------------------

وأما وجه أنه لم يعص الله فيه، فلأجل كون التزوج بالنسبة إليه أيضاً كان مشروعاً ماضياً، غايته أنه يعتبر في تحققه إذن سيده ورضاه، وليس كالنكاح في العدة غير مشروع من أصله. فإذا أجاز ما صدر عنه بدون إذنه فقد وجد شرط نفوذه، وارتفع محذور عصيانه، فعصيانه لسيده)(3)،

انتهى.

[1] الذي ذكرناه من أن معنى المعصية هو عدم الإذن.

[2] من أن معنى المعصية هو الحرمة التكليفية التي تلازم الفساد هنا.

تذنيب

[3] أي: النهي يكشف عن صحة العبادة أو المعاملة؛ وذلك لأن القدرة شرط في التكليف، ومع عدم إمكان الإتيان بمتعلق التكليف لا يصح الأمر أو النهي، فلو دل النهي على الفساد كان معناه عدم إمكان إتيان متعلقه دائماً، مما يجعل النهي لغواً لتعلقه بغير المقدور.

[4] فخر المحققين نجل العلامة الحلي، وعن العلامة التوقف في الأمر(4).

[5] حاصله: إن هنالك أربع صور.

ففي النهي في المعاملات:

الصورة الأولى: إذا كان عن المسبب أو التسبيب - أي: القسم الثاني والثالث من

ص: 418


1- قوانين الأصول 1: 163؛ مطارح الأنظار 1: 763.
2- مطارح الأنظار 1: 763، حيث قال: «ووافقهما فخر المحققين في نهاية الأصول...».
3- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 254.
4- مطارح الأنظار 1: 763، وفيه: «والمنقول عن نهاية العلامة التوقف».

أنه في المعاملات كذلك[1] إذا كان عن المسبب أو التسبيب، لاعتبار القدرة في متعلق النهي كالأمر، ولا يكاد يقدر عليهما[2] إلاّ في ما كانت المعاملة مؤثرة صحيحة[3].

وأما إذا كان عن السبب فلا[4]، لكونه مقدوراً وإن لم يكن صحيحاً[5].

-------------------------------------------------------------------

أقسام النهي عن المعاملة - فهو يكشف عن صحة تلك المعاملة؛ لأن المسبب والتسبيب غير مقدورين مع الفساد.

الصورة الثانية: إن كان عن السبب - أي: القسم الأول - فإن ذات السبب مقدور للمكلف، مثلاً: في البيع وقت النداء فإن ألفاظ البيع مقدورة، سواء كان البيع صحيحاً أم فاسداً، فالنهي هنا لا يدل على الصحة كما أنه لا يدل على الفساد.

وفي النهي عن العبادات:

الصورة الثالثة: إن كان عن العبادة الذاتية - كالسجود - فهي مقدورة حتى مع النهي؛ لعدم اشتراط الأمر والقربة فيها، فلا يكشف النهي عن الصحة.

الصورة الرابعة: إن كان عن العبادة غير الذاتية، أي: ما كان عباديتها يتقوم بقصد القربة فليست مقدورة مع النهي، فصحة تعلق النهي بها إنما باعتبار أن المراد من العبادة: العبادة الشأنية، أي ما لو لا النهي لصح الإتيان بها عبادة - كما مرّ - فهذا النهي لا يكشف عن الصحة.

[1] أي: يكشف النهي عن الصحة.

[2] أي: على المسبب والتسبيب.

[3] أما في المسبب - كملكية الكافر للمصحف - فإن كان البيع فاسداً لم تحصل الملكية أصلاً، فالنهي عنها لغو؛ لأنه نهي عن غير مقدور.

وأما التسبيب - كالظهار - فإن كان النهي دالاً على الفساد كان المعنى عدم تحقق العلية فأيضاً يصير التسبيب غير مقدور.

[4] أي: فلا يدل النهي على الصحة.

[5] أي: ذات السبب مقدور وإن لم يكن فيه وصف السببيّة، مثلاً: ذات ألفاظ

ص: 419

نعم[1]، قد عرفت أن النهي عنه لا ينافيها[2].

وأما العبادات: فما كان منها عبادةً ذاتيةً - كالسجود والركوع والخشوع والخضوع له تبارك وتعالى - فمع النهي عنه[3] يكون مقدوراً[4]، كما إذا كان مأموراً به. وما كان[5] منها عبادة لاعتبار قصد القربة فيه لو كان مأموراً به، فلا يكاد يقدر عليه إلاّ إذا قيل باجتماع الأمر والنهي[6] في شيء ولو بعنوان واحد[7]، وهو محال. وقد عرفت[8] أن النهي في هذا القسم[9] إنما يكون نهياً عن العبادة، بمعنى أنه لو كان مأموراً به كان الأمر به أمر عبادة لا يسقط إلاّ بقصد القربة، فافهم[10].

-------------------------------------------------------------------

العقد ممكنة، فلو نهى المولى عنها لا يكون نهياً عن غير مقدور.

[1] أي: كما لا يدل النهي على الصحة فإنه لا يدل على الفساد أيضاً.

[2] أي: لا ينافي الصحة؛ وذلك لعدم الدلالة.

[3] أي: السجود ونحوه من العبادات الذاتية.

[4] لأن الأمر وقصد القربة لم يكونا مقومين لعبادية السجود ونحوه، فلذا أمكن هذا السجود حتى مع نهي المولى عنه.

نعم، هذا السجود لا يُجزي؛ لعدم تعلق غرض المولى به وللمفسدة فيه.

[5] إشارة إلى الصورة الرابعة، «منها» أي: من العبادات.

[6] الأمر: ليتحقق العبادية فيه ويمكن قصد القربة، والنهي: ليتحقق الفرض وهو النهي عن العبادة.

[7] لأن المفروض أن الصلاة بما هي صلاة مأمور بها، وبما هي صلاة منهي عنها.

[8] بيان لإمكان تعلق النهي بالعبادة غير الذاتية، ولكن بالمعنى المذكور وهو العبادة الشأنية.

[9] أي: العبادة غير الذاتية.

[10] لعله إشارة إلى أن النهي التكليفي لا يتعلق بغير المقدور، وأما النهي الإرشادي فيتعلق به، أي: يكون النهي إرشاداً إلى بطلان المعاملة أو العبادة.

ص: 420

-------------------------------------------------------------------

تلخيص تحقيق المصنف

ثم إن المصنف لخص تحقيقه في المقام في الهامش بقوله: (ملخصه أن الكبرى - وهي أن النهي حقيقة إذا تعلق بشيء ذي أثر كان دالاً على صحته وترتب أثره عليه لاعتبار القدرة في ما تعلق به النهي كذلك(1) - وإن كانت مسلّمة، إلاّ أن النهي كذلك لا يكاد يتعلق بالعبادات، ضرورة امتناع تعلق النهي كذلك بما تعلق به الأمر. وتعلقه بالعبادات بالمعنى الأول وإن كان ممكناً، إلاّ أن الأثر المرغوب منها عقلاً أو شرعاً غير مترتب عليها مطلقاً، بل على خصوص ما ليس بحرام منها.

وهكذا الحال في المعاملات: فإن كان الأثر في معاملة مترتباً عليها ولازماً لوجودها كان النهي عنها دالاً على ترتبه عليها لما عرفت)(2)، يعني لاعتبار القدرة في ما تعلق به النهي حقيقة، انتهى.

ص: 421


1- يعني: حقيقة.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 256.

ص: 422

المقصد الثالث في المفاهيم

اشارة

ص: 423

ص: 424

المقصد الثالث في المفاهيم، مقدمة[1] وهي: أن المفهوم - كما يظهر من موارد إطلاقه[2] - هو عبارة عن حكم إنشائي[3] أو إخباري[4] تستتبعه[5]

-------------------------------------------------------------------

[1] هذه المقدمة في بيان معنى المفهوم.

[2] أي: موارد الاستعمال، وهنا في صدد بيان المعنى الاصطلاحي للمفهوم وهو يقابل المنطوق، وأما حسب المعنى اللغوي فإن المفهوم هو المعنى الذي يفهم من اللفظ فيشمل المنطوق أيضاً.

[3] مثل: (إن جاءك زيد فأكرمه)، حيث إن الجزاء أمر، والأمر إنشاء.

[4] مثل: (إذا طلعت الشمس فالنهار موجود) فالجزاء - وهو وجود النهار - خبرٌ وليس إنشاءً.

[5] أي: الخصوصية تستتبع ذلك المعنى المفهوم، بمعنى أنها تجعل المفهوم تابعاً للمعنى المنطوق؛ وذلك بأن يكون في المنطوق خصوصية أوجبت المفهوم، وتلك الخصوصية هي الأولوية أو العلية المنحصرة.

فالأولوية كقوله: {فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ}(1) حيث إن معنى هذه الآية فيه خصوصية، وهي أولوية الضرب من كلمة (أف)، وهذه الأولوية جعلت للآية مفهوماً هو حرمة ضربهما.

والعلية المنحصرة كما يقال: (إن طلعت الشمس فالنهار موجود) حيث نعلم بانحصار وجود النهار بطلوع الشمس، فهذا الانحصار خصوصية جعلت لهذا الكلام مفهوماً، وهو عدم النهار عند عدم الطلوع.

ص: 425


1- سورة الإسراء، الآية: 23.

خصوصية المعنى[1] الذي أريد من اللفظ بتلك الخصوصية[2]، ولو بقرينة الحكمة[3]، وكان يلزمه لذلك[4]، وافقه في الإيجاب والسلب[5] أو خالفه[6]. فمفهوم (إن جاءك زيد فأكرمه) مثلاً - لو قيل به - قضية شرطية سالبة بشرطها

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: المعنى المنطوق الذي يراد من اللفظ أولاً وبالذات.

[2] أي: أريد ذلك المعنى المنطوق مع تلك الخصوصية، والباء هنا بمعنى (مع)، فيخرج من المفاهيم المعاني التي دل عليها العقل، كوجوب المقدمة وحرمة الضد ودلالة الاقتضاء ودلالة الإشارة ونحوها؛ لأنها لا تستفاد من اللفظ.

[3] أي: لا فرق في ثبوت المفهوم بين كون منشأه الوضع، بمعنى وضع الواضع الألفاظ أو الهيئات للدلالة عليه أيضاً، وبين كون المنشأ الإطلاق الحاصل من مقدمات الحكمة.

[4] أي: وكان المفهوم - وهو الحكم الإنشائي أو الإخباري - يلزم المنطوق - وهو المعنى الذي أريد من اللفظ - لذلك الخصوصية، بمعنى أن هذا اللزوم لأجل تلك الخصوصية. وسيأتي - بعد قليل - أنه لا يكفي التقارن الاتفاقي بين الشرط والجزاء مثلاً، بل لابد من اللزوم.

[5] أي: سواء وافق المفهوم المنطوق في الإيجاب والسلب أم لا، ومفهوم الموافقة هو الفحوى والأولوية. ومثال الموافقة في الإيجاب: (صل من قطعك) حيث مفهومه بالأولوية هو صلة من لم يقطعك بأن كان وصولاً. ومثال الموافقة في السلب: قوله تعالى: {فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ}(1) ومفهومه هو لا تضربهما بالأولوية.

[6] أي: كان المنطوق موجباً والمفهوم سالباً أو بالعكس. مثل: (إن طلعت الشمس فالنهار موجود) و(إن لم يعص فلا تهنه).

ولا يخفى أنه في مثل الشرط قد يكون الشرط والجزاء موجبين، وقد يكونان سالبين، وقد يكونان مختلفين، فيكون المفهوم عكسهما تماماً.

ص: 426


1- سورة الإسراء، الآية: 23.

وجزائها[1] لازمة[2] للقضية الشرطية التي تكون معنى القضية اللفظية ويكون لها[3] خصوصية بتلك الخصوصية كانت مستلزمة لها[4]. فصح[5] أن يقال: «إن المفهوم إنما هو حكم غير مذكور[6]»؛ لا أنه حكم لغير مذكور - كما فسر به[7] -؛ وقد وقع فيه النقض والإبرام بين الأعلام(1)،

مع أنه لا موقع له[8]، كما أشرنا إليه

-------------------------------------------------------------------

[1] مراده أن الشرط سالب والجزاء سالب، وجعل (سالبة) صفة للقضية إنّما هو من باب الوصف بحال المتعلق، وإلاّ فمثل: (إن لم يجئك فلا تكرمه) القضية موجبة؛ لأنها إثبات ارتباط الجزاء بالشرط، وإنّما السلب في الشرط والجزاء، فتأمل.

[2] صفة للقضية السالبة، أي: تلك القضية السالبة - وهي المفهوم - لازمة للقضية الشرطية الموجبة التي هي المنطوق.

[3] أي: يكون للقضية الشرطية الموجبة وهي المنطوق، «خصوصية» أي: علية منحصرة، فإن وجوب الإكرام منحصر في حال المجيء.

[4] أي: بسبب تلك الخصوصية كانت القضية اللفظية وهو المنطوق، مستلزمة للقضية السالبة وهو المفهوم.

[5] تفريع على ما ذكره من معنى المفهوم، حيث فسره بأنه حكم تابع لمعنى المنطوق، فبناءً على هذا التعريف فإن المفهوم هو حكم غير مذكور في الكلام، لكنه لازم للكلام لفظاً.

[6] وذلك لأن الموضوع مذكور في الكلام، فقولنا: (إن جاء زيد فأكرمه) ومفهومه: (إن لم يجئ زيد فلا تكرمه)، فإن موضوع المفهوم وهو (زيد) مذكور في الكلام.

[7] المفسر هو العضدي(2)

حيث قال - على المحكي عنه - : بأن يكون حكماً لغير مذكور وحالاً من أحواله.

[8] أي: لا فائدة في النقض والإبرام.

ص: 427


1- كما عن العضدي في شرح المختصر: 306.
2- الفصول الغروية: 145؛ مطارح الأنظار 2: 12.

في غير مقام، لأنه من قبيل شرح الاسم، كما في التفسير اللغوي.

ومنه قد انقدح حال غير هذا التفسير مما ذكر في المقام ، فلا يهمنا التصدي لذلك، كما لا يهمنا[1] بيان أنه من صفات المدلول أو الدلالة[2]؛ وإن كان بصفات المدلول أشبه[3]، وتوصيف الدلالة به أحياناً[4] كان من باب التوصيف بحال المتعلق.

وقد انقدح من ذلك[5]: أن النزاع في ثبوت المفهوم وعدمه في الحقيقة إنما يكون

-------------------------------------------------------------------

[1] وذلك لعدم ترتب أثر عملي على ذلك.

[2] صفة المدلول: ما كان مرتبطاً بالمعنى، كالكلية والجزئية.

وصفة الدلالة: ما كان مرتبطاً بالهيئة، أي: بنسبة اللفظ إلى المعنى، كالظهور فإنه لا يرتبط لا باللفظ ولا بالمعنى وإنّما بدلالته عليه.

وهنا قيل(1):

إنّ المفهوم حكم ملازم لخصوصية المعنى فهو إذن صفة المدلول. وقيل: إنّ المعنى لا يتصف بالمفهوم، وإنما الدلالة لو كانت تابعة سميت مفهوماً.

[3] لأنهم فسروا المفهوم بأنه حكم إنشائي أو إخباري... الخ، والحكم هو مدلول اللفظ لا الدلالة.

[4] حيث إنهم قالوا: إن الدلالة تنقسم إلى منطوق ومفهوم(2).

وعن التقريرات: (وأما ما قيل من أن تقسيم الدلالة إليهما يدل على ذلك. ففيه: أن التقسيم المذكور لم نعثر عليه في كلام من يرى أنها من الأوصاف المنتزعة من المدلول. نعم، عدّهم دلالة الإشارة(3)من

المنطوق دليل عليه. والظاهر إرادة دخول مدلولها فيه)، انتهى.

[5] أي: من قولنا: إن المفهوم حكم ينشأ من خصوصة المعنى المنطوق، وحاصله: إن النزاع في أصل ثبوت المفهوم وعدم ثبوته، لا أن النزاع في حجيته بعد

ص: 428


1- الوصول إلى كفاية الأصول 3: 11.
2- الحاشية على قوانين الأصول 1: 121.
3- يعني كدلالة الآيتين على أقل الحمل؛ مطارح الأنظار 2: 9.

في أن القضية الشرطية أو الوصفية أو غيرهما هل تدل بالوضع أو بالقرينة العامة على تلك الخصوصية المستتبعة لتلك القضية الأخرى[1] أم لا؟

فصل: الجملة الشرطية هل تدل[2] على الانتفاء عند الانتفاء[3] - كما تدل على الثبوت عند الثبوت[4] بلا كلام[5] - أم لا؟ فيه خلاف بين الأعلام.

لا شبهة[6] في استعمالها وإرادة الانتفاء عند الانتفاء في غير مقام[7]، إنما الإشكال والخلاف في أنه[8] بالوضع أو بقرينة عامة بحيث لابد من الحمل

-------------------------------------------------------------------

فرض ثبوته، فإنه لا إشكال في حجيته لو فرض وجوده، فمن ينكر حجية المفهوم إنما ينكر أصل وجوده، ومن يثبت الحجيّة يدعي أصل وجوده.

[1] أي: المفهوم.

فصل مفهوم الشرط

اشارة

[2] بالوضع أو بالانصراف أو بالإطلاق.

[3] أي: انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط.

[4] أي: تدل على ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط في المنطوق.

[5] لوضوح أن الشرط وضع لذلك، ولا خلاف فيه وقوله: «كما تدل على الثبوت عند الثبوت بلا كلام» جملة معترضة.

[6] أي: إن الجملة الشرطية قد تستعمل ويراد منها المفهوم، كما أنها قد تستعمل ولا يراد منها المفهوم. وليس كلامنا في الاستعمال، بل نريد إثبات الوضع أو الانصراف أو الإطلاق كي يكون المفهوم مدلولاً عليه في الكلام، بحيث حين الشك نقول بالمفهوم.

[7] أي: في غير مقام واحد، بل في مقامات متعددة.

[8] أي: الدلالة على المفهوم، «بالوضع» بأن تكون أداة الشرط أو الهيئة في

ص: 429

عليه[1] لو لم يقم على خلافه قرينة[2] من حالٍ أو مقالٍ؟

فلابد للقائل بالدلالة[3] من إقامة الدليل على الدلالة بأحد الوجهين[4] على تلك الخصوصية المستتبعة لترتب الجزاء على الشرط نحو ترتب المعلول على علته المنحصرة[5].

-------------------------------------------------------------------

الشروط وضعت للدلالة على المنطوق والمفهوم معاً، «بقرينة عامة» كالانصراف أو مقدمات الحكمة، وإنّما قال: «عامة» لأن القرائن الخاصة لا تفيد؛ إذ في كل مجاز أو تخصيص توجد القرائن الخاصة، ولا يمكن حمل اللفظ على المعنى المجازي أو الخاص من دونها، وإنّما نحتاج إلى قرينة عامة حتى نحمل اللفظ على ذلك المعنى في موارد الشك. ثم إن القرينة العامة قد تكون الانصراف، وقد تكون مقدمات الحكمة.

[1] أي: حمل اللفظ على المعنى المفهوم - إضافة إلى المنطوق - .

[2] أي: قرينة خاصة؛ إذ مع وجود قرينة خاصة يرفع اليد عن المعنى الموضوع له - ككل مجاز - وكذلك لا يتم الانصراف، كما لا تتم مقدمات الحكمة؛ إذ من المقدمات أن لا يضع المولى قرينة على الخلاف.

[3] أي: دلالة الشرط على المفهوم.

[4] أي: الوضع أو القرينة العامة.

[5] أي: يحتاج القائل بالمفهوم إلى إثبات أربعة أمور:

الأول: اللزوم بين الشرط والجزاء، أي: يكون الارتباط بينهما بنحو يمتنع في نظر العقل أن يوجد الشرط ولا يوجد الجزاء؛ إذ لو لم يكن لزوم، بل كان من باب القضية الاتفاقية لم يكن له مفهوم، فمثل: (كلّما جئتك كنت غائباً) لا مفهوم له؛ لأن مجيئي وغيابك لا ارتباط بينهما باللزوم، بل قضية اتفاقية، فلا مفهوم لها بحيث يكون (كلّما لم أجئك لم تكن غائباً) إذ يجوز غيابه في فترات أخرى أيضاً غير فترة المجيء.

ص: 430

وأما القائل بعدم الدلالة ففي فسحة[1]، فإن له منع دلالتها على اللزوم - بل[2] على

-------------------------------------------------------------------

الثاني: الترتب، بأن يكون الشرط متقدماً، والجزاء متأخراً - ولو بالرتبة - فلو لم يكن ترتب بأن كان الشرط معلولاً والجزاء علة مثل: (إن كانت الحرارة موجودة فالشمس طالعة)، أو كان الشرط والجزاء معلولين لعلة أخرى مثل: (إن كان الضياء موجوداً فالحرارة موجودة) وكلاهما معلول للنار، فحينئذٍ لا يوجد مفهوم، فتأمل.

الثالث: أن يكون الترتب على نحو العِلّية، أي: يكون الشرط علة للجزاء؛ إذ في صورة عدم العلية لا يكون انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط، فالترتب بالطبع - كما في العلل الناقصة حيث يمكن وجودها من دون وجود المعلول - مثل: (إن كانت النار موجودة فالاحتراق حاصل) لا مفهوم له؛ لأن وجود النار مقتضٍ وليس علة تامة.

وفي الحقائق: (كالترتب بالطبع وهو ما يكون المتقدم فيه من العلل الناقصة، بحيث يجوز فيه وجود المتقدم مع عدم وجود متأخر ويمتنع العكس، أو بالرتبة وهو ما يكون الترتب بين السابق واللاحق معتبراً فيه حسياً كان، كما بين الإمام والمأموم، أو عقلياً، كما بين الأجناس والأنواع، أو بالزمان وهو ما لا يجتمع فيه المرتبتان، أو بالشرف وهو ما يكون للمتقدم كمال ليس للمتأخر)(1)،

انتهى.

الرابع: أن تكون العلة منحصرة بحيث لا يكون للجزاء علّة غير الشرط، أما إذا لم تكن منحصرة مثل: (إن طلعت الشمس فالضياء موجود) فلا مفهوم لها؛ إذ يمكن غياب الشمس ووجود الضياء بالسراج ونحوه.

[1] أي: إنكاره لإحدى المقدمات الأربع كافٍ لإثبات مدعاه في عدم الدلالة على المفهوم؛ لأن الدلالة بحاجة إلى إثبات بالوضع أو بالقرينة العامة، أما عدم الدلالة فيكفي فيها عدم ثبوت إحدى مقدماتها.

[2] أي: يقول: بل الجملة الشرطية تدل على مجرد الثبوت... الخ، - وهو إنكار الأمر الأول - .

ص: 431


1- حقائق الأصول 1: 448.

مجرد الثبوت عند الثبوت ولو من باب الاتفاق - . أو منع دلالتها على الترتب[1]، أو على[2] نحو الترتب على العلة، أو العلة المنحصرة بعد تسليم اللزوم أو العلية[3].

لكن[4] منع دلالتها على اللزوم، ودعوى كونها اتفاقية في غاية السقوط، لانسباق اللزوم منها[5] قطعاً.

وأما المنع[6] عن أنه بنحو الترتب على العلة - فضلاً عن كونها منحصرة - فله مجال واسع.

ودعوى تبادر اللزوم والترتب بنحو الترتب على العلة المنحصرة - مع كثرة استعمالها[7] في الترتب على نحو الترتب على الغير المنحصرة(1)

منها بل في مطلق

-------------------------------------------------------------------

[1] وهذا إنكار للأمر الثاني.

[2] أي: أو منع دلالتها على نحو الترتب على العلة - وهو إنكار الأمر الثالث - .

[3] أي: بعد أن يسلّم وجود العِلية ينكر انحصار العلة - وهو إنكار الأمر الرابع - .

[4] من هنا يبدأ المصنف في بيان رأيه، وحاصل كلامه: إنه لا يمكن منع اللزوم بين الشرط والجزاء، بل الجملة الشرطية تدل على اللزوم بالوضع، فإنه يتبادر من الجملة الشرطية أن الارتباط بين الشرط والجزاء بنحو اللزوم لا بنحو الاتفاق، والتبادر آية الوضع.

[5] أي: تبادر اللزوم من الجملة الشرطية.

[6] أي: المقدمات الثلاث الأخرى، وهي الترتب، والعليه، والانحصار، فإنه يمكن منعها؛ إذ لا دليل عليها - حسب رأي المصنف - .

أدلة القائلين بالمفهوم
الدليل الأول: الوضع

[7] أي: استعمال الجملة الشرطية في العلة غير المنحصرة كثيرة، بل قد يقال: إنها الأكثر، ومع هذه الكثرة كيف يمكن ادعاء التبادر؟

ص: 432


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير المنحصرة».

اللزوم - بعيدة[1]، عهدتها على مدعيها[2]. كيف[3]! ولا يرى في استعمالها فيهما عناية ورعاية علاقة، بل إنما تكون إرادته كإرادة الترتب على العلة المنحصرة بلا عناية، كما يظهر[4] على من أمعن النظر وأجال البصر في موارد الاستعمالات وفي عدم الإلزام والأخذ بالمفهوم في مقام المخاصمات والاحتجاجات وصحة الجواب بأنه لم يكن لكلامه مفهوم[5]، وعدم صحته[6] لو كان له ظهور فيه[7] معلوم.

-------------------------------------------------------------------

[1] خبر قوله: (ودعوى)، وهو رد لهذه الدعوى.

[2] لأنه إذا وصل الكلام إلى التبادر انقطع البحث والنقاش. نعم، يمكن لمدعي التبادر أو منكره تقريب الادعاء بذكر أمثلة وشواهد ونحوها.

[3] بيان لبُعد التبادر المزعوم، وحاصله: إنه لو ثبت التبادر في العلة المنحصرة كان معناه أن الوضع فيها دون غيرها، فيكون الاستعمال في العلة غير المنحصرة مجازاً؛ لأنه استعمال اللفظ في غير ما وضع له! فعلى هذا الكلام مثل: (إن طلعت الشمس فالضياء موجود) مجاز؛ لأن علة الضياء غير منحصرة في طلوع الشمس، وادعاء المجازية باطل قطعاً، «استعمالها» استعمال الجملة الشرطية، «فيهما» في غير المنحصرة وفي اللزوم المطلق.

[4] يستدل المصنف لرد التبادر في العلة المنحصرة بأمرين:

الأول: إنه يكثر استعمال الشرط في العلة غير المنحصرة ولا يرى أحد المجاز فيها.

الثاني: عدم الأخذ بالمفهوم في مقام المخاصمات - وهي مقامات يتشبث كل خصم بأدنى دليل لإثبات مدعاه - فعدم الأخذ بالمفهوم في المخاصمات دليل على عدم ثبوته أصلاً.

[5] فمثلاً: لو قال المدعي: (لو جئت بصك فكلامي صحيح) ثم لم يأت بالصك، ولكنه تراه مستمراً في دعواه، ولا يقال له: إذن ثبت عدم صحة كلامك بمفهومه.

[6] أي: عدم صحة الجواب لو كان للكلام مفهوم.

[7] أي: لو كان للكلام ظهور في المفهوم.

ص: 433

وأما دعوى الدلالة بادعاء انصراف[1] إطلاق العلاقة اللزومية إلى ما هو أكمل أفرادها، وهو اللزوم بين العلة المنحصرة ومعلولها(1)؛

ففاسدة جداً[2]، لعدم[3] كون الأكملية موجبة للانصراف إلى الأكمل، لا سيما مع كثرة الاستعمال في غيره، كما لا يكاد يخفى. هذا مضافاً[4] إلى منع كون اللزوم بينهما[5] أكمل مما إذا

-------------------------------------------------------------------

الدليل الثاني: الانصراف

[1] هذا هو الدليل الثاني لادعاء المفهوم للشرط، وحاصله: إن الشرط وإن وضع للأعم، لكنه ينصرف إلى العلة المنحصرة، ودليل الانصراف هو الأكملية، فإن اللفظ ينصرف إلى أكمل الأفراد، فإن العلاقة بين الشرط والجزاء لها أقسام، ولكن أكمل تلك الأقسام هو العلاقة بنحو العلة المنحصرة.

[2] الإشكال على الانصراف، صغرىً وكبرىً:

أما الكبرى: فإشكالها أن الأكملية ليست منشأ للانصراف أصلاً، فمثل: (جاء إنسان) لا ينصرف إلى أكمل الناس خَلقاً وخُلقاً، وخاصة مع كثرة الاستعمال في غير الأكمل.

وأما الصغرى: فإشكالها أن العلة المنحصرة ليست أكمل أفراد اللزوم، قال في العناية:(فإن الربط والسنخية بين كل علة ومعلولها لابد وأن يكون بحدّ يوجب التأثير والتأثر، وأما الانحصار وعدمه فممّا لا ربط له بشدة الربط والسنخية، كما لا يخفى)(2).

[3] هذا الإشكال في الكبرى.

[4] هذا الإشكال في الصغرى، فنحن لا نرى فرقاً في نحو الربط بين (إذا كانت الشمس طالعة فالنهار موجود) وهو علية منحصرة، وبين (إذا كانت الشمس طالعة فالضياء موجود) وهو علية غير منحصرة.

[5] أي: بين الشرط والجزاء.

ص: 434


1- وهو دليل الشيخ في مطارح الأنظار 2: 26.
2- عناية الأصول 2: 172.

لم تكن العلة بمنحصرة، فإن الانحصار لا يوجب أن يكون ذاك الربط الخاص[1] الذي لابد منه في تأثير العلة في معلولها آكد وأقوى.

إن قلت[2]: نعم[3]، ولكنه قضية الإطلاق بمقدمات الحكمة، كما أن قضية إطلاق صيغة الأمر هو الوجوب النفسي.

قلت: أولاً[4]:

-------------------------------------------------------------------

[1] كالسنخية بالتوليد أو الإعداد أو التوافي - حسب المباني - .

الدليل الثالث: الإطلاق في الشرط أو الهيأة

ويمكن أن يبين الإطلاق بثلاثة أوجه، كل واحد منها يمكن أن يكون دليلاً مستقلاً لإثبات المفهوم، فتكون الأدلة خمسة.

[2] حاصل الدليل: هو إثبات الإطلاق في أداة الشرط أو الهيئة في الجملة الشرطية؛ لأن عدم انحصار العلة بحاجة إلى مؤنة زائدة - وهو بيان العلة الأخرى - في حين أن انحصار العلة لا يحتاج إلى مؤنة زائدة، فبالإطلاق ننفيها.

نظير الوجوب حيث إن النفسي منه لا يحتاج إلى مؤنة زائدة، عكس الغيري - أي: الوجوب المقدمي - الذي فيه مؤنة زائدة، وهي إثبات وجوب ذي المقدمة حتى يثبت وجوب المقدمة.

[3] أي: نسلم أن العلة المنحصرة لا تستفاد من الوضع أو الانصراف، لكنها تستفاد من الإطلاق، «لكنه» أي: لكن انحصار العلة في الشرط.

[4] الجواب الأول من وجهين:

الوجه الأول: إن أداة الشرط حرف، وكذلك الهيئة في الجملة الشرطية معنى حرفي، والمعنى الحرفي جزئي، والجزئي غير قابل للإطلاق؛ لأن الإطلاق معناه عدم امتناع صدقه على كثيرين، وهو يتضاد مع الجزئي الذي معناه امتناع الصدق على كثيرين، فإذا امتنع الإطلاق امتنع التقييد؛ لأنهما من العدم والملكة - كما سيأتي في باب المطلق والمقيد - .

ص: 435

هذا في ما تمت هناك مقدمات الحكمة، ولا تكاد تتم[1] في ما هو مفاد الحرف[2]، كما هاهنا[3]، وإلاّ[4] لما كان معنى حرفياً[5]، كما يظهر وجهه بالتأمل.

وثانياً[6]: تعينه[7] من بين أنحائه[8] بالإطلاق المسوق في مقام البيان بلا معين.

-------------------------------------------------------------------

والوجه الثاني: إن الإطلاق يتوقف على لحاظ المعنى بالاستقلال، والمعنى الحرفي لا يلاحظ مستقلاً وإنما لحاظه آلي.

[1] أي: لا تتم مقدمات الحكمة؛ لأن إحدى المقدمات هي: (عدم وجود قدر متيقن)، وهذه المقدمة إنما تتم لو كان الشيء قابلاً للإطلاق.

[2] لكن تقدم من المصنف أن المعنى الحرفي: الوضع والموضوع له والمستعمل فيه عام، ولعل هذا الجواب على مبنى المستدل.

[3] إذ (إن) حرف، و(الهيئة الشرطية) معنى حرفي.

[4] أي: وإن تمت مقدمات الحكمة.

[5] للوجهين الذين ذكرناهما قبل قليل.

[6] حاصل الإشكال الثاني: إنه لا فرق بين العلة المنحصرة والعلة غير المنحصرة، فكلاهما يحتاج إلى البيان، فلا يمكن إثبات أحدهما بالإطلاق؛ وذلك: لأن المنحصرة وغير المنحصرة مشتركتان في العلية، أي: كل واحد منهما علة، والانحصار وعدمه غير مرتبط بعليتهما، بل هو أمر خارج عنها، فإثبات أي منهما يحتاج إلى دليل.

وبعبارة أخرى: الإطلاق يثبت اللزوم والترتب، واللزوم له أفراد، منها: العلة المنحصرة، ومنها: العلة غير المنحصرة، وكلاهما فردان للزوم والترتب بلا تفاوت، فإثبات أحدهما - أياً كان - بحاجة إلى مؤنة زائدة.

[7] أي: تعين اللزوم في العلة المنحصرة.

[8] أي: أنحاء اللزوم حيث إن له أفراداً منها المنحصرة ومنها غير المنحصرة.

ص: 436

ومقايسته مع تعين الوجوب النفسي بإطلاق صيغة الأمر مع الفارق[1]، فإن النفسي هو الواجب على كل حال، بخلاف الغيري، فإنه واجب على تقدير دون تقدير[2]، فيحتاج بيانه[3] إلى مؤونة التقييد بما إذا وجب الغير، فيكون الإطلاق في الصيغة مع مقدمات الحكمة محمولاً عليه[4]، وهذا بخلاف اللزوم والترتب بنحو الترتب على العلة المنحصرة، ضرورة أن كل واحد من أنحاء اللزوم والترتب[5] محتاج في تعينه إلى القرينة مثل الآخر[6] بلا تفاوت أصلاً، كما لا يخفى.

ثم[7] إنه ربما يتمسك للدلالة على المفهوم بإطلاق الشرط بتقريب أنه لو لم

-------------------------------------------------------------------

[1] لأن الغيري بحاجة إلى مؤنة زائدة فيمكن نفيها بالإطلاق، والنفسي لا مؤنة زائدة له، بخلاف ما نحن فيه، حيث إن الانحصار أو عدمه كلاهما بحاجة إلى مؤنة زائدة.

[2] فإنه إذا وجب ذو المقدمة وجبت المقدمة بالوجوب الغيري، وإذا لم يجب ذو المقدمة لم تجب المقدمة بالوجوب الغيري.

[3] أي: بيان الواجب الغيري.

[4] أي: على النفسي لعدم احتياجه إلى مؤنة زائدة.

[5] نحو العلة المنحصرة ونحو العلة غير المنحصرة، بل وغيرهما.

[6] لأنهما فردان للمطلق وهما في عرض واحد.

الدليل الرابع: الإطلاق في الشرط

[7] هذا وجه آخر لبيان الإطلاق، ويمكن عدّه دليلاً رابعاً لإثبات مفهوم الشرط، وفرقه عن الدليل السابق أن ذاك كان لإثبات إطلاق الشرط أو الهيئة، وهذا لإثبات إطلاق الشرط، كالمجيء في إن جاء زيد فأكرمه - مثلاً - .

وحاصل الدليل هو: إنه لو لم يكن ترتب الجزاء على الشرط على نحو العلة المنحصرة لزم التقييد في الشرط، فيُنفى تقييد الشرط بالإطلاق، فيثبت انحصار العلة.

ص: 437

يكن بمنحصر يلزم تقييده، ضرورة أنه لو قارنه أو سبقه الآخر لما أثر وحده[1]، وقضية إطلاقه أنه يؤثر كذلك مطلقاً[2].

وفيه[3]:

-------------------------------------------------------------------

بيانه: إن المولى لو قال: (إن جاءك زيد فأكرمه) فلو كانت عِلّة الإكرام منحصرة في المجيء فإن المجيء يكون علّة على كل حال، أما لو لم تكن العلة منحصرة بمعنى وجود علة أخرى للإكرام، فإن المجيء لا يكون علة دائماً، بل يكون علة إذا لم تسبقه ولم تقارنه العلة الأخرى؛ لامتناع اجتماع علتين على معلول واحد، فإذا سبقت العلة الأخرى كانت هي العلة، فيتحقق المعلول وهو وجوب الإكرام، فإذا تحقق المجيء فإنه لا يكون علة لوجوب الإكرام - لتحقق هذا المعلول سابقاً - وإذا تقارن المجيء مع العلة الأخرى فإن المجيء لا يكون علة، بل يكون جزء علّة. فبإطلاق المجيء - بمعنى أنه علّة على كل حال سواء سبقه أو قارنه شيء أم لا - يثبت انحصار العلّة.

[1] المقصود أنه لو قارنه الآخر كان كل واحد منهما جزء علة، فلا يؤثر المجيء - مثلاً - وحده، بل يكون جزء علة. وإذا سبقه الآخر كان السابق هو العلّة، فلا يؤثر المجيء - مثلاً - أصلاً؛ لاستحالة تحصيل الحاصل.

[2] «أنه» أنّ الشرط - كالمجيء - يؤثر، «كذلك» أي: وحده، «مطلقاً» أي: سواء سبقه شيء أو قارنه أم لا، وهذا الإطلاق يثبت الانحصار.

[3] حاصل الإشكال هو: إن تأثير الشرط وحده له معنيان:

الأول: إن المولى في مقام بيان أن الشرط يؤثر في الجزاء من دون احتياج ضمّ شيء إليه، مثلاً: المجيء علّة للإكرام، وليس جزء علّة بحيث يحتاج إلى ضم شيء إلى المجيء حتى يجب الإكرام، والتمامية تثبت بالإطلاق.

الثاني: أن يكون المولى في مقام بيان عدم وجود شرط آخر للجزاء.

ص: 438

أنه[1] لا تكاد تنكر الدلالة على المفهوم مع إطلاقه كذلك[2] إلاّ أنه من المعلوم ندرة تحققه[3] لو لم نقل بعدم اتفاقه.

فتلخص - بما ذكرناه - أنه لم ينهض دليل على وضع مثل (إن) على تلك الخصوصية المستتبعة للانتفاء عند الانتفاء، ولم تقم عليها قرينة عامة. أما قيامها[4] أحياناً - كانت مقدمات الحكمة أو غيرها - مما لا يكاد ينكر، فلا يجدي القائل بالمفهوم أنه قضية الإطلاق في مقامٍ من باب الاتفاق[5].

وأما توهم[6]

-------------------------------------------------------------------

وهذا غير ثابت، ففي المثال لا يريد المولى بيان أن الإكرام منحصر في المجيء، بحيث لا يجب الإكرام أصلاً مع عدم المجيء، فالانحصار لا يثبت بالإطلاق.

[1] الضمير للشأن.

[2] أي: مع إطلاق الشرط، سواء سبقه شيء آخر أم قارنه أم لا.

[3] أي: ندرة تحقق هذا الإطلاق بأن يكون المولى في مقام بيان تأثيره، سواء قارنه أم سبقه شيء أم لا.

[4] أي: قيام القرينة العامة.

[5] أي: لا يجدي القائل بمفهوم الشرط أن المفهوم مقتضى إطلاق الشرط في مورد من الموارد اتفاقاً؛ لقيام قرينة خاصة.

الدليل الخامس: الإطلاق بنفي العدل
اشارة

[6] هذا بيان للإطلاق من وجه آخر، ويمكن عده دليلاً خامساً لمفهوم الشرط. وحاصله: إن الإطلاق ينفي وجود عِدل للشرط، كما أن إطلاق الوجوب ينفي الوجوب التخييري.

وفرق هذا عن سابقه، أن الدليل السابق كان مصب الإطلاق هو الشرط الآخر، أي: نقول: إنّ الإطلاق ينفي شرطاً آخر للجزاء، وأما في هذا الدليل فمصبّ الإطلاق هو نفس الشرط، أي: نقول: إنّ الإطلاق يحصر العلة في الشرط.

ص: 439

أنه[1] قضية إطلاق الشرط، بتقريب: أن مقتضاه تعينه[2]، كما أن مقتضى إطلاق الأمر تعين الوجوب[3].

ففيه[4]: أن التعين ليس في الشرط[5] نحواً يغاير نحوه في ما إذا كان متعدداً، كما كان في الوجوب كذلك[6]، وكان الوجوب في كل منهما متعلقاً بالواجب بنحوٍ آخر لابد في التخييري منهما من العدل، وهذا بخلاف الشرط[7]، فإنه - واحداً كان أو

-------------------------------------------------------------------

[1] الضمير يرجع إلى المفهوم.

[2] أي: مقتضى الإطلاق تعين الشرط وانحصاره.

[3] وقد مرّ من المصنف قبوله لهذا الإطلاق، أي: إنه إذا دار الأمر بين الوجوب التعييني والوجوب التخييري فإن الإطلاق يقتضي التعييني.

[4] حاصل الإشكال: إن قياس ما نحن فيه مع الوجوب قياس مع الفارق؛ وذلك لأن الوجوب التخييري يغاير الوجوب التعييني في مقام الثبوت والإثبات، أما الثبوت: فإن المصلحة قائمة بالجامع في التخييري، وبالفرد في التعييني، وأما الإثبات: فإن كيفية الوجوب تختلف؛ إذ في التعييني الشيء واجب على كل حال، وفي التخييري إذا أتى بالعِدل فإن الشيء لا يكون واجباً. مثلاً: صلاة الصبح واجبة على كل حال؛ لأنها واجب تعييني، وأما خصال الكفارة فإن الإطعام يجب بشرط عدم الإتيان بالعتق والصيام، فلو أتى بأحدهما سقط وجوب الإطعام.

وهذا بخلاف العلة المنحصرة والعلة غير المنحصرة، فإن كيفية العلّية في المنحصرة لا تختلف عن غير المنحصرة، لا ثبوتاً ولا إثباتاً، فإنّ كلاً منهما علّة بكيفية واحدة.

[5] أي: الشرط المنحصر فيه العلّية لا يغاير الشرط غير المنحصر.

[6] أي: في الوجوب التعييني والتخييري كيفية الوجوب تختلف، فقوله: (كما) تشبيه للمنفي.

[7] أي: هذا النحو في الوجوب يختلف عن الكيفية في الشرط.

ص: 440

متعدداً - كان نحوه واحداً ودخله في المشروط بنحوٍ واحد[1]، لا تتفاوت الحال فيه ثبوتاً، كي تتفاوت عند الإطلاق إثباتاً[2]، وكان[3] الإطلاق مثبتاً لنحو لا يكون له عدل، لاحتياج[4] ما له العدل إلى زيادة مؤونة، وهو ذكره بمثل: (أو كذا[5]). واحتياج[6] ما إذا كان الشرط متعدداً إلى ذلك إنما[7] يكون لبيان التعدد، لا لبيان

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: العلة المنحصرة هي علة وتؤثر في المعلول، كذلك العلة غير المنحصرة هي علة وتؤثر في المعلول، فالتأثير في المعلول بكيفية واحدة.

[2] إذ إن الإثبات فرع الثبوت، فإذا كان في مرحلة الثبوت يحتمل أصنافاً مختلفة أمكن في مرحلة الإثبات تعيين أحدهما بالإطلاق أو بقرينة أخرى، وأما إذا كان في مرحلة الثبوت لا يحتمل إلاّ شيء واحد فإنه لا يمكن إثبات غيره في مرحلة الإثبات.

[3] عطف تفسيري على (تتفاوت عند الإطلاق إثباتاً)، أي: لا يتفاوت ثبوتاً حتى يتفاوت إثباتاً بأن كان الإطلاق مثبتاً... الخ، ولو بدل المصنف «كان» بقوله: (يكون) كانت الجملة أوضح، وبقواعد العربية أوفق. وفي بعض الشروح جعل قوله: «وكان الإطلاق» من تتمة بحث الوجوب، فتكون جملة (و هذا بخلاف الشرط) إلى قوله: (عند الإطلاق إثباتاً) كالجملة المعترضة.

[4] علّة حمل الوجوب على التعييني، ومحصّله: إن التخييري بحاجة إلى مؤنة زائدة وهو العِدل، بخلاف التعييني.

[5] كأن يقول: (أعتق رقبة أو صم ستين يوماً أو أطعم ستين مسكيناً).

دفع وهم

[6] إشكال، وحاصله: إن الشرط إذا كان متعدداً فإن بيانه بحاجة إلى مؤنة زائدة، كأن يقول: (إذا جاءك زيد أو سلّم عليك فأكرمه). فبالإطلاق ننفي هذه المؤنة الزائدة ونثبت تعين الشرط، «ذلك» زيادة مؤنة.

[7] جواب الإشكال، وحاصله من وجهين:

ص: 441

نحو الشرطية. فنسبة إطلاق الشرط إليه لا تختلف، كان هناك شرط آخر أم لا، حيث[1] كان مسوقاً لبيان شرطيته بلا إهمال ولا إجمال[2]. بخلاف إطلاق الأمر، فإنه لو لم يكن لبيان خصوص الوجوب التعييني، فلا محالة يكون في مقام الإهمال أو الإجمال[3]، تأمل تعرف. هذا.

-------------------------------------------------------------------

الوجه الأول: إن زيادة المؤنة في الشرط ليست لبيان كيفية الشرط، بل لبيان التعدد، أما الكيفية فهي على حالها دائماً، فإن الشرط مؤثر مطلقاً متعدداً كان أم واحداً.

مثلاً: السفر علة لقصر الصلاة، كما أن الخوف علّة أخرى لقصر الصلاة، فلو قال: (إن سافرت أو خفت فقصر) فإن هذا التعدد لا يغير الكيفية، فإن السفر علّة للقصر مطلقاً - سواء خاف أم لا، وسواء كان الخوف علّة للقصر أم لا - فهذا الترديد لم يقيّد عليّة السفر للقصر. بخلاف قوله: (أعتق) وقوله: (أعتق أو صم أو أفطر)، فإن نحو الوجوب وكيفيته في الأول يختلف عن الثاني، فإنه في الثاني العتق قيّد بما إذا لم يأت بالصوم والإفطار، فلو أتى بأحدهما فإنه لا يجب عليه العتق.

والدليل على الفرق هو أنه لو قال: (إن سافرت فقصّر) ولم يبين الشرط الآخر وهو الخوف، فإنه لا يعتبر ناقضاً للغرض ومقصراً، بخلاف ما إذا قال: (أعتق) ولم يبين العدل الآخر، فإنه يعتبر ناقضاً للغرض ومقصراً.

[1] بيان لعدم اختلاف كيفية تأثير الشرط.

[2] أي: بيان أن الشرط علة تامة ومؤثر في الجزاء مطلقاً، سواء كان منحصراً أم غير منحصر، فلا يوجد في الكلام إهمال ولا إجمال، والإهمال هو في مرحلة الثبوت - ولا يتصور في الشارع الأقدس - والإجمال في مرحلة الإثبات - أي: كون النص غير واضح وغير كاشف عن مراد المولى - .

[3] لاختلاف كيفية الوجوب في التعييني والتخييري، فلو لم يكن الإطلاق مقتضياً للتعييني فلا محالة يكون معنى الوجوب مجملاً مهملاً في مرحلة الثبوت، بأن

ص: 442

مع أنه[1] لو سلم لا يجدي القائل بالمفهوم، لما عرفت أنه لا يكاد ينكر في ما إذا كان مفاد الإطلاق من باب الإتفاق.

ثم إنه ربما استدل المنكرون للمفهوم بوجوه:

أحدها[2]: ما عُزِي إلى السيد(1)

من أن تأثير الشرط إنما هو تعليق الحكم به، وليس بممتنع أن يخلفه وينوب منابه شرط آخر يجري مجراه[3]، ولا يخرج[4] عن كونه شرطاً، فإن قوله تعالى[5]: {وَٱسۡتَشۡهِدُواْ شَهِيدَيۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ}(2) يمنع من قبول الشاهد الواحد حتى ينضم إليه شاهد آخر، فانضمام الثاني إلى الأول شرط في القبول، ثم علمنا: أن ضم امرأتين إلى الشاهد الأول شرط في القبول، ثم علمنا،

-------------------------------------------------------------------

لم يقصد المولى أياً منهما، أو مجملاً في مرحلة الإثبات بأن يكون النص قاصراً في الدلالة على مراد المولى.

[1] هذا الوجه الثاني لدفع الإشكال، وحاصله: إنه لو سلمنا أن تعدد الشرط هو كالوجوب التخييري، فنجيب بأنه من النادر أن يكون المولى في مقام بيان انحصار الشرط، فعدم كونه في مقام البيان لا يدع مجالاً لانعقاد الإطلاق.

أدلة المنكرين لمفهوم الشرط
الدليل الأول

[2] حاصله: إمكان تعدد الشرط للجزاء، بأن يكون أمرٌ مؤثراً مع كون أمر آخر أيضاً مؤثراً، فحينئذٍ انتفاء الشرط لا يدل على انتفاء الجزاء؛ لإمكان أن يحل شرط آخر محل الشرط.

[3] أي: في العلية والتأثير في الجزاء.

[4] أي: في صورة نيابة شرط آخر، فإن الشرط الأول يبقى على شرطيته.

[5] مثال شرعي لنيابة الشروط بعضها عن البعض الآخر.

ص: 443


1- الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 406.
2- سورة البقرة، الآية: 282.

أن ضم اليمين يقوم مقامه أيضاً. فنيابة بعض الشروط عن بعض أكثر من أن تحصى، مثل الحرارة[1]، فإن انتفاء الشمس لا يلزم انتفاء الحرارة، لاحتمال قيام النار مقامها. والأمثلة لذلك كثيرة شرعاً وعقلاً.

والجواب[2]: إنه+ إن كان بصدد إثبات إمكان نيابة بعض الشروط عن بعض في مقام الثبوت وفي الواقع، فهو ممّا لا يكاد ينكر، ضرورة أن الخصم يدعي عدم وقوعه في مقام الإثبات[3] ودلالة القضية الشرطية عليه. وإن كان بصدد إبداء احتمال وقوعه[4] فمجرد الاحتمال لا يضره ما لم يكن بحسب القواعد اللفظية راجحاً أو مساوياً[5]، وليس في ما أفاده[6]

-------------------------------------------------------------------

[1] مثال في الطبيعيات لنيابة الشروط.

[2] حاصل الإشكال على كلام السيد: إن الكلام في المفهوم ليس في الإمكان العقلي أو الوقوع، فإن هذا لا اختلاف فيه. وإنّما الكلام في أنّ اللفظ ظاهر في الانتفاء عند الانتفاء حينما لا تكون هنالك قرينة خاصة، أم لا يكون ظاهراً.

[3] فليس الدليل ينفي مُدّعى القائل بالمفهوم؛ لأن الدليل بيّن إمكان تعدد الشرط ونيابة بعض الشروط عن البعض الآخر، والقائل بالمفهوم لا إشكال له في مرحلة الثبوت، وإنّما كلامه أنه في مرحلة الإثبات لم يقع التعدد والنيابة.

[4] أي: إن كان المستدل - وهو المرتضى - يريد بيان احتمال وقوع تعدد الشرط - في مرحلة الإثبات - ونيابة بعض الشروط عن بعضها، فجوابه: إن مجرد الاحتمال لا يضر بالظهور؛ لأن ما نحن فيه بحث في الدلالة اللفظية والاحتمال لا يضرها. نعم، في الأدلة العقلية الاحتمال يضر؛ ولذا قالوا: (إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال)(1) أي: العقلي؛ لأن العقل لا يحكم إلاّ في ما كان قطعياً.

[5] لو كان راجحاً كان هو المقدم، ولو كان مساوياً منع انعقاد الظهور في المفهوم.

[6] من الدليل بامكان تعدد الشروط ونيابتها ووقوعه أحياناً.

ص: 444


1- الفوائد الحائرية: 198.

ما يثبت ذلك[1] أصلاً، كما لا يخفى.

ثانيها: إنه لو دل[2] لكان بإحدى الدلالات، والملازمة[3] - كبطلان التالي[4] - ظاهرة.

وقد أجيب(1)

عنه[5]: بمنع بطلان التالي وأن الالتزام ثابت. وقد عرفت[6] بما لا مزيد عليه ما قيل أو يمكن أن يقال في إثباته أو منعه، فلا تغفل.

ثالثها: قوله تبارك وتعالى[7]: {وَلَا تُكۡرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمۡ عَلَى ٱلۡبِغَآءِ إِنۡ أَرَدۡنَ تَحَصُّنٗا}(2).

-------------------------------------------------------------------

[1] رجحان أو مساواة احتمال التعدد على انحصار الشرط.

الدليل الثاني

[2] أي: إن الشرط لو دل على المفهوم لكانت دلالته بإحدى الدلالات الثلاث - المطابقية أو التضمنية أو الالتزامية - .

[3] أي: الملازمة - وهي لو دل لكان بإحدى الدلالات - واضحة؛ لأن الدلالة منحصرة في هذه الدلالات الثلاث.

[4] وهي وجود إحدى الدلالات الثلاث. والحاصل: إن الملازمة يجب أن تكون بإحدى الثلاث، وهذا أمر واضح، لكن في الشرط لا توجد أية واحدة من الثلاث.

[5] حاصله: منع بطلان الدلالة الالتزامية.

[6] حاصله: إنا قد ذكرنا أن الدلالة على المفهوم بالدلالة الالتزامية متوقفة على وجود خصوصية في المنطوق - كما مرّ - وقد بين المصنف عدم وجود الخصوصية، فلا دلالة على المفهوم.

الدليل الثالث

[7] حاصل الدليل: هو وضوح بطلان المفهوم في بعض الشروط، فلو كان

ص: 445


1- مطارح الأنظار 2: 33.
2- سورة النور، الآية: 33.

وفيه[1] ما لا يخفى، ضرورة أن استعمال الجملة الشرطية في ما لا مفهوم له أحياناً وبالقرينة[2] لا يكاد ينكر، كما في الآية وغيرها. وإنما القائل به إنما يدعي ظهورها في ما له المفهوم وضعاً أو بقرينة عامة، كما عرفت.

بقي هاهنا أمور: الأمر الأول[3]:

-------------------------------------------------------------------

للشرط مفهوم، كان لمثل: {لَا تُكۡرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمۡ} مفهوم، فيكون المعنى جواز إكراههن على البغاء إن لم يردن التحصن، وهذا بديهي البطلان.

و«تبارك» بمعنى دام خيره، و«تعالى» بمعنى استعلى على غيره؛ وذلك لعلوه الذاتي.

[1] حاصل الجواب: إن عدم وجود المفهوم في مورد بسبب وجود قرينة لا ينكره القائل بالمفهوم.

[2] لعل القرينة في الآية هو أن الشرط محقق للموضوع، وفي مثله لا يوجد مفهوم، مثلاً: (إن رزقت ولداً فاختنه) فان تحقق الشرط يحقق موضوع الختان، فلا مفهوم له بأن يقال: (إن لم ترزقه فلا تختنه) لأن الختان وعدمه فرع وجود الولد.

وهذا بعكس (إن جاءك زيد فأكرمه) فإن موضوع الإكرام هو (زيد)، والمجيء - الشرط - ليس سبباً لوجود زيد في الخارج، فإنه موجود سواء جاء أم لم يجيء.

والآية التي استدل بها من قبيل الشرط المحقق للموضوع، حيث إن الإكراه لا يتحقق مع عدم إرادة التحصن، ف(إن أردن التحصن فلا تكرهوهن) لا مفهوم له بأن يكون (إذا لم يردن التحصن فاكرهوهن) إذ لا يتحقق الإكراه مع الرغبة، كما هو واضح.

أمور في مفهوم الشرط
الأمر الأول
انتفاء نوع الجزاء

[3] يبحث في هذا الأمر عن أن الجزاء المنفي عند انتفاء الشرط هو نوع الجزاء لا شخصه، فلو قال: (إن جاءك زيد فأكرمه) فمفهومه إن لم يجئك فلا تكرمه، فالإكرام المنفي هو نوع الإكرام.

ص: 446

إن المفهوم هو انتفاء سنخ الحكم[1] المعلّق على الشرط عند انتفائه، لا انتفاء شخصه[2]، ضرورة[3] انتفائه عقلاً[4] بانتفاء موضوعه ولو ببعض قيوده[5]، فلا يتمشى الكلام[6] في أن للقضية الشرطية مفهوماً أو ليس لها مفهوم إلاّ في مقام كان هناك ثبوت سنخ الحكم في الجزاء[7]

-------------------------------------------------------------------

أما شخص الجزاء فهو منفي قطعاً، ولا كلام فيه حتى عند المنكرين للمفهوم، ففي المثال: الإكرام المعلول للمجيء قطعاً منتفٍ عند عدم المجيء؛ لأن المعلول عدم عند عدم علته.

ويدل على ذلك أنه لا يقول أحد بمفهوم اللقب - أي: موضوع الحكم - مع أنه لا إشكال في انتفاء شخص الحكم بانتفاء موضوعه، مثلاً في: (أكرم زيداً) زيد لقب - حسب اصطلاح الأصوليين؛ لأنه موضوع الحكم - وليس له مفهوم، بأن يكون المفهوم (لا تكرم غير زيد)، ومن الواضح أن شخص الإكرام الذي موضوعه زيد ينتفي بانتفاء زيد؛ لأن الحكم ينتفي بانتفاء موضوعه، ومع ذلك لم يقل أحد من أصحابنا بالمفهوم للّقب؛ لأن انتفاء الشخص لا ربط له بالمفهوم.

[1] أي: طبيعة الحكم ونوعه.

[2] أي: مصداق الحكم وصنفه، وهو ما كان معلولاً للشرط.

[3] أي: انتفاء شخص الحكم عند انتفاء الشرط أمر بديهي لا كلام فيه، فليس هو محل الخلاف في إثبات المفهوم وعدمه.

[4] أي: انتفاء شخص الحكم عقلي؛ لأنه معلول للشرط، وانتفاء المعلول عند انتفاء علته من الواضحات.

[5] لأن العلة المركبة تنتفي بانتفاء بعض أجزائها أو شرائطها، وحينئذٍ ينتفي المعلول.

[6] أي: الخلاف والبحث في وجود المفهوم وعدم وجوده.

[7] أي: سنخ الحكم الذي هو الجزاء، فأكرمه - في المثال - هو الجزاء وهو (نوع) وله أصناف ومصاديق متعددة.

ص: 447

وانتفاؤه عند انتفاء الشرط ممكناً[1]. وإنما وقع النزاع في أن لها دلالةً على الانتفاء عند الانتفاء أو لا يكون لها دلالة.

ومن هنا[2] انقدح: أنه ليس من المفهوم دلالة القضية على الانتفاء عند الانتفاء في الوصايا والأوقاف والنذور والأيمان[3]، كما توهم(1)، بل عن الشهيد في تمهيد القواعد(2): «أنه لا إشكال في دلالتها على المفهوم[4]». وذلك[5]

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: في الواقع ومرحلة الثبوت يمكن الانتفاء عند الانتفاء، وبعد ذلك نبحث في مرحلة الإثبات أن للجملة ظهوراً في المفهوم أم لا.

موارد خارجة عن بحث المفهوم

[2] أي: كون البحث في انتفاء السنخ لا الشخص.

[3] كما لو قال: (أوصيت بداري لأولادي إن كانوا فقراء)، وكذا: (وقفتها أو نذرتها لهم إن كانوا فقراء)، وكذا: (والله ملكت داري لهم إن كانوا كذلك - أي: فقراء - ) .

[4] ففي: المثال أولاده غير الفقراء لا يدخلون في الوصية؛ لأن المنطوق: (إن كانوا فقراء)، والمفهوم: (فليس الدار لهم إن لم يكونوا فقراء)، وكذا في النذر واليمين والوقف.

الإشكال على كلام الشهيد
اشارة

[5] وحاصل الإشكال:

إن في الوصايا والنذور والأيمان والأوقاف ينتفي الحكم عن غير الموضوع، سواء كان في الجملة الشرطية أم الوصفية أم في اللقب. وليس هذا الانتفاء لأجل المفهوم، بل لعلة أخرى وهي فوات الموضوع، ومع فوات الموضوع لا يبقى حكم.

ص: 448


1- هداية المسترشدين 2: 423؛ مطارح الأنظار 2: 37؛ تقريرات المجدد الشيرازي 3: 139.
2- تمهيد القواعد: 110، وفيه: «ذهب جماعة من الأصوليين إلى أن مفهوم الصفة والشرط حجة، ... ولا إشكال في دلالتهما في مثل الوقف والوصايا والنذور والأيمان...».

لأن انتفاءها[1] عن غير ما هو المتعلق لها من الأشخاص التي تكون بألقابها[2] أو بوصف شيء أو بشرطه مأخوذة في العقد أو مثل العهد ليس بدلالة الشرط أو الوصف أو اللقب عليه، بل[3] لأجل أنه إذا صار شيء وقفاً على أحد أو أوصى به أو نذر له - إلى غير ذلك - لا يقبل أن يصير وقفاً على غيره أو وصية أو نذراً له، وانتفاء شخص الوقف أو النذر أو الوصية عن غير مورد المتعلق قد عرفت أنه عقلي[4] مطلقاً[5]، ولو قيل[6] بعدم المفهوم في مورد صالح له.

-------------------------------------------------------------------

ففي اللقب، لو قال: (وقفت داري لزيد) - وزيد لقب لأنه موضوع الحكم - فحينئذٍ لا تصلح الدار وقفاً لغير زيد، لا لأجل أن اللقب له مفهوم، بل لأجل أن الدار الموقوفة لا تصلح لأن توقف مرة أخرى. وكذا في الوصف لو قال: (وقفت داري للرجل الفقير)، أو الشرط كما لو قال: (إن كان فقيراً فالدار وقف له).

[1] أي: انتفاء الوصايا والأيمان والنذور والأوقاف.

[2] إنما ذكر المصنف ما يكون فيه اللقب مثل: (أوصيت داري للفقير) لوضوح عدم المفهوم للّقب ، كي يتضح أن ثبوت عدم الوقف لغير الفقير ليس من باب المفهوم، بل لعلة أخرى. وكذا ذكره لما فيه الوصف مثل: (أوصيت داري للرجل الفقير).

[3] هذا بيان لعلة انتفاء الحكم في الوقف والوصية والنذر واليمين، وأنه ليس لأجل المفهوم، بل لأجل زوال الموضوع لهذه الأحكام.

[4] لأن شخص المعلول ينتفي بانتفاء علته وهذا الأمر واضح.

[5] شرح المصنف قوله: (مطلقاً) بقوله: (ولو قيل... الخ).

[6] أي: حتى لو لم نقل بالمفهوم، فإن انتفاء شخص الحكم عند انتفاء الموضوع أمر واضح؛ لأنه بحكم العقل.

ص: 449

إشكال ودفع: لعلك تقول[1]: كيف يكون المناط في المفهوم هو سنخ الحكم، لا نفس شخص الحكم في القضية، وكان[2] الشرط في الشرطية إنما وقع شرطاً بالنسبة إلى الحكم الحاصل بإنشائه دون غيره؟ فغاية قضيتها[3] انتفاء ذاك الحكم بانتفاء شرطه، لا انتفاء سنخه. وهكذا الحال في سائر القضايا التي تكون مفيدة للمفهوم[4].

ولكنك[5]

-------------------------------------------------------------------

إشكال وجوابه

[1] حاصل الإشكال هو: إن الجزاء في المنطوق هو شخص الحكم لا سنخه، فمثلاً: (إن جاءك زيد فأكرمه) فالإكرام في الجزاء إنما هو الإكرام الجزئي الذي هو معلول للمجيء، فإذا كان الشخص هو الجزاء في المنطوق فلا محالة في المفهوم يكون المنفي هو شخص الجزاء لا سنخه.

وبيان الإشكال - كما عن التقريرات - : (وقد يستشكل في المقام نظراً إلى أن الشرط المذكور إنما وقع شرطاً بالنسبة إلى الإنشاء الخاص الحاصل بذلك الكلام دون غيره،فأقصى ما تفيده الشرطية انتفاء ذلك، وأين ذلك من دلالته على انتفاء نوع الوجوب؟)(1)، انتهى.

إذن، لا فرق بين الوصايا والأوقاف ونحوها وبين سائر الجمل الشرطية.

[2] أي: والحال أنه في المنطوق الشرط إنّما هو للجزاء الحاصل بإنشاء ذلك الجزاء، فقولك: (إن جاء زيد فأكرمه) المجيء إنّما هو شرط للإكرام الحاصل بقولك: (فأكرمه).

[3] أي: أقصى ما يمكن أن يقال هو انتفاء شخص الحكم عند انتفاء الشرط.

[4] كالوصف والغاية والحصر - بناءً على القول بالمفهوم فيها - .

[5] حاصل الجواب: إن الجزاء في المنطوق ليس الشخص، بل السنخ، فيكون في المفهوم - على القول به - أيضاً السنخ؛ وذلك لأن الوضع والموضوع له والمستعمل

ص: 450


1- مطارح الأنظار 2: 38.

غفلت عن أن المعلق على الشرط[1] إنما هو نفس الوجوب[2] الذي هو مفاد الصيغة ومعناها، وأما الشخص والخصوصية الناشئة من قبل استعمالها[3] فيه لا تكاد تكون من خصوصيات معناها المستعملة فيه[4] كما لا يخفى. كما[5] لا تكون

-------------------------------------------------------------------

فيه في الحروف والمعاني الحرفية عام، والهيئة في صيغة الأمر - مثلاً - معنى حرفي يدل على الوجوب وهو عام، أي: يراد به طبيعة الوجوب لا شخصه.

[1] أي: الجزاء في المنطوق.

[2] أي: مفاد الهيئة في مثل: (أكرم) معنى حرفي، وهو عام يراد به طبيعة الوجوب لا وجوب جزئي شخصي.

[3] كما مرّ في المعنى الحرفي، فإنه في الوضع والاستعمال:

أولاً: يتصور الواضع المعنى، والمعنى المتصور يقال له اصطلاحاً (الوضع).

وثانياً: عملية وضع اللفظ للمعنى الذي تصوره، فهذا المعنى يقال له (الموضوع له).

وثالثاً: يستعمل الناس اللفظ في ذلك المعنى، فالمعنى يقال له (المستعمل فيه).

ورابعاً: بعد الاستعمال تكون هنالك بعض ما يترتب على الاستعمال من الملازمات نحوها، وهذا ما يقال له (خصوصيات الاستعمال).

مثلاً: الواضع يتصور معنى ما يشار إليه ثم يضع لفظ (هذا) لذلك المعنى، ثم يستعمل الناس لفظ (هذا) في نفس المعنى، أي: ما يشار إليه، لكن تخصيص (هذا) بزيد - مثلاً - في قولنا: (جاء هذا) مع الإشارة إلى زيد إنّما يكون من خصوصيات الاستعمال، ولا ربط له بالوضع والموضوع له والمستعمل فيه.

[4] لأن ما ينشأ من الاستعمال يكون متأخراً عن الاستعمال، و(المعنى المستعمل فيه) مقدم على الاستعمال، فلا يمكن أخذ ما يتأخر عن الاستعمال في ما يتقدمه.

[5] هذا تعريض بما في التقريرات وتمهيد للإشكال عليه - كما سيأتي بعد قليل - .

ص: 451

الخصوصية الحاصلة من قبل الإخبار به[1] من خصوصيات ما أخبر به واستعمل فيه إخباراً لا إنشاءً[2].

وبالجملة[3]: كما لا يكون المخبر به المعلق على الشرط خاصاً بالخصوصيات الناشئة من قبل الإخبار به كذلك المنشأ بالصيغة المعلق عليه؛ وقد عرفت[4] بما حققناه في معنى الحرف وشبهه: أن ما استعمل فيه الحرف عام[5] كالموضوع له[6]،

-------------------------------------------------------------------

وحاصل الكلام: إنه لو قال: (إن جاءك زيد فإكرامه واجب) بنحو الخبر، فإن المعنى المستعمل فيه عام، كذلك لو قاله بنحو الإنشاء مثل: (إن جاءك زيد فأكرمه) فإن المعنى المستعمل فيه عام أيضاً. لما مرّ في المعنى الحرفي أنه لا فرق بين الإنشاء والإخبار، لا في الوضع ولا في الموضوع له ولا في المستعمل فيه، وإنّما فرقها في خصوصيات الاستعمال بأن وضع الخبر ليحكى به، ووضع الإنشاء ليوجد به - لأن الإنشاء إيجاد المعنى كما مرّ سابقاً - .

[1] أي: الإخبار بالمعنى.

[2] متعلق ب- (استعمل فيه) أي: استعمل فيه لأجل الإخبار لا لأجل الإنشاء.

[3] حاصله: إنه لا فرق بين كون الجزاء خبراً أم إنشاءً، في كون المعنى عاماً يراد به طبيعة الوجوب، فإذا كان في المنطوق كذلك يكون في المفهوم مثله، أي: عاماً يراد به الطبيعة - السنخ دون الشخص - .

[4] حاصله: إن المنشأ بالصيغة في قوله: (أكرمه) - مثلاً - هو الهيئة الدالة على الوجوب، وهي وإن كانت معنى حرفياً، لكن قد مرّ أن المعنى الحرفي عام، سواء الوضع أم الموضوع له أم المستعمل فيه.

[5] العام هنا بمعنى المطلق، أي: الطبيعة، فقولنا: (المستعمل فيه) عام، أي: مطلق يراد به الطبيعة.

[6] أي: كما أن الموضوع له عام، ولم يشر المصنف إلى أن الوضع عام أيضاً؛ لوضوح أنه لا يمكن أن يكون (الموضوع له) عاماً إلاّ إذا كان (الوضع) عاماً.

ص: 452

وأن خصوصية لحاظه بنحو الآلية والحالية لغيره[1] من خصوصية الاستعمال، كما أن خصوصية لحاظ المعنى بنحو الاستقلال في الاسم كذلك[2]، فيكون اللحاظ الآلي كالاستقلالي من خصوصيات الاستعمال، لا المستعمل فيه.

وبذلك[3] قد انقدح فساد ما يظهر من التقريرات(1)

- في مقام التفصي عن هذا الإشكال - من[4] التفرقة بين الوجوب الإخباري والإنشائي بأنه كلي في الأول[5]

-------------------------------------------------------------------

[1] قوله: «الحالية لغيره» عطف تفسيري لبيان معنى (الآلية).

[2] أي: من خصوصيات الاستعمال، إذن لا فرق بين (يجب الإكرام) وبين (أكرم) لا في الوضع ولا في الموضوع له ولا في المستعمل فيه، بل في كليهما المعنى هو وجوب مطلق الإكرام، وإنما الفرق: أن الوجوب في الأول وضع ليستعمل بالاستقلال، وفي الثاني وضع ليستعمل آلة.

جواب التقريرات

[3] أي: بما ذكرناه من أن المعنى في الجزاء كليٌّ.

[4] شروع في توضيح كلام التقريرات في رد الإشكال، وحاصله: إن الجزاء قد يكون إخباراً وقد يكون إنشاءً.

1- فإن كان إخباراً فالموضوع له والمستعمل فيه في الخبر عام.

2- وإن كان إنشاءً، فالموضوع له والمستعمل فيه خاص، لكن ننفي سنخ الجزاء وطبيعته في المفهوم لأجل انتفاء علته المنحصرة؛ إذ مع انتفاء العلة المنحصرة ينتفي المعلول مطلقاً، إذن فالجزاء المنفي في المفهوم وإن كان الشخص لكن ننفي السنخ أيضاً بسبب آخر، وهي انتفاء العلة المنحصرة للجزاء.

[5] أي: في الإخبار في قولنا - مثلاً - : (يجب إكرامه) حيث مادة الوجوب مستعملة في معناها، وهو طبيعة الوجوب.

ص: 453


1- مطارح الأنظار 2: 39.

وخاص في الثاني[1]، حيث دفع الإشكال بأنه لا يتوجه في الأول لكون الوجوب كلياً، وعلى الثاني بأن ارتفاع مطلق الوجوب فيه من فوائد العلية[2] المستفادة من الجملة الشرطية، حيث كان ارتفاع شخص الوجوب ليس مستنداً إلى ارتفاع العلة المأخوذة فيها[3]، فإنه يرتفع ولو لم يوجد في حيال أداة الشرط، كما في اللقب والوصف.

وأورد[4] - على ما تفصي به عن الإشكال بما ربما يرجع إلى ما ذكرناه[5] - بما حاصله[6]:

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: في الوجوب الإنشائي؛ لأن الوجوب مستفاد من الهيئة في أكرمه - مثلاً -، ومبنى الشيخ هو أن الوضع في الحروف عام، لكن الموضوع له خاص، وكذلك المستعمل فيه خاص أيضاً.

[2] أي: العلية المنحصرة، فيرتفع شخص الوجوب بارتفاع الشرط؛ ولأن الشرط علة منحصرة للجزاء فبارتفاعه يرتفع سنخ الوجوب أيضاً، حيث إن المعلول يرتفع مطلقاً بارتفاع علته المنحصرة.

[3] أي: في الجملة الشرطية، فارتفاع شخص الوجوب يكون بسبب زوال موضوعه، وهذا غير مرتبط بالمفهوم؛ لأنه في اللقب والوصف يكون كذلك، أي: يرتفع شخص الوجوب بزوال الوصف أو اللقب. نعم، ارتفاع سنخ الوجوب في الشرط يكون بسبب زوال علته المنحصرة.

[4] أي: صاحب التقريرات.

[5] أي: ذكر صاحب التقريرات جواب المصنف، لكنه لم يرتض الجواب وأشكل عليه.

[6] أي: حاصل كلام التقريرات على جواب المصنف إشكالان:

1- إنه لا نحتاج إلى جعل الجزاء في المنطوق كلياً حتى يكون الجزاء في المفهوم كلياً، بل يكفي كون الشرط علة منحصرة.

ص: 454

إن التفصي[1] لا يبتني على كلية الوجوب لما أفاده[2]، وكون[3] الموضوع له في الإنشاء عاماً لم يقم عليه دليل، لو لم نقل بقيام الدليل على خلافه، حيث[4] إن الخصوصيات بأنفسها مستفادة من الألفاظ.

وذلك[5] لما عرفت من أن الخصوصيات في الإنشاءات والإخبارات إنما تكون ناشئة من الاستعمالات بلا تفاوت أصلاً بينهما.

ولعمري لا يكاد ينقضي تعجبي كيف تجعل خصوصيات[6] الإنشاء من خصوصيات المستعمل فيه؟! مع أنها كخصوصيات الإخبار تكون ناشئة من

-------------------------------------------------------------------

2- إن الموضوع له في الإنشاء جزئي لا كلّي.

[1] هذا هو الإيراد الأول وهو إشكال بنائي.

[2] أي: لما أفاده صاحب التقريرات، وحاصل إفادته أن ارتفاع مطلق الوجوب من فوائد العلية.

[3] هذا هو الإيراد الثاني وهو إشكال مبنائي.

[4] هذا دليل على أن (الموضوع له) خاص في الإنشاءات، وحاصله: كيف يمكن فهم الخصوصيات الإنشائية لو لم تكن دخيلة في المعنى الموضوع له؟ لكنّا نفهم تلك الخصوصيات من الألفاظ، مما يدل على وضع الألفاظ لتلك الخصوصيات.

رد المصنف لجواب التقريرات

[5] شروع في الإشكال على التقريرات، و«ذلك» إشارة إلى قوله قبل أسطر: (قد انقدح فساد ما يظهر من التقريرات).

[6] بيان لكون الخصوصيات لا دخل لها في المعنى الموضوع له، فلا يكون الموضوع له جزئياً، بل هو عام كما أن المستعمل فيه عام أيضاً.

ص: 455

الاستعمال[1]، ولا يكاد يمكن[2] أن يدخل في المستعمل فيه ما ينشأ من قبل الاستعمال، كما هو واضح لمن تأمل.

الأمر الثاني: إنه إذا تعدد الشرط[3]، مثل: (إذا خفي الأذان فقصر) و(إذا خفي الجدران فقصر)، فبناء على ظهور الجملة الشرطية في المفهوم[4] لابد من التصرف ورفع اليد عن الظهور[5]:

-------------------------------------------------------------------

[1] فكيف فرّق صاحب التقريرات(1)

بين الإخبار والإنشاء، حيث قال بأن تلك الخصوصيات خارجة عن الإخبار فلذا يكون الموضوع له في الخبر عاماً، وأن تلك الخصوصيات داخلة في الإنشاء فيكون الموضوع له في الإنشاء خاصاً؟

مع أنه إن أمكن دخل الخصوصية فلا فرق بين الخبر والإنشاء فيكونان خاصين، وإن لم يكن دخل لهما فلا فرق بينهما أيضاً فيكونان عامين.

[2] دليل على أن الموضوع له والمستعمل فيه عام في الخبر والإنشاء؛ وذلك لأن خصوصيات الاستعمال متأخرة عن الاستعمال، فلا تكون مأخوذة في ما هو متقدم على الاستعمال، أي: الموضوع له والمستعمل فيه.

الأمر الثاني
تعدد الشرط ووحدة الجزاء

[3] واتحد الجزاء ماهية، وعلمنا بعدم لزوم تكرار الجزاء إما لعدم إمكانه كالقتل، أو لقيام الدليل على عدم لزوم تكراره كالصلاة قصراً.

[4] أما لو قلنا بعدم ظهورها في المفهوم فلا كلام، بل كل شرط هو سبب مستقل لحدوث الجزاء من غير أن يكون تعارض.

[5] وذلك لتعارض ظهور المنطوق مع ظهور المفهوم.

فمفهوم جملة: (إذا خفي الأذان فقصر) هو (إذا لم يخفَ الأذان فلا تقصر

ص: 456


1- مطارح الأنظار 2: 39.

إما بتخصيص مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر[1]، فيقال بانتفاء وجوب القصر عند انتفاء الشرطين[2].

-------------------------------------------------------------------

مطلقاً - سواء خفيت الجدران أم لا - )، وهذا الإطلاق يتعارض مع منطوق الجملة الأخرى، أي: (إذا خفي الجدران فقصر)، وكذلك العكس. فلرفع هذا التعارض لابد من رفع اليد عن الظهور.

وفي الحقائق: (وحيث إن القضية الشرطية - بناءً على المفهوم - مشتملة على ظهورات متعددة، وهي: ظهورها في المفهوم، وظهورها في عموم المفهوم، وظهورها في استقلال الشرط، وظهورها في دخل خصوصيته. وكان رفع اليد عن واحد منها كافياً في رفع التنافي بين القضيتين، فالكلام يقع في تعيين الأضعف من هذه الظهورات ليتعين للسقوط، ويجب الأخذ بما سواه. فمرجع الوجه الأول إلى سقوط الظهور الثاني، والثاني إلى سقوط الأول، والثالث إلى سقوط الثالث، والرابع إلى سقوط الرابع)(1)،

انتهى.

احتمالات مقام الثبوت
الاحتمال الأول

[1] ففي المثال يقال: (إذا خفي الأذان فقصر)، ومفهومه (إذا لم يخف الأذان فلا تقصر إلاّ إذا خفيت الجدران) ففي صورة عدم خفاء الأذان عدم القصر ليس مطلقاً، بل إذا خفيت الجدران يجب القصر أيضاً.

[2] أي: إذا لم يخف الأذان والجدران معاً فلا تقصر، أما إذا خفي أحدهما فيجب القصر. وحاصل هذا الاحتمال كفاية تحقق أحد الشرطين لحصول الجزاء، فالمفهوم موجود لكنه لا عموم له.

ص: 457


1- حقائق الأصول 1: 459.

وإما برفع اليد عن المفهوم فيهما[1]، فلا دلالة لهما على عدم مدخلية شيء آخر في الجزاء[2]. بخلاف الوجه الأول، فإن فيهما الدلالة على ذلك[3].

وإما بتقييد إطلاق الشرط في كل منهما بالآخر[4]، فيكون الشرط هو خفاء الأذان والجدران معاً، فإذا خفيا وجب القصر، ولا يجب عند انتفاء خفائهما ولو خفي أحدهما.

وإما بجعل الشرط هو القدر المشترك بينهما[5]. بأن يكون تعدد الشرط قرينة على

-------------------------------------------------------------------

الاحتمال الثاني

[1] فيسقط ظهور الجملة في المفهوم بسبب التعارض.

[2] فمقدار دلالة كل منطوق هو أن الشرط علّة للجزاء، وسكوت عن عليّة شيء آخر، فلا مفهوم أصلاً.

[3] أي: وإن كان النتيجة في الوجه الأول والثاني واحدة، أي: عِلية كل واحد من الشرطين للجزاء، إلاّ أن طريقة الوصول إلى هذه النتيجة تختلف، ففي الأول الجملة تدل على المفهوم لكن المفهوم مقيّد، وفي الثاني الجملة لا تدل على المفهوم أصلاً.

الاحتمال الثالث

[4] أي: إن الشرط ليس علّة مطلقاً، بل هو جزء علّة والجزء الآخر للعلة هو الشرط الآخر، ففي مثل: (إن خفي الأذان فقصر) يُقيّد خفاء الأذان، فيقال: الشرط هو خفاء الأذان مقيداً بخفاء الجدران، أي: إن خفي الأذان والجدران معاً فقصر، فلا يكفي تحقق أحدهما. فحينئذٍ في المنطوق نرفع اليد عن إطلاق الشرط، فالشرط في كل واحد منهما مقيد بالشرط الآخر.

الاحتمال الرابع

[5] أي: إن الشرط هو الجامع، وهذا الجامع موجود في كلا الشرطين، فلو تحقق أحد الشرطين فإنه تحقق الجامع، فحينئذٍ يترتب الجزاء على الشرط.

ص: 458

أن الشرط في كل منهما ليس بعنوانه الخاص، بل بما هو مصداق لما يعمهما من العنوان[1].

ولعل العرف يساعد على الوجه الثاني[2]، كما أن العقل ربما يعين هذا الوجه[3]، بملاحظة أن الأمور المتعددة - بما هي مختلفة - لا يمكن أن يكون كل منها مؤثراً في واحد، فإنه لابد من الربط الخاص بين العلة والمعلول[4]، ولا يكاد يكون الواحد بما هو واحد مرتبطاً بالاثنين - بما هما اثنان -، ولذلك أيضاً لا يصدر من الواحد إلاّ الواحد[5].

-------------------------------------------------------------------

[1] «من» بيان ل- (ما) أي: للجامع الذي يعمهما وموجود فيهما.

حاصل الاحتمالات هو: إن كل واحد من الشروط مؤثر في الجزاء على الاحتمال الأول والثاني والرابع، وأما على الثالث فإن الشرطين معاً مؤثران في الجزاء، ولا يكون كل واحد بالاستقلال مؤثراً.

ترجيح الاحتمالات في مقام الإثبات

[2] وذلك لأن المفهوم تابع للخصوصية الموجودة في المنطوق، ومع تعدد الشرط لا توجد تلك الخصوصية، أي: لا يراها العرف.

وبعبارة أخرى: على القول: إنّ الجملة الشرطية تكون ظاهرة في المفهوم فإن العرف يرى المفهوم إذا لم تكن هنالك قرينة، وتعدد الشرط قرينة على عدم إرادة المفهوم.

[3] أي: الوجه الرابع؛ وذلك لقاعدة الواحد، حيث إن الجزاء الواحد لا يمكن أن يصدر إلاّ من واحد، وذلك هو الجامع بين الشرطين.

[4] هذا الدليل على قاعدة الواحد، والرابط الخاص يعبر عنه بالسنخيّة.

[5] أي: عكس القاعدة، فإنهم قالوا: كما أن المعلول الواحد لا يصدر إلاّ من علة واحدة، كذلك العلة الواحدة لا يصدر منها إلاّ المعلول الواحد.

ص: 459

فلابد[1] من المصير إلى أن الشرط في الحقيقة واحد، وهو المشترك بين الشرطين[2] بعد البناء على رفع اليد عن المفهوم[3] وبقاء إطلاق الشرط في كل منهما على حاله[4]، وإن كان بناء العرف[5] والأذهان العامية على تعدد الشرط وتأثير كل

-------------------------------------------------------------------

ولا يخفى بطلان القاعدتين - كما مرّ - لأنهما لا تجريان في الفاعل بالإرادة؛ لبداهة تحقق صدور المتعدد من الذات الإلهية، مع أنه تعالى الواحد من جميع الجهات، مضافاً إلى وقوع صدور المعلول الواحد بالنوع من المتعدد، كالحرارة من الحركة والنار وإرجاعها إلى جامع بينهما تحكم لا دليل عليه.

مضافاً إلى أن قاعدة السنخية محل تأمل، وقولهم: (وإلاّ صدر كل شيء من كل شيء) غير صحيح؛ لأن العليّة في الممكنات ليس من لوازم الذات، بل من العوارض المجعولة لمصلحة، أضف إلى أنه لا يجري على مبنى الإعداد والتوافي.

[1] أي: بعد أن كان العرف يساعد على الوجه الثاني، والعقل يعيّن الوجه الرابع، فلابد من طريقة تجمع بين العرف والعقل؛ لأنه لا يمكن معارضة حكم العقل، كما لابدّ في الظهورات من الأخذ بما يراه العرف.

وحاصل الجمع: هو القول بعدم المفهوم في الشرطين أخذاً بالعرف، وبأن المؤثر هو الجامع أخذاً بحكم العقل.

[2] هذا الأخذ بحكم العقل حسب قاعدة الواحد.

[3] هذا أخذ بالظهور المستند إلى العرف.

[4] ردّ للوجه الأول - حيث كان يقيّد المنطوق في كل منهما بالمفهوم في الآخر - وذلك لأن هذا الوجه خلاف الظهور العرفي.

[5] أي: هذا الحكم العقلي خلاف مبنى العرف، لكننا نضطر إلى رفع اليد عن بناء العرف لأجل حكم العقل. نعم، عدم المفهوم للجملتين الشرطيتين هو مبنى العرف، ولا يتعارض مع حكم العقل فيلزم الأخذ به.

والحاصل: إن للعرف بناءين: 1- إنّ الجملتين لا مفهوم لهما، وهذا يلزم الأخذ

ص: 460

شرط بعنوانه الخاص، فافهم[1].

الأمر الثالث[2]: إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء فلا إشكال على الوجه

-------------------------------------------------------------------

به لعدم إشكال فيه 2- إنّ كل شرط هو مؤثر بنفسه لا بالجامع الموجود فيه، وهذا لا يمكن الأخذ به لتعارضه مع العقل.

[1] لعله إشارة إلى أن قاعدة الواحد لا تجري في الأمور الاعتبارية، أو إشارة إلى أن الوجه الرابع راجع إلى الوجه الأول فلا فرق بينهما.

ثم إن في بعض النسخ بعد قوله فافهم هكذا: (وأما رفع اليد عن المفهوم في خصوص أحد الشرطين وبقاء الآخر على مفهومه فلا وجه؛ لأن يصار إليه بدليل آخر إلاّ أن يكون ما أبقي على المفهوم أظهر، فتدبر جيداً)(1)،

انتهى.

وهو إشارة إلى وجه خامس منسوب إلى ابن إدريس الحلي(2)،

وحاصله القول بالمفهوم لإحدى الجملتين الشرطيتين مع عدم المفهوم للأخرى.

وفيه: إن هذا ترجيح بلا مرجح، فلا يصار إليه إلاّ إذا دل دليل من الخارج، أو كان أحد الظهورين أقوى من الآخر، فيبقى مفهوم الأقوى.

الأمر الثالث
تداخل الأسباب

[2] لو تعدد الشرط واتحد الجزاء: فالجزاء قد يكون قابلاً للتكرار كالإكرام، وقد لا يكون كالقتل، والثاني سيأتي بحثه في آخر هذا الأمر.

وفي ما كان قابلاً للتكرار: فإن قلنا: إنّ كلاً من الشرطين يكون جزء علة والمؤثر كلاهما معاً مجموعين - كما هو مقتضى القول الثالث في الأمر السابق - فلا كلام ولا إشكال. وأما إذا قلنا: إنّ كل واحد منهما علّة بالاستقلال، فهنا يأتي إشكال اجتماع المثلين في شيء واحد وهو محال. فلو قال: (إن جاء زيد فأكرمه) ثم قال:

ص: 461


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 296.
2- السرائر 1: 331؛ كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 296.

الثالث[1]، وأما على سائر الوجوه[2] فهل اللازم لزوم الإتيان بالجزاء متعدداً حسب تعدد الشروط أو يتداخل[3]، ويكتفى بإتيانه دفعة واحدة؟ فيه أقوال.

والمشهور: عدم التداخل[4]. وعن جماعة - منهم المحقق الخوانساري - التداخل(1).

-------------------------------------------------------------------

(إن سلّم عليك زيد فأكرمه) كيف يجتمع وجوبان في إكرام زيد؟

فلدفع الإشكال ذكرت أجوبة:

الأول: للمصنف حيث لا يرى التداخل أصلاً فيجب إكرامان، مرّة للمجيء، وأخرى للسلام، فلم يجتمع وجوبان في شيء واحد، بل وجوبان لشيئين.

الثاني: إن الشرط الثاني يسقط عن العلية.

الثالث: إن الجزاء له جهتان أو جهات حسب تعدد الشروط، وتلك الجهات توجب انطباق عنوان الوجوب عليه.

الرابع: إن الشرط الثاني يؤكد الوجوب فقط. وهذه الثلاثة على التداخل.

الخامس: التفصيل بين كون الشرط من نوع واحد فيتداخل، وبين كونه من أنواع مختلفة فلا يتداخل.

[1] المذكور في الأمر السابق، وحاصله: إنّ كل شرط يكون جزء علة، فمجموع الشرطين أو الشروط تشكل علة واحدة، ومعلولها وجوب واحد، فلم يجتمع المثلان في الوجوب، ولا اجتمعت علّتان تامتان على معلول واحد.

[2] وحاصلها هو كون كل شرط علّة تامة مستقلة.

[3] التداخل قد يكون في الأسباب ونتيجته سقوط الشرط الثاني عن الشرطية.

وقد يكون تداخل المسببات بأن يكون الوجوب مؤكداً، بأن يحدث الوجوب بالشرط الأول، ويتأكد الوجوب بالشرط الثاني.

[4] فيجب تكرار الجزاء حسب تعدد الشرط.

ص: 462


1- مشارق الشموش: 61، وفيه: «وموجبات الوضوء يتداخل، أي: إذا وجدت أسباب متعددة للوضوء، كالبول والغائط والريح مثلاً، يكفي وضوء واحد للجميع، وهذا الحكم موضع وفاق».

وعن الحلي(1)

التفصيل بين اتحاد جنس الشروط وتعدده[1].

والتحقيق[2]: إنه لما كان ظاهر الجملة الشرطية حدوث الجزاء عند حدوث الشرط[3] بسببه، أو بكشفه عن سببه[4]، وكان قضيته[5] تعدد الجزاء عند تعدد الشرط، كان[6]

-------------------------------------------------------------------

[1] الاتحاد كما لو قال: (إن جاء زيد فأكرمه) فجاء مرات متعددة، فلا يجب إلاّ إكرام واحد، والتعدد كما لو قال: (إن جاء زيد فأكرمه، وإن سلم عليك فأكرمه) فلو جاء وسلم وجب إكرامان.

تحقيق الأمر
اشارة

[2] حاصل التحقيق: هو أنه على القول بعدم التداخل يكون الموضوع في الجزاء محكوماً بأحكام متعددة؛ لأن مقتضى تعدد الشرط هو تعدد الجزاء - حكماً - وحيث يستحيل تعدد الحكم على موضوع واحد؛ لاستلزامه اجتماع المثلين - هنا - يلزم رفع اليد عن الظاهر بأحد الطرق الثلاثة المذكورة.

ولمّا كان القول بعدم التداخل لا يستلزم خلاف الظاهر أصلاً كان هو المتعيّن، فالقاعدة هي تعدد الجزاء بتعدد الشرط.

[3] أي: كون الشرط علة للجزاء، ولا يخفى أن كلام المصنف هذا من باب المجاراة في النقاش، وإلاّ فقد مرّ منه عدم الظهور في العلية.

[4] حسب ما يأتي بعد قليل من الخلاف في كون الأسباب الشرعية مؤثرات بنحو العلّة، أو أنها معرفات، أي: تكشف عن علّة وليست هي العلة.

[5] أي: مقتضى السببيّة أو الكشف عن السبب هو التعدد؛ وذلك لتعدد المعلول بتعدد العلة؛ لاستحالة توارد علتين على معلول واحد.

[6] جزاء قوله: (لما كان ظاهر... الخ)، أي: كان الأخذ بظاهر الجملة الشرطية - وهو تعدد الجزاء بتعدد الشرط - .

ص: 463


1- السرائر 1: 258.

الأخذ بظاهرها إذا تعدد الشرط حقيقةً[1] أو وجوداً[2] محالاً، ضرورة[3] أن لازمه[4] أن يكون الحقيقة الواحدة[5] - مثل الوضوء - بما هي واحدة - في مثل[6]: (إذا بلت فتوضأ، وإذا نمت فتوضأ)، أو[7] في ما إذا بال مكرراً، أو نام كذلك - محكوماً بحكمين متماثلين، وهو[8] واضح الاستحالة كالمتضادين. فلابد على القول بالتداخل من التصرف فيه[9]:

إما بالالتزام[10]

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: ماهية في ما إذا اختلف نوع الشرط، كما لو نام وبال.

[2] في ما إذا كان الشرط من نوع واحد، لكنه تكرر، كما لو نام مرات متعددة، فالماهية من نوع واحد لكن في ضمن فردين أو أكثر.

[3] بيان لوجه المحالية، وهو لزوم اجتماع حكمين متماثلين على طبيعة واحدة.

[4] أي: لازم الأخذ بالظاهر، وهو حدوث الجزاء عند حدوث كل شرط.

[5] أي: الطبيعة الواحدة؛ لأن الأحكام تتعلق بالطبائع لا بالأفراد كما مرّ سابقاً، والمراد بالطبيعة الماهية، «بما هي واحدة» لا الطبيعة بما أنها في ضمن أفراد متعددة.

[6] مثال لتعدد الشرط حقيقة؛ لأن ماهية النوم متغايرة مع ماهية البول.

[7] مثال لتعدد الشرط وجوداً مع اتحاده ماهية، «كذلك» أي: مكرراً.

[8] أي: اجتماع المثلين محال، كما أن اجتماع الضدين محال، والمثلان هنا الوجوبان اللذان تعلقا بالوضوء.

[9] أي: في الظهور، بأن نرفع اليد عنه؛ لعدم إمكان مخالفة الحكم العقلي، وأمامنا حينئذٍ ثلاثة طُرق:

الطريق الأول

وهو تصرف في ظهور الشرط.

[10] أي: نرفع اليد عن دلالة الشرط الثاني على العلية للجزاء، فنقول: إن

ص: 464

بعدم دلالتها[1] في هذا الحال على الحدوث عند الحدوث بل على مجرد الثبوت[2].

أو الالتزام[3] بكون متعلق الجزاء وإن كان واحداً صورة، إلاّ أنه حقائق متعددة - حسب تعدد الشرط - متصادقة على واحد[4]. فالذمة وإن اشتغلت بتكاليف متعددة حسب تعدد الشروط إلاّ أن الاجتزاء بواحد، لكونه مجمعاً لها[5]، كما في (أكرم هاشمياً) و(أضف عالماً)، فأكرم العالم الهاشمي بالضيافة، ضرورة[6] أنه

-------------------------------------------------------------------

الشرط الأول دال على حدوث الجزاء، وأما الشرط الثاني فلا يدل على حدوث الجزاء، بل يكشف عن وجود الجزاء فقط.

[1] أي: عدم دلالة الجملة الشرطية، والمراد الشرطية الثانية - أي: المتأخرة زماناً - .

[2] أي: إن الجزاء ثابت بعد الشرط الثاني، ولكن لا بسببه، بل بسبب الشرط الأول حصراً، ودور الشرط الثاني هو الكشف عن ثبوت الجزاء.

الطريق الثاني
اشارة

وهو تصرف في ظهور الجزاء.

[3] فنقول في مثال (فتوضأ): ليس موضوع الوجوب هو الوضوء، بل الوجوب تعلق بشيء آخر انطبق عليه الوضوء. فكل شرط يؤثر بالاستقلال في حكم حقيقة من الحقائق المختلفة، والوضوء الواحد ينطبق على كل تلك الحقائق.

[4] فلو نام مرتين ثم توضأ، فالوضوء وإن كان صورة واحداً إلاّ أنه حقيقتان، وهكذا لو تعدد مرّات وكرّات.

[5] فيكون الوجوب واحداً، لكنه مؤكد بسبب تعدد الجهات، فلا اجتماع لمثلين.

[6] دليل الاجتزاء بالمجمع من غير حاجة إلى التكرار. وحاصله: إن الأمر يسقط بتحقق الغرض، والإتيان بالمجمع يحقق الغرضين في الأمرين معاً. فالمكلَّف حينما أضاف الهاشمي فإنه يصدق عليه أنه امتثل كلا الأمرين - أي: الأمر بإكرام العالم والأمر بضيافة الهاشمي - .

ص: 465

بضيافته بداعي الأمرين يصدق أنه امتثلهما، ولا محالة يسقط الأمر بامتثاله وموافقته[1]، وإن كان له[2] امتثال كل منهما على حدة، كما إذا أكرم الهاشمي بغير الضيافة وأضاف العالم الغير الهاشمي(1).

إن قلت[3]: كيف يمكن ذلك - أي الامتثال بما تصادق عليه العنوانان - مع استلزامه[4] محذور اجتماع الحكمين المتماثلين فيه؟

قلت[5]: انطباق عنوانين واجبين على واحد لا يستلزم اتصافه بوجوبين، بل غايته أن انطباقهما عليه يكون منشأ لاتصافه بالوجوب[6] وانتزاع صفته له؟ مع أنه[7]

-------------------------------------------------------------------

[1] لتحقق غرض المولى بامتثال الأمر، وقوله: «ومُوافقته» عطف تفسيري.

[2] أي: كان يجوز له امتثال كل أمر بالاستقلال؛ لأن المولى لم يعيّن طريقة خاصة للامتثال.

إشكال وجوابه

[3] حاصل الإشكال: إن جعل الجزاء حقائق متعددة لا يدفع الإشكال في الوجود الذي هو مجمع تلك الحقائق؛ وذلك لأن ذلك الوجود الخارجي يكون له وجوبان أو أكثر، وجوب لحقيقة، ووجوب لحقيقة ثانية، وهكذا.

[4] أي: استلزم الامتثال بالمجمع الذي تصادق عليه العنوانان.

[5] حاصل الجواب الأول: إن انطباق عنوانين لا يستلزم اتصاف الشيء بوجوبين، بل بوجوب واحد مؤكد، ويعتبر امتثال الأمرين لتحقق غرضهما.

[6] أي: وجوب واحد مؤكد، «صفته له» أي: انتزاع صفة الوجوب للمجمع؛ لأن الوجوب ينتزع من تعلق طلب المولى بالفعل.

[7] هذا الجواب الثاني، وحاصله: إنه بناء على جواز اجتماع الأمر والنهي في واحدٍ له جهتان، فإن اجتماع أمرين على واحد يجوز بطريق أولى.

ص: 466


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير الهاشمي».

على القول بجواز الاجتماع لا محذور في اتصافه بهما[1]، بخلاف ما إذا كان بعنوان واحد، فافهم[2].

أو الالتزام[3] بحدوث الأثر عند وجود كل شرط، إلاّ أنه وجوب الوضوء في المثال عند الشرط الأول وتأكد وجوبه عند الآخر.

ولا يخفى[4]: أنه لا وجه لأن يصار إلى واحد منها، فإنه رفع اليد عن الظاهر بلا وجه. مع ما في الأخيرين من[5] الاحتياج إلى إثبات أن متعلق الجزاء متعدد متصادق

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: اتصاف المجمع بالوجوبين من غير أن يكون الثاني تأكيداً.

[2] لعله إشارة إلى أن الجزاء دائماً فيه عنوان واحد لا أكثر، ففي مثل: إذا نمت فتوضأ، وإذا بلت فتوضأ، فإن الوضوء الواقع في الجزاء له عنوان واحد، ومع وحدة العنوان لا يجوز الاجتماع حتى عند القائل بالجواز.

الطريق الثالث
اشارة

وهو تصرف في ظهور الجملة الشرطية.

[3] حاصله: إن ظاهر الجملة الشرطية هو كون الشرط سبباً مستقلاً للجزاء، فنرفع اليد عن هذا الظاهر، ونقول: الشرط الأول سبب لمرتبة من الوجوب، والشرط الثاني سبب لمرتبة أخرى، فيتحصل أن الشرط الثاني يؤكد الوجوب.

إشكالات على هذه الطرق

[4] حاصله: إن هذه الطرق الثلاثة كلها تستلزم خلاف الظاهر، أي: رفع اليد عن ظهور الشرط أو الجزاء أو الجملة الشرطية، ومع إمكان رفع إشكال اجتماع الضدين بلا رفع اليد عن الظاهر لا وجه لسلوك هذه الطرق الثلاثة. فإنه يمكن رفع الإشكال وحفظ الظاهر بعدم القول بالتداخل، وبتعدد الجزاء بتعدد الشرط.

[5] هذا إشكال على الوجه الثاني - وهو التزام كون الجزاء حقائق متعددة - .

وحاصله: إن هذا الالتزام وإن كان ممكناً ثبوتاً، لكنه بحاجة إلى إثبات؛ لأن

ص: 467

على واحد وإن كان صورة واحداً سمي باسم واحد كالغسل[1]، وإلى[2] إثبات أن الحادث بغير الشرط الأول تؤكد(1)

ما حدث بالأول، ومجرد الاحتمال لا يجدي ما لم يكن في البين ما يثبته.

إن قلت[3]: وجه ذلك هو لزوم التصرف في ظهور الجملة الشرطية، لعدم إمكان الأخذ بظهورها، حيث إن قضيته[4] اجتماع الحكمين في الوضوء في المثال، كما مرت الإشارة إليه[5].

قلت[6]: نعم، إذا لم يكن المراد بالجملة في ما إذا تعدد الشرط - كما في المثال -

-------------------------------------------------------------------

المحتملات لا يؤخذ بها إلاّ بدليل.

[1] حيث دل الدليل في مرحلة الإثبات على التداخل فيه، فلا يلزم تعدد الغسل بتعدد أسبابه من جنابة وحيض ولمس ميت... الخ. فإذا كانت أسباب الغسل متعدداً فيكفي الغسل الواحد، وهو حقائق متعددة، ودليل تعدد حقائقه هو اختلاف الآثار الكاشف عن تعدد الماهية.

[2] هذا إشكال على الوجه الثالث، وحاصله: إن تأكيد الشرط الثاني للوجوب وإن كان في مرحلة الثبوت ممكناً، لكنه خلاف الظاهر، ولا دليل عليه في مرحلة الإثبات.

إشكال وجوابه

[3] حاصل الإشكال: إن وجه ارتكاب خلاف الظاهر - بأحد هذه الوجوه الثلاثة وخاصة الأخيرين - هو استلزام المحذور العقلي لو أبقينا الجملة الشرطية على ظاهرها.

[4] أي: مقتضى الظهور في الجملة الشرطية.

[5] في قوله: (ضرورة أن لازمه... الخ)، في أوائل البحث.

[6] حاصل الجواب: هو أن رفع إشكال اجتماع المثلين لو انحصر في خلاف

ص: 468


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «تَأكُدُ».

هو وجوب وضوء - مثلاً - بكل شرط غير ما وجب بالآخر[1]، ولا ضير[2] في كون فرد محكوماً بحكم فرد آخر أصلاً، كما لا يخفى.

إن قلت[3]: نعم، لو لم يكن تقدير تعدد الفرد على خلاف الإطلاق.

قلت[4]: نعم، لو لم يكن ظهور الجملة الشرطية في كون الشرط سبباً أو كاشفاً

-------------------------------------------------------------------

الظهور كان رفع اليد عن الظهور لابد منه، ولكن رفع الإشكال يمكن مع إبقاء الجملة على ظهورها؛ وذلك بالقول بعدم التداخل، وتعدد الجزاء بتعدد الشرط، أي: يجب فرد من طبيعة الوضوء في الشرط الأول، وفرد آخر في الشرط الثاني.

[1] أي: بفرد آخر وجب بالشرط الثاني غير الفرد الذي وجب بالشرط الأول.

[2] أي: لو تعدد الموضوع فلا إشكال في كون كل موضوع له حكم حتى إذا كانا متماثلين، فلا محذور في وجوب صلاتين، وليس ذلك من اجتماع المثلين؛ لتعدد الموضوع؛ وذلك لتباين أفراد الطبيعة الواحدة.

إشكال وجوابه

[3] حاصل الإشكال: هو أن القول بتعدد الجزاء أيضاً مستلزم لخلاف الظاهر، فلا فرق بين هذا الطريق الذي اختاره المصنف وبين الطرق الثلاثة التي مرّت؛ وذلك لأن تعدد الفرد خلاف إطلاق موضوع الجزاء؛ لأن إطلاق مثل: (فتوضأ) هو أن الواجب طبيعة الوضوء، وليس فرد الوضوء حتى يرتفع الإشكال بتعدد الفرد.

[4] حاصل الجواب: هو أن الإطلاق بحاجة إلى مقدمات الحكمة، ومن مقدمات الحكمة أن لا تكون قرينة على الخلاف، وما نحن فيه توجد هكذا قرينة، وهي ظهور الجملة في كون الشرط سبباً أو كاشفاً عن سبب، فلا ينعقد لمثل: (توضأ) ظهور في كون الطبيعة هي المأمور به، فيبقى ظهور الشرط في تعدد الجزاء سليماً من المعارض.

ص: 469

عن السبب[1]، مقتضياً[2] لذلك - أي: لتعدد الفرد[3] - ، وبياناً[4] لما هو المراد من الإطلاق.

وبالجملة: لا دوران بين ظهور الجملة في حدوث الجزاء وظهور الإطلاق، ضرورة أن ظهور الإطلاق يكون معلقاً على عدم البيان، وظهورها في ذلك صالح لأن يكون بياناً، فلا ظهور له مع ظهورها[5]، فلا يلزم على القول بعدم التداخل تصرف أصلاً[6]، بخلاف القول بالتداخل كما لا يخفى.

فتلخص بذلك: أن قضية ظاهر الجملة الشرطية هو القول بعدم التداخل عند تعدد الشرط.

-------------------------------------------------------------------

[1] حسب الخلاف في أن الأسباب الشرعية مؤثرات، أو معرِّفات.

[2] قوله: «مقتضياً» خبر قوله: (لو لم يكن ظهور الجملة).

[3] فلا تراد الطبيعة.

[4] أي: قرينة تُبيِّن المراد من اللفظ، وقوله: «من الإطلاق» بمعنى من اللفظ الذي لو لا القرينة لكان مطلقاً.

[5] أي: لا ظهور للإطلاق بإرادة الطبيعة، مع ظهور الجملة الشرطية في تعدد أفراد الجزاء.

[6] لا في الشرط، ولا في الجزاء، ولا في الجملة الشرطية، كذلك لا يستلزم رفع اليد عن الإطلاق؛ ولذا كان هذا هو المتعين، أخذاً بالظهور بلا محذور.

وللمنصف حاشية مفادها(1):

أن ما ذكرناه من عدم انعقاد الإطلاق للطبيعة إنما يتم على مذهب الشيخ الأعظم، حيث جعل القرائن المنفصلة مانعة عن الإطلاق - كالقرائن المتصلة - وأما على مختار المصنف من أن المنفصلة لا تمنع الظهور فحينئذٍ ينعقد إطلاق في الطبيعة، فيدور الأمر بين إطلاق الطبيعة وبين ظهور الجملة الشرطية في التعدد، والعرف يرجح الثاني، فيكون هو المتعين.

ص: 470


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 305.

وقد انقدح[1] مما ذكرناه[2]: أن المجدي للقول بالتداخل هو أحد الوجوه التي ذكرناها، لا مجرد كون الأسباب الشرعية معرفات لا مؤثرات[3]. فلا وجه لما عن الفخر وغيره[4] من ابتناء المسألة[5] على أنها معرفات أو مؤثرات. مع[6]

-------------------------------------------------------------------

تفصيل فخر المحققين
اشارة

[1] الغرض رد تفصيل فخر المحققين، حيث قال ما حاصله: إن الأسباب الشرعية إن كانت معرفات - أي: كاشفة عن العلة - فتتداخل الأسباب، لإمكان أن يكون معلول واحد له عدة علامات، وإن كانت مؤثرات - أي: علل حقيقية - فلا تداخل؛ لعدم إمكان توارد علل متعددة على معلول واحد.

[2] من أن تداخل الأسباب إنما يصح لو قلنا بإحدى الوجوه الثلاثة، وهي:

1- عدم دلالتها على العلية، بل على مجرد الثبوت.

2- إن المؤثر هو الجامع.

3- إن الشرط السابق علة للحكم، والشرط اللاحق مؤكد للحكم.

[3] لعدم الفرق، فعلى كلا الاحتمالين يمكن القول بالتداخل أو عدم التداخل.

[4] فخر المحققين(1)

نجل العلامة الحلي، ونسب أيضاً إلى المحقق النراقي في العوائد(2).

[5] أي: مسألة التداخل وعدمه.

الإشكال على التفصيل

[6] الإشكال على هذا التفصيل من وجهين:

الوجه الأول: وأشار إليه بقوله: (فلا وجه لما عن... الخ). وحاصله: إن مجرد كونها معرفات لا يسوغ التداخل؛ لأنها قد تكون كاشفة عن عدة علل لا علة واحدة، فيلزم إحراز أنها كاشفة عن واحدة لا أكثر.

ص: 471


1- إيضاح الفوائد 1: 145.
2- عوائد الأيام: 294.

أن الأسباب الشرعية حالها حال غيرها[1] في كونها معرفات تارةً ومؤثرات أخرى، ضرورة[2] أن الشرط للحكم الشرعي في الجمل الشرطية ربما يكون مما له دخل في ترتب الحكم[3] بحيث لولاه لما وجدت له[4] علة، كما أنه في الحكم الغير الشرعي(1) قد يكون أمارة على حدوثه بسببه[5]، وإن كان ظاهر التعليق أن له

-------------------------------------------------------------------

الوجه الثاني: وأشار إليه بقوله: (مع أن الأسباب... الخ). وحاصله: إن الأسباب الشرعية قد تكون مؤثرات، أي: علل للأحكام، وقد تكون معرفات، أي: كاشفة وعلامة على الأحكام، كما أن الأسباب العرفية قد تكون مؤثرات وقد تكون معرفات.

[1] أي: الأسباب العرفية.

[2] دليل كون الأسباب الشرعية كالأسباب العرفية - مؤثرة تارة ومعرف تارة أخرى - فقد يكون الشرط علّة للحكم الشرعي، كقوله: (إذا شككت فابن على الأكثر) حيث إن الشك علّة لوجوب البناء على الأكثر.

وقد يكون كاشفاً عن العلة كقوله: (إذا خفي الأذان فقصر) حيث إن علّة وجوب القصر هو الوصول إلى حدّ الترخص، وخفاء الأذان علامة على الوصول إليه.

كذلك الشرط غير الشرعي قد يكون علّة، وقد يكون كاشفاً، كما في: (إذا طلعت الشمس فالنهار موجود) حيث إنه علّة، وفي: (إذا كان النهار موجوداً فالعالم مضيء) حيث إن النهار يكشف عن وجود علة الضياء وهي الشمس.

[3] بأن يكون علّة حقيقية أو جزء علّة.

[4] أي: لو لا الشرط لما وجدت للحكم علة.

[5] أي: على حدوث الحكم بالسبب الحقيقي لذلك الحكم، ويكون الشرط كاشفاً عن ذلك السبب، ففي مثال: (إذا كان النهار موجوداً فالعالم مضيء) فوجود النهار يكشف عن السبب الحقيقي للضياء، وذلك السبب هو الشمس.

ص: 472


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير الشرعي».

الدخل فيهما[1]، كما لا يخفى.

نعم[2]، لو كان المراد بالمعرفية في الأسباب الشرعية أنها ليست بدواعي الأحكام[3] التي هي في الحقيقة علل لها، وإن كان لها دخل في تحقق موضوعاتها[4]، بخلاف الأسباب الغير(1)

الشرعية[5]، فهو[6] وإن كان له وجه إلاّ

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: في الحكم الشرعي وفي الحكم غير الشرعي، فظاهر الجملة الشرطية في كليهما هو أنه مؤثر لا معرف.

والحاصل: إنه لا فرق سواء قلنا بالمعرفية أو المؤثرية، فإنه يمكن القول بالتداخل أو القول بعدم التداخل.

توجيه تفصيل الفخر

[2] حاصله: إنه إن كان مراد الفخر أن علل الأحكام الشرعية هي المصالح والمفاسد، والشروط إنما هي محققة للموضوع، أي: تكشف عن وجود المصلحة أو المفسده، ففي مثل: (إذا شككت فابن على الأكثر) علّة وجوب البناء على الأكثر هو المصلحة الملزمة، والشك يحقق موضوع المصلحة، فهذا الكلام صحيح، لكنه لا يرتبط بتفصيل الفخر.

[3] لأن علل الأحكام هي المصالح والمفاسد.

[4] أي: تحقق الموضوع الخارجي الذي يكون ذا مصلحة أو مفسدة، ففي المثال السابق: الشك موضوع خارجي تتحقق به المصلحة، وتلك المصلحة صارت علّة لوجوب البناء على الأكثر.

[5] حيث إنها علل لأحكامها، لا أنها محققة لموضوع العلة.

[6] أي: هذا المراد والمعنى صحيح؛ لتبعية الأحكام الشرعية للمصالح والمفاسد.

ص: 473


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير الشرعية».

أنه ممّا لا يكاد يتوهم أنه يجدي في ما همّ وأراد[1].

ثم[2] إنه لا وجه للتفصيل بين اختلاف الشروط بحسب الأجناس[3] وعدمه[4] واختيار عدم التداخل في الأول والتداخل في الثاني(1)، إلاّ توهم[5] عدم صحة التعلق بعموم اللفظ[6] في الثاني[7]، لأنه[8] من أسماء الأجناس، فمع تعدد أفراد

-------------------------------------------------------------------

[1] وذلك لأن الشروط كما يمكن أن تكشف عن مصلحة واحدة فتتداخل الأسباب، كذلك يمكن أن تكشف عن مصالح متعددة فلا تداخل.

تفصيل ابن إدريس
اشارة

[2] وهو منسوب إلى ابن إدريس الحلي(2)

حيث حكي عنه أنه قال: لو وطأ الحائض مرات متعددة فعليه كفارة واحدة. وقال: لو سها في الصلاة بنوعين وجب تكرار سجدتي السهو.

[3] أي: ما يكون الشرط من ماهيات مختلفة كالنوم والبول.

[4] أي: عدم اختلاف الشروط بحسب الأجناس، بأن كانت الشروط من نوع واحد بلا اختلاف في الماهية، كالنوم مرتين.

[5] دليل التفصيل، وحاصله: إن اسم الجنس موضوع للطبيعة، ومع تكرر الشرط من جنس واحد لا تتكرر الطبيعة، بل تبقى نفسها، فيكون الجزاء واحداً، وأما لو كانت الأجناس متعددة فإن الطبيعة تتكرر بتعدد الشرط، فلا محيص عن تكرار الجزاء.

[6] أي: عموم لفظ الشرط، كالنوم في مثال: (إذا نمت فتوضأ) فنام مرات متعددة، فلا يمكن التمسك بعموم النوم كي يثبت لكل فرد من النوم وضوء مستقل.

[7] أي: ما كان الجنس واحداً.

[8] دليل عدم صحة التمسك بالعموم؛ لأن أسماء الأجناس هي أسماء للطبائع،

ص: 474


1- السرائر 1: 258.
2- السرائر 1: 549، وفيه: «وإذا وطأ بعد وطء لزمته كفارة بكل وطء، سواء كفر من الأول أم لم يكفر».

شرط واحد لم يوجد إلاّ السبب الواحد؛ بخلاف الأول[1]، لكون كل منها سبباً، فلا وجه لتداخلها.

وهو فاسد[2]، فإن[3] قضية إطلاق الشرط في مثل: (إذا بلت فتوضأ) هو حدوث الوجوب عند كل مرة لو بال مرات، وإلاّ[4] فالأجناس المختلفة لابد من رجوعها إلى واحد[5] في ما جعلت شروطاً وأسباباً لواحد[6]، لما مرت إليه الإشارة من أن الأشياء المختلفة بما هي مختلفة لا تكون أسباباً لواحد.

هذا كله[7] في ما إذا كان موضوع الحكم في الجزاء قابلاً للتعدد، وأما ما لا يكون

-------------------------------------------------------------------

والطبيعة لا تتكرر بتعدد الأفراد.

[1] أي: تعدد الأجناس؛ لأنه تحققت طبيعتان أو طبائع، وكل واحدة منها سبب.

الإشكال على التفصيل

[2] يرد على كلام ابن إدريس إشكالان:

الأول: إن المناط هو ظهور اللفظ في التكرار وعدم الظهور، وقد ذكرنا أن اللفظ ظاهر في التعدد، فلا تصل النوبة إلى ما ذكره من الدليل.

الثاني: إن الشرط الحقيقي واحد - سواء كان الجنس متعدداً أم واحداً - وذلك لقاعدة الواحد.

[3] هذا هو الإشكال الأول.

[4] هذا هو الإشكال الثاني.

[5] وهو الموجود في كل الشروط المختلفة، وهو العلة الحقيقية.

[6] أي: لجزاء واحد بالنوع.

[7] أي: كل هذه التفاصيل والخلاف في التداخل وعدمه.

ص: 475

قابلاً لذلك[1] فلابد من تداخل الأسباب في ما لا يتأكد المسبب ومن التداخل فيه في ما يتأكد[2].

فصل: الظاهر أنه لا مفهوم للوصف[3] وما بحكمه[4] مطلقاً[5]؛ لعدم ثبوت

-------------------------------------------------------------------

صورة عدم إمكان تكرار الجزاء

[1] كالقتل، فلو قال: (إن قتل فيقتل، وإن قطع الطريق فيقتل)، فلو تحقق الشرطان في رجل واحد، بأن قطع الطريق وقتل، فلا يمكن قتله مرتين. وحينئذٍ فإما نقول بتداخل الأسباب وإما بتداخل المسببات. أما تداخل الأسباب - بمعنى أن المؤثر هو السبب الأول فقط - : فهو في ما لا يمكن تأكد المسبب كالوضوء، فإن الحدث الأول هو الموجب له، والأحداث اللاحقة لا تأثير لها أصلاً.

أما تداخل المسببات - بمعنى أن السبب الأول يوجب الحكم، والأسباب اللاحقة تؤكده - فهو في ما يمكن تأكد الحكم، بأن يشتد وجوبه أو حرمته - مثلاً - كالقتل حيث إنه يجب بقطع الطريق ويتأكد الوجوب بالقتل ظلماً.

[2] أي: التداخل في المسبب في ما كان قابلاً للتأكد.

فصل مفهوم الوصف

اشارة

[3] المراد بالوصف المشتقات التي تُحمل على الذات، كاسم الفاعل والمفعول والصفة المشبهة ونحوها.

[4] أي: ما يؤدي معناه، مثل إضافة (ذو) إلى المصدر كقولنا: (ذو علم) أي: عالم. وكذلك الكناية عن الوصف، كما عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (لئن يمتلئ جوف الرجل قيحاً خير من أن يمتلئ شِعراً)(1) وهو كناية عن الشِعر الكثير.

[5] رد للتفصيلات - التي سيأتي بعضها - فلا فرق بين كون الوصف معتمداً على

ص: 476


1- وسائل الشيعة 7: 403.

الوضع[1]؛ وعدم لزوم اللغوية بدونه[2]، لعدم انحصار الفائدة به؛ وعدم قرينة

-------------------------------------------------------------------

الموضوع، نحو: (أكرم الرجل العادل)، أم غير معتمد، نحو: (أكرم العالم)، وبين كونه علة للحكم أم لا، وبين كونه أعم من وجه أم مطلقاً أم غيرهما إلى آخره.

أدلة القائلين بالوصف وردّها
الدليل الأول

[1] احتج المثبتون بدعوى التبادر عرفاً - كما عن التقريرات(1) - .

والجواب: إن كان مرادهم بالتبادر هو الانسباق إلى الذهن المستند إلى الوضع، فلم يثبت ذلك، بل ثبت عدمه؛ إذ إن استعمال الوصف لغير المفهوم ليس بمجاز قطعاً، ولو كان موضوعاً للمفهوم كان استعماله لغير المفهوم مجازاً.

الدليل الثاني

[2] أي: بدون المفهوم، وهذا هو الدليل الثاني لهم، وحاصله: ان الوصف لو لم يكن له مفهوم لكان الإتيان به لغواً، فلو كان الواجب إكرام كل إنسان، فيكون قوله: (أكرم الإنسان العالم) لغواً؛ لعدم الفرق بين العالم وغيره في لزوم الإكرام.

أما لو كان للوصف مفهوم فلا يكون لغواً؛ إذ المعنى: أكرم الإنسان العالم ولا تكرم الإنسان غير العالم.

والجواب: إن فائدة الوصف إن كانت منحصرة في المفهوم صح ما ذكروه، ولكن ليست الفائدة بمنحصرة، بل للوصف فوائد أخرى:

منها: بيان شدة أهمية الموضوع المتصف بهذا الوصف، مثل: (إياك وظلم اليتيم).

ومنها: عدم ابتلاء المكلف بغير مورد الوصف.

ومنها: كون السؤال عن مورد الوصف وغير ذلك.

ص: 477


1- مطارح الأنظار 2: 86.

أخرى ملازمة له[1].

وعليته - في ما إذا استفيدت[2] - غير مقتضية له[3]، كما لا يخفى. ومع[4] كونها بنحو الانحصار وإن كانت مقتضية له[5]، إلاّ أنه لم يكن من مفهوم الوصف، ضرورة أنه[6]

-------------------------------------------------------------------

الدليل الثالث

[1] أي: للمفهوم، وهذا هو الدليل الثالث للمثبتين وهو الانصراف.

وبيانه: هو أن الوصف ينصرف إلى كونه العلة للحكم، ومن المعلوم أن العلة إذا زالت انتفى المعلول، فمثل (أكرم الرجل العالم) ينصرف الوصف إلى كون العلم هو العلة للإكرام، فبانتفائه لا علة للإكرام أصلاً، ولذا قالوا: تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية(1).

والجواب: أولاً: بعدم استفادة العِلية من الوصف؛ إذ للوصف فوائد متعددة - مرّ بعضها - .

ثانياً: إن مجرد العلية لا تكفي في ثبوت المفهوم؛ إذ يمكن أن يكون للحكم عِلَلٌ متعددة، وكان الوصف أحد تلك العلل، فانتفاء أحدها لا يستلزم انتفاء المعلول - وهو الحكم - لجواز توفر علة أخرى، بل لابد من إحراز العلية المنحصرة.

ثالثاً: لو أحرزت العلية المنحصرة فانتفاء الحكم بانتفاء الوصف لا يكون مرتبطاً بالمفهوم، بل بأمر عقلي، وهو انتفاء المعلول بانتفاء علته المنحصرة.

[2] إشارة إلى الإشكال الأول.

[3] إشارة إلى الإشكال الثاني، «له» للمفهوم.

[4] إشارة إلى الإشكال الثالث.

[5] أي: للمفهوم، وذلك لانتفاء المعلول بانتفاء علته المنحصرة.

[6] أي: إن المفهوم، وهذا دليل عدم كونه من المفهوم.

ص: 478


1- قوانين الأصول 1: 181؛ غاية المسؤول: 345.

قضية العلة الكذائية[1] المستفادة من القرينة عليها في خصوص مقام، وهو[2] مما لا إشكال فيه ولا كلام، فلا وجه لجعله تفصيلاً في محل النزاع[3] ومورداً للنقض والإبرام.

ولا ينافي ذلك[4] ما قيل(1) من أن الأصل في القيد أن يكون احترازياً[5]، لأن

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: إن العلة المنحصرة في تلك القضية إنما كانت لأجل دليل خاص، حيث لم يكن ذلك بالوضع أو بالانصراف.

[2] أي: استفادة قرينة خاصة دالة على العلية المنحصرة لا مانع منه، لكنه لا يثبت مفهوم الوصف بشكل عام.

[3] كما نسب إلى العلامة الحلي(2)

وهو ثبوت المفهوم للوصف إذا كان علة، كما لو قال: (أكرم الرجل لأنه عالم)، وعدم المفهوم للوصف إذا لم يكن علة.

وأما عدم الوجه لهذا التفصيل: فهو أن الكلام في دلالة الوصف بنفسه على المفهوم، وأما لو دلت قرينة خارجية على المفهوم فلا إشكال فيه، ولا ينكره حتى من أنكر المفهوم؛ لأن ذلك غير مرتبط بالدلالة المفهومية، بل بالقرينة الخارجية. هذا مضافاً إلى أن القرينة هي العلية المنحصرة لا مطلق العلية.

الدليل الرابع

[4] أي: عدم الدلالة على المفهوم.

[5] هذا يمكن أن يجعل دليلاً رابعاً للقائلين بالمفهوم، ويمكن جعله من تتمة الدليل الثالث؛ وذلك بجعل «الاحترازية» قرينة ملازمة للمفهوم. وعلى كل حال حاصل الكلام هو أن القيد قسمان:

1- توضيحي: مثل: (أكرم العادل غير الفاسق)، حيث إن (غير الفاسق) توضيح للعادل.

ص: 479


1- هداية المسترشدين 2: 471.
2- نهاية الوصول إلى علم الأصول 1: 447.

الاحترازية[1] لا توجب إلاّ تضييق دائرة موضوع الحكم في القضية، مثل ما إذا كان[2] بهذا الضيق بلفظ واحد. فلا فرق أن يقال: (جئني بإنسان) أو (بحيوان ناطق). كما أنه[3] لا يلزم في حمل المطلق على المقيد[4] في ما وجد شرائطه[5] إلاّ

-------------------------------------------------------------------

2- احترازي: أي: لإخراج فرد أو نحوه مثل: (أكرم الرجل العالم)؛ لأن الرجل صنفان: عالم وغير عالم.

والأصل كون القيود احترازية لا توضيحية، وعليه فيرتفع الحكم عند عدم القيد، وهذا هو معنى المفهوم، وهنا الوصف قيد فينتفي الحكم عند انتفاء الوصف.

[1] هذا هو الجواب عن الدليل الرابع، وحاصله: إن القيد الاحترازي يضيّق دائرة الموضوع، لا أنه ينفي الحكم عن غير الموضوع.

ففي قولنا: (أكرم الإنسان العادل) الوصف - وهو العادل - ضيق موضوع وجوب الإكرام، لا أنه ينفي الحكم عن موضوع آخر وهو الفاسق.

[2] أي: كان الموضوع.

الدليل الخامس

[3] ومن أدلة المثبتين للمفهوم هذا الوجه، وهو منسوب إلى الشيخ البهائي(1)، وحاصله: إنه إذا كان الحكم واحداً وورد في لسان الدليل بشكل مطلق تارة، ومقيد أخرى، فإنه لا ريب في حمل المطلق على المقيّد، فلو قال: (أعتق رقبة) و(أعتق رقبة مؤمنة) فلا إشكال في وجوب عتق رقبة مؤمنة، وعدم كفاية الرقبة الكافرة. وليس سبب ذلك إلاّ ثبوت المفهوم للوصف، أي: (لا تعتق رقبة غير مؤمنة) ولو لم يكن للوصف مفهوم كان يجوز عتق رقبة مطلقاً - مؤمنة أم كافرة - لعدم حصول التنافي بين الخطابين حتى نضطر إلى الجمع بينهما بحمل المطلق على المقيد.

[4] أي: إلغاء إطلاق المطلق، والقول: إنّ المراد الجديّ منه هو المقيد.

[5] أي: شرائط حمل المطلق على المقيد، والمراد هنا هو اتحاد الموجب - أي:

ص: 480


1- قوانين الأصول 1: 329؛ هداية المسترشدين 2: 475.

ذلك[1]، من دون حاجة فيه إلى دلالته[2] على المفهوم، فإنه من المعلوم أن قضية الحمل ليس إلاّ أن المراد بالمطلق هو المقيد، وكأنه لا يكون في البين غيره. بل ربما قيل[3]: «إنه لا وجه للحمل[4] لو كان بلحاظ المفهوم، فإن ظهوره فيه[5] ليس

-------------------------------------------------------------------

السبب - ففي المثال نعلم بوجوب عتق رقبة واحدة لا أكثر، ولو لا اتحاد الموجب لم يكن وجه للحمل؛ لعدم تنافي المثبتين.

[1] أي: تضييق دائرة الموضوع. وحاصل الجواب عن الدليل الخامس أمران:

الجواب الأول: إن حمل المطلق على المقيد لا يرتبط بالمفهوم، بل هو من باب تضييق موضوع الحكم، فالمطلق كان يشمل أفراداً كثيرين، والتقييد ضيّق دائرة الموضوع، أي: بيّن أن المراد الجديّ من المطلق ليس كل الأفراد، بل بعض الأفراد؛ وذلك لأن دائرة المطلق وسيعة والمقيد دائرته ضيقة، ولما علمنا أن المطلوب شيء واحد لا أكثر حصل تعارض بين المطلق والمقيد، ولرفع التعارض حملنا المطلق على المقيد، أي: قلنا: إنّ المراد من المطلق هو المقيد؛ وذلك لأن المقيد أظهر من المطلق.

[2] أي: في حمل المطلق على المقيّد لا نحتاج إلى دلالة المقيّد على المفهوم.

والحاصل: إن التعارض بين (أعتق رقبة) و(أعتق رقبة مؤمنة) لم يكن بسبب مفهوم الوصف، بل بسبب التعارض في المنطوق بين سعة دائرة الموضوع وضيقه.

[3] هذا هو الجواب الثاني، قاله في التقريرات(1)،

وحاصله: إن حمل المطلق على المقيد لا يصح إذا كان لأجل مفهوم الوصف؛ وذلك لأنه في التعارض يقدّم الأقوى، ومنطوق المطلق أقوى من مفهوم الوصف في المقيد، فالقاعدة تقتضي تقديم المطلق على المقيد لا العكس، ومن هنا نستكشف أن حمل المطلق على المقيد ليس لأجل مفهوم الوصف.

[4] أي: حمل المطلق على المقيد.

[5] أي: ظهور المقيد في المفهوم، وهذا دليل عدم صحة الحمل لو كان بلحاظ المفهوم.

ص: 481


1- مطارح الأنظار 2: 83.

بأقوى من ظهور المطلق في الإطلاق كي يحمل عليه[1]، لو لم نقل بأنه الأقوى لكونه بالمنطوق، كما لا يخفى[2]».

وأما الاستدلال[3] على ذلك - أي: عدم الدلالة على المفهوم - بآية {وَرَبَٰٓئِبُكُمُ ٱلَّٰتِي فِي حُجُورِكُم}(1)، ففيه[4]: أن الاستعمال في غيره أحياناً مع القرينة مما لا يكاد

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: حتى يحمل المطلق على المقيد.

[2] ولعل المصنف لم يرتضِ هذا الجواب الثاني، ولذا قال: (بل ربما قيل)؛ وذلك لأن المناط عنده هو الأقوائية في الظهور العرفي، وهو يختلف باختلاف الموارد، فقد يكون المفهوم أقوى، وقد يكون المنطوق.

من أدلة عدم المفهوم للوصف

[3] حيث إن الربيبة - وهي بنت الزوجة - محرمة على الزوج مطلقاً، سواء كانت صغيرة فيربيها في حِجره، أم كانت كبيرة، أم ولدت بعد ذلك من زوج آخر، فلو كان للوصف مفهوم كان معناه عدم حرمة الربيبة التي لا تكون في الحِجر، وهو واضح البطلان.

[4] والإشكال من وجهين:

الأول: إن عدم المفهوم للوصف في بعض الموارد ليس دليلاً على عدم الوضع للمفهوم؛ لجواز استعمال اللفظ في غير ما وضع له، أو في غير ما يتبادر منه، ونحو ذلك.

الثاني: إنه يعتبر في مفهوم الوصف - على القول به - أن لا يكون وارداً مورد الغالب؛ وذلك لأن الغرض من القيود الغالبية هو التوضيح، أو بيان خصوصية أخرى، ولا يستفاد منها العلية المنحصرة، فمثل قوله تعالى: {وَرَبَٰٓئِبُكُمُ ٱلَّٰتِي فِي حُجُورِكُم} الغالب أن المرأة تصطحب معها بناتها الصغار حتى لو تزوجت بزوج آخر، كما أن فيه حثّ للرجال بأن يتعاملوا مع أطفال زوجاتهم كما يتعاملون مع

ص: 482


1- سورة النساء، الآية: 23.

ينكر، كما في الآية قطعاً، مع أنه يعتبر في دلالته عليه[1] - عند القائل بالدلالة - أن لا يكون وارداً مورد الغالب - كما في الآية -، ووجه الاعتبار[2] واضح، لعدم دلالته معه[3] على الاختصاص[4]، وبدونها[5] لا يكاد يتوهم دلالته على المفهوم، فافهم[6].

تذنيب[7]: لا يخفى: أنه لا شبهة في جريان النزاع في ما إذا كان الوصف أخص

-------------------------------------------------------------------

أبنائهم، وخاصة الطفلة التي فقدت أباها بموت أو طلاق، فإنها بحاجة إلى حنان الأب، ويمكن لزوج الأم أن يعوضها عن ذلك.

[1] أي: في دلالة الوصف على المفهوم.

[2] أي: وجه اشتراط المفهوم بأن لا يكون الوصف غالبياً.

[3] أي: لعدم دلالة الوصف مع كونه غالبياً.

[4] حاصله: إن مفهوم الوصف يستفاد من العلية المنحصرة، ومع كون الوصف غالبياً لا يفهم العرف العلية المنحصرة.

[5] أي: بدون الدلالة على الاختصاص.

[6] لعله إشارة إلى أن الوجه الثاني راجع إلى الوجه الأوّل؛ لأنّ الوجه الأول كان عدم إنكار استعمال الوصف في غير المفهوم إذا كانت قرينة، وهذا الوجه الثاني يدل على أن الورود مورد الغالب قرينة على عدم إرادة المفهوم، فإذن رجع الوجه الثاني إلى الأول.

تذنيب
لتحرير محل النزاع

[7] هذا التذنيب لتحرير محل النزاع في مفهوم الوصف.

وحاصله: هو لزوم بقاء الموضوع عند زوال الوصف. فيقال: هل عند زوال الوصف يكون للموضوع عكس الحكم أم لا؟ مثلاً: (أكرم الإنسان العالم) هل له

ص: 483

من موصوفه، ولو من وجه في مورد الافتراق من جانب الموصوف[1].

وأما في غيره[2]: ففي جريانه إشكال[3]. أظهره عدم جريانه[4]. وإن كان

-------------------------------------------------------------------

مفهوم؟ أي: لا تكرم الإنسان الجاهل، حيث إن الموضوع وهو (الإنسان) بقي بعد زوال الوصف - وهو العلم - أم ليس له مفهوم؟

فلا يجري النزاع في الوصف المساوي للموضوع (كالإنسان الضاحك) لزوال الموضوع مع زوال الوصف، ولا في الوصف الأعم مطلقاً من الموضوع (كالإنسان الجسم) لأنه لو لم يكن جسماً فليس بإنسان فلا يبقى الموضوع. ولا في الوصف الأعم من وجه في جانب افتراق الوصف - أي: زوال الموضوع وبقاء الوصف - (كالإنسان الأبيض) ففي الأبيض غير الإنسان لا يجري المفهوم، وكذلك في جانب افتراق الوصف والموصوف معاً كالفرس الأسود؛ وذلك لعدم بقاء الموضوع.

والحاصل: إن النزاع في المفهوم ينحصر في ما لو كان الوصف أخص مطلقاً، أو أخص من وجه في جانب افتراق الموصوف - أي: بقاء الموصوف مع زوال الوصف - .

[1] أي: بقاء الموصوف - وهو الموضوع - وزوال الوصف.

[2] أي: غير الوصف الأخص، سواء الأخص المطلق، أم الأخص من وجه في مورد افتراق الموصوف.

[3] وذلك لعدم بقاء الموضوع، فيخرج عن مفهوم الوصف ويدخل في مفهوم اللقب. فلو قال: (أكرم الإنسان الناطق) فزال الإنسان فالقول بعدم لزوم إكرام غير الإنسان لا يرتبط بمفهوم الوصف، بل هو من مفهوم اللقب - وسيجيء قريباً عدم دلالته على المفهوم - .

[4] لأن المفهوم - في مفهوم المخالفة - نقيض المنطوق، وفي النقيضين يشترط وحدة الموضوع. ومع اختلاف الموضوع لا يكونان من النقيضين، فلا يكون مفهومٌ.

فالرجل الأسود نقيض الرجل غير الأسود؛ لوحدة الموضوع، فيكون من المفهوم، وليس نقيضاً للمرأة غير السوداء؛ لاختلاف الموضوع، فلا يكون من المفهوم. فتأمل.

ص: 484

يظهر[1] ممّا عن بعض الشافعية(1) - حيث قال: «قولنا: في الغنم السائمة[2] زكاة، يدل على عدم الزكاة في معلوفة الإبل[3]» - جريانه فيه، ولعل وجهه[4] استفادة العلية المنحصرة منه. وعليه فيجري[5] في ما كان الوصف مساوياً أو أعم مطلقاً[6] أيضاً، فيدل على انتفاء سنخ الحكم عند انتفائه[7]؛ فلا وجه في التفصيل[8] بينهما

-------------------------------------------------------------------

[1] فاعل يظهر قوله - بعد سطر - (جريانه فيه).

[2] أي: التي كان أكلها من نباتات الأرض من غير أن يعلفها صاحبها.

[3] مع اختلاف الموضوع، لأن الموضوع في الحديث هو (الغنم) وفي المورد (الإبل) وهذا من موارد العموم والخصوص من وجه، مع كون الافتراق من جانب الوصف والموصوف، أي: زوال (الغنم) و(السوم).

[4] أي: استفادة عدم الزكاة في الإبل المعلوفة ليس مرتبطاً بمفهوم الوصف، بل لعله من باب أنهم استفادوا أن علّة زكاة الأنعام هو السوم، وفي الإبل المعلوفة لا توجد علة الزكاة؛ لأنها ليست سائمة.

[5] أي: على هذا الوجه - وهو استفادة العلية المنحصرة - فيجري النزاع من هؤلاء الشافعية.

[6] لأنه لو عُلِمت (العلة المنحصرة) فيدور الحكم مدارها في كل الأحوال.

[7] أي: عند انتفاء الوصف؛ لأن الوصف كان العلّة للحكم.

[8] حيث فصّل في التقريرات(2):

بين الموصوف المساوي والأعم المطلق، وبين الوصف الأعم من وجه في جانب افتراق الوصف والموصوف. ففي الأول قال بعدم جريان النزاع؛ لعدم بقاء الموضوع. وفي الثاني أجرى النزاع بسبب فهم البعض للعِلة المنحصرة.

وأشكل المصنف عليه: بعدم بقاء الموضوع في جميعها، والعِليّة إن استفيدت فلا

ص: 485


1- نقل عنهم الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3: 72.
2- مطارح الأنظار 2: 80.

وبين ما إذا كان أخص من وجه في ما إذا كان الافتراق من جانب الوصف[1] بأنه لا وجه للنزاع فيهما معللاً بعدم الموضوع واستظهار جريانه من بعض الشافعية فيه، كما لا يخفى[2]، فتأمل جيداً.

فصل: هل الغاية[3] في القضية تدل على ارتفاع الحكم عما بعد الغاية - بناءً

-------------------------------------------------------------------

يجري الحكم في جميعها، فلا فرق بين المساوي والعموم المطلق والعموم من وجه.

[1] مراده الافتراق في جانب الوصف والموصوف، كالإبل المعلوفة، حيث زال الموصوف - أي: الغنم - والوصف - أعني السوم - .

[2] والظاهر عدم ورود الإشكال على التقريرات؛ لأنه بصدد بيان وجه نزاع الشافعية في مثل الغنم السائمة، وإلاّ فهو لا يرى للوصف مفهوماً في كل تلك الموارد.

فصل مفهوم الغاية

اشارة

[3] الغاية لها معان، منها: أدوات الغاية مثل: (حتى) و(إلى). ومنها: مدخول الأدوات، والمصنف استعمل الغاية هنا بمعنى المدخول؛ ولذا قال: (ارتفاع الحكم عما بعد الغاية) و(عنها وبعدها)، فمثل: (سِر إلى الكوفة) هل يرتفع الحكم عما بعد الغاية؟ أي: ما بعد الكوفة، أو عن الكوفة وما بعدها، إذن الغاية بمعنى مدخول الأدوات.

ثم إنّ في الغاية مقامين، وقع البحث فيهما:

البحث الأول: في الدلالة المفهومية، وأن الغاية هل تدل على ارتفاع الحكم عن الغاية، أو عن الغاية وما بعدها، فيكون هذا الارتفاع بالمفهوم، أم لا تدل على الارتفاع، فلا مفهوم لها؟

البحث الثاني: في منطوق الغاية، وأن الغاية هل هي داخلة في حكم المغيّى أم خارجة عنها؟

ص: 486

على دخول الغاية في المغيّى[1] - أو عنها وبعدها - بناءً على خروجها[2] - أو لا[3]؟ فيه خلاف. وقد نسب إلى المشهور الدلالة على الارتفاع(1)،

وإلى جماعة - منهم السيد والشيخ(2) - عدم الدلالة عليه[4].

والتحقيق[5]:

-------------------------------------------------------------------

[1] فلو قال: (صُم إلى اليوم العاشر)، فيجب صيام اليوم العاشر أيضاً؛ لأنه داخل في حكم المغيّى، وهو الشيء الذي جعلت له الغاية - وهو وجوب الصوم - .

[2] فقوله: {أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِۚ}(3) يكون الليل خارجاً عن المغيّى وهو وجوب الصوم، فلا يجب صومه.

[3] أي: أو لا تدل على ارتفاع الحكم، بل يكون الحكم مهملاً في الغاية، أو فيها وما بعدها بمعنى السكوت عن حكمه.

[4] أي: عدم الدلالة على الارتفاع، والسيد هو السيد المرتضى علم الهدى والشيخ هو الشيخ الطوسي شيخ الطائفة. وتوجد النسبة إلى المشهور في تقريرات الشيخ الأعظم(4).

البحث الأول
الدلالة المفهومية

[5] حاصل التحقيق: هو الفرق بين ما إذا كانت الغاية قيداً للحكم، أو كانت قيداً للموضوع - حسب متفاهم أهل اللغة - .

فإن كانت قيداً للحكم دلت على ارتفاع الحكم؛ للتبادر، ولكي لا يلزم التناقض. فمثل: (كل شي لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه) يتبادر انتهاء الحلية

ص: 487


1- مطارح الأنظار 2: 98.
2- الذريعة إلى أصول الشيعة 1: 407؛ العدة في أصول الفقه 2: 478.
3- سورة البقرة، الآية: 187.
4- مطارح الأنظار 2: 98.

إنه إذا كانت الغاية بحسب القواعد العربية[1] قيداً للحكم - كما في قوله: «كل شيء حلال حتى تعرف أنه حرام[2]»(1)،

و«كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر»(2)

- كانت[3] دالة على ارتفاعه عند حصولها[4]، لانسباق ذلك منها[5]، كما لا يخفى، وكونه قضية تقييده بها، وإلاّ[6] لما كان ما جعل غاية له بغاية، وهو واضح إلى النهاية.

وأما إذا كانت بحسبها[7] قيداً للموضوع[8]

-------------------------------------------------------------------

حين العلم بالحرمة، مع أن بقاء الحلية مع العلم بالحرمة يستلزم اجتماع الضدين - أي: الحرمة والحلية - في شيء واحد.

[1] لعل المراد بحسب متفاهم أهل اللسان - سواء كان منشأ فهمهم القواعد أم التبادر - .

[2] كون الغاية قيداً للحكم من جهتين:

1- الأقربية، أي: الحكم وهو (حلال) أقرب إلى (حتى تعرف).

2- عدم قابلية الموضوع وهو (كل شيء) لأن يكون له ابتداء وانتهاء، وكذا في الحديث الثاني.

[3] جزاء إذا في قوله: (إذا كانت الغاية... الخ).

[4] أي: على ارتفاع الحكم عند حصول الغاية.

[5] أي: انسباق ذلك الارتفاع من الغاية، وهذا الدليل الأول على ارتفاع الحكم، «تقييده» الحكم، «بها» بالغاية.

[6] هذا هو الدليل الثاني، والمعنى: لو استمر الحكم إلى ما بعد الغاية لما كانت غاية وهذا خلف، فلو كانت الحلية مستمرة إلى ما بعد العلم بالحرمة لم يكن العلم غاية، مع أنه جعل غاية، «له» أي: للحكم.

[7] أي: بحسب القواعد العربية.

[8] المراد بالموضوع متعلق الحكم.

ص: 488


1- الكافي 5: 313، وفيه: «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام».
2- مستدرك الوسائل 2: 583؛ وسائل الشيعة 3: 467، وفيه: «كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر».

- مثل: (سر من البصرة إلى الكوفة)[1] - فحالها[2] حال الوصف في عدم الدلالة، وإن كان تحديده بها[3] بملاحظة حكمه[4] وتعلق الطلب به، وقضيته[5] ليس إلاّ عدم الحكم فيها[6] إلاّ بالمغيّى، من دون دلالة لها[7] أصلاً على انتفاء سنخه عن غيره، لعدم[8]

-------------------------------------------------------------------

[1] الموضوع هو السير، وحكمه هو الوجوب، وهنا الابتداء والانتهاء قيد للسير، أي:السير مبتدئ من البصرة ومنتهٍ إلى الكوفة؛ وذلك لأن مقتضى القواعد العربية رجوع القيد إلى المادة - وهي السير - لا إلى الهيئة - وهي الوجوب - .

أما على مبنى الشيخ فلأنّ الهيئة معنى حرفي وهو جزئي غير قابل للإطلاق والتقييد.

وأما على مبنى المصنف فلأن ظهور الكلام في رجوع القيد إلى المادة.

[2] أي: حال الغاية كحال الوصف في عدم المفهوم، أي: لا تدل على ارتفاع الحكم عن الغاية.

[3] إن وصلية، أي: حتى وإن كان تحديد الموضوع بالغاية، والمعنى: إن ارتفاع شخص الحكم لا إشكال فيه، لكن هذا لا يرتبط بالمفهوم كما مرّ في الشرط، بل المفهوم هو ارتفاع سنخ الحكم، ولا دلالة على انتفائه عن الغاية إذا كانت الغاية قيداً للموضوع، وعدم الدلالة لجهتين سيأتي ذكرهما.

[4] أي: حكم الموضوع شخصاً.

[5] أي: مقتضى كون الحكم الشخصي تعلق بالمغيّى.

[6] أي: في القضية، وحاصل العبارة هو: (ومقتضى تعلق الحكم الشخصي بالموضوع هو تعلق الحكم بالمغيّى، والسكوت عن الغاية).

[7] أي: لا دلالة للغاية على ارتفاع سنخ الحكم عن غير المغيّى.

[8] هذا الدليل الأول، وحاصله: إن الغاية لم توضع للدلالة على المفهوم، «لذلك» أي: انتفاء السنخ - وهو المفهوم - .

ص: 489

ثبوت وضع لذلك، وعدم[1] قرينة ملازمة لها ولو غالباً[2] دلت على اختصاص الحكم به، وفائدة[3] التحديد بها كسائر أنحاء التقييد[4] غير منحصرة بإفادته[5]، كما مر في الوصف.

ثم إنه في الغاية خلاف آخر[6] - كما أشرنا إليه - . وهو أنها هل هي داخلة في

-------------------------------------------------------------------

[1] هذا الدليل الثاني، وحاصله: عدم وجود قرينة عامة - من انصراف أو إطلاق - يدل على المفهوم، «لها» أي: للدلالة على انتفاء سنخ الحكم عن الغاية.

[2] لأن الغلبة في الوجود قد تكون سبباً للانصراف، فيقول المصنف لا توجد قرينة في غالب الموارد حتى نقول بالانصراف بسبب الغلبة.

[3] دفع إشكال، وحاصله: هو إذا لم يكن للغاية مفهوم كان وجودها لغواً، فمثل: (سر من البصرة إلى الكوفة) لو كان السير ما بعد الكوفة واجباً كان قيد (إلى الكوفة) بلا وجه.

والجواب: هو عدم انحصار الفائدة في المفهوم، بل قد تكون فوائد أخرى، مثل أن يكون الغرض دفع توهم عدم شمول الحكم للمغيّى، كقوله: (أكرم من أساء إليك حتى يحبك)، أو لبيان شدة أهمية المغيّى، مثل: (اقرأ القرآن من أول شهر رمضان إلى آخره) أو لغير ذلك.

[4] كالوصف والحال ونحوهما.

[5] أي: إفادة انتفاء الحكم عن الغاية.

البحث الثاني
في منطوق الغاية

[6] عن التقريرات: (فاختلف القوم فيه على أقوال: فذهب نجم الأئمة: إلى الخروج مطلقاً نظراً إلى أن حدود الشيء خارجة عنه، وحمل الموارد التي يظهر فيها الدخول على وجود القرينة فيها. وقيل: بالدخول مطلقاً.

ص: 490

المغيّى بحسب الحكم[1] أو خارجة عنه؟

والأظهر خروجها، لكونها من حدوده[2]، فلا تكون محكومة بحكمه. ودخوله فيه[3] في بعض الموارد إنما يكون بالقرينة. وعليه[4] تكون كما بعدها بالنسبة إلى الخلاف الأول، كما أنه على القول الآخر[5] تكون محكومة بالحكم منطوقاً.

-------------------------------------------------------------------

وفصل ثالث: بين (حتى) و(إلى) فقال بالدخول في الأول وبعدمه في الثاني، اختاره الزمخشري على ما نسب إليه، وادعى بعض النحاة الإجماع على الدخول في (حتى) ولعله خلط بين العاطفة والخافضة، كما نص عليه ابن هشام.

وفصل بعضهم بين ما إذا كان ما قبل الغاية وما بعدها متحدين في الجنس فقال بالدخول، وبين غيره، وهنا أقوال أخر)(1)، انتهى.

[1] أي: دخولها في حكم المغيّى أم أن الغاية خارجة عن حكمه، فلو قال: (سِر إلى الكوفة) هل يكتفي بالوصول إلى باب الكوفة - بناءً على خروج الغاية عن حكم المغيّى - أم لابد من استمرار السير والدخول في الكوفة - بناءً على دخولها في حكمه - ؟

[2] أي: لكون الغاية من حدود المغيّى، والحد خارج عن المحدود.

[3] الإشكال: علمنا بدخول الغاية في المغيّى في بعض الموارد مثل: (صم إلى آخر الشهر).

والجواب: في هذه الموارد توجد قرينة خاصة، ولا إشكال مع وجود القرينة، إنما الكلام في الدلالة بحسب الوضع، أو بقرينة عامة حتى يحمل عليها الموارد المشكوكة.

[4] أي: بناءً على خروج الغاية من المغيّى يجري فيها البحث الأول، وهو الخلاف في ارتفاع الحكم عنها بالمفهوم، أو عدم ارتفاعه؛ لعدم المفهوم.

[5] وهو دخول الغاية في المغيّى، فيجري عليها الحكم حسب منطوقه، فمثل: (صم إلى آخر الشهر) يدل منطوق الكلام على وجوب صيام اليوم الأخير أيضاً، مضافاً إلى سائر الأيام، كل ذلك بالمنطوق.

ص: 491


1- مطارح الأنظار2 : 96.

ثم لا يخفى[1] أن هذا الخلاف لا يكاد يعقل جريانه في ما إذا كانت قيداً للحكم، فلا تغفل.

فصل: لا شبهة في دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم[2] سلباً أو إيجاباً بالمستثنى منه، ولا يعم[3] المستثنى. ولذلك يكون الاستثناء من النفي إثباتاً[4] ومن الإثبات نفياً[5]. وذلك[6] للانسباق عند الإطلاق قطعاً.

-------------------------------------------------------------------

[1] توضيحه بلفظ العناية: (ووجه عدم الجريان على ما يظهر من تعليقته على الكتاب: أن الغاية إذا كانت قيداً للحكم فالمغيّى نفس الحكم، ولا يعقل دخول الغاية في نفس الحكم. نعم، يعقل النزاع حينئذٍ بنحو آخر، بأن يقال: هل الحكم ينقطع بمجرد حصول الغاية أو لا ينقطع إلاّ بتحقق تمام الغاية؟ فإذا قال مثلاً: يجب عليك الصوم من أول الشهر إلى العاشر، فهل الوجوب ينقطع بمجرد الشروع في العاشر أم لا ينقطع إلاّ بتحقق تمام العاشر؟)(1)،

انتهى.

وفي كلام المصنف تأمل، والأولى الاستدلال بالتناقض، فإنه لا يعقل بقاء الحلية مع العلم بالحرمة، كما مرّ.

فصل مفهوم الاستثناء

اشارة

[2] أي: شخص الحكم المذكور في الكلام.

[3] أي: الحكم لا يشمل المستثنى، بل ينتفي ذلك الحكم عنه.

[4] فمثل: (ما جاء القوم إلاّ زيد) معناه: عدم مجيء القوم ومجيء زيد.

[5] فمثل: (أكرم العلماء إلاّ الفساق) معناه: وجوب إكرام العلماء العدول، وعدم وجوب إكرام فساقهم.

[6] هذا وجه الدلالة، وهو التبادر، «عند الإطلاق» أي: مع عدم وجود

ص: 492


1- عناية الأصول 2: 217.

فلا يعبأ بما عن أبي حنيفة(1) من عدم الإفادة[1]، محتجاً بمثل: «لا صلاة إلاّ بطهور[2]»(2)؛ ضرورة ضعف احتجاجه[3]:

-------------------------------------------------------------------

قرينة خاصة.

كلام أبي حنيفة والإشكال عليه

[1] أي: عدم دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم بالمستثنى منه، بل قد يكون الحكم فيه شاملاً للمستثنى أيضاً.

[2] حاصل احتجاجه هو: إنه لو كان للاستثناء دلالة كان المعنى: صحة الصلاة مع الطهور، والحال أنه كثيراً ما تكون الصلاة مع الطهور باطلة؛ لفقدانها لأجزاء أو شرائط أخرى. إذن حكم المستثنى منه - وهو بطلان الصلاة - شمل المستثنى أي: (الصلاة مع الطهور)، فإنها باطلة أحياناً لخلل فيها من جهة سائر الأجزاء أو الشروط.

[3] أشكل عليه المصنف بثلاثة إشكالات، وحاصلها:

أولاً: إن هذا النوع من الاستثناء - الذي يراد به إثبات شرطية شيء أو جزئيته للمستثنى منه كالطهارة والفاتحة للصلاة - يكون معنى المستثنى منه هو الواجد لجميع الأجزاء والشرائط الأخرى، فلا يصح إلاّ بما يذكر في الاستثناء، فمثل: (لا صلاة إلاّ بطهور) تكون الصلاة - وهي المستثنى منه - معناها الصلاة التي لها جميع الأجزاء والشرائط الأخرى، فلا تصح هذه الصلاة إلاّ بالوضوء، ومن المعلوم أن هذه الصلاة تصح مع الطهور، وتبطل مع عدمه.

وثانياً: لو فرض استعمال الصلاة في أمثال هذا التركيب من غير دلالة على انتفاء الحكم عن المستثنى، فإنه لا يضر بالمدعى، لجواز الاستعمال مع القرينة في خلاف المعنى الحقيقي.

ص: 493


1- الإحكام في أصول الأحكام 2: 308.
2- وسائل الشيعة 1: 315.

أولاً، بكون المراد من مثله[1] أنه لا تكون الصلاة التي كانت واجدة لأجزائها وشرائطها المعتبرة فيها صلاة[2] إلاّ إذا كانت واجدة للطهارة، وبدونها[3] لا تكون صلاة على وجه[4]، وصلاة تامة مأموراً بها على آخر[5]. وثانيا، بأن الاستعمال مع القرينة - كما في مثل التركيب مما علم الحال[6] - لا دلالة له على مدعاه أصلاً، كما لا يخفى.

ومنه[7]

-------------------------------------------------------------------

وثالثاً - ما ذكره المصنف في الهامش(1)

- : وهو أن في أمثال هذه الجملة - التي يراد فيها إثبات شرطية شيء أو جزئيته - الخبر المقدر في المستثنى منه هو (ممكن)، أي: لاصلاة ممكنة إلاّ بطهور، فتكون الدلالة تامة أي: لا تمكن الصلاة بلا طهور، وتمكن هذه الصلاة مع الطهور، وليس معنى الإمكان الوقوع الفعلي حتى يرد الإشكال.

[1] أي: مثل: (لا صلاة إلاّ بطهور)، وذلك في ما يراد إثبات شرط أو جزء.

[2] قوله: «صلاة» خبر (لا تكون).

[3] أي: بدون الطهارة.

[4] أي: على القول بالصحيح، حيث تنتفي ماهية الصلاة بفقدان شرطها أو جزئها على هذا القول.

[5] أي: على القول بالأعم، حيث بالخلل لا تنتفي الماهية، بل لا تكون تامة ولا يشملها الأمر.

[6] أي: علمنا بأن متعلق الحكم له أجزاء وشرائط أخرى لا يصح بدونها أيضاً.

الاستدلال بكلمة التوحيد على الدلالة

[7] أي: من الجواب الثاني، وهو أن الاستعمال مع القرينة لا يدل على المدعى.

ص: 494


1- كفاية الأصول، تعليق السبزواري 2: 128.

قد انقدح: أنه لا موقع للاستدلال على المدعى[1]، بقبول[2] رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ إسلام من قال كلمة التوحيد(1).

لإمكان[3] دعوى أن دلالتها على التوحيد كان بقرينة الحال أو المقال[4].

والإشكال[5]

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: دلالة الاستثناء على انتفاء الحكم عن (المستثنى).

[2] حاصل الاستدلال: إن كلمة التوحيد وهي (لاإله إلاّ الله) تدل على نفي الألوهية عن كل شيء وإثباتها للباري تعالى، فلو لم يكن للاستثناء دلالة لكان معناها هو السكوت عن إثباتها لله تعالى.

[3] هذا رد للاستدلال.

[4] القرينة الحالية: هو أن قائل الكلمة كان يريد الدخول في زمرة المسلمين.

القرينة المقالية: إعلان الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أن هذه الكلمة اصطلاح في التوحيد، أو أن من كان يريد قولها يتبرأ من الشركاء لفظاً ثم يقولها.

ولا يخفى أن هذه الدعوى غريبة، قال في التقريرات: (والقول بأن ذلك للقرينة، أو أنها تدل على التوحيد شرعاً، بمكان من السخافة)(2).

[5] هذا استطراد لأنه لا يرتبط ببحث دلالة الاستثناء، وإنما شبهة في دلالة هذه الكلمة الطيبة على التوحيد.

وحاصل الشبهة هو: إن خبر (لا) النافية للجنس غير مذكور، فلابد من تقديره، وهو لا يخلو من أحد أمرين:

الأول: تقدير (ممكن)، أي: لا إله ممكن إلاّ الله، وهذا لا يثبت وجوده تعالى، بل يثبت إمكانه.

الثاني: تقدير (موجود)، أي: لا إله موجود إلاّ الله، وهذا وإن نفى وجود

ص: 495


1- والمستدل الشيخ الأنصاري في مطارح الأنظار 2: 106.
2- مطارح الأنظار 2: 106.

في دلالتها عليه[1] بأن خبر (لا) إما يقدّر (ممكن) أو (موجود)، وعلى كل تقدير لا دلالة لها عليه. أما على الأول[2]: فإنه حينئذٍ لا دلالة لها إلاّ على إثبات إمكان وجوده تبارك وتعالى، لا وجوده. وأما على الثاني[3]: فلأنّها وإن دلت على وجوده تعالى، إلاّ أنه لا دلالة لها على عدم إمكان إله آخر.

مندفع[4] بأن المراد من الإله هو واجب الوجود[5]،

-------------------------------------------------------------------

غيره تعالى لكن لا يدل على امتناع الآلهة، فيكون المعنى أن الآلهة غير موجودة، وعدم وجودها قد يكون مع إمكانها. مع أنه يشترط في التوحيد الاعتقاد باستحالة سائر الآلهة.

[1] أي: في دلالة هذه الكلمة الطيبة على التوحيد.

[2] أي: تقدير (ممكن)، وضمير «فإنه» للشأن، و«حينئذٍ» بمعنى حين تقدير ممكن.

[3] أي: تقدير (موجود)، وضمير «فلأنّها» يرجع إلى كلمة التوحيد.

[4] جواب الشبهة وهو: إن المراد ب- (إله) هو واجب الوجود، وسواء كان الخبر المقدر (ممكن) أم (موجود) فإن الجملة تثبت وجود الله وتنفي إمكان غيره.

أما على الأول - أي: تقدير (ممكن) - : فإن الإمكان في الواجب يساوي وجوده الخارجي؛ لأن معنى الوجوب هو ضرورة الوجود، فسائر الآلهة غير ممكنه، والله ممكن فهو موجود، ولا يخفى أن الإمكان هنا بالمعنى الأعم - أي: مقابل الامتناع - .

وأما على الثاني - أي: تقدير (موجود) - : فإن حصر وجود الواجب في الله تعالى يساوي امتناع تحقق الواجب في غيره تعالى؛ لأن ما يحتمل كونه واجباً إذا نفينا عنه الوجود كان معنى ذلك عدم كونه واجباً؛ إذ لو كان واجباً لتحقق في الخارج، فتحصل امتناع تحقق الواجب في غيره تعالى.

[5] لا يخفى أن (الإله) بمعنى المعبود، وكونه بمعنى واجب الوجود لم يعهد لا في اللغة ولا في اصطلاح الشرع، بل لم يرد في لسان المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ إطلاق لفظ الواجب عليه تعالى.

ص: 496

ونفي ثبوته ووجوده[1] في الخارج وإثبات فرد منه فيه[2] - وهو الله - يدل بالملازمة البينة[3] على امتناع تحققه في ضمن غيره تبارك وتعالى، ضرورة[4] أنه لو لم يكن ممتنعاً لوجد، لكونه من أفراد الواجب[5].

ثم[6] إن الظاهر أن دلالة الاستثناء على الحكم في طرف المستثنى بالمفهوم، وأنه[7]

-------------------------------------------------------------------

ثم إن التوحيد هو نفي وجود سائر الآلهة، ولم يؤخذ في التوحيد الاعتقاد بعدم إمكانها، بل يكفي فيه الاعتقاد بعدم وجودها.

[1] العطف تفسيري، والمراد أن المقدر هو (موجود). ونفي الثبوت - أي: الوجود - يساوق الامتناع.

[2] أي: فرد من الواجب في الخارج.

[3] أي: من غير واسطة؛ لأن الملازمة قد تكون بواسطة، وقد تكون بلا واسطة، والواسطة قد تكون في الثبوت، وقد تكون في العروض، وقد مرّ شرح ذلك في أول الكتاب.

[4] دليل لامتناع تحقق الواجب في غيره تعالى، وضمير «أنه» راجع إلى (غيره تعالى).

[5] المراد إثبات الخلف، وهو أن ما يزعم أنه من أفراد الواجب إذا كان غير موجود فمعناه عدم كونه واجباً، وهذا خلف، فتأمل.

دلالة الاستثناء بالمفهوم أو المنطوق؟

[6] هل انتفاء الحكم عن (المستثنى) بالمنطوق أم المفهوم؟ فمثل: (أكرم العلماء إلاّ الفساق) عدم وجوب إكرام الفساق استفيد من المنطوق أو من المفهوم؟ المشهور على أنه بالمفهوم، واختاره المصنف.

[7] بيان لكون الدلالة بالمفهوم، وحاصل مايراه المصنف هو: إن الجملة تدل بالمنطوق على أن الحكم الشخصي فيها منحصر في (المستثنى منه)، وإن ذلك الحكم

ص: 497

لازم خصوصية الحكم[1] في جانب المستثنى منه التي دلت عليها[2] الجملة الاستثنائية.

نعم[3]، لو كانت الدلالة في طرفه بنفس الاستثناء[4]، لا بتلك الجملة، كانت بالمنطوق، كما هو ليس ببعيد، وإن كان تعيين ذلك[5] لا يكاد يفيد[6].

-------------------------------------------------------------------

الشخصي غير موجود في (المستثنى)، ويفهم العرف من هذه الخصوصية - أي: الانحصار - انتفاء سنخ الحكم عن (المستثنى)، وهذا معنى المفهوم، فمثل: (أكرم العلماء إلاّ الفساق) الحكم الشخصي خاص بالمستثنى منه، وغير شامل للمستثنى، وهذا هو المنطوق، ثم لمّا يلقى هذا الكلام إلى العرف يفهم من الخصوصية - أعني: الانحصار - انتفاء نوع الإكرام من الفساق.

[1] «خصوصية» هي حصر الحكم الشخصي في المستثنى منه، والمراد بالحكم هو الحكم الشخصي؛ لأن الحكم النوعي غير منحصر في المستثنى منه إلاّ على القول بمفهوم اللقب، فمثل: (جاء الرجال إلاّ زيداً) لا يدل على عدم مجيء النساء.

[2] أي: على الخصوصية، فإن الجملة المركبة من (المستثنى منه) و(حكمه) و(المستثنى) تدل على قطع الحكم عن (المستثنى) وحصره في (المستثنى منه).

[3] حاصل الاستدراك: إن حكم (المستثنى) - أي: انتفاء سنخ الحكم عنه - لو استفيد من أداة الاستثناء كانت الدلالة بالمنطوق. ففي مثل: (جاء القوم إلاّ زيداً) لو قلنا: إنّ كلمة (إلاّ) تدل على عدم مجيء زيد، كانت الدلالة بالمنطوق لا بالمفهوم.

[4] أي: في طرف المستثنى بنفس أداة الاستثناء - مثل: إلاّ - .

[5] أي: كون الدلالة بالمفهوم أو المنطوق.

[6] لعدم ترتب أثر عملي على ذلك، لكنه قيل بترتب ثمرة في صورة تعارض مدلول المستثنى مع دليل آخر، فلو بلغه (أكرم القوم إلاّ زيداً)، ثم بلغه (أكرم زيداً)، فقد حصل التعارض، فلو قلنا: إنّ دلالة الاستثناء بالمفهوم كان مدلول (أكرم زيداً) وهو بالمنطوق أقوى من مدلول (إلاّ زيداً) وهو بالمفهوم.

ص: 498

ومما يدل على الحصر والاختصاص (إنما). وذلك[1] لتصريح أهل اللغة بذلك[2]، وتبادره منها[3] قطعاً عند أهل العرف والمحاورة.

ودعوى[4] «أن الإنصاف أنه لا سبيل لنا إلى ذلك، فإن موارد استعمال هذه اللفظة مختلفة[5]،

-------------------------------------------------------------------

لكن المصنف لا يرى هذه الثمرة؛ لأن المناط في الأقوائية عنده هو الظهور العرفي، سواء كان في جانب المنطوق أم المفهوم.

من أدوات الحصر
اشارة

بمناسبة كون الاستثناء يدل على الحصر، استطرد المصنف بذكر بعض الأدوات الأخرى الدالة على الحصر، أو قيل بدلالتها عليها فمنها: إنّما، وبل، وتعريف المسند إليه باللام.

1- دلالة «إنما» على الحصر

[1] أي: دلالتها على الحصر من وجهين: تنصيص أهل اللغة وعلماء البلاغة، والتبادر عند العرف وأهل اللسان.

[2] أي: بدلالتها على الحصر.

[3] أي: تبادر الحصر من (إنّما).

[4] حاصل الدعوى: إن كلمة (إنّما) في اللغة العربية تستعمل للحصر ولغيره، فمثل: {إِنَّمَا ٱلصَّدَقَٰتُ لِلۡفُقَرَآءِ وَٱلۡمَسَٰكِينِ... الآية}(1) تدل على الحصر، ومثل: {إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ}(2) لا تدل على الحصر؛ لوجود أرجاس ومحرمات أخرى كثيرة.

[5] ولا غلبة لاستعمالها في الحصر حتى نجعل الغلبة دليلاً لإفادتها الحصر.

ص: 499


1- سورة التوبة، الآية: 60.
2- سورة المائدة، الآية: 90.

ولا يعلم[1] بما هو مرادف لها في عرفنا[2] حتى يستكشف منها ما هو المتبادر منها»(1) غير مسموعة[3]، فإن السبيل إلى التبادر لا ينحصر بالانسباق إلى أذهاننا، فإن الانسباق إلى أذهان أهل العرف أيضاً سبيل.

وربما يعد مما دل على الحصر[4] كلمة (بل)(2)

الإضرابية[5].

والتحقيق[6]: أن الإضراب على أنحاء:

-------------------------------------------------------------------

[1] هذا من طرق استكشاف التبادر، وهو أن غير أهل اللغة العربية يرجع إلى ترجمة الكلمة وما يرادفها في لغته، فيستكشف من تبادر معنى في لغته أن ذلك المعنى يتبادر في اللغة العربية!!

[2] مثلاً: في اللهجة العربية العامية، وكذا اللغة الفارسية والتركية ونحوهما.

[3] ردّ الإشكال وحاصله: إن عدم التبادر إلى أذهاننا لا يضر؛ لأن المناط هو التبادر في أذهان العرف، بل التبادر في أذهاننا إنما يفيد إذا كان مرآة لأذهان العرف.

2- دلالة «بل» على الحصر

[4] أي: حصر الحكم في ما بعدها، ونفيه عما قبلها، أو نفي حكم ما قبلها.

[5] والإضراب هو الإعراض عمّا قبلها: إما لكونه غلطاً، أو للترقي فيه، أو لإبطال أمر، وما قبلها يقال له: (المُضرَب عنه)، وما بعدها يقال له: (المُضرَب إليه).

[6] حاصله: أن (بل) تستعمل في أربعة موارد، ودلالتها على الحصر في مورد واحد فقط وهو الثالث:

1- الإضراب عن الغلط - سواء كان الغلط بسبب الغفلة أم بسبب سبق اللسان - .

2- ما كان للترقي، وهو لتأكيد المطلب.

3- ما كان في مقام الردع وإبطال ما ذكر قبلها.

ص: 500


1- مطارح الأنظار 2: 110.
2- مطارح الأنظار 2: 108.

منها: ما كان لأجل أن المضرب عنه إنما أتى به غفلةً[1]، أو سبقه به لسانه[2] فيضرب بها عنه[3] إلى ما قصد بيانه، فلا دلالة له على الحصر أصلاً[4]، فكأنه أتى بالمضرب إليه ابتداء، كما لا يخفى.

ومنها: ما كان لأجل التأكيد[5]، فيكون ذكر المضرب عنه كالتوطئة والتمهيد لذكر المضرب إليه، فلا دلالة له عليه أيضاً.

ومنها: ما كان في مقام الردع وإبطال ما أثبت أولاً[6]،

-------------------------------------------------------------------

4- ما جيء به لإبطال دليلية ما قبلها - ذكره المصنف في الهامش(1) - .

[1] هذا المورد الأول: أي: كان يزعم أمراً ثم تبين له خطؤه، كما لو رأى شخصاً قادماً فزعمه زيداً فقال: (جاء زيدٌ) ثم تبين له أنه غيره فقال: (بل عمرو).

[2] أي: سَبَق المتكلمَ بذلك الكلام لسانُ المتكلم، أي: كان يعلم بالأمر فلما تكلم أخطأ في وضع الجملة، فيصحح كلامه بالإضراب، كما لو أراد أن يقول: (اشتريت داراً من زيد) فقال: (اشتريت زيداً، بل داراً منه).

[3] أي: يضرب بواسطة (بل) عمّا ذكره غفلة أو سبقاً للّسان.

[4] لعدم وضع أو تبادر أو قرينة عامة.

[5] هذا هو المورد الثاني: أي: للترقي كما يقال: (فلان قمر، بل شمس)، فإن الإضراب لأجل تأكيد جماله، فشُبِّهَ بالقمر مقدمةً، ثم أضرب إلى التشبيه بالشمس.

[6] هذا المورد الثالث: كقوله تعالى: {وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحۡمَٰنُ وَلَدٗاۗ سُبۡحَٰنَهُۥۚ بَلۡ عِبَادٞ مُّكۡرَمُونَ}(2)، فأولاً حكى تعالى قولهم، ثم أبطله وحصرهم في كونهم عباداً مكرمين، وهذا من قبيل نفي حكم ما قبلها وهو اتخاذ الولد، وإثبات حكم آخر لما بعدها، أي: إثبات عبوديتهم، ومعنى قوله: «ما أثبت أولاً» أي: ما ذكره أولاً.

ص: 501


1- كفاية الأصول، تعليق السبزواري 2: 130.
2- سورة الأنبياء، الآية: 26.

فيدل عليه[1] وهو واضح[2].

ومما يفيد الحصر - على ما قيل(1) - تعريف المسند إليه[3] باللام.

والتحقيق أنه لا يفيده[4] إلاّ في ما اقتضاه المقام[5]، لأن الأصل في اللام أن تكون لتعريف الجنس[6]،

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: على الحصر؛ وذلك للتبادر.

[2] ثم إن المصنف أضاف في الهامش(2)

قسماً رابعاً، وحاصل كلامه: هو أن (بل) قد تكون لإبطال دليلية ما قبلها لا لإبطال حكمه، مثلاً: (أكرم زيداً لأنه شاعر، بل لأنه عالم) فلا يراد بالإضراب إبطال شاعريته، وإثبات أنه ليس بشاعر، وإنّما يراد إثبات أن عِلة الإكرام ليست لأنه شاعر، بل لأجل أنه عالم، وهذا في الحقيقة راجع إلى المورد الأول أو الثاني - حسب المقامات - .

3- دلالة «تعريف المسند إليه باللام» على الحصر

[3] يراد به خصوص المبتدأ، أو ما قام مقامه مثل اسم إنّ وكان ونحوهما، ولا يشمل الفاعل، فمثل: (جاء الضارب) خارج عن البحث.

[4] أي: إن تعريف المسند إليه لا يفيد الحصر، حاصل تحقيق المصنف أن منشأ الحصر أحد أمرين: الأول: أن تدل اللام - أي: حرف التعريف - على الحصر. والثاني: أن يدل الحمل - أي: نسبة المحمول إلى الموضوع - على الحصر.

وكلاهما مفقود هنا؛ وذلك لأن الأصل في حرف التعريف أن يكون للجنس، وهو لا يدل على الحصر، والأصل في الحمل أن يكون بنحو الشائع الصناعي، وهذا الحمل أيضاً لا يدل على الحصر.

[5] أي: مع وجود قرينة خاصة.

[6] إشارة إلى الأمر الأول: أي: لتعريف الماهية، مثلاً: (إنسان) يدل على

ص: 502


1- قوانين الأصول 1: 190.
2- كفاية الأصول، تعليق السبزواري 2: 130.

كما أن الأصل في الحمل[1] في القضايا المتعارفة[2] هو الحمل المتعارف الذي ملاكه مجرد الاتحاد في الوجود[3]، فإنه الشائع فيها[4]، لا الحمل الذاتي الذي ملاكه الاتحاد بحسب المفهوم[5]، كما لا يخفى. وحمل[6] شيء على جنس وماهية كذلك[7] لا يقتضي اختصاص تلك الماهية به وحصرها عليه[8].

-------------------------------------------------------------------

الماهية، و(الإنسان) تعريف للماهية، وهذا التعريف لا يغيّر المعنى، وإنما يغير في أحكام اللفظ فقط من حيث قواعد اللغة، فلا فرق في المعنى بين (إنسان) و(الإنسان) - إذا كان التعريف للجنس - فمثلاً: قوله: (تمرة خير من جرادة) بمعنى (التمرة خير من الجرادة)، فتأمل.

وتعريف الجنس لا دلالة له على الحصر أصلاً لا بالوضع ولا بالإطلاق.

[1] إشارة إلى الأمر الثاني.

[2] في ألسُن الناس، فإنهم لا يعرفون إلاّ قليلاً، وأكثر حملهم هو الحمل الشائع الصناعي؛ ولذا سُمي شائعاً.

[3] مع التغاير في المفهوم، فمثل: (زيد قائم) مفهوم زيد يختلف عن معنى قائم، ولكن في الخارج اتحد (زيد) و(قائم) وجوداً.

[4] أي: في القضايا المتعارفة.

[5] فمثل: (الإنسان حيوان ناطق) معنى (الإنسان) ومعنى (حيوان ناطق) واحد، والفرق بالإجمال والتفصيل، ولا يخفى أن اتحاد الحمل الذاتي الأوَّليّ بحسب الماهية.

[6] بيان لعدم إفادة الحصر في الحمل الشائع.

[7] أي: بالحمل الشائع.

[8] أي: بذلك الشيء وحصر الماهية على ذلك الشيء، فمثل: (القائم زيد) حمل شائع، يراد به إثبات اتحاد زيد مع القائم، وهذا الحمل الشائع لا دلالة له على الحصر، بل إثبات أن هذا الموضوع أحد أفراد الطبيعة - سواء وجد فرد آخر أم لا - .

ص: 503

نعم[1]، لو قامت قرينة على أن اللام للاستغراق[2]، أو أن مدخوله أخذ بنحو الإرسال والإطلاق[3]، أو على أن الحمل عليه[4] كان ذاتياً، لأفيد حصر مدخوله على محموله واختصاصه به[5].

وقد انقدح بذلك الخلل في كثير من كلمات الأعلام(1) في المقام، وما وقع منهم من النقض والإبرام. ولا نطيل بذكرها، فإنه بلا طائل، كما يظهر للمتأمل، فتأمل جيداً[6].

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: مع قيام قرينة خاصة يكون لتعريف المسند إليه دلالة على الحصر، ولكن ذلك لا يفيد في موارد فقدان تلك القرينة والشك في المراد.

والقرينة تكون على ثلاثة أنحاء:

الأول: كون (اللام) للاستغراق، فيكون معنى (القائم زيد) أن كل القائم زيد، فينتفي القيام عن غيره.

الثاني: كون (المسند إليه) مطلقاً، والمطلق يفيد العموم بمقدمات الحكمة.

الثالث: إن الحمل ذاتي.

[2] أي: دلالة لفظ (اللام) على العموم.

[3] أي: مقدمات الحكمة دلت على الإطلاق.

[4] أي: على مدخول اللام.

[5] أي: حصر مدخول اللام على محمول المدخول، واختصاص المدخول بالمحمول؛ وذلك لأن الاستغراق والإطلاق يدل على أن كل المسند إليه هو المسند، فكل القائم هو زيد؛ ولأن الحمل الذاتي معناه حمل الشيء على نفسه بلفظين مختلفين، والشيء منحصر في نفسه قطعاً.

[6] ولكن الإنصاف الظهور العرفي في الحصر، ويتبادر ذلك في أذهان أهل اللسان، ويعضده اتفاق علماء البلاغة على إفادة المسند إليه المعرف باللام للحصر.

ص: 504


1- قوانين الأصول 1: 190؛ مطارح الأنظار 2: 111.

فصل: لا دلالة للّقب[1] ولا للعدد[2] على المفهوم وانتفاء[3] سنخ الحكم عن غير موردهما أصلاً. وقد عرفت[4] أن انتفاء شخصه ليس بمفهوم.

-------------------------------------------------------------------

فصل مفهوم اللقب والعدد

[1] (اللقب) لغة(1)

هو الاسم الدال على مدح في المسمى مثل: المصطفى، أو ذم فيه مثل: الناصب.

واصطلاحاً - في الأصول(2)

- هو كل اسم وقع طرف النسبة في الكلام، سواء كان ركناً كالمبتدأ والفاعل، أم لا كالمفعول والحال والزمان ونحوها - بشرط أن لا يكون وصفاً أو شرطاً ونحوهما مما ذكر مستقلاً في المفاهيم - فمثل: (زيد قائم) لا دلالة له على عدم قيام غيره مثلاً.

ولا يخفى أنه من قواعد رسم الخط هو أنه كلّما اجتمعت ثلاث لامات في أول الكلام كتبت لامين مع تشديد الثانية؛ وذلك يحصل في ما كان فاء الفعل لاماً، ودخل على اللفظ لام التعريف، ثم دخل عليه اللام الجارة، فلا يكتب (لللقب)، بل يكتب (للّقب).

[2] يراد به ما يشمل الواحد أيضاً.

[3] شرح للمفهوم، أي: ليس للعدد واللقب دلالةٌ على هذا الانتفاء.

[4] دفع لتوهم وهو: إن انتفاء شخص الحكم من اللقب واضح، والجواب هو: إن المفهوم ليس ذلك، بل هو انتفاء نوع الحكم. وقد ذكر المصنف هذا الأمر مفصلاً في مفهوم الشرط.

ص: 505


1- شرح الرضي على الكافية 1: 149؛ أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك: 26.
2- هداية المسترشدين 2: 590؛ غاية المسؤول: 357.

كما أن قضية[1] التقييد بالعدد منطوقاً عدم جواز الاقتصار على ما دونه، لأنه ليس بذاك الخاص والمقيد[2]، وأما الزيادة فكالنقيصة[3] إذا كان التقييد به للتحديد[4] بالإضافة إلى كلا طرفيه[5].

نعم[6]، لو كان لمجرد التحديد بالنظر إلى طرفه الأقل لما كان في الزيادة ضير

-------------------------------------------------------------------

[1] حاصل كلام المصنف في العدد هو: إن العدد له منطوق ومفهوم.

أما المنطوق: فهو لو أمر بالعدد فلا يجوز الاقتصار بالأقل، فلو قال: (صم عشرة أيام) فلا يجوز ترك اليوم العاشر؛ وذلك لأن منطوق الكلام دل على وجوب الصوم في اليوم العاشر.

وأما المفهوم: فهو لو أخذ العدد (بشرط لا) عن الزيادة فيدل على عدم جواز الزيادة، لكن هذا بالقرينة. أما لو كان (لا بشرط) عن الزيادة فلا يدل على المفهوم، فتجوز الزيادة، بل قد يكون فيها فضيلة.

فمجموع الصور التي ذكرها المصنف ثلاثة.

[2] أي: الموضوع الذي قيّد بالعدد، سواء كان مأموراً به مثل: (صم عشرة أيام)، فلو صام تسعة لم يكن ممتثلاً للأمر في اليوم العاشر، أم كان للتحديد مثل: تقييد الحيض بثلاثة، فإن الدم الأقل من الثلاثة ليس بحيض، لأنه ليس الموضوع المقيّد بالعدد.

[3] أي: في عدم الجواز، فلا يجوز تعدي العدد في هذه الصورة.

[4] أي: كان التقييد بالعدد لبيان أنه (بشرط لا) عن الزيادة والنقيصة، مثلاً: في تحديد الأطباء للأدوية بالعدد، فإنه بشرط عدم الزيادة وعدم النقيصة، وكالتسبيحات في صلاة جعفر الطيار عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[5] أي: الزيادة والنقيصة.

[6] أي: العدد كان لأجل بيان عدم جواز الأقل، أما بالنسبة للأكثر فكان (لا بشرط) فلا مفهوم أصلاً، كما في قوله: (لو نويت الإقامة عشرة أيام فأتم صلاتك).

ص: 506

أصلاً، بل ربما كان فيها فضيلة وزيادة[1]، كما لا يخفى.

وكيف كان[2] فليس عدم الاجتزاء بغيره[3] من جهة دلالته على المفهوم، بل إنما يكون[4] لأجل عدم الموافقة مع ما أخذ في المنطوق[5]، كما هو معلوم.

-------------------------------------------------------------------

[1] أي: زيادة في الفضيلة، أو زيادة في الأجر، ونحو ذلك، كما لو قال: (صل كل يوم إحدى وخمسين ركعة)، فلو صلى صلوات مستحبة أخرى كان فضيلة.

[2] بيان أن عدم الاكتفاء بغير العدد ليس من باب المفهوم أصلاً، بل من باب المنطوق.

[3] بغير العدد - أي الأقل أو الأكثر - ، «دلالته» دلالة العدد.

[4] أي: يكون عدم الاجتزاء.

[5] أي: (بشرط لا) الذي يكون في المنطوق هو الدال على عدم الاكتفاء.

انتهى الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث في بحث:

المقصد الرابع: في العام والخاص

ص: 507

ص: 508

فهرست الموضوعات

الأمر الثالث: في تقسيمات الواجب... 5

التقسيم الأول: المطلق والمشروط... 5

1- في تعريفهما 5

2- رجوع القيد إلى الهيئة أو المادة... 8

دليلان على امتناع رجوع القيد إلى الهيئة... 9

الإشكال على الدليل الأول... 13

الإشكال على الدليل الثاني... 16

3- المقدمات الوجودية للواجب المشروط... 21

4- تعلّم مسائل الواجب المشروط قبل الشرط... 26

5 - في إطلاق الواجب على الواجب المشروط... 28

التقسيم الثاني: تقسيم الواجب إلى معلّق ومنجّز... 30

إشكالات على الواجب المعلّق... 32

الإشكال الأول: للشيخ الأعظم... 32

الإشكال الثاني: عدم فائدة هذا التقسيم... 34

الإشكال الثالث: انفكاك الإرادة عن المراد... 36

الإشكال الرابع: عدم القدرة على المكلّف به... 41

ص: 509

الإشكال الخامس: إرجاع المعلّق إلى المشروط... 42

تنبيه: في المقدمات المفوتة... 45

تتمة في دوران القيد بين الرجوع إلى المادة أو الهيئة... 53

الوجه الأول: في ترجيح تقييد المادة... 55

الوجه الثاني: لترجيح تقييد المادة... 57

الإشكال على الوجه الأوّل... 59

الإشكال على الوجه الثاني... 61

التقسيم الثالث: تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري... 63

تعريف الواجب النفسي والغيري... 63

إشكال على التعريف... 64

الجواب الأول عن الإشكال... 64

الجواب الثاني عن الإشكال... 65

الشك في النفسيّة والغيريّة... 67

أ- لو كان للأمر إطلاق... 68

ب - لو لم يكن للأمر إطلاق... 74

التذنيب الأول: الثواب والعقاب في الواجب الغيري... 75

الأمر الغيري في الطهارات الثلاث... 78

الجواب الأول... 79

الجواب الثاني... 82

الجواب الثالث... 84

الجواب الرابع... 86

التذنيب الثاني: عدم اعتبار قصد الغايات في صحة الطهارات الثلاث 87

الأمر الرابع: في المقدمة الموصلة... 90

ص: 510

القول الأول: الوجوب حين إرادة ذي المقدمة... 92

القول الثاني: اشتراط الواجب بقصد التوصل... 93

القول الثالث: وجوب خصوص المقدمة الموصلة... 101

الإشكال الأول... 101

الإشكال الثاني... 105

أدلة أربع على وجوب خصوص المقدمة الموصلة... 109

الإشكال على الدليل الأول... 112

الإشكال على الدليل الثاني... 113

الإشكال على الدليل الثالث... 117

الدليل الرابع: لوجوب المقدمة الموصلة، وجوابه... 121

ثمرة المقدمة الموصلة... 124

إشكال التقريرات على الثمرة... 127

الردّ على إشكال التقريرات... 129

التقسيم الرابع: تقسيم الواجب إلى الواجب الأصلي والتبعي... 132

الشك في الأصالة والتبعيّة... 137

تذنيب: في ثمرة مسألة مقدمة الواجب... 139

الثمرة الخامسة والإشكال عليها 144

أدلة وجوب أو عدم وجوب المقدمة... 148

أولاً: الأصل العملي... 148

الإشكال الأول على جريان الاستصحاب... 149

الإشكال الثاني على جريان الاستصحاب... 151

ثانياً: الأدلة الاجتهادية على وجوب المقدمة... 152

التفصيل في وجوب المقدمة... 158

ص: 511

1- التفصيل بين السبب وغيره... 158

2- التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره... 160

تتمة: في مقدمة المستحب والمكروه والحرام... 162

فصل هل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده... 166

الأمر الأول: في معنى «الاقتضاء» في العنوان... 166

الأمر الثاني: في عدم مقدميّة أحد الضدين للآخر ولا تلازم... 167

ردّ القول بالتلازم... 179

الأمر الثالث: حول الضد العام، أي الترك... 180

الأمر الرابع: في ثمرة بحث الضد... 183

بحث الترتب... 186

الإشكال الأول على الترتب... 188

الإشكال الثاني على الترتب... 193

النتيجة... 194

الإشكال الثالث على الترتب وردّه... 197

فصل أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه... 198

فصل تعلق الأوامر والنواهي بالطبائع دون الأفراد... 201

دفع وهم... 204

توهم ثان... 206

فصل في بقاء أو عدم بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب... 207

تتمة... 210

فصل في الوجوب التخييري... 211

ص: 512

القول الأول... 212

القول الثاني... 212

القول الثالث... 213

القول الرابع... 213

مختار المصنف... 213

الاحتمال الأول... 216

الاحتمال الثاني... 217

شرح الحاشية... 217

الاحتمال الثالث... 218

الاحتمال الرابع... 218

التخيير بين الأقل والأكثر... 219

الإشكال الأول... 219

الجواب... 220

الإشكال الثاني... 222

الجواب... 223

فصل الواجب الكفائي... 224

فصل الواجب الموسع والموقت وغيرهما 226

التخيير عقلي... 227

ادعاء الاستحالة... 228

هل القضاء تابع للأداء؟... 228

الأصل العملي... 231

فصل الأمر بالأمر... 232

ص: 513

الثمرة... 233

فصل الأمر بعد الأمر... 234

إشكال... 235

الجواب... 235

المقصد الثاني في النواهي

فصل مادة النهي وصيغته... 239

معنى النهي... 239

إشكال على الترك وجوابه... 240

إشكال ثانٍ وجوابه... 240

المرّة والتكرار... 241

استمرار النهي بعد المخالفة... 242

فصل في اجتماع الأمر والنهي... 244

الأمر الأول: معنى الواحد... 245

الأمر الثاني: الفرق بين المسألتين... 246

كلام الفصول في الفرق... 249

رد الفصول للمحقق القمي... 249

الإشكال على الفصول... 250

تفريق آخر بين المسألتين... 251

الأمر الثالث: أصولية المسألة... 252

الأمر الرابع: عقلية المسألة... 254

ص: 514

إشكال وجوابه... 255

الأمر الخامس: ملاك النزاع عام لجميع أقسام الوجوب والتحريم... 256

كلام الفصول... 257

الإشكال على الفصول... 257

الأمر السادس: هل المندوحة معتبرة؟... 259

الأمر السابع: عدم ارتباط المسألة بمسألة تعلق الأمر بالطبائع أو الأفراد 262

الأمر الثامن: اشتراط التزاحم في مسألة الاجتماع... 264

البحث ثبوتاً 264

البحث إثباتاً 267

الأمر التاسع: طريق إحراز المناط في الجمع... 268

الأمر العاشر: في ثمرة بحث الاجتماع... 272

دليل الامتناع... 279

المقدمة الأولى... 279

المقدمة الثانية... 281

المقدمة الثالثة... 283

المقدمة الرابعة... 285

التوهم الأول... 286

التوهم الثاني... 286

النتيجة... 287

أدلة المجوزين... 288

الدليل الأول... 288

رد الشطر الأول من الدليل الأول... 290

الشطر الثاني من الدليل الأول... 291

ص: 515

الرد الأول... 292

الرد الثاني... 292

الدليل الثاني للمجوزين... 293

رد الدليل الثاني... 295

الجواب التفصيلي... 297

القسم الأول... 298

العلة الأولى للنهي... 298

العلة الثانية للنهي... 300

جواب آخر... 301

القسم الثاني... 302

الصنف الثالث... 303

الصنف الثاني... 303

الصنف الأول... 303

إشكالان وجوابهما 305

القسم الثالث... 306

1- على القول بالجواز... 306

الجواب الأول... 306

الجواب الثاني... 307

2- على القول بالامتناع والملازمة... 308

3- على القول بالامتناع والاتحاد... 308

تلخيص معنى الأقلية ثواباً 309

اجتماع الوجوب والاستحباب... 309

الأقسام الممكنة في اجتماع الوجوب والاستحباب... 311

ص: 516

الدليل الثالث للمجوّزين... 312

القول بالتفصيل وردّه... 313

تنبيهات بحث الاجتماع... 314

التنبيه الأول لو توقف واجب على مقدمة محرمة 314

الأقوال في المسألة... 317

مختار المصنف... 318

الدعوى الأولى... 318

الدعوى الثانية... 319

الدعوى الثالثة... 320

أدلة الوجوب... 320

الدليل الأول وجوابه... 320

إشكال وجوابه... 321

الدليل الثاني للوجوب... 323

الدليل الثالث للوجوب... 324

جواب الدليل الثاني... 326

جواب الدليل الثالث... 327

أولاً... 328

ثانياً 328

ثالثاً 329

رابعاً 331

خامساً 331

إشكال وجوابه... 332

القول الثالث - لصاحب الفصول - ... 335

ص: 517

الإشكال على الفصول... 336

جواب الفصول عن الإشكال الثاني... 336

رد الجواب... 336

جواب آخر للفصول عن الإشكال... 337

رد الجواب... 338

القول الرابع - للمحقق القمي - 338

ردّ القول الرابع... 339

الإشكال الأول والثاني... 339

الإشكال الثالث... 340

ردّ تصحيح طلب المحال... 341

كلام الأشاعرة وردّهم... 341

دليل المحقق القمي... 342

رد الدليل... 343

ثمرة المسألة... 343

الصورة الأولى... 344

الصورة الثانية... 345

الصورة الثالثة... 345

الصورة الرابعة... 345

التنبيه الثاني مرجحات باب الاجتماع... 347

الصورة الأولى... 348

الصورة الثانية... 349

الصورة الثالثة... 349

الصورة الرابعة... 350

ص: 518

صحة الصلاة في المغصوب مع العذر... 350

مرجحات النهي على الأمر... 354

المرجح الأول: أقوائية دلالة النهي... 354

إشكال وجوابه... 354

مختار المصنف... 356

رد إشكال المجازية... 359

المرجح الثاني: أولوية دفع المفسدة... 360

إشكال القوانين وردّه... 361

الإشكال على المرجح الثاني... 362

أولاً... 362

ثانياً 362

ثالثاً 363

رابعاً 363

المرجح الثالث: الاستقراء... 368

إشكالات على المرجح الثالث... 369

الجهة الأولى... 370

الجهة الثانية... 371

التنبيه الثالث في تعدد الإضافات... 375

فصل في أن النهي عن الشيء هل يقتضي فساده أم لا؟... 377

الأمر الأول الفرق بين مسألة الاجتماع ومسألة اقتضاء الفساد... 378

الأمر الثاني في كون المسألة من مباحث الألفاظ... 378

كلام التقريرات والإشكال عليه... 379

ص: 519

الأمر الثالث عموم النهي لكل أنواعه... 380

إشكال وجواب... 380

إشكال وجوابه... 381

الأمر الرابع في معنى العبادة... 383

تعاريف العبادة... 385

الإشكال على التعاريف... 385

الأمر الخامس في معنى المعاملة... 387

الأمر السادس في معنى الصحة... 389

النسبة بين كلام الفقيه والمتكلم... 391

أولاً: في العبادات... 394

1- انتزاع الصحة والفساد... 394

2- حكم العقل... 395

3- حكم الشرع... 396

ثانياً: في المعاملات... 397

الأمر السابع الأصل العملي في المسألة... 398

الأمر الثامن أقسام تعلق النهي بالعبادة... 400

النهي عن العبادة بسبب النهي عن الجزء ونحوه... 403

المقام الأول اقتضاء النهي عن العبادة للفساد... 405

إشكال على الفساد وجوابه... 407

النهي عن العبادة مجازاً 411

المقام الثاني عدم اقتضاء النهي عن المعاملة للفساد... 412

اقسام النهي عن المعاملة... 412

دليل اقتضاء النهي للفساد في المعاملة... 414

ص: 520

دليل آخر لاقتضائة للفساد في المعاملة... 415

رد الدليل... 416

تذنيب... 418

تلخيص تحقيق المصنف... 421

المقصد الثالث في المفاهيم

فصل مفهوم الشرط... 429

أدلة القائلين بالمفهوم... 432

الدليل الأول: الوضع... 432

الدليل الثاني: الانصراف... 434

الدليل الثالث: الإطلاق في الشرط أو الهيأة... 435

الدليل الرابع: الإطلاق في الشرط... 437

الدليل الخامس: الإطلاق بنفي العدل... 439

دفع وهم... 441

أدلة المنكرين لمفهوم الشرط... 443

الدليل الأول... 443

الدليل الثاني... 445

الدليل الثالث... 445

أمور في مفهوم الشرط... 446

الأمر الأول انتفاء نوع الجزاء... 446

موارد خارجة عن بحث المفهوم... 448

الإشكال على كلام الشهيد... 448

ص: 521

إشكال وجوابه... 450

جواب التقريرات... 453

رد المصنف لجواب التقريرات... 455

الأمر الثاني تعدد الشرط ووحدة الجزاء... 456

احتمالات مقام الثبوت... 457

الاحتمال الأول... 457

الاحتمال الثاني... 458

الاحتمال الثالث... 458

الاحتمال الرابع... 458

ترجيح الاحتمالات في مقام الإثبات... 459

الأمر الثالث تداخل الأسباب... 461

تحقيق الأمر... 463

الطريق الأول... 464

الطريق الثاني... 465

إشكال وجوابه... 466

الطريق الثالث... 467

إشكالات على هذه الطرق... 467

إشكال وجوابه... 468

إشكال وجوابه... 469

تفصيل فخر المحققين... 471

الإشكال على التفصيل... 471

توجيه تفصيل الفخر... 473

تفصيل ابن إدريس... 474

ص: 522

الإشكال على التفصيل... 475

صورة عدم إمكان تكرار الجزاء... 476

فصل مفهوم الوصف... 476

أدلة القائلين بالوصف وردّها 477

الدليل الأول... 477

الدليل الثاني... 477

الدليل الثالث... 478

الدليل الرابع... 479

الدليل الخامس... 480

من أدلة عدم المفهوم للوصف... 482

تذنيب لتحرير محل النزاع... 483

فصل مفهوم الغاية... 486

البحث الأول الدلالة المفهومية... 487

البحث الثاني في منطوق الغاية... 490

فصل مفهوم الاستثناء... 492

كلام أبي حنيفة والإشكال عليه... 493

الاستدلال بكلمة التوحيد على الدلالة... 494

دلالة الاستثناء بالمفهوم أو المنطوق؟... 497

من أدوات الحصر... 499

1- دلالة «إنما» على الحصر... 499

2- دلالة «بل» على الحصر... 500

ص: 523

3- دلالة «تعريف المسند إليه باللام» على الحصر... 502

فصل مفهوم اللقب والعدد... 505

فهرست الموضوعات... 509

ص: 524

المجلد 3

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحسیني الشیرازي، السيدجعفر، 1349 -

عنوان العقد: کفایه الاصول .شرح

عنوان واسم المؤلف: إيضاح کفاية الأصول/ تالیف السيدجعفر الحسیني الشیرازي.

تفاصيل المنشور: قم: دارالفکر، 1397.

مواصفات المظهر: 5 ج.

ISBN : دوره 978-600-270-236-4 : ؛ 120000 ریال: ج.1 978-600-270-237-1 : ؛ 120000 ریال: ج.2 978-600-270-238-8 : ؛ 120000 ریال: ج.3 978-600-270-239-5 : ؛ 120000 ریال: ج.4 978-600-270-240-1 : ؛ 120000 ریال: ج.5 978-600-270-241-8 :

حالة الاستماع: فیپا

ملاحظة : العربیة.

ملاحظة : ج. 2 - 5 (چاپ اول: 1397)(فیپا).

ملاحظة : هذا الكتاب هو وصف لكتاب "کفاية الأصول" الذي المؤلف آخوند الخراساني.

ملاحظة : فهرس.

قضية : آخوند الخراساني، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق. . کفاية الأصول -- النقد والتعليق

قضية : Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein . Kefayat ol - osul -- Criticism and interpretation

قضية : أصول الفقه الشيعي

* Islamic law, Shiites -- Interpretation and construction

المعرف المضاف: آخوند الخراساني، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق . کفایه الاصول. شرح

المعرف المضاف: Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein. . Kefayat ol - osul

ترتيب الكونجرس: BP159/8/آ3ک7021326 1397

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 5279147

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فیپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

المقصد الرابع في العام والخاص،

فصل في معني العام

اشارة

فصل: قد عرف العام بتعاريف[1] وقد وقع من الأعلام(1)

فيها النقض - بعدم الاطراد تارة والانعكاس أخرى[2] - بما لا يليق بالمقام[3]، فإنها تعاريف لفظية[4]، تقع في جواب السؤال عنه ب- «ما

-----------------------------------------------------------------

فصل

في معنى العام

المقصد الرابع في العام والخاص، فصل في معنى العام

[1] التعريف الذي يختاره المصنف - كما سيأتي في آخر هذا الفصل - هو: (شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه) لكن هذا شرح للاسم لا تعريف حقيقي.

[2] مثل تعريف العام بأنه (اللفظ المستغرق لما يصلح له).

وأشكل على انعكاسه - أي: شموله لأفراده - بمثل: (العلماء)، فإنه لا يصلح للأفراد، فزيد لا يصح أن يطلق عليه لفظ (العلماء)، بل يقال له: (عالم).

وأشكل على طرده - أي: إخراجه للأغيار - بمثل: (عشرة) فإنها تستغرق أفرادها وليست من الجمع.

وهنالك إشكالات أخرى على هذا التعريف وعلى سائر التعاريف طرداً وعكساً.

[3] أي: مقام التعاريف في الأصول، لجهتين ذكرهما المصنف. الجهة الأولى: إن التعاريف في الأصول هي لشرح الاسم. والجهة الثانية: إنه لا يتعلق بالتعريف الحقيقي غرض.

[4] هذه هي الجهة الأولى، وحاصلها: إن التعاريف في علم الأصول هي لشرح

ص: 7


1- هداية المسترشدين 3: 144؛ الفصول الغروية: 158.

الشارحة»[1]، لا واقعة في جواب السؤال عنه ب- «ما الحقيقية»[2]. كيف[3]؟! وكان المعنى المركوز منه في الأذهان أوضح مما عرف به[4]

-----------------------------------------------------------------

الاسم؛ وذلك لأن السؤال عن اللفظ فيه أربع مراحل:

1- هل وضع هذا اللفظ لمعنى أم أنه مهمل؟

2- (ما الشارحة) وهي لتعريف الشيء في الجملة.

3- (ما الحقيقية) أي: بيان ماهية الشيء بالحدّ أو الرسم.

4- هل هذا المعنى له وجود خارجي أم لا؟

مثلاً: لفظ (العنقاء)، هل له معنى؟ فيقال: نعم له معنى، ثم يسأل ما هي العنقاء؟ فيقال: طيرٌ، ثم يسأل ما حقيقتها؟ فيقال: حيوان كذائي - بذكر الجنس والفصل - ثم يسأل هل لها وجود؟ فيجاب بلا أو نعم.

[1] ويجوز في التعريف الذي يراد به شرح الاسم أن يكون أعم أو أخص، فلا معنى للإشكال فيه بعدم الاطراد أو عدم الانعكاس.

[2] وهي تقع في السؤال عن حقيقة الشيء، أي: جنسه وفصله أو عرضه الخاص، فيكون الجواب بالحد أو بالرسم.

[3] دليل على كون (ما) شارحة لا حقيقية، وحاصل الدليل: إن المعرِّف لابد أن يكون أجلى من المعرَّف، وليست هذه التعاريف للعام بأجلى من معنى العام الارتكازي، بل العام معناه أجلى؛ ولذا يجعل معناه الارتكازي ميزاناً لصحة أو عدم صحة هذه التعاريف، فيقال: إنه غير مطرد؛ لأنه شمل أفراداً ليست من العام، أو غير منعكس؛ لأنه لم يشمل بعض أفراد العام، فالمفهوم الارتكازي للعام وكذا مصاديقه واضحة، بل أوضح من كل هذه التعاريف، إذن لا تكون هذه التعاريف حقيقية بل لشرح الاسم.

[4] أي: المعنى المركوز من العام أوضح من التعاريف التي ذكرت لتعريف العام.

ص: 8

مفهوماً ومصداقاً، ولذا[1] يجعل صدق ذاك المعنى[2] على فرد وعدم صدقه المقياس في الإشكال عليها[3] بعدم الاطراد أو الانعكاس بلا ريب فيه ولا شبهة تعتريه من أحد، والتعريف لابد أن يكون بالأجلى، كما هو أوضح من أن يخفى[4].

فالظاهر[5] أن الغرض من تعريفه إنما هو بيان ما يكون بمفهومه جامعاً بين ما

-----------------------------------------------------------------

ف- «منه» راجع إلى (العام)، و«مما» يراد به التعاريف، و«به» راجع إلى (ما) أي: التعاريف.

[1] دليل: أن المعنى المرتكز للعام أوضح من كل هذه التعاريف.

[2] أي: المركوز في الأذهان.

[3] أي: على التعاريف.

[4] لكن لا يخفى أن كون التعريف أجلى من المعرَّف ليس كونه أجلى مفهوماً، وإلاّ فما من تعريف إلاّ والمعرَّف أجلى منه مفهوماً، كتعريف الإنسان بالحيوان الناطق، فإن الأول أجلى وأوضح بلا كلام، بل المراد كونه أجلى منه في بيان الحقيقة وشرح الماهية، فالإنسان أجلى من الحيوان الناطق بحسب المفهوم، والحيوان الناطق أجلى منه بحسب شرح الحقيقة وبيان الماهية - كذا قيل - .

[5] هذه هي الجهة الثانية: في كون تلك التعاريف لا تليق بالمقام لو كانت حقيقية.

وحاصلها: إن تعريف العام لا يتعلق به غرض حقيقي؛ وذلك لأن لفظ العام لم يقع موضوعاً لحكم شرعي حتى يلزم معرفة معناه بالدقة.

وإنما الغرض الإشارة إلى المصاديق، فحينما يحكم على العام بأحكام مثل: (إذا خصص العام فهل هو حجة في الباقي أم لا؟) هذه الكلمة - أي: العام - لها مصاديق، وبالتعريف نشير إلى تلك المصاديق في الجملة.

لكن لا يخفى أن هذه أيضاً محل تأمل؛ لأن مصاديق العام أيضاً مركوزة في

ص: 9

لا شبهة في أنها أفراد العام[1] ليشار به إليه[2] في مقام إثبات ما له من الأحكام[3]، لا بيان ما هو حقيقته وماهيته، لعدم تعلق غرض به[4] - بعد وضوح ما هو محل الكلام بحسب الأحكام من أفراده ومصاديقه -، حيث لا يكون بمفهومه العام[5] محلاً لحكم من الأحكام[6].

ثم[7]

-----------------------------------------------------------------

الأذهان، ومفهوم العام أيضاً مركوز فيها - كما قال المصنف - فأي حاجة إلى تعريف يشير إلى المفهوم أو المصاديق؟!!

[1] أي: بيان تعريف يكون بمفهومه جامعاً بين المصاديق القطعية للعام.

[2] أي: ليشار بذلك المفهوم المذكور في التعريف إلى العام.

[3] أي: حينما نذكر أحكام العام كقولنا: (العام له صيغة تخصه)، (العام حجة حتى لو خصص بمتصل أو منفصل) الخ.

[4] أي: بالتعريف الحقيقي؛ وذلك لأن الأفراد والمصاديق التي هي موضوع للأحكام واضحة لا لُبس ولا إشكال فيها.

[5] أي: المفهوم الجاري في كل المصاديق.

[6] فلا يوجد في الشرع مورد وقع لفظ (العام) فيه موضوعاً لحكم من الأحكام، حتى نضطر لتحديد مفهوم هذا اللفظ.

أقسام العام

[7] الغرض بيان وحدة معنى العام، وتعدد الأقسام لا يضر بوحدة المعنى؛ لأن التقسيم ليس باعتبار اختلاف المعنى، وإنّما بلحاظ اختلاف الحكم.

مثلاً في قولنا: (الصلاة إما واجبة وإما مستحبة) التقسيم بلحاظ الحكم لا بلحاظ اختلاف معنى الصلاة. نعم، في مثل قولنا: (العين إما باصرة وإما جارية) يكون التقسيم بلحاظ اختلاف المعنى والمفهوم.

ص: 10

الظاهر أن ما ذكر له من الأقسام من الاستغراقي والمجموعي والبدلي[1] إنما هو باختلاف كيفية[2] تعلق الأحكام به[3]، وإلاّ[4] فالعموم في الجميع بمعنى واحد، وهو: «شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه». غاية الأمر أن تعلق الحكم به تارةً[5] بنحوٍ يكون كل فرد موضوعاً على حدة[6] للحكم؛ وأخرى[7] بنحوٍ

-----------------------------------------------------------------

[1] لأنه إما أن يكون الحكم للكل، أو للبعض على البدل، والثاني هو العموم البدلي، والأول إما أن يكون فيه عصيان واحد وإطاعة واحدة فهو العام المجموعي، وإما أن يكون فيه إطاعات وعصيانات بعدد الأفراد فهو العام الاستغراقي.

[2] قال المصنف في الهامش: (إن قلت: كيف ذلك، ولكل واحد منها لفظ غير ما للآخر، مثل: (أي رجل) للبدلي، و(كل رجل) للاستغراقي؟.

قلت: نعم، ولكنه لا يقتضي أن تكون هذه الأقسام له، ولو بملاحظة اختلاف كيفية تعلق الأحكام، لعدم إمكان تطرق هذه الأقسام إلاّ بهذه الملاحظة، فتأمل جيداً)(1)، انتهى.

[3] فمثل: (أكرم كل فقيه) قد يراد به إكرام كل واحد بحيث لو أكرم البعض دون البعض فإنه أطاع وعصى، وهذا الاستغراقي، وقد يراد به إكرام كلهم معاً؛ لتعلق غرضه بإكرام مجموعهم؛ بحيث لو لم يكرم بعضهم لما تحقق غرض المولى، وهذا المجموعي، وقد يراد به إكرام واحد منهم فقط من غير تعيين، فهذا البدلي.

[4] أي: وإن لم يلحظ الحكم، فإنه لا اختلاف في هذه الأقسام من الجهات الأخرى، ومنها العموم، فإنه فيها واحد.

[5] وهو العموم الاستغراقي، فكل فرد له الحكم مستقلاً.

[6] أي: مستقلاً، فلو امتثل في فرد فإنه مطيع فيه، ولو ترك ذلك الفرد فإنه عاصٍ فيه، سواء امتثل في سائر الأفراد أم عصى.

[7] وهو العموم المجموعي، فلو أتى بكل الأفراد إلاّ واحداً لم يكن مطيعاً؛

ص: 11


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 349.

يكون الجميع موضوعاً واحداً[1]، بحيث لو أخل بإكرام واحد في (أكرم كل فقيه) - مثلاً - لما امتثل أصلاً، بخلاف الصورة الأولى، فإنه أطاع وعصى؛ وثالثة[2] بنحو يكون كل واحد موضوعاً على البدل، بحيث لو أكرم واحداً منهم لقد أطاع وامتثل[3]، كما يظهر لمن أمعن النظر وتأمل.

وقد انقدح[4] أن مثل شمول (عشرة) وغيرها لآحادها المندرجة تحتها ليس من العموم، لعدم صلاحيتها بمفهومها[5]

-----------------------------------------------------------------

وذلك حين تعلق الغرض بتحقيق المجموع بلا ترك فرد أصلاً، مثلاً: يريد منع نفوذ الماء، فقال: (اجعل كل الأحجار أمام الماء) فلو ترك حجراً بحيث نفذ الماء من مكانه لما تحقق غرض المولى، فلم يكن ممتثلاً أصلاً.

[1] أي: جميع الأفراد موضوع واحد، فيكون نظير الموضوع المركب من أجزاء، فلا يحصل الامتثال بترك جزء واحد ولو أتى بسائر الأجزاء.

[2] وهو العموم البدلي، في ما كان الغرض تعلق بفرد واحد لا على التعيين، كما لو أراد عتق رقبة في الكفارة، فقال: (أعتق أية رقبة) فإن (أيّ) من ألفاظ العموم، ولا فرق في الأفراد لتساويها في غرض المولى.

[3] ولو ترك الجميع كان عاصياً، عصياناً واحداً.

[4] أي: قد اتضح بقولنا: إنّ العام بمعنى واحد دفع إشكال على تعريف المصنف، وهو (شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه).

وحاصل الإشكال: إن هذا التعريف يشمل أسماء الأعداد مع أنها ليست بعام.

والجواب: إن لفظ العشرة لا يصلح للانطباق على الواحد، فلا يقال للواحد إنه عشرة، فمفهوم عشرة غير مفهوم الآحاد.

[5] أي: مفهوم العشرة لا ينطبق على الآحاد، فإن الآحاد مصاديق للعشرة؛ وذلك لا يكفي في كون العشرة عاماً، فمثلاً قولنا: (أكرم عشرة رجال)، فإن

ص: 12

للانطباق على كل واحد منها، فافهم[1].

فصل: لا شبهة[2]

-----------------------------------------------------------------

زيداً من مصاديق (العشرة) لكنه لا ينطبق عليه مفهوم (العشرة). وهذا بخلاف العام في مثل: (أكرم كل رجل)، فإن زيداً من مصاديق (رجل) وينطبق عليه أيضاً مفهوم (رجل).

[1] لعله إشارة إلى أن تعريفنا للعام هو شرح للاسم فلا مانع من عدم كونه طارداً، فحتى لو فرض شموله لنحو العشرة فإنه لا يضر مع أنها ليست بعام.

أو إشارة إلى أن تعريفنا وإن كان طارداً للأغيار لكنه ليس جامعاً للأفراد؛ لأن الجمع المحلّى باللام هو عام، ولا ينطبق عليه التعريف؛ لأن مثل العلماء مفهومه لا ينطبق على زيد؛ لأن مفهوم العلماء هو ثلاثة فما فوق من العلماء، فلا يشمل العالم الواحد.

فصل في ألفاظ العموم

اشارة

[2] أمّا الأقوال(1)

في المسألة فهي:

1- القول الصحيح هو وضع بعض الألفاظ للعموم واستعمالها شرعا في العموم، وكذلك الخصوص له ألفاظ.

2- وقيل: إنّ ألفاظ العموم وضعت للخصوص فقط.

3- وقيل: بالاشتراك بين العموم والخصوص لغةً وشرعاً.

4- وقال السيد المرتضى - على ما نسب إليه -: بالاشتراك لغةً، وحقيقة شرعية في العموم فقط.

ص: 13


1- التذكرة بأصول الفقه: 33؛ العدة في أصول الفقه 1: 279؛ الإحكام في أصول الأحكام 2: 200؛ الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 201.

في أن للعموم صيغة تخصه[1] لغةً وشرعاً[2]، كالخصوص[3]، كما يكون ما يشترك بينهما ويعمهما[4]، ضرورة[5] أن مثل لفظ (كل) وما يرادفه[6] - في أي لغة كان - تخصه[7] ولا يخص الخصوص[8] ولا يعمّه[9]. ولا ينافي اختصاصه به[10] استعماله

-----------------------------------------------------------------

[1] مثل: (كل) و(جميع) ونحوها.

[2] لعله ناظر إلى الإشكال على القول الرابع.

[3] أي: كما أن للخصوص ألفاظاً تتعلق به، مثل: (خاصة) و(بعض) ونحوهما.

[4] أي: بعض الصيغ مشتركة بين العموم والخصوص، مثل: المفرد المحلّى باللام، فقد يكون للجنس فيفيد العموم، وقد يكون للعهد فيفيد الخصوص.

[5] دليل وضع ألفاظ للعموم، وحاصله: هو التبادر والارتكاز في الأذهان، وهذا الارتكاز والتبادر بديهي.

[6] مثل: (جميع) و(كافة) و(قاطبة) ونحوها.

[7] أي: وضعت للعموم فقط لا لغيره ولا بالاشتراك مع غيره.

[8] أي: لم توضع للخصوص كما في زعم القول الثاني - المشار إليه في أول الفصل - .

[9] أي: لا تشمل الخصوص إضافة إلى العموم، بمعنى الاشتراك بين العام والخاص.

أدلة القول بأن ألفاظ العموم وضعت للخصوص فقط وردّها
الدليل الأول

[10] أي: اختصاص مثل لفظ كل بالعموم، وفاعل «لا ينافي» قوله: (استعماله) أي: ذلك الاستعمال لا ينافي كون لفظ (كل) للعموم.

ص: 14

في الخصوص[1] عنايةً، بادعاء أنه العموم[2] أو بعلاقة العموم والخصوص[3].

ومعه[4]

-----------------------------------------------------------------

[1] حاصل الدليل: إنه قد استعمل لفظ (كل) في الجزئي، مثل قولهم: (زيد كل الرجل) للمبالغة، ولا إشكال في أن زيداً ليس عموم الرجال، بل هو رجل خاص.

وحاصل الجواب: إن الاستعمال أعم من الحقيقة، فإن استعمال لفظ (كل) في (زيد) ادعاءً أو مجازاً لا إشكال فيه، مثل: استعمال لفظ (أسد) في الرجل الشجاع.

[2] حسب ما ذهب إليه السكاكي بأنه حقيقة ادعائية، أي: تصرف في أمر عقلي، فقولنا: (زيد أسد) استعمل الأسد في معناه الحقيقي وهو الحيوان المفترس، والتصرف كان بادعاء أن زيداً فرد من أفراد هذا الحيوان المفترس.

وفي (زيد كل الرجل) استعمل (كل) بمعناه الحقيقي وهو الاستغراق، والتصرف في ادعاءً أن زيداً اجتمع فيه كل الرجال فهو كلّهم.

[3] حسب ما ذهب إليه المشهور، بأن التصرف في معنى اللفظ، فمعنى الأسد في المثال إنما هو الشجاع مجازاً؛ وذلك بعلاقة المشابهة؛ لأنهم اشترطوا في صحة المجاز وجود العلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي. لكن المصنف لم يشترط العلاقة، بل قال بكفاية تقبل الذوق لذلك المجاز، سواء كانت علاقة أم لا - كما مرّ مفصلاً - .

الدليل الثاني

[4] أي: ومع ضرورة وضع ألفاظ للعموم، مثل: (كل) كما دل عليه التبادر والارتكاز، لا يُصغى إلى ما استدلوا به.

وحاصل الدليل الثاني: هو أن العام يتضمن الخاص قطعاً، فسواء كان لفظ (كل) موضوعاً للعام أم كان موضوعاً للخاص، فإنه شامل للبعض، وجعل اللفظ دالاً على المتقين أولى من جعله دالاً على المشكوك.

ص: 15

لا يصغى إلى أن إرادة الخصوص متيقنة ولو في ضمنه[1]، بخلافه[2]، وجعل اللفظ[3] حقيقة في المتيقن أولى؛ ولا[4] إلى أن التخصيص قد اشتهر وشاع، حتى قيل: «ما من عام إلاّ وقد خص»، والظاهر[5] يقتضي كونه[6] حقيقةً لما هو الغالب تقليلاً للمجاز[7]. مع[8]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: ولو في ضمن العام، و«لو» وصلية، أي: سواء قلنا: إنّ لفظ (كل) وأمثاله موضوع للعموم أم للخصوص، فإن الخاص مراد قطعاً ولو بالتضمن.

[2] أي: بخلاف إرادة العام فإنها مشكوكة.

[3] أي: اعتبار أن لفظ (كل) وما رادفه حقيقة في الخصوص - وهو المتيقن - أولى من اعتباره حقيقة في العموم - وهو مشكوك -

الدليل الثالث

[4] أي: ولا يصغى إلى دليلهم الثالث على أن مثل لفظ (كل) وضع للخصوص.

وحاصل دليلهم هو: أن استعمال هذه الألفاظ في الخصوص أكثر من استعمالها في العموم، فلو كان الوضع للعموم كان استعمالها في الخصوص مجازاً، فيستلزم كثرة المجازات، أما لو قلنا: إنّ هذه الألفاظ وضعت للخصوص فإن استعمالها فيه حقيقي، فيكون المجاز قليلاً، وقلة المجاز أرجح من كثرته.

[5] أي: ظاهر الحال، ولعل مستند هذا الظاهر المزعوم هو بناء العقلاء، أو ظاهر حال الواضع الحكيم، فإنه يضع اللفظ لما هو أكثر استعمالاً.

[6] أي: كون مثل: (كل) وما رادفه من ألفاظ العموم.

[7] علة لقوله: (والظاهر)، أي: هذا الظاهر لأجل تقليل المجاز.

ردّ الأدلة

[8] أي: إضافة إلى الجواب الأول، وهو أن التبادر والارتكاز يدلان على

ص: 16

أن تيقن إرادته[1] لا يوجب اختصاص الوضع به، مع كون العموم كثيراً ما يراد. واشتهار[2] التخصيص لا يوجب كثرة المجاز، لعدم الملازمة بين التخصيص والمجازية،

-----------------------------------------------------------------

الوضع للعام، فلا يصغى لهذه الادعات التي هي شبهة مقابل البديهة، فإضافة إلى ذلك نقول:

1- إن تيقن إرادة شيء من المعنى لا يدل على كون الوضع له؛ لأن كل لفظ موضوع لمركب من أجزاء أو جزئيات، فإنه يشملها من غير أن يكون الوضع لتلك الجزئيات أو الأجزاء، فلفظ (زيد) وضع للمركب من الأجزاء فيشمل رأسه قطعاً، لكن لم يوضع لفظ (زيد) للرأس، وكذلك لفظ (صلاة) وضع لمعنى عام يشمل صلاة الظهر، لكن لم يوضع لخصوص صلاة الظهر، بل وضع للمطلق.

2- إن إرادة العموم من لفظ (كل) وما رادفه كثير أيضاً، ولو فرض أن استعماله في الخاص كثير أو أكثر فإن ذلك لا يوجب أولوية كونه للخاص؛ لكثرة المجازات في اللغة العربية حتى قيل: (أكثر لغة العرب مجازات)(1).

[1] أي: إرادة الخصوص.

[2] أي: إضافة إلى الجواب الأول - أي: دلالة التبادر والارتكاز على الوضع للعام - فإنه يرد على دليلهم الثالث: أولاً: إن التخصيص لا يستلزم المجاز؛ وذلك لأن المجاز هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له، وليس التخصيص كذلك، بل كل من العام والخاص مستعمل في معناه من باب تعدد الدال والمدلول، كما سيأتي بعد فصلين.

وثانياً: لا محذور في كثرة المجاز، ولا يضر بالمعنى الحقيقي إذا كان استعمالاً مع القرينة. نعم، لو كثر الاستعمال بحيث لم يكن يحتاج المعنى المجازي إلى نصب قرينة كان من النقل، أي: انقلاب المعنى المجازي إلى معنى حقيقي منقول إليه.

ص: 17


1- قوانين الأصول 1: 277؛ وقاية الأذهان: 114؛ عناية الأصول 1: 50.

كما يأتي توضيحه؛ ولو سلم فلا محذور فيه أصلاً[1] إذا كان بالقرينة[2]، كما لا يخفى.

فصل: ربما عدّ من الألفاظ الدالة على العموم النكرة[3] في سياق النفي أو النهي[4]. ودلالتها عليه لا ينبغي أن تنكر عقلاً[5]، لضرورة أنه لا يكاد يكون طبيعة معدومة إلاّ إذا لم يكن فرد منها[6]

-----------------------------------------------------------------

[1] لأن المجاز في لغة العرب كثير جداً.

[2] نعم، لو كان من غير قرينة دلّ على تحول المعنى المجازي إلى حقيقي.

فصل بعض ألفاظ العموم

1- النكرة في سياق النفي أو النهي

[3] المراد النكرة إذا كانت اسم الجنس دال على الطبيعة المطلقة، مثل: (الإله) في (لا إله إلاّ الله)، كما سيأتي من المصنف الإشارة إليه في قوله: (لكن لا يخفى... الخ).

[4] كقوله: (ما أكلت شيئاً) في النفي، و(لا تأكل شيئاً) في النهي.

[5] أي: مضافاً إلى ظهورها في العموم، فإن العقل أيضاً يدل على عمومها؛ وذلك لأن الطبيعة توجد ولو بوجود فرد واحد، ولا تعدم إلاّ بعدم جميع الأفراد، فالإخبار بعدم الطبيعة معناه إخبار عن عدم جميع الأفراد، والنهي عنها نهي عن جميع الأفراد، وهذا معنى العموم، ففي قوله: (لا تظلم أحداً) لو ظلم واحداً فإن طبيعة الظلم قد وجدت فخالف النهي، وكذلك: (ما ظلمت أحداً) لو كان قد ظلم واحداً فإنّ كلامه كذب.

[6] يعني إذا لم يوجد أي فرد من تلك الطبيعة.

ص: 18

بموجود، وإلاّ كانت موجودة[1].

لكن لا يخفى[2]: أنها تفيده[3] إذا أخذت مرسلة[4] - لا مبهمة - قابلة للتقيد[5]،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: إذا كان فرد واحد موجود كانت الطبيعة موجودة؛ لأن الكلي الطبيعي موجود بوجود فرده.

[2] حاصله: إن النكرة في سياق النفي هي الطبيعة، وهذه الطبيعة على أقسام ثلاثة:

1- الطبيعة المبهمة: وهي في ما لم تتم فيها مقدمات الحكمة، وحينئذٍ فهي حجة في خصوص الأفراد المتيقنة.

2- الطبيعة المطلقة: وهي في ما تمت فيها مقدمات الحكمة، وحينئذٍ فهي حجة في جميع الأفراد.

3- الطبيعة المقيدة: وهي في ما قيدت الطبيعة بقيد خصصها في نوع من أنواع الطبيعة، وحينئذٍ فهي حجة في ذلك النوع فقط.

وهذه الأقسام الثلاثة لو وقعت في سياق النفي أفادت العموم لما يظهر منها.

ففي الأول: العموم للأفراد المتيقنة، وفي الثاني: العموم لجميع الأفراد، وفي الثالث: العموم لذلك النوع.

[3] أي: إن النكرة تفيد العموم.

[4] أي: مطلقة، ويكون ذلك لو تمت مقدمات الحكمة، وقال المصنف في الهامش: (وإحراز الإرسال في ما أضيفت إليه إنّما هو بمقدمات الحكمة، فلولاها كانت مهملة، وهي ليست إلاّ بحكم الجزئية، فلا تفيد إلاّ نفي هذه الطبيعة في الجملة - ولو في ضمن صنف منها - فافهم، فإنه لا يخلو من دقة)، انتهى(1).

[5] لأنه لو لم تتم مقدمات الحكمة فإنه يمكن أن يراد من الطبيعة التقييد، كما يمكن أن يراد منها الإطلاق، فلا طريق لإثبات العموم لكل الأفراد، بل هي عامة

ص: 19


1- كفايه الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 355.

وإلاّ[1] فسلبها لا يقتضي إلاّ استيعاب السلب لما أريد منها يقيناً، لا استيعاب ما يصلح انطباقها عليه من أفرادها[2].

وهذا[3] لا ينافي كون دلالتها عليه[4] عقلية[5]، فإنها[6] بالإضافة إلى أفراد ما يراد منها[7]، لا الأفراد التي تصلح لانطباقها عليها. كما لا ينافي[8] دلالة مثل لفظ

-----------------------------------------------------------------

لخصوص الأفراد المتيقنة.

[1] أي: إن لم تأخذ مطلقة، بل أخذت مبهمة، فسلب الطبيعة لا يقتضي إلاّ سلب جميع الموارد المتيقنة.

[2] أي: لا يقتضي استيعاب جميع أفراد الطبيعة - وهي الأفراد التي يصلح انطباق الطبيعة عليها - ف- «ما» موصولة، وبيانها في (من أفرادها)، وضمير «عليه» راجع إلى (ما) الموصولة.

[3] أي: إن قلت: كيف لم تدل النكرة - وهي الطبيعة المبهمة - في سياق النفي أو النهي على العموم، والحال أن دلالتها عقلية، والدلالة العقلية لا يمكن استثناء مورد منها؟

قلت: هنا النكرة دلت على العموم، لكن المدخول مضيّق، أي: دلت على جميع أفراد المتعلق، والمتعلق هو الأفراد المتيقنة.

[4] أي: دلالة النكرة في سياق النفي أو النهي على العموم.

[5] وأحكام العقل غير قابلة للتخصيص أو التقييد، بل ما يتراءى أنه تقييد أو تخصيص، فإنه في الحقيقة تبدل موضوع.

[6] أي: فإن الدلالة.

[7] أي: من النكرة، والحاصل: إن الإبهام والتقييد لا يخرج النكرة التي في سياق النفي أو النهي عن العموم، بل هي تدل على العموم، لكن متعلقها يكون ضيقاً - وهو الأفراد المتيقنة - فهي دلت على شمول الحكم لجميع الأفراد المتيقنة.

[8] أي: كما في الدلالة الوضعية تدل الألفاظ الموضوعة للعموم على شمول

ص: 20

(كل) على العموم وضعاً كون عمومه بحسب ما يراد من مدخوله. ولذا لا ينافيه[1] تقييد المدخول بقيود كثيرة. نعم[2]، لا يبعد أن يكون ظاهراً[3] عند إطلاقها في

-----------------------------------------------------------------

الحكم لجميع أفراد المتعلّق - سواء كان المتعلق موسعاً أم مضيقاً - ، فمثل لفظة (كل) موضوعة للعموم، ففي قولنا: (أكرم كل العلماء) وقولنا: (أكرم كل العلماء العدول) لم يختلف معنى (كل) - وهو شمول الحكم لجميع أفراد المتعلق - مع أن المتعلق في الأول موسع يشمل كل العلماء، وفي الثاني مضيق يشمل كل العلماء العدول فقط.

فالحاصل: إ ن الدلالة على العموم - عقلية كانت أم وضعية - تكون باعتبار المتعلق - سعة وضيقاً - من غير اخترام معنى العموم.

[1] أي: لأجل أن عموم (كل) بحسب ما يراد من مدخوله لا ينافي تقييد المدخول، فلو قلنا: (أكرم كل رجل هاشمي عالم متقٍ) فإن هذه القيود وإن ضيقت أفراد المدخول لكنها لم تخرج (كل) عن دلالتها على العموم.

[2] استدراك من قوله: (لا يخفى أنها تفيده إذا أخذت مرسلة لا مبهمة).

وحاصل مراده: إن النكرة في سياق النفي أو النهي وإن كانت على ثلاثة أقسام - الإطلاق والتقييد والإبهام - لكن الظاهر عند عدم التقييد هو إرادة الإطلاق لا التقييد.

وهذا المعنى هو مراد المصنف حيث ذكره أيضاً في بحث الاجتماع في التنبيه الثاني حيث قال: (اللهم إلاّ أن يقال: إنّ في دلالتهما(1) على الاستيعاب كفاية ودلالة على أن المراد من المتعلق هو المطلق، كما ربما يدعى ذلك في مثل: كل رجل... الخ)(2)، فراجع.

[3] أي: تكون النكرة ظاهرة، وفي بعض النسخ (أن يكون ظاهراً) وهذا منشأ

ص: 21


1- أي: النفي والنهي.
2- إيضاح كفاية الأصول 2: 358.

استيعاب جميع أفرادها.

وهذا[1] هو الحال في المحلى باللام، جمعاً كان أو مفرداً. بناءً على إفادته للعموم. ولذا[2] لا ينافيه تقييد المدخول بالوصف وغيره.

وإطلاق التخصيص[3] على تقييده[4] ليس[5]

-----------------------------------------------------------------

تفسير الحقائق(1)

للكلام بغير ما ذكرناه فراجع.

2- المعرّف بالألف واللام

[1] في المحلّى باللام بحثان:

الأول: في أنه هل يدل على العموم أم لا؟

الثاني: كيفية دلالته على العموم - لو قيل بها - .

قدّم المصنف البحث الثاني لاشتراك المحلى باللام في الحكم مع النكرة في سياق النفي أو النهي، أي: العموم إنما هو عموم المدخول - سعةً وضيقاً - .

[2] أي: لأجل أن المراد هو عموم المدخول لا ينافي العموم تقييد المدخول، ومفعول (لا ينافي) هو المعموم، و(تقييد) فاعله.

[3] بيان إشكال حاصله: إن تضييق دائرة المدخول إن لم يضر بالعموم فلماذا يسمّى تخصيصاً؟ فمثل: (أكرم العالم العادل) يطلق عليه التخصيص. وهذا دليل على أنّ العموم ليس باعتبار المدخول سعةً وضيقاً، بل إن كان المدخول شمل كل الأفراد فهو العموم، وإن قيّد بوصف ونحوه فليس المدخول عاماً، بل خاص.

[4] أي: تقييد (المحلّى باللام).

[5] الجواب، وحاصله: إن إطلاق التخصيص عليه ليس بمعناه الاصطلاحي بأن يكون عاماً ثم خُصِّص، بل هو من قبيل (ضيق فم الركية) أي: استعمل في عمومٍ أفراده قليلون، أو أقل من عموم آخر.

ص: 22


1- حقائق الأصول 1: 488.

إلاّ من قبيل (ضيّق فم الركية)[1].

لكن دلالته[2] على العموم وضعاً[3] محل منع، بل إنما يفيده[4] في ما إذا اقتضته الحكمة[5] أو قرينة أخرى[6]، وذلك[7] لعدم اقتضائه[8] وضع (اللام)[9] ولا مدخوله[10] ولا وضع آخر للمركب منهما[11]، كما لا يخفى. وربما يأتي في المطلق والمقيد بعض الكلام مما يناسب المقام.

-----------------------------------------------------------------

[1] الركية والركايا - كعطية وعطاياً - بمعنى البئر(1)، ومعنى المثل هو احفر فم البئر ضيّقاً، لا بمعنى حفره وسيعاً ثم تضيقه، وهذا المثل يضرب لإيجاد الشيء بحدود ضيقة من البداية.

[2] أي: دلالة المحلّى باللام، وهذا هو البحث الأول، وحاصل ما أفاده المصنف: إنه لا يدل على العموم بنفسه؛ لأن الدلالة إما بسبب حرف التعريف، أو المدخول، أو الهيئة التركيبية، ولم يثبت الوضع في أيٍ منها.

[3] أي: الدلالة بالوضع، أي: وضع اللام أو المدخول أو الهيئة للدلالة على العموم.

[4] أي: إنما يفيد المحلى باللام العموم.

[5] أي: اقتضت العموم مقدمات الحكمة، كقوله تعالى: {أَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ}(2).

[6] شخصية أو عامة، كالاستثناء فإنه قرينة على عموم المستثنى منه.

[7] تعليل لعدم الوضع.

[8] أي: لعدم اقتضاء العموم، والضمير مفعول، وفاعله (وضع اللام).

[9] لأن اللام وضعت للإشارة إلى الماهية، ولم يؤخذ في مفهومها العموم.

[10] لأنه موضوع لنفس الماهية، ولم يؤخذ في مفهوم الطبيعة العموم.

[11] أي: الهيئة التركيبية من اللام ومدخولها.

ص: 23


1- العين 5: 402؛ الصحاح 6: 1251.
2- سورة البقرة، الآية: 275.

فصل: لا شبهة[1] في أن العام المخصص بالمتصل[2] أو المنفصل[3] حجة في ما بقي[4] في ما علم[5] عدم دخوله في المخصص مطلقاً[6] ولو كان متصلاً، وما

-----------------------------------------------------------------

فصل حجية العام بعد التخصيص بالمُبيّن

اشارة

[1] الخاص قد يكون واضحاً مفهوماً ومصداقاً، وهذا المبحوث في هذا الفصل. وقد يكون مجملاً، وسيأتي بحثه في الفصل اللاحق.

ثم إن الخاص قد يكون متصلاً، وقد يكون منفصلاً:

وفي المتصل: لا ينعقد ظهور الكلام إلاّ في الخاص، فما عُلِم أنه من الخاص كان اللفظ حجة فيه، وما شك فلا حجية فيه.

وفي المنفصل: حيث ينعقد ظهور في العموم فما علم أنه من الخاص فلا يكون العام حجة فيه، وما شك في أنه من الخاص كان داخلاً في العموم؛ لانعقاد الظهور وهو المُتَّبَع في موارد الشك.

[2] كما لو قال: (أكرم العلماء إلاّ فساقهم).

[3] كما لو قال: (أكرم العلماء)، ثم بعد فاصل قال: (لا تكرم فساق العلماء).

[4] أي: العام المخصص حجة في ما بقي من الأفراد، والحجية تابعة للمراد الجدي للمولى، ويكتشف المراد الجدي من ظهور الكلام فقوله: (أكرم العلماء إلاّ الفساق) ظاهر في وجوب إكرام غير الفساق كلهم، ومن هذا الظهور نكتشف المراد الجدي للمولى، فيكون العام حجة في ما بقي بعد إخراج الخاص المعلوم.

[5] أي: الأفراد الداخلة في الخاص لا يشملها حكم العام؛ للقطع بخروجها عن ذلك الحكم، أما الأفراد المقطوع بكونها غير داخلة في الخاص فإن العام يشملها.

[6] تفسيره في قوله: (ولو كان متصلاً)، أي: الأفراد المعلوم خروجها من

ص: 24

احتمل[1] دخوله فيه أيضاً إذا كان منفصلاً، كما هو[2] المشهور بين الأصحاب، بل لا ينسب الخلاف إلاّ إلى بعض أهل الخلاف[3].

وربما فصّل بين المخصص المتصل فقيل بحجيته فيه[4]، وبين المنفصل فقيل بعدم حجيته[5].

-----------------------------------------------------------------

الخاص تكون داخلة في حكم العام، سواء كان المخصص متصلاً أم منفصلاً، ففي مثال: (أكرم العلماء إلاّ الفساق) من عُلم بعدم كونه فاسقاً داخل تحت أمر أكرم العلماء.

[1] لا يخفى أن هذا استطراد؛ لأنه من بحوث الفصل اللاحق، لا من بحوث هذا الفصل؛ لأن الكلام هنا في ما كان الخاص معلوماً، وهذا القسم في صورة الشك، وعلى كل حال فمعنى العبارة: إنّ الأفراد المشكوكة التي لا يعلم أنها من الخاص، فإن كان الخاص منفصلاً كان العام حجة فيها؛ لأنه انعقد للعام ظهور في جميع الأفراد فكان حجة، ثم خرجت بعض الأفراد، فما علم بخروجه لا يكون العام فيه حجة، وأما مشكوك الخروج فإنه يبقى تحت ظهور العام وحجيته.

أما لو كان الخاص متصلاً فإن العام ينعقد ضيقاً - كما مرّ - فلا يعلم شموله للفرد المشكوك من البداية، فلا ظهور، فلا حجية.

[2] أي: حجية العام في الباقي.

[3] حيث نسب(1)

إليهم سقوط العام عن الحجية بعد التخصيص مطلقاً.

[4] أي: حجية العام بعد التخصيص بالمتصل في ما بقي، فقوله: (أكرم العلماء إلاّ الفساق) حجة في العلماء العدول.

[5] أي: عدم حجية العام بعد التخصيص بالمنفصل في ما بقي، فقوله: (أكرم العلماء) ثم قوله: (لا تكرم فساق العلماء) يسبب عدم الحجية في العلماء العدول، ومعنى عدم الحجية هو عدم معرفة حكمهم.

ص: 25


1- الإحكام في أصول الأحكام 2: 227؛ أصول الجصاص 1: 131.

واحتج النافي بالإجمال[1]، لتعدد المجازات حسب مراتب الخصوصيات[2]، وتعيين الباقي[3] من بينها بلا معيّن[4] ترجيحٌ بلا مرجح[5].

-----------------------------------------------------------------

دليل النافين

[1] أي: النافي(1)

لحجية العام في الباقي بعد تخصيصه استدل بأن العام حقيقة في الكل، فالتخصيص يوجب المجازية، والمجاز متعدد، فيمكن أن يراد كل الباقي أو بعض الباقي، مثلاً: لو كان العلماء مائة وفساقهم عشرة، فخروجهم يستلزم المجاز في لفظ العلماء، وهذا المجاز له مصاديق متعددة، إما كل الباقي أي: تسعين، ويمكن أن يكون المراد تسعة وثمانين، ويمكن ثمانية وثمانين، وهكذا وهلم جرا، ولا تعيين لأحد المجازات، فلابد من القول بالإجمال.

[2] أي: لما لم يكن الكل مراداً، فكلما كان مراداً يكون خاصاً، سواء كان الباقي أم غيره، فتعددت مراتب الخصوصيات.

[3] «الباقي» هو ما تبقى من أفراد العام بعد إخراج الخاص، وقوله: «تعيين» مبتدأ، خبره (ترجيح).

[4] أي: من غير قرينة خاصة تدل على أن المراد من العام هو كل ما تبقى.

[5] وهو محال إن رجع إلى الترجح بلا مرجّح، أو قبيح إن لم يرجع إليه.

الجواب عن دليل النافين

وقد أجييب عن الدليل بثلاثة أجوبة:

الأول: هو إنكار المجازية في العام المخصص.

الثاني: إن الباقي هو أقرب المجازات، فيكون مراداً.

الثالث: ما ذكره الشيخ الأعظم(2)

من وجود المقتضي وعدم المانع لحجية الباقي.

ص: 26


1- أصول الجصاص 1: 131.
2- مطارح الأنظار 2: 132.

والتحقيق في الجواب[1] أن يقال: إنه لا يلزم من التخصيص كون العام مجازاً:

أما في التخصيص بالمتصل: فلما عرفت من أنه لا تخصيص أصلاً[2]، وأن[3] أدوات العموم قد استعملت فيه وإن كان دائرته سعةً وضيقاً يختلف باختلاف ذوي الأدوات[4]، فلفظة (كل) في مثل: (كل رجل) و(كل رجل عالم) قد استعملت في

-----------------------------------------------------------------

الجواب الأول

[1] حاصله: إنه لا مجاز في العام المخصص، سواء كان التخصيص بمتصل أم منفصل.

أما المتصل: فلما مرّ من أن أدوات العموم استعملت في معناها، والتخصيص ضيّق دائرة المدخول، فمثل: (كل) في (كل رجل) و(كل رجل عالم) معناه واحد، وإنما المدخول واسع في الأول وضيّق في الثاني.

وأما المنفصل: فإن العام استعمل بمعناه الحقيقي، لكن ليس حجة في العموم لتعارضه مع الخاص، والحجيّة غير الاستعمال. فإن الحجية مرتبطة بالإرادة الجدية، والحقيقة والمجاز مرتبطان بالإرادة الاستعمالية، والعام المخصص بالمنفصل قد استعمل في معناه الحقيقي، لكن في تعارضه مع الخاص يقدم الخاص؛ لأنه أقوى، فترتفع الحجية عن العموم، لا أنه يتغير معناه. فمثل: (أكرم كل العلماء) إذا خصص بمثل: (لا تكرم فساق العلماء) لا يتغير معنى (كل) إلى (بعض) بل لا يكون حجة في الفساق.

[2] فيكون إطلاق التخصيص عليه مسامحة.

[3] عطف تفسيري، بمعنى أنه لا تخصيص؛ لأن أدوات العموم استعملت في العموم، وسعة المدخول وضيقه لا يرتبط بمعنى العام، «فيه» أي: في العموم، وكذلك ضمير «دائرته».

[4] أي: مدخولات أدوات العموم، فمثل: (كل إنسان)، الأداة هي (كل)، وذو الأداة هو (إنسان).

ص: 27

العموم[1]، وإن كان أفراد أحدهما بالإضافة إلى الآخر[2] بل في نفسها[3] في غاية القلة.

وأما في المنفصل: فلأن إرادة الخصوص واقعاً[4] لا تستلزم استعماله فيه[5] وكون الخاص قرينة عليه[6]، بل من الممكن - قطعاً[7] - استعماله معه[8] في العموم قاعدة[9]

-----------------------------------------------------------------

[1] فلا مجازية في (كل رجل عالم).

[2] لأن الرجال العلماء في غاية القلة بالنسبة إلى مطلق الرجال.

[3] أي: مع قطع النظر عن نسبتها إلى الآخر، كما لو فرض أن الرجال العلماء عشرة فقط.

[4] أي: بالإرادة الجدية.

[5] أي: استعمال العام في الخصوص.

[6] أي: قرينة على الخصوص، والمعنى: إنه في المجاز يراد باللفظ غير معناه مع وجود قرينة تدلّ على أن المراد ذلك المعنى المجازي، مثلاً: (رأيت أسداً يرمي) (الأسد) يراد به الرجل الشجاع - وهو غير ما وضع له - وكانت لفظة (يرمي) قرينة على المراد.

وفي مثل: (أكرم كل العلماء) و(لا تكرم فساق العلماء) المجازية تعني أن يكون معنى (كل) هو (البعض) والقرينة هي (لا تكرم فساق العلماء). فيقول المصنف: إن الطريق لا ينحصر في القول بالمجازية، بل يمكن أمر آخر، وهو أن يقال: إن الخاص لا يمنع ظهور العام في العموم، بل يمنع عن حجيته فقط.

[7] أي: عدم الإشكال في إمكانه.

[8] أي: استعمال العام مع المخصص المنفصل.

[9] أي: لضرب قاعدة عامة ليتمسك بها في موارد الشك، فاستعمال العام بمعناه ليس لغواً، بل فيه فائدة، فالإرادة الاستعمالية إنما تكون في المعنى الحقيقي وهو العموم.

ص: 28

وكون[1] الخاص مانعاً عن حجية ظهوره، تحكيماً[2] للنص أو الأظهر على الظاهر، لا مصادماً لأصل ظهوره[3]، ومعه[4] لا مجال للمصير إلى أنه[5] قد استعمل فيه مجازاً كي يلزم الإجمال[6].

لا يقال[7]: هذا مجرد احتمال، ولا يرتفع به الإجمال، لاحتمال الاستعمال في خصوص مرتبة من مراتبه[8].

فإنه يقال[9]:

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: فائدة الخاص المنفصل منع حجية العام في العموم، لا أنه يغير معنى العام. فالإرادة الجدية تكون في الخصوص، لذا لا حجية للعام في أفراد الخاص.

[2] علة منع حجية العام في العموم هو أن الخاص أظهر أو أنه نص، وكلما تعارض الظاهر مع الأظهر قدّم الأظهر، وكذلك النص يقدم على الظاهر.

[3] أي: ظهور العام، والحاصل: إن التعارض لا يوجب تغير معنى الأضعف دلالةً، بل يوجب ترجيح الأقوى دلالةً على الأضعف في الحجيّة.

[4] أي: إمكان أن يكون العام بمعناه الحقيقي الذي أشار إليه بقوله: (بل من الممكن قطعاً).

[5] أن العام قد استعمل في الخاص.

[6] لعدم معرفة المراد من مراتب الخاص.

[7] الإشكال بأنه وإن كان من الممكن إرادة المعنى الحقيقي، لكن من الممكن أيضاً إرادة المعنى المجازي، وحيث لا معيّن لأحد الاحتمالين كان اللفظ مجملاً، كما في كل مورد يدور الحكم بين معلوم ومجهول؛ لأن النتيجة تابعة لأخس المقدمات.

[8] لأن المجاز له مراتب متعددة - كما مرّ - ولا يُعلم أي مرتبة مرادة.

[9] الجواب: إن اللفظ يحمل على المعنى الحقيقي حتى إذا احتمل إرادة المعنى المجازي، فلو قال: (رأيت أسداً) واحتمل إرادته للمعنى الحقيقي أو المجازي فإن مجرد احتمال المجازية لا يوجب إجمال اللفظ، بل يحمل على المعنى الحقيقي،

ص: 29

مجرد احتمال استعماله فيه[1] لا يوجب إجماله بعد استقرار ظهوره في العموم[2]، والثابت[3] من مزاحمته بالخاص أنما هو بحسب الحجية، تحكيماً لما هو الأقوى[4]، كما أشرنا إليه آنفاً.

وبالجملة[5]: الفرق بين المتصل والمنفصل وإن كان بعدم انعقاد الظهور في الأول إلاّ في الخصوص[6]، وفي الثاني إلاّ في العموم[7]،

-----------------------------------------------------------------

وخاصة هنا حيث انعقد أولاً ظهور في العموم، ثم بمجيء الخاص نشك في زوال هذا الظهور، فنبقى على الظهور.

[1] أي: استعمال العام في خصوص مرتبة من مراتب الخاص.

[2] لأن المفروض أن الخاص منفصل، فلمّا ذكر العام انعقد له ظهور في العموم، ثم بذكر الخاص لا يعلم انخرام الظهور السابق، فلابد من البقاء عليه، وعلى هذا بناء العقلاء.

[3] أي: لا يلزم من بقاء ظهور العام لغوية الخاص؛ لأن الخاص زاحم حجية العام في الأفراد المخصوصة وترجح عليه، «مزاحمته» أي: مزاحمة العموم.

[4] لأن الخاص أظهر أو نص، وفي الجمع الدلالي يقدم الأظهر أو النص على الظاهر.

[5] يقول المصنف: إن المنفصل والمتصل وإن كانا يختلفان من بعض الجهات، لكنهما مشتركان في عدم المجازية في العموم.

[6] «الأول» المتصل، ففي مثل: (أكرم كل العلماء العدول) انعقد ظهور في خصوص العلماء العدول، فمن شُكَّ في أنه عادل لا يدخل في الحكم، أي: وجوب الإكرام.

[7] أي: بعدم انعقاد الظهور في الثاني إلاّ في العموم، و«الثاني» المنفصل، ففي مثل: (أكرم كل العلماء) و(لا تكرم فساق العلماء) انعقد ظهور في وجوب إكرام كل عالم، ثم أخرج منهم فساقهم، ففي مورد الشك بأن هذا العالم عادل أم

ص: 30

إلاّ أنه[1] لا وجه لتوهم استعماله مجازاً في واحد منهما أصلاً، وإنما اللازم الالتزام بحجية الظهور في الخصوص في الأول[2] وعدم حجية ظهوره في خصوص ما كان الخاص حجةً فيه في الثاني[3]، فتفطن.

وقد أجيب[4] عن الاحتجاج[5] بأن الباقي[6] أقرب المجازات.

وفيه[7]: لا اعتبار في الأقربية بحسب المقدار، وإنما المدار على الأقربية بحسب

-----------------------------------------------------------------

فاسق نرجع إلى عموم (أكرم كل العلماء).

[1] للشأن، أي: وإن افترقا من تلك الجهة لكنهما مشتركان في أن المعنى حقيقي لا مجازي، «منهما» في أيّ واحد من المتصل والمنفصل.

[2] أي: في المتصل؛ لأن المقدار الذي انعقد فيه الظهور هو كل أفراد الخاص، وحجية اللفظ بمقدار دلالته، فقد دل على كل أفراد المدخول وهو العلماء العدول.

[3] أي: في المنفصل، فالعام ليس بحجة في أفراد الخاص؛ لأن دلالة الخاص أقوى، أما في سائر الأفراد فهو حجة.

الجواب الثاني

[4] كما في القوانين والفصول(1)،

والجواب هو بعد تسليم مجازية العام المخصص، وحاصله: إن المجاز له مراتب، ولكن أقرب المجازات إلى المعنى الحقيقي هو الباقي، أي: بعد إخراج الخاص يمكن أن تكون مجازات متعددة بتعدد الأفراد - كما مرّ - لكن الباقي هو أقرب إلى المعنى الحقيقة.

[5] أي: دليل النافين لحجية العام بعد التخصيص.

[6] أي: ما تبقى من أفراد العام بعد إخراج أفراد الخاص هي أقرب المجازات إلى المعنى الحقيقي.

[7] حاصل إشكال المصنف على هذا الجواب: إن الأكثرية العددية غير مجدية، بل اللازم الأقربية بأذهان العرف. فالأسد المجازي يمكن أن يراد به الشجاع أو الأبخر أو

ص: 31


1- قوانين الأصول 1: 266؛ الفصول الغروية: 200.

زيادة الأنس الناشئة من كثرة الاستعمال[1].

وفي تقريرات بحث شيخنا الأستاذ+ في مقام الجواب عن الاحتجاج، ما هذا لفظه[2]: «والأولى[3] أن يجاب - بعد تسليم مجازية الباقي - بأن[4] دلالة العام على كل فرد من أفراده غير منوطة بدلالته على فرد آخر من أفراده[5]، ولو كانت دلالة مجازية[6]،

-----------------------------------------------------------------

المُشعِر أو نحو ذلك من صفات الأسد، لكن الشجاع أقرب المجازات إلى أذهان العرف.

[1] أي: منشأ زيادة الأنس هو كثرة الاستعمال، فإن العرف يُكثِر استعمال الأسد في الرجل الشجاع، أما في غيره فلا استعمال أو يقلّ الاستعمال. وفي ما نحن فيه لم يعلم كون (الباقي) هو الأقرب إلى أذهان العرف.

الجواب الثالث

[2] حاصل الجواب: إن المقتضي لحمل العام المخصَّص على الباقي موجود، ولا مانع من هذا الحمل، فحصلت العلة التامة لإرادة الباقي.

أما وجود المقتضي: فلأنّا لا نريد إدخال ما كان خارجاً عن مدلول العام حتى نحتاج إلى دليل، بل جميع الأفراد كانت داخلة تحت العموم، خرج منها الخاص، فتبقى سائر الأفراد باقية تحت اللفظ؛ لانطباق لفظ العام عليها بلا احتياج لمعونة شيء آخر.

وأما فقد المانع: فلأنّه لا يوجد دليل يُخرِج الباقي عن حكم العام.

فتمت العِلّة بوجود المقتضي لشمول حكم العام للباقي، وفقد المانع.

[3] أي: على تقدير المجازية، فإن الجواب الثاني - وهو الأقربية - محل إشكال، فالأولى هو هذا الجواب.

[4] هذا بيان لوجود المقتضي لشمول العام المخصَّص لجميع ما تبقى.

[5] فعدم شمول العام للأفراد المخصَّصة لا يضر بشموله للأفراد الباقية.

[6] أي: حتى على تقدير المجازية، فإن العام شامل لجميع من تبقى.

ص: 32

إذ هي[1] بواسطة عدم شموله للأفراد المخصوصة، لا بواسطة دخول غيرها في مدلوله؛ فالمقتضي[2] للحمل[3] على الباقي موجود والمانع مفقود، لأن المانع في مثل المقام[4] إنما هو ما يوجب[5] صرف اللفظ عن مدلوله، والمفروض انتفاؤه[6] بالنسبة إلى الباقي، لاختصاص المخصص بغيره[7]، فلو شك[8] فالأصل عدمه»(1). انتهى موضع الحاجة.

قلت[9]:

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: المجازية، وهذا دليل على أن المجازية لا تضر بشمول العام للأفراد المتبقية بأجمعها، وملخّصه: إ نه على المجاز لا تدخل أفراد أجنبية عن العام في مدلوله حتى نحتاج إلى دليل لإخراجها، بل العام كان شاملاً لجميع أفراده، فبالتخصيص أخرجنا بعض الأفراد منه، فيبقى الباقي تحت عنوان العام من غير حاجة إلى دليل لإدخالها، وذلك لأن العام كان منطبقاً عليها.

[2] أي: المقتضي - وهو الدلالة التضمنيّة للعام على أفراده - موجود.

[3] أي: لاعتبار دلالة لفظ العام على جميع من تبقى.

[4] أي: مقام الدلالات اللفظية، حيث إن رفع اليد عن دلالة اللفظ على معناه المطابقي أو التضمني يحتاج إلى دليل.

[5] لفظاً أو عقلاً.

[6] أي: انتفاء المانع، أو انتفاء الصارف الذي هو المانع.

[7] أي: بغير الباقي، وهو ما أخرجه الخاص، فإن ما أخرجه الخاص يُصرف لفظ العام عنه، أما غير الخاص فلا صرف للّفظ عنه، فلا مانع.

[8] يعنى لا يوجد مانع، ولو شك في وجوده فالأصل عدمه.

ردّ الجواب الثالث

[9] حاصل الإشكال على الجواب الثالث: هو إنكار وجود المقتضي، وبيانه: إن

ص: 33


1- مطارح الأنظار 2: 132.

لا يخفى أن دلالته[1] على كل فرد إنما كانت لأجل دلالته[2] على العموم والشمول، فإذا لم يستعمل فيه[3] واستعمل في الخصوص - كما هو المفروض[4] - مجازاً[5]، وكان إرادة كل واحد من مراتب الخصوصيات - مما جاز انتهاء التخصيص إليه[6]

-----------------------------------------------------------------

الدلالة التضمنيّة هي فرع الدلالة المطابقية، فإذا انتفت المطابقية انتفت التضمنيّة معها.

ومثاله - للتقريب إلى الذهن - : الأسد معناه الحيوان المفترس الخاص، وهو بالتضمن يشمل ذيل الأسد، فلو انتفت الدلالة المطابقية بإرادة المجاز، فإن الدلالة التضمنية - بشمول اللفظ للذيل - تنتفي أيضاً.

وهنا العام - بمعناه الحقيقي - كان شاملاً للأفراد، ولكن حينما أريد منه المعنى المجازي انتفت الدلالة التضمنية، وحيث إن مراتب المجازات متعددة فترجيح أحدها - وهو الباقي - بلا مرجح.

[1] أي: دلالة العام على كل فرد بالدلالة التضمنيّة.

[2] أي: لأجل دلالة العام على المعنى الحقيقي.

[3] أي: لم يستعمل لفظ العام في العموم.

[4] لأن هذا الجواب بناءً على القول بمجازية العام المخصص.

[5] حال لقوله: (استعمل).

[6] أي: المراتب التي يجوز إرادتها، كأن لا تكون تخصيصاً للأكثر المستهجن. فلو كان للعام مائة فرد وخرج منه بالخاص عشرة، فمراتب المجاز يمكن أن تكون من التسعين فرداً إلى الخمسين، أما أقل من الخمسين فيكون تخصيصاً للأكثر، فإذا استهجنه العرف لم يجز كونه من المحتملات، ويكون هذا الاستهجان دليلاً على عدم إرادته، أما سائر المراتب من الخمسين إلى التسعين فكلها يمكن أن تكون مرادة، فترجيح أحدها - كالباقي - على الأخريات ترجيح بلا مرجح.

ص: 34

واستعمال[1] العام فيه مجازاً - ممكناً[2]، كان[3] تعين بعضها[4] بلا معين[5] ترجيحاً[6] بلا مرجح، ولا مقتضي[7] لظهوره فيه[8]، ضرورة أن الظهور إما بالوضع وإما بالقرينة، والمفروض أنه ليس بموضوع له، ولم يكن هناك قرينة[9]، وليس له[10] موجب آخر.

ودلالته[11] على كل فرد على حدة حيث كانت في ضمن دلالته على العموم لا

-----------------------------------------------------------------

[1] عطف تفسيري على انتهاء، أي: ما جاز انتهاء التخصيص إليه بمعنى استعمال العام فيه مجازاً.

[2] خبر قوله: (كان إرادة).

[3] جزاء الشرط في قوله: (فإذا لم يستعمل فيه).

[4] أي: بعض المراتب - والمراد مرتبة الباقي - .

[5] من قرينة خاصة خارجة عن لفظ العام.

[6] خبر قوله: (كان تعين).

[7] أي: إن كان هناك ظهور، وكان هذا الظهور هو المعيّن لمرتبة الباقي، ولكن لا يوجد هذا الظهور؛ لأن الظهور إما بالوضع، ومفروض كلامنا أن العام بعد التخصيص مجاز، وإما بمقدمات الحكمة وهي مفقودة، وإما بقرينة خاصة والمفروض عدمها، ولا يوجد سبب آخر للظهور.

[8] أي: ظهور لفظ العام في الباقي وهو إحدى مراتب المجاز.

[9] لا عامة كمقدمات الحكمة، ولا خاصة.

[10] أي: ليس للظهور سبب آخر، فإن سبب الظهور إما الوضع وإما القرينة فقط.

[11] أي: دلالة العام. وهذا ردّ على ادعاء التقريرات بأن العام كان يدل على كل فرد بالتضمن، وحاصل الردّ: إن الدلالة التضمنية إنما تكون حين إرادة المعنى الحقيقي، ومع عدم إرادته لا دلالة على التضمن - كما مرّ شرحه - .

ص: 35

يوجب ظهوره[1] في تمام الباقي بعد عدم استعماله في العموم[2] إذا لم تكن هناك قرينة على تعيينه[3]. فالمانع عنه[4] وإن كان مدفوعاً بالأصل، إلاّ أنه لا مقتضي له بعد رفع اليد عن الوضع. نعم[5]، إنما يجدي[6] إذا لم يكن مستعملاً إلاّ في العموم[7]، كما في ما حققناه في الجواب، فتأمل جيداً.

فصل[8]:

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: ظهور العام.

[2] أي: بعد عدم استعمال العام في العموم، فبعد عدم إرادة المعنى المطابقي لا دلالة على المعنى التضمني.

[3] أي: تعيين الباقي، والمراد إذا لم تكن قرينة خاصة.

[4] أي: عن الدلالة على الباقي؛ وذلك لعدم وجود تخصيص آخر.

[5] أي: لو قلنا: إنّ العام بعد التخصيص ليس بمجاز، فحينئذٍ استعمل في المعنى الحقيقي - وهو الشمول لجميع الأفراد - فبالتضمن يدل على كل فرد فرد، فحينئذٍ يوجد المقتضي لشموله لجميع من تبقى بعد التخصيص، فهنا عدم المانع يجدي. أما بناءً على المجاز فإن عدم المانع لا يجدي؛ وذلك لعدم ثبوت المقتضي.

[6] أي: يجدي عدم المانع حين وجود المقتضي.

[7] أي: في المعنى الحقيقي.

فصل حجية أو عدم حجية العام بعد التخصيص بالمجمل

اشارة

[8] محل البحث هو ما إذا كان قدر متيقن داخل في العام، وقدر متيقن داخل في الخاص، وقدر مشكوك لا يعلم دخوله في أيٍ منهما.

أما لو لم يكن قدر متيقن أصلاً فهو خارج عن البحث في هذا الفصل، كما لو

ص: 36

إذا كان الخاص[1] بحسب المفهوم مجملاً[2] بأن كان[3] دائراً بين الأقل والأكثر، وكان منفصلاً، فلا يسري[4]

-----------------------------------------------------------------

قال: (أكرم العلماء إلاّ بعضهم) فلا يوجد قدر متيقن لا للخاص ولا للعام، فلا إشكال في أن العام يكون مجملاً حينئذٍ، وكذلك الخاص.

[1] إجمال الخاص قد يكون بحسب المفهوم وقد يكون بحسب المصداق، وكل واحد منهما قد يكون دوران بين الأقل والأكثر، وقد يكون بين المتباينين، وكل واحد منها إما الخاص متصل وإما منفصل، فالأقسام ثمانية.

الإجمال في مفهوم الخاص

[2] وصوره الأربعة مع أمثلتها:

1- المنفصل الدائر أمره بين الأقل والأكثر: كما لو قال: (أكرم العلماء) ثم قال: (لا تكرم فساق العلماء)، ولم يُعلم معنى الفاسق هل هو مرتكب الكبيرة أو يشمل مرتكب الصغيرة أيضاً؟ فهنا دوران بين الأقل والأكثر؛ لأن مرتكب الكبيرة فاسق قطعاً، ومرتكب الصغيرة مشكوك في فسقه.

2- المتصل الدائر أمره بين الأقل والأكثر: كالمثال إذا اتصل الخاص بأن قال: (أكرم العلماء إلاّ فساقهم).

3- المنفصل الدائر أمره بين المتباينين: كما لو قال: (لا تكرم الرجال) ثم قال: (أكرم عدول الرجال)، ودار أمر العدالة بين (حسن الظاهر) وبين (الملكة).

4- المتصل الدائر أمره بين المتباينين: كالمثال إذا اتصل بأن قال: (لا تكرم الرجال إلاّ عدولهم).

[3] بيان للصورة الأولى.

[4] أي: حكم هذه الصورة هو لزوم العمل بالعام في الأفراد المشكوكة، ففي المثال المذكور: مرتكب الصغيرة باقٍ تحت حكم العام - وهو وجوب الإكرام - .

ص: 37

إجماله إلى العام[1]، لا حقيقةً[2] ولا حكماً[3]، بل كان العام متبعاً في ما لا يتبع فيه الخاص[4]، لوضوح أنه[5] حجة فيه بلا مزاحم أصلاً، ضرورة[6] أن الخاص إنّما يزاحمه في ما هو حجة[7] على خلافه تحكيماً للنص أو الأظهر[8]

-----------------------------------------------------------------

والدليل: إن العام انعقد له ظهور في جميع الأفراد، ثم بمجيء الخاص خرج منه الأفراد المعلومة دخولها في الخاص، وأما الأفراد المشكوك دخولها في الخاص فلا يعلم خروجها من العام، فتبقى على حالها مشمولة لحكم العام.

وبعبارة أخرى: الخاص يقدم على العام؛ لأنه أقوى - بالنص أو الأظهرية - والفرد المشكوك لا ظهور للخاص فيه حتى يعارض ظهور العام فيه، ففي المشكوك يوجد ظهور للعام من غير ظهور مزاحم، فيجب التمسك بظهور العام.

[1] فيبقى ظهور العام، فيجب التمسك بظهوره في الفرد المشكوك.

[2] أي: لا يتغير معنى العام كي لا يشمل الفرد المشكوك، بل معنى العام باقٍ على ما هو عليه من المعنى الحقيقي، وهذا يرتبط بالإرادة الاستعمالية، أي: إن ظهور العام باقٍ.

[3] أي: لا يتغير حكم العام، بل حكم العام باقٍ على حاله شاملاً للفرد المشكوك، وهذا يرتبط بالإرادة الجديّة، أي: حجية العام باقية.

[4] ومنه الفرد المشكوك؛ لأنه لا يعلم شمول الخاص له، فيبقى تحت حكم العام.

[5] أي: لوضوح أن العام حجة في ذلك الفرد حيث انعقد ظهور للعام، ولا مزاحم له؛ لأن الخاص لا ظهور له في الفرد المشكوك.

[6] بيان لوضوح عدم المزاحمة.

[7] أي: ضرورة أن الخاص إنّما يزاحم العام في ما هو - أي: الخاص - حجة فيه على خلاف العام.

[8] إذا لم يحتمل الخلاف يكون (نصاً)، وإذا أحتمل الخلاف وهو أقوى من ظهور العام فيكون (أظهر).

ص: 38

على الظاهر[1]، لا في ما لا يكون كذلك[2]، كما لا يخفى.

وإن لم يكن كذلك[3] بأن كان دائراً بين المتباينين مطلقاً[4]، أو بين الأقل والأكثر في ما كان متصلاً[5]، فيسري إجماله إليه[6] حكماً في المنفصل المردد بين المتباينين، وحقيقةً في غيره[7].

أما الأول[8]: فلأن العام على ما حققناه كان ظاهراً في عمومه، إلاّ أنه لا يتبع

-----------------------------------------------------------------

[1] وهو العام، وهذا جمع دلالي عرفي؛ إذ بعد تعارض الخاص والعام يرجّح العرف الخاص على العام؛ لأنه أقوى - بالنص أو الأظهرية - .

[2] أي: لا يرجح الخاص في ما لا يكون الخاص أظهر أو نصاً، وما نحن فيه لا ظهور للخاص في الفرد المشكوك - فضلاً عن كونه نصاً أو أظهر - فيبقى ظهور العام بلا مزاحم.

[3] أي: لم يكن الخاص من الصورة الأولى - أي: المنفصل الدائر أمره بين الأقل والأكثر - .

[4] أي: سواء كان متصلاً أم منفصلاً - وهو الصورة الثالثة والرابعة - .

[5] وهو الصورة الثانية.

[6] أي: إجمال الخاص إلى العام.

[7] أي: غير المنفصل وهو المتصل، سواء كان الدوران بين المتباينين أم بين الأقل والأكثر.

[8] أي: المنفصل المردد بين المتباينين، وعلّة سريان الإجمال حكماً لا حقيقةً، هو أن العام انعقد له ظهور في الأفراد ثم علمنا بخروج أحد الفردين أو الصنفين حكماً، فيكون من موارد العلم الإجمالي، وحيث إن الشبهة محصورة وجب اتباع الاحتياط إن أمكن، وإلاّ فالتخيير. فلو كان حكم العام الوجوب وحكم الخاص الإباحة، أو العكس، فيحتاط بالإتيان بالفرد المشكوك. ولو كان حكم العام الحرمة

ص: 39

ظهوره في واحدٍ من المتباينين اللذين علم تخصيصه بأحدهما[1].

وأما الثاني[2]: فلعدم انعقاد ظهور من رأس للعام[3]، لاحتفاف الكلام بما[4] يوجب احتماله[5] لكل واحد من الأقل والأكثر، أو لكل واحدٍ من المتباينين، لكنه حجة في الأقل، لأنه المتيقن في البين.

فانقدح بذلك الفرق بين المتصل والمنفصل[6]، وكذا في المجمل بين المتباينين والأكثر

-----------------------------------------------------------------

وحكم الخاص الإباحة، أو العكس، فيحتاط بترك الفرد المشكوك. ولو كان أحدهما واجباً والآخر محرماً يتخير؛ لعدم إمكان الاحتياط.

[1] لأن العلم الإجمالي بتخصيص أحدهما يوجب سقوط حجية العام في الفردين المتباينين.

[2] أي: المتصل - سواء كان الدوران بين الأقل والأكثر، أم بين المتباينين - فإن إجمال الخاص يسري إلى العام حقيقة؛ وذلك لأنه لا ينعقد للعام عموم؛ لأن المخصص المتصل منع من انعقاد العموم - كما مرّ - فلا ظهور للعام في الفرد المشكوك أصلاً، وحينئذٍ: فإن كان من المتباينين فلا حجية للعام ولا للخاص فيه، بل نرجع إلى الأصول العملية.

وإن كان من الأقل والأكثر فكذلك في الأكثر؛ لعدم حجية أي منهما فيه، وأما الأقل فإنه متيقن الدخول في الخاص فلا إشكال فيه.

[3] أي: من الأساس لا ينعقد للعام ظهور في الشمول لجميع الأفراد، بل يكون عموم لما أريد من المدخول - وهو غير الخاص - كما مرّ.

[4] أي: بالخاص المتصل الذي يمنع انعقاد هذا الظهور.

[5] أي: احتمال لفظ العام.

[6] حيث ينعقد ظهور في المنفصل، فالخاص خارج عنه حكماً، ولا ينعقد ظهور في المتصل، فالخاص خارج حقيقة.

ص: 40

والأقل[1]، فلا تغفل.

وأما إذا كان مجملاً بحسب المصداق[2] - بأن اشتبه فرد، وتردد بين أن يكون فرداً له[3] أو باقياً تحت العام - : فلا كلام[4] في عدم جواز التمسك بالعام[5] لو كان متصلاً به[6]،

-----------------------------------------------------------------

[1] حيث إن الأقل قدر متيقن يتمسك به في الخاص، والأكثر مشكوك يجري فيه أحكام العلم الإجمالي، وكذلك في المتباينين يجري فيها أحكام العلم الإجمالي.

الإجمال في مصداق الخاص

[2] بأن كان مفهوم الخاص واضحاً، ولكن شك في انطباق الخاص على فرد من المصاديق، مثلاً: معنى الفسق معلوم لكن نشك في أنّ زيداً فاسق أم لا.

[3] أي: للخاص، وكذلك اسم كان في قوله: (كان مجملاً) أي: كان الخاص مجملاً.

[4] الأقسام المذكورة هنا أربعة، فإن الخاص: قد يكون متصلاً، وقد يكون منفصلاً، والمنفصل إما دليل لفظي وإما لبّي، واللبّي إما يجوز الاعتماد عليه في مقام البيان، وإما لا يصح الاعتماد عليه في مقام البيان فالمتحصّل هو:

1- المخصص المتصل.

2- المنفصل اللفظي.

3- المنفصل اللبّي الذي يمكن الاعتماد عليه في مقام البيان.

4- المنفصل اللبّي الذي لا يصح الاعتماد عليه في مقام البيان.

[5] وكذلك عدم جواز التمسك بالخاص؛ لأن انطباق الخاص عليه غير معلوم أيضاً.

[6] أي: لو كان الخاص متصلاً بالعام، ولا فرق بين أن يكون الدوران بين المتباينين أو بين الأقل والأكثر. فلو قال: (أكرم العلماء إلاّ الفساق) ولم نعلم بأن

ص: 41

ضرورة[1] عدم انعقاد ظهور للكلام إلاّ في الخصوص، كما عرفت.

وأما إذا كان منفصلاً عنه: ففي جواز التمسك به[2] خلاف[3].

والتحقيق عدم جوازه، إذ غاية ما يمكن أن يقال في وجه جوازه[4]: إن الخاص

-----------------------------------------------------------------

الفاسق (زيد أم عمرو)، أو لم نعلم بأن الفاسق (بكر) فقط، أم (بكر وخالد)، فكل من زيد وعمرو متباينين، وخالد من الأكثر. نعم، بكر قدر متيقن؛ فلذا يجري فيه حكم الخاص.

[1] وقد مرّ تفصيله، وحاصله: إنه في المتصل ظهور العام ليس في عموم الأفراد، بل في الخاص فقط، أي: يجب إكرام العلماء غير الفساق - في المثال - .

[2] أي: التمسك بالعام في الفرد المشكوك.

[3] فبعضهم(1)

على عدم الجواز مطلقاً، والبعض على الجواز مطلقاً، والبعض مفصل بين المخصص اللفظي واللبّي.

دليل المجوزين

[4] أي: جواز التمسك بالعام، وحاصل الدليل: هو أن العام شامل لجميع أفراده، وإنّما يقدم الخاص عليه لأنه أقوى؛ وذلك في ما علم أنه من الخاص، أما في المصداق المشكوك فلا يكون الخاص حجة فيه، فيبقى عموم العام شاملاً للفرد المشكوك من غير معارض.

ومثاله - كما عن الشهيد الثاني(2) - : وجوب قتل المرتد، خرج منه المرأة فإنها لا تقتل لأجل الارتداد، وأما الخنثى المشكل - غير معلوم كونها ذكراً أم أنثى - فإنها يجري عليها حدّ القتل؛ لدخولها تحت العام، وعدم معلومية شمول الخاص لها، ولا يخفى أن دليلهم إنما هو في الأقل والأكثر، لا في المتباينين.

ص: 42


1- الفصول الغروية: 199؛ قوانين الأصول 1: 265؛ درر الفوائد (للحائري): 216؛ نهاية الأفكار 2: 518؛ فوائد الأصول 2: 536.
2- الروضة البهية 8: 30 - 31.

إنما يزاحم العام في ما كان فعلاً حجّة[1]، ولا يكون[2] حجةً في ما اشتبه أنه من أفراده، فخطاب (لا تكرم فساق العلماء) لا يكون دليلاً على حرمة إكرام من شك في فسقه من العلماء، فلا يزاحم مثل (أكرم العلماء) ولا يعارضه[3]، فإنه يكون من قبيل مزاحمة الحجة بغير الحجة[4].

وهو في غاية الفساد[5]،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: ما وصل حجيته إلى مرتبة الفعلية - أي: مرتبة التنجز - فإن الحجية إنّما تكون لو تنجز الحكم، أما لو لم يتنجز - كما لو لم يعلم به المكلّف أو اشتبه عليه - فلا حجيّة.

[2] أي: الخاص لا يكون حجة في الفرد الذي يشتبه في كونه من أفراد الخاص؛ لأن الحجية فرع الفعلية - بمعنى التنجز - ولا فعلية في صورة الشك.

[3] إن كان الملاك في أحدهما فقط - أي: في العام أو الخاص - فيكون من باب التعارض، وإن كان الملاك في كليهما، ولكن ملاك الخاص أقوى يكون من باب التزاحم. والعام والخاص قد يكونان من المتزاحمين، وقد يكونان من المتعارضين.

[4] فالعام حجة في أفراده - ومنها الفرد المشكوك كونه من الخاص - والخاص ليس بحجة في المشكوك، فلا تزاحم، بل يقدم الحجة قطعاً.

رد دليل المجوزين

[5] حاصل الرد: هو أن الفرد المشكوك وإن كان داخلاً في العموم اللفظي للعام لكن العام ليس بحجة فيه؛ وذلك لأن الخاص يوجب اختصاص حكم العام بغير أفراد الخاص.

مثلاً في: (أكرم العلماء) و(لا تكرم فساق العلماء) حكم الإكرام يختص بالعلماء غير الفساق، فلا يكون العام حجة في الفرد المشكوك.

وبعبارة أخرى: المراد الجدي من (أكرم العلماء) هو إكرام العلماء غير الفساق،

ص: 43

فإن الخاص وإن لم يكن دليلاً في الفرد المشتبه فعلاً[1]، إلاّ أنّه[2] يوجب اختصاص حجية العام[3] في غير عنوانه[4] من الأفراد، فيكون (أكرم العلماء) دليلاً وحجة في العالم الغير الفاسق(1). فالمصداق المشتبه وإن كان مصداقاً للعام بلا كلام[5]، إلاّ أنه لم يعلم أنه[6]

-----------------------------------------------------------------

وحيث إن (زيداً) مشكوك الفسق فلا يعلم شمول العام له، كما لا يعلم شمول الخاص له، فلا يكون من تزاحم الحجة بغير الحجة، بل كلاهما غير حجة.

[1] أي: في ظرف الشك لا يكون الخاص دليلاً في الفرد المشتبه.

[2] أي: إلاّ أن الخاص يوجب حصر حكم العام في غير الخاص.

ولا يخفى أن المصنف لا يقول: إنّ العام يتعنون بعنوان غير الخاص - كما سيأتي بعد قليل - وإنّما يقول: إنّ الحكم ينحصر بغير الخاص، أي: لا يقول: إنّ موضوع العام يتضيّق، فيكون الموضوع (العلماء غير الفساق)، بل حكم العام يتضيّق، أي: وجوب الإكرام ينحصر في (العلماء غير الفساق)، فتأمل.

[3] بالإرادة الجدية؛ لأن الخاص وإن كان منفصلاً لفظاً لكنه متصل حين الإرادة. وبعبارة أخرى: المولى حين نطقه بالعام لم يكن يريد أفراد الخاص أصلاً، وإنما أخّر ذكر الخاص لمصلحة.

نعم، لو كان يريد أفراد الخاص، أو كان غافلاً عنهم - في الموالي العرفية - فإن كلامه الثاني لا يكون تخصيصاً، بل نسخاً، فانتبه.

[4] أي: في غير عنوان الخاص.

[5] أي: داخل في الإرادة الاستعمالية؛ لأن العام استعمل في معناه الحقيقي، وهو كل الأفراد والمصاديق. وكذلك ما هو مقطوع كونه من الخاص، فإنه مصداق للعام بالإرادة الاستعمالية، لكن بالإرادة الجدية لم يكن مراداً.

[6] أي: إلاّ أن الشأن لم يعلم أن المصداق المشتبه من مصاديق العام بما هو

ص: 44


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير الفاسق».

من مصاديقه بما هو حجة، لاختصاص حجيته بغير الفاسق[1].

وبالجملة: العام المخصص[2] بالمنفصل وإن كان ظهوره في العموم[3]، كما إذا لم يكن مخصصاً - بخلاف المخصص بالمتصل كما عرفت - إلاّ أنه[4] في عدم الحجية - إلاّ في غير عنوان الخاص - مثله. فحينئذٍ[5] يكون الفرد المشتبه غير معلوم الاندراج تحت إحدى الحجتين[6]، فلابد من الرجوع إلى ما هو الأصل في البين[7].

-----------------------------------------------------------------

حجة - أي: بما هو مراد بالإرادة الجدية - .

[1] وكذلك لا يجري عليه حكم الخاص؛ لاختصاص حجية الخاص بالفاسق، وهذا مشكوك أمره بين الفسق وعدمه.

[2] قوله: «العام المخصص»، مبتدأ وخبره قوله: (إلا أنه في... الخ).

[3] لأن اللفظ استعمل في ما وضع له وهو (العموم)، فلا فرق في معنى لفظ العام بين (العام المخصص) و(العام غير المخصص).

[4] أي: إلاّ أن العام المخصص بالمنفصل مثل المخصص في المتصل في أنّ حجيتهما منحصرة بغير الخاص، فالعام حجة في غير الخاص - في كليهما - .

[5] أي: بناءً على عدم الحجية.

[6] الحجتان هما: الخاص والعام، و(زيد) المشكوك فسقه داخل في الواقع إما تحت العام وإما تحت الخاص؛ لأنه إما فاسق أو غير فاسق، وحيث لم يعلم اندراجه تحت أي منهما فيكون من اشتباه الحجة بغير الحجة، فلابد من الرجوع إلى الأصل.

[7] لأن ترجيح أحدهما على الآخر بلا مرجح فيتساقطان، فلابد من الرجوع إلى الأصول العملية.

إن قلت: ما الفرق بين الشبهة المفهومية حيث أدرجتم المشكوك تحت العموم، وبين الشبهة المصداقية حيث لم تدرجوها فيه؟

ص: 45

هذا[1] إذا كان المخصص لفظياً.

وأما إذا كان لبّيّاً[2]: فإن كان[3] مما يصح أن يتّكل عليه المتكلم إذا كان بصدد البيان في مقام التخاطب[4]، فهو[5] كالمتصل، حيث لا يكاد ينعقد معه ظهور للعام

-----------------------------------------------------------------

قلت: في الشبهة المفهومية: الشك في أصل التخصيص فيرتفع بالأصل، فيبقى العام في المشكوك بلا معارض، فحين الشك في أن مرتكب الصغيرة فاسق أم لا، فلا علم بالتخصيص فيه أصلاً.

وأمّا في الشبهة المصداقية: فإن التخصيص معلوم، والمصداق لا يعلم اندراجه تحت أيٍّ من الحجتين.

[1] أي: كل ما ذكر من عدم حجية العام في المصداق المشكوك - في مورد الشبهة المصداقية - إنما هو في المخصص اللفظي.

المخصص اللبي

[2] (اللُب) هو العقل، والدليل اللبّي اصطلاح في الأدلة غير اللفظية، كالإجماع والسيرة والارتكاز مضافاً إلى دليل العقل.

[3] حاصل مختار المصنف: إن الدليل اللبّي المخصص قسمان:

الأول: ما يصح الاتكال عليه في مقام البيان؛ وذلك لشدة وضوحه وعدم الغفلة عنه - عادة - فإن هذا المخصص يكون كالمتصل، فلا ينعقد ظهور للعام في العموم.

مثلاً: لو قال: (حارب من في الدار)، وكان فيهم المهاجمون على المولى والمدافعون عنه، فإن القرينة القطعية تدل على أنه يريد المهاجمين لا المدافعين.

[4] بحيث إذا لم يذكره في كلامه لا يعتبر ناقضاً لغرضه، ولا يعتبر مؤخراً للبيان عن وقت الحاجة إذا حان وقتها.

[5] أي: هذا المخصص اللبّي، كالخاص اللفظي المتصل مانع عن انعقاد ظهور في العموم، بل ينعقد الظهور في الخصوص فقط.

ص: 46

إلاّ في الخصوص. وإن لم يكن كذلك[1]، فالظاهر بقاء العام في المصداق المشتبه على حجيته كظهوره فيه[2].

والسر في ذلك[3]: أن الكلام[4]

-----------------------------------------------------------------

[1] هذا القسم الثاني: وهو المخصص اللبّي الذي لا يمكن الاعتماد عليه في مقام التخاطب؛ وذلك في ما لا يلتفت أكثر الناس إليه، كما لو كان متوقفاً على مقدمات تحتاج إلى نظر وتأمل ومراجعة.

مثلاً: الحديث الشريف: (لعن الله بني أمية قاطبة)(1)

خُصِّص بالدليل اللبّي الدال على عدم شموله للمؤمنين من بني أمية، والعلم بهذا المخصص يحتاج إلى مراجعة في الأدلة وإعمال نظر.

[2] أي: كما أن لفظ العام شامل لجميع الأفراد فيشمل المصاديق المشكوكة، كذلك حكم العام وحجيته باقٍ في تلك المصاديق المشكوكة.

[3] أي: في حجية العام في المصداق المشتبه إذا كان المخصص اللبّي مما لا يصح الاعتماد عليه في مقام التخاطب.

وقد أقام المصنف ثلاثة أدلة على حجية العام:

الأول: إن الحجة الملقاة من المولى هي العام فقط بلا معارض.

الثاني: استحقاق العقاب لو ترك الفرد المشكوك.

الثالث: بناء العقلاء.

ولا يخفى أنه كلما ذكرنا - من الآن فصاعداً - المخصص اللبّي نريد هذا القسم الثاني.

الدليل الأول

[4] حاصل الدليل: إنه لا يوجد في الفرد المشكوك إلاّ حجة واحدة، وهي العام من غير معارض؛ لأن الخاص ليس بحجة حين الشك.

ص: 47


1- كامل الزيارات: 176؛ بحار الأنوار 98: 292.

الملقى من السيد حجة[1] ليس إلاّ ما اشتمل على العام[2] الكاشف[3] بظهوره عن إرادته للعموم، فلابد من اتباعه ما لم يقطع بخلافه[4]. مثلاً، إذا قال المولى: (أكرم جيراني)، وقطع[5] بأنه لا يريد إكرام من كان عدواً له منهم، كان أصالة العموم باقية على الحجية بالنسبة إلى من لم يعلم بخروجه عن عموم الكلام، للعلم بعداوته[6]، لعدم[7]

-----------------------------------------------------------------

بيانه: إن الدليل اللبي لا يكون دليلاً إلاّ في صورة القطع، فمع عدم القطع ينتفي الدليل اللبّي من رأس؛ ولذا يقولون بالأخذ فيه بالقدر المتيقن فقط لا غير. فالفرد المشكوك لا يشمله الخاص - لأنه لبيّ - ويشمله العام؛ لأن لفظ العام ظاهر في جميع أفراده، ثم إن حجية العام فيه من غير معارض، فيلزم التمسك بالعام فيه.

[1] «حجة» مفعول لأجله، أي: الكلام الملقى لأجل أن يكون حجة على العبد، و«ليس إلاّ... الخ» خبر قوله: (أن الكلام... الخ).

[2] أي: الخاص ليس بحجة في الفرد المشكوك، بل الحجة فقط هو العام بلا مزاحم.

[3] أي: الظهور يكشف عن المراد، وبعبارة أخرى: الإرادة الاستعمالية تكشف عن الإرادة الجدية؛ ولذا قالوا: إن الظواهر حجة وعليه بناء العقلاء.

[4] لأن الخاص يجري في المقطوع فقط، لما ذكرنا من أن حجية الأدلة اللبّية تنحصر في الفرد المتيقن، ولا تشمل الفرد المشكوك.

[5] منشأ القطع هو القرائن الحالية المنفصلة عن الكلام.

[6] أي: منشأ الخروج عن عموم الكلام هو (العلم بعداوته)، فقوله: «للعلم...» علّة للمنفيّ.

[7] علّة حجية العموم في الفرد المشكوك، وحاصل الكلام: إن الخاص هو (معلوم العداوة) فقط، فلا يشمل مشكوك العداوة، فلا يكون الخاص حجة في المشكوك، فيبقى العام شاملاً له وحجة فيه من غير معارض.

ص: 48

حجة أخرى بدون ذلك على خلافه[1]. بخلاف ما إذا كان المخصص لفظياً[2]، فإن قضية تقديمه عليه[3] هو كون الملقى إليه كأنه[4] كان - من رأس - لا يعم الخاص، كما كان كذلك حقيقةً[5] في ما كان الخاص متصلاً. والقطع[6] بعدم إرادة العدو لا يوجب[7]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: لا حجة بدون العلم بالعداوة على خلاف العموم، حتى نقول بتعارض الحجتين في الفرد المشكوك.

[2] أي: في صورة كون المخصص لفظياً فإن هنالك حجتان، وهما العام والخاص، فيتعارضان في الفرد المشكوك فيتساقطان.

[3] أي: تقديم الخاص على العام مقتضاه هو أن العام لم يكن حجة في الخاص أصلاً؛ لأن المراد الجدي لم يكن شمول العام لأفراد الخاص.

[4] أي: كون العام الملقى إلى العبد، كأنّ ذلك العام لا يشمل الخاص أصلاً. والحاصل: إن لفظ العام وإن كان ظاهراً في جميع الأفراد، لكن المولى لم يريد أفراد الخاص أصلاً.

[5] أي: كما كان العام من رأس لا يعم الخاص - وذلك لعدم انعقاد ظهور للعام في العموم - إذا كان الخاص متصلاً.

دفع وهم

[6] حاصل التوهم: هو عدم الفرق بين المخصص اللفظي والمخصص اللبّي، فكما أن الخاص اللفظي يوجب القطع بعدم إرادته، كذلك الخاص اللبّي يوجب القطع بعدم إرادته، فما هو الفرق بينهما؟

[7] جواب عن التوهم، وحاصله: إن الخاص اللبي يُخرِج الأفراد المقطوعة فقط، وبعبارة أخرى: الخاص هو (مقطوع العداوة) في المثال، فلا يكون حجة في مشكوك العداوة أصلاً، فالقطع أخذ في موضوع الخاص، بخلاف المخصص

ص: 49

انقطاع حجيته[1] إلاّ في ما قطع أنه عدوّه، لا في ما شك فيه، كما يظهر[2] صدق هذا[3] من صحة مؤاخذة المولى له لو لم يكرم واحداً من جيرانه لاحتمال عداوته له، وحسن عقوبته[4] على مخالفته، وعدم صحة الاعتذار عنه[5] بمجرد احتمال العداوة، كما لا يخفى على من راجع الطريقة المعروفة والسيرة المستمرة المألوفة بين العقلاء التي هي[6] ملاك حجية أصالة الظهور.

-----------------------------------------------------------------

اللفظي، فإن القطع لم يؤخذ في موضوعه.

[1] أي: حجية العام، إلاّ فيمن قطع العبد أنه عدو المولى.

الدليل الثاني

[2] وهو دليل وجداني وحاصله: إن العبد لو ترك الفرد المشكوك في المخصص اللبّي صحة مؤاخذته، وصحة المؤاخذة دليل على أن العام حجة في الفرد المشكوك؛ إذ لو لم يكن حجة لما صحة المؤاخذة. وهذا بخلاف المخصص اللفظي، حيث لا تصح مؤاخذة العبد لو ترك الفرد المشكوك.

[3] أي: حجية العام في الفرد المشكوك إذا كان الخاص لبيّاً.

[4] الفرق بين (صحة المؤاخذة) و(حسن العقوبة) أن الأول في العتاب، والثاني في العقاب، وضمير «عقوبته» و«مخالفته» راجع إلى العبد.

[5] أي: لا يقبل عذر العبد عن عدم إكرام مشكوك العداوة.

[6] أي: سيرة العقلاء هي سبب حجية الظهور، بعد أن لم يجعل الشارع طريقة خاصة به، بل سار على نفس طريقتهم كما قال تعالى: {مَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ}(1).

فالحاصل: إن سيرة العقلاء استقرت على حجية الظهور حتى مع احتمال الخلاف، وهنا حتى مع احتمال العداوة فإنهم يعتبرون العام حجة، بخلاف ما إذا كان الخاص لفظياً.

ص: 50


1- سورة إبراهيم، الآية: 40.

وبالجملة[1]: كان بناء العقلاء على حجيتها[2] بالنسبة إلى المشتبه هاهنا[3]. بخلاف هناك[4]. ولعله[5] لما أشرنا إليه من التفاوت بينهما[6] بإلقاء حجتين هناك[7] تكون قضيتهما بعد تحكيم الخاص وتقديمه على العام كأنه لم يعمه حكماً[8]

-----------------------------------------------------------------

الدليل الثالث

[1] حاصل الدليل هو: أن بناء العقلاء استقر على حجية العام في الفرد المشتبه لو كان المخصص لبياً، بخلاف ما إذا كان المخصص لفظياً فلم يعتبروه حجة.

[2] أي: حجية أصالة الظهور.

[3] أي: بالنسبة إلى المصداق المشكوك، «هاهنا» أي: في الخاص اللبّي.

[4] أي: في المخصص اللفظي لا يوجد بناء للعقلاء في حجية العام في الفرد المشكوك.

[5] أي: لعل بناء العقلاء ناشئ مما ذكرناه في الدليل الأول، حيث قلنا: إنه في الخاص اللفظي تتعارض حجتان، وفي الخاص اللبي لا حجة إلاّ العام، ومن هنا يرجع المصنف إلى شرح الدليل الأول، وكان الأولى تقديم هذه الفقرة هناك.

[6] أي: بين المخصص اللفظي والمخصص اللبي.

[7] أي: في المخصص اللفظي، والحجتان هما: العام والخاص، «قضيتهما» أي: مقتضى الحجتين، والمراد أن مقتضى الجمع بين الحجتين هو تقديم الخاص على العام لأنه أقوى، وحينئذٍ فإنّ أفراد الخاص لم تكن مرادة في العام أصلاً، ففي قوله: (أكرم العلماء) ثم (لا تكرم فساق العلماء) مقتضى الجمع هو أن نقول: إن (أكرم العلماء) لا يراد فيه فساق العلماء أصلاً، ففي الفرد المشكوك مصداقاً تتعارض الحجتان.

[8] أي: كأن العام لم يشمل الخاص، وعدم الشمول في الحكم بمعنى أن حكم العام لا يشمل الخاص.

ص: 51

من رأس، وكأنه لم يكن بعام؛ بخلاف هاهنا[1]، فإن الحجة الملقاة ليست إلاّ واحدة[2]، والقطع بعدم إرادة إكرام العدو في (أكرم جيراني) - مثلاً - لا يوجب رفع اليد عن عمومه[3] إلاّ في ما قطع بخروجه من تحته[4]، فإنه[5] على الحكيم إلقاء كلامه على وفق غرضه ومرامه، فلابد من اتباعه[6] ما لم تقم حجة أقوى على خلافه.

بل يمكن أن يقال[7]:

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: بخلاف المخصص اللبيّ.

[2] وهي العام، حيث إن المولى لم يذكر الخاص، وإنّما استفيد الخاص من دليل آخر غير لفظي.

[3] أي: عموم العام، وهو (أكرم جيراني).

[4] أي: إلاّ في المصداق المقطوع بأنه خارج من العام؛ وذلك لأن الدليل اللبّي حجة في المقطوع فقط، ولا حجية له في المشكوك - كما مرّ تفصيله - .

[5] حاصله هو: إن الحكيم حينما يُلقي كلاماً فإنه يريد ظاهر هذا الكلام، ولو لم يكن هذا الظاهر مراداً فلابد من إقامة قرينة، وحيث لم يقم هنا قرينة نكتشف من الظاهر مراده الجدي، وهو عمومية العام للفرد المشكوك.

[6] أي: اتباع كلام الحكيم بمعنى اتباع ظاهر كلامه.

إخراج المشتبه من موضوع الخاص

[7] أي: لو كان المخصص لبيّاً فإنه كما نتمسك بالعام في حكم الفرد المشتبه، كذلك يمكن التمسك بالعام لإخراج الفرد المشتبه موضوعاً من الخاص، وإدخاله موضوعاً في العام. مثلاً: العام هو (اللهم العن بني أمية قاطبة)، والخاص اللبي هو (لا يُلعن المؤمن من بني أمية)، ففي الأموي المشتبه أنه مؤمن أم لا، كما نقول: إنّه داخل في حكم العام، أي: جواز اللعن، كذلك نقول: إنّه داخل في موضوع

ص: 52

إن قضية عمومه للمشكوك[1] أنه[2] ليس فرداً لما[3] علم بخروجه من حكمه بمفهومه[4]، فيقال في مثل «لعن الله بني أمية قاطبة»(1):

«إن فلاناً وإن شك في إيمانه يجوز لعنه» لمكان العموم[5]، وكل من جاز لعنه لا يكون مؤمناً[6]، فينتج أنه ليس بمؤمن، فتأمل جيداً[7].

-----------------------------------------------------------------

العام، أي: إن هذا الإنسان ليس بمؤمن، وحيث ثبت عدم إيمانه يترتب عليه جميع آثار غير المؤمن.

[1] أي: عموم حكم العام للمصداق المشتبه.

[2] أي: إن المشكوك، والجملة خبر لقوله: (إن قضيّة...).

[3] أي: للخاص المعلوم خروجه عن حكم العام.

[4] أي: بسبب معناه، و«بمفهومه» متعلق ب- (خروجه) فالمعنى: المشكوك ليس فرداً للخاص الذي علمنا بخروجه مفهوماً عن حكم العام. فمقطوع الإيمان خرج بمفهومه عن حكم العام، وهو جواز لعن بني أمية قاطبة.

[5] أي: لأجل شمول العموم لهذا الفرد المشكوك من غير أن يشمله الخاص اللبي.

[6] وذلك لعدم جواز لعن المؤمن، فالأموي المشكوك الإيمان يجوز لعنه، ومن جواز لعنه نكتشف عدم إيمانه بالدليل الإنّي.

[7] لكن لا يخفى عدم الفرق بين المخصص اللبي واللفظي، وما ذكره المصنف من الأدلة الثلاثة لا تعدو الادعاء من غير إقامة برهان عليها.

وأيضاً (عدم جواز لعن المؤمن) ليس بالدليل اللبي، بل قامت الأدلة اللفظية على عدم جوازه، فتكون النسبة بين (عدم جواز لعن المؤمن) و(جواز لعن الأموي) هي العموم من وجه.

ص: 53


1- كامل الزيارات: 176.

إيقاظ [1]: لا يخفى: أن الباقي تحت العام بعد تخصيصه بالمنفصل أو كالاستثناء من المتصل[2]

-----------------------------------------------------------------

وأيضاً العلم بوجود مؤمنين في بني أمية ك- (سعد الخير)(1) يوجب تخصيص اللعن بغير المؤمن، فالعام وهو (العن بني أمية قاطبة) تنحصر حجيته بغير المؤمنين منهم، فتأمل.

إيقاظ
إحراز المشتبه باستصحاب العدم الأزلي

[1] الغرض هو تنقيح أصل يحرز به حال المصداق المشتبه، وحاصل الكلام: إن العام ليس بحجة في المصداق المشتبه؛ لتعارض حجيته مع حجية الخاص اللفظي، ولكن هنا أصل نحرز به أن الفرد المشتبه هو مصداق للعام، فيجري عليه حكم العام.

وبعبارة أخرى: الموضوع يُحرز بالأصل، والحكم يؤخذ من الدليل المثبت للحكم للعام. وهذا الأصل الموضوعي هو استصحاب العدم الأزلي.

[2] أي: في ما انعقد ظهور لفظي للعام في كل الأفراد، وكان الخاص بلسان الإخراج - أي: إخراج أفراد الخاص من العام - فالمنفصل مثل: (أكرم العلماء) ثم قوله: (لا تكرم فساق العلماء)، وأما المتصل الذي هو بلسان الإخراج مثل: (أكرم العلماء إلاّ فساقهم). فإن استصحاب عدم الفسق يُجدي في اعتبار الفرد المشكوك غير داخل في الخاص، فيجري عليه أحكام العام - الإكرام في المثال - حيث إنه مصداق للعام؛ وذلك لأن العام - وهو (أكرم العلماء) - يشمل كل العلماء الذين لا ينطبق عليهم صفة الفسق، فباستصحاب عدم الفسق نُخرج الفرد المشكوك عن الخاص.

ص: 54


1- الاختصاص: 85.

لما كان غير معنون بعنوان خاص[1]، بل بكل عنوان[2] لم يكن ذاك بعنوان الخاص، كان[3] إحراز المشتبه[4] منه بالأصل الموضوعي[5] في غالب الموارد - إلاّ ما شذّ[6] -

-----------------------------------------------------------------

أما لو كان من المتصل الذي هو ليس بلسان الإخراج، بل مما كان يوجب تعنون العام بعنوان الخاص، كالوصف في مثل: (أكرم العلماء العدول) فإن استصحاب عدم العدالة لا يُجدي في إدخال الفرد المشكوك في الموضوع، بل بالعكس يخرجه عن الموضوع.

[1] لأنه على رأي المصنف لا يتعنون العام بعنوان الخاص، بل يبقى العام على عنوانه الكلي، فيدخل فيه جميع العناوين سوى عنوان الخاص، ففي المثال: (أكرم العلماء) يشمل جميع العلماء بجميع أوصافهم وعناوينهم سوى عنوان الفسق، فلا يشمل (العلماء الفساق).

[2] المقصود بقاؤه على كليته، فيجتمع مع كل عنوان سوى عنوان الخاص - الفسق في المثال - .

[3] جزاء قوله: (لما كان غير... الخ).

[4] أي: إحراز أنه ليس فرداً للخاص، فتكون حجية العام في الفرد المشتبه من غير معارض.

[5] أي: الأصل الذي يثبت الموضوع، أي: دخول الفرد المشتبه في موضوع العام. وليس هذا الأصل بمثبت؛ لأنا لا نريد إجراء حكم العام بهذا الأصل حتى يقال أصالة عدم الفسق لا تثبت وجوب الإكرام، بل نريد بهذا الأصل إدخال الفرد المشكوك في موضوع العام، وحينما دخل الفرد في موضوع العام يجري عليه حكم العام، وهو الإكرام لا بالأصل، بل بدليل وجوب الإكرام، وهو (أكرم العلماء).

[6] وهي موارد توارد الحالتين مع عدم العلم بالسابق منهما، كمن كان فاسقاً لفترة وعادلاً لفترة أخرى، فإنه لا يجري استصحاب العدم الأزلي؛ لانقطاعه باليقين بالفسق في زمانٍ ما.

ص: 55

ممكناً، فبذلك[1] يحكم عليه بحكم العام وإن لم يجز التمسك به[2] بلا كلام، ضرورة[3] أنه قلّما لا يوجد[4] عنوان يجري فيه أصل ينقّح به أنه[5] مما بقي تحته. مثلاً[6]: إذا شك أن امرأة تكون قرشية فهي وإن كانت وجدت إما قرشية أو غيرها[7]،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: بهذا الأصل الموضوعي، «عليه» أي: على الفرد المشكوك.

[2] أي: بالعام، حيث إنه لا يجوز التمسك بالعام إبتداءً؛ لأنه تمسك في العام بالشبهة المصداقية. نعم، بالأصل نحرز فردية المشكوك للعام، ثم نجري عليه حكم العام.

[3] دليل إحراز المشتبه بالأصل الموضوعي غالباً.

[4] أي: الموارد التي لا يوجد فيها أصل موضوعي قليلة، بل في غالب الموارد يوجد أصل موضوعي.

[5] أي: ينقح بذلك الأصل أن الفرد المشتبه مما بقي تحت العام.

[6] العام: هو حيض المرأة إلى الخمسين، والدم بعد الخمسين يكون استحاضة حتى لو كان بأوصاف الحيض، والخاص: هو كون حيض القرشية إلى الستين. والمرأة المشكوك كونها قرشية تدخلها في العام، باستصحاب العدم الأزلي - أي: استصحاب عدم انتسابها إلى قريش - فيجري عليها حكمه.

ولا يخفى أن الدم أمر تكويني، لكن كونه حيضاً أو استحاضة هو اعتبار شرعي، حيث إنه لو استمر الدم بعد الخمسين اعتبره الشرع حيضاً في القرشية والنبطية، واعتبره استحاضة في غيرهما.

[7] لأن الإنسان يولد وهو منسوب إلى آبائه قطعاً، فالصفة الوجودية لا حالة سابقة لها، ومراده من قوله: «غيرها» أي: الانتساب إلى قبيلة أو قوم آخرين غير قريش، كتميم أو هذيل.

ص: 56

فلا أصل يحرز[1] أنها قرشية أو غيرها، إلاّ[2] أن أصالة عدم تحقق الانتساب بينها وبين قريش تجدي في تنقيح[3] أنها ممن لا تحيض إلاّ إلى خمسين، لأن المرأة التي لا يكون بينها وبين قريش انتساب[4] أيضاً باقية تحت ما دل على أن المرأة إنما ترى الحمرة[5] إلى خمسين، والخارج عن تحته هي القرشية، فتأمل تعرف.

وهم وإزاحة[6]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: ليس لنا أصل وجودي يثبت أنها قرشية أو تميمية أو هذلية أو أعجمية ونحوها.

[2] أي: لكن لنا أصل عدمي ننفي به نسبتها لقريش، وهو استصحاب العدم الأزلي، وهذا الاستصحاب له أثر، لأنه ينقح موضوعاً له حكم شرعي.

[3] أي: تفيد في إخراج المرأة المشتبه من عنوان الخاص وإدخالها في العام.

[4] بحكم الأصل الموضوعي، «أيضاً» أي: كالمرأة المقطوع بأنها ليست قرشية حكمهما واحد.

[5] أي: الحيض، وكما ذكرنا ليس المراد عدم رؤية الدم خارجاً حتى يستشكل بعدم وجدان الفرق بين القرشية وغيرها، بل المراد اعتبار الدم حيضاً أو استحاضة.

وهم وإزاحة

[6] حاصله: إنه يمكن التمسك بعمومات العناوين الثانوية لإدخال المصداق المشكوك في العام، فيمكن تصحيح كل عمل مشكوك الصحة، بمثل: (أوفوا بالنذور).

فالوضوء بماء الورد مشكوك صحته، فلو نذره شمله عمومات وجوب الوفاء بالنذر، فيجب هذا الوضوء، ومن هذا الوجوب نكتشف صحته؛ لأن وجوب الوفاء يدل على أن العمل صحيح؛ إذ لا يجب الوفاء بالعمل الفاسد. والشك لم يكن لأجل تخصيص أدلة وجوب الوفاء بالنذر، وإنّما منشؤه هو عدم العلم بصحة

ص: 57

ربما يظهر عن بعضهم التمسك بالعمومات[1] في ما إذا شك في فرد[2] لا من جهة احتمال التخصيص بل من جهة أخرى[3]، كما إذا شك في صحة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف[4]، فيستكشف صحته[5] بعموم مثل: (أوفوا بالنذور)[6] في ما إذا وقع[7] متعلقاً للنذر، بأن يقال: وجب الإتيان بهذا الوضوء وفاءً للنذر

-----------------------------------------------------------------

هكذا وضوء - هذا ما يظهر من عبارة المصنف - .

ويمكن إجراء هذا البحث بطريقة أخرى فنقول: العام - وهو الوضوء - له أفراد معلومة، ونشك في أن الوضوء بماء الورد هل هو من مصاديق الوضوء أم لا؟ فبنذره يجب الوفاء به، ومنه نكتشف صحة هذا الوضوء، فتأمل.

[1] أي: عمومات العناوين الثانوية.

[2] أي: في حكم فرد مع علمنا بأنه مصداق للعام.

[3] أي: من جهة الشك في صحة ذلك الفرد بالعناوين الأولية.

وبعبارة أخرى: نشك في مصداقية هذا الفرد لعنوان من العناوين الأولية، فنتمكن بعمومات العناوين الثانوية من اكتشاف فرديته لذلك العنوان الأوليّ. فالوضوء بالماء المضاف مشكوك كونه من أفراد الوضوء - وهذا عنوان أولي - فهو شبهة مصداقية، لكن بعمومات أدلة وجوب الوفاء بالنذر - وهي من العناوين الثانوية - نكتشف أنه فرد من أفراد الوضوء.

[4] ومنشأ الشك هو الروايات المتعارضة، وإفتاء مثل الصدوق بصحة الوضوء بماء الورد(1) - مثلاً - .

[5] أي: صحة الوضوء بالمضاف وكذلك الغسل.

[6] لم يرد هذا النص في الروايات، وإنما ورد معناه فيها.

[7] أي: وقع الوضوء بالمضاف وكذلك الغسل.

ص: 58


1- الهداية: 65.

للعموم[1]، وكل ما يجب الوفاء به لا محالة يكون صحيحاً[2]، للقطع[3] بأنه لو لا صحته لما وجب الوفاء به[4].

وربما يؤيد ذلك[5] بما ورد من صحة الإحرام والصيام قبل الميقات[6] وفي السفر[7] إذا تعلق بهما النذر كذلك[8].

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: عموم أدلة وجوب الوفاء بالنذر.

[2] لما ثبت في محله بأنه لا يجب الوفاء بالعمل الفاسد؛ لأن العمل الفاسد لا رجحان فيه، ومتعلق النذر يجب أن يكون راجحاً.

[3] منشأ هذا القطع هو الاتفاق، مضافاً إلى لزوم رجحان متعلق النذر، «بأنه» أي: بأن كل ما يجب الوفاء به.

[4] وصورة الدليل، كما عن التقريرات(1):

1- الصغرى: هذا الفرد من الوضوء يجب الوفاء به؛ لعموم قوله: أوفوا بالنذور.

2- الكبرى: وكل ما يجب الوفاء به يجب أن يكون صحيحاً.

3- النتيجة: فيجب أن يكون الوضوء صحيحاً.

[5] أي: اكتشاف صحة العمل المشكوك بواسطة عموم الأدلة الثانوية.

[6] فإن الإحرام قبل الميقات باطل، لكن لو نذره صح للروايات الخاصة في المقام، فإن العنوان الثانوي - وهو النذر - صحَّح ما كان باطلاً قبله.

[7] فإن الصوم في السفر باطل، ولا يجوز - تشريعاً - لكن يصح نذر الصوم في السفر، في غير صوم شهر رمضان، فإنه لا يصح بالنذر.

[8] أي: تعلق النذر بالصوم في السفر، والإحرام قبل الميقات.

ولا يخفى أن قول المصنف: (وربما يؤيد ذلك) فرض خارج عن البحث؛ لأن الكلام في تصحيح عمل مطلقاً بالعنوان الثانوي، والمثالان إنما يصححان العمل في

ص: 59


1- مطارح الأنظار 2: 148.

والتحقيق[1] أن يقال: إنه لا مجال لتوهم الاستدلال بالعمومات المتكفلة لأحكام العناوين الثانوية في ما شك من غير جهة تخصيصها إذا[2] أخذ في موضوعاتها[3] أحد الأحكام المتعلقة بالأفعال بعناوينها الأولية، كما هو الحال في وجوب إطاعة الوالد والوفاء بالنذر وشبهه[4] في الأمور المباحة[5]

-----------------------------------------------------------------

صورة النذر فقط، ولعله لذا قال المصنف: (وربما يؤيّد)، فتأمل.

تحقيق المصنف لرد التوهم

[1] حاصل تحقيق المصنف هو: أن العناوين الثانوية قسمان:

الأول: ما يطرأ على الشيء بشرط كونه محكوماً بحكم حسب عنوانه الأولي، كالنذر، فإنه إنما يصح لو كان الشيء راجحاً بأن كان واجباً أو مستحباً، وفي هذا القسم لا يمكن التمسك بالعنوان الثانوي لتصحيح الشيء؛ للزومه الدور - كما سيتضح بعد قليل - .

الثاني: ما يطرأ على الشيء مطلقاً، ولا ينظر إلى عنوانه الأولي، كالضرر والحرج ونحوهما، فإنها تعرض الأشياء مع قطع النظر عن عناوينها الأولية، فقد تعرض على الواجب أو الحرام أو المستحب أو المكروه أو المباح.

وفي هذا القسم يمكن التمسك بهذه الأدلة لإثبات جواز العمل إذا كان ملاك هذه الأدلة أقوى من ملاكات العناوين الأولية.

القسم الأول

[2] إشارة إلى القسم الأول.

[3] أي: موضوعات العناوين الثانوية، كالنذر الذي أخذ في موضوعه أن يكون راجحاً بعنوانه الأولي، فنذر صلاة الليل صحيح؛ لأنها راجحة بعنوانها الأولي.

[4] أي: شِبه النذر، كالعهد واليمين.

[5] متعلق ب- (وجوب إطاعة الوالد) أي: هذا الحكم الثانوي إنّما يطرأ لو كان

ص: 60

أو الراجحة[1]، ضرورة[2] أنه - معه[3] - لا يكاد يتوهم عاقل أنه إذا شك في رجحان شيء أو حليته جواز[4] التمسك بعموم دليل وجوب الإطاعة أو الوفاء في رجحانه أو حليته.

نعم[5]،

-----------------------------------------------------------------

العمل مباحاً.

[1] متعلق ب- (الوفاء بالنذر)، وأما شبه النذر، فالعهد أيضاً يجب أن يكون متعلقه راجحاً، وأما اليمين فيكفي في صحته إباحة العمل.

[2] دليل لقوله: (لا مجال لتوهم الاستدلال... الخ). وحاصله: هو أن التمسك بهذه العمومات يستلزم الدور؛ وذلك لأن صحة النذر تتوقف على رجحان متعلقه، فلو توقف رجحان المتعلّق على صحة النذر دار.

وبعبارة أخرى - كما في الوصول - : (إنّ الحكم بوجوب الإطاعة والوفاء متوقف على الموضوع الذي هو الجواز أو الرجحان، فلو توقفا على الوجوب لزم توقف الشيء على نفسه، ولذا قالوا: إن الحكم لا يتكفل لبيان الموضوع)(1)،

انتهى.

[3] أي: إن الشأن مع اشتراط كون الشيء له حكم أولي.

[4] مفعول (يتوهم عاقل)، أي: لا يتوهم عاقل جواز التمسك بتلك العمومات؛ وذلك لأن هذا التمسك يستلزم الدور الصريح، وهو محال بضرورة العقل.

القسم الثاني

[5] إشارة إلى القسم الثاني، وحاصل الكلام: إن هذا القسم فيه صورتان:

الصورة الأولى: ما لم يعلم حكمه بعنوانه الأولي، فحينئذٍ نتمسك بأدلة العناوين الثانوية - كالضرر والحرج - في جوازه، بلا مزاحمة.

ص: 61


1- الوصول إلى كفاية الأصول 3: 148.

لا بأس بالتمسك به في جوازه[1] بعد إحراز التمكن منه والقدرة عليه[2] في ما[3] لم يؤخذ في موضوعاتها حكم أصلاً، فإذا شك في جوازه[4] صح التمسك بعموم دليلها[5] في الحكم بجوازها[6]. وإذا[7] كانت محكومة بعناوينها الأولية بغير حكمها بعناوينها الثانوية وقع المزاحمة بين المقتضيين، ويؤثر الأقوى منهما[8] لو كان في البين،

-----------------------------------------------------------------

الصورة الثانية: ما علم حكمه الأولي، وحينئذٍ يتزاحم مقتضى الحكم الأولي مع مقتضى الحكم الثانوي.

[1] أي: التمسك بعموم الدليل في جواز الفرد المشكوك، وهذا هو الصورة الأولى.

[2] لعل اشتراط إحراز التمكن والقدرة لأجل أنه لا معنى للجواز إذا لم يكن قادراً، مثلاً: من فقد الماء في صحراء إلى أن أشرف على الموت لا يصح أن يقال حلّ له شرب الخمر في ما لو كان فاقداً لها؛ لأنه مع فقدان الخمر لا يصح أن يقال: إنه اضطر إليها، فتأمل.

[3] أي: في الأحكام الثانوية لم يؤخذ في موضوعاتها حكم أصلاً، وعدم الأخذ بمعنى جريان الحكم الثانوي مطلقاً مع قطع النظر عن الحكم الأولي، فإنه في مثل دليل الضرر والحرج يجري الحكم الثانوي، سواء كان الحكم الأولي الوجوب أم الحرمة أم غيرهما من الأحكام.

[4] أي: في جواز الشيء، كما لو شك في جواز شرب الخمر للمضطر.

[5] أي: دليل الأحكام الثانوية.

[6] أي: بجواز الشيء الذي عمّه موضوع الأحكام الثانوية، والأولى تذكير ضمير «جوازها» لرجوعه إلى (الشيء).

[7] إشارة إلى الصورة الثانية من القسم الثاني، «كانت» أي: الموضوعات التي تعلق بها الحكم الثانوي.

[8] ففي مثل: الوضوء الضرري، مقتضى الضرر أقوى فلذا يسقط الوضوء.

ص: 62

وإلاّ[1] لم يؤثر أحدهما، وإلاّ[2] لزم الترجيح بلا مرجح[3]، فليحكم عليه حينئذٍ[4] بحكم آخر - كالإباحة[5] - إذا كان أحدهما مقتضياً للوجوب والآخر للحرمة مثلاً[6].

وأما صحة الصوم[7]

-----------------------------------------------------------------

وفي مثل الجهاد، مقتضى الجهاد أقوى من مقتضى الضرر؛ لأن حكم الجهاد وضع في مورد الضرر، ولا يرتفع بالضرر الحكم الذي وضع في مورده.

[1] أي: وإن لم يكن أقوى في البين، بل تساويا.

[2] أي: إن أثر أحدهما.

[3] وهو محال لرجوعه إلى الترجح بلا مرجح، وسبب استحالته هو تحقق المعلول بغير علّة.

[4] أي: حين تساويها وعدم ترجيح أحدهما على الآخر.

[5] أي: التخيير العقلي.

[6] أما إذا لم يكن كذلك فيلزم الاحتياط، كما لو دار بين الوجوب والجواز، أو بين الحرمة والجواز.

التحقيق في نذر الصوم في السفر ونحوه

[7] يذكر المصنف ثلاثة أجوبة:

الأول: إن الصوم في السفر راجح ذاتاً لكن يحرم لوجود مانع عن تأثير الرجحان، والنذر يرفع المانع.

الثاني: إن الرجحان في متعلق النذر كما يمكن أن يكون قبل النذر، كذلك يكفي في صحة النذر وجود الرجحان بعد النذر.

الثالث: لا يشترط الرجحان في هذا النذر للدليل الخاص، فنخصص قاعدة لزوم رجحان متعلق النذر بالدليل الدال على صحة نذر الصوم في السفر.

ص: 63

في السفر بنذره فيه - بناءً على عدم صحته فيه بدونه[1] - وكذا الإحرام قبل الميقات: فإنما هو[2] لدليل خاص كاشف[3] عن رجحانهما ذاتاً في السفر وقبل الميقات، وإنما[4] لم يأمر بهما استحباباً أو وجوباً[5] لمانع يرتفع مع النذر. وإما لصيرورتهما[6]

-----------------------------------------------------------------

وكل هذه الأجوبة تجري في نذر الإحرام قبل الميقات أيضاً.

ولا يخفى أن هذه الأجوبة لتصحيح مرحلة الثبوت عقلاً لرفع الدور، بعد ورود الأدلة المصححة لهذا النذر في مرحلة الإثبات، فتأمل.

[1] أي: عدم صحة الصوم في السفر بدون النذر.

[2] أي: إنّما الصحة، وكان الأولى تأنيث الضمير.

الجواب الأول

[3] هذا هو الجواب الأول، وحاصله: إن الدليل الخاص الدال على صحة هذا النذر يكشف عن كون الصوم في السفر راجحاً ذاتاً، فيوجد فيه المقتضي للصحة، وكذلك الإحرام قبل الميقات، ولكن هنالك مانع عن الصحة، وهذا المانع يرتفع بالنذر.

[4] دفع إشكال حاصله: إذا كانا راجحين ذاتاً فلماذا لم يؤمر بهما كبقية أفراد الصوم الواجب أو المستحب؟ والجواب هو وجود مانع، ويرتفع هذا المانع بالنذر.

[5] في الصوم المستحب كالنصف من شعبان، والواجب كالكفارة مثلاً.

الجواب الثاني

[6] هذا الجواب الثاني، وحاصله: إنه لا يشترط الرجحان قبل النذر، بل يكفي الرجحان ولو كان بعد النذر، فلا دور؛ لأن الرجحان تأخر عن النذر، والرجحان المتأخر يكفي، فلا يشترط أن يكون قبل النذر.

وضمير «لصيرورتهما» يرجع إلى (الصوم في السفر) و(الإحرام قبل الميقات).

ص: 64

راجحين بتعلق النذر بهما بعد ما لم يكونا كذلك[1]، كما ربما يدل عليه[2] ما في الخبر من كون الإحرام قبل الميقات كالصلاة قبل الوقت.

لا يقال[3]: لا يجدي صيرورتهما راجحين بذلك[4] في عباديتهما، ضرورة كون وجوب الوفاء توصلياً[5] لا يعتبر[6] في سقوطه إلاّ الإتيان بالمنذور بأي داعٍ

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: لم يكونا راجحين قبل النذر، عكس الجواب الأول الذي ابتنى على الرجحان الذاتي قبل النذر.

[2] أي: على عدم الرجحان قبل النذر، ووجه الدلالة أن الصلاة قبل الوقت لا رجحان ذاتي فيها أصلاً، وقد شبّه الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ الإحرام قبل الميقات بالصلاة قبل الوقت.

[3] حاصل الإشكال هو: أنه لا شبهة في كون الصوم والإحرام من الأمور العبادية التي يشترط فيها قصد القربة، ولا يمكن تصحيح العبادية بالنذر؛ لأن الصوم في السفر كان محرماً، وكذلك الإحرام قبل الميقات، فلا معنى لكونه عبادياً مقرباً، والنذر لا يصحح العبادية؛ لأن النذر تابع للمنذور، فإن كان عبادياً وجب الإتيان به بقصد القربة، وإن لم يكن عبادياً يكفي إتيانه بأية كيفية كانت، فمن أين تصحح عبادية الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات لو تعلق بهما النذر؟

والحاصل: إن هذا الصوم والإحرام كانا مُحَرَّمين فلا معنى للعبادية فيهما، وبعد النذر وإن وجبا لكن النذر لا يوجب العبادية.

[4] أي: بالنذر، وقوله: «في» متعلق ب- (لا يجدي) أي: النذر لا يجدي في العبادية.

[5] لأن الأدلة الدالة على لزوم الوفاء بالنذر لم تشترط الإتيان بالمنذور بقصد القربة، بل دلت على لزوم الإتيان به صحيحاً - سواء كان عبادياً أم غير عبادي - .

[6] هذا شرح لقوله: (توصلياً)، فهو عطف بيان، أي: معنى التوصليه هنا هو الإتيان بالمنذور.

ص: 65

كان[1].

فإنه يقال[2]: عباديتهما إنما تكون لاجل كشف دليل صحتهما[3] عن عروض عنوان راجح عليهما ملازم لتعلق النذر بهما[4].

هذا لو لم نقل بتخصيص[5] عموم دليل اعتبار الرجحان في متعلق النذر بهذا

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: لا يشترط داعٍ خاص من قصد القربة، فلا يمكن اكتشاف لزوم قصد القربة من النذر.

[2] حاصل الجواب: إن المقصود من الرجحان الحاصل بعد النذر هو عروض عنوان عبادي على الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات، أي: إن سبب الرجحان ليس هو مجرد النذر، بل إن النذر سبب لحصول هذا العنوان العبادي الراجح، فمن هنا صححنا عبادية الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات.

[3] أي: الصوم المنذور في السفر، والإحرام المنذور قبل الميقات.

[4] فالحاصل: إن الرجحان لم ينشأ من النذر، بل النذر كان سبباً لانطباق عنوان عبادي راجح على الصوم في السفر، والإحرام قبل الميقات.

ولا يخفى أنه يمكن دفع الإشكال بأن يقال: إن النذر يدل على لزوم الإتيان بالمنذور، أما كيفية هذا المنذور فيستفاد من الأدلة الأخرى، فشرائط وأجزاء المنذور لا يتكفل النذر لبيانها، بل المتكفل أدلتها في مضانها، وقد دلت الأدلة على لزوم قصد القربة في كل صوم بلا استثناء، وهكذا يقال في الإحرام. نعم، في ما لا كيفية خاصة للمنذور فإن كيفيته تابعة لقصد الناذر، فتأمل.

ثم إن هذا الإشكال يرد على الجواب الثالث أيضاً، ويجاب عنه بنفس هذا الجواب؛ لذا كان الأولى ذكره بعد الجواب الثالث.

الجواب الثالث

[5] هذا الجواب الثالث، وحاصله: عدم اشتراط رجحان المنذور في هذا النذر بالخصوص، بمعنى أن الدليل دل على لزوم الرجحان في متعلق النذر، لكن نخصّصه

ص: 66

الدليل، وإلاّ[1] أمكن أن يقال بكفاية الرجحان الطارئ عليهما من قِبَل النذر في عباديتهما[2] بعد تعلق النذر بإتيانهما[3] عباديّاً ومتقرّباً بهما منه[4] تعالى، فإنه وإن لم يتمكن من إتيانهما كذلك قبله[5]، إلاّ أنه يتمكن منه بعده[6]، ولا يعتبر[7] في صحة النذر إلاّ التمكن من الوفاء ولو بسببه، فتأمل جيداً.

-----------------------------------------------------------------

بدليل نذر الصوم في السفر، ونذر الإحرام قبل الميقات، حيث كانا محرمين قبل النذر.

وأما العبادية فإن النذر تابع لقصد الناذر، وقد قصد الناذر الإتيان بالصوم بشروطه، ومنها قصد القربة، وكذلك قصد الإحرام الصحيح، ومن شروطه قصد القربة. فهذا الصوم وإن صار راجحاً لكن هذا الرجحان لم يكن شرطاً لصحة النذر، بل هو عنوان طارئ تحقق بعد النذر، ولا ربط له في صحة النذر.

هذا هو الأقرب في شرح العبارة في الفرق بين الجواب الثاني والثالث، ويمكن شرح العبارة بطريقة أخرى فراجع الوصول(1).

[1] أي: وإن قلنا بتخصيص دليل لزوم رجحان متعلق النذر.

[2] أي: وإن لم يشترط الرجحان الطارئ في صحة النذر، لكنه يشترط هذا الرجحان في عباديتهما - أي: الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات - .

[3] أي: قصد الناذر الصوم العبادي والإحرام العبادي، ولأن النذر تابع لقصد الناذر وجب الإتيان بها بقصد القربة.

[4] أي: متقرباً إليه.

[5] أي: إتيانهما عبادياً قبل النذر؛ للنهي عن الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات.

[6] أي: إلاّ أن الناذر يتمكن من الإتيان متقرباً بعد النذر.

[7] أي: التمكن من الإتيان بالمنذور شرط لصحة النذر، ولا فرق في أن يكون

ص: 67


1- الوصول إلى كفاية الأصول 3: 152.

بقي شيء[1]،

-----------------------------------------------------------------

منشأ القدرة قبل النذر أو بسبب النذر. فالمهم هو القدرة حين العمل، لا القدرة قبل النذر، أو حين النذر، بل لا يشترط القدرة بعد النذر إلى حين وقت العمل. فمن نذر الصوم بعد سنة - وهو يتمكن من الوفاء بالنذر حين حلول وقته - صحّ نذره حتى وإن كان عاجزاً قبل النذر وحين النذر وبعد النذر، قبل حلول وقت الوفاء.

الدوران بين التخصيص والتخصص

[1] في أنه هل يمكن جريان أصالة عدم التخصيص لإحراز أن المصداق المشتبه ليس من أفراد العام، في ما إذا لم يكن هذا المصداق محكوماً بحكم العام، فشككنا أن عدم شمول حكم العام له هل هو من باب التخصيص، أو أن هذا المصداق ليس من أفراد العام أصلاً؟

مثلاً: لو علمنا بأنه لا يجب إكرام زيد المشكوك في علمه، وقد قال المولى: (أكرم العلماء) فيدور الأمر بين كون زيد عالماً وقد خصص به (أكرم العلماء)، وبين عدم كونه عالماً فلذا لا يجب إكرامه، وبقاء العام وهو (أكرم العلماء) على عمومه. فحينئذٍ هل أنّ أصالة عدم التخصيص تثبت عدم كون زيد عالماً، فيترتب عليه جميع أحكام غير العالم، أم لا تجري هذه الأصالة؟

ومثاله في الشرع هو ماء الغسالة - على القول بعدم تنجيسها - فإن العام وهو (كل نجس منجِّس)، وثبت بالدليل عدم تنجيس الغسالة، فيدور الأمر بين عدم كون الغسالة نجسة فلا تخصيص للعام، وبين كون الغسالة نجسة لكنها لا تنجِّس بالدليل الخاص الذي يخصص العام.

فإن قلنا بجريان أصالة عدم التخصيص فلازمها هو طهارة الغسالة، وجريان جميع أحكام الطهارة عليها.

إن قلت: هذا أصل مثبت؛ لأن أصالة عدم التخصيص تثبت أنه ليس بعالم - وهو لازم عقلي - .

ص: 68

وهو: أنه هل يجوز التمسك بأصالة عدم التخصيص في إحراز[1] عدم كون[2] ما شك في أنه من مصاديق العام[3] - مع العلم بعدم كونه محكوماً بحكمه[4] - مصداقاً له[5]، مثل ما إذا علم أن زيداً يحرم إكرامه، وشك في أنه عالم، فيحكم عليه - بأصالة عدم تخصيص (أكرم العلماء) - أنه[6] ليس بعالم، بحيث[7] يحكم عليه بسائر ما لغير العالم من الأحكام؟

فيه إشكال[8]،

-----------------------------------------------------------------

قلت: الأصول العملية لا حجية لأصولها المثبتة، أما غيرها فهي حجة فيها، وأصالة عدم التخصيص أصل اجتهادي وليس بأصل عملي.

[1] متعلق ب- (التمسك) أي: هل يجوز التمسك لكي نحرز...الخ؟

[2] اسم كون هو (ما شك) وخبره (مصداقاً له).

[3] أي: شك في أنه فرد للعام أو أنه ليس بفرد له، مثل: زيد الذي يشك في أنه من مصاديق العلماء أو أنه من مصاديق الجهال.

[4] أي: نعلم بأن حكم العام لا يشمله، إما لأجل التخصيص، أو لأجل أنه ليس من أفراد العام أصلاً.

[5] أي: للعام، فحاصل المعنى: إن أصالة عدم التخصيص هل تثبت أن هذا الفرد المشكوك ليس مصداقاً للعام بعد علمنا بأن حكم العام لا يشمله؟

[6] نائب فاعل ل- (فيحكم) أي: فيحكم على زيد بأنه ليس بعالم.

[7] أي: بعد أن أثبتنا أنه ليس بعالم نُجري عليه سائر أحكام غير العالم.

وفي مثال الغسالة: بأصالة عدم تخصيص (كل نجس منجِّس) نحكم بأن الغسالة ليست نجسة، فنجري عليها جميع أحكام الأشياء الطاهرة، من جواز الشرب وجواز الصلاة معها ونحو ذلك من الأحكام.

[8] حاصله: إن أصالة عدم التخصيص أصل عقلائي، وعليها بناء العقلاء، والمقدار المتيقن من بنائهم هو لو علم بفردية فرد للعام وشك في خروجه عن حكم

ص: 69

لاحتمال اختصاص حجيّتها[1] بما إذا شك في كون فرد العام[2] محكوماً[3] بحكمه، كما هو[4] قضية عمومه. والمثبت[5] من الأصول اللفظية[6] وإن كان حجة، إلاّ أنه لابد من الاقتصار على ما يساعد عليه الدليل[7]، ولا دليل هاهنا إلاّ السيرة وبناء العقلاء، ولم يعلم استقرار بنائهم على ذلك[8]، فلا تغفل.

-----------------------------------------------------------------

العام. ولا يعلم إجراؤهم لهذا الأصل في ما لو شكوا في أصل فردية فرد للعام حتى لو علموا بأنه ليس محكوماً بحكم العام، بل لعله يقال: إنه يعلم عدم إجرائهم لها هنا.

[1] أي: حجية أصالة عدم التخصيص.

[2] أي: فرد المعلوم كونه فرداً للعام موضوعاً.

[3] خبر قوله: (كون فرد..)، وضمير «بحكمه» راجع للعام.

[4] أي: كون الفرد محكوماً بحكم العام هو مقتضى عموم العام، فأصالة عدم التخصيص تجري هنا، ولا يعلم جريانها في الفرد المشكوك.

[5] إشارة إلى أن الإشكال ليس لأجل عدم حجية الأصل المثبت، بل الإشكال من جهة الشك في جريان بناء العقلاء؛ وذلك لأن الأصل المثبت حجة في الأصول اللفظية وليس حجة في الأصول العملية.

[6] أي: الأصول المرتبطة بالألفاظ، وبناء العقلاء وإن كان لبيّاً لكن متعلقه اللفظ، وهو لفظ العام، فلذا تكون أصالة عدم التخصيص أصلاً لفظياً، ودليلها لبيّ، فتأمل.

[7] وهو بناء العقلاء، فأي مقدار ثبت بناء العقلاء فيه كان حجة، وكانت لوازمه العقلية حجة أيضاً، أما إذا لم يثبت بناء للعقلاء في مورد فلا حجة في ذلك المورد، ولا تثبت لوازمه أصلاً؛ لأن ثبوت اللوازم فرع ثبوت الأصل.

[8] أي: إجراء أصالة عدم التخصيص في الشبهة المصداقية، وبعبارة أخرى: إن أصالة عدم التخصيص إنّما تجري لو شككنا في مراد المولى، أما مع علمنا بمراده

ص: 70

فصل: هل يجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصّص؟ فيه خلاف، وربما نفي الخلاف عن عدم جوازه، بل ادعي الإجماع عليه[1].

والذي ينبغي[2]، أن يكون محل الكلام في المقام أنه هل يكون أصالة العموم

-----------------------------------------------------------------

وأنه لا يجب إكرام زيد فلا تجري.

فصل العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص

اشارة

[1] أي: على عدم جواز العمل قبل الفحص(1)،

والفرق بين عدم الخلاف وبين الإجماع أن الأول يتحقق حتى مع سكوت الكثيرين أو الأكثر، والثاني لا يتحقق إلاّ مع تصريح الجميع بالحكم.

تحرير محل البحث

[2] هذا لتحرير محل الكلام، فإن القائلين بعدم الجواز استندوا إلى وجوه مختلفة...

الأول: إن دليل حجية أصالة العموم هو الظن الخاص، ولا يوجد هذا الظن قبل الفحص، فلا حجية قبل الفحص، أو دليل الحجيّة هو الظن الشخصي - كما عن بعض - .

الثاني: ما عن المحقق القمي(2)، من أن دليل الحجية هو الظن المطلق الانسدادي؛ وذلك لأن الخطابات الشرعية خاصة بالمشافهين الحاضرين في زمان المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، وأما غير المشافهين فلا حجية لتلك الخطابات لهم إلاّ من باب الانسداد، والمقدار المعلوم من حجية الظن الانسدادي هو ما كان بعد الفحص.

ص: 71


1- مطارح الأنظار 2: 157.
2- قوانين الأصول 1: 276.

متّبعةً مطلقاً[1] أو بعد الفحص عن المخصص واليأس عن الظفر به؟ بعد الفراغ عن اعتبارها بالخصوص[2] في الجملة[3] من باب الظن النوعي للمشافه وغيره ما لم يعلم[4]

-----------------------------------------------------------------

الثالث: ما عن تقريرات الشيخ الأعظم(1)،

من العلم الإجمالي بوجود مخصصات كثيرة للعمومات الشرعية، ولا يجوز العمل إلاّ بعد انحلال العلم الإجمالي، وينحلّ بالفحص فقط.

والمصنف يقول: إنّ محل البحث هو وجوب الفحص أو عدمه بعد الفراغ عن أصل الحجية، وكلام القائل الأول والثاني إنما هو في أصل الحجية.

وكذلك البحث في الوجوب وعدمه بما هو هو، لا باعتبار العوارض والطوارئ، والعلم الإجمالي في كلام الثالث هو عنوان عارض، فلو فرضنا عدم وجود علم إجمالي أو انحلاله بوجدان مجموعة من المخصصات فهل يجوز العمل بسائر العمومات قبل الفحص أم لا؟

[1] أي: ولو قبل الفحص واليأس عن المخصص.

[2] أي: حجية أصالة العموم بالظن الخاص، لا بالظن الانسدادي.

[3] أي: بعد إثبات حجيتها في الجملة - أي: في بعض الصور - وحينئذٍ نبحث عن أن هذه الحجية هل قبل الفحص أم بعده؟

والحاصل: إنا لا نريد أن نبحث هنا البحوث المتعلقة بأصل حجية أصالة العموم وأنها بالظن الخاص أم الانسدادي، وأنها للمشافه أم للأعم، بل بحثنا بعد الفراغ عن أصل الحجية ولو في بعض الصور.

[4] متعلق بقوله: (اعتبارها)، أي: اعتبارها ما لم يعلم المخصِّص؛ لأنه لو علمنا بالمخصصات فلا حجية لأصالة العموم في أفراد الخاص، لما مرّ من أن الخاص مقدَّم على العام؛ لأنه أقوى لكونه نصاً أو أظهر.

ص: 72


1- مطارح الأنظار 2: 161.

بتخصيصه تفصيلاً، ولم يكن[1] من أطراف ما علم تخصيصه إجمالاً. وعليه[2] فلا مجال لغير واحد مما استدل به[3] على عدم جواز العمل به قبل الفحص واليأس.

فالتحقيق[4] عدم جواز التمسك به قبل الفحص في ما إذا كان في معرض التخصيص[5]، كما هو الحال في عمومات الكتاب والسنة[6]،

-----------------------------------------------------------------

[1] لأن العلم الإجمالي عنوان طارئ، وكلامنا في الحجية وعدمها مع عدم فرض هذه العناوين الطارئة.

[2] أي: على ما بيناه من تحرير محل البحث.

[3] لأن بعض الاستدلالات في أصل الحجية، مع أن محل الكلام بعد ثبوتها، وبعضها مع ملاحظة طروّ العلم الإجمالي، مع أن محل الكلام في حجيتها من حيث هي.

1- الفحص عن المخصص المنفصل
اشارة

[4] حاصل تحقيق المصنف: إن مبنى حجية أصالة العموم هو بناء العقلاء، فاللازم أن تدور الحجية مدار بنائهم. فإن المولى إن كان يكثر من التخصيصات - كما في الخطابات الشرعية - فلا بناء لهم على الحجية إلاّ بعد الفحص. وإن لم يكثر من التخصيصات - كالموالي العرفية - فبناؤهم على الحجية حتى قبل الفحص.

القسم الأول

[5] والمعرضية للتخصيص تكون - عادة - في المولى الذي يكثر من المخصصات المنفصلة.

[6] ولعل سبب ذلك هو أن عمومات الكتاب والسنة إنما هي لضرب القانون، ومن المعلوم أن القوانين الكلية لها تخصيصات كثيرة، وعدم بيانها فوراً إما لغرض التدرج في الأحكام، أو لعدم حاجة المخاطبين في وقت صدور العام، أو للاعتماد على القرائن الحالية، أو لجهات ومصالح أخرى.

ص: 73

وذلك[1] لأجل أنه لو لا القطع باستقرار سيرة العقلاء على عدم العمل به قبله[2] فلا أقل من الشك[3]، كيف[4]! وقد ادعي الإجماع على عدم جوازه، فضلاً عن نفي الخلاف عنه، وهو[5] كافٍ في عدم الجواز، كما لا يخفى. وأما إذا لم يكن العام كذلك[6] - كما هو الحال في غالب العمومات الواقعة في ألسنة أهل المحاورات[7] - فلا شبهة في أن السيرة على العمل به[8] بلا فحص عن مخصص.

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: عدم جواز التمسك بالعام قبل الفحص - في هذه الصورة - .

[2] أي: بالعام قبل الفحص.

[3] أي: الشك في بناء العقلاء على العمل بالعام قبل الفحص في هذه الصورة؛ ولأن بناء العقلاء دليل لُبّي، فلا إطلاق له، فيتمسك به في المقدار المتيقن، وأما المورد المشكوك فلا حجية له.

[4] أي: كيف لا نشك في بناء العقلاء على الحجية، والحال أنه ادعي الإجماع على عدم جواز العمل بالعام قبل الفحص.

[5] أي: الشك في بناء العقلاء.

ولا يخفى أن المصنف لا يريد الاستدلال بنقل الإجماع على عدم الحجية، حتى يستشكل عليه بعدم حجية هذا الإجماع؛ لأنه معلوم أو محتمل الاستناد، بل يريد بيان الشك في أصل بنائهم.

القسم الثاني

[6] أي: في معرض التخصيص.

[7] وذلك لأن مرادهم ليس ضرب القانون - عادة - بل غالب كلامهم آنيّ وقتيّ، وفي قضايا خارجية أو جزئية.

[8] أي: سيرة العقلاء على العمل بالعام، وسيرة العقلاء تكشف عن بنائهم؛ لأن الطريقة المستمرة في شيء دليل على بنائهم على ذلك الشيء.

ص: 74

وقد ظهر لك بذلك[1] أن مقدار الفحص اللازم ما به يخرج عن المعرضية له[2]. كما أن مقداره اللازم منه[3] بحسب سائر الوجوه التي استدل بها - من العلم الإجمالي به[4] أو حصول الظن بما هو التكليف[5] أو غير ذلك[6] - رعايتها[7]، فيختلف مقداره بحسبها، كما لا يخفى.

-----------------------------------------------------------------

مقدار الفحص

[1] أي: بأن منشأ لزوم الفحص هو كون العام في معرض التخصيص.

وحاصل الكلام: إن مقدار الفحص تابع لدليل وجوب الفحص: فإن كان الدليل هو معرضية العام للتخصيص، فالمقدار اللازم من الفحص هو المقدار الذي يخرج العام عن المعرضية. وإن كان الدليل هو العلم الإجمالي، فالمقدار اللازم هو ما يوجب انحلال العلم الإجمالي من أصله، أو يوجب خروج المسألة عن أطرافه.

وإن كان الدليل هو الظن الانسدادي فاللازم الفحص في كل مسألة إلى حدّ الاطمئنان بعدم وجود خاص.

[2] أي: للتخصيص.

[3] أي: مقدار الفحص اللازم من الفحص، فقوله: «اللازم منه» بدل عن ضمير (مقداره).

[4] أي: بالتخصيص - وهو الوجه الثالث في تحرير محل البحث واختاره التقريرات(1) - .

[5] الظن الخاص أو الظن الشخصي - وهو الوجه الأول - .

[6] مثل اختصاص الخطابات للمشافهين وعدم شمولها لغيرهم إلاّ بالانسداد - وهو الوجه الثاني - .

[7] أي: مراعاة هذه الوجوه.

ص: 75


1- مطارح الأنظار 2: 180.

ثم إن الظاهر[1] عدم لزوم الفحص عن المخصص المتصل باحتمال أنه كان[2] ولم يصل، بل حاله[3] حال احتمال قرينة المجاز، وقد اتفقت كلماتهم على عدم الاعتناء به[4] مطلقاً، ولو قبل الفحص عنها[5]، كما لا يخفى.

إيقاظ [6]:

-----------------------------------------------------------------

2- الفحص عن المخصص المتصل

[1] أي: كل ما مرّ من لزوم الفحص ومقداره إنّما هو في المخصص المنفصل؛ وذلك لبناء العقلاء في الفحص - بالتفصيل الذي مرّ - وأما المخصص المتصل فبناء العقلاء على عدم لزوم الفحص عنه، بل يعملون بالعام ولا يفحصون عن المخصصات المتصلة، كما أنهم لا يفحصون عن أي شيء متصل كقرينة المجاز، بل يحملون اللفظ على الحقيقة.

[2] أي: منشأ اللزوم هو احتمال أن المخصص المتصل كان موجوداً، ولكن العقلاء لا يهتمون بهذا الاحتمال، فلذا لا يفحصون عن المتصل مطلقاً.

[3] أي: حال المخصص المتصل.

[4] أي: باحتمال قرينة المجاز.

[5] أي: عن القرينة للمجاز، وقوله: «ولو قبل...» بيان لقوله: (مطلقاً).

فرق الفحص في الأصول اللفظية والأصول العملية
اشارة

[6] لبيان الفرق بين الفحص هنا أعني أصالة العموم - وهي من الأصول اللفظية - وبين الفحص في الأصول العملية.

وحاصل الفرق: إن الفحص هنا - وفي سائر الأصول اللفظية - عما يزاحم الحجية، فالعام حجة في أفراده لكن يلزم الفحص عن الخاص الذي يزاحم حجية العام، وبعبارة أخرى: الفحص إنما هو عن المانع عن الحجية بعد ثبوت المقتضي لها.

ص: 76

لا يذهب عليك الفرق بين الفحص هاهنا[1] وبينه في الأصول العملية، حيث إنه هاهنا عما يزاحم الحجة[2]، بخلافه هناك، فإنه بدونه[3] لا حجة، ضرورة[4] أن العقل بدونه[5] يستقل باستحقاق المؤاخذة على المخالفة[6]، فلا يكون العقاب بدونه بلا بيان والمؤاخذة عليها[7] من غير برهان.

والنقل[8]

-----------------------------------------------------------------

وأما في الأصول العملية، فإنه قبل الفحص لا حجية أصلاً، بل الفحص من شرائط الحجيّة، أي: يكون الفحص محققاً لموضوع تلك الأصول، مثلاً: «عدم البيان» أخذ في موضوع البراءة العقلية، وهو متوقف على الفحص، فمع عدم الفحص لا موضوع لها.

[1] أي: في بحث الفحص عن المخصِّص، «بينه» أي: بين الفحص.

[2] أي: يكون مانعاً مع ثبوت المقتضي.

[3] أي: فإن الشأن بدون الفحص.

[4] دليل عدم وجود المقتضي قبل الفحص في الأصول العملية.

[5] أي: بدون الفحص، أي: يحكم العقل - أو يكشف - عن استحقاق العقاب لمن لم يفحص وصادف مخالفته للواقع، فلا مورد لقاعدة (قبح العقاب بلا بيان) فيمن لم يفحص، حيث إن موضوع قبح العقاب هو (عدم البيان)، ولا يتحقق عدم البيان إلاّ بعد الفحص، وعدم العثور على الحكم.

[6] أي: مخالفة الحكم الواقعي الذي كان سيعثر عليه لو فحص عنه، وقيد (على المخالفة) لإخراج التجري، وهو في ما لو لم يفحص واتفق عدم وجود حكم، فلا مخالفة للحكم الواقعي، ولكنه تجرى بعدم الفحص.

[7] أي: فلا يكون المؤاخذة على المخالفة.

إشكال وجواب

[8] حاصل الإشكال هو: عدم الفرق بين الأصول اللفظية والأصول العملية

ص: 77

وإن دل على البراءة أو الاستصحاب في موردهما[1] مطلقاً[2]، إلاّ[3] أن الإجماع بقسميه[4] على تقييده به[5]، فافهم[6].

فصل: هل الخطابات الشفاهية[7]

-----------------------------------------------------------------

الشرعية؛ لأن أدلتها نقلية، وهي الآيات والأخبار، وهذه الأدلة مطلقة - تشمل قبل الفحص أيضاً كشمولها لما بعده - فالمقتضي للحجية قبل الفحص موجود ولكن منع عنها مانع، كالأصول اللفظية، فلا فرق.

[1] أي: في مورد البراءة كالشبهات البدوية، ومورد الاستصحاب كما لو كان يقين سابق بالحكم أو الموضوع. والظاهر عدم الحاجة إلى هذا القيد.

[2] أي: حتى قبل الفحص.

[3] دفع هذا الإشكال، وحاصله: إنه لا يمكن التمسك بهذا الإطلاق لقيام الدليل على تقييد هذا الإطلاق، أي: إن الحجية مقيدة بعدم الفحص.

[4] المنقول والمحصَّل.

[5] أي: على تقييد النقل بالفحص.

[6] لعله إشارة إلى أن الإجماع مانع عن الحجية لا أنه لبيان عدم المقتضي للبراءة أو الاستصحاب، حال كل الأدلة التي تقيد الإطلاقات أو تخصص العمومات، فإن المتبادر منها هو المانعية لا عدم وجود المقتضي، فالنتيجة أن الفحص - سواء في الأصول اللفظية أم الأصول العملية - إنّما هو للبحث عن المانع. نعم، في البراءة العقلية يصح هذا الفرق؛ لوضوح أن (عدم البيان) موضوع لها.

فصل عموم الخطاب للمشافهين وغيرهم

اشارة

[7] سواء كانت بأدوات الخطاب مثل: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ}(1)، أم كان بتوجيه

ص: 78


1- سورة البقرة، الآية: 104.

مثل (يا أيها المؤمنون)[1] تختص بالحاضر مجلس التخاطب، أو تعم غيره من الغائبين بل المعدومين[2]؟ فيه خلاف[3].

ولابد قبل الخوض في تحقيق المقام من بيان ما يمكن أن يكون محلاً للنقض والإبرام[4] بين الأعلام.

-----------------------------------------------------------------

الكلام إلى المخاطب من غير أدوات الخطاب مثل: {وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ}(1).

وإنّما قال: «الخطابات الشفاهية» لإخراج الخطابات العامة التي يصرح فيها بعموم الكلام للغائبين والمعدومين، كقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (أوصيكما وجميع ولدي ومن بلغه كتابي بتقوى الله)(2).

[1] لم يرد هذا النص في القرآن، بل فيه: {وَتُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ}(3).

[2] من الذين سيولدون بعد صدور الخطابات.

ولا يخفى ارتباط هذا الفصل ببحث العام والخاص؛ لأن الكلام في عموم الخطاب أو خصوصه.

[3] فمنهم من قال: بعدم شموله للغائبين والمعدومين مطلقاً، ومنهم من قال: بشمولها لهم مجازاً، وقيل: بالشمول بالحقيقة اللغوية، وقيل: بالحقيقة الشرعية، وغير ذلك.

تحرير محل البحث
اشارة

[4] أي: لابد من تحرير محل النزاع حتى لا يكون النزاع لفظياً أحياناً. ويمكن التحرير بثلاث صور:

ص: 79


1- سورة آل عمران، الآية: 97.
2- نهج البلاغة، الرسائل: 46.
3- سورة النور، الآية: 31.

فاعلم أنه يمكن أن يكون النزاع في أن التكليف[1] المتكفل له الخطاب هل يصح تعلقه بالمعدومين كما صح تعلقه بالموجودين[2] أم لا[3]؟ أو في[4] صحة المخاطبة معهم بل مع الغائبين عن مجلس الخطاب بالألفاظ الموضوعة للخطاب[5] أو بنفس توجيه الكلام إليهم[6]

-----------------------------------------------------------------

الصورة الأولى: هل يمكن تكليف المعدوم أم لا؟ وهنا يلحق الغائب بالموجود؛ لعدم الإشكال في إمكان تكليفه، وهذا بحث عقلي؛ لأنه بحث عن الإمكان وعدمه. ولا يخفى أن هذه الصورة وإن أمكن البحث فيها لكن ليست هي محل نزاع الأعلام.

الصورة الثانية: هل يمكن توجيه الخطاب إلى المعدوم والغائب أم لا يمكن؟ وهذا أيضاً بحث عقلي، وهنا يلحق الغائب بالمعدوم.

الصورة الثالثة: هل أنّ مدخول أدوات الخطاب وضع لخصوص المشافَه - أي: الحاضر الملتفت - أم وضع للأعم؟ وهذا بحث لفظي، وهنا يلحق الغائب بالمعدوم، بل يلحق الحاضر غير الملتفت بالمعدوم أيضاً.

[1] هذه هي الصورة الأولى.

[2] سواء كانوا حاضرين أم غائبين؛ لأنه يصح تكليف الغائب بلا إشكال.

[3] أي: أم لا يصح تعلقه بالمعدومين.

[4] هذه هي الصورة الثانية. «معهم» أي: مع المعدومين.

[5] كأدوات النداء، وضمائر المخاطب كقوله: {كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ}(1).

[6] أي: إلى الغائبين والمعدومين، من دون استعمال أدوات الخطاب، سواء كان من التكاليف، كقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ}(2)، أو من غيرها، كما لو قال مخاطباً زيداً: (في ذمتي كذا لعمرو) أو (جاء زيد وذهب عمرو).

ص: 80


1- سورة البقرة، الآية: 183.
2- سورة آل عمران، الآية: 97.

وعدم صحتها[1]، أو في[2] عموم الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب للغائبين بل المعدومين وعدم عمومها لهما[3] بقرينة تلك الأداة[4].

ولا يخفى: أن النزاع على الوجهين الأولين يكون عقلياً[5]، وعلى الوجه الأخير لغوياً[6].

إذا عرفت هذا، فلا ريب[7]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: عدم صحة المخاطبة، وهذا عطف على قوله: (صحة المخاطبة معهم).

[2] هذه هي الصورة الثالثة من تحرير محل النزاع.

والحاصل: إنه النزاع في عموم أو عدم عموم مدخول الأدوات، فمثل: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ}(1) هل (الناس) عام فيشمل الحاضرين والغائبين والمعدومين أو ليس بعام؟

[3] أي: عدم عموم الألفاظ للغائبين والمعدومين، وقوله: «عدم» معطوف على قوله: (عموم الألفاظ... الخ).

[4] وجه لعدم العموم، فإن مثل الناس لا يكون عاماً، وإنّما ينحصر بالحاضرين، وقرينة هذا الحصر هي أداة الخطاب.

[5] لأنه بحث عن الإمكان وعدمه، وهو بحث عقلي.

[6] لأنه نزاع في معنى تلك الألفاظ، وهو يرتبط باللغة، والأولى تبديل (لغوياً) إلى (لفظياً)، لأن المعاني اللغوية لتلك الكلمات - مثل: الناس - معلومة، وإنما الكلام في المعاني المرادة بالإرادة الجدية.

تحقيق الحال في الصور الثلاث
تحقيق الحال في الصورة الأولى

[7] إن التكليف له مراتب أربع: الاقتضاء، والإنشاء، والفعلية، والتنجز.

فلا مانع من إنشاء تكليف يعم المعدوم والغائب والحاضر، فيكون إنشائياً بالنسبة

ص: 81


1- سورة البقرة، الآية: 21.

في عدم صحة[1] تكليف المعدوم عقلاً[2]، بمعنى بعثه أو زجره فعلاً[3]، ضرورة أنه بهذا المعنى[4] يستلزم الطلب منه[5] حقيقةً، ولا يكاد يكون الطلب كذلك[6] إلاّ من الموجود ضرورةً[7].

نعم، هو[8] بمعنى إنشاء الطلب بلا بعث ولا زجر لا استحالة فيه أصلاً، فإن الإنشاء خفيف المؤونة[9]،

-----------------------------------------------------------------

إلى المعدوم، وفعلياً بالنسبة إلى الغائب بمعنى أنه يتنجز متى وصله الخطاب، ومنجزاً بالنسبة إلى الحاضر الملتفت.

[1] أي: عدم إمكان هذا التكليف، وليس المراد من عدم الصحة: اللغوية - لما سيأتي بعد قليل - .

[2] لأن البعث والزجر إنما هما لإيجاد الداعي في المكلف، ولا يمكن إيجاد الداعي في المعدوم، ولا يمكن البعث والزجر الحقيقيان مع التفات المولى؛ لعدم وجود من يريد تكليفه.

[3] أي: البعث والزجر الواصلان إلى مرتبة الفعلية.

[4] أي: التكليف بمعنى البعث والزجر فعلاً، وبعبارة أخرى: التكليف الفعلي.

[5] أي: من المكلف.

[6] أي: حقيقة، فلا يعقل الطلب الحقيقي من المعدوم.

[7] أي: هذا من الأمور البديهية التي لا تحتاج إلى إقامة برهان.

[8] أي: التكليف إذا كان في مرحلة الإنشاء، فإنه يصح تعلقه بالمعدوم، كما في ضرب القوانين عند العقلاء، حيث إن القانون يشمل المعدومين إنشاءً، بمعنى أنه متى وجدوا وتحققت فيهم شرائط التكليف تنجز عليهم ذلك القانون.

[9] لأن الإنشاء هو إيجاد الطلب باللفظ، ويكفي في صحته أن يتعلق به غرض عقلائي.

ص: 82

فالحكيم[1] - تبارك وتعالى - ينشئ على وفق الحكمة والمصلحة[2] طلب شيء قانوناً[3] من الموجود[4] والمعدوم حين الخطاب[5]، ليصير فعلياً بعد ما وجد الشرائط وفقد الموانع بلا حاجة إلى إنشاء آخر[6]، فتدبّر[7].

ونظيره[8]

-----------------------------------------------------------------

وإنشاء الخطاب - ليشمل المعدومين - فيه غرض عقلائي، لكي لا يحتاج المولى إلى إنشاءٍ خاص لكل مكلّف على حده.

[1] بيان لعدم لغوية إنشاء الطلب ليشمل المعدومين.

[2] أي: المصلحة في ذلك الإنشاء، سواء كان سبب الإنشاء وجود الملاك في المتعلق - من المصلحة أو المفسدة - أم كان السبب هو المصلحة في نفس الإنشاء، كالأوامر الامتحانية.

[3] «طلب» مفعول قوله: (ينشئ)، و«قانوناً» مفعول لأجله، وقوله: «من الموجود... الخ» متعلق ب- (طلب) فالمعنى: إنّ الحكيم لأجل المصلحة يُنشِئُ طلباً من الموجود والمعدوم لأجل ضرب قانون عام.

[4] سواء كان حاضراً ملتفتاً، أم حاضراً غير ملتفت، أم كان غائباً.

[5] ظرف «للمعدوم» أي: المعدوم حين الخطاب.

[6] لعدم المصلحة في ذلك.

[7] لعله لدفع توهم أن قاعدة الاشتراك في التكليف تُغني عن إنشاء جديد؛ وذلك لأن معنى الاشتراك هو إنشاء الحكم بالنسبة إلى المعدومين متى ما وُجدوا، فرجع الاحتياج إلى إنشاء لكل فرد فرد، فتأمل.

[8] أي: نظير الطلب الإنشائي من الموجود والمعدوم ما إذا كان إنشاء من غير طلب، كالوقف على الأجيال، فإن الجيل الحالي يتملك العين فعلاً، وأما الأجيال اللاحقة فإنها تتملك العين متى ما وُجدت، لا بالإرث من الجيل السابق، بل بنفس إنشاء الواقف.

ص: 83

من غير الطلب إنشاء التمليك في الوقف على البطون[1]، فإن المعدوم منهم[2] يصير مالكاً للعين الموقوفة بعد وجوده[3] بإنشائه[4]، ويتلقى لها[5] من الواقف بعقده، فيؤثر[6] في حق الموجود منهم الملكية الفعلية، ولا يؤثر في حق المعدوم فعلاً إلاّ استعدادها[7] لأن تصير ملكاً له بعد وجوده.

هذا[8] إذا أنشئ الطلب مطلقاً[9]. وأما إذا أنشئ[10] مقيداً بوجود المكلف

-----------------------------------------------------------------

وفائدة التنظير هو رفع الاستيحاش من حكم من الأحكام، وأنه ليس شيئاً استثنائياً، بل له نظائر.

[1] أي: الأجيال الحالية واللاحقة.

[2] حين إنشاء الوقف.

[3] ظرف لقوله: (يصير مالكاً) أي: متى ما وجد صار ضمن المالكين.

[4] أي: ملكيته يتلقاها من الواقف، فبسبب إنشاء الواقف صار مالكاً، لا بسبب آخر كالإرث مثلاً.

[5] أي: للعين. «بعقده» أي: بنفس إنشاء الواقف، ولا يخفى أن مراد المصنف العقد بالمعنى الأعم؛ لأن الوقف إيقاع.

[6] أي: عقد الوقف؛ لأنه كان إنشاء وتحققت شرائط الملكية في الموجودين، فيصير فعلياً بالنسبة إليهم، وأما المعدومون فلم تتحقق الشرائط، فلا فعلية بالنسبة إليهم، بل يبقى إنشاء إلى حين تحقق الشرائط.

[7] أي: قابلية الملكية.

[8] أي: كون الإنشاء شاملاً للمعدومين والغائبين والحاضرين.

[9] من غير تقييد بوجود المكلف، فحينئذٍ نقول: إنه بالنسبة إلى الحاضر الملتفت منجّز، وإلى الغائب فعلي، وإلى المعدوم شأني.

[10] أي: أنشأ الطلب.

ص: 84

ووجدانه الشرائط[1] فإمكانه[2] بمكان من الإمكان[3].

وكذلك[4] لا ريب في عدم صحة خطاب المعدوم، بل الغائب حقيقة[5]، وعدم إمكانه، ضرورة[6] عدم تحقق توجيه الكلام نحو الغير حقيقةً إلاّ إذا كان موجوداً[7] وكان بحيث[8] يتوجه إلى الكلام، ويلتفت إليه.

ومنه[9]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: وجدان المكلّف سائر الشرائط غير أصل الوجود.

[2] أي: هذا النوع من الطلب؛ لأنه طلب مشروط، ولا ريب في صحة الطلب المشروط.

[3] أي: بمكان من الوضوح.

تحقيق الحال في الصورة الثانية

[4] أي: من عدم صحة تكليف المعدوم اتضح عدم صحة خطاب المعدوم؛ لأن الخطاب الحقيقي هو: (توجيه الكلام إلى الغير بغرض إفهامه)، وهذا يتحقق بالنسبة إلى الحاضر الملتفت.

نعم، يصح خطاب غيره مجازاً - سواء كان غير ملتفت أم معدوماً أم غائباً، بل حتى لو كان جماداً - كقول أحدنا للجدار: (ما أجملك) فإنه خطاب مجازي وبالعناية.

[5] متعلق ب- (خطاب) أي: الخطاب الحقيقي لا يصح للغائب والمعدوم، بل لا يمكن هذا الخطاب الحقيقي.

[6] دليل لعدم إمكان الخطاب الحقيقي للمعدوم.

[7] هذا القيد لإخراج المعدوم.

[8] هذا القيد لإخراج الغائب؛ بل الحاضر غير الملتفت.

تحقيق الحال في الصورة الثالثة

[9] أي: من بيان الحال في الصورة الثانية، وأن الخطاب الحقيقي إنما يتوجه

ص: 85

قد انقدح: أن ما وضع للخطاب - مثل أدوات النداء[1] - لو كان موضوعاً للخطاب الحقيقي[2] لأوجب استعماله فيه[3] تخصيص ما يقع في تلوه[4] بالحاضرين، كما أن قضية[5] إرادة العموم منه لغيرهم استعماله في غيره.

-----------------------------------------------------------------

للحاضر الملتفت انقدح حكم الصورة الثالثة، وهي في عموم أو عدم عموم مدخول الأدوات. ولا يخفى أن عموم المدخول أو عدمه مسبب عن عموم أو عدم عموم الأداة نفسها، فإن كانت الأداة وضعت للعموم فمدخولها يكون عاماً، وإلاّ فلا.

[1] أي: هنالك احتمالان في وضع أدوات الخطاب، وهما:

الأول: إنها وضعت لتوجيه الكلام للمخاطب بغرض إفهامه، وحينئذٍ فمدخول الأدوات يكون خاصاً بهذا المخاطب أيضاً.

الثاني: إنها وضعت لإيقاع الخطاب، سواء كان هنالك مخاطب أم لم يكن، فقد يكون الداعي هو إفهام المخاطب، وقد يكون الداعي شيئاً آخر، كإبراز التحسر أو الشوق أو نحو ذلك، والداعي لا دخل له بالمعنى، وحينئذٍ تكون الأدوات عامة، ومدخولها أيضاً يكون عاماً، وهذا هو مختار المصنف.

[2] الذي كان توجيه الخطاب للمخاطب بغرض إفهامه، وهذا هو الاحتمال الأول.

[3] أي: استعمال ما وضع للخطاب في الخطاب الحقيقي.

[4] أي: أوجب تخصيص المدخول - مثل: الناس - بخصوص الحاضرين.

[5] أي: إن مقتضى إرادة العموم من المدخول - بحيث يشمل غير الحاضرين - هو استعمال أداة الخطاب في غير ما وضع له، أي: في غير الخطاب الحقيقي فيكون مجازاً.

والحاصل: إن الأمر في مثل: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ}(1) دائر بين شيئين: إما حمل (يا) على معناها الحقيقي، وتخصيص (الناس) بالحاضرين، وإما حمل (يا) على المجاز وإبقاء (الناس) على عمومه.

ص: 86


1- سورة البقرة، الآية: 21.

لكن الظاهر[1] أن مثل أدوات النداء لم يكن موضوعاً لذلك[2]، بل للخطاب الإيقاعي الإنشائي[3]. فالمتكلم ربما يوقع الخطاب[4] بها تحسراً وتأسفاً وحزناً[5]، مثل (يا كوكباً ما كان أقصر عمره)[6]، أو شوقاً[7] ونحو ذلك[8]، كما يوقعه[9]

-----------------------------------------------------------------

[1] هذا الاحتمال الثاني، وهو مختار المصنف، وحاصله: إن أدوات الخطاب وضعت لإيجاد الخطاب مع قطع النظر عن وجود مخاطب ملتفت، وحينئذٍ قد يكون الداعي إفهام المخاطب، وقد يكون أمراً آخر. والدليل على هذا الوجه: عدم ملاحظة المجازية في ما لو استعمل لا بداعي إفهام المخاطب.

[2] أي: للخطاب الحقيقي الذي يراد منه إفهام المخاطب.

[3] أي: إيجاد الخطاب، والدواعي لا دخل لها في المعنى الحقيقي الموضوع له.

[4] أي: الداعي للخطاب قد تكون هذه الأمور مما لا ربط له بالمعنى الحقيقي.

[5] (الحسرة) الحزن على فوت نفع، و(الأسف) طول الحزن، و(الحزن) أعم من الحسرة والأسف.

[6] فهنا يخاطب الشاعر ولده الميت مع علمه بعدم توجه الخطاب إليه، وغرضه هو إبراز التحسر على فقدانه.

[7] كقوله:

يا

آل بيت رسول الله حبكم

فرض

من الله في القرآن أنزله

كفاكم

من عظيم القدر أنكم

من لم يصلِّ عليكم لا صلاة له(1)

[8] كالاستغاثة، مثل قول الأعمى: (يا رجلاً خذ بيدي).

[9] أي: كما قد يكون الداعي لاستعمال أدوات الخطاب هو الخطاب الحقيقي، فالتحسر والشوق والخطاب الحقيقي كلها دواعٍ، ولا دخل لها بالمعنى الذي وضعت له أدوات الخطاب؛ وذلك المعنى هو إنشاء الخطاب.

ص: 87


1- المراجعات: 85؛ الغدير 2: 303؛ نظم درر السمطين: 18.

مخاطباً لمن يناديه حقيقةً، فلا يوجب[1] استعماله في معناه[2] الحقيقي حينئذٍ التخصيص[3] بمن يصح مخاطبته.

نعم[4]، لا يبعد دعوى الظهور انصرافاً في الخطاب الحقيقي، كما هو الحال[5]

-----------------------------------------------------------------

[1] عطف تفريعي على قوله: (لكن الظاهر أن... الخ).

[2] أي: استعمال ما وضع للخطاب - كأدوات النداء - في معناه الحقيقي وهو إنشاء الخطاب، «حينئذٍ» أي: حين القول بعدم الوضع للخطاب الحقيقي.

[3] مفعول (لا يوجب)، أي: استعمال هذه الأدوات في إنشاء الخطاب لا يوجب كون المدخول خاصاً بالحاضرين، فلا يستلزم على هذا القول - المختار - مجاز أصلاً، عكس الاحتمال الأول الذي كان يستلزم إما المجاز في الأداة أو تخصيص المدخول.

[4] حاصله: إن أدوات الخطاب وإن كانت عامة لكنها تنصرف إلى بعض ما وضعت له، وهو كون الخطاب بداعي توجيه الخطاب وإفهام المخاطب، ولعل منشأ هذا الانصراف هو كثرة الاستعمال في هذا الداعي.

[5] أي: الوضع للإيقاع بأي داع كان، ولكن ينصرف إلى بعض الأفراد والمصاديق.

والحاصل: إنه قد مرّ سابقاً في بحث الأوامر أن حروف الاستفهام وضعت لإيجاد طلب الفهم، سواء كان الداعي هو طلب الفهم حقيقة أم كان للإقرار أو الإنكار أو نحوها من الدواعي.

نعم، تنصرف أداة الاستفهام إلى طلب الفهم حقيقة إذا لم يكن مانع من هذا الانصراف. وكذلك أدوات الترجي مثل: (لعل)، والتمني مثل: (ليت) وضعت لإيقاع وإيجاد التمني والترجي، سواء كان الداعي الرجاء الحقيقي والتمني الحقيقي، أم كان شيئاً آخر، مثل: (لعل) الواردة في القرآن الكريم حيث لا يعقل الرجاء الحقيقي في الله تعالى؛ لأنه مستلزم للجهل، بل هي لإيقاع الرجاء بداعي

ص: 88

في حروف الاستفهام والترجي والتمني[1] وغيرها[2] على ما حققناه في بعض المباحث السابقة من كونها موضوعة للإيقاعي منها بدواعٍ مختلفة[3] مع ظهورها في الواقعي منها[4] انصرافاً[5]، إذا لم يكن هناك ما يمنع عنه. كما يمكن دعوى وجوده[6] غالباً في كلام الشارع، ضرورة[7] وضوح عدم اختصاص الحكم في مثل: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ}(1) و(يا أيها المؤمنون)[8] بمن حضر مجلس الخطاب بلا

-----------------------------------------------------------------

التحريض والتشويق ونحو ذلك.

[1] «الترجي» لما يؤمل وقوعه في المستقبل، و«التمني» لما يمتنع وقوعه في المستقبل مثل: (ليت الشباب يعود يوماً).

[2] كالعَرْض مثل: (ألا تنزل بنا).

[3] أي: وضعت لإيقاع الاستفهام والتمني والترجي وغيرها بأي داع كان، فلا فرق في الدواعي.

[4] أي: ظهور حروف الاستفهام والترجي والتمني ونحوها في الواقعي من الاستفهام... الخ، أي: في طلب الفهم والرجاء الحقيقي والتمني الحقيقي... الخ.

[5] أي: منشأ هذا الظهور هو الانصراف، لا الوضع، «عنه» عن الانصراف.

[6] أي: يمكن ادعاء وجود المانع عن الانصراف في كلام الشارع، حيث نعلم باشتراك التكليف، فلا معنى لحمل الألفاظ على خصوص الحاضرين، ثم التعميم لغيرهم بأدلة أخرى. والحاصل: إن الخطابات القرآنية لا تحمل على خصوص المشافهين؛ وذلك لعدم وضع أدوات الخطاب للخطاب الحقيقي، ولا يوجد انصراف إلى خصوص الحاضرين.

[7] دليل وجود المانع عن الانصراف إلى خصوص الحاضرين.

[8] في قوله تعالى: {تُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ}(2)، وقد مرّ أن هذه الجملة

ص: 89


1- سورة النساء، الآية: 1؛ سورة الحج، الآية: 1؛ سورة لقمان، الآية: 33.
2- سورة النور، الآية: 31.

شبهة ولا ارتياب.

ويشهد لما ذكرنا[1] صحة النداء بالأدوات مع إرادة العموم[2] من العام الواقع تلوها بلا عناية[3] ولا للتنزيل والعلاقة رعاية[4].

وتوهم[5] كونه[6] ارتكازياً، يدفعه[7]

-----------------------------------------------------------------

(يا أيها المؤمنون) لا توجد في القرآن الكريم.

[1] دليل لأصل المطلب، أي: يشهد لوضع أدوات الخطاب للإيقاعي، لا لتوجيه الخطاب للمخاطب.

[2] أي: للغائبين والمعدومين.

[3] أي: من غير أن يكون مجازاً؛ لأن المجاز يحتاج إلى عناية زائدة.

[4] أي: من غير تنزيل المعدوم أو الغائب منزلة الحاضر، فلا توجد ملاحظة علاقات المجاز، فقوله: «و لا للتنزيل... الخ» عطف تفسيري لقوله: (عناية).

توهم وجوابه

[5] إشكال على هذه الشهادة، وحاصلها: إن العلاقة المجازية موجودة - وهي تنزيل المعدوم والغائب منزلة الحاضر - ولعله المجاز بالأوْل، أي: سيؤول الغياب إلى الحضور والعدم إلى الوجود، ولكن هذه العلاقة ارتكازية فلا يلتفت إليها، كسائر الأمور الارتكازية التي يأتي بها الإنسان لا شعورياً من غير التفات.

[6] أي: كون التنزيل.

[7] حاصل الجواب: إن الأمور الارتكازية تتضح بالالتفات إليها والتفتيش عن حالها.

وهنا في أدوات الخطاب لا نرى أثراً للتنزيل حتى بعد الالتفات والتفتيش، فمثل خطاب: (أيها المؤمنون) لا نرى تنزيلاً في شموله لنا ولسائر المعدومين وقت نزول الآية المباركة.

ص: 90

عدم العلم به[1] مع الالتفات إليه والتفتيش عن حاله، مع حصوله بذلك[2] لو كان مرتكزا، وإلاّ[3] فمن أين يعلم بثبوته كذلك[4]؛ كما هو واضح.

وإن أبيت[5] إلاّ عن وضع الأدوات للخطاب الحقيقي فلا مناص عن التزام اختصاص الخطابات الإلهية بأداة الخطاب أو بنفس توجيه الكلام بدون الأداة[6] كغيرها[7] بالمشافهين[8] في ما لم يكن هناك قرينة على التعميم[9].

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: عدم العلم بالتنزيل حتى مع الالتفات إلى التنزيل والتفتيش عن حال ذلك التنزيل.

[2] أي: حصول العلم بالتنزيل عبر التفتيش والالتفات.

[3] أي: إن لم يحصل (العلم بالتنزيل) بالالتفات والتفتيش.

[4] أي: بثبوت التنزيل ارتكازاً، حيث إن طريق معرفة الارتكاز هو التفتيش، وإن لم نجد شيئاً بالتفتيش فادعاء الارتكاز يكون قولاً بلا دليل.

[5] حاصله: إنه إذا لم تقبل قولنا: إنّ أدوات الخطاب وضعت للخطاب الإيقاعي، وقلتَ: إنها موضوعة للخطاب الحقيقي - الذي هو توجيه الكلام إلى المخاطب بقصد إفهامه - فحينئذٍ لابد من القول: إنّ خطابات الشارع كسائر الخطابات العرفية خاصة بالمشافهين، ولا تشمل غيرهم إلاّ إذا قامت قرينة على الاشتراك في التكليف.

[6] كما مرّ في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ}(1) حيث لا توجد أداة للخطاب، ولكن وُجّه الكلام للمخاطبين.

[7] أي: كغير الخطابات الإلهية.

[8] متعلق بقوله: (اختصاص).

[9] كالاشتراك في التكليف المعلوم ضرورة من الدين.

ص: 91


1- سورة آل عمران، الآية: 97.

وتوهم[1] صحة التزام التعميم في خطاباته تعالى لغير الموجودين - فضلاً عن الغائبين - لإحاطته بالموجود في الحال والموجود في الاستقبال، فاسد[2]، ضرورة أن إحاطته لا توجب صلاحية المعدوم بل الغائب للخطاب، وعدم[3] صحة المخاطبة معهما لقصورهما[4] لا يوجب نقصاً في ناحيته تعالى، كما لا يخفى[5].

-----------------------------------------------------------------

توهم وجوابه

[1] حاصله: إن دليل عدم إمكان شمول الخطاب لغير الموجودين لا يجري في خطاباته تعالى؛ وذلك لأنه تعالى محيط بالموجود والمعدوم، فلا فرق عنده بين الموجود والمعدوم، فيصح خطابه للمعدوم والغائب بنفس خطابه للموجود.

[2] حاصل الجواب: إن الإحاطة لا تصحح خطاب المعدوم؛ وذلك لقصور في المعدوم من أن يتوجه إليه الخطاب، لا لنقص فيه تعالى عن ذلك علواً كبيراً.

فكما مرّ، المعدوم ليست له صلاحية لتوجيه الخطاب الحقيقي إليه، فكان قاصراً عن ذلك، فلا فرق حينئذٍ بين الخطابات القرآنية وغيرها.

[3] دفع دخل مقدر، وحاصل الكلام: إن عدم إمكان توجه الخطاب للمعدوم ليس لقصور في قدرة الله تعالى، بل لأجل القصور في المعدوم، فالنقص منه لا من الله تعالى.

[4] أي: المعدوم والغائب.

[5] ولا بأس بأن نشير مجملاً إلى بعض البحوث الاعتقادية في هذا الموضوع - وإن كان خارجاً عن محل البحث - ونوكل التفصيل إلى كتابنا (شرح أصول الكافي)(1)

أبواب التوحيد فنقول:

1- إن إحاطة الله تعالى ليست بمعنى اشتماله على الممكنات، بل بمعنى إحاطة علمه وقدرته بها، أي: هو عالم بها وقادر عليها؛ لأن غير هذا المعنى يستلزم الإحاطة المكانية، وهو تعالى منزه عن المكان.

ص: 92


1- شرح أصول الكافي 2: 439 فما بعد.

-----------------------------------------------------------------

2- توهم البعض أن علم الله تعالى حضوري - بمعنى حضور الأشياء عنده كعلم الإنسان بنفسه، ويقابله العلم الحصولي الذي هو انعكاس صورة الشيء في الذهن - ولازم هذا الكلام أن تكون الممكنات كلها موجودة عنده من الأزل وإلى الأبد، ولذا اضطروا إلى القول بقدم العالم، وإن ابتدعوا اصطلاح القدم الزماني، ومقصودهم أن العالم معلول له تعالى من الأزل وهو في الزمان، والله خارج عن الزمان، ومثلوا له بالخيط الطويل، أو بقطار الإبل الذي يمرّ أمام ثقب الغار، فمن في الغار يرى بعيراً واحداً، وبعد ذهابه يرى الآخر في حين أن من كان خارج الغار يرى كل القطار معاً.

فهم أرادوا تنزيه الله تعالى عن العلم الحصولي فوقعوا في ما هو أشد منه، وهو القول بقدم العالم، ووجود جميع الموجودات - الماضية والحالية والمستقبلية - في كل الأزمنة، وهو خلاف البديهة.

والصحيح أن علمه تعالى ليس بحصولي ولا حضوري، ولا يمكننا فهم كنه ذلك العلم؛ لأن العلم عين ذاته، فكما لا يمكن إحاطتنا بحقيقته تعالى كذلك لا يمكننا إدراك حقيقة صفاته الذاتية.

3- إن قدرة الله تعالى لا تتعلق بالمحالات، لا لقصور في القدرة، بل لأجل عدم قابلية المحال، ويمثل له مثالاً عرفياً بأن الرامي يمكنه رمي الأثقال إلى مسافات بعيدة، لكن لا يمكنه رمي ريشة أو ورقة إلى تلك المسافات، لا لقصور في قوته، بل لعدم قابلية الريشة والورقة.

4- إن القول بعالم الذر - كما يظهر من الروايات - وإن جميع الناس خلقوا ذلك الوقت أو قبله، لا ينافي عدم صحة الخطاب لغير الموجودين منهم حين الخطاب؛ وذلك لعدم شعورهم حين الخطاب - حتى وإن كانوا موجودين في عالم آخر - .

ص: 93

كما[1] أن خطابه اللفظي[2] لكونه تدريجياً ومتصرم الوجود[3] كان قاصراً[4] عن أن يكون موجهاً نحو غير من كان بمسمع منه ضرورة.

هذا[5] لو قلنا بأن الخطاب بمثل {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ}(1) في الكتاب حقيقة إلى

-----------------------------------------------------------------

توهم آخر وجوابه

[1] رد لتوهم نقله المحقق القمي(2)،

وحاصل التوهم: قيل بشمول الخطابات المذكورة للمكلفين الموجودين وإن كانوا غائبين عن مجلس الوحي؛ لأن الخطاب عن الله تعالى، ولا يتفاوت بتفاوت الأمكنة.

والحاصل: إ ن الأمكنة متساوية بالنسبة إليه تعالى؛ لعدم كونه في المكان، وإحاطته تعالى بجميع الأمكنه على نحو سواء.

والجواب: هو أن الكلام مخلوق له تعالى - لأنه من صفات الفعل - وهو تدريجي الوجود، أي: توجد كلمة وتنعدم ثم توجد كلمة ثانية وهكذا، فلا يمكن أن يوجد هذا الكلام للغائب بنحو الخطاب الحقيقي.

[2] أما وجود القرآن في السماء الرابعة أو في اللوح المحفوظ أو في صدر النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، فلا يجدي لهذا القائل؛ لأن الخطاب إنما هو بوجود القرآن اللفظي، وهذه الألفاظ هي التي خوطب بها الناس، لا تلك الحقيقة الموجودة في السماء أو في اللوح أو في الصدر الشريف.

[3] وهو ما يوجود منه جزء ثم ينعدم، ثم يوجد جزء آخر، وهكذا.

[4] أي: الخطاب اللفظي كان قاصراً؛ لأنه مخلوق متصرم الوجود، فيجري عليه أحكام الممكنات. وكان الأولى التعبير بطريقة أخرى؛ لأن هذا التعبير لا يليق بخطاباته.

[5] أي: بحث اختصاص الخطابات بالمشافهين أو عمومها لهم وللغائبين والمعدومين.

ص: 94


1- سورة النساء، الآية: 1.
2- قوانين الأصول 1: 230.

غير النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بلسانه[1].

وأما إذا قيل[2] بأنه المخاطب والموجه إليه الكلام حقيقة، وحياً أو إلهاماً[3]، فلا محيص[4] إلاّ[5] عن كون الأداة في مثله[6] للخطاب الإيقاعي[7] ولو مجازاً[8].

-----------------------------------------------------------------

[1] لكونه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ مبلغاً.

[2] كما يظهر من بعض الروايات كقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (إنّما يعرف القرآن من خوطب به)(1)

حيث دلت على أن المخاطب هو الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ والأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

[3] الوحي والإلهام متقاربا المعنى. نعم، في أصل الوضع اللغوي يختلفان جزئياً، فالوحي للإشارة، والإلهام للإلقاء في الروع.

[4] حاصله: هو أن الكلام موجه إلى النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فهو المخاطب بغرض إيصال الحكم إلى المكلفين.

[5] كلمة «إلاّ» لا معنى لها هنا؛ لأن المراد فلابد من كون الأداة للخطاب الإيقاعي.

[6] أي: مثل: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ}(2).

[7] للعلم بعدم توجه الكلام للمخاطب الحقيقي وهو النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ؛ لأن الغرض كان تبليغه للأحكام لا أنه المكلف بتلك الأحكام.

[8] أي: على قول من يذهب إلى أن أدوات الخطاب وضعت للخطاب الحقيقي، وهنا لا محيص عن رفع اليد عن هذا المعنى الحقيقي والقول بالمجازية.

ولكن لا يخفى أن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أيضاً مكلّف بجميع التكاليف - ولو من باب جريان السنة - وحينئذٍ لا إشكال في القول بأن الخطابات القرآنية وُجِّهت إليه حقيقة بغرض إفهامه، فلا داعي للمجازية، فتأمل.

ص: 95


1- الكافي 8: 311.
2- سورة النساء، الآية: 1.

وعليه[1] لا مجال لتوهم اختصاص الحكم المتكفل له الخطاب بالحاضرين، بل يعم المعدومين، فضلاً عن الغائبين.

فصل: ربما قيل[2]: إنه يظهر لعموم الخطابات الشفاهية للمعدومين ثمرتان:

الأولى[3]: حجية ظهور خطابات الكتاب لهم كالمشافهين.

وفيه[4]: إنه مبني على اختصاص حجية الظواهر بالمقصودين بالإفهام، وقد حقق

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: على هذا القول وهو أن المخاطب الحقيقي هو النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فلا فرق بين الحاضرين والغائبين والمعدومين؛ لعدم توجه الخطاب إليهم أصلاً، وأما كونهم مكلفين بالحكم الوارد في الخطاب فذلك بالقرينة، وجريان هذه القرينة على المعدوم كجريانها على الموجود، بلا فرق أصلاً.

فصل ثمرة بحث عموم الخطاب للمشافهين

اشارة

[2] والقائل هو المحقق القمي في القوانين(1).

الثمرة الأولى

[3] أما على مبنى عدم عموم الخطاب للمعدومين: فالصغرى: المشافهون هم المقصودون بالإفهام، والكبرى: والمقصودون بالإفهام تكون الظواهر حجة لهم دون غيرهم، والنتيجة: فالمشافهون تكون الظواهر حجة لهم لا غيرهم.

وأما على مبنى عموم الخطاب للمعدومين: فالصغرى هي: الموجودون والمعدومون هم المقصودون بالإفهام، والكبرى نفس الكبرى، فالنتيجة: حجية ظواهر الكتاب لهم جميعاً.

[4] إشكال على الكبرى، وحاصله: إن الظواهر حجة للجميع، سواء قصد إفهامهم أم لم يقصد، بل حتى لو قصد عدم الإفهام، وعلى هذا بناء العقلاء، فمن سمع كلاما ً

ص: 96


1- قوانين الأصول 1: 233.

عدم الاختصاص بهم؛ ولو سلم[1]، فاختصاص المشافهين بكونهم مقصودين بذلك[2] ممنوع، بل الظاهر أن الناس كلهم إلى يوم القيامة يكونون كذلك[3]، وإن لم يعمهم الخطاب[4]، كما يومئ إليه[5] غير واحد من الأخبار[6].

الثانية[7]:

-----------------------------------------------------------------

من وراء الجدار كان ظهوره حجة له، وكذا من سمع إقراراً يمكنه الشهادة في المحكمة، وإن كان المقرّ يتحاشى سماعه. وعليه، فسواء قلنا: إنّ الجميع مقصود بالإفهام أم خصوص المشافهين، فإن ظاهر الكتاب حجة لهم جميعاً، بلا فرق.

[1] إشكال على الصغرى، وحاصله: إن جميع الناس - من الموجودين والمعدومين - مقصودون بإفهامهم للظواهر القرآنية، وقد دلّ على ذلك الأخبار المتواترة. وعليه: فالظواهر القرآنية حجة للمعدومين وللموجودين، فانتفت هذه الثمرة - على المبنى الصحيح - .

ولا يخفى أن كلا الإشكالين مبنائي - كما سيومي إليه المصنف - .

[2] أي: بالإفهام من الظواهر القرآنية.

[3] أي: يكونون مقصودين بالإفهام.

[4] أي: حتى لو قلنا: إنّ الخطاب خاص بالحاضرين - كما مرّ تفصيله في الفصل السابق - لكن الجميع مقصود بالإفهام، فيكون من قبيل (إياك أعني واسمعي يا جارة) حيث إنّ الخطاب موجه إلى شخص والمراد إفهام غيره، وهنا المراد إفهام الحاضرين وإفهام غيرهم من الغائبين والمعدومين.

[5] أي: إلى أن الناس كلهم - إلى يوم القيامة - مقصودون بالإفهام.

[6] كالأخبار الآمرة بالتمسك بالثقلين، والأخبار الآمرة بعرض الأخبار المتعارضة - بل مطلق الأخبار - على الكتاب، وغيرها.

الثمرة الثانية

[7] حاصل الثمرة: إنه بعد أن وُجد المعدومون وبلغوا، فإذا تخالفوا مع

ص: 97

صحة التمسك بإطلاقات الخطابات القرآنية بناءً على التعميم[1] لثبوت[2] الأحكام لمن وجد وبلغ من المعدومين، وإن لم يكن متحداً مع المشافهين في الصنف[3]، وعدم صحته على عدمه[4]، لعدم كونها حينئذٍ[5] متكفلة لأحكام غير المشافهين، فلابد من إثبات اتحاده معهم[6] في الصنف حتى يحكم بالاشتراك مع المشافهين في الأحكام، وحيث لا دليل عليه حينئذٍ[7] إلاّ الإجماع[8]، ولا إجماع عليه إلاّ في ما

-----------------------------------------------------------------

الموجودين في خصوصية يحتمل دخلها في الحكم - كحضور المعصوم المحتمل كونه شرطاً في وجوب صلاة الجمعة - فإن قلنا: إنّ الخطابات عامة فيمكن للمعدومين التمسك بإطلاق الدليل لنفي دخل تلك الخصوصية.

أما لو قلنا: إنّ الخطابات خاصة بالمشافهين فلا يتمكن المعدومون من التمسك بالإطلاق؛ لأن الخطاب لم يكن موجهاً إليهم، ودليل الاشتراك في التكليف هو الإجماع، وهو دليل لبيّ يتمسك به بالمقدار المتيقن، وهو صورة عدم التخالف مع الموجودين في ما يحتمل دخله في الحكم.

[1] أي: تعميم الخطابات القرآنية للموجودين والمعدومين.

[2] علة صحة تمسك المعدومين بالإطلاقات. والأولى: التعبير ب- (لثبوت الخطاب) ونتيجة ثبوت الخطاب هو عدم فرق الموجودين والمعدومين حين الخطاب.

[3] إذ يمكن نفي كل خصوصية بالإطلاق، بأن يقال: إنّ المولى الحكيم الذي هو في مقام البيان عليه أن يُبيّن كل الخصوصيات المتعلقة بالحكم، وعدم بيانه دليل على عدم دخلها. والمراد من (الصنف) الخصوصيات التي تكتنف المكلفين.

[4] أي: عدم صحة التمسك بالإطلاقات بناء على عدم التعميم.

[5] أي: لعدم كون الإطلاقات حين اختصاص الخطاب بالمشافهين.

[6] أي: اتحاد المعدوم - حين الخطاب - مع المشافهين.

[7] أي: لا دليل على الاتحاد في الحكم حين عدم شمول الإطلاقات للمعدومين.

[8] أي: الإجماع على اشتراك المعدومين مع الموجودين في التكليف،بل هنالك

ص: 98

اتحد الصنف[1]، كما لا يخفى.

ولا يذهب عليك[2]: أنه يمكن إثبات الاتحاد، وعدم دخل ما كان البالغ الآن[3] فاقداً له[4] مما كان المشافهون واجدين له بإطلاق[5] الخطاب إليهم[6] من دون التقييد به[7].

-----------------------------------------------------------------

الضرورة - وهي أيضاً دليل لبي - «عليه» أي: على الاشتراك.

[1] لأنه القدر المتيقن.

[2] شروع في الإشكال على هذه الثمرة، وحاصله: إن المشافهين يمكنهم التمسك بالإطلاق لدفع اشتراط أية خصوصية، وبحكم الاشتراك في التكليف نكتشف عدم اشتراط تلك الخصوصية في المعدومين، فهم وإن لم يمكنهم التمسك بالإطلاق مباشرة لكن حيث يجري الإطلاق في حق المشافهين وينتفي دخل الخصوصية لهم، كذلك ينتفي دخلها للمعدومين بحكم الاشتراك في التكليف.

وعليه، فسواء قلنا بعموم الخطاب أم بخصوصه، فإنه يصح التمسك بالإطلاق للموجودين وللمعدومين - بالطريقة المبيّنة - فلم تصح هذه الثمرة.

[3] الذي كان معدوماً حين الخطاب.

[4] كحضور المعصوم حين الخطاب بآية {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ}(1)، وضمير «له» يرجع إلى (ما) في قوله: (ما كان البالغ).

[5] متعلق بقوله: (إثبات الاتحاد)، أي: يمكن إثبات عدم الفرق بين الموجودين والمعدومين بإطلاق الخطاب للموجودين بضميمة قاعدة الاشتراك في التكليف.

[6] أي: إلى المشافهين.

[7] الضمير راجع إلى (ما) في قوله: (ما كان البالغ)، والمعنى: من دون تقييد حكم المشافهين بتلك الخصوصية.

ص: 99


1- سورة الجمعة، الآية: 9.

وكونهم كذلك[1] لا يوجب[2] صحة الإطلاق مع إرادة المقيد معه[3] في ما يمكن أن يتطرق الفقدان، وإن صح[4] في ما لا يتطرق إليه ذلك.

-----------------------------------------------------------------

إشكال ودفعه

[1] أي: كون المشافهين واجدين للوصف، وهذا إشارة إلى إشكال حاصله: إن المشافهين لا يمكنهم التمسك بالإطلاق؛ وذلك لأنهم كانوا واجدين لما شك في تقييد الحكم به، ومع وجدانهم له لا حاجة إلى بيانه، فلا يكون الإطلاق دليلاً على عدم اشتراطه بالنسبة إليهم؛ إذ لعله شرط واقعاً لكن لم يُبيّنه الشارع؛ لعدم الحاجة إلى بيانه بعد وجدانهم له.

وبعبارة أخرى: إن اتصاف المشافهين بذلك الشيء يصلح لأن يكون قرينة على دخل ذلك الوصف في الحكم، والإطلاق لا ينعقد مع وجود ما يصلح للقرينية.

[2] دفع للإشكال، وحاصله: إن هذا الكلام يصح لو كان الوصف غير قابل للزوال عن المشافهين، كحضور المعصوم أو القرشية والنبطية ونحوها، فإنه حينئذٍ يصح اعتماد الشارع على وجدانهم لذلك الوصف وعدم ذكره - حتى لو كان شرطاً واقعاً - فلا ينعقد الإطلاق.

أما لو كان الوصف قابلاً للزوال عن المشافهين - ككونهم في مكان خاص أو زمان خاص - فلابد من بيانه إذا كان شرطاً للحكم، وعدم بيانه دليل على عدم اشتراطه، فيمكن للمشافهين التمسك بالإطلاق لنفي الاشتراط، فلا يشترط في المعدومين بقاعدة الاشتراك في التكليف، ولا يخفى أن عامة الأوصاف من هذا القبيل.

[3] أي: من الخطاب، «في ما» أي: في وصف يمكن أن يعرض عليه الزوال عن المشافهين.

[4] أي: صح الإطلاق مع إرادة المقيّد، «ذلك» أي: الفقدان.

ص: 100

وليس المراد[1] بالاتحاد في الصنف إلاّ الاتحاد في ما اعتبر[2] قيداً في الأحكام، لا الاتحاد في ما كثر الاختلاف بحسبه والتفاوت بسببه بين الأنام، بل في شخص واحد بمرور الدهور والأيام، وإلاّ[3] لما ثبت بقاعدة الاشتراك للغائبين - فضلاً عن المعدومين - حكم من الأحكام.

ودليل الاشتراك[4] إنما يجدي في عدم اختصاص التكاليف بأشخاص المشافهين

-----------------------------------------------------------------

[1] الظاهر أن هذا من تتمة الجواب عن التوهم، وليس رداً لتوهم آخر، وحاصله: إن المعدومين كالمشافهين عادة في كل ما يحتمل أن يكون دخيلاً في الحكم، والصفات الثابتة التي لا يتطرق إليها الزوال الخاصة بالمشافهين قليلة جداً، وعليه فكما يتمسك المشافهون بالإطلاق كذلك المعدومون حين الخطاب، لقاعدة الاشتراك.

[2] أي: الاتحاد في الخصوصيات التي لها الدخل في الحكم، لا الاشتراك في كل خصوصية وإن لم تكن دخيلة فيه.

[3] أي: وإن لم يكن المراد ذلك، بل كان المعتبر هو الاتحاد في الصنف في كل الشروط والقيود.

إشكال آخر ودفعه

[4] قيل: (لا يبعد أن يكون ذلك دفعاً لما قد يتوهم من أنه لا حاجة في المقام إلى التمسك بالإطلاق للمشافهين، كي يرتفع به دخل ما شك في دخله، ويثبت به اتحاد المعدومين معهم في الصنف، فيلحقهم الحكم بدليل الاشتراك، بل يكفي في تسرية الحكم من المشافهين إلى المعدومين نفس دليل الاشتراك، فيقول المصنف في دفعه: إن دليل الاشتراك إنما يجدي في عدم اختصاص الحكم بالمشافهين، وفي تسريته إلى غيرهم إذا لم يكونوا واجدين لخصوصية نحتمل دخلها في الحكم، فلو لا الإطلاق وإثبات عدم دخل تلك الخصوصية، وثبوت اتحاد غير المشافهين معهم في الصنف

ص: 101

في ما لم يكونوا[1] مختصين بخصوص عنوان لو لم يكونوا معنونين به لشك في شمولها لهم[2] أيضاً. فلو لا الإطلاق وإثبات عدم دخل ذاك العنوان في الحكم لما أفاد دليل الاشتراك، ومعه[3] كان الحكم يعم غير المشافهين[4] ولو قيل باختصاص الخطابات بهم[5]، فتأمل جيداً.

فتلخص: أنه لا يكاد تظهر الثمرة إلاّ على القول باختصاص حجية الظواهر لمن قصد إفهامه[6] مع كون غير المشافهين غير مقصودين بالإفهام[7]، وقد حقق[8]

-----------------------------------------------------------------

بوسيلة الإطلاق لم يُجدِ دليل الاشتراك في التسرية منهم إلى غيرهم، ومع الإطلاق وثبوت الاتحاد في الصنف بوسيلته يعم الحكم بدليل الاشتراك لغير المشافهين مطلقاً - من الغائبين والمعدومين جميعاً - وإن لم يكونوا مخاطبين بالخطابات الشفاهية أصلاً)(1)،

انتهى.

[1] أي: لم يكن المشافهون.

[2] أي: في شمول التكاليف للمشافهين، فلو كان لهم حين الخطاب عنوان واحتملنا دخل ذلك العنوان تمسكنا بالإطلاق لدفع اشتراطه، ثم قاعدة الاشتراك في التكليف تدل على عدم اشتراطه في المعدومين حين الخطاب.

[3] أي: مع الإطلاق.

[4] بقاعدة الاشتراك في التكاليف.

[5] إذن فالثمرة الثانية غير صحيحة؛ إذ سواء قلنا: إن الخطاب يشمل غير المشافهين أم قلنا باختصاص الخطاب بهم، فإن كليهما يتمسك بالإطلاق، فالمشافه مباشرة، وغير المشافه عبر اشتراكه مع المشافه.

[6] وهي الكبرى في الثمرة الأولى - كما مرّ - .

[7] وهي الصغرى في الثمرة الأولى - كما مرّ أيضاً في أول الفصل - .

[8] بيان الإشكال على الكبرى، أي: عدم اختصاص الحجية بمن قصد إفهامه.

ص: 102


1- عناية الأصول 2: 308.

عدم الاختصاص به في غير المقام[1]، وأشير[2] إلى منع كونهم غير مقصودين به في خطاباته تبارك وتعالى في المقام[3].

فصل: هل تعقب العام بضمير[4] يرجع إلى بعض أفراده يوجب تخصيصه به[5] أو لا؟ فيه خلاف بين الأعلام.

وليكن محل الخلاف[6] ما إذا وقعا في كلامين أو في كلامٍ واحد مع استقلال العام

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: في غير هذا المقام، في بحث حجية الظواهر.

[2] بيان الإشكال على الصغرى، أي: منع كون غير المشافهين غير مقصودين بالإفهام.

[3] أي: في هذا المقام، حيث أشير إليه في أول الفصل، ولا يخفى أن المصنف لم يتعرض للثمرة الثانية في هذا التلخيص.

فصل الضمير الراجع إلى بعض أفراد العام

[4] أي: أن يأتي الضمير عقب العام - أي: بعده - «أفراده» أي: بعض أفراد العام.

[5] أي: هل يوجب هذا التعقب تخصيص العام بسبب ذلك الضمير، بمعنى كون الضمير سبباً لتخصيص العام؟

[6] هذا تحرير محل النزاع، وحاصله: إن الصور المتصورة ثلاث، واحدة منها خارجة عن محل النزاع، واثنتان داخلتان فيه.

أما الخارجة فهي إذا كان الضمير قبل إكمال الجملة التي فيها العام، بحيث لو لا الإتيان بالكلمة التي فيها الضمير لكان الكلام ناقصاً، بمعنى أن يكون الحكم في العام نفس الحكم في الضمير، مثلاً: (المطلقات أزواجهن أحق بردهن) فإن كلمة

ص: 103

بما حكم عليه في الكلام، كما في قوله تبارك وتعالى: {وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ} إلى قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}(1). وأما ما إذا كان مثل[1] (والمطلقات أزواجهن أحق بردهن) فلا شبهة في تخصيصه به[2].

والتحقيق[3] أن يقال: إنه حيث دار الأمر بين التصرف في العام بإرادة خصوص

-----------------------------------------------------------------

(أزواجهن) بدل عن المطلقات، فحكم الضمير نفس حكم العام وهو (المطلقات)، فهنا لا إشكال في أن الضمير يوجب تخصيص العام، فالمراد بالمطلقات هنا خصوص الرجعيات منهن.

وأما الصورتان الداخلتان في محل الكلام فهما:

1- إذا وقعا في كلامين لكنهما متصلين، كقوله تعالى: {وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ} إلى قوله تعالى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}(2)، فهل أنّ ضمير بعولتهن الراجع إلى الرجعيات يوجب تخصيص المطلقات بالرجعيات أم لا؟

2- إذا وقعا في كلام واحد مع تمامية الجملة التي فيها العام، بمعنى استقلال حكم العام مثل: (أكرم العلماء وخُدّامهم) وعلمنا أن المراد (خدام العلماء العدول)، فهنا هل أنّ الضمير يوجب تخصيص العام أم لا؟

[1] إشارة إلى الصورة الخارجة عن محل البحث.

[2] أي: في تخصيص العام بالضمير.

[3] حاصل التحقيق: إنه لابد في هكذا كلام من التصرف إما في العام وإما في الضمير، أما التصرف في العام فهو بأن يُخصَّص. وأما التصرف في الضمير فهو بأحد نحوين:

1- بإرجاعه إلى بعض الاسم الظاهر، وهو خلاف وضع الضمير، حيث إنه وضع لكي يراد به نفس ما أريد من الاسم الظاهر، وهذا مجاز في الكلمة.

ص: 104


1- سورة البقرة، الآية: 228.
2- سورة البقرة، الآية: 228.

ما أريد من الضمير الراجع إليه[1] أو التصرف في ناحية الضمير - إما بإرجاعه[2] إلى بعض ما هو المراد من مرجعه، أو إلى تمامه[3] مع التوسع في الإسناد، بإسناد الحكم المسند إلى البعض حقيقةً[4] إلى الكل توسعاً[5] وتجوزاً - كانت[6] أصالة الظهور في طرف العام سالمة عنها[7]

-----------------------------------------------------------------

2- أن يكون تصرفاً في إسناد الضمير، أي: بأن يسند إلى الضمير حكم عام مع إرادة البعض واقعاً.

[1] ف- {وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ} يتصرف فيها، بأن يقال: إنه يراد منها خصوص الرجعيات، والرجعيات هي ما أريد من الضمير في {وَبُعُولَتُهُنَّ}.

[2] أي: إرجاع الضمير إلى بعض الاسم الظاهر - وهو مرجع الضمير - وهذا مجاز في الكلمة، ويعبر عنه بالاستخدام، والاستخدام هو رجوع الضمير إلى غير الاسم الظاهر، أو إلى بعض ذلك الاسم الظاهر، مثل قوله:

إذا

نزل السماء بأرض قوم

رعيناه

وإن كانوا غضاباً(1)

فضمير (رعيناه) يرجع إلى البقل بعلاقة أن المطر سبب لإنبات البقل.

[3] أي: إلى تمام ما هو المراد من مرجعه، وهذا مجاز في الإسناد، وهو النحو الثاني من التصرف في الضمير، فيكون معنى {وَبُعُولَتُهُنَّ}: وبعولة جميع المطلقات، لكن الإرادة الجدية هي بعولة بعض المطلقات - أي: الرجعيات - .

[4] أي: حسب المراد بالإرادة الجدية.

[5] فاستعمل الضمير في الكل، لكن حسب الإرادة الاستعمالية، لا حسب الإرادة الجدية، فيكون مجازاً. و(التوسع) بمعنى السعة في استعمال الكلمات - ولو في غير معناها الحقيقي - ومثاله: (جمع الأمير الصاغة) حينما يراد جمع بعضهم.

[6] جزاء لقوله: (حيث دار الأمر).

[7] أي: سالمة عن أصالة الظهور في جانب الضمير، والمراد سالمة عن معارضتها.

ص: 105


1- الإيضاح في علوم البلاغة: 268؛ كتاب المطول: 426؛ مختصر المعاني: 272.

في جانب الضمير. وذلك[1] لأن المتيقن من بناء العقلاء هو اتباع الظهور في تعيين المراد[2]، لا في تعيين كيفية الاستعمال وإنه[3] على نحو الحقيقة أو المجاز في الكلمة أو الإسناد مع القطع[4] بما يراد، كما هو الحال في ناحية الضمير.

وبالجملة: أصالة الظهور إنما يكون حجة في ما إذا شك في ما أريد، لا في ما إذا شك في أنه كيف أريد، فافهم[5].

-----------------------------------------------------------------

[1] دليل جريان أصالة الظهور في جانب العام وعدم جريانه في جانب الضمير، وحاصله: إن بناء العقلاء على التمسك بها حينما يشكون في المراد، مثلاً: سمعوا لفظة (أسد) ولم يعلموا هل أريد منها الحيوان المفترس أم الرجل الشجاع؟ فحينئذٍ يجرون أصالة الظهور، أما لو علموا بالمراد وشكوا في كيفية الاستعمال وأنه على نحو الحقيقة أو المجاز - مثلاً - فإنهم لا يجرون أصالة الظهور؛ وذلك لأن غرض العقلاء هو فهم المراد؛ لذا لهم أصول بنوا عليها للوصول إلى هذا الغرض، أما بعد فهم المراد فلا غرض لهم أصلاً في كيفيته؛ ولذا اشتهر أن الاستعمال أعم من الحقيقة؛ إذ بعد اتضاح أن اللفظ استعمل في معنى وفهم المراد منه لا يهمهم أنه على نحو الحقيقة أم المجاز.

وفي ما نحن فيه: المراد من العام - وهو المطلقات - غير معلوم، فلذا يجري فيه أصالة العموم، وأما الضمير فإن المراد منه معلوم - وهو المطلقات الرجعيّات - فلا يجري فيه أصل حتى يعارض أصالة العموم.

[2] حينما يحتملون معنيين أو معاني متعددة فيتمسكون بالظهور - ومنه أصالة العموم - .

[3] أي: وأن الاستعمال، والعطف تفسيري.

[4] من تتمة الكلام فالمعنى: لا في كيفية الاستعمال مع القطع بما يراد.

[5] لعله إشارة إلى عدم جريان أصالة العموم، حيث إن الكلام مكتنف بما يصلح أن يكون قرينة على الخصوص، فكما لا تجري أصالة الظهور في طرف

ص: 106

لكنه[1] إذا انعقد للكلام ظهور في العموم بأن لا يُعَدّ ما اشتمل على الضمير[2] مما يكتنف به[3] عرفاً، وإلاّ[4] فيحكم عليه[5] بالإجمال، ويرجع[6] إلى ما يقتضيه الأصول[7]. إلاّ أن يقال[8] باعتبار أصالة الحقيقة تعبداً[9] حتى في ما[10] إذا احتف

-----------------------------------------------------------------

الضمير، كذلك لا تجري في طرف العام، وشرح قوله: (فافهم) بقوله: (ولكنه إذا عقد... الخ).

[1] أي: ترجيح أصالة العموم.

[2] أي: اللفظ الذي اشتمل على الضمير كقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ}.

[3] أي: بالكلام، فيكون صالحاً للقرينية.

[4] أي: إذا عدّ ما اشتمل على الضمير مما يحيط بالكلام فيصلح أن يكون قرينة.

[5] أي: على العام، أي: في غير أفراد الخاص، فإن أفراد الخاص قدر متيقن، فقوله: (والمطلقات) يشمل الرجعيات قطعاً لكن شموله لغيرهن محل إشكال، فيكون (المطلقات) بالنسبة إليهن مجملاً.

[6] في غير موارد الضمير.

[7] فإن كانت حالة سابقة استصحبت، وإلاّ فإن كان أطراف العلم الإجمالي فالاحتياط، وإلاّ فالبراءة.

[8] يعنى كل ما مرّ بناء على حجية أصالة العموم من باب الظن النوعي.

وأما لو لم نقل بذلك، بل قلنا: إنّ العقلاء يجرون أصولهم حتى لو لم يكن ظن نوعي، بل يضربون قانوناً فيسيرون عليه - سواء كان ظهور أم لا - فهنا تجري أصالة الحقيقة بحمل العام على معناه.

[9] ليس المراد التعبد الشرعي، بل المقصود بأنه لا حاجة إلى الظهور النوعي، بل هو قانون عقلائي لازم الاتباع حتى لو لم يكن ظهور.

[10] أي: حتى لو لم يكن ظهور، ومعنى كلامه: حتى في المورد الذي لا يكون

ص: 107

بالكلام ما لا يكون ظاهراً معه في معناه الحقيقي، كما عن بعض الفحول[1].

فصل: قد اختلفوا في جواز التخصيص بالمفهوم المخالف[2] - مع الاتفاق على الجواز بالمفهوم الموافق[3] -

-----------------------------------------------------------------

الكلام ظاهراً في المعنى الحقيقي للكلام؛ وذلك المورد هو احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية.

[1] لعله صاحب الفصول، لكن قيل: إنّه تنظَّر فيه.

فصل تخصيص العام بالمفهوم

[2] أي: المفهوم الذي يكون عكس المنطوق في الإيجاب والسلب، فهل يجوز أن يكون المفهوم مخصصاً للعام الذي في المنطوق أم لا؟ مثلاً: العام: (الماء كله طاهر)، والخاص: المفهوم في قوله: (إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء)(1)،

حيث إنّ مفهومه (الماء إذا لم يبلغ قدر كر نجسه شيء) فهل هذا المفهوم يخصص ذلك العام أم لا يخصصه؟

[3] أي: مفهوم الأولوية والفحوى؛ لأنه موافق للمنطوق في الإيجاب والسلب.

وفي الحقائق: (والوجه في هذا الاتفاق رجوع التعارض في الحقيقة إلى التعارض بين المنطوق والعموم، حيث لا يمكن رفع اليد عن مفهوم الموافقة مع البناء على المنطوق؛ للقطع بثبوت المفهوم على تقدير ثبوت المنطوق، وإلاّ لم يكن مفهوم الموافقة، فيكون التعارض بينهما من قبيل التعارض بين الخاص المنطوق والعام، ولا ريب في وجوب تقديم الخاص على العام. أما مفهوم المخالفة فيمكن رفع اليد عنه فقط مع الحكم بثبوت المنطوق، فيدور الأمر بين رفع اليد عنه ورفع اليد عن العموم)(2)،

انتهى.

ص: 108


1- الكافي 3: 2.
2- حقائق الأصول 1: 530.

على قولين. وقد استدل لكل منهما بما لا يخلو عن قصور[1].

وتحقيق المقام[2]:

-----------------------------------------------------------------

[1] فقد استدل المجوّزون: بأن التخصيص هو جمع بين الدليلين العام والمفهوم.

وفيه: إن الجمع يجب أن يكون عرفياً، وإلاّ كان تبرعياً، فليس كل جمع أولى من الطرح، بل الجمع الذي قام عليه الدليل.

وقد استدل المانعون: بأن ترجيح الخاص كان لأجل أنه أقوى من العام، وهنا العام - لأنه بالمنطوق - أقوى من الخاص المفهومي، فلذا وجب ترجيح العام.

وفيه: إن المفهوم قد يكون أقوى لعروض جهة تجعله أقوى من المنطوق، وهنا أخصية المفهوم جعلته أقوى من عموم المنطوق.

[2] حاصل التحقيق إن هنالك صوراً متعددة:

الصورة الأولى: إذا كان العام والمفهوم متصلين - سواء كانا في كلام واحد أم كلامين - وكان كلاً من عموم العام وثبوت المفهوم بمقدمات الحكمة، مثل: الفرد المحلى باللام، ومفهوم الشرط - إن قلنا: إنّه بمقدمات الحكمة - .

الصورة الثانية: إذا كانا متصلين، وكان ثبوتهما بالوضع لا بمقدمات الحكمة، مثل: لفظة كل، ومفهوم الحصر - إن قلنا: إنّه بالمفهوم وبالوضع - .

وحكم هاتين الصورتين: أنه إن كان أحدهما أظهر وجب التمسك به، وإلاّ فيتعارضان ويتساقطان، ويتم الرجوع إلى الأصول العملية.

الصورة الثالثة: إذا كانا في كلام واحد أو في كلامين متصلين وكان ثبوت أحدهما بالوضع والآخر بمقدمات الحكمة. وحكم هذه الصورة هو ترجيح جانب الوضع - سواء كان العام أم المفهوم - ولعلّ المصنف لم يذكر هذه الصورة لوضوح رأيه فيها.

الصورة الرابعة: إذا كانا في كلامين منفصلين، فإنه ينعقد لكليهما ظهور فيتعارضان، فإن كان أحدهما أظهر أخذ به، وإلاّ فيتساقطان ويلزم الرجوع إلى الأصول العملية.

ص: 109

إنه إذا ورد العام وما له المفهوم[1] في كلام، أو كلامين - ولكن على نحوٍ[2] يصلح أن يكون كل منهما قرينة متصلة للتصرف في الآخر - ودار الأمر بين تخصيص العموم أو إلغاء المفهوم[3]، فالدلالة على كل منهما[4] إن كانت بالإطلاق بمعونة مقدمات الحكمة[5] أو بالوضع[6]، فلا يكون[7] هناك عموم ولا مفهوم، لعدم تمامية مقدمات الحكمة في واحد منهما، لأجل المزاحمة[8]، كما في مزاحمة ظهور أحدهما

-----------------------------------------------------------------

ولا يخفى أنه يجري في هذه الصورة تقديم ما كان بالوضع على ما كان بمقدمات الحكمة، فتكون الصور أكثر من أربعة.

[1] أي: الجملة التي لها المفهوم الأخص.

[2] أي: كلامين متصلين، بحيث يمكن الاعتماد على أحدهما للتصرف في ظهور الآخر.

[3] وإلغاؤه لأنه أخص، فمع اعتبار عموم العام لا يبقى مورد للمفهوم أصلاً.

[4] من العموم بالمنطوق، والخاص بالمفهوم.

[5] كما لو قال: (أكرم العالم)، و(إن جاءك زيد العالم فأكرمه) حيث إنّ مفهومه: (إن لم يجئك زيد العالم فلا تكرمه) - بناءً على كون مفهوم الشرط بمقدمات الحكمة - ، وهذه هي الصورة الأولى.

[6] كما لو قال: (أكرم العلماء)، و(لا تكرم إلاّ الفقهاء) حيث إنّ مفهومه حصر الإكرام في الفقهاء دون غيرهم من سائر العلماء - بناءً على كون الحصر بالمفهوم وبالوضع - وهذه هي الصورة الثانية.

[7] هذا بيان حكم الصورتين.

[8] هذا في الصورة الأولى؛ إذ من المقدمات أن لا يكون هنالك ما يصلح للقرينية، ومن المقدمات أن لا يكون قدر متيقن في البين، وهنا كل واحد منها يصلح لأن يكون قرينة للتصرف في الآخر، مضافاً إلى وجود قدر متيقن.

ص: 110

وضعاً لظهور الآخر كذلك[1]؛ فلابد[2] من العمل بالأصول العملية في ما دار فيه[3] بين العموم والمفهوم إذا لم يكن مع ذلك[4] أحدهما أظهر، وإلاّ كان[5] مانعاً عن انعقاد الظهور[6] أو استقراره[7] في الآخر.

ومنه[8] قد انقدح الحال في ما[9] إذا لم يكن بين ما دل على العموم وما له المفهوم ذاك الارتباط والاتصال[10]،

-----------------------------------------------------------------

[1] هذا في الصورة الثانية، حيث يتزاحم الظهوران الناشئان عن الوضع، وقوله: «كذلك» أي: وضعاً.

[2] أي: حين عدم انعقاد الإطلاق أو تعارض الظهورين نتمسك بالمقدار المتيقن، وهو سائر أفراد العام، أما في الخاص فلا نأخذ بالعام ولا بالمفهوم، بل نرجع إلى الأصول العملية، فإن كانت حالة سابقة فالاستصحاب، وإلاّ فإن كان في أطراف العلم الإجمالي فالاحتياط، وإن لم يكن أطرافه فالبراءة.

[3] أي: في مورد دار الأمر في ذلك المورد.

[4] أي: مع الدوران بين العموم والمفهوم.

[5] أي: وإن كان أحدهما أظهر كان ذلك الأظهر مانعاً.

[6] في ما كان منشأه مقدمات الحكمة، حيث إن الأظهر يمنع تلك المقدمات في الآخر، فلا ينعقد له ظهور.

[7] في ما كان منشأ الظهور هو الوضع، حيث يتم رفع اليد عن الظهور بسبب مزاحمة الأظهر. ويمكن إرجاع (المنع عن الانعقاد) إلى كونهما في كلام واحد، و(المنع عن الاستقرار) إلى كونهما في كلامين.

[8] أي: من حكم هاتين الصورتين.

[9] أي: في الصورة الرابعة، وهو ما إذا كان العام والمفهوم في كلامين منفصلين، حيث ينعقد ظهور لكل واحد منها، لكن يتعارضان.

[10] أي: لم يكن الاتصال الصالح لأن يكون كل منهما قرينة على التصرف في الآخر.

ص: 111

وأنه[1] لابد أن يعامل مع كل منهما[2] معاملة المجمل لو لم يكن في البين أظهر، وإلاّ[3] فهو المعول والقرينة[4] على التصرف في الآخر بما لا يخالفه[5] بحسب العمل.

فصل: الاستثناء[6]

-----------------------------------------------------------------

[1] بيان حكم هذه الصورة الرابعة، والضمير للشأن، والعطف تفسيري على قوله: (الحال في ما... الخ).

[2] من العام المنطوقي، والخاص المفهومي.

[3] أي: إن كان أحدهما أظهر فيلزم الأخذ به.

[4] أي: حين كون أحدهما أظهر يكون هو قرينة في التصرف في الآخر.

[5] أي: بما لا يخالف الأظهر، والمعنى هو أن يتصرف في الآخر حتى لا تكون مخالفة عملية للأظهر، فإنه يلزم العمل بالأظهر، وتأويل الظاهر.

هذا ما يبدو من العبارة، وقيل(1)

في معناها: إن التصرف يلزم أن يكون بنحو لا تكون مخالفة حسب العمل وإن كانت مخالفة حسب الحكم، فلو قال: (يجوز إكرام العلماء)، ثم قال: (إن جاء زيد العالم فأكرمه) حيث مفهومه: (إن لم يجئ زيد فلا تكرمه) نحمل المفهوم على الكراهة وهو وإن كان يخالف العام بحسب الحكم - حيث حكم العام الجواز بالمعنى الأخص - ، لكنه لا يخالفه بحسب العمل.

أقول: وهذا المعنى بعيد عن سياق العبارة.

فصل الاستثناء المتعقب لعدة جُمَل

[6] وكذا بعض التوابع الأخر، مثل الوصف، كما لو قال: (أكرم العلماء والشعراء العدول).

ص: 112


1- الوصول إلى كفاية الأصول 3: 192.

المتعقب[1] لجمل متعددة هل الظاهر هو رجوعه إلى الكل[2] أو خصوص الأخيرة[3] أو لا ظهور له في واحد منهما[4]، بل لابد في التعيين من قرينة؟ أقوال.

والظاهر أنه لا خلاف ولا إشكال في رجوعه إلى الأخيرة على أي حال[5]، ضرورة[6]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: الذي وقع عقيب الجمل.

[2] كما نسب إلى الشيخ الطوسي(1).

[3] كما نسب إلى بعض العامة(2).

[4] رجوعه إلى الكل أو الأخيرة بالخصوص، وعدم ظهوره في أيٍ منهما إما لأجل الاشتراك اللفظي، كما نسب إلى السيد المرتضى(3)

أو لأجل الاشتراك المعنوي، كما لعله يظهر من صاحب المعالم(4)،

أو لأجل عدم معلومية حال الوضع فالتوقف، كما نسب إلى بعض العامة.

[5] أي: على كل الأقوال المذكورة؛ وذلك لأن الرجوع إلى الأخيرة قدر متيقن، وليس المقصود هو الظهور في الرجوع إلى الأخيرة، فإن هذا الظهور محل خلاف، فسواء قلنا برجوعه إلى الكل تكون الأخيرة ضمن الكل، أو قلنا برجوعه إلى الأخيرة، أو بالاشتراك اللفظي أو المعنوي، وحتى المتوقف إنّما توقفه في الإرجاع إلى الكل أو خصوص الأخيرة. فعلى كل الأقوال لا إشكال في الرجوع إلى الأخيرة، وإنما الخلاف في رجوعه إلى سائر الجمل.

[6] بيان لتيقن رجوعه إلى الأخيرة - على كل الأقوال - لأن رجوعه إلى غير الأخيرة وعدم رجوعه إليها خلاف طريقة العقلاء، فلو قال: (أكرم العلماء والشعراء إلاّ الفساق) وأرجع الاستثناء إلى العلماء فقط كان مستهجناً عند أهل المحاورة.

ص: 113


1- العدة في أصول الفقه 1: 321.
2- الإحكام في أصول الأحكام 2: 300.
3- الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 249.
4- معالم الدين: 124.

أن رجوعه إلى غيرها[1] بلا قرينة[2] خارج عن طريقة أهل المحاورة. وكذا[3] في صحة رجوعه إلى الكل - وإن كان المتراءى[4] من كلام صاحب المعالم(1)

- حيث مهّد مقدمة لصحة رجوعه إليه[5]، أنه محل الإشكال[6] والتأمل. وذلك[7] ضرورة

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: رجوع الاستثناء إلى غير الأخيرة.

[2] نعم، لو كانت قرينة لم يكن به بأس، وكلامنا في الوضع وفي ما لو لم تكن قرينة خاصه على الرجوع إلى أي منها.

فلو قال: (أكرم العلماء والعدول إلاّ الفساق) دلت القرينة على رجوع الاستثناء إلى غير الأخيرة، والقرينة هي عدم صحة استثناء الشيء من ضده.

[3] أي: لا إشكال في إمكان الرجوع إلى الكل، وإنّما المخالف لذلك أو المتوقف إنّما خالف أو توقف لعدم ثبوت الوضع عنده، لا أنه غير ممكن وغير صحيح.

[4] أي: يظهر من صاحب المعالم أنه قد يستشكل على إمكان رجوعه إلى الكل، ولدفع هذا التوهم وإثبات إمكان رجوعه إلى الكل احتاج إلى بيان هذه المقدمة الطويلة، ولو لم يكن الأمر محل إشكال لما احتاج إلى هذه المقدمة.

[5] أي: لصحة رجوع الاستثناء إلى الكل.

[6] أي: إن إمكان رجوع الاستثناء إلى الكل محل إشكال.

وحاصل كلام المعالم هو: تقسيم الوضع، وأن الوضع والموضوع له قد يكونان عامين، وقد يكونان خاصين، وقد يكون الوضع عاماً والموضوع له خاصاً، ثم بيّن أن وضع الحروف وأشباهها من قبيل الثالث، فحيث كان الوضع عاماً صح كون معنى أداة الاستثناء عاماً لكي يرجع الاستثناء إلى الكل.

[7] أي: عدم الإشكال في إمكان رجوعه إلى الكل.

وحاصل كلام المصنف: إن كيفية الوضع والموضوع له لا ربط له في صحة الاستثناء من الكل؛ وذلك لأن تعدد أو وحدة المستثنى أو المستثنى منه لا يغيّر معنى

ص: 114


1- معالم الدين: 124.

أن تعدد المستثنى منه كتعدد المستثنى لا يوجب تفاوتاً أصلاً في ناحية الأداة بحسب المعنى - كان[1] الموضوع له في الحروف عاماً أو خاصاً - ، وكان[2] المستعمل فيه الأداة في ما كان المستثنى منه متعدداً هو المستعمل فيه في ما كان واحداً، كما هو الحال في المستثنى[3] بلا ريب ولا إشكال. وتعدد المخرج أو المخرج عنه خارجاً لا يوجب تعدد ما استعمل فيه أداة الإخراج مفهوماً[4].

وبذلك[5] يظهر: أنه لا ظهور لها[6] في الرجوع إلى الجميع أو خصوص الأخيرة، وإن كان الرجوع إليها متيقناً على كل تقدير.

نعم[7]،

-----------------------------------------------------------------

أداة الاستثناء، كسائر الحروف، مثلاً: (سار زيد من البصرة) و(سار القوم من البصرة) و(وسار القوم من البصرة والكوفة) وأمثالها لا توجب تغيراً في معنى الأداة وهي (من). كذلك قولنا: (أكرم العلماء إلاّ زيداً) و(أكرم العلماء والشعراء إلاّ الفساق من كليهما) و(أكرم العلماء إلاّ النحاة والصرفيين) مثلاً، ففي كلها معنى (إلاّ) واحد، وهو الإخراج، من غير تفاوت في المعنى حين اختلاف النسبة.

[1] أي: سواء كان (الموضوع له) عاماً، كما هو مبنى المصنف، أو خاصاً، كما يرى صاحب المعالم.

[2] عطف تفسيري لقوله: (لا يوجب تفاوتاً)، أي: إنّ تعدد المستثنى منه لا يوجب تفاوتاً في المعنى.

[3] أي: كما لو كان المستثنى واحداً أو متعدداً، حيث لا يفرق معنى الأداة.

[4] أي: معنى الأداة لا يتغير بتغير أطراف النسبة - كما مر توضيحه - .

[5] أي: عدم تفاوت معنى أداة الاستثناء - لا من حيث الوضع ولا من حيث الاستعمال - .

[6] أي: إن الشأن لا ظهور لأداة الاستثناء، «إليها» إلى الأخيرة.

[7] أي: كما لا ظهور لأداة الاستثناء في الرجوع إلى الأخيرة أو الجميع كذلك

ص: 115

غير الأخيرة أيضاً من الجمل لا يكون ظاهراً في العموم، لاكتنافه[1] بما لا يكون معه ظاهراً فيه[2]، فلابد في مورد الاستثناء فيه[3] من الرجوع إلى الأصول[4].

-----------------------------------------------------------------

لا ظهور لغير الأخيرة في العموم لمورد الاستثناء.

وبيان ذلك: إن الجمل المتعددة التي جاء الاستثناء بعدها لا إشكال في عدم شمول الأخيرة لمورد الاستثناء لمعلومية تخصيصها بالاستثناء، أما غير الأخيرة فلا ظهور لها في شمول مورد الاستثناء؛ وذلك لاحتمال كون الاستثناء راجعاً إليها أيضاً، وحيث إن الاستثناء متصل فلا ينعقد لتلك الجمل ظهور في العموم.

مثلاً: لو قال: (أكرم العلماء، وضيّف الحلماء، واحترم المسلمين إلاّ الفساق)، فلا شك في أن الأخيرة - وهي احترم المسلمين - لا تشمل الفساق، أما غير الأخيرة - أي: أكرم، وضيّف - فلا يعلم رجوع الاستثناء إليها، فلا ينعقد لها ظهور في العموم لكل أحد بما فيهم الفساق، فحكم فساق العلماء وفساق الحلماء غير معلوم، فيكون العام مجملاً بالنسبة إلى فساقهم - أي: فساق العلماء والحلماء - .

[1] أي: لاكتناف غير الأخيرة، والمراد أن هذا الاستثناء المتصل يمنع ظهور الجمل غير الأخيرة في العموم لمورد الاستثناء، كما منع ظهور الجملة الأخيرة.

[2] أي: لاكتناف غير الأخيرة بأمر - هو الاستثناء - لا يكون غير الأخيرة مع هذا الأمر ظاهراً في العموم.

[3] أي: في غير الأخيرة، والمعنى فلابد في تلك العمومات في مورد الاستثناء من الرجوع إلى الأصول، ففي المثال: يجب إكرام كل عالم وضيافة كل حليم، أما العالم الفاسق والحليم الفاسق فلا يعلم الحكم فيهما هل الحكم هو وجوب الإكرام أم عدم الوجوب؟ فحينئذٍ يكون الكلام بالنسبة إلى العالم الفاسق والحليم الفاسق مجملاً، وحين الإجمال نرجع إلى الأصول العملية.

[4] العملية، فإن كانت حالة سابقة لزم استصحابها، وإلاّ فتجري أصالة البراءة.

ص: 116

اللهم إلاّ أن يقال[1] بحجية أصالة الحقيقة تعبداً[2]، لا من باب الظهور، فيكون المرجع عليه[3] أصالة العموم إذا كان وضعياً، لا ما إذا كان بالإطلاق ومقدمات الحكمة[4]، فإنه لا يكاد تتم تلك المقدمات[5] مع صلوح الاستثناء للرجوع إلى الجميع، فتأمل[6].

-----------------------------------------------------------------

[1] حاصله: إن الظهور النوعي غير لازم في الألفاظ، بل يكفي وجود بناء العقلاء على العمل بالعموم حتى إذا لم يكن ظاهراً، وعلى هذا المبنى يلزم العمل بالعموم في غير الأخيرة. لكن قد مرّ عدم صحة هذا المبنى، وأن مبنى حجية أصالة العموم هو الظهور العرفي، بحيث لو لم يكن ظهور - كما في ما نحن فيه - فلا تكون حجيّة.

[2] أي: من باب بناء العقلاء حتى إذا لم يكن ظهور على العموم. وبعبارة أخرى: أن يكون بناء العقلاء على هذا الأصل لا لأجل الظهور النوعي.

[3] أي: بناء على التعبد يكون المرجع أصالة العموم إذا كان اللفظ دالاً بالوضع على العموم.

[4] أي: لو كان منشأ العموم هو الإطلاق فإنه لا يتم الإطلاق إلاّ بمقدمات الحكمة، ولا توجد بعض هذه المقدمات في ما لو جاء الاستثناء عقيب جمل متعددة.

[5] أي: لا تكمل المقدمات، حيث إن إحدى تلك المقدمات هي: عدم وجود ما يحتمل أن يكون قرينة، وهنا الاستثناء يحتمل للقرينية.

فتحصل: إنه بناء على مبنى التعبد تجري أصالة العموم لو كان العموم بالوضع، ولا تجري لو كان العموم بمقدمات الحكمة.

[6] إشارة إلى أن أصالة العموم - على مبنى التعبد - تجري حتى لو كان منشأ العموم مقدمات الحكمة؛ وذلك لأن ما يصلح للقرينية المانع عن انعقاد الظهور يلزم أن يكون حسب متفاهم العرف ظاهراً في القرينية، وإلاّ فمجرد احتمال القرينية لا يمنع من تمامية مقدمات الحكمة، وهذا ما يظهر من هامش المصنف(1).

ص: 117


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 439.

فصل: الحق جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد المعتبر بالخصوص[1]، كما جاز بالكتاب[2] أو بالخبر المتواتر[3] أو المحفوف بالقرينة القطعية[4] من خبر الواحد[5] بلا ارتياب[6]، لما هو الواضح من سيرة الأصحاب[7] على العمل بأخبار الآحاد في قبال

-----------------------------------------------------------------

فصل تخصيص القرآن بالخبر الواحد

اشارة

[1] لا ما إذا كان دليل اعتبار الخبر هو الانسداد؛ وذلك لأن الحجية حال الانسداد من باب الاحتياط، والاحتياط إنما يجري إذا لم يكن دليل، والكتاب دليل.

[2] أي: كما جاز تخصيص الكتاب بالكتاب، كقوله تعالى: {حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ وَٱلدَّمُ... }(1) المخصصة لقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا}(2).

[3] كالخبر الدال على عدم إرث القاتل، المخصص لآيات الإرث - كما قيل - .

[4] كالخبر الدال على حرمة السمك الذي لا فلس له، المخصِّص لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَحۡرِ وَطَعَامُهُۥ}(3)، والقرينة القطعية هي الإجماع، فتأمل.

[5] «من» بيان لقوله: (أو المحفوف) فالمعنى: الخبر الواحد المحفوف بالقرينة القطعيّة.

[6] أي: جواز تخصيص الكتاب، بالكتاب والمتواتر والمحفوف لا ريب فيه.

دليل جواز التخصيص

[7] والسيرة دليل قطعي، أي: إذا ثبتت سيرة المتشرعة فإنه يحصل القطع بالحكم الشرعي، وهذا هو الدليل الأول.

ص: 118


1- سورة المائدة، الآية: 3.
2- سورة البقرة، الآية: 29.
3- سورة المائدة، الآية: 96.

عمومات الكتاب إلى زمن الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ[1].

واحتمال[2] أن يكون ذلك[3] بواسطة القرينة[4] واضح البطلان[5].

مع أنه لولاه[6] لزم إلغاء الخبر بالمرة أو ما بحكمه[7]، ضرورة[8] ندرة خبر لم

-----------------------------------------------------------------

[1] هذا القيد لأجل أن السيرة ليست بحجة بنفسها، وإنما حجيتها مستندة إلى كشفها عن رضا المعصوم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ؛ لأن عمل الأصحاب بشيء بمرأىً ومسمع من المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من غير ردع منهم كاشف عن رضاهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

[2] إشكال على الدليل الأول، وحاصله: إن عمل الأصحاب بالأخبار المخصصة للكتاب إنّما هو لأجل احتفاف تلك الأخبار بالقرائن القطعية، وأما الخبر غير المحفوف بالقرينة القطعية فلا يعلم تخصيصهم الكتاب به.

[3] أي: عملهم بالخبر الواحد المخصص للكتاب.

[4] أي: القرينة القطعية.

[5] ردّ الإشكال، وحاصله: إنه من المعلوم عملهم بكل خبر معتبر، وتخصيصهم الكتاب به - سواء كان محفوفاً أم لم يكن - ولو كان عملهم لأجل احتفافه بالقرينة لظهر ذلك، حيث كثر عملهم بالخبر الواحد المخصِّص، ولم يظهر أنه كان بالقرينة أصلاً، بل ظهر أنه لم يكن بالقرينة، بل بسبب اعتبار الخبر.

[6] أي: لو لا جواز التخصيص، وهذا دليل ثانٍ على جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد، وحاصله: إن جميع الأخبار مخصِّصة لبعض عمومات الكتاب.

مثلاً: جميع الأخبار الدالة على المحرمات تخصص آية: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا}(1)، وجميع الأخبار الدالة على الواجبات تخصص الآيات الدالة على البراءة، فيلزم من عدم الجواز لغوية اعتبار الخبر الواحد حجة.

[7] أي: ما بحكم الإلغاء، بمعنى إلغاء حجيّة الأكثرية الساحقة من الأخبار.

[8] بيان التلازم بين عدم التخصيص وبين الإلغاء.

ص: 119


1- سورة البقرة، الآية: 29.

يكن على خلافه عموم الكتاب لو سلم وجود ما لم يكن كذلك[1].

وكون[2] العام الكتابي قطعياً صدوراً وخبر الواحد ظنياً سنداً لا يمنع[3] عن التصرف في دلالته[4] الغير القطعية(1)

قطعاً[5]، وإلاّ لما جاز[6]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: لو سلم وجود خبر غير مخالف لعموم الكتاب فإن ذلك نادر جداً.

أدلة المنع عن التخصيص

وقد استدلوا بأربعة أدلة على عدم جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد.

الدليل الأول للمانعين

[2] حاصل الدليل هو: أن الكتاب قطعيّ الصدور والخبر الواحد ظنّي الصدور، ولا اعتبار للظني مقابل القطعي!

[3] هذا ردّ للدليل، وحاصله: إن التخصيص لا يرتبط بالصدور، وإنما بدلالة الكتاب، ومن المعلوم أن دلالته ظنيّة معتمدة على أصالة العموم - الراجعة إلى أن المراد الجدي يتطابق مع المراد الاستعمالي - وحجية أصالة العموم هو في ما لو لم تكن هنالك قرينة على خلافها، والخبر الواحد يصلح للقرينيّة.

وبعبارة أخرى: أصالة العموم والخبر الواحد كلاهما ظنيّان، والجمع العرفي بينهما هو بالتخصيص؛ لأن العمل بالأصالة يستلزم طرح الخبر الواحد، بينما العمل به هو عمل بهما.

[4] أي: في دلالة العام القرآني.

[5] «قطعاً» إما راجع إلى (الدلالة) أي: نقطع بأن الدلالة ظنية، وإما راجع إلى (لا يمنع) أي: لا يمنع عن التصرف قطعاً في الدلالة.

[6] أي: لو كان دليل عدم جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد هو أن الكتاب قطعي الصدور والخبر الواحد ظني السند، فإن هذا الدليل بنفسه يجري في تخصيص الخبر المتواتر بالخبر الواحد، وللزم القول بعدم جواز تخصيص المتواتر بالواحد!

ص: 120


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير القطعية».

تخصيص المتواتر به[1] أيضاً، مع أنه جائز جزماً.

والسر[2]: أن الدوران[3] في الحقيقة بين أصالة العموم ودليل سند الخبر، مع أن الخبر بدلالته وسنده[4] صالح للقرينية[5]

-----------------------------------------------------------------

ولا يلتزم به أحد، بل الكل متفق على جواز تخصيص المتواتر بالخبر الواحد.

[1] أي: بالخبر الواحد أيضاً - كالكتاب - مع أن التخصيص جائز.

[2] هنا يذكر المصنف أمرين:

الأول: إثبات أن الدوران ليس بين صدور الكتاب وسند الخبر الواحد، بل بين أصالة العموم وسند الخبر.

الثاني: بيان حكم هذا الدوران، وأن مقتضى الجمع العرفي هو التخصيص.

[3] بيان للأمر الأول، أي: سبب جواز تخصيص مقطوع الصدور - كالكتاب والمتواتر - بظني الصدور هو أنه ليس التعارض في السند والصدور حتى يرجح القطعي على الظني، بل التعارض إنّما هو بين أصالة العموم وبين دليل حجية الخبر الواحد، ومن المعلوم أن أصالة العموم أصل عقلائي يوجب الظن، بينما دليل حجية الخبر الواحد قطعي، أي: الأدلة القطعية دلت على أن الخبر الواحد حجة، وهذه الحجيّة تستلزم تخصيص الكتاب بالخبر الواحد، حيث إن العمل بأصالة العموم يساوي طرح الخبر الواحد وعدم حجيته.

[4] بيان للأمر الثاني، أي: وبعد دوران الأمر بين أصالة العموم وبين سند الخبر فإن الجمع العرفي بينهما يقتضي التخصيص.

[5] أي: أصالة العموم إنما تجري إذا لم تقم قرينة على خلافها، وهنا وجود الخبر الواحد قرينة على عدم إرادة العموم.

أما دلالته فهي أقوى؛ لأن الخاص أظهر من العام - كما مرّ - وأما سنده فهو حجة؛ لقيام الأدلة القطعية على حجيته، بينما أصالة العموم أصل، والأصل لا يعارض الأمارة - الدليل الاجتهادي - .

على التصرف فيها، بخلافها[1]، فإنها غير صالحة[2] لرفع اليد عن دليل اعتباره.

ولا ينحصر[3] الدليل على الخبر بالإجماع، كي يقال ب«أنه[4] في ما لا يوجد على خلافه دلالة، ومع وجود الدلالة القرآنية يسقط وجوب العمل به[5]». كيف[6]! وقد عرفت أن سيرتهم مستمرة على العمل

ص: 121

به في قبال العمومات الكتابية.

والأخبار الدالة[7] على أن الأخبار المخالفة للقرآن يجب طرحها، أو ضربها على

-----------------------------------------------------------------

[1] ضمير «فيها» و«بخلافها» راجع إلى أصالة العموم.

[2] لأنها أصل، والأصل لا يعارض الأمارة.

الدليل الثاني للمانعين

[3] إشارة إلى الدليل الثاني للمانعين، مع رده. وحاصل الدليل - كما عن المحقق الحلي(1) - : هو أن دليل حجية الخبر هو الإجماع، ومقدار ثبوت الإجماع هو في ما لم يكن دليل أصلاً، فمع عدم وجود أيّ دليل آخر يكون الخبر الواحد حجة، وهنا يوجد عموم قرآني وهو دليل، فلا يكون الخبر الواحد حجة، وبعبارة أخرى: الإجماع دل على حجية الخبر الواحد بشرط أن لا يكون هناك دليل آخر، ومع وجود عموم قرآني لم يتحقق شرط حجية الخبر.

[4] أي: بأن الإجماع.

[5] أي: بالخبر الواحد، فلا يوجد - حينئذٍ - دليل على حجية الخبر الواحد، فلا يجوز العمل به.

[6] شروع في الإشكال على هذا الدليل، وخلاصته: إن دليل حجية الخبر الواحد لا ينحصر بالإجماع، بل من الأدلة السيرة، وهي تشمل الخبر الواحد المخصص للكتاب.

الدليل الثالث للمانعين

[7] وحاصل الدليل: تواتر الروايات(2) على أن الخبر المخالف للكتاب يجب

ص: 122


1- معارج الأصول: 96.
2- وسائل الشيعة 27: 106.

الجدار، أو أنها زخرف، أو أنها مما لم يقل به الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ[1] وإن كانت كثيرةً جداً وصريحة الدلالة[2] على طرح المخالف، إلاّ أنه لا محيص[3]

-----------------------------------------------------------------

طرحه، والخاص مخالف للعام، فالخبر المخصِّص معارض للكتاب، فيجب طرح هذا الخبر وعدم العمل به، فيبقى العام القرآني على عمومه.

وصورة الدليل هكذا:

الصغرى: الخبر المخصص للكتاب مخالف للعام القرآني. والكبرى: وكل مخالف للقرآن يجب الإعراض عنه. فالنتيجة: الخبر المخصص للكتاب يجب الإعراض عنه.

ومعنى وجوب الإعراض عنه هو عدم حجيته، فيبقى العام القرآني سليماً عن التخصيص.

[1] كقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (وإن لم تجدوه موافقاً(1)

فردّوه)(2)،

وقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (وما خالفه(3)

فاضربوا به عرض الحائط)(4)، وقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف)(5)، وقوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله)(6).

[2] فلا يمكن الإشكال على سندها لكثرتها البالغة حد التواتر، ولا يمكن الإشكال على دلالتها لأنها نص صريح في لزوم طرح المخالف.

[3] شروع في الجواب عن هذا الدليل، ويذكر المصنف ثلاثة أجوبة:

الأول: إن التخصيص ليس مخالفة عرفاً، ففي مثل: (أكرم العلماء) و(لا تكرم فساقهم) لا يرى العرف تخالفاً بينهما أصلاً.

الثاني: لو فرض أن التخصيص مخالفة فلابد من حمل تلك الأخبار على نوع

ص: 123


1- أي: للقرآن.
2- وسائل الشيعة 27: 120.
3- أي: للقرآن.
4- تفسير الصافي 1: 36.
5- الكافي 1: 69.
6- الكافي 1: 69.

عن أن يكون المراد[1] من المخالفة في هذه الأخبار غير مخالفة العموم[2]، إن لم نقل[3] بأنها[4] ليست من المخالفة عرفاً، كيف[5]! وصدور الأخبار المخالفة للكتاب بهذه المخالفة منهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ كثيرة جداً.

مع قوة احتمال[6] أن يكون المراد[7] أنهم لا يقولون بغير ما هو قول الله تبارك

-----------------------------------------------------------------

آخر من المخالفة، وهو المخالفة بالتباين، فلا تشمل المخالفة بالعموم والخصوص المطلق؛ وذلك للقطع بصدور كثير من الأخبار المخصصة للقرآن منهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ - كما مرّ - ولا يمكن أن ينهوا عمّا قالوه.

الثالث: أن يكون المراد من المخالفة ما خالف الحكم الواقعي، لا ما خالف ظاهر القرآن؛ للعلم بعدم إرادة الظاهر أحياناً كما في المتشابهات، فيكون المعنى: أنهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ لا يقولون ما يخالف القرآن واقعاً، وقد يصدر منهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ما يخالف الظاهر مع كونه موافقاً لواقع القرآن.

[1] إشارة إلى الجواب الثاني.

[2] أي: العموم القرآني، فمعنى المخالفة ما كان مخالفة بالتباين مع عدم إمكان الجمع العرفي، لا مخالفة العمومات القرآنية.

[3] إشارة إلى الجواب الأول - ذكره استطراداً في وسط الجواب الثاني - .

[4] أي: مخالفة العموم، فهذه ليست مخالفة عرفاً.

[5] تتمة للجواب الثاني، حيث قلنا: إنّ مخالفة العموم حتى وإن كانت مخالفة عرفاً، لكنها غير مرادة من تلك الأخبار. والدليل على ذلك هو القطع بصدور الكثير من الأخبار المخصصة للكتاب منهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، فكيف يأمرون بترك هذه الروايات الصادرة عنهم؟ فلابد من حمل المخالفة على غير مخالفة العموم، مثل المخالفة بالتباين.

[6] إشارة إلى الجواب الثالث.

[7] أي: المراد من الروايات الدالة على طرح الخبر المخالف للكتاب.

ص: 124

وتعالى واقعاً، وإن كان هو على خلافه ظاهراً[1]، شرحاً لمرامه[2] تعالى، وبياناً لمراده من كلامه، فافهم[3].

والملازمة[4] بين جواز التخصيص وجواز النسخ به ممنوعةٌ[5]، وإن كان مقتضى

-----------------------------------------------------------------

[1] وذلك لوجود المتشابهات في القرآن الكريم، التي لا يُراد ظاهرها، مثل قوله تعالى: {إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ}(1)، فمع علمنا بأن الظاهر غير مراد أحياناً من الآيات القرآنية يلزم علينا حمل كلمة المخالفة على المخالفة مع المراد الواقعي للباري تعالى.

[2] أي: الخبر المخالف لظاهر الكتاب يكون شارحاً للمراد الواقعي، وقد مرّ سابقاً أن الخاص يبيّن المراد الجدّي للمتكلم، ففي مثل: (أكرم العلماء) و(لا تكرم فساقهم) العام وإن بقي على عمومه استعمالاً، لكن الخاص يبيّن المراد الجدّي منه - فراجع - .

[3] إشارة إلى عدم صحة هذا الجواب الثالث؛ وذلك لأن هذه الروايات وردت لبيان الضابطة التي يعرف بها الناس الخبر الصحيح من غيره، والناس لا يعرفون إلاّ الظواهر، أما المرادات الواقعية فلا يعلمها إلاّ الراسخون في العلم، وهم رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ والأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، إذن، فالمراد من المخالفة هنا لا تكون إلاّ مخالفة الظاهر.

الدليل الرابع للمانعين

[4] هذا هو الدليل الرابع للمانعين عن تخصيص الكتاب بالخبر الواحد، وحاصله: إنه لو جاز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد لجاز نسخ الكتاب به أيضاً؛ لأن النسخ تخصيص بالأزمان، كما أن التخصيص هو تخصيص في الأفراد. والتالي - وهو النسخ به - باطل إجماعاً، فالمقدم - وهو التخصيص به - أيضاً مثله في البطلان.

[5] حاصل الجواب: إن القاعدة هي جواز نسخ الكتاب بالخبر الواحد كما جاز التخصيص به، لكن رفعنا اليد عن القاعدة في النسخ لجهتين:

ص: 125


1- سورة القيامة، الآية: 23.

القاعدة[1] جوازهما، لاختصاص النسخ بالإجماع على المنع، مع وضوح الفرق بتوافر الدواعي إلى ضبطه[2]، ولذا قلّ الخلاف في تعيين موارده، بخلاف التخصيص.

فصل: لا يخفى: أن الخاص والعام المتخالفين[3] يختلف حالهما ناسخاً ومخصصاً ومنسوخاً، فيكون الخاص مخصصاً تارةً، وناسخاً مرةً، ومنسوخاً أخرى[4]. وذلك

-----------------------------------------------------------------

الأولى: الإجماع على عدم جواز النسخ بالخبر الواحد، ولا يوجد هذا الإجماع في التخصيص.

الثانية: توفر الدواعي لضبط النسخ - لقلّته جداً - عكس التخصيص - لكثرته - .

[1] وهي قاعدة تقديم دليل سند الخبر على الدلالة الظنية للكتاب.

[2] فلو كان نسخ لتواتر نقله أو استفاض على أقل تقدير، فلا يوجد وثوق بصدق المخبر بالنسخ لو كان واحداً.

فصل الدوران بين النسخ والتخصيص

اشارة

[3] بأن يكون أحدهما لثبوت الحكم، والآخر لنفيه، كما لو قال: (أكرم العلماء) و(لا تكرم فساقهم). أما لو لم يكونا متخالفين فالخاص يكون تأكيداً للعام، كما لو قال: (أكرم العلماء) و(أكرم زيداً العالم).

[4] والصور متعددة، وهي:

1- تقارن العام والخاص، وحكمه التخصيص.

2- تقدم العام وكون الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام، وحكمه التخصيص أيضاً.

3- تقدم العام ومجيء الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام، وهذه الصورة قسمان، في أحدهما الحكم هو النسخ، وفي الآخر التخصيص.

ص: 126

لأن الخاص إن كان مقارناً مع العام[1] أو وارداً بعده قبل حضور وقت العمل به[2] فلا محيص عن كونه مخصصاً[3] وبياناً له[4].

وإن كان بعد حضوره[5]، كان ناسخاً لا مخصصاً، لئلا يلزم تأخير البيان عن

-----------------------------------------------------------------

4- تقدم الخاص ومجيء العام قبل حضور وقت العمل بالخاص، وحكمه التخصيص.

5- تقدم الخاص وكون العام بعد حضور وقت العمل بالخاص، وحكمه التخصيص مع احتمال النسخ.

6- تقدم العام مع الجهل بكون الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام أم بعده.

وهناك صور أخرى لم يذكرها المصنف.

الصورة الأولى والثانية

[1] وهي الصورة الأولى، والتقارن يتصور في كلام واحد كقوله: (أكرم العلماء إلاّ الفساق)، أو في كلامين من معصوم واحد.

[2] وهي الصورة الثانية، أي: كان الخاص وارداً بعد العام وقبل حضور وقت العمل بالعام، كما لو قال: (أكرم العلماء يوم الجمعة) ثم في يوم الخميس قال: (لا تكرم فساقهم).

[3] لعدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل - على المشهور - .

[4] لأن التخصيص هو بيان الإرادة الجدية للمتكلّم، وأن لفظه وإن كان عاماً بالإرادة الاستعمالية، إلاّ أنه لم يشمل الخاص بالإرادة الجدية.

الصورة الثالثة

[5] وهذه هو الصورة الثالثة، أي: ان كان الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام. كما لو قال: (أكرم العلماء) ثم بعد مضي زمان من العمل به قال: (لا تكرم فساقهم)، وفي هذه الصورة قسمان:

ص: 127

وقت الحاجة[1] في ما إذا كان العام وارداً لبيان الحكم الواقعي[2]، وإلاّ[3] لكان الخاص أيضاً مخصصاً له[4]،

-----------------------------------------------------------------

القسم الأول: لو كان العام لبيان الحكم الواقعي فالنسخ.

القسم الثاني: لو كان العام لبيان الحكم الظاهري فالتخصيص.

[1] هذا القسم الأول من الصورة الثالثة؛ وذلك لأنه لو لم يكن الخاص مراداً له من الأول فذكر العام من غير بيان الخاص يكون إغراء المكلف بالجهل، وتحميله ما ليس من تكليفه، وخاصة إذا استلزم ارتكاب المكلّف للمحرمات - جهلاً - كما لو قال: (اقتل العدو في الحرب) ثم قال: (ولا تقتل الجريح منهم) فإنه لو ذكر الخاص بعد مضي أيام من الحرب كان تأخيراً للبيان عن وقت الحاجة، وإيقاع المكلف في المخالفة.

أما لو كان نسخاً فلا يستلزم محذوراً؛ لأنه يقال: إن قتل الجرحى كان واجباً ثم نسخ الحكم إلى الحرمة.

[2] لأن مضي الحكم الواقعي هو بمعنى أن العموم مراد بالإرادة الجديّة، ومعنى التخصيص هو أن العموم غير مراد بالإرادة الجدية. وبتعبير الحقائق: (إذ لو كان الخاص مخصصّاً كان خلفاً؛ لأن المخصص كاشف عن عدم كون العام مطابقاً للإرادة الجدية، والمفروض أن العام بعمومه مطابق لها، ووارد لبيان عموم الحكم الواقعي ولو بلحاظ ما قبل زمان ورود الخاص)(1).

[3] هذا القسم الثاني من الصورة الثالثة، أي: وإن لم يكن العام لبيان الحكم الواقعي، بل كان لبيان الحكم الظاهري.

[4] أي: للعام؛ وذلك لعدم التنافي بين الحكم الظاهري - المذكور في العام - والحكم الواقعي في الخاص، وستأتي وجوه الجمع بينهما، وهنا عموم العام لم يكن مراداً بالإرادة الجدية فلا ينافيه التخصيص حتى بعد حضور وقت العمل. وأما سبب

ص: 128


1- حقائق الأصول 1: 536.

كما هو الحال[1] في غالب العمومات والخصوصات في الآيات والروايات.

وإن كان العام وارداً بعد حضور وقت العمل بالخاص[2] فكما يحتمل أن يكون

-----------------------------------------------------------------

ترجيح التخصيص على النسخ فلما سيأتي من كثرة التخصيص الموجبة لظهور الخاص فيه.

[1] من عدم كون تلك العمومات لبيان الحكم الواقعي، بل لبيان الحكم الظاهري.

الصورة الرابعة

لم تذكر الصورة الرابعة في أكثر نسخ الكفاية، بل نقلها في منتهى الدراية عن بعض النسخ، وتمام العبارة: (وإن كان العام وارداً بعده قبل حضور وقت العمل به كان الخاص مخصصاً وبياناً له)(1)، انتهى.

وحاصل الصورة: تقدم الخاص وتأخر العام، ولكن مجيء العام كان قبل حضور وقت العمل بالخاص، كما لو قال: (لا تكرم زيداً العالم) ثم قبل حضور وقت العمل قال: (أكرم العلماء)، فلا محيص عن التخصيص بأن يقال: يجب إكرام العلماء إلاّ زيداً؛ وذلك لما مرّ من أن المشهور عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل.

الصورة الخامسة

[2] إشارة إلى الصورة الخامسة، وهي: ما لو تقدم الخاص وحضر وقت العمل به ثم جاء العام، فإنه يحتمل التخصيص ويحتمل النسخ.

أما التخصيص فلعدم محذور فيه، وعدم استلزام تأخير البيان عن وقت الحاجة، فمثل: (لا تحترم الظالم) وحضر وقت العمل، ثم قال: (احترم كل إنسان)، فلو كان إرادته التخصيص كان حاصل كلامه: (احترم كل إنسان إلاّ الظالم) وتقديم الخاص لم يكن مضراً بمراده أصلاً.

وأما النسخ فلإمكان أن يكون قد انتهى أمد الخاص، والحكم عليه بحكم جديد.

ص: 129


1- منتهى الدراية 3: 650.

الخاص مخصصاً للعام يحتمل أن يكون العام ناسخاً له، وإن كان الأظهر[1] أن يكون الخاص مخصصاً، لكثرة التخصيص حتى اشتهر «ما من عام إلاّ وقد خص»، مع قلة النسخ في الأحكام جداً. وبذلك[2] يصير ظهور الخاص في الدوام - ولو كان بالإطلاق[3] - أقوى من ظهور العام - ولو كان بالوضع[4] -، كما لا يخفى. هذا[5] في ما علم تاريخهما.

وأما لو جُهل وتردد بين أن يكون الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام وقبل حضوره[6]

-----------------------------------------------------------------

[1] منشأ هذا الظهور الكثرة، ولا نريد الترجيح بالكثرة؛ لأنها توجب الظن، ولا حجية له، بل الكثرة توجب الظهور، والظهور حجة.

[2] أي: بكثرة التخصيص وقلة النسخ، والمراد هو أن مناط الحجية في الألفاظ هو الظهور، ولا أهمية لمنشأ الظهور، فالإطلاق أضعف من الوضع - عادة - ولذلك يرجح الوضع على الإطلاق في أغلب الموارد، ولكن هنا يرجح الإطلاق على الوضع؛ لأن الإطلاق بقرينة خارجية - هي الكثرة - صار منشأ للظهور الذي هو المناط في الحجية.

[3] الخاص له إطلاق زماني، أي: إن الحكم مستمر في كل الأزمنة، ففي مثال: (لا تحترم الظالم) لو كان الحكم خاصاً بزمان دون زمان آخر كان على المولى الحكيم بيانه، وعدم البيان دليل على إرادته العموم الأزماني.

[4] أي: لو كان عموم العام مستنداً إلى الوضع، كما في الجمع المحلّى باللام، ولفظة (كل).

[5] أي: ما ذكر من أحكام للصور الخمس.

الصورة السادسة
اشارة

[6] إشارة إلى الصورة السادسة، وحاصلها: لو ورد عام ثم ورد خاص بعده،

ص: 130

فالوجه هو الرجوع إلى الأصول العملية[1]. وكثرة التخصيص[2] وندرة النسخ هاهنا

-----------------------------------------------------------------

ولم يعلم بأن الخاص كان قبل حضور وقت العمل بالعام - كي يكون تخصيصاً - أم كان بعد حضور وقت العمل بالعام - حتى يكون نسخاً - .

[1] ومقتضاها البراءة؛ لأن الشك - حينئذٍ - هو شك في أصل التكليف.

فعلى التخصيص: لم يكن مكلفاً بالخاص أصلاً، وعلى النسخ: كان مكلفاً بالعام إلى حين مجيء الخاص ناسخاً لحكم العام، فالأمر دائر بين التكليف وعدمه، ومقتضى القاعدة البراءة.

[2] جواب عن إشكال مقدر، وحاصله: إنه لا معنى للرجوع إلى الأصول العملية مع كثرة التخصيص وقلة النسخ، حيث إن اللازم هو الحمل على التخصيص لكثرته.

والجواب: هو أن الكثرة لا توجب إلاّ الظن وهو ليس بحجة فلا يمكن التمسك بها.

إن قلت: ما الفرق بين هذه الصورة السادسة - حيث لم تأخذوا بالكثرة - وبين الصورة الخامسة وقد قال المصنف: (وإن كان الأظهر أن يكون الخاص مخصصاً لكثرة التخصيص... الخ).

قلت: الكثرة في الصورة الخامسة أوجبت تقوية الظهور في التخصيص؛ ولذا أخذنا بها؛ لأنه انعقد بالإطلاق ظهور للخاص في استمرار الحكم، والكثرة أوجبت قوة هذا الظهور، عكس الصورة السادسة حيث لم توجب الكثرة ظهوراً ولا تقوية لظهور. وفي الحقائق: (ليس الدوران هنا بين ظهورين كي يقوى أحدهما بالظن المذكور، بل الدوران بين ورود الخاص قبل حضور وقت العمل وبعده، وليس أحدهما مؤدى ظهور كي يقوى بالظن)(1)، انتهى.

ص: 131


1- حقائق الأصول 1: 538.

وإن كانا يوجبان الظن بالتخصيص أيضاً[1]، وأنه واجد لشرطه[2]، إلحاقاً له بالغالب[3]، إلاّ أنه لا دليل على اعتباره[4]، وإنما يوجبان[5] الحمل عليه في ما إذا ورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاص[6]، لصيرورة الخاص بذلك[7] في الدوام[8] أظهر من العام، كما أشير إليه، فتدبر جيداً.

ثم إن تعيّن الخاص للتخصيص إذا ورد قبل حضور وقت العمل بالعام[9] أو ورد العام قبل حضور وقت العمل به[10] إنما يكون مبنياً على عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل[11]،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: كالصورة الخامسة.

[2] أي: وأن الخاص واجد لشرط التخصيص، وذلك الشرط هو كونه قبل حضور وقت العمل.

[3] أي: إلحاقاً للخاص بالغالب - وهو التخصيص - .

[4] أي: لا دليل على اعتبار هذا الظن؛ وذلك لما سيأتي من أن الأصل في الظن هو عدم الحجية، إلاّ إذا قام دليل خاص على اعتباره كالخبر الواحد - مثلاً - .

[5] أي: يوجب كثرة التخصيص وقلة النسخ، الحمل على التخصيص. وهذا دفع للسؤال المذكور عن الفرق بين الصورة الخامسة - حيث رجحنا بالكثرة - وبين الصورة السادسة - حيث لم نرجح بها - .

[6] أي: في الصورة الخامسة - السابقة - .

[7] أي: بذلك الظن الحاصل من الكثرة.

[8] أي: كان إطلاقه دالاً على شمول الحكم لكل الأزمنة.

احتمال النسخ في الصورة الثانية والرابعة

[9] وهي الصورة الثانية.

[10] أي: بالخاص، وهي الصورة الرابعة.

[11] كما هو المشهور، حيث قالوا بلزوم حضور وقت العمل، وبعضهم اشترط

ص: 132

وإلاّ[1] فلا يتعين له[2]، بل يدور بين كونه مخصصاً وناسخاً في الأول[3]، ومخصصاً

-----------------------------------------------------------------

فعلية العمل: أي: عمل بعض المكلفين بالمنسوخ.

وعمدة دليلهم هو أن النسخ قبل حضور وقت العمل يستلزم لغوية الحكم المنسوخ.

[1] أي: إن لم يشترط حضور وقت العمل، كما عليه غير المشهور، ودليلهم هو: أن الأحكام على قسمين، ما فيه المصلحة في العمل، وما فيه المصلحة في نفس الحكم. والقسم الثاني يجوز نسخه قبل حضور وقت العمل؛ لأن الغرض منه الامتحان - مثلاً - وهو يحصل في ما لو تهيأ العبد وانشغل بالمقدمات، كما في أمر إبراهيم بذبح إسماعيل‘، حيث حصل الغرض من الأمر ونجحا في الامتحان قبل حضور وقت العمل، فتأمل.

[2] لأنه مع جواز النسخ وجواز التخصيص وإمكانهما فلا ترجيح لأحدهما على الآخر، وحينئذٍ يكون المرجع الأصول العملية.

[3] أي: الأول المذكور هنا - وهو الصورة الثانية - وهو ما إذا تقدم العام وورد الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام، فالخاص المتأخر يحتمل أن يكون مخصصاً للعام ويحتمل أن يكون ناسخاً.

قال المصنف في الهامش: (لا يخفى أن كونه مخصصاً بمعنى كونه مبنياً بمقدار المرام عن العام، وناسخاً بمعنى كون حكم العام غير ثابت في نفس الأمر في مورد الخاص، مع كونه مراداً ومقصوداً بالإفهام في مورده بالعام، كسائر الأفراد، وإلاّ فلا يتفاوت بينهما عملاً أصلاً، كما هو واضح لا يكاد يخفى)(1)،

انتهى.

وحاصله هو: فقدان الثمرة، فسواء كان الخاص ناسخاً أم مخصصاً فإنه يجب العمل بما بقي من أفراد العام، ويخرج الخاص عن ذلك العموم. نعم، كيفية الخروج تختلف.

ص: 133


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 455.

ومنسوخاً في الثاني[1]، إلاّ أن الأظهر كونه مخصصاً، وإن كان ظهور العام في عموم الأفراد أقوى من ظهوره وظهور الخاص في الدوام[2]، لما أشير إليه[3] من تعارف التخصيص وشيوعه وندرة النسخ جداً في الأحكام.

ولا بأس بصرف الكلام إلى ما هو نخبة القول في النسخ.

فاعلم: أن النسخ وإن كان رفع الحكم الثابت إثباتاً[4]، إلاّ أنه في الحقيقة دفع الحكم ثبوتاً[5]،

-----------------------------------------------------------------

[1] الثاني المذكور هنا - وهو الصورة الرابعة - وهو ما إذا تقدم الخاص وورد العام قبل حضور وقت العمل بالخاص، فالخاص المتقدم يحتمل أن يكون مخصصاً للعام المتأخر، ويحتمل أن يكون منسوخاً والعام ناسخاً.

[2] مراد المصنف أن التخصيص أظهر حتى لو كانت دلالة العام على العموم بالوضع، ودلالة الخاص على الدوام بالإطلاق، فهنا يقدم الإطلاق على الوضع، فيرفع اليد عن عموم العام ويقال بخروج بعض الأفراد منه بالتخصيص، ويؤخذ بالخاص ويقال: إنّه مستمر لكل الأزمنة ولا نسخ فيه.

وفي بعض النسخ (وإن كان ظهور العام في عموم الأفراد أقوى من ظهور الخاص في الدوام) وهو أصوب.

[3] تعليل لترجيح التخصيص على النسخ.

بحث في النسخ
اشارة

[4] «إثباتاً» متعلق ب- (رفع)، فالمعنى إن إطلاق دليل المنسوخ شامل لكل الأزمان، ولكن هذا الإطلاق في الظاهر والإثبات، وليس بمراد واقعاً. فالدليل الناسخ في الظاهر رافع لإطلاق الحكم، لكنه في الواقع ليس كذلك.

[5] أي: في الواقع هو بيان لعدم المقتضي لأصل الحكم، أو عدم المقتضي في استمرار الحكم بعد أن كانت المصلحة لزمان محدّد.

ص: 134

وإنما اقتضت الحكمة إظهار[1] دوام الحكم واستمراره[2] أو أصل إنشائه[3] وإقراره، مع أنه بحسب الواقع ليس له قرار[4] أو ليس له دوام واستمرار[5]؛ وذلك لأن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ الصادع للشرع[6]

-----------------------------------------------------------------

وحاصل العبارة هو: أن النسخ في الظاهر هو إزالة الحكم، لكنه في الواقع بيان لعدم المقتضي للحكم أو لاستمراره، والأولى التعبير ب- (بيان انتهاء أمد الحكم).

[1] الأولى التعبير ب- (إخفاء عدم دوام الحكم، أو عدم وجود المقتضي له)، لأن إظهار خلاف الواقع لا يليق به تعالى.

[2] في ما لو كان النسخ بعد حضور وقت العمل، حيث كانت المصلحة في الحكم، ولكن لأمدٍ محدود، مثل آية الصدقة قبل النجوى(1).

[3] في ما لو كان النسخ قبل حضور وقت العمل، حيث لم يكن للشيء مصلحة، وإنما المصلحة في إنشاء الحكم فقط، مثل: ذبح إسماعيل عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فلم يكن في ذبحه مصلحة، وإنما اُنشئ الحكم امتحاناً لإبراهيم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[4] أي: لم يكن له ثبوت؛ لعدم المصلحة فيه أصلاً، وإنّما كانت المصلحة في إنشائه امتحاناً.

[5] في ما كانت المصلحة موقتة بوقت معين واقعاً، ولا مصلحة بعد ذلك الوقت.

[6] أي: الذي يجهر به كقوله تعالى: {فَٱصۡدَعۡ بِمَا تُؤۡمَرُ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡمُشۡرِكِينَ}(2)، والجذر اللغوي للصدع هو التشقُّق(3)،

ومنه تَصدُّع الأرض لقوله: {وَٱلۡأَرۡضِ ذَاتِ ٱلصَّدۡعِ}(4) أي: التشقق بالأنهار والنباتات، ومنه تفرق الناس

ص: 135


1- في سورة المجادلة، الآية: 12.
2- سورة الحجر، الآية: 94.
3- العين 1: 291.
4- سورة الطارق، الآية: 12.

ربما يُلهم أو يوحى إليه[1] أن يُظهر الحكم أو استمراره مع اطّلاعه على حقيقة الحال وأنه ينسخ في الاستقبال، أو مع عدم اطّلاعه على ذلك، لعدم إحاطته[2]

-----------------------------------------------------------------

كقوله: {مِن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ يَوۡمٞ لَّا مَرَدَّ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِۖ يَوۡمَئِذٖ يَصَّدَّعُونَ}(1) أي: يتفرقون بعض إلى الجنة وبعض إلى النار، ومنه وجع الرأس؛ لأنه كالمتشقق رأسه، قال تعالى: {لَّا يُصَدَّعُونَ عَنۡهَا وَلَا يُنزِفُونَ}(2) أي: لا يصابون بالصُداع ولا ينزفون بذهاب عقولهم، والجهر بالشرع موجب للمشاكل والابتلاءات المختلفة فكأنّه أوجب صداع الرأس، أو أن هذا الجهر يوجب انقسام الناس، ففريق يقبل الحق، وآخر يرفضه.

[1] الإلهام والوحي متقاربان معنىً، وقد يستعمل أحدهما مكان الآخر، إلاّ أن (الإلهام) في الأصل الإلقاء في الذهن من غير سبب ظاهر، كما قد تحصل إشراقات في الذهن، كقوله تعالى: {فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا}(3)، و(الوحي) هو إلقاء المطلب بالإشارة كقوله سبحانه: {فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ مِنَ ٱلۡمِحۡرَابِ فَأَوۡحَىٰٓ إِلَيۡهِمۡ}(4).

[2] تعليل ل- (عدم اطلاعه على ذلك)، والحاصل: إنه لا يمتنع عدم اطّلاع بعض الأنبياء عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ على النسخ أو غيره، ولا يستغرب أحد ذلك؛ لأن علم الله غير متناهٍ، والإنسان متناه، فلا يعقل أن يعلم كل ما يعلمه الله تعالى، لاستحالة إحاطة المتناهي باللامتناهي.

أما بالنسبة لرسول الله محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ والأئمة الطاهرين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ فقد دلت الروايات على علمهم بما كان وما يكون وما هو كائن مع استثناء مشيئة الله تعالى، كما عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (لو لا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما يكون إلى يوم القيامة)(5)،

قال

ص: 136


1- سورة الروم، الآية: 43.
2- سورة الواقعة، الآية: 19.
3- سورة الشمس، الآية: 8.
4- سورة مريم، الآية: 11.
5- الإرشاد 1: 35؛ بحار الأنوار 40: 144.

بتمام ما جرى في علمه تبارك وتعالى. ومن هذا القبيل لعله[1] يكون أمر إبراهيم بذبح إسماعيل.

وحيث عرفت: أن النسخ بحسب الحقيقة يكون دفعاً وإن كان بحسب الظاهر رفعاً، فلا بأس به مطلقاً[2]، ولو كان قبل حضور وقت العمل، لعدم لزوم البداء

-----------------------------------------------------------------

تعالى: {يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ}(1). وسيأتي شرحها بعد قليل في بحث البداء.

[1] حيث إن علم إبراهيم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بنسخ حكم الذبح كان نقضاً للغرض وهو امتحانه، فإن الإنسان العادي إذا علم بنسخ حكم شاق عليه لا تصعب عليه المقدمات، ولا معنى لامتحانه فيه.

وإنّما قال: «لعلّه» لأن البعض يرى أن إبراهيم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لم يكن مأموراً بالذبح(2)،

وإنّما كان مأموراً بالمقدمات، فلمّا أتى بها خاطبه الله {قَدۡ صَدَّقۡتَ ٱلرُّءۡيَآۚ}(3) أي: عملت بما أمرت به.

النسخ قبل حضور وقت العمل

[2] أي: لا محذور في النسخ، سواء كان قبل حضور وقت العمل أم بعد حضور وقت العمل؛ وذلك لأنه مع عدم المصلحة واقعاً في أصل الحكم يصح الأمر به لغرض آخر كالامتحان، ثم ينسخ قبل حضور وقت العمل بأن يُبيّن بأن الحكم لم يكن واقعياً.

وكذلك مع عدم المصلحة في استمرار الحكم يصح الأمر به لغرض العمل لفترة فيها المصلحة، ثم ينسخ بأن يبين انتهاء أمد الحكم.

ص: 137


1- سورة الرعد، الآية: 39.
2- التبيان في تفسير القرآن 8: 518.
3- سورة الصافات، الآية: 105.

المحال[1] في حقه تبارك وتعالى بالمعنى المستلزم لتغير إرادته تعالى[2] مع اتحاد الفعل ذاتاً وجهةً[3]، ولا لزوم[4] امتناع النسخ[5] أو الحكم المنسوخ[6]، فإن الفعل إن

-----------------------------------------------------------------

[1] يقول المصنف: وحيث لا يصح هذا الدليل ولا سائر أدلة الامتناع فلا محذور في النسخ قبل حضور وقت العمل.

وحاصل الدليل: إن الحكم لا يكون إلاّ عن مصلحة، وحيث ينسخ قبل حضور وقت العمل فإنه يكشف عن عدم مصلحة في الفعل أصلاً، ولازم ذلك هو الجهل، وحيث بطل اللازم بطل الملزوم.

وبيانه: إ ن الفعل الواحد - مع حفظ كل الجهات فيه - إما أن يكون فيه المصلحة أو لا يكون، والأمر به يكشف عن وجود مصلحة، ثم لو نسخه قبل حضور وقت العمل كان معناه عدم وجود المصلحة، وهذا هو البداء المحال في حقه تعالى، أي: يكشف هكذا نسخ عن تغير الإرادة بسبب الجهل سابقاً! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

[2] وتغير الإرادة دليل على الجهل سابقاً، وهذا محال عليه تعالى. نعم، الإنسان تتغير إرادته في الشيء الواحد لأنه كان يجهل فأراد، ثم لمّا انكشف له الواقع تتغير إرادته.

[3] أي: مع بقاء ذات الفعل وصفاته فإنه يستحيل أن يتصف بحكمين واقعاً، أما مع تغير ذات الفعل كضرب اليتيم ظلماً أو تأديباً، أو صفات الفعل كطروّ عنوان الاضطرار والضرر ونحوهما فلا بأس بتغير الحكم، ولا يستلزم هذا التغير الجهل، بل هو من باب تعدد الحكم بتعدد الموضوع.

[4] أي: ولا يصح الدليل الثاني للامتناع قبل حضور وقت العمل أيضاً، وحاصله: إن الفعل إن كان فيه مصلحة يمتنع نسخه، وإن لم يكن فيه مصلحة امتنع جعل ذلك الحكم.

[5] إذا كان في الفعل مصلحة.

[6] إن لم يكن في الفعل مصلحة.

ص: 138

كان مشتملاً على مصلحة موجبة للأمر به امتنع النهي عنه، وإلا امتنع الأمر به[1]. وذلك[2] لأن الفعل أو دوامه[3] لم يكن متعلقاً لإرادته، فلا يستلزم نسخ أمره بالنهي تغيير إرادته؛ ولم يكن الأمر[4] بالفعل من جهة كونه[5] مشتملاً على مصلحة، وإنما كان إنشاء الأمر به[6] أو إظهار دوامه[7] عن حكمة ومصلحة.

وأما البداء في التكوينيات بغير ذاك المعنى[8]: فهو مما دل عليه الروايات

-----------------------------------------------------------------

[1] لأن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، فمع وجود مصلحة لا معنى لتغير الحكم، ومع عدمها لا معنى لأصل جعله.

[2] شروع في الرد على الدليلين، وأنه لا فرق بين حضور وقت العمل وعدم حضوره، فإن صح الإشكالان فلا فرق بين الحضور وعدمه.

[3] رد الدليل الأول، وحاصل الرد: إن أصل الحكم المنسوخ قبل حضور وقت العمل، أو استمرار الحكم المنسوخ بعد حضور وقت العمل، لم يكن متعلقاً لإرادته تعالى، فلم تكن إرادة جدية من أول الأمر، فلا تغير في الإرادة بالنسخ.

[4] رد الدليل الثاني، وحاصل الرد: إن المصلحة لا تنحصر في المقتضي في الفعل، بل يمكن أن تكون في نفس إنشاء الحكم، كالأوامر الامتحانية، أو تكون في إخفاء عدم استمرار الحكم.

[5] أي: كون الفعل.

[6] أي: بالفعل، وهذا في النسخ قبل حضور وقت العمل.

[7] لو كان النسخ بعد حضور وقت العمل.

بحث في البداء
اشارة

[8] أي: بغير المعنى المستلزم لتغير إرادته تعالى مع اتحاد الفعل ذاتاً وجهة، وهذا المعنى مستلزم للجهل، والله سبحانه منزه عن أي نقص وجهل، فهذا محال في حقه تعالى، أما البداء بغير ذاك المعنى فلا إشكال فيه، بل دلت عليه الروايات.

ص: 139

المتواترات[1]، كما لا يخفى. ومجمله: أن الله تبارك وتعالى إذا تعلقت مشيته تعالى بإظهار ثبوت ما يمحوه، لحكمة داعية إلى إظهاره[2]، ألهم أو أوحى إلى نبيه أو وليه أن يخبر به مع علمه بأنه يمحوه، أو مع عدم علمه به[3]، لما أشير[4] إليه من عدم

-----------------------------------------------------------------

[1] منها: ما رواها ثقة الإسلام الكليني رضوان الله عليه في الكافي الشريف، كتاب التوحيد باب البداء، ونذكرهنا بعضها.

عن أبي عبدالله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قال: في هذه الآية {يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ}(1) قال فقال: (وهل يمحي إلاّ ما كان ثابتاً وهل يثبت إلاّ ما لم يكن)(2).

وعن أبي عبدالله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (ما بدا لله في شيء إلاّ كان في علمه قبل أن يبدو له)(3).

[2] كإظهار عذاب قوم يونس، والحكمة هي تضرعهم واستكانتهم وتوبتهم، فإن الإنسان إذا علم صدور حكم الإعدام عليه فإنه يلتجئ إلى من يظن أنه منجيه، ويتوسل بكل ما يتمكن، ولو كان يقال لهم من الأول: إن العذاب مرفوع لما كانوا ينتبهون ويتضرعون، قال تعالى: {فَلَوۡلَآ إِذۡ جَآءَهُم بَأۡسُنَا تَضَرَّعُواْ}(4)، فالله تعالى أظهر أنهم سيعذبون لكن أخفى شرط العذاب، وهو عدم التضرع.

[3] أي: مع علم النبي أو الولي بأن الله يمحو ذلك الأمر أو مع عدم علمهما، كما أن يونس عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لم يكن يعلم بالمحو حسب ما يستفاد من قوله تعالى: {وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَٰضِبٗا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقۡدِرَ عَلَيۡهِ}(5) الآية.

[4] تعليل لعدم علمه، أي: ما ذكرناه قبل قليل في النسخ بأن الأنبياء لا يحيطون بجميع علم الله تعالى، فيمكن أن يكون ما يمحوه من ذلك.

ص: 140


1- سورة الرعد، الآية: 39.
2- الكافي 1: 146.
3- الكافي 1: 148.
4- سورة الأنعام، الآية: 43.
5- سورة الأنبياء، الآية: 87.

الإحاطة بتمام ما جرى في علمه، وإنما يخبر به لأنه حال الوحي أو الإلهام - لارتقاء نفسه الزكية، واتصاله بعالم لوح المحو والإثبات[1] - اطلع على ثبوته ولم يطلع على كونه معلقاً على أمر غير واقع[2] أو عدم الموانع[3]؛ قال الله تبارك وتعالى: {يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ}(1) الآية.

نعم، من شملته العناية الإلهية، واتصلت نفسه الزكية بعالم اللوح المحفوظ[4] - الذي هو من أعظم العوالم الربوبية، وهو أم الكتاب - يكشف[5] عنده الواقعيات على ما هي عليها، كما ربما يتفق لخاتم الأنبياء، ولبعض الأوصياء، كان عارفاً[6] بالكائنات كما كانت وتكون. نعم، مع ذلك[7]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: المقدرات التي يمكن أن تتغير لمصلحة؛ كما في الأجل المعلّق الذي يمكن محوه بالصدقة ونحوها، كما ورد في ذلك الروايات المختلفة، وقد جمعها في تفسير البرهان في تفسير قوله تعالى في سورة الرعد: {يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ}، فراجع(2).

[2] أي: كان معلقاً على شرط، لكن الشرط لم يتحقق.

[3] أي: كان معلقاً على عدم مانع، لكن وجد المانع.

[4] الذي يظهر من بعض الروايات أن الله أثبت فيه كل ما يتحقق كما يتحقق، من غير محو أو تغيير.

[5] «يكشف» - بالبناء للمفعول - جزاء قوله: (من شملته).

[6] قوله: «كان» بدل أو عطف بيان لقوله: (يكشف عنده) فيكون حاصل المعنى: من شملته العناية الإلهية يكشف عنده الواقعيات، أي: كان عارفاً بالكائنات.

[7] أي: مع علمهم بما في اللوح المحفوظ، والحاصل: إن علم خاتم الأنبياء وبعض الأوصياء بما في اللوح المحفوظ لا ينافي أن يأمرهم الله بالإخبار بما ينسخ من الأحكام، أو ما فيه البداء من التكوينيات.

ص: 141


1- سورة الرعد، الآية: 39.
2- البرهان في تفسير القرآن 3: 264.

ربما يوحى إليه حكم من الأحكام[1]، تارةً[2] بما يكون ظاهراً في الاستمرار والدوام معه أنه في الواقع له غاية وأمد يعينها بخطاب آخر، وأخرى[3] بما يكون ظاهراً في الجِد مع أنه لا يكون واقعاً بجِد، بل لمجرد الابتلاء والاختبار، كما أنه[4] يؤمر وحياً أو إلهاماً بالإخبار بوقوع عذاب أو غيره مما لا يقع لأجل حكمة في هذا الإخبار أو ذاك الإظهار. فبدا له[5] تعالى، بمعنى: أنه يظهر ما أمر نبيه أو وليه بعدم إظهاره أولاً، ويبدي ما خفي ثانياً[6]. وإنما نسب إليه تعالى البداء[7] مع إنه في الحقيقة الإبداء، لكمال شباهة إبدائه تعالى كذلك بالبداء في غيره.

-----------------------------------------------------------------

[1] التشريعية أو التكوينية، وهو على أقسام ثلاثة:

1- الحكم التشريعي الذي يكون لفترة، وينتهي أمده في زمان، لكنه لم يذكر أمده حين التشريع - وهذا النسخ بعد حضور وقت العمل - .

2- الحكم التشريعي الذي يكون للاختبار - وهذا ينسخ قبل حضور وقت العمل - .

3- البداء في التكوينيات.

[2] إشارة إلى القسم الأول.

[3] إشارة إلى القسم الثاني.

[4] إشارة إلى القسم الثالث.

[5] أي: معنى البداء هو الإظهار وليس بمعنى الظهور، فالحاصل: إنه كان يعلم لكنه أخفاه ثم أظهره.

[6] «ثانياً» متعلق بقوله: (يبدي)، أي: أولاً يأمر بعدم الإظهار، ثم ثانياً يبدي ما أخفاه.

[7] جواب عما يقال من أن الإظهار بعد الإخفاء هو (إبداء)، فلماذا سمي (بداء)، والمعنى اللغوي للبداء هو الظهور؟

فيقال في الجواب: إن الإبداء منه تعالى يشبه في الظاهر البداء في غيره؛ ولذا سُمّي بداءً، مع أنه يتغاير معه جوهراً وحقيقة.

ص: 142

وفي ما ذكرنا كفاية في ما هو المهم في باب النسخ، ولا داعي بذكر تمام ما ذكروه في ذاك الباب[1]، كما لا يخفى على أولي الألباب.

ثم لا يخفى ثبوت الثمرة بين التخصيص والنسخ[2]، ضرورة أنه[3] على

-----------------------------------------------------------------

[1] وللعلامة المجلسي رضوان الله عليه بحوث قيمة حول البداء، فليراجع كتاب مرآة العقول المجلد الثاني الصفحة 123 فما بعد.

الثمرة بين التخصيص والنسخ

[2] حاصل الثمرة: إنه قد يكون العام سابقاً والخاص لاحقاً، وقد يكون العكس.

وعلى الأول - وهو ورود الخاص بعد العام - :

فعلى التخصيص: ففي الزمان الفاصل بين العام والخاص لم يكن الخاص محكوماً بحكم العام، مثلاً: لو قال يوم الجمعة: (أكرم العلماء) ثم قال يوم الأحد: (لا تكرم فساق العلماء)، ففي يوم السبت لم يكن يجب إكرام فساقهم، وعليه فلو لم يكرمهم - قبل ورود الخاص - كان متجرياً لا عاصياً، ولا يجب عليه القضاء.

وأما على النسخ: فإنه في الزمان الفاصل كان محكوماً بحكم العام، فترك إكرام فساقهم معصية، ويجب عليه القضاء - إن كان مما فيه القضاء - .

وأما على الثاني - وهو ورود العام بعد الخاص - : فعلى التخصيص: يستمر حكم الخاص حتى بعد ورود العام، فلو قال: (لا تكرم زيداً)، ثم قال: (أكرم العلماء)، فإن لازم التخصيص هو استمرار المنع عن إكرام زيد العالم.

وأما على النسخ: فإن حكم الخاص ينتهي، ويلزم إجراء حكم العام عليه، ففي المثال كان: (أكرم العلماء) ناسخاً لحكم عدم إكرام زيد، فيجب إكرام زيد بعد ورود العام.

[3] حكم الصورة الأولى، وهي تقدّم العام وتأخر الخاص.

ص: 143

التخصيص يبنى على خروج الخاص عن حكم العام رأساً، وعلى النسخ على ارتفاع حكمه عنه من حينه[1] في ما دار الأمر بينهما في المخصّص[2]. وأما إذا دار[3] بينهما في الخاص والعام[4]، فالخاص على التخصيص غير محكوم بحكم العام أصلاً[5]، وعلى النسخ كان محكوماً به[6] من حين صدور دليله، كما لا يخفى.

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: ارتفاع حكم العام عن الخاص من حين ورود الخاص؛ لأن الناسخ يرفع الحكم من حين وروده.

[2] أي: دار الأمر بين التخصيص والنسخ، «في المخصّص» أي: في ما تأخر الخاص.

[3] حكم الصورة الثانية - وهي تقدم الخاص وتأخر العام - .

[4] أي: مع تقدم الخاص وتأخر العام.

[5] لأن الخاص يبين الإرادة الجدية للعام - كما مرّ - .

[6] أي: كان الخاص محكوماً بحكم العام من حين صدور دليل العام، وأما قبل صدور العام فكان الحكم في الخاص هو حسب مقتضى الدليل الأول.

ص: 144

المقصد الخامس في المطلق والمقيد والمجمل والمبين

اشارة

ص: 145

ص: 146

المقصد الخامس في المطلق والمقيد والمجمل والمبين، فصل: عرّف المطلق بأنه ما دل على شائع في جنسه[1].

وقد أشكل عليه بعض الأعلام[2] بعدم الاطراد[3] أو الانعكاس[4]، وأطال الكلام في النقض والإبرام. وقد نبهنا في غير مقام[5]

-----------------------------------------------------------------

فصل معنى المطلق والمقيد

اشارة

[1] المراد بالجنس: الطبيعة، فيشمل الجنس المنطقي، والنوع، والصنف، بل والشخص - باعتبار حالاته المختلفة - والمراد بالشيوع: الشمول لكل الجزئيات على البدل. و(المقيد) هو ما لم يكن شائعاً في جنسه.

[2] صاحب الفصول(1).

[3] أي: هذا التعريف لا يطرد الأغيار؛ لأنه يشمل مثل: (من، ما، أيّ) الاستفهاميات، فإن مثل: (من تكرم)؟ دلّ بالوضع على شايع في جنسه، حيث إنه قابل للانطباق على كثيرين - بالعموم البدلي - لكنه ليس بمطلق؛ لأن شيوعه بالوضع لا بمقدمات الحكمة.

[4] حيث إن هذا التعريف لا يشمل بعض أفراد المطلق، مثل ما دل على نفس الماهية، كاسم الجنس وعلم الجنس، مثل: (رجل) المراد به طبيعة الرجل.

[5] في غير مقام واحد، أي: في مقامات متعددة، كما في بحث المطلق والمشروط، وصدر بحث العام والخاص.

ص: 147


1- الفصول الغروية: 218.

على أن مثله شرح الاسم[1]، وهو مما يجوز أن لا يكون بمطّرد ولا بمنعكس[2]. فالأولى الإعراض عن ذلك[3] ببيان ما وضع له[4] بعض الألفاظ التي يطلق عليها المطلق أو من غيرها[5] مما يناسب المقام.

فمنها: اسم الجنس[6]، كإنسان ورجل وفرس وحيوان وسواد وبياض... إلى غير ذلك[7] من أسماء الكليات من الجواهر والأعراض بل العرضيات[8].

-----------------------------------------------------------------

[1] «شرح الاسم» هو تبديل لفظ مكان لفظ آخر لتقريب المعنى إلى الذهن، كقولهم: (سعدانة نبت).

[2] فمثل: (الإنسان موجود عاقل) يراد به شرح الاسم، وليس هو طارد للأغيار، حيث هناك موجودات عاقلة غير الإنسان كالجن، ولا جامع للأفراد لعدم شموله للمجانين، لكن لا بأس بهذا التعريف؛ لأن المراد منه شرح الاسم.

[3] أي: عن التعريف وعن النقض والإبرام فيه.

[4] أي: ببيان المعاني التي وضعت ألفاظ المطلق لها.

[5] أي: من غير ما تسمى بالمطلق، فيكون حاصل العبارة: ببيان ما وضع له بعض الألفاظ التي لا تُسمّى بالمطلق، مثل: المعرّف بلام العهد، فإنه ذكر استطراداً لمناسبته لبحث (لام الجنس)، وكذا القسم الأول من النكرة، وغيرهما.

1- اسم الجنس

[6] مجرداً عن حرف التعريف والتنوين ونحوها.

[7] سواء دل على الجواهر، كحيوان وهو جنس منطقي، وإنسان وهو نوع، ورجل وهو صنف، أم دل على الأعراض مثل: سواد وبياض، أم دل على الأمور الاعتبارية أو الانتزاعية مثل: ملك وفوق، ونحوها.

[8] مراد المصنف هو الأمور غير المتأصلة، أي: الأمور الاعتبارية والانتزاعية، ولا يخفى أن هذا المعنى خلاف الاصطلاح، حيث اصطلحوا (العرض) لمبدأ الشيء الذي يقوم بالغير كالسواد والبياض، و(العرضي) للمشتق منه كالأسود والأبيض،

ص: 148

ولا ريب[1]

-----------------------------------------------------------------

كما قال السبزواري:

وعرضي

الشيء غير العرض

ذا

كالبياض ذاك مثل الأبيض(1)

[1] شروع لبيان ما وضع له اسم الجنس، وحاصله: إن الماهية قد تلاحظ (بشرط شيء)، وقد تلاحظ (بشرط لا)، وقد تلاحظ (لا بشرط).

مثلاً: لو قال المولى: (أعتق رقبة)، فقد يقيدها بالمؤمنة فهذا الماهية (بشرط شيء) وهو الإيمان، وقد يقيدها بعدم العيب فيقول: (أعتق رقبة غير معيوبة) فهذا الماهية بشرط عدم العيب وهو (بشرط لا)، وقد يلاحظ عدم تقييدها بشرط أو عدم شرط فيقول: (أعتق رقبة أياً كانت تلك الرقبة) وهذا هو (لا بشرط)، فهذه أقسام ثلاثة.

وهذه الأقسام لها مقسم، أي: جامع موجود في كل الأقسام، ولا يمكن أن يكون المقسم الجامع أحد الأقسام؛ لاستحالة تقسيم الشيء إلى نفسه وإلى غيره، مثلاً يقال: الكلمة إما اسم أو فعل أو حرف، فالكلمة هي الجامع بين الأقسام الثلاثة، ولا يصح القول: إنّ الاسم إما اسم أو فعل أو حرف.

عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُimg6.pngفما هو الجامع بين (بشرط شيء) و(بشرط لا) و(لا بشرط)؟ هذا الجامع موجود في كل هذه الثلاثة وغير متصف بخصوصياتها وهنا يعبر عنه ب- (اللابشرط المقسمي)

اللابشرط المقسمي

إذا اتضح ذلك، يقول المصنف: إن اسم الجنس هو الماهية التي لم يلاحظ فيها شرط، ولا عدم شرط ولا اللابشرط القسمي.

فمثل: (إنسان) لم يُلاحظ فيه شرط البياض مثلاً، ولم يلاحظ شرط عدم

ص: 149


1- شرح المنظومة: 29.

أنها[1] موضوعة لمفاهيمها بما هي هي[2] مبهمة مهملة، بلا شرطٍ أصلاً ملحوظ معها. حتى لحاظ أنها كذلك[3].

وبالجملة: الموضوع له اسم الجنس[4] هو نفس المعنى وصرف المفهوم الغير الملحوظ(1)

معه شيء أصلاً - الذي هو[5] المعنى بشرط شيء - ولو كان ذاك الشيء هو الإرسال والعموم البدلي[6]، ولا الملحوظ معه عدم لحاظ شيء معه[7] - الذي

-----------------------------------------------------------------

البياض، كما لم يؤخذ فيه الإطلاق - أي: اللابشرطية القسمية - .

[1] أن أسماء الكليات - أي: اسم الجنس - .

[2] أي: لنفس الشيء فقط من غير دخل شيء فيه أصلاً، وهذا هو (اللابشرط المقسمي)، وقوله: «مبهمة مهملة بلا شرط» توضيح لقوله: «بما هي هي».

[3] أي: حتى لحاظ أن الماهية مبهمة مهملة من غير شرط؛ وذلك لأن لحاظ عدم الشرط فيها يكون من (اللابشرط القسمي)

[4] «اسم الجنس» نائب فاعل قوله: (الموضوع له)، والمراد: المعنى الذي وضع لذلك المعنى اسم الجنس.

[5] أي: الملحوظ معه شيء هو (بشرط شيء) فقوله: «الذي» وصف لقوله: (الملحوظ معه شيء)، وبعبارة أخرى: «الذي» وصف للمنفي لا للنفي.

[6] «الإرسال» هو العموم الشمولي، مثلاً: (النساء) لفظ يشمل الجميع؛ لأنه أخذ في معناه الشمول، فلا يصدق على الواحدة منهن، و«العموم البدلي» مثل: (رجلٌ) - بالتنوين - فهو يشمل الجميع لكن على البدل، وهذان من أقسام (بشرط شيء).

[7] وهذا (اللابشرط القسمي)، فمثلاً يقال: (إنسان) بشرط أن لا يكون معه شرط أصلاً، فمع هذا اللحاظ لا يصح ملاحظة أي شرط معه، مع أن (اللابشرط المقسمي) يجتمع من (بشرط شيء) و(بشرط لا) لأنه الجامع لهما ولغيرهما.

ص: 150


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير الملحوظ».

هو الماهية اللابشرط القسمي -. وذلك[1] لوضوح صدقها - بما لها من المعنى[2] - بلا عناية التجريد عما[3] هو قضية الاشتراط والتقييد فيها[4]، كما لا يخفى، مع بداهة[5] عدم صدق المفهوم بشرط العموم[6] على فرد من الأفراد وإن كان يعم كل واحد منها بدلاً أو استيعاباً[7]. وكذا المفهوم اللابشرط القسمي، فإنه كلي عقلي[8]

-----------------------------------------------------------------

[1] دليل لقوله: (أنها موضوعة لمفاهيمها بما هي هي مبهمة... الخ)، وحاصله: إن اسم الجنس يصح إطلاقه على المعنى بشرط شيء، وعلى المعنى بشرط عدم شيء، وعلى المعنى اللابشرط، فالإنسان يطلق على الإنسان بشرط السواد، وعلى الإنسان بشرط عدم بياضه، وعلى الإنسان الذي لوحظ فيه لا بشرط من الأوصاف ومن عدمها، وكل ذلك بالاستعمال الحقيقي من غير عناية؛ وذلك دليل على أنه موضوع للمعنى الجامع بينها كلها - وهو اللابشرط المقسمي - ولو كان موضوعاً لأحدها كان استعماله في الآخرين مجازاً، وليس كذلك.

[2] أي: صدق أسماء الأجناس بمعانيها الحقيقية على كل فرد من أفرادها.

[3] «عما» متعلق بالتجريد، أي: بلا مجازية في تجريد المعنى عن اللحاظ.

[4] أي: في أسماء الأجناس، لأن كل من الأقسام الثلاثة - بشرط شيء، بشرط لا، لا بشرط - هي تقييد المعنى بهذا اللحاظ.

[5] هذا تكميل للدليل، وليس دليلاً مستقلاً.

[6] أي: بشرط الشياع في كل الأفراد - استيعاباً أو بدلاً - .

[7] مثلاً: (نساء) يشمل كل إمرأة، لكن لا يصح إطلاقه على امرأة مفردة؛ لأنه موضوع للمعنى بشرط العموم. أما اسماء الأجناس فإنه يصح إطلاقها على أي فرد من الأفراد بلا عناية.

[8] أي: أمر ذهني؛ وذلك لأن المعنى مقيد باللحاظ، واللحاظ أمر ذهني، وكل شيء مركب من أمرين أحدهما اللحاظ فإنه لا موطن له في الخارج؛ لتباين عالم

ص: 151

لا موطن له إلاّ الذهن، لا يكاد يمكن صدقه وانطباقه عليها[1]، بداهة أن مناطه الاتحاد بحسب الوجود خارجاً، فكيف يمكن أن يتحد معها[2] ما لا وجود له إلاّ ذهناً.

ومنها: علم الجنس[3] ك(أسامة)[4]. والمشهور بين أهل العربية[5]: أنه موضوع

-----------------------------------------------------------------

الذهن وعالم الخارج.

ثم اعلم أن قوله: «كلي عقلي» هو خلاف الاصطلاح؛ لأن اصطلاحهم هو أن المركب من الكلي الطبيعي والكلي المنطقي هو الكلي العقلي، مثلاً قولنا: (الإنسان كلي)، ف(الإنسان) كلي طبيعي، و(كلي) كلي منطقي، والمجموع من المبتدأ والخبر يكون كلي عقلي.

[1] أي: على الأفراد الخارجية.

[2] أي: يتحد مع الأفراد الخارجية.

والحاصل: إن (اللابشرط القسمي) هو المعنى الملاحظ فيه عدم تقيد بشرط، فصار هذا اللحاظ جزءاً من المعنى، فلا يعقل وجود هذا المعنى في الخارج؛ لأن اللحاظ أمر ذهني، مع أن أسماء الأجناس يصح اتحادها مع الأفراد الخارجية فيقال: (زيد إنسان) بلا مجاز أصلاً.

2- علم الجنس

[3] وهو المعرفة الدال على الماهية، كما أن اسم الجنس كان نكرة دالاً على الماهية.

[4] عَلَم على الأسد، وكذا ثعالة على الثعلب، وأم عريط على العقرب، ونحوها.

[5] حاصل كلامهم: هو أن علم الجنس وُضع لمعنى مركب من الماهية والتعيّن الذهني، ولتعيّنه كان معرفة، فيقع مبتدأ، ويوصف بالمعرفة، ولا تدخل عليه لام التعريف، ونحو ذلك من خصوصيات المعارف.

ص: 152

للطبيعة لا بما هي هي، بل بما هي متعينة بالتعين الذهني، ولذا يعامل معه معاملة المعرفة بدون أداة التعريف.

لكن التحقيق[1]: أنه موضوع لصرف المعنى[2] بلا لحاظ شيء معه أصلاً[3] - كاسم الجنس -. والتعريف فيه لفظي - كما هو الحال في التأنيث اللفظي -، وإلاّ[4]

-----------------------------------------------------------------

أما اسم الجنس فإنه وضع لنفس الماهية، ولذا كان نكرة، ولتعريفه يحتاج إلى أداة التعريف مثل: (أسد).

[1] حاصل تحقيق المصنف: هو أن لا فرق في معنى اسم الجنس وعَلَم الجنس، فكلاهها يدلان على الماهية بما هي هي، وإنّما الفرق لفظي، أي: أحدهما معرفة في اللفظ، والآخر نكرة في اللفظ، كما في التأنيث اللفظي، فمثلاً: (صحراء) و(بَرّ) بمعنى واحد إلاّ أن لفظ أحدهما مؤنث ولفظ الآخر مذكر، وهكذا (أسامة) و(أسد) معناهما واحد إلاّ أن أحدهما معرفة لفظاً والآخر نكرة لفظاً.

وفائدة ذلك التوسع في اللغة، وتسهيل أوزان الشعر، والإتيان بمقتضى المقام من التعريف والتنكير والتذكير والتأنيث ونحو ذلك.

ثم استدل المصنف لذلك بأمرين كما سيأتي.

[2] أي: إن علم الجنس موضوع للماهية المجردة - من اللابشرط المقسمي كما مرّ - .

[3] أي: من غير أن يكون (لحاظ التعين الذهني) جزءاً من المعنى.

[4] بيان الدليل الأول لمدعى المصنف - وهو إشكال على مبنى المشهور - وحاصله: إن اللحاظ أمر ذهني، فلا يمكن أن يتحقق في الواقع الخارجي - كما مرّ - فلو كان التعيّن الذهني جزءاً من معنى (علم الجنس) لم يتحقق علم الجنس في الخارج، مع أنا نرى صحة مثل: (هذا أسامة) في إشارة إلى أسد خارجي، فلفظ (أسامة) اُطلق على معنى خارجي، بلا عناية المجاز.

بلى على مبنى المشهور يجوز ذلك الإطلاق لو جردنا المعنى من اللحاظ، وحينئذٍ

ص: 153

لما صح حمله[1] على الأفراد بلا تصرف وتأويل[2]، لأنه على المشهور كلي عقلي[3]، وقد عرفت أنه لا يكاد صدقه عليها[4]، مع صحة حمله عليها[5] بدون ذلك كما لا يخفى، ضرورة أن التصرف في المحمول[6] بإرادة نفس المعنى بدون قيده[7] تعسف لا يكاد يكون بناء القضايا المتعارفة عليه[8]. مع أن[9] وضعه[10]

-----------------------------------------------------------------

يكون اللفظ قد استعمل في غير ما وضع له فيكون مجازاً!! مع أنا لا نرى مجازاً في هذا الاستعمال.

[1] أي: حمل علم الجنس بأن يجعل خبراً - مثلاً - في قولنا: (هذا أسامة).

[2] أي: بلا تصرف في المعنى، وتأويل في اللفظ، بأن يقال: لا يراد من اللفظ ظاهره الموضوع له.

[3] أي: لأن علم الجنس على مبنى المشهور يكون أمراً ذهنياً؛ لأن المركب من اللحاظ وغيره لا موطن له إلاّ الذهن.

[4] أي: لا يمكن صدق الأمر الذهني على الأفراد الخارجية.

[5] هذا من تتمة الدليل الأول ورد المبنى المشهور، أي: والحال أنه يصح حمل عَلَم الجنس على الأفراد بدون التصرف والتأويل.

[6] أي: علم الجنس الواقع محمولاً في مثل: (هذا أسامة).

[7] الذي هو جزء المعنى.

[8] أي: القضايا المستعملة في لسان العرف، وضمير «عليه» يرجع إلى (تعسف).

[9] بيان الدليل الثاني - وهو إشكال آخر على المشهور - وحاصله: إن علم الجنس يطلق دائماً على الأفراد، فلو كان التعين الذهني جزءاً من المعنى كان الاستعمال دائماً على خلاف الوضع، والحكيم لا يضع لفظاً على معنى لا يستعمله فيه أصلاً.

[10] أي: وضع علم الجنس.

لخصوص معنى[1] يحتاج إلى تجريده عن خصوصيته عند الاستعمال[2] لا يكاد يصدر عن جاهل، فضلاً عن الواضع الحكيم.

ومنها: المفرد المعرف باللام[3]. والمشهور أنه على أقسام : المعرف بلام الجنس، أو الاستغراق، أو العهد بأقسامه[4] على نحو الاشتراك بينها لفظاً أو معنىً[5].

والظاهر[6]

ص: 154

-----------------------------------------------------------------

[1] هو المركب من الماهية والتعين الذهني.

[2] أي: يحتاج ذلك المعنى إلى تجريده عن الخصوصية - وهي التعيّن الذهني الذي هو أحد جزءي المعنى - .

3- المفرد المعرَّف باللام

[3] المراد خصوص لام الجنس، وأما الدالة على العهد والاستغراق فلا دلالة لها على الإطلاق، وإنما تذكر هنا استطراداً؛ لأن العهد يدل على فرد خاص لا الماهية المبهمة، والاستغراق يدل على العموم لا الإطلاق.

[4] مثال الجنس: (الحمد لله)، والاستغراق: {إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَفِي خُسۡرٍ}(1)، والعهد الذكري: {أَرۡسَلۡنَآ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ رَسُولٗا * فَعَصَىٰ فِرۡعَوۡنُ ٱلرَّسُولَ}(2)، والعهد الخارجي: (أغلق الباب)، والعهد الذهني: (أكرم الرجل) قاصداً رجلاً معيناً في ذهنه، ولا يخفى أن العهد الحضوري هو من أقسام العهد الخارجي.

[5] أي: الاشتراك بين هذه الأقسام الخمسة، والاشتراك اللفظي هو وضع اللام على كل واحد من هذه الأقسام على حده، والاشتراك المعنوي هو وضع اللام للجامع بين هذه الأقسام، وهذا الجامع موجود بين الأقسام الخمسة.

[6] مراده بيان أن اختلاف المعنى - على مبنى المشهور - إنما يكون في لام التعريف، فهي مشتركة لفظاً أو معنىً بين خمسة أمور، وهذا الاختلاف لا يرتبط

ص: 155


1- سورة العصر، الآية: 2.
2- سورة المزمل، الآية: 15 - 16.

أن الخصوصية في كل واحد من الأقسام من قبل خصوص (اللام)[1]، أو من قبل قرائن المقام[2] من باب تعدد الدال والمدلول[3]، لا باستعمال المدخول[4]، ليلزم فيه المجاز أو الاشتراك، فكان المدخول على كل حال مستعملاً في ما يستعمل فيه الغير المدخول(1).

والمعروف أن (اللام) تكون موضوعة للتعريف ومفيدة للتعيين[5] في غير العهد الذهني[6].

-----------------------------------------------------------------

بمدخول لام التعريف، فإن المدخول باقٍ على معناه الموضوع له، ففي مثل: (الرجل) المدخول وهو (رجل) دال على الماهية الصرفة - اللابشرط المقسمي - وأما العهد أو الاستغراق أو الجنس فإنه مفاد لام التعريف أو مفاد القرائن الخارجية.

[1] بناءً على الاشتراك اللفظي، حيث المعاني متعددة.

[2] بناءً على الاشتراك المعنوي؛ لأن المعنى واحد - وهو الجامع - وأما الخصوصيات فهي مستفادة من القرائن.

[3] أي: اللام أو القرائن تدل على الجنس أو العهد أو الاستغراق، والمدخول - مثل: رجل - يدل على الماهية الصرفة.

[4] أي: ليس المدخول - وهو رجل في المثال - دال على الجنس تارة، والعهد تارة أخرى، والاستغراق تارة ثالثة.

مبنى المشهور والإشكال عليه

[5] لأنها إذا وضعت للتعريف أفادت التعيين؛ لأن التعيين هو سبب التعريف، والحاصل حينما يكون الغرض هو التعيين يتم التعريف، ولو لا التعيين ما أمكن التعريف.

[6] لأن العهد الذهني لا يفيد التعيين أصلاً، وهو قابل للانطباق على الكثير، فهو إشارة إلى المعنى الموجود في الذهن من غير تعيينه في أي مصداق من المصاديق

ص: 156


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير المدخول».

وأنت خبير[1] بأنه لا تعين في تعريف الجنس[2] إلاّ الإشارة إلى المعنى المتميز بنفسه من بين المعاني ذهناً. ولازمه[3] أن لا يصح حمل المعرف باللام بما هو معرف على الأفراد، لما عرفت من امتناع الاتحاد[4] مع ما لا موطن له إلاّ الذهن، إلا بالتجريد. ومعه[5] لا فائدة في التقييد، مع أن التأويل[6] والتصرف في القضايا المتداولة

-----------------------------------------------------------------

الخارجية، هكذا قيل ونسب إلى الرضي صاحب شرحي الكافية والشافية(1).

[1] إشكال على مبنى المشهور، ويذكر المصنف هنا لام الجنس فقط؛ لأن سائر الأقسام لا دلالة لها على الإطلاق، وإنّما ذكرت استطراداً - كما أشرنا إليه - .

[2] أي: الجنس لا يمكن تعيينه في الخارج؛ لأن المعين في الخارج هو الأفراد، فلا يبقى إلاّ أن نقول: إن تعيين الجنس إنما يكون في الذهن، فاللام تُعين المعنى من بين مختلف المعاني الموجودة في الذهن، وهذا يستلزم محذورين.

المحذور الأول

[3] أي: لازم الإشارة إلى المعنى المتميز في الذهن هو عدم إمكان حمل المعرف بلام الجنس على الأفراد؛ لأن الأفراد موجودات خارجية، والمعرف بلام الجنس - على مبنى المشهور - أمر ذهني، ولا يعقل اتحادهما - كما مرّ - مع أنا نرى صحة الحمل ووقوعه مثل: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ}(2)، فالأبتر مفرد معرف بلام الجنس اتحد مع الشانئ خارجاً.

[4] أي: اتحاد الأفراد الخارجية.

[5] أي: مع التجريد، والمراد أنه مع الاحتياج حين الحمل إلى التجريد دائماً فإنه من اللغو تقييد المعنى بالتميز الذهني.

المحذور الثاني

[6] إشارة إلى المحذور الثاني الوارد على مبنى المشهور، وحاصله: إن الناس

ص: 157


1- شرح الكافية 1: 497 و3: 245.
2- سورة الكوثر، الآية: 3.

في العرف غير خال عن التعسف. هذا مضافاً[1] إلى أن الوضع لما لا حاجة إليه[2] - بل لابد من التجريد عنه وإلغائه في الاستعمالات المتعارفة المشتملة على حمل المعرف باللام[3] أو الحمل عليه[4] - كان لغواً كما أشرنا إليه.

فالظاهر أن (اللام) مطلقاً[5] يكون للتزيين، كما في الحسن والحسين. واستفادة الخصوصيات إنما تكون بالقرائن التي لابد منها لتعيّنها على كل حال[6]، ولو قيل[7]

-----------------------------------------------------------------

يحملون المعرف بلام الجنس على الأفراد من غير مجازية، والقول لأنهم يستعملونها بالمعنى المجازي تعسف، وخروج عن مذاق العرف.

[1] هذا تكرار للمحذور الأول، وليس محذوراً ثالثاً، فمفاد قوله: (ومعه لا فائدة في التقييد) وقوله: (الوضع لما لا حاجة له... الخ) واحد، كما لا يخفى على المتأمل.

[2] وهو التميز في الذهن.

[3] إذا كان خبراً مثل: (زيد الرجل).

[4] إذا كان مبتدأ مثل: (العالم زيد).

مختار المصنف

[5] سواء في الأقسام الخمسة المذكورة - وهي الاستغراق والجنس والعهد بأقسامه - أم في غيرها.

[6] أي: التي لابد من تلك القرائن لتعيّن الخصوصيات، سواء قلنا بالاشتراك اللفظي حيث يحتاج إلى قرينة معينة للمعنى، أم قلنا بالاشتراك المعنوي حيث يحتاج إلى تعيين المصداق بالقرينة، أم قلنا بالتزيين حيث يحتاج إلى الدلالة على المراد إلى القرينة.

[7] «لو» وصلية، أي: حتى على مبنى المشهور القائلين بدلالة اللام على المعنى - من العهد والجنس والاستغراق - أما على القول بالتزيين فلا دلالة لها على المعنى، وإنّما هي حرف زائد لمجرد تجميل الكلام.

ص: 158

بإفادة اللام للإشارة إلى المعنى. ومع الدلالة[1] عليه بتلك الخصوصيات[2] لا حاجة إلى تلك الإشارة[3] لو لم تكن مخلة[4]، وقد عرفت إخلالها، فتأمل جيداً[5].

-----------------------------------------------------------------

[1] هنا يستدل المصنف على مختاره، وهو أن مبنى المشهور فيه تكلف غير محتاج إليه، حيث لازمه هو القول بأن اللام وضعت لمعنى وتعيين المعنى بالقرينة، في حين أنه على مبنى المصنف يقال: القرينة دلت على المعنى مباشرة.

[2] أي: مع دلالة القرائن على المعنى المتضمن لتلك الخصوصيات، فقوله: «مع الدلالة» يراد به دلالة القرائن، والباء في قوله: «بتلك» بمعنى مع.

[3] أي: الإشارة إلى المعنى المتميز بنفسه من بين المعاني ذهناً، الذي اعتبره المشهور جزء مدلول لام التعريف.

[4] قد ذكر المصنف إخلالها، حيث إن اللحاظ أمر ذهني، ولا يمكن اتحاد ما موطنه الذهن مع الأفراد الخارجية.

[5] لا يخفى أن المصنف تبع الرضي - صاحب شرحي الكافية والشافية - في أن اللام للتزيين مطلقاً، وهذا الكلام غريب جداً بعيد عن محاورات أهل اللسان، بداهة الفرق بين مثل: (جاء رجل وأكرمت الرجل) وبين (جاء رجل وأكرمت رجلاً).

فأما مسألة اللحاظ وأنه أمر ذهني فيمكن أن يقال ذلك في مرحلة الاستعمال، ولم يؤخذ في الموضوع له - كما مرّ نظيره من المصنف في المعنى الحرفي وفرقه عن المعنى الاسمي - واللحاظ في مرحلة الاستعمال مما لابد منه على كل حال؛ إذ لا يمكن استعمال اللفظ في معنىً إلاّ بعد خطور ذلك المعنى في الذهن ولحاظه، ولا يلزم منه جمع لحاظين كما لا يخفى، وحينئذٍ فالمفرد المعرف بلام الجنس يستعمل في الماهية بما هي متعينة بالتعين الذهني، وذلك التعين في مرحلة الاستعمال، فلا تلزم

ص: 159

وأما دلالة الجمع المعرف باللام[1] على العموم - مع عدم دلالة المدخول عليه[2] - : فلا دلالة فيها[3]

-----------------------------------------------------------------

المحاذير التي ذكرها المصنف. فتأمل جيداً.

4- الجمع المعرف باللام

[1] دفع إشكال، وحاصل الكلام: هو أن المصنف اختار عدم دلالة الألف واللام على التعيين، بل هي لمجرد التزيين، وهنا يرد إشكال وهو أنه لا شبهة في دلالة الجمع المحلّى باللام على العموم، مع وضوح عدم دلالة مدخول اللام على العموم، حيث إن المدخول دال على الجمع، وهو يبدأ من الثلاثة وإلى الكل، فهذه المراتب الكثيرة لا يتعين المدخول في أي منها، ولكن بعد الدخول اللام عليه دلّ على التعيين، ولا تعيين إلاّ في المرتبة العليا، ولا يكون ذلك إلاّ بواسطة اللام، فثبت أن اللام ليست لمجرد التزيين، بل للتعيين - وهذا حاصل كلام صاحب الفصول(1) - .

وقد أجاب المصنف عن هذا الإشكال بجوابين:

الأول: إن التعيين لا ينحصر في المرتبة العليا، بل المرتبة الدنيا - وهي أقل الجمع - أيضاً معينة.

الثاني: لو سلمنا دلالة اللام على الاستغراق فلا داعي لأن نقول: إن اللام دلت على التعيين ولا تعيين إلاّ في العموم، بل نقول: إن اللام دلت على العموم مباشرة بلا توسط دلالة على التعيين.

[2] أي: على العموم، حيث إن المدخول جمع، والجمع غير دال على مرتبة من مراتبه، فمثلاً: (رجال) له مراتب تبدأ من ثلاثة وتنتهي إلى شمول جميع الأفراد، أما (الرجال) فإنه يدل على الجميع.

[3] أي: لا دلالة في (دلالة الجمع المعرف على العموم)، والمعنى: لا يثبت بهذه

ص: 160


1- الفصول الغروية: 170 و197.

على أنها[1] تكون لأجل دلالة اللام على التعين، حيث[2] لا تعين إلاّ للمرتبة المستغرقة لجميع الأفراد. وذلك[3] لتعين المرتبة الأخرى، وهي أقل مراتب الجمع، كما لا يخفى. فلابد[4] أن يكون دلالته عليه[5] مستندة إلى وضعه كذلك لذلك[6]، لا إلى دلالة اللام على الإشارة إلى المعين ليكون به التعريف[7].

وإن أبيت[8] عن استناد الدلالة عليه إليه[9] فلا محيص عن دلالته على الاستغراق بلا توسيط الدلالة على التعيين[10]،

-----------------------------------------------------------------

الدلالة مدعى صاحب الفصول.

[1] أي: على أن دلالة الجمع... الخ.

[2] بيان لدليل صاحب الفصول.

[3] بيان للجواب الأول عن كلام الفصول.

[4] بيان لمختار المصنف، وهو أن المجموع من اللام والمدخول يدل على الاستغراق، أي: إن الهيئة التركيبية دالة عليه لا اللام.

[5] أي: دلالة الجمع المحلى باللام على العموم.

[6] أي: إلى وضع الجمع المحلّى، «كذلك» أي: مركباً من اللام والمدخول، «لذلك» أي: للعموم والاستغراق.

[7] أي: ليكون بالتعيين، والمعنى لا إلى دلالة اللام على التعيين - لأن التعريف يساوق التعيين - ولا تعيين إلاّ في العموم - كما هو مدعى صاحب الفصول - .

والحاصل: إن مدعى الفصول هو أن اللام تدل على التعريف، ولا يمكن التعريف إلا بالتعيين، والجمع المحلّى باللام له مراتب متعددة لا تعين لها إلاّ في المرتبة العليا وهي الاستغراق.

[8] هذا الجواب الثاني.

[9] أي: الدلالة على العموم إلى لام التعريف.

[10] لأنه كالأكل من القفا؛ ولأن الدلالة تكون بالتبادر، والتبادر - على فرض

ص: 161

فلا يكون بسببه تعريف إلاّ لفظاً[1]، فتأمل جيداً.

ومنها: النكرة مثل (رجل) في (وجاء رجل من أقصى المدينة)[2]، أو في (جئني برجل)[3].

ولا إشكال أن المفهوم منها في الأول[4] - ولو بنحو تعدد الدال والمدلول[5] - هو الفرد المعين في الواقع، المجهول عند المخاطب[6]، المحتمل[7] الانطباق على غير واحد من أفراد الرجل. كما أنه في الثاني[8]

-----------------------------------------------------------------

وجوده - إنما هو على الدلالة على العموم، فمن أين جاءت الدلالة على التعيين؟

[1] أي: لا يكون بسبب اللام إلاّ التعريف اللفظي، وأما الاستغراق فهو مستفاد من الهيئة التركيبية.

5- النكرة

[2] وهو ما كان معيناً في الواقع - سواء كان معلوماً عند المخاطب والمتكلم، أم مجهولاً عندهما، أم معلوماً عند أحدهما مجهولاً عند الآخر - وهذا القسم يكون في الإخبار - عادة - .

[3] مما لم يكن معيناً في الواقع، وهذا القسم يكون في الإنشاء كالأمر والنهي، حيث لم يعين الآمر - مثلاً - شخصاً خاصاً.

[4] أي: من النكرة في القسم الأول - وهو المعين في الواقع - .

[5] فمثل: (رجل) يدل على الماهية، و(التنوين) تدل على الوحدة، فالدال متعدد - وهما الاسم والتنوين - والمدلول متعدد أيضاً - وهما الماهية والوحدة - .

[6] وكذا لو كان مجهولاً عندهما، أو مجهولاً عند المتكلم معلوماً عند المخاطب، مثل: (أي رجل جاءك؟)، بل حتى لو كان معلوماً عندهما.

[7] عند الجاهل به، فإنه يحتمل انطباقه على مختلف الأفراد، مع أنه في الواقع لا ينطبق إلاّ على فرد واحد.

[8] أي: (رجل) في المثال الثاني، وهو ما تعلق به أمر أو نهي أو نحوهما من

ص: 162

هي الطبيعة المأخوذة مع قيد الوحدة[1]، فيكون حصة من الرجل، ويكون كلياً ينطبق على كثيرين، لا فرداً مردداً بين الأفراد.

وبالجملة: النكرة - أي ما بالحمل الشائع يكون نكرة عندهم[2] - إما هو[3] فرد معين في الواقع غير معين للمخاطب، أو حصة كلية، لا الفرد المردد بين الأفراد؛

-----------------------------------------------------------------

الإنشاءات، وفي هذا الكلام بيان الإشكال على صاحب الفصول، حيث رأى أن النكرة - من القسم الثاني - هي الفرد المردد، كما أنه زعم أن مدلول النكرة جزئي لا كلي، والمصنف يبيّن أن الفرد المردد لا وجود له، كما أن القسم الثاني من النكرة كلي طبيعي قابل للانطباق على كثيرين وليس جزئياً.

[1] فليس جزئياً، وهذا هو الفرق بين اسم الجنس وبين القسم الثاني من النكرة، حيث إن اسم الجنس هو الطبيعة المهملة - اللابشرط المقسمي - فلذا يصح تطبيقها على الواحد وعلى الأكثر، وأما هذا القسم من النكرة فهو الطبيعة بقيد الوحدة، ولا يصح تطبيقها إلاّ على الواحد فقط - أيَّ واحدٍ كان - .

[2] أي: ليس كلامنا هنا في مفهوم النكرة - ببيان جنسها وفصلها - بل المراد هو مصاديق النكرة، مثل (رجل) ونحوه حيث إنه نكرة خارجاً، وإن كان مفهوم كل واحد من (رجل) و(نكرة) متغايراً، وقد مرّ أن ملاك الحمل الأولي الذاتي هو الاتحاد مفهوماً والاختلاف في الإجمال والتفصيل، مثل: (الإنسان حيوان ناطق)، وملاك الحمل الشائع هو الاختلاف مفهوماً والاتحاد وجوداً، مثل: (زيد عالم)، حيث إن مفهوم (زيد) يختلف عن مفهوم (عالم) لكنها في الخارج شيء واحد.

[3] مراده أن القسم الأول من النكرة لا يكون فرداً مردداً، بل هو معين في الواقع، وأما القسم الثاني فهو كلي طبيعي وليس فرداً مردداً، فلا وجه لدعوى صاحب الفصول بأن النكرة هي الفرد المردد!!

ص: 163

وذلك[1] لبداهة كون لفظ (رجل) في (جئني برجل) نكرة، مع أنه يصدق على كل من جيء به من الأفراد[2]، ولا يكاد يكون واحد منها هذا أو غيره[3]، كما هو قضية الفرد المردد لو كان هو المراد منها[4]، ضرورة أن كل واحد[5] هو هو، لا هو أو غيره. فلابد أن تكون النكرة الواقعة في متعلق الأمر هو الطبيعي المقيد بمثل مفهوم الوحدة[6]، فيكون كلياً قابلاً للانطباق، فتأمل جيداً.

إذا عرفت ذلك[7]، فالظاهر صحة إطلاق المطلق عندهم حقيقة على اسم الجنس

-----------------------------------------------------------------

[1] بيان أن القسم الثاني من النكرة ليس هو الفرد المردد، وحاصله: إن معنى (الفرد المردد) هو ما يحتمل شيئين أو أكثر، وهذا المعنى موطنه الذهن ولا يتحقق في الخارج؛ لأن كل الوجودات الخارجيّة لها تعين وتشخص، فلا يمكن انطباق (الفرد المردد) على أي موجود خارجي.

[2] فهو - أي رجل - كلي طبيعي لا جزئي، فيمكن أن ينطبق على كل فرد من أفراد الرجل.

[3] أي: لا يوجد فرد في الخارج ينطبق عليه (الفرد المردد)، لأن ما في الخارج معين واقعاً لا مردد.

[4] أي: من النكرة - القسم الثاني منها - .

[5] أي: من الأفراد الخارجية.

[6] وهذا القيد لا يجعلها جزئية، فمثل: (جئني برجل) كلى طبيعي مقيد بالوحدة، وليس قيد الوحدة تقييد للماهية بمعنى إخراج بعض أفرادها - مثل: (رجل عالم) حيث أخرج غير العالم - بل رجل واحد يمكن انطباقه على أيِّ فردٍ من أفراد الرجل، لكن ليس المأمور به أكثر من واحد، وهذا في الحقيقة ليس تقييداً - بالمعنى المصطلح - فدقق.

إطلاق لفظ المطلق

[7] أي: هذه الأنواع الأربعة - اسم الجنس، وعلم الجنس والمعرف باللام،

ص: 164

والنكرة بالمعنى الثاني[1]، كما يصح لغةً[2]. وغير بعيد أن يكون جريهم في هذا الإطلاق[3] على وفق اللغة من دون أن يكون لهم فيه[4] اصطلاح على خلافها، كما لا يخفى.

نعم، لو صح ما نسب إلى المشهور[5] من كون المطلق عندهم موضوعاً لما قيد بالإرسال والشمول البدلي[6] لما كان ما أريد منه الجنس أو الحصة عندهم بمطلق[7]، إلاّ أن الكلام في صدق النسبة[8].

-----------------------------------------------------------------

والنكرة - وتقسيماتها. وليس كلها يصح إطلاق لفظ (المطلق) عليها، بل بعضها، وهنا يبين المصنف ما تستحق لفظ (المطلق).

[1] لأنهما يدلان على الماهية ويقبلان الانطباق على أفرادها على البدل.

[2] لأن (المطلق) لغةً(1)

هو المرسل غير المقيد، واسم الجنس دال على الماهية بلا تقييد فهو مرسل، كذلك النكرة بالمعنى الثاني، فإن الوحدة ليست قيداً في الحقيقة كما مر قبل قليل، فراجع.

[3] أي: في إجراء لفظ (المطلق) عليهما.

[4] في إطلاق لفظ (المطلق) عليهما، وضمير «خلافها» راجع إلى اللغة.

[5] نسبه إليهم المحقق القمي(2)

- على ما قيل - .

[6] فيكون من اللابشرط القسمي.

[7] لأن اسم الجنس لم يقيد بالشمول والإرسال، لما مرّ من أنه موضوع للماهية المهملة - اللابشرط المقسمي - والنكرة بالمعنى الثاني قيدت بالوحدة لا بالشمول والإرسال.

[8] أي: لنا تأمل في صحة هذه النسبة إلى المشهور، بل الظاهر أنهم جروا على المعنى اللغوي، وليس لهم اصطلاح خاص في المطلق.

ص: 165


1- الصحاح 4: 1518؛ لسان العرب 10: 227.
2- قوانين الأصول 1: 321.

ولا يخفى[1]: أن المطلق[2] بهذا المعنى[3] لطروء القيد غير قابل[4]، فإن ما له من الخصوصية[5] ينافيه ويعانده[6]، بل وهذا بخلافه بالمعنيين[7]، فإن كلاً منهما له

-----------------------------------------------------------------

هل التقييد مجاز؟

الأقول في التقييد ثلاثة:

1- المطلق يستعمل في معناه الحقيقي، والتقييد يستفاد من لفظ آخر، أو من قرينة حالية من باب تعدد الدال والمدلول.

2- المطلق مجاز حينئذٍ مطلقاً.

3- التفصيل بين القيد المتصل فمجاز، وبين المنفصل فحقيقة.

[1] الغرض من هذا الكلام أمران:

الأول: إثبات أن التقييد لا يوجب تجوزاً في المطلق.

الثاني: إشكال آخر على ما نسب إلى المشهور من أن المطلق هو الماهية المقيدة بالإرسال والشمول.

[2] المراد ما كان بالحمل الشائع مطلقاً، أي: مصاديق المطلق، مثل: رقبة، ورجل، ونحوهما.

[3] أي: المعنى المنسوب إلى المشهور.

[4] وذلك لأن الإرسال والشمول يتنافى مع التقييد؛ لأنها ضدان أو نقيضان؛ لأن معنى الإرسال والشمول هو عدم التقييد. نعم، مع رفع اليد عن الإرسال والشمول يصح التقييد لكنه مجاز - حسب المبنى المنسوب إلى المشهور - !!

[5] أي: فإن ما للمطلق من خصوصية الإرسال التي هي جزء الموضوع له - حسب هذا المبنى - .

[6] أي: ينافي ويعاند التقييد.

[7] أي: بخلاف المطلق بمعنى الماهية المبهمة - في اسم الجنس - وبمعنى الماهية بقيد

ص: 166

قابل[1]، لعدم انثلامهما بسببه[2] أصلاً، كما لا يخفى.

وعليه لا يستلزم التقييد تجوزاً في المطلق، لإمكان إرادة معنى لفظه منه[3]، وإرادة قيده من قرينة حال أو مقال، وإنما استلزمه[4] لو كان بذاك المعنى[5].

نعم[6]، لو أريد من لفظه[7] المعنى المقيد كان مجازاً مطلقاً[8]، كان التقييد بمتصل

-----------------------------------------------------------------

الوحدة - في القسم الثاني من النكرة - .

[1] أي: فإن كلاًّ من المعنيين قابل للتقييد من غير تجوز؛ وذلك لعدم التنافي بين الماهية المبهمة والماهية بقيد الوحدة وبين التقييد، وحينئذٍ فيستعمل المطلق في معناه، ويستفاد القيد من لفظ آخر، أو من قرينة حالية، من باب تعدد الدال والمدلول، ففي مثل: (أعتق رقبة مؤمنة)، المطلق وهو (رقبة) استعمل في الماهية المبهمة، وأما قيد الإيمان فقد استفيد من لفظ آخر وهو (مؤمنة)، فالمطلق استعمل في ما وضع له، فلا تجوّز.

[2] أي: لعدم تغيّر المعنيين بسبب التقييد، لما ذكرنا من أن التقييد هو من باب تعدد الدال والمدلول.

[3] أي: معنى المطلق - الحقيقي - من لفظ المطلق.

[4] فاعل استلزم هو (التقييد)، وضمير الهاء يرجع إلى (التجوز)، أي: إنّما استلزم التقييد التجوز.

[5] المنسوب إلى المشهور.

[6] حاصله: إن مثل: (أعتق رقبة مؤمنة) لو كان معنى (رقبة) الماهية المقيدة، وكان لفظة (مؤمنة) قرينة على أن المراد من (رقبة) ليس الماهية المبهمة، فهذا مجاز؛ لاستعمال لفظ المطلق - أي: الرقبة - في غير ما وضع له.

[7] أي: لفظ المطلق.

[8] أي: سواء على القول المنسوب إلى المشهور، أم على القول المختار.

ص: 167

أو منفصل[1].

فصل: قد ظهر لك أنه لا دلالة لمثل (رجل) إلاّ على الماهية المبهمة وضعاً[2]، وأن الشياع والسريان كسائر الطوارئ يكون خارجاً عما وضع له، فلابد في الدلالة عليه[3] من قرينة حال، أو مقال، أو حكمة[4].

وهي تتوقف على مقدمات:

إحداها: كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد، لا الإهمال أو الإجمال[5].

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: إن كان لفظ المطلق استعمل في معناه والقيد استفيد من لفظ آخر كان معنى المطلق حقيقياً، ولكن لم يستعمل في معناه، بل في المعنى المقيد كان مجازاً، من غير فرق بين القيد المتصل أم المنفصل.

فصل مقدمات الحكمة

اشارة

[2] «وضعاً» قيد لقوله: (لا دلالة)، أي: لم يوضع مثل: (رجل) ليدل على الإطلاق، فاللازم استفادة الإطلاق من خارج اللفظ.

[3] أي: على الإطلاق، و(القرينة الحالية) كما لو علمنا من الخارج عدم الفرق عند المولى بين الرقبة المؤمنة وغير المؤمنة. و(القرينة المقالية) كما لو قال: (أعتق رقبة سواء كانت مؤمنة أم لم تكن).

وحيث إن القرينة الحالية والمقالية لا ضابط لهما، بل نحتاج في كل مورد إلى ملاحظة وجودها أو عدمها، فلذا لم يكونا مورداً للبحث.

[4] أي: بملاحظة حكمة المولى وأنه لا يخلّ بمراده لكونه حكيماً. «وهي» أي: الحكمة.

[5] الإهمال في مقام الثبوت، والإجمال في مقام الإثبات.

ص: 168

ثانيتها: انتفاء ما يوجب التعيين[1].

ثالثتها: انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب[2]؛ ولو[3] كان المتيقن بملاحظة الخارج عن ذاك المقام في البين، فإنه[4] غير مؤثر في رفع الإخلال بالغرض لو كان بصدد البيان[5]،

-----------------------------------------------------------------

[1] كالقرائن اللفظية، فلو قال: (أعتق رقبة مؤمنة)، فإن (رقبة) لا إطلاق فيها؛ لوجود قرينة لفظية دالة على إرادة التقييد وهي (مؤمنة).

[2] مثل الانصراف، وهذا مرتبط بالألفاظ التي استعملها المولى، فلو قال: (جئني بماء) حال كونه عطشان، فإن لفظ (الماء) لا إطلاق له، بل يراد منه المقيّد، أي: الماء الصالح للشرب، فإنه القدر المتيقن في مقام التخاطب.

[3] «لو» شرطية وجواب الشرط قوله: (فإنه غير مؤثر... الخ)، والمعنى أنه لا يضر بالإطلاق وجود القدر المتيقن في خارج مقام التخاطب، بحيث لا ينصرف اللفظ إليه؛ لعدم اعتماد العقلاء على هذا القدر المتيقن، بل إنما يكون اعتمادهم عليه إذا كان في مقام التخاطب؛ وذلك لأنه لا يخلو مطلق من قدر متيقن خارج مقام التخاطب، فلو أضر بالإطلاق لم يبق مطلق أصلاً، فمثل: (أعتق رقبة) لا قدر متيقن في مقام التخاطب؛ لعدم وجود انصراف، لكن في خارج مقام التخاطب نتيقن بكفاية المؤمنة، لكن هذا التيقن لا يضر بإطلاق (رقبة).

[4] أي: فإن المتيقن خارج مقام التخاطب إذا كان مراداً فإنه لا يصح إطلاق الكلام، بل لابد من تقييده بذلك المتيقن، ولو لم يقيده - مع كونه مراداً - فإنه قد أخلّ بمراده، وبما أن المولى حكيم فعدم تقييده بالمتيقن خارج مقام التخاطب دليل على عدم إرادته، بل إرادة الإطلاق. فلو قال: (أعتق رقبة) وكان مراده (الرقبة المؤمنة) فعدم بيان القيد إخلال بالغرض، حتى وإن كانت الرقبة المؤمنة هي القدر المتيقن - خارج مقام التخاطب - .

[5] أي: لو كان بصدد بيان ذلك القدر المتيقن، فإن عدم ذكره إخلال بالغرض.

ص: 169

كما هو الفرض[1].

فإنه[2] في ما تحققت لو لم يرد الشياع لأخل بغرضه، حيث إنه لم ينبّه مع أنه بصدده[3]. وبدونها لا يكاد يكون هناك إخلال به[4]، حيث لم يكن مع انتفاء الأولى[5] إلاّ في مقام الإهمال أو الإجمال، ومع انتفاء الثانية[6] كان البيان بالقرينة، ومع انتفاء الثالثة[7] لا إخلال بالغرض لو كان[8] المتيقن تمام مراده، فإن

-----------------------------------------------------------------

نعم، لو كان القدر المتيقن في مقام التخاطب جاز عدم بيانه، وذلك من سيرة العقلاء.

والحاصل: إن شرط الدلالة على الإطلاق هو عدم وجود الانصراف - قدر متيقن خطابي - ومع وجوده لا إطلاق، ولا يضر بالإطلاق قدر متيقن في غير مقام التخاطب.

[1] أي: فرضنا هو كون المولى في مقام البيان.

[2] هذا دليل إرادة الإطلاق لو تحققت المقدمات الثلاث. والمعنى: فإن الشأن إذا تحققت هذه المقدمات لو لم يرد المولى الإطلاق لأخلّ بغرضة.

[3] أي: مع أن المولى بصدد التنبيه والبيان.

[4] أي: بدون هذه المقدمات أو بعضها لا يوجد إخلال بالغرض.

[5] أي: مع انتفاء المقدمة الأولى لم يكن المولى في مقام البيان حتى يقال إنه أخل بالبيان.

[6] أي: مع جعل قرينة على التقييد فإنها المتبعة، كما لو قال: (أعتق رقبة مؤمنة).

[7] أي: مع وجود الانصراف فإن بناء العقلاء على العمل بالانصراف وعدم استفادة الإطلاق.

[8] أقول: في العبارة غموض، وسنكتفي بشرح الحقائق لها: (يعني: تارة يحرز

ص: 170

الفرض أنه بصدد بيان تمامه وقد بينه[1]، لا بصدد بيان أنه تمامه[2] كي أخل ببيانه، فافهم[3].

-----------------------------------------------------------------

أن المتكلم في مقام بيان تمام مراده، وأخرى يحرز أنه في مقام بيان تمام مراده وبيان أنه تمام مراده. فإن أحرز أن المتكلم في المقام الأول كان وجود القدر المتيقن مانعاً من الإطلاق؛ لأن المقدار المتيقن إذا كان تمام مراده فهو مبين، فلا مقتضي للحمل على الإطلاق. وإذا أحرز أنه في المقام الثاني فوجود القدر المتيقن غير مانع عن الحكم بالإطلاق؛ لأن اليقين بوجوده ليس بياناً لكونه تمام المراد، فلابد أن يكون تمام المراد هو الطبيعة المطلقة)(1)،

انتهى.

[1] أي: إن المولى بصدد بيان تمام المراد، وقد بيّن تمام المراد بواسطة وجود قدر متيقن تخاطبي - أي: الانصراف - .

[2] أي: لا بصدد بيان أن المتيقن تمام المراد.

[3] قال المصنف في الهامش: (إشارة إلى أنه لو كان بصدد بيان أنه تمامه ما أخل ببيانه بعد عدم نصب قرينة على إرادة تمام الأفراد، فإنه بملاحظته يفهم أن المتيقن تمام المراد، وإلاّ كان عليه نصب القرينة على إرادة تمامها، وإلاّ أخل بغرضه. نعم، لا يفهم ذلك إذا لم يكن إلاّ بصدد بيان أن المتيقن مراد، ولم يكن بصدد بيان أن غيره مراد أو ليس بمراد، قبالاً للإجمال أو الإهمال المطلقين، فافهم فإنه لا يخلو عن دقة)(2)، انتهى.

وتوضيحه بلفظ الحقائق: (إذا كان اليقين بوجوده بياناً لتمام المراد فلابد أن يدل بالالتزام على أنه تمام المراد، فيكون بيانه بياناً لتمام المراد)(3)، انتهى.

ص: 171


1- حقائق الأصول 1: 557.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 491.
3- حقائق الأصول 1: 557.

ثم لا يخفى عليك[1]: أن المراد بكونه[2] في مقام بيان تمام مراده مجرد بيان ذلك[3]

-----------------------------------------------------------------

المقدمة الأولی البيان في مقام الاستعمال
اشارة

من هنا يبدأ المصنف في بعض مباحث المقدمة الأولى من مقدمات الحكمة.

[1] هذا الكلام لدفع إشكال يظهر من تقريرات الشيخ الأعظم(1)،

وحاصله: إن المقدمة الأولى - وهي كون المولى في مقام البيان - تنتفي لو وجدنا المقيد، فيسقط الإطلاق رأساً، ولا يمكن التمسك به في غير موارد القيد! مثلاً لو قال: (أعتق رقبة) ثم قال: (لا تعتق رقبة غير مؤمنة) فإن هذا التقييد دليل على أن المولى حين كلامه الأول - أي: أعتق رقبة - لم يكن في مقام البيان، فلا إطلاق لرقبة حتى نتمسك به في نفي سائر القيود، مثل الذكورة والأنوثة والعمر واللون ونحوها. والحال أن مبنى العلماء هو التمسك بالإطلاق لنفي سائر القيود!!

ولحل هذه العويصة يقول المصنف إن (البيان) له معنيان:

الأول: البيان الاستعمالي، أي: يريد من اللفظ الإطلاق لكن بالإرادة الاستعمالية، فإذا ورد القيد فإنه لا يتعارض مع ذلك المعنى المطلق؛ لأن القيد مراد جدّي، والإطلاق مراد استعمالي، ولا تنافي بينهما.

الثاني: البيان الجدّي، أي: إرادة المعنى واقعاً، وهذا يتنافى مع القيد؛ لأن القيد بيان جدّي فإذا كان الإطلاق مراداً جِدّاً حصل التنافي بينهما.

وفي المقدمة الأولى - وهي كونه في مقام البيان - يراد المعنى الأول للبيان.

[2] أي: ما ورد في المقدمة الأولى من كونه في مقام... الخ.

[3] أي: بيان تمام المراد، وضميرا «إظهاره» و«إفهامه» يرجعان إلى (تمام المراد).

ص: 172


1- مطارح الأنظار 2: 259.

وإظهاره وإفهامه، ولو لم يكن عن جد[1]، بل قاعدةً وقانوناً[2]، ليكون[3] حجة في ما لم تكن حجة أقوى[4] على خلافه، لا البيان[5] في قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ فلا يكون[6] الظفر بالمقيد - ولو كان مخالفاً[7] - كاشفاً عن عدم كون المتكلم في مقام البيان. ولذا لا ينثلم به إطلاقه[8] وصحة التمسك به أصلاً، فتأمل

-----------------------------------------------------------------

[1] بل أريد إرادة استعمالية، كما مرّ نظيره في العام والخاص، فإن العام مراد بالإرادة الاستعمالية، ولذا لا يتغير معناه حين ورود الخاص.

[2] أي: الغرض من إرادة الإطلاق بالإرادة الاستعمالية هو ضرب القانون، حتى يُرجع إليه عند الشك، فكلما شككنا في وجود تقييد نرجع إلى الإطلاق؛ لأنه كان مراداً للمتكلّم.

[3] أي: ليكون الإطلاق.

[4] وهو التقييد؛ لأن المقيّد أقوى ظهوراً من المطلق.

[5] أي: ليس المراد من «البيان» في المقدمة الأولى، هو (البيان الجِدّي) الذي يراد في بعض الموارد، مثل قولهم: (قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة) فإن (البيان) في هذا القول هو (البيان الجدي) فيقبح على المولى عدم توضيح مراده الجِدّي حتى يفوت وقت الحاجة؛ لأنه حينئذٍ ناقض لغرضه.

[6] هذه نتيجة الكلام، وحاصلها: إنا لو وجدنا قيداً فإنه لا تنثلم المقدمة الأولى حتى يقال بانتفاء الإطلاق من رأس باعتبار انتفاء إحدى مقدمات الحكمة.

[7] «لو» وصلية، و(القيد المخالف) هو ما تخالف مع المطلق في الإثبات والنفي، وأما القيد الموافق فهو ما اتفقا فيهما، وسيأتي التفصيل في الفصل اللاحق.

ثم إن قوله: «ولو كان مخالفاً» لأجل أنه لا إشكال في أن المخالف مقيد للمطلق، أما الموافق ففيه خلاف، كما سيأتي، فنقول: حتى المخالف - الذي لا إشكال في أنه مقيِّد - لا يضر بالإطلاق.

[8] أي: لا ينثلم بالمقيد إطلاق المطلق، فلو قال: (أعتق رقبة) ثم ظفرنا بقوله:

ص: 173

جيداً[1].

وقد انقدح[2] بما ذكرنا أنّ النكرة في دلالتها على الشياع والسريان أيضاً تحتاج - في ما لا يكون هناك دلالة حال أو مقال - إلى مقدمات الحكمة، فلا تغفل.

بقي شيء[3]: وهو أنه لا يبعد أن يكون الأصل في ما إذا شك في كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد هو كونه[4] بصدد بيانه. وذلك[5] لما جرت عليه سيرة أهل المحاورات من التمسك بالإطلاقات في ما إذا لم يكن هناك ما يوجب صرف وجهها

-----------------------------------------------------------------

(لا تعتق الرقبة الكافرة) فإن إطلاق (رقبة) يبقى بحاله في سائر القيود غير الكفر.

[1] أقول: إن الكلام قد يكون له إطلاق من جهة، ولا يكون له إطلاق من جهة أخرى، فمثل قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ}(1) له إطلاق من جهة الحِلّية، ولا إطلاق له من جهة طهارة موضع العَضّ، وحينئذٍ فالتقييد ينافي الإطلاق من جهة المقيد لا من جهات أخرى، وعليه فلا بأس بالقول بأن البيان في المقدمة الأولى هو البيان الجدّي، والتقييد ينافي الإطلاق من جهة ذلك القيد لا من سائر الجهات، فتأمل.

[2] كل ما ذكرناه من أول الفصل إلى هنا كان في اسم الجنس، فيقول المصنف: إن النكرة - بالمعنى الثاني - أيضاً تحتاج إلى مقدمات الحكمة لتفيد الإطلاق، طابق النعل بالنعل.

الأصل حين الشك في مقام البيان وعدمه

[3] حاصله: هو تأسيس الأصل حين الشك في أن المتكلم كان في مقام البيان أم لم يكن، وهذا الأصل ليس أصلاً عملياً، بل هو أصل اجتهادي.

[4] أي: الأصل كون المتكلم بصدد بيان تمام المراد، وقوله: «هو كونه... الخ» خبر (يكون) في قوله: (أن يكون الأصل...).

[5] دليل هذا الأصل هو سيرة العقلاء.

ص: 174


1- سورة المائدة، الآية: 4.

إلى جهة خاصة[1].

ولذا ترى أن المشهور لا يزالون يتمسكون بها[2]، مع عدم إحراز كون مطلِقها بصدد البيان، وبُعد كونه[3] لأجل ذهابهم إلى أنها موضوعة للشياع والسريان، وإن كان ربما نسب(1)

ذلك إليهم. ولعل وجه[4] النسبة ملاحظة أنه لا وجه للتمسك بها بدون الإحراز[5]، والغفلة عن وجهه[6]، فتأمل جيداً.

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: إذا لم يكن دليل مقيّد فإنهم يتمسكون بالإطلاقات حتى حين الشك.

[2] أي: بالإطلاقات، «مطلقها» بصيغة اسم الفاعل، أي: المتكلّم.

[3] ضمير «كونه» يرجع إلى التمسك، وهذا دفع لتوهم، حاصله: لعل تمسك المشهور بالإطلاقات حين الشك ليس لأجل الأصل، بل لأجل الوضع، أي: وضع المطلقات للإرسال والشمول، وكلّما شككنا في أن المتكلم هل أراد المعنى الموضوع له أم أراد معنى آخر، حملنا كلامه على معناه الحقيقي الموضوع له؟

والجواب: إن النسبة إلى المشهور لم تصح، كما أن من يرى أن الإطلاق يستفاد من مقدمات الحكمة، كذلك يتمسك بالإطلاق حين الشك، مما يكشف أن استنادهم إلى الإطلاق حين الشك في كون المولى في مقام البيان إنّما هو لاعتمادهم على الأصل العقلائي.

[4] هذا استطراد لبيان منشأ نسبة القول بوضع المطلق للشياع والسريان إلى المشهور، فيقول المصنف: لعل من نسب هذا القول إلى المشهور لاحظ أنهم يتمسكون بالإطلاق حتى حين الشك في كون المتكلم في مقام البيان، ولم يجد وجهاً لهذا التمسك إلاّ ذهابهم إلى وضع المطلق للشياع.

[5] أي: للتمسك بالمطلقات بدون إحراز كون المتكلم في مقام البيان.

[6] أي: وجه التمسك بالإطلاق، وذلك الوجه هو الأصل العقلائي على ما بيناه آنفاً.

ص: 175


1- قوانين الأصول 1: 321.

ثم إنه قد انقدح[1] بما عرفت - من توقف حمل المطلق على الإطلاق في ما لم يكن هناك قرينة حالية أو مقالية على[2] قرينة الحكمة المتوقفة على المقدمات المذكورة - أنه لا إطلاق له[3] في ما كان له الانصراف[4] إلى خصوص بعض الأفراد

-----------------------------------------------------------------

المقدمة الثانية والثالثة مانعية الانصراف عن انعقاد الإطلاق
اشارة

من هنا يبدأ المصنف في بعض المباحث المرتبطة بالمقدمة الثانية والثالثة من مقدمات الحكمة.

[1] أي: بما ذكرناه في المقدمة الثانية - انتفاء ما يوجب التعيين - وبما ذكرناه في المقدمة الثالثة - انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب - انقدح أن الانصراف قد يمنع من انعقاد الإطلاق.

[2] «على» متعلق ب- (توقف).

[3] «أنه» فاعل انقدح، أي: انقدح أن الشأن لا إطلاق للفظ المطلق.

[4] أي: كان للفظ المطلق الانصراف... الخ.

ثم اعلم أن الانصراف على أقسام - نذكرها تبعاً لترتيب المصنف - :

الأول: ما أوجب ظهوراً للّفظ في المعنى المنصرف إليه، من غير أن يتحقق اشتراك بين المعنيين، أو نقل إلى المعنى الثاني، فقد يكون المعنى الثاني مجازاً مشهوراً، وقد يكون أحد مصاديق المعنى الحقيقي، مثل: انصراف لفظ (ما لا يؤكل لحمه) إلى خصوص الحيوانات وعدم شموله للإنسان.

وبهذا الانصراف تنثلم المقدمة الثانية؛ لأنه يوجب تعيين اللفظ في المقيد، ففي المثال: لا تجوز الصلاة في أجزاء الحيوانات غير المأكولة اللحم، وأما أجزاء الإنسان - كشعره - فلا مانع منه.

الثاني: ما أوجب التشكيك في بعض المصاديق مع تيقن بعض المصاديق الأخرى

ص: 176

أو الأصناف، لظهوره فيه[1]، أو كونه متيقناً منه[2]

-----------------------------------------------------------------

من غير أن يكون ظاهراً فيها، مثل: انصراف لفظ (الماء) إلى غير المياه الزاجية والكبريتية، لكن لا إلى حد الظهور في الغير، بل يكون الغير هو المقدار المتيقن. وبهذا الانصراف تنثلم المقدمة الثالثة؛ لأنه أوجب وجود مقدار متيقن في مقام التخاطب - وهو المقيد - .

الثالث: الانصراف البدوي، وهو ما يزول بالتأمل، مثل: انصراف لفظ (الإنسان) إلى السليم من العيوب، لكن بمجرد التأمل يزول هذا الانصراف.

ويدخل في الانصراف البدوي الانصراف الخطوري، أي: ما يزول من غير تأمل، مثل: انصراف (الماء) إلى ماء نهر الفرات لمن يسكن بجنب ذلك النهر.

وهذا الانصراف لا يضر بالإطلاق؛ لأنه لا يوجب تعييناً ولا قدراً متيقناً.

الرابع: ما أوجب الاشتراك بين المعنيين - المنصرف منه والمنصرف إليه - كما قيل في لفظ (الصعيد) بأنه وضع لمطلق وجه الأرض، ولكن لكثرة استعماله في التراب الخالص صار هذا المعنى أيضاً حقيقياً، مع بقاء المعنى الأول على معناه الحقيقي أيضاً بحيث صار مشتركاً بين المعنيين.

وهذا الانصراف أيضاً يوجب انثلام المقدمة الثانية؛ لأن كثرة الاستعمال في المعنى الثاني - المقيد - أوجبت ظهوراً للّفظ فيه، أو انثلام المقدمة الثالثة - إذا لم يوجب الظهور في المعنى الثاني لكنه القدر المتيقن في مقام الخطاب - .

الخامس: ما أوجب النقل إلى المعنى الثاني. وهذا الانصراف أيضاً يوجب انثلام المقدمة الثانية؛ لأن الظهور يكون في المعنى الثاني - المقيّد - .

[1] أي: لظهور لفظ المطلق في خصوص هذا البعض، وبهذا الظهور تنثلم المقدمة الثانية، وهذا هو القسم الأول من الانصراف.

[2] أي: كون هذا البعض متيقناً من لفظ المطلق تيقناً في مقام التخاطب، وبهذا تنثلم المقدمة الثالثة، وهذا هو القسم الثاني من الانصراف.

ص: 177

ولو لم يكن ظاهراً فيه بخصوصه حسب اختلاف مراتب الانصراف، كما أنه منها ما لا يوجب ذا ولا ذاك[1]، بل يكون بدوياً زائلاً بالتأمل؛ كما أنه منها[2] ما يوجب الاشتراك، أو النقل.

لا يقال[3]: كيف يكون ذلك[4]؟ وقد تقدم أن التقييد لا يوجب التجوز في المطلق أصلاً.

فإنه يقال[5]:

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: لا يوجب قدراً متيقناً ولا ظهوراً، وهذا هو القسم الثالث من أقسام الانصراف.

[2] أي: إ ن الشأن من مراتب الانصراف... الخ، وهذا هو القسم الرابع والخامس.

إشكال وجواب

[3] هذا الإشكال يختص بالقسم الرابع والخامس من الانصراف، وحاصله: إن الاشتراك والنقل يحتاجان إلى الاستعمال المجازي في المعنى الثاني بكثرة إلى أن يصير حقيقة ثانية، لكنكم ذكرتم أن استعمال المطلق وإرادة المقيّد ليس من المجاز في شيء، بل المطلق يستعمل في معناه - وهو اللابشرط المقسمي - والقيد يستفاد من لفظ آخر، فيكون استفادة التقييد من باب تعدد الدال والمدلول!!

والخلاصة: إنه لا يمكن حصول النقل من المطلق إلى القيد وكذلك الاشتراك، بسبب أن النقل والاشتراك يحتاجان إلى المرور بمرحلة المجازية، ولا مجاز هنا!!

[4] أي: النقل أو الاشتراك.

[5] الجواب من وجهين:

الأول: إن استعمال المطلق وإرادة المقيد مجازاً ممكن غير ممتنع، بلى في غالب الموارد لا يكون كذلك، بل يكون من باب تعدد الدال والمدلول، ولكن في غير الغالب قد يستعمل مجازاً، وحينئذٍ يصح النقل أو الاشتراك.

ص: 178

- مضافاً[1] إلى أنه إنما قيل لعدم استلزامه له[2]، لا عدم إمكانه، فإن استعمال المطلق في المقيد[3] بمكان من الإمكان[4] - إن[5] كثرة إرادة المقيد لدى إطلاق المطلق ولو بدالٍ آخر[6] ربما تبلغ بمثابة توجب له[7] مزية أنس - كما في المجاز المشهور - أو تعيناً واختصاصاً به[8]

-----------------------------------------------------------------

الثاني: إن الوصول إلى مرحلة النقل والاشتراك لا يحتاج إلى المرور بمرحلة المجاز، بل يمكن استعمال اللفظ بمعناه الحقيقي في أحد المصاديق بكثرة إلى أن يحصل لهذا المصداق مزيد أنس بحيث ينصرف اللفظ إليه، ثم يكثر الاستعمال إلى حصول الاشتراك أو النقل.

[1] بيان الجواب الأول.

[2] ضمير «أنه» يرجع إلى (التقييد لا يوجب التجوز)، ومعنى قوله: «إنما قيل» هو إنما اخترناه أو قلنا به، فيكون معنى العبارة: إنّما اخترنا أن التقييد لا يوجب التجوز لأجل أنه لا يستلزم التجوز بالضرورة، بل يمكن أن يكون من باب تعدد الدال والمدلول، ومع إمكان الحمل على المعنى الحقيقي لا داعي للحمل على المعنى المجازي، لا أن المعنى المجازي محال.

[3] بأن يكون لفظ المطلق غير مستعمل في معناه الحقيقي - وهو اللابشرط المقسمي - بل مستعمل في خصوص المقيّد.

[4] فحينئذٍ يمكن استعمال المطلق في القيد مجازاً إلى أن يبلغ حد الاشتراك أو النقل.

[5] بيان للجواب الثاني.

[6] حتى لا يكون مجازاً، بل من باب تعدد الدال والمدلول.

[7] أي: للمقيد مزية أنس حين استعمال لفظ المطلق، فيصبح اللفظ مشتركاً بين المطلق والمقيد، فإرادة أيٍ منهما يحتاج إلى قرينة، كما في المجاز المشهور، حيث إن إرادة المعنى الحقيقي يحتاج إلى نصب قرينة، كما أن إرادة المجاز المشهور أيضاً يحتاج إلى قرينة.

[8] أي: أو توجب للمقيد تعيناً واختصاصاً باللفظ، فينقل اللفظ من المطلق إلى

ص: 179

- كما في المنقول بالغلبة[1] - ، فافهم[2].

تنبيه[3]: وهو أنه يمكن أن يكون للمطلق جهات عديدة، كان وارداً في مقام البيان من جهة منها وفي مقام الإهمال أو الإجمال من أخرى[4]، فلابد في حمله

-----------------------------------------------------------------

المقيد، فلا يحتاج المقيد إلى قرينة؛ لأنه صار المعنى الحقيقي بعد هجران معنى الإطلاق من اللفظ.

[1] أي: المنقول بسبب غلبة استعمال المعنى المجازي إلى حد هجران المعنى الحقيقي، وهو من أقسام الوضع التعيّني.

[2] لعله إشارة إلى أن هذا الإشكال والجوابين فرضيان؛ وذلك لعدم وقوع الاشتراك أو النقل من المطلق إلى المقيد أصلاً، أو إشارة إلى أن الجواب الأول غير مفيد؛ لعدم تحقق المجازية خارجاً - وإن كانت ممكنة - .

إذا كان للمطلق جهات عديدة

[3] حاصله: إن المطلق قد يمكن تقيده بقيد واحد فقط، فهنا إن تمت مقدمات الحكمة يحمل اللفظ على الإطلاق.

وقد يمكن تقييده بقيود متعددة، وهنا إن كان المتكلم ناظراً إلى كل القيود فيكون اللفظ مطلقاً من كل الجهات، وإن كان المتكلم في مقام البيان من بعض الجهات فإن اللفظ يكون مطلقاً بالنسبة إلى تلك الجهات، ومهملاً أو مجملاً بالنسبة إلى سائر الجهات.

[4] كما في قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ}(1)، فالآية في مقام بيان حِليّة الصيد الذي قتله الكلب المعلّم، وليست في مقام بيان طهارة موضع العضّ أو نجاسته.

فالإطلاق من جهة الحلية، ولا إطلاق من جهة الطهارة.

ص: 180


1- سورة المائدة، الآية: 4.

على الإطلاق بالنسبة إلى جهةٍ من كونه بصدد[1] البيان من تلك الجهة، ولا يكفي كونه بصدده من جهة أخرى، إلاّ إذا كان بينهما ملازمة عقلاً[2] أو شرعاً[3] أو عادةً[4]، كما لا يخفى.

فصل: إذا ورد مطلق ومقيد متنافيين[5](1)، فإما يكونان مختلفين في الإثبات

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: كون المتكلم بصدد البيان.

[2] مثلاً: لو كان جاهلاً بوجود عذرة غير مأكول اللحم على ثوبه في الصلاة فإن صلاته صحيحة، وهذه العذرة إن لم تكن مضرة بصحة الصلاة فلازمها هو صحة الصلاة في بصاق غير مأكول اللحم إن كان جاهلاً به، وهذا التلازم عقلي، فإن العذرة النجسة إن لم تضر بالصحة فالبصاق الطاهر لا يضر به بطريق أولى عقلاً.

[3] كما لو حكم الشارع بقصر الصلاة، فإن لازمه الشرعي هو الإفطار، حتى وإن لم يكن الشارع في مقام بيان حكم الإفطار؛ وذلك للملازمة الشرعية بين القصر والإفطار.

[4] كما في حكم الشارع بطهارة سؤر الهرة، ويلازم سؤرها عادة ملاقاة أجزاء الميتة، فإن الشارع وإن لم يكن في مقام بيان الطهارة من جهة ملاقاة الميتة، ولكن الحكم بالطهارة يلازم عادة الحكم بالطهارة من هذه الجهة أيضاً؛ وذلك لعدم انفكاك سؤرها عن ملاقاة أجزاء الميتة، فتأمل.

فصل المطلق والمقيد المتنافيان

اشارة

[5] وهذا في ما نعلم بأن الحكم فيهما واحد، كما لو قال في الكفارة: (أعتق رقبة)، ثم قال في نفس الكفارة: (أعتق رقبة مؤمنة).

ص: 181


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «متنافيان».

والنفي، وإما يكونان متوافقين.

فإن كانا مختلفين مثل: (أعتق رقبة) و(لا تعتق رقبة كافرة) فلا إشكال في التقييد[1].

وإن كانا متوافقين[2]، فالمشهور فيهما الحمل والتقييد[3].

وقد استدل بأنه[4] جمع بين الدليلين، وهو أولى[5].

-----------------------------------------------------------------

أما لو تعدد الحكم كما لو قال: (أكرم العالم)، وقال: (ادرس عند العالم الرباني) فلا كلام في عدم التقييد؛ وذلك لتعدد الحكم.

[1] وذلك لأن ظهور المقيد أقوى من ظهور المطلق، وعلى ذلك بناء العقلاء.

المتوافقان المثبتان
اشارة

[2] المراد المتوافقان المثبتان، كما يظهر من الاستدلال بحمل الأمر على الاستحباب، مضافاً إلى أن المشهور الحمل في المثبتين فقط وعدم الحمل في المنفيين.

وأما المنفيان فإن المصنف سيتعرض لهما في نهاية هذا الفصل قبل قوله: (تنبيه) وسيختار عدم الفرق - خلافاً للمشهور - فانتظر.

[3] أي: حمل المطلق على المقيد، بأن يقال: إن لفظ المطلق لا دلالة له على الإطلاق؛ لانثلام المقدمة الثانية من مقدمات الحكمة؛ لأن المقيد يوجب التعيين، وقوله: «والتقييد» عطف تفسيري.

[4] أي: بأن الحمل والتقييد جمع بين الدليلين - جمعاً موضوعياً - فبعتق رقبة مؤمنة نكون قد عملنا بقوله: (أعتق رقبة) وذلك لأن الرقبة المؤمنة مصداق من مصاديق الرقبة، وكذلك عملنا بقوله: (أعتق رقبة مؤمنة).

والمراد من الجمع الموضوعي هو أن الموضوع في (أعتق رقبة) يراد به (رقبة مؤمنة).

[5] أي: الجمع أولى؛ لقاعدة (الجمع مهما أمكن أولى من الطرح)، ودليل هذه القاعدة هو بناء العقلاء إذا كان الجمع عرفياً، وأيضاً أدلة حجية الأمارات تشمل

ص: 182

وقد أورد عليه[1]: بإمكان الجمع على وجه آخر، مثل حمل الأمر في المقيد على الاستحباب.

وأورد عليه[2]: بأن التقييد ليس تصرفاً في معنى اللفظ[3]، وإنما هو تصرف في وجهٍ من وجوه المعنى[4]،

-----------------------------------------------------------------

صورة إمكان الجمع العرفي.

[1] أي: على الاستدلال، قرّره المحقق القمي(1) إشكالاً على المشهور، وحاصله: إن طريق الجمع لا ينحصر في حمل المطلق على المقيد - وهو جمع موضوعي - بل هنالك طريق آخر وهو جمع حكمي، بأن نتصرف في الحكم بحمل أمر المقيد على الاستحباب، ففي المثال نقول: إنّ (أعتق) في (أعتق رقبة مؤمنة) دال على الاستحباب، فيبقى المطلق على إطلاقه دال على وجوب عتق أية رقبة - مؤمنة كانت أم كافرة - والمقيد يدل على استحباب الرقبة المؤمنة!! وعليه فلا وجه لاستدلال المشهور، حيث لا ترجيح لأحد طريقي الجمع على الآخر.

[2] هذا الإيراد هو انتصار لدليل المشهور، وردّ إشكال المحقق القمي عليه، وقد قرره في التقريرات(2)،

وحاصله: إن الحمل على الاستحباب مجاز في لفظ الأمر، في حين أن حمل المطلق على المقيد لا مجاز فيه أصلاً؛ وذلك لأن وجود المقيد يسبب انثلام المقدمة الثانية من مقدمات الحكمة في المطلق - حيث وجد ما يوجب التعيين وهو المقيد - فلا يدل المطلق على الإطلاق، وعدم دلالته ليس من المجاز في شيء، إذن فالحمل على الاستحباب يكون مرجوحاً؛ لأنه مجاز، أما حمل المطلق على القيد فإنه لا مجاز فيه، فيكون أولى.

[3] لعدم انعقاد ظهور للّفظ في الإطلاق بسبب انثلام إحدى مقدمات الحكمة.

[4] وهو وصف الإطلاق، وهذا التصرف لا يوجب مجازية أصلاً.

ص: 183


1- قوانين الأصول 1: 325.
2- مطارح الأنظار 2: 273.

اقتضاه تجرده[1] عن القيد، مع تخيل وروده[2] في مقام بيان تمام المراد، وبعد الاطّلاع على ما يصلح للتقييد نعلم وجوده على وجه الإجمال[3]، فلا إطلاق فيه[4] حتى يستلزم تصرفاً[5]، فلا يعارض ذلك بالتصرف في المقيد بحمل أمره على الاستحباب.

وأنت خبير[6]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: اقتضى هذا الوجه - وهو الإطلاق - تجرد اللفظ عن القيد، وقوله: «تجرده» فاعل (اقتضاه).

[2] أي: ورود اللفظ.

[3] أي: أصل وجود القيد معلوم، لكن الاختلاف في كيفية التقييد، هل هو قيد للموضوع أم هو قيد للحكم؟ وبعبارة أخرى كما قيل(1):

أي وبعد الاطّلاع على قيد (أعتق رقبة مؤمنة) نعلم وجود ما يصلح للتقييد على وجه الإجمال؛ لتردده بين كونه مقيداً للإطلاق أو مستحباً من أفضل الأفراد، وهذا معنى قوله: (على وجه الإجمال)، ولكن الصحيح هو رجوع القيد إلى الموضوع.

[4] أي: في لفظ المطلق؛ وذلك لانثلام المقدمة الثانية من مقدمات الحكمة.

[5] يعنى حمل المطلق على المقيد لا يوجب تصرفاً في معنى المطلق لكي يكون مجازاً، حتى يأتي أحدهم ويعارض هذا الحمل بحمل الأمر في القيد على الاستحباب.

والحاصل: إن حمل المطلق على المقيد لا مجاز فيه، فهو أولى من حمل أمر المقيد على الاستحباب حيث إنه مجاز.

[6] هذا إشكال على التقريرات تأييداً للمحقق القمي ورداً لدليل المشهور، وحاصله: إن على كلام التقريرات إشكالين - طوليين - :

الأول: إن حمل المطلق على المقيد تصرف - وسيأتي شرحه - وحمل الأمر على

ص: 184


1- عناية الأصول 2: 391.

بأن التقييد[1] أيضاً يكون تصرفاً في المطلق، لما عرفت[2] من أن الظفر بالمقيد لا يكون كاشفاً عن عدم ورود المطلق في مقام البيان، بل عن عدم كون الإطلاق الذي هو ظاهره بمعونة الحكمة[3] بمراد[4] جدي، غاية الأمر أن التصرف فيه بذلك[5] لا يوجب التجوز فيه[6].

-----------------------------------------------------------------

الاستحباب تصرف آخر، وليس أحدهما أولى من الآخر. نعم، الأول تصرف لا يستلزم المجاز، والثاني يستلزم المجاز، لكن هذا المقدار لا يوجب الأولوية.

الثاني: إن حمل الأمر على الاستحباب لا يوجب أية مجازية؛ لأن المراد بالاستحباب هو تأكد الوجوب، فكلا التصرفين لا مجاز فيه، فلا يكون أحدهما أولى من الآخر.

وحينئذٍ فقول المشهور: (إن حمل المطلق على المقيد أولى لأنه جمع بين الدليلين) غير صحيح.

[1] بيان الجواب الأول.

[2] حاصله: إن وجود المقيد لا يوجب عدم إطلاق لفظ المطلق، بل حتى مع التقييد يبقى إطلاق المطلق، ولكن بالإرادة الاستعمالية، لا الإرادة الجدية - كما مرّ توضيحه - فحينئذٍ مع وجود المقيّد نكتشف عدم الإرادة الجدية من المطلق، وهذا هو نوع تصرف في المطلق، بلى ليس ذلك مجازاً، لكنه ليس بأولى من التصرف الآخر، وهو حمل الأمر على الاستحباب.

[3] أي: ظاهر المطلق، وهذا الظهور إنّما تم بسبب مقدمات الحكمة، فقوله: «بمعونة» متعلق بقوله: (ظاهره) أي: الظهور بمعونتها.

[4] الباء في «بمراد» متعلقة ب- (عدم كون الإطلاق).

[5] أي: التصرف في المطلق بذلك - أي: بعد كونه مراداً جدياً - .

[6] ولما كان المناط هو الظهور فلا ترجيح للتصرف الذي لا يوجب المجاز على التصرف الذي يوجبه، إذا كانا في عرض واحد من جهة الظهور.

ص: 185

مع أن[1] حمل الأمر في المقيد على الاستحباب لا يوجب تجوزاً فيه[2]، فإنه في الحقيقة مستعمل في الإيجاب، فإن المقيد إذا كان فيه ملاك الاستحباب كان من أفضل أفراد الواجب، لا مستحباً فعلاً[3]، ضرورة أن ملاكه لا يقتضي استحبابه[4] إذا اجتمع مع ما يقتضي وجوبه[5].

نعم[6]، في ما إذا كان إحراز كون المطلق في مقام البيان بالأصل[7] كان من

-----------------------------------------------------------------

[1] بيان الجواب الثاني.

[2] أي: في الأمر الوارد في المقيد، وضمير «فإنه» راجع إلى الأمر.

[3] بمعنى أن له ملاك الاستحباب، لكن لم يصل الاستحباب إلى مرتبة الفعلية؛ وذلك لأن الوجوب والاستحباب ضدان، فيستحيل اجتماعها في شيء واحد، بل معنى الاستحباب هو أنه أفضل الأفراد، كما مرّ نظيره في العبادات المكروهة، فراجع.

[4] أي: ملاك الاستحباب لا يقتضي استحباب المقيّد إذا كان مانع، والمانع هنا هو وجوبه الفعلي.

[5] أي: إذا اجتمع ملاك الاستحباب مع ملاك الوجوب، وكان ملاك الوجوب مقتضياً لفعلية الوجوب فحينئذٍ لا يصير استحبابه فعلياً؛ لاستحالة اجتماع الضدين.

[6] تراجع عن الإشكال على التقريرات، وتأييد كلامه في ما لو كان إحراز الإطلاق بالأصل، فحينئذٍ فلا يصح إشكال المحقق القمي على المشهور القائلين بحمل المطلق على المقيد واستدلالهم بأنه جمع بين دليلين.

وحاصل كلام المصنف: إنه لو أحرز الإطلاق بالأصل فإن التقييد يرجح على الإطلاق؛ لأن المقيد دليل ومع وجود الدليل لا تصل النوبة إلى الأصل.

[7] أي: بالأصل العقلائي، الذي سبق تقريره في قول المصنف: (بقي شيء).

ص: 186

التوفيق بينهما حمله[1] على أنه سيق في مقام الإهمال على خلاف مقتضى الأصل، فافهم[2].

ولعل وجه التقييد[3] كون ظهور إطلاق الصيغة في الإيجاب التعييني[4] أقوى[5] من ظهور المطلق في الإطلاق.

وربما يشكل[6]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: من التوفيق بين المطلق والمقيد هو حمل المطلق على الإهمال؛ وذلك لأن الأصل لا يجري مع وجود الدليل، والدليل هنا هو المقيد.

[2] لعله إشارة إلى أن هذا التوفيق يستلزم الإهمال في غالب المطلقات؛ لأن إحراز أكثرها بالأصل، وهذا مما لا يمكن الالتزام به، فإنهم يقولون: إنّ المقيد يقيدها من جهة ويبقى إطلاقها من سائر الجهات.

[3] أي: لما دار الأمر بين التقييد بحمل المطلق على المقيد وبين عدم التقييد بحمل الأمر في المقيد على الاستحباب، فإنه يلزم رفع اليد عن الظهور الأضعف، حال كل متعارضين كان أحدهما أقوى ظهوراً من الآخر.

[4] خلافاً للقولين الآخرين، حيث أحدهما هو حمل الأمر على الاستحباب كما مرّ قبل قليل، والآخر هو الوجوب التخييري بين الإطلاق والتقييد، وهذا القول أعرض المصنف عن ذكره؛ لوضوح بطلانه؛ لعدم تعقل التخيير بين الكلي وصنفه أو فرده.

[5] وجه الأقوائية هو الفهم العرفي.

عدم التقييد في المستحبات

[6] أي: يشكل ما ذكرناه من أن ظهور إطلاق الصيغة في الإيجاب التعييني أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق.

وحاصل الإشكال: هو النقض بالمستحبات، حيث لم يحملوا فيها المطلق على المقيد، بل قالوا ببقاء استحباب المطلق، وتأكد استحباب المقيد، مع أن اللازم

ص: 187

بأنه[1] يقتضي التقييد في باب المستحبات[2]، مع أن بناء المشهور على حمل الأمر بالمقيد فيها[3] على تأكد الاستحباب[4]. اللهم[5] إلاّ أن يكون الغالب في هذا الباب[6] هو تفاوت الأفراد بحسب مراتب المحبوبية[7]، فتأمل[8]؛ أو أنه[9] كان

-----------------------------------------------------------------

- على ما ذكرناه - هو ترجيح ظهور الصيغة في الاستحباب التعييني على ظهور المطلق في الإطلاق!!

[1] أي: بأن هذا الوجه - المذكور آنفاً - .

[2] مما يلزم عدم استحباب المطلق أصلاً.

[3] أي: في المستحبات.

[4] فمثل: (زر الحسين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) مطلق يدل على استحباب زيارته في أي وقت، وقوله: (زر الحسين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ يوم عرفه) يحمل على تأكد الاستحباب في ذلك اليوم.

[5] شروع في الجواب عن هذا الإشكال، وحاصله جوابان:

الأول: إن غلبة التأكيد في المستحبات يوجب انهدام ظهور إطلاق الصيغة في الاستحباب التعييني، وبقاء ظهور المطلق على إطلاقه من غير معارض.

الثاني: إن قاعدة التسامح في أدلة السنن تدل على بقاء المطلق على استحبابه، حيث بلغنا ثواب على المطلق، وهذه القاعدة لا تجري في الواجبات؛ لذا كان فرق بينها وبين المستحبات.

[6] أي: باب المستحبات، وهذا بيان للجواب الأول.

[7] وهذه الغلبة توجب انهدام ظهور الصيغة - كما بينّا - .

[8] لعله إشارة إلى أن الواجبات أيضاً تختلف مراتب المحبوبية فيها، مثل: الصلاة، وصلاة الجماعة، وفي المسجد... الخ، فإن كانت الغلبة تهدم ظهور الصيغة في المستحبات فإنها تهدمه في الواجبات أيضاً، فالنتيجة عدم صحة هذا الجواب.

[9] بيان للجواب الثاني، وضمير «أنه» يرجع إلى (حمل الأمر في المستحبات على تأكد الاستحباب).

ص: 188

بملاحظة التسامح في أدلة المستحبات[1]، وكان[2] عدم رفع اليد من دليل استحباب المطلق - بعد مجيء دليل المقيد - وحمله[3] على تأكد استحبابه من التسامح فيها[4].

ثم إن الظاهر[5]

-----------------------------------------------------------------

[1] حيث قال عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (من بلغه ثواب على عمل... الخ)(1)،

وقد بلغنا ثواب على العمل بالمطلق.

[2] هذا بيان لكيفية شمول أدلة التسامح للمطلق في المستحبات.

[3] أي: حمل دليل المقيد على تأكد استحباب المقيد مع بقاء المطلق على استحبابه.

[4] قوله: «من التسامح...» خبر قوله: (وكان عدم رفع...) أي: في المستحبات.

وقال المصنف في الهامش: (ولا يخفى أنه لو كان حمل المطلق على المقيد جمعاً عرفياً كان قضيته عدم الاستحباب إلاّ للمقيّد، وحينئذٍ إن كان بلوغ الثواب صادقاً على المطلق كان استحبابه تسامحياً، وإلاّ فلا استحباب له أصلاً، كما لا وجه - بناءً على هذا الحمل وصدق البلوغ - يؤكد الاستحباب في المقيد، فافهم)(2)،

انتهى. وحاصله: أن الحمل لو كان جمعاً عرفياً، فإن العرف لا يفهم بلوغ الثواب على المطلق، مضافاً إلى أن أدلة التسامح تجبر ضعف السند لا الدلالة.

المتوافقان المنفيان

[5] أي: لا فرق في لزوم حمل المطلق على المقيد بين كونهما مثبتين، كما مرّ بحثه، وبين كونهما منفيين، كما لو قال: (لا تعتق المكاتب) وقال: (لا تعتق المكاتب الكافر) فإن المطلق يحمل على المقيد، فيكون النهي عن خصوص (المكاتب الكافر) لا غيره، خلافاً للمشهور حيث قالوا بعدم حمل المطلق على المقيد في المنفيين.

ص: 189


1- وسائل الشيعة 1: 80.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 511.

أنه لا يتفاوت في ما ذكرنا بين المثبتين والمنفيين[1] بعد فرض كونهما متنافيين[2]، كما لا يتفاوتان[3] في استظهار التنافي بينهما من استظهار[4] اتحاد التكليف من وحدة السبب[5] وغيره[6] من قرينة حال أو مقال حسبما يقتضيه النظر، فليتدبر.

تنبيه: لا فرق في ما ذكر من الحمل في المتنافيين[7] بين كونهما في بيان الحكم

-----------------------------------------------------------------

[1] لأن الدليل المذكور في المثبتين يجري في المنفيين أيضاً بعينه.

[2] ويعرف التنافي من وحدة التكليف - كما مرّ تفصيله - .

[3] أي: لا يتفاوت المطلق والمقيد، والغرض: هو الرد على المعالم والقوانين وغيرهما، حيث تصوروا أن التنافي إنما يكون مع وحدة سبب الحكم، ويرد عليه: إن التنافي هو مع وحدة التكليف، سواء كشفنا وحدة التكليف من وحدة السبب، أم من قرائن حالية أم مقالية.

[4] أي: منشأ استظهار التنافي هو استظهار اتحاد التكليف، ف- «من» متعلق ب- (استظهار) في قوله: (استظهار التنافي).

[5] «من» متعلقة ب- (اتحاد التكليف)، ومثاله لو قال المولى: (أعتق رقبة في الظهار) وقال: (أعتق رقبة مؤمنة في الظهار) حيث السبب واحد وهو (الظهار).

[6] أي: وغير وحدة السبب، كما لو لم نكن نعلم عِلّة الحكم، ولكن لأجل القرائن علمنا بوحدة التكليف، مثاله لو قال: (أعط هذا الدرهم للعالم) وقال: (أعط هذا الدرهم للعالم العادل)، حيث لا نعلم سبب التكليف، ولكن نعلم وحدة التكليف بقرينة حالية، وهي عدم إمكان إعطاء ذلك الدرهم لأكثر من شخص.

المطلق والمقيد في الأحكام الوضعية

[7] أي: حمل المطلق على المقيد - بأن نقول: إنّ المراد من المطلق هو المقيد - ولا فرق في المتنافيين بين المثبتين أو المنفيين أو المختلفين.

ص: 190

التكليفي وفي بيان الحكم الوضعي[1]. فإذا ورد - مثلاً - إن البيع سبب، وإن البيع الكذائي سبب، وعلم أن مراده[2] إما البيع على إطلاقه أو البيع الخاص، فلابد من التقييد[3] لو كان ظهور دليله[4] في دخل القيد أقوى من ظهور دليل الإطلاق فيه[5]، كما هو ليس ببعيد[6]، ضرورة تعارف ذكر المطلق وإرادة المقيد، بخلاف العكس[7] بإلغاء القيد وحمله على أنه غالبي[8]

-----------------------------------------------------------------

[1] الحكم التكليفي: هو حكم الشارع بالأحكام الخمسة من الوجوب والاستحباب والحرمة والكراهة والإباحة. والحكم الوضعي: كل حكم شرعي لم يكن أحد هذه الأحكام الخمسة، مثل: السببية والمانعية والقاطعية والجزئية والزوجية والملكية والطهارة... الخ.

[2] أي: علمنا بوحدة الحكم، فالسبب واحد، إما مطلق البيع، وإما البيع الخاص.

[3] بأن نقول: إن المراد من المطلق هو المقيد، فقوله: (البيع سبب) يراد منه البيع الخاص.

[4] أي: ظهور دليل التقييد، ومراد المصنف بيان أن تقديم المقيد على المطلق لأجل أقوائية ظهوره، فالملاك هو ظهور اللفظ. والأمر هنا دائر بين كون القيد احترازياً وبين كونه غير احترازي - كالقيد الغالبي - فإن الظهور في كون القيد احترازياً.

[5] أي: في الإطلاق.

[6] أي: الأقوائية ليست ببعيدة، وأشار إلى الدليل بقوله: (ضرورة... الخ).

[7] وهو إرادة المطلق من المقيد؛ وذلك بإلغاء القيد، واعتباره غالبياً، أو لدفع توهم، أو لنحو ذلك.

[8] أي: حمل القيد على أن القيد غالبي، أي: جيء به لا لإخراج ما لا قيد فيه، بل لوجود القيد غالباً، فيكون ذكره لأجل حكمة أخرى، مثلاً قوله تعالى: {وَرَبَٰٓئِبُكُمُ ٱلَّٰتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ ٱلَّٰتِي دَخَلۡتُم بِهِنَّ}(1) فإن الربيبة - وهي

ص: 191


1- سورة النساء، الآية: 23.

أو على وجه آخر[1]، فإنه[2] على خلاف المتعارف.

تبصرة لا تخلو من تذكرة[3]: وهي: إن قضية[4] مقدمات الحكمة في المطلقات تختلف حسب اختلاف المقامات[5]،

-----------------------------------------------------------------

بنت الزوجة من زوج آخر - تحرم على الرجل سواء رباها في حجره أم لم يربها في حجره، ولكن جيء بالقيد لأن الغالب أن الأم تصحب معها بناتها الصغار إلى بيت زوجها الجديد، ولعل النكتة في هذا القيد الغالبي هو إلفات الأزواج إلى معاملة بنات زوجاتهم كما يتعاملون مع بناتهم بأن يضعوهن في حجورهم ويمسحوا على رؤوسهن - مثلاً - وخاصة إن كن أيتاماً.

[1] كدفع توهم يتعلق بالمقيد، مثلاً لو قال: يصح بيع الكافر، دفعاً لتوهم اختصاص الصحة ببيع المسلم، فلا يكون تقييداً لقوله تعالى: {أَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ}(1).

[2] أي: فإن العكس خلاف المتعارف؛ وذلك يوجب ضعف الظهور فيه، وأقوائية الظهور في التقييد.

اختلاف مقتضى مقدمات الحكمة

[3] أي: تذكير ببعض ما مرّ في الكتاب.

[4] أي: مقتضى ونتيجة المقدمات.

[5] وذلك لأن نتيجة المقدمات هو إرسال الماهية وعدم تقييدها بشيء، ونتيجة الإرسال قد تكون:

1- العموم البدلي؛ وذلك في ما يراد إيجاد الطبيعة؛ وذلك يتحقق بحصول فرد منها في الخارج، وهذا يكون في الأوامر التكليفية - عادة - .

2- العموم الاستيعابي؛ وذلك في بعض أقسام الأحكام الوضعية، حيث يراد بيان حكم الطبيعة، وحكمها يجري في كل الأفراد.

ص: 192


1- سورة البقرة، الآية: 275.

فإنها تارةً يكون حملها[1] على العموم البدلي، وأخرى على العموم الاستيعابي، وثالثةً على نوع خاص[2] مما ينطبق عليه[3]، حسب[4] اقتضاء خصوص المقام[5] واختلاف الآثار والأحكام[6]، كما هو الحال[7] في سائر القرائن بلا كلام.

فالحكمة[8] في إطلاق صيغة الأمر تقتضي أن يكون المراد خصوص الوجوب التعييني العيني النفسي، فإن إرادة غيره تحتاج إلى مزيد بيان[9]، ولا معنى لإرادة

-----------------------------------------------------------------

3- وفي بعض الموارد للطبيعة أصناف، وبعض أصنافها يحتاج إلى قيد زائد، وبعضها لا يحتاج إليه، فلابد من أن تكون نتيجة المقدمات هو عدم إرادة القيد الزائد - لعدم بيانه - ، فيراد بالإطلاق الصنف الذي لا قيد فيه.

[1] أي: فإن قضية المقدمات يكون حمل المطلقات.

[2] أي: على قسم من أقسام الطبيعة - صنفاً كان أم نوعاً أم جنساً - .

[3] أي: من الأنواع التي ينطبق المطلق عليها، فالمطلق له أقسام مختلفة، لكن يراد منه خصوص قسم من تلك الأقسام لاكلّها.

[4] «حسب» متعلق بقوله: (اختلاف المقامات)، والمعنى إن اختلاف المقامات إنما هو بحسب مقتضى المقام، أو بحسب اختلاف الآثار والأحكام.

[5] مثلاً: مقام الإيجاب في صيغة الأمر يقتضي حمل الإطلاق على النفسي العيني التعييني.

[6] فإن أثر الوجوب التكليفي يختلف عن أثر الحكم الوضعي؛ لذا كان الأول بدلياً والثاني شمولياً، حيث إن الوجوب التكليفي يراد به إيجاد الطبيعة، والحكم الوضعي يراد منه بيان حكم الطبيعة.

[7] يعنى إن خصوصية المقام واختلاف الآثار هي قرينة تدل على نوعية الإطلاق، ويلزم اتباعها كما في سائر القرائن.

[8] مثال للقسم الثالث.

[9] لأن (التخييري) - كخصال الكفارة - يحتاج إلى بيان العِدل الآخر من الحكم،

ص: 193

الشياع فيه[1]، فلا محيص[2] عن الحمل عليه في ما إذا كان بصدد البيان.

كما أنها[3] قد تقتضي العموم الاستيعابي، كما في {أَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ}(1)، إذ إرادة البيع مهملاً أو مجملاً[4] ينافي ما هو المفروض من كونه بصدد البيان؛ وإرادة العموم البدلي لا تناسب المقام[5]؛ ولا مجال[6] لاحتمال إرادة بيع اختاره المكلف، أيَّ بيع

-----------------------------------------------------------------

و(الكفائي) - كالجهاد - يحتاج إلى بيان فاعل آخر أيضاً، فيقال: أنت أو غيرك، و(الغيري) يحتاج إلى بيان ذي المقدمة، كالوضوء الواجب للصلاة الواجبة.

[1] أي: ولا يمكن حمل الوجوب على الشمول، فمثلاً: (صلّ) لا يتمكن المكلف الإتيان بجميع أفراد الصلاة، فلا يعقل أن يأمره المولى بغير المقدور.

[2] أي: لما امتنعت كل المحتملات الأخرى انحصرت صيغة الأمر في خصوص التعييني العيني النفسي.

[3] أي: قضية المقدمات، وهذا هو القسم الثاني؛ وذلك في الأحكام الوضعية الواردة مورد الامتنان، والمصنف يثبت العموم الاستيعابي بواسطة إبطال المحتملات الأخرى وهي: الإهمال، والإجمال، والعموم البدلي.

[4] كأن يقال: إنه تعالى كان في مقام أصل تشريع الحكم مجملاً.

[5] لأنه ليس مقام طلب الطبيعة حتى يقال بتحقق الطبيعة بفرد واحد، بل هو مقام بيان حكم الطبيعة، والحكم الذي للطبيعة يسري في كل أفرادها.

وقيل: المقام هو مقام الامتنان ولا يناسب الامتنان إلاّ الاستيعاب.

[6] أي: هذا الاحتمال أيضاً غير وارد، والاحتمال هو أن يقال: إن البيع عمومه بدلي، فكل بيع اختاره المكلف يكون حلالاً، كما في الأمر المتعلق بالطبيعة، حيث إن كل فرد اختاره المكلف يكون مأموراً به لا غيره، فقول المولى: (صلّ) عمومه بدلي، فأي مصداق أتى به المكلف كان هو الواجب!! وكذلك في الأحكام الوضعية!!

ص: 194


1- سورة البقرة، الآية: 275.

كان، مع أنها[1] تحتاج إلى نصب دلالة عليها لا يكاد يفهم بدونها[2] من الإطلاق، ولا يصح قياسه[3] على ما إذا أخذ[4] في متعلق الأمر[5]، فإن[6] العموم الاستيعابي لا يكاد يمكن إرادته[7]؛ وإرادة غير العموم البدلي[8] وإن كانت ممكنة

-----------------------------------------------------------------

وأما إشكال هذا الاحتمال فهو:

أولاً: تعليق الحكم على إرادة المكلف محال - كما مرّ نظيره سابقاً - .

ثانياً: إن هذا التعليق قيد زائد، فينفى بالإطلاق؛ إذ لو كان مراداً للزم على المولى بيانه، وقياسه على الأمر المتعلق بالطبيعة مع الفارق - كما سيأتي بعد قليل - .

ومع بطلان هذا الاحتمال وسائر الاحتمالات لا يبقى إلاّ العموم الشمولي.

[1] أي: مع أن (إرادة بيعٍ اختاره المكلف)، وهذا بيان للإشكال الثاني.

[2] أي: لا تكاد هذه الإرادة تفهم بدون نصب دلالة.

[3] بيان لإشكال على الجواب الثاني ودفعه.

أما الإشكال فهو: عدم الفارق بين التكليفي والوضعي، فكما صح في الحكم التكليفي إرادة العموم البدلي من المطلق، كذلك في الحكم الوضعي.

[4] أي: أخذ المطلق.

[5] أي: في الحكم التكليفي - الوجوب - .

[6] هذا دفع للإشكال، وحاصله: إنه في التكليفي بعد بطلان سائر الاحتمالات لم يبق إلاّ إرادة العموم البدلي، وأما في الوضعي فإنه لا يمكن إرادة غير العموم الاستغراقي لبطلان سائر الاحتمالات.

[7] أي: في التكليفي يستحيل إرادة كل المصاديق وأمر المكلف بها؛ لعدم تمكن المكلف من الإتيان بكلّها، ومع عدم القدرة يكون التكليف بغير المقدور، فيستحيل صدور التكليف بالعموم الاستيعابي.

[8] أي: في التكليفي يمكن الإبهام بإرادة فرد معين واقعاً مجمل عند المكلف، لكن بما أن الفرض هو كون المولى في مقام البيان فلا يراد الإبهام، فلا مورد لهذا

ص: 195

إلاّ أنها منافية للحكمة وكون المطلقِ بصدد البيان.

فصل: في المجمل والمبين، والظاهر[1] أن المراد من المبين - في موارد إطلاقه - الكلام الذي له ظاهر، ويكون[2] بحسب متفاهم العرف قالباً لخصوص معنى؛ والمجمل بخلافه[3]، فما ليس له ظهور مجمل[4] وإن علم بقرينة خارجية ما أريد منه[5]، كما أن ما له الظهور مبين وإن علم بالقرينة الخارجية أنه ما أريد ظهوره[6] وأنه مؤوّل.

-----------------------------------------------------------------

الاحتمال أيضاً، فلم يبق إلاّ العموم البدلي.

فصل في المجمل والمبين

[1] منشأ هذا الظهور هو تبادر هذين المعنيين من لفظ المجمل والمبين.

[2] عطف تفسيري شرحاً لقوله: (الكلام الذي له ظاهر).

[3] بخلاف المبين، أي: لا يكون له ظاهر.

[4] خلافاً لتقريرات الشيخ الأعظم(1)

حيث يرى أن ما اتضح المراد منه - ولو بقرينة خارجية - فهو مبين، وما لم يتضح المراد منه - ولو كان له ظاهر - فهو مجمل.

[5] كالقُرء في قوله تعالى: {وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ}(2) فإن القرء مجمل لاشتراكه بين الحيض والطهر، وإن علمنا بالروايات أن المراد هو الحيض.

[6] «ما» نافية، وذلك كقوله تعالى: {وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلۡمَلَكُ صَفّٗا صَفّٗا}(3) فإنه ظاهر في المجيء الحقيقي فهو مبين، وإن علمنا من الشرع والعقل استحالة ذلك على الله، وأن المراد هو مجيء أمر الله تعالى.

ص: 196


1- مطارح الأنظار 2: 295.
2- سورة البقرة، الآية: 228.
3- سورة الفجر، الآية: 22.

ولكل منهما في الآيات والروايات وإن كان أفراد كثيرة لا تكاد تخفى، إلاّ أن لهما أفراداً مشتبهةً وقعت محل البحث والكلام للأعلام في أنها من أفراد أيهما[1]، كآية السرقة[2]، ومثل: {حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمۡ أُمَّهَٰتُكُمۡ}(1) و{أُحِلَّتۡ لَكُم بَهِيمَةُ ٱلۡأَنۡعَٰمِ}(2)

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: في أن الأفراد المشتبه من أفراد المجمل أم المبين.

وفي الوصول: (وهذا الخلاف إنما نشأ من أنس بعض الأذهان ببعض الشواهد والمقربات والمبعدات، بحيث صار سبباً لأنس الذهن بالتلازم بين لفظ ومعنى، أو عدم التلازم أو الشك، فهذا يدعي إجماله وذاك يدعي خلافه)(3)،

انتهى.

[2] قال تعالى: {وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا}(4)، فاليد مجملة عند البعض - كالسيد المرتضى(5)

- لأنها تطلق على الأصابع، وعلى الكف، وعلى ما اتصل بالمرفق، وعلى ما اتصل بالكتف، وإن علم من الروايات المراد منها وأنها الأصابع، وهي مبينة عند بعض كصاحب المعالم(6).

ثم يذكر المصنف ثلاثة أقسام:

الأول: ما كان منشأ الإجمال عدم اتضاح متعلق التكليف، كاليد في المثال الأول.

الثاني: ما كان منشأه عدم ذكر الفعل المكلّف به، بل ذكر العين التي تعلق بها التكليف.

الثالث: ما كان منشأه نفي الفعل مطلقاً - بناءً على القول بالأعم - .

ص: 197


1- سورة النساء، الآية: 23.
2- سورة المائدة، الآية: 1.
3- الوصول إلى كفاية الأصول 3: 270.
4- سورة المائدة، الآية: 38.
5- الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 325.
6- معالم الدين: 153.

مما أضيف التحليل إلى الأعيان[1] ومثل (لا صلاة إلا بطهور)[2].

ولا يذهب عليك: أن إثبات الإجمال أو البيان لا يكاد يكون بالبرهان[3]، لما عرفت من أن ملاكهما أن يكون للكلام ظهور ويكون قالباً لمعنىً، وهو مما يظهر بمراجعة الوجدان[4]، فتأمل[5].

ثم لا يخفى: أنهما وصفان إضافيان ربما يكون مجملاً عند واحد لعدم معرفته بالوضع أو لتصادم ظهوره بما حف به لديه[6]، ومبيناً لدى الآخر لمعرفته وعدم

-----------------------------------------------------------------

[1] فمع العلم بأن متعلق التكليف هو فعل المكلف لا الأعيان الخارجية نعلم بأن الحلال أو الحرام هو فعل تعلق بتلك العين، فالأكثر على عدم الإجمال لظهوره في الفعل المقصود منه، فتحريم الأم يراد به نكاحها، وتحليل البهيمة يراد به لحمها، والبعض على الإجمال لكثرة الأفعال المتعلقة بالأعيان مع عدم اتضاح المقصود منها.

[2] مما ينفي الفعل مطلقاً - على القول بالأعم - حيث قال البعض بإجماله؛ لعدم معرفة أن المراد نفي الصحة أم نفي الكمال، وذهب البعض بعدم الإجمال لظهوره في نفي الصحة.

[3] لأن الظهور مرتبط بأنس الذهن، ولا قاعدة خاصة لذلك، بل يلزم تتبع كل جزئي جزئي لمعرفة ظهوره.

[4] ومنشأ الوجدان هو أنس الذهن من المحاورات العرفية.

[5] لعله إشارة إلى أن البرهان قد يكون سنداً للوجدان، أو إشاره إلى أن بعض الظهورات تكون في الكليات التي لها مصاديق كثيرة، مثل ظهور صيغة الأمر في الوجوب، فيقام عليه البرهان لإثباته.

[6] من القرائن التي أوجبت الشك في الظهور.

ص: 198

التصادم بنظره، فلا يهمنا[1] التعرض لموارد الخلاف والكلام والنقض والإبرام في المقام، وعلى الله التوكل وبه الاعتصام.

-----------------------------------------------------------------

[1] لأنها خارجة عن المبحث الأصولي، بل يلزم في مواردها - من الفقه أو غيره - بحث كل جزئي على حده.

ص: 199

ص: 200

المقصد السادس في الأمارات

اشارة

ص: 201

ص: 202

المقصد السادس: في بيان الأمارات[1] المعتبرة[2] شرعاً أو عقلاً[3].

وقبل الخوض في ذلك لا بأس بصرف الكلام إلى بيان بعض ما للقطع من الأحكام[4] - وإن كان خارجاً من مسائل الفن[5]

-----------------------------------------------------------------

[1] الأمارة هي: ما لها كاشفية عن الواقع ولم تكن بحدّ القطع، سواء اعتبرها الشارع كالبينة، أم لم يعتبرها كخبر الثقة الواحد في الموضوعات - على بعض المباني - .

[2] الاعتبار بمعنى المنجزية عند الإصابة، والمعذرية عند الخطأ.

[3] المعتبرة شرعاً كخبر العادل إذا لم يوجب الاطمئنان أو الظن. والمعتبرة عقلاً - والمراد عقلائياً - كشهادة الثقة الفاسق. والمعتبرة شرعاً وعقلاً كالبينة إذا أوجبت الاطمئنان أو الوثوق.

فصل أحكام القطع

اشارة

[4] مثل تنجّز القطع في المعلوم الإجمالي، وحجية قطع القطاع، وحرمة التجري ونحوها.

[5] حيث أصولية المسألة - على مبنى المصنف - إمّا لوقوعها في كبرى استنباط الحكم الشرعي الفرعي، مثل: حجية الظواهر، فيقال: هذا اللفظ ظاهر في الوجوب، وكل ظاهر حجة، فظاهر هذا اللفظ - أعني الوجوب - حجة، وإمّا انتهاء المجتهد إليها في مقام العمل مثل أصالة البراءة، وكلا الملاكين مفقودان في القطع:

أما الأول: فلأنّ القطع لا يقع كبرى الاستدلال، فلا يقال: هذا معلوم الخمرية، وكل معلوم الخمرية حرام؛ وذلك لأن الحرام هو ذات الخمر لا الخمر

ص: 203

وكان أشبه بمسائل الكلام[1] - لشدة مناسبته مع المقام[2].

فاعلم[3]: أن البالغ الذي وُضع عليه القلم إذا التفت إلى حكم فعلي واقعي أو

-----------------------------------------------------------------

المعلومة، فالعلم ليس جزء موضوع الحرمة، كما لا يصح أن يقال: الخمر معلومة الحرمة، وكل معلوم الحرمة حرام؛ لأن الحرام هو ذات الشيء لا معلوم الحرمة.

وأما الثاني: فلوضوح أن القطع كاشف عن الواقع، وليس من الأصول العملية.

[1] علم الكلام هو علم العقائد ويبحث فيه عن أحوال المبدأ والمعاد. ومسائل القطع ترجع إلى البحث عن المعاد، أي: استحقاق العقاب على مخالفة القطع أو عدم استحقاقه، وإلى البحث عن المبدأ، أي: وجوب الإطاعة لو حصل القطع أم عدم وجوبها.

وإنّما قال: (أشبه بمسائل الكلام) لأن استحقاق العقاب أو عدمه أحد لوازم حجية القطع أو عدم حجيته، في حين أن أصل المسألة عقلية، ولوازمها أعم من استحقاق العقاب أو عدمه، بلى هو أظهر اللوازم.

[2] حيث نبحث عن أحكام الظن والشك، فكان المناسب البحث عن القطع أيضاً، ولأن الأمارة والأصل العملي وظيفة غير القاطع، فكان من المناسب البحث حول وظيفة القاطع.

[3] قال الشيخ الأعظم في الرسائل: (اعلم أن المكلف إذا التفت إلى حكم شرعي، فإما أن يحصل له الشك فيه أو القطع أو الظن...)(1)،

انتهى.

وقد أشكل المصنف على كلامه بأربعة إشكالات:

الأول: إن المكلف هو الملتفت؛ لأن غير الملتفت ليس بمكلف فعلاً، فلا وجه لقوله: (المكلّف إذا التفت) ولذا بدّل المصنف (المكلف) إلى (البالغ الذي وضع عليه القلم) فإن القلم موضوع عليه سواء كان ملتفتاً أم لا.

ص: 204


1- فرائد الأصول 1: 25.

ظاهري[1] متعلق به[2] أو بمقلديه[3]، فإما أن يحصل له القطع به[4] أو لا[5]. وعلى

-----------------------------------------------------------------

الثاني: إن الظاهر من قوله: (حكم شرعي) هو الحكم الواقعي، مع أن أحكام القطع تشمل الحكم الظاهري أيضاً.

الثالث: (الحكم الشرعي) لا يكون منجزاً إذا لم يكن فعلياً، فالوظائف المذكورة للأقسام الثلاثة إنّما هي إذا كان الحكم فعلياً، أما الحكم الاقتضائي والحكم الإنشائي فلا أثر لهما إذا لم يبلغا مرتبة الفعلية.

الرابع: تداخل الأقسام - كما سيأتي - .

ولذا عدل المصنف عن تعبير الشيخ الأعظم إلى تعبير آخر.

[1] (الحكم الواقعي): هو ما كان للشيء بما هو هو، سواء كان واقعياً أوّلياً كوجوب الوضوء للصلاة، أم واقعياً ثانوياً مثل: وجوب التيمم للفاقد للماء.

و(الحكم الظاهري): هو ما كان للشيء بما هو مشكوك، مثل: الطهارة الثابتة بأصالة الطهارة أو استصحابها، وكالأحكام المستفادة من أخبار الآحاد.

[2] هل هذا التقسيم خاص بالمجتهد أم يشمل المجتهد والمقلد، فيه خلاف مذكور في المفصلات.

[3] مثل: أحكام الحيض والنفاس حيث يستنبط المجتهد أحكامهما لمقلديه من النساء.

[4] أي: القطع بذلك الحكم الواقعي أو الظاهري، ويدخل في هذا الشق مدلول جميع الأدلة الشرعية من الأمارات والأصول العملية؛ لأنها توجب القطع بالحكم الظاهري، فبعد إجراء أصالة الطهارة يقطع المكلف بأن حكمه الظاهري هو الطهارة - مثلاً - .

[5] أي: أو لا يحصل له القطع بالحكم الشرعي - لا الواقعي منه ولا الظاهري - وهذا وظيفته الرجوع إلى الحكم العقلي.

ص: 205

الثاني لابد من انتهائه إلى ما استقل به العقل[1] من اتباع الظن لو حصل له[2] وقد تمت مقدمات الانسداد على تقدير الحكومة[3]، وإلاّ[4] فالرجوع إلى الأصول العقلية من البراءة[5] والاشتغال[6] والتخيير[7]، على تفصيل يأتي في محله إن شاء الله تعالى.

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: انتهاء هذا البالغ الموضوع عليه القلم إلى الأحكام العقلية.

[2] أي: لو حصل له الظن.

[3] وسيأتي أنه لو تمت مقدمات الانسداد، وهي:

1- العلم بوجود تكاليف كثيرة.

2- وقد انسد باب العلم والظن المعتبر فيها.

3- وعدم جواز إهمال تلك الأحكام.

4- وعدم وجوب الاحتياط التام في كل شيء.

5- وأن ترجيح الوهم على الظن لا يجوز.

وحينئذٍ تنتج هذه المقدمات وجوب العمل بمطلق الظن.

ثم إن قيل: إن هذا الوجوب بحكم الشرع - وهو المعبر عنه بالكشف - فيرجع إلى القطع بالحكم الظاهري.

وأما إذا قيل: إنّ هذا الوجوب هو بحكم العقل - وهو المعبر عنه بالحكومة - فلا يوجد قطع بالحكم الشرعي الظاهري، وحينئذٍ يلزم العمل بهذا الحكم العقلي.

[4] أي: إن لم يحصل الظن، أو لم تتم مقدمات الانسداد، فلابد من الرجوع إلى الأصول العقلية. أمّا الأصول الشرعية فهي ترجع إلى الشق الأول، أي: القطع بالحكم الشرعي الظاهري.

[5] البراءة العقلية ومدركها قبح العقاب بلا بيان.

[6] الاشتغال العقلي ومدركه دفع الضرر المحتمل في الشك في المكلَّف به.

[7] التخيير العقلي مورده دوران الأمر بين المحذورين.

ص: 206

وإنما عمّمنا متعلق القطع[1]، لعدم اختصاص أحكامه[2] بما إذا كان متعلقاً بالأحكام الواقعية؛ وخصصنا بالفعلي، لاختصاصها بما إذا كان متعلقاً به[3] على ما ستطلع عليه. ولذلك[4] عدلنا عما في رسالة شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - من تثليث الأقسام(1).

وإن أبيت إلاّ عن ذلك[5]، فالأولى أن يقال[6]: «إن المكلف إما أن يحصل له القطع أو لا، وعلى الثاني إما أن يقوم عنده طريق معتبر أو لا[7]»، لئلا تتداخل

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: عمّمناه حتى شمل الحكم الظاهري مضافاً إلى الحكم الواقعي.

[2] أي: أحكام القطع، كلزوم المتابعة، وحرمة التجري، ونحوها.

[3] أي: لاختصاص أحكام القطع بما إذا كان القطع متعلقاً بالحكم الفعلي.

[4] أي: لأجل مراعاة التعميم والتخصيص، أي: مراعاة:

1- عموم أحكام القطع للحكم الواقعي والظاهري.

2- واختصاص أحكام القطع بالأحكام الفعلية دون الحكم الإنشائي والحكم الاقتضائي.

[5] أي: عن تثليث الأقسام.

[6] شروع في إشكال آخر على تقسيم الشيخ، وحاصله: إن الشيخ قال: (فيحصل له إما الشك أو القطع أو الظن)، ثم بيَّن أن وظيفة الشاك الرجوع إلى الأصول العملية، ووظيفة الظان الرجوع إلى الأمارات.

ولكن ليس هذا البيان بوافٍ؛ لأن الشاك قد تكون وظيفته الرجوع إلى الأمارات، والظان قد تكون وظيفته الرجوع إلى الأصول العملية، مثلاً: الشاك مع وجود خبر معتبر يلزمه العمل بذلك الخبر حتى وإن بقي على شكه، وكذلك الظان بالنجاسة مع عدم اعتبار ظنه عليه إجراء أصالة الطهارة أو استصحابها.

[7] فغير القاطع - سواء كان شاكاً أم ظاناً - إن كان له طريق معتبر - كخبر الثقة -

ص: 207


1- فرائد الأصول 1: 25.

الأقسام في ما يذكر لها من الأحكام. ومرجعه على الأخير[1] إلى القواعد المقررة عقلاً أو نقلاً[2] لغير القاطع ومن يقوم[3] عنده الطريق، على تفصيل يأتي في محله - إن شاء الله تعالى - حسبما يقتضي دليلها[4].

وكيف كان فبيان أحكام القطع وأقسامه[5] يستدعي رسم أمور:

الأمر الأول[6]: لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلاً[7]

-----------------------------------------------------------------

عليه العمل به، وإن لم يكن له طريق معتبر فعليه إجراء الأصل العملي.

[1] أي: مرجع غير القاطع، «الأخير» عدم قيام طريق معتبر.

[2] أي: الأصول العملية العقلية، أو الأصول العملية الشرعية.

[3] أي: ولغير من يقوم عنده الطريق، فمن لم يكن قاطعاً ولم تقم عنده أمارة، فإن عليه الرجوع إلى الأصول العملية.

[4] أي: دليل القواعد - الأصول العملية - فقد يقتضي دليل البراءة نفي الإلزام، وقد يقتضي دليل الاستصحاب بقاء الإلزام - مثلاً - .

[5] كالقطع المطابق للواقع، والمخطئ للواقع، وكالقطع التفصيلي والإجمالي، وكقطع المتعارف والقطاع، ونحوها.

الأمر الأول: بحوث في حجية القطع
اشارة

[6] البحث في هذا الأمر عن:

1- حجية القطع عقلاً.

2- وأن حجيته ذاتيّة لا ينالها الجعل، كما لا يمكن المنع عنها.

3- وأن الحجية إنما هي في صورة كون (المقطوع به) الحكم الفعلي.

1- حجية القطع

[7] بمعنى لزوم ترتيب آثار المقطوع به، وذلك بحكم العقل، مثلاً: من يقطع بوجود حيوان مفترس يلزمه العقل بالتوقي منه.

ص: 208

ولزوم[1] الحركة على طبقه جزماً[2]، وكونه[3] موجباً لتنجز التكليف الفعلي في ما أصاب باستحقاق[4] الذم والعقاب على مخالفته، وعذراً[5] في ما أخطأ قصوراً[6]. وتأثيره في ذلك لازم[7]،

-----------------------------------------------------------------

[1] هذا عطف تفسيري لبيان معنى (وجوب العمل على وفق القطع).

[2] أي: حكماً عقلياً بالجزم.

[3] واعلم أن وجوب العمل على وفق القطع إنما هو أثر تنجز التكليف، حيث إن تنجّز التكليف هو سبب وجوب العمل على وفق القطع، ولا يكون التكليف منجزاً إلاّ بعد فعليته والاطلاع عليه.

وهذا هو معنى الحجية بالمعنى الشرعي، فلذا يكون القطع حجة - بهذا المعنى - .

[4] أي: التنجز إنما هو بسبب حكم العقل باستحقاق الذم والعقاب على المخالفة، فلو لم يحكم العقل بهذا الاستحقاق لا يكون التكليف منجزاً، كموارد الاضطرار ونحوه. وبعبارة أخرى: التنجّز يُنتزع عن حكم العقل باستحقاق الذم والعقاب.

[5] عطف على قوله: (موجباً)، أي: وكونه عذراً في صورة الخطأ، و«عذراً» هنا مصدر بمعنى الفاعل، أي: (معذّراً).

[6] أما لو كان الخطأ عن تقصير، كمن قرأ كتب الضلال متعمداً مع وهن في معتقده، ثم قطع بالضلال، فإنه يعاقب على تقصيره في المقدمات.

ثم إن بين لزوم العمل على طبق القطع وبين الحجية - بمعناها الشرعي - عموماً مطلقاً، فكل قطع يلزم عقلاً العمل به، ولكن ليس كل قطع حجة بمعنى إمكان احتجاج العبد على المولى به، بل القطع الناشئ عن التقصير في المقدمات لا عذر فيه ولا يُؤمِّن من العقاب.

[7] أي: تأثير القطع في لزوم العمل لازم عقلاً؛ لأنه - كما سيأتي - أثر ذاتي، والذاتي لا ينفك عن الشيء.

ص: 209

وصريح الوجدان به[1] شاهد وحاكم؛ فلا حاجة إلى مزيد بيان وإقامة برهان[2].

ولا يخفى: أن ذلك[3] لا يكون بجعل جاعل[4]،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: بهذا الحكم العقلي، فكل واحد يجد في نفسه هذا الحكم العقلي.

ولا يخفى أن العقل كما يرى الأشياء كذلك له أحكام فيها، ولو لا ذلك لم يكن للعقلاء - إن لم يكونوا متشرعة - مُلزم للعمل بما يراه العقل، مضافاً إلى قوله تعالى: {أَمۡ تَأۡمُرُهُمۡ أَحۡلَٰمُهُم بِهَٰذَآۚ}(1) والأحلام جمع حِلم وهو العقل، ولو لا وجود أوامر للعقول لم يكن معنى لهذه.

[2] بل ذلك غير ممكن؛ لأن البرهان لابد من أن يوجب القطع، وإلاّ لم يكن برهاناً، وحينئذٍ نتسائل هل هذا القطع الناشئ من البرهان حجة أم لا؟ لا يمكن القول بحجيته؛ لأن القطع حسب الفرض لم يكن بحجة؛ لذا احتاج إلى إقامة برهان على حجيته، وإن قيل: إنّ هذا القطع الناشئ من البرهان ليس بحجة احتاج إلى إثبات حجيته بقطع آخر وهكذا فيتسلسل.

نعم، قد يستدل للأمر الضروري لأجل إلفات الذهن إلى كونه ضرورياً.

2- الحجية ذاتية للقطع

[3] أي: وجوب العمل على وفق القطع.

[4] اعلم أن لوازم الشيء قد تكون لوازم الذات، وقد تكون صفات مفارقة - قد تتصف بها الذات وقد لا يتصف - :

والأول: لا ينفك عن الذات، بل يوجد بوجودها ولا يمكن إيجاده بانفراد، مثلاً: زوجية الأربعة لا تنفك عنها، ولا يمكن إيجادها من غير إيجاد للأربعة، بل هي توجد بوجود الأربعة.

والثاني: ينفك عن الذات ويحتاج إلى إيجاد مستقل، مثل قولنا: (زيد عالم)،

ص: 210


1- سورة الطور، الآية: 32.

لعدم جعل تأليفي[1] حقيقة[2] بين الشيء ولوازمه، بل عرضاً بتبع جعله بسيطاً[3].

وبذلك[4] انقدح امتناع المنع عن تأثيره أيضاً؛ مع أنه يلزم منه[5] اجتماع الضدين اعتقاداً[6] مطلقاً[7]،

-----------------------------------------------------------------

فالعلم وصف مفارق يحتاج إلى إيجاد ثانٍ بعد إيجاد ذات زيد أولاً.

والحجية لازم ذاتي للقطع فلا يمكن جعلها، بلى يمكن إيجاد القطع تكويناً فتتبعه حجيته.

[1] الجعل إمّا بسيط وهو إيجاد ذات الشيء، وإمّا تأليفي وهو إيجاد الشيء وإيجاد وصف مفارق له. وحجية القطع لم تكن مجعولة لا بجعل بسيط؛ لعدم إيجادها بالاستقلال، ولا بجعل تأليفي؛ لعدم كونها من الأوصاف المفارقة.

[2] أي: ليس إيجاداً بالاستقلال للّوازم، بل إيجاد تبعي؛ وذلك بإيجاد المنشأ، مثلاً: ليس هناك إيجاد الزوجية بالاستقلال، بل إيجاد الأربعة فتوجد الزوجية عرضاً وبالتبع.

[3] أي: بتبع جعل الشيء بسيطاً.

[4] أي: بما بيناه من أن الحجية لازم ذاتي للقطع.

وقد استدل المصنف لعدم إمكان المنع بأمرين - طوليّين - :

1- إن اللازم الذاتي لا يمكن انفكاكه، فلا يمكن المنع عن حجية القطع.

2- إن المنع لغو؛ لعدم إمكان امتثال العبد له؛ للزومه اجتماع الضدين اعتقاداً إن أخطأ القطع، وإن كان القطع مصيباً يكون المنع محالاً للزومه طلب الضدين.

[5] مع أن الشأن يلزم من المنع عن تأثير القطع.

[6] ما يستلزم اجتماع ضدين اعتقاداً لا يصدر من الحكيم؛ لأن الغرض من الأمر والنهي هو امتثال المكلف، ومع اعتقاده بطلب المولى للضدين لا يمكنه امتثال أحدهما.

[7] أي: سواء كان القطع مصيباً أم مخطئاً.

ص: 211

وحقيقة في صورة الإصابة[1]، كما لا يخفى.

ثم لا يذهب عليك[2]: أن التكليف ما لم يبلغ مرتبة البعث والزجر[3] لم يصر فعلياً، وما لم يصر فعلياً لم يكد يبلغ مرتبة التنجز[4]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: يكون اجتماع الضدين حقيقة في هذه الصورة، مثلاً: الحكم الواقعي هو حرمة الخمر، فلو قطع بأن هذا الإناء خمر واقعاً - وكان قطعه مصيباً - فإن المنع عن العمل بالقطع معناه تجويز شرب الخمر، وفي الوقت نفسه تحريم شربه، وهذا من طلب الضدين، الكاشف عن اجتماع الضدين - وهما الإرادة والكراهة - لدى المولى.

3- الحجية في القطع بالتكليف الفعلي

[2] الغرض هو بيان أن التكليف غير الفعلي - كالاقتضائي أو الإنشائي - لا يجب الالتزام به.

إن قلت: حجية القطع ذاتية، فكيف لا يكون القطع بالحكم الاقتضائي أو الإنشائي حجة؟

قلت: عدم وجوب الالتزام ليس بمعنى عدم حجية القطع؛ لأن المراد من الحجية هو لزوم ترتيب آثار المقطوع به، وليس (لزوم العمل) من آثار الحكم الاقتضائي أو الإنشائي.

[3] المراد من البعث: الإرادة، ومن الزجر: الكراهة، بما يستتبعان من القول والفعل.

[4] قد مرّ أن للتكليف مراحل - بعضها مقدماته وبعضها نتائجه - :

1- الاقتضاء: بمعنى وجود المصلحة أو المفسدة - وهذا من مقدمات التكليف - .

2- الإنشاء: بمعنى سنّ القانون بالأمر والنهي.

3- الفعلية: بمعنى لزوم العمل بالحكم.

ص: 212

واستحقاق العقوبة على المخالفة، وإن كان ربما يوجب موافقته[1] استحقاق المثوبة[2]. وذلك[3] لأن الحكم ما لم يبلغ تلك المرتبة[4] لم يكن حقيقة بأمر ولا نهي[5]، ولا مخالفته عن عمد بعصيان[6]، بل كان مما سكت الله عنه، كما في

-----------------------------------------------------------------

4- التنجيز - وهذا نتيجة الحكم - : بمعنى أنه لو وصل الحكم الواقعي إلى المكلف وجب عليه الالتزام به، ويستحق العقوبة على المخالفة، وكذا التعذير بمعنى أنه معذور لو أخطأ من غير تقصير.

وهذه المراحل مرتّبة طولياً، بمعنى أنه لا يمكن الوصول إلى المرحلة اللاحقة إلاّ بعد المرور بالمرحلة السابقة.

[1] أي: موافقة الحكم غير الفعلي.

[2] وذلك للانقياد، ولا يخفى أن الثواب كلّه تفضل من الله تعالى، واستحقاق الثواب ليس بالذات، وإنّما لأن الله تعالى وعد به، وجعله حقاً على نفسه نظير قوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ}(1)، فإن دل دليل على أن الله وعد الثواب على الانقياد كان المنقاد مستحقاً له، ولعلّه لعدم وجود دليل معتبر قال المصنف: «وإن كان ربما يوجب موافقته استحقاق المثوبة».

نعم، الانقياد يكشف عن حسن السريرة.

[3] علة عدم كون التكليف غير الفعلي منجزاً ولا معذراً.

[4] أي: مرتبة الفعلية.

[5] لأن حقيقة الأمر البعث، والنهي الزجر، ولا بعث ولا زجر في الاقتضاء والإنشاء فيهما، فلا يرى العقل وجوب إطاعتهما.

[6] هذا دليل آخر عقلي على عدم لزوم العمل طبق الحكم الاقتضائي والإنشائي، وحاصله: إن العقل لا يرى استحقاق المخالف فيهما للعقاب؛ لأنه لا يرى مخالفتهما عصياناً.

ص: 213


1- سورة الروم، الآية: 47.

الخبر[1]، فلاحظ وتدبر.

نعم[2]، في كونه بهذه المرتبة[3] مورداً للوظائف المقررة شرعاً للجاهل[4] إشكال لزوم اجتماع الضدين أو المثلين[5]، على ما يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى مع ما هو التحقيق في دفعه، في التوفيق بين الحكم الواقعي والظاهري، فانتظر.

-----------------------------------------------------------------

[1] عن أميرالمؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (إن الله حدّ حدوداً فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تنقصوها، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً فلا تكلفوها، رحمة من الله لكم فاقبلوها)(1)، والأول إشارة إلى المحرمات، والثاني إلى الواجبات، والثالث إلى الاقتضائيات التي لم تكن المصلحة في الأمر بها أو النهي عنها، وقد قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَسَۡٔلُواْ عَنۡ أَشۡيَآءَ إِن تُبۡدَ لَكُمۡ تَسُؤۡكُمۡ}(2).

[2] هذا إشكال في صورة قيام الأمارة أو الأصل العملي المعتبر على حكم، وحينئذٍ يكون الحكم فعلياً ومنجزاً على المكلف؛ وذلك لأنه مع قيام الأمارة أو الأصل يكون حكم ظاهري، فإن طابق الواقع كان من اجتماع المثلين - الواقعي والظاهري - وإن لم يطابق الواقع كان من اجتماع الضدين.

ولا يخفى أن هذا الإشكال لا يرد في صورة القطع؛ لعدم وجود حكم ظاهري في صورة القطع؛ لأن حجية القطع بحكم العقل لا بحكم الشرع، والحكم الظاهري هو حكم شرعي، فتأمل.

[3] أي: كون الحكم بمرتبة الفعلية.

[4] أي: غير القاطع، فإن هذا الإشكال لا يجري في صورة القطع.

[5] اجتماع الضدين في صورة الخطأ، والمثلين في صورة الإصابة، ولا يخفى أن طلب الضدين أو المثلين إنّما يستحيل لاستلزامه اجتماع الضدين أو المثلين في إرادة المولى.

ص: 214


1- وسائل الشيعة 27: 175.
2- سورة المائدة، الآية: 101.

الأمر الثاني[1]: قد عرفت أنه لا شبهة في أن القطع يوجب استحقاق العقوبة على المخالفة والمثوبة على الموافقة في صورة الإصابة. فهل يوجب استحقاقها[2] في صورة عدم الإصابة على التجري بمخالفته[3]، واستحقاق المثوبة على الانقياد بموافقته، أو لا يوجب شيئاً؟

الحق أنه يوجبه[4]، لشهادة الوجدان[5] بصحة مؤاخذته[6]

-----------------------------------------------------------------

الأمر الثاني: التجري
اشارة

[1] يبحث في هذا الأمر عن التجري، وللتجري جهات متعددة:

1- فقد يبحث عن حرمته وعدمها، فتكون مسألة فقهية.

2- وقد يبحث عن إيجاده للمفسدة في الفعل المتجرى به، وكذا إيجاده المصلحة في الفعل المنقاد به، فتكون مسألة أصولية.

3- وقد يبحث عن استحقاق العقوبة وعدمها، فتكون مسألة كلامية.

وبما أن الجهة الكلامية هي أظهر الجهات وأهمها - عند المصنف - لذلك اعتبرها كلامية، وبحث عن استحقاق العقاب في التجري.

[2] أي: استحقاق العقوبة.

[3] الباء سببيّة، أي: التجري بسبب مخالفة القطع.

[4] أي: إن التجري يوجب استحقاق العقاب.

ولم يبحث عن الانقياد واستحقاق الثواب فيه؛ لعدم ترتب أثر عملي عليه.

[5] المراد هو حكم العقل باستحقاق العقاب - لأن طرق الطاعة والمعصية وما يتعلق بها إنما هي بحكم العقل - ومعنى الوجدان أننا نجد من أنفسنا هذا الحكم العقلي.

[6] أي: عدم قبح عقاب المتجري، وهذا هو العمدة من الأدلة، وباقي ما ذكره المصنف علة صحة هذه المؤاخذة.

ص: 215

وذمّه على تجريه[1] وهتك حرمته لمولاه[2]، وخروجه عن رسوم عبوديته[3]، وكونه بصدد الطغيان[4]، وعزمه على العصيان[5]، وصحة مثوبته ومدحه على إقامته بما هو قضية عبوديته من العزم على موافقته[6]، والبناء على إطاعته، وإن قلنا[7] بأنه لا يستحق مؤاخذة أو مثوبة - ما لم يعزم على المخالفة أو الموافقة - بمجرد سوء سريرته أو حسنها وإن كان مستحقاً للّوم[8] أو المدح بما يستتبعانه[9]، كسائر

-----------------------------------------------------------------

[1] لا يخفى أن مجرد صحة الذم لا يدل على استحقاق العقاب، كما سيأتي من المصنف بعد قليل، فلا يكون هذا دليلاً على ما رامه المصنف.

[2] الصحيح هو التعبير ب- (هتك حرمة مولاه) أو (هتكه لحرمة مولاه). وهذا علّة صحة المؤاخذة والعقاب.

[3] أي: خروج المتجري عن طريقة عبودية المولى، وهذه علة أخرى لصحة المؤاخذة.

[4] لا يخفى أن مجرد النية لا عقوبة فيها، بل كونه بصدد الطغيان مع فعلٍ يراد به الطغيان، وبعبارة أخرى: إن الحرام هو إبراز هذه النية بفعل يراد به الوصول إلى ما منعه المولى، وهذا هو السبب لصحة العقوبة.

[5] عطف تفسيري لقوله: (وكونه بصدد الطغيان).

[6] أي: صحة إثابة العبد ومدحه على انقياده، والانقياد هو أن يعمل بمقتضى العبودية، ومقتضاها هو العزم على موافقة المولى بإطاعة أمره.

[7] المراد بيان أن مجرد سوء الباطن أو نية السوء لا توجب استحقاقاً للعقاب - بشهادة العقل والعقلاء - بل إذا أظهر هذه النية بفعل يراد به الوصول إلى المحرّم.

[8] لا يخفى أنه لو اجتمعت ثلاث لامات فإنها تكتب لامين مع وضع تشديد على الثانية - لام الجر، ولام التعريف، ولام فاء الفعل - .

[9] أي: سوء السريرة أو حسن السريرة يستتبعان استحقاق الذم أم المدح.

ص: 216

الصفات والأخلاق الذميمة أو الحسنة[1].

وبالجملة: ما دامت فيه[2] صفة كامنة لا يستحق بها إلاّ مدحاً أو لوماً، وإنما يستحق الجزاء بالمثوبة أو العقوبة - مضافاً إلى أحدهما[3] - إذا صار بصدد الجري على طبقها[4]، والعمل على وفقها وجزم وعزم[5]. وذلك[6] لعدم صحة مؤاخذته بمجرد سوء سريرته من دون ذلك[7] وحسنها معه[8]، كما يشهد به[9] مراجعة الوجدان الحاكم بالاستقلال[10] في مثل باب الإطاعة والعصيان، وما يستتبعان

-----------------------------------------------------------------

[1] لا يخفى أن كثيراً من هذه الصفات غير اختيارية، ومع ذلك يصح المدح فيه؛ لأن المدح هو ثناء الحسن حتى لو كان بلا اختيار، كما يقال: مدحت اللؤلؤ لصفائه، ومدحت الجميل لجماله.

[2] أي: في العبد - وهو متصيّد من مطاوي الكلام - .

[3] أي: المدح أو الذم، فإن المتجري يذم ويعاقب.

[4] أي: طبق تلك الصفة الكامنة.

[5] أي: إذا اجتمعت هذه الأمور معاً وهي:

1- الميل، وهو صيرورته بصدد العمل.

2- الجزم، وهو الحكم القطعي بلزوم صدور الفعل، وذلك بتصديق فائدته ودفع الموانع.

3- العزم، وهو الشوق المؤكد المحرك للعضلات نحو الفعل.

[6] علة أن الصفة الكامنة لا يصح العقوبة عليها ولا يستحق عليها إلاّ اللوم.

[7] أي: من دون كونه قاصداً وجازماً وعازماً.

[8] أي: حسن المؤاخذة مع قصده وجزمه وعزمه.

[9] أي: بحسن المؤاخذة.

[10] لأن طرق الطاعة والمعصية عقلية؛ ولذا حملوا الأمر بالطاعة في قوله:

ص: 217

من استحقاق النيران أو الجنان.

ولكن ذلك[1] مع بقاء الفعل المتجرى به أو المنقاد به على ما هو عليه[2] من الحسن أو القبح، والوجوب أو الحرمة واقعاً[3]، بلا حدوث تفاوت فيه[4] بسبب تعلق القطع بغير ما هو عليه من الحكم والصفة[5]، ولا تغير جهة حسنه أو قبحه

-----------------------------------------------------------------

{أَطِيعُواْ ٱللَّهَ}(1) على الإرشاد(2).

الفعل المتجرّى به

[1] أي: استحقاق العقوبة على التجري، والثواب على الانقياد.

[2] أي: إن التجري لا يغيّر عنوان الفعل، بل يبقى الفعل على حالته قبل التجري، وكذا الانقياد، فمن شرب الماء بزعم أنه خمر يبقى الماء على إباحته - مثلاً - وقد استدل المصنف على مدعاه بأمرين:

الأول: إن القطع ليس من الجهات المحسِّنة أو المقبِّحة للفعل.

الثاني: إن القطع غير ملتفت إليه، وما كان مغفولاً عنه يستحيل أن يُوجب حسناً أو قبحاً.

[3] «الحسن والقبح» يرتبط بالعقل، و«الوجوب والحرمة» بالشرع، وقوله: «واقعاً» بمعنى أن الفعل لا يتغيّر حكمه الواقعي، بل يبقى على حالته الأولية، بلا أن يكون للقطع تأثير في ذلك الحكم الواقعي.

[4] أي: في الفعل (المتجرى به).

[5] حرف الجر في «بغير» يتعلق ب- (القطع)، أي: القطع بخلاف الواقع لا يوجب تغير واقع الشيء. وقوله: «من الحكم والصفة» بيان لقوله: (ما)، و«الحكم»: هو الحكم الشرعي كالوجوب والحرمة، و«الصفة» هي الحسن أو القبح.

ص: 218


1- سورة الأنفال، الآية: 1.
2- الأصول الأصيلة: 103؛ فرائد الأصول 2: 102.

بجهته[1] أصلاً، ضرورة أن القطع بالحسن أو القبح لا يكون من الوجوه والاعتبارات التي بها يكون الحسن والقبح عقلاً، ولا ملاكاً للمحبوبية والمبغوضية شرعاً[2]، ضرورة عدم تغير الفعل عما هو عليه من المبغوضية والمحبوبية للمولى بسبب قطع العبد بكونه محبوباً أو مبغوضاً له. فقتل ابن المولى لا يكاد يخرج عن كونه مبغوضاً له ولو اعتقد العبد بأنه عدوه، وكذا قتل عدوه، مع القطع بأنه ابنه لا يخرج عن كونه محبوباً أبداً. هذا.

مع أن الفعل المتجرى به[3]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: بسبب القطع.

[2] فإن حسن بعض الأفعال أو قبحها ذاتي، فلا يتغير أصلاً، كالعدل أو الظلم.

وبعضها حسنها أو قبحها ليس ذاتياً وإنما يتغير بالاعتبارات، سواء كان لها المقتضي لأحدهما كالصدق، أم لم يكن لها المقتضي لأي منهما كشرب الماء، فالصدق قد يكون حسناً، وقد يكون قبيحاً، كما لو كان فيه هلاك مؤمن محقون الدم، وشرب الماء قد يصير حسناً، كما لو كان فيه إنقاذ النفس، وقد يكون قبيحاً، كالإفطار بالماء عمداً في نهار شهر رمضان، وقد يبقى على إباحته بلا عروض عنوان محسِّن أو مقبِّح.

والقطع لا يوجب حسناً ولا قبحاً لا بالذات، ولا هو من الوجوه والاعتبارات التي توجب الحسن أو القبح في الفعل المقطوع به.

كما أن القطع ليس ملاكاً لحب الشارع أو بغضه للشيء.

[3] هذا الدليل الثاني على بقاء المتجرى به على حاله، وحاصله: إن القطع مغفول عنه عادة، فإن القاطع لا يلتفت بأن له صفة القطع، وما كان غير ملتفت إليه لا يكون بالاختيار؛ لأن الغافل غير قاصد ألبتة، وغير القاصد غير مختار، فكان ارتكاب الشيء بعنوان أنه مقطوع به أمراً غير اختياري؛ لأنه مركب من أمرين: أحدهما غير ملتفت إليه، وحينئذٍ لا يكون الفعل بعنوان أنه مقطوع به من الوجوه

ص: 219

أو المنقاد به - بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب[1] - لا يكون اختيارياً، فإن القاطع لا يقصده[2] إلاّ بما قطع أنه عليه من عنوانه الواقعي الاستقلالي، لا بعنوانه الطارئ الآلي[3]، بل لا يكون غالباً بهذا العنوان مما يلتفت إليه[4]، فكيف[5] يكون من جهات الحسن أو القبح عقلاً، ومن مناطات الوجوب أو الحرمة شرعاً؟ ولا يكاد يكون صفة موجبة لذلك[6] إلاّ إذا كانت اختيارية.

إن قلت[7]: إذا لم يكن الفعل كذلك فلا وجه لاستحقاق العقوبة على مخالفة

-----------------------------------------------------------------

والاعتبارات المقبّحة أو المحسّنة.

[1] أي: الفعل بهذا الوصف غير اختياري، أما الفعل بغير هذا الوصف فهو اختياري حتماً.

[2] أي: القاطع يقصد الفعل بالعنوان الذي تخيله، لا بعنوان أنه مقطوع، مثلاً: من يشرب الماء متوهماً أنه خمر فإنه يقصد الشرب بما أنه شرب للخمر، وليس قصده أنه يشرب هذا المائع بما هو مقطوع الخمرية.

[3] لأن القطع مرآة للوصول إلى الواقع لذا كان طريقياً، وهو عنوان عارض وآلة للوصول إلى الواقع.

[4] أي: لا يكون بعنوانه الطارئ ملتفاً إليه، وحتى لو كان ملتفتاً إلى وجود صفة القطع في نفسه فإنه لا يشربه بما أنه مقطوع، بل يشربه بما أنه خمر واقعاً.

[5] أي: ما لا يلتفت إليه لا يكون اختيارياً، وغير الاختياري لا يكون ملاكاً لحكم العقل بالحسن أو القبح: ولا ملاكاً لحكم الشرع بالوجوب أو الحرمة.

[6] أي: حكم العقل بالحسن والقبح، أو الشرع بالوجوب والحرمة.

[7] مراد المستشكل أن القطع إذا لم يوجب قبح وحرمة الفعل المتجرى به كذلك لا يوجب قبح وحرمة التجري أيضاً، فهذا الدليل يجري في التجري أيضاً، فيقال: إن التجري - وهو ارتكاب الفعل قاطعاً بالمخالفة عمداً - مركب من الفعل والقطع، أما الفعل فقد قلتم: بعدم قبحه ولا حرمته، وأما القطع فقد قلتم: إنه مغفول عنه،

ص: 220

القطع، وهل كان العقاب عليها[1] إلاّ عقاباً على ما ليس بالاختيار[2]؟!

قلت[3]: العقاب إنما يكون على قصد العصيان[4] والعزم على الطغيان، لا على الفعل الصادر بهذا العنوان بلا اختيار[5].

إن قلت[6]: إن القصد والعزم إنما يكون من مبادئ الاختيار، وهي ليست باختيارية، وإلاّ لتسلسل[7].

قلت[8]:

-----------------------------------------------------------------

إذاً لا حرمة للتجري؟!!

[1] أي: على المخالفة.

[2] وهو القطع، حيث إنه مغفول عنه!!

[3] حاصل الجواب: إن العقاب في التجري ليس على القطع، بل على هتك حرمة المولى.

[4] أي: القصد الذي أدى - بالنتيجة - إلى تحريك العضلات نحو الفعل.

فليس مراد المصنف أن النية المجردة فيها العقاب، بل مراده أن نيّة العصيان مع استتباعها للفعل.

[5] أي: الفعل بما هو مقطوع غير اختياري، فلا عقوبة عليه.

[6] حاصل الإشكال: إنكم قلتم: إنّ استحقاق العقاب هو على القصد، لكن القصد غير اختياري؛ لأنه من مقدمات الاختيار، ومقدمات الاختيار غير اختيارية وإلاّ لزم التسلسل، وحينئذٍ فالعقاب على القصد عقاب على أمر غير اختياري، فعاد الإشكال!!

[7] لأن مقدمات الاختيار إذا كانت اختيارية فنتسائل لماذا هذه المقدمات اختيارية؟ فيقال: لأن مقدمات هذه المقدمات اختيارية، وحينئذٍ ننقل الكلام إلى مقدمات المقدمات، وهكذا.

[8] أجاب المصنف بجوابين:

ص: 221

- مضافاً إلى[1] أن الاختيار وإن لم يكن بالاختيار، إلاّ أن بعض مباديه غالباً[2] يكون وجوده بالاختيار[3]،

-----------------------------------------------------------------

الأول - وهو الصحيح - : إنه لا جبر في بعض مبادئ الاختيار، كالعزم، فإنه يمكنه أن لا يعزم ويمكنه أن يعزم، حيث إنه بالتأمل في المنافع أو المضار يمكنه صرف النفس عن الفعل أو حملها على الفعل.

الثاني: إن قصد العصيان وإن لم يكن بالاختيار لكن لا مانع من العقاب عليه!!

ونتيجة هذا الجواب هو تسليم الإشكال بأن لا مانع من العقاب على أمر غير اختياري، وحينئذٍ يبطل الدليل الثاني الذي أقامه المصنف على بقاء الفعل (المتجرّى عليه) على ما هو عليه، حينما قال: (مع أن الفعل المتجرى به أو المنقاد به بما هو مقطوع الحرمة... الخ).

[1] هذا الجواب الأول.

[2] بل دائماً؛ لأن كل المبادئ إذا كانت غير اختيارية لم يكن هنالك اختيار أصلاً.

[3] لا يخفى اضطراب العبارة؛ لأن قبول عدم اختيارية الاختيار يتنافي مع الاعتراف باختيارية بعض مقدماته؛ وذلك لأن بعض المقدمات إذا كانت اختيارية كانت النتيجة اختيارية.

والصحيح في التعبير أن يقال: إن اختيارية الاختيار إنما هي باختيارية بعض مقدماته، واختيارية تلك المقدمات بذاتها.

وبعبارة أخرى: إن إرادية كل شيء بالإرادة، وإرادية الإرادة بنفسها، فإرادية العزم بنفسه، لا بإرادة أخرى حتى يتسلسل، فالوصول إلى (الذاتية) وانقطاع السؤال ب- (لِمَ) يكون في ذاتية الاختيار في مقدمات الاختيار، لا في ذاتية سوء السريرة في العاصي، وحسن السريرة في المطيع، فإن هذا يستلزم القول بالجبر المعلوم بطلانه بالضرورة.

ص: 222

للتمكن من عدمه[1] بالتأمل[2] في ما يترتب على ما عزم عليه من تبعة العقوبة واللوم والمذمة[3] - يمكن أن يقال[4]: إن حسن المؤاخذة والعقوبة إنما يكون من تبعة بُعده عن سيده بتجرّيه عليه، كما كان من تبعته[5] بالعصيان في صورة المصادفة، فكما أنه[6] يوجب البعد عنه، كذلك لا غروَ[7] في أن يوجب حسن العقوبة، فإنه[8] وإن لم يكن باختياره[9]، إلاّ أنه بسوء سريرته وخبث باطنه، بحسب نقصانه

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: عدم بعض المبادئ، والمراد للتمكن من عدم ارتكابه.

[2] فقد ينصرف الإنسان عن شيء وهو في أشد الحب له، لأجل إدراكه بلحوق الضرر بنفسه من العقوبة أو الملامة.

[3] الظاهر أن المذمة عطف تفسيري على اللوم.

[4] بدء في الجواب الثاني.

[5] أي: كما كان حسن المؤاخذة والعقوبة من تبعة بعده عن سيده أيضاً، ففي التجري والعصيان يحسن العقاب لبعد العبد عن مولاه.

[6] أي: كما أن التجري يوجب البُعد عن المولى.

[7] أي: لا عجب في أن يوجب التجري.

[8] أي: فإن البُعد عن المولى.

[9] قال المصنف في الحاشية: (كيف لا وكانت المعصية الموجبة لاستحقاق العقوبة غير اختيارية، فإنها هي المخالفة العمدية، وهي لا تكون بالاختيار، ضرورة أن العمد إليها ليس باختياري، وإنما تكون نفس المخالفة اختيارية، وهي غير موجبة للاستحقاق، وإنما الموجبة له هي العمدية منها، كما لا يخفى على أولي النهى)(1)،

انتهى.

وفيه: إن اختيارية العمد بذاته - كما مرّ آنفاً - لأن العمد هو القصد إلى الشيء، وهو اختياري بالبداهة. والعجب أن المصنف بعد قليل سَيَرُدُّ على دليل المحقق

ص: 223


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 62.

واقتضاء استعداده[1] ذاتاً وإمكانه[2]. وإذا انتهى الأمر إليه[3] يرتفع الإشكال[4] وينقطع السؤال ب- «لِمَ»، فإن الذاتيات ضروري الثبوت للذات. وبذلك[5] أيضاً ينقطع السؤال عن أنه لِمَ اختار الكافر والعاصي الكفر والعصيان، والمطيع والمؤمن الإطاعة والإيمان؟ فإنه يساوق[6] السؤال عن أن الحمار لِمَ يكون ناهقاً، والإنسان لِمَ يكون ناطقاً؟

-----------------------------------------------------------------

السبزواري في الذخيرة بما يناقض كلامه هذا، فانتظر.

[1] أي: استعداد وقابلية العاصي الذاتية.

[2] أي: وبحسب إمكانه، وفي الوصول: (فإن إمكان كل شيء بحسبه، فإمكان الخبيث إنّما هو إمكان الخبيث لا إمكان مطلق ،كما أن إمكان الطيب إنما هو إمكان الطيب لا مطلقاً)(1)، فتأمل.

[3] أي: إلى اقتضاء استعداده الذاتي.

[4] أي: الإشكال على جعل الخبيث خبيثاً.

أقول: بل لا يرتفع الإشكال أصلاً؛ لأن الخبيث ذاتاً هو شر محض، وقد قالوا: إنّ الله لا يخلق الشر، بل يخلق الخير، والشر إنما ينشأ من سوء الاختيار، كما قال تعالى: {ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِي ٱلنَّاسِ}(2).

مضافاً إلى أن العقاب على ما ليس بالاختيار ظلم - بداهة - .

[5] أي: بذاتية سوء السريرة للخبيث - كما زعم المصنف - .

[6] فإن هذا السؤال يساوق السؤال عن ذاتيات الأشياء، وإنها لماذا جعلت كذلك؟

أقول: هذا قياس مع الفارق؛ لأن الفصل ذاتي للنوع، فالنهيق ذاتي للحمار، والنطق ذاتي للإنسان، أما سوء السريرة فليس ذاتي باب الكليات الخمس، ولا ذاتي باب البرهان.

ص: 224


1- الوصول إلى كفاية الأصول 3: 300.
2- سورة الروم، الآية: 41.

وبالجملة: تفاوت أفراد الإنسان في القرب منه «تعالى» والبعد عنه سبب لاختلافها[1] في استحقاق الجنة ودرجاتها، والنار ودركاتها، وموجب لتفاوتها في نيل الشفاعة وعدمه، وتفاوتها في ذلك بالآخرة يكون ذاتياً، والذاتي لا يعلل.

إن قلت: على هذا[2] فلا فائدة في بعث الرسل وإنزال الكتب والوعظ والإنذار.

قلت: ذلك لينتفع به[3] من حسنت سريرته وطابت طينته، لتكمل به نفسه، ويخلص مع ربه أنسه، {وَمَا كُنَّا لِنَهۡتَدِيَ لَوۡلَآ أَنۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُۖ}(1)[4]، قال الله تبارك وتعالى: {وَذَكِّرۡ فَإِنَّ ٱلذِّكۡرَىٰ تَنفَعُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ}(2)، وليكون حجةً على من ساءت

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: لاختلاف تلك الأفراد.

[2] أي: على هذا القول من أن سوء السريرة وحسنها ذاتيان، وحاصل الإشكال: إن من حسنت سريرته يكون من أهل الجنة حتماً؛ لأن حسن السريرة مقتضى ذاته، ونتيجته هو السعادة ودخول الجنة، وكذلك من ساءت سريرته فإن سوءها هو مقتضى ذاته، والنتيجة هو العذاب، سواء بعث الأنبياء أم لا.

[3] أي: ينتفع ببعث الرسل وبإنزال الكتب.

[4] ذكرنا في التفسير: أن الهداية من الله؛ لأن ترتب كل معلول على علته إنما هو بإذن الله تعالى، ولو لا إذنه لحصل المانع، بل عدم المقتضي، كما في صيرورة نار إبراهيم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ برداً وسلاماً، والهداية هي من الله بشرط أن يوفر العبد أسبابها باختياره ويزيل موانعها، كالفسق والظلم قال سبحانه: {وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَٰسِقِينَ}(3) وقال: {وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ}(4).

ص: 225


1- سورة الأعراف، الآية: 43.
2- سورة الذاريات، الآية: 55.
3- سورة المائدة، الآية: 108.
4- سورة البقرة، الآية: 258.

سريرته وخبثت طينته[1]، {لِّيَهۡلِكَ مَنۡ هَلَكَ عَنۢ بَيِّنَةٖ وَيَحۡيَىٰ مَنۡ حَيَّ عَنۢ بَيِّنَةٖۗ}(1)[2]، كيلا يكون للناس على الله حجة[3]، بل كان له حجة بالغة.

ولا يخفى[4]:

-----------------------------------------------------------------

[1] أقول: كيف يكون حجة إذا كان مجبوراً على كفره وعصيانه؟! ثم إنا قد ذكرنا بحوث الطينة في شرح أصول الكافي(2)،

وقلنا: إنّ خلق المؤمن من الطينة الحسنة والكافر من طينة سجين لا يوجب الجبر، بل ولا المقتضي للإيمان أو الكفر، وذكرنا أن الله بعلمه الأزلي علم المؤمن من الكافر، والعلم ليس سبباً لفعل الغير، كعلمنا بطلوع الشمس يوم غد، فإن هذا العلم لا دخل له في ذلك الطلوع، فمن علم الله بأنه سيختار الكفر فإنه سيموت كافراً - حتى لو خلقت طينته من عليين - ومن علم الله بأنه سيختار الإيمان فإنه يموت مؤمناً - حتى لو كانت طينته من سجين - وحينئذٍ كان من خلاف الحكمة دخول طينة عليين في جهنم، ودخول طينة سجين في الجنة؛ ولذلك خلق الله الكافر من طينة سجين، وخلق المؤمن من الطينة الطيّبة؛ ليكون دخولهما الجنة أو النار على طبق الحكمة من وضع الأشياء مواضعها، من غير أن يكون لتلك الطينة تأثير من اختيار الكفر والإيمان أصلاً - حتى من باب المقتضي - فدقق جيداً حتى لا تقع في توهم الجبر، والله العاصم وهو المستعان.

[2] هذه الآية على خلاف ما رامه المصنف أدلّ، فإن الامتحان إنما يصحّ لو كان اختيار لا جبر.

[3] وهذه الآية أيضاً تدل على خلاف ما رامه المصنف، فإن المجبور له الحجة - ببداهة العقل - وإنما المختار العالم لا حجة له لو خالف.

الدليل النقلي على استحقاق المتجري للعقاب

[4] من هنا يبدأ المصنف بالإشارة إلى الدليل الشرعي على استحقاق المتجري

ص: 226


1- سورة الأنفال، الآية: 42.
2- شرح أصول الكافي 8: 9 - 29.

أن في الآيات[1] والروايات[2] شهادة على صحة ما حكم به الوجدان الحاكم على الإطلاق[3] في باب الاستحقاق للعقوبة والمثوبة.

-----------------------------------------------------------------

للعقاب، بعد أن انتهى من الدليل العقلي الذي شهد عليه الوجدان.

[1] كقوله تعالى: {فَلِمَ قَتَلۡتُمُوهُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ}(1) فقد ورد في التفسير أن نسبة القتل إلى المخاطبين مع تأخرهم عن القاتلين إنما هو لرضاهم بقتلهم. وكقوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلۡفَٰحِشَةُ فِي ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ}(2). وكقوله تعالى: {وَإِن تُبۡدُواْ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ أَوۡ تُخۡفُوهُ يُحَاسِبۡكُم بِهِ ٱللَّهُۖ}(3). وكقوله سبحانه: {تِلۡكَ ٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ نَجۡعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فَسَادٗاۚ}(4).

[2] كالذي ورد في تعليل خلود أهل النار في النار، وخلود أهل الجنة في الجنة، بعزم كل من الطائفتين على الثبات على ما كانت عليه من المعصية أو الطاعة، وكقول أميرالمؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم)(5).

وغيرها من الآيات والروايات، وقد ذكر شطراً منها الشيخ الأعظم في الرسائل.

أقول: لا يخفى عدم دلالتها على قبح وحرمة التجري ولا على استحقاق العقاب عليه، بل أقصى ما تدل عليه هو أن للقلب معاصيَ، وأن ما يتعلق بأصول الدين يجب فيه الاعتقاد القلبي، ويحرم فيه الاعتقاد بعكس الحق.

[3] الغرض بيان أن الأدلة الشرعية هنا إرشاد لحكم العقل، وهذه الشهادة إنما هي للتنبيه على ذلك الحكم العقلي؛ وذلك لأن طرق الطاعة والمعصية إنما هي طرق عقلية، والشارع قد أرشد إليها أحياناً.

ص: 227


1- سورة آل عمران، الآية: 183.
2- سورة النور، الآية: 19.
3- سورة البقرة، الآية 284.
4- سورة القصص، الآية: 83.
5- نهج البلاغة، الحكم: 154.

ومعه[1] لا حاجة إلى ما استدل[2] على استحقاق المتجرئ للعقاب بما حاصله[3]: «إنه لولاه[4] مع استحقاق العاصي له يلزم إناطة استحقاق العقوبة بما هو خارج عن الاختيار، من مصادفة قطعه الخارجة[5] عن تحت قدرته واختياره،

-----------------------------------------------------------------

دليل آخر على استحقاق العقاب في التجري وردّه

[1] أي: ومع شهادة الوجدان على استحقاق المتجري للعقاب.

[2] نُسب ذلك إلى المحقق السبزواري صاحب الذخيرة، لكن قيل: إن كلام السبزواري ليس في التجري وإنما في المعصية الحقيقية.

[3] بيانه: إنه لو فرضنا أن شخصين قصدا شرب الخمر - مثلاً - فصادف أحدهما الواقع، وأخطأ الآخر فشرب ما ليس بخمر متوهماً أنه خمر، وحينئذٍ... .

1- فإن قيل: باستحقاقهما العقاب فهو المطلوب، حيث ثبت العقاب على المتجري.

2- وأما عدم استحقاقهما للعقاب فهذا خلاف الضرورة؛ إذ لا شك في استحقاق شارب الخمر متعمداً للعقاب.

3- وأما استحقاق المتجري للعقاب دون العاصي فهذا أيضاً خلاف الضرورة.

4- وأما استحقاق العاصي للعقاب دون المتجري فلا يمكن المصير إليه؛ لأن مصادفة قطع العاصي للخمر، وعدم مصادفة قطع المتجري لها ليس بأمر اختياري، وإناطة العقاب وعدمه بأمر غير اختياري غير معقول.

وحيث بطلت هذه الاحتمالات لم يبق إلاّ الاحتمال الأول، وهو استحقاقهما للعقاب، وهو المطلوب.

[4] إن الشأن لو لا استحقاق المتجري للعقاب، مع ضرورة أن العاصي مستحق للعقاب.

[5] «الخارجة» صفة (المصادفة)، فإن العاصي والمتجري كلاهما ارتكبا ما قطعا

ص: 228

مع بطلانه وفساده[1]».

إذ للخصم أن يقول[2]: بأن استحقاق العاصي دونه[3] إنما هو لتحقق سبب الاستحقاق فيه[4] - وهو مخالفته عن عمد واختيار - وعدم تحققه فيه[5]، لعدم مخالفته أصلاً - ولو بلا اختيار -، بل[6] عدم صدور فعل منه في بعض أفراده[7] بالاختيار، كما في التجري بارتكاب ما قطع أنه من مصاديق الحرام، كما إذا قطع

-----------------------------------------------------------------

بأنه معصية، لكن صادف أحدهما ولم يصادف الآخر، والمصادفة ليست بالاختيار كما هو واضح.

[1] أي: بطلان وفساد إناطة استحقاق العقاب بما هو خارج عن الاختيار.

[2] حاصل الإشكال على هذا الاستدلال: هو أن عقاب العاصي ليس لأجل المصادفة للواقع، بل لأجل مخالفته العمدية، وهذه المخالفة صدرت بالاختيار.

وأما المتجري فإن عدم عقابه لأجل عدم المصادفة، وهي وإن لم تكن اختيارية إلاّ أنه لا مانع من عدم العقاب لأمر غير اختياري، إنما القبيح هو العقاب لأمر غير اختياري.

[3] أي: دون المتجري.

[4] أي: في العاصي، وذلك السبب هو مخالفة العاصي عن عمدٍ واختيارٍ.

[5] أي: عدم تحقق سبب استحقاق العقاب في المتجري؛ وذلك لأن المتجري لم يخالف، حتى وإن كانت عدم المخالفة لأمر غير اختياري.

[6] كما مرّ من أن الفعل (المتجرى به) أو (المنقاد به) - بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب - لا يكون اختيارياً.

[7] «منه» من المتجري، «بعض أفراده» في غير الشبهة المحصورة، وأما في الشبهة المحصورة فإن الارتكاب عن اختيار؛ إذ لم يؤخذ الارتكاب بما هو مقطوع الحرمة؛ وذلك لعدم وجود القطع التفصيلي بالفرد المرتكب، وإنما علم إجمالي.

ص: 229

- مثلاً - بأن مائعاً خمر مع أنه لم يكن بالخمر، فيحتاج[1] إلى إثبات أن المخالفة الاعتقادية[2] سبب كالواقعية الاختيارية، كما عرفت بما لا مزيد عليه.

ثم[3] لا يذهب عليك: أنه ليس في المعصية الحقيقية إلاّ منشأ واحد لاستحقاق

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: هذا المستدل لا ينفعه هذا الاستدلال لإثبات استحقاق العقاب على التجري، بل لابد من أن يستدل بما استدللنا به من أن قصد العصيان قبيح يستحق فاعله عليه العقاب.

[2] أي: قصد العصيان، «سبب» لاستحقاق العقوبة.

عدم تعدد العقاب في المعصية

[3] حاصله: إن سبب العقوبة هو هتك حرمة المولى، وهذا الهتك كما هو موجود في المعصية كذلك موجود في التجري، فلذلك كان هذا الهتك سبباً لاستحقاق العقاب.

أما صاحب الفصول(1)

فإنه ذهب إلى أنه في المعصية الحقيقية يوجد سببان لاستحقاق العقاب: أحدهما المخالفة، والآخر الجرأة على المولى، ولكنه لما رأى أنه للمعصية الواحدة عقوبة واحدة حتى لو تعدد السبب، فإنه قال بتداخل الأسباب بما يوجب استحقاق عقوبة واحدة غليظة!!

وأشكل عليه المصنف:

أولاً: بأن منشأ العقوبة في المعصية الحقيقة هو شيء واحد، وهو هتك حرمة المولى.

وثانياً: إن وحدة العقوبة تكشف بالدليل الإني على وحدة سبب الاستحقاق؛ لأن المعلول الواحد لا يكون إلاّ من العلة الواحدة.

وثالثاً: إنه لو فرض تعدد سبب استحقاق العقاب فلا وجه للتداخل، بل لابدّ من القول بتعدد العقاب لتعدد جهاته.

ص: 230


1- الفصول الغروية: 87.

العقوبة - وهو هتك واحد[1] - فلا وجه لاستحقاق عقابين متداخلين - كما توهم -. مع ضرورة[2] أن المعصية الواحدة لا توجب إلاّ عقوبة واحدة. كما[3] لا وجه لتداخلهما على تقدير استحقاقهما كما لا يخفى. ولا منشأ لتوهمه[4] إلاّ بداهة أنه ليس في معصية واحدة إلاّ عقوبة واحدة، مع الغفلة عن أن وحدة المسبب تكشف - بنحو الإن[5] - عن وحدة السبب.

الأمر الثالث[6]:

-----------------------------------------------------------------

[1] وهذا هو الإشكال الأول. نعم، شدة العقوبة ترتبط بكيفية الهتك، فكلما كان الهتك أشد كانت العقوبة أشد.

[2] أي: منشأ توهم تداخل العقابين هو ما ثبت بالضرورة أن المعصية الواحدة لها عقاب واحد لا عقابين.

[3] هذا هو الإشكال الثاني.

[4] هذا هو الإشكال الثالث، وضمير توهمه يرجع إلى صاحب الفصول.

[5] أي: بالدليل الإنّيّ وهو الانتقال من المعلول إلى العلة، كالعلم بالنار بسبب مشاهدة الدخان. وأما الدليل اللِمّيّ فهو العلم بالمعلول عن طريق العلم بالعلة، كما لو شاهد ناراً من بعيد فإنه يعلم بوجود الحرارة عندها.

الأمر الثالث: القطع الموضوعي
اشارة

[6] يبحث في هذا الأمر:

أولاً: عن تقسيم القطع إلى طريقي وموضوعي، ثم بيان أقسام الموضوعي.

وثانياً: عن قيام الطرق والأمارات مقام القطع الطريقي، وعدم قيامها مقام القطع الموضوعي الصفتي، ثمّ الخلاف بين الشيخ الأعظم والمصنف بين قيامها مقام القطع الموضوعي الكشفي.

وثالثاً: في عدم قيام الأصول العملية مقام القطع إلاّ الاستصحاب.

ص: 231

إنه قد عرفت أن القطع بالتكليف[1] - أخطأ أو أصاب - يوجب عقلاً استحقاق المدح والثواب، أو الذم والعقاب من دون أن يؤخذ شرعاً في خطاب[2].

وقد يؤخذ[3] في موضوع حكم آخر يخالف متعلقه[4]، لا يماثله ولا يضاده[5] كما إذا ورد مثلاً في الخطاب أنه: «إذا قطعت بوجوب شيء يجب عليك التصدق

-----------------------------------------------------------------

أولاً: أقسام القطع

[1] المراد هو القطع الطريقي، الذي أخذ طريقاً للوصول إلى الحكم.

[2] أي: من غير أن يكون ذلك القطع موضوعاً لحكم شرعي آخر.

[3] أي: يؤخذ القطع، وهذا هو القطع الموضوعي؛ لأن القطع بشيء صار موضوعاً أو جزء موضوع لحكم شرعي آخر.

[4] و(المتخالفان) أمران وجوديان لا يتماثلان ولا يتضادان، ويمكن أن يجتمعا في موضوع واحد، كالسواد والحلاوة، فإنها ليسا مثلين ولا ضدين، ويمكن أن يجتمعا في شيء واحد كالتمر مثلاً.

وهنا متعلق القطع يخالف متعلق الحكم - من غير تماثل ولا تضاد - كما لو قال: (إن قطعت بحياة ولدك فتصدق بدرهم)، فإن متعلق القطع هو (حياة الولد)، ومتعلق الحكم هو (التصدق بدرهم).

[5] لاستحالتهما، أما التماثل، فكما لو قال: (إن قطعت بالحرمة فهي عليك حرام)، وجه الاستحالة هو استلزامه اجتماع المثلين، أو لاستلزامه طلب الحاصل، وكلاهما محال.

وأما التضاد، فكما لو قال: (إن قطعت بالحرمة فهي عليك واجب)، وجه الاستحالة هو استلزامه اجتماع الضدين، أو لاستلزامه الخلف؛ لأن القطع بالحرمة يساوق القطع بعدمها. فتأمل.

ص: 232

بكذا» - تارةً[1] بنحو يكون[2] تمام الموضوع، بأن يكون القطع بالوجوب مطلقاً - ولو أخطأ - موجباً لذلك[3]؛ وأخرى[4] بنحو يكون جزؤه وقيده، بأن يكون القطع به[5] في خصوص ما أصاب موجباً له[6].

وفي كل منهما[7] يؤخذ طوراً بما هو كاشف وحاكٍ عن متعلقه؛ وآخر بما هو صفة خاصة للقاطع، أو المقطوع به[8].

-----------------------------------------------------------------

[1] شروع في بيان أقسام القطع الموضوعي.

[2] أي: يكون القطع تمام الموضوع، ولا ينظر إلى الواقع أصلاً، فحتى لو كان ذلك القطع جهلاً مركباً فإنه يترتب عليه ذلك الحكم الآخر، مثل: مانعيّة الغصب، فقول المولى: (إن قطعت بالغصب كان مانعاً عن صحة الصلاة) فإن هذا القطع سواء كان مصيباً أم مخطئاً فإنه مانع عن صحة الصلاة، والمانعية حكم شرعي وضعي، فمن صلّى في مقطوع الغصبية بطلت صلاته، سواء كان قطعه صحيحاً أم كان جهلاً مركباً.

[3] أي: لذلك الحكم الآخر.

[4] أي: وتارة أخرى يكون ذلك القطع جرءاً من الموضوع، أو قيده، ومثال القيد كما لو كان القطع شرطاً للموضوع.

[5] أي: القطع بالوجوب - في المثال - .

[6] أي: موجباً لذلك الحكم، ومثاله الشرعي: الشهادة، فإن الشاهد لو كان قاطعاً بما يشهد به وكان قطعه مطابقاً للواقع فإنه حينئذٍ تترتب آثار الشهادة. فلو لم يكن قاطعاً لا حجية لشهادته، ولو علمنا ببطلان قطعه وأنه جهل مركب فكذلك لا اعتبار بشهادته، فالقطع كان جزءاً من الموضوع، والجزء الآخر هو إصابة هذا القطع للواقع.

[7] أي: من القسمين: القطع كل الموضوع، أو القطع جزء الموضوع.

[8] أي: القطع الموضوعي بما هو مرتبط بالقاطع، أو بما هو متعلق بالمقطوع به؛

ص: 233

وذلك[1] لأن القطع لما كان من الصفات الحقيقية ذات الإضافة[2] - ولذا كان العلم نوراً لنفسه ونوراً لغيره[3] - صح أن يؤخذ فيه بما هو صفة خاصة[4] وحالة

-----------------------------------------------------------------

لأن القطع من الأمور الحقيقية ذات الإضافة، فلذا يمكن النظر إليه باعتبار تعلّقه بهذا الطرف من الإضافة - وهو القاطع - أو بذاك الطرف - وهو المقطوع به - .

فحاصل الأقسام - المذكورة هنا - أربعة:

القطع الموضوعي:

[1] دليل على إمكان أخذ القطع الموضوعي بما هو كاشف، أو بما هو صفة، وكذا أخذ الصفة باعتبار القاطع أو باعتبار المقطوع به.

[2] (الصفة الحقيقية) هي ما كان لها وجود خارجي، كالشجاعة والجبن، والحب والبغض، ونحوها، ويقابلها (الصفة الانتزاعية) التي لا وجود لها في الخارج إلاّ بوجود منشأ الانتزاع، كالزوجية في الأربعة.

ثم إن الصفات الحقيقية قد لا تحتاج إلى متعلق كالشجاعة - مثلاً - وقد تحتاج إلى متعلق تضاف إليه كالحب والبغض، حيث تحتاج إلى محبوب ومبغوض منه، والقطع من القسم الثاني، أي: من الصفات الحقيقية ذات الإضافة.

[3] فكونه نوراً لنفسه دليل على أنه من الصفات الحقيقية، وكونه نوراً لغيره دليل على أنه من الصفات ذات الإضافة، ولو كانت العبارة: (ومُنوّراً لغيره) كان أولى.

[4] أي: من جهة كونه صفة حقيقية.

ص: 234

مخصوصة بإلغاء جهة كشفه[1]، أو اعتبار خصوصية أخرى فيه معها[2]؛ كما صح أن يؤخذ بما هو كاشف عن متعلقه[3] وحاكٍ عنه. فتكون أقسامه[4] أربعة، مضافةً إلى ما هو طريق محض عقلاً، غير مأخوذ في الموضوع شرعاً.

ثم لا ريب[5] في قيام الطرق والأمارات[6]

-----------------------------------------------------------------

[1] المقصود هو عدم ملاحظة جهة كشف القطع، وإلاّ فإن الكشف ذاتي للقطع، ولا يمكن إلغاء الذاتي.

[2] أي: إلغاء اعتبار خصوصية أخرى في الموضوع مع كونه صفة خاصة، كإلغاء اعتبار منشأ القطع، والحاصل: إنه يُراعى كون القطع صفة، ولا يُلاحظ فيه جهة الكشف، كما لا يلاحظ فيه الخصوصيات الأخرى - كمنشأ القطع - .

[3] أي: يصح أن يؤخذ القطع في الموضوع باعتبار كونه كاشفاً عن الواقع.

[4] أي: أقسام القطع الموضوعي - المذكورة هنا - أربعة أقسام، مضافاً إلى القطع الطريقي.

ثانياً: قيام الأمارات مقام القطع
اشارة

[5] هل تقوم الطرق والأمارات الشرعية - بعد ثبوت حجيتها - مقام القطع أم لا؟

والكلام في عدة أمور:

الأول: قيام الأمارات والطرق مقام القطع الطريقي.

الثاني: قيامها مقام القطع الموضوعي الوصفي.

الثالث: قيامها مقام القطع الموضوعي الكشفي.

1- قيام الأمارات والطرق مقام القطع الطريقي

[6] الأدلة الشرعية الكاشفة عن الواقع إن كانت تكشف عن الحكم الشرعي سُمِّيت بالطرق كالخبر الواحد، وإن كشفت عن الموضوع الشرعي سُمِّيت بالأمارات، مثل: قاعدة اليد.

ص: 235

المعتبرة - بدليل حجيتها واعتبارها[1] - مقام هذا القسم[2]. كما لا ريب[3] في عدم قيامها بمجرد ذلك الدليل[4] مقام ما أخذ في الموضوع على نحو الصفتية من تلك الأقسام، بل لابد من دليل آخر على التنزيل، فإن قضية الحجية والاعتبار ترتيب ما للقطع بما هو حجة من الآثار[5]، لا له بما هو صفة وموضوع، ضرورة أنه كذلك[6]

-----------------------------------------------------------------

[1] القطع حجة بالذات كما مرّ، أما غير القطع فلابد من دلالة دليل قطعي على حجيته، ومعنى الحجية هو التنجيز إن أصاب، والتعذير إن أخطأ.

وقيام الطرق والأمارات مقام القطع إنما هو بمعنى ترتيب أثر القطع وهو المنجزية والمعذرية، فنفس دليل الاعتبار يدل على الحجية بلا حاجة إلى دلالة دليل آخر.

[2] أي: مقام القطع الطريقي.

2- عدم قيامها مقام القطع الموضوعي الوصفي

[3] أي: لا إشكال في عدم قيام الطرق والأمارات مقام القطع الموضوعي بما هو صفة نفسيّة؛ وذلك لأن معنى الحجية هو ترتيب أثر القطع من حيث المنجزية والمعذرية، فمثل: (صدّق العادل) ظاهر في أن قول العادل حجة، ولا يدل على أزيد من ذلك، فإذا أردنا إجراء سائر أحكام القطع على الطرق والأمارات فلابد من وجود دليل آخر.

ومثاله: ما لو أراد المولى إزالة الوسوسة من الوسواسي، فقال: (إن قطعت بالطهارة فلك درهم)، فلو قامت البينة على الطهارة لم يتحقق موضوع إعطاء الدرهم؛ لأن الموضوع كان القطع بما هو صفة نفسية.

[4] أي: بمجرد دليل الاعتبار، بل لابد من دليل آخر.

[5] أي: دليل حجية الخبر الواحد - مثلاً - ظاهر في أن الخبر له أثر القطع بما هو حجة، وذلك الأثر هو التنجيز والإعذار، «له» للقطع، «هو» القطع.

[6] «أنه» أي: إن القطع، «كذلك» أي: بما هو صفة.

ص: 236

يكون كسائر الموضوعات والصفات[1].

ومنه[2] قد انقدح عدم قيامها بذاك الدليل[3] مقام ما أخذ في الموضوع على نحو الكشف، فإن القطع[4] المأخوذ بهذا النحو في الموضوع شرعاً، كسائر ما لها دخل في الموضوعات أيضاً، فلا يقوم مقامه شيء[5]

-----------------------------------------------------------------

[1] فكما لا تقوم الطرق والأمارات بدليل حجيتها مقام سائر الصفات النفسية، كذلك لا تقوم مقام القطع بما هو صفة؛ وذلك لأنّ دليل الحجية يثبت التنجيز والتعذير لا غير.

نعم، لا بأس بقيامها مقام القطع الوصفي لو قام دليل ثانٍ وكذلك في سائر الصفات.

مثلاً: لو قال المولى: (الشجاعة أثرها كذا)، ثم قال: (وإني نزلت الإنفاق منزلة الشجاعة في ترتب ذلك الأثر) فهذا لا إشكال فيه، وكذا لو قال: (إن الوسواسي إذا قطع - باعتبار القطع صفة نفسية - فله كذا)، ثم قال: (وإني نزلت الخبر الواحد منزلة هذا القطع) فحينئذٍ يترتب ذلك الأثر.

3- عدم قيامها مقام القطع الموضوعي الكشفي

[2] أي: مما ذكرناه في القطع الموضوعي الوصفي يتبين حكم القطع الموضوعي الكشفي؛ لأن الدليل الدال على عدم قيام الطرق والأمارات مقام القطع الموضوعي الوصفي جارٍ بعينه في القطع الموضوعي الكشفي.

[3] أي: بدليل حجيتها واعتبارها، بل لابد للتنزيل من دليل آخر.

[4] أي: القطع الموضوعي الكشفي، لا فرق بينه وبين سائر الأمور التي لها دخل في موضوع الحكم الشرعي. فكما أن دليل اعتبار الخبر الواحد - مثلاً - لا يُنَزِّل الخبر منزلة سائر موضوعات الأحكام، كذلك هذا الدليل لا يُنَزِّل الخبر منزلة القطع الموضوعي الكشفي.

[5] «مقامه» مقام القطع، «شيء» كالخبر الواحد - مثلاً.

ص: 237

بمجرد حجيته وقيام[1] دليل على اعتباره، ما لم يقم دليل على تنزيله ودخله في الموضوع كدخله[2].

وتوهم[3] كفاية دليل الاعتبار[4] الدال على إلغاء احتمال خلافه[5]، وجعله[6]

-----------------------------------------------------------------

[1] عطف تفسيري على (حجيته)، أي: فلا يقوم مقامه شيء بمجرد حجيته وبمجرد قيام دليل على اعتباره.

[2] أي: ما لم يقم دليل آخر - غير دليل الحجية - على تنزيل الخبر - مثلاً - منزلة القطع الموضوعي الكشفي، وضمائر «حجيته» و«اعتباره» و«تنزيله» و«دخله» ترجع إلى قوله: (شيء)، ومثّلنا للشيء بالخبر الواحد، وضمير «كدخله» يرجع إلى القطع الموضوعي الوصفي.

كلام الشيخ في القطع الموضوعي الكشفي

[3] هذا ما ذكره الشيخ الأعظم(1)،

وحاصله: إن دليل الخبر الواحد - مثلاً - مطلق، وحيث إن القطع الموضوعي الكشفي له جهتان: جهة كونه موضوعاً لحكم آخر، وجهة كونه كاشفاً عن الواقع - فمثل: (صدق العادل) مطلق - لذا يُنزّل الخبر منزلة القطع في الحجية وفي كونه موضوعاً أيضاً.

[4] أي: أدلة الطريق والأمارة - كالخبر الواحد - كافية في تنزيلها منزلة القطع الموضوعي الكشفي، ومنشأ الكفاية هو إطلاقها.

[5] أي: خلاف مدلول الطريق؛ وذلك لأن الطرق والأمارات لا توجب القطع - عادة - بل توجب الظن، فاحتمال الخلاف وارد، لكن دليل الاعتبار يقول ألغِ احتمال الخلاف.

[6] أي: جعل الطريق، فكل ما للطريق يكون للأمارة أيضاً؛ لعدم الفرق بينهما إلاّ في تعلق أحدهما بالحكم والآخر بالموضوع.

ص: 238


1- فرائد الأصول 1: 33 - 34.

بمنزلة القطع من جهة كونه موضوعاً، ومن جهة كونه طريقاً، فيقوم مقامه[1] طريقاً كان أو موضوعاً، فاسد جداً[2]، فإن الدليل الدال على إلغاء الاحتمال[3]، لا يكاد يكفي إلاّ بأحد التنزيلين[4]، حيث لابد في كل تنزيل منهما[5] من لحاظ المنزَّل والمنزَّل عليه[6]، ولحاظهما في أحدهما آليّ[7]، وفي الآخر استقلاليّ[8]،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: فيقوم الطريق مقام القطع.

الإشكال الأول على كلام الشيخ

[2] حاصل رد المصنف لدليل الشيخ الأعظم، هو: أن التمسك بالإطلاق إنّما يكون إذا كان الشيء ممكناً في مرحلة الثبوت، أما إذا استحال ثبوتاً فلا معنى لمحاولة إثباته بالإطلاق. وتنزيل الطرق والأمارات منزلة القطع بدليل واحد محال، فلا تصل النوبة إلى ادعاء الإطلاق. وأما الاستحالة فلأجل استحالة الجمع بين اللحاظ الآلي وبين اللحاظ الاستقلالي للتضاد بينهما، وجهة الكشف آلية، وكونه موضوعاً استقلالياً، فلا يمكن جمع بينهما في دليل واحد، بل لابد من دليلين.

[3] أي: احتمال الخلاف، وهذا دليل الاعتبار؛ إذ الطرق والأمارات لا تفيد القطع - عادة - بل تفيد الظن، وحينئذٍ يحتمل الخلاف في كل مورد، لكن دليل الاعتبار يدل على إلغاء احتمال الخلاف وعدم الاعتناء به.

[4] الآلي وهو في القطع الطريقي، أو الاستقلالي وهو في القطع الموضوعي، ووجه عدم كفايته هو التضاد بين اللحاظين، ولا يمكن الجمع بين المتضادين في شيء واحد.

[5] أي: تنزيل الطريق منزلة القطع من جهة كونه موضوعاً، وتنزيله منزلة القطع من جهة كونه طريقاً.

[6] «المنزل» هو الطريق، و«المنزل عليه» هو القطع.

[7] وهو القطع من جهة كونه طريقاً.

[8] وهو القطع من جهة كونه موضوعاً.

ص: 239

بداهة[1] أن النظر في حجيته وتنزيله منزلة القطع في طريقيته في الحقيقة إلى الواقع[2] ومؤدى الطريق؛ وفي كونه[3] بمنزلته في دخله في الموضوع إلى أنفسهما[4]، ولا يكاد يمكن الجمع بينهما[5].

نعم[6]، لو كان في البين ما بمفهومه[7] جامع بينهما ، يمكن أن يكون دليلاً على التنزيلين، والمفروض أنه ليس[8].

-----------------------------------------------------------------

[1] بيان لعدم كفاية دليل اعتبار الأمارات والطرق لكلا التنزيلين، «حجيته» و«تنزيله» الضميران يرجعان إلى الطريق، «طريقيته» أي: طريقيّة القطع.

[2] وهذا النظر الآلي في القطع الطريقي.

[3] أي: في كون الطريق بمنزلة القطع في دخل القطع.

[4] وهذا النظر الاستقلالي في القطع الموضوعي.

[5] لأن التنزيلين متضادان، ويستحيل الجمع بينهما في شيء واحد، وهنا الشيء الواحد هو (اللحاظ).

[6] استدراك، وحاصله: إن المتضادين إن كان بينهما جامع مفهومي أمكن جعل الجامع بدليل واحد، كالسواد الشديد والخفيف مثلاً، فهما متضادان لكن يجمعهما السواد.

ولو فرض أن هناك جامعاً بين اللحاظ الآلي والاستقلالي لأمكن بدليل واحد جعل الجامع للأمارات والطرق، ولكن لا وجود لجامع مفهومي بين اللحاظين، فلا يمكن جعل اللحاظين بدليل واحد، بل لابد من دليلين.

[7] المهم أن يكون جامعاً حقيقياً يسري في كليهما كالجنس أو النوع - مثلاً - أما الجامع غير المفهومي فلا يفيد، كأن يقال: إن الجامع هو (اللحاظ)، فإنه جامع لفظي عنواني وليس جامعاً مفهومياً، كما في ألفاظ المشترك اللفظي - مثلاً - .

[8] «ليس» هنا تامة، أي: والمفروض هو عدم وجود الجامع المفهومي بين اللحاظ الآلي والاستقلالي.

ص: 240

فلا يكون[1] دليلاً على التنزيل إلاّ بذاك اللحاظ الآليّ، فيكون حجة[2] موجبة لتنجز متعلقه[3] وصحة العقوبة على مخالفته في صورتي إصابته وخطئه، بناءً[4] على استحقاق المتجري؛ أو بذلك اللحاظ الآخر الاستقلالي، فيكون مثله في دخله[5] في الموضوع، وترتيب ما له عليه من الحكم الشرعي.

لا يقال[6]:

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: لا يكون الدليل الدال على إلغاء احتمال الخلاف.

والمقصود أنه لا يكون دليل اعتبار الطريق والأمارة إلاّ دالاً على أحد التنزيلين، إمّا التنزيل الآلي - الطريقي - وإمّا الاستقلالي - الموضوعي - .

[2] لأن الحجية هي نتيجة التنزيل الآلي، فمثل: (صدق العادل) يدل على قيام قول العادل مقام القطع في الحجية، أي: في التنجيز والتعذير، وهذا هو اللحاظ الطريقي الآلي.

[3] أي: متعلق الطريق، فلو دل على الوجوب كان هذا المتعلق - وهو الوجوب - منجزاً، فإن أصاب الطريق الواقع استحق العقاب على المخالفة، وإن أخطأ الطريق الواقع، فإنه يستحق العقاب للتجري لو ارتكبه.

[4] قيد لقوله: (أو خطئه)، أي: صحة العقوبة في صورة المخالفة بناءً على استحقاق المتجري للعقاب.

[5] أي: فيكون الطريق مثل القطع في دخله في الموضوع، في ترتيب الحكم الذي للقطع الموضوعي على الطريق أو الأمارة، وقوله: (من الحكم الشرعي) بيان ل- (ما) في قوله: (ترتيب ما لَهُ).

[6] الإشكال هو أن دليل الطريق إذا لم يفِ إلاّ بأحد التنزيلين - وكل من التنزيلين ممكن - فلماذا يُنَزّل منزلة القطع الطريقي - أي: باللحاظ الآلي - ولا يُنَزّل منزلة القطع الموضوعي - أي: باللحاظ الاستقلالي -؟

ص: 241

على هذا لا يكون[1] دليلاً على أحد التنزيلين ما لم يكن هناك قرينة في البين.

فإنه يقال[2]: لا إشكال في كونه دليلاً على حجيته[3]، فإن ظهوره[4] في أنه بحسب اللحاظ الآليّ مما لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه، وإنما يحتاج تنزيله بحسب اللحاظ الآخر الاستقلالي من نصب دلالة عليه. فتأمل في المقام، فإنه دقيق، ومزالّ الأقدام للأعلام.

ولا يخفى[5]: أنه لو لا ذلك[6] لأمكن أن يقوم الطريق بدليل واحد دال على إلغاء احتمال خلافه مقام القطع بتمام أقسامه، ولو في ما أخذ في الموضوع على نحو

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: على إمكان كل من التنزيلين لا يكون الدليل الدال على الأمارة والطريق... الخ.

[2] حاصل الجواب: إن دليل الطريق ظاهر في الحجية - وهو الطريقية واللحاظ الآلي - والظهور هو المتَّبع.

[3] أي: دليلاً على كونه منجزاً ومعذراً، والحجية هي اللحاظ الطريقي الآلي - كما مرّ - .

[4] أي: ظهور دليل الطرق.

الإشكال الثاني على كلام الشيخ

[5] هذا إشكال ثانٍ على كلام الشيخ الأعظم: في قيام الطرق والأمارات - بأدلتها - مقام القطع الموضوعي الكشفي.

وحاصل الإشكال: إنه إن أمكن الجمع بين اللحاظين فلا فرق حينئذٍ بين إمكانه في القطع الموضوعي الكشفي، وفي القطع الموضوعي الوصفي، فكيف فرّق الشيخ بينهما، حيث قال في الأول بقيام الأمارات والطرق مقامه، وذهب في الثاني إلى عدم قيامها مقامه؟

[6] أي: لو لا الإشكال العقلي الدال على عدم إمكان الجمع بين اللحاظين.

ص: 242

الصفتية، كان تمامه[1]، أو قيده وبه قوامه[2].

فتلخص بما ذكرنا: أن الأمارة لا تقوم بدليل اعتبارها، إلاّ مقام ما ليس بمأخوذ في الموضوع أصلاً[3].

وأما الأصول: فلا معنى لقيامها مقامه بأدلتها[4] أيضاً، غير الاستصحاب[5]،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: سواء كان القطع الوصفي تمام الموضوع، «أو قيده» أي: أو قيد الموضوع - بأن كان جزءاً أو شرطاً للموضوع - .

[2] عطف تفسيري، أي: بالقطع الموضوعي الصفتي قوام الموضوع.

[3] أي: القطع الطريقي فقط.

ثالثاً: عدم قيام الأصول مقام القطع
اشارة

[4] أي: قيام الأصول مقام القطع - طريقياً كان أم موضوعياً - وقوله: «بأدلتها» أي: بأدلة اعتبارها، مثل قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولٗا}(1) وهو من أدلة البراءة، وقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (إذن فتخير)(2)

وهو من أدلة التخيير.

وذلك لأن القيام مقام القطع الموضوعي محال؛ لما مرّ من اجتماع اللحاظين - الآلي والاستقلالي - .

وأما القيام مقام القطع الطريقي فإن معنى القيام هو الحجية - أي: التنجيز والإعذار - والأصول العملية لا تنجيز ولا إعذار فيها، بل هي وظائف للجاهل.

وبتعبير آخر: الأصول العملية لا تنظر إلى الواقع أصلاً، فليس فيها جهة كشف أصلاً حتى تكون منجزة له إن أصابت الواقع، ومعذرة إن أخطأت، فلا تقوم مقام القطع في الحجية - التي هي التنجيز والإعذار - .

[5] أما الاستصحاب فلأنّ له كشفاً عن الواقع - ولو في الجملة - فيمكن أن يكون منجزاً لذلك الواقع أو معذراً عنه، فأمكن أن يقوم مقام القطع الطريقي.

ص: 243


1- سورة الإسراء، الآية: 15.
2- عوالي اللئالي 4: 133؛ مستدرك الوسائل 17: 303.

لوضوح أن المراد من قيام المقام[1] ترتيب ما له من الآثار[2] والأحكام من تنجز التكليف وغيره - كما مرت إليه الإشارة[3] - ، وهي[4] ليست إلاّ وظائف مقررة للجاهل في مقام العمل، شرعاً أو عقلاً.

لا يقال[5]: إن الاحتياط لا بأس بالقول بقيامه مقامه في تنجز التكليف - لو كان[6] -.

فإنه يقال[7]:

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: من قيام الشيء مقام القطع.

[2] أي: ترتيب ما للقطع من الآثار، مثل: الحجية واستحقاق العقاب على المخالفة.

[3] قبل قليل حيث قال المصنف: (فيكون حجة موجبة لتنجز متعلّقه وصحة العقوبة على مخالفته في صورتي إصابته وخطئه... الخ).

[4] أي: الأصول العملية - غير الاستصحاب - لا يوجد فيها كشف عن الواقع حتى يتنجز، أو يكون سبباً للعذر - إن أخطأ - .

عدم قيام الاحتياط مقام القطع

[5] حاصله: إن الاحتياط يُنجِّز التكليف، فإن التكليف الموجود في البين - وهو اجتناب النجس مثلاً - يتنجز في الإناءين المشتبهين.

[6] أي: لو كان في الواقع تكليف، فإن وجوب الاحتياط ينجز هذا التكليف، فيجب الاجتناب عنهما، وإن ارتكبهما فقد ارتكب المخالفة الواقعية، وإن ارتكب أحدهما فصادف الواقع فقد خالف، وإن أخطأ الواقع فقد تجرى.

نعم لا معنى للمعذرية في الاحتياط؛ لأن الاحتياط لا يوجب مخالفة التكليف الواقعي أصلاً.

[7] حاصل الجواب: إن الاحتياط؛ إما عقلي وإما شرعي، وكلاهما لا يقومان مقام القطع.

ص: 244

أما الاحتياط العقلي: فليس إلاّ لأجل[1] حكم العقل بتنجز التكليف وصحة العقوبة على مخالفته، لا شيء[2] يقوم مقامه في هذا الحكم.

وأما النقلي[3]: فإلزام الشارع به وإن كان مما يوجب التنجز وصحة العقوبة على

-----------------------------------------------------------------

أما الاحتياط العقلي فهو المنجزية بعينها، وليست المنجزية أثراً له حتى يقال: إنّ المنجزية كانت أثراً للاحتياط فقام مقام القطع في أثره.

وأما الاحتياط الشرعي - الذي هو من الأصول العملية - فلا نقول به؛ لأن مورده الشبهة التحريمية البدوية، ومختارنا فيها البراءة لا الاحتياط.

[1] المقصود أن مورد الاحتياط العقلي هو في الشبهة المحصورة، حيث يشتبه الواجب أو يشتبه الحرام بين أفراد قليلة.

وهنا يحكم العقل بأن التكليف - وهو الوجوب أو الحرمة - منجز عليك، فيلزمك في الواجب الإتيان بالأطراف المشتبهة، كالصلاة إلى الجهات حين اشتباه القبلة، أو يلزمك في الحرام ترك كل الأطراف المشتبهة، كترك الإناءين اللذين أحدهما نجس، وهذا الحكم العقلي بتنجز التكليف هو الاحتياط بعينه، فليس التنجز أثراً للاحتياط، بل هو نفس الاحتياط.

[2] أي: ليس الاحتياط شيئاً يقوم مقام القطع في التنجز، كي نقول: إن الاحتياط أثره التنجز، وقد قام في هذا الأثر مقام القطع، بل هذا التنجز هو نفس الاحتياط.

[3] أي: الاحتياط النقلي، ومورده الشبهات البدوية، كما لو احتمل حرمة شيء أو وجوب شيء، فيتركه في الأول ويأتي به في الثاني احتياطاً. فإن الاحتياط في محتمل الوجوب وإن كان مستحباً، لكنه لا خلاف في عدم وجوبه فلا تنجز. وأما الاحتياط في محتمل الحرمة، فلا نقول بلزومه، فلا تنجز أيضاً. نعم، الأخباريون قالوا بوجوبه، وعلى قولهم يقوم مقام القطع في التنجز، لكن سيأتي عدم صحة كلامهم.

ص: 245

المخالفة كالقطع، إلاّ أنه لا نقول به في الشبهة البدوية، ولا يكون بنقليّ في المقرونة بالعلم الإجمالي[1]، فافهم[2].

ثم لا يخفى: أن دليل الاستصحاب[3]

-----------------------------------------------------------------

إذن، فلا وجود للاحتياط الشرعي كأصل عملي، بل هو أمر مستحب في نفسه، لا يوجب تنجزاً أصلاً.

[1] أي: في الشبهة المحصورة؛ لأنه معلوم إجمالاً أن أحد الأطراف المشتبهة واجب أو حرام، والاحتياط هنا بحكم العقل، والروايات الآمرة به كقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (يهريقهما ويتيمم)(1)

إرشاد لحكم العقل.

[2] لعله إشارة إلى أنه يكفي قيامه مقام القطع على بعض المباني، ولا يلزم قيامه على كل المباني.

أو هو إشارة إلى أن الاحتياط في الشبهات المحصورة نقلي أيضاً.

أو إشارة إلى أن الاحتياط العقلي وإن كان هو التنجز وليس التنجز أثره، لكن المراد في قيام المقام هو التنجز - سواء كان أثراً أم كان نفس الأصل - .

عدم قيام الاستصحاب مقام القطع

[3] كقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (لا تنقض اليقين أبداً بالشك)(2)،

وحيث إن للاستصحاب كشف عن الواقع - في الجملة - لذا يمكن أن يقوم مقام القطع الطريقي، والمصنف لا يذكر هنا القطع الطريقي؛ لأنه أشار إليه في قوله: (لا معنى لقيامها مقامه بأدلته، غير الاستصحاب).

أما القطع الموضوعي: فلا يقوم الاستصحاب - بدليله - مقامه؛ للزوم اجتماع اللحاظين، وهو محال، كما مرّ.

ص: 246


1- الاستبصار 1: 21.
2- وسائل الشيعة 2: 356.

أيضاً لا يفي بقيامه[1] مقام القطع المأخوذ في الموضوع مطلقاً، وأن مثل: «لا تنقض اليقين»(1)

لابد من أن يكون مسوقاً إما بلحاظ المتيقن[2]، أو بلحاظ نفس اليقين[3].

وما ذكرنا في الحاشية[4](2)

- في وجه تصحيح لحاظ واحد في التنزيل منزلة الواقع والقطع[5] وأن دليل الاعتبار[6] إنما يوجب تنزيل المستصحَب والمؤدّى منزلة الواقع[7].

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: قيام الاستصحاب، «مطلقاً» أي: سواء كان تمام الموضوع أم جزأه، وسواء كان موضوعياً وصفياً أم موضوعياً كشفياً.

[2] أي: باللحاظ الآلي؛ لأنه يلاحظ المكشوف مع عدم ملاحظة نفس القطع.

[3] أي: باللحاظ الاستقلالي؛ لأنه يلاحظ قطعه مع عدم ملاحظة المقطوع.

تصحيح لحاظ واحد للقطع الطريقي والموضوعي

[4] أي: في إمكان دلالة دليل الأمارات والأصول على قيامها مقام القطع الموضوعي والطريقي معاً.

[5] أي: في تنزيل مؤدّى الأمارة والمستصحب منزلة الواقع، فتكون قائمة مقام القطع الطريقي، وكذلك تنزيل القطع بها منزلة القطع الموضوعي.

[6] حاصله: إنه بعد استحالة الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي، فإنا نقول: إن دليل حجية الأمارة والاستصحاب لوحظ فيهما الطريقية فقط، ولكن لازمه قيام القطع بالمؤدّى والمستصحَب مقام القطع الموضوعي. فقيام الأمارات والاستصحاب مقام القطع الطريقي بالمطابقة، وقيامها مقام القطع الموضوعي بالملازمة؛ وذلك لا يستلزم جمع لحاظين، فلا يكون محالاً.

[7] «المستصحَب» في الاستصحاب، و«المؤدّى» في الطرق والأمارات، «منزلة الواقع» أي: كما أن القطع الطريقي يكشف عن الواقع كذلك دلّ دليل الأمارة والاستصحاب على حجيتهما، أي: قيامهما مقام القطع في جهة الكشف عن الواقع.

ص: 247


1- وسائل الشيعة 2: 356.
2- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 29.

وإنما كان[1] تنزيل القطع في ما له دخل في الموضوع[2] بالملازمة[3] بين تنزيلهما، وتنزيل[4] القطع بالواقع تنزيلاً وتعبداً[5] منزلة القطع بالواقع حقيقة - لا يخلو[6] من تكلف، بل تعسف، فإنه لا يكاد[7]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: في دليل الأمارة والأصل لم يُلاحظ قيامهما مقام القطع الموضوعي، ولكن هذا القيام لازم ذلك الدليل. مثلاً قوله: (صدِّق العادل) يدل بالمطابقة على قيام الخبر الواحد مقام القطع الطريقي، أي: يدل على حجية الخبر الواحد، ولكن لازم (صدق العادل) هو أن القطع بالحكم الظاهري - الناشئ من الخبر الواحد - يقوم مقام القطع الموضوعي.

[2] أي: إنما كان تنزيل القطع بالمؤدى أو بالمستصحب منزلة القطع الموضوعي بسبب الملازمة.

ولا يخفى أن في العبارة حذفاً، وكان الأولى أن يقول: (وإنّما كان تنزيل القطع بهما منزلة القطع الذي له دخل في الموضوع بالملازمة).

[3] أي: الملازمة في دليل الأمارة والاستصحاب بين تنزيل المؤدّى والمستصحب منزلة الواقع، وبين تنزيل القطع بالمؤدّى والمستصحب منزلة القطع بالواقع. «تنزيلهما» أي: تنزيل المؤدّى والمستصحب.

[4] أي: وبين تنزيل القطع بالحكم أو الموضوع الظاهري.

[5] لأنه بعد قيام الأمارة والاستصحاب وإن لم يكن قطع بالواقع، لكن يوجد قطع بالحكم الظاهري أو بالموضوع الظاهري، وهذا القطع هو قطع بالواقع المجعول من طرف الشارع - وهو الحكم أو الموضوع الظاهريين - .

[6] خبر قوله: (و ما ذكرناه في الحاشية)، وإشكال عليه. «تكلّف» لأن هذه الملازمة غير ثابتة عقلاً، ولا يدل عليها اللفظ، «بل تعسف» للزوم الدور.

[7] حاصل كلام المصنف في بيان الدور: إن موضوع الحكم الشرعي إذا كان مركباً من جزءين، فلا يترتب عليه الحكم إلاّ إذا أحرز كلا الجزءين، إما بالوجدان،

ص: 248

-----------------------------------------------------------------

وإما بالتعبد، وإما أحدهما بالوجدان والآخر بالتعبد.

مثلاً قوله: (الماء الكر لا ينجسه شيء) الموضوع مركب من (الماء) و(الكر). فالحكم وهو (لا ينجسه شيء) يترتب بعد إحراز كلا الجزءين... إمّا بالوجدان، بأن نعلم بأن هذا المائع ماء وأنه كر. وإمّا بالتعبد، بأن نستصحب كونه ماءً، ونستصحب كونه كراً. وإمّا أحدهما بالوجدان والآخر بالتعبد، كأن نعلم بأنه ماء ونستصحب الكرية.

ولو كان إحراز كليهما بالتعبد فلابد أن يكونا في عرض واحد، كما في المثال المذكور، حيث جرى الاستصحابان معاً. أمّا لو كانا طوليين - بأن كان إحراز أحدهما متوقفاً على إحراز الآخر - فلا يجري دليل التعبد؛ لاستلزامه الدور.

مثلاً: إن قال المولى: (إن قطعت بحياة ولدك فتصدق بدرهم) الموضوع مركب من (القطع) و(حياة الولد)...

1- فدليل الاستصحاب - وهو (لا تنقض اليقين بالشك) - يدل على لزوم استصحاب حياة الولد.

2- ولكن لا يجري الاستصحاب إلاّ إذا كان له أثر، فإن جعل الحجية للأمارات والأصول لا يصح من غير أثر لها، لأنه لغو.

3- وهذا الأثر لا يترتب إلاّ إذا أحرز الجزء الثاني من الموضوع - وهو القطع أو ما يقوم مقامه - لأن الحكم لا يترتب إلاّ بعد إحراز كل أجزاء الموضوع.

4- وإحراز الجزء الثاني يتوقف على إحراز الجزء الأول؛ لأن الثاني لازم والأول ملزوم - حسب مفروض المصنف في حاشية الرسائل(1)

- وإحراز اللازم متوقف على إحراز الملزوم.

وهذا الدور بعينه: حيث توقف استصحاب حياة الولد على استصحاب حياته بواسطتين.

ص: 249


1- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 29.

يصح تنزيل[1] جزء الموضوع أو قيده[2] بما هو كذلك[3]، بلحاظ أثره[4]، إلاّ في ما كان جزؤه الآخر أو ذاته[5] محرزاً بالوجدان، أو تنزيله في عرضه[6]. فلا يكاد يكون دليل الأمارة أو الاستصحاب دليلاً على تنزيل جزء الموضوع[7] ما لم يكن هناك دليل على تنزيل جزئه الآخر[8]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: تنزيل المؤدى أو المستصحب منزلة القطع.

[2] «جزء الموضوع» إذا كان الموضوع مركباً من جزءين، «أو قيده» إذا كان الموضوع واحداً لكنه كان مشروطاً بشرط - مثلاً - ، كما لو قال: إن الصدقة ترتب على حياة الولد بشرط القطع به.

[3] أي: بما هو جزء أو قيد للموضوع، وإنما ذكر هذا لأنه لو كان للتنزيل أثراً آخر جرت الأمارة أو الأصل بلحاظ ذلك الأثر، وارتفع الدور.

[4] أي: التنزيل بلحاظ الأثر، لأنه لا يصح تنزيل الأمارة أو الأصل منزلة القطع - وذلك بجعل الحجية لهما - إلاّ إذا كان لهما أثر، وإلاّ كان التنزيل لغواً.

[5] «جزؤه الآخر» في ما كان الموضوع مركباً من جزءين، و«ذاته» في ما كان الموضوع واحداً لكنه كان مقيداً بقيد، فإحراز ذات الموضوع متوقف على إحراز القيد.

[6] أي: دليل الأمارة والأصل شمل كلا الجزءين معاً في عرض واحد، أو شمل الموضوع وقيده كذلك معاً، كاستصحاب المائية والكرية معاً، فإن قوله: (لا تنقض اليقين بالشك) كما يدل على استصحاب المائية كذلك يدل على استصحاب الكرية، في عرض واحد.

[7] كالمائية - في مثال الماء الكر - .

[8] كالكرية - في المثال - فإنه لو وُجد دليل على تنزيل الجزء الآخر أيضاً كان الموضوع كاملاً، فيترتب عليه الحكم، أمّا لو لم يكن دليل على تنزيل الجزء الآخر كان الموضوع غير كامل، فلا يترتب الحكم، وحينئذٍ يكون تنزيل الجزء الأول لغواً.

ص: 250

في ما لم يكن محرزاً حقيقةً[1]؛ وفي ما لم يكن[2] دليل على تنزيلهما بالمطابقة[3] كما في ما نحن فيه - على ما عرفت[4] - لم يكن دليل الأمارة[5] دليلاً عليه أصلاً[6]، فإن دلالته على تنزيل المؤدى[7] تتوقف على دلالته[8] على تنزيل القطع[9] بالملازمة[10]،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: إذا كان الجزء الآخر محرزاً بالوجدان فلا نحتاج إلى دليل لتنزيله، أما لو لم يكن محرزاً بالوجدان فلابد من وجود دليل على تنزيله.

[2] هذا بيان للدور.

[3] حتى يكونا في عرض واحد، كمثال الماء الكر.

[4] في بيان ما ذكره المصنف في حاشية الرسائل(1)،

حيث إن الاستصحاب - مثلاً - ينزل المستصحب منزلة حياة الولد، ولازمه تنزيل القطع بالمستصحب منزلة القطع بحياته، فكان أحد التنزيلين بالمطابقة والآخر بالالتزام.

[5] أو دليل الاستصحاب.

[6] أي: لا يجري الدليل في التنزيل أصلاً حتى في الجزء الأول؛ لأن إجراء الدليل يستلزم الدور - كما عرفت - ففي مثال: (إن قطعت بحياة ولدك فتصدق بدرهم) لو شك في حياته فلا يجري الاستصحاب أصلاً.

[7] هذا الطرف الأول في الدور، أي: إن دلالة دليل الأمارة على تنزيل مؤداها منزلة الواقع، وكذلك دلالة دليل الاستصحاب على تنزيل المستصحب منزلة الواقع.

[8] اختصر المصنف هنا المراحل، والمراد أنه يتوقف على أن يكون أثر، والأثر يتوقف على إحراز الجزء الآخر من الموضوع، وهو القطع أو ما يقوم مقامه، وضمير «دلالته» يرجع إلى (دليل الأمارة).

[9] أي: تنزيل القطع بمؤدى الأمارة منزلة القطع بالواقع.

[10] «بالملازمة» متعلق بقوله: (دلالته)، فالمعنى: يتوقف على دلالة دليل الأمارة بالملازمة على تنزيل القطع بمؤدى الأمارة منزلة القطع بالواقع.

ص: 251


1- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 29 - 31.

ولا دلالة له كذلك[1]، إلاّ بعد دلالته على تنزيل المؤدى[2]. فإن الملازمة إنما تكون بين تنزيل القطع به[3] منزلة القطع بالموضوع الحقيقي وتنزيل المؤدى[4] منزلة الواقع، كما لا يخفى، فتأمل جيداً، فإنه لا يخلو عن دقة.

ثم لا يذهب عليك: أن هذا[5] لو تمّ لعمّ[6]؛ ولا اختصاص له بما إذا كان القطع مأخوذاً على نحو الكشف.

الأمر الرابع[7]: لا يكاد يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع نفس هذا الحكم،

-----------------------------------------------------------------

[1] بيان للطرف الأخير من الدور، والمعنى: ولا دلالة لدليل الأمارة على أن القطع بالمؤدى بمنزلة القطع بالواقع إلاّ... الخ.

[2] أي: إلاّ بعد دلالة دليل الأمارة على تنزيل المؤدى منزلة الواقع.

والحاصل: إن جريان الأمارة لإحراز المودّى يتوقف على الأثر، وهو يتوقف على إحراز الجزء الثاني - وهو القطع بالمؤدى - وهذا الإحراز يتوقف على إحراز المؤدى، وهذا هو الدور بعينه.

[3] أي: بالمؤدى، وهذا الجزء الثاني من الموضوع.

[4] وهذا الجزء الأول من الموضوع.

[5] أي: إن الشأن، لو تمّ هذا التوجيه الذي ذكره المصنف في حاشية الرسائل.

[6] أي: لكان عاماً لكل أنواع القطع، سواء كان قطعاً موضوعياً وصفياً أم موضوعياً كشفياً، وسواء كان القطع كل الموضوع أم جزأه؛ وذلك لأن دليل الملازمة عام يشمل جميع هذه الأقسام.

الأمر الرابع: الظن الموضوعي

[7] الغرض من عقد هذا الأمر هو بيان إمكان أن يكون الظن بحكمٍ موضوعاً لحكم مماثل أو مضاد، وبيان وقوعه في الخارج.

وبما أن الكلام حول القطع فيقدم القطع أولاً، ثم يذكر حكم الظن.

ص: 252

للزوم الدور[1]؛ ولا مثله، للزوم اجتماع المثلين[2]؛ ولا ضده، للزوم اجتماع الضدين[3].

نعم، يصح[4] أخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أخرى منه، أو من مثله، أو من ضده.

-----------------------------------------------------------------

[1] كأن يقول المولى: (إن قطعت بوجوب الصلاة وجبت عليك الصلاة بنفس ذلك الوجوب المقطوع). وهذا محال؛ لأن الموضوع متقدم على الحكم رتبة، فوجوب الصلاة جزء الموضوع ومتقدم على الحكم، لكن الحكم هو نفس هذا الوجوب، فهو متأخر عن الموضوع، وهذا هو الدور بعينه.

وبعبارة أخرى: وجوب الصلاة حكم، فهو متأخر عن الموضوع، والموضوع مركب من القطع ووجوب الصلاة، فالموضوع متأخر عن وجوب الصلاة؛ لتأخر المركب عن أجزائه، فالنتيجة هي أن وجوب الصلاة توقف على نفسه؛ وذلك دور صريح.

[2] كأن يقول: (إن قطعت بوجوب الصلاة وجبت عليك الصلاة بوجوب آخر)، وهذا ليس بدور؛ لأن الوجوب في الحكم غير الوجوب في الموضوع، لكن هذا من اجتماع المثلين؛ لاجتماع وجوبين في شيء واحد.

إن قلت: لوكان القطع خاطئاً لم يكن اجتماع المثلين.

قلت: لكن يعتقد القاطع باجتماع المثلين، وكما يمتنع اجتماع المثلين خارجاً كذلك يمتنع اجتماعهما اعتقاداً.

[3] كأن يقول: (إن قطعت بالوجوب كان حراماً عليك)، وهذا يستلزم اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد ولو اعتقاداً.

[4] كأن يقول: (لو قطعت بإنشاء الوجوب فاعلم بأن ذلك كان تقية - مثلاً - والحكم الواقعي هو الحرمة). ولا بأس بذلك؛ لعدم اجتماع المثلين أو الضدين؛ وذلك لاختلاف المرتبة.

ص: 253

وأما الظن بالحكم: فهو وإن كان كالقطع في عدم جواز أخذه في موضوع نفس ذاك الحكم المظنون[1]، إلاّ أنه لما كان معه[2] مرتبة الحكم الظاهري محفوظةً[3]، كان جعل حكم آخر في مورده[4] - مثل الحكم المظنون أو ضده - بمكان من الإمكان[5].

إن قلت[6]: إن كان الحكم المتعلق به الظن[7] فعلياً أيضاً بأن يكون الظن متعلقاً بالحكم الفعلي[8]،

-----------------------------------------------------------------

[1] وكأن يقول: (إن ظننت بالوجوب وجب بنفس ذلك الوجوب) وذلك للزوم الدور؛ لأن الحكم متأخر عن الموضوع، والموضوع مركب من أمرين: أحدهما هو نفس ذلك الحكم، فتقدم الحكم على نفسه، وهذا الدور بعينه.

[2] أي: مع الظن.

[3] أي: كان يمكن في مورد الظن جعل حكم ظاهري، كأن يقال: (إن ظننت بالنجاسة فعليك الاستصحاب أو إجراء أصالة الطهارة)، والحكم الدال عليه الاستصحاب أو قاعدة الطهارة إنّما هو حكم ظاهري.

[4] أي: في مورد الظن.

[5] كما لو ظن بالنجاسة ودل الاستصحاب عليها، فقد جعل حكماً مماثلاً، أو دل الاستصحاب على الطهارة، فقد جعل حكماً مضاداً.

[6] حاصله: إنه لا يمكن جعل حكم مماثل أو مضاد لو كان الحكم المظنون فعلياً، كأن يقول: (إن ظننت بالحرمة الفعلية فقد حرمت عليك فعلاً بحكم مماثل أو وجبت عليك فعلاً بحكم مضاد)، وذلك لاجتماع حكمين في مرتبة واحدة، ولا يمكن اجتماع حكمين فعليين في مرتبة واحدة.

[7] أي: كان الموضوع هو: الظن بالحكم الفعلي.

[8] الظاهر أن قوله: «بأن يكون... الفعلي» زائداً لا يحتاج إليه؛ لأنه نفس العبارة السابقة.

ص: 254

لا يمكن أخذه[1] في موضوع حكم فعلي آخر مثله أو ضده، لاستلزامه الظن باجتماع الضدين أو المثلين[2]، وإنما يصح أخذه في موضوع حكم آخر[3]، كما في القطع طابق النعل بالنعل.

قلت[4]: يمكن أن يكون الحكم فعلياً[5]، بمعنى أنه لو تعلق به القطع - على ما هو عليه من الحال[6] -

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: لا يمكن أخذ (الظن بحكم فعلي) موضوعاً لحكم فعلي آخر مماثل أو مضاد.

[2] حيث إن الحكم المأخوذ في الموضوع، وكذلك المأخوذ في الحكم، كلاهما فعلي، فاتّحدت الرتبة.

[3] كأن يقول: (إن ظننت بالوجوب الفعلي لصلاة الجمعة حرمت عليك صلاة الظهر فعلاً) فما في الموضوع هو الوجوب الفعلي لصلاة الجمعة، وما في الحكم هو حرمة صلاة الظهر، وهو حكم آخر، فلا مانع منه.

[4] حاصل الجواب: إن الحكم الفعلي قسمان:

الأول: الحكم الفعلي الذي لا إرادة ولا كراهة للمولى معه، وإنما إذا تنجز حدثت الإرادة والكراهة.

الثاني: الحكم الفعلي الذي معه إرادة وكراهة، فإذا علم به العبد صار منجزاً يثاب على فعله ويعاقب على تركه، وإذا لم يعلم به كان معذوراً مع بقاء كراهة أو إرادة المولى.

ويصح أن يكون الذي في الموضوع هو القسم الأول، والذي في الحكم هو القسم الثاني، مثلاً يقول: (إن ظننت بالوجوب الفعلي الذي لا إرادة ولا كراهة للمولى فيه فحينئذٍ يجب عليك فعلاً، بمعنى حدوث إرادة وكراهة فيه).

[5] هذا القسم الأول من الحكم الفعلي.

[6] أي: بدون إضافة قيد فلو قطع لتنجز، ولكن لا يتنجز في صورة الظن، بل

ص: 255

لتنجز، واستحق على مخالفته العقوبة، ومع ذلك[1] لا يجب على الحاكم[2] رفع عذر المكلف برفع جهله لو أمكن[3]، أو بجعل لزوم الاحتياط عليه في ما أمكن[4]، بل يجوز جعل أصل أو أمارة مؤدية إليه[5] تارةً، وإلى ضده أخرى، ولا يكاد يمكن مع القطع به[6] جعل حكم آخر مثله أو ضده[7]، كما لا يخفى.

إن قلت[8]: كيف يمكن ذلك؟ وهل هو إلاّ أنه يكون مستلزماً لاجتماع المثلين

-----------------------------------------------------------------

لا يجب على المولى رفع جهل العبد، كما لا يجب عليه أمره بالاحتياط، بل يمكنه جعل طريق قد يطابق الظن، وقد يخالفه؛ وذلك لعدم وجود إرادة أو كراهة من المولى لذلك الحكم الفعلي.

[1] أي: مع كونه فعلياً بهذا المعنى.

[2] عدم الوجوب لعدم تحقق إرادة أو كراهة للحاكم.

[3] كأن ينبِّه العبد بالحكم الواقعي، مع حضور العبد لدى المولى الحاكم، أو يرفعه تكويناً.

[4] كما لو كان في الشبهة البدوية مع إطاقة العبد، أما لو كان في الدوران بين المحذورين، أو مع عدم تمكن العبد من الاحتياط فحينئذٍ عدم وجوب جعل الاحتياط واضح.

[5] أي: إلى ذلك الحكم الفعلى، كأن يقول: (إن ظننت بالنجاسة الفعلية فاستصحب)، وكانت الحالة السابقة النجاسة مثلاً.

[6] أي: بالحكم الفعلي.

[7] لأنه في صورة القطع يتنجز الحكم الفعلي، ويكون قطع بالإرادة أو الكراهة حتماً، فيكون من اجتماع المثلين أو الضدين؛ لأن كليهما - الحكم والموضوع - حكم فعلي من القسم الثاني، عكس مورد الظن، حيث إن المأخوذ في الموضوع من القسم الأول، والمأخوذ في الحكم من القسم الثاني.

[8] حاصل الإشكال: كيف يجتمع الظن بالحكم الواقعي مع حكم ظاهري مثله

ص: 256

أو الضدين؟

قلت[1]: لا بأس باجتماع الحكم الواقعيّ الفعلي بذاك المعنى[2] - أي لو قطع به من باب الاتفاق[3] لتنجز - مع حكم آخر فعلي في مورده[4]، بمقتضى[5] الأصل أو الأمارة، أو دليل[6] أخذ في موضوعه الظن بالحكم بالخصوص، على ما سيأتي[7] من التحقيق في التوفيق بين الحكم الظاهري والواقعي.

-----------------------------------------------------------------

أو ضده، واجتماع الحكم الواقعي والحكم الظاهري هو من اجتماع المثلين أو الضدين؟

[1] حاصله: إننا سنبيّن لاحقاً إمكان اجتماع الحكم الواقعي مع الحكم الظاهري؛ لعدم استلزامه اجتماع مثلين أو ضدين مع اختلاف المرتبة، فانتظر.

[2] وهو القسم الأول من الحكم الفعلي، أي: عدم وجود إرادة وكراهة إلاّ بعد التنجز.

[3] أي: من غير دخالة المولى في رفع جهله، بل حصل له القطع من طريق آخر، ولا يخفى أن قوله: «من باب الاتفاق» لبيان أدنى الفروض، وإلاّ فلو حصل له القطع عبر المولى فإنه يتنجز أيضاً.

[4] أي: حكم فعلي من القسم الثاني في نفس الشيء الذي كان متعلقاً للحكم الفعلي من القسم الأول.

[5] أي: فعلية الحكم الآخر هي بمقتضى الأصل أو الأمارة، وهذا في الظن الطريقي.

[6] هذا في الظن الموضوعي، أي: بمقتضى دليل جعل الظن بحكم موضوعاً لحكم مماثل أو مضاد، «بالخصوص» أي: خصوص الظن دون القطع أو الشك أو الوهم، كأن يقول: (إن ظننت بوجوب كذا فعليك بالعمل بالخبر الواحد - طابق ظنك أم خالف - ).

[7] في بحث حجية الأمارات.

ص: 257

الأمر الخامس[1]: هل تنجز التكليف بالقطع كما يقتضي موافقته[2] عملاً، يقتضي موافقته التزاماً، والتسليم له اعتقاداً وانقياداً، كما هو اللازم في الأصول الدينية والأمور الاعتقادية[3]، بحيث كان له امتثالان وطاعتان: (إحداهما) بحسب القلب والجنان، (والأخرى) بحسب العمل بالأركان، فيستحق العقوبة على عدم الموافقة التزاماً ولو مع الموافقة عملاً، أو لا يقتضي[4]، فلا يستحق العقوبة عليه[5]، بل إنما يستحقها على المخالفة العملية؟

-----------------------------------------------------------------

الأمر الخامس: الموافقة الالتزامية
اشارة

[1] في هذا الأمر عدة بحوث:

1- عدم وجوب الموافقة الالتزامية - على مبنى المصنف - .

2- على القول بالوجوب، إن لم يعلم بالتكليف تفصيلاً وجبت عليه الموافقة الالتزامية إجمالاً، أي: الالتزام بما هو الواقع.

3- لو فرض وجوب الموافقة الالتزامية التفصيلة، ففي صورة العلم الإجمالي يسقط هذا الوجوب؛ لعدم التمكن منه.

4- وجوب الالتزام لا يكون مانعاً عن جريان الأصول العملية في دوران الأمر بين المحذورين.

البحث الأول

[2] الضمير يرجع إلى (التكليف)، وكذا الضمير في «موافقته التزاماً» و«التسليم له» و«بحيث كان له».

[3] «الأمور الاعتقادية» هي الأمور التي ليست من أصول الدين، لكن يلزم الاعتقاد بها، كتولي أولياء الله والتبري من أعدائه، فإنهما من فروع الدين، لكن وجوبهما مرتبط بالقلب - هكذا قيل - فتأمل.

[4] عطف على قوله: (يقتضي موافقته التزاماً...).

[5] أي: على عدم الموافقة التزاماً.

ص: 258

الحق هو الثاني[1]، لشهادة الوجدان[2] الحاكم[3] في باب الإطاعة والعصيان بذلك، واستقلال العقل[4] بعدم استحقاق العبد الممتثل لأمر سيده إلاّ المثوبة دون العقوبة، ولو لم يكن متسلّماً وملتزماً به[5] ومعتقداً ومنقاداً له، وإن كان ذلك يوجب تنقيصه وانحطاط درجته لدى سيده، لعدم اتصافه بما يليق أن يتصف العبد به من الاعتقاد بأحكام مولاه والانقياد لها؛ وهذا غير استحقاق العقوبة على مخالفته لأمره أو نهيه التزاماً[6] مع موافقته عملاً، كما لا يخفى.

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: عدم لزوم الموافقة الالتزامية، واستدل المصنف لذلك بأمرين:

1- حكم العقل - بشهادة الوجدان - بعدم الوجوب.

2- حكم العقل أيضاً بعدم استحقاق العبد للعقاب لو لم يوافق التزاماً مع موافقته عملاً.

[2] الكاشف عمّا يراه العقل أو يحكم به.

[3] لأن طرق الطاعة والمعصية عقلية، وإنما الشارع يكلّف، أما كيفية إطاعة ذلك التكليف أو معصيته فهو مما يحكم به العقل.

[4] هذا الدليل الثاني، فإن العقل يحكم بعدم استحقاق العقاب على المخالفة الالتزامية، وهذا من المستقلات العقلية، أي: الأحكام الواقعة في سلسلة العلل، فإن العقل يحكم بعدم استحقاق العقاب مع قطع النظر عن حكم المولى.

[5] «به» أي: بالحكم، «له» أي: المولى، وعدم انقياده قلبي لا عملي، «ذلك» أي: عدم استسلامه والتزامه يوجب انحطاط درجته لدى المولى، ولكن ذلك غير العقاب، ولا يكشف عن الوجوب، كبعض الرذائل الأخلاقية التي ليست محرمة لكنها توجب انحطاط الدرجة.

[6] أي: مخالفة العبد لأمر المولى أو نهيه مخالفة التزامية، مع عمل العبد على طبق حكم المولى.

ص: 259

ثم لا يذهب[1] عليك: إنه على تقدير لزوم الموافقة الالتزامية لو كان المكلف متمكناً منها لوجب[2] - ولو في ما لا يجب عليه الموافقة القطعية عملاً[3]، ولا يحرم[4] المخالفة القطعية عليه كذلك[5] أيضاً، لامتناعهما[6]، كما إذا علم إجمالاً بوجوب شيء أو حرمته -، للتمكن[7] من الالتزام بما هو الثابت واقعاً والانقياد له والاعتقاد به[8] بما هو الواقع[9] والثابت وإن لم يعلم أنه الوجوب أو الحرمة[10].

-----------------------------------------------------------------

البحث الثاني

[1] شروع في البحث الثاني، وهو أنه لو قيل بوجوب الموافقة الالتزامية فإنها تجب حتى لو لم تمكن الموافقة العملية.

[2] أي: لوجبت هذه الموافقة، وتذكير الضمير لأن تأنيث الموافقة لفظي، وهي مصدر فيجوز الوجهان.

[3] لعدم إمكان الموافقة القطعية كما في دوران الأمر بين المحذورين.

[4] مراد المصنف: هو عدم إمكان المخالفة القطعية، فإنه في دوران الأمر بين المحذورين لا يمكن المخالفة القطعية، بل عليه اختيار أحد الأمرين.

[5] «عليه» أي: على المكلّف، «كذلك» أي: عملاً.

[6] أي: امتناع الموافقة القطعية والمخالفة القطعية.

[7] دليل لقوله: (تجب)، أي: على تقدير وجوب الموافقة الالتزامية فإنها تجب حتى لو لم يتمكن من الموافقة العملية؛ وذلك لتمكنه من الموافقة الالتزامية الإجمالية، فإن العجز عن واجب لا يسبب سقوط واجب آخر يتمكن منه الإنسان.

[8] الضمير في «له» و«به» يرجع إلى (ما هو الثابت واقعاً).

[9] الاعتقاد بالواقع بما هو الواقع، أي: بنفس الكيفية التي عليها واقعاً.

[10] أي: يلتزم بالواقع إجمالاً حتى وإن لم يعلم الواقع بالتفصيل.

ص: 260

وإن أبيت[1] إلاّ عن لزوم الالتزام به بخصوص عنوانه[2] لما كانت موافقته القطعية الالتزامية حينئذٍ[3] ممكنةً، ولما وجب عليه الالتزام بواحد[4] قطعاً، فإن[5] محذور الالتزام بضد التكليف عقلاً[6] ليس بأقل من محذور عدم الالتزام به بداهةً، مع ضرورة[7]

-----------------------------------------------------------------

البحث الثالث

[1] أي: إن قيل بلزوم الموافقة الالتزامية التفصيلية فإنه مع دوران الأمر بين المحذورين لا يتمكن المكلف من الالتزام بهذا الوجوب، فيسقط عنه، كما في كل مورد لا يقدر على أداء التكليف.

[2] أي: الالتزام بالواقع بخصوص عنوانه التفصيلي، وعدم كفاية الالتزام الإجمالي.

[3] أي: حين دوران الأمر بين المحذورين.

[4] أي: بواحد من الوجوب أو الحرمة، بأن يختار أحد الطرفين ثم يلتزم به اعتقاداً وعملاً.

[5] أي: في دوران الأمر بين المحذورين يدور أمر المكلف بين عدم الالتزام رأساً، وبين الالتزام بأحد الطرفين، ولا ترجيح؛ وذلك لجهتين:

الأولى: لأن الالتزام بأحد الطرفين قد يكون التزاماً بضد التكليف الواقعي، ومحذور هذا ليس بأقل من محذور عدم الالتزام.

الثانية: ما سيأتي في قوله: (مع ضرورة...).

[6] أي: حين اختياره أحد الطرفين والالتزام به لعله قد التزم بخلاف الواقع، وهو ضد التكليف.

[7] هذا الوجه الثاني، وحاصله: إن دليل وجوب الموافقة الالتزامية يدل على وجوب الالتزام بالحكم الواقعي، ولا يقتضي التخيير بين الالتزام بالواقع وبين الالتزام بضده.

ص: 261

أن التكليف - لو قيل باقتضائه[1] للالتزام - لم يكد يقتضي إلاّ الالتزام بنفسه عيناً، لا الالتزام به أو بضده تخييراً.

ومن هنا[2] قد انقدح[3]: أنه لا يكون من قبل لزوم الالتزام مانعٌ عن إجراء الأصول الحكمية أو الموضوعية[4] في أطراف العلم لو كانت جاريةً مع قطع النظر عنه[5].

-----------------------------------------------------------------

[1] ضمير «باقتضائه» و«يقتضي» و«بنفسه» و«به» و«بضده» راجع إلى (التكليف).

البحث الرابع

[2] أي: سقوط وجوب الالتزام بالتكليف في صورة دوران الأمر بين المحذورين؛ لأن الواجب إنما هو بالالتزام بالحكم عيناً، لا التخيير بينه وبين ضده.

[3] حاصله: إنه مع عدم العلم بالتكليف تفصيلاً، فهل تجري الأصول العملية لرفع وجوب الالتزام بالتكليف أم لا تجري؟

فعلى القول بسقوط الالتزام - مع دوران الأمر بين المحذورين - فإنه لا مانع من جريانها، إذا لم يكن في جريانها محذور آخر، فإن وجوب الالتزام قد سقط، فلا يكون مانعاً.

وإن قلنا بوجوب الالتزام مطلقاً فإن الأصول العملية لا ترفع هذا الوجوب؛ وذلك للزوم الدور - كما سيأتي - .

[4] أي: لا فرق في سقوط وجوب الالتزام لعدم التمكن من الامتثال بين الشبهة الموضوعية أو الحكمية.

ومثال الموضوعية: ما لو تردَّد بين أنه حلف على الفعل أو على الترك.

ومثال الحكمية: ما لو تردَّد بين وجوب وحرمة صلاة الظهر يوم الجمعة.

[5] أي: عن العلم الإجمالي، وحاصل كلام المصنف: إن وجوب الالتزام ليس بمانع عن جريان الأصول. نعم، يمكن أن يكون هناك مانع آخر كالعلم الإجمالي.

ص: 262

كما لا يدفع بها[1] محذور عدم الالتزام به[2]، بل الالتزام بخلافه لو قيل بالمحذور فيه حينئذٍ أيضاً، إلاّ على وجه دائر، لأن جريانها[3] موقوف على عدم محذور في عدم الالتزام اللازم في جريانها، وهو[4] موقوف على جريانها بحسب الفرض[5].

اللّهمّ إلاّ أن يقال[6]: إن استقلال العقل بالمحذور فيه[7] إنما يكون في ما إذا لم

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: لو قلنا: إنّ الالتزام واجب حتى في صورة دوران الأمر بين المحذورين، فهل تجري الأصول العملية لرفع هذا الوجوب أم لا تجري؟

الصحيح أنها لا تجري؛ لأن جريانها مستلزم للدور؛ وذلك لأن الأصول العملية تجري إذا لم يكن محذور في جريانها، ومع وجود محذور فلا جريان، فلو كان جريانها سبباً لدفع المحذور كان دوراً صريحاً.

وبعبارة أخرى: مع دوران الأمر بين الوجوب والحرمة - مثلاً - فان المحذور هو احتمال عدم الالتزام بالتكليف، بل الالتزام بضد التكليف، ومع وجود هذا المحذور لا تجري الأصول أصلاً؛ لأن جريانها لغو.

فلو قلنا: إنّا ندفع هذا المحذور بواسطة إجراء الأصول؛ إذ مع جريان الأصول لا محذور في احتمال الالتزام بضد التكليف، فهذا دور واضح.

[2] أي: في عدم الالتزام حين كان التكليف مردداً.

[3] أي: لو جرت الأصول كان لازمها هو سقوط وجوب الالتزام.

[4] أي: عدم المحذور.

[5] أي: الفرض بأن الأصول إنما أجريت لكي نرفع بها وجوب الالتزام. وبيان الدور هو: إن جريان الأصول يتوقف على عدم المحذور، وعدم المحذور يتوقف على جريان الأصول.

[6] حاصله: إنه لا دور؛ لأن المحذور يرفع بحكم العقل، لا بجريان الأصل.

جريان الأصل عدم المحذور حكم العقل

[7] أي: في عدم الالتزام.

ص: 263

يكن هناك ترخيص[1] في الإقدام والاقتحام في الأطراف، ومعه لا محذور فيه[2]، بل ولا في الالتزام بحكم آخر. إلاّ أن الشأن[3] حينئذٍ[4] في جواز جريان الأصول[5] في أطراف العلم الإجمالي مع عدم ترتب أثر عملي عليها[6]، مع

-----------------------------------------------------------------

[1] وسيأتي أن العلم الإجمالي مقتضٍ لوجوب الموافقة القطعية العملية وعدم المخالفة القطعية، فيكون ترخيص الشارع اقتحام أحد الأطراف مانعاً عن هذا المقتضي، فإذا جاز ارتكاب أحد الأطراف فلا محذور في عدم الالتزام بالتكليف أو الالتزام بضده.

[2] أي: مع الترخيص لا محذور في عدم الالتزام.

[3] أي: لزوم الالتزام ليس بمانع عن جريان الأصول، لكن هناك مانع أهم وهو عدم جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي، لجهتين:

الأولى: عدم الفائدة في إجراء الأصول.

الثاني: تناقض صدر الدليل مع ذيله لو جرت الأصول.

[4] أي: حين تردد الواقع بين محذورين.

[5] علق المصنف هنا في الهامش فقال: (والتحقيق جريانها لعدم اعتبار شيء في ذلك عدا قابلية المورد للحكم إثباتاً ونفياً، فالأصل المحكي يثبت له الحكم تارة كأصالة الصحة، وينفيه أخرى كاستصحاب الحرمة والوجوب في ما دار بينهما، فتأمل جيداً)(1)، انتهى.

[6] لأن الأثر إما عملي أو قلبي:

أما عملاً: فإن الإنسان لا محالة إما فاعل أو تارك، ولا يزيده جريان الأصل شيئاً، بخلاف الشبهة البدوية، فإن جريان أصالة البراءة فيها يفيد عدم وجوب الاحتياط.

وأما قلباً: فإن الالتزام ليس بواجب، أو ليس بممكن - لدوران الأمر بين المحذورين - فلا معنى لجريان الأصل لنفي وجوبه.

ص: 264


1- حقائق الأصول 2: 41.

أنها[1] أحكام عملية كسائر الأحكام الفرعية؛ مضافاً[2] إلى عدم شمول أدلتها لأطرافه، للزوم التناقض في مدلولها على تقدير شمولها[3]، كما ادعاه شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه(1)،

وإن كان محل تأمل ونظر[4]، فتدبر جيداً.

الأمر السادس: لا تفاوت في نظر العقل أصلاً في ما يترتب على القطع من الآثار[5]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: مع أن الأصول هي أحكام في مقام العمل، فإذا لم يكن لها أثر عملي فلا معنى لجعلها، بل هو لغو.

[2] إشارة إلى الجهة الثانية في عدم جريان الأصول هنا، وحاصلها: إن دليل الاستصحاب مثلاً هو: (لا تنقض اليقين بالشك، بل انقضه بيقين آخر) فلو جرى هذا الدليل في أطراف العلم الإجمالي كان ذلك سبباً لتناقض الدليل؛ لأن أطراف العلم الإجمالي أفراد مشكوكة، فيشملها قوله: (لا تنقض اليقين بالشك)، ولكن هناك يقين إجمالي في البين فيشملها: (بل انقضه بيقين آخر)، وهذا الشمول موجب لتناقض الصدر والذيل، وحيث لا يعقل تناقض كلام الشارع فلابد من القول بعدم جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي.

[3] أي: في مدلول الأدلة على تقدير شمول تلك الأدلة.

[4] للنقض بالشبهة غير المحصورة؛ ولأن هذا الذيل لا يوجد في كل أدلة الأصول، بل أكثرها خالية عنه، فلا تناقض في تلك الأدلة، فتأمل.

الأمر السادس: لا استثناء في حجية القطع
1- القطع الطريقي

[5] كالتنجز، وصحة العقوبة على المخالفة - سواء كانت مخالفة للواقع أم كانت تجرياً - ونحوها.

ص: 265


1- فرائد الأصول 3: 410.

عقلاً بين أن يكون حاصلاً بنحوٍ متعارف[1] ومن سبب ينبغي حصوله منه، أو غير متعارف[2] لا ينبغي حصوله منه - كما هو الحال غالباً في القطاع[3] -، ضرورة[4] أن العقل[5] يرى تنجز[6] التكليف بالقطع الحاصل مما لا ينبغي حصوله[7]، وصحة[8] مؤاخذة قاطعه على مخالفته[9]،

-----------------------------------------------------------------

[1] مما يحصل لعامة الناس القطع من ذلك السبب غالباً، وقوله: (ومن سبب ينبغي...) عطف تفسيري.

[2] أي: أو حاصلاً بنحو غير متعارف.

[3] فإن «القطاع» صيغة مبالغة، أي: كثير القطع، وهو الذي يحصل له القطع كثيراً من الأسباب غير المتعارفة.

[4] استدلال لعدم الفرق بين القطع الحاصل بنحو متعارف أو الحاصل بنحو غير متعارف.

[5] حيث إن طرق الطاعة والمعصية عقلية - كما مرّ - فلذا استدل بحكم العقل بعدم الفرق. والمصنف قد استدل بأدلة خمسة، يمكن إرجاعها إلى ثلاثة:

1- إن العقل يرى تنجز التكليف بالقطع مطلقاً.

2- صحة عقوبة مخالف القطع غير المتعارف مطلقاً، وعدم صحة المؤاخذة على اتباع القطاع لقطعه - لو كان مخالفاً للواقع - .

3- عدم صحة اعتذار القطاع بأن قطعه كان من أسباب غير متعارفة فلذا خالفه، كما لا يصح الاحتجاج على القطاع بأن قطعه لم يكن متعارفاً.

[6] هذا هو الدليل الأول.

[7] أي: من سبب لا ينبغي حصول القطع منه.

[8] هذا الدليل الثاني.

[9] أي: مخالفة القاطع غير المتعارف، وقوله: «على مخالفته» أي: على مخالفة ذلك القطع.

ص: 266

وعدم[1] صحة الاعتذار عنها بأنه حصل كذلك[2]، وعدم[3] صحة المؤاخذة مع القطع بخلافه[4]، وعدم[5] حسن الاحتجاج عليه بذلك[6] ولو مع التفاته إلى كيفية حصوله.

نعم[7]، ربما يتفاوت الحال في القطع المأخوذ في الموضوع شرعاً، والمتبع في عمومه وخصوصه[8]

-----------------------------------------------------------------

[1] هذا الدليل الثالث.

[2] أي: عدم صحة الاعتذار عن المخالفة بأن القطع حصل من سبب غير متعارف.

[3] هذا تتمة للدليل الثاني، ويمكن جعله دليلاً رابعاً.

[4] أي: بخلاف الواقع، فلو قطع وكان قطعه مخالفاً للواقع وعمل بقطعه، فإن العقل يراه معذوراً.

[5] هذا تتمة للدليل الثالث، ويمكن جعله دليلاً خامساً.

[6] أي: على القطاع بمخالفة قطعه للواقع.

2- القطع الموضوعي

[7] أي: في القطع الموضوعي يكون الموضوع حسب ما جعله الشارع، فلذا يمكن أن يجعل القطع المتعارف موضوعاً دون قطع القطاع كما يمكنه العكس، مثلاً يقول: (لو قطعت بحياة ولدك من سبب متعارف فتجب الصدقة عليك)، فإنه حينئذٍ لا تجب الصدقة لو كان السبب غير متعارف، كما يدعى نظير ذلك في الأحكام الشرعية، فقد قيل بأنّ القطع فيها أخذ موضوعياً، بأن كان موضوعها هو القطع الذي سببه الأخذ من أهل بيت العصمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

[8] أي: في عموم وخصوص هذا القطع الموضوعي، فكيفية أخذ القطع في الموضوع تابعة لدليل ذلك الحكم الشرعي.

ص: 267

دلالة دليله[1] في كل مورد؛ فربما يدل على اختصاصه بقسم في مورد[2]، وعدم اختصاصه به[3] في آخر، على اختلاف الأدلة واختلاف المقامات، بحسب مناسبات[4] الأحكام والموضوعات وغيرها[5] من الأمارات.

وبالجملة: القطع في ما كان موضوعاً عقلاً[6] لا يكاد يتفاوت من حيث القاطع، ولا من حيث المورد[7]، ولا من حيث السبب، لا عقلاً وهو واضح[8]، ولا شرعاً، لما عرفت من أنه لا تناله يد الجعل نفياً ولا إثباتاً وإن نسب إلى بعض

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: دلالة دليل الحكم الشرعي الذي أخذ القطع موضوعاً فيه.

[2] أي: اختصاص الحكم بقسم من القاطعين، كما يدعى بأن القطع بالنجاسة أخذ موضوعياً بأن كان القطع من الإنسان المتعارف لا الوسواسي.

[3] أي: عدم اختصاص الحكم بذلك القسم في مورد آخر.

[4] أي: المناسبات المختلفة كالمصالح والمفاسد، فإنها توجب اختلاف كيفية القطع الموضوعي، مثلاً: الشارع يريد إزالة الوسوسة فيجعل القطع بالنجاسة من السبب المتعارف موضوعاً لوجوب التطهير.

[5] أي: غير هذه المناسبات، وقوله: «من الأمارات» بيان لقوله: «غيرها» مثلاً: القرائن الخارجية واللفظية.

[6] أي: موضوعاً لحكم العقل بالتنجز وصحة العقوبة وعدمها، ونحوها من الآثار.

وليلاحظ أن المراد هنا بيان حجية القطع الطريقي مطلقاً. فلا يختلط عليك الأمر في قوله: «موضوعاً عقلاً»، فإن المراد أن القطع الطريقي له أحكام عقلية، فهو موضوع لتلك الأحكام.

[7] أي: (المقطوع به).

[8] لما ذكرناه من الأدلة في أول هذا الأمر السادس.

ص: 268

الأخباريين(1):

«أنه لا اعتبار بما إذا كان بمقدمات عقلية». إلاّ أن مراجعة كلماتهم لا تساعد على هذه النسبة، بل تشهد بكذبها[1]، وأنها[2] إنما تكون إما في مقام منع الملازمة[3] بين حكم العقل بوجوب شيء وحكم الشرع بوجوبه، كما ينادي به بأعلى صوته ما حكي عن السيد الصدر(2)

في باب الملازمة، فراجع؛ وإما في مقام عدم جواز الاعتماد على المقدمات العقلية، لأنها لا تفيد إلاّ الظن[4]، كما هو صريح الشيخ المحدث الأمين الأسترآبادي حيث قال - في جملة ما استدل به في فوائده على انحصار مدرك ما ليس من ضروريات الدين في السماع عن الصادقين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ -: «الرابع: إن كل مسلك غير ذلك المسلك - يعني التمسك بكلامهم عليهم الصلاة والسلام - إنما يعتبر[5] من حيث إفادته الظن بحكم الله تعالى، وقد أثبتنا سابقاً أنه لا اعتماد على الظن المتعلق بنفس أحكامه[6] تعالى أو بنفيها»(3).

-----------------------------------------------------------------

ما نسب إلى بعض الأخباريين

[1] أي: عدم صحتها، فإن الكذب هنا بمعنى غير المطابق للواقع.

[2] أي: إن كلماتهم.

[3] في رد من قال: (كلما حكم به العقل حكم به الشرع).

[4] فهو لا ينكر حجية القطع الحاصل من المقدمات العقلية، بل يدعى أن المقدمات العقلية لا توجب القطع بحكم الشارع، بل الظن، والظن ليس بحجة.

[5] أي: وجه القول باعتباره هو إفادته الظن، وحيث أثبتنا أن الظن ليس بحجة، فلا دليل على اعتباره أصلاً.

[6] أما إذا لم يكن في نفس الأحكام، كما لو كان في مقدماتها التصورية أو التصديقية، فيمكن القول بحجية الظن فيها.

ص: 269


1- الفوائد المدنية: 255؛ الحدائق الناضرة 1: 132.
2- فرائد الأصول 1: 59 - 60.
3- الفوائد المدنية: 255.

وقال في جملتها[1] أيضاً - بعد ذكر ما تفطن بزعمه من الدقيقة - ما هذا لفظه: «وإذا عرفت ما مهدناه من الدقيقة الشريفة فنقول: إن تمسكنا بكلامهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ فقد عصمنا من الخطأ[2]، وإن تمسكنا بغيره لم نعصم منه؛ ومن المعلوم أن العصمة عن الخطأ أمر مطلوب مرغوب فيه[3] شرعاً وعقلاً، ألا ترى أن الإمامية استدلوا على وجوب عصمة الإمام بأنه لو لا العصمة للزم أمره تعالى عباده باتّباع الخطأ[4]، وذلك الأمر محال، لأنه قبيح[5]؟ وأنت إذا تأملت في هذا الدليل علمت أن مقتضاه أنه لا يجوز الاعتماد على الدليل الظني في أحكامه[6] تعالى»(1).

انتهى موضع الحاجة من كلامه.

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: في جملة ما استدل به على انحصار المدرك في السماع عن الصادقين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

[2] لأن كلامهم مطابق للواقع دائماً لعصمتهم.

[3] أي: لازم واجب.

[4] إذ يجب اتباع الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ والنبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، فلو كانوا غير معصومين كان وجوب اتباعهم أمر باتباع الخطأ ولو أحياناً، وهو قبيح محال.

أما مع عصمتهم فإن لزوم اتباعهم هو أمر باتباع الحق الصحيح، وهو حسن عقلاً.

[5] أي: استحالته لأجل قبحه مع القدرة عليه، كالظلم فإنه تعالى قادر عليه، لكنه يستحيل عليه لقبحه، فالاستحالة ليست لأجل التناقض حتى يكون محالاً ذاتاً.

[6] لأن كلامه أن اتباعهم يوجب العصمة من الخطأ، وهو بمعنى القطع بعدم الخطأ، والتمسك بغيرهم - ومنه المقدمات العقلية - لا يوجب العصمة من الخطأ، بل الظن بعدم الخطأ!!

ص: 270


1- الفوائد المدنية: 259.

وما مهده من الدقيقة هو الذي نقله شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - في الرسالة(1).

وقال في فهرست فصولها أيضاً: «الأول في إبطال جواز التمسك بالاستنباطات الظنية في نفس أحكامه تعالى شأنه، ووجوب التوقف عند فقد القطع بحكم الله، أو بحكم ورد عنهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ»(2)،

انتهى.

وأنت ترى أن محل كلامه ومورد نقضه وإبرامه هو العقلي الغير(3)

المفيد للقطع، وإنما همّه إثبات عدم جواز اتباع غير النقل في ما لا قطع.

وكيف كان فلزوم اتباع القطع مطلقاً[1]، وصحة المؤاخذة على مخالفته عند إصابته، وكذا ترتب سائر آثاره عليه[2] عقلاً، مما لا يكاد يخفى على عاقل، فضلاً عن فاضل. فلابد في ما يوهم خلاف ذلك في الشريعة[3] من المنع[4] عن حصول العلم التفصيلي بالحكم الفعلي لأجل منع بعض مقدماته[5] الموجبة له، ولو

-----------------------------------------------------------------

[1] وهو معنى التنجز، أي: لزوم اتباع القطع الطريقي مطلقاً - من أيِّ سبب كان حتى من القطاع - .

[2] سائر آثار القطع على القطع، مثلاً: عدم صحة المؤاخذة عند مخالفة القطع للواقع.

[3] مثل الروايات الدالة على عدم جواز العمل بالرأي، ووجوب الرجوع في جميع الأحكام إلى المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، وأنه من الشر القول بشيء من غير سماع من المعصوم ونحوها.

[4] أي: نقول إن الروايات لا تمنع من العمل بالقطع، بل تدل على عدم حصول القطع بهذه الأمور.

[5] أي: مقدمات العلم التفصيلي، وكذا ضمير «الموجبة له».

ص: 271


1- فرائد الأصول 1: 52.
2- الفوائد المدنية: 32.
3- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير المفيد».

إجمالاً[1]، فتدبر جيداً[2].

الأمر السابع[3]: إنه قد عرفت كون القطع التفصيلي بالتكليف الفعلي[4] علة تامة لتنجزه، لا تكاد تناله يد الجعل إثباتاً أو نفياً، فهل القطع الإجمالي كذلك[5]؟ فيه إشكال.

ربما يقال[6]:

-----------------------------------------------------------------

[1] «ولو إجمالاً» يتعلق بقوله: (منع بعض مقدماته) أي: بعض المقدمات الموجبة للعلم لا تتحقق، ولا نحتاج إلى معرفة تلك المقدمات، بل يكفى أن نعرف بأن بعض المقدمات - إجمالاً - غير حاصلة.

[2] ويمكن حمل تلك الروايات على أن القطع موضوعي. أو أن الولاية شرط في صحة الأعمال ونحوها من المحامل.

الأمر السابع: العلم الإجمالي
اشارة

[3] يبحث فيه عن العلم الإجمالي في مقامين، الأول: في تنجز التكليف بالعلم الإجمالي. الثاني: في كفاية الامتثال الإجمالي.

[4] لا الاقتضائي أو الإنشائي - كما مرّ - .

المقام الأول تنجز التكليف بالعلم الإجمالي
اشارة

[5] أي: علة للتنجز أم لا، وفيه ثلاثة أقوال:

الأول: إن العلم الإجمالي مقتضٍ للتنجز مطلقاً.

الثاني: إنه علة للتنجز مطلقاً.

الثالث: التفصيل بين وجوب الموافقة القطعية فهو مقتضٍ، وحرمة المخالفة القطعية فهو علة تامة.

[6] مختار المصنف هو القول الأول، وهو أن العلم الإجمالي مقتضٍ لحرمة

ص: 272

إن التكليف حيث لم ينكشف به[1] تمام الانكشاف، وكانت مرتبة الحكم الظاهري معه محفوظة[2]، جاز الإذن من الشارع بمخالفته احتمالاً[3]، بل قطعاً[4].

وليس محذور[5] مناقضته مع المقطوع إجمالاً إلاّ محذور[6] مناقضة الحكم الظاهري

-----------------------------------------------------------------

المخالفة القطعية، ولوجوب الموافقة القطعية، فإذا وجد مانع عن تأثير هذا المقتضي فلا بأس بالمخالفة القطعية، وبعدم الموافقة القطعية.

[1] بالعلم الإجمالي، وذلك لتردّد متعلق العلم.

[2] مرتبة الحكم الظاهري: هي الجهل بالتكليف الواقعي، فإن العلم الإجمالي مشوب بالجهل، ومع وجود الجهل يمكن جعل حكم ظاهري، و«معه» أي: مع العلم الإجمالي.

[3] مثل أن يقول بجواز ارتكاب أحد الإناءين المشتبهين بالنجس، مع احتمال أن يكون هو النجس.

[4] مثل: إباحة ارتكاب كل الأطراف المشتبهة، مما يقطع بوجود النجس فيها - مثلاً - .

إشكال التناقض وجوابه

[5] إشكال على تجويز المخالفة الاحتمالية أو القطعية، وحاصله: لزوم التناقض في حكم الشارع، مثلاً يقول: (اجتنب عن النجس)، ثم يقول: (يجوز لك ارتكاب النجس بين هذين الإناءين) مع عدم رفع يده عن وجوب الاجتناب.

[6] هذا جواب نقضي، وحاصله: تجويز اقتحام الشبهات غير المحصورة، مع احتمال اختيار المكلف لما هو الحرام واقعاً، وكذا في الشبهات البدوية أجاز الشارع الارتكاب مع إمكان مصادفتها للواقع المحرّم، فالشارع طلب الاجتناب عن النجس، ولكن في الوقت نفسه أباح التعامل بالطهارة مع الأشياء المشكوكة، مع احتمال كونها نجسة واقعاً.

ص: 273

مع الواقعي في الشبهة الغير المحصورة(1)،

بل الشبهة البدوية.

لا يقال[1]: إن التكليف فيهما لا يكون بفعلي.

فإنه يقال[2]: كيف المقال في موارد ثبوته في أطراف غير محصورة، أو في الشبهات البدوية مع القطع به[3]، أو احتماله[4]، أو بدون ذلك[5]. ضرورة[6]

-----------------------------------------------------------------

والجواب في الشبهة غير المحصورة والبدوية هو الجواب في الشبهة المحصورة، لا فرق بينها أصلاً.

[1] من هنا إلى قوله: (أو بدون ذلك) لا يوجد في بعض النسخ.

وحاصل الإشكال هو: الفرق بين الشبهات المحصورة من جهة، وبين الشبهات البدوية وغير المحصورة من جهة أخرى؛ وذلك لأن التكليف فيهما ليس بفعلي فلا تناقض، وأما المحصورة فالتكليف فيها فعلي فحصل التناقض.

[2] حاصله: إنه في الشبهة غير المحصورة وكذا في الشبهة البدوية قد يكون الحكم فعلياً، فماذا تقولون في دفع التناقض في هذه الموارد؟

[3] أي: بالتكليف، كما في الشبهة غير المحصورة، فلو علم بنجاسة إناء واحد من ألف إناء، فإن الحكم باجتناب النجس فعلي، ومع ذلك أجاز الشارع ارتكاب بعض الأطراف؛ لأنها شبهة غير محصورة.

[4] كما في الشبهة البدوية، حيث يحتمل وجود التكليف، وكما يستحيل التناقض كذلك يستحيل احتماله - كما مرّ سابقاً - .

[5] أي: بدون الاحتمال، كما لو كان غافلاً.

[6] أي: إن كانت مناقضة في حكم الشارع في الشبهة المحصورة بين حرمة الشيء واقعاً، وبين جواز الاقتحام في بعض الأطراف أو كلها، كذلك هناك مناقضة في حكمه في الشبهة غير المحصورة، فلا فرق بين الاشتباه في إناءين أو في ألف إناء، وكذلك في الشبهة البدوية مع احتمال مصادفتها للحرام فإن تجويز

ص: 274


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير المحصورة».

عدم التفاوت في المناقضة بينهما[1] بذلك[2] أصلاً؛ فما به التفصي عن المحذور فيهما[3] كان به التفصي عنه في القطع به[4] في الأطراف المحصورة أيضاً، كما لا يخفى. وقد أشرنا إليه سابقاً ويأتي إن شاء الله مفصلاً[5].

نعم[6]، كان العلم الإجمالي كالتفصيلي في مجرد الاقتضاء، لا في العلية

-----------------------------------------------------------------

الاقتحام مناقضة، والجواب هناك يكون الجواب هنا أيضاً.

[1] أي: بين الشبهة المحصورة من جانب، وبين الشبهة غير المحصورة والبدوية من جانب آخر.

[2] أي: بوجود العلم في المحصورة، وعدم وجوده في غير المحصورة والبدوية، ووجه عدم التفاوت هو وجود العلم في كل هذه الشبهات.

[3] أي: فالجواب الذي يكون به دفع محذور المناقضة في البدوية وغير المحصورة.

[4] أي: كان بذلك الجواب التفصي عن المحذور في المحصورة.

[5] أشار إليه في ذيل الأمر الرابع، وسيأتي مفصلاً في أول البحث عن حجية الأمارات.

دليل أن العلم الإجمالي مقتضٍ للتنجز

[6] لما اختار المصنف أن العلم الإجمالي ليس علة تامة وأنه مقتضٍ، أراد الاستدلال عليه بأمرين، أحدهما لإثبات أنه مقتضٍ، والثاني لإثبات أنه ليس بعلة تامة.

الأول: حكم العقل بتنجز التكليف لو لم يكن مانع، وهذا دليل على أنه مقتضٍ؛ لأنه لو لم يكن مقتضياً للتنجز لما صح الحكم بالتنجز بمجرد عدم وجود المانع.

الثاني: التنجز في بعض الصور دون بعض، وهذا دليل على عدم كونه علة تامة؛ لأن العلة التامة تؤثر في كل الموارد بلا استثناء.

ص: 275

التامة[1]، فيوجب[2] تنجز التكليف أيضاً لو لم يمنع عنه مانع عقلاً[3] كما كان في أطراف كثيرة غير محصورة، أو شرعاً[4] كما في ما أذن الشارع في الاقتحام فيها[5] كما هو ظاهر «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه»(1).

وبالجملة[6]: قضية صحة المؤاخذة[7] على مخالفته مع القطع به بين أطراف

-----------------------------------------------------------------

[1] المقتضي هو الذي يؤثر أثره لو لم يكن مانع، كإحراق النار للورق إن لم يكن رطباً - مثلاً - فالنار مقتضٍ للإحراق لا علة تامة.

والعلة التامة هي تؤثر أثرها دائماً، ويترتب عليها المعلول قهراً، مثلاً: ترتب الحرارة على النار، فبمجرد وجود النار توجه الحرارة أيضاً.

[2] أي: نتيجة كونه مقتضياً أن يوجب العلم الإجمالي تنجز التكليف بشرط عدم وجود مانع، مثل جميع المقتضيات.

[3] كعدم القدرة على الالتزام بالتكليف، فمع العلم بوجود مياه نجسة لا يتمكن المكلف الاجتناب عن كل المياه؛ لتوقف حياته عليها.

[4] أي: مانع شرعي؛ وذلك بوجود دليل شرعي رخص فيه الشارع الاقتحام.

[5] أي: في الشبهة غير المحصورة.

والحاصل: إن في الشبهة غير المحصورة يوجد مانع عن تأثير المقتضي للتنجز، وذلك المانع عقلي وشرعي أيضاً.

[6] هنا إشارة إلى الأمر الثاني - وهو أن العلم الإجمالي ليس بعلة تامة - .

وحاصله: إن وجود الأثر في بعض الموارد دون بعض دليل على أن العلم الإجمالي مقتضٍ، إذ لو كان علة تامة كان الأثر دائمياً، والأثر هو صحة المؤاخذة.

[7] هذه الصحة بحكم العقل، «مخالفته» أي: مخالفة التكليف مع القطع بذلك التكليف.

ص: 276


1- وسائل الشيعة 17: 87، مع اختلاف يسير.

محصورة، وعدم صحتها[1] مع عدم حصرها أو مع الإذن في الاقتحام فيها، هو كون القطع الإجمالي مقتضياً للتنجز، لا علة تامة[2].

وأما احتمال[3]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: عدم صحة المؤاخذة عقلاً، وقوله: «مع الإذن» أي: عدم صحة المؤاخذة مع الإذن شرعاً.

[2] ثم إن المصنف في الهامش قد تراجع عن كون العلم الإجمالي مقتضياً، وقال: إنه علة تامة، فقد علق على قوله: (لا في العلية التامة): (لكنه لا يخفى أن التفصي عن المناقضة - على ما يأتي - لما كان بعدم المنافاة بين الحكم الواقعي ما لم يصر فعلياً، والحكم الظاهري الفعلي، كان الحكم الواقعي في موارد الأصول والأمارات المؤدية إلى خلافه - لا محالة - غير فعلي، فحينئذٍ فلا يجوّز العقل مع القطع بالحكم الفعلي الإذن في مخالفته، بل يستقل مع قطعه ببعث المولى أو زجره - ولو إجمالاً - بلزوم موافقته وإطاعته. نعم، لو عرض بذلك عسر موجب لارتفاع فعليته شرعاً أو عقلاً، كما إذا كان مخلاً بالنظام، فلا تنجز حينئذٍ، لكنه لأجل عروض الخلل في المعلوم، لا لقصور العلم عن ذلك، كما كان الأمر كذلك في ما إذا أذن الشارع في الاقتحام، فإنه أيضاً موجب للخلل في المعلوم، لا المنع عن تأثير العلم شرعاً، وقد انقدح بذلك أنه لا مانع عن تأثيره شرعاً أيضاً، فتأمل جيداً)(1)، انتهى.

وحاصله: إن العلم - التفصيلي أو الإجمالي - علة تامة للتنجز، لكن إذا تغيَّر المعلوم فكان التكليف المعلوم إنشائياً لا فعلياً فإنه لا تنجز، لا لأجل عدم تأثير العلم، بل لأجل أن المعلوم كان التكليف الإنشائي، وهذا التكليف لا تنجز له، فتأمل.

دليل التفصيل بين المخالفة والموافقة

[3] هذا هو القول الثالث، وحاصله: إن العلم الإجمالي علة لحرمة المخالفة

ص: 277


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 126.

أنه[1] بنحو الاقتضاء بالنسبة إلى لزوم الموافقة القطعية، وبنحو العلية بالنسبة إلى الموافقة الاحتمالية[2] وترك المخالفة القطعية، فضعيف جداً[3]، ضرورة أن احتمال ثبوت المتناقضين[4] كالقطع بثبوتهما[5] في الاستحالة[6]، فلا يكون عدم القطع بذلك معها[7] موجباً لجواز الإذن في الاقتحام، بل لو صح الإذن في المخالفة

-----------------------------------------------------------------

القطعية، فلا يجوز ارتكاب الإناءين المشتبهين معاً، لكنه مقتضٍ لوجوب الموافقة القطعية، فلا يجب الاجتناب عن كلا الإناءين إلاّ بنحو المقتضي.

ودليل هذا القول أن المخالفة القطعية توجب التناقض في حكم المولى، وحيث يستحيل دائماً تناقض حكمه فالتكليف يكون علة تامة لعدم جواز المخالفة القطعية.

لكن تجويز ارتكاب بعض الأطراف لا يلزم منه تناقض في حكمه، فلذا يكون التكليف مقتضياً لوجوب الموافقة القطعية، لا علة تامة.

[1] أي: إن التكليف.

[2] فلا يجوز في المثال الإذن في اقتحام كل الأطراف مما يعلم بعدم موافقته لأمر الشارع أصلاً.

[3] وذلك لأن محذور المناقضة إن كان صحيحاً فلا فرق بين العلم بتناقض المولى، وبين احتمال تناقضه، فإن التناقض محال حتى لو كان احتمالاً. فإن من يرتكب أحد الأطراف فنحن نحتمل أنه ارتكب الحرام الواقعي، وحينئذٍ فيكون المولى متناقضاً.

[4] اللازم من المخالفة الاحتمالية.

[5] بثبوت المتناقضين؛ وذلك لازم المخالفة القطعية.

[6] إذ كما نعلم أن المولى لا يكلّف بالمتناقضين كذلك لا نحتمل تكليفه بالمتناقضين.

[7] أي: عدم القطع بالتناقض مع المخالفة الاحتمالية.

ص: 278

الاحتمالية، صح في القطعية أيضاً[1]، فافهم[2].

ولا يخفى[3]:

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: لو تم دفع المناقضة في المخالفة الاحتمالية كذلك يتم دفعها في المخالفة القطعية. والحاصل: إن محذور المناقضة إن صح فاللازم القول بالعلية التامة مطلقاً، وإن لم يصح فاللازم القول بالاقتضاء مطلقاً، فلا وجه للتفصيل.

[2] لعله إشارة إلى ما ذكره المصنف في الهامش - وقد نقلناه آنفاً - .

وفي الوصول: (ويحتمل أن يكون إشارة إلى أن الإذن في المخالفة القطعية لا يقع مورداً لتصديق العبد لما يرى من المناقضة، بخلاف الإذن في المخالفة الاحتمالية؛ لأن احتمال المكلف كون الواقع في الطرف الآخر موجب لتصديقه، فالفارق بين المقامين إمكان تصديق المكلف جواز المخالفة الاحتمالية، وعدم إمكان تصديقه جواز المخالفة القطعية)(1).

بحث فنيّ

[3] إن الشيخ الأعظم قسّم البحث في العلم الإجمالي إلى:

1- حرمة المخالفة القطعية، وجعل البحث فيها في مباحث القطع.

2- وجوب الموافقة القطعية، وجعلها في مباحث البراءة والاشتغال.

لكن المصنف لم يرتض هذا التقسيم، فقال: إن البحث هنا في القطع عن كليهما، فيقال: هل العلم الإجمالي علة تامة للتنجز فتجب الموافقة القطعية، أو أنه بنحو الاقتضاء فتحرم المخالفة القطعية؛ لأن كلاهما مرتبط بالقطع لا بالشك.

وبعد إثبات أنه بنحو العلية لا وجه للفحص عن المانع لا هنا ولا في باب البراءة والاشتغال. ولكن لو أثبتنا أنه بنحو الاقتضاء فيلزم البحث هناك عن وجود المانع أو عدم وجوده؛ وذلك للشك في وجوده، فكان البحث مرتبطاً بالشك الذي هو موضوع البراءة والاشتغال.

ص: 279


1- الوصول إلى كفاية الأصول 3: 364.

أن المناسب للمقام[1] هو البحث عن ذلك[2]، كما أن المناسب في باب البراءة والاشتغال[3] - بعد الفراغ هاهنا عن أن تأثيره[4] في التنجز بنحو الاقتضاء لا العلية - هو البحث عن ثبوت المانع شرعاً أو عقلاً، وعدم ثبوته؛ كما لا مجال بعد البناء على أنه بنحو العلية للبحث عنه هناك أصلاً[5]، كما لا يخفى.

هذا بالنسبة إلى إثبات التكليف وتنجزه به[6].

وأما سقوطه به[7]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: مقام البحث عن القطع وآثاره.

[2] أي: عن تنجز العلم الإجمالي - سواء بنحو الاقتضاء أم بنحو العلية التامة.

[3] وجه المناسبة، هو أن موضوعهما الشك، والمانع مشكوك في وجوده، فقد تجري البراءة، وقد يكون مجرى الاحتياط - كما سيأتي مفصلاً إن شاء الله تعالى - .

[4] أي: تأثير العلم الإجمالي.

[5] أي: للبحث عن المانع في باب البراءة والاشتغال؛ إذ معنى العليّة هو وجود المقتضي وعدم وجود المانع، فبعد ثبوت أنها علّة نقطع بعدم وجود المانع فلا معنى للبحث عن المانع أصلاً.

[6] أي: تنجز التكليف بالعلم الإجمالي.

المقام الثاني سقوط التكليف بالامتثال الإجمالي

[7] أي: سقوط التكليف بالعلم الإجمالي، وهنا بحثان:

الأول: مع إمكان تحصيل القطع تفصيلاً.

الثاني: مع عدم إمكان القطع، وإمكان الظن التفصيلي.

أما مع إمكان تحصيل القطع التفصيلي فقد يكون:

1- في التوصليات.

ص: 280

بأن يوافقه إجمالاً: فلا إشكال فيه في التوصليات[1].

وأما في العباديات: فكذلك[2] في ما لا يحتاج إلى التكرار، كما إذا تردد أمر عبادة بين الأقل والأكثر[3]، لعدم الإخلال[4] بشيء مما يعتبر أو يحتمل اعتباره في حصول

-----------------------------------------------------------------

2- أو في التعبديات من غير حاجة إلى التكرار، كما لو شك في جزئية شيء.

3- أو في التعبديات مع الاحتياج إلى التكرار.

البحث الأول: مع إمكان القطع التفصيلي
1- في التوصليات

[1] وذلك لأن الغرض في التوصليات يحصل بتحقق الفعل بأية كيفية كانت، حتى من غير قصد، مثلاً: إذا أريد تطهير ثوب للصلاة واشتبه الماء المطلق بين مائعين، فلو غسله بهما فإنه يتيقن بطهارته، وبه يتحقق غرض المولى.

كما أن الغرض في التوصليات يحصل بتحقق الفعل خارجاً ولو بالحرام، كما لو غسل الثوب النجس بالماء المغصوب، فإنه ارتكب الحرام واستحق العقاب، لكن الثوب تطهر.

2- في العبادات غير المحتاجة إلى التكرار

[2] أي: لا إشكال في سقوط التكليف بالامتثال الإجمالي.

[3] كما لو شك في جزئية شيء في العبادة، فلو شك مثلاً في أنّ السلام الأول واجب أو مستحب، فإنه مع الإتيان به قد علم بامتثال أمر المولى، فإنه إن كان جزءاً فقد أتي به، وإن لم يكن جزءاً واجباً فإن الإتيان به لم يكن مُخِلاً؛ لأن الفرض في المثال هو الدوران بين الوجوب والاستحباب.

[4] أي: مع الإتيان بالأكثر، فإنه قد أتى بكل ما يحتمل دخله في الغرض، سواء كان الدخيل في الغرض سابقاً على الأمر أو لاحقاً، فإن الإتيان بالأكثر يحقق الغرض قطعاً.

ص: 281

الغرض منها[1] - مما لا يمكن أن يؤخذ فيها[2]، فإنه[3] نشأ من قبل الأمر بها، كقصد الإطاعة والوجه والتمييز[4] - في ما إذا أتى بالأكثر[5]؛ ولا يكون إخلال[6]

-----------------------------------------------------------------

وقد مرّ سابقاً أن الدخيل في الغرض قد يكون سابقاً على الأمر، كالأجزاء والشرائط ونحوهما، وقد يكون لاحقاً على الأمر، مثل: قصد القربة ولواحقها؛ لعدم إمكان أخذ قصد القربة في موضوع الحكم، وإلاّ استلزم الدور؛ لأن قصد القربة متأخر عن الأمر؛ لأنه لا قصد للقربة إلاّ في ما كان مأموراً للشارع، فلو أخذ في موضوع الحكم - مع العلم بأن الموضوع متقدم على الحكم - فيلزم الدور؛ إذ قصد القربة متوقف على الأمر، والأمر متوقف على الموضوع - ومن أجزاء الموضوع قصد القربة - .

[1] أي: من العبادة.

[2] لأن الأخذ يستلزم الدور - كما شرحناه - ولكن لما علمنا دخله في حصول غرض المولى يحكم العقل بلزوم إتيانه.

[3] بيان سبب عدم إمكان أخذه في العبادة.

[4] «قصد الإطاعة» هو قصد القربة، و«الوجه» أي: قصد الوجوب أو الاستحباب، و«التمييز» أي: تشخيص العبادة من حيث المصاديق بأنها قضاءٌ أم أداءٌ، عن نفسه أم عن غيره، هذا الفرد - كالظهر - أم ذلك الفرد - كالعصر - ونحو ذلك.

[5] أي: عدم الإخلال بشيء في ما إذا أتى بالأكثر، والمعنى أن الذي يأتي بالأكثر كالصلاة مع التسليمة الأولى - مثلاً - فقد قصد القربة، ويمكنه قصد وجوب الصلاة، وكذلك ميّزها عن غيرها، كما لو عينها بأنها الظهر.

[6] أي: في التسليمة الأولى - في المثال - حينما يأتي بها لا يكون الإتيان بقصد الجزئية؛ لأنه تشريع لعدم علمه بالجزئية، «حينئذٍ» حين الإتيان بالأكثر.

ص: 282

حينئذٍ إلاّ بعدم إتيان ما احتمل جزئيته على تقديرها[1] بقصدها[2]؛ واحتمال دخل قصدها[3] في حصول الغرض ضعيف في الغاية وسخيف إلى النهاية[4].

وأما في ما احتاج إلى التكرار[5]: فربما يشكل[6] من جهة الإخلال بالوجه تارة، وبالتمييز أخرى، وكونه لعباً وعبثاً ثالثةً.

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: على فرض أنها جزء فلم يقصد الجزئية، أما على فرض أنها ليست بجزء فلم يخل بشيء أصلاً.

[2] متعلق ب- (إتيان) أي: عدم الإتيان بالمحتمل بقصد الجزئية.

[3] أي: قصد الجزئية، بأن يقال: إنه يجب في الواجبات قصد جزئية كل جزء!!

[4] لعدم وجود دليل عقلي أو عقلائي أو شرعي عليه، بل الدليل على خلافه.

3- في العبادات المحتاجة إلى التكرار

[5] كما لو اشتبهت القبلة في الجهات الأربع، فمع إمكان العلم بجهة القبلة، فهل يجوز الامتثال الإجمالي بالصلاة إلى الجهات الأربع، أم لابد من تحصيل العلم التفصيلي؟

[6] أي: يشكل التكرار، والإشكالات ثلاثة:

1- الإخلال بقصد الوجه، والجواب: إن تكرار الصلاة إنما كان بداعي الوصول إلى الواجب، فلا إخلال بقصد الوجه - وهو الوجوب هنا - .

2- الإخلال بالتمييز - حيث لا يعلم بأن الواجب أياً من هذه الصلوات الأربع - والجواب: إن التمييز غير واجب؛ لعدم وجود دليل عليه في الأخبار.

3- اللعب والعبث بأمر المولى، والجواب: إنه قد لا يكون عبثاً ولعباً، كما لو كان بقصد عقلائي، ولو فرض أنه لعب فليس لعباً في أمر المولى، بل في كيفية الامتثال، فإنه قد أتى بما أمره المولى كاملاً ولكن ضم إليه أفعال باطلة، وهي لا تؤثر في امتثاله لأمر المولى وإطاعته.

ص: 283

وأنت خبير[1] بعدم الإخلال بالوجه بوجهٍ[2] في الإتيان مثلاً بالصلاتين المشتملتين على الواجب لوجوبه[3]، غاية الأمر أنه لا تعيين له ولا تمييز[4]، فالإخلال إنما يكون به، واحتمال اعتباره[5] أيضاً في غاية الضعف، لعدم عين منه ولا أثر[6] في الأخبار؛ مع أنه مما يغفل عنه غالباً[7]، وفي مثله[8] لابد من التنبيه على اعتباره ودخله في الغرض، وإلاّ لأخلّ بالغرض[9]، كما نبهنا عليه سابقاً[10].

-----------------------------------------------------------------

[1] جواب الإشكال الأول.

[2] أي: بعدم إخلال بقصد الوجه بأي شكل من الأشكال.

[3] متعلق ب- (الإتيان)، فإن الذي يكرر الصلوات بالاتجاهات إنّما يفعل ذلك لأنه يقصد الوصول إلى الواجب بينها، فكان إتيانه لأجل الوجوب، فلا إخلال بقصد الوجه.

[4] أي: لا يدري أن أياً من الصلوات الأربع هي الواجبة، وهذا إخلال بالتمييز لا إخلال بالوجه، «به» أي: بالتمييز.

[5] أي: اشتراط التمييز في صحة العبادة، وهذا جواب الإشكال الثاني.

[6] «لعدم عين» بالدلالة المطابقية، «ولا أثر» بالدلالة الالتزامية.

[7] دفع إشكال مقدر، وحاصله: هو أن عدم ذكره في الأخبار للاعتماد والتعويل على ارتكاز المكلّفين! والجواب: هو أن التمييز أمر يغفل عنه غالب المكلفين، وما يغفل عنه إذا كان دخيلاً في الغرض فلابد للمولى بيانه، فعدم بيان المولى دليل على عدم اشتراطه.

[8] أي: مثل التمييز المغفول عنه غالباً.

[9] لأن أمر المولى لأجل امتثال العبد، فلو لم يذكر أمراً دخيلاً في الغرض مع غفلة الغالب عنه فإنه قد أوقع الناس في المخالفة، وفي عدم تحقيق غرض نفسه، وهو قبيح على الحكيم.

[10] في التوصلي والتعبدي.

ص: 284

وأما كون التكرار لعباً وعبثاً[1]: فمع أنه ربما يكون لداعٍ عقلائي[2]، إنما يضر[3] إذا كان لعباً بأمر المولى، لا في كيفية إطاعته بعد حصول الداعي إليها[4]، كما لا يخفى.

هذا كله[5] في قبال[6] ما إذا تمكن من القطع تفصيلاً بالامتثال.

وأما إذا لم يتمكن إلاّ من الظن به كذلك[7]:

-----------------------------------------------------------------

[1] جواب عن الإشكال الثالث بجوابين، «أنه» أي: إن التكرار.

[2] هذا هو الجواب الأول، وحاصله: إن لا عبث بأمر المولى؛ إذ إن الامتثال الإجمالي المستلزم للتكرار قد يكون لداعٍ عقلائي، كما لو كان الفحص والتحقيق والامتثال التفصيلي موجباً للعسر والمشقة، مثلاً: لو كان في صحراء لا يدري القبلة فيها، فلو أراد الرجوع إلى البلد والصلاة إلى اتجاه القبلة لاستغرق ساعات، وكلّفه أموالاً كثيرة، بينما الصلاة إلى الجهات الأربع كانت أسهل عليه.

[3] هذا الجواب الثاني، وحاصله: إن اللعب بأمر المولى يتنافى مع قصد القربة فلذا يضر بالعبادة؛ لأنه استهزاء بالمولى، ولكن التكرار ليس لعباً بأمر المولى، بل في كيفية الإطاعة بأن ضمّ غير العبادة إلى العبادة.

وبعبارة أخرى: إن أصل العمل كان بانبعاث من أمر المولى وإرادة امتثاله، فلا عبث فيه أصلاً.

[4] أي: إلى الطاعة، كتحصيل الثواب أو الفرار من العقاب لو خالف.

[5] البحث في جواز أو عدم جواز الامتثال الإجمالي.

[6] أي: الإتيان بالامتثال الإجمالي في قبال الامتثال القطعي.

البحث الثاني: الامتثال الإجمالي مع عدم إمكان القطع التفصيلي

[7] «به» بالامتثال، «كذلك» أي: تفصيلاً. والصور:

1- إذا لم يكن الظن معتبراً، وكان متمكناً من الاحتياط فلا إشكال في تقديم الامتثال الإجمالي على الظن.

ص: 285

فلا إشكال في تقديمه[1] على الامتثال الظني لو لم يقم دليل على اعتباره إلاّ في ما[2] إذا لم يتمكن منه. وأما لو قام[3] على اعتباره مطلقاً، فلا إشكال في الاجتزاء بالظني، كما لا إشكال[4] في الاجتزاء بالامتثال الإجمالي في قبال الظني بالظن المطلق[5]

-----------------------------------------------------------------

2- إذا لم يكن الظن معتبراً، ولم يتمكن من الاحتياط فيلزمه الرجوع إلى الأصول العملية.

3- إذا كان الظن معتبراً - لكونه ظناً خاصاً كخبر الواحد - فلا إشكال في الاجتزاء بالظن الخاص.

4- إذا كان الظن معتبراً بدليل الانسداد، وكانت إحدى مقدماته عدم وجوب الاحتياط، فلا إشكال في جواز العمل بالظن أو الامتثال الإجمالي.

5- على الانسداد، وكانت المقدمة حرمة الاحتياط فلا يجوز الامتثال الإجمالي، ويجب العمل بالظن.

[1] أي: تقديم الامتثال الإجمالي، وهذه هي الصورة الأولى، «اعتباره» أي: اعتبار الظن.

[2] إشارة إلى الصورة الثانية؛ وذلك كما لو كان دوران بين المحذورين، أو في الشبهة غير المحصورة ونحوها، «منه» أي: من الامتثال الإجمالي.

[3] هذه الصورة الثالثة، «اعتباره» أي: اعتبار الظن، «مطلقاً» أي: حتى في صورة انفتاح باب العلم، بأن يكون الظن معتبراً حتى لو تمكن من القطع بالامتثال الإجمالي، وذلك كالظنون الخاصة التي قام الدليل على اعتبارها.

[4] هذه الصورة الرابعة، «في قبال الظني» أي: في قبال الامتثال الظني.

[5] إنّما يعبر عن الظن في الانسداد بالظن المطلق؛ لأن الدليل دلّ على اعتبار كل ظن، عكس ما لو لم نقل بالانسداد، فإن كل ظن يحتاج إلى دليل خاص، فيعبر عنه بالظن الخاص.

ص: 286

المعتبر بدليل الانسداد، بناء على أن يكون من مقدماته[1] عدم وجوب الاحتياط. وأما لو كان[2] من مقدماته بطلانه - لاستلزامه العسر المخل بالنظام، أو لأنه ليس من وجوه الطاعة والعبادة[3]، بل هو نحو لعب وعبث بأمر المولى في ما إذا كان بالتكرار كما توهم(1)

- فالمتعين[4] هو التنزل عن القطع تفصيلاً إلى الظن كذلك؛ وعليه[5] فلا مناص عن الذهاب إلى بطلان عبادة تارك طريقي التقليد والاجتهاد

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: من مقدمات الانسداد، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - بيان أن للانسداد مقدمات، وهي:

1- نعلم بوجود تكاليف فعلية كثيرة في الشريعة.

2- انسد باب العلم والعلمي إلى كثير منها.

3- لا يجوز إهمال تلك الأحكام.

4- لا يجب الاحتياط، أو لا يجوز الاحتياط.

5- إن ترجيح الوهم أو الشك على الظن ترجيح المرجوح على الراجح.

فلو قلنا في المقدمة الرابعة - بأنه لا يجب الاحتياط - فحينئذٍ فيجوز العمل بالظن كما يجوز الامتثال الإجمالي.

[2] هذه الصورة الخامسة، «مقدماته» مقدمات الانسداد، «بطلانه» أي: بطلان الاحتياط - أي: عدم جوازه - لاستلزام الاحتياط العسر... الخ.

[3] وجوه الطاعة عقلاً، ووجوه العبادة شرعاً، فإن طرق الطاعة والمعصية عقلية، أما نفس العبادة فهي مجعولة شرعاً، فيمكن أن لا يجعل الشارع الصلاة الاحتياطية عبادة - مثلاً - فتأمل.

[4] المتعين في الصورة الخامسة، هو ترك الامتثال الإجمالي الموجب للقطع، والعمل بالظن، «كذلك» أي: تفصيلاً.

[5] أي: بناءً على عدم جواز الامتثال الإجمالي - في هذه الصورة الخامسة - .

ص: 287


1- فرائد الأصول 2: 409.

وإن احتاط فيها[1]، كما لا يخفى.

هذا بعض الكلام في القطع مما يناسب المقام، ويأتي بعضه الآخر في مبحث البراءة والاشتغال.

فيقع المقال في ما هو المهم من عقد هذا المقصد، وهو بيان ما قيل باعتباره من الأمارات أو صح أن يقال.

وقبل الخوض في ذلك ينبغي تقديم أمور:

أحدها: إنه لا ريب في أن الأمارة الغير العلمية(1)

ليس كالقطع في كون الحجية من لوازمها ومقتضياتها بنحو العِلية[2]، بل مطلقاً[3]؛ وأن ثبوتها لها[4] محتاج إلى جعل، أو ثبوت مقدمات[5]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: في العبادات، ولكن إذا استلزم احتياطه التكرار.

الأمارات المعتبرة
المقدمة الأولى

[2] لإمكان انفكاك الحجية عن الأمارات، ولو كانت علة لها لما أمكن انفكاك المعلول عن علته.

[3] أي: حتى بنحو المقتضي؛ ولذا لا يحكم بحجيتها بمجرد فقد الموانع، بل لابد من إيجاد المقتضي، فهي في حد ذاتها لا اقتضاء لها للحجية ولا لعدم الحجية، بل هي قابلة لكليهما.

[4] أي: ثبوت الحجية للأمارة.

[5] إلى جعل من جاعل كالشارع مثلاً وذلك في الظنون الخاصة، «أو ثبوت...» أي: أو حكم العقل بالحجية - بلا حاجة إلى جاعل - وذلك بناءً على الانسداد بنحو الحكومة.

ص: 288


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير العلمية».

وطروء حالات[1] موجبة لاقتضائها[2] الحجية عقلاً - بناءً على تقرير مقدمات الانسداد بنحو الحكومة[3] - . وذلك[4] لوضوح عدم اقتضاء غير القطع للحجية بدون ذلك ثبوتاً[5] - بلا خلاف - ولا سقوطاً؛ وإن كان ربما يظهر فيه[6] من بعض المحققين(1)

الخلاف والاكتفاء بالظن بالفراغ[7]؛ ولعله لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل[8]،

-----------------------------------------------------------------

[1] عطف توضيحي ل- (ثبوت مقدمات).

[2] أي: اقتضاء الأمارات.

[3] أي: حكومة العقل، ففي هذه الصورة لا جعل للحجية من جاعل، بل تكون الحجية بحكم العقل.

وسيأتي أن نتيجة مقدمات الانسداد قد يقال فيها بالكشف، أي: يُكشف منها حكم الشارع بحجية الظن، ومرجع هذا إلى جعل الشارع للحجية، وقد يقال فيها بالحكومة، أي: يحكم العقل بحجية الظن من غير أن يكون هنالك جاعل للحجية.

[4] دليل أن الأمارة ليست كالقطع في كون الحجية ذاتية لها.

[5] أي: بدون جعل الحجية لا طريق لإثبات التكليف، وقوله: «ثبوتاً» مقابل «سقوطاً» أي: بدون الجعل لا إثبات ولا إسقاط للتكليف بالأمارة.

[6] أي: في السقوط، فإنه نسب إلى جمال الدين الخوانساري أنه يكتفي بالظن في فراغ الذمة عن التكليف، وقوله: (الخلاف) فاعل (يظهر).

[7] بلا حاجة إلى جعل الحجية لهذا الظن، وهذا خلاف ما عليه الكل بأنه لا حجية لهذا الظن، وأن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.

[8] فإن دليل قاعدة الاشتغال هو وجوب دفع الضرر المحتمل، فاذا قيل: إنّ الضرر المحتمل لا يجب دفعه بحكم العقل فلا دليل على لزوم الاحتياط لكي يتيقن بالبراءة، بل يكفي الظن بالبراءة.

ص: 289


1- مشارق الشموس: 76.

فتأمل[1].

ثانيها[2]: في بيان إمكان التعبد بالأمارة الغير العلمية(1)

شرعاً، وعدم لزوم محال منه[3] عقلاً، في قبال دعوى استحالته للزومه[4].

وليس الإمكان[5]

-----------------------------------------------------------------

[1] لعله إشارة: إلى أنه لو لم يجب دفع الضرر المحتمل فيكفي احتمال الامتثال - ولو وهماً - ولا وجه لاشتراط الظن بالبراءة.

أو إشارة إلى أن هذا لا يستلزم حجية الظن - عقلاً - بل عدم لزوم القطع، وبينهما فرق.

[2] بعد أن أثبتنا في المقدمة الأولى أن الحجية ليست لازماً ذاتياً للظن - لا بنحو العلية ولا بنحو الاقتضاء - وأنها ممكنة للظن ذاتاً، نبحث في هذه المقدمة عن إمكانها وقوعاً، خلافاً لمن يرى استحالتها وقوعاً.

[3] أي: من التعبد بالأمارة غير العلمية.

[4] أي: استحالة التعبد بالأمارة غير العلمية، للزوم المحال - ذاتاً أو وقوعاً - .

والمحال الذاتي هو ما يستحيل بالذات، كاجتماع النقيضين، أما المحال الوقوعي فهو ممكن الوقوع بالذات فلا استحالة ذاتية له، لكنه يستلزم القبيح - مثلاً - فيستحيل على الباري تعالى، كالظلم.

المقدمة الثانية

[5] هذا رد على الشيخ الأعظم، فإنه ادّعى: أن العقلاء إذا شكّوا في شيء حكموا بإمكانه الذاتي والوقوعي، لكن المصنف يقول: إن هذا ليس من سيرة العقلاء، بل إذا شكوا في إمكان شيء توقفوا فيه ولم يحكموا عليه بشيء - لا بالإمكان ولا بالوجوب ولا بالامتناع - .

قال الشيخ الأعظم: (واستدل المشهور على الإمكان، بإنا نقطع بأنه لا يلزم

ص: 290


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير العلمية».

- بهذا المعنى، بل مطلقاً[1] - أصلاً[2] متبعاً عند العقلاء في مقام احتمال ما يقابله[3] من الامتناع؛ لمنع[4] كون سيرتهم على ترتيب آثار الإمكان عند الشك فيه[5]؛ ومنع حجيتها[6] لو سلم ثبوتها، لعدم قيام دليل قطعي على اعتبارها، والظن به[7] - لو

-----------------------------------------------------------------

من التعبد به محال. وفي هذا التقرير نظر؛ إذ القطع بعدم لزوم المحال في الواقع موقوف على إحاطة العقل بجميع الجهات المحسنة والمقبحة، وعلمه بانتفائها، وهو غير حاصل في ما نحن فيه، فالأولى أن يقرر هكذا: إنا لا نجد في عقولنا بعد التأمل ما يوجب الاستحالة، وهذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان...)(1).

وحاصله: إن عدم وجدان سبب للاستحالة ثبوتاً يكفي في حكم العقلاء بالإمكان إثباتاً.

[1] «بهذا المعنى» أي: الوقوعي، «مطلقاً» أي: الوقوعي والذاتي.

[2] أي: قانوناً وقاعدةً للعقلاء، كي يُرتّبوا آثار الإمكان على ما لم يعلموا باستحالته.

[3] أي: حينما يحتملون الاستحالة - وقوعاً أو ذاتاً - .

[4] إشكال المصنف على كلام الشيخ من وجهين:

أولاً: لا سيرة للعقلاء في ذلك، بحيث يرتبون أحكام الإمكان على المجهول.

وثانياً: على فرض وجود هذه السيرة فلا حجية فيها؛ لأنها لا توجب أكثر من الظن، ونحن الآن في مقام الاستدلال على إمكان حجية الظن، فالتمسك بدليل ظني دور واضح، كما أنه لا يوجد دليل قطعي على حجية هذه السيرة.

[5] أي: في الإمكان.

[6] أي: منع حجية سيرة العقلاء هنا، وهذا الإشكال الثاني.

[7] أي: الظن باعتبار سيرة العقلاء، أو الظن بوجود الدليل على حجية هذه السيرة، «لو كان» أي: لو فرض وجود هذا الظن.

ص: 291


1- فرائد الأصول 1: 106.

كان - فالكلام الآن في إمكان التعبد بها وامتناعه، فما ظنك به[1]؟ لكن[2] دليل وقوع التعبد بها من طرق إثبات إمكانه[3]، حيث يستكشف به عدم ترتب محال - من تالٍ باطل[4] فيمتنع مطلقاً[5] أو على الحكيم تعالى[6] - فلا حاجة معه[7] في دعوى الوقوع إلى إثبات الإمكان، وبدونه[8] لا فائدة في إثباته[9]، كما هو واضح.

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: فما ظنك بهذا الدليل الذي هو محل الكلام في إمكانه واستحالته.

والحاصل: إنه لا يمكن الاستدلال على الإمكان بما هو محل خلاف في إمكانه واستحالته - إلاّ على وجه دائر - .

[2] لما لم يرتض المصنف دليل المشهور على الإمكان وذلك للإشكال الذي أورده الشيخ عليه، وكذلك لم يرتض استدلال الشيخ بسيرة العقلاء استدل هو - أي: المصنف - بالوقوع، فإن أدل دليل على الإمكان الوقوع في الخارج.

[3] أي: إمكان التعبد بالأمارة، وضمير «بها» يرجع إلى الأمارة، و«به» يرجع إلى الوقوع.

[4] لأن المحال الوقوعي: هو ما استلزم تالياً باطلاً يمتنع على الحكيم، والمحال الذاتي ما استلزم باطلاً بحيث يمتنع وجوده مطلقاً.

[5] «مطلقاً» من الحكيم وغيره، وذلك لو كان محالاً ذاتياً.

[6] لو كان محالاً وقوعياً، فقد يرتكبه بعض الناس، ولكنه يقبح على الحكيم، فيستحيل عليه.

[7] أي: مع وقوع التعبد لا نحتاج إلى إثبات إمكان الشيء، فان هذا الإثبات لغو؛ لأنه بعد الوقوع يكون الإمكان بديهياً جداً.

[8] أي: بدون الوقوع الخارجي لا فائدة في إثبات الإمكان، مثلاً: إثبات إمكان وجود إنسان ذي عشرة رؤوس لغو؛ لعدم وقوعه في الخارج، ومع عدم الوقوع فأية فائدة تُرتجى من بحث إمكانه!!

[9] أي: إثبات الإمكان.

ص: 292

وقد انقدح بذلك[1] ما في دعوى شيخنا العلامة(1) - أعلى الله مقامه - من كون الإمكان عند العقلاء مع احتمال الامتناع أصلاً.

والإمكان[2] في كلام الشيخ الرئيس: «كلما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه[3] واضح البرهان»(2)، بمعنى[4] الاحتمال المقابل للقطع والإيقان. ومن الواضح أن لا موطن له[5] إلاّ الوجدان، فهو المرجع فيه بلا بينة وبرهان.

-----------------------------------------------------------------

إن قلت: إن الوقوع في الخارج أول الكلام، وقد أنكره ابن قبة.

قلت: إنكاره في بعض الظنون كالخبر الواحد، أما في الموضوعات والشهادات في الحدود والتعزيرات والحقوق ونحوها، فلا خلاف في كون بعض الظنون - كالبينة - حجة.

[1] أي: عدم صحة الاستدلال على إمكان التعبد بسيرة العقلاء.

[2] المقصود دفع إشكال: أن ابن سينا أيضاً يرى ما قاله الشيخ الأعظم، ولعل الشيخ أخذ كلامه منه.

[3] أي: لم يمنعك، «عنه» أي: عن جعله في بقعة الإمكان.

[4] هذا توضيح من المصنف لكلام ابن سينا، وحاصله: إن الإمكان في كلام ابن سينا ليس هو الإمكان في مقابل الوجوب والامتناع حتى نرتب آثاره، بل معناه الاحتمال، أي: لا تُنكر الغرائب، بل احتملها، وهذا الاحتمال ينسجم مع كون الشيء واجباً واقعاً أو ممكناً أو ممتنعاً، فلا يرتب أثر أي منها، بل يعتبره محتملاً، فيبحث عن الدليل الذي يثبت إمكانه أو امتناعه أو وجوبه.

[5] أي: للاحتمال، والحاصل: إن النزاع مع ابن قبة في الإمكان وعدمه ليس في مجرد الاحتمال، فإن الاحتمال أمر وجداني، فلا يبحث عن دليل لوجوده أو

ص: 293


1- فرائد الأصول 1: 106.
2- الحكمة المتعالية 1: 364؛ شرح الإشارات 3: 418.

وكيف كان، فما قيل أو يمكن أن يقال في بيان ما يلزم التعبد بغير العلم - من المحال، أو الباطل ولو لم يكن بمحال[1] - أمور:

أحدها[2]: اجتماع المثلين - من إيجابين أو تحريمين مثلاً - في ما أصاب، أو ضدين -

-----------------------------------------------------------------

لعدم وجوده، بل النزاع مع ابن قبة في الإمكان المقابل للامتناع والوجوب، وهذا هو الذي يحتاج إلى النقاش والاستدلال.

[1] المحال الذاتي كاجتماع الضدين، والباطل - وإن لم يكن محالاً ذاتاً - كتفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة.

ما استدل به على استحالة التعبد بالأمارة
الدليل الأول

[2] حاصله: إنه إذا أصابت الأمارة الواقع فحينئذٍ يكون حكمان متماثلان - أحدهما الحكم الواقعي والآخر الحكم الظاهري - واجتماع المثلين محال.

وإذا أخطأت الأمارة، كما لو كان في الواقع حراماً وأدت الأمارة إلى وجوبه - مثلاً - :

أ: فإن بقيت مصلحة الواقع فيلزم ثلاثة محاذير:

1- اجتماع المصلحة والمفسدة في فعل واحد؛ لأن الأحكام تابعة لملاكاتها، فالوجوب يقتضي وجود مصلحة ملزمة، والحرمة تقتضي وجود مفسدة ملزمة.

2- اجتماع إرادة وكراهة من عمل واحد في نفس المولى؛ لأن المصلحة أوجبت حبَّه للشيء فلذا أمر به، والمفسدة أوجبت بُغضه للشيء لذا نهى عنه.

3- اجتماع وجوب وتحريم - الحرمة حسب الحكم الواقعي والوجوب حسب الحكم الظاهري مثلاً - .

ب: وأما لو لم تبق مصلحة الواقع، وزالت الإرادة أو الكراهة فيلزم محذور التصويب.

ص: 294

من إيجاب وتحريم، ومن إرادة وكراهة، ومصلحة ومفسدة ملزمتين بلا كسر وانكسار[1] في البين - في ما أخطأ، أو التصويب[2] وأن لا يكون[3] هناك غير مؤديات الأمارات أحكام.

ثانيها[4]: طلب الضدين في ما إذا أخطأ وأدى إلى وجوب ضد الواجب.

-----------------------------------------------------------------

[1] وعدم الكسر والانكسار كان سبباً لاجتماع الإرادة والكراهة، وكذا الوجوب والحرمة. وأما لو كان هنالك كسر وانكسار فإنه يبقى الأقوى، وتكون على طبقه إرادة أو كراهة، ثم وجوب أو تحريم من غير اجتماع للضدين؛ لأنه لو كان للشيء مصلحة وكان فيه مفسدة، كالخمر التي فيها منافع اقتصادية، وفيها أضرار عقلية وجسمية ونحوها، فيلاحظ أن الفائدة لا تقوى أمام الضرر؛ فلذا يحصل كسر وانكسار، فتكون هذه الفائدة مقابل مقدار من الضرر فيتساقطان، ويبقى مقدار آخر من الضرر سليماً عن المعارض، فتكون كراهة له ثم تحريم، كما قال تعالى: {قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ}(1).

[2] أي: لو قيل برفع الشارع يده عن حكمه الواقعي، وجعل الحكم طبق الأمارة فقط، فإن ذلك التصويب المجمع على بطلانه.

وبعض العامة كانوا يرون أنه ليس لله في الوقائع حكم! بل كلّما أفتى به المفتي يكون حكم الله تعالى، وهذا الكلام سخيف جداً، بل محال عقلاً، كما بُيّن في موضعه.

[3] هذا بيان لمعنى التصويب هنا، وقوله: «أحكام» اسم (لا يكون).

الدليل الثاني

[4] الفرق بين هذا والدليل السابق هو: أن الدليل الأول كان اجتماع المثلين أو الضدين في متعلق واحد، أما هذا الدليل فهو طلب الشيء وطلب ضده، فهما في متعلقين، لكنا نعلم بأن أحدهما ضد الآخر ولا يجتمعان، كصلاة الجمعة وصلاة الظهر.

وهذان الدليلان يدلان على أن الحجية للأمارة يستلزم المحال الذاتي.

ص: 295


1- سورة البقرة، الآية: 219.

ثالثها[1]: تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة في ما أدى إلى عدم وجوب ما هو واجب أو عدم حرمة ما هو حرام، وكونه[2] محكوماً بسائر الأحكام.

والجواب[3]: إن ما ادعي لزومه إما غير لازم[4] أو غير باطل[5].

-----------------------------------------------------------------

الدليل الثالث

[1] وهذا لا يستلزم محالاً ذاتياً، بل يستلزم باطلاً، أي: أمراً قبيحاً على المولى، وهو تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة لو خالفت الأمارة الواقع.

[2] أي: كون ما هو واجب أو ما هو حرام واقعاً محكوماً بحكم آخر ظاهراً. فإذا عمل المكلف بمؤدى الأمارة فإنه تفوت عليه مصلحة الواقع، أو يقع في المفسدة التي كان النهي الواقعي لأجلها، ومن القبيح على المولى تشريع أمر يؤدي إلى ذلك.

الجواب
اشارة

[3] وقد أجاب المصنف بثلاثة أجوبة:

1- لا يوجد حكم ظاهري أصلاً، بل هناك حكم واقعي فقط، وبذلك يرتفع التضاد، والتعبد بالأمارة له مصلحة غالبة على مصلحة الواقع أو مفسدته.

2- على فرض وجود أحكام ظاهرية فلا تضاد أيضاً؛ لأن وجوب الحكم الظاهري مقدمي، والمصلحة في إنشائه - كالأوامر الامتحانية - ووجوب الحكم الواقعي حقيقي ناشئٍ عن مصلحة أو مفسدة في متعلقه، فارتفع التضاد باختلاف موضوع الحكمين.

3- وعلى فرض وحدة الموضوع، فإن الواقعي: فعليٌ منجز، والظاهري: فعلي غير منجز - أي: لو علم به لصار فعلياً - .

[4] وهو اجتماع المثلين أو الضدين كما في الإشكال الأول، وطلب الضدين كما في الإشكال الثاني.

[5] وهو تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة كما في الإشكال الثالث.

ص: 296

وذلك[1] لأن التعبد[2] بطريق غير علمي إنما هو بجعل حجيته، والحجية المجعولة غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفية[3] بحسب ما أدى إليه الطريق، بل إنما تكون[4] موجبة لتنجز التكليف به إذا أصاب، وصحة الاعتذار به[5] إذا أخطأ، ولكون مخالفته وموافقته[6] تجرياً وانقياداً مع عدم إصابته، كما هو شأن الحجة الغير(1) المجعولة[7]،

-----------------------------------------------------------------

الجواب الأول

[1] «ذلك» أي: عدم لزوم أو عدم بطلان اللوازم المذكورة، وهذا إشارة إلى الجواب الأول.

وحاصله: إن مثل: (صدق العادل) لا يستتبع جعل أحكام ظاهرية على طبق كلام العادل، بل إن كان خبره صحيحاً فإن الحكم الواقعي الذي كشف الخبر عنه يكون منجزاً، بمعنى صحة المؤاخذة على مخالفته - مثلاً - وإن كان خبره خطأً فإن المكلف يكون معذوراً على العمل به، والخلاصة: إنه لا حكم ظاهري، بل حكم واقعي قد يكون منجزاً وقد لا يكون منجزاً.

[2] أي: إلزام العبد بالطاعة، «حجيته» أي: حجية الطريق غير العلمي.

[3] أي: أحكام ظاهرية حسب مضمون الخبر الواحد - مثلاً - .

[4] أي: تكون الحجية، «به» أي: بالطريق، فإن الخبر الواحد لو أصاب الواقع كان ذلك الواقع منجزاً على المكلف، بمعنى صحة العقوبة على مخالفته.

[5] أي: بالطريق، فلو أخطأ الخبر الواحد مثلاً ثمّ عمل المكلف به فإنه يصح أن يعتذر على مخالفته للواقع بأنه عمل حسب الطريق الذي جعله الشارع.

[6] أي: إن أخطأ الطريق فإن العبد يكون متجرياً إن خالفه، ومنقاداً إن وافقه.

[7] أي: القطع، فإنه مع القطع لا يكون حكم ظاهري، بل تنجيز إن أصاب، وإعذار إن أخطأ، وفي حال الخطأ إن وافق يكون منقاداً، وإن خالف يكون متجرياً.

ص: 297


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير المجعولة».

فلا يلزم[1] اجتماع حكمين مثلين أو ضدين، ولا طلب الضدين، ولا اجتماع المفسدة والمصلحة، ولا الكراهة والإرادة، كما لا يخفى.

وأما تفويت مصلحة الواقع أو الإلقاء في مفسدته[2]، فلا محذور فيه أصلاً[3]، إذا كانت في التعبد به[4] مصلحة غالبة على مفسدة التفويت أو الإلقاء.

نعم[5]، لو قيل باستتباع[6] جعل الحجية للأحكام التكليفية، أو بأنه[7] لا معنى

-----------------------------------------------------------------

[1] لعدم وجود حكم ظاهري أصلاً، بل حكم واقعي فقط، وهذا كان بيان أن ما أدّعي لزومه غير لازم.

[2] في ما أخطأ الطريق.

[3] وهذا بيان أن ما أدعي لزومه غير باطل.

[4] أي: بالطريق، فإن تكليف الناس بالعمل بالعلم فقط فيه مشقة عظيمة، بل اختلال النظام، وهذا المحذور أشد من الوقوع في مخالفة الواقع قليلاً حينما يعمل المكلف بالطرق.

الجواب الثاني

[5] أي: على المباني الأخرى يلزم القول بوجود أحكام ظاهرية، ومع ذلك لا يلزم المحال؛ لاختلاف موضوع الحكمين:

المبنى الأول: إن جعل الحجية يستلزم جعل حكم ظاهري؛ لأن الحجية حكم وضعي، وكل حكم وضعي يلزم منه حكم تكليفي.

والمبنى الثاني: هو عدم وجود أحكام وضعية، بل المجعول هو أحكام تكليفية ينتزع منها الحكم الوضعي، مثلاً: جواز التصرف وجواز البيع والأولوية في التصرف وعدم جواز تصرف الغير إلاّ بإذنه ينتزع منه الملكية، وعلى هذا المبنى الحجية هي منتزعة من الحكم الظاهري.

[6] إشارة إلى المبنى الأول.

[7] إشارة إلى المبنى الثاني، «بأنه» للشأن «لجعلها» أي: لجعل الحجية.

ص: 298

لجعلها إلاّ جعل تلك الأحكام، فاجتماع حكمين وإن كان يلزم، إلاّ أنهما[1] ليسا بمثلين أو ضدين، لان أحدهما طريقي[2] عن مصلحة في نفسه[3] موجبة لإنشائه الموجب للتنجز[4] أو لصحة الاعتذار بمجرده[5]، من دون إرادة نفسانية أو كراهة كذلك متعلقة بمتعلقه[6]

-----------------------------------------------------------------

[1] حاصل الجواب أن هناك حكمين: واقعي، وظاهري.

أما الواقعي: فهو حكم حقيقي ناشئ عن مصلحة أو مفسدة في متعلقه، وإرادة أو كراهة حقيقية.

وأما الظاهري: فهو حكم مقدّمي ناشئ عن مصلحة في نفس الحكم، كالأوامر الامتحانية، فإنه لا مصلحة أو مفسدة، وكذلك لا إرادة أو كراهة في متعلقها، بل المصلحة في نفس تلك الأحكام.

ولا مانع من اجتماع هذين الحكمين لاختلاف الموضوع، فلا تضاد ولا تماثل، كما لا إرادة ولا كراهة في متعلق الحكم المقدمي، بل هما فقط في متعلق الحكم الواقعي.

[2] أي: مقدمي، حيث إن جعله لكونه مقدمة للوصول إلى الأحكام الواقعية، فالمصلحة في الحكم الظاهري هي في نفس إنشائه، لا في متعلقه.

[3] أي: في نفس الحكم، «إنشائه» أي: إنشاء الحكم الظاهري.

[4] أي: فائدة هذا الحكم المقدمي هو تنجز الحكم الواقعي في صورة الإصابة، وصحة الاعتذار في صورة الخطأ.

[5] أي: بمجرد الإنشاء، وقوله: «من دون...» توضيح لقوله: (بمجرده)، «كذلك» أي: نفسانية.

[6] أي: متعلق الأمر الطريقي - المقدمي - وهو الفعل لم يتعلق به إرادة أو كراهة، بل كانت المصلحة والإرادة في نفس الحكم - كما في الأوامر الامتحانية - .

ص: 299

في ما يمكن هناك انقداحهما[1] حيث إنه مع المصلحة أو المفسدة الملزمتين في فعل وإن لم يحدث بسببها[2] إرادة أو كراهة في المبدأ الأعلى، إلاّ أنه إذا أوحي بالحكم الناشئ من قبل تلك المصلحة أو المفسدة إلى النبي أو ألهم به الولي[3] فلا محالة ينقدح في نفسه الشريفة بسببهما[4] الإرادة أو الكراهة الموجبة للإنشاء بعثاً أو زجراً،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: إذا أمكن وجود الإرادة - بمعنى الشوق الأكيد - والكراهة، وذلك في نفوس الأنبياء والأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ. حيث ثبت في العقائد(1)

بأن الله تعالى ليس محلاً للحوادث؛ لأن الحوادث تستلزم تغيراً في الذات، والتغير يستحيل على القديم، فإن كل ما يتغير حادث؛ لذا فالحب والبغض والغضب والرضا ونحوها تستحيل بمعناها الحقيقي على الباري سبحانه، بل هي بمعنى ترتيب آثارها من الثواب أو العقاب، والبعد أو القرب من رحمته تعالى، فهو سبحانه يعلم بالمصلحة أو المفسدة، وهو تعالى مختار، فيكون العلم والاختيار سبباً للحكم.

لكن هذه الإرادة والكراهة لا تستحيل على الأنبياء والأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، فلذا في الأحكام الواقعية تنقدحان في نفوسهم الشريفة، أما في الأحكام الظاهرية فلا إرادة وكراهة في نفوسهم باتجاه المتعلق، بل إرادة فقط في إنشاء الحكم.

[2] أي: بسبب المصلحة أو الفسدة، «المبدأ الأعلى» هو الله سبحانه وتعالى.

[3] الإلهام هو الإلقاء في القلب، كقوله تعالى: {فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا}(2)، والأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ لا يوحى إليهم - بالمعنى المصطلح الخاص بالأنبياء - ولكن يُلهمون؛ لأن قلوبهم أوعية مشيئة الله تعالى.

[4] أي: المصلحة أو المفسدة، «الموجبة للإنشاء» أي: حينما ينشئ النبي أو الولي، سواء كانت ألفاظ الإنشاء منهما، أم كانا ناقلين للألفاظ التي خلقها الله وأوصلها إليهما.

ص: 300


1- المسلك في أصول الدين: 50؛ قواعد المرام: 94؛ كشف المراد: 408.
2- سورة الشمس، الآية: 8.

بخلاف[1] ما ليس هناك مصلحة أو مفسدة في المتعلق[2]، بل إنما كانت في نفس إنشاء الأمر به طريقياً[3]؛ والآخر[4] واقعي حقيقي عن مصلحة أو مفسدة في متعلقه[5]، موجبة لإرادته أو كراهته الموجبة لإنشائه[6] بعثاً أو زجراً في بعض المبادئ العالية، وإن لم يكن في المبدأ الأعلى إلاّ العلم بالمصلحة أو المفسدة - كما أشرنا -. فلا يلزم أيضاً[7] اجتماع إرادة وكراهة، وإنما لزم إنشاء حكم واقعي حقيقي بعثاً وزجراً، وإنشاء حكم آخر طريقي، ولا مضادة بين الإنشاءين في ما إذا اختلفا[8]؛ ولا يكون من اجتماع المثلين في ما اتفقا؛ ولا إرادة ولا كراهة أصلاً إلاّ بالنسبة إلى متعلق الحكم الواقعي، فافهم[9].

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: في الحكم الظاهري - وهو مقدمي طريقي - ليس في متعلقه مصلحة أو مفسدة ولا إرادة أو كراهة.

[2] أي: في الفعل الذي تعلق به الحكم - نظير الأوامر الامتحانية - حيث لم يكن فيه مصلحة، وإنّما كان الأمر باعتبار المصلحة في نفس الإنشاء.

[3] «به» بالمتعلق، فالمصلحة في نفس الإنشاء؛ وذلك لأن الأحكام الظاهرية مقدمة وطريق للوصول إلى الأحكام الواقعية - غالباً - .

[4] هذا عدل قوله: (لأن أحدهما طريقي عن مصلحة في نفسه... والآخر واقعي حقيقي...).

[5] أي: متعلق التكليف، أي: في نفس الفعل التي تعلق به الحكم.

[6] إرادة وكراهة المتعلق الموجبة لإنشاء الحكم، و«بعثاً وزجراً» مفعول لأجله، أي: الإنشاء لأجل البعث والزجر.

[7] كما في الجواب الأول.

[8] بأن خالف الطريق الواقع، فكان الحكم الواقعي الوجوب والحكم الظاهري الحرمة - مثلاً - .

[9] لعله إشارة إلى أن هذا الجواب لا يدفع محذور الإلقاء في المفسدة وتفويت

ص: 301

نعم[1]، يشكل الأمر في بعض الأصول العملية[2]، كأصالة الإباحة الشرعية، فإن الإذن في الإقدام والاقتحام ينافي المنع فعلاً[3]، كما في ما صادف الحرام، وإن كان[4] الإذن فيه لأجل مصلحة فيه، لا لأجل عدم مصلحة ومفسدة ملزمة في

-----------------------------------------------------------------

المصلحة، أو إشارة إلى أن بعض أدلة الأحكام الظاهرية يستفاد منها جعل حكم بالنسبة إلى المتعلق، أو لغير ذلك.

[1] فإن بعض الأصول العملية لا تكشف الواقع أصلاً - كأصالة الإباحة، وحينئذٍ فقول الشارع: (كل شيء لك حلال حتى تعلم الحرام بعينه)(1)

هو جعل للإباحة الظاهرية، فالإذن في الارتكاب - وإن كان لمصلحة في نفس الإذن - ينافي الحرمة الواقعية.

مثلاً: لو شك في نجاسة مائع - وهو نجس واقعاً - فإن الحكم الواقعي هو الحرمة، وأصالة الإباحة تدل على الإذن في شربه، فهذا الترخيص يضاد تلك الحرمة.

[2] أي: الأصول العملية التي ليس فيها جهة الكشف عن الواقع أصلاً كأصالة الإباحة، أما الأصول العملية التي لها كشف عن الواقع كالاستصحاب فيمكن اعتبارها كالأمارات والطرق، حيث يجعل فيها حكم ظاهري طريقي - أي: مقدمي - وحكم واقعي حقيقي، فيقال: إنها صارت حجة ولزم العمل بها؛ لأنها أحكام طريقية توصل إلى الواقع، أما مثل أصل الإباحة فلا معنى لكونه طريقياً مقدمة للواقع، لما عرفت من أنها لا كشف لها عن الواقع أصلاً.

[3] أي: ينافي المنع الفعلي، فعاد محذور اجتماع الضدين، حيث منع الشارع ورخص في الشيء الواحد.

[4] أي: حتى لو لم يكن تنافٍ بين المصلحة في الحكم الظاهري والمفسدة في متعلق الحكم الواقعي، لكن هناك تنافٍ بين الإذن في الاقتحام مع المنع عنه، «فيه» أي: في الاقتحام لأجل مصلحة في نفس الاقتحام.

ص: 302


1- وسائل الشيعة 17: 89، مع اختلاف يسير.

المأذون فيه[1]. فلا محيص[2] في مثله[3] إلاّ عن الالتزام بعدم انقداح الإرادة أو الكراهة[4] في بعض المبادئ العالية أيضاً، كما في المبدأ الأعلى، لكنه لا يوجب الالتزام[5]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: الفعل الذي تعلق به الحكم الواقعي بالحرمة، وتمَّ الإذن في اقتحامه بأصالة الإباحة.

والحاصل: إن هذا الجواب الثاني وإن رفع التنافي بين مصلحة الحكم الظاهري بالإباحة مع مفسدة الواقع، لكنه لم يرفع التنافي بين الإذن في الاقتحام مع المنع عنه.

الجواب الثالث

[2] شروع في الجواب الثالث، وحاصله: إن الحكم الفعلي قسمان:

الأول: الحكم الفعلي التعليقي، أي: لو علم المكلف به لصار فعلياً منجزاً، ولو لم يعلم به لبقي على كونه إنشائياً، وفي هذا لا إرادة ولا كراهة.

الثاني: الحكم الفعلي الحقيقي، أي: هو فعلي سواء علم به أم لم يعلم، لكن لو علم به صار منجزاً، ولو لم يعلم به لم يصر منجزاً.

وحينئذٍ فنقول: إن الحكم الواقعي هو فعلي تعليقي، والحكم الظاهري هو فعلي حقيقي، ولا تنافي بينهما أصلاً؛ لأن أحدهما في صورة العلم والآخر في صورة الجهل، والإرادة والكراهة لم تتعلق إلاّ بالحكم الظاهري، فلا تضاد ولا طلب ضدين، فتأمل.

[3] أي: في مثل بعض الأصول العملية، والمراد جميع الأصول العملية ومؤديات الطرق والأمارات.

[4] بالنسبة إلى الحكم الواقعي، وانحصار الإرادة أو الكراهة في الحكم الظاهري فقط.

[5] وذلك لعدم اشتراط الفعلية بكونها عن إرادة أو كراهة، فيمكن أن يكون الحكم فعلياً تعليقياً بلا إرادة أو كراهة. نعم، الحكم الفعلي الحقيقي لا يكون إلاّ مع إرادة أو كراهة.

ص: 303

بعدم كون التكليف الواقعي بفعلي، بمعنى كونه[1] على صفة ونحو لو علم به المكلف لتنجز عليه، كسائر[2] التكاليف الفعلية التي تتنجز بسبب القطع بها. وكونه فعلياً[3] إنما يوجب البعث أو الزجر[4] في النفس النبوية أو الولويّة في ما إذا لم ينقدح فيها[5] الإذن لأجل مصلحة فيه.

فانقدح بما ذكرنا[6]: أنه لا يلزم الالتزام[7] بعدم كون الحكم الواقعي في مورد

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: كون التكليف، وهذا بيان للحكم الفعلي التعليقي.

[2] فهو ليس إنشائياً صرفاً بحيث لو علم به لم يوجب تكليفاً أصلاً.

[3] أي: فعلياً حقيقياً.

[4] المقصود: إنما يوجب الإرادة والكراهة.

[5] أي: في النفس النبوية أو الولوية - وهي نسبة إلى (الولي) - .

الجواب الرابع والإشكال عليه

[6] ما ذكرناه في الجواب الثالث من بيان أن الحكم الفعلي قد يكون تعليقياً وقد يكون واقعياً، «أنه» للشأن، «لا يلزم» بناءً على أن الحكم الفعلي قسمان.

[7] كما نسب إلى الشيخ الأعظم، حيث حلّ إشكال طلب الضدين أو المثلين، بأن الحكم الظاهري فعلي، والحكم الواقعي إنشائي، ولا تنافي بين الحكمين لتغاير متعلقهما.

لكن هذا الكلام يرد عليه إشكالان:

الإشكال الأول

الأول: إن الحكم الإنشائي - حتى لو علمنا به - لا يوجب تكليفاً أصلاً، مثلاً: حين نزول القرآن دفعة واحدة على قلب النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ في ليلة القدر من السنة الأولى من البعثة فقد كانت جميع التكاليف الواردة فيه إنشائية، وهذا العلم لم يوجب فعليتها؛ لأن فعليتها كانت تدريجية خلال أكثر من عشرين عاماً.

ص: 304

الأصول والامارات فعلياً، كي يشكل[1]:

تارةً، بعدم لزوم الإتيان حينئذٍ[2] بما قامت الأمارة على وجوبه، ضرورة عدم لزوم امتثال الأحكام الإنشائية ما لم تصر فعلية ولم تبلغ[3] مرتبة البعث والزجر، ولزوم الإتيان[4] به مما لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة برهان.

لا يقال[5]: لا مجال لهذا الإشكال لو قيل بأنها[6] كانت قبل أداء الأمارة إليها إنشائية، لأنها بذلك[7] تصير فعلية تبلغ تلك المرتبة.

فإنه يقال[8]: لا يكاد يحرز بسبب قيام الأمارة المعتبرة على حكم إنشائي - لا

-----------------------------------------------------------------

فإذا كان العلم بالحكم الإنشائي لا يستلزم تكليفاً فإن القول بأن الحكم الواقعي إنشائي معناه عدم وجوب الالتزام به حتى لو علم به أو قامت الأمارة عليه!!

[1] أي: لو التزمنا بما نسب إلى الشيخ يرد إشكالان، فتارة إشكال أول - كما بيناه - .

[2] أي: حين كون الحكم الواقعي إنشائياً.

[3] عطف تفسيري لقوله: (ما لم تصر فعلية).

[4] الواو للحال، أي: والحال أنه من الواضحات لزوم الإتيان بما قامت الأمارة على وجوبه.

[5] جواب عن الإشكال، وحاصله: إن التكليف قبل قيام الأمارة إنشائي، وحين قيام الأمارة يصير فعلياً، فقيام الأمارة يكون سبباً لصيرورة الحكم فعلياً.

[6] أي: الأحكام الواقعية.

[7] «لأنها» لأن الأحكام الواقعية، «بذلك» أي: بقيام الأمارة عليها، «تلك المرتبة» أي: مرتبة البعث والزجر.

[8] دفع للجواب، وحاصله: إ ن الموضوع إذا كان مركباً من أمرين فلا يترتب الحكم عليه إلاّ بعد إحراز كلا الجزءين، مثلاً: في (الماء الكر عاصم) لا تترتب العصمة إلاّ بعد إحراز المائية وإحراز الكرية، إما بالوجدان، وإما بالتعبد - كالاستصحاب - وإما بالاختلاف بأن يحرز أحد الجزءين بالوجدان والآخر بالتعبد.

ص: 305

حقيقةً ولا تعبداً[1] - إلاّ حكم إنشائي تعبداً، لا حكم إنشائي أدت إليه الأمارة. أما حقيقةً: فواضح[2]، وأما تعبداً[3]: فلأنّ قصارى ما هو قضية حجية الأمارة كون مؤداها هو الواقع تعبداً، لا الواقع[4] الذي أدت إليه الأمارة، فافهم[5].

اللهم إلاّ أن يقال[6]:

-----------------------------------------------------------------

وهنا موضوع الحكم الفعلي مركب من أمرين: 1- الحكم الإنشائي الواقعي. 2- اتصاف هذا الحكم بكونه مؤدى الأمارة.

والجزء الثاني لا يمكن إثباته بنفس الأمارة؛ لأن الأمارات تثبت الواقع، ولا تثبت الواقع موصوفاً بكونه مؤدى الأمارة!!

[1] أي: لا بالوجدان، ولا بدليل شرعي يدل على لزوم اعتبار الحكم مؤدى الأمارة.

[2] لأنه لا علم بإصابة الأمارة للواقع؛ إذ لعلها أخطأته، الواقع فلم يكن هناك حكم إنشائي أصلاً.

[3] أي: لا يوجد دليل يجعل الحكم متصفاً بهذا الوصف شرعاً تعبدياً.

[4] أي: الأمارة تؤدي إلى الواقع بما هو واقع، ولا تؤدي إلى الواقع الموصوف بكونه مؤدّى الأمارة.

[5] لعله إشارة إلى أن الأمارة لا تدل على هذا الوصف - أي: كون الحكم الإنشائي مؤدى الأمارة - لكن هذا الوصف ينطبق قهراً بعد قيام الأمارة، فأحرز الجزء الأول بقيام الأمارة وأما الجزء الثاني - وهو الاتصاف بكونه مؤدى الأمارة - فقد أحرز وجداناً، وقيل غير ذلك(1).

[6] دفع للإشكال، وحاصله: إن الحكم الواقعي إنشائي، وبدلالة الأمارة عليه يصير فعلياً؛ إذ لو لم يصر فعلياً كان جعل الحجية للأمارة لغو؛ لعدم ترتب أي

ص: 306


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 178؛ حقائق الأصول 2: 74.

إن الدليل[1] على تنزيل المؤدّى منزلة الواقع الذي صار مؤدّىً لها، هو دليل الحجية[2] بدلالة الاقتضاء[3]. لكنه[4] لا يكاد يتم إذا لم يكن للأحكام بمرتبتها الإنشائية أثر أصلاً[5]، وإلا[6] لم تكن لتلك الدلالة مجال، كما لا يخفى.

وأخرى[7]، بأنه كيف يكون التوفيق بذلك[8]، مع احتمال أحكام فعلية بعثية

-----------------------------------------------------------------

أثر على الحكم الإنشائي البحت.

[1] أي: أدلة حجية الأمارات التي تُنزِّل مؤدى الأمارة منزلة الواقع.

[2] أي: دليل الفعلية والتنجيز والتعذير.

[3] (دليل الاقتضاء) هو ما يتوقف صحة أو صدق الكلام عليه، وهنا صوناً لكلام الحكيم عن اللغوية يلزم القول بفعلية الأحكام الإنشائية بمجرد قيام الأمارة عليها.

[4] هذا رد وجود دلالة الاقتضاء هنا؛ وذلك لأن دليل الأمارات له أثر آخر غير الفعلية، وهو التهيّؤ مثلاً للفعلية، أو النذر، أو الانقياد؛ لأن موافقة الإنشائي البحت فيه الثواب، ونحو ذلك.

[5] سوى فعلية الأحكام الإنشائية.

[6] أي: وإن وجدنا آثاراً أخرى، «تلك الدلالة» أي: دلالة الاقتضاء.

الإشكال الثاني

[7] أي: لوقلنا بمقالة الشيخ الأعظم - من كون الأحكام الواقعية إنشائية - فإنه يرد إشكال آخر، وهو أنه كما يحتمل كونها إنشائية كذلك يحتمل كونها فعلية، وحينئذٍ فيحتمل التضاد والتنافي، وكما يستحيل التضاد كذلك يستحيل احتماله - كما مرّ سابقاً - .

[8] «التوفيق» أي: الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري، «بذلك» أي: بالقول بأن الواقعي إنشائي محض.

ص: 307

أو زجرية[1] في موارد الطرق والأصول العملية المتكفلة[2] لأحكام فعلية؟ ضرورة[3] أنه كما لا يمكن القطع بثبوت المتنافيين، كذلك لا يمكن احتماله.

فلا يصح[4] التوفيق بين الحكمين بالتزام كون الحكم الواقعي الذي يكون[5] مورد الطرق إنشائياً غير فعلي[6].

كما لا يصح[7] بأن الحكمين ليسا في مرتبة واحدة، بل في مرتبتين[8]، ضرورة تأخر الحكم الظاهري عن الواقعي بمرتبتين[9].

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: أحكام فعلية وصلت إلى مرحلة البعث والزجر.

[2] أي: الطرق والأصول التي تبين الحكم الفعلي، وحينئذٍ يحصل التنافي بين حكمين فعليين.

[3] بيان لوجه الإشكال، «احتماله» أي: احتمال ثبوت المتنافيين.

[4] أي: نتيجة ورود هذين الإشكالين فإنه لا يمكن الذهاب إلى الجواب المنسوب إلى الشيخ الأعظم.

[5] «يكون» تامة بمعنى يوجد.

[6] «إنشائياً» خبر (كون)، و«غير فعلي» بدل أو عطف بيان لقوله: (إنشائياً).

الجواب الخامس وردّه

[7] أي: لا يصح هذا الجواب عن إشكال التضاد بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري، وهو منسوب إلى المحقق الفشاركي، وكذا إلى الشيخ الأعظم، وحاصل الجواب: هو أن الحكمين في مرتبتين، حيث إن موضوع الحكم الواقعي هو الشيء بما هو، وموضوع الظاهري هو الشيء المشكوك، فاختلف الموضوع، فلا تضاد!! لأن من شروط التضاد اتحاد الموضوع.

[8] أي: مرتبة الشيء بما هو، ومرتبة الشيء بما هو مشكوك.

[9] المرتبة الأولى هي الحكم الواقعي، والمرتبة الثانية هي الشك في الحكم الواقعي، وفي الوصول: (إذ موضوع الحكم الواقعي هو الشيء، وموضوع الحكم

ص: 308

وذلك[1] لا يكاد يجدي، فإن الظاهري وإن لم يكن في تمام مراتب الواقعي[2]، إلاّ أنه يكون[3] في مرتبته أيضاً، وعلى تقدير المنافاة[4] لزم اجتماع المتنافيين في هذه المرتبة.

فتأمل في ما ذكرنا من التحقيق في التوفيق، فإنه دقيق وبالتأمل حقيق.

ثالثها[5]:

-----------------------------------------------------------------

الظاهري هو الشك في الحكم الواقعي، فيلزم أولاً الموضوع ثم الحكم الواقعي ثم الشك في الحكم الواقعي ثم الحكم الظاهري)(1).

[1] أي: عدم صحة هذا الجواب لأجل أنه في مرتبة الحكم الظاهري يوجد الحكم الواقعي أيضاً؛ لأن الشارع لم يرفع يده عن الحكم الواقعي حين الشك، فحين الشك اجتمع الحكمان: الظاهري والواقعي.

[2] لأن الظاهري خاص بصورة الشك، والواقعي موجود في المراحل السابقة على الشك.

[3] أي: إلاّ أن الحكم الواقعي يكون في مرتبة الحكم الظاهري - أي: في مرتبة الشك - حيث لم يرفع الشارع يده عن حكمه الواقعي حين الشك.

[4] بأن يكون الحكم الواقعي الوجوب، والحكم الظاهري الحرمة - مثلاً - .

المقدمة الثالثة

[5] أي: ثالث الأمور من المقدمات، فبعد أن أثبتنا إمكان التعبد بالأمارة غير العلمية نذكر هنا الأصل الذي يرجع إليه حين الشك، ثم نذكر في الفصول اللاحقة الموارد التي ثبتت حجيتها.

وحاصل المقدمة الثالثة هو: إن غير القطع يحتاج إلى جعل الحجية، فمع العلم بالحجية تترتب آثارها من صحة المؤاخذة ونحوها - مما سيأتي بيانها - ومع عدم العلم بالحجية يحكم العقل جزماً بعدم ترتب الآثار أصلاً، وهذا معنى قولهم: (الشك

ص: 309


1- الوصول إلى كفاية الأصول 3: 397.

إن الأصل في ما لا يعلم اعتباره بالخصوص شرعاً ولا يحرز[1] التعبد به واقعاً، عدم[2] حجيته جزماً، بمعنى[3] عدم ترتب الآثار المرغوبة من الحجة عليه قطعاً، فإنها[4] لا تكاد تترتب[5] إلاّ على ما اتصف بالحجية فعلاً، ولا يكاد[6] يكون الاتصاف بها إلاّ إذا أحرز التعبد به وجعله طريقاً متبعاً، ضرورة[7] أنه بدونه لا يصح المؤاخذة[8]

-----------------------------------------------------------------

في الحجية موضوع عدم الحجية) أي: مع عدم العلم بالحجية نقطع بعدم ترتب آثارها.

[1] إما عطف تفسيري على «لا يعلم اعتباره...»، وإما أن يكون «لا يعلم...» في صورة الانفتاح و«لا يحرز...» في صورة الانسداد بناءً على الكشف، وإما «لا يعلم...» في صورة العلم بالحجية و«لا يحرز...» في صورة وجود دليل معتبر على الحجية.

[2] خبر (إن الأصل).

[3] لأن الحجية هي بمعنى التنجيز والإعذار، وهذه الآثار هي عبارة أخرى عنهما - أي: عن التنجيز والإعذار - ، «عليه» أي: على ما لا يعلم اعتباره.

[4] «فإنها» أي: فإن الآثار، وهذا دليل عدم ترتب الآثار.

[5] بحكم العقل القطعي، «فعلاً» أي: الحجية المحرزة خارجاً.

[6] أي: لا يمكن اتصاف الدليل بكونه حجة فعلاً إلاّ إذا أحرز أن الشارع جعله حجة وتعبَّدنا به، «بها» بالحجية، «التعبد به» مرجع الضمير هو (ما لا يعلم اعتباره بالخصوص شرعاً) وكذا كثير من الضمائر اللاحقة، وسنرجعها إلى المعنى اختصاراً.

[7] «أنه» للشأن، «بدونه» بدون الإحراز، وهذا دليل لعدم ترتب الآثار إلاّ إذا أحرز التعبد.

[8] فإن آثار الحجية أربعة:

1- صحة العقوبة على المخالفة إن أصابت الواقع.

ص: 310

على مخالفة التكليف بمجرد إصابته[1]، ولا يكون عذراً لدى مخالفته مع عدمها[2]، ولا يكون مخالفته تجرياً، ولا يكون موافقته بما هي موافقة[3] انقياداً، وإن كانت[4] بما هي محتملة لموافقة الواقع كذلك إذا وقعت برجاء إصابته. فمع[5] الشك في التعبد به يقطع بعدم حجيته وعدم ترتيب شيء من الآثار عليه، للقطع بانتفاء الموضوع معه[6]، ولعمري هذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة برهان.

-----------------------------------------------------------------

2- كونه عذراً لو خالف الواقع إن أخطأت الأمارة.

3- التجريّ في مخالفة الأمارة المخطئة للواقع.

4- الانقياد في موافقة الأمارة المخطئة.

وكل ما لم يكن حجة أو كان مشكوك الحجية فإن العقل لا يرتب أي أثر من هذه الآثار.

[1] أي: إصابة الدليل المشكوك للواقع، فإنه حينئذٍ لو خالف فلا يحكم العقل بصحة عقوبته، بل يحكم بعدم صحتها، فانتفى الأثر الأول.

[2] أي: لدى مخالفة الدليل المشكوك للواقع مع عدم الإصابة، فإنه لو خالف الواقع فإنه لا يصح الاعتذار بهذا الدليل المشكوك، فانتفى الأثر الثاني.

[3] أي: الإتيان بالعمل لموافقة الدليل المشكوك الحجية ليس بانقياد. نعم، الاحتياط للوصول إلى الواقع هو انقياد، لكنه لا ربط له بموافقة الدليل المشكوك.

[4] أي: الموافقة، «كذلك» أي: انقياداً، فإن الاحتياط للوصول إلى الواقع برجاء الإصابة هو انقياد، وهذا لا ربط له بالدليل المشكوك، «إصابته» أي: إصابة الواقع.

[5] هذا نتيجة ما سبق، أي: حين الشك لا تترتب الآثار بحكم العقل، فنقطع بعدم الحجية، «التعبد به» أي: بالدليل، «عدم حجيته» أي: الدليل.

[6] لأن موضوع الحجية هو (العلم بالحجية)، ومع انتفاء الموضوع ينتفي الحكم قهراً بحكم العقل.

ص: 311

وأما[1] صحة الالتزام بما أدى إليه[2] من الأحكام وصحة نسبته إليه[3] «تعالى»،فليسا[4] من آثارها، ضرورة[5] أن حجية الظن عقلاً - على تقرير الحكومة في حال الانسداد - لا توجب صحتهما[6]، فلو فرض[7] صحتهما شرعاً مع الشك

-----------------------------------------------------------------

[1] ذكرنا أربعة آثار للحجية، وقد أضاف الشيخ الأعظم(1)

أثرين:

أحدهما: صحة الالتزام القلبي بأنه حكم الله تعالى.

الثاني: صحة نسبته إلى الشارع المقدس.

وحين الشك في الحجية لا يصح الالتزام ولا تصح النسبة؛ لقيام الأدلة على عدم صحتهما، وبذلك نكتشف عدم الحجية لعدم وجود أثرها.

[2] أي: «بما» بالحكم الذي، «أدى» الدليل المشكوك، «إليه» إلى ذلك الحكم.

[3] أي: نسبة المؤدّى إلى الله تعالى.

[4] إشكال على الأثرين، وحاصل الإشكال: إن هذين الأمرين ينفكان عن الحجية، ولو كانا من آثار الحجية لم يمكن انفكاكهما؛ لأن الأثر إما بمعنى أنه معلول أو أنه لازم، ولا يمكن انفكاك المعلول عن علته، كما لا ينفك اللازم عن الملزوم.

[5] هذا الإشكال الأول وإثبات الانفكاك في ما لو قلنا بالانسداد وبحكومة العقل بحجية الظن، فإن الظن حينئذٍ حجة مع عدم صحة نسبة المؤدّى إلى الشارع وعدم صحة الالتزام؛ لعدم حكم للشارع وإنّما الحكم للعقل.

[6] أي: صحة الالتزام والنسبة.

[7] هذا إشكال ثانٍ، لكن المصنف دمجه مع الإشكال الأول بفاء التفريع؛ لأن فيه إثبات الانفكاك أيضاً - كالأول - .

وحاصله: إنه يمكن أن تصح النسبة ويصح الالتزام ولكن مع عدم جعل الحجية. وهذا الفرض وإن لم يتحقق خارجاً إلاّ أن إمكانه دليل على عدم كون

ص: 312


1- فرائد الأصول 1: 131.

في التعبد به لما كان يجدي[1] في الحجية شيئاً ما لم يترتب عليه ما ذكر من آثارها[2]، ومعه[3] لما كان يضر عدم صحتهما أصلاً، كما أشرنا إليه آنفاً. فبيان عدم صحة الالتزام مع الشك في التعبد، وعدم جواز إسناده إليه تعالى غير مرتبط بالمقام، فلا يكون الاستدلال عليه بمهم، كما أتعب به شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - نفسه الزكية، بما أطنب من النقض والإبرام(1)،

فراجعه بما علّقناه عليه(2)، وتأمل.

وقد انقدح بما ذكرنا: أن الصواب في ما هو المهم في الباب ما ذكرنا في تقرير الأصل[4]، فتدبر جيداً.

-----------------------------------------------------------------

الحجية علة لصحتهما، ولا هما لازمين لها؛ وذلك لعدم إمكان انفكاك المعلول عن علته، ولا اللازم عن الملزوم، فمجرد إمكان الانفكاك دليل على عدم العلية وعدم التلازم.

والفرق بين الإشكالين هو أن الأول إثبات الحجية مع عدم صحتهما، والثاني إمكان صحتهما مع عدم الحجية.

[1] أي: ما كان تجدي صحة الالتزام والنسبة.

[2] الأربعة التي مرت آنفاً، فإنّها لا تنفك عن الحجية أصلاً.

[3] أي: مع ترتب تلك الآثار الأربعة لا يضر بالحجية عدم صحة النسبة والالتزام، وكذلك صحتهما. والحاصل: إن صحتهما أو عدم صحتهما بحث مهم، لكنه غير مرتبط بالمقام الذي هو ترتيب أو عدم ترتيب آثار الحجية على الدليل المشكوك.

[4] وهو أن الشك في الحجية موضوع عدم الحجية عقلاً، لا ما ذكره الشيخ من أنه مع الشك في الحجية قام الدليل الشرعي على عدم جواز الاستناد إلى الشارع، وعدم جواز الالتزام القلبي به، وحينئذٍ نكتشف عدم الحجية؛ وذلك لأن هذين

ص: 313


1- فرائد الأصول 1: 131.
2- درر الفوائد: 41.

إذا عرفت ذلك، فما خرج موضوعاً[1] عن تحت هذا الأصل أو قيل بخروجه، يذكر في ذيل فصول:

فصل: لا شبهة في لزوم اتّباع ظاهر كلام الشارع في تعيين مراده في الجملة[2]، لاستقرار[3] طريقة العقلاء على اتباع الظهورات في تعيين المرادات، مع القطع بعدم الردع عنها، لوضوح[4] عدم اختراع طريقة أخرى في مقام الإفادة لمرامه من كلامه،كما هو واضح.

-----------------------------------------------------------------

ليسا أثراً للحجية، حتى نكتشف عدم الحجية حين عدمهما.

[1] لأن موضوع عدم الحجية هو (الشك في الحجية)، وأما معلوم الحجية فهو خارج عن موضوع هذا الأصل.

فصل حجية ظواهر الألفاظ

اشارة

[2] فإن بعض المصاديق لا خلاف فيها ولا إشكال - وهو الحجية لمن قصد إفهامه وظنّ بالظاهر - ولكن هناك خلاف في بعض التفاصيل. فمنهم من قيّد الحجية بما إذا ظن المكلف بالظاهر، ومنهم من قيدها بعدم الظن بخلاف الظاهر، ومنهم من قيدها بمن قصد إفهامه، فلا حجة لمن لم يقصد إفهامه، وسيأتي الإشارة إليها.

[3] هذا هو الدليل القطعي على حجية الظواهر للألفاظ، وهو مركب من أمرين:

1- استقرار سيرة العقلاء على العمل بالظواهر.

2- عدم ردع الشارع عن هذه السيرة قطعاً؛ لعدم وجود ردع لفظي، ولا ردع عملي باختراع طريقة جديدة في المحاورات.

[4] هذا دليل القطع بعدم الردع.

ص: 314

والظاهر[1] أن سيرتهم على اتباعها من غير تقييد بإفادتها للظن فعلاً[2]، ولا بعدم الظن كذلك[3] على خلافها قطعاً؛ ضرورة[4] أنه لا مجال عندهم للاعتذار عن مخالفتها بعدم إفادتها للظن بالوفاق ولا بوجود الظن بالخلاف.

كما أن الظاهر[5] عدم اختصاص ذلك[6] بمن قصد إفهامه، ولذا[7] لا يسمع

-----------------------------------------------------------------

التفصيل الأول وردّه

[1] حيث إن البعض اختار حجية الظواهر بشرط إفادتها الظن الشخصي بمراد المتكلّم.

واختار الآخر الحجية بشرط عدم الظن على خلاف الظواهر، وقد نسب الشيخ الأعظم هذين القولين إلى بعض معاصريه(1).

وكلا القولين محل تأمل، بل سيرة العقلاء على حجية الظواهر للألفاظ مطلقاً، سواء أفادت الظن أم لا، وسواء كان ظن بخلافها أم لا.

[2] أي: الظن الشخصي، بل يكفي الظن النوعي بتلك الظواهر وإن لم يظن السامع في مورد من الموارد.

[3] أي: فعلاً، بمعنى الظن الشخصي.

[4] دليل عدم تقييد الحجية بالظن بالوفاق أو عدم الظن بالخلاف.

التفصيل الثاني وردّه

[5] نسب إلى المحقق القمي(2)

التفصيل في الحجية، بين من قصد إفهامه بالكلام فالظاهر حجة له، وبين من لم يقصد إفهامه فالظاهر غير حجة له.

[6] أي: اتباع العقلاء للظواهر.

[7] استدل المصنف على حجية الظواهر حتى لمن لم يقصد إفهامه بأمرين، يكتشف منهما الحجية لدى العقلاء مطلقاً:

ص: 315


1- فرائد الأصول 1: 170.
2- قوانين الأصول 1: 398.

اعتذار من لا يقصد إفهامه إذا خالف ما تضمنه ظاهر كلام المولى من تكليف يعمه أو يخصه[1]، ويصح به[2] الاحتجاج لدى المخاصمة واللجاج، كما تشهد به[3] صحة الشهادة بالإقرار من كل من سمعه ولو قصد عدم إفهامه فضلاً عما إذا لم يكن بصدد إفهامه.

ولا فرق في ذلك[4]

-----------------------------------------------------------------

الأول: عدم قبول عذر من لم يقصد إفهامه لو خالف، مثلاً: لو خاطب الملك وزيره وأمره بأمر وكان ذلك الأمر عاماً لجميع العبيد، أو خاصاً بأحدهم، فلو خالف العبد فإنه لا يقبل عذره بأنه لم يكن مخاطباً، وقد قصد المولى إفهام غيره لا هو.

الثاني: صحة الاستناد إلى الكلام ولو ممن لم يقصد إفهامه، بل حتى لو قصد عدم إفهامه، كما لو أقرّ المنكر في مجلس خاص، وسمعه أحدهم صدفة، وحتى لو كان المنكر يحاول إخفاء الإقرار عنه فهمس لكن سمعه الشخص، فإنه يصح الاستناد إلى هذا الإقرار والشهادة عليه.

ومن ذلك يكشف أن بناء العقلاء على حجية الظواهر مطلقاً حتى لمن لم يقصد إفهامه، وحتى إذا قصد عدم إفهامه.

[1] أي: يعم من لم يقصد إفهامه، أو يخصّه، كما لو أمر المولى أحد العبيد بأمر عام لكلهم، أو أمره بأن يوصل طلب المولى إلى أحدهم، فلو سمع العبد المأمور هذا الأمر صدفة فإنه يجب عليه الامتثال، ولا يصح له الاعتذار.

[2] أي: بظاهر الكلام، وهذا هو الدليل الثاني.

[3] أي: بصحة الاحتجاج، «من سمعه» أي: سمع الإقرار.

التفصيل الثالث وردّه بين الكتاب الكريم وبين غيره من الظواهر
اشارة

[4] أي: في حجية ظواهر الألفاظ.

ص: 316

بين الكتاب المبين، وأحاديث سيد المرسلين، والأئمة الطاهرين. وإن ذهب بعض الأصحاب(1) إلى عدم حجية ظاهر الكتاب.

إما بدعوى[1] اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله[2] ومن خوطب به، كما يشهد به ما ورد في ردع أبي حنيفة[3] وقتادة[4] عن الفتوى به.

-----------------------------------------------------------------

الدليل الأول

[1] هذا دليلهم الأول، وحاصله: هو عدم وجود ظاهر للكتاب؛ لأن فهم القرآن مختص بالرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وأهل بيته عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، وأنهم المخاطبون به لا غيرهم، واستدل لذلك ببعض الروايات.

[2] وهم الراسخون في العلم، أي: الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ والأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

[3] فعن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنه قال لأبي حنيفة: (أنت فقيه أهل العراق؟ قال: نعم. قال: فبِمَ تفتيهم؟ قال: بكتاب الله وسنة نبيّه!! قال: يا أبا حنيفة، تعرف كتاب الله حق معرفته، وتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: نعم!! قال: يا أبا حنيفة، لقد ادعيت علماً!! ويلك، ما جعل الله ذلك إلاّ عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم، ويلك، ولا هو إلاّ عند الخاص من ذرية نبينا محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، وما ورّثك الله من كتابه حرفاً...)(2)،

الحديث.

[4] عن الإمام الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنه قال لقتادة: (بلغني أنك تفسر القرآن؟ فقال له قتادة: نعم... إلى أن قال عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: ويحك يا قتادة، إن كنت إنما فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت قد أخذته من الرجال فقد هلكت وأهلكت... ويحك يا قتادة إنما يعرف القرآن من خوطب به)(3).

ص: 317


1- الفوائد المدنية: 178؛ الدرر النجفية: 34.
2- وسائل الشيعة 27: 47.
3- الكافي 8: 311.

أو بدعوى[1] أنه لأجل احتوائه على مضامين شامخة، ومطالب غامضة عالية، لا يكاد تصل إليه أيدي أفكار أولي الأنظار الغير الراسخين(1) العالمين بتأويله[2]، كيف[3]! ولا يكاد يصل إلى فهم كلمات الأوائل[4] إلاّ الأوحدي من الأفاضل؟ فما ظنك بكلامه تعالى مع إشتماله على علم ما كان وما يكون وحكم كل شيء[5].

-----------------------------------------------------------------

الدليل الثاني

[1] حاصلها: إنه ليس للقرآن ظاهر؛ إذ هو يتضمن مضامين عالية ومطالب غامضة، لا يمكن الوصول إليها إلاّ بواسطة الراسخين في العلم.

ويشهد لذلك أن كتب العلماء - مع أنها تشتمل على قليل من المطالب العميقة - لا يفهمها إلاّ القليل من الفضلاء، مع أن مضامينها لا تقاس بمضامين القرآن الكريم.

فعن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (ليس شيء أبعد من عقول الرجال عن القرآن)(2).

[2] كما قال تعالى: {وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ}(3) والراسخون هم رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ والأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

فعن الإمام الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (فرسول الله أفضل الراسخين، قد علّمه الله جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل، وما كان الله مُنزلاً عليه شيئاً لم يعلّمه تأويله، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه...)(4).

[3] أي: كيف يصل أفكار غير الراسخين إلى القرآن، والحال أنه لا يكاد... الخ.

[4] أي: كتب المتقدمين، أو الأوائل في كل علم وهم علماء ذلك العلم.

[5] قال تعالى: {مَّا فَرَّطۡنَا فِي ٱلۡكِتَٰبِ مِن شَيۡءٖۚ}(5) وقال سبحانه: {وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ

ص: 318


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير الراسخين».
2- وسائل الشيعة 27: 203.
3- سورة آل عمران، الآية: 7.
4- تفسير العياشي 1: 164.
5- سورة الأنعام، الآية: 38.

أو بدعوى[1] شمول المتشابه الممنوع عن اتباعه للظاهر[2]، لا أقل من احتمال شموله[3] لتشابه[4] المتشابه وإجماله.

أو بدعوى[5] أنه وإن لم يكن منه[6] ذاتاً، أنه صار منه عرضاً، للعلم الإجمالي

-----------------------------------------------------------------

ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ}(1).

الدليل الثالث

[1] حاصلها: إن للقرآن ظاهراً، ولكنّا مُنعنا عن العمل به؛ وذلك لأن (الظاهر) من المتشابه، وقد نهينا عن اتباع المتشابه، قال تعالى: {فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ}(2). لا أقل من احتمال أن يكون (الظاهر) من (المتشابه) فلابد من الاحتياط؛ للعلم الإجمالي بالنهي عن المتشابه، وهو موجود بين آيات القرآن، ولعلّ الظاهر منها.

[2] متعلق ب- (شمول) أي: المتشابه يشمل الظاهر كما يشمل المُجمل.

[3] وهذا الاحتمال منجز، لما ذكرنا من العلم الإجمالي.

[4] هذا وجه الاحتمال، فإن معنى (المتشابه) غير معلوم، فهل هو يشمل الظاهر أم لا؟ و«إجماله» عطف تفسيري (للمتشابه).

الدليل الرابع

[5] حاصلها: إن القرآن ليس له ظهور؛ لكثرة التخصيص والتقييد والمجاز ونحوها مما أزالت الظهور في كثير من الآيات، وهذه الآيات غير معلومة بالتفصيل، بل هي ضمن الظواهر؛ وذلك مما يسقط الظهور رأساً؛ وذلك لعدم جريان الأصول العقلائية التي تعيّن المراد - ومنها أصالة الظهور - في أطراف العلم الإجمالي.

[7] أي: أن الظاهر وإن لم يكن من المتشابه بالذات لكنه صار من المتشابه بالعرض.

ص: 319


1- سورة النحل، الآية: 89.
2- سورة آل عمران، الآية: 7.

بطروّ التخصيص والتقييد والتجوّز في غير واحد من ظواهره، كما هو الظاهر[1].

أو بدعوى[2] شمول الأخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي لحمل[3] الكلام الظاهر في معنى على إرادة هذا المعنى.

ولا يخفى: أن النزاع يختلف صغروياً وكبروياً[4] بحسب الوجوه. فبحسب[5] غير الوجه الأخير والثالث يكون صغروياً. وأما بحسبهما فالظاهر أنه كبروي، ويكون[6] المنع عن الظاهر، إما لأنه من المتشابه قطعاً أو احتمالاً[7]،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: كما هو واضح.

الدليل الخامس

[2] حاصلها: إن الآيات لها ظهور، لكن الروايات المانعة عن التفسير بالرأي منعت عن التمسك بهذا الظهور، قال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (قال الله جل جلاله: ما آمن بي من فسر برأيه كلامي...)(1).

[3] أي: تلك الأخبار شاملة لحمل الظاهر في معنى على ذلك المعنى، فإذا قلنا: إنّ الله أراد من ذلك اللفظ ذلك المعنى كان هذا تفسيراً بالرأي.

[4] يقال: (هذا الظاهر) و(كل ظاهر حجة)، فالنزاع الصغروي هو في إنكار الظهور، والنزاع الكبروي هو عدم قبول (كل ظاهر حجة)، خلافاً لما يظهر من الشيخ الأعظم حيث جعل النزاع صغروياً مطلقاً.

[5] كما بيناه في أول كل وجه من هذه الأدلة الخمسة.

[6] عطف تفسيري، أي: النزاع الكبروي هو منع البعض عن العمل بالظاهر مع تسليم ظهوره.

[7] كما هو الوجه الثالث، فإن المتشابه له ظهور، لكن منعنا من العمل به، مثل: {وُجُوهٞ يَوۡمَئِذٖ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ}(2) لها ظهور، لكن ردعنا عن التمسك

ص: 320


1- وسائل الشيعة 27: 45.
2- سورة القيامة، الآية: 22 - 23.

أو لكون[1] حمل الظاهر على ظاهره من التفسير بالرأي.

وكل هذه الدعاوى فاسدة:

أما الأولى: فإنما المراد مما دل على اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله، اختصاص فهمه بتمامه بمتشابهاته ومحكماته[2]، بداهة[3] أن فيه ما لا يختص به[4]،

-----------------------------------------------------------------

به، بل لابد من التأويل.

[1] كما هو الوجه الخامس، فإنه يقرّ بوجود الظهور، لكن يدعي المنع عنه.

الإشكال على الدليل الأول

[2] وحاصل الإشكال على الدليل الأول في ثلاثة أوجه:

الأول: إن من القرآن ما يفهمه كل عارف باللسان، فالمراد بالأحاديث الدالة على اختصاص فهمه بأهله هو فهمه من كل الجهات.

الثاني: إن الردع إنما هو لعدم مراجعة أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ حيث يعلمون بالخاص والناسخ ونحوهما، فالممنوع هو (حسبنا كتاب الله)(1)،

أما بعد مراجعتهم وعدم وجدان ما يخالف الظواهر فلا إشكال في التمسك بالظواهر القرآنية.

الثالث: في كثير من الروايات إرجاع الرواة إلى القرآن ليستنبطوا منه، فلابد في الجمع بينهما وبين الروايات الرادعة؛ وذلك بحمل الرادعة على الردع من دون الرجوع إليهم، وحمل الآمرة على لزوم التمسك به بعد الرجوع إليهم وعدم وجدان ما يخالفه.

[3] إشارة إلى الوجه الأول من الإشكالات.

[4] أي: لا يختص بأهله، مثلاً: قوله تعالى: {قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ}(2) يفهم ظاهره كل عارف باللسان.

ص: 321


1- الأمالي (للشيخ المفيد): 36؛ مناقب آل أبي طالب 1: 236.
2- سورة الإخلاص، الآية: 1.

كما لا يخفى؛ وردع[1] أبي حنيفة وقتادة عن الفتوى به، إنما هو لأجل الاستقلال في الفتوى بالرجوع إليه من دون مراجعة أهله، لا عن الاستدلال بظاهره مطلقاً ولو مع الرجوع إلى رواياتهم والفحص عما ينافيه[2] والفتوى به مع اليأس عن الظفر به[3]؛ كيف[4]! وقد وقع في غير واحد من الروايات الإرجاع إلى الكتاب والاستدلال بغير واحد من آياته[5].

وأما الثانية: فلأنّ[6] احتواءه على المضامين العالية الغامضة، لا يمنع عن فهم

-----------------------------------------------------------------

[1] إشارة إلى الوجه الثاني من الإشكالات.

[2] أي: عما ينافي الظاهر من تخصيص، أو تقييد، أو قرينة مجاز، أو تأويل، ونحوها.

[3] وهنا نقطة الافتراق، حيث إن الأخباريين يقولون بلزوم التوقف في ما لا تفسير فيه عن المعصوم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، والأصوليون قالوا بالعمل على حسب الظاهر الذي لا حديث فيه، مع اتفاق الطرفين على وجوب العمل على حسب تفسير المعصوم وإن خالف الظاهر.

[4] هذا الوجه الثالث من الإشكالات، أي: كيف لا يمكن الاستدلال بظاهر القرآن والحال أنه قد وقع... الخ؟

[5] كقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله، ما جعل عليكم في الدين من حرج)(1).

وكذا حديث الثقلين، والأحاديث الآمرة بعرض الروايات على القرآن(2)...

وغيرها.

الإشكال على الدليل الثاني

[6] حاصله: إن تلك المعاني الغامضة إنما هي في بطون القرآن، أما ظواهره فهي واضحة لدى كل أهل اللسان، مع أنها مشتملة على المضامين العالية أيضاً، بل

ص: 322


1- الكافي 3: 33.
2- المحاسن 1: 220.

ظواهره المتضمنة للأحكام وحجيتها، كما هو محل الكلام.

أما الثالثة: فللمنع[1] عن كون الظاهر من المتشابه، فإن الظاهر[2] كون المتشابه هو خصوص المجمل[3]، وليس[4] بمتشابه ومجمل.

وأما الرابعة: فلأنّ[5] العلم إجمالاً بطروء إرادة خلاف الظاهر إنما يوجب

-----------------------------------------------------------------

هذا من معاجز القرآن، حيث يفهم ظاهره أهل اللسان مع علّو مضامينه، قال تعالى: {وَلَقَدۡ يَسَّرۡنَا ٱلۡقُرۡءَانَ لِلذِّكۡرِ فَهَلۡ مِن مُّدَّكِرٖ}(1)، ولذا كان العرب الجاهليون الأمّيون ينحنون أمام عظمة القرآن، ولو لم يفهموا ظواهره لما كان ذلك، كما يشاهد بالنسبة إلى من لا يفهم العربية، حيث لا يفقه شيئاً ولا يتأثر.

الإشكال على الدليل الثالث

[1] حاصله: هو أن لفظ (المتشابه) نص في المجمل فقط ولا يشمل غيره، كما هو واضح لدى أهل اللسان، وأما الظاهر فليس من المتشابه قطعاً.

[2] أي: فإن من البديهي والواضح.

[3] أي: (المتشابه) نص في المجمل. ولا يخفى أن المصنف لا يريد الاستدلال بظهور لفظ المتشابه حتى يرد عليه إشكال الدور، بل يريد القول: إنه نص وليس ظاهراً.

[4] أي: ليس الظاهر بمتشابه، وقوله: (ومجمل) عطف تفسيري.

الإشكال على الدليل الرابع

[5] أجاب المصنف عن الدليل الرابع بأمرين:

الأول: إن هذا العلم الإجمالي ينحل بعد الفحص ووجدان الموارد التي ما أريد الظاهر منها، كالمخصصات والمقيدات والمجازات، فما علم بأن الظاهر غير مراد يؤخذ بالدليل المخصِّص أو المقيِّد ونحوهما، وفي غير تلك الموارد لا علم لنا ببقاء ظاهر مع عدم إرادته، فتجري أصالة إرادة الظاهر.

ص: 323


1- سورة القمر، الآية: 17 - 22 - 32 - 40.

الإجمال[1] في ما إذا لم ينحل بالظفر في الروايات بموارد إرادة خلاف الظاهر بمقدار[2] المعلوم بالإجمال. مع[3] أن دعوى اختصاص أطرافه[4] بما إذا تفحص عما يخالفه[5] لظفر به، غير بعيدة، فتأمل جيداً.

وأما الخامسة[6]:

-----------------------------------------------------------------

كما لو سقطت قطرة دم في إناءين، ثم بعد الفحص تبين الإناء النجس، فينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بنجاسة أحدهما المعلوم، وشك بدوي في الآخر، فيكون مسرحاً لأصالة الطهارة.

[1] أي: إجمال الظواهر ودخولها في المتشابه، «إذا لم ينحل» أي: العلم الإجمالي.

[2] لأنه لو كان الظفر بأقل من المعلوم الإجمالي فإنه لا ينحل العلم، كما لو علم بنجاسة خمسة من عشرة آنية ثم تبين أربعة منها، فإن العلم الإجمالي في الستة يبقى بحاله. والباء في قوله: «بموارد» و«بمقدار» متعلّقه ب- (الظفر).

[3] هذا هو الجواب الثاني، وحاصله: إن العلم الإجمالي قد ينحل بشكل كامل، وقد ينحل في بعض الموارد. مثلاً: لو علم بنجاسة مجموعة من الأواني ضمن مقدار محصور فإنه يجب عليه اجتنابها كلها، فلو فحص في أحدها وتبين عدم نجاسته فإن العلم الإجمالي ينحل في هذا الواحد، ويبقى في الباقي على حاله.

وهنا في كل حكم وارد في القرآن الكريم لو فحصنا عن خلاف الظاهر فيه ولم نجده فإن العلم الإجمالي بالنسبة إلى تلك الآية ينحل حتى لو بقي في غيرها.

[4] أي: اختصاص وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي.

[5] أي: عما يخالف الظاهر في كل آية آية بانفرادها، «لظفر به» أي: بالمخالف.

الإشكال على الدليل الخامس

[6] أجاب المصنف عنها بثلاثة وجوه:

الأول: إن حمل اللفظ على ظاهره ليس من التفسير أصلاً.

ص: 324

فيمنع كون حمل الظاهر[1] على ظاهره من التفسير، فإنه كشف القناع، ولا قناع للظاهر. ولو سلم[2] فليس من التفسير بالرأي، إذ الظاهر أن المراد بالرأي هو الاعتبار الظني[3] الذي لا اعتبار به[4]، وإنما كان منه[5] حمل اللفظ على خلاف ظاهره، لرجحانه بنظره[6]، أو حمل المجمل على محتمله بمجرد مساعدته ذاك

-----------------------------------------------------------------

الثاني: لو فرض أنه تفسير فليس تفسيراً بالرأي؛ لأن المراد من الرأي هو الذوق الذي لا دليل على اعتباره.

الثالث: لو فرض أنه تفسير بالرأي فإن الأدلة الآمرة بالتمسك بالقرآن تخصص الأدلة الناهية عن التفسير بالرأي؛ لأن الأدلة الناهية عامة، والأدلة الآمرة خاصة، وهذا مقتضى الجمع بحمل العام على الخاص.

[1] أي: حمل اللفظ الذي له ظهور على المعنى الذي كان ظاهراً من اللفظ، «فإنه» أي: فإن التفسير.

[2] هذا هو الجواب الثاني، أي: ولو سلّم أن من التفسير: حمل اللفظ على ظاهره.

[3] أي: الذوق الذي لا دليل عليه، وإنما هو حسب ميل الشخص، وهو لا يفيد أكثر من الظن.

[4] أي: الذي لا دليل عليه، أو الدليل على عدم حجيته.

[5] أي: من الرأي، حيث ذكر المصنف أن حمل اللفظ على الظاهر ليس تفسيراً بالرأي، ثم بيّن معنى الرأي، وهو حمل اللفظ على خلاف الظاهر، أو حمل المشتبه أو المشترك على أحد المعنيين من دون قرينة تعيّن المراد.

[6] أي: يحمل اللفظ على خلاف الظاهر؛ لأن ذوقه يقتضي ذلك المعنى، كتفسير بعضهم لقوله تعالى: {وَٱضۡرِبُوهُنَّۖ}(1) بأن المراد الضرب في الأرض أي: السفر، مع أن هذا المعنى خلاف الظاهر جداً، بل غلط.

ص: 325


1- سورة النساء، الآية: 34.

الاعتبار، من دون السؤال عن الأوصياء، وفي بعض الأخبار[1] «إنما هلك الناس في المتشابه، لأنهم لم يقفوا على معناه ولم يعرفوا حقيقته فوضعوا له تأويلاً من عند أنفسهم بآرائهم واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء فيعرفونهم»(1)

هذا.

مع[2] أنه لا محيص عن حمل هذه الروايات الناهية عن التفسير به على ذلك[3] ولو سلم شمولها لحمل اللفظ على ظاهره، ضرورة أنه[4] قضية التوفيق بينها وبين

-----------------------------------------------------------------

[1] استدلال بالحديث على أن معنى التفسير بالرأي هو حمل اللفظ المجمل على معنى من دون الرجوع إلى الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

[2] هذا هو الجواب الثالث.

[3] «به» أي: بالرأي، «ذلك» أي: خلاف الظاهر، «ولو» وصلية.

والحاصل: إن هناك روايات متواترة آمرة بالتمسك بالقرآن، ولا معنى للتمسك إلاّ بالعمل بالظواهر؛ لندرة النص جداً، وهذه الروايات أخص من الروايات الناهية عن التفسير بالرأي؛ لأنها - حسب الفرض - تشمل: حمل اللفظ على الظاهر، وحمل المتشابه على أحد معنييه من غير قرينة، وحمل اللفظ على خلاف الظاهر، فلابد من تخصيص العام؛ لأنه الطريق العرفي للجمع.

لا يقال: بينهما عموم من وجه؛ لأن الرواية الآمرة كما تشمل حمل اللفظ على الظاهر كذلك تشمل حمل اللفظ على النص.

فإنه يقال: حمل الروايات الآمرة على التمسك بالنص مساوق لإلغائها؛ وذلك لقلة النص جداً، بل قيل بعدم وجود النص في آيات الأحكام سوى بعض آيات الإرث من بعض الوجوه فقط.

[4] أي: إن حمل الروايات الناهية على ذلك، وهذا وجه الجواب الثالث، «بينها» أي: بين الروايات الناهية عن التفسير بالرأي.

ص: 326


1- وسائل الشيعة 27: 200، لكن لا توجد في النص كلمة (فيعرفونهم).

ما دل على جواز التمسك بالقرآن، مثل خبر الثقلين[1]، وما دل على التمسك به[2] والعمل بما فيه[3]، وعرض الأخبار المتعارضة عليه[4]، وردَّ الشروط المخالفة له[5]، وغير ذلك مما لا محيص عن إرادة الإرجاع إلى ظواهره، لا خصوص نصوصه، ضرورة[6] أن الآيات التي يمكن أن تكون مرجعاً في باب تعارض الروايات

-----------------------------------------------------------------

[1] المتواتر بين الفريقين، بألفاظ متقاربة، فقد قال الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي)(1).

[2] أي: بالقرآن، كقول رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فإنه شافع مشفع وماحل مصدق، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة...)(2).

[3] كوصية أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (الله الله في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم)(3).

[4] كقول الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردوه...)(4).

[5] كقول الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (من اشترط شرطاً مخالفاً لكتاب الله فلا يجوز له...)(5).

[6] دليل على أن المراد والروايات الآمرة بالتمسك هو التمسك بظاهره؛ وذلك لندرة النصوص.

ص: 327


1- بصائر الدرجات: 412؛ دعائم الإسلام 1: 28؛ معاني الأخبار: 90؛ مسند أحمد بن حنبل 3: 14؛ سنن الدارمي 2: 432؛ صحيح مسلم 7: 123.
2- الكافي 2: 598.
3- نهج البلاغة، الرسائل: 47.
4- وسائل الشيعة 27: 118.
5- الكافي 5: 169.

أو الشروط[1] أو يمكن أن يتمسك بها ويعمل بما فيها[2]، ليست إلاّ ظاهرةً في معانيها، ليس فيها ما كان نصاً، كما لا يخفى.

ودعوى[3] العلم الإجمالي بوقوع التحريف[4] فيه بنحوٍ إما بإسقاط أو تصحيف[5] وإن كانت غير بعيدة[6]، كما يشهد به بعض الأخبار[7] ويساعده الاعتبار[8]،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: تكون مرجعاً في باب الشروط حتى نعلم بموافقتها للكتاب أو مخالفتها.

[2] وهي آيات الأحكام.

ردّ التحريف في القرآن

[3] حاصل هذه الدعوى: إن وقوع التحريف في الكتاب يمنع عن التمسك به؛ إذ لا يعلم بموارد السِقط فيه، فلا يمكن الاعتماد على ظاهر ما تبقى!!

[4] «التحريف» هو التغيير، واتفقت الأمة على عدم وقوع الزيادة في القرآن، وأما النقيصة فلم يقع فيه أيضاً كما هو الحق والمشهور شهرة عظيمة، ولا يعبأ بروايات باطلة روت أكثرها العامة وروى بعضها بعض الأصحاب.

[5] «التصحيف» هو التغيير في اللفظ المؤدي إلى تغيير المعنى، كما في القراءات التي تخالف القراءة المشهورة المتواترة.

[6] بل بعيدة وباطلة.

[7] هذه الأخبار إما لا دلالة فيها، بل ناظرة إلى التفسير أو التأويل، وإما لها محمل صحيح لا يستلزم منه القول بالتحريف، وإما ضعيفة واهية يلوح منها آثار الوضع والاختلاق.

[8] منشأ هذا الاعتبار هو عدم التدبر في الآيات وخاصة لمن ليسوا من أهل اللسان، وإلاّ ففي غير المتشابهات المعاني واضحة ظاهرة، والربط والنظم أيضاً في غاية الوضوح.

ص: 328

إلاّ أنه[1] لا يمنع عن حجية ظواهره[2]، لعدم العلم بوقوع خلل فيها بذلك[3] أصلاً. ولو سلم[4] فلا علم بوقوعه في آيات الأحكام. والعلم[5] بوقوعه فيها أو في غيرها من الآيات، غير ضائر بحجية آياتها[6]، لعدم حجية ظاهر سائر الآيات[7].

-----------------------------------------------------------------

[1] شروع في بيان وجه عدم إخلاله بالظواهر.

أولاً: لو فرض - محالاً - وقوعه فإن التحريف لا يخل بالظاهر، مثلاً: لو أمر المولى عبده بعشرة أوامر ولم يصل الأمر العاشر إليه، فإن ذلك لا يخل بظواهر الأوامر التسعة الأولى.

ثانياً: لو سُلّم إخلال التحريف بالظاهر فإن العلم الإجمالي بوقوعه غير منجز؛ وذلك لأن العلم الإجمالي إنما يوجب الاحتياط لو كانت الأطراف كلها محلاً للابتلاء، أما لو كان بعضها خارجاً عن محل الابتلاء فلا يتنجز، كما لو علم بنجاسة إنائه أو إناء ملك الهند، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى، وهنا آيات الأحكام هي محل الابتلاء، أما سائر الآيات فليس فيها حكم، بل هي مواعظ وإرشادات، وبذلك لا يُعلم أن التحريف - على فرضه محالاً - واقع في آيات الأحكام، بل يفرض فيها أو في غيرها، وبذلك يكون العلم الإجمالي غير منجز.

[2] أي: ظواهر القرآن، وهذا هو الجواب الأول.

[3] أي: في الظواهر، «بذلك» بالتحريف - المزعوم - .

[4] هذا هو الجواب الثاني، «بوقوعه» أي: التحريف - المزعوم - .

[5] بيان لعدم تنجز العلم الإجمالي بسبب خروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء، «بوقوعه» التحريف، «فيها» في آيات الأحكام.

[6] أي: آيات الأحكام.

[7] المقصود هو عدم ترتب تكليف على بقية الآيات؛ وذلك لأن الغرض منها الوعظ والإرشاد والتذكير ونحوها.

ص: 329

والعلم الإجمالي بوقوع الخلل في الظواهر إنما يمنع عن حجيتها[1] إذا كانت كلها حجة، وإلا[2] لا يكاد ينفك ظاهر عن ذلك، كما لا يخفى، فافهم[3].

نعم[4]، لو كان الخلل المحتمل فيه أو في غيره[5] بما اتصل به[6] لأخل بحجيته[7]، لعدم انعقاد ظهور له حينئذٍ، وإن انعقد له الظهور لو لا اتصاله[8].

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: حجية الظواهر.

[2] بيان أن العلم الإجمالي بوجود خلل في الظواهر - حتى في ما لم تكن محلاً للابتلاء - لو كان مضراً بها للزم سقوط كل الظواهر عن الحجية؛ وذلك لأنا نعلم أن المتكلمين لا يريدون الظواهر في بعض الأحيان، وتخفى القرينة أو يحرّف كلامهم.

[3] لعله إشارة إلى أن الآيات كلها حجة وتستلزم تكليفاً، كالاعتقاد بها والاهتداء بضوئها والإخبار بمضامينها، ونحو ذلك.

أو إشارة إلى أنه لم يدع أحد وقوع التحريف في آيات الأحكام، بل كل ما ادعي في آيات الولاية والبراءة ونحوها.

[4] إشكال على الجواب الأول، وحاصله: إن التحريف لا يخلّ بالظاهر بشرط أن يكون في كلام مستقل، أما لو احتمل تحريف قرينة متصلة أو في الكلام المتصل فيضر بالظاهر، فلا ينعقد ظهور.

[5] أي: في ظاهر آيات الأحكام أو في غير هذا الظاهر من سائر الآيات؛ لأن احتمال سقوط كلام متصل - قد يكون قرينة أو يكون مغيراً للظهور - يمنع عن انعقاد الظهور، فلا ظهور حينئذٍ ليكون حجة.

[6] الباء متعلقة بالخلل، أي: الخلل بما اتصل بالظاهر.

[7] أي: بحجية ظاهر آيات الأحكام، «له» أي: للظاهر - لو لا الخلل - ، «حينئذٍ» أي: حين احتمال خلل في المتصل.

[8] أي: لو لا اتصال الظاهر بما يحتمل أن يغير المعنى - مثلاً - .

ص: 330

ثم إن التحقيق[1]

-----------------------------------------------------------------

اختلاف القراءات

[1] لا بأس بأن ننقل هنا ما ذكرناه في شرح أصول الكافي(1)

- في بحث البداء - :

قال الإمام الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (إن القرآن واحد نزل من عند الواحد ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة) (2)،

فكل القراءات ليست قرآناً إلاّ القراءة المشهورة، التي عليها عامة المسلمين في كل العصور، وقد فصّل السيد الوالد (رضوان الله عليه) ذلك في كتاب الوصائل، فراجع(3).

وقراءتهم هي قراءة الإمام علي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، التي رواها - كما هي - حفص، عن عاصم، عن عبدالله بن حبيب، عن علي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، وفي الحديث عن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (إن كان ابن مسعود لا يقرأ على قراءتنا فهو ضال، فقال ربيعة: ضال؟ فقال: نعم، ضال، ثم قال أبو عبدالله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: أما نحن فنقرأ على قراءة أبي)(4)،

أي: قراءة أبيه الإمام الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، ويمكن أن يريد أُبَيّ بن كعب، لأنه قرأ على نفس هذه القراءة المشهورة، ورواها أيضاً حفص عن عاصم عن عبدالله بن حبيب عن أُبي بن كعب.

والطريف أن القرائين المشهورة المتداولة في أيدي المسلمين هي على هذه القراءة بهذه الرواية، وهؤلاء الرواة كلهم من الشيعة الكوفيين، فحفص هو: حفص بن سليمان بن المغيرة الأسدي الكوفي، عن عاصم بن أبي النجود الكوفي، عن أبي عبدالرحمن عبدالله بن حبيب السُلمي، وهو من خواص أصحاب أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، كما ذكره البرقي(5).

ص: 331


1- شرح أصول الكافي 2: 425.
2- الكافي 2: 630.
3- الوصائل إلى الرسائل 2: 232 - 236.
4- الكافي 2: 634.
5- الرجال (للبرقي): 5.

أن الاختلاف في القراءة بما يوجب الاختلاف في الظهور[1] - مثل {يَطۡهُرۡنَۖ} بالتشديد والتخفيف[2] -

-----------------------------------------------------------------

ثم إن في القرائين المطبوعة ذكروا أن عبدالله بن حبيب روى هذه القراءة عن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأُبَيّ بن كعب، قال بعض المطلعين: إن عبدالله بن حبيب لم يروها عن عثمان وإنما أقحموا اسمه إقحاماً.

ثم لا يخفى أن هذه هي القراءة الوحيدة المتواترة، ولا حاجة فيها إلى رواية حفص عن عاصم، وإنما تُذكر الرواية للتمييز بين هذه القراءة - الصحيحة - وبين سائر القراءات - التي كانت اجتهادات من القرّاء - وأيضاً للاحتجاج على العامة، حيث فيها إثبات أن الحافظ للقراءة المشهورة هم رجال الشيعة لا غير، بل بعض أصحاب الرجال من العامة ضعفوا بعض رجال هذه الرواية!! فعبد الله بن حبيب طعن فيه بعض الرواة - وأغلب الظن أنهم من العامة؛ لأنه كان من خواص علي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ - وكذا حفص بن سليمان ضعفه ابن حبان(1)!!

وإذا لم يأتمنوهم على رواية الأحاديث فكيف اعتمدوا عليهم في قراءة القرآن الكريم!!

[1] أي: مما يغيّر المعنى الظاهر.

[2] لأن يَطْهُرن بالتخفيف - كما هو القراءة المشهورة - يدل على حصول الطهارة ولو من غير اختيار، فيكون المعنى انقطاع الحيض، وأما يَطَّهَّرن بالتشديد فهو من باب التَفَعُّل مما يدل على الفعل الاختياري، فيكون المعنى الطهارة الصادرة بالاختيار، ولا يكون ذلك إلاّ بعد الغسل، قال تعالى: {وَيَسَۡٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡمَحِيضِۖ قُلۡ هُوَ أَذٗى فَٱعۡتَزِلُواْ ٱلنِّسَآءَ فِي ٱلۡمَحِيضِ وَلَا تَقۡرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطۡهُرۡنَۖ فَإِذَا تَطَهَّرۡنَ فَأۡتُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ أَمَرَكُمُ ٱللَّهُۚ}(2).

لكن لا يخفى أن قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرۡنَ} من باب التَفَعُّل بلا اختلاف في القراءات،

ص: 332


1- المجروحين 1: 21.
2- سورة البقرة، الآية: 222.

يوجب[1] الإخلال بجواز التمسك والاستدلال[2]، لعدم إحراز ما هو القرآن[3]، ولم يثبت تواتر القراءات[4] ولا جواز الاستدلال بها، وإن نسب إلى المشهور تواترها[5]، لكنه[6] مما لا أصل له، وإنما الثابت جواز القراءة بها[7]، ولا ملازمة

-----------------------------------------------------------------

فلا يعارضه مفهوم الغاية في قراءة التخفيف، كما أن التطهّر لا يختص بالغسل، فلعل المراد التطهر من الخبث، فتأمل.

[1] خبر إن، أي: إن التحقيق أن ذلك يوجب عدم جواز التمسك بأيّ منهما؛ وذلك لعدم معلومية القرآن الذي نزل على رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وأنه أي القراءتين؟!

[2] عطف تفسيري، أو «التمسك» في العمل، و«الاستدلال» في الفتوى.

[3] ل- «أن القرآن واحد نزل من عند واحد، ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة»(1)

كما قال الإمام الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، وعلى رأي المصنف لم يتضح لنا ذلك الواحد، فاختلط الحجة باللاحجة.

[4] عن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، بل لو صح الادعاء فإنما هو تواتر إلى القراء السبعة أو العشرة، أما منهم إلى الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فالمقطوع به عدم تواترها - إلاّ القراء المشهورة حسب ما بيّنا - .

[5] حسب علمي، فإن أول من ادعى تواترها هو الشهيد الثاني(2)، ولعله أخذه من العامة.

[6] أي: لكن النسبة إلى المشهور، أو لكن التواتر.

[7] كقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (اقرأوا كما عُلّمتم)(3)،

ولعل المراد كما تعلمتم عند المعلمين في الكتاتيب، وهم كانوا يعلّمون حسب القراءات!! لكن ادعاء جواز القراءة بها أيضاً محل تأمل.

ص: 333


1- الكافي 2: 630.
2- رسائل الشهيد الثاني 1: 628.
3- الكافي 2: 631.

بينهما[1]، كما لا يخفى.

ولو فرض[2] جواز الاستدلال بها[3] فلا وجه لملاحظة الترجيح بينها[4] بعد كون الأصل في تعارض الأمارات هو سقوطها عن الحجية في خصوص المؤدى[5] بناءً على اعتبارها من باب الطريقية[6]،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: بين جواز القراءة وبين الاستدلال، فلعل جواز القراءة للتسهيل، ولطف من الله تعالى، وفي الحديث: (إن الرجل الأعجمي من أمتي ليقرأ القرآن بعجمية فترفعه الملائكة على عربية)(1) وهذا الجواز لا يلازم جواز الاستدلال، وهو أمر واضح.

[2] في هذا رد على ما قاله الشيخ الأعظم(2)،

حيث ذهب إلى أنه لو جاز الاستدلال بالقراءتين فلابد من إعمال المرجحات الدلالية أو نحوها لترجيح إحدى القراءتين على الأخرى.

والمصنف يستشكل عليه بأنه لا دليل على إعمال المرجحات؛ لأنها في موارد الأخبار المتعارضة؛ وذلك بالنص الخاص، فلا يجوز قياس سائر الأمارات المتعارضة على الخبرين المتعارضين، بل يلزم مراجعة الأصل في باب تعارض الأمارات، وهو التخيير بناءً على السببيّة، والتساقط بناءً على الطريقيّة.

[3] أي: بالقراءات.

[4] كما ذهب إليه الشيخ الأعظم، فإن الأصل في تعارض الأمارات هو التساقط أو التخيير، وأما الترجيح فهو خاص بالأخبار، فلا يصح قياس سائر الأمارات على الأخبار، بل لابد من إعمال الأصل.

[5] وذلك لأن التعارض إنّما هو في المؤدى، وأما في غيره فلا تعارض فتبقى الحجية.

[6] أي: الكاشفية عن الواقع؛ وذلك لأن الواقع واحد، فلابد من خطأ إحدى الأمارتين قطعاً، وحيث لم تُعلم فلا طريق إلاّ التساقط، للتعارض الحاصل.

ص: 334


1- الكافي 2: 619.
2- فرائد الأصول 1: 157.

والتخيير بينها بناءً على السببية[1]، مع عدم دليل[2] على الترجيح في غير الروايات من سائر الأمارات، فلابد من الرجوع حينئذٍ[3] إلى الأصل أو العموم حسب اختلاف المقامات[4].

فصل[5]: قد عرفت حجية ظهور الكلام في تعيين المرام، فإن أحرز بالقطع وأن

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: لو قلنا بالمصلحة السلوكية، أي: إن اتباع الأمارة فيه مصلحة - مع قطع النظر عن الكشف عن الواقع - فإن كلا الأمارتين لهما مصلحة سلوكية، فيكون من باب التزاحم، وفي هذا الباب لا طريق إلاّ التخيير.

[2] فإجراء حكم تعارض الروايات في سائر الأمارات قياس.

[3] أي: حين قلنا: إنّ الأمارات من باب الطريقية فتتساقط الأمارات، فلابد من تركهما والرجوع إلى دليل آخر، فإن كان دليل اجتهادي كالعموم أخذ به، وإن لم يكن دليل اجتهادي فلابد من الرجوع إلى الأصول العملية.

[4] مثلاً: في آية {يَطۡهُرۡنَۖ} بعد تعارض القراءتين يُرجع إلى عموم قوله: {نِسَآؤُكُمۡ حَرۡثٞ لَّكُمۡ فَأۡتُواْ حَرۡثَكُمۡ أَنَّىٰ شِئۡتُمۡۖ}(1)، ولو قيل بعدم جواز التمسك بهذا العموم فالمرجع استصحاب عدم جواز الوطء، أو استصحاب جوازه، حسب الاختلاف في استصحاب الجعل أو المجعول - كما سيأتي في التنبيه الثالث عشر من تنبيهات الاستصحاب - .

فصل احتمال القرينة وكيفية إحراز الظهور

اشارة

[5] يبحث في هذا الفصل عن أربعة أمور:

الأول: لو احتمل وجود القرينة الصارفة للكلام عن ظهوره فالأصل العقلائي هو عدم الاعتناء بهذا الاحتمال.

ص: 335


1- سورة البقرة، الآية: 223.

المفهوم[1] منه جزماً - بحسب متفاهم أهل العرف - هو ذا، فلا كلام.

وإلاّ[2]، فإن كان[3] لأجل احتمال وجود قرينة، فلا خلاف في أن الأصل عدمها[4]. لكن الظاهر أنه معه[5]

-----------------------------------------------------------------

الثاني: لو علم بوجود شيء لكن شك في كونه قرينة صارفة عن الظهور أم لا فبناء العقلاء على التوقف ومعاملته معاملة المجمل.

الثالث: لو لم يعلم المعنى الموضوع له أو المفهوم من اللفظ فلابد من إحراز المعنى، ولا يكفي الظن.

الرابع: لو نصّ اللغوي على المعنى فهل أنّ كلامه معتبر أم لا؟

[1] عطف تفسيري على القطع، أي: إن أحرز المفهوم - الظاهر - من الكلام إحرازاً بالجزم واليقين، «هو ذا» أي: المفهوم هو هذا المعنى.

[2] أي: لم يحرز الظاهر بالقطع فلابد من الرجوع إلى بناء العقلاء لنرى كيفية تعاملهم، وذلك لإمضاء الشارع لطريقتهم.

الأمر الأول احتمال وجود قرينة

[3] أي: «كان» عدم القطع بالظهور «قرينة» صارفة للفظ عن ذلك المعنى الظاهر فيه.

[4] المراد الأصل العقلائي، حيث لا يعتنون بهذا الاحتمال.

[5] أي: إن الشأن مع احتمال وجود القرينة.

المقصود هو الإشكال على ما ذهب إليه الشيخ الأعظم من أنه يُجري العقلاء أصالة عدم القرينة، ثم يجرون أصالة الظهور، والمصنف يرى أنهم يجرون أصالة الظهور من الأول بلا إجراء لأصالة عدم القرينة، والفرق أن إجراء أصالة عدم القرينة إنما يكون بعد الفحص، فعلى مقالة الشيخ يلزم الفحص ابتداءً، وعند اليأس تجري الأصالة، ومن ثم تجري أصالة الظهور، لكن على مبنى المصنف

ص: 336

يبنى على المعنى الذي لولاها[1] كان اللفظ ظاهراً فيه ابتداءً، لا أنه يبنى عليه[2] بعد البناء على عدمها، كما لا يخفى، فافهم[3].

وإن كان[4] لاحتمال قرينية الموجود فهو[5]

-----------------------------------------------------------------

حيث لا يلزم إجراء أصالة عدم القرينة فلا يلزم الفحص، بل بمجرد سماع الكلام تجري أصالة الظهور.

[1] أي: لو لا القرينة، «فيه» في المعنى، «ابتداءً» من غير إجراء أصالة عدم القرينة.

[2] «أنه» للشأن، «عليه» على الظهور، «عدمها» أي: عدم القرينة، كما هو مبنى الشيخ الأعظم.

[3] لعله إشارة إلى أن العقلاء يجرون أصالة عدم القرينة ولا يحتاج إلى التفاتهم، بل إجراؤها في ارتكازهم؛ولذا لو شكوا فإنهم يفحصون عنها بالمقدار المتعارف، وكما قيل: (إنه لابد أولاً من إجراء أصالة عدم القرينة ليثبت موضوع أصالة الظهور، حتى تجري هي فيه)(1).

الأمر الثاني احتمال قرينية الموجود

[4] أي: إن كان عدم القطع بالظهور لأجل وجود شيءٍ يحتمل أن يكون قرينة، مثل: الاستثناء المتعقب لعدة جملات، كقوله: (أكرم العلماء والزهاد والعباد إلاّ الفساق)، حيث يحتمل رجوع الاستثناء إلى كل الجمل، فهل ينعقد ظهور في العموم في العلماء والزهاد أم لا؟

[5] أي: يختلف الحكم حسب اختلاف المباني:

1- فإن قلنا: إنّ حجية أصالة الحقيقة لا ترتبط بأصالة الظهور، وإنما هي أصل

ص: 337


1- منتهى الدراية 4: 325.

وإن لم يكن بخالٍ عن الإشكال[1] - بناءً على حجية أصالة الحقيقة من باب التعبد[2] - ، إلاّ أن الظاهر[3] أن يعامل معه معاملة المجمل.

وإن كان[4] لأجل الشك في ما هو الموضوع له لغةً، أو المفهوم منه عرفاً[5]،

-----------------------------------------------------------------

عقلائي يجرونه - سواء كان ظهور أم لم يكن - فإن الموجود المحتمل كونه قرينة وإن أخلّ بالظهور لكنه لا يخل بالمعنى الحقيقي، فلابد من إجراء أصالة الحقيقة، وحمل اللفظ على معناه الحقيقي.

2- وإن قلنا: إن أصالة الحقيقة هي مصداق من مصاديق أصالة الظهور، والعقلاء إنما يحملون اللفظ على معناه الحقيقي لأجل ظهوره فيه - كما هو الصحيح - فحينئذٍ لا ظهور مع احتمال قرينية الموجود، فلا يحمل اللفظ على معناه الحقيقي.

[1] في العبارة خلل؛ لأنه لا إشكال بناء على التعبد، والصحيح هو ما في بعض النسخ (وإن لم يكن مجال للإشكال).

[2] أي: بناء عقلائي لا يرتبط بأصل آخر - كأصالة الظهور - .

[3] أي: إلاّ أن الصحيح هو أن أصالة الحقيقة هي من مصاديق أصالة الظهور، «فيعامل معه» أي: مع الكلام المحفوف بما يحتمل أن يكون قرينة.

الأمر الثالث عدم كفاية الظن في الظهور

[4] أي: وإن كان عدم القطع بالظهور.

[5] مثال اللغة: الشك في معنى لفظ الصعيد، هل هو مطلق وجه الأرض أم خصوص التراب؟

ومثال العرف: الشك في معنى الدابة في قوله: (و ينزح لموت الدابة سبعين دلواً) هل المتفاهم العرفي منها خصوص الحمار أو يشمل الفرس أيضاً، مع وضوح المعنى اللغوي وهو مطلق الحيوان، كما قال تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِ

ص: 338

فالأصل[1] يقتضي عدم حجية الظن فيه[2]، فإنه ظن في أنه[3] ظاهر، ولا دليل إلاّ على حجية الظواهر.

نعم[4]، نسب إلى المشهور(1)

حجية قول اللغوي بالخصوص في تعيين الأوضاع[5].

واستدل لهم[6]

-----------------------------------------------------------------

رِزۡقُهَا}(2)، مع العلم بأن المعنى اللغوي ليس مراداً في منزوحات البئر، بل المراد خصوص المتفاهم العرفي.

[1] للشك في حجية الظن، وقد مرّ أن الشك في الحجية موضوع عدم الحجية، بل دلت الأدلة على النهي عن اتباع الظن - كما سيأتي - .

[2] أي: في الظهور غير المقطوع به.

[3] أي: فإن هذا الظن هو ظن في أن اللفظ ظاهر في المعنى، ولا بناء للعقلاء إلاّ على حجية الظواهر المقطوع بها، لا الظواهر المظنون بها.

الأمر الرابع عدم حجية كلام اللغوي
اشارة

[4] أي: ادّعي حجية الظن بالظهور إذا كان من قول اللغوي؛ وذلك للدليل الخاص، فيكون كلام اللغوي من الظنون الخاصة المستثناة من أصالة عدم حجية الظن.

[5] أي: في بيان المعنى الحقيقي الموضوع له اللفظ.

[6] أي: للمشهور بأربعة أدلة:

الأول: سيرة العقلاء. الثاني: إجماع العلماء. الثالث: إن اللغوي أهل خبرة في المعاني الحقيقية، وبناء العقلاء على الرجوع إلى أهل خبرة كل أمر. الرابع: الانسداد.

ص: 339


1- فرائد الأصول 1: 173.
2- سورة هود، الآية: 6.

باتفاق العلماء، بل العقلاء[1] على ذلك[2]، حيث لا يزالون[3] يستشهدون بقوله في مقام الاحتجاج بلا إنكار من أحد ولو مع المخاصمة واللجاج. وعن بعض دعوى الإجماع[4] على ذلك(1).

وفيه[5]: إن الاتفاق - لو سلم اتفاقه[6] -

-----------------------------------------------------------------

الدليل الأول والثاني

[1] هذا الدليل الأول، وحاصله: إنّ السيرة العملية للعقلاء والعلماء قائمة على الرجوع إلى اللغويين، بل التسليم بما قالوه - ولو كان الموقف موقف لجاج وعناد - .

[2] أي: على حجية قول اللغوي.

[3] بيان لاستمرار هذه السيرة، فلا نحتاج إلى دليل لإثباتها، بل كل من راجع العقلاء يجد ديدنهم ذلك.

[4] هذا الدليل الثاني، والفرق بين هذا وبين الأول: هو أن هذا اتفاق بالقول، وذاك اتفاق بالعمل.

[5] جواب عن الدليلين: أما الأول، فيرد عليه:

1- إن السيرة العملية غير موجودة.

2- وعلى فرض وجودها فغير مفيدة؛ لعدم اتصالها بزمان المعصوم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، فإن سيرة العقلاء تحتاج إلى إمضاء، فإن كانت في زمان المعصوم ولم يردع عنها كشف عن إمضائه لها، لكن الرجوع إلى كتب اللغة لم يكن في زمانهم إلاّ نادراً، بل حدث بعد زمانهم، فهذه السيرة غير متصلة فلا حجية فيها.

3- إن لهذه السيرة قدراً متيقناً، فلا يمكن التمسك إلاّ بذلك المقدار.

[6] إشارة إلى الجوابين الأول والثاني، فأولاً: لا نسلم «اتفاقه» أي: حصوله، وثانياً: على فرض حصوله فغير مفيد.

ص: 340


1- فرائد الأصول 1: 174، حيث ذكر الشيخ أنه حكي عن السيد المرتضى دعوى الإجماع على ذلك.

فغير مفيد، مع أن المتيقن منه[1] هو الرجوع إليه مع اجتماع شرائط الشهادة من العدد والعدالة[2]. والإجماع[3] المحصل غير حاصل، والمنقول منه غير مقبول، خصوصاً في مثل المسألة مما احتمل قريباً أن يكون وجه ذهاب الجل - لو لا الكل[4] - هو اعتقاد أنه[5] مما اتفق عليه العقلاء من الرجوع إلى أهل الخبرة من كل صنعة في

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: من اتفاق العقلاء والعلماء، وهذا الجواب الثالث، «إليه» أي: إلى قول اللغوي.

[2] لأن كلامه شهادة، ولا تقبل الشهادة إلاّ إذا كان شاهدان اثنان، مع عدالتهما.

ولا يخفى أن هذا في اتفاق العلماء، أما العقلاء فلا يشترطون العدالة، بل الوثاقة.

[3] هذا جواب عن الدليل الثاني، وحاصله: إن الإجماع المحصل غير موجود هنا؛ لعدم إمكان التحقق من آراء أكثر العلماء في هذه المسألة؛ لعدم تعرضهم لبحثها.

وأما الإجماع المنقول فإنه وإن كان حجة في الجملة - كما سيأتي - لكن لا حجية له هنا؛ لعدم كشفه عن قول المعصوم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ؛ لأن المسألة من مقدمات الحكم الشرعي وليست هي حكماً شرعياً؛ ولأن هذا الإجماع محتمل الاستناد، وهذا النوع من الإجماع ليس بحجة - حتى لو كان محصّلاً - .

الدليل الثالث

[4] دخول في بيان الدليل الثالث، وحاصله: إن الأكثر أو الكل اتفقوا على الرجوع إلى أهل الخبرة من كل فن، واللغوي هو أهل الخبرة بالمعاني الحقيقية، فلابد من الرجوع إليه لمعرفة الأوضاع.

[5] أن الرجوع إلى اللغوي، «مما» أي: من مصاديق ما اتفق عليه العقلاء، وقوله: «من الرجوع» بيان ل- (ما).

ص: 341

ما اختص بها[1]. والمتيقن[2] من ذلك[3] إنما هو[4] في ما إذا كان الرجوع يوجب الوثوق والاطمئنان، ولا يكاد يحصل من قول اللغوي وثوق بالأوضاع، بل[5] لا يكون اللغوي من أهل خبرة ذلك[6]، بل إنما هو من أهل خبرة موارد الاستعمال، بداهة أن همّه ضبط موارده[7]، لا تعيين أن أياً منها كان اللفظ فيه حقيقةً، أو مجازاً، وإلاّ[8] لوضعوا لذلك علامة. وليس[9] ذكره أولاً علامة كون اللفظ حقيقة

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: الرجوع ينحصر في اختصاصه لا في غيره.

[2] حاصل الجواب من وجهين:

الأول: كبروي، أي: رجوع العقلاء لأهل الخبرة والعمل بما قالوا إنّما هو في صورة اطمئنانهم بكلامهم، ومع الشك لا يعملون، بل يراجعون آخرين إلى حد الاطمئنان، فإذا شك المريض بكلام الطبيب فإنه يراجع طبيباً آخر - مثلاً - .

والثاني: صغروى، أي: إنكار كون اللغوي أهل خبرة الأوضاع، بل هو أهل خبرة موارد الاستعمال، وهي أعم من الحقيقة، فلا يثبت بكلامه المعنى الحقيقي.

[3] أي: من الرجوع إلى أهل الخبرة.

[4] بيان للجواب الأول الكبروي.

[5] بيان للجواب الثاني الصغروي.

[6] أي: الأوضاع، وهي المعاني الحقيقية، بل اللغوي خبير بموارد الاستعمال التي قد تكون بالمعنى الحقيقي، وقد تكون بالمعنى المجازي؛ ولذا قالوا: (الاستعمال أعم من الحقيقة).

[7] أي: اهتمام اللغوي بتسجيل موارد الاستعمال.

[8] أي: لو كان يريد اللغوي تعيين المعنى الحقيقي من المجازي للزم عليه أن يضع علامة لتمييز الحقيقي من غيره، وحيث لم يفعلوا ذلك علمنا أن همَّهم هو ضبط موارد الاستعمال.

[9] دفع إشكال، وحاصل الإشكال: إن علامة الحقيقة هي الذكر أولاً، فكل

ص: 342

فيه، للانتقاض بالمشترك.

وكون موارد الحاجة[1] إلى قول اللغوي أكثر من أن يحصى - لانسداد باب العلم بتفاصيل المعاني[2] غالباً بحيث[3] يعلم بدخول الفرد المشكوك أو خروجه وإن كان المعنى معلوماً في الجملة - لا يوجب[4]

-----------------------------------------------------------------

ما ذكر أولاً هو المعنى الحقيقي، وغيره المعنى المجازي.

والدفع: هو أنه في المشترك اللفظي المعنى الثاني أيضاً حقيقي، فليس كل ثانٍ مجازي، ولا كل أول حقيقي.

الدليل الرابع

[1] هذا دليل رابع أقاموه لحجية قول اللغوي، وحاصله: إن باب العلم والعلمي لمعرفة المعاني الحقيقية منسدّ في اللغة، وحين الانسداد يصبح الظن بسبب قول اللغوي حجة؛ وذلك لكثرة الحاجة إليه بلا طريق علم أو علمي!!

[2] أصل المعنى معلوم لدى أهل اللسان، لكن حدود المعنى كثيراً ما هي غير معلومة، حتى في المعاني الواضحة لدى الكل، مثلاً: الماء مع بديهية معناه لكن حدوده غير معلومة؛ فلذا حصل الشك في المياه الزاجية والكبريتية في أنها ماء مطلق أم لا؟ وهنا لا طريق إلاّ مراجعة أهل اللغة.

[3] بيان للتفاصيل، أي: انسد باب معرفة التفاصيل حتى لا يبقى مصداق مشكوك، فلا نعلم كثيراً أن الفرد المشكوك هل هو داخل في المعنى ومن مصاديقه، أم خارج من المعنى وليس من مصاديقه!!

[4] «لا يوجب» خبر قوله: (وكون موارد...)، وقد أجاب المصنف عن هذا الدليل بأمرين:

الأول: إن مقدمات دليل الانسداد تقتضي حجية الظن في الأحكام الشرعية، لا غيرها، وقول اللغوي ليس في الأحكام، بل في المبادئ، فلم تتم المقدمة الثانية.

ص: 343

اعتبار قوله ما دام[1] انفتاح باب العلم بالأحكام، كما لا يخفى؛ ومع[2] الانسداد كان قوله معتبراً - إذا أفاد الظن - من باب حجية مطلق الظن[3]، وإن فرض انفتاح باب العلم باللغات بتفاصيلها في ما عدا المورد.

-----------------------------------------------------------------

كما أن من المقدمات هو لزوم العسر والحرج لو لم يعمل بالظن واحتاط في تلك الموارد، ولا عسر ولا حرج في عدم العمل بكلام اللغوي، فلم تتم المقدمة الرابعة.

كما أن من المقدمات أن إجراء البراءة يستلزم الخروج عن الدين، وترك أكثر التكاليف، وعدم العمل بكلام اللغوي لا يستلزم ذلك، فلم تتم المقدمة الثالثة. وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل مقدمات الانسداد.

الثاني: إن انسداد باب العلم في الأحكام الشرعية يوجب حجية مطلق الظن، حتى لو انفتح العلم في سائر العلوم، فلو فرضنا انفتاح باب العلم باللغات، وكان باب العلم بالأحكام الشرعية منسد، فلو شككنا في معنى كلمة وتوقف على معرفتها حكم شرعي، فإنه لنا مراجعة اللغوي والعمل بكلامه - إن أفاد الظن - ولو لم يكن باب العلم في الأحكام الشرعية منسداً فلا يجوز العمل بقول اللغوي، حتى لو فرض انسداد باب العلم في اللغات.

والحاصل: إن هذا الدليل أعم من المدعى من وجه وأخص منه من وجه، فقد يلزم العمل بقول اللغوي حتى في صورة انفتاح باب العلم باللغات، كما ذكرنا في الجواب الثاني، وقد لا يجوز العمل بقوله حتى في صورة انسداد باب العلم باللغات، كما ذكرنا في الجواب الأول.

[1] إشارة إلى الجواب الأول.

[2] إشارة إلى الجواب الثاني. «قوله» أي: قول اللغوي.

[3] إن هنا إشكالاً ثالثاً مطوياً في كلام المصنف، وحاصله: إن الانسداد لا يوجب حجية قول اللغوي بشكل مطلق، بل يوجبه لو أفاد الظن.

ص: 344

نعم[1]، لو كان هناك دليل على اعتباره[2] لا يبعد أن يكون انسداد باب العلم بتفاصيل اللغات موجباً له[3] على نحو الحكمة، لا العلة.

لا يقال[4]: على هذا لا فائدة في الرجوع إلى اللغة.

فإنه يقال[5]:

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: لو فرض وجود دليل خاص على حجية قول اللغوي فإن سبب جعل الحجية هو الانسداد، وعدم التمكن من تحصيل العلم، كما لعله يقال مثل ذلك في سائر الأمارات بأن الحجية إنما جعلت لها لعدم التمكن من العلم.

لكن الانسداد ليس بنحو العلّة - كي يدور الحكم مدارها ثبوتاً وعدماً - بل بنحو الحكمة، وهي تكون منشأ لتشريع الحكم، لكن لا يدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً.

وهذا ما ذكره الشيخ الأعظم حيث قال: (المشهور كونه من الظنون الخاصة التي ثبتت حجيتها مع قطع النظر عن انسداد باب العلم بالأحكام الشرعية، وإن كانت الحكمة في اعتبارها انسداد باب العلم في غالب مواردها)(1)،

انتهى.

[2] أي: دليل خاص على اعتبار قول اللغوي.

[3] أي: للاعتبار.

[4] حاصله: هو أن من الواضحات هو رجوع العقلاء والعلماء إلى اللغويين، فكيف لا تكون حجة؟

[5] إن فائدة كتب اللغة لا تنحصر في الحجية، بل لها فوائد أخرى:

منها: أن مراجعتها قد توجب القطع بالمعنى الموضوع له - كما يحدث كثيراً - فالقطع يكون حجة، وطريق تحصيله كتب اللغة.

ومنها: إنها قد توجب القطع بالظهور، فإن المعاني المتعددة المذكورة في اللغة قد يقطع الإنسان بظهور الكلام في أحدها - مع قطع النظر عن كونه معنى موضوعاً له أم مجازاً - .

ص: 345


1- فرائد الأصول 1: 173.

مع هذا[1] لا تكاد تخفى الفائدة في المراجعة إليها، فإنه ربما يوجب القطع بالمعنى، وربما يوجب القطع بأن اللفظ في المورد ظاهر في معنىً بعد الظفر به وبغيره[2] في اللغة. وإن لم يقطع بأنه حقيقة فيه[3] أو مجاز، كما اتفق كثيراً، وهو يكفي في الفتوى.

فصل: الإجماع المنقول[4] بخبر الواحد حجة عند كثير ممن قال باعتبار الخبر بالخصوص[5]، من جهة أنه من أفراده[6]، من دون أن يكون عليه دليل بالخصوص،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: مع عدم حجية كلام اللغوي، «إليها» أي: إلى اللغة، «فإنه» أي: فإن الرجوع.

[2] أي: بالمعنى وبغير ذلك المعنى، فإنه كثيراً ما توجد كلمة في كلام ومعناها غير واضح، ولكن مع الاطلاع على معانيها نقطع أن أحد تلك المعاني هو المناسب للكلام ولسياقه، فنقطع بظهور الكلام في ذلك المعنى.

[3] أي: لم يقطع بأن اللفظ حقيقة في ذلك المعنى أم مجاز، وليس ذلك بمهم؛ لأن المهم معرفة الظهور.

فصل الإجماع المنقول

اشارة

[4] الغرض من عقد هذا الفصل هو بيان أن الإجماع المنقول هل هو من مصاديق الخبر الواحد؟ فإن قلنا بحجية أخبار الآحاد فهل يكون هو منها أم لا؟ وكان الأولى تأخير هذا البحث عن بحث حجية الخبر الواحد.

[5] أي: من باب الظن الخاص، لا الظن المطلق - الانسدادي - .

[6] أي: من جهة أن الإجماع المنقول من أفراد الخبر الواحد، «عليه» أي: على الإجماع المنقول.

ص: 346

فلابد في اعتباره[1] من شمول أدلة اعتباره له بعمومها أو إطلاقها.

وتحقيق القول فيه يستدعي رسم أمور:

الأول[2]: إن وجه اعتبار الإجماع هو القطع برأي الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

ومستند القطع[3] به لحاكيه - على ما يظهر من كلماتهم - هو علمه[4] بدخوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في المجمعين شخصاً ولم يعرف عيناً، أو قطعه[5] باستلزام ما يحكيه

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: لابد في اعتبار الإجماع المنقول من شمول أدلة اعتبار الخبر الواحد، «له» أي: للإجماع المنقول، ولا فرق في هذا الشمول في كونه بنحو العموم إن كانت تلك الأدلة عامة، أو بنحو الإطلاق إن كانت مطلقة.

الأمر الأول
في الإجماع المحصل

[2] في معرفة معنى الإجماع المحصَّل، حتى يتضح أن النقل تعلق بأي شيء.

[3] أي: سبب القطع بقول المعصوم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أحد أمور:

الأول: الإجماع التضمني أو الدخولي، وهو العلم بدخول الإمام ضمن المُجمعين.

الثاني: الإجماع اللطفي، وهو القطع بأن الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ يرى هذا الرأي عن طريق قاعدة اللطف، فإن اللطف - أي: البِرّ - واجب على الإمام، فلا يترك الأمة كلها في ضلال ولو في مسألة واحدة.

الثالث: الإجماع الحدسي، أي: الحدس القطعي بأن الإمام يقول بما يقول به المجمعون، وهذا الحدس قد يحصل عادة وقد يحصل اتفاقاً.

الرابع: الإجماع التشرفي، وهو السماع من المعصوم مباشرة، ولكن دواعي الإخفاء سبّبت عدم التصريح بذلك.

[4] هذا المستند الأول، «علمه» أي: علم حاكي الإجماع.

[5] هذا المستند الثاني، «قطعه» أي: قطع الحاكي.

ص: 347

لرأيه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عقلاً من باب اللطف[1]، أو عادةً[2]، أو اتفاقاً[3] من جهة حدس رأيه وإن لم تكن ملازمة بينهما عقلاً ولا عادةً[4]، كما هو طريقة المتأخرين في دعوى الإجماع، حيث إنهم[5]

-----------------------------------------------------------------

[1] اللطف هنا بمعنى البِرّ، وقاعدة اللطف تعني أن البِرّ بالعباد كما أوجب إرسال الرسل وإنزال الكتب، كذلك يوجب منع اجتماعهم على الباطل، بإيجاد اختلاف فيهم؛ ليكون حكم الله معمولاً به ولو من البعض.

[2] هذا القسم الأول من المستند الثالث، وهو الحدس برأي الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، بحيث يكتشف من رأيهم قوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عادة، كما لو رأينا تلاميذ عالم كلهم يذهبون إلى رأي حدسنا حدساً قطعياً بأن العالم كان يرى ذلك الرأي أيضاً.

[3] هذا القسم الثاني من المستند الثالث، وهو الحدس برأي الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، بحيث يكتشف من رأيهم قوله اتفاقاً لا عادة؛ وذلك لخصوصية المورد.

ولا يخفى أن المستند الثاني وهو اللطف والمستند الثالث - بقسميه - كلها توجب الحدس القطعي بقول الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لذا عطف «أو عادة أو اتفاقاً» على قوله: (عقلاً).

لكن منشأ الحدس يختلف، فتارة: هو حكم العقل من باب اللطف فهذا هو المستند الثاني، وتارة: التلازم العادي، وهذا هو القسم الأول من المستند الثالث، وتارة: الصدفة، وهذا هو القسم الثاني من المستند الثالث.

[4] في الوصول: (ولا منافاة بين الحدس عادة وعدم الملازمة عادة؛ إذ التلازم وليد عِلّية أو اشتراك في العِلّية، ولا نريد أن نقول بِعلّية قول الإمام للإجماع، ولا كونهما معلولين لعلة ثالثة، وإنما نريد أن نقول: إن عادة الناس جرت باستكشاف رأي الإمام من رأي المجمعين حدساً كما لا يخفى)(1)،

انتهى.

[5] شروع في بيان طريقة معرفة مستند المجمعين في دعواهم الإجماع. فمن لا يعتقد بالملازمة العقلية ولا العادية ولا يعتقد بدخول المعصوم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في المجمعين، ومع

ص: 348


1- الوصول إلى كفاية الأصول 3: 440.

مع عدم الاعتقاد بالملازمة العقلية[1] ولا الملازمة العادية غالباً وعدم العلم بدخول جنابه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في المجمعين عادةً، يحكون الإجماع كثيراً.

كما أنه يظهر ممن اعتذر عن وجود المخالف[2] بأنه معلوم النسب، أنه استند في دعوى الإجماع إلى العلم بدخوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، وممن اعتذر عنه بانقراض عصره[3]، أنه استند إلى قاعدة اللطف. هذا مضافاً إلى تصريحاتهم بذلك[4]، على ما يشهد به مراجعة كلماتهم.

-----------------------------------------------------------------

ذلك يدعي الإجماع، فذلك يكشف عن أنه يرى المستند الثالث - بقسمه الثاني - حيث ينحصر المستند في هذه الثلاثة - غالباً - فإذا انتفى اثنان انحصر في الثالث.

[1] التي مستندها قاعدة اللطف، «ولا الملازمة العادية» التي مستندها الحدس عادة برأي الإمام مع عدم وجوبه عقلاً، «وعدم العلم بدخول جنابه» الذي هو الإجماع الدخولي المتضمن لدخول المعصوم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[2] أي: أجاب عن إشكال أنه كيف تدعي الإجماع مع مخالفة فلان وفلان؟ وكان جوابه: إن المخالف معروف، فهذا الجواب يكشف عن أنه قائل بالإجماع الدخولي؛ إذ مع وجود المخالف لا يلزم اللطف - على مبنى القائل بوجوبه عقلاً -، وكذا لا حدس برأي المعصوم، فلم يبق إلاّ الإجماع الدخولي.

[3] أي: أجاب عن إشكال وجود المخالف بأن خلافه لا يضر بالإجماع لعدم وجود مخالف حالاً، وهذا الجواب يكشف عن أن مستنده قاعدة اللطف؛ لأنها - على المبنى - تدل على وجوب اللطف على الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بحيث لا يدع الأمة كلها في مخالفة الواقع، وهذا الدليل يجري في كل عصر عصر، فلو انقرض عصر المخالف واتفق أهل العصر اللاحق على حكم فإن هذا الحكم لو كان خلاف الواقع كان عدم تدخّله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ خلاف اللطف.

[4] أي: تصريحهم بمستندهم من اللطف أو الحدس ونحوهما.

ص: 349

وربما يتفق[1] لبعض الأوحدي وجه آخر، من تشرفه برؤيته عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ وأخذه الفتوى من جنابه، وإنما لم ينقل عنه، بل يحكي الإجماع لبعض دواعي الإخفاء[2].

الأمر الثاني: إنه لا يخفى اختلاف نقل الإجماع[3]، فتارةً[4] ينقل رأيه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في ضمن نقله حدساً[5] - كما هو الغالب - أو حساً[6]

-----------------------------------------------------------------

[1] هذه صورة رابعة من ادعاء الإجماع وهو الإجماع التشرفي.

[2] مثل: أن لا يتخذ ذلك ذريعة لكي يدعي الكذابون أنهم رأوا الإمام وسمعوا منه الأحكام، فيكون ذريعة لتغيير الشريعة؛ ولذا ورد الأمر بتكذيب مدعي المشاهدة(1)، فتأمل.

الأمر الثاني
طريقة نقل الإجماع

[3] لنقل الإجماع طريقان:

1- فقد يكون نقلاً للمسبَّب - وهو رأي الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ - في ضمن نقل السبب، كأن يقول: أجمعت الأمة مما يكتشف منه قول الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، وهذا تارة يكون نقل رأي الإمام بالحدس وهو الغالب، أو بالحس بأن سمع كلامهم ويعلم أن الإمام أحد المتكلمين، وهذا نادر جداً.

2- وقد يكون نقل السبب فقط، كأن يقول: أجمعوا، وفي رأيه هذا الإجماع حجة من باب اللطف أو الحدس العادي أو الحدس الاتفاقي.

[4] هذا هو نقل السبب والمسبّب معاً، «رأيه» أي: قول الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[5] أي: في ضمن نقل الإجماع، ونقل رأي الإمام يكون عن حدس، فهذا الناقل نقل الإجماع وفي ضمنه ينقل أنه يحدس برأي الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[6] أي: ينقل السبب وينقل في ضمنه رأي الإمام ولكن عن حس، مثل: أن

ص: 350


1- بحار الأنوار 52: 151.

- وهو نادر جداً -، وأخرى[1] لا ينقل إلاّ ما هو السبب عند ناقله عقلاً أو عادةً أو اتفاقاً[2]. واختلاف[3] ألفاظ النقل أيضاً صراحةً وظهوراً وإجمالاً[4] في ذلك[5]، أي في أنه نقل السبب أو نقل السبب والمسبب.

الأمر الثالث: إنه[6]

-----------------------------------------------------------------

يكون سمع كلامه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ - من دون معرفة شخصه - في ضمن كلام المجمعين. والظاهر عدم وقوع هذا النوع خارجاً.

[1] أي: وتارة أخرى، ينقل السبب - وهو الاتفاق - فقط من دون ذكر أن ذلك كاشف عن قول الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[2] أي: السبب عقلاً أو...، فإن الناقل حينما يدعي الإجماع فإنه يراه سبباً لكشف رأي الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ من غير تصريح بذلك، والسببيّة عند الناقل قد تكون عقلية باللطف، أو عادية بالحدس الدائم من غير لزوم عقلي، أو اتفاقية بالحدس أحياناً.

[3] عطف على قوله: (لا يخفى اختلاف نقل الإجماع).

[4] مثلاً لو قال: (اتفقت الأمة من عصر النبي إلى يومنا هذا) فهذا صريح في نقل السبب والمسبب، ولو قال: (اتفقت الأمة) كان ظاهراً في نقلها، ولو قال: (اتفق الأصحاب) كان ظاهراً في نقل السبب فقط، ولو قال: (أجمع العلماء) فلا يعلم أنه نقل للسبب فقط أو للسبب والمسبب كليهما.

[5] شرح المصنف مرجع الإشارة بقوله: (أي: إنه نقل السبب... الخ)، والمقصود أنه ليس هناك إجمال في ادعاء الإجماع وإنّما الإجمال في الكيفية.

الأمر الثالث
موارد حجية الإجماع المنقول

[6] بيان لموارد حجية الإجماع المنقول وموارد عدم حجيته وهي:

1- لو نقل السبب والمسبب عن حس لكن تحقق هذا موهون جداً، فلا تشمله

ص: 351

لا إشكال في حجية الإجماع المنقول بأدلة[1] حجية الخبر إذا[2] كان نقله متضمناً لنقل السبب والمسبب عن حس، لو لم نقل[3] بأن نقله كذلك[4] في زمان الغيبة موهون جداً.

وكذا[5] إذا لم يكن متضمناً له، بل كان ممحضاً لنقل السبب عن حس، إلاّ أنه كان سبباً بنظر المنقول إليه أيضاً عقلاً أو عادةً أو اتفاقاً[6]، فيعامل حينئذٍ مع المنقول

-----------------------------------------------------------------

أدلة حجية الخبر.

2- لو نقل السبب عن حس فقط فهو حجة لو كان المنقول إليه يراه سبباً.

3- لو نقل المسبب حدساً، لملازمة اعتقدها، ولم يعتقد المنقول إليه بتلك الملازمة، فلا حجية له.

4- لو اشتبه الأمر وأنه نقل السبب عن حس أو المسبب عن حدس فلا تبعد الحجية.

[1] «بأدلة» متعلق بقوله (حجية)، أي: لا يوجد دليل خاص على حجية الإجماع المنقول، وإنما هو مصداق من مصاديق الخبر الواحد، فتشمله أدلة حجية الخبر.

[2] هذا المورد الأول.

[3] أي: الحجية تتوقف على أن لا يكون النقل موهوناً، فحينئذٍ قد يقال: إنّ أدلة حجية الخبر اللفظية منصرفة عن هذا المورد، وبناء العقلاء معلوم على عدم حجية هذا النوع من الخبر.

[4] أي: نقل المسبّب، «كذلك» عن حس.

[5] هذا المورد الثاني، أي: وكذا لا إشكال في حجية الإجماع المنقول، «متضمناً له» أي: للمسبّب، «إلاّ أنه» أي: إن السبب.

[6] والخلاصة هو: أن نقل السبب خبر حسي من الثقة، فيلزم تصديقه، وبعد أن علم المنقول إليه بالسبب تعبداً فإنه يعلم بالمسبَّب حسب مبناه، «حينئذٍ» أي: حين كان سبباً في نظره.

ص: 352

معاملة المحصل[1] في الالتزام بمسببه بأحكامه وآثاره[2].

وأما[3] إذا كان نقله للمسبّب لا عن حس[4]، بل بملازمة ثابتة عند الناقل بوجهٍ[5]، دون المنقول إليه، ففيه إشكال، أظهره عدم نهوض تلك الأدلة على حجيته[6]، إذ المتيقن من بناء العقلاء[7] غير ذلك؛ كما أن المنصرف من الآيات والروايات ذلك[8] - على تقدير دلالتهما[9] -

-----------------------------------------------------------------

[1] لأن حجية الخبر معناها تنزيل مؤداه منزلة الواقع، فلا فرق بين أن يُحصِّل هو الإجماع أو ينقله له الثقة.

[2] أي: بأحكام وآثار المحصَّل، فكما يجب الالتزام بأحكام وآثار الإجماع المحصل، كذلك يجب الالتزام بهما في هذا المورد من الإجماع المنقول - وهو المورد الثاني - وقوله: «وآثاره» عطف تفسيري لقوله: (أحكامه).

[3] هذا المورد الثالث، وهو ما إذا كان نقل السبب عن حسّ مع اعتقاده بكونه سبباً. لكن المنقول إليه لا يعتقده سبباً.

[4] مع كون نقله للسبب عن حس، ولا يخفى لزوم إضافة هذا المقطع لتستقيم العبارة في إيصال مقصود المصنف.

[5] أي: بوجه من وجوه مستند الإجماع كاللطف ونحوه، فعند الناقل يكون ما حكاه سبباً للحدس بقول الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ولكن عند المنقول إليه لا سببية لذلك.

[6] أي: عدم نهوض أدلة حجية الخبر على حجية هذا الإجماع المنقول؛ وذلك لأن الأدلة تدل على حجية خبر الثقة حساً، ولا تدل على حجية حدسه.

[7] الذي هو العمدة لحجية خبر الثقة، «غير ذلك» أي: غير الحدس.

[8] أي: الأدلة النقلية على حجية خبر الثقة تنصرف إلى خبره الحسّي دون حدسه.

[9] أي: لو فرض نهوض الأدلة النقلية على حجية الخبر، وسيأتي الإشكال فيها.

ص: 353

خصوصاً[1] في ما إذا رأى المنقول إليه خطأ الناقل في اعتقاد الملازمة، هذا في ما انكشف الحال[2].

وأما في ما اشتبه[3]، فلا يبعد أن يقال بالاعتبار[4]، فإن عمدة أدلة حجية الأخبار هو بناء العقلاء، وهم كما يعملون بخبر الثقة إذا علم أنه عن حس، يعملون به[5] في ما يحتمل كونه عن حدس[6]، حيث إنه ليس بناؤهم إذا أخبروا بشيء على التوقف والتفتيش عن أنه عن حدس أو حس، بل العمل على طبقه والجري على وفقه بدون ذلك[7].

نعم[8]،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: عدم حجية حدس الثقة في هذه الصورة واضح جداً؛ لوضوح عدم شمول بناء العقلاء لها، ووضوح انصراف الأدلة النقلية عنها.

[2] بأن علمنا أنه ينقل السبب أو المسبب عن حدس أو حس.

[3] وهذا المورد الرابع، وهو ما لم نعلم أن الناقل هل ينقل السبب أو المسبب عن حس أو حدس؟

[4] أي: حجية هذا الإجماع المنقول.

[5] أي: كذلك يعملون بخبر الثقة.

[6] ويحتمل كذلك كونه عن حس، ولم يعلموا بأي منهما، فإن بناءهم هو قبول خبر الثقة حتى في هذه الصورة من غير تفحص وتفتيش.

[7] أي: بدون ذلك التفتيش.

[8] رجوع عما ذكره في المورد الرابع، وحاصله: إنه وإن كان للعقلاء بناء على حمل خبر الثقة على الحس، إلاّ أن ذلك في ما لم يكن أمارة أو قرينة على كون خبره عن حدس، وفي ما نحن فيه غالب الإجماعات المنقولة مبنية على الحدس أو على قاعدة اللطف، فلا بناء للعقلاء على العمل بها.

ص: 354

لا يبعد أن يكون بناؤهم على ذلك[1] في ما لا يكون هناك أمارة على الحدس[2] أو اعتقاد الملازمة في ما لا يرون هناك ملازمة[3]. هذا.

لكن الإجماعات المنقولة في ألسنة الأصحاب غالباً مبنية على حدس الناقل[4] أو اعتقاد الملازمة عقلاً[5]، فلا اعتبار لها[6] ما لم ينكشف أن نقل السبب كان مستنداً إلى الحس[7].

فلابد في الإجماعات المنقولة بألفاظها المختلفة من استظهار مقدار دلالة ألفاظها[8]،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: على العمل بالخبر بدون التفتيش عن أنه عن حس أو حدس.

[2] حدساً اتفاقياً، أو حدساً عادياً، من غير أن تكون ملازمة عقلية، «اعتقاد الملازمة» أي: عقلاً.

[3] أما لو كانت قرينة على حدس الناقل، أو أن خبره مبتنٍ على ملازمة عقلية مع أنهم لا يعتقدون بتلك الملازمة، فلا بناء للعقلاء على العمل بخبره.

[4] المقصود الحدس العادي وكذلك الحدس الاتفاقي.

[5] المبتنية على قاعدة اللطف.

[6] أي: لا اعتبار لهذه الإجماعات المنقولة؛ لأنها على الغالب مبتنية على الملازمة العقلية بقاعدة اللطف، وهي غير مقبولة هنا، أو مبتنية على الحدس الاتفاقي، وهو غير معلوم.

[7] فلو انكشف أن نقل السبب المستند إلى الحس بأن كان مدعي الإجماع سمع أو رأى الآراء كلها، وكان المنقول إليه يرى تمامية السبب، فحينئذٍ ينتقل هو إلى المسبب، وهو قول المعصوم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، فيكون حجة له، أما لو لم ينتقل إلى المسبب فلا يكون حجة.

[8] فهل تدل على اتفاق كل الفقهاء في كل العصور، أم على فقهاء عصر الناقل، أم على أصحاب الكتب، أم على المشهورين منهم؟

ص: 355

ولو بملاحظة حال الناقل[1] وخصوص موضع النقل[2]، فيؤخذ بذاك المقدار[3] ويعامل معه كأنه المحصل[4]؛ فإن كان بمقدار تمام السبب[5]، وإلاّ فلا يجدي[6] ما لم يضم إليه - مما حصّله[7] أو نقل له من سائر الأقوال[8] أو سائر الأمارات[9] - ما

-----------------------------------------------------------------

[1] حيث يختلف الناقلون، فمنهم من كان كثير التتبع، دقيقاً في العبارة، كالمحقق الحلي، وصاحب مفتاح الكرامة، وأمثالهما، ومنهم من كان يبني إجماعاته على الأصول والحدس بفتاوى الفقهاء، كما ربما يقال في إجماعات ابن زهرة.

[2] كما لو كانت المسألة مذكورة قديماً وحديثاً، أما لو كانت مسألة مستحدثة لم يتطرق إليها السابقون، أو أهملها الأكثر في كتبهم فلا يحصل اطمئنان بصحة نقل الإجماع.

[3] أي: المقدار الذي دل عليه اللفظ، «معه» أي: مع ذلك المقدار.

[4] لأن أدلة حجية خبر الثقة - بل كل الأمارات - تدل على تنزيل مؤدى الخبر والأمارات منزلة الواقع.

[5] بأن أوجب علم المنقول إليه بقول الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[6] أي: لو لم يوجب علم المنقول إليه فلا يفيد الإجماع المنقول، إلاّ إذا قرن به شواهد وقرائن أخرى، كان المجموع من الإجماع المنقول وتلك الشواهد والقرائن موجباً للاطمئنان.

[7] أي: ما لم يضم إلى الإجماع من قرائن وشواهد أخرى حصل المنقول إليه تلك الشواهد، وفاعل «يضم» (المنقول إليه)، وضمير «حصّله» يرجع إلى الموصول في (مما)، ومفعول «يضم» (ما به تمَّ).

[8] أي: ما لم يضم إليه الأقوال الأخرى، فيكون الإجماع المنقول جزء السبب، وسائر الأقوال جزءاً آخر للسبب.

[9] أي: ما لم يضم سائر الأمارات إلى الإجماع المنقول، كما لو انضم إلى الإجماع المنقول خبر ضعيف أو شهرة فتوائية أو نحوهما من الأمارات التي لا تكون

ص: 356

به تم[1]، فافهم[2].

فتلخص بما ذكرنا[3]: أن الإجماع المنقول بخبر الواحد من جهة حكايته[4] رأي الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بالتضمن أو الالتزام كخبر الواحد في الاعتبار - إذا كان من نقل إليه ممن يرى الملازمة بين رأيه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ وما نقله من الأقوال بنحو الجملة والإجمال[5] - وتعمه أدلة اعتباره[6]، وينقسم بأقسامه[7]، ويشاركه في أحكامه، وإلا[8] لم يكن مثله[9] في الاعتبار من جهة الحكاية.

-----------------------------------------------------------------

حجة بانفرادها، ولكن ضم بعضها إلى بعض قد يوجب الاطمئنان.

[1] أي: تمّ السبب للاطمئنان.

[2] لعلّه إشارة إلى أن هذا الكلام معناه عدم حجية الإجماع المنقول، بل كونه مؤيداً فقط، وهذا ما لا يقول به أحد.

[3] هذا المقطع إلى قوله: (ينبغي التنبيه على أمور) تكرار لما ذكره من أول بحث الإجماع، إضافة إلى دفع إشكال في حجية الخبر إذا كان جزء المؤثر للأثر، وخبر «أن الإجماع» هو (كخبر الواحد).

[4] أي: كشفه عن المسبب - وهو قول الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ - «بالتضمن» في الإجماع الدخولي، «الالتزام» في الإجماع اللطفي أو الحدسي العادي أو الحدسي الاتفاقي.

[5] أي: الملازمة بين قول الإمام وبين الأقوال المنقولة والتي نقلها ناقلها في جملة واحدة بقوله: (بالإجماع) مثلاً.

[6] أي: تشمل الإجماع المنقول أدلة اعتبار الخبر الواحد، لما مرّ من أن الإجماع المنقول هو من مصاديق الخبر الواحد.

[7] أي: ينقسم الإجماع المنقول بأقسام الخبر الواحد، من الصحيح والضعيف والمجهول والمرسل ونحوها.

[8] أي: وإن لم يكن المنقول إليه ممن يرى الملازمة بين قول الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ وبين ما نقله.

[9] لم يكن الإجماع المنقول مثل: الخبر الواحد.

ص: 357

وأما من جهة نقل السبب[1]: فهو في الاعتبار بالنسبة إلى مقدار من الأقوال التي نقلت إليه على الإجمال بألفاظ نقل الإجماع، مثل ما إذا نقلت على التفصيل؛ فلو ضم إليه[2] - مما حصله أو نقل له من أقوال السائرين أو سائر الأمارات - مقدار[3] كان المجموع منه وما نقل بلفظ الإجماع بمقدار السبب التام، كان المجموع كالمحصل، ويكون حاله[4] كما إذا كان كله منقولاً؛ ولا تفاوت في اعتبار الخبر بين ما إذا كان المخبر به تمامه[5]،

-----------------------------------------------------------------

[1] وهو أقوال الفقهاء، «فهو» أي: فالإجماع المنقول، و(فهو) مبتدأ و(مثل ما إذا نقلت...) خبره.

[2] إلى الإجماع المنقول.

[3] نائب فاعل قوله: (لو ضُمّ).

[4] الغرض هو دفع توهم، وحاصل التوهم: هو أن أدلة حجية الخبر تدل على حجيته إذا كان له تمام الأثر، ولا تشمل ما لو كان له جزء من الأثر، وهنا الإجماع المنقول ليس له أثر بوحده، فلا تشمله أدلة حجية الخبر.

وجوابه: هو أنه لا فرق في حجية الخبر بين أن يكون الأثر يترتب عليه لوحده، أو يترتب الأثر على شيئين أو أكثر، بأن يثبت الخبر جزءاً من سبب الأثر والجزء أو الأجزاء الأخرى يثبتها شيء آخر، وله نظائر، مثل:

1- توثيق الرواة في علم الرجال، لا يترتب عليه الأثر، بل يتوقف الأثر على ثقة الراوي، وعلى روايته للرواية.

2- خصوصيات الواقعة المسؤول عنها، مثلاً قال الثقة: أننا في الواقعة الفلانية كنا في تقية، فهذا لا أثر له ما لم ينضم إليه الكلام الصادر عن الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فيحمل على التقية.

[5] أي: تمام السبب، وذلك بأن كان الأثر يترتب على الخبر لوحده.

ص: 358

أو ما له دخل فيه وبه قوامه[1]، كما يشهد به[2] حجيته بلا ريب في تعيين حال السائل[3] وخصوصية القضية الواقعة المسؤول عنها[4] وغير ذلك[5] مما له دخل في تعيين مرامه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ من كلامه.

وينبغي التنبيه على أمور:

الأول[6]: إنه قد مر أن مبنى دعوى الإجماع[7] غالباً هو اعتقاد الملازمة عقلاً لقاعدة اللطف، وهي باطلة[8]، أو اتفاقاً بحدس رأيه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ من فتوى جماعة، وهي

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: أو كان المخبر به له دخل في السبب، «به قوامه» عطف تفسيري، أي: بالمخبر به قوام السبب.

[2] أي: بعدم التفاوت في الاعتبار، «حجيته» أي: الخبر.

[3] في علم الرجال، فإن توثيق الراوي لا أثر له لوحده وليس سبباً لحكم شرعي، بل يُضمّ هذا إلى روايته، فينتج المجموع حكماً شرعياً.

[4] كما لو ورد نهي عن شيء ثم بيّن الثقة أن الإمام كان في تقية، فإن بيان الراوي ليس لوحده أثر، بل إذا ضم إلى الرواية يكون الأثر للمجموع.

[5] كما لو قال الثقة: إن الروايات المضمرة بلفظ (سألته) إنما يقصد بها الراوي الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ - مثلاً - .

تنبيهات
التنبيه الأول

[6] في بيان أن الإجماع المنقول يفيد من حيث نقل السبب - وهو نقل آراء العلماء - ولا يفيد من حيث نقل المسبب - أي: قول المعصوم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ - .

[7] أي: عِلة ادعاء الإجماع من قائله أحد أمور أربعة، وكلها غير ثابته، فالنتيجة أن لا حجية للإجماع من حيث نقل المسبّب.

[8] أي: غير ثابتة في موضوع اتفاق العلماء؛ وذلك لأن قاعدة اللطف تعني

ص: 359

غالباً غير مسلمة.

وأما كون المبنى العلم بدخول الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بشخصه في الجماعة[1]، أو العلم برأيه للاطلاع بما يلازمه[2] عادة من الفتاوى، فقليل جداً في الإجماعات المتداولة في ألسنة الأصحاب، كما لا يخفى، بل لا يكاد يتفق العلم[3] بدخوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ على نحو الإجمال في الجماعة في زمان الغيبة، وإن احتمل[4] تشرف بعض الأوحدي بخدمته

-----------------------------------------------------------------

أن الغرض من الخِلقة لا يتحقق إلاّ بإرسال الرسل، فقوله تعالى: {مَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ}(1) دليل على أن الغرض هو العبادة، ولا معرفة للناس بالعبادة إلاّ عبر الأنبياء عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، ولو لا إرسالهم لكان نقضاً للغرض، تعالى الله عن ذلك، وهذا المقدار هو المسلَّم من قاعدة اللطف.

وأما جريانها في كل جزئي فغير معلوم، وخاصة أن الناس هم سبب الغيبة، كما أنه قد يكون مانع عن بيان الحكم الواقعي، فكما لم تقتض قاعدة اللطف ظهور الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ؛ لوجود المانع، كذلك لعل عدم بيانه للحكم الواقعي لوجود مانع، ومع هذا الاحتمال لا تجري قاعدة اللطف أصلاً؛ لأنه إذا جاء الاحتمال - في الأحكام العقلية - بطل الاستدلال، حيث لا يحكم العقل أو لا يكشف إلاّ حين قطعه وعدم وجود أي احتمال.

[1] وهو المبنى الثاني، أي: الإجماع الدخولي.

[2] وهو المبنى الثالث، أي: الحدسي العادي، أي: علّة الاطلاع على رأيه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ هو الاطلاع على الفتاوى التي تلازم قوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، «من الفتاوى» بيان لقوله: (بما يلازمه)، وضمير «يلازمه» يرجع إلى (ما).

[3] أما الظن فقد يحصل، لكن لا دليل على حجية هذا الظن، بل اللازم القطع بقول الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[4] وهو المبنى الرابع، ولكن هذا الاحتمال لا يفيد، لأنه مجرد احتمال في

ص: 360


1- سورة الذاريات، الآيات: 56.

ومعرفته عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أحياناً.

فلا يكاد يجدي[1] نقل الإجماع إلاّ من باب نقل السبب بالمقدار الذي أحرز من لفظه بما[2] اكتنف به من حالٍ أو مقالٍ، ويعامل معه[3] معاملة المحصل.

الثاني[4]: إنه لا يخفى أن الإجماعات المنقولة إذا تعارض اثنان منها أو أكثر، فلا يكون التعارض إلاّ بحسب المسبب[5]. وأما بحسب السبب[6] فلا تعارض في

-----------------------------------------------------------------

الإجماعات المدعاة، ولا يفيد القطع.

[1] أي: فائدة الإجماع المنقول إنما هي في نقل السبب، وهو اتفاق العلماء، فناقل الإجماع بما أنه ثقة وينقل عن حس آراء علماء زمانه أو الذين من قبله، فإن كلامه حجة لنا بمقدار ما دلّ عليه لفظه.

[2] أي: المقدار المحرز إنّما هو بسبب القرائن الحالية أو المقالية المصاحبة لادعاء الإجماع، «لفظه» أي: لفظ الإجماع، «اكتنف به» أي: باللفظ.

[3] أي: مع اللفظ الذي ينقل الاتفاق، يعامل معه معاملة المحصل، أي: كما لو رأى وسمع المنقول إليه آراء العلماء.

التنبيه الثاني

[4] في بيان أنه قد لا يفيد الإجماع المنقول حتى من باب نقل السبب أيضاً، وذلك لو تعارض ادعاء الإجماع.

[5] لأن التعارض هو نتيجة عدم مطابقة أحدهما للواقع، وحيث إن الواقع هو واحد لا أكثر، فقول المعصوم لا يكون مطابقاً لكلا الإجماعين قطعاً، بل قد يكون مطابقاً لأحدهما فقط.

[6] وهو اتفاق العلماء، فيحتمل أن يكون كلا الادعاءين صحيحين مطابقين للواقع؛ وذلك لاختلاف المباني، فكل واحد يدعيه طبقاً لمبناه، مثلاً: أحدهما يرى اتفاق علماء عصره فيدعي الإجماع لقاعدة اللطف - التي تجري حتى في العصر

ص: 361

البين، لاحتمال صدق الكل[1].

لكن[2] نقل الفتاوى على الإجمال بلفظ الإجماع حينئذٍ لا يصلح لأن يكون سبباً ولا جزء سبب[3]، لثبوت الخلاف فيها[4]، إلاّ[5] إذا كان في أحد المتعارضين خصوصية[6] موجبة لقطع المنقول إليه برأيه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لو اطلع عليها[7] ولو مع إطلاعه على الخلاف؛ وهو[8]

-----------------------------------------------------------------

الواحد على مبناهم - ويرى الآخر اتفاق علماء عصر آخر فيدعي الإجماع أيضاً مخالفاً للأول، فلا تعارض بين السبب - أي: الاتفاق - لأن كل واحد ناظر إلى عصر نفسه مثلاً.

[1] بمعنى مطابقة كلامهم للواقع.

[2] بيان أن هذه الإجماعات المتعارضة لا تفيد أيضاً من حيث نقل السبب، لثبوت الخلاف، «حينئذٍ» أي: حين ثبوت الخلاف.

[3] أي: لا يكون سبباً لقطعنا بقول المعصوم، كما لا يفيد أيضاً حتى لو ضُم إليه ضمائم.

[4] أي: في الفتاوى.

[5] استدراك على قوله: (لا يصلح...) ببيان: إنه قد يكون أحد النقلين من عالم متتبع مُطّلع على الآراء، والآخر من عالم يدعي الإجماع حتى لو ابتنى على أصل، كأن يتصور أن المسألة من مصاديق البراءة، فيدعي الإجماع على المسألة للاتفاق على مبناها - حسب زعمه - .

[6] مثل: اتفاق أصحاب الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

[7] فإن المنقول إليه لو كان يطلع تفصيلاً على هذه الخصوصية لكان يقطع بقول الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، ولكنه لم يَطّلع عليها، لكن ينقل له فقيه تلك الخصوصية، فإنه وإن لم يطلع عليها تفصيلاً لكنه أطلع عليها إجمالاً.

[8] أي: وجود خصوصية توجب القطع بقول الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

ص: 362

وإن لم يكن مع الاطلاع على الفتاوى على اختلافها مفصلاً[1] ببعيد، إلاّ أنه مع عدم الاطلاع عليها كذلك[2] إلاّ مجملاً[3] بعيد، فافهم[4].

الثالث[5]: إنه ينقدح مما ذكرنا في نقل الإجماع حال نقل التواتر، وأنه من حيث المسبب[6] لابد في اعتباره[7] من كون الإخبار به إخباراً على الإجمال بمقدار يوجب قطع المنقول إليه بما أخبر به لو علم به[8]،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: مع الاطلاع التفصيلي على الفتاوى على رغم اختلافها.

[2] «عليها» على الفتاوى، «كذلك» أي: تفصيلاً.

[3] استثناء منقطع، أي: مع عدم الاطلاع التفصيلي، بل الاطلاع الإجمالي.

[4] لعله إشارة إلى عدم البُعد في القطع بقول المعصوم ولو من النقل الإجمالي إذا كان الناقل فقيه متتبع دقيق.

أو إشارة إلى أن هذا النقل قد يكون جزءاً من السبب، وإذا ضم إليه مؤيدات أخرى قد يحصل القطع برأيه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

أو إشارة إلى أن القطع حجة - من أي سبب كان - وليس من البعيد قطع البعض بقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بهذه الدعاوى.

التنبيه الثالث

[5] حاصله: إن نقل التواتر هل يكون سبباً للعلم بالمخبر به أم لا؟

1- فمن حيث المسبب - وهو المخبر به - قد يكون النقل سبباً للعلم، مع معرفة مبنى الناقل.

2- ومن حيث السبب - وهو كثرة الإخبار بحد التواتر - يثبت أن هناك ناقلين كثيرين.

[6] وهو الواقعة المنقولة - أي: المخبر به - .

[7] أي: اعتبار نقل التواتر، «الإخبار به» أي: بالتواتر.

[8] أي: لو علم تفصيلاً، «به» أي: بذلك المقدار.

ص: 363

ومن حيث السبب[1] يثبت به كل مقدار كان إخباره بالتواتر دالاً عليه، كما إذا أخبر به على التفصيل. فربما لا يكون إلاّ دون حد التواتر[2]، فلابد في معاملته معه معاملته[3] من لحوق مقدار آخر من الأخبار يبلغ المجموع ذاك الحد[4]. نعم[5]، لو كان هناك أثر للخبر المتواتر في الجملة - ولو[6] عند المخبر - لوجب ترتيبه[7] عليه ولو

-----------------------------------------------------------------

والحاصل: أن يتفق ناقل التواتر مع المنقول إليه في معنى التواتر، أما لو كان الناقل يرى حصول التواتر بإخبار خمسة مثلاً، والمنقول إليه لا يرى حصول التواتر بالخمسة، فحينئذٍ لا يجدي نقل التواتر.

[1] أي: إخبار الجماعة، «به» أي: بنقل التواتر، «إخباره» أي: إخبار الناقل، «عليه» أي: على ذلك المقدار، والمعنى: إنه لو كان يخبر الناقل بالتفصيل أسماء الناقلين وعددهم فإنه كان يثبت كلامه للزوم تصديق العادل، كذلك خبره الإجمالي يثبت ذلك المقدار - كما لو كان يخبر تفصيلاً - .

[2] لاختلاف مبنى الناقل مع مبنى المنقول إليه، فلو كان الناقل يكتفي في التواتر بمقدار أقل من المنقول إليه، فلابد أن يضم إليه أخباراً أخرى ليكون المجموع تواتراً.

[3] أي: لابد في معاملة المنقول إليه مع نقل التواتر معاملة التواتر.

[4] أي: المجموع من النقل والمقدار الآخر المحصل يبلغ ذلك الحد، أي: حد التواتر.

[5] أي: لو كان لنفس نقل التواتر - حتى لو لم يكن مطابقاً للواقع، بل كان مطابقاً لرأي الناقل - أثر، كما لو نذر أن يتصدق كلّما سمع بادعاء التواتر!! فلابد من ترتيب هذا الأثر.

لكن لا يخفى عدم وجود هكذا أثر خارجاً، إلاّ بواسطة النذر، وهذا لا يعتبر ثمرة للمسألة - كما مرّ - .

[6] شرح لقوله: (في الجملة).

[7] أي: ترتيب هذا الأثر على نقل التواتر.

ص: 364

لم يدل[1] على ما بحد التواتر من المقدار.

فصل: مما قيل باعتباره بالخصوص[2] الشهرة في الفتوى[3]. ولا يساعده[4] دليل.

وتوهم[5]

-----------------------------------------------------------------

[1] في نظر المنقول إليه، «على ما» أي: على مقدار من الأخبار تصل لحد التواتر.

فصل الشهرة الفتوائية

اشارة

[2] لقيام الدليل الخاص على الاعتبار، لا من باب الظن المطلق.

[3] الشهرة على أقسام:

منها: الشهرة في الفتوى، وهي محل الكلام في هذا الفصل.

ومنها: الشهرة في الرواية، بمعنى كثرة نقلها في الأصول والمجاميع، وهذه الشهرة مرجحة لدى تعارض الأخبار.

ومنها: الشهرة في العمل، بأن يعمل المشهور بخبر، فإن كان ضعيفاً جبرت الشهرة ضعفه، وإن أعرض المشهور عن خبر صحيح سنداً سقط عن الاعتبار؛ ولذا قيل الشهرة جابرة وكاسرة.

[4] أي: لا يدل دليل على هذا القول بحجية الشهرة الفتوائية.

أدلة حجية الشهرة الفتوائية وردّها
الدليل الأول

[5] حاصل التوهم(1):

هو أن علة حجية الخبر الواحد هو إفادته للظن، وهذه العلة موجودة في الشهرة الفتوائية وبشكل أقوى، فإن الظن الحاصل منها أقوى

ص: 365


1- مفاتيح الأصول: 480 و499.

«دلالة أدلة حجية خبر الواحد عليه[1] بالفحوى[2]، لكون[3] الظن الذي تفيده أقوى مما يفيده[4] الخبر» فيه ما لا يخفى[5]، ضرورة[6] عدم دلالتها على كون مناط اعتباره إفادته[7] الظن، غايته[8]

-----------------------------------------------------------------

من الظن الحاصل من الخبر الواحد.

[1] أي: على اعتبار الشهرة الفتوائية.

[2] أي: دليل الأولوية، التي يعبر عنها بمفهوم الموافقة، نظير قوله تعالى: {فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ}(1) يدل بالأولوية على حرمة الضرب؛ لأن العِلة في الضرب أقوى من العلة في قول أف، وهنا العلة في الشهرة - وهي الظن - أقوى من العلة في الخبر الواحد؛ لأن الظن الحاصل منها أقوى من الظن الحاصل منه.

[3] بيان الفحوى، «تفيده» أي: تفيد الشهرة الفتوائية ذلك الظن.

[4] أي: من الظن الذي يفيد ذلك الظن الخبر، و«الخبر» فاعل «يفيد».

[5] أولاً: لأن كون ملاك حجية الخبر هو إفادته للظن غير معلوم، غاية الأمر الظن بأن الملاك هو الظن، ولا اعتبار بالظن بالملاك، بل هو من القياس.

وثانياً: يمكن ادعاء القطع بأن الظن ليس ملاكاً، ولذا الخبر حجة سواء أفاد الظن أم لا، بل حتى مع الظن بالخلاف فهو حجة، وذلك يكشف أن العِلة ليست هي حصول الظن.

وثالثاً: من غير المعلوم أن الظن في الشهرة أقوى من الظن في الخبر، بل قد يقال بالعكس.

[6] إشارة إلى الإشكال الأول، «دلالتها» أي: دلالة أدلة حجية الخبر الواحد.

[7] أي: عِلة اعتبار الخبر إفادته - أي: الخبر - .

[8] أي: غاية الأمر هو الظن بأن الملاك هو إفادة الظن، ولا حجية لهذا الظن بالملاك، فيكون من القياس المنهي عنه؛ إذ لا يمكن تعميم الحكم إلاّ بعد القطع بالملاك.

ص: 366


1- سورة الإسراء، الآية: 23.

تنقيح ذلك بالظن[1]، وهو لا يوجب إلاّ الظن بأنها أولى بالاعتبار، ولا اعتبار به[2]. مع[3] أن دعوى القطع بأنه ليس بمناط غير مجازفة(1).

وأضعف منه[4] توهم دلالة المشهورة[5] والمقبولة[6]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: كشف الملاك بالظن، «وهو» أي: الظن بالملاك لا يوجب إلاّ الظن بالأولوية، «بأنها» أي: بأن الشهرة.

[2] أي: لا اعتبار بالظن بالملاك.

[3] إشارة إلى الإشكال الثاني، «بأنه» أي: بأن الظن.

الدليل الثاني

[4] أي: من الاستدلال بالأولوية هو الاستدلال بالمشهورة والمقبولة، حيث أرادوا تعميم الموصول فيهما، مع عدم مساعدة الفهم العرفي لذلك التعميم، كما سنُبيّنه بعد قليل.

[5] التى رواها ابن أبي جمهور الأحسائي، عن العلامة، مرسلاً عن زرارة قال: (سألت الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فقلت: جعلت فداك، يأتي عنكما الخبران أو الحديثان المتعارضان، فبأيهما آخذ؟ فقال: يا زرارة، خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر...)(2)، الحديث.

فإن الموصول وهو (ما اشتهر) عام يشمل المشهور بالشهرة الفتوائية!!

[6] التي رواها المشايخ الثلاثة عن عمر بن حنظلة، عن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (... ينظر إلى ما كان من روايتهما منا في ذلك الذي حكما به، المجمع عليه عند أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا، ويترك الشاذ النادر الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه...)(3)،

الحديث.

ص: 367


1- فرائد الأصول 1: 232.
2- عوالي اللئالي 4: 133.
3- وسائل الشيعة 27: 106.

عليه، لوضوح[1] أن المراد بالموصول في قوله في الأولى: «خذ بما اشتهر بين أصحابك»(1)، وفي الثانية: «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به»(2)

هو الرواية، لا ما يعم الفتوى، كما هو أوضح من أن يخفى[2].

-----------------------------------------------------------------

فإن الموصول في قوله: (ما كان) عام يشمل الشهرة الفتوائية!!

[1] بيان وجه الضعف، وهو أن المتفاهم العرفي من الموصول في المشهورة والمقبولة هو الرواية، لا كل مشهور، قال الشيخ الأعظم: (إن المراد بالموصول هو خصوص الرواية المشهورة من الروايتين دون مطلق الحكم المشهور، ألا ترى أنك لو سألت عن أي المسجدين أحب إليك، قلت ما كان الاجتماع فيه أكثر، لم يحسن للمخاطب أن ينسب اليك محبوبية كل مكان يكون الاجتماع فيه أكثر - بيتاً كان أو خاناً أو سوقاً - وكذا لو أجبت عن سؤال المرجح لأحد الرمانيين، فقلت: ما كان أكبر)(3).

ووجه الأضعفية: هو أن الملاك لو علم به فإن تعميمه من المتفاهم العرفي، بخلاف الموصول في المشهورة والمقبولة، فإن تعميمه خلاف المتفاهم.

[2] نعم، استدل البعض بعموم العلة في قوله: (اشتهر)، وبقوله: (فإن المجمع عليه لا ريب فيه)، لكن هذا الاستدلال في غير محله، فإنه في المشهورة: تمَّ تعليق الحكم على الوصف وهو (اشتهر) وذلك مشعر بالعلية، لكن لا قطع بهذه العلية. وفي المقبولة: (المجمع عليه) هو المتفق عليه لا المشهور الاصطلاحي، فإن (ما اشتهر) في اللغة بمعنى الوضوح.

ص: 368


1- عوالي اللئالي 4: 133.
2- وسائل الشيعة 27: 106.
3- فرائد الأصول 1: 234.

نعم[1]، بناءً على حجية الخبر ببناء العقلاء لا يبعد دعوى عدم اختصاص بنائهم على حجيته[2]، بل على حجية كل أمارة مفيدة للظن أو الاطمئنان، لكن دون إثبات ذلك[3] خرط القتاد.

فصل: المشهور بين الأصحاب حجية خبر الواحد[4]

-----------------------------------------------------------------

الدليل الثالث

[1] بيان لدليلهم الثالث على حجية الشهرة الفتوائية، وهو استدلال بالملاك، فإن بناء العقلاء على حجية الخبر الواحد إنما هو بسبب أنهم يريدون إحراز الواقع، والخبر الواحد محرز له لذا اعتبروه وعملوا به، وهذا الملاك موجود في الشهرة الفتوائية، فإنها محرزة للواقع أيضاً.

[2] أي: بناء العقلاء غير مختص بحجية الخبر الواحد، «أمارة» أي: محرزة للواقع، وكاشفة عنه.

[3] أي: إن بناءهم على حجية كل أمارة مفيدة للظن أو الاطمئنان.

ثم إن قوله: «لا يبعد» يراد به الإمكان في مرحلة الثبوت، وقوله: «دون إثبات ذلك...» يراد به في مرحلة الإثبات، فلا تنافي بين التعبيرين، فتأمل.

فصل حجية الخبر الواحد

اشارة

[4] لا فرق في التعبير بين (خبر الواحد) و(الخبر الواحد).

أما الأول: فلأنه غالب هذه الأخبار هي من راوٍ واحد، وبعضها من راويين اثنين أو أكثر، فلا بأس بالتعبير بخبر الواحد تغليباً.

وأما الثاني: فلأنه غالباً تكون الأخبار واحدة لا خبرين بمضمون واحد أو أكثر، فلذا جاز التغليب أيضاً.

ص: 369

في الجملة[1] بالخصوص[2].

ولا يخفى: أن هذه المسألة من أهم المسائل الأصولية[3]. وقد عرفت[4] في أول

-----------------------------------------------------------------

[1] لأنه ليس الغرض الآن بيان تلك التفاصيل، بل يراد إثبات الحجية في مقابل إنكار حجيتها مطلقاً، قال الشيخ الأعظم: (أما القائلون بالاعتبار فهم مختلفون من جهة أن المعتبر منها كل ما في الكتب المعتبرة، كما يحكي عن بعض الأخباريين أيضاً، وتبعهم بعض المعاصرين من الأصوليين بعد استثناء ما كان مخالفاً للمشهور، أو أن المعتبر بعضها وأن المناط في الاعتبار عمل الأصحاب، كما يظهر من كلام المحقق، أو عدالة الراوي أو وثاقته، أو مجرد الظن بصدور الرواية من غير اعتبار صفة الراوي...)(1) إلى آخر كلامه.

[2] أي: قام على اعتباره دليل أخرجه من القاعدة العامة التي تدل على عدم حجية الظن، فليس حجيته من باب الانسداد.

[3] لابتناء غالب الفقه على أخبار الآحاد.

أصولية المسألة

[4] هنا إشكالان في كون مسألة حجية الخبر الواحد من مسائل الأصول.

الأول: إنهم قالوا: إنّ موضوع علم الأصول الأدلة الأربعة - الكتاب والسنة والإجماع والعقل - وليس الخبر الواحد من هذه الأربعة، فهو ليس بسنة، بل حاكٍ عنها.

الثاني: إن البحث في مسائل العلم يكون عن عوارضها الذاتية - أي: ما يلحقها من الأحكام - لا بحث عن أصل وجودها، فإن ذلك من المبادئ التصورية، والمبادئ من مقدمات العلم لا من مسائله، والبحث عن حجية الخبر الواحد بحث عن دليلية الدليل وليس بحثاً عن عوارضه، ودليلية الدليل في الواقع هو بحث عن أصل وجود الدليل.

وللجواب عن هذين الإشكالين طرق:

ص: 370


1- فرائد الأصول 1: 240.

الكتاب أن الملاك في الأصولية صحة وقوع نتيجة المسألة في طريق الاستنباط[1]، ولو لم يكن البحث فيها[2] عن الأدلة الأربعة، وإن اشتهر في ألسنة الفحول(1)

كون الموضوع في علم الأصول هي الأدلة.

وعليه[3] لا يكاد يفيد في ذلك - أي كون هذه المسألة أصولية - تجشّم دعوى[4] «أن البحث عن دليلية الدليل بحث عن أحوال الدليل»، ضرورة[5] أن البحث في المسألة ليس عن دليلية الأدلة، بل عن حجية الخبر الحاكي عنها.

-----------------------------------------------------------------

منها: جواب المصنف، وحاصله: إن موضوع علم الأصول ليس الأدلة الأربعة، بل كل ما له دخل في استنباط الحكم الشرعي، أي: كل مسألة تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الشرعي، فهي مسألة أصولية، وموضوعها موضوع في علم الأصول، وفي مسألة حجية الخبر الواحد تقع نتيجة البحث في طريق الاستنباط.

[1] بشرط أن لا يكون من المقدمات البعيدة، بل تكون النتيجة كبرى في الدليل الدال على الحكم الفقهي الكلي، مثل: حرمة شرب الخمر ووجوب صلاة الجمعة.

أما تطبيق هذا الحكم الفرعي الكلي على المصاديق الجزئية فهو من شأن المقلّد.

[2] أي: في المسألة.

[3] أي: بناءً على كون الموضوع الأدلة الأربعة.

[4] هذا ما سلكه صاحب الفصول(2)

لدفع الإشكال، وحاصله: إن موضوع علم الأصول هو الأدلة الأربعة بذواتها - لا بوصف كونها أدلة - وحينئذٍ فالبحث عن دليليتها بحث عن عوارضها الذاتية، فالبحث عن حجية الخبر هو بحث عن العارض الذاتي لنفس الخبر بما هو هو.

[5] بيان لوجه الإشكال على صاحب الفصول، وحاصله: إن الخبر ليس من

ص: 371


1- قوانين الأصول 1: 9؛ الفصول الغروية: 11.
2- الفصول الغروية: 12.

كما لا يكاد يفيد[1] عليه[2] تجشّم دعوى «أن مرجع هذه المسألة إلى أن السنة - وهي قول الحجة أو فعله أو تقريره[3] - هل تثبت بخبر الواحد، أو لا تثبت[4] إلاّ بما يفيد القطع من التواتر أو القرينة؟»، فإن[5] التعبد بثبوتها[6] مع الشك فيها[7] لدى

-----------------------------------------------------------------

الأدلة الأربعة، فليس الخبر هو السنة، بل هو حاكٍ عنها، ومن المعلوم الفرق بين الشيء وبين الحاكي عنه، هذا مضافاً إلى أن جعل الموضوع هو ذوات الأدلة يسبب دخول مختلف العلوم في الأصول، كالتفسير والدراية ونحوهما.

[1] هذا ما سلكه الشيخ الأعظم(1)

لدفع الإشكال، وحاصله: إن البحث في حجية الخبر الواحد إنّما هو بحث عن أن (السنة هل تثبت بالخبر الواحد أم لا؟)، فصار موضوع المسألة هو: السنة، والبحث عن أحوالها وعوارضها الذاتية - أي: ثبوتها بالخبر الواحد - .

[2] أي: بناءً على كون موضوع علم الأصول هو الأدلة الأربعة.

[3] لا يخفى أن القول له عموم وإطلاق، أما الفعل فلا جهة له، بل يُثبت جواز أصل الفعل في الجملة، وكذا التقرير. وعلى كل حال فالسنة تعمّ هذه الثلاثة.

[4] أي: أم لا يثبت قول الحجة وفعله وتقريره إلاّ بما يفيد القطع كالتواتر، أو القرينة القطعية، ويعبر الخبر حينئذٍ بأنه محفوف بالقرينة.

[5] أشكل المصنف على كلام الشيخ بأمرين:

الأول: إن حجية الخبر - أي: تنزيل مؤداه منزلة الواقع - إنما هو تعبدي، بمعنى وجوب العمل بالخبر الواحد، وهذا من عوارض الخبر الحاكي للسنة لا من عوارض نفس السنة.

[6] أي: بثبوت السنة، ومعنى التعبد هو الأمر بتنزيل مؤدى الخبر منزلة الواقع.

[7] أي: مع عدم العلم بالسنة؛ لأن أخبار الآحاد لا توجب القطع، بل أقصى الأمر هو أنها توجب الظن.

ص: 372


1- فرائد الأصول 1: 238.

الإخبار بها ليس من عوارضها، بل من عوارض مشكوكها[1]، كما لا يخفى. مع[2] أنه[3] لازم لما يبحث عنه في المسألة من حجية الخبر، والمبحوث عنه في المسائل إنما هو الملاك[4] في أنها من المباحث أو من غيره، لا ما هو لازمه[5]، كما هو واضح.

وكيف كان فالمحكي عن السيد والقاضي وابن زهرة والطبرسي وابن إدريس(1)

عدم حجية الخبر. واستدل لهم[6]:

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: الشارع يأمر باتباع الحكم الذي كان مؤدى للخبر مع عدم علمنا بكونه قولاً للمعصوم، فهذا التعبد - أي: الأمر بالاتباع - عارض لما شك في أنه سنة - وهو مؤدى الخبر - وليس عارضاً للسنة نفسها.

[2] هذا الإشكال الثاني على كلام الشيخ، وحاصله: إن المبحوث في هذه المسألة ليس ثبوت السنة بالخبر الواحد، بل ما يبحث عنه هنا هو حجية الخبر، ولازم حجيته هو ثبوت السنة بالخبر، فإن الخبر الواحد إن كان حجة تثبت السنة، وإن لم يكن حجة لم تثبت السنة. ومسائل العلم إنّما هي في ما إذا كان المحمول عارضاً على موضوع العلم، وليس هنا كذلك، فإن الحجية ليست للسنة، بل عارضاً على الخبر ولازمه ثبوت السنة، فتأمل جيداً.

[3] أي: ثبوت السنة بالخبر لازم للمحمول في المسألة وهو حجية الخبر.

[4] أي: المناط في كون المسألة من مسائل العلم أم أنها استطراد، «أنها» أي: المسائل، «غيره» غير المباحث.

[5] أي: لازم المبحوث عنه، فإن (المبحوث عنه) هو حجية الخبر، و(لازمه) هو ثبوت السنة.

أدلة القول بعدم حجية الخبر الواحد

[6] بالأدلة الأربعة، ولم يذكر هنا دليل العقل، لما مرّ في دعوى استحالة التعبد

ص: 373


1- الذريعة إلى أصول الشريعة 2: 528؛ المهذب 2: 598؛ غنية النزوع: 329؛ مجمع البيان 9: 199؛ السرائر 1: 48.

بالآيات الناهية عن اتباع غير العلم[1].

والروايات الدالة على رد ما لم يعلم أنه قولهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ[2] أو لم يكن عليه شاهد من كتاب الله أو شاهدان[3]، أو لم يكن موافقاً للقرآن[4]،

-----------------------------------------------------------------

بالظن، ومرّ بيان الإشكال فيه.

الأول: الكتاب

[1] كقوله تعالى: {وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّٖ مِّنۡهُۚ مَا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٍ إِلَّا ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّۚ}(1) وقوله سبحانه: {وَإِن تُطِعۡ أَكۡثَرَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنۡ هُمۡ إِلَّا يَخۡرُصُونَ}(2) وقوله سبحانه: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكۡثَرُهُمۡ إِلَّا ظَنًّاۚ إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيًۡٔاۚ}(3) وقوله تعالى: {وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ}(4).

الثاني: الروايات

[2] عن الإمام الهادي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (ما علمتم أنه قولنا فالزموه، وما لم تعلموا فردوه إلينا)(5).

[3] عن الإمام الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (إذا جاءكم عنا حديث، فوجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من كتاب الله فخذوا به، وإلاّ فقفوا عنده، ثم ردوه إلينا حتى يستبين لكم)(6).

[4] عن الإمام الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (انظروا أمرنا، وما جاءكم عنا، فإن وجدتموه للقرآن موافقاً فخذوا به، وإن لم تجدوه موافقاً فردوه، وإن اشتبه الأمر عليكم، فقفوا

ص: 374


1- سورة النساء، الآية: 157.
2- سورة الأنعام، الآية: 116.
3- سورة يونس، الآية: 36.
4- سورة الإسراء، الآية: 36.
5- وسائل الشيعة 27: 119.
6- الكافي 2: 222.

إليهم[1]؛ أو على بطلان ما لا يصدّقه كتاب الله[2]؛ أو على أن ما لا يوافق كتاب الله زخرف[3]؛ أو على النهي عن قبول حديث إلاّ ما وافق الكتاب أو السنة[4]... إلى غير ذلك.

والإجماع المحكي عن السيد(1)

في مواضع من كلامه، بل حكي عنه[5] أنه جعله بمنزلة القياس في كون تركه معروفاً من مذهب الشيعة.

-----------------------------------------------------------------

عنده، وردوه إلينا)(2).

[1] متعلق ب- (ردّ) في قوله: (والروايات الدالة على ردّ... الخ).

[2] عن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (ما أتاكم عنا من حديث لا يصدقه كتاب الله فهو باطل)(3).

[3] عن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (كل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف)(4).

[4] عن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (لا تقبلوا علينا حديثاً إلاّ ما وافق الكتاب والسنة، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة)(5).

والمراد بالسُنة - هنا - هو القول القطعي الثابت عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وكذا فعله وتقريره.

الثالث: الإجماع

[5] أي: ليس فقط مجمعاً عليه، بل هو من مسلّمات مذهب الإمامية، «أنه» أي: السيد المرتضى، «جعله» أي: الخبر الواحد.

ص: 375


1- رسائل الشريف المرتضى 3: 309؛ فرائد الأصول 1: 246.
2- وسائل الشيعة 27: 120.
3- المحاسن 1: 221.
4- الكافي 1: 69.
5- بحار الأنوار 2: 249.

والجواب: أما عن الآيات: فبأن الظاهر منها[1] أو المتيقن من إطلاقاتها[2] هو اتباع غير العلم في الأصول الاعتقادية[3]، لا ما يعم[4] الفروع الشرعية، ولو سلم عمومها لها[5] فهي مخصصة بالأدلة الآتية على اعتبار الأخبار.

وأما عن الروايات[6]: فبأن الاستدلال بها خالٍ عن السداد، فإنها أخبار آحاد.

لا يقال[7]:

-----------------------------------------------------------------

الجواب

[1] في ما كان للّفظ عموم، ومنشأ الظهور هو السياق الوارد في ذمهم لاتّباعهم الظن في العقائد.

[2] في ما كان لها إطلاق، ولا تتم مقدمات الحكمة إذا كان هناك متيقن في البين، وفي هذه الآيات بقرينة السياق يوجد قدر متيقن.

ثم إنه لو فرض عمومها وإطلاقها فإنها مخصصّة ومقيّدة بالأدلة الدالة على حجية الخبر الواحد، كما سنذكر مفصلاً.

[3] كالتوحيد والنبوة والإمامة والمعاد، أما فروع الاعتقادات - كخصوصيات الجنة والنار - فلا بأس بأخذها من أخبار الآحاد.

[4] أي: ليس للآيات عموم أو إطلاق حتى يشمل الظن في المسائل الفقهية.

[5] أي: عموم الآيات للفروع الشرعية.

[6] حاصل الجواب: إنه لا يصح الاستدلال لنفي حجية الخبر الواحد بأخبار الآحاد.

نعم، لو كان الغرض هو الإلزام - بمعنى الإشكال على القائل بالحجية - لكان لذكر هذه الروايات مجال، لكن المفروض أنهم في مقام الاستدلال على دعواهم عدم حجية الخبر الواحد.

[7] حاصله: إن الاستدلال بالروايات لأجل أنها متواترة، والمتواتر يوجب العلم، فالاستدلال إنما هو بما يوجب العلم على نفي حجية الخبر الواحد؛ لأن

ص: 376

إنها وإن لم تكن متواترة لفظاً ولا معنىً[1]، إلاّ أنها متواترة إجمالاً[2]، للعلم الإجمالي بصدور بعضها لا محالة.

فإنه يقال[3]:

-----------------------------------------------------------------

التواتر هو كثرة نقل مجموعة يُؤمَن عدم تواطؤهم على الكذب بحيث يوجب العلم.

[1] (التواتر اللفظي) هو اتفاق الناقلين على لفظ واحد، كما في قوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (من كنت مولاه فهذا عليٌ مولاه)(1).

و(التواتر المعنوي) هو اتفاق الناقلين على معنى واحد مع تعدد الألفاظ، كالروايات الدالة على استحباب النوافل اليومية.

وهذه الروايات النافية لحجية الخبر الواحد ليست متواترة لفظاً ولا معنىً.

[2] (التواتر الإجمالي) هو في ما إذا كان اللفظ والمعنى متعدداً، لكن كان هناك جامع بين كل تلك الروايات، مثل: أخبار غزوات النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ومواقف الإمام علي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فيها، فإنها قضايا مختلفة بألفاظ مختلفة لكن كلها اتفقت على شجاعة الإمام علي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

ولا يخفى أن المصنف فسّر التواتر الإجمالي بطريقين، يختلف أحدهما عن الآخر - وإن أمكن إرجاع الأول إلى الثاني - :

1- أن يعلم إجمالاً بصدور بعض الأخبار.

2- أن يكون جامع بين كل تلك الأخبار.

وبما أنه اصطلاح فلا مشاحة فيه، وإن استقر آراء العلماء بعد المصنف على الثاني، وقيل: إن المصنف هو أول من أشار إلى التواتر الإجمالي.

[3] إن المقدار المسلّم من تلك الأخبار هو الخبر المخالف للقرآن والسنة، وهذا المقدار لا يفيد من ينكر حجية الخبر الواحد كلاً، فإن الجامع في هذه الأخبار هو عدم حجية بعض أخبار الآحاد، وهذا لا ينكره حتى المثبتين للحجية.

ص: 377


1- الكافي 1: 420؛ الأمالي (للشيخ الصدوق): 122.

إنها[1] وإن كانت كذلك، أنها لا تفيد إلاّ في ما توافقت عليه[2]، وهو غير مفيد في إثبات السلب كلياً، كما هو محل الكلام ومورد النقض والإبرام، وإنما تفيد[3] عدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنة؛ والالتزام به ليس بضائر[4]، بل[5] لا محيص عنه[6] في مقام المعارضة.

وأما عن الإجماع: فبأن المحصل منه غير حاصل. والمنقول منه للاستدلال به غير قابل[7] خصوصاً في المسألة[8]،

-----------------------------------------------------------------

[1] «إنها» إن الروايات، «كذلك» متواترة إجمالاً.

[2] أي: المقدار الجامع بين كلها، «و هو» أي: ما توافقت عليه.

[3] بيان ما توافقت عليه الأخبار النافية.

[4] لأن القائلين بالحجية أيضاً لا يقولون بحجية الخبر المخالف، فلا يضرّ قولهم بحجية الخبر في الجملة.

[5] إنما ترقّى المصنف لأجل أن الخبر المخالف أنواع، فقد تكون المخالفة لعمومه، وقد تكون لظاهره، وقد تكون لنصه، ونحوها. لا خلاف في بطلان المعارض للنص، وفي البقية خلاف بين الأعلام، أما في صورة تعارض الأخبار فقد اتفقوا على ترجيح الموافق على المخالف.

[6] أي: عن عدم حجية الخبر المخالف.

[7] هذا الإشكال الأول على الإجماع، وحاصله: عدم وجود إجماع محصّل، وأما المنقول فإنه من مصاديق الخبر الواحد، فلا يصح الاستدلال به على عدم حجية الخبر الواحد.

[8] هذا الإشكال الثاني على الإجماع، وهو: إنه إجماع مدركي، أي: معلوم الاستناد، فإن المجمعين استندوا على أدلتهم من الكتاب والسنة ونحوهما، والإجماع المدركي ليس بحجة على المشهور.

ص: 378

كما يظهر وجهه للمتأمل؛ مع[1] أنه معارض بمثله، وموهون[2] بذهاب المشهور إلى خلافه.

وقد استدل للمشهور بالأدلة الأربعة.

فصل في الآيات التي استدل بها:

فمنها: آية النبأ. قال الله تبارك وتعالى: {إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ...}(1).

ويمكن تقريب الاستدلال بها من وجوه[3]. أظهرها: أنه[4] من جهة مفهوم الشرط[5]،

-----------------------------------------------------------------

[1] إشكال ثالث على الإجماع، حاصله: إنّ هذا الإجماع معارض بادعاء الإجماع على حجية الخبر الواحد، فيتعارضان، فلا حجية لأحدهما.

[2] إشكال رابع على الإجماع، وهو: إن المشهور قائلون بحجية الخبر الواحد، فلا إجماع لأنّا نعلم بعدم اتفاقهم، بل ذهاب الأكثر إلى خلافه.

فصل الآيات الدالة على حجية الخبر الواحد

اشارة

[3] منها: مفهوم الشرط - بثلاثة تقريرات - ومنها: مفهوم الوصف. ومنها: التعليل في {أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ}(2).

[4] أي: أظهر الوجوه، «أنه» أن الاستدلال.

[5] ذكر المصنف ثلاثة تقارير لمفهوم الشرط:

الأول: كون الموضوع خارج الشرط، أي: (النبأ إن جاء به الفاسق فيجب

ص: 379


1- سورة الحجرات، الآية: 6.
2- سورة الحجرات، الآية 6.

وأن[1] تعليق الحكم[2] بإيجاب التبين عن النبأ الذي جيء به على[3] كون الجائي به

-----------------------------------------------------------------

التبيّن)، فمفهومه (النبأ إن لم يجئ به الفاسق فلا يجب التبيّن).

الثاني: كون الموضوع جزء الشرط، فيكون الشرط مركباً من أمرين: النبأ ومجيء الفاسق، أي: (إن وُجد نبأ للفاسق فتبيّن). وهذا لا مفهوم له؛ لأنه لو زال الموضوع لم يبق شيء كي يتعلق به حكم، نظير: (إن رزقت ولداً فاختنه)، فإنه لا مفهوم له، لزوال الموضوع حين عدم رزق الولد.

وبعبارة أخرى: لابد من بقاء الموضوع حتى يكون هنالك حكم، فلو كانت للموضوع حالتان، فقلنا: إنّ له حكماً خاصاً في إحدى الحالتين، فبزوال تلك الحالة يزول ذلك الحكم، ويأتي بدله حكم آخر، مثلاً في: (إن جاء زيد فأكرمه)، لزيد حالتان: حالة المجيء وحالة عدم المجيء، والإكرام ارتبط بحالة المجيء في المنطوق، فيكون عدم وجوب الإكرام مرتبطا بحالة عدم المجيء في المفهوم.

أما لو لم يكن للموضوع حالتان، بل حالة واحدة، فزوال تلك الحالة معناه زوال الموضوع، فلا مفهوم له؛ إذ لا دلالة لجعل حكم آخر لموضوع آخر، فلا معنى للقول: إنّ (إن جاء زيد فأكرمه) يدل على أنه (إن لم يجئ وجاء عمرو فلا يجب إكرامه).

الثالث: ظهور انحصار الحكم في الموضوع، وسيأتي توضيحه، إن شاء الله تعالى.

[1] بيان للتقرير الأوّل.

[2] وهو وجوب التبين «بإيجاب» متعلق ب- (الحكم) أي: الحكم الذي هو وجوب التبين.

[3] «على» متعلق بقوله: (تعليق) أي: تعليق الجزاء على الشرط وهو (مجيء الفاسق)، فليس النبأ ضمن الشرط، بل الموضوع خارج عن الشرط، فيكون المعنى (النبأ إن جاء به الفاسق فتبينوا).

ص: 380

الفاسق يقتضي[1] انتفاءه عند انتفائه.

ولا يخفى[2]: أنه على هذا التقرير لا يرد: أن الشرط في القضية لبيان تحقق الموضوع[3]، فلا مفهوم له، أو مفهومه السالبة بانتفاء الموضوع[4]، فافهم[5].

نعم[6]، لو كان الشرط[7] هو نفس تحقق النبأ ومجيء الفاسق به، كانت القضية الشرطية مسوقة لبيان تحقق الموضوع[8].

-----------------------------------------------------------------

[1] «يقتضي...» خبر (أن تعليق...) أي: إن التعليق في الجملة الشرطية يقتضي انتفاء الحكم - وهو التبيّن - عند انتفاء الموضوع - وهو مجيء الفاسق به - .

[2] أي: على هذا التقرير لا يكون الموضوع جزء الشرط حتى يكون انتفاء الشرط بمعنى انتفاء الموضوع، فلا موضوع كي يكون له حكم.

[3] أي: تعليق الحكم على وجود الموضوع.

[4] ففي مثل: (إن رزقت ولداً فاختنه) يمكن أن يقال: إنه لا مفهوم له، أو أن له مفهوماً وهو (إن لم ترزق الولد فلا تختنه لعدم وجوده) لكن هذا المفهوم لا يثبت حكماً.

[5] إما إشارة إلى أنه لا معنى للسالبة بانتفاء الموضوع، فإنها هنا خلاف المتفاهم العرفي.

أو للإشارة إلى أن التقرير الأول لا دليل عليه، بل هو خلاف المتفاهم من الآية الكريمة، ومجرد احتماله لا يسوغ الاستدلال به، فمع احتمال التقرير الثاني لا ترجيح للتقرير الأول عليه، بل لعل التقرير الثاني هو الأقرب للمتفاهم العرفي.

[6] بيان للتقرير الثاني، وأنه لا مفهوم بناءً على هذا التقرير.

[7] أي: لو كان النبأ جزءاً من الشرط، فالشرط مركب من وجود النبأ، ومن مجيء الفاسق به.

[8] فمع تحقق الموضوع يترتب عليه الحكم، ولا دلالة أصلاً على حكم موضوع آخر، فالموضوع هنا نبأ الفاسق، فلا دلالة للكلام على نبأ العادل، لأنه موضوع آخر.

ص: 381

مع[1] أنه يمكن أن يقال: إن القضية ولو كانت مسوقة لذلك، إلاّ أنها ظاهرة في انحصار موضوع وجوب التبين[2] في النبأ الذي جاء به الفاسق، فيقتضي انتفاء وجوب التبين عند انتفائه[3] ووجود موضوع آخر، فتدبر[4].

ولكنه يشكل[5]:

-----------------------------------------------------------------

[1] بيان للتقرير الثالث، «ولو» وصلية، «لذلك» لبيان تحقق الموضوع.

وحاصله: إن تخصيص الفاسق بالذكر يدل على انحصار وجوب التبين بخبره، وإلاّ فلو كان يجب التبيّن في خبر العادل أيضاً لم يكن وجه لتخصيص الفاسق بالذكر، بل كان الأنسب تعميم الموضوع بأن يقال: إن جاء إنسان بنبأ، أو نحو ذلك.

[2] فلا يجب تبيّن في موضوع آخر، كخبر العادل؛ لأن انحصار حكم في موضوع يدل - بمفهوم الحصر - على عدم وجود ذلك الحكم في موضوع آخر.

[3] أي: عند انتفاء خبر الفاسق، الذي هو موضوع وجوب التبيّن، «موضوع آخر» أي: خبر العادل.

[4] لعله إشكال على هذا التقرير، وحاصله: إن تخصيص الفاسق بالذكر قد يكون لأجل أنه شأن النزول، وخصوصية المورد لا تخصص الوارد، أو كان الغرض التنبيه على فسق الوليد وإبطال نظرية عدالة كل الصحابة، أو لغير ذلك من الأغراض.

إشكال آخر وجوابه

[5] أي: لكن الاستدلال بآية النبأ يرد عليه إشكال آخر - حتى لو دفعنا إشكال أن القضية الشرطية مسوقة لبيان تحقق الموضوع - .

وحاصل الإشكال: هو أن التعليل في قوله: {أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ}(1) عام، يشمل خبر العادل أيضاً، فإن خبره لا يرفع الجهل، بل أقصى ما يوجبه الظن، ومع الظن يبقى الجهل، ولو بمقدارٍ ما، ومع عموم التعليل لا يبقى مجال للمفهوم أصلاً؛ لأن العِلّة إذا كانت فهي نص أو أظهر، فلا يبقى مفهوم في نظر العرف الملقى إليه الكلام.

ص: 382


1- سورة الحجرات، الآية 6.

بأنه ليس لها هاهنا[1] مفهوم ولو سلم[2] أن أمثالها ظاهرة في المفهوم، لأن التعليل بإصابة القوم بالجهالة المشترك[3] بين المفهوم والمنطوق يكون قرينةً على أنه ليس لها مفهوم[4].

ولا يخفى[5]: أن الإشكال إنما يبتني على كون الجهالة بمعنى عدم العلم[6]، مع أن دعوى أنها بمعنى السفاهة[7] وفعل[8] ما لا ينبغي صدوره من العاقل غير بعيدة.

ثم إنه لو سلم تمامية دلالة الآية على حجية خبر العدل، ربما أشكل[9] شمول

-----------------------------------------------------------------

[1] «بأنه» للشأن، «لها» للقضية الشرطية، «هاهنا» في آية النبأ.

[2] إشارة إلى ما مرّ في مفهوم الشرط، بعدم وجود دليل على المفهوم إلاّ إذا استفيد من الخارج بأن الشرط هو العلة المنحصرة للجزاء، «أمثالها» أي: أمثال هذه الجملة الشرطية في آية النبأ.

[3] أي: هذا التعليل عام يشمل المنطوق وهو خبر الفاسق، والمفهوم وهو خبر غير الفاسق، ولا يخفى أن تسميته بالمفهوم مسامحة.

[4] لأن العِلة نص أو أظهر، فلا يبقى مجال للمفهوم.

[5] غرضه دفع هذا الإشكال، وبيان أن العلة خاصة بخبر الفاسق؛ وذلك لأن الجهالة - كما يتبادر منها - هي السفاهة، وهي العمل غير العقلائي، ولا سفاهة في العمل بخبر العادل.

[6] بالنظر إلى مادة الجهالة، وهي الجهل الذي معناه عدم العلم.

[7] «أنها» أن الجهالة، وذلك للتبادر، فالهيئة هي التي أوجبت انصراف المعنى إلى الجهل السفهي، لا إلى مطلق الجهل.

[8] عطف تفسيري لتوضيح معنى الجهالة. وقوله: «غير بعيدة» خبر (مع أن دعوى).

إشكال ثالث

[9] وهو إشكال الدور، والفرق بين هذا الإشكال، والإشكال اللاحق، هو أن هذا الإشكال على أول السند - وهو الخبر الذي سمعناه أو وجدناه في كتاب

ص: 383

مثلها[1] للروايات الحاكية لقول الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بواسطة أو وسائط، فإنه[2] كيف يمكن

-----------------------------------------------------------------

مصنفه - والإشكال اللاحق هو في إخبار الوسائط.

مثلاً: لو سمعنا أو شاهدنا في كتابه أن المفيد قال: سمعت الصدوق عن أبيه عن الصفار عن الإمام العسكري عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنه قال كذا... فالإشكال الثالث يختص بخبر المفيد، والإشكال الرابع في إخبار الوسائط - مثلاً: الصفار - ولكن جوهر الإشكالين واحد، والجواب عن كل واحد منها جواب عن الآخر أيضاً كما سيتضح، ولا يخفى أن للإشكال الثالث عدة تقارير، وإنما ذكرنا أظهرها وأوضحها.

[1] أي: مثل آية النبأ من الآيات والروايات التي يستدل بها على حجية خبر العادل، فإن هذا الإشكال جار في كلها.

[2] حاصل الإشكال الثالث هو: إن مفهوم الآية هو (صدق العادل)، ومعنى تصديقه هو لزوم ترتيب الآثار على كلامه. أما لو لم يكن للخبر أثر فلا معنى لجعل الحجية؛ لأنها لغو، كما لو أخبرنا العادل بأن المريخ طوله كذا فرسخ، فهذا الخبر لا أثر له، وجعل الحجية له لغو.

وعليه: يلزم أن يكون خبر العادل ذا أثر قبل حكم الشارع بوجوب تصديقه، ثم يحكم الشارع بوجوب التصديق، بمعنى لزوم ترتيب ذلك الأثر. مثلاً: (الدم) أثره الشرعي هو وجوب الاجتناب، فلو أخبر العادل بأن هذا الشيء هو دم فإن الشارع يجعل الحجية لهذا الخبر، بمعنى أنه يحكم بترتيب الأثر وهو وجوب الاجتناب.

وفي الإخبار بالواسطة، كما لو قال المفيد: حدثني الصدوق عن أبيه عن الصفار عن الإمام العسكري عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنه قال كذا... فخبر المفيد ثابت لنا بالوجدان بالسمع أو في كتابه، فمعنى صدق العادل - أي: المفيد - هو ترتيب الآثار على خبره، والأثر في المثال هو ثبوت كلام الصدوق تعبداً. فيلزم أن يكون الأثر - وهو تحقق كلام الصدوق تعبداً - مقدماً على صدّق العادل وهو المفيد، أي: يكون خبر الصدوق ثابتاً قبل حكم الشارع بتصديق المفيد.

ص: 384

الحكم بوجوب التصديق[1] الذي ليس إلاّ بمعنى وجوب ترتيب ما للمخبر به من[2] الأثر الشرعي بلحاظ[3] نفس هذا الوجوب[4]

-----------------------------------------------------------------

لكن خبر الصدوق يثبت بصدّق العادل وهو المفيد، حيث لو لا وجوب تصديق المفيد لم يكن تحقّق تعبدي لخبر الصدوق.

فالنتيجة: هي أن (صدّق العادل) متأخر عن تحقّق خبر الصدوق؛ لأن تحقّق خبر الصدوق هو أثر كلام المفيد، وحيث وجب تصديق المفيد لزم ترتيب الأثر، وهو تحقق خبر الصدوق.

ولكن في الوقت نفسه (صدق العادل) متقدم على تحقق خبر الصدوق؛ لأنه لو لا صدّق العادل - وهو المفيد - لم يكن تحقق تعبدي لخبر الصدوق.

فالحاصل: هو تقدم وتأخر (صدّق العادل)، وهذا محال.

[1] المستفاد من مفهوم آية النبأ وأمثالها، وفي مثالنا الحكم بوجوب تصديق المفيد، «الذي» صفة لوجوب التصديق، «المخبر به» وهو كلام الصدوق في المثال حيث أخبرنا المفيد به.

[2] قوله: «من» بيان لقوله: (ما للمخبر به)، والأثر الشرعي هو لزوم تصديق الصدوق - في المثال - .

[3] «بلحاظ» متعلق بقوله: (بوجوب التصديق) أي: كيف يمكن الحكم بوجوب تصديق المفيد مع أن الأثر هو نفس صدّق العادل - أي: تصديق الصدوق مثلاً - حيث يلزم تقدم وتأخر (صدّق العادل)؟

[4] أي: نفس (صدّق العادل) لكلام الصدوق؛ لأن كلام المفيد لا معنى لتصديقه إلاّ باعتبار أثره، وهو ثبوت كلام الصدوق، ثم إن كلام الصدوق لا معنى لثبوته إلاّ باعتبار لزوم تصديقه، وعلى هذا صح أن نقول: لا معنى لوجوب تصديق المفيد إلاّ وجوب تصديق الصدوق، ولا معنى لوجوب تصديق كلام

ص: 385

في ما[1] كان المخبر به خبر العدل أو عدالة المخبر[2]، لأنه[3] وإن كان أثراً شرعياً لهما، إلاّ أنه[4] بنفس الحكم[5] في مثل الآية بوجوب تصديق خبر العدل حسب الفرض.

-----------------------------------------------------------------

الصدوق إلاّ ثبوت كلام أبيه ولزوم تصديقه، وهكذا حتى ينتهي الأمر إلى كلام الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[1] أي: الإشكال إنّما هو إذا كان ما ينقله العادل - كالمفيد - هو خبر عادل - كالصدوق - .

[2] كما لو أخبر النجاشي بعدالة الكليني مثلاً، فهنا يجري نفس الإشكال، حيث إن (صدّق العادل) يدل على لزوم ترتيب الأثر على كلام النجاشي، وأثر كلام النجاشي هو لزوم تصديق الكليني ف- (صدّق العادل) متقدم على كلام الكليني ومتأخر عنه.

أما تقدمه: فللزوم تقدم الموضوع على الحكم، حيث إن (صدّق العادل) أثبت عدالة الكليني تعبداً. وأما تأخره: فلأنّ (صدّق العادل) هو حكم لكلام الكليني أيضاً، ويلزم تأخر الحكم عن موضوعه.

ولا يخفى أن بحث (عدالة المخبر) خارج عن موضوع الكلام، لكن ذكره المصنف استطراداً لمناسبة المقام.

[3] أي: لأن وجوب تصديق العادل، «لهما» أي: لخبر العدل - كخبر الصدوق في المثال الأول - ولعدالة المخبر - كالكليني في المثال الثاني - .

[4] أي: إلاّ أن تصديق العادل - وهو الصدوق والكليني في المثالين - .

[5] أي: يكون (صدِّق العادل) حكماً لخبر الصدوق والكليني فهو متأخر عنها، لكن الفرض أن خبر الصدوق والكليني ثبت بنفس (صدّق العادل) حيث وجب تصديق المفيد والنجاشي، فخبر الصدوق والكليني متأخر عن (صدّق العادل).

ص: 386

نعم[1]، لو أنشئ هذا الحكم ثانياً فلا بأس في أن يكون[2] بلحاظه أيضاً[3]، حيث إنه[4] صار أثراً بجعل آخر، فلا يلزم اتحاد الحكم والموضوع[5]. بخلاف ما إذا لم يكن هناك إلاّ جعل واحد، فتدبر.

ويمكن ذب الإشكال[6]:

-----------------------------------------------------------------

[1] حاصله: إنه لو أنشئ (صدّق العادل) مرتين لم يكن دور، ولا أي إشكال آخر، فالإنشاء الأول مقدم على خبر الواسطة، والإنشاء الثاني يكون حكماً لخبر الواسطة ومؤخراً عنها.

[2] أي: يكون الأثر - وهو وجوب تصديق الصدوق والكليني - بلحاظ هذا الإنشاء الثاني.

[3] أي: كترتيب سائر الآثار.

[4] أي: تصديق الصدوق - مثلاً - صار أثراً لخبر الصدوق لا بالجعل الأول الذي حقّق خبره تعبداً، بل بجعل ثانٍ فارتفع الدور.

[5] الظاهر أن مراده من اتحاد الحكم والموضوع هو الدور؛ لأن (صدّق العادل) حكم لخبر الصدوق فهو متوقف عليه، وخبر الصدوق تحقّق تعبداً بصدق العادل فتوقف خبره عليه، فصار دوراً.

1- صدّق العادل يوقف على خبر الصدوق - لأنه حكمه - .

2- وخبر الصدوق يتوقف على صدق العادل - لأنه تحقق به - .

أقول: وبيّن بعضهم معنى (اتحاد الحكم والموضوع) بطريقة أخرى.

دفع الإشكال الثالث

[6] بثلاثة أجوبة:

الأول: إن (صدّق العادل) - المفهوم من أمثال آية النبأ - قضية طبيعية، والقضية الطبيعية تنحل إلى جميع مصاديقها، مثل: الإنسان الذي هو كلي طبيعي يتحد مع جميع أفراده.

ص: 387

بأنه[1] إنما يلزم إذا لم يكن القضية طبيعية والحكم فيها بلحاظ طبيعة الأثر، بل بلحاظ أفراده[2]، وإلا[3] فالحكم بوجوب التصديق يسري إليه[4] سراية حكم الطبيعة إلى أفراده[5]، بلا محذور لزوم اتحاد الحكم والموضوع[6].

هذا مضافاً[7]

-----------------------------------------------------------------

فمثل: (صدّق العادل) يكون موضوعاً باعتبار بعض الأفراد، ويكون حكماً باعتبار أفراد آخرين.

نظير قول القائل: (كل خبري صادق)، فإن الحكم بأن أخباره صادقة يشمل حتى هذا القول؛ لأنه قضية طبيعية، فتأمل.

الثاني: إنه لو فرض عدم شمول (صدّق العادل) للخبر بالواسطة لأمكن القول بأنّ مناطه يشمله؛ لأن علة تصديق العادل تجري بلا فرق بين الخبر بالواسطة وبين الخبر بلا واسطة.

الثالث: على فرض عدم الشمول فإنه لا يفرق العقلاء بين الآثار، فسواء كان الأثر هو تصديق عادل آخر أم كان غيره من الآثار.

ثم إن في قوله: (الذب عن الإشكال) مسامحة لفظية.

[1] هذا الجواب الأول، «بأنه» أي: بأن الإشكال، «إنّما يلزم» الإشكال.

[2] حيث لا يمكن أن يكون فرد واحد مقدماً ومتأخراً.

[3] أي: وإن لم يكن بلحاظ الأفراد، بل كانت القضية طبيعية.

[4] أي: إلى الأثر، والأثر هو الحكم بوجوب تصديق الصدوق - في المثال - .

[5] أي: كسراية حكم الطبيعة إلى أفرادها، فمثل: (كل خبري صادق) يراد به طبيعة الخبر، وهذه الطبيعة تشمل هذا الكلام - وهو كل خبري صادق - أيضاً.

[6] إذ الطبيعة تنحل إلى كل أفرادها، فباعتبار فرد تكون موضوعاً، وباعتبار فرد آخر تكون حكماً.

[7] هذا هو الجواب الثاني.

ص: 388

إلى القطع بتحقق ما هو المناط[1] في سائر الآثار في هذا الأثر، أي وجوب التصديق بعد تحققه[2] بهذا الخطاب، وإن كان لا يمكن أن يكون ملحوظاً[3] لأجل المحذور.

وإلى[4] عدم القول بالفصل بينه وبين سائر الآثار في وجوب الترتيب لدى الإخبار بموضوع صار أثره الشرعي وجوب التصديق، وهو خبر العدل[5]، ولو[6] بنفس الحكم في الآية به، فافهم[7].

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: الملاك والعِلة التي أوجبت حجية الخبر تجري في الخبر بالواسطة أيضاً.

[2] أي: بعد أن تحقق خبر الصدوق تعبداً - في المثال - فإن ملاك (صدّق العادل) يشمله.

[3] أي: وجوب تصديق الصدوق - في المثال - لا يمكن أن يكون ملحوظاً في مثل: آية النبأ؛ وذلك لوجود المحذور - وهو اتحاد الحكم والموضوع بالمعنى الذي بيناه - .

[4] هذا الجواب الثالث، أي: ومضافاً إلى عدم القول...الخ، «بينه» أي: بين وجوب التصديق، وبين سائر الآثار، أي: كما تترتب سائر الآثار على خبر العادل كذلك يترتب عليه وجوب تصديق الصدوق - في المثال - لعدم الفصل بين الآثار.

[5] «هو» أي: الموضوع الذي صار أثره الشرعي وجوب التصديق، «خبر العدل» مثلاً الصدوق، ففي المثال لو سمعنا المفيد يقول: حدثني الصدوق، فإن كلام المفيد حجة لنا بمعنى ترتيب كل الآثار عليه، وثبوت كلام الصدوق ولزوم تصديقه من آثار خبر المفيد ف- (صدّق العادل) إن لم يشمله باللفظ، لكن لعدم الفصل بين هذا الأثر وسائر الآثار نقول بلزوم تصديق الصدوق.

[6] أي: الأثر - وهو ثبوت كلام الصدوق ولزوم تصديقة - ثبت بنفس صدّق العادل؛ إذ لو لا تصديق المفيد لم يكن يثبت قول الصدوق - تعبداً - .

[7] لعله إشارة إلى أن الجواب الأول لا يحلّ مشكلة الدور، كما أن الجواب الثاني والثالث تسليم بعدم دلالة الآية على الخبر بالواسطة، بل كانت الدلالة بمعونة الملاك وعدم الفصل.

ص: 389

ولا يخفى: أنه لا مجال - بعد اندفاع الإشكال بذلك[1] - للإشكال في خصوص الوسائط[2] من الأخبار - كخبر الصفار[3] المحكي بخبر المفيد مثلاً - بأنه[4] لا يكاد يكون خبراً تعبداً[5] إلاّ بنفس الحكم بوجوب تصديق العادل[6] الشامل للمفيد؛ فكيف يكون هذا الحكم المحقق لخبر الصفار تعبداً مثلاً حكماً له أيضاً[7]؟!

وذلك[8]

-----------------------------------------------------------------

إشكال رابع

[1] أي: بالأجوبة الثلاثة المذكورة.

[2] أي: دون ناقل الخبر - وهو في أول السند - وقد ذكرنا الفرق بين الإشكال الثالث والرابع، بأن خبر المفيد - في المثال - ثابت بالسماع منه أو المشاهدة في كتابه، فيكون الدور في ترتيب الأثر، كما بينا في الإشكال الثالث، وأما هذا الإشكال فإن الدور في نفس الخبر في الوسائط، فإن تحقق الخبر متوقف على (صدّق العادل)، وهو - أي: صدق العادل - حكم له.

[3] الواقع في آخر السند، ولا يخفى أن الإشكال يعم جميع الوسائط، فقول المفيد حدثني الصدوق عن أبيه عن الصفار عن الإمام العسكري عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ... حيث إن الإشكال يشمل خبر الصدوق، وخبر أبيه، وخبر الصفار.

[4] أي: خبر الواسطة - كالصفار في المثال - .

[5] أي: بحكم الشارع، لأنا لم نسمع من الصفار، فلا نعلم بكلامه، سوى أن المفيد حكاه، ولوجوب تصديق المفيد يحكم الشارع بلزوم الاعتقاد بتحقق خبر الصفار.

[6] أي: وجوب تصديق المفيد صار سبباً للحكم بوجود خبر الصفار تعبداً.

[7] أي: كيف (صدّق العادل) الذي أوجد خبر الصفار تعبداً يكون حكماً لخبر الصفار؟ فإن هذا هو الدور بعينه.

[8] جواب عن الإشكال الرابع بنفس الأجوبة الثلاثة عن الإشكال الثالث.

ص: 390

لأنه إذا كان خبر العدل[1] ذا أثر شرعي[2] حقيقة بحكم الآية وجب ترتيب أثره عليه عند إخبار العدل به، كسائر ذوات الآثار من الموضوعات، لما عرفت[3] من شمول مثل الآية للخبر الحاكي للخبر بنحو القضية الطبيعية، أو لشمول الحكم فيها له[4] مناطاً وإن لم يشمله لفظاً، أو لعدم القول بالفصل، فتأمل جيداً.

ومنها: آية النفر. قال الله تبارك وتعالى: {فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ...}(1) الآية[5].

وربما يستدل بها من وجوه:

أحدها[6]:

-----------------------------------------------------------------

[1] الصفار - في المثال - .

[2] وهو تصديق الصفار وثبوت كلام الإمام العسكري عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ وثبوت الأحكام الشرعية التي تضمنها كلام الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[3] بيان للأجوبة الثلاثة.

[4] الحكم في الآية لهذا الأثر - وهو تصديق الصفار في المثال - .

الاستدلال بآية النفر

[5] تمام الآية: {وَمَا كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةٗۚ فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ}.

[6] حاصله: إن معنى {لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ} ليس هو الترجي الحقيقي - لاستلزامه الجهل تعالى الله عن ذلك - بل معناه هو محبوبية الحَذَر شرعاً وعقلاً.

أما شرعاً: فلأنَّ العلماء بين قائل بوجوب العمل بالخبر الواحد وبين قائل بحرمته، ولا قائل بأن العمل محبوب لكنه مستحب! فإذا ثبتت المحبوبية ثبت وجوب العمل.

ص: 391


1- سورة التوبة، الآية: 122.

إن كلمة «لعل» وإن كانت مستعملة[1] على التحقيق في معناه الحقيقي - وهو الترجي الإيقاعي الإنشائي[2] -، إلاّ أن الداعي إليه[3] حيث يستحيل في حقه «تعالى» أن يكون هو الترجي الحقيقي[4] كان هو محبوبية التحذر عند الإنذار، وإذا ثبت محبوبيته ثبت وجوبه شرعاً لعدم الفصل[5]، وعقلاً[6] لوجوبه مع وجود ما يقتضيه وعدم

-----------------------------------------------------------------

وأما عقلاً: فلأن التحذر إنّما يكون عمّا فيه خوف العقوبة، وذلك يكون حين قيام الحجة، وأما إذا لم تقم حجة فلا خوف من العقوبة، فلا معنى للحذر، بل لا حسن فيه أصلاً.

[1] قد مرّ أن الترجي ونحوه في كلام الله تعالى لا يراد به الترجي الحقيقي - وهو رجاء وقوع الفعل مع الجهل به - ولكن في الوقت نفسه لا نرى مجازية في استعمالاتها القرآنية، فلابد من القول بأنها وضعت لإنشاء الترجي، وداعي الاستعمال قد يكون بسبب الجهل، وقد يكون لإظهار محبوبية الشيء، والأول مستحيل على الله تعالى، فيثبت الثاني، ففي كلامه تعالى (لعل) استعملت في معناها الحقيقي، لكن الداعي هو إظهار المحبوبية - أي: الثواب على الفعل - .

[2] أي: إيجاد الترجي في الخارج؛ لأن الفرق بين الإخبار والإنشاء هو أن الإخبار حكاية عن أمور خارجية، والإنشاء هو إيجاد الشيء بألفاظه، فلذا لم يحتمل الإنشاء الصدق أو الكذب.

[3] أي: إلى الترجي الإيقاعي الإنشائي.

[4] لأن الرجاء إنّما يكون في صورة الجهل بما سيكون مع أمل بتحقق المراد.

[5] أي: لعدم القول بالفصل، فمن قائل بأن العمل بخبر الواحد واجب، وقائل بأنه حرام، ولا قائل بالاستحباب أو الجواز، فإذا ثبتت المحبوبية ثبت الوجوب.

[6] أي: إذا ثبتت المحبوبية ثبت الوجوب العقلي، «لوجوبه» أي: لوجوب الحذر، «مع وجود ما يقتضيه» وهو الحجة، أي: الدليل الدال على الوجوب أو الحرمة. فإذا وجب الحذر بقوله: {لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ} نكتشف منه حجية الخبر الواحد.

ص: 392

حسنه - بل عدم إمكانه[1] - بدونه.

ثانيها[2]: إنه لما وجب الإنذار - لكونه[3] غايةً للنفر الواجب، كما هو[4] قضية كلمة «لو لا» التحضيضية[5]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: عدم إمكان وجوب التحذر بدون وجود ما يقتضي التحذر؛ لأن الشارع إنما يأمر لو كان مقتضٍ لأمره، وإلاّ كان لغواً أو باطلاً؛ لبداهة تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.

[2] حاصله: إنه لا معنى لوجوب الإنذار إلاّ وجوب القبول، فإنه من اللغو أن يقال لزيد بلّغ، ثم يقال لعمرو لا تستمع إلى كلامه، فإذا وجب الإنذار لزمه وجوب القبول بأن يتحذر عما أنذره.

ولذا قيل: إن قوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ}(1) لازمه وجوب قبول قولهن إذا أخبرن بالحمل، وإلاّ لغى وجوب البيان وعدم الكتمان.

[3] أي: لكون الإنذار، وحاصل الكلام: إن النفر واجب وذلك لدخول (لو لا) عليه، و(لو لا) - هنا - تدل على التحضيض وهو الطلب الشديد، وبعد ثبوت وجوب النفر يثبت وجوب الإنذار - لأن غاية الواجب واجبة - وبعد ثبوت وجوب الإنذار يلازمه وجوب الحذر.

[4] استدلال لوجوب النفر، «هو» أي: وجوب النفر.

[5] لأن (لو لا) قد تكون للعتاب والتقريع، وهي تدخل على ما انقضى وقته، كقوله تعالى: {وَلَوۡلَآ إِذۡ سَمِعۡتُمُوهُ قُلۡتُم مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا...}(2).

وقد تكون للتحضيض، أي: الطلب الشديد، وهي تدخل على ما يراد تحققه في الحال أو المستقبل، مثل هذه الآية - آية النفر - والطلب الشديد ظاهر في الوجوب.

ص: 393


1- سورة البقرة، الآية: 228.
2- سورة النور، الآية: 16.

- وجب التحذر، وإلاّ لغا وجوبه[1].

ثالثها[2]: إنه جعل[3] غاية للإنذار الواجب، وغاية الواجب واجب.

ويشكل الوجه الأول[4] بأن التحذر لرجاء إدراك الواقع وعدم الوقوع في محذور مخالفته[5] من فوت المصلحة أو الوقوع في المفسدة، حسن، وليس بواجب في ما لم يكن هناك حجة على التكليف[6]. ولم يثبت[7] هاهنا عدم الفصل[8]، غايته عدم

-----------------------------------------------------------------

[1] للتلازم بين وجوب القول ووجوب القبول، «وجوبه» أي: وجوب الإنذار.

[2] الفرق بين هذا الوجه وسابقه: أن ذلك بيان لتلازم وجوب الحذر مع وجوب الإنذار، وهذا الوجه لبيان أن الحذر هو غاية الإنذار الواجب، وغاية الواجب واجب.

[3] أي: إن التحذر، وإنما كان غاية لقوله: {لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ} وهذا ظاهر في أن الغاية من الإنذار هو التحذير.

[4] حاصله: إنه لا وجوب عقلي؛ لأن وجود مقتضي التحذر ليس بمعنى الوجوب، بل قد يجب، كما في الشبهات المحصورة، حيث ثبت عقلاً وجوب الاحتياط، وقد لا يجب، كما في الشبهات البدوية، حيث يحسن الاحتياط - لإدراك مصلحة الواقع - مع عدم وجوب هذا الاحتياط. ولا وجوب شرعي؛ لعدم الإجماع المركب - وسيأتي توضيحه - .

[5] أي: مخالفة الواقع «من فوت...» بيان للمحذور، و«حسن» خبر قوله: (بأن التحذر...).

[6] كالشبهات المحصورة حيث توجد حجة على التكليف، أما في الشبهات البدوية فلا حجة على التكليف.

[7] هذا رد للوجوب الشرعي، وحاصله: إن الإجماع المركب إنّما يكون حجة لو اتفقوا على نفي القول الثالث، أما مع السكوت عن القول الثالث فلا إجماع.

[8] أي: الإجماع على نفي القول الثالث.

ص: 394

القول بالفصل[1].

والوجه الثاني والثالث[2] بعدم انحصار فائدة الإنذار بإيجاب التحذر تعبداً، لعدم إطلاق[3] يقتضي وجوبه[4] على الإطلاق، ضرورة أن الآية مسوقة لبيان وجوب

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: كل واحد رأى رأياً من غير التعرض لنفي هذا القول الثالث، وهو محبوبية العمل بخبر الواحد من غير وجوبه، فتأمل.

[2] أي: يشكل الوجهان، وحاصله جوابان:

الجواب الأول: إن فائدة الإنذار لو كانت منحصرة في التحذر لكان الإنذار لغواً لو لم يجب التحذر، ولكن لا انحصار للفائدة في التحذر، بل يمكن أن تكون الفائدة هي حصول العلم بالحكم الشرعي - إما من قول الواحد، أو من قول مجموع النافرين.

إن قلت: لوجوب التحذر إطلاق، فيجب التحذر مطلقاً، سواء حصل العلم أم لم يحصل.

قلت: لا إطلاق لفظي؛ إذ {لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ} لا يوجد فيه صيغة الأمر أو سائر ما يستفاد منه الإطلاق. ولا إطلاق مقامي؛ لأن المقام هو مقام بيان وجوب النفر - ولذا كان لوجوب النفر إطلاق مقامي في نفي أي شرط محتمل لوجوب النفر - وليس المقام مقام بيان أن التحذر لازم للإنذار أو غاية له، بل ذكر وجوب التحذر تبعاً.

والحاصل: إن وجوب التحذر في الجملة يخرج الكلام عن اللغوية. وحيث لا إطلاق فلا دليل على وجوب التحذر في غير صورة العلم - لأنها القدر المتيقن - .

وأما الجواب الثاني: فسيأتي في قوله: (لو لم نقل بكونه مشروطاً به).

[3] لا لفظي كما هو واضح، ولا مقامي كما يشير إليه المصنف بقوله: (ضرورة أن...).

[4] أي: وجوب الحذر.

ص: 395

النفر[1]، لا لبيان غايتية التحذر. ولعل وجوبه[2] كان مشروطاً بما إذا أفاد العلم لو لم نقل[3] بكونه مشروطاً به[4]، فإن النفر إنما يكون لأجل[5] التفقه وتعلم معالم الدين ومعرفة ما جاء به سيد المرسلين صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ كي ينذروا بها المتخلفين أو النافرين[6] - على الوجهين في تفسير الآية -، لكي يحذروا إذا أنذروا بها،

-----------------------------------------------------------------

[1] كما يظهر من صدرها حيث قال: {وَمَا كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةٗۚ فَلَوۡلَا نَفَرَ...} الآية.

وحيث إن الآية مسوقة لبيان وجوب النفر كان لها إطلاق مقامي بالنسبة إلى النفر، فلو شككنا بأن النفر خاص بالشباب أم يشمل الشيوخ مثلاً، فإن الإطلاق المقامي يدل على تعميم الوجوب.

[2] أي: حيث لم يكن لوجوب التحذر إطلاق، فلا يمكن التمسك إلاّ بالقدر المتيقن وهو التحذر حين حصول العلم.

[3] هذا هو الجواب الثاني عن الاستدلال بالوجه الثاني والثالث، وحاصله: إن وجوب التحذر مشروط بحصول العلم؛ وذلك لأنه بعد الإنذار بالدين يجب الحذر، فلابد من إحراز أن المنذر الناقل إنما ينقل الدين، كي يجب الحذر، فمع الشك في أن ما ينقله من الدين فلا ترتب لوجوب الحذر.

[4] أي: بكون وجوب الحذر مشروطاً بإفادة العلم.

[5] حيث قال تعالى: {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ}، والدين هو معالم الدين والأحكام التي جاء بها الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.

[6] فقد قيل(1):

{لِّيَتَفَقَّهُواْ} أي: النافرون {وَلِيُنذِرُواْ} قومهم المتخلفين، وهذا أقرب لسياق الآية. وقيل: {لِّيَتَفَقَّهُواْ} أي: المتخلفون حيث يستمعون إلى كلام الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ في المدينة {وَلِيُنذِرُواْ} المتخلفون {قَوۡمَهُمۡ} النافرين {إِذَا رَجَعُوٓاْ} النافرون {إِلَيۡهِمۡ} إلى المتخلفين في المدينة.

ص: 396


1- التبيان في تفسير القرآن 5: 321؛ مجمع البيان 5: 126؛ الفصول الغروية : 272.

وقضيته[1] إنما هو وجوب الحذر عند إحراز أن الإنذار بها. كما لا يخفى.

ثم إنه أشكل أيضاً[2] بأن الآية لو سلم دلالتها على وجوب الحذر مطلقاً[3]، فلا دلالة لها على حجية الخبر بما هو خبر[4]، حيث إنه ليس شأن الراوي إلاّ الإخبار بما تحمله، لا التخويف والإنذار؛ وإنما هو شأن المرشد[5] أو المجتهد بالنسبة إلى المسترشد أو المقلد[6].

قلت[7]: لا يذهب عليك أنه ليس حال الرواة في الصدر الأول في نقل ما تحملوا

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: مقتضى كون النفر للتفقه وتعلم معالم الدين هو لزوم إحراز كون ما يقوله المنذر هو الفقه والدين الذي تعلمه.

إشكال آخر

[2] حاصل الإشكال: ان لفظة (الإنذار) تعني الإخبار مع التخويف، ومن المعلوم أن شأن الراوي إنما هو الإخبار وليس من شأنه التخويف، فالآية لا تدل على حجية قول الراوي، بل تدل على حجية قول الواعظ، وكذا المجتهد الذي يفتي لمقلديه، فإن كلاً من الواعظ والمجتهد يخوّف المتعظ والمقلد من مغبّة مخالفة الحكم الشرعي.

[3] أي: سواء أفاد العلم أم لم يفد.

[4] بل تدل على حجية الخبر بما فيه من التخويف، وذلك خاص بالواعظ للمتعظ، والمجتهد للمقلّد.

[5] مقصود المصنف إنما هو شأن الواعظ؛ وذلك لأن الوعظ إنّما يكون مع علم السامع بالتكليف، فيأتي الواعظ فيؤكده عليه ويخوفه من مغبة المخالفة، وأما الإرشاد فإنما يكون مع جهل المسترشد بالحكم، فيأتي المرشد فيعلمه ذلك، فلذا كان الأولى التعبير بالواعظ والمتعظ.

[6] ولذا استدل بالآية على وجوب التقليد، لا على حجية الخبر الواحد.

[7] جواب المصنف عن الإشكال، وحاصله: إن الرواة في زمن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ كان

ص: 397

من النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أو الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ من الأحكام إلى الأنام إلاّ كحال نقلة الفتاوى إلى العوام؛ ولا شبهة في أنه يصح منهم[1] التخويف في مقام الإبلاغ والإنذار والتحذير بالبلاغ[2]، فكذا من الرواة، فالآية لو فرض دلالتها على حجية نقل الراوي إذا كان مع التخويف، كان نقله حجةً بدونه[3] أيضاً، لعدم الفصل بينهما جزماً، فافهم[4].

ومنها: آية الكتمان[5]: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا...}(1) الآية.

-----------------------------------------------------------------

نقلهم لأجل التخويف عادة، وحالهم كحال ما يسمى الآن ب- (مسأله گو) الذين ينقلون فتاوى المجتهدين إلى العوام، فإنهم لا ينقلون لمجرد النقل، بل لأجل العمل، ونقلهم مقترن بالإنذار عادة. وإذا كان نقل الراوي المقترن بالتخويف حجة، فيكون نقله بلا تخويف حجة أيضاً؛ للقطع بعدم خصوصية للتخويف.

[1] أي: من نقلة الفتاوى، بل يقترن نقلهم بالتخويف - عادة - .

[2] «التحذير بالبلاغ» عطف تفسيري لقوله: (الإبلاغ والإنذار) وبيان أن الإنذار إنما يكون بواسطة الإبلاغ.

[3] أي: بدون التخويف.

[4] لعله إشارة إلى ردَّ عدم القول بالفصل كما مرّ في آية النفر.

أو إشارة إلى أن تعميم القبول إلى الخبر الذي لا تخويف فيه أو لم يكن مع تخويف إنما هو لعدم خصوصية التخويف، لا لأجل عدم القول بالفصل.

أو لغير ذلك.

الاستدلال بآية الكتمان

[5] قال تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أُوْلَٰٓئِكَ يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ}.

ص: 398


1- سورة البقرة، الآية: 159.

وتقريب الاستدلال بها إن حرمة الكتمان تستلزم وجوب القبول عقلاً[1]، للزوم لغويته بدونه[2].

ولا يخفى[3]: أنه لو سلّم هذه الملازمة لا مجال للإيراد على هذه الآية بما أورد على آية النفر من دعوى الإهمال[4] أو استظهار الاختصاص[5] بما إذا أفاد العلم، فإنها تنافيهما[6]،

-----------------------------------------------------------------

وحاصل الاستدلال: إن الكتمان حرام لقوله: {يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ}(1)، فإذا وجب الإظهار وجب القبول، بدلالة الاقتضاء، حيث إن الإظهار بلا لزوم القبول لغو، فصوناً لكلام الحكيم من اللغوية يحكم بوجوب القبول.

[1] أي: بدلالة الاقتضاء التي هي بحكم العقل، ودلالة الاقتضاء تكون كلّما توقف صدق أو صحة الكلام على شيء.

[2] أي: لغوية حرمة الكتمان بدون وجوب القبول.

[3] إشكال على الشيخ الأعظم(2)

حيث لم يتعرض لنفي الملازمة بين حرمة الكتمان ووجوب القبول، وإنما أشكل على الاستدلال بأن الآية لا إطلاق لها، فلعل وجوب القبول في صورة العلم، أو بأن الآية مقيدة بصورة العلم.

يقول المصنف: إنه مع قبول الملازمة لا وقع للإشكال بعدم الإطلاق أو التقييد بصورة العلم؛ لأن الملازمة عقلية، ومع ثبوتها تكون في جميع الصور.

فاللازم الإشكال على الاستدلال بنفي الملازمة أولاً حتى لا يكون هناك دليل عقلي، ثم الإشكال بعدم دلالة اللفظ، فلا يكون دليل لفظي.

[4] أي: عدم وجود إطلاق في الآية.

[5] أي: استفادة التقييد، بأن يكون القبول مقيداً بصورة العلم.

[6] أي: فإن الملازمة تنافي الإهمال والاستظهار؛ وذلك لأن الملازمة عقلية،

ص: 399


1- سورة البقرة، الآية: 159.
2- فرائد الأصول 1: 287.

كما لا يخفى. لكنها ممنوعة[1]، فإن اللغوية غير لازمة، لعدم انحصار الفائدة بالقبول تعبداً[2]، وإمكان أن تكون حرمة الكتمان لأجل وضوح الحق[3] بسبب كثرة من أفشاه وبيّنه، لئلا يكون للناس على الله حجة، بل كان له عليهم الحجة البالغة.

ومنها: آية السؤال عن أهل الذكر، {فَسَۡٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ}(1).

وتقريب الاستدلال بها[4] ما في آية الكتمان.

-----------------------------------------------------------------

ومع حكم العقل بالملازمة بين أمرين لا يعقل انفكاكها أصلاً؛ إذ مع احتمال الانفكاك لا يحكم العقل أصلاً.

[1] أي: لكن الملازمة ممنوعة؛ وذلك لأن دلالة الاقتضاء لا تجري إذا لم تنحصر الفائدة في وجوب القبول، وما نحن فيه الفائدة غير منحصرة، بل يمكن أن تكون الفائدة هي كثرة الناقلين مما يوجب وضوح الحق والعلم به.

ويؤيد هذا أن شأن نزول الآية في كتمان اليهود لعلائم رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ المذكورة في التوراة، ومن المعلوم أنه لا يكفي الظن في الاعتقاد بالنبوة، بل يلزم العلم، ففي مورد النزول عدم الكتمان كان لأجل اتضاح الحق بالعلم واليقين، فلم تنحصر الفائدة في القبول التعبدي.

[2] أي: من دون أن يكون سبب القبول هو حصول العلم.

[3] أي: اتضاح الحق للناس.

الاستدلال بآية السؤال

[4] الاستدلال بدلالة الاقتضاء، فإن وجوب السؤال لغو لو لم يجب القبول، فتنزيهاً للمولى عن اللغو يدل العقل على وجوب القبول.

أما وجوب السؤال فلقوله: {فَسَۡٔلُوٓاْ} وهو أمر يدل على الوجوب.

ص: 400


1- سورة النحل، الآية: 43؛ سورة الأنبياء، الآية: 7.

وفيه[1]: إن الظاهر منها إيجاب السؤال لتحصيل العلم، لا للتعبد بالجواب[2].

وقد أورد عليها[3]: بأنه لو سلم[4] دلالتها على التعبد بما أجاب أهل الذكر، فلا دلالة لها على التعبد بما يروي الراوي، فإنه بما هو راوٍ لا يكون من أهل الذكر والعلم[5]،

-----------------------------------------------------------------

[1] الجواب الأول - وارتضاه المصنف - : بأن قوله تعالى: {إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} ظاهر في أن علة وجوب السؤال هو تحصيل العلم، فإنما وجب السؤال لتحصيل العلم، لا لأجل قبول كلام المسؤول مطلقاً، وكفى بتحصيل العلم فائدة جليلة، فلا لغوية في كلام المولى - حتى وإن لم تدل الآية على حجية الخبر الواحد - .

[2] أي: قبول الجواب - سواء أفاد العلم أم لم يفد - لأن المولى أمر بقبوله، فالمراد (بالتعبد) هو: امتثال أمر المولى في القبول مطلقاً.

[3] الجواب الثاني، عن الشيخ الأعظم(1)،

وحاصله: إن الراوي لا يكون من أهل الذكر، بل غالب الرواة ليسوا كذلك؛ لأن معنى الذكر هو العلم والاطلاع، والرواة إنما هم نَقَلة، فالآية تدل على لزوم القبول من أهل الذكر وهم الفقهاء، فتكون الآية في مقام قبول فتوى المجتهد العالم على مقلده الذي لا يعلم، وليست في مقام القبول من الراوي - بما هو راوٍ - .

[4] «أنه» الشأن، لو تنازلنا عن الجواب الأول، وقلنا بدلالة الآية على وجوب القبول من أهل الذكر مطلقاً - أفاد العلم أم لم يفد - .

[5] تفسير أهل الذكر بأهل العلم، والآية عامة فمن مصاديقها علماء أهل الكتاب، والسؤال عنهم شأن نزول الآية. ومن مصاديقها: الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وقد وردت روايات(2) صحاح في أن الآية فيهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ. ومن مصاديقها: المجتهدون الصالحون للتقليد.

ص: 401


1- فرائد الأصول 1: 290.
2- تفسير العياشي 2: 360؛ تفسير القمي 2: 68؛ البرهان في تفسير القرآن 3: 423.

فالمناسب إنما هو الاستدلال بها على حجية الفتوى[1] لا الرواية.

وفيه[2]: إن كثيراً من الرواة يصدق عليهم أنهم أهل الذكر والاطلاع على رأي الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، كزرارة ومحمد بن مسلم ومثلهما، ويصدق على السؤال عنهم أنه السؤال عن أهل الذكر والعلم ولو كان السائل من أضرابهم[3]؛ فإذا وجب قبول روايتهم[4] في مقام الجواب - بمقتضى هذه الآية - وجب قبول روايتهم ورواية غيرهم من العدول مطلقاً[5]، لعدم الفصل جزماً في وجوب القبول بين المبتدئ والمسبوق

-----------------------------------------------------------------

وما أكثر تفسير الآيات بالمصاديق البارزة أو الواضحة أو المصاديق الأهم، مع عدم انحصار المعنى في ذلك التفسير.

[1] لأن المجتهدين كلهم من أهل الذكر، فتدل الآية على وجوب التقليد، لا على وجوب القبول من الراوي - وإن لم يفد العلم - .

[2] حاصل إشكال المصنف على الجواب الثاني: هو أن بعض الرواة لا إشكال في أنهم كانوا فقهاء، كزرارة ومحمد بن مسلم وغيرهما - من أصحاب الإجماع وغيرهم - فإذا وجب قبول روايتهم وجب قبول رواية غيرهم؛ لعدم الفصل، فلم يقل أحد بوجوب قبول رواية الفقهاء وعدم قبول رواية غير الفقهاء، كما أن السؤال لا خصوصية له، فإذا وجب القبول بعد السؤال وجب القبول إذا ابتدأ الراوي بيان قول الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[3] إشارة إلى دفع إشكال، حاصله: إن الآية ظاهرة في سؤال الجهال عن أهل العلم، فلا تشمل سؤال الفقهاء الرواة، مثل: سؤال زرارة عن محمد بن مسلم - مثلاً - .

والدفع: إن المناط كون المسؤول من أهل الذكر، بلا فرق بين كون الراوي منهم أو لم يكن منهم، بل الفقيه إذا لم يكن يعلم كلام الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فإنه يصدق عليه {لَا تَعۡلَمُونَ} فبسؤاله الرواية عن فقيه آخر يصدق عليه أنه سأل من أهل الذكر.

[4] أي: رواية الرواة الذين هم من أهل الذكر والاطلاع.

[5] حتى إذا لم يكونوا من أهل الذكر والاطلاع، بل كان ثقة في النقل فينقل

ص: 402

بالسؤال، ولا بين أضراب زرارة وغيرهم ممن لا يكون من أهل الذكر، وإنما يروي ما سمعه أو رآه، فافهم[1].

ومنها: آية الأُذن، {وَمِنۡهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱلنَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٞۚ قُلۡ أُذُنُ خَيۡرٖ لَّكُمۡ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤۡمِنُ لِلۡمُؤۡمِنِينَ}(1). فإنه تبارك وتعالى مدح نبيه بأنه يصدق المؤمنين[2] وقرنه بتصديقه تعالى[3].

وفيه[4]:

-----------------------------------------------------------------

بأمانة ما سمعه أو رآه، وسواء كانت الرواية بعد السؤال أم لم تكن.

[1] لعله إشارة إلى عدم ورود الإشكال على جواب الشيخ الأعظم لأنه يقول بعدم دلالة الآية على وجوب قبول رواية الراوي - حتى إذا كان الراوي مثل زرارة - فلم يثبت دلالة في أحد حتى نتمسك للتعميم بعدم الفصل، بل يقول الشيخ: إن الرواية في مقام إثبات حجية الفتوى فقط.

أو لعله إشارة إلى أن المصنف أشكل على الاستدلال بعدم الفصل كما مرّ في آية النبأ، فلا مورد للاستدلال به في هذه الآية، أو لغير ذلك.

الاستدلال بآية الاُذُن

[2] وجه الاستدلال أن تصديقهم حسن - لأن الله مدحه لذلك - وإذا ثبت محبوبيته ثبت وجوبه شرعاً لعدم الفصل، وعقلاً لوجوبه مع وجود ما يقتضيه، وعدم حسنه، بل عدم إمكانه بدونه - كما مرّ في الاستدلال بآية النفر مع شرحه - .

[3] وهذا يؤيد وجوب تصديق المؤمنين؛ لأن تصديق الله تعالى واجب، واقتران تصديقهم بتصديقه له ظهور عرفي في وجوب تصديقهم أيضاً.

[4] الجواب الأول: هو أن الأُذُن هو الذي يُظهر التصديق - حتى مع علمه بالكذب - وليس معناه العمل بقول الغير - كما هو المراد من حجية الخبر الواحد - .

وإظهار تصديق الغير - حتى مع العلم بكذبه - من محاسن الأخلاق والفضائل.

ص: 403


1- سورة التوبة، الآية: 61.

أولاً: إنه إنما مدحه بأنه أذن، وهو سريع القطع[1]، لا الأخذ بقول الغير تعبداً.

وثانياً[2]: إنه إنما المراد بتصديقه للمؤمنين هو ترتيب خصوص الآثار التي تنفعهم[3]

-----------------------------------------------------------------

ويدل على ذلك أن شأن نزول الآية(1)

في المنافق الذي نَمَّ على رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ نميمة، فأخبره الله تعالى بذلك، فقال الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ذلك للنمام فأنكر أن يكون قد نَمّ، فسكت رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ كالمصدّق لكلامه، فذهب المنافق يقول إنه اُذُن - بمعنى بسيط لا فكر له -

فيصدق كل ما يقال له، قال له الله فصدقه، وقلت له فصدقني فنزلت هذه الآية، ودلت على أن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ليس اُذُن بشكل مطلق - فإنه صفة سيئة - بل هو {أُذُنُ خَيۡرٖ} وهذا من محاسن الأخلاق وفضائلها.

ومن المعلوم أن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بعد إخبار الله تعالى له وإنكار المنافق لم يكن ليصدق كلام المنافق ويكذب كلامه تعالى، فشأن نزول الآية يدل على عدم اعتناء الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بكلام المنافق، وإنّما سكت سكوتاً حُمِل على أنه صدقه، وهذا أجنبي عن بحث حجية الخبر الواحد.

[1] لم يكن المدح بأنه اُذن، بل المدح على كونه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ {أُذُنُ خَيۡرٖ} وليس معنى {أُذُنُ خَيۡرٖ} سريع القطع، فإن هذا ليس من الفضائل، بل من المساوئ، والمعنى هو ما بيناه في التوضيح السابق.

[2] حاصل الجواب الثاني: إن حجية الخبر الواحد تعين وجوب ترتيب كل الآثار حتى لو كانت بضرر بعض الناس، ومعنى {أُذُنُ خَيۡرٖ} هو ترتيب خصوص الآثار التي تنفع الناس ولا تضرهم، وهذا لا ربط له بحجية الخبر الواحد.

[3] لأن عدم تكذيب الغير في وجهه نفع له، والسكوت حينما يبرئ نفسه أيضاً نفع له.

ص: 404


1- مجمع البيان 5: 68؛ التفسير الأصفى 1: 475.

ولا تضر غيرهم، لا التصديق بترتيب جميع الآثار[1]، كما هو المطلوب في باب حجية الخبر. ويظهر ذلك من تصديقه للنمّام[2] بأنه ما نمّه[3] وتصديقه له تعالى بأنه نمّه. كما هو المراد[4] من التصديق في قوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «فصدّقه وكذّبهم[5]» حيث قال - على ما في الخبر - : «يا أبا محمد! كذّب سمعك وبصرك عن أخيك فإن شهد عندك خمسون قسامة[6] أنه قال قولاً وقال: لم أقله، فصدّقه وكذّبهم»(1)،

فيكون مراده

-----------------------------------------------------------------

[1] حتى المُضِرّة لبعض الناس.

[2] لم يكن تصديقاً للنمام، بل كان سكوتاً عنه مما توهم النّمام أن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قد صدَّقه.

[3] أي: بأن النمام لم ينمّ على الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، و«ما» نافيه.

[4] غرض المصنف الاستشهاد بحديثين استعمل فيهما التصديق وأريد به ترتيب الأثر في ما ينفع، وعدم ترتبه في ما يضر.

[5] فالمراد بقوله: «صدّقه» هو ترتيب الأثر الذي ينفعه، ومعنى «كذّبهم» هو عدم ترتيب الأثر الذي يضره، وليس المراد من كذّبهم هو اتهامهم بالكذب أو الاعتقاد بأنهم كاذبون، بل المراد عدم ترتيب الأثر الذي يضره على كلامهم؛ إذ من الواضح أن الإنسان يقطع بأقل من خمسين قسامة بأنهم صادقون، فكيف يجوّز الشارع له اتهامهم بالكذب؟ فالمراد هو عدم ترتيب الأثر الذي كان بضرره.

[6] في المفردات: (وهي أيمان تقسّم على أولياء المقتول ثم صار اسماً لكل حلف)(2)،

انتهى.

فإنه إذا دلت قرائن على أن فلاناً قاتل، فلكي يعاقب لا يكتفى بالقرائن، بل لابد من أن تحلف مجموعة كبيرة من ذوي المقتول بأن فلاناً قاتل، وهذه المجموعة - وعادة تكون خمسين - تسمى (القسّامة).

ص: 405


1- الكافي 8: 147، مع اختلاف يسير.
2- المفردات في غريب القرآن: 670.

تصديقه بما ينفعه ولا يضرهم، وتكذيبهم في ما يضره ولا ينفعهم، وإلا[1] فكيف يحكم بتصديق الواحد وتكذيب خمسين! وهكذا المراد بتصديق المؤمنين في قصة إسماعيل[2]، فتأمل جيداً.

-----------------------------------------------------------------

و«خمسون قسامه» إما (قسامة) بدل عن (خمسون) فالمعنى خمسون شخصاً يقسمون، أو تمييز فيكون خمسون قسامه: ألفين وخمسمائة شخص، ولا بأس بأن يكون المراد هذا للدلالة على المبالغة.

[1] أي: إن لم يكن المراد من (صدقه وكذبهم) ما ذكرناه، بل كان المراد هو التصديق والتكذيب بترتيب جميع الآثار. فهذا المراد لا يمكن قبوله أصلاً، ولا يعقل أن يتفوه به الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ؛ لوضوح حصول القطع بكلام الخمسين.

[2] حيث نهاه الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ - نهياً إرشادياً - عن إعطاء ماله لشخص قال عنه المؤمنون بأنه شارب الخمر، فلم يمتثله إسماعيل - لكون النهي إرشادياً - فأكل ذلك الشخص ماله. فقال إسماعيل: (يا أبت لم أره يشرب الخمر، إنّما سمعت الناس يقولون! فقال: يا بُنيّ: إن الله عزوجل يقول في كتابه: {يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤۡمِنُ لِلۡمُؤۡمِنِينَ}(1)، يقول: يصدق الله ويصدق المؤمنين، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم، ولا تأتمن شارب الخمر...)(2)

الخ.

وفي الوصول: (فإنه ليس المراد بتصديقهم في المقام: ترتيب آثار شرب الخمر على الرجل، بل المراد عدم ائتمانه، فليس المراد ترتيب الأثر الضار، بل ترتيب أثر ينفعه ولا يضر غيره)(3)،

انتهى.

ثم إنه لا تتوهم المنافاة بين تكذيبهم في خبر القسامة، وتصديقهم في خبر إسماعيل. فإن المراد بتكذيبهم هو عدم ترتيب الأثر الضار على الرجل، والمراد

ص: 406


1- سورة التوبة، الآية: 61.
2- الكافي 5: 299.
3- الوصول إلى كفاية الأصول 4: 58.

فصل: في الأخبار التي دلت على اعتبار أخبار الآحاد وهي وإن كانت طوائف كثيرة[1]

-----------------------------------------------------------------

بتصديقهم هو عدم ترتيب الأثر الضار على النفس. وبعبارة أخرى: لا تُرَتِّب الأثر الضار عليه كما في خبر القسامة، ولا عليك كما في خبر إسماعيل.

فصل في الأخبار التي دلت على اعتبار أخبار الآحاد

[1] منها: الروايات الدالة على الرجوع إلى بعض الرواة بالتعيين، كقول الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (أما ما رواه زرارة عن أبي جعفر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فلا يجوز لك أن ترده)(1).

ومنها: الروايات الدالة على حجية أخبار الثقات - من غير تعيين راوٍ بخصوصه - كالتوقيع الشريف: (لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك في ما يرويه عنا ثقاتنا)(2).

ومنها: الروايات الدالة على حجية رواية وفتوى العلماء، كالتوقيع الشريف: (وأما الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله...)(3).

ومنها: الروايات الواردة في علاج التعارض بين الأخبار، فإنها تدل على حجية خبر الثقة بنحو الجزم؛ ولذا كان السؤال عن وقوع التعارض وكيفية علاجه، كما روي أنه سُئل الإمام الرضا عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (يجيء الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيهما الحق؟ فقال عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: فإذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت)(4).

وهنا طوائف أخرى أشار إليها الشيخ الأعظم في الرسائل، وإن شئت الاطلاع

ص: 407


1- وسائل الشيعة 27: 143.
2- وسائل الشيعة 27: 149.
3- كمال الدين وتمام النعمة: 484.
4- وسائل الشيعة 27: 121.

- كما يظهر من مراجعة الوسائل وغيرها - إلاّ أنه يشكل[1] الاستدلال بها على حجية أخبار الآحاد بأنها أخبار آحاد، فإنها غير متفقة[2] على لفظ ولا على معنى فتكون[3] متواترة لفظاً أو معنىً.

ولكنه مندفع[4]: بأنها وإن كانت كذلك[5]، إلاّ أنها متواترة إجمالاً، ضرورة أنه يعلم إجمالاً بصدور بعضها منهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، وقضيته[6] وإن كان حجية خبر دل على حجيته أخصها مضموناً[7]،

-----------------------------------------------------------------

على تلك الروايات فراجع كتاب وسائل الشيعة، كتاب القضاء.

[1] خلاصة الإشكال على الاستدلال بالروايات: أنها أخبار آحاد، ولا يصح الاستدلال على حجية الخبر الواحد بأخبار الآحاد، فإنه دور واضح.

[2] أي: كثرة تلك الأخبار لا تخرجها عن كونها أخبار آحاد، فإن التواتر إما الاتفاق على لفظ واحد - وهو التواتر اللفظي - أو على معنى واحد - وهو التواتر المعنوي - وهذه الأخبار لا يجمعها لفظ واحد ولا معنى واحد.

[3] تفريع على قوله: (غير متفقة)، أي: ليست متفقة لفظاً ولا معنىً حتى تكون متواترة.

[4] حاصل الدفع: إن تلك الأخبار لكثرتها متواترة إجمالاً، وقد مرّ أن معنى التواتر الإجمالي: إما وجود قدر جامع بينها، وإما العلم بصدور بعضها، وفي تسمية هذا الثاني بالتواتر مسامحة، وظاهر كلام المصنف هنا هو المعنى الثاني.

[5] أي: غير متفقة على لفظ أو معنى لتكون متواترة لفظاً أو معنى، «أنها» أي: الأخبار الدالة على الحجية، «أنه» أن الشأن.

[6] أي: مقتضى التواتر الإجمالي - بعد عدم العلم بصدور أيّ منها - هو الأخذ بأخصها مضموناً مما نعلم بأن كل تلك الأخبار دالة عليه قطعاً.

[7] أي: القدر الجامع بين كل تلك الأخبار وهو خبر الثقة العادل المشهور رواية وفتوى، فإن الخبر الجامع لهذه الأوصاف تشمله كل تلك الروايات وتدل على حجيته.

ص: 408

إلاّ أنه يتعدى عنه[1] في ما إذا كان بينها[2] ما كان بهذه الخصوصية وقد دل على حجية ما كان أعم، فافهم[3].

فصل: في الإجماع على حجية الخبر وتقريره من وجوه[4]:

أحدها: دعوى الإجماع من تتبع[5] فتاوى الأصحاب على الحجية من زماننا

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: عن الخبر الأخص مضموناً، والمعنى أن التواتر الإجمالي دل على حجية الأخص مضموناً، وهذا الأخص الجامع للأوصاف المذكورة قليل جداً، ولكن يوجد خبر جامع لهذه الأوصاف ودال على حجية كل خبر ثقة، فبضم هذا الخبر لذلك التواتر الإجمالي ينتج حجية أخبار الثقات مطلقاً.

[2] أي: بين الأخبار الدالة على حجية خبر الواحد.

[3] لعله إشارة إلى عدم وجود خبر هو أخصها مضموناً ودال على حجية خبر الثقة مطلقاً.

أو إشارة إلى أن التواتر الإجمالي دال على حجية خبر الثقة مطلقاً بلا حاجة إلى ضم هذه الضميمة.

أو أن التواتر المعنوي حاصل في تلك الأخبار.

فصل في الإجماع على حجية الخبر

[4] الأول: الإجماع القولي - محصلاً أو منقولاً بالتواتر - .

الثاني: الإجماع العملي، الكاشف عن اتفاقهم قولاً.

الثالث: سيرة العقلاء الممضاة من الشارع، ولا يخفى أن في عدّ هذا من الإجماع مسامحة؛ لأنه دليل آخر غير الإجماع.

[5] أي: هو إجماع محصل بالمراجعة في كلماتهم.

ص: 409

إلى زمان الشيخ، فيكشف رضاه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بذلك[1] ويقطع به[2]، أو من تتبع الإجماعات المنقولة[3] على الحجية(1).

ولا يخفى: مجازفة هذه الدعوى[4]، لاختلاف الفتاوى في ما أخذ في اعتباره من الخصوصيات[5]، ومعه لا مجال لتحصيل القطع برضاه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ من تتبعها؛ وهكذا حال تتبع الإجماعات المنقولة؛ اللهم إلاّ أن يدعى[6] تواطؤها على الحجية في الجملة،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: بالحجية، ولا يضر مخالفة السيد المرتضى وأتباعه، فإنهم معلوموا النسب على مبنى الإجماع الدخولي، ولا تضر مخالفتهم على مبنى اللطف، وكذا على مبنى الحدس.

[2] أي: كشف رضا الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بالقطع لا بالظن؛ لأن الكشف الظني غير مفيد، بل نحتاج إلى دليل قطعي لإثبات حجية الخبر الواحد أو أي ظن خاص.

[3] أي: يمكن إثبات الإجمالي القولي بتواتر نقل الإجماع، فهو إجماع منقول متواتر يفيد القطع.

[4] وذلك لوضوح اختلافهم في الخبر الحجة على أقوال، فمنهم من اعتبر كل ما في الكتب الأربعة، ومنهم من اعتبر حجية خبر الثقة، ومنهم من قال بحجية خبر الإمامي، ومنهم من اشترط عمل المشهور، ومنهم من اشترط عدم إعراض المشهور، وغير ذلك. ومع هذه الاختلافات كيف حصل الإجماع؟!

[5] «في اعتباره» أي: خبر الواحد، و«من الخصوصيات» بيان لقوله: (في ما أخذ...)، و«معه» أي: مع اختلاف الفتاوى.

[6] أي: يقال: إنه وإن اختلف الفتاوى في شرط حجية الخبر الواحد لكنها متفقة على حجيته في الجملة، وغرضنا الآن إثبات الحجية في الجملة مقابل السلب الكلي، كما قال المصنف في مقام رد أدلة النافين: (وهو غير مفيد في إثبات السلب كلياً كما هو محل الكلام ومورد النقض والإبرام).

ص: 410


1- فرائد الأصول 1: 311.

وإنما الاختلاف في الخصوصيات المعتبرة فيها[1]، ولكن دون إثباته خرط القتاد.

ثانيها[2]: دعوى اتفاق العلماء عملاً[3] - بل كافة المسلمين - على العمل بخبر الواحد في أمورهم الشرعية، كما يظهر من أخذ فتاوى المجتهدين من الناقلين لها.

وفيه: - مضافاً إلى ما عرفت مما يرد على الوجه الأول[4] - أنه لو سلم اتفاقهم[5] على ذلك[6]، لم يحرز أنهم اتفقوا بما هم مسلمون ومتدينون بهذا الدين[7] أو بما هم عقلاء ولو لم يلتزموا بدين، كما هم[8] لا يزالون يعملون بها في غير الأمور

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: في الحجية، «إثباته» أي: إثبات تواطئها - أي: توافقها - على الحجية في الجملة.

[2] أي: ثاني الوجوه هو الاتفاق العملي الكاشف عن اتفاقهم القولي، والفرق بين هذا الوجه وسابقه: أن ذاك كان بياناً للإجماع القولي، وهذا للإجماع العملي.

[3] أي: اتفاقهم من جهة العمل الكاشف عن إجماعهم القولي.

[4] أي: إن اختلافهم في الخصوصيات المأخوذة في الخبر الواحد توجب وهن ادعاء الاتفاق.

[5] حاصل الإشكال: هو أن منشأ الاتفاق العملي قد يكون حكم الشرع، وقد يكون سيرة العقلاء.

فالأول: كاتفاق المسلمين على نجاسة الميتة، فإن منشأه حكم الشرع، وهذا هو الكاشف عن إجماعهم القولي الكاشف عن قول المعصوم.

والثاني: كاتفاق المسلمين على الاعتماد على أهل الخبرة، فإن منشأه هو بناء العقلاء، وهذا لا يكون كاشفاً عن الإجماع القولي ولا كاشفاً عن رأي المعصوم، وهذا يرجع إلى الوجه الآتي، فلا يكون وجهاً مستقلاً.

[6] أي: اتفاق العلماء والمسلمين على العمل بخبر الواحد.

[7] وهذا هو الذي ينفع في إثبات الإجماع.

[8] تأييد بأن اتفاقهم العملي ليس منشؤه الشرع، بل منشؤه سيرة العقلاء؛ ولذا

ص: 411

الدينية من الأمور العادية.

فيرجع إلى ثالث الوجوه؛ وهو دعوى استقرار سيرة العقلاء من ذوي الأديان وغيرهم على العمل بخبر الثقة، واستمرت إلى زماننا، ولم يردع عنه نبي ولا وصي نبي، ضرورة أنه لو كان[1] لاشتهر وبان، ومن الواضح أنه يكشف عن رضاء الشارع به في الشرعيات أيضاً[2].

إن قلت: يكفي في الردع الآيات الناهية والروايات المانعة عن اتباع غير العلم. وناهيك[3] قوله تعالى: {وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ}(1)[4]، وقوله تعالى: {إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيًۡٔاۚ}(2).

قلت[5]: لا يكاد يكفي تلك الآيات في ذلك، فإنه - مضافاً إلى أنها وردت

-----------------------------------------------------------------

العلماء والمسلمين حتى في غير أمورهم الدينية يعملون بخبر الواحد، وهذا يكشف عن أن عملهم به في أمورهم الدينية بما هم عقلاء لا بما هم متشرعة.

[1] أي: إن الردع لو كان موجوداً لكان مشتهراً؛ وذلك لأن العمل بخبر الواحد شائع ورائج، فلو كان منع لراج وظهر واشتهر لارتباطه بالحياة اليومية للناس.

[2] وذلك لأن المتشرعة يعملون به في الشرعيات أيضاً، فلو كان ممنوعاً لبيّنه الشارع ولشاع بين الناس.

[3] أي: يكفيك.

[4] أي: لا تتبع غير العلم، من (قفا، يقفو) أي: اتبع.

[5] أجاب المصنف بثلاثة أجوبة على أن الآيات والروايات المانعة عن اتباع الظن لا تشمل الخبر الواحد:

الأول: إنها خاصة بالعمل بالظن في أصول الدين.

ثانياً: إنها لو لم تكن خاصة بأصول الدين فلا دلالة لها أيضاً؛ لأن الاستدلال

ص: 412


1- سورة الإسراء، الآية: 36.
2- سورة يونس، الآية: 36.

إرشاداً[1] إلى عدم كفاية الظن في أصول الدين، ولو سلم فإنما المتيقن[2]، لو لا أنه المنصرف إليه إطلاقها[3] هو خصوص[4] الظن الذي لم يقم على اعتباره حجة - لا يكاد[5]

-----------------------------------------------------------------

بإطلاقها، ومن مقدمات الحكمة هو عدم وجود قدر متيقن، لكن هنا يوجد قدر متيقن - وهو أصول الدين - فلا يمكن التمسك بإطلاقها، بل يمكن ادعاء انصرافها إلى أصول الدين.

ثالثاً: الدور، وسيأتي توضيحه.

[1] لأن العقل يكشف أو يحكم بعدم جواز اتباع الظن في أصول الدين؛ لأن الموضوع خطير جداً، ويرتبط بالمصير الأبدي للإنسان، فلابد من تحصيل العلم به، ومع حكم العقل أو كشفه يكون أمر الشارع إرشادياً، - كما ذكروا في الفرق بين الأوامر المولوية والأوامر الإرشادية - .

[2] أي: لو سلم بأنها لم ترد في أصول الدين، فيقال: إن استفادة شمولها لخبر الواحد إنما هو بالإطلاق، وهذا الإطلاق غير تام؛ لعدم تمامية مقدمات الحكمة؛ وذلك لوجود قدر متيقن.

[3] أي: لو لم نقل بالانصراف، والفرق أنه مع وجود القدر المتيقن لا يُعلم بأن المولى أراد الأزيد منه، أما الانصراف فهو يدل على أن المولى أراد خصوص مورد الانصراف.

«أنه» أي: الظن في أصول الدين، «إطلاقها» فاعل «المنصرف» والضمير عائد إلى الآيات والروايات المانعة عن العمل بالظن.

[4] «هو خصوص» خبر لقوله: (فإنما المتيقن).

[5] لا يكاد خبر قوله: (فإنه مضافاً...) وهذا بيان للإشكال الثالث وهو الدور، وتوضيحه: إن الآيات إنّما تكون رادعة عن العمل بالخبر الواحد إذا لم تخصصها السيرة؛ لأن السيرة إذا خصصت الآيات فلا تكون الآيات شاملة للخبر الواحد

ص: 413

يكون الردع بها إلاّ على وجه دائر، وذلك لأن الردع بها[1] يتوقف على عدم تخصيص عمومها أو تقييد إطلاقها[2] بالسيرة على اعتبار خبر الثقة، وهو[3] يتوقف على الردع عنها بها[4]، وإلا[5] لكانت مخصصة أو مقيدة لها، كما لا يخفى.

لا يقال[6]: على هذا[7] لا يكون اعتبار خبر الثقة بالسيرة أيضاً إلاّ على وجه

-----------------------------------------------------------------

حتى تردع عنه، وعدم تخصيص السيرة للآيات متوقف على رادعية الآيات؛ لأن الآيات لو لم تكن رادعة لخصصتها السيرة فأخرجت منها الخبر الواحد، وهذا دور مصرح.

[1] أي: الردع بالآيات عن العمل بالخبر الواحد.

[2] أي: عموم وإطلاق الآيات، ولا يخفى أن الآيات الرادعة كلها مطلقة، فالدليل يكون مقيد لها، وكذا الروايات - حسب علمنا - كذلك مطلقة، فقوله: (تخصيص عمومها) إنّما هو فرض.

[3] أي: تخصيص عمومها أو تقييد إطلاقها.

[4] أي: على الردع عن السيرة بالآيات.

[5] أي: وإن لم تردع الآيات عن السيرة لكانت السيرة سليمة عن المعارض، فتكون المتبعة، فيتم بها تخصيص أو تقييد الآيات.

[6] هذا إشكال نقضي، وهو أن دلالة السيرة على حجية خبر الثقة أيضاً دوري، فلا يمكن الاستدلال بالسيرة على الحجية؛ لأن ما يلزم منه المحال يكون محالاً أيضاً؛ وذلك لأن حجية الخبر بالسيرة يتوقف على عدم رادعية الآيات عن هذه السيرة؛ لأن الآيات لو كانت رادعة سقطت السيرة عن الاعتبار، وعدم الرادعية يتوقف على تخصيص الآيات بالسيرة؛ لأن الآيات لو لم تُخَصَّص كانت عامة شاملة لهذه السيرة، وتخصيص الآيات متوقف على عدم ردع الآيات عن السيرة، فصار دوراً مضمراً.

[7] أي: بناءً على جريان الدور في رادعية الآيات عن السيرة.

ص: 414

دائر، فإن اعتباره بها[1] فعلاً يتوقف على عدم الردع بها عنها[2]، وهو يتوقف على تخصيصها بها[3]، وهو يتوقف على عدم الردع بها عنها[4].

فإنه يقال[5]: إنما يكفي في حجيته بها[6] عدم ثبوت الردع عنها لعدم نهوض ما يصلح لردعها، كما يكفي[7] في تخصيصها لها ذلك كما لا يخفى[8]؛

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: اعتبار الخبر بالسيرة، فإنها دليل حجيته، وقوله: «فعلاً» أي: بعد نزول الآيات الرادعة.

[2] أي: عدم الردع بالآيات عن السيرة.

[3] و«هو» أي: عدم الردع، «تخصيصها» أي: الآيات، «بها» أي: بالسيرة.

[4] «هو» التخصيص، «بها» بالآيات، «عنها» عن السيرة.

[5] حاصل الجواب: هو إنكار آخر الدور، أي: تخصيص الآيات بالسيرة لا يتوقف على عدم رادعية الآيات، كما كان في النقض بالدور، بل يتوقف على عدم ثبوت الرادعية. فعدم الرادعية يتوقف على التخصيص، ولكن التخصيص لا يتوقف على عدم الرادعية، بل يتوقف على عدم ثبوت الرادعية.

[6] أي: في حجية الخبر بالسيرة، وذلك بأن تكون السيرة مخصصة للآيات المانعة عن العمل بالظن.

[7] أي: كما يكفي في حجية الخبر بالسيرة عدم ثبوت الردع كذلك يكفي في تخصيص السيرة للآيات عدم ثبوت الرادعية.

والحاصل: إن السيرة العقلائية تكون حجة لو لم يثبت رادع شرعي عنها.

[8] ولا يخفى أن الدور ليس بصحيح لا كما ادعاه المصنف ولا كما ذكره في النقص؛ وذلك لأن عدم أحد الضدين لا يتوقف على وجود الضد الآخر، بل يلازمه، فإن استقبال القبلة - مثلاً - لا يتوقف على استدبار الجهة الأخرى، بل هما متلازمان، وهنا الردع لا يتوقف على عدم التخصيص، بل هما ضدان، ووجود

ص: 415

ضرورة[1] أن ما جرت عليه السيرة المستمرة في مقام الإطاعة والمعصية، وفي استحقاق العقوبة بالمخالفة ، وعدم استحقاقها مع الموافقة ولو[2] في صورة المخالفة عن الواقع، يكون[3] عقلاً في الشرع متبعاً ما لم ينهض دليل على المنع[4] عن اتباعه في الشرعيات، فافهم وتأمل[5].

-----------------------------------------------------------------

الردع يلازم عدم التخصيص - وهو ضده - . وكذا عدم الردع لا يتوقف على التخصيص، بل يلازمه.

[1] دليل أنه يكفي عدم ثبوت الرادعية في حجية السيرة العقلائية. وحاصله: إن طرق الطاعة والمعصية طرق عقلية، ولم يجعل الشارع طريقاً خاصاً.

ولما كانت السيرة من الطرق العقلائية فتكون حجة في إثبات أمر المولى ونهيه، والثواب على امتثال الأمر والنهي والعقاب على مخالفتهما، وحيث إن السيرة العقلائية دلت على حجية الخبر الواحد - بما يتضمنه من أمر المولى ونهيه - فيلزم اتباع هذه السيرة، وإطاعة المولى بامتثال الأمر والنهي وعدم معصيته بمخالفتهما.

[2] «لو» وصلية، أي: لو وافق الأمر لا يكون مستحقاً للعقوبة حتى إذا كان الأمر خاطئاً؛ وذلك لأنه اتبع الطريقة العقلائية في طاعة المولى.

[3] «يكون» خبر (أن ما جرت...)، والمعنى أنه بحكم العقل يكون الطريق العقلائي متبعاً في الأوامر الشرعية.

[4] أي: دليل خاص بخصوص طريق من الطرق العقلائية، كالقياس.

[5] أشار المصنف إلى وجهه في الحاشية، وحاصله: إنه لو تعارضت السيرة في الحجية وإطلاق الآيات في عدم الحجية فإنهما يتساقطان، فنرجع إلى الأصل العملي وهو استصحاب الحجية الثابتة قبل نزول الآيات الرادعة، إلى آخر ما ذكره في الحاشية فراجع(1).

ص: 416


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 342.

فصل: في الوجوه العقلية التي أقيمت على حجية الخبر الواحد.

أحدها[1]: إنه يعلم إجمالاً[2] بصدور كثير مما بأيدينا من الأخبار[3] من الأئمة

-----------------------------------------------------------------

فصل في الوجوه العقلية التي أقيمت على حجية خبر الواحد

أول الوجوه العقلية

[1] حاصله: إنا نعلم بوجود التكاليف الشرعية في مضامين مختلف الأدلة، وهذا العلم الإجمالي الكبير ينحل إلى علم إجمالي صغير بوجود هذه التكاليف المعلومة بالإجمال في مضامين الأخبار المروية عن الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، وإلى شك بدوي في مضامين سائر الأدلة، حيث لا نعلم بوجود تكاليف أزيد مما في مضامين الأخبار.

نظير ما إذا علمنا بوجود شياه محرمة في قطيع غنم، فهذا علم إجمالي كبير، ثم علمنا بأن المقدار المعلوم موجود في الأغنام السوداء، فإن العلم الإجمالي الكبير - بوجود معلومة الحرمة في القطيع - ينحل إلى علم إجمالي صغير بوجود المحرّمة في السوداء، وشك بدوي بالنسبة إلى البيضاء، فيكون مجرى أصالة البراءة في البيضاء، والاحتياط في السوداء.

وحينئذٍ فالأخبار المثبتة للتكليف تكون مقتضى الاحتياط هو العمل بها، وأما الأخبار النافية للتكليف فإن لم يكن في موردها احتياط جاز العمل بها، ولكن إذا كان في موردها ما يثبت التكليف فالاحتياط هو ترك تلك الأخبار والعمل بما يقتضي الاحتياط.

[2] هذا هو العلم الإجمالي الصغير.

[3] ولا نعلم بالتفصيل الأخبار الصادرة، فلذا يلزم الاحتياط في جميع الأخبار.

ص: 417

الأطهار عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بمقدار وافٍ بمعظم الفقه[1]، بحيث لو علم تفصيلاً ذاك المقدار لانحلّ علمنا الإجمالي[2] بثبوت التكاليف بين الروايات وسائر الأمارات إلى[3] العلم التفصيلي بالتكاليف في مضامين الأخبار الصادرة المعلومة تفصيلاً، والشك البدوي في ثبوت التكليف في مورد سائر الأمارات الغير(1)

المعتبرة[4].

ولازم ذلك[5] لزوم العمل على وفق جميع الأخبار المثبتة[6]، وجواز العمل على طبق النافي منها[7] في ما إذا لم يكن في المسألة أصل مثبت له[8] من قاعدة

-----------------------------------------------------------------

[1] بحيث لا نعلم وجود تكليف آخر في مضامين سائر الأدلة، بل نحتمل وجود تكاليف فيها، وهذا الاحتمال شك بدوي يكون مجرى أصالة البراءة.

[2] وهو العلم الإجمالي الكبير.

[3] «إلى» متعلق ب- (لانحلّ).

[4] كالشهرة الفتوائية، وإنّما قال: «الغير المعتبرة» لأن الأمارات المعتبرة خارجة عن أطراف العلم الإجمالي أصلاً، ولأنها لو كانت معتبرة لم يكن معنى لإجراء أصالة البراءة في أطرافها، بل كان يجب العمل بها.

[5] أي: لازم انحلال العلم الإجمالي الكبير إلى علم إجمالي صغير - بوجود التكاليف المعلومة بالإجمال في مضامين الأخبار - .

[6] أي: المثبتة للتكليف؛ لأن مقتضى العلم الإجمالي هو وجوب الاحتياط، والعمل بالتكاليف المثبتة هو مطابق للاحتياط.

[7] أي: من الأخبار، لأن العمل بها لا يخالف الاحتياط، وكذا ترك العمل بها لا يخالف أيضاً الاحتياط، فلذا كان العمل بها جائزاً لا واجباً.

نعم، لو خالف الاحتياط العمل بالأخبار النافية وجب تركها والعمل بما يقتضيه الاحتياط؛ إذ مع العلم الإجمالي يجب العمل بالاحتياط وترك ما يخالفه.

[8] أي: للتكليف، كقاعدة الاشتغال التي موردها هو الشك في المكلّف به، بأن

ص: 418


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير المعتبرة».

الاشتغال أو الاستصحاب بناءً[1] على جريانه في أطراف ما علم إجمالاً بانتقاض الحالة السابقة في بعضها، أو قيام أمارة معتبرة[2] على انتقاضها فيه، وإلاّ[3] لاختصّ عدم جواز العمل على وفق النافي بما إذا كان على خلاف قاعدة الاشتغال.

-----------------------------------------------------------------

نعلم بأصل التكليف مع دوران الأمر بين فردين أو أفراد معدودة، كما لو علمنا بوجوب إما صلاة الجمعة أو صلاة الظهر في زمان الغيبة، فلا يجوز العمل بالخبر الذي ينفي التكليف عن أحدهما؛ لأن قاعدة الاشتغال هي وفق الاحتياط دون الخبر النافي.

وكاستصحاب التكليف، كعلمنا بوجوب صلاة العيدين في زمان الحضور، وعند الشك في وجوبها في زمان الغيبة نستصحب التكليف - لأنه الموافق للاحتياط - فلا يجوز العمل بالأخبار النافية للوجوب في زمان الغيبة.

[1] «بناء» قيد للاستصحاب، أي: جريان الاستصحاب هنا متوقف على أحد المبنيين دون الآخر؛ وذلك لأنه لو كان هنالك علم إجمالي ثم خرج بعض الأفراد عن كونها طرفاً للعلم الإجمالي فهل يجري الاستصحاب أم لا؟ فيه خلاف.

كما لو علمنا بنجاسة الإناءين، ثم علمنا إجمالاً بتطهير أحدهما، فهل يجري استصحاب وجوب الاجتناب عن الإناءين أم لا؟

وما نحن فيه من هذه المصاديق، حيث علمنا إجمالاً بصدور بعض الأخبار النافية للتكليف، فهل نتمكن من استصحاب وجوب صلاة الجمعة الثابتة في زمان الظهور أم لا؟ فإن قلنا - في المبنى - بجريان الاستصحاب فإنه يجري هنا، ولا يجوز العمل بالخبر النافي، وإلاّ لم يجر الاستصحاب وبقي الخبر النافي سليماً عن أن يعارضة الاستصحاب - الموافق للاحتياط - .

[2] لأن انتقاض الحالة يكون إما بالعلم أو بالدليل المعتبر تعبداً.

[3] أي: وإن لم نقل بجريان الاستصحاب في ما علم إجمالاً بانتقاض الحالة السابقة فيه.

ص: 419

وفيه[1]: إنه لا يكاد ينهض على حجية الخبر بحيث يُقدّم تخصيصاً أو تقييداً أو ترجيحاً[2] على غيره من عموم أو إطلاق أو مثل مفهوم، وإن كان يسلم[3] عما

-----------------------------------------------------------------

[1] حاصله: إن هذا الدليل يثبت لزوم الاحتياط في العمل بالخبر المثبت، وهذا المقدار لا يثبت لزوم العمل به حتى وإن كان مخالفاً للأصول اللفظية والعملية. مع أن معنى حجية الخبر كونه مقدماً على الأصول اللفظية كالعموم والإطلاق ونحوها إذا كان الخبر خاصاً أو مقيداً - مثلاً - .

فتحصل: عدم نهوض هذا الدليل لإثبات حجية الأخبار النافية للتكليف، ولا يثبت تقديم الخبر على الإطلاق والعموم ونحوها، كما لا يثبت تقديم الخبر على بعض الأصول العملية.

[2] بأن كان الخبر منطوقاً وغيره مفهوماً، ومن الواضح تقديم المنطوق - إذا كان حجة - على المفاهيم.

[3] إشارة إلى عدم ورود إشكال آخر أورده الشيخ الأعظم، فإن الشيخ الأعظم(1)،

قرّر الدليل: بأنا نعلم إجمالاً بوجود تكاليف كثيرة في مضامين مختلف الأدلة، ونعلم إجمالاً بوجود كثير من تلك التكاليف في مضامين الأخبار.

وأورد على هذا التقرير: بأن علمنا بوجود تكاليف في مضامين الأخبار لا يوجب انحلال العلم الإجمالي الكبير؛ إذ العلم الإجمالي لا يختص بمضامين الأخبار، بل هو عام لكل الأدلة، نظير ما لو علمنا بوجود أغنام محرمة في القطيع وعلمنا بوجود أغنام محرمة في الأغنام السوداء، فإن هذا العلم الثاني لا يوجب انحلال العلم الإجمالي الأول الكبير.

يقول المصنف: إن هذا الإشكال لا يرد على التقرير الذي بيناه، حيث إنا نعلم إجمالاً بوجود التكاليف في مضامين الأخبار، ولا نعلم بوجود تكاليف أخرى في مضامين سائر الأدلة.

ص: 420


1- فرائد الأصول 1: 359.

أورد عليه من أن لازمه الاحتياط في سائر الأمارات لا في خصوص الروايات، لما عرفت[1] من انحلال العلم الإجمالي بينهما[2] بما علم بين الأخبار بالخصوص ولو بالإجمال[3]، فتأمل جيداً.

ثانيها[4]: ما ذكره في الوافية مستدلاً على حجية الأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة - كالكتب الأربعة - مع عمل جمع به من غير ردٍ ظاهر[5].

وهو[6]:

-----------------------------------------------------------------

[1] بيان لسلامة الدليل عن هذا الإشكال.

[2] أي: بين الروايات وبين سائر الأمارات.

[3] إشارة إلى العلم الإجمالي الصغير، وهو علمنا بوجود تكاليف في مضامين الأخبار، مع عدم علمنا بوجود تكليف آخر في مضامين سائر الأدلة.

ثاني الوجوه العقلية

[4] الفرق بين هذا الدليل وسابقه - مع اشتراكهما في الاستدلال بالعلم الإجمالي - هو أمران:

1- إن هذا الدليل أخص، حيث استدل به على حجية ما في الكتب المعتمدة - بشرط العمل وعدم الرد - والدليل السابق أعم يدل على حجية مطلق الأخبار.

2- إن هذا يتطرق إلى عدم معرفة تفاصيل التكاليف إلاّ عبر الأخبار، والسابق يتطرق إلى الأحكام بشكل مطلق.

[5] الدليل على حجية الخبر بثلاثه شروط: 1- كونه في الكتب المعتمدة - كالكتب الأربعة - . 2- أن يكون قد عمل به جمع من الأصحاب. 3- أن لا يكون الخبر مردوداً بأن أعرض عنه الأصحاب، أو حمل على التقية ونحوها.

[6] حاصل الدليل مركب من ثلاث مقدمات: 1- نعلم بوجود تكاليف. 2- نعلم بأن هذه التكاليف ليست بمنسوخة، بل مستمرة إلى يوم القيامة. 3- لا طريق إلى

ص: 421

«إنا نقطع ببقاء التكليف(1) إلى يوم القيامة، سيما بالأصول الضرورية[1]، كالصلاة والزكاة والصوم والحج والمتاجر والأنكحة ونحوها، مع أن جُلّ أجزائها وشرائطها وموانعها إنما يثبت بالخبر الغير القطعي(2)،

بحيث نقطع[2] بخروج حقائق هذه الأمور عن كونها هذه الأمور عند ترك العمل بخبر الواحد. ومن أنكر ذلك فإنما ينكره باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان»(3)،

انتهى.

وأورد عليه[3]: أولاً: بأن العلم الإجمالي حاصل بوجود الأجزاء والشرائط

-----------------------------------------------------------------

تفاصيل هذه التكاليف إلاّ الأخبار، بحيث إنه لو تركنا الأخبار ولم نعمل بهذه التفاصيل لخرجت هذه التكاليف عن حقيقتها قطعاً، فالصلاة مركبة من أجزاء ولها شرائط وموانع، وأكثر هذه الأجزاء والشرائط والموانع لا تُعلم إلاّ بواسطة الأخبار، بحيث لو تركناها لخرج فعلنا عن حقيقة الصلاة.

[1] مقصوده من «الأصول» هو أساسيات التكاليف الفرعية، «الضرورية» التي هي من ضروريات الدين.

[2] مثلاً: الصلاة التي لم تتضمن الأجزاء والشرائط ولم تَخْلُ عن الموانع المذكورة في الأخبار ليست بصلاة قطعاً، ولو كان التعبير ب- (نقطع بخروج الأفعال عن كونها هذه الأمور عند ترك العمل بخبر الواحد) كان أفضل.

[3] الإشكال الأول، هو ما ذكره الشيخ الأعظم(4)

وحاصله: إن مرجع هذا الدليل إلى العلم الإجمالي، والعلم الإجمالي بوجود التكاليف وتفاصيلها إنما هو في عامة الأخبار، لا في خصوص الأخبار التي ذكرها صاحب الوافية - وهي الموجودة في الكتب المعتمدة مع عمل جمع من غير ردّ ظاهر - .

ص: 422


1- في الوافية: «التكاليف».
2- في الوافية: «غير القطعي».
3- الوافية: 159.
4- فرائد الأصول 1: 361.

بين جميع الأخبار، لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكره، فاللازم حينئذٍ[1] إما الاحتياط أو العمل بكل ما دل على جزئية شيء أو شرطيته[2].

قلت[3]: يمكن أن يقال: إن العلم الإجمالي وإن كان حاصلاً بين جميع الأخبار[4]، إلاّ أن العلم[5] بوجود الأخبار الصادرة عنهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بقدر الكفاية بين تلك الطائفة[6]،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: لما كان متعلق العلم الإجمالي هو عامة الأخبار فاللازم الاحتياط بالعمل بعامة الأخبار الدالة على الأجزاء والشرائط، وإن لم يكن العمل بعامتها للزوم الحرج مثلاً، فاللازم العمل بجميع ما ظن صدوره - حتى لو لم يكن فيه الشروط التي ذكرها صاحب الوافية - لأن العمل بما ظن صدوره أقرب إلى الاحتياط، «حينئذٍ» أي: حين كون العلم الإجمالي في عامة الأخبار.

[2] وكذا مانعيته وقاطعيته، ونحوها.

[3] المصنف لم يرتض هذا الإشكال، حيث إنه يرى انحلال العلم الإجمالي الكبير إلى علم إجمالي صغير وشك بدوي، حيث إنا لا نعلم بوجود أجزاء وشرائط وموانع زائداً عما هو موجود في الكتب المعتمدة المعوّل بأخبارها غير المعرض عنها، فانحلّ العلم الإجمالي الكبير. نعم، نحتمل وجود جزء أو شرط أو مانع آخر غير مذكور في تلك الكتب، لكن هذا الاحتمال شك بدوي فيكون مجرى البراءة.

[4] حتى التي لا تتوفر فيها الشروط التي ذكرها صاحب الوافية، وهذا هو العلم الإجمالي الكبير.

[5] مقصوده انحلال العلم الإجمالي الكبير إلى العلم الإجمالي الصغير بوجود الأجزاء والشرائط في ضمن تلكم الأخبار، وشك بدوي في وجود شيء منها في سائر الأخبار.

[6] المشروطة بالشروط التي ذكرها صاحب الوافية.

ص: 423

أو العلم[1] باعتبار طائفة كذلك بينها يوجب[2] انحلال ذاك العلم الإجمالي وصيرورة غيره خارجاً عن طرف العلم - كما مرت إليه الإشارة في تقريب الوجه الأول -. اللهم إلاّ أن يمنع[3] عن ذلك وادعي[4] عدم الكفاية في ما علم بصدوره أو اعتباره، أو ادعي العلم بصدور أخبار أخر بين غيرها، فتأمل[5].

-----------------------------------------------------------------

[1] الفرق هو أن هذا هو العلم باعتبارها ولزوم العمل بها مع عدم العلم بصدورها، وقبله: هو العلم بصدورها، «كذلك» أي: بقدر الكفاية، «بينها» أي: بين تلك الطائفة المشروطة بالشروط التي ذكرها صاحب الوافية.

[2] خبر (أن) في قوله: (إلاّ أن العلم)، «غيرها» أي: غير تلك الطائفة.

[3] إشكال على قوله: (قلت يمكن... الخ)، وحاصله: هو منع انحلال العلم الإجمالي الكبير وبقاء العلم الإجمالي في كل الأخبار، «ذلك» أي: الانحلال.

[4] هنا ادّعاءان على سبيل منع الخلو:

الادعاء الأول: هو أن كل الأخبار طرف في العلم الإجمالي، فإنا نعلم بعدم كفاية ما في تلك الطائفة، فتكون الطائفة الأخرى أيضاً داخلة في أطراف العلم الإجمالي من غير انحلال له.

الادعاء الثاني: هو العلم بوجود أجزاء وشرائط أو موانع في الطائفة الأخرى أيضاً.

فالأول ناظر إلى الطائفة الأولى وعدم كفايتها، والثاني ناظر إلى الطائفة الأخرى والعلم بوجود أجزاء ونحوها فيها.

[5] لعلّه إشارة إلى أن المنع عن الانحلال لا وجه له، وكذا هذان الادعاءان محل إشكال، فإنا بعد تتبع أحوال أصحاب الكتب الأربعة ونحوها من الكتب المعتمدة، وشدّة تتبعهم ودقّتهم مع إرادتهم جمع كل الأجزاء والشرائط والموانع، نقطع بعدم وجود تكليف آخر في سائر الأخبار، لا أقل بعدم علمنا بوجود شيء آخر فيها، فتكون مورداً لأصالة البراءة لانحلال العلم الإجمالي.

ص: 424

وثانياً[1]: بأن قضيته إنما هو العمل بالأخبار المثبتة للجزئية أو الشرطية دون الأخبار النافية لهما[2].

والأولى[3] أن يورد عليه: بأن قضيته إنما هو الاحتياط بالأخبار المثبتة في ما لم تقم حجة معتبرة على نفيهما[4] من عموم دليل أو إطلاقه[5]، لا الحجية[6] بحيث

-----------------------------------------------------------------

[1] حاصله: ما مرّ في الإشكال على الدليل العقلي الأول، وهو أن مقتضى العلم الإجمالي هو الاحتياط، والاحتياط يقتضي العمل بالأخبار المثبتة للتكليف لا النافية، «قضيته» أي: مقتضى هذا الدليل الذي ذكره صاحب الوافية.

[2] أي: للجزئية والشرطية؛ وذلك لأن قاعدة الاشتغال تقتضي وجوب الاحتياط في الأقل والأكثر الارتباطيين، والإتيان بكل ما يحتمل جزئيته وشرطيته، وسيأتي أن مبنى المصنف هو الاحتياط هنا لا البراءة.

[3] هذا هو الإشكال الثالث، وهو أيضاً كان يرد على الدليل الأول، وقد ذكره المصنف هناك مفصلاً، «عليه» أي: على الدليل الثاني وهو ما ذكره صاحب الوافية.

[4] أي: نفي الشرطية أو الجزئية، فإنه لو قامت حجة معتبرة على نفيهما فلا تصل النوبة إلى الاحتياط بالعمل بالأخبار، بل اللازم العمل بتلك الحجة، كما لو علمنا إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين ثم قامت بينة على تعيينه، فإنه ينحل العلم الإجمالي.

[5] كعموم آية أو خبر متواتر، فإنه حجة معتبرة، فلا يلزم الاحتياط بالعمل بالخبر الواحد؛ لأن الخبر الواحد - على هذا الدليل - إنّما يُعمل به للاحتياط، ولا معنى للاحتياط مع وجود حجة معتبرة.

[6] وهذه الحجية هي المطلوبة من الخبر الواحد بحيث يمكنه تخصيص عموم القرآن، وتقييد إطلاقه، ونحوه.

ص: 425

يخصص أو يقيد بالمثبت منها، أو يعمل بالنافي[1] في قبال حجة على الثبوت ولو كان أصلاً، كما لا يخفى.

ثالثها[2]: ما أفاده بعض المحققين[3] بما ملخصه: «إنا نعلم بكوننا مكلفين بالرجوع إلى الكتاب والسنة إلى يوم القيامة[4]، فإن تمكنا من الرجوع إليهما على نحوٍ يحصل العلم بالحكم أو ما بحكمه[5]،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: هذا أيضاً المطلوب من حجية الخبر الواحد، حيث يلزم رفع اليد عن الأصول العملية ولزوم العمل بالخبر، أما هذا الدليل فلا يمكنه أن يثبت حجية الخبر النافي للتكليف في قبال الأصول الدالة على الاحتياط.

والحاصل: إن هذا الدليل أخص من المدعى، فيثبت حجية خصوص الخبر المثبت للتكليف إذا لم يكن قباله عموم أو إطلاق، وحجية خصوص الخبر النافي للتكليف إذا لم يكن في قباله احتياط ولو بأصل عملي.

ثالث الوجوه العقلية

[2] حاصله: إن ذمتنا مشغولة بالعمل بالسنة يقيناً - بمعنى وجوب الرجوع إلى الأخبار الحاكية للسنة - والاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية، فإن تمكنا من تحصيل اليقين بالبراءة عبر الرجوع إلى الأخبار القطعية الصدور أو المعلومة الاعتبار فذلك لازم، وإلاّ فلابد من الرجوع إلى الأخبار المظنونة الصدور أو مظنونة الاعتبار.

[3] وهو الشيخ محمد تقي صاحب الحاشية على المعالم(1).

[4] لأنا مكلفون بتكاليف، وعامة تلك التكاليف - إلاّ النادر - تثبت بالكتاب والسنة، فما دام الشارع يريد تلك الأحكام لابد من الرجوع إليها.

[5] أي: ما بحكم العلم، وهو ما دل على اعتباره دليل قطعي، مثل: ظواهر الكتاب.

ص: 426


1- هداية المسترشدين 3: 373.

فلابد من الرجوع إليهما كذلك[1]، وإلا[2] فلا محيص عن الرجوع على نحوٍ يحصل الظن به[3] في الخروج عن عهدة هذا التكليف، فلو لم يتمكن من القطع بالصدور أو الاعتبار فلابد من التنزل إلى الظن بأحدهما».

وفيه[4]: إن قضية بقاء التكليف فعلاً[5] بالرجوع إلى الأخبار الحاكية للسنة - كما صرح بأنها المراد منها في ذيل كلامه «زيد في علو مقامه» - إنما هو[6] الاقتصار في الرجوع إلى الأخبار المتيقن الاعتبار[7]، فإن وفى، وإلا[8] أضيف إليه الرجوع إلى ما هو المتيقن اعتباره بالإضافة[9]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: إلى الكتاب والسنة، «كذلك» أي: على نحو يحصل العلم بالحكم، أو ما بحكم العلم.

[2] أي: وإن لم يكن تحصيل العلم أو ما بحكمه.

[3] أي: الظن بذلك الرجوع في الخروج عن عهدة التكليف الدال على وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة.

[4] حاصل الإشكال الأول هو: إن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية عقلاً لا الظنية، فلا وجه للرجوع إلى الظن أصلاً، حيث يمكن تحصيل البراءة اليقينية بالاحتياط.

[5] أي: استمرار التكليف بالرجوع إلى الأخبار إلى زماننا وإلى يوم القيامة.

[6] لأنه مقتضى قاعدة (الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية).

[7] وهو الأخبار المقطوعة الصدور أو المعلومة الاعتبار بأن قام دليل قطعي على اعتبارها.

[8] أي: إن وَفَت الأخبار المتيقنة الاعتبار فهو المطلوب، وبالعمل بها نخرج عن عهدة تكليف الرجوع إلى السنة، وإن لم تفِ أضيف إلى المتيقنة الاعتبار الرجوع... الخ.

[9] أي: المتيقن اعتباره بالنسبة إلى غيره من الأخبار، كالخبر الصحيح بالنسبة إلى الخبر الضعيف مثلاً.

ص: 427

لو كان[1]، وإلاّ[2] فالاحتياط بنحو عرفت[3]، لا الرجوع إلى ما ظن اعتباره؛ وذلك[4] للتمكن من الرجوع علماً تفصيلاً أو إجمالاً، فلا وجه معه[5] من الاكتفاء بالرجوع إلى ما ظن اعتباره. هذا.

مع[6] أن مجال المنع عن ثبوت التكليف بالرجوع إلى السنة بذاك المعنى[7] في ما لم يعلم بالصدور ولا بالاعتبار بالخصوص واسع.

وأما الإيراد[8] عليه:

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: لو كان متيقن الاعتبار بالإضافة.

[2] أي: لو لم يكن متيقن الاعتبار بالأصالة ولا بالإضافة، بل كانت الأخبار متساوية، فلابد من الرجوع إلى الاحتياط لا إلى الظن.

[3] أي: عرفت في الوجه الأول من لزوم العمل بالأخبار المثبتة للتكليف، وجواز العمل بالأخبار النافية إن لم يكن قبالها احتياط حتى ولو كان استصحاباً أو اشتغالاً.

[4] أي: وجه عدم جواز الرجوع إلى الظن هو إمكان تحصيل العلم ولو بنحو إجمالي عبر الاحتياط.

[5] أي: مع العلم التفصيلي أو الإجمالي.

[6] هذا إشكال ثانٍ على الوجه الثالث، وحاصله: إن أصل التكليف بالرجوع إلى الأخبار غير معلوم، فانتفى الاستدلال من أصله؛ إذ لا اشتغال يقيني حتى يستدعي البراءة اليقينية.

[7] أي: بمعنى الأخبار الحاكية لها، إذا لم تكن مقطوعة الصدور أو الاعتبار، وقوله: «واسع» خبر (أن) في (مع أن مجال المنع...).

[8] وهذا إشكال آخر ذكره الشيخ الأعظم(1)،

وحاصله: إن هذا الوجه العقلي الثالث ليس وجهاً مستقلاً، بل إما يرجع إلى دليل الانسداد أو إلى الوجه العقلي

ص: 428


1- فرائد الأصول 1: 363.

برجوعه، إما إلى دليل الانسداد لو كان ملاكه[1] دعوى العلم الإجمالي بتكاليف واقعية، وإما إلى الدليل الأول لو كان ملاكه دعوى العلم بصدور أخبار كثيرة بين ما بأيدينا من الأخبار.

ففيه[2]: إن ملاكه إنما هو دعوى العلم بالتكليف بالرجوع إلى الروايات في الجملة[3] إلى يوم القيامة. فراجع تمام كلامه تعرف حقيقة مرامه.

فصل: في الوجوه التي أقاموها على حجية الظن وهي أربعة:

الأول[4]:

-----------------------------------------------------------------

الأول، حيث إن مبنى هذا الدليل إن كان وجود تكاليف واقعية فهذا يرجع إلى دليل الانسداد، وإن كان المبنى هو العلم بصدور جملة من الأخبار فهذا يرجع إلى الوجه العقلي الأول.

[1] أي: لو كان مبنى هذا الدليل وجوهره.

[2] المصنف لم يرتض هذا الإشكال الثالث لذا ردّه، وحاصل الرد: إن ملاك هذا الدليل هو وجوب العمل بالروايات، وهذا الملاك يختلف عن ملاك الانسداد، وعن ملاك الوجه الأول.

[3] في ما أورثت الظن - مثلاً - أو كانت مقطوعة الصدور بالإضافة.

فصل الوجوه التي أقيمت على حجة الظن

اشارة

[4] وهو: مركب من صغرى وكبرى:

أما الصغرى: فإن المجتهد حينما يظن بحكم شرعي إلزامي - من الوجوب والحرمة - فإنه يظن بأن المكلف لو خالف ذلك الحكم فإنه يعاقب أخروياً ويبتلى بالمفسدة

ص: 429

إن في مخالفة المجتهد لما ظنه من الحكم الوجوبي أو التحريمي[1] مظنة للضرر، ودفع الضرر المظنون لازم.

أما الصغرى: فلأن الظن بوجوب شيء أو حرمته يلازم[2] الظن بالعقوبة على مخالفته، أو الظن بالمفسدة فيها[3]،

-----------------------------------------------------------------

دنيوياً؛ لأن كل حكم شرعي إلزامي تجب طاعته وتحرم مخالفته، فلذا يستحق العقاب على المخالفة، وكذا كل حكم إلزامي فإنما كان لأجل مصلحة أو مفسدة في المتعلق، ومخالفته توجب فوات المصلحة أو الوقوع في المفسدة.

وأما الكبرى: فإن العقل يحكم بلزوم دفع الضرر المظنون.

إن قلت: مبنى هذا الحكم العقلي هو التحسين والتقبيح العقليان، أي: حكم العقل بحسن دفع الضرر المحتمل وقبح الوقوع فيه، والأشاعرة لا يقولون بالتحسين والتقبيح العقليين، فلا تثبت هذه الكبرى على مبناهم.

قلت: ليس المبنى منحصراً في التحسين والتقبيح العقليين، بل هو حكم عقلي مستقل مع قطع النظر عنهما؛ ولذا اتفق كافة العقلاء عليه حتى الذين لا يقولون بالتحسين والتقبيح العقليين.

[1] أما الظن بسائر الأحكام فليس مخالفته مظنة للضرر؛ لجواز مخالفة الاستحباب والكراهة والإباحة المقطوعة، فضلاً عن المظنونة.

[2] أي: لازمه أمران: الأول: العقوبة الأخروية؛ لأن لازم الحكم الإلزامي المقطوع به هو استحقاق الثواب على موافقته، والعقاب على مخالفته، إذ لا معنى للحرمة وللوجوب بلا استحقاق للعقاب على المخالفة. فيكون لازم الحكم الإلزامي المظنون هو الظن بالعقاب على المخالفة.

[3] هذا هو اللازم الثاني، وهو المفسدة الدنيوية؛ لأن الحكم بالحرمة ليس إلاّ لأجل وجود مفسدة في الفعل ولذا حرم، فالظن بالحرمة يلازم الظن بالمفسدة على المخالفة.

ص: 430

بناءً[1] على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.

وأما الكبرى: فلاستقلال العقل بدفع الضرر المظنون ولو لم نقل بالتحسين والتقبيح[2]، لوضوح عدم انحصار ملاك حكمه بهما[3]، بل يكون التزامه بدفع الضرر المظنون، بل المحتمل بما هو كذلك[4]، ولو لم يستقل بالتحسين والتقبيح، مثل[5] الالتزام بفعل ما استقل بحسنه إذا قيل باستقلاله، ولذا[6] أطبق العقلاء عليه

-----------------------------------------------------------------

وأما الظن بالوجوب فإنه يلازم الظن بفوات المنفعة الملزمة على المخالفة، وهذا سيشير إليه المصنف في نهاية جوابه.

[1] أي: المفسدة الدنيوية بناءً على التبعية، أما العقوبة فلا تتوقف على التبعية كما سيذكره المصنف بعد قليل.

[2] فلا يصح الإشكال المنسوب إلى بعض العامة على الكبرى، بأنها تتوقف على التحسين والتقبيح العقليين، وحيث إن الأشاعرة ينكرون هذا التوقف فتبطل الكبرى على مبناهم.

يقول المصنف: إن لزوم دفع الضرر المظنون لا يتوقف على التحسين والتقبيح، بل هو حكم عقلي مستقل، والشاهد عليه إطباق العقلاء - بما فيهم المنكرون للتحسين والتقبيح - عليه.

[3] أي: ملاك حكم العقل بالتحسين والتقبيح.

[4] «هو» ذلك الضرر، «كذلك» أي: مظنون أو محتمل.

[5] «مثل» خبر (يكون) في قوله: (بل يكون التزامه بدفع... الخ).

والمعنى: إنه حتى لو لم نقل بالتحسين والتقبيح فالعقل يحكم أو يكشف لزوم دفع الضرر المظنون، كما كان يحكم أو يكشف لزوم الدفع على القول بالتحسين والتقبيح.

[6] هذا شاهد على حكم أو كشف العقل - حتى لو لم نقل بها - «عليه» أي: على لزوم دفع الضرر المظنون، بل المحتمل.

ص: 431

مع خلافهم في استقلاله بالتحسين والتقبيح، فتدبر جيداً[1].

والصواب في الجواب[2] هو منع الصغرى:

أما العقوبة[3]: فلضرورة عدم الملازمة بين الظن بالتكليف والظن بالعقوبة على مخالفته[4]،

-----------------------------------------------------------------

[1] ولعله يُشكل على المصنف بأن حكم العقل أو كشفه ما يتعلق بأفعال العباد - أي: ما ينبغي أن يفعل أو يترك - إنّما هو راجع إلى التحسين والتقبيح لا غير، وأما إطباقهم فلعدم التفات منكري التحسين والتقبيح على ابتناء هذه المسألة على التحسين والتقبيح؛ ولذا أقروا ما التزمه العقل من غير شبهة أو مكابرة. وأما في أصل المسألة فانكروا التحسين والتقبيح، لشبهة أو لمكابرة.

[2] لما بيّنا صحة الكبرى وعدم الصواب في الإشكال عليها، نبدأ بالإشكال على الدليل، وذلك عبر الإشكال على الصغرى، وهي (مخالفة المجتهد لما ظنه من الحكم الوجوبي أو التحريمي مظنة للضرر). فنقول: المراد بالضرر: إما الضرر الأخروي، أو المفسدة الدنيوية في مخالفة الحرام، أو تفويت المصلحة في مخالفة الواجب. لكن الملازمة بين مخالفة الحكم المظنون وبين هذه الثلاثة غير ثابتة أو غير مفيدة كما سيتبيّن.

الأول: العقوبة

[3] حاصله: إنه لا ملازمة بين نفس الحكم وبين العقوبة على المخالفة، فكيف تكون ملازمة بين الحكم المظنون وبين العقوبة؟ وذلك لأنه قد تتحقق المخالفة بلا عقوبة، كما لو لم يتنجز التكليف للجهل به، فهنا مخالفة من غير عقوبة، وقد تكون عقوبة بلا مخالفة كما في التجري.

نعم، معصية التكليف تلازم استحقاق العقوبة، لكن مع الظن بالتكليف وعدم وجود دليل على حجية هذا الظن تجري أصالة البراءة، فلا معصية ليكون استحقاق العقاب.

[4] أي: مخالفة التكليف المظنون.

ص: 432

لعدم الملازمة[1] بينه والعقوبة على مخالفته؛ وإنما الملازمة بين خصوص معصيته واستحقاق العقوبة عليها، لا بين مطلق المخالفة والعقوبة بنفسها[2]، ومجرد الظن به[3] بدون دليل على اعتباره لا يتنجز به[4]، كي يكون مخالفته عصيانه[5].

إلاّ أن يقال[6]:

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: لما لم يكن ملازمة بين نفس التكليف وبين العقوبة فبطريق أولى لا يكون ملازمة بين الظن بالتكليف وبين العقاب، «بينه» أي: بين التكليف، «مخالفته» أي: مخالفة التكليف.

[2] «مطلق المخالفة» حتى لو لم تكن معصية، «بنفسها» أي: بنفس العقوبة؛ لأن المعصية لا يلازمها العقوبة الخارجية وإلاّ استحال الانفكاك، وإنّما تلازم الاستحقاق للعقوبة، وأما فِعلية العقوبة فهي متوقفة على عدم العفو.

[3] أي: بالتكليف، والمراد هو أن الظن بالتكليف لا يثبت العصيان في المخالفة، إلاّ إذا أثبتنا حجية هذا الظن بدليل آخر، فالاستدلال بهذا الدليل على حجية هذا الظن مصادرة.

[4] أي: لا يتنجز التكليف بهذا الظن، حتى تكون مخالفته معصية.

[5] أي: حتى تكون مخالفة التكليف المظنون عصيان لذلك التكليف، بل مخالفته ليست بعصيان لجريان أدلة البراءة.

[6] حاصله: إنه في الضرر المظنون لا يحكم العقل باستحقاق العقاب، كما أنه لا يحكم بعدم استحقاق العقاب، فلا حكم للعقل إثباتاً ولا نفياً، وحينئذٍ فيكون العقاب محتملاً، ويجب التحرز عن العقاب المحتمل بحكم العقل.

وبعبارة أخرى: لا يحكم العقل لا بالعقاب ولا بعدمه، لكنه يحتمل كلاً من العقاب وعدمه، وحين احتمال العقاب يحكم العقل بوجوب احترازه والاحتياط؛ لأنه ضرر كبير جداً.

ص: 433

إن العقل وإن لم يستقل بتنجزه بمجرده[1] بحيث يحكم باستحقاق العقوبة على مخالفته، إلاّ أنه لا يستقل أيضاً بعدم استحقاقها معه[2]، فيحتمل العقوبة حينئذٍ على المخالفة. ودعوى[3] استقلاله بدفع الضرر المشكوك كالمظنون قريبة جداً، لا سيما[4] إذا كان هو العقوبة الأخروية، كما لا يخفى[5].

وأما المفسدة[6]: فلأنها وإن كان الظن بالتكليف يوجب الظن بالوقوع فيها لو

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: بتنجز التكليف بمجرد الظن بالتكليف، «على مخالفته» أي: مخالفة التكليف المظنون.

[2] أي: عدم استحقاق العقوبة مع الظن بالتكليف، «حينئذٍ» أي: حين الظن بالتكليف.

[3] لما أثبت المصنف الصغرى، وهي احتمال العقوبة على مخالفة التكليف المظنون، يريد هنا إثبات الكبرى، وهي لزوم دفع الضرر المحتمل.

[4] أي: إذا كان الضرر المحتمل عظيماً كالضرر الأخروي، بل حتى لو كان موهوماً لكن كان المحتمل مهماً، كما لو علمنا بكون إحدى الأواني العشرة مسمومة، فيحكم العقل بوجوب اجتنابها كلها، مع أن الاحتمال في كل آنية لا يتعدى العشرة بالمائة، ولكن لما كان المحتمل مهماً وجب الاحتياط بحكم العقل.

[5] ولكن الصحيح هو أنه مع عدم وجود دليل معتبر يستقل العقل بعدم استحقاق العقوبة؛ وذلك لوجود البراءة العقلية والشرعية، فلا احتمال للعقوبة حتى يجب دفعه بالاحتياط.

الثاني: المفسدة

[6] هذا هو الشق الثاني في منع الصغرى، وحاصله: إنه حتى لو قلنا: إنّ العقل يحكم بلزوم دفع الضرر المظنون، لكنا نقول: إن المفسدة لا تكون ضرراً دائماً، بل قد يكون معها مصلحة شخصية للفاعل، كالمقامر الرابح، والمرابي، وأمثالهما، فمع وجود المفسدة النوعية في القمار والربا لكن لا ضرر على هذين، بل نفع!!.

ص: 434

خالفه[1]، إلاّ أنها ليست بضرر على كل حال[2]، ضرورة أن كل ما يوجب قبح الفعل من المفاسد لا يلزم أن يكون من الضرر على فاعله، بل ربما[3] يوجب حزازة ومنقصة في الفعل بحيث يذم عليه فاعله بلا ضرر عليه أصلاً، كما لا يخفى.

وأما تفويت المصلحة[4]: فلا شبهة في أنه ليس فيه مضرة، بل ربما يكون في استيفائها[5] المضرة، كما في الإحسان بالمال، هذا. مع منع[6] كون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في المأمور به والمنهي عنه[7]، بل إنما هي تابعة لمصالح فيها[8]،

-----------------------------------------------------------------

[1] بالوقوع في المفسدة لو خالف التكليف المظنون؛ وذلك لتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها.

[2] بل أحياناً تكون ضرراً، وأحياناً لا تكون ضرراً، بل قد تكون نفعاً لفاعلها.

[3] أي: أحياناً المفسدة التي أوجبت الحرمة ليست ضرراً على فاعلها، بل هي مفسدة تتعلق بالمعنويات بحيث توجب ذم الفاعل، كأن يعمل خلاف المروءة - مثلاً - .

الثالث: تفويت المصلحة

[4] وذلك بمخالفة الواجب، فإن الوجوب إنّما هو لأجل المصلحة، فبمخالفته تفوت تلك المصلحة، ولكن عدم النفع ليس بضرر كما هو واضح، وضمير «أنه» و«فيه» يرجع إلى التفويت.

[5] أي: في فعل الواجب حيث يصل الإنسان إلى تلك المصلحة.

[6] المراد أن الأحكام ليست دائماً تابعة للمصالح والمفاسد في المتعلق، بل ذلك هو الغالب، وأحياناً تكون المصلحة في نفس الحكم لا في المتعلق كما في الأوامر الامتحانية، وحينئذٍ لا تكون مخالفة الحكم المظنون وقوعاً في مفسدة ولا تفويتاً لمصلحة.

[7] أي: في المتعلق للأمر أو النهي.

[8] أي: في نفس الأحكام، «إنّما هي» أي: الأحكام.

ص: 435

كما حققناه في بعض فوائدنا[1].

وبالجملة: ليست المفسدة ولا المنفعة الفائتة - اللتان في الأفعال[2] وأنيط بهما الأحكام - بمضرة[3]. وليس مناط حكم العقل بقبح ما فيه المفسدة أو حسن ما فيه المصلحة من الأفعال - على القول باستقلاله بذلك[4] - هو كونه ذا ضرر وارد على فاعله، أو نفع عائد إليه.

ولعمري هذا أوضح من أن يخفى. فلا مجال لقاعدة دفع الضرر المظنون هاهنا أصلاً؛ ولا استقلال للعقل[5] بقبح فعل ما فيه احتمال المفسدة، أو ترك ما فيه احتمال المصلحة، فافهم[6].

-----------------------------------------------------------------

[1] ويرد عليه: إن المصلحة إن كانت في نفس الحكم فلابد من تحقق تلك المصلحة بمجرد صدور الحكم من الشارع بلا حاجة إلى فعل العبد!!.

[2] مقابل المصلحة في نفس الحكم، حيث لا مصلحة في الفعل أصلاً، «وأنيط بهما الأحكام» لتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.

[3] أي: ليست ضرراً دائماً. نعم، قد يكون فيها الضرر وقد لا يكون، و«بمضرة» خبر (ليست).

[4] أي: استقلال العقل بقبح ما فيه المفسدة وحسن ما فيه المصلحة، و«من الأفعال» بيان لقوله: (ما فيه المفسدة) و(ما فيه المصلحة).

[5] لما أثبتناه من عدم الملازمة بين الضرر وبين المفسدة أو تفويت المصلحة.

والحاصل: إنه لا يعلم بأن فيه الضرر، فلا تجري قاعدة (دفع الضرر المظنون أو المحتمل واجب). ووجود المفسدة أو تفويت المصلحة وإن كان مظنوناً إلاّ أنه لا حكم للعقل بقبح الفعل أو الترك.

[6] لعله إشارة إلى أنه وإن لم يكن تلازم بين المفسدة أو تفويت المصلحة وبين الضرر إلاّ أنه محتمل؛ إذ في بعض الأحيان توجد مفسدة أو تفويت مصلحة ويوجد الضرر، ففي مورد الظن بالتكليف يوجد ظن للمفسدة أو تفويت المصلحة، فيحتمل

ص: 436

الثاني[1]: إنه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح، وهو قبيح.

وفيه[2]: إنه لا يكاد يلزم منه ذلك[3] إلاّ[4] في ما إذا كان الأخذ بالظن أو بطرفه لازماً، مع عدم إمكان الجمع بينهما عقلاً[5]، أو عدم وجوبه شرعاً[6]،

-----------------------------------------------------------------

أن يكون هناك ضرر، وقد أقر المصنف بأن دفع الضرر المحتمل لازم، فعليه يلزم العمل بالظن ويتم الدليل!!.

الدليل الثاني لحجية الظن

[1] وحاصله: إنه يدور الأمر بين العمل بالوهم أو العمل بالظن، لكن العمل بالوهم ترجيح للمرجوح على الظن الراجح، وترجيح المرجوح على الراجح قبيح، فالنتيجة هي لزوم العمل بالظن عقلاً.

[2] حاصله: أولاً: إنه لو أمكن الجمع بين مقتضى الوهم والظن فهو المقدّم عقلاً، فلا يكون ترجيحاً للمرجوح على الراجح، كما في موارد الاحتياط. مثلاً: لو كان الظن بالاستحباب والوهم بالوجوب فإن الإتيان بذلك العمل جمعٌ بين الدليلين بلا ترجيح للمرجوح على الراجح.

وثانياً: لو كان هناك دليل شرعي يرجح الوهم فلا يكون الأخذ به ترجيحاً للمرجوح على الراجح، كما لو قامت بينة شرعية على الطرف الموهوم.

وثالثاً: لو لم يمكن الجمع، ولم يوجد دليل شرعي فإن هذا الدليل لوحده لا يكفي؛ لأنه المقدمة الخامسة من مقدمات دليل الانسداد، ومع عدم ضمّ سائر المقدمات لا ينتج الدليل أصلاً.

[3] «منه» من عدم الأخذ بالظن، «ذلك» أي: ترجيح المرجوح على الراجح.

[4] بيان للإشكال الأول، «بطرفه» أي: بطرف الظن المقابل له وهو الوهم.

[5] الجمع عقلاً يكون بالاحتياط، وعدم إمكان الجمع يكون في ما لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة.

[6] أي: عدم وجوب الجمع، كما لو قام دليل رجح جانب الوهم، وهذا

ص: 437

ليدور[1] الأمر بين ترجيحه وترجيح طرفه. ولا يكاد[2] يدور الأمر بينهما إلاّ بمقدمات دليل الانسداد، وإلاّ[3] كان اللازم هو الرجوع إلى العلم أو العلمي[4] أو الاحتياط أو البراءة أو غيرهما[5] على حسب اختلاف الاشخاص[6] أو الأحوال[7] في اختلاف المقدمات على ما ستطلع على حقيقة الحال.

الثالث[8]:

-----------------------------------------------------------------

إشارة إلى الإشكال الثاني.

[1] نتيجة عدم إمكان الجمع عقلاً أو عدم وجوبه شرعاً، فالنتيجة هي دوران الأمر بين ترجيح الظن أو ترجيح طرف الظن - أي: مقابله - وهو الوهم.

[2] إشارة إلى الإشكال الثالث.

[3] أي: وإن لم تتم مقدمات الانسداد.

[4] لو لم تتم المقدمة الثانية - وهي انسداد باب العلم والعلمي - فإن اللازم هو الرجوع إلى ما دل الدليل الشرعي على الرجوع إليه، كالبينة وخبر الواحد، حتى لو كان الظن في خلافهما - مثلاً - .

ولا يخفى أن قول المصنف: «الرجوع إلى العلم» محل إشكال؛ لعدم إمكان اجتماعه من الظن.

[5] لو لم تتم المقدمة الرابعة، وهي عدم جواز الاحتياط في الجملة وعدم جواز الرجوع إلى الاستصحاب والتخيير والبراءة... الخ.

[6] فالبعض يحصل له العلم، والآخر لا يحصل له - مع أن السبب واحد - مثلاً - .

[7] كوجود الحالة السابقة فالاستصحاب، أو كونه مورداً للعلم الإجمالي فالاحتياط، أو شبهة بدوية فالبراءة - مثلاً - .

الدليل الثالث لحجية الظن

[8] هذا الدليل يتشكل من ثلاث من مقدمات دليل الانسداد، ولذا بدون سائر المقدمات لا ينتج، ومعها يكون نفس دليل الانسداد لا دليلا آخر.

ص: 438

ما عن السيد الطباطبائي+(1)، من إنه لا ريب[1] في وجود واجبات ومحرمات كثيرة بين المشتبهات. ومقتضى ذلك[2] وجوب الاحتياط بالإتيان بكل ما يحتمل الوجوب ولو موهوماً، وترك ما يحتمل الحرمة كذلك، ولكن[3] مقتضى قاعدة نفي الحرج عدم وجوب ذلك كله، لأنه عسر أكيد وحرج شديد[4]؛ فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط وانتفاء الحرج، العمل بالاحتياط في المظنونات دون المشكوكات والموهومات، لأن[5] الجمع على غير هذا الوجه بإخراج بعض المظنونات وإدخال بعض المشكوكات والموهومات باطل إجماعاً[6].

ولا يخفى ما فيه من القدح والفساد، فإنه بعض مقدمات دليل الانسداد، ولا يكاد ينتج بدون سائر مقدماته، ومعه[7] لا يكون دليل آخر بل ذاك الدليل.

-----------------------------------------------------------------

[1] وهذه ترجع إلى المقدمة الأولى من دليل الانسداد.

[2] لأنه علم إجمالي، حيث نعلم بوجود تكاليف بين المشتبهات - التي لا نعلم بالتفصيل أحكامها - ومقتضى ذلك هو لزوم الاحتياط.

[3] وهذا يرجع إلى بعض المقدمة الرابعة من دليل الانسداد، مع ذكر دليل تلك المقدمة وهو الجمع بين الدليلين.

[4] العسر هو المشقّة البدنية، والحرج هو المشقّة النفسية، وقد يستعمل الحرج بمعنى يشمل الضرر والعسر والحرج - بالمعنى الأخص - .

[5] وهذا يرجع إلى المقدمة الخامسة، مع استدلال لها بالإجماع.

[6] حيث لم يقل أحد بترجيح الوهم والشك على الظن!!.

[7] أي: مع سائر المقدمات، وهي المقدمة الأولى، والمقدمة الثانية، والبعض الآخر من المقدمة الرابعة، وهي عدم جواز الرجوع إلى الأصل في المسألة من استصحاب وتخيير... الخ كما سيأتي بعد قليل.

ص: 439


1- فرائد الأصول 1: 382، حيث حكاه عن صاحب الرياض.

الرابع[1]: دليل الانسداد وهو مؤلف من مقدمات[2] يستقل العقل[3] مع تحققها بكفاية الإطاعة الظنية حكومة أو كشفاً[4] - على ما تعرف - ولا يكاد يستقل بها بدونها[5]. وهي خمس:

أولها[6]: إنه يعلم إجمالاً بثبوت تكاليف كثيرة فعلية[7] في الشريعة.

ثانيها[8]:

-----------------------------------------------------------------

دليل الانسداد

[1] أي: الوجه الرابع من أدلة حجية الظن هو الدليل المعبر عنه بالانسداد، ويقال للظن المستند على الانسداد: (الظن المطلق).

[2] تتوقف صحة دليل الانسداد عليها.

[3] من غير حاجة إلى حكم من الشرع، «تحققها» أي: تمامية وصحة المقدمات.

[4] (الحكومة) هي حجية الظن بحكم العقل، و(الكشف) هو كشف العقل لحكم الشرع بحجية مطلق الظن، فمع تمامية تلك المقدمات يستقل العقل باكتشاف حكم الشرع، أو يستقل هو في الحكم، وسيأتي تفصيل ذلك.

[5] أي: بكفاية الإطاعة الظنية بدون تمامية المقدمات المذكورة.

[6] وهذه المقدمة وإن كانت واضحة إلاّ أن وضوحها لا يوجب الاستغناء عنها - كما عن المصنف في حاشية الرسائل(1)

- ، وفيه تأمل.

[7] أي: وصلت إلى مرحلة الفعلية، و(ثبوت التكليف) يختلف عن (عدم جواز إهمالها)، ففي الوصول: (والمراد بهذه المقدمة: الثبوت في الجملة، لا الثبوت علينا، حتى لا تكون مع المقدمة الثالثة - وهي عدم جواز إهمالها - تكراراً)(2).

[8] هذه هي العمدة في دليل الانسداد، وهي الأصل فيه، وأما سائر المقدمات فقد أضافها بعض المدققين، وهي وإن كانت لازمة لكي ينتج الدليل، لكنه كان

ص: 440


1- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 131.
2- الوصول إلى كفاية الأصول 4: 100.

إنه قد انسد علينا باب العلم والعلمي[1] إلى كثير منها.

ثالثها[2]: إنه لا يجوز لنا إهمالها وعدم التعرض لامتثالها[3] أصلاً.

رابعها[4]: إنه لا يجب علينا الاحتياط[5] في أطراف علمنا، بل لا يجوز في الجملة[6]، كما لا يجوز الرجوع إلى الأصل[7] في المسألة من استصحاب وتخيير وبراءة واحتياط[8]، ولا إلى فتوى العالم بحكمها[9].

-----------------------------------------------------------------

يمكن الاستغناء عنها اتكالاً على وضوحها.

[1] العلمي: هو الظن أو الشك أو الوهم المستند حجيته إلى العلم، كالخبر الواحد، حيث إنه ظني لكن دليله قطعي. ولا يجوز أن تكون حجية الظن مستندة إلى غير العلم للزوم الدور - كما مرّ - .

[2] فإن إهمال التكاليف - بذريعة عدم حصول العلم أو العلمي - يستلزم الخروج عن الدين.

[3] أي: عدم محاولة امتثال تلك التكاليف.

[4] حاصلها: هو عدم وجوب الاحتياط التام، بل عدم جوازه، كما لا يجوز الرجوع إلى الأصول الشرعية في كل مسألة بخصوصها.

[5] أي: الاحتياط التام الذي سببه العلم الإجمالي، بأن نحتاط في كل المظنونات والموهومات والمشكوكات.

[6] إذا استلزم الاحتياط اختلال النظام، وعدم الجواز هذا هو بحكم العقل والشرع.

[7] أي: الأصل العملي.

[8] أي: الاحتياط في كل مسألة بخصوصها، كالاحتياط في الشبهات التحريمية - مثلاً - فيحتاط في المسألة مع قطع النظر عن سائر المسائل، وهذا احتياط خاص ببعض المسائل.

[9] أي: يقلد المجتهد مجتهداً آخر عالماً بتلك المسألة.

ص: 441

خامسها[1]: إنه كان ترجيح المرجوح على الراجح قبيحاً.

فيستقل[2] العقل حينئذٍ بلزوم الإطاعة الظنية[3] لتلك التكاليف المعلومة، وإلا[4] لزم بعد انسداد باب العلم والعلمي بها إما إهمالها، وإما لزوم الاحتياط في أطرافها، وإما الرجوع إلى الأصل الجاري في كل مسألة مع قطع النظر عن العلم بها[5]، أو التقليد فيها، أو الاكتفاء بالإطاعة الشكية أو الوهمية مع التمكن من الظنية، والفرض بطلان كل واحد منها.

أما المقدمة الأولى[6]: فهي وإن كانت بديهية، إلاّ أنه قد عرفت انحلال العلم

-----------------------------------------------------------------

[1] حاصله: إن الظن راجح، والوهم مرجوح، فالعمل بالوهم ترجيح للمرجوح على الراجح، وكذا ترك العمل بالمظنونات والتمسك بأحد الاحتمالين في المشكوكات.

[2] هذه نتيجة تمامية المقدمات الخمس، «حينئذٍ» أي: حين تمامية هذه المقدمات.

[3] أي: الامتثال الظني، حيث إن العمل بالظنون يوجب الظن بأداء التكاليف الواقعية، «التكاليف المعلومة» أي: بالإجمال.

[4] أي: لو لم نعمل بالظن فذلك يستلزم أحد المحاذير التالية - على سبيل منع الخلو - :

1- الإهمال للتكاليف، والمفروض إبطال الإهمال بالمقدمة الثالثة.

2- الاحتياط، أو الرجوع إلى الأصل، أو تقليد المجتهد لغيره، والمفروض إبطال هذه بالمقدمة الرابعة.

3- الإطاعة المشكوكة أو الموهومة، والمفروض إبطالها بالمقدمة الخامسة.

[5] أي: عن العلم الإجمالي بالتكاليف، فنغُضُّ الطرف عن هذا العلم ونعمل بالأصل العملي حتى إذا كان براءة أو استصحاباً أو تخييراً - مثلاً - .

الكلام في المقدمة الأولى

[6] حاصله: هو عدم إمكان الاستناد إلى هذه المقدمة؛ وذلك لأنها وإن كانت

ص: 442

الإجمالي بما في الأخبار الصادرة عن الأئمة الطاهرين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ التي تكون في ما بأيدينا من الروايات في الكتب المعتبرة، ومعه[1] لا موجب للاحتياط إلاّ في خصوص ما في الروايات[2]، وهو غير مستلزم للعسر فضلاً عما يوجب الاختلال، ولا إجماع على عدم وجوبه[3] ولو سلم[4] الإجماع على عدم وجوبه لو لم يكن هناك انحلال.

-----------------------------------------------------------------

بديهية ولا تحتاج إلى الاستدلال إلاّ أنها غير مجدية؛ وذلك لانحلال العلم الإجمالي الكبير إلى علم إجمالي صغير - بما في الروايات الموجودة في الكتب المعتبرة - وشك بدوي في سائر الأدلة، والاحتياط بالعمل بجميع روايات الكتب المعتبرة لا يوجب عسراً، فضلاً عن اختلال النظام.

[1] أي: مع الانحلال، وهذا دفع إشكال حاصله: إن انحلال العلم الإجمالي الكبير غير مفيد؛ لعدم جواز الاحتياط في الروايات أيضاً.

والجواب: إنه لا محذور من الاحتياط في الروايات؛ لأن المحذور إما العسر أو الإجماع، لكن لا عسر في العمل بالروايات؛ إذ التكاليف الموجودة في الروايات منحصرة في مجموعة قليلة، ولا إجماع في عدم جواز الاحتياط بالعمل بما في الروايات.

[2] لأنها أطراف العلم الإجمالي الصغير - كما بيّنا - و«هو» أي: الاحتياط في خصوص ما في الروايات.

[3] أي: عدم وجوب الاحتياط بما في الروايات.

[4] «لو» وصلية، أي: لو لم ينحل العلم الإجمالي الكبير، فقد نسلّم بعدم وجوب الاحتياط في كل الأطراف المظنونة والمشكوكة والموهومة - ومنها الروايات - للإجماع على عدم وجوب الاحتياط حينئذٍ، لكن مع انحلال العلم الإجمالي الكبير لا نسلم وجود إجماع بعدم وجوب الاحتياط بما في الروايات.

ص: 443

وأما المقدمة الثانية: أما بالنسبة إلى العلم: فهي بالنسبة إلى أمثال زماننا بينة وجدانية، يعرف الانسداد كل من تعرض للاستنباط والاجتهاد. وأما بالنسبة إلى العلمي: فالظاهر أنها[1] غير ثابتة، لما عرفت من نهوض الأدلة على حجية خبر يوثق بصدقه[2]، وهو - بحمد الله - وافٍ بمعظم الفقه، لا سيما بضميمة ما علم تفصيلاً منها[3]، كما لا يخفى.

وأما الثالثة[4]: فهي قطعية، ولو لم نقل بكون العلم الإجمالي منجزاً

-----------------------------------------------------------------

الكلام في المقدمة الثانية

[1] أي: إن هذه المقدمة، وهي انسداد باب العلمي.

[2] لأن عمدة الأدلة - عند المصنف - هو بناء العقلاء، وبناؤهم على حجية الخبر الذي يثقون بمطابقته للواقع حتى إذا كان الراوي ضعيفاً.

ولا يخفى أن بين الوثوق بصدق الخبر وبين وثاقة المخبر عموماً من وجه، فقد يكون المخبر غير ثقة ولكن الخبر يوثق بصدقه، وقد يكون المخبر ثقة ولكن لا يوثق بخبر نقله، والغالب هو الاجتماع، أي: وثاقة المخبر تلازم وثاقة الخبر.

[3] أي: من التكاليف.

الكلام في المقدمة الثالثة

[4] أي: عدم جواز إهمال الأحكام قطعي، وهذه المقدمة لا تتوقف على تنجز العلم الإجمالي، بل دليلها هو العلم بعدم رضا الشارع بإهمال أحكامه وكذا يدل عليها الإجماع.

فحتى من لا يقول بتنجز العلم الإجمالي، وأجاز الاقتحام التدريجي لكل الأطراف، فإنه يقول بعدم جواز الإهمال هنا، لما عرفت من عدم ابتناء هذه المسألة على مسألة تنجز العلم الإجمالي. وكذا في الموارد التي لا نقول بتنجز العلم الإجمالي فيها، للاضطرار إلى ارتكاب بعض أطرافها - وما نحن فيه منها - فإنا نقول بلزوم عدم الإهمال، للعلم والإجماع المذكورين.

ص: 444

مطلقاً[1]، أو في ما جاز أو وجب[2] الاقتحام في بعض أطرافه كما في المقام حسب ما يأتي؛ وذلك[3] لأن إهمال معظم الأحكام وعدم الاجتناب كثيراً عن الحرام مما يقطع بأنه مرغوب عنه شرعاً، ومما يلزم تركه إجماعاً.

إن قلت[4]: إذا لم يكن العلم بها منجزاً لها للزوم الاقتحام في بعض الأطراف[5] - كما أشير إليه - فهل كان العقاب على المخالفة في سائر الأطراف -

-----------------------------------------------------------------

[1] كما نسب إلى المحقق القمي، حيث أجاز ارتكاب كل الأطراف تدريجياً.

[2] إشارة إلى ما سيأتي من أن القول بلزوم الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي يستثنى منه بعض الموارد.

ومنها: لو اضطر إلى ارتكاب بعض الأطراف، فإنه يجوز له ارتكاب الطرف الآخر أيضاً - في بعض الصور - مثلاً: لو سقطت قطرة دم في أحد الإناءين وأضطر إلى شرب أحدها علاجاً، فإن العلم الإجمالي لا يتنجز؛ لأنه لا يُعلم بصدور أمر (اجتنب) من المولى؛ لأن الإناء الأول مضطر إليه فلا معنى لوجوب الاجتناب عنه، وأما الإناء الثاني فلا يعلم سقوط الدم فيه، بل هناك احتمال، وهذا الاحتمال يدفع بأصل البراءة؛ لأنه شك بدوي.

وهنا العلم الإجمالي بتكاليف في كل المظنونات والمشكوكات والموهومات لا يجوز الالتزام به لاستلزامه لاختلال النظام، وحتى لو لم يوجب الاختلال فإنه لا يجب للزوم العسر، وحينئذٍ يجوز ارتكاب بعض الأطراف، ومع ذلك لا يجوز ارتكاب سائر الأطراف؛ لعدم ابتناء هذه المسألة على تنجز أو عدم تنجز العلم الإجمالي - كما عرفت - .

[3] بيان لعدم ابتناء عدم جواز الإهمال على تنجز العلم الإجمالي.

[4] حاصله: إن المقدمة الثالثة تبتني على العلم الإجمالي، وحيث لم يتنجز العلم الإجمالي فلا مورد لهذه المقدمة، «العلم بها» أي: بالتكاليف.

[5] حتى لا يلزم اختلال النظام.

ص: 445

حينئذٍ[1] - على تقدير المصادفة[2] إلاّ عقاباً بلا بيان[3]؟ والمؤاخذة عليها إلاّ مؤاخذة بلا برهان؟!

قلت[4]: هذا[5] إنما يلزم لو لم يعلم بإيجاب الاحتياط[6]، وقد علم به[7] بنحو اللِمّ، حيث علم اهتمام الشارع بمراعاة تكاليفه، بحيث ينافيه عدم إيجابه الاحتياط الموجب[8] للزوم المراعاة، ولو كان بالالتزام ببعض المحتملات. مع صحة دعوى الإجماع على عدم جواز الإهمال في هذا الحال[9] وأنه مرغوب عنه شرعاً قطعاً،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: حين جواز اقتحام بعض الأطراف.

[2] أي: لو صادفت ترك واجب أو فعل حرام.

[3] لأنه إذا لم يتنجز العلم الإجمالي فلا دليل على وجوب الاجتناب، بل أصل البراءة يدل على جواز الاقتحام، فلو صادف مخالفة تكليف فلا عقاب عليها؛ إذ العقاب مع جريان البراءة قبيح.

[4] أجاب المصنف بأمرين: اللِمّ، والإجماع. وحاصلهما: إنه يجب الاحتياط في الباقي لما ذكرنا من قيام الدليل على عدم جواز إهمال كل الأحكام، فليس دليل الاحتياط في الباقي هو العلم الإجمالي حتى لا يجب الاحتياط لو لم يتنجز العلم الإجمالي.

[5] أي: العقاب بلا بيان.

[6] من طريق آخر غير العلم الإجمالي.

[7] أي: بوجوب الاحتياط، و«اللِمّ» هو الاستدلال على المعلول بالعلة، فحيث نعلم العِلة - وهي اهتمام الشارع بتكاليفه - اكتشفنا المعلول، وهو لزوم الاحتياط في سائر الأطراف.

[8] أي: يستلزم ذلك الاحتياط وجوب مراعاة التكاليف، حتى وإن كان بالعمل بسائر الأطراف - بعد عدم لزوم الاحتياط في البعض الآخر للعسر أو اختلال النظام - .

[9] أي: حال جواز أو وجوب ارتكاب بعض الأطراف.

ص: 446

وأما مع استكشافه[1] فلا يكون المؤاخذة والعقاب حينئذٍ[2] بلا بيان وبلا برهان كما حققناه في البحث وغيره.

وأما المقدمة الرابعة[3]: فهي بالنسبة إلى عدم وجوب الاحتياط التام بلا كلام، في ما يوجب عسره[4] اختلال النظام. وأما في ما لا يوجب[5]

-----------------------------------------------------------------

[1] جمله (أما مع استكشافه) زائدة ولذا خلت منها بعض النسخ؛ لأن الكلام قبلها حول صورة الاستكشاف.

[2] أي: حين لزوم الاحتياط في باقي الأطراف.

الكلام في المقدمة الرابعة

[3] تنقسم المقدمة الرابعة إلى ثلاثة مطالب:

1- عدم وجوب الاحتياط التام، بل عدم جوازه في الجملة.

2- عدم جواز الرجوع إلى الأصل في المسألة.

3- عدم جواز الرجوع إلى فتوى العالم بحكمها.

فيبدأ المصنف في الإشكال على المطالب الثلاثة.

المطلب الأول

أما المطلب الأول: فهو صحيح إذا أوجب الاحتياط التام اختلال النظام؛ وذلك لدلالة العقل والنقل على عدم جوازه.

ولكن لو لم يوجب الاحتياط اختلالاً في النظام فلا دليل على عدم جوازه، بل الدليل على وجوبه؛ لحكم العقل بوجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي.

إن قلت: إن هذا الاحتياط فيه حرج أو ضرر، وهما مرفوعان.

قلت: أدلة نفي الحرج والضرر لا تشمل هذا المورد - كما سيأتي توضيحه - .

[4] أي: عسر الاحتياط، بمعنى أنه لا يجب الاحتياط التام الموجب للعسر إذا كان موجباً لاختلال النظام.

[5] أي: إذا لم يوجب الاحتياط العَسِر اختلالاً للنظام.

ص: 447

فمحل نظر بل منع[1]،

-----------------------------------------------------------------

[1] لأن أدلة الضرر والعسر لا ترفع التكليف بشكل مطلق، بل ترفع التكليف الذي نشأ منه الضرر والعسر، وأما إذا لم ينشأ من التكليف ضرر أو عسر، بل كان المنشأ هو اشتباه الحكم وتردده بين عدة أمور فلا يُرفع ذلك التكليف بأدلة نفي العسر أو الضرر، بل يلزم الاحتياط بحكم العقل.

بيان ذلك: إن هناك خلافاً بين الشيخ الأعظم وبين المصنف في المرفوع بأدلة نفي الضرر والعسر، فالشيخ الأعظم يرى أن معنى (لا ضرر) و(لا عُسر)، هو لا حكمَ ضرريّ أو عُسريّ، فيكون المرفوع هو الحكم، سواء كان ذلك الحكم سبباً للضرر أم العسر بشكل مباشر، كالوضوء في شدة البرد مع ضرره، أم بشكل غير مباشر، كما لو كان الوضوء بالماء المطلق سهلاً، ولكن لاشتباه الماء المطلق في ألف آنية كان الوضوء بكلّها عسراً أو فيه ضرر.

وأما المصنف فإنه يرى أن معنى (لا ضرر) و(لا عسر) هو نفي الموضوع الضرري أو العسري، ولكن نفي الموضوع باعتبار الحكم. فالمرفوع هو الوضوء الضرري أو العسري مثلاً، وحين اشتباه الماء المطلق في ألف آنية فإن الوضوء بالماء المطلق الواقعي لا ضرر فيه ولا عسر، فلم ينشأ الضرر أو العسر من حكم الشارع، فلا يكون الحكم مرفوعاً. نعم، الضرر أو العسر نشأ من حكم العقل بوجوب الاحتياط بكل الأواني الألف، وهذا الحكم لم يكن من الشارع حتى يرفعه.

والحاصل: إن الوضوء بالماء المطلق لم يكن ضررياً أو عُسرياً، فلا يكون مرفوعاً، والضرر الناشئ من لزوم الاحتياط لم يكن بحكم الشارع، بل كان بحكم العقل.

وفي ما نحن فيه: أحكام الشارع الواقعية لم توجب عسراً ولا ضرراً، فلا تُرفع تلك الأحكام بدليل لا ضرر ولا عسر، وإنما حَكَم العقل بلزوم الاحتياط - حسب مقتضى العلم الإجمالي - .

ص: 448

لعدم حكومة[1] قاعدة نفي العسر والحرج على قاعدة الاحتياط[2]؛ وذلك لما حققناه في معنى ما دل على نفي الضرر والعسر، من أن التوفيق بين دليلهما[3] ودليل التكليف أو الوضع المتعلقين بما يعمهما[4]، هو نفيهما[5] عنهما بلسان نفيهما،

-----------------------------------------------------------------

[1] ومعنى (الحكومة) هو أن يكون دليل ناظراً إلى دليل آخر مع توسعة أو تضييق في الموضوع، مثلاً قوله: (لا شك لكثير الشك) ناظر إلى أدلة أحكام الشكوك في الصلاة، بعدم اعتبار كثير الشك شاكاً، فصار تضييق في الموضوع، فالجمع العرفي يقتضي تقديم الدليل الناظر بشكل كامل - حتى وإن كان بين الدليلين عموم من وجه - .

[2] أي: الاحتياط العقلي بسبب العلم الإجمالي. وسبب عدم الحكومة هو عدم وجود ضرر أو عسر أصلاً في حكم الشارع كي يرفعه بلا ضرر أو لا عسر، فيكون من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

[3] أي: دليل نفي العسر والضرر.

[4] أي: بما يعم الضرر أو العسر؛ وذلك لأن دليل وجوب الوضوء مطلق، يشمل الوضوء غير الضرري والوضوء الضرري، وكذا أدلة الأحكام الوضعية كقوله: {أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ}(1) الدال على لزوم العقود، هي أدلة مطلقة تشمل العقد غير الضرري والعقد الضرري.

[5] «هو» أي: التوفيق، «نفيهما» نفي الضرر والعسر، «عنهما» عن التكليف والوضع، «بلسان نفيهما» نفي الضرر والعسر.

والمعنى أن المنفي هو الموضوع، ولكن المقصود هو نفي الحكم - التكليفي أو الوضعي - وذلك لوضوح عدم النفي التكويني للضرر أو العسر، وإنّما المنفي هو التشريع.

ص: 449


1- سورة المائدة، الآية: 1.

فلا يكون له[1] حكومة على الاحتياط العسر إذا كان بحكم العقل، لعدم العسر في متعلق التكليف[2]، وإنما هو[3] في الجمع بين محتملاته احتياطاً.

نعم[4]، لو كان معناه[5] نفي الحكم الناشئ من قبله العسر - كما قيل[6] - لكانت قاعدة نفيه محكّمةً على قاعدة الاحتياط[7]،

-----------------------------------------------------------------

وبعبارة أخرى: المنفي هو الحكم بلسان نفي الموضوع.

[1] أي: لدليل نفي العسر والضرر، فما دام المنفي هو الموضوع الضرري أو العسري، فإذا لم يوجب الموضوع عسراً أو ضرراً فلا يكون منفياً أصلاً.

[2] أي: في الموضوع الذي تعلق به التكليف.

[3] أي: إنما العسر، «محتملاته» أي: محتملات التكليف، «احتياطاً» بحكم العقل حيث يوجد علم إجمالي.

[4] أي: لو قلنا بما ذهب إليه الشيخ الأعظم، من أن المنفي هو الحكم الضرري أو العسري فلا يجب الاحتياط، وتكون أدلة العسر والضرر حاكمة مطلقاً على أدلة الاحتياط؛ وذلك لأن حكم العقل بوجوب الاحتياط إنما يكون للوصول إلى حكم الشارع الواقعي - المتردد بين الأطراف الكثيرة - ولو لا حكم الشارع بوجوب الوضوء بالماء المطلق في مثال اشتباهه في ألف إناء لم يحكم العقل بوجوب الاحتياط، فيكون منشأ العسر أو الضرر هو حكم الشارع، وحيث إن معنى (لا ضرر) و(لا عسر) هو نفي الحكم الذي ينشأ منه العسر أو الضرر فإن الوضوء بالماء المطلق - في المثال - يكون مرفوعاً.

[5] أي: معنى الدليل الدال على نفي العسر والضرر، وقوله: «نفي الحكم» خبر (كان).

[6] القائل هو الشيخ الأعظم(1).

[7] لعدم بقاء مورد للاحتياط بعد رفع أصل التكليف؛ لأن معنى الاحتياط

ص: 450


1- فرائد الأصول 2: 460.

لأن العسر حينئذٍ[1] يكون من قبل التكاليف المجهولة[2]، فتكون منفية بنفيه[3].

ولا يخفى[4]: أنه على هذا لا وجه[5] لدعوى استقلال العقل بوجوب الاحتياط في بعض الأطراف بعد رفع اليد عن الاحتياط في تمامها، بل لابد من دعوى وجوبه شرعاً[6]، كما أشرنا إليه في بيان المقدمة الثالثة، فافهم وتأمل جيداً.

-----------------------------------------------------------------

هو ارتكاب كل أطراف العلم الإجمالي للوصول إلى التكليف الواقعي، وحيث ارتفع التكليف فلا يبقى موضوع للاحتياط أصلاً.

[1] أي: منشأ العسر، حين اشتباه التكليف الواقعي.

[2] أي: بسبب إرادة الوصول إلى تلك التكاليف الواقعية فيضطر المكلف إلى الاحتياط، فتكون تلك التكاليف منشأ العسر.

[3] أي: فتكون التكاليف المجهولة منفية بسبب نفي العسر.

[4] إشكال على الشيخ الأعظم، حيث إنه ذهب إلى عدم وجوب الاحتياط في كل الأطراف بسبب العسر، ولكنه قال بوجوب الاحتياط عقلاً في بعض الأطراف.

والمصنف يقول: إنه إذا سقط لزوم الاحتياط في بعض الأطراف فإنه لا يحكم العقل بوجوب الاحتياط في باقي الأطراف، بل تجري فيها البراءة، كما لو اشتبه النجس بين إناءين واضطر إلى شرب أحدهما المعيّن، فإنه لا يجب الاحتياط في الآخر - كما مرّ شرحه قريباً - .

نعم، حيث علمنا بأن الشارع لا يريد إهمال أحكامه أو لأجل الإجماع نحكم بوجوب الاحتياط شرعاً لا عقلاً.

[5] الذي ارتضاه الشيخ الأعظم، وهو أن أدلة نفي العسر والضرر إنما تنفي الحكم الضرري أو العسري.

[6] أي: وجوب الاحتياط شرعاً، بالإجماع أو بسبب علمنا بأن الشارع لا يريد إهمال أحكامه.

ص: 451

وأما الرجوع إلى الأصول[1]: فبالنسبة إلى الأصول المثبتة - من احتياط أو استصحاب مثبت للتكليف - فلا مانع[2] عن إجرائها عقلاً، مع حكم[3] العقل وعموم النقل. هذا، ولو قيل[4] بعدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم

-----------------------------------------------------------------

المطلب الثاني

[1] هذا شروع في ردّ المطلب الثاني من المقدمة الرابعة.

وحاصله: إنه في زمان الانسداد يجوز الرجوع إلى الأصول العملية، أما الأصول المثبتة للتكليف فإنه يوجد مقتضٍ لجريانها - وهو عموم الأدلة النقلية في الأصول الشرعية وعموم الأدلة العقلية في الأصول العقلية - مع عدم وجود مانع عن إجرائها.

مثلاً: لو شك في وجوب القصر أو التمام فإن الاحتياط العقلي في الجمع بينهما لا إشكال فيه؛ لوجود المقتضي لهذا الاحتياط - وهو حكم العقل في موارد العلم الإجمالي - مع عدم وجود مانع، وهذا مثال لعموم الدليل العقلي.

وكذا لو شك في وجوب الظهر أو الجمعة في عصر الغيبة، فإن استصحاب الوجوب للجمعة لا مانع منه، مع جريان أدلة الاستصحاب في هذا المورد، وهذا مثال لعموم الدليل النقلي.

وأما الأصول النافية للتكليف فسيأتي الحديث عنها، وأنه لا مانع من جريانها أيضاً.

[2] بيان للزوم إجرائها، لوجود المقتضي وعدم المانع.

[3] بيان لوجود المقتضي، وهو شمول دليل الأصول العقلية لصورة الانسداد، وكذلك الأدلة النقلية الدالة على الأصول الشرعية لها إطلاق أو عموم يشمل حتى صورة الانسداد.

[4] دفع لما يتوهم: من وجود المانع عن إجراء الاستصحاب المثبت للتكليف.

وحاصله: إنَّ المصنف يرى عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم

ص: 452

الإجمالي، لاستلزام[1] شمول دليله لها التناقض في مدلوله، بداهة تناقض حرمة النقض في كل منها[2] - بمقتضى «لا تنقض» - لوجوبه[3] في البعض[4]، كما هو[5] قضية «ولكن تنقضه بيقين آخر». وذلك[6] لأنه إنما يلزم في ما إذا كان الشك في

-----------------------------------------------------------------

الإجمالي؛ وذلك لأن جريانه يسبب التناقض في دليل الاستصحاب.

مثلاً: لو كان إناءان طاهران، ثم تنجس أحدهما، واشتبه الأمر علينا، فلا يمكن إجراء استصحاب الطهارة في كلا الإناءين حيث إن اليقين بالطهارة انتقض باليقين بالنجاسة، فإجراء استصحاب الطهارة في الإناءين بمقتضى (لا تنقض اليقين بالشك) يتعارض مع قوله: (بل انقضه بيقين آخر) حيث يوجد علم إجمالي بنجاسة أحد الإناءين.

والتوهم: هو أنه مع العلم الإجمالي في حال الانسداد كيف يجري الاستصحاب المثبت للتكليف - وكذا النافي للتكليف كما سيأتي - ؟

والجواب: إنه إنما يتناقض الدليل إذا كان الشك في الأطراف فعلياً، أما إذا كان أحد الأطراف مغفولاً عنه فلا مانع من جريان الاستصحاب، ولا يلزم محذور التناقض.

[1] بيان لوجه عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي، «دليله» دليل الاستصحاب، «لها» لأطراف العلم الإجمالي، «مدلوله» مدلول دليل الاستصحاب.

[2] من الأطراف، والحرمة للنهي في قوله: (لا تنقض).

[3] متعلق ب- (تناقض)، أي: تناقض الحرمة لوجوب النقض.

[4] بسبب العلم الإجمالي بانثلام الحالة السابقة في بعض الأطراف.

[5] أي: وجوب النقض في البعض، بمقتضى الجملة الخبرية الدالة على الوجوب في قوله: (ولكن انقضه بيقين آخر).

[6] أي: عدم المانع عن جريان الاستصحاب إنما هو لأجل أن الشك ليس فعلياً في كل الأطراف حين الانسداد، وهذا جواب عن التوهم، «لأنه» الضمير للشأن،

ص: 453

أطرافه فعلياً[1]؛ وأما إذا لم يكن كذلك[2]، بل لم يكن الشك فعلاً إلاّ في بعض أطرافه، وكان بعض أطرافه الآخر غير ملتفت إليه فعلاً أصلاً - كما هو حال المجتهد في مقام استنباط الأحكام[3]، كما لا يخفى - فلا يكاد يلزم ذلك[4]، فإن قضية «لا تنقض» ليس حينئذٍ إلاّ حرمة النقض في خصوص الطرف المشكوك، وليس فيه علم بالانتقاض[5]، كي يلزم التناقض في مدلول دليله من شموله له، فافهم[6].

-----------------------------------------------------------------

«يلزم» التناقض.

[1] أي: في أطراف العلم الإجمالي، «فعلياً» أي: ملتفتاً إليه، وحينئذٍ فإن المكلف لو أراد إجراء الاستصحاب في الأطراف لوقع في التناقض، فمن شاهد سقوط قطرة دم في أحد الإناءين الطاهرين واشتبه عليه الإناء المتنجس، فلو أجرى الاستصحاب في كلا الإناءين لرأى التناقض بين (لا تنقض) وبين (بل انقضه).

[2] أي: لم يكن الشك فعلياً في كل الأطراف، بل كان شكلاً فعلياً - ملتفت إليه - في بعض الأطراف، مع الغفلة عن سائر الأطراف، «بعض أطرافه» أطراف العلم الإجمالي.

[3] حيث إنه مع إرادة استنباط حكم مسألة لا يكون ملتفتاً إلى سائر المسائل.

[4] أي: التناقض في مدلول دليل الاستصحاب، «حينئذٍ» أي: حين عدم الالتفات إلى سائر الأطراف.

[5] أي: ليس في الطرف المشكوك الملتفت إليه علم بالانتقاض الإجمالي؛ للغفلة عن سائر الأطراف، فلا تناقض.

[6] لعله إشارة إلى أنه لا علم إجمالي بالانتقاض في موارد الأصول المثبتة؛ إذ لا نعلم بنسخ أي من التكاليف الثابتة سابقاً المشكوك بقائها الآن، كما لا نعلم بفقدانها لشرطها.

أو هو إشارة إلى أنه قد يكون الشك فعلياً في كل الأطراف، كما لو كتب المفتي رسالة عملية وأراد تجويز عمل المكلف بها، وكذا علم الانسدادي بالتكاليف إجمالاً

ص: 454

ومنه[1] قد انقدح ثبوت حكم العقل وعموم النقل بالنسبة إلى الأصول النافية أيضاً، وأنه لا يلزم محذور لزوم التناقض من شمول الدليل لها، لو لم يكن[2] هناك مانع عقلاً أو شرعاً من إجرائها، ولا مانع كذلك[3] لو كانت موارد الأصول المثبتة بضميمة ما علم تفصيلاً[4] أو نهض عليه علمي[5] بمقدار المعلوم إجمالاً[6]، بل

-----------------------------------------------------------------

حتى حين استنباط كل مسألة بانفراد.

[1] شروع في بيان عدم المانع من جريان الأصول النافية للتكليف، «منه» أي: من عدم وجود المانع في الأصول المثبتة اتضح عدم المانع في الأصول النافية أيضاً؛ لأن المانع إن كان التناقض في دليل الاستصحاب فقد أجبنا عنه، وإن كان المانع هو الخروج عن الدين فالجواب أنه لا خروج عن الدين؛ وذلك لكفاية الأدلة الدالة على التكاليف - من موارد العلم والعلمي والأصول المثبتة للتكليف - بحيث إن من يعمل بها لا يكون خارجاً عن الدين، بل قد يقال بانحلال العلم الإجمالي من أصله - وسيأتي توضيحه - .

[2] أي: المقتضي، وهو حكم العقل وعموم النقل بالنسبة إلى الأصول النافية، موجود، فاللازم البحث عن المانع، فإن ثبت عدم المانع فإنه تجري الأصول بلا إشكال، «إجرائها» أي: الأصول النافية.

[3] أي: عقلاً أو شرعاً.

[4] علم بالتواتر أو بالقرائن القطعية أو بالضرورة ونحوها، فإن الانسدادي لا ينكر وجود العلم ببعض الأحكام قليلاً.

[5] فإن الانسدادي لا ينكر حجية بعض الظنون بالدليل الخاص، كحجية الظواهر، ولكنه اضطر إلى سلوك دليل الانسداد لمّا لم يتمكن من إثبات حجية الأخبار بطريق آخر، فأراد إثبات حجيتها عبر دليل الانسداد.

[6] أي: بمقدار التكاليف المعلومة إجمالاً، مثلاً: نعلم بوجود مائة تكليف - فرضاً - لكنها اشتبهت ضمن آلاف الشبهات، التي نحتمل بأن نكون مكلفين بها، ثم

ص: 455

بمقدار[1] لم يكن معه مجال لاستكشاف إيجاب الاحتياط[2]، وإن لم يكن بذاك المقدار[3]، ومن الواضح أنه[4] يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال[5].

وقد ظهر بذلك[6]: أن العلم الإجمالي بالتكاليف ربما ينحل ببركة جريان الأصول المثبتة وتلك الضميمة، فلا موجب حينئذٍ للاحتياط عقلاً ولا شرعاً[7]

-----------------------------------------------------------------

رأينا أن موارد العلم والعلمي والأصول المثبتة بلغت المائة، فإن العلم الإجمالي ينحل.

[1] أي: لو كان مقدار موارد العلم والعلمي والأصول المثبتة أقل من المقدار المعلوم إجمالاً، ولكن كان ترك المشتبهات لا يستلزم الخروج من الدين، ففي المثال: لو علمنا بوجود مائة تكليف - فرضاً - ثم كان موارد العلم والعلمي والأصول المثبتة بمقدار خمسة وتسعين، فإن ترك المشتبهات لا يستلزم الخروج من الدين؛ لفرض أن التكليف المعلوم إجمالاً فيها لا يتعدى الخمسة.

[2] لأنه من الشبهة غير المحصورة، ففي مثالنا: خمسة تكاليف ضمن آلاف المشتبهات يكون من مصاديق الشبهة غير المحصورة، التي لا يجب الاحتياط فيها، والفرض أن تركها لا يستلزم الخروج عن الدين كي يلزم الاحتياط من هذه الجهة.

[3] أي: المقدار المعلوم إجمالاً.

[4] أي: إن عدم استكشاف إيجاب الاحتياط.

[5] فإن موارد العلم والعلمي والأصول تختلف باختلاف المباني، وباختلاف الحالات التي تعرض على المجتهد، مثلاً: بعض الأمور توجب العلم لدى البعض، ولا توجب حتى الظن لدى البعض الآخر، كما أنه تختلف الآراء في جريان الأصول والظنون الخاصة.

[6] بذلك الذي ذكرناه من عدم المانع عن جريان الأصول المثبتة والنافية مع ضميمة موارد العلم والعلمي.

[7] أما عدم الموجب للاحتياط عقلاً فلانحلال العلم الإجمالي، وأما شرعاً فلعدم الإجماع في هذه الصورة، ولا خروج عن الدين.

ص: 456

أصلاً، كما لا يخفى.

كما ظهر[1]: أنه لو لم ينحل بذلك كان خصوص موارد لأصول النافية مطلقاً ولو من مظنونات عدم التكليف محلاً للاحتياط فعلاً[2] - ويرفع اليد عنه فيها[3] كلاً أو بعضاً بمقدار رفع الاختلال أو رفع العسر على ما عرفت - لا[4] محتملات التكليف مطلقاً[5].

وأما الرجوع[6]

-----------------------------------------------------------------

[1] إشكال على كلام الشيخ الأعظم، حيث ذهب إلى أنه لو لم ينحل العلم الإجمالي فلابد من الاحتياط في كل محتملات التكليف، ولا يرفع اليد عن هذا الاحتياط إلاّ إذا أوجب اختلال النظام أو العسر.

والإشكال هو أنه في موارد الأصول المثبتة قد قامت الحجة الشرعية على لزوم العمل بها، فلا تصل النوبة إلى الاحتياط.

كما أن الشيخ الأعظم ذهب إلى أن مقتضى العسر هو رفع اليد عن الموهومات كلها، والمصنف يرى أن العسر لو ارتفع برفع اليد عن بعض الموهومات وجب الاحتياط في سائرها بمقتضى العلم الإجمالي - الذي استثني منه مقدار العسر والمفروض أنه يرتفع برفع اليد عن بعض الموهومات لا كلها - .

[2] أي: حين عدم الانحلال.

[3] أي: عن الاحتياط في مظنونات عدم التكليف - أي: الموهومات - .

[4] عطف على قوله: (كان خصوص موارد الأصول النافية...) والمعنى أن مورد الاحتياط هو الأصول النافية لا مطلق محتملات التكليف.

[5] «مطلقاً» أي: سواء كانت نافية أم مثبتة، وسواء ارتفع العسر بكلها أم ببعضها.

المطلب الثالث

[6] شروع في رد المطلب الثالث من المقدمة الرابعة، وحاصله: إن الانسدادي يرى خطأ الانفتاحي، فكيف يجوز له تقليد من يعتقد بخطئه؟

ص: 457

إلى فتوى العالم: فلا يكاد يجوز، ضرورة أنه[1] لا يجوز إلاّ للجاهل، لا للفاضل الذي يرى خطأ من يدعي انفتاح باب العلم أو العلمي، فهل يكون رجوعه إليه بنظره[2] إلاّ من قبيل رجوع الفاضل إلى الجاهل.

وأما المقدمة الخامسة[3]: فلاستقلال العقل بها، وأنه لا يجوز التنزل - بعد عدم التمكن من الإطاعة العلمية أو عدم وجوبها[4] - إلاّ إلى الإطاعة الظنّية، دون الشكيّة أو الوهميّة، لبداهة مرجوحيتها بالإضافة إليها[5]، وقبح[6] ترجيح المرجوح على الراجح.

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: إن الرجوع إلى فتوى العالم.

[2] رجوع الانسدادي إلى الانفتاحي بنظر الانسدادي.

الكلام في المقدمة الخامسة

[3] حاصل كلام المصنف هو قبول هذه المقدمة - لبداهة رجحان الظن على الشك والوهم، ووضوح قبح ترجيح المرجوح على الراجح - .

ولكن بعد الإشكال على المقدمة الأولى، والرابعة، بل والثانية لا تصل النوبة إلى هذه المقدمة؛ لأنا ذكرنا في المقدمة الأولى: أن العلم الإجمالي ينحل، فيلزم الاحتياط في خصوص ما في روايات الكتب المعتبرة. وذكرنا في المقدمة الثانية: أن باب العلمي غير منسدّ. وذكرنا في المقدمة الرابعة: أنه يلزم العمل بالأصول العملية مطلقاً، لا أقل من لزوم العمل بالأصول المثبتة للتكليف. فلا تصل النوبة إلى دوران الأمر بين العمل بالظن وبين العمل بغيره، فيكون العمل بالظن راجحاً، وبغيره قبيح.

[4] عدم الوجوب في ما إذا استلزمت الإطاعة العملية العسر.

[5] أي: مرجوحية الإطاعة الشكية والوهمية إذا قيست بالنسبة إلى الإطاعة الظنية، حيث إن الظن له جهة كشف عن الواقع دون الشك والوهم.

[6] أي: واستقلال العقل بقبح هذا الترجيح

ولا يخفى أن ترجيح المرجوح على الراجح ممكن ذاتاً لكنه قبيح. نعم، الترجّح بلا مرجح محال؛ لاستلزامه المعلول بلا علّة.

ص: 458

لكنك[1] عرفت عدم وصول النوبة إلى الإطاعة الاحتمالية[2]، مع دوران الأمر بين الظنية والشكية أو الوهمية، من جهة ما أوردناه على المقدمة الأولى من انحلال العلم الإجمالي بما[3] في أخبار الكتب المعتبرة، وقضيته[4] الاحتياط بالالتزام عملاً بما فيها من التكاليف، ولا بأس به[5]، حيث لا يلزم منه عسر فضلاً عما يوجب اختلال النظام. وما أوردنا[6] على المقدمة الرابعة من جواز الرجوع إلى الأصول مطلقاً ولو كانت نافية، لوجود المقتضي وفقد المانع[7] لو كان التكليف في موارد الأصول المثبتة وما علم منه تفصيلاً أو نهض عليه دليل معتبر بمقدار المعلوم بالإجمال، وإلاّ[8] فإلى

-----------------------------------------------------------------

[1] بيان لعدم فائدة هذه المقدمة الخامسة في باب الانسداد؛ لعدم الحاجة إليها بعد انحلال العلم الإجمالي، وبعد انفتاح باب العلمي، وبعد لزوم العمل بالأصول العملية.

[2] حتى يقال بترجيح الإطاعة الظنية عليها، والمقصود هو أن المقدمة الخامسة سالبة بانتفاء الموضوع، فلا دوران بين الظن والشك والوهم حتى يكون ترجيحهما عليه ترجيحاً للمرجوح.

[3] «بما» متعلق بالانحلال، أي: الانحلال بسبب روايات الكتب المعتبرة حيث ينحل العلم الإجمالي الكبير إلى علم إجمالي صغير، كما مرّ تفصيله.

[4] أي: مقتضى الانحلال، حيث انحل العلم الإجمالي الكبير إلى علم إجمالي صغير فيلزم الاحتياط فيه، وإلى شبهات بدوية فتجري فيها أصالة البراءة، «فيها» أي: في الكتب المعتبرة.

[5] أي: بالاحتياط بما في الكتب المعتبرة، «منه» من الاحتياط.

[6] أي: كذلك لا تصل النوبة من جهة ما أوردناه... الخ.

[7] المقتضي: هو عموم النقل في الأصول العملية الشرعية، وحكم العقل في الأصول العملية الشرعية. ولا مانع، فلا إجماع، ولا خروج عن الدين، ولا علم إجمالي - لفرض انحلاله - .

[8] أي: لو لم ينحل العلم الإجمالي بما في الأصول المثبتة وموارد العلم وموارد

ص: 459

الأصول المثبتة وحدها. وحينئذٍ[1] كان خصوص موارد الأصول النافية محلاً لحكومة العقل[2] وترجيح مظنونات التكليف منها على غيرها[3] ولو[4] بعد استكشاف وجوب الاحتياط في الجملة[5] شرعاً بعد عدم وجوب الاحتياط التام شرعاً أو عقلاً[6] على ما عرفت تفصيله. هذا هو التحقيق على ما يساعد عليه النظر الدقيق، فافهم وتدبر جيداً.

-----------------------------------------------------------------

العلمي فلابد من الاحتياط في الأصول النافية، ولكن لا بأس بجريان الأصول المثبتة؛ لقيام الدليل عليها من غير مانع، «فإلى الأصول...» أي: فجواز الرجوع إلى الأصول... الخ.

[1] أي: حين عدم انحلال العلم الإجمالي، وانحصار الرجوع إلى الأصول المثبتة.

[2] حكمه بوجوب الاحتياط بسبب العلم الإجمالي.

[3] غير المظنونات، وهي المشكوكات والموهومات.

[4] إشارة إلى دفع إشكال، وهو: إنه إذا جاز الاقتحام في بعض أطراف العلم الإجمالي - لأجل دفع اختلال النظام أو العسر - فلا موجب للاحتياط في بقية الأطراف، وحينئذٍ فلا تصل النوبة إلى ترجيح الظن على غيره!.

والجواب: هو أنه لا موجب عقلي للاحتياط بعد سقوط العلم الإجمالي، ولكن يجب الاحتياط في الجملة بحكم الشرع، لعلمنا باهتمام الشارع بأحكامه - كما مرّ تفصيل كل ذلك في المقدمة الثالثة - .

[5] أي: في خصوص المظنونات، دون الموهومات والمشكوكات.

[6] شرعاً في ما أوجب العسر، وعقلاً في ما أوجب اختلال النظام.

انتهى الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع في بحث:

فصل الظن الانسدادي في الفروع والأصول

ص: 460

فهرست الموضوعات

المقصد الرابع في العام والخاص

فصل في معنى العام... 7

أقسام العام... 10

فصل في ألفاظ العموم... 13

أدلة القول بأن ألفاظ العموم وضعت للخصوص فقط وردّها 14

الدليل الأول... 14

الدليل الثاني... 15

الدليل الثالث... 16

ردّ الأدلة... 16

فصل بعض ألفاظ العموم... 18

1- النكرة في سياق النفي أو النهي... 18

2- المعرّف بالألف واللام... 22

فصل حجية العام بعد التخصيص بالمُبيّن... 24

دليل النافين... 26

الجواب عن دليل النافين... 26

الجواب الأول... 27

ص: 461

الجواب الثاني... 31

الجواب الثالث... 32

ردّ الجواب الثالث... 33

فصل حجية أو عدم حجية العام بعد التخصيص بالمجمل... 36

الإجمال في مفهوم الخاص... 37

الإجمال في مصداق الخاص... 41

دليل المجوزين... 42

رد دليل المجوزين... 43

المخصص اللبي... 46

الدليل الأول... 47

دفع وهم... 49

الدليل الثاني... 50

الدليل الثالث... 51

إخراج المشتبه من موضوع الخاص... 52

إيقاظ إحراز المشتبه باستصحاب العدم الأزلي... 54

وهم وإزاحة... 57

تحقيق المصنف لرد التوهم... 60

القسم الأول... 60

القسم الثاني... 61

التحقيق في نذر الصوم في السفر ونحوه... 63

الجواب الأول... 64

الجواب الثاني... 64

الجواب الثالث... 66

ص: 462

الدوران بين التخصيص والتخصص... 68

فصل العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص... 71

تحرير محل البحث... 71

1- الفحص عن المخصص المنفصل... 73

القسم الأول... 73

القسم الثاني... 74

مقدار الفحص... 75

2- الفحص عن المخصص المتصل... 76

إيقاظ فرق الفحص في الأصول اللفظية والأصول العملية... 76

إشكال وجواب... 77

فصل عموم الخطاب للمشافهين وغيرهم... 78

تحرير محل البحث... 79

تحقيق الحال في الصور الثلاث... 81

تحقيق الحال في الصورة الأولى... 81

تحقيق الحال في الصورة الثانية... 85

تحقيق الحال في الصورة الثالثة... 85

توهم وجوابه... 90

توهم وجوابه... 92

توهم آخر وجوابه... 94

فصل ثمرة بحث عموم الخطاب للمشافهين... 96

الثمرة الأولى... 96

الثمرة الثانية... 97

ص: 463

إشكال ودفعه... 100

إشكال آخر ودفعه... 101

فصل الضمير الراجع إلى بعض أفراد العام... 103

فصل تخصيص العام بالمفهوم... 108

فصل الاستثناء المتعقب لعدة جُمَل... 112

فصل تخصيص القرآن بالخبر الواحد... 118

دليل جواز التخصيص... 118

أدلة المنع عن التخصيص... 120

الدليل الأول للمانعين... 120

الدليل الثاني للمانعين... 122

الدليل الثالث للمانعين... 122

الدليل الرابع للمانعين... 125

فصل الدوران بين النسخ والتخصيص... 126

الصورة الأولى والثانية... 127

الصورة الثالثة... 127

الصورة الرابعة... 129

الصورة الخامسة... 129

الصورة السادسة... 130

احتمال النسخ في الصورة الثانية والرابعة... 132

بحث في النسخ... 134

النسخ قبل حضور وقت العمل... 137

بحث في البداء... 139

ص: 464

الثمرة بين التخصيص والنسخ... 143

المقصد الخامس في المطلق والمقيد والمجمل والمبين

فصل معنى المطلق والمقيد... 147

1- اسم الجنس... 148

2- علم الجنس... 152

3- المفرد المعرَّف باللام... 155

مبنى المشهور والإشكال عليه... 156

المحذور الأول... 157

المحذور الثاني... 157

مختار المصنف... 158

4- الجمع المعرف باللام... 160

5- النكرة... 162

إطلاق لفظ المطلق... 164

هل التقييد مجاز؟... 166

فصل مقدمات الحكمة... 168

المقدمة الأولى البيان في مقام الاستعمال... 172

الأصل حين الشك في مقام البيان وعدمه... 174

المقدمة الثانية والثالثة مانعية الانصراف عن انعقاد الإطلاق... 176

إشكال وجواب... 178

إذا كان للمطلق جهات عديدة... 180

فصل المطلق والمقيد المتنافيان... 181

ص: 465

المتوافقان المثبتان... 182

عدم التقييد في المستحبات... 187

المتوافقان المنفيان... 189

المطلق والمقيد في الأحكام الوضعية... 190

اختلاف مقتضى مقدمات الحكمة... 192

فصل في المجمل والمبين... 196

المقصد السادس في الأمارات

فصل أحكام القطع... 203

الأمر الأول: بحوث في حجية القطع... 208

1- حجية القطع... 208

2- الحجية ذاتية للقطع... 210

3- الحجية في القطع بالتكليف الفعلي... 212

الأمر الثاني: التجري... 215

الفعل المتجرّى به... 218

الدليل النقلي على استحقاق المتجري للعقاب... 226

دليل آخر على استحقاق العقاب في التجري وردّه... 228

عدم تعدد العقاب في المعصية... 230

الأمر الثالث: القطع الموضوعي... 231

أولاً: أقسام القطع... 232

ثانياً: قيام الأمارات مقام القطع... 235

1- قيام الأمارات والطرق مقام القطع الطريقي... 235

2- عدم قيامها مقام القطع الموضوعي الوصفي... 236

ص: 466

3- عدم قيامها مقام القطع الموضوعي الكشفي... 237

كلام الشيخ في القطع الموضوعي الكشفي... 238

الإشكال الأول على كلام الشيخ... 239

الإشكال الثاني على كلام الشيخ... 242

ثالثاً: عدم قيام الأصول مقام القطع... 243

عدم قيام الاحتياط مقام القطع... 244

عدم قيام الاستصحاب مقام القطع... 246

تصحيح لحاظ واحد للقطع الطريقي والموضوعي... 247

الأمر الرابع: الظن الموضوعي... 252

الأمر الخامس: الموافقة الالتزامية... 258

البحث الأول... 258

البحث الثاني... 260

البحث الثالث... 261

البحث الرابع... 262

الأمر السادس: لا استثناء في حجية القطع... 265

1- القطع الطريقي... 265

2- القطع الموضوعي... 267

ما نسب إلى بعض الأخباريين... 269

الأمر السابع: العلم الإجمالي... 272

المقام الأول تنجز التكليف بالعلم الإجمالي... 272

إشكال التناقض وجوابه... 273

دليل أن العلم الإجمالي مقتضٍ للتنجز... 275

دليل التفصيل بين المخالفة والموافقة... 277

بحث فنيّ... 279

ص: 467

المقام الثاني سقوط التكليف بالامتثال الإجمالي... 280

البحث الأول: مع إمكان القطع التفصيلي... 281

1- في التوصليات... 281

2- في العبادات غير المحتاجة إلى التكرار... 281

3- في العبادات المحتاجة إلى التكرار... 283

البحث الثاني: الامتثال الإجمالي مع عدم إمكان القطع التفصيلي... 285

الأمارات المعتبرة... 288

المقدمة الأولى... 288

المقدمة الثانية... 290

ما استدل به على استحالة التعبد بالأمارة... 294

الدليل الأول... 294

الدليل الثاني... 295

الدليل الثالث... 296

الجواب... 296

الجواب الأول... 297

الجواب الثاني... 298

الجواب الثالث... 303

الجواب الرابع والإشكال عليه... 304

الإشكال الأول... 304

الإشكال الثاني... 307

الجواب الخامس وردّه... 308

المقدمة الثالثة... 309

فصل حجية ظواهر الألفاظ... 314

ص: 468

التفصيل الأول وردّه... 315

التفصيل الثاني وردّه... 315

التفصيل الثالث وردّه بين الكتاب الكريم وبين غيره من الظواهر... 316

الدليل الأول... 317

الدليل الثاني... 318

الدليل الثالث... 319

الدليل الرابع... 319

الدليل الخامس... 320

الإشكال على الدليل الأول... 321

الإشكال على الدليل الثاني... 322

الإشكال على الدليل الثالث... 323

الإشكال على الدليل الرابع... 323

الإشكال على الدليل الخامس... 324

ردّ التحريف في القرآن... 328

اختلاف القراءات... 331

فصل احتمال القرينة وكيفية إحراز الظهور... 335

الأمر الأول احتمال وجود قرينة... 336

الأمر الثاني احتمال قرينية الموجود... 337

الأمر الثالث عدم كفاية الظن في الظهور... 338

الأمر الرابع عدم حجية كلام اللغوي... 339

الدليل الأول والثاني... 340

الدليل الثالث... 341

الدليل الرابع... 343

ص: 469

فصل الإجماع المنقول... 346

الأمر الأول في الإجماع المحصل... 347

الأمر الثاني طريقة نقل الإجماع... 350

الأمر الثالث موارد حجية الإجماع المنقول... 351

تنبيهات... 359

التنبيه الأول... 359

التنبيه الثاني... 361

التنبيه الثالث... 363

فصل الشهرة الفتوائية... 365

أدلة حجية الشهرة الفتوائية وردّها 365

الدليل الأول... 365

الدليل الثاني... 367

الدليل الثالث... 369

فصل حجية الخبر الواحد... 369

أصولية المسألة... 370

أدلة القول بعدم حجية الخبر الواحد... 373

الأول: الكتاب... 374

الثاني: الروايات... 374

الثالث: الإجماع... 375

الجواب... 376

فصل الآيات الدالة على حجية الخبر الواحد... 379

الاستدلال بآية النبأ 379

ص: 470

إشكال آخر وجوابه... 382

إشكال ثالث... 383

دفع الإشكال الثالث... 387

إشكال رابع... 390

الاستدلال بآية النفر... 391

إشكال آخر... 397

الاستدلال بآية الكتمان... 398

الاستدلال بآية السؤال... 400

الاستدلال بآية الاُذُن... 403

فصل في الأخبار التي دلت على اعتبار أخبار الآحاد... 407

فصل في الإجماع على حجية الخبر... 409

فصل في الوجوه العقلية التي أقيمت على حجية خبر الواحد... 417

أول الوجوه العقلية... 417

ثاني الوجوه العقلية... 421

ثالث الوجوه العقلية... 426

فصل الوجوه التي أقيمت على حجة الظن... 429

الدليل الأول لحجية الظن... 429

الأول: العقوبة... 432

الثاني: المفسدة... 434

الثالث: تفويت المصلحة... 435

الدليل الثاني لحجية الظن... 437

الدليل الثالث لحجية الظن... 438

ص: 471

دليل الانسداد... 440

الكلام في المقدمة الأولى... 442

الكلام في المقدمة الثانية... 444

الكلام في المقدمة الثالثة... 444

الكلام في المقدمة الرابعة... 447

المطلب الأول... 447

المطلب الثاني... 452

المطلب الثالث... 457

الكلام في المقدمة الخامسة... 458

فهرست الموضوعات... 461

ص: 472

المجلد 4

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحسیني الشیرازي، السيدجعفر، 1349 -

عنوان العقد: کفایه الاصول .شرح

عنوان واسم المؤلف: إيضاح کفاية الأصول/ تالیف السيدجعفر الحسیني الشیرازي.

تفاصيل المنشور: قم: دارالفکر، 1397.

مواصفات المظهر: 5 ج.

ISBN : دوره 978-600-270-236-4 : ؛ 120000 ریال: ج.1 978-600-270-237-1 : ؛ 120000 ریال: ج.2 978-600-270-238-8 : ؛ 120000 ریال: ج.3 978-600-270-239-5 : ؛ 120000 ریال: ج.4 978-600-270-240-1 : ؛ 120000 ریال: ج.5 978-600-270-241-8 :

حالة الاستماع: فیپا

ملاحظة : العربیة.

ملاحظة : ج. 2 - 5 (چاپ اول: 1397)(فیپا).

ملاحظة : هذا الكتاب هو وصف لكتاب "کفاية الأصول" الذي المؤلف آخوند الخراساني.

ملاحظة : فهرس.

قضية : آخوند الخراساني، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق. . کفاية الأصول -- النقد والتعليق

قضية : Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein . Kefayat ol - osul -- Criticism and interpretation

قضية : أصول الفقه الشيعي

* Islamic law, Shiites -- Interpretation and construction

المعرف المضاف: آخوند الخراساني، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق . کفایه الاصول. شرح

المعرف المضاف: Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein. . Kefayat ol - osul

ترتيب الكونجرس: BP159/8/آ3ک7021326 1397

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 5279147

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فیپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

فصل: هل قضية المقدمات على تقدير سلامتها[1] هي حجية الظن بالواقع[2] أو بالطريق[3] أو بهما؟ أقوال.

والتحقيق أن يقال[4]:

--------------------------------------

المقصد السادس في الأمارات

فصل الظن الانسدادي في الفروع والأصول

اشارة

[1] من الإشكالات التي أوردناها على بعض المقدمات.

[2] أي: الظن بالحكم الفرعي، كالظن بنجاسة العصير العنبي إذا غلا ولم يذهب ثلثاه.

[3] أي: الظن بالمسألة الأصولية، كالظن بحجية الخبر الواحد، حيث إنه طريق إلى الأحكام الشرعية الفقهية.

القول الأول مختار المصنف

[4] مختار المصنف والشيخ الأعظم، هو أنه لو تمت مقدمات الانسداد يكون الظن حجة، بلا فرق بين الظن بالواقع أو الظن بالطريق. والدليل على ذلك مركب من ثلاثة أمور:

الأمر الأول: إنه لمّا علمنا بالعقاب على مخالفة أمر المولى فإن العقل يبحث عمّا يدفع هذا العقاب، بحيث يكون المكلف في أمنٍ منه.

الأمر الثاني: دليل مركب من كبرى وصغرى: أما الصغرى: فهي أن المُؤمِّن في حال الانفتاح هو القطع، فكلّما قطع الإنسان بالتكليف فبالالتزام به يقطع بأنه لا يعاقب.

ص: 5

إنه لا شبهة[1] في أن همّ العقل في كل حال[2] إنما هو تحصيل الأمن من تبعة التكاليف المعلومة[3] من العقوبة[4] على مخالفتها، كما لا شبهة[5] في استقلاله في تعيين ما هو المُؤمِّن منها[6]؛ وفي أن[7] كلما كان القطع به[8] مؤمِّناً في حال الانفتاح كان الظن به مؤمّناً حال الانسداد جزماً[9]؛

--------------------------------------

وأما الكبرى: فهي أن الظن في حال الانسداد يقوم مقام القطع في حال الانفتاح في كل شيء، فكل شيء كان القطع به يوجب الأمن من العقاب - لو التزم به - فإن الظن به في حال الانسداد يوجب الأمن أيضاً؛ إذ المفروض أن المقدمات أثبتت حجية الظن وقيامه مقام القطع.

الأمر الثالث: وحيث إنه لا فرق في حجية القطع بين القطع بالطريق وبين القطع بالواقع، كذلك لا فرق في حجية الظن - حال الانسداد - بين الظن بالطريق والظن بالواقع.

[1] إشارة إلى الأمر الأول، و«همّ» من الاهتمام، أي: الأمر المهم للعقل.

[2] سواء في حال الانفتاح أم الانسداد.

[3] معلومة تفصيلاً - في حال الانفتاح - أم معلومة إجمالاً - في حال الانسداد - .

[4] بيان ل- (تبعة التكاليف).

[5] إشارة إلى الأمر الثاني، وقوله: (في استقلاله في تعيين...) إشارة إلى الكبرى.

[6] استقلاله بذلك؛ لأن طرق الطاعة والمعصية طرق عقلية، وليس للشارع طريق خاص.

[7] بيان لمعنى استقلال العقل في تعيين المؤمِّن.

[8] بلا فرق بين القطع بالحكم الجزئي أو القطع بالطريق - أي: المسألة الأصولية الكليّة - .

[9] لأن مقتضى مقدمات الانسداد - على فرض صحتها - هو قيام الظن مقام القطع في كل شيء.

ص: 6

وإن المؤمّن[1] في حال الانفتاح هو القطع بإتيان المكلف به الواقعي بما هو كذلك[2] - لا بما هو معلوم ومؤدى الطريق[3] ومتعلق العلم وهو طريق شرعاً وعقلاً[4] - أو بإتيانه الجعلي[5]؛ وذلك[6] لأن العقل قد استقل بأن الإتيان بالمكلّف به الحقيقي بما هو هو - لا بما هو مؤدى الطريق - مبرئ للذمة قطعاً، كيف[7]

--------------------------------------

[1] إشارة إلى الصغرى، وأنه لا فرق في القطع بين القطع بالواقع، أو القطع بالطريق.

[2] أي: بما هو مكلف به واقعاً، وليس العلم بهذا التكليف مأخوذاً في الموضوع، مثلاً: الواجب هي الصلاة بما هي صلاة، لا الصلاة بما هي معلومة الوجوب؛ لأن هذا يستلزم الدور؛ إذ العلم بالوجوب متأخر عن الوجوب، فلو أخذ العلم بالوجوب في موضوع الوجوب كان العلم متقدماً، حيث إن الموضوع - بكل أجزائه - متقدم على الحكم، وقد مرّ تفصيل ذلك في أوائل بحث القطع، فراجع.

[3] قوله: «ومؤدى الطريق» و«متعلق العلم...» عطف تفسيري لقوله: (لا بما هو معلوم).

[4] أي: لا بما هو متعلق العلم، والحال «هو» أي: العلم طريق شرعاً وعقلاً، فالواو في (وهو) حالية.

[5] عطف على قوله: (هو القطع بإتيان...)، والمعنى أن المُؤمِّن في حال الانفتاح أحد أمرين: إما القطع بإتيان... الخ، وإما القطع بإتيانه الجعلي، و«إتيانه الجعلي» بمعنى جعل طريق يوصل إلى المكلَّف به الواقعي.

[6] هذا المقطع تكرار لما سبق بعبارة أخرى.

[7] دليل عدم الفرق بين القطع بالواقع وبين القطع بالطريق، وحاصله: إن حجية القطع ذاتية، وهي حجية مطلقة بلا تقييد بصورة دون أخرى، فلذا كان

ص: 7

وقد عرفت أن القطع بنفسه طريق لا يكاد تناله يد الجعل إحداثاً وإمضاءً، إثباتاً ونفياً. ولا يخفى أن قضية ذلك[1] هو التنزل[2] إلى الظن بكل واحد من الواقع والطريق.

ولا منشأ لتوهم الاختصاص بالظن بالواقع، إلاّ توهم أنه[3] قضية اختصاص المقدمات بالفروع - لعدم انسداد باب العلم في الأصول وعدم إلجاءٍ[4] في التنزل إلى الظن فيها - والغفلة[5] عن أن جريانها في الفروع موجب لكفاية الظن بالطريق في

--------------------------------------

القطع بالطريق حجة، كما أن القطع بالواقع حجة أيضاً بالذات بلا جعل جاعل.

[1] إشارة إلى الأمر الثالث، «ذلك» أي: كون القطع مُؤمِّناً، سواء كان بالطريق أم بالواقع.

[2] أي: حين الانسداد وعدم إمكان القطع لابد من التنزل إلى الظن، وأنه يقوم مقام القطع في كل شيء - كما مرّ توضيحه - .

القول الثاني حجية الظن بالواقع دون الطريق

[3] أي: إن اختصاص الحجية بالظن بالواقع هو مقتضى الانسداد حاصل في الفروع الفقهية، أما أصول الفقه فلا انسداد فيها؛ لإمكان تحصيل العلم بغالب تلك المسائل. نعم، مسألة حجية الخبر الواحد قد انسد باب العلم والعلمي بها، ولكنها مسألة واحدة لا تضر بانفتاح باب العلم في الأصول، حيث يمكن تحصيل العلم بغالبها.

[4] أي: عدم ضرورة إلى العمل بالظن في الأصول.

[5] ردّ هذا التوهم، وحاصله: إن الظن بالطريق أيضاً يوجب الأمن من العقوبة، فإن الغرض من جريان مقدمات الانسداد في الفروع هو إبراء الذمة، وهذا الفرض يوجد في الأصول أيضاً، «جريانها» أي: جريان المقدمات.

ص: 8

مقام يحصل الأمن من عقوبة التكاليف وإن كان باب العلم في غالب الأصول[1] مفتوحاً، وذلك[2] لعدم التفاوت في نظر العقل في ذلك[3] بين الظنين.

كما أن منشأ توهم الاختصاص بالظن بالطريق وجهان:

أحدهما: ما أفاده بعض الفحول[4]. وتبعه في الفصول(1)،

قال فيها[5]: «إنا كما

--------------------------------------

[1] إنّما قال غالب الأصول، لأن انفتاح باب العلم في كل الأصول يوجب انفتاح باب العلمي في الفروع قهراً، فإن المهم هو انسداد باب العلم في حجية الخبر الواحد - الذي هو عمدة أدلة الفروع - بل وُضع دليل الانسداد لإيجاد دليل على حجية الخبر الواحد بعد أن عجز الانسداديون عن إقامة دليل آخر على حجيته.

[2] هذا تعليل لجريان مقدمات الانسداد في الأصول، «ذلك» أي: جريانها في الفروع موجب لجريانها في الأصول أيضاً.

[3] أي: في الأمن من العقوبة.

القول الثالث حجية الظن بالطريق دون الواقع
الدليل الأول
اشارة

[4] وهو المحقق الشيخ أسدالله التستري(2)،

وكذا قال به المحقق صاحب الحاشية على المعالم.

[5] حاصله: إن لنا قطعين:

1- القطع بأن هناك أحكاماً كثيرة نحن مكلفون بها، ولا طريق لنا إليها - من علم أو علمي - .

2- القطع بأن الشارع جعل طرقاً مخصوصة للوصول إلى أحكامه، وأيضاً لا طريق لنا إلى تلك الطرق.

ص: 9


1- الفصول الغروية: 277.
2- كشف القناع عن وجوه حجية الإجماع: 460.

نقطع بأنا مكلفون في زماننا هذا[1] تكليفاً فعلياً بأحكام فرعية كثيرة، لا سبيل لنا - بحكم العيان وشهادة الوجدان[2] - إلى تحصيل كثير منها بالقطع، ولا بطريق معين[3] يقطع من السمع[4] بحكم الشارع بقيامه، أو قيام طريقه[5] مقام القطع ولو

--------------------------------------

ومنشأ هذين القطعين هو الإجماع. وحاصل القطعين: هو أن التكاليف الواقعية مقيدة بأن تصل إلينا من طرق مخصوصة، فلا يريد الشارع تلك الأحكام إلاّ عبر تلك الطرق، وهذا ما يعبر عنه بالصرف والتقييد، أي: صرف الأحكام الواقعية عن إطلاقها وتقييدها بأن تكون عبر الطرق المخصوصة.

فتحصّل أن الظن بالحكم الواقعي مباشرة لا أثر له؛ لأن الشارع لا يريد ذلك الحكم إلاّ عبر طرقه الخاصة، وحيث لا علم لنا بتلك الطرق الشرعية الخاصة - لفرض الانسداد - فإن الظن بها يقوم مقام العلم بها.

[1] وهو زمان الانسداد - حسب الفرض - «فعلياً» لا شأنياً أو مقيداً بالعلم، بل التكليف فعلي يتنجز علينا متى ما وصل إلينا.

[2] «العيان» المشاهدة الخارجية بعدم إمكان تحصيل القطع فيها، و«شهادة الوجدان» عطف تفسيري، أو بمعنى إنا نجد في أنفسنا ذلك، فالعيان للإحساس الخارجي، والوجدان للشعور الباطني، وقوله: «إلى تحصيل» متعلق بقوله: (لا سبيل لنا).

[3] أي: يكون طريق الحكم قطعياً، كما لو قلنا: إنّ أدلة حجية الخبر الواحد قطعية، وكان الخبر دليلاً في مسألة فرعية.

[4] ففي المثال: دليل حجية الخبر الواحد هو الآيات والروايات مثلاً.

[5] أي: طريق الطريق، فالمسألة الفرعية غير قطعية، وطريقها غير قطعي، ولكن طريق الطريق قطعي، كما لو توصلنا لحكم جزئي بالقرعة، ودليل القرعة هو خبر واحد، ودليل حجية الخبر الواحد قطعي، فالطريق - وهو القرعة - ظني، لكن

ص: 10

عند تعذره[1]، كذلك[2] نقطع بأن الشارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طريقاً مخصوصاً[3]، وكلفنا[4] تكليفاً فعلياً بالعمل بمؤدى طرق مخصوصة[5]؛ وحيث إنه[6] لا سبيل غالباً إلى تعيينها بالقطع ولا بطريق يقطع من السمع بقيامه بالخصوص، أو

--------------------------------------

طريق الطريق - أي: دليل حجية القرعة - قطعي.

والحاصل: إنا في هذه الأزمنة لا قطع لنا بغالب المسائل، كما لا قطع بطرقها، ولا بطرق طرقها - لأن الفرض هو الانسداد - .

[1] أي: حجية الطريق أو طريق الطريق حتى لو كانت في صورة تعذر القطع. وكان الأولى التعبير ب- (ولو عند عدم تعذر القطع)، لأن (لو) الوصلية تستعمل لبيان الفرد الأخفى لا الفرد الأجلى، والحجية في صورة تعذر القطع أجلى من الحجية في صورة عدم تعذره.

[2] هذا هو القطع الثاني.

[3] فلا يريد تلك الأحكام إلاّ عبر هذا الطريق.

[4] عطف تفسيري على (جعل لنا إلى...). أو المراد إنه جعل تلك الطرق، ولم يكل الأمر إلينا في سلوكها وعدم سلوكها، بل أوجب علينا سلوك تلك الطرق، «فعلياً» لا شأنيّاً، بل أراد منا سلوك تلك الطرق.

[5] في الفصول زيادة هذه العبارة، وكان ذكرها ضروري، وإن كان المصنف لم يذكرها اختصاراً أو سهواً وهي: (ومرجع هذين القطعين - عند التحقيق - إلى أمر واحد، وهو القطع بأنا مكلّفون تكليفاً فعلياً بالعمل بمؤدى طرق مخصوصة)(1)،

انتهى. ومعنى هذه العبارة هو أن الشارع أراد منا التكاليف الواقعية بشرط كونها من طرقه الخاصة، فلو وصلت إلينا عن غير تلك الطرق لم نكن مكلفين بها؛ لعدم تحقق شرطها.

[6] «أنه» أن الشأن، «تعيينها» تلك الطرق.

ص: 11


1- الفصول الغروية: 277.

قيام طريقه كذلك[1] مقام القطع ولو بعد تعذره، فلا ريب[2] أن الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل[3] إنما هو الرجوع في تعيين ذلك الطريق[4] إلى الظن الفعلي الذي لا دليل على عدم حجيته[5]، لأنه أقرب إلى العلم[6] وإلى إصابة الواقع مما عداه»(1).

وفيه: أولاً[7]

--------------------------------------

[1] «طريقه» طريق الطريق، «كذلك» بالخصوص.

[2] جواب (حيث)، أي: حيث لا قطع فلابد من الرجوع إلى الظن، «مثل ذلك» أي: في ما إذا انسد باب العلم بالأحكام الواقعية وبطرقها وبطرق طرقها.

[3] لأنه بعد تمامية مقدمات الانسداد يحكم العقل بالرجوع إلى الظن، كما قال المصنف في أول بحث الانسداد: (وهو مؤلف من مقدمات يستقل العقل مع تحققها بكفاية الإطاعة الظنية... الخ).

[4] بعد عدم فائدة الظن بالحكم الواقعي؛ لأنه ليس عن طرق الشارع المخصوصة، فلابد من الظن بتلك الطرق المخصوصة حتى تكون حجة.

[5] أي: لا دليل قطعي على حجيته، فتصل النوبة إلى الظن، للانسداد.

وفي الفصول: (لا دليل على عدم حجيته)(2)، فيكون إشارة إلى أن الظن في حال الانسداد يكون حجة بشرط عدم النهي عنه كالقياس، فلا يكون حجة في حال الانسداد للنهي عنه، أما إذا لم يكن نهي عنه فيكون كل ظن حجة.

[6] كما بيناه في المقدمة الخامسة، وأما أقربية الظن إلى العلم فلأن الظن فيه كشف إجمالي عن الواقع، خلافاً للوهم والشك حيث لا كشف فيهما أصلاً.

رد الدليل الأول

[7] جمع المصنف في «أولاً»، أربعة أجوبة ذكرها الشيخ في الرسائل(3)، ثم ذكر

ص: 12


1- الفصول الغروية: 277، مع اختلاف يسير.
2- الفصول الغروية: 277.
3- فرائد الأصول 1: 439 - 445.

- بعد تسليم العلم بنصب طرق خاصة[1] باقية[2] في ما بأيدينا من الطرق الغير العلمية(1)،

وعدم[3]

--------------------------------------

المصنف الجواب الخامس بقوله: (وثانياً).

[1] هذا الجواب الأول، وحاصلة: إنه ليس للشارع طرق خاصة أمرنا بسلوكها للوصول إلى أحكامه، بل أمضى الطرق العقلائية، فإن الظواهر وحجية الخبر الواحد ونحوهما - وهي من أهم البحوث الأصولية - إنما هي طرق عقلائية أمضاها الشارع، فلا يصح القول بأن الشارع قيّد أحكامه بطرق خاصة نصبها.

[2] هذا الجواب الثاني، فإنه لو فرض أن للشارع طرقاً خاصة، فإنه من غير المعلوم بقاء تلك الطرق في زماننا، حتى نكون مأمورين بسلوكها للوصول إلى الحكم الواقعي؛ إذ لعل الطريق الشرعي هو خبر الإمامي العدل المحفوف بالقرينة القطعية، ومن المعلوم أنه نادر إن لم يكن معدوماً.

ومقصود المصنف: أنه ليس لنا علم إجمالي بأننا مأمورون بسلوك هذه الطرق الموجودة، كي نقول إن الاحتياط فيها واجب بمقتضى العلم الإجمالي، وحيث إنه عسر أو مخل بالنظام فنتنزل إلى الظن!!

[3] أي: بعد تسليم عدم وجود... وهذا الجواب الثالث، وحاصله: إن الطرق الموجودة في أيدينا متعددة، ولكن بعضها متيقن الطريقية بالنسبة إلى الأخرى، فلو كنا مأمورين بالعمل بطرق فإن مثل خبر العدل متيقن بالنسبة إلى الشهرة الفتوائية - مثلاً - وحينئذٍ فلابد من الأخذ بالقدر المتيقن إلى أن ينحل العلم الإجمالي، دون الرجوع إلى الظن.

ولا يخفى أن المراد بالمتيقّن: المتيقّن النسبي، أي: لو ثبت لزوم تقييد الأحكام الواقعية بما في الطرق فإنه لابد من الأخذ بأقوى تلك الطرق، وهو ما يكون بالنسبة إلى باقي الطرق متيقّن الحجية.

ص: 13


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير العلمية».

وجود المتيقن بينها أصلاً - أن قضية[1] ذلك هو الاحتياط في أطراف هذه الطرق المعلومة بالإجمال، لا تعيينها بالظن.

لا يقال[2]: الفرض هو عدم وجوب الاحتياط بل عدم جوازه[3].

لأن[4]

--------------------------------------

[1] إشارة إلى الجواب الرابع، فمختصر كلام المصنف: وفيه أولاً - بعد التنازل عن الإشكالات الثلاثة الأولى - : أن مقتضى تقييد الأحكام الواقعية بما في الطرق هو الاحتياط في مؤديات الطرق كلّها؛ لأنا نعلم أن بعضها حجة إجمالاً من غير تعيين للحجة، فلابد من الاحتياط؛ لأنها أطراف العلم الإجمالي، «ذلك» أي: تقييد الأحكام الواقعية بمؤديات الطرق.

[2] حاصل الإشكال - على الجواب الرابع - : هو أن مفروض هذا الفصل هو تسليم تمامية مقدمات الانسداد، ومن تلك المقدمات عدم وجوب الاحتياط، فلا يصح هذا الجواب الرابع.

[3] عدم الجواز في صورة اختلال النظام، وعدم الوجوب في صورة العسر - كما مرّ تفصيله - .

[4] جواب عن الإشكال، وحاصله: إن الاحتياط المنفي في المقدمة الرابعة هو الاحتياط التام في كل المحتملات. وأما ما نقوله هنا فهو الاحتياط في الطرق - كالعمل بكل ما في الأخبار والشهرات والإجماعات المنقولة ونحوها - ومن المعلوم أن مؤديات الطرق قليلة، فلا عسر في الاحتياط فيها، هذا مضافاً إلى قيام الدليل على عدم لزوم الاحتياط في بعض الطرق، فتضيق بذلك دائرة الاحتياط.

والحاصل: إنه لا عسر في الاحتياط في الطرق، ومع ذلك فقد ضاقت دائرة الاحتياط بخروج موارد متعددة، حيث دلت الأدلة على عدم لزوم الاحتياط فيها، وسيذكرها المصنف تباعاً.

ص: 14

الفرض إنما هو عدم وجوب الاحتياط التام[1] في أطراف الأحكام، مما يوجب العسر المخل بالنظام[2]، لا الاحتياط في خصوص ما بأيدينا من الطرق[3]، فإن قضية هذا الاحتياط[4] هو جواز رفع اليد عنه في غير مواردها والرجوع إلى الأصل فيها ولو كان نافياً للتكليف[5].

وكذا[6] في ما إذا نهض الكل على نفيه.

وكذا[7]

--------------------------------------

[1] هو الاحتياط في كل المحتملات من المظنونات والموهومات والمشكوكات، سواء قامت الطرق عليها أم لم تقم.

[2] ولو قال: (عدم وجوب الاحتياط التام مما يوجب العسر، وعدم جواز الاحتياط المخل بالنظام) كان أحسن.

[3] التي نعلم - حسب الفرض - بأن الشارع قيّد أحكامه ببعضها.

[4] أي: الاحتياط بما بأيدينا من الطرق، «عنه» عن الاحتياط، «مواردها» موارد الطرق.

[5] وذلك لانحلال العلم الإجمالي الكبير إلى علم إجمالي صغير بما في الطرق، وشك بدوي بالنسبة إلى المحتملات في غير الطرق، ومن المعلوم أنه بعد انحلال العلم الإجمالي الكبير فإنه يلزم الاحتياط في موارد العلم الإجمالي الصغير، ويجري الأصل العملي في سائر الموارد، وقد يكون هذا الأصل نافياً للتكليف، فلا يلزم الاحتياط فيه أصلاً.

[6] من هنا يبدأ المصنف في تضييق دائرة الاحتياط في موارد الطرق، فيذكر عدة صور: منها: إذا قامت الطرق كلها بنفي تكليف فإنه لا يجب الاحتياط في ذلك الشيء؛ لأن المفروض أن الحكم الواقعي مقيّد بالطرق، وكل الطرق تنفي ذلك الحكم، فلا وجه للاحتياط.

[7] هذه صورة ثانية لعدم وجوب الاحتياط بما في الطرق، وحاصلها: إذا

ص: 15

في ما إذا تعارض فردان من بعض الأطراف[1] فيه نفياً وإثباتاً[2] مع ثبوت المرجح للنافي، بل مع عدم رجحان المثبت في خصوص[3] الخبر منها، ومطلقاً[4] في غيره بناءً على عدم ثبوت الترجيح على تقدير الاعتبار[5] في غير الأخبار.

--------------------------------------

تعارض فردان من طريق واحد، فإن كان الطريق هو خبر الواحد فقد قيل بوجوب الرجوع إلى المرجحات، وترجيح الخبر الذي فيه المرجح على الخبر الآخر:

1- فإن كان الترجيح للنافي للتكليف فلابد من الأخذ به، فلا يجب الاحتياط حينئذٍ؛ لقيام الدليل على عدم لزومه.

2- وإن لم يكن لأحدهما مرجح فإن الخبرين يتساقطان، وحينئذٍ نرجح إلى الأصل العملي، الذي يكون نافياً للتكليف غالباً.

3- نعم، لو كان الترجيح للخبر المثبت للتكليف فإنه يجب الأخذ به، ويكون مطابقاً للاحتياط.

[1] أي: مصداقان لطريق واحد، كخبرين تعارضا.

[2] أي: أحدهما نافٍ للتكليف والآخر مثبت للتكليف.

[3] أي: الترجيح في خصوص تعارض الأخبار - لو قيل بالترجيح - أما في تعارض سائر الأدلة فلا ترجيح بالمرجحات؛ لعدم قيام دليل على الترجيح بالمرجحات في سائر الأدلة. نعم، في تعارض الأخبار لابد من الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفته، وبموافقة العامة ومخالفتهم، وبالترجيح بمرجحات أخرى؛ لورود النص عليها، كما ذهب إليه جمع من الفقهاء - وسيأتي تفصيل البحث في باب التعارض والتراجيح - .

[4] هذه صورة ثالثة لعدم وجوب الاحتياط بما في الطرق، «ومطلقاً» سواء كان مرجح أم لم يكن مرجح، «في غيره» أي: في غير الخبر - إذا تعارض فردان - .

[5] يعني: حتى لو قلنا: إنّ المرجحات معتبرة في الأخبار، فإنه لا اعتبار

ص: 16

وكذا[1] لو تعارض اثنان منها في الوجوب والتحريم، فإن المرجع في جميع ما ذكر[2] من موارد التعارض هو الأصل الجاري فيها ولو كان نافياً[3]، لعدم نهوض[4] طريق معتبر، ولا ما هو من أطراف العلم به على خلافه[5]، فافهم[6].

وكذا[7]

--------------------------------------

للمرجحات في سائر الطرق.

[1] هذه صورة رابعة، وحاصلها: إنه لو تعارض طريقان كلاهما يثبتان التكليف، أحدهما يثبت الوجوب والآخر يثبت الحرمة، فإن الوظيفة هنا هي التخيير، ولا معنى للاحتياط - لعدم إمكانه - .

والفرق بين هذه الصورة والتي قبلها أن تلك في دوران الأمر بين ثبوت التكليف ونفيه، وهذه في دوران الأمر بين تكليفين متضادين بالوجوب والحرمة.

[2] من الصور الأربعة.

[3] فتمّ تضييق دائرة الاحتياط عبر العمل بالأصل النافي، «فيها» في موارد التعارض.

[4] أي: عدم وجوب الاحتياط في هذه الصور الأربعة، بسبب جريان الأصل - حتى لو كان نافياً للتكليف - لعموم دليله، ولا موجب لرفع اليد عن هذا الأصل؛ إذ لا دليل وارد على هذا الأصل، ولا علم إجمالي يوجب رفع اليد عنه.

[5] «به» بطريق معتبر، «على خلافه» خلاف الأصل.

[6] لعله إشارة إلى الإشكال على الصورة الرابعة، فإنه مع دوران الأمر بين الوجوب والحرمة فإنه لا يمكن الاحتياط، سواء قلنا بالانحلال أم لم نقل، وسواء وجب الاحتياط أم لم يجب، فهذه الصورة لا توجب تضييق دائرة الاحتياط في موارد الطرق.

[7] هذه صورة خامسة لعدم وجوب الاحتياط بما في الطرق، وحاصلها: هو

ص: 17

كل مورد لم يجر فيه الأصل المثبت[1]، للعلم بانتقاض الحالة السابقة فيه[2] إجمالاً بسبب العلم به أو بقيام أمارة معتبرة عليه في بعض أطرافه بناءً على عدم جريانه بذلك.

وثانياً[3]:

--------------------------------------

عدم لزوم الاحتياط إذا كنا نعلم بتكاليف، ثم علمنا إجمالاً برفع بعضها بنسخ أو تخصيص أو نحو ذلك، فإنه لا يجري استصحاب التكليف؛ وذلك لأن العلم الإجمالي اللاحق ينقض العلم التفصيلي السابق - كما مرّ شرحه وسيأتي مفصلاً في باب الاستصحاب - وحيث لم يجر استصحاب التكليف فإنه تجري أصالة البراءة التي تنفي التكليف.

[1] المراد الأصل المثبت للتكليف وقوله: (للعلم) علة عدم جريان الأصل - الذي هو الاستصحاب - .

[2] «فيه» في كل مورد «العلم به» بالانتقاض، «عليه» على الانتقاض، «بعض أطرافه» أطراف المورد، «عدم جريانه» الأصل وهو الاستصحاب، «بذلك» أي: بالانتقاض إجمالاً.

رد آخر للدليل الأول

[3] هذا هو الإشكال الخامس - حسب ترتيب الشيخ الأعظم(1)

- وحاصله: إن نتيجة مقدمات الانسداد هو حجية الظن، وحيث نظرنا إلى أقسام الظن لم نجد قسماً أولى بالحجية من قسم آخر، فلا يكون الظن بالطريق أقوى وأولى من الظن بالواقع - سواء ظننا بوجود طريق غير معلوم لنا، أم لم نظن بذلك - .

إن قلت: إن الصرف والتقييد يدل على أن الواقع غير مراد إلاّ إذا كان عن الطرق الخاصة، فالظن بالواقع لا يجدي ولا يوجب علينا حكماً فعلياً؛ لعدم تحقق شرط فعلية التكليف - وهو الظن بالحكم عبر الطريق الخاص - .

ص: 18


1- فرائد الأصول 1: 446.

لو سلم أن قضيته[1] لزوم التنزل إلى الظن، فتوهم «أن الوظيفة حينئذٍ هو خصوص الظن بالطريق» فاسد قطعاً. وذلك لعدم كونه أقرب إلى العلم وإصابة الواقع[2] من الظن بكونه مؤدى طريق معتبر - من دون الظن بحجية طريق أصلاً - ومن الظن بالواقع، كما لا يخفى.

لا يقال[3]: إنما لا يكون[4] أقرب من الظن بالواقع إذا لم يُصرف التكليف الفعلي عنه إلى مؤديات الطرق ولو بنحو التقييد[5].

--------------------------------------

قلت: إن الصرف والتقييد لا يصح لا ثبوتاً ولا إثباتاً؛ لوجوه سيذكرها المصنف تباعاً.

[1] أي: مقتضى الدليل الذي أقامه صاحب الفصول وصاحب الحاشية، أي: لو رفعنا اليد عن الإشكال الأول - وهو وجوب الاحتياط - وسلمنا التنزّل إلى الظن.

[2] كما يتضح ذلك بالرجوع إلى المقدمة الأولى والثانية، حيث إن الفرض من حجية الظن هو الوصول إلى التكاليف الشرعية، التي انسد علينا باب العلم والعلمي فيها.

فإن الظن على ثلاثة أقسام، كلها في مرتبة واحدة بالنسبة إلى الواقع.

1- الظن بالطريق.

2- الظن بالواقع، مع الظن بوجود طريق غير معلوم لنا تفصيلاً.

3- الظن بالواقع، مع عدم الظن بطريق لا تفصيلاً ولا إجمالاً.

[3] بيان أن الظن بالطريق هو أقرب، حيث إن فعلية الأحكام مقيدة بالطريق الشرعي الخاص، فلا فعليّة للحكم الشرعي مع عدم الظن بالطريق.

[4] «لا يكون» الظن بالطريق، «عنه» عن الواقع.

[5] فإن الصرف قسمان:

1- الصرف المطلق: بمعنى زوال الحكم الواقعي، وتحول مؤدّى الطريق إلى الواقع، فحتى لو كان الطريق خطأ فإن هذا الخطأ يتحول إلى الواقع، ويكون هو المراد.

ص: 19

فإن[1] الالتزام به بعيد، إذ الصرف لو لم يكن تصويباً محالاً[2]، فلا أقل من

--------------------------------------

2- الصرف والتقييد، بمعنى لزوم الأمرين - أي: وجود الواقع وقيام الطريق - فلو أخطأ الطريق فإنه لا يكون مراداً واقعاً، وكذا لو لم يقم طريق فإن الحكم يبقى على مرتبة الإنشاء بلا فعلية، أما لو قام الطريق وكان صحيحاً بمعنى مطابقته للواقع فإن هذا الحكم يكون منجزاً.

[1] هذا الجواب عن (لا يقال)، «به» أي: بالصرف ولو بنحو التقييد.

[2] هذا الوجه الأول لإبطال الصرف، فإن الصرف المطلق يستلزم التصويب المحال، وأما الصرف والتقييد فإنه مجمع على بطلانه.

والتصويب هو بمعنى أنه لا حكم واقعي، أو لا حكم فعلي إلاّ لو قام الدليل عليه. والتصويب على قسمين:

1- أن لا يبقى حكم واقعي أصلاً، وينحصر الحكم بمؤدى الطريق، فإن عثرنا على الطريق كان هناك حكم، والاّ فلا حكم أصلاً، كما قال به بعض العامة بالنسبة إلى فتوى المجتهد، وأن ما يفتى به هو الحكم الواقعي - من غير بقاء للتكليف الواقعي أصلاً - وهذا تصويب محال؛ لأن الطريق إلى حكم يتوقف على وجود ذلك الحكم، وعلى تقدمه مرتبةً على الطريق، والصرف معناه عدم وجود الحكم إلاّ بعد قيام الطريق، فلزم تقدم الحكم على الطريق وتأخره عنه.

مضافاً إلى استلزامه وجود حكمين واقعيين متضادين لو قام طريقان عند مجتهدين، بل حتى مجتهد واحد.

2- أن يبقى الحكم الواقعي في مرحلة الإنشاء، وتكون فعليته متوقفة على الطريق، وهذا التصويب ليس بمحال؛ لعدم استلزامه أياً من المحذورين، لكنه باطل إجماعاً، فتأمل.

ص: 20

كونه مجمعاً على بطلانه، ضرورة[1] أن القطع بالواقع يجدي في الإجزاء بما هو واقع، لا بما هو مؤدى طريق القطع، كما عرفت[2].

ومن هنا[3] انقدح: أن التقييد أيضاً غير سديد. مع[4] أن الالتزام بذلك غير مفيد، فإن الظن بالواقع في ما ابتلي به من التكاليف[5] لا يكاد ينفك عن الظن

--------------------------------------

[1] هذا وجه ثانٍ لإبطال الصرف، وحاصله: إن من قطع بالحكم الشرعي تنجز ذلك الحكم عليه بالبداهة، مع أنه لو قلنا بالصرف فلا تكليف عليه؛ إذ لم يتحقق شرط التكليف، وهو قيام الطريق الشرعي عليه، حيث إن القطع ليس طريقاً مجعولاً شرعاً، فيكون نظير ما لو قطعنا بالحكم الإنشائي، أو قطعنا بتكليف مشروط مع عدم تحقق شرطه.

[2] في أوائل هذا الفصل حيث قال المصنف: (وأن المُؤمِّن في حال الانفتاح هو القطع بإتيان المكلّف به الواقعي بما هو كذلك لا بما هو معلوم... الخ)، وكذا ما ذكرناه في أوائل بحث القطع.

[3] أي: من بياننا لهذا الوجه بقولنا: (ضرورة...)، والمقصود أن هذا الإشكال كما يرد على الصرف المطلق كذلك يرد على الصرف والتقييد.

[4] هذا وجه ثالث لإبطال الصرف، وحاصله: إن القول بانحصار حجية الظن في الظن بالطريق لا يفيد أصلاً، ويكون مرجعه إلى القول بحجية الظن مطلقاً؛ وذلك لأن الظن بالواقع لا ينفك عن الظن الإجمالي بالطريق؛ لأنه لا يعقل أن يكون هناك حكم واقعي يريده الشارع ثم لا ينصب عليه طريقاً، والنتيجة: إنه كلّما ظننا بحكم واقعي فإنه لا محالة نظن أن الشارع نصب عليه طريقاً، ولو لم نعلم ذلك الطريق تفصيلاً لكن نعلم بوجوده إجمالاً.

[5] أي: التكاليف التي يبتلى بها الناس لا محالة نصب الشارع طريقاً عليها؛ لئلا يكون نقضاً للغرض. نعم، يمكن ادعاء عدم لزوم نصب طريق على التكاليف غير المبتلى بها، وهذا الادعاء وإن كان محل نظر، لكن - على فرض تحققه - غير مضر؛

ص: 21

بأنه[1] مؤدى طريق معتبر. والظن بالطريق[2] ما لم يظن بإصابته[3] الواقع غير مجدٍ بناءً على التقييد[4]، لعدم استلزامه[5] الظن بالواقع المقيد به بدونه.

هذا، مع[6] عدم مساعدة نصب الطريق على الصرف ولا على التقييد،

--------------------------------------

لأن موارد غير المبتلى به قليلة جداً.

[1] أي: بأن ذلك الواقع المظنون.

[2] عطف على قوله: (فإن الظن بالواقع...) وهذا وجه رابع يختص بإبطال التقييد، حاصله: إن سبب التكليف - بناءً على التقييد - هو الظن بالواقع الذي قام عليه طريق، فلابد من تحقق الظن بالواقع والظن بالطريق معاً، فلو ظن بالطريق من غير ظن بالواقع فلا تكليف عليه، كما لو ظن بحجية الخبر ثم قام الخبر على شيء لكنه لم يظن بذلك الشيء، بل بقي على شكه أو ظن بخطئه، فبناءً على القول بالتقييد لا تكليف عليه!!

[3] أي: إصابة ذلك الطريق للواقع، بأن يظن بالواقع أيضاً.

[4] أي: هذا الإشكال خاص بالتقييد، ولا يجري في الصرف المطلق؛ إذ لا واقع بناءً عليه.

[5] أي: الظن بالطريق لا يستلزم الظن بالواقع الذي قُيّد ذلك الواقع، «به» بالطريق، «بدونه» أي: بدون الظن بالواقع.

[6] هذا وجه خامس لإبطال الصرف والتقييد، وهو إشكال إثباتي - فإن الوجوه السابقة كانت إشكالات ثبوتيّة - وحاصله: هو أن الصرف والتقييد لا دليل عليه، وادعاء صاحب الفصول(1) الإجماع عليه مجرد ادعاء، فإن المسألة لم تكن مطروحة عند القدماء، وهي محل خلاف بين المتأخرين، بل أكثرهم على عدم الصرف والتقييد.

ومعنى العبارة: أن نصب طرق شرعية يوجب توسعة الواقع بحيث يشمل

ص: 22


1- الفصول الغروية: 278.

غايته[1] أن العلم الإجمالي بنصب طرق وافية[2] يوجب انحلال العلم بالتكاليف

--------------------------------------

الواقعي التنزيلي - أي: ما قام عليه الطريق - لا أنه يوجب تضييق دائرة الواقع وتقييده بما أدّاه الطريق.

[1] أي: غاية نصب الطريق، والمعنى أن أقصى ما يمكن إقامته من دليل على الصرف والتقييد هو العلم الإجمالي، وحيث إن العلم الإجمالي الكبير منحلّ، والصغير غير منجّز، فإنه يسقط هذا الدليل أيضاً.

وحاصل الدليل: هو أنا نعلم بوجود تكاليف كثيرة في المحتملات، إلاّ أن هذا العلم الإجمالي الكبير ينحل إلى علم إجمالي صغير بوجود تلك التكاليف ضمن مؤديات الطرق، وإلى شك بدوي في سائر المحتملات يجري فيها أصل البراءة.

ثم إن العلم الإجمالي الصغير بوجود التكاليف ضمن مؤديات الطرق: حسب مبنى المصنف يوجب الاحتياط في كل مؤديات الطرق، فلا تصل النوبة إلى الظن أصلاً، كما بينه في قوله: (أن قضية ذلك هو الاحتياط في أطراف... الخ).

وأما حسب مبنى صاحب الحاشية والفصول فإن الاحتياط في المؤديات موجب للعسر أو اختلال النظام. فلا يلزم أو لا يجوز الاحتياط، فتصل النوبة إلى الظن.

لكن يرد عليه: إن عدم لزوم الاحتياط - وذلك بارتكاب بعض الأطراف - يوجب سقوط العلم الإجمالي الصغير أيضاً، لما مرّ بأن جواز ارتكاب بعض أطراف العلم الإجمالي يوجب سقوط هذا العلم عن التنجز.

فتحصّل: أنه على مبنى صاحب الحاشية والفصول لا علم إجمالي كبير ولا صغير، فيبقى الصرف والتقييد من غير دليل إطلاقاً، وحينئذٍ تصل النوبة إلى الظن، بلا فرق بين الظن بالطريق أو الظن بالواقع.

[2] بحيث نعلم أن الأحكام الواقعية كلها توجد في ضمن مؤديات الطرق.

ص: 23

الواقعية إلى العلم[1] بما هو مضامين الطرق المنصوبة من التكاليف الفعلية. والانحلال[2] وإن كان يوجب عدم تنجز ما لم يؤد إليه الطريق من التكاليف الواقعية[3]، إلاّ أنه[4] إذا كان رعاية العلم[5] بالنصب لازماً، والفرض[6] عدم

--------------------------------------

[1] أي: إلى العلم الإجمالي الصغير بأن تلك التكاليف توجد ضمن مضامين الطرق، وإلى شك بدوي في سائر المحتملات.

[2] شروع في بيان عدم دلالة العلم الإجمالي على الصرف والتقييد.

[3] أي: لو كانت هناك تكاليف واقعية ولكن لم يدل عليها دليل، فإن إجراء أصالة البراءة يوجب عدم تنجز تلك التكاليف؛ لأن العلم الإجمالي الكبير انحل إلى علم إجمالي صغير وإلى شبهات بدوية، وأصالة البراءة تجري في تلك الشبهات حتى مع احتمال وجود تكاليف واقعية فيها، فلو فرض إجراء أصل البراءة مع وجود تكليف واقعي فإن ذلك التكليف لا يكون منجزاً؛ لعدم وصوله بدليل معتبر، وقيام الدليل على إجراء أصالة البراءة.

[4] أي: عدم التنجز بسبب الانحلال إنما يوجب إجراء أصل البراءة في الشبهات، إذا لزم العمل بمقتضى العلم الإجمالي الصغير وذلك بالاحتياط.

أما إذا سقط العلم الإجمالي الصغير فلا وجه لإجراء أصالة البراءة؛ لأن سبب إجرائها كان العلم الإجمالي، وبسقوط ذلك العلم الإجمالي لا منشأ لإجراء أصالة البراءة، فلابد من العمل بالظن، سواء في مؤديات الطرق أم في غيرها.

[5] أي: رعاية العلم الإجمالي الصغير، «بالنصب» نصب الطريق.

[6] أي: مبنى صاحب الفصول والحاشية هو عدم لزوم الاحتياط في مؤديات الطرق، بل قالا بلزوم العمل بالظن، مما يعني سقوط العلم الإجمالي الصغير أيضاً، وعدم لزوم الاحتياط إنما هو في صورة العسر، وعدم الجواز لو أوجب اختلال النظام.

ص: 24

اللزوم بل عدم الجواز. وعليه[1] يكون التكاليف الواقعية كما إذا لم يكن هناك علم بالنصب في[2] كفاية الظن بها حال انسداد باب العلم، كما لا يخفى.

ولابد حينئذٍ[3] من عناية أخرى[4] في لزوم رعاية الواقعيات بنحوٍ من

--------------------------------------

[1] أي: على هذا الفرض - وهو لزوم العسر أو الاختلال بالعمل بمؤديات الطرق - يسقط العلم الإجمالي الصغير، ويكون وجوده كالعدم.

[2] متعلق بقوله: (يكون التكاليف...) أي: حين سقوط العلم الإجمالي تصل النوبة إلى الظن، والظن بالتكاليف الواقعية - في حال الانسداد - يكون حجة أيضاً؛ وذلك لعدم دليل أصلاً على الظن بالطريق بعد سقوط العلم الإجمالي الصغير.

[3] أي: حين سقوط العلم الإجمالي - الكبير والصغير - فإن مقتضى القاعدة هو إجراء أصالة البراءة في كل المحتملات، ولكن حيث إن البراءة توجب الخروج عن الدين، فبهذه العناية لابد من العمل بالظن من غير فرق بين الظن بالطريق أو الواقع.

[4] كتب المصنف في الهامش: (وهي إيجاب الاحتياط في الجملة - المستكشف بنحو اللّم، من عدم الإهمال في حال الانسداد قطعاً إجمالاً بل ضرورة - . وهو يقتضي التنزل إلى الظن بالواقع حقيقة أو تعبداً، إذا كان استكشافه في التكاليف المعلومة إجمالاً، لما عرفت من وجوب التنزل عن القطع بكل ما يجب تحصيل القطع به - في حال الانفتاح - إلى الظن به في هذا الحال، وإلى الظن بخصوص الواقعيات التي تكون مؤديات الطرق المعتبرة، أو بمطلق المؤديات لو كان استكشافه في خصوصها أو في مطلقها.

فلا يكاد تصل النوبة إلى الظن بالطريق - بما هو كذلك - ، وإن كان يكفي، لكونه مستلزماً للظن بكون مؤداه مؤدى طريق معتبر، كما يكفي الظن بكونه كذلك، ولو لم يكن ظن باعتبار طريق أصلاً، كما لا يخفى.

ص: 25

الإطاعة[1] وعدم إهمالها رأساً، كما أشرنا إليها[2]. ولا شبهة في أن الظن بالواقع لو لم يكن أولى[3] حينئذٍ - لكونه[4] أقرب في التوسل به إلى ما به الاهتمام[5] من فعل الواجب وترك الحرام - من[6] الظن بالطريق، فلا أقل من كونه مساوياً في ما يهمّ العقل من تحصيل الأمن من العقوبة في كل حال[7]. هذا، مع ما عرفت[8] من

--------------------------------------

وأنت خبير: بأنه لا وجه لاحتمال ذلك، وإنما المتيقن هو لزوم رعاية الواقعيات في كل حال، بعد عدم لزوم رعاية الطرق المعلومة بالإجمال بين أطراف كثيرة، فافهم)(1)،

انتهى.

[1] وحين تردد الأمر بين الظن وغيره، فلابد من ترجيح الظن، لأن ترجيح الشك أو الوهم ترجيح للمرجوح على الراجح.

[2] في المقدمة الثالثة.

[3] أولويته، باعتبار أن الغرض من جعل الطريق هو الوصول إلى هذا الواقع، فيكون الظن بالواقع أولى من الظن بالطريق، «حينئذٍ» أي: حين عدم لزوم الاحتياط.

[4] بيان لوجه أولوية الظن بالواقع، «التوسل به» بالظن بالواقع، «إلى ما به الاهتمام» أي: إلى الشيء الذي بذلك الشيء اهتمام الشارع، و«من» بيان: (ما به الاهتمام).

[5] أي: الشارع يهتم بإطاعة تكاليفه، ومع عدم العلم فإن الذي يوصل إلى تلك الطاعة - بطريق أقرب - هو الظن بالواقع.

[6] «من» متعلق بقوله: (أولى) أي: الظن بالواقع أولى من الظن بالطريق، «كونه» كون الظن بالطريق، «مساوياً» أي: مع الظن بالطريق.

[7] حال الانفتاح، وحال الانسداد.

[8] تكرار لما ذكره قبل قليل، من أن الظن بالواقع أيضاً يكون حجة - حتى لو

ص: 26


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 433.

أنه عادة يلازم الظن بأنه مؤدى طريق، وهو بلا شبهة يكفي[1] ولو لم يكن هناك ظن بالطريق[2]، فافهم فإنه دقيق.

ثانيهما[3]: ما اختص به بعض المحققين. قال[4]:

--------------------------------------

حصرنا الحجية في الظن بالطريق - وذلك لتلازم الظن بالواقع من الظن بوجود طريق إلى ذلك الواقع؛ لأنه لو لم يظن بوجود طريق فإنه لا يظن بكون التكليف فعلياً، فإن التكليف مع عدم جعل طريق إليه يبقى في مرتبة الإنشاء.

«أنه» أن الشأن، وفاعل «يلازم» هو الظن بالواقع، أي: يلازم الظنُ بالواقع الظنَ بالطريق.

[1] أي: الظن بالطريق يكفي؛ وذلك لعدم لزوم الظن التفصيلي بالطريق؛ لأن دليلهم يشمل هذه الصورة أيضاً.

[2] أي: ظن تفصيلي بهذا الطريق، فإن الظن الإجمالي بوجود طريق كاف قطعاً، وإنّما قال بلا شبهة، لعدم الفرق بين الظن التفصيلي والظن الإجمالي، كما لا فرق بين العلم التفصيلي والإجمالي في الحجية.

الدليل الثاني للقول الثالث

[3] أي: ثاني الوجهين اللذين كانا منشأ توهم اختصاص الحجية بالظن بالطريق، دون الظن بالواقع.

[4] هو الشيخ محمد تقي صاحب الحاشية على المعالم، فإن الوجه السابق اشترك فيه كل منه ومن صاحب الفصول، وأستاذهما الشيخ أسدالله التستري.

وحاصل هذا الوجه مركب من ثلاث مقدمات:

1- العلم بتكاليف كثيرة باقية في حال الانسداد.

2- إن أهم الأمور في نظر العقل هو القطع بحكم الشارع بفراغ الذمة عن تلك التكاليف؛ لأن الاشتغال اليقيني بالتكاليف يستلزم البراءة اليقينية منه.

ص: 27

«لا ريب[1] في كوننا مكلفين بالأحكام الشرعية، ولم يسقط عنا[2] التكليف بالأحكام الشرعية، وأن الواجب[3] علينا أولاً هو تحصيل العلم بتفريغ الذمة في حكم المكلِّف[4]، بأن يقطع معه[5] بحكمه بتفريغ ذمتنا عما كلفنا به[6] وسقوط

--------------------------------------

3- إنه مع عدم إمكان القطع بحكم الشارع بفراغ الذمة لابد من التنزل إلى الظن الذي هو أقرب إلى القطع، وهو الظن بالطريق؛ لأن نصب الطريق لا معنى له إلاّ فراغ الذمة لو سلك ذلك الطريق، ولا يوجد حكم من الشارع ببراءة الذمة لو عمل بالظن بالواقع!!

ثم إن الفرق بين هذا الدليل وسابقة أن ذاك كان يقيّد الواقع بما أدّاه الطريق، وهذا لا يقيّده، بل يبحث عن الفراغ.

[1] إشارة إلى المقدمة الأولى للدليل، ولا يخفى أنها من مقدمات الانسداد، وكلامنا إنما هو بعد الفراغ من تماميتها، فذكرها يكون تكراراً!!

ولعل ذكر صاحب الحاشية لها بسبب أن فرز المقدمات وبيان كل واحدة على حدة كان متأخراً عنه، فلذا كانوا قبل الشيخ الأعظم يذكرون تلك المقدمات في مطاوي كلامهم.

[2] في حال الانسداد.

[3] بيان للمقدمة الثانية للدليل، «أولاً» مقصوده هو أن أهم الأمور هو تحصيل العلم بفراغ الذمة؛ وذلك بحكم العقل.

[4] بكسر اللام، أي: الشارع، بأن نقطع بأن الشارع حكم بتفريغ الذمة من تلك التكاليف التي أثبتها في الذمة.

[5] مع الإتيان بالتكليف، ومرجع الضمير يستفاد من سياق الكلام، «بحكمه» أي: بحكم المكلِّف الذي هو الشارع.

[6] أي: عن حكم كلّفنا الشارع به، وقوله: «وسقوط» عطف على (بحكمه) أي: يقطع معه بحكمه... وبسقوط تكليفنا عنا.

ص: 28

تكليفنا عنّا، سواء[1] حصل العلم معه بأداء الواقع أو لا، حسبما مر تفصيل القول فيه. فحينئذٍ نقول[2]: إن صح لنا تحصيل العلم بتفريغ ذمتنا في حكم الشارع[3] فلا إشكال في وجوبه وحصول البراءة به، وإن انسد علينا سبيل العلم كان الواجب علينا تحصيل الظن بالبراءة في حكمه، إذ هو الأقرب إلى العلم به[4]، فيتعين[5] الأخذ به[6] عند التنزل من العلم في حكم العقل[7] - بعد انسداد سبيل العلم

--------------------------------------

[1] أي: حين حكم الشارع بفراغ ذمتنا لا يهم قطعنا بأداء الواقع أم لا، مثلاً: لو أمرنا بالعمل بالخبر الواحد، فإنه مع العمل به نعلم بأن ذمتنا فرغت من التكليف، سواء أصاب الخبر الواقع أم أخطأ، «معه» أي: مع حكمه بتفريغ الذمة، «القول فيه» في بحث الصرف والتقييد، حيث فصّل صاحب الحاشية فيه.

[2] بيان للمقدمة الثالثة، «حينئذٍ» أي: حين القول بلزوم العلم بحكم الشارع بفراغ الذمة.

[3] أي: بحكم الشارع، والمعنى العلم بسبب حكم الشارع بالفراغ وذلك إذا كان هناك طريق نقطع بأن الشارع نصبه، «وجوبه» وجوب تحصيل العلم، «وحصول» عطف على (وجوبه) أي: لا إشكال في حصول البراءة، «به» أي: بالعلم بحكم الشارع بفراغ ذمتنا.

[4] الأقربية: من جهة أن الظن بالطريق المنصوب يلازم الظن بحكم الشارع بالفراغ، بخلاف الظن بالواقع، حيث لم يقم دليل على تفريغه للذمة، فلا ظن بحكم الشارع بالفراغ.

[5] هذا نتيجة المقدمات الثلاث للدليل.

[6] أي: الظن بالطريق.

[7] إشارة إلى المقدمة الخامسة من مقدمات الانسداد؛ لأن ترجيح غير الظن على الظن هو ترجيح للمرجوح على الراجح، فيحكم العقل بلزوم الأخذ بالظن دون غيره.

ص: 29

والقطع[1] ببقاء التكليف - دون[2] ما يحصل معه الظن بأداء الواقع كما يدعيه القائل بأصالة حجية الظن[3]»(1)

انتهى موضع الحاجة من كلامه - زيد في علو مقامه - .

وفيه: أولاً[4]: إن الحاكم على الاستقلال[5] في باب تفريغ الذمة بالإطاعة والامتثال[6] إنما هو العقل، وليس للشارع في هذا الباب حكم مولوي يتبعه[7] حكم

--------------------------------------

[1] «القطع» عطف على (انسداد) أي: بعد انسداد سبيل العلم، وبعد القطع ببقاء التكليف.

[2] أي: فيتعين الأخذ بالظن بالطريق دون الأخذ بالظن بالواقع؛ وذلك لأن الظن بالواقع لا يوجب الظن بحكم الشارع بفراغ الذمة - كما بيناه آنفاً - .

[3] أي: حجية الظن في حال الانسداد مطلقاً، سواء كان ظناً بالطريق أم ظناً بالواقع.

[4] هذا إشكال على المقدمة الثانية من الدليل، وحاصله: إنه لا حكم للشارع بفراغ الذمة أصلاً، بل هو بحكم العقل، لما مرّ من أن طرق الطاعات عقلية. والعقل لا يرى تفاوتاً بين الظن بالواقع أو الظن بالطريق؛ لأنه يبحث عمّا يؤمِّن من العقاب، وكلاهما مؤمِّن.

[5] أي: لا يكون تابعاً لحكم الشرع، بل هو من المستقلات العقلية، وهي التي ليس في مقدماتها حكم من الشارع، كحسن العدل وقبح الظلم.

[6] أي: التفريغ بسبب الإطاعة، والعطف في «الامتثال» تفسيري.

[7] «يتبعه» وصف للحكم المولوي، وهو الحكم الذي لا يدركه العقل، بل يحكم به الشارع، وبعد حكمه يحكم العقل بلزوم إطاعته، مثل: حرمة شرب الخمر، فإنه حكم مولوي لم يكن ليدركه العقل، لكن بعد حكم الشرع يحكم العقل بلزوم اجتنابه امتثالاً لأمر الشارع.

ص: 30


1- هداية المسترشدين 3: 351، مع اختلاف يسير.

العقل، ولو حكم في هذا الباب[1] كان بتبع حكمه[2] إرشاداً إليه، وقد عرفت[3] استقلاله[4] بكون الواقع بما هو هو مفرغاً، وأن القطع به حقيقةً أو تعبداً[5] مؤمّن[6] جزماً، وأن المؤمّن في حال الانسداد هو الظن بما كان القطع به مؤمِّناً حال الانفتاح[7]، فيكون الظن بالواقع أيضاً مؤمّناً حال الانسداد.

وثانياً[8]:

--------------------------------------

[1] أي: باب تفريغ الذمة بالإطاعة والامتثال، كما في قوله تعالى: {أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ}(1).

[2] أي: كان حكم الشارع بتبع حكم العقل، ولأجل الإرشاد إلى حكم العقل.

[3] أي: بعد أن ثبت لك أنه لا حكم للشارع هنا تصل النوبة إلى معرفة حكم العقل، وقد ذكرنا لك في استدلالنا - على عدم الفرق بين الظن بالواقع أو الطريق - بأن العقل يبحث عن المؤمِّن، ولا يرى فرقاً في الأمن من العقوبة بين الظن بالطريق أو الظن بالواقع.

[4] استقلال العقل، «بما هو هو» حتى لو لم يكن مدلول دليل منصوب.

[5] أي: المؤمِّن هو القطع بالواقع بما هو هو، وكذا القطع به تعبداً - أي: تنزيلاً - بأن يكون مؤدّى طريق منصوب، مثلاً: تارة نعلم بأن هذا زيد، وتارة أخرى تكون البينة حجة، وهي تشهد بأنه زيد، فكونه زيداً واقع تعبدي.

[6] خبر (أن) في قوله: (وأن القطع به).

[7] بلا فرق بين القطع بالواقع أو القطع بالطريق، وكذا الظن في حال الانسداد.

[8] حاصله: إنه بعد تسليم أن يكون للشارع حكم بتفريغ الذمة، فإنه نقول: لم يصرح الشارع بذلك في أي مكان، لكن بما أنه نصب الطريق فلازم ذلك حكمه بفراغ الذمة بسلوك ذلك الطريق، وهذا اللزوم موجود في الظن بالواقع أيضاً، فإن تكليف الشارع بالواقع لازمه حكم الشارع بفراغ الذمة بالعمل بذلك الواقع، بل

ص: 31


1- سورة النساء: الآية 59.

سلمنا ذلك[1]، لكن حكمه بتفريغ الذمة - في ما إذا أتى المكلف بمؤدى الطريق المنصوب - ليس[2] إلاّ بدعوى أن النصب يستلزمه، مع أن دعوى[3]

«أن التكليف بالواقع يستلزم حكمه بالتفريغ في ما إذا أتى به» أولى[4]، كما لا يخفى، فيكون الظن به ظناً بالحكم بالتفريغ أيضاً.

إن قلت[5]:

--------------------------------------

هو أولى؛ لأن الواقع التنزيلي - وهو مؤدى الطريق - إن كان كافياً فالواقع الحقيقي يكون كافياً بطريق أولى.

[1] أي: الحكم المولوي للشارع بتفريغ الذمة، «حكمه» حكم الشارع.

[2] أي: ليس لدليل خاص، بل بدعوى الملازمة، أي: إن نصب الطريق يستلزم الحكم ببراءة الذمة لو عمل به.

[3] أي: نفس هذا الاستلزام موجود في التكليف بالواقع، «حكمه» حكم الشارع، «أتى به» بالواقع.

[4] قد عرفت وجه الأولوية آنفاً، وحاصلها: إن الواقع التنزيلي إن استلزم شيئاً فإن الواقع بما هو هو يستلزم ذلك الشيء بطريق أولى؛ إذ لا يكون الفرع أقوى من الأصل، «الظن به» أي: بالواقع، «بالحكم» أي: بحكم الشارع.

[5] حاصل الإشكال: هو عدم اللزوم بين الظن بالواقع والظن ببراءة الذمة؛ وذلك لثبوت الانفكاك في بعض الصور، مما يكشف عن عدم اللزوم، فإن اللازم لا ينفك عن الملزوم أبداً، فإذا انفك عرفنا - باللِمّ - عدم اللزوم؛ وذلك في ما إذا ظن بالواقع عبر القياس، فإن هذا الواقع المظنون لا يستلزم الظن بفراغ الذمة، بل نقطع بعدم الحجية. وليس كذلك الظن بالطريق عبر القياس، فإن هذا الظن حجة؛ لأن القياس منهي عنه في خصوص الأحكام الشرعية، أما في غيرها - ومنها الطرق - فلا يوجد نهي فيه.

ص: 32

كيف يستلزمه الظن بالواقع[1]، مع أنه ربما يقطع بعدم حكمه به معه[2]، كما إذا كان من القياس؟ وهذا بخلاف الظن بالطريق، فإنه يستلزمه[3] ولو كان من القياس.

قلت[4]:

--------------------------------------

[1] مفعول (يستلزم) محذوف وهو (الظن بحكم الشارع بفراغ الذمة).

[2] أي: نقطع بعدم حكم الشارع بفراغ الذمة مع الظن بالواقع، ومنشأ القطع هو نهي الشارع عن الأخذ بالقياس نهياً ثابتاً بالتواتر.

[3] أي: فإن الظن بالطريق يستلزم الظن بحكم الشارع بفراغ الذمة.

[4] حاصل الجواب أمران:

الأول: هذا القائل خلط بين الظن بفراغ الذمة وبين الحجية، وكلامنا ليس في الحجية، بل في فراغ الذمة.

بيانه: إن إصابة الواقع توجب براءة الذمة، فإن قطع بإصابة الواقع فإنه يقطع ببراءة الذمة، وإن ظن بإصابة الواقع فإنه يظن ببراءة الذمة - وهذا اللزوم دائمي في القطع الطريقي - نعم، الظن ببراءة الذمة ليس بحجة إذا لم يقم عليه دليل، أو نهى الشارع عن التمسك بسبب ذلك الظن.

ومعنى عدم الحجية أنه إن أخطأ فلا عذر له، بل يعاقب، وإن أصاب فإنه قد تجرأ على المولى لسلوكه طريقاً غير مأمون.

والحاصل: إنه لو ظن بالواقع عبر القياس فلا محالة يظن بفراغ الذمة؛ لأنه يظن بأنه أتى بالتكليف الواقعي، ولكن لا حجة له، فلو أخطأ ظنه فإنه يعاقب لتركه الواقع بلا معذّر شرعي.

الثاني: القياس ليس بحجة سواء في الحكم الشرعي أم في طريق الحكم الشرعي؛ لعموم الأدلة، فلا يصح التفريق بين القياس في نفس الحكم والقياس في الطريق، وهذا ما يلمح إليه المصنف بقوله: (إذا عمل به فيهما).

ص: 33

الظن بالواقع أيضاً[1] يستلزم الظن[2] بحكمه[3] بالتفريغ، ولا ينافي[4] القطعَ بعدم حجيته لدى الشارع، وعدم[5] كون المكلف معذوراً - إذا عمل به فيهما[6] - في ما أخطأ، بل كان مستحقاً للعقاب - ولو في ما أصاب[7] -

--------------------------------------

[1] أي: كالظن بالطريق.

[2] كتب المصنف في الهامش: (وذلك لضرورة الملازمة بين الإتيان بما كلّف به واقعاً، وحكمه بالفراغ، ويشهد به عدم جواز الحكم بعدمه لو سئل: عن أن الإتيان بالمأمور به على وجهه هل هو مفرغ؟ ولزوم حكمه بأنه مفرّغ، وإلاّ لزم عدم إجزاء الأمر الواقعي، وهو واضح البطلان)(1)،

انتهى.

حاصله: إن الشارع يريد أحكامه الواقعية - والمفروض أن القطع بها ليس بموضوعي - وحينئذٍ فإن الإتيان بالحكم الواقعي يستلزم الإجزاء، كما هو واضح. فلو ظن بأن هذا واقع - ولو من القياس - ثم أتى به، وكان ظنه مطابقاً للواقع، فإنه لا محالة يسقط التكليف. فالظن بالواقع يستلزم الظن بالفراغ. نعم، لا حجة له - كما وضحناه - .

[3] أي: حكم الشارع ببراءة الذمة.

[4] فاعله: الظنُ بحكم الشارع ببراءة الذمة، والمعنى أن الظن بحكمه ببراءة الذمة لا ينافي القطع بعدم الحجية؛ لأن عدم الحجية يجتمع مع الظن، فما أكثر الظنون التي ليست بحجة، بل الأصل في الظن عدم الحجية.

[5] عطف تفسير لقوله: (بعدم الحجية لدى الشارع).

[6] «به» بالظن الناشئ عن القياس، «فيهما» في الواقع والطريق.

وفي هذا الكلام تلميح إلى عدم حجية الظن الناشئ عن القياس مطلقاً، وأنه لا يترتب عليه أثر، سواء كان ظناً بالواقع أم ظناً بالطريق.

[7] أي: لو عمل بالقياس، وأصاب الواقع - اتفاقاً - فإنه لا يعاقب على امتثاله

ص: 34


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 437.

لو بنى على حجيته والاقتصار[1] عليه لتجريه، فافهم[2].

وثالثاً[3]: سلمنا أن الظن بالواقع لا يستلزم الظن به[4]، لكن قضيته ليس إلاّ التنزل إلى الظن بأنه مؤدى طريق معتبر[5]، لا خصوص[6]

--------------------------------------

للواقع، بل يعاقب على أحد أمرين:

1- التشريع، إذا اعتقد حجية القياس شرعاً وبنى عليه، وهذا ما أشار إليه المصنف بقوله: (لو بنى على حجيته).

2- التجري، إذا لم يبنِ على حجية القياس، ولكن اكتفى به، فإن العمل على طبق شيء بدون حجة شرعية هو تجرٍّ.

[1] عطف على (حجيته) أي: لو بنى على الاقتصار، «عليه» على القياس، «لتجريه» علة للعقاب على الاقتصار، أما علة العقاب على الوجه الأول فهو التشريع الثابتة حرمته.

[2] لعله إشارة إلى أن الاقتصار على القياس - إن أصاب - ليس تجرياً، بل هو حرام فعلي - حتى لو لم نقل بحرمة التجري - وذلك لأن العمل بالقياس هو حرام بالذات حتى وإن أصاب الواقع به.

[3] إشكال ثالث على الوجه الثاني - الذي ذكره صاحب الحاشية واختص به - وحاصله: ما مرّ من المصنف أن الظن بالواقع يستلزم الظن الإجمالي بوجود طريق؛ وذلك لأن الشارع إذا لم ينصب طريقاً إلى حكمه فلا يصير ذلك الحكم فعلياً أصلاً.

[4] «به» بفراغ الذمة، «قضيته» أي: مقتضى لزوم الظن بالطريق، «بأنه» بأن التكليف.

[5] سواء علمنا بذلك الطريق بالتفصيل، أم علمنا به إجمالاً.

[6] عطف على قوله: (طريق معتبر)، أي: اللازم الظن بوجود طريق معتبر - تفصيلي أم إجمالي - لا خصوص الظن بالطريق التفصيلي.

ص: 35

الظن بالطريق[1]، وقد عرفت أن الظن بالواقع لا يكاد ينفك عن الظن بأنه مؤدى الطريق غالباً.

فصل[2]: لا يخفى[3] عدم مساعدة مقدمات الانسداد على الدلالة على كون الظن طريقاً منصوباً شرعاً[4]، ضرورة أنه معها[5] لا يجب عقلاً على الشارع أن ينصب

--------------------------------------

[1] أي: تفصيلاً.

فصل في الكشف والحكومة والإهمال والتعيين

اشارة

[2] الغرض من هذا الفصل هو بيان أن نتيجة المقدمات هل هي الإهمال، بحيث نحتاج إلى دليل آخر لإثبات حجية جميع الظنون أو بعضها، أو أن النتيجة هي التعيين - سواء بنحو كلي أو جزئي -؟

وحيث إن النتيجة تتوقف على الكشف أو الحكومة لذا قدّم البحث عنها.

[3] اختيار المصنف - تبعاً للشيخ الأعظم - : هو أن نتيجة مقدمات الانسداد هو حكم العقل بحجية الظن، لا نستكشف من هذا الحكم العقلي حكماً شرعياً بحجية الظن.

وفي البداية قال المصنف: بعدم قيام الدليل على الحجية الشرعية، ولكنه بعد ذلك قال: بعدم إمكان الحجية الشرعية - كما سيتضح - .

[4] أي: بعد حكم العقل بحجية الظن لا نستكشف حكماً للشرع بالحجية أيضاً.

[5] هذا دليل عدم الاستكشاف، وحاصله: إنه لا ملزم للشارع لجعل الحجية للظن بعد حكم العقل، فلعلّ الشارع اكتفى بحكم العقل بالحجية. كما أن الموالي العرفية قد يكتفون بحكم العقل، ولا يصدرون أمراً مولوياً، «أنه» أن الشأن «معها» أي: مع مقدمات الانسداد.

ص: 36

طريقاً، لجواز اجتزائه بما استقل به العقل في هذا الحال[1].

ولا مجال[2] لاستكشاف نصب الشارع[3] من حكم العقل لقاعدة الملازمة، ضرورة[4] أنها إنما تكون في مورد قابل للحكم الشرعي[5]، والمورد هاهنا غير قابل له[6]، فإن الإطاعة الظنية[7] التي يستقل العقل بكفايتها في حال الانسداد إنما هي

--------------------------------------

[1] «لجواز» إمكان، «اجتزائه» اكتفاء الشارع، «هذا الحال» حال الانسداد.

[2] إشارة إلى دليل الكشف وجوابه.

أما الدليل، فهو إن قاعدة الملازمة - وهي كلما حكم به العقل حكم به الشرع - تدل على الكشف؛ لأنه مع تمامية مقدمات الانسداد يحكم العقل بحجية الظن، وحيث حكم العقل فإن الشرع يحكم بحجيته أيضاً.

[3] أي: نصب الشارع الظن طريقاً، و«من حكم...» متعلق ب- (استكشاف).

[4] هذا الجواب عن الاستدلال بالملازمة، وحاصله: إن قاعدة الملازمة إنما هي في ما لو أمكن الحكم الشرعي، وأما مع استحالة حكم الشرع فلا تجري القاعدة، «أنها» قاعدة الملازمة.

[5] كأحكام العقل في غير طرق الطاعة والمعصية، مثلاً: يحكم العقل بحسن العدل، ومن حكمه نستكشف حكم الشارع بلزوم العدل، وكذا يحكم العقل بقبح الظلم، فنستكشف حكم الشرع بحرمة الظلم - مع قطع النظر عن الأدلة في الكتاب والسنة - .

[6] «المورد» حجية الظن، «هاهنا» في باب الانسداد، «له» لحكم الشرع.

[7] بيان لوجه استحالة حكم الشرع هنا، وحاصله: إن إطاعة المولى بالعمل بالظن تنحل إلى أمرين:

الأول: قبح المؤاخذة والعقاب على ترك العمل بالقطع، فإنها مؤاخذة على غير المقدور، حيث إن الفرض هو انسداد باب العلم، فكيف يُعاقب المولى على أمر غير مقدور؟!

ص: 37

--------------------------------------

الثاني: عدم جواز اكتفاء المكلّف بالشك والوهم، بحيث إنه لو ترك المكلف الظن وعمل بها ثم كان الظن مطابقاً للواقع استحق العقاب، وإن كان الظن مخالفاً للواقع كان متجرياً.

أما الأول: - وهي المؤاخذة - فهي من فعل المولى، ولا ارتباط لها بالعبد، فلا تكون مورداً للتكليف؛ لأن الشارع يكلّف غيره، ولا معنى لأن يكلّف نفسه.

وأما الثاني: فإن غرض المولى من الأمر هو أحد شيئين، وهما مفقودان في المقام، فلو أمر المولى بالإطاعة الظنية كان أمراً بلا غرض وهو محال، وهما:

1- البعث، بأن يكون الغرض هو انبعاث العبد نحو التكليف، وهذا البعث حاصل بحكم العقل، فيكون أمر المولى بغرض البعث تحصيلاً للحاصل.

2- العقاب على المخالفة، والثواب على الموافقة، وهذا أيضاً حاصل من نفس التكليف بالأشياء، فلا يحصل بالأمر بالإطاعة الظنية.

مثلاً: لازم الأمر بإقامة الصلاة هو العقاب على تركها، ففي باب الانسداد لو ظننا بوجوب الصلاة، فإن مخالفة أمر الصلاة يوجب استحقاق العقاب بحكم العقل، وعدم العمل بالظن لا يوجب نفس العقاب؛ لأنه تحصيل الحاصل، كما لا يوجب عقاباً آخر لبداهة عدم وجود عقابين في مخالفة أحكام الشارع. فالإطاعة الظنية - وهي من طرق الطاعة - تكون نظير نفس أوامر الطاعة، كقوله: {أَطِيعُواْ ٱللَّهَ...}(1) الآية، فإنه مع دلالة قوله: {أَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ}(2) على وجوب الصلاة وعلى استحقاق العقاب على ترك الصلاة، فإن مخالفة (أطيعوا) لا يوجب عقاباً آخر لو ترك الصلاة.

ص: 38


1- سورة النساء: الآية 59.
2- سورة البقرة: الآية 43.

بمعنى عدم جواز مؤاخذة الشارع بأزيد منها[1]، وعدم جواز اقتصار المكلف بدونها[2]. ومؤاخذة[3] الشارع غير قابلة لحكمه، وهو واضح.

واقتصار[4] المكلف بما دونها لما كان بنفسه موجباً للعقاب مطلقاً[5]، أو في ما أصاب الظن[6] - كما أنها بنفسها[7] موجبة للثواب، أخطأ أو أصاب، من دون حاجة إلى أمر بها أو نهي عن مخالفتها[8] -

--------------------------------------

فتلخص: أن (الإطاعة الظنية) في باب الانسداد يستحيل أن يتعلق بها تكليف شرعي؛ إذ يستلزم تكليف الشارع بها أمراً بلا غرض، وهو محال.

[1] هذا هو الأمر الأول، «أزيد منها» أي: من الإطاعة الظنية - وهو العمل بالقطع - .

[2] هذا هو الأمر الثاني، «بدونها» بأقل من الإطاعة الظنية وذلك بالعمل بالشك والوهم.

[3] إشارة إلى عدم إمكان حكم للشارع في المؤاخذة، «غير قابلة لحكمه» لأن التكليف إنّما هو للناس، فلا معنى لأن يكون التكليف على الشارع. نعم، الشارع لا يعمل القبيح، لكن هذا ليس تكليفاً.

[4] إشارة إلى عدم إمكان التكليف بترك الوهم والشك.

[5] أي: موجباً لحكم العقل باستحقاق العقاب، «مطلقاً» أصاب الظن أو أخطأ، أما في صورة الإصابة فإن المكلف يستحق العقاب؛ لأنه خالف الواقع بلا عذر، وأما في صورة الخطأ فلأنه تجرّى.

[6] على القول بعدم حرمة التجري.

[7] أن الإطاعة الظنية توجب الثواب، ففي صورة الإصابة ثواب على امتثال التكليف، وفي صورة الخطأ على الانقياد.

[8] لأنه حينما يخالف التكاليف المظنونة - كالأمر بالصلاة - فإنه يستحق العقاب

ص: 39

كان[1] حكم الشارع فيه مولوياً بلا ملاك[2] يوجبه، كما لا يخفى، ولا بأس به[3] إرشادياً، كما هو شأنه[4] في حكمه بوجوب الإطاعة وحرمة المعصية.

وصحة نصبه الطريق[5] وجعله في كل حال[6] بملاك يوجب نصبه، وحكمة داعية إليه، لا تنافي[7] استقلال العقل بلزوم الإطاعة بنحوٍ[8] حال الانسداد، كما

--------------------------------------

على مخالفته لأمر الصلاة، فالتكليف بوجوب الإطاعة الظنية لا يوجب استحقاق العقاب الأول؛ لأنه تحصيل للحاصل، ولا عقاب آخر لبداهة عدم عقابين - كما بيناه - . «أمر بها» «مخالفتها» الضميران يرجعان للإطاعة الظنية.

[1] جزاء قوله: (لما كان...)، «فيه» في عدم جواز الاكتفاء بالشك والوهم.

[2] لأن الملاك إما انبعاث المكلف، أو استحقاقه للعقاب، وكلاهما حاصل بحكم العقل.

[3] بحكم الشارع.

[4] لأن الإطاعة الظنية هي من طرق الطاعات، وهي مثل نفس الأمر بالطاعة، «هو» الإرشاد، «شأنه» شأن الشارع، «حكمه» حكم الشارع.

إشكال وجواب

[5] بيان لإشكال، حاصله: إن أوامر الطاعة وطرقها إن كانت عقلية، فكيف جعل الشارع طرقاً لأحكامه لا يدركها العقل؟ مثل: الشهرة الفتوائية - إن قيل بها -؟ «نصبه» نصب الشارع.

[6] حاصل الانفتاح والانسداد، «نصبه» نصب الطريق، «إليه» إلى النصب.

[7] جواب عن الإشكال، وحاصله: إن كلامنا هو أن العقل لو حكم بطريق فإنه يستحيل حكم الشارع مولوياً بذلك الطريق، وهذا لا ينافي جعل الشارع لطريق في ما لا يدركه العقل.

[8] وهو الإطاعة الظنية.

ص: 40

يحكم بلزومها بنحوٍ آخر[1] حال الانفتاح، من دون[2] استكشاف حكم الشارع بلزومها مولوياً، لما عرفت.

فانقدح بذلك[3] عدم صحة تقرير المقدمات إلاّ على نحو الحكومة، دون الكشف؛ وعليها[4] فلا إهمال في النتيجة أصلاً، سبباً ومورداً ومرتبة[5]، لعدم

--------------------------------------

[1] وهو الإطاعة القطعية بأن يكون الدليل هو ما ينتهي إلى القطع.

[2] أي: حين حكم العقل واستقلاله بالطاعة، لا حكم مولوي للشارع، «بلزومها» بلزوم الطاعة.

هذا المعنى في الجواب والإشكال هو الأقرب إلى العبارة، قد شرحها بعض الشراح بطريقة أخرى.

[3] أي: عدم إمكان حكم الشارع.

الإهمال أو التعيين

[4] أي: بناءً على الحكومة لا يوجد إهمال في نتيجة مقدمات الانسداد؛ وذلك لأن العقل لا يحكم إلاّ إذا قطع، فإذا شك في شيء أو لم يكن يعرف مقدماته وشروطه ونحو ذلك فلا يحكم أصلاً. أما الشارع فإنه يمكن أن يهمل أمراً في دليل ثم يُبيّنه بدليل آخر، أو يجمل كذلك.

ثم إن معنى الإهمال: هو عدم بيان أنه كلي أو جزئي، فتكون نتيجة المقدمات هي حجية الظن مجملاً، فنحتاج إلى دليل آخر لبيانه.

وأما التعيين فمعناه: بيان حجية الظن بنحو كلي - أي: كل ظن - أو تعيين حجية بعض الظنون بشكل معلوم.

ثم لا يخفى أن أكثر ما ذكره المصنف هنا لم يذكر له دليلاً، ولعلّه أوكَلَهُ إلى الوجدان.

الظن على الحكومة
اشارة

[5] «السبب» هو ما أوجب الظن كخبر الواحد مثلاً، و«المورد» هو موضوع

ص: 41

تطرق الإهمال والإجمال في حكم العقل، كما لا يخفى.

أما بحسب الأسباب: فلا تفاوت بنظره فيها[1].

وأما بحسب الموارد: فيمكن أن يقال[2] بعدم استقلاله بكفاية الإطاعة الظنية إلاّ في ما[3] ليس للشارع مزيد اهتمام فيه بفعل الواجب وترك الحرام، واستقلاله بوجوب الاحتياط في ما فيه مزيد الاهتمام، كما في الفروج والدماء، بل وسائر حقوق الناس مما لا يلزم[4] من الاحتياط فيها العسر.

--------------------------------------

الظن، كالأموال والعبادات والدماء ونحوها، و«المرتبة» هي درجة الظن، كالظن الضعيف والاطمئنان ونحوهما.

1- سبب الظن

[1] لا تفاوت في الأسباب؛ وذلك لأن الملاك هو الأقربية إلى الواقع، والظن أقرب إلى الواقع من الشك والوهم؛ ولذا كان حجة، ولا فرق في الأقربية بين أسباب الظن.

2- موارد الظن

[2] حاصله: إن رفع اليد عن الاحتياط، والعمل بالظن كان بسبب العسر، فلذا حكم العقل بحجية الظن، وفي الأمور المهمة - كالدماء والفروج وحقوق الناس - يحكم العقل بحسن الاحتياط، وعدم التنزل فيها إلى الظن، «بعدم استقلاله» أي: العقل.

[3] «في ما» في مورد، «فيه» في ذلك المورد، «بفعل» الباء تتعلق بالاهتمام.

[4] هذا قيد لقوله: (سائر حقوق الناس)، أما في الدماء والفروج فإن الاحتياط فيها لا يلزم منه عسر أصلاً. وإنّما قال: (سائر) لأن الدماء والفروج ترتبط بحقوق الناس أيضاً.

ص: 42

وأما بحسب المرتبة[1]: فكذلك لا يستقل إلاّ بلزوم التنزل إلى مرتبة الاطمئنان من الظن بعدم التكليف إلاّ على تقدير عدم كفايتها[2] في دفع محذور العسر.

وأما على تقرير الكشف[3]: فلو قيل بكون النتيجة هو نصب الطريق الواصل بنفسه[4]،

--------------------------------------

3- مرتبة الظن

[1] حاصله: إن الظن إن كان بثبوت التكليف فيلزم العمل به بأية مرتبة كان؛ لأنه مطابق للاحتياط، فلا فرق إذن بين العمل بالظن أو العمل بالاحتياط.

أما لو تعلق الظن بعدم التكليف فلا يحكم العقل بعدم الاحتياط إلاّ إذا كان الظن قوياً واصلاً إلى مرتبة الاطمئنان، وأما الظن الضعيف فلا يحكم العقل بحجيته، بل يلزم الاحتياط إن لم يستلزم الاحتياط العسر، وإلاّ نتنزّل في درجة الظن إلى حين زوال العسر.

[2] كفاية مرتبة الاطمئنان؛ وذلك بسبب قلة الظنون الاطمئنانية.

الظن على الكشف
اشارة

[3] صور الكشف ثلاثة:

الأولى: الظن بالطريق، كالخبر الواحد.

الثانية: الظن بطريق الطريق، من دون ظن بنفس الطريق، كالظن بحجية الخبر الواحد الدال على حجية القرعة، فإنه لا ظن بالقرعة، ولكن الظن بطريقها - أي: الخبر - .

الثالثة: العلم الإجمالي بحجية طريق، لكنه غير معلوم تفصيلاً، مما يلزم منه لزوم الاحتياط في كل الطرق.

1- الظن بالطريق الواصل بنفسه

[4] أي: الظن بطريق خاص معين، وهذا الظن تعلق مباشرة بنفس الطريق:

ص: 43

فلا إهمال فيها[1] أيضاً بحسب الأسباب، بل يستكشف حينئذٍ أن الكل حجة لو لم يكن بينها ما هو المتيقن[2]، وإلاّ[3] فلا مجال لاستكشاف حجية غيره؛ ولا بحسب الموارد[4]، بل يحكم بحجيته في جميعها[5]، وإلا[6] لزم عدم وصول الحجة[7]، ولو

--------------------------------------

1- ففي الأسباب: لا إهمال، بل الظن في جميعها حجة، حيث ذكرنا أن الملاك هو الأقربية للواقع، وهذا الملاك موجود في الظنون من أي سبب كانت.

2- وفي الموارد أيضاً الظن حجة في جميعها.

3- وفي المرتبة، فإن الحجّيّة مهملة غير معينة، ونحتاج إلى دليل آخر لإثباتها.

[1] «فيها» في النتيجة، «حينئذٍ» حين الكشف، «الكل» كل الأسباب.

[2] المتيقن بالنسبة إلى الباقي، فالمقصود هو التيقن على فرض حجية الظن، لا التيقن مطلقاً؛ إذ الكلام إنما هو في حال الانسداد الذي لا يوجد علم أو علمي، كما سيبين المصنف هذا في قوله: (دفع وهم).

[3] أي: لو كان هناك متيقن الحجية فلابد من الأخذ به وترك غيره، كما لو فرض وجود خبر الثقة العادل وكفايته.

[4] أي: لا إهمال بحسب الموارد، بل النتيجة هو التعيين بنحو الكليّة؛ وذلك لأن الفرض حجية الطريق الواصل بنفسه - أي: الطريق المعيّن - ولا يكون التعيين إلاّ عبر القول بحجيتها جميعاً؛ لأنه لو قيل بحجية بعضها - غير المعين - كان خلاف الفرض!!

[5] بحجية الظن في جميع الموارد.

[6] أي: لو لم نقل بحجية الظن في جميع الموارد.

[7] وهذا خلاف الفرض؛ لأن الفرض هو حجية الطريق الواصل بنفسه، «ولو» أي: سبب عدم الوصول هو التردد فيدخل في القسم الثالث وهو (حجية الطريق ولو لم يصل أصلاً) أي: وصل إجمالاً بدون تعيين، «مواردها» موارد الطرق.

ص: 44

لأجل التردد في مواردها، كما لا يخفى[1].

ودعوى الإجماع على التعميم بحسبها[2] في مثل هذه المسألة المستحدثة، مجازفة جداً.

وأما بحسب المرتبة: ففيها[3] إهمال، لأجل احتمال حجية خصوص الاطمئناني منه إذا كان وافياً[4]، فلابد من الاقتصار عليه[5].

--------------------------------------

[1] وفي كلام المصنف تأمل؛ لأنه لو عينت الموارد بغير الدماء والفروج وحقوق الناس فلا يكون خلافاً للفرض؛ إذ في غيرها يكون الطريق معيناً - واصلاً بنفسه - بلا تردد.

[2] ادّعى الشيخ الأعظم الإجماع(1)

على حجية الظن في كل الموارد، فهو يتفق مع المصنف في التعميم بحسب المورد، لكن المصنف استدل بالخُلف، والشيخ استدل بالإجماع، ويستشكل المصنف، بأن مسألة الانسداد والقول بالكشف فيه مسألة مستحدثة، فلا معنى لادعاء الإجماع فيها، «بحسبها» بحسب الموارد.

[3] أي: في النتيجة إهمال؛ وذلك لاحتمال حجّية خصوص الظن الاطمئناني، فلا نستكشف حكم الشارع بحجية غيره.

إن قلت: ما الفرق بين السبب - حيث كانت النتيجة عامة - وبين المرتبة؟

قلت: الملاك في الحجية هو الأقربية للواقع، وهذا الملاك يوجد في جميع الأسباب، فإنه لا فرق في الأقربية بين سبب وآخر، وأما في المرتبة فالأمر بالعكس، حيث إن الاطمئناني أقرب إلى الواقع من غيره، «منه» من الظن.

[4] أما إذا لم يكن وافياً فلابد من إضافة غير الاطمئناني، ولكن تُراعى الأقوائية في الظنون، أي: نتنزل من الاطمئنان إلى سائر الظنون لكن درجة فدرجة.

[5] لأنه القدر المتيقن، «عليه» على الاطمئناني.

ص: 45


1- فرائد الأصول 1: 467.

ولو قيل ب: «أن النتيجة هو نصب الطريق الواصل ولو بطريقه[1]»، فلا إهمال فيها بحسب الأسباب لو لم يكن فيها[2] تفاوت أصلاً، أو لم يكن بينها إلاّ واحد[3]، وإلاّ[4] فلابد من الاقتصار على متيقن الاعتبار منها أو مظنونه[5]، بإجراء

--------------------------------------

2- الظن بالطريق الواصل بطريقه

[1] أي: كما يكون الطريق الواصل بنفسه حجة، كذلك الطريق الواصل بطريقه، وهو أن نظن بطريقيته بواسطة قيام طريق عليه.

مثلاً: نظن بطريقية الخبر الواحد، وبإجراء دليل الانسداد نقول بحجية الخبر، ثم قام الخبر الواحد على حجية القرعة، فهنا الحجة طريق وهو القرعة، ولكن بواسطة طريق آخر وهو الخبر، وهنا نبحث أيضاً في الظن في الأسباب والموارد والمرتبة.

أما بحسب الأسباب فالفروض ثلاثة:

1- تعدد السبب مع التساوي بين الأسباب، فتكون النتيجة تعيين تلك الأسباب؛ لأن تعيين بعضها ترجيح بلا مرجح.

2- وحدة السبب، بأن نظن بطريقية شي واحد، فتكون النتيجة تعيينه، والاّ لم يكن طريق واصل - وهذا خلف - .

3- تعدد السبب مع أقوائية بعضها - بأن تكون القدر المتيقن - فلابد من الأخذ بالمتيقن فقط.

وأما بحسب المورد والمرتبة فالحكم كالصورة السابقة - وهي الطريق الواصل بنفسه - .

[2] هذا الفرض الأول من فروض الأسباب، «فيها» في الأسباب.

[3] هذا الفرض الثاني، «بينها» بين الأسباب.

[4] أي: إن لم يكن الفرضان، بل كانت الأسباب متعددة وكان بينها تفاوت.

[5] المظنون مقابل ما لو كانت طرق أخرى مشكوكة أو موهومة.

ص: 46

مقدمات دليل الانسداد حينئذٍ[1] مرة أو مرات[2]

--------------------------------------

[1] أي: حين تعدد الأسباب وتفاوتها.

[2] المرة الأولى: حينما تكون طرق، بعضها مظنون وبعضها مشكوك وبعضها موهوم، هنا نجري دليل الانسداد لإثبات حجية الظن.

المرة الثانية: حينما نجد تفاوت الأسباب الموجبة للظن، هنا نجري دليل الانسداد لإثبات حجية المتيقن منها.

المرة الثالثة: لو لم يكف المتيقّن بالأحكام فلابد من إجراء مقدمات الانسداد مرة أخرى، لإثبات حجية غيره وهكذا، هذا ما ظهر لنا في معنى العبارة.

وفي حقائق الأصول: (وإن كانت(1)

متفاوتة بالظن بالاعتبار، بأن كان بعضها مظنون الاعتبار، دون ما سواه، جرى دليل الانسداد في تعيين الحجة على الاعتبار، فيقال: الظن بالواقع: منه مظنون الاعتبار، ومنه مشكوك الاعتبار، ومنه موهوم الاعتبار. ثم يقال: الظن باعتبار بعض الظنون المتعلقة بالواقع إما أن يكون واحداً فهو الحجة على الاعتبار، أو متعدداً - وكلها متساوية في تيقن الاعتبار أو بالظن به كما تقدم - فكلها حجة، أو بعضها متيقن الاعتبار دون غيره فهو الحجة دون غيره. وإن كان متعدداً متفاوتاً في الظن بالاعتبار فلابد من إجراء الدليل ثالثاً لتعيين الحجة على اعتبار الظن بالاعتبار، فيقال كما ذكر... الخ)(2)،

انتهى.

والحاصل: إنه لو أجرينا مقدمات الانسداد مرّة واحدة، ووصلنا إلى المقدار الوافي بالأحكام، سواء كان سبباً واحداً أم أسباب متعددة متساوية، فهو المطلوب، وإلاّ فلابد من إجراء مقدمات الانسداد مرات أخرى للوصول إلى القدر الوافي، فتأمل.

ص: 47


1- يعني: الأسباب.
2- حقائق الأصول 2: 193.

في تعيين الطريق المنصوب حتى ينتهي إلى ظن واحد، أو إلى ظنون متعددة لا تفاوت بينها فيحكم بحجية كلها، أو متفاوتة يكون بعضها الوافي متيقن الاعتبار فيقتصر عليه. وأما بحسب الموارد والمرتبة، فكما إذا كانت النتيجة هي الطريق الواصل بنفسه[1]، فتدبر جيداً.

ولو قيل ب: «أن النتيجة هو الطريق ولو لم يصل أصلاً[2]»، فالإهمال فيها يكون من الجهات[3]. ولا محيص حينئذٍ إلاّ من الاحتياط في الطريق[4] بمراعاة أطراف الاحتمال لو لم يكن بينها متيقن الاعتبار، لو لم يلزم منه محذور[5]، وإلاّ[6]

--------------------------------------

[1] ففي الموارد يكون الظن حجة في جميعها لكي لا يلزم الخلف، وفي المرتبة الاطمئناني - إن وفى - يكون الحجة لا غير.

3- الظن بطريقٍ ما - إجمالاً -

[2] بمعنى أنا نعلم بنصب الشارع لطريق، لكن هذا الطريق غير معلوم لنا تفصيلاً، بل هو ضمن محتملات الطريقيّة.

[3] الجهات الثلاث - السبب، المورد، المرتبة - وذلك لعدم علمنا التفصيلي بالطريق، وحيث إن الطرق المحتملة تختلف في الجهات الثلاث فلا نعلم بكيفيتها، للجهل بالطريق المنصوب.

[4] شأن كل علم إجمالي، لابد من الاحتياط في كل المحتملات للوصول إلى التكليف.

[5] أي: من الاحتياط محذور، كالعسر والحرج مثلاً.

[6] أي: ولو لزم من الاحتياط محذور.

ولا يخفى أن المحذور لو كان العسر والحرج فمبنى المصنف هو لزوم الاحتياط؛ لأن العسر لم ينشأ من حكم الشارع وإنّما من حكم العقل بالاحتياط، كما مرّ في

ص: 48

لزم التنزل إلى حكومة العقل بالاستقلال[1]، فتأمل فإن المقام من مزال الأقدام.

وهم ودفع: لعلك تقول[2]: إن القدر المتيقن الوافي لو كان في البين لما كان مجال لدليل الانسداد، ضرورة أنه[3] من مقدماته انسداد باب العلمي أيضاً.

لكنك غفلت[4]

--------------------------------------

مقدمات الانسداد، حيث قال في رد المقدمة الرابعة: «وأما في ما لا يوجب فمحل نظر، بل منع؛ لعدم حكومة قاعدة نفي العسر والحرج... الخ».

[1] أي: رفع اليد عن الكشف في هذه الصورة الثالثة، والرجوع إلى مبنى الحكومة؛ وذلك لأن الكشف أوجب المحذور، فلا يعقل حكم الشارع مع وجود المحذور العقلي.

وهم ودفع

[2] حاصل الوهم أن المصنف قال في الطريق الواصل بطريقه: (وإلاّ فلابد من الاقتصار على متيقن الاعتبار منها)، وقال: (أو متفاوتة يكون بعضها الوافي متيقن الاعتبار)، وقال في الطريق ولو لم يصل: (لو لم يكن بينها متيقن الاعتبار).

والإشكال هو مع وجود المتيقن لا تصل النوبة إلى الانسداد في ذلك المورد.

[3] أن الشأن، من مقدمات دليل الانسداد... الخ.

[4] دفع الوهم، وحاصله: إن هذا اليقين تقديري، أي: على تقدير الانسداد فإنا نتيقن بحجية طريق ما.

بيانه: إن لنا في حال الانسداد يقينين:

الأول: اليقين بنصب الطريق، بمعنى أن الشارع لم يترك المكلفين حيارى، بل نصب لهم طريقاً، ومنشأ هذا اليقين هو دليل الانسداد.

الثاني: اليقين بالملازمة بين نصب الطريق وبين كونه القدر المتيقن، ومنشأ هذا اليقين هو حكم العقل بالملازمة، كي لا يلزم ترجيح المرجوح على الراجح.

ص: 49

عن أن المراد[1] ما إذا كان اليقين بالاعتبار من قبله[2]، لأجل[3] اليقين بأنه لو كان شيء[4] حجة شرعاً كان هذا الشيء حجة قطعاً، بداهة[5] أن الدليل على أحد

--------------------------------------

ثم إن اليقين بالملازمة لا يثبت طريقاً؛ لأن القضية الشرطية قد تكون صادقة مع عدم تحقق طرفيها، كقوله تعالى: {لَوۡ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلَّا ٱللَّهُ لَفَسَدَتَاۚ}(1) فهذه الجملة الشرطية - الدالة على الملازمة بين تعدد الآلهة والفساد - جملة صادقة، مع عدم تحقق خارجي لطرفيها.

والحاصل: إن اليقين الثاني - وإن كان بدليل العقل - لكنه لا يثبت شيئاً، إلاّ إذا ضُمّ إليه اليقين الأول - وهو ناشئ من الانسداد - .

وبعبارة أخرى - كما قيل - : الانسداد هو علة اليقين، فلا يعقل تنافي المعلول مع علته.

[1] من قولنا: (متيقن الاعتبار).

[2] من قِبَل الانسداد، أي: من طرفه، بأن كان منشأ اليقين هو الانسداد، وهذا هو اليقين الأول.

[3] هذا اليقين الثاني - بالملازمة - لأنه لو لا اليقين بالملازمة لم يحصل يقين باعتبار طريق معين، «بأنه» بأن الشأن.

[4] أي: شيء معيّن، «حجة شرعاً»، لوجود مرجح أوجب اليقين بحجيته.

[5] حاصله: إن الملازمة لوحدها لا تثبت الوقوع الخارجي للمتلازمين، لما بينا من أن صدق القضية الشرطية لا يتوقف على تحقق طرفيها، فلابد من إثبات تحقق أحد المتلازمين خارجاً لكي يثبت المتلازم الثاني.

مثلاً: صدق قولنا: (إذا طلعت الشمس فالنهار موجود) لا يثبت تحقق النهار خارجاً، إلاّ إذا علمنا بطلوع الشمس خارجاً أيضاً.

ص: 50


1- سورة الأنبياء: الآية 22.

المتلازمين[1] إنما هو الدليل على الآخر، لا[2] الدليل على الملازمة[3].

ثم لا يخفى[4]:

--------------------------------------

[1] أي: الدليل على الوجود الخارجي لأحدهما، وكذا اللازم والملزوم، ومثال المتلازمين: نور الشمس وحرارته، فإنهما متلازمان لأن علتهما واحدة، ومثال اللازم والملزوم: الشمس وحرارتها، فإن الشمس علة لذا كانت ملزوماً، والحرارة معلول فكانت لازماً.

[2] عطف على قوله: (الدليل على أحد المتلازمين)، والمعنى أن الدليل على أصل الملازمة بمجرده لا يكون دليلاً على وجود المتلازم الآخر.

[3] بمجردها، فإن الملازمة هي قضية شرطية قد تكون صادقة حتى مع عدم تحقق طرفيها.

تعميم النتيجة على الكشف
اشارة

[4] لو قلنا بالكشف، ففي موارد الإهمال، بحيث كانت نتيجة الانسداد هي حجية الظن في الجملة، فإنه يلزم تعيين النتيجة - عموماً أو خصوصاً - بدليل آخر؛ لأنه مع عدم التعيين لا يُعلم الظن الذي هو الحجة من الظن غير الحجة، فيلغو دليل الانسداد من أصله، حيث إن الغرض من دليل الانسداد هو العمل بالظن للوصول إلى الأحكام الشرعية، وحينئذٍ فلابد من البحث عن الأدلة الأخرى للتعيين.

وقد ذكروا ثلاثة طرق لتعميم النتيجة، بحيث تكون كل الظنون حجة:

الطريق الأول: عدم الترجيح بين الظنون، وهذا ينتج حجيتها كلها؛ لأن حجية بعضها دون بعض ترجح بلا مرجح، والفرض تساويها وعدم المرجح بينها.

والمرجحات المذكورة ثلاثة:

1- القدر المتيقن، وقد مرّ أن المصنف قد ارتضى هذا المرجح.

2- كون بعض الظنون مظنون الحجّية.

ص: 51

أن الظن[1] باعتبار ظن بالخصوص[2]، يوجب اليقين باعتباره[3] من باب دليل

--------------------------------------

3- أقوائية بعض الظنون.

الطريق الثاني: عدم كفاية الظنون المظنونة الاعتبار.

الطريق الثالث: الاحتياط بالعمل بالعلم الإجمالي.

الطريق الأول

[1] بيان للمرجح الثاني من الطريق الأول، وحاصله: إنه لا تلازم بين الظن بشيء وبين الظن بحجيته. فقد يكون ظن بشيء مع القطع بعدم حجيته، كما لو ظن بالحكم الشرعي عن طريق القياس، فإنه ظان بالحكم، وعالم بعدم حجية هذا الظن. وقد يكون ظن بشيء مع العلم بحجيته، كما لو قامت البينة الشرعية وأورثت الظن بصدقها، فإن البينة حجة قطعاً، وهكذا.

وهنا في باب الانسداد: قد يظن بالحكم عن طريق الخبر الواحد، مع الظن بأن الخبر الواحد حجة، وقد يظن بالحكم عن طريق الشهرة الفتوائية - مثلاً - مع عدم الظن بحجيتها، بل الشك في الحجية أو الظن بعدم الحجية.

[2] أي: ظن معيّن كخبر الثقة العادل.

ثم إن الظن باعتبار ظن هل هو مرجح أم لا؟ فيه أقوال ثلاثة:

الأول: إنه مرجح مطلقاً، اختاره المحقق القمي والمحقق النراقي(1).

الثاني: إنه ليس بمرجح مطلقاً، اختاره الشيخ الأعظم(2).

الثالث: التفصيل بين كون النتيجة الظن الواصل بنفسه فهو مرجح، وبين الظن الواصل بطريقه أو الظن غير الواصل فليس بمرجح، اختاره المصنف.

[3] أي: بحجيته، فيكون هذا الظن منجزاً ومعذراً، فلا يعاقب من عمل به

ص: 52


1- عوائد الأيام: 397.
2- فرائد الأصول 1: 479.

الانسداد على تقرير الكشف، بناءً على كون النتيجة هو الطريق الواصل بنفسه، فإنه حينئذٍ[1] يقطع بكونه حجة، كان غيره حجة أو لا.

واحتمال[2] عدم حجيته بالخصوص[3] لا ينافي[4] القطع بحجيته بملاحظة الانسداد، ضرورة[5] أنه على الفرض[6] لا يحتمل أن يكون غيره حجة[7] بلا نصب قرينة[8]؛

--------------------------------------

- حتى وإن أخطأ الواقع - وذلك لأن مظنون الاعتبار حجة على كل حال، فسواء قلنا بحجية كل الظنون فإن هذا أحدها فيكون حجة، أم قلنا بحجية من له مرجح فهذا له مرجح وهو الظن باعتباره.

[1] «فإنه» فإن الظن المظنون الاعتبار، «حينئذٍ» حين كون النتيجة الطريق الواصل بنفسه، «بكونه» بكون الظن المظنون الاعتبار.

[2] إشكال، حاصله: إن الظن المظنون الاعتبار لم يكن حجة في نفسه، لكنه صار حجة بدليل الانسداد، ودليل الانسداد جارٍ في كل الظنون - سواء ظن بحجيتها أم لا - فلابد من حجيتها جميعاً!!

[3] عدم حجية الظن المظنون الاعتبار، «بالخصوص» أي: على التعيين؛ لأنه لو لا الانسداد لم يكن حجة؛ لعدم قيام دليل على الحجية.

[4] جواب الإشكال، وحاصله: إن الظن المظنون الاعتبار له مرجح - أوجب القطع بحجيته - وهذا المرجح لا يوجد في سائر الظنون.

[5] تعليل لعدم المنافاة، وحاصله: هو أن هذا المرجح يوجب حجية هذا الظن مطلقاً - سواء كانت النتيجة حجية كل الظنون أم بعضها - أما غير هذا الظن فلا يُعلم جعل الحجية له، فلابد من دليل آخر - مفقود غالباً - .

[6] «أنه» أن الشأن، «الفرض» أي: كون النتيجة هي الطريق الواصل بنفسه.

[7] لأن حجية غيره وعدم حجيته ترجيح للمرجوح على الراجح.

[8] أي: دليل آخر يجعل الحجية في ذلك الغير.

ص: 53

ولكنه[1] من المحتمل أن يكون هو الحجة دون غيره، لما فيه من خصوصية الظن بالاعتبار.

وبالجملة: الأمر يدور بين حجية الكل وحجيته، فيكون مقطوع الاعتبار.

ومن هنا[2] ظهر حال القوة[3].

ولعل نظر من رجح بهما[4] إلى هذا الفرض[5]، وكان منع شيخنا العلامة(1) «أعلى الله مقامه» عن الترجيح بهما بناءً على كون النتيجة هو الطريق الواصل ولو بطريقه[6] أو الطريق ولو لم يصل أصلاً[7].

--------------------------------------

[1] لكن الشأن، إمكان جعل الحجية لهذا الظن المظنون الاعتبار لوجود مرجح فيه دون غيره؛ لعدم وجود ذلك المرجح فيه.

[2] إشارة إلى المرجح الثالث في الطريق الأول.

[3] أي: قوة الظن، فإن الظن الأقوى - كالاطمئناني - له مرجح دون غيره من الظنون.

[4] أي: بالظن بالاعتبار وبالأقوائية. وفي بعض النسخ (بها) أي: بالمرجحات الثلاثة - بإضافة القدر المتيقن - .

وهنا يريد المصنف جعل النزاع في الأخذ بهذه المرجحات نزاعاً لفظياً، فالمحقق القمي والمحقق النراقي حيث أخذا بالمرجحات كان أخذهم باعتبار الطريق الواصل بنفسه، والشيخ الأعظم حيث منع الأخذ بالمرجحات كان منعه باعتبار الواصل بطريقه أو غير الواصل.

[5] كون النتيجة هو الطريق الواصل بنفسه.

[6] والمنع فيه لأجل عدم الظن بنفس الطريق فلا يكون حجة!! فتأمل.

[7] والمنع فيه لأجل الخلف؛ إذ لو أخذنا بالمرجحات كان الطريق واصلاً، وهو خلاف الفرض، حيث إنه في الطريق غير الواصل.

ص: 54


1- فرائد الأصول 1: 479 - 486.

وبذلك[1] ربما يوفق بين كلمات الأعلام في المقام[2]، وعليك بالتأمل التام.

ثم لا يذهب عليك[3]: أن الترجيح بهما[4] إنما هو على تقدير كفاية الراجح، وإلاّ فلابد من التعدي إلى غيره بمقدار الكفاية، فيختلف الحال باختلاف الأنظار، بل الأحوال[5].

وأما تعميم النتيجة[6]

--------------------------------------

[1] بإرجاع كلام الآخذين بالمرجحات إلى فرض الطريق الواصل بنفسه، وإرجاع كلام المانعين إلى فرض الواصل بطريقه أو غير الواصل.

[2] وهذا الجمع وإن كان لا بأس به - على تأمل في الطريق الواصل بطريقه - لكنه خلاف ظاهر عباراتهم - كما قيل - .

الطريق الثاني

[3] شروع في بيان الطريق الثاني لتعميم النتيجة. وهو أنه لو لم يكف الراجح - وهو المتيقن أو المظنون الحجية أو الأقوى - فلابد من التنزل إلى سائر الظنون، فإن كانت متساوية فتكون كلها حجة.

[4] بمظنون الاعتبار وبالأقوائية، وفي بعض النسخ (بها) فيرجع الضمير إليهما وإلى القدر المتيقن، «الراجح» أي: الظن الذي له مرجِّح.

[5] «الأنظار» فقد يرى أحد الفقهاء كفاية الظنون الراجحة بالأحكام الشرعية، وقد يرى أحدهم عدم كفايتها - مثلاً - . «الأحوال» فقد يحصل لأحدهم الاطمئنان من طريق يفي بالأحكام، وقد لا يحصل للآخر، وهكذا.

الطريق الثالث

[6] بطريق ثالث، وحاصله: إن مقتضى العلم الإجمالي بوجود طرق منصوبة من الشارع هو الاحتياط في كل الطرق المظنونة، شأن كل علم إجمالي، حيث يتم الاحتياط في كل الأطراف.

ص: 55

- بأن قضية العلم الإجمالي بالطريق[1] هو الاحتياط في أطرافه -: فهو[2] لا يكاد يتم إلاّ على تقدير كون النتيجة هو نصب الطريق ولو لم يصل أصلاً؛ مع[3] أن التعميم بذلك[4] لا يوجب العمل إلاّ على وفق المثبتات من الأطراف[5]، دون النافيات، إلا[6]

--------------------------------------

[1] أي: بأن الشارع نصب طريقاً، لكنه غير معلوم لنا بالتفصيل، بل نعلم إجمالاً بوجوده بين الطرق المظنونة.

[2] إشكال على هذا الطريق:

أولاً: بأن الاحتياط إنّما يكون لو كان علم إجمالي، وهذا العلم إنّما هو في الصورة الثالثة فقط، وهي الطريق غير الواصل، أما في الصورة الأولى وهي الطريق الواصل بنفسه، وكذا الصورة الثانية وهي الطريق الواصل ولو بطريقه فلا مورد للعلم الإجمالي، كما مر.

[3] وثانياً هذا هو الإشكال الثاني، وحاصله: إن الطريق لو أثبت التكليف - كما لو دل على الوجوب أو الحرمة - فلا كلام.

ولكن لو دل الطريق على نفي التكليف، فإنه ليس من الاحتياط العمل بهذا الطريق، بل لابد من العمل بالاحتياط في المسألة الفقهية الفرعية - بإتيان محتمل الوجوب وترك محتمل الحرمة - فإن الاحتياط هو في ترك العمل بالطريق، لا بالعمل به.

مثلاً: لو دل الطريق على استحباب السورة، فإن الاحتياط هو الإتيان بها - لأن أمرها دائر بين الوجوب والاستحباب - وليس الاحتياط هو العمل بالطريق وترك السورة!!

[4] أي: بالاحتياط الناشئ من العلم الإجمالي.

[5] أي: الطرق التي هي أطراف العلم الإجمالي.

[6] هذا استثناء من الاحتياط في المسألة الفرعية، فلا يلزم الاحتياط فيها إذا كانت كل الطرق تنفيه، فإنا نعلم حينئذٍ بأن الطريق المنصوب ينفيه - لأنه أحد تلك الطرق النافية كلها - .

ص: 56

في ما إذا كان هناك نافٍ من جميع الأصناف، ضرورة[1] أن الاحتياط فيها يقتضي رفع اليد عن الاحتياط في المسألة الفرعية إذا لزم[2]، حيث لا ينافيه[3]، كيف[4]؟ ويجوز الاحتياط فيها مع قيام الحجة النافية كما لا يخفى، فما ظنك بما[5] لا يجب الأخذ بموجبه إلاّ من باب الاحتياط، فافهم[6].

فصل: قد اشتهر الإشكال[7]

--------------------------------------

[1] دليل عدم جواز الاحتياط في الطريق، «فيها» في الأطراف النافية.

[2] أي: إذا لزم ذلك الاحتياط، بأن احتمل وجود التكليف الإلزامي في المسألة الفرعية.

[3] أي: لأن الدليل النافي للتكليف لا ينافي الاحتياط في المسألة الفرعية، حتى في صورة عدم الانسداد وثبوت طريقية دليل - بعلم أو علمي - فإنه يجوز الاحتياط في المسألة الفرعية، فما بالك بحال الانسداد؟

[4] أي: كيف ينافي الاحتياطُ في المسألة الفرعية الدليلَ النافي للتكليف؟ «فيها» في المسألة الفرعية، «الحجة» أي: الطريق الثابت طريقيته بعلم أو علمي.

[5] أي: بطريق ثبت بالانسداد وكان الأخذ به احتياطاً.

[6] لعله إشارة إلى أن القائلين بالتعميم بهذا الطريق الثالث صرحوا بأنه طريق في المثبتات دون النافيات، فلا وقع للإشكال الثاني.

فصل خروج القياس عن حجية الظن

اشارة

[7] حاصله: إنه لو كانت نتيجة الانسداد هي الكشف - أي: كشف حكم الشارع بحجية الظن - فلا مانع من أن يُخرج الشارع بعض الظنون - كالقياس - عن عموم الحجية. ولكن إن كانت النتيجة هي حكومة العقل فيشكل إخراج القياس:

ص: 57

بالقطع[1] بخروج القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد بتقرير الحكومة.

وتقريره[2] - على ما في الرسائل(1)

- : «أنه كيف يجامع[3] حكم العقل[4] بكون الظن كالعلم مناطاً للإطاعة والمعصية[5]، ويقبح على الآمر والمأمور التعدي

--------------------------------------

أولاً: لأن العقل حكم بحجية الظن، وحكم العقل غير قابل للتخصيص.

وثانياً: مع احتمال التخصيص فإن العقل لا يحكم أصلاً؛ لأن حكمه ينحصر في ما لو قطع، فحينئذٍ مع تخصيص الحكم بإخراج القياس يحتمل العقل تخصيصاً آخر، فلا يحكم أصلاً.

فتحصل: أن القائل بالحكومة، إما أن يرفع اليد عنها ويرجع إلى الكشف، وإما أن يقول بحجية القياس في حال الانسداد، وكلا الأمرين لا يمكن الالتزام بهما!!

[1] أي: سبب الإشكال هو القطع بعدم حجية القياس مطلقاً، للأدلة المتواترة.

[2] تقرير الإشكال، وهو ينحل إلى إشكالين.

[3] هذا الإشكال الأول، أي: كيف نجمع بين حكم العقل... الخ، وبين منع الشارع عن العمل بالقياس.

[4] أي: نحن نعلم بأمور:

1- مناط الإطاعة والمعصية في حال الانسداد هو الظن.

2- ويقبح على الآمر التعدّي عن الظن؛ لأن طلب العلم طلب بما لا يطاق - للانسداد - وطلب العمل بغير الظن ترجيح للمرجوح على الراجح.

3- القياس يوجب الظن أو الاطمئنان كثيراً.

فالنتيجة هي قبح النهي عن القياس عقلاً!!

[5] أي: بكون الظن في حال الانسداد مناطاً، وهذا ثبت بدليل الانسداد، وهذا هو الأمر الأول.

ص: 58


1- فرائد الأصول 1: 516 - 517.

عنه[1]، ومع ذلك[2] يحصل الظن أو خصوص الاطمئنان من القياس ولا يجوِّز[3] الشارع العمل به[4]؟ فإن المنع[5] عن العمل بما يقتضيه العقل من الظن[6] أو خصوص الاطمئنان لو فرض ممكناً جرى[7] في غير القياس، فلا يكون العقل مستقلاً، إذ لعله

--------------------------------------

[1] وهذا هو الأمر الثاني: أما الآمر: فبأن يطلب العلم، فقبحه لأجل طلب ما لا يطاق، أو يتنزل إلى الوهم والشك، وهذا ترجيح المرجوح على الراجح. وأما المأمور: فبأن يعمل بالشك والوهم دون الظن.

[2] هذا الأمر الثالث: أي: إنّ القياس يوجب الظن، بل الاطمئنان غالباً، «ذلك» أي: مع كون الظن مناطاً للإطاعة والمعصية.

[3] أي: كيف يجامع حكم العقل مع عدم تجويز الشارع؟

[4] فتحصل: أن الإشكال الأول هو كيف يمنع الشارع من الظن القياسي مع أن حجية الظن ثابتة بدليل العقل؟ فإن أحكام العقل غير قابلة للتخصيص، وإلاّ يلزم التضاد بين الحكم العام وبين الخاص.

إن قلت: فكيف جاز التخصيص في الأدلة اللفظية؟

قلت: التضاد هناك صوري؛ لأن عموم العام إنما هو بالإرادة الاستعمالية، لا الإرادة الجدية. أما في حكم العقل فإن التضاد حقيقي؛ لأنه يحكم حكماً قاطعاً في كل المصاديق.

[5] هذا إشكال ثانٍ، وحاصله: إنه لو أمكن التخصيص في مورد فإن العقل لا يحكم في العام أصلاً؛ لأن إمكان التخصيص يعني عدم تمامية مقدمات حكم العقل، ومع عدم تماميتها لا حكم له.

[6] أي: منع الشرع عن الحكم الذي يقتضيه العقل، «من الظن» بيان ل- (ما يقتضيه العقل)، والمراد: حجية الظن.

[7] «جرى» خبر لقوله: (فإن المنع).

ص: 59

نهى عن أمارة، مثل ما نهى عن القياس. بل وأزيد، واختفى علينا[1]. ولا دافع لهذا الاحتمال[2] إلاّ قبح ذلك على الشارع، إذ احتمال صدور ممكن بالذات عن الحكيم لا يرتفع إلاّ بقبحه[3]؛ وهذا من أفراد ما اشتهر من أن الدليل العقلي لا يقبل التخصيص[4]» انتهى موضع الحاجة من كلامه - زيد في علو مقامه - .

وأنت خبير بأنه لا وقع لهذا الإشكال[5]

--------------------------------------

والفرق بين الإشكال الأول والثاني - وإن كانا في الجوهر واحداً - : هو أن الأول: في استحالة تخصيص حكم العقل، والثاني: في أنه لو خرج فرد فإن العقل لا يحكم أصلاً.

[1] فمع الجهل بالمخصِّصات لا يحكم العقل؛ لأنه لا يحكم على المجهول أصلاً.

[2] غرضه بيان أن العقل لا يحكم إلاّ مع القطع بعدم التخصيص ذاتاً - بأن يكون التخصيص محالاً ذاتياً - أو عدم التخصيص وقوعاً - بأن يكون قبيحاً - ومع قبح شيء لا يعقل ارتكابه من الشارع أصلاً، فلا معنى للتخصيص. «هذا الاحتمال» أي: احتمال النهي عن شيء مع اختفائه علينا.

[3] فما هو محال ذاتاً لا يصدر من الشارع؛ لعدم قابلية ذلك الشيء، وما هو ممكن ذاتاً - مع إمكان تحققه في الخارج - نعلم بعدم صدوره من الشارع لأنه قبيح، وما كان قبيحاً لا يعقل الاستثناء فيه.

[4] ولا بأس بتكميل كلام الشيخ الأعظم حيث قال: (إن الدليل العقلي لا يقبل التخصيص، ومنشؤه لزوم التناقض، ولا يندفع إلاّ بكون الفرد الخارج عن الحكم خارجاً عن الموضوع - وهو التخصّص - وعدم التناقض في تخصيص العمومات اللفظية إنما هو لكون العموم صورياً، فلا يلزم إلاّ التناقض الصوري)(1)،

انتهى.

الجواب عن الإشكال الأول

[5] حاصل الجواب - بمعونة ما عن المصنف في حاشية الرسائل - هو: أن حكم

ص: 60


1- فرائد الأصول 1: 517.

بعد وضوح كون حكم العقل بذلك[1] معلقاً على[2] عدم نصب الشارع طريقاً واصلاً، وعدم حكمه به[3] في ما كان هناك منصوب[4] ولو كان أصلاً[5]، بداهة[6] أن من مقدمات حكمه عدم وجود علم ولا علمي[7]،

--------------------------------------

العقل بوجوب الإطاعة الظنية إنما هو بغرض تحصيل الأمن من العقوبة، فيكون حكمه معلقاً على عدم حكم الشارع في نصب طريق أو نهي عن طريق. فلو نصب الشارع طريقاً - ولو لم يوجب الظن في حال الانسداد - فلابد من متابعة ذلك الطريق؛ لأن فيه الأمن، ولا يحكم العقل باتباع الظن حينئذٍ لعدم وجود الأمن.

وكذا لو نهى الشارع عن طريق - ولو أوجب الظن في حال الانسداد - فإن العقل حيث لا يرى مؤمِّناً في سلوك ذلك الطريق فإنه لا يحكم بحجية الظن فيه.

والحاصل: إن حكم العقل بحجية الظن معلّق على عدم نصب أو ردع الشارع، ومعهما ينتفي موضوع حكم العقل.

إذن، فخروج القياس لم يكن من باب التخصيص أصلاً، بل كان من باب انتفاء الموضوع، أي: لا موضوع لحكم العقل أصلاً.

[1] بلزوم الإطاعة الظنية.

[2] أي: موضوع حكم العقل هو أمرين: أن لا ينصب الشارع طريقاً، وأن لا يردع عن طريق.

[3] «حكمه» حكم العقل ،«به» بالظن، أي: بحجية الظن.

[4] بشرط كونه وافياً بالأحكام؛ إذ لو لم يكن وافياً كان في سائر الأحكام انسداد.

[5] كقاعدة الطهارة مثلاً، فإن أدلتها قطعية - حتى على القول بالانسداد - .

[6] دليل عدم حكم العقل مع وجود الطريق المنصوب.

[7] وهي المقدمة الثانية من مقدمات الانسداد، «لحكمه» لحكم العقل، «أحدهما» العلم والعلمي.

ص: 61

فلا موضوع لحكمه مع أحدهما؛ والنهي[1] عن ظن حاصل من سبب، ليس إلاّ كنصب شيء، بل هو يستلزمه في ما كان في مورده أصل شرعي. فلا يكون نهيه عنه رفعاً لحكمه عن موضوعه[2]، بل به يرتفع موضوعه[3]، وليس حال النهي عن سبب مفيد للظن إلاّ كالأمر بما لا يفيده[4].

--------------------------------------

[1] بيان الأمر الثاني مما علق به حكم العقل، وهو: (عدم نهي الشارع عن طريق).

وحاصل كلام المصنف: إنه مع نهي الشارع عن طريق - كالقياس - فإنه تنتفي المقدمة الثانية من مقدمات الانسداد؛ وذلك لأن النهي عن طريق يستلزم نصب طريق آخر، فلو كان القياس يدل على الحرمة فإن النهي عنه معناه جواز العمل بأصل البراءة مثلاً.

لا يقال: العمل بالبراءة يستلزم الخروج من الدين - كما ذكر في المقدمة الرابعة - .

فإنه يقال: إن العمل بها في موارد النهي عن ظن خاص لا يوجب الخروج عن الدين، لقلة تلك الموارد.

إن قلت: إن تشبيه النهي عن طريق - بنصب طريق - إنما هو قياس مع الفارق؛ لأنه بالنصب يتحقق العلمي - ولا حكم للعقل مع العلمي، بخلاف النهي عن القياس فلا يتحقق به العلمي.

قلت: الملاك هو وجود أو عدم وجود المؤمِّن، فمع النهي لا يوجد مؤمِّن، فلا يكون حجة، كما فصلناه قبل قليل.

[2] «نهيه» الشارع، «عنه» الظن، «لحكمه» حكم العقل، «موضوعه» موضوع الحكم العقلي كي يكون تخصيصاً.

[3] أي: بالنهي يرتفع موضوع حكم العقل، فيكون تخصّصاً.

[4] أي: لا يفيد الظن؛ وذلك لأن حكم العقل بحجية الظن معلق على عدم نصب طريق، وعدم الردع عن طريق.

ص: 62

وكما لا حكومة معه[1] للعقل لا حكومة له معه[2]، وكما لا يصح بلحاظ حكمه الإشكال فيه[3] لا يصح الإشكال فيه بلحاظه[4].

نعم، لا بأس[5] بالإشكال فيه في نفسه[6]، كما أشكل فيه[7] برأسه بملاحظة توهم استلزام النصب لمحاذير تقدم الكلام في تقريرها[8]

--------------------------------------

[1] لا حكم للعقل مع الأمر بالطريق الذي لا يوجب الظن.

[2] أي: كذلك لا حكومة للعقل مع النهي عن طريق، كالقياس.

[3] بلحاظ حكم العقل، الإشكال في الأمر بطريق، وعدم الإشكال لأجل عدم وجود حكم للعقل حينئذٍ لانتفاء موضوعه.

[4] أي: كذلك لا يصح الإشكال في النهي عن طريق أوجب الظن، «بلحاظه» أي: باعتبار حكم العقل؛ وذلك لعدم وجود حكم للعقل أصلاً حتى يشكل في النهي.

[5] أي: مع قطع النظر عن الانسداد يمكن عرض الإشكال بأنه كيف يمكن النهي عن طريق موجب للظن، مع أن الطريق المنهي عنه قد يصيب الواقع، وذلك يستلزم اجتماع المصلحة والمفسدة، كما يستلزم طلب الضدين؟

وقد مرّ نظير هذا الإشكال في الأمر بطريق - كالخبر الواحد - فإنه لو أخطأ فقد استلزم اجتماع المصلحة والمفسدة وطلب الضدين.

[6] «فيه» في النهي عن طريق، «في نفسه» مع قطع النظر عن حال الانسداد.

[7] في نصب الطريق، «برأسه» حيث لم يكن الإشكال هناك خاصاً بصورة الانسداد.

[8] منها: تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة - لو أخطأ الطريق - .

و منها: اجتماع الأمر والنهي، حيث يأمر المولى بالواقع، وفي الوقت نفسه ينهى عنه، ويأمر باتباع الطريق - إن أخطأ الطريق - .

ص: 63

وما هو التحقيق في جوابها[1] في جعل الطرق[2]. غاية الأمر[3] تلك المحاذير - التي تكون في ما إذا أخطأ الطريق المنصوب - كانت في الطريق المنهي عنه في مورد الإصابة، ولكن من الواضح أنه لا دخل لذلك[4] في الإشكال على دليل الانسداد بخروج القياس[5]، ضرورة[6] أنه بعد الفراغ عن صحة النهي عنه في الجملة[7]، قد أشكل في

--------------------------------------

ومنها: اجتماع المثلين - لو أصاب الطريق الواقع - .

[1] من الأجوبة أنه لا حكم إلاّ الحكم الواقعي، أما الطريق فهو منجز إن أصاب، ومعذّر إن أخطأ.

[2] في أول بحث الظن في الأمر الثاني.

[3] أي: هناك فرق بين نصب طريق وبين النهي عن طريق، ولكنه غير فارق.

فالطريق المنهي عنه لو أصاب لزم اجتماع الضدين، وتفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة، ولكن لا يلزم من خطئه - كخطأ القياس - محذور؛ لأن النهي عنه لا يستلزم الأمر بضده حتى يقال باجتماع المثلين.

أما الطريق المأمور به فإنه يلزم من خطئه تفويت للمصلحة، وإلقاء في المفسدة، وطلب الضدين. كما يلزم من اصابته محذور اجتماع المثلين ونحو ذلك.

[4] «أنه» الشأن، «لذلك» لهذا الإشكال. فإنه إشكال عام يجري حتى في صورة الانفتاح، فإنه نبحث أولاً عن إمكان النهي عن طريق يفيد الظن، وبعد إثبات إمكانه نبحث ثانياً عن شمول النهي لحال الانسداد أم عدم شموله.

[5] وقد نُقل عن الأمين الأسترآبادي أنه اتخذ هذا إشكالاً على حجية الظن؛ إذ كيف يمكن حجية الظن عقلاً مع النهي عن القياس؟

[6] وجه عدم ارتباط هذا الإشكال ببحث الانسداد، «أنه» أن هذا الإشكال.

[7] «عنه» عن طريق كالقياس، «في الجملة» بدون تعيين أنه إشكال كلّي أم جزئي.

ص: 64

عموم النهي لحال الانسداد بملاحظة حكم العقل[1]. وقد عرفت أنه بمكان من الفساد.

واستلزام[2] إمكان المنع عنه[3] - لاحتمال المنع عن أمارة أخرى وقد اختفى علينا -

--------------------------------------

والحاصل: إنه ندفع أولاً أصل الإشكال ونقول: إنه لا يرد محذور التفويت والإلقاء، ولا محذور طلب الضدين، ثم نتساءل: هل هناك محذور آخر في النهي عن طريق كالقياس في حال الانسداد؟ فهل هذا تخصيص لحكم العقل؟

[1] أي: كيف يمكن تخصيص حكم العقل الدال على حجية الظن؟

الجواب عن الإشكال الثاني

[2] جواب عن الإشكال الثاني في المنع عن القياس في حال الانسداد بناءً على الحكومة.

وكان حاصل الإشكال: هو أنه لو ثبت التخصيص في طريق لاحتمل التخصيص في سائر الطرق، فلا يحكم العقل أصلاً مع هذا الاحتمال.

وحاصل الجواب: هو أن كل ما احتمل منعه لا يحكم العقل بحجية الظن فيه، شرط كفاية الطرق التي لا احتمال في منعها.

مثلاً: لا نحتمل المنع عن خبر الثقة الإمامي، ولكن نحتمل المنع عن الشهرة الفتوائية والأولوية الظنية ونحوهما، فإن كان خبر الثقة الإمامي يكفي للأحكام الشرعية فإن العقل يحكم بحجيته، ولا يحكم بحجية غيره، ولكن إن لم يكف ما لا يحتمل منعه، أو كان كل واحد من الطرق محتمل المنع، فحينئذٍ يقطع العقل بعدم المنع عن سائر الطرق؛ لأن المنع عنها يستلزم عدم وجود طريق للأحكام مما يستلزم الخروج عن الدين، وحيث نعلم أن الشارع يريد أحكامه ولا يرضى بالخروج عن الدين، ولا طريق إلاّ الطرق الموجبة للظن، فلابد من حكمه بحجية كل الطرق الأخرى.

[3] «عنه» عن القياس، «لعدم استقلال العقل» بحجية الظن، «إلاّ أنه» أن عدم استقلال العقل.

ص: 65

وإن كان موجباً لعدم استقلال العقل، إلاّ أنه إنما يكون بالإضافة[1] إلى تلك الأمارة - لو كان غيرها[2] مما لا يحتمل فيه المنع بمقدار الكفاية، وإلاّ[3] فلا مجال لاحتمال المنع فيها مع فرض استقلال العقل[4]، ضرورة[5] عدم استقلاله بحكم مع احتمال وجود مانعه[6] على ما يأتي تحقيقه في الظن المانع والممنوع.

وقياس[7] حكم العقل بكون الظن مناطاً للإطاعة في هذا الحال على حكمه بكون العلم مناطاً لها في حال الانفتاح لا يكاد[8] يخفى على أحد فساده، لوضوح

--------------------------------------

[1] «بالإضافة» أي: عدم استقلاله بالنسبة إلى خصوص ذلك الطريق - المحتمل النهي عنه - .

[2] أي: بشرط كون غير تلك الأمارة - المحتملة النهي - وافياً بالأحكام، بأن تكون سائر الطرق أو بعضها وافية مع عدم احتمال النهي فيها.

[3] أي: إن لم يكن (ما لا يحتمل النهي فيه) وافياً، أو جرى احتمال المنع في الكل.

[4] «فيها» في سائر الأمارات، «استقلال العقل» بحجية الظن الناشئ من علمنا بإرادة المولى لأحكامه، وأن في ترك الظن خروجاً عن الدين.

[5] وجه عدم احتمال المنع، وحاصله: إ نه مع احتمال المنع لا يحكم العقل، وحيث إن عدم حكمه يستلزم الخروج عن الدين فمن ذلك نكتشف حكمه بحجية سائر الظنون، ومن حكمه هذا نكتشف وجود مانع.

[6] «عدم استقلاله» العقل، «مانعه» مانع ذلك الحكم.

[7] هذا ما قاله الشيخ(1)

في الدليل الأول: (حكم العقل بكون الظن مناطاً للإطاعة والمعصية، كالعلم)، «في هذا الحال» حال الانسداد، «حكمه» حكم العقل، «مناطاً لها» للإطاعة.

[8] ردّ لكلام الشيخ الأعظم، وحاصل الردّ: إنه لا يمكن تشبيه الظن في حال

ص: 66


1- فرائد الأصول 1: 527.

أنه[1] مع الفارق، ضرورة أن حكمه في العلم على نحو التنجز، وفيه على نحو التعليق.

ثم لا يكاد ينقضي تعجبي[2] لِمَ خصّصوا الإشكال بالنهي عن القياس، مع جريانه[3] في الأمر بطريق غير مفيد للظن، بداهة[4] انتفاء حكمه في مورد الطريق[5] قطعاً، مع أنه[6] لا يظن بأحد أن يستشكل بذلك، وليس إلاّ لأجل أن

--------------------------------------

الانسداد بالعلم في حال الانفتاح، فإن حكم العقل بحجية العلم تنجيزي ليس معلقاً على شيء، أما حكمه بحجية الظن فهو معلق على عدم نهي الشارع - كما بيّناه مفصلاً - .

[1] «أنه» أن قياس الظن بالعلم، «حكمه» حكم العقل، «وفيه» في الظن.

[2] هذا ردّ على ما ذكر في الدليل (ويقبح على الآمر والمأمور التعدي عنه).

وحاصل الإشكال: إنه إن كان التعدي عن الظن قبيحاً - في حال الانسداد - فلا فرق في القبح بين النهي عن ظن أو الأمر بما لا يفيد الظن، فكلاهما تعدٍّ عن الظن، وحيث كان ملاك الإشكال واحداً كان المفروض تعميمه ليشمل نصب الطريق الذي لا يفيد الظن!! فلماذا خصصوا الإشكال بالنهي عن ظن؟

[3] جريان الإشكال.

[4] استدلال لجريان الإشكال في صورة نصب الطريق غير المفيد للظن، وحاصله: إذا قبح التعدي عن الظن فإن نصب ما لا يوجب الظن قبيح أيضاً؛ لأنه مخالفة لحكم العقل بحجية الظن فقط دون غيره، لما ذكرناه في المقدمة الخامسة من قبح ترجيح المرجوح كالشك والوهم على الراجح وهو الظن، «حكمه» حكم العقل.

[5] أي: الطريق غير الموجب للظن، فلا يحكم العقل بحجيته.

[6] أي: لم يستشكل أحد في نصب الطريق الذي لا يوجب الظن؛ وذلك لأن

ص: 67

حكمه به معلق على عدم النصب، ومعه لا حكم له[1]، كما هو كذلك مع النهي عن بعض أفراد الظن، فتدبر جيداً.

وقد انقدح بذلك[2]: أنه لا وقع للجواب عن الإشكال تارةً[3] بأن المنع عن

--------------------------------------

حكم العقل معلّق، فكذلك في النهي عن طريق موجب للظن، «وليس» أي: ليس عدم الإشكال، «حكمه» العقل، «به» بالظن.

[1] أي: مع النصب لا حكم للعقل، «هو» العقل، «كذلك» لا حكم له.

أجوبة أخرى
اشارة

[2] بأن حكم العقل غير قابل للتخصيص، بل لابد من زوال الموضوع لكي ينتفي حكم العقل.

الجواب الأول

[3] هذا الجواب ارتضاه الشيخ الأعظم في الرسائل(1)

- وجعله سابع الأجوبة - وحاصله: إن القياس لا يُصيب غالباً، بل يُخطئ، كما يدل عليه قولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (إن السنة إذا قيست محق الدين)(2)

و(إن دين الله لا يصاب بالعقول)(3) ونحوهما. وحيث رأى الشارع غلبة مخالفته لذا نهى عنه.

وهذا الجواب - بهذا المقدار - لا ربط له بالإشكال، بل هو بيان علة نهي الشارع عن القياس، ودفع الإشكال الوارد على النهي عنه؛ إنّما الإشكال هنا في كيفية تخصيص حكم العقل.

ولا يخفى أن لكلام الشيخ الأعظم تكملة، بها يصح الجواب، قال: (لكن يصح للشارع المنع عنه تعبداً، بحيث يظهر منه: إني ما أريد الواقعيات التي تضمنها)(4)،

ص: 68


1- فرائد الأصول 1: 529.
2- الكافي 1: 57.
3- مستدرك الوسائل 17: 262.
4- فرائد الأصول 1: 530.

القياس لأجل كونه غالب المخالفة، وأخرى[1] بأن العمل به يكون ذا مفسدة غالبة على مصلحة الواقع الثابتة عند الإصابة. وذلك[2] لبداهة أنه إنما يشكل بخروجه[3] - بعد الفراغ عن صحة المنع عنه في نفسه[4] -

--------------------------------------

انتهى.

ووضّح هذا المقطع في العناية بقوله: (بمعنى أن الشارع إذا منع عن القياس، فإن أصاب وقد فات بمخالفته تكليف من التكاليف الواقعية فهو في عهدة المولى الذي منع عنه، وإن أخطأ وقد فات بموافقته تكليف من التكاليف الواقعية فهو في عهدة المكلّف، الذي عمل به مع منع الشارع عنه، ومن المعلوم أن مع هذا الحال لا يكاد يستقل العقل - ولو بملاحظة الانسداد - بحجية الظن الحاصل منه، بمعنى منجزيته للتكليف عند الإصابة، وعذريته للفوت عند الخطأ)(1)،

انتهى.

الجواب الثاني

[1] جعله الشيخ سادس الوجوه(2)

- وارتضاه ثم رجع عنه - وحاصله: إن سلوك طريق القياس فيه مفسدة غالبة على مصلحة الواقع، وحينئذٍ لدى تعارض مصلحة الواقع مع مفسدة الطريق فإنه يرجح الغالب - وهو المفسدة - فلذا نهى الشارع عنه.

وأيضاً هذا الجواب لا يدفع إشكال تخصيص حكم العقل، وإنما هو دليل المنع عن العمل بالقياس برأسه.

[2] إشكال على الجوابين، «وذلك» أي: عدم وقع للجواب.

[3] أي: الإشكال في كيفية تخصيص حكم العقل، وليس الإشكال في أصل المنع عن القياس، «أنه» للشأن، «بخروجه» القياس.

[4] المنع عن القياس برأسه مع قطع النظر عن حال الانسداد.

ص: 69


1- عناية الأصول 3: 362.
2- فرائد الأصول 1: 528.

بملاحظة[1] حكم العقل بحجية الظن؛ ولا يكاد يجدي صحته كذلك[2] في الذب عن الإشكال في صحته بهذا اللحاظ[3]، فافهم[4]، فإنه لا يخلو عن دقة.

وأما ما قيل في جوابه - من منع[5] عموم المنع عنه بحال الانسداد، أو منع[6] حصول الظن منه بعد انكشاف حاله[7]، وأن ما يفسده أكثر مما يصلحه - ففي غاية الفساد[8]،

--------------------------------------

[1] أي: الإشكال بخروجه بملاحظة حكم العقل بحجية الظن، وحكمه غير قابل للتخصيص.

[2] صحة المنع عن القياس، «كذلك» في نفسه.

[3] في صحة المنع عن القياس بلحاظ حكم العقل.

[4] لعله إشارة إلى صحة الإشكال الأول - كما بيناه - .

الجواب الثالث والرابع

[5] جعله الشيخ(1)

أول الوجوه السبعة، وحاصله: إن القياس حجة في حال الانسداد، والمنع عنه خاص في حال الانفتاح!!

[6] جعله الشيخ(2)

ثاني الوجوه، وحاصله: إن القياس لا يوجب الظن أصلاً.

[7] بواسطة الشارع حيث بيّن علة النهي عن القياس، «وأن ما يفسده» عطف تفسيري، وهذا بيان لإحدى علل المنع عن القياس.

[8] رد المصنف الجوابين: أولاً: بردّ يختص بكل واحد منهما بانفراد، وثانياً: بردّ يشتركان فيه.

أما ردّ الجواب الثالث: فإن المنع عن القياس عام لكل الحالات إجماعاً، وأيضاً الأدلة اللفظية المانعة مطلقة تشمل كل الحالات، وكذلك عِلّة المنع عن القياس عامة تشمل حالة الانسداد.

ص: 70


1- فرائد الأصول 1: 517.
2- فرائد الأصول 1: 521.

فإنه - مضافاً إلى كون كل واحد من المنعين غير سديد؛ لدعوى[1] الإجماع على عموم المنع، مع إطلاق أدلته وعموم علته، وشهادة[2] الوجدان بحصول الظن منه في بعض الأحيان - لا يكاد[3] يكون في دفع الإشكال بالقطع[4] بخروج الظن الناشئ منه بمفيد، غاية الأمر أنه لا إشكال مع فرض أحد المنعين، لكنه غير فرض الإشكال[5]، فتدبر جيداً.

--------------------------------------

وأما ردّ الجواب الرابع: فإنه مكابرة؛ لأنه قد يحصل منه الظن، بل قد يحصل منه القطع.

وأما الردّ المشترك: فإن هذين الجوابين تسليم بالإشكال بأنه لا يمكن النهي عن شيء يوجب الظن، حيث إنه تخصيص لحكم العقل، والفرار إلى حجية القياس أو المنع عن حصول الظن به، مضافاً إلى أن الجوابين خلاف الفرض؛ لأن الفرض هو في صورة ثبوت المنع عن القياس الموجب للظن.

[1] هذا الرد المختص بالجواب الثالث، من ثلاثة أوجه: الإجماع، وإطلاق الأدلة، وعموم العلة، «أدلته» أدلة المنع عن القياس.

[2] هذا الرد المختص بالجواب الرابع، «منه» من القياس.

[3] خبر قوله: (فإنه مضافاً) وهذا هو الرد المشترك بينهما، وحاصله: إن هذين المنعين تسليم بالإشكال.

واسم «يكون» الضمير الراجع إلى الجواب بمنع النهي أو بمنع حصول الظن، «بالقطع» متعلق ب- (الإشكال)، «منه» من القياس، وقوله: «بمفيد» خبر يكون في قوله: (لا يكاد يكون).

[4] أي: كان الإشكال هو أن العقل يحكم بحجية الظن، ومع ذلك نقطع بخروج القياس الموجب للظن عن هذا الحكم.

[5] لأن فرض الإشكال هو في صورة حصول الظن من القياس مع المنع عنه، «أنه» للشأن، «لكنه» لكن فرض أحد المنعين.

ص: 71

فصل: إذا قام ظن على عدم حجية ظن بالخصوص[1]، فالتحقيق أن يقال[2] - بعد تصور المنع[3] عن بعض الظنون في حال الانسداد[4] - : إنه لا استقلال للعقل بحجية ظن احتمل المنع عنه، فضلاً عما إذا ظن - كما أشرنا إليه في الفصل السابق -؛ فلابد[5] من الاقتصار على ظن قطع بعدم المنع عنه بالخصوص، فإن كفى،

--------------------------------------

فصل الظن المانع والممنوع

[1] مثلاً: قام الظن على حجية الشهرة، وقام الظن أيضاً على حجية الأولوية الظنية، ولكن كان المشهور عدم حجية هذه الأولويّة، فهنا لا يمكن العمل بكلا الظنين، لتعارضهما، فما الحلّ؟ هل هو ترجيح الظن المانع - الشهرة - في المثال أو الظن الممنوع - وهو الأولوية الظنية - أو التوقف؟، «ظن بالخصوص» أي: فرد خاص من أقسام أو مصاديق الظن.

[2] حاصله: لزوم العمل بالظن المانع، وعدم حجية الظن الممنوع؛ وذلك لما ذكرناه في الفصل السابق بأن نتيجة مقدمات الانسداد هي الحكومة، ومع احتمال المنع لا يحكم العقل بحجية الظن، فما بالك مع الظن بالمنع؟ وأما الظن المانع فلا ظن للمنع عنه، فيستقل العقل بحجيته.

[3] أي: بعد إثبات إمكان المنع عن بعض الظنون، وأنّه لا يلزم منه المحال - أي: تخصيص حكم العقل - .

[4] بناءً على الحكومة.

[5] أي: في حال الانسداد على مبنى الحكومة يلزم العمل بالظن الذي نقطع بعدم المنع عنه، دون ما احتملنا أو ظننا المنع عنه. فإن كفى الظن المقطوع بعدم المنع عنه بالأحكام الشرعية فإنه يلزم الاقتصار عليه؛ لعدم حكم العقل بحجية غيره.

وأما لو لم يكف فلابد من العمل بالظن المحتمل المنع عنه، وهذا الاحتمال

ص: 72

وإلاّ[1] فبضميمة ما لم يظن المنع عنه[2] وإن احتمل، مع[3] قطع النظر عن مقدمات الانسداد، وإن انسد[4] باب هذا الاحتمال معها، كما لا يخفى، وذلك ضرورة أنه لا احتمال مع الاستقلال حسب الفرض[5].

ومنه انقدح[6]

--------------------------------------

إنّما هو بملاحظة نفس ذلك الظن، وأما بملاحظة باب الانسداد فاحتمال المنع يرتفع؛ وذلك لأن العقل يرى أن عدم العمل بهذا الظن يستلزم الخروج عن الدين، أو ترك الكثير من أحكام الشارع، وحينئذٍ يحكم قاطعاً بعدم المانع عن هذا الظن - وإن كان بملاحظة نفسه ومع قطع النظر عن الانسداد يحتمل المنع - .

[1] أي: إن لم يكف الظن المقطوع عدم المنع عنه فلابد أن نَضُمَّ إليه الظن المحتمل المنع - بملاحظة نفسه - .

[2] لأنه مع وجود الظن الأقوى لا تصل النوبة إلى الأضعف، فمع وجود محتمل المنع فهو أرجح من مظنون المنع، «وإن احتمل» أي: احتمل المنع.

[3] أي: احتمال المنع إنما هو في نفسه، مع قطع النظر عن مقدمات الانسداد، وأما بملاحظتها فلا احتمال للمنع، بل يحكم العقل بحجيته.

[4] أي: لا يوجد احتمال المنع في حال الانسداد - في هذا الفرض - «معها» مع مقدمات الانسداد.

[5] «لا احتمال» للمنع، «مع الاستقلال» أي: استقلال العقل بالحجية؛ وذلك لما ذكرنا من أن العقل لا يحكم إلاّ لو حصل القطع ولا حكم له مع الاحتمال، «حسب الفرض» وهو عدم كفاية الظن المقطوع بعدم المنع عنه.

[6] رد على ما نقله الشيخ الأعظم عن بعض مشايخه، وما أضاف هو عليه، قال في الرسائل: (ذهب بعض مشايخنا إلى الأول(1)بناءً

منه على ما عرفت سابقاً من بناء غير واحد منهم إلى أن دليل الانسداد لا يثبت اعتبار الظن في المسائل الأصولية،

ص: 73


1- أي: العمل بالظن الممنوع.

أنه لا تتفاوت الحال[1] لو قيل بكون النتيجة هي حجية الظن في الأصول أو في الفروع أو فيهما، فافهم[2].

فصل: لا فرق[3]

--------------------------------------

التي منها مسألة حجية الممنوع، ولازم بعض المعاصرين الثاني(1) بناءً على ما عرفت منه من أن اللازم بعد الانسداد تحصيل الظن بالطريق، فلا عبرة بالظن بالواقع ما لم يقم على اعتباره ظن)(2)، انتهى.

وحاصله: إن حجية الظن المانع أو الممنوع تتوقف على ما ذكرناه في فصل سابق من الاختلاف في حجية الظن بالطريق، أو الظن بالواقع، أو بكليهما. فإن قلنا: بحجية الظن بالطريق فالظن المانع هو الحجية - لأنه في الطريق - دون الظن الممنوع. وإن قلنا: بحجية الظن بالواقع فبالعكس. وإن قلنا: بحجيتهما فإنهما يتساقطان!!

[1] أي: لا تبتني هذه المسألة على تلك المسألة؛ لأن الظن المحتمل المنع عنه ليس بحجة مطلقاً؛ لعدم استقلال العقل بحجيته، بلا فرق بين اختيار أيٍ من الأقوال في الظن بالطريق أو بالواقع.

[2] لعله إشارة إلى أن القائل بحجية الظن بالواقع فقط لا يعتبر الظن المانع حجة، فيقطع بعدم المانع. كما أن كلا الظنين - المانع والممنوع - إن كانا في المسألة الأصولية لا يكونان حجة، على القول بحجية الظن بالواقع فقط.

أو هو إشارة إلى أن كلا الظنين مانع وممنوع، فتأمل.

فصل الظن بألفاظ القرآن والروايات

اشارة

[3] فلو تمت مقدمات الانسداد فإن الظن حجة، سواء تعلق بالحكم الشرعي،

ص: 74


1- أي: العمل بالظن المانع.
2- فرائد الأصول 1: 532.

في نتيجة دليل الانسداد، بين الظن بالحكم من أمارة عليه[1]، وبين الظن به من أمارة متعلقة بألفاظ الآية أو الرواية، كقول اللغوي في ما يورث الظن بمراد الشارع من لفظه، وهو واضح[2].

ولا يخفى[3]: أن اعتبار ما يورثه[4] لا محيص عنه في ما إذا كان[5] مما ينسد فيه

--------------------------------------

أم تعلق بتشخيص مراد المتكلم عبر الظن بمعنى الكلمة الواردة في النص، الناشئ - هذا الظن - من قول اللغوي.

مثل: الظن الناشئ من قول اللغوي بأن (الصعيد) هو مطلق وجه الأرض، لا التراب الخالص، وبذلك نظن بالمراد في قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا}(1).

[1] على الحكم الشرعي، «الظن به» بالحكم الشرعي، «من لفظه» لفظ الشارع.

[2] لاستقلال العقل بحجية كل ظن يرتبط بالحكم الشرعي بلا فرق.

[3] حاصله: إن المهم هو انسداد باب العلم والعلمي في الأحكام الشرعية، وإن كان باب العلم في سائر العلوم مفتوحاً، فلو كان هناك انفتاح في اللغة، ولكن لم نعلم معنى لفظٍ ما - كالصعيد في المثال - بل نظن به، فإن هذا الظن حجة؛ لارتباطه بالحكم الشرعي الذي انسد العلم فيه.

وبعبارة أخرى: إذا كان هناك انسداد كبير - هو الانسداد في الأحكام الشرعية - فكل ظن يرتبط بالحكم الشرعي يكون حجة، حتى إذا لم يكن انسداد في سائر العلوم.

كما أنه مع انفتاح باب العلم بالأحكام الشرعية لا ينفع الانسداد في العلوم الأخرى، حتى وإن ارتبطت ببعض الأحكام الشرعية، وقد مرّ أن الانسداد الصغير ليس بحجة.

[4] يورث الظن بمراد الشارع، «لا محيص عنه» عن الاعتبار.

[5] أي: في ما إذا كان ذلك المورد الذي أوجب الظن لا طريق لعلم أو علمي

ص: 75


1- سورة النساء، الآية: 43؛ سورة المائدة، الآية: 6.

باب العلم. فقول أهل اللغة حجة في ما يورث الظن بالحكم مع الانسداد ولو انفتح باب العلم باللغة في غير المورد.

نعم[1]، لا يكاد يترتب عليه أثر آخر من تعيين المراد في وصية أو إقرار أو غيرهما[2] من الموضوعات الخارجية، إلا[3] في ما يثبت فيه حجية مطلق الظن بالخصوص[4] أو ذاك المخصوص[5].

ومثله[6] الظن الحاصل بحكم شرعي كلي من الظن بموضوع خارجي،

--------------------------------------

فيه، - كلفظ الصعيد في المثال - حتى وإن كانت سائر مسائل ذلك العلم فيها علم أو علمي.

[1] حاصله: هو أن حجية الظن الناشئ من قول اللغوي إنما تكون ثابتة في ما انسد فيه باب العلمي، وأما ما لم ينسد فيه باب العلمي فلا حجية لهذا الظن.

ففي باب الأحكام الشرعية حيث انسد باب العلمي كان قوله حجة، وأما في باب الإقرار والوصية ونحوهما فلا انسداد للعلمي، فقول اللغوي ليس حجة فيها.

مثلاً: تفسيره للصعيد بمطلق وجه الأرض حجة في باب التيمم إن أورث الظن، وليس حجة في باب الوصية، كما لو قال: إن ما أملكه من صعيد فقد أوصيت به لزيد.

[2] كالشهادة والبيع والمهر... الخ.

[3] أي: إلاّ إذا كان انسداد في ذلك الموضوع الخارجي، أو كان دليل على حجية الظن في ذلك المورد بالخصوص.

[4] أي: في خصوص مورد كان فيه انسداد فيكون مطلق الظن حجة فيه.

[5] أي: قام الدليل على حجية الظن في ذلك المورد، فيكون من الظنون الخاصة - ويعبر عنه بالعلمي - .

[6] في الحجية، «مثله» أي: مثل الظن بالألفاظ من قول اللغوي، فإن الظن بموضوع خارجي يكون حجة لو أدّى إلى الظن بالحكم الشرعي - في حال الانسداد - .

ص: 76

كالظن[1] بأن راوي الخبر هو زرارة بن أعين - مثلاً - لا آخر.

فانقدح: أن الظنون الرجالية مجدية في حال الانسداد[2] ولو لم يقم[3] دليل على اعتبار قول الرجالي، لا من باب الشهادة ولا من باب الرواية[4].

تنبيه[5]:

--------------------------------------

[1] وهو ما يعبر عنه في علم الرجال ب- (المشتركات)، وحيث تشابهت أسماء بعض الرواة، وبعضهم ثقة وبعضهم غير ثقة، فإن تشخيص الراوي من أهم مباحث علم الرجال. وقد يكون التمييز بالقطع أو الاطمئنان فلا كلام، وقد يكون بالظن، وهو ليس بحجة إلاّ لو كان انسداد في الأحكام.

[2] أي: الانسداد الكبير، أما لو لم نقل بالانسداد في الأحكام الشرعية فلا ينفع الانسداد الصغير في علم الرجال.

[3] إذ كل ظن حجة في حال الانسداد، بلا حاجة إلى دليل خاص فيه.

[4] إشارة إلى بعض المباني في حجية قول الرجالي: فاعتبره بعض من باب الشهادة، ولكن لا يمكن الالتزام بهذا القول، حيث إنه يشترط في الشهادة العدد بأن يكونا اثنين، وقلّما يوجد توثيق من رجاليين اثنين في حق شخص واحد.

واعتبره بعض من باب الرواية، أي: نقل الخبر، وحينئذٍ يكفي المخبر الواحد.

أما في باب الانسداد فلا نحتاج إلى إثبات أن قول الرجالي شهادة أم رواية، بل يكفي حصول الظن منه، وذلك لحجية مطلق الظن حين الانسداد.

تنبيه

[5] حاصله: أنا قد ذكرنا حجية خصوص الظن الاطمئناني، فإن كفى فهو المطلوب، وإلاّ فنتنزل إلى ما دونه، ومع إمكان الظن الأقوى لا تصل النوبة إلى الظن الأضعف، فإذا أمكن تقوية الظن - في حال الانسداد - لزم ذلك.

مثلاً: في الروايات نحتاج إلى البحث في ثلاثة أمور:

1- السند، بأن يكون معتبراً كما لو ثبتت وثاقة الرواة.

ص: 77

لا يبعد استقلال العقل[1] بلزوم تقليل الاحتمالات المتطرقة إلى مثل السند أو الدلالة أو جهة الصدور مهما أمكن في الرواية وعدم الاقتصار[2] على الظن الحاصل منها بلا سدّ بابه فيه بالحجة من علم أو علمي. وذلك لعدم جواز التنزل في صورة الانسداد إلى الضعيف مع التمكن من القوي أو ما بحكمه[3] عقلاً، فتأمل جيداً.

فصل: إنما الثابت[4] بمقدمات دليل الانسداد في الأحكام هو حجية الظن

--------------------------------------

2- الدلالة، بأن يكون الخبر دالاً على المطلوب ظاهراً فيه.

3- جهة الصدور، بأن لا يكون في تقية.

فإذا لم يكن هناك سبيل إلى العلم أو العلمي في كل هذه الأمور الثلاثة، ولكن أمكن العلم أو العلمي ببعضها، فإنه لابد من ذلك، حيث إن النتيجة وإن كانت ظنية على كل حال، لكن لابد من تقوية هذا الظن بالعلم أو العلمي في بعض هذه الأمور الثلاثة.

[1] لما ذكرناه في فصل الكشف والحكومة، من أن الحجة بحسب المرتبة هو خصوص المرتبة القوية من الظن، فراجع.

[2] بذريعة أن النتيجة هي الظن، سواء قلّلنا الاحتمالات أم لا، «منها» من الرواية، «بابه» باب الاحتمال، «فيه» في كل واحد من السند والدلالة والجهة، وقوله: «بالحجة» متعلق بالسد، أي: السد عبر الحجة.

[3] القوي هو العلم، وما بحكمه هو الظن الأقوى، وقوله: «عقلاً» تمييز لقوله: (لعدم جواز...).

فصل عدم حجية الظن في الامتثال

اشارة

[4] حاصله: إن دليل الانسداد دل على حجية ما انسد فيه العلم - من الحكم

ص: 78

فيها[1]، لا حجيته في تطبيق المأتي به في الخارج معها[2]، فيتبع - مثلاً - في وجوب صلاة الجمعة يومها، لا في إتيانها[3]، بل لابد من علم أو علمي بإتيانها، كما لا يخفى.

نعم[4]، ربما يجري نظير مقدمات الانسداد[5] في الأحكام في بعض الموضوعات الخارجية من انسداد باب العلم[6] به غالباً، واهتمام[7] الشارع به بحيث علم بعدم

--------------------------------------

الشرعي - وأما ما لم ينسد فيه العلم فلا يدخل في دليل الانسداد، ومن ذلك الامتثال، أي: تطابق المأتي به مع المأمور به، فإن باب العلم غير منسد فيه، فمن علم بتكليف في ذمته لابد له من تحصيل العلم بفراغ ذمته من ذلك التكليف، فإن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية، وباب العلم بذلك مفتوح، فلو شك في مورد أنه أتى بالتكليف أم لم يأتِ لابد له من الاحتياط بالإتيان.

[1] «فيها» في الأحكام، «لا حجيته» أي: الظن.

[2] أي: لا في الامتثال الذي هو تطابق المأتي به من الأفعال مع المأمور به.

[3] أي: فيتبع الظن في التكليف وهو وجوب صلاة الجمعة في يوم الجمعة - في عصر الغيبة - ولا يتبع الظن في امتثال صلاة الجمعة بإتيانها.

[4] أي: لو انسد باب العلم في موضوع خارجي، وكان ذلك الموضوع مهماً في نظر الشارع بحيث ربط به الأحكام، فهنا تجري مقدمات شبيهة بمقدمات الانسداد، مما ينتج منها حجية الظن.

[5] فإن بعض المقدمات تختلف اختلافاً جزئياً - لا يوجب تغيّراً في النتيجة - كالمقدمة الأولى، حيث نعلم بوجود أضرار كثيرة قد نبتلى بها. وكالمقدمة الثالثة حيث نعلم بأن الشارع لا يريد الوقوع في بعض تلك الأضرار.

[6] إشارة إلى المقدمة الثانية من مقدمات الانسداد.

[7] إشارة إلى المقدمة الرابعة من تلك المقدمات، «به» بذلك الموضوع الخارجي.

ص: 79

الرضا بمخالفة الواقع[1] بإجراء الأصول فيه مهما أمكن، وعدم وجوب الاحتياط شرعاً، أو عدم إمكانه عقلاً[2]، كما في موارد الضرر المردد أمره بين الوجوب والحرمة مثلاً، فلا محيص عن اتباع الظن حينئذٍ أيضاً، فافهم[3].

خاتمة: يذكر فيها أمران استطراداً[4]:

الأول[5]:

--------------------------------------

[1] أي: عدم رضا الشارع بمخالفة الواقع، كالوقوع في الضرر إذا أجرينا أصالة البراءة منه، أو استصحاب التكليف - مثلاً - .

[2] عدم وجوبه شرعاً كما لو أوجب العسر، وعدم إمكانه عقلاً كما لو دار بين الوجوب والحرمة، كما لو شك في أن صوم شهر رمضان يوجب موته - مثلاً - فإن تحقق الضرر فالصوم حرام، وإلاّ فالصوم واجب، ولا يمكن الاحتياط هنا.

[3] لعله إشارة إلى أن الملاك هو خوف الضرر، والخوف قد يكون مع الاحتمال الضعيف أيضاً، فلا حاجة إلى العلم بالضرر حتى نتنزل منه إلى الظن، وحينئذٍ فإن هذا البحث لا موضوع له خارجاً.

[4] إنما كانا استطراداً لأن المسألة الأصولية هي ما تقع في كبرى الدليل الدال على الحكم الفرعي، وهذان الأمران لا يرتبطان بالحكم الفرعي، بل الأول يرتبط بأصول الدين، والآخر يرتبط بمبادئ حجية الخبر - أي: اعتبار السند أو الدلالة بالظن، أو الترجيح به - .

[5] يبحث فيه عن أنه لو انسد باب العلم في أصول الدين فهل يجب اتباع الظن فيه أم لا يجوز؟ ثم إن المسائل الاعتقادية على قسمين:

1- ما يجب فيها المعرفة بنفسها عقلاً، كمعرفة الله تعالى ومعرفة الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ومعرفة الأئمةعَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، وهذا ما سيأتي بيانه في قوله: (نعم، يجب تحصيل العلم... الخ).

ص: 80

هل الظن - كما يتبع عند الانسداد عقلاً[1] في الفروع العملية المطلوب فيها أولاً العمل بالجوارح[2] - يتبع في الأصول الاعتقادية المطلوب فيها علم الجوانح[3] من الاعتقاد به[4]

--------------------------------------

2- ما ثبتت بواسطة الشرع، كتفاصيل مسائل البرزخ والقيامة ونحوها، ومجمل القول في هذا أن تلك التفاصيل لا يجب الاعتقاد التفصيلي بها، وإنّما يجب الاعتقاد الإجمالي بأن يعتقد بصحة كل ما بيّنه الله تعالى وجاء به الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ. نعم، لو علم ببعض تلك التفاصيل فإنه يجب الاعتقاد بها - تصديقاً لله وللرسول - .

[1] لأن المصنف يرى الحكومة، ولذا قال: «عقلاً».

[2] جمع جارحة، بمعنى الأعضاء الظاهرة، كاليد والعين ونحوهما، وأصل التسمية بالجارحة لليد باعتبار أن الصيد يكون بها، ثم عُمِّم لكل الأعضاء الظاهرة.

[3] وفي بعض النسخ (عمل الجوانح) وهو أنسب، و«الجوانح» جمع جانحة وهي الأضلاع سُمِّيت بذلك لميلانها، وحيث إن الأضلاع تضم القلب لذلك قيل لأفعال القلوب: عمل الجوانح.

[4] «من» بيان لعمل الجوانح «به» بالأصل العقائدي، وكذا الضمائر الآتية.

ثم إن الاعتقاد والعقد والتحمل مترادفات، أراد المصنف بالعطف مزيد البيان والتفسير، وأما الانقياد فهو التصميم على المتابعة.

ولا يخفى أن بين العلم والاعتقاد عموماً من وجه، فقد يعلم ولا يعقد قلبه، كما في قوله تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسۡتَيۡقَنَتۡهَآ أَنفُسُهُمۡ}(1). وقد لا يعلم ومع ذلك يعقد القلب إجمالاً، كمن يقول: إني أصدق كل ما جاء به رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ مع عدم علمه ببعض التفاصيل، قال تعالى: {وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ}(2) مع عدم علم المؤمنين بأكثر الرسل والكتب، لكنهم يؤمنون

ص: 81


1- سورة النمل، الآية: 14.
2- سورة البقرة، الآية: 285.

وعقد القلب عليه وتحمله والانقياد له أو لا؟[1].

الظاهر لا[2]، فإن الأمر الاعتقادي وإن انسد باب القطع به[3]، إلاّ أن باب الاعتقاد إجمالاً - بما هو واقعه - والانقياد له وتحمله[4] غير منسد[5]. بخلاف العمل بالجوارح، فإنه لا يكاد يعلم مطابقته مع ما هو واقعه[6] إلاّ بالاحتياط[7]، والمفروض[8] عدم وجوبه شرعاً أو عدم جوازه عقلاً، ولا أقرب[9] من العمل على وفق الظن.

وبالجملة: لا موجب مع انسداد باب العلم في الاعتقاديات لترتيب[10] الأعمال

--------------------------------------

بهم إجمالاً. وقد يجتمعان (كاعتقاد المسلمين برسالة الرسول محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

[1] أي: أو لا يتبع الظن.

[2] هذا في القسم الثاني من المسائل الاعتقادية، التي ثبتت بالشرع.

[3] «إن» وصيلة، أي: حتى وإن انسد.

[4] «واقعه» واقع الأمر الاعتقادي، «له» للواقع، «تحمله» تحمل الواقع.

[5] ومرجع هذا إلى الاحتياط، لكن بما أن هذا الاحتياط لا يوجب عسراً فضلاً عن الاختلال، فلا إشكال فيه، بل هو واجب.

[6] أي: مطابقة العمل مع التكليف الواقعي المتعلق بالعمل.

[7] أي: الاحتياط في العمل الذي يوجب العسر أو الاختلال.

[8] أي: فرضنا الآن هو تمامية مقدمات الانسداد، ومنها المقدمة الرابعة الدالة على عدم جواز الاحتياط شرعاً إذا أوجب العسر والحرج، أو عدم جوازه عقلاً إذا أوجب اختلال النظام.

[9] أقرب إلى الواقع؛ لأن الظن فيه جهة كشف عن الواقع بخلاف الشك والوهم.

[10] «لترتيب» متعلق بقوله: (لا موجب)، و«على الظن» متعلقه بقوله: «لترتيب».

ص: 82

الجوانحية[1] على الظن فيها، مع إمكان ترتيبها على ما هو الواقع فيها، فلا يتحمل[2] إلاّ لما هو الواقع، ولا ينقاد إلاّ له، لا لما هو مظنونه، وهذا بخلاف العمليات[3]، فإنه لا محيص عن العمل بالظن فيها مع مقدمات الانسداد[4].

نعم[5]، يجب تحصيل العلم في بعض الاعتقادات لو أمكن[6]، من باب[7] وجوب

--------------------------------------

[1] كعقد القلب والانقياد، «فيها» في الاعتقاديات، «ترتيبها» ترتيب الأعمال الجوانحية، «الواقع فيها» أي: في الاعتقاديات.

وحاصل كلام المصنف: هو مع إمكان الاعتقاد الإجمالي بالواقع لا تصل النوبة إلى الظن أصلاً، وهذا الاعتقاد الإجمالي هو احتياط لكن لا عسر فيه أصلاً فيجب.

[2] أي: لا يعقد المكلف قلبه ولا ينقاد، «له» أي: للواقع الإجمالي، «مظنونه» أي: المظنون كونه الواقع.

[3] أي: ما يرتبط بالعمل، فإنه حيث كان الاحتياط موجباً للعسر أو الاختلال فلابد من التنزل عنه إلى الظن.

[4] أي: مع صحة تلك المقدمات.

[5] بيان للقسم الأول من الأمور الاعتقادية، وهي ما تجب المعرفة لنفسها بحكم العقل، كمعرفة الله تعالى ورسوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ والأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، فإن العقل مستقل بوجوب هذه المعرفة، دفعاً للضرر المحتمل، وفي بعض الصور شكراً للمنعم.

[6] أي: لو أمكن تحصيل العلم فيها. نعم، لو عجز عن العلم - كالجاهل القاصر - فإنه يكتفي بالاعتقاد الإجمالي، مثلاً: بعد موت إمام وقبل معرفة الإمام اللاحق لابد من الاعتقاد الإجمالي إلى حين معرفة اللاحق.

[7] أي: الدليل هو العقل الدال بأن هذه المعرفة ليس وجوبها مقدمي، بل هي واجب نفسي في حد ذاتها.

ص: 83

المعرفة لنفسها، كمعرفة الواجب تعالى وصفاته، أداءً لشكر بعض نعمائه[1]، ومعرفة أنبيائه، فإنهم وسائط نعمه وآلائه[2]، بل وكذا معرفة الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ على وجه صحيح[3]؛ فالعقل يستقل بوجوب معرفة النبي ووصيه، لذلك[4]، ولاحتمال الضرر في تركه. ولا يجب عقلاً معرفة غير ما ذكر[5]

--------------------------------------

[1] الأولى الاستدلال لذلكٍ ب- (دفع الضرر المحتمل)، فإن العقل بعد احتماله وجود خالق، واحتمال أن له ثواباً وعقاباً يستقل بلزوم البحث دفعاً للضرر المحتمل، وبعد ثبوت وجود الخالق - كما هو الحق - يأتي الاستدلال بشكر المنعم، فإن من لا يعلم بوجود مُنعم كيف يحكم عقله بوجوب شكره. وإنما كان أداءً لشكر بعض نعمائه؛ لأن كل أعمال الجوارح والجوانح لا تؤدي حتى شكر نعمة واحدة من نعمه.

[2] الأولى - أيضاً - الاستدلال بدفع الضرر المحتمل، فإن من لا يعلم بالرسل كيف يعرف بأنهم وسائط. نعم، بعد ثبوت أصل الرسالة عقلاً، فإنه يدل العقل على لزوم معرفتهم شكراً له ولهم.

[3] وهو ما ذهبت إليه الإمامية (أعلى الله كلمتهم) من أن الإمامة منصب إلهي ودليلها العقل والنقل. قال المصنف في الهامش: (وهو كون الإمامة كالنبوة منصباً إلهياً يحتاج إلى تعيينه تعالى ونصبه، لا أنها من الفروع المتعلقة بأفعال المكلفين، وهو الوجه الآخر)(1)، انتهى.

[4] أي: أداءً لشكر بعض نعمائه تعالى؛ لأنهم وسائط النعم والآلاء.

[5] بل يجب عقلاً معرفة المعاد أيضاً، فإن العقل يدل عليه أيضاً، وكأنّ المصنف مال إلى ما نقل عن ابن سينا من أن دليل المعاد منحصر في إخبار الصادق - أي: رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ - ولا يخفى عدم الانحصار، فإن العقل بعد مشاهدة الظلم وعدم الانتقام من الظالمين، وعدم وصول المظلومين إلى حقهم كثيراً يستقل بوجوب الجزاء

ص: 84


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 505.

إلا[1] ما وجب شرعاً معرفته، كمعرفة الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ على وجه آخر غير صحيح[2]، أو أمر آخر مما دل الشرع على وجوب معرفته[3]. وما لا دلالة على وجوب معرفته بالخصوص[4] - لا من العقل ولا من النقل - كان أصالة البراءة[5] من وجوب معرفته محكّمة.

ولا دلالة[6]

--------------------------------------

بعد الموت، فيقبح على الحكيم عدم إنصاف المظلوم وعدم مؤاخذة الظالم.

[1] الاستثناء منقطع، أي: لا يجب عقلاً معرفة شيء آخر، ويجب شرعاً بعض أنواع المعرفة. أو الاستثناء متصل، فيكون المعنى ما دل الشرع على وجوب معرفته فإن العقل يدل على وجوبه أيضاً لعلمه بحكمة الشارع، فتأمل.

[2] وهو أن الإمامة هي الإمارة، فلابدّ للناس من أمير لينظِّم أمورهم المعاشية!!

[3] كأسماء الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ واحداً واحداً، كلهم أجمعين، بخلاف الأنبياء فلا يلزم الاعتقاد الإجمالي بجميعهم، ولا يلزم الاعتقاد التفصيلي إلاّ في رسول الله محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.

[4] أي: بالمعرفة التفصيلية، كتفاصيل البرزخ والمعاد.

[5] فالأصل في المسائل الاعتقادية - إلاّ ما ثبت لزوم الاعتقاد به من العقل أو الشرع - هو عدم وجوب الاعتقاد. ولا يخفى أن المراد عدم لزوم تحصيل العلم بها، وإلاّ فلو علم بها وجب عليه الاعتقاد بها، «معرفته» معرفة ما لا دلالة على وجوب معرفته.

[6] قال الشيخ الأعظم: (وقد ذكر العلامة+ في الباب الحادي عشر - في ما يجب معرفته على كل مكلّف من تفاصيل التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد - أموراً لا دليل على وجوبها كذلك، مدعياً أن الجاهل بها عن نظر واستدلال خارج عن ربقة الإيمان مستحق للعقاب الدائم)(1).

ثم قال الشيخ الأعظم: (وهو في غاية الإشكال)(2).

ص: 85


1- فرائد الأصول 1: 559.
2- فرائد الأصول 1: 559.

لمثل قوله تعالى:{وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ}(1) الآية[1]، ولا لقوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «وما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس»(2)[2]، ولا لما دل على وجوب التفقه[3]

--------------------------------------

ثم انتصر للعلامة بقوله: (نعم، يمكن أن يقال: إن مقتضى عموم وجوب المعرفة، مثل قوله تعالى: {وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ}(3) أي: ليعرفون، وقوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس) بناءً على أن الأفضلية من الواجب خصوصاً مثل: الصلاة تستلزم الوجوب. وكذا عمومات (وجوب التفقه في الدين) الشامل للمعارف بقرينة استشهاد الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بها لوجوب النفر لمعرفة الإمام بعد موت الإمام السابق، وعمومات (طلب العلم) هو وجوب معرفة الله جل ذكره، ومعرفة النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، والإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، ومعرفة ما جاء به النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، على كل قادر يتمكن من تحصيل العلم... الخ)(4).

لكن المصنف لم يرتض هذا الانتصار؛ وذلك لعدم دلالة هذه الأدلة على مدعى العلامة.

[1] وجه الاستدلال هو أن (يعبدون) بمعنى (يعرفون)، وقد حذف متعلقه، وحذف المتعلق يفيد العموم.

[2] حيث إن «المعرفة» مطلق، فيدل على كل أنواع المعرفة.

[3] كآية النفر، قال تعالى: {فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ}(5) والدين مطلق فيدلّ على لزوم معرفته كله.

ص: 86


1- سورة الذاريات، الآية: 56.
2- الكافي 3: 264، وفيه: «من هذه الصلاة».
3- سورة الذاريات، الآية: 56.
4- فرائد الأصول 1: 559.
5- سورة التوبة، الآية: 122.

وطلب العلم[1] من الآيات والروايات على وجوب معرفته بالعموم[2]. ضرورة[3] أن المراد من {لِيَعۡبُدُونِ}(1) هو خصوص عبادة الله ومعرفته[4]؛ والنبوي[5] إنما هو

--------------------------------------

[1] كقوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)(2)،

فإن العلم مطلق.

[2] «على» متعلق بقوله: (ولا دلالة لمثل...)، «معرفته» أي: معرفة الأمر الاعتقادي الذي لا دليل على وجوب معرفته، «بالعموم» أي: وجه الدلالة عموم أو إطلاق هذه الأدلة، لكن سيتضح أنه لا عموم لها ولا إطلاق.

[3] بيان وجه عدم دلالة هذه الآيات والروايات على وجوب تلك المعرفة الزائدة.

[4] فإن كان المعنى (العبادة) فلا ربط لوجوب المعرفة بهذه الآية الكريمة، وإن كان المعنى (المعرفة) فإن الآية لا تدل على أزيد من معرفة الله تعالى؛ لأن أصل (يعبدون) هو (يعبدوني) حذفت ياء المتكلم تخفيفاً وجوازاً، فلا ربط لسائر المعارف بهذه الآية الكريمة.

ثم لا يخفى أن (يعبدون) ليس بمعنى (يعرفون) لا لغةً ولا عرفاً، ولم يدل دليل شرعي عليه، بلى من مقدمات العبادة المعرفة، لكن ليست المقدمات هي من معنى ذي المقدمة.

[5] أي: حديث الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (ما أعلم شيئاً بعد... الخ)(3)،

فهذا الحديث في بيان فضيلة الصلاة وليس لبيان حكم المعرفة، فلا إطلاق له - من جهة المعرفة - ومن شرائط الإطلاق أن يكون المولى بصدد البيان؛ ولذا أشكلوا على الشيخ الطوسي لما استدل على طهارة موضع عض كلب الصيد(4)، بقوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ

ص: 87


1- سورة الذاريات، الآية: 56.
2- الكافي 1: 30.
3- الكافي 3: 264.
4- الخلاف 6: 12.

بصدد بيان فضيلة الصلوات، لا بيان حكم المعرفة، فلا إطلاق فيه أصلاً؛ ومثل: آية النفر[1] إنما هو بصدد بيان الطريق المتوسل به[2] إلى التفقه الواجب، لا بيان ما يجب فقهه ومعرفته كما لا يخفى. وكذا ما دل على وجوب طلب العلم[3] إنما هو بصدد الحثّ على طلبه، لا بصدد بيان ما يجب العلم به.

ثم[4] إنه لا يجوز الاكتفاء بالظن في ما يجب معرفته عقلاً أو شرعاً، حيث إنه[5]

--------------------------------------

عَلَيۡكُمۡ}(1)، وجه الإشكال أن الآية بصدد بيان حلية اللحم، لا بصدد بيان الطهارة، كما هو واضح.

[1] في آية النفر وأمثالها، الغرض هو بيان طريقة التفقه، فليست لبيان الموضوع الذي يتفقه فيه.

[2] وهو النفر مع الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أو البقاء معه - حسب التفسيرين - لتعلّم أحكام الشرع منه، وتعليم من لم يكن معه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، فالآية في صدد بيان الطريق، لا بيان ما يجب معرفته.

[3] فإن جهة البيان فيه طلب العلم، وليس البيان لما يلزم تعلّمه.

الظن في أصول الدين
في غير الانسداد وحكم القاصر

[4] الغرض من هذا الكلام أمران:

الأول: إنه لا يجوز الاكتفاء بالظن في حال إمكان العلم.

الثاني: وجود الجاهل القاصر الذي لا يمكنه المعرفة.

[5] أي: لأن الظن ليس بمعرفة؛ لأن المعرفة هي من أقسام العلم، حيث إن معناها: العلم بالشيء عن طريق العلم بأوصافه، فلو سمعنا بأوصاف شيء فقد عرفناه؛ ولذا يقال للعلم بالله المعرفة؛ لأنها علم عبر أوصافه تعالى.

ص: 88


1- سورة المائدة، الآية: 4.

ليس بمعرفة قطعاً، فلابد من تحصيل العلم لو أمكن. ومع العجز عنه[1] كان معذوراً إن كان عن قصور، لغفلة[2] أو لغموضة المطلب مع قلة الاستعداد[3]، كما هو المشاهد في كثير من النساء بل الرجال. بخلاف ما إذا كان عن تقصير في الاجتهاد ولو لأجل[4] حب طريقة الآباء والأجداد واتباع سيرة السلف، فإنه كالجبلي للخَلَف[5] وقلما عنه تخلف.

والمراد[6] من المجاهدة في قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ}(1)

--------------------------------------

[1] أي: عن العلم، كالمحبوس الذي لا طريق له لمعرفة الإمام اللاحق بعد موت الإمام السابق، فإنه قاصر وليس بمقصّر.

والغرض هو بيان عدم وصول النوبة إلى العمل بالظن بسبب الانسداد.

[2] في المفردات: (الغفلة: سهو يعتري الإنسان من قلّة التحفظ والتيقظ)(2)، انتهى. فهو جهل مشوب بعدم الالتفات.

[3] كالأبله الذي يعجز عن إدراك بعض الحقائق؛ لقلة عقله وصعوبة المطلب.

[4] أي: عدم تحقيقه كان لأجل أنه يريد اتباع سلفه، ويخشى أن يتبيّن له بطلان طريقتهم لو فحص وحقق، فيترك التحقيق، فهذا مقصّر قطعاً.

[5] الجبلي، منسوب إلى الجِبِلّ بمعنى الطبع(3)،

وقلمّا تخلّف الخَلَف عن طريقة الآباء.

[6] إشارة إلى أن البعض توهم عدم وجود قاصر في المعرفة؛ لأن الله وعد الناس بأنهم إن حاولوا فإنه تعالى يلقي الهداية في قلوبهم، حيث قال تعالى: {وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ}، فمهما كان المطلب غامضاً ومهما كان الاستعداد قليلاً، فإن الله يلقي هدايته لمن حاول. إذن، لا يوجد قاصر!!

ص: 89


1- سورة العنكبوت، الآية: 69.
2- المفردات في غريب القرآن: 609.
3- العين 6: 136 - 137، مادة «جبل».

هو[1] المجاهدة مع النفس بتخليتها عن الرذائل وتحليتها بالفضائل - وهي التي كانت أكبر من الجهاد -، لا النظر والاجتهاد، وإلاّ[2] لأدّى إلى الهداية[3]، مع أنه[4] يؤدي إلى الجهالة والضلالة إلاّ إذا كانت هناك منه تعالى عناية[5]، فإنه[6] غالباً بصدد إثبات أن ما وجد آباءه عليه هو الحق، لا بصدد الحق، فيكون مقصراً مع اجتهاده. ومؤاخَذاً إذا أخطأ على قطعه واعتقاده[7].

--------------------------------------

[1] إشكال على الاستدلال، وحاصله: إن (المجاهدة) لا يراد بها التحقيق والتفحص في الأدلة، بل معناها جهاد النفس. بل لا يمكن أن يكون معنى (المجاهدة) التفحص، وإلاّ للزم الكذب - تعالى الله عنه - لأن الكثيرين فحصوا وحققوا ولم يهتدوا، بل ضلّوا، وما أكثرهم.

أقول: الظاهر أن {جَٰهَدُواْ فِينَا} بمعنى الجهاد الأصغر، أي: الحرب في سبيل الله، ولو كان معناها التحقيق فإنه لا يرد إشكال المصنف؛ لأن الذين ضلوا ولم يهتدوا لم يكن جهادهم في سبيل الله، والوعد إنما هو للذين {جَٰهَدُواْ فِينَا}.

[2] أي: لو كان معنى المجاهدة هو النظر والاجتهاد.

[3] حيث إن الله تعالى وعد أو أخبر بأنه سيهديهم في قوله: {لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ}.

[4] أي: النظر والاجتهاد.

[5] فإن الهداية من الله تعالى، قال: {إِنَّكَ لَا تَهۡدِي مَنۡ أَحۡبَبۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ}(1)، وبالطبع فليس الأمر اعتباطاً، وإنّما يهدي الله من يستحق الهداية، وللتفصيل راجع شرحنا على أصول الكافي(2).

[6] أي: الذي يجتهد وينظر.

[7] «على» متعلق بقوله: (مؤاخذاً)، وذلك لأن ما بالاختيار لا ينافي الاختيار، فإنه حين القطع لا يمكن تكليفه بخلاف قطعه، لكن حيث إنه قصّر في المقدمات

ص: 90


1- سورة القصص، الآية: 56.
2- شرح أصول الكافي 2: 562.

ثم[1] لا استقلال للعقل بوجوب تحصيل الظن مع اليأس عن تحصيل العلم في ما يجب تحصيله عقلاً[2] لو أمكن، لو لم نقل[3] باستقلاله بعدم وجوبه، بل بعدم جوازه، لما أشرنا إليه من أن الأمور الاعتقادية مع عدم القطع بها[4] أمكن الاعتقاد بما هو واقعها[5]

--------------------------------------

كان مؤاخذاً على قطعه بالباطل.

[1] شروع في رد استدلال القائلين بلزوم تحصيل الظن في أصول الدين مع العجز عن العلم، فإنهم استدلوا بالعقل وبالنقل على لزوم التنزل إلى الظن في القسم الأول من الاعتقاديات - وهي ما تجب المعرفة فيها بنفسها - أما العقل فقد قالوا: إنه مع العجز عن العلم فإن العقل يستقل بلزوم الظن؛ لأنه أقرب إلى العلم، وتحصيل الظن خير من البقاء على الجهل المحض!!

وأما الإشكال عليه فهو بإنكار استقلال العقل بلزوم الظن عند العجز، بل مع إمكان الاحتياط بالالتزام الإجمالي لا تصل النوبة إلى الظن أصلاً. كما أن البقاء على الشك خير من الاعتقاد بخلاف الواقع - حيث إن في الظن احتمال الخطأ - وأما النقل فإنه سيأتي الإشكال عليه في قوله: (وكذا لا دلالة في النقل... الخ).

[2] أي: في القسم الأول من المسائل الاعتقادية - وهي ما تلزم المعرفة فيها بنفسها - . أما القسم الثاني فلا كلام في عدم لزوم تحصيل العلم فيه، فلا تصل النوبة إلى الظن أصلاً، «تحصيله» تحصيل العلم، «عقلاً» وهو القسم الأول، «لو أمكن» بمعنى أن وجوب التحصيل إنما هي في صورة الإمكان.

[3] أي: لا استقلال للتنزل إلى الظن، بل بالعكس يستقل العقل بعدم وجوب التنزل إلى الظن، بل عدم جوازه؛ وذلك لإمكان الاحتياط بالاعتقاد الإجمالي.

[4] أي: مع عدم إمكان القطع بها.

[5] أي: يمكن الاعتقاد الإجمالي.

ص: 91

والانقياد لها، فلا إلجاء فيها[1] أصلاً إلى التنزل إلى الظن في ما انسد فيه باب العلم، بخلاف الفروع العملية[2] كما لا يخفى.

وكذلك[3] لا دلالة من النقل على وجوبه، في ما يجب معرفته مع الإمكان شرعاً، بل الأدلة الدالة على النهي عن اتباع الظن[4] دليل على عدم جوازه أيضاً.

وقد انقدح[5] من مطاوي ما ذكرنا[6]

--------------------------------------

[1] أي: فلا ضرورة في الأمور الاعتقادية.

[2] حيث لابد فيها من العمل، والاحتياط يوجب العسر أو الاختلال.

[3] أي: لو دل الشرع على لزوم معرفة أصل من أصول الدين - كأسماء الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بالخصوص واحداً واحداً - فمع العجز عن العلم لا يجوز التنزل إلى الظن، فإنه لا يوجد دليل شرعي على حجية الظن حينئذٍ، بل هناك أدلة على عدم جواز اتباع الظن.

[4] كقوله تعالى: {إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيًۡٔاۚ}(1)، فإن هذه الآية إما خاصة بأصول الدين، وإما عامة تشمل أصول الدين وفروعه «عدم جوازه» عدم جواز التنزل إلى الظن.

[5] حيث إن الشيخ الأعظم بحث في ثلاثة مواضيع(2):

1- إمكان الجاهل القاصر في أصول الدين.

2- حكمه التكليفي من جواز التنزل إلى الظن وعدم الجواز.

3- حكمه الوضعي من حيث الإيمان والكفر والنجاسة والطهارة ونحوها.

والمصنف بعد أن بحث في الموضوع الثاني يبحث الآن في الموضوع الأول.

[6] حيث ذكرنا (أنه مع العجز عنه كان معذوراً، إن كان عن قصور لغفلة أو غموضة المطلب...) وغير هذه العبارة.

ص: 92


1- سورة يونس، الآية: 36.
2- فرائد الأصول 1: 575.

أن القاصر يكون[1] - في الاعتقاديات - للغفلة أو عدم الاستعداد للاجتهاد فيها، لعدم[2] وضوح الأمر فيها بمثابة[3] لا يكون الجهل بها إلاّ عن تقصير، كما لا يخفى، فيكون[4] معذوراً عقلاً.

--------------------------------------

[1] أي: يوجد، و«يكون» هنا تامة.

[2] دليل على وجود القاصر، وحاصله: إن الأمور الاعتقادية أحياناً ليست واضحة، فيمكن أن لا يدركها بعض الناس.

أقول: بل أصول المسائل الاعتقادية واضحة جداً، وإنّما القصور في قلة عقل الجاهل القاصر، فهي كالشمس في رابعة النهار، فإن الأعمى لا يراها، وضعيف البصر قد لا يدركها، لا لأجل عدم وضوحها، بل لأجل عدم إحساسه أو ضعفه.

[3] صفة للمنفي - أي: الوضوح - فالمعنى (لا يوجد وضوح بحيث لا يوجد القاصر).

[4] تفريع على قوله: (أن القاصر يكون في الاعتقاديات). وللمصنف حاشية حاصلها:

لا يقال: كيف هذا القاصر لا يستحق الدرجات العليا في الجنة؟ وكيف يستحق الدخول في النار مع أنه قاصر؟

لأنه يقال: أما عدم استحقاق الدرجات فلنقصانه الذاتي. وأما استحقاقه للنار فلبُعد الكافر القاصر عن ساحة جلاله تعالى، وهو يقتضي دخوله في النار، وهذا لازم ذاتي له، والذاتي لا يعلل!! ويؤيده النصوص الدالة على خلود الكافر مطلقاً في النار - مما يشمل القاصر - !! نعم، هو لا يؤاخذ ولا يعاتب على كفره - لقصوره - .

أقول: قد مرّ أن السعادة والشقاوة ليستا ذاتيين، وبيّنا عدم صحة ما ذهب إليه المصنف، بل هما نتيجة إرادة الإنسان وسوء أو حسن اختياره، هذا أولاً.

وثانياً: إن العقل يستقل بأن القاصر لا يدخل النار ولا يستحق الدركات، فإنه ظلم قطعاً.

ص: 93

ولا يصغى إلى ما ربما قيل بعدم وجود القاصر فيها، لكنه[1] إنما يكون معذوراً غير معاقب على عدم معرفة الحق إذا لم يكن يعانده، بل كان ينقاد له على إجماله لو احتمله.

هذا بعض الكلام مما يناسب المقام، وأما بيان حكم الجاهل من حيث الكفر والإسلام، فهو مع عدم مناسبته خارج عن وضع الرسالة[2].

الثاني[3]: الظن الذي لم يقم على حجيته دليل هل يجبر به ضعف السند أو الدلالة

--------------------------------------

وثالثاً: دل متواتر أو مستفيض الروايات على أن القاصر يمتحن في الآخرة مرّة أخرى.

[1] هذا من كلام المصنف، أي: ذكرنا أن القاصر يكون معذوراً، ولكن ليس كل قاصر، بل القاصر الذي في قرارة نفسه يريد الحق، وأما القاصر المعاند - أي: لو علم الحق لعانده - فهو غير معذور، وكذا القاصر الذي لا يكون منقاداً للحق ولا معانداً.

ويمكن تأييد كلام المصنف بقوله تعالى: {إِلَّا ٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلۡوِلۡدَٰنِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ حِيلَةٗ وَلَا يَهۡتَدُونَ سَبِيلٗا * فَأُوْلَٰٓئِكَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعۡفُوَ عَنۡهُمۡۚ}(1) ففي تبيين القرآن: (وفي هذا دلالة على أن قصورهم مشوب بالتقصير أيضاً)(2)، انتهى.

[2] أما عدم مناسبته: فلأنه بحث كلامي وفقهي وليس بحثاً أصولياً، أما الكلامي فمن حيث الإيمان والكفر، وأما الفقهي فمن حيث الطهارة والنجاسة.

وأما خروجه عن وضع الرسالة: فلأنّ الكتاب مبني على الاختصار.

جبر ووهن السند والدلالة والترجيح بالظن غير المعتبر

[3] الأمر الثاني من الخاتمة: هو أن الظن غير المعتبر - كالشهرة، والأولوية الظنية،

ص: 94


1- سورة النساء، الآية: 98 - 99.
2- تبيين القرآن 1: 172.

بحيث[1] صار حجة ما لولاه لما كان بحجة، أو يُوهَن به[2] ما لولاه على خلافه لكان حجة، أو يرجح به[3] أحد المتعارضين بحيث لولاه على وفقه لما كان ترجيح لأحدهما[4]، أو كان للآخر منهما[5]، أم لا؟

ومجمل القول[6]

--------------------------------------

ونحوهما - هل يجبر ضعف السند أو الدلالة أم لا؟ كما لو كان الخبر ضعيفاً سنداً وقد عمل به المشهور، أو لم يكن له ظهور في الوجوب لكن فهم المشهور منه الوجوب. وكذا لو تعارض خبران، فهل الظن غير المعتبر يرجح أحدهما على الآخر أم لا؟

ثم إن الكلام في الظن غير المعتبر، أما الظن في حال الانسداد فسيأتي الكلام فيه، وكذا سيأتي الكلام في الظن الممنوع عنه كالقياس.

[1] متعلق بالجبر، والمعنى أن السند أو الدلالة لم تكن حجة بنفسها ولكن بسبب هذا الظن تصير حجة، «ما لولاه» أي: لو لا الظن غير المعتبر، «لما كان» السند أو الدلالة.

[2] أي: يُضعّف بالظن غير المعتبر، «ما» أي: سند أو دلالة، «لولاه» لو لا الظن غير المعتبر، «خلافه» خلاف السند أو الدلالة.

[3] «به» بالظن غير المعتبر، «لولاه» لو لا ذلك الظن، «وفقه» أحد المتعارضين.

[4] بأن كانا متساويين من جهة المرجحات، لكن الظن غير المعتبر كان مع أحدهما.

[5] بأن كان الآخر أرجح، كما لو كان راويه أفقه، ولكن الظن غير المعتبر مع غيره. وقوله: (أو لا) أي: هل يجبر أو يوهن أو يرجح بالظن غير المعتبر، أم لا؟

ضرب القاعدة
اشارة

[6] الغرض هو بيان القاعدة الكلية في المورد ثم لنرى أن القاعدة تنطبق على أية صورة.

ص: 95

في ذلك[1]: إن العبرة في حصول الجبران أو الرجحان بموافقته هو الدخول بذلك تحت دليل الحجية، أو المرجحية الراجعة[2] إلى دليل الحجية. كما أن العبرة في الوهن إنما هو الخروج بالمخالفة[3] عن تحت دليل الحجية. فلا يبعد[4] جبر ضعف السند[5]

--------------------------------------

يقول المصنف: إن هذا الظن إذا أدخل الخبر الضعيف تحت عمومات الحجية، فإن أدلة الحجيّة حينئذٍ تشمل هذا الخبر فيكون حجة. وكذا إذا أخرج الخبر من تحت تلك العمومات، فإن أدلة الحجية لا تشمله فلا يكون حجة.

[1] في الجبر والوهن والترجيح، «بموافقته» بموافقة الظن، وقوله: «هو الدخول» خبر «أن العبرة»، «بذلك» أي: بموافقة الظن.

[2] صفة المرجحية؛ لأن معنى الترجيح هو أن الخبر الذي له مرجح حجة فتشمله أدلة الحجية، دون الخبر الذي لا مرجح له.

[3] أي: مخالفة الخبر للظن غير المعتبر.

تطبيق القاعدة على الصور الخمس
اشارة

[4] شروع في بيان انطباق أو عدم انطباق القاعدة على الصور الخمس المتصورة في الخبر والوهن والترجيح، وتلك الصور هي:

الصورة الأولى: جبر السند الضعيف.

الصورة الثانية: عدم جبر الدلالة الضعيفة.

الصورة الثالثة: عدم وهن السند القوي.

الصورة الرابعة: عدم وهن الدلالة الظاهرة.

الصورة الخامسة: عدم الترجيح بالظن غير المعتبر.

الصورة الأولى

[5] وذلك لأن أدلة حجية الخبر الواحد نوعان: 1- ما دلت على حجية خبر الثقة

ص: 96

في الخبر بالظن بصدوره أو بصحة مضمونه[1] ودخوله بذلك[2] تحت ما دل على حجية ما يوثق به[3]، فراجع أدلة اعتبارها[4].

وعدم جبر ضعف الدلالة بالظن بالمراد[5]،

--------------------------------------

- أي: الوثاقة المخبرية - . 2- ما دلت على حجية كل خبر وثقنا بصدوره ولو كان راويه ضعيفاً - أي: الوثاقة الخبرية - ويكفي في حجية الخبر دخوله في أدلة أحد النوعين.

وحينئذٍ فالخبر الضعيف الذي قام الظن غير المعتبر بصدوره - كالشهرة - توجد فيه وثاقة خبرية، فيدخل في أدلة النوع الثاني، فيكون حجة.

[1] الظن بالصدور بمعنى ظننا بأن الرواية صدرت عن الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، ويكون ذلك في ما لو عمل المشهور بذلك الخبر.

والظن بصحة المضمون بمعنى ظننا بأن معنى الرواية مطابق للواقع، ويكون ذلك في ما لو كانت فتوى المشهور مطابقة مع الخبر من غير استنادهم إليه - مثلاً - .

[2] أي: بالظن بصدوره أو بصحة مضمونه.

[3] أي: الوثاقة الخبرية، وعمدة دليلها بناء العقلاء، فإنهم يعتمدون على الأخبار التي يثقون بمضمونها أو بصدورها - سواء كان الراوي ثقة أم لا - .

[4] أي: اعتبار الخبر، وأن عمدة الأدلة هي بناء العقلاء، وهو دال على حجية الخبر الذي يوثق بصدوره أو مضمونه.

الصورة الثانية

[5] أي: لو كانت الدلالة ضعيفة - بأن لم يكن لها ظهور في المعنى - فإن الظن بالمراد لا يجبر ضعف الدلالة؛ وذلك لأن بناء العقلاء على حجية الظهور - سواء ظن بأنه المراد أم لم يظن - فلو قال المولى لعبده: (افعل كذا) وتركه العبد معتذراً بأنه ظنّ بأن المولى لم يرد ظاهر اللفظ - وهو الوجوب من افعل - فإن هذا العبد لا يعذره

ص: 97

لاختصاص دليل الحجية[1] بحجية الظهور في تعيين المراد. والظن من أمارة خارجية به[2] لا يوجب ظهور اللفظ فيه، كما هو ظاهر، إلاّ[3] في ما أوجب القطع ولو إجمالاً[4] باحتفافه بما كان موجباً لظهوره فيه لو لا عروض انتفائه.

وعدم وهن السند[5]

--------------------------------------

العقلاء، وكذا لو قال المولى لعبده: (يستحب لك كذا) فإنه لا يتمكن من معاقبة العبد لو تركه - حتى وإن ظن العبد بأن مراد المولى الوجوب - .

[1] حجية الدلالات مختصة بالظواهر؛ لأن الدليل هو بناء العقلاء، والشارع تكلّم بلسان القوم، كما قال تعالى: {وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ}(1).

[2] «به» بالمراد، «فيه» في المراد.

[3] استدراك، وحاصله: إن الأمارة الخارجية إذا أوجبت القطع بأن الظاهر كان شيئاً آخر فلا يكون هذا الظاهر الحالي حجة، «في ما» أي: في أمارة خارجية أوجبت... الخ.

[4] من دون معرفة تفصيلية بتلك الأمارة، ولكن نعلم إجمالاً بوجودها، «باحتفافه» احتفاف اللفظ، «بما» بأمارة، «لظهوره» اللفظ، «فيه» في المراد الذي ليس بظاهر الآن لاختفاء القرينة، ولكن مع وجود تلك القرينة كان ظاهراً، «انتفائه» أي: انتفاء القرينة، والضمير راجع إلى الموصول - أي: (ما) - الذي كان معناه القرينة.

الصورة الثالثة والرابعة

[5] وذلك لأن النوع الأول من أدلة حجية الخبر يدل على حجية خبر الثقة، فالظن غير المعتبر لا يجعل الثقة غير ثقة، بل يبقى على وثاقته، فأدلة حجية خبر الثقة تشمل هذا الخبر أيضاً.

ص: 98


1- سورة إبراهيم، الآية: 4.

بالظن بعدم صدوره، وكذا عدم وهن[1] دلالته مع ظهوره، إلاّ في ما كشف بنحوٍ معتبر[2] عن ثبوت خلل في سنده، أو وجود قرينة[3] مانعة عن انعقاد ظهوره في ما فيه ظاهر[4] لو لا تلك القرينة، لعدم اختصاص[5] دليل اعتبار خبر الثقة ولا دليل اعتبار الظهور بما إذا لم يكن ظن بعدم صدوره أو ظن بعدم إرادة ظهوره.

وأما الترجيح بالظن[6]:

--------------------------------------

[1] وذلك لما ذكرناه في الصورة الثانية، بأن الملاك هو الظهور - سواء ظننا بالمراد أم لا - .

[2] كما لو أوجب الاطمئنان. والخلل في السند مثل إعراض المشهور عن خبر صحيح مع علمهم به، فإنه قد يكشف عن وجود خلل في السند، بأن يكون بعض رجال السند ضعاف، وقد ظننا وثاقتهم، أو إرسال في السند أو نحو ذلك.

[3] مثلاً: لفظ (ملعون) ظاهر في الحرمة، لكن حمله الفقهاء في عدة روايات على الكراهة، وهذا قد يكشف عن اكتناف الكلام بقرينة صارفة عن الظهور.

[4] أي: قرينة - مفقودة الآن - مانعة عن انعقاد ظهور اللفظ في المعنى الذي الآن اللفظ في ذلك المعنى ظاهر، «لو لا تلك القرينه» أي: لو لم تكن تلك القرينة فإن اللفظ ظاهر في معنى، أما مع وجود تلك القرينة فليس اللفظ ظاهراً في ذلك المعنى.

[5] دليل عدم الوهن، وحاصله: إن دليل حجية خبر الثقة مطلق، سواء ظننا به أم لم نظن، بل حتى لو ظننا بخلافه. وكذا دليل حجية الظهور مطلق، سواء ظننا بأنه مراد أم لم نظن، بل حتى لو ظننا بأن غيره مراد.

الصورة الخامسة

[6] فقد استدل لكون الظن مرجحاً لأحد الخبرين على الآخر بوجوه:

الأول: استكشاف الملاك - وهو الأقربية إلى الواقع - من المرجحات المنصوصة، وحيث إن الظن له جهة كشف عن الواقع فيكون الخبر المظنون أقرب إلى الواقع من

ص: 99

فهو فرع دليل على الترجيح به[1] بعد سقوط الأمارتين بالتعارض[2] من البين وعدم حجية واحد منهما[3] بخصوصه وعنوانه، وإن بقي أحدهما بلا عنوان[4] على حجيته، ولم يقم[5] دليل بالخصوص على الترجيح به. وإن ادعى شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه(1) -

--------------------------------------

غيره، فيتعين الأخذ به.

وهذا الوجه لم يرتضه المصنف فهو لا يقبل أصل الترجيح أساساً، وعلى فرض قبوله فإنه لم يعلم أن الملاك هو الأقربية إلى الواقع.

الثاني: الانسداد الكبير - في الأحكام الشرعية - .

الثالث: الانسداد الصغير - في خصوص المرجحات - وسيأتي توضيح هذين الوجهين مع الإشكال عليهما.

[1] أي: بالظن، والمراد أنه لابد من قيام دليل على الترجيح بالظن كي نجعله من المرجحات.

[2] لأن الفرض أن لكليهما شروط الحجية، وحيث لا يمكن الجمع بينهما فإن القاعدة تقتضي تساقطهما، «من البين» متعلق بقوله: (سقوط).

[3] أي: عدم حجية أي واحد منهما معيناً، مع علمنا الإجمالي بأن أحدهما - غير المعيّن - هو الحجة.

[4] أي: أحدهما واقعاً هو الحجة، ولكنا نجهله بسبب تردد الحجة بين الأمارتين المتعارضتين، «بلا عنوان» في مرحلة الإثبات، وأما في مرحلة الثبوت والواقع فهو معيّن.

[5] أي: الترجيح بالظن فرع وجود دليل، ولكن لم يقم هذا الدليل سوى ما ادعاه الشيخ الأعظم، ولا يخفى أن الشيخ أقام ثلاثة أدلة، لم يذكر المصنف سوى هذا الوجه، فراجع الرسائل، «على الترجيح به» بالظن.

ص: 100


1- فرائد الأصول 1: 610.

استفادته[1] من الاخبار الدالة على الترجيح بالمرجحات الخاصة على ما يأتي تفصيله في التعادل والترجيح.

ومقدمات الانسداد[2] في الأحكام إنما[3] توجب حجية الظن بالحكم أو بالحجة[4]، لا الترجيح به[5] ما لم يوجب ظن بأحدهما. ومقدماته[6] في خصوص

--------------------------------------

[1] أي: استفادة الدليل، هو الأقربية إلى الواقع - المستفاد من ملاك المرجحات المنصوصة - .

[2] إشارة إلى الدليل الثاني للترجيح بالظن، وحاصله: إن انسداد باب العلم والعلمي في الأحكام الشرعية يوجب حجية كل الظنون، ومنها الظن بأحد الخبرين المتعارضين.

وفيه: إن الانسداد يوجب حجية الظن بالأحكام الشرعية والظن بطرق الأحكام فقط، كما مرّ تفصيله، ولم تدل مقدمات الانسداد على الترجيح بالظن. نعم، لو ظنّ بأن مضمون هذا الخبر هو الواقع، أو مضمونه أمارة على الحكم الشرعي فإنه يكون هذا الظن حجة، لا من باب الترجيح به، بل من باب الظن بالواقع أو بالطريق.

[3] إشارة إلى الإشكال على الترجيح بالانسداد الكبير.

[4] أي: بالواقع أو بالطريق كما مرّ مفصلاً.

[5] «به» أي: بالظن، «ما لم يوجب» الظن بالترجيح، «ظن بأحدهما» الواقع أو الطريق.

[6] إشارة إلى الدليل الثالث على الترجيح بالظن، وحاصله: هو الانسداد الصغير، أي: الانسداد في خصوص المرجحات، لا في مطلق الأحكام، بمعنى أنا نعلم بأن الشارع قد جعل مرجحات حين التعارض، وانسد علينا باب العلم أو العلمي لتلك المرجحات، ولا يمكن الاحتياط ولا البراءة، فلابد من الظن؛ لأن

ص: 101

الترجيح لو جرت[1] إنما توجب حجية الظن في تعيين المرجح[2]، لا أنه مرجح[3]

--------------------------------------

ترجيح الشك أو الوهم عليه ترجيح للمرجوح.

وفيه: أولاً: عدم جريان مقدمات الانسداد في الانسداد الصغير أصلاً، بل هي خاصة في الانسداد الكبير، مضافاً إلى إمكان الاحتياط ولا عسر فيه، مضافاً إلى أن البراءة لا محذور فيها؛ لعدم استلزامها الخروج عن الدين.

وثانياً: على فرض جريان مقدمات الانسداد فإنما تجري في المرجحات، أي: في ما يحتمل أن يكون مرجحاً، فنجعل محتملات المرجحيّة في دائرة واحدة، وبأيّة واحدة منها ظننا بأنها المرجّح فإنا نعمل بها، وبأية واحدة لم نظن فلا نأخذ بها. ثم نجعل الظن في دائرة المرجحات، فإن ظننا بأن الشارع جعل الظن مرجحاً أخذنا به، وإن لم نظن بذلك فلا يجوز الأخذ به.

ولتوضيح ذلك نقول: إنا قد نقطع بعدم حجية الظن كما في بعض صورة الانفتاح، وقد نظن بعدم حجيته، كما لو دلّ ظاهر آية على عدم الحجية، وقد نشك في حجيته، وقد يكون العكس: بأن نقطع أو نظن بالحجية، فلا تلازم بين وجود الظن - كموضوع خارجي يقوم بنفس المكلف - وبين حجيته.

وهنا: هل جعل الشارع الظن مرجحاً؟ قد نقطع أو نظن بأنه لم يجعله مرجحاً، وقد نشك، ففي هذه الصور لا يمكن الترجيح به. نعم، لو قطعنا أو ظننا بأن الشارع جعل الظن مرجحاً فلابد من الترجيح به.

[1] «لو جرت» إشارة إلى الإشكال الأول، و«إنما توجب» إشارة إلى الإشكال الثاني.

[2] حيث نعلم بوجود مرجحات، ولكنّها اشتبهت بين عدة محتملات، فأية واحدة ظننا بأنها المرجح أخذنا بها.

[3] أي: مقدمات الانسداد لا تقتضي كون نفس الظن مرجحاً، بل هو يُعيِّن

ص: 102

إلاّ إذا ظن أنه أيضاً مرجح[1]، فتأمل جيداً.

هذا[2] في ما لم يقم على المنع عن العمل به بخصوصه[3] دليل.

وأما ما قام الدليل على المنع عنه كذلك[4] - كالقياس - فلا يكاد يكون به جبر أو وهن أو ترجيح في ما[5] لا يكون لغيره أيضاً. وكذا في ما يكون به أحدهما، لوضوح[6] أن الظن القياسي إذا كان[7] على خلاف ما لولاه لكان حجةً بعد المنع

--------------------------------------

المرجح - وقد شرحناه مفصلاً - .

[1] أي: كان الظن في دائرة المرجحات المحتملة، ثم ظن بأن الظن من المرجحات.

[2] أي: الجبر والوهن والترجيح.

[3] أي: عن العمل بالظن بخصوص ذلك الظن، كالقياس، فإنه بخصوصه ورد نهي عن العمل به.

[4] أي: بخصوصه، لا المنع العام عن الظن؛ إذ المنع العام مخصَّص كثيراً بالظنون الخاصة.

[5] المقصود هو عدم الجبر والوهن والترجيح بالظن، سواء لم تكن هذه الثلاثة لغير الظن أيضاً أم كانت، فقوله: «في ما لا يكون لغيره» أي: في ما لم يكن غير الظن جابراً موهناً مرجحاً، وقوله: «وكذا في ما...» أي: وكذا لو كان جبر أو وهن أو ترجيح لغير الظن، «في ما» في شيء كالشهرة، «يكون به» بذلك الشيء، «أحدهما» الجبر، الوهن، الترجيح.

[6] حاصله: إنه بعد منع الشارع لا يمكن للقياس أن يُدخل شيئاً في دليل الحجية أو يُخرجه عن ذلك الدليل؛ وذلك لمنع الشارع عن استعمال القياس في الشرعيات مطلقاً.

[7] أي: لو كان شيء دليلاً فإن قيام القياس على خلافه لا يوجب خروج

ص: 103

عنه لا يوجب خروجه عن تحت دليل حجيته، وإذا كان[1] على وفق ما لولاه لماكان حجة لا يوجب دخوله تحت دليل الحجية، وهكذا لا يوجب ترجيح أحد المتعارضين. وذلك[2] لدلالة دليل المنع على إلغائه الشارع[3] رأساً وعدم جواز استعماله في الشرعيات قطعاً، ودخله[4] في واحد منها نحو استعمال له فيها[5]، كما لا يخفى، فتأمل جيداً[6].

--------------------------------------

ذلك الشيء عن دليل الحجيّة، «على خلاف ما» أي: دليل، «لولاه» لو لا القياس، «لكان» ذلك الدليل، و«بعد» متعلق بقوله: (الظن القياس)، «لا يوجب» جزاء (إذا كان)، «خروجه» خروج ذلك الدليل.

[1] أي: كان الظن القياسي، ومعنى الموصول ومرجع الضمائر كالفقرة السابقة.

[2] أي: سبب عدم تمكن القياس من إخراج الدليل عن دليل الحجية، ولا إدخال غير الدليل في دليل الحجية ولا الترجيح.

[3] أي: إلغاء القياسَ الشارعُ، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول وإعماله في الفاعل، وهذا غلط أو ركيك في الاستعمال، «رأساً» بشكل نهائي.

[4] أي دخل القياس في الجبر أو الوهن أو الترجيح هو استعمال له في الشرعيات، وقد قامت الأدلة على عدم جواز استعماله في الشرعيات مطلقاً، ف- (لدلالة دليل...) الكبرى، و(ودخله...) الصغرى.

[5] «منها» الجبر، الوهن، الترجيح، «نحو» كيفية، «استعمال له» للقياس، «فيها» في الشرعيات.

[6] حتى لا تشكل بأنه أي فرق بين المنع عن القياس بالخصوص وبين المنع عن مطلق الظن في قوله: {إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيًۡٔاۚ}(1). وذلك لأن المنع عن

ص: 104


1- سورة يونس، الآية: 36.

--------------------------------------

شيء بالخصوص - كالقياس - آبٍ عن التخصيص، وأما المنع العام فقد خصّصه نفس الشارع مراراً وتكراراً، فلا مانع من تخصيص آخر.

ص: 105

ص: 106

المقصد السابع

اشارة

ص: 107

ص: 108

المقصد السابع: في الأصول العملية[1]. وهي التي ينتهي إليها المجتهد[2]

--------------------------------------

المقصد السابع في الأصول العملية

[1] أي: المرتبطة بالعمل، ويقابلها الأصول الاعتقادية المرتبطة بالقلب.

ثم إن أصول الفقة قسمان:

1- الأصول الاجتهادية: وهي الأمارات التي لها كاشفية عن الواقع، ولم يؤخذ الشك في موضوعها - بل الشك ظرف لها - .

2- الأصول الفقاهية: وهي الأصول العملية التي ليس لها كشف عن الواقع أصلاً، بل تُعيّن وظيفة الشاك، وقد أخذ الشك في موضوعها.

مثلاً: لو أخبر الثقة عن قول الإمام بالحِلية، فإن كلام الثقة له كشف عن الواقع، أما لو ذهبنا إلى الحلية؛ لعدم وجود نص على التحريم، فإن هذه الحِلية لا تكشف عن الحكم الواقعي، بل هي وظيفة عند العمل، أي: يتعامل مع الشيء تعامل الحلال فقط.

[2] أي: يتوصل إلى تلك الأصول، وإنّما قال المجتهد لأن بعض الأصول يمكن للمقلد إجراؤها فلا تكون من أصول الفقه، كالأصول الجارية في الشبهات الموضوعية.

مثلاً: إذا شككنا في طهارة أو نجاسة عرق الجنب عن الحرام فلابد من الرجوع إلى المجتهد، وعليه الفحص عن الدليل، فإن لم يجده فإنه يجري أصالة الطهارة، فيفتي بها.

ص: 109

بعد الفحص واليأس عن الظفر بدليل[1]، مما دل[2] عليه حكم العقل أو عموم النقل.

والمهم منها أربعة[3]، فإن مثل[4] قاعدة الطهارة في ما اشتبه طهارته بالشبهة

--------------------------------------

وأما إذا علمنا بنجاسة الدم وبطهارة الطماطم، ثم وجدنا بقعة حمراء لا نعلم بأنها من أيهما، فلا حاجة إلى الرجوع إلى المجتهد ليفتي بطهارتها، بل نفس المقلد يمكنه إجراء أصالة الطهارة.

والحاصل: الأصول الجارية في الشبهات الحكمية هي الأصول العملية التي يتوصل إليها المجتهد دون المقلد، أما الأصول الجارية في الشبهات الموضوعية فيمكن للمقلد إجراؤها في بعض الصور.

[1] فلا يجوز إجراؤها قبل الفحص واليأس؛ لأن موضوعها الشك حين فقدان الدليل.

[2] من - البيانية - تتعلق بقوله: (ينتهي)، أي: يتوصل إليها المجتهد من حكم العقل أو عموم النقل.

[3] أي: من الأصول العمليه، والأربعة هي البراءة والاشتغال والتخيير والاستصحاب.

[4] دفع لإشكال، وحاصله: إن الأصول العملية المقررة حين الشك كثيرة، كقاعدة الطهارة، وقاعدة الفراغ والتجاوز، وقاعدة اليد ونحوها، فلماذا خصص البحث بهذه الأربعة؟

والجواب من جهتين:

الأولى: إن تلك القواعد لا نقاش فيها كثيراً، بل هي ثابتة متفق عليها.

الثانية: إن المسألة الأصولية هي الجارية في كل أبواب الفقه - من الطهارة إلى الديات - وهذه الأربعة كذلك تجري في كل الفقه، أما سائر الأصول فهي منحصرة في بعض أبواب الفقه، فلذا يبحث عنها في الفقه، كقاعدة الطهارة، فإنها خاصة بباب

ص: 110

الحكمية[1]، وإن كان[2] مما ينتهي إليه في ما لا حجة على طهارته ولا على نجاسته، إلاّ أن[3] البحث عنها ليس بمهم، حيث إنها ثابتة بلا كلام من دون حاجة إلى نقض وإبرام. بخلاف الأربعة - وهي البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب -، فإنها محل الخلاف بين الأصحاب، ويحتاج تنقيح مجاريها[4] وتوضيح ما هو حكم العقل أو

--------------------------------------

الطهارة حصراً، ويعبر عن هذه الأصول الخاصة بالقواعد الفقهيّة.

[1] أي: في الموارد التي موضوعها معلوم لكن حكمها من حيث الطهارة والنجاسة مجهول، كعرق الجنب من الحرام. أما الطهارة في الشبهات الموضوعية فليست شأناً للمجتهد، بل يجريها المقلد بنفسه - كما أشرنا إليه قبل قليل - .

ثم للمصنف حاشية، قال فيها: (لا يقال: إن قاعدة الطهارة - مطلقاً - تكون في الشبهة الموضوعية، فإن الطهارة والنجاسة من الموضوعات الخارجية التي يكشف عنها الشرع(1).

فإنه يقال: أولاً: نمنع ذلك، بل إنهما من الأحكام الوضعية الشرعية، ولذا اختلفتا في الشرائع بحسب المصالح الموجبة لتشريعهما كما لا يخفى.

وثانياً: إنهما لو كانتا كذلك فالشبهة فيهما - في ما كان الاشتباه لعدم الدليل على أحدهما - كانت حكمية، فإنه لا مرجع لرفعها إلاّ الشارع، وما كانت كذلك ليست إلا حكمية)(2)،

انتهى.

[2] أي: وإن كان ينطبق عليها تعريف الأصل العملي، حيث إن قاعدة الطهارة ينتهي الفقيه إليها في ما لا دليل على الطهارة أو النجاسة.

[3] إشارة إلى الجهة الأولى من الجواب.

[4] أي: محل جريانها، مثلاً: الاستصحاب في الأصل المثبت هل حجة أم لا؟ وهل هو خاص بالجعل أو المجعول؟ وهل يجري مع الشك في المقتضي أم يجري

ص: 111


1- أي: هي أمور تكوينية لا ترتبط بالشارع بما هو شارع، بل هو يكشف عنها، كالأوامر الإرشادية.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 16.

مقتضى عموم النقل فيها إلى مزيد بحث وبيان ومؤونة حجة وبرهان، هذا مع جريانها[1] في كل الأبواب واختصاص تلك القاعدة ببعضها، فافهم[2].

فصل: لو شك في وجوب شيء أو حرمته[3]،

--------------------------------------

في الشك في المانع فقط؟ ونحو ذلك من البحوث، وكذا سائر الأصول الأربعة.

[1] إشارة إلى الجهة الثانية من الجواب، «جريانها» أي: الأصول الأربعة.

[2] لعله إشارة إلى أن الحصر في الأربعة عقلي، فلا تدخل سائر الأصول عقلاً، فحين الشك:

فإنه إما تكون حالة سابقة فهو مجرى الاستصحاب، أو لا تكون، وحينئذٍ إما الشك في التكليف فهو مجرى البراءة، وإما الشك في المكلف به ودار الأمر بين المحذورين فهو مجرى التخيير، أو مع عدم الدوران بينهما فهو مجرى الاشتغال، هذه صور أربعة ولا شق آخر.

أو إشارة إلى أن بعض القواعد الفقهية هي أيضاً محل كلام كثير، كقاعدة ما يضمن بصحيحه، وكقاعدة الفراغ ونحوها، فلا وجه للجواب الأول.

أو إشارة إلى أن بعض المسائل الأصولية - كالنهي عن العبادة موجب للفساد أم لا - لا يجري في كل أبواب الفقه، أو لغير ذلك.

فصل أصالة البراءة

اشارة

[3] لا يخفى أن الشيخ الأعظم(1)

قسم البحث إلى الشبهة التحريمية والشبهة الوجوبية، ثم قسم كل واحد منهما إلى أربعة مسائل: حيث إن منشأ الشبهة الحكمية: إما فقدان النص، وإما إجماله، وإما تعارض النصين، مضافاً إلى الشبهة الموضوعية، ثم بحث في كل واحد على انفراد.

ص: 112


1- فرائد الأصول 2: 17.

ولم تنهض عليه حجة[1]، جاز شرعاً وعقلاً ترك الأول وفعل الثاني، وكان مأموناً من عقوبة مخالفته[2]، كان عدم نهوض الحجة لأجل فقدان النص، أو إجماله

--------------------------------------

ولكن المصنف لم يرتض هذا التقسيم، فدمج الشبهة التحريمية والوجوبية - سواء كانت من فقدان النص أم إجماله - في مسألة واحدة.

كما لم يبحث الشبهة الموضوعية؛ لأنها بحث فقهي لا أصولي.

وكذا لم يبحث عن تعارض النصين لرجوعه إلى فقدان الحجة على مبنى التساقط، أو إلى الخبر الواحد بناءً على الترجيح أو التخيير؛ ولذا قال في الهامش: (لا يخفى أن جمع الوجوب والحرمة في فصل، وعدم عقد فصل لكل منهما على حدة، وكذا جمع فقد النص وإجماله في عنوان عدم الحجة، إنما هو لأجل عدم الحاجة إلى ذلك(1) بعد الاتحاد في ما هو الملاك وما هو العمدة من الدليل على المهم، واختصاص بعض شقوق المسألة بدليل أو بقول لا يوجب تخصيصه بعنوان على حدة.

وأما ما تعارض فيه النصان فهو خارج عن موارد الأصول العملية المقررة للشاك - على التحقيق فيه من الترجيح أو التخيير - كما أنه داخل في ما لا حجة فيه - بناءً على سقوط النصين عن الحجية - .

وأما الشبهة الموضوعية فلا مساس لها بالمسائل الأصولية، بل هي فقهية، فلا وجه لبيان حكمها في الأصول إلاّ استطراداً، فلا تغفل)(2)،

انتهى.

[1] أي: على الوجوب المشكوك أو الحرمة المشكوكة، فلا علم ولا علميّ، «ترك الأول» ما شك في وجوبه، «فعل الثاني» ما شك في حرمته.

[2] أي: مخالفة الوجوب أو الحرمة، فلو كان تكليف واقعاً فلا يعاقب على تركه؛ وذلك لاستقلال العقل وحكم الشرع بالبراءة.

ص: 113


1- أي: عقد فصل لكل منها.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 23.

واحتماله[1] الكراهة أو الاستحباب، أو تعارضه[2] في ما لم يثبت بينهما ترجيح، بناء على التوقف[3] في مسألة تعارض النصين في ما لم يكن ترجيح في البين؛ وأما بناء على التخيير[4] - كما هو المشهور - فلا مجال لأصالة البراءة وغيرها[5]، لمكان وجود الحجة المعتبرة وهو أحد النصين فيها، كما لا يخفى.

وقد استدل على ذلك بالأدلة الأربعة:

أما «الكتاب»: فبآيات[6]،

--------------------------------------

[1] بيان لإجمال النص، أي: كان النصّ موجوداً لكن لم يكن له ظهور في الوجوب أو الاستحباب، أو لم يكن له ظهور في الحرمة أو الكراهة.

[2] أي: تعارض النص، وهذا على مبنى تساقط المتعارضين، وحيث لا دليل آخر يلزم الرجوع إلى الأصل العملي - وهو البراءة هنا - .

[3] أي: تساقط النصين.

[4] أي: حين عدم وجود المرجِّح لأحد النصين على الآخر، فالمشهور على التخيير، بمعنى العمل بأحد النصين حسب ما يختاره، وهذا ليس من البراءة في شيء، بل هو عمل بالدليل الشرعي الحجة - وهو أحد النصين - .

[5] من سائر الأصول العملية.

أدلة البراءة
الأول: الكتاب

[6] منها: قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا مَآ ءَاتَىٰهَاۚ}(1)، وقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ}(2).

ومنها: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوۡمَۢا بَعۡدَ إِذۡ هَدَىٰهُمۡ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا

ص: 114


1- سورة الطلاق، الآية: 7.
2- سورة البقرة، الآية: 286.

أظهرها[1]: قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولٗا}(1)[2].

--------------------------------------

يَتَّقُونَۚ}(2).

ومنها: قوله تعالى: {لِّيَهۡلِكَ مَنۡ هَلَكَ عَنۢ بَيِّنَةٖ وَيَحۡيَىٰ مَنۡ حَيَّ عَنۢ بَيِّنَةٖۗ}(3).

وهناك آيات أخرى ذكرها الشيخ الأعظم في الرسائل(4) مع بيان عدم دلالتها على المطلوب، فراجع.

[1] وجه الأظهرية - على ما قيل(5)

- : هو أن المهم في البراءة هو الأمن من العقوبة على مخالفة الواقع - إن كان - وهذه الآية صريحة في عدم التعذيب.

[2] والاستدلال بهذه الآية يتم عبر مقدمات، ومنها:

1- سلخ {كُنَّا} عن معنى الزمان الماضي، بأن يراد بالآية بيان قضية حقيقية تجري في هذه الأمة أيضاً.

2- كون {مُعَذِّبِينَ} يراد به العذاب الدنيوي والأخروي معاً؛ إذ مجرد عدم العذاب الدنيوي لا دلالة فيه على عدم العذاب الأخروي، فلا تثبت البراءة، مثلاً: تكرار المُحرِم للصيد فإنه لا عقوبة دنيوية فيه مع وجود العقوبة الأخروية، كما قال تعالى: {وَمَنۡ عَادَ فَيَنتَقِمُ ٱللَّهُ مِنۡهُۚ}(6).

3- كون {نَبۡعَثَ رَسُولٗا} يراد به (البيان)، والتعبير ب{نَبۡعَثَ رَسُولٗا} لكون البيان غالباً عن طريق الرسول، كما يقال: (أتمّ الصوم حتى أذان المغرب)، فإن المقصود هو حتى المغرب، ولكن بما أنه جرت العادة على الأذان حين المغرب فلذلك تمّ

ص: 115


1- سورة الإسراء، الآية: 15.
2- سورة التوبة، الآية: 115.
3- سورة الأنفال، الآية: 42.
4- فرائد الأصول 3: 24 - 26.
5- منتهى الدراية 5: 166.
6- سورة المائدة، الآية: 95.

وفيه[1]: إن نفي التعذيب قبل إتمام الحجة ببعث الرسل لعله[2] كان مِنّة منه تعالى على عباده، مع استحقاقهم لذلك. ولو سلم[3] اعتراف الخصم بالملازمة بين

--------------------------------------

تحديد نهاية الصوم بالأذان.

4- أن يكون المقصود من {مُعَذِّبِينَ} هو عدم استحقاق العقاب، أما لو كان المراد عدم فعلية العقاب فلا يدل على البراءة؛ لأن عدم فعلية العقاب قد تجتمع مع الحرمة، كالمحرمات المعفوّ عنها - مثلاً - .

وهنا كلام طويل من أراده راجع الرسائل(1) وغيره.

[1] لقد أشكلوا على هذه المقدمات، ولكن العمدة هو الإشكال على المقدمة الرابعة، وبه ينهدم أساس الاستدلال، وحاصل الإشكال: إن المفيد للبراءة هو دلالة الآية على عدم استحقاق العقوبة، فحينئذٍ يقال: إن عدم استحقاق العقوبة يلازم البراءة قطعاً، ولكن {مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} كما يحتمل ذلك يحتمل أن يراد به عدم فعلية العقوبة، أي: لا يُعاقبون مع استحقاقهم للعقوبة مِنّة عليهم وإتماماً للحجة، ومع وجود هذا الاحتمال لا يمكن الاستدلال بالآية على البراءة.

وربما يؤيد الاحتمال الثاني بقوله تعالى: {وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا}(2) وذلك لأن مخالفة الأحكام العقلية توجب استحقاق الهلكة، ولكن الله يرسل الرسل ليأمروهم، فلما تمت الحجة أهلكهم فعلاً.

[2] أي: هذا الاحتمال أيضاً وارد، فلا يمكن الاستدلال بالآية؛ لأن الاستدلال متوقف على الاحتمال الأول.

[3] قيل(3): إن نفي فعلية التعذيب أعم من نفي الاستحقاق، فلا يدل على البراءة.

ص: 116


1- فرائد الأصول 2: 22 - 24.
2- سورة الإسراء، الآية: 16.
3- قوانين الأصول 2: 16.

الاستحقاق والفعلية لما صح[1] الاستدلال بها إلاّ جدلاً؛ مع وضوح منعه[2]، ضرورة أن ما شك في وجوبه أو حرمته ليس عنده بأعظم مما علم بحكمه[3]، وليس حال الوعيد بالعذاب فيه إلاّ كالوعيد به فيه[4]، فافهم[5].

--------------------------------------

وأجاب عنه الشيخ الأعظم: (بأن عدم الفعلية يكفي في المقام؛ لأن الخصم يدعي أن في ارتكاب الشبهة: الوقوع في العقاب والهلاك فعلاً من حيث لا يعلم... ويعترف بعدم المقتضي للاستحقاق على تقدير عدم الفعلية)(1).

لكن المصنف أشكل عليه بأمرين:

الأول: إن هذا الكلام لا يفيدنا لإثبات البراءة لأنفسنا، بل إنّما يفيد لإلزام الخصم عند الجدال، فنقول له: ما دمت تعترف بالملازمة بين الفعلية وبين الاستحقاق، وقد دلت الآية على عدم الفعلية، فلا استحقاق، وهو معنى البراءة.

وثانياً: إنه لا تلازم بين استحقاق العقوبة وبين فعليتها في المعصية الحقيقيّة؛ وذلك لاحتمال العفو، فكيف يدعي الخصم التلازم في مجهول الحرمة بين فعلية العقاب وبين استحقاقه.

[1] إشارة إلى الإشكال الأول.

[2] إشارة إلى الإشكال الثاني، «منعه» أي: منع اعتراف الخصم بالملازمة.

[3] «ما شك» الشبهة الوجوبية أو التحريميّة، «عنده» عند الخصم، «ما علم بحكمه» أي: الحرام أو الواجب المعلوم.

[4] «بالعذاب فيه» في المشكوك «إلاّ كالوعيد به» بالعذاب «فيه» في ما علم بحكمه، والحاصل: كما لا تلازم بين الاستحقاق وبين الفعلية للعقاب في مخالفة معلوم الحرمة أو الوجوب، كذا وبطريق أولى لا تلازم بينهما في المشكوك الحرمة أو الوجوب.

[5] لعله إشارة إلى عدم ورود الإشكال على كلام الشيخ الأعظم، قال في

ص: 117


1- فرائد الأصول 2: 23.

وأما «السنة»: فبروايات:

منها: حديث الرفع[1]،

--------------------------------------

العناية: (إن الشيخ أعلى الله مقامه لم يَدّع اعتراف الخصم بالملازمة بين الاستحقاق والفعلية، كي يجاب بهذا الجواب، بل ادّعى اعتراف الخصم بالملازمة بين نفي الفعلية ونفي الاستحقاق... الخ)(1).

وهذا الكلام صحيح في حد نفسه؛ لأن عدم فعلية العقاب بشكل دائم دليل على عدم المقتضي لاستحقاقه؛ لعدم المعنى للحرمة مع العفو عنها دائماً، وقد أشكل في شرح اللمعة(2)

على من قال بأن الظهار حرام لكنه معفو عنه.

الثاني من أدلة البراءة: السنة
1- حديث الرفع

[1] وهو قول الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (رفع عن أمتي تسعة أشياء: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والطيرة، والوسوسة في التفكر في الخلق، والحسد ما لم يظهر بلسان أو يد)(3).

وروي الحديث بألفاظ متقاربة ففي بعضها (وضع) بدل (رفع)، مع تقديم وتأخير في بعض الألفاظ، روي بسند صحيح في الخصال(4)، وبأسناد أخرى في الكافي والتوحيد والفقيه والمحاسن(5)

وغيرها.

ثم إن في هذا الحديث بحوثاً:

منها: أن يراد بالموصول في (ما لا يعلمون) الحكم أو الأعم من الحكم وفعل

ص: 118


1- عناية الأصول 4: 12.
2- الروضة البهية 6: 117.
3- الكافي 2: 463، وفيه «وضع» مع اختلاف يسير.
4- الخصال: 417.
5- التوحيد: 353؛ من لا يحضره الفقيه 1: 59؛ المحاسن 2: 339.

--------------------------------------

المكلف.

أما لو كان المراد هو خصوص فعل المكلف فيكون خاصاً بالشبهات الموضوعية، فلا يدل على البراءة، كما لو شك في شرب مايع أنه خمر أو خل، فرفع المؤاخذة على ارتكابه - مثلاً - لا يكون من موارد البراءة؛ لأن الغرض منها رفع التكاليف، وسيأتي مزيد توضيح في قول المصنف: (نعم، لو كان المراد من الموصول... الخ).

ومنها: إن رفع الحكم في (ما لا يعلمون) لا يحتاج إلى تقدير شيء؛ لأن وضع الحكم بيد الشارع فيكون رفعه بيده، وأما في سائر فقرات الحديث كقوله: (ما اضطروا إليه) فحيث إن الموصول فيها هو خصوص فعل المكلّف؛ لعدم وقوع التكليف مورداً للاضطرار، وإنما مورده هو الفعل الخارجي للمكلف، فلابد من تقدير شيء، إما كل الآثار أو الأثر الظاهر أو المؤاخذة، أي: رفعت المؤاخذة على المضطر إليه، أو رفعت كل آثاره، أو رفع الأثر الظاهر كالبينونة في الطلاق مثلاً، وسيأتي مزيد توضيح في قول المصنف: (ثم لا يخفى عدم الحاجة إلى تقدير المؤاخذة... الخ).

ومنها: إن الموضوع أعم من الحكم التكليفي والوضعي، بقرينة رواية المحاسن(1)، حيث استدل الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بحديث الرفع على بطلان الحلف بالطلاق والعتاق والصدقة، وسيأتي توضيحه في قول المصنف: (ثم لا وجه لتقدير خصوص المؤاخذة بعد وضوح... الخ).

ومنها: إن الحديث سيق لبيان المنة على هذه الأمة، فالمرفوع ما كان فيه منة بلا أن يكون نقمة على بعض الأمة، فلا يرفع الضمان في الخطأ؛ لعدم المنة على من أتلف ماله مثلاً، ولا يرفع أثر الصلاة - بالقول ببطلانها - بنسيان غير الأركان مثلاً، وسيشير المصنف إليه بقوله: (التي تقتضي المنة رفعها).

ص: 119


1- المحاسن 2: 339.

حيث عُد «ما لا يعلمون» من التسعة المرفوعة فيه[1]؛ فالإلزام المجهول[2] مما لا يعلمون، فهو مرفوع فعلاً[3] وإن كان ثابتاً واقعاً[4]، فلا مؤاخذة عليه قطعاً[5].

لا يقال[6]: ليست المؤاخذة من الآثار الشرعية، كي ترتفع بارتفاع التكليف المجهول ظاهراً[7]،

--------------------------------------

ومنها: إن المرفوع الأثر المترتب على العنوان الأولي، لا الأثر المترتب على العنوان الثانوي، وسيبينه المصنف بقوله: (ثم لا يذهب عليك أن المرفوع في ما اضطر إليه... الخ).

[1] في حديث الرفع.

[2] سواء كان الإيجاب أم التحريم.

[3] أي: ظاهراً، وبعبارة أخرى: يرفع تنجزه.

[4] فإن الجهل لا يرفع أصل الحكم، بل يرفع تنجزه؛ وذلك لاشتراك العالم والجاهل في الحكم في مرحلة الإنشاء والفعلية؛ لاستحالة تخصيص الحكم بالعالم؛ لاستلزامه التصويب والدور، وقد مرّ البحث في ذلك.

[5] أي: على الإلزام المجهول، والمراد لا استحقاق للمؤاخذة، وهذا ما يكفي في الدلالة على البراءة.

[6] حاصل الإشكال: إن استحقاق العقاب على مخالفة حكم المولى هو أثر عقلي، وليس بحكم الشارع - بما هو شارع - فلا يكون قابلاً للوضع، فلا يكون قابلاً للرفع.

مثلاً: قبح الظلم إنما هو بحكم العقل، فلا يمكن للشارع رفع قبحه؛ لأن وضعه لم يكن بيده، والحاصل: إن رفع التكليف لا يلازم رفع استحقاق المؤاخذة، فلا دلالة على البراءة. نعم، نفس المؤاخذة - أي: فعليتها - بيد الشارع، فيمكنه العفو وعدم العقاب، ولكن هذا لا يفيد للاستدلال على البراءة.

[7] «ظاهراً» متعلق ب- (بارتفاع) أي: الارتفاع ظاهري، فالجهل بالحكم لا يوجب رفع الحكم واقعاً، بل رفعه ظاهراً.

ص: 120

فلا دلالة له على ارتفاعها[1].

فإنه يقال[2]: إنها[3] وإن لم تكن بنفسها أثراً شرعياً، إلاّ أنها مما يترتب عليه بتوسيط ما هو أثره وباقتضائه[4] من إيجاب الاحتياط شرعاً، فالدليل على رفعه[5] دليل على عدم إيجابه المستتبع لعدم استحقاقه العقوبة على مخالفته.

--------------------------------------

[1] «له» لارتفاع التكليف ظاهراً، «ارتفاعها» المؤاخذة.

[2] حاصل الجواب: إن منشأ الحكم العقلي هو أمر بيد الشارع، فالعقل إنما يستقل باستحقاق العقوبة لو كان هناك تكليف، فلو رفع المولى التكليف يرتفع الحكم العقلي قهراً، نظير أن الزوجية ترتفع بارتفاع منشأ انتزاعها - وهي الأربعة مثلاً - فلا يمكن لأحد رفع الزوجية من الأربعة، لكنه يمكنه رفعها برفع منشأ الانتزاع.

[3] «إنها» أي: المؤاخذة، «إلاّ أنها» المؤاخذة، «يترتب عليه» على الإلزام الشرعي، «أثره» أثر الإلزام الشرعي. وحاصل المعنى: إن الشارع كان يمكنه إيجاب الاحتياط حفظاً لتكاليفه الواقعية، وبعد إيجاب الاحتياط يستقل العقل باستحقاق المؤاخذة على مخالفة الواقع، ولكن الشارع مِنّة على العباد لم يُوجب الاحتياط، فارتفع منشأ حكم العقل باستحقاق المؤاخذة.

والحاصل: إ ن استحقاق المؤاخذة لا يمكن رفعه بنفسه، ولكن يمكن رفعه برفع منشئه - وهو إيجاب الاحتياط - .

[4] أي: باقتضاء الإلزام الشرعي، وهو عطف تفسيري على (أثره)، وقوله: «من إيجاب الاحتياط» بيان (أثره)، أي: أثر التكليف هو وجوب الاحتياط حين الشبهات لكي لا يخالف التكليف.

[5] أي: الدليل على رفع الإلزام، «إيجابه» إيجاب الاحتياط، «المستتبع» أي: عدم وجوب الاحتياط يستتبع عدم استحقاق العقوبة، «على مخالفته» مخالفة الإلزام المجهول.

ص: 121

لا يقال[1]: لا يكاد يكون إيجابه[2] مستتبعاً لاستحقاقها على مخالفة التكليف المجهول[3]، بل على مخالفة نفسه[4]، كما هو قضية إيجاب غيره[5].

فإنه يقال[6]:

--------------------------------------

[1] حاصل الإشكال: إن كل تكليف يستلزم استحقاق العقوبة على مخالفته لا على مخالفة تكليف آخر، مثلاً: الأمر بالصوم يستلزم الاستحقاق للعقوبة على مخالفته لا على مخالفة الأمر بالصلاة.

وهنا عدم إيجاب الاحتياط يرفع استحقاق العقوبة على مخالفة الاحتياط، ولا يرفع عدم استحقاقها على مخالفة التكليف المجهول، فتحصل: أنه لا رافع لاستحقاق العقاب على التكليف المجهول، فلا دلالة على البراءة!!

[2] إيجاب الاحتياط، «لاستحقاقها» العقوبة.

[3] لأن كل تكليف يستتبع استحقاق العقاب على مخالفة نفسه، لا على مخالفة غيره من التكاليف، وهنا وجوب الاحتياط لا يستتبع استحقاق العقاب على التكليف المجهول، كي يرتفع هذا الاستحقاق بارتفاع الاحتياط!!

[4] أي: وجوب الاحتياط يستتبع استحقاق العقوبة على مخالفة نفس الاحتياط.

[5] «هو» استحقاق العقوبة، «قضية» مقتضى، «إيجاب غيره» غير الاحتياط، أي: سائر التكاليف تقتضي استحقاق العقوبة على مخالفة نفسها، لا غيرها.

[6] حاصل الجواب: إن الواجبين قد يكونان نفسيين - كوجوب الصلاة ووجوب الصوم - فلا تكون مخالفة أحدهما سبباً لاستحقاق العقاب على الآخر، أما إذا كان أحدهما نفسياً والآخر طريقاً إليه - كوجوب المقدمة حيث إن وجوبها غيري - فالتكليف واحد حقيقة، فمخالفة الطريقي تستوجب العقاب على مخالفة النفسي.

وهنا الاحتياط طريقي، أي: إنّما وجب لا لمصلحة في نفسه - نفسياً - بل لأجل

ص: 122

هذا[1] إذا لم يكن إيجابه طريقياً، وإلاّ فهو[2] موجب لاستحقاق العقوبة على المجهول، كما هو الحال في غيره[3] من الإيجاب والتحريم الطريقيين، ضرورة أنه كما يصح أن يحتج بهما[4] صح أن يحتج به ويقال: «لم أقدمت مع إيجابه؟»، ويخرج به[5] عن العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان كما يخرج بهما.

وقد انقدح بذلك[6]:

--------------------------------------

الحفاظ على التكاليف الواقعية، فمخالفة الاحتياط إذا أدّت إلى مخالفة التكليف الواقعي فإنها تستلزم استحقاق العقاب على مخالفة ذلك التكليف.

[1] أي: استحقاق العقوبة على مخالفة نفس التكليف، «إيجابه» أي: إيجاب الاحتياط.

[2] أي: إن كان إيجاب الاحتياط طريقياً، «فهو» أي: فوجوب الاحتياط، «على المجهول» أي: على مخالفة التكليف الواقعي المجهول عند المكلف، والذي يُراد من وجوب الاحتياط الحفاظ على ذلك التكليف.

[3] في غير إيجاب الاحتياط، من سائر التكاليف الطريقية - التي هي وجوبات غيريّة - .

[4] «بهما» بالإيجاب والتحريم الطريقيين، «به» بإيجاب الاحتياط، «إيجابه» إيجاب الاحتياط. والحاصل: إنه كما يصح الاحتجاج على العبد المخالف لسائر التكاليف الطريقية فيقال له: لماذا خالفت الواقع وقد جعلنا طريقاً إليه؟ كذلك في الأمر بالاحتياط يصح الاحتجاج عليه فيقال له: لماذا خالفت التكليف الواقعي مع إيجاب الاحتياط؟ فلا يكون عقاباً بلا بيان.

[5] بإيجاب الاحتياط، «بهما» الإيجاب والتحريم الطريقيين.

[6] أي: إمكان إيجاب الاحتياط، ولكن مع ذلك لم يوجبه الشارع وذلك مِنّة على العباد، والحاصل: إن للتكليف المجهول اقتضاء إيجاب الاحتياط ومعه تصح المؤاخذة، لكن الشارع رفعه مِنّة.

ص: 123

أن رفع التكليف المجهول[1] كان منّةً على الأمة حيث كان له تعالى وضعه بما هو قضيته من إيجاب الاحتياط، فرفعه، فافهم[2].

ثم لا يخفى[3]

--------------------------------------

[1] أي: رفع تنجزه، وإلاّ ففي مرحلة الإنشاء والفعلية يشترك الجاهل والعالم، «وضعه» وضع التكليف المجهول، «قضيته» أي: مقتضى التكليف المجهول، فإن له اقتضاءً لإيجاب الاحتياط، «من إيجاب» بيان لقوله: «قضيته».

[2] لعله إشارة إلى أن الحديث ليس في مقام الامتنان؛ لأن سائر الفقرات - الاضطرار، الإكراه، ما لا يطيقون... الخ - مرفوعة بحكم العقل، لأنها غير اختيارية، فلا معنى لرفعها امتناناً، ومع التقصير في المقدمات ليست مرفوعة في هذه الأمة، مثلاً: من أوقع نفسه في الاضطرار غير معذور، وحينئذٍ فالسياق ليس في مقام الامتنان، فكذلك هذه الفقرة وهي (ما لا يعلمون).

[3] إن الشيخ الأعظم(1)

ذكر لزوم تقدير شيء في حديث الرفع بعد وضوح أنه لم ترفع هذه الأمور تكويناً في هذه الأمة، فالإكراه والاضطرار... الخ موجودة خارجاً، وحينئذٍ لتصحيح كلام الحكيم لابد من تقدير شيء، وهو المعبر عنه بدلالة الاقتضاء، حيث إن الشيء الذي يتوقف صحة أو صدق الكلام عليه لابد من أن يكون مراداً.

والمقدر في حديث الرفع: إما المؤاخذة، وإما الأثر الظاهر وإما جميع الآثار.

أما المصنف فيقول: إنه لا يلزم تقدير شيء في (ما لا يعلمون)؛ لأن التكليف غير المعلوم هو بيد الشارع، فيمكنه وضعه ويمكنه رفعه. نعم، في سائر الفقرات لابد من أحد أمرين:

1- تقدير شيء؛ لأن التكليف لا يضطر إليه ولا يكره عليه... الخ، بل الفعل الخارجي هو الذي يضطر إليه أو يكره عليه، وحيث إن الفعل الخارجي غير مرفوع

ص: 124


1- فرائد الأصول 2: 28 - 29.

عدم الحاجة إلى تقدير «المؤاخذة» ولا غيرها[1] من الآثار الشرعية في «ما لا يعلمون»، فإن ما لا يعلم من التكليف مطلقاً - كان في الشبهة الحكمية أو الموضوعية[2] - بنفسه قابل للرفع والوضع شرعاً[3]، وإن كان في غيره[4] لابد من تقدير الآثار، أو المجاز في

--------------------------------------

تكويناً فلابد من تقدير شيء وهو الآثار، أي: رفع أثر ما اضطر إليه، وأثر ما أكره عليه... وهكذا.

2- القول بأن في الإسناد مجازاً، كما يقال: (جرى الميزاب) فإن الجاري حقيقة هو الماء، وليس المجاز في الكلمة، فلا يراد من الميزاب الماء، بل يراد به معناه الحقيقي، وإنّما المجاز في الإسناد، أي: عوضاً عن إسناد الجريان إلى الماء فإنه أسند إلى الميزاب مجازاً - بعلاقة الحال والمحل - .

وكذا في سائر فقرات حديث الرفع مجاز في إسناد الرفع إليها، مع أن المرفوع غيرها بعلاقة السبب والمسبب - مثلاً - فالاضطرار سبب لرفع الآثار فلذا أسند الرفع إليه ولكن باعتبار الآثار.

وعدم احتياج تقدير في (ما لا يعلمون) بناءً على كونه في التكليف، أما لو كان معنى (لا يعلمون) الموضوع الخارجي المشتبه - أي: لو كان المراد به الشبهة الموضوعية - فلابد من أحد الأمرين أيضاً.

[1] كالأثر الظاهر، أو كل الآثار الشرعية، «في ما لا يعلمون» أي: في خصوص هذه الفقرة من حديث الرفع.

[2] أي: التكليف أمره بيد الشارع، فلا فرق بين التكليف المجهول في الشبهة الحكمية، كحكم التدخين مثلاً، وبين التكليف المجهول في الشبهة الموضوعية، كحكم المائع المردّد بين كونه خلاً أو خمراً.

[3] لأن التكليف أمره بيد الشارع، فيمكنه وضعه، ويمكنه رفعه.

[4] أي: في غير (ما لا يعلمون) وهي سائر فقرات حديث الرفع. و«إن» وصلية.

ص: 125

إسناد الرفع إليه[1]، فإنه ليس «ما اضطروا وما استكرهوا...» - إلى آخر التسعة - بمرفوع حقيقةً[2]. نعم[3]، لو كان المراد من الموصول في «ما لا يعلمون» ما اشتبه حاله ولم يعلم عنوانه[4] لكان أحد الأمرين مما لابد منه أيضاً.

ثم[5]

--------------------------------------

[1] إلى غير ما لا يعلمون، أي: سائر فقرات حديث الرفع، «فإنه» للشأن.

[2] لوجودها خارجاً وبكثرة، فما أكثر من يضطرون أو يكرهون أو لا يطيقون... الخ.

[3] أي: لو كان المراد من (ما لا يعلمون) خصوص الشبهات الموضوعية - كأفعال الناس - فإنها ليست أموراً شرعية حتى يرفعها الشارع أو يضعها، فلابد من تقدير شيء، أو المجاز في الإسناد.

[4] «ولم يعلم...» عطف تفسيري ل- (ما اشتبه)، مثلاً: المائع الذي لا ندري هل هو خل أم خمر فإن عنوان هذا المائع مجهول مشتبه، «أحد الأمرين» التقدير أو المجاز في الإسناد.

[5] أي: مع الحاجة إلى تقدير شيء، فلا وجه لتقدير خصوص المؤاخذة؛ وذلك للصحيحة المروية في المحاسن، حيث استدل الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بحديث الرفع لرفع الآثار الوضعيّة، فيدل على أن المرفوع الأثر الوضعي أيضاً مضافاً إلى المؤاخذة.

والحديث هو ما رواه أحمد بن محمد، عن أبيه محمد بن خالد البرقي، عن صفوان بن يحيى والبزنطي، عن أبي الحسنعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (سألته عن الرجل يُستكره على اليمين فحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك، أيلزمه ذلك؟ فقال: لا، قال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: وضع عن أمتي ما أكرهوا عليه وما لم يطيقون وما أخطأوا)(1)،

فإن بطلان الحلف بهذه الأمور أثر وضعي، واستدل الإمام الرضاعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ على بطلانه بحديث الرفع.

ص: 126


1- المحاسن 2: 339.

لا وجه لتقدير خصوص المؤاخذة بعد وضوح أن المقدر في غير واحد[1] غيرها؛ فلا محيص عن أن يكون المقدر هو الأثر الظاهر في كل منها، أو تمام آثارها التي تقتضي المنة رفعها[2]. كما أن ما يكون[3] بلحاظه الإسناد إليها مجازاً هو هذا، كما لا يخفى. فالخبر دل على رفع كل أثر تكليفي أو وضعي كان في رفعه مِنّة على الأمة؛ كما استشهد الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بمثل هذا الخبر في رفع ما استكره عليه من[4] الطلاق والصدقة والعتاق.

ثم لا يذهب عليك[5]: أن المرفوع في «ما اضطر إليه» وغيره مما أخذ بعنوانه

--------------------------------------

ولا يخفى أن الحلف بهذه الأمور باطل - حتى في صورة الاختيار - لعدم صحة التعليق في العقود والإيقاعات، ومع ذلك استدل الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بحديث الرفع لبطلانه، ولعل وجهه أن هذا الحلف باطل من جهتين - وإن كان بينهما ترتيب - فتأمل.

[1] من فقرات حديث الرفع، وهي: ما أكرهوا عليه، وما لا يطيقون، وما أخطأوا، «غيرها» أي: غير المؤاخذة، «في كل منها» من الفقرات.

[2] أما الآثار التي رفعها خلاف المِنّة - ولو على بعض المكلفين - فإنها غير مرفوعة؛ وذلك لظهور الحديث في الرفع امتناناً، وعليه فلا ترتفع من الآثار ما كان امتناناً على بعض دون بعض، كرفع الضمان؛ حيث إنه امتنان على الجاني دون المجني عليه، وكذا ما كان خلاف الامتنان مطلقاً، كبطلان الصلاة بالخطأ في غير الأركان - مثلاً - .

[3] أي: بناءً على القول بأنه مجاز في الإسناد، فإن المرفوع هذه الفقرات، ولكن المراد هو رفع الأثر الظاهر أو كل الآثار، كما ذكرنا في مثال جرى الميزاب، فراجع، «إليها» إلى فقرات حديث الرفع، «هو هذا» أي: الأثر الظاهر أو تمام الآثار.

[4] أي: من الحلف بالطلاق والصدقة والعتاق.

[5] حاصله: إن فقرات حديث الرفع قسمان:

ص: 127

الثانوي[1] إنما هو الآثار المترتبة عليه بعنوانه الأولي[2]، ضرورة[3] أن الظاهر أن هذه العناوين صارت موجبةً للرفع[4]،

--------------------------------------

1- ما كان مرفوعاً بعنوانه الأولي، كالطيرة، فإنها مرفوعة بمعنى عدم المؤاخذة عليها وعدم ترتب أثرها.

2- ما كان مرفوعاً بعنوانه الثانوي، فالشيء في حالة الاضطرار مرفوع دون حالة الاختيار، وكذا بعض الفقرات الأخرى.

وفي هذا القسم الثاني هل المرفوع آثار العنوان الأولي فقط، أم جميع الآثار حتى آثار العنوان الثانوي أيضاً مضافاً إلى آثار العنوان الأولي؟

يقول المصنف: إن المرفوع هو آثار العنوان الأولي فقط؛ لاستحالة أن يرفع الحديث آثار العنوان الثانوي؛ وذلك لأن العنوان الثانوي هو علة لهذه الآثار، فلا يمكن أن يكون علة لعدمها، وإلاّ اجتمع النقيضان. مثلاً: الخطأ في الصلاة هو علة لوجوب سجدة السهو، فلا يعقل أن يكون هذا الخطأ عِلة لعدم وجوبها.

[1] ما أخذ بعنوانه الثانوي هو: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه.

أما ما أخذ بعنوانه الأولي فهو: الطيرة، والوسوسة في التفكر في الخلق، والحسد ما لم يظهر بيد أو لسان.

[2] «عليه» على ما اضطر إليه وأمثاله، «بعنوانه الأولي»، مثلاً: القصاص في القتل إنما هو للقتل من حيث هو هو - أي: عنوانه الأولي - ففي صورة الخطأ يرتفع هذا الأثر فلا قصاص، بل يترتب عليه الدية فقط.

[3] بيان سبب عدم رفع آثار الشيء بعنوانه الثانوي، وحاصله: إن العنوان الثانوي علة لتلك الآثار، فلا يعقل أن يكون علّة لعدمها.

[4] «هذه العناوين» الثانوية - كالخطأ والنسيان... الخ - ، «موجبة» أي: سبباً للرفع.

ص: 128

والموضوع للأثر مستدعٍ لوضعه[1]، فكيف يكون موجباً لرفعه[2]؟!

لا يقال[3] كيف[4]! وإيجاب الاحتياط في ما لا يعلم وإيجاب التحفظ[5] في الخطأ والنسيان يكون أثراً لهذه العناوين[6] بعينها وباقتضاء نفسها.

فإنه يقال[7]:

--------------------------------------

[1] «الموضوع» أي: الشيء الذي يكون موضوعاً للأثر، والمقصود الموضوع الذي يكون سبباً للأثر، «مستدعٍ لوضعه» لأن الآثار معلول، والمعلول يترتب على علته قهراً.

[2] أي: كيف يعقل أن يكون سبباً لرفع الأثر، بأن يكون علةً لرفع الأثر؟ فإن هذا هو التناقض بعينه، حيث يكون الشيء علة للوجود وللعدم!!

[3] حاصله: النقض بالاحتياط، فإن الحديث يرفعه، مع أن الاحتياط ليس أثراً للشيء بعنوانه الأولي، بل هو أثر لعدم العلم، حيث يلزم الاحتياط في صورة الجهل بالواقع.

[4] أي: كيف لا يرتفع أثر العنوان الثانوي؟

[5] «التحفّظ» هو فعل شيء كي يحفظ نفسه من الخطأ والنسيان، مثلاً: يتّخذ شاهدين عادلين على صلاته دائماً، لكي ينبّهاه إذا أخطأ، أو يذكراه إذا نسي.

[6] المذكورة في حديث الرفع وهي القسم الثاني من العناوين، كما ذكرناها قبل قليل.

[7] جواب عن النقض، وحاصله: إنّ الاحتياط ليس أثراً ل- (ما لا يعلمون)، بل هو أثر للتكليف الواقعي، فهو أثر للشيء بعنوانه الأولي. نعم، هذا الأثر في ظرف الشك، أي: إن أثر الحكم الواقعي هو لزوم الاحتياط حين الشك، فليس الشك موضوعاً للاحتياط، بل ظرفه، وكذا لزوم التحفظ أثر التكليف الواقعي، لكن ظرفه الخطأ والنسيان.

ص: 129

بل إنما تكون[1] باقتضاء الواقع في موردها[2]، ضرورة أن الاهتمام به يوجب إيجابهما، لئلا يفوت على المكلف، كما لا يخفى.

ومنها: حديث الحَجب[3]. وقد انقدح تقريب الاستدلال به مما ذكرنا في حديث الرفع[4].

إلاّ أنه ربما يشكل[5]

--------------------------------------

[1] أي: تكون هذه الآثار - كالاحتياط ولزوم التحفظ - .

[2] أي: في ظرف عدم العلم وظرف النسيان والخطأ، فتأمل، «به» بالواقع، «إيجابهما» الاحتياط والتحفظ.

2- حديث الحجب

[3] أي: من الروايات الدالة على البراءة: قول الإمام الصادقعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم) كما في توحيد الصدوق(1)، وفي الكافي(2)

بدون (علمه).

و(الوضع) إن تعدى ب- (عن) فمعناه الرفع، وإن تعدى ب- (على) فمعناه الجعل.

[4] أي: الإلزام المجهول يكون من مصاديق (ما حجب الله علمه)، فيكون هذا الإلزام موضوعاً عنهم ظاهراً، حتى لو كان ثابتاً واقعاً، فلا مؤاخذة عليه.

[5] حاصل الإشكال - وقد ذكره الشيخ الأعظم(3)

- : هو أن الحجب حيث نسب إلى الله تعالى فإن معناه ما لم يأمر الله رسوله بتبليغه، وهذا معنى قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَسَۡٔلُواْ عَنۡ أَشۡيَآءَ إِن تُبۡدَ لَكُمۡ تَسُؤۡكُمۡ وَإِن تَسَۡٔلُواْ عَنۡهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلۡقُرۡءَانُ تُبۡدَ لَكُمۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهَاۗ}(4) أي: لا يؤاخذكم على عدم علمها، وهو

ص: 130


1- التوحيد: 413.
2- الكافي 1: 164.
3- فرائد الأصول 2: 41.
4- سورة المائدة، الآية: 101.

بمنع ظهوره في وضع[1] ما لا يعلم من التكليف، بدعوى ظهوره في خصوص ما تعلقت عنايته تعالى بمنع اطلاع العباد عليه لعدم أمر رسله بتبليغه[2]، حيث إنه بدونه[3] لما صح إسناد الحجب إليه تعالى.

ومنها: قولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «كل شيءٍ لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه...»(1) الحديث.

--------------------------------------

معنى قول أمير المؤمنينعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (إن الله تعالى حدّ حدوداً فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تنقصوها، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً فلا تكلفوها رحمة من الله لكم)(2).

وأما ما بلّغه الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ والأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ثم خفي علينا بسبب أفعال الظالمين - من إحراق الكتب ونحوه - أو خفي بسبب آخر كضياع بعض الكتب، فإن هذا لم يحجبه الله، بل حجبه الظالم، أو حجبته أسباب أخرى.

[1] «ظهوره» ظهور حديث الحجب، «في وضع» أي: الوضع عنهم بمعنى الرفع.

[2] ومعنى العبارة: إن الله تعالى بيّنه للرسل لكن لم يأمرها بتبليغه، بل أمرهم بعدم التبليغ.

إن قلت: ما فائدة هذا التكليف؟

قلت: يظهر من بعض الأخبار أن بعض التكاليف لا تتنجّز إلاّ في عصر الظهور، فقد أنزلها الله تعالى على نبيه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وبلّغها هو إلى الأوصياء، لكن لعدم تنجزها إلاّ بعد الظهور لم تُبيّن للناس أصلاً، وتنجّزها في ذلك العصر لا يكون تشريعاً جديداً، فإنّ حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة، فتأمل.

[3] إن الشأن بدون منع الشارع - بل بسبب عوامل أخرى كفعل الظالمين - لا

ص: 131


1- الكافي 5: 313، مع اختلاف يسير.
2- من لا يحضره الفقيه 4: 75.

حيث دل على حلية ما لم يعلم حرمته مطلقاً[1]، ولو كان من جهة عدم الدليل على حرمته[2].

وبعدم الفصل[3] قطعاً بين إباحته[4] وعدم وجوب الاحتياط فيه وبين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية يتم المطلوب[5]؛ مع إمكان أن يقال[6]: «ترك ما احتمل وجوبه مما لم يعرف حرمته فهو حلال»، تأمل[7].

--------------------------------------

يصح نسبة الحجب إليه تعالى، بل إلى تلك العوامل، فتأمل.

3- حديث الحِلّ

[1] سواء كان شبهة موضوعية أم حكمية، ولذا فسر «مطلقاً» بقوله: «ولو كان من جهة...».

[2] وهو الشبهة الحكمية.

[3] قوله: «بعدم» متعلق بقوله: (يتم المطلوب) بعد سطر، أي: لمّا كان هذا الدليل خاصاً بالشبهات التحريميّة، فلأجل تعميمه لكي يشمل الشبهات الوجوبية لابدّ من ضميمة عدم الفصل، فإنه لا قائل ب- (البراءة) في الشبهات التحريمية والاحتياط في الشبهات الوجوبية.

[4] إباحة ما لم يعلم حرمته، «وعدم...» عطف تفسيري، «فيه» في ما لم يعلم حرمته.

[5] وهو البراءة في الشبهات الحكمية مطلقاً - تحريمية كانت أم وجوبية - .

[6] وذلك بإرجاع الشبهات الوجوبية إلى الشبهات التحريمية، فتدخل في مدلول الحديث، فلا نحتاج إلى ضميمة عدم الفصل؛ وذلك لأن كل واجب يكون تركه حراماً، فهذا الترك حيث لم نعرف حرمته فهو حلال!!

[7] لعله إشارة إلى أن الحديث دال على الشبهات الموضوعية فقط دون الحكمية، وذلك لقوله: (أنه حرام بعينه) مما ظاهره الموضوع الخارجي.

ص: 132

ومنها: قولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «الناس في سعة ما لا يعلمون[1]»(1).

فهم في سعة ما لم يعلم أو ما دام لم يعلم[2] وجوبه أو حرمته؛ ومن الواضح[3] أنه لو كان الاحتياط واجباً لما كانوا في سعةٍ أصلاً، فيعارض به[4] ما دل على وجوبه، كما لا يخفى.

--------------------------------------

أو إشارة إلى أن إرجاع الشبهة الوجوبية إلى الشبهة التحريمية خلاف الظاهر، وقد مرّ في بحث الضد أن الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده، فراجع.

4- حديث السعة

[1] نص الحديث هو: (في سعة ما لم يعلموا) أو (في سعة مما لم يعلموا).

وعلى كل حال (ما) في عبارة: (سعة ما لا يعلمون) تحتمل أن تكون موصولة ف- (سعة) مضاف إليها، أي: في سعةِ الذي لا يعلمونه، وتحتمل أن تكون مصدرية زمانية فتكون (سعة) بالتنوين، والمعنى: في سعةٍ ما داموا لا يعلمون.

[2] «سعة ما لم يعلم» بناءً على كون ما موصولة، و«ما دام لم يعلم» بناءً على كون ما مصدرية.

[3] بيان لوجه الاستدلال بهذا الحديث، وحاصله: إنه لو وجب الاحتياط في الشبهات الحكمية فإن ذلك ليس سعة، بل ضيق، وقوله: (في سعة ما لا يعلمون) دل على عدم الضيق، فلا يجب الاحتياط؛ لأنه تضييق.

[4] تعريض بما ذكره الشيخ الأعظم حيث قال: (وفيه ما تقدم في الآيات من أن الأخباريين لا ينكرون وجوب الاحتياط على من لم يعلم وجوب الاحتياط من العقل والنقل... الخ)(2). وحاصل كلامه: أن أدلة الاحتياط واردة على هذا الدليل، فإن هذه الرواية تدل على السعة حين الجهل، ومع ورود أدلة الاحتياط فقد علمنا به فلا جهل، فارتفع موضوع البراءة.

ص: 133


1- عوالي اللئالي 1: 424؛ مستدرك الوسائل 18: 20، مع اختلاف يسير.
2- فرائد الأصول 2: 41.

لا يقال[1]: قد عُلم به[2] وجوب الاحتياط.

فإنه يقال[3]: لم يعلم الوجوب أو الحرمة بعد[4]، فكيف يقع في ضيق الاحتياط من أجله؟ نعم، لو كان الاحتياط واجباً نفسياً كان وقوعهم في ضيقه[5]

--------------------------------------

لكن المصنف: لم يرتض هذا البيان، فإنه يرى هذه الرواية وروايات الاحتياط في عرض واحد فيقع بينها التعارض؛ وذلك لأن الاحتياط أيضاً في حال عدم العلم بالواقع، فأدلة البراءة والاحتياط إنما يجريان في صورة الجهل، فيقع بينهما تعارض.

[1] حاصل الإشكال: هو قيام الدليل على وجوب الاحتياط، فينتفي موضوع حديث السعة، فإن موضوعه عدم العلم، ودليل الاحتياط يرفع الجهل، فقد علمنا بوجوب الاحتياط.

[2] «به» بما دلّ على وجوب الاحتياط، فالمعنى علمنا وجوب الاحتياط بأدلة الاحتياط.

[3] حاصل الجواب: إن وجوب الاحتياط طريقي، أي: إنما هو للحفاظ على التكليف الواقعي، فهذا الوجوب فرع العلم بالتكليف مع عدم العلم التفصيلي به، وحينئذٍ فلو لم نعلم بأصل التكليف فلا دلالة على الاحتياط.

نعم، لو قيل: إنّ وجوب الاحتياط نفسي - أي: مع قطع النظر عن التكليف الواقعي الذي يراد الحفاظ عليه بواسطة الاحتياط - فحينئذٍ تكون أدلة الاحتياط واردة على دليل السعة، حيث إن السعة في صورة عدم العلم بالتكليف، ولكن مع وجوب الاحتياط نفسياً فقد علمنا بالتكليف.

[4] أي: لا زلنا لا ندري بوجود تكليفٍ واقعاً، فكيف يلزم الاحتياط من أجله؟ «الوجوب أو الحرمة» أي: التكليف الواقعي، «بعد» أي: بعد قيام أدلة الاحتياط، «من أجله» من أجل التكليف الذي لا نعلم به.

[5] كان تامة، أي: حصل وقوع الناس في ضيق الاحتياط، «بوجوبه» بوجوب

ص: 134

بعد العلم بوجوبه؛ لكنه[1] عرفت أن وجوبه كان طريقياً، لأجل أن لا يقعوا في مخالفة الواجب أو الحرام أحياناً، فافهم[2].

ومنها: قولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «كل شيء مطلق[3] حتى يرد فيه نهي»(1).

ودلالته[4] تتوقف

--------------------------------------

الاحتياط.

[1] للشأن، أي: قد ذكرنا أن وجوب الاحتياط طريقي، فلا تكون أدلة الاحتياط واردة على دليل السعة، بل يتعارضان؛ لأنه حين الشك في التكليف يدل حديث السعة على عدم الضيق، ويدل دليل الاحتياط على الضيق.

[2] لعله إشارة إلى أن دليل الاحتياط أخص مطلقاً من دليل البراءة، حيث إنه خاص بالشبهات التحريمية، وأدلتها عامة تشمل التحريمية والوجوبية، وحينئذٍ لابد - على القول بالتعارض - من التخصيص، وهذا هو قول الأخباريين.

فلابد من القول من عدم التعارض والجمع الدلالي؛ وذلك بحمل أدلة الاحتياط على الاستحباب، وسيأتي تفصيله عندما نجيب عن أدلة الأخباريين، فانتظر.

5- حديث: كل شيء مطلق

[3] أي: غير مقيد بتحريم، بل مباح.

[4] حيث إن الشيخ الأعظم(2)

حمل قولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (حتى يرد) على معنى الوصول؛ لذا استدل بهذا الحديث على البراءة، فيكون المعنى: كل شيء مباح حتى يصلك نهي، وعدم الوصول أعم من عدم صدور نهي أصلاً، أو صدوره مع عدم وصوله، فيتم المطلوب وهو الاستدلال به على البراءة.

لكن المصنف استظهر أن معنى (حتى يرد) هو حتى يصدر نهي، فما دام الشارع لم يصدر نهي فالأشياء على الإباحة، وهذا لا يرتبط بالبراءة، بل هو أصالة الإباحة، وبينهما فرق؛ لأن معنى أصالة الإباحة أو الحظر هو أنه مع العلم بعدم

ص: 135


1- من لا يحضره الفقية 1: 317؛ وسائل الشيعة 6: 289.
2- فرائد الأصول 2: 43.

على عدم صدق الورود إلاّ بعد العلم[1] أو ما بحكمه بالنهي عنه وإن[2] صدر عن الشارع ووصل إلى غير واحد، مع أنه[3] ممنوع، لوضوح صدقه على صدوره عنه، سيما بعد بلوغه إلى غير واحد وقد خفي على من لم يعلم بصدوره.

لا يقال[4]:

--------------------------------------

وجود نهي فهل الأصل في الأشياء الحظر حتى يرد ترخيص من الشارع، أم أن الأصل هو الإباحة حتى يرد نهي؟ فمورد أصالة الإباحة هو عدم الشك، بل العلم بعدم النهي.

وأما أصالة البراءة فموردها مع الشك في التحريم أو الوجوب.

وقد اتفق الجميع بما فيهم الأخباريون على أصالة الإباحة، مع اختلافهم في أصالة البراءة في الشبهات التحريمية.

والحاصل: إن معنى الحديث: «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» أن الأشياء على الإباحة حتى ينهى عنها الشارع، وهذا معنى أصالة الإباحة، فلا ربط للحديث بأصالة البراءة فإن معناها حين الشك في تحريم شيء فإن الأصل البراءة منه، وكذا حين الشك في وجوب شيء.

[1] أي: بعد الوصول إلى الملكلف بأن يعلم به، «أو ما بحكمه» بحكم العلم، أي: قيام الدليل المعتبر عليه كالخبر الواحد، «بالنهي عنه» عن الشيء.

[2] «إن» وصلية، أي: حتى لو أصدر الشارع التحريم ووصل إلى جمع من المكلّفين، لكنه لم يصل إلى هذا المكلّف، فإنه مطلق غير مقيد بالتكليف - وهذا معنى البراءة - .

[3] إشكال المصنف على استدلال الشيخ، وبيان أن ذاك المعنى غير مراد في الحديث، «أنه» أن عدم صدق الورود إلاّ بعد العلم، «صدقه» صدق الورود، «صدوره» النهي، «عنه» عن الشارع، «بلوغه» النهي، «بصدوره» النهي.

[4] حاصله: إ ن الحديث وإن دل على أصالة الإباحة، لكن بضميمة أصالة

ص: 136

نعم[1]، ولكن بضميمة أصالة العدم[2] صح الاستدلال به وتم[3].

فإنه يقال[4]: وإن تم الاستدلال به بضميمتها[5]، ويحكم بإباحة مجهول الحرمة وإطلاقه[6]، إلاّ أنه لا بعنوان أنه مجهول الحرمة شرعاً، بل بعنوان أنه مما لم يرد عنه النهي واقعاً.

لا يقال[7]: نعم[8]، ولكنه لا يتفاوت في ما هو المهم من الحكم بالإباحة في مجهول الحرمة، كان بهذا العنوان أو بذاك العنوان.

--------------------------------------

العدم يدل على البراءة أيضاً، حيث إنا نشك في صدور نهي عن الشارع فنستصحب عدم صدوره، فيثبت عدم التكليف.

[1] أي: نعم، لا يدل الحديث على أصالة البراءة بمفرده.

[2] أي: استصحاب عدم صدور التكليف من الشارع، حيث إنه قبل البعثة لم يكن نهي، فنشك في صدوره، فنستصحب عدم الصدور.

[3] الاستدلال بحديث (كل شيء مطلق)، ووجه تماميته أن الغرض من البراءة إثبات جواز الاقتحام، وبهذا الحديث ثبت هذا الجواز.

[4] حاصل جواب المصنف: إ ن النتيجة - وهي جواز الاقتحام - وإن حصلت، لكن لا عن طريق البراءة، بل عن طريق أصالة الإباحة.

[5] بحديث كل شيء مطلق، بضميمة أصالة العدم.

[6] «وإطلاقه» عطف تفسيري، بغرض بيان أن (مطلق) في الحديث بمعنى (الإباحة)، «إلاّ أنه» للشأن، «بعنوان أنه» أن الشيء.

[7] إشكال على جواب المصنف، وحاصله: إن الغرض هو إثبات جواز الاقتحام في مشكوك الحرمة، فلا يهمّنا أن يكون عن طريق أصالة البراءة، أو عن طريق أصالة الإباحة بضميمة أصالة العدم.

[8] أي: نسلم أنه ليس استدلالاً بعنوان مجهول الحرمة، بل بعنوان أنه لم يرد فيه نهي.

ص: 137

فإنه يقال[1]: حيث إنه بذاك العنوان[2] لاختص بما لم يعلم ورود النهي عنه أصلاً، ولا يكاد يعم[3] ما إذا ورد النهي عنه في زمان وإباحته في آخر واشتبها من حيث التقدم والتأخر.

لا يقال[4]: هذا[5] لو لا عدم الفصل بين أفراد ما اشتبهت حرمته.

--------------------------------------

[1] حاصل الجواب: إن هنالك فرقاً، وتظهر الثمرة في الشيء الذي توارد عليه النهي والإباحة، ولكن لا نعلم تاريخهما، فهل الإباحة متأخرة حتى تكون ناسخة للحرمة، أم العكس؟ وحينئذٍ لا تجري أصالة الإباحة؛ وذلك للعلم بصدور النهي، كما لا يجري استصحاب النهي ولا استصحاب الإباحة لتعارضهما. ولكن تجري أصالة البراءة - لو تم دليلها - .

والحاصل: إن الاستدلال بهذا الحديث على البراءة يستلزم عدم إمكان القول بإباحة مجهول الحرمة إذا تعاقب عليه الإباحة والحرمة مع الجهل بتاريخهما.

[2] «إنه» إن الحكم بالإباحة، «بذاك العنوان» بعنوان أنه لم يصدر فيه نهي، «لاختص» أي: اختص الحكم بالإباحة.

[3] أي: لا يشمل الحكم بالإباحة المورد الذي تعاقب فيه النهي والإباحة، مع أنه على القول بالبراءة فإنها تجري حتى في هذه الصورة.

[4] الغرض هو إدخال صورة التعاقب في الحكم بالإباحة بضميمة عدم القول بالفصل، فإن جميع من قال بالإباحة لم يفرق بين عدم ورود نهي أو اشتباه تاريخ النهي والإباحة بعد ورودهما، وكذا من قال بالاحتياط لم يفرق بين الصورتين.

فالحاصل: إن هذا الحديث بضميمة أصالة العدم وضميمة عدم الفصل دل على الإباحة في جميع موارد البراءة.

[5] «هذا» أي: عدم شموله لصورة التعاقب المذكورة.

ص: 138

فإنه يقال[1]: وإن لم يكن بينها[2] الفصل، إلاّ أنه إنما يجدي في ما كان المثبت للحكم بالإباحة في بعضها الدليل لا الأصل[3]، فافهم[4].

وأما «الإجماع»[5]:

--------------------------------------

[1] حاصل جواب المصنف: إن عدم الفصل لازم أصالة العدم، وهذا اللازم ليس أثراً شرعياً، بل هو أثر عادي، وسيأتي عدم حجيّة مثبتات الأصول العملية.

[2] بين أفراد ما اشبهت حرمته، «إلاّ أنه» أن عدم الفصل.

[3] «في بعضها» أي: في بعض الأفراد، «الدليل» أي: الدليل الاجتهادي، فإن مثبتات الأدلة الاجتهادية حجة - أي: لوازمها العقلية والعادية - «لا الأصل» أي: الأصول العملية، وأصالة العدم هنا هي أصل عملي - لأنها استصحاب عدم صدور النهي - .

[4] إشارة إلى أن عدم الفصل ليس من اللوازم العادية لأصالة العدم المذكورة، بل هي تنقح موضوع عدم الفصل، فإن العرف لا يرى فرقاً بين الإباحة في ما لم يرد فيه نهي، وبين الإباحة في ما تعاقب فيه النهي والإباحة، وإنّما بأصالة العدم يثبت أحد الشقين، فيتحقق موضوع عدم الفصل، فتثبت الإباحة في الشق الآخر.

فتحصل: إمكان الاستدلال بحديث (كل شيء مطلق) ولكن بضميمة أصالة العدم، وعدم الفصل، مع قطع النظر عن أن الحديث مرسل، فتأمل.

الثالث من أدلة البراءة: الإجماع

[5] من وجهين - ذكرهما الشيخ في الرسائل(1)

- :

الأول: الإجماع على أصالة الإباحة، وهذا الوجه لا ينفع إلاّ بعد إثبات عدم ورود دليل على الاحتياط. فإن معنى أصالة الإباحة هو إباحة الشيء من حيث هو لولم يرد فيه نهي.

ص: 139


1- فرائد الأصول 2: 50.

فقد نقل على البراءة. إلاّ أنه موهون[1] ولو قيل باعتبار الإجماع المنقول في الجملة، فإن تحصيله في مثل هذه المسألة - مما للعقل إليه سبيل، ومن واضح النقل عليه دليل - بعيدٌ جداً.

وأما العقل: فإنه قد استقل[2]

--------------------------------------

الثاني: الإجماع على الحكم بعدم وجوب الاحتياط ما لم يرد دليل على تحريمه، وتحصيل هذا الإجماع من وجوه:

1- ملاحظة فتاوى الفقهاء في الفقه.

2- الإجماعات المنقولة والشهرة المحققة.

3- الإجماع العملي الكاشف عن رضا المعصومعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[1] أي: حتى لو قلنا بحجية الإجماع المنقول، لكنا لا نقول بحجيته هنا؛ وذلك لأن من شرائط حجية الإجماع هو أن لا يكون محتمل الاستناد إلى دليل، فلو احتملنا استناد المجمعين إلى دليل عقلي أو نقلي لم يكن هذا الإجماع حجة.

هذا مضافاً إلى عدم تحقق الإجماع لمخالفة جمهرة الأخباريين، وإلى عدم حجية الإجماع في المسائل العقلية، فلا يدل على البراءة العقلية - حتى مع إحراز الإجماع - .

الرابع من أدلة البراءة: العقل

[2] القاعدة العقلية هي (قبح العقاب بلا بيان) ويشترط فيها أمران:

1- أن لا يوجد بيان، بلا فرق بين بيان الحكم الواقعي أو بيان الحكم الظاهري، فلو أوجب المولى الاحتياط - كما في موارد العلم الإجمالي - فلم يمتثل العبد، فصادف مخالفة الواقع لا يكون عقابه عقاباً بلا بيان.

2- الفحص واليأس، فإن عدم البيان لا يصدق لو لم يفحص، فإن كل ما يمكن الوصول إليه بالفحص يعتبر بياناً عند العقل.

ص: 140

بقبح العقوبة والمؤاخذة[1] على مخالفة التكليف المجهول بعد الفحص واليأس عن الظفر بما كان حجةً عليه[2]، فإنهما بدونها عقاب بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان، وهما قبيحان بشهادة الوجدان.

ولا يخفى[3]:

--------------------------------------

[1] عطف تفسيري، أو يفرّق بينهما بأن يقال: إن المؤاخذة تشمل العتاب، فتكون أعم من العقوبة.

[2] على المكلف، «فإنهما» العقوبة والمؤاخذة، «بدونها» بدون الحجة، «وهما» العقاب بلا بيان، والمؤاخذة بلا برهان.

[3] ردّ لتوهم، وحاصل التوهم: إن هناك قاعدة عقلية أخرى هي: (وجوب دفع الضرر المحتمل)، ونفس هذه القاعدة بيان، فيرتفع موضوع قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)؛ لأن احتمال الضرر بيان!!

وبعبارة أخرى: (قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل) تكون واردة على قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، فإنه يحتمل أن يكون هنالك تكليف لم يظفر عليه المكلف حتى بعد الفحص واليأس، ومع احتمال التكليف يحتمل الضرر، فيتحقق موضوع قاعدة (وجوب دفع الضرر محتمل)، وهي بنفسها بيان عقلي، فلا تجري قاعدة (قبح العقاب بلا بيان).

والجواب: إن الضرر المحتمل إما أخروي وإما دنيوي:

أما الأخروي: فلا نحتمل العقوبة مع احتمال التكليف، بل العقوبة على مخالفة الحجة، والتكليف المحتمل ليس بحجة، فقولكم: (مع احتمال التكليف نحتمل الضرر الأخروي) محل إشكال، فتأمل.

وأما الدنيوي: فأولاً: إنه لا يلزم دفعه - حتى المتيقن منه - وثانياً: إن احتمال التكليف يلازم احتمال المفسدة لا احتمال الضرر، وسيأتي توضيحه.

ص: 141

أنه مع استقلاله بذلك[1] لا احتمال[2] لضرر العقوبة في مخالفته، فلا يكون مجال هاهنا[3] لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل كي يتوهم أنها تكون بياناً. كما أنه مع احتماله[4] لا حاجة إلى القاعدة، بل في صورة المصادفة[5] استحق العقوبة على المخالفة ولو قيل بعدم وجوب دفع الضرر المحتمل.

وأما ضرر غير العقوبة[6]:

--------------------------------------

[1] استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان.

[2] إشارة إلى الضرر الأخروي - وهو العقوبة - ، «مخالفته» مخالفة التكليف المجهول.

[3] في التكليف المجهول بعد الفحص واليأس، وإنّما لم يكن مجال لما ذكرنا من أن العقوبة إنما هي على مخالفة الحجة، ومجرد احتمال التكليف ليس بحجة.

[4] «أنه» للشأن، «احتماله» ضرر العقوبة، والمقصود هو أن احتمال العقاب منجز للتكليف من غير حاجة إلى قاعدة (وجوب دفع الضرر المحتمل)؛ إذ لو لم يكن مؤمِّن من العقاب فإن العقل يستقل بلزوم الاحتياط، فإن خالف ولم يصادف الواقع كان تجرياً، وإن صادف الواقع كان مخالفة يستحق عليها العقاب.

والحاصل أنه مع الجهل بالتكليف وبعد الفحص واليأس:

أ: لا نحتمل العقاب، فلا موضوع لقاعدة (وجوب دفع الضرر المحتمل).

ب: ولو فرض احتمال العقاب فإنه يجب الاحتياط حتى لو لم نقل بقاعدة (دفع الضرر المحتمل)؛ وذلك لأن احتمال العقاب بيان.

[5] أي: خالف الاحتياط فصادف مخالفة الواقع، فهنا يستحق العقاب على نفس مخالفة الواقع؛ لأنه اقتحم من غير مؤمِّن، وإن لم يصادف الواقع كان تجرياً يستحق العقوبة على تجريه - بناءً على حرمة التجري - .

[6] إشارة إلى الضرر الدنيوي.

ص: 142

فهو وإن كان محتملاً[1]، إلاّ أن[2] المتيقن منه - فضلاً عن محتمله - ليس بواجب الدفع شرعاً ولا عقلاً، ضرورة عدم القبح في تحمل بعض المضار ببعض الدواعي عقلاً وجوازه شرعاً[3]. مع أن احتمال الحرمة[4] أو الوجوب لا يلازم احتمال المضرة

--------------------------------------

[1] لأن الضرر الدنيوي أثر وضعي تكويني، والآثار الوضعية التكوينية تترتب على الشيء، ولا ترتبط بالعلم والجهل، فمن شرب السُمّ يموت - عالماً كان بأنه سُمّ أم لا - .

[2] إشارة إلى الجواب الأول، أي: إن قاعدة (وجوب دفع الضرر المحتمل) لا تشمل الضرر الدنيوي؛ وذلك لأن الضرر المتيقن يجوز ارتكابه، فجواز ارتكاب الضرر المحتمل بطريق أولى، فإن العقلاء يتحمّلون كثيراً من الأضرار المقطوعة لبعض الدواعي. نعم، يقبح تحمل الضرر البالغ - كإهلاك النفس، أو تلف عضو أو إسقاط قوة - ولكن عامة الأضرار ليست ضرراً بالغاً، وسيأتي مزيد توضيح في قاعدة لا ضرر.

[3] «جوازه» عطف على (عدم القبح)، أي: تحمل هذه الأضرار ليس قبيحاً عقلاً، وهو جائز شرعاً.

[4] إشارة إلى الجواب الثاني عن تحمل الأضرار الدنيوية، وحاصله: إن سبب الوجوب والحرمة إنما هو المفسدة والمصلحة، وهما لا يلازمان الضرر والنفع، فالجهاد فيه الضرر الشخصي على المجاهد - بالقتل والجرح ونحوهما - ولكنه واجب لوجود المصلحة، والسرقة فيها نفع شخصي للسارق ولكنها محرمة لوجود المفسدة، فالضرر الدنيوي لم يكن سبباً للتحريم، بل وجب تحمله للمصلحة العامة، والنفع الدنيوي لم يكن سبباً للوجوب، بل حرم تحصيله للمفسدة العامة.

والحاصل: إن ملاك التكليف هو المصلحة والمفسدة، لا الضرر والنفع، فلا يكون احتمالها احتمالاً للتكليف.

ص: 143

وإن كان ملازماً لاحتمال المفسدة أو ترك المصلحة، لوضوح أن المصالح والمفاسد[1] التي تكون مناطات الأحكام - وقد استقل العقل بحسن الأفعال التي تكون ذات المصالح وقبح ما كان ذات المفاسد - ليست[2] براجعةٍ إلى المنافع والمضار، وكثيراً ما يكون محتمل التكليف مأمون الضرر. نعم[3]، ربما تكون المنفعة أو المضرة مناطاً للحكم شرعاً وعقلاً.

إن قلت[4]: نعم[5]، ولكن العقل يستقل بقبح الإقدام على ما لا تؤمن مفسدته، وأنه كالإقدام على ما علم مفسدته، كما استدل به[6] شيخ الطائفة(1)

على أن الأشياء على الحظر أو الوقف.

--------------------------------------

[1] المقصود المصالح والمفاسد الدنيوية، «مناطات الأحكام» لما هو الحق وعليه العدلية من أن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد.

[2] «ليست» خبر (أن) في قوله: (لوضوح أن المصالح.... الخ).

[3] أي: في بعض الأحيان يكون الضرر منشأ للمفسدة، فيكون حراماً لا لأنه ضرر، بل لأن فيه المفسدة. وكذا قد يكون النفع منشأ للمصلحة، فيكون واجباً؛ لأن فيه المصلحة لا بسبب النفع.

[4] حاصله: إنه يجب دفع محتمل المفسدة أيضاً، فمحتمل التكليف حتى لو لم نحتمل فيه الضرر الدنيوي لكنه محتمل المفسدة، حيث إن التكليف المحتمل يساوي احتمال المفسدة، فهذه القاعدة تكون بياناً، فلا تجري قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)!!

[5] أي: سلمنا أن محتمل التكليف كثيراً ما يكون مأمون الضرر.

[6] استدلال شيخ الطائفة في موضوع أن الأشياء على الإباحة أو على الحظر - أي: المنع - . وقد مرّ أن أصالة الإباحة أو الحظر تختلف عن أصالة البراءة، وعلى كل حال فإن الشيخ يرى أن الأصل الحظر، وسبب ذلك هو أن كل ما لم يعلم

ص: 144


1- العدة في أصول الفقه 2: 742.

قلت[1]: استقلاله بذلك[2] ممنوع، والسند شهادة الوجدان ومراجعة ديدن العقلاء من أهل الملل والأديان، حيث إنهم لا يحترزون مما لا تُؤمَن مفسدته ولا يعاملون معه[3] معاملة ما علم مفسدته، كيف[4]! وقد أذن الشارع بالإقدام عليه[5]،

--------------------------------------

حكمه فإنه يحتمل أن يكون فيه المفسدة، فيجب الاجتناب عنه حتى يرد ترخيص من الشارع، «استدل به» أي: بقبح الإقدام على محتمل المفسدة وأنه كالإقدام على معلومها.

وفي ما نحن فيه - أصالة البراءة أو الاحتياط - نتمسك بنفس هذا الدليل لإثبات عدم البراءة!! لأن هذا بيان، فلا تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان!!

[1] حاصل الجواب: إن العقل لا يساوي بين محتمل المفسدة وبين معلوم المفسدة، ويتضح ذلك من:

1- الوجدان، حيث نرى فرقاً.

2- سيرة العقلاء، فإنهم لا يقدمون على معلوم المفسدة، ولكنهم كثيراً يقدمون على محتمل المفسدة.

3- إن الشارع أذن في الاقتحام في محتمل المفسدة، بالبراءة في الشبهات الوجوبية مثلاً، ولو كان الاقتحام في محتمل المفسدة قبيحاً لم يكن الشارع يأذن به؛ لاستحالة إذن الشارع في القبيح.

[2] استقلال العقل، «بذلك» بأن محتمل المفسدة كمعلومها.

[3] مع محتمل المفسدة.

[4] أي: كيف يكون محتمل المفسدة كمعلوم المفسدة في القبح؟

[5] على معلوم المفسدة، كما في الشبهات الوجوبية، حيث اتفقوا على إجراء البراءة وعدم لزوم الاحتياط.

ص: 145

ولا يكاد يأذن بارتكاب القبيح، فتأمل[1].

واحتج للقول بوجوب الاحتياط في ما لم تقم فيه حجة بالأدلة الثلاثة[2]:

أما «الكتاب»: فبالآيات الناهية عن القول بغير العلم[3] وعن الإلقاء في التهلكة[4]

--------------------------------------

[1] لعله إشارة إلى أن الوجدان، وديدن العقلاء، وترخيص الشارع إنّما هي في ما يكون احتمال المفسدة ضعيفاً بحيث يطمئن بعدمها، ففي الحقيقة إنّما هو اعتماد على الاطمئنان في عدم المفسدة، أما مع عدم الاطمئنان فلا.

أو هو إشارة إلى اختلاف درجات محتمل المفسدة، فإن كانت المفسدة المحتملة قليلة جوّزوا الاقتحام، أما إذا كانت عظيمة فلا يجوزون.

أو هو إشكال على الاستدلال بترخيص الشارع، فإنه لو تمسكنا بترخيص الشارع فإنه تخرج البراءة العقلية عن كونها أصلاً مستقلاً، بل نحتاج في إثباتها إلى ترخيص الشارع.

أدلة وجوب الاحتياط
اشارة

[2] الكتاب، والسنة، والعقل.

الدليل الأول: الكتاب

[3] كقوله تعالى: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ}(1)، وقوله تعالى: {وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ}(2)، حيث إنه مع عدم علمنا بالتكليف يلزم التوقف، فلو قلنا بالبراءة فهو قول بغير علم!!

[4] أي: والآيات الناهية عن الإلقاء في التهلكة، كقوله تعالى: {وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ}(3)، حيث إن الاقتحام في الشبهات إلقاء فيها!!

ص: 146


1- سورة البقرة، الآية: 169.
2- سورة الإسراء، الآية: 36.
3- سورة البقرة، الآية: 195.

والآمرة بالتقوى[1].

والجواب[2]: إن القول بالإباحة شرعاً وبالأمن من العقوبة عقلاً ليس قولاً بغير علم، لما دل على الإباحة من النقل[3] وعلى البراءة من حكم العقل، ومعهما[4] لا مهلكة في اقتحام الشبهة أصلاً، ولا فيه مخالفة التقوى، كما لا يخفى.

وأما «الأخبار»[5]:

--------------------------------------

[1] كقوله تعالى: {ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ}(1)، حيث إن (التقوى) مشتقة من الوقاية بمعنى حفظ النفس، ولازمه الاحتياط والحذر، والاقتحام ينافي ذلك.

[2] أي: مع قيام الدليل العقلي والشرعي على البراءة، فلا يكون القول والعمل بها قولاً بغير علم ، ولا إلقاء النفس في التهلكة، ولا خلاف التقوى، بل القول بالبراءة يكون قولاً بعلم فلا تهلكة ولا مخالفة التقوى.

[3] لعل التعبير بالإباحة لأجل التفنن في العبارة، فإن المراد البراءة.

[4] أي: مع ما دل من النقل والعقل على البراءة.

الدليل الثاني: على الاحتياط الأخبار

[5] الأخبار أربع طوائف - على ما في الرسائل(2)

- :

1- ما دلّ على حرمة القول والعمل بغير علم، كقولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به، وإذا جاءكم ما لا تعلمون فها، وأومأ بيده إلى فيه)(3).

2- ما دلّ على وجوب التوقف عند الشبهة وعدم العلم، كقولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة)(4).

3- ما دلّ على وجوب الاحتياط، كقولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (أخوك دينك فاحتط لدينك بما

ص: 147


1- سورة آل عمران، الآية: 102.
2- فرائد الأصول 2: 63.
3- وسائل الشيعة 27: 38.
4- الكافي 1: 50.

فبما دل[1] على وجوب التوقف عند الشبهة - معللاً في بعضها بأن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في التهلكة - من[2] الأخبار الكثيرة الدالة عليه مطابقةً أو التزاماً.

وبما دل[3]

--------------------------------------

شئت)(1).

4- أخبار التثليث، كقوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (حلال بيّن، وحرام بيّن، وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم)(2).

وقد ظهر الجواب عن الطائفة الأولى بما ذكرنا في جواب الاستدلال بالآيات، من أنه بعد دلالة العقل والنقل لا يكون القول بالبراءة قولاً بغير علم؛ ولذا لم يذكر المصنف هذه الطائفة. وبما أن الطائفة الرابعة داخلة في الطائفة الثانية، من حيث دلالتها على التوقف عند الشبهات فلذا لم يذكرها المصنف مستقلاً، بل ذكر الطائفتين الثانية والثالثة.

[1] هي الطائفة الثانية والرابعة.

[2] «من» بيان لقوله: (فبما دل على وجوب التوقف عند الشبهة)، «عليه» على الاحتياط، «مطابقة» كقولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات)(3)، فإن الوقوف بمعنى الاحتياط مطابقة، «التزاماً» كقولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (في حلالها - الدنيا - حساب، وفي حرامها عقاب، وفي الشبهات عتاب)(4)، حيث إن لازم قولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (في الشبهات عتاب) هو حسن الاحتياط فيها.

[3] وهي الطائفة الثالثة.

ص: 148


1- وسائل الشيعة 27: 167.
2- الكافي 1: 68.
3- الكافي 1: 68.
4- بحار الأنوار 44: 139.

على وجوب الاحتياط من الأخبار الواردة بألسنة مختلفة[1].

والجواب: إنه[2] لا تهلكة في الشبهة البدوية[3] مع دلالة النقل على الإباحة وحكم العقل بالبراءة، كما عرفت.

وما دل[4]

--------------------------------------

[1] فراجع الرسائل(1)

حيث ذكر مجموعة من تلك الروايات، وكذا الوسائل، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 12، وكذا في كتاب النكاح من الوسائل، أبواب مقدمات النكاح وآدابه، الباب 157.

[2] جواب عن الطائفة الثانية والرابعة، فإنها دلت على التهلكة في اقتحام الشبهات، والتهلكة يراد بها العقاب، ومع قيام الدليل العقلي - بقبح العقاب بلا بيان - والدليل النقلي على البراءة فلا تهلكة أصلاً.

[3] بعد الفحص واليأس، أما قبلهما وفي الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي فلا دليل على البراءة، بل الدليل على لزوم الاحتياط؛ ولذا خصّ البحث بالشبهة البدوية.

[4] جواب عن الطائفة الثالثة الدالة على الاحتياط، وهنا ثلاثة أجوبة:

الجواب الأول: ما ذكره الشيخ الأعظم، قال: (إيجاب الاحتياط إن كان مقدمة للتحرز عن العقاب الواقعي فهو مستلزم لترتب العقاب على التكليف المجهول، وهو قبيح - كما اعترف به - وإن كان حكماً ظاهرياً نفسياً فالهلكة الأخروية مترتبة على مخالفته لا مخالفة الواقع)(2)،

انتهى.

بيانه: إنه لا يمكن دلالة أخبار الاحتياط على وجوبه؛ وذلك لدورانها بين أمرين:

1- إنها تدل على وجوب الاحتياط مقدمة للتحرز عن العقاب المترتب على مخالفة

ص: 149


1- فرائد الأصول 2: 76 - 78.
2- فرائد الأصول 2: 71.

على وجوب الاحتياط لو سلم[1] وإن كان وارداً[2] على حكم العقل، فإنه[3] كفى بياناً على العقوبة على مخالفة التكليف المجهول - ولا يصغى إلى ما قيل[4] من:

--------------------------------------

الواقع. وهذا باطل قطعاً؛ لأن الواقع المجهول لا عقاب على مخالفته، فكيف يجب التحرز عن ذلك العقاب بالاحتياط؟!

2- إنها تدل على وجوب الاحتياط نفسياً، وهذا أيضاً لا يصح؛ لأن وجوب الاحتياط إنما هو لإدراك الواقع، وليس وجوباً نفسياً، كما قال الشيخ: (وصريح الأخبار إرادة الهلكة الموجودة في الواقع على تقدير الحرمة الواقعية)(1).

الجواب الثاني: إن أخبار البراءة أخص وأظهر، فتقدم على أخبار وجوب الاحتياط.

الجواب الثالث: إن هناك شواهد تدل على أن الأمر بالاحتياط هو للإرشاد وليس أمراً مولوياً، وسيأتي توضيح الجوابين.

[1] إشارة إلى أن الصحيح هو عدم دلالة أخبار الاحتياط على وجوبه، كما سيأتي في الجواب الثالث.

[2] فإن تلك الأخبار تكون بياناً لوجوب الاحتياط، وإذا خالف هذا الوجوب وصادف مخالفة الواقع فلا يكون عقابه عقاباً بلا بيان، وحينئذٍ تكون أدلة الاحتياط واردة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان، و(الورود) هو أن ينتفي موضوع الدليل الأول بواسطة الدليل الثاني.

[3] فإن ما دلّ على وجوب الاحتياط يكفي لكونه بياناً، فلو قال المولى: (إنك إن لم تعلم بالتكليف فعليك بالاحتياط)، فإن لم يحتط وصادف مخالفة الواقع كان مستحقاً للعقاب، فلا يكون عقاباً بلا بيان.

[4] هذا هو الجواب الأول، وقد شرحناه قبل قليل.

ص: 150


1- فرائد الأصول 2: 71.

«أن إيجاب الاحتياط إن كان مقدمةً للتحرز عن عقاب الواقع المجهول فهو قبيح[1]، وإن كان نفسياً فالعقاب على مخالفته[2] لا على مخالفة الواقع[3]». وذلك لما عرفت[4] من أن إيجابه[5] يكون طريقياً، وهو عقلاً مما يصح أن يحتج به على المؤاخذة في مخالفة الشبهة، كما هو الحال[6] في أوامر الطرق والأمارات والأصول

--------------------------------------

[1] لأن معناه أن في مخالفة التكليف المجهول عقاباً، وللتحرز عن ذلك العقاب عليك بالاحتياط، ومن المعلوم أن جعل العقاب على التكليف المجهول قبيح، فكيف يجب الاحتياط للتحرز عنه؟

[2] أي: مخالفة الاحتياط، لما مرّ من أن مخالفة أمرٍ نفسيٍ لا يستوجب العقاب على أمرٍ نفسيٍ آخر.

[3] وهذا واضح البطلان، حيث إن الاحتياط لم يجب إلاّ لحفظ الواقع، ولا مصلحة فيه نفسياً.

[4] إشكال على هذا الجواب، وحاصله: إن هناك شقاً ثالثاً، فليس العقاب على التكليف المجهول، ولا الاحتياط نفسي، بل وجوب الاحتياط طريقي لحفظ الواقع، كما في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي، والشبهات البدوية قبل الفحص.

والحاصل: أنا لا نقول: إنّ مخالفة التكليف المجهول فيها العقاب فوجب الاحتياط، بل نقول: إن المولى يريد حفظ الواقع فيأمر بالاحتياط، فلو خالف وصادف مخالفة الواقع فإن عقابه لا يكون عقاباً بلا بيان.

[5] «إيجابه» إيجاب الاحتياط، «وهو» الإيجاب الطريقي، «عقلاً» لأن إيجاب الاحتياط بيان، فتكون العقوبة مع البيان، «يحتج به» بالإيجاب الطريقي.

[6] أي: إن الأمارات التي جعلها الشارع - كالخبر الواحد - إنّما هي طريق إلى الواقع، وليس وجوب التمسك بها طريقاً، فلو خالف المكلّف تلك الأمارات وصادف مخالفة الواقع لم يكن عقابه بلا بيان، وكذا الطرق والأصول العملية.

ص: 151

العملية[1] -، إلاّ أنها[2] تعارَض بما هو أخص وأظهر، ضرورة أن ما دل على حلية المشتبه أخص[3]، بل هو في الدلالة على الحلية نص[4]، وما دل على الاحتياط غايته[5] أنه ظاهر في وجوب الاحتياط.

--------------------------------------

والحاصل: إن إيجاب الاحتياط؛ مثل: إيجاب العمل بالطرق والأمارات والأصول العملية؛ كلها تكون بياناً، فتكون واردة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

[1] «الطرق» في الموضوعات كثبوت أول الشهر، «الأمارات» في الأحكام، «الأصول العملية» المقصود هو الاستصحاب فقط - كما قيل - .

[2] الجواب الثاني، الذي ارتضاه المصنف، أي: إن ما دلّ على وجوب الاحتياط - لو سلم - وإن كان وارداً على حكم العقل، إلاّ أنها تعارض بما هو... الخ، «أنها» الصحيح: (أنه)، لأن مرجع الضمير ما دل على وجوب الاحتياط.

وحاصل الجواب: إن أدلة الاحتياط عامة وظاهرة، وأدلة البراءة هي خاصة ونص، ومن المعلوم تخصيص العام بالخاص، وتقدم النص على الظاهر.

[3] لأن أدلة الاحتياط عامة لما قبل الفحص وما بعد الفحص، وأدلة البراءة خاصة بما بعد الفحص، حيث لا تجري أدلة البراءة قبل الفحص.

[4] لأن كلمة (حلال) في بعض الأحاديث كقولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام)(1)

نص في الحلية، لا احتمال آخر فيه، «بل هو» أي: ما دلّ على حلية المشتبه.

[5] أي: غاية دلالته هو الظهور في الوجوب؛ لأنه بصيغة الأمر، وهي ليست بنص في الوجوب، بل ظاهرة فيه. وفي الجمع الدلالي يقدم النص على الظاهر، فلابد من حمل الأمر بالاحتياط على الاستحباب - مثلاً - .

ص: 152


1- الكافي 5: 313، مع اختلاف يسير.

مع أن هناك[1] قرائن[2] دالة على أنه[3] للإرشاد، فيختلف إيجاباً واستحباباً

--------------------------------------

[1] الجواب الثالث، وحاصله: إن الأمر بالاحتياط ليس أمراً مولوياً، بل هو أمر إرشادي يرشد إلى حكم العقل، وهناك ثلاثة وجوه تدل على الإرشادية.

الأول: القرائن الموجودة في روايات الاحتياط.

الثاني: لو دل على المولوية لزم تخصيصه - حيث لا يجب الاحتياط في الشبهات الموضوعية ولا في الشبهات الحكمية الوجوبية - مع أن أدلة الاحتياط آبية عن التخصيص.

الثالث: إن المولوية تستلزم الدور.

[2] هذا الوجه الأول، وحاصله: إن في روايات الاحتياط قرائن تدل على أن الأمر بالاحتياط إرشادي، أي: إرشاد لما في الفعل من المفسدة، فإن كانت المفسدة ملزمة كان الاحتياط واجباً، وذلك كالاقتحام في الشبهات قبل الفحص، أو في الشبهات المقترنة بالعلم الإجمالي، وإن لم تكن المفسدة ملزمة كان الاحتياط مستحباً، كالاقتحام في الشبهات البدوية بعد الفحص.

وليس هذا بمعنى أن أوامر الاحتياط تحمل على الوجوب تارة وعلى الاستحباب تارة أخرى، بل أوامر الاحتياط هي للإرشاد فقط، ولكن (المرشَد إليه) قد يكون واجباً أو مستحباً.

ومن القرائن، أن في بعض روايات الاحتياط بيان أن الاحتياط يكون سبباً لعدم الوقوع في المحذور، وأن عدم الاحتياط يكون سبباً للوقوع فيه، كقولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك، والمعاصي حمى الله فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها)(1).

[3] ضمير «أنه» يرجع إلى (ما دل على الاحتياط) وكذا الضمير في «يختلف».

ص: 153


1- من لا يحضره الفقيه 4: 75.

حسب اختلاف ما يرشد إليه.

ويؤيده[1] أنه لو لم يكن للإرشاد يوجب تخصيصه لا محالة ببعض الشبهات إجماعاً، مع أنه آبٍ[2] عن التخصيص قطعاً؛ كيف لا يكون[3] قوله: «قف عند

--------------------------------------

[1] هذا الوجه الثاني، وحاصله: إن أوامر الاحتياط لو كانت دالة على الوجوب المولوي لوجب تخصيصها بما لا يلزم الاحتياط فيه، كالشبهات الموضوعية وكالشبهة الحكمية التحريمية؛ إذ لا يجب الاحتياط فيها إجماعاً، مع أنه من المعلوم أن مثل قولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (أخوك دينك فاحتط لدينك)(1)

غير قابل للتخصيص.

[2] «أنه» ما دل على الاحتياط، «آبٍ» من (الإباء) أي: غير قابل للتخصيص.

ولا يخفى أن الأحسن أن يكون التعليل بأن التخصيص يستلزم تخصيص الأكثر، حيث إن الأغلبية العظمى من الشبهات هي الشبهات الموضوعية، ويضاف إليها الشبهات التحريميّة، وقد أجمعوا على عدم لزوم الاحتياط فيها.

[3] هذا الوجه الثالث، وحاصله: إن حمل أوامر الاحتياط على المولوية يستلزم الدور في بعض أدلتها، ولا يستلزم ذلك لو حملت على الإرشاد.

مثلاً قوله: (الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في التهلكة)(2)،

والهلكة يراد بها العقاب، كما هو ظاهر اللفظ هنا:

1- فالعقاب على المخالفة (الوقوع في التهلكة) سبب إيجاب الاحتياط، وهذا ما دل عليه التعليل في قوله: «فإن الوقوف عند... الخ».

2- وإيجاب الاحتياط سبب العقاب على المخالفة؛ إذ لو لا إيجابه كان العقاب على مخالفته عقاباً بلا بيان.

وهذا دور مصرح.

ص: 154


1- وسائل الشيعة 27: 167.
2- وسائل الشيعة 27: 171.

الشبهة، فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في التهلكة» للإرشاد[1]! مع أن التهلكة ظاهرة في العقوبة[2]، ولا عقوبة[3] في الشبهة البدوية قبل إيجاب الوقوف والاحتياط، فكيف[4] يعلل إيجابه بأنه خير من الاقتحام في الهلكة؟!

لا يقال[5]: نعم[6]، ولكنه يستكشف منه على نحو الإن[7] إيجاب الاحتياط

--------------------------------------

[1] «للإرشاد» خبر (يكون) في قوله: (كيف لا يكون...).

[2] لوضوح عدم إرادة الموت أو المضرة من (التهلكة).

[3] بيان للطرف الثاني من الدور، أي: إيجاب الاحتياط علّة للعقاب على المخالفة؛ لوضوح عدم العقاب على غير الواجب، فلابد أن يجب الاحتياط أولاً حتى تكون هناك عقوبة على مخالفته.

[4] بيان للطرف الأول من الدور، أي: في الرواية كان العقاب على المخالفة علة لوجوب الاحتياط، «إيجابه» إيجاب الاحتياط، «بأنه» بأن الاحتياط.

[5] ردّ على الدور، وحاصله: إنكار الطرف الأول من الدور، فليست العقوبة على المخالفة سبباً لإيجاب الاحتياط، بل هي كاشف عن وجوب الاحتياط من قبل، فيكون مدلول الرواية هكذا:

1- إيجاب الاحتياط سبب العقوبة على المخالفة.

2- العقوبة على المخالفة تكشف عن وجوب الاحتياط من قبل.

وهذا نظير قولنا: النار سبب للدخان، والدخان كاشف عن وجود النار، فلا دور أصلاً.

[6] أي: نعم، نقبل القسم الأول من كلامكم وهو (لا عقاب في الشبهة البدوية قبل إيجاب الاحتياط)، ولكن لا نقبل القسم الثاني وهو (فكيف يعلل...) لأنا لا نقول: إنّ ذلك تعليل، بل هو كشف.

[7] أي: الانتقال من المعلول إلى العلة - بنحو الكشف - فقوله: (قفوا عند الشبهة فإن الوقوف... الخ) نظير قولنا: (هنا توجد نار بدليل الدخان المتصاعد) فليس

ص: 155

من قبل[1]، ليصح به العقوبة على المخالفة.

فإنه يقال[2]: إن مجرد إيجابه واقعاً ما لم يعلم لا يصحح العقوبة، ولا يخرجها عن أنها بلا بيان ولا برهان، فلا محيص[3] عن اختصاص مثله[4] بما يتنجز فيه المشتبه - لو كان -، كالشبهة قبل الفحص مطلقاً[5] أو الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي، فتأمل جيداً.

وأما العقل[6]:

--------------------------------------

الدخان علة، بل هو كاشف.

[1] أي: من قبل صدور هذه الروايات، «ليصح به» أي: بهذا الإيجاب من قبل.

[2] إن الإيجاب قبل صدور الروايات، ومن ثم العقوبة على هذا الإيجاب إنما هو عقاب بلا بيان وهو قبيح، فلا يمكن أن يكون قوله: (فإن الوقوف...) كاشفاً عن أمر قبيح، «إيجابه» إيجاب الاحتياط، «لا يخرجها» العقوبة.

[3] هذا نتيجة هذه الوجوه الثلاثة، أي: حيث قامت هذه الوجوه على أن الأمر في أدلة الاحتياط إنما هو للإرشاد، فلابد من حمل ما دلّ على التهلكة في مخالفته على أنه إرشاد إلى موارد لا مُؤمِّن من العقاب فيها، كالشبهة البدوية قبل الفحص، أو في موارد العلم الإجمالي.

[4] أي: مثل هذا الحديث في ذكر العقاب على المخالفة، وهذا الحديث هو (قف عند الشبهة فإن الوقوف... الخ).

[5] سواء كانت تحريميّة أم وجوبية.

الدليل الثالث: على الاحتياط العقل
اشارة

[6] وللدليل العقلي تقريران:

الأول: لزوم الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي.

الثاني: استصحاب أصالة الحظر - التي كانت قبل الشرع - بعد تعارض الأدلة.

ص: 156

فلاستقلاله[1] بلزوم فعل ما احتمل وجوبه وترك ما احتمل حرمته - حيث[2] علم إجمالاً بوجود واجبات ومحرمات كثيرة في ما اشتبه وجوبه أو حرمته مما لم يكن هناك حجة على حكمه[3] - تفريغاً[4] للذمة بعد اشتغالها؛ ولا خلاف[5] في لزوم الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي إلاّ من بعض الأصحاب(1).

والجواب[6]:

--------------------------------------

التقرير الأول
اشارة

[1] حاصل الدليل مركب من صغرى وكبرى، أما الصغرى فهي: فقد علمنا إجمالاً بوجود محرمات كثيرة في المشتبهات. وأما الكبرى فهي: إنه من المعلوم لزوم الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي؛ لأن الاشتغال اليقيني للذمة بتلك التكاليف يستدعي البراءة اليقينية عبر الاحتياط في كل المشتبهات.

[2] بيان للصغرى.

[3] لأنه ينحل العلم الإجمالي لو قام الدليل على الجواز - مثلاً - وفي الشبهات الوجوبية قام الدليل على الجواز - وهو الإجماع الذي ادعاه المصنف - فانحلّ العلم الإجمالي فيها، لكن ما احتمل حرمته ضمن دائرة العلم الإجمالي فيجب الاحتياط فيه.

[4] «تفريغاً» علّة قوله: (لزوم فعل ما احتمل... الخ)، أي: علة وجوب الاحتياط هو لأجل تفريغ الذمة.

[5] بيان للكبرى، «إلاّ من بعض الأصحاب» حيث ذهب بعضهم إلى جواز ارتكاب كل الأطراف، وبعضهم إلى جواز ارتكاب بعضها، ولا يعبأ بخلافهم؛ لقيام الدليل على لزوم الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي.

الجواب

[6] إشكال على الصغرى، وحاصله: إنه بعد قيام الأمارات والطرق على الأحكام الشرعية فإنه ينحل العلم الإجمالي. وهذا الانحلال على أحد نحوين:

ص: 157


1- قوانين الأصول 2: 35؛ مدارك الأحكام 1: 107؛ ذخيرة المعاد 1: 138.

إن العقل وإن استقل بذلك[1]، إلاّ أنه إذا لم ينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي وشك بدوي، وقد انحل هاهنا[2]، فإنه كما علم بوجود تكاليف إجمالاً كذلك علم إجمالاً بثبوت طرق وأصول معتبرة مثبتة لتكاليف بمقدار تلك التكاليف المعلومة أو أزيد[3]،

--------------------------------------

الأول: الانحلال الكلي الحكمي، حيث إن التكاليف تنحصر بما قامت عليه الأمارات والطرق، بأن تكون كل الأمارات والطرق دالة على جميع الأحكام الشرعية.

الثاني: انحلال العلم الإجمالي الكبير إلى علم إجمالي صغير، وهو القطع بوجود التكاليف الواقعية ضمن مؤديات الأمارات والطرق.

ولا يخفى أن المصنف تارة بيّن على النحو الأول، وتارة على النحو الثاني - كما يظهر من مراجعة عباراته اللاحقة - .

[1] أي: نتفق معكم في الكبرى، «بذلك» بلزوم الفعل أو الترك في أطراف العلم الإجمالي.

[2] أي: في ما احتمل وجوبه واحتمل حرمته، «فإنه» للشأن، أي: كما علمنا بوجود تكاليف في المشتبهات كذلك علمنا بتلك التكاليف عبر الطرق والأمارات.

[3] لاحتمال خطأ بعض هذه الطرق والأمارات، ولكن حيث يلزم العمل بجميعها فقد يحصل العلم بأن مؤدياتها أكثر من التكاليف الواقعية، كما لو علمنا بأن التكاليف مائة - مثلاً - والطرق والأمارات دلتنا على مائة وعشرة مثلاً، وهنا أيضاً ينحل العلم الإجمالي الكبير.

والفرق: إن التكاليف إذا كانت بمقدار التكاليف المعلومة فهذا انحلال كلي العلم الإجمالي، وإن كانت أزيد فهذا انحلال العلم الإجمالي الكبير إلى علم إجمالي صغير، حيث إن دائرة العلم الإجمالي كانت وسيعة تشمل كل المشتبهات، فانحصرت الدائرة في مائة وعشرة - في المثال - .

ص: 158

وحينئذٍ[1] لا علم بتكاليف أخر غير التكاليف الفعلية في الموارد المثبتة من الطرق والأصول العملية[2].

إن قلت[3]: نعم[4]، لكنه إذا لم يكن العلم بها مسبوقاً بالعلم بالتكاليف.

قلت[5]:

--------------------------------------

[1] حين انحلال العلم الإجمالي، «التكاليف الفعلية» أي: التي تنجزت بسبب قيام الأمارات والطرق عليها.

[2] المراد منها: الاستصحاب فقط - كما قيل - .

إشكالان: الأول

[3] حاصل الإشكال الأول: إنّه إنما ينحلّ العلم الإجمالي إذا كان العلم التفصيلي سابقاً، فإنه لو كان العلم التفصيلي سابقاً لا يكون للعلم الإجمالي أثر في تنجّز التكليف، كما لو علمنا بنجاسة الإناء الأول معيناً ثم سقطت قطرة دم في أحد الإناءين غير المعين، فإن هذا العلم الإجمالي لا أثر له؛ وذلك لسبقه بالعلم التفصيلي، فيجوز ارتكاب الإناء الثاني.

والحاصل: إنه لو كان العلم الإجمالي سابقاً، والعلم التفصيلي لاحقاً، فإنه لا ينحل العلم الإجمالي السابق. وما نحن فيه من هذا القبيل، حيث علمنا إجمالاً بالتكاليف بين المشتبهات، ثم علمنا بما في الطرق والأمارات.

[4] أي: نعم، يتم الانحلال لكن بشرط سبق العلم التفصيلي، وما نحن فيه ليس كذلك، حيث إن العلم التفصيلي متأخر، «العلم بها» بالأمارات والطرق.

[5] حاصل الجواب: إنه لا فرق في الانحلال بين كون العلم الإجمالي سابقاً أو لاحقاً، بشرط اتحاد المعلوم في العلم الإجمالي والعلم التفصيلي.

1- فلو علمنا بسقوط قطرة دم في أحد الإناءين، ثم علمنا بأن تلك القطرة من الدم - بنفسها - كانت قد سقطت في الإناء الأول، فإن انحلال العلم الإجمالي قهري،

ص: 159

إنما يضر السبق[1] إذا كان المعلوم اللاحق حادثاً[2]،

--------------------------------------

مع أنه سابق على العلم التفصيلي؛ وذلك لاتحاد سبب التكليف بالاجتناب.

2- أما لو علمنا إجمالاً بسقوط قطرة دم في أحد الإناءين، وعلمنا بسقوط قطرة بول في الإناء الأول معيناً، فهنا يختلف الحكم في التقدم والتأخر:

الف: فإن كان سقوط قطرة البول معيناً مقدماً زماناً فلا أثر للعلم الإجمالي بسقوط قطرة دم في أحد الإناءين. وحينئذٍ يجب الاجتناب عن الإناء الذي سقط فيه البول، ولا يجب الاجتناب عن الإناء الثاني؛ وذلك لأنه حدث تكليف بالاجتناب حين سقوط قطرة البول في الإناء الأول، وبعد سقوط قطرة الدم في أحد الإناءين لا علم لنا بحدوث تكليف جديد، فتجري أصالة البراءة في الإناء الثاني؛ إذ لا تكليف جديد لو كانت قطرة الدم سقطت في نفس الإناء الذي سقط فيه البول، أما لو كانت قطرة الدم سقطت في الإناء الثاني فيحدث تكليف جديد بالاجتناب عن الإناء الثاني أيضاً، وحيث لا نعلم بحدوث تكليف جديد فالأصل البراءة.

باء: وإن كان العلم الإجمالي بسقوط قطرة الدم في أحد الإناءين مقدماً زماناً، ثم سقطت قطرة البول في الإناء الأول معيناً، فإن هذا العلم التفصيلي لا يوجب الانحلال، ويجب اجتناب كلا الإناءين؛ وذلك لأنه حين سقطت قطرة الدم في أحد الإناءين حدث تكليف بوجوب الاجتناب عنهما، ولمّا سقطت قطرة البول في أحدهما المعين لم يكن سبب وجوب الاجتناب متحداً - إذ أحدهما الدم والآخر البول - فلا وجه لانحلال ذلك العلم الإجمالي، بل هو باق، فيجب الاجتناب عنهما.

[1] أي: سبق العلم الإجمالي إنّما يضر بالانحلال.

[2] أي: إذا كان المعلوم التفصيلي اللاحق زماناً، «حادثاً» أي: سبباً آخر غير السبب في العلم الإجمالي، كأن يكون سبب العلم الإجمالي السابق سقوط قطرة دم، وسبب العلم التفصيلي اللاحق هو سقوط قطرة بول.

ص: 160

وأما إذا لم يكن كذلك[1]، بل مما ينطبق عليه ما علم أولاً، فلا محالة قد انحل العلم الإجمالي إلى التفصيلي والشك البدوي.

إن قلت[2]: إنما يوجب العلم بقيام الطرق المثبتة له[3] بمقدار المعلوم بالإجمال، ذلك إذا كان[4] قضية قيام الطريق على تكليف موجباً لثبوته فعلاً[5]. وأما بناءً على أن قضية حجيته واعتباره[6] شرعاً ليس إلاّ[7]

--------------------------------------

[1] أي: لم يكن المعلوم التفصيلي حادثاً، بل كان نفس المعلوم الإجمالي، «قد انحل» لزوال سبب الاحتياط، حيث علمنا بعدم سقوط قطرة الدم في الإناء الثاني فلا وجه لاجتنابه.

الإشكال الثاني

[2] حاصله: إن قيام الأمارة والأصل لا توجب علماً تفصيلياً بالتكاليف؛ لانحصار أمر الأمارة والأصل في التنجيز والتعذير؛ وذلك ليس علماً بالتكليف!! فلا علم تفصيلي بالتكليف كي ينحل به العلم الإجمالي!! نعم، لو قلنا: إنّ الأمارات والأصول سبب لجعل حكم ظاهري فإن قيامها يوجب العلم التفصيلي بالتكاليف، وحينئذٍ ينحل العلم الإجمالي بهذا العلم التفصيلي!!

[3] «له» للتكليف، «ذلك» أي: الانحلال، و(ذلك) مفعول (إنّما يوجب).

[4] أي: إذا كان مقتضى جعل الطريق هو السببية، أي: يكون قيام الطريق سبباً لجعل حكم ظاهري، فيكون لنا علم بالتكليف!!

[5] أي: ثبوت ذلك التكليف الظاهري بنحو الفعلية، وبعبارة أخرى: ثبوت حكم ظاهري منجّز على من قام لديه الطريق.

[6] ضميرا «حجيته» و«اعتباره» يرجعان إلى (الطريق).

[7] أي: ليس جعل حكم ظاهري، بل حجية الطريق بمعنى ترتيب الأثر من التنجيز والإعذار، و«ليس» خبر (أن قضية).

ص: 161

ترتيب ما للطريق المعتبر عقلاً[1] - وهو تنجز ما أصابه والعذر عما أخطأ عنه - فلا انحلال[2] لما علم بالإجمال أولاً، كما لا يخفى.

قلت[3]: قضية الاعتبار[4] شرعاً على اختلاف ألسنة أدلته وإن كان ذلك - على ما قوينا في البحث -، إلا[5] أن نهوض الحجة على ما ينطبق عليه المعلوم

--------------------------------------

[1] وهو القطع، أي: جعل الحجية للطريق هو بمعنى قيامه مقام القطع، وحيث إن القطع لا يوجب حكماً ظاهرياً، بل يوجب التنجيز إن أصاب، والعذر إن أخطأ، كذلك الطريق الذي يقوم مقام القطع.

[2] لبقاء العلم الإجمالي بحاله، والطريق ليس علماً بالتكليف حتى يوجب انحلال ذلك العلم الإجمالي.

[3] جواب عن الإشكال، أما على مبنى التنجيز والتعذير فمن وجهين:

الأول: إن الانحلال الحكمي هو كالانحلال الحقيقي.

الثاني: حصول العلم بانحصار التكاليف الواقعية في مؤديات الطرق فقط لا غير.

وأما على مبنى السببية فلا انحلال أصلاً - خلافاً لما توهمه المستشكل - وذلك لاختلاف المعلوم التفصيلي اللاحق عن المعلوم الإجمالي السابق، حيث إن المعلوم إجمالاً هو التكليف الواقعي، والمعلوم التفصيلي هو الحكم الظاهري، وقد ذكرنا أنه لا انحلال مع اختلاف سبب العلم.

[4] أي: مقتضى اعتبار الطريق هو المنجزية والمعذرية، لا السببيّة، «أدلته» أدلة الاعتبار، «ذلك» أي: التنجيز والعذر.

[5] إشارة إلى الوجه الأول من الجواب، وحاصله: إنه كما ينحل العلم الإجمالي في صورة تحقق العلم التفصيلي الوجداني، كذلك ينحل في صورة قيام الدليل المعتبر.

مثلاً: لو علمنا إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين، ثم قامت البينة على أحدهما

ص: 162

بالإجمال[1] في بعض الأطراف، يكون[2] عقلاً بحكم الانحلال وصَرف[3] تنجزه إلى ما إذا كان[4] في ذاك الطرف، والعذر عما إذا كان في سائر الأطراف؛ مثلاً: إذا علم إجمالاً بحرمة إناء زيد بين الإناءين، وقامت البينة على أن هذا إناؤه، فلا ينبغي الشك في أنه[5] كما إذا علم أنه إناؤه في عدم لزوم الاجتناب إلاّ عن خصوصه

--------------------------------------

المعيّن، فإن قيام البينة يوجب انحلال العلم الإجمالي حتى مع احتمال خطئها، فهنا العلم الوجداني باقٍ، ولكن يحكم العقل بعدم بقاء أثره؛ وذلك لأن البينة هي كالعلم في الآثار.

[1] «نهوض الحجة» أي: الطريق الشرعي، «على ما ينطبق» فإن السبب متحد؛ لأن الطريق يبيّن أن الحكم الواقعي هو هذا الذي دل الطريق عليه، «في بعض الأطراف» (في) متعلق ب(نهوض الحجة).

[2] «يكون» خبر (أن) في قوله: (إلاّ أن نهوض الحجة....).

أي: العقل لا يرى فرقاً بين حصول علم وجداني، وبين قيام طريق، فإنه يرى أن كليهما يوجبان انحلال العلم الإجمالي.

[3] «صَرف» - بفتح الصاد - عطف تفسيري على «حكم الانحلال»، أي: كان العلم الإجمالي سبباً للتنجز في كلا الطرفين، فكان يجب اجتنابهما في الشبهة التحريمية، وبعد قيام الطريق يتوجه التنجز إلى أحد الأطراف، وهو ما قام الدليل عليه، وكذلك يوجب جواز ارتكاب الأطراف الأخرى، فإن كان الحرام فيها واقعاً كان معذوراً.

[4] أي: كان التكليف، «ذاك الطرف» الذي قام عليه الدليل، «كان في سائر الأطراف» أي: في صورة خطأ الطريق بحيث كان التكليف في الأطراف الأخرى، فإنه يكون معذوراً في ارتكابها.

[5] في أن قيام الأمارة، «أنه إناؤه» أي: إن الإناء المعين، وقوله: «في عدم...» (في) متعلق ب- (الشك).

ص: 163

دون الآخر. ولو لا ذلك[1] لما كان يجدي القول بأن قضية اعتبار الأمارات هو كون المؤديات أحكاماً شرعية فعلية[2]، ضرورة أنها تكون كذلك بسبب حادث، وهو كونها مؤديات الأمارات الشرعية.

هذا[3] إذا لم يعلم بثبوت التكاليف الواقعية في موارد الطرق المثبتة بمقدار المعلوم بالإجمال، وإلاّ[4] فالانحلال إلى العلم بما في الموارد وانحصار أطرافه بموارد تلك الطرق بلا إشكال، كما لا يخفى.

--------------------------------------

[1] إشارة إلى عدم الانحلال على القول بالسببية - خلافاً لما زعم المستشكل - أي: ولو لا القول بالانحلال الحكمي لما حصل انحلال حتى على مبنى السببية؛ وذلك لاختلاف سبب التكليف، وقد مرّ أنه لا ينحل العلم الإجمالي إذا اختلف المعلوم إجمالاً مع المعلوم تفصيلاً.

وهنا المعلوم التفصيلي هو الحكم الظاهري، والمعلوم الإجمالي هو الحكم الواقعي، وسبب كل واحد منهما مختلف عن سبب الآخر، فعليه لا انحلال.

اللهم إذا قلتم بالانحلال الحكمي - كما قلنا - فإنه بناءً على الانحلال الحكمي لا فرق بين القول بالتنجيز والعذر وبين القول بالسببيّة.

[2] أي: أحكام ظاهرية منجزة، «أنها» المؤديات، «كذلك» أحكاماً شرعية فعلية، «بسبب حادث» هو قيام الطريق، «وهو» السبب الحادث، «كونها» كون الأحكام الشرعية الفعلية.

[3] إشارة إلى الوجه الثاني في الجواب عن الإشكال، «هذا» أي: الانحلال الحكمي، «الطرق المثبتة» أي: للتكليف.

[4] أي: إن علمنا بأن كل التكاليف الواقعية موجودة في مؤديات الطرق، فهنا يكون انحلال حقيقي؛ لأن العلم اللاحق هو علم وجداني، وليس تعبدياً فقط، «الموارد» موارد الطرق، «أطرافه» أطراف العلم الإجمالي الكبير - بوجود تكاليف بين المشتبهات - .

ص: 164

وربما استدل[1] بما قيل(1)

من استقلال العقل بالحظر[2] في الأفعال الغير الضرورية(2)

قبل الشرع[3]، ولا أقل من الوقف[4] وعدم استقلاله، لا به ولا بالإباحة، ولم يثبت[5] شرعاً إباحة ما اشتبه حرمته، فإن ما دل على الإباحة معارض

--------------------------------------

التقرير الثاني لدليل العقل على الاحتياط
اشارة

[1] التقرير العقلي الثاني مركب من ثلاثة أمور:

الأول: إن الأصل في الأشياء - قبل الشرع - هو الحظر.

الثاني: بعد الشرع وردت أدلة على البراءة وأدلة على الاحتياط فتتعارض، ثم تتساقط، فلا حجة من الشرع على أي منهما.

الثالث: بعد تساقطهما نستصحب أصالة الحظر التي كانت قبل الشرع!!

[2] إشارة إلى الأمر الأول، وقد مرّ أن أصالة البراءة أو الاحتياط تختلف عن أصالة الإباحة أو الحظر، ولكن النتيجة هي واحدة، وهي جواز الارتكاب بناءً على البراءة والإباحة، وعدم جواز الارتكاب بناءً على الاحتياط والحظر.

[3] حيث إن العقل يدل على أن الكون ملك الله، ويقبح التصرف في ملك الغير بلا إذن منه. أما في الأفعال الضرورية - كشرب الماء وتناول الطعام - فإن العقل لا يرى بأساً في ارتكابها.

[4] أي: إذا لم نقل بقبح التصرف في ملك الله تعالى بغير إذنه، فإن هنا قاعدة أخرى عقلية توجب التوقف، وهي دفع الضرر المحتمل، فيجب علينا التوقف، «و عدم استقلاله» عطف تفسيري للتوقف، أي: العقل لا يستقل بالحظر لكنه يرى التوقف.

[5] إشارة إلى الأمر الثاني.

وأما الأمر الثالث: فلم يشر إليه المصنف - لوضوحه - وهو بقاء الحظر قبل الشرع، واستمراره إلى ما بعد الشرع - استصحاباً - .

ص: 165


1- القائل الشيخ الأعظم في فرائد الأصول 2: 90.
2- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير الضرورية».

بما دل على وجوب التوقف أو الاحتياط.

وفيه: أولاً[1]: إنه لا وجه للاستدلال بما هو محل الخلاف والإشكال، وإلاّ لصح الاستدلال على البراءة بما قيل من كون تلك الأفعال[2] على الإباحة.

وثانياً[3]: إنه ثبتت الإباحة شرعاً، لما عرفت من عدم صلاحية ما دل على التوقف أو الاحتياط، للمعارضة لما دل عليها.

وثالثاً[4]:

--------------------------------------

إشكالات على التقرير الثاني

[1] حاصله: إن الأمر الأول مصادرة، حيث إن أصالة الحظر هي أول الكلام، فلا يصح الاستدلال بها لإثبات الاحتياط، وإلاّ صحّ لنا أن نبدل هذا الدليل العقلي إلى دليل على البراءة بأن نقول: الأصل في الأشياء الإباحة... إلى آخر الدليل.

[2] الأفعال غير الضرورية قبل الشرع.

[3] إشكال على الأمر الثاني، وحاصله: إنه لا تعارض بين أدلة البراءة وأدلة الاحتياط، لما مرّ من أن أدلة الاحتياط للإرشاد، ولو فرض كونها مولوية فإن أدلة البراءة تخصصها؛ لأنها أظهر وأخص من أدلة الاحتياط.

[4] إشكال على الأمر الثالث، وحاصله: إنه بعد قيام الشرع وبيان الشارع للتكاليف من الواجبات والمحرمات، فإن العقل يحكم بجواز ارتكاب المشتبهات؛ وذلك لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فلو فرضنا أن الأصل قبل الشرع الحظر، لكن بعد الشرع الأصل البراءة لجريان قاعدة (قبح العقاب بلا بيان).

وبعبارة أخرى - كما نسب إلى المصنف في بحثه - : لا ملازمة بين المسألتين؛ لاختلافهما موضوعاً، ضرورة أن الموضوع في تلك المسألة فعل المكلف من حيث هو - أي: مع قطع النظر عن تشريع حكم له مجهول عند المكلف - وأما في مسألة البراءة فالموضوع هو فعل المكلف بما هو مجهول الحكم بعد تشريع الأحكام.

ص: 166

إنه لا يستلزم القول بالوقف في تلك المسألة[1] للقول بالاحتياط في هذه المسألة، لاحتمال أن يقال معه بالبراءة، لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وما قيل[2]: من «أن الإقدام على ما لا يؤمن المفسدة فيه كالإقدام على ما يعلم فيه المفسدة»[3].

ممنوع[4]،

--------------------------------------

[1] مسألة الحظر أو الإباحة قبل الشرع، «هذه المسألة» مسألة الاحتياط أو البراءة بعد الشرع، «معه» أي: مع الوقف في تلك المسألة.

ثم لا يخفى عدم صحة الاستصحاب؛ لأنه يكون في المسائل الشرعية دون العقلية، فتأمل.

[2] استدلال للتوقف وعدم جريان قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، وحاصله: إن قاعدة (الإقدام على...) بيان، فينتفي موضوع قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، وهذا القول نسبه الشيخ الأنصاري في الرسائل(1)

إلى الشيخ الطوسي(2).

[3] فكما لا يجوز ارتكاب معلوم المفسدة كذلك لا يجوز ارتكاب محتمل المفسدة.

[4] الجواب من وجهين:

أولاً: إشكال في الصغرى بأن يقال: إن كان المراد من المفسدة الضرر، فنقول: على فرض تسليم لزوم دفع الضرر المحتمل فإنه لا تلازم بين المفسدة وبين الضرر، بل قد يكون الشيء الذي فيه المفسدة نافعاً كانتفاع السارق، وقد يكون ما فيه المصلحة ضاراً كالجهاد، فتحصل أن احتمال المفسدة لا يلازم احتمال الضرر.

إن قلت: في الفعل المشكوك نحتمل المفسدة، ثم نحتمل أن يكون منشأ المفسدة هو الضرر - لأن الضرر قد يكون سبباً للمفسدة كأكل الأطعمة المضرة - وحينئذٍ كلّما احتملنا المفسدة فقد احتملنا الضرر.

ص: 167


1- فرائد الأصول 2: 90.
2- العدة في أصول الفقه 2: 742.

ولو قيل[1] بوجوب دفع الضرر المحتمل، فإن المفسدة المحتملة في المشتبه ليس بضرر غالباً[2]، ضرورة أن المصالح والمفاسد التي هي مناطات الأحكام ليست براجعة إلى المنافع والمضار، بل ربما يكون المصلحة في ما فيه الضرر، والمفسدة في ما فيه المنفعة. واحتمال[3] أن يكون في المشتبه ضرر ضعيف[4] غالباً لا يعتنى به قطعاً.

مع[5] أن الضرر ليس دائماً مما يجب التحرز عنه عقلاً، بل يجب ارتكابه أحياناً

--------------------------------------

قلت: هذا الاحتمال ضعيف لا يعتني به العقلاء، ومعنى (دفع الضرر المحتمل لازم) هو الاحتمال العقلائي.

وثانياً: ما مرّ من الإشكال في الكبرى، أي: (لزوم دفع الضرر المحتمل)، حيث ذكرنا أنه قد لا يجب التحرز عن الضرر المقطوع به، فما بالك بالضرر المحتمل، بل قد يجب تحمل الضرر المقطوع به لمصالح أهم كالجهاد.

[1] إشارة إلى الجواب الأول، وهذا إشكال في الصغرى، أي: لا نسلم كون المفسدة تلازم الضرر.

[2] لأن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، وغالب المصالح والمفاسد ترتبط بالنوع وحفظ النظام، في حين أن الضرر والنفع يرتبطان بالأشخاص في أموالهم أو أنفسهم. نعم، نحن لا ننكر أنه أحياناً يكون الضرر سبباً للمفسدة فيكون حراماً، ويكون النفع سبباً للمصلحة فيكون واجباً، لكن هذه الموارد هي أقل من غيرها.

[3] إشكال على الجواب الأول، وقد وضحناه ب- (إن قلت)، وحاصله: إن المشتبه - الذي لا نعلم حكمه - نحتمل أن تكون فيه المفسدة، ثم نحتمل أن يكون سبب تلك المفسدة هو الضرر.

[4] جواب الإشكال وقد وضحناه ب- (قلت...).

[5] إشارة إلى الجواب الثاني، وهو إشكال في الكبرى، وهي (لزوم دفع الضرر المحتمل).

ص: 168

في ما كان المترتب عليه[1] أهم في نظره[2] مما في الاحتراز عن ضرره مع القطع به فضلاً عن احتماله.

بقي أمور مهمة لا بأس بالإشارة إليها:

الأول[3]: إنه إنما تجري أصالة البراءة شرعاً وعقلاً في ما لم يكن هناك أصل موضوعي[4]

--------------------------------------

[1] أي: على الضرر، كالجهاد، فإن ما يترتب على الجهاد - كحفظ الدين - أهم من قتل أو جرح المجاهد.

[2] أي: في نظر العقل، وإنّما خص البحث في نظر العقل لأنا نبحث الآن في الدليل العقلي دون الشرعي، «مما» من المفسدة التي تكون في الاحتراز عن ضرر الفعل.

تنبيهات البراءة
التنبيه الأول في الشك في التذكية
اشارة

[3] إن موضوع البراءة العقلية والشرعية هو عدم البيان وعدم العلم، فإذا حصل البيان فقد انتفى موضوع البراءة، وكان ذلك البيان وارداً عليها.

فلو شككنا في موضوع أو شككنا في حكم بسبب شكنا في الموضوع فالأصل البراءة، فإذا قام أصل نقّح الموضوع يكون هذا الأصل بياناً، وينتفي موضوع البراءة.

مثلاً: لو شككنا في حلية حيوان أو حرمته فالأصل البراءة - أي: الإباحة وعدم التحريم - لكن بشرط أن لا يكون هناك أصل يرتبط بالموضوع يدل على عدم التذكية، فإنه إذا قام هذا الأصل فإنا نعلم تعبداً بحرمة هذا الحيوان - لأن غير المذكى حرام - وهذا بيان، فلا تجري البراءة.

[4] أي: الأصل الذي ينقّح الموضوع ويبيّنه، فإن الأحكام تابعة للمواضيع،

ص: 169

مطلقاً[1]، ولو كان موافقاً لها[2]، فإنه معه لا مجال لها أصلاً، لوروده عليها[3] - كما يأتي تحقيقه - .

--------------------------------------

فإذا نقّحنا الموضوع بأصل، وكان ذلك الموضوع حراماً نحكم هنا بالحرمة، وإذا كان ذلك الموضوع حلالاً نحكم بالحلية.

ولا يخفى أن الحكم بالحلية ليس من باب البراءة، بل من باب العلم التعبدي بالموضوع.

[1] شرح مطلقاً بقوله: «ولو كان موافقاً لها» أي: سواء كان مخالفاً للبراءة ودالاً على الحرمة، أم كان موافقاً للبراءة ودالاً على الإباحة.

[2] والحلية حينئذٍ مستندة إلى علمنا - التعبدي - بها، لا إلى البراءة، «لها» للبراءة، «فإنه» الشأن، «معه» مع الأصل الموضوعي، «لها» للبراءة.

[3] لورود الأصل الموضوعي على البراءة. و(الورود) - كما سيأتي في بحث الاستصحاب - بمعنى أن ينتفي موضوع حكم بسبب قيام دليل آخر.

وهنا مع علمنا - التعبدي - بالحكم الشرعي لا يبقى موضوع أصالة البراءة؛ لأن موضوعها هو عدم البيان، وذلك الدليل الآخر هو البيان.

أقسام الأصل الموضوعي
اشارة

ثم إن قيام الأصل الموضوعي: إما في الشبهة الحكمية أو في الشبهة الموضوعية، وفي كل واحد منهما إما يكون الأصل الموضوعي مطابقاً للبراءة أو مخالفاً لها، فالأقسام أربعة:

الأول: في الشبهة الحكمية مع دلالة الأصل الموضوعي على الحرمة.

الثاني: في الشبهة الحكمية مع كون الأصل الموضوعي دالاً على الحلية.

الثالث: في الشبهة الموضوعية مع كونه دالاً على الحلية.

الرابع: في الشبهة الموضوعية مع كونه دالاً على الحرمة.

ص: 170

فلا تجري[1] مثلاً أصالة الإباحة في حيوان شك في حليته مع الشك في قبوله التذكية[2]، فإنه إذا ذبح مع سائر الشرائط المعتبرة في التذكية[3]

--------------------------------------

القسم الأول
في الشبهة الحكمية مع دلالة الأصل الموضوعي على الحرمة

[1] الحيوانات نوعان:

1- غير قابل للتذكية، كالكلب والخنزير.

2- قابل للتذكية، فإن كان حلال اللحم - كالغنم - فبالتذكية يطهر ويحل أكله، وإن كان حرام اللحم - كالثعلب - ففائدة التذكية هي طهارته، وجواز الانتفاع بجلده - مثلاً - .

فلو شككنا في حيوان أنه قابل للتذكية أو غير قابل لها فنشك في حليته وحرمته، فلا تجري هنا أصالة البراءة كي يقال بحليته؛ وذلك لأن أصالة عدم التذكية - وهي الاستصحاب - تدل على كونه غير مذكى، وحكمه كحكم الميتة في حرمة أكل لحمه. فنقول: إن هذا الحيوان لم يكن مذكى حال حياته، وبعد ذبحه نشك في أنه ذُكي أم لا، فيجري استصحاب عدم التذكية، فلا يكون هذا الحيوان المذبوح مذكى.

وغير المذكى من أفراد الميتة على رأي الشيخ الأعظم، وأما عند المصنف فحكم غير المذكى هو حكم الميتة، مع كونهما أمرين مختلفين.

[2] كالحيوان المتولد من كلب وشاة - على فرض إمكانه - فإنه إن كان كلباً لم يكن قابلاً للتذكية، وإن كان شاة كان قابلاً لها. فنحن لا نعلم حلية هذا الحيوان ولا نعلم قابليته للتذكية.

[3] الذبح - وهو فري الأوداج - أحد الشروط، وأما سائر الشرائط فهي القبلة، والتسمية، وكون الذابح مسلماً، وكون السكين حديداً، وتحريك الذنب أو الرجل

ص: 171

فأصالة عدم التذكية[1] تدرجه في ما لم يذك، وهو حرام إجماعاً[2] كما إذا مات حتف أنفه[3]. فلا حاجة[4] إلى إثبات أن الميتة تعم غير المذكى شرعاً[5]، ضرورة[6]

--------------------------------------

بعد الذبح - على خلاف في بعض الشروط - .

والصيد كالذبح بأنْ سَمّى ورمى الحيوان بآلة حادة كالسهم، ومات الحيوان قبل التمكن من فري أوداجه. ومن الصيد: الصيد بالكلب المعلَّم مع شروط مذكورة في الفقه.

[1] لأنه بعد مراعاة كل الشروط في الذبح - وكذا الصيد - نشك في جواز أكل لحمه وعدم جوازه، فيجري حينئذٍ استصحاب عدم التذكية، فلا يكون هذا الحيوان مذكى، فيحرم أكل لحمه، «تدرجه» أي: تُدخله.

[2] أي: غير المذكى حرام بالإجماع، ومراد المصنف أن غير المذكى يختلف عن الميتة موضوعاً، لكن حكمهما واحد - وهو حرمة اللحم - فالميتة دل القرآن على حرمتها في قوله تعالى: {حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ}(1) والإجماع دلّ على أن غير المذكى كالميتة حكماً.

[3] أي: مات ميتة طبيعية، وهذا التعبير مجازي، فكأنّ الميّت - بموت طبيعي - تخرج الروح من أنفه، أما المذبوح فكأنّ روحه تخرج من منحره.

[4] أي: لا حاجة إلى ما صنعه الشيخ بقوله إن غير المذكى من مصاديق الميتة، فيشمله كل ما دلّ على حرمة الميتة.

[5] أما عرفاً فهما مختلفان؛ لوضوح أن العرف لا يُسمى المذبوح ميتةً، ولكن هنا حقيقة شرعية، وهي عمومية لفظ الميتة لكل ما لم يكن مُذكّى.

[6] تعليل لعدم الحاجة إلى ما صنعه الشيخ الأعظم؛ وذلك لأن إثبات الحقيقة الشرعية فيه بحاجة إلى تكلّف - كبروي بإثبات أصل الحقائق الشرعية، وصغروي بإثبات أن غير المذكى من مصاديق الميتة - أما اتحادهما حكماً فهو ثابت إجماعاً

ص: 172


1- سورة المائدة، الآية: 3.

كفاية كونه مثله حكماً.

وذلك[1] بأن التذكية إنما هي عبارة عن فري الأوداج[2] الأربعة مع سائر شرائطها عن خصوصية[3] في الحيوان التي بها يؤثر فيه[4] الطهارة وحدها أو مع الحلية؛ ومع الشك في تلك الخصوصية فالأصل عدم تحقق التذكية بمجرد الفري بسائر شرائطها، كما لا يخفى.

--------------------------------------

بلا تكلّف.

[1] تعليل لقوله: (فلا تجري مثلاً أصالة الإباحة... الخ)، «بأن» الباء سببية، أي: عدم جريان البراءة بسبب أن التذكية هي مراعاة شرائط الذبح في الحيوان القابل للتذكية.

فالخنزير لا يذكى ولو روعيت كل الشرائط؛ لأنه غير قابل للتذكية.

والحيوان المشكوك لا يُعلم وجود هذه القابلية فيه، فبعد ذبحه نشك في حصول التذكية فيه، وحينئذٍ نستصحب عدم التذكية.

[2] أي: قطعها، و«الأوداج» هما العِرقان الرئيسيان لجريان الدم إلى الرأس، مضافاً إلى مجرى النفس ومجرى الطعام، «سائر شرائطها» شرائط التذكية.

[3] «عن» هنا بمعنى (بعد)، كما في قوله تعالى: {لَتَرۡكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٖ}(1) أي: حالة بعد حالة، كما ذكره ابن هشام في المغني(2)، والمعنى: إن التذكية هي فري الأوداج بعد كون الحيوان قابلاً للتذكية.

[4] «بها» بالخصوصية، «فيه» في الحيوان، «الطهارة وحدها» في الحيوانات المحرّمة اللحم كالثعلب، فإنه بالتذكية يكون طاهراً، وفائدة هذه الطهارة في جواز لبس جلدها ونحو ذلك، «أو مع الحلية» أي: الطهارة والحلية في الحيوانات الحلال اللحم كالغنم.

ص: 173


1- سورة الإنشقاق، الآية: 19.
2- مغني اللبيب 1: 148.

نعم[1]، لو علم بقبوله التذكية وشك في الحلية فأصالة الإباحة فيه محكمة، فإنه حينئذٍ[2] إنما يشك في أن هذا الحيوان المذكى حلال أو حرام، ولا أصل فيه إلاّ أصالة الإباحة، كسائر[3] ما شك في أنه من الحلال أو الحرام.

هذا[4] إذا لم يكن هناك أصل موضوعي آخر مثبت لقبوله التذكية، كما إذا شك - مثلاً - في أن الجلل في الحيوان هل يوجب ارتفاع قابليته لها[5] أم لا؟ فأصالة قبوله

--------------------------------------

لو لم يجر الأصل الموضوعي

[1] استدراك عن عدم جريان أصالة البراءة، وحاصله: إنه لو لم يجر الأصل الموضوعي فإنه تجري أصالة البراءة، فيحكم بحلية اللحم، مثلاً: نعلم بإمكان تذكية الخيل والبغال والحمير، فلو شككنا في حلية لحمها فهنا لا تجري أصالة عدم التذكية - للعلم بقبولها التذكية - ولا يوجد أصل موضوعي آخر، فتجري أصالة البراءة، الدالة على إباحة لحومها، «فيه» في الحيوان.

[2] حين العلم بقبوله التذكية والشك في إباحته، «لا أصل فيه» في هذا الحيوان المذكى.

[3] من غير اللحوم.

القسم الثاني
في الشبهة الحكمية مع كون الأصل الموضوعي دالاً على الحلية

[4] أي: جريان أصالة البراءة الدالة على الإباحة إنما هو في ما لو لم يكن أصل موضوعي دال على الإباحة. أما مع وجوده فلا تجري أصالة البراءة - لما مرّ من أن الأصل الموضوعي وارد على أصالة البراءة - مثلاً: لو شككنا بأن الجَلَل - أي: أكل العذرة - هل يتسبب في حرمة لحم الدجاج أم لا؟ فهنا استصحاب حلية اللحم جارٍ، فلا تصل النوبة إلى أصالة البراءة.

[5] قابلية الحيوان للتذكية، «فأصالة» أي: الاستصحاب، «معه» أي: مع الجلل.

ص: 174

لها معه محكمة، ومعها[1] لا مجال لأصالة عدم تحققها، فهو قبل الجلل كان يطهر ويحل بالفري بسائر شرائطها فالأصل أنه[2] كذلك بعده.

ومما ذكرنا[3] ظهر الحال في ما اشتبهت حليته وحرمته بالشبهة الموضوعية من الحيوان، وأن أصالة عدم التذكية محكمة في ما شك فيها لأجل[4] الشك في تحقق ما اعتبر في التذكية شرعاً.

كما[5] أن أصالة قبول التذكية محكمة إذا شك في طروّ ما يمنع عنه، فيحكم

--------------------------------------

[1] أي: مع أصالة قبوله للتذكية، وهي الاستصحاب، «عدم تحققها» تحقق التذكية.

[2] «أنه» أن الحيوان، «كذلك» يطهر بالفري وسائر الشرائط، «بعده» بعد الجلل.

القسم الثالث والرابع
الشبهة الموضوعية مع وجود الأصل الموضوعي

[3] في الشبهة الحكمية - مع وجود أصل موضوعي مخالف أو موافق للبراءة - .

فالقسم الثالث: وهو الحيوان القابل للتذكية، كالغنم، إذا شككنا في تحقق التذكية أو في شرائطها، من غير أن يكون هناك دليل شرعي يدل على التذكية، كسوق المسلمين أو يد المسلم، كما لو شاهدنا لحم غنم في الصحراء، ولا نعلم هل ذبح على الطريقة الشرعية أم لا؟ فهنا أصالة عدم التذكية جارية، ولا تصل النوبة إلى البراءة؛ لعلمنا التعبدي - بسبب الاستصحاب - بعدم التذكية، فيترتب لازمها وهو الحرمة.

[4] أي: شك في التذكية، لأجل الشك في تحقق شرائط التذكية - مع علمنا بأن الحيوان قابل للتذكية كالغنم - .

[5] هذا القسم الرابع: وهو جريان الأصل الموضوعي الدال على الإباحة.

ص: 175

بها[1] في ما أحرز الفري بسائر شرائطها عداه[2]، كما لا يخفى، فتأمل جيداً.

الثاني[3]: إنه لا شبهة في حسن الاحتياط شرعاً وعقلاً[4] في الشبهة الوجوبية أو

--------------------------------------

ومثاله: الغنم المشكوك في كونها موطوءة، فإن الوطء يوجب عدم قابليتها للتذكية وحرمة لحمها، كما يعزّر الفاعل، ويغرّم قيمتها لصاحبها، وتذبح وتحرق. ومع الشك في الوطء يجري استصحاب عدم الوطء أو استصحاب بقاء قابليتها للتذكية، فيكون لحمها حلالاً.

[1] بقبولها التذكية، ومن ثم حلية لحمها.

[2] أي: أحرزت كل الشرائط بالعلم الوجداني سوى المانع المشكوك - كالوطء في المثال - وهو يحرز بالاستصحاب، وهو علم تعبدي.

والحاصل: إنا قد أحرزنا كل الشرائط، إلاّ أن عدم الوطء أحرز بالاستصحاب، وسائر الشرائط أحرزت بالعلم الوجداني - مثلاً - .

التنبيه الثاني الاحتياط في العبادة المشكوكة
اشارة

[3] قبل البدء بالحديث لابد من تقديم أمرين:

الأول: لا إشكال في حسن الاحتياط مطلقاً، سواء في الشبهة الوجوبية أم التحريمية، وسواء كان في العبادات أم غيرها، والمناقشة إنّما كانت في وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية لا في حسنه. نعم، إذا استلزم الاحتياط محذوراً - كالوسوسة أو اختلال النظام - فلا حسن فيه.

الثاني: إذا احتاط وكان سبب احتياطه إدراك الواقع، بأن يطمئن بعمله بالواجبات الواقعية، وتركه للمحرمات كذلك، فهذا لا إشكال في استحقاق الثواب عليه، لما دلّ من الأدلة النقلية على إثابة المحتاط.

[4] أما حسنه شرعاً: فللروايات الدالة على ذلك، مثل: ما روي عن الإمام الباقرعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنه قال: (إذا اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده، وردّوه إلينا، حتى نشرح

ص: 176

التحريمية، في العبادات وغيرها. كما لا ينبغي الارتياب في استحقاق الثواب[1] في ما إذا احتاط وأتى[2] أو ترك بداعي احتمال الأمر أو النهي.

وربما يشكل[3] في جريان الاحتياط في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب

--------------------------------------

لكم من ذلك ما شرح لنا، فإذا كنتم كما أوصيناكم لم تعدوه إلى غيره، فمات منكم ميّت من قبل أن يخرج قائمنا كان شهيداً)(1).

وأما حسنه عقلاً: فلأنه يوجب حفظ الواقع، بإدراك المصلحة الواقعية وتجنّب المفسدة الواقعية.

[1] وذلك لانقياده وحفظه لمصلحة الواقع، ولا يخفى أن استحقاق الثواب إنما هو لأجل الوعد بالثواب تفضلاً ومِنّة من الله على عباده، وإلاّ فأصل الانقياد لا يوجبه لو لا التفضّل.

[2] عطف تفسيري لقوله: (احتاط).

الإشكال في الاحتياط في العبادات المشكوكة

[3] حاصله أن الصور ثلاث:

1- التوصليات، ولا إشكال في إمكان الاحتياط فيها، كما لو شك في طهارة ثوبه فإنه يتمكن من غسله - احتياطاً - .

2- في العبادات المأمور بها مع عدم العلم بأن الأمر للوجوب أو للاستحباب، كصوم يوم الشك من شعبان أو شهر رمضان، فإن هذا الصوم مأمور به إما استحباباً إن كان آخر شعبان، وإما وجوباً إن كان أول شهر رمضان، فلا إشكال في إمكان الاحتياط بالإتيان بهذا الصوم. ولا حاجة إلى قصد الوجه - أي: تعيين الوجوب أو الاستحباب - لما مرّ من عدم اشتراطه في العبادات.

3- العبادات المشكوكة، بأن دار أمرها بين الوجوب وبين غير الاستحباب

ص: 177


1- وسائل الشيعة 27: 168.

وغير الاستحباب[1] من جهة[2] أن العبادة لابد فيها من نية القربة المتوقفة[3] على العلم بأمر الشارع تفصيلاً أو إجمالاً[4].

وحسن الاحتياط عقلاً[5]

--------------------------------------

- كالإباحة والكراهة - كمن يريد الاحتياط بقضاء صلواته التي صلاّها في أوائل بلوغه، فإنه إن كانت تلك الصلوات باطلة فقد تعلق الأمر بقضائها، وإن كانت صحيحة فلا أمر أصلاً بالقضاء - ولو بنحو الاستحباب - وهنا قد يشكل الاحتياط؛ وذلك لعدم تمشي قصد القربة.

بيانه: إن مقوّم العبادات ومُميزها عن التوصليات هو قصد القربة، ولا يمكن قصد القربة إلاّ بعد الأمر من الشارع - لأن قصد القربة هي قصد امتثال الأمر للتقرب إليه تعالى - وبعد العلم بذلك الأمر، ومع الشك في الأمر كيف يتصور قصد القربة؟ أي: كيف نقصد امتثال الأمر مع شكنا في وجود الأمر؟

[1] المقصود من «غير الاستحباب» هو الإباحة أو الكراهة فقط، أما لو دار بين الوجوب والحرمة فلا معنى للاحتياط، بل هو من دوران الأمر بين المحذورين.

[2] بيان للإشكال.

[3] أي: قصد القربة متوقف على العلم بالأمر، وهذا العلم متوقف على وجود الأمر واقعاً، ومع الشك في وجود الأمر كيف نقصد أمراً لا يعلم وجوده؟

[4] «إجمالاً» كما لو اشتبهت القبلة بين الجهات الأربع، فإنا نعلم - علماً إجمالياً - بوجود الأمر بالصلاة إلى إحدى تلك الجهات، و«تفصيلاً» نفس المثال مع علمنا بطرف القبلة.

أجوبة خمسة
الجواب الأول والإشكال عليه

[5] حاصل الجواب الأول: إنه لا إشكال في حسن الاحتياط بحكم العقل،

ص: 178

لا يكاد يجدي[1] في رفع الإشكال ولو قيل[2] بكونه موجباً لتعلق الأمر به شرعاً، بداهة[3] توقفه على ثبوته توقفَ[4]

--------------------------------------

وحيث إن أحكام الشرع تابعة للحسن والقبح، فهنا نكتشف أمر الشارع بالاحتياط - لقاعدة الملازمة - فصار الأمر معلوماً، وأمكن قصد القربة، فنأتي بهذه العبادة المشكوكة بقصد امتثال هذا الأمر الاحتياطي.

[1] المصنف لم يرتض هذا الجواب، وناقشه بأمرين:

المناقشة الأولى: بناءً على جريان قاعدة الملازمة هنا فنقول: إن استكشاف أمر الشارع بالاحتياط من حكم العقل بحسنه، ومن ثم تصحيح قصد القربة في العبادة المشكوكة يستلزم الدور. ولهذا الدور بيانات عدة، أسهلها:

1- الأمر بالاحتياط متوقف على إمكان العبادة؛ إذ الشارع لا يأمر بغير الممكن.

2- إمكان العبادة متوقف على إمكان قصد القربة؛ إذ لا عبادة من غير قصد القربة.

3- قصد القربة متوقف على الأمر بالاحتياط حسب زعم الجواب الأول؛ إذ لا يمكن قصد القربة - وهو قصد امتثال الأمر - إلاّ بعد وجود الأمر وبعد العلم به.

المناقشة الثانية: بناءً على عدم جريان قاعدة الملازمة هنا، وسيأتي بيانها بعد ذكر الجواب الثاني.

[2] أي: حتى لو قلنا بجريان قاعدة الملازمة هنا، «بكونه» أي: بكون الحسن العقلي، «موجباً» بحسب قاعدة الملازمة، «به» بالاحتياط.

[3] بيان للدور، «توقفه» أي: توقف الأمر بالاحتياط، «على ثبوته» أي: على إمكان الاحتياط - وهذا الطرف الأول من الدور - .

[4] أي: كتوقف العارض على المعروض، كالبياض المتوقف على الجسم، فالمعروض متقدم رتبة على العارض؛ وذلك لأن الحكم - وهو الأمر هنا - متأخر

ص: 179

العارض على معروضه، فكيف[1] يعقل أن يكون من مبادئ ثبوته؟

وانقدح بذلك[2] أنه لا يكاد يجدي في رفعه أيضاً القول[3] بتعلق الأمر به[4] من جهة ترتب الثواب عليه، ضرورة[5]

--------------------------------------

عن الموضوع - وهو الاحتياط - فلابد أن يكون الاحتياط ممكناً حتى يمكن تعلق الأمر به، ولو استحال الموضوع انتفى الحكم.

[1] بيان للطرف الثاني والثالث من الدور - حسب ما بيناه - أي: فكيف تقولون: إن إمكان العبادة وقصد القربة متوقف على الأمر بالاحتياط؟ «أن يكون» الأمر بالاحتياط، «ثبوته» أي: إمكان الاحتياط. والمعنى: كيف يكون الأمر بالاحتياط سبباً لإمكان قصد القربة ومن ثَمَّ إمكان الاحتياط؟

الجواب الثاني

[2] «بذلك» باستلزام الدور في الجواب الأول، «في رفعه» رفع الإشكال في الاحتياط في العبادات المشكوكة - أي: الدائر أمرها بين الوجوب وغير الاستحباب - .

[3] بيان للجواب الثاني، وحاصله: إن الاحتياط فيه ثواب، ولا يكون الثواب إلا للمأمور به، فمن ترتب الثواب على الاحتياط نكتشف وجود الأمر في هذه العبادة المشكوكة.

وفرق هذا الجواب عن سابقه، أن الأول هو عن طريق الحسن العقلي وهو علّة للأمر، والثاني عن طريق الثواب وهو معلول للأمر.

[4] «به» بالاحتياط، «عليه» على الاحتياط.

[5] بيان عدم صحة هذا الجواب الثاني، وحاصله: لزوم الدور المذكور في مناقشة الجواب الأول، مع إضافة ركن آخر للدور، هكذا:

1- الثواب متوقف على الأمر بالاحتياط.

2- الأمر بالاحتياط متوقف على إمكان الاحتياط.

ص: 180

أنه فرع إمكانه[1]، فكيف[2] يكون من مبادئ جريانه؟! هذا.

مع[3]

--------------------------------------

3- إمكان الاحتياط متوقف على قصد القربة.

4- قصد القربة متوقف على الأمر بالاحتياط.

[1] «أنه» الأمر بالاحتياط، «إمكانه» إمكان الاحتياط، وهذا الطرف الثاني من الدور.

[2] هذا الطرف الثالث والرابع من الدور، أي: «فكيف يكون» إمكان الاحتياط، «من مبادئ جريانه» أي: سبباً للأمر بالاحتياط.

المناقشة الثانية لكلا الجوابين

[3] هذه المناقشة هي بناءً على ما هو الصحيح من عدم جريان قاعدة الملازمة هنا؛ وذلك لأن قاعدة الملازمة تجري في سلسلة العلل فقط دون سلسلة المعاليل، وما نحن فيه من المعاليل.

بيانه: إن العقل قد يستقل في حكم - مع قطع النظر عن التشريع - كقبح الظلم وحسن العدل، ففي هذه الموارد تجري قاعدة الملازمة؛ لأن ما استقل به العقل هو المعرفة بالحسن والقبح، وهي علل لأحكام الشارع؛ لأن أحكامه تابعة للمصالح والمفاسد.

ولكن إذا لم يكن للعقل حكم - لعدم إحاطته بالواقع - ثم حكم الشارع بوجوب صوم شهر رمضان - مثلاً - فإن العقل يحكم بلزوم طاعته، وهذا الحكم العقلي لم يكن سبباً لحكم الشارع بالصيام، بل هو معلول لحكمه، أي: بعد أن أوجب الشارع الصيام حكم العقل بلزوم إطاعته، ولا ملازمة بين حكم العقل بلزوم الإطاعة وبين حكم الشارع بلزومها، بل لو صدر أمر من الشارع كقوله: {أَطِيعُواْ ٱللَّهَ...}(1) فإنه أمر إرشادي، والأمر الإرشادي هو دلالة إلى حكم العقل، وليس

ص: 181


1- سورة آل عمران، الآية: 132.

أن حسن الاحتياط لا يكون بكاشف عن تعلق الأمر به[1] بنحو اللم، ولا ترتب الثواب عليه بكاشف عنه بنحو الإن، بل يكون حاله في ذلك[2] حال الإطاعة، فإنه[3] نحو من الانقياد والطاعة.

وما قيل[4]

--------------------------------------

إصدار حكم آخر على طبق حكم العقل، وقد مرّ تفصيله في بحث التعبدي والتوصلي، فراجع.

إذا اتضح ذلك، نقول: حينما يستقل العقل بحسن الاحتياط فإنّما هو لأجل حفظ مصلحة الواقع وتحقيق غرض المولى، فيكون الاحتياط طريقاً لإطاعة المولى، فهو في سلسلة المعاليل، فالأوامر الشرعية الدالة على الاحتياط لابد من حملها على الإرشادية، فلا يوجد هناك أمر مولوي حتى يقصد العبد إطاعة ذلك الأمر تقرباً إليه تعالى.

[1] «به» بالاحتياط، «بنحو اللم» أي: الانتقال من العلة - وهي حسن الاحتياط - إلى المعلول - وهو الأمر بالاحتياط - كما في الجواب الأول، «الثواب عليه» على الاحتياط، «عنه» عن الأمر، «بنحو الإنّ» أي: الانتقال من المعلول - وهو الثواب - إلى العلة - وهو الأمر بالاحتياط - .

[2] «حاله» حال الاحتياط، «في ذلك» في الحسن والثواب، «حال الإطاعة» التي يكون الأمر بها للإرشاد في قوله تعالى: {أَطِيعُواْ ٱللَّهَ...}(1) وليس أمراً مولوياً.

[3] أي: فإن الاحتياط نوع من أنواع الإطاعة، التي يعبّر عنها بالإطاعة الاحتياطية.

والحاصل: إن قصد القربة لا يكون إلاّ قصد امتثال أمر المولى، ولا أمر للمولى في الأوامر الإرشادية، بل هو إشارة وإرشاد إلى حكم العقل فقط.

الجواب الثالث

[4] وهو جواب الشيخ الأعظم حيث قال في الرسائل: (إن المراد من الاحتياط والإتقاء في هذه الأوامر هو مجرد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نية

ص: 182


1- سورة آل عمران، الآية: 132.

في دفعه[1]: من كون المراد بالاحتياط في العبادات هو مجرد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نية القربة[2].

فيه[3]:

--------------------------------------

القربة، فمعنى الاحتياط بالصلاة الإتيان بجميع ما يعتبر فيها عدا قصد القربة، فأوامر الاحتياط يتعلق بهذا الفعل، وحينئذٍ فيقصد المكلف فيه التقرب بإطاعة هذا الأمر)(1)،

انتهى.

يعني الأمر بالاحتياط، وحاصله: إن المكلف يأتي بكل الأجزاء والشرائط - كالركوع والسجود والقبلة... الخ - ولا يقصد امتثال أمر الصلاة؛ لعدم علمه بهذا الأمر، ولكن يقصد امتثال أمر الاحتياط، والأمر بالاحتياط معلوم يمكن قصد امتثاله.

[1] دفع إشكال الاحتياط في العبادات.

[2] وحيث إن الأمر بالاحتياط معلوم فيقصد امتثال أمر الاحتياط - قربة إلى الله تعالى - .

[3] أشكل المصنف على هذا الجواب بثلاثة إشكالات، تنحل إلى خمسة؛ لأن الإشكال الثاني يتضمن ثلاثة:

الأول: إن الاحتياط الذي يستقل به العقل هو الإتيان بكل الأجزاء والشرائط، وأما الإتيان ببعضها فهذا ما لا يستقل به العقل، ولا دليل عليه من الشرع.

الثاني: إن قصد القربة لأمر الاحتياط يحوّل هذا الاحتياط:

أ: إلى وجوب مولوي؛ لعدم استقلال العقل بهذا الاحتياط، فيكون أمر المولى به أمراً مولوياً - ككل الأوامر التي لا يستقل بها العقل - وهذا ما لا يرتضيه الشيخ الأعظم، حيث يرى بأن أوامر الاحتياط إرشادية.

ب: وإلى وجوب نفسي؛ لأن الغرض من هذا الاحتياط ليس حفظ مصلحة

ص: 183


1- فرائد الأصول 2: 153.

- مضافاً إلى عدم مساعدة[1] دليل حينئذٍ على حسنه بهذا المعنى فيها، بداهة أنه ليس باحتياط حقيقةً[2]، بل هو[3] أمر لو دل عليه دليل كان مطلوباً مولوياً نفسياً عبادياً[4]؛ والعقل لا يستقل إلاّ بحسن الاحتياط[5]، والنقل لا يكاد يرشد إلاّ إليه.

--------------------------------------

الواقع؛ لأن الواقع - لو كان - فهو مع قصد القربة، فالفعل بلا قصد القربة شيء آخر، فوجوبه لا يكون طريقاً إلى الواقع، وحينئذٍ يكون وجوباً نفسياً، وهذا أيضاً لا يرتضيه الشيخ الأعظم، حيث يرى أن وجوب الاحتياط طريقي.

ج: وإلى وجوب عبادي؛ لأن إتيان الاحتياط بقصد القربة معناه تحوّل هذا الاحتياط إلى عبادة، حيث إن كل واجب اشترط فيه قصد القربة يكون عبادياً، وهذا أيضاً لا يرتضيه الشيخ الأعظم.

الثالث: إن هذا الجواب هو تسليم بالإشكال وقبول أنه لا يمكن قصد القربة في العبادات المشكوكة.

[1] إشارة إلى الإشكال الأول، «دليل» لا من العقل ولا من الشرع، «حينئذٍ» حين عدم قصد القربة في نفس العبادة، «بهذا المعنى» بمعنى الإتيان بكل الأجزاء والشرائط سوى قصد القربة، «فيها» في العبادات.

[2] لأن الاحتياط الحقيقي هو الإتيان بكل الأجزاء والشرائط.

[3] إشارة إلى الإشكال الثاني، «هو» الاحتياط بهذا المعنى، «لو دل عليه دليل» أي: لو سلمنا بوجود دليل عليه فلا يكون احتياطاً، بل أمراً مستقلاً، وسيأتي بعد قليل عدم وجود دليل عليه لا من الشرع ولا من العقل في قوله: (والعقل لا يستقل... الخ).

[4] شرحنا هذه الفقرات في تقرير الإشكالات فراجع، وقلنا: إن هذه الفقرات تنحل إلى ثلاثة إشكالات.

[5] والاحتياط الحقيقي الذي هو الإتيان بكل الأجزاء والشرائط.

ص: 184

نعم[1]، لو كان هناك دليل على الترغيب في الاحتياط في خصوص العبادة[2] لما كان محيص عن دلالته اقتضاءً[3] على أن المراد به ذاك المعنى[4] بناءً[5] على عدم إمكانه[6] فيها بمعناه حقيقة، كما لا يخفى - أنه[7]

--------------------------------------

[1] أي: هذا الجواب من الشيخ الأعظم إنّما يصح لو كان هناك دليل خاص على الاحتياط في العبادات المشكوكة، مثلاً يقول: (من شك في صلواته التي صلاها في أوائل بلوغه فيجوز له الاحتياط بقضائها). وحينئذٍ نضطر إلى تصحيح كلام الشارع بهذا الجواب. ولكن حيث لا يوجد هكذا دليل فيكون هذا التوجيه من غير مبرِّر. نعم، لو لم نتمكن من حلّ الإشكال في العبادات المشكوكة لكُنّا نضطر إلى هذا القول، ولكن سيأتي في الجواب الرابع إمكان حلّ الإشكال.

[2] أي: الاحتياط بالإتيان بالعبادة المشكوكة - الدائر أمرها بين الوجوب وعدم الاستحباب - .

[3] «دلالته» دلالة ذلك الدليل، «اقتضاء» بدلالة الاقتضاء، وهي لزوم تقدير ما يتوقف عليه صحة كلام الحكيم أو صدقه، كتقدير الأهل في قوله تعالى: {وَسَۡٔلِ ٱلۡقَرۡيَةَ}(1)، أي: أهلها.

[4] «المراد به» بأمر المولى بالاحتياط في العبادة، «ذاك المعنى» الذي ذكره الشيخ وهو الإتيان بكل الأجزاء والشرائط سوى قصد القربة.

[5] أي: توجيه الأمر على طريقة الشيخ لو لم نتمكن من تصحيح الاحتياط في العبادة المشكوكة، أما لو تمكنا فلا تصل النوبة إلى توجيهه.

[6] عدم إمكان الاحتياط، «فيها» في العبادات، «بمعناه حقيقة» وهو الإتيان بكل الأجزاء والشرائط.

[7] هذا الإشكال الثالث على الجواب الثالث، و«أنه» خبره قوله: (فيه) قبل عدة أسطر، أي: فيه - مضافاً إلى كذا وكذا - أنه التزام... الخ.

ص: 185


1- سورة يوسف، الآية: 82.

التزام بالإشكال وعدم جريانه[1] فيها، وهو كما ترى.

قلت[2]: لا يخفى أن منشأ الإشكال[3] هو تخيل كون القربة المعتبرة في العبادة

--------------------------------------

[1] أي: عدم جريان الاحتياط، «فيها» في العبادات.

الجواب الرابع

[2] هذا هو الجواب الذي يرتضيه المصنف - وهو جواب مبنائي - وحاصله: إنه لا يشترط في قصد القربة قصد الأمر المعلوم، بل يكفي قصد الأمر المحتمل، فإن هذا يعتبر إطاعة أيضاً.

وكما مرّ مراراً فإن طرق الطاعة والمعصية طرق عقلائية، حيث لم يجعل الشارع طريقاً خاصاً، والطاعة عند العقلاء على أنواع.

منها: الطاعة المعلومة بالتفصيل، كأداء الصلوات اليومية.

ومنها: الطاعة المعلومة إجمالاً، كالصلاة إلى الجهات الأربع عند اشتباه القبلة.

ومنها: الطاعة الاحتمالية، كالإتيان بما يحتمل أمر المولى فيه رجاء أمره، والاحتياط في العبادات المشكوكة من هذا القبيل.

ولا يرد على المصنف الإشكال الذي أورده على الشيخ الأعظم، من أن الإتيان بالعبادة بدون قصد الأمر المعلوم ليس باحتياط؛ إذ الاحتياط هو الإتيان بالفعل بكل الأجزاء والشرائط؛ وذلك لأن المصنف يرى: أن قصد القربة ليست شرطاً شرعياً، حتى في العبادات المعلومة، بل هي شرط عقلي - كما مرّ في بحث التوصلي والتعبدي - والعقل لا يفرق بين العبادة المعلومة وبين العبادة المشكوكة، في اشتراط قصد القربة، فتكون كيفية قصد القربة هي قصد الأمر المعلوم، أو الأمر المحتمل رجاءً.

[3] في العبادات المشكوكة بأنه كيف يمكن قصد القربة والحال أن القربة هي قصد الأمر المعلوم، ولا يوجد أمر معلوم في العبادات المشكوكة؟

ص: 186

مثل سائر الشروط المعتبرة فيها[1]، مما يتعلق بها الأمر المتعلق بها، فيشكل جريانه[2] حينئذٍ، لعدم[3] التمكن من قصد القربة المعتبر فيها، وقد عرفت[4] أنه فاسد، وإنما اعتبر قصد القربة فيها[5] عقلاً لأجل أن الغرض منها لا يكاد يحصل بدونه، وعليه[6] كان جريان الاحتياط فيه بمكان من الإمكان، ضرورة التمكن من الإتيان بما احتمل وجوبه بتمامه وكماله[7]؛ غاية الأمر أنه[8] لابد أن يؤتى به على

--------------------------------------

[1] «فيها» في العبادات، «مما» بيان (مثل سائر الشروط)، «يتعلق بها» بسائر الشروط، «المتعلق بها» بالعبادة.

[2] «جريانه» جريان الاحتياط في العبادة، «حينئذٍ» حين كون شرط القربة مأموراً به كسائر الشروط والأجزاء.

[3] بيان الإشكال، «فيها» في العبادات.

[4] في بحث التعبدي والتوصلي، «أنه» أن تعلق الأمر العبادي بقصد القربة، «فاسد» للزومه الدور، وخلاصته:

1- (الصلاة) موضوع، وهو مقدم على (واجبة) وهو الحكم.

2- و(القربة) - وهي قصد الأمر - شرط، والشرط مقدم على المشروط (وهو الصلاة).

فالأمر تقدم على الصلاة لأنه شرط موضوعها، وتأخر عن الصلاة لأنه حكمها.

[5] «فيها» في العبادات، «منها» من العبادات، «بدونه» بدون قصد القربة.

[6] أي: بناءً على عدم اشتراط قصد القربة شرعاً، بل هو شرط عقلي، «فيه» أي: في مشكوك العبادة.

[7] لأن قصد القربة لم يكن شرطاً شرعاً، والمكلف يتمكن من الإتيان بكل أجزاء وشرائط العبادة بلا استثناء، وهذا هو المعنى الحقيقي للاحتياط.

[8] «أنه» للشأن، «يؤتى به» بمشكوك العبادة، «على نحو» أي: على نحو الإطاعة

ص: 187

نحو لو كان مأموراً به لكان مقرباً، بأن[1] يؤتى به بداعي[2] احتمال الأمر أو احتمال كونه محبوباً له تعالى، فيقع حينئذٍ[3] على تقدير الأمر به امتثالاً لأمره تعالى، وعلى تقدير عدمه[4] انقياداً لجنابه تبارك وتعالى، ويستحق الثواب على كل حال إما على الطاعة أو الانقياد[5].

--------------------------------------

الاحتمالية، وهو أن يقصد احتمال الأمر.

[1] «بأن» بيان قوله: (أن يؤتى به على نحو... الخ)، «به» بمشكوك العبادة.

[2] فتارة: يحتمل وجود أمر فيأتي به بداعي احتمال الأمر، وتارة أخرى: لا يحتمل وجود الأمر، ولكن يحتمل أن يكون محبوباً للمولى فيأتي به ليتحقق غرض المولى - المحتمل - وكلاهما طاعة احتمالية.

[3] أي: فيتحقق الفعل، «حينئذٍ» حين الإتيان به بداعي احتمال الأمر أو احتمال المحبوبية، «على تقدير الأمر» أي: لو كان هناك أمر واقعي، و«امتثالاً» مفعول «يقع»، أي: يكون فعله امتثالاً لذلك الأمر الواقعي - الذي كان يحتمله المكلف - .

[4] أي: لو لم يكن واقعاً أمر فهذا الفعل الذي أتى به لم يكن مأموراً به، لكنه انقياد.

مثلاً: لو قضى صلواته التي صلاها أوائل البلوغ احتياطاً، فإن كانت تلك الصلوات باطلة فهذا القضاء كان مأموراً به، فصادف احتياطه الأمر ويكون امتثالاً، وإن كانت تلك الصلوات صحيحة فلا أمر له بالقضاء لكن احتياطه هذا انقياد.

[5] ثم إن المصنف قد علّق على قوله: (وقد عرفت أنه فاسد)، تعليقه حاصلها إشكال على الشيخ الأعظم، وتأكيد لما قاله هنا، ودفع إشكال؛ وذلك لأن الشيخ في بحث التوصلي والتعبدي، صحح قصد القربة بتعدد الأمر، فيتعلق الأمر الأول بكل الأجزاء والشرائط - عدا قصد القربة - ويتعلق الأمر الثاني بقصد القربة.

ص: 188

--------------------------------------

يقول المصنف: لو تمّ تصحيح قصد القربة في العبادات المعلومة، بتعدد الأمر، فيمكن تصحيح قصد القربة في العبادات المشكوكة باحتمال تعدده، فلا حاجة للقول بأن يقصد القربة في الأمر الاحتياطي حتى يلزم عليه ما قدمناه من إشكالات.

قال المصنف(1):

(هذا مع أنه لو أغمض عن فساده) فساد تعلق الأمر بقصد القربة (لما كان في الاحتياط في العبادات إشكال غير الإشكال فيها) أي: في نفس العبادات المعلومة (فكما يلتزم في دفعه بتعدد الأمر فيها) في العبادات المعلومة (ليتعلق أحدهما بنفس الفعل) أي: كل الأجزاء والشرائط عدا قصد القربة (والآخر بإتيانه) الفعل (بداعي أمره) - قصد القربة - (كذلك في ما احتمل وجوبه منها) من العبادات (كان على هذا الاحتمال) أي: احتمال الوجوب في العبادة المشكوكة (أمرين كذلك - أي: أحدهما كان متعلقاً بنفسه والآخر بإتيانه بداعي ذلك الأمر - فيتمكن من الاحتياط فيها بإتيان ما احتمل وجوبه بداعي رجاء أمره واحتماله، فيقع عبادة وإطاعة) أي: امتثالاً (لو كان واجباً، وانقياداً لو لم يكن كذلك).

ثم المصنف يبين الفرق بين الاحتياط في العبادات المشكوكة وفي التوصليات المشكوكة، لكن هذا الفرق ليس بفارق فقال: (نعم، كان بين الاحتياط هاهنا) في العبادات المشكوكة (وفي التوصليات فرق: وهو أن المأتي به فيها) في التوصليات (كان موافقاً لما احتمل وجوبه مطلقاً) أي: سواء كان أمر أم لم يكن، مثلاً: من يغسل الثوب لاحتمال وجوبه، فإن الموضوع وهو «غسل الثوب» يتحقق في الخارج قطعاً، سواء كان واجباً أم لم يكن (بخلافه) أي: المأتي به (هاهنا) في العبادات (فإنه لا يوافق إلاّ على تقدير وجوبه واقعاً) لأن شرط تحقق العبادة هو وقوعها صحيحاً، فلو لم يكن للصلاة المشكوكة أمر واقعاً كانت باطلة، فلم تتحقق صلاة في الخارج؛

ص: 189


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 120.

وقد انقدح[1]

--------------------------------------

لأن العبادات أسامٍ للصحيح (لما عرفت من عدم كونه) المأتي به (عبادة إلاّ على هذا التقدير) أي: تقدير وجوبه واقعاً. (ولكنه) هذا الفرق (ليس بفارق) فيصح الاحتياط سواء في التوصليات المشكوكة أم في التعبديات المشكوكة (لكونه) أي: المأتي به (عبادة على تقدير الحاجة إليها) وهي وجوبها واقعاً (وكونه واجباً).

ثم إن المصنف دفع إشكال لزوم الإطاعة المعلومة - وكان الأولى جعل الإشكال وجوابه في المتن - فقال: (ودعوى عدم كفاية الإتيان برجاء الأمر في صيرورته) المأتي به (عبادة، أصلاً - ولو على هذا التقدير) تقدير مصادفة الواقع - (مجازفة، ضرورة) أن طرق الطاعة عقلية، و(استقلال العقل بكونه) بكون الإتيان رجاءً - أي: الإطاعة الاحتمالية - (امتثالاً لأمره على نحو العبادة - لو كان - وهو) العقل (الحاكم في باب الإطاعة والعصيان، فتأمل جيداً)، انتهى بشرحه.

الجواب الخامس

[1] هذا الجواب خاص بما إذا ورد خبر ضعيف على العبادة المشكوكة، وحاصله: إنه استفاضت الأخبار في أنه لو وصل إلى مسامعنا ثواب على عمل فعملنا به رجاء ذلك الثواب، فإن الله تعالى يتفضل علينا بمنحنا ذلك الثواب، حتى لو لم يصدر ذلك الخبر عن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فيكون العمل مستحباً مأموراً به، فيصح قصد القربة في هذا العمل، لإحراز الأمر.

وفي هذا الجواب نظر من جهتين:

الأولى: إنه لا حاجة إلى الأمر المعلوم، بل يمكن قصد القربة باحتمال الأمر - كما مرّ في الجواب الرابع - .

الثانية: إن إحراز الأمر - عبر أخبار من بلغ - خروج موضوعي عن البحث؛ لأن الكلام إنّما هو حول العبادات المشكوكة، لا العبادات المعلومة، وأخبار (من بلغ)

ص: 190

بذلك أنه لا حاجة[1] في جريانه في العبادات إلى تعلق أمر بها، بل[2] لو فرض تعلقه بها لما كان من الاحتياط بشيء، بل كسائر ما علم وجوبه أو استحبابه منها[3]، كما لا يخفى.

فظهر[4] أنه لو قيل ب- «دلالة أخبار (من بلغه ثواب)(1) على استحباب العمل[5] الذي بلغ عليه الثواب ولو بخبر ضعيف»، لما كان يجدي[6] في جريانه في خصوص ما دل على وجوبه أو استحبابه خبرٌ ضعيف، بل كان[7] - عليه - مستحباً كسائر ما

--------------------------------------

تجعل الأمر معلوماً محرزاً، وليس هذا محل الكلام.

والمصنف قدّم الإشكالين على نفس الجواب، باعتبار أن الإشكال الأول يرتبط بالجواب الرابع.

[1] إشارة إلى الإشكال الأول، «جريانه» الاحتياط، «بها» بالعبادات.

[2] إشارة إلى الإشكال الثاني، «لو فرض» إشارة إلى الخلاف الذي سيأتي بيانه من أن أخبار (من بلغ) هل تثبت الاستحباب أو الثواب فقط؟ «تعلقه» الأمر، «بها» بالعبادات المشكوكة.

[3] من العبادات، فكما يمكن قصد القربة في العبادات المعلومة الوجوب أو الاستحباب، كذلك يمكن قصد القربة في العبادة المشكوكة التي قام عليها خبر ضعيف؛ إذ بقيام الخبر الضعيف يتحقق أمر معلوم فيها - حسب الفرض - .

[4] شروع في بيان الجواب الخامس.

[5] أي: صيرورة العمل مأموراً به بالأمر الاستحبابي.

[6] توضيح للإشكال الثاني - تكراراً - ، «جريانه» الاحتياط، «في خصوص» أي: هذا الجواب خاص بالعبادة المشكوكة التي قام الخبر الضعيف عليها، «ما دلّ» الموصول معناه العبادة المشكوكة، «خبر ضعيف» فاعل (دلّ).

[7] أي: كان ما دل عليه الخبر الضعيف، «عليه» أي: بناءً على دلالة أخبار (من

ص: 191


1- الكافي 2: 87.

دل الدليل[1] على استحبابه.

لا يقال[2]:هذا[3] لو قيل بدلالتها على استحباب نفس العمل الذي بلغ عليه الثواب بعنوانه، وأما لو دل على استحبابه[4] لا بهذا العنوان، بل بعنوان أنه محتمل الثواب، لكانت[5] دالة على استحباب الإتيان به بعنوان الاحتياط، كأوامر

--------------------------------------

بلغ) على الاستحباب، «مستحباً» أي: معلوم الاستحباب فيكون مأموراً به.

[1] أي: كسائر المستحبات التي دل الدليل المعتبر على استحبابها، فهي مأمور بها، ويمكن قصد القربة - بقصد ذلك الأمر - .

[2] حاصله: إنه حتى لو قلنا بدلالة أخبار (من بلغ) على الاستحباب فإن العمل لا يصير مستحباً، فلا يصح إشكالكم الثاني.

بيانه: إن الاستحباب المستفاد من أخبار (من بلغ) على أحد نحوين:

1- استحباب ذات العمل، وعلى هذا النحو يرد إشكالكم حيث صار الأمر معلوماً.

2- استحباب الاحتياط بإتيان ذلك العمل، مع بقاء العمل على واقعه، وحينئذٍ فلا علم لنا بوجود أمر في ذات العمل، وإنما الأمر الاستحبابي متوجه إلى الاحتياط، فيكون كأوامر الاحتياط في محتمل الوجوب والحرمة، حيث لا ينقلب العمل إلى واجب أو مستحب، وإنّما الأمر - وجوباً أو استحباباً - توجه إلى نفس الاحتياط.

[3] أي: إشكالكم الثاني، «بدلالتها» أخبار من بلغ، «بعنوانه» أي: بذاته، مثلاً: غسل يوم النيروز قام عليه خبر ضعيف، فيرد الإشكال لو قلنا: إن نفس الغسل يصير مستحباً.

[4] أي: استحباب العمل، لا بذاته، كأن يقال: إن غسل النيروز لا يصير مستحباً، بل الاحتياط بإتيانه مستحب، «محتمل الثواب» وهو العنوان الاحتياطي.

[5] جزاء (لو دلّ على استحبابه)، أي: لكانت أخبار من بلغ، «الإتيان به» بالعمل.

ص: 192

الاحتياط[1] لو قيل بأنها للطلب المولوي[2] لا الإرشادي.

فإنه يقال[3]: إن الأمر بعنوان الاحتياط ولو كان مولوياً[4] لكان توصلياً[5].

--------------------------------------

[1] في محتمل الوجوب والحرمة، حيث لا تحوّل العمل إلى واجب أو مستحب، بل يكون الاحتياط مطلوباً.

[2] لأن القربة هي قصد الأمر المولوي؛ إذ الأمر الإرشادي ليس بأمر حقيقة، بل هو إرشاد إلى حكم العقل - كما مرّ توضيحه - . فأخبار (من بلغ) تدل على الأمر بالاحتياط المولوي؛ لأن العقل لا يدرك حسن الاحتياط في محتمل الاستحباب، فلا حكم عقلي، فالأمر الشرعي بحسن الاحتياط حينئذٍ يكون مولوياً لا محالة.

[3] حاصله ثلاثة إشكالات:

1- إن الاحتياط في المستحبات أيضاً يحكم العقل بحسنه، وكذا في محتمل الاستحباب، فكما يكون الاحتياط في الواجبات إرشادياً كذلك في المستحبات.

2- إن الاحتياط في المستحبات - الثابت بأخبار (من بلغ) على هذا المبنى - لا يصحح قصد القربة؛ لأن هذا الاحتياط توصلي وليس تعبدياً، فكيف يقصد القربة في الأمر التوصلي؟

أما أنه توصلي فلأنّ الأصل في الواجبات هو كونها توصلية، وقد مر في بحث التعبدي والتوصلي أن الاحتياج إلى قصد القربة هو قيد إضافي، والأصل عدم تقيّد الواجب به.

3- إنه لو فرض أن اخبار (من بلغ) تدل على استحباب الاحتياط في المستحبات، فإنه لا يمكن اكتشاف الأمر منها، وقصد ذلك الأمر؛ وذلك للزوم الدور، الذي بيناه في الإشكال على الجواب الأول والثاني، فراجع.

[4] إشارة إلى الإشكال الأول.

[5] إشارة إلى الإشكال الثاني.

ص: 193

مع[1] أنه لو كان عبادياً لما كان مصححاً للاحتياط[2] ومجدياً في جريانه في العبادات، كما أشرنا إليه آنفاً[3].

ثم[4] إنه لا يبعد دلالة بعض تلك الأخبار[5] على استحباب ما بلغ عليه الثواب[6]، فإن[7] صحيحة هشام بن سالم المحكية عن المحاسن عن أبي عبد اللهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ

--------------------------------------

[1] إشارة إلى الإشكال الثالث، «أنه» عنوان محتمل الثواب، أي: الاحتياط في المستحبات، «لما كان» هذا العنوان.

[2] لما أشرنا من لزوم الدور.

[3] سابقاً في الإشكال على الجواب الأول والثاني.

قاعدة من بلغ

[4] وردت عدة روايات - منها صحاح - على أن من بلغه ثواب على عمل فعمله كان أجر ذلك العمل له حتى وإن كان الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لم يقل ذلك الكلام. ولا خلاف في استحقاق العامل الثواب. وقد وقع الخلاف في أنه هل العمل يكون مستحباً، أو أنه ليس بمستحب ولكن الله يتفضل في الثواب فقط؟ والمصنف يرى أن العمل يصير مستحباً، والشيخ(1)

يرى أن العمل يبقى على ما هو عليه ولكن يثاب فاعله.

[5] أخبار (من بلغ).

[6] «ما» العمل الذي، «بلغ عليه» على ذلك العمل، «الثواب» فاعل بلغ، أي: ينقلب العمل مستحباً - وإن كان في ذاته مباحاً مثلاً - .

الاستدلال على القول بالاستحباب

[7] دليل المصنف على الاستحباب، وحاصله: إنه في هذه الصحيحة رُتّب الثواب على نفس العمل، ومن الواضح أن الثواب قسمان:

ص: 194


1- فرائد الأصول 2: 157.

قال: «من بلغه عن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له، وإن كان رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لم يقله»(1)

ظاهرة[1] في أن الأجر كان مترتباً على نفس العمل الذي بلغه عنه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنه ذو ثواب[2].

وكون[3]

--------------------------------------

1- ثواب على نفس العمل، وهذا يكشف عن استحبابه؛ لعدم الثواب في المباح أو المكروه.

2- ثواب على الاحتياط، وهنا لا يكون الثواب على العمل حتى يكشف استحبابه، بل على الاحتياط في العمل، فيكون نفس الاحتياط مستحباً مع بقاء ذات العمل على ما هو عليه.

وفي صحيحه هشام بن سالم رتب الثواب على ذات العمل، فقولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «كان أجر ذلك»، (ذلك) إشارة إلى العمل، فالمعنى أجر العمل له، فإذا كان للعمل أجر فذلك يكشف عن استحباب نفس العمل.

[1] منشأ الظهور هو مرجع اسم الإشارة - كما ذكرناه - .

[2] «بلغه» بلغ العامل، وجملة «أنه ذو ثواب» فاعل (بلغه).

دليل القول بعدم الاستحباب

[3] استدل الشيخ الأعظم(2)،

على عدم استحباب العمل بأمرين:

الأول: إن الداعي للعمل هو طلب الثواب، فلو لا بلوغ الثواب لم يكن المؤمنون يعملون بذاك العمل، والداعي يقيد العمل، ففي الحقيقة إن المستحب هو رجاء صدوره عن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، ومرجع هذا إلى الاحتياط، أي: إنا نحتمل صدور هكذا أمر عنه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، وبأمل امتثال أمره - لو كان الخبر صحيحاً - نقوم بالعمل، وهذا معنى الاحتياط، وهذا الاحتياط مستحب، ولكن لا يوجب استحباباً في ذات العمل.

ص: 195


1- المحاسن 1: 25.
2- فرائد الأصول 2: 155.

العمل متفرعاً على البلوغ، وكونه[1] الداعي إلى العمل، غير موجب[2] لأن يكون الثواب إنما يكون[3] مترتباً عليه في ما إذا أتى برجاء أنه مأمور به وبعنوان الاحتياط[4]، بداهة أن الداعي إلى العمل لا يوجب له وجهاً وعنواناً[5] يؤتى به بذاك الوجه والعنوان.

وإتيان[6] العمل بداعي طلب قول النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ - كما قُيِّد به في بعض الأخبار -

--------------------------------------

وأشكل المصنف عليه: بأن الداعي لا يوجب تقييداً للعمل، بل الداعي هو علة العمل، ولكنه لا يغيّر العمل عن واقعه، مثلاً: من يتوهم أن له ضيوفاً فيشتري لهم طعاماً، ثم يتبين له عدم مجيئهم، فإن الداعي إلى شراء الطعام كان مجيء الضيوف، ولكن هذا الداعي لا يقيد الشراء بحيث يحق له فسخ البيع، وهكذا هنا، الداعي للعمل هو رجاء قول النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وهذا الداعي لا يقيد العمل.

وبعبارة أخرى: الداعي حيثٌ تعليلي - أي: علة العمل الغائية - وليس حيثاً تقييدياً.

الثاني: سيأتي في قوله: (وإتيان العمل بداعي طلب قول النبي... الخ).

[1] كون البلوغ، والعطف تفسيري.

[2] الإشكال على هذا الوجه الأول.

[3] أي: لا يوجب انحصار الثواب في الاحتياط، بل يمكن أن يكون الثواب لجهتين: للاحتياط، ولذات العمل. «إنّما يكون...» بمعنى منحصراً، وهو خبر قوله: «لأن يكون الثواب»، «عليه» على العمل، «في ما» أي: مقيداً، «أنه» أن العمل.

[4] عطف تفسيري، أي: الإتيان بالعمل برجاء إصابة قول النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ هو الاحتياط بعينه.

[5] لأنه حيثٌ تعليلي، لا حيثٌ تقييدي - كما بيّنا - .

[6] هذا هو الوجه الثاني، الذي استدل به الشيخ الأعظم(1) على عدم استحباب

ص: 196


1- فرائد الأصول 2: 155.

وإن كان[1] انقياداً، إلاّ أن الثواب في الصحيحة إنّما رتب على نفس العمل، ولا موجب لتقييدها به[2]،

--------------------------------------

نفس العمل، وحاصله: إن الثواب في بعض الأخبار قُيّد بداعي طلب قول النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، كما عن الإمام الباقرعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (من بلغه ثواب من الله على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب أوتيه، وإن لم يكن الحديث كما بلغه)(1).

حيث لم يجعل الثواب على ذات العمل، بل على العمل بهذا القصد، وهو عبارة أخرى عن الاحتياط.

وقد أشكل المصنف عليه بإشكالين:

الأول: إن هذه الطائفة من الأخبار وإن دلت على أن الثواب للاحتياط والانقياد، إلاّ أنه لا منافاة بينها وبين صحيحة هشام بن سالم الدالة على أن الثواب على نفس العمل، حيث يمكن أن يكون لعمل واحد ثواب من جهتين: نفس العمل، والانقياد.

الثاني: إنه لا إشكال في أن من يأتي بالعمل - لا للانقياد، بل لنفس العمل - يكون مستحقاً للثواب، وهذا يدل على أن الثواب ليس في الاحتياط.

ومثاله الواضح: غالب الناس الذين يعملون المستحبات - وهم لا يعلمون أنها لقاعدة (من بلغ) - فإنهم لا يقومون بالعمل احتياطاً، بل عملهم بها كعملهم بسائر المستحبات المقطوع بها، ولا إشكال في استحقاقهم للثواب، وحيث إن الثواب حينئذٍ ليس للاحتياط والانقياد فلا محالة يكون لنفس العمل، بل الناس يأتون بغالب المستحبات المعلومة طمعاً في الثواب، ومع ذلك الثواب إنّما هو لذات العمل ولا يقيّد بهذا القصد.

[1] إشارة إلى الإشكال الأول.

[2] أي: تقييد الصحيحة، «به» بعض الأخبار الدالة على أن الثواب للانقياد.

ص: 197


1- الكافي 2: 87.

لعدم[1] المنافاة بينهما، بل[2] لو أتى به كذلك أو التماساً للثواب الموعود - كما قيد به في بعضها الآخر - لأوتي الأجر والثواب على نفس العمل، لا بما هو احتياط وانقياد[3]، فيكشف[4] عن كونه بنفسه مطلوباً وإطاعةً، فيكون وزانه[5] وزان «من سرح لحيته»(1) أو «من صلى أو صام فله كذا». ولعله لذلك[6] أفتى المشهور

--------------------------------------

[1] وجه عدم التقييد؛ وذلك لأن التقييد إنما يكون في ما لو كان تنافٍ بين الدليلين، فيحمل المطلق على المقيد، ولكن حيث لا تنافي فلا وجه للتقييد، وهنا لا منافاة بين الدليلين؛ لإمكان كون الثواب من وجهين - للعمل وللانقياد - كما عرفت تفصيله.

[2] إشارة إلى الإشكال الثاني، وأن الثواب لذات العمل حتى لو أتى به بقصد إدراك الثواب، «أتى به» بالعمل، «كذلك» أي: لأنه مستحب - كما دلت صحيحة هشام - ، «أو التماساً» أي: أو أتى بالعمل طمعاً في الثواب.

والحاصل: إنه لا فرق في الصورتين - سواء كان العمل لأجل استحبابه أم للطمع في الثواب - في كون الثواب على نفس العمل.

[3] لأن الصحيحة تدل على أن الثواب على نفس العمل، وقصد الانقياد لا يوجب صرف الثواب من العمل إلى الانقياد، فمن صلى اليومية مثلاً - سواء بعنوان أنها واجبة أم صلّى بعنوان الانقياد - فإن الثواب يكون على نفس الصلاة، لا على الانقياد.

[4] فيكشف إعطاء الأجر على نفس العمل، «كونه» كون العمل، «بنفسه» لا بما هو انقياد واحتياط.

[5] أي: فيكون نظير سائر المستحبات المعلومة التي لها ثواب كصلاة الليل - مثلاً -، فإن إتيان الناس لها بداعي الثواب لا يقيد العمل بهذا الداعي، بل يكون الثواب لنفس العمل، لا للانقياد والاحتياط.

[6] لأن الثواب لذات العمل، حيث إنه يكشف عن حسن نفس العمل واستحبابه؛ إذ لا معنى للثواب على ذات العمل من غير أن يكون مستحباً.

ص: 198


1- الكافي 6: 489.

بالاستحباب، فافهم وتأمل[1].

الثالث[2]:

--------------------------------------

[1] لعله إشارة إلى صحة كلا الوجهين اللذين استدل بهما الشيخ الأعظم، وعدم ورود الإشكالات عليهما.

أما الوجه الأول: فلا إشكال في أن الداعي يُعَنْوِن العمل ويقيّده، فضرب اليتيم بقصد التأديب حسن، وبقصد الإيذاء قبيح، فالداعي غيّر الفعل من حسن إلى قبيح أو العكس.

وأما الوجه الثاني: فإن صحيحة هشام بن سالم مجملة من حيث جهة الثواب، فهل الثواب لذات العمل أم للانقياد والاحتياط؟ وأما الأخبار الأخرى فهي مبيّنة حيث دلت على أن الثواب للانقياد، وفي المقام تفاصيل لا يسعها المقام، وإن شئت التفصيل فراجع تبيين الأصول في (التسامح في أدلة السنن) تقريرات درس السيد الأخ (رحمه الله)(1).

التنبيه الثالث في جريان البراءة في الشبهة الموضوعية

[2] لا إشكال في جريان البراءة في الشبهات الحكمية - وجوبية أم تحريمية - فهل تجري في الشبهات الموضوعية؟ فيه أقوال:

والمصنف وإن ساق الكلام في الشبهة الموضوعية التحريمية، إلاّ أن البحث عام يشمل الشبهة الموضوعية الوجوبية أيضاً.

القول الأول: عدم جريان أصالة البراءة مطلقاً.

ودليله: هو أن الذمة اشتغلت بالتكليف، ولا يعلم الخروج عن عهدة هذا التكليف إلاّ بترك الأفراد المشكوكة. مثلاً قوله: (لا تشرب الخمر) تكليف اشتغلت ذمة المكلف به، والمصاديق المشكوك كونها خمراً يلزم تركها للخروج عن عهدة هذا التكليف؛ لأن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.

ص: 199


1- موسوعة الفقيه الشيرازي من المجلد 9 الصفحة 338 إلى المجلد 10 الصفحة 80.

--------------------------------------

القول الثاني: جريان البراءة مطلقاً، اختاره الشيخ الأعظم(1)؛ وذلك لأن الذمة لم تشتغل إلاّ بالفرد المعلوم تفصيلاً أو إجمالاً، ولا يتنجز التكليف في غير صورة العلم - التفصيلي أو الإجمالي - وتجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان في الأفراد المشكوكة.

القول الثالث: التفصيل، واختاره المصنف؛ لأن الصور ثلاث:

1- إذا كان التكليف متعلقاً بالطبيعة الصرفة، ولم يكن مسبوقاً بالترك؛ وذلك إذا لم يكن النهي انحلالياً، بل كان فيه إطاعة واحدة ومعصية واحدة. مثل: الصوم، حيث إن النهي عن المفطرات يراد منه ترك طبيعتها، بحيث لو أكل مرّة واحدة بطل صومه.

وفي هذه الصورة يلزم ترك الأفراد المشتبهة، كالتزريق بالإبر المقوية حين الفجر؛ وذلك لأن الذمة اشتغلت بالتكليف - وهو الصوم - ولا يعلم الخروج عن عهدة هذا التكليف إلاّ بترك كل الأفراد المشتبهة، وقاعدة (الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية) بيان عقلي، فتكون واردة على أصالة البراءة.

2- إذا كان التكليف متعلقاً بالطبيعة الصرفة، وكان مسبوقاً بالترك، كالتزريق بالإبر المقوية ظهراً، حيث إن الصائم قبل الظهر كان تاركاً لكل المفطرات، وبعد التزريق يشك في ارتكابه للمفطر، فيستصحب ترك المفطرات.

وفي هذه الصورة لا يجب ترك الفرد المشتبه ببركة الاستصحاب.

3- إذا كان النهي انحلالياً، بأن تعلق بالطبيعة ولكن باعتبار أفرادها، كالنهي عن الصيد في الحرم، فإن النهي ينحل بعدد أفراد الصيد، وتتعدد الإطاعة والمعصية بترك كل صيد أو بفعله، فتجري البراءة في الأفراد المشكوكة.

ص: 200


1- فرائد الأصول 2: 119.

إنه لا يخفى أن النهي عن شيء إذا كان[1] بمعنى طلب تركه في زمان[2] أو مكان[3]، بحيث[4] لو وجد في ذاك الزمان أو المكان - ولو دفعة - لما امتثل أصلاً، كان[5] اللازم على المكلف إحراز أنه تركه بالمرة ولو بالأصل[6]، فلا يجوز[7] الإتيان بشيء يشك معه في تركه، إلاّ[8] إذا كان مسبوقاً به ليستصحب مع الإتيان به.

--------------------------------------

[1] الصورة الأولى في تفصيل المصنف.

[2] كترك مفطرات الصوم في النهار.

[3] لم أجد له مثالاً في الشرع؛ لأن كل الأمثلة إما ترجع إلى الزمان، وإما النهي فيها انحلالي، كالنهي عن قلع شجر الحرم.

ومثّلوا له: بما لو نهوا عن الإجهار بالصوت قرب العدو لئلا يشعر بهم، فإن النهي تعلق بالطبيعة الصرفة، حيث إن الإجهار ولو لمرّة واحدة - في ذلك المكان - يوجب معرفة العدو بهم.

[4] هذا القيد لبيان معنى تعلق النهي بالطبيعة الصِرفة، «ولو دفعة» أي: مرة واحدة، «لما امتثل» جزاء «لو وجد...».

[5] جزاء قوله: (إذا كان بمعنى...)، واللزوم بحسب قاعدة (الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية)، «تركه» ترك الشيء المنهي عنه.

[6] لأن الإحزار كما يكون وجدانياً بالعلم كذلك يكون تعبدياً بالأصل.

[7] أي: لا تجري أصالة البراءة، وإنّما يجري الاشتغال، ومقتضاه عدم جواز الارتكاب، «بشيء» كالتزريق بالإبرة المقوية حين الفجر، «معه» أي: مع الإتيان بذلك الشيء، «في تركه» أي: ترك الشيء المنهي عنه.

[8] هذه الصورة الثانية في تفصيل المصنف، «كان» الشيء المنهي عنه - كالمفطرات - «مسبوقاً به» أي: بالترك كما لو أراد التزريق بالإبرة المقوية ظهراً، فإنه قبل الظهر كان تاركاً للمفطرات، فيستصحب الترك بعد التزريق، «مع الإتيان به» بالفرد المشكوك.

ص: 201

نعم[1]، لو كان بمعنى طلب ترك كل فرد منه على حدة[2] لما وجب إلاّ ترك ما علم أنه فرد، وحيث[3] لم يعلم تعلق النهي إلاّ بما علم أنه مصداقه، فأصالة البراءة في المصاديق المشتبهة محكّمة.

فانقدح بذلك أن مجرد العلم بتحريم شيء لا يوجب[4] لزوم الاجتناب عن أفراده المشتبهة في ما كان المطلوب بالنهي طلب ترك كل فرد على حدة، أو كان الشيء مسبوقاً بالترك، وإلاّ[5] لوجب الاجتناب عنها عقلاً لتحصيل الفراغ قطعاً[6].

فكما[7] يجب في ما علم وجوب شيء إحراز[8] إتيانه إطاعة لأمره، فكذلك يجب

--------------------------------------

[1] هذه الصورة الثالثة في تفصيل المصنف، «لو كان» النهي عن الشيء.

[2] بأن كان النهي انحلالياً، له إطاعات ومعاصٍ بعدد الأفراد.

[3] أي: لا علم لنا بتكليف في الأفراد المشكوكة، وحيث إن الشك في أصل التكليف فأصالة البراءة جارية.

[4] ردّ للقول الأول بلزوم الاحتياط مطلقاً.

[5] أي: إن لم يكن النهي انحلالياً، أو لم يكن مسبوقاً بالترك؛ وذلك في ما لو كان النهي متعلقاً بالطبيعة الصرفة من غير ترك سابق، «عنها» عن الأفراد المشكوكة.

[6] أي: قاعدة (الاشتغال اليقيني... الخ).

[7] الغرض هو بيان أن قاعدة (الاشتغال اليقيني...) كما تجري في الإيجاب كذلك تجري في التحريم بلا فرق؛ لأن الملاك هو اشتغال الذمة بتكليف قطعاً، فلابد من القطع بالخروج عن عهدة هذا التكليف، وهذا الملاك يجري في الوجوب والحرمة بلا فرق.

[8] «إحراز» فاعل (يجب)، «إتيانه» إتيان ذلك الشيء، «إطاعة» تعليل لوجوب الإحراز، وهو معنى قاعدة الاشتغال اليقيني... الخ.

ص: 202

في ما علم حرمته إحراز تركه وعدم إتيانه امتثالاً لنهيه؛ غاية الأمر[1] كما يحرز وجود الواجب بالأصل كذلك يحرز ترك الحرام به.

والفرد[2] المشتبه وإن كان مقتضى أصالة البراءة جواز الاقتحام فيه[3]، إلاّ[4] أن قضية لزوم إحراز الترك اللازم وجوب التحرز عنه، ولا يكاد يحرز[5] إلاّ بترك المشتبه أيضاً، فتفطن.

الرابع[6]:

--------------------------------------

[1] أي: لا فرق في الإحراز بين كونه بالعلم الوجداني، وبين كونه بالعلم التعبدي - كالأصل - والغرض هو بيان علة عدم لزوم الاحتياط في الصورة الثانية، حيث إن الاستصحاب كان محرزاً تعبدياً.

[2] هذا ردّ للقول الثاني - الذي اختاره الشيخ الأعظم - من جريان البراءة مطلقاً.

وحاصل كلام المصنف: إن قاعدة (الاشتغال اليقيني... الخ) هي بيان عقلي، فتكون واردة على قاعدة البراءة - أي: رافعة لموضوع أصالة البراءة - .

[3] لأن أدلة البراءة كما تشمل الشبهات الحكمية كذلك تشمل الشبهات الموضوعية.

[4] أي: لكن إذا كان هناك بيان فلا تجري أصالة البراءة، وفي ما نحن فيه يوجد بيان - في ما لو كان النهي عن الطبيعة الصِرفة، ولم يكن مسبوقاً بالترك - وقوله: «وجوب» خبر «أن قضية...»، «التحرز عنه» عن الفرد المشكوك.

[5] أي: لا يكاد يحرز الترك اللازم، «أيضاً» كترك ما علم فرديته.

التنبيه الرابع حسن الاحتياط إلاّ في صورة اختلال النظام

[6] يبحث في هذا التنبيه عدة أمور:

الأول: حسن الاحتياط مطلقاً، سواء قامت حجة على خلافه أم لم تقم، وسواء في الشبهة الحكمية أم الموضوعية، سواء في الأمور المهمة أم غيرها، وسواء

ص: 203

إنه قد عرفت[1] حسن الاحتياط عقلاً ونقلاً[2]. ولا يخفى أنه مطلقاً كذلك[3] حتى[4] في ما كان هناك حجة على عدم الوجوب أو الحرمة[5]، أو أمارة معتبرة على أنه ليس فرداً للواجب أو الحرام[6]،

--------------------------------------

كان الاحتمال قوياً أم ضعيفاً.

الثاني: لا حسن في الاحتياط إذا استلزم الإخلال بالنظام؛ لكون الإخلال مانعاً عن حسنه، حتى مع وجود المقتضي للحسن - وهو إدراك الواقع - .

الثالث: إنه لو اختل النظام مع الاحتياط التام فإن الراجح هو التبعيض، بأن يحتاط في الأمور المهمة دون غيرها، أو يحتاط في صورة قوة الاحتمال دون ضعفه؛ وذلك لأن بعض الواقع أهم من غيره، فإدراكه أرجح - عقلاً - .

[1] في التنبيه الثاني.

[2] أما عقلاً فلأجل إدراك الواقع، وهو راجح عقلاً، وأما نقلاً فلأمثال قولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (فاحتط لدينك بما شئت)(1).

[3] «أنه» الاحتياط، «مطلقاً» في كل الصور التي سيشير إليها المصنف، «كذلك» حسن.

[4] أي: حتى مع وجود دليل شرعي في الأحكام أو في الموضوعات، مثال الشبهة الحكمية: لو قام خبر على استحباب شيء دون وجوبه - مع احتمال الوجوب لاحتمال خطأ الراوي مثلاً - فيأتي بالشيء احتياطاً.

ومثال الشبهة الموضوعية: لو كان هناك قصاب غير متورّع، فإن سوق المسلمين أمارة على حلية لحومه، لكن يحسن الاحتياط بعدم أكل اللحم الذي يبيعه.

[5] أي: أو عدم الحرمة، وهذا في الشبهة الحكمية.

[6] هذا في الشبهة الموضوعية.

ص: 204


1- وسائل الشيعة 27: 167.

ما لم يخل بالنظام فعلاً[1]، فالاحتياط قبل ذلك[2] مطلقاً يقع حسناً، كان في الأمور المهمة كالدماء والفروج[3] أو غيرها، وكان احتمال التكليف قوياً أو ضعيفاً[4]، كانت الحجة على خلافه[5] أو لا. كما أن الاحتياط الموجب لذلك[6] لا يكون حسناً كذلك وإن كان الراجح[7] لمن التفت إلى ذلك من أول الأمر ترجيح بعض الاحتياطات احتمالاً أو محتملاً[8]،

--------------------------------------

[1] هذا الأمر الثاني المبحوث فيه في هذا التنبيه، «فعلاً» أي: في الحال الحاضر، فلو كان استمراره على الاحتياط موجباً للإخلال فإن الشروع في الاحتياط حسن، ولكن عليه أن يتوقف عنه حينما يصل إلى قرب الإخلال.

[2] قبل الإخلال، «مطلقاً» مختلف الصور التي سيشير إليها المصنف.

[3] ذكرهما من باب المثال لا الحصر، فإن حقوق الناس من الأمور المهمة أيضاً، «غيرها» أي: غير المهمة، والمراد أنها لا تبلغ بتلك الأهمية، وإلاّ فإن جميع متعلقات الأحكام الإلزامية مهمة.

[4] كالظن والشك والوهم.

[5] أي: خلاف الاحتياط، والمراد بالحجة الدليل الشرعي الظني؛ لأنه مع القطع لا يتصور الاحتياط؛ إذ الاحتياط إنّما هو لأجل إدراك الواقع، ومع القطع لا احتمال بالخلاف لكي يحتاط لإدراكه.

[6] «لذلك» الإخلال، «كذلك» أي: مطلقاً؛ لأن الإخلال مانع عن حسن الاحتياط.

[7] هذا هو الأمر الثالث في هذا التنبيه. والرجحان لأجل أن إدراك الواقع في الأمور المهمة أفضل من إدراكه في الأمور غير المهمة، وكذلك ترجيح الظن على الوهم، حيث إن الظن أقرب إلى الواقع، «إلى ذلك» إلى استلزام الاحتياط المطلق اختلال النظام.

[8] النصب للتمييز، «احتمالاً» أي: الترجيح من جهة الاحتمال بأن يكون ظناً

ص: 205

فافهم[1].

فصل: إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمته، لعدم نهوض حجة على أحدهما تفصيلاً بعد نهوضها عليه إجمالاً[2]، ففيه وجوه[3]:

--------------------------------------

فيرجحه على الوهم، أو «محتملاً» أي: الترجيح من جهة المورد وهو الأمر المهم على غيره.

[1] لعله إشارة إلى أنه لا يحسن الاحتياط مع الوسوسة أيضاً، وكذا مع العسر والحرج. أو هو إشارة إلى أنه مع قيام الحجة لا حسن للاحتياط، أو لغير ذلك.

فصل في التخيير

اشارة

لا يخفى أن الشيخ الأعظم(1)

عقد أربع مسائل للتخيير: للشبهة الموضوعية، وللشبهة الحكمية من جهة فقدان النص أو تعارض النصين أو إجمال النص.

ولما لم يكن فرق عملي في هذا التقسيم جمعها المصنف في مسألة واحدة.

[2] «نهوضها» الحجة، «عليه» على الحكم، وأمثلته:

1- فقدان النص: كما لو اختلفت الأمة على قولين، مع اتفاقها على نفي القول الثالث، وهذا هو الإجماع المركب.

2- وإجمال النص: كما لو دارت صيغة الأمر بين الوجوب وبين التهديد.

3- وللشبهة الموضوعية: كما لو وجب إكرام العدول وحرم إكرام الفساق، واشتبه الأمر في زيد هل هو عادل أم فاسق؟

[3] ذكر المصنف خمسة أقوال:

الأول: جريان البراءة - عقلاً ونقلاً - عن الوجوب وعن الحرمة.

الثاني: وجوب الأخذ بالحرمة تعييناً؛ لأن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

ص: 206


1- فرائد الأصول 2: 119.

الحكم بالبراءة[1] عقلاً ونقلاً، لعموم النقل وحكم العقل بقبح المؤاخذة على خصوص الوجوب أو الحرمة للجهل به[2]؛ ووجوب الأخذ بأحدهما تعييناً[3] أو تخييراً؛ والتخيير بين الترك والفعل عقلاً مع التوقف[4] عن الحكم به رأساً، أو مع الحكم عليه بالإباحة شرعاً.

أوجهها الأخير[5]،

--------------------------------------

الثالث: وجوب الأخذ بأحدهما تخييراً بين الحرمة والوجوب.

الرابع: لأن المكلف لا يخلو من الفعل أو الترك، فيحكم العقل بأنه مخير بينهما - لعدم تمكنه من الجمع بين الفعل والترك، أو عدم ارتكابهما - ولكن حيث لا حجة شرعية يجب التوقف وعدم نسبة شيء إلى الشارع - وهذا هو مختار الشيخ الأعظم - .

الخامس: التخيير بين الفعل والترك عقلاً، مع الحكم بالإباحة شرعاً - وهو مختار المصنف - .

[1] هذا القول الأول، «لعموم النقل» دليل البراءة الشرعية، «حكم العقل» دليل البراءة العقلية.

[2] أي: للجهل بخصوص الوجوب أو خصوص الحرمة، فيكون مورداً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

[3] «تعييناً» هذا القول الثاني، والتعيين في جانب الحرمة، «أو تخييراً» هذا القول الثالث.

[4] هذا القول الرابع، «التوقف» أي: عدم نسبة شيء إلى الشارع، «به» أي: على ذلك الشيء، «أو مع الحكم» هذا القول الخامس.

[5] مختار المصنف مركب من ثلاثة أمور:

الأول: التخيير العقلي، لاضطراره إلى الفعل أو الترك - لعدم التمكن من الجمع بينهما أو الإعراض عنهما - ولا مرجّح لأحدهما على الآخر.

ص: 207

لعدم[1] الترجيح بين الفعل والترك، وشمول[2] مثل «كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام»(1)

له، ولا مانع[3] عنه عقلاً ولا نقلاً.

وقد عرفت[4]

--------------------------------------

الثاني: البراءة الشرعية، لشمول أدلة البراءة لهذا المورد، فإن مثل قولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه» عام، وما نحن فيه - من دوران الأمر بين الوجوب والتحريم - لا يُعرف الحرام بعينه.

الثالث: عدم جريان البراءة العقلية، كما سيأتي في قوله: (ولا مجال هاهنا لقاعدة... الخ).

[1] دليل التخيير العقلي - وهو الأمر الأول - .

[2] دليل البراءة الشرعية - وهو الأمر الثاني - ، «له» لهذا المورد وهو دوران الأمر بين الوجوب والحرمة.

[3] أي: المقتضي - وهو عموم الدليل - موجود، والمانع مفقود؛ لأن المانع إما عقلي أو شرعي.

أما العقلي: فقد عرفت حكم العقل بالتخيير، ولا منافاة بين الحكم الظاهري وهو الإباحة، وبين الحكم الواقعي وهو إما الوجوب وإما الحرمة، لما عرفت من التوفيق بين الحكم الظاهري والواقعي.

ولا بأس بالقطع بتخالف الحكم الظاهري والواقعي؛ إذ لو كان تخالفهما محالاً لكان الحكم الظاهري بالطهارة مع احتمال النجاسة الواقعية محالاً أيضاً؛ لاستحالة احتمال المحال كاستحالة القطع به - كما مرّ سابقاً - .

وأما المانع الشرعي: فهو المخالفة الالتزامية، وقد مرّ أن مختار المصنف عدم الإشكال فيها، كما لا تجري أدلة الاحتياط هنا؛ لعدم إمكانه.

[4] بيان لعدم وجود المانع الشرعي؛ لأن المانع هو المخالفة الالتزامية:

ص: 208


1- الكافي 5: 313، مع اختلاف يسير.

أنه لا يجب موافقة الأحكام التزاماً، ولو وجب[1] لكان الالتزام إجمالاً بما هو الواقع معه ممكناً.

والالتزام[2] التفصيلي بأحدهما[3] لو لم يكن تشريعاً محرماً لما نهض على وجوبه دليل قطعاً.

وقياسه[4] بتعارض الخبرين الدال أحدهما على الحرمة والآخر على الوجوب

--------------------------------------

أولاً: لعدم الإشكال فيها.

وثانياً: إمكانها إجمالاً، بأن يحكم بالإباحة الشرعية مع التزامه قلباً بما هو حكم الله الواقعي، نظير من يجري أصالة الطهارة في المشتبه مع التزامه قلباً بحكم الله الواقعي فيه.

[1] «وجب» الالتزام، «معه» مع الحكم بالإباحة.

[2] إشكال على القول الثاني والثالث، وحاصله: ورود إشكالين على تعيين الحرمة، أو التخيير بينها وبين الوجوب مما يستلزم اختيار المكلف أحدهما بعينه:

1- إنه تشريع محرّم.

2- لو فرض أنه ليس بتشريع فلا دليل على أحد القولين، وأدلّتهم محل إشكال.

[3] أما على القول الثاني فالالتزام التفصيلي بالحرمة.

وأما على القول الثالث - وهو التخيير - فإن المكلف سيختار أحدهما معيناً ويلتزم به، فصار التزاماً تفصيلياً.

رد دليل القول الثالث

[4] أي: قياس دوران الأمر بين الوجوب والحرمة وهذا دليل للتخيير، وهو استفادة تنقيح المناط من الأدلة الواردة في الخبرين المتعارضين - ومنها ما لو تعارض خبر دال على الوجوب مع خبر دال على الحرمة - حيث دلت على التخيير، إما بعد فقد المرجحات كما ذهب إليه الشيخ الأعظم، وإما التخيير رأساً مع حمل تلك

ص: 209

باطل[1]،

--------------------------------------

المرجحات على الاستحباب كما ذهب إليه المصنف.

[1] والإشكال على هذا الدليل هو: أن المناط في الخبرين المتعارضين أحد أمور ثلاثة:

الأول: وجود المصلحة في كلا الخبرين - بناءً على السببيّة - فإن الخبر يوجب مصلحة في متعلقه أو في سلوكه، والتخيير هنا على طبق القاعدة لتزاحم الخبرين.

وهذا المناط غير موجود في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة، حيث إن المصلحة في أحدهما فقط دون الآخر، ولا يوجد شيء يوجب مصلحة سلوكية أو مصلحة في المتعلق، مضافاً إلى بطلان السببية من أصلها؛ لأنها تستلزم التصويب في إيجاد المصلحة في الواقع، وعدم الدليل على المصلحة السلوكية، بل الدليل على الطريقية.

الثاني: وجود ملاك الحجية في كلا الخبرين - بناءً على الطريقية - فإن تعارض الخبرين إنّما يكون إذا كان كلاهما واجداً لشرائط الحجيّة، وهنا وإن كانت القاعدة هي التساقط - لتعارض الخبرين - لكن لا بأس بحكم الشارع بالتخيير بسبب وجود ملاك الحجية في كليهما. وهذا المناط لا يوجد في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة أيضاً.

الثالث: أن يكون مناط التخيير في الخبرين المتعارضين هو احتمال مطابقة كل واحد منهما للواقع.

وهذا المناط موجود في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة، لكن الإشكال في المبنى، أي: لا يعلم أن المناط هو مجرد احتمال مطابقة الواقع، ومع عدم العلم بالمناط لا يجوز إجراء حكم الخبرين المتعارضين في غيرهما؛ لأنه من القياس الممنوع.

فإن التخيير[1] بينهما على تقدير كون الأخبار حجةً من باب السببية يكون على القاعدة[2] ومن جهة التخيير بين الواجبين المتزاحمين، وعلى تقدير[3] أنها من باب الطريقية[4]؛ فإنه وإن كان على خلاف القاعدة[5]، إلاّ أن أحدهما تعييناً أو تخييراً[6] - حيث كان واجداً لما هو المناط للطريقية[7] من احتمال الإصابة[8] مع

--------------------------------------------------------------------------------------------------------------

ص: 210

----------------------------------------------------

[1] هذا هو المناط الأول، «بينهما» بين الخبرين.

[2] لأن السببية بمعنى أن الخبر يكون سبباً لإيجاد مصلحة في متعلقه أو في سلوكه، ومع وجود المصلحة في كلا الخبرين - مع عدم إمكان الجمع بينهما - يكون المورد من باب التزاحم، والقاعدة هي التخيير، كمن لا يتمكن من إنقاذ غريقين مع وجود المصلحة في إنقاذهما، فإنه يتخيّر؛ لتزاحم المصلحتين، «ومن جهة...» عطف تفسيري لبيان القاعدة.

[3] هذا هو المناط الثاني، «أنها» أن الحجيّة.

[4] أي: الخبر طريق إلى الواقع، ولا مصلحة فيه إلاّ مصلحة الواقع فقط، «فإنه» فإن التخيير.

[5] لأن المورد هو مورد التعارض، حيث لا توجد إلاّ مصلحة واحدة - هي مصلحة الواقع - مع عدم علمنا بأن تلك المصلحة في أي منهما.

[6] «تعييناً»: بناءً على لزوم الأخذ بالمرجحات، فلو وجدت تلك المرجحات في أحد الخبرين وجب العمل به دون الآخر.

«تخييراً»: مع عدم وجود المرجح، أو بناءً على عدم لزوم الأخذ بالمرجحات، وجواز الأخذ بأي منهما رأساً.

[7] وهو شرائط حجية الخبر.

[8] لأنه مع القطع بالإصابة يجب الأخذ به دون غيره؛ إذ لا تعارض، ومع القطع بالخطأ لا يجوز الأخذ به حتماً، فالطريق الظني إنّما يكون مجعولاً إذا احتمل إصابته، وهذا الاحتمال موجود في كلا الخبرين، مع وجدانهما لسائر شرائط الحجية.

ص: 211

اجتماع سائر الشرائط - جعل[1] حجةً في هذه الصورة بأدلة الترجيح[2] تعييناً[3] أو التخيير تخييراً[4]؛ وأين ذلك[5] مما إذا لم يكن المطلوب إلاّ الأخذ بخصوص ما صدر واقعاً[6]، وهو حاصل، والأخذ[7] بخصوص أحدهما ربما لا يكون إليه بموصل.

--------------------------------------

[1] «جعل» - بالمجهول - خبر (أن) في قوله: (إلاّ أن أحدهما... الخ) ونائب الفاعل هو الضمير العائد ل- (أحدهما).

[2] أي: الأدلة الشرعية، والمقصود أن حكم الشارع بعدم التساقط - وإن كان خلافاً للقاعدة - لكنه لا مانع منه؛ وذلك لوجود ملاك الحجية في كلا الخبرين.

[3] «تعييناً» بناءً على لزوم الأخذ بالمرجحات كالأوثقية والأعدلية... الخ، و«تعييناً» متعلق ب- (جُعل) أي: جعل تعييناً.

[4] أي: جُعل الحجة أحدهما تخييراً؛ وذلك بأدلة التخيير.

[5] «ذلك» هذا المناط، أي: لا يوجد هذا المناط في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة.

[6] أي: الالتزام بالواقع إجمالاً حاصل، و«هو» الأخذ - بمعنى الالتزام - وذلك لأنه في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة لا يوجد ملاك الحجية في كليهما، بل علمنا إجمالاً بوجود الواقع في أحدهما؛ وحينئذٍ الموافقة الالتزامية الإجمالية حاصلة، والموافقة العملية القطعية غير ممكنة، والموافقة الاحتمالية حاصلة على كل حال.

[7] أي: العمل بأحدهما تعييناً أو تخييراً قد لا يكون أخذاً بالواقع لاحتمال الخطأ.

والحاصل: إن الخبرين طريقان واجدان لملاك الحجيّة، لكن احتمال الوجوب واحتمال الحرمة ليسا طريقين إلى الواقع، وليس فيهما ملاك الحجية، فالقياس باطل.

ص: 212

نعم[1]، لو كان التخيير بين الخبرين لأجل إبدائهما[2] احتمال الوجوب والحرمة، وإحداثهما[3] الترديد بينهما، لكان القياس في محله[4]، لدلالة الدليل على التخيير بينهما[5] على التخيير هاهنا، فتأمل[6] جيداً.

ولا مجال[7] هاهنا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فإنه لا قصور فيه[8] هاهنا، وإنما يكون عدم تنجز التكليف[9]

--------------------------------------

[1] هذا هو المناط الثالث.

[2] أي: اشتمالهما على احتمال الوجوب والحرمة، فهذا لو كان مناطاً للتخيير، فإن هذا المناط موجود في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة.

[3] بسبب التعارض، «إحداثهما» الخبرين، «بينهما» بين الوجوب والحرمة.

[4] لوحدة المناط، والمراد القياس المنطقي، لا القياس باصطلاح الروايات، فإنه التمثيل من غير علم بالملاك.

[5] «بينهما» بين الخبرين، «هاهنا» في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة.

[6] إشارة إلى عدم صحة هذا المناط، فإن المناط ليس هو الاحتمال؛ ولذا لو احتمل الكراهة مثلاً - في مورد الخبرين المتعارضين بين الوجوب والحرمة - فإنه لا يجوز له ترك الخبرين كلاهما والذهاب إلى الكراهة.

[7] هذا الشق الثالث من مختار المصنف، وهو عدم جريان البراءة العقلية - والتي مستندها قبح العقاب بلا بيان - وحاصله: إن البيان يشمل البيان الإجمالي؛ ولذا يجب الاحتياط في موارد العلم الإجمالي، وهنا - في دوران الأمر بين الوجوب والتحريم - عدم وجوب الاحتياط ليس لأجل عدم البيان، بل بسبب عدم تمكن المكلف من الاحتياط.

[8] أي: لا قصور في البيان؛ لأن البيان الإجمالي بيان عقلاً، «هاهنا» في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة.

[9] أي: عدم وجوب الاحتياط لإحراز الواقع وإبراء الذمة.

ص: 213

لعدم التمكن من الموافقة القطعية كمخالفتها[1]، والموافقة الاحتمالية حاصلة لا محالة[2]، كما لا يخفى.

ثم إن مورد[3]

--------------------------------------

[1] أي: كعدم التمكن من المخالفة القطعيّة.

[2] فقد يتنجز التكليف لأجل تحصيل الموافقة الاحتمالية - بعد عدم التمكن من الموافقة القطعية - كما لو اشتبهت القبلة في ضيق الوقت، فإنه تجب الصلاة إلى إحدى الجهات تحصيلاً للموافقة الاحتمالية.

وفي ما نحن فيه لا معنى للتنجز لأجل الموافقة الاحتمالية؛ لأنها حاصلة قهراً، حيث إن الإنسان إما تارك وإما فاعل، فلا يعقل البعث عليهما تخييراً.

فتحصل: أن البيان موجود، ولكن لا يتمكن المكلف لا من المخالفة القطعية ولا من الموافقة القطعية، كما أن الموافقة الاحتمالية حاصلة.

عموم البحث للتعبديات والتوصليات

[3] حاصله: إن مسألة الدوران بين الوجوب والحرمة كما تجري في التوصليات كذلك تجري في التعبديات، والصور متعددة:

1- كون الفعل والترك توصليين، فلا إشكال في التخيير العقلي وجريان البراءة.

2- كونهما تعبديين - بأن يكون الفعل بحاجة إلى قصد القربة، وكذا الترك - فهنا يكون المكلف مخيراً بين الفعل والترك عقلاً، ولكن لا تجري الإباحة شرعاً؛ لأنها تستلزم المخالفة القطعية - لخروج هذا الفرض عن الدوران بين النقيضين أو الضدين اللذين لا ثالث لهما - وذلك لتصور الفعل بقصد القربة، وكذا الترك بقصدها، ولتصور الفعل لا بقصد القربة، وكذا الترك لا بقصدها.

3- كون أحدهما المعين تعبدياً، كما لو دار الأمر بين صلاة واجبة أو محرمّة - لكونها بدعة مثلاً - فالفعل معيناً بحاجة إلى قصد القربة، أما الترك فلا يحتاج إليها.

ص: 214

هذه الوجوه[1] وإن كان ما إذا لم يكن[2] واحد من الوجوب والحرمة على التعيين تعبدياً، إذ لو كانا تعبديين[3] أو كان أحدهما المعين كذلك[4] لم يكن إشكال في عدم

--------------------------------------

وهنا أيضاً يجري التخيير عقلاً، ولا تجري البراءة الشرعية؛ وذلك لإمكان المخالفة القطعية، كأن يأتي بالصلاة لا بقصد القربة - في الفرض - فإنه خالف الوجوب المحتمل - لعدم إتيان العمل صحيحاً وبقصد القربة - كما خالف التحريم المحتمل؛ لأنه أتى بصورة الصلاة ولم يتركها.

4- كون أحدهما غير المعين تعبدياً، وهنا لا تمكن الموافقة القطعية ولا المخالفة القطعية؛ لأنه لو فعل مع قصد القربة فلعله هو الواجب، ولو ترك مع قصدها فلعل الترك هو اللازم، فتأمل، وهنا يجري التخيير وتجري البراءة الشرعية.

والحاصل: في كل هذه الصور يجري التخيير العقلي - الذي انعقد لأجله هذا الفصل - نعم، لا تجري البراءة الشرعية في الصورة الثانية والثالثة، لكن عدم جريانها لا يكون سبباً لخروج الصورتين عن البحث؛ وذلك لجريان التخيير - الذي هو المهم في هذا الفصل - مضافاً إلى أن عدم جريان بعض الأقوال لا يكون سبباً لإخراج الصورتين عن محل البحث؛ وذلك لكفاية صحة الجريان على بعض الأقوال.

فلا وجه لما ذهب إليه الشيخ الأعظم من خروج الصورتين عن البحث وتخصيص البحث بالتوصليات.

[1] أي: الأقوال الخمسة.

[2] وهذا يشمل الصورتين الثانية والثالثة؛ لأنه في الثانية كلاهما معين، وفي الثالثة أحدهما معين.

[3] وهي الصورة الثانية، وهذا مجرد فرض؛ لعدم وجود حرمة تعبدية أصلاً.

[4] أي: تعبدياً، كما لو دار الأمر بين وجوب صلاة أو حرمتها.

ص: 215

جواز طرحهما[1] والرجوع إلى الإباحة، لأنها[2] مخالفة عملية قطعية - على ما أفاد شيخنا الأستاذ(1)،

إلاّ أن الحكم[3] أيضاً فيهما إذا كانا كذلك[4] هو التخيير عقلاً بين إتيانه[5] على وجه قربي - بأن يؤتى[6] به بداعي احتمال طلبه - وتركه كذلك[7]، لعدم الترجيح[8]،

--------------------------------------

[1] لاستلزامه للمخالفة القطعية، لما ذكرنا من خروج الصورتين عن النقيضين أو الضدين اللذين لا ثالث لهما.

[2] أي: الإباحة - وهي البراءة الشرعية - لأنه لا معنى لقصد القربة مع كون الفعل مباحاً؛ إذ إنها قصد الأمر، ولا أمر مع الإباحة.

[3] أي: عدم جريان الإباحة لا ينافي كون الصورتين - الثانية والثالثة - داخلة في عنوان البحث؛ وذلك لجريان التخيير العقلي في الصورتين أيضاً.

[4] «فيهما» في الوجوب والحرمة، «كذلك» أي: تعبديين أو أحدهما المعين تعبدي.

[5] هذا التخيير في صورة كون الفعل والترك تعبديين، ولم يذكر المصنف صورة كون أحدهما المعين تعبدياً، ففي هذه الصورة أيضاً يتخير بين الفعل بقصد القربة أو الترك بلا قصدها - كما في المثال الذي ذكرناه - .

[6] بيان كيفية قصد القربة مع عدم علمه بكون الفعل مأموراً به، فإنه يكفي في قصد القربة احتمال الأمر والإتيان بالفعل برجائه كما مرّ.

[7] أي: تركه على وجه قربي، بأن يترك بداعي احتمال نهيه العبادي - لو فرض تحققه - .

[8] دليل التخيير، أي: لا دليل يرجح الفعل على الترك، والأدلة التي ساقوها لترجيح الترك - كقولهم: دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة - محل إشكال.

ص: 216


1- فرائد الأصول 2: 179.

وقبحه[1] بلا مرجح.

فانقدح[2] أنه لا وجه لتخصيص المورد بالتوصليين[3] بالنسبة إلى ما هو المهم في المقام[4]، وإن اختص بعض الوجوه بهما[5]، كما لا يخفى.

ولا يذهب عليك[6]

--------------------------------------

[1] أي: قبح الترجيح بلا مرجح، أما الترجح بلا مرجح فهو محال؛ لاستلزامه المعلول من غير علة.

[2] شروع في الإشكال على ما ذهب إليه الشيخ الأعظم.

[3] «المورد» أي: هذا الفصل وهو الباحث عن التخيير، «بالتوصليين» أي: بالصورة الأولى حيث كان الفعل توصلياً والترك توصلياً أيضاً.

[4] «المقام» هو (فصل التخيير)، و«المهم» هو جريان التخيير العقلي في كل الصور الأربع.

[5] أي: بعض الأقوال - كالقول الأول والخامس - «بهما» بالتوصليين، والحاصل: إن هذا الفصل انعقد لأجل بحث التخيير، وهو يجري بناءً على بعض الأقوال، وهذا يكفي في دخول كل الصور في البحث.

[6] أي: إن التخيير العقلي هو في فرض تساوي الوجوب والحرمة، بأن لا يكون أحدهما راجحاً على الآخر.

أما لو كان أحدهما محتمل الرجحان فإن العقل يستقل بلزوم الأخذ به، كما لو تردد غريق بين قائد الجيش الواجب إنقاذه، وبين أحد جنود العدو الحرام إنقاذه، فإن العقل يستقل بلزوم إنقاذ هذا الغريق - أي: لزوم اختيار ما يحتمل الأهمية - .

وكما لو تردد الدم بين الحيض والاستحاضة فتحرم الصلاة على الحيض، وتجب على الاستحاضة، وحيث إن ملاك وجوب الصلاة لغير الحائض هو وجوبه الذاتي، وملاك حرمته على الحائض لأجل التشريع، فيكون ملاك الوجوب أقوى فيجب الأخذ به، فتأمل.

ص: 217

أن استقلال العقل بالتخيير إنما هو في ما لا يحتمل الترجيح[1] في أحدهما على التعيين. ومع احتماله[2] لا يبعد دعوى استقلاله بتعيينه، كما هو الحال[3] في دوران الأمر بين التخيير والتعيين[4] في غير المقام[5]. ولكن الترجيح[6] إنما يكون لشدة الطلب في أحدهما[7] وزيادته على الطلب في الآخر بما لا يجوز[8]

--------------------------------------

[1] الترجيح لأجل قوة الملاك، مما يوجب شدة الطلب - كما سيأتي - .

[2] احتمال الترجيح في أحدهما المعيّن، «استقلاله» العقل، «بتعيينه» أي: لزوم الأخذ به.

[3] هذا لمجرد التنظير والتشبيه، وإلاّ فبين المسألتين فرق واضح؛ إذ هنا أحدهما المعين يحتمل التكليف فيه مع احتمال أهميته، وهناك أحدهما المعين مقطوع التكليف فيه والآخر محتمل التكليف. وكأنّ نظر المصنف إلى استقلال العقل في الموردين، فكما يستقل بلزوم اختيار المعيّن في دوران الأمر بين التعيين والتخيير، كذلك يستقل بلزوم اختيار محتمل الأهميّة في دوران الأمر بين الوجوب والتحريم.

[4] كما لو دار الأمر بين تقليد الأعلم وتقليد غير الأعلم، فإن تقليد الأعلم على كل حال مبرئ للذمة - سواء انحصر التقليد فيه أم قلنا بالتخيير بينه وبين غيره - أما غير الأعلم فلا يجزي تقليده لو كان الشرط تقليد الأعلم، ويجزي لو لم يكن تقليد الأعلم شرطاً.

[5] «المقام» هنا هو: في دوران الحكم بين الوجوب والحرمة، وفي غير هذا المقام دوران الأمر بانحصار التكليف بفرد معين، أو تخير المكلف بين ذلك الفرد وبين غيره.

[6] بعد أن فرغ المصنف من الكبرى - وهي لزوم ترجيح محتمل الأهمية - يبدأ في الصغرى، وهي: بيان مصداق محتمل الأهمية.

[7] لقوة ملاكه، «زيادته» أي: زيادة طلب أحدهما.

[8] فإن المرجحات صنفان: صنف لا يجب الترجيح به في صورة العلم به، فلا

ص: 218

الإخلال بها[1] في صورة المزاحمة[2]، ووجب الترجيح بها. وكذا[3] وجب ترجيح احتمال ذي المزية في صورة الدوران.

ولا وجه[4]

--------------------------------------

يكون مرجحاً في صورة احتماله. وصنف آخر يجب الترجيح به في صورة العلم به، فهذا يكون مرجحاً في صورة احتماله.

[1] أي: بشدة الطلب وزيادته، وكذا الضمير في (وجب الترجيح بها).

[2] أي: في صورة العلم بالترجيح مع مزاحمته للآخر، ففي المثال السابق لو غرق اثنان أحدهما قائد الجيش والآخر جندي عادي، فحيث لا يمكن إنقاذهما فإنه يجب إنقاذ القائد لأقوائية ملاكه.

وكذا في ما نحن فيه لو غرق شخص واحد ودار أمره بين قائد الجيش الواجب الإنقاذ، وبين جندي من العدو المحرّم الإنقاذ، فلابد من الأخذ بالوجوب وإنقاذ هذا الغريق لاحتمال الأهمية.

[3] أي: كما يلزم الترجيح بذي المزية في صورة المزاحمة كذلك يجب الترجيح بذي المزية هنا، «صورة الدوران» أي: الدوران بين الوجوب والتحريم.

رد دليل القول الثاني

[4] استدل القائلون بتعيين الحرمة، بأن دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة.

وفيه: إن جلب المصلحة قد يكون أولى، كما لو دار الأمر بين المرور بالأرض المغصوبة وبين إنقاذ غريق، فإن مصلحة الإنقاذ أهم من مفسدة التصرف في الغصب.

فإذا لم تصح القاعدة في صورة العلم كذا لا تصح في صورة احتمال المصلحة والمفسدة - كما في ما نحن فيه - . والحاصل: إن الموارد تختلف فقد يكون جلب المصلحة أهم، وقد يكون دفع المفسدة أهم، ولا قاعدة عامة ليرجع إليها في صورة الشك.

ص: 219

لترجيح احتمال الحرمة مطلقاً[1]، لأجل[2] أن دفع المفسدة أولى من ترك المصلحة، ضرورة أنه رُبّ واجب يكون مقدماً على الحرام في صورة المزاحمة بلا كلام، فكيف يقدم على احتمالِهِ احتمالُهُ[3] في صورة الدوران بين مثليهما[4]؟! فافهم[5].

فصل: لو شك في المكلَّف به[6] مع العلم بالتكليف من الإيجاب أو التحريم[7]

--------------------------------------

[1] أي: حتى في صورة عدم شدة طلب الترك.

[2] هذا دليل ترجيح الحرمة، كما أن قوله: «ضرورة...» هو ردّ هذا الدليل.

[3] أي: في صورة القطع قد لا يرجح الحرام على الواجب، فكيف في صورة الاحتمال؟ «يُقدّم» بالمجهول، «على احتماله» احتمال الوجوب، «احتماله» نائب فاعل (يقدم) أي: احتمال الحرمة.

[4] أي: بين مثل الواجب والحرام المتزاحمين، و«مثليهما» هما الواجب والحرام في مقام دوران الأمر بين المحذورين.

[5] لعله إشاره إلى أن القائل بأن (دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة) يقول بها في صورة التساوي فقط، فلا وجه لنقض كلامه بما كانت المنفعة أهم.

فصل قاعدة الاشتغال

اشارة

[6] أي: متعلق التكليف، فعلم بتوجه التكليف إليه - بعثاً في الواجب، وزجراً في الحرام - ولكن شك في أن متعلق التكليف هذا المصداق أم ذاك.

[7] أي: لو كان التكليف إلزامياً، أما لو كان التكليف غير إلزامي - كالاستحباب والكراهة - فإنه لا يلزم الاحتياط؛ لعدم اشتغال الذمة، ولا فرق حين كون التكليف إلزامياً بين تعلقه بالفعل كصلاة الظهر أو الجمعة، أو بالترك كاجتناب هذا الإناء أو ذاك الإناء، أو تعلقه بفعل شيء وترك آخر، كما سيجيء مثاله، ففي كل هذه الصور الثلاث نعلم بالتكليف الإلزامي إيجاباً أو تحريماً.

ص: 220

فتارةً[1] لتردده بين المتباينين، وأخرى بين الأقل والأكثر الارتباطيين، فيقع الكلام في مقامين:

المقام الأول[2]: في دوران الأمر بين المتباينين. لا يخفى: أن التكليف المعلوم بينهما

--------------------------------------

[1] العلم بالتكليف مع الشك في المكلف به على أقسام ثلاثة:

1- الدوران بين المتباينين، وهما ما كان التكليف متعلقاً بأحدهما دون الآخر.

2- الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطي، وهما ما كان الأقل مكلَّفاً به قطعاً مع الشك في تعلقه بالأكثر، ولكن لو كان التكليف بالأكثر فلا يجزي الإتيان بالأقل.

وبعبارة أخرى: الأقل مكلَّف به إما لوحده وإما في ضمن الأكثر، كالصلاة مع الشك في كون القنوت جزءاً واجباً منها.

3- الدوران بين الأقل والأكثر الاستقلالي، فنعلم بالأقل مع الشك في الأكثر، مع إجزاء الأقل بمقداره، حتى لو كان التكليف متعلقاً بالأكثر، كدوران الأمر بين أنه مديون بعشرة أم بعشرين، فلو أدى عشرة فقد فرغت ذمته عن العشرة - حتى وإن كان مديوناً بالأكثر - .

وهذا القسم الثالث يرجع إلى الشك في التكليف في الزائد، ومجراه البراءة، فيدخل في الفصل السابق؛ ولذا لم يذكره المصنف هنا؛ وذلك لانحلال التكليف إلى تكليف معلوم - وهو أداء العشرة - وإلى تكليف مجهول - وهو أداء الزائد - فتجري البراءة في الزائد.

المقام الأول
دوران الأمر بين المتباينين
اشارة

[2] يبحث المصنف في هذا المقام في خمس مسائل:

الأولى: إن التكليف المعلوم إذا كان فعلياً تنجز، وإن لم يكن فعلياً لا يتنجز.

الثانية: إنه لا فرق بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي في مسألة التنجز، وإن المعلوم إن كان فعلياً تنجز في كليهما، وإن لم يكن المعلوم فعلياً لا يتنجز في كليهما.

ص: 221

مطلقاً[1] - ولو كانا فعل أمر وترك آخر[2] - إن كان فعلياً من جميع الجهات[3] - بأن يكون[4] واجداً لما هو العلة التامة للبعث أو الزجر الفعلي[5] - مع ما هو عليه من الإجمال والتردد والاحتمال[6] -

--------------------------------------

الثالثة: لا فرق بين المحصورة وغيرها، بل الأمر يرتبط بفعلية المعلوم وعدمه.

الرابعة: هنالك تلازم بين وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية، فإن كان التكليف فعلياً لزم كلاهما، وإلاّ لم يلزما.

الخامسة: لا فرق بين تدريجية الأطراف وعدم تدريجيتها، بل في صورة الفعلية يجب الاحتياط فيهما، وإلاّ فلا.

المسألة الأولى

[1] «بينهما» بين المتباينين، «مطلقاً» شرحه بقوله: «ولو كانا فعل... الخ» أي: سواء كانا فعلين، كالظهر والجمعة، أم تركين كما في الإناءين، أو أحدهما فعل والآخر ترك.

[2] مثاله: (واجدا المني في الثوب المشترك)، فيدور أمر كل واحد منهما بين وجوب الغسل عليه لو كان هو المجنب، وبين عدم جواز استئجار الآخر لكنس المسجد مثلاً: لو كان الآخر هو المجنب فلا يجوز له الجمع بين ترك الغسل واستئجار الآخر.

[3] بأن تحققت فيه كل شروط التكليف، كالشرائط العامة - مع البلوغ والعقل... الخ - والشرائط الخاصة بكل تكليف - كالاستطاعة في الحج مثلاً - .

[4] بيان للفعلي من جميع الجهات، و(البعث الفعلي) هو الإرادة من المولى في الواجبات، و(الزجر الفعلي) هو كراهة المولى في المحرّمات.

[5] أي: تكون إرادة وكراهة حتى في صورة تردد المعلوم بين طرفين أو أكثر.

[6] هذه الكلمات الثلاث مترادفة، أي: مع عدم العلم التفصيلي بالتكليف.

ص: 222

فلا محيص[1] عن تنجزه وصحة العقوبة على مخالفته؛ وحينئذٍ[2] لا محالة يكون ما دل بعمومه[3] على الرفع أو الوضع أو السعة أو الإباحة[4] مما يعم أطراف العلم[5] مُخصَّصاً[6] عقلاً[7]، لأجل مناقضتها معه[8].

--------------------------------------

[1] جزاء قوله: (إن كان فعلياً...)، أي: لو كان التكليف المعلوم فعلياً - بأن أراده المولى أو كرهه - فلابد من تنجّز ذلك التكليف، وصحة العقوبة فرع التنجز، فلما تنجز على المكلف يحكم العقل بلزوم امتثاله، فلو خالف يرى العقل استحقاقه للعقوبة.

[2] أي: حين تنجز التكليف وصحة العقوبة فلا تجري أدلة البراءة؛ وذلك لتخصيصها، فإن هناك جهلاً تفصيلياً بمتعلق التكليف، فعموم أدلة البراءة تشمل هذه الصورة، ولكن لا محيص عن تخصيصها بالدليل العقلي الدال على أن التكليف منجّز ويصح العقوبة على مخالفته؛ لأن التكليف فعلي من كل الجهات.

[3] أي: أدلة البراءة الشرعية، وهي عامة لكل صور الشك والجهل - فتشمل بعمومها - أطراف العلم الإجمالي.

[4] كقوله: (رفع ما لا يعلمون)، وقوله: (وضع عن أمتي ما لا يعلمون)، وقوله: (الناس في سعة ما لم يعلموا)، وقوله: (كل شي مطلق حتى يرد فيه نهي)، فهذه الأدلة وأشباهها عامة، تشمل حتى أطراف العلم الإجمالي - حسب ما يراه المصنف - ولكنها تُخصَّص بالدليل العقلي.

[5] أي: العلم الإجمالي؛ وذلك لوجود الجهل والشك بالتفصيل.

[6] قوله: «مُخصَّصاً» خبر (يكون) في قوله: (يكون ما دَلّ...)، و«مُخصَّصاً» - مبني للمفعول - .

[7] لحكم العقل بالتنجز واستحقاق العقوبة، وهذا لا ينسجم مع البراءة.

[8] أي: مناقضة هذه الأدلة العامة، «معه» مع حكم العقل.

ص: 223

وإن لم يكن فعلياً كذلك[1] - ولو كان[2] بحيث لو علم تفصيلاً لوجب امتثاله وصح العقاب على مخالفته - لم يكن[3] هناك مانع عقلاً ولا شرعاً[4] عن شمول أدلة البراءة الشرعية للأطراف.

ومن هنا[5]

--------------------------------------

[1] أي: التكليف المعلوم بينهما إن لم يكن فعلياً من جميع الجهات.

[2] المقصود بيان أنه قد يكون العلم التفصيلي شرطاً للفعلية، وحينئذٍ لو علم بالتكليف إجمالاً لا يكون منجزاً عليه؛ لعدم تحقق شرط الفعلية - وهو العلم التفصيلي - أما لو علم تفصيلاً فيتنجز عليه؛ لتحقق شرط الفعلية، «ولو كان» الضمير عائد إلى التكليف.

[3] قوله: «لم يكن...» جزاء الشرط في قوله: (وإن لم يكن فعلياً... الخ).

[4] أما عدم المانع العقلي فلأن القبيح هو الترخيص في مخالفة التكليف الفعلي، ومع عدم الفعلية فلا تكليف أصلاً.

وأما عدم المانع الشرعي فلأن المانع هو تناقض صدر الروايات وآخرها - كما سيأتي في باب الاستصحاب - ومع عدم الفعلية لا تناقض؛ وذلك لعدم وجود تكليف أصلاً، بل ينحصر الحكم في الترخيص.

المسألة الثانية

كان الكلام في المسألة الأولى: حول التكليف المعلوم، والبحث في هذه المسألة حول نفس العلم.

[5] «هنا» أي: من دوران التنجز وصحة العقوبة مدار الفعلية وعدمها يتضح أنه لا فرق بين العلم التفصيلي والإجمالي من جهة التنجز، فالتكليف الفعلي منجز سواء كان العلم تفصيلياً أم إجمالياً، والتكليف غير الفعلي ليس بمنجز في التفصيلي وفي الإجمالي.

ص: 224

انقدح: أنه لا فرق بين العلم التفصيلي والإجمالي، إلاّ أنه[1] لا مجال للحكم الظاهري مع التفصيلي، فإذا كان الحكم الواقعي فعلياً من سائر الجهات لا محالة يصير فعلياً معه[2] من جميع الجهات، وله[3] مجال مع الإجمالي، فيمكن أن لا يصير فعلياً معه، لإمكان[4] جعل الظاهري في أطرافه وإن كان فعلياً من غير هذه الجهة، فافهم[5].

ثم إن الظاهر[6] أنه لو فرض أن المعلوم بالإجمال كان فعلياً من جميع الجهات

--------------------------------------

[1] أي: يمكن للمولى جعل العلم التفصيلي شرطاً للفعلية، فحينئذٍ لو علم تفصيلاً تنجز عليه التكليف، ولا معنى لجعل حكم ظاهري يخالف ذلك التكليف المنجز، أما لو علم إجمالاً فإنه لم يتحقق شرط الفعلية - وهو العلم التفصيلي - فيجوز للمولى جعل حكم ظاهري، فهذا فرق بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي، لكن ليس من جهة نفس العلم، بل من جهة المعلوم، حيث إنه مع التفصيلي فعلي، ومع الإجمالي غير فعلي.

[2] أي: مع العلم التفصيلي، «من جميع الجهات» فيتنجز وتصح العقوبة على مخالفته.

[3] أي: وللحكم الظاهري، «لا يصير» التكليف، «معه» مع العلم الإجمالي.

[4] أي: يمكن جعل الحكم الظاهري في أطراف العلم الإجمالي - كجواز الارتكاب في الشبهة غير المحصورة مثلاً - ، «غير هذه الجهة» أي: غير جهة العلم، أي: يستجمع سائر الشروط من البلوغ والعقل... الخ، لكن لما كان من الشروط - حسب الفرض -

هو العلم التفصيلي، وحيث لم يتحقق هذا الشرط لم يكن التكليف فعلياً.

[5] لعله إشارة إلى أنه لا طريق إلى معرفة الفعلية من كل الجهات أو بعضها، فلا يعقل أن يعلّق الشارع حكمه بما لا طريق إلى معرفته.

المسألة الثالثة

[6] في عدم الفرق بين الشبهة المحصورة وغير المحصورة، فإن كان التكليف فعلياً

ص: 225

لوجب عقلاً موافقته مطلقاً، ولو كانت أطرافه غير محصورة[1].

وإنما التفاوت[2] بين المحصورة وغيرها هو أن عدم الحصر ربما يلازم[3] ما يمنع عن فعلية المعلوم مع كونه فعلياً لولاه من سائر الجهات.

وبالجملة: لا يكاد يرى العقل تفاوتاً بين المحصورة وغيرها في التنجز وعدمه في ما كان المعلوم إجمالاً فعلياً يبعث[4] المولى نحوه فعلاً أو يزجر عنه[5] كذلك مع ما هو

--------------------------------------

وجب الاحتياط فيهما، كدوران النجس بين إناءين، ودوران السُمّ بين مائة إناء.

وإن لم يكن التكليف فعلياً لا يجب الاحتياط فيهما، كما لو كان أحد الإناءين خارج محل ابتلائه، وكدوران اللحم الحرام بين مائة قصاب.

نعم، الغالب في غير المحصورة عدم فعلية التكليف لمانع العسر والحرج ونحوهما، لكن جواز الارتكاب ليس لأجل عدم الحصر، بل لأجل عدم فعلية التكليف.

[1] إذ الفرض أن التكليف فعلي؛ وذلك بتحقق إرادة المولى أو كراهته، كما لو اختلط انسان محقون الدم بمائة صيد فإنه لا يجوز رمي أحدها؛ لأن التكليف بحرمة قتل محقون الدم فعلي؛ وذلك لقوة ملاكه.

[2] أي: قد يكون تفاوت، ولكن ليس منشؤه الحصر أو عدم الحصر، بل منشؤه فعلية التكليف أو عدم فعليته، والغالب مع عدم الحصر عدم فعلية التكليف للعسر والحرج ونحوهما.

[3] (رُبَّ) للتكثير - هنا - ، «فعلية المعلوم» أي: فعلية التكليف المعلوم، كاجتناب المتنجس في ضمن ألف إناء، «كونه» كون التكليف المعلوم، «لولاه» أي: لو لا المانع، «من سائر...» متعلق ب- (فعلياً) أي: فعلياً من سائر الجهات لكنه ليس بفعلي من جهة وجود المانع.

[4] «يبعث» وصف توضيحي ل- (فعلياً)، هذا في الواجبات.

[5] أي: يزجر عن المعلوم، «كذلك» أي: فعلاً، هذا في المحرمات.

ص: 226

عليه[1] من كثرة أطرافه.

والحاصل: أن اختلاف الأطراف في الحصر وعدمه لا يوجب تفاوتاً في ناحية العلم[2]. ولو أوجب تفاوتاً فإنما هو في ناحية المعلوم في فعلية البعث أو الزجر مع الحصر وعدمها مع عدمه[3]؛ فلا يكاد يختلف العلم الإجمالي باختلاف الأطراف قلةً وكثرةً في التنجيز وعدمه[4] ما لم يختلف المعلوم في الفعلية وعدمها بذلك[5]؛ وقد عرفت آنفاً[6] أنه لا تفاوت بين التفصيلي والإجمالي في ذلك، ما لم يكن تفاوت في طرف المعلوم أيضاً[7]، فتأمل تعرف.

وقد انقدح[8]: أنه لا وجه لاحتمال عدم وجوب الموافقة القطعية مع حرمة

--------------------------------------

[1] «ما» موصولة، «هو» المعلوم، «عليه» يرجع الضمير إلى (ما)، «من...» بيان ل(ما)، أي: مع كثرة الأطراف الذي ذلك التكليف على هذه الكثرة.

[2] أي: الفرق في التكليف المعلوم، وليس في العلم الإجمالي.

[3] أي: عدم الفعلية مع عدم الحصر.

[4] «في» متعلق بقوله: (فلا يكاد يختلف).

[5] «عدمها» عدم الفعلية، «بذلك» أي: بسبب القلة والكثرة.

[6] أي: في المسألة الثانية، ومقصوده أن المناط هو فعلية التكليف وعدم فعليته، من غير أن يكون فرق من جهة العلم أو من جهة الحصر وعدم الحصر، «في ذلك» في التنجز وعدمه.

[7] بأن يكون التكليف فعلياً أو لا يكون فعلياً، فمناط التنجز كله في فعلية أو عدم فعلية التكليف المعلوم، وليس في اختلاف العلم أو في الحصر وعدمه.

المسألة الرابعة

[8] إنّ التكليف لو كان فعلياً فبحكم العقل تجب موافقته القطعية؛ لأن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية، وتحرم مخالفته القطعية.

ص: 227

مخالفتها[1]، ضرورة[2] أن التكليف المعلوم إجمالاً لو كان فعلياً لوجب موافقته قطعاً[3]، وإلاّ[4] لم يحرم مخالفته كذلك أيضاً.

ومنه ظهر[5]:

--------------------------------------

وإن لم يكن التكليف فعلياً فلا تجب الموافقة القطعية، كما تجوز المخالفة القطعية؛ لعدم فعلية التكليف فلا يكون منجزاً، وما لا يكون منجزاً جازت مخالفته.

[1] أي: حرمة المخالفة القطعية، فقد قالوا بجواز ارتكاب أحد الإناءين مع حرمة شربهما معاً، وكذا حرمة ترك الصلاتين - الظهر والجمعة - وجواز الاكتفاء بأحدهما.

[2] دليل عدم صحة هذا الاحتمال - أي: حرمة المخالفة القطعية مع وجوب الموافقة القطعية - .

[3] لأن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.

[4] أي: إن لم يكن التكليف المعلوم بالإجمال فعلياً، «لم يحرم مخالفته» مخالفة التكليف، «كذلك» قطعاً، أي: تجوز مخالفته القطعية؛ وذلك لأن معنى عدم الفعلية هو عدم إرادة المولى أو كراهته.

المسألة الخامسة

[5] أي: من ارتباط التنجز بفعلية التكليف ظهر حكم الصور التالية:

1- لو كان بعض أطراف العلم الإجمالي خارجاً عن محل الابتلاء.

2- لو اضطر إلى بعض الأطراف.

3- لو كانت الأطراف تدريجية الوجود، مع تحقق موضوع التكليف بالتدريج.

ففي كل هذه الموارد لا يكون التكليف فعلياً، فلا يجب الاحتياط، ويجوز ارتكاب كل الأطراف، وسنذكر أمثلة الشبهة التحريمية - لسهولتها - في بيان هذه الصور، وإلاّ فالبحث يجري في الشبهة الوجوبية أيضاً.

ص: 228

أنه لو لم يعلم فعلية التكليف مع العلم به إجمالاً[1] - إما[2] من جهة عدم الابتلاء ببعض أطرافه[3]، أو من جهة[4] الاضطرار إلى بعضها معيناً أو مردداً[5]، أو من جهة[6]

--------------------------------------

[1] أي: مع العلم بالتكليف - غير الفعلي - لكن تردد المعلوم بين أطراف متعددة.

ولا يخفى المسامحة في التعبير؛ وذلك لعدم العلم بأصل التكليف، بل نشك فيه، اللهم إلاّ إذا كان مراده من (إجمالاً) أي: احتمالاً، أو يكون المراد العلم التقديري، فتأمل.

[2] بيان للصورة الأولى، وهي عدم الابتلاء ببعض أطراف العلم الإجمالي، كما لو علم بنجاسة إنائه أو إناء ملك الهند - فرضاً - . فهنا تكليفه باجتناب إناء الملك لغو؛ لأن الغرض من التكليف هو بعث المكلف نحو الحكم، ومع خروج شيء عن محل الابتلاء يكون اجتنابه حاصلاً قهراً، فالنهي عنه طلب للحاصل، وهو لغو لا يصدر عن الحكيم.

وأما الإناء الآخر - الذي هو محل الابتلاء - فإنه لا يعلم بنجاسته، بل يحتمل ذلك، فيرجع إلى الشك في التكليف، فيكون مجرى البراءة.

[3] أطراف العلم الإجمالي.

[4] بيان للصورة الثانية، وهذا سيأتي تفصيله في التنبيه الأول، فإن المضطر إليه لا تكليف باجتنابه؛ لأن الاضطرار مانع عن التكليف، والطرف الثاني - غير المضطر إليه - الشبهة فيه بدوية، فيكون مورداً للبراءة.

[5] أي: لا فرق في عدم فعلية التكليف بين اضطراره إلى أحد الأطراف على التعيين، أو اضطراره إلى أحد الأطراف لا على التعيين، خلافاً للشيخ الأعظم - كما سيأتي في التنبيه الأول - .

[6] بيان للصورة الثالثة، وهو ما لو كان الموضوع مردداً بين أطراف تدريجية الوجود. كالمرأة أيام الاستظهار، مثلاً: لو كانت ترى الدم طوال الشهر وهي تعلم

ص: 229

تعلقه[1] بموضوع يقطع بتحققه إجمالاً في هذا الشهر، كأيام حيض المستحاضة مثلاً - لما[2] وجب موافقته بل جاز مخالفته.

--------------------------------------

إجمالاً بأن حيضها ثلاثة أيام، ولكن لا تعلم أن هذه الثلاثة في أيِّ وقت من الشهر؟ فهنا احتمالان:

1- إن كان (الحائض) هو الموضوع لاجتناب دخول المسجد - مثلاً - فهنا لا يجب عليها الاحتياط أصلاً؛ وذلك لعدم إحراز الموضوع، فلا يكون التكليف فعلياً، وهذا من قبيل الواجب المشروط كالحج قبل الاستطاعة فلا وجوب أصلاً.

2- وإن كان الموضوع (المرأة) في وقت حيضها، فإنه يجب عليها الاحتياط منذ اليوم الأول؛ وذلك لأن الموضوع - وهو المرأة - موجود، فيتحقق التكليف لتحقق موضوعه، منتهى الأمر زمان التكليف غير معلوم، فقد يكون في الزمان اللاحق، وهذا لا يضر بالتكليف، فتكون الحرمة فعليّة والحرام مستقبلي، وهذا من قبيل الواجب المعلّق، نظير وجوب الحج من حين الاستطاعة، فإن وجوب الحج فعليّ، ولكن الواجب يكون في المستقبل حين دخول تاسع ذي الحجة.

والحاصل في الأمور التدريجية: إن كان الموضوع متحققاً من أول يوم وجب الاحتياط؛ لأن التكليف تعلق بالذمة من الأول - حتى لو فرض أن الواجب أو الحرام مستقبلي - وإن لم يعلم بتحقق الموضوع من الأول فلا علم بالتكليف أصلاً، فيكون مجرى البراءة.

[1] أي: تعلق التكليف، «بتحققه» بتحقق الموضوع، «إجمالاً» من غير علم بالأيام التي يتحقق فيها - بعينها - .

[2] «لما» جزاء (لو) في قوله: (و منه ظهر أنه لو لم يعلم... الخ)، «موافقته» و«مخالفته» أي: موافقة أو مخالفة التكليف؛ وذلك لعدم فعلية هذا التكليف، وقد ذكرنا في المسألة الرابعة أنه مع عدم الفعلية لا تجب الموافقة وتجوز المخالفة القطعية.

ص: 230

وأنه[1] لو علم فعليته ولو كان بين أطراف تدريجية لكان منجزاً ووجب موافقته، فإن التدرج لا يمنع عن الفعلية[2]، ضرورة[3] أنه كما يصح التكليف بأمر حالي[4] كذلك يصح بأمر استقبالي، كالحج في الموسم للمستطيع[5]، فافهم[6].

تنبيهات: الأول[7]:

--------------------------------------

[1] هذا عدل قوله: (أنه لو لم يعلم فعلية التكليف...)، «أنه» للشأن، «عُلم» - بالمجهول - ، «فعليته» فعلية التكليف، «لكان» التكليف.

[2] لأن المناط هو تحقق شرائط التكليف، فلو تحققت تلك الشرائط كان التكليف منجزاً حتى في الأمور التدريجية، فيكون التكليف فعلياً والواجب أو الحرام مستقبلياً.

[3] دليل أن التدرج لا يمنع الفعلية.

[4] أي: ما تحقق موضوعه خارجاً حين التكليف، كالأمر بالصلاة بعد الزوال.

[5] موسم الحج هو أشهر الحج، ووقت الواجب هو التاسع من ذي الحجة، لكن تعلق الأمر بوجوب الحج من أول شوال حيث تبدأ أشهر الحج، بل قالوا بتعلق وجوب الحج حتى قبل الموسم من بداية السنة.

[6] لعله إشارة إلى أن المرأة في أيام الاستظهار من مصاديق الاحتمال الثاني - أي: من قبيل المعلّق الذي يكون الوجوب أو الحرمة فيه فعلياً، والواجب أو الحرام استقبالياً - لا من مصاديق الاحتمال الأول، فلا يصح جعلها مثالاً لعدم فعلية التكليف، كي يقال بعدم وجوب الاحتياط.

تنبيهات الاشتغال
التنبيه الأول: الاضطرار إلى بعض أطراف العلم الإجمالي

[7] إن صور الاضطرار إلى بعض الأطراف أربعة، وقد ذهب الشيخ الأعظم(1)

ص: 231


1- فرائد الأصول 2: 245.

--------------------------------------

إلى لزوم الاحتياط واجتناب الطرف الثاني في ثلاثة صور منها، وعدم لزوم الاحتياط في صورة واحدة، وأما المصنف فقد ذهب إلى عدم لزوم الاحتياط في كل الصور الأربع.

فلنذكر كلام الشيخ الأعظم وما استدل به على ما ذهب إليه أولاً، ثم ما ذهب إليه المصنف.

الصورة الأولى: الاضطرار إلى أحدهما بعينه ثم العلم بحرمة أحدهما إجمالاً، مثل أن يضطر إلى شرب الماء الحلو، مع كون الآخر مالحاً غير صالح للشرب، ثم يعلم بنجاسة أحدهما إجمالاً، فلا يجب الاحتياط؛ لأنه لا إشكال في جواز شرب الإناء الحلو للاضطرار إليه، وبعد العلم بنجاسة أحدهما لا يعلم بحدوث تكليف بالاجتناب، بل يحتمل ذلك؛ لأنه إن كان النجس هو الماء الحلو المضطر إليه فلا تكليف باجتنابه، وإن كان النجس الماء المالح فيجب اجتنابه، فهنا يحتمل التكليف ولا يعلم به، فيكون من الشبهة البدوية.

الصورة الثانية: أن يعلم بحرمة أحدهما ثم يضطر إلى أحدهما المعين، فيجب الاجتناب عن الإناء الآخر المالح؛ لأنه حين علمه بنجاسة أحدهما إجمالاً اشتغلت ذمته بتكليف الاجتناب عنهما، وبعد الاضطرار إلى المعين يجوز ارتكابه للاضطرار، وأما الإناء الآخر المالح فيبقى التكليف باجتنابه، ولو باستصحاب لزوم الاجتناب، فإن العلم الإجمالي زال، ولكن أثره باق، كما في خروج أحد الأطراف عن محل الابتلاء.

الصورة الثالثة: أن يضطر إلى أحدهما لا بعينه، مثل ما لو كان كلا الإناءين ماءً حلواً قابلاً للشرب، ثم يعلم بحرمة أحدهما إجمالاً لنجاسته.

الصورة الرابعة: عكس الصورة الثالثة، بأن يعلم بحرمة أحدهما إجمالاً ثم يضطر إلى أحدهما لا بعينه.

ص: 232

إن الاضطرار كما يكون مانعاً عن العلم بفعلية التكليف[1]

--------------------------------------

وفي هاتين الصورتين يجب الاحتياط، قال الشيخ الأعظم: (لأن العلم حاصل بحرمة واحد من الأمور، لو علم حرمته تفصيلاً وجب الاجتناب عنه، وترخيص بعضها على البدل موجب لاكتفاء الأمر بالاجتناب عن الباقي)(1)،

انتهى.

أي: للعلم بالتكليف على كل حال؛ إذ يجب اجتناب الإناء الأول على تقدير وقوع النجاسة فيه، ويجب اجتناب الإناء الثاني على تقدير وقوعها فيه، وبعبارة أخرى: المكلف لم يضطر إلى الحرام - لإمكان دفع اضطراره بالإناء الطاهر - فلا مانع من تنجز التكليف باجتناب النجس، لكنه حيث اشتبه عليه الطاهر والنجس جاز له ارتكاب أحدهما، لكن هذا لا يرفع عنه التكليف في الآخر.

هذا حاصل ما ذهب إليه الشيخ الأعظم.

وأما المصنف: فيذهب إلى عدم وجوب الاحتياط في كل هذه الصور الأربع؛ وذلك لعدم فعلية التكليف باجتناب الحرام؛ لأن التكليف بالاجتناب لم يكن مطلقاً في كل الحالات، بل كان من أول الأمر مقيداً بصورة عدم الاضطرار، ففي صورة الاضطرار لا علم بفعلية التكليف أصلاً في كل الصور الأربع.

وبعبارة أوضح كما قيل: (فلأن مع الاضطرار كذلك لا يكاد يحصل العلم بحرمة واحد من الأطراف كي يجب الاجتناب عن الباقي؛ إذ من المحتمل أن يكون المحرم الواقعي هو الذي يختاره المضطر لرفع اضطراره وهو معذور فلا يكون ما سواه حراماً)(2).

[1] الاضطرار مانع عن نفس التكليف، فلا تكليف مع الاضطرار، وحيث إن العلم طريق إلى معرفة التكليف وعدمه كان التعبير بقوله: (مانعاً عن العلم...).

ص: 233


1- فرائد الأصول 2: 245.
2- عناية الأصول 4: 170.

لو كان إلى واحد معين[1]، كذلك يكون[2] مانعاً لو كان إلى غير معين، ضرورة[3] أنه مطلقاً موجب لجواز ارتكاب أحد الأطراف أو تركه[4] تعييناً أو تخييراً[5]، وهو[6] ينافي العلم بحرمة المعلوم أو بوجوبه بينها فعلاً.

وكذلك لا فرق[7] بين أن يكون الاضطرار كذلك سابقاً على حدوث العلم أو لاحقاً، وذلك[8]

--------------------------------------

[1] «كان» الاضطرار؛ وذلك لعدم العلم بأصل التكليف أصلاً.

[2] أي: يكون الاضطرار مانعاً عن العلم بفعلية التكليف.

[3] دليل كون الاضطرار مانعاً، «أنه» أن الاضطرار، «مطلقاً» أي: سواء إلى المعين أم إلى غير المعين.

[4] جواز الارتكاب في التحريميّة، وترك أحد الأطراف في الوجوبيّة، ومثال الوجوبية: لو اشتبهت القبلة واضطر إلى ترك الصلاة إلى بعض الجهات - لضيق الوقت مثلاً - .

[5] «تعييناً» لو اضطر إلى أحدهما المعين - كالماء الحلو مع كون الآخر مالحاً في المثال -، «تخييراً» لو اضطر إلى واحد لا على التعيين - كما لو كان كلا الماءين حلواً - .

[6] أي: جواز الارتكاب أو الترك يتعارض مع التكليف الإلزامي الفعلي، فلا يمكن الجمع بين جواز الارتكاب وبين الحرمة، ولا بين جواز الترك وبين الوجوب، لما مرّ من التضاد بين الأحكام، وحيث إن جواز الارتكاب معلوم فلا يبقى مجال للإلزام بالفعل أو الترك.

[7] أي: كما لا فرق في عدم وجوب الاحتياط بين الاضطرار إلى المعيّن أو غير المعيّن، كذلك لا فرق بين كون الاضطرار قبل العلم الإجمالي أو بعده، «الاضطرار كذلك» أي: إلى أحد الأطراف.

[8] دليل عدم الفرق بين سبق الاضطرار أو لحوقه، وحاصله: إن التكاليف الشرعية مقيدة بعدم طروّ العناوين الثانوية، ففي صورة الاضطرار إلى أحد الأطراف

ص: 234

لأن التكليف المعلوم بينها من أول الأمر[1] كان محدوداً[2] بعدم عروض الاضطرار إلى متعلقة[3]، فلو عرض[4] على بعض أطرافه لما كان التكليف به معلوماً، لاحتمال[5] أن يكون هو المضطر إليه في ما كان الاضطرار إلى المعين أو يكون هو المختار[6]

--------------------------------------

لا علم بوجود تكليف من أول الأمر، فيكون من الشبهة البدوية، وليس من قبيل العلم بالتكليف مع الشك في المكلف به، «المعلوم بينها» بين أطراف العلم الإجمالي.

[1] أي: من حين صدوره - وحتى قبل طروّ الاضطرار - .

[2] أي: مقيداً بعدم طروّ العناوين الثانوية - التي منها الاضطرار - .

[3] «متعلقه» متعلق التكليف، أي: الموضوع، وهو فعل المكلف أو تركه - كالشرب مثلاً - .

[4] أي: عرض الاضطرار، «أطرافه» أطراف العلم الإجمالي، «التكليف به» أي: بالمتعلّق.

[5] وجه عدم العلم بالتكليف، بل احتماله فقط؛ لأنه يحتمل أن يكون النجس - مثلاً - الإناء المضطر إليه فلا تكليف، ويحتمل أن يكون الإناء الثاني فيوجد تكليف، فأمر هذا المكلف دائر بين احتمال التكليف واحتمال عدم التكليف، فيكون من مصاديق الشبهة البدوية، إذ لا علم بالتكليف، «أن يكون» أي: يكون متعلق التكليف.

[6] أي: أو يكون متعلق التكليف هو ما اختاره؛ لأنه كان معذوراً لو اختار النجس - في المثال - لفرض اضطراره إلى أحد الإناءين لا على التعيين، ولا طريق له لتعيين النجس، إذن يجوز له ارتكاب أيهما شاء، فلو اختار النجس فإنه معذور، ومعنى ذلك جواز الارتكاب، فلا معنى لتكليفه بالاجتناب - حينئذٍ - .

ص: 235

في ما كان إلى بعض الأطراف بلا تعيين[1].

لا يقال[2]: الاضطرار إلى بعض الأطراف ليس إلاّ كفقد بعضها[3]؛ فكما لا إشكال[4] في لزوم رعاية الاحتياط في الباقي مع الفقدان، كذلك لا ينبغي الإشكال

--------------------------------------

[1] علّق المصنف على قوله: (وذلك لأن التكليف...) بقوله: (لا يخفى أن ذلك إنما يتم في ما كان الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه، وأما لو كان إلى أحدهما المعين فلا يكون بمانع عن تأثير العلم للتنجز؛ لعدم منعه عن العلم بفعلية التكليف المعلوم إجمالاً، المردد بين أن يكون التكليف المحدود في ذلك الطرف أو المطلق في الطرف الآخر، ضرورة عدم ما يوجب عدم فعلية مثل هذا المعلوم أصلاً، وعروض الاضطرار إنما يمنع عن فعلية التكليف لو كان في طرف معروضه بعد عروضه، لا عن فعلية المعلوم بالإجمال، المردد بين التكليف المحدود في طرف المعروض، والمطلق في الآخر بعد العروض، وهذا بخلاف ما إذا عرض الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه، فإنه يمنع عن فعلية التكليف في البين مطلقاً، فافهم وتأمل)(1)، انتهى.

[2] حاصل الإشكال: إنه في صورة تأخّر الاضطرار عن العلم بالتكليف - كما في الصورة الأولى من الصور الأربع - فإنه بمجرد العلم إجمالاً بنجاسة أحدهما يتنجز عليه التكليف، وبعد الاضطرار يبقى أثر العلم الإجمالي، وهو لزوم الاجتناب عن الطرف الثاني، وهذا نظير العلم بنجاسة أحدهما إجمالاً، وخروج أحدهما عن محل الابتلاء لاحقاً، فإن أثر العلم الإجمالي - وهو وجوب الاجتناب عن الآخر - يكون باقياً.

[3] بعض الأطراف، بعد حدوث العلم الإجمالي.

[4] لأنه قد تنجز عليه التكليف باجتنابهما، وبعد خروج أحدهما عن محل الابتلاء يبقى أثر العلم الإجمالي - وهو التنجز - وإن زال نفس العلم الإجمالي.

ص: 236


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 189.

في لزوم رعايته[1] مع الاضطرار، فيجب الاجتناب عن الباقي أو ارتكابه[2] خروجاً عن عهدة ما تنجز عليه قبل عروضه.

فإنه يقال[3]: حيث إن فقد المكلف به ليس من حدود التكليف به[4] وقيوده[5]، كان[6] التكليف المتعلق به مطلقاً، فإذا اشتغلت الذمة به كان قضية الاشتغال به يقيناً الفراغ عنه كذلك، وهذا بخلاف الاضطرار إلى تركه[7]، فإنه من حدود التكليف به وقيوده، ولا يكون الاشتغال به[8] من الأول إلاّ مقيداً بعدم

--------------------------------------

[1] أي: رعاية الاحتياط، «مع الاضطرار» أي: الاضطرار اللاحق للعلم الإجمالي.

[2] الاجتناب في الشبهة التحريميّة - كمثال الإناء النجس - والارتكاب في الشبهة الوجوبيّة، كما لو اشتبه المسلم بين ميّتين أحدهما مسلم والآخر كافر، فلو فقد أحدهما فإنه يجب تجهيز الآخر حسب الشعائر الإسلامية من الغسل والكفن... الخ.

[3] حاصل الجواب: هو الفرق بين الموردين؛ إذ التكليف ليس مقيداً بفقد الموضوع، فالتكليف له قابلية الاستمرار إلى الأبد. نعم، فقد الموضوع يوجب زوال الحكم من باب السالبة بانتفاء الموضوع، لا لعدم قابلية التكليف في الاستمرار.

ولكن التكليف مقيّد بعدم الاضطرار، فالتكليف منحصر من أول الأمر بحالة الاختيار، فمع عروض الاضطرار لا علم بالتكليف أصلاً.

[4] «به» بذلك المكلّف به، أي: متعلق التكليف.

[5] عطف تفسيري ل- (حدود التكليف)، فإن التكليف له قابلية الاستمرار، ولم يقيده الشارع ببقاء الموضوع.

[6] جزاء (حيث) - لتضمنها معنى الشرط - «المتعلق به» أي: بالمكلف به، «مطلقاً» أي: غير مقيد ببقاء الموضوع.

[7] أي: ترك التكليف، فإن الاضطرار من قيود التكليف.

[8] أي: اشتغال الذمة بالتكليف، «من الأول» أي: من حين صدور التكليف،

ص: 237

عروضه، فلا يقين باشتغال الذمة بالتكليف به إلاّ إلى هذا الحد[1]، فلا يجب رعايته في ما بعده، ولا يكون إلاّ من باب الاحتياط في الشبهة البدوية[2]، فافهم وتأمل، فإنه دقيق جداً[3].

الثاني[4]:

--------------------------------------

«بعدم عروضه» الاضطرار.

[1] أي: حدّ الاضطرار، «رعايته» التكليف، «بعده» بعد حدّ الاضطرار.

[2] لاحتمال وجود التكليف، ومع الاحتمال تجري البراءة ككل شبهة بدوية.

[3] لا يخفى مواضع النظر في كلامه، فإن بقاء الموضوع حدّ لحكمه قطعاً بحكم العقل، كما أنه قبل الاضطرار يعلم باشتغال ذمته، وبعد عروض الاضطرار يشك في بقاء التكليف فهو مجرى الاستصحاب، ولغير ذلك مما هو مذكور في المفصلات.

التنبيه الثاني: اشتراط الابتلاء بجميع الأطراف

[4] حاصله: إنه يشترط في تنجز العلم الإجمالي: الابتلاء بكل الأطراف، فلو كان بعض الأطراف خارجاً عن محل الابتلاء فلا يتنجز العلم الإجمالي، كما لو علم بنجاسة إنائه أو إناء السلطان، فلا يجب الاجتناب عن إنائه؛ لعدم ابتلائه بإناء الملك أصلاً.

والدليل على ذلك: أن المولى لا يكلّف عبثاً، بل تكليفه بغرض؛ وذلك الغرض هو إيجاد الداعي في نفس المكلف بالفعل في الواجب، أو الترك في الحرام، أو لتأكيد فلو لم يمكن انقداح الداعي في نفس المكلف فإن التكليف يكون لغواً؛ وذلك محال على الحكيم.

ففي المثال لا ينقدح في نفس المكلف استعمال إناء السلطان أصلاً - لخروجه عن محل ابتلائه - فالنهي عنه يكون بلا غرض، وهو لغو لا يصدر من الحكيم، فيبقى المكلف مع إنائه الذي هو محل ابتلائه، ولا علم له بنجاسته، بل هو مجرد احتمال،

ص: 238

إنه[1] لما كان النهي عن الشيء إنما هو لأجل أن يصير داعياً للمكلف نحو تركه لو لم يكن له داع آخر[2]، ولا يكاد يكون ذلك[3] إلاّ في ما يمكن عادة ابتلاؤه به، وأما ما لا ابتلاء به بحسبها[4]، فليس للنهي عنه موقع أصلاً[5]، ضرورة أنه[6] بلا فائدة ولا طائل، بل يكون من قبيل طلب الحاصل[7]، كان[8] الابتلاء بجميع الأطراف

--------------------------------------

فيكون مجرى أصالة البراءة.

الداعي، كالنهي عن أكل القاذورات، فإن الداعي موجود ولكن النهي يؤكده.

[1] للشأن، «هو» النهي، «أن يصير» النهي، «تركه» ترك الشيء.

وقد علق المصنف على قوله: (النهي عن شيء)، بقوله: (كما أنه إذا فعل الشيء الذي كان متعلقاً لغرض المولى مما لا يكاد عادة أن يتركه العبد، وأن لا يكون له داع إليه لم يكن للأمر به والبعث إليه موقع أصلاً، كما لا يخفى)(1)،

انتهى.

[2] أما لو كان له داع آخر - كاستقذاره للقاذورات - فيكون النهي تأكيداً، «له» للمكلف.

[3] «ذلك» صيرورة النهي داعياً على الترك، «ابتلاؤه» المكلف، «به» الضمير يرجع إلى الموصول - ما - «عادة» فقد يمكن الابتلاء عقلاً - كما في المحال الوقوعي - لكن ذلك لا يُصحح النهي؛ لأن المحال الوقوعي لا يوجد داع لفعله أصلاً.

[4] ضمير «به» يرجع إلى الموصول، «بحسبها» أي: بحسب العادة.

[5] أي: لا مجال للنهي، فهو غير صحيح.

[6] علّة عدم صحة النهي في ما لا يبتلى به عادة، «أنه» أي: النهي.

[7] أي: من موارد طلب الحاصل، وهو قبيح، لا يصدر عن الحكيم.

[8] «كان» جزاء (لمّا) في قوله: (الثاني إنه لما كان النهي... الخ)، «لابد منه» من الابتلاء.

ص: 239


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 203.

مما لابد منه في تأثير العلم[1]، فإنه بدونه[2] لا علم بتكليف فعلي، لاحتمال تعلق الخطاب بما لا ابتلاء به.

ومنه[3] قد انقدح: أن الملاك في الابتلاء المصحح لفعلية الزجر وانقداح طلب تركه في نفس المولى فعلاً[4]، هو ما إذا صح انقداح الداعي إلى فعله في نفس العبد مع إطلاعه[5] على ما هو عليه من الحال[6].

--------------------------------------

[1] أي: في تنجز التكليف الذي هو أثر العلم الإجمالي.

[2] «فإنه» للشأن، «بدونه» بدون الابتلاء بجميع الأطراف؛ إذ لو كان النجس هو إناء السلطان فلا تكليف أصلاً، وإن كان النجس هو إناء المكلّف فهو مكلف بالاجتناب، وحيث تردد النجس بينهما فالمكلف يحتمل التكليف ولا يعلم به، فيكون المورد مجرى أصالة البراءة.

[3] أي: من لزوم كونه محلاً للابتلاء، كي يمكن انقداح الداعي في نفس المكلف.

[4] أي: ليكون طلباً حقيقياً لا تقديرياً، كأن يقول المولى: (لو ابتليت به فاجتنب عنه)، فإن هذا الطلب التقديري صحيح، ولكنه ليس بطلب حقيقة، أي: لا توجد بالفعل كراهة في نفس المولى، بل تتحقق الكراهة لو ابتلى به، ففي صورة عدم الابتلاء لا تكليف قطعاً، مثل جميع القضايا المشروطة قبل تحقق الشرط، كقوله: (إن جاء علي فأكرمه)، «هو» أي: الملاك.

[5] أي: ليس كل داع في نفس العبد مصححاً للنهي، بل الداعي مع إمكان فعل المكلف، فلو توهم العبد تمكنه من الطيران فإن هذا التوهم ناشئ عن الجهل، وعدم الاطلاع على عدم تمكنه، فهذا لا يُصحح النهي.

[6] أي: مع اطلاع العبد على الحال الذي هو - أي: العبد - على ذلك الحال، وقوله: «من الحال» بيان للموصول - أي: ما - والمعنى مع اطلاع العبد على قدرته على ارتكاب الفعل.

ص: 240

ولو شك في ذلك[1] كان المرجع هو البراءة، لعدم القطع بالاشتغال[2]، لا إطلاق الخطاب، ضرورة أنه لا مجال للتشبث به[3] إلاّ في ما إذا شك في التقييد بشيء

--------------------------------------

[1] أي: في كونه محلاً للابتلاء أم لا، كما لو ترددت النجاسة بين إنائه وإناء جاره، ويحتمل أن يدعوه جاره فيُبتلى بإنائه أيضاً.

فقد ذهب الشيخ الأعظم(1)

إلى لزوم الاحتياط، تمسكاً بإطلاق خطابات الأحكام كقوله: {وَٱلرُّجۡزَ فَٱهۡجُرۡ}(2) أي: اجتنب عن النجس، فإن المكلف يعلم بنجاسة إما إنائه أو إناء جاره، ويشك في لزوم امتثال هذا التكليف - لاحتمال خروج أحد الأطراف عن محل الابتلاء - فيكون المرجع إطلاق الخطاب.

وأما المصنف فيذهب إلى جريان البراءة؛ وذلك للشك في أصل الإطلاق، فلا يصح التمسك به.

بيانه: إن اللفظ لو كان له إطلاق ثم شككنا في تقييده كما لو قال: (أكرم العالم)، وشككنا في أنه مقيد بالعدالة أم لا، فهنا نتمسك بالإطلاق، أما لو شك في أصل الإطلاق فلا يمكن التمسك به؛ لأنه تمسك باللفظ في الشبهة المصداقية، مثلاً: التكاليف كلها مقيدة بالقدرة - فالإنسان مكلّف إن كان قادراً، أما العاجز فليس بمكلف - فلو شككنا في القدرة فإنه لا يمكن التمسك بإطلاق الدليل؛ وذلك لعدم وجود هذا الإطلاق.

[2] أي: باشتغال الذمة، بل يحتمل ذلك، فإن كان محلاً للابتلاء وجب الاجتناب، وإلاّ فلا يجب، إذن أصل التكليف مشكوك.

[3] أي: بالإطلاق، «بدونه» أي: بدون ذلك الشيء، كما لو قال: (أعتق رقبة) فإنه يصح شمول التكليف للمؤمنة وللكافرة، فمع الشك في التقييد بالكافرة يكون المرجع إلى الإطلاق.

ص: 241


1- فرائد الأصول 2: 239.
2- سورة المدثر، الآية: 5.

بعد الفراغ عن صحة الإطلاق بدونه، لا في ما شك في اعتباره في صحته[1]، تأمل لعلك تعرف إن شاء الله تعالى.

الثالث[2]:

--------------------------------------

[1] أي: في اعتبار شيء في صحة الإطلاق، كالقدرة - مثلاً - وكان الأولى التعبير ب- (لا في ما شك في تحقق ما اعتبر في صحة الإطلاق)، فإن اعتبار القدرة - مثلاً - معلوم لكن الشك في تحققه أو عدم تحققه.

وقد علق المصنف هنا بقوله: (نعم، لو كان الإطلاق في مقام يقتضي بيان التقييد بالابتلاء - لو لم يكن هناك ابتلاء مصحح للتكليف - كان الإطلاق وعدم بيان التقييد دالاً على فعليته، ووجود الابتلاء المصحح لهما، كما لا يخفى، فافهم)(1)،

انتهى.

التنبيه الثالث: الشبهة غير المحصورة
اشارة

[2] قد يقال: بوجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة، وعدم وجوبه في غير المحصورة. لكن المصنف يذهب إلى عدم الفرق بينهما أصلاً، فإذا كان التكليف فعلياً وجب الاحتياط في المحصورة وغير المحصورة، وإن لم يكن التكليف فعلياً لم يجب الاحتياط - سواء في المحصورة أم غير المحصورة - . فلا يكون التكليف فعلياً لو استلزم العسر سواء في المحصورة وغيرها، ويكون فعلياً لو لم يستلزم العسر فيهما أيضاً.

نعم، الغالب استلزام الاحتياط للعسر في غير المحصورة، وعدم استلزامه للعسر في المحصورة، وهكذا الأمر في سائر العناوين الثانوية كالحرج والضرر ونحوهما.

فتحصل: أنه لا فرق بين المحصورة وغيرها في ملاك وجوب الاحتياط - وهو العلم بوجود التكليف مع اشتباه المكلف به - وأن العلم الإجمالي يوجب فعلية التكليف. نعم، العسر يكون مانعاً عن الفعلية، فليس عنوان (غير المحصورة) أمراً مستقلاً رافعاً للتكليف.

ص: 242


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 211.

إنه قد عرفت أنه مع فعلية التكليف المعلوم[1] لا تفاوت[2] بين أن تكون أطرافه محصورةً وأن تكون غير محصورة.

نعم، ربما تكون كثرة الأطراف في مورد موجبةً لعسر موافقته القطعية باجتناب كلها[3] أو ارتكابه[4] أو ضرر فيها[5] أو غيرهما مما[6] لا يكون معه التكليف فعلياً بعثاً أو زجراً فعلاً، وليس بموجبة لذلك في غيره[7]. كما أن نفسها[8] ربما تكون موجبة لذلك[9] ولو كانت قليلة في مورد آخر. فلابد من ملاحظة ذاك[10]

--------------------------------------

[1] مع تردده بين مصاديق متعددة.

[2] لجريان ملاك الاحتياط في كليهما، «أطرافه» أي: المصاديق التي يكون المكلف به بعضها.

[3] كل الأطراف وهذا في الشبهة التحريمية.

[4] ارتكاب كل الأطراف، وهذا في الشبهة الوجوبيّة.

[5] في الموافقة القطعيّة، «غيرهما» أي: غير الضرر والعسر، مثل: الحرج، وخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، والاضطرار إلى بعضها، ونحو ذلك.

[6] «من» بيان لقوله: (أو ضرر فيها أو غيرهما)، «ما» أي: عناوين الأحكام الثانوية، «معه» الضمير يرجع إلى الموصول، «بعثاً» في الشبهة الوجوبية، «زجراً» في التحريمية، وجملة «بعثاً أو زجراً فعلاً» هي عطف بيان على (التكليف فعلياً).

[7] أي: ليس كثرة الأطراف موجبة لذلك العسر ونحوه في غير ذلك المورد، فقوله: «وليس بموجبة...» عطف على قوله: (ربما يكون كثرة الأطراف... الخ).

[8] أي: الموافقة القطعية باجتناب كل الأطراف في التحريميّة، وبفعل كل الأطراف في الوجوبيّة.

[9] أي: لذلك العسر ونحوه.

[10] أي: العسر ونحوه.

ص: 243

الموجب لرفع فعلية التكليف المعلوم بالإجمال أنه يكون، أو لا يكون[1] في هذا المورد، أو يكون[2] مع كثرة أطرافه؟ وملاحظة[3] أنه مع أية مرتبة من كثرتها؟ كما لا يخفى.

ولو شك[4]

--------------------------------------

[1] كان تامة، أي: هل يوجد العسر ونحوه في هذا المورد أو لا يوجد؟ «في هذا المورد» أي: يلزم ملاحظة كل مورد على انفراد، فإنه لا توجد قاعدة عامة، بل إن استلزم العسر في موردٍ وعلى شخصٍ ارتفع التكليف عنه، وإن لم يستلزم العسر في ذلك المورد على شخص آخر لم يرتفع التكليف عنه.

[2] أي: أو هل يكون العسر في ذلك المورد مع كثرة الأطراف؟ «أطرافه» أطراف المعلوم بالإجمال.

[3] فإن للكثرة مراتب فقد لا يكون عسر في مرتبة - كالدوران بين ألف مثلاً - ويكون عسر في مرتبة أخرى - كالدوران بين عشرة آلاف مثلاً - ، «أنه» أن العسر ونحوه، «كثرتها» كثرة الأطراف.

الشك في حدوث العسر ونحوه

[4] أي: لو شككنا في عروض العسر ونحوه، فهل مراعاة الاحتياط موجب للعسر أم لا؟ سواء كان الشك في تحقق العسر، أم كان الشك في درجة العسر وأنه وصل إلى درجة الرافعة للتكليف أم لا، فهنا صورتان:

الأولى: كون دليل التكليف لفظياً، كقوله: {وَٱلرُّجۡزَ فَٱهۡجُرۡ}(1)، فهنا المرجع هو إطلاق الدليل؛ لأن العسر يقيد إطلاق أدلة العناوين الأولية، ومع الشك في التقييد تكون أصالة الإطلاق محكّمة.

الثانية: كون دليل التكليف لبيّاً - كالإجماع - ولا إطلاق لكي نتمسك بشموله لموارد الشك، فلابد من الرجوع إلى أصل عملي؛ وذلك الأصل هنا هو أصالة البراءة.

ص: 244


1- سورة المدثر، الآية: 5.

في عروض الموجب[1]، فالمتبع هو إطلاق دليل التكليف لو كان[2]، وإلاّ[3] فالبراءة لأجل الشك في التكليف الفعلي[4].

هذا هو حق القول في المقام. وما قيل في ضبط المحصور وغيره[5] لا يخلو من الجزاف[6].

الرابع[7]:

--------------------------------------

[1] أي: الموجب لرفع التكليف - كالعسر - .

[2] أي: لو وُجد إطلاق، بأن كان الدليل لفظياً.

[3] أي: إن لم يكن إطلاق للدليل - كما لو كان لبياً - .

[4] لأنه يتمسك في الأدلة اللُبية بالقدر المتيقن، وما سواه لا تشمله تلك الأدلة، ولا دليل آخر على التكليف، فالمرجع هو الأصل العملي - وهو البراءة هنا - .

[5] أي: وغير المحصور، مثل قولهم: ما يعسر عدّه، أو عسر العدّ في زمان قصير، أو ما يؤدي اجتنابه إلى ترك الصلاة غالباً، إلى غيرها مما نقله الشيخ الأعظم في الرسائل(1).

[6] أي: قول بلا دليل، مضافاً إلى عدم الحاجة إليه، حيث كان المناط هو فعلية التكليف أو عدم فعليته.

التنبيه الرابع: حكم الملاقي والملاقى
اشارة

[7] في حكم الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة، وأنه هل يحكم عليه بحكم المحصور أم لا؟ وقبل الدخول في المسألة لابدّ من الإشارة إلى أمرين:

الأول: إنه لابد من الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي بحيث يتيقن المكلف من أداء التكليف، وأما ما لم يكن طرفاً في العلم الإجمالي - حتى وإن كان محكوماً بحكم أحد الأطراف - فإنه لا يجب الاحتياط فيه؛ وذلك لأنه ليس طرفاً للعلم، ولا تتوقف عليه البراءة اليقينية من التكليف المعلوم.

ص: 245


1- فرائد الأصول 2: 268.

إنه إنما يجب عقلاً[1] رعاية الاحتياط في خصوص[2] الأطراف مما يتوقف على اجتنابه أو ارتكابه[3] حصول العلم بإتيان الواجب أو ترك الحرام المعلومين في البين دون غيرها[4]،

--------------------------------------

الثاني: إذا تنجز علم إجمالي، ثم حدث علم إجمالي ثانٍ وكان بعض أطراف العلم الإجمالي الأول طرفاً فيه، فإنه لا يتنجز تكليف بسبب هذا العلم الإجمالي الثاني؛ وذلك لعدم العلم بحدوث تكليف جديد.

مثلاً: لو علمنا بنجاسة أحد الإناءين لسقوط قطرة دم في أحدهما، ثم سقطت قطرة بول إما في الإناء الثاني أو في إناء ثالث، فإن العلم الإجمالي الأول بنجاسة الإناء الأول أو الثاني بسبب قطرة دم يتنجز، فيجب الاحتياط باجتنابهما، ولكن بعد سقوط قطرة بول مرددة بين الإناء الثاني والثالث، فإن كانت قد سقطت في الثالث فقد تولّد تكليف جديد باجتنابه، وإن كانت قد سقطت في الإناء الثاني فلا تكليف جديد بالاجتناب، حيث كان التكليف بالاجتناب موجوداً، فيكون التكليف الجديد لغواً، وحينئذٍ نشك في حدوث تكليف جديد أو عدم حدوثه، فيكون مجرى أصالة البراءة.

[1] لأن امتثال أمر المولى يتوقف على الاحتياط في كل الأطراف فيجب عقلاً؛ لأن طرق الطاعة والمعصية إنما هي بحكم العقل.

[2] «في» متعلق ب- (يجب)، «مما» بيان للأطراف، أي: يجب الاحتياط في هذه الأطراف فقط.

[3] «اجتنابه» اجتناب الأطراف، وتذكير الضمير باعتبار رجوعه إلى الموصول في (مما)، هذا في الشبهة التحريمية، «أو ارتكابه» هذا في الشبهة الوجوبية ، وقوله: «حصول العلم» فاعل يتوقف.

[4] دون غير هذه الأطراف، فلا يجب الاحتياط في الأطراف التي لا يتوقف العلم بأداء التكليف عليها.

ص: 246

وإن كان حاله[1] حال بعضها في كونه محكوماً بحكمه واقعاً.

ومنه ينقدح[2] الحال في مسألة ملاقاة شيء مع أحد أطراف النجس المعلوم بالإجمال:

وأنه تارةً[3] يجب الاجتناب عن الملاقى دون ملاقيه[4] في ما كانت الملاقاة بعد العلم إجمالاً بالنجس بينها، فإنه إذا اجتنب عنه وطرفه[5] اجتنب عن النجس في

--------------------------------------

[1] أي: وإن كان حال غيرها حال بعض الأطراف، في كون هذا الغير محكوماً بحكم بعضها - حكماً واقعياً - . مثلاً: اليد التي لاقت أحد الإناءين فإن كانت الملاقاة للإناء الطاهر واقعاً فاليد طاهرة، وإن كانت الملاقاة للإناء المتنجس واقعاً فاليد نجسة.

[2] أي: من بيان هذه القاعدة الكلية يتبيّن حكم الملاقي لأحد أطراف العلم الإجمالي بالنجاسة، كما لو لاقت اليد أحد الإناءين المعلوم نجاسة أحدهما إجمالاً.

وهنا صور ثلاث:

الصورة الأولى

الصورة الأولى: وجوب اجتناب الإناءين دون اليد، فيتعامل معها معاملة الطاهر؛ وذلك لو علم بنجاسة أحدهما - إما الإناء الأحمر أو الإناء الأصفر - ثم لاقت اليد الإناء الأحمر - مثلاً - فإنه لو اجتنب عن الإناءين فقد علم بأداء التكليف، وهو لا يعلم بتوجه تكليف آخر باجتناب اليد، ولا يتنجز العلم الإجمالي الثاني بنجاسة إما اليد وإما الإناء الأصفر - وهو طرف الملاقى - وذلك لما ذكرنا من عدم تنجز العلم الإجمالي الثاني، فلا يعلم بتوجه تكليف أخر باجتناب اليد، فتجري البراءة.

[3] شروع في بيان الصورة الأولى.

[4] «الملاقى» - بالألف - وهو الإناء الأحمر في مثالنا، «ملاقيه» - بالياء - وهي اليد في المثال.

[5] «عنه» عن الملاقى - الإناء الأحمر في المثال - . و«عن طرفه» أي: عِدل الملاقى

ص: 247

البين قطعاً[1] ولو لم يجتنب عما يلاقيه[2] فإنه على تقدير نجاسته لنجاسته[3] كان فرداً آخر من النجس[4]، قد شك في وجوده، كشيء آخر[5] شك في نجاسته بسبب آخر.

ومنه ظهر[6]:

--------------------------------------

- الإناء الأصفر في المثال - .

[1] فخرج من عهدة التكليف بوجوب اجتناب النجس في قوله: {وَٱلرُّجۡزَ فَٱهۡجُرۡ}(1).

[2] «لو» وصلية؛ وذلك لأن الملاقي - كاليد - لو تنجست فإن وجوب اجتنابها بتكليف جديد، وحيث لا يعلم بهذا التكليف الجديد فقد جرت أصالة البراءة.

والحاصل: إن التكليف باجتناب النجس في أحد الإناءين قد تمّ امتثاله بالاجتناب عن الإناءين، فخرج عن عهدته قطعاً.

[3] أي: فإن الشأن على تقدير نجاسة الملاقي - كاليد - وذلك لنجاسة الملاقى - كالإناء الأحمر - .

[4] حيث حكم الشارع بحكم جديد بوجوب اجتناب اليد لأنها لاقت النجس، «قد شك في وجوده» أي: في وجود الفرد الآخر من النجس.

والحاصل: إنه يوجد هنا تكليفان أحدهما معلوم - وهو نجاسة أحد الإناءين - فيجب الاحتياط فيهما، والآخر مجهول - وهو نجاسة اليد - فتجري البراءة فيه.

[5] غير الملاقي، «سبب آخر» مثل: لمس الخنزير برطوبة، فكما أنه تجري البراءة فيه كذا في الملاقي؛ لأنه على فرض ملاقاته للإناء النجس فإن نجاسته ووجوب اجتنابه حكم جديد.

إشكال وجواب

[6] «منه» من أن نجاسة الملاقي - كاليد - حكم جديد، ظهر الإشكال في ما نسب

ص: 248


1- سورة المدثر، الآية: 5.

أنه لا مجال لتوهم أن قضية تنجز الاجتناب عن المعلوم[1] هو الاجتناب عنه أيضاً، ضرورة[2] أن العلم به إنما يوجب تنجز الاجتناب عنه، لا تنجز الاجتناب عن فرد آخر[3] لم يعلم حدوثه، وإن احتمل.

وأخرى[4] يجب الاجتناب عما لاقاه دونه[5]

--------------------------------------

إلى ابن زهرة(1)،

حيث قال: إن معنى النجاسة هو اجتناب النجس واجتناب ما يلاقيه، فقوله تعالى: {وَٱلرُّجۡزَ فَٱهۡجُرۡ}(2) كما يدل على اجتناب النجس كذلك يدل على اجتناب ملاقيه، وحيث اشتبه النجس بين إناءين كان معنى وجوب الاجتناب عنهما هو وجوب الاجتناب عنهما وعن كل ما يلاقيهما.

[1] أي: مقتضى أدلة النجاسات هو الاجتناب عن النجس وعمّا يلاقيه، «المعلوم» أي: المعلوم بالإجمال، «عنه» عن ملاقي النجس - كاليد - .

[2] جواب عن الإشكال، وحاصله: إن مثل: {وَٱلرُّجۡزَ فَٱهۡجُرۡ} لا دلالة له لا باللفظ ولا بالمفهوم، ولا بدلالة أخرى على الاجتناب عما يلاقيه، «العلم به» أي: العلم الإجمالي بالنجس بين الإناءين، «عنه» عن النجس بينهما.

[3] أي: نجس آخر كاليد لو فرض ملاقاتها للنجس، «وإن احتمل» لأن اليد إن كانت قد لاقت الإناء النجس فقد تنجست وإلاّ بقيت على طهارتها، فتحتمل النجاسة، فتكون من مصاديق الشبهة البدوية.

الصورة الثانية
اشارة

[4] شروع في بيان الصورة الثانية، وهي لزوم الاجتناب عن الملاقي - كاليد - دون الملاقى - كالإناء الأحمر في المثال - .

[5] أي: دون الملاقى - الإناء الأحمر - فلا يجب الاجتناب عنه.

ثم إن المصنف قد ذكر لهذه الصورة موردين:

ص: 249


1- غنية النزوع: 46.
2- سورة المدثر، الآية: 5.

في ما لو علم إجمالاً[1] بنجاسته أو نجاسة شيء آخر[2]، ثم حدث العلم[3] بالملاقاة والعلم بنجاسة الملاقى أو ذاك الشيء أيضاً[4]، فإن حال الملاقى في هذه الصورة بعينها[5]

--------------------------------------

المورد الأول

[1] لو علم بنجاسة أحد شيئين: إما يده وإما الإناء الأصفر، فإنه يتنجز عليه وجوب الاجتناب عنهما للعلم الإجمالي، ثم علم أن قطرة دم كانت قد سقطت في أحد الإناءين، وسبب احتماله نجاسة يده كانت هي ملاقاتها للإناء الأحمر، وهنا لا يجب الاجتناب عن الإناء الأحمر؛ لأنه طرف في العلم الإجمالي الثاني، وكما ذكرنا فإن العلم الإجمالي الثاني لا يكون منجزاً إذا تنجز العلم الإجمالي الأول.

[2] «بنجاسته» أي: نجاسة الملاقى - كاليد - «أو نجاسة شيء آخر» كالإناء الأصفر - في المثال - فهذا هو العلم الإجمالي الأول ويكون منجزاً، فيجب الاجتناب عن اليد وعن الإناء الأصفر.

[3] أي: العلم الإجمالي الثاني.

[4] «العلم بالملاقاة» أي: علم أن يده كانت قد لاقت الإناء الأحمر، و«العلم بنجاسة...» أي: واستجد له علم إجمالي ثانٍ بنجاسة أحد الإناءين؛ لسقوط قطرة دم في أحدهما، «الملاقى» الإناء الأحمر في المثال، «أو ذلك الشيء» الإناء الأصفر في المثال، «أيضاً» أي: حدث علم إجمالي ثانٍ - وهو نجاسة أحد الإناءين - كما كان له علم إجمالي سابق وهو نجاسة الأصفر أو اليد.

[5] تأكيد للصورة، أي: لهذه الصورة بنفسها، ولعل مقصود المصنف هو: فإن حال الملاقى - الإناء الاصفر - في هذه الصورة هو عين حال الملاقي - كاليد - في الصورة السابقة. فإن اليد في الصورة السابقة كانت طرفاً في العلم الإجمالي الثاني

ص: 250

حال ما لاقاه في الصورة السابقة في عدم كونه طرفاً للعلم الإجمالي[1] وأنه[2] فرد آخر على تقدير نجاسته واقعاً غير معلوم[3] النجاسة أصلاً، لا إجمالاً[4] ولا تفصيلاً.

وكذا[5] لو علم بالملاقاة ثم حدث العلم الإجمالي، ولكن كان الملاقى خارجاً

--------------------------------------

فلم يجب الاجتناب عنها، كذلك الإناء الأحمر في هذه الصورة هو طرف في العلم الإجمالي الثاني، فلا يجب الاجتناب عنه.

[1] أي: للعلم الإجمالي الأول الذي تنجّز، بل هو طرف لعلم إجمالي ثان غير منجّز.

[2] أي: وأن الملاقى - الإناء الأحمر - «فرد آخر» للنجس، «على تقدير نجاسته» أي: لو كان الملاقى نجساً فهو مصداق آخر للنجس يجب اجتنابه بتكليف جديد.

[3] أي: لكن هذا الفرد الآخر من النجس غير معلوم، بل هو محتمل، فيكون مجرى لأصالة البراءة.

[4] لعدم كون الملاقى - الإناء الأحمر - طرفاً في علم إجمالي منجِّز للتكليف؛ وذلك لسبق علم إجمالي آخر تنجز به التكليف، «ولا تفصيلاً» لوضوح عدم علم تفصيلي بالنجاسة.

المورد الثاني

[5] مورد آخر من الصورة الثانية، حيث يجب اجتناب اليد - في المثال - ولا يجب اجتناب الإناء الأحمر - الملاقى - . وهو ما إذا لاقت يده الإناء الأحمر، ثم خرج هذا الإناء عن محل الابتلاء، ثم علم بنجاسة أحد الإناءين - إما الأصفر أو الأحمر - فلا معنى للأمر باجتناب الإناء الأحمر؛ لخروجه عن محل الابتلاء، فتكون النجاسة دائرة بين اليد وبين الإناء الأصفر، فيتنجز عليه التكليف باجتنابهما.

ثم لو فرض رجوع الإناء الأحمر - الملاقى - إلى محل ابتلائه فهنا العلم الإجمالي

ص: 251

عن محل الابتلاء في حال حدوثه[1] وصار مبتلى به بعده.

وثالثةً[2] يجب الاجتناب عنهما[3] في ما لو حصل العلم الإجمالي بعد العلم بالملاقاة[4]، ضرورة أنه حينئذٍ[5] نعلم إجمالاً إما بنجاسة الملاقي والملاقى أو بنجاسة الآخر كما لا يخفى، فيتنجز التكليف بالاجتناب عن النجس في البين وهو الواحد أو الاثنين[6].

--------------------------------------

بنجاسة أحد الإناءين لا يكون منجزاً، لأن هذا علم إجمالي ثان لا يتنجز مع تنجز العلم الإجمالي الأول.

[1] أي: حال حدوث العلم الإجمالي أحد الإناءين، «بعده» أي: بعد حدوث العلم الإجمالي.

الصورة الثالثة

[2] شروع في بيان الصورة الثالثة، وهي ما يجب فيها الاجتناب عن الملاقي والملاقى، وذلك في ما لو علم بالملاقاة ثم حصل له علم إجمالي بنجاسة أحد الإناءين - مع كونهما في محل الابتلاء - فإنه هنا يحدث علم إجمالي بنجاسة إما الإناء الأصفر، وإما الأحمر واليد، فكان كل الثلاثة طرفاً في علم إجمالي فيجب الاجتناب عنها جميعاً.

[3] على الملاقي كاليد، والملاقى كالإناء الأصفر.

[4] مع كون الإناءين محلاً للابتلاء، وكذا توفر سائر شروط تنجز العلم الإجمالي.

[5] أي: حين حصول العلم الإجمالي بعد العلم بالملاقاة، «أنه» للشأن، «نعلم إجمالاً» وهذا العلم الإجمالي منجز؛ لعدم سبق علم إجمالي آخر عليه.

[6] «الواحد» طرف الملاقى، وهو الإناء الأصفر في المثال، و«الاثنان» هما الملاقي والملاقى، وهما اليد والإناء الأحمر في المثال.

ص: 252

المقام الثاني: في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين[1]. والحق[2] أن العلم الإجمالي[3] بثبوت التكليف بينهما أيضاً يوجب الاحتياط عقلاً بإتيان الأكثر،

--------------------------------------

المقام الثاني
دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين
اشارة

[1] وملاكه أن يكون هناك تكليف واحد فقط إما تعلّق بالأكثر أو الأقل، كما لو علمنا بأن أجزاء الصلاة الواجبة إما تسعة، وإما عشرة - بإضافة القنوت مثلاً - .

[2] اختلف في الأقل والأكثر الارتباطي على أقوال(1)، منها:

1- لزوم الاحتياط.

2- جريان البراءة عقلاً وشرعاً.

3- التفصيل: بلزوم الاحتياط عقلاً مع جريان البراءة الشرعية، وهذا ما اختاره المصنف.

إن قلت: كيف يخالف الشرع حكم العقل؟

قلت: حكم العقل إنّما يكون حفظاً لأمر المولى بامتثاله عبر الاحتياط، ولا مانع في مثله من ترخيص المولى عدم الاحتياط؛ لعدم إرادته الامتثال القطعي لأمره، بل يجعل حكماً ظاهرياً لمصلحة أهم، كمصلحة التسهيل مثلاً.

الاحتياط عقلاً
اشارة

ثم إن المصنّف قد استدل بدليلين على استقلال العقل بالاحتياط في الأقل والأكثر الارتباطيين.

الدليل الأول

[3] إن مقتضى العلم الإجمالي بوجود تكليف اشتغلت به الذمة هو لزوم البراءة

ص: 253


1- هداية المسترشدين 3: 561؛ الفصول الغروية: 357؛ فرائد الأصول 2: 317؛ قوانين الأصول 2: 30؛ جامع المقاصد 2: 219.

لتنجزه به[1] حيث تعلق بثبوته فعلاً[2].

وتوهم[3] «انحلاله[4] إلى العلم بوجوب الأقل تفصيلاً والشك في وجوب الأكثر بدواً، ضرورة[5]

--------------------------------------

اليقينية من هذا التكليف، ولا يمكن تحصيل براءة الذمة يقيناً إلاّ بالإتيان بالأكثر، «بينهما» بين الأقل والأكثر، «أيضاً» كما كان يوجب الاحتياط عقلاً في المتباينين.

[1] أي: لتنجّز التكليف بالعلم الإجمالي.

[2] تعلق العلم الإجمالي بثبوت التكليف الفعلي، فلابد من الخروج عن عهدة هذا التكليف يقيناً، ولا يكون خروج إلاّ بالإتيان بالأكثر.

إشكال وجوابان

[3] أشار إلى هذا الشيخ الأعظم(1)

في مطاوي كلامه، وهو دليل على جريان البراءة العقلية في الأقل والأكثر الارتباطيين، وحاصله: إن العلم الإجمالي ينحلّ إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل وشك بدوي في وجوب الأكثر، وكلّما انحل العلم الإجمالي جرت أصالة البراءة في طرف الشك البدوي؛ وذلك لأن وجوب الأكثر محتمل وأما وجوب الأقل فهو معلوم على كل حال؛ لأن الأقل يجب إما بوجوب نفسي إن لم يكن الجزء المشكوك واجباً، وإما بوجوب غيري مقدمي إن كان الجزء المشكوك واجباً، حيث إن الأقل مقدمة للأكثر، وهذا الوجوب المقدمي إما بحكم العقل أو بحكم الشرع - حسب الخلاف السابق بأن مقدمة الواجب واجبة عقلاً أم شرعاً - فتحصل أن الأقل معلوم على كل حال، والأكثر محتمل، فينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل وشك بدوي في وجوب الأكثر.

[4] أي: انحلال العلم الإجمالي.

[5] دليل العلم التفصيلي بوجوب الأقل.

ص: 254


1- فرائد الأصول 2: 322.

لزوم الإتيان بالأقل لنفسه شرعاً[1] أو لغيره كذلك أو عقلاً[2]، ومعه[3] لا يوجب تنجزه لو كان متعلقاً بالأكثر» فاسدٌ قطعاً[4]، لاستلزام الانحلال المحال[5]،

--------------------------------------

[1] لو كان الواقع هو عدم وجوب الجزء المشكوك فالأقل - كأجزاء الصلاة التسعة في المثال - واجب نفسي.

[2] لو كان الواقع هو وجوب الجزء المشكوك فيكون الأقل مقدمة لتحقق الأكثر، «لغيره» أي: وجوب الأقل بالوجوب المقدمي الغيري، «كذلك» شرعاً بناءً على القول بوجوب المقدمة شرعاً، «أو عقلاً» بناءً على الصحيح من وجوب المقدمة عقلاً.

[3] أي: مع الانحلال، «لا يوجب» العلم الإجمالي، «تنجزه» تنجز التكليف، «متعلقاً بالأكثر» أي: لو كان التكليف الواقعي هو الأكثر، فإن هذا التكليف لا يتنجز - لفرض انحلال العلم الإجمالي - فيكون العقاب على ترك الأكثر عقاباً بلا بيان وهو قبيح، وهذا هو البراءة العقلية.

[4] وقد أجاب المصنف عن هذا التوهم بجوابين:

الجواب الأول: إن الانحلال يستلزم الخلف؛ وذلك لأن:

أ: الوجوب الفعلي للأقل - إما لنفسه أو لغيره - ؛ يتوقف على تنجز التكليف المعلوم إجمالاً، سواء كان ذلك التكليف متعلقاً بالأقل أم بالأكثر؛ إذ لو لم يكن الأكثر منجزاً على فرض وجوبه لم يترشح وجوب غيري للأقل.

ب: ووجوب الأقل يستلزم عدم تنجز التكليف المتعلق بالأكثر - على فرض وجوبه - فلا يكون وجوب غيري للأقل أصلاً، وهذا خلاف الفرض.

وبعبارة أخرى: وجوب الأقل يتوقف على وجوب دائر بين الأقل والأكثر، فلو أجريتم البراءة في الأكثر لا يكون هناك وجوب دائر بين الأقل والأكثر؛ وذلك لعدم وجوب الأكثر حينئذٍ، وهذا خلف.

[5] «الانحلال» فاعل «استلزام» و«المحال» مفعوله.

ص: 255

بداهة[1] توقف لزوم الأقل فعلاً - إما لنفسه أو لغيره[2] - على تنجز التكليف مطلقاً[3] ولو كان متعلقاً بالأكثر، فلو كان[4] لزومه كذلك[5] مستلزماً لعدم تنجزه إلاّ إذا كان متعلقاً بالأقل كان خلفاً.

مع أنه[6]

--------------------------------------

[1] بيان للمدعى في التوهم، وحاصله: إن الوجوب على كل حال يتوقف على تنجز التكليف، سواء كان متعلقاً بالأكثر أم بالأقل، وهذا ما أشرنا إليه في (أ).

[2] «لنفسه» لو لم يجب الأكثر، و«لغيره» لو وجب الأكثر فيكون الأقل مقدمة للأكثر.

[3] شرح «مطلقاً» بقوله: «ولو كان متعلقاً بالأكثر» أي: لابد من تنجز التكليف سواء كان في ضمن الأكثر أم في ضمن الأقل حتى نعلم بوجود تكليف فعلي بين الأقل والأكثر.

[4] أي: لو كانت النتيجة هي البراءة، فمعناها هو عدم تنجز وجوب الأكثر - حتى لو كان في الواقع هو الواجب - إذ مع جريان الحكم الظاهري لا يتنجز الحكم الواقعي، فيتنجز الأقل فقط، وهذا خلاف الفرض. والحاصل: إن وجوب الأقل على كل حال يستلزم عدم وجوب الأقل على كل حال!!

[5] «لزومه» الأقل، «كذلك» فعلاً، «لعدم تنجزه» الضمير يرجع إلى (التكليف).

[6] هذا الجواب الثاني عن التوهم، وحاصله: إنه من وجود الانحلال يلزم عدم الانحلال، وكل شيء لزم من وجوده عدمه يكون محالاً.

وبيانه: إن الانحلال يستلزم عدم تنجز التكليف بشكل مطلق، بل تنجز التكليف المتعلق بالأقل - لفرض جريان البراءة عن الأكثر - إذن لا يجب الأقل بالوجوب الغيري، بل يجب فقط بناءً على الوجوب النفسي، فالنتيجة هي عدم الانحلال؛ لأن الذي تسبّب في الانحلال هو وجوب الأقل على كل حال.

ص: 256

يلزم من وجوده عدمه[1]، لاستلزامه عدم تنجز التكليف على كل حال[2] المستلزم[3] لعدم لزوم الأقل مطلقاً[4] المستلزم[5] لعدم الانحلال، وما يلزم من وجوده عدمه محال[6].

نعم[7]،

--------------------------------------

[1] أي: من وجود الانحلال يلزم عدم الانحلال، «لاستلزامه» أي: الانحلال.

[2] أي: نتيجة الانحلال هي عدم تنجز التكليف المتعلق بالأكثر - على فرض أن الواجب الواقعي هو الأكثر - .

[3] أي: عدم التكليف على كل حال يستلزم وجوب الأقل فقط في صورة كون التكليف هو الأقل، أما لو كان التكليف الواقعي هو الأكثر فلا يجب هذا الأكثر، فلا يترشح منه وجوب غيري للأقل.

[4] أي: على كل حال - سواء وجب الأقل أم الأكثر واقعاً - .

[5] أي: عدم لزوم الأقل على كل حال سبب لعدم الانحلال.

[6] لأنه يستلزم جمع النقيضين؛ إذ الوجود سبب للعدم، والعلة والمعلول يجتمعان زماناً وإن اختلفا رتبة، فالعلة التي هي الوجود اجتمعت مع المعلول الذي هو العدم؛ وذلك جمع بين النقيضين وهو محال.

ولا يخفى رجوع كلا الجوابين إلى أمر واحد، فهما في الحقيقة تقريران لدليل الخلف.

[7] أي: لو كان للأقل مصلحة ملزمة - ولو كان منفرداً - فإن الوجوب النفسي معلوم على كل حال حتى في صورة وجوب الأكثر.

لكن هذا المورد خارج البحث؛ وذلك لرجوعه إلى الأقل والأكثر الاستقلالي؛ إذ في الارتباطي توجد مصلحة واحدة متعلقة بالمجموع من حيث المجموع، بحيث لو نقص جزء لم تتحقق أية مصلحة أصلاً.

ص: 257

إنما ينحل[1] إذا كان الأقل ذا مصلحة ملزمة[2]، فإن وجوبه حينئذٍ يكون معلوماً له، وإنما كان الترديد[3] لاحتمال أن يكون الأكثر ذا مصلحتين[4] أو مصلحة أقوى[5] من مصلحة الأقل، فالعقل في مثله وإن استقل بالبراءة بلا كلام[6] إلاّ أنه[7] خارج عما هو محل النقض والإبرام في المقام، هذا.

مع أن الغرض[8]

--------------------------------------

[1] أي: العلم الإجمالي.

[2] أي: سواء وجب الأكثر أم لا، «وجوبه» وجوب الأقل، «معلوماً له» للمكلف.

[3] أي: الشك بين الأقل والأكثر منشؤه احتمال وجود مصلحة ثانية لو أتى بالأكثر، أو مصلحة أقوى بمعنى أن الأقل له درجة من المصلحة الملزمة، والأكثر له درجة أقوى من نفس المصلحة.

[4] مصلحة في الأقل، ومصلحة في الجزء الزائد.

[5] فلو أتى بالأقل حصل على المصلحة الملزمة، ولو أتى بالجزء الزائد اشتدت المصلحة، والأقوائية إنّما تكون بقوة الملاك.

[6] لأن الأقل ذو مصلحة ملزمة على كل حال فهو معلوم، والأكثر لا يعلم مصلحة فيه فتجري البراءة عنه.

[7] إلاّ أن مثل هذا المورد هو من الأقل والأكثر الاستقلالي.

الدليل الثاني
للزوم الاحتياط عقلاً في الارتباطيين

[8] هذا دليل ثانٍ على الاحتياط العقلي في الأقل والأكثر الارتباطيين، وحاصله: إن تحصيل غرض المولى واجب - حتى لو لم يكن تكليف - كما مرّ في اشتراط قصد القربة في العبادات، حيث ذهب المصنف إلى وجوبها عقلاً؛ لتوقف

ص: 258

الداعي إلى الأمر لا يكاد يحرز إلاّ بالأكثر[1]، بناءً على ما ذهب إليه المشهور من العدلية من تبعية الأوامر والنواهي للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهي عنها، وكون الواجبات الشرعية ألطافاً في الواجبات العقلية[2]، وقد مر[3] اعتبار موافقة الغرض وحصوله عقلاً في إطاعة الأمر وسقوطه، فلابد من إحرازه في إحرازها[4]،

--------------------------------------

غرض المولى سبحانه عليها. وحين دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين فإن غرض المولى يتحقق قطعاً لو أتى بالأكثر، لكن لا يعلم تحقق غرضه لو أتى بالأقل، وحيث إن تحصيل غرضه واجب، فيجب الاحتياط بالإتيان بالأكثر.

[1] لأن الأكثر جائز الإتيان به، بل حتى القائلون بالبراءة قالوا بحسن الاحتياط بالإتيان بالأكثر.

نعم، لو احتمل حرمة الأكثر فإنه يدور الأمر بين المحذورين - حرمة أو وجوب الأكثر - فيخرج عن فرض البحث ويدخل في الفصل السابق.

[2] هذا اصطلاح منهم، ومعناه: أن العقل يستقل بلزوم إحراز المصالح الملزمة والاجتناب عن المفاسد الملزمة، وبما أن العقل لا يعرف أكثر المصالح والمفاسد، فإن أوامر الشارع ونواهيه هي لطف منه بالعباد، حيث تكشف لهم عن مواطن المصلحة والمفسدة.

فمعنى العبارة: «الواجبات الشرعية» حيث تكشف عن المصلحة الواقعية في متعلقها «ألطافاً» من الشارع للعباد - واللطف هنا بمعنى البِرّ - «في» أي: بالنسبة إلى «الواجبات العقلية».

[3] قد مرّ عكس هذا وهو اعتبار إطاعة الأمر في موافقة الغرض، فراجع بحث التعبدي والتوصلي، حيث ذهب المصنف إلى وجوب قصد القربة في العبادات عقلاً؛ لتوقف الغرض من الأمر عليها.

[4] أي: لابدّ من إحراز حصول الغرض في إحراز الطاعة.

ص: 259

كما لا يخفى.

ولا وجه للتفصي عنه[1] تارةً بعدم ابتناء[2] مسألة البراءة والاحتياط على ما ذهب إليه مشهور العدلية[3]، وجريانها على ما ذهب إليه الأشاعرة المنكرين

--------------------------------------

إشكالان
اشارة

[1] أي: عن هذا الدليل الثاني، حيث أشكل عليه الشيخ الأعظم(1)

بإشكالين:

الإشكال الأول: إن مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين قد بحث فيها كافة الطوائف، بما فيهم الأشاعرة المنكرون للحسن والقبح العقليين، وللمصلحة والمفسدة في متعلق التكليف، وكذا بحث فيها بعض العدلية الذين ذهبوا إلى عدم لزوم وجود مصلحة في المتعلق، بل اكتفوا بوجود المصلحة في نفس التكليف، فلابد من الاستدلال بدليل مقبول للأطراف، وهذا الدليل الثاني غير مقبول عندهم مبنىً.

الإشكال الثاني: إنه كما لا يعلم بتحقق الغرض لو أتى بالأقل كذلك لا يعلم تحققه لو أتى بالأكثر!! بيانه: إنا وإن نفينا لزوم قصد الوجه لعدم الدليل عليه، لكنّا نحتمل اشتراطه واقعاً في العبادات، وقصد الوجه يتوقف على العلم بالواجب، ومع عدم العلم بوجوب الأكثر فإن المكلف لا يمكنه الإتيان بالجزء المشكوك بقصد الوجه، وحينئذٍ لا يعلم تحقق الغرض لو أتى بالأكثر.

[2] أي: المسألة مما بَحَث فيها الكل، وسواء قلنا بالتبعية أم لم نقل بها فإن البعض ذهب إلى البراءة والبعض إلى الاشتغال، من غير ارتباط مسألة الارتباطيين بمسألة التبعيّة.

[3] والحال أن هذا الدليل متوقف على مبناهم، من أن الأوامر والنواهي إنّما هي بغرض وصول المكلف إلى المصلحة في المتعلق، أو الاجتناب عن المفسدة فيه، «وجريانها» أي: جريان هذه المسألة.

ص: 260


1- فرائد الأصول 2: 319 - 320.

لذلك[1]، أو بعض العدلية(1)

المكتفين بكون المصلحة في نفس الأمر دون المأمور به[2].

وأخرى[3] بأن حصول المصلحة واللطف[4] في العبادات لا يكاد يكون إلاّ بإتيانها على وجه الامتثال[5]، وحينئذٍ كان لاحتمال اعتبار معرفة أجزائها تفصيلاً ليؤتى بها مع قصد الوجه مجال[6]، ومعه[7]

--------------------------------------

[1] «لذلك» لكون الواجبات الشرعية ألطافاً في الواجبات العقلية.

[2] أي: لا يلزم وجود مصلحة في المتعلق، بل يكفي وجود مصلحة في نفس إنشاء الحكم، نظير الأوامر الامتحانية التي لا مصلحة في المتعلق - كذبح إسماعيل - وإنما المصلحة في نفس إصدار الأمر، حيث الغرض هو الامتحان فقط.

[3] إشارة إلى الإشكال الثاني.

[4] لأن لطف الشارع كان ببيان وجود المصلحة عبر الأمر، و«اللطف» عطف تفسيري.

[5] أي: قصد أمر المولى.

[6] «مجال» اسم كان في قوله: (وحينئذٍ كان لاحتمال...) ومقصوده: إن قصد الوجه محتمل، فلا يمكن القطع بتحصيل الغرض حتى ولو أتى بالأكثر.

إن قلت: الشيخ ينفي لزوم قصد الوجه.

قلت: نفي لزومه إنّما هو لعدم قيام الدليل عليه، ولكن يحتمل اشتراطه واقعاً، وحيث إن كلامنا الآن حول الدليل العقلي للاحتياط أو البراءة، فإن مجرد احتمال دخل قصد الوجه في الغرض يكون سبباً لعدم القطع بتحقق ذلك الغرض حتى لو أتى بالأكثر؛ لأنه لا يتمكن من الإتيان بالجزء المشكوك بقصد الوجه؛ لعدم علمه بكونه مأموراً به.

[7] أي: مع هذا الاحتمال - باشتراط قصد الوجه - .

ص: 261


1- الفصول الغروية: 337.

لا يكاد يقطع[1] بحصول اللطف والمصلحة الداعية إلى الأمر، فلم يبق[2] إلاّ التخلص عن تبعة مخالفته[3] بإتيان ما علم تعلقه به، فإنه واجب عقلاً[4] وإن لم يكن في المأمور به مصلحة ولطف رأساً[5]، لتنجزه بالعلم به إجمالاً[6]. وأما الزائد عليه[7] - لو كان - فلا تبعة على مخالفته من جهته، فإن العقوبة[8] عليه بلا بيان.

--------------------------------------

[1] أي: لا يمكن القطع بحصول الغرض سواء أتى بالأقل أم أتى بالأكثر، أما الأقل فلاحتمال وجوب الأكثر، وأما الأكثر فلاحتمال اشتراط قصد الوجه في الجزء المشكوك.

[2] أي: حيث لم يمكن العلم بتحصيل الغرض فنرجع إلى الأصل العملي، وهو يقتضي الإتيان بما علم أنه جزء - وهو الأقل - وعدم لزوم الإتيان بالأكثر.

[3] أي: مخالفة الأمر حيث يتبعه العقاب والذم، «بإتيان ما» أي: الأجزاء التي، «علم تعلقه» أي: التكليف، «به» الضمير يرجع إلى الموصول - أي: ما - .

[4] أي: الإتيان بما علم وجوبه من الأجزاء واجب بحكم العقل.

[5] أي: حتى وإن كان الواقع هو وجوب الأكثر، فلا تكون للأقل مصلحة أصلاً.

[6] أي: إنّما وجب الإتيان بالأقل المعلوم لأجل تنجز هذا الأقل، «به» بسبب العلم الإجمالي.

[7] «عليه» على ما علم، «لو كان» أي: لو كان واجباً واقعاً، «مخالفته» أي: مخالفة الأمر، «من جهته» من جهة الزائد، أي: إن مخالفة التكليف الواقعي من جهة عدم الإتيان بالزائد لا عقوبة فيه. نعم، مخالفة الواقع من جهة أخرى - كترك الامتثال رأساً - فيه عقوبة.

[8] وهذا هو جوهر دليل البراءة العقلية في الارتباطيين، أي: الجزء الزائد لم يصل حوله بيان من الشارع إلى المكلف، فالعقاب على تركه عقاب بلا بيان،

ص: 262

وذلك[1] ضرورة أن حكم العقل بالبراءة - على مذهب الأشعري - لا يجدي من ذهب إلى ما عليه المشهور من العدلية، بل[2] من ذهب إلى ما عليه غير المشهور، لاحتمال أن يكون الداعي إلى الأمر ومصلحته على هذا المذهب أيضاً هو ما في الواجبات من المصلحة وكونها ألطافاً، فافهم[3].

--------------------------------------

«عليه» أي: على مخالفة الجزء الزائد.

الجواب عن الإشكال الأول

[1] أي: عدم جدوى التفصّي لأجل عدم ورود الإشكالين.

أما الإشكال الأول: فلأنا نتكلم ونستدل على مبنانا، ولا يهمنا كلام الأشعري ولا بعض العدلية، وفي الاستدلالات كما يصح الاستدلال البنائي كذلك يصح الاستدلال حسب المبنى، فمن قال بما هو الحق من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد لابدّ من ذهابه إلى الاحتياط العقلي - كما شرحناه - .

[2] أي: بل حكم العقل بالبراءة لا يجدي من ذهب إلى ما عليه غير المشهور من العدلية؛ وذلك لأن هذا البعض كما يحتمل وجود المصلحة في نفس إنشاء التكليف، كذلك يحتمل وجود المصلحة في المتعلق، فهو لا ينفي المصلحة في المتعلق، بل يحتملها، وحينئذٍ فإن أتى بالأكثر يقطع بحصول غرض المولى - سواء تعلق الغرض بالتكليف أم بالمتعلق - وإن أتى بالأقل لا يقطع بحصول غرضه، فيحكم العقل بالاحتياط.

[3] لعله إشارة إلى أن الغرض لو كان في نفس التكليف فهو غير مقدور للمكلّف؛ إذ هو من أفعال المولى، أما إذا كان الغرض في المتعلق فهو مقدور للمكلّف، ومع عدم العلم بوجود غرض في المتعلق - بحيث يطلب من العبد إيجاده - يكون المورد مجرى لأصالة البراءة. وبعبارة أخرى: لا يعلم المكلف بوجود غرض في فعله حتى يجب عليه تحصيله.

ص: 263

وحصول اللطف[1] والمصلحة في العبادة وإن كان يتوقف على الإتيان بها على وجه الامتثال[2]، إلاّ أنه[3] لا مجال لاحتمال اعتبار معرفة الأجزاء وإتيانها على وجهها، كيف[4]! ولا إشكال في إمكان الاحتياط هاهنا[5] كما في المتباينين، ولا يكاد يمكن[6] مع اعتباره. هذا.

مع وضوح[7]

--------------------------------------

خمسة أجوبة عن الإشكال الثاني

[1] جواب عن التفصي الثاني للشيخ الأعظم، وقد أجاب المصنف عنه بخمسة أجوبة: الجواب الأول: إنه لا إشكال في إمكان الاحتياط في الأقل والأكثر الارتباطيين، وحتى القائلون بالبراءة لا ينكرون حسن الاحتياط بالإتيان بالأكثر.

ولكن احتمال اعتبار قصد الوجه في الأجزاء يمنع عن إمكان الاحتياط، حتى لو أتى بالأكثر؛ وذلك لعدم التمكن من قصد الوجه في الجزء المشكوك - لعدم العلم بوجود أمر فيه - وحيث اتفقوا على إمكان الاحتياط انكشف عدم لزوم قصد الوجه في الأجزاء المشكوكة.

[2] أي: بقصد القربة - التي تكون بقصد الأمر الصادر عن الشارع - فإن العبادة من غير قصد القربة باطلة، ولا مصلحة فيها، «الإتيان بها» بالعبادة.

[3] أي: لا يحتمل أصلاً لزوم قصد الوجه في أجزاء العبادة، «معرفة الأجزاء» أي: معرفة أنها جزء من الواجب، «إتيانها» الأجزاء، «على وجهها» أي: بقصد وجه الأجزاء، بمعنى قصد الأمر الوارد عليها.

[4] أي: كيف يحتمل اعتبار معرفة الأجزاء والإتيان بها بقصد الوجه.

[5] في الأقل والأكثر الارتباطيين.

[6] أي: لا يكاد يمكن الاحتياط، «مع اعتباره» مع اعتبار قصد الوجه؛ وذلك لعدم العلم بأنه واجب، فلا يتمكن قصد أمره أصلاً.

[7] هذا هو الجواب الثاني، وحاصله: إنّه لا يراد بقصد الوجه - في كلام من قال

ص: 264

بطلان احتمال اعتبار قصد الوجه كذلك[1]، والمراد ب«الوجه» في كلام من صرّح بوجوب إيقاع الواجب على وجهه ووجوب اقترانه به[2] هو وجه نفسه[3] من وجوبه النفسي، لا وجه أجزائه[4] من وجوبها الغيري[5] أو وجوبها العرضي[6]. وإتيان[7]

--------------------------------------

به - قصد الوجه في كل جزء، بل المراد الإتيان بالكل لوجوبه النفسي، فلا إشكال في عدم وجوب قصد الوجه في الأجزاء، وحينئذٍ يمكن الإتيان بالأكثر مع قصد الوجه حتى لو كانت بعض الأجزاء مشكوكة.

[1] «كذلك» أي: في كل واحد من الأجزاء.

[2] أي: اقتران الواجب بالوجه.

[3] أي: وجه نفس الواجب - ككل - «من وجوبه النفسي» بيان لوجه الواجب، فالمراد من وجه الواجب هو قصد الواجب النفسي في العبادة، لا وجوب قصد الواجب الغيري في الجزء، بناءً على أن الأجزاء مقدمة للكل، أو قصد الواجب الضمني في الجزء بناءً على أن وجوب الكل هو نفس وجوب الأجزاء.

[4] أي: لا قصد الوجوب في أجزاء الواجب، وقوله: «من وجوبها» بيان لكيفية قصد الوجه في الأجزاء.

[5] بناءً على ما ذهب إليه البعض من أن الأجزاء مقدمة للكل، فتكون الأجزاء واجبة؛ لأنها مقدمة الواجب، ومقدمة الواجب وجوبها غيري لا نفسي.

[6] بناءً على المبنى الصحيح من أن الوجوب النفسي في الكل ينبسط على الأجزاء، فالأجزاء واجبة بنفس وجوب الكل، لا بوجوب آخر غيره.

وإنّما سماه (العرضي) لأن المقصود أولاً بالذات هو الكل، فالأجزاء تكون مقصودة بالعَرَض، حيث إن الكل يتشكل منها.

[7] أي: بعد أن أثبتنا عدم لزوم قصد الوجه في الأجزاء، نقول: إنه يمكن الإتيان بالعبادة بقصد الوجه حتى لو شك في بعض الأجزاء، وبذلك يتحقق

ص: 265

الواجب مقترناً بوجهه غايةً ووصفاً[1] بإتيان الأكثر[2] بمكان من الإمكان، لانطباق الواجب عليه[3] ولو كان هو الأقل، فيتأتّى من المكلف معه[4] قصد الوجه.

واحتمال[5] اشتماله[6] على ما ليس من أجزائه ليس بضائر[7] إذا قصد وجوب

--------------------------------------

الغرض، فمع الإتيان بالأكثر بقصد الوجوب يقطع المكلف بتحصيل غرض المولى، حتى وإن كان الواجب هو الأقل. فلا يصح ما ذهب إليه الشيخ الأعظم من عدم إمكان القطع بتحقق الغرض على كل حال.

[1] «غاية» كأن يقصد العبادة لوجوبها، و«وصفاً» كأن يقصد العبادة الواجبة، فلا فرق في إمكان قصد الوجه بين قصد الوجوب بنحو الغاية أو الوصف.

[2] أي: يأتي بالواجب عبر الإتيان بالأكثر، فيقطع بأنه أدّى الواجب، وفرّغ ذمته منه.

[3] على الأكثر «ولو كان هو» الواجب، أي: حتى لو كان الواجب هو الأقل فإن الأكثر ينطبق عليه الواجب؛ وذلك لاشتمال الأكثر على الأقل.

[4] أي: مع الإتيان بالأكثر.

[5] بيان إشكال، وحاصله: إنه كيف يمكن قصد الوجه في الأكثر مع أنه يحتمل أن يكون الأقل هو الواجب، فيكون قصد الوجه في فعل يتضمن ما ليس بواجب؟ فهل هذا ممكن؟

[6] «اشتماله» اشتمال الأكثر، «أجزائه» أجزاء الواجب.

[7] جواب عن الإشكال، وحاصله: إنه لا منافاة بين وجوب الكل إجمالاً مع عدم وجوب بعض الأجزاء؛ وذلك لأن الجزء قد يكون جزءاً للماهية، وقد يكون جزءاً للفرد الخارجي، مثلاً: (الإنسان هو حيوان ناطق)، فالحيوانية والناطقية هما أجزاء الماهية بحيث لا يوجد إنسان مع عدم تحقق أحدهما، أما الأعضاء كاليد والرجل فهي أجزاء الفرد - أي: الوجود الخارجي - فهي أجزاء للإنسان لكنها ليست أجزاء ماهيته، فلا ينتفي الإنسان بقطع اليدين والرجلين أو زيادة ثلاثة أرجل أو

ص: 266

المأتي على إجماله[1]، بلا تمييز ما له دخل في الواجب من أجزائه[2]، لا سيما[3] إذا دار الزائد بين كونه جزءاً لماهيته[4] وجزءاً لفرده حيث ينطبق الواجب على المأتي حينئذٍ بتمامه وكماله[5]، لأن الطبيعي يصدق على الفرد بمشخصاته[6].

--------------------------------------

أيدي - مثلاً - وفي ما نحن فيه الصلاة لها أجزاء ماهية تنتفي الصلاة بانتفائها كالأركان، ولها أجزاء الأفراد، أي: الفرد الخارجي الذي تتحقق به الماهية، فلو صلى صلاة تحتوي على قنوت مثلاً - مع أن القنوت جزء مستحب - فإن هذه الصلاة حقّقت الماهية، مع أنها تضمنت أجزاء غير واجبة - هي مشخصات فردية للصلاة الخارجية - .

[1] أي: بلا تعيين أن الواجب هو الأقل أو الأكثر، وقوله: «بلا تمييز...» شرح لقوله: «على إجماله».

[2] أي: أجزاء المأتي به.

[3] إنّما قال «لا سيما» لأن الزائد المشكوك قد يدور أمره بين ثلاثة احتمالات: أن يكون جزء واجب، أو جزء مستحب، أو ليس بجزء وإنما وُجد اتفاقاً، مثلاً: (الركوع) جزء واجب، و(القنوت) جزء مستحب، و(جلسة الاستراحة) واجب مستقل - فرضاً - . فالصلاة مع القنوت ينطبق عليها الصلاة الواجبة؛ لأن القنوت جزء من فرد الصلاة الخارجي، وإن لم يكن جزءاً من ماهية الصلاة، وأما الصلاة مع جلسة الاستراحة، فإنّ الفرد مشتمل على الواجب قطعاً، وإن لم تكن الجلسة من أجزائه.

[4] «لماهيته» لماهية الواجب، «لفرده» لفرد الواجب.

[5] أي: هذا الفرد الخارجي المتضمن للقنوت هو الواجب؛ لأن القنوت جزء للفرد الخارجي.

[6] أي: مع ما له من المشخصات، فالإنسان يصدق على زيد بما هو فرد خارجي متشكل من أعضاء وجوارح، فلا يصح أن يقال: إن الإنسان لا ينطبق على أعضاء زيد مثلاً.

ص: 267

نعم[1]، لو دار[2] بين كونه جزءاً أو مقارناً، لما كان[3] منطبقاً عليه بتمامه لو لم يكن جزءاً. لكنه[4] غير ضائر، لانطباقه عليه أيضاً في ما لم يكن ذاك الزائد جزءاً، غايته[5] لا بتمامه بل بسائر أجزائه. هذا.

مضافاً[6]

--------------------------------------

[1] أي: إذا دار الزائد المشكوك بين كونه جزء الواجب أو ليس بجزء أصلاً - لا جزء الماهية ولا جزء الفرد - فحينئذٍ لا يعلم انطباق الواجب على كل الفرد الخارجي، ولكن يُعلم بأن الواجب في ضمن هذا الفرد، كما لو شككنا في شيء أنه من أعضاء زيد أو هو ملاصق له من غير أن يكون عضوه - كما لو لم نعلم بأن يده حقيقيّة أم اصطناعيّة - فإن هذا الوجود الخارجي يتضمن الإنسان حتى وإن لم نعلم بأن اليد جزء للفرد أم شيء أجنبي.

[2] أي: لو دار الزائد بين كون ذلك الزائد، «جزءاً» للماهية أو للفرد، «أو مقارناً» أي: كان الواجب ظرفاً له من غير ارتباطه بالواجب.

[3] ما نافيه، أي: لما كان الواجب منطبقاً على كل هذا الفرد الخارجي في صورة عدم وجوب الزائد، «لو لم يكن» الزائد.

[4] «لكنه» أي: عدم الانطباق بتمامه وكماله، «غير ضائر» بقصد الوجه، «لانطباقه» الواجب، «عليه» أي: على هذا الفرد الخارجي، «أيضاً» أي: كما في حال كون الزائد جزءاً.

[5] أي: غاية الأمر عدم الانطباق على الكل، لكن ينطبق على سائر الأجزاء التي هي جزء الماهية أو الفرد.

[6] هذا هو الجواب الثالث عن التفصي الثاني للشيخ الأعظم، وحاصله: إن قصد الوجه - سواء قصد وجه الواجب كله أم قصد وجه الأجزاء - مما نقطع بعدم اعتباره، فلا نحتمل دخله في الغرض أصلاً؛ وذلك لأنه لو كان واجباً لتمَّ بيانه في

ص: 268

إلى أن اعتبار قصد الوجه من رأس[1] مما يقطع بخلافه.

مع[2] أن الكلام في هذه المسألة لا يختص بما[3] لابد أن يؤتى به على وجه الامتثال من العبادات.

مع[4]

--------------------------------------

الروايات وبشكل كبير - لغفلة غالب الناس عنه - فعدم وجود أي عين وأثر له في الروايات دليل قاطع على عدم اعتباره أصلاً.

[1] لا في الواجب ولا في أجزائه.

[2] هذا الجواب الرابع، وحاصله: إن كلامنا في الأقل والأكثر الارتباطيين عام في التعبديات والتوصليات، والتفصي الثاني للشيخ خاص بالعبادات؛ لأن قصد الوجه - على القول به - خاص بالعبادات.

[3] أي: بواجب لابد أن يؤتى به، «من العبادات» بيان ل- «ما لابد أن...».

[4] هذا الجواب الخامس، وحاصله: إن المكلف إذا قطع بعدم تحقق غرض المولى - حتى وإن امتثل - فإنه يسقط عنه التكليف قطعاً، كما لو أمر المولى عبده بالإتيان بماء وكان غرضه شربه للارتواء، ثم علم العبد بأن غيره قد ناول المولى ماءً وشربه فارتوى، فإنه لا يجب على العبد امتثال التكليف؛ وذلك لسقوطه بتحقق غرض المولى.

وهنا لا يمكن تحقق غرض المولى أصلاً؛ لأنه مع وجوب الأكثر واقعاً لا يكون الأقل محققاً للغرض - لفرض وجوب الأكثر - كما لا يكون الأكثر محققاً للغرض - لفرض عدم إمكان قصد الوجه - لأن قصد الوجه يتوقف على العلم بالأمر، مع أنه لا علم بالأمر بالزائد - وحينئذٍ يسقط التكليف من رأس، فلا يصح قول الشيخ الأعظم(1):

فلم يبق إلاّ التخلص عن تبعة مخالفته بإتيان ما علم تعلقه به - يعنى الأقل - .

ص: 269


1- فرائد الأصول 2: 321.

أنه لو قيل باعتبار قصد الوجه في الامتثال فيها[1] على وجه ينافيه التردد والاحتمال[2] فلا وجه معه للزوم مراعاة الأمر المعلوم أصلاً ولو بإتيان الأقل لو لم يحصل الغرض[3]، وللزم[4] الاحتياط بإتيان الأكثر مع حصوله[5] ليحصل القطع بالفراغ بعد القطع بالاشتغال، لاحتمال بقائه مع الأقل[6] بسبب بقاء غرضه، فافهم[7].

--------------------------------------

ولكن هذا الجواب محل تأمل كما سيأتي توضيحه في قول المصنف: (فافهم).

[1] أي: في أجزاء العبادات.

[2] أي: لا يمكن قصد الوجه مع عدم العلم بالوجوب، «والاحتمال» عطف تفسيري على قوله: (التردد)، «فلا وجه معه» أي: مع التردد والاحتمال.

[3] أي: لو لم يتمكن من تحقيق الغرض.

[4] أي: ولو أمكن تحصيل الغرض بأن قيل بكفاية قصد الوجه في الواجب من غير لزوم قصد الوجه في كل جزء، أو قيل: إنه يتمكن من القصد الإجمالي بأن يأتي بالجزء المشكوك بقصد الرجاء - نظير ما مرّ من الاحتياط في العبادات المشكوكة من أصلها وأنه يمكن قصد القربة فيها إجمالاً رجاءً - فحينئذٍ مع إمكان تحصيل الغرض فلابد من الإتيان بالأكثر؛ لأنه مع الأكثر يقطع بتحقيق الغرض، ومع إتيان الأقل لا يقطع به.

[5] أي: مع حصول الغرض.

[6] أي: احتمال بقاء التكليف في ذمته مع الإتيان بالأقل؛ وذلك لاحتمال كون التكليف بالأكثر واقعاً لا بالأقل، فمع الإتيان بالأقل لم يتحقق غرض المولى، فيبقى التكليف بحاله.

[7] لعله إشارة إلى إمكان تحقق الغرض؛ وذلك لأن الشقوق ثلاثة لا اثنان:

1- كون الأكثر واجباً واقعاً، فلا يتحقق الغرض بالأقل.

ص: 270

هذا بحسب حكم العقل.

وأما النقل[1]:

--------------------------------------

2- كون الأكثر واجباً واقعاً، مع وجوب قصد الوجه، فلا يتحقق الغرض بالأكثر.

3- كون الأقل واجباً واقعاً، فإن الأقل يحقق الغرض.

ومع وجود هذا الاحتمال الثالث لا يصح القول بأنه يقطع بعدم إمكان تحصيل الغرض بناءً على القول بلزوم قصد الوجه.

البراءة شرعاً في الأقل والأكثر الارتباطيين
اشارة

[1] لا يخفى أنه مع استقلال العقل بشيء لا يعقل مخالفة النقل له؛ لأن العقل حجة باطنة، فلا يمكن أن يتعارض مع الحجة الظاهرة، ومن هنا التزم المصنف في الهامش بعدم فعلية حكم العقل، وبعبارة أخرى: إن حكم العقل تقديري، فلا يتنافى مع حكم الشرع الفعلي بالبراءة.

قال في الهامش(1): (لكنه لا يخفى أنه لا مجال للنقل في ما هو مورد حكم العقل بالاحتياط - وهو ما علم إجمالاً بالتكليف الفعلي - ضرورة أنه) للشأن (ينافيه) أي: ينافي حكم العقل (رفع الجزئية المجهولة) بحكم الشرع (وإنّما يكون مورده) مورد حكم الشرع (ما إذا لم يُعلم به) بحكم العقل (كذلك) فعلياً، أي: إذا لم يكن حكم العقل فعلياً فيمكن حكم الشرع بالبراءة. (وبالجملة الشك في الجزئية والشرطية وإن كان جامعاً بين الموردين) أي: الفعلية وعدمها (إلاّ أن مورد حكم العقل القطع بالفعليّة، ومورد النقل هو مجرد الخطاب بالإيجاب) وهو ما لم يكن التكليف فعلياً، بل في مرحلة الإنشاء، (فافهم) ولعله إشارة إلى أن الأوامر ظاهرة في الفعلية دائماً، ولازم ذلك عدم جريان البراءة الشرعية في الأقل والأكثر الارتباطيين أصلاً.

ص: 271


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 250.

فالظاهر أن عموم[1] مثل حديث الرفع قاضٍ برفع جزئية ما شك في جزئيته[2]؛ فبمثله[3] يرتفع الإجمال والتردد عما تردد أمره بين الأقل والأكثر، ويعينه في الأول[4].

لا يقال[5]: إن جزئية السورة المجهولة(1)

- مثلاً - ليست بمجعولة[6]، وليس لها

--------------------------------------

[1] فهو كما يشمل رفع أصل التكليف كذلك يشمل رفع الجزئية ونحوها، وبعبارة أخرى: كما يشمل الأحكام التكليفية كذلك يشمل الأمور الوضعيّة.

[2] لا يخفى أنه يمكن رفع وجوب الجزء بحديث الرفع، حيث نشك في وجوب هذا الجزء فنجري فيه أصالة البراءة، لكن لمّا طال النقض والإبرام في جريان البراءة لنفي وجوب الجزء لذلك رجح المصنف إجراء البراءة في نفي الجزئية.

[3] أي: بمثل حديث الرفع، والمراد فبحديث الرفع وأمثاله، «والتردد» عطف تفسيري لقوله: (الإجمال)، «عما» أي: عن واجب، «أمره» الضمير للموصول.

[4] الضمير يرجع إلى (ما تردد أمره...) أي: يعيّن حديث الرفع وأمثاله التكليف في الأقل، وهذا التعيين حكم ظاهري.

إشكال وجوابه

[5] حاصل الإشكال: إ ن الرفع إنّما يُعقل في مورد أمكن الوضع فيه، ولا معنى للرفع في ما لا يمكن وضعه، وقد مرّ تفصيل ذلك في أول بحث البراءة في قول المصنف: (لا يقال المؤاخذة ليست من الآثار الشرعية... الخ)، فلابد من كون الشيء مجعولاً شرعاً كالتكليف، أو كونه ذا أثر شرعي حتى يكون رفعه باعتبار رفع أثره.

والجزئية أمر انتزاعي من واقع خارجي - كزوجية الأربعة - فليست بوضع الشارع بما هو شارع، كما أنه ليس للجزئية أثر شرعي حتى يمكن رفعها ووضعها باعتبار ذلك الأثر.

[6] شرعاً حتى يمكن رفعها بحديث الرفع وأمثاله.

ص: 272


1- في نسخة: «المنسية».

أثر مجعول[1]، والمرفوع بحديث الرفع إنما هو المجعول بنفسه أو أثره[2]، ووجوب الإعادة[3] إنما هو[4] أثر بقاء الأمر الأول[5] بعد العلم[6]، مع أنه[7] عقلي، وليس إلاّ من باب وجوب الإطاعة عقلاً.

--------------------------------------

[1] مثلاً: حياة زيد ليست مجعولة شرعاً، بل هي أمر تكويني، ولكن بما أن للحياة آثاراً، كوجوب نفقة زوجته وحفظ أمواله وعدم تقسيمها بين الورثة، فلذا تجري في حياة زيد الأصول الشرعية، مثل: جعل حياته - اعتباراً - بالاستصحاب مثلاً.

[2] أي: المجعول بأثره.

[3] الغرض هو دفع توهم، أن الجزئية لها أثر شرعي، وهو وجوب الإعادة، فمن أتى بالصلاة بدون السورة يجب عليه إعادتها لو كانت جزءاً، ولا تجب الإعادة إن لم تكن جزءاً. وحاصل الدفع: إن وجوب الإعادة:

أولاً: ليس أثراً للجزئية، بل هو أثر بقاء التكليف، فحينما علم بأن السورة كانت جزءاً وأنه لم يأت بها وجب عليه الإعادة؛ لأن الأمر الظاهري لا يجزي عن الواقع بعد انكشافه.

وثانياً: وجوب الاعادة ليس أثراً مجعولاً شرعياً؛ لأنه مع عدم أداء التكليف يحكم العقل بلزوم الإعادة لكي تتحقق إطاعة المولى.

[4] إشارة إلى الدفع الأول، «هو» وجوب الإعادة.

[5] مقصوده الأمر بالتكليف، وإنّما عبّر «بالأول» لأنه مع خروج الوقت يجب القضاء بأمر ثانٍ.

[6] أي: بعد العلم بالتكليف الواقعي. نعم، ما دام لم يعلم فوظيفته العمل بالحكم الظاهري - وهو الأقل - .

[7] إشارة إلى الدفع الثاني، «أنه» أن وجوب الإعادة؛ إذ هذا الحكم لأجل إطاعة أمر المولى وامتثاله، وطرق الطاعة عقلية - كما مرّ مراراً - .

ص: 273

لأنه يقال[1]: إن الجزئية وإن كانت غير مجعولة بنفسها، إلاّ أنها مجعولة بمنشأ انتزاعها[2]، وهذا كافٍ في صحة رفعها.

لا يقال[3]: إنما يكون ارتفاع الأمر الانتزاعي برفع منشأ انتزاعه[4]، وهو الأمر الأول، ولا دليل آخر على أمر آخر بالخالي عنه[5].

لأنه يقال[6]:

--------------------------------------

[1] حاصله: إن الجعل الشرعي قسمان:

1- جعل مباشرة، كإيجاب الصلاة - مثلاً - .

2- جعل بالواسطة، أي: جعل منشأ الانتزاع.

وما نحن فيه (الجزئية) وإن لم تكن مجعولة بنفسها - لأنها أمر انتزاعي - إلاّ أن منشأ الانتزاع وهو وجوب هذا الجزء كان أمراً شرعياً، فحينما يقول الشارع: السورة واجبة في الصلاة ننتزع (الجزئية) من أمره.

[2] وهو إيجاب الشارع لها.

إشكال آخر وجوابه

[3] إشكال آخر على إجراء البراءة عن جزئية المشكوك الدائر أمره بين الأقل والأكثر، وحاصله: إن منشأ انتزاع جزئية السورة - مثلاً - هو الأمر بالصلاة، وارتفاع أمر الصلاة يعنى عدم وجوبها لا في ضمن الأكثر ولا في ضمن الأقل، وهذا لا يلتزم به أحد إطلاقاً.

[4] مثلاً: لو أردنا رفع الزوجية فلابد من رفع الأربعة - مثلاً - فبانتفاء الأربعة تنتفي الزوجية، «وهو» أي: منشأ انتزاع جزئية السورة في المثال، «الأمر الأول» أي: الأمر بأصل الصلاة.

[5] أي: بالخالي عن الأمر الانتزاعي، وفي المثال: لا دليل على الأمر بالصلاة من غير سورة!!

[6] حاصل الجواب: إن في قولنا: (الصلاة الواجبة) شيئين:

ص: 274

نعم[1]، وإن كان ارتفاعه بارتفاع منشأ انتزاعه، إلاّ أن نسبة حديث الرفع[2] - الناظر[3] إلى الأدلة الدالة على بيان الأجزاء - إليها نسبة الاستثناء[4]،

--------------------------------------

1- الصلاة - وهي متعلق الوجوب وموضوعه - .

2- الوجوب - وهو الحكم - .

لا شك أن الوجوب أمر بسيط وحداني؛ لأن الأحكام بسيطة غير مركبة، وكذلك لا شك في كون المتعلق مركباً، وهذا التركيب إنما هو بجعل من الشارع، ومنشأ انتزاع الجزئية هو جعل الشارع السورة - مثلاً - من مكونات الصلاة المركبة، فبحديث الرفع وأمثاله يرفع كون السورة من المكونات، وبذلك ترتفع الجزئية.

فتحصل: أن كل مكوّن من مكونات الصلاة يكون جزءاً إلاّ في صورة الجهل، فلا يكون جزءاً ظاهراً.

[1] أي: صحيح أن الأمر الانتزاعي يرتفع بارتفاع منشأ انتزاعه، «ارتفاعه» ارتفاع الأمر الانتزاعي - كجزئية السورة مثلاً - .

[2] المقصود أن حديث الرفع لا يرفع وجوب الصلاة، فإنها معلومة بلا إشكال، فلا تصل النوبة إلى البراءة، وإنما حديث الرفع ناظر إلى الأدلة المُبيّنة لأجزاء الصلاة - أي: متعلق الوجوب لا نفس الوجوب - .

[3] أي: لحديث الرفع حكومة على تلك الأدلة؛ لأن الحكومة هي كون الدليل الثاني ناظراً إلى الدليل الأول فيوسعه أو يضيقه، كقوله: (لا شك لكثير الشك) الناظر إلى أدلة الشكيّات.

وإنّما ذكر المصنف «الناظر» لأن بعضهم عبّر (بالورود) - وهو ما إذا كان الدليل الثاني رافعاً لموضوع الدليل الأول - وحيث إن ما نحن فيه من الحكومة لا الورود نبّه المصنف على ذلك.

[4] أي: الجمع بين دليل الأجزاء ودليل الرفع يقتضي الحكم بالجزئية إلاّ في مورد الجهل، فلا يحكم بحسب الظاهر فيها بالجزئية.

ص: 275

وهو معها[1] يكون دالة على جزئيتها إلاّ مع الجهل بها، كما لا يخفى، فتدبر جيداً.

وينبغي التنبيه على أمور:

الأول[2]: إنه ظهر مما مر[3] حال دوران الأمر بين المشروط بشيء ومطلقه[4]، وبين الخاص - كالإنسان - وعامه - كالحيوان[5] -،

--------------------------------------

[1] عطف تفسيري لبيان نسبة الاستثناء، أي: «هو» حديث الرفع، «معها» مع الأدلة الدالة على بيان الأجزاء، «جزئيتها» أي: جزئية الأجزاء، «بها» بالجزئية.

تنبيهات
التنبيه الأول: الشك في القيد

[2] يبحث في هذا التنبيه حول الشك في القيد، وذلك في موردين:

1- الشك في الشرط، كما لو شككنا في اشتراط صلاة الميت بالطهارة، وهذا مرجعه إلى الشك في التكليف الزائد - كما سيأتي توضيحه - .

2- الشك في التخصيص، كما لو شككنا بأن الواجب الإتيان بالحيوان مطلقاً أم الفرس، ومرجع هذا إلى المتباينين - كما سيتبيّن - .

وحاصل ما يذهب إليه المصنف هو: جريان الاشتغال العقلي في كلا الموردين، وأما البراءة الشرعية فإنها في الشرط ولا تجري في الخاص.

[3] في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، وأن العقل يحكم بالاحتياط؛ للعلم الإجمالي؛ ولحفظ غرض المولى.

[4] وهو ما كان القيد خارجاً، والتقيّد داخلاً، مثلاً: الوضوء شرط للصلاة وهو خارج عن ماهية الصلاة، ولكن التقيّد به جزء من الصلاة، فاللازم كون الصلاة متصفة بكونها عن وضوء، «مطلقه» أي: مطلق ذلك المشروط.

[5] وهو ما كان القيد داخلاً في ماهية الشيء، فالناطقية فصل للجنس الذي هو العام، «عامه» أي: جنس ذلك الخاص.

ص: 276

وأنه لا مجال هاهنا للبراءة عقلاً[1]، بل كان الأمر فيهما[2] أظهر، فإن[3] الانحلال المتوهم في الأقل والأكثر[4] لا يكاد يتوهم هاهنا، بداهة أن الأجزاء التحليلية[5] لا يكاد تتصف باللزوم من باب المقدمة عقلاً، فالصلاة - مثلاً[6] - في ضمن الصلاة

--------------------------------------

[1] لاشتغال الذمة بالتكليف، مما يستدعي البراءة اليقينية - للعلم الإجمالي ولتحقيق غرض المولى - .

[2] أي: في هذين الموردين وهما: (المشروط ومطلقه) و(الخاص وعامه).

[3] في الأقل والأكثر الارتباطيين ذهب الشيخ الأعظم(1)

إلى انحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بالأقل - إما بوجوبه النفسي أو الغيري - وشك بدوي في الأكثر.

لكن هذا الكلام لا يجري هنا؛ وذلك لأن في الأقل والأكثر الارتباطيين توجد أجزاء خارجية متعددة وجوداً كالركوع والسجود، فيمكن أن يقال: إن هذه الأجزاء مقدمة للصلاة، أو يقال: إنّ لهذه الأجزاء وجوباً ضمنياً.

لكن الصلاة المشروطة ليست مغايرة في الوجود للصلاة المطلقة، بل الكلي الطبيعي موجود بوجود فرده، فالصلاة المشروطة بالطهارة هي عين الصلاة، ولا يكون الشيء مقدمة لنفسه، وأما الصلاة غير المشروطة بالطهارة فهي تغاير الصلاة المشروطة - لأنهما فردان من الكلي - ولا يكون الشيء مقدمة لضده.

وكذا في العام والخاص، فصلاة الآيات لا تغاير في الوجود الصلاة المطلقة، بل هي نفسها، وهي تغاير صلاة العيدين فلا تكون مقدمة لها.

[4] أي: انحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بالأقل وشك بدوي في الأكثر، كما ذهب إليه الشيخ الأعظم.

[5] أي: حسب التحليل العقلي إلى جنس وفصل، لا حسب الوجود الخارجي.

[6] حاصله: إن الصلاة مع طهارة ليست مقدمة للصلاة، بل هي نفسها،

ص: 277


1- فرائد الأصول 2: 356 - 357.

المشروطة أو الخاصة[1] موجودة بعين وجودها[2] وفي ضمن صلاة أخرى فاقدة لشرطها وخصوصيتها تكون متباينة للمأمور بها[3]، كما لا يخفى.

نعم[4]، لا بأس بجريان البراءة النقلية في خصوص دوران الأمر بين المشروط وغيره، دون الدوران(1)

بين الخاص وغيره، لدلالة مثل حديث الرفع على عدم شرطية ما شك في شرطيته، وليس كذلك[5] خصوصية الخاص، فإنها[6] إنما تكون منتزعة عن نفس الخاص، فيكون الدوران[7] بينه وغيره من قبيل الدوران بين

--------------------------------------

والصلاة بلا طهارة لا تكون مقدمة للصلاة؛ مع طهارة لأنهما ضدان.

[1] «المشروطة» بالطهارة مثلاً، وهذا مثال المشروط بشيء ومطلقه، و«الخاصة» كصلاة الآيات مثلاً، وهذا مثال الخاص والعام.

[2] فلا يكون لها وجوب غيري مقدمة للكل؛ لأن الشيء لا يكون مقدمة لنفسه.

[3] فلا تكون مقدمة لها؛ لأن الشيء لا يكون مقدمة لضده.

[4] ما سبق كان في الأصل العقلي، وأما البراءة الشرعية فهي تجري في الشرط، فحين الشك في أن المأمور به هو المطلق أو المشروط تجري أدلة البراءة فيرتفع الشرط؛ وذلك لأن الاشتراط ليس أمراً تكوينياً، بل هو اعتبار شرعي، فللشارع وضعه ورفعه، وحين الشك يجري حديث الرفع، فتجري البراءة من الشرط. ولا تجري البراءة الشرعية في الخاص؛ لأن خصوصية الخاص أمر تكويني، وحيث إن وضع الخصوصية ليس من الشارع فلا يكون رفعها منه أيضاً، لما مرّ من أن الرفع إنما يكون حين إمكان الوضع.

[5] أي: لا يدل حديث الرفع على رفع خصوصية الخاص.

[6] أي: فإن خصوصية الخاص أمر تكويني ينتزع من الخاص.

[7] أي: لو شك بأن المأمور به هو الفرس أو الحيوان المطلق، فأتى بالعام في

ص: 278


1- في نسخة: «دون دوران الأمر بين».

المتباينين، فتأمل جيداً[1].

الثاني[2]: إنه لا يخفى أن الأصل في ما إذا شك في جزئية شيء أو شرطيته في حال نسيانه[3] عقلاً ونقلاً ما ذكر[4] في الشك في أصل الجزئية أو الشرطية؛ فلو لا[5]

--------------------------------------

ضمن فرد آخر كالبعير، فإن البعير يباين الفرس، فيكون من قبيل دوران الأمر بين المتباينين حيث يلزم الاحتياط.

[1] حتى تعرف الإشكال في كلام المصنف؛ لأن هذا المورد ليس من قبيل الدوران بين المتباينين، بل هو من قبيل الدوران بين التعيين والتخيير؛ لأن الخاص متيقن، وأما العام في ضمن فرد آخر فهو مشكوك، فدقق حتى يتضح لك الأمر.

التنبيه الثاني: الشك في الجزئية والشرطية حال النسيان
اشارة

[2] ما مرّ كان حول الشك في الجزئية أو الشرطية بشكل مطلق - في كل الحالات - وقد اختار المصنف الاشتغال عقلاً والبراءة شرعاً.

وما يذكر في هذا التنبيه: هو الشك في الجزئية أو الشرطية في خصوص حال النسيان، بمعنى أنه نعلم بأن الحمد - مثلاً - جزء من الصلاة، والطهارة من الخبث شرط فيها في حال الذكر، فلو أخل بهما عمداً بطلت صلاته، ولكن هل هما شرط أو جزء في حال النسيان؟ فإن قلنا بالجزئية والشرطية في حال النسيان أيضاً فمقتضى القاعدة هو البطلان؛ لأن الكل عدم عند عدم جزئه، وكذا المشروط عدم عند عدم شرطه.

[3] «في» متعلق ب- (جزئية شيء أو شرطيته)، «نسيانه» أي: نسيان الشيء، «عقلاً ونقلاً» متعلق بقوله: (الأصل...).

[4] من الاشتغال العقلي والبراءة الشرعية، «في أصل...» أي: في الجزئية بشكل مطلق حتى في حال الذكر، وكذا الشرطية.

[5] أي: لو لم تكن أدلة البراءة الشرعية لجرت قاعدة الاشتغال؛ وذلك لليقين بالتكليف واشتغال الذمة؛ وذلك يقتضي الاحتياط.

ص: 279

مثل حديث الرفع مطلقاً[1] و«لا تعاد» في الصلاة[2] لحكم عقلاً بلزوم إعادة ما أخل بجزئه أو شرطه نسياناً، كما هو الحال[3] في ما ثبت شرعاً جزئيته أو شرطيته مطلقاً، نصاً أو إجماعاً[4].

ثم لا يذهب عليك[5]:

--------------------------------------

[1] في الصلاة وغيرها.

[2] أي: دليل (لا تعاد) الذي يجري في خصوص الصلاة، حيث قالعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة، الطهور، والوقت، والقبلة، والركوع، والسجود)(1)، فإنه لو نسي شيئاً من الأجزاء غير الأركان، أو الشرائط غير الثلاثة المذكورة، فلا إعادة عليه بنص هذا الحديث؛ وذلك يدل على أن الجزئية والشرطية في غير هذه خاصة بحالة الذكر دون النسيان.

[3] «الحال» من وجوب الإعادة، «مطلقاً» في حال الذكر والنسيان.

[4] فالنص في الشرائط: القبلة والطهارة والوقت، وفي الأجزاء: الركوع والسجود. والإجماع: في خصوص الأجزاء وهي: النية وتكبيرة الإحرام والقيام المتصل بالركوع.

والحاصل: الأركان - سواء ثبتت بالنص أم بالإجماع - فهي جزء في حال الذكر والنسيان، فتبطل الصلاة بنسيانها، وكذا الشروط الثلاثة.

دفع إشكال

[5] ذهب الشيخ الأعظم(2)

إلى أن الأجزاء كلّها أركان، يبطل العمل بنسيانها، إلاّ ما دلّ الدليل النقلي على جزئيتها في خصوص حالة الذكر؛ وذلك لأن الأدلة الدالة على الجزئية أو الشرطية مطلقة - تشمل حالة الذكر وحالة النسيان - .

ص: 280


1- وسائل الشيعة 4: 312.
2- فرائد الأصول 2: 363.

أنه كما يمكن[1] رفع الجزئية أو الشرطية في هذا الحال بمثل حديث الرفع، كذلك

--------------------------------------

ولا يمكن رفع الجزئية في حالة النسيان، فلا يجري حديث الرفع لاستلزامه المحال، فلو أراد الشارع رفع الجزئية فلابد أن يخاطبه ويقول له: أيها الناسي رفعت عنك الجزئية، وبهذا الخطاب ينقلب الناسي متذكراً، فلا يبقى مورد أصلاً لخطاب الناسي!! فلا يمكن رفع الجزئية عنه، فتبقى الأدلة الدالة على الجزئية على إطلاقها تشمل الناسي والمتذكر، وكل ما ذكر في الجزء يجري في الشرط أيضاً.

وأما المصنف فلم يرتضِ هذا الكلام، وذهب إلى إمكان رفع الجزئية عن الناسي وذلك بأحد طرق ثلاثة:

الأول: إنه كما يمكن وضع الجزئية والشرطية عن الناسي - كما في الأركان - فكذلك يمكن رفعهما، ولو استحال الرفع لاستحال الوضع؛ لأنه لا يمكن الوضع إلاّ في ما أمكن الرفع.

الثاني: أن لا يشتمل الخطاب العام للناسي والمتذكر على الجزء المنسي، ثم يوجّه خطاب لخصوص المتذكر بزيادة الجزء المنسي عليه. مثلاً: يوجه خطاب عام بوجوب الصلاة المكوّنة من تسعة أجزاء، ثم يوجه خطاب خاص للمتذكر بالجزء العاشر.

الثالث: أن يخاطب الناسي، لكن لا بعنوان الناسي للجزء أو للشرط، بل يخاطبه خطاباً عاماً، مثل: يا ضعيف الذاكرة، أو خطاب خاص مثل: يازيد، وحينئذٍ لا يلزم انقلاب.

إن قلت: الجواب الثاني والثالث مجرد فرض لم يتحقق في الخارج.

قلت: الغرض هو إمكان توجيه الخطاب للناسي، وإذا أمكن الوضع فيمكن الرفع بحديث الرفع.

ولا يخفى أن المصنف قدّم الأجوبة الثلاثة وأخّر الإشكال.

[1] إشارة إلى الجواب الأول، «في هذا الحال» أي: حال النسيان.

ص: 281

يمكن[1] تخصيصهما بهذا الحال بحسب الأدلة الاجتهادية[2]؛ كما إذا وجه الخطاب على نحو يعم الذاكر والناسي بالخالي عما شك في دخله مطلقاً[3]، وقد دل دليل آخر على دخله في حق الذاكر؛ أو وجه[4] إلى الناسي خطاب يخصّه بوجوب الخالي بعنوان آخر[5] عام أو خاص، لا بعنوان الناسي[6] كي يلزم[7] استحالة إيجاب ذلك عليه[8] بهذا العنوان، لخروجه عنه[9] بتوجيه الخطاب إليه لا محالة؛ كما توهم

--------------------------------------

[1] إشارة إلى الجواب الثاني، «تخصيصهما» الجزئية والشرطية.

[2] أي: الأدلة الدالة على أصل التكليف، وهي أدلة اجتهادية؛ لأن الأصول العملية إما لرفع التكليف أو للحفاظ على التكليف الثابت بالأدلة الاجتهادية، أو لإبقاء ذلك التكليف.

[3] «مطلقاً» متعلق ب«دخله»، أي: شك في دخله في كلا الحالين - التذكر والنسيان - «دخله» الضمير يرجع إلى الموصول.

[4] إشارة إلى الجواب الثالث، «يخصّه» أي: يخصّ الناسي، «الخالي» أي: بوجوب التكليف الخالي عن ذلك الجزء أو الشرط المنسي.

[5] «بعنوان» متعلّق ب- (أو وجّه)، «عام» أي: يشمل أفراد متعددين، كقوله: (من ضعفت ذاكرته)، «خاص» بحيث يشمل خصوص هذا الناسي كقوله: (يازيد).

[6] أي: لا يوجه الخطاب إليه بنفس عنوان الناسي، كأن يقول: (يا أيها الناسي للسورة).

[7] شروع في بيان أصل الإشكال، أي: لو وجّه الخطاب إليه بعنوان الناسي يلزم استحالة... الخ.

[8] أي: جعل وجوب، «ذلك» الجزء المنسي، «عليه» أي: على الناسي، «بهذا العنوان» أي: بعنوان الناسي.

[9] أي: لخروج الناسي عن عنوان الناسي، «إليه» إلى الناسي.

ص: 282

لذلك[1] استحالة تخصيص الجزئية أو الشرطية بحال الذكر وإيجاب[2] العمل الخالي عن المنسي على الناسي، فلا تغفل.

الثالث[3]: إنه ظهر مما مر[4] حال زيادة الجزء إذا شك في اعتبار عدمها[5] شرطاً

--------------------------------------

[1] أي: لأجل الاستحالة.

[2] «إيجاب» عطف على (تخصيص) أي: واستحالة إيجاب العمل... الخ، «عن المنسي» أي: الجزء المنسي.

التنبيه الثالث: زيادة الجزء عمداً وسهواً
اشارة

[3] لو زاد المكلف شيئاً في الواجب، فإن علمنا بأن هذا الزيادة ليست مخلّة فلا كلام، وكذا لو علمنا بأنها مخلّة.

وأما لو شككنا في إخلالها وعدم إخلالها، ولم يكن دليل اجتهادي كالإطلاق لنرجع إليه، فيجري البحث السابق في الشك في الجزئية أو الشرطية، وهو أن الأصل العقلي هو الاشتغال، ولكن تجري البراءة الشرعيّة.

هذا إذا لم نشك في إبطال الزيادة لجزء من أجزاء الواجب أو شرط من شروطه، كما لو احتملنا إبطال السورة للحمد في الركعة الثالثة من الصلاة، فإنه حينئذٍ نحتمل نقصان الجزء؛ لأن الحمد لوحده جزء من الركعة الثالثة - تخييراً بينه وبين التسبيحات الأربع - فلو ضمّ إليه السورة احتملنا بطلان الحمد، فتكون الصلاة ناقصة، وهذه الصورة تدخل في بحث نقصان الجزء.

[4] لأن ما مرّ كان في الشك في جزئية شيء أو شرطيته، وهنا الشك في جزئية أو شرطية عدم الشيء - بمعنى تركه - .

[5] أي: عدم الزيادة، «أو شطراً» لا يخفى أنه لا يكون العدم جزءاً؛ ولذا كان تصويره مجرد فرض. نعم، يصح ذلك لو كان بمعنى الترك، أو بمعنى أن يكون الوجود مانعاً أو قاطعاً.

ص: 283

أو شطراً في الواجب مع[1] عدم اعتباره في جزئيته، وإلاّ لم يكن من زيادته بل من نقصانه، وذلك[2] لاندراجه[3] في الشك في دخل شيء فيه[4] جزءاً أو شرطاً، فيصح[5] لو أتى به[6] مع الزيادة عمداً تشريعاً، أو جهلاً - قصوراً أو تقصيراً[7] - أو

--------------------------------------

[1] أي: مع عدم اعتبار العدم في جزئية الجزء، «وإلاّ» أي: لو كان عدم الزيادة معتبراً في جزئية الجزء - كما لو كان عدم السورة شرطاً في صحة الحمد - «لم يكن» زيادة الجزء، «من زيادته» أي: الجزء، «بل من نقصانه» نقصان الجزء، وكذا في حال الشك يكون من الشك في النقيصة.

[2] أي: الظهور مما مرّ - من الاشتغال العقلي، والبراءة الشرعية -..

[3] أي: اندراج زيادة الجزء، والمعنى: أنا نشك في جزئية العدم، ولا فرق في الشك في الجزئية بين جزئية الوجود أو جزئية العدم.

[4] «شيء» سواء كان وجوداً أم عدماً - بالمعنى الذي ذكرناه - ، «فيه» في الواجب.

[5] أي: فيصح الواجب شرعاً، وهذا شروع في بيان صور زيادة الجزء، وهي:

1- الزيادة العمدية تشريعاً: بأن يأتي بالجزء المشكوك بعنوان أنه جزء، وهذا تشريع محرّم؛ لأنه نسب إلى الشارع ما لا يعلم.

2- الزيادة العمدية جهلاً: بأن يأتي بالجزء المشكوك عمداً مع زعمه أن الشارع أوجبه عليه، والفرق بين الصورتين: أن الأولى مع شكّه ينسبه إلى الشارع. والثانية، أنه جاهل بالجهل المركب فيتخيل أنه جزء - مع أنه ليس بجزء - .

3- الزيادة سهواً: كما لو ضم السورة إلى الحمد في الركعة الثالثة خطأً أو غفلةً أو نحوهما.

[6] أي: بالواجب، «تشريعاً» هذه الصورة الأولى، «جهلاً» هذه الصورة الثانية.

[7] أي: لا فرق بين كون جهله عن قصور أو تقصير، فتصح الصلاة في كليهما.

ص: 284

سهواً[1]، وإن استقل العقل - لو لا النقل[2] - بلزوم الاحتياط، لقاعدة الاشتغال[3].

نعم[4]، لو كان[5] عبادة وأتى به كذلك على نحوٍ[6] لو لم يكن للزائد دخل فيه

--------------------------------------

[1] هذه الصورة الثالثة، ويدخل فيها: الغلط، والغفلة، والنسيان.

[2] وقد مرّ أن حكم العقل معلّق، أي: يستقل العقل لو لم يحكم الشرع، أما لو كان حكم العقل مطلقاً فلا يمكن معارضة حكم الشرع له.

[3] أي: حكم العقل لأجل هذه القاعدة - وهي الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية - .

حكم التقييد

[4] أي: ما قلناه من صحة الواجب مع الزيادة إنما هو في الواجب التوصلي؛ وذلك لتحقق العمل الواجب - سواء قصد الامتثال أم لم يقصد - أو الواجب التعبدي إذا لم يقيّد العبادة بذلك الجزء المشكوك، وأما إذا قيّد ففيه تفصيل.

و(التقييد) هو أن يقصد الامتثال في صورة دون أخرى، بحيث يقصد عدم الامتثال لو كانت تلك الصورة الأخرى. نظير من يصلى جماعة مقيداً امتثاله بكون الإمام زيداً لا عمراً، بحيث إنه لا يقصد الامتثال والإطاعة في صورة كون الإمام عمراً.

وهل التقييد مبطل للعبادة؟ وجهان:

الأول: إن التقييد مبطل للعبادة؛ لعدم قصد الامتثال والطاعة.

الثاني: التفصيل بين المطابقة للواقع فيصح، وبين عدم المطابقة فيبطل، ولو شك في المطابقة وعدمها فعليه الإعادة؛ لعدم تيقنه من فراغ الذمة.

[5] «كان» الواجب، «أتى به» بالواجب، «كذلك» أي: مع زيادة الجزء الذي يحتمل اعتبار عدمه.

[6] هذا المقطع بيان للتقييد، والمعنى: أتى بالواجب مع تلك الزيادة «على نحو»

ص: 285

لما يدعو إليه وجوبه، لكان[1] باطلاً مطلقاً[2]، أو[3] في صورة عدم دخله فيه[4]، لعدم قصد الامتثال[5]

--------------------------------------

أي: بقصد أنه «لو لم يكن للزائد دخل فيه» في الواجب «لما» كان «يدعو إليه» إلى الواجب «وجوبه» فاعل «يدعو» أي: الوجوب لم يكن باعثاً للمكلف إلاّ في صورة جزئية الزيادة، بحيث إنه لو علم بعدم جزئيتها لما كان يأتي بالواجب أصلاً.

[1] هذا أحد المحتملات في التقييد، و«لكان» جزاء (لو) في قوله: (نعم، لو كان عبادة...) والمعنى لكان العمل باطلاً.

[2] أي: سواء كان عدم الزيادة دخيلاً في العمل، أم لم يكن دخيلاً.

[3] هذا احتمال آخر في التقييد، وهو التفصيل بين صورة الدخل فتصح العبادة، وبين صورة عدم الدخل فتبطل، وفي حال الشك يحتاط.

أما البطلان في صورة عدم الدخل فلأنّه لم يقصد الامتثال. وأما الصحة في صورة الدخل فلأنّه قصد امتثال ما أراده المولى. وأما الاحتياط في صورة الشك فلعدم علمه بفراغ ذمته.

[4] أي: أو البطلان في صورة عدم دخل الزائد في الواجب؛ وذلك لأنه لم يقصد أمر المولى - لأن أمره إنّما هو بالخالي عن الزيادة - والذي قصده من العمل مع الزيادة لم يأمر به المولى. والحاصل: ما أتى به لم يكن مأموراً به، وما أمر به لم يأت به.

[5] في بعض النسخ (لعدم قصد الامتثال... الخ)، والمعنى: إن المكلف لم يأت بما أمره به المولى، ومعنى (في هذه الصورة) أي: في صورة عدم الدخل.

وفي نسخ أخرى (لعدم قصور الامتثال... الخ) فيكون استدلالاً للصحة في صورة الدخل، والمعنى: إنه قصد امتثال أمر المولى وقد تحقق ما قصده، فمعنى (في هذه الصورة) أي: في صورة الدخل.

ص: 286

في هذه الصورة، مع استقلال[1] العقل بلزوم الإعادة مع اشتباه الحال[2]، لقاعدة الاشتغال. وأما[3] لو أتى به[4] على نحو يدعوه إليه على أي حال كان صحيحاً[5]، ولو كان مشرِّعاً في دخله الزائد فيه بنحوٍ، مع عدم علمه بدخله[6]، فإن[7] تشريعه

--------------------------------------

[1] أي: حسب هذا الاحتمال الثاني - وهو التفصيل - لو شك في الدخل وعدم الدخل، فلا يدري هل امتثل أم لا؟ فلابد من الاحتياط؛ وذلك لاشتغال ذمته بالتكليف مع عدم علمه بأدائه.

[2] أي: لم يتبيّن له الدخل أو عدم الدخل.

التشريع مع عدم التقييد

[3] أي: لو أتى بالعبادة لا بقصد التقييد، بل كان الأمر يدعوه إلى الامتثال - سواء كان للزائد دخل أم لا - ولكنه مع عدم علمه بالدخل قصد الجزئية، فهنا ارتكب حراماً بتشريعه، ولكن هذا التشريع لا يرتبط بنفس العبادة، بل هو في التطبيق - كما سيأتي توضيحه - .

[4] بالواجب، «على نحو» أي: بقصد يكون الوجوب، «يدعوه» أي: يكون باعثاً للمكلّف، «إليه» إلى الواجب، «على أي حال» سواء كان له دخل أم لا.

[5] أي: كان العمل العبادي صحيحاً، «ولو» وصلية، «كان» المكلّف، «دخله» أي: دخل الزائد، «فيه» في العمل العبادي، «بنحو» أي: لو لم يكن جزءاً واقعاً.

[6] لأن التشريع يتحقق مع نسبة العمل إلى الشارع مع عدم علم المكلف.

[7] هذا دليل صحة العبادة؛ وذلك لأن المكلّف قصد الأمر الواقعي وأتى بالعبادة بكل أجزائها وشروطها.

والتشريع لم يكن في مقام أمر المولى، بل في مقام العمل، أي: تطبيق الأمر على هذا الفعل الخارجي الذي أتى به، والتشريع لا يكون مبطلاً للعمل إلاّ إذا كان في نفس أمر المولى، أما إذا كان في الفعل الخارجي فلا يكون مبطلاً.

ص: 287

في تطبيق المأتي مع المأمور به، وهو[1] لا ينافي قصده الامتثال والتقرب به على كل حال.

ثم إنه ربما تمسك لصحة ما أتى به مع الزيادة باستصحاب الصحة[2]. وهو لا يخلو من كلام ونقض وإبرام خارج عما هو المهم في المقام، ويأتي تحقيقه في مبحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى[3].

الرابع[4]:

--------------------------------------

[1] أي: هذا التطبيق في مقام العمل لا يُخلّ بقصد القربة، «على كل حال» أي: سواء كان جزءاً وشرطاً أم لا.

[2] وقد قرروا الاستصحاب بعدة تقريرات وفي حقائق الأصول(1)

خمس تقريرات له، فراجع.

وأحد التقريرات: هو أنه قبل زيادة الجزء كانت الأجزاء السابقة صحيحة فنستصحب تلك الصحة بعد الإتيان بالجزء الزائد.

وفيه: إن الأجزاء السابقة لا علم بصحتها إلاّ بعد الانتهاء من الصلاة، ففي حال الصلاة تكون مراعاة، فلا يقين سابق.

[3] لكن المصنف لم يذكرها هناك.

التنبيه الرابع: لو تعذر الجزء أو الشرط

[4] حاصل التنبيه الرابع هو: أنه لو علمنا بأن هذا الشيء جزء أو شرط في حال القدرة عليه، وشككنا في الجزئية أو الشرطية في حال العجز، فهل عند العجز يسقط التكليف من أصله، أم يجب الإتيان بالباقي؟

فإنه لو كان الشيء جزءاً مطلقاً - حتى في حال العجز - فإن المكلف غير قادر على الإتيان بالمكلف به؛ لأن الكل عدم عند عدم جزئه، فيسقط التكليف للعجز عنه،

ص: 288


1- حقائق الأصول 2: 344.

إنه لو علم بجزئية شيء أو شرطيته في الجملة[1] ودار بين أن يكون جزءاً أو شرطاً مطلقاً ولو في حال العجز عنه، وبين أن يكون جزءاً أو شرطاً في خصوص حال التمكن منه - فيسقط[2] الأمر بالعجز عنه على الأول، لعدم القدرة حينئذٍ على المأمور به[3]، لا على الثاني[4] فيبقى متعلقاً بالباقي - ولم يكن هناك[5] ما يعين

--------------------------------------

وكذا في الشرط.

أما لو كان جزءاً في حال التمكن فقط، ولم يكن جزءاً في حال العجز، فإنه في حالة العجز عنه يكون الملكف قادراً على الإتيان بالواجب؛ لأن ما لا يقدر عليه لا يكون جزءاً، وكذا في الشرط.

[1] أي: نعلم بالشرطية أو الجزئية، ولكن لا ندري هل هما بشكل مطلق أو في حال التمكن فقط؟ «دار» أي: دار الأمر، «أن يكون» الشيء، «مطلقاً» شرحه بقوله: «ولو في حال العجز عنه».

[2] هذه نتيجة الاحتمالين: فعلى الأول - وهو الشرطية والجزئية مطلقاً - : يسقط الأمر؛ لأنه عاجز عن امتثاله؛ لعجزه عن الإتيان بأحد أجزائه، والكل عدمٌ عند عدم جزئه.

وعلى الثاني - وهو الشرطية والجزئية في حال التمكن فقط - : يبقى التكليف؛ لأنه قادر على امتثاله، والجزء الذي كان عاجزاً عنه ليس بجزء في حال العجز.

[3] لأن المأمور به كان مركباً من أجزاء وشروط، وأحدها لم يكن مقدوراً.

[4] أي: لا يسقط الأمر بناءً على الاحتمال الثاني - وهو أن يكون جزءاً أو شرطاً في خصوص حال التمكن - «فيبقى» الأمر.

[5] فإنه لو جرت الأدلة الاجتهادية لا تصل النوبة إلى الأصول العملية - من براءة أو اشتغال - .

والدليل الاجتهادي أحد أمرين:

ص: 289

أحد الأمرين[1] من إطلاق دليل اعتباره[2] جزءاً أو شرطاً، أو إطلاق دليل المأمور به[3] مع إجمال[4] دليل اعتباره أو إهماله[5]، لاستقل[6] العقل[7] بالبراءة عن

--------------------------------------

1- إطلاق دليل الجزء أو الشرط، كما لو قال: (السورة جزء من الصلاة) فإن الكلام مطلق يشمل صورتي التمكن والعجز، ونتيجة هذا الإطلاق سقوط التكليف في صورة العجز.

2- إطلاق دليل التكليف، كقوله: (أقم الصلاة) فإن الوجوب للصلاة مطلق يشمل صورة التمكن وصورة العجز عن الجزء أو الشرط، ونتيجة هذا الإطلاق بقاء التكليف ولزوم أدائه حتى في صورة العجز عن الجزء، فيلزم الإتيان بالباقي.

[1] الجزئية أو الشرطية مطلقاً، أو في خصوص حال التمكن.

[2] أي: اعتبار الشيء جزءاً أو شرطاً، وهذا الإطلاق في دليل الجزئية.

[3] أي: إطلاق دليل التكليف، وأنه واجب سواء تمكن من جزئه وشرطه أم لا.

[4] إشارة إلى أنه مع وجود إطلاق دليل الجزء أو الشرط لا تصل النوبة إلى إطلاق دليل المأمور به؛ وذلك لأن القيد أقوى ظهوراً من المقيّد، فيكون إطلاق القيد أقوى من إطلاق المقيّد.

وهنا وجوب الصلاة مقيّدة بقيد هو الجزء أو الشرط، فكما كان يقدم دليل الجزء والشرط على دليل الوجوب فيقال: إن الصلاة مقيدة بهذا الجزء والشرط، كذلك إطلاق القيد - وهو الجزء والشرط - يقدم على إطلاق المقيد - وهو وجوب الصلاة - .

[5] الضميران يرجعان إلى الجزء أو الشرط، فلو كان دليل الجزء أو الشرط مجملاً لم يتضح الإطلاق فيه، أو كان مهملاً من الأساس بلا إطلاق أصلاً، فحينئذٍ تصل النوبة إلى إطلاق المأمور به.

فمع فقد الإطلاقين تصل النوبة إلى الأصل العملي.

[6] جزاء (لو) في قوله: (لو علم بجزئية شيء أو شرطيته في الجملة... الخ).

[7] وكذا تجري البراءة الشرعية؛ لجريان أدلتها حينئذٍ.

ص: 290

الباقي، فإن[1] العقاب على تركه بلا بيان والمؤاخذة عليه بلا برهان.

لا يقال[2]: نعم[3]، ولكن قضية مثل حديث الرفع عدم الجزئية أو الشرطية[4] إلاّ في حال التمكن منه[5].

فإنه يقال[6]:

--------------------------------------

[1] دليل جريان البراءة العقلية، وحاصله: انا نشك في أصل وجوب الباقي في حال العجز عن الجزء والشرط، وحين الشك في أصل التكليف تجري البراءة؛ إذ العقاب على ترك هذا التكليف عقاب بلا بيان واصل من الشارع، وهو قبيح، «تركه» أي: ترك الباقي.

أدلة لزوم الإتيان بالباقي
اشارة

ثم إن القائل بوجوب الباقي - بعد سقوط الجزء أو الشرط غير المقدور - استدل بثلاثة أدلة:

الدليل الأول: جريان الأصل السببي

[2] هذا الدليل الأول على وجوب الباقي، وحاصله: إن إجراء البراءة في أصل التكليف أصل مسبّبي، ولا تصل النوبة إليه مع جريان الأصل السببي - وهو البراءة عن جزئية أو شرطية غير المقدور - فإنه مع جريان البراءة عن المقدور لا يبقى شك في وجوب الباقي، فلا تصل النوبة إلى إجراء أصل البراءة عن الباقي.

[3] أي: نعم، البراءة عن الباقي تجري لو لا جريان البراءة عن الجزئية أو الشرطية.

[4] أما الجزء والشرط فوجوبه ساقط قطعاً؛ لعدم القدرة عليه، فالكلام في سقوط الجزئية أو الشرطية وعدم سقوطهما في حال العجز، حيث تظهر الثمرة في وجوب الباقي أو عدم وجوبه، فدقق.

[5] أي: من الجزء أو الشرط.

[6] إشكال على الدليل الأول، وحاصله: إنه لا يجري الأصل السببي هنا،

ص: 291

إنه لا مجال هاهنا لمثله[3]، بداهة أنه ورد في مقام الامتنان، فيختص بما يوجب نفي التكليف، لا إثباته.

نعم، ربما يقال[4]:

--------------------------------------

ومع عدم جريانه تصل النوبة إلى الأصل المسببي؛ وذلك لأن حديث الرفع جاء لأجل الامتنان على العباد، ولا يكون امتنان بوضع التكليف، بل برفعه.

والأصل السببي - وهو البراءة عن الجزئية أو الشرطية - يُثبت التكليف في الباقي، فيكون خلاف الامتنان، فلا يجري، ويبقى الأصل المسببي - وهو البراءة عن التكليف في الباقي - بلا محذور، فيجري.

[3] «هاهنا» في رفع الجزئية أو الشرطية، «لمثله» أي: لحديث الرفع وأمثاله، «أنه» حديث الرفع وأمثاله.

الدليل الثاني: استصحاب الباقي

[4] حاصله: إثبات وجوب الباقي بالاستصحاب، في ما لو كان قادراً على الكل ثم عجز عن جزء أو شرط، فحين القدرة كان الباقي واجباً عليه، فيستصحب هذا الوجوب بعد العجز.

ويرد عليه إشكالان:

الأول: إنه من قبيل القسم الثالث من استصحاب الكلي، ولا نقول بجريان الاستصحاب فيه؛ وذلك لأن استصحاب الكلي على ثلاثة أقسام:

1- لو تحقق فرد ثم شككنا في بقائه، فكما يمكن استصحاب بقاء ذلك الفرد كذلك يمكن استصحاب بقاء الكلي الذي كان ضمن ذلك الفرد.

2- لو تحقق فرد لكن لا نعلم أنه فرد طويل البقاء أم فرد قصير البقاء، ثم شككنا في البقاء، بسبب أنه إن كان الفرد الطويل فهو باقٍ، وإن كان الفرد القصير فقد زال، فهنا لا يمكن استصحاب الفرد - لعدم اليقين السابق - لكن يمكن استصحاب الكلي.

ص: 292

«إن قضية الاستصحاب في بعض الصور[1] وجوب الباقي في حال التعذر أيضاً». ولكنه[2] لا يكاد يصح إلاّ بناءً على صحة القسم الثالث من استصحاب الكلي[3]،

--------------------------------------

3- لو تحقق فرد ثم علمنا بزواله مع احتمال تحقق فرد آخر حين زوال الأول، كما لو دخل زيد الدار ثم خرج منها ظهراً، واحتملنا دخول عمرو حين خروج زيد، فقد قطعنا بوجود الإنسان في الدار، لكن من الظهر نشك في بقاء الإنسان الكلي، وهذا المورد لا يجري فيه الاستصحاب، إلاّ إذا رأى العرف اتحاد الموضوعين، كالسواد الشديد والسواد الضعيف، فإنه وإن كانا بحسب الدقة متباينين، لكن العرف يرى السواد الضعيف نفس السواد الشديد مع فقدانه للغموق.

إذا اتضح ذلك فنقول هنا: الكامل فرد والناقص فرد آخر للكلي، فقد زال وجوب الفرد الكامل؛ لعدم التمكن منه بالعجز عن الجزء أو الشرط، ونشك في حدوث وجوب الفرد الناقص، فلو أردنا استصحاب الوجوب كان من القسم الثالث من الكلي.

الإشكال الثاني: لو أردنا استصحاب الفرد - لا الكلي - فإن الفرد قد تبدّل، فلا توجد وحدة للموضوع.

اللهم إلاّ أن يقال: إن العرف يرى الكامل والناقص فرداً واحداً مسامحة، والمتبع في وحدة الموضوع هو التسامح العرفي، لا الدقة العقلية.

[1] لو كان قادراً على كل الأجزاء والشرائط فثبت عليه الوجوب، ثم عجز عن جزء أو شرط.

[2] أي: لكن هذا الاستصحاب لا يصح، وهذا هو الإشكال الأول، بناءً على إرادة استصحاب كلي الوجوب لا الفرد.

[3] حيث إن المتيقن هو وجوب الكامل، والمشكوك وجوب فرد آخر وهو

ص: 293

أو على المسامحة[1] في تعيين الموضوع في الاستصحاب وكان[2] ما تعذر مما يسامح به عرفاً بحيث يصدق[3] مع تعذره[4] بقاء الوجوب لو قيل بوجوب الباقي، وارتفاعه لو قيل بعدم وجوبه. ويأتي تحقيق الكلام فيه في غير المقام.

كما أن وجوب الباقي[5] في الجملة[6] ربما قيل بكونه مقتضى ما يستفاد من

--------------------------------------

الناقص، فنشك أنه حين ارتفاع وجوب الكامل هل حدث وجوب الناقص في ذمة المكلّف؟

[1] وهذا الإشكال الثاني، بناءً على إرادة استصحاب الفرد لا الكلي.

[2] أي: المسامحة العرفية إنّما تكون لو كان الناقص قليلاً بحيث اعتُبرَ الناقص هو نفس الكامل.

[3] أي: يصدق عرفاً بقاء الوجوب أو ارتفاعه؛ إذ لو رأوه موضوعاً آخر لم يكن من البقاء والارتفاع، بل من باب جعل أو رفع حكم عن موضوع آخر.

[4] أي: مع تعذّر ما تعذر من الجزء أو الشرط، «ارتفاعه» أي: ارتفاع الوجوب، «بعدم وجوبه» عدم وجوب الباقي.

الدليل الثالث: قاعدة الميسور
اشارة

[5] فقد استدل بثلاثة روايات على أن الباقي يكون واجباً، وقد أشكل عليها سنداً بأنها مراسيل، مضافاً إلى عدم اعتبار كتاب عوالي اللئالي، كما عن صاحب الوسائل وصاحب الحدائق. وقد تصدى الشيخ الأعظم في الرسائل(1)

للجواب عنه: بأن المشهور عملوا بهذه الأخبار فينجبر ضعف السند بهذا العمل.

[6] أي: إذا صدق عرفاً أنه ميسور التكليف، لا ما إذا كان فاقداً لمعظم الأجزاء بحيث لا يراه العرف ميسور التكليف، فمن استطاع رمي الجمرة فقط لا يقال لها إنها ميسور الحج، وكذا لو كان الجزء غير المتمكن منه ركناً في نظر العرف، فماء اللحم - مثلاً - يتقوّم باللحم، فلا يقال لفاقد اللحم: إنه ميسور ماء اللحم.

ص: 294


1- فرائد الأصول 2: 390.

قوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم[1]»(1)، وقوله: «الميسور لا يسقط بالمعسور[2]»(2)،

وقوله: «ما لا يدرك كله لا يترك كله[3]»(3).

ودلالة الأول[4] مبنية على كون كلمة «من» تبعيضية، لا بيانية، ولا بمعنى

--------------------------------------

[1] بتقريب: أن العاجز عن بعض الأجزاء مستطيع لسائر الأجزاء، فيجب عليه الإتيان بها لقوله: (فأتوا) وهو أمر ظاهر في الوجوب.

[2] بتقريب أن فاقد الجزء هو ميسور العمل، فلا يسقط بالعجز عن الواجد لكل الأجزاء.

[3] بتقريب أن (لا يترك) جملة خبرية يراد منها النهي، أي: لا يجوز ترك كلّه، بل يأتي بما تمكن.

الإشكال على الاستدلال بالرواية الأولى

[4] أشكلوا على الرواية الأولى بثلاثة إشكالات:

الإشكال الأول: إن (من) في (منه) بمعنى الباء، و(ما) مصدرية زمانية(4)، فيكون المعنى: فأتوا بالشيء مدة استطاعتكم. وهذا لا يدل على حكم فاقد الأجزاء.

أو أن (منه) بيانية، لبيان الشيء و(ما) مصدرية زمانية، فيكون المعنى: فأتوا الشيء ما استطعتم. ولا يخفى عدم صحة كلا الأمرين؛ لأن (من) لم تستعمل في اللغة بمعنى الباء؛ ولأن (من) البيانية يلزم أن يكون ما قبلها جنساً لما بعدها، كقوله: {فَٱجۡتَنِبُواْ ٱلرِّجۡسَ مِنَ ٱلۡأَوۡثَٰنِ}(5)، فالرجس جنس يشمل جميع النجاسات المادية والمعنوية، فيأتى (من الأوثان) بياناً لذلك الرجس، وأن المقصود الأوثان.

ص: 295


1- عوالي اللئالي 4: 58، مع اختلاف يسير.
2- عوالي اللئالي 4: 58، مع اختلاف يسير.
3- عوالي اللئالي 4: 58.
4- فرائد الأصول 2: 390.
5- سورة الحج، الآية: 30.

الباء[1]؛ وظهورها[2] في التبعيض وإن كان مما لا يكاد يخفى[3]، إلاّ[4] أن كونه بحسب الأجزاء غير واضح، لاحتمال أن يكون بلحاظ الأفراد.

ولو سلم[5]،

--------------------------------------

وفي ما نحن فيه ضمير (منه) هو نفس (الشيء) فلا تكون (من) بيانية.

الإشكال الثاني: إنا نسلّم أن (من) للتبعيض ،لكن التبعيض على نوعين:

1- التبعيض في الأفراد، كمن يعجز عن صوم كل شهر رمضان لكنه يقدر على صيام نصفه، فهنا يأتي من الأفراد ما استطاع.

2- التبعيض في الأجزاء.

ولا يتم الاستدلال إلاّ لو كان التبعيض في الأجزاء، ولكن ليس للجملة ظهور فيه، بل هي مجملة فلا يمكن الاستدلال بها.

الإشكال الثالث: ولو سلمنا ظهور (من) في التبعيض في الأجزاء، لكن يلزم رفع اليد عن هذا الظهور هنا؛ وذلك لأن هذا الكلام المروي عن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ إنّما هو في قضية كانت في الأفراد - وهو تكرار الحج - لا الأجزاء.

[1] إشارة إلى الإشكال الأول.

[2] أي: ظهور (من) في (منه).

[3] كما شرحناه من أن (من) لم تستعمل بمعنى الباء، والبيانية إنّما لو كان قبلها جنساً لما بعدها، لا نفسه.

[4] إشاره إلى الإشكال الثاني، «كونه» أي: كون التبعيض، «غير واضح» أي: لا ظهور فيه، «لاحتمال» أي: التبعيض هنا مجمل فلا يمكن الاستدلال بالحديث لإجماله.

[5] إشارة إلى الإشكال الثالث، أي: لو سلم الظهور في التبعيض بحسب الأجزاء، «أنه» أن التبعيض، «هاهنا» في خصوص هذه الرواية، «بهذا اللحاظ» أي: بلحاظ الأفراد؛ وذلك لوجود قرينة صارفة عن الظهور في الأجزاء.

ص: 296

فلا محيص عن أنه - هاهنا - بهذا اللحاظ يراد، حيث ورد[1] جواباً عن السؤال عن تكرار الحج[2] بعد أمره به. فقد روي[3] أنه خطب رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، فقال: «إن الله كتب عليكم الحج»، فقام عكاشة - ويُروى سراقة بن مالك - فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه، حتى أعاد مرتين أو ثلاثاً، فقال: «ويحك! وما يؤمنك أن أقول: نعم، والله لو قلت: نعم، لوجب[4]، ولو وجب ما استطعتم[5]، ولو تركتم لكفرتم[6]، فاتركوني ما تركتم، وإنما هلك[7] من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم إلى أنبيائهم، فإذا[8] أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا

--------------------------------------

[1] بيان للقرينة الصارفة.

[2] والحج الثاني هو فرد آخر للحج، لا أنه جزء للحج الأول.

[3] قيل: هذا شأن نزول آية {لَا تَسَۡٔلُواْ عَنۡ أَشۡيَآءَ إِن تُبۡدَ لَكُمۡ تَسُؤۡكُمۡ}(1).

[4] وقد استفيد منه أن للرسول الولاية التشريعيّة.

[5] أي: كان فيه عسر شديد عليكم.

[6] كفراً عملياً، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ}(2) والكفر العملي لا يُخرج عن الملّة، لكنه كعمل الكفار.

[7] لأنهم سألوا، فجاءهم التشريع، لكنهم خالفوه فهلكوا، «اختلافهم» أي: ذهابهم وإيابهم، ولم يكن الغرض من ذلك إلاّ التعنّت، كما في قصة بقرة بني إسرائيل، حيث لو كانوا يذبحون أيَّة بقرة لأجزأتهم، لكنهم صعّبوا على أنفسهم فصعّب الله عليهم.

[8] أي: إن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ مكلّف بالتبليغ ،فإذا نزل حكم بلّغه، وإن سكت فذلك يدل على عدم نزول حكم، فلا تسألوا عنه.

ص: 297


1- سورة المائدة، الآية: 101.
2- سورة آل عمران، الآية: 97.

نهيتكم عن شيء فاجتنبوه»(1).

ومن ذلك[1] ظهر الإشكال في دلالة الثاني أيضاً، حيث لم يظهر[2] في عدم سقوط الميسور من الأجزاء بمعسورها، لاحتمال[3] إرادة عدم سقوط الميسور من أفراد العام[4] بالمعسور منها، هذا. مضافاً[5]

--------------------------------------

الإشكال على الاستدلال بالرواية الثانية

[1] وعلى الاستدلال بالرواية الثانية مناقشتان:

الأولى: نظير الإشكال الثاني على الرواية الأولى، وحاصله: إن المراد من (الميسور) هو الميسور من الأفراد لا الميسور بحسب الأجزاء، لا أقل من الإجمال.

[2] أي: حيث لا يوجد ظهور للحديث الثاني.

[3] هذا الاحتمال يُخِلّ بالظهور، فكلا الأمرين محتمل، ولا ترجيح في نظر العرف، فدلالة الحديث مجملة.

[4] أي: الواجب الكلي - بنحو العموم أو الإطلاق - الذي له أفراد متعددة، كما مثّلنا بمن لا يتمكن من صيام بعض أيام شهر رمضان، فانه لا تسقط الأيام التي يتمكن فيها من الصيام.

[5] هذه المناقشة الثانية، وحاصلها: إن الرواية لا دلالة لها على وجوب الباقي، بل تدل على جوازه فقط، فلا يمكن الاستدلال بها على وجوبه؛ وذلك لأن (الميسور) يشمل الواجب والمستحب، فكما قد يعجز الإنسان عن بعض أجزاء الصلاة الواجبة، كذلك قد يعجز عن بعضها في المستحبة، ولا إشكال في عدم لزوم الإتيان بالميسور من الصلاة المستحبة، بل ذاك إلى المكلف إن شاء أتى وإن شاء ترك، وحينئذٍ لا دلالة لقوله: (لا يسقط) على اللزوم؛ لأنه لو كان دالاً على اللزوم كان (الميسور) خاصاً بالواجب، وهذا ما لا يقولون به.

ولكن يمكن دفع هذه المناقشة بأن (لا يسقط) يحتمل معنيين:

ص: 298


1- بحار الأنوار 22: 31؛ مجمع البيان 3: 386، مع اختلاف يسير.

إلى عدم دلالته[1] على عدم السقوط لزوماً[2]، لعدم اختصاصه[3] بالواجب. ولا مجال معه لتوهم دلالته على أنه بنحو اللزوم، إلاّ أن يكون[4] المراد عدم سقوطه بما له من الحكم[5] - وجوباً كان أو ندباً - بسبب سقوطه[6] عن المعسور، بأن يكون[7]

--------------------------------------

1- إن الميسور لا يسقط باعتبار حكمه، فيكون المعنى عدم سقوط حكم الميسور، ففي الواجب لا يسقط وجوبه، وفي المستحب لا يسقط استحبابه، فتدل الرواية على لزوم الباقي إن كان التكليف بنحو الوجوب، لا على نحو الاستحباب.

2- الميسور لا يسقط بنفسه، فيكون المعنى بقاؤه بنفسه في ذمة المكلف، وهذا يعني إما لزوم الإتيان بالميسور مطلقاً، فلا يشمل (الميسور) المستحبات، وإما عدم دلالة (لا يسقط) على اللزوم، فلا يدل على وجوب الباقي.

وحيث إن المصنف رجح المعنى الأول فلا تصح هذه المناقشة، كما مرّ عكسه في قوله: (لا ضرر) حيث كان رفعاً للموضوع باعتبار رفع حكمه، وهنا إثبات الموضوع باعتبار إثبات حكمه.

[1] أي: عدم دلالة الثاني - وهو رواية الميسور - .

[2] أي: بنحو الوجوب بحيث يجب الباقي.

[3] «اختصاصه» الميسور، «معه» أي: مع عدم الدلالة على اللزوم، «دلالته» الميسور، «على أنه» أن عدم السقوط. فتحصّل أن (لا يسقط) لا يدل على اللزوم؛ وذلك بقرينة شمول (الميسور) للمستحب.

[4] هذا دفع المناقشة الثانية.

[5] بيان للمعنى الأول، وهو مختار المصنف، «سقوطه» سقوط الميسور، «بما له من الحكم» أي: باعتبار حكمه.

[6] أي: لا يسقط حكم الميسور بسبب سقوط الحكم عن المعسور.

[7] بيان معنى (عدم سقوط الميسور بما له من الحكم) فإن الشارع - بما هو شارع -

ص: 299

قضية الميسور كناية عن عدم سقوطه بحكمه، حيث إن الظاهر من مثله[1] هو ذلك - كما أن الظاهر[2] من مثل «لا ضرر ولا ضرار» هو نفي ما له من تكليف أو وضع - لا أنها[3] عبارة عن عدم سقوطه بنفسه وبقائه على عهدة المكلف، كي لا يكون له[4] دلالة على جريان القاعدة في المستحبات على وجه[5]، أو لا يكون له دلالة على وجوب الميسور في الواجبات على آخر[6]، فافهم[7].

وأما الثالث[8]،

--------------------------------------

لا يرفع التكوينيات كما لا يجعلها، وإنما يرفع ويضع الأحكام، فإذا تعلق جعل أو رفع بالموضوع فلابد أن يكون مراده جعله ووضعه بما له من الحكم.

[1] وهو جعل موضوع، «هو ذاك» أي: بما له من الحكم.

[2] في رفع موضوع - وهو عكس ما نحن فيه - .

[3] بيان للمعنى الثاني - الذي لا يرتضيه المصنف - «أنها» أي: إن قضية الميسور، «عدم سقوطه بنفسه» أي: عدم سقوط الميسور بنفسه، فيكون المعنى هو بقاء الميسور في ذمته، وهذا يستلزم إما عدم شمول (الميسور) للمستحبات، حيث إنها لا تبقى في الذمة، وإما رفع اليد عن اللزوم في (لا يسقط) فلا دلالة له على لزوم الإتيان بالباقي.

[4] أي: للميسور.

[5] وهو دلالة (لا يسقط) على اللزوم.

[6] أي: على وجه آخر وهو عدم دلالة (لا يسقط) على اللزوم.

[7] لعله إشارة إلى عدم الفرق بين عدم سقوطه بحكمه، أو عدم سقوطه بنفسه؛ وذلك لأن عدم السقوط بنفسه وبقائه في الذمة قد يكون بنحو الوجوب، وقد يكون بنحو الاستحباب، فيصح أن يقال: إنه باقٍ في الذمة استحباباً.

الإشكال على الاستدلال بالرواية الثالثة

[8] وهو قوله: (ما لا يدرك كله لا يترك كله)(1)،

فيرد على الاستدلال به:

ص: 300


1- عوالي اللئالي 4: 58.

فبعد تسليم[1] ظهور كون الكل في المجموعي لا الأفرادي، لا دلالة[2] له إلاّ على رجحان الإتيان بباقي الفعل المأمور به - واجباً كان أو مستحباً - عند[3] تعذر بعض أجزائه، لظهور الموصول[4] في ما يعمهما. وليس ظهور[5] «لا يترك» في الوجوب - لو سلم[6] -

--------------------------------------

أولاً: ما ذكر في الرواية الأولى والثانية، وأن (كله) في (ما لا يدرك كله) ليس ظاهراً في الأجزاء، بل لعل المراد ما لا يدرك من الأفراد.

وثانياً: إن (ما لا يدرك) عام يشمل الواجب والمستحب، وكما مرّ لا معنى للزوم الإتيان بما تبقى من المستحب، بل يكون المراد رجحان الإتيان بالباقي - من غير لزوم - .

وثالثاً: إن (لا يترك) نفي، وهو جملة خبرية، والجملة الخبرية لا دلالة لها على اللزوم.

ورابعاً: لو فُرض أن (لا يترك) يدل على اللزوم فإنه يجب رفع اليد عن ظهوره؛ وذلك لظهور (ما لا يدرك) في الأعم من الواجب والمستحب، والترجيح إنما هو لظهور الموضوع لا لظهور المحمول، لا أقل من تعارض الظهورين وتساقطهما، فلا يبقى ظهور في وجوب الإتيان بالباقي.

[1] إشارة إلى الإشكال الأول، «الكل» في قوله: (ما لا يدرك كله).

[2] إشارة إلى الإشكال الثاني، «له» للحديث الثالث.

[3] «عند» متعلق ب- (رجحان) أي: الرجحان في إتيان الباقي عند تعذر بعض الأجزاء، «أجزائه» أي: أجزاء المأمور به.

[4] أي: (ما لا يدرك)، فإن (ما) عام شامل للمستحب وللواجب.

[5] أي: ظهوره في حد نفسه.

[6] إشارة إلى الإشكال الثالث، أي: لا نسلم ظهور (لا يترك) في الوجوب؛ لأنه جملة خبرية!! ولا يخفى أن المصنف في المجلد الأول ذهب إلى دلالة الجملة الخبرية على اللزوم!!

ص: 301

موجباً لتخصيصه[1] بالواجب لو لم يكن[2] ظهوره في الأعم قرينةً[3] على إرادة خصوص الكراهة أو مطلق المرجوحية[4] من النفي. وكيف كان[5] فليس ظاهراً في اللزوم هاهنا، ولو قيل بظهوره فيه[6] في غير المقام.

ثم[7]

--------------------------------------

[1] أي: تخصيص الموصول؛ وذلك لأن ظهور المحمول لا يرجح على ظهور الموضوع، لا أقل من تساقطهما.

[2] إشارة إلى الإشكال الرابع، «ظهوره» أي: ظهور الموصول.

[3] حيث إن ظهور الموضوع أقوى من ظهور المحمول، فيكون ظهور الموضوع قرينةً على رفع اليد عن ظهور المحمول.

[4] أي: حمل (لا يترك) على الكراهة أو على المرجوحية بشكل مطلق، بحيث يشمل الكراهة والحرمة.

[5] يعني حتى لو لم نقل بترجيح ظهور الموضوع، فلا أقل من تعارض الظهورين وتساقطهما، «هاهنا» حيث إن الموصول أعم من الواجب والمستحب.

[6] أي: ظهور (لا يترك) وهو جملة خبرية، «فيه»: في اللزوم، «غير المقام» والمقام هو ما كان ظهور معاكس في الموضوع.

تشخيص الميسور

[7] إن كلمة (الميسور) استعملت في الرواية الثانية، وجعلت موضوعاً للحكم، فلابد من معرفة معناها.

وبما أن الكلام ملقى إلى العرف - لأن الرسل تكلموا بلسان قومهم كما قال: {وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ}(1) - فلذا يُرجع إلى العرف في تشخيص مفاهيم الكلمات، فكل ما اعتبره العرف ميسوراً يلزم الإتيان به - لو قبلنا القاعدة - حتى وإن لم يكن ميسوراً دقة. وهنا يذكر المصنف أنّ:

ص: 302


1- سورة إبراهيم، الآية: 4.

إنه حيث كان الملاك[1] في قاعدة الميسور هو صدق الميسور على الباقي عرفاً، كانت القاعدة جارية مع تعذر الشرط[2] أيضاً، لصدقه حقيقةً عليه[3] مع تعذره عرفاً، كصدقه عليه كذلك[4] مع تعذر الجزء في الجملة وإن كان فاقد الشرط مبايناً للواجد عقلاً[5]؛ ولأجل ذلك[6] ربما لا يكون الباقي الفاقد لمعظم الأجزاء أو لركنها[7]

--------------------------------------

1- فاقد بعض الأجزاء هو ميسور عرفاً وعقلاً.

2- فاقد الشرط ليس من الميسور عقلاً، بل هو مباين؛ لأن المشروط عدم عند عدم شرطه، ولكن بما أنه ميسور عرفاً فتنطبق عليه قاعدة الميسور.

[1] حيث ألقى الشارع الكلام إلى العرف بلسانهم.

[2] كما لو تعذرت الرقبة المؤمنة، بأن كان كل الرقاب كفاراً. فإن الرقبة الكافرة مباينة للمؤمنة عقلاً - لأن كل فرد من الكلي يباين الفرد الآخر - لكنه عرفاً تعتبر الكافرة الميسور من الرقبة المؤمنة.

[3] أي: لصدق الميسور على الباقي، وقوله: «حقيقةً» أي: صدقاً حقيقياً في العرف، لا مجازاً، «مع تعذره» أي: مع تعذر الشرط.

[4] أي: كصدق الميسور على الباقي، «كذلك» حقيقة عرفاً، «في الجملة» لا ما إذا كان فاقداً لمعظم الأجزاء أو الجزء، الذي يكون ركناً عند العرف - كما سيأتي مثاله بعد قليل - .

[5] لأنهما مصداقان من مصاديق الكلي، ومن الواضح التباين بين المصاديق، مثلاً: زيد وعمرو مصداقان لكلي الإنسان، وليس أحدهما ميسور الآخر؛ لأنهما متباينان.

[6] أي: لأجل أن الملاك هو إطلاق العرف الميسور على الباقي.

[7] أي: لركن الأجزاء، مثلاً: ماء اللحم لا يطلق على الفاقد للّحم؛ لأنه ركن في هذا الطعام.

ص: 303

مورداً لها[1] في ما إذا لم يصدق عليه الميسور عرفاً وإن كان غير مباين للواجد عقلاً[2].

نعم[3]، ربما يلحق به[4] شرعاً ما لا يعدّ بميسور عرفاً تخطئةً للعرف، وأن[5] عدم العدّ كان لعدم الاطلاع على ما هو عليه[6] الفاقد من قيامه[7] في هذا الحال

--------------------------------------

[1] أي: لقاعدة الميسور، «عليه» على الفاقد للمعظم أو للركن.

[2] لأن الأجزاء قد لا يكون لها دخل في الماهية، أو يكون لها دخل إن وجدت، فإن لم توجد فلا، مثلاً: الناسي لجزء من أجزاء الصلاة - غير الأركان - صلاته صحيحة، وبفعله تحققت ماهيتها حتى مع فقدان جزء، فتأمل.

توسعة أو تضييق الميسور

[3] فإن الشرع أو كل مفاهيم الألفاظ إلى العرف، لكنه قد يتدخل فيضيق الموضوع أو يوسعّه.

وفي ما نحن فيه، قد لا يرى العرف الفاقد ميسوراً، لكن الشارع - لعلمه بحقائق الأمور - يعلم بأنه يوجد الملاك في الفاقد، أو المقدار الملزم من الملاك، وحينئذٍ يعلن كفاية الفاقد، كوضوء الجبيرة حيث لا يراه العرف ميسور الوضوء.

أو أن العرف يرى الفاقد ميسوراً، ولكن الشارع يعلم بأنه لا ملاك فيه، وحينئذٍ يبيّن عدم كفايته، مثلاً: لو تمكن من الصيام إلى قبل الغروب بدقيقة.

وهذا قد يكون لتخطئة العرف، أو لأجل توسيع الموضوع أو تضييقه.

[4] أي: بالواجد للأجزاء والشرائط قد يلحق الفاقد الذي لا يراه العرف ميسوراً، لكن الشارع يُخطِّئ العرف ويبيّن أنه ميسور.

[5] بيان للتخطئة، «العدّ» أي: عدم عدّ العرف له ميسوراً.

[6] أي: لعدم اطلاع العرف على «ما» الملاك الذي، «هو» الفاقد، «عليه» على ذلك الملاك، قوله: «من قيامه...» بيان لقوله: «ما هو عليه».

[7] أي: من قيام الفاقد، «في هذا الحال» حال تعذر الشرط أو الجزء.

ص: 304

بتمام ما قام عليه الواجد[1] أو بمعظمه[2] في غير الحال، وإلاّ[3] عَدّ أنه ميسوره، كما ربما يقوم الدليل على سقوط ميسور عرفي لذلك - أي للتخطئة - وأنه لا يقوم بشيء من ذلك[4].

وبالجملة: ما لم يكن دليل[5] على الإخراج أو الإلحاق كان المرجع هو الإطلاق[6]، ويستكشف منه أن الباقي قائم بما[7] يكون المأمور به قائماً بتمامه أو بمقدار يوجب إيجابه في الواجب واستحبابه في المستحب.

وإذا قام دليل على أحدهما[8] فيُخرج أو يُدرج تخطئةً أو تخصيصاً[9] في

--------------------------------------

[1] أي: الملاك الذي كان في الواجد.

[2] أي: بمعظم ما قام عليه الواجد، أي: معظم الملاك بحدّ يكون إدراكه لازماً، «في غير الحال» أي: في غير حال التعذر، أي: في حال التمكن.

[3] أي: وإن كان العرف مطلعاً على وجدان الفاقد للملاك أو لمعظمه كان يَعدّ هذا الفاقد من الميسور، «أنه» أن الفاقد، «ميسوره» أي: ميسور الواجد.

[4] مما قام عليه الواجد - أي: الملاك - .

[5] وهو الحالة الاستثنائية التي تدخّل فيها الشارع لتخطئة العرف.

[6] أي: إطلاق دليل (الميسور لا يسقط... الخ)، «منه» أي: من هذا الإطلاق.

[7] أي: بالملاك الذي، وقوله: «بتمامه» بدل عن قوله: «بما يكون المأمور...» وكان اللازم إضافه (به) بعد (قائماً) حتى يكون الضمير الراجع إلى الموصول.

[8] الإخراج عن الميسور العرفي، أو الإدخال فيه.

[9] أي: قد يكون تخطئة للعرف، وقد لا يكون تخطئة، بل إخراج فرد عن الحكم بالتخصيص.

والفرق أن (التخطئة): هي إعلام أن هذا ليس بفرد من الكلي، وقد أخطأ العرف في اعتباره فرداً، و(التخصيص): هو إعلام صحة كونه فرداً، ولكن يخرجه الشارع عن الحكم - مع دخوله في الموضوع - .

ص: 305

الأول[1]، وتشريكاً[2] في الحكم من دون الاندراج في الموضوع في الثاني[3]، فافهم[4].

تذنيب[5]: لا يخفى: أنه إذا دار الأمر بين جزئية شيء أو شرطيته وبين مانعيته أو قاطعيته[6]،

--------------------------------------

[1] أي: في الإخراج.

[2] عطف على (تخطئة) أي: وقد يرى العرف أنه ليس بفرد، والشرع أيضاً يرى أنه ليس بفرد للكلي، ولكنه يجعل له نفس الحكم.

[3] أي: في الإدخال.

[4] لعله إشارة إلى أنه ليس بتخطئة ولا تشريك، بل هو توسيع الموضوع أو تضييقه، بمعنى أن الشارع يتصرف في الموضوع فيوسعه بحيث يشمل ما لا يعتبره العرف ميسوراً، أو يضيقه بحيث لا يشمل ما يعتبره العرف ميسوراً.

تذنيب

[5] في هذا التذنيب يبحث المصنف عن مورد من موارد الشك في الجزئية والشرطية، وهو ما لو دار الشيء بين كونه جزءاً أو شرطاً وبين كونه مانعاً أو قاطعاً، فلا ندري هل صحة العمل تتوقف على الإتيان به أو تتوقف على تركه؟

مثلاً: لو انحصر الساتر في ما لا يؤكل لحمه، فيدور الأمر بين كون الستر به شرطاً لصحة الصلاة، أو مانعاً عنها، فعليه أن يصلّي بلا ساتر.

ذهب الشيخ الأعظم إلى التخيير(1)؛

لأنه من مصاديق الدوران بين المحذورين، لكن المصنف يرى إمكان الاحتياط بتكرار العمل مرتين - مرة بدون ذلك الجزء أو الشرط، ومرّة أخرى معه - فصار من قبيل الدوران بين المتباينين.

[6] (المانع): هو الذي لا يختل به الهيئة الاتصالية للعمل، فإذا أزال المانع صحّ العمل، كمن يقع على ثوبه نجاسة في الصلاة فإنه ينزع الثوب ويستمر في الصلاة.

و(القاطع): هو الذي يختل به الهيئة الاتصالية للعمل، فلا تصلح الأجزاء

ص: 306


1- فرائد الأصول 2: 400.

لكان من قبيل المتباينين[1]، ولا يكاد يكون من الدوران بين المحذورين[2]، لإمكان الاحتياط بإتيان العمل مرتين، مع ذاك الشيء مرة وبدونه أخرى، كما هو أوضح من أن يخفى[3].

خاتمة: في شرائط الأصول[4].

أما الاحتياط[5]: فلا يعتبر في حسنه شيء أصلاً، بل يحسن على كل حال، إلاّ

--------------------------------------

السابقة للاتصال بالأجزاء اللاحقة، كاستدبار القبلة، فإن الأجزاء السابقة تخرج عن قابلية الاتصال بالأجزاء اللاحقة.

[1] حيث يمكن الاحتياط بالتكرار، كما لو دارت القبلة بين الجهات الأربع، فكل صلاة إلى جهة تباين الصلاة إلى جهات أخرى، فتجب كلها احتياطاً؛ لإدراك الواقع وإبراء الذمة.

[2] الذي لا يمكن الاحتياط فيها، ويكون المكلف مخيراً، وأما هنا فالاحتياط ممكن بتكرار العمل.

[3] ولا يخفى أن ما ذكره المصنف إنما هو في ما لم يكن القاطع أو المانع حراماً، أما لو احتمل الحرمة فيكون من الدوران بين المحذورين، حيث لا يدرى أن هذا الشيء واجب لو كان جزءاً أو شرطاً، أو حرام لو كان مانعاً أو قاطعاً.

خاتمة في شرائط الأصول

اشارة

[4] إنّما لم يؤخر هذا البحث إلى بعد الاستصحاب - مع أن للاستصحاب شروطاً -لكثرة مباحث الاستصحاب، فبالتأخير تحصل فاصلة كبيرة قد يحتاج معه إلى التكرار أكثر.

شرط الاحتياط

[5] قد مرّ في التنبيه الثاني من تنبيهات البراءة حسن الاحتياط، كما مرّ موضوع

ص: 307

إذا كان موجباً لاختلال النظام.

ولا تفاوت فيه بين المعاملات والعبادات مطلقاً، ولو كان موجباً للتكرار فيها.

وتوهم[1] «كون التكرار عبثاً ولعباً بأمر المولى[2]، وهو ينافي قصد الامتثال المعتبر في العبادة» فاسد[3]،

--------------------------------------

تكرار العبادة، لكن المصنف يكررها هنا تذكرة. فالاحتياط حسن على كل حال؛ لأن الإنسان يحفظ بالاحتياط غرض المولى، ويدرك مصلحة الواقع، ولا يقع في مفسدته.

نعم، إذا أوجب الاحتياط اختلال النظام، أو أورث محذوراً آخر كالوسوسة فلا حُسن فيه؛ لأن المصلحة الأهم اقتضت رفع اليد عن المصلحة المهمة.

[1] حاصله: إنه لو أمكن العلم أو الحجة، ولكنه احتاط بالتكرار، فإن هذا التكرار استخفاف بالمولى، والاستخفاف لا يجتمع مع قصد التقرب إليه.

[2] والعبث بأمره هو استخفاف به، «وهو» أي: العبث، وقوله: «عبثاً ولعباً» عطف تفسيري.

[3] من جهتين:

1- إن التكرار قد يكون لغرض عقلائي، فلا يكون استخفافاً بأمر المولى، مثلاً: لو كان تحصيل العلم بالقبلة يستلزم قطع مسافة طويلة جداً، تأخذ من الوقت أكثر من التكرار إلى الجهات الأربع، فإن التكرار ليس استخفافاً، بل له داعٍ عقلائي.

2- إن التكرار ليس استخفافاً بأمر المولى، بل قد يكون لغواً من جهة ضم أفعال غير مأمور بها إلى المأمور به، كمن يأمره المولى بإتيان كتاب، وتردد بين عشرة كتب، فلو أتى بها كلها - مع تمكنه من السؤال - فإنه قد امتثل أمر المولى بإتيان ما أمره به من غير استخفاف به، لكنه عمل لغواً بضم تسعة كتب أخرى، وهذا ليس لعباً بأمر المولى، فلا استخفاف فيه.

ص: 308

لوضوح[1] أن التكرار ربما يكون بداعٍ صحيح عقلائي؛ مع[2] أنه لو لم يكن بهذا الداعي، وكان أصل إتيانه[3] بداعي أمر مولاه بلا داع له سواه، لما ينافي[4] قصد الامتثال، وإن كان لاغياً في كيفية امتثاله[5]، فافهم[6].

بل يحسن[7]

--------------------------------------

[1] إشارة إلى الإشكال الأول.

[2] الإشكال الثاني، «أنه» أن التكرار، «بهذا الداعي» أي: الداعي العقلائي.

[3] أي: إنّما يأتي بالعمل مكرراً بغرض امتثال أمر المولى، لا بغرض الاستهزاء - مثلاً - ، «إتيانه» إتيان المأمور به، «له» للمكلف، «سواه» سوى أمر المولى.

[4] جزاء (لو) أي: لما كان التكرار ينافي قصد الامتثال.

[5] وذلك بضم ما لم يؤمر به إلى ما أمر به، «امتثاله» أي: امتثال أمر المولى.

[6] لعله إشارة إلى أن اللعب ليس في كيفية الامتثال أيضاً كما لم يكن في أصل الامتثال؛ وذلك لأن المكلف أتى بالصلاة إلى القبلة - واقعاً - وهذا هو الامتثال ولا لعب فيه، وإنما اللغو في ضمّ ثلاث صلوات أخرى إلى غير القبلة، وهي لا ترتبط بالامتثال أصلاً.

[7] أي: حتى لو قام الدليل الشرعي على عدم التكليف، فإنه يحسن الاحتياط أيضاً، مثلاً: لو قامت البينة بطهارة شيء، مع احتمال خطئها، فإنه يجوز التعامل مع الشيء معاملة الطاهر، ولكن يحسن الاحتياط. وكما لو قام خبر واحد على عدم وجوب شيء، بل على استحبابه، ومع ذلك يحتاط المكلف بالالتزام بذلك الشيء؛ وذلك لأن الدليل يرفع الحكم التكليفي ويرفع العقاب، أما الأمور التكوينية فتبقى بحالها، فالمصلحة في الواجب موجودة - علم بها المكلف أم جهل - وكذا المفسدة في الحرام، فلكي يحرز تلك المصلحة، وكذا لكي لا يقع في المفسدة - على فرض وجودهما - فيحتاط، وهذا حسن أيضاً.

ص: 309

أيضاً في ما قامت الحجة على البراءة عن التكليف، لئلا يقع[1] في ما كان في مخالفته على تقدير ثبوته من المفسدة وفوت المصلحة.

وأما البراءة العقلية[2]: فلا يجوز إجراؤها إلاّ بعد الفحص واليأس عن الظفر بالحجة على التكليف، لما مرت الإشارة إليه من عدم استقلال العقل بها إلاّ بعدهما[3].

وأما البراءة النقلية[4]:

--------------------------------------

[1] دليل حسن الاحتياط، «في ما» بيّن الموصول في قوله: (من المفسدة وفوت المصلحة)، «مخالفته» مخالفة التكليف، «ثبوته» ثبوت التكليف.

شرط البراءة العقلية

[2] الذي كان مستندها (قبح العقاب بلا بيان) فشرط جريانها هو الفحص عن الدليل على التكليف واليأس عنه؛ لعدم حكم العقل بقبح العقاب قبل الفحص واليأس، بل لو لم يفحص وصادف المخالفة فلا يرى العقل مانعاً عن عقابه.

[3] «بها» بالبراءة، «بعدهما» بعد الفحص واليأس.

شرط البراءة النقلية

[4] إن أدلة البراءة الشرعية مطلقة، تشمل صورة عدم الفحص أيضاً؛ ولذا استدلوا بها على عدم لزوم الفحص في الشبهات الموضوعية، فمن شك في طهارة شيء لا يلزمه الفحص لدليل البراءة، وحينئذٍ فلابد من إثبات لزوم الفحص في الشبهات الحكمية، من دليل مقيّد لإطلاق دليل البراءة.

وقد استدلوا بثلاثة أدلة على لزوم الفحص في الشبهات الحكمية، مما يتقيد بها إطلاق دليل البراءة.

الأول: الإجماع على لزوم الفحص.

وفيه: إن الإجماع المحصّل غير حاصل؛ لعدم تعرض كثير من الفقهاء لهذه

ص: 310

فقضية إطلاق أدلتها[1]، وإن كان هو عدم اعتبار الفحص في جريانها[2]، كما هو حالها[3]

--------------------------------------

المسألة، وأما الإجماع المنقول فهو موهون؛ وذلك لأن الإجماع الحجة إنما هو في ما لو كان كاشفاً عن قول المعصومعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، أما لو استند المجمعون إلى دليل آخر فلا يكون هذا الإجماع حجة، بل حتى لو احتمل استنادهم إلى دليل، وفي ما نحن فيه يحتمل قوياً استنادهم إلى حكم العقل بلزوم الفحص، فحينئذٍ يرجع دليل الإجماع إلى دليل العقل ولا يكون دليلاً مستقلاً.

الثاني: حكم العقل؛ وذلك للعلم الإجمالي بوجود تكاليف في المشتبهات، فيلزم الاحتياط، ومع الفحص ينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي ببعض التكاليف، وشك بدوي في سائر الأمور فتجري فيها البراءة.

وفيه: إن العلم الإجمالي منحل، حيث ظفرنا بمقدار من التكاليف، ولا نعلم بوجود تكاليف أخرى في سائر الموارد، ومع ذلك نقول بعدم جواز جريان البراءة الشرعية إلاّ بعد الفحص عن الدليل في تلك الموارد أيضاً.

الثالث: الآيات والأخبار الدالة على لزوم التعلّم والتفقه، فتدلّ على لزوم الفحص عن الدليل للتكليف.

[1] أدلة البراءة، كقوله: (رفع... ما لا يعلمون)(1)

وقوله: (فهو موضوع عنهم)(2) ولم تُقيّد بما بعد الفحص، بل هي مطلقة سواء قبله أم بعده.

[2] أي: في جريان البراءة؛ لأن الدليل مطلق لم يؤخذ فيه الفحص.

[3] «هو» عدم اعتبار الفحص، «حالها» حال البراءة النقلية، أي: تمسكوا لعدم لزوم الفحص في الشبهات الموضوعية بإطلاق دليل البراءة، مما يعني أنهم يعترفون بإطلاقها؛ ولذا تمسكوا بالإطلاق في الشبهة الموضوعية.

ص: 311


1- التوحيد: 353.
2- الكافي 1: 164.

في الشبهات الموضوعية، إلاّ أنه[1] استدل على اعتباره بالإجماع، وبالعقل، فإنه[2] لا مجال لها بدونه حيث يعلم إجمالاً بثبوت التكليف بين موارد الشبهات بحيث لو تفحص عنه لظفر به.

ولا يخفى[3]: أن الإجماع هاهنا غير حاصل، ونقله لوهنه بلا طائل[4]، فإن تحصيله في مثل هذه المسألة - مما للعقل إليه سبيل - صعبٌ[5]، لو لم يكن عادةً بمستحيل، لقوة احتمال أن يكون المستند للجل - لو لا الكل - هو ما ذكر من حكم العقل[6].

وأن الكلام[7]

--------------------------------------

[1] أي: ولكن توجد أدلة أخرى تقيّد إطلاق دليل البراءة، «اعتباره» أي: الفحص في الشبهات الحكمية.

[2] بيان للدليل العقلي - الذي يقيّد إطلاق دليل البراءة - «لها» للبراءة، «بدونه» بدون الفحص.

[3] شروع في الإشكال على الإجماع وعلى دليل العقل.

أما الإجماع ففي قوله: (أن الإجماع هاهنا... الخ)، وأما العقل ففي قوله: (وأن الكلام في البراءة...).

[4] أي: نقل الإجماع غير مفيد؛ وذلك لوهن هذا الإجماع، حيث إنه معلوم الاستناد، لا أقل من احتمال استناد المجمعين إلى دليل العقل.

[5] لأن الإجماع الحجة هو ما كشف عن قول المعصومعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، ومع وجود مستند آخر لحكم الفقهاء لا يُعلم كون مستندهم قول المعصوم، بل لعل ذلك المستند الآخر كان منشأ للحكم.

[6] فيرجع الإجماع إلى الدليل الثاني، فلا يكون دليلاً مستقلاً برأسه.

[7] عطف على قوله: (ولا يخفى أن الإجماع هاهنا... الخ)، وهذا رد للدليل العقلي.

ص: 312

في البراءة في ما لم يكن هناك علم موجب للتنجز[1]، إما[2] لانحلال العلم الإجمالي[3] بالظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال، أو لعدم[4] الابتلاء إلاّ بما لا يكون بينها علم بالتكليف من موارد الشبهات ولو لعدم الالتفات إليها[5].

فالأولى[6]

--------------------------------------

[1] أي: القائلون بلزوم الفحص، يقولون به حتى مع عدم تنجز العلم الإجمالي، إما لانحلال العلم الإجمالي الكبير، أو لعدم الابتلاء ببعض أطراف العلم الإجمالي، ولكن مع ذلك يجب الفحص قبل إجراء أصل البراءة الشرعية.

[2] بيان لصورتي عدم تنجز العلم الإجمالي.

[3] أي: العلم الإجمالي الكبير بوجود مجموعة من التكاليف ضمن مختلف القضايا.

[4] بيان للصورة الثانية من موارد عدم تنجز العلم الإجمالي، وهي أن لا يبتلى المكلف إلاّ بمقدار محدود من القضايا، ولا يعلم وجود تكليف ضمنها، فلا يكون علم إجمالي في ما هو محل ابتلائه، ولكن مع ذلك يجب الفحص قبل إجراء البراءة.

[5] أي: عدم الابتلاء ولو كان من جهة الغفلة، لا من جهة عدم القدرة، فلعل هناك قضايا يمكنه الإتيان بها، ولكنه لغفلته لا تكون محلاً لابتلائه.

[6] هذا هو الدليل الثالث الدال على لزوم الفحص، وبه يقيد إطلاق دليل البراءة، وهو الآيات والروايات الدالة على وجوب التعلّم، كقوله: {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ}(1)، والدالة على عدم قبول عذر المخالف بعدم علمه فيقال له: (هلاّ تعلمت)(2)

مما يدل على وجوب تحصيل العلم - وهو فحص في حقيقته - .

إن قلت: إن مورد البراءة هو عدم العلم بالتكليف - لا إجمالاً ولا تفصيلاً - فهذا في مورد الشبهات البدوية، وأما مورد أدلة التعلّم فهو ترك العمل بما علم بوجوبه إجمالاً، فلا تشمل موارد الشبهات البدوية حتى تقيد أدلة البراءة.

ص: 313


1- سورة التوبة، الآية: 122.
2- الأمالي (للشيخ الطوسي): 9، مع اختلاف.

الاستدلال للوجوب بما دل من الآيات[1] والأخبار على وجوب التفقه والتعلم[2] والمؤاخذة[3] على ترك التعلم في مقام الاعتذار عن عدم العمل بعدم العلم بقوله[4] تعالى. كما في الخبر: «هلا تعلمت»(1).

فيقيد بها[5] أخبار البراءة، لقوة

--------------------------------------

قلت: إن أدلة (التعلّم) إنّما هي في الجاهل - لا في العالم بالعلم الإجمالي - وذلك لظهور مثل: (هلاّ تعلّمت) فيمن لا يعلم أصلاً، وكان عدم تعلّمه عن تقصير، إذن فأدلة البراءة في مورد الشبهات البدوية وهي مطلقة تشمل قبل الفحص وبعده، وأدلة وجوب التعلم أيضاً في الشبهات البدوية ولكنها خاصة بصورة قبل الفحص؛ إذ بعد الفحص قد تحقق التعلّم، وعلى هذا لابد من تقييد أدلة البراءة بأدلة وجوب التعلم، مما ينتج عدم جواز إجراء البراءة قبل الفحص، وجواز إجرائها بعد الفحص.

[1] كآية السؤال: {فَسَۡٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ}(2)، وآية النفر: {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ}(3) وغيرهما.

[2] الذي هو عبارة أخرى عن الفحص عن التكاليف.

[3] وقد جعل الشيخ الأعظم(4)

جواز المؤاخذة على المخالفة بسبب ترك الفحص دليلاً آخر على لزوم الفحص؛ إذ لو لم يكن الفحص واجباً كان العقاب على المخالفة قبيحاً، لكنا نرى استقلال العقل باستحقاق المخالف للعقوبة لو كان متمكناً من التعلم لكنه تركه.

[4] (الباء) متعلق ب- (المؤاخذة)، أي: المؤاخذة بقوله: (هلاّ تعلّمت).

[5] أي: بالآيات والروايات الدالة على وجوب التفقه والتعلم وعلى المؤاخذة

ص: 314


1- الأمالي (للشيخ الطوسي): 9، مع اختلاف.
2- سورة النحل، الآية: 43؛ سورة الأنبياء، الآية: 7.
3- سورة التوبة، الآية: 122.
4- فرائد الأصول 2: 412.

ظهورها[1] في أن المؤاخذة والاحتجاج بترك التعلم في ما لم يعلم، لا بترك العمل[2] في ما علم وجوبه ولو إجمالاً، فلا مجال للتوفيق[3] بحمل هذه الأخبار على ما إذا علم إجمالاً، فافهم[4].

--------------------------------------

لو ترك العمل لجهله.

[1] بيان لكون أدلة (التعلّم) هي أخص من دليل البراءة، و(قوة الظهور) بمعنى تبادر هذا المعنى إلى أذهان أهل اللسان.

ففي أمالي الشيخ الطوسي عن الإمام الصادقعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنه سئل عن قوله تعالى: {قُلۡ فَلِلَّهِ ٱلۡحُجَّةُ ٱلۡبَٰلِغَةُۖ}(1)، فقال: (إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة عبدي أكنت عالماً؟ فإن قال نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت؟! وإن قال: كنت جاهلاً، قال له: أفلا تعلّمت حتى تعمل؟! فيخصمه، فتلك الحجة البالغة)(2).

فإنه من الواضح أن المعنى أنه كان جاهلاً فلم يعمل، لا أنه كان عالماً إجمالاً فترك العمل!!

[2] لأنه في هذا الحديث قد ذكر أولاً ترك العمل بما يعلم، ثم ذكر ثانياً ترك التعلّم في ما لم يعلم به.

[3] «للتوفيق» أي: الجمع بين الدليلين، «هذه الأخبار» أي: أخبار وجوب التعلّم. أي: بعد ظهور أدلة التعلّم في كونها في صورة الجهل، وأنها أخص من أدلة البراءة، فمقتضى الجمع هو تقييد أدلة البراءة بأدلة التعلّم، ولا مجال لجمع آخر بأن يقال: إن أدلة البراءة هي في الشبهات البدوية، وأدلة التعلم في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي؛ وذلك لأن هذا التوفيق إنّما يكون في المتباينين، وليس هنا كذلك، لما بيّناه من الإطلاق والتقييد، مضافاً إلى أن هذا الجمع تبرعي.

[4] لعله إشارة إلى عدم الحاجة إلى الاستدلال بقوة الظهور؛ وذلك لأنه إذا

ص: 315


1- سورة الأنعام، الآية: 149.
2- الأمالي: 9.

ولا يخفى[1]: اعتبار الفحص في التخيير العقلي أيضاً بعين ما ذكر في البراءة، فلا تغفل.

ولا بأس بصرف الكلام في بيان بعض ما للعمل بالبراءة قبل الفحص من التبعة والأحكام.

أما التبعة[2]: فلا شبهة في استحقاق العقوبة على المخالفة في ما إذا كان ترك التعلم والفحص مؤدياً إليها[3]،

--------------------------------------

فحص ولم يجد تكليفاً فلا معنى لأن يقال له تعلّم.

أو إشارة إلى أن تقدم أدلة البراءة بشكل مطلق على أدلة التعلم يستلزم اللغوية في أدلة التعلّم؛ إذ مع إجراء البراءة لا يبقى مجال لوجوب التعلّم، فلابد من تقديم أدلة التعلّم على أدلة البراءة، فيقيد دليل البراءة بما بعد الفحص.

شرط التخيير العقلي

[1] نفس ما ذكرناه في البراءة العقلية، من أن العقل لا يستقل بها إلاّ بعد الفحص، نقوله في التخيير العقلي؛ إذ لا يحكم العقل به إلاّ بعد الفحص واليأس، وأما قبله فلا حكم بالتخيير، ودليل هذا الأمر الوجدان.

إجراء البراءة قبل الفحص
أولاً: التبعة
اشارة

[2] أي: استحقاق العقوبة وعدمها، فمن ترك الفحص وأجرى البراءة:

1- فقد يخالف الواقع، كمن أجرى البراءة في العصير العنبي بعد الغليان وقبل ذهاب الثلثين فشربه، فهذا يستحق العقاب.

2- وقد لا يخالف الواقع، كمن أجرى البراءة عن حرمة شرب التبغ، ثم صادف عدم حرمته واقعاً، فهذا متجرٍّ، ويستحق العقاب على تجريه - بناءً على حرمة التجري - .

[3] أي: إلى المخالفة.

ص: 316

فإنها[1] وإن كانت مغفولة حينها[2] وبلا اختيار، إلاّ أنها منتهية إلى الاختيار، وهو[3] كافٍ في صحة العقوبة؛ بل مجرد تركهما[4] كافٍ في صحتها وإن لم يكن مؤدياً إلى المخالفة، مع احتماله[5]، لأجل التجري وعدم المبالاة بها.

نعم، يشكل[6]

--------------------------------------

[1] دفع إشكال، وحاصله: إنه حين المخالفة غافل عن أن فعله مخالفة، ويقبح عقاب الغافل.

والجواب: إن سبب المخالفة هو ترك الفحص، وما بالاختيار لا ينافي الاختيار، كمن يلقي بنفسه من شاهق، فقبل ارتطامه بالأرض هو غير مختار، لكن بما أن سبب العمل كان باختياره فإنه تصح عقوبته.

[2] أي: حين المخالفة، «وبلا اختيار» لأن الغفلة أمر غير اختياري، «إلاّ أنها» أن المخالفة، «إلى الاختيار» وهو ترك الفحص.

[3] أي: الانتهاء إلى الاختيار.

[4] أي: ترك التعلّم والفحص، «صحتها» صحة العقوبة.

[5] أي: احتمال أن يؤدي إلى المخالفة، وإنّما ذكر هذا القيد لأنه لا تجري مع عدم الاحتمال، فمن لا يحتمل الحرمة أصلاً لا يصدق عليه أنه تجرّى على مولاه.

إشكال

[6] حاصل الإشكال: إن وجوب التعلم هو وجوب غيري مقدمي، حيث إنه مقدمة للعمل بالتكاليف، فلابد من وجوب ذي المقدمة حتى يترشح وجوبه إلى وجوب المقدمة.

لكن في الواجب المشروط - كالحج المشروط بالاستطاعة - لا وجوب قبل الاستطاعة، وبعد تحقق الاستطاعة يكون غافلاً عن الوجوب، فليس وجوب الحج منجزاً، فكيف تجب مقدمته، التي هي التعلّم والفحص؟

ص: 317

في الواجب المشروط والموقت[1] لو أدّى تركهما[2] قبل الشرط والوقت إلى المخالفة بعدهما، فضلاً[3] عما إذا لم يؤد إليها، حيث لا يكون حينئذٍ[4] تكليف فعلي أصلاً، لا قبلهما - وهو واضح[5] - ولا بعدهما[6] - وهو كذلك -، لعدم[7] التمكن منه

--------------------------------------

وبعبارة أخرى: لم يتنجز الحج أصلاً، لا قبل الاستطاعة؛ لعدم وجوبه، ولا بعد الاستطاعة للغفلة عنه.

[1] (الواجب المشروط) وهو ما توقف أصل الوجوب على تحقق شرط، كوجوب الحج المتوقف على تحقق الاستطاعة؛ إذ قبل الاستطاعة لا وجوب للحج أصلاً. وتسميته بالواجب المشروط حسب اصطلاح الشيخ الأعظم، وهو الواجب المعلّق حسب اصطلاح المشهور.

و(الواجب الموقت) هو من أقسام الواجب المشروط، ويكون شرط الوجوب هو الوقت، مثلاً: قبل شهر رمضان لا وجوب للصوم، ويجب بطلوع الفجر من اليوم الأول.

[2] أي: ترك الفحص والتعلّم، «بعدهما» أي: بعد الشرط والوقت.

[3] أي: في صورة التجري، والمعنى: إنه مع المخالفة يشكل العقاب، فكيف مع عدم المخالفة؛ لأن التجري لا يزيد على المخالفة؟

[4] أي: حين عدم الفحص والتعلم، فلا يوجد تكليف أصلاً لا قبل تحقق الشرط والوقت، ولا بعدهما.

[5] لما مرّ أن المقدمة هي شرط الوجوب، فلا وجوب لذي المقدمة كي يترشح على المقدمة، «وهو» عدم التكليف الفعلي.

[6] بعد تحقق الشرط والوقت، «وهو» عدم التكليف الفعلي، «كذلك» واضح.

[7] بيان لوضوح عدم التكليف الفعلي بعد تحقق الشرط والوقت، «منه» أي: من التكليف.

ص: 318

بسبب الغفلة؛ ولذا التجأ[1] المحقق الأردبيلي وصاحب المدارك (قدس سرهما)(1)

إلى الالتزام بوجوب التفقه والتعلم نفسياً تهيئياً، فتكون العقوبة على ترك التعلم نفسه، لا على[2] ما أدّى إليه من المخالفة، فلا إشكال حينئذٍ[3] في المشروط والموقت. ويسهل[4] بذلك[5] الأمر في غيرهما لو صعب على أحد ولم تصدق[6]

--------------------------------------

الجواب الأول

[1] حيث لم يتمكنوا من دفع هذا الإشكال عبر الوجوب الغيري المقدمي للفحص والتعلم، اضطروا إلى القول بأن التعلم والفحص واجب نفسي، فهو يجب حتى مع عدم وجوب الواجب المشروط، ولكن المصلحة في وجوب التعلّم هو التهيّؤ للتكاليف حتى لا يخالفها، وبعبارة أخرى: المصلحة في وجوب التعلّم هو حفظ أوامر المولى ونواهيه وتحصيل غرضه.

[2] أي: ليست العقوبة على «ما» المخالفة التي، «أدّى» ترك التعلّم، «إليه» الضمير راجع إلى الموصول، «من المخالفة» بيان للموصول.

[3] أي: حين القول بوجوب التعلّم بالوجوب النفسي التهيّؤي.

[4] إن الشيخ الأعظم(2)

أشكل على استحقاق الغافل للعقوبة حتى في غير الواجب المشروط والموقت؛ وذلك لأن تكليفه لغو لعدم الباعثيّة في هذا التكليف.

فيقول المصنف: إن القول بوجوب التعلّم والفحص نفسياً تهيئياً يسهل الأمر على مثل الشيخ الأعظم، حتى في غير الواجب المشروط والموقت - أي: في الواجب المطلق - .

[5] أي: بالوجوب النفسي التهيّؤي، «غيرهما» غير المشروط والموقت.

[6] أي: لو لم تكن صورة الغفلة مصداقاً للقاعدة العامة (ما بالاختيار لا ينافي الاختيار) و«على» في قوله: «على ما كان» متعلق بقوله: (لم تصدق).

ص: 319


1- مجمع الفائدة والبرهان 2: 110؛ مدارك الأحكام 2: 219 - 320.
2- فرائد الأصول 2: 421.

كفاية الانتهاء إلى الاختيار في استحقاق العقوبة على ما كان فعلاً مغفولاً عنه وليس بالاختيار.

ولا يخفى: أنه لا يكاد ينحل هذا الإشكال إلاّ بذلك[1]، أو الالتزام[2] بكون المشروط أو الموقت مطلقاً[3] معلقاً[4]،

--------------------------------------

[1] أي: بالوجوب النفسي التهيؤي.

الجواب الثاني

[2] حاصله: أن يقال: إن الواجبات المشروطة هي واجبات مطلقة بالنسبة إلى خصوص التعلم، مثلاً: (الحج) واجب مطلق بالنسبة إلى التعلّم، فيترشح من وجوب الحج وجوب المقدمة - التي هي التعلم - ولكنه بالنسبة إلى الاستطاعة وكذا سائر المقدمات واجب مشروط.

فيمكن أن يقول المولى هكذا: يجب من الآن عليك الحج بشرط التحقق الاتفاقي للاستطاعة، فيكون وجوب الحج فعلياً بالنسبة إلى التعلّم، لكن لا تجب تحصيل الاستطاعة؛ لأن المولى علّق الحكم على تحققها الاتفاقي.

إن قلت: هذا خلاف ظاهر الأدلة من عدم وجوب مثل الحج أصلاً قبل الاستطاعة.

قلت: يكفي هذا الاحتمال لدفع الإشكال العقلي، بأنّه كيف يترشح وجوب مقدمي على التعلّم مع عدم وجوب ذي المقدمة - مع وضوح وجوب التعلم شرعاً -؟ وكيف حكم الشارع خلاف حكم العقل؟! فيقال: إنه لا محذور عقلي، فلا إشكال في حكم الشارع بوجوب التعلّم مقدمة.

[3] أي: قبل تحقق الشرط - كالاستطاعة - أو بعد تحققه، أو «مطلقاً» بمعنى الواجب المطلق، أي: يكون المشروط والموقت واجباً مطلقاً لكنه بنحو التعليق.

[4] أي: واجب مطلق، لكنه متوقف وجوداً على تحقق شرط؛ لأن (الواجب

ص: 320

لكنه[1] قد اعتبر على نحو لا تتصف مقدماته الوجودية[2] عقلاً بالوجوب قبل الشرط أو الوقت غير التعلم، فيكون الإيجاب حالياً[3]، وإن كان الواجب استقبالياً[4] قد أخذ[5] على نحو لا يكاد يتصف بالوجوب شرطه[6] ولا غير التعلم من مقدماته قبل شرطه أو وقته.

وأما لو قيل[7] بعدم الإيجاب إلاّ بعد الشرط والوقت - كما هو ظاهر الأدلة وفتاوى

--------------------------------------

المعلق) من أقسام الواجب المطلق كما مرّ، فالصلاة تتوقف على الوضوء، بمعنى أن وجودها يتوقف عليه لا وجوبها؛ إذ هي واجبة سواء توضأ أم لم يتوضأ.

وبعد دخول شهر رمضان يجب صيام الشهر كله مع أن الأيام التالية لم تتحقق بعد، فالوجوب حالي - بمجرد دخول الشهر - والواجب استقبالي يتحقق بطلوع الفجر من كل يوم.

[1] أي: لكن هذا الواجب المعلق، «على نحو» أي: على كيفية.

[2] كالزاد والراحلة والرفقة... الخ، فإنها مقدمات وجود الحج وتحققه في الخارج، وليست مقدمات وجوبه، بخلاف الاستطاعة فإنها مقدمة الوجوب.

[3] فيترشح الوجوب منه إلى مقدمته - التي هي التعلّم والفحص - .

[4] يتوقف على تحقق زمانه، كالمستطيع الذي يجب عليه الحج فعلاً، ولكن وقت أداء مناسك الحج يكون في المستقبل - أي: أشهر الحج - .

[5] أي: قد أخذ الوجوب في المشروط والموقت، «على نحو» أي: كيفية إضافية، فهو بالنسبة إلى التعلّم واجب مطلق معلق، ولكن بالنسبة إلى الاستطاعة وسائر المقدمات واجب مشروط أو موقت.

[6] (الشرط) يعني به المقدمة الوجوبية كالاستطاعة، كأن يقول المولى: يجب عليك الحج من الآن، ولكن وقت الواجب هو حين الحصول الاتفاقي للاستطاعة.

[7] أي: إذا لم يرتض أحد هذا الجواب الثاني؛ لأنه خلاف ظاهر الأدلة وفتوى الأصحاب، فلابد من التمسك بالجواب الأول وهو الوجوب النفسي التهيؤي.

ص: 321

المشهور - فلا محيص عن الالتزام بكون وجوب التعلم نفسياً، لتكون العقوبة - لو قيل بها[1] - على تركه، لا على ما أدى إليه من المخالفة، ولا بأس به[2]، كما لا يخفى.

ولا ينافيه[3] ما يظهر من الأخبار من كون وجوب التعلم إنما هو لغيره لا لنفسه،

--------------------------------------

[1] لا إشكال في العقوبة كما صرح المصنف، حيث قال: (فلا شبهة في استحقاق العقوبة على المخالفة في ما إذا كان ترك التعلم والفحص مؤدياً إليها)، فقوله: «لو قيل بها» لا وجه له، «تركه» ترك التعلّم.

[2] أي: بالوجوب النفسي للتعلم.

[3] إشكال وجوابه، وأما الإشكال فهو: إنه يظهر من الأخبار أن وجوب التعلّم ليس فيه مصلحة لنفسه، بل هو مقدمة لحفظ الأحكام الشرعية، فكيف تقولون بأنه واجب نفسي؟

وأما الجواب: فإن كون الغرض من وجوب التعلّم هو التهيّؤ وحفظ أغراض المولى، وهذا لا ينافي الوجوب النفسي.

قال الشيخ الأعظم: (وما دل بظاهره - من الأدلة المتقدمة - على كون وجوب تحصيل العلم من باب المقدمة محمول على بيان الحكمة في وجوبه، وأن الحكمة في إيجابه لنفسه صيرورة المكلّف قابلاً للتكليف بالواجبات والمحرمات، حتى لا يفوته منفعة التكليف بها، ولا تناله مضرة إهماله عنها، فإنه قد يكون الحكمة في وجوب شيء لنفسه صيرورة المكلف قابلاً للخطاب)(1).

والحاصل أن وجوب شيء بغرض حفظ واجب آخر على قسمين:

1- الوجوب المقدمي: بمعنى أن يترشح الوجوب من ذي المقدمة على المقدمة، وهذا في مقدمات الواجب غالباً.

ص: 322


1- فرائد الأصول 2: 421.

حيث إن وجوبه لغيره لا يوجب كونه واجباً غيريّاً يترشح وجوبه من وجوب غيره فيكون مقدمياً، بل للتهيؤ لإيجابه، فافهم[1].

وأما الأحكام[2]: فلا إشكال في وجوب الإعادة في صورة المخالفة[3]، بل[4] في

--------------------------------------

2- الوجوب التهيؤي، بمعنى أن يكون الوجوب لنفسه، ولكن بغرض حفظ واجب آخر.

[1] لعله إشارة إلى أن ظاهر أدلة التعلم هو الوجوب المقدمي الغيري، لا الوجوب التهيؤي.

ثانياً: الحكم الوضعي بالإعادة
اشارة

[2] ما يذكر هنا هو خصوص الإعادة، ومحصله أن الصور في ما لو لم يفحص هي:

1- أدّى عدم الفحص إلى مخالفة الواقع، فلا إشكال في بطلان عمله، ولزوم الإعادة، كمن لم يكن يعلم بجزئية السورة في الصلاة ولم يفحص، وصلّى من غير سورة.

2- لو وافق الواقع في التوصليات، فلا إشكال في صحة العمل وعدم الاحتياج إلى الإعادة.

3- لو وافق الواقع في التعبديات مع تأتّي قصد القربة منه، كما لو كان غافلاً عن القنوت - مثلاً - ولم يأت به، مع عدم كونه جزءاً واقعاً، فلا إشكال أيضاً في صحة العبادة.

4- لو وافق في التعبديات مع عدم تأتي قصد القربة، كما لو كان متردداً حين العمل، ومن المعلوم أن التردد لا ينسجم مع قصد القربة، فهنا العمل باطل ويلزم الإعادة.

[3] هذه الصورة الأولى.

[4] هذه الصورة الرابعة، ولم يذكر الصورة الثانية والثالثة لوضوحهما.

ص: 323

صورة الموافقة أيضاً في العبادة في ما لا يتأتى منه قصد القربة، وذلك[1] لعدم الإتيان بالمأمور به، مع عدم دليل على الصحة والإجزاء[2] إلاّ في الإتمام[3] في موضع القصر أو الإجهار أو الإخفات في موضع الآخر، فورد في الصحيح[4] - وقد أفتى به المشهور - صحة الصلاة وتماميتها[5] في الموضعين مع الجهل مطلقاً[6]، ولو كان عن تقصير موجب[7] لاستحقاق العقوبة على ترك الصلاة المأمور بها، لان ما أتى

--------------------------------------

[1] أي: عدم الصحة في صورة المخالفة، وكذا إذا وافق مع عدم تأتي قصد القربة في العبادات.

[2] لأن سقوط المأمور به يكون بأحد أمرين:

1- الصحة: بأن يتطابق المأتي به مع المأمور به.

2- الإجزاء: بأن يحصل غرض المولى، فيكون غير المأمور به مجزياً عن المأمور به.

ومع عدم الفحص وتحقق المخالفة، أو مع عدم قصد القربة في العبادة لا دليل على الصحة، ولا على الإجزاء.

التمام بدل القصر جهلاً، والجهر والإخفات كذلك

[3] أي: يوجد دليل في موردين، فإنه حتى لو خالف صحت صلاته ولا يلزمه الإعادة:

1- لو صلى تماماً في ما كان تكليفه القصر جهلاً بالحكم، فإنه تصح صلاته ولا يحتاج إلى الإعادة، سواء كان عن تقصير أم عن قصور.

2- لو جهر في موضع الإخفات، أو بالعكس، جهلاً بالحكم فكذلك تصح صلاته.

[4] أي: الخبر الصحيح، فهو صحيح سنداً معمول به من المشهور.

[5] عطف تفسيري، لأن الصحة هي التمامية.

[6] وشرح «مطلقاً» بقوله: «ولو كان عن تقصير».

[7] صفة للتقصير، أي: هذا التقصير يوجب استحقاقه العقاب، ولكن مع ذلك

ص: 324

بها[1] وإن صحت وتمت إلاّ أنها[2] ليست بمأمورٍ بها.

إن قلت[3]: كيف يحكم بصحتها مع عدم الأمر بها[4]؟! وكيف يصح الحكم

--------------------------------------

عمله صحيح، فهو يستحق العقاب على ترك القصر وعلى ترك الجهر أو الإخفات، لكن ليس عليه الإعادة.

[1] أي: الصلاة تماماً في موضع القصر، وكذا الجهر في موضع الإخفات وكذا العكس.

[2] أي: الصلاة المأتي بها لا أمر لها، لما سيأتي من أن الأمر لا يكون إلاّ بنحو الترتب، والترتب محال، فتبقى الصلاة تماماً لا أمر بها، ولكن حيث أتى بها سقط الأمر بالصلاة قصراً، ولكنه مع ذلك يعاقب.

وهنا يستشكل بأربعة إشكالات:

الأول: كيف تكون الصلاة تماماً صحيحة، مع عدم وجود أمر بها؟ وهل يمكن تحقق عبادة من غير أمر؟

الثاني: كيف يستحق العقاب ولا تصح الإعادة قصراً مع بقاء الوقت وإمكان الإعادة؟

الثالث: إن الصلاة تماماً سبب لفوات المأمور به - وهي الصلاة قصراً - وما يكون سبباً لفوات الواجب يكون محرماً، فكيف تصح الصلاة تماماً مع حرمتها؟

الرابع: إن الصحة في حال الجهل تستلزم الصحة في حال العلم - ولا يلتزم به أحد - .

وكل هذه الإشكالات في الجهر عوض الإخفات أو بالعكس.

الإشكال الأول والثاني

[3] بيّن المصنف فيه الإشكال الأول والثاني مع جوابهما.

[4] فهل تصح عبادة من غير أمر من الشارع؟

ص: 325

باستحقاق العقوبة على ترك الصلاة التي أمر بها حتى[1] في ما إذا تمكن مما أمر بها[2] - كما هو ظاهر إطلاقاتهم - بأن علم بوجوب القصر أو الجهر[3] بعد الإتمام والإخفات وقد بقي من الوقت مقدار إعادتها قصراً أو جهراً؟! ضرورة[4] أنه لا تقصير هاهنا[5] يوجب استحقاق العقوبة.

وبالجملة: كيف يحكم بالصحة بدون الأمر؟! وكيف يحكم باستحقاق العقوبة مع التمكن من الإعادة لو لا[6] الحكم شرعاً بسقوطها وصحة ما أتى بها؟!

قلت[7]:

--------------------------------------

[1] يعني مع بقاء الوقت وإمكان الإتيان بالصلاة قصراً، فكيف لا تصح الصلاة قصراً، مع العقاب على تركها؟

وهل هذا أسوأ حالاً ممن صلّى صلاة فاقدة لجزء أو شرط، حيث يجب عليه إعادتها - في بعض الصور - ولا عقاب عليه؛ لأن الصلاة الأولى كانت عملاً لغواً، والصلاة الثانية كانت المأمور بها فقد أدّى ما عليه، فلا يستحق عقاباً؟

[2] أي: الصلاة قصراً، أو مع الجهر أو الإخفات عوضاً عن الآخر.

[3] أو الإخفات لو كان تكليفه ذلك - كما في صلاة الظهر - ولم يذكره المصنف اختصاراً.

[4] تبيين للإشكال، وحاصله: إنه يتمكن من الإتيان بالمأمور به في وقته - فلا تقصير من هذه الجهة - ولكن يقال له لا تصح صلاتك قصراً وأنت مستحق للعقاب لتركها؟!!

[5] صورة إمكان الإعادة في الوقت.

[6] أي: إذا لم يحكم الشارع بسقوط المأمور به بالصلاة قصراً كان يمكن الإتيان بالمأمور به في وقته، فكيف حكم الشارع بسقوط الصلاة المأمور بها مع عدم الإتيان بها، ومع بقاء وقتها ثم قد يعاقب هذا المصلي؟

[7] حاصل الجواب: أما عن الأول: فإن الصلاة تماماً - مع أنها غير مأمور بها -

ص: 326

إنما حكم بالصحة لأجل اشتمالها[1] على مصلحة تامة لازمة الاستيفاء في نفسها مهمة في حد ذاتها، وإن كانت دون مصلحة[2] الجهر والقصر، وإنما لم يؤمر بها[3] لأجل أنه أمر بما كانت واجدة لتلك المصلحة على النحو الأكمل والأتم.

وأما الحكم[4]

--------------------------------------

تشتمل على مصلحة الواجب كاملاً. نعم، تلك المصلحة أقل من مصلحة القصر؛ ولذا لم يكن واجباً تخييرياً؛ إذ مع تساوي المصلحتين لابد من التخيير، وحيث لم يخيّر الشارع علمنا بأن للقصر مصلحة مع مزية، وللتمام في حال الجهل مصلحة كاملة بلا مزية. ولابد من فرض التضاد بين المصلحتين، بحيث لا يمكن الجمع بينهما، فمع تحقق مصلحة التمام لا يبقى مجال لاستيفاء مصلحة القصر.

ومثاله في الموالي العرفية: لو أمر المولى سقيه بماء بارد لرفع العطش، فسقاه بماء فاتر، فقد تحققت المصلحة - وهي الارتواء - من غير إمكان تحقق مصلحة الماء البارد المأمور به، فيسقط الأمر هنا، ويكتفي بما لم يكن مأموراً به.

[1] أي: الصلاة، «مصلحة تامة» كالماء الفاتر في المثال حيث يوجب الارتواء، «لازمة الاستيفاء» فإن الارتواء في المثال كان غرضاً يلزم وجوباً تحقيقه.

[2] لعدم وجود تلك المزية، كالبرودة في المثال.

[3] أي: بالصلاة تماماً أو بإخفات، والمقصود أنه إذا كانت واجدة لتمام المصلحة فلماذا لم يأمر المولى بها على نحو الوجوب التخييري؟ والجواب: إن المولى إضافة إلى تحقق تلك المصلحة يريد تحقق المزية - كالبرودة في المثال - «أنه» أن المولى، «بما» بصلاة - وهي صلاة القصر أو صلاة بالجهر في موردنا - .

[4] هذا هو الجواب عن الإشكال الثاني، وحاصله: إنه مع استيفاء المصلحة بالتمام لا يبقى محل لاستيفاء المصلحة بالقصر؛ لأن المصلحتين متضادتان لا تجتمعان، كما في المثال، حيث ارتواء المولى بالماء الفاتر فوّت محل الارتواء بالماء البارد، فالأمر بالإعادة بلا فائدة؛ لعدم إمكان استيفاء مصلحة المأمور به، وهنا

ص: 327

باستحقاق العقوبة مع التمكن من الإعادة، فإنها بلا فائدة[1]، إذ مع استيفاء تلك المصلحة لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة التي كانت في المأمور بها، ولذا[2] لو أتى بها في موضع الآخر[3] جهلاً مع تمكنه من التعلم فقد قصّر ولو علم بعده وقد وسع الوقت.

فانقدح أنه لا يتمكن من صلاة القصر صحيحة بعد فعل صلاة الإتمام، ولا من الجهر كذلك[4] بعد فعل صلاة الإخفات وإن كان الوقت باقياً.

إن قلت[5]:

--------------------------------------

يستحق العقاب؛ لأنه فوّت محلّ المأمور به، وفوّت المزية على المولى.

[1] أي: فلأنها بلا فائدة، «إنها» أي: الإعادة، «تلك المصلحة» عبر الصلاة تماماً أو إخفاتاً، «لا يبقى مجال» لفرض أن المصلحتين متضادتان لا يمكن جمعهما، «في المأمور بها» أي: الصلاة قصراً أو جهراً.

[2] أي: لعدم تمكنه من استيفاء مصلحة المأمور به، فقد تحقق التقصير من هذا المكلف، فيستحق العقاب على تفويته لمصلحة المأمور به.

[3] أي: أتى بالصلاة تماماً في موضع القصر، والصلاة إخفاتاً في موضع الجهر، وبالعكس، «فقد قصّر» أي: كان جاهلاً مقصراً، وهو بذلك يستحق العقاب.

[4] أي: صحيحة.

الإشكال الثالث

[5] حاصل الإشكال: إن الصلاة التمام - وهي غير مأمور بها - قد سببت في تفويت الواجب المأمور به - وهو الصلاة قصراً - والعمل الذي يكون سبباً لتفويت الواجب يكون حراماً، فالصلاة تماماً محرمة، فهي فاسدة؛ لأن النهي في العبادة موجب للفساد،هكذا في الجهر والإخفات.

وبعبارة أخرى: هذا الإشكال مركب من أربعة أمور:

1- الصلاة تماماً قد فوتت مصلحة الصلاة قصراً - حسب ادعاءكم - .

ص: 328

على هذا[1] يكون كل منهما في موضع الآخر سبباً[2] لتفويت الواجب فعلاً، وما هو[3] سبب لتفويت الواجب كذلك حرام، وحرمة[4] العبادة موجبة لفسادها بلا كلام.

قلت[5]:

--------------------------------------

2- تفويت الواجب حرام، وهنا قد فوَّت الواجب المأمور به - وهو الصلاة قصراً - .

3- مقدمة الحرام محرمة، وهنا الصلاة تماماً سبب لتفويت المأمور به، وهي الصلاة قصراً.

4- الصلاة تماماً حيث كانت محرمة، فهي فاسدة؛ لأن النهي في العبادة موجب للفساد.

[1] أي: بناءً على ما ذكرتموه من أن الصلاة تماماً غير مأمور بها، وهي تمنع من إمكان تحصيل مصلحة الصلاة قصراً، «منهما» أي: من التمام في موضع القصر، والإخفات في موضع الجهر، «فعلاً» أي: الواجب الفعلي.

[2] هذا الأمر الأول.

[3] هذا الأمر الثالث، وهو ينطوي على الأمر الثاني أيضاً، أي: تفويت الواجب حرام، ومقدمة التفويت تكون محرمة أيضاً.

[4] إشارة إلى الأمر الرابع.

[5] حاصل الجواب: إن الضدين في مرتبة واحدة، فلا يكون أحدهما سبباً للآخر، وعدم أحد الضدين في نفس مرتبة الضد - لأن النقيضين في مرتبة واحدة - .

مثلاً: الصلاة وعدم الصلاة في مرتبة واحدة، وحيث إن الصلاة ضد للإزالة، فعدم الصلاة أيضاً في نفس مرتبة الإزالة - كما مرّ تفصيله في بحث الضد - .

وهنا الصلاة قصراً في مرتبة الصلاة تماماً؛ لأنهما ضدان، فعدم الصلاة قصراً يكون في مرتبة الصلاة تماماً، إذن لا تكون الصلاة تماماً مقدمة لتفويت الصلاة قصراً، بل هما في مرتبة واحدة، فلا ينطبق عليها أنها مقدمة الحرام.

ص: 329

ليس سبباً لذلك[1]، غايته أنه[2] يكون مضاداً له، وقد حققنا في محله أن الضد وعدم ضده[3] متلازمان ليس بينهما توقف أصلاً.

لا يقال[4]: على هذا[5] فلو صلى تماماً أو صلى إخفاتاً في موضع القصر والجهر مع العلم بوجوبهما[6] في موضعهما لكانت صلاته صحيحة وإن عوقب على مخالفة الأمر بالقصر أو الجهر.

فإنه يقال[7]:

--------------------------------------

[1] أي: ليس الصلاه تماماً سبباً لتفويت الواجب - وهو الصلاة قصراً - وكذا في الجهر والإخفات.

[2] «غايته» غاية الأمر، «أنه» أي: إن كلاً منهما - الصلاة تماماً والإخفات في موضع الجهر - «مضاداً له» للواجب وهو الصلاة قصراً وجهراً.

[3] لأن عدم ضده - كعدم الصلاة - في مرتبة ضده كالصلاة، حيث إنهما نقيضان، وحيث إن الضد وضده كالإزالة والصلاة في رتبة واحدة، كان الضد وعدم ضده كالإزالة وعدم الصلاة أيضاً كذلك في رتبة واحدة.

الإشكال الرابع

[4] حيث ذكر المصنف أن الصلاة تماماً - في موضع القصر - تكون واجدة لمصلحة الصلاة قصراً، يأتي إشكال وهو أنه لو صلاها تماماً عمداً مع علمه بأن تكليفه القصر فلابد من صحة صلاته؛ لأنها واجدة للمصلحة!!

[5] أي: اشتمال الصلاة تماماً على مصلحة الصلاة قصراً، وكذا في الجهر والإخفات.

[6] أي: وجوب القصر والجهر، «في موضعهما» أي: موضع القصر والجهر، وكأن هذه الكلمة تكرار وزائدة.

[7] حاصل الجواب: إنا لا نمانع من الصحة ثبوتاً، لكن لا دليل في مرحلة

ص: 330

لا بأس بالقول به[1] لو دل دليل على أنها تكون مشتملة على المصلحة ولو مع العلم. لاحتمال[2] اختصاص أن يكون كذلك[3] في صورة الجهل، ولا بعد أصلاً في اختلاف الحال فيها[4] باختلاف حالتي العلم بوجوب شيء والجهل به، كما لا يخفى.

وقد صار بعض الفحول[5] بصدد بيان إمكان[6] كون المأتي به في غير موضعه مأموراً به بنحو الترتب.

--------------------------------------

الإثبات، أي: لم يثبت أن المصلحة موجودة في صورة العلم، بل الثابت هو وجود المصلحة في صورة الجهل فقط؛ إذ قد تكون في حالة الجهل مصلحة التيسير مثلاً أو أية مصلحة أخرى، ولا توجد تلك المصلحة في صورة العلم.

[1] أي: بالصحة في صورة العلم، «أنها» الصلاة تماماً أو بإخفات - في المثال - .

[2] أي: إنما قلنا: (لو دل الدليل) لأنه في مرحلة الثبوت هناك احتمالان: أن يكون واجداً للمصلحة، وأن لا يكون واجداً للمصلحة، فلابد لإبراء الذمة في مرحلة الإثبات من وجود دليل على وجدانه للمصلحة، وإلاّ وجب عليه الاحتياط؛ لأن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.

[3] أن يكون التمام والإخفات، «كذلك» واجداً للمصلحة.

[4] أي: في الصلاة.

تصحيح الصلاة بنحو الترتب

[5] أي: كاشف الغطاء(1)،

فإن المصنف صحح الصلاة تماماً وإخفاتاً بالمصلحة مع أنه لا أمر لهما.

لكن كاشف الغطاء صحح الصلاة بنحو الترتب، بأن يكون الكل مأمورين بالقصر والجهر، ولكن مع الجهل يكون أمر بالتمام والإخفات، فهذه الصلاة تكون صحيحة لأنها مأمور به.

[6] قد ذكرنا أن صحة الصلاة مما لا إشكال فيها، ولكن البحث حول كيفية هذه

ص: 331


1- كشف الغطاء 1: 171.

وقد حققنا[1] في مبحث الضد امتناع الأمر بالضدين مطلقاً ولو بنحو الترتب بما لا مزيد عليه، فلا نعيد.

ثم إنه ذُكر[2] لأصل البراءة شرطان آخران:

أحدهما[3]: أن لا يكون موجباً لثبوت حكم شرعي من جهة أخرى.

ثانيهما[4]: أن لا يكون موجباً للضرر على آخر.

ولا يخفى[5]:

--------------------------------------

الصحة، وكيف يدفع الإشكال العقلي؟ فبيان إمكان صورة من الصور - ولو مع عدم قيام الدليل عليها - كفيل بدفع الإشكال العقلي؛ لأنه مع الاحتمال لا يحكم العقل أصلاً.

[1] هذا رد لما ذهب إليه كاشف الغطاء، وحاصله: إنه في مرحلة الأهم لا يوجد أمر بالمهم، لكن في مرحلة المهم يطلبه المولى مع أنه لازال على طلبه للأهم، فيكون المولى طالباً للضدين، وهذا محال، فراجع بحث الترتب.

شرطان آخران للبراءة!!
اشارة

[2] ذكرهما الفاضل التوني(1).

[3] إن البراءة هي لنفي التكليف، فلا تجري إذا أثبتت تكليفاً، مثلاً: لو اشتبه النجس بين إناءين، فإن إجراء البراءة في أحد الإناءين يستلزم القول بنجاسة الآخر، وحيث إن هذه البراءة أثبت حكماً فإنها لا تجري.

[4] مثلاً: من غيّر مجرى النهر بحيث ماتت أشجار الناس فلا يمكن إجراء البراءة عن الضمان؛ لأن هذه البراءة توجب ضرراً على الآخرين.

الإشكال على الشرط الأول

[5] إشكال على الشرطين:

ص: 332


1- الوافية في أصول الفقه: 193.

--------------------------------------

أما الشرط الأول: فإن المثال كان في الشبهة المقترنة بالعلم الإجمالي، وعدم جريان البراءة فيها إنما هو بسبب التعارض بين البراءة في الإناء الأول مع البراءة في الإناء الثاني، وتتساقط الأصول المتعارضة إذا كانت في عرض واحد.

وأما في الشبهة البدوية فإن ثبوت الحكم الشرعي من جهة أخرى له ثلاث صور:

الأولى: أن يكون جريان البراءة منقحاً لموضوع له حكم.

مثلاً: قاعدة (إذا كان الشيء حلالاً كان ثمنه حلالاً أيضاً) الموضوع هو كون الشيء حلالاً، فإذا شككنا في حلية تدخين التبغ فإن أصالة البراءة تجري، ويحكم ظاهراً بحليته - وذلك لإطلاق أدلة البراءة - فتحقق موضوع حلية البيع، فلا إشكال في جريان البراءة، ثم تجري تلك القاعدة الأخرى؛ وذلك لتحقق موضوعها.

الثانية: أن تجري البراءة، فيرتفع مانع عن جريان حكم آخر، أو يتحقق شرط حكم آخر، فإن البراءة تجري لإطلاق أدلتها، فيثبت الحكم الآخر أيضاً؛ لرفع المانع عنه، أو لتحقق شرطه، وثبوته إنما يكون لشمول دليله لهذا المورد.

مثلاً: لو شك في أنه مديون فتجري البراءة، ولما لم يكن مديوناً فقد يكفي ماله للحج، فيتحقق شرط الاستطاعة فيجب الحج؛ وذلك لجريان دليل وجوبه، وهو قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ}(1) مع تحقق الشرط وهو الاستطاعة.

مثال آخر: لو شك في تمكنه من إزالة النجاسة عن المسجد فبأصالة البراءة يثبت عدم وجوب الإزالة، فيرتفع المانع عن الصلاة الثابت وجوبها بقوله: {أَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ}(2). أما جريان البراءة فلإطلاق أدلتها. وأما وجوب الصلاة فأيضاً لشمول دليله بعد رفع المانع.

ص: 333


1- سورة آل عمران، الآية: 97.
2- سورة البقرة، الآية: 43.

أن أصالة البراءة عقلاً ونقلاً في الشبهة البدوية[1] بعد الفحص لا محالة تكون جاريةً[2]. وعدم استحقاق العقوبة - الثابت بالبراءة العقلية - والإباحة أو رفع التكليف[3] - الثابت بالبراءة النقلية - لو كان موضوعاً لحكم شرعي[4] أو ملازماً له[5] فلا محيص عن ترتبه عليه[6] بعد إحرازه. فإن[7] لم يكن مترتباً عليه بل على

--------------------------------------

الثالثة: أن تكون الحلية الواقعية موضوعاً لحكم شرعي، فمع جريان البراءة لا يجري ذلك الحكم الآخر؛ إذ إن البراءة تثبت الحلية الظاهرية، وكان موضوع ذلك الحكم الحلية الواقعية، فلم يتحقق موضوعه، لكن تجري البراءة لتحقق موضوعها.

[1] لأن الشبهة المقترنة بالعلم الإجمالي خارجة عن محل البحث، وهذا الكلام للإشكال على مثال الفاضل التوني، كما بيناه.

[2] لإطلاق أدلتها.

[3] حسب اختلاف أدلة البراءة النقلية، فإن بعضها مثبت للإباحة كقوله: (كل شيء لك حلال)، وبعضها يرفع التكليف كقوله: (رفع ما لا يعلمون).

[4] إشارة إلى الصورة الأولى.

[5] أي: ملازماً للحكم الشرعي الآخر؛ وذلك بإثبات شرطه أو رفع مانعه؛ لأن رفع المانع أو إثبات الشرط يلازم ثبوت ذلك الحكم الشرعي الآخر الثابت بدليله الخاص.

[6] أي: لا محيص عن ترتب ذلك الحكم الشرعي الآخر، «عليه» على موضوعه، «بعد إحرازه» أي: بعد إحراز الموضوع أو إحراز الملازم - وهو رفع المانع أو إثبات الشرط - .

[7] إشارة إلى الصورة الثالثة، «فإن لم يكن» الحكم الآخر، «عليه» أي: على عدم الاستحقاق في البراءة العقلية، والإباحة في الشرعية، والمقصود الحكم الآخر لم يكن يترتب على الحكم الظاهري، بل كان مرتباً على الواقع.

ص: 334

نفي التكليف واقعاً فهي وإن كانت جارية[1] إلاّ أن ذاك الحكم لا يترتب، لعدم ثبوت ما يترتب عليه بها[2]؛ وهذا ليس بالاشتراط[3].

وأما اعتبار[4] أن لا يكون موجباً للضرر: فكل مقام تعمه قاعدة نفي الضرر وإن لم يكن مجال فيه لأصالة البراءة - كما هو حالها مع سائر القواعد الثابتة بالأدلة الاجتهادية -، إلاّ أنه حقيقةً لا يبقى لها مورد، بداهة أن الدليل الاجتهادي يكون بياناً وموجباً للعلم بالتكليف ولو ظاهراً[5]، فإن كان المراد من الاشتراط ذلك[6] فلابد من اشتراط أن لا يكون على خلافها دليل اجتهادي، لا خصوص قاعدة

--------------------------------------

[1] أي: البراءة تجري لإطلاق أدلتها.

[2] أي: لعدم ثبوت «ما» الموضوع الذي، «يترتب» الحكم، «عليه» أي: على ذلك الموضوع - وهو الواقع - «بها» بالبراءة؛ لأن البراءة تثبت الحكم الظاهري لا الواقعي.

[3] أي: عدم ترتب الحكم الآخر ليس لأجل هذا الشرط الذي ذكره الفاضل التوني، بل لأجل عدم تحقق موضوعه - وهو الواقع - .

الإشكال على الشرط الثاني

[4] حاصل الإشكال: إن جريان الأصول العملية متوقف على عدم جريان الأدلة الاجتهادية، فمع وجود دليل لا ضرر - وهو دليل اجتهادي - لا تصل النوبة إلى البراءة، وهذا ليس خاصاً بلا ضرر، بل عام يشمل كل الأدلة الاجتهادية، فتخصيص الاشتراط بعدم كونه ضررياً لا وجه له.

[5] أي: بالحكم الظاهري، وهو علم تعبدي، فينتفي موضوع أصالة البراءة - وهو الجهل بالحكم - .

[6] أي: إن لا ضرر قاعدة اجتهادية فلا تصل النوبة إلى البراءة التي هي أصل عملي، «خلافها» البراءة.

ص: 335

الضرر، فتدبر[1]، والحمد لله على كل حال.

ثم إنه لا بأس بصرف الكلام إلى بيان قاعدة الضرر والضرار على نحو الاقتصار، وتوضيح مدركها[2] وشرح مفادها، وإيضاح نسبتها مع الأدلة المثبتة للأحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الأولية[3] أو الثانوية[4]، وإن كانت أجنبية عن مقاصد الرسالة[5]، إجابةً لالتماس بعض الأحبة.

فأقول وبه أستعين: إنه قد استدل عليها بأخبارٍ كثيرة[6]:

--------------------------------------

[1] لعل مراد الفاضل التوني أن البراءة جعلت للامتنان، فإذا كان جعلها مستلزماً للضرر على الغير كانت خلاف الامتنان، وهذا أمر صحيح، وقد قبله المصنف في مطاوي كلامه سابقاً.

قاعدة لا ضرر
اشارة

[2] أي: دليلها الشرعي، «مفادها» أي: معناها؛ وذلك بتوضيح معنى الكلمات الثلاث (لا)، (ضرر)، (ضرار).

[3] كنسبة القاعدة مع أدلة وجوب الصلاة والصيام والجهاد ونحوها.

[4] كنسبتها مع أدلة نفي الحرج والعسر.

[5] لأن المسألة الأصولية هو ما كان نتيجتها حكم كلي، وهذه القاعدة نتيجتها هي المسائل الجزئية الفقهية، فهي من القواعد الفقهيّة.

1- دليل قاعدة لا ضرر

[6] وقد استدل البعض(1) ببعض آيات القرآن، كقوله تعالى: {وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارٗا لِّتَعۡتَدُواْۚ}(2)، وقوله تعالى: {لَا تُضَآرَّ وَٰلِدَةُۢ بِوَلَدِهَا...}(3) الآية، ونحوها، ولكن في الاستدلال بها إشكال، حيث لا عموم ولا إطلاق لها؛ ولذا لم يذكرها المصنف.

ص: 336


1- نهاية الدراية 2: 746.
2- سورة البقرة، الآية: 231.
3- سورة البقرة، الآية: 233.

منها: موثقة زرارة عن أبي جعفرعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «إن سمرة بن جندب كان له عذق[1] في حائطٍ لرجل من الأنصار، وكان منزل الأنصاري بباب البستان، وكان سمرة يمر إلى نخلته ولا يستأذن، فكلّمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء، فأبى سمرة، فجاء الأنصاري إلى النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، فشكى إليه، فأخبر بالخبر، فأرسل رسول الله وأخبره بقول الأنصاري وما شكاه، فقال: إذا أردت الدخول فاستأذن، فأبى، فلما أبى فساومه حتى بلغ من الثمن ما شاء الله، فأبى أن يبيعه، فقال: لك بها عذق في الجنة، فأبى أن يقبل، فقال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ للأنصاري: إذهب فاقلعها وارم بها إليه، فإنه لا ضرر ولا ضرار»(1).

وفي رواية الحذاء عن أبي جعفرعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ مثل ذلك، ألا أنه فيها بعد الإباء: «ما أراك يا سمرة إلاّ مضاراً؛ اذهب يا فلان، فاقلعها وارم بها وجهه»(2).

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في قصة سمرة وغيرها. وهي كثيرة، وقد ادعي تواترها[2] مع اختلافها لفظاً ومورداً، فليكن المراد به تواترها إجمالاً[3]، بمعنى القطع بصدور بعضها.

--------------------------------------

[1] العذق: النخل المثمر، «حائط» أي: بستان، «فأخبر بالخبر» أي: أخبر الأنصاري بما يجري له من مزاحمة سمرة له.

[2] ادعى التواتر فخر المحققين نجل العلامة الحلي(3).

[3] قد مرّ أن التواتر على ثلاثة أقسام:

1- التواتر اللفظي: بمعنى نقل لفظ واحد بأسانيد كثيرة، كقوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (من كنت مولاه فعليّ مولاه)(4).

ص: 337


1- من لا يحضره الفقيه 3: 233، مع اختلاف يسير.
2- الكافي 5: 292.
3- إيضاح الفوائد 2: 48.
4- الكافي 1: 287؛ دعائم الإسلام 1: 16؛ معاني الأخبار: 65؛ من لا يحضره الفقيه 1: 229.

والإنصاف: أنه ليس في دعوى التواتر كذلك[1] جزافٌ. وهذا مع استناد المشهور إليها موجب لكمال الوثوق بها وانجبار ضعفها[2]؛ مع أن بعضها موثقة[3]؛ فلا مجال للإشكال فيها من جهة سندها، كما لا يخفى.

--------------------------------------

2- التواتر المعنوي: بمعنى نقل قضية واحدة بألفاظ متعددة، كالروايات الدالة على عدد ركعات الصلاة.

3- التواتر الإجمالي: وهو كون المعنى متعدداً واللفظ متعدداً أيضاً لكن نعلم بصدور بعض تلك الأخبار، كأخبار شجاعة أمير المؤمنينعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في أحد وبدر والخندق وغيرها.

وفي التواتر الإجمالي يعلم بالقدر المتيقن من تلك الأخبار، وهو المعنى الموجود في كل تلك الأخبار، فقضايا تلك الغزوات وإن نقلت بأخبار الآحاد لكن كلّها تدل على شجاعتهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[1] أي: التواتر الإجمالي.

[2] أي: حتى لو لم تكن متواترة، وقيل بضعف أسنادها، فإن المشهور قد عملوا بتلك الأخبار؛ لأن الشهرة جابرة للسند الضعيف.

[3] سند الحديث حسب تصنيف المتأخرين ينقسم إلى أقسام أربعة:

1- الصحيح: وهو الذي رواته كلهم عدول إماميّون ضابطون.

2- الحسن: وهو ما كان رواته معتبرين وفيهم مَن هو ممدوح.

3- الموثق: وهو ما كان رواته معتبرين وفيهم غير إمامي لكنه ثقة، كعبدالله بن بكير، فإنه فطحي ثقة.

4- الضعيف: وهو ما كان في سنده رجال ضعاف أو مهملون - لم يمدحهم ولم يوثقهم الرجاليون القدامى - أو مجاهيل بمعنى عدم ورود ذكر لهم في كتب الرجال والتراجم - . ثم إن الضعيف قد يكون معتبراً إذا عمل به المشهور - وخاصة مشهور القدامى - أو كان محفوفاً بالقرائن الموجبة للاطمئنان بصحته - كقوة المضمون أو الألفاظ - .

ص: 338

وأما دلالتها: فالظاهر أن الضرر[1] هو ما يقابل النفع - من النقص[2] في النفس

--------------------------------------

والرواية التي رواها المصنف رجال سندها كلهم ثقات إماميون سوى عبدالله بن بكير فإنه فطحي ثقة، بل هو من أصحاب الإجماع(1)،

حيث أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم.

والسند: الكليني: عن العدة، عن البرقي، عن أبيه، عن عبدالله بن بكير، عن زرارة(2)، وكلهم ثقات أجلاء، فالحديث موثق.

2- معنى الضرر

[1] «الضرر» هو النقص الحاصل في النفس أو الأعضاء أو العرض أو المال، فإذا لم يكن نقص فليس بضرر.

مثلاً: من تاجر برأس مال، فإن خسر في تجارته بأن فقد رأس المال أو بعضه، فهذا ضرر توجه إليه، وإن لم يخسر شيئاً حتى وإن لم يربح فإنه ليس بضرر، بل هو عدم نفع، وإطلاق العرف الضرر عليه مجاز. فإن زاد رأس المال وربح في تجارته فيقال: إنه انتفع بالتجارة؛ لأن (النفع) ضد (الضرر).

ثم إن تقابل الضرر والنفع هو تقابل العدم والملكة، أي: عدم الشيء في ما يكون محلاً قابلاً له، مثلاً: العمى والبصر متقابلان بتقابل العدم والملكة؛ إذ لا يمكن إطلاق العمى إلاّ إذا أمكن البصر، فيقال: رجل أعمى، ولا يقال جدار أعمى؛ لأن الجدار لا يقبل البصر، وكاللحية للرجل، فعدمها يكون في الكوسج، ولا يطلق الكوسج على المرأة والصبي.

[2] «من» بيانية لتوضيح معنى الضرر، حيث إن الضرر هو النقص في هذه الأمور، فلا يصدق الضرر على عدم النفع المجرد عن النقص.

ص: 339


1- خلاصة الأقوال: 107.
2- الكافي 5: 292.

أو الطرف أو العِرض[1] أو المال - تقابل العدم والملكة[2].

كما أن الأظهر أن يكون الضرار[3] بمعنى الضرر، جيء به تأكيداً - كما يشهد

--------------------------------------

[1] «الطرف» هو العضو، أي: النقص في الأعضاء، والمراد منه ما يشمل الحواس كالسمع والبصر والشم... الخ و«العرض» هو ماء الوجه.

[2] قال الوالد في (القول السديد): (والمشهور في تقسيم المتقابلين إلى هذه الأقسام الأربعة: أن المتقابلان إما وجوديان أو لا، والأول على نوعين: نوع يكون تعقل كل منهما بالقياس إلى الآخر، فهما المتضايفان كالأبوة والبنوة، فإن تعقل أحدهما يتوقف على تعقل الآخر.

ونوع لا يتوقف تصور أحدهما على تصور الآخر، فهما المتضادان...

وعلى الثاني(1)

فلابد أن يكون أحدهما وجودياً والآخر عدمياً؛ إذ لا تقابل بين أمرين عدميين، وهذا على قسمين: قسم يعتبر في العدميّ محل قابل للوجودي، فهما العدم والملكة... وقسم لا يعتبر في العدمي محل قابل، فهما سلب وإيجاب)(2)، انتهى.

3- معنى الضِرار

[3] «الضِرار» مصدر باب المفاعلة؛ لأن لباب المفاعلة ثلاثة مصادر، كقولهم: ضارب يضارب (مضاربة) و(ضِراباً) و(ضيراباً).

والأصل في باب المفاعلة أن يكون بين اثنين، كقولهم: (ضارب زيدٌ عمراً)، ولكن قد يكون بمعنى الفعل المجرد، مثل: (سافرت)، وفي (الضِرار) احتمالات:

1- أن يكون (الضِرار) بمعنى المجرد، أي: الضرر، والمصنف رجّح هذا الاحتمال.

2- وقيل: (الضِرار) هو على الأصل في باب المفاعلة، أي: الضرر بين الاثنين، فكما لا ضرر من طرف واحد، كذلك لا مضارّة من الطرفين.

ص: 340


1- أي: في ما لا يكون المتقابلان وجوديين.
2- القول السديد في شرح التجريد: 95 - 96.

به[1] إطلاق المضار على سمرة - ، وحكي عن النهاية(1)؛

لا فعل الاثنين، وإن كان هو الأصل في باب المفاعلة؛ ولا الجزاء على الضرر، لعدم تعاهده[2] من باب المفاعلة. وبالجملة: لم يثبت له معنىً آخر غير الضرر.

كما أن الظاهر[3]

--------------------------------------

وفيه: إن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أطلق على سمرة لفظة (مضارّ) ومن المعلوم أنه اسم فاعل من باب المفاعلة، ولم يكن الأنصاري قد سبب ضرراً لسمرة، فالضرر كان من طرف واحد، وهذا دليل على أن باب المفاعلة في (ض ر ر) لم يرد بها الضرر من الطرفين.

3- وقيل: (الضِرار) بمعنى المجازاة على الضرر(2)،

فكما لا يجوز الضرر. كذلك لا تجوز المجازاة على الضرر، بل لابد من مراجعة الحاكم الشرعي ليحكم حسب الموازين الشرعية.

وفيه: إن المجازاة على الفعل ليست من معاني باب المفاعلة، ولم يرد في ذلك شيء ولا نظير من العرب.

[1] أي: الدليل على كون (ضِرار) بمعنى (الضرر) هو استعمال الرسول (المُضارّ) بمعنى (المُضِرّ)، كما صرح بذلك بعض أهل اللغة أيضاً كالجزري في كتاب النهاية.

[2] أي: ليس هذا المعنى معروفاً بين أهل اللسان.

4- معنى «لا»

[3] المعنى الحقيقي ل- (لا النافية للجنس) هو نفي الماهية حقيقة، بمعنى عدم وجود تلك الماهية خارجاً أصلاً، مثل: (لا رجل في الدار). ولكن في (لا ضرر ولا ضرار) من المعلوم وجود الأضرار خارجاً، فلا يراد نفي الماهية خارجاً، فما هو المراد؟ فيه خلاف:

ص: 341


1- النهاية في غريب الحديث 3: 81، مادة «ضرر».
2- فرائد الأصول 2: 461.

أن يكون «لا» لنفي الحقيقة[1] - كما هو الأصل في هذا التركيب - حقيقةً أو ادعاءً[2]

--------------------------------------

1- ذهب المصنف: إلى أن المنفيّ هو نفس الضرر، ولكن المقصود هو نفي الآثار، مثل: (يا أشباه الرجال ولا رجال)(1)،

فقولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (لا رجال) لنفي الجنس، أي: لنفي كونهم رجالاً، ولكن بغَرض نفي آثار الرجولة.

2- ذهب الشيخ الأعظم(2):

إلى أن المعنى هو (لا حكم ضرري) فالمنفي هو الحكم المجعول من قبل الشارع.

3- ذهب الفاضل التوني(3):

إلى أن المعنى هو (لا ضرر غير متدارك) فالمعنى أن الشارع قد تدارك كل ضرر؛ وذلك بتشريع حكم يرفع الضرر.

4- ذهب جمع(4)

إلى أن النفي هنا بمعنى النهي، أي: (لا تُضِرّوا أحداً).

[1] أي: الماهية، «في هذا التركيب» أي: في دخول لا النافية للجنس على موضوع خارجي.

[2] أي: نفي الماهية باستعمال (لا) في معناها الحقيقي، أو هو مجاز في الادعاء، أي: ادعاء أن هذا الضرر ليس بضرر، كما مرّ في قول السكاكي في مثل: (رأيت أسداً يرمي) حيث إنه ليس مجازاً في الكلمة - بأن يراد من الأسد الشجاع - بل هو مجاز في الإسناد، فالأسد بنفس معناه - وهو الحيوان المفترس - ولكن المجاز في ادعاء أن زيداً فرد من أفراد الأسد المفترس، فهذا حقيقة ادعائية.

والحاصل: إن (لا) النافية للجنس تستعمل بمعنى نفي الماهية، فقد يكون نفياً حقيقياً كقولنا: (لا رجل في الدار)، وقد يكون نفي الماهية ادعاءً، كما في ما نحن

ص: 342


1- نهج البلاغة، الخطبة: 27.
2- فرائد الأصول 2: 460.
3- الوافية في أصول الفقه: 194.
4- وسيلة الوصول: 695.

كناية[1] عن نفي الآثار، كما هو[2] الظاهر من مثل: «لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد»(1)، و«يا أشباه الرجال ولا رجال»(2)، فإن قضية البلاغة[3] في الكلام هو إرادة نفي الحقيقة ادعاءً، لا نفي الحكم[4] أو الصفة[5] كما لا يخفى. ونفي الحقيقة[6] ادعاءً بلحاظ الحكم أو الصفة[7] غير نفي أحدهما ابتداءً مجازاً

--------------------------------------

فيه، حيث إن (لا ضرر) بمعنى نفي ماهية الضرر بادعاء أن الأضرار الخارجية ليست ضرراً؛ لأن الشارع لم يرتب آثار الضرر عليها.

[1] هذا بدل عن قوله: (ادعاء) أي: نفي الحقيقة ادعاءً هو كناية عن نفي الآثار.

[2] أي: نفي الماهية ادعاءً هو الظاهر... الخ.

[3] هذا دليل المصنف على ما ذهب إليه، وحاصله: إن نفي الماهية ادعاءً هو كلام فصيح، عكس الاحتمالات الأخرى فإنها لا تتناسب مع الفصاحة.

[4] كما ذهب إليه الشيخ الأعظم حيث فسرّ (لا ضرر) ب- (لا حكم ضرري).

[5] كما ذهب إليه الفاضل التوني حيث قال: إن معنى (لا ضرر) هو (لا ضرر غير متدارك).

[6] دفع إشكال، وحاصله: إنه لا فرق - عملياً - بين ما ذهب إليه المصنف وما ذهب إليه الشيخ أو التوني.

والجواب: إن هناك فرقين:

1- فرق بلاغي.

2- فرق عملي، وقد ذكره المصنف في باب الانسداد في الإشكال على المقدمة الرابعة، فراجع.

[7] وهذا ما ذهب إليه المصنف.

ص: 343


1- مستدرك الوسائل 3: 356.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 27.

في التقدير[1] أو في الكلمة[2]، مما لا يخفى على من له معرفة بالبلاغة.

وقد انقدح بذلك بُعد إرادة نفي الحكم الضرري أو الضرر الغير المتدارك(1)

أو إرادة النهي من النفي جداً، ضرورة بشاعة استعمال الضرر وإرادة خصوص سبب من أسبابه[3] أو خصوص الغير المتدارك(2) منه. ومثله[4] لو أريد ذاك بنحو التقييد[5]، فإنه وإن لم يكن ببعيد[6]، إلاّ أنه بلا دلالة عليه غير سديد. وإرادة

--------------------------------------

[1] أي: بتقدير الحكم في لا ضرر أي: (لا حكم ضرري)، مثل: {وَسَۡٔلِ ٱلۡقَرۡيَةَ}(3) أي: (اسأل أهل القرية) وهذا يعبر عنه بالمجاز بالإضمار.

[2] أي: نقول: إن معنى (ضرر) هو (الحكم الضرري) مثلاً، وهذا يعبر عنه بالمجاز في الكلمة.

[3] أي: الحكم الضرري، فإن الحكم قد يكون سبباً للضرر ومنشأ له، فإرادة خصوص سبب من أسباب الضرر - وهو الحكم - من قوله: (لا ضرر) ليس من البلاغة في شيء.

[4] «مثله» أي: مثله في البُعد، وضمير «مثله» يرجع إلى (استعمال الضرر وإرادة...).

والحاصل: كما كان المجاز في الكلمة بعيداً كذلك المجاز في الإضمار، «ذاك» أي: الحكم الضرري أو الضرر غير المتدارك.

[5] أي: تقدير قيدٍ، بأن يكون مجاز في الإضمار.

[6] لأنه ليس خلاف الفصاحة، فقد كثر استعمالهم المجاز بالإضمار، مثل: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي ٱلۡحَجِّۗ}(4) ولكن يحتاج إلى قرينة، ومع عدم وجود

ص: 344


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير المتدارك».
2- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير المتدارك».
3- سورة يوسف، الآية: 82.
4- سورة البقرة، الآية: 197.

النهي من النفي وإن كان ليس بعزيز، إلاّ أنه لم يعهد من مثل هذا التركيب[1].

وعدم إمكان[2] إرادة نفي الحقيقة حقيقةً[3] لا يكاد[4] يكون قرينة على إرادة واحد منها[5] بعد إمكان حمله على نفيها ادعاءً، بل كان هو الغالب[6] في موارد استعماله.

ثم الحكم[7]

--------------------------------------

قرينة على التقدير لا وجه له.

[1] وهو دخول (لا) النافية للجنس على موضوع خارجي.

[2] إشكال، حاصله: إنا مضطرون - بدلالة الاقتضاء لتصحيح كلام الحكيم - من حمل (لا ضرر) على أحد هذه الوجوه، أي: المجاز في الكلمة أو بالإضمار أو حمل النفي على النهي.

[3] أي: نفي الماهية بالمعنى الحقيقي، وهو عدم وجودها خارجاً.

[4] جواب الإشكال، وحاصله: إن الحمل على الحقيقة الادعائية ممكن، وهو أولى من تلك الوجوه.

[5] أي: من الوجوه المذكورة، «حمله» حمل النفي، «نفيها» نفي الحقيقة.

[6] أي: غالب موارد استعمال نفي الجنس هو في النفي الادعائي، والحمل على المعنى المستعمل غالباً أولى من الوجوه الأخرى.

5- إذا كان (الضرر) موضوعاً

[7] إذا كان الضرر موضوع الحكم الشرعي، أو كان الضرر جزءاً من الموضوع فلا يمكن رفع حكمه ب- (لا ضرر) وذلك لأن الموضوع يقتضي حكمه، فلا يمكن أن يكون رافعاً لحكمه، وإلاّ اجتمع الضدان؛ لأنه حينئذٍ يستلزم أن يكون الموضوع جزءاً من سبب الحكم، وفي الوقت نفسه يكون مانعاً عن الحكم.

مثلاً: الزكاة ضرر مالي - بنقيصة في المال - فقولنا: (الزكاة واجبة) لا يرتفع هذا

ص: 345

الذي أريد نفيه بنفي الضرر[1] هو الحكم الثابت للأفعال بعناوينها[2] أو المتوهم ثبوته لها كذلك[3] في حال الضرر[4]، لا الثابت له بعنوانه[5]، لوضوح[6] أنه العلة للنفي، ولا يكاد يكون الموضوع يمنع عن حكمه وينفيه، بل يثبته ويقتضيه[7].

--------------------------------------

الوجوب بدليل (لا ضرر)، وإلاّ كانت الزكاة مقتضية للوجوب - لأنها الموضوع - وفي الوقت نفسه مانعاً عن الوجوب لدلالة (لا ضرر).

[1] أي: بلسان نفي الضرر في قوله: (لا ضرر) حيث اختار المصنف أن المنفي هو نفس الضرر ادعاءً.

[2] أي: بما هو هو قبل عروض عنوان ثانوي، مثلاً: في (الصوم واجب)، الموضوع هو الصوم بنفسه - لا بضميمة شيء آخر - فهذا الحكم يرتفع لو تحوّل الصوم إلى الصوم الضرري.

[3] «ثبوته» أي: ثبوت الحكم، «لها» للأفعال، «كذلك» أي: بعناوينها كما في قصة سمرة، حيث كان يتوهم أنه له الحق في الدخول إلى البستان - ولو من غير استئذان - فجاء قوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (لا ضرر ولا ضرار) لنفي هذا الحكم المتوهم.

[4] قوله: «في حال الضرر» متعلق ب- (نفيه) في قوله: (الحكم الذي أريد نفيه).

[5] أي: لا يراد نفي الحكم الثابت للضرر بنفس عنوان الضرر.

[6] بيان علّة عدم رفع الأحكام التي يكون الضرر موضوعاً لها، «أنه» أن الضرر، «العلة للنفي» أي: لرفع الحكم، «عن حكمه» أي: عن حكم نفس الموضوع، «و ينفيه» عطف تفسيري. والحاصل: إن الضرر في (لا ضرر) مانع عن الحكم فيرفعه، والموضوع يقتضي حكمه - فهو جزء العلة للحكم - ولا يعقل أن يكون جزء العلة مانعاً.

[7] أي: بل الموضوع يثبت الحكم، ولكن الثبوت بنحو المقتضي، ولذا عطف عليه تفسيراً فقال: (ويقتضيه).

ص: 346

ومن هنا[1] لا يلاحظ النسبة بين أدلة نفيه[2] وأدلة الأحكام، وتقدم أدلته على

--------------------------------------

6- النسبة بين (لا ضرر) وبين (أدلة الأحكام الأولية)

[1] أي: من جهة أن (لاضرر) ينفي أحكام الأفعال بعناوينها - وبما هي هي - .

و المقصود بيان النسبة بين دليل (لا ضرر) وبين دليل (الأحكام الأولية)، فإن النسبة - عادة - هي العموم والخصوص من وجه.

مثلاً: الصوم قد يكون ضررياً وقد لا يكون، والضرر قد يكون في الصوم وقد يكون في غير الصوم، فمورد الاجتماع هو الصوم الضرري، ومورد الافتراق هو الصوم غير الضرري، والضرر في غير الصوم.

ومقتضى القاعدة في تعارض العامين من وجه هو ملاحظة المرجحات الدلالية أو السندية، ولكن هنا يرجح دليل (لا ضرر)، فما هو الوجه؟

الوجه الأول: ما اختاره المصنف، وهو أن أدلة الأحكام الأولية هي بنحو المقتضي، و(لا ضرر) مانع عن فعلية تلك الأحكام، والجمع العرفي بين الدليلين هو تقدّم المانع مطلقاً، حتى إذا كانت النسبة هي العموم من وجه.

نعم، لو كان دليل الحكم الأولي يدل على أن الموضوع علّة تامة للحكم فلا يمكن أن يكون (لا ضرر) مانعاً؛ لأنه مع تحقق العلة التامة لا مجال للمانع أصلاً. وكذا لو كان الموضوع علة للحكم في بعض الأحيان، ففي تلك الحالات لا يكون (لا ضرر) مانعاً.

الوجه الثاني: ما اختاره الشيخ الأعظم(1)،

وهو حكومة أدلة العناوين الثانوية على أدلة العناوين الأولية؛ لأن الثانوية ناظرة إلى الأولية، وفي الحكومة يتقدم الدليل الحاكم مطلقاً حتى في صورة العموم من وجه - كما سيأتي - .

[2] أي: نفي الضرر كقولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (لا ضرر)، «أدلة الأحكام» أي: أحكام الموضوعات بعناوينها الأولية، «أدلته» أي: أدلة لا ضرر، «أدلتها» أي: أدلة الأحكام.

ص: 347


1- فرائد الأصول 2: 462.

أدلتها، مع أنها عموم من وجه[1]، حيث إنه يوفق بينهما[2] عرفاً بأن الثابت للعناوين الأولية اقتضائي[3] يمنع عنه فعلاً[4] ما عرض عليها من عنوان الضرر بأدلته[5]، كما هو الحال[6] في التوفيق بين سائر الأدلة المثبتة أو النافية لحكم الأفعال بعناوينها الثانوية والأدلة المتكفلة لحكمها[7] بعناوينها الأولية.

نعم[8]، ربما يعكس الأمر في ما أحرز بوجه معتبر أن الحكم في المورد ليس بنحو الاقتضاء، بل بنحو العلية التامة.

--------------------------------------

[1] أي: نسبة (لا ضرر) مع أدلة الأحكام هي نسبة العموم من وجه، والقاعدة هي التعارض في مورد الاجتماع والرجوع إلى المرجحات، ولكن تلك القاعدة لا تجري هنا.

[2] بين أدلة لا ضرر وأدلة الأحكام، وعلة الجمع العرفي هو أن أدلة الأحكام هي بنحو المقتضي، وأدلة لا ضرر هي بنحو المانع، والمانع يتقدم مطلقاً عرفاً.

[3] أي: الحكم في مرحلة الاقتضاء، وبوجود (لا ضرر) لا يصل إلى مرحلة الفعلية.

[4] أي: يمنع عن وصول الحكم إلى مرحلة الفعلية، وقوله: «ما عرض» فاعل «يمنع»، «عليها» على العناوين الأولية، فحيث صار الصوم ضررياً فإن الضرر عرض على العنوان وهو الصوم - مثلاً - .

[5] أي: الضرر يمنع بسبب الأدلة الدالة على (لا ضرر)، فالباء في «بأدلته» سببيّة.

[6] أي: هذا الجمع العرفي ليس خاصاً بعنوان الضرر، بل جميع أدلة الأحكام الثانوية تقدم عرفاً على أدلة الأحكام الأولية.

[7] أي: لحكم الأفعال.

[8] إشارة إلى أنه لو كان عنوان الحكم الأولي علة تامة للحكم - مثلاً: (الظلم حرام) فإن الظلم علة تامة للحكم بالحرمة، بحيث لا يوجد ظلم مباح، بل الظلم

ص: 348

وبالجملة: الحكم الثابت بعنوان أولي تارةً يكون بنحو الفعلية مطلقاً[1] أو بالإضافة إلى عارض دون عارض[2] بدلالة[3] لا يجوز الإغماض عنها بسبب دليل حكم العارض المخالف له، فيقدم دليل ذاك العنوان على دليله[4]؛ وأخرى[5]

--------------------------------------

دائماً قبيح عقلاً حرام شرعاً - فإن الضرر لا يكون مانعاً عن الحكم أصلاً، بلى لو تغير الموضوع يتغير الحكم، لكن هذه الصورة خارجة عن محل البحث.

[1] أي: حتى مع طروّ العناوين الثانوية، فالموضوع علة تامة للحكم كمثال: (الظلم حرام).

[2] أي: أحياناً يكون علة تامة، وحينئذٍ يتقدم على الدليل الثانوي، وأحياناً لا يكون علة تامة، وهنا لا يتقدم على الثانوي، بل الثانوي يتقدم عليه، و(العارض) هو العنوان الثانوي.

مثلاً: (قتل المؤمن حرام) فلا ترتفع الحرمة بعنوان الإكراه والاضطرار، فلا يجوز له القتل حتى لو أكره عليه أو اضطر إليه، فهنا العنوان الأولي علة للحرمة في هذه الحالة.

ولكن ترتفع الحرمة في حال الخطأ، فالقاتل خطأً لم يفعل حراماً، فالقتل لم يكن علة تامة في حالة الخطأ.

[3] متعلق بقوله: (يكون)، أي: يكون بنحو الفعلية بدلالة لا يمكن رفع اليد عنها حتى مع عروض العناوين الثانوية، كدليل حرمة الظلم والقتل.

[4] «ذاك العنوان» الأولي، «دليله» دليل العارض - الثانوي - .

[5] أي: وتارة أخرى يكون دليل العنوان الأولي بنحو المقتضي، فهنا يكون دليل العنوان الثاني مانعاً، وعرفاً يقدم الدليل المانع مطلقاً، «يكون» أي: الحكم الأولي، «دلالة» أي: دليل على هذا الحكم الأولي، كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ}(1)، «عنها» عن الدلالة، «بسببه» أي: بسبب دليل الحكم العارض.

ص: 349


1- سورة البقرة، الآية: 183.

يكون على نحوٍ لو كانت هناك دلالة للزم الإغماض عنها بسببه عرفاً، حيث كان اجتماعهما[1] قرينةً على أنه بمجرد المقتضي وأن العارض مانع فعلي. هذا ولو لم نقل[2] بحكومة دليله على دليله[3]، لعدم ثبوت نظره إلى مدلوله[4]، كما قيل[5].

--------------------------------------

[1] اجتماع العنوان الأولي والثانوي، «أنه» أن دليل العنوان الأولي، «بمجرد المقتضي» ولم يصل إلى درجة الفعلية.

[2] إشارة إلى الوجه الثاني - في سبب تقديم العناوين الثانوية على العناوين الأولية -

وهو ما اختاره الشيخ الأعظم، وهو حكومة دليل قاعدة لا ضرر على أدلة أحكام العناوين الأولية. لكن المصنف لم يرتض هذا الوجه؛ لأن شرط (الحكومة) هو أن يكون الحاكم ناظراً إلى الدليل المحكوم مثل: (لا شك لكثير الشك) حيث إنه ناظر إلى أدلة الشكيّات.

قال الشيخ الأعظم: (والمراد بالحكومة: أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضاً لحال دليل آخر من حيث إثبات حكم لشيء أو نفيه عنه، فالأول: مثل ما دلّ على الطهارة بالاستصحاب أو بشهادة العدلين، فإنه حاكم على ما دلّ على أنه لا صلاة إلاّ بطهور...)(1)

الخ.

أما المصنف فيقول: إنه من غير المعلوم نظر مثل: (لا ضرر) إلى أدلة الأحكام الأولية، بل هو قانون برأسه، مع قطع النظر عن سائر الأحكام، فتأمل.

[3] أي: بحكومة دليل العنوان الثانوي على دليل العنوان الأولي.

[4] أي: عدم ثبوت نظر الدليل العارض الثانوي إلى دليل الحكم الأولي.

[5] أي: كما قيل بالحكومة، والقائل هو الشيخ الأعظم(2).

ص: 350


1- فرائد الأصول 2: 462.
2- فرائد الأصول 2: 462.

ثم انقدح بذلك[1] حال توارد دليلي العارضين[2]، كدليل نفي العسر ودليل نفي الضرر مثلاً، فيعامل معهما[3] معاملة المتعارضين لو لم يكن من باب تزاحم المقتضيين، وإلاّ[4] فيقدم ما كان مقتضيه أقوى وإن كان دليل الآخر أرجح وأولى[5].

ولا يبعد أن الغالب[6] في توارد العارضين أن يكون من ذاك الباب بثبوت المقتضي

--------------------------------------

7- النسبة بين (لا ضرر) وبين (أدلة الأحكام الثانوية)

[1] أي: بالجمع العرفي بين أدلة الأحكام الأولية والثانوية اتضح لك عدم جريان ذلك الجمع بين أدلة الأحكام الثانوية نفسها.

[2] أي: لو اجتمع دليلان ثانويّان، مثلاً: لو كان ترك التدخين عسراً عليه، وكان التدخين ضرراً، فهنا صورتان:

الصورة الأولى: التعارض بينهما، بأن يكون لأحدهما ملاك، وفقدان الآخر للملاك، فحينئذٍ لابد من إجراء حكم التعارض، وهو الترجيح السندي، فيؤخذ بالأقوى سنداً.

ولا يخفى أن هذه الصورة مجرد فرض - لعدم مثال لها في الخارج - .

الصورة الثانية: التزاحم بينهما، بأن يكون لكليها ملاك، فحينئذٍ لابد من إجراء حكم التزاحم، وهو الترجيح بالأقوى منهما ملاكاً - حتى لو كان الآخر أقوى سنداً - .

[3] أي: مع دليلي العارضين - الثانويين - .

[4] أي: إن كانا من باب التزاحم - بوجود الملاك في كليهما - .

[5] لأن القاعدة في باب التزاحم ذلك، مثلاً: لو دار الأمر بين إنقاذ قائد الجيش وبين إنقاذ جندي عادي فإن مقتضي إنقاذ القائد أقوى من إنقاذ الجندي، حتى لو كان دليل وجوب إنقاذ الجندي خبر متواتر، ودليل وجوب إنقاذ القائد خبر واحد، وقد مرّ تفصيل ذلك سابقاً.

[6] أي: في مرحلة الإثبات، بل كل الموارد، «ذاك الباب» أي: التزاحم، «فيهما» أي: في العارضين.

ص: 351

فيهما مع تواردهما، لا من باب التعارض، لعدم[1] ثبوته إلاّ في أحدهما، كما لا يخفى.

هذا حال تعارض الضرر مع عنوان أولي أو ثانوي آخر.

وأما لو تعارض مع ضرر آخر، فمجمل القول فيه[2]:

أن الدوران، إن كان بين ضرري شخص واحد أو اثنين، فلا مسرح إلاّ لاختيار أقلهما لو كان[3]، وإلاّ فهو مختار.

--------------------------------------

[1] هذا علة للتعارض، فالمعنى: لا يكون الغالب من باب التعارض؛ لأن التعارض إنما هو في ما لم يثبت الملاك إلاّ في أحدهما، والحال أن غالب الموارد يوجد الملاك في كليهما. وبعبارة أخرى: «لعدم» علة للمنفيّ، لا للنفي.

8- في تعارض ضررين

[2] إنّ صور تعارض الضررين متعددة منها:

1- تعارض ضررين في شخص واحد، كما لو اضطر إلى قطع يده أو رجله.

2- تعارض ضررين في شخصين، كما لو أكره على شتم زيد أو عمرو مخيراً بينهما.

وفي هاتين الصورتين يلزم ترجيح الضرر الأخف، وإن تساويا تخيّر.

3- تعارض ضرر نفسه وضرر غيره في ما لو توجّه الضرر إلى الغير، وهنا لا يجب عليه تحمل الضرر ليدفعه عن الغير، كما لو أراد السارق سرقه مال زيد فإنه لا يجب على عمرو إعطاء مال للسارق ليكف عن سرقة مال زيد.

4- لو توجه الضرر إليه فلا يجوز دفع الضرر عن نفسه بإلقاء الضرر على الغير، كما لو أراد السارق سرقة ماله فيدفع السرقة عن نفسه بدلالة السارق على مال عمرو.

[3] أي: لو كان الأقل، كما لو دار الأمر بين قطع اليد أو قطع إصبع، «وإلاّ» أي: لم يكن أقل، بل كانا متساويين، «فهو» المكلف، «مختار» في دفع أيّ الضررين شاء.

ص: 352

وأما لو كان[1] بين ضرر نفسه وضرر غيره، فالأظهر عدم لزوم تحمله الضرر، ولو كان ضرر الآخر أكثر[2]، فإن نفيه يكون للمنة على الأمة، ولا منة على تحمل الضرر لدفعه عن الآخر وإن كان أكثر.

نعم[3]، لو كان الضرر متوجهاً إليه ليس له دفعه عن نفسه بإيراده على الآخر.

اللهم إلاّ أن يقال[4]: إن نفي الضرر وإن كان للمنة، إلاّ أنه بلحاظ نوع الأمة، واختيار الأقل[5]

--------------------------------------

[1] هذه الصورة الثالثة.

[2] مثلاً: لو أرادوا حبس مديون فلا يجب على الأثرياء دفع دينه إنقاذاً له من الحبس؛ وذلك لأن رفع الضرر إنما هو امتنان من الله على العباد، ولا مِنّة في جعل الضرر على شخص لدفع ضرر عن شخص آخر. وبعبارة أخرى: (لا ضرر) يرفع الحكم، ولا يثبت حكماً؛ إذ إثبات حكم في ذمة مكلف خلاف المنّة.

[3] هذه الصورة الرابعة وهي: دفع الضرر عن النفس بإلقائه على شخص آخر، كما لو أراد الإنسان النجاة لنفسه عن طريق قتل بريء، ولذا قيل: (لا تقية في الدماء) وذلك لعدم جواز إضرار الغير، ودفع الضرر عن النفس بإلقائه على الغير هو من مصاديق إضرار الغير.

[4] حاصله: إن (المنّة) إذا كانت نوعية - أي: بملاحظة نوع الأمة - ف- (لا ضرر) يدل على أن الله تعالى مَنّ على هذه الأمة برفع الضرر عنها، فحينئذٍ لو كان الضرر على نفسه كثيراً والضرر على الغير قليلاً فإن من المِنّة على نوع الأمة هو رفع الضرر الأكثر - ولو أدّى إلى الضرر الأقل - كما لو أراد السارق سرقة ألف منه، فيدفعه بإلقاء الضرر على الغير بأن يسرق السارق من غيره عشرة - مثلاً - .

أما لو قلنا: إن (المِنّة) شخصية، أي: بلحاظ كل شخص - بمفرده - فلا مِنّة على من ألقي الضرر عليه، فلا يجري دليل (لا ضرر) فيه.

[5] «اختيار» مبتدأ، و«منة» خبره.

ص: 353

بلحاظ النوع منة، فتأمل[1].

فصل في الاستصحاب: وفي حجيته إثباتاً ونفياً أقوال للأصحاب[2].

ولا يخفى[3]: أن عباراتهم في تعريفه وإن كانت شتّى، إلاّ أنها تشير إلى مفهومٍ

--------------------------------------

[1] لعله إشارة إلى أن (المنة النوعية) تجري في الصورة الثالثة أيضاً - مع عدم إمكان القول بلزوم تحمل الضرر فيها ولو أقل - .

أو إشارة إلى أن (لا ضرر) لا يثبت التكليف، فلا دليل على جواز إلقاء الضرر على الغير.

أو إشارة إلى أن الضرر يتوجه إلى شخص واحد ويرفع عن شخص واحد فقط، فليس فيه مِنّة على الأمة، بل مِنّة على شخص، ونقمة على شخص آخر.

فصل في الاستصحاب

اشارة

ومقدمةً لمبحث الاستصحاب يتم البحث في أمور:

الأول: في تعريف الاستصحاب.

الثاني: في كون الاستصحاب مسألة أصولية.

الثالث: أركان الاستصحاب، وهي اليقين السابق، والشك اللاحق، مع وحدة القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة.

الرابع: وحدة الموضوع والمحمول في استصحاب الأحكام.

[2] قال الشيخ الأعظم: (والمتحصل منها في بادئ النظر: أحد عشر قولاً)(1).

الأمر الأول تعريف الاستصحاب

[3] حاصله: إنهم قد عرّفوا الاستصحاب بعدة تعاريف، وقد أشكل على تلك التعاريف بأنها غير جامعة للأفراد أو غير طاردة للأغيار، لكن هذه الإشكالات

ص: 354


1- فرائد الأصول 3: 48 - 50.

واحد ومعنىً فارد، وهو «الحكم ببقاء حكم[1] أو موضوع ذي حكم[2] شك في بقائه»، إما[3]

--------------------------------------

لا وجه لها؛ لأن الغرض من تلك التعاريف ليس الحدّ ببيان الجنس والفصل، ولا الرسم ببيان الجنس والعرض الخاص، بل الغرض هو تقريب المعنى إلى الذهن، كما في شرح الاسم، حيث يتعارف في كتب اللغة ونحوها الإتيان بلفظ آخر أعرف للسامع، لكي يتصور المعنى، كما يقال: (سعدانة نبت) و(قسورة الأسد).

ولكن إذا أردنا تعريفاً جامعاً مانعاً - وهو مراد من عرّف الاستصحاب - فنقول: (الاستصحاب هو: الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقاء ذلك الحكم أو الموضوع).

[1] كما لو شككنا في بقاء وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة، فالاستصحاب يدل على بقاء الوجوب.

[2] كما لو شككنا في حياة زيد، ويترتب على حياته جملة من الأحكام، كعدم تقسيم أمواله، وبقاء زوجته على حبالته... الخ، فحينئذٍ نستصحب هذا الموضوع وهو الحياة؛ لأن لهذا الموضوع أحكاماً شرعية تترتب عليه.

[3] أي: مهما يكن دليل حجية الاستصحاب، فإن مفهوم الاستصحاب شيء واحد. - سواء كان الدليل هو بناء العقلاء، أم النص، أم الإجماع - .

وغرض المصنف هو بيان الإشكال على من أقحم بعض هذه الأدلة في معنى الاستصحاب، كمن قال: (إن الاستصحاب هو بناء العقلاء على إبقاء الحكم...)(1)،

أو قال: (إن الاستصحاب هو الظن ببقاء الحكم...)(2)

فإن إقحام مدرك الحجية في التعريف يستلزم تعدد معنى الاستصحاب، حيث يستلزم معنى آخر للاستصحاب عند من لا يرى بناء للعقلاء في الاستصحاب، أو لا يرى حجية

ص: 355


1- فوائد الأصول 4: 331.
2- شرح مختصر الأصول 2: 453.

من جهة بناء العقلاء على ذلك[1] في أحكامهم العرفية مطلقاً أو في الجملة[2] - تعبداً، أو للظن[3] به الناشئ عن ملاحظة ثبوته سابقاً[4] -، وإما من جهة دلالة النص أو دعوى الإجماع عليه كذلك[5]، حسبما تأتي الإشارة إلى ذلك مفصلاً.

ولا يخفى: أن هذا المعنى[6]

--------------------------------------

هذا الظن.

وتعدد معنى الاستصحاب يكون بمعنى عدم بحث العلماء في موضوع واحد، وهذا واضح البطلان؛ إذ الكل يبحث في شيء واحد مع تعدد مدركه ودليله.

[1] أي: على الحكم بالبقاء، «في أحكامهم العرفية» ولم يردع عنه الشارع، بل أمضاه، فيجري في الأحكام الشرعية أيضاً.

[2] أي: بناء العقلاء على الحكم بالبقاء إما في كل الأمور، وإما في الأمور غير الخطيرة، أو في الشك في المانع لا المقتضي - مثلاً - .

[3] «تعبداً» أي: بناء العقلاء قد يكون لمجرد تنظيم شؤون حياتهم من غير أن يكون علة أخرى للحجية، وهذا يعبر عنه بالتعبد، فيكون الاستصحاب حجة دائماً.

«أو للظن» أي: منشأ بنائهم هو الظن الناشئ من الاستصحاب، فتنحصر الحجية في ما لو أفاد الاستصحاب الظن.

ولا يخفى أن أصل استعمال كلمة (التعبد) هي في تنفيذ أوامر الشارع من غير ربط التنفيذ بعلّة، بل لمجرد إطاعة كلام الشارع المقدس، فسواء علم المكلف بالعلة أم لم يعلم فإنه يقوم بتنفيذ إرادة الشارع، ثم عمّموا كلمة (التعبد) في جعل الأحكام من غير ربطها بعلّة خاصة كي يكون الحكم دائراً مدار تلك العلة.

[4] «للظن به» بالبقاء، «الناشئ» ذلك الظن، «ثبوته» ثبوت الحكم.

[5] «عليه» على البقاء، «كذلك» مطلقاً أو في الجملة.

[6] ما ذكرناه في التعريف (الحكم ببقاء حكم أو موضوع... الخ).

ص: 356

هو القابل[1] لأن يقع فيه النزاع والخلاف في نفيه وإثباته - مطلقاً أو في الجملة - وفي وجه ثبوته[2] على أقوال[3]، ضرورة[4] أنه لو كان الاستصحاب هو نفس بناء العقلاء على البقاء أو الظن به[5] الناشئ من العلم بثبوته لما تقابل فيه[6] الأقوال، ولما كان النفي والإثبات واردين على موردٍ واحد، بل موردين.

وتعريفه[7] بما ينطبق على بعضها[8] وإن كان ربما يوهم أن لا يكون هو الحكم بالبقاء، بل ذاك الوجه[9]، إلاّ أنه حيث لم يكن بحدٍّ ولا رسم بل من قبيل شرح الاسم - كما هو الحال في التعريفات غالباً - لم يكن[10] له دلالة على أنه نفس الوجه،

--------------------------------------

[1] لأنه المعنى الجامع الذي أقيمت الأدلة عليه وجرى النزاع فيه، ولذا يؤكدون على تنقيح محل النزاع، حتى تتبيّن النقطة المتنازع فيها، لكي لا يكون النزاع في موضوعين أو يعود النزاع لفظياً.

[2] أي: في دليل حجية هذا الاستصحاب.

[3] «على» متعلق بقوله: (النزاع والخلاف) أي: النزاع والخلاف على أقوال.

[4] أي: لو أخذنا الدليل في نفس التعريف لتعدّد الاستصحاب، ولم يكن النزاع في شيء واحد.

[5] أي: لو كان الاستصحاب هو الظن بالبقاء - ومنشأ هذا الظن هو اليقين السابق - .

[6] أي: في الاستصحاب؛ لأن من ينكر بناء العقلاء أو ينكر الحجية من باب الظن يكون منكراً للاستصحاب بهذا المعنى، فلو أثبت حجيته من باب النص - مثلاً - لكان مثبتاً لموضوع آخر.

[7] الغرض هو الاعتذار لأصحاب تلك التعريفات، وأن مرادهم شرح الاسم.

[8] أي: بعض الأقوال.

[9] «الوجه» أي: ما ينطبق على بعض الأقوال.

[10] «لم يكن» خبر قوله: (وتعريفه...)، «لم يكن له» لهذا التعريف الذي

ص: 357

بل للإشارة إليه من هذا الوجه. ولذا لا وقع للإشكال على ما ذكر في تعريفه بعدم الطرد أو العكس، فإنه لم يكن به[1] - إذا لم يكن بالحد أو الرسم - بأس.

فانقدح أن ذكر تعريفات القوم له وما ذكر فيها من الإشكال بلا حاصل وطول بلا طائل.

ثم لا يخفى[2]:

--------------------------------------

ينطبق على بعضها، «أنه» أن الاستصحاب، «نفس الوجه» المذكور في هذا التعريف، «إليه» إلى الاستصحاب، «من هذا الوجه» المذكور في التعريف، والحاصل: إن هذه التعاريف هي مرآة للاستصحاب ومشيرة إليه، وليست حداً ولا رسماً.

[1] «به» بالتعريف، واسم «لم يكن» هو قوله: «بأس».

الأمر الثاني كون الاستصحاب مسألة أصولية

[2] علم أصول الفقه هو: (العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية الكلية)(1)، وحيث إن الاستصحاب هو الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقاء فإنه يقع في طريق استنباط الأحكام الشرعية الكلية، فيكون مسألة أصولية؛ إذ هو (بقاء كل مشكوك البقاء) وهذا حكم شرعي كلي.

وأما القواعد الفقهيّة - كأصالة الطهارة - فهي نفس الحكم الشرعي، وليست واقعة في طريق استنباط الحكم الشرعي.

وبعبارة أخرى: الفرق بين المسألة الأصولية، وبين القاعدة الفقهية هو أن الحكم

الشرعي يستفاد من القاعدة الفقهية بلا واسطة، لكنه يستفاد من المسألة الأصولية مع الواسطة.

مثلاً: في قاعدة الطهارة نقول: (هذا مشكوك الطهارة) و(كل مشكوك الطهارة طاهر) وهذا حكم شرعي فرعي.

ص: 358


1- قوانين الأصول 1: 5؛ فرائد الأصول 3: 18؛ إيضاح كفاية الأصول 1: 24.

أن البحث في حجيته[1] مسألة أصولية، حيث يبحث فيها لتمهيد قاعدة تقع في طريق[2] استنباط الأحكام الفرعية. وليس مفادها حكم العمل بلا واسطة[3] وإن كان ينتهي إليه[4]، كيف[5]! وربما لا يكون مجرى الاستصحاب إلاّ حكماً أصولياً كالحجية مثلاً[6].

هذا لو كان[7] الاستصحاب عبارةً عما ذكرنا.

--------------------------------------

أما في استصحاب الطهارة فنقول: (هذا متيقن الطهارة سابقاً مشكوكها لاحقاً)، (و كل مشكوك البقاء باقٍ) وهذا ليس حكماً فقهياً فرعياً.

[1] حجية الاستصحاب، «يبحث فيها» في هذه المسألة الأصولية.

[2] فليست تلك القاعدة حكماً شرعياً فرعياً كوجوب الصلاة والصوم.

[3] أي: فلا تكون قاعدة فقهية، حيث إن القاعدة نفسها حكم شرعي فرعي، مثلاً: قاعدة الطهارة فإن مفادها (كل شيء طاهر) هو حكم شرعي فرعي.

[4] أي: في المسألة الأصولية الغرض هو استنباط الأحكام الشرعية الفرعية، لكن ليست المسألة هي الحكم الفرعي، بل هي طريق في استنباطه.

مثلاً: (هذا مشكوك بقاء طهارته) (كل مشكوك البقاء باقٍ) (فهذا طهارته باقية) فإن النتيجة هي حكم فرعي، لكن الاستصحاب وقع في الكبرى ولم يكن مسألة فرعية.

[5] يريد المصنف بيان مثال واضح لا يخفى على أحد، فإن الفرق بين مثل: (استصحاب الطهارة) و(قاعدة الطهارة) قد يخفى على البعض، لكن (استصحاب الحجيّة) واضح أنه حكم كلي وليس حكماً فرعياً.

[6] نظير ما لو كان الإنسان بعيد عن المعصوم وجعلت له حجية الخبر الواحد، فمع تواجده في بلد المعصوم هل تبقى الحجية أم تزول؟ فيستصحب حجية الخبر الواحد.

[7] حاصله: إن الاستصحاب لو كان (الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم) كما هو مختارنا، فكونه مسألة أصولية يتضح بما بيناه.

ص: 359

وأما لو كان عبارةً عن بناء العقلاء على بقاء ما علم ثبوته أو الظن به[1] الناشئ[2] من ملاحظة ثبوته، فلا إشكال في كونه مسألة أصولية.

وكيف كان، فقد ظهر مما ذكرنا في تعريفه[3] اعتبار أمرين[4] في مورده: القطع بثبوت شيء، والشك في بقائه.

--------------------------------------

أما لو قلنا: إنّ الاستصحاب هو: (بناء العقلاء على بقاء ما عُلم ثبوته) فإنه من الواضح أن هذا ليس حكماً شرعياً فرعياً، بل هو حكم عقلائي، وكذا لو قلنا: إن الاستصحاب هو: (الظن بالبقاء) فإن هذا أيضاً ليس حكماً شرعياً فرعياً.

[1] «به» بالبقاء، وقوله: «أو الظن» عطف على (بناء العقلاء) أي: لو كان الاستصحاب عبارة عن الظن بالبقاء... الخ.

[2] أي: منشأ الظن هو ملاحظة ثبوته سابقاً.

الأمر الثالث أركان الاستصحاب

[3] هذا التعريف هو المستفاد من أدلة الاستصحاب؛ لذلك اعتبار هذين الأمرين مأخوذ من تلك الأدلة.

[4] يشترط في جريان الاستصحاب عدة أمور كما في العناية(1):

1- اليقين السابق.

2- الشك اللاحق.

3- تعلق الشك بالبقاء لا بأصل ما تيقن به، وإلاّ لم يكن استصحاباً، بل كان من قاعدة اليقين.

4- بقاء الموضوع واتحاد المحمول - أي: اتحاد القضية المشكوكة والمتيقنة - .

5- أن لا يكون في مورد الاستصحاب أمارة - ولو على وفاقه - .

6- لزوم الفحص إلى حد اليأس في الشبهات الحكمية.

ص: 360


1- عناية الأصول 5: 16 - 17.

ولا يكاد[1] يكون الشك في البقاء إلاّ مع اتحاد القضية المشكوكة والمتيقنة بحسب الموضوع والمحمول. وهذا مما لا غبار عليه في الموضوعات الخارجية[2] في الجملة[3].

وأما الأحكام الشرعية[4]،

--------------------------------------

7- أن يكون المستصحب حكماً شرعياً أو موضوعاً ذا حكم شرعي.

وهنا المصنف يذكر الأول والثاني، وأما باقي الأمور فيأتي التعرض لها تباعاً في المباحث الآتية.

الأمر الرابع وحدة الموضوع والمحمول
اشارة

[1] حاصله: إنه لابد من وحدة الموضوع والمحمول حتى يجري الاستصحاب، فلا يجري مع تعدد الموضوع، كما لو تيقنا بعدالة زيد، ثم شككنا في فسق عمرو، فلا نستصحب العدالة في عمرو لأن الموضوع في القضية المتيقنة هو زيد، وفي القضية المشكوكة هو عمرو، كما لا يجري الاستصحاب مع تعدد المحمول، فلو تيقنا بعدالة زيد ثم شككنا في علم زيد فلا يجري الاستصحاب لإثبات علمه؛ وذلك لاختلاف المحمول في القضيتين.

[2] مثلاً: (زيد عادل يقيناً) و(زيد مشكوك العدالة) فالموضوع وهو (زيد) نفسه في القضيتين، وكذا المحمول وهو (العدالة).

[3] نعم، بعض الأحيان يشك في اتحاد الموضوع الخارجي، كما في الزمانيات، مثلاً: يجب الإمساك عن المفطرات في النهار، وحين الشك في دخول الليل، فإن الموضوع - وهو النهار - غير معلوم البقاء، بل يحتمل تبدله.

إشكالان في استصحاب الأحكام الشرعية
اشارة

[4] إن الموضوع في الأحكام الشرعية هو أمر كلي مركب، فإذا بقيت كل أجزاء المركب فلا شك بالبقاء، بل نعلم ببقاء الحكم الشرعي قطعاً.

ولا يحصل الشك إلاّ بعد زوال بعض هذا المركب، وحينئذٍ لا نعلم ببقاء

ص: 361

سواء كان مدركها العقل أم النقل[1]، فيشكل حصوله فيها[2]، لأنه لا يكاد يشك في بقاء الحكم إلاّ من جهة الشك في بقاء موضوعه بسبب تغير بعض ما هو عليه[3]

--------------------------------------

الموضوع؛ لأن الموضوع المركب من الأجزاء يختلف عن الموضوع المركب من بعض تلك الأجزاء دون بعض، فكيف يجري الاستصحاب؟

وهنا في الحقيقة إشكالان:

الأول: إن الموضوع في الأحكام الشرعية يختلف في القضيتين - المتيقنة والمشكوكة - فلا يجري الاستصحاب في الأحكام الشرعية، بل يجري في خصوص الموضوعات الخارجية، وهذا ما ذهب إليه الأخباريون(1).

الثاني: إنه لا يجري الاستصحاب لو كان دليل الحكم هو العقل؛ وذلك لأنه لا شك إلاّ مع تغير بعض الحالات، وحين الشك لا يحكم العقل قطعاً، وحيث يحتمل دخالة تلك الحالات في الحكم فلا شك في بقاء الحكم، بل قطع بزوال الحكم؛ لأن العقل إنما يحكم لو تيقن بأمر، ومع عدم تيقنه لا حكم له أصلاً، وهذا ما ذهب إليه الشيخ الأعظم(2).

[1] «العقل» إشارة إلى إشكال الشيخ الأعظم، «النقل» إشارة إلى إشكال الأخباريين.

[2] «حصوله» أي: حصول اتحاد القضيتين، «فيها» في الأحكام الشرعية.

[3] أي: بعض الأوصاف والحالات، فإنه لو بقيت كل الأوصاف والحالات لم يكن هناك شك، بل قطع في استمرار الحكم، «بعض ما» أوصاف وحالات، «هو» الموضوع، «عليه» الضمير يرجع إلى (ما) فالمعنى: إلاّ من جهة الشك في تغير بعض الأوصاف والحالات، التي كان الموضوع على تلك الحالات والأوصاف.

ص: 362


1- فرائد الأصول 3: 33، حيث نسب اليهم ذلك.
2- فرائد الأصول 3: 37.

مما احتمل دخله فيه[1] حدوثاً أو بقاءً[2]، وإلاّ[3] لما تخلف الحكم عن موضوعه إلاّ بنحو البداء[4] بالمعنى المستحيل في حقه تعالى؛ ولذا كان النسخ بحسب الحقيقة دفعاً لا رفعاً[5].

--------------------------------------

[1] «مما» من الأوصاف والحالات التي احتمل، «دخله» دخل تلك الأوصاف والحالات، «فيه» في الموضوع.

[2] «حدوثاً» كالتغيّر فإنه سبب لنجاسة الماء الكر حدوثاً، فلا يشترط بقاء التغيّر، فحتى لو رجع الماء إلى حالته الأولية فإن النجاسة تكون باقية.

«بقاءً» كالأعلمية، فكما يشترط الأعلمية في ابتداء التقليد كذلك يشترط بقاء الأعلمية في استمرار التقليد.

[3] أي: إن لم تتغيّر بعض الأوصاف والحالات لبقي الحكم قطعاً ولم يشك في بقائه.

[4] البداء في الناس - عادة - هو تغيّر الرأي لاكتشافهم أمراً كانوا يجهلونه، فيحكم الإنسان على موضوع بشيء ثم لما يتبيّن له الخطأ في حكمه يغيّر الحكم، مع بقاء الموضوع على ما هو عليه. وهذا المعنى مستحيل على الله تعالى، فالبداء فيه هو إظهار الأمر بعد خفائه على الناس، ويدل عليه قوله تعالى: {يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ}(1).

إذن، لا يعقل تغيّر حكم شرعي مع بقاء الموضوع بنفسه من غير اختلاف فيه. نعم، مع تغيّر الموضوع - كانتهاء أمده مثلاً - يمكن تغيّر الحكم بالنسخ، فإن الحكم إذا كان محدّداً بوقت معين واقعاً فبانتهاء الوقت يتغيّر الموضوع؛ فلذا يتغير الحكم، وهذا هو النسخ في الأحكام الشرعية.

[5] أي: بيان لانتهاء أمد الحكم، لا تغيير الحكم مع بقاء موضوعه، فإن «الدفع» هو بيان عدم شمول الحكم لما بعد الوقت، و«الرفع» هو تغيير الحكم مع كونه قابلاً للاستمرار.

ص: 363


1- سورة الرعد، الآية: 39.

ويندفع هذا الإشكال[1] بأن الاتحاد في القضيتين بحسبهما[2] وإن كان مما لا محيص عنه في جريانه، إلاّ أنه لما كان الاتحاد بحسب نظر العرف كافياً في تحققه[3] وفي صدق الحكم ببقاء ما شك في بقائه، وكان بعض[4] ما عليه الموضوع من

--------------------------------------

الجواب عن الإشكال الأول

[1] أما الإشكال الأول، فجوابه: إن اتحاد القضيتين قد يكون بنحو الدقة العقلية، وقد يكون بنحو الاتحاد العرفي، ومع تغيّر بعض الحالات والأوصاف لا وحدة عقلاً، لكن قد تكون وحدة عرفيّة.

وحيث إن دليل الاستصحاب إما بناء العقلاء أو النص، أو الإجماع، فإنه يمكن ادعاء أن العقلاء لا يلاحظون الدقة العقلية في وحدة القضيتين، كذلك النص ملقى إلى العرف، لقوله: {وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ}(1)، والعرف لا يلاحظ الدقة العقلية أيضاً، وكذا الإجماع - على فرض صحته - يشمل صورة الوحدة العرفية. إذن، تكفي الوحدة العرفية في القضيتين، وهذه الوحدة حاصلة غالباً.

[2] أي: بحسب الموضوع والمحمول، «جريانه» أي: جريان الاستصحاب.

[3] أي: في تحقق الاتحاد اللازم في الاستصحاب.

[4] المقصود بيان أن الخصوصية التي تغيّرت - ومع تلك الخصوصية كان الحكم مقطوعاً، ومع تغيّر تلك الخصوصية كان بقاء الحكم مشكوكاً - على قسمين:

1- ما لا يراه العرف مقوماً للموضوع، بل يراه حالة طارئة عليه، فهنا يرى العرف اتحاد القضيتين، مثل التغيّر في (الماء المتغير نجس).

2- ما يراه العرف مقوماً للموضوع وأن الحكم يتوقف عليه، كما في (صلِّ خلف العادل).

فإن كان من قبيل القسم الثاني فلا يجري الاستصحاب، وإن كان من قبيل الأول جرى الاستصحاب؛ لشمول أدلته لهذا القسم.

ص: 364


1- سورة إبراهيم، الآية: 4.

الخصوصيات التي يقطع معها[1] بثبوت الحكم له مما يعد بالنظر العرفي من حالاته[2]، وإن كان واقعاً[3] من قيوده ومقوماته، كان[4] جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية الثابتة لموضوعاتها عند الشك فيها[5] لأجل طروء انتفاء بعض ما احتمل دخله فيها مما عد من حالاتها لا من مقوماتها، بمكان من الإمكان، ضرورة[6] صحة إمكان دعوى بناء العقلاء على البقاء تعبداً أو لكونه مظنوناً ولو نوعاً[7]، أو دعوى دلالة النص أو قيام الإجماع عليه قطعاً، بلا تفاوت[8]

--------------------------------------

[1] أي: مع تلك الخصوصية، «له» للموضوع.

[2] أي: من حالات الموضوع، بأن لم يكن مقوماً له، بل كان من الطوارئ التي لا يتوقف عليها الموضوع ولا الحكم.

[3] أي: لعلّ تلك الحالة كانت مقوماً واقعاً، ولكن لأن الشرع أوكل الأمر إلى لسان القوم، فلابد من العرف.

[4] «كان» جزاء (لمّا) في قوله: (إلاّ أنه لمّا كان الاتحاد... الخ)، وخبر «كان» هو قوله: (بمكان من الإمكان).

[5] أي: عند الشك في تلك الأحكام، أي: في استمرارها، «لموضوعاتها» أي: موضوعات تلك الأحكام، «بعض ما» أي: خصوصيات وأوصاف، «احتمل دخله» الضمير راجع إلى (ما)، «فيها» أي: في الموضوعات، «مما عُدّ» أي: عدّه العرف، «من حالاتها» حالات الموضوعات.

[6] أي: أدلة الاستصحاب تشمل هذا المورد الذي تغيّر شيء في الموضوع، لكن العرف لم يعتبرها من المقوّمات، بل اعتبرها من الحالات الطارئة.

[7] إذ على هذا المبنى لا يشترط الظن الشخصي، بل يكفي الظن النوعي، بمعنى أنه يوجب الظن لعامة الناس.

الجواب عن الإشكال الثاني

[8] شروع في الجواب عن الإشكال الثاني، وحاصله: إنه مع الشك لا حكم

ص: 365

في ذلك[1] بين كون دليل الحكم نقلاً أو عقلاً[2].

أما الأول: فواضحٌ[3].

وأما الثاني[4]: فلأن الحكم الشرعي المستكشف به عند طروء انتفاء ما احتمل

--------------------------------------

للعقل قطعاً، ولكن يمكن حكم الشارع ولا مانع منه، وأدلة الاستصحاب عامة تشمل هذه الصورة أيضاً.

بيانه: إنه مع حكم العقل نكتشف حكم الشرع أيضاً - بالملازمة - لأن العقل حجة باطنة، ولا يمكن أن يحكم خلاف الشرع.

ومع تغيّر خصوصية يحتمل العقل كونها مقوماً فلا يحكم، ولكن ليس عدم الحكم بمعنى الحكم بالعدم، بل العقل يسكت، وهنا نحتمل بقاء الحكم الشرعي إن كان المتغيّر حالة، كما نحتمل زوال الحكم الشرعي إن كان المتغيّر مقوماً، فهذه الصورة تدخل تحت عمومات أدلة الاستصحاب، حيث يقين بحكم شرعي ثم شك في بقائه.

[1] أي: في بناء العقلاء أو النص أو الإجماع.

[2] كما دل العقل على (جواز الكذب للإصلاح من غير ضرر) فيكتشف حكم الشرع بذلك أيضاً، فقيد (الإصلاح) مقوّم للحكم بالجواز، ولكن (من غير ضرر) هل هو مقوّم أم حالة طارئة؟ فحين الضرر لا حكم للعقل؛ لأنه لا يحكم في صورة الشك، ولكن نستصحب الحكم الشرعي بالجواز؛ لشمول أدلة الاستصحاب لهذه الصورة أيضاً.

[3] «الأول»: كون الدليل نص، وهذا واضح؛ لأن الشرع يحكم حتى في صورة شك المكلّف.

[4] أي: مع كون الدليل عقلياً، «المستكشف به» أي: اكتشفنا الحكم الشرعي عبر الحكم العقلي.

ص: 366

دخله في موضوعه[1] - مما لا يرى مقوماً له - كان مشكوك[2] البقاء عرفاً، لاحتمال عدم دخله فيه[3] واقعاً، وإن كان[4] لا حكم للعقل بدونه قطعاً.

إن قلت[5]: كيف هذا مع الملازمة بين الحكمين؟!

قلت[6]:

--------------------------------------

[1] «دخله» الضمير راجع إلى (ما)، «موضوعه» أي: في موضوع حكم الشرع، «مما» صفة ل- (ما احتمل). فالمعنى: الحكم الشرعي الذي اكتشفناه عن طريق حكم العقل، عند ما تنتفي خصوصية نحتمل كونها مقوماً واقعاً، لكن العرف لا يراها مقوماً، إن هذا الحكم الشرعي مشكوك البقاء؛ لأنه كما نحتمل أنه مقوم كذلك نحتمل أن يكون حالة طارئة، فتشمله أدلة الاستصحاب.

[2] «كان» خبر (أن) في قوله: (أما الثاني فلأنّ الحكم...).

[3] أي: كما يحتمل دخل الخصوصية - الزائلة - في الموضوع كذلك يحتمل عدم دخلها، فالنتيجة هو الشك في بقاء الحكم.

[4] أي: لا يحكم العقل قطعاً، ولكن عدم حكمه بمعنى سكوته، وهذا لا ينافي حكم الشرع.

[5] حاصل الإشكال: اكتشاف حكم الشرع عن طريق الملازمة، حيث علمنا بحكم العقل فاكتشفنا منه حكم الشرع، ومع انتفاء حكم العقل تنتفي الملازمة، فلا يبقى مورد لحكم الشرع. «هذا» أي: بقاء حكم الشرع.

[6] حاصله الجواب: إن الملازمة في طرف الوجود لا في طرف العدم، أي: لو حكم العقل يحكم الشرع، ولكن قد لا يحكم العقل ولكن يحكم الشرع، كغالب الأحكام الشرعية التي لا يعرف العقل مدركها، فإن العقل يقرّ بعدم اطلاعه على ملاكات الأحكام، في أكثر الأحيان؛ ولذا لا حكم له، ولكن الشارع - لاطلاعه على الملاكات - يحكم.

ص: 367

ذلك لأن الملازمة إنما تكون في مقام الإثبات والاستكشاف[1]، لا في مقام الثبوت[2]، فعدم استقلال[3] العقل إلاّ في حالٍ غير ملازم لعدم حكم الشرع في غير تلك الحال، وذلك[4] لاحتمال أن يكون ما هو ملاك حكم الشرع - من المصلحة أو المفسدة التي هي ملاك حكم العقل - كان على حاله في كلتا الحالتين[5]،

--------------------------------------

وهنا حينما يحكم العقل فبالملازمة يحكم الشرع أيضاً، وبعد تغيّر إحدى الخصوصيات لا حكم للعقل قطعاً، ولكن نشك في بقاء حكم الشرع، فنحتمل عدم البقاء لو كانت الخصوصية مقوِّماً، ونحتمل البقاء لو لم تكن الخصوصية مقوِّماً، فينطبق الاستصحاب على هذا المورد؛ إذ لنا يقين بحكم الشارع سابقاً، والآن نشك في بقاء حكمه.

[1] أي: في مقام الوجود، بمعنى أنه لو حكم العقل فإن الشرع يحكم أيضاً.

[2] أي: في مقام العدم، والتعبير ب- «الثبوت» خلاف الاصطلاح. فالمعنى: إن عدم ثبوت حكم العقل لا يلازم عدم ثبوت حكم الشرع، بل يمكن أن يكون للشرع حكم؛ لأن دليل حكم الشرع قد يكون العقل، وقد يكون النص أو الإجماع - مثلاً - .

[3] هذا بيان لعدم الملازمة في طرف العدم، «إلاّ في حال» كما لو كانت الخصوصية موجودة، «في غير تلك الحال» أي: في ما لو فقدت الخصوصية. وكلمة (غير) لا توجد في بعض النسخ، فتكون العبارة خطأ لانقلاب المعنى إلى غير المقصود.

[4] بيان دليل الانفكاك في طرف العدم، وحاصله: إن ملاك حكم العقل والشرع واحد دائماً؛ لأن العقل حجة باطنة، ولا تناقض بين حجة الله الظاهرة وحجته الباطنة أصلاً، ولكن قد يكتشف العقل هذا الملاك فيحكم، وقد يجهل الملاك فيسكت، ولكن الشرع لمعرفته بالحقائق يعلم بوجود الملاك فيحكم.

[5] حالة وجود الخصوصية، وحالة عدم وجودها، «لم يدركه» فاعله العقل.

ص: 368

وإن لم يدركه إلاّ في إحداهما، لاحتمال[1] عدم دخل[2] تلك الحالة فيه، أو احتمال[3] أن يكون معه ملاك آخر بلا دخل لها فيه أصلاً، وإن كان لها دخل في ما اطلع عليه من الملاك.

وبالجملة: حكم الشرع إنما يتبع ما هو ملاك حكم العقل واقعاً[4]، لا ما هو مناط حكمه فعلاً[5]. وموضوع حكمه كذلك[6] مما لا يكاد يتطرق إليه الإهمال

--------------------------------------

[1] تعليل لاحتمال وجود الملاك في كلا الحالتين، وحاصله: إنّ هنا احتمالين:

1- أن لا يكون لتلك الخصوصية دخل في الحكم أصلاً.

2- أن يكون لها دخل في أحد الملاكين، فمع زوالها يزول ذلك الملاك، ولكن حيث لا دخل لها في الملاك الثاني فيبقى الحكم.

وهذان وإن كانا مجرد احتمال لكنهما كافيان في الشك في بقاء الحكم، فتتحقق أركان الاستصحاب.

[2] إشارة إلى الاحتمال الأول.

[3] إشارة إلى الاحتمال الثاني، «معه» مع الملاك الأول، «لها» للخصوصية، «فيه» في الملاك الآخر، «في ما اطلع» الفاعل العقل، «من الملاك» أي: الملاك الأول، والحاصل: إنه يحتمل أن تكون تلك الخصوصية مقوّمة للملاك الأول لكنها غير مقومة للملاك الثاني.

[4] لما ذكرنا من أن الملاك واحد - حيث إن العقل حجة من قبل الله تعالى - .

[5] أي: في مرحلة الفعلية، فلو لم يكن للعقل حكم فعلي - لعدم اطلاعه على الملاك - فلا يلازمه عدم حكم شرعي فعلي.

[6] حكم العقل، «كذلك» أي: فعلاً. والمعنى: إن حكم العقل فعلاً فلا إجمال ولا إهمال في موضوعه؛ لأن العقل لا يحكم إلاّ مع تيقنه، وهذا لا ينافي وجود ملاك واقعاً، بحيث لو اطلع عليه العقل لحكم، ولكن حيث لم يطلع لم يحكم.

ص: 369

والإجمال[1] مع تطرقه إلى ما هو موضوع حكمه شأناً[2]، وهو ما قام به ملاك حكمه واقعاً؛ فرب خصوصية لها دخل في استقلاله[3] مع احتمال عدم دخله، فبدونها لا استقلال له بشيء[4] قطعاً، مع احتمال بقاء ملاكه واقعاً، ومعه[5] يحتمل بقاء حكم الشرع جداً، لدورانه[6] معه وجوداً وعدماً، فافهم وتأمل جيداً.

ثم إنه لا يخفى[7] اختلاف آراء الأصحاب في حجية الاستصحاب مطلقاً، وعدم

--------------------------------------

[1] يُراد ب- «الإجمال» عادة: عدم وضوح النص، فلا معنى للإجمال في الأدلة اللُبّية - كدليل العقل - فمراد المصنف من الإجمال هنا هو الإهمال، فيكون عطفاً تفسيرياً.

[2] أي: (لو علم لحكم)، فهنا يمكن الإهمال بأن نقول: لا يعلم فلا يحكم، ولكنه لو علم لحكم به، «وهو» أي: موضوع الحكم الشأني، «ما قام به» أي: الموضوع الذي تحقق الملاك به.

[3] أي: لتك الخصوصية دخالة في حكم العقل، بمعنى أنه لو وجدت لحكم العقل، ولكن يحتمل العقل أنها ليست بمقوم.

[4] أي: بدون تلك الخصوصية لا يحكم العقل لا إيجاباً ولا سلباً، بمعنى سكوته.

[5] أي: مع احتمال بقاء الملاك.

[6] أي: لدوران حكم الشرع، «معه» مع الملاك، «وجوداً وعدماً» أي: إن كان الملاك كان حكم الشرع، وإن لم يكن الملاك لم يكن حكم للشرع.

الأقوال في الاستصحاب

[7] ذكر الشيخ الأعظم في الرسائل أحد عشر قولاً في الاستصحاب(1)،

مع ذكر أدلتها والمناقشة فيها.

لكن المصنف يشير إشارة عابرة إلى بعض هذه الأقوال، ولا يتطرق إلى أدلتها؛ لأنه مع ذكر أدلة القول المختار يتبيّن بطلان سائر الأقوال. والأقوال التي يذكرها

ص: 370


1- فرائد الأصول 3: 48 - 50.

حجيته كذلك، والتفصيل بين الموضوعات والأحكام، أو بين ما كان الشك في الرافع وما كان في المقتضي، إلى غير ذلك من التفاصيل الكثيرة، على أقوال شتى لا يهمنا نقلها ونقل ما ذكر من الاستدلال عليها.

وإنما المهم الاستدلال على ما هو المختار منها - وهو الحجية مطلقاً - على نحو يظهر بطلان سائرها.

فقد استدل عليه بوجوه:

الوجه الأول[1]: استقرار بناء العقلاء من الإنسان - بل ذوي الشعور[2] من كافة أنواع الحيوان - على العمل على طبق الحالة السابقة، وحيث لم يردع عنه الشارع كان ماضياً[3].

--------------------------------------

المصنف:

1- الحجية مطلقاً - مقابل التفصيلات - وهذا هو المختار.

2- عدم الحجية مطلقاً.

3- التفصيل بين الموضوعات فيجري الاستصحاب، وبين الأحكام فلا يجري، وهذا ما ذهب إليه الأخباريون.

4- التفصيل بين ما إذا كان الشك في الرافع فيجري، وبين ما إذا كان الشك في المقتضي فلا يجري، وهذا مختار الشيخ الأعظم.

أدلة الاستصحاب
الدليل الأول

[1] هو استقرار سيرة العقلاء على العمل على طبق الحالة السابقة، ولم يردع عنها الشارع.

[2] «الشعور» الإدراك، وهي في الحيوان الغريزة أو الفطرة.

[3] لأن العمل الذي يكثر لدى الناس إذا لم يكن الشارع راضياً عنه فلا بد من

ص: 371

وفيه[1]: أولاً: منع استقرار بنائهم على ذلك تعبداً[2]، بل إما رجاءً واحتياطاً[3]، أو اطمئناناً بالبقاء، أو ظناً ولو نوعاً، أو غفلةً كما هو الحال في سائر

--------------------------------------

تبليغ تحريمه، كالربا، حيث إنه شائع بين الناس فنهى عنه الشارع، ولكن إذا لم يبلّغ الشارع التحريم كشف ذلك عن رضاه.

[1] حاصل الإشكال هو أمران:

الأول: إن إبقاءهم الحالة السابقة إنما هو لعلّة، فمهما كانت تلك العلّة أبقوا الحالة السابقة وإلاّ فلا، وهذا لا يفيدنا في الاستصحاب؛ لأنا نريد إثبات حجيته دائماً حتى إذا لم تكن تلك العلل. وأما تلك العلل فهي:

1- الاحتياط: بأن يبقون الحالة السابقة برجاء بقاء الحالة السابقة.

2- الاطمئنان: ومعنى هذا استمرار اليقين السابق وعدم الشك.

3- الظن النوعي بالبقاء - حتى لو لم يظن شخصاً - .

4- الغفلة: فإن الإنسان قد يُبقي الحالة السابقة غفلة، كمن ينتقل من بيت إلى آخر، ثم في الأيام الأوائل يحدث كثيراً ذهابه إلى المنزل الأول.

ومع احتمال أن يكون سبب بناء العقلاء أحد هذه الأمور فلا حجية إلاّ مع وجودها، وكثيراً ما لا توجد هذه الأمور.

الثاني: لو فرض وجود بنائهم فإن هذا البناء منهي عنه، ولم يمضه الشارع؛ وذلك للآيات والروايات الرادعة عن العمل بالظن، مضافاً إلى جعل الشارع طرقاً له، وهي البراءة أو الاحتياط في الشبهات.

[2] قد مرّ معنى (التعبد)، وحاصله: إن يكون ذلك البناء لا لجهة إلاّ لتنظيم أمور حياتهم، وليس له علّة أخرى حتى يدور الحكم مدار تلك العلة.

[3] عطف تفسيري، أي: برجاء إدراك الواقع، وهذا احتياط لكن لا ملزم للعمل به.

ص: 372

الحيوانات[1] دائماً وفي الإنسان أحياناً.

وثانياً: سلمنا ذلك[2]، لكنه لم يعلم أن الشارع به راض وهو عنده ماضٍ، ويكفي في الردع عن مثله ما دل[3] من الكتاب والسنة على النهي عن اتباع غير العلم، وما دل على البراءة أو الاحتياط في الشبهات، فلا وجه لاتباع هذا البناء في ما لابد في اتباعه[4] من الدلالة على إمضائه، فتأمل جيداً.

الوجه الثاني[5]: إن الثبوت في السابق موجب للظن به في اللاحق.

وفيه: منع اقتضاء مجرد الثبوت[6] للظن بالبقاء فعلاً ولا نوعاً، فإنه لا وجه له

--------------------------------------

[1] أي: جميعها، لكن لا يخفى عدم علمنا بكيفية شعور الحيوانات أصلاً.

[2] «ذلك» أي: التعبد، بأن نقول: إن إبقاءهم الحالة السابقة هي للتعبد لا لأجل هذه الأمور - المذكورة - «لكنه» للشأن، «به» بهذا البناء من العقلاء.

[3] أي: رادع عن اتباع غير العلم، كقوله تعالى: {وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ}(1) وقولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم)(2)

كما أن الشارع جعل طرقاً في الشبهات - هي البراءة أو الاحتياط - فلا يجوز ترك طرقه واتباع طرق أخرى قد تتخالف في العمل مع طرقه.

[4] أي: إذا كان حكماً إلزامياً - كالوجوب والحرمة - و«من» بيان لقوله: (لا وجه).

الدليل الثاني

[5] حاصله: هو أن وجود الشيء في الحال السابق موجب للظن في بقائه.

وفيه: أولاً: إن الوجود السابق لا يقتضي الظن اللاحق لا ظناً شخصياً ولا ظناً نوعياً؛ لأن منشأ الظن هو غلبة البقاء، وهذه الغلبة غير معلومة.

وثانياً: على فرض وجود هذه الغلبة الموجبة الظن فلا دليل على

حجية هذا الظن.

[6] أي: الثبوت السابق، «للظن» متعلق ب- (اقتضاء)، «فعلاً» أي: ظناً شخصياً،

ص: 373


1- سورة الإسراء، الآية: 36.
2- الكافي 7: 407.

أصلاً إلاّ كون[1] الغالب في ما ثبت أن يدوم، مع إمكان أن لا يدوم، وهو غير معلوم. ولو سلم[2]، فلا دليل على اعتباره بالخصوص مع نهوض الحجة على عدم اعتباره بالعموم[3].

الوجه الثالث: دعوى الإجماع عليه، كما عن المبادئ، حيث قال(1):

«الاستصحاب حجة، لإجماع الفقهاء على أنه متى حصل حكم، ثم وقع الشك في أنه طرأ ما يزيله أم لا[4]، وجب الحكم ببقائه على ما كان أولاً؛ ولو لا القول[5] بأن الاستصحاب حجة لكان ترجيحاً لأحد طرفي الممكن من غير مرجح»، انتهى.

وقد نقل عن غيره أيضاً(2).

--------------------------------------

«فإنه» أي: فإن الاقتضاء هذا.

[1] أي: منشأ هذا الظن هو الغلبة، فإن الظن يلحق الشيء بالأعم الأغلب، ولكن من غير المعلوم غلبة البقاء، بل التغيّر هو الأكثر.

[2] أي سلم وجود الظن بسبب الغلبة، «بالخصوص» أي: الظن الخاص - مقابل الظن الانسدادي - .

[3] أي: دلت الأدلة العامة على عدم حجية الظن، كقوله: {إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيًۡٔاۚ}(3) فلو لم يوجد دليل قطعي لما أمكن تخصيص هذا العموم.

الدليل الثالث

[4] أي: أم لم يطرأ ما يزيل الحكم.

[5] أي: مع احتمال بقاء الحكم وعدم بقائه يكون ترجيح البقاء بلا مرجح، وهو قبيح، لكن يحكم الفقهاء بالبقاء لوجود المرجح وهو الإجماع.

ص: 374


1- مبادئ الوصول: 250 - 251.
2- فرائد الأصول 3: 54.
3- سورة يونس، الآية: 36.

وفيه[1]: إن تحصيل الإجماع في مثل هذه المسألة - مما له مبانٍ مختلفة[2] - في غاية الإشكال، ولو مع الاتفاق[3]، فضلاً عما إذا لم يكن[4] وكان مع الخلاف من المعظم، حيث ذهبوا إلى عدم حجيته مطلقاً أو في الجملة؛ ونقله موهون جداً لذلك[5]، ولو قيل[6] بحجيته لو لا ذلك.

الوجه الرابع: وهو العمدة[7] في الباب، الأخبار المستفيضة.

--------------------------------------

[1] حاصل الإشكال أن الإجماع المحصل غير حاصل.

أولاً: لوجود أدلة تمسك بها القائلون بحجية الاستصحاب، والإجماع هنا مقطوع الاستناد ، فلا يكون حجة، فإن الإجماع محتمل الاستناد ليس بحجة فضلاً عن معلوم الاستناد.

وثانياً: كثرة المخالفين القائلين بعدم حجية الاستصحاب إما مطلقاً أو في الجملة.

وأما الإجماع المنقول فهو ضعيف جداً؛ وذلك لوجود المخالف وللقطع بالاستناد، هذا فضلاً عن عدم حجية الإجماع المنقول - عند البعض - .

[2] أي: توجد أدلة مختلفة لحجية الاستصحاب.

[3] أي: حتى لو اتفق الفقهاء، فهذا الاتفاق غير حجة للعلم باستنادهم إلى تلك الأدلة، فلابد من ملاحظة الأدلة، فإن كانت صحيحة يقبل القول لا لأجل الإجماع، بل لأجل تلك الأدلة.

[4] أي: لم يكن اتفاق.

[5] أي: للعلم بالاستناد، ولخلاف المعظم.

[6] أي: حتى لو قلنا بحجية الإجماع المنقول في صورة عدم وجود مخالف، ولم يكن هناك احتمال الاستناد.

الدليل الرابع الأخبار الدالة على الحجية
اشارة

[7] أي: الاعتماد في حجية الاستصحاب على الروايات؛ لأن سائر الأدلة كانت

ص: 375

منها: صحيحة زرارة قال: قلت له: الرجل ينام[1] وهو على وضوء، أيوجب الخفقة[2] والخفقتان عليه الوضوء؟

قال: «يا زرارة! قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن، وإذا نامت العين والأذن والقلب فقد وجب الوضوء».

قلت: فإن حرك في جنبه شيء وهو لا يعلم؟

قال: «لا، حتى يستيقن أنه قد نام، حتى يجيء من ذلك أمر بيّن، وإلاّ فإنه على يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين أبداً بالشك، ولكنه ينقضه بيقين آخر»(1).

وهذه الرواية وإن كانت مضمرة[3]، إلاّ أن إضمارها لا يضر باعتبارها، حيث

--------------------------------------

محلاً للإشكال. قال الشيخ الأعظم: (وأول من تمسك بهذه الأخبار - في ما وجدته - والد الشيخ البهائي في ما حكي عنه في العقد الطهماسبي، وتبعه صاحب الذخيرة وشارح الدروس، وشاع بين من تأخر عنهم)(2)،

انتهى.

صحيحة زرارة الأولى
اشارة

[1] أي: يشارف على النوم، وهذا مجاز بالأوْلِ، أي: سينتهي أمره إلى النوم.

[2] «الخفقة» حركة الرأس بسبب شدة النعاس.

1- سند الرواية

[3] الإضمار في الرواية بمعنى أن لا يذكر الراوي اسم القائل أو المسؤول عنه، فيقول مثلاً: (سألته عن كذا) من غير تعيين المسؤول عنه، أو يقول: (قال كذا) من غير بيان القائل.

وسبب الإضمار هو تقطيع الروايات، فإن أصحاب الأصول لم يبوّبوا كتبهم - عادة - وكانوا يذكرون اسم الإمام أولاً ثم في سائر الأحكام يذكرونه بالضمير، مثلاً يقول: سألت أبا عبدالله عن كذا، ثم يقول وسألته عن كذا، وهكذا. ثم جاء

ص: 376


1- تهذيب الأحكام 1: 8، مع اختلاف يسير.
2- فرائد الأصول 3: 14.

كان مضمرها[1] مثل زرارة، وهو ممن لا يكاد يستفتي من غير الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لا سيما مع هذا الاهتمام[2].

وتقريب الاستدلال بها[3]

--------------------------------------

أصحاب المجاميع الحديثيّة فوضعوا كل حكم في بابه الخاص من غير تغيير في الألفاظ، فسبّب ذلك الإضمار في بعض الروايات.

والأقرب أن رواية هذه المضمرات في المجاميع الحديثيّة قرينة عقلائية على أن المسؤول عنه أو القائل هو الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ؛ لأن أصحاب المجاميع وضعوا كتبهم لرواية أقوال المعصومين لا غيرهم. مضافاً إلى أن أجلاء أصحاب الأئمة لم يكونوا يستفتون غيرهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، فهذا قرينة أخرى على أن مرجع الضمير هو الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[1] بصيغة اسم الفاعل.

[2] أي: اهتمام زرارة، والمقصود هو تكرار زرارة للسؤال مرتين وبصيغتين، مرة (أيوجب الخفقة...)، وأخرى (فإن حرك في جنبه...).

2- دلالة الرواية على الاستصحاب

[3] حاصله: إن قولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (وإلاّ) هو: (إن لا)، وهو أداة الشرط وفعل الشرط، أي: إن لا يستيقن بالنوم. ومن المعلوم الاحتياج إلى جزاء الشرط، فما هو هذا الجزاء؟ هنا ثلاثة احتمالات:

الأول: إن الجزاء محذوف؛ وذلك لسبق نظير الجزاء في الكلام، فالمعنى وإن لا يستيقن بالنوم فلا يجب عليه الوضوء، وحذف الجزاء - بقرينة سبق نظيره - كثير في الكلام الفصيح، وحينئذٍ يكون قوله: (فإنه على يقين... الخ) بيان للعلة، أي: علّة عدم وجوب الوضوء هو أنه كان على يقين، ومن المعلوم أن العلة تُعمِّم، فكلّما كانت العلة كان الحكم، كقولهم: (لا تأكل الرمان لأنه حامض).

الثاني: أن يكون الجزاء: (فإنه على يقين من وضوئه)، وحينئذٍ لا تعليل في

ص: 377

أنه لا ريب[1] في ظهور قولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «وإلاّ فإنه على يقين إلى آخره» عرفاً في النهي[2] عن نقض اليقين بشيء بالشك فيه، وأنهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بصدد بيان ما هو علة الجزاء المستفاد[3] من قولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «لا» في جواب: «فإن حرك في جنبه... إلى آخره»، وهو[4] اندراج اليقين والشك في مورد السؤال في القضية الكلية الارتكازية[5] الغير

--------------------------------------

الكلام، فلا يمكن استفادة العموم.

وفيه: إنه يلزم في الجزاء أن يكون مترتباً على الشرط، ومن الواضح أن (فإنه على يقين) لا يترتب على عدم اليقين بالنوم؛ إذ سواء تيقن بالنوم أم تيقن بعدم النوم أم شك، فإنه يعلم بأنه كان على يقين من وضوئه. فلابد لتصحيح الكلام من تحويل (فإنه على يقين) إلى إنشاء، حتى يكون معناه: يجب العمل على طبق اليقين، وهذا تكلّف وخلاف الظاهر.

الثالث: أن يكون الجزاء: (ولا ينقض اليقين أبداً بالشك)، وحينئذٍ لا تعليل في الكلام أيضاً، فلا يستفاد العموم.

وفيه: إن هذا التركيب لا يتبادر إلى ذهن أحد، مضافاً إلى ركاكة دخول الواو على الجزاء.

[1] إشارة إلى الاحتمال الأول - وهو كون الجزاء محذوفاً - .

[2] وهذا يقرّب كون الجزاء محذوفاً، وهو نهي، أي: نهي عن نقض اليقين بالشك.

[3] أي: الجزاء محذوف بقرينة سبق نظيره، وهو قولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (لا)، أي: لا يتوضأ حتى يستيقن... الخ.

[4] أي: (ما هو علة الجزاء)، و«في القضية» متعلق بالاندراج.

[5] أي: بناء العقلاء على عدم نقض اليقين بالشك، فحيث إن هذا في ارتكازهم لذلك جعله الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ علّة لعدم لزوم الوضوء؛ لأن هذا المورد من مصاديق هذه القضية الارتكازيّة.

ص: 378

المختصة(1)

بباب دون باب[1].

واحتمال[2] أن يكون الجزاء هو قوله: «فإنه على يقين... إلى آخره» غير سديد، فإنه لا يصح[3] إلاّ بإرادة لزوم العمل على طبق يقينه، وهو إلى الغاية بعيد.

وأبعد منه[4] كون الجزاء قوله: «لا ينقض... إلى آخره» وقد ذكر: «فإنه على يقين» للتمهيد.

وقد انقدح بما ذكرنا[5] ضعف احتمال اختصاص قضية: «لا تنقض... إلى آخره»

--------------------------------------

[1] فلا خصوصية لباب الوضوء، بل هي قاعدة عامة استدل بها الإمام في أحد المصاديق - وهو باب الوضوء - .

[2] إشارة إلى الاحتمال الثاني.

[3] لما ذكرنا أن (اليقين من الوضوء) غير مترتب على (عدم العلم بالنوم). نعم، لو بدّلنا هذه الجملة الخبرية إلى إنشاء - أي: اعمل على طبق يقينك - فحينئذٍ يترتب هذا الجزاء على الشرط، لكن تبديل الجملة الخبرية إلى إنشاء خلاف الظاهر.

[4] إشارة إلى الاحتمال الثالث. وقد ذكرنا الإشكال فيه من أنه لا يتبادر إلى الذهن، مضافاً إلى ركاكته.

3- عموم دلالة الرواية حتى لغير الوضوء

[5] قد ذكر البعض(2)

اختصاص (عدم نقض اليقين بالشك) بباب الوضوء، وقد ذكر المصنف ثلاثة أوجه في كون القاعدة عامة:

الأول: عموم التعليل كما ذكرناه قبل قليل، ويؤيد عموم التعليل: أن هذه العبارة (لا تنقض اليقين بالشك) ذكرها الإمام في موارد أخرى، كالطهارة والنجاسة، وكالشك في الركعات، وهذا يكشف عن أنها علة عامة.

الثاني: إن اختصاص هذا الحكم بباب الوضوء إنما هو بسبب حمل الألف

ص: 379


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير المختصة».
2- ذكر الشيخ الأنصاري هذا الاحتمال 3: 57؛ فوائد الأصول 4: 336.

باليقين والشك في باب الوضوء جداً[1]، فإنه ينافيه ظهور التعليل في أنه بأمر ارتكازي لا تعبدي[2] قطعاً.

ويؤيده[3] تعليل الحكم بالمضي مع الشك في غير الوضوء في غير هذه الرواية بهذه القضية[4] أو ما يرادفها، فتأمل جيداً. هذا.

مع أنه[5] لا موجب لاحتماله إلاّ احتمال كون اللام في اليقين[6] للعهد، إشارة

--------------------------------------

واللام في (ولا ينقض اليقين) على العهد، فيكون المعنى لا ينقض يقينه بالوضوء بالشك، ولكن الأصل في (ال) الجنس لا العهد.

الثالث: إن قوله: (على يقين من وضوء) لا يعلم تعلق (من) ب- (يقين) بل يحتمل أن تكون متعلقة بمقدّر، أي: فإنه كائن من وضوئه على يقين، فهذا اليقين مطلق فكذا في قوله: (لا ينقض اليقين) فحتى لو فرضنا أن (ال) للعهد، فإنها عهد إلى يقين مطلق.

[1] «جداً» يرتبط بقوله: (ضعف)، «فإنه» للشأن، «ينافيه» أي: ينافي احتمال الاختصاص، «في أنه» أن التعليل وهذا هو الوجه الأول.

[2] اختصاصه بباب الوضوء يكون بمعنى أن هذا أمر تعبدي؛ لأن العقلاء لا يدركون خصوصية لباب الوضوء. أما لو كان عاماً فهو تعليل بأمر ارتكازي لدى العقلاء كافة، فيكون باب الوضوء من مصاديقه.

[3] أي: يؤيد أنه تعليل بأمر ارتكازي عام لا التعبد في خصوص باب الوضوء، وإنما كان مؤيداً لا دليلاً لاحتمال أن تكون للموارد الثلاثة خصوصية - الوضوء، الركعات، الطهارة والنجاسة - .

[4] أي: (لا تنقض اليقين بالشك).

[5] هذا هو الوجه الثاني، «أنه» للشأن، «احتماله» أي: احتمال اختصاص (لا تنقض...) بباب الوضوء.

[6] أي: «اليقين» في قوله: (لا تنقض اليقين بالشك)، ولام العهد تكون هنا

ص: 380

إلى اليقين في «فإنه على يقين من وضوئه» مع أن الظاهر[1] أنه للجنس، كما هو الأصل فيه[2]، وسبق: «فإنه على يقين... إلى آخره» لا يكون قرينةً عليه[3] مع كمال الملاءمة مع الجنس أيضاً، فافهم[4].

مع أنه[5] غير ظاهر في اليقين بالوضوء، لقوة احتمال أن يكون «من وضوئه» متعلقاً بالظرف[6]، لا ب«يقين»، وكان المعنى: «فإنه كان من طرف وضوئه على

--------------------------------------

للعهد الذكري، أي: اليقين المذكور قبلاً وهو (يقين من وضوئك).

[1] رد كون اللام للعهد، وترجيح أنها للجنس، فتكون عامة، «أنه» أن اللام.

[2] «هو» الجنس، «فيه» في اللام.

[3] أي: على العهد؛ وذلك أنه مع إمكان الحمل على الجنس لا تصل النوبة إلى سائر المعاني. نعم، لو لم يمكن الجنس لزم الحمل على غيره، مثل قوله تعالى: {أَرۡسَلۡنَآ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ رَسُولٗا * فَعَصَىٰ فِرۡعَوۡنُ ٱلرَّسُولَ}(1) إذ لا معنى للجنس، ولكن في ما نحن فيه يمكن المحل على الجنس، فلا تصل النوبة إلى العهد.

[4] لعله إشارة إلى أنه سبق من المصنف أن الأصل في اللام التزيين لا الجنس.

أو إشارة إلى أن المناط هو الظهور لا كون الأصل هو الجنس.

[5] هذا هو الوجه الثالث، «أنه» أن (اليقين) في قوله: (على يقين من وضوئه).

وحاصله: إن (اليقين) الأول غير ظاهر في خصوص اليقين بالوضوء، بل يحتمل أن يكون مطلقاً، فقوله بعد ذلك: (ولا ينقض اليقين) حتى إذا كانت اللام للعهد فإنه لا يضر بعموم اليقين.

[6] مراده من الظرف هو (كان) أو (كائن) من أفعال العموم، فيكون المعنى فإنه كائن من وضوئه على يقين، ولا ينقض اليقين بالشك أبداً، فاليقين الأول عام وليس خاصاً بباب الوضوء، وهذا نظير ما يقال: (إني على ثقة من زيد) فإن (من زيد) تعلق بفعل العموم، أي: (إني كائن من طرف زيد على ثقة).

ص: 381


1- سورة المزمل، الآية: 15 - 16.

يقين»، وعليه لا يكون الأصغر[1] إلاّ اليقين، لا اليقين بالوضوء، كما لا يخفى على المتأمل.

وبالجملة: لا يكاد يشك في ظهور القضية في عموم اليقين والشك، خصوصاً بعد ملاحظة تطبيقها في الأخبار على غير الوضوء أيضاً.

ثم لا يخفى[2]

--------------------------------------

وحينئذٍ يتشكّل قياس منطقي من الشكل الأول، الحد الأوسط فيه هو اليقين المطلق.

فالصغرى: إنه كان من طرف وضوئه على يقين.

والكبرى: اليقين لا ينقض بالشك.

[1] هذا من سهو القلم ومراده الحد الأوسط - الذي يتكرر في الصغرى والكبرى - ولذا صُحِّحَ ذلك في بعض النسخ.

4- في معنى النقض في (لاتنقض)

[2] «النقض» هو نكث الشيء المستمر(1)،

كقطع الحبل وتخريب البناء، وهو ضد (الإبرام) وهو إحكامه كما يقال: أبرم الحبل، أي: أحكم فتله.

فقولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (لا تنقض اليقين) كأنّ اليقين أمر مستمر فيتمّ قطعه بالشك، فلذا نهىعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عن قطعه.

ويصح عرفاً إطلاق نقض اليقين، سواء كان المتعلق أمراً قابلاً للاستمرار أم لا.

مثال الأول: عدالة زيد لها قابلية الاستمرار، فيحسن القول: نقضت يقيني بعدالته.

مثال الثاني: الليل والنهار لا قابلية لهما في الاستمرار، ومع ذلك يحسن القول: نقضت يقيني بالليل.

ص: 382


1- العين 5: 50؛ لسان العرب 7: 242، مادة «نقض».

حسن إسناد النقض - وهو ضد الإبرام - إلى اليقين، ولو كان[1] متعلقاً بما ليس فيه اقتضاء للبقاء والاستمرار، لما يتخيل[2] فيه من الاستحكام؛ بخلاف الظن[3]، فإنه يظن أنه ليس فيه إبرام واستحكام وإن كان متعلقاً بما فيه اقتضاء ذلك؛ وإلاّ[4]

--------------------------------------

وحيث صح، بل حسن ذلك فلا وجه لتخصيص عبارة (لا تنقض) بما إذا كان الشك في الرافع لا الشك في المقتضي.

والحاصل: إنه يتبع العرف في حسن إطلاق لفظة أو عدم حسنها، وهنا يحسن إطلاق النقض على اليقين، سواء كان متعلقه قابلاً للاستمرار أم لا.

وليس وجه حسن الإطلاق هو القابلية للاستمرار، بدليل قبح إطلاق النقض على بعض الأمور التي لها قابلية الاستمرار، فلا يصح قول: (نقضت الحجر من مكانه)، وبدليل حسن إطلاق النقض على ما لا قابلية له للاستمرار كمثال: (نقض اليقين بالليل).

[1] أي: ولو كان متعلق اليقين أمراً لا استمرار فيه.

[2] هذا وجه حسن إسناد النقض إلى اليقين حتى في صورة الشك في المقتضي، وحاصله: إن اليقين أمر فيه إبرام وإحكام فحينئذٍ يعتبر زواله نقضاً له.

[3] أي: الظن لا استحكام فيه؛ فلذا لا يصح إسناد النقض إليه، حتى وإن كان متعلق الظن أمراً له قابلية الاستمرار، مثلاً: الظن بحياة شاب لا يسند إليه النقض، فلا يقال: نقضت ظني بحياته، مع أن متعلق الظن أمر له قابلية للاستمرار؛ وذلك لأن الظن ليس مستحكماً حتى يقال فيه: (نقضت الظن).

والمقصود أنه لا ينظر العرف إلى متعلق اليقين والظن، بل ينظر إلى نفسيهما.

[4] أي: وإن لم يكن مصحح الإطلاق هو استحكام اليقين، بل كان المناط هو متعلقه، فإن كان قابلاً للاستمرار صدق النقض، وإن لم يكن لم يصح، فلازمه:

1- صحة مثل: (نقضت الحجر من مكانه)، والمعلوم عدم حسن هذا الكلام.

2- عدم صحة مثل: (انتقض اليقين باشتعال السراج) في ما كان منشأ الشك هو

ص: 383

لصح أن يسند إلى نفس ما فيه المقتضي له[1]، مع ركاكة مثل (نقضت الحجر من مكانه)، ولما صح أن يقال: (انتقض اليقين باشتعال السراج) في ما إذا شك في بقائه[2] للشك في استعداده، مع بداهة صحته وحسنه.

وبالجملة: لا يكاد يشك في أن اليقين - كالبيعة والعهد - إنما يكون حُسن إسناد النقض إليه[3] بملاحظته، لا بملاحظة متعلقه، فلا موجب[4] لإرادة[5] ما هو أقرب

--------------------------------------

عدم العلم بمقدار الوقود، ومن المعلوم صحة مثل هذا الكلام.

[1] «له» للاستمرار والبقاء.

[2] أي: بقاء الاشتعال، «استعداده» أي: استعداد الاشتعال، كما لو شك في مقدار النفط في السراج.

[3] أي: إلى اليقين - كالعهد والبيعة - «بملاحظته» أي: بملاحظة نفس اليقين وأنه أمر قابل للاستمرار.

تفصيل الشيخ الأعظم
اشارة

[4] إن الشيخ الأعظم ذهب إلى أن الاستصحاب يجري مع الشك في المانع - كهبوب ريح يشك معها في بقاء النار - ولا يجري مع الشك في المقتضي - كالشك في بقاء الوقود - واستدل لذلك بكلمة (النقض)، واستدلاله من وجوه:

الوجه الأول

[5] الوجه الأول: إن اليقين قد انتقض قطعاً؛ لأنه شاك الآن، فكيف يقول: (لا تنقض اليقين)؟ فلابد أن يكون المراد المعنى المجازي.

قال الشيخ الأعظم(1):

إن حقيقة النقض هو رفع الهيئة الاتصالية، كما في نقض الحبل، والأقرب إليه - على تقدير مجازيته - هو رفع الأمر الثابت.

وقد يطلق على مطلق رفع اليد عن الشيء - ولو لعدم المقتضي له - بعد أن كان آخذاً به، فالمراد بالنقض عدم الاستمرار عليه والبناء على عدمه بعد وجوده.

ص: 384


1- فرائد الأصول 3: 78.

إلى الأمر المبرم، أو أشبه بالمتين المستحكم مما فيه اقتضاء البقاء[1] لقاعدة «إذا تعذرت الحقيقة فأقرب المجازات» بعد تعذر إرادة مثل ذاك الأمر[2] مما يصح إسناد النقض إليه حقيقة.

فإن قلت[3]:

--------------------------------------

إذا عرفت هذا فنقول: إن الأمر يدور بين أن يراد بالنقض مطلق ترك العمل وترتيب الأثر ويبقى المنقوض عاماً لكل يقين، وبين أن يراد من النقض ظاهره فيختص متعلقه بما من شأنه الاستمرار، والظاهر رجحان هذا. انتهى باختصار.

[1] «مما» بيان للأقرب، فإن أقرب المجازات - حسب كلام الشيخ الأعظم - للنقض الحقيقي هو نقض ما فيه الاقتضاء مع الشك في الرافع.

[2] أي: الأمر الخارجي الذي فيه الهيئة الاتصالية - كالحبل - وإنما تعذّر لأنّه شاك الآن، فقد انتقض يقينه قطعاً، وقوله: «حقيقة» متعلق ب- (إرادة مثل ذلك الأمر) أي: تعذر إرادة المعنى الحقيقي من (لا تنقض اليقين)؛ وذلك لأن اليقين ليس من الأعيان الخارجية.

الوجه الثاني

[3] هذا وجه ثانٍ لتأييد ما ذهب إليه الشيخ الأعظم وحاصله: إن متعلق اليقين والشك أمران، فاليقين تعلق بالطهارة صباحاً والشك تعلق بالطهارة مساء، فلا يصح إسناد النقض إليه حقيقة - لتعدد المتعلق - .

بلى، قاعدة اليقين - وهي زوال اليقين السابق، كما لو تيقن بالوضوء ثم شك في أصل تحقق الوضوء وأنه توضأ أم لا - يصدق فيها النقض، لكن في الاستصحاب يتعدد متعلق اليقين والشك، فيكون نظير قولك: (لا تنقض عدالة زيد بالشك في اجتهاده) وذلك لأن الطهارة صباحاً غير الطهارة مساءً. فإذا لم يصح المعنى الحقيقي للنقض - لفرض تعدد المتعلّق - فلابدّ من المصير إلى المعنى المجازي فنقول: إنما يصح المعنى المجازي إذا كان المتيقن مما له قابلية الاستمرار - بأن يوجد المقتضي - فكأنه تعلق

ص: 385

نعم[1]، ولكنه حيث لا انتقاض لليقين في باب الاستصحاب حقيقةً[2]، فلو لم يكن[3] هناك اقتضاء البقاء في المتيقن لما صح إسناد الانتقاض إليه بوجهٍ[4] ولو مجازاً؛ بخلاف ما إذا كان هناك[5]، فإنه[6] وإن لم يكن معه أيضاً انتقاض حقيقةً، إلاّ أنه صح إسناده إليه مجازاً، فإن اليقين معه[7] كأنه تعلق بأمر مستمر مستحكم قد انحل وانفصم بسبب الشك فيه من جهة الشك في رافعه.

قلت[8]:

--------------------------------------

اليقين بأمر مستمر ثم انقطع بسبب الشك، ولا يصح المعنى المجازي إذا شك في قابلية المتيقن للاستمرار.

[1] أي: نسلّم حسن إسناد النقض إلى اليقين - باعتبار نفس اليقين لا باعتبار المتعلق - .

[2] لتعدد المتعلق واقعاً، فما تعلق به اليقين - وهو الطهارة الصباحية - لم ينقض، بل هو باقٍ؛ إذ حتى وقت الشك لا زال متيقناً بأنه قد توضأ صباحاً قطعاً.

[3] أي: في الشك في المقتضي لا يصح إسناد النقض إلى اليقين لا حقيقةً ولا مجازاً.

[4] أي: بأي وجه من الوجوه، فقوله: «ولو مجازاً» توضيح للوجه، أي: لم يصح حتى بوجه مجازي.

[5] اسم كان هو (اقتضاء البقاء)، أي: بخلاف ما إذا كان هناك اقتضاء للبقاء، وشك في الرافع، حيث يصح إسناد النقض إلى اليقين مجازاً.

[6] «فإنه» للشأن، «معه» مع اقتضاء البقاء، «إسناده» النقض، «إليه» إلى اليقين.

[7] مع وجود المقتضي للبقاء.

الإشكال على الوجه الثاني

[8] حاصل الإشكال: إن المناط هو نظر العرف، والعرف لا يرى فرقاً بين الطهارة صباحاً مع الطهارة مساءً، فهو يراها شيئاً واحداً، فهو يرى أن اليقين

ص: 386

الظاهر أن وجه الإسناد[1] هو لحاظ اتحاد متعلقي اليقين والشك ذاتاً[2] وعدم ملاحظة تعددهما زماناً؛ وهو كافٍ عرفاً في صحة إسناد النقض إليه[3] واستعارته له[4]، بلا تفاوت في ذلك[5] أصلاً في نظر أهل العرف بين ما كان هناك اقتضاء البقاء وما لم يكن. وكونه[6] مع المقتضي أقرب بالانتقاض وأشبه لا يقتضي[7] تعيينه لأجل قاعدة «إذا تعذرت الحقيقة»، فإن الاعتبار في الأقربية إنما هو بنظر

--------------------------------------

والشك تعلقا بشيء واحد، ولا تفاوت في نظر العرف بين ما كان هناك مقتضٍ للبقاء أم لم يكن، فهما في نظره سواء. نعم، بالدقة العقلية الشك في الرافع أقرب إلى المعنى الحقيقي من الشك في المقتضي، ولكن في الألفاظ المرجع هو العرف، ولا أقربية في نظره، بل هما متساويان عنده.

[1] أي: إسناد النقض إلى اليقين في قوله: (لا تنقض اليقين).

[2] لأن الطهارة الصباحية نفس الطهارة المسائية، والزمان لم يكن قيداً للطهارة حتى تتعدد بتغير الزمان، بل الزمان كان ظرفاً من غير أن يغيّر ذات الطهارة.

[3] «وهو» أي: الاتحاد ذاتاً، «إليه» أي: إلى اليقين.

[4] عطف تفسيري لقوله: (إسناد النقض إليه)، «استعارته» أي: النقض، «له» أي: إلى اليقين.

والاستعارة هي مجاز، بتشبيه شيء بشيء وإثبات أثره مع عدم ذكر المشبّه، مثل: (رأيت أسداً يرمي) حيث شُبّه زيد - مثلاً - بالأسد من جهة الشجاعة من غير ذكر لفظ زيد.

[5] أي: في صحة الإسناد.

[6] أي: كون النقض، وهذا هو توهم أن أقرب المجازات هو النقض في ما له مقتضي البقاء.

[7] خبر (كونه)، ودفع للتوهم، «تعيينه» أي: تعيين هذا المعنى وأنه هو المراد.

ص: 387

العرف لا الاعتبار[1]، وقد عرفت عدم التفاوت بحسب نظر أهله. هذا كله في المادة[2].

وأما الهيئة[3]: فلا محالة يكون المراد منها النهي عن الانتقاض بحسب البناء والعمل[4]،

--------------------------------------

[1] أي: الدقة العقليّة.

[2] أي: مادة النقض وهي (ن ق ض).

الوجه الثالث

[3] أي: النهي في (لا تنقض)، إذ الوجه الأول والثاني كانا حول المادة، أي: (ن ق ض)، وهذا الوجه حول الهيئة أي: النهي.

وحاصل الوجه: إن النهي إنما يتعلّق بالأمور الممكنة التي هي تحت قدرة المكلف، وحيث إن (اليقين) بما هو صفة نفسانية قد لا يكون داخلاً في الاختيار، فلا معنى للنهي عن نقضه، فلابد أن يكون المراد من اليقين: إما المتيقن - فيكون مجازاً في الكلمة - وإما آثار اليقين - فيكون مجازاً في الإضمار، أي: في تقدير الآثار - وحيث كان مجازاً فإن أقرب المجازات هو ما لو كان المقتضي للاستمرار موجوداً وشك في الرافع.

وفيه: إنه كما لا اختيار في نفس اليقين كذلك لا اختيار في المتيقن؛ لأنه أمر خارجي قد لا يكون تحت اختيار المكلّف، كما لو أراد استصحاب النهار، فإن المتيقن - وهو النهار - لا قدرة للمكلف عليه.

وكذا لا اختيار في آثار اليقين، لأنها أحكام شرعية غالباً، وهذا الحكم يرتبط بالشارع، ولا يتمكن المكلف من نقضه أو إبرامه.

نعم، لو أريد النهي عن النقض في مرحلة العمل فإنه كما يمكن نقض المتيقن أو آثار اليقين عملاً، كذلك يمكن نقض اليقين بحسب العمل.

[4] أي: في حال العمل يفرض وجود اليقين، وأما البناء فهو على القول بلزوم الموافقة الالتزامية.

ص: 388

لا الحقيقة[1]، لعدم كون الانتقاض بحسبها تحت الاختيار، سواء كان متعلقاً باليقين - كما هو ظاهر القضية[2] - أو(1) بالمتيقن، أو(2)

بآثار اليقين، بناءً على التصرف فيها بالتجوز أو الإضمار[3]، بداهة أنه كما لا يتعلق النقض الاختياري القابل لورود النهي عليه بنفس اليقين[4]، كذلك لا يتعلق بما كان على يقين منه[5] أو أحكام اليقين[6]، فلا يكاد يجدي[7]

--------------------------------------

[1] بأن يراد إزالة اليقين أو المتيقن أو آثار اليقين تكويناً، «بحسبها» أي: بحسب الحقيقة، «سواء كان» أي: الانتقاض.

[2] أي: قضية (لا تنقض اليقين بالشك).

[3] «فيها» أي: في كلمة اليقين، «بالتجوز» أي: المجاز في الكلمة بأن يراد المتيقن من اليقين، «أو الإضمار» أي: المجاز بتقدير كلمة وهي (آثار) نظير: {وَسَۡٔلِ ٱلۡقَرۡيَةَ}(3) أي: أهل القرية.

[4] لأنه قد لا يكون تحت الاختيار، فمن رأى الشمس يتيقن بوجود النهار، ولا يمكنه عادة إزالة هذا اليقين.

[5] أي: المتيقن، فإن اليقين قد يتعلق بأمور لا تدخل تحت قدرة الإنسان، كاليقين بالليل والنهار.

[6] أي: آثار اليقين أيضاً قد لا تدخل تحت الاختيار، فإن من آثاره ترتب أحكام شرعية، وهي مرتبطة بإرادة الشارع، ولا اختيار للإنسان فيها.

[7] أي: لا يجدي هذا الوجه الثالث - الذي ذكره الشيخ الأعظم - لجعل دليل الاستصحاب خاصاً بالشك في الرافع لا المقتضي، «بذلك» أي: التصرف بهذه الطريقة بالمجاز في الكلمة أو الإضمار.

ص: 389


1- هكذا في الأصل، والصحيح: «أم».
2- هكذا في الأصل، والصحيح: «أم».
3- سورة يوسف، الآية: 82.

التصرف بذلك في بقاء الصيغة على حقيقتها[1]، فلا مجوز له[2]، فضلاً عن الملزم[3] كما توهم.

لا يقال[4]: لا محيص عنه[5]، فإن النهي عن النقض بحسب العمل لا يكاد يراد بالنسبة إلى اليقين وآثاره، لمنافاته[6] مع المورد.

--------------------------------------

[1] بأن يراد النهي الحقيقي عن النقض لا عن العمل.

[2] أي: لهذا التصرف - وهو تقدير الآثار أو تفسير اليقين بالمتيقن - وذلك لأنه لا حاجة إلى هذا المجاز، وحيث لا حاجة له فلا معنى لحمل اللفظ عليه.

[3] بأن يقال: إنّه يلزم هذا المجاز في الكلمة أو بالإضمار لتصحيح الكلام.

الوجه الرابع

[4] الوجه الرابع لدلالة الحديث على جريان الاستصحاب مع الشك في الرافع دون الشك في المقتضي: هو أن مورد الحديث هو المتيقن لا اليقين، فإن المراد هو إبقاء الوضوء وعدم لزوم تجديده، وليس المراد ترتيب آثار نفس اليقين، فمعنى (لا تنقض اليقين) هو (لا تنقض الوضوء) - وهو المتيقن - .

بيانه: إن اليقين - بما هو صفه نفسانية - له آثار، مثلاً: الوسواسي يريد زوال هذه الحالة منه، فإن المطلوب عنده هو اليقين بما هو هو، لا باعتبار متعلقه، فلو نذر أن يتصدق بدرهم لو تيقن فإنه مع حصول اليقين يجب عليه التصدق مع قطع النظر عن المتيقن.

كما أن المتيقن قد يكون له آثار، وفي مورد الرواية السؤال عن إبقاء الوضوء - وهو المتيقن - وليس الكلام عن اليقين بما هو يقين وعن آثاره. وحيث أريد المتيقن من اليقين فإنه مجاز، وأقرب المجازات هو الشك في الرافع لا الشك في المقتضي.

[5] أي: رغم أن النقض هو النقض العملي - لا الحقيقي - فلا محيص عن إرادة (المتيقن) من (اليقين).

[6] أي: لمنافاة إرادة اليقين وآثاره، «مع المورد» حيث المراد إبقاء الوضوء وآثاره - وهو المتيقن - .

ص: 390

فإنه يقال[1]: إنما يلزم[2] لو كان اليقين ملحوظاً بنفسه وبالنظر الاستقلالي، لا ما إذا كان ملحوظاً بنحو المرآتية بالنظر الآلي، كما هو الظاهر[3] في مثل قضية «لا تنقض اليقين»، حيث تكون ظاهرة[4] عرفاً في أنها كناية[5] عن لزوم البناء والعمل بالتزام[6]

--------------------------------------

[1] حاصل الجواب: إ ن اليقين قد يلاحظ بما هو هو - أي: بالنظرة الاستقلاليّة - وقد يلاحظ بما أنه مرآة إلى الواقع - أي: بالنظرة الآليّة - .

وكما يكون اليقين في الجزئيات مرآة - غالباً - فيقيننا بطلوع الشمس هو مرآة إلى الواقع، مع الغفلة عن نفس هذا اليقين الجزئي، كذلك لفظ (اليقين) في الحديث - والذي معناه كلي - يراد به اليقين المرآتي الآلي، لا اليقين الاستقلالي.

وحينئذٍ لا يترتب أثر اليقين الاستقلالي - بما هو هو - بل يترتب آثار اليقين المرآتي؛ وذلك عبر ترتيب آثار المتيقن!!

[2] أي: يلزم تفسير اليقين بالمتيقن.

[3] أي: الظاهر من لفظ (اليقين) هو اليقين المرآتي، فإنه لا ينساق إلى الذهن ترتيب آثار اليقين بما هو صفة نفسية، «هو» أي: اللحاظ المرآتي.

[4] «تكون» القضية.

[5] أي: في أن القضية كناية عن جعل حكم ظاهري حين الشك، فإذا كان الشك في استمرار الحكم الشرعي فإن الشارع يجعل حكماً مماثلاً - أي: ظاهرياً - وإن كان الشك في بقاء الموضوع فإن الشارع يجعل حكماً مماثلاً لحكم ذلك الموضوع، مثلاً: حياة زيد حكمها وجوب النفقة لزوجته، ومع الشك في الحياة يجعل الشارع حكماً ظاهرياً بلزوم استمرار النفقة.

ثم إن (الكناية) هي في إرادة لازم اللفظ، وفي ما نحن فيه قوله: (لا تنقض اليقين) يراد لازمه، أي: جعل الحكم الشرعي الظاهري.

[6] الباء في «بالتزام» متعلقة بقوله: (اللزوم)، أي: هذا اللزوم - في البناء والعمل -

ص: 391

حكم مماثل للمتيقن تعبداً[1] إذا كان حكماً، ولحكمه[2] إذا كان موضوعاً، لا عبارة عن لزوم العمل بآثار نفس اليقين[3] بالالتزام بحكمٍ مماثل لحكمه شرعاً[4]، وذلك[5] لسراية الآلية والمرآتية من اليقين الخارجي إلى مفهومه الكلي، فيؤخذ[6] في موضوع الحكم في مقام بيان حكمه مع عدم دخله فيه أصلاً[7]، كما ربما[8] يؤخذ

--------------------------------------

عن طريق التزام حكم مماثل... الخ.

[1] لأن الحكم الظاهري شأن الشارع، فلذا كان تعبداً.

[2] أي: لحكم المتيقن، فإذا كان المتيقن موضوعاً ذا حكم شرعي، فحين الشك في الموضوع يستصحب الموضوع ويُجعل حكم ظاهري لذلك الموضوع.

[3] أي: بما هو صفة نفسانية قائمة بالإنسان.

[4] «لحكمه» الحكم اليقين، فلو كان لليقين - بما هو صفة نفسانية - أثر - كوجوب التصدق فحين الشك لا يجعل الشارع حكماً مماثلاً بوجوب الصدقة - وقد مرّ بعض الكلام في هذا اليقين في بحث القطع الموضوعي الصفتي فراجع - .

[5] لا إشكال في أن اليقين الجزئي الخارجي يكون مرآة عادة، ولكن اليقين الكلي في (لا تنقض اليقين) كيف يكون مرآةً؟ يقول المصنف: إنه كما يكون اليقين الخارجي مرآة - عادة - كذلك تسري المرآتية إلى اليقين الكلي، و«ذلك» أي: كون اليقين آلي لا استقلالي في قوله: (لا تنقض اليقين...).

[6] أي: يؤخذ المفهوم الكلي لليقين بالمعنى المرآتي.

[7] «حكمه» أي: حكم الموضوع، «دخله» أي: دخل اليقين - بالنظر الاستقلالية - «فيه» في الحكم فلا تترتب آثار نفس اليقين.

[8] أي: وأحياناً يكون اليقين جزءاً من الموضوع، وأحياناً يكون كل الموضوع، كما مرّ في القطع الموضوعي الصفتي، ولكن قوله: (لا تنقض اليقين) ظاهر في اليقين الآلي المرآتي.

ص: 392

في ما له دخل فيه، أو تمام الدخل، فافهم[1].

ثم إنه[2] حيث كان كل من الحكم الشرعي وموضوعه مع الشك قابلاً للتنزيل[3] بلا تصرف وتأويل[4]، غاية الأمر تنزيل الموضوع بجعل مماثل حكمه،

--------------------------------------

[1] لعله إشارة إلى أن أخذ اليقين مرآةً هو بمعنى أن يكون المراد منه هو المتيقن، فهذا يرجع إلى كلام الشيخ الأعظم.

أو أنه إشارة إلى أن المفهوم الكلي لليقين لا يمكن أخذه مرآة؛ لأن المرآة مغفول عنها، وهنا (اليقين) معنى اسمي ملحوظ بنفسه.

5- عموم دلالة الرواية للشك في الحكم أو الموضوع

[2] إن قولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (لا تنقض اليقين) لا يختص بالشك في الموضوعات، كالطهارة والنجاسة ونحوها، بل يشمل الشك في الأحكام أيضاً؛ لأن (اليقين) مطلق، وشموله للموضوع والحكم على حدّ سواء من غير تصرف وتأويل.

إن قلت: مورد الرواية هو الشك في بقاء الوضوء، وهو موضوع.

قلت: أولاً: خصوصية المورد لا تخصص الوارد، مع عموم التعليل.

وثانياً: إن هناك قرائن تدل على عمومها - كما مرّ - :

أ: إن (لا تنقض اليقين...) قضية ارتكازية، استدل بها الإمام، وارتكاز العقلاء هو عدم الفرق بين الشك في الموضوع أو الحكم.

ب: إن هذه القضية ذكرت في عدة موارد في روايات متعددة مما يدل على أنها ليست خاصة بمورد.

[3] أي: قابلاً للجعل الشرعي، بأن يُجعل حكم ظاهري مماثل للحكم الواقعي، أو حكم ظاهري للموضوع المشكوك في بقائه مماثل لحكم الموضوع الواقعي.

[4] أي: بلا مؤنة زائدة؛ لأنه لو كان هناك تصرف وتأويل قد يقال: إنهما يحتاجان إلى دليل، والأصل عدمهما، ولكن حيث لا تصرف ولا تأويل يؤخذ بإطلاق لفظة (اليقين).

ص: 393

وتنزيل الحكم بجعل مثله - كما أشير إليه آنفاً - كان قضية «لا تنقض» ظاهرة في اعتبار الاستصحاب في الشبهات الحكمية والموضوعية. واختصاص المورد[1] بالأخيرة لا يوجب تخصيصها بها، خصوصاً بعد ملاحظة أنها قضية كلية ارتكازية قد أتي بها في غير مورد[2] لأجل الاستدلال بها على حكم المورد[3]، فتأمل[4].

ومنها: صحيحة أخرى لزرارة[5]. قال: قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو

--------------------------------------

[1] أي: مورد الرواية، وهو الشك في الوضوء، «الأخيرة» أي: الشبهات الموضوعية، «تخصيصها» تخصيص (قضية لا تنقض) في الرواية، «بها» بالموضوعية.

[2] أي: غير مورد واحد، بل في موارد متعددة، كالوضوء، والطهارة، والركعات.

[3] مما يدل على عدم خصوصية المورد.

[4] لعله إشارة إلى أن مورد كل تلك الروايات هو شبهة موضوعيّة، فالمستفاد منها هو عموم القضية لكل الشبهات الموضوعية من غير تخصيص بموضوع.

صحيحة زرارة الثانية
اشارة

[5] هذه الصحيحة ليست مضمرة؛ لأن الشيخ الصدوق(1)

رواها بسند صحيح عن الإمام الباقرعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ. كما أنها تضمنت عدة أحكام شرعية:

1- لو علم بالنجاسة ثم نسي وصلى فإن صلاته باطلة.

2- العلم الإجمالي بالنجاسة كالعلم التفصيلي، فلو نسي وصلى بطلت صلاته.

3- لو علم بالطهارة ثم شك فإنه يستصحب الطهارة ويصلي، فلو تبين أنه كان نجساً حين الصلاة فإن صلاته صحيحة.

4- لو علم إجمالاً بالنجاسة يجب عليه غسل أطراف العلم الإجمالي من الثوب ليتمكن من الصلاة في ذلك الثوب.

5- عدم وجوب الفحص عن النجاسة، لكنه يجوز لإزالة الشك.

ص: 394


1- علل الشرائع 2: 361.

غيره[1] أو شيء من المني(1)،

فَعلَّمت[2] أثره إلى أن أصيب له من الماء، فحضرت الصلاة، ونسيت أن بثوبي شيئاً، وصليت، ثم إني ذكرت بعد ذلك.

قال: «تعيد الصلاة وتغسله».

قلت: فإني لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنه قد أصابه، فطلبته ولم أقدر عليه، فلما صليت وجدته.

قالعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «تغسله، وتعيد».

قلت: فإن ظننت[3] أنه قد أصابه ولم أتيقن ذلك، فنظرت فلم أر شيئاً، فصليت، فرأيت فيه.

قال: «تغسله، ولا تعيد الصلاة».

قلت: لِمَ ذلك؟

--------------------------------------

6- لو رأى النجاسة في حال الصلاة فهنا حالتان:

الأولى: إذا كانت بعض أجزاء الصلاة مع النجاسة، مثلاً: شك وهو في الحمد في النجاسة ثم رآها وهو في السجود، فصلاته باطلة.

الثانية: إذا كانت النجاسة رطبة بحيث احتمل إصابتها الآن من غير أن يكون قد أدّى أجزاء من الصلاة معها، فعليه أن يغسل النجاسة ويكمّل الصلاة - هذا إذا لم يؤد الغسل إلى فعل كثير أو فوت الموالاة - .

[1] «رعاف» الدم الخارج من الأنف، و«غيره» أي: غير الرعاف من سائر الدماء.

[2] من العلامة، أي: وضعت علامة على موضع النجاسة.

[3] الظن لغة هو الاحتمال، فلذا يطلق على الشك وعلى الوهم، وعلى الظن - بالمعنى المصطلح - .

ص: 395


1- في المصدر: «مني».

قال: «لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً».

قلت: فإني قد علمت أنه قد أصابه، ولم أدر أين هو، فأغسله؟

قال: «تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها، حتى تكون على يقينٍ من طهارتك».

قلت: فهل عليّ - إن شككت في أنه أصابه شيء - أن أنظر فيه؟

قال: «لا، ولكنك إنما تريد أن تذهب الشك الذي وقع في نفسك».

قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟

قال: «تنقض الصلاة، وتعيد، إذا شككت في موضع منه ثم رأيته، وإن لم تشك ثم رأيته رطباً قطعت الصلاة، وغسلته، ثم بنيت على الصلاة، لأنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك»(1).

وقد ظهر مما ذكرنا في الصحيحة الأولى تقريب الاستدلال بقوله: «فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشك» في كلا الموردين[1]، ولا نعيد.

نعم[2]،

--------------------------------------

[1] المورد الأول - وهي المسألة الثالثة - قولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (لأنك كنت على يقين... الخ).

والمورد الثاني - وهي المسألة السادسة - قولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (فليس ينبغي أن تنقض... الخ).

تقريب الاستدلال: أولاً: بعموم التعليل، وثانياً: بقوله: (اليقين) حيث اللام للجنس، بل في المسألة السادسة الأمر أظهر؛ وذلك لعدم احتمال العهد أصلاً؛ لعدم سبق اليقين بالطهارة.

إشكال على الاستدلال بالرواية

[2] إن هنا إشكالاً وهو: إن المورد الأول كما يحتمل الاستصحاب كذلك يحتمل قاعدة اليقين، فلا يمكن الاستدلال به على الاستصحاب.

ص: 396


1- علل الشرائع 2: 361؛ الاستبصار 1: 183.

دلالته[1] في المورد الأول على الاستصحاب مبني على أن يكون المراد من اليقين في قولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «لأنك كنت على يقين من طهارتك» اليقين بالطهارة قبل ظن الإصابة، كما هو الظاهر[2]، فإنه لو كان المراد منه اليقين الحاصل بالنظر والفحص بعده[3]

--------------------------------------

وقد مرّ أنه في الاستصحاب يختلف زمان اليقين والشك، فلا يسري الشك إلى الزمان الأول، مثلاً: يعلم بأن يوم الجمعة هو اليوم التاسع والعشرون من شهر رمضان، ثم يشك في أن السبت هل هو آخر شهر رمضان أم أوّل شهر شوال؟ فمع بقاء اليقين بأن يوم الجمعة من شهر رمضان يشك في بقاء الشهر في يوم السبت.

وأما في قاعدة اليقين: فإن الشك يسري إلى الزمان الأول، مثلاً: تيقن بحياة زيد يوم الجمعة ثم شك في حياته في نفس يوم الجمعة، بمعنى أنه هل كان حياً يوم الجمعة أم كان ميتاً فكان يقينه خطأً؟

وفي المورد الأول من الرواية كما يحتمل الاستصحاب بأن يكون تعليل الإمام حول هذا المقطع من السؤال (فإن ظننت أنه قد أصابه) أي: كنت على يقين من الطهارة ثم ظننت الإصابة، كذلك يحتمل قاعدة اليقين بأن يكون تعليل الإمام ناظر إلى قوله: (فنظرت فلم أر شيئاً) أي: نظرت وحيث لم أر شيئاً فتيقنت بالطهارة، ثم علمت بأنه كان نجساً وكنتُ على خطأ من قطعي، ومن المعلوم أن هذا القطع قد تبيّن خطؤه فزال القطع في زمانه.

[1] أي: دلالة قوله: (فليس ينبغي... الخ) في المورد الأول - وهو المسألة الثالثة - .

[2] لأنه لا يوجد يقين في السؤال إلاّ في (فإن ظننت أنه قد أصابه) أي: كنت متيقناً من الطهارة ثم ظننت حدوث النجاسة عبر إصابتها، وأما قول زرارة: (فنظرت فلم أر شيئاً) فلا دلالة له على حدوث يقين بالطهارة بسبب النظر؛ لأن عدم رؤية شيء أعم من القطع والشك؛ لأن عدم رؤية شيء ليست سبباً لليقين بعدم وجوده، فكثيراً ما يبقى الشك.

[3] أي: بعد ظن الإصابة، أي: لما ظن الإصابة فحص، فلمّا لم يجد شيئاً تيقن

ص: 397

- الزائل بالرؤية بعد الصلاة - كان مفاد قاعدة اليقين، كما لا يخفى.

ثم إنه أشكل[1] على الرواية(1)

بأن الإعادة بعد انكشاف وقوع الصلاة في النجاسة ليست نقضاً لليقين بالطهارة بالشك فيها، بل باليقين بارتفاعها[2]، فكيف يصح أن يُعلّل عدم الإعادة بأنها نقض اليقين بالشك؟ نعم، إنما يصح أن يعلل به جواز الدخول في الصلاة[3]، كما لا يخفى.

ولا يكاد[4]

--------------------------------------

بعدم الإصابة.

سؤال عن معنى الصحيحة الثانية

[1] حاصل الإشكال أن اليقين قد زال قطعاً حين رؤية النجاسة، فكيف يعلّل الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عدم لزوم الإعادة بأنها نقض اليقين بالشك؟

نعم، الدخول في الصلاة يمكن تعليله بهذا؛ لأنه حين الشروع في الصلاة يعلم بالطهارة سابقاً ويشك في حدوث النجاسة، فباستصحاب الطهارة يجوز له الشروع في الصلاة. أما بعد إكمال الصلاة ورؤية النجاسة فإنه قد تيقن بها، فوجوب الإعادة من نقض اليقين باليقين، فكيف يقول الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (لا تعيد الصلاة... لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً)؟

[2] حيث علم بأنه صلى في النجاسة، فقد زال يقينه السابق بالطهارة بيقينه اللاحق بالنجاسة.

[3] لأنه حين الصلاة لم يكن يعلم بالنجاسة، بل كان شاكاً فيها، فلذا جاز له إجراء استصحاب الطهارة والشروع في الصلاة.

الجواب عن السؤال
اشارة

[4] هنا ثلاثة أجوبة:

الجواب الأول: إن إجراء الاستصحاب ليس بعد الصلاة، بل قبل الشروع في

ص: 398


1- فرائد الأصول 3: 60.

يمكن التفصي عن هذا الإشكال إلاّ بأن يقال[1]: إن الشرط في الصلاة فعلاً[2] حين الالتفات[3] إلى الطهارة هو إحرازها ولو بأصل أو قاعدة[4]، لا نفسها[5]، فيكون قضية استصحاب الطهارة حال الصلاة[6] عدم إعادتها ولو انكشف وقوعها في

--------------------------------------

الصلاة، فبهذا الاستصحاب يحرز الطهارة ظاهراً، وشرط صحة الصلاة هو إحراز الطهارة لا الطهارة الواقعية. وعليه: فإن صلاته كانت واجدة لجميع الشرائط - ومنها إحراز الطهارة بالاستصحاب - فوقعت صحيحة.

وبعبارة أخرى: الاستصحاب قبل العلم بالنجاسة كما يفيد في جواز الدخول في الصلاة كذلك يكون سبباً لإحراز الطهارة - التي هي شرط الصحة - .

الجواب الثاني: الإجزاء، فالاستصحاب يوجب حكماً ظاهرياً، والحكم الظاهري يُجزي عن الواقعي.

الجواب الثالث: إنّ عجزنا عن فهم كيفية تطبيق كبرى (لا تنقض...) على مورد الرواية لا يضرّ في هذه الكبرى التي قررّها الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

الجواب الأول عن السؤال

[1] هذا الجواب الأول.

[2] أي: الشرط في مرحلة الفعلية، ويقابله الشرط الاقتضائي - كما سيأتي بعد قليل - .

[3] بيان ل- (فعلاً)، والمعنى: إنه حين الغفلة لا تشترط الطهارة أصلاً، بل تبقى في مرحلة الاقتضاء.

[4] الفرق بين الأصل والقاعدة اصطلاحي، ولعل مراده بالأصل: الأصل العملي، وبالقاعدة: الأمارة الشرعيّة.

[5] أي: ليست الطهارة - بما هي هي - شرط، بل الشرط هو إحرازها.

[6] لأن الاستصحاب هو حين الصلاة، أما بعد الصلاة بعد انكشاف وجود النجاسة فلا يمكن الاستصحاب، وذلك لليقين بعدم الطهارة حينئذٍ.

ص: 399

النجاسة بعدها[1]. كما أن إعادتها[2] بعد الكشف[3] تكشف عن جواز النقض وعدم حجية الاستصحاب حالها، كما لا يخفى، فتأمل جيداً.

لا يقال[4]:

--------------------------------------

[1] وذلك لأنه حين الصلاة قد أحرز الطهارة - بالاستصحاب - والشرط هو الإحراز، وقد تحقق هذا الشرط.

[2] أي: إعادة الصلاة، والمقصود أنه لو كان الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ يأمر بإعادة الصلاة كان معنى ذلك هو عدم حجية الاستصحاب، وأنه لم يحرز الطهارة، فلذا لم يتحقق شرط الصلاة - وهو إحراز الطهارة - .

والغرض من هذه العبارة بيان أن العلة تنطبق تماماً على المورد؛ وذلك لأن الإحراز شرط، فالاستصحاب إن كان حجة فقد أوجب إحراز الطهارة، فتحقق شرط صحة الصلاة، وأما لو لم يكن الاستصحاب حجة فلا إحراز للطهارة، فلم يتحقق شرط صحة الصلاة.

فالإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بقوله: (فليس ينبغي لك نقض اليقين بالشك) بيّن أن الاستصحاب حجة ولذا أحرزت الطهارة، فتحقق شرط صحة الصلاة، فلا إعادة لوقوع الصلاة صحيحة بأجزائها وشرائطها.

[3] أي: إيجاب إعادتها بعد كشف النجاسة، «حالها» أي: حال الصلاة.

[4] على جواب المصنف إشكالان، وهذا هو الإشكال الأول، وحاصله: إن الطهارة إذا لم تكن شرطاً فلا يصح استصحابها، إذ لا تكون حكماً شرعياً ولا موضوعاً لحكم شرعي.

أما أنها ليست حكماً شرعياً فلأنها ليست من الأحكام الخمسة - الوجوب، الحرمة، الاستحباب، الكراهة، الإباحة - .

وأما أنها ليست موضوعاً لحكم شرعي، فلأنها ليست صلاة، ولا شرط في الصلاة، فلا ربط لها بموضوع الحكم الشرعي.

ص: 400

لا مجال حينئذٍ[1] لاستصحاب الطهارة، فإنها إذا لم تكن شرطاً لم تكن موضوعة لحكم، مع أنها ليست بحكم، ولا محيص[2] في الاستصحاب عن كون المستصحب حكماً أو موضوعاً لحكم.

فإنه يقال[3]: إن الطهارة وإن لم تكن شرطاً فعلاً، إلاّ أنها غير منعزلة عن الشرطية رأساً، بل هي شرط واقعي اقتضائي - كما هو قضية التوفيق بين بعض الإطلاقات ومثل هذا الخطاب[4] -، هذا.

--------------------------------------

[1] أي: حين كون الشرط هو إحراز الطهارة لا نفسها.

[2] لأنه لو لم يكن المستصحب حكماً أو موضوعاً لحكم كان الاستصحاب لغواً؛ إذ هو حكم بالبقاء، ولا معنى للحكم بالبقاء مع عدم ترتب أثر شرعي عليه.

[3] ردّ الإشكال من وجهين:

الأول: إن الطهارة شرط اقتضائي، بمعنى أنه إن كانت موجودة فهي الشرط، وإن لم تكن موجودة فإحرازها هو الشرط، وإنما قلنا بهذا للجمع بين الأدلة، فقوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرۡ}(1) - مثلاً - يدل على أنها شرط واقعي لأن الألفاظ موضوعة للحقائق بما هي هي، وقوله: (ولا تعيد الصلاة لأنك كنت على يقين... الخ) يدل على كفاية إحراز الطهارة، وعدم اشتراط الطهارة الواقعية.

فمقتضى الجمع هو القول بأن الطهارة الواقعية - إن كانت - فهي الشرط، وإن لم تكن موجودة فالشرط هو إحرازها، وهذا معنى الشرط الاقتضائي.

الثاني: إن الطهارة الواقعية لها دخل في الموضوع؛ لأن الشرط هو (إحراز الطهارة) لا إحراز أمر آخر، فاستصحاب الطهارة الواقعية صار له دخل في موضوع الحكم الشرعي.

[4] الوارد في هذه الصحيحة حيث قالعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (ولا تعيد الصلاة... لأنك كنت على يقين... الخ).

ص: 401


1- سورة المدثر، الآية: 4.

مع كفاية[1] كونها من قيود الشرط حيث إنه كان إحرازها بخصوصها لا غيرها شرطاً.

لا يقال[2]: سلمنا ذلك[3]، لكن قضيته أن يكون علة عدم الإعادة حينئذٍ[4] بعد انكشاف وقوع الصلاة في النجاسة هو إحراز الطهارة حالها باستصحابها[5]، لا الطهارة المحرزة بالاستصحاب[6]، مع أن قضية التعليل[7] أن تكون العلة له هي

--------------------------------------

[1] إشارة إلى الردّ الثاني، «كونها» كون الطهارة الواقعية، «إنه» الشأن، «إحرازها» الطهارة الواقعية.

[2] هذا هو الإشكال الثاني، وحاصله: لو كان شرط صحة الصلاة هو إحراز الطهارة لا الطهارة الواقعية لكان المفروض تعليل صحة الصلاة بإحراز الطهارة، لا بنفس الطهارة بأن يقول الإمام: (لأنك كنت قد أحرزت الطهارة فلذا صحت صلاتك)، في حين أن الإمام علّل صحة الصلاة بنفس الطهارة، حيث قال: (لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت فليس ينبغي... الخ)، وهذا ظاهر في أن الشرط هو نفس الطهارة.

[3] «ذلك» أي: إن إحراز الطهارة هو الشرط لا نفس الطهارة الواقعيّة، «قضيته» أي: مقتضى شرطية الإحراز.

[4] شرح المصنف «حينئذٍ» بقول: «بعد انكشاف وقوع الصلاة في النجاسة».

[5] «حالها» حال الصلاة، «باستصحابها» باستصحاب الطهارة.

[6] أي: لا أن يكون العلة هو تحقق نفس الطهارة الواقعية، وقد علمنا بها عن طريق الاستصحاب.

[7] أي: مقتضى التعليل الذي ذكره الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بقوله: (لأنك كنت على يقين من طهارتك... الخ)، «له» لعدم الإعادة، «نفسها» نفس الطهارة بما هي هي، «لا إحرازها» لا إحراز الطهارة.

ص: 402

نفسها لا إحرازها، ضرورة[1] أن نتيجة قوله: «لأنك كنت على يقين. .. إلى آخره» أنه على الطهارة، لا أنه مستصحبها[2]، كما لا يخفى.

فإنه يقال[3]: نعم، ولكن التعليل إنما هو بلحاظ حال قبل انكشاف الحال[4]، لنكتة[5] التنبيه على حجية الاستصحاب، وأنه كان هناك استصحاب، مع وضوح

--------------------------------------

[1] بيان أن التعليل ظاهر في أن الشرط هو الطهارة الواقعية لا إحرازها.

[2] (مستصحب) بصيغة اسم الفاعل، أي: ليس معنى هذا التعليل أنه محرز للطهارة بواسطة الاستصحاب.

وفرق بين أن نقول: إن الطهارة شرط وأن اليقين طريق إليها، وبين أن نقول: إن إحراز الطهارة شرط ويكون الإحراز عبر الاستصحاب.

[3] حاصل الجواب أن التعليل يمكن أن يكون لحالتين:

1- حالة بعد الصلاة وبعد انكشاف كونها مع النجاسة، وهنا المناسب هو التعليل بالإحراز، بأن يقول: لأنك كنت محرز الطهارة؛ وذلك الإحراز كان شرطاً.

2- حالة حين الصلاة، وهنا كما يمكن التعليل بالإحراز، فتنحصر الفائدة في بيان أن الإحراز هو شرط صحة الصلاة، كذلك يمكن التعليل بالاستصحاب، وهنا يكون للكلام فائدتان: حجية الاستصحاب، وأن الإحراز هو الشرط؛ لأن الشرط لو كان الطهارة الواقعية تكون الإعادة نقضاً لليقين بالشك، بل نقض لليقين باليقين.

وحيث قال الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (فليس ينبغي لك نقض اليقين بالشك أبداً) علمنا أنه ناظر إلى حالة حين الصلاة، والتعليل أثبت أمرين: حجية الاستصحاب، وأن الإحراز يكفي لصحة الصلاة، وعدم لزوم إعادتها.

[4] لأن قوله: (لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت) ناظر إلى حين الصلاة؛ إذ بعد الصلاة إنما هو نقض لليقين باليقين.

[5] أي: ليكون للكلام فائدتان، الأولى: حجية الاستصحاب، «مع وضوح» بيان للفائدة الثانية، «استلزام ذلك» أي: استلزام التنبيه على حجية الاستصحاب.

ص: 403

استلزام ذلك لأن يكون المجدي بعد الانكشاف هو ذاك الاستصحاب[1] لا الطهارة، وإلاّ[2] لما كانت الإعادة نقضاً[3]، كما عرفت في الإشكال.

ثم إنه[4]

--------------------------------------

[1] أي: المجدي في صحة الصلاة وعدم لزوم الإعادة هو الإحراز الذي كان عبر الاستصحاب.

[2] أي: لو لم يكن الاستصحاب مجدياً - بعد الانكشاف - كان الشرط هو الطهارة الواقعيّة.

[3] أي: لم تكن الإعادة نقضاً لليقين بالشك، بل نقض لليقين باليقين، والمعنى: إن الطهارة الواقعية لو كانت شرطاً فإنه بعد الانكشاف يتبيّن لنا عدم تحقق الشرط، فتكون الصلاة باطلة فيجب إعادتها، وحيث حكم الإمام بعدم لزوم الإعادة علمنا أن ذاك الاستصحاب كان سبباً لتحقق الشرط - وهو إحراز الطهارة - فلذا نعلم بوقوع الصلاة صحيحة حتى بعد علمنا بأنها كانت في نجاسة.

الجواب الثاني عن السؤال

[4] مرّ في قوله: (ثم إنه أشكل في الرواية... الخ) أن إعادة الصلاة بعد انكشاف النجاسة ليست نقضاً لليقين بالشك، بل نقض لليقين بالطهارة باليقين بالنجاسة.

و كان الجواب الأول: إن الشرط هو الإحراز للطهارة لا نفس الطهارة.

وأما الجواب الثاني: فهو أن عدم إعادة الصلاة إنما هو لأجل القول بإجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي، فهنا الطهارة الواقعية هي شرط لصحة الصلاة، ولكن حيث أجرى الاستصحاب فقد جعل الشارع حكماً ظاهرياً بالطهارة، وهذا يجزي عن الواقع.

وفيه: إن علة صحة الصلاة لو كان الإجزاء لكان المناسب تعليل عدم الإعادة بالإجزاء لا بالاستصحاب.

ويمكن تصحيح هذا الجواب، ودفع هذا الإشكال: بأن صحة الصلاة تتوقف

ص: 404

لا يكاد يصح التعليل[1] لو قيل باقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء، كما قيل[2]، ضرورة[3] أن العلة عليه إنما هو اقتضاء ذاك الخطاب الظاهري حال الصلاة للإجزاء وعدم إعادتها، لا لزوم النقض من الإعادة، كما لا يخفى.

اللهم إلاّ أن يقال[4]: إن التعليل به إنما هو بملاحظة ضميمة[5] اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء، بتقريب[6]

--------------------------------------

على الاستصحاب وعلى الإجزاء معاً، والإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ذكر أحد جزءي الدليل، ولم يذكر الجزء الآخر تعويلاً على وضوحه.

وبيان ذلك: إن صحة الصلاة تتوقف على صغرى وكبرى:

أما الصغرى: فهي أنه دخل في الصلاة باستصحاب الطهارة، الذي هو حكم ظاهري.

والكبرى: هي أن الحكم الظاهري يجزي عن الواقع.

فالنتيجة: هي صحة الصلاة وعدم لزوم إعادتها.

[1] أي: قوله: (لأنك كنت على يقين من طهارتك... الخ).

[2] نسب ذلك إلى شريف العلماء. قال الشيخ الأعظم: (وربما يتخيّل حسن التعليل لعدم الإعادة بملاحظة اقتضاء امتثال الأمر الظاهري للإجزاء)(1).

[3] إشكال المصنف على هذا الجواب الثاني، «عليه» على القول بالإجزاء، «لا لزوم النقض» أي: ليس العلة هي الاستصحاب بناءً على هذا الكلام.

[4] هذا تصحيح للجواب ودفع لهذا الإشكال عليه، «به» بلزوم النقض - أي: بالاستصحاب - .

[5] أي: يكون الاستصحاب صغرى الدليل، وبضميمة الكبرى التي هي الإجزاء يتم الدليل.

[6] حاصله: إن الشارع لو حكم بإعادة الصلاة فإنها لأجل أحد الأمرين:

ص: 405


1- فرائد الأصول 3: 60.

أن الإعادة لو قيل بوجوبها كانت موجبة[1] لنقض اليقين بالشك في الطهارة قبل الانكشاف[2] وعدم حرمته شرعاً، وإلاّ[3] للزم عدم اقتضاء ذاك الأمر له كما لا يخفى، مع اقتضائه[4] شرعاً أو عقلاً، فتأمل[5]. ولعل ذلك[6] مراد من قال بدلالة الرواية على إجزاء الأمر الظاهري.

--------------------------------------

1- عدم حجية الاستصحاب - بأن لا تكون الصغرى صحيحة - .

2- عدم الإجزاء - بأن لا تكون الكبرى صحيحة - .

وحيث إن المفروض هو وضوح إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي فلا تكون الإعادة إلاّ لعدم جريان الاستصحاب، والإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في هذا الحديث يثبت حجية الاستصحاب، وحينئذٍ تصح الصغرى، فيتم الاستدلال على عدم الإعادة.

[1] إشارة إلى الأمر الأول.

[2] الظرف متعلق ب- (الشك) أي: الشك قبل الانكشاف، «وعدم حرمته» أي: النقض.

[3] إشارة إلى الأمر الثاني، أي: إن قلنا بحرمة النقض شرعاً فوجوب الإعادة إنما هي بسبب عدم الإجزاء، «ذلك الأمر» الظاهري، «له» للإجزاء.

[4] أي: لا يمكن الإعادة بسبب عدم الإجزاء؛ وذلك لثبوت الإجزاء، فلابد أن ينحصر مستند الإعادة إلى نقض اليقين بالشك، وحيث بيّن الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنه لا نقض إذن فلا إعادة.

[5] في حاشية المصنف: (وجه التامّل أن اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء، ليس بذلك الوضوح، كي يحسن بملاحظته التعليل بلزوم النقض من الإعادة، كما لا يخفى)(1)، انتهى.

[6] أي: بعض الأصوليين استدلوا بهذه الرواية على إجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي؛ وذلك لدلالة هذه الرواية على صحة الصلاة مع فقدان الطهارة الخبثيّة،

ص: 406


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 442.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه التعليل.

مع أنه[1] لا يكاد يوجب الإشكال فيه والعجز عن التفصي عنه إشكالاً في دلالة الرواية على الاستصحاب، فإنه[2] لازم على كل حال، كان مفاده قاعدته أو قاعدة اليقين، مع بداهة عدم خروجه منهما[3]، فتأمل جيداً.

--------------------------------------

وليس ذلك إلاّ بضميمة الإجزاء إلى الاستصحاب.

الجواب الثالث عن السؤال

[1] إن العجز عن حل الإشكال لا يمنع عن التمسك بعموم كلام الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فقوله: (فليس لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً) يدل على حجية الاستصحاب، سواء فهمنا كيفية تطبيق هذه الكبرى على مورد سؤال الراوي أم لم نفهم، فعدم فهمنا للتطبيق لا يخرج عموم كلام الإمام عن الحجية، «أنه» للشأن، «فيه» في التعليل، «عنه» عن الإشكال، وفاعل «يوجب» هو «الإشكال فيه»، ومفعوله: «إشكالاً في دلالة الرواية».

[2] أي: الإشكال على هذا التعليل وارد، سواء قلنا بدلالة الرواية على الاستصحاب أم قلنا بدلالته على قاعدة اليقين - إذ بعد الصلاة له يقين بعدم الطهارة - مع أن ركن قاعدة اليقين هو الشك اللاحق أيضاً كالاستصحاب. فلا يصح لأجل هذا الإشكال القول بعدم دلالة الرواية على الاستصحاب، بل على قاعدة اليقين، فإن الإشكال مشترك الورود على كليهما.

[3] خروج مفاد التعليل من قاعدة اليقين والاستصحاب، فلا احتمال ثالث لكي نصرف الرواية إليه.

انتهى الجزء الرابع ويليه الجزء الخامس في بحث:

الاستدلال بصحيحة زرارة الثالثة.

ص: 407

ص: 408

فهرست الموضوعات

فصل الظن الانسدادي في الفروع والأصول... 5

القول الأول مختار المصنف... 5

القول الثاني حجية الظن بالواقع دون الطريق... 8

القول الثالث حجية الظن بالطريق دون الواقع... 9

الدليل الأول... 9

رد الدليل الأول... 12

رد آخر للدليل الأول... 18

الدليل الثاني للقول الثالث... 27

فصل في الكشف والحكومة والإهمال والتعيين... 36

إشكال وجواب... 40

الإهمال أو التعيين... 41

الظن على الحكومة... 41

1- سبب الظن... 42

2- موارد الظن... 42

3- مرتبة الظن... 43

الظن على الكشف... 43

1- الظن بالطريق الواصل بنفسه... 43

2- الظن بالطريق الواصل بطريقه... 46

3- الظن بطريقٍ ما - إجمالاً - 48

وهم ودفع... 49

تعميم النتيجة على الكشف... 51

الطريق الأول... 52

ص: 409

الطريق الثاني... 55

الطريق الثالث... 55

فصل خروج القياس عن حجية الظن... 57

الجواب عن الإشكال الأول... 60

الجواب عن الإشكال الثاني... 65

أجوبة أخرى... 68

الجواب الأول... 68

الجواب الثاني... 69

الجواب الثالث والرابع... 70

فصل الظن المانع والممنوع... 72

فصل الظن بألفاظ القرآن والروايات... 74

تنبيه... 77

فصل عدم حجية الظن في الامتثال... 78

الظن في أصول الدين في غير الانسداد وحكم القاصر... 88

جبر ووهن السند والدلالة والترجيح بالظن غير المعتبر... 94

ضرب القاعدة... 95

تطبيق القاعدة على الصور الخمس... 96

الصورة الأولى... 96

الصورة الثانية... 97

الصورة الثالثة والرابعة... 98

الصورة الخامسة... 99

المقصد السابع في الأصول العملية

فصل أصالة البراءة... 112

ص: 410

أدلة البراءة... 114

الأول من أدلة البراءة: الكتاب... 114

الثاني من أدلة البراءة: السنة... 118

1- حديث الرفع... 118

2- حديث الحجب... 130

3- حديث الحِلّ... 132

4- حديث السعة... 133

5- حديث: كل شيء مطلق... 135

الثالث من أدلة البراءة: الإجماع... 139

الرابع من أدلة البراءة: العقل... 140

أدلة وجوب الاحتياط... 146

الدليل الأول: على الاحتياط الكتاب... 146

الدليل الثاني: على الاحتياط الأخبار... 147

الدليل الثالث: على الاحتياط العقل... 156

التقرير الأول لدليل العقل على الاحتياط... 157

الجواب... 157

إشكالان: الأول... 159

الإشكال الثاني... 161

التقرير الثاني لدليل العقل على الاحتياط... 165

إشكالات على التقرير الثاني... 166

تنبيهات البراءة... 169

التنبيه الأول في الشك في التذكية... 169

أقسام الأصل الموضوعي... 170

القسم الأول في الشبهة الحكمية مع دلالة الأصل الموضوعي على الحرمة 171

لو لم يجر الأصل الموضوعي... 174

القسم الثاني في الشبهة الحكمية مع كون الأصل الموضوعي دالاً على الحلية 174

القسم الثالث والرابع الشبهة الموضوعية مع وجود الأصل الموضوعي 175

ص: 411

التنبيه الثاني الاحتياط في العبادة المشكوكة... 176

الإشكال في الاحتياط في العبادات المشكوكة... 177

أجوبة خمسة... 178

الجواب الأول والإشكال عليه... 178

الجواب الثاني... 180

المناقشة الثانية لكلا الجوابين... 181

الجواب الثالث... 182

الجواب الرابع... 186

الجواب الخامس... 190

قاعدة من بلغ... 194

الاستدلال على القول بالاستحباب... 194

دليل القول بعدم الاستحباب... 195

التنبيه الثالث في جريان البراءة في الشبهة الموضوعية... 199

التنبيه الرابع حسن الاحتياط إلاّ في صورة اختلال النظام... 206

فصل في التخيير... 206

رد دليل القول الثالث... 209

عموم البحث للتعبديات والتوصليات... 214

رد دليل القول الثاني... 219

فصل قاعدة الاشتغال... 220

المقام الأول دوران الأمر بين المتباينين... 221

المسألة الأولى... 222

المسألة الثانية... 224

المسألة الثالثة... 225

المسألة الرابعة... 227

المسألة الخامسة... 228

تنبيهات الاشتغال... 231

ص: 412

التنبيه الأول: الاضطرار إلى بعض أطراف العلم الإجمالي... 231

التنبيه الثاني: اشتراط الابتلاء بجميع الأطراف... 238

التنبيه الثالث: الشبهة غير المحصورة... 242

الشك في حدوث العسر ونحوه... 244

التنبيه الرابع: حكم الملاقي والملاقى... 245

الصورة الأولى... 247

إشكال وجواب... 248

الصورة الثانية... 249

المورد الأول... 250

المورد الثاني... 251

الصورة الثالثة... 252

المقام الثاني دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين... 253

الاحتياط عقلاً... 253

الدليل الأول للزوم الاحتياط... 253

إشكال وجوابان... 254

الدليل الثاني للزوم الاحتياط... 258

إشكالان... 260

الجواب عن الإشكال الأول... 263

خمسة أجوبة عن الإشكال الثاني... 264

البراءة شرعاً في الأقل والأكثر الارتباطيين... 271

إشكال وجوابه... 272

إشكال آخر وجوابه... 274

تنبيهات... 276

التنبيه الأول: الشك في القيد... 276

التنبيه الثاني: الشك في الجزئية والشرطية حال النسيان... 279

دفع إشكال... 280

التنبيه الثالث: زيادة الجزء عمداً وسهواً 283

ص: 413

حكم التقييد... 285

التشريع مع عدم التقييد... 287

التنبيه الرابع: لو تعذر الجزء أو الشرط... 288

أدلة لزوم الإتيان بالباقي... 291

الدليل الأول: جريان الأصل السببي... 291

الدليل الثاني: استصحاب الباقي... 292

الدليل الثالث: قاعدة الميسور... 294

الإشكال على الاستدلال بالرواية الأولى... 295

الإشكال على الاستدلال بالرواية الثانية... 298

الإشكال على الاستدلال بالرواية الثالثة... 300

تشخيص الميسور... 302

توسعة أو تضييق الميسور... 304

تذنيب... 306

خاتمة في شرائط الأصول... 307

شرط الاحتياط... 307

شرط البراءة العقلية... 310

شرط البراءة النقلية... 310

شرط التخيير العقلي... 316

إجراء البراءة قبل الفحص... 316

أولاً: التبعة... 316

إشكال... 317

الجواب الأول... 319

الجواب الثاني... 320

ثانياً: الحكم الوضعي بالإعادة... 323

التمام بدل القصر جهلاً، والجهر والإخفات كذلك... 324

الإشكال الأول والثاني... 325

ص: 414

الإشكال الثالث... 328

الإشكال الرابع... 330

تصحيح الصلاة بنحو الترتب... 331

شرطان آخران للبراءة!!... 332

الإشكال على الشرط الأول... 332

الإشكال على الشرط الثاني... 335

قاعدة لا ضرر... 336

1- دليل قاعدة لا ضرر... 336

2- معنى الضرر... 339

3- معنى الضِرار... 340

4- معنى «لا»... 341

5- إذا كان (الضرر) موضوعاً 345

6- النسبة بين (لا ضرر) وبين (أدلة الأحكام الأولية)... 347

7- النسبة بين (لا ضرر) وبين (أدلة الأحكام الثانوية)... 351

8- في تعارض ضررين... 352

فصل في الاستصحاب... 354

الأمر الأول تعريف الاستصحاب... 354

الأمر الثاني كون الاستصحاب مسألة أصولية... 358

الأمر الثالث أركان الاستصحاب... 360

الأمر الرابع وحدة الموضوع والمحمول... 361

إشكالان في استصحاب الأحكام الشرعية... 361

الجواب عن الإشكال الأول... 364

الجواب عن الإشكال الثاني... 365

الأقوال في الاستصحاب... 370

أدلة الاستصحاب... 371

الدليل الأول: سيرة العقلاء... 371

ص: 415

الدليل الثاني: الظن في البقاء... 373

الدليل الثالث: الإجماع... 374

الدليل الرابع: الأخبار الدالة على الحجية... 375

صحيحة زرارة الأولى... 376

1- سند الرواية... 376

2- دلالة الرواية على الاستصحاب... 377

3- عموم دلالة الرواية حتى لغير الوضوء... 379

4- في معنى النقض في (لاتنقض)... 382

تفصيل الشيخ الأعظم... 384

الوجه الأول... 384

الوجه الثاني... 385

الإشكال على الوجه الثاني... 386

الوجه الثالث... 388

الوجه الرابع... 390

5- عموم دلالة الرواية للشك في الحكم أو الموضوع... 393

صحيحة زرارة الثانية... 394

إشكال على الاستدلال بالرواية... 396

سؤال عن معنى الصحيحة الثانية... 398

الجواب عن السؤال... 398

الجواب الأول عن السؤال... 399

الجواب الثاني عن السؤال... 404

الجواب الثالث عن السؤال... 407

فهرست الموضوعات... 409

ص: 416

المجلد 5

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحسیني الشیرازي، السيدجعفر، 1349 -

عنوان العقد: کفایه الاصول .شرح

عنوان واسم المؤلف: إيضاح کفاية الأصول/ تالیف السيدجعفر الحسیني الشیرازي.

تفاصيل المنشور: قم: دارالفکر، 1397.

مواصفات المظهر: 5 ج.

ISBN : دوره 978-600-270-236-4 : ؛ 120000 ریال: ج.1 978-600-270-237-1 : ؛ 120000 ریال: ج.2 978-600-270-238-8 : ؛ 120000 ریال: ج.3 978-600-270-239-5 : ؛ 120000 ریال: ج.4 978-600-270-240-1 : ؛ 120000 ریال: ج.5 978-600-270-241-8 :

حالة الاستماع: فیپا

ملاحظة : العربیة.

ملاحظة : ج. 2 - 5 (چاپ اول: 1397)(فیپا).

ملاحظة : هذا الكتاب هو وصف لكتاب "کفاية الأصول" الذي المؤلف آخوند الخراساني.

ملاحظة : فهرس.

قضية : آخوند الخراساني، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق. . کفاية الأصول -- النقد والتعليق

قضية : Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein . Kefayat ol - osul -- Criticism and interpretation

قضية : أصول الفقه الشيعي

* Islamic law, Shiites -- Interpretation and construction

المعرف المضاف: آخوند الخراساني، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق . کفایه الاصول. شرح

المعرف المضاف: Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein. . Kefayat ol - osul

ترتيب الكونجرس: BP159/8/آ3ک7021326 1397

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 5279147

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فیپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ومنها: صحيحة ثالثة لزرارة[1]: «وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث، قام فأضاف إليها أخرى[2]، ولا شيء عليه، ولا ينقض اليقين بالشك، ولا يدخل الشك في اليقين[3]، ولا يخلط أحدهما بالآخر[4]، ولكنه ينقض الشك باليقين[5]،

----------------------------------

المقصد السابع في الأصول العملية،

فصل في الاستصحاب صحيحة زرارة الثالثة

[1] ذكر منها المصنف محل الشاهد، ولا بأس بذكر صدرها، لأنه قد يساعد في فهم محل الشاهد:

في الكافي بسند صحيح عن زرارة، عن أحدهماعَلَيْهِمُا اَلسَّلاَمُ قال: (قلت له: من لم يَدرِ في أربع هو أم في ثنتين - وقد أحرز الثنتين - ؟ قال: يركع ركعتين وأربع سجدات، وهو قائم بفاتحة الكتاب، ويتشهد ولا شيء عليه، وإذا لم يدر في ثلاث هو أو أربع...)(1)

الحديث، إلى آخر ما نقله المصنف.

[2] أي: أضاف إلى الصلاة ركعة أخرى، «ولا شيء عليه» من إعادة أو سجدة سهو.

[3] هذا المقطع عبارة أخرى عن «لا ينقض اليقين بالشك» جاء به الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ تأكيداً؛ لأنه إذا اعتنى بالشك فقد أدخله في اليقين؛ وذلك بإعطاء الشك حكم اليقين.

[4] أيضاً هذه العبارة للتأكيد، فإن من جعل حكم الشك كحكم اليقين فقد خلط بينهما؛ وذلك بإعطاء حكم أحدهما للآخر.

[5] أي: لا يعتني بالشك؛ لأنه إذا استمر على يقينه السابق ولم يهتم بالشك اللاحق فقد نقض الشك باليقين.

ص: 5


1- الكافي 3: 351.

ويتم على اليقين[1]، فيبني عليه، ولا يعتد بالشك في حال من الحالات»(1).

والاستدلال بها على الاستصحاب[2] مبني على إرادة اليقين بعدم الإتيان بالركعة الرابعة سابقاً والشك في إتيانها.

وقد أشكل[3]

----------------------------------

[1] أي: يستمر عليه، وهذه عبارة أخرى عن «لكنه ينقض الشك باليقين»، وكذا تأكيد العبارة بقوله: «ولا يعتدّ بالشك في حال من الحالات».

والحاصل: إن (اليقين لا ينقض بالشك) و(لا يدخل فيه) و(لا يخلط به) عبارات ثلاث بمعنى واحد، وكذا (ينقض الشك باليقين) و(يتم على اليقين فيبنى عليه) و(لا يعتد بالشك) أيضاً عبارات ثلاث بمعنى واحد.

[2] إن في الصحيحة الثالثة احتمالان:

الأول: استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة، حيث إنه قبل الدخول في الصلاة يعلم بأنه لم يأتِ بالركعة الرابعة، ثم يشك في إتيانه بها، فيستصحب عدم الإتيان.

الثاني: إنه متيقن باشتغال ذمته بركعة رابعة - لأن صلاته رباعية - فلابد من الإتيان بها على كل حال؛ لأن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.

ودلالة الرواية على الاستصحاب تتوقف على الاحتمال الأول، وأما الاحتمال الثاني فلا دلالة له على الاستصحاب، بل على قاعدة (الاشتغال اليقيني...).

إشکالان علی الاستدلال

الإشكال الأول

[3] ذكره الشيخ الأعظم(2)،

وحاصله: إن الاحتمال الأول - وهو الاستصحاب - لا يمكن إجراؤه؛ لأنه لا ينطبق على مذهب الشيعة في مورد السؤال؛ لأن معنى

ص: 6


1- الكافي 3: 351؛ الإستبصار 1: 373.
2- فرائد الأصول 3: 62 - 63.

بعدم إمكان إرادة ذلك[1] على مذهب الخاصة، ضرورة أن قضيته[2] إضافة ركعة أخرى موصولةً، والمذهب قد استقر على إضافة ركعة بعد التسليم مفصولةً[3]. وعلى هذا[4] يكون المراد باليقين اليقين بالفراغ، بما علّمه الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ[5] من الاحتياط بالبناء على الأكثر، والإتيان بالمشكوك بعد التسليم مفصولةً.

----------------------------------

جريان الاستصحاب في هذا المورد - وهو الشك بين الثلاث والأربع - هو لزوم الإتيان بالرابعة، مع أن المذهب هو البناء على الأربع والتسليم ثم إضافة ركعة احتياط، فلابد من حمل الرواية على الاحتمال الثاني - وهو أجنبي عن الاستصحاب - فلا يمكن الاستدلال بالصحيحة الثالثة عليه.

[1] أي: الاستصحاب.

[2] بيان وجه عدم انطباق الاستصحاب هنا على مذهب الشيعة، «قضيته» قضية الاستصحاب؛ وذلك لأن الاستصحاب يقضي بعدم الإتيان بالركعة الرابعة، وحينئذٍ فيجب إضافة ركعة أخرى لتتم الركعات، ولكن المذهب هو عدم جواز إضافة ركعة أخرى، بل الواجب البناء على الرابعة والتسليم ثم صلاة الاحتياط.

[3] وهي ركعة الاحتياط بعد السلام.

[4] ما بيناه من عدم إمكان إرادة الاستصحاب، فلابد من حمل الرواية على قاعدة (الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية)، وذلك بأن يبني على الأربع ويسلّم ثم يأتي بركعة احتياط، فإن كان صلّى ثلاث ركعات - واقعاً - فركعة الاحتياط تحلّ محل الركعة الرابعة، وإن كان صلى أربع ركعات فركعة الاحتياط لا تضرّ بالصلاة؛ لأنها بعد التسليم، فتكون نافلة.

والحاصل: إنه اشتغلت ذمته بأربع ركعات، فبإضافة ركعة الاحتياط يكون قد أدّى الركعات الأربع يقيناً.

[5] في روايات أخرى علّم الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ كيفية إضافة الركعة، ففي موثقة عمار الساباطي عن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (إذا سهوت فابن على الأكثر، فإذا فرغت

ص: 7

ويمكن الذبّ عنه[1]: بأن الاحتياط كذلك[2] لا يأبى عن إرادة اليقين بعدم الركعة المشكوكة[3]، بل كان أصل الإتيان بها باقتضائه[4]، غاية الأمر إتيانها

----------------------------------

وسلّمت فقُم فصلِّ ما ظننت أنك نقصت، فإن كنت قد أتممت لم يكن عليك في هذه شيء، وإن ذكرت أنّك كنت نقصت كان ما صلّيت تمام ما نقصت)(1).

الجواب عن الإشكال الأول

[1] أي: يمكن الدفاع عن الاستدلال ودفع الإشكال بأن لزوم الإتيان بركعة الاحتياط مفصولة لا ينافي الاستصحاب.

بيانه: إن الاستصحاب يدل على عدم الإتيان بالركعة الرابعة، فلابد من إجراء كل آثار عدم الإتيان بها، ومن تلك الآثار هو لزوم الإتيان بالركعة موصولة.

ونحن نرفع اليد عن هذا الأثر؛ لوجود أدلة خاصة على لزوم فصلها، وأما باقي الآثار فهي باقية تحت إطلاق دليل الاستصحاب، فلا منافاة بين إجراء الاستصحاب حينئذٍ، وبين ما استقر عليه المذهب من لزوم كون صلاة الاحتياط مفصولة.

وبعبارة أخرى: لدليل الاستصحاب إطلاق يدل على ترتيب جميع آثار المستصحب - الذي هو عدم الإتيان بالرابعة - ومن الآثار لزوم الإتيان بركعة موصولة لتكون الركعة الرابعة، لكن هناك أدلة خاصة تُقيّد هذا الإطلاق، فتدل على لزوم الإتيان بالركعة مفصولة، ومن المعلوم أنه لا إشكال في تقييد الإطلاقات.

فتحصل: أن حمل الصحيحة الثالثة على الاستصحاب لا ينافي ما استقر عليه المذهب من إضافة ركعة مفصولة.

[2] أي: بإضافة ركعة مفصولة.

[3] وهو الاستصحاب وهو الاحتمال الأول، لا اليقين باشتغال الذمة - وهو الاحتمال الثاني - .

[4] «بها» بالركعة، «باقتضائه» باقتضاء الاستصحاب، حيث دل الاستصحاب

ص: 8


1- تهذيب الأحكام 2: 349؛ وسائل الشيعة 8: 213.

مفصولةً ينافي إطلاق النقض[1]، وقد قام الدليل على التقييد في الشك في الرابعة وغيره[2]، وأن المشكوكة[3] لابد أن يؤتى بها مفصولة، فافهم[4].

وربما أشكل[5] أيضاً بأنه لو سلم دلالتها على الاستصحاب كانت من الأخبار

----------------------------------

على عدم الإتيان بالركعة الرابعة، فلابد من تكميل الصلاة بإتيان ركعة.

[1] أي: إطلاق دليل الاستصحاب وهو (لا تنقض) يدل على ترتيب جميع آثار عدم الإتيان، فيحكم بأنه في الركعة الثالثة، فلابد من الإتيان بركعة أخرى موصولة.

[2] أي: غير الشك في الرابعة، كما لو شك بين الاثنتين والأربع - وقد ذكر حكمه في صدر هذه الصحيحة - وكذا الشك بين الاثنتين والثلاث - بعد السجدتين - .

[3] بيان للدليل الذي قيّد إطلاق دليل الاستصحاب.

[4] لعله إشارة إلى أن هذا الجواب جعل إرادة الاستصحاب - في الصحيحة الثالثة - ممكناً، ولكن يبقى في الصحيحة الاحتمال الآخر، ومعه لا يمكن الاستدلال بها على الاستصحاب؛ إذ مع احتمال الخبر لاحتمالين لا يصح الاستدلال بأحدهما أصلاً.

أو إشارة إلى أن الوصل أو الفصل لا يرتبط بدليل الاستصحاب - لا بمقتضاه ولا بإطلاقه - بل هو مرتبط بأدلة أخرى تدل على كيفية الصلاة، فإطلاق دليل يدل على الوصل ودليل آخر قيده بالفصل.

الإشكال الثاني

[5] حاصل الإشكال: إنه إن سلمنا دلالة الصحيحة على الاستصحاب فهي تدل على حجيته في خصوص الشك في الركعات، ولا دلالة لها على حجية الاستصحاب في سائر الموارد.

ص: 9

الخاصة الدالة عليه[1] في خصوص المورد، لا العامة لغير مورد، ضرورة ظهور الفقرات[2] في كونها مبنيةً للفاعل، ومرجع الضمير فيها هو المصلي الشاك.

وإلغاء[3] خصوصية المورد ليس بذاك الوضوح[4]، وإن كان يؤيده تطبيق قضية «لا تنقض اليقين» وما يقاربها على غير مورد، بل دعوى[5] «أن الظاهر من نفس

----------------------------------

[1] على الاستصحاب، «خصوص المورد» الشك في الركعات، «لغير مورد» أي: لغير مورد واحد، بل لعامة الموارد.

[2] أي: قوله: (لا ينقض) و(لا يدخل) و(لا يخلط) و(ينقض) و(يتم) و(يعتد) ظاهرة في أنها من الفعل المعلوم لا المجهول، فالفاعل هو الشاك في الركعات وهو مورد خاص. نعم، لو كانت الأفعال مبنية للمفعول - أي: مجهولة - كانت ظاهرة في التعميم.

الجواب الأول

[3] وردّ الإشكال الثاني بجوابين:

الأول: ادعاء عموم الكلام بأن يكون الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ذكر قاعدة عامة - وهي عدم نقض اليقين بالشك - وطبقها على المورد، وهو الشك في الركعات.

لكن يمكن رد هذا الجواب بأن إلغاء خصوصية المورد - عبر تعميم الكلام وجعله كالعِلة - ليس واضحاً؛ إذ هو يحتاج إلى قرينة قطعية، وهي مفقودة في المقام.

نعم، يمكن أن نجد تلك القرينة بأن هذه العبارة: (لا تنقض اليقين بالشك) قد استعملت في سائر الأخبار في الاستصحاب، وجعلت عِلة في تلك الأخبار مما يدل على أنها قاعدة عامة.

[4] الذي يستلزم منه تعميم حكم مورد خاص إلى سائر الموارد، «يؤيده» أي: يؤيد إلغاء الخصوصية.

الجواب الثاني

[5] هذا الجواب الثاني، وحاصله: تنقيح المناط، بأن نقول: إن كلام الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ

ص: 10

القضية[1] هو أن مناط حرمة النقض إنما يكون لأجل ما في اليقين والشك[2]، لا لما في المورد من الخصوصية، وأن مثل اليقين لا ينقض بمثل الشك» غير بعيدة[3].

ومنها[4] قوله: «من كان على يقين فأصابه شك فليمض على يقينه، فإن الشك لا ينقض اليقين»(1) أو «فإن اليقين لا يدفع بالشك»(2).

وهو[5]

----------------------------------

وإن كان خاصاً بالركعات، لكن ملاك الحكم موجود في سائر الموارد؛ لأن الملاك هو كون اليقين أمراً مبرماً، وهذا كما يوجد في اليقين والشك في الركعات كذلك يوجد في سائر الموارد.

[1] أي: قوله: (لا تنقض اليقين بالشك).

[2] من إبرام اليقين وضعف الشك.

[3] خبر قوله: (بل دعوى أن...).

رواية محمد بن مسلم

اشارة

[4] هذان خبران، الأول: رواه الصدوق في الخصال، والثاني: رواه المفيد في الإرشاد.

وجه الاستدلال: هو أمر الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في الاستمرار في أحكام اليقين بقوله: (فليمض على يقينه)، وعدم الاعتناء بالشك، حيث قال عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في الأولى: (فإن الشك لا ينقض اليقين)، وفي الثانية: (فإن اليقين لا يدفع بالشك).

إشكال وجوابان

[5] أي: هذا الخبر، فقد أورد الشيخ(3) على الاستدلال بأن الخبرين كما يحتملان الاستصحاب كذلك يحتملان قاعدة اليقين، فيصير الكلام مجملاً؛ لتعدد

ص: 11


1- الخصال: 619، مع اختلاف يسير؛ وسائل الشيعة 1: 246.
2- الإرشاد 1: 302؛ مستدرك الوسائل 1: 228.
3- فرائد الأصول 3: 69.

وإن كان يحتمل قاعدة اليقين، لظهوره[1] في اختلاف زمان الوصفين، وإنما يكون ذلك[2] في القاعدة دون الاستصحاب، ضرورة إمكان اتحاد زمانهما[3]، إلاّ أن

----------------------------------

الاحتمال،فلا يمكن الاستدلال بهما، وذلك لأن قاعدة اليقين هي التيقن بشيء في زمان ثم الشك في زمان آخر بنفس ذلك الشيء، مثلاً: تيقن عدالة زيد يوم الجمعة، ثم يوم السبت يشك في أصل عدالته يوم الجمعة؛ وذلك لشكه في مستند يقينه.

ففي قاعدة اليقين زمان اليقين متقدم وزمان الشك لاحق، وليس كذلك في الاستصحاب، فإنه قد يجتمع اليقين والشك في زمان واحد، مثلاً: لعلك تقول: رأيت زيداً أمس وكان حياً، ولا أدري هل هو حي الآن أم لا؟ فزمان المتيقن والمشكوك مختلف، لكنك الآن جمعت بين اليقين والشك، اليقين بحياته أمس والشك في حياته اليوم، وهذا مورد الاستصحاب.

ولعلك تقول: رأيت شخصاً أمس وتيقنت أنه زيد، والآن طرأ عليّ شك أنه هل كان زيداً أم كان أخاه الذي يشبهه؟ فزمان اليقين والشك مختلف، لكن المتيقن والمشكوك - وهو حياة زيد أمس - واحد، وهذا مورد قاعدة اليقين.

إذ عرفت ذلك قلنا: الرواية هي: (من كان على يقين فأصابه شك)، وفاء العطف للترتيب، أي: كان زمان اليقين سابقاً وزمان الشك لاحقاً، وهذا ينسجم مع قاعدة اليقين - حيث لا يجتمع اليقين والشك في زمان واحد - لا مع قاعدة الاستصحاب.

[1] أي: ظهور هذا الخبر، «الوصفين» أي: اليقين والشك، ومنشأ الظهور هو فاء التفريع.

[2] أي: اختلاف زمان الوصفين - اليقين والشك - هو في قاعدة اليقين، وأما الاستصحاب فيمكن اجتماع الوصفين في زمان واحد، مع اختلاف الموصوفين - أي: المتيقن والمشكوك - .

[3] أي: زمان الوصفين - اليقين والشك - في الاستصحاب.

ص: 12

المتداول[1] في التعبير عن مورده[2] هو مثل هذه العبارة. ولعله[3] بملاحظة اختلاف زمان الموصوفين وسرايته إلى الوصفين لما بين اليقين والمتيقن من نحوٍ من الاتحاد[4]، فافهم[5]. هذا مع وضوح[6] أن قوله: «فإن الشك لا ينقض... إلى آخره» هي القضية المرتكزة الواردة مورد الاستصحاب في غير واحد من أخبار الباب.

----------------------------------

[1] الجواب الأول: وذلك بالاستفادة من صدر الحديث في قوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (من كان على يقين فأصابه شك)، وحاصله: إنه في الاستصحاب وإن اجتمع اليقين والشك في زمان واحد، إلاّ أن الغالب هو حدوث اليقين أولاً ثم حدوث الشك، مثلاً: يتيقن في الصباح بطهارة شيء ثم يشك في الظهر في نجاسته، وهنا وإن اجتمع اليقين والشك في الظهر لكن زمان حدوثهما مختلف.

[2] عن مورد الاستصحاب، «مثل هذه العبارة» أي: (كان على يقين فشك).

[3] أي: لعل تعارف هذا التعبير في الاستصحاب إنما هو بملاحظة أن اليقين هو مرآة للمتيقن، فلذا لا يلاحظ نفس اليقين عادة، فتعارف التعبير عن أحدهما بالآخر.

[4] أي: بنحو المرآتية، فكأنّ اليقين هو المتيقن؛ وذلك للغفلة عن اليقين عادة.

[5] لعله إشارة إلى أن هذا النحو من الاتحاد إن أمكن في اليقين والمتيقن لكنه غير ممكن في الشك والمشكوك؛ إذ ليس الشك مرآة للمشكوك.

أو إشارة إلى أن صحة إرادة الاستصحاب لا توجب صحة الاستدلال بالرواية على الاستصحاب؛ إذ مع احتمال إرادة قاعدة اليقين تصير الرواية مجملة.

[6] الجواب الثاني: وذلك بالاستفادة من آخر الحديث في قوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (فإن الشك لا ينقض اليقين) وقوله: (فإن اليقين لا يدفع بالشك)، وحاصل الجواب: إن هذا التعبير استفيد منه في عدة من روايات الاستصحاب للإشارة إلى القضية المرتكزة في أذهان العقلاء، فلابد من حمل هذه الرواية عليه أيضاً.

ص: 13

ومنها: خبر الصفّار: عن علي بن محمد القاساني. قال: كتبت إليه - وأنا بالمدينة - عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان[1] هل يصام أم لا[2]؟ فكتب: «اليقين لا يدخل فيه الشك، صم للرؤية وافطر للرؤية»(1).

حيث دل[3] على أن اليقين بالشعبان(2)

لا يكون مدخولاً[4] بالشك في بقائه وزواله بدخول شهر رمضان[5]، ويتفرع [عليه] عدم وجوب الصوم إلاّ بدخول شهر رمضان.

وربما يقال[6]:

----------------------------------

مكاتبة القاساني

اشارة

[1] سواء كان من أوله، بأن شك في أنه الثلاثين من شعبان أو الأول من شهر رمضان، أم من آخره بأن شك في أنه آخر شهر رمضان أو أول شوّال.

[2] أي: هل يجب فيه الصوم أم لا؟

[3] وجه الاستدلال أن الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قال: إنّ اليقين بكون الأيام الماضية من شعبان لا يُنقض بالشك بدخول شهر رمضان، بل لابد من إجراء حكم شعبان، وكذا في شهر رمضان وشوال - وهذا هو الاستصحاب - .

[4] أي: منقوضاً، «بقائه» بقاء شعبان، «بدخول» متعلق بقوله: (مدخولاً) أي: لا يكون منقوضاً بالحكم بدخول شهر رمضان.

[5] أي: باليقين بدخول شهر رمضان، حتى يكون نقض اليقين بشعبان باليقين بشهر رمضان.

إشكال

[6] حاصل إشكال المصنف على الاستدلال بالرواية: إن قوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (اليقين) يحتمل أن يراد به اليقين بدخول شهر رمضان، فيكون المعنى: إن وجوب الصوم

ص: 14


1- الاستبصار 2: 64؛ وسائل الشيعة 10: 255.
2- في نسخة: «بشعبان».

إن مراجعة الأخبار الواردة في يوم الشك يشرف القطع[1] بأن المراد باليقين هو اليقين بدخول شهر رمضان، وأنه لابد في وجوب الصوم ووجوب الإفطار من اليقين بدخول شهر رمضان[2] وخروجه، وأين هذا من الاستصحاب؟! فراجع ما عقد في الوسائل[3] لذلك من الباب تجده شاهداً عليه.

ومنها[4]:

----------------------------------

يتوقف على اليقين بدخول شهر رمضان، ووجوب الإفطار يتوقف على اليقين بدخول شوال، ولا يكفي الشك في الدخول، وهذا المعنى أجنبي عن الاستصحاب، بل يتلاءم مع سائر أخبار الباب.

[1] لعلّه سقط من المتن شيء، والمقصود بمراجعة أخبار يوم الشك يشرف الفقيه على القطع بأن... الخ.

[2] عكس المستدل الذي جعله اليقين بشهر شعبان.

[3] كما عن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (إن شهر رمضان فريضة من فرائض الله فلا تؤدوا بالتظني)(1). وكقوله: (صيام شهر رمضان بالرؤية وليس بالظن... الخ)(2).

وكقول الإمام الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، وليس بالرأي ولا بالتظني ولكن بالرؤية)(3)،

وغيرها.

أخبار الحلية والطهارة

اشارة

[4] قد اختلف في دلالة هذه الأخبار على أقوال - ولنتكلم حول الخبر الأول، ومنه يعلم حال الخبرين الآخرين - :

1- إنها دليل قاعدة الطهارة، فقد جعل الشارع كل مشكوك الطهارة طاهراً بحكم ظاهري.

ص: 15


1- وسائل الشيعة 10: 256.
2- وسائل الشيعة 10: 253.
3- وسائل الشيعة 10: 252.

----------------------------------

2- إنها دليل أمرين: القاعدة، والاستصحاب.

3- إنها دليل ثلاثة أمور: القاعدة، والاستصحاب، والحكم الواقعي - أي: طهارة كل شيء واقعاً وحليته واقعاً - .

4- إنها دليل الحكم الواقعي والاستصحاب فقط.

وظاهر المصنف هو اختيار رابع الأقوال، ودليله:

1- إن الموضوع في صدر الرواية (كل شيء طاهر) هو (شيء)، والكلمات موضوعة لمعانيها بما هي هي، لا بما هي معلومة، فالأسد - مثلاً - موضوع للحيوان المفترس الخاص سواء علمنا به أم لا، وليس الوضع لما نتصوره أسداً حتى وإن أخطأنا في تصورنا.

وعليه: ف- (الشيء) في صدر الرواية يراد به: بما هو هو، فمعنى الصدر هو كل شيء - بما هو هو - طاهر، وهذا هو الحكم الواقعي.

2- إن تتمة الرواية (حتى تعلم أنه قذر) غاية للطهارة، ومن المعلوم أن العلم بالقذارة ليس غاية للطهارة الواقعية، بل هو غاية للطهارة الظاهرية، حيث إن غاية الطهارة الواقعية هي ملاقاة النجاسة - مثلاً - سواء علمنا بها أم لم نعلم، أما العلم فهو غاية للطهارة الظاهرية، كما هو واضح.

وبعبارة أخرى: العلم ليس له دخل في الواقع؛ إذ الواقع موجود، سواء علمنا به أم لم نعلم، وإن اخطأ العلم فهو جهل مركب من غير وجود للواقع أصلاً، بل العلم له دخل في الظاهر.

وعليه ف- (حتى تعلم...) يراد به استمرار الطهارة ظاهراً إلى حين العلم بالنجاسة، وهذا الاستمرار هو الاستصحاب.

فتحصل: أن صدر الرواية يدل على الحكم الواقعي بأن خلق الله الأشياء طاهرة واقعاً،تتمة الرواية تدل على الاستصحاب.

ص: 16

قوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «كل شيءٍ طاهر[1] حتى تعلم أنه قذر»(1)،

وقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «الماء كله طاهر حتى تعلم أنه نجس»(2)،

وقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «كل شيءٍ حلال حتى تعرف أنه حرام»(3).

وتقريب دلالة مثل هذه الأخبار على الاستصحاب أن يقال: إن الغاية فيها[2] إنما هو لبيان استمرار ما حكم على الموضوع واقعاً[3] - من الطهارة والحلية - ظاهراً[4] ما لم يعلم بطروء ضده أو نقيضه[5]، لا لتحديد الموضوع[6]، كي يكون[7] الحكم بهما قاعدة مضروبة لما شك في طهارته أو حليته؛ وذلك[8] لظهور

----------------------------------

[1] نص الخبر وهو موثقة عمار: (كل شيء نظيف... الخ).

[2] «فيها» في هذه الأخبار، والغاية هي: (حتى تعلم...).

[3] الحكم الواقعي في صدر الرواية بقوله: (كل شيء نظيف) مثلاً.

[4] متعلق ب- (استمرار) أي: الغاية لبيان استمرار الحكم ظاهراً.

[5] قيل(4):

الحلية والحرمة ضدان لأنها أمران وجوديان، وأما الطهارة فهي عدم النجاسة، فهما نقيضان، فتأمل.

[6] أي: ليست الغاية لتحديد (شيء) وهو الموضوع في صدر الرواية، فلا يراد كل شيء - إلى حين العلم بقذارته - طاهر.

[7] أي: لو كانت الغاية لتحديد الموضوع تكون هذه الأخبار دالة على قاعدة الطهارة والحلية، وهي حكم ظاهري بمعاملة كل شيء على أنه طاهر وحلال.

[8] دليل على أن الغاية ليست لتحديد الموضوع، «المغيّى» الحكم في صدر الرواية وهو الطهارة والحلية، «فيها» في هذه الأخبار.

ص: 17


1- وسائل الشيعة 3: 467، وفيه: «كل شيء نظيف...».
2- وسائل الشيعة 1: 142، وفيه: «حتى تعلم أنه قذر».
3- الكافي 5: 313، مع اختلاف يسير.
4- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 462.

المغيى فيها في بيان الحكم للأشياء بعناوينها[1]، لا بما هي مشكوكة الحكم، كما لا يخفى؛ فهو وإن لم يكن له بنفسه مساسٌ بذيل القاعدة[2] ولا الاستصحاب، إلاّ أنه بغايته[3] دل على الاستصحاب، حيث إنها[4] ظاهرة في استمرار ذاك الحكم الواقعي ظاهراً ما لم يعلم بطروء ضده أو نقيضه.

كما أنه[5] لو صار مغيى لغاية[6] - مثل الملاقاة بالنجاسة أو ما يوجب الحرمة - لدل على استمرار ذاك الحكم[7] واقعاً، ولم يكن له حينئذٍ بنفسه ولا بغايته دلالة

----------------------------------

[1] أي: بما هي هي، فإن الألفاظ موضوعة لحقائق الأشياء، لا للأشياء بما هي معلومة أو مشكوكة، «فهو» أي: المغيّى.

[2] مراد المصنف أن المغيّى - وهو صدر الرواية - لا علاقة له بقاعدة الطهارة والحلية؛ إذ الصدر في بيان الحكم الواقعي، وتعبيره ب- «ذيل القاعدة» مسامحة.

[3] أي: إلاّ أن المغيّى بواسطة الغاية دل على الاستصحاب، ومقصود المصنف: إن الغاية وهي (حتى تعلم...) دلت على استمرار الحكم الظاهري إلى حين حصول العلم بالنجاسة أو الحرمة.

[4] أي: الغاية، و«ظاهراً» قيد للاستمرار، أي: الاستمرار الظاهري للحكم بالطهارة والحلية.

[5] إشارة إلى أن الغاية لو لم تكن (العلم) لكانت دالة على استمرار الحكم الواقعي لا الظاهري، مثلاً: لو كان يقول: (حتى يلاقي النجس) فإن هذه الملاقاة لا ربط لها بالعلم والجهل، فكل ما لاقى النجس - بشروطه - يتنجّس، سواء علمنا بالملاقاة أم لم نعلم، ولكن لما كانت الغاية في الأخبار هي (حتى تعلم...) فإنها دالة على الاستمرار الظاهري.

[6] أي: إن المغيّى - وهو الصدر - لو لحقت به غاية أخرى غير العلم، وقوله: «لغاية» مضاف إلى «مثل الملاقاة...».

[7] من الطهارة والحلية، «له» للمغيّى، «حينئذٍ» حين كون الغاية شيئاً آخر غير العلم.

ص: 18

على الاستصحاب[1].

ولا يخفى[2]: أنه لا يلزم على ذلك[3] استعمال اللفظ في معنيين أصلاً؛ وإنما يلزم[4] لو جعلت الغاية مع كونها من حدود الموضوع وقيوده غاية لاستمرار حكمه،

----------------------------------

[1] إذ يكون كل الخبر - بصدره وتتمته - دالاً على الحكم الواقعي فقط.

إشكال وجوابه

[2] اعلم أن صاحب الفصول - على ما نسب إليه(1)

- قال: إنّ هذه الأخبار تدل على قاعدة الطهارة أو الحلية وعلى الاستصحاب - وهو ثاني الأقوال - . فأشكل عليه الشيخ الأعظم(2):

بأن ذلك يستلزم استعمال لفظ (حتى تعلم) في أكثر من معنى؛ وذلك لأن (حتى تعلم...) أولاً: يكون غاية للقاعدة، أي: كل شيء - حتى تعلم... - طاهر أو حلال، وثانياً: يكون دالاً على استمرار حكم الطهارة والحلية إلى حين العلم - وهو الاستصحاب - وهذا من استعمال اللفظ في أكثر من معنى. وبعبارة أخرى: فإن (حتى تعلم) استعمل في معنيين: حدّ القاعدة، واستمرار الحكم بالاستصحاب، وقد مرّ عدم جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

لكن هذا لا يرد على كلام المصنف؛ لأنه يقول: إنّ صدر الرواية يدل على الحكم الواقعي، وتتمة الرواية - وهي الغاية - تدل على الاستصحاب، فهنا جملتان كل واحدة منهما دلت على معنى، فلم يستلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

[3] أي: على ما اخترناه من دلالة الصدر على الواقع، والتتمة على الاستصحاب.

[4] أي: يلزم استعمال اللفظ في معنيين، بناءً على ما قاله صاحب الفصول، «كونها» كون الغاية، «الموضوع» وهو (شيء)، و«قيوده» عطف تفسيري على «حدود الموضوع»، «غاية» مفعول ثانٍ ل- «جعلت»، «حكمه» حكم الموضوع.

ص: 19


1- فرائد الأصول 3: 74.
2- فرائد الأصول 3: 74.

ليدل على القاعدة والاستصحاب[1] من غير تعرض[2] لبيان الحكم الواقعي للأشياء أصلاً، مع وضوح ظهور مثل «كل شيء حلال أو طاهر» في أنه لبيان حكم الأشياء بعناوينها الأولية[3]، وهكذا «الماء كله طاهر»، وظهور الغاية[4] في كونها حداً للحكم لا لموضوعه، كما لا يخفى، فتأمل جيداً.

ولا يذهب عليك[5] أنه بضميمة عدم القول بالفصل قطعاً بين الحلية والطهارة وبين سائر الأحكام لعم الدليل وتم.

----------------------------------

[1] دلالته على القاعدة بجعل الغاية من قيود الموضوع، ودلالته على الاستصحاب بجعل الغاية دالة على استمرار الحكم إلى حين العلم.

[2] حيث إن القول الثاني - الذي اختاره صاحب الفصول - هو دلالة هذه الأخبار على القاعدة وعلى الاستصحاب، من غير دلالة لها على الحكم الواقعي.

أما مختار المصنف فهو القول الرابع، حيث دل الصدر على الحكم الواقعي ودلت التتمة على الحكم الظاهري.

[3] أي: بما هي هي، لا بما هي معلومة، إذن دل (كل شيء...) على الحكم الواقعي؛ وذلك لما مرّ من أن الألفاظ موضوعة لحقائق الأشياء.

[4] أي: ومع وضوح ظهور الغاية وهي (حتى تعلم...) في أنها حد للحكم الظاهري - وهو الطهارة والحلية - وذلك لأنها مقيدة بالعلم، وليس (العلم) حداً للحكم الواقعي، بل هو حد للحكم الظاهري.

[5] أي: إن قلت: إن دلت الرواية على الاستصحاب فهي دالة عليه في موردين خاصين - هما الحلية والطهارة - فيجري الاستصحاب فيهما فقط.

قلت: بضميمة عدم القول بالفصل يتم المطلوب، وهو حجية الاستصحاب مطلقاً؛ إذ لا يوجد قائل بجريان الاستصحاب فيهما فقط دون سائر المواضيع.

والأولى: الاستدلال بالملاك أو إلغاء الخصوصية.

ص: 20

ثم لا يخفى[1]: أن ذيل موثقة عمار: «فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس عليك»(1) يؤيد[2] ما استظهرنا منها، من كون الحكم المغيى[3] واقعياً ثابتاً للشيء بعنوانه، لا ظاهرياً[4]

----------------------------------

[1] هذا تأييد لكون الخبر ليس لبيان قاعدة الطهارة، بل صدره لبيان الحكم الواقعي، وتتمته لبيان الاستصحاب.

وحاصله: إن لموثقة عمار - وهو الخبر الأول - ذيلاً، وهو قوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (فإذا علمت فقد قذر وما لم تعلم فليس عليك)، والظاهر أن هذا الذيل إنما هو توضيح للغاية من الخبر، وهي (حتى تعلم أنه قذر)، وذلك بتكرار منطوقها وهو (فإذا علمت فقد قذر)، وبيان مفهومها وهو (ما لم تعلم فليس عليك). ولا ربط لهذا الذيل بالمغيّى وهو (كل شيء نظيف)، لأن الذيل بيان لحالة العلم والجهل، فهو يناسب الغاية وهي قوله: (حتى تعلم أنه قذر).

في حين أن الرواية إن كانت لبيان قاعدة الطهارة كان الغاية والمغيّى كلاهما شيئاً واحداً، فلا يناسبه التفريع بالفاء في قوله: (فإذا علمت...).

[2] وإنما اعتبره مؤيداً لأن التفريع على قاعدة الطهارة أيضاً ليس بالبعيد، فيقال هكذا: كل شيء - لا يعلم أنه قذر - طاهرٌ، فإذا علمت بالقذارة فَتَجنَّبه، وإن لم تعلم فلا شيء عليك.

ولكن الأقرب أن الفاء في (فإذا علمت...) هو للتفريع على الغاية فقط، فتأمل.

[3] وهو قوله: (كل شيء نظيف) والمراد به الطهارة الواقعية، وأما قوله: (حتى تعلم...) فهو لبيان حكم ظاهري هو الاستصحاب.

[4] الذي هو مفاد قاعدة الطهارة فيقال: إن (حتى تعلم...) هو قيد للموضوع - وهو شيء - فتكون الموثقة هكذا (كل شيء - حتى تعلم قذارته - فهو طاهر)، «ثابتاً له» للشيء - وهو الموضوع - .

ص: 21


1- وسائل الشيعة 3: 467.

ثابتاً له بما هو مشتبه، لظهوره[1] في أنه متفرع على الغاية وحدها، وأنه بيان لها وحدها منطوقها ومفهومها، لا لها[2] مع المغيى، كما لا يخفى على المتأمل.

ثم إنك إذا حققت ما تلونا عليك مما هو مفاد الأخبار فلا حاجة في إطالة الكلام في بيان سائر الأقوال[3] والنقض والإبرام في ما ذكر لها من الاستدلال.

ولا بأس بصرفه إلى تحقيق حال الوضع[4]

----------------------------------

[1] لظهور الذيل، وهذا بيان التأييد وأن وجه الظهور هو أن الغاية أخذ فيها العلم، والذيل أيضاً بيان لحالة العلم والجهل، «أنه» الذيل، «لها» للغاية.

[2] أي: ليس للذيل ظهور في أنه بيان للغاية مع المغيّى.

[3] أنهاها الشيخ الأعظم في الرسائل(1)

إلى تسعة. وقد ذكر المصنف في ما سبق منها: التفصيل بين الشك في المقتضي والمانع، والتفصيل بين الأحكام والموضوعات، والآن سيذكر المصنف التفصيل بين الأحكام الوضعية والتكليفية، أما سائر الأقوال فقد تبين الإشكال فيها من إقامة الأدلة على حجية الاستصحاب، فلا حاجة إلى ذكرها.

الأحكام الوضعيّة

اشارة

[4] أي: الأحكام الوضعيّة وقد اختلف في الأحكام الوضعية على ثلاثة أقوال:

الأول: وجودها بالاستقلال وبالانتزاع.

الثاني: إنها منتزعة عن الأحكام التكليفية فقط ولا وجود لها بالاستقلال.

الثالث: لا وجود للحكم الوضعي أصلاً، بل هو عبارة عن الحكم التكليفي.

والقول الأول مختار المصنف.

وأما الثاني والثالث فقد يظهران من عبارات الشيخ الأعظم في الرسائل(2)،

فتارة رجح الثاني، وتارة رجح الثالث، وعباراته مضطربة، وكأن المصنف يرى أن اختيار

ص: 22


1- فرائد الأصول 3: 49، 190.
2- فرائد الأصول 3: 130.

وأنه حكم مستقل بالجعل[1] كالتكليف، أو منتزع عنه وتابع له[2] في الجعل، أو فيه تفصيل؟ حتى يظهر[3] حال ما ذكر هاهنا بين التكليف والوضع من التفصيل، فنقول[4] - وبالله الاستعانة -:

لا خلاف - كما لا إشكال - في اختلاف التكليف والوضع مفهوماً[5]، واختلافهما

----------------------------------

الشيخ الأعظم هو القول الثاني.

[1] أي: يُنشؤه الشارع بالاستقلال ومع قطع النظر عن حكم تكليفي آخر.

[2] قوله: «وتابع له» عطف تفسيري على قوله: «منتزع عنه».

ولا يخفى أن هنالك فرقاً بين التابع وبين المنتزع، فالتابع قد يكون له وجود استقلالي؛ ولكن جُعل بسبب جعل المتبوع، وأما المنتزع فلا وجود مستقل له، ومراد المصنف من (التابع) هنا هو نفس المنتزع - أي: ما لا يُجعل استقلالاً - ولا مشاحة في الاصطلاح.

[3] أي: بحث حال الوضع إنما هو ليتضح القول بالتفصيل في الاستصحاب بين الوضع والتكليف.

[4] قدم المصنف مقدمات:

الأولى: إن المعنى الذي ينطبع في الذهن من كلمة (الوضع) يختلف عن كلمة (التكليف)، فبينهما تغاير في المفهوم.

الثانية: إنهما خارجاً قد يجتمعان وقد يفترقان، فبينهما عموم من وجه.

الثالثة: إن الحكم ينقسم إلى التكليفي والوضعي بداهة؛ إذ من معاني الحكم هو الاعتبار الشرعي، وهذا ينطبق عليهما.

الرابعة: قد وقع النزاع في عدد الأحكام الوضعية، ولا فائدة في هذا النزاع، والصحيح أن كل اعتبار شرعي لم يكن من الأحكام الخمسة فهو حكم وضعي.

[5] أي: المعنى المنطبع في الذهن.

ص: 23

في الجملة[1] مورداً[2]، لبداهة[3] ما بين مفهوم السببية أو الشرطية ومفهوم مثل الإيجاب أو الاستحباب من المخالفة والمباينة[4].

كما لا ينبغي النزاع في صحة تقسيم الحكم الشرعي[5] إلى التكليفي والوضعي، بداهة أن الحكم وإن لم يصح تقسيمه إليهما ببعض معانيه ولم يكد يصح إطلاقه على الوضع، إلاّ أن صحة تقسيمه بالبعض الآخر إليهما وصحة إطلاقه عليه بهذا المعنى[6] مما لا يكاد ينكر كما لا يخفى، ويشهد به[7] كثرة إطلاق الحكم عليه في كلماتهم، والالتزام بالتجوز فيه كما ترى.

----------------------------------

[1] فقد يكون تكليف من غير وضع مثل: (وجوب الصلاة). وقد يكون وضع من غير تكليف ك(إتلاف الصبي مال الغير) فهو ضامن غير مكلف.

وقد يجتمعان ك(الإفطار العمدي في شهر رمضان) فهو حرام تكليفاً، وسبب للكفارة وضعاً.

[2] أي: في الوجود الخارجي.

[3] هذا دليل المقدمة الأولى، أي: اختلافها مفهوماً.

[4] ولو كان المفهوم واحداً للزم انطباع شيء واحد في الذهن، وليس كذلك.

[5] وهذه المقدمة الثالثة، أي: إن معنى (الحكم) هو اصطلاح، والاصطلاح يرتبط بجاعله، فبعض معاني الحكم لا ينقسم إليهما، كقولهم: (الحكم هو المجعول اقتضائياً أو تخييرياً)؛ إذ (الاقتضاء) هو الوجوب والحرمة و(التخيير) هو الإباحة والاستحباب والكراهة.

لكن بعض معاني الحكم قابل للتقسيم إليهما، كقولهم: (الحكم هو المجعولات الشرعية).

[6] أي: المعنى الآخر كما ذكرناه في الحاشية السابقة.

[7] أي: بصحة الإطلاق، والمقصود حيث إنه اصطلاح وقد استعمل بكثرة في كلمات الفقهاء فلا بأس به، ولا وجه لحمل إطلاقهم على التجوّز.

ص: 24

وكذا لا وقع[1] للنزاع في أنه محصور في أمور مخصوصة، كالشرطية والسببية والمانعية[2] كما هو المحكي عن العلامة، أو مع زيادة العِلية والعلامية[3]، أو مع زيادة الصحة والبطلان[4] والعزيمة والرخصة[5]، أو زيادة غير ذلك[6] كما هو

----------------------------------

[1] هذه المقدمة الرابعة، «أنه» أن الوضع.

[2] (الشرط): ما له دخل في تأثير السبب في التكليف، كالبلوغ لوجوب الصلاة.

و(السبب): ما فيه اقتضاء التكليف، كزوال الشمس لوجوب الصلاة.

و(المانع) و(الرافع): ما يمنع عن تأثير المقتضي، فإن كان قبل تأثيره سُمّي مانعاً، وإن منعه بعد تأثيره سُمّي رافعاً، كالحيض قبل الوقت وبعده، فهو مانع أو رافع لوجوب الصلاة.

[3] (العِلة): وجود المقتضي وعدم المانع، ففرقه عن السبب أن ذاك كان وجود المقتضي مع قطع النظر عن المانع.

وقيل: السبب ما كان بالاختيار كأسباب الضمان غالباً، والعِلة ما ليس بالاختيار كدخول الوقت.

و(العلامة): ما تكشف عن المقتضي أو العِلّة، كخفاء الجدران والأذان، فهو علامة على قطع المسافة الموجبة للقصر والإفطار للمسافر.

[4] فإنهما حكمان وضعيان، كالصلاة في الثوب الطاهر فإنها صحيحة، والصلاة في الساتر النجس عمداً فهي باطلة.

وقد مرّ أن مطابقة المأتي به للمأمور به هو الصحة، وعدم المطابقة هو البطلان.

[5] لا وجه لجعلهما من الأحكام الوضعية لأنهما من التكليف؛ إذ العزيمة هي (الوجوب والحرمة)، والرخصة هي (الاستحباب والإباحة والكراهة).

[6] كالتقدير، مثل: تقدير الميت بمنزلة الحي في ملكيته للدية لتقسّم على الورثة على طبق سهم كل واحد منهم، وكتقدير الماء - المحتاج إلى شربه - بمنزلة العدم في جواز التيمم.

ص: 25

المحكي عن غيره، أو ليس بمحصور[1]، بل كلّ ما ليس بتكليف[2] مما له دخل فيه، أو في متعلقه وموضوعه[3]، أو لم يكن له دخل مما أطلق عليه الحكم في كلماتهم، ضرورة أنه لا وجه للتخصيص بها[4] بعد كثرة إطلاق الحكم في الكلمات على غيرها، مع أنه لا تكاد تظهر ثمرة مهمة علمية أو عملية للنزاع في ذلك.

وإنما المهم في النزاع هو أن الوضع كالتكليف في أنه مجعول تشريعاً[5] بحيث يصح انتزاعه بمجرد إنشائه، أو غير مجعول كذلك[6]، بل إنما هو منتزع عن التكليف ومجعول بتبعه وبجعله؟

----------------------------------

[1] عطف على قوله: (في أنه محصور في...).

[2] 1- إما له دخل في التكليف، كالزوجية في جواز الوطء، وكالاستطاعة في وجوب الحج.

2- وإما في متعلق التكليف - أي: موضوعه - كالجزئية التي تعلقت بالصلاة المأمور بها.

3- وإما في ما لا دخل له في التكليف، كالنجاسة في ما لا ابتلاء به.

وقد مثلّوا له بالوكالة(1)،

وفيه نظر؛ لأنها تتعلق بالتكليف، كجواز التصرف ضمن حدود الوكالة.

[3] قوله: «وموضوعه» عطف تفسيري على قوله: «في متعلقه».

[4] أي: بهذه المذكورات من السببية والشرطية... الخ، وهذا دليل عدم الحصر.

[5] أي: بالاستقلال، فهو ينتزع من جعل الشارع لمنشئه من غير أن يكون ذلك المنشأ حكماً تكليفياً، كما لو قال الشارع: هذه زوجة، فإنه تنتزع الزوجية من هذا الجعل بالاستقلال من غير توسط حكم تكليفي.

[6] «كذلك» أي: تشريعاً استقلالاً، فلا جعل تشريعي استقلالي.

نعم، قد يكون جعل تكويني بإيجاد منشأ الانتزاع، مثلاً: إيجاد الزوال تكويناً

ص: 26


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 472.

والتحقيق أن ما عُدّ من الوضع على أنحاء:

منها: ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل تشريعاً أصلاً، لا استقلالاً ولا تبعاً[1]، وإن كان[2] مجعولاً تكويناً عرضاً بعين جعل موضوعه كذلك[3].

ومنها: ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل التشريعي إلاّ تبعاً للتكليف[4].

ومنها: ما يمكن فيه الجعل استقلالاً - بإنشائه[5] -، وتبعاً[6] للتكليف - بكونه منشأ لانتزاعه -، وإن كان الصحيح[7] انتزاعه من إنشائه وجعله، وكون التكليف

----------------------------------

فينتزع منه السببيّة لوجوب صلاة الظهر.

أما جعله التشريعي فقد يقال بالجعل التبعي، بمعنى جعل التكاليف، كجواز النظر ووجوب النفقة وحرمة التزوج بالأخت، ونحو ذلك، فينتزع من هذه التكاليف الزوجية التي هي حكم وضعي.

أقسام الوضع
اشارة

[1] كسببيّة الزوال لوجوب الصلاة، فإن الزوال أمر تكويني لا يرتبط بالجعل التشريعي.

[2] أي: وإن كان الوضع مثلاً سببيّة الزوال أمر وضعي مجعول تكويناً بإيجاد الزوال خارجاً. فإيجاد الزوال تكويني استقلالي، وانتزاع السببيّة منه تكويني عرضي.

[3] أي: تكويناً، فإيجاد الزوال تكويناً يستتبع إيجاد السببيّة له تكويناً.

[4] كجزئية السورة للصلاة، فإن أمر الشارع بالصلاة - المركبة من عدة أفعال ومنها قراءة السورة - يستتبع انتزاع الجزئية للسورة.

[5] أي: بإيجاد الوضع استقلالاً، كجعل الملكية والرِقّية ونحوها.

[6] أي: ويمكن فيه الجعل التبعي، بأن يجعل التكليف أولاً، ثم ينتزع منه الوضع.

[7] أي: في هذا القسم يمكن ثبوتاً كلا الأمرين، لكن إثباتاً قد جعل الوضع أولاً ثم تبعه التكليف، والضمائر ترجع إلى الوضع.

ص: 27

من آثاره وأحكامه على ما يأتي الإشارة إليه.

أما النحو الأول[1]: فهو كالسببية والشرطية والمانعية والرافعية[2] لما هو[3] سبب التكليف وشرطه ومانعه ورافعه، حيث إنه لا يكاد[4] يعقل انتزاع هذه

----------------------------------

النحو الأول من الوضع
اشارة

[1] وهو الوضع الذي لا يكون عن طريق التشريع لا استقلالاً ولا بالتبع، فهو كالسببيّة لسبب التكليف، كسببيّة دلوك الشمس لوجوب صلاة الظهر.

وقد استدل المصنف لعدم كونه بالجعل الشرعي بدليلين، أولهما: خاص بالجعل التبعي،ثانيهما: عام للجعل الاستقلالي والتبعي.

[2] قد مرّ آنفاً معنى هذه الكلمات، فالمراد هنا من (سبب التكليف): ما كان علة للتكليف بحيث لا يكون تكليف من دونه، كالدلوك لوجوب صلاة الظهر، و(شرط التكليف): ما كان جزء علة التكليف، كالعقل لوجوب التكاليف و(مانع التكليف): ما يمنع عن أصل التكليف كالحيض قبل الوقت، و(رافع التكليف): ما يزيل التكليف بعد تعلقه، كالحيض بعد الوقت.

[3] أي: السببيّة للسبب، والشرطية للشرط، والمانعية للمانع، والرافعية للرافع، فكل هذه أمور وضعية غير مجعولة.

الدليل الأول

[4] وهذا الدليل خاص بمنع الجعل التبعي وحاصله:

1- إن التكليف متأخر عن هذه الأربعة، فلا وجوب قبل الدلوك، ولا تكليف قبل العقل، ولا تكليف مع المانع والرافع.

2- منشأ الانتزاع متقدم على المنتزع عنه تقدم السبب على مسببه.

3- فلا يعقل انتزاع هذه الأربعة من التكليف؛ لأن ذلك الانتزاع يستلزم تأخرها عنه، وقد بيّنا في المقدمة الأولى أن هذه الأربعة متقدمة على التكليف.

ص: 28

العناوين لها[1] من التكليف المتأخر عنها ذاتاً[2] حدوثاً أو ارتفاعاً[3]؛ كما أن اتصافها بها[4]

----------------------------------

[1] العناوين هي: السببيّة والشرطية والرافعية والمانعية، «لها» أي: للسبب والشرط والرافع والمانع.

[2] أما تأخر التكليف عن السبب فلأنّ السبب علة والتكليف معلول.

وأما تأخره عن الشرط فلأنّ شرط التكليف هو جزء العلة.

وأما تأخره عن المانع فلأنّ المانع متقدم على عدم التكليف، فيكون متقدماً على التكليف أيضاً؛ لأن التكليف وعدم التكليف متناقضان وهما في رتبة واحدة، فالمتقدم على أحدهما متقدم على الآخر.

وأما تأخره عن الرافع فلأنّ الرافع متقدم على عدم التكليف بقاءً، فيكون متقدماً على التكليف بقاءً أيضاً؛ لأنهما نقيضان.

[3] حدوث التكليف متأخر عن السبب والشرط، وارتفاع التكليف متأخر عن المانع والرافع. وقيل(1):

حدوث التكليف متأخر عن المانع أيضاً، وفيه نظر.

الدليل الثاني

[4] أي: اتصاف السبب وأخواته بالسببية وأخواتها، وهذا الدليل شامل للجعل التبعي والاستقلالي.

وحاصل هذا الدليل: هو أن العِليّة إنما هي لأجل ارتباط تكويني بين العِلة والمعلول، ويعبر عن هذا الارتباط بالخصوصية الموجودة في العلة، التي تستدعي صدور المعلول عنها، ولو لا هذه الخصوصية لأمكن صدور كل شيء من كل شيء.

بيانه: إنا نرى صدور الحرارة من النار، ولا نجد صدور البرودة منها، ولا صدور الحرارة من الثلج مثلاً، وليس ذلك إلاّ لوجود خصوصية في النار تستدعي

ص: 29


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 475.

ليس إلاّ لأجل ما عليها من الخصوصية[1] المستدعية لذلك تكويناً، للزوم أن يكون في العلة بأجزائها[2] ربط خاص به[3] كانت مؤثراً في معلولها، لا في غيره[4]، ولا غيرها فيه، وإلاّ[5] لزم أن يكون كل شيء مؤثراً في كل شيء. وتلك الخصوصية[6] لا يكاد توجد فيها[7] بمجرد إنشاء مفاهيم العناوين ومثل قول[8]: (دلوك الشمس

----------------------------------

صدور الحرارة منها لا غير، وعدم وجود تلك الخصوصية في الثلج.

وفي ما نحن فيه: لمّا وجدنا الدلوك سبباً لوجوب صلاة الظهر علمنا بأنه واجد تكويناً لخصوصية ربطت بينه وبين الوجوب، وهذه الخصوصية أمر تكويني؛ لأن أحكام الشارع تابعة للملاكات - من المصالح والمفاسد - الموجودة في المواضيع، وحيث إنها أمر تكويني فلا تنالها يد التشريع. نعم، يمكن إيجاد الدلوك تكويناً فيوجد الوجوب قهراً.

[1] «ما» موصولة، وبيانها في قوله: «من الخصوصية»، «عليها» أي: في هذه الأربعة - السبب والشرط والمانع والرافع - و«المستدعية» تلك الخصوصية، «لذلك» أي: لذلك التكليف.

[2] أي: مع أجزائها، وهي ما لها دخل في العِلة، كالشرط وعدم المانع ونحوهما.

[3] «به» بذلك الربط الخاص، «كانت» العِلّة.

[4] كتأثير النار في الإحراق، «ولا غيرها فيه» كتأثير الثلج في الإحراق - مثلاً - .

[5] أي: إن لم يكن الربط الخاص بين العلة والمعلول تكويناً لزم... الخ.

[6] أي: لما كانت تلك الخصوصية تكوينية مرتبطة بذات العلة والمعلول لم يكن للتشريع دخل فيها؛ لأنه اعتبار، فلا يمكن إيجادها بإنشاء السببية والشرطية... الخ.

[7] أى: في العلة، «العناوين» كالسببية... الخ.

[8] عطف تفسيري لبيان «إنشاء مفاهيم العناوين».

ص: 30

سبب لوجوب الصلاة) إنشاءً لا إخباراً[1]، ضرورة بقاء الدلوك على ما هو عليه قبل إنشاء السببية له[2] من كونه واجداً لخصوصية مقتضية لوجوبها[3] أو فاقداً لها، وإن الصلاة لا تكاد تكون واجبة عند الدلوك ما لم يكن هناك ما يدعو إلى وجوبها[4]، ومعه[5] تكون واجبة لا محالة وإن لم ينشأ السببية للدلوك أصلاً.

ومنه[6] انقدح أيضاً عدم صحة انتزاع السببية له[7] حقيقة من إيجاب[8] الصلاة

----------------------------------

[1] لأنه لا بأس بالإخبار، فإنه كاشف عن الأمر التكويني، لكنه ليس إيجاداً لذلك الأمر.

فنخبر - مثلاً - عن أن الشمس سبب النهار، لا أنا نجعل السببيّة بقولنا هذا.

[2] أي: للدلوك، وقوله: «من كونه...» بيان لقوله: «ما هو عليه».

[3] «لوجوبها» لوجوب الصلاة، «فاقداً لها» للخصوصية.

[4] «وجوبها» وجوب الصلاة، و«ما يدعو» هو الخصوصية - التي هي الملاك - .

[5] أي: مع وجود ما يدعو - وهو الملاك - «تكون» الصلاة واجبة سواء أمر بها الشارع أم لم يأمر؛ لأن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية، فإذا وجد الملاك ثبت التكليف واقعاً. نعم، قد لا نعلم بالملاك فيخبرنا الشارع به، وإن علمنا بالملاك - كالمستقلات العقلية - لم يكن حاجة إلى ذلك الإخبار إلاّ إرشاداً.

[6] أي: من بيان عدم إمكان الجعل الاستقلالي التشريعي تبين أن الجعل التبعي تشريعاً أيضاً غير ممكن.

والغرض هو أن هذا الدليل الثاني كما يجري في الجعل الاستقلالي كذلك يجري في الجعل التبعي.

[7] «له» للدلوك - في المثال - وقوله: «حقيقة» قيد للانتزاع، أي: لا انتزاع حقيقي. نعم، لا بأس بالعناية والمجاز - كما سيأتي - .

[8] أي: لا انتزاع حقيقي من التكليف - بوجوب الصلاة عند الدلوك - فإنه

ص: 31

عنده، لعدم اتصافه بها بذلك[1] ضرورة.

نعم[2]، لا بأس باتصافه بها[3] عنايةً، وإطلاق السبب عليه مجازاً. كما لا بأس[4] بأن يعبر عن إنشاء وجوب الصلاة عند الدلوك - مثلاً - بأنه سبب لوجوبها[5]، فكنّي به عن الوجوب عنده.

فظهر بذلك: أنه لا منشأ لانتزاع السببية وسائر ما لأجزاء العلة للتكليف[6] إلاّ عما[7]

----------------------------------

مضافاً إلى الإشكال الأول - من تأخر الشيء عن نفسه - يرد هذا الإشكال الثاني أيضاً.

[1] «اتصافه» اتصاف الدلوك، «بها» بالسببية، «بذلك» أي: بإيجاب الصلاة عنده.

[2] أي: لو لم يكن للدلوك خصوصية توجب كونه سبباً، ثم رأينا الشارع ربط الوجوب بالدلوك، فنقول: إنه تعبير مجازي يراد به بيان تقارنهما في الوجود وعدم انفكاكهما، كما أن السبب والمسبب لا ينفكان أبداً.

[3] «اتصافه» الدلوك، «بها» بالسببيّة.

[4] دفع إشكال وحاصله:

إن قلت: عبارة الشارع (أقم الصلاة لدلوك...) ظاهرة في السببية الحقيقية.

قلت: هذا مجاز، ولا بأس به؛ إذ لو تقارن شيئاًن دائماً فقد يصح التعبير عن أحدهما بأنه سبب للآخر مجازاً.

[5] بأن الدلوك سبب لوجوب الصلاة، «به» بلفظ السبب، «عنده» عند الدلوك، والكناية لأجل شباهة الدلوك بالسبب؛ لتلازمه الدائم مع الوجوب.

[6] أي: لا منشأ لانتزاع السببية، ولا انتزاع الشرطية والرافعية والمانعية التي هي أجزاء علة الوجوب.

[7] أي: لا تنتزع إلاّ عن أشياء فيها الخصوصية المذكورة، «عمّا» الموصول شرحه في «من الخصوصية»، و«هو» أي: التكليف، «عليها» يرجع إلى الموصول،

ص: 32

هو عليها من الخصوصية الموجبة لدخل كلٍّ فيه[1] على نحو غير دخل الآخر، فتدبر جيداً.

وأما النحو الثاني[2]: فهو كالجزئية والشرطية والمانعية والقاطعية[3] لما هو جزء

----------------------------------

وتأنيثه باعتبار معنى الموصول وهو الخصوصية.

[1] أي: كل واحد من الأربعة المذكورات، «فيه» أي: في التكليف.

النحو الثاني من الوضع
اشارة

[2] وهو الحكم الوضعي الذي لا يمكن جعله التشريعي استقلالاً، مع إمكان جعله تبعاً للأحكام التكليفيّة، مثلاً: يأمر المولى بالصلاة المركبة من عدة أجزاء، فتنتزع الجزئية من كل جزء جزء، ولو لا أمر الشارع بالصلاة المركبة لما أمكن اعتبار الجزئية، فحتى لو قال: (الشيء الفلاني جزء) فإنه لا تتحقق الجزئية إلاّ بعد الأمر بذلك الجزء.

[3] الفرق بين الشرطية والمانعية المذكورة في النحو الأول مع الشرطية والمانعية في هذا النحو، هو أن النحو الأول كان الشرطية والمانعية لأصل التكليف كالوجوب، وكذا السببيّة والرافعيّة. أما في النحو الثاني فالشرطية والمانعية للمأمور به كالصلاة، وكذا الجزئية والقاطعية، فالاستطاعة شرط لأصل وجوب الحج، والوضوء شرط للصلاة لا شرط لوجوبها، فمن لم يستطع لا يجب عليه الحج، والصلاة واجبة سواء توضأ أم لا، لكن شرط صحة الصلاة هو الوضوء.

مثال الجزئية: السورة للصلاة، والشرطية: كالوضوء لها، والمانعية: كأجزاء ما لا يؤكل لحمه في الصلاة، والقاطعية: كالحدث في الصلاة.

والفرق بين القاطع والمانع هو أن المانع هو ما لا تصح الأجزاء معه، ولكنه لا يقطع الاتصال، فمن وقع عليه شعر قطة وهو في الصلاة يزيلها ويستمر في صلاته.

والقاطع هو ما يقطع الاتصال، فلا تكون للأجزاء اللاحقة قابلية الاتصال

ص: 33

المكلف به وشرطه ومانعه وقاطعه، حيث إن[1] اتصاف شيء بجزئية المأمور به أو شرطيته أو غيرهما لا يكاد يكون إلاّ بالأمر بجملة أمور[2] مقيدة بأمر وجودي[3] أو عدمي[4]، ولا يكاد يتصف شيء بذلك - أي كونه جزءاً أو شرطاً[5] للمأمور به - إلاّ بتبع ملاحظة الأمر[6] بما يشتمل عليه[7] مقيداً بأمرٍ آخر[8]، وما لم يتعلق بها الأمر كذلك[9]

----------------------------------

بالسابقة، فمن أحدث في وسط الصلاة بطلت حتى وإن توضأ فوراً؛ إذ بالحدث ينقطع الاتصال بين الأجزاء نهائياً.

[1] بيان لوجه عدم إمكان الجعل التشريعي الاستقلالي في هذه الموارد.

[2] أي: وجودات منفصلة تجتمع فيتألف منها المركب المأمور به، وهي ما يعبّر عنها بالأجزاء.

[3] وهو ما يعبّر عنه بالشرط، فهو ما يتوقف وجود المأمور به عليه، لكنه ليس من أجزاء المأمور به. ولذا قالوا(1):

الشرط هو ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود.

[4] أي: عدم القاطع والمانع، فالصلاة متوقفة على عدم لبس جلد غير المأكول، وعدم الحدث مثلاً.

[5] وكذا مانعاً وقاطعاً.

[6] لأن المفروض أنه جزء المأمور به لا جزء شيء آخر، وكذا هو شرط المأمور به لا شرط شيء آخر، والمأمور به متوقف على الأمر، فلو لا الأمر لم يتحقق المأمور به.

[7] أي: مع ما يشتمل عليه الأمر - وهي الأجزاء - لأن الأمر ينبسط ويتوزع على الأجزاء كلها - كما مرّ تفصيله - .

[8] أي: مقيداً بالشرط، وهكذا الأمر في المانع والقاطع، فالأمر مقيد بعدمها.

[9] «بها» بالأجزاء والشرائط وكذا عدم الموانع والقواطع، «كذلك» أي: في

ص: 34


1- هداية المسترشدين 2: 93؛ بدائع الأفكار: 299.

لما كاد اتصف بالجزئية أو الشرطية[1]، وإن أنشأ الشارع له الجزئية أو الشرطية.

وجعل الماهية[2] واختراعها ليس[3] إلاّ تصوير ما فيه المصلحة المهمة[4] الموجبة للأمر بها؛ فتصورها بأجزائها وقيودها لا يوجب اتصاف شيء منها بجزئية المأمور به أو شرطه قبل الأمر بها[5].

فالجزئية للمأمور به أو الشرطية له إنما ينتزع لجزئه أو شرطه بملاحظة الأمر به[6]

----------------------------------

ضمن مركب ذي أجزاء وشرائط.

[1] أي: للمأمور به.

إشكال وجوابه

[2] هنا إشكال، وحاصله: إنه يمكن للشارع اختراع ماهية اعتبارية قبل أن يأمر بها، فيمكنه جعل أجزاء فيها، فتنتزع الجزئية من هذا الجعل، وقد اشتهر بأن الصلاة من الماهيات الشرعية المخترعة، فما دامت الصلاة مجعولة فأجزاؤها أيضاً مجعولة، ثم يأمر بهذه الماهية المركبة، فلم تتوقف الجزئية على الأمر، بل كانت سابقة عليه؛ وذلك لأن هذا المركب هو الموضوع للأمر، ومن المعلوم تقدم الموضوع على الحكم، حيث لا يأمر الشارع بأمر مبهم، بل يعيّن الموضوع ثم يأمر به. فتحصل: أن الشارع يخترع الموضوع ذي الأجزاء فتنتزع الجزئية منه ثم يأمر به، فلم تتوقف الجزئية على الأمر، بل هي سابقة عليه.

والجواب: إن كلامنا إنّما في الجزئية للمأمور به، لا الجزئية لأمر ذهني اعتباري.

[3] هذا هو الجواب.

[4] أي: إيجاد هذا المركب في وعاء الاعتبار، بحيث يمكن للناس تصوره.

[5] بل هي أجزاء للماهية المتصورة، لا أجزاء للمأمور به - حيث لا أمر أصلاً - .

[6] أي: لمّا يأمر الشارع بالمركب ننتزع الجزئية لكل جزء، وكذا ننتزع الشرطية لكل شرط.

ص: 35

بلا حاجة إلى جعلها له[1]؛ وبدون الأمر به[2] لا اتصاف بها أصلاً، وإن اتصف بالجزئية أو الشرطية للمتصور[3] أو لذي المصلحة، كما لا يخفى.

وأما النحو الثالث[4]: فهو كالحجية[5]

----------------------------------

[1] لأنها أمور انتزاعية، ويكفي في انتزاعها وجود منشأ الانتزاع، فلا حاجة لجعل الزوجية للأربعة، بل بمجرد وجود الأربعة ينتزع منها الزوجية، «جعلها» الجزئية والشرطية ونحوها، «له» لجزء المأمور به أو شرطه أو نحوهما.

[2] أي: بدون الأمر بالمأمور به - كالصلاة - لا اتصاف لأجزاء الماهية وشرائطها، «بها» بالجزئية أو الشرطية أو نحوها.

[3] أي: الماهية المتصورة - بالاعتبار - ، «أو لذي المصلحة» أي: أجزاء وشرائط المركب الاعتباري الذي له مصلحة ليست أجزاء وشرائط للمأمور به، وكلامنا في أجزاء المأمور به وشرائطه ونحوهما.

النحو الثالث من الوضع
اشارة

[4] وهو ما يمكن فيه الجعل الاستقلالي والجعل التبعي، وهذا في مرحلة الثبوت.

وأما في مرحلة الإثبات: فإن الظاهر هو الجعل الاستقلالي لثلاث جهات سيذكرها المصنف.

قيل(1): وضابط هذا القسم هو كل أمر اعتباري له أثر شرعاً وعرفاً، فيمكن جعل الأثر أولاً ثم انتزاع ذلك الاعتبار، ويمكن جعل الاعتبار أولاً ثم تفريع الآثار عليه.

[5] وهي ما يوجب احتجاج العبد على المولى وبالعكس، فلو جعل المولى خبر الواحد حجة فيحتج به العبد لو عمل به، ويحتج به المولى لو لم يعمل به.

فقد يقول الشارع: (خبر الواحد حجة) ويتفرع عليه وجوب العمل طبقه، وقد يقول: (اعمل طبق خبر الواحد) فينتزع منه الحجية.

ص: 36


1- منتهى الدراية 7: 277.

والقضاوة[1] والولاية[2] والنيابة والحرية والرقية والزوجية والملكية إلى غير ذلك[3]، حيث إنها وإن كان من الممكن[4] انتزاعها من الأحكام التكليفية التي تكون في مواردها[5] - كما قيل - ومن[6] جعلها بإنشاء أنفسها، إلاّ[7] أنه لا يكاد يشك[8] في صحة انتزاعها من مجرد جعله «تعالى» أو من بيده الأمر من قبله[9] «جل

----------------------------------

[1] فقد يقول: (جعلته عليكم قاضياً) ويتفرع عليه وجوب الترافع إليه ووجوب قبول حكمه، وقد يكون العكس.

[2] وهي حق التصرف في الأمور العامة أو الخاصة، فقد تجعل ابتداء ويتفرع وجوب إطاعته ونفوذ أمره، وقد يكون العكس.

[3] كالبينونة بالطلاق، والضمان بالإتلاف، وغيرهما كثير.

[4] في مرحلة الثبوت.

[5] لأنه ما من حكم وضعي إلاّ ومعه أحكام تكليفية، «كما قيل» والقائل هو الشيخ الأعظم(1).

[6] عطف على (انتزاعها من الأحكام...) أي: ومن الممكن أيضاً جعلها بالاستقلال.

[7] هذا شروع لبيان مرحلة الإثبات، وأن الأدلة قامت على أن الشارع جعل الوضع أولاً، وبتبعه كانت الأحكام التكليفيّة، وقد ذكر المصنف أربعة أدلة:

الدليل الأول

[8] حاصله: إنه لا داعي لتأويل كلام الشارع، وصرفه عن ظاهره، فحينما يقول: (جعلته قاضياً) العبارة ظاهرة في الجعل الاستقلالي، فتأويله بأنه جعل تبعي خلاف الظاهر، فلا يصار إليه.

[9] كالنبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ والأئمة عَلَیْهِمُ اَلسَّلاَمُ، «لها» أي: لهذه المذكورات - كالحجية والقضاوة... الخ - .

ص: 37


1- فرائد الأصول 3: 126.

وعلا» لها بإنشائها بحيث[1] يترتب عليها آثارها، كما يشهد به[2] ضرورة صحة انتزاع الملكية والزوجية والطلاق والعتاق بمجرد العقد أو الإيقاع[3] ممن بيده الاختيار بلا ملاحظة[4] التكاليف والآثار، ولو كانت منتزعة[5] عنها لما كاد يصح اعتبارها إلاّ بملاحظتها، وللزم[6]

----------------------------------

[1] أي: إنشاؤها الاستقلالي بحيث تكون الأحكام تابعة.

الدليل الثاني

[2] حاصله: إنه يمكن انتزاع هذه الأمور بمجرد جعل الشارع من غير ملاحظة التكاليف أصلاً، أما لو كانت منتزعة من التكاليف لما أمكن انتزاعها إلاّ بعد ملاحظة التكاليف، كما لا يمكن انتزاع الزوجية إلاّ بعد ملاحظة الأربعة.

مثلاً: يمكن انتزاع الملكية بمجرد عقد البيع حتى مع الغفلة عن أحكام الملكية كلياً. وهكذا يمكن انتزاع الزوجية من مجرد عقد النكاح حتى مع عدم ملاحظة جواز المباشرة والنظر ووجوب النفقة... الخ.

[3] (العقد) في الملكية والزوجية؛ لأن قوام العقد بالطرفين وبالإيجاب والقبول.

و(الإيقاع) في الطلاق والعتاق؛ لأن قوامه بطرف واحد فقط، سواء علم الآخر أم لا.

[4] أي: يصح الانتزاع بلا ملاحظة... الخ.

[5] أي: هذه الأمور لو كانت منتزعة عن التكليف لما أمكن انتزاعها من غير ملاحظة التكاليف؛ لأنه لا يمكن تصور المنتزع إلاّ بعد تصور منشأ الانتزاع كزوجية الأربعة، «اعتبارها» اعتبار هذه الأمور كالملكية والزوجية... الخ، «بملاحظتها» أي: بملاحظة التكاليف.

الدليل الثالث

[6] المتعاقدان غالباً يقصدان تحقق البيع مع الغفلة عن الأحكام، والشارع يحكم بالصحة، فعلى القول بانتزاع الوضع عن التكليف يلزم:

ص: 38

أن لا يقع ما قصد[1]، ووقع ما لم يقصد[2].

كما لا ينبغي[3] أن يشك في عدم صحة انتزاعها[4] عن مجرد التكليف في موردها، فلا ينتزع الملكية عن إباحة التصرفات، ولا الزوجية من جواز الوطء، وهكذا سائر الاعتبارات في أبواب العقود والإيقاعات.

فانقدح بذلك[5] أن مثل هذه الاعتبارات إنما تكون مجعولة بنفسها، يصح انتزاعها بمجرد إنشائها كالتكليف، لا مجعولة بتبعه ومنتزعة عنه.

----------------------------------

1- أن لا يقع ما قصدا؛ لأن قصدهما البيع، وهو لم يتحقق؛ إذ لا حكم وضعي على هذا المبنى.

2- وأن يقع ما لم يقصدا؛ لأنهما كانا غافلين عن الأحكام ولم يقصداها، ولكن الشارع رتب هذه الأحكام.

[1] لأنهما قصدا البيع مثلاً، وهذا المبنى - بإنكار الحكم الوضعي - يقول بعدم تحققه، بل تحقق الأحكام.

[2] لم يقصدا الأحكام - لغفلتهما عنها - لكن الشارع حكم بوقوعها وتحققها.

الدليل الرابع

[3] حاصله: إن هناك موارد تجري فيها الأحكام مع عدم صحة انتزاع الوضع منها، مثلاً: الشارع أباح التصرف في المباحات الأصلية كالأنهار والبحار والغابات ونحوها، فتجوز جميع التصرفات - كتصرف المالك في ملكه - مع عدم كونها ملكاً، ولو كانت منتزعة عن الأحكام للزم انتزاعها من إباحة التصرفات، وهكذا قد يجوز وطء الأمة بالتحليل مع عدم كونها زوجة.

[4] أي: انتزاع هذه المذكورات - كالحجية والقضاوة... الخ - .

[5] بالوجوه الأربعة التي ذكرناها، «مجعولة بنفسها» في مرحلة الإثبات، «انتزاعها» هذه الاعتبارات.

ص: 39

وهم ودفع[1]: أما الوهم: فهو أن الملكية كيف جعلت من الاعتبارات الحاصلة

----------------------------------

وهم ودفع

[1] حاصل الإشكال: إنكم ذكرتم أن الملكية من المجعولات الشرعية، والحال أنها إحدى المقولات العشر التكوينية فلا ينالها يد التشريع أصلاً.

وحاصل الجواب: إن الملك يطلق على أمرين:

1- مقولة (الجِدة) وهي إحدى المقولات العشر، وهذا أمر تكويني.

2- اختصاص شيء بشيء، وهذا أمر يمكن فيه الجعل الاعتباري بالعقد ونحوه.

ثم إن المصنف ذكر هنا عدة مصطلحات لا بأس بالإشارة إليها مختصراً.

الأول: إن المقولات عشر - وهي الأجناس العالية - أحدها الجوهر، وهو الوجود القائم بنفسه، وتسعة هي الأعراض، وهي وجودات قائمة بغيرها، وهي: الكم، والكيف، والأين، ومتى، والإضافة، والفعل والانفعال، والملك، والوضع.

وجمعت الأعراض التسعة في هذا البيت:

كمٌ، وكيفٌ،

وضعٌ، أينٌ، له، متى

فعلٌ،

مضافٌ، وانفعال ثبتا(1)

الثاني: الملك، ويقال له الجدة، يطلق على نسبة الجسم إلى حاوٍ له، أو لبعض أجزائه، كالتسلح والتختم، فمنه ذاتي كحال الهرة عند إهابها [أي: جلدها]، ومنه عرضي كبدن الإنسان عند قميصه.

وفرقه عن (الأين) أن الأين لا ينتقل مع الجسم كالحيّز، ولكن في (الملك) ينتقل معه، ولذا قيل: الملك نسبة الجسم إلى ما يشمله ويلزمه في الانتقال، وللتفصيل راجع شرح التجريد للعلامة الحلي وحواشيه(2).

الثالث: العرض: إما (محمول بالضميمة)، وهو ما توقف انتزاعه على انضمام شيء، كتوقف انتزاع الأبيض من الجسم على انضمام البياض إليه.

ص: 40


1- شرح المنظومة 2: 137.
2- كشف المراد: 261.

بمجرد الجعل والإنشاء التي تكون من خارج المحمول[1]، حيث ليس بحذائها في الخارج شيء، وهي[2] إحدى المقولات المحمولات بالضميمة التي لا تكاد تكون

----------------------------------

وإما (خارج محمول) وهو ما لا يتوقف على انضمام شيء إلى الموضوع، كانتزاع الإمكان من الجسم، وكانتزاع العالي والسافل.

الرابع: منشأ الملك - بمعنى اختصاص شيء بشيء - :

1- إما لتوقف وجود شيء على شيء، كتوقف وجود العالَم على الباري تعالى، وهذا أمر تكويني.

2- وإما لاستعمال الشيء والتصرف فيه، كما لو حاز المباحات فملكها.

3- وإما لإنشاء الملك بالعقد ونحوه.

4- وإما لسبب قهري، كموت المورث فيملك الوارث التركة.

الخامس: الإضافة قد تكون إشراقية وقد تكون مقولية.

والإشراقية: هي إفاضة الوجود على شيء والقيمومية عليه، وهذا مختص بالله سبحانه تعالى.

والمقولية: وهي حصول الربط الخاص بين المالك والمملوك بالعقد والتصرف والإرث ونحوه، وهذه من مقولة الإضافة الاعتبارية لا الإضافة التكوينية؛ ولذا تسمى بالإضافة المقوليّة.

[1] أي: الاعتبارات هي من خارج المحمول، وفسّر المصنف «خارج المحمول» بقوله: «حيث ليس بحذائها في الخارج شيء».

[2] أي: والحال أن (الملك) من المقولات العشر، وهي أمور تكوينية خارجيّة، حيث لابد من إحاطة شيء بشيء خارجاً لتحقق هيئة خاصة يعبر عنها بالجِدة والملك.

ص: 41

بهذا السبب[1]، بل بأسباب أخر كالتعمم والتقمص والتنعل[2]، فالحالة الحاصلة منها للإنسان هو الملك، وأين هذه من الاعتبار الحاصل بمجرد إنشائه؟

وأما الدفع فهو: أن الملك يقال بالاشتراك على ذلك - ويسمى بالجدة أيضاً - واختصاص[3] شيء بشيء خاص؛ وهو[4] ناشئ إما من جهة إسناد وجوده إليه[5]، ككون العالم ملكاً للباري «جل ذكره»، أو من جهة الاستعمال والتصرف فيه[6]، ككون الفرس لزيد بركوبه له وسائر تصرفاته فيه، أو من جهة إنشائه والعقد مع من اختياره بيده[7]، كملك الأراضي والعقار البعيدة[8] للمشتري بمجرد عقد البيع شرعاً وعرفاً. فالملك الذي يسمى بالجدة أيضاً غير الملك الذي هو اختصاص

----------------------------------

[1] أي: بالاعتبارات، «بأسباب آخر» تكوينية.

[2] فهي هيئة حاصلة من إحاطة العمامة والقميص والنعل ببعض الإنسان وتنتقل بانتقاله.

[3] أي: وعلى اختصاص شيء بشيء، بل الصحيح إن الملك هو الهيئة الحاصلة بين المالك والمملوك، فقد تكون تكوينية تسمى بالجدة، وقد تكون اعتبارية وادعائية وهي اختصاص شيء بشيء.

[4] أي: اختصاص شيء بشيء.

[5] أي: في إيجاده واستمراره متوقف على المُوجد الذي أوجده بإرادته واختياره، وهذا الاختصاص أمر تكويني أيضاً.

[6] فإن الاستعمال والتصرف - في المباحات الأصلية - قد يوجب الملكية - بمعنى اختصاصها بمالكها - .

[7] أي: اختيار العقد بيده كالمالك أو الوكيل أو الولي.

[8] إنما قيده بالبعيدة لكي يظهر الاعتبار أكثر، فإنه لا إحاطة ولا سيطرة عليها حين العقد، ومع ذلك أصبحت ملكاً بمعنى الاختصاص.

ص: 42

خاص ناشئ من سبب اختياري كالعقد، أو غير اختياري[1] كالإرث، ونحوهما من الأسباب الاختيارية وغيرها.

فالتوهم إنما نشأ من إطلاق الملك على مقولة الجدة أيضاً، والغفلة عن أنه بالاشتراك بينه[2] وبين الاختصاص الخاص[3] والإضافة الخاصة الإشراقية كملكه «تعالى» للعالم، أو المقولية كملك غيره لشيء بسبب من تصرف واستعمال أو إرث أو عقد أو غيرها من الأعمال؛ فيكون شيء ملكاً لأحد بمعنى ولآخر بالمعنى الآخر[4]، فتدبر.

إذا عرفت اختلاف الوضع في الجعل[5]، فقد عرفت أنه لا مجال لاستصحاب

----------------------------------

[1] وهذا القسم الرابع، ولو كان يقدمه ويذكره بعد قوله: (شرعاً وعرفاً) لكان أولى.

[2] بين الملك بمعنى مقولة الجدة.

[3] وشرح المصنف «الاختصاص الخاص» بقوله: «والإضافة الخاصة الإشراقية... أو غيرها من الأعمال». فالاختصاص الخاص قد يكون بنحو الإضافة الإشراقية، وقد يكون بنحو الإضافة المقوليّة.

[4] فهذه الأرض ملك لله تعالى بمعنى إيجاده وقيموميته وهذا ملك حقيقي، وملك لزيد أيضاً بمعنى حقه في التصرف والاستعمال، وهذا ملك اعتباري.

الاستصحاب في الأحكام الوضعية

[5] وأنه على أنحاء ثلاثة، فقد عرفت عدم إمكان إجراء الاستصحاب في القسم الأول؛ لأنه أمر تكويني وليس أمراً شرعياً، ولا يلزمه أمر شرعي، فالدلوك سبب تكويني لوجوب صلاة الظهر، وهذا الوجوب ليس حكماً شرعياً، بل هو معلول لعلته التكوينية!!

وعرفت أيضاً إمكان إجراء الاستصحاب في القسم الثالث؛ لأنه مجعول شرعاً،

ص: 43

دخل ما له الدخل في التكليف[1] إذا شك في بقائه على ما كان عليه من الدخل، لعدم[2] كونه حكماً شرعياً، ولا يترتب عليه أثر شرعي؛ والتكليف[3] وإن كان مترتباً عليه إلاّ أنه ليس بترتب شرعي، فافهم[4].

وأنه لا إشكال[5] في جريان الاستصحاب في الوضع المستقل بالجعل حيث إنه كالتكليف[6].

وكذا[7] ما كان مجعولاً بالتبع، فإن أمر وضعه ورفعه بيد الشارع ولو بتبع منشأ انتزاعه[8].

----------------------------------

وإمكان إجرائه في القسم الثاني؛ لأنه مجعول بالتبع.

[1] وهو النحو الأول.

[2] بيان لعدم جريان الاستصحاب، «كونه» كون ما له دخل في التكليف.

[3] أي: إن قلت: يترتب على سببية الزوال وجوب صلاة الظهر وهو حكم شرعي.

قلت: هذا الوجوب معلول لتلك الخصوصية، فهو ليس وجوباً شرعياً، بل أمر تكويني!!

[4] لعله إشارة إلى غرابة هذا الأمر، لأن - وكما مرّ - الخصوصية هي الملاك، والملاك من مقدمات الحكم، وليس العلة التامة للحكم، بل بعد الملاك لابد من إرادة ثم إنشاء ليتولد الحكم، فمع عدم الإرادة والإنشاء لا يكون حكم، بل يوجد ملاك فقط. نعم، المولى لحكمته يريد ويُنشئ في ما فيه الملاك، فالحكم صار بسبب الشارع لا بأمر تكويني فقط.

[5] أي: في النحو الثالث لا محذور من إجراء الاستصحاب؛ إذ هو مجعول شرعي.

[6] أي: مجعول شرعي، فتشمله أدلة الاستصحاب.

[7] أي: وكذا في النحو الثاني.

[8] فجزئية السورة مجعولة للشارع يمكنه وضعها ورفعها؛ وذلك عن طريق الأمر

ص: 44

وعدم[1] تسميته حكماً شرعياً - لو سلم - غير ضائر بعد كونه[2] مما تناله يد التصرف شرعاً.

نعم[3]، لا مجال لاستصحابه لاستصحاب سببه ومنشأ انتزاعه، فافهم[4].

ثم إن هاهنا تنبيهات:

الأول[5]:

----------------------------------

بالسورة أو عدم الأمر.

[1] أي: إن قلت: (الجزئية) - مثلاً - لا تسمى حكماً، فكيف تستصحب مع أن شرط الاستصحاب أن يكون حكماً أو موضوعاً ذا حكم؟

قلت: أولاً: إنها تسمى حكماً.

وثانياً: لو فرض عدم إطلاق الحكم عليها فذلك غير ضائر؛ لأن المستفاد من الأدلة أن يكون مورد الاستصحاب مما تناله يد الشارع، سواء سُمّي حكماً أم لم يُسَمّ.

[2] أي: كون المجعول بالتبع - وهو النحو الثاني - .

[3] أي: هناك إشكال آخر على الاستصحاب في النحو الثاني، وهو كون (الجزئية) مسبباً و(الأمر بالسورة) سبباً، ومع الشك يجري الاستصحاب في السبب - أي: بقاء الأمر بالسورة - فينتزع منه الجزئية بلا حاجة إلى استصحاب الجزئية؛ إذ لا يبقى موضوع للأصل المسببي مع جريان الأصل السببي - كما سيأتي مفصلاً - .

[4] لعله إشارة إلى أنه قد يسقط الأصل السببي لأجل التعارض أو لأيّ علة أخرى، فتصل النوبة إلى الأصل المسببي.

تنبيهات الاستصحاب
التنبيه الأول: فعلية اليقين والشك

[5] في لزوم أن يكون اليقين والشك فعليين، فلا يصح إجراء الاستصحاب مع الغفلة عنهما؛ وذلك لأن الألفاظ موضوعة للمعاني الحقيقية بما هي هي، ولم

ص: 45

----------------------------------

توضع للمعاني التقديرية، فلفظ الإنسان وضع للموجود الخاص الخارجي، ولم يوضع على التراب الذي نقدره إنساناً. ولو استعمل اللفظ في المعنى التقديري كان مجازاً، وقد يكون مجازاً بالأوْل، أي: سيؤول إليه.

1- ومثاله: لو أحدث ثم غفل - ويمكن أن يكون قد توضأ في زمن الغفلة - ثم صلى، فبعد الصلاة لا يجري الاستصحاب، بأن يقال: إنه لو كان ملتفتاً للزم عليه استصحاب الحدث، فتكون صلاته لا عن طهارة فهي باطلة، بل تجري قاعدة الفراغ؛ إذ نشك في وقوع الصلاة صحيحة أم لا، وحيث لم يجر الاستصحاب تجري قاعدة الفراغ.

ثم اعلم أن الصور متعددة: - مضافاً إلى الصورة المذكورة - منها:

2- لو أحدث ثم غفل - مع علمه بعدم التوضؤ في حالة الغفلة - ثم صلى، فلا إشكال في بطلان صلاته؛ لعلمه بعدم طهارته حين الصلاة، ولا تجري قاعدة الفراغ؛ لأنها في حالة الشك، وهنا لا شك، بل يقين بعدم التوضؤ.

3- لو أحدث ثم شك في الحدث فأجرى استصحاب الحدث، ثم غفل - مع علمه بعدم التوضؤ في حالة الغفلة - ثم صلى، فصلاته باطلة؛ إذ قبل الغفلة حكم الشارع عليه بالحدث، فصلاته كانت مع الحدث الاستصحابي، وهذا علم تنزيلي، فلا تجري قاعدة الفراغ أيضاً.

4- لو أحدث ثم شك في الحدث فأجرى استصحابه، ثم غفل - مع احتماله التوضؤ في حالة الغفلة - ثم صلى، فصلاته صحيحة لجريان قاعدة الفراغ، وعدم جريان الاستصحاب؛ وذلك لأنه في حال الغفلة لا استصحاب لعدم الالتفات، وبعد الصلاة يحتمل استمرار الحدث إلى حين الصلاة، ويحتمل ارتفاعه بالوضوء، فيكون المورد مورد اجتماع قاعدة الفراغ مع الاستصحاب، وسيأتي أن القاعدة مقدمة على الاستصحاب - إما للحكومة أو للورود - .

ص: 46

إنه يعتبر في الاستصحاب فعلية الشك واليقين، فلا استصحاب مع الغفلة[1]، لعدم الشك فعلاً، ولو فرض أنه يشك لو التفت، ضرورة[2] أن الاستصحاب وظيفة الشاك، ولا شك مع الغفلة أصلاً. فيحكم[3] بصحة صلاة من أحدث، ثم غفل وصلى، ثم شك في أنه تطهر قبل الصلاة[4]، لقاعدة الفراغ[5]. بخلاف[6] من التفت قبلها وشك، ثم غفل وصلى، فيحكم بفساد صلاته في ما إذا قطع بعدم تطهيره بعد الشك[7]، لكونه محدثاً قبلها بحكم الاستصحاب مع القطع بعدم رفع حدثه الاستصحابي.

لا يقال[8]:

----------------------------------

[1] إذ في حال الغفلة لا يقين ولا شك. نعم، هناك يقين وشك تقديري، أي: لو التفت لتيقن أو شك.

[2] بيان دليل عدم جريان الاستصحاب، وحاصله: إن المخاطب بإجراء الاستصحاب هو الشاك، ومن الواضح أن الشاك التقديري ليس بشاك، وقد ذكرنا أن الألفاظ موضوعة للأشياء بما هي هي لا بما هي مقدرة - مفروضة - .

[3] هذا بيان ثمرة عدم جريان الاستصحاب التقديري، وهنا يذكر المصنف الصورة الأولى.

[4] أم لم يتطهر، أما إذا علم بعدم تطهره - كما في الصورة الثانية - فلا مجرى لقاعدة الفراغ، بل هو الآن متيقن بأنه صلى مع الحدث.

[5] هذا دليل قوله: (فيحكم بصحة...).

[6] إشارة إلى الصورة الثالثة، «قبلها» قبل الصلاة.

[7] أما لو احتمل التوضؤ في حالة الغفلة فيكون من الصورة الرابعة، وصلاته صحيحة؛ لجريان قاعدة الفراغ.

[8] حاصله: إنه لا يجري الاستصحاب حين الدخول في الصلاة وذلك للغفلة،

ص: 47

نعم[1]، ولكن استصحاب الحدث في حال الصلاة بعد ما التفت بعدها يقتضي أيضاً فسادها.

فإنه يقال[2]: نعم[3]، لو لا قاعدة الفراغ المقتضية لصحتها المقدمة على أصالة فسادها.

الثاني[4]:

----------------------------------

ولكن بعد الانتهاء من الصلاة له يقين فعلي وشك فعلي؛ إذ له يقين بالحدث قبل الصلاة، وله شك في رفع الحدث قبل الصلاة، فبعد الصلاة يجري الاستصحاب.

[1] أي: نعم، حين الغفلة لا استصحاب، ولكن بعد الصلاة لماذا لا يجري الاستصحاب؟ «في حال الصلاة» متعلق بالحدث، «بعد» متعلق بالاستصحاب، فالمعنى: الحدث في حال الصلاة يستصحبه بعد الانتهاء منها، «بعدها» بعد الصلاة، «فسادها» فساد الصلاة.

[2] حاصل الجواب: إن ظرف قاعدة الفراغ والاستصحاب واحد وهو بعد الصلاة، وقاعدة الفراغ حاكمة أو واردة على الاستصحاب.

[3] أي: استصحاب الشيء الماضي ممكن بعد الالتفات - لأنه يستصحبه في ظرفه - لكن بشرط عدم المعارض الراجح، «لصحتها» لصحة الصلاة، «المقدمة» للحكومة أو الورود، «أصالة فسادها» أي: استصحاب الحدث المقتضي لفساد الصلاة.

التنبيه الثاني: تقديرية المتيقن وفعلية الشك

[4] حاصله: هو إمكان جريان الاستصحاب إذا كان المتيقن تقديرياً مع كون الشك فعلياً، وهذا التنبيه من لواحق التنبيه الأول.

بيانه: إنه قد أشلكوا على جريان الاستصحاب في ما لو كان الدليل أمارة؛ إذ لا يقين سابق فكيف في حال الشك نستصحب الحكم أو الموضوع - الثابت بالأمارة أو الطريق - ؟

ص: 48

إنه هل يكفي في صحة الاستصحاب الشك[1] في بقاء شيء على تقدير ثبوته وإن لم يحرز ثبوته[2] في ما رتب عليه[3]

----------------------------------

مثلاً: لو دل الخبر الواحد على حرمة العصير العنبي إذا غلا ولم يذهب ثلثاه، فالحرمة أمر ظني قامت عليه الأمارة، فلو صار العنب زبيباً فيشك في حرمته بالغليان، فتستصحب الحرمة الثابتة للعنب إلى الزبيب.

والإشكال إنه كيف تمَّ الاستصحاب مع عدم اليقين السابق، بل الظن المعتبر بحرمة العنب بالغليان؟

والجواب: إن نظر الشارع في الاستصحاب هو إبقاء الحكم في حالة الشك، وأما اليقين فلم يلاحظه بما هو هو، بل هو مرآة للواقع، ولا فرق في المرآتية بين القطع وبين الظن المعتبر، فكلاهما كاشف عن الواقع.

وبعبارة أخرى: العلم لم يؤخذ بما هو صفة نفسانية في الأحكام، بل الظاهر أخذه بما هو طريق، فكون العلم موضوعاً خلاف الظاهر من لفظه حين الاستعمال، إذن فقوله: (لا تنقض اليقين) أراد اليقين بما هو كاشف عن الواقع لا بما هو صفة نفسانية، فإذا كان المقصود المرآتية فإنه لا فرق فيها بين اليقين وبين الظن المعتبر.

وبعبارة ثالثة: دليل الاستصحاب يثبت الملازمة بين الثبوت وبين البقاء، فإذا ثبت شيء - سواء كان بالعلم أم بالظن المعتبر - فإن له البقاء إلى أن يأتي دليل آخر من يقين أو ظن معتبر فينقُضه.

[1] أي: الشك الفعلي، «بقاء شيء» كالحكم بالحرمة بعد الغليان، «على تقدير ثبوته» ثبوت الشيء، كالحرمة في المثال.

[2] أي: لم يحرز باليقين، بل أحرز بالظن المعتبر، فلا يقين أصلاً.

[3] «عليه» على البقاء، «أثر شرعاً» كحرمة شرب العصير بعد الغليان، «أو

ص: 49

أثر شرعاً أو عقلاً؟ إشكال: من[1] عدم إحراز الثبوت[2]، فلا يقين ولابد منه[3]، بل ولا شك[4]، فإنه على تقدير لم يثبت، ومن[5] أن اعتبار اليقين إنما هو[6] لأجل أن التعبد والتنزيل شرعاً إنما هو في البقاء لا في الحدوث، فيكفي الشك

----------------------------------

عقلاً» كوجوب إطاعة المولى في هذا الحكم، وليس المراد من الأثر العقلي اللوازم العقلية، فإنه سيأتي بأنها لا تترتب على الأصول العملية، بل هي أصل مثبت.

[1] دليل عدم جريان الاستصحاب، وحاصله: هو عدم فعلية الحكم أو الموضوع باليقين، بل اليقين تقديري، أي: لو ثبتت الحرمة واقعاً فهي باقية استصحاباً.

[2] أي: ثبوت الحكم - أو الموضوع - واقعاً.

[3] لابد من اليقين؛ لأن اليقين السابق هو الركن الأول للاستصحاب.

[4] أي: لا شك في البقاء؛ لأن البقاء فرع الثبوت فاختل الركن الثاني من الاستصحاب وهو الشك اللاحق. نعم، هناك شك في أصل الحكم، «فإنه» أي: فإن الشك، «تقدير» وهي الحرمة واقعاً للعصير العنبي في المثال، «لم يثبت» باليقين، بل بالظن المعتبر.

[5] دليل جريان الاستصحاب.

[6] أي: ليس لليقين موضوعيّة، بل إنما أخذ اليقين في لسان الدليل لأجل أن غرض الشارع في البقاء، والبقاء كما يكون مع اليقين السابق الفعلي كذلك يكون مع اليقين السابق التقديري. وسيأتي في آخر هذا التنبيه أن اليقين أخذ بنحو المرآتية - كما فصلنا شرحه - .

وبعبارة أخرى - كما في منتهى الدراية - : (إن التعبير باليقين إنما هو للتنبيه على أن مورد التعبد، وجعل الحكم المماثل هو البقاء؛ إذ لو عبّر بغير ذلك التعبير مثل: ابن على المشكوك، أو: اعمل بالشك، ونظائرهما لم يفهم منها كون محل التعبد هو الحدوث أو البقاء، لكن التعبير المزبور يدل على أن مورد التعبد هو البقاء؛ لأنه

ص: 50

فيه[1] على تقدير الثبوت، فيتعبد به على هذا التقدير، فيترتب عليه الأثر فعلاً[2] في ما كان هناك أثر، وهذا[3] هو الأظهر.

وبه[4]

----------------------------------

متعلق الشك دون الحدوث؛ إذ لا وجه للتعبد بشيء مع اليقين به)(1)،

انتهى.

والحاصل: إن دليل الاستصحاب يثبت الملازمة بين الثبوت والبقاء، فإذا ثبت شيء - باليقين أو بغيره - فقد دام إلى نقضه بما يثبت عكسه.

[1] «فيه» في البقاء، «على تقدير الثبوت» واقعاً، «به» بالبقاء، «هذا التقدير» تقدير الثبوت - بلا فرق بين الثبوت باليقين أم بغيره - «عليه» على البقاء.

[2] أي: الأمر الثابت بالأمارة الشرعية يستمر في حال الشك، فالحرمة الثابتة بالخبر الواحد للعصير العنبي بالغليان تستمر في الزبيب إذا غلا أيضاً.

[3] أي: الوجه الثاني، وهو جريان الاستصحاب. ووجه الأظهرية هو: إن العلم عادة يؤخذ بنحو الطريقية لا الموضوعية، فلا دخل لليقين أصلاً، بل الدخل للثبوت بأي طريقة كان.

[4] أي: بهذا الوجه الثاني يرتفع إشكال، وحاصله: إنه إذا قامت الأمارات أو الطرق على شيء - وهو في غالب الأحكام والمواضيع - كيف تستصحبونها في حال الشك مع عدم وجود يقين سابق، بل ظن معتبر؟

وجواب المشهور: إن لنا يقيناً بالحكم الظاهري فنستصحبه.

ولكن حيث لم يرتضِ المصنف الحكم الظاهري، بل قال: إنه لا حكم إلاّ الحكم الواقعي، فإن أصابت الأمارة تنجز ذلك الحكم، وإن أخطأت الأمارة كان معذوراً فقط، فهنا يشكل على المصنف بأنه حيث لا يقين بالحكم الواقعي، ولا اعتقاد بوجود حكم ظاهري، فليس هناك يقين أصلاً في موارد الأمارات والطرق.

فاحتاج المصنف إلى هذا الكلام لدفع الإشكال، ولو أجاب المصنف: بأن الظن

ص: 51


1- منتهى الدراية 7: 322.

يمكن أن يذب عما في استصحاب الأحكام[1] التي قامت الأمارات المعتبرة على مجرد ثبوتها[2] وقد شك في بقائها على تقدير ثبوتها[3] من الإشكال[4] بأنه لا يقين بالحكم الواقعي، ولا يكون هناك حكم آخر فعلي[5] بناءً على ما هو التحقيق من أن قضية حجية الأمارة ليست إلاّ تنجز التكاليف مع الإصابة والعذر مع المخالفة - كما هو[6] قضية الحجة المعتبرة عقلاً، كالقطع والظن في حال الانسداد على الحكومة - لا إنشاء أحكام فعلية شرعية ظاهرية، كما هو[7] ظاهر الأصحاب.

----------------------------------

المعتبر يقين تنزيلي لاستراح من عناء هذا الجواب المفصّل.

[1] وكذا المواضيع التي دلت عليها الطرق المعتبرة الظنية.

[2] أي: لا يوجد إطلاق أحوالي للحالات المختلفة، كمثال العنب والزبيب.

[3] أي: لو كانت الأمارة مصيبة للواقع في العنب، فهل الحكم باقٍ في الزبيب أم لا؟

[4] «من» بيان ل- (ما) في قوله: (عما في استصحاب... الخ)، «بأنه» للشأن.

[5] وهو الحكم الظاهري.

[6] أي: في الحجج الشرعية لا يوجد حكم ظاهري، كما أنه في الحجج العقلية لا حكم ظاهري، فالقطع - وهو حجة عقلية - يتنجز به الواقع عند الإصابة، ويعذر القاطع عند الخطأ، وكذا حجية الظن الانسدادي على الحكومة، فإن العقل يحكم بحجيته بمعنى التنجيز والتعذير.

[7] أي: إنشاء أحكام ظاهرية قال به أكثر الأصحاب وهو الظاهر من كلماتهم.

وللمصنف حاشية على قوله: (بناءً على ما هو التحقيق) يبين فيها الجواب عن الإشكال بناءً على القول بالحكم الظاهري، فقال: (وأما بناءً على ما هو المشهور من كون مؤديات الأمارات أحكاماً ظاهرية شرعية، كما اشتهر: أن ظنيّة الطريق لا تنافي قطعية الحكم، فالاستصحاب جارٍ؛ لأن الحكم الذي أدّت إليه الأمارة محتمل

ص: 52

ووجه الذب بذلك[1]: إن الحكم الواقعي الذي هو مؤدى الطريق حينئذٍ[2] محكوم بالبقاء، فتكون الحجة على ثبوته حجة على بقائه تعبداً، للملازمة بينه وبين ثبوته واقعاً.

إن قلت[3]: كيف[4]! وقد أخذ اليقين بالشيء في التعبد ببقائه في الأخبار، ولا يقين في فرض تقدير الثبوت.

قلت[5]:

----------------------------------

البقاء؛ لإمكان إصابتها الواقع، وكان مما يبقى. والقطع بعدم فعليته - حينئذٍ - مع احتمال بقائه، لكونها بسبب دلالة الأمارة، والمفروض عدم دلالتها إلاّ على ثبوته لا على بقائه، غير ضائر بفعليته الناشئة باستصحابه فلا تغفل)(1)، انتهى.

[1] أي: بالوجه الثاني - وهو كفاية الشك في البقاء على تقدير الثبوت - وهذا بيان لكيفية تطبيق ذلك الوجه على الاستصحاب في الأمارات والطرق.

[2] أي: حين الشك، «فتكون الحجة...» أي: الأمارة الدالة على ثبوت الحكم تلازم بقاءه حين الشك؛ وذلك لدلالة دليل الاستصحاب على الملازمة بين الثبوت - أياً كان باليقين أم بغيره - وبين البقاء.

[3] حاصله: إنّ أدلة الاستصحاب دلت على لزوم اليقين ولا دلالة لها على الثبوت التقديري.

[4] أي: كيف ينفع الثبوت التقديري والحال أنه قد أخذ... الخ، وقوله: «في التعبد» متعلق ب- «أخذ» أي: اليقين أخذ في التعبد بالبقاء.

[5] حاصله: إن اليقين في أخبار الاستصحاب - وكذا العلم ونحوه في سائر الأدلة - أخذ على نحو الطريقية لا الموضوعية، فلا دخل لنفس اليقين بما هو صفة نفسانية، بل بما هو كاشف عن الواقع، فلا فرق حين الكشف بين اليقين وبين الظن المعتبر؛ لأن كليهما له كشف عن الواقع.

ص: 53


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 496.

نعم، ولكن الظاهر أنه أخذ كشفاً عنه ومرآة لثبوته[1]، ليكون التعبد في بقائه، والتعبد[2] مع فرض ثبوته إنما يكون في بقائه، فافهم[3].

الثالث[4]:

----------------------------------

[1] أي: لثبوت الواقع، والغرض من كشف الثبوت هو الحكم بالبقاء، وإلاّ فأصل الثبوت لا ثمرة له، بل الثمرة للبقاء حيث يريد الإنسان معرفة وظيفته الحالية.

[2] أي: التكليف الشرعي لا يرتبط بالثبوت - لمضي وقته - بل يرتبط بالبقاء، فتحصل: أن الغرض هو البقاء لو ثبت، والثبوت كما يكون باليقين كذلك يكون بالظن المعتبر.

[3] لعله إشارة إلى أن هذا هو من قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الكشفي، والمصنف لم يرتضِ ذلك في بداية بحث القطع، فكلامه هنا يناقض ما ذكره هناك.

أو إشارة إلى أن الأمارة قطع تنزيلي، فيشملها دليل الاستصحاب بنفسه.

أو إشارة إلى أن حمل اليقين على مجرد الثبوت خلاف الظاهر.

التنبيه الثالث: استصحاب الكلي وأقسامه
اشارة

[4] قد يستصحب الفرد كاستصحاب (زيد)، وقد يستصحب الكلي الذي كان في ضمن ذلك الفرد كاستصحاب (الإنسان)، وذلك في ما لو كان للكلي أثر.

واستصحاب الكلي على ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أن يتيقن بتحقق فرد خاص ثم يشك في بقائه، فحينئذٍ يمكنه استصحاب الفرد، ويمكنه استصحاب الكلي الذي كان في ضمن ذلك الفرد.

القسم الثاني: أن يتيقّن بتحقق أحد الفردين، أحدهما طويل البقاء والآخر قصيره، ثم يشك في البقاء من جهة أنه لو كان الفرد الطويل لكان باقياً حتماً، وإن كان الفرد القصير لكان زائلاً حتماً.

ص: 54

إنه لا فرق في المتيقن السابق بين أن يكون خصوص أحد الأحكام[1] أو ما يشترك[2] بين الاثنين منها أو الأزيد، من أمر عام.

فإن كان[3] الشك في بقاء ذاك العام من جهة الشك في بقاء الخاص الذي كان في

----------------------------------

كما لو تيقن بخروج قطرة إما هي بول أو مني ثم توضأ، فإن كانت بولاً فقد ارتفع الحدث، وإن كانت منياً فالحدث باقٍ، فيستصحب كلي الحدث - الموجود في البول والمني - .

القسم الثالث: أن يتيقن بحدوث فرد ثم يتيقن بارتفاعه، ولكن يحتمل تحقق فرد آخر، إما مقارناً لوجود ذلك الفرد الأول، أو مقارناً لارتفاعه.

كما لو علم بتحقق الوجوب ثم علم بارتفاعه، وشك في تحقق الاستحباب بدلاً عن الوجوب، فيستصحب كلي الطلب - الموجود في الوجوب والاستحباب - .

ولا إشكال في جريان الاستصحاب في القسم الأول إن كان له أثر، كما أن الأقوى جريانه في القسم الثاني. وأما القسم الثالث فلا يجري فيه الاستصحاب إلاّ إذا كان الفردان بنظر العرف واحداً، كاستصحاب السواد حين الشك في ارتفاعه أو ضعفه.

[1] أي: الأحكام الجزئية، وكذا في الموضوعات كما سيشير إليه المصنف في آخر التنبيه بقوله: (ومما ذكرنا في المقام يظهر أيضاً حال الاستصحاب في متعلقات الأحكام)، ونحن سنذكر الأمثلة من الموضوعات لأنها أسهل للفهم.

[2] أي: أو أن يكون المتيقن السابق أمراً عاماً مشتركاً بين فردين أو أكثر، وقوله: «من أمر عام» بيان لقوله: «أو ما يشترك...»، «أمر عام» أي: الكلي الموجود بين الفردين أو الأفراد.

القسم الأول

[3] هذا القسم الأول، «الذي كان في ضمنه» أي: الذي كان العام في ضمن

ص: 55

ضمنه وارتفاعه كان استصحابه كاستصحابه[1] بلا كلام.

وإن كان[2] الشك فيه من جهة تردد الخاص الذي في ضمنه بين ما هو باقٍ أو مرتفع قطعاً[3] فكذا لا إشكال في استصحابه، فيترتب عليه كافة ما يترتب عليه[4] عقلاً أو شرعاً من أحكامه ولوازمه.

وتردد ذاك الخاص[5] - الذي يكون الكلي موجوداً في ضمنه، ويكون وجوده بعين

----------------------------------

ذلك الخاص، «وارتفاعه» عطف على «بقاء» في قوله: «من جهة الشك في بقاء الخاص».

[1] أي: كان استصحاب العام كاستصحاب الخاص، بلا فرق بين إجراء الاستصحاب في الكلي أو الفرد؛ وذلك لأن الكلي الطبيعي موجود بوجود فرده، فلمّا تيقن بالفرد فقد تيقن بالكلي، ولما شك فيه شك في الكلي، فأركان الاستصحاب تامة، سواء في الفرد أم في الكلي.

القسم الثاني
اشارة

[2] هذا القسم الثاني، «فيه» أي: في بقاء العام، «الذي في ضمنه» أي: الذي كان العام في ضمن ذلك الخاص.

[3] «قطعاً» قيد ل- «باق» و«مرتفع»، فالمعنى: الفرد الذي تحقق لا يعلم أنه الفرد الطويل فهو باقٍ قطعاً، أم الفرد القصير فهو مرتفع قطعاً، «في استصحابه» أي: العام.

[4] أي: يترتب على العام المستَصحب كافة ما يترتب على العام، «من» بيان لقوله: «ما يترتب...»، والأحكام يراد بها: الأحكام العقلية كوجوب الطاعة - مثلاً - واللوازم يراد بها: الآثار الشرعية.

إشكالان: الأول
اشارة

[5] الإشكال الأول: إن أركان الاستصحاب في هذا القسم الثاني غير تامة؛

ص: 56

وجوده[1] - بين متيقن الارتفاع[2] ومشكوك الحدوث[3] المحكوم بعدم حدوثه غير ضائر[4] باستصحاب الكلي المتحقق في ضمنه[5] مع عدم إخلاله باليقين والشك في حدوثه وبقائه. وإنما كان التردد بين الفردين ضائراً باستصحاب أحد الخاصين اللذين كان أمره مردداً بينهما، لإخلاله[6] باليقين الذي هو أحد ركني الاستصحاب، كما

----------------------------------

إذ الأمر يدور بين الفرد الطويل، ولا يقين بحدوثه، وبين الفرد القصير، ولا شك في ارتفاعه، كما لا يقين أيضاً بحدوثه. فالطويل فقد الركن الأول - وهو اليقين السابق - والقصير فقد كلا الركنين، فلا يقين سابق بحدوثه، ولا شك لاحق في بقائه.

[1] أي: يكون وجود الكلي بعين وجود الفرد؛ إذ الكلي الطبيعي موجود بوجود فرده، فليس للإنسان وجود مستقل عن زيد وعمرو وسائر الأفراد، بل الإنسان موجود بوجود تلك الأفراد، وبعبارة أدق: هو منتزع عنها.

[2] وهو الفرد القصير، كما أنه مشكوك الحدوث، ففقد كلا ركني الاستصحاب.

[3] وهو الفرد الطويل، فهذا باقٍ على فرض حدوثه، ولكن المشكلة في عدم اليقين بحدوثه.

الجواب

[4] جواب عن الإشكال، وحاصله: إننا لا نريد استصحاب الفرد حتى يقال إنه لا يقين سابق أو لا شك لاحق، بل نريد استصحاب الكلي، وهو قد تحقق قطعاً في ضمن الفرد المردد، والآن يشك في زواله - لتردده بين القصير الزائل والطويل الباقي - .

[5] أي: المتحقق ذلك الكلي في ضمن الخاص، «عدم إخلاله» أي: عدم إخلال التردد بين فردين، وضميرا «حدوثه وبقائه» يرجعان إلى (الكلي).

[6] أي: لإخلال التردد بين فردين بأركان الاستصحاب فيهما، «باليقين» السابق فلا يقين بأي من الفردين، وكذا يخل بالشك اللاحق في خصوص الفرد القصير.

ص: 57

لا يخفى. نعم[1]، يجب رعاية التكاليف المعلومة إجمالاً المترتبة على الخاصين في ما علم تكليف في البين.

وتوهم(1)[2]

----------------------------------

[1] بعد أن ذكرنا عدم جريان الاستصحاب في خصوص الفردين أو الأفراد نقول: إنه قد يكون المورد من قبيل العلم الإجمالي فيجب الاحتياط بين الفردين.

مثلاً: مع تردد القطرة الخارجة بين البول والمني فلا استصحاب لأحدهما؛ لعدم اليقين السابق، ولكن يجب الاحتياط عبر الالتزام بالتكاليف المترتبة على الحدث الأصغر والحدث الأكبر؛ وذلك للعلم الإجمالي بأنه مكلف بأحدهما مع اشتباهه عليه، فيجب عليه الوضوء والغسل معاً - مثلاً - احتياطاً.

الإشكال الثاني
اشارة

[2] حاصله: إنه مع جريان الأصل السببي لا تصل النوبة إلى الأصل المسببي؛ وذلك لورود الأصل السببي على المسببي برفع موضوعه.

مثلاً: لو علم بأن الماء كر ثم شك في بقاء الكرية فهنا يَجري استصحاب الكرية، ثم إذ وضع يده المتنجسة في ذلك الماء فلا يجري استصحاب نجاسة اليد؛ إذ مع جريان استصحاب الكرية يحكم شرعاً بأن هذا الماء يُطهّر ما لاقاه، فلا شك في بقاء نجاسة اليد، بل هنا يقين تعبدي بطهارتها، فارتفع موضوع استصحاب النجاسة.

وفي ما نحن فيه: الشك في بقاء الكلي مسبب عن الشك في وجود الفرد الطويل، فيجري استصحاب عدم حدوث الفرد الطويل، فلا يبقى مجال لاستصحاب الكلي الذي في ضمن الفرد؛ لأنه مع الحكم بعدم بقاء الفرد يحكم أيضاً بعدم بقاء الكلي الذي فيه.

مثلاً: إذا خرجت قطرة مرددة بين البول والمني ثم توضأ، فإنه لا مجال لاستصحاب الحدث؛ لأن بقاء الحدث مسبب عن خروج المني، والأصل عدم

ص: 58


1- فرائد الأصول 3: 193.

«كون الشك في بقاء الكلي[1] الذي في ضمن ذاك المردد مسبباً عن الشك في حدوث الخاص المشكوك حدوثه المحكوم بعدم الحدوث بأصالة عدمه» فاسد قطعاً، لعدم[2] كون بقائه وارتفاعه[3]

----------------------------------

خروجه - أي: استصحاب عدم خروج المني - فإذا ثبت تعبداً عدم خروج المني فلا معنى للحكم ببقاء الحدث المسبب عن خروج المني.

[1] «الكلي» كالحدث في المثال، «المردد» بين البول والمني، «حدوث الخاص» المني، «حدوثه» حدوث المني، «بأصالة عدمه» أي: استصحاب عدم خروج المني، فإنه قبل خروج القطرة لم يكن المني خارجاً، فبعد خروجها نستصحب عدم خروج المني.

الجواب الأول

[2] حاصل الجواب أنه يشترط في عدم جريان الأصل المسببي أن يكون وجود المسبب وارتفاعه مرتبطاً بوجود السبب وارتفاعه، أما لو كان وجوده مرتبطاً بوجود السبب، ولم يرتبط ارتفاعه بارتفاع السبب فلا مانع من جريان الاستصحاب في الأصل المسببي.

مثلاً: وجود الابن متوقف على وجود الأب، ولكن ارتفاع الابن لا يرتبط بارتفاع الأب، فلذا كما يجري استصحاب بقاء الأب كذلك يجري استصحاب بقاء الابن.

وما نحن فيه من هذا القبيل؛ إذ بقاء الحدث بعد الوضوء يتوقف على كون الخارج منيّاً، ولكن ارتفاع الحدث بالوضوء يتوقف على أمر آخر، وهو كون الخارج بولاً؛ لأن عدم المني لا يوجب ارتفاع الحدث، بل كون الخارج بولاً هو سبب لارتفاع الحدث بالوضوء. إذن، ليس ما نحن فيه من قبيل الاستصحاب السببي والمسببي.

[3] أي: الكلي، وهو (الحدث) في المثال.

ص: 59

من لوازم حدوثه وعدم حدوثه[1]، بل من لوازم[2] كون الحادث المتيقن ذاك المتيقن الارتفاع أو البقاء.

مع أن[3] بقاء القدر المشترك إنما هو بعين بقاء الخاص الذي في ضمنه، لا أنه من لوازمه[4].

على أنه[5]

----------------------------------

[1] أي: حدوث الفرد وعدم حدوثه، كالمني في المثال، بل بقاؤه مرتبط بحدوث المني، ولكن ارتفاعه مرتبط بحدوث البول، لا بعدم حدوث المني.

[2] في العبارة إيجاز مُخلّ، والمقصود: بل ارتفاع الحدث من لوازم كون الحادث ذلك البول المتيقن الارتفاع، وبقاء الحدث من لوازم كون الحادث ذلك المني المتيقن البقاء.

الجواب الثاني

[3] الجواب الثاني: إنه يلزم التعدد في الأصل السببي والمسببي، فأحدهما علّة للآخر، وما نحن فيه لا تعدد بينهما ولا عليّة، بل الكلي عين الفرد، «القدر المشترك» أي: الكلي الذي بينهما، «الذي في ضمنه» أي: الذي يكون الكلي في ضمن ذلك الخاص.

[4] أي: ليس بقاء الكلي من لوازم الفرد الطويل، بل هو عينه.

الجواب الثالث

[5] «أنه» للشأن، وحاصل الجواب: سلمنا السببيّة، ولكن نقول: ليس كل أصل سببي مانع عن جريان الأصل المسببي، بل لابد أن تكون السببيّة شرعية، مثلاً: لو شك في بقاء الكرية فإنه يستصحبها، فإذا أدخل يده المتنجسة في هذا الماء طهرت اليد؛ لأن هذه الطهارة مسبّبة عن الكرية، وهذه السببيّة جعلها الشارع بأن جعل ملاقاة اليد النجسه للماء الكر سبباً لطهارتها؛ إذ مع جريان الأصل السببي - وهو استصحاب الكرية - يكون هنا علم تنزيلي بكون الماء كراً، فإذا لاقته اليد

ص: 60

لو سلم أنه[1] من لوازم حدوث المشكوك، فلا شبهة في كون اللزوم عقلياً[2]، فلا يكاد يترتب بأصالة عدم الحدوث إلاّ ما هو من لوازمه وأحكامه شرعاً.

وأما[3]

----------------------------------

المتنجسة لا مجال لاستصحاب النجاسة؛ لوجود يقين تنزيلي بطهارتها، فلا يوجد شك لاحق بالنجاسة كي تستصحب.

أما إذا كانت السببيّة عقلية أو عادية فإن جريان الأصل السببي لا يوجب يقيناً تنزيلياً في المسبّب - وذلك لعدم حجية الآثار العقلية والعادية للأصول العملية والذي يعبر عنها بالأصل المثبت - ومع عدم وجود يقين تنزيلي يبقى مورد الاستصحاب، الذي هو اليقين السابق والشك اللاحق، فيجري الاستصحاب في المسبّب بلا مانع.

وفي ما نحن فيه: الأصل السببي هو استصحاب عدم خروج المني، ولا تلازم شرعاً بين عدم خروجه وبين ارتفاع الحدث، بل العقل يقول بعد أن تيقنت بخروج أحد الأمرين إما البول أو المني، فإن الحكم بعدم خروج المني يلازم خروج البول، فيثبت ارتفاع الحدث بالوضوء، وهذا هو الأصل المثبت الذي ليس بحجة، بمعنى عدم حجية الآثار العقلية والعادية وما يترتب عليها من لوازم.

[1] «أنه» أن البقاء، «حدوث المشكوك» خروج المني في المثال.

[2] أي: اللزوم بين عدم خروج المني وبين ارتفاع الحدث؛ لأن الواسطة هي خروج البول، وثبوت أحد الضدين لانتفاء الضد الآخر عقلي لا شرعي.

القسم الثالث

[3] هذا القسم الثالث من استصحاب الكلي، وهو تحقق فرد ثم ارتفاعه قطعاً، مع احتمال تحقق فرد آخر مقارناً له أو حين ارتفاعه.

ولنضرب مثالين، الأول: المقارن للوجود، والثاني: المقارن للارتفاع:

1- لو خرجت منه قطرة بول ثم توضأ قطعاً، ولكن يحتمل أن تكون قد خرجت

ص: 61

إذا كان الشك في بقائه[1]، من جهة الشك في قيام خاص آخر في مقام ذاك الخاص

----------------------------------

منه قطرة مني أيضاً قبل الوضوء، فهنا قد قطع بالحدث، وبعد الوضوء يشك في ارتفاعه.

2- لو خرجت منه قطرة بول ثم توضأ، ثم احتمل خروج قطرة بول أخرى بمجرد الانتهاء من الوضوء - من غير فاصل - فهنا يقطع بحدوث كلي الحدث بخروج القطرة الأولى، ويشك في ارتفاع كلي الحدث لاحتمال خروج قطرة أخرى متزامنة مع الانتهاء من الوضوء.

والأظهر عدم جريان الاستصحاب هنا؛ لأن ما تيقن حدوثه قد ارتفع قطعاً، وما يحتمل بقاؤه لا يقين سابق به.

إن قلت: نستصحب الكلي الذي تيقنا بحدوثه ونشك في زواله.

قلت: الكلي موجود بوجود فرده، وليس شيئاً منفصلاً عن الفرد، لكن كل فرد تتحقق به حصة من الكلي مغايرة للحصة التي هي في الفرد الآخر، إذاً فالحصة من الكلي التي تيقّنا بحصولها قد ارتفعت قطعاً بارتفاع الفرد الذي تحققت في ضمنه، والحصة من الكلي التي نشك في بقائها لم نتيقن بوجودها سابقاً.

إن قلت: وهكذا في القسم الثاني.

قلت: الفرق أنه في القسم الثاني نتيقن بتحقق فرد واحد لكنه مردّد عندنا، فالحصة من الكلي تحققت في ضمن فرد واحد، ثم نشك في ارتفاع نفس الحصة التي تيقنا بوجودها؛ وذلك للشك في بقاء الفرد الذي كانت في ضمنه أو ارتفاعه، بخلاف القسم الثالث حين نتيقن بارتفاع الحصة المتحققة في الفرد الأول، ونشك بتحقق حصة أخرى في فرد آخر.

[1] «بقائه» بقاء الكلي، «الذي كان في ضمنه» أي: الذي كان الكلي في ضمن ذلك الفرد، «بارتفاعه» بارتفاع الخاص الأول، كما لو تيقن بدخول زيد في الدار ثم قطع بخروجه منها، ولكن مع احتمال دخول عمرو في الدار مقارناً لوجود زيد أو

ص: 62

الذي كان في ضمنه بعد القطع بارتفاعه، ففي استصحابه[1] إشكال، أظهره عدم جريانه، فإن وجود الطبيعي وإن كان بوجود فرده إلاّ[2] أن وجوده[3] في ضمن المتعدد من أفراده ليس من نحو وجود واحد له، بل متعدد حسب تعددها، فلو قطع بارتفاع ما علم وجوده منها[4] لقطع بارتفاع وجوده، وإن شك في وجود فرد آخر

----------------------------------

حين خروجه.

[1] أي: استصحاب الكلي، «أظهره» الضمير يرجع إلى المستفاد من الكلام مثلاً أظهر القول، «عدم جريانه» الاستصحاب.

[2] الاحتمالات في كيفية وجود الكلي الطبيعي متعددة، منها:

1- أن يكون الطبيعي موجوداً بوجود منفصل عن الأفراد، وهذا باطل قطعاً؛ لأنه وبالبداهة لا يوجد إنسان في غير الأفراد، فإذا وجد فرد كان الإنسان موجوداً، وإن ارتفع الفرد ارتفع الإنسان.

2- أن يكون الطبيعي واحداً منبسطاً وجوداً على جميع الأفراد، وهذا أيضاً لا يصح في الكلي والجزئي، بل هو يجري في الكل والجزء، مثل: الصلاة التي هي شيء واحد تنبسط على الركوع والسجود... الخ، فالأجزاء مترابطة يكمل بعضها بعضاً، عكس الجزئيات التي كل واحد منها مستقل في الوجود.

مضافاً إلى استلزامه اتصاف الكلي الواحد بالصفات المتضادة؛ لأن الأفراد متضادة في أكثر الأوصاف من علم وجهل وكفر وإيمان... الخ.

3- أن يكون الكلي موجوداً بنحو الحصص المتعددة بتعدد الأفراد، وهذا هو الصحيح، فكل فرد هو حصة من الكلي، لا مغاير للكلي ولا متحد مع سائر الحصص.

[3] «وجوده» الكلي، «له» للكلي وهو الاحتمال الثاني الذي ذكرناه في الحاشية السابقة.

[4] «ما علم» أي: الحصة التي علم، «وجوده» يرجع إلى الموصول، أي: (ما)، «منها» من الأفراد، «وجوده» وجود الكلي.

ص: 63

مقارن لوجود ذاك الفرد أو لارتفاعه[1] بنفسه أو بملاكه[2]، كما إذا شك في الاستحباب بعد القطع بارتفاع الإيجاب بملاك مقارن أو حادث.

لا يقال[3]:

----------------------------------

[1] إشارة إلى أن القسم الثالث له نوعان:

1- أن يتحقق الفرد الثاني مقارناً لتحقق الفرد الأول.

2- أن يتحقق الثاني مقارناً لارتفاع الفرد الأول.

وإنما ذكر هذين النوعين لأن الشيخ الأعظم(1)

ذهب إلى جريان الاستصحاب في النوع الأول دون النوع الثاني، ولكن المصنف لم يرتضِ هذا التفصيل.

[2] تارة يمكن اجتماع الفرد الثاني مع الفرد الأول، مثلاً: يقطع بدخول زيد ثم خروجه ويحتمل دخول عمرو، واجتماع زيد وعمرو ممكن.

وتارة لا يمكن اجتماع الفردين، فيوجد فرد ويوجد ملاك الفرد الثاني من غير وجود نفس الفرد الثاني، كالوجوب والاستحباب، فلا يعقل اجتماعهما معاً؛ لتضادهما، ولكن يمكن وجود الوجوب مع ملاك الاستحباب.

مثلاً: الزوجة الفقيرة تجب نفقتها لأنها زوجة، وملاك استحباب الصدقة - وهو الفقر - موجود لكنه غير مؤثر، فإذا طلقها فبانتهاء العدة يؤثر ملاك الاستحباب. فيرتفع وجوب النفقة - لأنها ليست بزوجة حينئذٍ - ويؤثر ملاك الاستحباب، فيستحب الإنفاق عليها لفقرها، فلو شك في فقرها، سواء كان فقراً مقارناً لكونها زوجة أم حدث الفقر بعد الطلاق، فإن إجراء استصحاب كليّ طلب الإنفاق يكون من القسم الثالث من أقسام الكلي.

[3] المقصود من الإشكال هو بيان أن الوجوب والاستحباب من مصاديق القسم الثالث، الذي يجري فيه الاستصحاب.

بيانه: إن هناك مصداقاً يجري فيه الاستصحاب في القسم الثالث، وهو ما إذا

ص: 64


1- فرائد الأصول 3: 195 - 196.

الأمر[1] وإن كان كما ذكر، إلاّ أنه حيث كان التفاوت بين الإيجاب والاستحباب - وهكذا بين الكراهة والحرمة - ليس إلاّ بشدة الطلب بينهما وضعفه، كان تبدل أحدهما بالآخر مع عدم تخلل العدم[2] غير موجب لتعدد وجود الطبيعي بينهما[3]، لمساوقة الاتصال مع الوحدة، فالشك في التبدل حقيقة شك في بقاء الطلب وارتفاعه، لا في حدوث وجود آخر.

فإنه يقال[4]: الأمر وإن كان كذلك[5]، إلاّ أن العرف حيث يرى الإيجاب

----------------------------------

كان مورد الاستصحاب ما يقبل الشدة والضعف، مع كون الضعيف فرداً والشديد فرداً آخر.

مثلاً: لو كان سواد شديد ثم شك في ضعف ذلك السواد، أو تبدله إلى البياض بسبب الشمس فقالوا بجريان الاستصحاب؛ لأن العرف يرى السواد الخفيف نفس السواد الشديد ولكنه فقد شدّته، نظير نمو الجسم، فإن الضعيف نفس السمين، فيجري الاستصحاب.

وما نحن فيه كذلك؛ لأن الوجوب هو طلب شديد والاستحباب هو طلب ضعيف، فلا مانع من جريان الاستصحاب.

[1] أي: الواقع في الوجوب والاستحباب، «كما ذكر» من أنه تبدل فرد إلى فرد آخر.

[2] لأنه لو تخلل العدم تبدّل اليقين بالطلب إلى اليقين بعدم الطلب، ثم الشك في حدوث طلب آخر، فلا استصحاب للطلب المتيقن؛ لانقطاعه باليقين بزواله.

[3] لأنه يكون نظير السواد الشديد والسواد الضعيف، «مع الوحدة» عرفاً.

[4] حاصله: إنه حيث كان الملاك العرف فإن العرف يرى السواد الشديد والضعيف واحداً، لكنه يرى الوجوب والاستحباب شيئين.

[5] أي: نسلم أن الفرق بين الوجوب والاستحباب هو شدة الطلب وضعفه.

ص: 65

والاستحباب المتبادلين فردين متباينين، لا واحداً مختلف الوصف في زمانين[1]، لم يكن مجال للاستصحاب، لما مرت الإشارة إليه ويأتي[2] من أن قضية إطلاق أخبار الباب[3] أن العبرة فيه[4] بما يكون رفع اليد عنه مع الشك بنظر العرف نقضاً وإن لم يكن بنقض بحسب الدقة، ولذا لو انعكس الأمر[5] ولم يكن نقض عرفاً لم يكن الاستصحاب جارياً وإن كان هناك نقض عقلاً.

ومما ذكرنا في المقام يظهر أيضاً حال الاستصحاب في متعلقات الأحكام[6] في

----------------------------------

[1] مثل: زيد الضعيف في زمان اليقين بوجوده، وزيد السمين في زمان الشك في بقائه، فإن السمنة والضعف لا توجب تعدّد زيد، وهذان الوصفان من الأعراض التي لا تغيّر الذات.

[2] مرّ في بحث النسخ أنه إذا نسخ الوجوب فهل يبقى الاستحباب أم لا؟ وكذا مرّ في أول بحث الاستصحاب في قوله: (إلاّ أنه لما كان الاتحاد بحسب نظر العرف كافياً في تحققه... الخ)، وسيأتي في بحث الاجتهاد والتقليد في مبحث اشتراط الحياة في المفتي.

[3] فمن النصوص (لا تنقض اليقين بالشك) وهذا الكلام ملقى إلى العرف، فينصرف إلى ما يفهمه العرف نقضاً أو عدم نقض.

[4] أي: في جريان الاستصحاب «بنظر العرف» متعلق بقوله: «نقضاً» أي: ما يكون رفع اليد عن اليقين في حال الشك نقضاً بنظر العرف.

[5] كما في ما نحن فيه، فإن الطلب في الوجوب والاستحباب واحد عقلاً، واختلافهما إنما هو بالشدة والضعف، ولكن حيث يراهما العرف متعددين لا يجري الاستصحاب؛ لأنه ليس بنقض لليقين بالشك.

[6] أي: استصحاب الموضوع، فقد ذكر استصحاب الحكم في أول التنبيه: (لا فرق في المتيقن السابق بين أن يكون خصوص أحد الأحكام...) وهنا يذكر أن استصحاب الكلي في الموضوع كذلك بلا فرق بين الموضوع والحكم.

ص: 66

الشبهات الحكمية والموضوعية[1]، فلا تغفل.

----------------------------------

[1] قد يعرف الحكم ولكن يشتبه عليه الموضوع، كعلمه بنجاسة البول ثم يشتبه عليه في أن هذا بول أم ماء مثلاً، فهذه شبهة موضوعية.

وقد يعرف الموضوع ولكن يشتبه عليه الحكم، كما لو شك في أن المذي يوجب الحدث أم لا.

1- مثال استصحاب الموضوع في الشبهة الحكمية (ومرجعها إلى العلم بالموضوع مع الشك في الحكم).

القسم الأول: إذا علم بأن الخارج مذي، وشك في نقضه للوضوء (وهو شبهة في الحكم)، فيستصحب كلي الطهارة (وهو موضوع).

القسم الثاني: إذا علم بأن الخارج مذي، وعلم بأنه إما ناقض للوضوء أو الغسل (فهنا شبهة في الحكم)، فإذا توضأ يشك في بقاء الحدث (وهو موضوع) فيستصحبه.

القسم الثالث: إذا خرجت منه قطرة بول ثم توضأ، وقد خرجت منه قطرة مذي قبل الوضوء، أو مقارناً للانتهاء منه (فهنا يعلم بالموضوع وهو خروج المذي، لكنه لا يعلم حكمها وأنها ناقضة للوضوء أم لا)، فهنا إذا استصحب كلي الحدث - وهو موضوع - كان من استصحاب القسم الثالث.

2- ومثال استصحاب الموضوع في الشبهة الموضوعية.

القسم الأول: إذا كان محدثاً ثم شك في الوضوء - وهو موضوع - فيمكنه استصحاب كلي الحدث - وهو موضوع أيضاً - .

القسم الثاني: إذا تنجست يده إما ببول أو بدم - وحكم البول الغسل مرتين، وحكم الدم الغسل مرة واحدة - ثم غسل يده مرة واحدة، فهنا يشك في بقاء النجاسة، فيستصحب كلي النجاسة.

ص: 67

الرابع[1]: إنه لا فرق في المتيقن بين أن يكون من الأمور القارّة[2] أو التدريجية الغير القارة[3]، فإن الأمور الغير القارة(1) وإن كان وجودها ينصرم ولا يتحقق منه

----------------------------------

القسم الثالث: إذا تنجست يده بدم فغسلها ثم شك في إصابة قطرة دم أخرى مقارناً مع انتهاء غسل اليد، فاستصحاب كلي النجاسة - وهو موضوع - يكون من القسم الثالث.

التنبيه الرابع: استصحاب الزمان والزمانيات
اشارة

[1] هذا التنبيه في استصحاب الزمان، والزماني، والفعل المقيد بالزمان.

فالزمان كاستصحاب الليل أو النهار.

والزماني: هو الفعل التدريجي الذي يتحقق جزء منه في الزمان الأول ثم ينعدم، ويتحقق جزء ثانٍ منه في الزمان الثاني كالتكلم.

والفعل المقيد بالزمان: هو الفعل الواحد الذي كان الزمان ظرفاً أو قيداً له كالجلوس يوم الجمعة، فإن الجلوس وجود واحد لكنه في زمان - وهو يوم الجمعة - .

وحاصل كلام المصنف: إنه كما يجري الاستصحاب في الأمور القارّة - أي: المجتمع أجزاؤها - كذلك يجري الاستصحاب في الأمور غير القارة التدريجيّة، وهي التي لا تجتمع أجزاؤها في الوجود، بل توجد بالتدريج بأن يوجد جزء ثم يزول فيوجد جزء آخر وهكذا؛ وذلك لأن دليل الاستصحاب يشمل الأمور غير القارة أيضاً.

[2] التي يجتمع كل أجزائها معاً في وقت واحد، مثل: استصحاب وجود زيد.

[3] وهي التي لا تجتمع أجزاؤها معاً، بل تتبادل في الوجود، كالتكلم، فإنه يوجد جزء ثم يزول فيوجد جزء آخر، وهكذا.

ص: 68


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير القارة».

جزء إلاّ بعد ما انصرم منه جزء وانعدم، إلاّ أنه[1] ما لم يتخلل في البين العدم[2] - بل وإن تخلل بما لا يخل بالاتصال عرفاً، وإن انفصل حقيقة[3] - كانت[4] باقية مطلقاً أو عرفاً، ويكون رفع اليد عنها[5] مع الشك في استمرارها وانقطاعها نقضاً، ولا يعتبر[6] في الاستصحاب بحسب تعريفه وأخبار الباب وغيرها من أدلته غير صدق[7] النقض والبقاء كذلك قطعاً. هذا.

مع[8]

----------------------------------

الدليل الأول

[1] هذا الدليل الأول لجريان الاستصحاب في الأمور غير القارة، «أنه» للشأن.

[2] مثل: جريان ماء النهر فإنه متصل بلا انقطاع.

[3] كجريان الدم في أيام العادة، فإن انقطاعه فترة قصيرة غير مضر بالاتصال عرفاً.

[4] «كانت» خبر (أنه) في قوله: (إلاّ أنه ما لم يتخلل...) أي: كانت الأمور غير القارة، «مطلقاً» أي: دقة وعرفاً، «أو عرفاً» لا دقة.

[5] عن الأمور غير القارة، وكذا الضمير في «استمرارها» و«انقطاعها».

[6] يقيم المصنف ثلاثة أدلة على كفاية الاتصال العرفي:

1- تعريف الاستصحاب ب- (الحكم بالبقاء).

2- أخبار الاستصحاب، كقوله: (لا تنقض اليقين بالشك) وحيث إن الكلام ملقى إلى العرف نأخذ معنى (النقض) منه.

3- سائر أدلة الاستصحاب كالإجماع وبناء العقلاء ونحوهما.

[7] «غير» فاعل قوله: (لا يعتبر)، «النقض» لو لم نُبقِ الحكم، «والبقاء» إذا أبقينا الحكم، «كذلك» أي: عرفاً.

الدليل الثاني
اشارة

[8] هذا الدليل الثاني، وحاصله: إن بعض الأمور غير القارة لا تبدل في الموضوع

ص: 69

أن الانصرام والتدرج في الوجود في الحركة في الأين وغيره[1] إنما هو في الحركة القطعية، وهي: «كون الشيء[2]

----------------------------------

فيها، بل يبقى الموضوع واحداً؛ وذلك لأن الحركة قسمان: قطعية، وتوسطية.

أما القطعية: فهي ما إذا لوحظ كون الشيء في كل وقت في مكان أو زمان خاص، مثلاً: السائر من النجف إلى كربلاء تلاحظ الخطوة الأولى بأنها في مكان خاص ووقت مخصوص، فهذه الخطوة تزول وتخلفها خطوة أخرى.

وأما التوسطية: فهي ملاحظة الشيء بين المبدأ والمنتهى، فهذا السائر نلاحظ أنه بين النجف وكربلاء، وكلما سار وكلّما مضى الزمان فإن التوسط بينهما - أو البينيّة - مستمرة لا تتغير، فهو في الصباح وفي الفرسخ الأول يكون بينهما، كذلك في العصر وهو في الفرسخ الثاني يكون بينهما أيضاً.

[1] اعلم أن الحركة تتوقف على ستة أمور:

1- ما منه الحركة (المبدأ).

2- ما إليه الحركة (المنتهى).

3- ما به الحركة (السبب - العلة الفاعلة -).

4- ما له الحركة (الجسم المتحرك).

5- الزمان الذي تقع فيه الحركة.

6- المقولة التي تكون فيها الحركة، وهي مقولات أربع:

أ: الكم، كالأجسام النامية، فنموّها حركة في الكم.

ب: الكيف، كالحار إذا صار بارداً.

ج: الأين، وهو انتقال الشيء من حيّز إلى آخر.

د: الوضع، كالقائم إذا قعد، ولا يخفى أن الحركة في الوضع تستلزم الحركة في الأين أيضاً.

[2] أي: الشيء المتصرم الوجود يتحقق منه في كل وقت ومكان جزء، ثم يزول

ص: 70

في كل آن في حد أو مكان»، لا التوسطية[1] وهي: «كونه بين المبدأ والمنتهى»، فإنه بهذا المعنى يكون قاراً مستمراً.

فانقدح[2] بذلك أنه لا مجال للإشكال في استصحاب مثل الليل أو النهار وترتيب[3] ما لهما من الآثار.

وكذا[4] كلما إذا كان الشك في الأمر التدريجي من جهة الشك في انتهاء حركته ووصوله إلى المنتهى أو أنه بعد في البين.

وأما إذا[5] كان من جهة الشك في كميته ومقداره[6] - كما في نبع الماء وجريانه

----------------------------------

ويتحقق جزء آخر في وقت آخر أو مكان آخر.

[1] فإن الشيء يكون واحداً اعتباراً.

[2] هذا بيان للاستصحاب في نفس الزمان، «بذلك» ببيان أن الوحدة العرفية كافية.

[3] أي: الإشكال على ترتيب آثار الليل والنهار - كالإفطار والإمساك - وذلك بتبع استصحابهما.

[4] هذا بيان للاستصحاب في الزماني - الفعل المتدرج في الزمان كالتكلم وجريان الماء - إذ الحركة توسطية، مضافاً إلى الوحدة العرفية.

[5] هذا الكلام إلى قوله: (حسبما عرفت) تكرار للإشكال مع جوابه، وحاصله: إنه لو كانت الحركة قطعية فكيف نستصحب مع اليقين بزوال الوجود السابق كالماء أول الجريان، مع عدم اليقين بوجود لاحق، كالماء مع الشك في استمرار الجريان؟ فإن المتيقن السابق - وهو الماء الأول - قد زال قطعاً، والمشكوك اللاحق - وهو الماء الجديد المستمر - لا يقين سابق فيه.

[6] أي: كمية الأمر التدريجي ومقداره، وهذا من قبيل الشك في المقتضي، فنحتمل جفاف منبع العين في آخر الصيف، فهل نستصحب جريان الماء أم لا؟

ص: 71

وخروج الدم وسيلانه[1] في ما كان سبب الشك في الجريان والسيلان الشك في أنه بقي في المنبع والرحم فعلاً شيء من الماء والدم غير ما سال وجرى منهما - فربما يشكل في استصحابهما حينئذٍ[2]، فإن الشك ليس في بقاء جريان شخص ما كان جارياً، بل في حدوث جريان جزء آخر شك في جريانه من جهة الشك في حدوثه. ولكنه ينحلّ[3] بأنه لا يختل به ما هو الملاك[4] في الاستصحاب بحسب تعريفه ودليله[5] حسبما عرفت.

ثم إنه لا يخفى[6] أن استصحاب بقاء الأمر التدريجي إما يكون من قبيل استصحاب

----------------------------------

ولا يخفى أن الإشكال وجوابه يجريان أيضاً في الشك في المانع أيضاً، كما لو احتمل إيجاد مانع على (العين) بحيث انقطع جريان الماء.

[1] بأن احتمل انقطاع دم الحيض لانتهاء الدم في الرحم.

[2] حين الشك في كمية الماء والدم - مثلاً - وأنه هل بقي شيء في المنبع والرحم أم لا؟ وكذا يقال لو شك في المانع أيضاً.

[3] هذا جواب الإشكال، «بأنه» للشأن، «به» بهذا التبدّل، أي: بزوال السابق يقيناً، وعدم العلم بحدوث اللاحق.

[4] وهو (النقض لليقين) إذا لم يُجر الاستصحاب.

[5] تعريفه بأنه: (الحكم بالبقاء)، ودليله: (الأخبار) و(سائر الأدلة كالإجماع وبناء العقلاء... الخ).

[6] حاصله: إنه في الأمور التدريجيّة كما يجري استصحاب الشخص الجزئي كذلك يجري فيها استصحاب الكلي بأقسامه الثلاثة، فاستصحاب الشخص كمن كان يقرأ سورة البقرة مثلاً ثم شك في إكمالها، فكما يمكنه استصحاب بقائها كذلك يمكنه استصحاب الكلي الذي كان في ضمنها - وهو القسم الأول - .

ولو تردد بين سورة البقرة وسورة التوحيد - مثلاً - كان الاستصحاب من القسم الثاني.

ص: 72

الشخص، أو من قبيل استصحاب الكلي بأقسامه؛ فإذا شك في أن السورة المعلومة التي شرع فيها تمت أو بقي شيء منها صح فيه[1] استصحاب الشخص والكلي؛ وإذا شك فيه[2] من جهة ترددها بين القصيرة والطويلة كان من القسم الثاني؛ وإذا شك في أنه[3] شرع في أخرى مع القطع بأنه قد تمت الأولى كان من القسم الثالث كما لا يخفى.

هذا في الزمان ونحوه من سائر التدريجيات[4].

وأما الفعل المقيد بالزمان[5]:

----------------------------------

ولو علم بانتهاء السورة وشك في شروعه في سورة أخرى مقارناً بانتهاء الأولى كان من القسم الثالث.

[1] أي: في هذا الشك، أو في هذا المورد، و«الكلي» من القسم الأول.

[2] أي: في بقاء السورة، «ترددها» أي: السورة.

[3] مرجع الضمير: الشاك.

[4] التي يعبّر عنها بالزمانيات، وهي الأفعال التي يوجد جزء منها ثم ينعدم ليوجد جزء آخر، فلا تجتمع كل أجزائها معاً.

[5] وهو الفعل الذي يجتمع أجزاؤه كلها في الوجود، ولكن أخذ الزمان فيه بنحو القيد، مثلاً: الصوم في شهر رمضان، فإن الصوم - وهو الإمساك - يتحقق بأول حلول الفجر، وهذا الإمساك فعل مقيد بأن يكون في وقت خاص هو شهر رمضان.

وهذا على صور أربعة: فقد يشك في بقاء الزمان، وقد يقطع بارتفاع الزمان مع احتماله بقاء الحكم، وهذا على ثلاثة أنواع، وتفصيل الصور هو أنه:

1- قد يكون الشك في حكم الفعل من جهة الشك في بقاء الزمان، مثلاً: يشك في وجوب الإمساك للشك في بقاء النهار، فهنا يتمكن من استصحاب الزمان وهو النهار، أو استصحاب الحكم وهو وجوب الإمساك، وهذه الصورة الأولى.

ص: 73

فتارةً[1] يكون الشك في حكمه من جهة الشك في بقاء قيده؛ وطوراً[2] مع القطع بانقطاعه وانتفائه من جهة أخرى[3]، كما إذا احتمل[4] أن يكون التقييد به إنما هو بلحاظ تمام المطلوب لا أصله.

----------------------------------

وقد يقطع بارتفاع الزمان ولكن يكون الشك في جهة أخرى، وهذا على أنواع:

2- كون الزمان ظرفاً لا قيداً، كما لو قال: (تصدق يوم الجمعة)، فإنه يستصحب مطلوبية الصدقة يوم السبت، فإنه وإن زال يوم الجمعة قطعاً، لكنه كان ظرفاً للحكم، ولم يكن الحكم مقيداً بها.

3- كون الزمان قيداً مع وحدة المطلوب، بأن نعلم أن المولى لا يريد إلاّ الفعل المقيد بذلك الزمان، فلا مجال للاستصحاب بعد انتهاء ذلك الزمان؛ لتبدل الموضوع.

4- كون الزمان قيداً مع تعدد المطلوب، بأن نحتمل أن يكون الفعل مطلوباً على كل حال، ولكن الزمان المعيّن إنما هو قيد لشدة الطلب، وكون الفعل في ذلك الزمان أفضل، كالصلاة في أول الوقت - مثلاً - حيث إن طلبها أشد، ولكن مع بقاء الطلب إلى آخر الوقت، وحينئذٍ فيجري الاستصحاب لبقاء الموضوع عرفاً، وهذه الصورة الرابعة.

[1] هذه الصورة الأولى، «حكمه» أي: حكم الفعل، «قيده» أي: الزمان فإنه يشك في وجوب الإمساك للشك في بقاء النهار.

[2] أي: وتارة أخرى، وهذا مقسم الصور: الثانية والثالثة والرابعة، «بانقطاعه» أي: انقطاع الزمان، فقوله: «وانتفائه» عطف تفسيري.

[3] أي: الشك من جهة أخرى غير انقطاع الزمان، فقوله: «من جهة أخرى» متعلق (بالشك) المقدّر، فالمعنى: وطوراً الشك من جهة أخرى مع قطعنا بانتفاء الزمان.

[4] إشارة إلى الصورة الرابعة، «به» بالزمان، «تمام المطلوب» أي: المطلوب

ص: 74

فإن كان[1] من جهة الشك في بقاء القيد[2]، فلا بأس باستصحاب قيده من الزمان، كالنهار الذي قُيِّد به الصوم - مثلاً -، فيترتب عليه وجوب الإمساك وعدم جواز الإفطار ما لم يقطع بزواله[3]، كما لا بأس باستصحاب نفس المقيد، فيقال: إن الإمساك كان قبل هذا الآن في النهار، والآن كما كان فيجب، فتأمل[4].

وإن كان من الجهة الأخرى[5]،

----------------------------------

الكامل التام الواجد للفضيلة، والحاصل: يكون الزمان قيداً للفضيلة، «لا أصله» لا أنه قيد لأصل الحكم، بل أصل الحكم موجود في ذلك الزمان وفي غيره.

[1] أي: فإن كان الشك، وهذا تفصيل جريان الاستصحاب في الصورة الأولى، فإنه يمكن إجراء الاستصحاب في الزمان، ويمكن إجراء الاستصحاب في الحكم. أما استصحاب الزمان: كأن يستصحب بقاء النهار، وأثره الشرعي هو وجوب الاستمرار في الإمساك. وأما استصحاب الحكم: كأن يستصحب وجوب الإمساك نفسه.

[2] أي: الزمان، «قيده» أي: قيد الحكم، وقوله: «من الزمان» بيان للقيد.

[3] أي: زوال النهار، «المقيد» أي: الحكم.

[4] لعله إشارة إلى أن الاستصحاب الأول هو سببي والثاني مسببي، فلا يجري الثاني مع جريان الأول.

أو إشارة إلى أن استصحاب المقيد إنما هو استصحاب وجوب الإمساك، لا استصحاب أن الإمساك في النهار.

[5] أي: مع القطع بزوال الزمان ولكن مع احتمال بقاء الحكم.

ولا يخفى أن عبارة المصنف فيها تعقيد، ومراده: إنه إن كان الزمان ظرفاً فإن الاستصحاب يجري وإلاّ - بأن كان الزمان قيداً - فقد تبدل الموضوع، ولا يقين سابق بالنسبة إلى هذا الموضوع الجديد، فيستصحب العدم الأزلي، أي: يقال: إنّ هذا الحكم لم يجعل لهذا الموضوع قبل الشريعة، فنستصحب عدمه.

ص: 75

فلا مجال إلاّ لاستصحاب الحكم في خصوص[1] ما لم يؤخذ الزمان فيه إلاّ ظرفاً لثبوته[2]، لا قيداً[3] مقوماً لموضوعه، وإلاّ[4] فلا مجال إلاّ لاستصحاب عدمه في ما بعد ذاك الزمان، فإنه[5] غير ما علم ثبوته له، فيكون الشك في ثبوته له[6] أيضاً شكاً في أصل ثبوته بعد القطع بعدمه لا في بقائه.

لا يقال[7]: إن الزمان لا محالة يكون من قيود الموضوع وإن أخذ ظرفاً

----------------------------------

[1] وهذه هي الصورة الثانية.

[2] أي: لم يؤخذ الزمان إلاّ بنحو الظرف لثبوت ذلك الحكم.

[3] أي: لا مجال لاستصحاب الحكم إذا أخذ الزمان قيداً.

[4] أي: وإن أخذ الزمان قيداً فلا يجري استصحاب الحكم؛ لتبدل الموضوع، بل يجري استصحاب العدم الأزلي، «عدمه» عدم الحكم.

[5] أي: الزمان اللاحق، «غير» أي: موضوع آخر يختلف عن، «ما» أي: الموضوع الأول الذي، «علم ثبوته» أي: ثبوت الحكم، «له» لذلك الموضوع الأول.

[6] أي: في ثبوت الحكم لذلك الزمان الثاني، «أيضاً» أي: كما لو شك في الحكم قبل تشريع ذلك الحكم مقيداً بذلك الزمان. والحاصل: إنه لا فرق بين الشك في الحكم قبل التشريع وبين الشك في الحكم بعد التشريع مقيد بزمان خاص، «أصل ثبوته» ثبوت الحكم، «القطع بعدمه» أزلاً - قبل الشريعة - «لا في بقائه» أي: ليس شكاً في بقاء الحكم حتى يستصحب.

إشكالان: الأول

[7] هذا الإشكال والإشكال الآتي على استصحاب الحكم مع كون الزمان ظرفاً.

وحاصل الإشكال الأول: إن أخذ الزمان ظرفاً للفعل إنما هو لمدخلية الزمان في ملاك الحكم، وإلاّ كان أخذه لغواً.

وبعبارة أخرى: الزمان لا يكون ظرفاً للحكم إلاّ إذا كان له دخل في ملاك الحكم، ومع دخالته في الملاك يكون قيداً، فلا يجري فيه الاستصحاب.

ص: 76

لثبوت[1] الحكم في دليله، ضرورة دخل مثل الزمان في ما هو المناط لثبوته[2]، فلا مجال إلاّ لاستصحاب عدمه.

فإنه يقال[3]: نعم[4]، لو كانت العبرة في تعيين الموضوع بالدقة ونظر العقل؛ وأما إذا كانت العبرة بنظر العرف فلا شبهة في أن الفعل بهذا النظر موضوع واحد في الزمانين، قطع بثبوت الحكم له[5] في الزمان الأول، وشك في بقاء هذا الحكم له وارتفاعه في الزمان الثاني، فلا يكون مجال[6] إلاّ لاستصحاب ثبوته.

لا يقال[7]: فاستصحاب كل واحد من الثبوت والعدم يجري، لثبوت كلا

----------------------------------

[1] «لثبوت» متعلق بقوله: «ظرفاً»، «في دليله» متعلق بقوله: «أخذ». أي: أخذ الزمان في دليل الحكم ظرفاً، لكنه قيد واقعاً.

[2] أي: في ملاك الحكم «لثبوته» أي: الحكم «عدمه» عدم الحكم.

[3] حاصل الجواب: إن الزمان هو قيد بالدقة العقلية، وأما حسب النظر العرفي فليس بقيد، والمناط في الاستصحاب هو النظر العرفي لا الدقي.

[4] أي: نعم، لا مجال للاستصحاب الحكم، بل يجري استصحاب عدم الحكم، «العبرة» في دليل الاستصحاب، «بهذا النظر» العرفي.

[5] «له» للفعل، «وارتفاعه» عطف على «بقاء هذا...» أي: شك في بقاء أو ارتفاع هذا الحكم، «له» للموضوع.

[6] أي: لا مجال لاستصحاب العدم الأزلي؛ وذلك لانقطاعه بتشريع الحكم، والشك في الزمان الثاني إنما هو في استمرار نفس الحكم - بحسب النظرة العرفية - فيجري استصحاب الحكم، «ثبوته» أي: ثبوت الحكم.

الإشكال الثاني

[7] حاصله: إن دليل الاستصحاب مطلق، حيث قال: (لا تنقض) فكما يوجد نقض مع الوحدة العرفية كذلك يوجد نقض مع الوحدة الدقيّة، فيكون الدليل عاماً

ص: 77

النظرين[1]، ويقع التعارض بين الاستصحابين، كما قيل.

فإنه يقال[2]: إنما يكون ذلك لو كان في الدليل[3] ما بمفهومه يعم النظرين، وإلاّ[4] فلا يكاد يصح إلاّ إذا سيق بأحدهما، لعدم إمكان الجمع بينهما، لكمال المنافاة بينهما[5]، ولا يكون في أخبار الباب ما بمفهومه يعمهما[6]، فلا يكون هناك إلاّ استصحاب واحد[7]، وهو استصحاب الثبوت في ما إذا أخذ الزمان ظرفاً،

----------------------------------

يشمل كلا النظرين - العرفي والدقي - .

[1] العرفي والدقي.

[2] حاصل الجواب: إن النظر العرفي والدقي متنافيان متعارضان، فلا يمكن إرادتهما في دليل واحد؛ إذ يستلزم أن يكون الدليل متناقضاً في نفسه، وهذا محال على الحكيم.

وإنما يصح التعارض لو كان الدليل عاماً لا تناقض فيه، ثم حصل التنافي بين بعض المصاديق، أو لكون المورد مصداقاً لأمرين لا يمكن الجمع بينهما.

[3] أي: لو أمكن في دليل الاستصحاب، «ما» أي: لفظاً مطلقاً أو عاماً، «بمفهومه» أي: بمعناه، وليس مراد المصنف المفهوم الاصطلاحي المقابل للمنطوق.

[4] أي: وإن لم يمكن أخذ كلا النظرين في دليل الاستصحاب، «فلا يكاد يصح» أي: لا يكاد يصح دليل الاستصحاب، «بأحدهما» أي: لوحظ بأحد النظرين - إما العرفي أو الدقي - .

[5] إذ بالنظرة الدقية يكون الموضوع متعدداً غالباً فلا يجري استصحاب الحكم، وبالنظرة العرفية يكون نفس الموضوع واحداً فيجري الاستصحاب، ولا يعقل التناقض في معنى دليل واحد.

[6] بل حتى لو كان للدليل عموم فإنه لابد من رفع اليد عنه؛ لاستحالة أخذ النظرين معاً؛ للزومه التناقض في نفس الدليل.

[7] وهو الاستصحاب بحسب النظر العرفي، فكلما كان الموضوع واحداً في نظره

ص: 78

واستصحاب العدم في ما إذا أخذ قيداً، لما عرفت من أن العبرة في هذا الباب بالنظر العرفي.

ولا شبهة في أن الفعل في ما بعد ذاك الوقت معه ما قبله[1] متحد في الأول ومتعدد في الثاني بحسبه[2]، ضرورة أن الفعل المقيد بزمان خاص غير الفعل في زمان آخر ولو بالنظر المسامحي العرفي.

نعم[3]، لا يبعد أن يكون بحسبه أيضاً متحداً في ما[4] إذا كان الشك في بقاء حكمه من جهة الشك في أنه بنحو التعدد المطلوبي وأن حكمه[5] بتلك المرتبة التي

----------------------------------

جرى فيه استصحاب الحكم، وكلّما كان الموضوع متعدداً بالنظرة العرفية لم يجر استصحاب الحكم، بل يجري استصحاب العدم الأزلي، أي: عدم جعل الحكم لهذا الموضوع الجديد.

[1] أي: مع الفعل قبل ذلك الوقت، وحاصل الجملة: ولا شبهة في اتحاد الفعل قبل ذلك الوقت وبعده في ما لو كان الزمان ظرفاً.

[2] أي: ولا شك أن الفعل قبل ذلك الوقت مغاير للفعل بعد ذلك الوقت بحسب النظرة العرفية.

[3] تكرار لما ذكره في الصورة الرابعة، وهي ما إذا كان الزمان قيداً ولكن بنحو تعدد المطلوب، «أن يكون» أي: يكون الفعل المقيد بزمان خاص، «بحسبه» أي: بحسب النظر المسامحي العرفي، «حكمه» أي: حكم الفعل.

[4] أي: إن أخذ الزمان قيداً.

[5] هذا بيان للقيد بنحو تعدد المطلوب، «حكمه» حكم الفعل المقيد بالزمان، «بتلك المرتبة» العليا في الفضيلة - مثلاً - «مع ذلك الوقت» الذي قُيّد الفعل به، «بعده» بعد الوقت، «قطعاً» وإلاّ لم يكن معنى للتقييد بالزمان، بل كان لغواً، ففائدة التقييد هو بيان مرتبة الكمال.

ص: 79

كان مع ذاك الوقت وإن لم يكن باقياً بعده قطعاً إلاّ أنه يحتمل[1] بقاؤه بما دون تلك المرتبة من مراتبه، فيستصحب، فتأمل جيداً.

إزاحة وهم[2]

----------------------------------

[1] «أنه» المكلف، «يحتمل» بالمعلوم، «بقاؤه» أي: الحكم، «من مراتبه» مراتب الحكم. والحاصل: يكون كتقييد الصلاة في أول الوقت، فإنه قيد للفضيلة لا قيد لأصل المطلوبيّة.

إزاحة وهم
استصحاب الجعل والمجعول

[2] لو شككنا في استمرار المجعولات الشرعية، أي: إن الذي جعله الشارع هل له استمرار أم لا؟ فالمشهور على استصحاب المجعول. ولكن عن النراقي(1):

أن هذا الاستصحاب معارض باستصحاب عدم الجعل فيتساقطان.

مثلاً: الشارع جعل الطهارة والنجاسة، وجعل وجوب الصوم، وقبل هذه التشريعات لم يكن جعل لا للطهارة ولا للنجاسة ولا لوجوب الصوم.

فلو شككنا في استمرارها، كما لو غسل الثوب المتنجس بالدم مرة واحدة فشككنا في بقاء النجاسة، أو خرج منه مذي وشككنا في بقاء الطهارة الحدثية، أو أصيب بحمّى وشك في بقاء وجوب الصوم عليه، فهنا: استصحاب المجعول الشرعي يدل على استمرار نجاسة الثوب، وعلى استمرار الطهارة الحدثية، وعلى استمرار وجوب الصوم.

واستصحاب عدم الجعل يدل على عدم تشريع هذه الأحكام الوضعية والتكليفية، بمعنى أنا نشك في أن الشارع هل شرّع نجاسة الثوب الذي غُسل مرة من الدم؟ وهل شَرّع طهارة من خرج منه المذي؟ وهل شرّع وجوب الصوم على من أصيب بالحُمى؟

ص: 80


1- مناهج الأحكام والأصول: 237.

لا يخفى: أن الطهارة الحدثية والخبثية[1] وما يقابلها[2] يكون مما إذا وجدت بأسبابها[3] لا يكاد يشك في بقائها[4]

----------------------------------

ولا يخفى أن هذا استصحاب للعدم الأزلي.

فيقول النراقي بتعارض الاستصحابين وتساقطهما، والرجوع إلى أصول أخرى.

والمشهور عدم جريان استصحاب عدم الجعل؛ وذلك لأن الاستصحاب متوقف على الشك اللاحق، والحال أنه لا شك؛ وذلك لأنا على يقين بأن الأحكام الوضعية والتكليفية جُعلت مع قابليتها للاستمرار إلى الأبد ما لم يوجد رافع.

مثلاً: الطهارة الحدثية لها قابلية الاستمرار أبداً، كما في الحديث: (يكفيك الصعيد عشر سنين)(1)،

وكذا النجاسة والطهارة من الخبث، فلها الاستمرار إلى حصول الرافع، وكذا الأحكام الشرعية - كوجوب الصوم - فلها استمرار إلى حدوث النسخ.

إذن لا شك في بقائها، بل لنا العلم باستمرارها. نعم، قد يحصل شك في حدوث الرافع، فالأصل عدم حدوثه.

هذا في المجعولات الشرعية، أما الأمور التكوينية فلا معنى لاستصحاب عدم جعلها؛ لأنها بالأساس ليست مجعولة للشارع كي نستصحب عدم جعله لها.

[1] وهما من الأحكام الوضعية، وكذا وجوب الصوم وهو من الأحكام التكليفية، وغيرها من الأمثلة.

[2] أي: يقابل الطهارة، وهي القذارة الحدثيّة بالجنابة ونحوها، والنجاسة الخبثية كالتنجس بالبول والدم ونحوهما.

[3] لأن الشارع جعلها في ما تحققت أسبابها، كإصابة الدم، وكخروج المني ... الخ.

[4] فلا معنى لاستصحاب عدم الجعل لاختلال أحد ركني الاستصحاب، وهو الشك اللاحق؛ وذلك للعلم بأنها جُعلت مع قابليتها للاستمرار أبداً.

ص: 81


1- وسائل الشيعة 3: 369.

إلاّ من قِبَل الشك في الرافع لها[1]، لا من قبل[2] الشك في مقدار تأثير أسبابها، ضرورة[3] أنها إذا وجدت بها كانت تبقى ما لم يحدث رافع لها، كانت[4] من الأمور الخارجية أو الأمور الاعتبارية التي كانت لها آثار شرعية، فلا أصل[5] لأصالة عدم جعل الوضوء سبباً للطهارة بعد المذي، أو أصالة عدم جعل الملاقاة سبباً للنجاسة بعد الغسل مرة[6] - كما حكي عن بعض الأفاضل(1)،

ولا يكون

----------------------------------

[1] وأصالة عدم الرافع تتفق مع بقاء المجعول - وهو الحكم الوضعي أو التكليفي - ولا تعارضه.

[2] أي: ليس الشك في بقائها من جهة الشك في أصل الجعل، «أسبابها» أسباب الطهارة وما يقابلها.

[3] تعليل لعدم كون شك من جهة (الجعل)، بل إن حصل شك فهو من جهة (حدوث الرافع)، «أنها» الطهارة وما يقابلها، «بها» أي: بأسبابها.

[4] أي: لا فرق في استصحاب الحكم بين كونه من المجعولات الشرعية، أو من الأمور التكوينية التي لها آثار شرعية، كاستصحاب النهار؛ لأن أثره وجوب الإمساك في الصوم.

والغرض من هذه الجملة الردّ على المحقق النراقي الذي قال بعدم جريان الاستصحاب في المجعولات الشرعية؛ لتعارضه مع استصحاب عدم الجعل، ولكنه قال بجريان الاستصحاب في الأمور التكوينية التي لها أثر شرعي؛ وذلك لليقين بعدم جعلها شرعاً، فلا معنى لاستصحاب عدم الجعل، فيبقى استصحاب الأمر التكويني بلا معارض.

[5] أي: لا أصل من الشرع لاستصحاب عدم الجعل الذي أجراه المحقق النراقي.

[6] أي: مرة واحدة، كما لو شككنا بكفاية غسل المتنجس بالدم مرة واحدة أو لزوم غسله مرتين.

ص: 82


1- مناهج الأحكام والأصول: 237.

هاهنا أصل إلاّ أصالة الطهارة أو النجاسة[1].

الخامس[2]: إنه كما لا إشكال في ما إذا كان المتيقن حكماً فعلياً مطلقاً[3]، لا ينبغي الإشكال في ما إذا كان مشروطاً معلقاً[4]، فلو شك في مورد - لأجل[5] طروء بعض الحالات عليه - في بقاء أحكامه، ففي ما صح[6] استصحاب أحكامه المطلقة

----------------------------------

[1] وهي استصحاب المجعول الشرعي، فنحكم ببقاء الطهارة أو النجاسة حتى بعد خروج المذي أو الغَسل مرة واحدة.

التنبيه الخامس: الاستصحاب التعليقي
اشارة

[2] لو توقف الحكم على تحقق شرط فهذا هو الحكم التعليقي، كتوقف حرمة العنب على الغليان. فلو تغيرت بعض أوصاف ذلك الشيء وشككنا في بقاء هذا الحكم التعليقي، كما لو تغير العنب إلى الزبيب، وشككنا في حرمة الزبيب لو غلى، فهل يجري الاستصحاب بأن يقال: إن هذا الشيء لما كان عنباً كان يحرم بالغليان، كذلك بعد تبدله إلى الزبيب يحرم أيضاً بالغليان؟

الأقوى جريان الاستصحاب؛ وذلك لتحقق أركانه من اليقين السابق والشك اللاحق، فتشمله أدلة الاستصحاب.

[3] «مطلقاً» عطف بيان لقوله: «فعلياً»، أي: الحكم الذي لا يتوقف على تحقق شرط، مثل: (ملكية زيد للعنب).

[4] «معلقاً» عطف بيان على قوله: «مشروطاً».

[5] هذا سبب الشك، فالعنب صار جافاً فتحول إلى زبيب، «عليه» على ذلك المورد.

[6] أي: في ما كان له أثر شرعي كي يصح الاستصحاب، مثلاً: استصحاب ملكية العنب، وكذا استصحاب حرمته عند الغليان.أما إذا لم يكن للاستصحاب أثر فلا معنى لجريانه - لا في المطلق ولا في المعلّق - .

ص: 83

صح استصحاب أحكامه[1] المعلقة، لعدم الاختلال بذلك في ما اعتبر[2] في قوام الاستصحاب من اليقين ثبوتاً والشك بقاءً.

وتوهم[3] «أنه لا وجود للمعلّق[4] قبل وجود ما علق عليه فاختل أحد ركنيه»، فاسد جداً[5]، فإن المعلق قبله[6]

----------------------------------

[1] «أحكامه» أحكام ذلك المورد، «بذلك» بطروء بعض الحالات عليه.

[2] أي: أدلة الاستصحاب تشمل الأحكام المعلّقة؛ وذلك لتمامية ركني الاستصحاب.

إشكالات ثلاثة: الأول

[3] حاصله: إنه قبل الغليان لا وجود للحرمة، فلا يقين بها من باب السالبة بانتفاء الموضوع، فكيف نستصحب هذه الحرمة مع اختلال الركن الأول للاستصحاب، وهو اليقين السابق؟

[4] أي: الحكم الذي توقف على شرط، كالحرمة المعلّقة على الغليان، «ما علّق عليه» أي: الشرط، كالغليان في المثال.

[5] والجواب من وجهين:

الأول: إنه لا يشترط الوجود التنجيزي، بل يكفي الوجود التعليقي، فإنه أيضاً وجود ولكن بمرتبة أخرى، فالحرمة لها وجود تعليقي - وهو أحد مراتب الوجود - إذن فيوجد يقين سابق بها.

الثاني: إذا لم يكن وجود للحرمة المعلقة على الشرط، بل هي لا شيء، فكيف شرّعها الشارع في العنب؟ وهل يشرّع الشارع (اللاشيء)؟

فنقول: كما صحّ تشريع الحرمة التعليقية في العنب، بأن قال الشارع: العنب إذا غلى حرم، ويحلّ إذا تبخّر ثلثاه، كذلك يصح للشارع تشريع بقاء هذه الحرمة التعليقيّة في الزبيب.

[6] أي: قبل وجود ما عُلّق عليه - أي: الشرط - .

ص: 84

إنما لا يكون موجوداً فعلاً[1]، لا أنه لا يكون موجوداً أصلاً ولو بنحو التعليق، كيف[2]! والمفروض أنه مورد فعلاً[3] للخطاب[4] بالتحريم - مثلاً - أو الإيجاب، فكان[5] على يقين منه قبل طروء الحالة فيشك فيه بعده. ولا يعتبر[6] في الاستصحاب إلاّ الشك في بقاء شيء كان على يقين من ثبوته. واختلاف نحو[7] ثبوته لا يكاد يوجب تفاوتاً في ذلك.

وبالجملة[8]: يكون الاستصحاب متمّماً لدلالة الدليل على الحكم في ما أهمل أو أجمل[9]،

----------------------------------

[1] أي: ليس له هذه المرتبة من الوجود، لكن له مرتبة أخرى منه - وهو الوجود التعليقي - .

[2] إشارة إلى الجواب الثاني، «أنه» أي: إن المعلّق - وهو العنب بعد الغليان - .

[3] أي: بحكم وصل إلى مرحلة الفعلية، لا أنه مجرد إنشاء أو اقتضاء.

[4] فيخاطبه الشارع ويقول: يحرم عليك العنب إذا غلى ولم يذهب ثلثاه.

[5] أي: كان المكلّف على يقين من التحريم قبل طروء الجفاف للعنب، «فيه» أي: في الخطاب والتكليف، «بعده» أي: بعد طروء الحالة.

[6] أي: فتحقق ركنا الاستصحاب؛ إذ لا يعتبر في الاستصحاب... الخ.

[7] أي: كيفية ثبوت الشيء - بالتنجز أو التعليق - «في ذلك» الاستصحاب أو في اليقين السابق والشك اللاحق.

والحاصل: إن دليل الاستصحاب يدل على لزوم اليقين السابق والشك اللاحق، فهو مطلق يشمل كل أنحاء الوجود ومراتبه.

[8] أي: دليل الحكم إذا كان مجملاً أو مهملاً، بحيث شك في شموله لحالةٍ ما، فإن الاستصحاب يكون مكمّلاً لذلك الدليل، فيكون الحكم شاملاً لحالة الشك أيضاً.

[9] (الإهمال) هو تعمّد عدم بيان الحكم، و(الإجمال) هو قصور الدليل بأن بيّن الشارع ولكن لم نفهم مراده.

ص: 85

كان[1] الحكم مطلقاً أو معلقاً، فببركته يعم الحكم للحالة الطارئة اللاحقة كالحالة السابقة، فيحكم مثلاً بأن العصير الزبيبي يكون على ما كان عليه سابقاً في حال عنبيّته من أحكامه المطلقة والمعلقة لو شك فيها، فكما يحكم ببقاء ملكيته[2] يحكم بحرمته على تقدير غليانه[3].

إن قلت[4]: نعم[5]، ولكنه لا مجال لاستصحاب المعلّق[6]، لمعارضته باستصحاب ضده المطلق[7]، فيعارض استصحاب الحرمة المعلقة للعصير باستصحاب حليته المطلقة.

----------------------------------

[1] أي: سواء كان الحكم منجزاً أم معلقاً - بلا فرق - «فببركته» أي: ببركة الاستصحاب.

[2] وهو من أحكامه المطلقة، فمالك العنب لو شك في خروج الزبيب عن ملكيته فإنه يستصحب الملكية؛ لأن الزبيب نفس العنب مع تبدل بعض الأوصاف.

[3] أي: يحكم ببقاء حكمه المعلق وهو (الحرمة لو غلى).

الإشكال الثاني وجوابه

[4] حاصله: إن هاهنا استصحابين:

الأول: استصحاب الحرمة المعلقة، فيقال: إنّ العنب يحرم بالغليان، فنستصحب هذه الحرمة إلى الزبيب.

الثاني: إن العنب حلال فعلاً - بلا اشتراطه بشيء - فنستصحب حليته إلى الزبيب.

فيتعارض استصحاب الحرمة المعلقة مع استصحاب الحلية الفعليّة فيتساقطان، فلا يجري الاستصحاب التعليقي.

[5] أي: سلّمنا أن المعلّق له حظ من الوجود، «لكنه» للشأن.

[6] أي: الحكم المعلّق على الشرط، كاستصحاب الحرمة المعلّقة على الغليان، «لمعارضته» أي: المعلق.

[7] أي: ضد الحكم المعلّق، وهذا الضد هو الحلية المطلقة، «المطلق» أي: غير

ص: 86

قلت[1]: لا يكاد يضر استصحابه[2] على نحوٍ كان قبل عروض الحالة[3] التي شك في بقاء الحكم المعلق بعده[4]، ضرورة[5] أنه كان مغيّى بعدم ما علق عليه

----------------------------------

المشروط بشيء فهو منجّز، فالعنب حلال من غير تقييد حليته بشرط.

[1] حاصل الجواب: إن الحلية لها غاية - وهو الغليان - والحرمة لها بداية - وهي الغليان أيضاً - فلا تنافي بينهما أصلاً، فلا تعارض ولا تساقط.

كما أنه لا تنافي بين حلية العنب قبل الغليان، وحرمته بعد الغليان مع القطع بهذه الحلية وهذه الحرمة، فإذا لم تكن منافاة بين القطعين في العنب فبطريق أولى لا توجد منافاة بين الاستصحابين في الزبيب.

[2] أي: استصحاب الضد المطلق - وهو الحلية المطلقة - لا يضر باستصحاب الحرمة المعلقة.

[3] «على نحوٍ» أي: على نفس الصفة التي كانت قبل عروض الجفاف والتحول إلى الزبيب. والمعنى: أنا نستصحب الحكم بنفس الكيفية الذي كان في حال كونه عنباً، وحيث إن الحلية في العنب كانت مغيّاة كذلك الحلية المستصحبة في الزبيب مغياة أيضاً.

واسم «كان» هو الضمير الراجع إلى «نحو» أي: كان ذلك النحو - والصفة - قبل عروض الحالة وهي الزبيبيّة.

[4] «الحكم المعلق» كالحرمة المشترطة بالغليان، «بعده» أي: بعد عروض الحالة - وهو التبدّل إلى الزبيب - .

[5] دليل على أن استصحاب الحلية المطلقة لا يضرّ باستصحاب الحرمة المعلّقة، «أنه» أي: ضده المطلق - وهو الحلية المطلقة - «مغيّى» أي: له غاية ينتهي عندها، فالحلية تنتهي عند الغليان، «بعدم ما» (ما) موصولة، أي: بعدم شرطٍ كالغليان، «عليه» الضمير راجع إلى الموصول، فالمعنى: إن الحلية المطلقة كانت مغياة بعدم

ص: 87

المعلق، وما كان كذلك[1] لا يكاد يضر ثبوته بعده بالقطع[2] فضلاً عن الاستصحاب، لعدم[3] المضادة بينهما، فيكونان بعد عروضها[4] بالاستصحاب كما كانا معاً بالقطع قبل[5] بلا منافاة أصلاً، وقضية ذلك[6] انتفاء الحكم المطلق بمجرد ثبوت ما عُلّق عليه المعلّق؛ فالغليان في المثال كما كان شرطاً للحرمة كان غاية للحلية، فإذا شك في حرمته[7] المعلقة بعد عروض حالة عليه شك في حليته المغياة

----------------------------------

تحقق الشرط، وهو الغليان الذي عُلّق الحكم المعلّق وهو الحرمة على ذلك الشرط.

[1] أي: كان مغيّى، «ثبوته» أي: ثبوت الحكم المعلق، «بعده» أي: بعد تحقق (ما عُلق عليه) وهو الغليان في المثال.

والمعنى: إن الحلية المغياة بالغليان - مثلاً - لا تنافي الحرمة بعد الغليان؛ لأن الحلية قبل، والحرمة بعد.

[2] أي: الثبوت القطعي بأن نقطع بالحلية المغياة والحرمة المعلّقة، فلا تنافي بين القطعين، كذلك لا تنافي بين الاستصحابين.

[3] دليل عدم الضرر، «بينهما» بين الحلية المغياة والحرمة المعلقة؛ لأن أحدهما قبل تحقق الشرط، والآخر بعد تحقق الشرط.

[4] أي: فيكون الحكم المغيّى والحكم المعلّق، «عروضها» أى: الحالة، كالغليان في المثال.

[5] أي: الحكمين اللذين قطعنا بهما قبل عروض حالة الزبيبيّة.

[6] أي: مقتضى كون الحلية مغيّاة بالغليان، والحرمة معلّقة على الغليان هو انتهاء الحلية وابتداء الحرمة عند تحقق الغليان، «ما عُلّق» أي: الشرط - كالغليان - الذي عُلّق على ذلك الشرط الحكم المعلّق وهو الحرمة.

[7] أي: حرمة الزبيب، «المعلقة» تلك الحرمة على الغليان، «عروض حالة عليه» أي: عروض حالة الزبيبية على العنب، «حليته» حلية الزبيب.

ص: 88

لا محالة أيضاً، فيكون[1] الشك في حليته أو حرمته فعلاً[2] بعد عروضها متحداً[3] خارجاً مع الشك في بقائه على ما كان عليه من الحلية والحرمة بنحوٍ[4] كانتا عليه،

----------------------------------

والمقصود هو عدم التنافي بين الشكين، وإمكان جريان الاستصحابين.

جواب الشيخ الأعظم

[1] هذا تعريض بجواب الشيخ الأعظم، والإشكال عليه. فقد أجاب الشيخ الأعظم عن الإشكال الثاني بما حاصله:

إن الاستصحاب التعليقي أصل سببي، فهو حاكم على الاستصحاب التنجيزي؛ لأنه مسببي؛ وذلك لأن الشك في بقاء الحلية الفعلية في الزبيب مسبب عن الشك في بقاء الحرمة المعلّقة، فإذا أجرينا الاستصحاب في الحرمة المعلقة فلا تبقى حلّية فعلية، وإن لم يجر الاستصحاب في الحرمة المعلقة لم ترتفع الحلية الفعلية.

ونص عبارة الشيخ هي: (لحكومة استصحاب الحرمة على تقدير الغليان على استصحاب الإباحة قبل الغليان)(1).

وفيه: إنه ليس هنا شكّان اثنان حتى يكون أحدهما سببياً والآخر مسببياً، بل هو شك واحد فقط؛ لأن الشك في حلية أو حرمة الزبيب يساوي الشك في بقاء حلية أو حرمة العنب؛ إذ بقاء حلية العنب معناه حلية الزبيب، وبقاء حرمة العنب بعد الغليان معناه حرمة الزبيب بعد الغليان.

[2] أي: في حلية أو حرمة العصير، «فعلاً» بعد الغليان، «عروضها» أي: عروض حالة الزبيبيّة.

[3] خبر (كان) أي: لا يوجد شكّان حتى يكون أحدهما سببياً والآخر مسببياً، بل هما شك واحد، «بقائه» أي: العصير.

[4] أي: بنفس الكيفية التي كانت الحرمة والحلية على تلك الكيفية، فالحلية

ص: 89


1- فرائد الأصول 3: 223.

فقضية[1] استصحاب حرمته المعلقة - بعد عروضها الملازم[2] لاستصحاب حليته المغياة - حرمته[3] فعلاً بعد غليانه وانتفاء حليته، فإنه[4] قضية نحو ثبوتهما، كان[5] بدليلهما أو بدليل الاستصحاب، كما لا يخفى بأدنى التفات على ذوي الألباب، فالتفت ولا تغفل[6].

----------------------------------

مطلقة مغياة، والحرمة معلّقة، «عليه» أي: على ذلك النحو.

[1] هذا نتيجة عدم تنافي الاستصحابين - استصحاب الحلية المغيّاة واستصحاب الحرمة المعلقة - . فالمصنف بعد ردّ جواب الشيخ رجع لبيان نتيجة جوابه، «حرمته» العصير، «عروضها» الحالة، «حليته» العصير.

[2] فلا تعارض بين الاستصحابين، بل بينهما ملازمة؛ لأن الحلية هي قبل الغليان، والحرمة بعده.

[3] قوله: «حرمته» خبر قوله: (فقضية...) أي: مقتضى الاستصحابين هو الحرمة الفعلية بعد تحقق الغليان وانتفاء الحلية.

[4] أي: حرمته فعلاً بعد الغليان إنما هو مقتضى كيفية ثبوت الحرمة والحلية، فالحلية في العنب كانت مغياة بالغليان، فكذلك تكون مغياة بالغليان في استصحاب الحلية في الزبيب.

والحرمة في العنب كانت معلّقة على الغليان، فكذلك تكون معلّقة على الغليان في استصحاب الحرمة في الزبيب.

[5] أي: لا فرق في كيفية ثبوت الحكم بين كونه بالدليل الاجتهادي كما في العنب، أم بالأصل العملي وهو الاستصحاب كما في الزبيب.

[6] وللمصنف تعليقة يذكر فيها جواب الشيخ عن الإشكال الثاني ويستشكل عليه، ثم يذكر إشكالاً ثالثاً على الاستصحاب التعليقي ويُجيب عنه، قال(1)

- مع توضيحه - : «فالتفت ولا تغفل» (كي لا تقول في مقام التفصي عن) الإشكال الثاني

ص: 90


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 534.

----------------------------------

وهو (إشكال المعارضة) بين استصحاب الحلية المطلقة مع الحرمة المعلّقة، وقولك: (إن الشك في الحلية فعلاً) أي: منجزاً (بعد الغليان يكون مسبّباً عن الشك في الحرمة المعلقة) كما ذكر ذلك الشيخ الأعظم (فيشكل) على جوابه (بأنه لا ترتب بينهما) أي: لا اثنينية حتى يكون أحدهما سببياً والآخر مسببياً، لا (عقلاً، ولا شرعاً، بل بينهما) بين الشكّين (ملازمة) أي: اتحاد (عقلاً)، وذلك (لما عرفت من أن الشك في الحلية أو الحرمة الفعليين بعده) أي: بعد الغليان (متحد مع الشك في بقاء حرمته) أي: حرمة العنب (وحليته المعلّقة) أي: الحلية المغياة والحرمة المعلّقة، فالبقاء يعني فعلية الحكم (و أن قضية الاستصحاب) أي: مقتضى استصحاب الحلية المغياة والحرمة المعلقة هو: (حرمته) الزبيب (فعلاً) أي: منجزاً (وانتفاء حليته بعد غليانه).

ثم يشير المصنف في هذه التعليقة إلى إشكال ثالث على الاستصحاب التعليقي:

الإشكال الثالث وجوابه

يقول المصنف - في تتمة التعليقة - : (فإن حرمته كذلك) أي: فعلاً مع انتفاء الحلية (وإن كان لازماً عقلاً لحرمته المعلقة المستصحبة) وهذا هو الأصل المثبت.

وحاصل الإشكال: إن الاستصحاب التعليقي أصل مثبت؛ لأن استصحاب بقاء الحرمة المعلّقة يدل على بقاء هذه الحرمة، وهذا لا ينفعنا، بل النافع هو الحرمة الفعلية؛ ولإثبات الحرمة الفعلية لابد من واسطة عقلية؛ وذلك لأن بقاء الحرمة المعلّقة معناه حرمة الزبيب بالغليان، والواسطة هي حكم العقل بتحوّل المعلق إلى منجز فعلي إن تحقق الشرط.

وبعبارة أخرى: كلّي الحرمة المعلقة لا ينفع، بل لابد من تطبيق هذا الكلي على الجزئي، وهذا التطبيق هو بحكم العقل.

ص: 91

السادس[1]:

----------------------------------

والجواب: إن اللازم على قسمين:

1- لازم الشيء بوجوده الواقعي، كضدية الصلاة للنوم، فإن الوجود الواقعي للصلاة يضادّ النوم.

2- لازم الشيء بمطلق وجوده - حتى الظاهري منه - مثل: وجوب المقدمة عقلاً فإنها لازم لوجوب الشيء حتى ظاهراً، والأصل المثبت هو القسم الأول دون القسم الثاني - كما سيأتي في التنبيه الثامن - .

وما نحن فيه هو من القسم الثاني، فإن المعلق يتحول إلى منجزّ حتى لو كان دليل التنجيز أمراً ظاهرياً، فيقول المصنف في تكملة تعليقته: (إلاّ أنه) أي: هذا اللازم العقلي (لازم لها) أي: للحرمة المعلّقة المستصحبة، حتى لو (كان ثبوتها) تلك الحرمة (بخصوص خطاب) أي: دليل اجتهادي ظاهري (أو عموم دليل الاستصحاب) وهو أيضاً دليل ظاهري. ثم قال المصنف: (فافهم) ولعله إشارة إلى جواب ثانٍ وهو أنه لا لازم عقلي هنا، بل الكبرى - وهي حرمة الزبيب بالغليان - قد وصلتنا بالاستصحاب، والصغرى - وهي الغليان خارجاً - قد ثبتت بالوجدان، فإذا غلى الزبيب وعلمنا به بالوجدان ترتب الحكم، وهو الحرمة قهراً بلا واسطة.

التنبيه السادس: استصحاب أحكام الشرائع السابقة
اشارة

[1] لو فرض ثبوت حكم في الشرائع السابقة على الإسلام، وشككنا في نسخ ذلك الحكم في شريعتنا، فهل يجري الاستصحاب أم لا؟

مثلاً: هل يجوز نكاح المرأة المرددة بين اثنتين ثم تعيينها بعد العقد أم لا يجوز؟

دل قوله تعالى: {قَالَ إِنِّيٓ أُرِيدُ أَنۡ أُنكِحَكَ إِحۡدَى ٱبۡنَتَيَّ هَٰتَيۡنِ}(1) على أن شعيب

ص: 92


1- سورة القصص، الآية: 27.

----------------------------------

أنكح إحدى بنتيه لموسى عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، وكان الإنكاح بنفس هذه العبارة - على ما قيل(1) - .

وكذا ضمان ما لم يجب ثبت في شريعة يوسف عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في قوله تعالى: {وَلِمَن جَآءَ بِهِۦ حِمۡلُ بَعِيرٖ وَأَنَا بِهِۦ زَعِيمٞ}(2) - على ما قيل(3)

في معنى الآية - .

فهل يستصحب هذان الحكمان وأمثالهما إلى شريعتنا؟ والأقوى جريان الاستصحاب؛ وذلك لثبوت المقتضي وعدم المانع.

أما المقتضي للاستصحاب: فهو عموم أدلة الاستصحاب وعدم تقييدها.

وأما المانع فهو أحد أمرين، وكلاهما محل إشكال:

الأول: عدم اليقين السابق؛ لأن تلك الأحكام كانت ثابتة لأهل تلك الشريعة، ولم يعلم شمولها لنا، وإذا انتفى اليقين السابق انتفى الشك في البقاء أيضاً؛ لأن البقاء فرع الثبوت، وقد اختلّ بذلك كلا ركني الاستصحاب.

وفيه: إن أحكام الشرائع إنما هي على نحو القضية الحقيقية، فتشمل الأفراد المعاصرين لنزول الشريعة، وكل الأفراد اللاحقين ما لم ينسخ الحكم، فلمّا نزلت الشرائع السابقة شملتنا بالقطع واليقين، والشك الآن في النسخ.

الثاني: عدم الشك اللاحق؛ وذلك لعلمنا بنسخ الشرائع السابقة كلها، وما كان من أحكام مشتركة مع الشرائع السابقة - كحرمة السرقة مثلاً - فإنما هو بتشريع جديد.

وفيه: إن الثابت هو نسخ بعض الأحكام لا جميعها، بل بعض الأحكام هي مشتركات كل الشرائع.

إن قلت: مع علمنا إجمالاً بنسخ بعض الأحكام دون بعض لا يمكننا إجراء

ص: 93


1- زبدة البيان في أحكام القرآن: 463.
2- سورة يوسف، الآية: 72.
3- المبسوط 2: 322.

لا فرق أيضاً[1] بين أن يكون المتيقن من أحكام هذه الشريعة أو الشريعة السابقة إذا شك في بقائه وارتفاعه[2] بنسخه في هذه الشريعة، لعموم[3] أدلة الاستصحاب، وفساد[4] توهم اختلال أركانه في ما كان المتيقن من أحكام الشريعة السابقة لا محالة. إما لعدم[5] اليقين بثبوتها في حقهم وإن علم بثبوتها سابقاً في حق آخرين، فلا شك[6]

----------------------------------

الاستصحاب؛ إذ لا يجري في أطراف العلم الإجمالي.

قلت: هذا العلم الإجمالي منحل؛ لأن المقدار المعلوم معروف، وأحكام هذه الشريعة أكثرها معلومة، فينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي وشك بدوي، فيجري حينئذٍ الاستصحاب في الموارد المشكوكة.

[1] أي: كما لا فرق بين الاستصحاب التعليقي والتنجيزي - وقد ذكرنا تفصيله في التنبيه الخامس - .

[2] أي: بقاء وارتفاع الحكم المتيقن، «بنسخه» متعلق ب- «ارتفاعه» أي: الارتفاع بالنسخ، «في هذه...» متعلق ب- «بقائه وارتفاعه».

[3] تعليل قوله: (لا فرق...) وهذا بيان وجود المقتضي للاستصحاب.

[4] أي: ولفساد التوهم، وهذا بيان عدم وجود المانع من الاستصحاب، «أركانه» أركان الاستصحاب من اليقين السابق أو الشك اللاحق.

[5] بيان للمانع الأول المتوهم، «بثبوتها» أي: أحكام الشريعة السابقة، «حقهم» حق أصحاب الشريعة اللاحقة، «حق آخرين» وهم المعاصرون لتلك الشريعة السابقة.

[6] أي: إذا لم يكن يقين سابق فلا يوجد شك في البقاء؛ لأن البقاء إنما هو في شيء موجود، فإذا لم يكن موجوداً فلا بقاء قطعاً. نعم، قد نشك في ثبوت حكم مماثل، وهذا شك بدوي لا ارتباط له بالاستصحاب، «بقائها» تلك الأحكام، «أيضاً» كما لا يقين بها، «ثبوت مثلها» أي: نشك في أن الشارع هل شرع لنا حكماً جديداً يشابه تلك الأحكام أم لا؟

ص: 94

في بقائها أيضاً، بل في ثبوت مثلها، كما لا يخفى. وإما لليقين[1] بارتفاعها بنسخ الشريعة السابقة بهذه الشريعة، فلا شك في بقائها حينئذٍ، ولو سلم اليقين بثبوتها في حقهم.

وذلك[2] لأن الحكم الثابت في الشريعة السابقة حيث[3] كان ثابتاً لأفراد المكلف، كانت محققة وجوداً أو مقدرة[4] - كما هو قضية القضايا المتعارفة المتداولة[5]، وهي قضايا حقيقية -، لا خصوص الأفراد الخارجية - كما هو قضية

----------------------------------

[1] بيان للمانع الثاني المتوهم، «بارتفاعها» أحكام الشريعة السابقة، «حينئذٍ» حين النسخ، «حقهم» أي: حق أصحاب الشريعة الجديدة.

[2] هذا جواب عن المانع الأول.

وحاصله أن القضايا على ثلاثة أقسام:

1- قضايا خارجية: ترتبط بالأفراد الموجودين، كالأمر بالجهاد في غزوة بدر.

2- قضايا طبيعية: ترتبط بالكلي، كقولنا الإنسان حيوان ناطق.

3- قضايا حقيقيّة: ترتبط بالأفراد، سواء كانوا موجودين في وقت الخطاب أم الذين سيوجدون في المستقبل.

وظاهر الأوامر الشرعية أنها على نحو القضايا الحقيقية، فلذا تشملنا كما تشمل المعاصرين لنزول الوحي، وهكذا الشرائع السابقة أحكامها بنحو القضايا الحقيقية، فحين تشريعها شملت كل الناس، سواء الموجودين وقت الخطاب أم الذين سيوجدون. إذن شملنا ذلك الخطاب حين صدوره بالقطع واليقين، والآن نشك في نسخه في هذه الشريعة، فتمّت أركان الاستصحاب.

[3] جزاء حيث سيأتي بعد أسطر في (كان الحكم في الشريعة السابقة... الخ).

[4] أي: سواء كانوا موجودين وقت الخطاب، أم سيوجدون بعد ذلك.

[5] لذا تحمل جميع الأحكام على أنها قضايا حقيقية، إلاّ إذا دلّ الدليل على أنها قضية خارجيّة.

ص: 95

القضايا الخارجية -، وإلاّ [1] لما صح الاستصحاب في الأحكام الثابتة في هذه الشريعة، ولا النسخ[2] بالنسبة إلى غير الموجود في زمان ثبوتها، كان الحكم[3] في الشريعة السابقة ثابتاً لعامة أفراد المكلف ممن وجد أو يوجد، وكان الشك[4] فيه كالشك في بقاء الحكم الثابت في هذه الشريعة لغير من وجد في زمان ثبوته[5].

والشريعة السابقة[6]

----------------------------------

[1] أي: لو كانت الأحكام قضايا خارجية لم يصح الاستصحاب حتى في أحكام هذه الشريعة؛ وذلك لعدم وجودنا حين صدور الخطاب.

ولكن حيث إن الأحكام الشرعية قضايا حقيقية صحّ لنا الاستصحاب في أحكام هذه الشريعة، كاستصحاب وجوب صلاة الجمعة في عهد الغيبة، وهكذا في استصحاب أحكام الشرائع السابقة؛ لأنها قضايا حقيقية.

[2] أي: ولا صح نسخ الشريعة اللاحقة للشريعة السابقة؛ لأن النسخ فرع ثبوت الحكم في حق اللاحقين، فإذا كان الحكم قضية خارجية لم تشمل بالأساس اللاحقين حتى تنسخ، مثلاً: الأمر بذبح البقرة كان قضية خارجية، فلا تشمل الأجيال اللاحقة، فلا يصح أن نقول: إن شريعتنا نسخت الأمر بذبح تلك البقرة، «غير الموجود» أي: الأجيال اللاحقة، «ثبوتها» ثبوت أحكام الشريعة السابقة.

[3] هذا جزاء قوله قبل أسطر: (حيث كان ثابتاً لأفراد... الخ) أي: حيث كانت الأحكام في الشريعة السابقة على نحو القضية الحقيقية كان الحكم في الشريعة السابقة شاملاً أيضاً للأفراد الذين سيوجدون في الشريعة اللاحقة.

[4] أي: كما أن أحكام هذه الشريعة عامة تشمل الأجيال اللاحقة، فإذا شكّوا في استمرار حكم استصحبوه، كذلك أحكام الشريعة السابقة عامة تشمل هؤلاء، فإذا شكّوا في بقاء حكم استصحبوه، «فيه» في الحكم في الشريعة السابقة.

[5] أي: في زمان التشريع حيث شُرّع الحكم.

[6] هذا جواب عن المانع الثاني، وحاصله: إن نسخ الشريعة السابقة ليس بمعنى

ص: 96

وإن كانت منسوخة بهذه الشريعة يقيناً، إلاّ أنه[1] لا يوجب اليقين بارتفاع أحكامها بتمامها، ضرورة أن قضية نسخ الشريعة ليس ارتفاعها كذلك، بل عدم بقائها بتمامها[2].

والعلم إجمالاً[3]

----------------------------------

ارتفاع تمام أحكامها، بل بمعنى ارتفاع بعض أحكامها، فلا يصح أن نقول: إن حرمة السرقة والقتل قد نسخ في هذه الشريعة، وشُرّعت حرمة جديدة للسرقة والقتل!!

ولا يخفى أن الدين واحد وهو الإسلام، كما قال تعالى: {إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ}(1)، والشرائع متعددة مع اشتراكها في ثلاثة أمور:

1- العقائد: فلا نسخ ولا تبديل لأية عقيدة، بل الكل كانوا على التوحيد، وعلى الاعتراف بالأنبياء والأوصياء والمعاد.

2- الأخلاق: فلا نسخ في الفضائل ولا في الرذائل.

3- الأحكام: وأصول الأحكام واحدة، ولكن النسخ والتغيير إنما هو في التفاصيل مع إضافة بعض الأحكام.

إذن، فالشرائع مشتركة في أكثر الأمور بلا نسخ إلاّ في بعض الأحكام وتفاصيلها.

[1] «أنه» النسخ، «كذلك» بتمامها.

[2] أي: لا تبقى كلها، بل الباقي بعضها.

[3] إشكال على هذا الجواب، وحاصله: إن نسخ بعض الأحكام وعدم نسخ بعضها سبب وجود علم إجمالي، ولا تجري الأصول العملية في أطراف العلم الإجمالي كما مرّ سابقاً.

ص: 97


1- سورة آل عمران، الآية: 19.

بارتفاع بعضها إنما يمنع[1] عن استصحاب ما شك في بقائه منها[2] في ما إذا كان من أطراف ما علم ارتفاعه إجمالاً، لا في ما إذا لم يكن من أطرافه[3]، كما[4] إذا علم بمقداره تفصيلاً[5] أو في موارد[6] ليس المشكوك منها، وقد علم[7] بارتفاع ما في موارد الأحكام الثابتة في هذه الشريعة.

----------------------------------

فلو علمنا بطهارة إناء ثم سقطت قطرة دم مرددة على هذا الإناء أو على الإناء الآخر، فإنه لا يجري استصحاب طهارة ذلك الإناء، بل يجب الاحتياط من كلا الإناءين بمقتضى العلم الإجمالي.

[1] جواب عن هذا الإشكال، وحاصله: إن العلم الإجمالي منحل إلى علم تفصيلي بوجود موارد النسخ في الأحكام المعلومة في هذه الشريعة، وإلى شك بدوي، وإذا انحل العلم الإجمالي جرت الأصول العملية.

[2] «ما» أي: حكم، «شك في بقائه» بقاء ذلك الحكم، «منها» من الشريعة السابقة، «علم ارتفاعه» أي: نسخه.

[3] بانحلال العلم الإجمالي.

[4] بيان للانحلال وعدم كونه من أطرافه، وتوضيحه: إنا نعلم بنسخ مقدار معين من الأحكام، وقد عرفنا هذا الموارد إما معرفة تفصيلية بأنها من موارد النسخ، وإما معرفة إجمالية بأن نعلم أحكام هذه الشريعة، ونعلم أن موارد النسخ في ضمنها، فلا علم لنا بوجود أحكام منسوخة في موارد الشك.

[5] أي: بمقدار ما علم نسخه، «تفصيلاً» فينحل العلم الإجمالي كاملاً.

[6] أي: انحلال العلم الإجمالي الكبير إلى علم إجمالي صغير، ولم يكن المشكوك من موارد العلم الإجمالي الصغير.

[7] أي: كل حكم من أحكام هذه الشريعة ناسخ لما ينافيه من أحكام الشريعة السابقة.

وقد علمنا بوجود الأحكام المنسوخة في ضمن الأحكام التي نعلمها من هذه

ص: 98

ثم لا يخفى[1] أنه يمكن إرجاع ما أفاده شيخنا العلامة - أعلى الله في الجنان مقامه - في الذب عن إشكال[2] تغاير الموضوع في هذا الاستصحاب من الوجه الثاني إلى

----------------------------------

الشريعة، ولا علم لنا بوجود نسخ في ما سوى الأحكام المعلومة، فتكون موارد الشك في الحكم خارجة عن أطراف العلم الإجمالي.

جوابان للشيخ الأعظم عن المانع الأول

[1] أجاب الشيخ الأعظم عن المانع الأول - وهو توهم عدم اليقين السابق - بوجهين:

الأول: جريان الاستصحاب لمن أدرك الشريعتين، فيجري الاستصحاب في حق غيره أيضاً، للاشتراك في التكليف.

الثاني: قال: (إن المستصحب هو الحكم الكلي الثابت للجماعة على وجه لا مدخل لأشخاصهم فيه)(1)

وهذا الكلام ظاهر في أنه أراد ما ذكره المصنف من أن الأحكام الشرعية هي قضايا حقيقية لأن (الجماعة) هم الأفراد و(لا مدخل للأشخاص) يعني به الموجودين في زمان الخطاب.

وليس مراد الشيخ الأعظم أن الخطاب متوجه إلى الكلي على نحو القضية الطبيعية، فإن توجه الخطاب إلى الكلي:

1- إن كان في الأمور الوضعية فلا محذور فيه، بل هو واقع إثباتاً أيضاً كما في الزكاة، فإن المالك فيها هو كلي الفقير، وكذا في الأوقاف العامة التي عُيّن فيها المنتفعون كالطلاب مثلاً.

2- وإن كان في الأحكام التكليفية فهذا غير معقول؛ لأن الغرض من الخطاب هو البعث والزجر، ولا معنى لهما في الكلي، بل البعث والزجر للأفراد.

[2] مقصوده في دفع الإشكال، «تغاير الموضوع» أي: عدم اليقين السابق لنا؛

ص: 99


1- فرائد الأصول 3: 226.

ما ذكرنا[1]، لا ما يوهمه ظاهر كلامه، من: «أن الحكم ثابت للكلي، كما أن الملكية له في مثل باب الزكاة والوقف العام، حيث لا مدخل للأشخاص فيها»، ضرورة[2] أن التكليف والبعث أو الزجر لا يكاد يتعلق به كذلك، بل لابد من تعلقه[3] بالأشخاص، وكذلك الثواب أو العقاب المترتب على الطاعة أو المعصية، وكأنّ غرضه من عدم دخل الأشخاص عدم أشخاص خاصة[4]، فافهم[5].

وأما ما أفاده من الوجه الأول[6]، فهو وإن كان وجيهاً بالنسبة إلى جريان

----------------------------------

لأن المكلفين كانوا أُناساً معاصرين للشريعة السابقة، وأصحاب هذه الشريعة لم يكونوا مكلفين، فتغاير الموضوع في القضية المتيقنة عن الموضوع في القضية المشكوكة.

[1] من أن الحكم بنحو القضية الحقيقية، «يوهمه ظاهر كلامه» من أنه بنحو القضية الطبيعية.

[2] أي: إن ما يوهمه ظاهر كلامه لا يمكن أن يكون مراده؛ إذ التكليف لا يتوجه إلى الكلي حتماً، «به» أي: بالكلي، «كذلك» من غير مدخلية الأشخاص.

ثم إن المصنف بين عدم إمكان تعلق الحكم بالكلي، سواء في مبادئ الحكم - أي: البعث أو الزجر - أم في نتيجة الحكم - وهي الثواب أو العقاب - .

[3] أي: تعلّق التكليف.

[4] أي: المعاصرين للشريعة السابقة.

[5] لعله إشارة إلى إمكان تعلق التكليف بالكلي؛ لأن الكلي الطبيعي لا يوجد إلاّ بوجود أفراده، فالقضية الطبيعية هنا مرجعها إلى القضية الحقيقية، فيصح بعث أو زجر الكلي، ولكن باعتبار وجوده في ضمن الأفراد.

[6] قال الشيخ الأعظم: (أولاً: إنا نفرض الشخص الواحد مُدركاً للشريعتين، فإذا حرم في حقه شيء سابقاً، وشك في بقاء الحرمة في الشريعة اللاحقة، فلا مانع

ص: 100

الاستصحاب في حق خصوص المدرك للشريعتين، إلاّ أنه غير مجدٍ[1] في حق غيره من المعدومين[2]. ولا يكاد يتم[3] الحكم فيهم، بضرورة اشتراك أهل الشريعة الواحدة أيضاً، ضرورة أن قضية الاشتراك ليس إلاّ أن الاستصحاب حكم كل من كان على يقين فشك، لا أنه حكم الكل ولو من لم يكن كذلك[4] بلا شك، وهذا واضح.

----------------------------------

عن الاستصحاب أصلاً)(1)،

انتهى. وبضميمة الاشتراك في التكليف يثبت الحكم للأجيال القادمة الذين لم يدركوا الشريعة السابقة.

[1] بيان الإشكال على هذا الوجه، وحاصله: إن الاشتراك في التكليف معناه أن الحكم ثابت للجميع لو تحققت شرائطه وارتفعت موانعه.

وفي ما نحن فيه يقال: إنّ الجميع مشترك في حجية الاستصحاب، ولكن إذا تحقق اليقين السابق والشك اللاحق، فالمدرك للشريعتين تحققت عنده أركان الاستصحاب فلذا عليه إجراؤه، لكن غيره من الأجيال اللاحقة لا يقين سابق لديهم، فلم تتم عندهم أركان الاستصحاب، فلا يجري.

إذن، فلا ينفعنا هذا الوجه، بل لابد من إثبات وجود يقين سابق؛ وذلك بالجواب السابق - وهو أن التكاليف على نحو القضية الحقيقية - .

[2] أي: غير المدرك للشريعتين من الذين لم يكونوا موجودين في ذلك الوقت.

[3] دفع إشكال مقدر، وحاصله: إن مقتضى الاشتراك في التكاليف ثبوت تكاليف السابقين على اللاحقين من أهل شريعة واحدة، «ضرورة» بيان دفع الإشكال.

[4] أي: لم يكن على يقين فشك، «بلا شك» أي: بلا ريب لا يثبت الاستصحاب فيمن لم يكن له يقين، بل كل واحد يعمل حسب تكليفه، فمن علم بنجاسة فرش ثم شك فعليه استصحاب النجاسة، ومن كان شاكاً من الأول في النجاسة جرت في حقه أصالة الطهارة.

ص: 101


1- فرائد الأصول 3: 225.

السابع[1]:

----------------------------------

التنبيه السابع: الأصل المثبت
اشارة

[1] لا شك في ثبوت الآثار الشرعية للمستصحب - الذي كان على يقين منه سابقاً - فلو استصحب نجاسة الثوب ترتب أثره الشرعي، وهو عدم صحة الصلاة فيه - مثلاً - .

إنما الكلام في ثبوت اللوازم غير الشرعية - سواء كانت عادية أم عقلية - وكذا الآثار الشرعية لهذه اللوازم.

مثلاً: لازم بقاء الصبي حياً هو بلوغه، والبلوغ أمر تكويني، فهل يثبت باستصحاب حياة هذا الصبي بلوغه؟ وكذا لو كان للبلوغ آثار شرعية فهل تثبت هذه الآثار باستصحاب الحياة؟ وهذا يعبر عنه بالأصل المثبت.

وحيث إنّ غالب المتقدمين على الشيخ الأعظم كانوا يرون ثبوت هذه اللوازم وآثارها لذلك سموه بالأصل المثبت.

والمتأخرون عن الشيخ الأعظم لا يرون حجية الأصل المثبت، ويذهبون إلى أن هذا الأصل لا يُثبت لوازمه غير الشرعية، ولا آثار هذه اللوازم، ولكنه بقيت التسمية بالأصل المثبت؛ لأنها صارت اصطلاحاً.

والتنبيهات: السابع والثامن والتاسع تكفلت لبيان تفاصيل الأصل المثبت.

في بداية البحث يتطرق المصنف إلى أمرين:

الأول: إن معنى (لا تنقض اليقين بالشك) هو جعل حكم ظاهري، وهو مماثل للحكم الواقعي، وليس معناه جعل العلم وهو اعتبار الشاك عالماً، ولا جعل العمل، وهو إلزام الشاك بترتيب الآثار المترتبة على اليقين عملاً.

الثاني: إن هذا الحكم الظاهري له آثار - عقلية وشرعية - وتترتب تلك الآثار على هذا الحكم المجعول.

ص: 102

لا شبهة في أن قضية أخبار الباب هو[1] إنشاء حكم مماثل للمستصحب في استصحاب الأحكام، ولأحكامه[2] في استصحاب الموضوعات، كما لا شبهة[3] في ترتيب ما للحكم المنشأ بالاستصحاب من الآثار الشرعية والعقلية.

----------------------------------

وحاصل هذين الأمرين هو: إن الأثر إن كان للمستصحب فيجري فيه بحث الأصل المثبت، وأما إن كان الأثر للحكم - ظاهرياً كان أم واقعياً - فلا معنى لبحث الأصل المثبت؛ لأن آثار الحكم تترتب عليه.

مثلاً: لو استصحبنا النجاسة فهنا أثران:

1- أثر النجاسة - وهي المستصحب - فهنا يجري بحث الأصل المثبت.

2- أثر حكم الشارع - كوجوب الطاعة واستحقاق العقاب بالمخالفة - ولا معنى لعدم ترتب الأثر العقلي هنا.

[1] هذا الأمر الأول، فإن كان المستصحب حكماً شرعياً فقد جعل الشارع - بالاستصحاب - حكماً ظاهرياً يماثله، كاستصحاب وجوب الجمعة في عصر الغيبة، فقد جعل الشارع بالاستصحاب حكماً ظاهرياً بوجوبها.

وإن كان المستصحب موضوعاً له حكم فقد جعل الشارع بالاستصحاب نظير ذلك الحكم للموضوع المستصحب، كاستصحاب حياة زيد، فقد جعل الشارع أحكام النفقة ونحوهما بحكم ظاهري للحياة المستصحبة.

[2] أي: لأحكام المستصحب.

[3] هذا الأمر الثاني، فإن آثار الحكم غير مرتبطة بالأصل المثبت، بل الكلام في آثار المستصحب.

ومن آثار الحكم وجوب الطاعة - وهو أثر عقلي وأمر الشارع بالإطاعة إرشادي كما مرّ سابقاً - ومن آثار الحكم تحقق الفسق بالمخالفة أو بالإصرار عليها، وهو أثر شرعي.

ص: 103

وإنما الإشكال[1] في ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على المستصحب بواسطة غير شرعية، عادية كانت أو عقلية[2]. ومنشؤه[3]

----------------------------------

وسيأتي تحقيق هذا الأمر في التنبيه التاسع.

[1] لا إشكال في ترتب الآثار الشرعية للمستصحب؛ إذ عدم اعتباره يستلزم لغوية حجية الاستصحاب؛ إذ لا معنى لاعتبار الشارع شيئاً من غير ترتيب أي أثر عليه. إنما الإشكال - في الأصل المثبت - هو ترتيب الآثار الشرعية إذا كانت أثراً للاّزم العقلي أو العادي.

مثلاً: استصحاب الحياة لازمه العقلي البلوغ، وأثر البلوغ هو انتهاء ولاية الأب والجد، وانتقال الولاية إلى الحاكم الشرعي الذي هو وليّ الغائب. كما أن لازمه العادي هو نمو الجسم، وأثر النمو الصدقة - بنذر مثلاً - .

[2] الواسطة العادية: هي ما يترتب على الشيء بنحو القضية الاتفاقية، لكن هذا الاتفاق موجود في كل المصاديق أو أغلبها بحيث يلحق غيره بالمعدوم، مثل: إنبات اللحية في الرجال.

والواسطة العقلية: هي ما كان ترتبها على الشيء بنحو اللازم أو الملزوم أو الملازم بحيث يكون أحدها سبباً للآخر - مثلاً - .

[3] أي: منشأ الإشكال هو مدى دلالة الأخبار، فالمشكلة في مرحلة الإثبات. خلافاً للشيخ في الرسائل(1) حيث جعل منشأ الإشكال عدم إمكان حجية الأصل المثبت، فيكون الإشكال في مرحلة الثبوت.

وخلاصة كلام الشيخ: هو عدم إمكان جعل الأمر التكويني بالاعتبار الشرعي، فالاعتبار لا يكون سبباً للتكوين.

وفيه: إن القائلين بحجية الأصل المثبت لا يقولون: إنّ الشارع يجعل تكويناً الواسطة العادية أو العقلية، بل يقولون: إنّه يجعل الحكم الشرعي المترتب على

ص: 104


1- فرائد الأصول 3: 233.

أن مفاد الأخبار هل هو تنزيل[1] المستصحب والتعبد به[2] وحده بلحاظ[3] خصوص ما له من الأثر بلا واسطة، أو تنزيله[4] بلوازمه العقلية أو العادية كما هو الحال[5] في تنزيل مؤديات الطرق والأمارات، أو بلحاظ[6] مطلق ما له من الأثر

----------------------------------

تلك الواسطة.

وحاصل كلام المصنف: هو عدم المحذور الثبوتي لحجية الأصل المثبت، فاللازم ملاحظة مدى دلالة الأخبار، وفيها ثلاثة احتمالات:

1- فهل تدل الأخبار على تنزيل المستصحب منزلة الواقع بلحاظ خصوص الأثر الشرعي بلا واسطة؟

2- أم تدل على تنزيل المستصحب مع تنزيل لوازمه العقلية أو العادية.

3- أم تدل على تنزيل المستصحب بلحاظ مطلق الآثار ولو بالواسطة.

[1] هذا هو الاحتمال الأول، والمراد تنزيله منزلة الواقع اعتباراً.

[2] عطف تفسيري على قوله: «تنزيل المستصحب»، وقيد «وحده» مقابل الاحتمال الثاني، حيث فيه تنزيلان: تنزيل المستصحب، وتنزيل اللوازم.

[3] إنما لزم هذا اللحاظ لأن التنزيل مع قطع النظر عن الأثر يكون لغواً، فأيّ فائدة باعتبار شيء من غير أن يكون له أثر؟ «ما» موصولة وبيانها في قوله: «من الأثر»، «له» للمستصحب.

[4] أي: تنزيل المستصحب مع تنزيل لوازمه، وهذا هو الاحتمال الثاني.

[5] سيأتي البحث في أن دليل حجية الطرق والأمارات هل هو تنزيل مؤداها منزلة الواقع فقط، أم تنزيل مؤداها وتنزيل لوازم المؤدّى منزلة الواقع؟

[6] هذا هو الاحتمال الثالث. والمعنى: تنزيل المستصحب منزلة الواقع بلحاظ مطلق الآثار حتى وإن كانت بواسطة عادية أم عقلية.

والفرق بين الاحتمال الثاني والثالث هو أنّ في الثاني تنزيلين، تنزيل المستصحب

ص: 105

ولو بالواسطة بناءً[1] على صحة التنزيل بلحاظ أثر الواسطة أيضا، لأجل أن أثر الأثر أثر؟ وذلك[2]

----------------------------------

وتنزيل اللوازم، وفي الثالث تنزيل واحد بلحاظ أثره الشرعي ولو مع الواسطة.

[1] أي: الاحتمال الثالث إنما يصح لو قلنا بصحة تنزيل الشيء منزلة الواقع بلحاظ آثار لازمه العقلي أو العادي؛ وذلك لأن أثر الأثر أثر، فالإحراق إذا كان أثراً للحرارة، وكانت الحرارة أثراً للنار، فإن الإحراق أثر للنار قطعاً ولكن بواسطة الحرارة - مثلاً - .

ولكن في صحة هذا التنزيل نظر، قال المصنف في التعليقة: (ولكن الوجه عدم صحة التنزيل بهذا اللحاظ، ضرورة أنه ما يكون شرعاً لشيء من الأثر لا دخل له بما يستلزمه عقلاً أو عادة. وحديث أثر الأثر أثر، وإن كان صادقاً، إلاّ أنه إذا لم يكن الترتب بين الشيء وأثره، وبينه وبين مؤثره مختلفاً؛ وذلك ضرورة أنه لا يكاد يعد الأثر الشرعي لشيء أثراً شرعياً لما يستلزمه عقلاً أو عادة أصلاً - لا بالنظر الدقيق العقلي ولا النظر المسامحي العرفي - إلاّ في ما عدّ أثر الواسطة أثراً لذيها، لخفائها، أو لشدة وضوح الملازمة بينهما، بحيث عدّا شيئاً واحداً ذا وجهين، وأثر أحدهما أثر الاثنين كما يأتي الإشارة إليه، فافهم)(1)،

انتهى.

[2] هذا بيان ثمرة هذه الاحتمالات الثلاثة، وحاصله:

1- إنه على الاحتمال الأول لا يكون الأصل المثبت حجة؛ لأن الواسطة غير الشرعية لم تثبت، لا وجداناً للشك فيها، ولا تعبداً لفرض أن مقدار دلالة دليل الاستصحاب هو تنزيل المستصحب منزلة الواقع فقط.

2- وإنه على الاحتمال الثاني يكون الأصل المثبت حجة؛ وذلك لأنه ثبتت الواسطة غير الشرعية؛ لأن المفروض دلالة الدليل على تنزيل الواسطة منزلة الواقع أيضاً، وبثبوتها تترتب آثارها؛ لأن موضوعها ثابت تعبداً.

ص: 106


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 548.

لأن مفادها[1] لو كان هو تنزيل الشيء وحده بلحاظ أثر نفسه[2] لم يترتب عليه ما كان مترتباً عليها، لعدم إحرازها[3] حقيقةً ولا تعبداً، ولا يكون تنزيله بلحاظه[4]، بخلاف[5] ما لو كان تنزيله بلوازمه أو بلحاظ ما يعم آثارها، فإنه[6] يترتب باستصحابه ما كان بوساطتها.

والتحقيق[7]:

----------------------------------

3- وإنه على الاحتمال الثالث أيضاً يكون الأصل المثبت حجة؛ وذلك لدلالة دليل الاستصحاب على ثبوت جميع الآثار ولو كانت مع الواسطة.

[1] أي: مفاد الأخبار، بمعنى مقدار دلالتها.

[2] كما كان في الاحتمال الأول، «عليه» على الشيء المشكوك، «عليها» أي: على لوازمه؛ إذ لم يوجد تعبّد ولا وجدان بثبوت اللوازم فكيف يرتب آثار اللوازم؟

[3] أي: اللوازم، «حقيقةً» أي: لا بالوجدان، «ولا تعبداً» لعدم دلالة دليل الاستصحاب على ثبوت اللوازم، ولا دليل آخر.

[4] أي: بناءً على الاحتمال الأول لا يكون تنزيل الشيء المشكوك بلحاظ أثر الواسطة.

[5] أي: في الاحتمال الثاني والثالث يكون الأصل المثبت حجة وأثر الواسطة أيضاً، «تنزيله بلوازمه» كما هو الاحتمال الثاني، «أو بلحاظ ما يعم آثارها» كما هو الاحتمال الثالث، «آثارها» آثار اللوازم.

[6] للشأن، «باستصحابه» أي: الشيء المشكوك، «بوساطتها» أي: بواسطة اللوازم.

المختار عدم حجية الأصل المثبت

[7] المختار هو عدم حجية الأصل المثبت؛ وذلك لعدم دليل عليه، فإن مفاد

ص: 107

أن الأخبار إنما تدل على التعبد بما كان على يقين منه[1] فشك، بلحاظ[2] ما لنفسه من آثاره وأحكامه، ولا دلالة لها بوجه[3] على تنزيله بلوازمه التي لا تكون كذلك - كما هي محل ثمرة الخلاف[4] - ولا على تنزيله[5] بلحاظ ما له مطلقاً ولو بالواسطة،

----------------------------------

الأخبار هو (لا تنقض اليقين بالشك) فلابد من كون الشيء متيقناً حتى تترتب آثاره، والواسطة العقلية والعادية لم تكن متيقنة فلا يشملها (لا تنقض اليقين)، فلا تترتب آثارها الشرعية.

وبعبارة أخرى: إنما يجري الاستصحاب إذا كان على يقين، ولكن لم يكن على يقين من الواسطة، فعدم ترتيب أثرها ليس نقضاً لليقين، وليس لنا دليل آخر يُعبّدنا بترتيب آثار الواسطة.

نعم، لو كنّا على يقين من الواسطة نفسها فنجري استصحابها بنفسها، ويترتب عليها أثرها الشرعي، ولا وجه لاستصحاب ملزومها لتترتب عليه الواسطة.

[1] ولم يكن يقين بالواسطة فلا يشملها مفاد الأخبار.

[2] أي: التعبد هو بلحاظ آثارها بنفسها؛ لأن التعبد بالبقاء من دون ترتيب أيّ أثر لغو.

[3] هذا رد للاحتمال الثاني، أي: لا دلالة للأخبار بأيّ وجه من الوجوه، «تنزيله» أي: المستصحب المشكوك منزلة المتيقن، «بلوازمه» أي: مع لوازمه العقلية العادية، «التي لا تكون كذلك» أي: التي لم يكن على يقين منها.

[4] أي: الخلاف في الأصل المثبت؛ لأن اللوازم إن كانت متيقنة بنفسها سابقاً جرى استصحابها بنفسها، وترتب عليها آثارها، ولم يكن ذلك من الأصل المثبت، كما لو تيقن بالعلة، فلو شك فإنه كما يمكنه استصحاب العلة كذلك يمكنه استصحاب المعلول.

[5] هذا ردّ للاحتمال الثالث، أي: لا دلالة للأخبار على تنزيل المستصحب المشكوك منزلة الواقع بلحاظ كل الآثار، ولو كانت تلك الآثار بالواسطة.

ص: 108

فإن المتيقن[1] إنما هو لحاظ آثار نفسه[2]، وأما آثار لوازمه فلا دلالة[3] هناك على لحاظها أصلاً، وما لم يثبت لحاظها بوجه[4] أيضاً لما كان وجه لترتيبها عليه باستصحابه، كما لا يخفى.

نعم[5]،

----------------------------------

[1] أي: القدر المتيقن من الحديث، والمقصود أنه لا يوجد إطلاق - من جهة الآثار - في قوله: (لا تنقض اليقين بالشك)، بل الإطلاق إنما هو في (اليقين) فكل يقين لا يجوز نقضه بالشك، ولكن الدليل مجمل أو مهمل من حيث (الآثار)، لأن كلمة الآثار لم ترد في النص حتى نتمسك بإطلاقها لنقول: إنها تشمل كل الآثار حتى لو كانت بواسطة، فلابد من التمسك بالقدر المتيقن من الآثار؛ وذلك لكي لا يكون الاستصحاب لغواً - إذ لا معنى للاستصحاب من غير ترتيب أي أثر - والقدر المتيقن هو خصوص الآثار الشرعية بلا واسطة.

[2] أي: آثار نفس المستصحب.

[3] لأن الأخبار مجملة أو مهملة من حيث الآثار، فلا دلالة لها على لحاظ آثار الواسطة.

[4] أي: إن لم يقم دليل على لحاظ آثار اللوازم، «بوجه» أي: بأي وجهٍ من الوجوه، «أيضاً» كما لوحظ آثار المستصحب نفسه، «لما كان وجه» أي: مبرّر، «لترتيبها» أي: آثار اللوازم، «عليه» أي: على المستصحب، «باستصحابه» أي: المشكوك المستصحب.

صورتان لحجية الأصل المثبت
الصورة الأولى

[5] هنا صورتان يمكن القول بحجية الأصل المثبت فيهما:

الأولى: إذا كانت الواسطة خفيّة، بحيث يكون عدم ترتيب آثار الواسطة نقضاً

ص: 109

لا يبعد ترتيب خصوص ما كان منها محسوباً[1] بنظر العرف من آثار نفسه، لخفاء ما بوساطته[2]، بدعوى[3] أن مفاد الأخبار عرفاً ما يعمه أيضاً حقيقةً، فافهم[4].

كما لا يبعد[5]

----------------------------------

لليقين عرفاً.

مثلاً: لو كان الثوب رطباً ثم شك في جفافه، فلاقى نجاسةً يابسة، فإن استصحاب الرطوبة يجري فيترتب الأثر، وهو نجاسة الثوب، مع أن هذا الأثر إنما هو أثر للواسطة؛ إذ النجاسة أثر السراية، والسراية لازم لاستصحاب الرطوبة. إذن، فنستصحب الرطوبة فتلزم السراية، فيترتب أثرها وهو نجاسة الثوب.

مثال آخر: يوم الشك يستصحب فيه شهر رمضان، ولازمه كون يوم غد أول شوال، وأثر دخول شوال هو ثبوت العيد وحرمة صومه ونحو ذلك، لكن الواسطة خفية.

[1] «منها» من آثار الواسطة، «محسوباً» وفي بعض النسخ محسوساً، «آثار نفسه» أي: نفس المستصحب.

[2] أي: لخفاء اللازم الذي بواسطته ترتب الأثر.

[3] أي: (لا تنقض اليقين بالشك) يدل على ترتب الأثر - وإن كان بواسطة خفية - لأن عدم ترتيب هذا الأثر يُعَدّ عرفاً نقضاً لليقين بالشك.

[4] لعله إشارة إلى أن نظر العرف متّبع في الكبرى - أي: المفاهيم - لا في تطبيق الكبرى، فالمسامحات العرفية لا دليل على اعتبارها أصلاً. نعم، فهم العرف حجة لقوله تعالى: {وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ}(1).

الصورة الثانية

[5] المورد الثاني من موارد حجية الأصل المثبت هو: ما لو كانت الواسطة جلية جداً، بحيث لا يمكن التفكيك بينها وبين المستصحب في التنزيل، فإذا نُزّل أحدهما

ص: 110


1- سورة إبراهيم، الآية: 4.

ترتيب ما كان[1] بوساطة ما لا يمكن التفكيك عرفاً بينه وبين المستصحب تنزيلاً، كما لا تفكيك بينهما واقعاً، أو بوساطة[2] ما لأجل وضوح لزومه له[3] أو ملازمته معه[4] بمثابة[5]

----------------------------------

منزلة الواقع لابد أن ينزل الآخر أيضاً - وهو اللازم البيّن بالمعنى الأخص - وذلك في موردين:

1- في العلة والمعلول، حيث لا تفكيك بينهما واقعاً، فكذلك لا تفكيك في التنزيل، فهنا ملازمة عرفيّة بين تنزيل المستصحب وبين تنزيل الواسطة، كما أن الأثر يعتبر أثراً لكليهما عرفاً.

2- في اللازم والملزوم، حيث يعتبر الأثر عرفاً أثراً لهما - للمستصحب وللازمه أو ملازمه - .

[1] «ما كان» أي: الأثر الذي كان، «ما لا يمكن التفكيك» وهي في العلة والمعلول، «بينه» الضمير راجع إلى «ما» الموصولة، أي: بين تلك الواسطة وبين المستصحب، لا في الواقع، ولا في التنزيل، «بينهما» بين المستصحب وبين الواسطة، «واقعاً» لأنهما علة ومعلول.

[2] إشارة إلى المورد الثاني، وهو ما كان ارتباط جلي بين المستصحب والواسطة، ولم يكن بنحو العلة والمعلول، بل بنحو اللازم والملزوم أو الملازم.

[3] أي: لزوم المستصحب للواسطة، كالجود لحاتم، والشجاعة للأسد.

ومثاله الشرعي: استصحاب النهار ولازمه بقاء ضوء الشمس، وأثر الضوء هو تطهيره للأرض المتنجسة - كذا قيل(1)

- .

[4] كما في المتضايفين - كالأبوة والبنوة - فباستصحاب أحدهما يترتب أثر الآخر أيضاً.

[5] متعلق ب- (وضوح)، أي: وضوح وجلاء الواسطة كانت بكيفية يعتبر

ص: 111


1- كفاية الأصول، تعليق السبزواري 3: 242.

عد أثره أثراً لهما، فإن عدم ترتيب مثل هذا الأثر[1] عليه يكون نقضاً ليقينه بالشك أيضاً بحسب ما يفهم من النهي عن نقضه عرفاً، فافهم[2].

ثم لا يخفى[3] وضوح الفرق بين الاستصحاب وسائر الأصول التعبدية[4] وبين الطرق والأمارات[5]، فإن الطريق والأمارة حيث إنه كما يحكي عن المؤدى ويشير إليه كذا يحكي عن أطرافه[6]

----------------------------------

العرف أثر أحدهما أثراً للآخر، «أثره» أي: أثر الملازم، «لهما» للملازم وللمستصحب.

[1] الجلي الواضح، «ليقينه» أي: الشخص المتيقن.

[2] لعله إشارة إلى أنه مع الوضوح كيف يعد أثر الملزوم أثراً للمستصحب، مع أن الملازمة ملاك الاثنينيّة؟!

مثبتات الأمارات والطرق

[3] حاصله: إن مثبتات الأمارات والطرق حجة - كالخبر الواحد مثلاً - وذلك لأن الإخبار عن الشيء إخبار عن لوازمه أيضاً، والأمارات والطرق لها كشف عن الواقع، فكما تكشف عن مؤداها كذلك تكشف عن لوازم المؤدى، فإطلاق دليل حجية الخبر - مثلاً - يشمل الإخبار عن اللوازم أيضاً، بخلاف الأصول العملية؛ لأن دليل حجيتها يدل على جعل حكم مماثل، ومن غير المعلوم جعل حكم مماثل للاّزم، وبعبارة أخرى: في الأصول العملية يكون تعبّد، وقد يكون التعبّد بشيء دون التعبد بلوازمه.

[4] فإن مثبتات كل الأصول العملية ليست بحجة.

[5] فإن مثبتاتها حجة، وقد مرّ أن الطريق هو في الأحكام، كخبر الواحد، والأمارات في الموضوعات الخارجية، كالبينة.

[6] أي: أطراف المؤدى، «ملزومه» أي: ما كان مقدماً عليه. لأنه من أسبابه أو معداته، «ولوازمه» أي: ما كان مؤخراً عنه وفي مرتبة معلوله، «وملازماته» أي:

ص: 112

- من ملزومه ولوازمه وملازماته - ويشير إليها[1]، كان[2] مقتضى إطلاق دليل اعتبارها[3] لزوم تصديقها في حكايتها، وقضيته[4] حجية المثبت منها كما لا يخفى؛ بخلاف مثل دليل الاستصحاب[5]، فإنه لابد من الاقتصار بما فيه من الدلالة على

----------------------------------

ما كان مقارناً معه، كأن يكونا معلولين لعلة واحدة.

[1] عطف تفسيري على قوله: (كذا يحكي)، «إليها» أي: الأطراف.

[2] خبر إن في قوله: (فإن الطريق والأمارة...) والمعنى: إن الطريق والأمارة كما يحكي عن المؤدى كذلك يحكي عن أطراف المؤدى - من اللازم والملزوم والملازم - وحيث إن دليل حجية الطريق والأمارة مطلق فقد جعل الحجية للخبر بشكل مطلق، من دون تقيد الحجية بالخبر بالمطابقة، فيشمل الخبر بالتضمن وبالالتزام، فلمّا صار حجة بشكل مطلق وجب تصديق الخبر بكل أطرافه، ومعنى ذلك ترتيب الآثار بشكل مطلق.

[3] أي: الطرق والأمارات، وكذا الضمير في «تصديقها» و«حكايتها».

[4] أي: مقتضى التصديق هو حجية المثبت منها؛ إذ هناك إخبار عن اللازم والملزوم والملازم، ودل دليل حجية الخبر على وجوب تصديق هذه الإخبار، فيترتب عليها الآثار الشرعية؛ لأنا لا نريد إثبات الواسطة عن طريق إثبات المؤدى، بل الخبر يدل على المؤدى وعلى الواسطة معاً، ثم يترتب على كل واحد منهما آثاره الشرعية.

[5] فإن الأصول العملية ليس لها كشف عن الواقع، بل هي صرف تعبّد، والتعبّد بشيء لا يكون تعبداً بلوازمه، لما عرفت من إمكان الانفكاك بين الشيء وبين لازمه في التعبد، فلابد من النظر في مقدار دلالة دليل الحجية، والمقدار المعلوم من جعل الحجية هو التعبد بنفس الشيء، ولا دليل على التعبد بلوازمه، «فإنه» للشأن، «بما» بالمقدار الذي، «فيه» في مثل دليل الاستصحاب، «من الدلالة» بيان ل- «ما»، «بثبوته» بثبوت مثل دليل الاستصحاب.

ص: 113

التعبد بثبوته، ولا دلالة له إلاّ على التعبد بثبوت المشكوك[1] بلحاظ أثره[2] حسبما عرفت، فلا دلالة له[3] على اعتبار المثبت منه كسائر الأصول التعبدية[4] إلاّ في ما عد أثر الواسطة أثراً له[5]، لخفائها أو لشدة وضوحها وجلائها[6] حسبما حققناه.

الثامن[7]: إنه لا تفاوت[8]

----------------------------------

[1] وهو المستصحب الذي كان متيقناً سابقاً؛ لأنه قال: (لا تنقض اليقين بالشك)، واللازم لم يكن متيقناً، فعدم ترتيب أثره ليس نقضاً لليقين - لعدم اليقين به - .

[2] المباشر؛ لأن التعبد بثبوت المستصحب من غير ترتيب أثره يكون لغواً، فلابد من ترتيب الأثر المباشر ليخرج عن اللغوية، أما الأثر غير المباشر فلا دليل عليه - كما مرّ - .

[3] أي: لدليل الاستصحاب، «منه» من الأثر، أي: الأثر الذي ثبت بواسطة اللازم أو الملزوم أو الملازم.

[4] أي: سائر الأصول العملية كالاستصحاب، فلا حجية لمثبتاتها.

[5] أي: للمشكوك - المستصحب - «لخفائها» أي: الواسطة.

[6] بحيث عدّ أثر الواسطة أثراً للمستصحب أيضاً.

التنبيه الثامن: موارد ثلاثة ليست من الأصل المثبت
اشارة

[7] هذا التنبيه تتمة للتنبيه السابق، يذكر فيه المصنف ثلاثة موارد تُوهِّم كونها من الأصل المثبت، والحال أنها ليست كذلك، وكل هذه الموارد في الموضوعات الخارجية.

المورد الأول

[8] هذا المورد الأول، حيث ذهب الشيخ الأعظم(1)

إلى عدم الفرق بين كون

ص: 114


1- فرائد الأصول 3: 235.

----------------------------------

اللازم العقلي أو العادي مبايناً للمستصحب، وبين كونه متحداً معه وجوداً - ومتغايراً مفهوماً - فاعتبرها كلها من الأصل المثبت.

لكن المصنف ذكر أن اللازم المتحد مع المستصحب وجوداً على ثلاث صور:

1- كون اللازم المتحد عنواناً منتزعاً عن الذات، كما لو شك في بقاء الخمر أو انقلابه خلاً، فباستصحاب الخمرية يلزم تحقق الخمر الكلي، وحكم الخمر الكلي هو الحرمة والنجاسة؛ لأن الأحكام تتعلق بالطبائع لا بالأفراد كما مرّ سابقاً، فليس أثر هذا الخمر الحرمة والنجاسة، بل هذا الخمر يلازم وجود كلي الخمر، فيترتب أثره الشرعي، وهو الحرمة والنجاسة.

وكلي الخمر متحد مع الخمر الخارجي؛ لأن الكلي الطبيعي متحد مع فرده، ففي الحقيقة الأثر - كالحرمة والنجاسة - إنما هو للفرد؛ لأن الكلي لا وجود له إلاّ في ضمن الفرد.

2- كون اللازم المتحد، عنواناً ليس بذاتي، ولا وجود خارجي له لكنه ينتزع من الفرد، مثلاً: لو شك في بقاء الغصب - والغصب أمر ليس بذاتي للأشياء، بل هو عرض ولا وجود خارجي له، بل الموجود إنما هو منشأ الانتزاع - فباستصحاب وجود المغصوب يلزم

تحقق الغصب الكلي، وحكم الغصب الكلي هو حرمة التصرف، فليس أثر هذا المغصوب الحرمة، بل هذا المغصوب يلازم وجود كلي الغصب، فيترتب أثره الشرعي، وهو حرمة التصرف، لكن كلي الغصب متحد مع هذا المغصوب خارجاً؛ لأن منشأ انتزاعه هو هذا المغصوب، فالأثر في الحقيقة هو أثر لهذا المغصوب، فليس بأصل مثبت.

3- كون اللازم منتزعاً عن الشيء بلحاظ عرض من الأعراض، التي لها وجود

ص: 115

في الأثر المترتب على المستصحب بين أن يكون مترتباً عليه بلا وساطة شيء[1] أو بوساطة[2] عنوان كلي ينطبق ويحمل عليه بالحمل الشائع[3] ويتحد معه وجوداً، كان[4] منتزعاً عن مرتبة ذاته[5]، أو بملاحظة[6] بعض عوارضه مما هو خارج المحمول لا بالضميمة[7]،

----------------------------------

خارجي، كما لو شك في بقاء جسم أسود، فاستصحاب بقاء ذلك الجسم يلازم بقاء السواد، فلو فرض أن للسواد أثراً شرعياً فإن ترتيب ذلك الأثر يكون من الأصل المثبت؛ وذلك لتغاير الجسم مع السواد، فالجسم جوهر والسواد عرض، وليسا متحدين خارجاً، بل السواد منضم إلى الجسم، فلا يكون أثر السواد أثراً للجسم حقيقة.

[1] كغالب موارد الاستصحاب، كاستصحاب الحياة وأثرها الشرعي وجوب النفقة - مثلاً - .

[2] إشارة إلى الصورة الأولى والثانية، وهو اللازم المتحد وجوداً مع المستصحب، ويحمل عليه بالحمل الشائع.

[3] الذي هو في التغاير المفهومي والاتحاد الخارجي، كقولنا: (زيد عالم) حيث يختلف مفهوم عالم عن مفهوم زيد، لكنهما متحدان خارجاً.

[4] أي: سواء كان منتزعاً... الخ.

[5] هذه الصورة الأولى، ومرتبة الذات لا فرق بين أن يكون ذاتي باب الكليات الخمس، أي: الجنس والفصل والنوع، وبين أن يكون ذاتي باب البرهان، وهو كون المحمول مشتقاً من مبدأ قائم بذات الموضوع، ومنتزع عن نفس ذاته، كالإمكان من الممكن.

[6] هذه الصورة الثانية، أي: يكون منتزعاً لا عن الذات، بل بملاحظة بعض الاعتبارات، كالغصب المنتزع من العين المغصوبة.

[7] اصطلاح المصنف خلاف اصطلاح أهل المعقول، فحسب اصطلاحه (الخارج

ص: 116

فإن الأثر[1] في الصورتين إنما يكون له حقيقة حيث لا يكون بحذاء ذلك الكلي في الخارج سواه، لا لغيره[2] مما كان مبايناً معه[3] أو من أعراضه[4] مما كان محمولاً عليه بالضميمة كسواده مثلاً أو بياضه؛ وذلك[5] لأن الطبيعي إنما يوجد بعين وجود فرده، كما أن العرضي[6] كالملكية والغصبية ونحوهما لا وجود له إلاّ بمعنى وجود منشأ انتزاعه، فالفرد[7] أو منشأ الانتزاع في الخارج هو عين ما رتب عليه

----------------------------------

المحمول): هو العرض الاعتباري الذي ليس له ما بإزاء بالخارج - وهذا هو النحو الثاني - . و(المحمول بالضميمة): هو العرض الحقيقي الذي له ما بإزاء في الخارج - وهذه هي الصورة الثالثة - .

[1] بيان عدم كون الأصل مثبتاً في الصورة الأولى والثانية، «له» أي: للفرد، «سواه» سوى الفرد، فالمعنى: إنه وإن جعل الأثر للكلي لكنه في الواقع أثر للفرد، والكلي مرآة له.

[2] عطف على قوله: (إنما يكون له حقيقة)، «لغيره» أي: لغير الكلي.

[3] وهو غالب صور الأصل المثبت، فإنبات اللحية مباين للحياة - في مثال اللازم العادي - .

[4] إشارة إلى الصورة الثالثة، فإن الأثر ليس للمستصحب، بل للواسطة، فوجوب الصدقة كان أثراً للسواد، وليس أثراً للجسم، فباستصحاب الجسم لا يمكن إثبات الصدقة إلاّ لو أثبتنا السواد - وهو ذو وجود خارجي - .

[5] دليل عدم كون الأصل مثبتاً في الصورة الأولى والثانية.

[6] اصطلاح المصنف هو أن (العَرَضي) ما ليس بإزائه شيء في الخارج، و(العَرَض) ما كان بإزائه شيء في الخارج، وهذا أيضاً يخالف اصطلاح أهل المعقول، فإنهم اصطلحوا (بالعرضي): على الذات الواجدة للعرض كالأسود والأبيض، و(بالعرض): ما يقابل الجوهر كالسواد والبياض.

[7] بيان أن الأثر إنما هو للفرد حقيقة في الصورة الأولى والثانية.

ص: 117

الأثر[1]، لا شيء آخر، فاستصحابه لترتيبه[2] لا يكون بمثبت، كما توهم(1).

وكذا لا تفاوت[3] في الأثر المستصحب أو المترتب عليه[4] بين أن يكون مجعولاً شرعاً بنفسه - كالتكليف وبعض أنحاء الوضع[5] - أو بمنشأ انتزاعه[6] - كبعض أنحائه كالجزئية والشرطية والمانعية[7] -،

----------------------------------

[1] «ما» أي: الكلي والعرضي الذي رتب الأثر الشرعي، «عليه» الضمير يرجع إلى «ما» الموصولة.

[2] أي: استصحاب الفرد أو منشأ الانتزاع، «لترتيبه» أي: لترتيب الأثر.

المورد الثاني

[3] لو استصحب ذات الجزء - مثلاً - كالقراءة فلازمه العقلي هو تحقق الجزئية، فإن كان هناك أثر شرعي للجزئية فإن ترتيب هذا الأثر يكون من الأصل المثبت على ما يظهر من كلام الشيخ الأعظم.

لكن المصنف يذهب إلى أن الجزئية وأمثالها ليست لازماً عقلياً، بل هي أمور مجعولة شرعاً؛ وذلك لما مرّ في بحث الحكم الوضعي بأن النحو الثاني من الوضع وهو المجعول بالتبع كالجزئية، وكذا النحو الثالث من الوضع كالولاية مجعولات شرعيّة.

[4] أي: الأثر المترتب على المستصحب مثل لازمه.

[5] وهو النحو الثالث من أقسام الوضع - كما مرّ - .

[6] أي: وبين أن يكون مجعولاً بمنشأ انتزاعه، بمعنى أن الشارع جعل منشأ الانتزاع فانتزع منه ذلك الحكم الوضعي، كما لو أمر بالمركب فتنتزع الجزئية من كل جزء من المأمور به، «كبعض أنحائه» أي: القسم الثاني من أقسام الوضع.

[7] كما لو أمر بالمركب فتنتزع الجزئية من كل جزء من المأمور به، أو اشترط في الصلاة الوضوء فتنتزع الشرطية، أو اشترط عدم لبس جلد غير المأكول اللحم فتنتزع المانعية.

ص: 118


1- فرائد الأصول 3: 235 - 236.

فإنه[1] أيضاً مما تناله يد الجعل شرعاً، ويكون أمره بيد الشارع وضعاً ورفعاً ولو بوضع منشأ انتزاعه ورفعه. ولا وجه لاعتبار أن يكون المترتب أو المستصحب مجعولاً مستقلاً، كما لا يخفى[2]، فليس استصحاب الشرط أو المانع لترتيب الشرطية أو المانعية بمثبت - كما ربما توهم - بتخيل أن الشرطية أو المانعية ليست من الآثار الشرعية بل من الأمور الانتزاعية، فافهم[3].

وكذا لا تفاوت[4] في المستصحب أو المترتب بين أن يكون ثبوت الأثر

----------------------------------

[1] أي: فإن الأثر المجعول بمنشأ انتزاعه.

[2] لعدم دلالة دليل على ذلك، بل إطلاق دليل الاستصحاب يشمل هذه الصورة أيضاً.

[3] لعله إشارة إلى أن الشرطية وأمثالها ليست من آثار الاستصحاب، بل الشرطية ترتبط بالدليل الدال على الاشتراط، وهذه الشرطية مستمرة إلى ثبوت نسخها، فشرطية الوضوء للصلاة لا ترتبط بالعلم أو بالشك بتحقق الوضوء، فسواء علمنا بالوضوء أم بعدمه أم شككنا فهذه الشرطية مستمرة.

أو إشارة إلى أن هذا المورد لا ربط له ببحث الأصل المثبت؛ لأن كون المستصحب أو الأثر المترتب عليه مجعولاً أو غير مجعول لا يرتبط بكون الواسطة غير شرعية، كما لا يخفى.

المورد الثالث

[4] هذا المورد الثالث من الموارد التي ذهب الشيخ الأعظم(1) إلى كونه أصلاً مثبتاً، ولكن المصنف لا يراه من الأصل المثبت، بيانه: إنه قد استدلوا للبراءة باستصحاب عدم الحكم، سواء العدم الأزلي بمعنى عدم جعل الحكم قبل الشريعة، أم العدم النعتي بمعنى عدم جعل الحكم على المكلف قبل بلوغه.

ص: 119


1- فرائد الأصول 3: 236.

ووجوده[1] أو نفيه وعدمه، ضرورة[2] أن أمر نفيه بيد الشارع كثبوته.

وعدم إطلاق الحكم[3]

----------------------------------

لكن الشيخ الأعظم أشكل على هذا الاستصحاب بأنه أصل مثبت؛ وذلك لأن استصحاب عدم الحكم يراد منه إثبات عدم العقاب على المخالفة، وعدم العقاب لازم عقلي، فلا يثبت بالاستصحاب.

لكن المصنف يقول: إن هذا اللازم - وإن كان عقلياً - لكنه ليس بأصل مثبت؛ لما ذكرناه في بداية التنبيه السابع، وسيذكره المصنف في التنبيه العاشر، من أن لازم المستصحب إذا كان عقلياً أو عادياً فلا يثبت آثاره الشرعية، لكن إذا كان اللازم لازماً للحكم الظاهري فليس أصلاً مثبتاً.

وبعبارة أخرى: لا يثبت بالاستصحاب اللوازم المترتبة على الوجود الواقعي للمستصحب كإنبات اللحية، فانها لازم الحياة واقعاً، ولكن لا إشكال في ترتيب لازم الوجود الظاهري، وفي ما نحن فيه: استحقاق العقاب ليس أثراً للحكم الواقعي - فلذا لا يترتب مع الجهل به - بل هو أثر الحكم، سواء كان واقعياً أم ظاهرياً، فلذا لا إشكال في ترتيبه وليس بأصل مثبت.

[1] عطف تفسيري على «ثبوت الأثر»، وكذا «عدمه» عطف تفسيري على «نفيه».

[2] دليل عدم الفرق، أي: إن نفي الحكم بيد الشارع، فلذا ليس بأمر عقلي أو عادي، بل نفي الحكم أمر شرعي أيضاً، كما أن ثبوته شرعي.

[3] دفع إشكال، حاصله: إن نفي الحكم ليس بحكم، والاستصحاب إنما هو في الحكم.

والجواب: إن (الحكم) لم يؤخذ في دليل الاستصحاب، بل المأخوذ فيه (اليقين) و(الشك)، فكما قد يكون الحكم متيقناً أو مشكوكاً كذلك قد يكون نفي الحكم متيقناً أو مشكوكاً.

ص: 120

على عدمه[1] غير ضائر، إذ ليس هناك ما دل على اعتباره بعد صدق نقض اليقين بالشك برفع[2] اليد عنه كصدقه برفعها من طرف ثبوته، كما هو واضح.

فلا وجه للإشكال في الاستدلال على البراءة باستصحاب البراءة من التكليف وعدم المنع عن الفعل بما في الرسالة من: «أن عدم استحقاق العقاب في الآخرة ليس من اللوازم المجعولة الشرعية[3]»(1)،

فإن[4] عدم استحقاق العقوبة وإن كان غير مجعول[5]، إلاّ أنه لا حاجة إلى ترتيب أثر مجعول في استصحاب عدم المنع، وترتب[6] عدم الاستحقاق مع كونه عقلياً على استصحابه إنما هو لكونه لازم مطلق عدم المنع ولو في الظاهر[7]،

----------------------------------

[1] أي: عدم الحكم، «إذ ليس» بيان للجواب، «اعتباره» أي: اعتبار إطلاق الحكم.

[2] أي: صدق النقض يكون برفع اليد، «عنه» أي: عن عدم الحكم، «برفعها» اليد، «طرف ثبوته» أي: ثبوت الحكم، فلا فرق في صدق النقض بين رفع اليد عن المتيقن وجوده أو المتيقن عدمه.

[3] لأن الاستدلال للبراءة لا يتم إلاّ بإثبات عدم العقاب في المخالفة، فباستصحاب عدم الحكم يثبت عدم العقاب، وهذا لازم عقلي.

[4] هذا هو الجواب عن إشكال الشيخ الأعظم.

[5] لأن استحقاق أو عدم استحقاق العقاب هو بحكم العقل فقط.

[6] «ترتب» مبتدأ، وخبره (إنما هو...)، «كونه» أي: كون عدم الاستحقاق، «استصحابه» أي: عدم الحكم، «لكونه» أي: لكون عدم استحقاق العقاب.

[7] أي: ليس لازماً للوجود الواقعي لعدم الحكم، بل لازم حتى للحكم الظاهري بعدم الحكم. فإن من عمل بتكليفه الظاهري لا يستحق العقاب حتى لو خالف الواقع - وسيأتي دليله في التنبيه التاسع - .

ص: 121


1- فرائد الأصول 2: 60، مع اختلاف يسير.

فتأمل[1].

التاسع[2]: إنه لا يذهب عليك أن عدم ترتب الأثر الغير الشرعي(1)

ولا الشرعي

----------------------------------

[1] لعله إشارة إلى أن الشيخ لم يدّعِ أن عدم التحريم ليس مجعولاً، بل صرّح بعدم الفرق بين الحكم أو عدم الحكم، فلا يرد عليه قولنا: إلاّ أنه لا حاجة إلى ترتب أثر مجعول في الاستصحاب.

أو إشارة إلى أن هذا المورد أيضاً لا يرتبط بالأصل المثبت، بل هو بحث مستقل؛ لأنا لا نريد إثبات أثر شرعي بواسطة غير شرعية، بل نريد إثبات أثر غير شرعي، فدقق.

التنبيه التاسع: ما خرج عن الأصل المثبت

[2] هذا التنبيه لبيان خروج بعض الآثار العقلية عن الأصل المثبت.

وحاصله: إن الأثر إذا كان للحكم الظاهري فإنه يترتب قهراً، لأنه بالاستصحاب يتولد حكم ظاهري قطعاً، فيترتب على هذا الحكم الظاهري آثاره، كوجوب الطاعة وحرمة المخالفة واستحقاق العقوبة ونحوها؛ لأن موضوع هذه الآثار - وهو الحكم الظاهري - متحقق بالوجدان قطعاً، وكلّما تحقق الموضوع ترتب عليه أثره.

وبعبارة أخرى: قد يكون الأثر للوجود الواقعي للشيء، فاللحية لا تترتب على اعتبار الحياة، بل على نفس الحياة واقعاً، فلا تثبت هذه اللحية بالاستصحاب؛ إذ لا دليل على الوجود الواقعي، ودليل التعبد لا يثبت إلاّ التعبد بما كان على يقين منه، ولم يكن ذا يقين بالنسبة إلى اللحية.

وقد يكون الأثر لوجود الشيء حتى في الظاهر، فالأثر أعم من وجوده الواقعي والظاهري، مثلاً: وجوب الطاعة وحرمة المخالفة كما تكون للأحكام الواقعية كذلك تكون للأحكام الظاهرية، فبالاستصحاب يثبت حكم ظاهري بالوجدان والقطع، فيتحقق موضوع هذه الأحكام، فتترتب عليه لا محالة.

ص: 122


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير الشرعي».

بوساطة غيره[1] من العادي أو العقلي بالاستصحاب إنما هو بالنسبة إلى ما[2] للمستصحب واقعاً، فلا يكاد يثبت به[3] من آثاره إلاّ أثره الشرعي الذي كان له بلا واسطة أو بوساطة أثر شرعي آخر - حسبما عرفت في ما مر -، لا بالنسبة[4] إلى ما كان للأثر الشرعي[5] مطلقاً، كان[6] بخطاب الاستصحاب أو بغيره من أنحاء الخطاب، فإن آثاره[7] - شرعية كانت أو غيرها[8] - يترتب عليه إذا ثبت، ولو[9]

----------------------------------

[1] أي: غير الشرعي، وقوله: «من العادي أو العقلي» بيان ل- «غيره»، و«بالاستصحاب» متعلق ب- (عدم ترتب الأثر...).

[2] أي: الأثر الذي يكون للمستصحب، «واقعاً» أي: بوجوده الواقعي.

[3] أي: بالاستصحاب، و«آثاره» أي: آثار المستصحب، وكذا ضمير «أثره» و«له».

[4] عطف على قوله: (إنما هو بالنسبة...) أي: عدم ترتب الأثر العقلي ليس بالنسبة إلى الأثر الذي هو للمستصحب بوجوده الأعم من الواقعي والظاهري.

[5] مراده من (الأثر الشرعي) هو: الحكم، أي: لا بالنسبة إلى الأثر الذي كان للحكم، «مطلقاً» أي: بوجوده الأعم من الواقعي والظاهري.

[6] تفسير لقوله: «مطلقا» أي: سواء كان بخطاب الاستصحاب - الذي يتولد منه حكم ظاهري - «أو بغيره» أي: بغير خطاب الاستصحاب، كدليل حجية قول الثقة مثلاً، فإنه يتولد منه أيضاً حكم ظاهري.

[7] أي: آثار الحكم الشرعي الثابتة للحكم مطلقاً.

[8] أي: سواء كانت تلك الآثار شرعية أم غير شرعية، «عليه» أي: على الأثر الشرعي - وهو الحكم - «إذا ثبت» أي: ثبت ذلك الأثر الشرعي - وهو الحكم - .

[9] أي: ولو كان الحكم ظاهرياً، فإنه بتحقق الحكم - ولو الظاهري - تترتب آثاره حتى العقلية كوجوب الطاعة ونحوها.

ص: 123

بأن يستصحب[1]، أو كان من آثار المستصحب، وذلك[2] لتحقق موضوعها حينئذٍ حقيقة. فما للوجوب[3] عقلاً يترتب على الوجوب الثابت شرعاً باستصحابه أو استصحاب موضوعه من[4] وجوب الموافقة وحرمة المخالفة واستحقاق العقوبة إلى غير ذلك، كما يترتب[5] على الثابت بغير الاستصحاب بلا شبهة ولا ارتياب، فلا تغفل.

العاشر[6]:

----------------------------------

[1] هذا في الحكم الذي يُستصحب، وقوله: «أو كان من آثار المستصحب» في الموضوع الذي له أثر.

[2] دليل ترتب الآثار غير الشرعية على الحكم الظاهري الثابت بالاستصحاب ونحوه، «موضوعها» أي: موضوع تلك الآثار، «حينئذٍ» أي: حين ثبوت الحكم ولو الظاهري منه، «حقيقة» أي: قطعاً وبالوجدان.

وحاصله: إن موضوع وجوب الطاعة مثلاً - وهو الحكم الشرعي - قد تحقق قطعاً بالوجدان؛ إذ بالاستصحاب يتولد حكم ظاهري، وبتحقق الموضوع يترتب حكمه عليه قهراً.

[3] أي: آثار الوجوب وأحكامه تترتب حتى على الحكم الظاهري.

[4] بيان لقوله: (فما للوجوب عقلاً).

[5] أي: كما يترتب ما للوجوب من الآثار على الوجوب الثابت بالأمارات والطرق وكذا الوجوب الثابت بالقطع.

التنبيه العاشر: زمان الأثر

[6] في أنه يكفي في صحة الاستصحاب وجود الأثر في زمان الاستصحاب، ولا حاجة لوجود الأثر في زمان اليقين، مثلاً: لو كان زيد مجتهداً ولم يكن بالغاً، فلا أثر لاجتهاده، ثم قطعنا ببلوغه مع شكنا في بقاء اجتهاده، فإن استصحاب اجتهاده

ص: 124

إنه قد ظهر مما مر[1] لزوم أن يكون المستصحب حكماً شرعياً أو ذا حكم كذلك. لكنه لا يخفى أنه لابد أن يكون كذلك[2] بقاءً، ولو لم يكن كذلك ثبوتاً[3]. فلو لم يكن المستصحب في زمان ثبوته[4] حكماً ولا له أثر شرعاً وكان في زمان استصحابه

----------------------------------

له أثر حينئذٍ، وهو جواز تقليده. ففي مرحلة اليقين لا أثر - لعدم بلوغه - وفي مرحلة الشك ببقاء الاجتهاد يوجد أثر لو استصحبنا - وهو جواز التقليد - وهذا مثال لاستصحاب الموضوع.

أما استصحاب الحكم: فقبل الشريعة نقطع بعدم وجود الحكم، وهذا لا أثر له أصلاً، ثم بعد الشريعة نشك في جعل حكم أو نفيه، فهنا استصحاب عدم الحكم له أثر شرعي، وهو جواز الارتكاب - مثلاً - .

والدليل: هو أنه لم يؤخذ (الأثر) في دليل الاستصحاب، وإنما قلنا بلزوم الأثر لكي لا يكون التعبد بالبقاء لغواً، فلو تعبدنا الشارع بشيء لا أثر له يكون هذا التعبد لغواً. ويكفي في الإخراج عن اللغوية وجود الأثر في مرحلة البقاء.

وبعبارة أخرى: دليل الاستصحاب هو: (لا تنقض اليقين بالشك) فمع وجود الأثر في مرحلة البقاء إذا لم نجرِ الاستصحاب كان نقضاً لليقين بالشك.

[1] مثل قولنا في تعريف الاستصحاب: (حكم الشارع ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم)، وكذا في مطاوي البحوث السابقة، «ذا حكم كذلك» أي: شرعي، «لكنه» للشأن، «أنه» للشأن أيضاً.

[2] أي: حكماً شرعياً، أو ذا حكم شرعي.

[3] أي: حين ثبوت اليقين.

[4] «ثبوته» أي: زمان اليقين به، «ولا» أي: ولم يكن، «له» للمستصحب أثر شرعي في زمان اليقين به، «وكان» أي: المستصحب.

ص: 125

كذلك - أي حكماً أو ذا حكم - يصح[1] استصحابه. كما[2] في استصحاب عدم التكليف، فإنه وإن لم يكن بحكم مجعول في الأزل ولا ذا حكم، إلاّ أنه[3] حكم مجعول في ما لا يزال[4]، لما عرفت[5] من أن نفيه كثبوته في الحال مجعول شرعاً. وكذا استصحاب موضوع لم يكن له حكم ثبوتاً[6]، أو كان[7] ولم يكن حكمه فعلياً، وله حكم كذلك بقاءً[8]. وذلك[9] لصدق نقض اليقين بالشك على رفع

----------------------------------

[1] جزاء (لو) في قوله: (فلو لم يكن المستصحب...).

[2] مثال لكونه حكماً في حال الاستصحاب، «فإنه» أي: عدم التكليف، «في الأزل» أي: قبل الشريعة.

[3] أي: إلاّ أن عدم الحكم، «حكم مجعول» أي: أمر جعله ورفعه بيد الشارع، وقوله: «حكم مجعول» ينافي ما مرّ من المصنف في التنبيه السابق بأنه ليس بحكم، فلذا شرحناه بأن مراده أن أمر جعله ورفعه بيد الشارع.

[4] أي: بعد الشريعة.

[5] بيان عدم الفرق بين ثبوت الحكم وبين نفيه، «نفيه» أي: نفي الحكم، «كثبوته» أي: الحكم، «في الحال» أي: في زمان الاستصحاب.

[6] أي: في حال اليقين، ومثاله كما ذكرناه: المجتهد غير البالغ الذي شككنا في بقاء اجتهاده بعد بلوغه.

[7] أي: كان له حكم لكن ذلك الحكم لم يكن فعلياً، كما لو كان له مال في قاع البحر، فإن آثار الملكية غير فعلية، فإذا جفّ البحر وشككنا في بقاء ذلك المال فإن استصحاب وجوده له حكم شرعي فعلي، أي: يجوز بيعه ونحو ذلك.

[8] «له» لذلك الموضوع، «كذلك» فعلي، «بقاء» أي: حين الشك والاستصحاب.

[9] هذا دليل عدم لزوم وجود الأثر في زمان اليقين، بل يكفي وجود الأثر في زمان الاستصحاب. وحاصله: إن أدلة الاستصحاب قد أخذ فيها اليقين السابق

ص: 126

اليد عنه[1] والعمل[2] كما إذا قطع بارتفاعه يقيناً، ووضوح[3] عدم دخل أثر الحالة السابقة ثبوتاً فيه وفي تنزيلها بقاءً.

فتوهم «اعتبار الأثر سابقاً كما ربما يتوهمه الغافل من[4] اعتبار كون المستصحب حكماً أو ذا حكم»، فاسد قطعاً، فتدبر جيداً.

الحادي عشر [5]:

----------------------------------

والشك اللاحق، ولم يؤخذ فيها الأثر، وإنما أوجبناه لكي لا يكون التعبّد بالاستصحاب لغواً، ويكفي في عدم اللغوية وجود الأثر في زمان الاستصحاب.

[1] أي: عن المستصحب الذي له أثر في زمان الشك.

[2] عطف على «رفع اليد عنه»، أي: ولصدق النقض على العمل بكيفية كأنّه حصل له يقين بارتفاع الحالة السابقة.

[3] عطف على قوله: (لصدق نقض اليقين...)، أي: وذلك لوضوح عدم... الخ، «فيه» أي: في النقض، «تنزيلها» أي: الحالة السابقة، «بقاءً» أي: التعبد ببقاء الحالة السابقة لا يتوقف على الأثر سابقاً، بل يكفي الأثر حين الاستصحاب.

[4] بيان لمنشأ التوهم، أي: التوهم الناشئ من قولنا: يلزم أن يكون المستصحب حكماً أو ذا حكم، فيتوهم لزوم كونه كذلك سابقاً.

التنبيه الحادي عشر: الشك في التقدم والتأخر
اشارة

[5] في جريان الاستصحاب في المتقدم والمتأخر، وقبل ذلك يذكر المصنف أن الاستصحاب على أقسام:

1- اليقين والشك في أصل الوجود مع قطع النظر عن الزمان، كاستصحاب حياة زيد.

2- الشك في وقوع الشيء في الزمان الأول أو الزمان الثاني، كالشك في أن

ص: 127

لا إشكال[1] في الاستصحاب في ما كان الشك في أصل تحقق حكم أو موضوع.

وأما إذا كان الشك في تقدمه وتأخره بعد القطع بتحققه وحدوثه في زمان:

فإن[2] لوحظ بالإضافة إلى أجزاء الزمان[3]

----------------------------------

موت زيد كان يوم الخميس أو الجمعة.

3- مع العلم بوقوع شيئين والشك في كون أيهما المتقدم وأيهما المتأخر، كما لو علمنا بموت والد وولده وشككنا في الميّت أولاً.

[1] إشارة إلى القسم الأول.

[2] إشارة إلى القسم الثاني، وهو الشك في كون شيء واحد وقع في الزمان الأول أم الثاني. وحاصله:

1- يمكن استصحاب عدم وقوعه في الزمان الأول، فتترتب آثاره عليه، مثلاً: لو شككنا في موت زيد يوم الخميس أم الجمعة فنستصحب حياته يوم الخميس، ومن آثاره وجوب إعطاء نفقة الخميس إلى زوجته.

2- ولا يمكن إثبات تأخر الموت عن الخميس؛ لأنه أصل مثبت؛ إذ اللازم العقلي لعدم وقوعه في يوم الخميس هو تأخره عن الخميس.

3- ولا يمكن إثبات وقوع الموت في يوم الجمعة؛ لأنه أصل مثبت أيضاً، فاستصحاب عدم الموت يوم الخميس لازمه العقلي وقوعه في الجمعة؛ لأنّا علمنا إجمالاً بموته إما في الجمعة أو الخميس، فإذا لم يكن الخميس فقهراً يكون الجمعة عقلاً.

اللهم إلاّ أن يدعى أحد أمرين: إما خفاء الواسطة أو وضوح الواسطة جداً، بحيث يكون تنزيل أحدهما يلازم تنزيل الآخر.

[3] أي: لا بالإضافة إلى حادث آخر، بل هنا حادث واحد لا ندري وقوعه في أيّ الزمانين.

ص: 128

فكذا لا إشكال[1] في استصحاب عدم تحققه[2] في الزمان الأول وترتيب آثاره. لا آثار[3] تأخره عنه، لكونه بالنسبة إليها مثبتاً، إلاّ بدعوى خفاء الواسطة أوعدم التفكيك[4] في التنزيل بين عدم تحققه إلى زمان[5] وتأخره عنه عرفاً كما لا تفكيك بينهما واقعاً. ولا آثار[6] حدوثه في الزمان الثاني، فإنه نحو وجود خاص. نعم[7]،

----------------------------------

[1] لتمامية أركان الاستصحاب مع عدم كونه مثبتاً؛ لليقين بعدم الموت يوم الأربعاء، ثم الشك في تحقق الموت في يوم الخميس، ولا نريد إثبات لازم عقلي، بل نريد ترتيب أثر شرعي، وهو وجوب النفقة لزوجته - مثلاً - .

[2] عدم تحقق الشيء، «وترتيب» عطف على (في استصحاب عدم...)، «آثاره» أي: آثار الشيء الشرعية.

[3] أي: لا يترتب آثار تأخر الشيء عن الزمان الأول، «لكونه» أي: الاستصحاب، «إليها» أي: آثار التأخر.

[4] أي: جلاء الواسطة بحيث يكون تنزيل أحدهما تنزيلاً للآخر عرفاً، فالتعبد بعدم الوقوع يوم الخميس يكون تعبداً بتأخره عنه!!

[5] أي: مستمراً إلى زمان، «تأخره» أي: الشيء، «عنه» عن ذلك الزمان.

[6] أي: كما لا تترتب آثار حدوث الشيء في الزمان الثاني، كالموت في يوم الجمعة - في المثال - ، «فإنه» أي: الحدوث في الزمان الثاني، «نحو وجود خاص» أي: أمر وجودي ملازم عقلاً لعدم وقوعه في الزمان الأول.

[7] أي: يمكن إثبات حدوث الشيء في الزمان الثاني، إن قلنا: إنّ (الحدوث) أمر مركب من أمرين:

أ: عدم الوجود في الزمان الأول، ويتكفل بهذا الاستصحاب.

ب: الوجود في الزمان الثاني، ويتكفل بهذا الوجدان.

فمثلاً: بالاستصحاب نثبت عدم الموت في الخميس، ونحن نعلم بالوجدان أنه

ص: 129

لا بأس بترتيبها[1] بذاك الاستصحاب بناءً على أنه عبارة عن أمر مركب من الوجود في الزمان اللاحق وعدم الوجود في السابق.

وإن[2] لوحظ بالإضافة إلى حادث آخر علم بحدوثه أيضاً، وشك في تقدم ذاك عليه[3] وتأخره عنه، كما إذا علم بعروض حكمين[4] أو موت متوارثين[5] وشك في المتقدم والمتأخر منهما[6]:

----------------------------------

كان في عداد الموتى في يوم الجمعة - سواء مات في الخميس أم في الجمعة - .

[1] أي: آثار الحدوث، «بذاك» أي: بمعونته، «أنه» أي: الحدوث.

[2] إشارة إلى القسم الثالث، وهو أن نعلم بحدوث شيئين، ولكنا لا نعلم أيهما المقدّم وأيهما المؤخر.

[3] «ذاك» الحادث الأول، «عليه» على هذا الحادث الآخر.

[4] كما لو علم بالناسخ والمنسوخ، ولكن لم يعلم بأن أيهما المتقدم فهو المنسوخ، وأيهما المتأخر فهو الناسخ.

[5] وهذا مثال للاستصحاب في الموضوع، كما لو مات أب وابن، ولا نعلم أن أيهما المتقدم، وتظهر الثمرة في أن الذي مات متقدماً لا يكون وارثاً عن المتأخر، بل الوارث هو الذي مات متأخراً، فيرث حصته ثم يورثها إلى ورثته.

فإن مات الأب أولاً ورثه الابن، ثم تنتقل حصة الابن إلى ورثته - أحفاد الميت مثلاً - إضافة إلى إرث الأحفاد كل مال الابن.

وإن مات الابن أولاً ورثه الأب فيأخذ حصته، كالسدس، ثم تنقل هذه الحصة إلى ورثته - كأبنائه وهم إخوة الميت - فلا يصل شيء إلى الأحفاد من إرث الأب - وهو جدهم - بل يقتطع من أموال الابن إلى إخوة الميت بمقدار حصة الأب.

[6] من الحكمين، أو من موت المتوارثين.

ثم هنا مقامان:

الأول: في مجهولي التاريخ، بأن نجهل تاريخ كلا الحادثين.

ص: 130

فإن كانا مجهولي التاريخ[1]،

----------------------------------

الثاني: في كون تاريخ أحدهما مجهولاً والآخر معلوماً.

المقام الأول: في مجهولي التاريخ
اشارة

[1] فهنا صور أربع:

الأولى: الأثر للشيء بنحو مفاد كان التامة، أي: وجود الشيء بما هو هو، والتقدم أو التأخر أو التقارن منتزع عنه، فالأثر لحصة من الوجود.

وفي المنتقى: (إن الأمور الانتزاعية تنتزع عن الذات باعتبار تخصصها بخصوصية غير زائدة في الوجود عن أصل الذات، فالفوقية تنتزع عن السقف باعتبار تخصصه بخصوصية، وهذه الخصوصية غير زائدة عن ذاته. والتقدم وأخواه من الأمور الانتزاعية التي تنتزع عن الوجود باعتبار خصوصية غير زائدة عن ذاته. فمراد صاحب الكفاية يكون: إن الأثر المترتب على حصة خاصة من الوجود إذا لوحظت انتزع عنها وصف التأخر أو التقدم أو التقارن)(1)، انتهى.

مثلاً: لو أسلم الوارث الكافر وشككنا في أن إسلامه هل كان قبل قسمة التركة فيشارك سائر الورثة في التركة، أم كان إسلامه بعد قسمة التركة فلا يرث شيئاً؟ فالأثر مترتب على حصة من إسلامه وهي الواقعة قبل القسمة.

وفي هذه الصورة قد يجري الاستصحاب وقد لا يجري، كما سيذكره المصنف.

الثانية: الأثر للشيء بنحو مفاد كان الناقصة، أي: وجود الشيء متصفاً بالتقدم أو التأخر أو التقارن، فهنا شيئاًن: (الشيء)، و(وصفه).

مثلاً: الإرث متوقف على موت زيد المتصف بكونه متقدماً على موت عمرو، فيستصحب موت زيد المتصف بالتقدم.

ص: 131


1- منتقى الأصول 6: 238.

فتارةً[1] كان الأثر الشرعي لوجود أحدهما بنحوٍ خاص[2] من التقدم أو التأخر أو التقارن، لا للآخر[3]

----------------------------------

الثالثة: الأثر للعدم النعتي، أي: بنحو مفاد ليس الناقصة، أي: الأثر للحادث المتصف بالعدم في زمان حدوث الآخر.

مثلاً: كون الإرث مترتباً على موت الوارث المتصف بعدم التقدم حين موت المورث.

الرابعة: الأثر لعدم أحدهما حين حدوث الآخر، أي: بنحو مفاد ليس التامة.

مثلاً: كون إرث الوارث متوقفاً على عدم موته - أي: بقاؤه حياً - حين موت المورث. وفي هذه الصور الثلاث لا يجري الاستصحاب، كما سيتبيّن.

الصورة الأولى

[1] إشارة إلى الصورة الأولى، وحكمها: إن كان الأثر لأحدهما في نحو واحد فيجري استصحاب عدمه، كما كان الأثر لتقدم أحدهما، ولا أثر لتقارنه أو تأخره، ولم يكن للآخر أثر لا لتقدمه ولا لتأخره ولا لتقارنه.

أما لو كان للآخر أثر فيتعارض الاستصحابان، كما أنهما يتعارضان لو كان لتأخره بنفسه أو لتقارنه أثر أيضاً.

[2] شرح «بنحو خاص» بقوله «من التقدم...» أي: كان لتقدمه أثر، أو كان لتقارنه، أو كان لتأخره، فيجري استصحاب العدم.

[3] أي: ولم يكن للحادث الآخر أثر، لا لتقدمه ولا لتأخره ولا لتقارنه.

ومثاله - كما قيل - : (إذا كان أحد المتوارثين كافراً، فإن استصحاب عدم موت مسلمهما إلى زمان موت الآخر الكافر جارٍ، ويترتب عليه الأثر، وهو إرث المسلم منه، ولا يجري استصحاب عدم موت الكافر إلى زمان موت المسلم؛ لعدم أثر شرعي له حتى في ظرف العلم بتأخر موته عن موت المسلم، حيث إن الكافر لا

ص: 132

ولا له بنحوٍ آخر[1]، فاستصحاب عدمه[2] جارٍ بلا معارض؛ بخلاف ما إذا كان الأثر لوجود كل منهما كذلك[3]، أو لكل من أنحاء وجوده[4]، فإنه حينئذٍ يعارض[5]، فلا مجال لاستصحاب العدم في واحد، للمعارضة باستصحاب العدم في آخر، لتحقق أركانه في كل منهما. هذا إذا كان الأثر المهم مترتباً على وجوده الخاص[6] الذي كان مفاد كان التامة.

وأما إن كان[7] مترتباً على ما إذا كان متصفاً بالتقدم أو بأحد ضديه الذي كان

----------------------------------

يرث المسلم)(1).

وفي المثال نظر، فإن عدم موت الكافر إلى زمان موت المسلم له أثر، وهو عدم إرث ذلك المسلم منه.

[1] أي: ولم يكن لنفس أحدهما أثر بنحو آخر، كما كان له أثر بالنحو الخاص، مثل أن يكون لتقدمه أثر ولتأخره أثر آخر.

ومثاله: الوارثان المسلمان، فتقدم موت أحدهما له أثر، وهو كونه مورثاً، وتأخر موته له أثر آخر وهو كونه وارثاً.

[2] أي: عدم وجود أحدهما بنحو خاص.

[3] «منهما» من الحادثين، «كذلك» بنحو خاص من التقدم والتأخر والتقارن.

[4] أي: أحد الحادثين لتقدمه أثر ولتأخره أثر آخر، ولتقارنه أثر ثالث - مثلاً - .

[5] أي: فإن الاستصحاب - حين كون الأثر لكليهما أو لكل من أنحاء وجود أحدهما - معارض باستصحاب عدم الآخر أو عدم النحو الآخر.

[6] أي: حصة من وجوده، فإذا لوحظت تلك الحصة انتزع عنها وصف التأخر أو التقدم أو التقارن، فما له الأثر أمر بسيط وهو حصة من الوجود.

الصورة الثانية

[7] إشارة إلى الصورة الثانية، أي: كان الأثر مترتباً على أمرين معاً - أي:

ص: 133


1- منتهى الدراية 7: 604.

مفاد كان الناقصة، فلا مورد هاهنا للاستصحاب، لعدم اليقين السابق فيه[1] بلا ارتياب.

وأخرى[2]، كان الأثر[3] لعدم أحدهما في زمان الآخر، فالتحقيق أنه أيضاً ليس بمورد للاستصحاب[4] في ما كان[5]

----------------------------------

الحادث المتصف بالتقدم أو التأخر أو التقارن - وهنا لا يجري الاستصحاب؛ لعدم اليقين السابق بهذا الحادث بهذا الوصف، ففي موت زيد وعمرو مع عدم معرفة المتقدم منهما عن المتأخر، إن (موت زيد بوصف تقدمه) لم يكن على يقين منه في أي زمان من الأزمنة. نظير ما لو وجد ماء لم يعلم بكريته أو عدم كريته من حين وجوده، فالماء الموصوف بعدم الكرية لا حالة سابقة له؛ إذ المتيقن سابقاً هو العدم المطلق، أما (الماء بوصف عدم كريته) فلا حالة سابقة له.

[1] أي: في هاهنا - وهو كون الحادث بقيد كونه متصفاً بالتقدم أو أحد ضديه - .

[2] إشارة إلى الصورتين الثالثة والرابعة، فقوله: «وأخرى» أي: وتارة أخرى، عطف على (تارة) في قوله: (فإن كانا مجهولي التاريخ فتارة... الخ).

[3] بمفاد ليس - ناقصة أو تامة - .

[4] لعدم تمامية أركانه، أما الصورة الثالثة فلعدم اليقين السابق، وأما الرابعة فلعدم اتصال الشك باليقين - كما سيأتي التوضيح - .

الصورة الثالثة

[5] إشارة إلى الصورة الثالثة، وهي ما كان الأثر للشيء بمفاد ليس الناقصة - أي: العدم النعتي - .

مثلاً: كان الإرث متوقفاً على موت الوارث المتصف بعدم التقدم على موت المورث، فلا يجري الاستصحاب؛ لعدم اليقين السابق.

نظير الماء القليل إذا لاقى نجساً وصار كراً، ولا نعلم بالمتقدم من الملاقاة والكرية،

ص: 134

الأثر المهم مترتباً على ثبوته[1] المتصف بالعدم[2] في زمان حدوث الآخر، لعدم[3] اليقين بحدوثه كذلك[4] في زمان، بل قضية[5] الاستصحاب عدم حدوثه كذلك، كما لا يخفى.

----------------------------------

فإن كانت الكرية متقدمة فلا تضرّه ملاقاة النجاسة؛ إذ الكر لا ينجس بالملاقاة، وإن كانت الملاقاة متقدمة فالماء نجس؛ إذ القليل ينجس بالملاقاة ولا ينفع تتميمه كراً بعد النجاسة. فينجس الماء بوصف عدم الكرية في زمن الملاقاة، كما لا ينجس الماء بوصف عدم الملاقاة في زمان الكرية.

وهنا لا يجري الاستصحاب؛ إذ لا حالة سابقة ل- (الماء بوصف عدم الكرية) ولا ل- (الماء بوصف عدم الملاقاة).

[1] أي: ثبوت أحدهما كموت الوارث في المثال، «المتصف بالعدم» أي: عدم التقدم - مثلاً - «زمان حدوث الآخر» كموت المورث، والحاصل: موت الوارث متصف بعدم التقدم حين حدوث موت المورّث.

وفي بعض النسخ هكذا (في ما كان الأثر المهم مترتباً على ثبوته للحادث، بأن يكون الأثر للحادث المتصف بالعدم... الخ) فالمعنى: على ثبوت الأثر للحادث - الذي هو أحدهما موت الوارث في المثال - ... الخ.

[2] أي: عدم التقدم - أو أحد أخويه - وفي المثال عدم التقدم؛ لأن الوارث إنما يرث لو لم يكن موته موصوفاً بالتقدم على موت المورث؛ لأن الميت قبلاً لا يرث الميت بعداً.

[3] دليل عدم جريان الاستصحاب، وبيانه كبيان الصورة الثانية، فإن (موت الوارث بوصف عدم التقدم) لا يقين سابق به؛ إذ لا نعلم بذلك في أي زمان من الأزمنة.

[4] «بحدوثه» بحدوث أحدهما، «كذلك» بوصف عدم التقدم.

[5] أي: لا يجري استصحاب (الموت بوصف التقدم) الذي كان له الأثر، بل

ص: 135

وكذا[1] في ما كان[2] مترتباً على نفس عدمه في زمان الآخر واقعاً[3]، وإن

----------------------------------

يجري استصحاب عدمه، أي: (عدم الموت بوصف التقدم) فإن هذا من قبيل استصحاب العدم الأزلي، لكنه معارض باستصحاب (عدم الموت بوصف التأخر)، كما يتعارض مع استصحاب (عدم موت الآخر بهذه الأوصاف)، «حدوثه» أي: أحدهما، «كذلك» أي: بوصف العدم.

الصورة الرابعة
اشارة

[1] إشارة إلى الصورة الرابعة وهي العمدة، ولها الثمرة؛ لأن الصور السابقة لا مثال واقعي لها، بل مجرد فروض إلاّ نادراً.

وفي هذه الصورة الأثر مترتب على العدم الذي هو مفاد ليس التامة. وبعبارة أخرى: الأثر لعدم أحدهما في زمان حدوث الآخر.

مثلاً: إرث الوارث متوقف على عدم موته حين موت المورّث. وفي هذه الصورة أيضاً لا يجري الاستصحاب، ولكن لماذا لا يجري؟

اختلف الشيخ الأعظم والمصنف في سبب عدم جريانه.

فالشيخ الأعظم(1)

يرى عدم الجريان لتعارض الاستصحابين، وعليه: فإذا لم يجرِ أحدهما - لكونه بلا أثر أو لكونه مثبتاً - فحينئذٍ يجري الآخر؛ لارتفاع التعارض - وسيأتي مثاله - .

والمصنف يرى عدم جريان الاستصحاب؛ لعدم تمامية أركانه، فأحد الأركان - وهو اتصال زمان الشك بزمان اليقين - غير محرز، وعليه: فلا يجري الاستصحابان مطلقاً.

[2] «كان» أي: الأثر، «نفس عدمه» بمفاد ليس التامة، أي: عدم الشيء كعدم موت الوارث.

[3] أي: زمان الوجود الواقعي للآخر، فالوارث يرث إذا لم يكن ميّتاً حين

ص: 136


1- فرائد الأصول 3: 249 - 250.

كان[1] على يقين منه في آن[2] قبل زمان اليقين بحدوث أحدهما، لعدم[3] إحراز

----------------------------------

موت المورث، ويراد بالاستصحاب إحراز عدم موته تعبداً.

[1] أي: لا ينفع اليقين بعدم الموت سابقاً؛ وذلك لاختلال ركن آخر من أركان الاستصحاب، وهو الاتصال.

[2] مثلاً: يعلم بحياتهما يوم الأربعاء ثم يعلم بموت أحدهما في الخميس والآخر في الجمعة، فقبل موتهما كان عالماً بحياة الوارث في يوم الأربعاء، «زمان اليقين بحدوث أحدهما» هو الخميس في المثال، حيث يعلم إجمالاً بأنه مات أحدهما في الخميس.

[3] هذا دليل عدم جريان الاستصحاب، وحاصله: إن اتصال زمان المتيقن بزمان المشكوك لازم، فإن انقطع الاتصال لم يجر الاستصحاب قطعاً.

مثلاً: لو علم بالطهارة ثم علم بالنجاسة ثم شك فإنه لا يجري استصحاب الطهارة؛ وذلك لأن زمان الشك بالطهارة منقطع عن زمان اليقين بها، والانقطاع حصل بسبب اليقين بالنجاسة، بل هنا يجري استصحاب النجاسة؛ لأن اليقين بها متصل بالشك، وهذا واضح.

وهكذا لو كان الفاصل علماً إجمالياً، كما لو علم بطهارة الإناء الأول ثم علم بتنجس أحد الإناءين، ثم شك في طهارة الإناء الأول فإنه لا يجري استصحاب طهارة الإناء الأول؛ وذلك لاحتمال انقطاع زمان المتيقن عن زمان المشكوك؛ لأن الإناء المتنجس إن كان الإناء الأول فقد انقطع اليقين بطهارته عن زمان الشك، وإن كان المتنجس الإناء الثاني فلم ينقطع زمان اليقين عن زمان الشك، فهنا يحتمل الانقطاع ويحتمل عدم الانقطاع، فلا يجوز له التمسك بأدلة الاستصحاب؛ لأنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ إذ الاستصحاب يجري لو أحرزنا أركانه، فإذا شككنا في الأركان فإنه لا يمكننا التمسك بأدلة الاستصحاب؛ لأنا نشك في أن

ص: 137

اتصال زمان شكه[1] - وهو زمان حدوث الآخر[2] - بزمان يقينه، لاحتمال[3] انفصاله عنه باتصال[4] حدوثه[5] به.

وبالجملة[6]:

----------------------------------

هذا مصداق للاستصحاب أم لا. وهذا نظير ما لو أمرنا المولى بإكرام العلماء ثم شككنا بأن زيداً عالم أم لا، فلا يمكن التمسك لإكرامه بقوله: (أكرم العلماء) كما هو واضح.

[1] مرجع الضمير يستفاد من السياق، أي: شك المستصِحب - بكسر الصاد - .

[2] لأن الشك في هذا الزمان هو الركن الثاني للاستصحاب، أي: حين موت المورث يكون شاكاً في موت الوارث فيستصحب عدم موته، لكن لا يوجد هنا الركن الثالث للاستصحاب - وهو الاتصال - .

[3] أي: كما أن اليقين اللاحق يقطع اليقين السابق عن الشك اللاحق كذا العلم الإجمالي أيضاً يقطع، «انفصاله» أي: زمان الشك، «عنه» عن زمان اليقين.

[4] بيان كيفية انقطاع اليقين عن الشك، والمعنى: باتصال موت الوارث بزمان الشك، أي: كنا على يقين من حياة الوارث يوم الأربعاء، ونعلم إجمالاً إما بموته أو موت المورث يوم الخميس، ثم نشك في حياة الوارث حال موت المورث، فهذا الشك قد انقطع عن اليقين السابق؛ وذلك لتحقق العلم الإجمالي بين اليقين والشك.

[5] أي: اتصال حدوث موت الوارث، «به» أي: باليقين بعدم موت الوارث، أي: يحتمل موت الوارث قبل موت المورث، فيكون احتمال موت الوارث قد قطع الاتصال؛ لأن هذا الاحتمال بسبب العلم الإجمالي، والعلم الإجمالي كالعلم التفصيلي في قطعه الاتصال - كما بيناه - .

[6] حاصله: إنه في الساعة الأولى يعلم بعدم موتهما، وفي الساعة الثانية يعلم موت أحدهما لا على التعيين، وفي الساعة الثالثة يعلم موت الآخر، فالساعة

ص: 138

كان بعد ذاك الآن[1] - الذي قبل زمان اليقين بحدوث أحدهما - زمانان[2] أحدهما زمان حدوثه[3]، والآخر زمان حدوث الآخر[4] وثبوته الذي يكون ظرفاً للشك[5] في أنه[6] فيه أو قبله، وحيث[7] شك في أن أيهما مقدم وأيهما مؤخر لم يحرز اتصال زمان الشك بزمان اليقين، ومعه لا مجال للاستصحاب حيث لم يحرز[8] معه كون

----------------------------------

الأولى هي زمان اليقين بعدم موت الوارث، والساعة الثانية يحتمل موته بالعلم الإجمالي، ثم بعد هذا العلم الإجمالي هو شاك في موت الوارث قبل موت المورث، فهذا الشك قد انقطع عن الساعة الأولى.

[1] «ذاك الآن» هو زمان اليقين بحياتهما - الساعة الأولى في المثال - وقوله: «الذي قبل زمان اليقين بحدوث أحدهما» جملة معترضة لبيان «ذاك الآن» أي: الذي قبل حصول العلم الإجمالي بحدوث أحدهما.

[2] اسم كان، أي: كان بعد ذلك الآن - وهو زمان اليقين بهما - زمانان.

[3] أي: حدوث هذا الشيء الذي يراد استصحاب عدمه، كموت الوارث.

[4] كموت المورث، «و ثبوته» عطف تفسيري على «حدوث الآخر».

[5] أي: زمان موت المورث هو الوقت الذي يشك في أن الوارث مات قبله أو مات بعده، فهنا شك في موت الوارث في ذلك الوقت مع يقين سابق بعدم موته، ولكن لا يجري الاستصحاب للانقطاع.

[6] «أنه» أن موت الوارث، «فيه» أي: بعد حدوث الآخر وهو موت المورث، «أو قبله» أي: قبل حدوث الآخر - موت المورث - .

[7] بيان وجه الانقطاع، «أيهما» أيّ الحادثين؛ لأن زمان الشك هو وقت موت المورّث، ويمكن واقعاً أن يكون موت المورث في الساعة الثالثة، فصار زمان الشك منفصلاً عن زمان اليقين - وهو الساعة الأولى في المثال - «ومعه» عدم إحراز الاتصال.

[8] أي: فيكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ لأن الدليل هو:

ص: 139

رفع اليد عن اليقين بعدم حدوثه بهذا الشك من نقض اليقين بالشك.

لا يقال[1]: لا شبهة في اتصال مجموع الزمانين بذاك الآن[2]، وهو[3] بتمامه زمان الشك في حدوثه، لاحتمال[4] تأخره عن الآخر. مثلاً: إذا كان على يقين من عدم حدوث واحد منهما[5] في ساعة، وصار على يقين من حدوث أحدهما بلا

----------------------------------

(لا تنقض اليقين بالشك) ولا يعلم أن المورد من مصاديق النقض، «بعدم حدوثه» أي: اليقين بعدم موت الوارث، «بهذا الشك» أي: الشك بموت الوارث في زمان كان المورث ميتاً.

إشكال

[1] حاصله: إن تمام الساعتين - الثانية والثالثة - هما زمان الشك بالوجدان؛ لأنا نعلم بحياة الوارث يوم الأربعاء، ولا نعلم بموته يوم الخميس أو الجمعة، فالشك - وهو عدم العلم بموت - يكون في كل يوم الخميس إلى قبيل نهاية يوم الجمعة.

[2] «مجموع الزمانين» أي: زمان حدوث أحدهما لا على التعيين أولاً، ثم زمان حدوث الآخر لا على التعيين ثانياً، «بذلك الآن» أي: زمان اليقين بعدم موت أيٍّ منها - يوم الأربعاء في المثال - .

[3] أي: مجموع الزمانين، «في حدوثه» أي: حدوث الحادث الذي يراد استصحاب عدمه، كموت الوارث.

[4] بيان أن مجموع الزمانين هو زمان الشك، والمعنى: أن زمان حدوث أحدهما - كموت الوارث الذي يُراد استصحاب عدمه - يحتمل تأخره عن الآخر - كموت المورث - كما يحتمل أنه متقدم عليه، وهذا الاحتمال هو الشك، وهذا الشك يكون منذ الساعة الثانية ويستمر إلى الساعة الثالثة، فاتصل اليقين بالشك.

[5] أي: عدم حدوث أيِّ واحد منهما، «في ساعة» الأربعاء في المثال، «ساعة أخرى بعدها» كالخميس في المثال.

ص: 140

تعيين في ساعة أخرى بعدها، وحدوث الآخر في ساعة ثالثة، كان زمان الشك في حدوث كل منهما[1] تمام الساعتين، لا خصوص إحداهما، كما لا يخفى.

فإنه يقال[2]: نعم[3]، ولكنه إذا كان بلحاظ إضافته إلى أجزاء الزمان، والمفروض[4] أنه بلحاظ إضافته إلى الآخر وأنه[5] حدث في زمان حدوثه وثبوته

----------------------------------

[1] من الحادثين - كموت الوارث وموت المورث - «تمام الساعتين» لاحتمال التقدم والتأخر في كل واحد منهما.

جواب الإشكال

[2] حاصل الجواب: إنه إن لوحظ كل واحد من الحادثين بلحاظ نفس الزمان فيقال: إن موت الوارث مشكوك في يوم الخميس، كما أنه مشكوك في يوم الجمعة، فالاتصال بين اليقين والشك موجود.

ولكن إن لوحظ بالإضافة إلى الآخر - كما هو مورد هذه الصورة - فلا اتصال؛ لأن زمان الشك هو زمان تحقق الآخر - أي: موت المورث - فنحن نشك في موت الوارث في الوقت الذي كان المورث ميتاً، وتحقق الآخر - وهو موت المورث - يحتمل أن يكون يوم الخميس، فاتصل زمان الشك بزمان اليقين، ويحتمل أن يكون يوم الجمعة فلا اتصال.

[3] أي: نسلم اتصال زمان الشك بزمان اليقين، لكن في فرض آخر خارج عن محل البحث - وهو الصورة الرابعة - «ولكنه» أي: لكن الشك، «إضافته» أي: نسبة الشك، «أجزاء الزمان» ففي يوم الخميس مشكوك موت الوارث، كما أنه في يوم الجمعة كذلك مشكوك.

[4] أي: محل البحث هو فرض نسبة الحادث إلى حادث آخر، لا نسبته إلى نفس الزمان، «إضافته» أي: الحادث - كموت الوارث - .

[5] بيان صورة الفرض «أنه» أن الحادث كموت الوارث «حدوثه» أي: حدوث

ص: 141

أو قبله، ولا شبهة أن زمان شكه[1] بهذا اللحاظ إنما هو خصوص ساعة ثبوت الآخر وحدوثه[2] لا الساعتين.

فانقدح أنه لا مورد هاهنا[3] للاستصحاب، لاختلال أركانه[4]، لا أنه مورده[5]، وعدم جريانه إنما هو بالمعارضة[6]، كي يختص[7]

----------------------------------

الآخر كموت المورث «و ثبوته» عطف تفسيري على «حدوثه» أي: في الوقت الذي كان المورث ميتاً «أو قبله» أي: قبل حدوث الآخر في الوقت الذي كان المورث حياً.

[1] أي: شك من يريد الاستصحاب، «بهذا اللحاظ» أي: بلحاظ نسبته إلى الآخر.

[2] وثبوت الآخر يحتمل أن يكون في الساعة الثالثة فانفصل زمان الشك عن اليقين، كما يحتمل أن يكون في الساعة الثانية فاتصل.

[3] أي: في الصورة الرابعة - وهو ما إذا كان الأثر مترتباً على عدم أحدهما في زمان الآخر - كعدم موت الوارث في زمان موت المورث.

[4] أي: لعدم استجماع الأركان، فأحد الأركان - وهو الاتصال - غير معلوم التحقق.

[5] أي: لا أن هاهنا - في هذه الصورة - مورد الاستصحاب، «عدم جريانه» أي: الاستصحاب، «هو» عدم الجريان.

[6] كما ذهب إليه الشيخ الأعظم(1)،

فاستصحاب عدم موت الوارث إلى حين موت المورث معارض باستصحاب عدم موت المورث إلى حين موت الوارث.

[7] أي: عدم الجريان، بأن يقال: ما دامت المعارضة موجودة فلا يجري الاستصحاب، فلو ارتفعت المعارضة بعدم جريان أحد الاستصحابين لعدم أثر له - مثلاً - فحينئذٍ يجري الآخر.

ص: 142


1- فرائد الأصول 3: 249.

بما كان الأثر لعدم كل[1] في زمان الآخر، وإلاّ [2] كان الاستصحاب في ما له الأثر جارياً.

وأما لو علم بتاريخ أحدهما[3]،

----------------------------------

[1] أي: كل من الحادثين كان له أثر.

[2] أي: لو لم يكن لكيهما أثر، بل كان الأثر لأحدهما فقط.

مثلاً: لو أجاز الراهن بيع العين المرهونة ثم رجع عن إذنه، وقد باع المرتهن تلك العين، ولا يعلم بأن بيعه كان قبل الرجوع فيكون صحيحاً، أم كان بعد الرجوع فيكون فاسداً فهنا استصحابان:

1- استصحاب عدم الرجوع إلى حين البيع، وهذا أثره صحة البيع.

2- استصحاب عدم البيع إلى حين الرجوع، وهذا لا أثر له؛ لأن الفساد ليس أثراً لعدم البيع، بل الفساد أثر للبيع بعد الرجوع، وهو لازم عقلي لعدم البيع إلى حين الرجوع، فإذا استصحب عدم البيع إلى حين الرجوع فإنّ لازمه البيع بعد الرجوع، وأثر اللازم هو الفساد، وهذا أصل مثبت.

إذن، لا يجري الاستصحاب الثاني، فيجري الاستصحاب الأول بلا معارضة.

المقام الثاني: في مجهول التاريخ ومعلومه
اشارة

[3] مع الجهل بتاريخ الآخر، كما لو كان أحد الورثة كافراً ثم أسلم، وقد علمنا بأن قسمة الإرث كانت يوم الجمعة، وشككنا في أن إسلام هذا كان يوم الخميس فيكون وارثاً، أو كان يوم السبت فلا إرث له؛ لأن الكفر مانع عن الإرث إذا استمر إلى حين القسمة.

ويذهب المصنف إلى عدم الفرق بين هذا المقام وبين المقام السابق في مجهولي التاريخ في كل الصور الأربع، لكن الشيخ الأعظم فرّق بين المقامين في الصورة

ص: 143

فلا يخلو أيضاً: إما يكون[1] الأثر المهم مترتباً على الوجود الخاص[2] من المقدم أو المؤخر أو المقارن، فلا إشكال في استصحاب عدمه[3]، لو لا المعارضة باستصحاب العدم في طرف الآخر[4] أو طرفه[5]، كما تقدم.

----------------------------------

الرابعة - ما كان الأثر للشيء بمفاد ليس التامة - .

الصورة الأولى

[1] هذه الصورة الأولى، وهي كون الأثر مترتباً على وجود الشيء بمفاد كان التامة.

مثلاً: الإرث يترتب على تقدم الإسلام على القسمة، فيستصحب (عدم الحصة المتقدمة من الإسلام).

وعدم الإرث يترتب على تأخر الإسلام عن القسمة أو تقارنهما فيستصحب (عدم الحصة المتأخرة من الإسلام) أو (عدم الحصة المتقارنة).

وكذا عدم الإرث يترتب على تقدم القسمة، فيستصحب (عدم الحصة المتقدمة من القسمة)، وكذا في التقارن.

فهذه استصحابات متعارضة، فلا تجري لأجل المعارضة.

[2] قد مرّ في المقام الأول - مجهولي التاريخ - أن المراد من الوجود الخاص هو الحصة من الوجود، فلم يؤخذ وصف التقدم أو التأخر أو التقارن في موضوع الأثر، لكن الحصة التي ظرفها التقدم أو التأخر أو التقارن قد يكون لها أثر، فدقق.

[3] أي: عدم الوجود الخاص.

[4] أي: الحادث الآخر، فاستصحاب (عدم الإسلام وقت القسمة) معارض باستصحاب (عدم القسمة وقت الإسلام).

[5] أي: طرف نفس الحادث، كاستصحاب (عدم الحصة المتقدمة من الإسلام) معارض باستصحاب (عدم الحصة المتأخرة منه) - مثلاً - .

ص: 144

وإما يكون[1] مترتباً على ما إذا كان متصفاً بكذا[2]، فلا مورد للاستصحاب أصلاً، لا في مجهول التاريخ ولا في معلومه، كما لا يخفى، لعدم[3] اليقين بالاتصاف به[4] سابقاً فيهما.

وإما يكون[5] مترتباً على عدمه الذي هو مفاد ليس التامة في زمان الآخر، فاستصحاب العدم[6] في مجهول التاريخ منهما كان جارياً، لاتصال زمان شكه

----------------------------------

الصورة الثانية والثالثة

[1] إشارة إلى الصورة الثانية والثالثة، وهي كون الأثر للحادث المتصف بوصف التقدم أو التأخر أو التقارن - وهذا مفاد كان الناقصة - أو كون الأثر للحادث المتصف بعدم التقدم أو أحد أخويه - وهذا مفاد ليس الناقصة - .

[2] «كذا» أي: التقدم أو التأخر أو التقارن.

[3] أي: لعدم اليقين السابق، فإن (الإسلام المتصف بالتقدم) غير معلوم سابقاً أصلاً، وكذا (الإسلام المتصف بعدم التقدم).

[4] «به» أي: بكذا - وهو التقدم أو التأخر أو التقارن - .

الصورة الرابعة

[5] إشارة إلى الصورة الرابعة، وهي كون الأثر مترتباً على عدم أحدهما في زمان الآخر، مثلاً: الإرث مترتب على عدم القسمة في زمان إسلام الوارث الكافر.

[6] حاصل كلام المصنف أن:

1- استصحاب عدم الحادث - المجهول تاريخه - جارٍ بلا معارضة، مثلاً: استصحاب عدم الإسلام إلى حين القسمة، وأثره عدم إرث هذا الكافر الذي أسلم؛ وذلك لتمامية أركان الاستصحاب، فنحن نعلم بعدم إسلامه سابقاً، ونشك في تحقق الإسلام قبل القسمة، فنستصحب عدم الإسلام، وزمان المتيقن متصل بزمان المشكوك؛ لأن زمان المشكوك هو قبل القسمة، وهذا الوقت متصل

ص: 145

بزمان يقينه، دون معلومه[1]، لانتفاء[2] الشك فيه في زمان، وإنما الشك[3] فيه بإضافة زمانه إلى الآخر، وقد عرفت[4] جريانه فيهما تارةً وعدم جريانه كذلك أخرى.

فانقدح[5]

----------------------------------

بالوقت الذي كان الوارث فيه كافراً يقيناً.

2- استصحاب عدم الحادث - المعلوم تاريخه - كعدم القسمة.

أ: فإن أريد استصحاب عدم القسمة بالإضافة إلى الزمان فهنا لا شك أصلاً؛ لأنا نعلم بأن القسمة كانت في يوم الجمعة، فقبل الجمعة قطع بعدم القسمة، ويوم الجمعة قطع بالقسمة، فلا شك أصلاً.

ب: وإن أريد استصحاب عدم القسمة بالإضافة إلى الإسلام فهذا يرجع إلى الصورة الأولى أو الثانية؛ لأن القسمة إن لوحظت بأنها حصة وجودية فصارت مفاد كان التامة، فاستصحاب عدمها جارٍ لو لا المعارضة، وإن لوحظت القسمة بوصف التقدم أو التأخر أو التقارن، فصارت مفاد كان الناقصة، فلا يجري استصحابها لعدم اليقين السابق.

[1] أي: لا يجري الاستصحاب في معلوم التاريخ - القسمة في المثال - .

[2] أي: لا شك في معلوم التاريخ - القسمة - في أي زمان من الأزمنة.

هذا إذا لوحظت القسمة بالإضافة إلى الزمان، أشرنا إليه في البند (أ).

[3] إشارة إلى البند (ب)، «فيه» أي: في معلوم التاريخ.

[4] مقصود المصنف هو رجوع هذه الصورة الرابعة إلى الصورة الأولى أو الثانية، «جريانه» أي: الاستصحاب، «فيهما» أي: في معلوم التاريخ ومجهوله، «تارة» إذا كان الأثر للشيء بمفاد كان التامة، «كذلك» أي: فيهما، «أخرى» في ما كان الأثر للشيء بمفاد كان الناقصة.

[5] أي: اتضح بما ذكرناه عدم الفرق بين المقام الأول - وهو مجهولي التاريخ -

ص: 146

أنه لا فرق بينهما[1]، كان الحادثان مجهولي التاريخ أو كانا مختلفين، ولا بين مجهوله ومعلومه في المختلفين، في ما[2] اعتبر في الموضوع[3] خصوصية ناشئة من إضافة أحدهما إلى الآخر بحسب[4] الزمان من التقدم أو أحد ضديه وشك فيها، كما لا يخفى.

كما انقدح[5]

----------------------------------

وبين المقام الثاني - وهو كون أحدهما معلوم التاريخ والآخر مجهوله - .

كما أنه لا فرق بين معلوم التاريخ وبين مجهوله، فإن كان الأثر للشيء بمفاد كان التامة جري الاستصحاب في كلّها لتمامية أركانه - لو لا المعارضة - وإن كان الأثر للشيء بمفاد كان الناقصة أو ليس الناقصة، فلا يجري الاستصحاب في جميعها؛ لعدم اليقين السابق، وإن كان الأثر للشيء بمفاد ليس الناقصة، فإن لم يتصل زمان الشك بزمان اليقين فلا يجري الاستصحاب، وإلاّ جرى - لو لا المعارضة - .

وبذلك يتضح الإشكال على كلام الشيخ الأعظم، حيث فرّق بين معلوم التاريخ فلا يجري فيه الاستصحاب، وبين مجهوله فيجري، كما اتضح الإشكال في كلامه في مجهولي التاريخ، وقد مرّ تفصيله.

[1] أي: بين الحادثين، «كان» أي: سواء كان.

[2] أي: في ما لو لوحظ أحد الحادثين بالإضافة إلى الآخر.

نعم، لو لوحظا بالإضافة إلى نفس الزمان فلا يجري الاستصحاب في معلوم التاريخ - لعدم الشك فيه أصلاً - مع جريانه في مجهول التاريخ لتمامية الأركان.

[3] أي: الموضوع الذي يراد استصحابه.

[4] «بحسب» متعلقه ب- «إضافة» و«من التقدم...» بيان للخصوصية، أي: تلك الخصوصية هي التقدم أو التأخر أو التقارن، «فيها» في الخصوصية.

تعاقب حالتين

[5] هنا بيان حكم تعاقب حالتين، حيث لا يعلم المتقدم من المتأخر، كما لو

ص: 147

أنه لا مورد للاستصحاب[1] أيضاً في ما تعاقب حالتان متضادتان - كالطهارة والنجاسة - وشك في ثبوتهما وانتفائهما[2]، للشك[3] في المقدم والمؤخر منهما، وذلك[4]

----------------------------------

توضأ وأحدث، ولا يعلم بالسابق عن اللاحق، فقد قيل بتعارض استصحاب الوضوء مع استصحاب الحدث فيتساقطان، لكن المصنف يرى عدم تمامية أركان الاستصحاب؛ وذلك لاحتمال انفصال زمان الشك عن زمان اليقين.

ففي استصحاب الوضوء لو كان المقدّم واقعاً هو الحدث فإن زمان اليقين بالوضوء متصل بزمان الشك به، ولكن لو كان المقدم واقعاً هو الوضوء فقد انفصل زمان اليقين بالوضوء عن زمان الشك به؛ وذلك لتوسط الحدث بينهما، وحيث لا يعلم الانفصال والاتصال فإنه يحتمل الانفصال، فلم تتم أركان الاستصحاب.

ثم إن الفرق بين (تعاقب الحالتين) وبين (مجهولي التاريخ) في أمور، منها:

1- هنا الموضوع واحد (زيد المتوضؤ والمحدث)، وهناك الموضوع متعدد (الأب والابن في موتهما).

2- هنا التردد في زمان المتيقن، فهو متيقن بالوضوء وبالحدث، لكن لا يدري أيهما أسبق، وهناك التردد في زمان المشكوك، حيث كان ظرف الشك هو الحادث الآخر - ولا يعلم زمان الحادث الآخر - .

3- هنا يراد استصحاب الوجود - أي: الوضوء مثلاً - وهناك يراد استصحاب العدم، كعدم موت الولد - مثلاً - .

[1] لعدم تمامية الأركان، «حالتان» فاعل «تعاقب».

[2] فنعلم إجمالاً بثبوت أحدهما وبانتفاء الآخر، ولكن حيث لا ندري بالتفصيل فيكون كل واحد منهما محتملاً، فيكون الشك فيهما.

[3] أي: سبب الشك في ثبوتهما وانتفائهما هو عدم علمنا بالمتقدم عن المتأخر.

[4] هذا علّة عدم مورد للاستصحاب باختلال أحد أركانه.

ص: 148

لعدم إحراز[1] الحالة السابقة المتيقنة المتصلة بزمان الشك في ثبوتهما وترددها[2] بين الحالتين، وأنه[3] ليس من تعارض الاستصحابين، فافهم وتأمل في المقام، فإنه دقيق.

الثاني عشر[4]: إنه قد عرفت[5] أن مورد الاستصحاب لابد أن يكون حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم كذلك، فلا إشكال في ما كان المستصحب من الأحكام الفرعية[6]

----------------------------------

[1] النفي يرجع إلى صفة «المتصلة»، أي: عدم إحراز اتصال زمان اليقين بزمان الشك، و«بزمان الشك» متعلق ب- «المتصلة»، و«في ثبوتهما» متعلق ب- «الشك».

[2] عطف على (لعدم إحراز الحالة...)، أي: وذلك لتردد الحالة السابقة المتصلة، «بين الحالتين» التي لا يعلم المتقدم منهما عن المتأخر كالطهارة والنجاسة.

[3] أي: وانقدح أنه ليس...، فليس عدم جريان الاستصحاب للتعارض، بل لعدم تمامية الأركان.

التنبيه الثاني عشر: استصحاب العقائد
اشارة

[4] وقعت مناظرة بين أحد العلماء وبين يهودي في قرية ذي الكفل - بين النجف وكربلاء - فتمسك اليهودي باستصحاب نبوة موسى عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لنفي نبوة رسول الله محمد صَلَّی اَللَّهُ عَلَیْهِ وَ آلِهِ.

ومن قبل حدثت مناظرة بين الإمام الرضا عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ وبين الجاثليق قريبة بهذا المضمون.

[5] ذكره المصنف كمقدمة لهذا التنبيه، وهو أنه قد مرّ لزوم كون الاستصحاب مما يرتبط بالأحكام الشرعية، إما مباشرة كاستصحاب نفس الحكم، أو بواسطة كاستصحاب موضوع له حكم شرعي؛ وذلك لأن الاستصحاب إنما هو تعبد بالبقاء شرعاً، فلابد من أن يكون مرتبطاً بالشرع، وإلاّ كان لغواً، «كذلك» أي: شرعاً.

[6] مما تقابل أصول الدين، فالفرعية تشمل المسائل الفقهية، كما تشمل مسائل أصول الفقه.

ص: 149

أو الموضوعات الصرفة الخارجية[1] أو اللغوية[2] إذا كانت ذات أحكام شرعية.

وأما الأمور الاعتقادية[3]

----------------------------------

[1] وكذا الموضوعات غير الصرفة.

فالِصرفة: ما لا مدخل للشرع في الموضوع لا من قريب ولا من بعيد، وإنما يبيّن الشرع حكمه، مثل: (خمرية الخمر).

وغير الصِرفة: ما كان موضوعاً خارجياً ولكن ينتزع منه الشرع، فصار للشرع فيه دخل، مثل: (نجاسة البول)، فإن (البول) موضوع خارجي ينتزع منه الشارع النجاسة.

وهناك قسم ثالث وهو الموضوع المستنبط، وهو ما كان من اختراع الشارع كالصلاة - مثلاً - .

[2] كما لو علمنا باستعمال العرب قبل الإسلام هذه الكلمة لهذا المعنى، ثم شككنا في أن الشارع استعملها بنفس المعنى أم أن المعنى تغيّر بفعل تحرّك اللغات ومطاطيتها، فيستصحب بقاء ذلك المعنى.

ولا يخفى أن هذا أصل مثبت؛ لأن بقاء المعنى لا يفيدنا إلاّ إذا استعمله الشارع بذلك المعنى، فاستصحاب المعنى يلازم استعمال الشارع لتلك الكلمة في ذلك المعنى، إلاّ إذا اُدعي خفاء الواسطة.

[3] قد مرّ في باب الانسداد أن الأمور العقائدية على قسمين:

الأول: ما لا يلزم تحصيل العلم بها، ولكن لو علم بها وجب عليه الاعتقاد بها - أي: عقد القلب عليها - وهذه في بعض تفاصيل الاعتقاديات، كبعض تفاصيل الجنة والنار ونحوها.

الثاني: ما يجب تحصيل العلم بها، فلا يكفي الظن ولا يجوز الشك، وتحصيل العلم يكون عن طريق إيجاد المقدمات التي توصل إلى العلم، ويدخل في هذا القسم التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد.

ص: 150

التي كان المهم فيها شرعاً[1] هو الانقياد والتسليم والاعتقاد[2] - بمعنى عقد القلب عليها[3] - من [4] الأعمال القلبية الاختيارية، فكذا[5] لا إشكال في الاستصحاب

----------------------------------

القسم الأول

[1] بل وعقلاً للزوم تصديق الله ورسوله صَلَّی اَللَّهُ عَلَیْهِ وَ آلِهِ والأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

[2] أي: لا يجب فيها تحصيل العلم، ولكن لو علم وجب عليه التصديق بها، وقوله: «الانقياد والتسليم والاعتقاد» كلمات متقاربة المعنى، أي: قبول تلك الحقيقة الاعتقادية التي علم بها.

[3] شرح للانقياد والتسليم والاعتقاد، وقد مرّ أن العلم لا يلازم الاعتقاد؛ لأن الاعتقاد هو الإذعان بالشيء، أي: البناء على قبوله، فكم من منافق أو كافر يعلم الحق لكنه لا يعتقد به، أي: يبني على عدم قبوله، كما قال تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسۡتَيۡقَنَتۡهَآ أَنفُسُهُمۡ}(1).

[4] بيان للانقياد والتسليم والاعتقاد، والغرض هو ذكر أن الانقياد وأخويه من الأمور الاختيارية، فيمكن تعلق تكليف بها.

[5] أي: مثل الأحكام الفرعية والموضوعات الخارجية أو اللغوية، «فيها» في الأمور الاعتقادية. والاستصحاب هنا قد يكون في الحكم أو الموضوع: (فاستصحاب الحكم) بمعنى: أنه لو كان لنا يقين بوجوب الاعتقاد بشيء ثم شككنا في بقاء هذا الوجوب فنستصحبه، وهو استصحاب حكم - أي: الوجوب - .

و(استصحاب الموضوع) بمعنى: لو تيقنا بوجود شيء من الأمور الاعتقادية، ثم شككنا في بقائه، كما لو علمنا بوجود سؤال منكر ونكير في النجف، ثم بعد دفن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ شككنا في بقاء سؤال القبر في النجف، فهنا نستصحب بقاءه إذا فرض له أثر شرعي!!

ص: 151


1- سورة النمل، الآية: 14.

فيها حكماً وكذا موضوعاً في ما كان هناك يقين سابق وشك لاحق، لصحة[1] التنزيل وعموم الدليل.

وكونه[2] أصلاً عملياً إنما هو[3] بمعنى أنه وظيفة الشاك تعبداً، قبالاً للأمارات الحاكية عن الواقعيات، فيعم[4] العمل بالجوانح كالجوارح.

----------------------------------

[1] يستدل المصنف لجريان الاستصحاب بعدم المانع مع وجود المقتضي.

الأول: عدم المانع عن التعبد، فإن الحكم بيد الشارع، والموضوع له حكم شرعي فأيضاً ارتبط بالشارع، فلا إشكال في تنزيل المشكوك منزلة المتيقن وإبقاء أحكام المتيقن.

الثاني: وجود المقتضي؛ وذلك لعموم دليل الاستصحاب، فقوله: (لا تنقض اليقين بالشك) مطلق يشمل اليقين والشك في الاعتقاديات أيضاً.

[2] «كونه» كون الاستصحاب، وهذا دفع إشكال، حاصله: إن الاستصحاب أصل عملي، فلا يجري في الاعتقاديات التي لا ترتبط بالعمل.

والجواب: إن قولهم: (أصل عملي) هو اصطلاح العلماء ولم يرد في الأخبار، فلا يقيّد به الدليل.

مضافاً إلى أن مقصودهم من (العملي) ليس الفعل المقابل للاعتقاد، بل مرادهم كل أمر اختياري، سواء كان عملاً بالجوارح، أم أمراً بالجوانح.

[3] أي: العمل ليس بمعنى الفعل الجوارحي، بل المراد من العمل هو الوظيفة التعبدية، يقابلها الأمارات التي تكشف عن الواقع، وليست مجرد بيان الوظيفة تعبداً.

[4] أي: يعم الاستصحاب، «بالجوانح» الجانحة هي الضلع؛ ولأن الأضلاع تحيط بالقلب؛ لذا سميت أفعال القلوب بالأعمال الجوانحية، «الجوارح» يراد بها الأعضاء الظاهرة؛ لأن الجرح والصيد يكون باليد والرجل، ثم عممت الجوارح

ص: 152

وأما التي[1] كان المهم فيها شرعاً وعقلاً[2] هو القطع بها ومعرفتها، فلا مجال له موضوعاً[3]، ويجري حكماً[4]. فلو كان متيقناً بوجوب تحصيل القطع بشيء - كتفاصيل القيامة[5] -

----------------------------------

لتشمل كل الأعضاء الظاهرة.

القسم الثاني

[1] أي: القسم الثاني التي يجب تحصيل العلم بها؛ وذلك بترتيب مقدمات العلم.

[2] بعضها يجب عقلاً فقط كالتوحيد والنبوة، لأن الشرع متأخر عنهما، ولا معنى للوجوب الشرعي فيهما إلاّ بطريق دائر.

وبعضها يجب شرعاً فقط كالمعاد - حسب قول من قال: إن طريق إثباته منحصر بالشرع - .

وبعضها يجب عقلاً وشرعاً كالإمامة، وكالمعاد - بناءً على الأصح من قيام دليل العقل عليه أيضاً - .

وهذه يجري الاستصحاب فيها حكماً، أي: استصحاب وجوب الاعتقاد، فمن شك في بقاء وجوب الاعتقاد بالإمام استصحب الوجوب، فعليه تحصيل القطع به.

ولا يجري استصحاب الموضوع فيها؛ لأن الاستصحاب لا يفيد القطع، بل الظن على أقصى حد، وهذه يجب تحصيل العلم فيها؛ وذلك عن طريق إيجاد مقدمات العلم، وليس الاستصحاب مقدمة للعلم كما هو واضح.

[3] أي: لا يمكن إجراء الاستصحاب في الموضوع، وهو التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد.

[4] أي: كان يجب تحصيل القطع، والآن أيضاً يجب تحصيل القطع.

[5] هذا المثال فيه تأمل؛ لأنه من القسم الأول، وكلامنا الآن في القسم الثاني، فدقق.

ص: 153

في زمان وشك في بقاء وجوبه، يستصحب[1].

وأما لو شك في حياة إمام زمان[2] - مثلاً - فلا يستصحب، لأجل[3] ترتيب لزوم معرفة إمام زمانه، بل يجب تحصيل اليقين بموته أو حياته[4] مع إمكانه[5].

ولا يكاد يجدي[6]

----------------------------------

[1] أي: يستصحب الوجوب وهو حكم، «وجوبه» أي: وجوب ذلك الشيء.

[2] إذ يجب الاعتقاد بإمام الزمان، وفي الحديث المتفق عليه بين الفريقين - وبألفاظ متقاربة - : (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية)(1).

فهنا لو احتمل موت إمام، وقيام إمام آخر مقامه، فلابد له من الفحص لتحصيل العلم ببقاء إمامه أو موته، وقيام الآخر مقامه ليكون ذا معرفة بإمام زمانه.

[3] «لأجل» علة للمنفي لا للنفي، أي: الاستصحاب لأجل أن يكتفي بمعرفة من كان يعرفه بأنه إمام زمانه، لكن لا يصح هذا الاستصحاب، بل لابد له من تحصيل اليقين.

[4] فإن تيقن بموته فلابد من الفحص ليتيقن بالإمام اللاحق الذي هو إمام زمانه فعلاً، وإن تيقن بحياته استمر في اتخاذه إماماً للزمان.

[5] أي: مع إمكان اليقين بموته أو حياته، فإن كان عاجزاً - كالمحبوس المنقطع عن الخارج - فلا تكليف له؛ لأن القدرة شرط للتكليف، بل يجب أن يعتقد إجمالاً إلى أن يفرّج الله عنه.

[6] أي: لا يفيد الاستصحاب في ما يحتاج إلى المعرفة إلاّ بشرطين - وكلاهما مفقود في المقام - :

1- أن يكون الاستصحاب كاشفاً عن الواقع لتكون معرفة ظنيّة؛ لأنه لو لم يكن كاشفاً عن الواقع فلا معرفة، بل وظيفة عملية.

ص: 154


1- كمال الدين وتمام النعمة: 409.

في مثل وجوب المعرفة عقلاً أو شرعاً[1]، إلاّ إذا كان حجةً من باب إفادته الظن[2] وكان[3] المورد مما يكتفى به أيضاً.

فالاعتقاديات[4] كسائر الموضوعات لابد في جريانه فيها من أن يكون في المورد أثر شرعي يتمكن من موافقته مع بقاء الشك فيه، كان ذاك[5] متعلقاً بعمل الجوارح أو الجوانح.

وقد انقدح بذلك[6]

----------------------------------

2- أن يكون المورد مما لا يحتاج إلى المعرفة اليقينية، بل يُكتفى فيه بالمعرفة الظنية.

وقد مرّ أن الاستصحاب حجة من باب الأخبار، وهي قد دلت على أنه وظيفة في مقام العمل، فانتفى الشرط الأول.

كما أن أصول العقائد يجب فيها المعرفة العلمية، ولا يكفي الظن، فانتفى الشرط الثاني.

[1] أي: الوجوب العقلي في التوحيد والنبوة، بل والإمامة والمعاد أيضاً، والشرعي في الإمامة والمعاد.

[2] وهذا الشرط الأول؛ لأنه لو لم يفد الظن لم تكن معرفة أصلاً، بل وظيفة.

[3] إشارة إلى الشرط الثاني، «به» أي: بالظن، «أيضاً» كما يُكتفى بالعلم.

[4] هذا نتيجة لكل ما سبق، «جريانه» أي: الاستصحاب، «فيها» في الاعتقاديات، «في المورد» الذي يراد استصحابه، «يتمكن» المكلف المستصحِب، «من موافقته» أي: الأثر، «فيه» أي: في الموضوع.

[5] ذاك الموضوع لا فرق في أن يكون جوارحياً أم جوانحياً.

استصحاب النبوة

[6] أي: بالذي ذكرناه في استصحاب الاعتقاديات.

ص: 155

أنه لا مجال له[1] في نفس النبوة إذا كانت[2] ناشئةً من كمال النفس بمثابة يوحى إليها وكانت[3] لازمة لبعض مراتب كمالها، إما[4] لعدم الشك فيها بعد اتصاف النفس

----------------------------------

ولا يخفى أن استصحاب النبوة على أربعة أقسام:

1- إن قلنا: إنّ النبوة كمال نفسي غير قابل للزوال فلا مورد للاستصحاب أصلاً؛ لعدم الشك اللاحق.

2- وإن قلنا: إنها كمال نفسي قابل للزوال - كسائر الملكات النفسية - فإن أركان الاستصحاب تامة، ولكن لا أثر لهذا الاستصحاب؛ إذ وجوب الاتباع ليس أثراً لها، فكم من نبيّ نسخت شريعته، فكماله النفسي لم يلازم اتباعه، وكذا كم من نبي لا شريعة له.

3- وإن قلنا - كما هو الصحيح - إن النبوة منصب إلهي يمنحه الله لمن يصطفيه بتكميل نفسه، فهنا أركان الاستصحاب تامة، بشرط أن لا يكون دليل الاستصحاب مأخوذاً من نفس شريعة ذلك النبي، وإلاّ كان دوراً؛ إذ استمرارها متوقف على الاستصحاب، وهو متوقف على ثبوت تلك النبوة.

4- وإن كان المراد من استصحاب النبوة هو استصحاب بعض أحكام شريعة ذلك النبي، فقد مرّ في التنبيه السادس صحة هذا الاستصحاب.

[1] أي: للاستصحاب، «نفس النبوة» أي: استصحابها بنفسها - لا بأحكام الشريعة - .

[2] أي: كانت النبوة، «بمثابة» أي: ذلك الكمال كان بمرتبة بحيث أوحي إليه فعلاً - وحي نبوة - .

[3] عطف تفسيري، أي: كانت النبوة لازمة لبعض مراتب كمال النفس، وهي مرتبة عليا لا يصل إليها أحد إلاّ باصطفاء الله تعالى.

[4] إشارة إلى القسم الأول، وهو كونها غير قابلة للزوال، «فيها» في النبوة.

ص: 156

بها، أو[1] لعدم كونها مجعولة[2]، بل من الصفات الخارجية التكوينية، ولو فرض[3] الشك في بقائها باحتمال انحطاط النفس عن تلك المرتبة وعدم بقائها بتلك المثابة[4] - كما هو الشأن في سائر الصفات والملكات الحسنة الحاصلة بالرياضات والمجاهدات -، وعدم[5] أثر شرعي مهم[6] لها يترتب عليها باستصحابها.

نعم[7]، لو كانت النبوة من المناصب المجعولة[8] وكانت كالولاية - وإن كان لابد في إعطائها من أهلية[9]

----------------------------------

[1] إشارة إلى القسم الثاني، وهو لو فرض إمكان زوالها فإنه لا يجري الاستصحاب؛ لعدم كون الموضوع مجعولاً شرعياً، وليس له أثر شرعي.

[2] فالنبوة بهذا المعنى أمر تكويني كان باصطفاء الله تعالى تكويناً، فليست مجعولة بالتشريع، فلا يمكن استصحابها، وأما أنها ليس لها أثر شرعي فسيأتي بعد أسطر.

[3] هذا مجرد فرض غير واقع، وكان الأولى الإعراض عن ذكره إجلالاً لمقام النبوة وإعظاماً للأنبياء، «بقائها» أي: النبوة.

[4] أي: بمرتبة يوحى إليها فعلاً - وحي نبوة - .

[5] عطف على قوله: (لعدم كونها مجعولة...) أي: ولعدم أثر شرعي للنبوة بهذا المعنى؛ لأن لزوم الاتباع لا يلازم النبوة كما بيناه.

[6] أما الأثر الثابت بالنذر وشبهه فليس بمهم، وضمائر «لها» و«عليها» و«باستصحابها» ترجع إلى النبوة.

[7] إشارة إلى القسم الثالث.

[8] كما هو الحق، فالنبوة منصب جعله الله لمن اصطفاه، فلابد من مرتبة سامية من الكمال تكون مقدمة لها.

[9] وتتحقق الأهلية بالاصطفاء من الله تعالى، «وخصوصية» عطف تفسيري

ص: 157

وخصوصية يستحق بها لها - لكانت[1] مورداً للاستصحاب بنفسها، فيترتب عليها آثارها[2] ولو كانت عقلية[3] بعد استصحابها، لكنه[4] يحتاج إلى دليل كان هناك غير منوط بها[5]، وإلاّ لدار[6]، كما لا يخفى.

وأما استصحابها[7]، بمعنى استصحاب بعض أحكام شريعة من اتصف بها، فلا إشكال فيها[8] كما مر.

ثم لا يخفى[9]: أن الاستصحاب لا يكاد يلزم به الخصم إلاّ إذا اعترف بأنه على

----------------------------------

على «أهلية»، «يستحق» النبيُ، «بها» أي: بتلك الخصوصية، «لها» للنبوة.

[1] جزاء (لو)، أي: لو كانت النبوة منصباً عن اصطفاء لأمكن استصحابها لو شك فيها.

[2] أي: فيترتب على النبوة المستصحبة آثار النبوة كلّها.

[3] كما مرّ في التنبيه العاشر من أن الآثار العقلية المترتبة على الواقع لا يمكن ترتيبها في الاستصحاب، لكن الآثار المترتبة على الواقع والظاهر تترتب في الاستصحاب، مثل: (وجوب الطاعة).

[4] أي: لكن استصحاب النبوة - بمعنى المنصب - .

[5] أي: غير مرتبط بتلك النبوة، بأن يكون ثابتاً بالعقل أو بناء العقلاء - مثلاً - .

[6] أي: وإن كان دليل الاستصحاب متخذاً من نفس تلك النبوة لكان دوراً؛ لأن بقاءها متوقف على الاستصحاب، والاستصحاب متوقف عليها؛ لأنه مأخوذ منها.

[7] إشارة إلى الصورة الرابعة.

[8] أي: في هذا الاستصحاب، وتأنيث الضمير باعتبار أن متعلق الاستصحاب أحكام الشريعة.

هل لاستصحاب النبوة فائدة؟

[9] الغرض من الاستصحاب:

ص: 158

يقين فشك في ما صح[1] هناك التعبد والتنزيل[2] ودل عليه الدليل[3]، كما لا يصح أن يقنع به[4] إلاّ مع اليقين والشك والدليل على التنزيل.

ومنه انقدح[5]

----------------------------------

1- إما إلزام الخصم، والمفروض أنه لا شك له، فلا يمكن لليهودي - مثلاً - إلزام المسلم باستصحاب نبوة موسى عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لنفي نبوة رسول الله محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ؛ وذلك لأن المسلم متيقن بنبوة محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.

2- وإما إقناع النفس؛ لأن الإنسان يريد الاطمئنان بصحة معتقده، ولكن لا يصح الاستصحاب لأجل ذلك؛ لعدم كفاية الشك والظن في النبوة، بل لابد من المعرفة اليقينية.

[1] أي: في الأقسام التي يمكن الاستصحاب فيها - وهي بعض الصور من الأقسام الأربعة - .

[2] أي: تنزيل المشكوك منزلة الواقع.

[3] من غير أن يكون مأخوذاً من تلك النبوة.

[4] «به» بالاستصحاب، بأن تتمّ أركانه من اليقين والشك، وبأن يكون هناك دليل على هذا الاستصحاب، الذي هو تنزيل المشكوك منزلة المتيقن، كما لابد من الأثر له.

استصحاب الكتابي لنبوة موسى عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ

[5] «منه» مما ذكرناه في استصحاب النبوة، وحاصل البحث: هو أنه لا يصح تمسك اليهودي باستصحاب نبوة موسى عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ؛ وذلك لأن غرضه من الاستصحاب أحد أمرين: إما إلزام المسلم في المجادلة، وإما إقناع نفسه.

1- أما إلزام المسلم فلا يمكن عن طريق هذا الاستصحاب؛ لأن المسلم غير شاك في نبوة موسى عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بل جميع المسلمين يعترفون بها، كما يعترفون بنبوة سائر

ص: 159

أنه [1] لا موقع لتشبث الكتابي باستصحاب نبوة موسى أصلاً، لا إلزاماً للمسلم[2]، لعدم الشك في بقائها[3] قائمة بنفسه المقدسة واليقين[4] بنسخ شريعته، وإلاّ[5]

----------------------------------

الأنبياء عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، ولا يفرّقون بين أحد من رسله، ومن أنكر نبوة موسى عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ كان كافراً؛ لأن الاعتراف بنبوة جميع الأنبياء من أصول الدين، هذا إذا كان المراد استصحاب نفس النبوة بأقسامها الثلاثة، وإن كان المراد استصحاب كل الشريعة فإنه لا يجري لليقين بنسخها الناقض لليقين بوجوب العمل بها.

2- وأما إقناع النفس فأيضاً لا يمكن عن طريق الاستصحاب؛ إذ أصول الدين أمور هامة يتوقف على الاعتقاد بها المصير الأبدي للإنسان، فلا يجوز عقلاً الاعتقاد الظني أو الوهمي أو مع الشك، بل لابد بحكم العقل من تحصيل اليقين بها، والاستصحاب لا يفيد سوى الظن على أحسن الفروض، هذا إذا كان متمكناً من اليقين.

وأما إن كان عاجزاً عنه فلابد - بحكم العقل - من الاحتياط بأن يعمل بكلا الشريعتين؛ لأن إحداهما وظيفته، وحيث لا يتمكن من تعيينها يحكم العقل بلزوم الاحتياط.

[1] «أنه» للشأن، «لا موقع» أي: لا وجه صحيح.

[2] إذ لو أراد إلزامه بنبوة موسى عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فإن المسلم معترف بها ويجاهر باعترافه، لكن ذلك لا ينفع اليهودي في شيء. ولو أراد إلزامه بشريعة موسى عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فإن المسلم متيقن بنسخها، فليس شاكاً حتى يصح إلزامه بالاستصحاب.

[3] «بقائها» أي: النبوة، «بنفسه» أي: بنفس سيدنا موسى عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[4] عطف على (لعدم الشك...) أي: ولليقين بنسخها، فلا مجال للإلزام باستصحاب شريعته.

[5] أي: وإن لم يعترف المسلم بنبوة موسى عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، أو لم يكن متيقناً بنسخ

ص: 160

لم يكن بمسلم؛ مع أنه[1] لا يكاد يلزم به ما لم يعترف بأنه على يقين وشك؛ ولا إقناعاً مع الشك[2]، للزوم معرفة النبي[3] بالنظر إلى حالاته ومعجزاته[4] عقلاً وعدم الدليل[5] على التعبد بشريعته لا عقلاً ولا شرعاً، والاتكال[6] على

----------------------------------

شريعته، «لم يكن بمسلم» لأن عدم الاعتراف بأحد الأنبياء كفر، وعدم اليقين بنسخ شريعة موسى عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ يساوي الشك في شريعة الإسلام، بل والشك في نبوة رسول الله محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.

[1] أي: حتى لو فرض شك المسلم بنبوة موسى عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أو في بقاء شريعته فلا يمكن إلزامه بالاستصحاب إذا لم يعترف بشكه؛ لأن الإلزام إنما يتم في ما يعترف به الخصم، فإن كابر ولم يعترف فلا طريق إلى إلزامه، «يلزم به» أي: بالاستصحاب.

[2] أي: لو كان اليهودي شاكاً في بقاء نبوة موسى عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أو في بقاء شريعته فلا يمكنه إقناع نفسه عن طريق الاستصحاب، لا بالنبوة ولا بالشريعة.

[3] باليقين، فلا تكفي حتى المعرفة الظنية، وهذا بيان عدم كفاية الاستصحاب لإثبات النبوة.

[4] لأن طريق اليقين بنبوة شخص عن أحد أمرين:

1- حالاته: فمن عُرف بالصدق والورع وحسن العمل فقد يوجب ادعاؤه للنبوة اليقين بصدقه.

2- المعاجز: فإنها طريق لعامة الناس لمعرفة صدق مدعي النبوة.

[5] هذا بيان عدم كفاية الاستصحاب لإثبات الشريعة؛ إذ لا يوجد دليل عقلي ولا نقلي على وجوب العمل بشريعة موسى عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[6] أي: لا يمكن لليهودي لإقناع نفسه أن يتمسك بدليل الاستصحاب المأخوذ من شريعتنا؛ إذ قبول دليل الاستصحاب - وهو الأخبار - متوقف على لزوم العمل بشريعة الإسلام، واليهودي يريد بالاستصحاب إقناع نفسه بعدم العمل بشريعة

ص: 161

قيامه[1] في شريعتنا لا يكاد يجديه إلاّ على نحوٍ محال، ووجوب[2] العمل بالاحتياط عقلاً[3] في حال عدم المعرفة[4] بمراعاة الشريعتين ما لم يلزم منه الاختلال،

----------------------------------

الإسلام، وإنما العمل بشريعة موسى عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، وهذا خلف.

وبعبارة أخرى: لازم صحة شريعة الإسلام جريان الاستصحاب، واستصحاب شريعة موسى لازمه عدم صحة شريعتنا، وهذا خلف.

وبعبارة ثالثة: بقاء شريعة موسى عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ يتوقف على الاستصحاب، والاستصحاب يتوقف على صحة شريعة الإسلام، وصحة شريعة الإسلام تتوقف على عدم بقاء شريعة موسى عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[1] أي: قيام الاستصحاب، «لا يكاد» هذا الاتكال، «يجديه» أي: اليهودي، «نحوٍ محال» هو الخلف.

[2] كل ما سبق كان في حالة التمكن من المعرفة اليقينية، وأما مع عدم التمكن منها فلا يجديه الاستصحاب أيضاً؛ لأن المورد من موارد العلم الإجمالي، و«وجوب العمل...» عطف على (للزوم معرفة النبي...) أي: ولوجوب العمل... الخ.

[3] لأنه من موارد العلم الإجمالي، والحكم بالاحتياط فيه عقلي، مضافاً إلى أنه لا يصح التمسك بالشريعة المشكوكة لإثبات وجوب الاحتياط؛ إذ هو دور.

ولكن يشترط في هذا الاحتياط أمران:

أ: أن لا يوجب الاختلال في النظام.

ب: أن لا يقال: إنّ العقل يحكم بالبناء على الشريعة السابقة إلى أن يثبت نسخها، وفي الواقع مرجع هذا الشرط إلى الاستصحاب العقلي، فتأمل.

[4] أي: في حال عدم التمكن من المعرفة، أو في حال التحقيق قبل حصول اليقين.

ص: 162

للعلم[1] بثبوت إحداهما على الإجمال، إلاّ إذا علم[2] بلزوم البناء على الشريعة السابقة ما لم يعلم الحال.

الثالث عشر[3]:

----------------------------------

[1] دليل وجوب الاحتياط عقلاً.

[2] بدليل عقلي قطعي، ولكن كيف يحصل هذا الدليل؟

التنبيه الثالث عشر: استصحاب حكم المخصص
اشارة

[3] لو كان هناك عام ثم خُصِّص بخاص، وبعد زمان الخاص شككنا في أن المورد هل هو مورد الخاص أم العام، فهل يستصحب العام أم الخاص أم لا يجري استصحاب أيٍّ منهما؟

وحاصل ما ذهب إليه المصنف أن الزمان قد يؤخذ ظرفاً وقد يؤخذ مُفرّداً. ومعنى أخذ الزمان ظرفاً هو كون الحكم شيئاً واحداً وقع في الزمان، نظير الأعيان - مثل: زيد - التي هي شيء واحد يكون الزمان ظرفاً لها.

ومعنى أخذ الزمان مُفَرِّداً هو أن يكون الحكم متعدداً بتعدد الزمان، فلكل وقت حكم ينتهي بانتهاء ذلك الوقت، ويكون للزمان اللاحق حكم مشابه للحكم السابق، وهكذا في سائر الأوقات، فيكون الزمان داخلاً في الموضوع.

ثم إن أخذ الزمان في العام والخاص في مرحلة الثبوت يكون بأربعة أنحاء:

1- أن يكون الزمان في كليهما ظرفاً، فهنا يجري استصحاب الخاص.

2- أن يكون الزمان في كليهما مفرداً، فالمرجع هو العام ولا مجال لاستصحاب الخاص.

3- أن يكون في العام ظرفاً وفي الخاص مفرداً فلا مجال للاستصحاب أصلاً، بل لابد من الرجوع إلى الأصول الأخرى.

4- بالعكس، بأن يكون الزمان العام مفرّداً، وفي الخاص ظرفاً فالمرجع هو العام.

ص: 163

إنه لا شبهة[1] في عدم جريان الاستصحاب في مقام[2] مع دلالة مثل العام، لكنه[3] ربما يقع الإشكال والكلام في ما إذا خُصِّص في زمان في أن المورد بعد هذا الزمان مورد الاستصحاب أو التمسك بالعام.

والتحقيق أن يقال: إن مفاد العام تارةً يكون - بملاحظة الزمان[4] - ثبوت حكمه لموضوعه على نحو الاستمرار والدوام، وأخرى[5] على نحو جعل كل يوم[6] من

----------------------------------

وأما مرحلة الإثبات: فاللازم النظر إلى لسان الدليل، وفي الغالب يكون الزمان ظرفاً في كليهما - العام والخاص - وأحياناً يكون العام مفرداً والخاص ظرفاً، فلا يوجد في مرحلة الإثبات إلاّ النحو الأول والرابع.

[1] هذا كالمقدمة للتنبيه، وحاصله: إنه مع وجود الأدلة الاجتهادية لا تصل النوبة إلى الأصول العملية، وحيث إن العام دليل لفظي فمع ثبوته لا مجال للاستصحاب - الذي هو أصل عملي - أصلاً.

[2] أي: في أيّ مقام من المقامات، «مع دلالة» أي: مع وجود عام يدل على المطلب.

[3] للشأن، «خُصِّص» أي: خُصِّص العام، «بعد هذا الزمان» أي: بعد زمان الخاص المعلوم، فيكون شك في استمرار الخاص أو الرجوع إلى العام.

[4] قوله: «بملاحظة الزمان» جملة معترضة، «ثبوت» اسم يكون، «على نحو...» خبر يكون، وضميرا «حكمه لموضوعه» يرجعان إلى العام. والمعنى: أن الزمان قد لا يكون جزءاً من الموضوع، ولكنه ظرف، فيكون الحكم واحداً مستمراً في جميع الأوقات.

[5] تارة أخرى يكون الزمان جزءاً من الموضوع، بحيث كان لكل وقت حكم مماثل للوقت الآخر.

[6] «كل يوم» مثال، وإلاّ فقد يكون الزمان المفرّد في أقل من يوم.

ص: 164

الأيام فرداً لموضوع ذاك العام[1]. وكذلك مفاد مخصصه[2] تارةً يكون على نحو أخذ الزمان ظرف استمرار حكمه ودوامه، وأخرى على نحوٍ يكونُ مفرِّداً ومأخوذاً في موضوعه.

فإن كان مفاد كلٍّ من العام والخاص على النحو الأول فلا محيص[3] عن استصحاب حكم الخاص في غير مورد دلالته[4]، لعدم[5] دلالة للعام على

----------------------------------

[1] «العام» هو الحكم، والموضوع يكون مركباً من الشيء ومن الزمان، مثلاً: تصرف المالك في ملكه جزء من الموضوع، والزمان - مثلاً: كل يوم من الأيام - الجزء الآخر من الموضوع، والحكم هو الجواز فيقال: (تصرف المالك في كل يوم في ملكه جائز).

[2] أي: مخصص العام.

النحو الأول: أخذ الزمان ظرفاً في العام والخاص

[3] أي: إن العام حيث كان حكماً واحداً فقط مستمراً في الزمان فقد انقطع بمجيء الخاص، وبعد انتهاء الزمان المعلوم للخاص فإن جريان العام يحتاج إلى دليل آخر؛ لأن الدليل السابق قد أثبت حكماً واحداً وقد انقطع ذلك الحكم.

وبعدم جريان العام تصل النوبة إلى الأصل العملي، وهنا هو الاستصحاب، ولا يجري استصحاب العام؛ لعدم اتصال زمانه بزمان الشك، فيجري استصحاب الخاص بلا محذور لتمامية أركانه، ولاتصال زمان الشك به.

[4] أي: في غير مورد جريان دليل الخاص؛ إذ لا شك حينئذٍ، وإنما الكلام في ما بعد ذلك الزمان، حيث يشك في شمول الخاص له، فيجري استصحاب الخاص.

[5] دليل عدم جريان دليل العام، ولا استصحاب العام:

1- أما عدم جريان دليل العام، فلأن المفروض أن الحكم كان واحداً، وقد انقطع ذلك الحكم بمجيء الخاص، ولم يكن العام مُفرِّداً حتى يكون في كل زمان حكم

ص: 165

حكمه[1]، لعدم دخوله على حدة في موضوعه، وانقطاع[2] الاستمرار بالخاص الدال على ثبوت الحكم له في الزمان السابق[3] من دون دلالته على ثبوته في الزمان اللاحق، فلا مجال[4] إلاّ لاستصحابه. نعم[5]، لو كان الخاص غير قاطع

----------------------------------

- حتى وإن كان ذلك الزمان بعد الخاص - .

2- وأما عدم جريان الاستصحاب فلعدم اتصال الشك في العام باليقين به، حيث انقطع الاتصال بمجيء الخاص.

[1] أي: حكم ما بعد الخاص - وهو وقت الشك - «دخوله» أي: دخول ما بعد الخاص، «على حدة» حيث لم يكن الزمان مُفَرّداً، «موضوعه» موضوع العام.

[2] دليل عدم جريان استصحاب العام، حيث إن مجيء الخاص قطع اتصال العام بزمان الشك، «بالخاص» أي: بسبب الخاص، «الدال» صفة للخاص، «له» للخاص.

[3] أي: السابق على الشك، فهو المورد للخاص قطعاً، «دلالته» أي: الخاص ليس له دلالة على ما بعد زمانه فصار زمان الشك، «ثبوته» أي: الخاص، «الزمان اللاحق» وهو زمان الشك.

[4] أي: حيث لم يجر دليل العام، ولا استصحاب العام، فلا يبقى مانع من جريان الخاص لتمامية أركانه.

[5] أي: لو كان وقت العام بعد الخاص فحينئذٍ يمكن التمسك بدليل العام.

مثلاً: العام هو {أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ}(1)، والخاص هو (خيار المجلس) ومن المعلوم أن خيار المجلس يبدأ من حين العقد، وأما لزوم العقد بجريان {أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ} فإنما هو بعد افتراق المتبايعين، فلو شك في أنه قد انقضى الخيار أم لا، فيمكن التمسك بعموم {أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ} إذ لا مجال للاستصحاب مع وجود الدليل الاجتهادي.

ص: 166


1- سورة المائدة، الآية: 1.

لحكمه[1]، كما إذا كان مخصصاً له من الأول لما ضرّ به[2] في غير مورد دلالته، فيكون أول زمان استمرار حكمه[3] بعد زمان دلالته؛ فيصح التمسك ب- {أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ}(1) ولو خصص بخيار المجلس ونحوه[4]، ولا يصح[5] التمسك به في ما إذا خصص بخيار لا في أوله[6]، فافهم[7].

----------------------------------

[1] أي: لحكم العام؛ وذلك في ما كان زمان الخاص قبل زمان العام «إذا كان» الخاص، «مخصصاً له» أي: للعام.

[2] «لما» جزاء (لو)، أي: لم يضرّ الخاص بالعام، بل يجري العام في زمان الشك، «دلالته» دلالة الخاص.

[3] أي: أول زمان شروع حكم العام، «دلالته» أي: دلالة الخاص.

[4] كخيار الحيوان.

[5] كما في خيار الغبن، حيث يبدأ بعد العلم بالغبن، فمن حين العقد بدأ العام: {أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ}.

[6] أي: لا في أول العقد، بل بعد فاصل.

[7] لعله إشارة إلى أن الشك في انقضاء الخيار مسبب عن الشك في الافتراق في خيار المجلس، وحيث لا يعلم الافتراق فلا يمكن التمسك ب{أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ} لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، بل يجري استصحاب عدم الافتراق نظير ما لو قال: (أكرم العلماء إلاّ الفساق منهم) وعلمنا بفسق أحدهم فلا يجوز إكرامه، ثم شككنا في بقاء الفسق، فلا يمكن التمسك بالعام وهو: (أكرم العلماء) بل لابد من استصحاب بقاء الفسق.

وقيل غير ذلك في وجه «فافهم».

ص: 167


1- سورة المائدة، الآية: 1.

وإن كان مفادهما[1] على النحو الثاني فلابد من التمسك بالعام بلا كلام، لكون موضوع الحكم[2] بلحاظ هذا الزمان من أفراده، فله[3] الدلالة على حكمه، والمفروض[4] عدم دلالة الخاص على خلافه.

وإن كان[5] مفاد العام على النحو الأول والخاص على النحو الثاني فلا مورد

----------------------------------

النحو الثاني: أخذ الزمان مُفَرِّداً في العام والخاص

[1] إذا أخذ الزمان في العام والخاص مُفرّداً فمعنى ذلك أن الحكم يتعدد بتعدد الأوقات، فيكون لكل وقت حكم. فالعام شمل زمان الشك أيضاً باعتباره وقتاً من الأوقات، وأما الخاص فلا يعلم شموله لذلك الزمان؛ إذ المفروض أن الخاص شمل أوقاتاً معينة ولم يعلم شموله لسائر الأوقات، عكس العام الذي عُلم شموله لجميع الأوقات، ثم خرج منه المقدار المعلوم من الخاص.

وعليه: فزمان الشك يجري فيه العام؛ لأنه كان شاملاً له، ولا يمكن استصحاب الخاص؛ وذلك لتبدل الموضوع؛ لأن المعلوم من الخاص كان في وقت، والمشكوك منه في وقت آخر، والزمان - في المفرّد - جزء من الموضوع، فبتغيّر الزمان يتغير الموضوع.

[2] حيث كان الموضوع مركباً من الشيء ومن الزمان، «هذا الزمان» أي: زمان الشك، «من أفراده» أي: من أفراد العام، فإن العام - لعمومه - كان يشمل جميع الأزمنة، ومنها زمان ما بعد الخاص، ثم عُلم خروج الخاص، ولم يُعلم خروج ما بعد الخاص المعلوم.

[3] أي: فللعام، «حكمه» حكم زمان الشك - وهو ما بعد الخاص - .

[4] أي: لما كان الخاص لزمان معيّن فيتمسك به في ذلك الزمان، وفي غيره لم يعلم شمول الخاص له فيبقى فيه عموم العام سليماً عن المعارض.

النحو الثالث: أخذ الزمان ظرفاً في العام ومُفرّداً في الخاص

[5] لو كان العام ظرفاً فإنه ينقطع حكمه بمجيء الخاص، فلا يشمل ما بعد الخاص.

ص: 168

للاستصحاب[1]، فإنه وإن لم يكن هناك دلالة أصلاً إلاّ أن انسحاب الحكم الخاص إلى غير مورد دلالته[2] من إسراء حكم موضوع إلى آخر، لا استصحاب حكم الموضوع ولا مجال[3] أيضاً للتمسك بالعام، لما مر آنفاً، فلابد من الرجوع إلى سائر الأصول[4].

وإن كان[5] مفادهما على العكس كان المرجع هو العام، للاقتصار في تخصيصه بمقدار دلالة الخاص. ولكنه[6] لو لا دلالته لكان الاستصحاب مرجعاً، لما عرفت

----------------------------------

ولو كان الخاص مفرداً فإن كل وقت يكون موضوعاً مختلفاً عن الوقت الآخر، فما بعد الخاص موضوع آخر، ولا يصح جريان الاستصحاب لتعدد الموضوع؛ إذ من شروط الاستصحاب وحدة الموضوع.

[1] أي: استصحاب الخاص، «فإنه» للشأن، «دلالة» أي: دلالة من العام على ما بعد الخاص؛ وذلك لانقطاع حكم العام بمجيء الخاص.

[2] وهو الزمان المعلوم كونه من الخاص، «موضوع آخر» لفرض أن الزمان مُفرّد، فالوقت جزء من الموضوع، وحيث تعدد الوقت فإن الموضوع يتعدد.

[3] بيان لعدم الأخذ بحكم العام، «لما مرّ» من انقطاع حكم العام إذا كان الزمان ظرفاً.

[4] كأصل البراءة عن التكليف.

النحو الرابع: أخذ الزمانُ مفرّداً في العام وظرفاً في الخاص

[5] العام كان يشمل ما بعد الخاص، لفرض أن العام مُفرّد، ولا يُعلم خروج ما بعد الخاص عن عموم العام، فيجري العام لأنه دليل اجتهادي، ولا يجري استصحاب الخاص؛ لأنه أصل عملي، فلا تصل النوبة إليه مع وجود دليل اجتهادي، «تخصيصه» أي: تخصيص العام.

[6] للشأن، أي: إن عدم جريان استصحاب الخاص ليس لجهة عدم تمامية

ص: 169

من أن الحكم في طرف الخاص قد أخذ على نحوٍ[1] صح استصحابه.

فتأمل تعرف أن إطلاق كلام شيخنا العلامة[2] «أعلى الله مقامه» في المقام نفياً وإثباتاً[3] في غير محله.

الرابع عشر[4]: الظاهر أن الشك في أخبار الباب وكلمات الأصحاب هو خلاف

----------------------------------

أركانه، بل لوجود الدليل الاجتهادي وهو العام، فلولاه لجرى استصحاب الخاص، «دلالته» أي: دلالة العام.

[1] وهو أخذ الزمان ظرفاً، فالموضوع واحد.

[2] قال الشيخ الأعظم: (الحق هو التفصيل في المقام، بأن يقال: إن أخذ فيه عموم الأزمان أفرادياً - بأن أخذ كل زمان موضوعاً مستقلاً لحكم مستقل لينحل العموم إلى أحكام متعددة بتعدد الزمان - ... فحينئذٍ يعمل عند الشك بالعموم ولا يجري الاستصحاب.

وإن أخذ لبيان الإستمرار... ثم خرج فرد في زمان، وشك في حكم ذلك الفرد بعد ذلك الزمان، فالظاهر جريان الاستصحاب؛ إذ لا يلزم من ثبوت ذلك الحكم للفرد بعد ذلك الزمان تخصيص زائد على التخصيص المعلوم؛ لأن مورد التخصيص الأفراد دون الأزمنة، بخلاف القسم الأول)(1)، انتهى.

[3] فإن كان العام ظرفاً فقد أطلق الشيخ وقال: بنفي مرجعية العام وإثبات استصحاب الخاص، مع أن الحق هو ملاحظة الخاص أيضاً، فإن كان ظرفاً جرى استصحابه - وهو النحو الأول - وإن كان الخاص مفرّداً لم يجر الاستصحاب - وهو النحو الثالث - .

التنبيه الرابع عشر: في معنى الشك

[4] هل يجري الاستصحاب مع الظن أم لابد من الشك المنطقي - وهو تساوي الاحتمالين - ؟

ص: 170


1- فرائد الأصول 3: 274 - 275.

اليقين، فمع الظن بالخلاف[1] فضلاً عن الظن بالوفاق يجري الاستصحاب.

ويدل عليه - مضافاً[2] إلى أنه كذلك لغةً كما في الصحاح(1)، وتعارف[3] استعماله

----------------------------------

تكفّل هذا التنبيه لبيان أن الشك يشمل الظن بالوفاق، أي: متطابقاً اليقين السابق، كما يشمل الظن بالخلاف، أي: متخالفاً مع اليقين أيضاً كشموله للشك المنطقي. إذن لا فرق في الاستصحاب بين الشك أو الظن - بالوفاق أو الخلاف - ويدل على ذلك ثلاثة أدلة.

الأول: إن معنى (الشك) في اللغة عام يشمل الظن أيضاً، وتخصيص الشك بتساوي نسبة الاحتمالين هو اصطلاح منطقي، وليس معنى لغوياً.

الثاني: استعمال الشك في الأخبار بهذا المعنى العام اللغوي.

الثالث: دلالة نفس أخبار الاستصحاب بأن المراد هو المعنى العام.

[1] وهو وهمٌ بالوفاق، أي: تعلق الظن بخلاف ما تعلق به اليقين، كما لو كان على يقين من الطهارة ثم ظن بالنجاسة، والظن بالوفاق هو أن يظن باستمرار ما كان على يقين منه، كما لو تيقن بالطهارة ثم ظن بها.

[2] هذا الدليل الأول، «أنه» أن الشك، «كذلك» أي: خلاف اليقين - فيشمل الظن - .

[3] هذا الدليل الثاني، «استعماله» أي: الشك، «فيه» في خلاف اليقين، «في غير باب» أي: في غير باب واحد، بل في أبواب متعددة.

وليس الغرض الاستدلال بالاستعمال، فإنه أعم من الحقيقة، بل المقصود هو بيان ظهور الشك في خلاف اليقين؛ ولذا استعمل في كثير من الأخبار في المعنى الأعم، مثل قول الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (متى ما شككت فخذ بالأكثر، فإذا سلمت فأتم ما ظننت أنك قد نقصت)(2).

ص: 171


1- الصحاح 4: 1594.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 340.

فيه في الأخبار في غير باب - قوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ[1]

----------------------------------

[1] فاعل قوله: (ويدل عليه)، وهذا الدليل الثالث. وحاصله: إن أخبار الاستصحاب تدل على أن المراد من (الشك) هو (خلاف اليقين).

مثلاً: صحيحة زرارة الأولى: قلت له: (الرجل ينام وهو على وضوء، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ قال: يا زرارة، قد تنام العين ولا ينام القلب والاُذُن، فإذا نامت العين والاُذُن والقلب فقد وجب الوضوء، قلت: فإن حرّك في جنبه شيء ولم يعلم به؟ قال: لا، حتى يستيقن أنه قد نام، حتى يجيء من ذلك أمر بيّن، وإلاّ فإنه على يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين أبداً بالشك، ولكن ينقضه بيقين آخر)(1).

ويمكن الاستدلال بثلاثة مقاطع من هذا الحديث الشريف:

1- قوله: (ولكنه ينقضه بيقين آخر) دلّ على أن الناقض لليقين السابق إنما هو يقين آخر لاحق، فلا ينقض الظن.

إن قلت: الحديث دلّ على أن اليقين الآخر ناقض، ولم يدل على حصر الناقض باليقين اللاحق.

قلت: إن قوله: (ولكنه ينقضه بيقين آخر) في مقام تحديد الناقض، وأن الناقض لا يكون إلاّ يقين آخر.

2- قوله: (لا، حتى يستيقن أنه قد نام) فإن من يحرّك في جنبه شيء وهو لا يلتفت يظن بنومه - عادة - ومع ذلك أمر الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بالاستصحاب.

ولو فرض أن (تحريك شيء بجنبه وهو لم يلتفت) لا يوجب الظن بالنوم دائماً، فلا أقل من أنه يوجب الظن أحياناً كثيرة، ومع ذلك ترك الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ الاستفصال، أي: لم يفصّل بين الشك في النوم وبين الظن، وهذا علامة عدم الفرق.

ص: 172


1- تهذيب الأحكام 1: 8.

في أخبار الباب: «ولكن تنقضه بيقين آخر»(1)،

حيث إن ظاهره أنه[1] في بيان تحديد ما ينقض به اليقين، وأنه ليس إلاّ اليقين.

وقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أيضاً[2]: «لا، حتى يستيقن أنه قد نام»(2)،

بعد السؤال عنه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عما إذا حرك في جنبه شيء وهو لا يعلم، حيث دل[3] بإطلاقه - مع ترك الاستفصال[4] بين ما إذا أفادت هذه الأمارة[5] الظن وما إذا لم تفد، بداهة أنها[6] لو لم تكن

----------------------------------

3- قوله: (لا، حتى يستيقن...) يتضمن مغيّى، وهو قوله: (لا) أي: لا يعيد الوضوء، ويتضمن غاية، وهي قوله: (حتى يستيقن)، ثم استدل لذلك بقوله: (ولا ينقض اليقين بالشك)، فالمعنى: إنه ما دام هو لم يستيقن بالنوم فلا تجب عليه الإعادة لجريان الاستصحاب، وهذا التعليل يدل على أن المراد من (الشك) هو (خلاف اليقين).

[1] أي: ظاهر قوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (ولكن...)، «أنه» أن الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، وهذا بيان إشكال وجوابه، وقد بيناه في الحاشية السابقة بعبارة (إن قلت... قلت...)، «وأنه ليس...» أي: إن الناقض ليس إلاّ يقين آخر.

[2] إشارة إلى المقطع الثاني، و«قوله» أي: ويدل عليه قوله أيضاً... عطف على (قوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في أخبار...).

[3] أي: إطلاق قوله: (لا) أي: لا يعيد الوضوء، سواء شك في النوم، أم ظن به، أم ظن بخلافه.

[4] الفرق بين الإطلاق وترك الاستفصال هو أن الإطلاق إنما هو من لفظ معيّن، وترك الاستفصال لا يرتبط بلفظ معين، وعادة يجتمعان.

[5] أي: العلامة، وهي تحريك شيء بجنبه مع عدم التفاته.

[6] بيان وجه الإطلاق ودلالة ترك الاستفصال على عدم الفرق، «أنها» أن

ص: 173


1- تهذيب الأحكام 1: 8.
2- تهذيب الأحكام 1: 8.

مفيدة له دائماً لكانت مفيدة له أحياناً - على[1] عموم النفي لصورة الإفادة.

وقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ[2] بعده: «ولا تنقض اليقين بالشك»(1)،

أن[3] الحكم في المغيى مطلقاً[4] هو[5] عدم نقض اليقين بالشك، كما لا يخفى.

وقد استدل عليه[6] أيضاً بوجهين آخرين:

----------------------------------

هذه الأمارة، «له» للظن.

[1] متعلق بقوله: (حيث دلّ...)، «النفي» في قوله: (لا، حتى يستيقن...)، «لصورة الإفادة» أي: إفادة الأمارة للظن.

[2] عطف على فاعل (دل) في قوله: (حيث دلّ بإطلاقه...).

وهذا إشارة إلى المقطع الثالث في الرواية وهو قوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (ولا ينقض اليقين بالشك) فإنه علة عدم لزوم تجديد الوضوء - كما شرحناه - .

[3] أي: على أن الحكم، فمعنى العبارة هكذا: حيث دلّ قوله: (ولا ينقض...) بعد قوله: (لا، حتى يستيقن...)، على إطلاق الحكم (وهو عدم تجديد الوضوء) في المغيّى، وهو قوله: (لا) أي: لا يعيد.

[4] أي: سواء شك، أم ظن بالخلاف، أم ظن بالوفاق.

[5] المراد أن علّة الحكم بعدم الإعادة مطلقاً هي جريان الاستصحاب، فالغاية والمغيّى وهما (لا، حتى يستيقن) لهما علّة، والعلة هي (ولا تنقض...)، وحيث إنه يلزم تطابق الدليل مع المدعى - وقد كان المدعى عدم الوضوء حتى اليقين بالنوم - فلابد من أن يكون المراد من (الشك) في الدليل هو خلاف اليقين، وإلاّ كان الدليل أخص من المدعى؛ إذ المدعى هو أن لا إعادة ما دام هو لم يتيقن بالنوم، والدليل هو أن الشك لا ينقض اليقين، فدقق، ولايخفى الخلل في عبارة المصنف والمسامحة فيها.

[6] على أن الشك يشمل الظن أيضاً، والمستدل هو الشيخ الأعظم(2).

ص: 174


1- تهذيب الأحكام 1: 8، مع اختلاف يسير.
2- فرائد الأصول 3: 285.

الأول[1]: الإجماع القطعي على اعتبار الاستصحاب مع الظن بالخلاف[2] على تقدير[3] اعتباره من باب الأخبار.

وفيه[4]: إنه لا وجه لدعواه[5] ولو سلم[6] اتفاق الأصحاب على الاعتبار، لاحتمال[7] أن يكون ذلك[8] من جهة ظهور دلالة الأخبار عليه.

----------------------------------

[1] أما الدليل الأول: فهو الإجماع، أي: جميع من استدل بالأخبار قال: إنّ الشك أعم، ومن لم يستدل بالأخبار أيضاً يذعن بأن الدليل إن كان الأخبار فدلالتها أعم، وهذا إجماع تعليقي.

[2] فضلاً عن الظن بالوفاق.

[3] أي: هذا الإجماع تعليقي، بمعنى أنهم لو قالوا بحجيته من باب الأخبار لقالوا: إنّ الشك أعم.

[4] ويرد على هذا الإجماع، أولاً: إن من لم يستدل بالأخبار فإنا لا نعلم ماذا كان يقول لو استدل بها، فهل كان يعتبر الشك أعم أم لا؟ ومجرد احتمال أنه كان يقول بذلك لا يصحح نسبته إليه، فإنه رجم بالغيب.

وثانياً: إن هذا الإجماع ليس بحجة؛ لأنه محتمل الاستناد، وقد مرّ أن الإجماع الحجة إنما هو الإجماع الكاشف عن قول المعصوم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، وأما مع احتمال استنادهم إلى دليل فلابد من مراجعة ذلك الدليل، وليس له كشف عن قول المعصوم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[5] أي: ادعاء الإجماع.

[6] إشارة إلى الإشكال الأول.

[7] إشارة إلى الإشكال الثاني.

[8] أي: ذلك الإجماع، «عليه» على اعتبار الاستصحاب حتى مع الظن بالخلاف.

ص: 175

الثاني[1]: إن الظن الغير المعتبر(1)

إن علم بعدم اعتباره بالدليل فمعناه[2] أن وجوده كعدمه عند الشارع، وإن[3] كلّ ما يترتب شرعاً على تقدير عدمه فهو المترتب على تقدير وجوده؛ وإن كان[4] مما شك في اعتباره فمرجع[5] رفع اليد عن اليقين بالحكم الفعلي السابق بسببه إلى نقض اليقين بالشك، فتأمل جيداً.

وفيه[6]:

----------------------------------

[1] حاصله: إنه حتى مع الظن يمكن أن نقول بوجود الشك شرعاً؛ وذلك لأن الظن:

1- إما منهي عنه، كالقياس، ومعنى النهي عنه أن وجوده كعدمه، وجميع آثار عدمه مترتبة على وجوده، فهذ الظن حكمه حكم الشك تعبداً.

2- وإما لا دليل على حجيته، فهذا يشك في حجيته، فلا يصح رفع اليد عن اليقين السابق بما هو مشكوك الحجية؛ لأنه نقض اليقين بالشك - حيث إن الشك في الحجيّة - !!

[2] أي: معنى عدم اعتباره بالدليل - أي: النهي عنه - «وجوده» أي: وجود الظن، «عند الشارع» أي: تعبداً.

[3] هذه العبارة بيان لقوله: «أن وجوده كعدمه عند الشارع»، «عدمه» عدم الظن.

[4] أي: كان الظن، والمعنى: إنه لم يكن نهي خاص عن ذلك الظن، بل عدم حجيته لعدم وجود دليل على اعتباره.

[5] أي: هنا شك في الحجية، فلو رفعنا اليد عن اليقين السابق فقد نقضنا اليقين بما هو مشكوك الحجية، «بسببه» أي: بسبب الظن، «إلى» متعلق ب- (فمرجع).

[6] وحاصل الإشكال: إن عدم اعتبار الظن - سواء كان لأجل النهي عنه أم لأجل عدم الدليل على حجيته - إنما هو بمعنى عدم ترتيب أيّ أثر على الظن، وليس

ص: 176


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير المعتبر».

إن قضية عدم اعتباره[1] - لإلغائه أو لعدم الدليل على اعتباره - لا يكاد يكون إلاّ عدم إثبات مظنونه به تعبداً[2] ليترتب[3] عليه آثاره شرعاً، لا ترتيب[4] آثار الشك مع عدمه، بل لابد حينئذٍ في تعيين أن الوظيفة أيَّ أصل من الأصول العملية من الدليل[5]، فلو فرض عدم دلالة الأخبار معه على اعتبار الاستصحاب فلابد من الانتهاء إلى سائر الأصول بلا شبهة ولا ارتياب. ولعله[6] أشير إليه بالأمر بالتأمل، فتأمل جيداً.

تتمة: لا يذهب عليك[7]: أنه لابد في الاستصحاب من بقاء الموضوع وعدم

----------------------------------

بمعنى ترتيب آثار الشك عليه. ففرق بين عدم اعتبار شيء وبين ترتيب آثار ضده عليه.

[1] عدم اعتبار الظن، «لإلغائه» أي: للنهي عنه وهذا هو الشق الأول، «لعدم الدليل...» وهذا الشق الثاني، و«لا يكاد» خبر (أنّ).

[2] أي: لا يحكم الشارع بثبوت متعلق الظن، «مظنونه» أي: متعلق الظن، «به» بالظن.

[3] هذا علة المنفي، أي: لو كان يثبت المظنون لكان يترتب، «عليه» على المظنون، «آثاره» أي: آثار الظن.

[4] أي: عدم الحجيّة ليست بمعنى ترتيب آثار الشك، «عدمه» أي: عدم الاعتبار، «حينئذٍ» أي: حين عدم الاعتبار.

[5] «من» متعلقة ب- (لابد)، «معه» أي: مع الظن.

[6] أي: قول الشيخ الأعظم: (فتأمل جيداً) لعله إشارة إلى هذا الإشكال، «إليه» إلى الإشكال.

لكن لا يخفى أنهم اصطلحوا على أن (فتأمل) يشير إلى إشكال، أمّا (فتأمل جيداً) فإشارة إلى دقة المطلب، لا إلى إشكال فيه.

تتمة
اشارة

[7] هناك ثمانية أمور تعتبر في الاستصحاب، وقد مرّ في مطاوي البحوث السابقة

ص: 177

أمارة معتبرة هناك ولو على وفاقه، فهنا مقامان:

المقام الأول[1]:

----------------------------------

ستة منها، وبقي منها اثنان، وقد تكفلت هذه التتمة بهما.

أما ما مرّ فهي:

1- اليقين السابق. 2- الشك اللاحق. 3- كون الشك طارئاً لا سارياً، وبهذا القيد تخرج قاعدة اليقين. 4- اتصال الشك باليقين. 5- كون المستصحب حكماً شرعياً أو موضوعاً ذا حكم. 6- الفحص إلى حد اليأس قبل إجراء الاستصحاب.

وأما ما بقي فأمران:

1- بقاء الموضوع - وهذا ما يذكر في المقام الأول - .

2- عدم أمارة في مورد الاستصحاب، سواء كانت موافقة أم مخالفة - وهذا يذكر في المقام الثاني - .

المقام الأول
اشارة

[1] يبحث في هذا المقام عن أمرين:

الأمر الأول: في معنى بقاء الموضوع
اشارة

الأول: في معنى بقاء الموضوع، فهنا احتمالان:

1- إنه بمعنى اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة في الموضوع، كما أنهما متحدان في المحمول.

2- إنه بمعنى بقاء الموضوع خارجاً. وهذا غير مراد قطعاً؛ لأنه في استصحاب الموضوعات يكون الشك في بقائها، مثلاً: نشك في حياة زيد فلا نعلم ببقاء الموضوع، ولكن عن طريق الاستصحاب نحكم ببقائه، فليس بقاء الموضوع خارجاً شرطاً في صحة الاستصحاب، بل الحكم ببقائه خارجاً هو نتيجة استصحابه.

الثاني: إن مناط الاتحاد هل هو الدقة العقلية، أم بحسب لسان الدليل، أم النظرة العرفية؟

ص: 178

إنه لا إشكال في اعتبار بقاء الموضوع، بمعنى[1] اتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة موضوعاً كاتحادهما حكماً، ضرورة[2] أنه بدونه[3] لا يكون الشك في البقاء، بل

----------------------------------

المعنى الأول لبقاء الموضوع

[1] إشارة إلى المعنى الأول لبقاء الموضوع، «موضوعاً» أي: الاتحاد من جهة الموضوع، كما كان يلزم الاتحاد من جهة الحكم. مثلاً: في يوم الجمعة له يقين بأن (الثوب طاهر)، وفي يوم السبت يشك، فالموضوع في القضية المتيقنة والمشكوكة هو (الثوب)، والحكم فيهما هو (الطهارة).

[2] دليل لزوم اتحاد الموضوع في القضية المتيقنة والمشكوكة، فهنا ثلاثة أدلة:

1- إنه مع تبدل الموضوع يكون الشك في حدوث حكمٍ للموضوع الجديد، وليس في بقاء الحكم السابق.

مثلاً: لو كان على يقين من (عدالة زيد) ثم شك في (عدالة عمرو)، فإن الشك في حدوث (عدالة لعمرو)، وليس في بقاء (عدالة زيد).

2- مع تبدل الموضوع فان رفع اليد عن اليقين السابق لا يكون نقضاً لليقين بالشك، ففي المثال السابق: عدم الحكم (بعدالة عمرو) لا يكون نقضاً لليقين السابق (بعدالة زيد).

3- إنه مع عدم وحدة الموضوع في القضيتين يكون الاستصحاب نقل عرض من موضوع لآخر؛ وهذا محال، وهذا ما استدل به الشيخ الأعظم(1)،

وسيأتي إشكال المصنف عليه.

[3] هذا إشارة إلى الدليل الأول، «أنه» للشأن، «بدونه» أي: بدون وحدة الموضوع، «في البقاء» أي: بقاء (عدالة زيد) في المثال، «بل في الحدوث» أي: في حدوث (عدالة لعمرو).

ص: 179


1- فرائد الأصول 3: 291.

في الحدوث، ولا رفع[1] اليد عن اليقين في محل الشك نقض اليقين بالشك. فاعتبار البقاء بهذا المعنى[2] لا يحتاج إلى زيادة بيان وإقامة برهان.

والاستدلال عليه[3] ب- «استحالة انتقال العرض إلى موضوع آخر لتقومه بالموضوع[4] وتشخصه به»[5]،

----------------------------------

[1] إشارة إلى الدليل الثاني، أي: مع عدم وحدة الموضوع فإن رفع اليد عن (عدالة عمرو) لا يكون نقضاً لليقين بالشك، «ولا» عطف على قوله: (لا يكون الشك...) و«رفع اليد» مبتدأ، و«نقض اليقين بالشك» خبر.

[2] أي: اتحاد الموضوع في القضية المتيقنة والمشكوكة.

[3] إشارة إلى الدليل الثالث، وقد استدل به الشيخ الأعظم(1)

وحاصله: إن معنى تعدد الموضوع مع بقاء الحكم هو انتقال الحكم - وهو عارض على الموضوع - من موضوع إلى موضوع آخر.

وقد ثبت في الحكمة استحالة انتقال العرض من جوهر إلى جوهر آخر.

وفي الوصول: (إن العرض هو الذي يقوم بغيره، فانتقاله عنه محال؛ إذ في حال الانتقال لا يخلو إما أن يكون قائماً بالمنتقل عنه، أو بالمنتقل إليه، أو بهما، فالأول: يسبب عدم الانتقال، والثاني: خلف؛ إذ المفروض أنه في حال الانتقال لا بعد الانتقال، والثالث: محال؛ إذ الشيء الواحد لا يمكن قيامه بشيئين)(2)،

انتهى.

[4] أي: تقوّم العرض بالجوهر؛ لأن الفرق بينهما هو أن الجوهر قائم بذاته، والعرض قائم بغيره، فلا يمكن فرض عرض بلا محل.

[5] أي: تشخص العرض بالموضوع، فإن العرض الخارجي إنما هو وجود جزئي، ومن المعلوم لزوم تشخص الشيء الموجود، ومن مشخصات العرض هو موضوعه، فلو انتقل العرض عن موضوعه زال تشخصه فيزول شخصه - كذا

ص: 180


1- فرائد الأصول 3: 290.
2- الوصول إلى كفاية الأصول 5: 235.

غريب[1]، بداهة أن استحالته حقيقة[2] غير مستلزم لاستحالته تعبداً والالتزام بآثاره شرعاً.

وأما بمعنى[3] إحراز وجود الموضوع خارجاً فلا يعتبر[4] قطعاً في جريانه، لتحقق أركانه بدونه. نعم[5]،

----------------------------------

قيل(1)

- .

[1] خبر قوله: (والاستدلال عليه)، وإشكال عليه، وحاصله: إنه لا يراد بالاستصحاب إثبات الوجود الخارجي للشيء، بل يراد التعبد ببقائه ليترتب عليه الآثار، والتعبد ببقاء العرض حتى مع تغيّر موضوعه أمر ممكن.

وبعبارة أخرى: لا يراد بالاستصحاب إبقاء الشيء خارجاً، بل يراد التعبد ببقائه لترتيب آثاره، وهذا أمر اعتباري، فلا مانع منه.

[2] أي: استحالة انتقال العرض، «حقيقة» أي: في الخارج، «تعبداً» أي: باعتبار شرعي، والغرض من هذا التعبد هو «الالتزام بالآثار الشرعية».

المعنى الثاني لبقاء الموضوع

[3] أي: المعنى الثاني لبقاء الموضوع: هو إحراز وجود الموضوع خارجاً، بأن نعلم بأنه باقٍ.

وهذا المعنى غير معتبر في الاستصحاب؛ وذلك لتمامية أركان الاستصحاب حتى مع عدم إحراز وجود الموضوع، بل قد نستصحب نفس الموضوع، ومعنى ذلك الشك في بقاء الموضوع، ونريد عبر الاستصحاب إحراز بقاء الموضوع تعبداً.

[4] أي: لا يعتبر بقاء الموضوع بهذا المعنى، «جريانه» أي: الاستصحاب، «أركانه» أي: الاستصحاب، «بدونه» أي: بدون إحراز وجود الموضوع خارجاً.

[5] أي: قد يلزم إحراز بقاء الموضوع لا لأجل الاستصحاب، بل لأجل أن

ص: 181


1- منتهى الدراية 7: 730.

ربما يكون[1] مما لابد منه في ترتيب بعض الآثار. ففي استصحاب عدالة زيد لا يحتاج إلى إحراز حياته لجواز تقليده[2]، وإن كان[3] محتاجاً إليه في جواز الاقتداء به أو وجوب إكرامه أو الإنفاق عليه.

وإنما الإشكال[4] كله في أن هذا الاتحاد هل هو بنظر العرف أو بحسب دليل الحكم أو بنظر العقل؟

----------------------------------

بعض الآثار تترتب على إحراز الموضوع، فإحراز بقاء الموضوع إنما لزم لأجل خصوصية في ذلك الأثر.

مثلاً: جواز البقاء على التقليد يشترط فيه بقاء العدالة، ولا يشترط فيه الحياة، فيمكن استصحاب العدالة ليترتب عليها جواز البقاء على التقليد، مع عدم إحراز حياته.

ولكن في الإنفاق على المجتهد يشترط إحراز حياته؛ لأن الإنفاق أمر يرتبط بالحي لا الميت، عكس البقاء على التقليد الذي لا يشترط فيه إحراز الحياة، فتأمل.

[1] أي: يكون إحراز وجود الموضوع خارجاً، «في ترتيب بعض الآثار» لخصوصية في تلك الآثار، وهذا لا يرتبط بالاستصحاب بما هو.

[2] أي: لجواز البقاء على تقليده، فمع الشك في بقاء العدالة يمكن استصحابها، فيترتب على الاستصحاب جواز البقاء على التقليد، حتى وإن لم يحرز بقاء زيد خارجاً، بل حتى لو لم يحرز بقاؤه تعبداً.

[3] أي: كان إحراز الحياة، «في جواز الاقتداء به» في صلاة الجماعة مثلاً، فلو اقتدى بإمام جماعة وفي أثناء الصلاة شك في بقاء حياته لا يمكنه استصحاب جواز الاقتداء به؛ إذ إحراز حياته شرط لصحة صلاة الجماعة، وهكذا وجوب الإكرام والانفاق، وفي هذه الأمثلة إحراز بقاء الموضوع غير مرتبط بالاستصحاب، بل لخصوصية الصلاة والإنفاق والإكرام.

الأمر الثاني: ما هو ملاك الاتحاد
اشارة

[4] عطف على قوله: (إنه لا إشكال في اعتبار بقاء الموضوع)، وحاصله: إن

ص: 182

فلو كان[1] مناط الاتحاد هو نظر العقل، فلا مجال للاستصحاب في الأحكام، لقيام احتمال تغير الموضوع[2] في كل مقام شك في الحكم بزوال[3] بعض خصوصيات

----------------------------------

الملاك في اتحاد موضوع القضية المتيقنة والمشكوكة هل هو العرف أم لسان الدليل أم الدقة العقلية؟

والمختار: إن الملاك هو النظرة العرفية، وقبل ذلك لابد من بيان الفرق بين هذه المحتملات الثلاثة؛ لتظهر الثمرة العملية لهذا البحث.

الاتحاد بحسب الدقة العقلية

[1] إن الشك قد يكون في بقاء الحكم، وقد يكون في بقاء الموضوع.

1- ففي بقاء الحكم: لا يكون الشك إلاّ بعد تغيّر بعض الخصوصيات من الأوصاف أو الزمان والمكان ونحوها؛ إذ لو لم يكن هناك تغيّر في أية خصوصية لم يكن معنى للشك أصلاً، بل يستمر اليقين.

ومع تغيّر خصوصية يحتمل العقل دخلها في الحكم فلا يحرز العقل اتحاد الموضوع؛ إذ لعل موضوع الحكم مركب من عدة أمور، أحدها تلك الخصوصية، ومع عدم إحراز اتحاد الموضوع لا يمكن التمسك بدليل الاستصحاب؛ لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

2- وفي بقاء الموضوع: يجري الاستصحاب؛ لأن الموضوع في القضية المتيقنة نفسه في القضية المشكوكة، مثلاً: لو شككنا في حياة زيد بعد اليقين بها، فإن (زيداً) في القضيتين واحد عقلاً، كما هو واضح.

[2] إذ لعل الخصوصية التي تغيّرت كانت جزءاً من الموضوع، ومن المعلوم أنّ الكل ينعدم بانعدام جزئه، وأما سائر الأجزاء فإنها تكون موضوعاً آخر.

[3] أي: سبب الشك هو تغيّر بعض الخصوصيات، والغرض من هذا القيد هو إخراج النسخ؛ إذ مع كونه شكاً في بقاء الحكم مع ذلك يجري استصحابه؛ وذلك

ص: 183

موضوعه[1]، لاحتمال دخله فيه، ويختص[2] بالموضوعات، بداهة[3] أنه إذا شك في حياة زيد شك في نفس ما كان على يقين منه حقيقة.

بخلاف[4] ما لو كان[5] بنظر العرف أو بحسب لسان الدليل، ضرورة أن انتفاء بعض الخصوصيات وإن كان موجباً للشك في بقاء الحكم، لاحتمال دخله في موضوعه[6]، إلاّ أنه[7] ربما لا يكون بنظر العرف ولا في لسان الدليل من مقوماته،

----------------------------------

لعدم تغيّر في موضوع الحكم أصلاً؛ إذ لا تغيّر في الخصوصيات في النسخ، بل النسخ هو انتهاء أمد الحكم فقط من غير تغير في أي شيء آخر، فتأمل.

[1] أي: موضوع الحكم، «دخله» أي: دخل بعض الخصوصيات، «فيه» أي: في الحكم.

[2] عطف على قوله: (فلا مجال...)، والمعنى: بناءً على اعتبار الدقة العقلية يختص الاستصحاب بالموضوعات.

[3] بيان وجه جريانه في الموضوعات، وحاصله: إنه لا تغيّر في الموضوع أصلاً حتى بالدقة العقلية، فإن حياة زيد - مثلاً - في القضية المتيقنة نفس حياته في القضية المشكوكة.

الاتحاد بحسب العرف أو لسان الدليل

[4] حيث يجري استصحاب الحكم غالباً حتى مع تغيّر تلك الخصوصيات، حيث لا تكون تلك الخصوصيات في لسان الدليل، ولا يراها العرف من المقومات، بل يراها من الحالات التي لا دخل لها في الحكم. نعم، قد تكون مقوماً للموضوع - حسب العرف أو لسان الدليل - فحينئذٍ لا يجري الاستصحاب.

[5] أي: الاتحاد، «ضرورة» دليل جريان الاستصحاب.

[6] «دخله» أي: دخل بعض الخصوصيات، «موضوعه» أي: في موضوع الحكم، بأن يكون مقوماً للموضوع.

[7] «أنه» أن بعض الخصوصيات، «ربّما» للتكثير، «مقوماته» أي: مقومات

ص: 184

كما أنه[1] ربما لا يكون موضوع الدليل[2] بنظر العرف بخصوصه موضوعاً، مثلاً: إذا ورد (العنب إذا غلى يحرم)، كان العنب بحسب ما هو المفهوم عرفاً[3] هو خصوص العنب، ولكن العرف بحسب ما يرتكز في أذهانهم ويتخيلونه[4] من

----------------------------------

الموضوع، بل يراها العرف أو في لسان الدليل من الحالات المتبادلة.

[1] إن المرجع في فهم معنى الدليل هو العرف، فما كان ظاهراً عند العرف كان حجة. والسؤال هو: كيف يمكن التغاير بين النظرة العرفية وبين لسان الدليل؟

والجواب: إن العرف هو المرجع لمعرفة ظاهر الألفاظ، وهذا ما يعبّر عنه بلسان الدليل. ولكن قد يُلغي العرف الخصوصية وذلك بفهم الملاك، وأن معنى اللفظ كان من باب المثال، وحينئذٍ فظهور اللفظ محفوظ، ولكن العرف يعمّم الحكم لأنه فهم المناط.

مثلاً: لفظ (العنب) ظاهر في الفاكهة الخاصة حين رطوبتها، ولكن العرف يرى أن ملاك الحكم في مثل: (العنب إذا غلى يحرم) يشمل الزبيب أيضاً؛ وذلك لفهم الملاك وإلغاء خصوصية الرطوبة الموجودة في العنب - مثلاً - .

وبعبارة أخرى: هنا إرادتان: جدية واستعمالية، والإرادة الاستعمالية هي ما يظهر من لسان الدليل، والإرادة الجدية هي ما يفهمه العرف، فتأمل.

[2] أي: اللفظ الظاهر في المعنى - وهو ما يستفاد من لسان الدليل - قد لا يكون مراداً بخصوصه، بل المراد أعم منه بحسب الإرادة الجدية، «بخصوصه» بل الموضوع أعم واقعاً، وقوله: «موضوعاً» خبر (يكون).

[3] أي: حسب لسان الدليل - والذي يكون المرجع فيه العرف أيضاً - فإن ظاهر لفظ (العنب) عندهم هو خصوص العنب، وهذا اللفظ لا يشمل الزبيب، لكنّهم يُعمِّمون الحكم؛ وذلك لفهم الملاك، بحسب المناسبات الخارجية بين الحكم والموضوع.

[4] أي: يتصورونه، مثلاً: لفظ الحنطة لا يشمل (الدقيق) حسب لسان الدليل،

ص: 185

المناسبات بين الحكم وموضوعه يجعلون الموضوع للحرمة[1] ما يعم الزبيب، ويرون العنبية والزبيبية من حالاته المتبادلة[2]، بحيث لو لم يكن الزبيب محكوماً بما حكم به العنب كان عندهم من ارتفاع الحكم عن موضوعه، ولو كان محكوماً به كان من بقائه، ولا ضير[3] في أن يكون الدليل[4] بحسب فهمهم[5] على خلاف ما ارتكز

----------------------------------

ولكن العرف لا يرى فرقاً من جهة الحكم بينهما، وإن اختلفا من حيث التسمية.

ومثاله الشرعي: هناك فرق حسب لسان الدليل بين (الماء المتغير بالنجاسة ينجس) وبين (الماء ينجس إذا تغيّر) حيث يكون التغيّر داخلاً في الموضوع في الأول فإذا، زال التغير طهر، وخارجاً عنه في الثاني، فإذا زال التغير بقيت النجاسة.

ولكن العرف لا يرى فرقاً بين المثالين، ويعتبر (التغيّر) حيثاً تعليلياً، أي: سبب لحدوث النجاسة، وليس سبباً لبقائها، بل تبقى النجاسة حتى وإن زال التغيّر.

[1] أي: إن حكم الحرمة غير خاضٍ بما ورد في الدليل، بل الحرمة للأعم.

[2] «حالاته» أي: حالات الموضوع، «المتبادلة» التي لا دخل لها في الموضوع، «بقائه» بقاء الحكم.

[3] أي: إن مناسبات الحكم والموضوع قد تُغيّر ظهور اللفظ؛ وذلك إذا كانت واضحة جداً، بحيث كانت قرينة صارفة للّفظ عن معناه، فحينئذٍ يتفق المعنى حسب لسان الدليل حسب النظرة العرفية.

ولكن قد لا تكون تلك المناسبات من الوضوح بحيث تغيّر ظهور اللفظ، فحينئذٍ يختلف المعنى حسب النظرة العرفية عن المعنى حسب لسان الدليل.

[4] أي: اللفظ المستعمل في الدليل يكون له ظهور في معنى.

[5] أي: إن لسان الدليل أيضاً مأخوذ من العرف، فإن ظهور الألفاظ عرفي، ولكن مع ذلك يكون خلاف المرتكز في أذهانهم.

ص: 186

في أذهانهم[1] بسبب ما تخيلوه من الجهات والمناسبات في ما إذا لم تكن[2] بمثابة تصلح قرينة على صرفه عمّا هو ظاهر فيه.

ولا يخفى[3]: أن النقض وعدمه حقيقة يختلف بحسب الملحوظ من الموضوع، فيكون نقضاً بلحاظ موضوع، ولا يكون بلحاظ موضوع آخر. فلابد[4] في تعيين أن

----------------------------------

[1] لأن المرتكز قد يرتبط بالإرادة الجدية وبالملاك، وذلك لا يغيّر من ظهور اللفظ، بل يعمّم في المراد.

مثلاً: قول الطبيب: (لا تأكل الليمون الحامض) للعرف فيه فهمان:

الأول: حسب لسان الدليل: وهو أن (الليمون الحامض) ظاهر في فاكهة معلومة.

الثاني: حسب مرتكزه: وهو أن مراد الطبيب كل حامض حتى وإن كان الرمان الحامض.

فلفظ (الليمون الحامض) لا يشمل (الرمان الحامض) لكن ملاكه يشمله حسب الارتكاز العرفي.

[2] أي: لم تكن تلك المناسبات قرينة تصرف اللفظ عن معناه إلى المعنى المرتكز، فحينئذٍ يتحد لسان الدليل مع النظرة العرفية، «صرفه» أي: صرف الدليل - اللفظ - «عما» أي: عن معنىً، «هو» اللفظ، «فيه» في المعنى، والضمير يرجع إلى الموصول في «عمّا».

[3] بعد أن بيّن المصنف أنه قد يكون فرق بين لسان الدليل وبين النظرة العرفية أراد أن يبيّن أنه لا ضابطة هناك لتعيين الموارد، بل المناط هو مراجعة كل موردٍ موردٍ بنفسه، وملاحظة ما يفهمه العرف من ذلك الدليل.

[4] أي: بعد أن ذكرنا أن وحدة الموضوع يمكن أن تكون بلحاظ الدقة العقلية، وقد تكون بلحاظ لسان الدليل، وقد تكون بلحاظ النظرة العرفية يأتي دور البحث

ص: 187

المناط في الاتحاد هو الموضوع العرفي أو غيره من بيان[1] أن خطاب «لا تنقض» قد سيق بأي لحاظ؟

فالتحقيق[2] أن يقال: إن قضية إطلاق[3] خطاب «لا تنقض» هو أن يكون بلحاظ الموضوع العرفي، لأنه[4] المنساق من الإطلاق في المحاورات العرفية، ومنها الخطابات الشرعية، فما لم يكن هناك دلالة على أن النهي فيه بنظر آخر غير ما هو الملحوظ في محاوراتهم، لا محيص[5] عن الحمل على أنه بذاك اللحاظ، فيكون المناط في بقاء الموضوع هو الاتحاد بحسب نظر العرف وإن لم يحرز بحسب العقل أو لم يساعده النقل، فيستصحب مثلاً ما ثبت بالدليل للعنب[6] إذا صار زبيباً، لبقاء

----------------------------------

عن مرحلة الإثبات، وهو البحث عن دلالة دليل الاستصحاب على أيٍّ من هذه الثلاثة. و«فلابد» عطف على قوله: (وإنما الإشكال كله في أن هذا الاتحاد... الخ).

[1] «من» متعلق ب- (لابد) أي: لابدّ من بيان... الخ.

[2] وحاصله: إن كلام الشارع ملقى إلى العرف، ففهم العرف حجة؛ إذ لو لم يُرد الشارع ما يفهمه العرف كان عليه بيان مقصوده بنصب قرينة، وإلاّ كان إغراءً بالجهل وإلقاءً في المفسدة؛ وذلك قبيح عقلاً.

[3] أي: مقتضى هذا الإطلاق، أي: عدم تعيين أن المراد أيّة نظرة فكلامه مطلق، ولكن لابد من حمل إطلاق كلامه على أن مراده النظرة العرفية.

[4] أي: لأن لحاظ الموضوع العرفي - أي: النظرة العرفية - .

[5] «لا محيص» جزاء قوله: (فما لم يكن...) والأفضل إضافة الفاء، أي: فلا محيص... الخ، «عن الحمل» أي: حمل كلام الشارع، «أنه» أي: إن النهي في (لا تنقض)، «بذلك اللحاظ» أي: العرفي.

[6] أي: الحكم الذي ثبت بالدليل الاجتهادي للعنب، كالحرمة بعد الغليان وقبل ذهاب الثلثين.

ص: 188

الموضوع واتحاد القضيتين عرفاً. ولا يستصحب في ما لا اتحاد كذلك[1] وإن كان هناك اتحاد عقلاً، كما مرت الإشارة إليه في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي، فراجع.

المقام الثاني: إنه لا شبهة في عدم جريان الاستصحاب مع الأمارة المعتبرة في مورده[2]، وإنما الكلام في أنه[3]

----------------------------------

[1] أي: عرفاً، حتى وإن كان هناك اتحاد حسب الدقة العقلية، ففي استصحاب القسم الثالث من الكلي الموضوع - وهو الكلي - واحد دقة، لكنه متغاير عرفاً، فلا استصحاب، مثلاً: كلي الطلب في الوجوب والندب شيء واحد بالدقة العقلية، لكن العرف يرى التغاير بين الوجوب والندب، فلا يجري استصحاب كلي الطلب في ما علمنا بزوال الوجوب وشككنا في تحقق الاستحباب.

المقام الثاني
اشارة

[2] مثلاً: لو كان الثوب نجساً صباحاً ثم شك في نجاسته ظهراً، وقامت البينة على طهارته، فإنه يعمل بالبينة ولا يستصحب النجاسة.

[3] أي: إن عدم جريان الاستصحاب هل لورود الأمارة عليه، أم لحكومتها عليه، أم لأجل الجمع العرفي كالتخصيص؟

ولابد قبل البحث من تبيين معاني هذه الكلمات:

1- (فالتخصيص): هو إخراج بعض الأفراد عن الحكم مع حفظ فرديتها، مثلاً: لو قال (أكرم العلماء)، ثم قال: (لا تكرم العالم الفاسق) فإن العالم الفاسق عالم، لكنه خرج عن وجوب الإكرام وهو حكم العام.

2- (والتخصص): هو خروج بعض الأفراد عن موضوع الدليل، بلا حاجة إلى ما يخرجه، مثلاً: (أكرم العلماء) لا يشمل زيداً الجاهل، بلا حاجة إلى دليل لإخراجه.

ص: 189

للورود أو الحكومة أو التوفيق[1] بين دليل اعتبارها وخطابه[2]؟

والتحقيق أنه للورود[3]، فإن رفع اليد عن اليقين السابق بسبب أمارة معتبرة

----------------------------------

3- (والورود): هو خروج بعض الأفراد عن موضوع الدليل، مع الحاجة إلى ما يخرجه، مثلاً: الأمارة بيان ترتفع بها البراءة العقلية، فقبح العقاب بلا بيان دليل عام، ومع قيام الأمارة لا يبقى موضوع له؛ إذ الأمارة بيان.

4- (والحكومة): هو نظر أحد الدليلين إلى الآخر مع التصرف فيه، إما تصرفاً في الحكم كأن يقول: (أكرم العالم)، ثم يقول: (السجدة للعالم ليس بإكرام له)، وإما تصرفاً في الموضوع بالتضيق كأن يقول: (لا شك لكثير الشك)، وذلك لإخراجه عن أدلة شكيّات الصلاة، أو بالتوسعة، كأن يقول: (الطواف بالبيت صلاة) فيُوسّع الصلاة لتشمل الطواف مثلاً.

5- (التقييد): وهو كالتخصيص، إلاّ أنه تقييد للمطلق، والتخصيص للعام.

[1] والتوفيق بين الدليلين: إما بالجمع العرفي، بأن يقال: إن دليل الأمارة أظهر. وإما لكي يبقى للأمارة مورد لكيلا تكون لغواً، وإلاّ ففي جميع مواردها يوجد أصل من الأصول. وإما بالتخصيص بأن يقال: إن دليل الأمارة يخصص دليل الاستصحاب.

[2] اعتبار الأمارة، وخطاب الاستصحاب - أي: الدليل الدال عليه - .

1- الورود

[3] وذلك لأن الأمارة حجة يقيناً، فرفع اليد عن اليقين السابق رفع لليد عن اليقين باليقين، كما قال عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (ولكن ينقضه بيقين آخر)(1).

وبعبارة أخرى: إن موضوع الاستصحاب هو (نقض اليقين بالشك) ومع قيام الأمارة ينتفي هذا الموضوع ويتحوّل إلى (نقض اليقين باليقين).

ص: 190


1- تهذيب الأحكام 1: 8.

على خلافه[1] ليس من نقض اليقين بالشك، بل باليقين[2]. وعدم رفع[3] اليد عنه[4] مع الأمارة على وفقه ليس لأجل أن لا يلزم نقضه به[5]، بل من جهة لزوم العمل بالحجة[6].

لا يقال[7]:

----------------------------------

ويمكن بيان الورود بطريقة أخرى بأن نقول: إن موضوع الاستصحاب هو الشك، والأمارات رافعة للشك؛ إذ هي علم تنزيلي.

[1] خلاف اليقين السابق، وهذا في ما كانت الأمارة مخالفة لليقين السابق، كمثال يقينه السابق بالنجاسة، ثم قيام الأمارة على الطهارة.

[2] فارتفع موضوع الاستصحاب وهو نقض اليقين بالشك، وتبدل إلى نقض اليقين باليقين، وهذا هو الورود.

[3] وهذا في ما كانت الأمارة متوافقة مع اليقين السابق، كما لو كان متيقناً سابقاً بالنجاسة، ثم شك وقامت البينة على النجاسة.

[4] أي: عن اليقين السابق، والمراد هو أن العمل على طبق اليقين السابق ليس لأجل الاستصحاب، بل لأجل قيام البينة على وفقه، ففي الحقيقة ليس هناك عمل باليقين السابق، بل العمل بالحجة وهي البينة، «وفقه» أي: مطابقاً لليقين السابق.

[5] نقض اليقين السابق بالشك.

[6] الذي هو يقين لاحق.

[7] حاصله: إن دليل الاستصحاب ودليل الأمارة كلاهما في عرض واحد، فدليل الاستصحاب أخبار معتبرة، وكذلك دليل الأمارات - عادة - أخبار معتبرة، وهذه الأخبار في عرض واحد، ونسبتها هي العموم والخصوص من وجه، فكيف رجّحتم دليل الأمارات على دليل الاستصحاب، مع أن القاعدة تقتضي تعارضهما تعارض العامين من وجه؟

ص: 191

نعم[1]، هذا لو أخذ بدليل الأمارة في مورده، ولكنه لِمَ لا يؤخذ بدليله[2]، ويلزم[3] الأخذ بدليلها؟

فإنه يقال[4]: ذلك[5]

----------------------------------

[1] أي: نعم، الأمارة واردة على الاستصحاب، «لو أخذ» أي: لو رجحنا دليل الأمارة، «مورده» أي: مورد الاستصحاب.

[2] أي: ما هو الوجه في عدم ترجيح دليل الاستصحاب على دليل الأمارة؟

[3] عطف على (لا يؤخذ)، أي: ولماذا يلزم الأخذ بدليل الأمارة؟

[4] حاصل الجواب: إن ترجيح دليل الأمارة لا يلزم منه محذور أصلاً؛ إذ بهذا الترجيح ينتفي موضوع الاستصحاب، فإن دليل الأمارة يُوجد اليقين اللاحق، فينتفي (نقض اليقين بالشك).

ولكن ترجيح دليل الاستصحاب يلزم منه أحد محذورين: إما التخصيص بلا مخصص، لو لم يكن هناك دليل يدل على تخصيص دليل الاستصحاب لدليل الأمارة. وإما الدور؛ وذلك لو قلنا: إنّ نفس دليل الاستصحاب يخصص دليل الأمارة.

بيان الدور: إن جريان الاستصحاب يتوقف على تخصيصه للأمارة (كي لا يكون نقضاً لليقين باليقين). وتخصيصه للأمارة يتوقف على جريان الاستصحاب (إذ لو لم يجرِ الاستصحاب لكان نقضاً لليقين باليقين).

وبعبارة أخرى - كما قيل(1)

- : مخصّصية الاستصحاب لها تتوقف على اعتبار الاستصحاب معها. واعتبار الاستصحاب معها يتوقف على مخصصيته لها، وإلاّ فلا مورد لها للورود.

[5] أي: الأخذ بدليل الأمارة، وعدم الأخذ بدليل الاستصحاب.

ص: 192


1- منتهى الدراية 7: 765.

إنما هو لأجل أنه لا محذور في الأخذ بدليلها[1]؛ بخلاف الأخذ بدليله[2]، فإنه يستلزم تخصيص دليلها بلا مخصص[3] إلاّ على وجهٍ دائر[4]، إذ التخصيص به[5] يتوقف على اعتباره معها، واعتباره كذلك[6] يتوقف على التخصيص به، إذ لولاه[7] لا مورد له معها، كما عرفت آنفاً.

----------------------------------

[1] إذ لو رجحنا دليل الأمارة كان هناك يقين بالحجية، وهو يرفع موضوع الاستصحاب؛ لأنه نقض لليقين باليقين، وهذا لا محذور فيه أصلاً.

[2] أي: ترجيح دليل الاستصحاب يستلزم منه أحد المحذورين المذكورين، «فإنه» أي: الأخذ بدليله.

[3] هذا إذا لم نجعل المخصص نفس دليل الاستصحاب؛ إذ حينئذٍ يقال: إن دليل الأمارة لا يشمل مورد الاستصحاب من غير دليل يخصص عموم أدلة الأمارات التي تشمل المورد، سواء كان يقين سابق أم لم يكن.

[4] أي: يمكن إيجاد مخصص وهو نفس دليل الاستصحاب، لكن يلزم منه الدور.

[5] هذا الطرف الأول من الدور، وهو أن التخصيص بدليل الاستصحاب متوقف على اعتبار دليل الاستصحاب مع الأمارة؛ إذ لو لم يكن معتبراً لم يتمكن من التخصيص.

[6] هذا الطرف الثاني من الدور، وهو أن اعتبار دليل الاستصحاب، «كذلك» أي: مع الأمارة يتوقف على تخصيص دليل الأمارة؛ لأنها إن بقيت عامة كان معناها حجيتها حتى في مورد الاستصحاب، فتكون يقيناً لاحقاً، فلا يبقى مورد للاستصحاب.

[7] «لولاه» أي: لو لا تخصيص دليل الاستصحاب لدليل الأمارة، «له» لدليل الاستصحاب، «معها» مع الأمارة، «كما عرفت» في بيان (الورود).

ص: 193

وأما حديث الحكومة[1]: فلا أصل له[2] أصلاً، فإنه[3] لا نظر لدليلها إلى مدلول دليله إثباتاً وبما هو مدلول الدليل، وإن كان[4] دالاً على إلغائه معها ثبوتاً وواقعاً، لمنافاة[5]

----------------------------------

2- الحكومة

[1] وهو ما ذهب إليه الشيخ الأعظم(1)،

بأن الأمارة حاكمة على الأصل العملي.

وفيه: أولاً: إن شرط الحكومة هو نظر الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم، ومن المعلوم أن أدلة الأمارات - كمفهوم آية النبأ - لا نظر لها إلى أدلة الأصول العملية مثل: (لا تنقض اليقين بالشك).

وثانياً: إن شرط الحكومة هو تصرف الدليل الحاكم في المحكوم - توسعة أو تضييقاً - فلو كان الأصل العملي مطابقاً للأمارة فلا يتحقق شرط الحكومة؛ إذ لا توسعة ولا تضييق، بل تطابق، وحينئذٍ لابد من القول بجريان الأصل العملي، وهذا ما لا يلتزم به الشيخ الأعظم.

[2] أي: لا وجه له، «له» لحديث الحكومة.

[3] إشارة إلى الإشكال الأول، «لدليلها» أي: الأمارة، «دليله» أي: الأصل، «إثباتاً» أي: النظر خارجاً بحيث جيء بالدليل الحاكم بغرض التصرف في الدليل المحكوم.

[4] أي: في الواقع يوجد تنافٍ بين الدليلين؛ ولذا لا يبقى مجال لأحدهما ولابد من إلغائه مع الآخر، لكن ذلك لا يرتبط بالحكومة التي شرطها النظر إثباتاً. «كان» دليل الأمارة، «دالاً» بالدلالة الالتزامية، «إلغائه» أي: إلغاء مدلول الأصل، «معها» مع الأمارة.

[5] تعليل لدلالة دليل الأمارة على إلغاء الأصل، «بها» بالأمارة، «به» بالأصل.

ص: 194


1- فرائد الأصول 3: 314.

لزوم العمل بها مع العمل به لو كان على خلافها، كما[1] أن قضية دليله إلغاؤها كذلك، فإن[2] كلاً من الدليلين بصدد بيان ما هو الوظيفة للجاهل[3]، فيطرد كل منهما الآخر مع المخالفة، هذا. مع لزوم[4] اعتباره معها في صورة الموافقة، ولا أظن أن يلتزم به القائل بالحكومة، فافهم، فإن المقام لا يخلو من دقة.

وأما التوفيق[5]: فإن كان بما ذكرنا فنعم الاتفاق، وإن كان بتخصيص دليله

----------------------------------

[1] أي: المنافاة من الطرفين، فكما يكون لازم دليل الأمارة إلغاء الأصل كذلك لازم دليل الأصل هو إلغاء الأمارة، «كذلك» أي: ثبوتاً وواقعاً.

[2] بيان وجه المنافاة، فكل واحد من الدليلين في مقام بيان تكليف غير القاطع، فمع التخالف بينهما تحصل المنافاة.

[3] أي: غير القاطع؛ إذ يجب عقلاً العمل بالقطع، ومع عدم القطع جُعلت طرق للوصول إلى الواقع، ويعبر عنها بالأمارة، وإن جعلت لا للوصول إلى الواقع، بل كمجرد وظيفة عملية، فهي الأصول.

[4] إشارة إلى الإشكال الثاني، «اعتباره» الأصل، «معها» مع الأمارة، «في صورة الموافقة» إذ لا تنافي، فلا توسعة ولا تضييق فلا توجد حكومة!

3- التوفيق

[5] أي: الجمع بين دليل الأصل ودليل الأمارة.

فإن كان المراد هو الورود فقد اتفقنا مع هذا القائل، والاختلاف إنما هو في التعبير.

وإن كان المراد تخصيص دليل الأصل بدليل الأمارة ففيه نظر؛ وذلك لأن التخصيص فرع فردية الخاص للعام موضوعاً، وخروجه حكماً، مثل: (أكرم العلماء إلاّ الفساق)، فالعالم الفاسق فرد للعام لكنه غير مشمول بحكمه.

وهنا مع وجود الأمارة لا يكون مورد الأصل داخلاً في العام، وهو (نقض اليقين

ص: 195

بدليلها[1] فلا وجه له، لما عرفت من أنه[2] لا يكون مع الأخذ به نقض يقين بشك، لا أنه غير منهي عنه[3] مع كونه من نقض اليقين بالشك.

خاتمة: لا بأس ببيان النسبة بين الاستصحاب وسائر الأصول العملية، وبيان التعارض بين الاستصحابين.

أما الأول[4]:

----------------------------------

بالشك) إذ هو (نقض لليقين باليقين) كما عرفته مفصلاً.

[1] بأن يقال: إن (لا تنقض اليقين بالشك) عام يشمل مورد الأمارة، لكن تمّ تخصيصه بدليل الأمارة، أي: إخراجه عن حكم (لا تنقض).

[2] للشأن، «به» بدليل الأمارة، أي: لا شمول لدليل الأصل لمورد الأمارة أصلاً، لا أنه شامل له موضوعاً لكنها خارج حكماً.

[3] أي: لا أنه خارج حكماً - وذلك بجواز النقض - «أنه» أن النقض، «كونه» كون مورد الأمارة.

والحاصل: إن مورد الأمارة ليس داخلاً في عموم نقض اليقين بالشك لكنه خرج عنه حكماً بالتخصيص.

خاتمة
1- النسبة بين الاستصحاب وسائر الأصول

[4] حاصله: هو أن الاستصحاب وارد على سائر الأصول العملية - سواء كانت شرعية أم عقلية - .

1- أما الأصول العملية الشرعية فإن موضوعها الشك، والاستصحاب يرفع الشك ويُبدّله إلى اليقين التعبدي.

إن قلت: هذا إذا لاحظنا نفس الاستصحاب مع سائر الأصول العملية الشرعية، ولكن لو لاحظنا دليل الاستصحاب مع أدلة سائر الأصول تعارض الدليلان.

ص: 196

فالنسبة بينه وبينها[1] هي بعينها النسبة بين الأمارة وبينه، فيقدم عليها، ولا مورد معه لها[2]، للزوم[3] محذور التخصيص إلاّ بوجهٍ دائرٍ في العكس وعدم محذور

----------------------------------

قلت: إن ترجيح دليل الاستصحاب لا محذور فيه؛ لأنه ينتج منه ورود الاستصحاب على سائر الأصول، وهذا ليس بمحذور، وأما ترجيح دليل سائر الأصول فمعنى ذلك تخصيص دليل الاستصحاب بحيث لا يشمل مورد الاجتماع مع سائر الأصول، وفي هذا التخصيص أحد محذورين: إما التخصيص بلا مخصص؛ لأنا لا نجد دليلاً يدل على هذا التخصيص.

وإمّا الدور إذا كان المخصص نفس دليل سائر الأصول، فإن مخصصية تلك الأدلة لدليل الاستصحاب تتوقف على اعتبارها معه - لأن غير المعتبر لا يخصِّص - واعتبارها معه يتوقف على مخصصيتها له - إذ لو لا ذلك لكان الاستصحاب وارداً عليها - .

2- أما الأصول العملية العقلية فإنه يرتفع موضوعها مع الاستصحاب حقيقةً.

أ: ف- (عدم البيان) موضوع البراءة العقلية، والاستصحاب بيان.

ب: و(عدم الأمن من العقوبة) موضوع الاحتياط العقلي في العلم الإجمالي، والاستصحاب سبب انحلال العلم الإجمالي، وبه يحصل الأمن.

ج: و(عدم الترجيح) في دوران الأمر بين المحذورين موضوع التخيير العقلي، والاستصحاب مرجِّح.

[1] وهي الورود، «بينه» الاستصحاب، «بينها» سائر الأصول، «بعينها» أي: بعين النسبة، «فيقدّم» الاستصحاب، «عليها» على سائر الأصول.

[2] لارتفاع موضوعها، وهو الشك في الأصول الشرعية، واللابيان وعدم الأمن وعدم الترجيح في الأصول العقلية.

[3] بيان لوجه عدم تقديم أدلتها على أدلته، «في العكس» أي: في تقديم سائر

ص: 197

فيه[1] أصلاً، هذا في النقلية منها.

وأما العقلية: فلا يكاد يشتبه وجه تقديمه عليها، بداهة عدم الموضوع معه لها، ضرورة أنه إتمام حجة وبيان[2] ومؤمّن من العقوبة وبه الأمان[3]، ولا شبهة في أن الترجيح به عقلاً صحيح[4].

وأما الثاني[5]: فالتعارض بين الاستصحابين إن كان[6] لعدم إمكان العمل بهما

----------------------------------

الأصول على الاستصحاب، والمراد تقديم دليلها على دليله.

[1] أي: في تقديم الاستصحاب؛ إذ يلزم من تقديمه (الورود) وهو ليس بمحذور أصلاً، «منها» من الأصول العملية.

[2] فارتفع موضوع البراءة العقلية، وهو (اللابيان).

[3] فارتفع موضوع الاحتياط العقلي، وهو (عدم المؤمِّن من العقوبة).

[4] فارتفع موضوع التخيير العقلي، وهو (عدم وجود مرجح).

2- التعارض بين الاستصحابين
اشارة

[5] 1- قد يكون سبب تعارض الاستصحابين هو عجز المكلف عن العمل بهما، مع تمامية أركانهما.

2- وقد يكون السبب هو العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما، وهذا على قسمين:

أحدهما: أن يكون الاستصحابان طوليين، بأن كان الشك في أحدهما مسبباً عن الشك في الآخر، بحيث لو ارتفع الشك في السبب لارتفع الشك في المسبب.

وثانيهما: أن يكون الاستصحابان عرضيين.

[6] إشارة إلى صورة عجز المكلف، مثل: ما لو وجب إكرام شخصين ثم شك في ذلك، فالاستصحاب يدل على وجوب إكرامهما، لكن لو عجز المكلف عن إكرامهما معاً فعدم وجوب إكرامهما ليس لجهة إشكال في الاستصحابين، بل بسبب عدم قدرة المكلّف.

ص: 198

بدون[1] علم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما- كاستصحاب وجوب أمرين حدث بينهما التضاد[2] في زمان الاستصحاب - فهو من باب تزاحم الواجبين[3].

وإن كان[4] مع العلم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما، فتارةً[5] يكون

----------------------------------

[1] أي: لا يوجد علم إجمالي بانتقاض الحالة السابقة، وهذا عكس الصورة الثانية - بقسميها - .

[2] بسبب عجز المكلف عن الإتيان بهما.

[3] لقيام الدليل على وجوبهما، وعدم التنافي بينهما، وإنما في مقام الامتثال لم يتمكن المكلف من إتيانهما.

ثم إن المصنف علّق على كلامه هذا بقوله: (فيتخيّر بينهما إن لم يكن أحد المستصحبين أهم، وإلاّ فيتعيّن الأخذ بالأهم. ولا مجال لتوهم أنه لا يكاد يكون هناك أهم، لأجل أن إيجابهما إنما يكون من باب واحد، وهو استصحابهما من دون مزية في أحدهما أصلاً، كما لا يخفى؛ وذلك لأن الاستصحاب إنّما يتبع المستصحب، فكما يثبت به الوجوب والاستحباب يثبت به كل مرتبة منهما فتستصحب، فلا تغفل)(1)، انتهى.

[4] إشارة إلى الصورة الثانية، وهي العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة في أحد الاستصحابين.

الأصل السببي والمسببي

[5] إذا كان بقاء أحد المستصحبين سبباً لبقاء أو عدم بقاء الآخر، فهنا يجري الاستصحاب في السبب دون المسبب مثلاً:

1- لو استصحب طهارة الماء ثم غسل به الثوب المتنجس، فإن بقاء طهارة الماء سبب لعدم بقاء نجاسة الثوب.

ص: 199


1- حقائق الأصول 2: 541.

المستصحب[1] في أحدهما من الآثار الشرعية لمستصحب الآخر، فيكون الشك فيه[2] مسبباً عن الشك فيه، كالشك في نجاسة الثوب المغسول بماء مشكوك الطهارة وقد كان[3]

----------------------------------

2- أو استصحب نجاسة الماء فغسل به الثوب المتنجس، فإن بقاء نجاسة الماء سبب لبقاء نجاسة الثوب.

أما جريان الاستصحاب في السبب فلتمامية أركان الاستصحاب مع عدم محذور فيه، وعدم جريانه نقض لليقين بالشك وهو منهي عنه.

أما عدم جريان الاستصحاب في المسبب فلأنّه قد نُقض اليقين السابق بيقين لاحق؛ وذلك لأن استصحاب الطهارة - في المثال الأول - ينتج حكماً ظاهرياً بالطهارة، فالمكلف على يقين من طهارة الماء تعبداً، وبغسل الثوب المتنجس بماء طاهر تعبداً يحصل يقين بطهارة ذلك المتنجس تعبداً، فقد نقض اليقين بنجاسة الثوب سابقاً باليقين بطهارته تعبداً.

وبعبارة أخرى: الأصل السببي (وارد) على الأصل المسببي؛ إذ يرفع (الشك) الذي هو موضوع الأصل المسببي.

والإشكال: بأنه لماذا لا يُخصَّص دليل الاستصحاب المسببي بأن يقال: لا يجوز نقض اليقين بالشك إلاّ في هذا المورد - وهو الاستصحاب السببي - . قد مرّ جوابه: بأنه إما تخصيص بلا مخصص، أو تخصيص بنحو دائر.

[1] أي: بقاء المستصحب في أحدهما - كنجاسة الثوب - من الآثار الشرعية لبقاء المستصحب الآخر - كنجاسة الماء - في المثال الأول أو عدم بقاء المستصحب في أحدهما - كنجاسة الثوب - من آثار بقاء المستصحب الآخر - كطهارة الماء - في المثال الثاني.

[2] أي: في المستصحب الآخر مسبباً عن الشك في المستصحب في أحدهما.

[3] أي: قد كان الماء طاهراً، فاستصحبت طهارته.

ص: 200

طاهراً، وأخرى[1] لا يكون كذلك؛ فإن[2] كان أحدهما أثراً للآخر، فلا مورد إلاّ للاستصحاب في طرف السبب، فإن الاستصحاب في طرف المسبب موجبٌ لتخصيص الخطاب[3] وجواز[4] نقض اليقين بالشك في طرف السبب بعدم[5] ترتيب أثره الشرعي، فإن من آثار طهارة الماء طهارة الثوب المغسول به ورفع نجاسته، فاستصحاب نجاسة الثوب نقض لليقين بطهارته[6]؛ بخلاف[7] استصحاب

----------------------------------

[1] وهو القسم الثاني من موارد الاستصحاب مع العلم الإجمالي، ومورده الاستصحابان العَرْضيان، وسيأتي البحث فيه في قوله: (وإن لم يكن المستصحب في أحدهما... الخ).

[2] شروع في الاستدلال على عدم جريان الأصل المسببي، وحاصله: إن الحكم ببقاء نجاسة الثوب بعد غسله بماء كان طاهراً سابقاً، معناه عدم الحكم بطهارة ذلك الماء - لأن الماء لو كان محكوماً بالطهارة لكان مطهّراً للثوب - وعدم الحكم بطهارة الماء معناه نقض اليقين السابق بطهارة الماء بالشك اللاحق في طهارته، مع أن الشارع نهى عن نقض اليقين بالشك؛ إذ يلزم الحكم بطهارة الماء شرعاً بالاستصحاب، والماء الطاهر شرعاً يكون مطهّراً للمتنجسات، فقد طهر الثوب المتنجس بالحجة الشرعية.

[3] وهو قوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (لا تنقض اليقين بالشك).

[4] عطف تفسيري على قوله: «تخصيص الخطاب».

[5] بيان لكيفية نقض اليقين بالشك في طرف السبب، فإن الأثر الشرعي لطهارة الماء هو مُطهريته للمتنجسات، فعدم مُطهريته معناه عدم طهارته، وهذا نقض لليقين بالطهارة بالشك فيها.

[6] أي: بطهارة الماء.

[7] أي: لو أجرينا الاستصحاب في السبب فإنه يزول موضوع الاستصحاب

ص: 201

طهارته، إذ لا يلزم منه نقض يقين بنجاسة الثوب بالشك، بل باليقين بما هو رافع لنجاسته، وهو غسله بالماء المحكوم شرعاً بطهارته.

وبالجملة: فكل من السبب والمسبب وإن كان مورداً للاستصحاب[1]، إلاّ أن الاستصحاب في الأول[2] بلا محذور، بخلافه في الثاني، ففيه محذور التخصيص بلا وجه إلاّ بنحوٍ محال؛ فاللازم الأخذ بالاستصحاب السببي[3].

----------------------------------

في المسبب؛ إذ يتبدل اليقين بنجاسة الثوب إلى يقين تعبدي بطهارته.

[1] أي: يمكن جعله مورداً للاستصحاب بأن يدعى تمامية الأركان فيه، لكن تماميتها في المسبب يحتاج إلى الشك اللاحق، ولا يكون شك لاحقاً إلاّ إذا لم يجر الاستصحاب السببي؛ إذ مع جريانه ينقلب الشك اللاحق في المسبب إلى يقين لاحق.

[2] «الأول» وهو السبب، «الثاني» وهو المسبب، «بنحوٍ محال» الدور المذكور سابقاً.

[3] وقد علّق المصنف(1)

على (بلا محذور) بقوله - مع توضيحاتنا - : (وسر ذلك) أي: عدم المحذور في استصحاب السبب (أن رفع اليد عن اليقين في مورد السبب يكون فرداً لخطاب لا تنقض اليقين، و) يكون (نقضاً لليقين بالشك مطلقاً) أي: سواء جرى الاستصحاب في المسبب أم لم يجر (بلا شك) ولا شبهة.

(بخلاف رفع اليد عن اليقين في مورد المسبب، فإنه إنما يكون فرداً له) أي: لخطاب لا تنقض (إذا لم يكن حكم حرمة النقض يعمّ النقض في مورد السبب، وإلاّ) أي: إذا جرى الاستصحاب في السبب (لم يكن) المسبب (بفرد له) أي: لخطاب لا تنقض، (إذ حينئذٍ) حين جريان الاستصحاب في السبب (يكون) مورد المسبب (من نقض اليقين باليقين، ضرورة أنه يكون رفع اليد عن نجاسة الثوب المغسول بماء محكوم بالطهارة شرعاً باستصحاب طهارته) خبر «يكون» محذوف،

ص: 202


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 5: 20.

نعم[1]،

----------------------------------

وهو «رفعاً لليقين باليقين»، وذلك (لليقين بأن كل ثوب نجس يغسل بماء كذلك) أي: محكوم بالطهارة شرعاً (يصير طاهراً شرعاً).

(وبالجملة: من الواضح لمن له أدنى تأمل أن اللازم في كل مقام كان للعام فرد مطلق، وفرد كان فرديته له) أي: مصداقية ذلك الفرد للعام (معلّقة على عدم شمول حكمه لذاك الفرد المطلق كما في المقام) حيث دليل الاستصحاب يشمل السببي مطلقاً، ويشمل المسببي إذا لم يكن السببي فرداً لدليل الاستصحاب، (أو كان هناك عامان) كدليل حجية الخبر ودليل الاستصحاب (كان لأحدهما فرد مطلق) فدليل حجية الخبر مطلق، أي: سواء كانت حالة سابقة أم لم تكن، (و) كان (للآخر) كدليل الاستصحاب (فرد كانت فرديته معلقة على عدم شمول حكم ذاك العام لفرده المطلق) فإن دليل حجية الخبر إذا لم يشمل ما له حاله سابقة فحينئذٍ يجري الاستصحاب (كما هو الحال في الطرق في مورد الاستصحاب) أي: في ما كان هناك حالة سابقة، وقوله: (هو) خبر لقوله قبل أسطر «أن اللازم في كل مقام...» (الالتزام بشمول حكم العام لفرده المطلق، حيث لا مخصص له، ومعه) أي: مع شمول العام لفرده المطلق (لا يكون فرد آخر يعمّه أو لا يعمّه).

(ولا مجال لأن يلتزم بعدم شمول حكم العام للفرد المطلق ليشمل حكمه) أي: حكم العام (لهذا الفرد، فإنه) أي: عدم شمول العام للفرد المطلق (يستلزم التخصيص بلا وجه، أو) التخصيص (بوجهٍ دائر، كما لا يخفى على ذوي البصائر) انتهت تعليقة المصنف بتوضيحها.

[1] أي: إذا لم يجر الأصل السببي لِعلة من العلل كالتعارض، فإن جريان الأصل المسببي بلا محذور؛ لأن عدم جريان الأصل السببي هو بمعنى عدم وجود يقين لاحق في الأصل المسببي؛ إذ لا حجة شرعية في البين.

ص: 203

لو لم يجر هذا الاستصحاب[1] بوجهٍ لكان الاستصحاب المسببي جارياً، فإنه لا محذور فيه حينئذٍ[2] مع وجود أركانه وعموم خطابه.

وإن لم يكن[3] المستصحب في أحدهما من الآثار للآخر[4] فالأظهر جريانهما[5]

----------------------------------

مثلاً: لو كان إناءان طاهران ثم وقعت نجاسة في أحدهما، فلا يجري الاستصحاب في أيٍّ منهما، فلو غسل الثوب المتنجس بأحد الإناءين جرى استصحاب نجاسة الثوب بلا محذور.

[1] «هذا الاستصحاب» أي: السببي، «بوجهٍ» أي: بأيِّ وجه من الوجوه.

[2] حين عدم جريان الأصل السببي.

تعارض الاستصحابين العَرْضيين
اشارة

[3] وهذا هو القسم الثاني من صورتي العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة، وهو ما إذا كان الاستصحابان في عرض واحد - من غير أن يكون بينهما سبب ومسبب - وهذا على نحوين:

النحو الأول: أن لا يلزم من جريانهما مخالفة عملية، كما في استصحاب نجاسة إناءين عُلم إجمالاً بطهارة أحدهما، فإن إبقاء النجاسة فيهما مطابق للاحتياط، حيث لا يلزم مخالفة عملية أصلاً.

النحو الثاني: أن يلزم من جريانهما الترخيص في المخالفة العملية، كاستصحاب طهارة إناءين عُلم إجمالاً بنجاسة أحدهما، فإن جريانهما ترخيص في المخالفة العملية.

[4] أي: لا توجد سببيّة بينهما، بل كلاهما في عرض واحد.

النحو الأول

[5] أي: الاستصحابين؛ وذلك لوجود المقتضي - أي: شمول دليل الاستصحاب لهما - مع فقد المانع.

ص: 204

في ما لم يلزم منه محذور المخالفة القطعية[1] للتكليف الفعلي المعلوم إجمالاً، لوجود المقتضي إثباتاً[2] وفقد المانع عقلاً[3].

----------------------------------

وأشكل على المقتضي(1):

بأنه لا يشمل أطراف العلم الإجمالي؛ وذلك لأن جريان الاستصحابين يوجب التناقض بين صدر الرواية وذيلها، فإن شمول الصدر وهو (لا تنقض اليقين بالشك) لموارد العلم الإجمالي يوجب تناقضه مع الذيل، وهو (ولكن ينقضه بيقين آخر) لأن العلم الإجمالي (يقين آخر)، إذن لابد من القول بأن دليل الاستصحاب لا يشمل موارد العلم الإجمالي؛ وذلك للإجمال.

وفيه: أولاً: عدم التناقض؛ لأن (اليقين) في الصدر والذيل بمعنى واحد، ف- (لا تنقض اليقين بالشك، بل انقضه بيقين آخر) إنما هو بمعنى (بل انقضه بيقين آخر مثل اليقين السابق)، ومن المعلوم أن اليقين الإجمالي ليس مثل اليقين التفصيلي السابق.

وثانياً: لو سلمنا المناقضة في هذه الرواية مما يوجب إجمالها، فإن بعض أخبار الاستصحاب لا يوجد فيها الذيل، فلا تكون مجملة، فيكون لها إطلاق يشمل حتى أطراف العلم الإجمالي.

وأما المانع(2):

فقد قيل: إن جريانهما يوجب المخالفة الالتزامية!

وفيه: أولاً: عدم المحذور منها، بل المحذور في المخالفة العملية.

وثانياً: ما مرّ من أن الالتزام الإجمالي يكفي، بأن يلتزم بما هو حكم الله واقعاً في هذه الموارد.

[1] بل يلزم أن لا تكون مخالفة احتمالية - كما سيشير إليه المصنف في مطاوي البحث - .

[2] أي: لدلالة الدليل، وهو إطلاق خطاب الاستصحاب.

[3] لأن المانع العقلي يقيّد الدليل اللفظي أو يصرفه عن إطلاقه.

ص: 205


1- منتهى الدراية 7: 796.
2- منتهى الدراية 7: 801.

أما وجود المقتضي: فلإطلاق الخطاب وشموله[1] للاستصحاب في أطراف المعلوم بالإجمال، فإن قوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ[2] - في ذيل بعض أخبار الباب -: «ولكن تنقض اليقين باليقين»(1) لو سلم[3] أنه يمنع عن شمول قوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ - في صدره -: «لا تنقض اليقين بالشك» لليقين والشك[4] في أطرافه، للزوم[5] المناقضة في مدلوله[6]، ضرورة المناقضة بين السلب الكلي[7] والإيجاب الجزئي[8]،

----------------------------------

[1] عطف تفسيري على إطلاق الخطاب.

[2] إشارة إلى دفع قصور المقتضي - وهو مناقضة الصدر والذيل لو شملت أخبار الاستصحاب أطراف العلم الإجمالي - .

[3] إشارة إلى الإشكال الأول على المناقضة.

[4] متعلق ب- (شمول) أي: يمنع عن شمول الصدر لليقين والشك، «في أطرافه» أي: في أطراف العلم الإجمالي.

[5] تعليل كيفية المناقضة، وقوله: (ضرورة...) شرح لهذا التعليل.

[6] أي: لو قلنا: إنّ هذه الرواية تشمل أطراف العلم الإجمالي لحصل التناقض بين الصدر والذيل؛ إذ الصدر يدل على جريان الاستصحاب لوجود الشك، والذيل يدل على عدم جريانه لحصل العلم الإجمالي، ومن المعلوم استحالة التناقض في كلام الإمام، فلابد من القول بأن الرواية مجملة لا يعلم شمولها لأطراف العلم الإجمالي.

[7] في قوله: (لا تنقض اليقين بالشك) حيث نهى الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عن النقض بشكل كلي، وهذه قضية سالبة كليّة.

[8] في قوله: (ولكن ينقضه بيقين آخر) حيث أمر بالنقض في صورة حصول اليقين، وهذه قضية موجبة جزئية. ومن المعلوم أن نقيض السالبة الكلية هي الموجبة الجزئية.

ص: 206


1- وسائل الشيعة 2: 356، وفيه: «وإنما تنقضه بيقين آخر».

إلاّ أنه[1] لا يمنع عن عموم النهي في سائر الأخبار - مما ليس فيه الذيل - وشموله[2] لما في أطرافه، فإن إجمال ذاك الخطاب[3] لذلك لا يكاد يسري إلى غيره مما ليس فيه ذلك.

وأما فقد المانع[4]: فلأجل أن جريان الاستصحاب في الأطراف لا يوجب إلاّ المخالفة الالتزامية[5]، وهو ليس بمحذور، لا شرعاً ولا عقلاً.

ومنه[6]

----------------------------------

[1] «أنه» أن هذا الذيل، وهذا هو الإشكال الثاني على المناقضة بين الصدر والذيل.

ولا يخفى أن المصنف بيّن الإشكال الأول ثم بيّن المناقضة ثم بين الإشكال الثاني.

والحاصل: إن إجمال إحدى الروايات لا يسرى إلى سائر الروايات، فإن بعض الروايات لا يوجد فيها هذا الذيل، وفيها الصدر فقط، وهو عام يشمل حتى أطراف العلم الإجمالي.

[2] عطف على قوله: «عموم النهي»، أي: إلاّ أنه لا يمنع عن شموله لأطراف العلم الإجمالي.

[3] الذي فيه الذيل، «لذلك» أي: للزوم المناقضة، «غيره» أي: غير ذلك الخطاب الذي فيه الذيل، «ليس فيه ذلك» أي: ذلك الذيل.

[4] وهذا إشارة إلى المانع والجواب عنه.

[5] لأن المفروض في (النحو الأول) أن لا يوجب مخالفة عملية أصلاً.

النحو الثاني

[6] أي: ممّا بيناه في النحو الأول اتضح عدم جريان الاستصحاب في النحو الثاني - وهو ما استلزم جريان الاستصحاب المخالفة العملية - وذلك لأن العقل يحكم

ص: 207

قد انقدح عدم جريانه في أطراف العلم بالتكليف فعلاً أصلاً[1]، ولو في بعضها[2]، لوجوب الموافقة القطعية له[3] عقلاً، ففي جريانه لا محالة يكون محذور المخالفة القطعية أو الاحتمالية[4]، كما لا يخفى.

تذنيب: لا يخفى[5]:

----------------------------------

بلزوم الموافقة القطعية لأمر المولى، فمخالفته حتى لو كانت احتمالية غير مجوّزة عقلاً؛ لأن الاشتغال اليقيني للذمة يستدعي البراءة اليقينية.

[1] «أصلاً» قيد لعدم الجريان، و«فعلاً» يعني إذا كان التكليف فعلياً، أما مخالفة الشأني فلا مانع منه؛ لأنه ليس بتكليف حقيقةً.

[2] أي: لا يجري الاستصحاب حتى في بعض الأطراف؛ لأن جريانه فيها يوجب المخالفة الاحتمالية للتكليف المعلوم بالإجمال.

[3] أي: للتكليف المعلوم بالإجمال.

[4] أي: محذور الترخيص في المخالفة القطعية إذا جرى الاستصحاب في جميع الأطراف، والاحتمالية إذا جرى في بعض الأطراف.

تذنيب
نسبة قاعدة الفراغ والتجاوز وأصالة الصحة مع الاستصحاب
اشارة

قد ذكرنا في ما سبق:

1- نسبة الاستصحاب إلى الأمارات.

2- نسبته إلى الأصول العملية.

3- نسبة الاستصحابات بعضها إلى بعض.

والآن تذكر الصورة الرابعة، وهي نسبة الاستصحاب إلى قواعد أخرى، كالفراغ والتجاوز واليد وأصالة الصحة ونحوها.

[5] (قاعدة التجاوز): هي أن ينتقل المصلّي إلى جزء آخر من الصلاة فيشك في

ص: 208

أن مثل قاعدة التجاوز في حال الاشتغال بالعمل[1] وقاعدة الفراغ بعد الفراغ عنه[2] وأصالة صحة عمل الغير، إلى غير ذلك من القواعد[3] المقررة في الشبهات الموضوعية

----------------------------------

الأفعال السابقة، مثلاً: وهو في الركوع يشك بأنه هل قرأ الحمد أم لا، أو يشك في أن قراءته كانت صحيحة أم لا؟

و(قاعدة الفراغ): هي الشك في العمل بعد الانتهاء منه، سواء كان شكاً في الإتيان بجزء أو شرط أم كان شكاً في صحتهما.

و(أصالة صحة عمل الغير): معناها واضح، فيحمل فعل الغير على ما يتطابق مع الشرع حين الشك فيه.

وهذه القواعد وغيرها تقدّم على الاستصحاب.

والدليل عليه: إن دليل الاستصحاب أعم فيشمل الشبهات الموضوعية والحكمية، وهذه القواعد أخص؛ لأنها خاصة في موارد يكون الشك في الموضوع، أي: الإتيان بجزء وشرط أو عدم الإتيان به في قاعدة الفراغ والتجاوز، وكذا الشك في صحة فعل الغير، وهذا أيضاً شك في الموضوع.

وحينئذٍ، فمن فرغ من الصلاة إذا شك في جزء منها فإن مقتضى الاستصحاب هو عدم الإتيان بذلك الجزء، لكن قاعدة الفراغ تقدم على الاستصحاب.

ومن غسّل ميتاً وشككنا في صحة عمله فإن مقتضى الاستصحاب هو عدم الصحة، لكن أصالة الصحة تدل على صحته، وهكذا.

[1] أي: قبل الانتهاء منه، وهذه القاعدة مختصة بالصلاة.

[2] عن العمل، وقيل: تجري هذه القاعدة في الصلاة وغيرها، على تفصيل مذكور في الفقه.

[3] كقاعدة اليد، فإنها أمارة الملكية.

ص: 209

- إلاّ القرعة[1] - تكون[2] مقدمة على استصحاباتها المقتضية لفساد[3] ما شك فيه من الموضوعات، لتخصيص دليلها بأدلتها[4].

وكون[5]

----------------------------------

[1] فإن لها بحثاً خاصاً بها وسيأتي بعد قليل.

[2] «تكون» خبر قوله: (أن مثل قاعدة... الخ)، «استصحاباتها» أي: الاستصحابات الجارية في موارد هذه القواعد.

[3] أي: المقتضية تلك الاستصحابات للفساد؛ لأنها استصحاب العدم، أي: عدم الإتيان بالجزء أو الشرط أو عدم تحقق السبب، أو عدم ترتب الأثر ونحو ذلك.

[4] «دليلها» دليل الاستصحابات، «بأدلتها» بأدلة هذه القواعد.

ثم إنه هذه القواعد هل هي أصول أم أمارات؟

فإن قيل: إنها أصول فلا إشكال في التخصيص.

ولكن إن قيل: إنها أمارات فمقتضى القاعدة هو (الورود) لا التخصيص، لكن لما أخذ في لسان دليلها الشك فلا فرق بينها وبين الاستصحاب من هذه الجهة، فتأمل.

[5] إشكال وجوابه، وحاصلهما: أما الإشكال: فهو إن بعض هذه القواعد قد تجري في ما لا حالة سابقة، كقاعدة اليد. فهنا تكون النسبة عموم وخصوص من وجه، فمورد الاجتماع: هو ما في اليد مع سبق ملك الغير، ومورد افتراق الاستصحاب هو في الشبهات الحكمية، ومورد افتراق قاعدة اليد هو في ما تولد في اليد بلا حالة سابقة، كما لو رأينا في يد زيد بيضاً، ويحتمل أن يكون قد وجد في ملكه بأن كان مالكاً للدجاجة - مثلاً - .

ومن المعلوم أن النسبة إن كانت عموماً من وجه كان مورد الاجتماع من التعارض بين الدليلين.

ص: 210

النسبة بينه وبين بعضها[1] عموماً من وجه لا يمنع[2] عن تخصيصه بها[3] بعد الإجماع[4] على عدم التفصيل بين مواردها؛ مع لزوم[5] قلة المورد لها جداً لو قيل بتخصيصها بدليلها، إذ قلَّ مورد منها لم يكن هناك استصحاب على خلافها، كما لا يخفى.

وأما القرعة[6]: فالاستصحاب في موردها يقدم عليها، لأخصّيّة دليله من

----------------------------------

وأما الجواب: أولاً: الإجماع على عدم التفصيل في موارد هذه القواعد، فهذا الإجماع يكون مرجحاً لهذه القواعد في محل الاجتماع.

وثانياً: إن تقديم الاستصحاب عليها يستلزم قلّة مواردها جداً؛ لأن الغالب هو أن يكون في مواردها حالة سابقة، وهذا يستلزم لغوية جعلها.

[1] كقاعدة اليد وأصالة الصحة.

[2] مع أن القاعدة في صورة العموم من وجه هي التعامل مع الدليلين معاملة المتعارضين في مورد الاجتماع.

[3] تخصيص الاستصحاب، «بها» أي: ببعض هذه القواعد.

[4] هذا الجواب الأول، فإن هذا الإجماع يرجح أدلتها على دليل الاستصحاب.

[5] هذا الجواب الثاني، «لها» لبعض تلك القواعد، «بتخصيصها» أي: بعض تلك القواعد، «بدليلها» أي: بدليل استصحاباتها، بل حتى لو قيل بتساقط الدليلين حين التعارض أيضاً يكون لتلك القواعد موارد قليلة جداً.

نسبة الاستصحاب والقرعة
اشارة

[6] الاستصحاب يقدّم على القرعة بلا إشكال، ولكن ما هو سبب تقديمه عليها؟

المصنف في بداية كلامه يذهب إلى أنه بالتخصيص، ولكن في نهاية البحث يقول بالورود، ولعله يشير إلى هذا التردد بقوله: (فافهم).

ص: 211

دليلها[1]، لاعتبار سبق الحالة السابقة فيه دونها. واختصاصها[2] بغير الأحكام

----------------------------------

[1] دليل القرعة مطلق، سواء كانت حالة سابقة أم لم تكن، كقوله: (القرعة لكل أمر مشكل)(1). أما الاستصحاب فهو خاص بما كانت حالة سابقة، فدليل الاستصحاب أخص، فيقدم على القرعة.

إشكال وجوابه

[2] أي: القرعة، وهذا إشكال وحاصله: إن بين دليل القرعة ودليل الاستصحاب عموماً من وجه؛ لأن الاستصحاب عام للشبهات الحكمية والموضوعية، وأما القرعة فهي - إجماعاً - خاصة بالشبهات الموضوعية.

فمورد الاجتماع: الشبهات الموضوعية مع وجود الحالة السابقة.

ومورد افتراق القرعة: ما لا حالة سابقة له.

ومورد افتراق الاستصحاب: الشبهات الحكمية.

والجواب: أولاً: إن دليل القرعة بنفسه عام، فقوله: (القرعة لكل أمر مشكل) يشمل ما له حالة سابقة، كما يشمل الأحكام. ثم خُصص مرتين، مرة بالإجماع على عدم القرعة في الأحكام، ومرة أخرى بالاستصحاب، فلا قرعة مع وجود الحالة السابقة. وهذان الخاصان في عرض واحد، فلا يصح تخصيص العام بأحدهما أولاً، ثم ملاحظة النسبة بين العام المخصّص بالأول وبين الخاص الثاني. إذا تبيّن ذلك اتضح أن دليل الاستصحاب أخص مطلقاً من دليل القرعة.

وسيأتي البحث في هذا مفصلاً في بحث (انقلاب النسبة) فإن المصنف يذهب إلى عدم انقلابها، بل يلزم ملاحظة الأدلة الخاصة في رتبة واحدة.

وأما ثانياً: فحتى لو فرض أن النسبة هي العموم من وجه لكن دليل الاستصحاب أقوى فيرجح.

ص: 212


1- هداية الأمة 8: 348؛ وراجع وسائل الشيعة 27: 257.

إجماعاً[1] لا يوجب الخصوصية في دليلها[2] بعد عموم لفظها لها، هذا.

مضافاً[3] إلى وهن دليلها بكثرة تخصيصه[4] حتى صار العمل به في مورد محتاجاً إلى الجبر بعمل المعظم[5] - كما قيل(1) - وقوة دليله بقلة تخصيصه بخصوص دليل[6].

لا يقال[7]:

----------------------------------

[1] أي: دل الإجماع على عدم القرعة في الأحكام إطلاقاً.

[2] أي: لا يوجب أن يتحول دليلها العام إلى خاص، بل هو عام لفظاً. نعم، خرج منه الأحكام بدليل وهو الإجماع، كما خرج ما فيه الحالة السابقة بدليل آخر وهو الاستصحاب.

[3] هذا الجواب الثاني، وحاصله: إنه حتى لو فرضنا أن النسبة بين دليل القرعة ودليل الاستصحاب هي العموم من وجه، فيحصل التعارض في مورد الاجتماع، ولابد من تقديم دليل الاستصحاب؛ لقوته سنداً ودلالة بعدم تخصيصه إلاّ قليلاً، وضعف دليل القرعة؛ لضعف سنده وضعف دلالته بكثرة التخصيص فيه.

[4] «تخصيصه» تخصيص دليل القرعة، «به» بدليل القرعة.

[5] وإنما احتاج إلى الجبر لضعف السند أولاً، ولضعف الدلالة فإن كثرة التخصيصات توجب ضعف دلالة العام.

[6] «بخصوص دليل» أي: بسبب دليل من الأدلة، مثلاً: تخصيص الاستصحاب بقاعدة الفراغ والتجاوز والشك في الركعات، وموارد نادرة أخرى.

إشكال آخر وجوابه

[7] حاصله: إنه يستفاد من بعض أدلة القرعة أنها أمارة، كقوله: (ليس من قوم فوّضوا أمرهم إلى الله ثم اقترعوا إلاّ خرج سهم المحق)(2)،

فإن ظاهره أن القرعة

ص: 213


1- الفصول الغروية: 362.
2- تهذيب الأحكام 6: 238.

كيف يجوز تخصيص دليلها بدليله[1] وقد كان دليلها رافعاً لموضوع دليله، لا لحكمه، وموجباً[2] لكون نقض اليقين باليقين بالحجة على خلافه، كما هو الحال بينه وبين أدلة سائر الأمارات، فيكون[3] هاهنا أيضاً من دوران الأمر بين التخصيص بلا وجه غير دائر[4] والتخصص[5].

فإنه يقال[6]:

----------------------------------

كاشفة عن الواقع، وليست مجرد وظيفة.

وحينئذٍ فتكون القرعة واردة على الاستصحاب بعين ما ذكرناه في بحث تقدم الأمارات على الأصول العملية، حيث إن القرعة يقين تعبدي، فارتفع موضوع الاستصحاب - وهو الشك في البقاء - فلا مجال لتخصيص دليل القرعة بدليل الاستصحاب؛ إذ لا مخصِّص إلاّ دليل الاستصحاب، والتخصيص بالاستصحاب مستلزم للدور - كما مرّ تفصيله - .

[1] دليل القرعة بدليل الاستصحاب، «رافعاً» بالورود؛ إذ القرعة يقين تعبدي و«موضوع دليله» هو الشك، «لا لحكمه» خلافاً للشيخ الأعظم الذي كان يذهب إلى الحكومة.

[2] عطف على «رافعاً» أي: وكان دليل القرعة موجباً لكون... الخ، «خلافه» على خلاف اليقين السابق.

[3] أي: يكون الأمر هنا.

[4] بناءً على تقديم الاستصحاب على القرعة.

[5] أي: (الورود)، وهذا بناءً على تقديم القرعة.

[6] حاصل الجواب: إن دليل الاستصحاب هو الوارد على دليل القرعة - حتى وإن كانت أمارة - وذلك لأنه أخذ في موضوع القرعة (المشكل)، أو (المجهول)، أو (المشتبه)، ومن الواضح أن هذه الأمور ترتفع مع الاستصحاب؛ إذ مع إبقاء الحالة السابقة لا مشكل ولا مجهول ولا مشتبه.

ص: 214

ليس الأمر كذلك[1]، فإن المشكوك مما كانت له حالة سابقة، وإن كان من المشكل والمجهول والمشتبه[2] بعنوانه الواقعي[3]، إلاّ أنه ليس منها[4] بعنوان ما طرأ عليه من نقض[5] اليقين بالشك، والظاهر من دليل القرعة أن يكون منها بقول مطلق[6] لا في الجملة[7]، فدليل الاستصحاب الدال على حرمة النقض الصادق عليه[8] حقيقةً

----------------------------------

إن قلت: يرتفع الإشكال والجهل والاشتباه ظاهراً لا واقعاً.

قلت: ارتفاعها ظاهراً يكفي؛ ولذا تقدم سائر الأمارات - كاليد والبينة ونحوها - على القرعة، مع أنها لا ترفع الاشتباه والجهل والإشكال واقعاً، بل ظاهراً.

[1] أي: ليس الأمر ورود القرعة على الاستصحاب، بل الأمر بالعكس.

[2] هذه التعابير الثلاثة وردت في الروايات - على ما قيل(1)

- ولذا ذكرها المصنف جميعاً.

[3] لأن استصحاب الحالة السابقة إنما هو حكم ظاهري.

[4] «أنه» المشكوك، «منها» من المشكل والمجهول والمشتبه، «عليه» على المشكوك.

[5] أي: من جريان الاستصحاب، فإن الاستصحاب يرفع الاشتباه والجهل والإشكال.

[6] أي: إنما تجري القرعة إذا كان مشتبهاً واقعاً وظاهراً معاً، ولا تجري القرعة إذا ارتفع الاشتباه ولو ظاهراً؛ إذ لا يصدق الاشتباه مع رفعه ظاهراً، وكذا المشكل والمجهول.

[7] أي: لا تشمل ما كان اشتباه واقعاً فقط، ولم يكن اشتباه ظاهراً.

[8] أي: الصادق دليل الاستصحاب، «عليه» أي: على المشكوك، «لموضوعه» أي: موضوع دليل القرعة.

ص: 215


1- تهذيب الأحكام 9: 258 «مشكوك فيه»؛ وسائل الشيعة 26: 280 «المشتبه»؛ مستدرك الوسائل 4: 80 «المجهول»؛ هداية الأمة 8: 348 «المشكل»؛ مستدرك الوسائل 17: 374 «الملتبس».

رافع لموضوعه أيضاً[1]، فافهم[2]، فلا بأس[3] برفع اليد عن دليلها عند دوران الأمر بينه[4] وبين رفع اليد عن دليله، لوهن عمومها وقوة عمومه، كما أشرنا إليه آنفاً.

والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله على محمد وآله باطناً وظاهراً.

----------------------------------

[1] كما سائر الأمارات ترفع موضوع دليل القرعة.

[2] لعله إشارة إلى أن قوله: (بالورود هنا) ينافي قوله: (بالتخصيص) في أول بحث القرعة.

أو إن القول بأن موضوع القرعة هو الاشتباه بقول مطلق - أي: ظاهراً وواقعاً - ليس بأولى من أن يقال: إن موضوع الاستصحاب هو الشك وعدم اليقين بقول مطلق، فإذا اقترع فقد زال الشك ظاهراً، وحينئذٍ فلابد من الرجوع إلى الجواب السابق من القول بالتخصيص.

[3] أي: بعد الإشكال على الورود، سواء كان من جهة القرعة أم من جهة الاستصحاب، لابد من الرجوع إلى كلامنا الأول، وهو أن بين دليل الاستصحاب ودليل القرعة إما عموم مطلق فيخصص الاستصحابُ القرعةَ، أو عموم من وجه مع ترجيح الاستصحاب لقوة دليله، شأن كل عامين من وجه، حيث يقدّم الأقوى منهما على الآخر.

[4] أي: بين دليل القرعة، «دليله» دليل الاستصحاب.

ص: 216

المقصد الثامن في تعارض الأدلة والأمارات

اشارة

ص: 217

ص: 218

المقصد الثامن في تعارض الأدلة والأمارات. فصل: التعارض[1] هو:

----------------------------------

المقصد الثامن في تعارض الأدلة والأمارات

عبر بعضهم ب- (التعادل والتراجيح)، لكن عدل عنه المصنف إلى (تعارض الأدلة والأمارات)، وذلك لأن التعادل والتراجيح فرع التعارض؛ إذ بعد حصول التعارض يتم البحث عن تساويهما أو ترجيح أحدهما على الآخر.

و(الأدلة) في الأحكام، و(الأمارات) في الموضوعات.

في تعريف التعارض

فصل في تعريف التعارض

اشارة

[1] تذكر في مطاوي هذا الفصل بعض البحوث المقدماتيّة، منها:

1- إن التعارض إنما هو (بحسب الدلالة) فتعبير الشيخ الأعظم ب- (تنافي المدلولين)(1)

محل تأمل؛ إذ المدلول هو (معنى الكلمة)، وقد يكون تنافٍ بين المدلولين لكن من غير منافاة في الدلالة؛ وذلك في موردين:

المورد الأول: في الحكومة، فإن بين معنى الدليل الحاكم والدليل المحكوم تنافياً، ولكن لا تنافي في مقام الدلالة؛ إذ الحاكم يوسّع أو يضيق المحكوم كما مرّ.

المورد الثاني: في موارد الجمع العرفي، كالأدلة الأولية والثانوية، فإن هناك تنافياً في مدلولها، ولكن في مقام الدلالة يجمع العرف بتقديم الأدلة الثانوية على الأولية غالباً، والعكس أحياناً.

ص: 219


1- فرائد الأصول 4: 11.

«تنافي الدليلين أو الأدلة بحسب الدلالة[1] ومقام الإثبات[2] على وجه[3] التناقض

----------------------------------

فعلى تعبير الشيخ الأعظم يدخل هذان الموردان في التعارض، مع أنهما ليسا من مصاديقه.

2- إن التعارض إنما هو في مقام الإثبات والظاهر، وإلاّ فلا تنافي بين الأدلة في الواقع ومقام الثبوت؛ إذ الشارع المقدّس عالم بكل شيء، فلا يعقل التنافي في إرادته.

3- إن التنافي قد يكون بنحو التناقض، مثل: (تجب) و(لا تجب)، وقد يكون بنحو التضاد مثل: (يجب) و(يحرم)، والتضاد قد يكون حقيقياً بأن لا يمكن الجمع بين الدليلين بنفسهما، كذلك قد يكون عرضياً بأن دل دليل من الخارج بمخالفة أحدهما للواقع، مثل: (وجوب صلاة الجمعة) و(وجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة)، حيث لا تنافي بين الدليلين بنفسهما، ولكن حصل التنافي بينهما حيث علمنا من الخارج عدم وجوب صلاتين في ظهر يوم الجمعة.

4- إنه في الحكومة لا يشترط تأخر الحاكم، بل يمكن تقدمه، خلافاً للشيخ حيث اشترط تأخر الحاكم؛ وذلك لأن النظر كما يمكن تحققه من المتأخر للمتقدم كذلك العكس؛ لأن الشارع عالم بما سيصدره من أحكام، فيمكن توسعته أو تضييقه قبل صدوره.

5- التوفيق العرفي بين دليلين قد يكون بالتصرف في أحدهما كما هو الغالب، وقد يكون بالتصرف في كليهما وسيأتي مثاله.

[1] لا بحسب المدلول - كما ذكره الشيخ الأعظم - وقد عرفت الفرق بينهما في المقدمة الأولى.

[2] لا في مقام الثبوت، كما عرفته في المقدمة الثانية.

[3] إشارة إلى ما ذكر في المقدمة الثالثة.

ص: 220

أو التضاد حقيقةً أو عرضاً بأن[1] علم بكذب أحدهما إجمالاً مع[2] عدم امتناع اجتماعهما أصلاً».

وعليه[3] فلا تعارض بينهما بمجرد تنافي مدلولهما إذا كان بينهما حكومة[4] رافعة للتعارض والخصومة، بأن يكون أحدهما قد سيق ناظراً إلى بيان كمية[5] ما أريد من الآخر، مقدماً كان أو مؤخراً[6].

أو كانا[7]

----------------------------------

[1] هذا بيان للتضاد العرضي، «كذب أحدهما» أي: عدم مطابقة للواقع، «إجمالاً» بدون العلم التفصيلي؛ إذ معه لا معنى للتعارض.

[2] أي: الدليلان في نفسهما لا تنافي بينهما، بل يمكن كونهما معاً حكمين واقعيين، لكن لأجل دليل آخر علمنا بعدم مطابقة أحدهما للواقع، فلا محذور في وجوب الظهر والجمعة معاً في يوم الجمعة، لكن الإجماع ونحوه دل على عدم وجوب إلاّ صلاة واحدة عند الزوال في يوم الجمعة.

[3] أي: بناءً على أن التنافي إنما هو بحسب الدلالة.

[4] إشارة إلى المورد الأول من الفرق بين (التعارض حسب الدلالة) وبين (التعارض حسب المدلول) ففي الحكومة لا تعارض بحسب الدلالة مع وجود تعارض بحسب المدلول.

[5] إما توسعة كقولهم: (الطواف بالبيت صلاة) حيث تعميم الصلاة لتشمل الطواف، فيشترط فيه ما يشترط فيها، أو تضييقاً كقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (لا شك لكثير الشك) حيث تضييق أدلة شكيّات الصلاة كقولة عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (إذا شككت فابن على الأكثر)(1)

ونحوه.

[6] إشارة إلى ما ذكر في المقدمة الرابعة.

[7] أي: الدليلان، وهذا إشارة إلى المورد الثاني من الفرق بين (التعارض حسب

ص: 221


1- الفصول المهمة في أصول الأئمة 2: 115.

على نحو إذا عرضا على العرف وفق بينهما بالتصرف[1] في خصوص أحدهما، كما هو[2] مطرد في مثل الأدلة المتكفلة لبيان أحكام الموضوعات بعناوينها الأولية مع مثل الأدلة النافية[3] للعسر والحرج والضرر والإكراه والاضطرار مما يتكفل لأحكامها[4] بعناوينها الثانوية، حيث يقدم في مثلهما الأدلة النافية، ولا تلاحظ النسبة بينهما[5] أصلاً، ويتفق في غيرهما[6] كما لا يخفى.

أو بالتصرف فيهما[7]،

----------------------------------

الدلالة) و(التعارض حسب المدلول).

[1] فمع الجمع العرفي لا تعارض بحسب الدلالة، مع وجوده بحسب المدلول، فهذا المورد خارج عن بحث التعارض، مع أنه حسب بيان الشيخ الأعظم يلزم إدخاله في هذا البحث.

المورد الأول من موارد الجمع العرفي

[2] أي: التصرف في أحدهما.

[3] (العُسر): هو المشقة البدنية، و(الحرج): هو المشقة النفسية، و(الضرر): هو النقيصة في النفس أو المال، و(الإكراه): هو جعل الغير يفعل فعلاً لا يرغب فيه تحت التهديد، و(الاضطرار): هو قيام الإنسان بما لا يرغب فيه أو ما لا يجوز لعروض عارض أهم، كاضطراره لدفع الموت إلى أكل لحم الخنزير - مثلاً - .

[4] أي: أحكام الموضوعات، «مثلهما» أي: مثل الأدلة الأولية مع الثانوية.

[5] من العموم والخصوص والإطلاق والتقييد والتباين... الخ.

[6] «يتفق» معطوف على (مطرد في مثل...) «غيرهما» غير العناوين الأولية والثانوية، مثلاً: لا تعارض بين الخاص والعام؛ إذ الخاص أظهر أو نص فيقدّم على العام؛ إذ لا تنافي في مقام الدلالة مع وجود التنافي في المدلول.

[7] عطف على قوله: (بالتصرف في خصوص أحدهما) أي: إذا عُرضا على

ص: 222

فيكون مجموعهما[1] قرينة على التصرف فيهما، أو في أحدهما المعين ولو كان الآخر أظهر[2].

ولذلك[3]

----------------------------------

العرف وفق بينهما بالتصرف فيهما معاً، وموارد هذا قليلة، بل قيل بعدم وجود مورد له.

ومثلوا له بقوله: (ثمن العذرة من سحت)(1)

وقوله: (لا بأس ببيع العذرة)(2) بحمل الأولى على عذرة الإنسان، والثانية على عذرة الحيوان(3)،

فهذا تصرف في كلا الدليلين، ولا يخفى إنه جمع تبرعي وليس بعرفي.

[1] أي: مجموع الدليلين، ومقصود المصنف أنه مع الجمع العرفي لا تصل النوبة إلى ملاحظة الأظهر كي يُقدّم على الظاهر، بل المناط ما يفهمه العرف من ملاحظة الدليلين، حتى لو كان أحد الدليلين أظهر. فلو فرض أن دليل الحكم الأولى كان نصاً، ودليل الضرر كان ظاهراً، فإن دليل الضرر يكون مقدماً؛ وذلك باقتضاء الجمع العرفي.

[2] اختلفت نسخ الكتاب ففي بعضها «ولو كان الآخر أظهر» وفي بعضها بدون الواو، وفي بعضها (ولو كان من الآخر أظهر) والظاهر هو صحة النسخة الثالثة، فمعنى العبارة: (أو التصرف في أحدهما المعيّن ولو كان الذي تصرف فيه أظهر من الآخر)، وكان شرحنا في الحاشية السابقة بناءً على هذه النسخة، فدقق.

المورد الثاني من موارد الجمع العرفي

[3] أي: لأجل أن العرف يوفق بين الدليلين بالتصرف.

وهذا مورد آخر من موارد الجمع العرفي، وهو ورود الأمارات على الأصول

ص: 223


1- الاستبصار 3: 56.
2- الكافي 5: 226.
3- الاستبصار 3: 56.

تقدم الأمارات المعتبرة[1] على الأصول الشرعية، فإنه لا يكاد يتحير أهل العرف في تقديمها[2] عليها بعد ملاحظتهما، حيث[3] لا يلزم منه محذور تخصيص[4] أصلاً؛ بخلاف العكس[5] فإنه يلزم منه محذور التخصيص بلا وجهٍ أو بوجه دائر، كما أشرنا إليه في أواخر الاستصحاب.

وليس وجه[6]

----------------------------------

العملية، وقد مرّ أكثر بحثه في أواخر الاستصحاب، وإنما كررّه لأجل بيان وجه ادعاء الشيخ الأعظم (الحكومة) وردّ هذا الادعاء وإثبات (الورود).

[1] أما غير المعتبرة - كالقياس - فلا إشكال في تقدم الأصول العملية عليها؛ وذلك لإلغاء الشارع تلك الأمارات، فوجودها كالعدم.

[2] تقديم الأمارات المعتبرة، «عليها» على الأصول العملية، «بعد ملاحظتهما» أي: الأمارات والأصول.

[3] هذا وجه تقديم العرف للأمارة على الأصل، «منه» تقديم الأمارة، ولا يخفى أنه لو ثبت الجمع العرفي فلا حاجة إلى هذا الوجه.

[4] أي: لا تخصيص كي يلزم محذور، بل هنا ورود الأمارة على الأصل، ولا محذور في ذلك أصلاً - كما مرّ - .

[5] أي: تقديم الأصل على الأمارة، «التخصيص» تخصيص دليل الأمارة بحيث لا يشمل المورد الذي يجري فيه الأصل، «بلا وجهٍ» إن لم يكن هناك مخصص، «أو بوجه دائر» إن كان المخصص نفس دليل الأصل - وقد مرّ تفصيله فراجع - .

[6] شروع في رد الحكومة، حاصل الرد: هو أنّ وجه اعتبار الأمارات أحد ثلاثة:

1- جعل حكم مماثل للحكم الواقعي - أي: جعل حكم ظاهري - .

2- جعل الحجيّة بالتنجيز حين الإصابة، والتعذير حين الخطأ.

3- جعل العِلْميّة، أي: وجوب إلغاء احتمال الخلاف.

ص: 224

تقديمها[1] حكومتها على أدلتها، لعدم كونها ناظرة إلى أدلتها بوجه.

وتعرضها[2] لبيان حكم موردها لا يوجب كونها ناظرة إلى أدلتها وشارحة

----------------------------------

وعلى الأول: لا نظر لأدلة الأمارات إلى أدلة الأصول؛ لأن مثل: (صدق العادل) - مثلاً - إنما هو بمعنى وجوب العمل على طبق كلامه، ولا نظر له إلى الاستصحاب والبراءة ونحوهما، كما هو واضح.

وعلى الثاني: فكذلك لا نظر؛ لأن معنى المنجزية والمعذرية هو عقابه لدى المخالفة إن صادف الواقع، وعدم عقابه إن خالف الواقع، وليس فيه دلالة على إلغاء الأصول العملية بنحو من الأنحاء.

وأما الثالث: فإن (ألغِ احتمال الخلاف) ناظر إلى احتمال الخلاف لذا أمَر بإلغائه، ولكن الإشكال هو أنه لا يستفاد من أدلة الأصول العملية هذا المعنى - أي: إلغاء احتمال الخلاف - نعم، اللازم العقلي للعمل بشيء هو عدم العمل بما يخالفه، وهذا ليس بمعنى (النظر)، لأن النظر يتعلّق بالدلالة اللفظية لا العقلية.

إذن، تبين أن ذهاب الشيخ إلى الحكومة بسبب ذهابه إلى المعنى الثالث في أدلة اعتبار الأمارات، ولكن المصنف حيث لا يقول بالثالث لذا لا يقول بالحكومة.

[1] تقديم الأمارات، «حكومتها» الأمارات، «أدلتها» أدلة الأصول العملية، «كونها» الأمارات، «إلى أدلتها» أدلة الأصول العملية.

[2] أي: إن شمول الأمارات لموارد الأصول ليس بمعنى النظر. مثلاً: (صدق العادل) يشمل الموارد التي كان فيها يقين سابق - وهي مورد الاستصحاب - لكن الشمول ليس بمعنى النظر.

ويدل على ذلك أن دليل الاستصحاب - مثلاً - أيضاً عام يشمل موارد الأمارات، فهل يلتزم أحد بحكومة الاستصحاب على الأمارات بأن يقال: إن الشمول بمعنى النظر؟

ص: 225

لها[1]، وإلاّ[2] كانت أدلتها أيضاً دالة - ولو بالالتزام[3] - على أن حكم مورد الاجتماع فعلاً[4] هو مقتضى الأصل لا الأمارة[5]، وهو مستلزم[6] عقلاً نفي ما هو قضية الأمارة، بل[7] ليس مقتضى حجيتها[8] إلاّ نفي ما قضيته عقلاً من دون

----------------------------------

ولتقريب هذا الكلام إلى الذهن نقول: لو قال المولى: (أكرم العلماء) ثم قال: (لا تكرم الفساق) فإن مورد الاجتماع وهو: (العالم الفاسق) يشمله كلا العامين، لكن هذا الشمول ليس بمعنى النظر؛ ولذلك لا حكومة بين هذين العامين؛ وذلك لأنه يشترط في النظر: الدلالة اللفظية، ولا توجد هكذا دلالة بين هذين العامين. وكذلك أدلة الأمارات والأصول عامة، وفي مورد الاجتماع لا نظر لأحدهما إلى الآخر.

[1] عطف تفسيري لبيان معنى النظر.

[2] أي: لو كان مجرد (التعرض لحكم المورد) هو بمعنى الحكومة، «أدلتها» أي: أدلة الأصول العملية.

[3] لأن جريان دليل يلازمه عقلاً نفي ما يخالفه.

[4] أي: الحكم الفعلي.

[5] لأن كلا الدليلين - دليل الأصل ودليل الأمارة - عام، وهناك مورد اجتماع، فكلاهما بعمومه يشمل مورد الاجتماع، فإذا كان مجرد الشمول للمورد هو حكومة، لكانت الحكومة من الطرفين، وهذا لا يمكن الالتزام به أصلاً.

[6] أي: دلالة دليل الأصل على أن حكم مورد الاجتماع هو مقتضى الأصل لازمه العقلي نفي الحكم الذي تدل عليه الأمارة.

[7] أي: بعد نفي الحكومة نقول: إن دليل الأمارة لا يدل لفظاً على نفي الأصل، بل هو ينفي موضوع الأصل، فينتفي حكمه من غير دلالة لفظية لذلك، بل هو بملازمة عقلية.

[8] حجية الأمارة، «قضيته» أي: مقتضى الأصل، «عليه» على نفي مقتضى الأصل.

ص: 226

دلالة عليه لفظاً، ضرورة[1] أن نفس الأمارة لا دلالة له إلاّ على الحكم الواقعي[2]، وقضية حجيتها[3] ليست إلاّ لزوم[4] العمل على وفقها شرعاً المنافي عقلاً للزوم العمل على خلافه وهو قضية الأصل، هذا؛ مع احتمال[5] أن يقال: إنه ليس قضية الحجية شرعاً إلاّ لزوم العمل على وفق الحجة عقلاً وتنجز[6] الواقع مع المصادفة وعدم تنجزه في صورة المخالفة.

وكيف كان ليس مفاد[7] دليل الاعتبار هو وجوب إلغاء احتمال الخلاف تعبداً[8]

----------------------------------

[1] شروع لبيان وجه اعتبار الأمارة، وأنه إما جعل حكم مماثل أو جعل الحجية، وكلاهما لا نظر له إلى سائر الأدلة، بل كشف عن الحكم الواقعي فقط، «لا دلالة له» أي: لنفس الأمارة.

[2] لأن الأمارات لها كشف عن الواقع، عكس الأصول العملية التي تبين الوظيفة فقط من غير كشف.

[3] أي: حجية الأمارة.

[4] هذا الوجه الأول لاعتبار الأمارة، وهو جعل حكم مماثل الذي هو الحكم الظاهري، «وفقها» أي: الأمارة، «المنافي» ذلك العمل على وفقها، «عقلاً» وليس بدلالة لفظية - كي يكون نظراً وحكومة - «على خلافه» أي: خلاف العمل على وفقها.

[5] هذا الوجه الثاني لاعتبار الأمارة، «إنه» للشأن.

[6] قوله: «وتنجز... الخ» عطف تفسيري لقوله: «لزوم العمل على وفق الحجة عقلاً».

[7] شروع في ردّ الوجه الثالث لاعتبار الأمارة، وهو الوجه الذي كان سبباً لذهاب الشيخ الأعظم إلى القول بالحكومة.

[8] أي: جعل العلم التعبدي بإلغاء احتمال الخلاف.

ص: 227

كي يختلف الحال[1] ويكون مفاده في الأمارة نفي حكم الأصل[2] حيث إنه[3] حكم الاحتمال؛ بخلاف[4] مفاده فيه، لأجل أن الحكم الواقعي[5] ليس حكم احتمال خلافه، كيف[6]! وهو حكم الشك فيه واحتماله. فافهم وتأمل جيداً.

----------------------------------

[1] وذلك بحصول النظر من الأمارة إلى الأصل - بناءً على هذا الوجه - «مفاده» أي: مفاد دليل الاعتبار.

[2] لأن معنى اعتبار الأمارة على هذا الوجه الثالث هو: إلغاء احتمال الخلاف، وحكم الأصل هو من احتمال الخلاف، فتكون الأمارة ناظرة إلى الأصل.

[3] «إنه» حكم الأصل، «حكم الاحتمال» أي: الاحتمال المخالف للأمارة.

[4] أي: بخلاف مفاد الدليل في الأصل، والمعنى: أنه بناءً على هذا الوجه الثالث لا يوجد نظر من الأصل إلى الأمارة، فلا يمكن الإشكال بأن الأصل أيضاً يكون حاكماً على الأمارة.

بيانه: إنّ دليل اعتبار الأصل لا يدل على إلغاء احتمال الخلاف؛ لأن معنى هذا الإلغاء هو جعل العلم التعبدي، وبجعل العلم التعبدي يزول الشك، وينقلب إلى علم تعبدي، فلا يبقى موضوع للأصل العملي، فالقول بأن دليل اعتبار الأصل هو جعل العلم التعبدي محال؛ لأنه يلزم منه عدم اعتبار الأصل بزوال موضوعه. إذن فلا يدل الأصل على إلغاء احتمال الخلاف، فلا يكون حاكماً على الأمارة.

[5] الذي كان مدلولاً للأمارة، «احتمال خلافه» أي: خلاف الأصل، والمعنى: إن مدلول الأمارة هو الحكم الواقعي، وهو ليس مختصاً باحتمال خلاف الأصل حتى يقال: إن الأصل يلغي الاحتمال المخالف، بل الحكم الواقعي يجري، سواء احتمل الخلاف أم لم يحتمل.

[6] أي: كيف يكون اعتبار الأصل بمعنى إلغاء احتمال الخلاف؟ «وهو» أي: الأصل، «فيه» أي: في الحكم الواقعي، «واحتماله» عطف تفسيري لقوله: «حكم الشك فيه».

ص: 228

فانقدح بذلك أنه لا يكاد ترتفع غائلة المطاردة والمعارضة بين الأصل والأمارة إلاّ بما أشرنا[1] سابقاً وآنفاً، فلا تغفل. هذا.

ولا تعارض[2] أيضاً إذا كان أحدهما قرينةً على التصرف في الآخر، كما في الظاهر مع النص أو الأظهر، مثل العام والخاص والمطلق والمقيد أو مثلهما[3] مما كان أحدهما نصاً أو أظهر، حيث إن بناء العرف[4] على كون النص أو الأظهر قرينةً على التصرف في الآخر.

وبالجملة[5]: الأدلة في هذه الصور وإن كانت متنافية بحسب مدلولاتها، إلاّ أنها غير متعارضة، لعدم تنافيها في الدلالة وفي مقام الإثبات، بحيث[6] يبقى أبناء المحاورة

----------------------------------

[1] من ورود الأمارة على الأصل.

المورد الثالث من موارد الجمع العرفي

[2] من موارد الجمع العرفي هو التصرف في الظاهر مع النص أو الأظهر، فلا يرى أهل اللسان تعارضاً، بل يتصرفون في الظاهر، فلا تعارض بين العام والخاص؛ لأن العام ظاهر والخاص أظهر، فمثل: (أكرم العلماء) يشمل زيداً العالم؛ وذلك لظهور الجمع المحلّى باللام في العموم، لكن (لا تكرم زيداً) أظهر، فيخصص به العام - أي: يتصرف في العام - .

[3] بيّن المماثلة بقوله: «مما كان أحدهما...»، مثلاً: (افعل) ظاهر في الوجوب، و(لا بأس بتركه) نص في عدم الوجوب.

[4] وحيث إن الشرع خاطبهم بأسلوبهم فلابد من حمل كلامه على طريقتهم.

[5] عود إلى أن التعارض إنما هو في (الدلالة)، لا في (المدلول)، «مدلولاتها» مدلولات الأدلة، «أنها» الأدلة، «تنافيها» الأدلة.

[6] «بحيث» متعلق ب- «تنافيها» أي: التنافي الذي يجعل أبناء المحاورة متحيرين ليس موجوداً في هذه الصور.

ص: 229

متحيرة، بل[1] بملاحظة المجموع أو خصوص بعضها يتصرف في الجميع أو في البعض عرفاً بما ترتفع به المنافاة التي تكون في البين.

ولا فرق فيها[2] بين أن يكون السند فيها قطعياً أو ظنياً أو مختلفاً، فيقدم النص أو الأظهر - وإن كان بحسب السند ظنياً - على الظاهر ولو كان بحسبه قطعياً.

وإنما يكون التعارض في غير هذه الصور[3] مما كان التنافي فيه بين الأدلة بحسب الدلالة ومرحلة الإثبات.

وإنما يكون التعارض بحسب السند[4] في ما إذا كان كل واحد منها قطعياً دلالةً

----------------------------------

[1] أي: بملاحظة مجموع الأدلة يتصرف في الجميع، مثل: (افعل) و(لا تفعل) بحمل الأول على الجواز والثاني على الكراهة، أو بملاحظة خصوص بعض الأدلة يتصرف في البعض مثل: (افعل) و(لا بأس بالترك) بحمل الأول على الاستحباب. وفي عبارة المصنف لف ونشر مرتب.

متى يُرجّح بالسند؟

[2] أي: في الأدلة، والمقصود بيان أنه مع الجمع العرفي لا تصل النوبة إلى المرجحات السندية، فيقدم الخاص حتى لو كان دليله خبراً معتبراً على العام حتى وإن كان بدلالة آية قرآنية، كقوله: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا}(1) فإن أخبار الآحاد المعتبرة الدالة على حرمة بعض الأشياء تخصص هذا العموم، مع أن سندها ظني، وسنده قطعي.

[3] أي: في غير صورة الجمع العرفي مما لم يكن تنافٍ بحسب الدلالة - وإن كان تنافٍ بحسب المدلول - وضمير «فيه» يرجع إلى الموصول في «ممّا».

[4] من الواضح أن التعارض في السند إنما هو في ما كان كلا السندين ظنياً، وإلاّ فلا يعقل التعارض بين القطعيين، كما لا تعارض بين المقطوع والمظنون.

ص: 230


1- سورة البقرة، الآية: 29.

وجهةً[1]، أو ظنياً[2] في ما إذا لم يكن التوفيق بينها بالتصرف في البعض أو الكل، فإنه[3] حينئذٍ لا معنى للتعبد بالسند في الكل[4]، إما[5] للعلم بكذب أحدهما، أو[6] لأجل أنه لا معنى للتعبد بصدورها مع إجمالها، فيقع التعارض بين أدلة السند[7] حينئذٍ، كما لا يخفى.

فصل: التعارض[8]

----------------------------------

[1] «دلالةً» بأن كان كلاهما نصاً، و«جهةً» بأن علم أنهما أو أحدهما لم يكن للتقية، بل كان كلاهما لبيان الحكم الواقعي.

[2] أي: دلالةً وجهةً، مع تساوي الظنين بحيث لا يجمع العرف بينهما، بل يراهما متعارضين.

[3] «فإنه» للشأن، «حينئذٍ» حين قطعيّة أو ظنيّة كليهما في الدلالة وجهة الصدور؛ وذلك لأن هذا التعارض إن لم يتسبب في إجمال الدلالة فإنه يتولد علم إجمالي بعدم مطابقة أحدهما للواقع، فكيف يحكم بمطابقتهما معاً للواقع؟

وإن تسبب التعارض في إجمال الدلالة فإن جعل الحجية لهما لغو؛ إذ لا فائدة في هذا الجعل بعد عدم فهم المراد.

[4] بل لابد من إعمال المرجحات أو التساقط.

[5] إشارة إلى صورة عدم إجمال الدلالة.

[6] إشارة إلى صورة إجمال الدلالة، «لا معنى» للّغوية، «بصدورها» الأدلة.

[7] ولو قال المصنف: (فيقع التعارض بين سند الأدلة) لكان أحسن، «حينئذٍ» حين عدم الجمع العرفي.

فصل القاعدة الأولية في الخبرين المتعارضين

فصل القاعدة الأولية في الخبرين المتعارضين

اشارة

[8] ما هي القاعدة الأولية حين تعارض الخبرين؟

ص: 231

وإن كان لا يوجب[1] إلاّ سقوط أحد المتعارضين عن الحجية رأساً حيث لا يوجب[2] إلاّ العلم بكذب أحدهما، فلا يكون هناك مانع[3] عن حجية الآخر، إلاّ أنه حيث كان[4] بلا تعيين ولا عنوان واقعاً، فإنه لم يعلم كذبه إلاّ كذلك[5]، واحتمال كون كل منهما كاذباً، لم يكن[6] واحد منهما بحجة في خصوص

----------------------------------

إنا قد نقول: إنّ الخبر حجة من باب الطريقية، وقد نقول: إنه حجة من باب السببيّة.

القاعدة الأولية بناءً على الطريقيّة

1- أما بناءً على الطريقيّة، فنقول: إن مقتضى القاعدة الأولية هي تساقطهما؛ إذ نعلم إجمالاً بعدم مطابقة أحدهما للواقع، فلا يكون طريقاً إلى الواقع. وحيث لا نتمكن من تشخيص الخبر المطابق للواقع عن الخبر غير المطابق للواقع، يسقط كلاهما عن الحجيّة.

نعم، الأمور المشتركة بين الخبرين يكون حجة؛ وذلك لأنا نعلم بأن الخبر المطابق للواقع قد دلّ على ذلك الأمر، مثلاً: (الاحتمال الثالث) حيث اتفق الخبران على نفيه، فإنه نعلم بأن الخبر المطابق للواقع - أيّاً كان - قد نفى هذا الثالث.

[1] بحسب الواقع؛ وذلك لأنا نعلم بكذب أحدهما فقط فلا يشمله دليل الحجية، أما أحدهما الآخر فيحتمل صدقه فيدخل تحت أدلة الحجية.

[2] أي: لا يوجب التعارض، «العلم بكذب أحدهما» إذ لا يعقل أن يكون كلاهما طريقاً إلى الواقع بعد تنافيهما؛ لأن الواقع واحد لا تعدد فيه.

[3] لدخوله تحت أدلة الحجيّة.

[4] «أنه» للشأن، أي: كان الآخر الداخل تحت أدلة الحجية غير معلوم لنا، فيكون المورد من اختلاط الصدق بالكذب مع عدم التمييز بينهما.

[5] أي: بلا تعيين.

[6] جواب قوله: (حيث كان بلا تعيين).

ص: 232

مؤدّاه[1]، لعدم التعيّن في الحجة[2] أصلاً، كما لا يخفى.

نعم، يكون نفي الثالث[3] بأحدهما، لبقائه على الحجية[4]، وصلاحيته[5] - على ما هو عليه من عدم التعين - لذلك، لا بهما[6].

هذا بناءً على حجية الأمارات من باب الطريقية - كما هو كذلك[7] -، حيث لا يكاد يكون حجة طريقاً إلاّ ما احتمل إصابته[8]، فلا محالة كان العلم بكذب أحدهما

----------------------------------

[1] أي: ما دلّ عليه من دون دلالة الآخر، وبتعبير آخر: ما اختص كل واحد منهما بدلالته.

[2] فيكون من اختلاط الحجة بغير الحجة مع عدم التمييز، وحكم العقل وبناء العقلاء بالتساقط.

[3] لاشتراك كلا الخبرين في نفيه، فنحن نعلم بأن الخبر الحجة المطابق للواقع قد نفى هذا الثالث. مثلاً: لو دل أحد الخبرين على الوجوب، والآخر على الحرمة، فإن كلا الخبرين ينفيان الاستحباب. فالوجه في نفي حجية هذا الثالث ليس هو دلالة كلا الخبرين؛ لأن غير الحجة لا يمكنه نفي الثالث؛ لعدم حجيته، بل سبب نفي الثالث هو أن الخبر الذي هو حجة - وإن كنّا لا نعلمه على التعيين - قد نفى هذا الثالث.

[4] أي: لشمول أدلة الحجية له واقعاً، وإن لم نكن نعلمه نحن إثباتاً.

[5] أي: صلاحية أحدهما الذي هو حجة واقعاً، «على ما هو عليه» أي: مع الكيفية التي ذلك الخبر الحجة عليها، وبيّنه بقوله: «من عدم التعيين»، «لذلك» أي: لنفي الثالث.

[6] أي: نفي الثالث ليس بكلا الخبرين؛ لأن أحدهما ليس بحجة قطعاً.

[7] كما مرّ مفصلاً من أن الأمارات كاشفة عن الواقع، وليست سبباً لإيجاد مصلحة سلوكية في الطريق.

[8] للواقع، فيكون كاشفاً عن الواقع، فيجعله الشارع طريقاً.

ص: 233

مانعاً عن حجيته[1].

وأما[2] بناءً على حجيتها من باب السببية فكذلك[3] لو كان الحجة[4] هو خصوص

----------------------------------

[1] للقطع بأنه ليس بطريق للواقع.

القاعدة الأولية بناءً على السببية

[2] إن المبنى في السببيّة أحد أمرين:

المبنى الأول: حصول المصلحة السلوكية إذا لم يعلم بكذب الخبر، وأما مع العلم بكذبه فلا مصلحة سلوكية. فعلى هذا المبنى لا يكون الحجة إلاّ أحدهما، وحيث إنه غير معيّن فيتساقطان - بنفس ما قلناه على مبنى الطريقيّة - .

ووجه هذا المبنى - أي: السببية إنما هي مع عدم العلم بكذب الخبر - هو أن الخبر يتركب من أمور ثلاثة:

1- 2- الدلالة، وجهة الصدور - أي: عدم التقية والهزل والسهو... - ومدرك حجيتهما بناء العقلاء، وهم إنما يحكمون بحجية الدلالة وجهة الصدور في ما لو لم يعلموا بالكذب.

3- الصدور - أي: السند - ومدرك حجيته: إمّا بناء العقلاء، فكالسابق حيث لا يحكمون بحجية سندٍ علموا بكذبه، وإما الآيات والروايات الدالة على حجية خبر الواحد، وظاهرها هو حجية الخبر مع الظن أو الاطمئنان بصدقه، فلا دلالة لها على حجية خبر عُلم بكذبة.

المبنى الثاني: حصول المصلحة السلوكية حتى مع العلم بالكذب، وسيأتي توضيحه.

[3] أي: كالطريقية، لا حجية لما كان غير مطابق للواقع، وحيث لا تمييز فيتساقطان.

[4] إشارة إلى المبنى الأول.

ص: 234

ما لم يعلم كذبه، بأن لا يكون المقتضي للسببية فيها[1] إلاّ فيه، كما هو[2] المتيقن من دليل اعتبار غير السند منها، وهو بناء العقلاء على أصالتي الظهور والصدور، لا للتقية ونحوها[3]؛ وكذا السند[4] لو كان دليل اعتباره هو بناؤهم أيضاً، وظهوره فيه[5] لو كان هو الآيات والأخبار، ضرورة ظهورها فيه لو لم نقل بظهورها في خصوص[6] ما إذا حصل الظن منه أو الاطمئنان.

وأما لو كان[7]

----------------------------------

[1] «فيها» في الأمارات، «إلاّ فيه» أي: ما لم يعلم كذبه.

[2] شروع في مدرك الحجية في الدلالة وجهة الصدور والسند، مع بيان أن مدرك الحجية فيها لا يكون في ما عُلِم كذبه، «هو» أي: حجية ما لم يعلم كذبه.

[3] كالهزل والسهو والغفلة والغلط ونحوها.

[4] أي: المتيقن من دليل حجية السند هو ما لم يُعلم بكذبه.

[5] أي: ظهور دليل الاعتبار، «فيه» في ما لم يعلم بكذبه، «لو كان هو» أي: دليل الاعتبار، «ظهورها» الآيات والأخبار، «فيه» في ما لم يعلم كذبه.

[6] أي: في حجية خصوص الخبر الذي حصل منه الظن بالواقع أو الاطمئنان به.

[7] شروع في البحث على المبنى الثاني في السببيّة، فهنا صورتان:

الصورة الأولى: أن يكون مؤدّى كلا الخبرين حكماً إلزامياً كالوجوب والحرمة، فهنا توجد لكلا الحكمين مصلحة سلوكية، وحيث لا يتمكن المكلّف من الجمع بين المصلحتين حصل التزاحم بينهما، فيتخيّر.

الصورة الثانية: أن يكون مؤدّى أحد الخبرين حكماً إلزامياً، ومؤدّى الآخر حكماً غير إلزامي، كالوجوب والاستحباب، فهنا احتمالان:

1- أن يرجح الإلزامي؛ لأن غير الإلزامي حيث إنه (لا اقتضائي) لا يزاحم الإلزامي الذي هو (اقتضائي).

ص: 235

المقتضي للحجية[1] في كل واحد من المتعارضين لكان التعارض[2] بينهما من تزاحم الواجبين[3] في ما إذا كانا مؤديين إلى وجوب الضدين[4] أو لزوم المتناقضين[5]، لا[6] في ما إذا كان مؤدى أحدهما حكماً غير إلزامي[7]،

----------------------------------

نظير ما لو دعا مؤمنٌ لأكل الحرام، فإن إجابة دعوة المؤمن مستحبة - وهو حكم لا اقتضائي - فلا ترتفع بها حرمة أكل الحرام - وهو اقتضائي - .

2- أن يرجح غير الإلزامي؛ وذلك لأن الحكم غير الإلزامي معتبر - لفرض وجود المصلحة السلوكية فيه - فيزاحم الحكم الإلزامي، ويرجح عليه؛ لأن مصلحة الحكم الإلزامي لم تكن بحدّ العلة التامة للإلزام - وإلاّ لم يكن لغير الإلزامي مصلحة أصلاً - وحيث لم تكن مصلحة الإلزامي علة تامة فلا تؤثر أثرها، فيمكن الحكم بخلافها.

[1] بأن قلنا بشمول أدلة الحجية - وذلك بإيجاد المصلحة السلوكية - لكلا الخبرين، حتى مع العلم بكذب أحدهما.

[2] بيان للصورة الأولى.

[3] وذلك لوجود المصلحة السلوكية في كليهما.

[4] كوجوب الصلاة في آخر الوقت - مع تضيقها - ووجوب إزالة النجاسة عن المسجد فوراً. والحكم هنا ترجيح الأهم، وإلاّ فالتخيير - كما سيأتي - .

[5] كما لو دل أحدهما على وجوب إنقاذ هذا الغريق، والآخر على وجوب عدم إنقاذه.

وهنا شق آخر، وهو ما إذا كانا مؤديين إلى لزوم الضدين، كوجوب شيء وحرمته.

[6] بيان للصورة الثانية.

[7] مع كون الآخر إلزامياً، كدلالة أحدهما على حرمة (العصير العنبي إذا غلى)، ودلالة الآخر على عدم حرمته.

ص: 236

فإنه حينئذٍ[1] لا يزاحم الآخر، ضرورة[2] عدم صلاحية ما لا اقتضاء فيه أن يزاحم به ما فيه الاقتضاء.

إلاّ أن يقال[3]: بأن قضية اعتبار[4] دليل الغير الإلزامي(1)

أن يكون عن اقتضاء، فيُزاحم به[5] حينئذٍ ما يقتضي الإلزامي، ويحكم فعلاً[6] بغير الإلزامي، ولا يزاحم[7]

----------------------------------

[1] هذا هو الاحتمال الأول - وهو ترجيح الإلزامي - «فإنه» أي: فإن غير الإلزامي، «الآخر» وهو الإلزامي، «حينئذٍ» أي: حين كون أحدهما إلزامياً والآخر غير إلزامي.

[2] قيل في وجه ذلك: إن الإلزامي ناشئ ٍ من وجود المقتضي، بخلاف غير الإلزامي، فإنه ليس فيه المقتضي، بل يكفي فيه عدم تحقق مقتضي الإلزام.

[3] هذا هو الاحتمال الثاني - وهو ترجيح غير الإلزامي - : وذلك لأن الحكم غير الإلزامي أيضاً فيه المصلحة السلوكية، التي نشأت من قيام الأمارة، فتحقق التزاحم بين الملاكين، ولكن ملاك الإلزامي لا يؤثر لوجود المانع عنه - وهو الحكم غير الإلزامي - .

[4] أي: حجية دليله مع وجود المصلحة السلوكية فيه، «عن اقتضاء» أي: وجود الملاك - وهو المصلحة السلوكية - .

[5] بصيغة المجهول، أي: يزاحم باقتضاء غير الإلزامي، «حينئذٍ» حين وجود هذا الاقتضاء. وبعبارة أخرى: التزاحم قبل مرحلة الفعلية فقط، وأما في مرحلة الفعلية فالحكم لغير الإلزامي فقط.

[6] أي: غير الإلزامي يصير فعلياً دون الإلزامي، فيبقى في مرحلة الاقتضاء دون الوصول إلى الفعليّة.

[7] أي: في مرحلة الفعلية، «بمقتضاه» أي: بمقتضى الإلزامي.

ص: 237


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير الإلزامي».

بمقتضاه ما يقتضي الغير الإلزامي(1)،

لكفاية عدم تمامية علة الإلزامي[1] في الحكم بغيره.

نعم[2]، يكون باب التعارض من باب التزاحم مطلقاً[3] لو كان قضية الاعتبار[4] هو لزوم البناء والالتزام بما يؤدي إليه[5] من الأحكام، لا مجرد العمل على وفقه بلا لزوم الالتزام به.

وكونهما[6] من تزاحم الواجبين حينئذٍ وإن كان واضحاً، ضرورة[7] عدم إمكان

----------------------------------

[1] وذلك لوجود المانع - وهو ملاك غير الإلزامي - «بغيره» أي: بغير الإلزامي.

[2] ذكرنا احتمالين بناءً على الحجية على السببيّة، أحدهما هو ترجيح الإلزامي على غير الإلزامي، والآخر العكس.

وهنا يذكر المصنف: إنه بناءً على وجوب الموافقة الالتزامية لا ترجيح لأحدهما على الآخر، بل يبقى الحكمان - الإلزامي وغير إلزامي - متعارضين؛ إذ كما يجب الالتزام بالأحكام الإلزامية كذلك يجب الالتزام بالأحكام غير الإلزامية أيضاً.

[3] أي: سواء كان كلا الحكمين إلزامياً أم كان أحدهما غير إلزامي.

[4] أي: مقتضى حجية الخبر هو الالتزام القلبي بذلك الحكم مضافاً إلى الموافقة العملية.

[5] أي: بما يؤدي الخبر، «إليه» الضمير للموصول، «من الأحكام» بيان للموصول في «بما يُؤدي».

[6] أي: كون الخبرين - بناءً على السببية مع وجود المصلحة السلوكية في كليهما - «حينئذٍ» حين وجوب الموافقة الالتزامية.

[7] بيان التزاحم، أي: لما كان كلاهما معتبراً فيجب الالتزام بهما معاً، لكن لا يتمكن المكلّف من الالتزام بحكمين متنافيين في موضوع واحد.

ص: 238


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير الإلزامي».

الالتزام بحكمين في موضوع واحد من الأحكام، إلاّ[1] أنه لا دليل نقلاً ولا عقلاً على الموافقة الالتزامية للأحكام الواقعية فضلاً عن الظاهرية، كما مر تحقيقه.

وحكم التعارض[2] بناءً على السببية في ما كان من باب التزاحم هو التخيير لو لم يكن أحدهما معلوم الأهمية أو محتملها في الجملة، حسبما فصلناه في مسألة الضد[3]، وإلاّ[4] فالتعيين. وفي ما لم يكن من باب التزاحم[5] هو لزوم[6] الأخذ

----------------------------------

[1] شروع في رد هذا الوجه الذي ذكر بقوله: (نعم، يكون... الخ).

حكم التزاحم

[2] أي: بعد تحقق التزاحم في بعض صور التعارض بناءً على السببيّة فإن التكليف هو ترجيح الأهم، أو محتمل الأهمية، وإلاّ فيكون مخيّراً، وهذا هو الوظيفة في كل متزاحمين.

[3] لم يذكر هذا البحث في مسألة الضد، بل ذكره في مسألة الدوران بين المحذورين مختصراً.

وقال المصنف في حاشية الرسائل: ولو كان احتمال الأهمية ناشئاً من أشدية المناط وآكديته فالظاهر استقلال العقل بالاشتغال وعدم الفراغ عن العهدة على سبيل الجزم إلاّ بإتيان ما فيه الاحتمال، حيث إن التكليف به في الجملة ثابت قطعاً، وإنما الشك في تعيينه هل هو على سبيل التخيير أو التعيين(1)، انتهى بتصرف.

[4] أي: إن كان أحدهما معلوم الأهمية أو محتملها.

[5] هذا تكرار لما ذكره المصنف في قوله: (لا في ما إذا كان مؤدى أحدهما حكماً... الخ).

[6] حاصله: إنه لو تعارض الحكم الإلزامي مع غير الإلزامي فالترجيح للإلزامي؛ لأنه اقتضائي - وهذا هو الاحتمال الأول كما مرّ - .

ص: 239


1- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 450.

بما دل على الحكم الإلزامي لو لم يكن[1] في الآخر مقتضياً لغير الإلزامي، وإلاّ فلا بأس بأخذه والعمل عليه، لما أشرنا إليه من وجهه آنفاً، فافهم[2].

هذا[3] هو قضية القاعدة في تعارض الأمارات، لا الجمع بينها[4] بالتصرف في أحد المتعارضين أو في كليهما، كما هو[5] قضية ما يتراءى مما قيل(1)

من «أن الجمع

----------------------------------

[1] إشارة إلى الاحتمال الثاني، وحاصله: إن الحكم الآخر أيضاً له اقتضاء للحكم غير الإلزامي، حيث توجد المصلحة السلوكية فيه أيضاً، «وإلاّ» أي: لو كان الآخر فيه اقتضاء الحكم غير الإلزامي.

[2] لعله إشارة إلى أن الاحتمال الثاني كان وجوب ترجيح الحكم غير الإلزامي لا جوازه، فلا معنى لقوله: (فلا بأس بأخذه).

أو إشارة إلى أن غير الإلزامي إما لضعف الاقتضاء كما في الاستحباب، أو لعدم الاقتضاء كالإباحة، فيكون الإلزامي هو المرجح لقوة اقتضائه أو لغير ذلك.

[3] أي: التساقط على الطريقيّة، والصورة الأولى من السببيّة، والتزاحم في بعض صور السببيّة، وسائر ما ذكرناه من التفاصيل.

قاعدة الجمع مهما أمكن أولى من الطرح
اشارة

[4] بين الأدلة المتعارضة؛ وذلك لأنه يرد على قاعدة (الجمع مهما أمكن...) ثلاثة إشكالات:

الأول: إنه لا دليل عليها، إلاّ إذا كان الجمع عرفياً.

الثاني: إن الجمع بالتصرف في أحدهما طرح لظهوره، وبالتصرف في كليهما طرح لظهورهما، إذن وقعنا في (الطرح) الذي فررنا منه.

الثالث: إن الدليل يدل على التساقط في الجملة - حسب القاعدة - فما هو الوجه في الإعراض عن الدليل الدال على التساقط إلى الجمع بينهما؟

[5] أي: الجمع بينهما مهما أمكن.

ص: 240


1- عوالي اللئالي 4: 136.

مهما أمكن أولى من الطرح»، إذ لا دليل عليه[1] في ما لا يساعد عليه العرف مما كان[2] المجموع أو أحدهما قرينة عرفية على التصرف في أحدهما بعينه أو فيهما، كما عرفته في الصور السابقة؛ مع[3] أن في الجمع كذلك أيضاً طرحاً للأمارة أو الأمارتين، ضرورة سقوط أصالة الظهور في أحدهما[4] أو كليهما معه.

وقد عرفت[5] أن التعارض بين الظهورين في ما كان سنداهما قطعيين[6]، وفي السندين إذا كانا ظنيين. وقد عرفت أن قضية التعارض إنما هو سقوط المتعارضين في خصوص كل ما يؤديان إليه من الحكمين[7]،

----------------------------------

[1] هذا هو الإشكال الأول، «عليه» على هذا الجمع.

[2] هذا بيان للمنفي لا للنفي، والمعنى: إذ لا دليل على الجمع إذا لم يساعد عليه العرف، والذي يساعد عليه العرف هو لو كان المجموع أو أحدهما... الخ.

[3] إشارة إلى الإشكال الثاني، «كذلك» بلا مساعدة العرف عليه.

[4] إذا تصرفنا في أحدهما، «أو كليهما» إذا تصرفنا فيهما، «معه» مع هذا الجمع الذي لا يساعد عليه العرف.

[5] إشارة إلى الإشكال الثالث.

[6] إذ لا يعقل التعارض في السند في ما علم صدوره من الشارع؛ لأن معنى التعارض فيه هو عدم صدور أحدهما وكذبه، ولا يخفى أن المصنف لم يذكر هذا التعارض سابقاً.

وغرض المصنف من ذكر هذا المقطع هو دفع توهم عدم إمكان التعارض بين ما عُلم صدوره من الشارع، وبيان أن التعارض لا ينحصر في تكاذب السندين، بل يمكن تعارض الظهورين في مقطوعي السند أيضاً.

[7] أي: الحكم المختص في كل واحد منهما، أما الحكم المشترك بينهما فهو معلوم، ودل عليه الحجة منها - كما مرّ في أوائل هذا الفصل - .

ص: 241

لا بقاؤهما[1] على الحجية بما يتصرف فيهما أو في أحدهما، أو بقاء[2] سنديهما عليها كذلك بلا دليل[3] يساعد عليه من عقل أو نقل.

فلا يبعد[4] أن يكون المراد، من إمكان الجمع هو إمكانه عرفاً. ولا ينافيه[5] الحكم بأنه أولى مع لزومه حينئذٍ وتعيّنه، فإن أولويته[6]،

----------------------------------

[1] في صورة قطعية السند، «بقاؤهما» أي: المتعارضين، «بما» الباء سببيّة، و(ما) مصدرية، أي: البقاء على الحجية بسبب التصرف فيها أو في أحدهما.

[2] في صورة ظنيّة السند، «عليها» على الحجية، «كذلك» أي: بالتصرف فيهما أو في أحدهما.

[3] يوجب رفع اليد عن مقتضى القاعدة الأولية - وهي التساقط - .

توجيه القاعدة

[4] أي: لعل مرادهم هو الجمع مهما أمكن عرفاً، بأن كان أحدهما أظهر من الآخر أو كان نصاً.

[5] أي: لا ينافي هذا التوجيه كلمة (أولى) في قولهم: (الجمع مهما أمكن أولى من الطرح)، حيث يتوهم الأفضلية، مع أن الجمع العرفي لازم وليس أفضل فقط، «لزومه» أي: الجمع، «حينئذٍ» حين كونه عرفياً، «وتعيّنه» أي: الجمع العرفي، وهذا عطف تفسيري على «لزومه».

[6] هذا جواب عن التوهم، وحاصله: إن (الأولوية) قد تستعمل بمعنى الأفضلية - وهذا غير مراد هنا - وقد تستعمل بمعنى اللزوم، كقوله تعالى: {وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِۚ}(1)، فإن الأقرب إلى الميت يمنع الأبعد عن الإرث، وكذلك الإمرة متعينة في أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لأنه أقرب إلى الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، ومع ذلك قال تعالى: (أولى).

ص: 242


1- سورة الأنفال، الآية: 75.

من قبيل الأولوية في أولي الأرحام، وعليه[1] لا إشكال فيه ولا كلام.

فصل: لا يخفى: أن ما ذكر[2] من قضية التعارض بين الأمارات إنما هو بملاحظة القاعدة في تعارضها، وإلاّ [3] فربما يدعى الإجماع على عدم سقوط كلا المتعارضين في الأخبار، كما اتفقت[4] عليه كلمة غير واحد من الأخبار.

ولا يخفى[5]:

----------------------------------

[1] أي: بناءً على هذا التوجيه، بكون المراد (الجمع العرفي).

فصل الأصل الثانوي (النقلي) في المتعارضين

فصل الأصل الثانوي (النقلي) في المتعارضين

اشارة

[2] أي: التساقط في الجملة، «القاعدة» أي: القاعدة الأولية العقلية، «تعارضها» الأمارات.

البحث الأول: دليل عدم التساقط

[3] أي: وإن لم نلاحظ القاعدة الأولية، وإنما لاحظنا الأدلة الشرعية، فنجد دليلين يدلان على عدم التساقط، بل لزوم العمل بأحدهما:

1- الإجماع على عدم سقوط كلا الخبرين.

2- الأخبار العلاجية المستفيضة.

[4] إشارة إلى الدليل الثاني، «عليه» عدم سقوطهما، «الأخبار» وهي الأخبار العلاجية، حيث اتفقت تلك الأخبار على لزوم العمل بأحدهما. نعم، تلك الأخبار اختلفت في التفاصيل - من التخيير أو الترجيح ونحو ذلك - .

البحث الثاني: في التخيير أو الترجيح

[5] بعد دلالة الإجماع والأخبار على لزوم العمل بأحدهما فهل يجب الترجيح بإعمال المرجحات المنصوصة أو الأعم من المنصوصة وغير المنصوصة، أم المكلّف

ص: 243

أن اللازم[1] في ما إذا لم تنهض حجة[2] على التعيين أو التخيير بينهما هو الاقتصار على الراجح منهما، للقطع بحجيته[3] تخييراً أو تعييناً، بخلاف الآخر، لعدم القطع

----------------------------------

مخيّر بين الخبرين؟

يدل على لزوم الترجيح ثلاثة وجوه:

الأول: القاعدة العقلية في دوران الأمر بين التعيين والتخيير، حيث إن المعيّن - وهو ذو المزية - حجة قطعاً، سواء قلنا بانحصار الحجيّة فيه أم قلنا إنّ كليهما حجة، ولكن فاقد المزية مشكوك الحجية، ومقتضى الأصل هو عدم الحجيّة إلاّ ما قطعنا بحجيّته.

الثاني: الإجماع على حجية خصوص الراجح.

الثالث: الأخبار الدالة على الترجيح.

والمصنف لا يرتضي هذه الوجوه.

أما الأول: فلأن أصالة التعيين إنما تجري لو لم يكن دليل نقلي على التخيير، وقد وردت روايات معتبرة في التخيير كما سيأتي.

وأما الثاني: فالإجماع موهون بمخالفة جمع من الأعلام ومصيرهم إلى التخيير دون الترجيح.

وأما الثالث: فللزوم العمل بأخبار التخيير، وأما أخبار الترجيح فلا يمكنها تقييد إطلاق أخبار التخيير - لما سيأتي - .

[1] إشارة إلى الدليل الأول.

[2] لأن أصالة التعيين هي أصل عملي، فلا تجري مع وجود الدليل النقلي على التخيير - مثلاً - وضميرا «بينهما» و«منهما» يرجعان إلى الخبرين المتعارضين.

[3] أي: الراجح - وهو ذو المزية - حجة على كل حال سواء قلنا بالتعيين فهو الحجة لا غير، أم قلنا بالتخيير فهو حجة مع مشاركته للآخر في الحجية، «حجيته» أي: الراجح، «الآخر» أي: غير الراجح - الذي لا مزية فيه - .

ص: 244

بحجيته[1]، والأصل عدم حجية ما لم يقطع بحجيته[2]، بل ربما[3] ادعي الإجماع أيضاً على حجية خصوص الراجح.

واستدل عليه بوجوه أخر، أحسنها الأخبار[4].

وهي[5] على طوائف:

----------------------------------

[1] بل نحتمل حجيته، فإنه لو كان الحكم هو التخيير لكان غير الراجح حجة، ولكن لو كان الحكم هو تعيين الراجح لم يكن غير الراجح حجة، فصارت حجيته مشكوكة.

[2] لأن - وكما مرّ - الشك في الحجية مسرح عدم الحجية، أو موضوع عدم الحجيّة.

[3] إشارة إلى الدليل الثاني.

[4] الدالة على ترجيح ذي المزية، وهذا إشارة إلى الدليل الثالث.

وقد ذكر الشيخ الأعظم(1)

وجوه أخرى، منها: أنه لو لا الترجيح لاختل نظم الاجتهاد، بل نظام الفقه... الخ، فراجع الرسائل، لكنه أشكل عليها، وقد أعرض المصنف عنها لوهنها.

البحث الثالث: الأخبار العلاجيّة
اشارة

[5] أي: الأخبار العلاجية على أربع طوائف، وما دل على الترجيح هو الطائفة الرابعة فقط، وهي:

1- أخبار التخيير ابتداءً من غير إعمال المرجحات.

2- ما دلّ على التوقف.

3- ما دلّ على الأخذ بالخبر المطابق للاحتياط.

4- أخبار الترجيح بمرجحات خاصة.

ص: 245


1- فرائد الأصول 4: 48.

منها: ما دل على التخيير على الإطلاق[1].

كخبر الحسن بن الجهم عن الرضا عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ[2]: قلت: يجيئنا الرجلان - وكلاهما ثقة - بحديثين مختلفين، ولا يعلم أيهما الحق؟ قال: «فإذا لم يعلم فموسع عليك بأيهما أخذت»(1).

وخبر الحارث بن المغيرة عن أبي عبدالله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ[3]، «إذا سمعت من أصحابك الحديث

----------------------------------

1- أخبار التخيير

[1] أي: سواء كان أحد الخبرين أرجح أم لا، وعليه فلابد من حمل أخبار الترجيح على الاستحباب - كما سيأتي - .

[2] صدر الحديث: قلت له - أي للرضا عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ - تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة؟ فقال: ما جاءك عنّا فقس على كتاب الله عزوجل وأحاديثنا، فإن كان يشبههما فهو منا، وإن لم يكن يشبههما فليس منا، قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة... الخ.

إن قلت: هذا الخبر يدل على أن التخيير بعد فقد المرجح - الذي هو موافقة الكتاب هنا - .

قلت: سيأتي بعد قليل أن المصنف يرى أن موافقة الكتاب إنما هي لتمييز الحجة عن اللاحجة، وليس للترجيح بين الخبرين المتعارضين.

[3] دلالة هذا الخبر على التخيير واضحة، حيث إن المراد هو تعارض أخبار الثقات؛ إذ لو لم يكن تعارض وجب الأخذ بها، ولم يكن المكلف في سعة، فقوله: (فموسع عليك) دليل على أن الأخبار متعارضة بحيث لا يمكن العمل بجميعها، فحينئذٍ يكون المكلف موسعاً عليه.

وهذا حكم ظاهري، ومن المعلوم أنه مع لقاء الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ينتهي أمد الحكم الظاهري، حيث يمكن تحصيل العلم بالحكم الواقعي، وذلك عن طريق السؤال عنه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

ص: 246


1- وسائل الشيعة 27: 121،مع اختلاف يسير.

وكلهم ثقة، فموسع عليك حتى ترى القائم[1] فترد عليه»(1).

ومكاتبة عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في ركعتي الفجر[2]، فروى بعضهم: صل في المحمل، وروى بعضهم: لا تصلّها إلاّ في الأرض، فوقع عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «موسع عليك بأية عملت»(2).

ومكاتبة الحميري إلى الحجة عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ[3] ... إلى أن قال في الجواب عن ذلك حديثان... إلى أن قال عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «وبأيهما أخذت من باب التسليم كان صواباً»(3).

----------------------------------

[1] أي: القائم بأمر الإمامة، وفي زمان الراوي كان الإمام صادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، وفي زماننا الإمام المهدي.

[2] أي: نافلة الصبح، فهل على المسافر أن ينزل من المحمل ويصليهما على الأرض، أم يجوز له الصلاة على المحمل في حال السير؟

وأما تعارض الخبرين فهو دلالة الأول على عدم اشتراط الاستقرار، بل جواز الصلاة في حال السير، بل على عدم اشتراط القبلة وكفاية الركوع والسجود إيماءً، ودلالة الثاني على اشتراط الاستقرار والقبلة... الخ.

[3] نص الحديث: مكاتبة محمد بن عبدالله بن جعفر الحميري إلى صاحب الزمان عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (يسألني بعض الفقهاء عن المصلّي إذا قام من التشهد الأول إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه أن يكبّر؟ فإن بعض أصحابنا قال: لا يجب عليه التكبير، ويجزيه أن يقول: بحول الله وقوته أقوم وأقعد، فكتب عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في الجواب: إن فيه حديثين أما أحدهما: فإنه إذا انتقل من حالة أخرى فعليه التكبير، وأما الآخر، فإنه روي: أنه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية فكبّر ثم جلس ثم قام فليس عليه في

ص: 247


1- وسائل الشيعة 27: 122.
2- وسائل الشيعة 27: 122.
3- وسائل الشيعة 27: 121.

إلى غير ذلك من الإطلاقات[1].

ومنها: ما دل على التوقف مطلقاً[2].

ومنها: ما دل على الأخذ بما هو الحائط منها[3].

----------------------------------

القيام بعد القعود تكبير، وكذلك التشهد الأول يجري هذا المجرى، وبأيهما أخذت من جهة التسليم كان صواباً)(1).

[1] كالذي رواه سماعة عن أبي عبدالله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: (سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه، أحدهما يأمر بأخذه، والآخر ينهاه عنه، كيف يصنع؟

قال عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: يُرجئه حتى يلقى من يخبره، فهو في سعة حتى يلقاه)(2).

ودلالة الحديث واضحة، فإنه مخيّر إلى أن يلقى الإمام فيسأله عن الحكم الواقعي، وقال الكليني:وفي رواية أخرى: (بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك)(3).

2- ما دل على التوقف

[2] «مطلقاً» أي: سواء كان أحدهما أرجح أم تساويا.

ومنها: قال: (كتبت إلى أبي الحسن عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أسأله عن العلم المنقول إلينا من أبائك وأجدادك صلوات الله عليهم، قد اختلف علينا فيه، فكيف العمل به على اختلافه، والرد إليك في ما اختلف فيه؟ فكتب عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ما علمتم أنه قولنا فالزموه، وما لم تعلموه فردوده إلينا)(4).

3- ما دلّ على الاحتياط

[3] لم نجد في أخبار المتعارضين ما يدل على الاحتياط، إلاّ مرفوعة زرارة

ص: 248


1- الاحتجاج 2: 483.
2- الكافي 1: 66.
3- الكافي 1: 66.
4- الفصول المهمة في أصول الأئمة 1: 614.

ومنها: ما دل على الترجيح[1] بمزايا مخصوصة ومرجحات منصوصة[2] من

----------------------------------

الآتية، والأمر بالاحتياط فيها إنما هو بعد فقد المرجحات.

فالظاهر أن مراد المصنف - على ما قيل - هو الأخبار الدالة على الاحتياط في مطلق الشبهات، ومن مصاديق مطلق الشبهات: الخبران المتعارضان، فتأمل.

4- أخبار الترجيح

[1] الأخبار الدالة على الترجيح كثيرة، وقد ذكر فيها مرجحات مخصوصة، وهذه الأخبار مختلفة، ففي بعضها ذكر مرجح واحد، وفي بعضها مرجحين أو أكثر، ثم هي مختلفة في ترتيب المرجحات، ولذا لابد من رفع التعارض بين هذه الأخبار أولاً.

وقد حاول العلماء رفع هذا التعارض، وكلٌ سلك مسلكاً:

أ: فالمصنف: رجح أخبار التخيير، وحمل الترجيح على الاستحباب، لكنه لم يعتبر موافقة الكتاب ومخالفة القوم من المرجحات، بل من تمييز الحجة عن اللاحجة - كما سيأتي - .

ب: والمشهور هو وجوب الترجيح، واختلفت أنظار هؤلاء: فمنهم: من اكتفى بالمرجحات المنصوصة فقط.

ومنهم: من استفاد العلة من بعض فقرات هذه الأخبار، أو استنبط الملاك، فذهب إلى الترجيح بكل مرجح يوجب أقربية الخبر إلى الواقع، كما صار إليه الشيخ الأعظم(1).

وبعضهم: ذهب إلى الترجيح بكل مرجح يوجب الظن بالواقع، كما صار إليه صاحب القوانين.

[2] عطف تفسيري، وبعض هذه المرجحات تتعلق بنفس الخبر كمخالفة القوم،

ص: 249


1- فرائد الأصول 4: 73.

مخالفة القوم، وموافقة الكتاب والسنة، والأعدلية والأصدقية والأفقهية والأورعية والأوثقية، والشهرة، على اختلافها[1] في الاقتصار على بعضها[2] وفي الترتيب بينها[3].

ولأجل اختلاف الأخبار اختلفت الأنظار.

فمنهم من أوجب الترجيح بها[4] مقيدين بأخباره إطلاقات التخيير. وهم[5] بين من اقتصر على الترجيح بها ومن تعدى منها إلى سائر المزايا الموجبة لأقوائية ذي المزية وأقربيته[6] - كما صار إليه شيخنا العلامة أعلى الله مقامه(1)،

أو المفيدة

----------------------------------

وموافقة الكتاب، والشهرة، وبعضها تتعلق بالراوي كالأعدلية ونحوها.

[1] أي: اختلاف هذه الأخبار العلاجيّة.

[2] أي: بعض المرجحات مع عدم ذكر سائر المرجحات الموجودة في الأخبار الأخرى.

[3] أي: وعلى اختلافها في الترتيب بين المرجحات، مثلاً: في المقبولة تقدم الترجيح بالشهرة على مخالفة القوم، وفي المرفوعة بالعكس.

وكذلك الترجيح بصفات الراوي والشهرة، حيث تقدمت الصفات على الشهرة في المقبولة، عكس المرفوعة.

[4] أي: بهذه المرجحات المنصوصة، «أخباره» أي: أخبار الترجيح، والمعنى: إنهم حملوا أخبار التخيير على صورة فقد المرجحات؛ وذلك لأن أخبار التخيير مطلقة - أي سواء وُجد مرجح أم لا - وأما أخبار الترجيح فهي أخص، وبذلك يتم العمل بكليهما عبر تقييد أخبار التخيير بأخبار الترجيح.

[5] أي: القائلون بوجوب الترجيح، «بها» أي: بالمرجحات المنصوصة فقط، «ومن» أي: وبين من، «منها» من المنصوصة.

[6] أي: إلى الواقع، والعطف تفسيري لبيان معنى الأقوائية.

ص: 250


1- فرائد الأصول 4: 75 - 78.

للظن[1] كما ربما يظهر من غيره.

فالتحقيق أن يقال[2]:

----------------------------------

[1] أي: تعدّى إلى سائر المزايا الموجبة للظن، والفرق أن (الموجبة للأقوائية) هي موجبة للظن النوعي حيث قوة الدلالة، سواء أورث الظن الشخصي أم لا، و(المفيدة للظن) أي: الظن الشخصي.

البحث الرابع: المقبولة والمرفوعة
اشارة

[2] حاصله: إن أهم الأخبار العلاجية هي مقبولة عمر بن حنظلة المروية في الكافي والفقيه والتهذيب، ومرفوعة زرارة التي رواها ابن أبي جمهور الأحسائي.

فلا بأس بنقل نص الروايتين أولاً، ثم بيان الإشكال على الاستدلال بهما:

أما المقبولة، فعن عمر بن حنظلة قال: (سألت أبا عبدالله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة، أيحلّ ذلك؟

قال عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً، وإن كان حقه ثابتاً له؛ لأنه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوٓاْ إِلَى ٱلطَّٰغُوتِ وَقَدۡ أُمِرُوٓاْ أَن يَكۡفُرُواْ بِهِۦۖ}(1).

قلت: فكيف يصنعان؟

قال: ينظران [إلى] من كان منكم ممّن روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حَكَماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخفّ بحكم الله، وعلينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ على الله، وهو على حدّ الشرك بالله.

ص: 251


1- سورة النساء، الآية: 60.

----------------------------------

قلت: فإن كان كلّ رجل اختار رجلاً من أصحابنا، فرضيا أن يكون الناظرين في حقهما، واختلفا في ما حكما، وكلاهما اختلف في حديثكم؟

قال: الحكم ما حَكَم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يُلتفت إلى ما يحكم به الآخر.

قال: قلت: فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا، لا يفضُل واحد منهما على الآخر.

قال: فقال: يُنظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به، المجمع عليه من أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا، ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه، وإنما الأمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فيُتبّع، وأمر بيّن غَيّه فيُجتنب، وأمر مشكل يُردُّ علمه إلى الله ورسوله. قال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: حلال بيّن، وحرام بيّن، وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات، وهلك من حيث لا يعلم.

قال: قلت: فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟

قال: يُنظر، فما وافق حُكمه حكمَ الكتاب والسنة، وخالف العامة فيؤخذ به، ويُترك ما خالف حكمُه حكمَ الكتاب والسنة ووافق العامة.

قلت: جعلت فداك، أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة، ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامة والآخر مخالفاً لهم، بأي الخبرين يؤخذ؟

قال: ما خالف العامة ففيه الرشاد.

فقلت: جعلت فداك، فإن وافقهم الخبران جميعاً؟

قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل حكامهم وقضاتهم فيُترك ويؤخذ بالآخر.

قلت: فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعاً؟

ص: 252

إن أجمع خبر للمزايا المنصوصة في الأخبار هو المقبولة[1]

----------------------------------

قال: إذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى إمامك، فإن الوقوف عند الشبهات خير من الإقتحام في الهلكات)(1).

وأما المرفوعة، فقد ذكر ابن أبي جمهور الأحسائي في عوالي اللئالي: وروى العلامة مرفوعاً إلى زرارة قال: (سألت الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، فقلت: جعلت فداك، يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان، فبأيّهما آخذ؟

فقال عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: يا زرارة، خذ بما اشتهر بين أصحابك ودَع الشاذ النادر.

فقلت: يا سيدي، إنهما معاً مشهوران، مرويان، مأثوران عنكم.

فقال عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: خذ بما يقول أعدلهما عندك، وأوثقهما في نفسك.

فقلت: إنهما معاً عدلان مرضيان موثقان.

فقال: انظر إلى ما وافق منهما مذهب العامة فاتركه، وخذ بما خالفهم، فإن الحق في ما خالفهم.

فقلت: ربما كانا معاً موافقين لهم أو مخالفين، فكيف أصنع؟

فقال: إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك، واترك ما خالف الاحتياط.

فقلت: إنهما معاً موافقين للاحتياط أو مخالفين له، فكيف أصنع؟

فقال عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به، وتدع الآخر)(2).

[1] إنما سميّت مقبولة لأن الأصحاب تلقّوها بالقبول، رغم ما قيل من جهالة الراوي - وهو عمر بن حنظلة - وإن كان الأقوى وثاقته لكونه من مشايخ الثلاثة، وهذا التلقي إنما هو من جهة السند، وأما الدلالة ففيها كلام وخلاف مذكور في المفصلات.

ص: 253


1- الكافي 6: 67؛ تهذيب الأحكام 6: 218؛ الاحتجاج 2: 355.
2- عوالي اللئالي 4: 133.

والمرفوعة[1] مع اختلافهما[2] وضعف سند المرفوعة جداً[3].

والاحتجاج بهما[4] على وجوب الترجيح في مقام الفتوى لا يخلو عن إشكال،

----------------------------------

[1] الخبر المرفوع هو من أنواع الخبر المرسل، واصطلح على ما إذا حذف الراوي كل الوسائط، ونسب الخبر إلى المعصوم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أو الراوي عنه، وهنا نسب العلامة الخبر إلى زرارة من غير ذكر للوسائط.

إشكالات على الاستدلال
الإشكال الأول

[2] هذا هو الإشكال الأول، وحاصله: تعارض نفس الخبرين الواردين لعلاج الأخبار المتعارضة.

فالمقبولة: ذكرت أولاً مرجحات الحكم في القضاء - وهذا خارج عن بحثنا الآن - ثم ذكرت مرجحات الخبر وهي: الشهرة، وموافقة الكتاب والسنة، ومخالفة العامة، ومخالفة ميل حكامهم.

والمرفوعة: لم تذكر موافقة الكتاب والسنة، وذكرت بدلاً عن ذلك الأعدلية والأوثقية، وذكرت موافقة الاحتياط بدلاً عن مخالفة ميل حكامهم.

الإشكال الثاني

[3] قال الشيخ الأعظم: (وقد طعن صاحب الحدائق فيها، وفي كتاب العوالي وصاحبه، فقال: إن الرواية المذكورة لم نقف عليها في غير كتاب العوالي، مع ما عليها من الإرسال، وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه إلى التساهل في نقل الأخبار، والإهمال، وخلط غثّها بسمينها، وصحيحها بسقيمها، كما لا يخفى على من لاحظ الكتاب المذكور)(1)، انتهى.

الإشكال الثالث

[4] الظاهر أن هذا الإشكال خاص بالمقبولة؛ لأن أصل السؤال حول قضية

ص: 254


1- فرائد الأصول 2: 116.

لقوة احتمال[1] اختصاص الترجيح بها بمورد الحكومة لرفع المنازعة وفصل الخصومة[2]، كما هو موردهما[3]، ولا وجه معه[4] للتعدي منه إلى غيره، كما لا يخفى.

ولا وجه[5]

----------------------------------

قضائية - هي تنازع في دين أو ميراث - وأما المرفوعة فهي ظاهرة في تعارض الخبرين بشكل مطلق.

وعلى كل حال، حاصل الإشكال: إن الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في المقبولة ذكر أولاً مرجحات القاضيين، وبعد تساوي القاضيين انتقل إلى الترجيح في الخبرين اللذين استندا إليهما، وهنا لا يمكن التخيير؛ لأن كل خصم يختار الخبر الذي هو في صالحه، فلذا كان لابد من المرجّحات لقطع الخصومة.

وأما في غير الخصومة فلا محذور في التخيير، فيمكن الأخذ بأيّ من الخبرين من باب التسليم.

إن قلت: نستفيد من المقبولة المناط في الترجيح بين الخبرين المتعارضين.

قلت: إن هذا المناط ظني، فيكون الأخذ به من القياس المنهي عنه.

[1] ومع وجود هذا الاحتمال يكون المناط ظنياً، «بها» أي: بالمرجحات المنصوصة، «الحكومة» أي: القضاء.

[2] فلا يمكن التخيير أصلاً، مع إمكانه في الخبرين المتعارضين في غير مقام الخصومة.

[3] أي: رفع المنازعة، «موردهما» أي: مورد المقبولة والمرفوعة، لكن قد ذكرنا أن الصحيح هو أن المقبولة فقط هي في مورد الخصومة، وأما المرفوعة فهي مطلقة.

[4] أي: مع هذا الاحتمال القوي، «منه» من المورد - وهو الخصومة - «غيره» وهو مقام الفتوى في غير المنازعات.

[5] هذا ردّ لتوهم تنقيح المناط، من وجهين.

ص: 255

لدعوى تنقيح المناط مع ملاحظة[1] أن رفع الخصومة بالحكومة في صورة تعارض الحكمين[2] وتعارض ما استندا إليه من الروايتين لا يكاد يكون إلاّ بالترجيح، ولذا[3] أمر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بإرجاء الواقعة إلى لقائه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في صورة تساويهما في ما ذكر من المزايا؛ بخلاف مقام الفتوى[4].

ومجرد مناسبة[5] الترجيح لمقامها[6] أيضاً لا يوجب ظهور الرواية[7] في وجوبه مطلقاً ولو في غير مورد الحكومة، كما لا يخفى.

وإن أبيت[8]

----------------------------------

[1] هذا الوجه الأول لعدم صحة تنقيح المناط؛ لأنه من المحتمل أن الترجيح في مورد الخصومة لأجل عدم إمكان التخيير؛ إذ كل واحد سيختار الخبر الذي يكون بصالحه.

[2] أي: القاضيين، «يكون» أي: يكون رفع الخصومة.

[3] هذا الوجه الثاني لردّ تنقيح المناط، وحاصله: إن القائلين بالترجيح قالوا بالتخيير عند فقدان المرجّحات، ولكن في المقبولة ذكر الإمام التوقف إلى حين لقاء الإمام وسؤاله، وهذا يدل على أن المقبولة لا تشمل مقام غير الخصومة - لا بموردها ولا بملاكها - .

[4] حيث إن الحكم هو التخيير بعد فقد المرجحات، حتى عند القائلين بلزوم إعمالها.

[5] أي: إن هذا المناط محتمل، بل مظنون، لكن لا يمكن الاستناد إلاّ على المناط المقطوع به، وإلاّ كان قياساً.

[6] أي: مقام الفتوى، «أيضاً» كمقام القضاء.

[7] بحيث يصير المناط قطعياً، «وجوبه» أي: الترجيح، «مطلقاً» شرحه بقوله: «ولو في غير...».

الإشكال الرابع

[8] وحاصله: إن قول الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في آخر المقبولة: «إذا كان ذلك فأرجه حتى

ص: 256

إلاّ عن ظهورهما[1] في الترجيح في كلا المقامين، فلا مجال لتقييد إطلاقات التخيير في مثل زماننا مما لا يتمكن من لقاء الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بهما، لقصور المرفوعة سنداً[2] وقصور المقبولة دلالة[3]؛ لاختصاصها بزمان التمكن من لقائه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ؛ ولذا ما أرجع إلى التخيير بعد فقد الترجيح.

مع[4]

----------------------------------

تلقى إمامك» يوجب اختصاصها بزمان الحضور - حيث يمكن لقاء الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ - ولذا لم يُرجعه الإمام إلى التخيير. وأما في زمان الغيبة فلا مورد للمقبولة، فلابد من الرجوع إلى إطلاقات التخيير؛ لعدم وجود مخصص لها.

أما المرفوعة فضعيفة سنداً فلا يمكنها تخصيص تلك الإطلاقات.

[1] أي: المقبولة والمرفوعة، أما ظهور المقبولة فلأجل تنقيح المناط، وأما ظهور المرفوعة فلأجل إطلاقها بحيث تشمل كلا المقامين - مقام الفتوى ومقام الخصومة - .

[2] هذا ليس تكراراً للإشكال الثاني. فإن الغرض هناك كان لبيان عدم وجود دليل معتبر على الترجيح، والغرض هنا بيان عدم إمكان تقييد أخبار التخيير.

ولا يخفى أن المرفوعة مطلقة تشمل زمان الحضور وزمان الغيبة، لكن لما كان الغرض هو الترجيح في هذا الزمان - وهو زمان الغيبة - فلذا خصّ المصنف هذا الزمان بالذكر، وأنه لا يمكن في هذا الزمان تقييد أخبار التخيير بالمرفوعة لضعف سندها - كما لم يمكن ذلك في زمان الحضور أيضاً - .

[3] أي: بملاحظة آخر المقبولة حيث أمر الإمام بإرجاء الواقعة حتى لقائه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، وعدم الإرجاع إلى التخيير نكتشف أن المقبولة لا دلالة لها على الحكم في زمان الغيبة، «ما أرجع» (ما) نافية.

الإشكال الخامس

[4] حاصله: إن أدلة التخيير آبية عن التقييد؛ وذلك لأن تساوي الخبرين في

ص: 257

أن تقييد الإطلاقات[1] الواردة في مقام الجواب عن سؤال حكم المتعارضين بلا استفصال[2] عن كونهما متعادلين أو متفاضلين - مع ندرة[3] كونهما متساويين جداً - بعيد قطعاً، بحيث[4] لو لم يكن ظهور المقبولة في ذاك الاختصاص[5] لوجب حملها عليه أو على ما لا ينافيها[6] من الحمل على الاستحباب - كما فعله بعض

----------------------------------

جميع المرجحات أمر نادر جداً، ومع ذلك ترك الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ الاستفصال، بل حكم بالتخيير، ولو كان الترجيح واجباً لكان اللازم بيان لزومه، ثم بيان حكم الفرد النادر، وهو التخيير في صورة التساوي، وهذا الوجه يوجب عدم إمكان تقييد أخبار التخيير بالمقبولة، بل لابد من أحد أمرين:

1- إما القول بأن المقبولة ظاهرة في اختصاصها بزمان الحضور.

2- وإما حمل المقبولة على الاستحباب، فالحكم هو التخيير مع استحباب الترجيح.

[1] أي: إطلاقات التخيير.

[2] أي: ترك الإمام التفصيل بين المتساويين فالتخيير، وبين المتفاضلين فالترجيح.

[3] فيكون الجواب بالتخيير جواباً لصورة نادرة، وهذا قبيح. نعم، لو كانت صورة شايعة لم يكن ترك الاستفصال قبيحاً.

[4] أي: تلك الإطلاقات توجب ظهور المقبولة في اختصاصها بزمان الحضور.

ولو فرض عدم ظهورها في ذلك فإنه لابد من حملها على ذلك، وإن كان خلافاً للظهور؛ تنزيهاً لكلام الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عن القبح - أي: كلامه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في إطلاقات أخبار التخيير - .

[5] أي: الاختصاص بزمان التمكن من لقاء الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، «حملها» المقبولة، «عليه» على ذلك الاختصاص.

[6] أي: أو حمل المقبولة على ما لا يتعارض مع تلك الإطلاقات؛ وذلك بحملها على الاستحباب.

ص: 258

الأصحاب(1) - . ويشهد به[1] الاختلاف الكثير بين ما دل على الترجيح من الأخبار.

ومنه[2] قد انقدح حال سائر أخباره.

مع أن[3]

----------------------------------

[1] أي: بالاستحباب، وهنا يرجح المصنف حمل المقبولة على الاستحباب؛ وذلك لكثرة الاختلاف في الأخبار العلاجية، ولا طريق لدفع التنافي بين الأخبار العلاجية إلاّ بالقول بالاستحباب.

[2] أي: مما ذكرناه في المقبولة والمرفوعة، «أخباره» أخبار الترجيح.

البحث الخامس: أخبار موافقة الكتاب ومخالفة العامة
اشارة

[3] حاصله: إنه قد عُدّ من المرجحات موافقة الكتاب ومخالفة العامة.

وفيه إشكالان:

الإشكال الأول: إن الترجيح إنّما هو بين خبرين مستجمعين لشرائط الحجيّة - بحيث كان كل واحد منها حجة في نفسه - والخبر المخالف للكتاب ليس بحجّة أصلاً.

وحاصل هذا الكلام: هو لزوم العمل بالخبر الموافق للكتاب والمخالف للعامة لا لأجل ترجيحه على الخبر الآخر، بل لأجل أن الآخر ليس بحجة أصلاً.

1- والدليل على أن الخبر المخالف للكتاب ليس بحجّة، هو أولاً: أنه ورد في متعدد الروايات أن هذا الخبر زخرف، وباطل ونحو ذلك، وهذه التعبيرات نص في عدم حجيته.

وثانياً: إن أدلة حجية الخبر الواحد - وهو بناء العقلاء - لا تجري في الخبر المخالف للكتاب؛ إذ لا بناء لهم على حجيته، بل بناؤهم على عدم حجيته.

2- والدليل على أن الخبر الموافق للعامة ليس بحجة هو عدم شمول دليل حجية الخبر الواحد لهذا الخبر؛ إذ لا بناء للعقلاء بأنه صادر لبيان الحكم الواقعي؛ فلا

ص: 259


1- فرائد الأصول 4: 55، حيث نسبه للسيد الصدر، صاحب شرح الوافية.

في كون أخبار موافقة الكتاب أو مخالفة القوم من أخبار الباب[1] نظراً. وجهه قوة[2] احتمال أن يكون الخبر المخالف للكتاب في نفسه غير حجة[3]، بشهادة[4] ما ورد في أنه زخرف وباطل وليس بشيء، أو أنه لم نقله، أو أمر بطرحه على الجدار[5].

----------------------------------

تجري أصالة عدم التقيّة، بل بناؤهم على الوثوق بصدور الخبر المخالف للعامة.

الإشكال الثاني: إن الترجيح بالشهرة ذكر قبل الترجيح بالموافقة والمخالفة - في المقبولة والمرفوعة - ومعنى ذلك هو لزوم الترجيح بموافقة الكتاب إلاّ إذا كان الآخر مشهوراً، فيرجّح المشهور حتى إذا كان مخالفاً للكتاب. وهذا كما ترى لا يصح؛ لأن موافقة الكتاب آبية عن التخصيص، كما هو واضح.

[1] أي: أخبار الترجيح في المتعارضين، «نظراً» خبر (أنّ).

الإشكال الأول

[2] هذا الإشكال الأول، «وجهه» أي: وجه النظر.

[3] والترجيح إنما هو بين أخبار هي مستكملة لشرائط الحجيّة، لكنها متعارضة بحيث لا يمكن العمل بها أجمع.

وأما إذا كان أحدهما غير حجة فلا يعارض الآخر، بل لابد من العمل بالآخر الذي استكمل شرائط الحجيّة.

[4] وهذه العبارات نص في عدم حجيته، وهذا الدليل الأول على أن الخبر المخالف للكتاب ليس بحجة.

[5] عن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف)(1).

وعنه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (إذا جاءك الحديثان المختلفان فقِسهما على كتاب الله وأحاديثنا، فإن أشبهها فهو حق، وإن لم يشبهها فهو باطل)(2).

ص: 260


1- الكافي 1: 69.
2- وسائل الشيعة 27: 123.

وكذا الخبر الموافق للقوم[1]، ضرورة[2] أن أصالة عدم صدوره تقية - بملاحظة الخبر المخالف لهم[3] مع الوثوق بصدوره[4] لو لا القطع به - غير[5] جارية، للوثوق[6] حينئذٍ بصدوره كذلك. وكذا الصدور[7]

----------------------------------

وعن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنه قال: (ما خالف كتاب الله فليس من حديثي)(1).

وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (وما جاء كم يخالف كتاب الله فلم أقله)(2).

وقال النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (إذا جاءكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فما وافق كتاب الله فاقبلوه، وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط)(3).

[1] أي: قوة احتمال أن يكون هذا الخبر ليس بحجة أصلاً.

[2] وهذا دليل عدم شمول أدلة الحجية للخبر الموافق للعامة؛ لأن دليل الحجية هو بناء العقلاء على الصدور لأجل بيان الواقع، ولا بناء لهم في الخبر الموافق لهم، فلا يجرون أصالة عدم التقيّة.

[3] أي: عدم بناء العقلاء على عدم التقية إنما هو مع وجود خبرين أحدهما موافق للعامة والآخر مخالف لهم.

نعم، لو كان خبر واحد موافق للعامة من غير معارض فإن بناءهم على أصالة عدم التقية حينئذٍ.

[4] بصدور الخبر المخالف لهم، وكذا ضمير «به».

[5] خبر (أن) في (ضرورة أن أصالة عدم صدوره تقية).

[6] دليل عدم جريان أصالة عدم التقية، «حينئذٍ» حين موافقة الخبر للعامة، «بصدوره» صدور الخبر الموافق، «كذلك» أي: تقية.

[7] وهذا الدليل الثاني على أن الخبر المخالف للكتاب ليس بحجة.

ص: 261


1- قرب الإسناد: 92.
2- الكافي 1: 69.
3- التبيان 1: 5؛ تفسير الصافي 1: 36.

أو الظهور[1] في الخبر المخالف للكتاب يكون موهوناً بحيث لا يعمه[2] أدلة اعتبار السند، ولا الظهور، كما لا يخفى. فتكون هذه الأخبار[3] في مقام تميز الحجة عن اللاحجة، لا ترجيح الحجة على الحجة، فافهم[4].

وإن أبيت عن ذلك[5]،

----------------------------------

[1] أي: لا بناء للعقلاء على صدور الخبر المخالف للكتاب، أو لا بناء لهم على ظهوره فيرون أن ظاهره غير مراد.

ومن المعلوم أن حجية الخبر تتوقف على الدليل على صدوره، وعلى حجيّة ظهوره. فإذا لم يكن دليل على صدوره، أو لم يكن دليل على حجية ظهوره كان ذلك الخبر غير حجة أصلاً.

[2] أي: الخبر مخالف للكتاب لا تشمله أدلة الحجيّة.

[3] أي: أخبار الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة.

[4] لعلّه إشارة إلى أن المخالفة والموافقة ذكرتا في المقبولة والمرفوعة ضمن المرجحات، بل ذكرتا بعد الترجيح بالشهرة.

فالظاهر أن المراد من المخالفة والموافقة للكتاب - هنا - ليس مخالفة وموافقة نص الكتاب، بل المراد هو موافقة أو مخالفة الظاهر.

[5] أي: نحن ذكرنا ظهور أخبار الموافقة والمخالفة في تمييز الحجة عن اللاحجة.

فإن أبيت، وقلت: إن هذه الأخبار ظاهرة في الترجيح بين حجيتين.

فنقول: لابد من رفع اليد عن هذا الظهور؛ وذلك للجمع بين هذه الأخبار وبين إطلاقات أخبار التخيير، ولا يمكن تقييد إطلاقات التخيير - لأن التساوي في المرجحات فرض نادر كما مرّ تفصيله - فلابد إذن من رفع اليد عن هذا الظهور، وحمل أخبار الموافقة والمخالفة إما على التمييز بين الحجة أو اللاحجة، وإما على الاستحباب.

ص: 262

فلا محيص عن حملها[1] - توفيقاً بينها وبين الإطلاقات - إما على ذلك أو على الاستحباب، كما أشرنا إليه آنفاً، هذا.

ثم[2] إنه لو لا التوفيق بذلك[3] للزم التقييد أيضاً[4] في أخبار المرجحات[5]، وهي آبية عنه[6]، كيف يمكن تقييد مثل «ما خالف قول ربنا لم أقله، أو زخرف، أو باطل»؟!، كما لا يخفى.

فتلخص مما ذكرنا: أن إطلاقات التخيير محكمة، وليس في الأخبار ما يصلح لتقييدها.

نعم، قد استدل على تقييدها[7]، ووجوب الترجيح في المتفاضلين بوجوه أخر:

----------------------------------

[1] أي: حمل أخبار الموافقة والمخالفة، «الإطلاقات» أي: إطلاقات أخبار التخيير، «ذلك» أي: على تمييز الحجة عن اللاحجة.

الإشكال الثاني

[2] هذا هو الإشكال الثاني على جعل أخبار الموافقة والمخالفة من المرجحات، وحاصله: إن جعل أخبار الموافقة والمخالفة من المرجحات يستلزم تخصيصها بالشهرة؛ لأن الشهرة ذكرت قبلهما في المقبولة والمرفوعة، فمعنى ذلك أن الخبر المخالف للكتاب إذا كان مشهوراً يكون مقدماً! وهذا لا يمكن الالتزام به.

[3] أي: بحمل أخبار الترجيح على أحد أمرين: إما تمييز الحجة عن اللاحجة، أو على الاستحباب.

[4] أي: كتقييد أخبار التخيير بأخبار الترجيح.

[5] من الأخبار: المقبولة والمرفوعة، حيث ذكرت الشهرة قبل الموافقة والمخالفة - كما بيناه - .

[6] أي: أخبار الترجيح بالموافقة والمخالفة غير قابلة للتقيد أصلاً.

البحث السادس: أدلة أخرى على الترجيح - غير الأخبار -
اشارة

[7] أي: تقييد إطلاقات التخيير، «المتفاضلين» أي: ما كان أحدهما أرجح من

ص: 263

منها: دعوى الإجماع على الأخذ بأقوى الدليلين(1).

وفيه: إن دعوى الإجماع - مع مصير مثل الكليني إلى التخيير، وهو في عهد الغيبة الصغرى، ويخالط النواب والسفراء، قال في ديباجة الكافي[1]: «ولا نجد شيئاً أوسع ولا أحوط من التخيير» - مجازفة[2].

ومنها[3]: إنه لو لم يجب[4] ترجيح ذي المزية لزم ترجيح المرجوح على الراجح، وهو قبيح عقلاً، بل ممتنع قطعاً(2).

وفيه[5]:

----------------------------------

الآخر، «أخر» غير الأخبار.

[1] نص كلامه: (ولا نجد شيئاً أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: بأيّهما أخذتم من باب التسليم وسعكم)(3)،

انتهى.

[2] خبر (أن) في قوله: (أن دعوى الإجماع).

[3] هذا استدلال بوجه عقلي، وحاصله: إن ذا المزية راجح، فلا يصح ترجيح غيره عليه؛ لأنه ترجيح المرجوح على الراجح، وهو قبيح، بل يمكن القول بأن ترجيح المرجوح على الراجح محال.

[4] عدم الوجوب بسبب التوسعة عليه بالتخيير، «المرجوح» وهو ما لا مزية له، «الراجح» الذي له مزية.

[5] حاصله إشكالان - صغروي وكبروي - :

الإشكال الأول - صغروي - : فليس ما نحن فيه من موارد هذه القاعدة؛ لأنّ موردها إنما هو إذا كانت المزيّة موجبة لأقوائية الخبر - أي: أقربيته للواقع - أما إذا

ص: 264


1- فرائد الأصول 4: 48.
2- مفاتيح الأصول: 687.
3- الكافي 1: 9.

إنه إنما يجب الترجيح لو كانت المزية موجبة لتأكد ملاك الحجية[1] في نظر الشارع، ضرورة[2] إمكان أن تكون تلك المزية بالإضافة إلى ملاكها من قبيل الحجر في جنب الإنسان، وكان الترجيح بها[3] بلا مرجح، وهو قبيح، كما هو واضح. هذا.

مضافاً[4] إلى ما هو في الإضراب من الحكم بالقبح إلى الامتناع من[5] أن الترجيح بلا مرجح في الأفعال الاختيارية[6]

----------------------------------

لم توجب المزيّة ذلك - مثلاً: كون الراوي هاشمياً أو أعدل - فليس من القبيح ترجيح غيره عليه؛ لأن هذه المزية لا دخل لها في ملاك الحجية - أي: الأقربية للواقع - بل نفس الترجيح بها بلا مرجح.

الإشكال الثاني - كبروي - : هو أن ترجيح المرجوح قبيح وليس ممتنعاً؛ وذلك لأن الممتنع هو المعلول بلا علّة، وأما ترجيح المرجوح فله علة، وهي الإرادة والاختيار؛ ولذا نرى كثيراً ترجيح الناس للمرجوح على الراجح.

وبعبارة أخرى: إن القبيح هو الفعل الذي يمكن وقوعه ولكن لا غرض عقلائي فيه، وأما الممتنع فهو ما لا يمكن وقوعه أصلاً.

نعم، القبيح لا يصدر عن الحكيم، لا لامتناعه، بل لترفّع الحكيم عنه.

[1] وهي الأقربيّة إلى الواقع، «في نظر الشارع» لا في نظر غيره؛ لأن الخبرين إنما هما طريق لمعرفة حكم الشرع.

[2] أي: إذا لم تكن المزية موجبة لتقوية الملاك، فلا وجه للترجيح بها؛ إذ هي مزية لا ترتبط بملاك الحجيّة.

[3] أي: بالمزية التي لا توجب تقوية الملاك، والمعنى: إن الترجيح بالمزايا التي لا توجب تقوية الملاك بلا مرجح فهو القبيح، لا عدم الترجيح بها.

[4] إشارة إلى الإشكال الثاني - الكبروي - .

[5] بيان للإشكال.

[6] التي عِلّتها الإرادة والاختيار، فلا يكون الترجيح بلا مرجح محالاً، بل هو

ص: 265

- ومنها[1] الأحكام الشرعية - لا يكون إلاّ قبيحاً، ولا يستحيل وقوعه إلاّ على الحكيم تعالى، وإلاّ[2] فهو بمكان من الإمكان، لكفاية إرادة المختار علة لفعله[3]، وإنما الممتنع هو وجود الممكن بلا علة، فلا استحالة في ترجيحه تعالى للمرجوح إلاّ من باب امتناع صدوره منه[4] تعالى، وأما غيره[5] فلا استحالة في ترجيحه لما هو المرجوح مما باختياره.

وبالجملة: الترجيح بلا مرجح بمعنى «بلا علة» محال، وبمعنى «بلا داعٍ» عقلائي قبيح ليس بمحال، فلا تشتبه.

ومنها: غير ذلك[6] مما لا يكاد يفيد الظن، فالصفح عنه أولى وأحسن.

ثم إنه لا إشكال[7]

----------------------------------

فعل ممكن لإمكان عِلّته.

[1] أي: من الأفعال الاختيارية.

[2] أي: مع قطع النظر عن قبحه، وامتناع القبيح على الحكيم - امتناعاً عرضياً لحكمته - «فهو» أي: ترجيح المرجوح.

[3] فلا يكون ممتنعاً لإمكان عِلّته. نعم، المعلول بلا علة محال، فلذا كان الترجّح بلا مرجح محال؛ إذ هو معلول بلا علة.

[4] لحكمته، كالظلم واللغو ونحو ذلك، حيث يمتنع عليه، أي: لا يفعله تعالى أصلاً.

[5] أي: غير الله تعالى.

[6] كما نقل الشيخ الأعظم فقال: (وقد يستدل على وجوب الترجيح بأنه لو لا ذلك لاختل نظم الاجتهاد...)(1)

الخ.

كيفية اختيار المجتهد والمقلّد

[7] ليس المراد من التخيير: الحكم بالإباحة؛ لأنها قد تكون مخالفة لكلا الخبرين،

ص: 266


1- فرائد الأصول 4: 53.

في الإفتاء بما اختاره من الخبرين في عمل نفسه وعمل مقلديه[1]. ولا وجه للإفتاء بالتخيير في المسألة الفرعية[2]، لعدم الدليل عليه فيها.

----------------------------------

مثلاً: لو دلّ أحدهما على الوجوب والآخر على الحرمة فلا يجوز الحكم بالإباحة - وهذا يعبّر عنه بالتخيير في المسألة الفرعية - بل المراد هو التخيير في العمل بمقتضى أحد الخبرين - ويعبر عنه بالتخيير في المسألة الأصولية - .

والمجتهد في عمل نفسه يختار أحد الخبرين - وهذا واضح - .

ولكن كيف يفتي المجتهد لمقلديه؟

الجواب: إن المجتهد يمكنه أحد أمرين:

1- أن يختار المجتهد أحد الخبرين ثم يُفتي للمقلدين بذلك، من غير أن يخبرهم بتعارض الخبرين. وفي العناية: (فلأنّ ما اختاره المجتهد من الخبرين المتعارضين في عمل نفسه هو حكم الله الظاهري بمقتضى الدليل القائم على التخيير بينهما شرعاً، فإذا أفتى على طبق ما اختاره من الخبرين فقد أفتى بحكم الله الظاهري)(1)،

انتهى.

2- أن يخبر المقلدين بأن في المسألة خبرين ويمكنهم العمل بأيٍّ منهما؛ وذلك لأن التخيير حكم شرعي مشترك بين الكل. وفي العناية أيضاً: (فإذا أخبر المفتي بتحقق الموضوع في مورد خاص، وأحرز المقلد ذلك بإخبار المفتي أو بغير ذلك، ثم أفتى المفتي أن حكمه الشرعي الأصولي هو التخيير لم يبق مانع للمقلّد أن يقلّد المفتي في هذا الحكم الشرعي الأصولي، ويرتبه على موضوعه بنفسه، فيختار أحد الخبرين ويعمل على طبقه وإن كان مخالفاً لما اختاره المفتي من الخبرين)(2)،

انتهى.

[1] وهذا الأمر الأول لعمل المقلدين.

[2] أي: الإباحة في المسألة الفقهية، «عليه» على التخيير، «فيها» في المسألة الفرعيّة، بل الدليل على عدم جوازه؛ لأن الخبرين متفقان على نفي الثالث - كما مرّ - .

ص: 267


1- عناية الأصول 6: 81.
2- عناية الأصول 6: 81.

نعم[1]، له الإفتاء به في المسألة الأصولية، فلا بأس حينئذٍ باختيار المقلد غير ما اختاره المفتي، فيعمل بما يفهم منه[2] بصريحه أو بظهوره الذي لا شبهة فيه.

وهل[3] التخيير بدوي أم استمراري؟ قضية الاستصحاب لو لم نقل بأنه[4] قضية الإطلاقات أيضاً كونه استمرارياً.

----------------------------------

[1] وهذا الأمر الثاني لعمل المقلدين.

[2] «فيعمل» المقلّد، «بما» بالخبر الذي، «منه» مما اختاره، «بصريحه» أي: بنصّه.

التخيير بدوي أم استمراري

[3] إذا اختار أحد الخبرين وعمل به، فهل يجوز له اختيار الخبر الآخر في المرة الأخرى؟ قولان:

فالمصنف ذهب إلى استمرار التخيير واستدل له:

1- بإطلاقات التخيير، كقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (فموسع عليك بأيّهما أخذت)(1).

2- ولو لم تجر الإطلاقات فباستصحاب التخيير الثابت ابتداءً.

وذهب الشيخ الأعظم(2)

إلى أن التخيير بدوي، فإذا اختار أحد الخبرين لا يجوز له بعد ذلك العدول إلى الآخر.

واستدل له بأن موضوع الإطلاقات والاستصحاب هو (المتحيّر)، ولا تحيّر بعد الاختيار أولاً.

وفيه: إن كلمة (المتحيّر) لا توجد في الأدلة، فلا تدور الإطلاقات والاستصحاب عليها، بل إن معنى (المتحيّر) إن كان: (من تعارضت عنده الأدلة) فهذا الموضوع مستمر، فإن الأدلة متعارضة حتى بعد اختياره لأحد الخبرين.

[4] بأن التخيير، «كونه» كون التخيير.

ص: 268


1- وسائل الشيعة 27: 121.
2- فرائد الأصول 4: 43.

وتوهم[1] «أن المتحير(1)

كان محكوماً بالتخيير، ولا تحير له بعد الاختيار[2]، فلا يكون الإطلاق ولا الاستصحاب مقتضياً للاستمرار، لاختلاف الموضوع فيهما[3]» فاسدٌ[4]، فإن التحير بمعنى تعارض الخبرين باقٍ على حاله، وبمعنى آخر[5] لم يقع في خطاب موضوعاً للتخيير[6] أصلاً؛ كما لا يخفى.

فصل: هل على القول بالترجيح[7] يقتصر فيه على المرجحات المخصوصة

----------------------------------

[1] إشارة إلى الإشكال على كلام الشيخ الأعظم.

[2] ونص كلام الشيخ الأعظم: (لأن دليل التخيير إن كان الأخبار الدالة عليه فالظاهر أنها مسوقة لبيان وظيفة المتحيّر في ابتداء الأمر، فلا إطلاق فيها بالنسبة إلى حال المتحيّر بعد الالتزام بأحدهما، وأما العقل الحاكم بعدم جواز طرح كليهما فهو ساكت من هذه الجهة، والأصل عدم حجية الآخر بعد الالتزام بأحدهما...)(2)

الخ.

[3] أي: في الإطلاق والاستصحاب، فالموضوع هو (المتحيّر) قبل الاختيار الأول، ولكن لا تحيّر بعده فلا يبقى الموضوع.

[4] حاصله: بقاء موضوع التخيير، وهو: (من تعارضت لديه الأدلة).

[5] مثل: (من ليس له حكم ظاهري) فإذا اختار أحدهما صار ذلك حكماً ظاهرياً له.

[6] فلا يدور التخيير مداره.

فصل في المرجحات غير المنصوصة

اشارة

[7] أما على القول باستحباب الترجيح فلا فرق بين المنصوصة وغير المنصوصة؛ وذلك لعدم لزوم الأخذ بها، بل يكون مخيراً مطلقاً، اللهم إلاّ أن يقال: إن استحباب

ص: 269


1- فرائد الأصول 4: 43.
2- فرائد الأصول 4: 43 - 44.

المنصوصة، أو يتعدى إلى غيرها؟

قيل: بالتعدي[1]، لما في الترجيح[2] بمثل الأصدقية والأوثقية ونحوهما[3] مما فيه[4] من الدلالة على أن المناط في الترجيح بها هو كونها موجبة للأقربية إلى الواقع.

ولما في التعليل[5]

----------------------------------

الترجيح هل هو خاص بالمنصوصة أم يجري في غير المنصوصة؟

1- أدلة التعدي إلى غير المنصوصة

[1] القائل هو الشيخ الأعظم(1)،

ونسبه إلى جمهور الأصوليين، وقد استدل بوجوه ثلاثة، أحدها: بتنقيح المناط، والآخران: بالعلة المنصوصة في الأخبار.

[2] هذا هو الدليل الأول، وحاصله: تنقيح المناط؛ وذلك باستكشاف العلة من بعض فقرات أخبار الترجيح، فإن الترجيح بمثل: (الأصدقية) و(الأوثقية) و(الأورعية) إنما هو لأجل كون هذا الخبر أقرب إلى الواقع، فكانت الأقربية إلى الواقع هي المناط والعلة، وحينئذٍ فكل ما أوجب أقربية الخبر إلى الواقع يكون مرجحاً.

[3] كالأورعية؛ لأن معناها شدّة التحرز عن المحرّمات، ومنها الكذب؛ فالراوي الأبعد عن الكذب يكون خبره أقرب إلى الواقع.

[4] أي: من المرجحات التي في الترجيح بها، «بها» بتلك المرجحات، «هو» المناط، «كونها» المرجحات.

[5] هذا هو الدليل الثاني، وحاصله: الاستدلال بالتعليل الوارد في المقبولة، حيث قال عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (خذ بما اشتهر بين أصحابك)(2) و(فإن المجمع عليه لا ريب فيه)(3)

ص: 270


1- فرائد الأصول 4: 75.
2- مستدرك الوسائل 17: 303.
3- الكافي 1: 68.

ب«أن المشهور مما لا ريب فيه» من[1] استظهار أن العلة هو عدم الريب فيه بالإضافة إلى الخبر الآخر ولو كان فيه[2] ألف ريب.

ولما في التعليل[3] بأن الرشد في خلافهم.

ولا يخفى ما في الاستدلال بها:

أما الأول[4]:

----------------------------------

فالعلة في ترجيح المشهور هي (عدم الريب)، وليس المراد عدم الريب أصلاً بحيث يطمئن بصدوره - إذ كثيراً ما يكون الخبر المشهور فيه إشكالات متعددة - بل المراد (عدم الريب الإضافي) أي: عدم الريب بالنسبة إلى الخبر الآخر. فكل خبر فيه مزية - ولو غير منصوصة - يكون من تلك الجهة لا ريب فيه بالنسبة إلى الخبر الآخر الذي لا توجد فيه تلك المزية.

[1] «من» بيان ل- (ما) في قوله: (لما في التعليل...).

[2] أي: في المشهور، والمعنى: ولو كان فيه إشكالات من جهات أخرى - من غير جهة المزية - .

[3] هذا هو الدليل الثالث، وحاصله: الاستدلال بالتعليل الوارد في أخبار الترجيح بمخالفة العامة بأن (الرشد في خلافهم)، و(الرشد) هو الأقرب إلى الواقع، فكل خبر كان أقرب إلى الواقع يجب ترجيحه لأجل هذه العلة.

[4] حاصل الإشكال: إن هذا المناط - وهو الأقربية إلى الواقع - ليس مقطوعاً به، ويشترط في تنقيح المناط القطع بالمناط؛ وذلك لأن مجرد كون بعض المرجحات توجب الأقربية إلى الواقع لا توجب كون الأقربية هي العلة؛ وذلك لجهتين:

1- احتمال أن تكون لتلك المرجحات خصوصية أوجبت الترجيح بها، ونظير ذلك اعتبار حجية خبر الثقة؛ فإنه ليس لأجل الظن بالواقع - مع أنه غالباً يحصل الظن بالواقع منه - بل لأجل خصوصية في نفس خبر الثقة، فلا يجوز التعدي عنه

ص: 271

فإن جعل خصوص شيء فيه جهة الإراءة والطريقية[1] حجة أو مرجحاً لا دلالة فيه على أن الملاك فيه بتمامه جهة إراءته، بل لا إشعار فيه[2] كما لا يخفى، لاحتمال دخل خصوصيته في مرجحيته أو حجيته، لا سيما[3] قد ذكر فيها ما لا يحتمل الترجيح به إلاّ تعبداً[4]، فافهم[5].

وأما الثاني[6]:

----------------------------------

إلى كل ما أوجب الظن بالواقع.

2- إن بعض المرجحات - كالأفقهيّة - لا توجب كون الخبر أقرب إلى الواقع، فإنه لا فرق بين الفقيه وغيره في نقل الخبر أصلاً، ومن هذا نكتشف أن المناط في المرجحات ليست الأقربية إلى الواقع.

[1] «والطريقيّة» عطف تفسيري، والمعنى: إرادة الواقع، والطريقية إليه، «حجة» كخبر الثقة، «مرجحاً» كالترجيح بالأصدقية والأوثقية، «فيه» في ذلك الشيء الذي جُعل حجة أو مرجحاً، «بتمامه» تمام الملاك، «جهة» خبر «أن الملاك...».

[2] (الإشعار) هو الدلالة الخفية، أو الدلالة المحتملة، ويمكن أن يقال: إن فيه إشعار بالوجدان، لكن هذا الإشعار غير حجة.

[3] إشارة إلى الجهة الثانية، «فيها» في المرجحات، «به» مرجع الضمير هو «ما» الموصولة.

[4] من غير معرفتنا للعلة، وذلك كالأفقهية - كما مرّ - .

[5] لعلّه إشارة إلى أن جميع المرجحات المنصوصة توجب الأقربية إلى الواقع، حتى الأفقهية؛ لأن الأفقه أعرف بالمراد وخاصة مع كثرة النقل بالمعنى.

[6] حاصل الإشكال: إن (لا ريب فيه) يحتمل أمران:

1- ما ذكره المستدل من أنه (لا ريب إضافي) وعليه يتمّ الاستدلال.

ص: 272

فلتوقفه[1] على عدم كون الرواية المشهورة في نفسها مما لا ريب فيها[2]، مع أن الشهرة في الصدر الأول بين الرواة وأصحاب الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ موجبة[3] لكون الرواية مما يطمأن بصدورها، بحيث يصح أن يقال عرفاً: «إنها مما لا ريب فيها[4]»، كما لا يخفى. ولا بأس بالتعدي منه[5] إلى مثله مما يوجب الوثوق والاطمئنان بالصدور[6]، لا إلى كل مزية ولو لم يوجب إلاّ أقربية ذي المزية إلى الواقع من المعارض الفاقد لها[7].

----------------------------------

2- احتمال آخر هو (لا ريب فيه في حدّ نفسه) أي: يوجب الاطمئنان بصدوره عن الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

وهذا هو الاحتمال الأظهر؛ وذلك لأن الرواية المشهورة التي يكثر تداولها بين الرواة، مع قلّة الوسائط في عصر الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ومعرفة الرواة بعضهم للبعض كل ذلك يوجب الاطمئنان، بل القطع بصدور الخبر عن الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، فالخبر المشهور في عصرهم لا ريب فيه في حدّ نفسه، وكل خبر أورث الاطمئنان يشمله أدلة الحجية مطلقاً، من غير حاجة إلى الاستناد إلى هذا التعليل المذكور في الرواية - أي: التعليل ب- (لا ريب فيه) - .

[1] أي: توقف الاستدلال على الاحتمال الأول.

[2] أي: كون الريب إضافياً، وبالنسبة إلى الخبر الآخر.

[3] بسبب قلة الوسائط، ومعرفة الرواة بعضهم للبعض الآخر.

[4] أي: في حدّ نفسها، لكونها موجبة للاطمئنان أو القطع بصدورها عن الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[5] أي: من هذا المرجح.

[6] لأنه تشمله أدلة الحجية، من غير حاجة إلى الاستدلال بهذا التعليل.

[7] أي: لتلك المزية غير المنصوصة، كما هو مراد القائلين بالتعدي عن المرجحات

ص: 273

وأما الثالث[1]: فلاحتمال[2] أن يكون الرشد في نفس المخالفة، لحسنها. ولو سلم[3] أنه لغلبة الحق في طرف الخبر المخالف، فلا شبهة في حصول الوثوق بأن الخبر الموافق المعارض بالمخالف[4]

----------------------------------

المنصوصة إلى غيرها.

[1] حاصل الإشكال: إن في قوله: (الرشد في خلافهم) ثلاثة احتمالات:

1- حُسن نفس المخالفة، مع قطع النظر عن الواقع، وعلى هذا الاحتمال لا يستفاد التعليل من قوله: (الرشد في خلافهم).

2- إن الحق في طرف المخالف - غالباً - للاطمئنان بخلل في الخبر الموافق، أي: نطمئن بعدم صدور الخبر الموافق أو بصدوره لأجل التقية، وعلى هذا الاحتمال أيضاً لا يستفاد التعليل؛ وذلك لأن الاطمئنان بعدم صدور خبر أو بكونه تقية يُسقط ذلك الخبر عن الحجية رأساً، فلا تشمله أدلة الحجية، ويبقى الخبر الآخر سليماً عن المعارض، فليست العِلة أقربية المخالف للواقع - كما كان ذلك مقصود المستدل - .

3- إن الموافق يحتمل فيه التقية، وذلك لا يحتمل في المخالف، بل يطمئن الإنسان بكون الموافق صدر تقية فيسقط عن الحجية، ويبقى الآخر حجة بلا معارض.

والفرق بين الاحتمال الثاني والثالث اعتباري، أي: إن الثاني لاحظ من زاوية الخبر المخالف، والثالث من زاوية الخبر الموافق، فتأمل.

فتحصل: أن قوله: (فإن الرشد في خلافهم) فيه احتمالات ثلاثة، وكلها لا ترتبط بالعلة التي استفادها المستدل - وهي الأقربية إلى الواقع - ليتعدى منها إلى غيرها.

[2] هذا هو الاحتمال الأول.

[3] هذا هو الاحتمال الثاني، «أنه» أي: كون الرشد في خلافهم.

[4] أي: ليس كل خبر موافق يُطمأن بخلل فيه، بل الخلل إنما هو في الخبر الموافق الذي عارضه خبر المخالف للعامة.

ص: 274

لا يخلو من الخلل صدوراً أو جهةً[1]، ولا بأس بالتعدي منه[2] إلى مثله، كما مر آنفاً[3].

ومنه[4] انقدح حال ما إذا كان التعليل[5] لأجل انفتاح باب التقية فيه، ضرورة كمال الوثوق بصدوره كذلك[6] مع الوثوق بصدورهما[7] لو لا القطع به في الصدر الأول لقلة الوسائط ومعرفتها، هذا.

----------------------------------

[1] أي: يُطمأن إما بعدم صدوره أصلاً، أو أنه صادر للتقية.

[2] أي: من هذا الذي أوجب اطمئناناً بخلل في الصدور أو الوثوق نتعدى إلى كل خبر حصل اطمئنان بخلل فيه صدوراً أو جهةً.

[3] في جواب الدليل الثاني.

[4] إشارة إلى الاحتمال الثالث، «منه» مما ذكرناه في الاحتمال الثاني - أي: الاطمئنان بالخلل في الصدور أو الجهة - .

[5] في قوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (فإن الرشد في خلافهم)، فانقدح أنه على هذا الاحتمال الثالث أيضاً يُطمأن بأن الخبر الموافق صدر تقية، فلا يكون حجة أصلاً، ويلزم العمل بالآخر - المخالف - لا لأنه أقرب إلى الواقع، بل لأجل كونه حجة بلا معارض.

[6] «بصدوره» صدور الموافق، «كذلك» تقية.

[7] أي: الاطمئنان أو القطع في ذلك العصر بأنهما صادران عن المعصوم؛ وذلك:

1- لقلة الوسائط، بحيث تكون واسطة واحدة فقط - عادة - .

2- ولمعرفة الرواة بعضهم للبعض الآخر.

ومع اجتماع هذين الأمرين يحصل الاطمئنان أو القطع بصدور كلا الخبرين عن الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، وحينئذٍ يُطمأن أو يقطع بأن الموافق صدر للتقية.

ص: 275

مع[1] ما في عدم بيان الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ للكلية[2]، كي لا يحتاج السائل إلى إعادة السؤال مراراً، وما في أمره عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ[3] بالإرجاء - بعد فرض التساوي في ما ذكره من المزايا المنصوصة - من الظهور[4] في أن المدار في الترجيح على المزايا المخصوصة، كما لا يخفى.

----------------------------------

نعم، في مثل عصرنا حيث كثرت الوسائط، مع عدم المعرفة الشخصية بالرواة، بل يستفاد توثيقهم من بعض الكتب، ففي هذا العصر قد لا يحصل اطمئنان بصدور كليهما.

2- أدلة الاقتصار على المرجحات المنصوصة

[1] بعد أن أشكلنا على أدلة القول بالتعدي من المرجحات المنصوصة إلى غيرها، يستدل المصنف بدليلين على لزوم الاقتصار على المرجحات المنصوصة:

الأول: إن الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ذكر مرجحات متعددة - في المقبولة والمرفوعة وغيرهما - ولذا أكثر الراوي السؤال عن التساوي في تلك المرجحات، ولم نجد في الأخبار العلاجية ذكراً للضابطة الكلية - وهي الأقربية إلى الواقع - . ولو كان المرجح هو كل ما يوجب الأقربية لكان على الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بيانها بحيث لا يحتاج الرواة إلى كثرة السؤال.

الثاني: إن الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في ذيل المقبولة بعد التساوي في كل المرجحات المنصوصة، يأمر بإرجاء الواقعة حتى يلقاه، ولو كان الترجيح بكل ما يوجب الأقربية إلى الواقع لم يكن معنى للإرجاء، بل كان لابد من القول بالأخذ بكل مزية توجب الأقربية.

[2] أي: القاعدة الكلية - وهي كل مزية أوجبت الأقربية إلى الواقع، وهذا هو الدليل الأول.

[3] هذا هو الدليل الثاني.

[4] «من» بيان ل- (ما) في قوله: (ما في عدم بيان) و(ما في أمره...).

ص: 276

ثم[1] إنه بناءً على التعدي حيث كان في المزايا المنصوصة ما لا يوجب الظن بذي

----------------------------------

3- حدود التعدي - على القول به -

[1] على القول بلزوم التعدي من المرجحات المنصوصة إلى غيرها فما هي حدود التعدي؟ فيه احتمالات ثلاثة:

الأول: التعدي إلى كل مزية توجب الظن الشخصي بصدور الخبر.

الثاني: التعدي إلى المزايا التي توجب الظن النوعي بالصدور.

الثالث: التعدي إلى كل مزية حتى وإن لم توجب الظن بالأقربية إلى الواقع - لا شخصاً ولا نوعاً - .

اختار الشيخ الأعظم(1)

الاحتمال الثاني، وذهب المصنف إلى الاحتمال الثالث، واستدل المصنف على مختاره، بأنّ في المزايا المنصوصة: الأورعية والأفقهيّة، وهما لا يوجبان لا الظن الشخصي ولا الظن النوعي بالصدور. فإن كلاً من الأورعية والأفقهيّة تحتمل ثلاثة معان، أكثرها لا توجب أقربية المضمون إلى الواقع.

أما الأورعية فتحتمل:

1- التورع عن الشبهات كأكل الطعام المشبوه مثلاً.

2- الجد في العبادات كالإتيان بالصلوات المسنونة والنوافل ونحوها.

3- التورع عن المحرمات.

ولا يخفى أن الأولين لا يوجبان لا الظن الشخصي ولا النوعي بأقربية خبر الأورع للواقع.

نعم، الثالث يوجب الأقربية؛ لأن الكذب من المحرمات، وشدة التحرز عنه توجب الظن.

وأما الأفقهية فتحتمل:

ص: 277


1- فرائد الأصول 4: 75.

المزية ولا أقربيته - كبعض صفات الراوي[1]، مثل: الأورعية أو الأفقهية إذا كان موجبهما[2] مما لا يوجب الظن أو الأقربية، كالتورع من الشبهات والجهد في العبادات[3]، وكثرة التتبع في المسائل الفقهية أو المهارة في القواعد الأصولية[4] - فلا وجه للاقتصار على التعدي إلى خصوص ما يوجب الظن[5] أو الأقربية[6]، بل إلى كل مزية ولو لم تكن بموجبة لأحدهما[7]، كما لا يخفى.

----------------------------------

1- الإطلاع على الأشباه والنظائر؛ وذلك بكثرة التتبع في المسائل الفقهية.

2- المهارة في أصول الفقه.

3- الدقة والعمق في المسائل.

ولا يخفى أن الأولين لا يرتبطان بأقربية الخبر إلى الواقع؛ لأن الخبر يرتبط بالنقل والأمانة فيه، ولا يرتبط بكثرة العلم في الفقه أو الأصول.

أما الثالث فقد يرتبط بالأقربية إذا كان نقل الخبر بالمعنى؛ إذ لعل غير الأدق يغفل عن بعض الدقائق في الكلام. نعم، لو كان النقل باللفظ فهذا أيضاً لا يرتبط بالأقربية - كما هو واضح - .

[1] لا يخفى أن الأورعية والأفقهية ليستا من صفات الراوي، بل من صفات القاضي كما في المقبولة، ومن المعلوم أن أورعية وأفقهية القاضي توجبان أقربية حكمه إلى الواقع، لكنه مطلب لا يرتبط ببحثنا.

[2] أي: سبب الأورعية والأفقهية.

[3] وهذان يرتبطان بالأورعية.

[4] وهذان يرتبطان بالأفقهية.

[5] أي: الشخصي.

[6] أي: الظن النوعي الموجب لأقربية المضمون للواقع.

[7] الظن أو الأقربية.

ص: 278

وتوهم[1]: «أن ما يوجب الظن[2] بصدق أحد الخبرين لا يكون بمرجح، بل موجب لسقوط الآخر عن الحجية، للظن بكذبه حينئذٍ» فاسدٌ[3]، فإن الظن بالكذب لا يضر بحجية ما اعتبر من باب الظن نوعاً[4]،

----------------------------------

مختار الشيخ الأعظم والإشكال عليه

[1] اختار الشيخ الأعظم(1)

التعدي من المرجحات المنصوصة إلى كل مرجح يوجب الظن النوعي بالصدور - لا الظن الشخصي - .

واستدل لذلك: بأنه لو حصل الظن الشخصي بصدور أحدهما فلابد من حصول الظن الشخصي بكذب الآخر، ومع الظن بالكذب لا يكون الخبر حجة أصلاً، بل يسقط عن الحجية رأساً؛ لأن أدلة الحجية لا تشمله. وحينئذٍ فلا يكون الظن الشخصي مرجحاً، بل يكون من تمييز الحجية عن اللاحجة.

[2] أي: الشخصي، «حينئذٍ» أي: حين الظن بصدق معارضه. والحاصل: إن هناك تلازماً بين الظن الشخصي بصدق أحدهما مع الظن الشخصي بكذب الآخر.

[3] حاصل الإشكال:

أولاً: إن الظن الشخصي بالكذب لا يسقط الخبر عن الحجية، بل المُسقط هو الظن النوعي بالكذب.

وثانياً: لا تلازم بين الظن الشخصي بصدق أحدهما مع الظن الشخصي بكذب الآخر؛ وذلك لإمكان الظن الشخصي بصدور كليهما، ولكن مع عدم إرادة الظاهر في أحدهما أو في كليهما، أو صدور أحدهما تقية.

[4] أي: كلّما كان حجة لأنه يورث الظن النوعي، فلا يضر بحجيته عدم الظن الشخصي، نظير بناء العقلاء على قبول شهادة الثقة في المحاكم، فهو حجة عندهم من باب إفادته الظن نوعاً، فلا يسقطون شهادة الثقة عن الحجية في واقعه إذا لم

ص: 279


1- فرائد الأصول 4: 116 - 117.

وإنما يضر[1] في ما أخذ في اعتباره عدم الظن بخلافه، ولم يؤخذ[2] في اعتبار الأخبار صدوراً ولا ظهوراً ولا جهة ذلك. هذا.

مضافاً[3] إلى اختصاص حصول الظن بالكذب بما إذا علم بكذب أحدهما صدوراً[4]، وإلاّ فلا يوجب الظن بصدور أحدهما[5]، لإمكان صدورهما مع عدم إرادة الظهور في أحدهما أو فيهما أو إرادته تقية، كما لا يخفى.

نعم[6]،

----------------------------------

يحصل الظن للقاضي من شهادته.

[1] أي: نعم، لو دل الدليل على حجية شيء بشرط عدم حصول الظن الشخصي بخلافه سقط عن الحجية، ولكن لا نجد في الأدلة الشرعية مورداً لذلك، «يضر» أي: يضر الظن الشخصي، «في ما» في دليل، «اعتباره» الضمير للموصول، «عدم الظن» الشخصي.

[2] أي: لا نجد في الأدلة هذا الشرط، لا في أدلة الصدور ولا في الظهور ولا في الجهة، «ذلك» أي: عدم الظن الشخصي بالخلاف.

[3] إشارة إلى الإشكال الثاني.

[4] أي: مع وجود علم إجمالي بكذب أحدهما - بأن لم يكن صادراً عن المعصوم وإنما نسب إليه كذباً - ولكن لا علم إجمالي بهذه الصورة في غالب الأخبار المتعارضة، «وإلاّ» أي: إن لم يكن علم إجمالي بكذب أحدهما صدوراً.

[5] ومفعول «لا يوجب» الظن بكذب الآخر.

دليل رابع على التعدي

[6] هذا هو دليل رابع للتعدي من المرجحات المنصوصة إلى غيرها، وكان الأولى تقديمه، وذكره في ذيل الأدلة الثلاثة التي أقامها الشيخ الأعظم على التعدي.

وحاصله: إن قاعدة لزوم التمسك بأقوى الدليلين تجري هنا، حيث إن ما له

ص: 280

لو كان وجه التعدي[1] اندراج ذي المزية في أقوى الدليلين لوجب الاقتصار على ما يوجب القوة في دليليته[2] وفي جهة إثباته وطريقيته، من دون التعدي إلى ما لا يوجب ذلك[3]، وإن كان موجباً لقوة مضمون ذيه[4] ثبوتاً، كالشهرة الفتوائية أو الأولوية الظنية ونحوهما[5]، فإن المنساق[6] من قاعدة «أقوى الدليلين» أو المتيقن منها

----------------------------------

المزية أقوى من الفاقد لها.

لكن القدر المتيقن أو المنصرف من قاعدة أقوى الدليلين إنما هو في ما أوجب قوة السند، بحيث تكون المزية سبباً لقوة صدور الخبر، فلا تجري القاعدة في المزية التي توجب قوة المضمون.

[1] من المرجحات المنصوصة إلى غيرها، «ذي المزية» أي: الخبر الواجد للمزية غير المنصوصة، والمراد كونه أحد مصاديق قاعدة (أقوى الدليلين).

[2] أي: في السند، قوله: «وفي جهة إثباته» عطف تفسيري، أي: إثبات الخبر وأنه صادر عن المعصوم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، وكذا قوله: «وطريقيته» عطف تفسيري.

[3] أي: ما لا يوجب قوة الدليليّة.

[4] أي: ذي المزية، وقوة المضمون هو أقربيته إلى الواقع، وأنه حكم الله الواقعي. فإن قوة المضمون لا توجب قوة السند، مثلاً: إذا كانت شهرة فتوائية في حكم من الأحكام، وكان هناك خبر مطابق للشهرة وآخر معارض لها، فإن هذه الشهرة لا توجب قوة السند، وإنما توجب قوة المضمون، أي: الظن القوي بأن هذا المضمون هو الحكم الواقعي.

ولا يخفى أن الشهرة الفتوائية ليست من المرجحات المنصوصة، بل المنصوص هو الشهرة الروائية - أي: وجود الرواية في مختلف الكتب مثلاً - .

[5] مثل: الإجماع المنقول.

[6] أي: بالانصراف.

ص: 281

إنما هو الأقوى دلالة[1]، كما لا يخفى، فافهم[2].

فصل: قد عرفت سابقاً[3] أنه لا تعارض في موارد الجمع والتوفيق العرفي، ولا يعمها[4] ما يقتضيه الأصل في المتعارضين من سقوط أحدهما رأساً، وسقوط كل

----------------------------------

[1] مراد المصنف (الأقوى دليلية) أي: سنداً وصدوراً، وفي العبارة مسامحة واضحة.

[2] لعله إشارة إلى أن دليل قاعدة (لزوم العمل بأقوى الدليلين) هو الإجماع المنقول، ولم يثبت هذا الإجماع.

أو أن القاعدة عامة، فكل ما أوجب قوة الدليل - سواء كان في الصدور أم الظهور أم الجهة - يكون سبباً للاندراج في القاعدة، ولا وجه لدعوى الانصراف؛ إذ دليل القاعدة ليس لفظاً حتى يقال بانصرافه، بل الدليل هو الإجماع، كما لا وجه لادعاء القدر المتيقن؛ إذ المفيد هو القدر المتيقن في مقام التخاطب - كما سيأتي في الفصل اللاحق - وهنا لا تخاطب، فتأمل.

فصل التخيير والترجيح في موارد الجمع العرفي

اشارة

[3] قال في أول فصول التعارض: (وعليه فلا تعارض... أو كانا على نحو إذا عرضا على العرف وفّق بينهما بالتصرف في خصوص أحدهما).

والحاصل: إن مقتضى الأصل الأوّلي - وهو التساقط - لا يجري في موارد الجمع العرفي، كما لو كان أحدهما عاماً والآخر خاصاً؛ وذلك لأن التساقط فرع التنافي، ولا تنافي مع إمكان الجمع العرفي.

[4] أي: لا يعمّ موارد الجمع العرفي، «الأصل» أي: الأوّلي، «سقوط أحدهما» لا على التعيين حيث يعلم بكذب أحدهما.

ص: 282

منهما[1] في خصوص مضمونه كما إذا لم يكونا في البين؛ فهل[2] التخيير أو الترجيح يختص أيضاً بغير مواردها[3] أو يعمها؟ قولان:

أولهما المشهور(1).

وقصارى ما يقال في وجهه: إن الظاهر[4] من الأخبار العلاجية - سؤالاً وجواباً - هو التخيير أو الترجيح في موارد التحيّر مما لا يكاد يستفاد المراد[5]

----------------------------------

[1] أي: كليهما، فكل واحد منها لا حجية له في مدلوله المطابقي. نعم، المدلول الالتزامي لهما - وهو نفي الثالث - يكون حجة، كما مرّ تفصيله.

[2] أي: مقتضى القاعدة الثانوية في المتعارضين التي دلت عليها الأخبار هل تجري في موارد الجمع العرفي أم لا تجري؟

ومقتضى الأخبار هو التخيير كما ذهب إليه المصنف، والترجيح على مبنى المشهور.

[3] موارد الجمع العرفي، أم أن تلك الأخبار تشمل حتى موارد الجمع العرفي، فلابد من إعمالها في العام والخاص - مثلاً - .

وقد ذكر المصنف ثلاثة أدلة على عدم شمول الأخبار العلاجية لموارد الجمع العرفي.

الدليل الأول

[4] هذا هو الدليل الأول، وحاصله: إن الأخبار العلاجية منصرفة إلى موارد التحيّر، بحيث يبقى أبناء المحاورة على حيرة في الخبرين، ومن المعلوم أنه لا تحيّر لهم مع الجمع العرفي. والحاصل: إنه لا نرتاب في أن الأخبار العلاجية - في أسئلتها وأجوبة المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ - ظاهرة في حالة التحيّر.

[5] أي: لا يُعرف الحكم بسبب التعارض الحاصل بين الخبرين.

ص: 283


1- فرائد الأصول 4: 82.

هناك عرفاً، لا في ما يستفاد[1] ولو بالتوفيق، فإنه[2] من أنحاء طرق الاستفادة عند أبناء المحاورة.

ويشكل[3]: بأن مساعدة العرف على الجمع والتوفيق وارتكازه في أذهانهم على وجه وثيق لا يوجب اختصاص[4] السؤالات بغير موارد الجمع، لصحة السؤال[5]

----------------------------------

[1] أي: لا ظهور في الأخبار العلاجية في شمولها للموارد التي يعرف فيها الحكم - ولو بعد التوفيق بين الخبرين عرفاً - .

[2] هذا دليل على استفادة المراد، والمعنى: فإن التوفيق هي طريقة عليها بناء العقلاء في فهم المرادات الجدية.

[3] حاصل الإشكال: إنه حتى مع الجمع العرفي فإنه يمكن تصور بقاء التحيّر من وجوه ثلاثة، وحينئذٍ الأخبار العلاجية تعمّ موارد الجمع العرفي؛ وذلك لبقاء التحيّر.

1- التحيّر البدوي: إذ قبل التأمل والجمع العرفي فإن الإنسان متحيّر في المراد من الخبرين.

2- التحيّر في الحكم الواقعي: فإن مدلول الخبرين بعد الجمع إنما هو حكم ظاهري.

3- التحيّر في ردع الشارع عن طريقة أبناء المحاورة: حيث يحتمل أن الشارع لا يرتضي طريقتهم.

فتحصّل: أن التحير باقٍ حتى مع الجمع العرفي، فتشمله الأخبار العلاجية الواردة لدفع تحيّر المتحيّر.

وفيه نظر واضح، فراجع المفصلات.

[4] أي: لا يوجب انصراف الأسئلة في الأخبار العلاجية لغير موارد إمكان الجمع العرفي.

[5] إشارة إلى الوجه الأول للتحيّر، «في الحال» أي: بدواً وقبل الجمع العرفي.

ص: 284

بملاحظة التحير في الحال، لأجل ما يتراءى من المعارضة، وإن كان يزول عرفاً بحسب المآل، أو للتحير[1] في الحكم واقعاً وإن لم يتحير فيه ظاهراً، وهو[2] كافٍ في صحته قطعاً؛ مع إمكان[3] أن يكون لاحتمال الردع[4] شرعاً عن هذه الطريقة المتعارفة بين أبناء المحاورة؛ وجل[5] العناوين المأخوذة في الأسئلة - لو لا كلها - تعمها، كما لا يخفى.

ودعوى[6]:

----------------------------------

[1] إشارة إلى الوجه الثاني للتحيّر، «فيه» في الحكم.

[2] أي: التحيّر في الحكم الواقعي، والمعنى: إنه يصح السؤال بأنّي متحيّر في الحكم الواقعي فماذا أصنع؟ ومقصود المصنف منع الانصراف؛ لأن السؤال وجيه؛ لأنه متحير في الحكم الواقعي.

[3] إشارة إلى الوجه الثالث للتحيّر، «يكون» سؤال الراوي.

[4] أي: احتمال السائل بأن تكون طريقة أبناء المحاورة منهيّاً عنها شرعاً، فهو متحيّر في ذلك؛ ولذا سأل عن الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[5] المقصود أن الأسئلة والأجوبة مطلقة بحيث تشمل موارد الجمع العرفي، ومع هذه الاحتمالات لا انصراف، فلابد من التمسك بالإطلاق!! «تعمّها» أي: موارد الجمع العرفي.

الدليل الثاني

[6] بعد أن تبيّن الإشكال في الانصراف يذكر المصنف الدليل الثاني والإشكال عليه.

وحاصل الدليل: هو الادعاء بأن الإطلاق - في الأسئلة والأجوبة في الأخبار العلاجية - غير منعقد؛ لوجود القدر المتيقن، وقد مرّ أن من مقدمات الحكمة هو عدم وجود القدر المتيقن.

ص: 285

«أن المتيقن منها غيرها[1]» مجازفة، غايته[2] أنه كان كذلك خارجاً، لا بحسب مقام التخاطب.

وبذلك[3] ينقدح وجه القول الثاني.

اللهم إلاّ أن يقال[4]: إن التوفيق في مثل الخاص والعام والمقيد والمطلق كان

----------------------------------

وحاصل الإشكال: إ ن القدر المتيقن المانع عن انعقاد الإطلاق هو القدر المتيقن في مقام الخطاب واللفظ، لا القدر المتيقن في الوجود الخارجي، وإلاّ فكل مطلق له أفراد خارجية متيقنة بأنها من مصاديقه.

[1] «منها» من الأسئلة في الأدلة العلاجية، «غيرها» غير موارد الجمع العرفي.

[2] أي: غاية الأمر، «أنه» للشأن، «كان» المتيقن، «كذلك» أي: متيقناً منها، «خارجاً» في وجوده الخارجي، وهذا لا يفيد في منع انعقاد الإطلاق.

[3] أي: بالإشكال على الدليل الأول اتضح دليل القائل بجريان الأخبار العلاجية حتى في موارد إمكان الجمع العرفي، وحاصل دليله: هو إطلاق الأخبار العلاجية مع عدم وجود انصراف ولا قدر متيقن مانع عن الإطلاق.

الدليل الثالث

[4] وهذا هو الدليل الثالث - لعدم شمول الأخبار العلاجية لموارد الجمع العرفي - .

وحاصله: إن السيرة القطعية قائمة على التوفيق العرفي مع عدم إعمال المرجحات أو التخيير، وهذه السيرة تدل على أحد أمور ثلاثة:

1- إما وجود مخصِّص للأخبار العلاجيّة، وإن كنّا لا نعلم بذلك المخصص تفصيلاً، ولكن نعلم بأن سيرة العلماء لا تكون من غير مستند، فلابد من وجود مخصص.

2- وإما نفس السيرة قرينة متصلة بالسؤال والجواب في الأخبار العلاجيّة، فهي تمنع من انعقاد ظهور هذه الأخبار في العموم.

ص: 286

عليه السيرة القطعية[1] من لدن زمان الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، وهي كاشفة إجمالاً[2] عما يوجب تخصيص أخبار العلاج بغير موارد التوفيق العرفي، لو لا[3] دعوى اختصاصها به وأنها سؤالاً وجواباً بصدد الاستعلاج والعلاج في موارد التحير[4] والاحتياج، أو دعوى[5] الإجمال وتساوي احتمال العموم مع احتمال الاختصاص. ولا ينافيها[6]

----------------------------------

3- وإما القول بأن وجود هذه السيرة يوجب إجمال الأخبار العلاجيّة، فلا يثبت بهذه الأخبار ردع عن هذه السيرة.

[1] سيرة العقلاء، وسيرة العلماء.

[2] هذا الأمر الأول، «هي» هذه السيرة، «إجمالاً» أي: بدون معرفتنا بذلك المخصص بالتفصيل.

[3] إشارة إلى الأمر الثاني، «اختصاصها» أي: أخبار العلاج، «به» أي: بغير موارد التوفيق العرفي، «أنها» أن أخبار العلاج، «الاستعلاج» في الأسئلة، أي: طلب طريقة لرفع التعارض، «والعلاج» في أجوبة الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[4] الأفضل تغيير «التحيّر» إلى (في موارد التعارض) كي لا يرد على هذا الجواب ما أورده المصنف على الجواب الأول من إمكان فرض التحير بثلاثة أنحاء - فراجع - .

[5] إشارة إلى الأمر الثالث، وقوله: «وتساوي...» عطف تفسيري على «الإجمال»، «احتمال العموم» أي: عموم الأخبار العلاجية لموارد الجمع العرفي، «الاختصاص» أي: الاختصاص بغير موارد الجمع العرفي.

[6] أي: لا ينافي دعوى الإجمال، وهذا دفع توهم، وحاصل التوهم هو: كيف تصورتم (الإجمال) مع أن صحة السؤال عن كيفية العلاج - حتى في موارد الجمع العرفي - دليل على عدم الإجمال، بل دليل على عموم الأخبار العلاجيّة؟ كما ذكرتم نظير هذا في الإشكال على الجواب الأول، حيث قال المصنف: (لصحة السؤال

ص: 287

مجرد صحة السؤال لما لا ينافي العموم[1] ما لم يكن هناك ظهور أنه لذلك، فلم يثبت بأخبار العلاج ردع عما هو عليه بناء العقلاء[2] وسيرة العلماء من التوفيق وحمل الظاهر على الأظهر والتصرف[3] في ما[4] يكون صدورهما قرينة عليه، فتأمل[5].

----------------------------------

بملاحظة التحير في الحال).

والجواب: بالفرق بين الموردين، فهناك كنا بصدد بيان إمكان التحيّر حتى مع التوفيق العرفي، وهنا نقول: إن مجرد صحة السؤال لا يرفع الإجمال، بل لابد في رفع الإجمال من تحقق الظهور، مع أنه بوجود السيرة القطعية لا ظهور للأخبار العلاجية في العموم.

وفي بعض النسخ (لا ينافيهما) أي: دعوى الاختصاص ودعوى الإجمال.

[1] أي: السؤال عمّا لا ينافي العموم، والمعنى: إن الأسئلة يمكن أن يراد بها العموم حتى لموارد الجمع العرفي، «هناك» في الأخبار العلاجية - سؤالاً وجواباً - «أنه» أن السؤال، «لذلك» للعموم.

[2] أي: لا ردع عن التوفيق العرفي الذي هو بناء العقلاء وسيرة العلماء.

[3] عطف تفسيري لبيان التوفيق العرفي، وكذا قوله: «وحمل...» أيضاً عطف تفسيري.

[4] أي: كيفية التصرف ترتبط بنفس الدليلين، فإما تصرف في أحدهما أو في كليهما.

ومعنى العبارة: «والتصرف» بالجمع «في ما» أي: في أحدهما أو كليهما الذي «يكون صدورهما»، أي: مع القطع بأنهما صادران عن المعصوم، أو قيام الدليل المعتبر على صدورهما، «قرينة عليه» ضمير عليه راجع إلى الموصول، أي: (ما).

[5] لعله إشارة إلى أن حجيّة السيرة تتوقف على إثبات عدم الردع ولا يكفي مجرد عدم الثبوت.

ص: 288

فصل: قد عرفت حكم تعارض الظاهر والأظهر وحمل[1] الأول على الآخر، فلا إشكال في ما إذا ظهر أن أيهما ظاهر وأيهما أظهر.

وقد ذكر في ما اشتبه الحال لتمييز ذلك[2] ما لا عبرة به أصلاً. فلا بأس بالإشارة إلى جملة منها وبيان ضعفها:

منها[3]: ما قيل(1)

في ترجيح ظهور العموم على الإطلاق وتقديم التقييد على

----------------------------------

فصل في اشتباه الظاهر مع الأظهر

اشارة

3المقصد الثامن في تعارض الأدلة والأمارات، فصل في اشتباه الظاهر مع الأظهر

[1] أي: ولزوم حمل الظاهر على الأظهر؛ وذلك بالتصرف في الظاهر.

[2] أي: لتمييز الظاهر عن الأظهر.

1- ترجيح العموم على الإطلاق

[3] وحاصله: إنه لو دار الأمر بين عام ومطلق، كما لو قال: (أكرم العالم)، وقال: (لا تكرم الفسّاق)، ففي العالم الفاسق هل الأظهر هو العام أو ليس هناك أظهر في البين؟

فقد ذهب الشيخ الأعظم(2)

إلى ترجيح العام لأنه أظهر، لدليلين:

الدليل الأول: إن دلالة العام على العموم هي بالوضع فلا نحتاج إلى مقدمات لإثبات العموم، بخلاف دلالة المطلق على الإطلاق؛ إذ هي متوقفة على مقدمات الحكمة، التي هي كون المولى في مقام البيان، وأن لا ينصب قرينة على الخلاف، وأن لا يوجد قدر متيقن.

فمع اجتماع العام والمطلق تختل المقدمة الثانية للإطلاق؛ وذلك لأن العام يكون بياناً، فهو قرينة على خلاف الإطلاق.

ص: 289


1- فرائد الأصول 4: 97 - 98.
2- فرائد الأصول 4: 97 - 98.

التخصيص[1]

- في ما دار الأمر بينهما - من[2] «كون ظهور العام في العموم تنجيزياً، بخلاف ظهور المطلق في الإطلاق، فإنه معلق[3] على عدم البيان، والعام يصلح بياناً، فتقديم العام حينئذٍ[4] لعدم تمامية مقتضى الإطلاق معه، بخلاف العكس[5]، فإنه موجب لتخصيصه بلا وجه[6]

----------------------------------

إن قلت: لماذا لا تقولون: إنّ المطلق يُخصص العام، ف(أكرم العالم) يكون مخصصاً ل- (لا تكرم الفساق)؟

قلت: المخصص إما نفس المطلق أو غيره.

فإن كان غيره، فنتسائل ونقول: ما هو؟ حيث لا نعلم مخصصاً لهذا العام.

وإن كان المخصص نفس المطلق لزم الدور؛ وذلك لأن إطلاق المطلق متوقف على تخصيصه للعام، وإلاّ كان العام بياناً ومانعاً عن انعقاد الإطلاق. وتخصيصه للعام متوقف على إطلاقه؛ إذ لو لم يكن مطلقاً لما خصّص العام!!

الدليل الثاني: إن التقييد أكثر من التخصيص.

[1] ففي المثال: يُقيّد (أكرم العالم) بكونه غير فاسق، ويبقى عموم (لا تكرم الفساق) سليماً عن التخصيص.

[2] هذا هو الدليل الأول، و«من» بيان ل- (ما قيل)، «تنجيزياً» أي: غير متوقف على مقدمات، حيث إنه بالوضع.

[3] أي: متوقف على مقدمات الحكمة، والتي منها: (أن لا ينصب قرينة على الخلاف) وبعبارة أخرى: عدم بيان أنه لا يريد الإطلاق.

[4] أي: حين دوران الأمر بين العام والمطلق، «مقتضى الإطلاق» وهو مقدمات الحكمة، «معه» أي: مع العام.

[5] أي: تقديم المطلق، «فإنه» أي: فإن العكس، «لتخصيصه» أي: تخصيص العام.

[6] إن كان المخصص غير المطلق.

ص: 290

إلاّ على نحو دائر[1]»؛ ومن[2] «أن التقييد أغلب من التخصيص».

وفيه[3]: إن عدم البيان الذي هو جزء المقتضي في مقدمات الحكمة إنما هو عدم البيان في مقام التخاطب[4]، لا إلى الأبد؛ وأغلبية[5] التقييد مع كثرة التخصيص - بمثابة قد قيل: «ما من عام إلاّ وقد خص» - غير مفيد؛ فلابد[6] في كل قضية من ملاحظة خصوصياتها الموجبة لأظهرية أحدهما من الآخر، فتدبر.

----------------------------------

[1] إن كان المخصص نفس المطلق.

[2] هذا هو الدليل الثاني.

[3] حاصل الإشكال: أما على الدليل الأول فهو: إن مقدمات الحكمة تامة في المطلق، ولا يصلح العام لأن يكون بياناً حتى تختلّ المقدمة الثانية؛ وذلك لأن (عدم وجود قرينة على الخلاف) يراد به عدم وجودها في مقام التخاطب، فإذا كمل كلام المتكلم ولم ينصب قرينة على الخلاف فقد انعقد الإطلاق، والقرينة بعد ذلك لا تضرّ بالإطلاق، بل تقيّده. وفرق واضح بين عدم انعقاد الإطلاق أصلاً، وبين انعقاده ثم تقييده.

وعليه، فإن العام المنفصل عن المطلق لا يكون قرينة على عدم إرادة الإطلاق. إذن قد انعقد الإطلاق بتمامية مقدمات الحكمة، كما انعقد العموم بالوضع فيتعارضان.

[4] أي: حين الكلام والسؤال والجواب.

[5] هذا إشكال على الدليل الثاني، وحاصله: إن التخصيص أيضاً كثير جداً، فأغلبية التقييد لا توجب ضعف ظهوره مقابل ظهور العام.

[6] هذه نتيجة ما سبق، أي: حيث لم تثبت أظهرية العام على المطلق فلابد من ملاحظة كل مورد من موارد تعارضهما بالخصوص، فإن كان أحدهما أظهر لزم تقديمه، وإلاّ وصلت النوبة إلى التخيير أو الترجيح.

ص: 291

ومنها[1]: ما قيل(1)

في ما إذا دار بين التخصيص والنسخ[2] - كما إذا ورد عام

----------------------------------

2- ترجيح التخصيص على النسخ
اشارة

[1] حاصله: إنه إذا دار الأمر بين التخصيص والنسخ فلابد من ترجيح التخصيص على النسخ؛ لأن التخصيص أكثر؛ وذلك يوجب أظهرية الكلام فيه.

ولابد أولاً من تصوير دوران الأمر بينهما، فنقول: يمكن تصوير الدوران بأحد نحوين:

الأول: إذا ورد خاص وحضر وقت العمل به ثم صدر عامٌ، كما لو قال: (لا تكرم زيداً العالم) فترك العبد إكرامه مدة، ثم قال: (أكرم العلماء)، فهل (لا تكرم...) خاص بحيث يخصص الأمر في (أكرم العلماء)، أم إن (أكرم العلماء) ناسخ ل- (لا تكرم زيداً العالم)؟

والثمرة هي أنه على النسخ يجب إكرام زيد، وعلى التخصيص لا يجوز إكرامه.

الثاني: إذا ورد عام وحضر وقت العمل به ثم صدر خاص، كما لو قال: (أكرم العلماء) فأكرمهم لفترة، ثم قال: (لا تكرم زيداً)، فهل هو ناسخ أم هو خاص؟

وتظهر الثمرة في الفترة المتخلّلة بين القولين، فعلى النسخ: كان يجب إكرام زيد في تلك الفترة، فلو ترك إكرامه كان عاصياً، ووجب عليه القضاء في بعض الصور، وعلى التخصيص: نكتشف عدم وجوب إكرامه في تلك الفترة - إذ الخاص يُبيّن عدم الإرادة الجدية في العام من الأوّل - فلو ترك إكرامه في تلك الفترة كان متجرياً ولا قضاء عليه.

[2] سواء كان الدوران في دليلين، كما في النحو الأول، أم كان في دليل واحد، كما في النحو الثاني.

ص: 292


1- فرائد الأصول 4: 93 - 94.

بعد حضور وقت العمل بالخاص[1]، حيث يدور بين أن يكون الخاص مخصصاً، أو يكون العام ناسخاً؛ أو ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام، حيث يدور بين أن يكون الخاص مخصصاً للعام أو ناسخاً له[2] ورافعاً[3] لاستمراره ودوامه - في[4] وجه تقديم التخصيص على النسخ: «من غلبة التخصيص وندرة النسخ[5]».

ولا يخفى[6]: أن دلالة الخاص أو العام على الاستمرار والدوام إنما هو بالإطلاق،

----------------------------------

[1] قوله: «بعد حضور وقت العمل» لأنه أدعي الاتفاق على أن النسخ لا يكون إلاّ بعد حضور وقت العمل، وقد اختلف في لزوم نفس العمل بعد حضور وقته.

أما قبل حضور وقت العمل فلا نسخ أصلاً، بل ينحصر الأمر في التخصيص، سواء كان العام سابقاً على الخاص أم العكس.

[2] أي: وبين أن يكون الخاص ناسخاً للعام.

[3] عطف تفسيري لبيان كيفية نسخ الخاص المتأخر للعام المتقدّم، وضميرا «لاستمراره» و«دوامه» يرجعان إلى العام.

[4] «في» يتعلق ب- (ما قيل...).

[5] وحاصله: إن للعام ظهورين:

الأول: ظهور في الاستمرار زماناً، فلا نسخ - إذ النسخ هو عدم استمرار زمان الحكم - .

الثاني: ظهور في الشمول لجميع الأفراد، فلا تخصيص - إذ هو خروج بعض الأفراد عن الحكم - .

وأغلبية التخصيص توجب ضعف الظهور الثاني، وقوة الظهور الأول.

الإشكال على الدليل

[6] حاصله إشكالان على الشيخ الأعظم:

الإشكال الأول - وهو نقضيّ - وحاصله: إن الشيخ الأعظم ذهب إلى تقديم

ص: 293

لا بالوضع[1]؛ فعلى الوجه العقلي[2] في تقديم التقييد على التخصيص، كان اللازم في هذا الدوران تقديم النسخ على التخصيص[3] أيضاً. وأن غلبة[4] التخصيص إنما توجب أقوائية ظهور الكلام في الاستمرار والدوام من ظهور العام في العموم إذا

----------------------------------

العموم على الإطلاق، بأن العموم أظهر من الإطلاق بتفصيل مرّ قبل قليل.

فعلى ذلك المبنى لابد من ترجيح النسخ على التخصيص؛ وذلك لأن للعام ظهورين، ظهوراً في العموم الأفرادي، وظهوراً في الإطلاق الأزماني - بمعنى استمرار الحكم في كل الأزمان - .

فعليه: لابدّ من ترجيح الظهور الأفرادي على الظهور الأزماني؛ وذلك لعدم التخصيص؛ لأن التخصيص ينافي العموم الأفرادي، عكس النسخ الذي ينافي الظهور الأزماني، الذي هو يستفاد من الإطلاق، فالنتيجة هي تقديم النسخ على التخصيص، وهكذا الأمر بالنسبة للخاص، حيث إن له ظهورين - أفرادي وأزماني - .

الإشكال الثاني - وهو حلّيّ - وحاصله: إن الغلبة لا عبرة بها إذا لم توجب أقوائية الظهور.

[1] وأما دلالتهما على الشمول لأفرادها فهي بالوضع.

[2] من أن ظهور العام تنجيزي، وظهور المطلق تعليقي إلى آخر ما مرّ ذكره.

[3] إذ مع النسخ يُحفظ العموم الأفرادي ويختلّ الإطلاق الأزماني، فلابد من ترجيح العموم.

[4] بيان للإشكال الثاني، وحاصله: إن الغلبة قد لا توجب الأظهرية، بل لابد من ارتكازها في أذهان العرف، بحيث يرونها قرينة متصلة بالكلام موجبة لقوة الظهور.

ولكنّ من أين نعلم بهذا الارتكاز، مع غفلة العرف عن موضوع النسخ عادة؟ فتأمّل.

ص: 294

كانت مرتكزة في أذهان أهل المحاورة بمثابة تعد من القرائن المكتنفة بالكلام، وإلاّ[1] فهي وإن كانت مفيدة للظن بالتخصيص، إلاّ أنها غير موجبة لها، كما لا يخفى.

ثم[2] إنه بناءً على اعتبار عدم حضور[3] وقت العمل في التخصيص - لئلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة - يشكل الأمر[4] في تخصيص الكتاب أو السنة

----------------------------------

[1] أي: إن لم تكن مرتكزة في الأذهان، ولم تُعدّ من القرائن المكتنفة بالكلام، «فهي» أي: الغلبة، «أنها» أن الغلبة، «لها» للأقوائية؛ وذلك لأن هذا الظن لا دليل على اعتباره.

تخصيص الكتاب والسنة بأقوال الأئمة^

[2] حاصله: إن عمومات الكتاب العزيز، وسنة الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قد خصصت بأقوال الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ في موارد لا تحصى كثرة، وقد يشكل ذلك سواء قلنا بالتخصيص أم بالنسخ.

أما على التخصيص: فإن السنوات الطوال بين نزول أو صدور العام وبين التخصيص هي سنوات وقت العمل بالعام، فكيف تَمّ تأخير البيان عن وقت الحاجة، مع وضوح عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة؟

وأما على النسخ: فأولاً: يشكل النسخ بعد إكمال الدين ورحيل الرسول الكريم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.

وثانياً: على فرض جوازه، فإن اعتبار هذه التخصيصات - وهي كثيرة جداً - من النسخ قول ضعيف؛ لوضوح قلة النسخ جداً حتى في زمان الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.

[3] أي: لابد من صدور الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام، لئلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ وذلك بعمل الناس طبقاً للعام وتركهم الخاص لعدم بيانه، وهذا قبيح.

[4] سواء قلنا بالتخصيص أم قلنا بالنسخ، «أو السنة» المراد سنة رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.

ص: 295

بالخصوصات الصادرة عن الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، فإنها صادرة بعد حضور وقت العمل بعموماتهما[1]. وإلتزام نسخهما بها[2] - ولو قيل[3] بجواز نسخهما بالرواية عنهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ - كما ترى[4].

فلا محيص في حله[5]

----------------------------------

[1] عمومات الكتاب والسنة.

[2] إشارة إلى ورود الإشكال حتى على القول بالنسخ من جهة أخرى - غير تأخير البيان عن وقت الحاجة - «نسخهما» الكتاب والسنة، «بها» بالخصوصات الصادرة عن الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

[3] إشارة إلى الإشكال الأول.

لكن يمكن دفعه، بأن للأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ حق التشريع، وهذا لا ينافي كمال الدين؛ إذ كماله بمعنى نصب من يمكنه التشريع بإذن الله تعالى.

[4] إشارة إلى الإشكال الثاني، وحاصله: إن الخصوصات كثيرة جداً بحيث لا تحصى كثرة، ولا يمكن الالتزام بهذا الكم الهائل من النسخ.

[5] دفع الإشكال، وحاصله: إمكان ذلك سواء قلنا بالتخصيص أو النسخ.

أما على التخصيص: فلجواز تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ وذلك لمصلحة أهم - كتدرج الأحكام - .

فيقال: إنّ الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قد أودع جميع تلك الخصوصات عند أمير المؤمنين والأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، وهم يبيّنوها بالتدريج وطبقاً للمصلحة.

ولعل الجواب الأصح أن يقال: إن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قد بيّنها جميعاً، ولكن لم تصلنا عنه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لمنع تدوين الحديث، وإحراقه بواسطة حكام الجور، وقتلهم وتشريدهم للثقات من الأصحاب، ثم بينها الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ووصلتنا عن طريقهم.

والذي يدل على هذا أن بعض الأحكام وصلتنا بنفسها ومكرراً عن عدة من

ص: 296

من أن يقال: إن اعتبار ذلك[1] حيث كان لأجل قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة - وكان من الواضح[2] أن ذلك في ما إذا لم يكن هناك[3] مصلحة في إخفاء الخصوصات أو مفسدة في إبدائها، كإخفاء[4] غير واحد من التكاليف في الصدر الأول - لم يكن[5] بأس بتخصيص عموماتهما بها[6]، واستكشاف[7] أن موردها كان خارجاً[8]

----------------------------------

الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، يذكر اللاحق ذلك الحكم تأكيداً لحكم السابق وبياناً لمن عاصره، ولم يسمع كلام السابقين، عليهم جميعاً الصلاة والسلام.

وأما على النسخ: فبالتزام نسخ الحكم الظاهري دون الحكم الواقعي.

[1] أي: اعتبار عدم حضور وقت العمل في التخصيص.

[2] أي: التأخير عن وقت الحاجة ليس علّة تامة للقبح، بل هو مقتضٍ للقبح، ويمكن أن يمنع عن هذا المقتضي مانع، «ذلك» أي: القبح.

[3] أي: لم يكن مانع سواء كان هذا المانع هو المصلحة في الإخفاء، أم كان مفسدة في الإبداء، «إبدائها» أي: الخصوصات.

[4] هذا تنظير لبيان أنه قد تكون مصلحة في التأخير أو مفسدة في الإبداء.

والمراد من (الإخفاء): عدم البيان، مثلاً: الخمر كانت محرمة في جميع الشرائع، ولكن لم يبيّن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ حرمتها في مكة، ولا في أوائل المدينة، بل تمّ البيان بالتدريج - على ما قيل - .

[5] جواب (حيث) في قوله: (حيث كان لأجل قبح... الخ).

[6] عمومات الكتاب والسنة، بالخصوصات الصادرة عن الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ

[7] عطف تفسيري على (بتخصيص) أي: لم يكن بأس باستكشاف... الخ، «موردها» مورد الخصوصات.

[8] من حين صدور العام؛ لأنّ العام لا يشمل الخاص بالإرادة الجِديّة، وإن شمله بالإرادة الاستعمالية.

ص: 297

عن حكم العام واقعاً، وإن كان داخلاً فيه ظاهراً. ولأجله[1] لا بأس بالالتزام بالنسخ بمعنى رفع اليد بها عن ظهور تلك العمومات بإطلاقها[2] في الاستمرار والدوام أيضاً، فتفطن[3].

فصل: لا إشكال في تعيين[4] الأظهر - لو كان في البين - إذا كان التعارض بين الاثنين. وأما إذا كان بين الزائد عليهما[5] فتعيينه ربما لا يخلو عن خفاء.

----------------------------------

[1] أي: يمكن الالتزام بالنسخ، بأن نقول: إنّ الخصوصات الصادرة عنهم ناسخة لعموم الكتاب والسنة، ولكنّه بمعنى نسخ الحكم الظاهري، أي: كان حكماً ظاهرياً بالعموم - مع عدم كونه حكماً واقعياً في مورد الخاص - ثم بالخاص نسخ هذا الحكم الظاهري، «لأجله» أي: لأجل هذا الاستكشاف، «بها» بالخصوصات.

[2] أي: رفع اليد عن إطلاق تلك العمومات في الاستمرار.

[3] لعله إشارة إلى أن هذا لا يسمى نسخاً، وتسميته نسخاً خلاف الاصطلاح؛ إذ النسخ هو بيان انتهاء أمد الحكم الواقعي وليس الظاهري.

فصل في انقلاب النسبة

اشارة

[4] أي: في لزوم التمسك بالأظهر.

[5] كما لو كانت ثلاثة أدلة أو أكثر. وحاصل البحث: إنه إذا وقع تعارض: فقد تكون النسبة مختلفة، وسيأتي البحث عنها في قوله: (وقد ظهر منه حالها...).

وقد تكون النسبة متحدة، وهذه على ثلاثة أنواع:

1- أن تكون النسبة: التساوي - أي: موضوع الأدلة شيء واحد - مثل: (يجب إكرام العلماء) و(يحرم إكرامهم) و(يستحب إكرامهم).

والوظيفة هي الترجيح أو التخيير - على الخلاف السابق - .

2- أن تكون النسبة: العموم من وجه، مثل: (يجب إكرام العلماء) و(يستحب

ص: 298

ولذا[1] وقع بعض الأعلام[2] في اشتباه وخطأ، حيث توهم أنه إذا كان هناك

----------------------------------

إكرام الشعراء) و(يحرم إكرام الفساق).

والوظيفة هي الترجيح أو التخيير - أيضاً - .

3- أن تكون النسبة: العموم المطلق - أي: يكون عام وخاصان - وهذا على ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أن يكون بين الخاصين عموم مطلق أيضاً. مثل: (أكرم العلماء) و(يحرم إكرام فساقهم) و(يكره إكرام زيد - وهو عالم فاسق - ) . فالوظيفة إخراج الخاصين من غير مشكلة، أي: تخصيص العام بالخاصين، وتخصيص الخاص الأول بالخاص الثاني؛ لأن هذا هو مقتضى الجمع الدلالي.

القسم الثاني: أن يكون بين الخاصين تباين - مع استيعابهما لكل أفراد العام - . مثل: (أكرم العلماء) و(يحرم إكرام فساق العلماء) و(يستحب إكرام عدول العلماء). فلا يمكن تخصيص العام بكلا الخاصين، وإلاّ بقي العام بلا مورد أصلاً، فهنا يحصل تعارض بين الخاصين، فيلزم الترجيح أو التخيير، وكذا إذا استلزم تخصيص الأكثر.

القسم الثالث: أن يكون بين الخاصين عموم من وجه. مثلاً: (أكرم العلماء) و(يحرم إكرام فساقهم) و(يكره إكرام النحويين). وهنا يُخصص العام بالخاصين، ويقع التعارض بين الخاصين في مورد الاجتماع، فالترجيح أو التخيير.

[1] أي: لأجل خفاء التعيين.

كلام المحقق النراقي

كلام المحقق النراقي(1)

[2] إذا ورد عام وخاصان، فإذا لاحظنا العام مع الخاص الأول فإنه يلزم تخصيص ذلك العام بذلك الخاص، ثم إذا لاحظنا العام المخصص مع الخاص الثاني فقد

ص: 299


1- عوائد الأيام: 349.

عام وخصوصات، وقد خصّص ببعضها، كان اللازم ملاحظة النسبة بينه[1] وبين سائر الخصوصات بعد تخصيصه به، فربما تنقلب النسبة إلى عموم وخصوص من وجه، فلابد من رعاية هذه النسبة وتقديم الراجح منه ومنها[2]، أو التخيير بينه وبينها لو لم يكن هناك راجح، لا تقديمها عليه[3]، إلاّ [4] إذا كانت النسبة بعده على حالها.

----------------------------------

تنقلب النسبة، أي: النسبة بين العام المخصص وبين الخاص الثاني قد تصبح العموم من وجه، مثلاً العام: (يجب إكرام العلماء).

الخاص الأول: (إجماع بحرمة إكرام فساقهم).

الخاص الثاني: (يكره إكرام المستأكلين بعلمهم).

فلو خصصنا العام بالخاص الأول صار الحكم: (أكرم العلماء غير الفساق)، والنسبة بين (العلماء غير الفساق) وبين (العلماء المستأكلين) هي نسبة العموم من وجه.

إن قلت: كيف قدّم الخاص الأول على الخاص الثاني مع أنهما في مرتبة واحدة؟

قلت: المفروض أن الخاص الأول لُبّي فهو موجود مع العام أو قبله.

[1] بين العام، «تخصيصه» تخصيص العام، «به» بالبعض - وهو الخاص الأول اللُبّي - وحاصل الجملة: ملاحظة نسبة العام المخصَّص بالخاص الأول مع سائر الخصوصات.

[2] من العام المخصص بالخاص الأول، و«منها» من سائر الخصوصات هذا على القول بالترجيح، «أو التخيير» بناءً على عدم وجود مرجحات، هذا على القول بالترجيح، وإلاّ فالتخيير من الأول.

[3] أي: لابد من رعاية النسبة الجديدة، لا تقديم الخصوصات على العام.

[4] أي: نعم، لو خصصنا العام بالخاص الأول، ثم لاحظنا أن النسبة مع سائر الخصوصات لم تنقلب، وبقيت على حالها من العموم المطلق، فحينئذٍ تقدّم

ص: 300

وفيه[1]: إن النسبة إنما هي بملاحظة الظهورات[2]، وتخصيص العام بمخصص منفصل[3] - ولو كان قطعياً[4] - لا ينثلم به ظهوره، وإن انثلم به حجيته[5]، ولذلك[6]

----------------------------------

الخصوصات على العام؛ وذلك لبقاء النسبة مع كون الخاص المطلق أظهر من العام، ومثاله قد ذكرناه في القسم الأول، فراجع.

[1] حاصله: إن المناط في الألفاظ هو الظهور، وليس المناط هو مراد المتكلّم، والعام ظاهر في العموم حتى بعد تخصيصه. نعم، هو ليس بحجة في الخاص، لكن ذلك لا يخلّ بظهوره في العموم.

وحيث إن الملاك في الألفاظ هو ظهورها فلابد من ملاحظة الظهور حين إجراء النسبة. والعام لا يفقد ظهوره بالتخصيص، فلابد من ملاحظة ذلك العموم مع الدليل الآخر، لا ملاحظة المراد من ذلك العموم.

[2] لأن طريقة العقلاء هي العمل بالظهورات، وكذا من طريقتهم تقديم الأظهر على الظاهر.

[3] أي: منفصل لفظاً. نعم، لو كان المخصص متصلاً لفظاً لم ينعقد ظهور في العموم، كما مرّ في بحث العام والخاص.

[4] أي: مقطوع الصدور؛ وذلك لأن المناط في التقديم هي الدلالة لا السند؛ فلذا يُخصص القرآن بالحديث المعتبر، مع أن القرآن قطعي الصدور، والحديث المعتبر ظني الصدور عادة، وقد مرّ أنه مع إمكان الجمع الدلالي العرفي لا تصل النوبة إلى المرجحات السندية، «به» بالتخصيص، «ظهوره» ظهور العام.

[5] فلا يكون العام حجة في مورد الخاص؛ إذ بالتخصيص يتبيّن أن مورد الخاص لم يكن مراداً من العام، لكن ذلك لا يضرّ بظهوره؛ إذ المراد مرتبط بالإرادة الجدية، والظهور مرتبط بالإرادة الاستعمالية.

[6] أي: لأجل عدم انثلام ظهوره يكون العام... الخ.

ص: 301

يكون بعد التخصيص حجة في الباقي، لأصالة[1] عمومه بالنسبة إليه.

لا يقال[2]: إن العام بعد تخصيصه بالقطعي[3] لا يكون مستعملاً في العموم قطعاً، فكيف يكون ظاهراً فيه.

فإنه يقال[4]: إن المعلوم عدم إرادة العموم، لا عدم استعماله فيه لإفادة[5]

----------------------------------

وهذا دليل بقاء ظهور العام على العموم حتى بعد التخصيص. وحاصله: إن انثلام عموم العام بعد التخصيص يستلزم استعمال العام في غير ما وضع له - وهو العموم - وهذا يوجب المجاز، فيقال: ما هو المراد من العام بعد التخصيص؟ فهل يراد ما تبقّى بعد إخراج الخاص، وهذا أعلى المراتب، أو يراد ما دونه من المراتب؟

لا دليل على أية مرتبة، وهذا يوجب الإجمال في العام المخصص.

ولكن لا يلتزم أحد بذلك، بل يقولون: إن العام حجة في الباقي، وهذا يكشف عن بقاء ظهوره على العموم بحيث شمل جميع الأفراد، لكن خرج عن المراد - وليس عن اللفظ - مقدار الخاص، وقد مرّ تفصيل البحث في بحوث العام والخاص.

[1] هذا أصل لفظي، أي: الأصل اللفظي هو شمول العام لأفراده، «عمومه» أي: عموم العام، «إليه» إلى الباقي.

[2] حاصل الإشكال: إن الظهور فرع الاستعمال، فإذا لم يستعمل لفظ في معنى فلا يكون ظاهراً فيه.

[3] أي: بالخاص القطعي، وذكر القطعي من باب المصداق البارز، وإلاّ فالأمر كذلك مع الخاص الظني المعتبر.

[4] حاصل الجواب: إن العام مستعمل في العموم - بالإرادة الاستعمالية - نعم، هو غير مراد بالإرادة الجدية.

[5] أي: فائدة استعمال العام في العموم حتى بعد تخصيصه هي ضرب القاعدة الكلية، بحيث يدخل في الحكم جميع المصاديق إلاّ المقدار المعلوم التخصيص، فكلّما شككنا في مصداق كان داخلاً في الحكم الكلي، وقوله: «لإفادة» عِلّة المنفيِّ لا

ص: 302

القاعدة الكلية، فيعمل بعمومها ما لم يعلم بتخصيصها، وإلاّ [1] لم يكن وجهٌ[2] في حجيته في تمام الباقي، لجواز استعماله حينئذٍ[3] فيه وفي غيره من المراتب التي يجوز أن ينتهي إليها التخصيص.

وأصالة[4] عدم مخصص آخر لا توجب[5]

----------------------------------

النفي، «بعمومها» أي: بعموم القاعدة الكلية.

[1] أي: إذا لم يكن العام مستعملاً في العموم بعد تخصيصه.

[2] كما ذكرنا أن العام إذا لم يستعمل في العموم يكون مستعملاً في غير ما وضع له، فيكون مجازاً، ومراتب المجاز كثيرة، ولا ترجيح لبعضها على البعض، فينتهي العام إلى الإجمال.

[3] استعمال العام، «حينئذٍ» حين تخصيصه وعدم إرادة العموم منه، «فيه» في تمام الباقي، «التي يجوز...» بأن لا يكون تخصيصاً للأكثر، «إليها» إلى تلك المراتب.

[4] أراد الشيخ الأعظم(1)

تصحيح استعمال العام في تمام الباقي حتى مع عدم استعماله في العموم؛ وذلك بأن يقال: إن مراتب المجاز وإن كانت كثيرة، لكن لابد من حمل العام المخصص على تمام الباقي؛ وذلك لأصالة عدم وجود مخصص آخر.

[5] إشكال على كلام الشيخ الأعظم، حاصله: إن أصالة عدم مخصِّص آخر إنما هي من مقدمات الحكمة، فلابد من تمامية تلك المقدمات حتى يدل العام المخصَّص على تمام الباقي دلالة بالإطلاق - لعدم وضع العام إلاّ للعموم لا لتمام الباقي - فلابد حينئذٍ من إثبات أن الشارع كان في مقام بيان حكمه، وأنه لم ينصب مخصصاً آخر، أي: لم ينصب قرينة على الخلاف، وأنه لا يوجد قدر متيقن، فإذا كملت هذه المقدمات دلّ العام المخصَّص على تمام الباقي.

والمشكلة أنه لا يمكن إثبات هذه المقدمات في كل مورد من موارد العام المخصَّص،

ص: 303


1- فرائد الأصول 4: 104.

انعقاد ظهور له[1]، لا فيه ولا في غيره من المراتب، لعدم الوضع ولا القرينة المعينة لمرتبة منها، كما لا يخفى، لجواز إرادتها[2] وعدم نصب[3] قرينة عليها.

نعم[4]، ربما يكون عدم نصب قرينة مع كون العام في مقام البيان قرينة على إرادة التمام، وهو[5] غير ظهور[6] العام فيه في كل مقام.

فانقدح بذلك[7] أنه لابد من تخصيص العام بكل واحد من الخصوصات مطلقاً[8]،

----------------------------------

فلا يمكن إثبات دلالة العام على تمام الباقي في تلك الموارد، مع أن المفروض أنهم يلتزمون بحجية العام على تمام الباقي في كل موارد العام المخصص.

[1] «له» للعام، «لا فيه» في تمام الباقي، «غيره» غير الباقي من سائر المراتب، «لعدم الوضع» إذ لم يوضع العام للدلالة على الباقي، بل وُضع للدلالة على الجميع، «ولا القرينة...» بيان عدم تمامية مقدمات الحكمة كثيراً ما.

[2] أي: إمكان إرادة مرتبة من المراتب.

[3] كما لو لم يكن في مقام البيان، فلم تتمّ مقدمات الحكمة.

[4] أي: قد تتمّ مقدمات الحكمة، وهناك لابد من حمل العام المخصَّص على تمام الباقي.

[5] أي: كون عدم نصب القرينة قرينة، «فيه» في تمام الباقي.

[6] للفرق بينهما؛ إذ لابد من حمل اللفظ على ظاهره دائماً، لكن لا يحمل اللفظ على الإطلاق إلاّ مع تمامية مقدمات الحكمة، وكثيراً ما لا تتم مقدمات الحكمة.

[7] هذا نتيجة الكلام، أي: فتحصل أن العام بعد تخصيصه لا يخرج عن ظهوره في العموم، فلا تنقلب نسبته أصلاً مع سائر الخصوصات؛ وذلك لظهوره في العموم دائماً.

[8] وشرح «مطلقاً» بقوله: «ولو كان بعضها... الخ»، «بعضها» أي: بعض الخصوصات، «مقدّماً» زماناً.

ص: 304

ولو كان بعضها مقدماً أو قطعياً، ما لم يلزم[1] منه محذور انتهائه إلى ما لا يجوز الانتهاء إليه عرفاً، ولو لم تكن مستوعبة لأفراده[2]، فضلاً عما إذا كانت مستوعبة لها[3]، فلابد حينئذٍ[4] من معاملة التباين بينه وبين مجموعها[5] ومن ملاحظة الترجيح بينهما وعدمه. فلو رجح جانبها أو اختير في ما لم يكن هناك ترجيح[6] فلا مجال للعمل به[7]

----------------------------------

[1] إشارة إلى القسم الثاني الذي ذكرناه في أول الفصل.

[2] أي: لو لم تكن الخصوصات شاملة لجميع أفراد العام لكنها تستلزم تخصيص الأكثر، فحينئذٍ يكون التخصيص بكلّها ممتنعاً، لاستلزامه قبح استعمال العام.

[3] أي: لو كانت الخصوصات شاملة لجميع أفراد العام، فحينئذٍ قبح استعمال العام يكون أوضح، فلا يمكن التخصيص بكلّها.

[4] أي: حين لم يمكن التخصيص بكلّها فالوظيفة هي: الترجيح أو التخيير بين العام من جهة، وبين الخصوصات من جهة أخرى.

1- فإن ترجّح أو اختير جانب العام فلا كلام، فيعمل بالعام ويترك الخصوصات.

2- وإن ترجح أو اختير جانب الخصوصات فلا معنى لطرح العام رأساً؛ إذ التعارض بين العام وبين مجموع الخصوصات، لا بين العام وبعضها، فلابد من الترجيح أو التخيير بين الخاصين، فيرجح أحدهما فيخصص به العام، وقد يطرح الآخر.

[5] بين العام من جهة، وبين مجموع الخصوصات من جهة أخرى، «بينهما» أي: بين العام وبين الخصوصات، «جانبها» جانب الخصوصات.

[6] أو كان ترجيح ولكن لم نقل بالترجيح أصلاً.

[7] بالعام؛ وذلك لترجيح الخصوصات عليه، وسقوط العام رأساً بقبحه بعد خروج كل أفراده أو أكثرها.

ص: 305

أصلاً؛ بخلاف ما لو رجح طرفه[1] أو قدم تخييراً، فلا يطرح منها إلاّ خصوص[2] ما لا يلزم مع طرحه المحذور من[3] التخصيص بغيره، فإن التباين[4] إنما كان بينه وبين مجموعها لا جميعها، وحينئذٍ[5] فربما يقع التعارض بين الخصوصات فيخصص ببعضها ترجيحاً أو تخييراً، فلا تغفل.

هذا في ما كانت النسبة بين المتعارضات متحدة[6].

وقد ظهر منه[7] حالها في ما كانت النسبة بينها متعددة، كما إذا ورد هناك عامان

----------------------------------

[1] طرف العام، «منها» من الخصوصات.

[2] حاصل المراد: إنه لو كان في طرح أحدهما محذور فلابد من طرح الآخر.

أما لو لم يكن في طرح أيّ منهما محذور فنلاحظ المرجحات بين الخاصين أو نتخيّر بينهما.

[3] أي: المحذور الناشئ من التخصيص بالخاص الآخر.

[4] دليل عدم طرح كلا الخاصين، «بينه» بين العام، «مجموعها» أي: كلها مجتمعة، «لا جميعها» أي: لا مع كل واحد واحد منها، والحاصل: إن التباين بين العام من جهة وبين كل الخصوصات مجتمعة، ولا تباين بين العام وبين كل خاص بمفرده.

[5] حين ترجيح طرف العام، «فربّما» أي: قد لا يكون هناك مرجح دلالي، فيقع التعارض بين الخاصين.

[6] كالتساوي، أو العموم من وجه، أو كان عام وخاصان، وقد ذكرنا أمثلتها في صدر الفصل.

تعدد النسبة

[7] أي: من صورة اتحاد النسبة يتضح حكم اختلاف النسبة، مثل: أن تكون النسبة بين بعضها العموم من وجه، وبين بعضها الآخر العموم المطلق.

مثلاً لو قال: (يجب إكرام العلماء) و(يستحب إكرام العدول) و(يحرم إكرام

ص: 306

من وجهٍ مع ما هو أخص مطلقاً من أحدهما، وأنه[1] لابد من تقديم الخاص على العام[2] ومعاملة العموم من وجه بين العامين[3] من الترجيح والتخيير بينهما، وإن انقلبت النسبة بينهما إلى العموم المطلق بعد تخصيص أحدهما، لما عرفت[4] من أنه لا وجه إلاّ لملاحظة النسبة قبل العلاج[5].

نعم[6]،

----------------------------------

فساق العلماء). فالنسبة بين الأول والثاني: هي نسبة العموم من وجه، فيتعارضان في مورد الاجتماع - وهو العالم العادل - .

وأما النسبة بين الأول والثالث فهي العموم المطلق.

فعلى القول بانقلاب النسبة يخصص الأول بالثالث، فتكون النتيجة: (يجب إكرام العلماء غير الفساق) فصار أخص مطلقاً من الثاني، أي: (يستحب إكرام العدول)، لأن العلماء غير الفساق هم من مصاديق العدول.

ولكن بناءً على عدم انقلاب النسبة تبقى نسبة العموم من وجه بين الدليل الأول والثاني.

[1] عطف تفسيري على قوله: (قد ظهر منه حالها).

[2] للقاعدة العامة من تقديم الأظهر على الظاهر ولا محذور، ففي المثال نخصص (يجب إكرام العلماء) ب- (يحرم إكرام فساقهم).

[3] ففي المثال: (يجب إكرام العلماء) و(يستحب إكرام العدول) يتعارضان في مورد الاجتماع وهو (العالم العادل).

[4] هذا دليل بقاء النسبة وعدم انقلابها.

[5] ففي المثال قبل تخصيص (وجوب إكرام العلماء) ب(حرمة إكرام فساقهم).

[6] أي: إذا لم يبق مورد للعام الأول بعد تخصيصه، وبعد ترجيح العام الثاني عليه، فحينئذٍ يرجح العام الأول على العام الثاني، لا لانقلاب النسبة، بل لأجل دلالة الاقتضاء، لكي لا يكون العام الأول لغواً أو قبيحاً.

ص: 307

لو لم يكن الباقي تحته[1] بعد تخصيصه إلاّ ما لا يجوز أن يجوز عنه التخصيص أو كان بعيداً جداً[2] لقدم على العام الآخر لا لانقلاب النسبة بينهما، بل لكونه كالنص فيه[3]، فيقدم على الآخر الظاهر فيه[4] بعمومه، كما لا يخفى.

فصل: لا يخفى[5]: أن المزايا المرجحة لأحد المتعارضين الموجبة للأخذ به وطرح

----------------------------------

ففي المثال: (يجب إكرام العلماء) خصص ب- (يحرم إكرام فساقهم) فلو ترجح عليه العام الثاني وهو: (يستحب إكرام العدول)، فحينئذٍ لم يبق أيّ مورد للعام الأول؛ إذ (حرم إكرام فساق العلماء) و(استحب إكرام عدول العلماء)، ولا واسطة بين العدالة والفسق.

[1] أي: تحت العام من المصاديق، «أن يجوز عنه» أي: أن يعبر عنه التخصيص، والمراد أن يخصص أيضاً بمقدار استلزم تخصيص الكل أو الأكثر المستهجن.

[2] كتخصيص المساوي بأن يكون الخاص نصف أفراد العام، وهذا وإن لم يكن مستهجناً، لكنه قد يكون بعيداً عن أسلوب الفصحاء، فتأمل.

[3] أي: لكون العام المخصص كالنص في الباقي، مع كون العام الآخر كالظاهر فيه.

وإنما قال: (كالنص) لأن دلالة العقل بصون كلام المولى عن اللغوية توجب قطعية المراد.

[4] أي: الظاهر في الباقي، ومنشأ هذا الظهور هو عموم هذا العام.

فصل الترتيب بين المرجحات

اشارة

يذكر المصنف في هذا الفصل موضوعين، لا يرتبط أحدهما بالآخر، وكان الأولى إفراد الثاني في فصل مستقل.

1- رجوع المرجحات إلى الصدور

[5] مصب المرجحات مختلف، ولكنها كلها ترجع إلى صدور الخبر - أي: ترجيح

ص: 308

الآخر - بناءً على وجوب الترجيح[1] - وإن كانت[2] على أنحاء مختلفة ومواردها متعددة من راوي الخبر ونفسه ووجه صدوره ومتنه ومضمونه - مثل الوثاقة والفقاهة، والشهرة، ومخالفة العامة، والفصاحة، وموافقة الكتاب، والموافقة لفتوى الأصحاب... إلى غير ذلك مما يوجب مزية في طرف من أطرافه[3]،

----------------------------------

سنده - فجميع المرجحات ترجع إلى أن الشارع تعبَّدنا بصدور الخبر ذي المزية فيلزم العمل به، ولم يتعبدنا بصدور الخبر المرجوح، فلا يعمل به.

[1] أما بناءً على عدم لزوم الترجيح وأن الوظيفة هي التخيير فلا ترجع المرجحات إلى الصدور، بل يمكن أن يعبده الشارع بصدور الخبر المرجوح إذا اختاره المكلف.

[2] أي: متعلّق المرجحات مختلف، ولكن مرجعها جميعاً إلى صدور الخبر ذي المزية، مثلاً:

1- مرجحات الراوي، كالوثاقة والفقاهة، ترجح الصدور، أي: يعبّدنا الشارع بصدور الخبر الذي يرويه الأوثق والأفقه دون الخبر الآخر.

2- مرجحات نفس الخبر، كالشهرة الروائية، فإنها مزية للخبر من غير ارتباط بالراوي والمضمون وغيرها، فيعبّدنا الشارع بصدور هذا الخبر المشهور دون غيره.

3- جهة الصدور، كمخالفة العامة، فإنها ترجح صدور ذلك الخبر دون الموافق.

4- مرجحات المتن، كالفصاحة، وهذا مرجح غير منصوص، فبناءً على التعدي يعتبر مرجحاً في صدور الكلام الفصيح دون غيره.

5- مرجحات المضمون، كموافقة الكتاب - وهو مرجح منصوص - وموافقة الشهرة الفتوائية - وهذا مرجح غير منصوص - فهذا أيضاً يرجح صدور هذا الخبر دون المخالف لهما.

[3] أطراف الخبر، أي: ما يرتبط بالخبر مما تعلّق به المرجح، من راوي الخبر أو نفس الخبر أو جهة صدوره... الخ.

ص: 309

خصوصاً[1] لو قيل بالتعدي من المزايا المنصوصة -، إلاّ أنها[2] موجبة لتقديم أحد السندين وترجيحه وطرح الآخر، فإن[3] أخبار العلاج دلت على تقديم رواية ذات مزية في أحد أطرافها ونواحيها. فجميع هذه من مرجحات السند حتى موافقة الخبر للتقية[4]،

----------------------------------

[1] حيث تكثر الأطراف، مثلاً: مرجحات المتن - كالفصاحة - غير منصوصة، فعلى القول بالتعدي صارت الأطراف أكثر.

[2] أي: جميع هذه المرجحات - مع اختلاف متعلقاتها - فإنما ترجع إلى الصدور، أي: سند الخبر، وقد استدل المصنف لذلك بأمرين:

الدليل الأول: إن ظاهر الأخبار العلاجية هو أخذ الخبر الراجح، أي: اعتباره صادراً، وطرح الخبر المرجوح، أي: اعتبار عدم صدوره.

الدليل الثاني: إن التعبد بصدور الخبر المرجوح لغو؛ إذ لا معنى لأن يقول الشارع نزّلت هذا الخبر منزلة المقطوع لكن لا تعمل به، فأي فائدة في التعبد إذا لم يستتبع العمل؟

[3] بيان الدليل الأول، «تقديم...» أي: ترجيحها والعمل بها مع طرح الرواية الأخرى.

[4] مقصوده مخالفة الخبر للعامة، وإنما خصص هذا المرجح بالذكر لخفاء ارتباطه بالصدور، فقد يتوهم أن مخالفة العامة مرجحٌ لا يرجع إلى الصدور!!

ويردّه: أن التعبد بصدور الموافق لغو، فأيّ فائدة في اعتبار صدوره مع المنع عن العمل به؟

إن قلت: إذا كان الخبران - الموافق والمخالف لهم - مقطوعي الصدور فإن المرجح لا يرجع إلى الصدور؛ إذ لا يعقل اعتبار عدم صدور ما هو مقطوع الصدور، كما لا معنى لاعتبار صدوره؛ إذ هو من أردأ أنواع تحصيل الحاصل.

ص: 310

فإنها أيضاً مما يوجب ترجيح أحد السندين وحجيته فعلاً[1] وطرح الآخر رأساً. وكونها[2] في مقطوعي الصدور متمحّضة في ترجيح الجهة لا يوجب[3] كونها كذلك في غيرهما، ضرورة[4] أنه لا معنى للتعبد بسند ما يتعين حمله على التقية[5]، فكيف يقاس على ما لا تعبد فيه[6] للقطع بصدوره؟

----------------------------------

قلت: القياس مع الفارق؛ إذ في الخبرين المقطوعين لا تعبّد بالصدور، فلابد من إرجاع المرجح إلى غير الصدور، فلا لغوية في البين أصلاً.

وأما في الخبرين الظنيين لابد من التعبد بالصدور - أي: تنزيل المظنون منزلة المقطوع - وحينئذٍ يكون التعبد بصدور الموافق لغواً، وهو قبيح.

[1] عطف تفسيري لبيان معنى ترجيح أحد السندين، وحاصله: إن كلا الخبرين له مقتضي الحجية، لكن لمّا تعارضا فإنّ ذا المزية تكون حجيته فعلية، دون ما لا مزية له.

[2] بيان للإشكال، وقد ذكرناه بعبارة (فإن قلت)، «كونها» الضمير يرجع إلى قوله: (موافقة الخبر للتقية)، والمرجح إنما هو المخالفة لا الموافقة.

[3] بيان الجواب، «كونها» أي: كون موافقة الخبر للتقية، «كذلك» أي: متمحضة في ترجيح الجهة، «غيرهما» غير مقطوعي الصدور.

[4] بيان الدليل الثاني لرجوع جميع المرجحات إلى الصدور.

[5] «بسند» مضاف، و«ما» مضاف إليه، أي: لا معنى لأن يعبّدنا الشارع بصدور ذلك الخبر مع النهي عن العمل به، وهذا الدليل يجري في سائر المرجحات أيضاً.

[6] إذ مع القطع بالصدور لا معنى للتعبد به؛ إذ مع وجود الشيء لا معنى لاعتبار وجوده، بل هو من أردأ أنواع تحصيل الحاصل، «للقطع» علة عدم وجود التعبد.

ص: 311

ثم[1]

----------------------------------

2- الترتيب بين المرجحات

[1] هل يلزم مراعاة الترتيب بين المرجحات، حسب ما هو مذكور في المقبولة - مثلاً - أم لا ترتيب بينها؟

والثمرة تظهر في ما لو كان لكلا الخبرين مرجح، لكن أحدهما مرجح متقدم، والآخر مرجح متأخر، فعلى القول بالترتيب لابد من الترجيح بالمرجح المتقدم، وعلى القول بعدم الترتيب يتساويان.

وحاصل ما يذهب إليه المصنف:

1- على القول بالتعدي عن المرجحات المنصوصة فإن علة الترجيح هي الظن الشخصي، أو الظن النوعي كما مرّ، فيلزم ترجيح ما أوجب الظن - نوعاً أو شخصاً - سواء كان مقدماً أم مؤخراً، وسواء كان منصوصاً أم غير منصوص؛ وذلك لأن الحكم يدور مدار العلة.

2- وعلى القول بالاقتصار على المرجحات المنصوصة:

أ: فيحتمل لزوم مراعاة الترتيب؛ وذلك لذكر المرجحات مترتبة في المقبولة والمرفوعة.

ب: ويحتمل عدم الترتيب، بل التساوي في المرجحات، وحمل المقبولة والمرفوعة على ذكر المرجح من دون إيجاب الترتيب؛ وذلك بقرينة سائر الأخبار العلاجية، فهي أخبار كثيرة ولم يذكر فيها إلاّ مرجح واحد عادة، ومن البعيد تقييد كل تلك الأخبار بالمقبولة والمرفوعة، بأن يقال: إن هذه المرجحات في تلك الأخبار إنما هي بعد المرجحات المذكورة ابتداءً في المقبولة والمرفوعة.

فبهذه القرينة نرفع اليد عن ظاهر المقبولة والمرفوعة، ونقول: إنّ الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ذكر مرجحاً - كمثال - ثم لما فرض الراوي التساوي ذكر الإمام مرجحاً آخر، وهكذا

ص: 312

إنه لا وجه لمرإعاة الترتيب بين المرجحات لو قيل بالتعدي وإناطة[1] الترجيح بالظن أو بالأقربية إلى الواقع، ضرورة[2] أن قضية ذلك تقديم الخبر الذي ظن صدقه أو كان أقرب إلى الواقع[3] منهما، والتخيير بينهما إذا تساويا، فلا وجه لإتعاب النفس في بيان أن أيها يقدم أو يؤخر إلاّ[4] تعيين أن أيها يكون فيه المناط في صورة مزاحمة بعضها مع الآخر.

وأما لو قيل بالاقتصار على المزايا المنصوصة فله[5] وجه، لما يُتراءى من ذكرها مرتباً في المقبولة والمرفوعة.

مع إمكان أن يقال[6]: إن الظاهر كونهما - كسائر أخبار الترجيح - بصدد بيان أن هذا[7]

----------------------------------

من غير إرادة الترتيب، فتأمل.

[1] عطف تفسيري على «التعدي»، و«الظن» أي: الشخصي، و«الأقربية إلى الواقع» أي: الظن النوعي، كما مرّ تفصيله.

[2] دليل عدم الوجه لمراعاة الترتيب، «ذلك» أي: إناطة الترجيح بالظن أو بالأقربيّة.

[3] فكل مرجح أوجب ذلك وجب الأخذ به؛ لأنه العلّة في الترجيح، سواء كان مقدماً في المقبولة والمرفوعة أم كان متأخراً، وسواء كان منصوصاً أم لا.

[4] أي: يكون البحث عن المقدم والمأخّر ذا فائدة إذا كان الغرض بيان وجود العِلّة في بعض المرجحات دون بعض في حال التزاحم.

[5] أي: لمراعاة الترتيب بين المرجحات، «ذكرها» المرجحات.

[6] أي: حتى على القول بالاقتصار فإنه يمكن التزام عدم الترتيب بين المرجحات، «كونهما» المقبولة والمرفوعة.

[7] أي: كونهما بصدد بيان مصاديق المرجحات، وبعبارة أخرى: بيان أصل المرجحات دون ترتيبها.

ص: 313

مرجح وذاك مرجح، ولذا[1] اقتصر في غير واحد منها على ذكر مرجح واحد، وإلاّ [2] لزم تقييد جميعها - على كثرتها - بما في المقبولة[3]، وهو بعيد جداً. وعليه[4] فمتى وجد في أحدهما مرجح وفي الآخر آخر منها كان المرجع هو إطلاقات التخيير، ولا كذلك على الأول[5]، بل لابد من ملاحظة الترتيب، إلاّ إذا كانا في عرض واحد[6].

وانقدح بذلك[7] أن حال المرجح الجهتي حال سائر المرجحات في أنه لابد في

----------------------------------

[1] بيان وجه رفع اليد عن ظاهر المقبولة والمرفوعة في الترتيب، «منها» من أخبار الترجيح.

[2] أي: إن لم نقل: إن المقبولة والمرفوعة بصدد بيان... الخ، وبعبارة أخرى: إن قلنا بدلالتهما على الترتيب، «جميعها» أي: جميع الأخبار العلاجية الأخرى.

[3] ولم يذكر المرفوعة لضعف سندها، فلا تصلح لتقييد سائر الأخبار.

[4] أي: بناءً على عدم لزوم مراعاة الترتيب حتى على القول بالاقتصار، «آخر منها» أي: مرجح آخر من المرجحات.

[5] «لا كذلك» أي: لا يكون المرجع إطلاقات التخيير، بل لابد من ترجيح ما فيه المرجح المتقدم دون ما فيه المرجح المتأخر، «الأول» أي: بناءً على لزوم الترتيب حسب ظاهر المقبولة والمرفوعة.

[6] كالأفقهية والأعدلية حيث ذكرا في المقبولة معاً، حيث قال عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما» فإذا كان راوي أحد الخبرين أفقه، وراوي الآخر أعدل، فقد تساويا؛ لأن هذه مرجحات في عرض واحد.

تقديم المرجح الجهتي وعدمه
اشارة

[7] حاصله: بما ذكرناه من عدم الترتيب بين المرجحات، وأنها جميعاً ترجع

ص: 314

صورة مزاحمته[1] مع بعضها من ملاحظة أن أيهما فعلاً[2] موجب للظن بصدق ذيه بمضمونه[3] أو الأقربية كذلك[4] إلى الواقع، فيوجب[5] ترجيحه وطرح الآخر؛ أو أنه[6] لا مزية لأحدهما على الآخر، كما إذا كان الخبر الموافق للتقية بما

----------------------------------

إلى الصدور يتضح تساوي جميع المرجحات، ولا تفضيل لأحدها على الآخر، فإن كان أحد الخبرين ذا مزية والخبر الآخر له مزية أخرى فهما متساويان، فلابد من الرجوع إلى أدلة التخيير.

خلافاً للوحيد البهبهاني والمحقق الرشتي(1)

حيث ذهبا إلى ترجيح المرجح بالجهة على جميع المرجحات. وخلافاً للشيخ الأعظم(2)

حيث ذهب إلى ترجيح مرجحات الصدور على مرجح جهة الصدور.

[1] مزاحمة المرجح بالجهة مع بعض المرجحات الأخرى، «أيهما» أيّ: المرجحين - بالجهة أو بالصدور - .

[2] بناءً على مبنى أن علة الترجيح هو الظن الشخصي، «ذيه» أي: الخبر الواجد لتلك المزية.

[3] أي: الصدق بالمضمون، والمعنى: إن أيّهما موجب للظن بصدق مضمون ذي المزية.

[4] بناءً على مبنى أن علة الترجيح هو الظن النوعي، «كذلك» أي: موجب فعلاً للأقربية إلى الواقع.

[5] أي: بعد ملاحظة الظن الشخصي أو النوعي، فإن ذلك المرجح يوجب ترجيح الخبر الذي له تلك المزية.

[6] عطف على (أن أيهما فعلاً...).

ص: 315


1- الفوائد الحائرية: 219؛ بدائع الأفكار: 434.
2- فرائد الأصول 4: 75.

له من المزية[1] مساوياً للخبر المخالف لها بحسب المناطين، فلابد حينئذٍ من التخيير بين الخبرين.

فلا وجه لتقديمه على غيره[2]، كما عن الوحيد البهبهاني+(1) وبالغ فيه بعض أعاظم المعاصرين[3] «أعلى الله درجته».

ولا لتقديم غيره عليه[4]، كما يظهر من شيخنا العلامة «أعلى الله مقامه»[5]،

----------------------------------

[1] ككون راويه أعدل وأوثق - مثلاً - «المخالف لها» للتقية، «المناطين» الظن الشخصي والظن النوعي - الأقربية للواقع - «حينئذٍ» حين التساوي.

[2] تقديم المخالف للعامة، «غيره» غير المخالف، أي: الموافق.

[3] المحقق الشيخ حبيب الله الرشتي(2)

وسيأتي ذكر دليله مع الإشكال عليه، في قول المصنف: (والعجب كل العجب أنه لم يكتف بما أورده... الخ) فانتظر.

كلام الشيخ الأعظم في تقديم سائر المرجحات على المرجح بالجهة
اشارة

[4] تقديم غير المخالف على المخالف، أي: تقديم سائر المرجحات على مخالفة العامة.

[5] حاصل كلامه: إن المرجح الجهتي إنما هو بعد ثبوت الصدور، فلا معنى للبحث عن جهة الصدور مع عدم ثبوت أصل الصدور.

والمرجح الجهتي لا يثبت الصدور، وأما المرجحات المتعلقة بالصدور فهي تثبت الصدور. فإذا كان أحد الخبرين موافقاً للعامة لكن راويه أوثق وأعدل، فبهذا المرجح يثبت صدوره، وأما الخبر المخالف للعامة فلا شيء يثبت صدوره، إذن لا تصل النوبة إلى جهة الصدور أصلاً.

ص: 316


1- الفوائد الحائرية: 219.
2- بدائع الأفكار: 434.

قال: «أما لو زاحم الترجيحُ[1] بالصدور الترجيح من حيث جهة الصدور - بأن كان الأرجح صدوراً موافقاً للعامة - فالظاهر تقديمه على غيره[2]، وإن كان مخالفاً للعامة، بناءً[3] على تعليل الترجيح بمخالفة العامة باحتمال التقية في الموافق، لأن هذا الترجيح[4] ملحوظ في الخبرين بعد فرض صدورهما قطعاً كما في المتواترين، أو تعبداً كما في الخبرين بعد عدم إمكان[5] التعبد بصدور أحدهما وترك التعبد

----------------------------------

نعم، لو ثبت الصدور - كما لو كان سند الخبرين قطعياً، أو تساوى الخبران في سائر المرجحات - فحينئذٍ تصل النوبة إلى الترجيح بجهة الصدور.

إن قلت: أدلة حجية خبر الواحد تشمل كلا الخبرين، فكلاهما حجة بمعنى أن الشارع يعبّدنا بصدورهما معاً.

قلت: لا معنى للتعبد بصدور خبر ثم المنع عن العمل به، فإنه لغو كما مرّ.

[1] أي: كان أحد الخبرين له مرجح سندي، والآخر له مرجح في جهة الصدور، بأن كان مخالفاً للعامة.

[2] تقديم الأرجح صدوراً الموافق، «على غيره» أي: غير الأرجح صدوراً.

[3] قد مرّ أن الترجيح بمخالفة العامة إما من باب كون الرشد في نفس المخالفة لحسنها، وإما من باب الحق في طرف المخالف، وإما من باب انفتاح باب التقية فيه، فراجع قول المصنف: (وأما الثالث فلاحتمال أن يكون الرشد في... الخ).

يقول الشيخ الأعظم(1):

إن ما نذكره هنا إنما هو على المبنى الأخير، وهو أن الترجيح لانفتاح باب التقية في الموافق.

[4] أي: الترجيح بمخالفة العامة.

[5] لأنه مع شمول دليل الحجية لكليهما يكون ترجيح صدور أحدهما على الآخر ترجيحاً بلا مرجح، وهو قبيح.

ص: 317


1- فرائد الأصول 4: 137.

بصدور الآخر، وفي ما نحن فيه[1] يمكن ذلك بمقتضى أدلة الترجيح من حيث الصدور.

إن(1) قلت[2]: إن الأصل[3] في الخبرين الصدور، فإذا تعبدنا بصدورهما اقتضى ذلك[4] الحكم بصدور الموافق تقيةً، كما يقتضي[5] ذلك الحكم بإرادة خلاف الظاهر في أضعفهما، فيكون هذا المرجح[6] نظير الترجيح بحسب الدلالة مقدماً على الترجيح بحسب الصدور.

----------------------------------

[1] حيث كان الموافق أرجح صدوراً على المخالف، «يمكن ذلك» أي: يمكن التعبد بصدور أحدهما وترك الآخر؛ وذلك لوجود مزية في صدور أحدهما - وهو الموافق الذي له مزية سنديّة - .

[2] حاصله: إن دليل الحجية يشمل كلا الخبرين، فيُعبّدنا الشارع بصدورهما معاً، وحينئذٍ تصل النوبة إلى المرجح الجهتي.

[3] أي: القاعدة، وذلك لشمول دليل الحجية لكليهما.

[4] أي: تعبدنا بصدورهما، وبعبارة أخرى: حجيتهما، «الحكم...» لعدم إمكان صدورهما كليهما لبيان الحكم الواقعي - لتنافيهما - فتصل النوبة إلى المرجح الجهتي.

[5] يذكر المستشكل مثالاً لإمكان التعبد بصدور الدليلين المتعارضين، وهو حكم الشارع بحجية الظاهر والأظهر مع لزوم حمل الظاهر على الأظهر كالعام والخاص، فإن دليل الحجية يشملهما معاً، لكن مع لزوم حمل العام على الخاص، «ذلك» أي: التعبد بالصدور، «الحكم» مفعول يقتضي، «أضعفهما» أي: أضعف دلالة.

[6] أي: المرجح الجهتي، والحاصل: إن الأدلة العامة لحجية الخبر تشمل كلا الخبرين، فكلاهما حجة مع حمل الخبر الموافق على التقية.

ص: 318


1- في المصدر: «فإن...».

قلت[1]: لا معنى للتعبد بصدورهما مع وجوب حمل أحدهما المعين على التقية، لأنه إلغاء لأحدهما في الحقيقة»(1).

وقال - بعد جملة من الكلام - : «فمورد هذا الترجيح[2] تساوي الخبرين من حيث الصدور، إما علماً كما في المتواترين، أو تعبداً[3] كما في المتكافئين من الأخبار. وأما ما وجب فيه التعبد بصدور أحدهما المعين[4] دون الآخر، فلا وجه لإعمال هذا المرجح فيه، لان جهة الصدور متفرع(2)

على أصل الصدور»(3).

انتهى موضع الحاجة من كلامه «زيد في علو مقامه».

وفيه[5]:

----------------------------------

[1] حاصله: إن حجية كلا الخبرين لا معنى له، بل حجية أحدهما لغو؛ إذ كيف يعبدنا الشارع به ثم يقول لا تعمل به؟!!

[2] أي: الترجيح بمخالفة العامة.

[3] أي: تساوي الخبرين تعبداً.

[4] وذلك في ما كان المرجح الصدوري في ذلك المعيّن، «فيه» في هذا الذي له مرجح صدوري.

إشكالان على كلام الشيخ الأعظم

[5] يذكر المصنف إشكالين:

الأول: إن علة الترجيح عند الشيخ الأعظم هي الأقربية للواقع - أي: الظن النوعي - فالترجيح يدور مدار هذه العلة، فقد يكون مع المخالف وقد يكون مع الموافق، وكذا على مبنى الظن الشخصي.

الثاني: إن جميع المرجحات ترجع إلى الصدور، وحتى المرجح الجهتي يرجع

ص: 319


1- فرائد الأصول 4: 136 - 137.
2- في المصدر: «متفرعة».
3- فرائد الأصول 4: 137 - 138.

- مضافاً إلى ما عرفت[1] - أن حديث[2] فرعية جهة الصدور على أصله إنما يفيد إذا لم يكن المرجح الجهتي من مرجحات أصل الصدور، بل من مرجحاتها. وأما إذا كان من مرجحاته بأحد المناطين[3]، فأي فرق بينه وبين سائر المرجحات؟ ولم يقم[4] دليل بعد في الخبرين المتعارضين على وجوب التعبد بصدور الراجح منهما من حيث غير الجهة مع كون الآخر راجحاً بحسبها، بل هو[5] أول الكلام، كما لا يخفى. فلا محيص من ملاحظة الراجح من المرجحين بحسب أحد المناطين، أو من دلالة أخبار العلاج على الترجيح بينهما[6] مع المزاحمة، ومع عدم الدلالة[7] ولو لعدم التعرض لهذه الصورة، فالمحكم هو إطلاق التخيير، فلا تغفل.

----------------------------------

إلى السند.

[1] وهو الإشكال الأول.

[2] بيان للإشكال الثاني، «أصله» أي: أصل الصدور، «مرجحاتها» أي: مرجحات الجهة.

[3] مرجحات الصدور بمناط الظن الشخصي، أو بمناط الظن النوعي، «بينه» أي: بين المرجح الجهتي.

[4] أي: أثبتنا أن كل المرجحات ترجع إلى الصدور، وهي متساوية، ولا يوجد دليل خاص في ترجيح المزية التي موردها الجهة على المزية التي موردها غير الجهة، «بحسبها» بحسب الجهة.

[5] أي: الدليل الدال على ترجيح المرجح الصدوري على غيره هو أول الكلام.

[6] المرجح الجهتي والمرجح من غير الجهة.

[7] أي: الأخبار العلاجية لم تتعرض لهذه الصورة، وهي كون أحد الخبرين راجحاً بمخالفة العامة، والآخر راجحاً بالشهرة مثلاً.

ص: 320

وقد أورد بعض أعاظم تلاميذه(1)

عليه بانتقاضه[1] بالمتكافئين من حيث الصدور، فإنه لو لم يعقل التعبد بصدور المتخالفين[2] من حيث الصدور مع حمل أحدهما على التقية لم يعقل التعبد بصدورهما مع حمل أحدهما عليها، لأنه إلغاء لأحدهما أيضاً في الحقيقة.

وفيه[3]: ما لا يخفى من الغفلة، وحسبان أنه التزم[4] في مورد الترجيح بحسب الجهة باعتبار تساويهما من حيث الصدور إما للعلم بصدورهما وإما للتعبد به فعلاً، مع بداهة أن غرضه من التساوي من حيث الصدور تعبداً تساويهما بحسب

----------------------------------

إشكالان للمحقق الرشتي

[1] الإشكال الأول هو على قول الشيخ الأعظم: (بعد فرض صدورهما... تعبداً كما في الخبرين) وقوله: (تساوي الخبرين من حيث الصدور... تعبداً كما في المتكافئين).

وحاصل الإشكال: كما لا يمكن التعبد بصدور الخبرين غير المتكافئين؛ للغوية التعبد بما لا يعمل به كذلك لا يمكن التعبد بصدور الخبرين المتكافئين.

[2] بأن كان أحدهما ذا مرجح سندي والآخر لا مرجح سندي له، وقوله: «لم يعقل» جزاء قوله: «لو لم يعقل»، «بصدورهما» المتكافئين، «عليها» على التقية.

[3] حاصله: إن الشيخ لم يدّع أن الشارع عبَّدنا بالمتكافئين، بل مراده تساوي نسبة كلا الخبرين إلى دليل الحجيّة، وبعبارة أخرى: الحجية الشأنيّة لكليهما، ولكن الفعلية لأحدهما.

[4] لا يخفى أن تركيب الجملة غير صحيح؛ لأن مفعول «التزم» هو «فعلاً» - بعد سطرين - وقوله: «في مورد الترجيح... وإما للتعبد به» جملة معترضة.

ص: 321


1- بدائع الأفكار: 457.

دليل التعبد بالصدور قطعاً[1]، ضرورة[2] أن دليل حجية الخبر لا يقتضي التعبد فعلاً بالمتعارضين، بل ولا بأحدهما، وقضية دليل العلاج ليس إلاّ التعبد بأحدهما تخييراً أو ترجيحاً.

والعجب كل العجب أنه لم يكتف بما أورده من النقض حتى ادعى[3] استحالة تقديم الترجيح بغير هذا المرجح على الترجيح به، وبرهن عليه بما حاصله:

----------------------------------

[1] «قطعاً» متعلق بقوله: (بداهة أن غرضه...) أي: غرضه قطعاً ليس هو التعبد الفعلي، بل غرضه هو أنهما متساويان بالنسبة إلى دليل الحجية.

[2] أي: دليل الحجية أحد أمرين، وكلاهما لا يدل على الحجية الفعلية للمتعارضين، قطعاً.

الأول: الأدلة العامة على حجية الخبر الواحد، وهذه لا تقتضي حجية المتعارضين، لا كليهما لتعارضهما، ولا أحدهما المعيّن لعدم الترجيح، ولا أحدهما المخيّر؛ لعدم دلالة الأخبار العامة على التخيير.

الثاني: الأخبار العلاجية، وهي تقتضي حجية أحد الخبرين فقط دون الآخر، كما هو واضح.

[3] وهذا دليل المحقق الرشتي على تقديم المرجح الجهتي على سائر المرجحات، وقد جعله إشكالاً ثانياً على كلام الشيخ الأعظم.

وحاصله: إنه يستحيل حجية الخبر الموافق للعامة؛ وذلك لأن أمر الخبر الموافق الظني الصدور يدور بين عدم صدوره أصلاً، وبين صدوره عن الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لكنه للتقية، ويستحيل التعبد بهذا الخبر؛ لعدم جواز العمل به؛ لأنه لم يصدر أو صدر لعدم بيان الحكم الواقعي. وأما الخبر الموافق القطعي الصدور فينحصر أمره في صدوره للتقية، وهذا الخبر أيضاً يستحيل التعبد به؛ لأنه لم يصدر لبيان الواقع. فلابد من حجية الخبر المخالف فقط.

ص: 322

«امتناع التعبد بصدور الموافق، لدوران أمره بين عدم صدوره من أصله وبين صدوره تقيةً، ولا يعقل التعبد به على التقديرين[1] بداهةً، كما أنه لا يعقل التعبد بالقطعي الصدور الموافق، بل الأمر في الظني الصدور أهون[2]، لاحتمال عدم صدوره بخلافه».

ثم قال: «فاحتمال تقديم المرجحات السندية على مخالفة العامة، مع نص الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ[3] على طرح موافقهم(1)،

من العجائب والغرائب التي لم يعهد صدورها(2) من ذي مُسكة فضلاً عمن هو تالي(3) العصمة علماً وعملاً»(4).

ثم قال: «وليت شعري إن هذه الغفلة الواضحة كيف صدرت منه، مع أنه في جودة النظر يأتي بما يقرب من شق القمر»(5).

وأنت خبير بوضوح فساد برهانه [4]، ضرورة عدم دوران أمر الموافق بين الصدور تقية وعدم الصدور رأساً؛ لاحتمال صدوره لبيان حكم الله واقعاً وعدم

----------------------------------

[1] عدم الصدور، والصدور للتقية.

[2] مقصوده (أوضح)، لأن الموافق القطعي أمره منحصر في الصدور للتقية، وأما الموافق الظني فأمره يدور بين عدم الصدور وبين الصدور للتقية.

[3] أي: إضافة إلى الدليل العقلي.

[4] حاصل الإشكال عليه: إن الموافق الظني يدور أمره بين ثلاثة احتمالات، لا كما توهم المحقق الرشتي من دورانه بين أمرين، والثالث هو احتمال صدور ذلك الخبر لبيان حكم الواقع؛ إذ ليس كل خبر موافق لهم خلاف الواقع؛ إذ بعض الأحكام الواقعية لم يحرفوها، بل قالوا بها، كما هو واضح.

ص: 323


1- في المصدر: «ما يوافقهم».
2- في المصدر: «صدوره».
3- في المصدر: «مآل».
4- بدائع الأفكار: 457.
5- بدائع الأفكار: 457.

صدور المخالف المعارض له أصلاً، ولا يكاد[1] يحتاج في التعبد إلى أزيد من احتمال صدور الخبر لبيان ذلك بداهة؛ وإنما دار احتمال الموافق بين الاثنين[2] إذا كان المخالف قطعياً صدوراً وجهةً[3] ودلالةً، ضرورة دوران معارضه حينئذٍ[4] بين عدم صدوره وصدوره تقية، وفي غير هذه الصورة[5] كان دوران أمره بين الثلاثة لا محالة، لاحتمال صدوره لبيان الحكم الواقعي حينئذٍ أيضاً.

ومنه[6] قد انقدح إمكان التعبد بصدور الموافق القطعي لبيان الحكم الواقعي

----------------------------------

وكذا في الموافق القطعي لا ينحصر الأمر في التقية، بل هناك احتمال ثانٍ وهو صدوره لبيان الواقع.

[1] أي: فلا إشكال في التعبد بالخبر الموافق للعامة؛ لأنه يكفي في صحة التعبد بالخبر الظني احتمال الصدور لبيان الواقع، «في التعبد» أي: صحة التعبد، «لبيان ذلك» أي: لبيان الواقع.

[2] أي: بين عدم الصدور أو الصدور للتقية، والمعنى: إن الدوران بين هذين إنما هو في ما لو كان أحدهما قطعياً من كل الجهات - السند، والدلالة، والجهة - فالآخر أمره يدور بين الاثنين.

وغالب الأخبار المتعارضة - الموافقة والمخالفة - ليست كذلك، بل هي ظنيّة الصدور غالباً، ودلالتها ظاهرة وليست نصاً، وجهتها مظنونة.

[3] أي: القطع بأنه صادر لبيان الواقع لا للتقية، «ودلالة» أي: يكون نصاً.

[4] حين كون المخالف للعامة قطعياً صدوراً وجهةً ودلالةً.

[5] «هذه الصورة» أي: في غير صورة القطع بالسند والدلالة والجهة، «الثلاثة» عدم الصدور والصدور تقية والصدور لبيان الواقع.

[6] أي: من إمكان صدور الخبر الموافق الظني لبيان الواقع يتضح إمكان صدور الخبر الموافق القطعي لبيان الواقع أيضاً.

ص: 324

أيضاً، وإنما لم يكن التعبد بصدوره لذلك[1] إذا كان معارضه المخالف قطعياً بحسب السند والدلالة[2]، لتعيّن[3] حمله على التقية حينئذٍ لا محالة.

ولعمري إن ما ذكرنا أوضح من أن يخفى على مثله، إلاّ أن الخطأ والنسيان كالطبيعة الثانية للإنسان، عصمنا الله من زلل الأقدام والأقلام في كل ورطة ومقام.

ثم[4] إن هذا كله إنما هو بملاحظة أن هذا المرجح[5] مرجح من حيث الجهة. وأما بما[6] هو موجب لأقوائية دلالة ذيه من معارضه - لاحتمال التورية في المعارض

----------------------------------

[1] بصدور الموافق، «لذلك» لبيان الواقع.

[2] والجهة أيضاً، أي: كون المخالف قطعياً بحسب الجهة أيضاً صادراً لبيان الواقع لا للتقية.

[3] علة عدم إمكان التعبد في هذه الصورة، «حمله» حمل الموافق، «حينئذٍ» حين كون معارضه - وهو المخالف - قطعياً صدوراً ودلالةً وجهةً.

[4] أي: ما مرّ من أن مخالفة العامة هل هو متساوي مع سائر المرجحات أم مقدم عليها أم هي تقدم عليه؟ كل ذلك بناءً على أن المخالفة من مرجحات الصدور أو من مرجحات جهة الصدور.

أما لو رجعت المخالفة والموافقة إلى الدلالة - بأن ضعفت دلالة الموافق بسبب احتمال التورية - فلا تصل النوبة إلى سائر المرجحات أصلاً؛ وذلك لما مرّ من تقدّم قوة الدلالة على مرجحات الصدور ومرجحات جهة الصدور.

[5] أي: مخالفة العامة.

[6] أي: أما بملاحظة ما يوجب أقوائية الدلالة... الخ، وضمير «هو» يرجع إلى «ما» الموصولة، «لاحتمال» علة أقوائية الدلالة، «فيه» أي: في المعارض، «دونه» دون ذي المزية - وهو المخالف للعامة - .

ص: 325

المحتمل فيه التقية دونه - فهو[1] مقدم على جميع مرجحات الصدور بناءً على ما هو المشهور[2] من تقدم التوفيق بحمل الظاهر على الأظهر على الترجيح بها.

اللهم إلاّ أن يقال[3]: إن باب احتمال التورية وإن كان مفتوحاً في ما احتمل فيه التقية، إلاّ أنه[4] حيث كان بالتأمل والنظر لم يوجب أن يكون معارضه أظهر بحيث يكون[5] قرينةً على التصرف عرفاً في الآخر، فتدبر.

فصل: موافقة الخبر[6] لما يوجب الظن بمضمونه - ولو نوعاً - من المرجحات في

----------------------------------

[1] أي: هذا المرجح - وهو مخالفة العامة - .

[2] وقد مرّ أن الجمع الدلالي مقدّم على الترجيح بالصدور أو جهة الصدور، «بحمل» متعلق ب- «التوفيق»، «بها» أي: بمرجحات الصدور.

[3] حاصله: إن احتمال التورية لا يُضعّف الظهور؛ وذلك لأن التورية أمر خفي لا يُطّلع عليه إلاّ بعد التأمل والتدقيق، ولو كان احتمال التورية يخرّب الظهور العرفي لما كان معنى للتورية أصلاً؛ إذ الغرض منها إخفاء أمر على السامع. فتستعمل ألفاظ لها ظهور في غير المراد، وقد مرّ أن الإرادة الجدية لا تضعف الظهور، بل الظهور يرتبط بالإرادة الاستعمالية.

[4] أن احتمال التورية، «لم يوجب» جواب «حيث»، «معارضه» أي: معارض ما احتمل فيه التقية.

[5] أي: يكون المعارض الأظهر، «الآخر» الموافق للتقية.

فصل المرجحات الخارجية

اشارة

[6] المرجح قد يكون غير مستقل عن الخبر، كصفات الراوي ونحو ذلك، فهذا يعبر عنه بالمرجحات الداخلية، وقد مرّ ذكرها في الفصول الماضية.

ص: 326

الجملة[1]، بناءً[2] على لزوم[3] الترجيح لو قيل[4] بالتعدي من المرجحات المنصوصة،

----------------------------------

وقد يكون مستقلاً لا ارتباط له بالخبر، ولكن تطابق مضمونه مع مضمون الخبر، كالشهرة الفتوائية، فهذا يعبر عنه بالمرجحات الخارجية أو مرجحات المضمون، وهي على أربعة أقسام.

1- ما ليست بحجة لعدم الدليل عليها، كالشهرة الفتوائية.

2- ما ليست بحجة للمنع عنها، كالقياس.

3- ما تكون حجة في نفسها وتُعاضد المضمون، كالكتاب والسنة.

4- ما تكون حجة في نفسها ولا تعاضد المضمون، كالأصول العملية حيث هي تبين الوظيفة العملية ولا ترتبط ببيان الواقع.

[1] لأنها ترجح في بعض الصور الأربعة كالصورة الثالثة، دون الصور الأخرى.

القسم الأول

[2] شروع في بيان وجه الترجيح بالمرجح الخارجي في القسم الأول. وحاصله: إن للترجيح بمثل الشهرة الفتوائية شرطين:

الأول: أن نقول بالترجيح، أما لو كان المبنى عدم الترجيح، بل التخيير، ولو في المرجحات المنصوصة فلا معنى للترجيح بالمرجح الخارجي، كما هو واضح.

الثاني: أن نقول بالتعدي إلى المرجحات غير المنصوصة، وعدم الاقتصار على المنصوصة بأحد دليلين:

أ: استفادة المناط أو العلة من الأخبار.

ب: التمسك بقاعدة أقوى الدليلين.

[3] هذا هو الشرط الأول.

[4] هذا هو الشرط الثاني، ووجه التعدي هو المناط أو العلة المنصوصة.

ص: 327

أو قيل[1] بدخوله في القاعدة المجمع عليها - كما ادعي -، وهي: «لزوم العمل بأقوى الدليلين».

وقد عرفت[2] أن التعدي محل نظر، بل منع[3]؛ وأن الظاهر[4] من القاعدة هو ما كان الأقوائية من حيث الدليلية[5] والكشفية. وكون[6] مضمون أحدهما مظنوناً

----------------------------------

[1] هذا الدليل الثاني للشرط الثاني، وكان الأفضل صياغة العبارة هكذا (لو قيل بالتعدي من المرجحات المنصوصة إما لاستفادة المناط والعلة، وإما لدخوله في القاعدة المجمع...).

[2] شروع في الإشكال على هذه المباني.

أما لزوم الترجيح فقد مرّ عدم ثبوته عند المصنف، بل دلت الأدلة على التخيير ابتداءً - وهذا إشكال لم يذكره المصنف هنا تعويلاً على ذكره سابقاً - .

وأما التعدي: فقد اشكلنا على أدلته الثلاثة التي أقامها الشيخ الأعظم.

وأما قاعدة أقوى الدليلين فقد مرّ أن المتيقن منها ما كانت الأقوائية من حيث الصدور، ولا يُعلم شمول القاعدة للأقوى من حيث المضمون.

[3] إشكال على أصل التعدي؛ لعدم استفادة المناط أو العلة من الأخبار العلاجية.

[4] هذا إشكال على الدليل الثاني للتعدي.

[5] أي: الصدور، «والكشفيّة» عطف تفسيري.

[6] هذا استدلال برجوع المرجح المضموني إلى المرجح الصدوري، فيدخل تحت قاعدة (أقوى الدليلين). وحاصله: إن مطابقة مثل الشهرة الفتوائية مع أحد الخبرين توجب الظن بصدوره، فيدخل هذا الخبر تحت عموم قوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر)(1).

و: (فإن المجمع عليه لا ريب فيه)(2).

ص: 328


1- مستدرك الوسائل 17: 303.
2- الكافي 1: 68.

- لأجل مساعدة أمارة ظنية عليه - لا يوجب[1] قوةً فيه من هذه الحيثية[2]، بل هو على ما هو عليه من القوة لو لا مساعدتها[3]، كما لا يخفى.

ومطابقة[4] أحد الخبرين لها[5] لا يكون[6] لازمه الظن بوجود خلل في الآخر

----------------------------------

[1] ردّ هذا الاستدلال، وحاصله: إن مجرد الظن بمضمون أحد الخبرين لا يوجب قوة احتمال صدوره، مثلاً: الخبر الضعيف الذي تطابق مع الشهرة لا يصير سنده قوياً بذلك التطابق، بل يقوى مضمونه، بمعنى الظن بأن هذا المضمون مطابق للواقع.

[2] أي: من حيث الدليليّة - أي: الصدور - «بل هو» أي: أحدهما الذي ساعدت أمارة ظنية عليه.

[3] أي: القوة التي كانت له بدون تلك الأمارة الظنية باقية بحالها بعد تطابقه مع تلك الأمارة الظنيّة.

[4] استدل الشيخ الأعظم(1)

على لزوم الترجيح بالمرجح الخارجي بأن الأمارة الظنيّة - كالشهرة الفتوائية - إذا طابقت أحد الخبرين فلازمه حصول الظن بخلل في الخبر الآخر، إما يظن بعدم صدوره، أو يظن بأنه لم يصدر لبيان الواقع. ومع الظن بخلل فيه يسقط عن الحجية، فيكون من تعارض الحجة مع اللاحجة، فيقدم الخبر المطابق للشهرة - مثلاً - .

[5] للأمارة الظنية - كالشهرة الفتوائية - .

[6] هذا جواب عن إشكال الشيخ الأعظم، وحاصله: إن المراد من الخلل في الخبر الآخر:

1- إن كان عدم وجود شرائط الحجية فهذا محل تأمل؛ إذ قد يحصل القطع بوجود تمام شرائط الحجية في الخبر المخالف للشهرة الفتوائية - مثلاً - فنقطع بصحة سنده، ونقطع بظهوره، ونقطع بعدم موافقته للعامة - مثلاً - ومع ذلك كله يكون

ص: 329


1- فرائد الأصول 4: 140.

إما من حيث الصدور أو من حيث جهته. كيف[1]! وقد اجتمع[2] مع القطع بوجود جميع ما اعتبر في حجية المخالف لو لا معارضة الموافق. والصدق واقعاً[3] لا يكاد يعتبر في الحجية، كما لا يكاد يضر بها الكذب كذلك، فافهم[4].

هذا حال الأمارة الغير المعتبرة(1)

لعدم الدليل على اعتبارها.

أما ما ليس بمعتبر بالخصوص - لأجل الدليل على عدم اعتباره[5] - كالقياس:

----------------------------------

مخالفاً للشهرة الفتوائية - مثلاً - فثبت أن وجود أمارة ظنية مطابقة لأحد الخبرين ليس لازمها الظن بالخلل في الخبر الآخر.

2- وإن كان المراد الظن بعدم مطابقة الآخر مع الواقع فهذا أيضاً محل تأمل؛ وذلك لأنه لا يشترط في لزوم العمل بالخبر أن يظن بمطابقته للواقع، بل يلزم العمل بالخبر الذي له شرائط الحجيّة حتى وإن ظن بكذبه.

[1] أي: كيف يكون لازمه الظن بوجود خلل في الآخر؟

[2] هذا رد الاستدلال بناءً على المراد الأول، «اجتمع» أي: اجتمعت مطابقة أحد الخبرين للأمارة، «جميع ما اعتبر...» أي: القطع بوجود شرائط الحجية في الخبر المخالف للأمارة - من الصدور وجهته ودلالته - «لو لا» أي: جميع شرائط الحجية موجودة إلاّ شرط عدم التعارض.

[3] هذا رد للاستدلال بناءً على المراد الثاني، «بها» بالحجيّة، «كذلك» أي: واقعاً.

[4] لعله إشارة إلى أن دليل حجية الخبر هو بناء العقلاء، ولا بناء لهم على الحجية في صورة كونه خلاف الشهرة الفتوائية.

القسم الثاني

[5] حاصله: إنه لو لا النهي كان يمكن الترجيح بالقياس وأمثاله؛ وذلك للأخبار

ص: 330


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير المعتبرة».

فهو[1] وإن كان كالغير المعتبر(1)، لعدم الدليل بحسب[2] ما يقتضي الترجيح به من الأخبار - بناءً على التعدي - والقاعدة - بناءً على دخول مظنون المضمون في أقوى الدليلين -، إلاّ أن الأخبار الناهية عن القياس وأن السنة[3] إذا قيست محق الدين(2)

مانعة عن الترجيح به، ضرورة[4] أن استعماله في ترجيح أحد الخبرين استعمال له

----------------------------------

العلاجية بناءً على التعدي إلى غير المنصوصة، وكذا لقاعدة أقوى الدليلين بناءً على شمولها لأقوائية المضمون.

ولكن النهي عن استعمال القياس في الدين في أحاديث متواترة يوجب عدم جواز استعماله في الترجيح؛ وذلك لأن ترجيح أحد الخبرين على الآخر أمر مرتبط بالدين.

[1] أي: لو لا النهي لم يكن فرق بين القياس وبين سائر المرجحات غير المعتبرة التي لا نهي عنها، «لعدم الدليل» علة عدم الاعتبار، والمعنى: (كان كالمرجح غير المعتبر الذي عدم اعتباره لأجل عدم قيام دليل على حجيته).

[2] أي: نفس الدليل الذي ذكر في القسم الأول يجري في هذا القسم الثاني لو لا المانع، «ما يقتضي» أي: بحسب الدليل الدال على الترجيح، وهو الأخبار بناءً على التعدي، وكذا قاعدة أقوى الدليلين، وقوله: «من الأخبار... والقاعدة» بيان ل- «مايقتضي...».

وبعبارة أخرى: يوجد في القياس مقتضي الترجيح، ولكن يوجد مانع وهو الأدلة الناهية عن القياس.

[3] هذا نص أحد الأخبار الناهية، ولعل ذكره هنا لبيان أن الأخبار الناهية عن العمل بالقياس غير قابلة للتخصيص.

[4] بيان أن الترجيح بالقياس من مصاديق موضوع الأخبار الناهية، «له» للقياس.

ص: 331


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «كغير المعتبر».
2- الكافي 1: 57.

في المسألة الشرعية الأصولية، وخطره ليس بأقل من استعماله في المسألة الفرعية.

وتوهم[1] «أن حال القياس هاهنا ليس في تحقيق الأقوائية به[2] إلاّ كحاله في ما ينقح به موضوع آخر ذو حكم، من دون اعتماد عليه في مسألة أصولية ولا فرعية» قياس[3] مع الفارق، لوضوح الفرق بين المقام والقياس في الموضوعات الخارجية الصرفة، فإن القياس المعمول فيها ليس في الدين، فيكون[4] إفساده أكثر من إصلاحه؛

----------------------------------

[1] حاصله: إن استعمال القياس في الترجيح ليس استعمالاً له في الدين، بل استعمال له في موضوع خارجي، وهذا ليس منهياً عنه.

مثلاً: من تضرر بالصوم في العام الماضي، ثم يقيس هذه السَنَة بذلك العام، ونتيجة القياس هو أن الصوم ضرري في هذا العام أيضاً، فالضرر ليس حكماً شرعياً، بل هو موضوع خارجي.

[2] جملة «في تحقيق الأقوائية به» معترضة، وكان الأفضل تقديمها على (ليس) بأن يقول: (حال القياس هاهنا في تحقيق الأقوائية به ليس إلاّ كحاله...)، والمعنى: إن الأقوائية موضوع خارجي فلا بأس باستفادتها من القياس، «كحاله» أي: كحال القياس، «به» الضمير يرجع إلى الموصول، «آخر» غير الأقوائية، كالضرر في مثال الصوم، «عليه» على القياس.

[3] هذا جواب التوهم، وحاصله الفرق بين الموردين: فإن تنقيح الموضوع الخارجي لا ربط له بالحكم الشرعي أصلاً، بخلاف الترجيح بالقياس؛ وذلك لأنه لو لا الترجيح بالقياس كانت الوظيفة الشرعية هي التخيير، فبالقياس تغيّر هذا الحكم الشرعي إلى التعيين - أي: ترجيح الخبر المطابق للقياس - وهذا من أظهر مصاديق إعمال القياس في الدين.

وبعبارة أخرى: بالقياس تمّ تغيير الحكم الشرعي من التخيير إلى التعيين.

[4] تفريع على المنفي، لا النفي، والمعنى: القياس المعمول في الموضوعات الصرفة ليس في الدين حتى يكون إفساده... الخ.

ص: 332

وهذا بخلاف المعمول في المقام، فإنه نحو إعمال له في الدين، ضرورة[1] أنه لولاه لما تعين الخبر الموافق له للحجية بعد سقوطه[2] عن الحجية - بمقتضى[3] أدلة الاعتبار - والتخيير[4] بينه وبين معارضه - بمقتضى أدلة العلاج[5] -، فتأمل جيداً.

وأما[6] ما إذا اعتضد بما كان دليلاً مستقلاً في نفسه - كالكتاب والسنة القطعية - :

----------------------------------

[1] بيان لكيفية إعمال القياس في الدين في المقام - وهو الترجيح به - «لولاه» لو لا القياس.

[2] هذا حسب مقتضى القاعدة الأولية، من سقوط الخبرين المتعارضين جميعاً.

[3] أي: لأن أدلة اعتبار الخبر الواحد لا تشمل الخبرين المتعارضين.

[4] عطف على (سقوطه)، أي: وبعد التخيير الذي هو مقتضى القاعدة الثانوية؛ وذلك للإجماع على عدم سقوطهما، وكذا بحسب مقتضى الأخبار العلاجية الدالة على حجية أحدهما.

[5] وكذا الإجماع، كما مرّ، حيث قال المصنف: (فربما يدعى الإجماع على عدم سقوط كلا المتعارضين).

القسم الثالث

[6] بيان للقسم الثالث من المرجحات الخارجية، وهو إذا اعتضد أحد الخبرين بموافقة الكتاب والسنة، فهذا على ثلاثة أنواع:

الأول: أن يكون المخالف مبايناً لهما، فلا إشكال في سقوطه عن الحجية رأساً حتى لو لم يكن له معارض.

الثاني: أن يكون المخالف أخص مطلقاً، مثلاً دل الكتاب على: {أُحِلَّتۡ لَكُم بَهِيمَةُ ٱلۡأَنۡعَٰمِ إِلَّا مَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ}(1)، ودل خبر على حرمة لحم البغل، ودل خبر آخر على حليته - مثلاً - فدليل الحرمة مخالف مع عموم الكتاب، ولكن مخالفة بنحو

ص: 333


1- سورة المائدة، الآية: 1.

فالمعارض المخالف لأحدهما إن كانت[1] مخالفته بالمباينة الكلية فهذه الصورة خارجة عن مورد الترجيح، لعدم حجية الخبر المخالف كذلك من أصله، ولو مع عدم المعارض، فإنه[2] المتَيقن من الأخبار الدالة على أنه زخرف أو باطل أو أنه لم نقله أو غير ذلك.

وإن كانت[3]

----------------------------------

الأخص المطلق، ودليل الحلية متطابق مع عموم الكتاب.

الثالث: أن تكون المخالفة بنحو العموم من وجه.

[1] هذا النوع الأول، «مخالفته» أي: مخالفة المعارض، «كذلك» أي: بالمباينة الكلية.

[2] أي: فإن الخبر المخالف بالمباينة الكلية.

والمقصود: إنه قد اختلف في معنى (المخالف للكتاب)، ولكن القدر المسلّم منه هو المخالف بالمباينة الكلية.

[3] هذا النوع الثاني، مثلاً: ورد خبران في صحة بيع الصبي وعدم صحته، وهناك عموم قرآني وهو: {أَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ}(1)، فالخبر الدال على الصحة متطابق مع هذا العموم، والخبر الدال على عدم الصحة أخص مطلقاً من هذا العموم، فلو كان هذا الخاص لوحده من غير معارض لكان مخصصاً للعموم؛ وذلك لجواز تخصيص عام القرآن بالخبر الواحد.

ولكن مع وجود معارض لهذا الخبر، فهل يُرجح الخبر الآخر المتطابق مع العموم القرآني أم لا؟

مقتضى القاعدة هو شمول أدلة حجية الخبر الواحد لكليهما، فلا يرجح أحدهما على الآخر، فلابد من ملاحظة سائر المرجحات أو التخيير.

إلاّ أن الأخبار الدالة على أخذ الموافق لها إطلاق، فتشمل صورة الموافقة في

ص: 334


1- سورة البقرة، الآية: 275.

مخالفته بالعموم والخصوص المطلق، فقضية القاعدة[1] فيها وإن كانت ملاحظة المرجحات بينه وبين الموافق وتخصيص الكتاب به تعييناً أو تخييراً لو لم يكن[2] الترجيح في الموافق - بناءً[3] على جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد -، إلاّ [4] أن الأخبار الدالة على أخذ الموافق من المتعارضين غير قاصرة عن العموم لهذه الصورة[5] لو قيل[6] بأنها في مقام ترجيح أحدهما، لا تعيين الحجة عن اللا حجة، كما نزلناها عليه.

----------------------------------

العموم والخصوص المطلق أيضاً، فلابد من ترجيح الخبر الموافق لعموم القرآن على غيره.

[1] أي: شمول أدلة حجية الخبر الواحد لكليهما، «ملاحظة المرجحات» على مبنى الترجيح، «بينه» أي: بين هذا المخالف، «به» بالمخالف، «تعييناً» إن كان الترجيح مع هذا المخالف، «أو تخييراً» بناءً على عدم الترجيح أو عدم القول بالترجيح.

[2] أي: ترجيح المخالف أو التخيير إنما هو في صورة عدم وجود المرجحات في الموافق، وإلاّ بأن كان الترجيح في الموافق لزم ترجيحه - على مبنى الترجيح - .

[3] أي: تعين المخالف أو التخيير بينهما إنما هو على القول بجواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد، وأما على مبنى عدم جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد، فإن هذا الخبر ساقط سواء كان له معارض أم لا.

[4] أي: مقتضى القاعدة ما ذكرناه، لكن الدليل يدل على ترجيح الموافق؛ وذلك الدليل هو إطلاق الأدلة الدالة على لزوم أخذ الموافق.

[5] أي: إطلاقها يشمل صورة الموافقة بالعموم والخصوص المطلق.

[6] أي: في مدلول أخبار الموافقة للكتاب احتمالان:

الأول: إنها في مقام التمييز بين حجتين، فعلى هذا الاحتمال إطلاق أخبار الموافقة يشمل ما نحن فيه - وهو تعارض خبرين خاصين، أحدهما موافق للعموم

ص: 335

ويؤيده[1] أخبار العرض على الكتاب الدالة على عدم حجية المخالف من أصله، فإنهما[2]

----------------------------------

القرآني والآخر مخالف لعمومه - .

الثاني: إنها في مقام تمييز الحجة عن اللاحجة، فالموافق حجة، والمخالف ليس بحجة. فعلى هذا الاحتمال إطلاق أخبار الموافقة لا يشمل ما نحن فيه؛ وذلك لأن الخاصين المتعارضين كلاهما حجة.

وحيث إن المصنف رجح هذا الاحتمال سابقاً فلا يمكنه ترجيح الخاص الموافق على الخاص المخالف؛ لعدم إطلاق لأخبار الموافقة.

[1] «يؤيده» أي: يؤيد أن أخبار الموافقة لتعيين الحجة عن اللاحجة، بعد أن رجح المصنف الاحتمال الثاني أيّده بأن أخبار العرض على القرآن دلت على عدم حجية المخالف للقرآن من أصله.

فلنا طائفتان من الأخبار:

1- ترجيح الموافق على المخالف في المتعارضين.

2- عرض الأخبار - حتى وإن لم يكن لها معارض - على القرآن، وترك المخالف.

فالطائفة الثانية هي في المخالف بالمباينة، ولا تشمل الخاص؛ ولذا ذهب المشهور إلى جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد، فكذلك الطائفة الأولى موردها المخالف بالتباين؛ وذلك لأن ألفاظ الطائفتين واحدة، وهذا يدل على أن المعنى واحد، وحيث إن المعنى في الطائفة الثانية هو المخالفة بالمباينة كذلك في الطائفة الأولى.

فالحاصل: إنه لا يمكن التمسك بأخبار الموافقة لترجيح الخاص الموافق على الخاص المخالف.

[2] أي: أخبار الترجيح بالموافقة، وأخبار العرض على الكتاب.

ص: 336

تفرغان عن لسان واحد، فلا وجه[1] لحمل المخالفة في أحدهما على خلاف المخالفة في الأخرى، كما لا يخفى.

اللهم إلاّ أن يقال[2]: نعم[3]، إلاّ أن «دعوى اختصاص هذه الطائفة[4] بما إذا كانت المخالفة بالمباينة، بقرينة القطع بصدور المخالف الغير(1) المباين عنهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ كثيراً،

----------------------------------

[1] أي: حيث إن لفظ الطائفتين واحد، فلا يصح أن نقول: إن معنى (المخالفة) في الطائفة الأولى هو المخالفة بما يشمل العموم والخصوص المطلق، ثم نقول: إن المخالفة في الطائفة الثانية هو المخالفة بالتباين فقط.

[2] هذا رجوع عن التأييد، ودليل على ترجيح الخاص الموافق على الخاص المخالف. وحاصله: صحيح أن كلا الطائفتين تفرغان عن لسان واحد، لكن لابد من حملهما على معنيين.

ففي الطائفة الأولى: لا محذور من حمل المخالفة على الإطلاق، فتشمل المخالفة بالتباين وبالخصوص المطلق.

وأما الطائفة الثانية: فيراد بها المخالفة بالتباين فقط، ولا يراد بها المخالفة بالعموم والخصوص المطلق؛ وذلك لصدور الأخبار المخصِّصة للقرآن عن الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ قطعاً.

إن قلت: الأخبار المخالفة للقرآن زخرف وباطل، إلاّ الأخبار المخصصة للقرآن التي نقطع بصدورها عن الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ

قلت: تلك الأخبار غير قابلة للتخصيص، فإن مثل: (ما خالف قول ربنا لم نقله) و(زخرف) و(باطل) غير قابل للتخصيص.

[3] أي: نقبل أنهما تفرغان عن لسان واحد، لكن... الخ.

[4] أي: أخبار الطائفة الثانية - وهي أخبار العرض - .

ص: 337


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح «غير المباين».

وإباء مثل: ما خالف قول ربنا لم أقله، أو زخرف، أو باطل، عن التخصيص» غير بعيدة[1].

وإن كانت[2] المخالفة بالعموم والخصوص من وجه، فالظاهر أنها كالمخالفة في الصورة الأولى، كما لا يخفى.

وأما الترجيح[3] بمثل الاستصحاب - كما وقع في كلام غير واحد من الأصحاب(1) - : فالظاهر أنه[4]

----------------------------------

[1] خبر (أن) في قوله: (إلاّ أن دعوى).

[2] هذا النوع الثالث من القسم الثالث.

وحاصله: إن الخبرين المتعارضين إذا كان أحدهما مخالفاً للقرآن بالعموم والخصوص من وجه فلابد من طرحه؛ وذلك لتعارضه مع القرآن في بعض الموارد.

وإنما قال: «فالظاهر» لاحتمال أن يقال بسقوطه في مورد المخالفة وعدم سقوطه في غيره.

القسم الرابع

[3] بيان للقسم الرابع من المرجحات الخارجية، وهو ما إذا كان أحد الخبرين موافقاً للأصل العملي كالاستصحاب.

والظاهر أن الأصل العملي لا يكون مرجحاً أصلاً؛ وذلك لعدم كونه موجباً للأقربية إلى الواقع، ولا الظن به؛ لأن الأصل العملي لا يكشف عن الواقع، بل هو وظيفة عملية.

أما لو قيل: إنّ الاستصحاب وأمثاله هي أمارات وكاشفة عن الواقع، فحينئذٍ يمكن الترجيح بها؛ وذلك لشمول علة الترجيح لهذا المورد، بناءً على التعدي عن المرجحات المنصوصة.

[4] أي: إن الترجيح، «اعتباره» أي: اعتبار مثل الاستصحاب.

ص: 338


1- فرائد الأصول 4: 151.

لأجل اعتباره من باب الظن والطريقية[1] عندهم. وأما بناءً على اعتباره[2] تعبداً من باب الأخبار وظيفةً للشاك - كما هو المختار - كسائر الأصول العملية التي تكون كذلك[3] عقلاً أو نقلاً، فلا وجه للترجيح به أصلاً، لعدم تقوية مضمون الخبر بموافقته، ولو بملاحظة دليل اعتباره[4]، كما لا يخفى.

هذا آخر ما أردنا إيراده، والحمد لله أولاً وآخراً وباطناً وظاهراً.

----------------------------------

[1] أي: كونه موجباً للظن وكاشفاً عن الواقع.

[2] أي: اعتبار مثل الاستصحاب، «من باب الأخبار» أي: اعتباره عن طريق الأخبار الدالة على أنه أصل عملي.

[3] أي: وظيفة للشاك، «عقلاً» أي: الأصول العملية العقلية، كالبراءة العقلية، «أو نقلاً» أي: الأصول العملية الشرعية كالبراءة الشرعية، «للترجيح به» أي: بمثل الاستصحاب، «بموافقته» أي: بموافقة بمثل الاستصحاب.

[4] أي: الأخبار الدالة على حجية الأصل العملي، تلك الأخبار لا تقوي مضمون الخبر الموافق للأصل العملي.

والمقصود: إن الأصل العملي لا يقوّي مضمون الخبر الموافق له، كما أن دليل الأصل العملي - كصحيحة زرارة في حجية الاستصحاب - لا يقوي مضمون الخبر الموافق للأصل.

ص: 339

ص: 340

الخاتمة في الاجتهاد والتقليد

اشارة

ص: 341

ص: 342

أما الخاتمة: فهي في ما يتعلق بالاجتهاد والتقليد فصل: الاجتهاد لغةً(1)

تحمل المشقة.

واصطلاحاً - كما عن الحاجبي والعلامة(2) - «استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي[1]».

وعن غيرهما «ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي[2] من الأصل[3] فعلاً أو قوةً قريبةً[4]».

----------------------------------

فصل في الاجتهاد

[1] أي: أن يفرّغ وقته لكي يحصّل الظن بالحكم الشرعي.

[2] أي: الفقهي، فلا يكفي الملكة في المسائل الأصولية فقط من غير تمكن تطبيقها على المسائل الشرعية الجزئية.

[3] أي: دليل الحكم سواء كان اجتهادياً أم أصلاً عملياً.

[4] فقد يستنبط الحكم بالفعل، وقد يحتاج إلى مراجعة إلى الكتب والروايات، فيستخرج الحكم منها.

وقوله: «أو قوة قريبة» لإخراج مثل طلاب المقدمات والسطوح، حيث قد يتمكنون من الاستنباط بعد إكمالهم دراساتهم، لكن قوتهم بعيدة وليست قريبة.

ص: 343


1- كتاب العين 3: 386؛ الصحاح 2: 460؛ معجم مقاييس اللغة 1: 486.
2- مبادئ الوصول: 240.

ولا يخفى[1]: أن اختلاف عباراتهم في بيان معناه اصطلاحاً ليس من جهة الاختلاف في حقيقته وماهيته[2]، لوضوح أنهم ليسوا في مقام بيان حده أو رسمه، بل إنما كانوا في مقام شرح اسمه والإشارة إليه بلفظٍ آخر وإن لم يكن مساوياً له بحسب مفهومه، كاللغوي في بيان معاني الألفاظ بتبديل لفظ بلفظٍ آخر ولو كان أخص منه مفهوماً أو أعم[3].

ومن هنا[4] انقدح أنه لا وقع للإيراد على تعريفاته بعدم الانعكاس أو الاطراد[5]،

----------------------------------

[1] يرى المصنف أن تعاريفهم كلها شرح الاسم لجهتين:

1- إنه يلزم في التعريف أن يكون أجلى من (المعرَّف)، ولكن في تعاريف القوم يكون المعنى المركوز في الذهن أوضح من تعاريفهم، فلابد أن يكون غرضهم ليس التعريف بل شرح الاسم، وقد ذكر المصنف هذا الإشكال في بحث العام والخاص.

2- إن حقيقة الأشياء خافية على الجميع إلاّ على الله ومن علّمه الله، فلذا لا يمكننا معرفة فصل الأشياء ولا عرضها الخاص.

وفي كلا الأمرين نظر، وسيأتي بيانهما في وجه قول المصنف: (فافهم).

[2] أي: إن الاختلاف إنما هو في التعبير عن حقيقة الاجتهاد، مع اتفاقهم على معناه المركوز في أذهانهم.

[3] (الأخص) مثل: تعريف بني هاشم بأنهم آل محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، و(الأعم) مثل: تعريف سعدانة بأنها نبت.

[4] أي: كونهم في مقام شرح الاسم.

[5] أي: بعدم الانعكاس على المصاديق، مثلاً: التعريف الأول لا يشمل استفراغ الوسع لتحصيل القطع بالحكم، أو الوظيفة العملية.

وعدم طرد الأغيار، ففي التعريف الأول يدخل العامي الذي يجنّد كل قواه لاستنباط الحكم الشرعي، فهذا ليس اجتهاداً مع أنه استفراغ الوسع.

ص: 344

كما هو الحال في تعريف جل الأشياء لو لا الكل، ضرورة[1] عدم الإحاطة بها بكنهها أو بخواصها[2] الموجبة لامتيازها عما عداها لغير علام الغيوب، فافهم[3].

وكيف كان، فالأولى[4] «تبديل الظن بالحكم» ب«الحجة عليه»، فإن المناط فيه هو تحصيلها قوةً أو فعلاً، لا الظن، حتى[5] عند العامة القائلين بحجيته مطلقاً، أو بعض

----------------------------------

[1] دليل عدم كون هذه التعاريف حقيقيّة، وهو الدليل الثاني الذي ذكرناه قبل قليل.

[2] (الكنه) في الحدّ، و(الخواص) في الرسم.

[3] إشارة إلى أن القوم كانوا في صدد التعريف الحقيقي؛ ولذا أطالوا الكلام والنقض والإبرام. نعم، يرد عليهم الإشكال، لكن وروده عليهم ليس بمعنى عدم قصدهم للتعريف الحقيقي.

وأما الإشكال: بأن المعنى المركوز أوضح وأجلى من تعريفاتهم. ففيه - كما قيل(1)

- : أن معنى الأجلى هو كونه أجلى وأوضح في بيان الحقيقة والماهية، لا كونه أوضح وأجلى من (المعرَّف) مفهوماً، وإلاّ فما من تعريف حقيقي بالحد أو الرسم إلاّ و(المعرَّف) هو أوضح وأجلى منه مفهوماً، كالإنسان والحيوان الناطق.

[4] أي: الأحسن في التعريف الأول، «عليه» على الحكم، «فيه» في الاجتهاد، «تحصيلها» الحجة.

[5] حاصله: إ ن الذين قالوا بحجية الظن اعتبروه أحد أفراد الحجة، فالعلم أيضاً حجة، والأصل العملي أيضاً حجة، فتحصيل العلم بالحكم الشرعي أيضاً اجتهاد، كما أن تحصيل الأصل العملي اجتهاد أيضاً، «بحجيته» الظن، «بها» بحجية الظن.

ص: 345


1- عناية الأصول 2: 234.

الخاصة القائل بها عند انسداد باب العلم بالأحكام(1)،

فإنه[1] مطلقاً عندهم أو عند الانسداد عنده من أفراد الحجة؛ ولذا لا شبهة في كون استفراغ الوسع في تحصيل غيره من أفرادها[2] - من العلم بالحكم أو غيره مما اعتبر من الطرق التعبدية الغير المفيدة(2)

للظن ولو نوعاً[3] - اجتهاداً أيضاً.

ومنه[4] قد انقدح أنه لا وجه لتأبي الأخباري عن الاجتهاد بهذا المعنى[5]، فإنه لا محيص عنه، كما لا يخفى. غاية الأمر[6] له أن ينازع في حجية بعض ما يقول الأصولي باعتباره، ويمنع عنها. وهو غير ضائر بالاتفاق على صحة الاجتهاد بذاك المعنى، ضرورة أنه ربما يقع بين الأخباريين، كما وقع بينهم وبين الأصوليين.

----------------------------------

[1] فإن الظن، «مطلقاً» سواء انسد باب العلم أم لا، «عندهم» العامة، «عنده» بعض الخاصة.

[2] غير الظن من أفراد الحجة، «من العلم...» (من) بيانية لبيان غير الظن من أفراد الحجة، «غيره» غير العلم كالأصل العملي، «مما» بيان ل- «غيره».

[3] أي: الأصول العملية التي هي طرق تعبدية لكنها لا تفيد الظن - لا الظن النوعي ولا الظن الشخصي - و«اجتهاداً» خبر (كون).

[4] أي: مما بيناه من أن الاجتهاد هو لتحصيل الحجة يظهر أن إشكال الأخباريين على الاجتهاد لا وجه له، بل نفس علماء الأخباريين يستفرغون وسعهم لتحصيل الحجة الشرعية.

[5] أي: بمعنى تحصيل الحجة.

[6] أي: كبرى الاجتهاد - وهو تحصيل الحجة - لازمة، وحتى الأخباريين أيضاً يفعلون ذلك.

نعم، قد يكون اختلاف في الصغرى - وهو مصاديق الحجة - وهذا الاختلاف

ص: 346


1- قوانين الأصول 1: 282.
2- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير المفيدة».

فصل: ينقسم الاجتهاد إلى مطلق وتجزّي:

فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الأحكام الفعلية[1] من أمارة معتبرة، أو أصل معتبر عقلاً أو نقلاً في الموارد التي لم يظفر فيها بها[2].

----------------------------------

لا يضر بالكبرى؛ ولذا قد يختلف الأصوليون في ما بينهم في حجيّة بعض الأدلة، كما قد يختلف الأخباريون في ما بينهم؛ ولذا قد تختلف فتاوى علمائهم في بعض المسائل، كما قد يختلف الأصوليون والأخباريون في بعض مصاديق الحجة - مثل: حجية ظاهر الكتاب - .

فصل الاجتهاد المطلق والمتجزئ

اشارة

الغرض من هذا الفصل هو بيان إمكان التجزئ في الاجتهاد، وقد استطرد المصنف في أثناء البحث وتكلم حول صحة أوعدم صحة تقليد المجتهد الانسدادي، وكان الأفضل بحثه في فصل مستقل.

وكيف كان فهنا عدة أمور:

1- إمكان ووقوع الاجتهاد المطلق.

2- في تقليد المجتهد المطلق.

3- في نفوذ حكم المجتهد المطلق.

4- في التجزئ في الاجتهاد.

الأمر الأول: امكان ووقوع الاجتهاد المطلق

[1] أي: التي وصلت إلى مرحلة الفعلية، سواء كانت عن طريق أمارة أم أصل.

وإنما لم يقل: (الشرعية) لتدخل الأحكام التي دليلها العقل، كما قال: (أو أصل معتبر عقلاً).

[2] لم يظفر في تلك الموارد بالأمارة.

ص: 347

والتجزي هو ما يقتدر به على استنباط بعض الأحكام.

ثم إنه لا إشكال في إمكان المطلق وحصوله[1] للأعلام. وعدم التمكن[2] من الترجيح في المسألة وتعيين حكمها والتردد منهم في بعض المسائل إنما هو[3] بالنسبة إلى حكمها الواقعي، لأجل عدم دليل مساعد في كل مسألة عليه، أو عدم الظفر به بعد الفحص عنه بالمقدار اللازم، لا لقلة الإطلاع أو قصور الباع. وأما بالنسبة إلى حكمها الفعلي[4] فلا تردد لهم أصلاً.

كما لا إشكال[5]

----------------------------------

[1] «إمكانه» عقلاً، و«حصوله» خارجاً.

[2] إشكال، وحاصله: هناك مسائل كثيرة تردد فيها العلماء، ودونك كتاب (الشرائع) حيث تردد المحقق الحلي في عشرات المسائل، مع أنه لا إشكال في كونه مجتهداً مطلقاً، فكيف عرّفتم الاجتهاد المطلق ب- (ما يقدر به على استنباط... الخ)؟

[3] هذا جواب عن الإشكال، وحاصله: إن ترددهم في الحكم الواقعي لعدم وجود دليل أو لعدم العثور عليه بعد الفحص، وأما الحكم الظاهري فلا تردد لهم فيه؛ وذلك بإجراء مثل: أصل البراءة ونحوها.

[4] أي: الظاهري.

الأمر الثاني: العمل بفتوى المجتهد المطلق
اشارة

[5] هنا بحوث أربعة:

الأول: عمل المجتهد المطلق برأيه، وهذا لا إشكال فيه بالإجماع؛ ولأنه قاطع بالحكم الظاهري، فلا يجوز له الرجوع إلى غيره.

الثاني: عمل العامي بفتوى المجتهد الانفتاحي، وهذا لا إشكال فيه أيضاً؛ لشمول أدلة التقليد له.

الثالث: عمل العامي بفتوى المجتهد الانسدادي إذا كان يرى حجية الظن من

ص: 348

في جواز العمل بهذا الاجتهاد[1] لمن اتصف به.

وأما لغيره[2] فكذا لا إشكال فيه، إذا كان المجتهد ممن كان باب العلم أو العلمي بالأحكام مفتوحاً له، على ما يأتي من الأدلة على جواز التقليد.

بخلاف ما إذا انسد عليه بابهما[3]، فجواز تقليد الغير عنه في غاية الإشكال[4]، فإن رجوعه إليه ليس من رجوع الجاهل إلى العالم بل إلى الجاهل، وأدلة جواز التقليد إنما دلت على جواز رجوع غير العالم إلى العالم، كما لا يخفى؛ وقضية

----------------------------------

باب حكومة العقل.

الرابع: عمل العامي بفتوى المجتهد الانسدادي إذا كان يرى حجية الظن من باب الكشف عن الحكم الشرعي.

[1] أي: المطلق، وهذا البحث الأول.

[2] أي: لغير المتصف بهذا الاجتهاد المطلق «فكذا...» إشارة إلى البحث الثاني.

[3] على المجتهد باب العلم والعملي.

تقليد الانسدادي على الحكومة

[4] هذا هو البحث الثالث، وهو تقليد المجتهد الانسدادي على الحكومة، فإن أدلة التقليد لا تشمله؛ وذلك لأن أدلة التقليد دلت على رجوع الجاهل إلى العالم، والانسدادي على الحكومة غير عالم بالحكم الشرعي، لا الواقعي ولا الظاهري، وإنما حَكَم عليه العقل بلزوم اتباع الظن، فاتباعه للظن ليس حكماً شرعياً، ولا يُنتج حكماً شرعياً، فهو جاهل بالحكم الشرعي، وإنما يعمل بالوظيفة العقلية.

إن قلت: دليل الانسداد دل على حجية الظن.

قلت: دليل الانسداد لا يثبت جواز التقليد، بل يثبت جواز العمل بالظن لمن جرت في حقه مقدمات الانسداد - وهو المجتهد فقط - .

وقد يستدل على جواز تقليده بدليلين:

ص: 349

مقدمات الانسداد ليست إلاّ حجية الظن عليه لا على غيره. فلابد في حجية اجتهاد مثله[1] على غيره من التماس دليل آخر غير دليل التقليد وغير دليل الانسداد الجاري في حق المجتهد من[2] إجماع أو جريان مقدمات دليل الانسداد في حقه بحيث تكون منتجة لحجية الظن الثابت حجيته[3] بمقدماته له أيضاً.

ولا مجال[4] لدعوى الإجماع. ومقدماته كذلك[5]

----------------------------------

الأول: الإجماع. وفيه: إن مسألة تقليد الانسدادي مستحدثة فلا مجال للإجماع فيها.

الثاني: إجراء المقلد لمقدمات الانسداد بنفسه. وفيه: عدم تمكنه من إثبات مقدماته، كما سيأتي بعد قليل.

[1] أي: المجتهد الانسدادي على الحكومة.

[2] «من» بيانية، لبيان (دليل آخر)، «في حقه» حق العامي، «تكون» مقدمات الانسداد التي يجريها العامي.

[3] أي: بعد إجراء العامي لمقدمات الانسداد تنتج حجية الظن له، ومن الظنون فتوى المجتهد الانسدادي، «بحيث تكون» المقدمات التي يجريها العامي، «منتجة لحجية الظن» أي: فتوى المجتهد الانسدادي التي وصل إليها عبر الظن، «الثابت حجيته» حجية ظن المجتهد، «بمقدماته» أي: بمقدمات الانسداد؛ لأن المفروض أن المجتهد انسدادي، «له» للعامي و«له» متعلق ب- (لحجيّة).

والحاصل: أن يجري العامي مقدمات الانسداد ليكون ظن المجتهد الانسدادي حجة له أيضاً، كما كان حجة لنفس المجتهد.

[4] شروع في الإشكال على الدليلين الذين أقيما على جواز تقليد المجتهد الانسدادي على الحكومة.

[5] أي: بحيث تكون منتجة لحجية ظن المجتهد للعامي.

ص: 350

غير جارية في حقه؛ لعدم[1] انحصار المجتهد به، أوعدم[2] لزوم محذور عقلي من عمله بالاحتياط، وإن لزم منه العسر إذا لم يكن له[3] سبيل إلى إثبات عدم وجوبه مع عسره.

نعم[4]، لو جرت المقدمات كذلك[5]، بأن انحصر المجتهد ولزم من الاحتياط المحذور، أو لزم منه العسر مع التمكن من إبطال وجوبه حينئذٍ كانت[6] منتجة لحجيته

----------------------------------

ولكن بعض مقدمات الانسداد غير جارية في حق العامي، وهي المقدمة الثانية والرابعة.

أما عدم جريان المقدمة الثانية - وهي (انسداد باب العلم والعلمي) - فلانفتاح باب العلمي على العامي مع وجود المجتهد الانفتاحي.

وأما عدم جريان المقدمة الرابعة فلأنّ العامي لا يتمكن من إثبات عدم وجوب الاحتياط إذا أوجب العسر؛ إذ هذا حكم لا يتمكن من إثباته إلاّ المجتهد، ولا دليل عقلي على عدم لزوم الاحتياط العَسِر. نعم، إذا أوجب الاحتياط اختلال النظام فإن العقل يدل على عدم وجوبه، وهذا الحكم واضح للجميع.

[1] هذا بيان عدم تمامية المقدمة الثانية، «به» بالانسدادي.

[2] هذا بيان عدم تمامية المقدمة الرابعة.

[3] للعامي، «عدم وجوبه» الاحتياط.

[4] أي: إذا تمت مقدمات الانسداد، بأن انحصر المجتهد في الانسدادي، بحيث يقطع العامي بانسداد باب العلم والعلمي، وكذا إذا كان العامي فاضلاً بحيث تمكن من إثبات عدم وجوب الاحتياط العَسِر، أو كان الاحتياط موجباً لاختلال النظام، فحينئذٍ تتم مقدمات الانسداد للعامي، فيجوز له تقليد المجتهد الانسدادي.

[5] أي: بحيث تكون منتجة لحجية الظن للعامي، «المحذور» أي: اختلال النظام، «منه» من الاحتياط، «وجوبه» وجوب الاحتياط، «حينئذٍ» أي: حين استلزامه للعسر.

[6] جزاء (لو) في قوله: (نعم، لو جرت المقدمات...) «لحجيته» الظن، «حقه»

ص: 351

في حقه أيضاً، لكن دونه خرط القتاد.

هذا على تقدير الحكومة.

وأما على تقدير الكشف[1] وصحته[2]: فجواز الرجوع إليه في غاية الإشكال، لعدم[3] مساعدة أدلة التقليد على جواز الرجوع إلى من اختص حجية ظنه به، وقضية

----------------------------------

العامي، «أيضاً» كالمجتهد، «دونه» أي: دون جريان المقدمات.

تقليد الانسدادي على الكشف

[1] حاصله: ورود إشكالين على جواز تقليد المجتهد الانسدادي القائل بحجية الظن من باب كشفه عن الحكم الشرعي.

الأول: إن مقدمات الانسداد تدل على حجية الظن على من تمّت في حقه تلك المقدمات لا غيره، والعامي لم تتم في حقه تلك المقدمات؛ لأنها بحاجة إلى إعمال نظر.

وأما أدلة التقليد فهي لا تشمل هذا المجتهد؛ لأنها تدل على جواز الرجوع إلى من توصل إلى الحكم العام للجميع، أما من توصل إلى حكم خاص بنفسه فلا يجوز تقليده في ذلك الحكم.

مثلاً: من جاز له شيء لاضطراره إليه لا يجوز تقليده في ذلك الجواز إلاّ إذا اضطر المقلِّد أيضاً، أما غير المضطر فلا يجوز له ذلك كما هو واضح، وهكذا حجية الظن على الانسداد إنما هي لمن تمت في حقه تلك المقدمات لا لغيره.

[2] هذا إشارة إلى الإشكال الثاني، أي: بناءً على صحة الكشف، ولكن المصنف لا يرتضي ذلك، وكما سيأتي بعد قليل إن مقدمات الانسداد لو تمت فإنما تدل على حجية الظن من باب حكومة العقل لا الكشف.

[3] هذا الإشكال الأول، وهو مركب من مقدمتين:

1- الصغرى: وهي قوله: (و قضية مقدمات... الخ)، أي: مقدمات الانسداد

ص: 352

مقدمات الانسداد اختصاص حجية الظن بمن جرت[1] في حقه دون غيره؛ ولو سلم[2] أن قضيتها كون الظن المطلق معتبراً شرعاً، كالظنون الخاصة التي دل الدليل على اعتبارها بالخصوص، فتأمل[3].

إن قلت[4]:

----------------------------------

تقتضي حجية الظن لمن تمت في حقه تلك المقدمات لا لغيره؛ إذ من تلك المقدمات أن الاحتياط موجب للعسر والحرج، وهما شخصيّان لا نوعيان، وكذا من المقدمات انسداد باب العلمي، وهذا أيضاً شخصي.

2- الكبرى: وهي قوله: (لعدم مساعدة... الخ).

[1] أي: جرت تلك المقدمات.

[2] وهذا بيان للإشكال الثاني، «قضيتها» مقدمات الانسداد، «معتبراً شرعاً» أي: الحجية على الكشف.

[3] لعلّه إشارة إلى أن عمدة أدلة التقليد هي (سيرة العقلاء في الرجوع إلى أهل الخبرة)، ومن المعلوم أن الانسدادي - سواء على الحكومة أم على الكشف - هو من أهل الخبرة، لا فرق بينه وبين الانفتاحي إلاّ في الدليل على حجية مثل: الخبر الواحد؛ ولذا لا نجد فرقاً في الفتاوى بين المجتهد الانفتاحي والانسدادي، إلاّ بالمقدار الموجود بين الانفتاحيين أنفسهم.

[4] حاصله: إنّ دليل التقليد كما لا يشمل الانسدادي، كذلك لا يشمل الانفتاحي؛ وذلك لأن الانفتاحي أيضاً غير عالم بالحكم الواقعي، أما الحكم الظاهري فقد سبق إنكار المصنف وجوده، بل قال بالتنجيز في صورة الإصابة والتعذير في صورة الخطأ.

والحاصل: المجتهد الانفتاحي لا يعلم بالحكم الواقعي - لأن أدلته ظنية غالباً - ولا يعلم بالحكم الظاهري؛ لعدم وجود حكم ظاهري أصلاً، فتكون سالبة بانتفاء الموضوع.

ص: 353

حجية الشيء شرعاً، مطلقاً[1]، لا يوجب القطع بما أدى إليه من الحكم ولو ظاهراً[2]، كما مر تحقيقه، وأنه ليس أثره إلاّ تنجز الواقع مع الإصابة والعذر مع عدمها، فيكون رجوعه إليه[3] مع انفتاح باب العلمي عليه أيضاً رجوعاً إلى الجاهل، فضلاً عما إذا انسد عليه.

قلت[4]: نعم، إلاّ أنه عالم بموارد قيام الحجة الشرعية على الأحكام، فيكون من رجوع الجاهل إلى العالم.

إن قلت[5]: رجوعه إليه في موارد فقد الأمارة المعتبرة عنده - التي يكون المرجع

----------------------------------

[1] «مطلقاً» قيد ل- «الشيء»، أي: سواء كان من الأمارات أم من الظن الانسدادي على الكشف، أما على الحكومة فلا يكون حجية شرعية، بل يكون بحكم العقل.

[2] أما الحكم الواقعي فلا يحصل به القطع من الأدلة الظنية.

وأما القطع بالحكم الظاهري فهو سالبة بانتفاء الموضوع؛ إذ لا حكم ظاهري أصلاً، بل تنجيز وتعذير، «بما» فسّر الموصول بقوله: «من الحكم»، «وأنه» العطف تفسيري لبيان ما حقَّقه سابقاً، «أنه» للشأن، «أثره» أي: أثر الحجيّة.

[3] رجوع الجاهل إلى المجتهد، «عليه» المجتهد.

[4] الجواب: إن العامي لا يرجع إلى المجتهد الانفتاحي في الحكم، بل في دليل الحكم، والمجتهد قاطع بالدليل، مثلاً: لو قام خبر واحد معتبر على حكم فإن المجتهد يقطع بقيام الدليل، فهو عالم بذلك فيرجع إليه المقلد. نعم، المجتهد قد يفصّل للمقلد فيقول له: هذا مما قام عليه الدليل المعتبر، وقد يبين له الحكم من دون هذا التفصيل.

«نعم» اعتراف بأن المجتهد الانفتاحي ليس عالماً بغالب الأحكام، «أنه» المجتهد الانفتاحي.

[5] حاصله: إن هناك مواردَ لا يكون المجتهد الانفتاحي عالماً بقيام الحجة الشرعية،

ص: 354

فيها الأصول العقلية[1] - ليس إلاّ الرجوع إلى الجاهل[2].

قلت[3]: رجوعه إليه فيها إنما هو لأجل اطلاعه على عدم الأمارة الشرعية فيها[4]، وهو عاجز عن الاطلاع على ذلك. وأما تعيين ما هو حكم العقل وأنه مع عدمها هو البراءة أو الاحتياط[5] فهو إنما يرجع إليه؛ فالمتبع ما استقل به عقله ولو

----------------------------------

وتلك الموارد هي مع فقد الأمارات والأصول العملية الشرعية، ووصول النوبة إلى الأصول العقلية، فهنا المجتهد عالم بالحكم العقلي وليس بالحكم الشرعي، والتقليد إنما هو في الأحكام الشرعية لا غيرها، «رجوعه» العامي، «إليه» إلى المجتهد الانفتاحي، «عنده» عند هذا المجتهد.

[1] وهي البراءة العقلية الذي دليلها قبح العقاب بلا بيان، والاحتياط العقلي الذي مورده بعض موارد العلم الإجمالي، والتخيير العقلي الذي مورده في دوران الأمر بين الفعل والترك - كما مرّ مفصلاً - .

[2] أي: الجاهل بالحكم الشرعي.

[3] حاصل الجواب: إن العامي يقلّد المجتهد في أمر شرعي، وهو عدم وجود أمارة أو أصل عملي شرعي في المورد، وحينئذٍ يتحقق موضوع الأصل العقلي، فلا تقليد فيه، بل يرجع العامي إلى عقله ليرى أن المورد من مصاديق أيّ الأصول العقلية، حتى وإن خالف تشخيص المجتهد!! نظير الموضوعات الخارجية، حيث يأخذ العامي حكمها من المجتهد، أما تشخيص تلك الموضوعات فهي مرتبطة به لا بالمجتهد.

[4] أي: في موارد فقد الأمارة... الخ، «ذلك» أي: فقد الأمارة والأصل الشرعي.

[5] أو التخيير العقلي، «فهو» العامي، «إليه» أي: إلى حكم العقل لا إلى حكم المجتهد.

ص: 355

على خلاف ما ذهب إليه مجتهده، فافهم[1].

وكذلك[2] لاخلاف ولا إشكال في نفوذ حكم المجتهد المطلق إذا كان باب العلم أو العلمي له مفتوحاً.

وأما إذا انسد عليه[3] بابهما: ففيه إشكال على الصحيح من تقرير المقدمات

----------------------------------

[1] لعله إشارة إلى أن تشخيص حكم العقل لا يتيسر للعامي عادة؛ لأن مقدماته غامضة عليه في أغلب الموارد؛ ولذا كان بحث العلم الإجمالي من المسائل الصعبة في الأصول مع كونه بحكم العقل.

الأمر الثالث: نفوذ حكم المجتهد المطلق

[2] المجتهد الانفتاحي عالم بالحكم الشرعي فتنطبق عليه أدلة نفوذ حكم القاضي، كقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في المقبولة: (ينظران إلى من كان منكم مَن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حَكَماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما بحكم الله استخف... الخ)(1).

[3] على القول بأن مقدمات الانسداد تنتج حجية الظن على الكشف، فإن المجتهد الانسدادي عالم بالحكم الشرعي، فتشمله أدلة نفوذ حكم القاضي.

وأمّا على الحكومة - كما يذهب إليه المصنف لو تمت المقدمات - : فإن في نفوذ حكمه إشكالاً؛ وذلك لعدم شمول أدلة القضاء لهذا المجتهد الانسدادي، فلا ينطبق عليه قوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (عرف أحكامنا) بل هو عرف أحكام العقل!!

وقيل(2)

في الجواب عن الإشكال: أولاً: بأنه لم يفصّل أحد بين جواز القضاء للانفتاحي وعدم جوازه على الانسدادي.

وثانياً: إن الانسدادي على الحكومة عالم بجملة لا بأس بها من أحكام الشرع،

ص: 356


1- تهذيب الأحكام 6: 302.
2- الوصول إلى كفاية الأصول 5: 400.

على نحو الحكومة[1]، فإن مثله - كما أشرت آنفاً - ليس ممن يعرف الأحكام، مع أن معرفتها معتبرة في الحاكم، كما في المقبولة[2].

إلاّ أن يدعى[3] عدم القول بالفصل؛ وهو[4] وإن كان غير بعيد، إلاّ أنه ليس بمثابة يكون حجة على عدم الفصل.

إلاّ أن يقال[5] بكفاية انفتاح باب العلم في موارد الإجماعات والضروريات من الدين أو المذهب والمتواترات إذا كانت جملة يعتد بها، وإن انسد باب العلم بمعظم

----------------------------------

كموارد الإجماعات المحصّلة، والضروريات، والمتواترات ونحوها، فصدق عليه (عرف حلالنا وحرامنا).

وفيهما نظر: أما الأول: فإن عدم القول بالفصل لا ينفع؛ إذ لعلّه للغفلة عن بحث الانسداد، وخاصّة إنه بحث مستحدث، وإنما النافع القول بعدم الفصل؛ وذلك بأن يصرّح بعدم الفرق.

وأما الثاني: فقد ارتضاه المصنف لكنه لا يخلو من تأمل؛ لأن المراد في المقبولة معرفة حكم الواقعة لا معرفة أحكام شرعية لا ترتبط بالواقعة.

[1] نعم، لو قيل بالكشف فلا إشكال، «مثله» أي: المجتهد الانسدادي على الحكومة، «أشرت آنفاً» في الإشكال على تقليد الانسدادي.

[2] في قوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (عرف أحكامنا).

[3] إشارة إلى الجواب الأول عن هذا الإشكال.

[4] أي: عدم القول بالفصل غير مستبعد؛ لأنا لم نجد فقيهاً قال بعدم نفوذ حكم القاضي الانسدادي، «إلاّ أنه...» إشارة إلى عدم فائدة (عدم القول بالفصل)، إذ المفيد (القول بعد الفصل).

[5] إشارة إلى الجواب الثاني عن الإشكال، وكان الأولى تغيير العبارة إلى (أو يقال...)، لأنه عطف على قوله: (إلاّ أن يدعى عدم القول بالفصل).

ص: 357

الفقه، فإنه يصدق عليه حينئذٍ أنه ممن روى حديثهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ونظر في حلالهم وحرامهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وعرف أحكامهم عرفاً حقيقةً[1].

وأما قوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ[2] في المقبولة: «فإذا حكم بحكمنا»: فالمراد أن مثله[3] إذا حكم كان بحكمهم حكم، حيث كان منصوباً منهم، كيف[4]! وحكمه غالباً يكون في الموضوعات الخارجية، وليس مثل ملكية دار لزيد أو زوجية امرأة له من أحكامهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، فصحة إسناد حكمه إليهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ إنما هو لأجل كونه من المنصوب من قبلهم.

وأما التجزي في الاجتهاد ففيه مواضع من الكلام:

----------------------------------

[1] متعلق بقوله: (فإنه يصدق عليه)، أي: يصدق على الانسدادي صدقاً عرفياً وحقيقياً لا مجازياً بأنه عرف أحكامهم ونظر... الخ.

[2] هذا إشكال على الجواب الثاني مع دفعه، وحاصله:

إن قلت: صحيح أن الانسدادي - على الحكومة - يعرف جملة من أحكامهم، ولكن في خصوص الواقعة التي يحكم فيها لا يعرف حكمهم، بل يحكم طبقاً للعقل لا لحكمهم، فلا تصدق عليه أدلة نفوذ حكم القاضي كقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (فإذا حكم بحكمنا).

قلت: إن المراد من (بحكمنا) ليس الحكم الشرعي، بل المراد منه (بتعييننا) أي: حكم بسبب نصبنا له للقضاء. والدليل على هذا المراد أن غالب أحكام القاضي هي في الموضوعات الخارجية، وهي لا ترتبط بالأحكام الشرعية!!

[3] أي: المجتهد الذي نظر في حلالهم وحرامهم... الخ، «بحكمهم» أي: بنصبهم له في القضاء.

[4] أي: كيف يمكن في قوله: (فإذا حكم بحكمنا) أن يريد عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ الحكم الشرعي، مع أن غالب أحكام القضاة في الموضوعات الخارجية؟

ص: 358

الأول: في إمكانه[1] وهو وإن كان محل الخلاف بين الأعلام(1)،

إلاّ أنه لا ينبغي الارتياب فيه، حيث كان[2] أبواب الفقه مختلفة مدركاً، والمدارك متفاوتة سهولة وصعوبة، عقلية ونقلية، مع[3] اختلاف الأشخاص في الاطلاع عليها وفي طول الباع وقصوره بالنسبة إليها، فرب شخص كثير الاطلاع وطويل الباع في مدرك باب بمهارته في النقليات أو العقليات، وليس كذلك في آخر، لعدم مهارته فيها[4] وابتنائه عليها. وهذا بالضرورة ربما يوجب حصول القدرة على الاستنباط في بعضها

----------------------------------

الأمر الرابع: في التجزي في الاجتهاد

[1] يدل على إمكان التجزي في الاجتهاد أمور، منها:

1- تفاوت أدلة الأحكام، فبعض الأبواب أدلتها سهلة، وبعضها أدلتها صعبة، وقد يصل بعض الفضلاء إلى درجة تمكنهم من استنباط الأحكام التي أدلتها سهلة.

2- اختلاف الأشخاص في مهاراتهم بالنسبة إلى بعض الأدلة، فبعض الناس له قوة عقلية بحيث يتمكن من استنباط الأحكام إذا كانت مداركها عقلية، وبعضهم له قوة في الألفاظ والمنقولات.

3- استحالة الاجتهاد المطلق إذا لم يكن مسبوقاً بالتجزي؛ وذلك لاستحالة الطفرة، بل لابد في تغيّر الشيء من مقدمات. والطفرة محال عادي لا محال ذاتي؛ إذ يمكن أن يفيض الله تعالى هذه الأمور من غير مقدمات.

[2] إشارة إلى الدليل الأول.

[3] إشارة إلى الدليل الثاني، «عليها» على المدارك.

[4] لعدم مهارة ذلك الشخص، «فيها» في العقليات أو النقليات، «ابتنائه» المدرك، «عليها» على العقليات أو النقليات، «هذا» طول الباع وقصره في المدرك.

ص: 359


1- معالم الدين: 238.

لسهولة مدركه أو لمهارة الشخص فيه مع[1] صعوبته مع عدم القدرة على ما ليس كذلك، بل[2] يستحيل حصول اجتهاد مطلق عادةً غير مسبوق بالتجزي، للزوم الطفرة[3]. وبساطة[4] الملكة وعدم قبولها التجزية لا تمنع[5] من حصولها بالنسبة

----------------------------------

[1] أي: المهارة مع كونه صعباً، «مع عدم...» هذا عِدل قوله: (حصول القدرة على...).

[2] إشارة إلى الدليل الثالث، «عادة» لأنه محال عادي وليس محالاً ذاتياً.

[3] أي: تبدل وجود إلى آخر، أو انتقال من حالة إلى أخرى من غير مقدمات، فإنه يستحيل وجود الشيء من دون مقدمته.

[4] استدل القائلون بعدم إمكان التجزي:

أولاً: بأنّ التجزي معناه تقسيم الملكة إلى أجزاء، وهذا غير صحيح؛ لأن الملكة أمر بسيط لا جزء له حتى يمكن تقسيمه.

وفيه: إن التجزي لا يستلزم تقسيم الملكة، بل هي أمر بسيط ذو مراتب، فبعض مراتبها شديد وبعضها ضعيف، وبعبارة أخرى: متعلق الملكة مختلف لا أن الملكة ذو أجزاء.

وثانياً: بأن مدارك الأحكام متناثرة في مختلف الأبواب، فالمهارة في باب قد لا يوجب الاطلاع على كل مداركه.

وفيه: بأن الاطلاع على كل مدارك أيِّ باب من الأبواب أمر متيسر، وخاصة مع المراجعة إلى مختلف الكتب الفقهية؛ إذ ذكر الفقهاء في تصنيفاتهم في كل باب جميع الأدلة وما استدل به، بل حتى ما يحتمل أن يكون دليلاً، إذن فلا احتمال لوجود دليل في سائر الأبواب، ولو فرض وجود هذا الاحتمال فلا يكون مضراً في المتجزي، كما لم يكن مضراً في المجتهد المطلق؛ لأن الفحص بالمقدار الكافي كافٍ.

[5] الجواب عن الدليل الأول للمانعين، «حصولها» الملكة، «بها» أي: بسبب تلك الملكة، «بمداركه» أي: مدارك ذلك البعض.

ص: 360

إلى بعض الأبواب بحيث يتمكن بها من الإحاطة بمداركه، كما إذا كانت هناك ملكة الاستنباط في جميعها؛ ويقطع[1] بعدم دخل ما في سائرها به أصلاً، أو لا يعتنى باحتماله، لأجل الفحص بالمقدار اللازم الموجب للاطمئنان بعدم دخله، كما في الملكة المطلقة[2]، بداهة أنه لا يعتبر في استنباط مسألة معها من الاطلاع فعلاً على مدارك جميع المسائل، كما لا يخفى.

الثاني: في حجية ما يؤدي إليه على المتصف به[3] وهو أيضاً محل الخلاف، إلاّ أن[4] قضية أدلة المدارك[5] حجيته، لعدم اختصاصها بالمتصف بالاجتهاد المطلق، ضرورة أن بناء العقلاء على حجية الظواهر مطلقاً[6]، وكذا ما دل على حجية خبر الواحد، غايته تقييده[7]

----------------------------------

[1] هذا إشارة إلى الجواب عن الدليل الثاني، «سائرها» سائر الأبواب، «به» أي: ببعض الأبواب، «بعدم دخله» أي: عدم دخل ما في سائرها.

[2] أي: لا يشترط في استنباط حكم باب من الأبواب من استحضار كل أدلة الأحكام الشرعية حتى للمجتهد المطلق، كما هو واضح، «معها» مع الملكة المطلقة.

[3] أي: في حجية اجتهاد المتجزي على نفسه، «به» بالتجزّي في الاجتهاد.

[4] هذا دليل الحجيّة، وحاصله: عموم دليل اعتبار الخبر الواحد والظواهر وغيرهما، فدليل الاعتبار دل على وجوب العمل بتلك الأدلة، لكن خرج العامي لعدم تمكنه من ذلك.

[5] أي: الأدلة الدالة على اعتبار الخبر الواحد والظواهر ونحوهما.

[6] أي: على الجميع سواء كان مجتهداً مطلقاً أم متجزياً أم غيرهما، ثم إن ذكر الظواهر والخبر الواحد من باب المثال.

[7] أي: تقييد بناء العقلاء على الاعتبار في المثالين، «معارضاته» أي: معارضات الخبر، وكذا معارضات الظهور، مثل: أن لا يكون هناك مخالف أظهر.

ص: 361

بما إذا تمكن من دفع معارضاته، كما هو المفروض[1].

الثالث[2]: في جواز رجوع غير المتصف به إليه في كل مسألة اجتهد فيها وهو أيضاً محل الإشكال، من أنه[3] من رجوع الجاهل إلى العالم، فتعمه أدلة جواز التقليد؛ ومن[4] دعوى عدم إطلاق فيها وعدم إحراز أن بناء العقلاء أو سيرة المتشرعة على الرجوع إلى مثله أيضاً؛ وستعرف إن شاء الله تعالى ما هو قضية الأدلة.

وأما جواز حكومته[5] ونفوذ فصل خصومته، فأشكل[6].

----------------------------------

[1] أي: فرض كلامنا في المجتهد المتجزي وهو قادر على دفع المعارضات.

[2] في جواز تقليد العامي للمجتهد المتجزي، وفي جواز رجوع المتخاصمين إليه مع نفوذ حكمه.

[3] دليل جواز تقليده في ما اجتهد فيه.

[4] دليل عدم الجواز، وحاصله: إن أدلة جواز التقليد إمّا لفظيّة أو لُبيّة - وهي الإجماع وبناء العقلاء - .

أما اللفظية: فلا إطلاق لها لتشمل المجتهد المتجزئ.

وأما اللبيّة: فلها قدر متيقن وهو المجتهد المطلق.

وفيه نظر: وذلك لوجود الإطلاق، وثبوت بناء العقلاء، واللُبي يؤخذ بالقدر المتيقن منه في حالة الشك، ولا شك في رجوع العقلاء إلى المتخصص المتجزي في مجال تخصصه.

[5] أي: هل يجوز أن يكون قاضياً؟ «وفصل خصومته» أي: وهل ينفذ حكمه في المتخاصمين؟

[6] أي: أكثر إشكالاً من جواز تقليده.

ووجه أشدية الإشكال - على ما قيل - : هو أن أدلة التقليد هي الروايات وبناء العقلاء، فإذا لم يكن للروايات إطلاق فيمكن الاعتماد على بناء العقلاء في الرجوع

ص: 362

نعم[1]، لا يبعد نفوذه في ما إذا عرف جملةً معتداً بها، واجتهد فيها بحيث يصح أن يقال في حقه عرفاً: «إنه ممن عرف أحكامهم»، كما مر في المجتهد المطلق المنسد عليه باب العلم والعلمي في معظم الأحكام.

فصل: لا يخفى[2]

----------------------------------

إلى المتجزئ، بخلاف أدلة القضاء فهي الروايات فقط، فمع الإشكال في إطلاقها لا دليل آخر يمكن التمسك به في جواز قضاء المتجزي.

وبعبارة أخرى: للتقليد دليلان، فمع الإشكال في أحدهما يمكن التمسك بالآخر، ولكن للقضاء دليل واحد فقط.

[1] لتصحيح قضائه يمكن التمسك بقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (من قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا) وقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (فإذا حكم بحكمنا) فإن إطلاق هذه الألفاظ يشمل المتجزئ أيضاً؛ لأنه روى حديثهم ونظر في حلالهم وحرامهم وعرف أحكامهم، ثم حكم بحكمهم.

وفيه نظر: أشرنا إليه في بحث المجتهد المطلق الانسدادي.

فصل من العلوم المقدميّة للاجتهاد

[2] احتياج الاجتهاد إلى جملة من العلوم ذكر المصنف منها:

1- العلوم العربية، كالنحو والصرف واللغة؛ وذلك ليفهم معاني الآيات والروايات، التي هي عمدة مدارك الأحكام.

2- التفسير، في ما يخص آيات الأحكام، كي يعرف معنى الآيات ويميّز ظاهرها، ويعرف ناسخها من منسوخها وعامها عن خاصها... الخ.

3- أصول الفقه، وحيث إنّ الأخباريين أنكروا الحاجة إليه، بل اعتبره بعضهم بدعة، لذا بين المصنف وجه الحاجة مع ردّ بعض الإشكالات.

ص: 363

احتياج الاجتهاد إلى معرفة العلوم العربية في الجملة[1]، ولو بأن يقدر[2] على معرفة ما يبتني عليه الاجتهاد في المسألة بالرجوع إلى ما دُوّن فيه، ومعرفة التفسير كذلك[3].

وعمدة ما يحتاج إليه هو علم الأصول، ضرورة[4] أنه ما من مسألة إلاّ ويحتاج في استنباط حكمها إلى قاعدة أو قواعد بُرهِنَ عليها في الأصول[5]، أو بُرهِنَ عليها مقدمة في نفس المسألة الفرعية، كما هو طريقة الأخباري.

وتدوين[6]

----------------------------------

[1] لا كل تلك العلوم، فبعضها - كالبديع مثلاً - لا ضرورة له في الاستنباط، وكذا العربي المسلط على لغته قد لا يحتاج إليها في كثير من الأحيان.

نعم، كلّما كان الإنسان أكثر تسلطاً على تلك العلوم، ممارساً لها، كلّما كان أجود فهماً للآيات والروايات.

[2] أي: لا يحتاج إلى الاجتهاد في العلوم العربية، بل يكفي مراجعة كتب أهل الخبرة.

[3] أي: في الجملة.

[4] أي: جميع المسائل الفقهية تبتني على المسائل الأصولية، مثلاً: عمدة الأدلة هو الخبر الواحد، وبيان حجيته ومداركها في الأصول، وكذا تبحث مسألة حجية الظواهر - وهي ترتبط بغالب المسائل الفقهية - في الأصول أيضاً؛ ولذا فإن الأصوليين أفردوا تلك القواعد في علم مستقل - وهو أصول الفقه - .

وأما الأخباريون فقد بحثوا في تلك المسائل في طيّ مباحثهم الفقهية، مثلاً: صاحب الحدائق ابتدأ موسوعته (الحدائق الناضرة) بمقدمات هي من مسائل علم الأصول، وكذا في طيّ أبحاثه في المسائل الفقهية بحث كثيراً من المسائل الأصولية، فراجع.

[5] أي: ذكر دليلها في علم أصول الفقه - هذه طريقة الأصوليين - .

[6] أشكل بعض الأخباريين على أصول الفقه، بأن (الأصول) بدعة؛ لعدم

ص: 364

تلك القواعد المحتاج إليها على حدة لا يوجب كونها بدعةً[1]، وعدم تدوينها في زمانهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ لا يوجب ذلك[2]، وإلاّ[3] كان تدوين الفقه والنحو والصرف بدعةً.

وبالجملة: لا محيص لأحد في استنباط الأحكام الفرعية من أدلتها إلاّ الرجوع إلى ما بنى عليه[4] في المسائل الأصولية، وبدونه لا يكاد يتمكن من استنباط واجتهاد، مجتهداً كان أو أخبارياً.

----------------------------------

تدوين هكذا علم في زمان الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، بل هو من مخترعات العامة، ثم أدخله البعض في علوم الشيعة.

وفيه: أولاً: إن عدم التدوين في ذلك الزمان لا يوجب كونه بدعة، وإلاّ لزم كون كثير من العلوم بدعة، كعلم الفقه وبعض العلوم العربية - وهذا جواب نقضي - .

وثانياً: عدم التدوين ليس بمعنى عدم وجود تلك القواعد مبثوثة في أقوال الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وفي كتب أصحابهم، وإنما لم يدونوه بشكل مستقل لقلّة الحاجة إلى تلك القواعد؛ وذلك لتوفر النصوص الخاصة عندهم، عن طريق سؤال الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ في كل واقعة. كقلة الاحتياج إلى العلوم العربية في الصدر الأول؛ إذ كانت تلك اللغة هي لغتهم الأم، وكلام الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ كان بحسب كلام الجميع، عكس الأزمنة اللاحقة، حيث صارت العامية هي لغة الأم، وتحولت الفصحى كأنها لغة أخرى.

[1] لأن (البدعة) هي إدخال ما ليس من الدين في الدين، وهذه العلوم ليست إدخال شيء في الدين، بل هي محاولة لفهم الدين كما هو واضح.

[2] أي: لا يوجب كونه بدعة.

[3] إشارة إلى الجواب النقضي.

[4] «بنى» بالمعلوم، والمعنى: إلاّ بالرجوع إلى ما استقر رأيه عليه في أصول الفقه، «بدونه» بدون الرجوع إلى مبانيه في الأصول.

ص: 365

نعم[1]، يختلف الاحتياج إليها بحسب اختلاف المسائل والأزمنة والأشخاص[2]، ضرورة خفة مؤونة الاجتهاد في الصدر الأول وعدم حاجته إلى كثير مما يحتاج إليه في الأزمنة اللاحقة مما لا يكاد يحقق ويختار[3] عادةً إلاّ بالرجوع إلى ما دوّن فيه من الكتب الأصولية.

فصل: اتفقت الكلمة[4] على التخطئة في العقليات، واختلفت في الشرعيات:

----------------------------------

[1] إشارة إلى الجواب الثاني، «إليها» إلى المسائل الأصولية.

[2] فبعض المسائل فيها روايات متواترة ظاهرة الدلالة من غير معارض، فالحاجة فيها إلى بحث حجية الظهور فقط، ولكن بعض المسائل فيها أخبار متعارضة بعضها أظهر وبعضها، أعم فلابد من ملاحظة عدة مسائل أصولية، وكلّما كان الزمان أقرب إلى عصر المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ كانت الحاجة أقل.

وقد يكون شخص سريع القطع حينما يرى الأدلة، وآخر كثير الشك بحيث يحتاج إلى تأمل أكثر.

[3] أي: بحاجة إلى التحقيق في تلك المسألة، ثم اختيار أحد الأقوال مثلاً.

فصل في التخطئة والتصويب

[4] الأمور العقلية تكشف عن حقائق خارجية، فلا يتصور الاختلاف في الحقائق الخارجية؛ ولذا لا خلاف في أن الواقع واحد قد يصيبه الإنسان وقد يُخطئه.

وأما الشرعيات، فذهب قاطبة أهل الحق إلى التخطئة، بمعنى اعترافهم بأن الحكم الواقعي واحد، قد يصيبه المجتهد وقد يُخطئه، وقد ذهبت العامة إلى التصويب.

والمعاني المتصورة للتصويب ثلاثة - بعضها محال، وبعضها وإن كان ممكناً لكنه باطل بالإجماع والأخبار - :

ص: 366

فقال أصحابنا بالتخطئة(1)

فيها أيضاً، وأن له[1] تبارك وتعالى في كل مسألة حكماً يؤدي إليه الاجتهاد تارةً، وإلى غيره أخرى.

وقال مخالفونا بالتصويب(2)،

وأن له تعالى[2] أحكاماً بعدد آراء المجتهدين، فما يؤدي إليه الاجتهاد هو حكمه تبارك وتعالى.

ولا يخفى: أنه لا يكاد يعقل[3] الاجتهاد في حكم المسألة إلاّ إذا كان لها حكم واقعاً، حتى صار المجتهد بصدد استنباطه[4] من أدلته وتعيينه بحسبها ظاهراً.

----------------------------------

1- إن الله قد أنشأ أحكاماً كثيرة بعدد آراء المجتهدين، فكل مجتهد توصل إلى حكم فقد أصاب أحد تلك الأحكام، وهذا النوع ليس بمحال عقلي، لكنه باطل قطعاً.

2- أن لا يكون في الواقع حكم أصلاً، بل كلّما افتى المجتهد به يتحول إلى حكم الله الواقعي، وهذا النوع من التصويب محال؛ إذ معناه عدم وجود حكم واقعي أصلاً، فالمجتهد يبحث عن أيِّ شيء؟

3- أن يكون هنالك حكم واحد في مرحلة الإنشاء، فإن أصابه المجتهد فقد تنجّز، وإن وصل إلى غيره أنشأه الله تعالى، وجعله حكماً فعلياً منجزاً، وبعبارة أخرى: هناك حكم واقعي لكن إذا افتى المجتهد بغيره أمضاه الله، وجعله حكماً فعلياً أيضاً.

[1] عطف تفسيري، لبيان معنى التخطئة.

[2] عطف تفسيري، لبيان معنى التصويب.

[3] إذ لو لم يكن هنالك حكم أصلاً فعن أي شيء يبحث المجتهد؟ ولماذا يكلّف نفسه عناء البحث عن شيء غير موجود؟

[4] ضمائر «استنباطه» و«أدلته» و«تعيينه» ترجع إلى (الحكم واقعاً)، «بحسبها» أي: بحسب أدلة الحكم.

ص: 367


1- العدة في أصول الفقه 2: 725؛ قوانين الأصول 1: 449؛ فرائد الأصول 2: 284.
2- إرشاد الفحول: 261.

فلو كان غرضهم من التصويب هو الالتزام[1] بإنشاء أحكام في الواقع بعدد الآراء - بأن تكون الأحكام المؤدي إليها الاجتهادات أحكاماً واقعية، كما هي ظاهرية - فهو[2] وإن كان خطأ من جهة تواتر الأخبار وإجماع أصحابنا الأخيار على أن له تبارك وتعالى في كل واقعة حكماً يشترك فيه الكل[3]، إلاّ أنه غير محال.

ولو كان غرضهم[4] منه الالتزام بإنشاء الأحكام على وفق آراء الأعلام بعد الاجتهاد، فهو مما لا يكاد يعقل، فكيف يتفحص عما لا يكون له عين ولا أثر؟ أو يستظهر من الآية أو الخبر؟

إلاّ أن يراد[5] التصويب بالنسبة إلى الحكم الفعلي[6]، وأن المجتهد وإن كان يتفحص عما هو الحكم واقعاً وإنشاءً[7]، إلاّ [8] أن ما أدى إليه اجتهاده يكون هو

----------------------------------

[1] إشارة إلى المعنى الأول للتصويب.

[2] أي: هذا المعنى الأول باطل إجماعاً وبالأخبار، لكنه ليس بمحال.

[3] أي: العالم والجاهل، فهذا الحكم ينشأ للجميع، لكن لا يتنجّز إلاّ على العالم، «إلاّ أنه» هذا المعنى من التصويب.

[4] إشارة إلى المعنى الثاني من التصويب، «بعد الاجتهاد» متعلق ب- «بإنشاء»، أي: إنشاء الحكم يكون بعد فتوى المجتهد!!

[5] إشارة إلى المعنى الثالث للتصويب.

[6] أي: يكون هناك حكم واقعي واحد في مرحلة الإنشاء، لكن بسبب آراء المجتهدين تنشأ أحكام أخرى فعليّة.

[7] عطف تفسيري، أي: كونه حكماً واقعياً بمعنى إنشائه من الشارع المقدس.

[8] أي: إلاّ أن الحكم الفعلي لكل أحد هو ما توصل إليه باجتهاده، وضميرا «إليه» و«هو» يرجعان إلى الموصول «ما»، وضميرا «اجتهاده» و«حكمه» يرجعان إلى (المجتهد).

ص: 368

حكمه الفعلي حقيقةً[1]، وهو مما يختلف باختلاف الآراء ضرورةً، ولا يشترك فيه الجاهل والعالم بداهة. وما يشتركان فيه ليس بحكم حقيقةً، بل إنشاءً، فلا استحالة[2] في التصويب بهذا المعنى، بل لا محيص عنه في الجملة[3]، بناءً على اعتبار الأخبار من باب السببية والموضوعية[4]، كما لا يخفى. وربما يشير إليه[5] ما اشتهر بيننا «أن ظنية الطريق لا ينافي قطعية الحكم».

نعم[6]،

----------------------------------

[1] لا مجرد حكم ظاهري، بل هو حكم حقيقي له، بمعنى أن الشارع المقدس ينشئ حكماً جديداً وفعلياً، «وهو» أي: الحكم الفعلي، ومراد المصنف من (الفعلي) مرحلة التنجز، كما لا يخفى.

[2] أي: التصويب - بهذا المعنى - ليس بمحال؛ لأن الحكم الواقعي هو حكم إنشائي واحد فقط، والمتعدد هو الحكم الفعلي، وتعدد الحكم الفعلي لا محذور فيه، بل لابد من القول به على مبني السببيّة، «عنه» عن التصويب بهذا المعنى.

[3] أي: في بعض الصور، كحال الانسداد دون الانفتاح، أو إذا انكشف الخلاف - كذا قيل(1) - .

[4] عطف تفسيري، وقد مرّ معنى السببيّة، وحاصله: إن قيام الأمارة على أمر يوجب إيجاد مصلحة في المتعلّق واقعاً.

[5] أي: إلى التصويب بهذا المعنى - أي: في الحكم الفعلي - فلعلّ مراد القائل بهذه الجملة هو أن الطريق وإن كان ظنياً - أي: يظن بوجود حكم إنشائي - لكنه يتسبب في إيجاد مصلحة في المتعلق، فيوجد حكم فعلي قطعاً.

وإنما قال: «ربما يشير...» لاحتمال أن يكون مراد قائلها معنى آخر، مثلاً: القطع بالحجيّة، أي: ظنية الطريق لا ينافي القطع بحجيته ولزوم العمل طبقه.

[6] أي: المعنى الثالث للتصويب باطل أيضاً، على مبنى الطريقيّة - بأن لا تسبب

ص: 369


1- منتهى الدراية 8: 453.

بناءً على اعتبارها من باب الطريقية - كما هو كذلك[1] - فمؤديات الطرق والأمارات المعتبرة ليست بأحكام حقيقية نفسية[2]، ولو قيل بكونها أحكاماً طريقية[3]. وقد مر[4] غير مرة إمكان منع كونها أحكاماً كذلك أيضاً، وأن قضية حجيتها ليس إلاّ تنجز مؤدياتها عند إصابتها والعذر عند خطئها، فلا يكون حكم أصلاً إلاّ الحكم الواقعي، فيصير منجزاً في ما قام عليه حجة من علم أو طريق معتبر، ويكون غير منجز - بل غير فعلي[5] - في ما لم تكن هناك حجة مصيبة، فتأمل جيداً.

----------------------------------

الأمارات مصلحة في متعلقاتها غير مصلحة الواقع - .

[1] أي: كما هو المختار من كون الأمارات من باب الطريقيّة دون السببيّة.

[2] (الحكم الحقيقي النفسي): هو ما كان ناشئاً عن المصلحة أو المفسدة في متعلق الحكم، و(الحكم الطريقي): هو الحكم الظاهري المقدّمي الذي شُرّع لأجل الوصول به إلى الحكم الواقعي.

ومعنى العبارة: بناءً على مبنى الطريقيّة لا تكون مؤديات الأمارات أحكاماً نفسيّة حقيقية ناشئة عن المصلحة أو المفسدة في المتعلق، بل هي إمّا أحكام ظاهريّة مُقدمّيّة بناءً على وجود الحكم الظاهري، وإمّا ليست بأحكام أصلاً، بل تنجّز الواقع في صورة الإصابة، وموجبة للعذر في صورة الخطأ، «بكونها» يكون مؤديات الطرق والأمارات.

[3] معنى (الطريقيّة) هنا هو الظاهرية التي تكون مقدمة للوصول إلى الواقع، وقيل معناها - هنا - هو المصلحة السلوكية.

و هذا المعنى يختلف عن معنى (الطريقيّة) التي هي مقابل (السببيّة) فتدبّر.

[4] إشارة إلى أنه بناءً على الطريقيّة يمكن القول بعدم وجود حكم ظاهري، بل تنجيز وتعذير كما فصلّه المصنف سابقاً، «كونها» كون مؤديات الطرق، «كذلك» طريقيّة، بمعنى ظاهرية مقدميّة، «أيضاً» أي: كمنع كونها أحكاماً نفسيّة.

[5] أي: يبقى الحكم الواقعي إنشائياً، ولا يصل إلى مرحلة الفعلية والتنجّز،

ص: 370

فصل: إذا اضمحل الاجتهاد السابق[1] بتبدل الرأي الأول بالآخر أو بزواله

----------------------------------

وقد مرّ أن مراحل الحكم أربعة: الاقتضاء، والإنشاء، والفعليّة، والتنجّز، فراجع.

فصل في تبدّل رأي المجتهد

اشارة

[1] قد يتبدّل رأي المجتهد إلى رأي جديد، وقد يتغيّر إلى التوقف والتردد، وقد يموت المجتهد فيرجع المقلّد إلى غيره - والذي له آراء مخالفة لرأي المجتهد الميّت - .

ولا يخفى ارتباط هذا البحث ببحث الإجزاء من جهات متعددة، فكان الأفضل دمج البحثين في موضع واحد.

كما أننا نتكلم حسب مقتضى القاعدة الأولية، فكلّما لا يوجد دليل خاص فإنا نرجع إلى هذه القاعدة، ولكن مع وجود دليل خاص (كقاعدة لا تعاد في الصلاة) فالمرجع هو ذلك الدليل الخاص، كما هو واضح.

وعلى كل حال: فبالنسبة إلى الأعمال القادمة لابد من العمل على طبق الرأي الجديد؛ وذلك لعدم بقاء الحجة على الرأي القديم بعد التبدل.

وأما بالنسبة إلى الأعمال السابقة، فهنا صور متعددة:

1- لو كان مستند الرأي الأول هو القطع فحينئذٍ لا يوجد حكم ظاهري أصلاً؛ لأن حجية القطع ذاتيّة وليست مستندة إلى الشرع، فالعمل على طبق الرأي الأول لم يكن مطابقاً للحكم الواقعي ولا للحكم الظاهري، فيقع العمل باطلاً.

2- لو كان مستند الرأي الأول هو الأمارة على مبنى الطريقيّة مع إنكارنا للحكم الظاهري، فحينئذٍ لا حكم واقعي ولا حكم ظاهري على الرأي الأول، فيقع العمل باطلاً.

ص: 371

بدونه[1]، فلا شبهة في عدم العبرة به في الأعمال اللاحقة ولزوم اتباع اجتهاد اللاحق مطلقاً[2] أو الاحتياط فيها[3].

وأما الأعمال السابقة الواقعة على وفقه[4] المختل فيها ما اعتبر في صحتها بحسب هذا الاجتهاد: فلابد من معاملة البطلان معها في ما لم ينهض[5] دليل على صحة العمل في ما إذا اختل فيه[6]

----------------------------------

3- لو كان مستند الرأي الأول هو الأمارة على مبنى السببيّة فلابد من القول بصحة الأعمال السابقة؛ وذلك لوقوعها طبقاً على الحكم الواقعي الفعلي - كما شرحناه قبل قليل - .

4- لو كان العمل بحسب الاجتهاد الأول مجرى الاستصحاب أو أصالة الطهارة فيكون العمل صحيحاً.

[1] أي: زوال الرأي الأول بدون التبدل إلى الرأي الآخر، «به» بالرأي الأول.

[2] سواء كان الرأي الجديد عن علم أم ظن معتبر أم أصل شرعي، وهذا في ما حصل له رأي جديد.

[3] في ما لم يحصل له رأي جديد.

[4] وفق الرأي الأول، «المختل» صفة للأعمال السابقة، «فيها» في الأعمال السابقة، «هذا الاجتهاد» الجديد، «معها» مع الأعمال السابقة.

[5] أي: كلامنا إنما هو حسب مقتضى القاعدة الأوليّة. نعم، لو قام دليل خاص فهو المتبّع. وقد قام هذا الدليل الخاص في عدة موارد إذا كانت المخالفة عن عذر، مثل: ما لو حصل خلل في الصلاة في غير الطهور والقبلة والركوع والسجود والوقت، من غير عمد، كما لو أخل في القراءة من غير عمدٍ، فإن صلاته صحيحة، وذلك لقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس... الخ)(1).

[6] أي: في ما إذا اختل ما اعتبر في الصحة، «فيه» في العمل.

ص: 372


1- الخصال: 284؛ وسائل الشيعة 1: 371.

لعذر كما نهض في الصلاة وغيرها[1]، مثل «لا تعاد» و«حديث الرفع»[2]، بل الإجماع على الإجزاء في العبادات على ما ادعي[3].

وذلك[4] في ما كان بحسب الاجتهاد الأول قد حصل القطع بالحكم وقد اضمحل واضح، بداهة[5] أنه لا حكم معه شرعاً، غايته المعذورية في المخالفة عقلاً.

وكذلك[6] في ما كان هناك طريق معتبر شرعاً عليه بحسبه، وقد ظهر خلافه بالظفر بالمقيد أو المخصص أو قرينة المجاز أو المعارض[7]، بناءً على ما هو التحقيق

----------------------------------

[1] أي: غير الصلاة من سائر العبادات، كما لو كانت فتواه دخول الليل باستتار القرص فأفطر صومه، ثم تبدل رأيه إلى دخول الليل بزوال الحمرة المشرقية.

[2] حيث قال عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (رفع عن أمتي... الخطأ)(1).

[3] نسب الشيخ الأعظم(2)

ادعاء الإجماع إلى بعض من لا تحقيق له، لكن كلامه في مطلق الإجزاء، ولا يختص بتبدّل رأي المجتهد ولا بالعبادات.

الصورة الأولى

[4] «ذلك» مبتدأ، وخبره «واضح» إشارة إلى الصورة الأولى، «ذلك» البطلان.

[5] دليل البطلان في صورة كون مستند الحكم هو القطع، «معه» مع القطع، «شرعاً» لأن القطع حجيته ذاتية وليست بجعل الشارع، «غايته» أي: لا يوجد حكم شرعي، بل فقط تنجيز وتعذير.

الصورة الثانية
اشارة

[6] أي: بطلان العمل، وهذا إشارة إلى الصورة الثانية، «بحسبه» أي: بحسب الاجتهاد الأول، «خلافه» خلاف الاجتهاد الأول.

[7] وكان اللازم العمل بذلك المعارض بناءً على قواعد التعارض والتراجيح.

ص: 373


1- التوحيد: 353؛ وسائل الشيعة 15: 369.
2- مطارح الأنظار 1: 169.

من اعتبار الأمارات من باب الطريقية، قيل[1] بأن قضية اعتبارها إنشاء أحكام طريقية أم لا، على[2] ما مرّ منا غير مرة، من غير فرق بين تعلقه بالأحكام أو بمتعلقاتها[3]، ضرورة[4] أن كيفية اعتبارها فيهما على نهج واحد.

ولم يعلم وجه للتفصيل بينهما[5]

----------------------------------

[1] أي: سواء قيل: إنّ مقتضى اعتبار الأمارات هو القول بالأحكام الظاهرية أم التنجيز والتعذير.

[2] قوله: «على ما...» هذا توضيح لقوله: «أم لا» أي: لم نقل بالأحكام الظاهرية.

[3] أي: موضوع الأحكام، مثلاً: لو كان يرى عدم جزئية شيء للصلاة فكان يتركه، ثم اعتقد بجزئيته.

[4] دليل عدم الفرق بين (الأحكام) و(متعلقاتها)، وحاصله: إن المناط في كليهما واحد؛ وذلك لعدم الإتيان بما هو مأمور به واقعاً في كلا الصورتين، «اعتبارها» أي: اعتبار الطريقية، «فيهما» في الأحكام ومتعلقاتها.

تفصيل صاحب الفصول

[5] وحاصل تفصيله: إنه لو تبدل الاجتهاد في الموضوعات فالأعمال السابقة صحيحة، وأما لو تبدل في الأحكام فالأعمال السابقة باطلة، واستدل لذلك بثلاثة أدلة:

الأول: إن الموضوعات غير قابلة للتبدل؛ لأنها أمور خارجيّة تكوينيّة، فهي لا تتغيّر بالتشريع. أما الأحكام فهي قابلة للتبدّل؛ لأنها اعتبارات شرعيّة، فهي قابلة للتغيّر بالتشريع.

إذن، إذا تعلق الاجتهاد بموضوع فهو غير قابل للتبديل، أما لو تعلق بحكم فهو قابل للتبديل.

ص: 374

- كما في الفصول(1)

- وأن المتعلقات[1] لا تتحمل اجتهادين، بخلاف الأحكام، إلاّ حسبان[2] أن الأحكام قابلة للتغير والتبدل بخلاف المتعلقات والموضوعات. وأنت خبير[3] بأن الواقع واحد فيهما[4] وقد عُيّن أولاً بما ظهر خطؤه ثانياً.

ولزوم[5] العسر والحرج والهرج والمرج المخل بالنظام والموجب للمخاصمة بين

----------------------------------

الثاني: إن الحكم بالبطلان في متعلق الأحكام يستلزم العسر والحرج.

الثالث: إن الحكم بالبطلان في المتعلقات يستلزم الهرج والمرج.

وكل هذه الأدلة محلّ تأمل كما سيتضح.

[1] إشارة إلى الدليل الأول.

[2] هذا تفسير المصنف لعبارة (القضية الواحدة لا تتحمل اجتهادين).

[3] هذا الجواب عن الدليل الأول، وحاصله: إن الواقع واحد سواء في الأحكام أم في الموضوعات، وسواء اكتشفه المجتهد أم لم يكتشفه، فمع الاجتهاد الأول والثاني لم يتغير الواقع.

ف- (الأحكام قابلة للتغيير) ليس بالاجتهاد الخاطئ؛ لأنه لا يغيّر الواقع.

كما أن (الموضوعات غير قابلة للتغيير) ليس بمعنى أنه لو أخطأ المجتهد فيها بحيث لا يمكن تصحيح ذلك الخطأ بالقضاء أو الإعادة، كما هو واضح.

[4] في الموضوعات، ومتعلقات الأحكام التي هي الموضوعات، «عُيّن» بالاجتهاد الأول.

[5] إشارة إلى الدليل الثاني والثالث.

و«العسر والحرج» في العبادات - عادة - لأن القضاء والإعادة خصوصاً لعبادات سنوات طويلة من أوضح مصاديق العسر والحرج، ثم (العسر) عادة في البدن، و(الحرج) عادة في النفس.

ص: 375


1- الفصول الغروية: 409.

الأنام - لو قيل بعدم صحة العقود والإيقاعات والعبادات الواقعة على طبق الاجتهاد الأول الفاسدة[1] بحسب الاجتهاد الثاني ووجوب[2] العمل على طبق الثاني من[3] عدم ترتيب الأثر على المعاملة وإعادة العبادة - لا يكون[4] إلاّ أحياناً، وأدلة نفي العسر لا ينفي إلاّ خصوص ما لزم منه العسر فعلاً[5]؛ مع[6] عدم اختصاص ذلك بالمتعلقات، ولزوم العسر في الأحكام كذلك أيضاً لو قيل بلزوم ترتيب الأثر على طبق الاجتهاد الثاني في الأعمال السابقة؛ وباب[7] الهرج والمرج ينسد بالحكومة وفصل الخصومة.

----------------------------------

و«الهرج والمرج» في المعاملات - عادة - لأن بطلان المعاملات التي جرت خلال سنوات موجب لاختلال النظام.

[1] صفة للعقود والإيقاعات والعبادات.

[2] «وجوب» عطف على (عدم صحة العقود...) أي: لو قيل بعدم الصحة وقيل بوجوب العمل... الخ.

[3] «من» بيان ل- (العمل على طبق الاجتهاد الثاني).

[4] خبر (لزوم)، وهذا جواب عن الدليل الثاني - العسر والحرج - وحاصله:

أولاً: إن الدليل أخص من المدعى، فإن تكرار أو قضاء العبادات، أو بطلان المعاملات قد لا يوجب حرجاً وعسراً. مع أن (العسر والحرج) شخصي، فكلّما كان عسر وحرج ارتفع الحكم، أما لو لم يكن عسر وحرج فلا يرتفع الحكم.

وثانياً: لا فرق في العسر والحرج بين الأحكام والمتعلقات، فإن صحّ الاستدلال بالعُسر فهو يجري في كليهما، فلا وجه للتفصيل.

[5] «فعلاً» شخصاً لا نوعاً.

[6] بيان للجواب الثاني، «كذلك» أي: المخل بالنظام.

[7] هذا جواب عن الدليل الثالث - وهو الهرج والمرج - وحاصله: إنه يراجعون

ص: 376

وبالجملة[1]: لا يكون التفاوت بين الأحكام ومتعلقاتها بتحمل الاجتهادين، وعدم التحمل بيّناً ولا مبيّناً بما يرجع إلى محصل في كلامه «زيد في علو مقامه»، فراجع وتأمل.

وأما بناءً[2] على اعتبارها من باب السببية والموضوعية: فلا محيص عن القول بصحة العمل على طبق الاجتهاد الأول، عبادةً كان أو معاملةً، وكون مؤداه[3] - ما لم يضمحل - حكماً حقيقةً.

----------------------------------

الحاكم الشرعي فيقضي بينهم ويفصل في المعاملات السابقة!! فتأمل.

[1] رجوع إلى الدليل الأول لصاحب الفصول، فيذكر المصنف أن عبارة (القضية الواحدة لا تتحمل اجتهادين) هي عبارة غامضة، بل نُقل أن الشيخ الأعظم أرسل بعض تلامذته إلى كربلاء عند صاحب الفصول ليوضّح مراده من العبارة فلم يرجع بأمر واضح.

ثم اعلم أن مقصود صاحب الفصول شيء آخر غير ما فهمه المصنف، فراجع المفصلات.

الصورة الثالثة

[2] هذا إشارة إلى الصورة الثالثة، «اعتبارها» أي: الأمارات، وحاصله: إن مؤدى الأمارة قد تحققت فيه المصلحة الواقعية، فصار حكماً واقعياً، فيكون العمل مطابقاً للواقع، وكلّما كان العمل مطابقاً للواقع كان صحيحاً.

[3] أي: مؤدى الاجتهاد الأول و«كون» معطوف على (صحة العمل) و«مؤداه» اسم «كون»، وخبرها «حكماً»، وقوله: «ما لم يضمحل» جملة معترضة، والمعنى: إن المصلحة تستمر إلى حين تبدل الرأي، ولكن قبل تبدله كانت مصلحة واقعية - بسبب قيام الأمارة - فكان العمل مطابقاً للحكم الواقعي.

ص: 377

وكذلك الحال[1] إذا كان بحسب الاجتهاد الأول مجرى الاستصحاب أو البراءة النقلية[2]، وقد ظفر في الاجتهاد الثاني بدليل على الخلاف، فإنه عمل بما هو

----------------------------------

الصورة الرابعة

[1] إشارة إلى الصورة الرابعة، وقد مرّ تفصيله في بحث الإجزاء، حيث قال المصنف: (لمقام الثاني: في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري وعدمه، والتحقيق: إن ما كان منه يجري في تنقيح ما هو موضوع التكليف وتحقيق متعلقه، وكان بلسان تحقق ما هو شرطه أو شطره، كقاعدة الطهارة أو الحلية، بل واستصحابهما - في وجه قوي - ونحوها بالنسبة إلى كل ما اشترط بالطهارة والحلية، يجزي، فإن دليله يكون حاكماً على دليل الاشتراط، ومبيناً لدائرة الشرط، وأنه أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية، فانكشاف الخلاف فيه لا يكون موجباً لانكشاف فقدان العمل لشرطه، بل بالنسبة إليه يكون من قبيل ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل)(1)،

انتهى.

وحاصله: حكومة قاعدة الحل والطهارة ونحوهما على أدلة الاشتراط؛ وذلك بتوسيع دائرة الشرط، مثلاً: تشترط الطهارة في الصلاة وكون الجلد من حيوان مأكول اللحم، فقاعدة الطهارة تعمّم الشرط، أي: سواء كانت طهارة واقعية أم ظاهرية، وكذا قاعدة الحلية تعمم، أي: سواء كان جلد حيوان حلال اللحم واقعاً أم ظاهراً.

وقد مرّ أن الدليل الحاكم قد يوسع في دليل المحكوم وقد يضيّق.

[2] بشرط أن يكون في متعلقات الأحكام - أي: في الموضوع - كما مرّ في كلام المصنف في بحث الإجزاء، ونقلناه في الحاشية السابقة حيث قال: (بالنسبة إلى كل ما اشترط... الخ).

ص: 378


1- إيضاح كفاية الأصول 1: 378.

وظيفته[1] على تلك الحال.

وقد مر في مبحث الإجزاء تحقيق المقال، فراجع هناك.

فصل: في التقليد وهو[2] أخذ قول الغير ورأيه للعمل به في الفرعيات، أو للالتزام به في الاعتقاديات تعبداً[3]، بلا مطالبة دليل على رأيه(1).

----------------------------------

و«مجرى الاستصحاب» فيه وجه قوي، وهو كون الاستصحاب من الأصول التنزيلية، أي: ينزل المستصحب منزلة الواقع.

[1] أي: وظيفته الواقعية، «تلك الحال» أي: في حال الاجتهاد الأول.

فصل في التقليد

اشارة

[2] عرفوا التقليد بعدة تعريفات، منها:

1- أخذ قول الغير لأجل العمل به من غير مطالبته بالدليل في فروع الدين، ويتحقق بأخذ رسالة المجتهد وقصد العمل بها.

وأما في أصول الدين فهو الاعتقاد بقول الغير من غير مطالبة بالدليل.

2- العمل بقول الغير في الفروع، من غير مطالبة بالدليل.

ويظهر الفرق بين التعريفين في البقاء على تقليد الميت، فإن قلنا بالأول جاز البقاء، سواء في المسائل التي عمل بها أم لم يعمل بها، وإن قلنا بالثاني فلا يجوز البقاء إلاّ في المسائل التي عمل بها؛ لعدم تحقق التقليد في غيرها، فلا تقليد حتى يجوز البقاء.

[3] شرح «تعبداً» بقوله: «بلا مطالبة دليل على رأيه»، إذ مع المطالبة لا يكون تقليداً، كما لو سأل المجتهد مجتهداً آخر عن مستند فتواه، ثم اقتنع بالدليل، فهذا ليس تقليداً، بل اجتهاداً.

ص: 379


1- معارج الأصول: 200؛ الفصول الغروية: 411.

ولا يخفى[1]: أنه لا وجه لتفسيره بنفس العمل، ضرورة سبقه عليه، وإلاّ كان بلا تقليد، فافهم[2].

ثم إنه لا يذهب عليك[3] أن جواز التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم في

----------------------------------

[1] المصنف رجّح التعريف الأول؛ ولذا اشكل على التعريف الثاني.

وحاصل إشكاله: إن عمل العامي يجب أن يكون مسبوقاً بالتقليد، فلو كان التقليد نفس العمل لم يكن عمله مسبوقاً بالتقليد!! «لتفسيره» أي: تعريف التقليد، «سبقه» سبق التقليد، «عليه» على العمل، «كان» أي: كان العمل.

[2] إشارة إلى التأمل في الإشكال:

أولاً: إن سبق التقليد على العمل لم يدل عليه دليل أصلاً.

ثانياً: إن نفس العمل هو تقليد، فلا يكون عملاً بلا تقليد، وبعبارة أخرى: التقليد متزامن مع العمل، فيقع العمل موصوفاً بأنه تقليد.

أدلة جواز التقليد

[3] يستدل المصنف على جواز التقليد بستة أدلة، ويناقش في أربعة منها:

1- سيرة العقلاء ومنشؤها الفطرة.

2- الإجماع.

3- ضرورة الدين.

4- سيرة المتدينين.

5- الآيات، كآية النفر والسؤال.

6- الأخبار الدالة بالمطابقة أو بالالتزام على جواز التقليد.

أما الدليل الأول: وهو أن رجوع الجاهل إلى العالم في كل المسائل استقرت عليه سيرة العقلاء، ومنشؤ هذه السيرة الفطرة القاضية بالرجوع إلى أهل الخبرة في كل الأمور؛ إذ لا يتمكن من ليس من أهل الخبرة من العلم بالأمور عادة؛ وذلك لعجزه عن معرفة الأدلة.

ص: 380

الجملة[1] يكون بديهياً جبلياً فطرياً[2] لا يحتاج إلى دليل، وإلاّ لزم سد باب العلم به على العامي مطلقاً[3] غالباً[4]، لعجزه عن معرفة ما دل عليه كتاباً وسنة؛ ولا يجوز التقليد فيه[5] أيضاً، وإلاّ لدار أو تسلسل؛ بل هذه[6] هي العمدة في أدلته.

وأغلب ما عداه قابل للمناقشة:

لبعد تحصيل الإجماع[7] في مثل هذه المسألة مما يمكن أن يكون القول فيه لأجل

----------------------------------

إن قلت: يقلّد في مسألة جواز التقليد.

قلت: هذا مستلزم للدور إن رجع إلى العالم الأول، أو التسلسل إن رجع إلى عالم آخر وهكذا.

وبعبارة أخرى: هل يجوز للعامي التقليد؟ إن قلنا: إنّ عليه أن يجتهد في هذه المسألة فهذا أمر متعذر عادة، لعدم تمكن العامي من الاجتهاد، وإن قلنا: إن عليه الرجوع إلى المجتهد في مسألة جواز التقليد فهذا مستلزم للدور أو التسلسل، فلم يبق إلاّ أن نقول: إن فطرته تقضي بجواز التقليد.

[1] أي: في بعض الصور، وهو اجتماع الشرائط في المجتهد.

[2] أي: هذا أمر شديد الوضوح؛ لأن منشؤه الفطرة، و(الجِبِلّة) بنفس معنى (الفطرة).

[3] سواء كان عامياً بحتاً أم له حظ من العلم.

[4] في ما لم يكن مجتهداً متجزياً، بحيث يتمكن من الاجتهاد في مسألة جواز التقليد، «لعجزه» العامي، «عليه» الضمير راجع إلى الموصول.

[5] أي: في مسألة جواز التقليد.

[6] أي: الفطرة، والأصح أن يقال: إن الدليل هو بناء العقلاء ومستندهم هو الفطرة، «أدلته» أي: أدلة التقليد.

[7] الدليل الثاني: الإجماع على جواز التقليد.

ص: 381

كونه من الأمور الفطرية الارتكازية. والمنقول منه[1] غير حجة في مثلها، ولو قيل بحجيتها في غيرها، لوهنه بذلك.

ومنه قد انقدح[2] إمكان القدح في دعوى كونه من ضروريات الدين، لاحتمال أن يكون من ضروريات العقل وفطرياته[3]، لا من ضرورياته.

----------------------------------

وفيه: إن الإجماع إما محصل أو منقول، أما المنقول فغير حجة، وأما المحصل فغير حاصل؛ إذ هذا الإجماع مدركي، أي: إن كل فقيه استند إلى هذا الدليل أو أدلة أخرى، وقد مرّ أن الإجماع المدركي - سواء كان معلوم الاستناد أم محتمله - غير حجة؛ إذ وجه حجية الإجماع انتهاؤه إلى قول المعصوم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، بأن يكون أصحاب الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ سمعوا منهم فقالوا بما سمعوا من غير ذكر كلام الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، وهكذا إلى أن وصل إلينا.

أما الإجماع الذي لا ينتهي إلى قول المعصوم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فلا دليل على حجيته أصلاً، بل إن استندوا إلى دليل فلابد من ملاحظة ذلك الدليل. والدليل هنا هو الفطرة، فلا يكون هذا الإجماع دليلاً آخر في مقابل الفطرة.

«لبعد تحصيل الإجماع» أي: الإجماع الحجة الكاشف عن قول المعصوم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[1] أي: المنقول من الإجماع ليس بحجة.

أولاً: لعدم حجية الإجماع المنقول - وهذا إشكال مبنائي - .

وثانياً: على فرض حجية الإجماع المنقول فهذا الإجماع المنقول هنا غير حجة؛ لكونه مدركياً. «في مثلها» أي: مثل هذه المسألة، «لوهنه» الإجماع المنقول، «بذلك» أي: بكونه مدركياً.

[2] الدليل الثالث: ضرورة الدين بجواز التقليد.

وفيه: إنه من ضروريات العقل، لا من ضروريات الدين، «ومنه» أي: من الإشكال على الإجماع، «كونه» كون التقليد.

[3] أي: منشأ كونه ضرورياً لدى العقل هو كونه من الأمور الفطرية.

ص: 382

وكذا[1] القدح في دعوى سيرة المتدينين.

وأما الآيات[2]: فلعدم دلالة آية النفر والسؤال على جوازه[3]، لقوة احتمال

----------------------------------

وهل الفطرة غير العقل أم أنها مرتبة من مراتبه؟ فيه بحث مذكور في مظانه.

[1] الدليل الرابع: قيام سيرة المتشرعة على جواز التقليد.

وفيه: إن منشأ سيرتهم هو الفطرة، فلا تكون هذه السيرة دليلاً آخر غير الدليل الأول.

[2] الدليل الخامس: الاستدلال بآية السؤال وآية النفر. قال تعالى: {فَسَۡٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ}(1)، وقال سبحانه: {فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ}(2).

وجه الاستدلال: هو التلازم بين السؤال والقبول وإلاّ كان السؤال لغواً، وكذا التلازم بين الإنذار والحذر، وقد مرّ تفصيل الاستدلال بالآيتين في أدلة حجية الخبر الواحد، فراجع.

وفيه: أولاً: عدم التلازم؛ وذلك لجواز أن يكون الغرض من السؤال والإنذار هو تحصيل العلم، لا لأجل العمل تعبداً، نظير وجوب بيان أصول الدين لكي يحصل العلم للناس بسبب بيان مختلف العلماء.

والحاصل: إنه لا تلازم بين السؤال والقبول، وبين الإنذار والحذر، كما لا ملازمة بين البيان وبين القبول في أصول الدين، بل لعل الغرض هو تحصيل العلم من جهة كثرة مَن يُبيّن الحق.

وثانياً: إن آية السؤال لا ترتبط بسؤال العلماء، بل المراد من (أهل الذكر) إما أهل الكتاب أو الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

[3] أي: جواز التقليد.

ص: 383


1- سورة النحل، الآية: 43؛ سورة الأنبياء، الآية: 7.
2- سورة التوبة، الآية: 122.

أن يكون الإرجاع لتحصيل العلم، لا للأخذ تعبداً[1]؛ مع أن[2] المسؤول في آية السؤال هم أهل الكتاب كما هو ظاهرها، أو أهل بيت العصمة الأطهار كما فسر به في الأخبار.

نعم[3]، لا بأس بدلالة الأخبار عليه بالمطابقة أو الملازمة، حيث دل بعضها[4] على وجوب اتباع قول العلماء، وبعضها[5] على أن للعوام تقليد العلماء، وبعضها على جواز الإفتاء مفهوماً - مثل: ما دل[6] على المنع عن الفتوى بغير علم -، أو

----------------------------------

[1] أي: الأخذ به لأنه قول الغير من غير معرفة الدليل.

[2] بيان الإشكال الثاني، وهو خاص بالاستدلال بآية السؤال.

[3] الدليل السادس: الأخبار الدالة على جواز التقليد - وهذا الدليل يرتضيه المصنف - وهي على نحوين:

الأول: الأخبار الدالة بالمطابقة على جواز التقليد.

الثاني: الأخبار الدالة بالالتزام على جوازه - سواء بمفهومها أم بمنطوقها - .

[4] كقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله)(1)،

والرجوع فيها بمعنى الاتباع، وهذا دليل مطابقي.

[5] وهذه أيضاً بالمطابقة، كقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (وأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه فعلى العوام أن يقلدوه)(2).

[6] كقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه)(3)،

وقد دلت مفهوماً على جواز الإفتاء مع الهدى، ومن الواضح أن جواز الإفتاء يلازم جواز التقليد عرفاً.

فهذا دليل الجواز بالدلالة الالتزامية وبالمفهوم.

ص: 384


1- وسائل الشيعة 27: 140.
2- وسائل الشيعة 27: 131.
3- المحاسن 1: 205.

منطوقاً[1]، مثل ما دل على إظهاره عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ المحبة لأن يرى في أصحابه من يفتي الناس بالحلال والحرام.

لا يقال[2]: إن مجرد إظهار الفتوى للغير لا يدل على جواز أخذه واتباعه.

فإنه يقال[3]: إن الملازمة العرفية بين جواز الإفتاء وجواز اتباعه واضحة، وهذا[4] غير وجوب إظهار الحق والواقع، حيث لا ملازمة بينه وبين وجوب أخذه تعبداً، فافهم وتأمل.

وهذه الأخبار[5] على اختلاف مضامينها وتعدد أسانيدها لا يبعد دعوى القطع

----------------------------------

[1] أي: ما دلّ منطوقه بالدلالة الالتزامية على جواز التقليد، كقول الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لأبان بن تغلب: (اجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس، فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك)(1).

[2] حاصله: عدم التلازم بين جواز الفتوى وبين قبولها، فلعل جواز الفتوى لكي يكثر بيان الأحكام الشرعية، حتى يحصل للناس العلم بها، كما قلتم بنظيره في مورد عدم كتمان أصول الدين، «أخذه» أي: أخذ الفتوى واتباعها، وتذكير الضمير باعتبار (القول).

[3] الجواب هو: بالفرق بين مسائل أصول الدين وبين المسائل الفرعية؛ وذلك لقلّة مسائل أصول الدين وإمكان تحصيل العلم بها مع كثرة من يُبيّنها، عكس المسائل الفقهية، فهي كثيرة جداً واختلاف العلماء فيها أكثر، فلا ملازمة عرفية بين بيانها وبين حصول العلم، بل الملازمة العرفية بين جواز الإفتاء وبين القبول تعبداً.

[4] بيان للفرق بين مسائل الفروع ومسائل أصول الدين، «بينه» أي: بين إظهار الحق وعدم كتمانه في أصول الدين.

[5] أي: إن الأخبار الدالة على جواز التقليد متواترة إجمالاً؛ إذ أسنادها متعددة ومضامينها مختلفة، بحيث يحصل القطع بصدور بعضها، فهي تخصّص الأدلة الدالة

ص: 385


1- مستدرك الوسائل 17: 11.

بصدور بعضها، فيكون[1] دليلاً قاطعاً على جواز التقليد، وإن لم يكن كل واحد منها بحجة؛ فيكون مخصصاً[2] لما دل على عدم جواز اتباع غير العلم والذم على التقليد من الآيات والروايات، قال الله تبارك وتعالى: {وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ}(1)، وقوله تعالى: {إِنَّا وَجَدۡنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰٓ أُمَّةٖ وَإِنَّا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم مُّقۡتَدُونَ}(2)؛ مع احتمال أن الذم إنما كان على تقليدهم للجاهل أو في الأصول الاعتقادية التي لابد فيها من اليقين.

----------------------------------

على عدم جواز العمل بالظن.

وقد مرّ أن التواتر على ثلاثة أقسام:

1- التواتر اللفظي: أي ينقل مجموعة كبيرة يمتنع تواطؤهم على الكذب لفظاً واحداً، كقوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه)(3).

2- التواتر المعنوي: وهو أن ينقل مجموعة كبيرة يمتنع تواطؤهم على الكذب، مضموناً واحداً بألفاظ مختلفة.

3- التواتر الإجمالي: وهو أن تكون روايات كثيرة بألفاظ ومضامين مختلفة، لكن نقطع بصدور بعضها، كأخبار شجاعة أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في مختلف الحروب، وحينئذٍ يقطع بالقدر المشترك بين تلك الأخبار.

[1] أى: يكون هذا البعض.

[2] حاصله: إن في الآيات الدالة على عدم جواز اتباع الظن احتمالين:

1- إنها عامة للأصول والفروع، فحينئذٍ يتمّ تخصيصها بهذه الأخبار المتواترة إجمالاً.

2- إن الآيات الناهية عن اتباع الأباء خاصة بأصول الدين، أو أنها خاصة باتباع

ص: 386


1- سورة الإسراء، الآية: 36.
2- سورة الزخرف، الآية: 23.
3- الكافي 1: 420.

وأما قياس[1] المسائل الفرعية على الأصول الاعتقادية في أنه كما لا يجوز التقليد فيها مع الغموض فيها كذلك لا يجوز فيها بالطريق الأولى، لسهولتها، فباطل[2]؛ مع أنه[3] مع الفارق، ضرورة أن الأصول الاعتقادية مسائل معدودة، بخلافها[4]، فإنها مما لا تعد ولا تحصى ولا يكاد يتيسر من الاجتهاد فيها فعلاً طول العمر إلاّ

----------------------------------

الجاهل للجاهل - لأن آباءهم كانوا جهلة - فحينئذٍ لا دلالة لتلك الآيات على عدم جواز تقليد العالم في الفروع.

ردّ دليل عدم جواز التقليد

[1] استدلوا على عدم جواز التقليد بأنّه كما لا يجوز التقليد في أصول الدين فكذلك لا يجوز التقليد في فروع الدين بطريق أولى.

وأما الأولوية فلأجل أن مسائل أصول الدين غامضة لارتباطها بالماورائيات والأمور غير المحسوسة، عكس مسائل فروع الدين فإنها سهلة عادة، «أنه» للشأن، «فيها» في الأصول، «لا يجوز فيها» أي: في الفروع، «لسهولتها» الفروع.

[2] وجه البطلان: هو عدم الأولوية، بل المسائل الاعتقادية غير غامضة، وأدلتها أوضح من أدلة المسائل الفرعية؛ وذلك لأن دليلها الفطرة والمعجزات والضرورة ونحوها، عكس المسائل الفرعية، ومع عدم الأولوية يكون القياس منهياً عنه.

[3] إشكال آخر على هذا القياس، وهو أنه قياس مع الفارق؛ وذلك لأن المسائل الاعتقادية - التي يجب تحصيل العلم بها - قليلة جداً، فحتى لو فرض غموضها فإنه لا صعوبة في تحصيل العلم بها لقلّتها، عكس المسائل الفرعية، فحتى لو فرض سهولتها فإنها لكثرتها لا يمكن تحصيل العلم بها.

وقد ذكر الشيخ الأعظم في التنبيه الخامس(1)

من باب الانسداد: المسائل التي يجب تحصيل العلم فيها من مسائل أصول الدين، فراجع.

[4] أي: بخلاف المسائل الفرعيّة، وكذا ضمير «فإنها».

ص: 387


1- فرائد الأصول 1: 553.

للأوحدي في كلياتها، كما لا يخفى.

فصل: إذا علم المقلد[1] اختلاف الأحياء[2] في الفتوى مع اختلافهم في العلم[3] والفقاهة[4]

----------------------------------

فصل في تقليد الأعلم

اشارة

[1] هل يجب تقليد الأعلم أم يجوز تقليد غير الأعلم؟ فهنا صورتان:

الصورة الأولى: العامي الذي لا يمكنه الاجتهاد مطلقاً فإنه يلزم عليه مراجعة عقله في هذه المسألة؛ إذ لا يمكنه التقليد في هذه المسألة لاستلزامه الدور.

وحكم العقل هو تقليد الأعلم؛ وذلك للقاعدة العقلية الواضحة في دوران الأمر بين التعيين والتخيير، فعقل العامي يحكم عليه بأن تقليد الأعلم مجزٍ سواء وجب تقليده حصراً أم تخيّر بين تقليده وتقليد غيره، أما تقليد غير الأعلم فلا يعلم بأنه مجزٍ.

الصورة الثانية: الذي يتمكن من الاجتهاد في هذه المسألة - أي: وجوب تقليد الأعلم - فقد أقيمت عدة أدلة لوجوب تقليده، وأدلة أخرى على عدم وجوبه، والمصنف يفنّد كل تلك الأدلة، ويذهب إلى لزوم تقليد الأعلم بمقتضى الأصل.

[2] أما الأموات فلا حجية لآرائهم كما سيأتي في الفصل الآتي، وأما مع عدم اختلاف الأحياء في مسألة فلا دليل على لزوم تقليد الأعلم، بل يقلّد أيّاً منهم شاء في تلك المسألة.

[3] بأن كان أحدهم أعلم.

[4] عطف تفسيري، لبيان أن المهم في التقليد هو الأعلميّة في الفقه - أي: الأحكام الشرعية - فلا تنفع الأعلمية في غير الفقه مع عدم الأعلمية فيه، كما لو كان أحدهما أعلم في العلوم العربية، لكنه غير أعلم في المسائل الفقهية.

ص: 388

فلابد من الرجوع إلى الأفضل إذا احتمل تعينه[1]، للقطع بحجيته[2] والشك في حجية غيره. ولا وجه[3] لرجوعه إلى الغير في تقليده إلاّ على نحو دائر.

نعم[4]، لا بأس برجوعه إليه إذا استقل عقله بالتساوي وجواز[5] الرجوع إليه أيضاً، أو جوز له الأفضل بعد رجوعه إليه.

هذا[6] حال العاجز عن الاجتهاد في تعيين ما هو قضية الأدلة في هذه المسألة.

وأما غيره[7]: فقد اختلفوا في جواز تقليد المفضول وعدم جوازه. ذهب بعضهم

----------------------------------

[1] أي: تعيّن الأفضل في أحد المجتهدين الأحياء، فلا يحتاج إلى القطع بالأعلم، بل يكفي احتماله.

[2] لأنه مع دوران الأمر بين التعيين والتخيير فإن المعيّن حجة على كل حال، سواء انحصرت الحجية فيه أم كان مخيراً بينه وبين غيره.

[3] إشارة إلى عدم إمكان تقليد غير الأعلم في هذه المسألة - أي: مسألة وجوب تقليد الأعلم - لاستلزامه الدور؛ لأن الرجوع إلى المجتهد لابد أن يستند إلى غير فتواه، وإلاّ كان دوراً، فإذا أفتى غير الأعلم بجواز تقليد غير الأعلم لا يمكن الرجوع إليه في هذه الفتوى.

[4] أي: يجوز للعامي تقليد غير الأعلم في صورتين:

1- إذا حكم عقله بعدم الفرق، فيكون مستنده لتقليد غير الأعلم هو عقله.

2- إذا أفتى الأعلم بعدم وجوب تقليد الأعلم، فيقلّد الأعلم في هذه المسألة، ويرجع في سائر المسائل إلى غير الأعلم ولا دور؛ لأن مستند تقليده لغير الأعلم هو فتوى الأعلم.

[5] عطف تفسيري لبيان معنى (التساوي)، «برجوعه» العامي، «إليه» إلى غير الأعلم «أيضاً» كما يجوز الرجوع إلى الأعلم.

[6] أي: هذه هي الصورة الأولى، «هذه المسألة» مسألة تقليد الأعلم.

[7] غير العاجز، كالمجتهد المتجزي أو المطلق، وهذه الصورة الثانية.

ص: 389

إلى الجواز(1).

والمعروف بين الأصحاب - على ما قيل(2) - عدمه. وهو الأقوى، للأصل[1] وعدم دليل على خلافه.

ولا إطلاق[2] في أدلة التقليد بعد الغض[3] عن نهوضها على مشروعية أصله، لوضوح[4] أنها إنما تكون بصدد بيان أصل جواز الأخذ بقول العالم، لا في كل

----------------------------------

[1] هذا الأصل: إما هو أصالة التعيين لو دار الأمر بين التعيين والتخيير، وإما أصالة عدم حجية الظن إلاّ ما خرج بدليل قطعي، ولم يُعلم خروج فتوى غير الأعلم بدليل قطعي.

أدلة جواز تقليد غير الأعلم

[2] الدليل الأول: هو إطلاق أدلة التقليد، فكما تشمل الأعلم كذلك تشمل غير الأعلم.

وفيه: إن أدلة التقليد نوعان:

1- أدلة لبيّة - كبناء العقلاء - : وهي لا إطلاق لها؛ لأن الإطلاق مرتبط بالألفاظ.

2- أدلة لفظية - كالأخبار - : ولا إطلاق لها؛ لعدم تمامية مقدمات الحكمة؛ وذلك لأن من مقدماتها كون المتكلّم في مقام البيان، وليست تلك الأخبار في مقام بيان حكم اختلاف فتاوى المجتهدين، بل في مقام بيان أصل جواز التقليد، كما هو الحال في سائر الطرق والأمارات، فأدلتها في مقام بيان أصل الحجية، لا بيان صورة التعارض.

[3] لأن بعض أدلة التقليد - كالاستدلال بالآيات - كان محل تأمل، فلا دلالة لها على أصل التقليد فضلاً عن إطلاقها في موارده.

[4] بيان عدم الإطلاق في الأدلة اللفظية، وعدم تمامية مقدمات الحكمة، «أنها»

ص: 390


1- الفصول الغروية: 424.
2- مطارح الأنظار 2: 525.

حال، من غير تعرض أصلاً لصورة معارضته بقول الفاضل، كما هو[1] شأن سائر الطرق والأمارات، على ما لا يخفى.

ودعوى[2] السيرة على الأخذ بفتوى أحد المخالفين في الفتوى من دون فحص عن أعلميته مع العلم بأعلمية أحدهما، ممنوعة.

ولا عسر[3] في تقليد الأعلم، لا عليه لأخذ فتاويه من رسائله وكتبه، ولا لمقلديه

----------------------------------

أي: أدلة التقليد، «لا في كل حال» أي: ليست أدلة التقليد في مقام بيان الحالات المختلفة ومنها حالة التعارض، «معارضته» معارضة فتوى الأعلم.

[1] أي: عدم الإطلاق، والمعنى: إن أدلة الطرق والأمارات أيضاً لا إطلاق لها من هذه الجهة؛ لأنها ليست في مقام البيان للحالات المختلفة.

[2] الدليل الثاني: ادعاء سيرة المتشرعة على الأخذ من غير الأعلم أيضاً، فهم يتّبعون المجتهد ولا يفحصون عن أعلميته.

وفيه: عدم قيام هذه السيرة، بل قيل: إنه عند تعارض أهل الخبرة في أمر يفحص الناس عن أعلمهم، وكذا المتشرعة.

[3] الدليل الثالث: لزوم العسر لو قيل بوجوب تقليد الأعلم.

1- إما عسر للمجتهد الأعلم، حيث يضطر إلى الإجابة عن مسائل الملايين من الناس.

2- أو عسر للمكلف إذا كان بعيداً عن الأعلم بحيث يصعب عليه الرجوع إليه.

3- أو عسر في تشخيص الأعلم.

وفيه: أولاً: لا عسر أصلاً، لا على المجتهد ولا على المقلد؛ وذلك بكتابة المجتهد رسالته العملية، فيرجع إليها المقلّد من غير حاجة إلى السؤال المباشر عن المجتهد.

كما لا عسر في تشخيص الأعلم؛ وذلك عن طريق سؤال أهل الخبرة.

ص: 391

لذلك أيضاً[1]؛ وليس تشخيص الأعلمية بأشكل من تشخيص أصل الاجتهاد؛ مع[2] أن قضية نفي العسر الاقتصار على موضع العسر، فيجب في ما لا يلزم منه عسر، فتأمل جيداً.

وقد استدل للمنع أيضاً[3] بوجوه:

----------------------------------

وثانياً: على فرض لزوم العسر، فهو شخصي، فيرتفع الوجوب بمقدار العسر لا أكثر.

[1] أي: لأخذ فتاويه من رسائله وكتبه.

[2] إشارة إلى الجواب الثاني، «فيجب» تقليد الأعلم، «منه» مرجع الضمير «ما» الموصولة.

أدلة وجوب تقليد الأعلم

[3] أي: استدل للمنع عن تقليد غير الأعلم بوجوه، منها:

الأول: الإجماع، وفيه: إنه مدركي؛ لاحتمال كون مستندهم هو الأصل - أي: أصالة التعيين أو أصالة عدم حجية الظن كما مرّ بيانهما - .

الثاني: الأخبار، وهي طائفتان:

1- ما دل على ترجيح الأعلم عند معارضته مع غيره.

2- ما دلّ على لزوم اختيار الأعلم.

وفيه: إن هذه الأخبار في باب القضاء، لا في باب التقليد.

الثالث: إن قول الأعلم أقرب إلى الواقع، ويجب الأخذ بالأقرب.

ويرد على الصغرى: إن قوله ليس دائماً أقرب إلى الواقع، بل قد يكون قول غيره أقرب.

وعلى الكبرى: إنه لا دليل على لزوم الأخذ بالأقرب؛ لأن ملاك الحجية هو الكشف عن الواقع لا الأقربية إليه.

ص: 392

أحدها: نقل الإجماع على تعين تقليد الأفضل.

ثانيها: الأخبار الدالة على ترجيحه مع المعارضة، كما في المقبولة[1] وغيرها[2]، أو على اختياره[3] للحكم بين الناس، كما دل عليه المنقول عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك»(1).

ثالثها: إن قول الأفضل أقرب[4] من غيره جزماً، فيجب الأخذ به عند المعارضة عقلاً.

ولا يخفى ضعفها:

أما الأول: فلقوة احتمال أن يكون وجه القول بالتعيين[5] للكل أو الجُلّ هو الأصل، فلا مجال لتحصيل الإجماع[6]

----------------------------------

[1] حيث قال عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقهما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر)(2).

[2] كخبر داود بن الحصين عن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف:... فقال عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما، فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى الآخر)(3).

[3] أي: اختيار الأعلم، والحديث من عهد الإمام أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ إلى مالك الأشتر رضوان الله عليه.

[4] أي: أقرب إلى الواقع، «غيره» غير الأفضل، وهذه صغرى الدليل، وقوله: «فيجب...» الكبرى.

[5] أي: تعيين الأعلم.

[6] أي: المستند إلى قول المعصوم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، «مع الظفر...» أي: حتى لو كان هذا

ص: 393


1- نهج البلاغة، كتاب: 53.
2- الكافي 1: 68.
3- من لا يحضره الفقيه 3: 8.

مع الظفر بالاتفاق، فيكون نقله[1] موهوناً؛ مع عدم حجية نقله ولو مع عدم وهنه.

وأما الثاني: فلأن الترجيح مع المعارضة[2] في مقام الحكومة لأجل رفع الخصومة[3] التي لا تكاد ترتفع إلاّ به لا يستلزم[4] الترجيح في مقام الفتوى، كما لا يخفى.

وأما الثالث: فممنوع، صغرى وكبرى.

أما الصغرى[5]: فلأجل أن فتوى غير الأفضل ربما يكون أقرب من فتواه، لموافقته لفتوى من هو أفضل منه ممن مات.

----------------------------------

الاتفاق محصلاً.

[1] أي: نقل هذا الاتفاق موهون من جهتين:

1- إنه نقل ما ليس بحجّة - وهو الاتفاق المدركي - .

2- عدم حجية الإجماع المنقول أصلاً.

[2] أي: معارضة فتوى الأعلم مع فتوى غير الأعلم، «الحكومة» القضاء.

[3] هذا بيان الفرق بين باب القضاء وباب الفتوى، وعدم التلازم بينهما؛ وذلك لأن تشريع القضاء هو لفصل الخصومة، ومن المعلوم عدم إمكان رفع الخصومة بالتخيير؛ لأن كل طرف سيختار ما هو بصالحه، فلذا كان لابد من الترجيح، وهذا عكس باب الفتوى؛ إذ لا مانع من تخيير العامي بينهما، «لا تكاد» تلك الخصومة، «به» بالترجيح.

[4] لاختلاف المناط في البابين - كما عرفت - .

[5] فهي أخص من المدعى؛ إذ فتوى الأعلم قد لا تكون أقرب إلى الواقع، «فتواه» فتوى الأعلم، «لموافقته» أي: موافقة فتوى غير الأعلم، «أفضل منه» أي: من الأعلم.

ص: 394

ولا يصغى[1] إلى أن فتوى الأفضل أقرب في نفسه، فإنه لو سلم[2] أنه كذلك إلاّ أنه[3] ليس بصغرى لما ادعي عقلاً من الكبرى، بداهة أن العقل لا يرى تفاوتاً بين أن تكون الأقربية في الأمارة لنفسها أو لأجل موافقتها لأمارة أخرى، كما لا يخفى.

وأما الكبرى: فلأن ملاك حجية قول الغير تعبداً[4] - ولو على نحو الطريقية - لم يعلم أنه القرب من الواقع[5]،

----------------------------------

[1] لتصحيح الصغرى قالوا: إنّ فتوى الأعلم أقرب إلى الواقع من فتوى غيره، في نفسه مع قطع النظر عن المرجحات الخارجية، والموافقة مع فتوى الأعلم الميت مرجح خارجي.

وفيه: أولاً: إن قيد (في نفسه) لا دليل عليه، بل الأدلة الدالة على التقليد تكون من باب الطريقية إلى الواقع، ولا فرق في الطريقية بين كونها باقتضاء الذات أم بمعونة قرينة خارجية.

وثانياً: إن (الأقربية في نفسها) ليست من مصاديق الكبرى (وهي لزوم الأخذ بالأقرب) لأن العقل لا يرى تفاوتاً بين كون الأقربية ناشئة عن خصوصية في ذات الأمارة أم كونها ناشئة عن قرينة خارجية.

[2] إشارة إلى الإشكال الأول، «أنه» أي: فتوى الأفضل، «كذلك» أي: أقرب في نفسه.

[3] إشارة إلى الإشكال الثاني، «أنه» أي: إن الأقرب في نفسه.

[4] أي: من غير مطالبته بالدليل.

[5] إذ لعل الملاك هو الفقاهة - مثلاً - وهذا الملاك موجود في الأعلم وغير الأعلم.

نظير الخبرين المتساويين في المرجحات المنصوصة، مع كون أحدهما أرجح براجح غير منصوص.

ص: 395

فلعله[1] يكون ما هو في الأفضل وغيره سيان، ولم يكن لزيادة القرب في أحدهما دخل أصلاً. نعم[2]، لو كان تمام الملاك هو القرب، كما إذا كان[3] حجة بنظر العقل، لتعين الأقرب قطعاً، فافهم[4].

فصل: اختلفوا في اشتراط الحياة في المفتي[5]. والمعروف بين الأصحاب الاشتراط،

----------------------------------

[1] الضمير للشأن، «ما» أي: الملاك الذي، «هو» يرجع إلى الموصول، «غيره» غير الأفضل، والحاصل: فلعله يكون الملاك في الحجية موجوداً في كليهما مع عدم كون الأقربية دخيلة في الملاك أصلاً.

[2] أي: إذا كان (الانسداد على الحكومة) هو دليل جواز التقليد، فإن المناط حينئذٍ هو الأقربية إلى الواقع؛ ولذا يؤخذ بالظن دون الوهم؛ لأن الظن أقرب إلى الواقع.

[3] أي: كما إذا كان قول المجتهد حجة بحكم العقل، حيث انسد باب العلم.

[4] لعله إشارة إلى أنه لا يلزم أن يكون القرب إلى الواقع هو تمام الملاك، بل يكفي أن يكون القرب إلى الواقع دخيلاً في الملاك، فيكون الأقرب واجداً للملاك، وغير الأقرب فاقداً للملاك - بفقدانه لجزئه وهو الأقربية - .

فصل في تقليد الميّت

اشارة

[5] سواء في التقليد الابتدائي أم الاستمراري، وعمدة الأقوال هي:

1- عدم جوازه مطلقاً، واختاره المصنف.

2- الجواز مطلقاً، اختاره المحقق القمي(1)، وذهبت إليه العامة.

3- التفصيل بين الابتدائي فلا يجوز، والاستمراري فيجوز، اختاره صاحب الفصول(2)،

وهو خيرة مشهور المعاصرين.

ص: 396


1- قوانين الأصول 1: 270.
2- الفصول الغروية: 422.

وبين العامة عدمه، وهو خيرة الأخباريين[1] وبعض المجتهدين من أصحابنا. وربما نقل تفاصيل، منها: التفصيل بين البدوي فيشترط، والاستمراري فلا يشترط.

والمختار ما هو المعروف بين الأصحاب، للشك[2] في جواز تقليد الميت، والأصل عدم جوازه.

ولا مخرج عن هذا الأصل إلاّ ما استدل به المجوز على الجواز من وجوه

----------------------------------

[1] قيل: إن الأخباريين لم يجوزوا الاجتهاد ولا التقليد، فكيف ينسب إليهم جواز تقليد الميّت؟

والصحيح أنهم أوجبوا على الجميع - من علماء وعامة - العمل بالروايات، ولكن حيث إن بعض العامة لا يفهمون معانيها، أو لا يتمكنون من إرجاع عامها إلى خاصها ونحو ذلك فإنه يقوم العالم بتبديل لفظ إلى لفظ آخر، فهو في الحقيقة ناقل للروايات بمعانيها، وفي الإخبار لا يشترط استمرار حياة المخبر بداهة.

دليل عدم الجواز مطلقاً

[2] حاصله: إن الأصل عدم جواز تقليد الميت، ولا دليل مخرج عن هذا الأصل.

ويمكن بيان هذا الأصل بنحوين:

1- أصالة عدم حجية الظن، والفتوى توجب الظن بالحكم الشرعي، خرج فتوى الحيّ بالدليل، ولم يدل دليل على خروج فتوى الميت عن هذا الأصل.

2- أصالة التعيين؛ لأنه يجوز تقليد الحي على كل حال، سواء قلنا بتعيّنه أم قلنا بالتخيير بينه وبين الميت، وأما تقليد الميت فمشكوك فيه. وحينئذٍ فنشك في حجية فتوى الميت، ومن المعلوم أن الشك في الحجية مسرح عدم الحجية قطعاً - كما مرّ سابقاً - .

ص: 397

ضعيفة[1]:

منها: استصحاب[2] جواز تقليده في حال حياته(1)[3].

----------------------------------

أدلة الجواز
اشارة

[1] استدل ببعضها على جواز تقليد الميت مطلقاً، وببعضها على جواز الاستمرار دون الابتداء - كما ستعرف - .

1- الاستصحاب
اشارة

[2] لا يخفى أن هنا ثلاثة استصحابات:

1- الاستصحاب في جانب المفتي - المرجع - وهو استصحاب رأيه.

2- الاستصحاب في جانب المستفتي - المقلِّد - وهو استصحاب جواز عمله بالأحكام التي أفتى بها المفتي.

3- الاستصحاب في الأحكام، فيقال: إن الحكم كان ما أفتى به المرجع، فيستصحب ذلك الحكم.

ولا يخفى أن الأول والثاني يدلان على جواز التقليد ابتداءً واستمراراً، وأما الثالث فيدل على جوازه استمراراً فقط، كما سيتضح.

أ- الاستصحاب في التقليد الابتدائي

[3] هذا هو الاستصحاب الأول، أي: كان يجوز العمل برأي المجتهد سابقاً، وهكذا يجوز العمل به الآن.

إن قلت: إنه استصحاب تعليقي - في التقليد الابتدائي - أي: لو كان المقلّد موجوداً في حال حياة المرجع كان يجوز له تقليده، فيستصحب هذا الجواز.

قلت: قد ذهب المصنف إلى صحة الاستصحاب التعليقي - كما مرّ سابقاً - وقوله: «في حال حياته» متعلق ب- «الجواز» أي: الجواز في حال الحياة يستصحب

ص: 398


1- مفاتيح الأصول: 624.

ولا يذهب[1] عليك أنه لا مجال له[2]، لعدم بقاء موضوعه عرفاً، لعدم بقاء الرأي معه[3]، فإنه متقوم بالحياة بنظر العرف - وإن لم يكن كذلك واقعاً - حيث إن الموت عند أهله موجب لانعدام الميت ورأيه.

ولا ينافي[4] ذلك[5] صحة استصحاب بعض أحكام حال حياته، كطهارته

----------------------------------

إلى حال الموت.

[1] إشكال على هذا الاستصحاب، وحاصله: عدم بقاء الموضوع، مع وضوح أنه يشترط في الاستصحاب بقاء الموضوع - أي: وحدة الموضوع في القضية المشكوكة والمتيقنة - وذلك لأن موضوع جواز التقليد هو (رأي المجتهد)، وهذا الرأي قد زال بالموت.

إن قلت: الرأي باقٍ؛ لأنه يرتبط بالنفس، وهي باقية بعد الموت لا تنعدم.

قلت: هذا بالدقة العقلية، وأمّا بالنظرة العرفية - التي هي الملاك في الاستصحاب - فإنّ الرأي قد زال بالموت.

[2] أي: لاستصحاب الجواز الذي كان في حال الحياة، «موضوعه» أي: موضوع جواز التقليد.

[3] أي: مع الموت، «فإنه» أي: الرأي، «كذلك» متقوماً بالحياة، «أهله» أهل العرف.

[4] جواب عن إشكال، وحاصله: إنه قد تستصحب بعض الأحكام إلى بعد الموت، فالمسلم تستصحب طهارته بعد موته، والكافر نجاسته، وجواز نظر الزوج إلى زوجته وهكذا.

والجواب: إن الموضوع في هذه الأحكام وأمثالها هو (البدن) وهو لم يتغير بالموت. عكس الرأي فإنه مرتبط بالمشاعر والإدراكات - عند العرف - وهي قد انعدمت عندهم.

[5] أي: لا ينافي عدم صحة استصحاب جواز التقليد، و«ذلك» لانعدام الرأي.

ص: 399

ونجاسته وجواز نظر زوجته إليه؛ فإن ذلك[1] إنما يكون في ما لا يتقوم بحياته عرفاً، بحسبان بقائه[2] ببدنه الباقي بعد موته، وإن احتمل[3] أن يكون للحياة دخل في عروضه واقعاً.

وبقاء الرأي[4] لابد منه في جواز التقليد قطعاً، ولذا لا يجوز التقليد في ما إذا تبدل الرأي أو ارتفع لمرض أو هرم إجماعاً.

وبالجملة: يكون انتفاء الرأي بالموت بنظر العرف بانعدام موضوعه[5]، ويكون حشره في القيامة إنما هو من باب إعادة المعدوم، وإن لم يكن كذلك حقيقةً[6]،

----------------------------------

[1] أي: استصحاب بعض أحكام حال الحياة، «لا يتقوّم بحياته عرفاً» بل يتقوّم ببدنه.

[2] أي: بقاء بعض أحكام حال الحياة، «حسبان» - بكسر الحاء - بمعنى الظن والتوهم.

[3] وهذا وجه الاستصحاب؛ لأنه لو لم يحتمل هذا الاحتمال لكان متيقناً ببقاء تلك الأحكام، فلا معنى للاستصحاب، لكن هذا الاحتمال يوجب الشك في بقاء تلك الأحكام فتستصحب، «عروضه» أي: عروض بعض تلك الأحكام.

[4] دفع إشكال، وحاصله: إن حدوث الرأي يكفي في جواز التقليد، ولا يشترط استمرار الرأي، وبعبارة أخرى: إن فتوى المجتهد علّة محدثة لجواز التقليد، وليست علّة مبقية.

والجواب: إنه لابد من بقاء الرأي إجماعاً؛ ولذا لا يجوز التقليد مع تبدل الرأي، مع أن الرأي الأول قد حدث سابقاً، وكذا لو زال الرأي بمرض ونحوه فإنه لا يجوز التقليد حينئذٍ، ومن هذا يستكشف أن بقاء الرأي شرط في جواز التقليد، والميت لم يبق رأيه عرفاً، فلا موضوع للاستصحاب.

[5] أي: موضوع الرأي، وهو المجتهد الحيّ.

[6] أي: لم يكن انعدام الرأي، «كذلك» أي: بالموت، «موضوعه» أي: موضوع الرأي.

ص: 400

لبقاء موضوعه وهو النفس الناطقة الباقية حال الموت، لتجرده[1]. وقد عرفت في باب الاستصحاب أن المدار في بقاء الموضوع[2] وعدمه هو العرف، فلا يجدي بقاء النفس عقلاً في صحة الاستصحاب مع عدم مساعدة العرف عليه وحسبان أهله أنها غير باقية وإنما تعاد يوم القيامة بعد انعدامها، فتأمل جيداً.

لا يقال[3]: نعم[4]، الاعتقاد والرأي وإن كان يزول بالموت، لانعدام موضوعه،

----------------------------------

[1] دليل بقاء النفس بعد الموت. قالوا: إن النفس مجردة عن المادة، أي: ليست بجسم. وقد التزم بعضهم - على ما قيل - بقدم المجردات واستحالة طروء العدم عليها؛ إذ يستحيل العدم على القديم.

وفيه نظر: إذ لم يدل دليل على تجرّد ما سوى الله تعالى، والأدلة التي أقاموها إنما هي أدلة خطابية، بل يستفاد من بعض الروايات أن جميع المخلوقات إنما هي أجسام، فبعضها أجسام كثيفة لها جِرم، وبعضها أجسام لطيفة كالملائكة والروح والجن.

ثم على فرض تجردها فإنها مخلوقة مسبوقة بالعدم، وما كان كذلك لا يستحيل عليه العدم.

فالصحيح هو أن الأدلة النقلية دلّت على بقاء النفس والروح بعد الموت، وفي أجسام مثالية إلى يوم القيامة، حيث ترجع إلى نفس الأبدان الدنيوية.

[2] الصحيح: إن المراد من بقاء الموضوع هو وحدة الموضوع في القضية المتيقنة والمشكوكة، وإلاّ لما أمكن استصحاب مثل: (حياة زيد)، فتأمل.

[3] قد أشار المصنف إلى هذا الإشكال مع جوابه في قوله: (و بقاء الرأي لابدّ منه... الخ)، فتكراره إنما هو للتوضيح أكثر.

[4] أي: صحيح أن المدار في الاستصحاب هو على العرف لا الدقة العقلية، والرأي يزول بالموت، إلاّ أن جواز التقليد يرتبط بحدوث الرأي لا ببقائه، «حدوثة» أي: حدوث الرأي.

ص: 401

إلاّ أن حدوثه في حال حياته كافٍ في جواز تقليده في حال موته، كما هو الحال في الرواية[1].

فإنه يقال[2]: لا شبهة في أنه لابد في جوازه من بقاء الرأي والاعتقاد، ولذا لو زال بجنون أو بدل ونحوهما لما جاز قطعاً، كما أشير إليه آنفاً.

هذا بالنسبة إلى التقليد الابتدائي.

وأما الاستمراري[3]: فربما يقال بأنه[4] قضية استصحاب الأحكام التي قلده

----------------------------------

[1] تنظير للرأي بالرواية، فلو أخبرنا مخبر ثقة بأمرٍ ما فإنه يجوز، بل قد يجب الاعتماد عليه حتى لو مات؛ لأنه لا يشترط استمرار الحياة بعد الإخبار، فكذا في الرأي.

[2] القياس مع الفارق؛ وذلك لقيام الدليل - وهو الإجماع - على لزوم استمرار الرأي، عكس الرواية، فلم يقم دليل على لزوم استمرار الإخبار، بل يعتمدون عليه حتى لو نسي أو فسق أو مات بعد كونه عادلاً.

ب - الاستصحاب في التقليد الاستمراري

[3] أي: في البقاء على تقليد الميت قد يستدل باستصحاب الحكم؛ وذلك لأن الحكم بالنسبة إلى المقلّد كان هو ما أفتى به المرجع، ونشك في بقاء ذلك الحكم بعد موته، فيستصحب ذلك الحكم.

مثلاً: لو أفتى المرجع بنجاسة العصير العنبي بالغليان قبل ذهاب الثلثين، فالحكم بالنسبة إلى المقلّد هو النجاسة، والموضوع هو (العصير العنبي)، وليس الموضوع (العصير العنبي مقيداً بفتوى المجتهد)، فليس رأيه جزءاً من الموضوع، بل كان رأيه سبباً لعروض ذلك الحكم على الموضوع، إذن فالموضوع في القضية المتيقنة والمشكوكة واحد وهو (العصير العنبي).

[4] أي: بأنّ جواز البقاء على تقليد الميت.

ص: 402

فيها[1]، فإن رأيه[2] وإن كان مناطاً لعروضها وحدوثها، إلاّ أنه[3] عرفاً من أسباب العروض، لا من مقومات الموضوع والمعروض.

ولكنه[4] لا يخفى: أنه لا يقين بالحكم شرعاً[5] سابقاً، فإن جواز التقليد إن كان

----------------------------------

[1] وهذا القيد لأجل أن يتحقق اليقين السابق، فيقال: كان الحكم بالنسبة إلى هذا المقلّد هو نجاسة العصير العنبي، وهذا الحكم باقٍ بالنسبة إليه بعد موت المرجع.

[2] أي: رأي المجتهد، «مناطاً» أي: سبباً، «لعروضها» أي: عروض تلك الأحكام على الموضوعات، كعروض النجاسة على العصير العنبي، «وحدوثها» عطف تفسيري؛ إذ لو لا فتوى المرجع لم تعرض تلك الأحكام على موضوعاتها.

[3] أن رأي المجتهد، «أسباب العروض» أي: علّة محدثة، لا علّة مبقية، «لا من مقومات الموضوع» أي: ليس رأيه قيداً في الموضوع كي يقال: (العصير العنبي مقيداً برأي المجتهد) هو الموضوع، «والمعروض» عطف تفسيري على «الموضوع».

[4] إشكال على هذا الاستصحاب - وهذا إشكال أول - وسيأتي الإشكال الثاني في قوله: (هذا كله مع إمكان... الخ).

وحاصله: إن الحكم إن أريد منه الواقعي فلا يقين سابق به فلا مجال للاستصحاب. وإن أريد الحكم الظاهري فقد بينا سابقاً عدم وجود حكم ظاهري أصلاً، بل الأمارات والطرق توجب التنجيز والعذر.

نعم، من قال بوجود الحكم الظاهري فيمكنه استصحابه، لكن يرد عليه إشكال أن الظاهر أنّ رأي المجتهد هو جزء من الموضوع - كما سيتضح - .

[5] لا الحكم الواقعي ولا الحكم الظاهري، أما عدم اليقين بالحكم الواقعي فواضح؛ لاحتمال خطأ الأمارة والطريق، وأما الحكم الظاهري فنقول: إن الفتوى لا توجبه؛ وذلك لأن دليل جواز التقليد إما الفطرة، وهي لا تقتضي جعل حكم ظاهري مماثل، وإما النقل وهو كذلك لا يقتضي أكثر من التنجيز والعذر كما بيناه سابقاً.

ص: 403

بحكم العقل وقضية الفطرة[1] - كما عرفت - فواضح، فإنه[2] لا يقتضي أزيد من تنجز ما أصابه من التكليف والعذر في ما أخطأ، وهو واضح.

وإن كان[3] بالنقل فكذلك على ما هو التحقيق من أن قضية الحجية شرعاً ليس إلاّ ذلك، لا إنشاء أحكام شرعية[4] على طبق مؤداها. فلا مجال لاستصحاب ما قلده، لعدم القطع به سابقاً[5] إلاّ على ما تكلفنا في بعض تنبيهات الاستصحاب[6]،

----------------------------------

[1] عطف تفسيري على «حكم العقل»، وقد مرّ أن الأصح التعبير ببناء العقلاء الناشئ عن الفطرة.

[2] أي: حكم العقل والفطرة.

[3] أي: كان جواز التقليد بالأدلة النقلية، «فكذلك» أي: لا يقتضي أزيد من التنجيز والعذر، ولا يقتضي جعل حكم مماثل - هو الحكم الظاهري - «ذلك» التنجيز والعذر.

[4] ظاهرية، «مؤداها» مؤدى الأمارات والطرق.

[5] أي: لعدم القطع بالحكم الواقعي، وعدم وجود حكم ظاهري أصلاً، فلم يبق مجال للاستصحاب.

[6] وهو التنبيه الثاني، حيث صوّر المصنف إمكان استصحاب الحكم الذي كان مؤدى الأمارات والطرق.

قال المصنف: (هل يكفي في صحة الاستصحاب: الشك في بقاء شيء على تقدير ثبوته وإن لم يحرز ثبوته... ومن أن اعتبار اليقين إنما هو لأجل أن التعبد والتنزيل شرعاً إنما هو في البقاء لا في الحدوث، فيكفي الشك فيه على تقدير الثبوت، فيتعبد به على هذا التقدير، فيترتب عليه الأثر فعلاً في ما كان هناك أثر، وهذا هو الأظهر، وبهذا يمكن أن يذب عما في استصحاب الأحكام التي قامت الأمارات المعتبرة على مجرد ثبوتها، وقد شك في بقائها على تقدير ثبوتها من الإشكال بأنه لا يقين بالحكم

ص: 404

فراجع. ولا دليل[1] على حجية رأيه السابق في اللاحق.

وأما بناءً[2] على ما هو المعروف بينهم - من كون قضية الحجية الشرعية جعل مثل ما أدت إليه من الأحكام الواقعية التكليفية أو الوضعية شرعاً في الظاهر[3] -: فلاستصحاب ما قلده من الأحكام وإن كان مجال، بدعوى بقاء الموضوع عرفاً، لأجل[4] كون الرأي عند أهل العرف من أسباب العروض لا من مقومات المعروض، إلاّ أن الإنصاف[5] عدم كون الدعوى خالية عن الجزاف، فإنه من المحتمل

----------------------------------

الواقعي، ولا يكون هناك حكم آخر فعلي... ووجه الذب بذلك أن الحكم الواقعي الذي هو مؤدى الطريق حينئذٍ محكوم بالبقاء، فتكون الحجة على ثبوته حجة على بقائه تعبداً، للملازمة بينه وبين ثبوته واقعاً)(1)،

انتهى.

[1] أي: كما لا يدل الاستصحاب على حجية رأي المجتهد الميت استمراراً كذلك لا دليل آخر على حجية رأيه، «في اللاحق» أي: في الزمان اللاحق وهو بعد موته.

[2] أي: بناءً على القول بالحكم الظاهري فيمكن القول بإجراء استصحاب ذلك الحكم الظاهري، الذي كان في حال حياة المرجع.

لكن فيه نظر؛ لأجل عدم بقاء الموضوع.

[3] «في» متعلقه ب- «جعل»، أي: جعل في الظاهر لمثل الأحكام الواقعية.

[4] ففي المثال السابق (العصير العنبي ينجس)، لا (العصير العنبي المقيّد برأي المجتهد).

[5] أي: لا يمكن جريان الاستصحاب حتى على مبنى وجود الحكم الظاهري؛ وذلك لأن رأي المجتهد هو قيد في الموضوع عرفاً، لا أقل من احتماله، فلا إحراز لوحدة الموضوع في القضية المتيقنة والمشكوكة؛ لأنه ليس حكم العصير العنبي النجاسة، بل العصير العنبي مع قيد فتوى المرجع يكون محكوماً بالنجاسة.

ص: 405


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 49.

- لو لا المقطوع - أن الأحكام التقليدية[1] عندهم أيضاً ليست أحكاماً لموضوعاتها بقول مطلق[2]، بحيث[3] عُدّ من ارتفاع الحكم عندهم من موضوعه بسبب تبدل الرأي ونحوه[4]، بل إنما كانت أحكاماً لها[5] بحسب رأيه، بحيث[6] عُدّ من انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه عند التبدل. ومجرد احتمال ذلك[7] يكفي في عدم صحة استصحابها، لاعتبار إحراز بقاء الموضوع ولو عرفاً، فتأمل جيداً.

هذا كله مع إمكان[8] دعوى أنه إذا لم يجز البقاء على التقليد بعد زوال الرأي

----------------------------------

[1] أي: الأحكام التي يفتي بها المجتهد، «عندهم» عند العرف.

[2] أي: بما هي هي، بل يقولون لأن المرجع أفتى بالنجاسة - مثلاً - ترتبت تلك الأحكام على تلك الموضوعات.

[3] أي: لو تغيّر ذلك الحكم بسبب تبدل الرأي لا يعتبرونه من تغير الموضوع فتغيّر الحكم بتبعه، بل يعتبرونه من تغير حكم موضوع واحد، فمرّة كان حكمه الطهارة مثلاً، ثم تبدل الرأي فصار حكمه النجاسة.

[4] كالنسيان والهرم.

[5] أي: لموضوعاتها، «بحسب رأيه» أي: صيرورتها أحكاماً بسبب فتوى المجتهد.

[6] أي: تبدل الحكم كان تابعاً لتبدل الموضوع؛ لأن الرأي كان جزءاً من الموضوع عند العرف.

[7] أي: لا نحتاج في بطلان الاستصحاب إلى القطع بكون الرأي جزءاً من الموضوع، بل يكفي احتماله؛ إذ مع الاحتمال لا إحراز لوحدة الموضوع، «ذلك» أي: انتفاء الموضوع - لأجل كون الرأي قيداً له - «استصحابها» تلك الأحكام.

[8] إشارة إلى الجواب الثاني عن استصحاب الأحكام التي أفتى بها المرجع.

وحاصله: الأولوية، فإنه لا يجوز البقاء على تقليد المجتهد لو تبدّل رأيه أو أصيب بالمرضِ فنسى معلوماته، فبطريق أولى لا يجوز تقليده بعد موته؛ لأن الموت فقدان لكل شيء، والمرض ونحوه فقدان لبعض الشيء.

ص: 406

بسبب الهرم أو المرض إجماعاً، لم يجز في حال الموت بنحو أولى قطعاً، فتأمل[1].

ومنها[2]: إطلاق الآيات الدالة على التقليد.

وفيه[3] : - مضافاً إلى ما أشرنا إليه من عدم دلالتها عليه - منع إطلاقها على تقدير دلالتها، وإنما هو[4] مسوق لبيان أصل تشريعه، كما لا يخفى.

ومنه[5] انقدح حال إطلاق ما دل من الروايات على التقليد، مع إمكان دعوى الانسباق إلى حال الحياة فيها.

----------------------------------

وعليه فلا شك لاحق لكي نستصحب تلك الأحكام.

[1] لعله إشكال على الأولوية، فإن العرف لا يرى فرقاً - بالنسبة إلى زوال الرأي - بين هذه الأمور وبين الموت، بل قد يُدّعى أن القضية معكوسة.

2- إطلاق الأدلة اللفظية

[2] من أدلة المجوزين لتقليد الميّت، هو إطلاق مثل قوله تعالى: {وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ}(1) فإنها دلت على جواز التقليد من غير تقييد بالحياة.

[3] إشكالان:

1- مبنائي: وهو عدم دلالة تلك الآيات على أصل التقليد، كما مرّ سابقاً، فالإطلاق سالبة بانتفاء الموضوع.

2- بنائي: وهو أنه لو فرض دلالتها على أصل التقليد فلا إطلاق لها؛ لأن من مقدمات الحكمة كون المتكلّم في مقام البيان، وليست تلك الأدلة إلاّ لبيان تشريع أصل التقليد، وليست في مقام بيان تفاصيله، «عدم دلالتها» الآيات، «عليه» على التقليد.

[4] أي: الآيات، والأولى تأنيث الضمير.

[5] أي: من الإشكال على الاستدلال بالآيات اتضح الإشكال على الاستدلال بالروايات.

ص: 407


1- سورة التوبة، الآية: 122.

ومنها[1]: دعوى أنه لا دليل على التقليد إلاّ دليل الانسداد، وقضيته[2] جواز تقليد الميت كالحي بلا تفاوت بينهما أصلاً، كما لا يخفى.

وفيه[3]: إنه لا يكاد تصل النوبة إليه، لما عرفت من دليل العقل والنقل عليه.

ومنها[4]: دعوى السيرة على البقاء، فإن المعلوم من أصحاب الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ عدم رجوعهم عما أخذوه تقليداً بعد موت المفتي.

----------------------------------

فأولاً: الروايات مسوقة لبيان أصل تشريع التقليد، لا لبيان تفاصيله، فلا إطلاق لها؛ لعدم كون المولى في مقام البيان.

وثانياً: يمكن ادعاء انصراف تلك الروايات إلى الحيّ دون الميت، فإن مثل: (اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس... الخ)(1)

يفهم منه اتباع الحي في فتواه دون الميت.

3- دلالة دليل الانسداد

[1] حاصله: إن دليل التقليد هو انسداد باب العلم والعلمي على العامي، ودليل الانسداد يدل على حجية مطلق الظن، وكما يحصل الظن من فتوى الحيّ كذلك يحصل من فتوى الميت.

[2] أي: مقتضى دليل الانسداد هو حجية الظن، بلا تفاوت بين المجتهد الحي والميت؛ لأن فتوى كليهما توجب الظن بالحكم الشرعي.

[3] حاصله: منع كون دليل التقليد هو الانسداد؛ إذ باب العلم بجواز التقليد منفتح وهو دليل العقل، كما أن الدليل العلمي أيضاً موجود وهو الأخبار.

4- السيرة

[4] أي: سيرة المتشرعة تدل على جواز تقليد الميّت، وهذه السيرة متصلة بزمان المعصوم، مما يكتشف منها رضاهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، فكان الناس يراجعون الفقهاء من أصحاب الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ويعملون بفتواهم، دون التوقف عن العمل بموت المفتى.

ص: 408


1- مستدرك الوسائل 17: 315.

وفيه[1]: منع السيرة في ما هو محل الكلام[2]. وأصحابهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ إنما لم يرجعوا[3] عما أخذوه من الأحكام، لأجل أنهم غالباً إنما كانوا يأخذونها ممن ينقلها عنهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بلا واسطة أحد، أو معها من دون دخل رأي الناقل فيه أصلاً، وهو ليس بتقليد كما لا يخفى، ولم يعلم[4] إلى الآن حال من تعبد بقول غيره ورأيه أنه كان قد رجع أو لم يرجع بعد موته[5].

ومنها: غير ذلك مما لا يليق بأن يسطر أو يذكر[6].

----------------------------------

[1] حاصل الإشكال: إن الرجوع إلى أصحاب الأئمة لم يكن تقليداً، بل كان استعلام كلام الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، فكان الراوي ينقل لهم كلام الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بالنص أو بالمعنى.

نعم، القليل من الأصحاب كانوا يُفتون، ولا نعلم ماذا كان يعمل المستفتي بعد وفاة المفتي؟ ولو فرض استمرار العمل فإن هذا المورد كان قليلاً جداً، بحيث لا تتحقق معه سيرة المتشرعة، بل هو عمل مجموعة قليلة.

[2] أي: التقليد بمعنى الأخذ بفتوى المجتهد.

[3] بعد موت من أخذوا الحكم منه، «أنهم» أن الأصحاب، «يأخذونها» الأحكام، «معها» مع الواسطة، «فيه» في الحكم.

[4] أي: في غير الغالب الذي كان يفتي فقهاء أصحاب الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ «ورأيه» عطف تفسيري على «قول غيره».

[5] وحتى لو فرض عدم رجوعه فإنه لا تنعقد السيرة بهذا المقدار القليل.

[6] لوضوح ضعفه. مثل قولهم: إنّ أنبياء بني اسرائيل كان يجوز العمل بقولهم بعد موتهم فكذا العلماء، لقوله: (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل)(1).

ومثل الاستدلال بأن فتوى الحي توجب الظن كذا فتوى الميت.

ص: 409


1- مستدرك الوسائل 17: 320.

----------------------------------

ومثل العسر في الرجوع إلى الحي لاحتياج المقلّد إلى تعلّم المسائل من جديد، ونحو ذلك.

وهذه أدلة بيّنة الضعف لذا أعرض عنها المصنف.

** *** **

وكان الفراغ من هذا الشرح في ليلة الثلاثاء رابع شهر ربيع الأول من سنة ألف وأربعمائة واثنين وثلاثين للهجرة في بلدة قم المقدسة.

أسأل الله أن يتقبله بقبول حسن.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

ص: 410

مصادر التحقيق

1. القرآن الكريم.

2. نهج البلاغة.

3. أجود التقريرات، تقريرات درس الشيخ النائيني، مطبعة العرفان، الطبعة الأولى، 1354ش.

4. الاحتجاج، الشيخ أحمد بن علي الطبرسي، نشر المرتضى، الطبعة الأولى، 1403ق.

5. الإحكام في أصول الأحكام، الشيخ علي بن أبي علي الآمدي، دار الكتب العلمية، الطبعةالثانية، 1402ق.

6. الاختصاص، الشيخ المفيد، المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد، الطبعة الأولى، 1413ق.

7. إرشاد الفحول، محمد بن علي الشوكاني، الطبعة الأولى، 1399ق.

8. الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، الشيخ المفيد، مؤسسة آل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ،

الطبعة الأولى،

1413ق.

9. الاستبصار، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الأولى، 1390ق.

10. إشارات الأصول، الشيخ إبراهيم الكرباسي، الطبعة الحجرية.

11. الإشارات والتنبيهات، ابن سينا.

12. الأصول الأصيلة، السيد عبد الله شبّر، مكتبة المفيد، الطبعة الأولى، 1404ق.

13. أصول الجصاص (الفصول في الأصول)، أحمد بن علي الجصاص الرازي، دار الكتب العلمية،

الطبعة الأولى،

1420ق.

14. أصول الفقه، الشيخ محمد رضا المظفر، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الخامسة، 1430ق .

ص: 411

15. الاعتقادات في دين الإمامية، الشيخ الصدوق، الطبعة الثانية، 1414ق.

16. الألفية والنفلية، الشهيد الأول، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى، 1408ق .

17. الأمالي، الشيخ الصدوق، كتابجي، الطبعة السادسة، 1376ق.

18. الأمالي، الشيخ الطوسي، دار الثقافة، الطبعة الأولى، 1414ق.

19. الأمالي،

الشيخ المفيد، الطبعة الأولى، 1413ق.

20. أوثق الوسائل في شرح الرسائل، الشيخ موسى التبريزي، كتبي نجفي، الطبعة الأولى، 1369ق.

21. أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، ابن هشام، المكتبة العصرية.

22. إيضاح الفوائد، فخر المحققين، مؤسسة إسماعيليان، الطبعة الأولى، 1387ق.

23. الإيضاح في علوم البلاغة، الخطيب القزويني، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية.

24. بحار الأنوار، الشيخ محمد باقر المجلسي، مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية، 1403ق.

25. بدائع الأفكار، الشيخ حبيب الله الرشتي، مؤسسة آل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، الطبعة الأولى.

26. البرهان في تفسير القرآن، السيد هاشم البحراني، مؤسسة البعثة، الطبعة الأولى، 1374ش.

27. بصائر الدرجات، الشيخ محمد بن الحسن الصفار، مكتبة المرعشي، الطبعة الثانية، 1404ق.

28. التبيان في تفسير القرآن، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، دار إحياء التراث العربي.

29. تبيين القرآن، السيد محمد الحسيني الشيرازي، دار العلوم، الطبعة الأولى،1423ق.

30. تحف العقول، الشيخ حسن بن علي بن شعبة الحراني، جامعة المدرسين، الطبعة الثانية، 1404ق.

31. التذكرة بأصول الفقه، الشيخ المفيد، دار المفيد، الطبعة الثانية، 1414ق.

32. تشريح الأصول، الشيخ علي بن فتح الله النهاوندي، الطبعة الحجرية.

33. التعليقة على القوانين، السيد علي القزويني، الطبعة الحجرية.

34. تعليقة على معالم الأصول، السيد علي القزويني، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى، 1427ق.

ص: 412

35. التفسير الأصفى، الشيخ محمد محسن الفيض الكاشاني، مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية،

الطبعة الأولى، 1418ق.

36. تفسير الصافي، الشيخ محمد محسن الفيض الكاشاني، مكتبة الصدر، الطبعة الثانية، 1415ق.

37. تفسير العياشي، المحدث محمد بن مسعود العياشي، المطبعة العلمية، الطبعة الأولى، 1380ق.

38. تفسير القمي، المحدث علي بن إبراهيم القمي، مؤسسة دار الكتاب، الطبعة الثالثة، 1404ق.

39. التفسير الكبير، الفخر الرازي، دار إحياء التراث العربي.

40. تقريرات المجدد الشيرازي، مؤسسة آل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، 1409ق.

41. تمهيد القواعد، الشهيد الثاني، مؤسسه النشر الإسلامي، الطبعة الأولى، 1416ق.

42. التوحيد، الشيخ الصدوق، جامعة المدرسين، الطبعة الأولى، 1398ق.

43. تهذيب الأحكام، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الرابعة، 1407ق.

44. جامع المقاصد، المحقق الكركي، مؤسسة آل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، الطبعة الثانية، 1414ق.

45. جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي، دار إحياء التراث العربي، الطبعة السابعة.

46. الحاشية على تهذيب المنطق، الملا عبد الله بن حسين اليزدي، جامعة المدرسين، الطبعة الثانية.

47. الحاشية على كفاية الأصول، السيد حسين البروجردي، أنصاريان، الطبعة الأولى، 1412ق.

48. الحدائق الناضرة، الشيخ يوسف البحراني، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى، 1405ق.

49. حقائق الأصول، السيد محسن الحكيم، بصيرتي، الطبعة الخامسة، 1408ق.

ص: 413

50. الخصال، الشيخ الصدوق، جامعة المدرسين، الطبعة الأولى، 1362ش.

51. خلاصة الأقوال، العلامة الحلي، مؤسسة النشر الإسلامي.

52. الخلاف، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى، 1407ق.

53. درر الفوائد في الحاشية على الفرائد، للآخوند الخراساني، مؤسسة الطبع والنشر، الطبعة الأولى 1410ق.

54. درر الفوائد، الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي، مؤسسه النشر الإسلامي، الطبعة السادسة، 1418ق.

55. الدرر النجفية، الشيخ يوسف البحراني، دار المصطفى لإحياء التراث، الطبعة الأولى، 1423ق.

56. دعائم الإسلام، القاضي نعمان بن محمد، مؤسسة آل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، الطبعة الثانية، 1385ق.

57. ذخيرة المعاد، الشيخ محمد باقر السبزواري، مؤسسة آل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ،الطبعة الأولى.

58. الذريعة إلى أصول الشريعة، السيد المرتضى، جامعة طهران، 1363ق.

59. الرجال، المحدّث أحمد بن محمد بن خالد البرقي، انتشارات جامعة طهران.

60. رسائل الشريف المرتضى، دار القرآن الكريم، الطبعة الأولى، 1405ق.

61. رسائل الشهيد الثاني، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى، 1421ق.

62. رسائل المحقق الكركي، مكتبة المرعشي، الطبعة الأولى، 1409ق.

63. روض الجنان، الشهيد الثاني، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى، 1402ق.

64. الروضة البهية، الشهيد الثاني، مكتبة الداوري، الطبعة الأولى، 1410ق.

65. روضة المتقين، الشيخ محمد تقي المجلسي، الطبعة الثانية، 1406ق.

66. زبدة الأصول، الشيخ البهائي، مرصاد، الطبعة الأولى، 1423ق.

67. زبدة البيان في أحكام القرآن، الشيخ أحمد الأردبيلي، المكتبة الجعفرية، الطبعة الأولى.

ص: 414

68. السرائر، الشيخ ابن إدريس الحلي، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية، 1410ق.

69. شرائع الإسلام، المحقق الحلي.

70. شرح أصول الكافي، السيد جعفر الشيرازي، دار العلوم، الطبعة الأولى، 1436ق.

71. شرح الإشارات والتنبيهات، الشيخ نصير الدين الطوسي، مركز نشر الكتاب، 1403ق.

72. شرح الرضي على الكافية، رضي الدين الأستر آبادي، دار الكتب العلمية، 1399ق.

73. شرح العضدي على مختصر الحاجبي، عبد الرحمن بن أحمد الشافعي.

74. شرح المطالع، محمد بن محمد الرازي، مكتبة الكتبي.

75. شرح المنظومة، الشيخ هادي السبزواري، مكتبة العلامة، 1369ش.

76. شرح مختصر الأصول، عضد الدين الإيجي.

77. الصحاح، إسماعيل بن حماد الجوهري، دار العلم للملايين.

78. العدة في أصول الفقه، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، مطبعة ستارة، 1417ق.

79. علل الشرائع ، الشيخ الصدوق، مكتبة الداوري، الطبعة الأولى، 1385ش.

80. عناية الأصول في شرح كفاية الأصول، السيد مرتضى الفيروز آبادي، مكتبة الفيروز آبادي،

الطبعة الرابعة، 1400ق.

81. عوالي اللئالي، ابن أبي جمهور الأحسائي، دار سيد الشهداء عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ للنشر، الطبعة الأولى، 1405ق.

82. عوائد الأيام، الشيخ أحمد النراقي، مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي،

الطبعة الأولى، 1417ق.

83. العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي، دار الهجرة، الطبعة الثانية، 1409ق.

84. غاية المسؤول في علم الأصول، السيد محمد حسين الشهرستاني، مؤسسة آل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ،

الطبعة الأولى.

ص: 415

85. الغدير، الشيخ عبدالحسين الأميني، دار الكتاب العربي، الطبعة الرابعة، 1397ق.

86. غنية النزوع، الشيخ ابن زهرة الحلبي، مؤسسة الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، الطبعة الأولى، 1417ق.

87. فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، 1419ق.

88. الفصول الغروية، الشيخ محمد حسين الإصفهاني، دار إحياء العلوم الإسلامية، الطبعة الحجرية، 1404ق.

89. الفصول المهمة إلى أصول الأئمة، الشيخ الحرّ العاملي، مؤسسة معارف إسلامي إمام رضا عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

90. فوائد الأصول، الآخوند الخراساني، المطبوع ضمن حاشية الرسائل، وزارة الإرشاد، ،

الطبعة الأولى، 1407ق.

91. فوائد الأصول، تقريرات بحث الشيخ النائيني، مؤسسة النشر الإسلامي، 1414ق.

92. الفوائد الحائرية، الشيخ محمد باقر الوحيد البهبهاني، مجمع الفكر الإسلامي، 1415ق.

93. الفوائد المدنية، الشيخ محمد أمين الأسترآبادي، مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، 1426ق.

94. قرب الإسناد، المحدّث عبد الله بن جعفر الحميري، مؤسسة آل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ،الطبعة الأولى،

1413ق.

95. قواعد المرام، الشيخ ابن ميثم البحراني، مطبعة الصدر، الطبعة الثانية، 1406ق.

96. قوانين الأصول، المحقق القمي، الطبعة الحجرية.

97. القول السديد في شرح التجريد، السيد محمد الحسيني الشيرازي، دار الإيمان.

98. الكافي، المحدّث الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الرابعة، 1407ق.

99. كامل الزيارات، المحدث جعفر بن محمد ابن قولويه، الدار المرتضوية، الطبعة الأولى، 1356ش.

ص: 416

100. كتاب الطهارة، الشيخ مرتضى الأنصاري، مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، 1415ق.

101. كشف الغطاء، الشيخ جعفر بن خضر النجفي، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى، 1422ق.

102. كشف القناع عن وجوه حجية الإجماع، الشيخ أسد الله التستري، مؤسسة آل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

103. كشف المراد، العلامة الحلي، مؤسسة نشر الإسلامي، الطبعة السابعة، 1417ق.

104. كفاية الأصول مع حواشي المشكيني، الشيخ ابو الحسن المشكيني، لقمان، الطبعة الأولى، 1413ق.

105. كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية، 1395ق.

106. لسان العرب، ابن منظور، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى، 1408ق.

107. مبادئ الوصول، العلامة الحلي، مكتب الإعلام الإسلامي، 1404ق.

108. المبسوط، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، المكتبة المرتضوية، الطبعة الثالثة، 1387ق.

109. مجمع البحرين، الشيخ فخر الدين بن محمد الطريحي،المكتبة المرتضوية، الطبعة الثالثة، 1375ق.

110. مجمع البيان، الشيخ فضل بن الحسن الطبرسي، مؤسسه الأعلمي.

111.مجمع الفائدة والبرهان، الشيخ أحمد الأردبيلي، مؤسسة النشر الإسلامي،1403ق.

112. المحاسن، المحدث أحمد بن محمد البرقي، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثانية، 1371ق.

113. المحصول في علم أصول الفقه، فخر الدين الرازي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، 1412ق.

ص: 417

114. مختصر المعاني، الخطيب القزويني، دار الفكر.

115. مختلف الشيعة، العلامة الحلي، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية، 1413ق.

116. مدارك الأحكام، السيد محمد العاملي، مؤسسة آل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، الطبعة الأولى، 1411ق.

117. المراجعات، السيد شرف الدين.

118. مسالك الأفهام، الشهيد الثاني، مؤسسة المعارف الإسلامية، الطبعة الأولى، 1413ق.

119. مستدرك الوسائل، الميرزا حسين النوري، مؤسسة آل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ،الطبعة الأولى، 1408ق.

120. المسلك في أصول الدين، المحقق الحلي، آستانة الرضوية المقدسة، الطبعة الأولى، 1414ق.

121. مشارق الشموس، السيد حسين بن محمد الخوانساري، مؤسسة آل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

122. مصابيح الظلام، الشيخ محمد باقر الوحيد البهبهاني، الطبعة الأولى، 1424ق.

123. مصباح الفقيه، الشيخ رضا الهمداني، مؤسسة الجعفرية، الطبعة الأولى، 1416ق.

124. مصباح الهدى، الميرزا محمد تقي الآملي، 1380ق.

125. مطارح الأنظار، تقريرات درس الشيخ مرتضى الأنصاري، مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة الأولى.

126. المطول، مسعود بن عمر التفتازاني، مكتبة الداوري، الطبعة الرابعة.

127. معارج الأصول، المحقق الحلي، مؤسسة آل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، 1403ق.

128. معالم الدين، الشيخ حسن بن زين الدين العاملي، مؤسسة النشر الإسلامي.

129.معاني الأخبار، الشيخ الصدوق، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة 1. الأولى، 1403ق.

ص: 418

130. المعتبر، المحقق الحلي، مؤسسة سيد الشهداء عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ،الطبعة الأولى، 1407ق.

131. معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس، مكتبة الإعلام الإسلامي، الطبعة الأولى، 1404ق.

132. مغني اللبيب، ابن هشام الأنصاري، مكتبة المرعشي، الطبعة الرابعة.

133. مفاتيح الأصول، السيد محمد المجاهد، مؤسسة آل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ،الطبعة الأولى.

134. مفاتيح العلوم، يوسف بن أبي بكر السكاكي، دار الكتب العلمية.

135. مفتاح الكرامة، السيد جواد العاملي، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى.

136. المفردات في غريب القرآن، الراغب الإصفهاني، دفتر نشر الكتاب، الطبعة الثانية، 1404ق.

137. المكاسب، الشيخ مرتضى الأنصاري، مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، 1415ق.

138. من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية، 1413ق.

139. مناقب آل أبي طالب عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، الشيخ محمد بن علي ابن شهر آشوب، المطبعة العلمية، الطبعة الأولى، 1379ق.

140. مناهج الأحكام والأصول، الشيخ أحمد النراقي، الطبعة الحجرية.

141. منتهى الأصول، السيد حسن البجنوردي، مكتبة بصيرتي، الطبعة الثانية.

142. منتهى الدراية، السيد محمد جعفر الجزائري، مؤسسة دار الكتاب، الطبعة الرابعة، 1415ق.

143. المنطق، الشيخ محمد رضا المظفر، مؤسسه النشر الإسلامي.

144. موسوعة الفقيه الشيرازي، السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي، دارالعلم، الطبعة الأولى، 1437ق.

145. المهذب، القاضي ابن البراج، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى، 1406ق.

146. نظم درر السمطين، الشيخ محمد الزرندي الحنفي، الطبعة الأولى، 1377ق.

ص: 419

147. نهاية الأفكار، تقريرات المحقق العراقي، مؤسسة النشر الإسلامي، 1405ق.

148. نهاية الدراية، الشيخ محمد حسين الإصفهاني، مؤسسة آل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ،الطبعة الثانية، 1429ق.

149. نهاية الوصول إلى علم الأصول، العلامة الحلّي، مؤسسة الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ،الطبعة الأولى، 1425ق.

150. النهاية في غريب الحديث، ابن أثير، مؤسسة إسماعليان، الطبعة الرابعة، 1367ش.

151. الوافية في أصول الفقه، الفاضل التوني، مجمع الفكر الإسلامي، 1415ق.

152. وسائل الشيعة، الشيخ الحرّ العاملي، مؤسسة آل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ،الطبعة الأولى، 1409ق.

153. وسيلة الوصول، السيد أبو الحسن الإصفهاني، جامعة المدرسين، الطبعة الأولى، 1422ق.

154. الوصائل إلى الرسائل، السيد محمد الشيرازي، مؤسسة عاشوراء، الطبعة الثانية، 1421ق .

155. الوصول إلى كفاية الأصول، السيد محمد الشيرازي، دار الحكمة، الطبعة الثالثة، 1426ق.

156. وقاية الأذهان، الشيخ محمد رضا الإصفهاني، مؤسسة آل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ،1413ق.

157. هداية الأمة إلى أحكام الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، الشيخ الحرّ العاملي، آستانة الرضوية المقدسة، الطبعة الأولى، 1414ق.

158. هداية المسترشدين، الشيخ محمد تقي الإصفهاني، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية، 1429ق.

ص: 420

فهرست الموضوعات

صحيحة زرارة الثالثة... 5

إشكالان على الاستدلال... 6

الإشكال الأول... 6

الجواب عن الإشكال الأول... 8

الإشكال الثاني... 9

الجواب الأول... 10

الجواب الثاني... 10

رواية محمد بن مسلم... 11

إشكال وجوابان... 11

مكاتبة القاساني... 14

إشكال... 14

أخبار الحلية والطهارة... 15

إشكال وجوابه... 19

الأحكام الوضعيّة... 22

أقسام الوضع... 27

النحو الأول من الوضع... 28

الدليل الأول... 28

الدليل الثاني... 29

النحو الثاني من الوضع... 33

إشكال وجوابه... 35

النحو الثالث من الوضع... 36

الدليل الأول... 37

الدليل الثاني... 38

الدليل الثالث... 38

الدليل الرابع... 39

ص: 421

وهم ودفع... 40

الاستصحاب في الأحكام الوضعية... 43

تنبيهات الاستصحاب... 45

التنبيه الأول: فعلية اليقين والشك... 45

التنبيه الثاني: تقديرية المتيقن وفعلية الشك... 48

التنبيه الثالث: استصحاب الكلي وأقسامه... 54

القسم الأول... 55

القسم الثاني... 56

إشكالان: الأول... 56

الجواب... 57

الإشكال الثاني... 58

الجواب الأول... 59

الجواب الثاني... 60

الجواب الثالث... 60

القسم الثالث... 61

التنبيه الرابع: استصحاب الزمان والزمانيات... 68

الدليل الأول... 69

الدليل الثاني... 69

إشكالان: الأول... 76

الإشكال الثاني... 77

إزاحة وهم: استصحاب الجعل والمجعول... 80

التنبيه الخامس: الاستصحاب التعليقي... 83

إشكالات ثلاثة: الأول... 84

الإشكال الثاني وجوابه... 86

جواب الشيخ الأعظم... 89

الإشكال الثالث وجوابه... 91

التنبيه السادس: استصحاب أحكام الشرائع السابقة... 92

جوابان للشيخ الأعظم عن المانع الأول... 99

ص: 422

التنبيه السابع: الأصل المثبت... 102

المختار عدم حجية الأصل المثبت... 107

صورتان لحجية الأصل المثبت... 109

الصورة الأولى... 109

الصورة الثانية... 110

مثبتات الأمارات والطرق... 112

التنبيه الثامن: موارد ثلاثة ليست من الأصل المثبت... 114

المورد الأول... 114

المورد الثاني... 118

المورد الثالث... 119

التنبيه التاسع: ما خرج عن الأصل المثبت... 122

التنبيه العاشر: زمان الأثر... 124

التنبيه الحادي عشر: الشك في التقدم والتأخر... 127

المقام الأول: في مجهولي التاريخ... 131

الصورة الأولى... 132

الصورة الثانية... 133

الصورة الثالثة... 134

الصورة الرابعة... 136

إشكال... 140

جواب الإشكال... 141

المقام الثاني: في مجهول التاريخ ومعلومه... 143

الصورة الأولى... 144

الصورة الثانية والثالثة... 145

الصورة الرابعة... 145

تعاقب حالتين... 147

التنبيه الثاني عشر: استصحاب العقائد... 149

القسم الأول... 151

القسم الثاني... 153

ص: 423

استصحاب النبوة 155

هل لاستصحاب النبوة فائدة؟... 158

استصحاب الكتابي لنبوة موسى... 159

التنبيه الثالث عشر: استصحاب حكم المخصص... 163

النحو الأول: أخذ الزمان ظرفاً في العام والخاص... 165

النحو الثاني: أخذ الزمان مُفَرِّداً في العام والخاص... 168

النحو الثالث: أخذ الزمان ظرفاً في العام ومُفرّداً في الخاص... 168

النحو الرابع: أخذ الزمانُ مفرّداً في العام وظرفاً في الخاص... 169

التنبيه الرابع عشر: في معنى الشك... 170

تتمة... 177

المقام الأول... 178

الأمر الأول: في معنى بقاء الموضوع... 178

المعنى الأول لبقاء الموضوع... 179

المعنى الثاني لبقاء الموضوع... 181

الأمر الثاني: ما هو ملاك الاتحاد... 182

الاتحاد بحسب الدقة العقلية... 183

الاتحاد بحسب العرف أو لسان الدليل... 184

المقام الثاني... 189

1- الورود... 190

2- الحكومة... 194

3- التوفيق... 195

خاتمة... 196

1- النسبة بين الاستصحاب وسائر الأصول... 196

2- التعارض بين الاستصحابين... 198

الأصل السببي والمسببي... 199

تعارض الاستصحابين العَرْضيين... 204

النحو الأول... 204

النحو الثاني... 207

ص: 424

تذنيب: نسبة قاعدة الفراغ والتجاوز وأصالة الصحة مع الاستصحاب... 208

نسبة الاستصحاب والقرعة... 211

إشكال وجوابه... 212

إشكال آخر وجوابه... 213

المقصد الثامن في تعارض الأدلة والأمارات

فصل في تعريف التعارض... 219

المورد الأول من موارد الجمع العرفي... 222

المورد الثاني من موارد الجمع العرفي... 223

المورد الثالث من موارد الجمع العرفي... 229

متى يُرجّح بالسند؟... 230

فصل القاعدة الأولية في الخبرين المتعارضين... 231

القاعدة الأولية بناءً على الطريقيّة... 232

القاعدة الأولية بناءً على السببية... 234

حكم التزاحم... 239

قاعدة الجمع مهما أمكن أولى من الطرح... 240

توجيه القاعدة 242

فصل الأصل الثانوي (النقلي) في المتعارضين... 243

البحث الأول: دليل عدم التساقط... 243

البحث الثاني: في التخيير أو الترجيح... 243

البحث الثالث: الأخبار العلاجيّة... 245

1- أخبار التخيير... 246

2- ما دل على التوقف... 248

3- ما دلّ على الاحتياط... 248

4- أخبار الترجيح... 249

البحث الرابع: المقبولة والمرفوعة... 251

إشكالات على الاستدلال... 254

ص: 425

الإشكال الأول... 254

الإشكال الثاني... 254

الإشكال الثالث... 254

الإشكال الرابع... 256

الإشكال الخامس... 257

البحث الخامس: أخبار موافقة الكتاب ومخالفة العامة... 259

الإشكال الأول... 260

الإشكال الثاني... 263

البحث السادس: أدلة أخرى على الترجيح - غير الأخبار - 263

كيفية اختيار المجتهد والمقلّد... 266

التخيير بدوي أم استمراري... 268

فصل في المرجحات غير المنصوصة... 269

1- أدلة التعدي إلى غير المنصوصة... 270

2- أدلة الاقتصار على المرجحات المنصوصة... 276

3- حدود التعدي - على القول به - 277

مختار الشيخ الأعظم والإشكال عليه... 279

دليل رابع على التعدي... 280

فصل التخيير والترجيح في موارد الجمع العرفي... 282

الدليل الأول... 283

الدليل الثاني... 285

الدليل الثالث... 286

فصل في اشتباه الظاهر مع الأظهر... 289

1- ترجيح العموم على الإطلاق... 289

2- ترجيح التخصيص على النسخ... 292

الإشكال على الدليل... 293

تخصيص الكتاب والسنة بأقوال الأئمة... 295

ص: 426

فصل في انقلاب النسبة... 298

كلام المحقق النراقي... 299

تعدد النسبة... 306

فصل الترتيب بين المرجحات... 308

1- رجوع المرجحات إلى الصدور... 308

2- الترتيب بين المرجحات... 312

تقديم المرجح الجهتي وعدمه... 314

كلام الشيخ الأعظم في تقديم سائر المرجحات على المرجح بالجهة... 316

إشكالان على كلام الشيخ الأعظم... 319

إشكالان للمحقق الرشتي... 321

فصل المرجحات الخارجية... 326

القسم الأول... 327

القسم الثاني... 330

القسم الثالث... 333

القسم الرابع... 338

الخاتمة في الاجتهاد والتقليد

فصل في الاجتهاد... 343

فصل الاجتهاد المطلق والمتجزئ... 347

الأمر الأول: امكان ووقوع الاجتهاد المطلق... 347

الأمر الثاني: العمل بفتوى المجتهد المطلق... 348

تقليد الانسدادي على الحكومة... 349

تقليد الانسدادي على الكشف... 352

الأمر الثالث: نفوذ حكم المجتهد المطلق... 356

الأمر الرابع: في التجزي في الاجتهاد... 359

فصل من العلوم المقدميّة للاجتهاد... 363

ص: 427

فصل في التخطئة والتصويب... 366

فصل في تبدّل رأي المجتهد... 371

الصورة الأولى... 373

الصورة الثانية... 373

تفصيل صاحب الفصول... 374

الصورة الثالثة... 377

الصورة الرابعة... 378

فصل في التقليد... 379

تعريف التقليد... 379

أدلة جواز التقليد... 380

ردّ دليل عدم جواز التقليد... 387

فصل في تقليد الأعلم... 388

أدلة جواز تقليد غير الأعلم... 390

أدلة وجوب تقليد الأعلم... 392

فصل في تقليد الميّت... 396

دليل عدم الجواز مطلقاً 397

أدلة الجواز... 398

1- الاستصحاب... 398

أ- الاستصحاب في التقليد الابتدائي... 398

ب - الاستصحاب في التقليد الاستمراري... 402

2- إطلاق الأدلة اللفظية... 407

3- دلالة دليل الانسداد... 408

4- السيرة 408

مصادر التحقيق... 411

فهرست الموضوعات 421

ص: 428

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.