كيف ردَّ الشيعة غزو المغول

هوية الكتاب

كيف ردَّ الشيعة غزو المغول

دراسة لدور المرجعين نصير الدين الطوسي والعلامة الحلي في رد الغزو المغولي

بقلم: علي الكوراني العاملي

الناشر: المركز الثقافي للعلامة الحلي رحمه الله علیه

العراق - الحلة - قرب الشركة العامة للصناعات النسيجية

تلفون: 07801020562

الطبعة الأولى: 1426

ص: 1

اشارة

الكتاب: كيف رد الشيعة غزو المقول

المؤلف: علي الكوراني العاملي

الناشر: دارالهدی - قم

الطبعة: الأولی

العدد: 5000 نسخة

1427 هجرية - 2006 ميلادية

ص: 2

مقدمة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين .

وبعد ، فقد كان زحف المغول سريعاً وحشياً ، فقد اجتاحوا أكثر البلاد الإسلامية وعاثوا فيها فساداً ، وتسلطوا على مقدراتها ، وحكم منهم واحد وعشرون ملكاً لأكثر من قرن ونصف .

يقول ابن خلدون في تاريخه:7/726: (فانتظمت ممالك الإسلام في أيدي وُلْد جنكيزخان من المُغُل ثم من الططر ، ولم يخرج عن ملكهم منها إلا المغرب والأندلس ومصر والحجاز ، وأصبحوا وكأنهم في تلك الممالك خَلَفٌ من السَّلْجوقية والغُزّ ، واستمر الأمر على ذلك لهذا العهد ). انتهى.

كان عدد جنودهم في أول زحفهم مئات الألوف، وسكنوا في بلاد المسلمين وتكاثروا فيها , ولم يرجع منهم الى موطنهم الأصلي برِّ الصين إلا القليل ، فما هو السبب الذي جعلهم يذوبون في بحر الأمة ، حتى أنك لاتعرف الآن أبناءهم إلا بصعوبة ، من مصادر التاريخ ، أو بما بقي من ملامحهم ؟!

يتفق العلماء والمؤرخون على قاعدة بديهية وسنة تاريخية هي أن الأمة الغالبة تفرض ثقافتها على الأمة المغلوبة ، ويتفقون على أن هذه القاعدة لم

ص: 3

تنخرم إلا في الغزو المغولي لبلاد المسلمين ، فإن الأمة المغلوبة فرضت ثقافتها على المغول فأسلموا وتنازلوا عن ثقافتهم !

أما سبب ذلك فهو جهود شخصيتين: إسم أحدهما محمد بن محمد بن الحسن ، المشهور باسم خواجة نصير الدين الطوسي رحمه الله علیه، والثاني يوسف بن المطهر ، المشهور باسم العلامة الحلي رحمه الله علیه! فقد واجه هذان المرجعان العبقريان المدَّ المغولي بحكمة وعمق ، في خطة موفقة ، حققت إنجازات عظيمة !

1- فقد ركَّز المرجعان عملهما على قادة المغول وأجادا معهم العلاقات والأساليب ، ابتداءً من طاغيتهم الأكبر هولاكو الى أبنائه وأحفاده ووزرائهم .

وقد أثمرت جهودهما بسرعة نسبية ، فأسلم على أيديهما وأيدي تلاميذهما أبناء هولاكو وكبار قادة جيشهم، وتغيرت نظرة المغول وشعورهم تجاه الإسلام وأمته ، وبعضهم حسن إسلامه ، وكان أولهم إسلاماً أحمد بن هولاكو ، بل ستعرف أن هولاكو نفسه أسلم شكلياً .

2- أقنعا المغول أن لايحكموا بلاد المسلمين مباشرة ، وأن ينصبوا عليها حكاماً أكفَّاء من أهلها ويطلقوا أيديهم ، ولا يتدخلوا في أمورها الداخلية .

3- أقنعا المغول بتبني سياسة الحرية المذهبية والإعمار ، فكان ذلك برنامج الحكام المنصوبين ، وظهرت ثماره خاصةً في العراق ، وتعجَّب المؤرخون من نهضة الثقافة والإعمار فيه حتى صار أفضل مما كان في عهد الخلافة العباسية !

4- اهتم المرجعان بالبحث عن الكفاءات العلمية والإدارية والسياسية في طول البلاد وعرضها ، وقاما بجذبها وتعليمها ورعايتها، وإطلاق يدها في العمل والإبداع ، فظهر في مرصد مراغة وجامعتها ، وجامعات المستنصرية ، والنظامية والحلة ، وغيرها ، عشرات الأطباء والمهندسين والعلماء من كل نوع ، وأثْرَوْا

ص: 4

بعملهم ومؤلفاتهم حياة الأمة ومكتباتها .

كان عمل هذين المرجعين وتلاميذهما عملاً واسعاً متنوعاً عميقاً:

واسعاً ، شمل المناطق التي احتلها المغول وهي أغلب العالم الإسلامي .

ومتنوعاً ، فيه البعد العلمي والإجتماعي والسياسي والإداري .

وعميقاً ، في اختيار الكوادر ووضع الخطط ، وإقناع القادة والشخصيات بها ، وتوعية الرأي العام عليها !

وكان الجزء الأصعب فيه عطف أذهان ملوك المغول وقلوبهم من الوثنية الى الإسلام ، وتبديل تعطشهم الى الدماء والتدمير والسيطرة ، الى حب الهدوء والتقوى ! وهو أمرٌ لم يتمكن منه إلا المرجعان نصير الدين الطوسي وتلميذه العلامة الحلي رضوان اللّه عليهما بما آتاهما اللّه من شخصية جذابة حتى لأعدائها ! ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ .

**

قد يرى البعض أن هذه الدراسة متحيزةً للشيعة والتشيع ، لأنها تخالف المعروف عند مؤرخي الخلافة من أن الشيعة هم الذين تآمروا مع المغول بشخص الوزير محمد بن العلقمي ، وشخص نصير الدين الطوسي العالم الشيعي والطبيب ، الذي كان مع هولاكو ، وصار معتمده ، ووزيره الخاص !

بينما تقول الدراسة إن الخلافة العباسية بشخص الخليفة وبطانته وسلاطين دولته السلاجقة والخرازمة ، هم المسؤولون عن اجتياح المغول لبلاد المسلمين وإسقاط نظام الخلافة ، وإن هؤلاء بسبب فسادهم وظلمهم وسوء إدارتهم شركاء مع المغول فيما ارتكبوا من مجازر ودمروا من معالم ! وإن تهمة الشيعة بأن لهم يداً في غزو المغول كتهمة الذئب بدم يوسف (عليه السلام) ، فإن الشيعة كانوا

ص: 5

قارب النجاة للأمة من سوء أفعال الخلفاء وجهازهم السئ !

نعم ، إن هذه الدراسة تثبت أن نصير الدين الطوسي والعلامة الحلي ، قاما بدور البطليْن المنقذيْن للإسلام وبلاد المسلمين من شر المغول ، واستطاعا تحويل بعض قادتهم من وحوش مدمرين مخربين ، الى مسلمين يتبنون سياسة الحرية المذهبية والعامة ، وسياسة الإعمار والمؤسسات الثقافية ، وسياسة تشجيع العلم والعلماء ، وأن الحكم المغولي بتبنيه مذهب التشيع حقق في مدة قصيرة ما عجز عنه حكم الخلافة المترفة المتعصبة ، في قرون طويلة !

لذلك أنصح الذي تعوَّد من نعومة مفاهيمه على أن يتلقى من المؤرخين التابعين للخلافة المعادين للشيعة ويرفض ما خالفهم ، أن لايقرأ هذا الكتاب !

فهذا الشخص يحرص أن تكون الحقيقة في عينيه وعلى لسانه حلوة دائماً ، ولا يحبُّ قراءة الوجه الآخر ، بينما الخلافة العباسية ورواتها حقيقة مُرَّة ، لا حلاوةَ فيها إلا رؤيتُها على واقعها !

كتبه: علي الكَوْراني العاملي

بقم المشرفة منتصف محرم الحرام1427

**

ص: 6

الفصل الأول: خلاصة عن المغول وغزوهم بلاد المسلمين

اشارة

ص: 7

ص: 8

1- المغول قبائل من (منغوليا)شمال الصين

اشارة

كانت الصين ستة أقسام يحكم كل قسم ملك ، والقسم الأكثر طموحاًً هو المجاور لآسيا الوسطى ويشمل منغوليا الفعلية وعاصمته طوغاج ، والمسافة بينها وبين بخارى مسير ستة أشهر، وشعبها قبائل التتار أو المغول أوالمنجول . وكان مَلكهم في مطلع القرن السابع الهجري الخان الكبير جنكزخان ، ويجاوره السلطان السلجوقي محمود خوارزم شاه ، الحاكم العام لخراسان وشرق آسيا ، باسم الخليفة العباسي في بغداد . (تاريخ أبي الفداء/744).

قال الذهبي في تاريخه:44/22: (وجاءه من جنكس خان رسلٌ وهم محمود الخوارزمي وخواجا علي البخاري ، ومعهم من طُرَف هدايا الترك من المسك وغيره ، والرسالة تشتمل على التهنئة بسلامة خوارزم شاه ويطلب منه المسالمة والهدنة ، وقال: إن الخان الأعظم يسلم عليك ويقول: ليس يخفى عليَّ عظم شأنك ، وما بلغت من سلطانك ونفوذ حكمك على الأقاليم ، وأرى مسالمتك من جملة الواجبات ، وأنت عندي مثل أعز أولادي، وغير خاف عنك أنني ملكت الصين ، أنت أخبر الناس ببلادي وإنها مثارات العساكر والخيول ، ومعادن الذهب والفضة ، وفيها كفاية عن طلب غيرها ، فإن رأيت أن نعقد بيننا المودة وتأمر التجار بالسفر لتعم المصلحتانفعلتَ . فأحضر السلطان خوارزم شاه محموداً الخوارزمي وقال: أنت منا وإلينا ولا بد لك من موالاة فينا ووعده بالإحسان إن صدقه، وأعطاه معضدة مجوهرة نفيسة وشرط عليه أن يكون عيناً له على جنكز خان فأجابه ، ثم قال له: أصدقني أجنكز خان ملك طمغاج الصين؟ قال: نعم . فقال: ما ترى في المصلحة؟ قال الإتفاق . فأجاب إلى ملتمس جنكز خان . قال فَسُرَّ جنكز خان بذلك ، واستمر الحال على المهادنة إلى أن وصل من بلاده تجار ، وكان خال السلطان خوارزم شاه ينوب على بلاد ما وراء النهر ومعه عشرون ألف فارس فشرهت نفسه إلى أموال التجار وكاتب السلطان يقول: إن

ص: 9

هؤلاء القوم قد جاؤوا بزي التجار وما قصدهم إلا إفساد الحال وأن يجسوا البلاد ، فإن أذنت لي فيهم فأذن له بالإحتياط عليهم وقبض عليهم واصطفى أموالهم! فوردت رسل جنكز خان إلى خوارزم شاه تقول: إنك أعطيت أمانك للتجار فغدرت ، والغدر قبيح ، وهو من سلطان الإسلام أقبح ، فإن زعمت أن الذي فعله خالط بغير أمرك فسلمه إلينا ، وإلا فسوف تشاهد مني ما تعرفني به . فحصل عند خوارزم شاه من الرعب ما خامر عقله فتجلد وأمر بقتل الرسل فقتلوا ! فيا لها حركة لما هدرت من دماء الإسلام ! أجرت بكل نقطة سيلاً من الدم ، ثم إنه اعتمد من التدبير الردئ لما بلغه سير جنكز خان إليه أنه أمر بعمل سور سمرقند ثم شحنها بالرجال ، فلم تغن شيئاً وولت سعادته وقضي الأمر). ونحوه العصامي/216 ، وغيره .

الدراسات الحديثة عن المغول

صدرت في عصرنا عدة دراسات عن المغول ، لباحثين مسلمين وغربيين ، تصل الى عشرين مؤلفاً وعشرات المقالات ، لكن القليل منها يتصف بالموضوعية وإنصاف الشيعة ، لأن الباحثين يرددون اتهام ابن تيمية للشيعة بأن الوزير الشيعي محمد بن العلقمي (رحمه اللّه) قد تآمر مع المغول ودعاهم الى احتلال بغداد ! مع أن ابن تيمية معروف بعدائه للشيعة ، ومع أن المؤرخين المعاصرين للحادثة نفوا ذلك كالفوطي الحنبلي !

وسبب كثرة الكتابة المعاصرة عن المغول أن حملتهم على البلاد الإسلامية تزامنت مع الحملات الصليبية ، وأن لويس التاسع ملك فرنسا وبابا المسيحية كليمنصو الرابع وغيرهما اتصلوا بالمغول من أجل التحالف أو التعاون معهم لاحتلال البلاد الإسلامية الأمر الذي جعل عدداً من الغربيين ينشرون وثائق ذلك العصر ويكتبون عنه ، فقلدهم بعض المسلمين . والسبب الثاني ، أن الفترة التي حكم فيها القادة المغول الشيعة في العراق ، كانت بالقياس الى ما قبلها وما بعدها مميزةً بازدهارها العمراني والثقافي وحريتها المذهبية والعامة ، وأهمية كتبها ومكتباتها ، وهو أمرٌ ألفتَ الباحثين ولكنهم لم يفصحوا عن سببه الحقيقي وهو أن الحكم الشيعي أعطى الحرية ، بينما مارس

ص: 10

حكم الخلافة الإضطهاد ! وسوف نتعرض الى ذلك .

والسبب الثالث ، أن المغول بعد نحو قرنين من غزوهم لبلاد المسلمين، ودخول أكثر قادتهم وجنودهم في الإسلام، وتشيع أكثرهم بيد علماء الشيعة ، وتسنن بعضهم بيد علماء السنة ، اتجهوا نحو الهند فأسسوا فيها دولاً متعددة ، كان لها رجالها وتاريخها وثقافتها وحضارتها . فصار الحكم المغولي في الهند موضوعاً من التاريخ والعمران ، وقلَّت فيه الصراعات والحروب! لذلك صرت تجد كتباً عن تاريخ المغول وعن دولهم وعن ثقافتها وفنونها .

ويضاف الى ذلك أن موطنهم الأصلي جمهورية منغوليا نشطت في كتابة تاريخها وتاريخ قبائلها: راجع مثلاً موقع:

http://www.china.org.cn/axibu/2JI/3JI/neimeng/neiban.html

ومما كتبوا فيه: (تقع منطقة منغوليا الداخلية في شمال الصين ، وتمتد من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي على شكل مستطيل، والمسافة المستقيمة من الشرق إلى الغرب2400 كيلومتر ، ومن الشمال إلى الجنوب 1700 كيلومتر ، تعبر منطقة شمال الصين الشرقي ومنطقة شمالها ومنطقة شمالها الغربي. ومساحتها الإجمالية118،300 كيلومتر مربع، ومشكلاً 3،12% من مساحة الصين . وتحتل مساحتها المركز الثالث بين المقاطعات والبلديات والمناطق الذاتية الحكم في الصين . وتتاخم 8 مقاطعات ومناطق من جهات الشرق والجنوب والغرب ، وتتاخم من الشمال جمهورية منغوليا وروسيا . وطول خط الحدود داخل المنطقة4200 كيلومتر) . انتهى.

وكذلك موقع تاريخ الحكام والسلالات الحاكمة:

http://www.hukam.net/family.php?fam=787

وكتاب تاريخ المغول لعباس إقبال:

http://web.cultural.org.ae/new/Publications/

ص: 11

2- جنكيز خان طاغية المغول ونبيهم

الشخصية الأولى في المغول جنكيز خان ، فهو أكبر ملوكهم الذي قاد حملتهم الأولى سنة617هجرية فشملت أكثر بلاد المسلمين وكل بلاد القفقاز وروسيا ، وقسماً من أوروبا الشرقية ، وقسماً من الهند .ويعتبر(نبي المغول) بل يطيعونه أكثر من طاعة الأمم لأنبيائها! وقد وضع لهم شريعة سماها(الْيَاسَة)فمشوا عليها في حياته بعد مماته !

وقد استكثر من الأولاد وأحاط نفسه بهالة من العظمة ، ففي صبح الأعشى:4/312: (وأما أولاد جنكز خان فقد ذكر في مسالك الأبصار عن الصاحب علاء الدين الجويني المقدم ذكره ، أنه كان له عدة أولاد ذكور وإناث من الخواتين والسراري ، وكان أعظم نسائه أوبولي من تيكي ، ومن رسم المغل تعظيم الولد بنسب والدته ، وكان له من هذه أربعة أولاد معدين للأمور الخطيرة هم لتخت ملكه بمنزلة أربع قوائم ، وهم توشي وجفطاي وهو أصغرهم ، وأوكداي وأوتكين نويان ، وأنه جعل موضعه نقطة دائرة ملكه وبنيه حوله كمحيط الدائرة ، فجعل ابنه أوكداي ولي عهده ورتبة لما يتعلق بالعقل والرأي والتدبير والولاية والعزل واختيار الرجال والأعمال وعرض الجيوش وتجهيزها ، وكان موضعه في حياة أبيه حدود أيمك وقراباق ، فلما جلس بعد أبيه على تخت الملك انتقل إلى الموضع الأصلي بين الخطا وبلاد الإيغور وأعطى ذلك الموضع لولده كيوك . وجعل لابنه أوتكين حدود بلاد الخطا ، وعين لابنه الكبير توشي حدود قيالق وإلى أقصى سفسفين وبلغار ، ورتبه على الصيد والقنص وجعل لابنه جفطاي حدود بلاد الأيغور إلى سمرقند وبخارا ، ورتبه لتنفيذ النائبات والأمور والمقابلات وما أشبه ذلك . قال ابن عطاء ملك: وكانت أولاده وأحفاده تزيد على عشرة آلاف وذكر عن الشيخ شمس الدين الأصفهاني أن جنكزخان أولد أربعة أولاد وهم جوجي وهو أكبرهم وكداي وطولي وأوكداي فقتل جوجي في حياة أبيه ، وخلف أولاداً . قال ابن الحكيم الطياري: وهم باتو ويقال باطو

ص: 12

وأورده وبركه وتولي وحمتي . قال الشيخ شمس الدين: المذكور والمشهور باتو وبركة ، وأوصى بأن يكون تخته لولده الصغير أوكداي ، وأن تكون مملكة ما وراء النهر وما معه لولده الآخر كداي ، وجعل لابنه جوجي دشت القبجاق وما معه وأضاف إليه إيران وتبريز وهمذان ومراغة ، ولم يحصل لطولي شئ ! فلما مات جنكزخان استقل أوكداي بتخت أبيه ، واستقل جوجي بدشت القبجاق وما معه واستقل باتو بن جوجي فيما جعله جده جنكزخان لأبيه جوجي من إيران وتبريز وما مع ذلك ، ولم يتمكن كداي من مملكة ما وراء النهر ...الخ.).

وهلك جنكيز سنة623، واختلف أولاده من بعده على الملك رغم وصيته ، لكن اختلافهم لم يؤثر على قوتهم فواصلوا غزو شرق أوربا وتركيا ، وغاراتهم على بغداد ثم اتفقوا سنة649 على تتويج حفيده منكوآن أو مونككا ، فأصدر أمره الى أخيه هولاكو بأن يحتل بلاد المسلمين الى مصر ، والهند ، وأوربا .

قال ابن العبري في تاريخ مختصر الدول/217، و232، ونحوه الذهبي:45/186: (وفيها (648) اجتمع أولاد الملوك وأمراء المغول فوصل من حدود قراقورم مونككا بن تولي خان ، وأما سيرامون وباقي أحفاد وخواتين قاآن فسيروا قنقورتقاي وكتبوا خطهم أنه قائم مقامهم ، وأن باتوا هو أكبر الأولاد وهو الحاكم وهم راضون بما يرضاه . وأما أغول غانميش خاتون زوجة كيوك خان ومن معها من أولاد الملوك فوصلوا إلى خدمة باتوا ولم يقيموا عنده أكثر من يوم ، بل رجعوا إلى أوردوهم واستنابوا أميراً منهم يقال له تيمور نوين وأذنوا له أن يوافق على ما يتفق عليه الجمع كله ، وإن اختلفت الأهواء لا يطيع أحداً حتى يعلمهم كيفية الحال . فبقي جغاتاي ومونككا وسائر من كان حاضراً من الأولاد والأحفاد والأمراء يتشاورون أياماً في هذا الأمر وفوضوا الأمر إلى باتوا لأنه أكبر الجماعة وأشدهم رأياً ، فبعد ثلاثة أيام من يوم التفويض قال: إن مثل هذا الخطب الخطير ليس فينا من يفي بحق القيام به غير مونككا ، فوافقوه كلهم على ذلك وأجلسوه على سرير المملكة وباتوا مع باقي

ص: 13

الأولاد والأكابر خدموه جاثين على ركبهم كالعادة . وانصرف كل واحد إلى مقامه على بناء أنهم يجتمعون في السنة المقبلة ويعملون مجمعا كبيراً ليحضره من الأولاد والأكابر من لم يحضر الآن . وفي سنة تسع وأربعين وستمائة في وقت الربيع حضر أكثر الأولاد مثل بركة أغول وأخوه بغاتيمور وعمهم الجتاي الكبير والأمراء المعتبرون من أردو جنكزخان . وفي اليوم التاسع من ربيع الآخر كشفوا رؤوسهم ورموا مناطقهم على أكتافهم ورفعوا منوككا على سرير المملكة وسموه مونككا قاآن وجثوا على ركبهم تسع مرات ! وكان له حينئذ سبعة من الأخوة: قبلاي، هولاكو ، اريغبوكا ، موكا ، بوجك ، سبكو ، سونتاي ، فترتبوا جالسين على يمينه والخواتين على يساره ، وعملوا الفرحة سبعة أيام...). انتهى.

3- لم يتحالف المغول مع الصليبيين

كان الملك الجديد منكوقاآن يمثل طموحات جده الطاغية جنكيز، ويخطط لاكتساح العالم كله ! من الصين الى السند والهند وإفريقيا ، ومن الصين الى خراسان وبغداد والشام وسواحل المتوسط وأوربا !

وفي ذلك الوقت كان لويس التاسع ملك فرنسا في قبرص يقود حملة صليبية ضد المسلمين هي الخامسة ، باسم تحرير بيت المقدس من أيدي الكفار ! فأرسل له منكوقاآن رسالة يطلب فيها دخوله في طاعته !

(يقول جان سيردي جوانفيل وهو الذي رافق لويس التاسع في حملته الصليبية فكان بذلك شاهد عيان يقول في مذكراته عن تلك الأيام متحدثاً عن علاقة لويس التاسع بالمغول في ص84 من طبعة سنة1968، التي عربها الدكتور حسن حبشي: (بينما كان الملك (لويس التاسع) مقيماً في قبرص(كانون الأول سنة1248)أنفذ إليه ملك التتار استعداده لمعاونة الملك في غزو الأرض المقدسة وتخليص بيت المقدس من أيدي المسلمين . ولقد بالغ الملك في إكرام وفادة الرسل وأنفذ التاري سفارة من

ص: 14

لدنه إلى ملك التتار عادت بعد عأمين ، وأرسل معهم إليه خيمة على هيئة كنيسة وهي خيمة غالية لأنها مصنوعة بأكملها من القماش القرمزي الجميل الرائع ، وأراد الملك أن يرى ما إذا كان في قدرته اجتذاب أولئك التتار للإيمان بديننا فأمر بنقش الخيمة بصورة تمثل بشارة سيدتنا العذراء بالمسيح ، وجميع أسس عقيدتنا ، وأرسل الملك هذه الأشياء جميعها بصحبة أخوين من الجماعة المبشرين يعرفان لغة التتار ويستطيعان هداية المغول وتعليمهم السبيل إلى الإيمان).

ويتحدث (جدانفيل) بعد ذلك في ص217عن عودة رسل لويس التاسع قائلاً: (كان عدد شعب هذا الأمير(التتاري)المسيحي كبيراً حتى لقد أنبأنا رسل الملك أنهم شاهدوا في معسكره ثمانمائة كنيسة صغيرة محمولة على عربات . ثم يقول: ويوجد بين التتار كثير من المسيحيين الذين يعتنقون عقيدة الإغريق .

ويقول في ص218: نذكر ما فعله الإيلخان بعد تلقيه رسل الملك وهداياه من إرساله عهد أمان لجمع جميع الملوك الذين لم يدينوا بالطاعة بعد ، فلما جاءوه أمر بنصب كنيسة الملك وخاطبهم بقوله: أيها السادة ، لقد بعث ملك فرنسا إلينا ملتمساً عطفنا للدخول في طاعتنا ، وهاكم الجزية التي أنفذها إلينا فانظروها ، فإذا لم تستسلموا لنا فإنا مرسلون في طلبه عليكم، وإذ ذاك أعلن أكثر الحاضرين استسلامهم للملك التتاري خوفاً من الملك الفرنسي) .

ثم يقول جوانفيل بعد ذلك: (عاد مبعوثو الملك وفي صحبتهم آخرون من قبل ملك التتار العظيم الذي حملهم كتباً منه إلى ملك فرنسا جاء فيها: السلم خيرٌ فإنه إذا ساد أرضاً أكلت كل ذات أربع حشيش السلام ، كما أن من يدبون على قدمين يفلحون الأرض التي تخرج كل طيب في سلام أيضاً . وإننا نقص عليك هذا الخبر لتزداد معرفتك ، إذ لن تعرف معنى السلام إلا إذا عقدته معنا ، فقد ثار بريسترجون علينا كما ثار علينا فلان وفلان غيره من الملوك فحكمنا السيف فيهم جميعاً ، ثم راح يعدد له هؤلاء الملوك ، ثم قال: لذلك ننصحك أن تبعث إلينا عاماً بعد عام بشئ من

ص: 15

ذهبك وفضتك وبذلك تبقينا أصدقاءك ، فإن لم تفعل هذا دمرناك أنت وشعبك كما فعلنا مع من ذكرنا لك من الملوك !

ويعقب جوانفيل على هذا الكلام قائلاً: ويجب أن تعلم أن الملك ندم أشد الندم على إرساله رسلاً إليه ! وكان قال في ص11: إن سفر رسل الملك كان من أنطاكية وأن سفرهم منها إلى ملك التتار استغرق مدة عام كامل ، وأنهم كانوا يقطعون في كل يوم مسافة عشرة فراسخ).( الإسماعيليون والمغول ونصير الدين الطوسي للسيد حسن الأمين/149، وقال في هامشه: فأرسل إلى منكوقا آن سنة650ه-1253م.بعثة برئاسة الراهب غيوم روبركrobruk ) ) سارت من عكا إلى القسطنطينية ومنها إلى شبه جزيرة القرم ثم مدينة سراي ، ثم عبرت منافذ الأورال ونهر إيلي إلى أن وصلت إلى قراقورم حيث قابل رئيسها منكوقا آن... ونشر الكتاب بالفرنسية سنة1985 ، وفيه وصف موضوعي دقيق للحياة المغولية يومذاك) .

أقول: يتضح بذلك أن المغول كانوا مغرورين بقوتهم كثيراً ، فلم يكونوا يفكرون بالتحالف مع الغربيين ، وكانت رسالة منكوقاآن الأولى الى ملك فرنسا وكذا الجوابية أمراً له بالطاعة ، ولم يعبأ بطلبه التحالف ضد المسلمين .

كما يتضح أن المغول لم يكونوا يقيمون وزناً لكل المسيحيين في العالم ومنهم القريبون منهم كمسيحيي بلغاريا وأرمينيا والكرج أي جورجيا، ومسحيي بيزنطة الشرقية والبلاد العربية! يدل على ذلك أنهم اجتاحوا بلادهم وأخضعوهم وعاملوهم كغيرهم بالقتل والتدمير .

وقد وصف ابن العبري/234 ، مجئ هيتوم ملك الأرمن ذليلاً متنكراً خوفاً من حاكم المسلمين في تركيا ، عندما طلب منكوقاآن حضوره ، قال: ( توجه حاتم ملك الأرمن إلى خدمة مونكاقاآن ، أخذ قربان خميس الفصح ورحل عن مدينة سيس يوم الجمعة الصلبوت ، وخرج متنكراً مع رسول له بزي بعض الغلمان ، وأخذ على يده جنيباً يجذبه خلف الرسول ، لأنه كان خائفاً من السلطان صاحب الروم).

أما قول مبعوثي لويس التاسع: (إنهم شاهدوا في معسكره ثمانمائة كنيسة صغيرة

ص: 16

محمولة على عربات ، وأنه يوجد بين التتار كثير من المسيحيين الذين يعتنقون عقيدة الإغريق) فهو كذبٌ منهم لتقوية قلوب جنودهم ، فقد رجعوا بالخيبة وبرسالة تهديد لملك فرنسا إن لم يطع ملك المغول ! واعترفوا بأن لويس التاسع ندم أشد الندم على إرساله رسلاً إلى قاآن المغول ! وهذا يدل على أن رسالة منكوقاآن الأولى لم تكن طلباً أو قبولاً بالتحالف معهم كما زعموا ، فهي كرسالته الثانية ليس إلا !

ولا يغرك زواج هولاكو من ابنة ملك الكرج ، فقد كانت مسلمة رحمها اللّه ! وكذا زواج آباقا بن هولاكو بابنة إمبراطور بيزنطة ميخائيل باليولوغ ! وقد تصور بعضهم أنها دفعته الى التحالف مع البيزنطيين والصليبيين للقضاء على المماليك في مصر !

فإن خطة المغول كانت التعاون مع كل الأقوام على العدو الفعلي المشترك ، ولم يكن من خطتهم التحالف مع أحد ! وقد كشفت الأحداث أن اتصال آباقا بالبابا كليمنضوس الرابع ، وتعاونه مع لاوون الثالث في حرب المماليك ، كان تعاوناً موضعياً ولم يكن تحالفاً . ولايتسع المجال لتفصيل ذلك .

4- (الْيَاسَة) شريعة المغول التي وضعها جنكيز خان

قال الذهبي في تاريخه:45/186: (جنكزخان ، طاغية التتار وملكهم الأول ، الذي خرب البلاد وأباد العباد ، وليس للتتار ذكر قبله ، وإنما كانوا ببادية الصين فملكوه عليهم وأطاعوه طاعة أصحاب نبي لنبي، بل طاعة العباد المخلصين لرب العالمين) !

وفي صبح الأعشى:4/314: (أما عقيدتهم فقد قال الصاحب علاء الدين بن عطاء ملك الجويني: إن الظاهر من عموم مذاهبهم الإدانة بوحدانية اللّه تعالى ، وأنه خلق السموات والأرض ، وأنه يحيي ويميت ويغني ويفقر ويعطي ويمنع ، وأنه على كل شئ قدير ، وإن منهم من دان باليهودية ، ومنهم من دان بالنصرانية ، ومنهم من اطَّرَحَ الجميع ، ومنهم من تقرَّب بالأصنام . قال: ومن عادة بني جنكزخان أن كل من انتحل منهم مذهباً لم ينكره الآخر عليه . ثم الذي كان عليه جنكزخان في التدين وجرى

ص: 17

عليه أعقابه بعده: الجريُ على منهاج يَاسَه التي قررها ، وهي قوانين خَمَّنَها من عقله وقرَّرها من ذهنه، رتَّب فيها أحكاماً وحدد فيها حدوداً ، بما وافق القليل منها الشريعة المحمدية، وأكثرها مخالف لذلك ، سماها الياسة الكبرى، وقد اكتتبها وأمر أن تجعل في خزانته ، تتوارث عنه في أعقابه ، وأن يتعلمها صغار أهل بيته .

منها: أن من زنى قتل، ومن أعان أحد خصمين على الآخر قتل ، ومن بال في الماء قتل ، ومن أعطي بضاعة فخسر ثم أعطي ثانياً فخسر ثم أعطي ثالثاً فخسر قتل، ومن وقع حمله أو قوسه فمر عليه غيره ولم ينزل لمساعدته قتل ، ومن وجد أسيراً أو هارباً أو عبداً ولم يرده قتل، ومن أطعم أسير قوم أو سقاه أو كساه بغير إذنهم قتل.. إلى غير ذلك من الأمور التي رتبها مما هم دائنون به إلى الآن ، وربما دان به من تحلى بحلية الإسلام من ملوكهم . ومن معتقدهم في ذبح الحيوان أن تُلَفُّ قوائمه ويشق جوفه ، ويدخل أحدهم يده إلى قلبه فيَمْرُسُه حتى يموت ، أو يُخرج قلبه ! ومن ذبح ذَبْحَةَ المسلمين ذُبح . والى الآن مازالت طريقة ذبحهم في منغوليا:

http://www.lahdah.com/vb/archive/index.php/t-13953.html

وأما عاداتهم في الأدب فكان من طريقة جنكزخان أن يعظم رؤساء كل ملة ويتخذ تعظيمهم وسيلة إلى اللّه تعالى ! ومن حال التتر في الجملة إسقاط المؤن والكلف عن العلويين ، وعن الفقهاء ، والفقراء ، والزهاد ، والمؤذنين ، والأطباء ، وأرباب العلوم على اختلافهم ، ومن جرى هذا المجرى .

ومن آدابهم المستعملة أن لا يأكل أحد من يد أحد طعاماً حتى يأكل المطعم منه ولو كان المطعم أميراً والآكل أسيراً ، ولا يختص أحد بالأكل وحده بل يطعم كل من وقع بصره عليه ، ولا يمتاز أمير بالشبع من الزاد دون أصحابه بل يقسمونه بالسوية ، ولا يخطوا أحد موقد نار ولا طبقاً رآه ، ومن اجتاز بقوم يأكلون فله أن يجلس إليهم ويأكل معهم من غير إذن ، وأن لا يدخل أحد يده في الماء ، بل يأخذ منه ملء فيه ويغسل يديه ووجهه ، ولا يبول أحد على الرماد .

ص: 18

ويقال إنهم كانوا لايرون غسل ثيابهم البتة ، ولا يميزون بين طاهر ونجس .

ومن طرائقهم أنهم لا يتعصبون لمذهب ولايتعرضون لمال ميت أصلاً ، ولو ترك ملء الأرض، ولا يدخلونه خزانة السلطان .

ومن عاداتهم أنهم لا يفخمون الألفاظ ولا يعظمون في الألقاب ، حتى يقال في مراسيم السلطان رسم القان بكذا ، من غير مزيد ألقاب .

وأما حالهم في طاعة ملكهم فإنهم من أعظم الأمم طاعة لسلاطينهم ، لا لمال ولا لجاه ، بل ذلك دأب لهم ، حتى إنه إذا كان أمير في غاية من القوة والعظمة وبينه وبين السلطان كما بين المشرق والمغرب ، متى أذنب ذنباً يوجب عقوبة وبعث السلطان إليه من أخس أصحابه من يأخذه بما يجب عليه ، ألقى نفسه بين يدي الرسول ذليلاً ليأخذه بموجب ذنبه ولو كان فيه القتل . ومن طريقة أمرائهم أنه لا يتردد أمير إلى باب أمير آخر، ولا يتغير عن موضعه المعين له ، فإن فعل ذلك عوقب أو قتل ، وإذا عرضوا آلات الحرب على أمرائهم وفوا في العرض حتى بالخيط والإبرة . ورعاياهم قائمون بما يلزمون به من جهة السلطان طيبة به نفوسهم . وإن غاب أحد من الرجال قام النساء بما عليهم) . انتهى.

وقال المقريزي في المواعظ والإعتبار/1445: (وشرَط أن لا يكون على أحد من وُلْد علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه مؤنةٌ ولا كلفة ، وأن لا يكون على أحد من الفقراء ولا القراء ولا الفقهاء ولا الأطباء ، ولا من عداهم من أرباب العلوم وأصحاب العبادة والزهد والمؤذنين ومغسلي الأموات كلفةٌ ولا مؤونة ، وشرَط تعظيم جميع الملل من غير تعصب لملة على أخرى) . انتهى.

أقول: اتفقت المصادر الأصلية التي روت نص الياسة على فقرة إعفاء الأولياء ورجال الدين وأشباههم من الضرائب ، وفي أولهم أبناء علي بن أبي طالب (عليه السلام) . وهذا يدل على نظرة جنكيز الإيجابية الى السادة أبناء علي (عليه السلام) وأنهم أولياء اللّه وليسوا من أجهزة الدولة ، وقد كان بعضهم يعيش في بلاد ما

ص: 19

وراء النهر ، المحاذية لبلاد المغول . وكان للمغول علاقة مع شيخ صوفي له نفوذٌ كبير في منطقة ما وراء النهر ، هو سعيد بن المطهر الباخرزي ، وكان يسكن بخارى ويعتقد به المسلمون ويحترمه التتار ومنهم جنكيز خان وابنه هولاكو ! وكذلك كانوا يحترمون تلميذه جد الجوينيين ، وقد اصطحب هولاكو أحدهم في غزوه لبغداد وجعله حاكم العراق . وسيأتي الحديث عن تشيع الجوينيين على يد نصير الدين رحمه الله علیه.

أما سبب وجود بعض الصفات الإنسانية في هولاكو وأمثاله من الطغاة ، فقد بينه الإمام الصادق (عليه السلام) فقال: (إن اللّه تبارك وتعالى أعار أعداءه أخلاقاً من أخلاق أوليائه ، ليعيش أولياؤه مع أعدائه في دولاتهم . وفي رواية: ولولا ذلك لما تركوا ولياً للّه إلا قتلوه ). (الكافي:2/101) .

**

ص: 20

5- أمير المؤمنين (عليه السلام) أخبر عن فتنة المغول !

(من كلام له (عليه السلام) يخبر به عن الملاحم...منها في وصف الترك المغول: (كأني أراهم قوماً كأن وجوههم المِجَانُّ المُطَرِّقة ، يلبسون السَّرَقَ والديباج ويَعْتَقِبون الخيل العتاق، ويكون هناك استحرارُ قتل حتى يمشى المجروح على المقتول ، ويكون المُفلت أقلَّ من المأسور ! فقال له بعض أصحابه: لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب ! فضحك وقال للرجل وكان كلبياً: يا أخا كلب ، ليس هو بعلم غيب ، وإنما هو تعلمٌ من ذي علم ، وإنما علم الغيب علم الساعة وما عدده اللّه سبحانه بقوله: إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ، فيعلم اللّه سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو أنثى ، وقبيح أو جميل وسخي أو بخيل ، وشقي أو سعيد ، ومن يكون النار حطباً أو في الجنان للنبيين مرافقاً، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلا اللّه وما سوى ذلك فعلمٌ علَّمَهُ اللّه نبيه (صلی الله عليه وآله وسلم) فعلمنيه، ودعا لي بأن يعيَه صدري ، وتَضْطَمَّ عليه جوانحي).

الشرح: المجان: جمع مجن بكسر الميم وهو الترس ، وإنما سمى مجناً لأنه يستتر به . والجنة: السترة والجمع جُنن ، يقال استجن بجنة أي استتر بسترة . والمطرقة بسكون الطاء التي قد أطرق بعضها إلى بعض أي ضمت طبقاتها فجعل بعضها يتلو بعضاً ، يقال: جاءت الإبل مطاريق أي يتلو بعضها بعضاً . والنعل المطرقة المخصوفة ، وأطرقت بالجلد والعصب أي ألبست ، وترس مطرق وطراق النعل: ما أطرقت وخرزت به . وريش طراق إذا كان بعضه فوق بعض ، وطارق الرجل بين الثوبين إذا لبس أحدهما على الآخر ، وكل هذا يرجع إلى مفهوم واحد وهو مظاهرة الشئ بعضه بعضاً . ويروى: المجان المطرَّقة بتشديد الراء أي كالترسة المتخذة من حديد مطرق بالمطرقة . والسَّرق: شقق الحرير وقيل لا تسمى سرقاً إلا

ص: 21

إذا كانت بيضاً الواحدة سرقة . ويعتقبون الخيل أي يجنبونها لينتقلوا من غيرها إليها . واستحرار القتل شدته ، استحر وحرَّ بمعنى ، قال ابن الزبعرى: حيث ألقت بقباء بركها واستحر القتل في عبد الأشل والمفلت: الهارب . واعلم أن هذا الغيب الذي أخبر عنه (عليه السلام) قد رأيناه نحن عياناً ووقع في زماننا وكان الناس ينتظرونه من أول الإسلام حتى ساقه القضاء والقدر إلى عصرنا ، وهم التتار الذين خرجوا من أقاصي المشرق حتى وردت خيلهم العراق والشام ، وفعلوا بملوك الخطا وقفجاق وببلاد ما وراء النهر وبخراسان وما والاها من بلاد العجم ما لم تحتو التواريخ منذ خلق اللّه تعالى آدم إلى عصرنا هذا على مثله ! فإن بابك الخرمي لم تكن نكايته وإن طالت مدته نحو عشرين سنة ، إلا في إقليم واحد وهو آذربيجان ، وهؤلاء دوخوا المشرق كله ، وتعدت نكايتهم إلى بلاد إرمينية وإلى الشام ، ووردت خيلهم إلى العراق ! وبخت نصر الذي قتل اليهود إنما أخرب بيت المقدس وقتل من كان بالشام من بني إسرائيل وأي نسبة بين من كان بالبيت المقدس من بني إسرائيل إلى البلاد والأمصار التي أخربها هؤلاء وإلى الناس الذين قتلوهم من المسلمين وغيرهم).(شرح نهج البلاغة:8/215).

أقول: هذه واحدة من معجزات كثيرة لأمير المؤمنين (عليه السلام) ، وعقيدتنا أن أوصياء النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) الإثني عشر: علي والحسن والحسين والتسعة من ذرية الحسين (عليهم السلام) ، يعلمون كثيراً من الغيب مما علمهم رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وأكرمهم به اللّه تعالى، ففي بصائر الدرجات/326،والخصال/644: أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال على منبر المدائن في حديث: (يا أيها الناس إن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أسرَّ إليَّ ألف حديث في كل حديث ألف باب لكل باب ألف مفتاح ، وإني سمعت اللّه جل جلاله يقول: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ، وإني أقسم لكم باللّه ليبعثن يوم القيامة ثمانية نفرٌ يدعون بإمامهم وهو ضبٌّ ولو شئت أن أسميهم لفعلت) ! انتهى.

فالأحاديث التي علمه إياها النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أو الموضوعات الأصلية:ألفٌ وفي كل

ص: 22

واحد منها ألف باب ولكل باب ألف مفتاح ! وكلها أصول وأسرارٌ لا يمكن للإنسان العادي أن يستوعبها أو يؤتمن عليها ثم لايسئ استعمالها ! فهذا المستوى من الإستيعاب والأمانة والتحمل لايتحقق إلا في أشخاص نادرين يكونون أهلاً لأن يصطفيهم اللّه تعالى ، فيطوِّر قدراتهم العقلية والنفسية لتلقي هذه العلوم ! ثم يجعل اللّه مع الواحد منهم ملائكة يحفظونه ويحفظون هذه الأسرار ، ليعيش حياته الطبيعية بالعلم الظاهري ويستعمل طرفاً من العلم اللدني في وقته المناسب ! وهذا معنى قوله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أحداً إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فإنه يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً.

فالمرتضى من ربه من رسول أو وصي يتحمل غيب اللّه تعالى ، ويخصص له اللّه ملائكةً يسددونه حتى لا يتضرر بالغيب الإلهي ولا يستعمله إلا في الغرض الصحيح ! وقد سأل حمران بن بكير الإمام الباقر (عليه السلام) عن الغيب في هذه الآية فأجابه: (إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فإنه يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً، وكان واللّه محمدٌ ممن ارتضى. وأما قوله: عَالِمُ الغَيْب ، فإن اللّه تبارك وتعالى عالم بما غاب عن خلقه فما يقدِّر من شئ ويقضيه في علمه قبل أن يخلقه وقبل أن يقضيه إلى الملائكة ، فذلك يا حمران علمٌ موقوف عنده إليه فيه المشية فيقضيه إذا أراد ، ويبدو له فيه فلا يمضيه . فأما العلم الذي يُقَدِّرُهُ اللّه ويُمضيه فهو العلم الذي انتهى إلى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ثم إلينا).(بصائر الدرجات/133) .

ولهذا يصف الإمام الباقر (عليه السلام) ضحالة مصادر علماء السلطة فيقول: (يَمُصُّونَ الثَّماد ويَدَعُونَ النهر العظيم ! قيل له: وما النهر العظيم؟ قال: رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ! إن اللّه عز وجل جمع لمحمد سنن النبيين من آدم وهلمَّ جرَّاً إلى محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) . قيل له: وما تلك السنن؟قال:علم النبيين بأسره ! وإن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) صيَّر ذلك كله

ص: 23

عند أمير المؤمنين (عليه السلام) . فقال له رجل: يا ابن رسول اللّه فأمير المؤمنين أعلم أم بعض النبيين؟ فقال أبو جعفر:إسمعوا ما يقول إن اللّه يفتح مسامع من يشاء ! إني حدثته أن اللّه جمع لمحمد (صلی الله عليه وآله وسلم) علم النبيين وأنه جمع ذلك كله عند أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وهو يسألني: أهو أعلم أم بعض النبيين (عليهم السلام) )؟! (الكافي:1/222) .

وفي الكافي:1/224:(قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) :إن أول وصي كان على وجه الأرض هبة اللّه بن آدم، وما من نبي مضى إلا وله وصي ، وكان جميع الأنبياء مائة ألف نبي وعشرين ألف نبي ، منهم خمسة أولو العزم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (عليهم السلام) . وإن علي بن أبي طالب كان هبة اللّه لمحمد وورثَ علم الأوصياء وعلم من كان قبله . أمَا إن محمداً ورث علم من كان قبله من الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام) ). انتهى.

**

ص: 24

6- حملة المغول الأولى

اشارة

كانت حملة المغول الأولى سنة616، بقيادة جنكيز خان: (فسار إلى بلاد تركستان وما وراء النهر وملكها من أيدي الخطا ، ثم حارب خوارزم شاه إلى أن غلبه على ما في يده من خراسان وبلاد الجبل ، ثم تخطى أرانيه فملكها ، ثم ساروا إلى بلاد شروان وبلد اللان واللكز فاستولوا على الأمم المختلفة بتلك الأصقاع ، ثم ملكوا بلاد قنجاق ، وسارت طائفة أخرى إلى غزنة وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان ، فملكوا ذلك كله في سنة أو نحوها ، وفعلوا من العيث والقتل والنهب ما لم يسمع بمثله في غابر الأزمان ).(تاريخ ابن خلدون:3/534).

وقد وصف ابن كثير فعلهم في بخارى بعد أن هزموا الجيش المدافع عنها ، قال: (فاصطفى أموال تجارها وأحلها لجنده ، فقتلوا من أهلها خلقاً لا يعلمهم إلا اللّه عز وجل ، وأسروا الذرية والنساء وفعلوا معهن الفواحش بحضرة أهليهن ، فمن الناس من قاتل دون حريمه حتى قتل ، ومنهم من أسر فعذب بأنواع العذاب ، وكثر البكاء والضجيج بالبلد من النساء والأطفال والرجال ، ثم ألقت التتار النار في دور بخارى ومدارسها ومساجدها ، فاحترقت حتى صارت بلاقع خاوية على عروشها ، ثم كروا راجعين عنها قاصدين سمرقند) ! (النهاية:13/99) .

سلطان سلاطين الخلافة يموت من الخوف !

كان سلطان سلاطين البلاد الإسلامية محمد خوارزم شاه ، وكانت بيده إمكانات دول وجيوشها ، لكنه أصيب بالذعر من هلاكو فهرب أمامه من بلد الى بلد حتى وصل الى البحر أو الهند ، وهلك وانقطعت إخباره ؟!

قال عنه الذهبي في سيره:22/224: (وكان خوارزم شاه محمد قد عظم جداً ، ودانت له الأمم ، وتحت يده ملوك وأقاليم) .

ص: 25

وقال عنه السبكي في الطبقات:1/329: ( وأما خوارزمشاه فكان سعده قد تكامل ورأى من العظمة ما لم يعهد مثله لملك من زمن مديد وطالت مدته... ملك(بلاد) الخطا ، وما وراء النهر وخوارزم وأصفهان ومازندران وكرمان ومنجان وكش وجكان والغور وغزنة وأميان وأترار وأذربيجان إلى ما يليها من الهند وبلاد الترك ، وجميع ما وراء النهر إلى أطراف الصين ، وخطب له على منابر دربند شروان وبلاد خراسان وعراق العجم وغيرها من الأقاليم المتسعة والمدن الشاسعة ، مع المكنة الزائدة ، وطول المدة... وقيل إنهم وجدوا في خزانة من خزائنه عشرة الآف ألف دينار ، وألف حمل من الأطلس).انتهى.

(وهزموا خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش، فلحق بجزيرة في بحر طبرستان فامتنع بها إلى أن مات). (تاريخ ابن خلدون:3/534).

وقال في الكامل:12/361: (عمد جنكزخان لعنه اللّه وسيَّر عشرين ألف فارس وقال لهم: أطلبوا خوارزمشاه أين كان ، ولو تعلق بالسماء ، حتى تدركوه وتأخذوه ! ).

وقال الذهبي في سيره:22/238: (ثم جهز جنكزخان خلف خوارزم شاه فعبروا جيحون خوضاً وسباحة ، فانهزم منهم وهم وراءه ثم عطفوا فأخذوا الريّ ، ومازندران ، وظفروا بأم خوارزم شاه ومعها خزائنه ، فأسروها).

وفي طبقات الشافعية:1/337: (فرأوا في الطريق أم السلطان خوارزمشاه ، وكانت قد سمعت بهزيمة ابنها وهي في خوارزم ، وخوارزم دار ممكتهم العظمى ، فأخرجت من الحبس عشرين سلطاناً كانوا في سجن ولدها وقتلتهم ، وأودعت بعض القلاع من الأموال ما لايدرك كثرةً ، ثم سارت فرأوها ومعها من الأموال والجواهر والنفائس ما لا يعد كثرةً ، فاستأصلوا ذلك كله) ! وفي سير الذهبي:22/143: (فمن ألقابها: عصمة الدنيا والدين، ألغ تركان، سيدة نساء العالمين، وكانت سفاكة للدماء ، وهي من بنات ملوك الترك ، ولها من الأموال والجواهر ما يقصر الوصف عنه، فأخذت التتار الجميع ومما أخذوا لابنها صندوقين كان هو يقول: فيهما ما يساوي خراج الأرض) .

وفي سير الذهبي:22/233: (ودخلت سنة616 ، وما زال أمر خوارزم شاه في إدبار

ص: 26

وسعده في سفال وملكه في زوال ، وهو في تقهقر واندفاع ، إلى أن قارب همذان وتفرق عنه جمعه حتى بقي في عشرين ألفاً ، فما بلع ريقه إلا وطلائع المُغُل قد أظلته وأحدقوا به(وكانوا عشرين ألفاً بقدر جيشه !) فنجا بنفسه واستحر القتل بجنده وفرَّ إلى الجبل ثم إلى مازندران ، ونزل بمسجد على حافة البحر يصلي بجماعة ويتلو ويبكي ، ثم بعد أيام كبسه العدو فهرب في مركب صغير فوصل إليه نشابهم وخاض وراءه طائفة فبقي في لجة ، ومرض بذات الجنب فقال: سبحان اللّه ما بقي لنا من مملكتنا قدر ذراعين ندفن فيها ! فوصل إلى جزيرة فأقام بها طريداً وحيداً مجهوداً ، ومات فكفنه فراشه في عمامته سنة سبع عشرة وست مئة). انتهى.

ومعناه أن ذلك كان قبل غزو المغول لبغداد بتسع وأربعين سنة !

وفي شرح نهج البلاغة:8/227: (فكان كلما رحل عن منزل نزله التتار ، حتى وصل إلى بحر طبرستان فنزل هو وأصحابه في سفن ووصل التتار ، فلما عرفوا نزوله البحر رجعوا وأيسوا منه... ثم اختُلف في أمر خوارزم شاه ، فقومٌ يَحْكُون أنه أقام بقلعة له في بحر طبرستان منيعة فتوفي بها ، وقومٌ يحكون أنه غرق في البحر ، وقومٌ يحكون أنه غرق ونجا عرياناً فصعد إلى قرية من قرى طبرستان ، فعرفه أهلها فجاءوا وقبلوا الأرض بين يديه، وأعلموا عاملهم به فجاء إليه وخدمه، فقال له خوارزم شاه: إحملني في مركب إلى الهند، فحمله إلى شمس الدين أنليمش ملك الهند وهو نسيبه من جهة زوجته والدة منكبوني بن خوارزم شاه الملك جلال الدين ، فإنها هندية من أهل بيت الملك ، فيقال إنه وصل إلى أنليمش وقد تغير عقله مما اعتراه من خوف التتار ، أو لأمر سلطه اللّه تعالى عليه ، فكان يهذي بالتتار بكرةً وعشياً) !!

7- شملت حملتهم دول القفقاز وروسيا وشرق أوروبا

روت مصادر التاريخ إخبار غزو جيش جنكيز لأرمينية والقفقاز وجورجيا وبلغاريا وبولنا والمجر وروسيا ! وهذه بعض نصوصها:

ص: 27

في كامل ابن الأثير:12/383: (لما فرغ التتر من بلاد المسلمين بأذربيجان وأران بعضه بالملك وبعضه بالصلح ، ساروا إلى بلاد الكرج من هذه الأعمال أيضاً ، وكان الكرج قد أعدوا لهم واستعدوا وسيروا جيشاً كثيراً إلى طرف بلادهم ليمنعوا التتر عنها ، فوصل إليهم التتر فالتقوا فلم يثبت الكرج بل ولوا منهزمين ، فأخذهم السيف فلم يسلم منهم إلا الشريد . ولقد بلغني أنهم قتل منهم نحو ثلاثين ألفاً ، ونهبوا ما وصلوا اليه من بلادهم وخربوها ، وفعلوا بها ما هو عادتهم ، فلما وصل المنهزمون إلى تفليس وبها ملكهم جمع جموعاً أخرى وسيرهم إلى التتر أيضاً ليمنعوهم من توسط بلادهم، فرأوا التتر وقد دخلوا البلاد لم يمنعهم جبل ولا مضيق ولا غير ذلك! فلما رأوا فعلهم عادوا إلى تفليس فأخلوا البلاد ! ففعل التتر فيها ما أرادوا من النهب والقتل والتخريب، ورأوا بلاداً كثيرة المضايق والدربندات فلم يتجاسروا على الوغول فيها فعادوا عنها . وداخل الكرج منهم خوف عظيم حتى سمعت عن بعض أكابر الكرج وكان قدم رسولاً أنه قال: من حدثكم أن التتر انهزموا وأُسروا فلا تصدقوه ! وإذا حدثتم أنهم قُتلوا فصدقوا، فإن القوم لا يفرون أبداً ولقد أخذنا أسيراً منهم فألقى نفسه من الدابة وضرب رأسه بالحجر إلى أن مات ، ولم يسلم نفسه للأسَرة !

لما عاد التتر من بلد الكرج قصدوا دربند شروان فحصروا مدينة شماخي وقاتلوا أهلها فصبروا على الحصر ، ثم إن التتر صعدوا سورها بالسلاليم...

فملك التتر البلد وقتلوا فيه فأكثروا ونهبوا الأموال فاحتازوها ، فلما فرغوا منه أرادوا عبور الدربند فلم يقدروا على ذلك فأرسلوا رسولاً إلى شروان شاه ملك دربند شروان يقولون له ليرسل إليهم رسولاً يسعى بينهم في الصلح ، فأرسل عشرة رجال من أعيان أصحابه فأخذوا أحدهم فقتلوه ثم قالوا للباقين: إن أنتم عرفتمونا طريقاً نعبر فيه فلكم الأمان ، وإن لم تفعلوا قتلناكم كما قتلنا هذا ! فقالوا لهم إن هذا الدربند ليس فيه طريق البتة ، ولكن فيه موضع هو أسهل ما فيه من الطرق ، فساروا معهم إلى ذلك الطريق ، فعبروا فيه وخلفوهم وراء ظهورهم..

ص: 28

لما عبر التتر دربند شروان ساروا في تلك الأعمال وفيها أمم كثيرة منهم اللان واللكز وطوائف من الترك ، فنهبوها وقتلوا من اللكز كثيراً وهم مسلمون وكفار وأوقعوا بمن عداهم من أهل تلك البلاد ، ووصلوا إلى اللان وهم أممٌ كثيرة وقد بلغهم خبرهم فجدوا وجمعوا عندهم جمعاً من قفجاق فقاتلوهم فلم تظفر إحدى الطائفتين بالأخرى ، فأرسل التتر إلى قفجاق يقولون نحن وأنتم جنس واحد وهؤلاء اللان ليسوا منكم حتى تنصروهم ولادينكم مثل دينهم، ونحن نعاهدكم أننا لا نعترض إليكم ونحمل إليكم من الأموال والثياب ما شئتم وتتركون بيننا وبينهم . فاستقر الأمر بينهم على مال حملوه وثياب وغير ذلك فحملوا إليهم ما استقر ، وفارقهم قفجاق فأوقع التتر باللان فقتلوا منهم وأكثروا ونهبوا وسبوا ، وساروا إلى قفجاق وهم آمنون متفرقون لما استقر بينهم من الصلح فلم يسمعوا بهم إلا وقد طرقوهم ودخلوا بلادهم فأوقعوا بهم الأول فالأول ، وأخذوا منهم أضعاف ما حملوا إليهم ! وسمع من كان بعيد الدار من قفجاق الخبر ففروا من غير قتال وأبعدوا ، وبعضهم اعتصم بالغياض وبعضهم بالجبال ، وبعضهم لحق ببلاد الروس !

وأقام التتر في بلاد قفجاق وهي أرض كثيرة المراعي في الشتاء والصيف ، وفيها أماكن باردة في الصيف كثيرة المرعى، وأماكن حارة في الشتاء كثيرة المرعى، وهي غياض على ساحل البحر ، ووصلوا إلى مدينة سوادق وهي مدينة قفجاق التي منها مادتهم فإنها على بحر الخزر ، والمراكب تصل إليها وفيها الثياب فتشترى منهم وتباع عليهم الجواري والمماليك والبرطاسي والقندر والسنجاب ، وغير ذلك مما هو في بلادهم ، وبحر خزرية هذا بحر متصل بخليج القسطنطينية .

لما استولى التتر على أرض قفجاق كما ذكرنا سار طائفة كثيرة منهم إلى بلاد الروس ، وهي بلاد كثيرة طويلة عريضة تجاورهم ، وأهلها يدينون بالنصرانية فلما وصلوا إليهم اجتمعوا كلهم واتفقت كلمتهم على قتال التتر إن قصدوهم وأقام التتر بأرض قفجاق مدة ، ثم إنهم ساروا سنة عشرين وستمائة إلى بلاد الروس فسمع

ص: 29

الروس وقفجاق خبرهم وكانوا مستعدين لقتالهم ، فساروا إلى طريق التتر ليلقوهم قبل أن يصلوا إلى بلادهم ليمنعوهم عنها ، فبلغ مسيرهم التتر فعادوا على أعقابهم راجعين فطمع الروس وقفجاق فيهم ، وظنوا أنهم عادوا خوفاً منهم وعجزاً عن قتالهم فجدُّوا في اتِّباعهم ولم يزل التتر راجعين وأولئك يَقْفُون أثرَهم اثني عشر يوماً ! ثم إن التتر عطفوا على الروس وقفجاق فلم يشعروا بهم إلا وقد لقوهم على غرة منهم ، لأنهم كانوا قد أمنوا التتر واستشعروا القدرة عليهم فلم يجتمعوا للقتال إلا وقد بلغ التتر منهم مبلغاً عظيماً ، فصبر الطائفتان صبراً لم يسمع بمثله ، ودام القتال بينهم عدة أيام ثم إن التتر ظفروا واستظهروا فانهزم قفجاق والروس هزيمة عظيمة بعد أن أثخن فيهم التتر وكثر القتل في المنهزمين فلم يسلم منهم إلا القليل ، ونهب جميع ما معهم ومن سلم وصل إلى البلاد على أقبح صورة لبعد الطريق والهزيمة ، وتبعهم كثير يقتلون وينهبون ويخربون البلاد حتى خلا أكثرها ، فاجتمع كثير من أعيان تجار الروس وأغنيائهم وحملوا ما يعز عليهم وساروا يقطعون البحر إلى بلاد الإسلام...

لما فعل التتر بالروس ما ذكرناه ونهبوا بلادهم ، عادوا عنها وقصدوا بلغار أواخر سنة عشرين وستمائة ، فلما سمع أهل بلغار بقربهم منهم كمنوا لهم في عدة مواضع وخرجوا إليهم فلقوهم واستجروهم إلى أن جاوزوا موضع الكمناء ، فخرجوا عليهم من وراء ظهورهم ، فبقوا في الوسط وأخذهم السيف من كل ناحية فقتل أكثرهم ولم ينج منهم إلا القليل ! قيل كانوا نحو أربعة آلاف رجل فساروا إلى سقين عائدين إلى ملكهم جنكزخان . وخلت أرض قفجاق منهم فعاد من سلم منهم إلى بلادهم ، وكان الطريق منقطعاً مذ دخلها التتر ، فلم يصل منهم شئ من البرطاسي والسنجاب والقندر وغيرها مما يحمل من تلك البلاد ، فلما فارقوها عادوا إلى بلادهم واتصلت الطريق ، وحملت الأمتعة كما كانت...). وفي سير الذهبي:22/242:(وفي العام(620)كانت الوقعة بين التتار الداخلين من الدربند وبين القفجاق والروس، وصبروا أياماً ثم استحر القتل بالروس والقفجاق..وفيها رجعت التتار من بلاد القفجاق فاستباحوا الري وساوه وقم).

ص: 30

8- نماذج من قسوة المغول ووحشيتهم !

يتعجب الإنسان من سرعة هذه الحملة الكاسحة رغم بُعد المناطق التي شملتها ووعورة طرقها وإحكام حصونها ودفاع أهلها عنها، وكان أحياناً دفاعاً قوياً مستميتاً ! لكن يبطل العجب عندما يقرأ حالة الرعب العامة التي أصابت الشعوب والحكام والجيوش والشعوب من مجرد إسم.. المغول ! وقد تعمد قادة المغول إطلاق غرائز جنودهم الوحشية لتخويف الشعوب منهم ! وهذه فقرات تصف وحشيتهم من تاريخ ابن الأثير المعاصر لغزوهم ، قال في:12/358 وبعدها:

(فلو قال قائل إن العالم مذ خلق اللّه سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقاً ، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها ! ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله بختنصر ببني إسرائيل من القتل وتخريب البيت المقدس ، وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس ؟! وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قتلوا ؟! فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل !

وأما الدجال فإنه يُبقي على من اتبعه ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد بل قتلوا النساء والرجال والأطفال ، وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنَّة ، فإنا للّه وإنا اليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم....

ثم قصدوا بلاد قفجاق وهم من أكثر الترك عدداً فقتلوا كل من وقف لهم فهرب الباقون إلى الغياض ورؤوس الجبال وفارقوا بلادهم ، واستولى هؤلاء التتر عليها فعلوا هذا في أسرع زمان ، لم يلبثوا إلا بمقدار مسيرهم لا غير .

ومضى طائفة أخرى غير هذه الطائفة إلى غزنة وأعمالها وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان ، ففعلوا فيها مثل فعل هؤلاء وأشد! هذا ما لم يطرق الأسماع مثله فإن الإسكندر الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا ، لم يملكها

ص: 31

في هذه السرعة إنما ملكها في نحو عشر سنين ، ولم يقتل أحداً إنما رضي من الناس بالطاعة ، وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأحسنه وأكثره عمارة وأهلاً وأعدل أهل الأرض أخلاقاً وسيرةً ، في نحو سنة ! ولم يبق أحد من البلاد التي لم يطرقوها إلا وهو خائف يتوقعهم ويترقب وصولهم إليه...

ثم إنهم لايحتاجون إلى ميرة ومدد يأتيهم ! فإنهم معهم الأغنام والبقر والخيل وغير ذلك من الدواب يأكلون لحومها لا غير ، وأما دوابهم التي يركبونها فإنها تحفر الأرض بحوافرها وتأكل عروق النبات لاتعرف الشعير ! فهم إذا نزلوا منزلاً لا يحتاجون إلى شئ من خارجه ! وأما ديانتهم فإنهم يسجدون للشمس عند طلوعها ، ولا يحرمون شيئاً فإنهم يأكلون جميع الدواب حتى الكلاب والخنازير وغيرها ، ولا يعرفون نكاحاً بل المرأة يأتيها غير واحد من الرجال ، فإذا جاء الولد لا يعرف أباه !

ودخل جنكزخان بنفسه وأحاط بالقلعة ونادى في البلد بأن لايتخلف أحد ومن تخلف قتل ، فحضروا جميعهم... ثم أمرهم بالخروج من البلد فخرجوا من البلد مجردين من أموالهم ليس مع أحد منهم غير ثيابه التي عليه ودخل الكفار البلد فنهبوه وقتلوا من وجدوا فيه وأحاط بالمسلمين فأمر أصحابه أن يقتسموهم فاقتسموهم . وكان يوماً عظيماً من كثرة البكاء من الرجال والنساء والولدان ، تفرقوا أيدي سبا وتمزقوا كل ممزق! واقتسموا النساء أيضاً وأصبحت بخارى خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس وارتكبوا من النساء العظيم والناس ينظرون ويبكون ولا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم شيئاً مما نزل بهم ! فمنعهم من لم يرض بذلك واختار الموت على ذلك ، فقاتل حتى قتل ! واستصحبوا معهم من سلم من أهل بخارى أسارى فساروا بهم مشاة على أقبح صورة ، فكل من أعيا وعجز عن المشي قتل ! فلما قاربوا سمرقند قدموا الخيالة وتركوا الرجالة والأسارى والأثقال وراءهم حتى تقدموا شيئاً فشيئاً ليكون أرعب لقلوب المسلمين ، فلما رأى أهل البلد سوادهم استعظموه... وأحاطوا بالبلد وفيه خمسون ألف مقاتل من الخوارزمية وأما عامة البلد فلا يحصون

ص: 32

كثرة ، فخرج إليهم شجعان أهله وأهل الجلد والقوة رجاله ، ولم يخرج معهم من العسكر الخوارزمي أحد لما في قلوبهم من خوف هؤلاء الملاعين ! فقاتلهم الرجالة بظاهر البلد فلم يزل التتر يتأخرون وأهل البلد يتبعوهم ويطمعون فيهم وكان الكفار قد كمنوا لهم كميناً فلما جاوزوا الكمين خرجوا عليهم...فلما كان اليوم الرابع نادوا في البلد(سمرقند)أن يخرج أهله جميعهم ومن تأخر قتلوه ، فخرج جميع الرجال والنساء والصبيان ففعلوا مع أهل بخارى من النهب والقتل والسبي والفساد ، ودخلوا البلد فنهبوا ما فيه ، وأحرقوا الجامع وتركوا باقي البلد على حاله وافتضوا الأبكار ، وعذبوا الناس بأنواع العذاب في طلب المال ، وقتلوا من لم يصلح للسبي ، وكان ذلك في المحرم سنة سبع عشرة وستمائة....

فوصلوا إلى الريّ على حين غفلة من أهلها فلم يشعروا إلا وقد وصلوا إليها وملكوها ونهبوها وسبوا الحريم واسترقوا الأطفال وفعلوا الأفعال التي لم يسمع بمثلها ولم يُقيموا ومضوا مسرعين في طلب خوارزمشاه فنهبوا في طريقهم كل مدينة وقرية مروا عليها... ثم وصلوا إلى قزوين فاعتصم أهلها منهم بمدينتهم فقاتلوهم وجدُّوا في قتالهم ودخلوها عنوة بالسيف فاقتتلوا هم وأهل البلد في باطنه حتى صاروا يقتتلون بالسكاكين فقتل من الفريقين ما لايحصى ! ثم فارقوا قزوين فعُدَّ القتلى من أهل قزوين فزادوا على أربعين ألف قتيل....

فلما حصروها(مراغة)قاتلهمأهلها فنصبوا عليها المجانيق وزحفوا إليها وكانت عادتهم إذا قاتلوا مدينة قدموا من معهم من أسارى المسلمين بين أيديهم يزحفون ويقاتلون فإن عادوا قتلوا ، فكانوا يقاتلون كرهاً وهم المساكين كما قيل"كالأشقر إن تقدم ينحر وإن تأخر يعقر ! وكانوا هم يقاتلون وراء المسلمين فيكون القتل في المسلمين الأسارى وهم بنَجْوَة منه ! فأقاموا عليها عدة أيام ثم ملكوا المدينة عنوة وقهراً رابع صفر ووضعوا السيف في أهلها ، فقتل منهم ما يخرج عن الحد والإحصاء ونهبوا كل ما يصلح لهم وما لايصلح لهم أحرقوه ، واختفى بعض الناس منهم فكانوا

ص: 33

يأخذون الأسارى ويقولون لهم نادوا في الدروب إن التتر قد رحلوا ! فإذا نادى أولئك خرج من اختفى فيؤخذ ويقتل !

وبلغني أن امرأة من التتر دخلت داراً وقتلت جماعة من أهلها وهم يظنونها رجلاً فوضعت السلاح فإذا هي امرأة فقتلها رجل أخذته أسيراً !

وسمعت من بعض أهلها أن رجلاً من التتر دخل داراً فيه مائة رجل فما زال يقتلهم واحداً واحداً حتى أفناهم ، ولم يمد أحد يده اليه بسوء ! ووضعت الذلة على الناس فلا يدفعون عن نفوسهم قليلاً ولا كثيراً ، نعوذ باللّه من الخذلان !

ثم رحلوا عنها نحو مدينة إربل، ووصل الخبر إلينا بذلك بالموصل فخفنا... وكانت الأقوات متعذرة في تلك البلاد جميعها لخرابها وقتل أهلها وجلاء من سلم منهم ، فلا يقدر أحد على الطعام إلا قليلاً ، وأما التتر فلا يبالون لعدم الأقوات لأنهم لا يأكلون إلا اللحم ولا تأكل دوابهم إلا نبات الأرض ، حتى إنها تحفر بحوافرها الأرض عن عروق النبات فتأكلها ! وقوي التتر على المسلمين(في أربيل)فأفنوهم قتلاً ولم يسلم إلا من كان عمل له نفقاً يختفي فيه ! وبقي القتل في المسلمين عدة أيام ثم ألقوا النار في البلد فأحرقوه...

ثم إنهم ملكوا البلد(بيلقان)عنوةً في شهر رمضان سنة ثمان عشرة وستمائة ووضعوا السيف فلم يبقوا على صغير ولا كبير ولا امرأة ! حتى إنهم يشقون بطون الحبالى ويقتلون الأجنة ! وكانوا يفجرون بالمرأة ثم يقتلونها !

وكان الإنسان منهم يدخل الدرب فيه الجماعة فيقتلهم واحداً بعد واحد ، حتى يفرغ من الجميع ، لا يمد أحد منهم اليه يداً ) !

وقال في الكامل:12/386: ( ولما وصل التتر إلى سوادق ملكوها وتفرق أهلها منها فبعضهم صعد الجبال بأهله وماله، وبعضهم ركب البحر وسار إلى بلاد الروم التي بيد المسلمين من أولاد قلج أرسلان...تقدموا إلى مرو وحصروها... قبض(هولاكو) عليهم وعلى أميرهم وكتفوهم، فلما فرغ منهم قال لهم: أكتبوا لي تجار البلد ورؤسائه

ص: 34

وأرباب الأموال في جريدة ، واكتبوا لي أرباب الصناعات والحرف في نسخة أخرى واعرضوا ذلك علينا ففعلوا ما أمرهم ، فلما وقف على النسخ أمر أن يخرج أهل البلد منه بأهلهم فخرجوا كلهم ولم يبق فيه أحد ، فجلس على كرسي من ذهب وأمر أن يحضر أولئك الأجناد الذين قبض عليهم ، فأحضروا وضربت رقابهم صبراً والناس ينظرون إليهم ويبكون ! وأما العامة فإنهم قُسِّموا الرجال والنساء والأطفال فكان يوماً مشهوداً من كثرة الصراخ والبكاء والعويل ! وأخذوا أرباب الأموال فضربوهم وعذبوهم بأنواع العقوبات في طلب الأموال فربما مات أحدهم من شدة الضرب ، ولم يكن بقي له ما يفتدي به نفسه !

ثم إنهم أحرقوا البلد وأحرقوا تربة السلطان سنجر ونبشوا القبر طلباً للمال ، فبقوا كذلك ثلاثة أيام ، فلما كان اليوم الرابع أمر بقتل أهل البلد كافة وقال: هؤلاء عصوا علينا ، فقتلوهم أجمعين ! فكانوا نحو سبعمائة ألف قتيل ! ثم ساروا إلى نيسابور فحصروها خمسة أيام وبها جمع صالح من العسكر الإسلامي فلم يكن لهم بالتتر قوة فملكوا المدينة وأخرجوا أهلها إلى الصحراء فقتلوهم وسبوا حريمهم ، وعاقبوا من اتهموه بمال كما فعلوا بمرو، وأقاموا خمسة عشر يوماً يخربون ويفتشون المنازل...

وكانوا لما قتلوا أهل مرو قيل لهم إن قتلاهم سلم منهم كثير ونجوا إلى بلاد الإسلام فأمروا بأهل نيسابور أن تقطع رؤوسهم لئلا يسلم من القتل أحد ! فلما فرغوا من ذلك سيروا طائفة منهم إلى طوس ففعلوا بها كذلك أيضاً وخربوها وخربوا المشهد الذي فيه الإمام علي بن موسى الرضا والرشيد حتى جعلوا الجميع خراباً ).

وقال في:12/394 ، عن فعلهم في خوارزم: (حتى ملكوا البلد جميعه، وقتلوا كل من فيه ونهبوا كل ما فيه ، ثم إنهم فتحوا السكر الذي يمنع ماء جيحون عن البلد فدخله الماء فغرق البلد جميعه وتهدمت الأبنية وبقي موضعه ماء ، ولم يسلم من أهله أحد البتة ، فإن غيره من البلاد قد كان يسلم بعض أهله منهم من يختفي ومنهم من يهرب ومنهم من يخرج ثم يَسلم ، ومنهم من يلقي نفسه بين القتلى فينجو وأما أهل خوارزم

ص: 35

فمن اختفى من التتر غرفه الماء أو قتله الهدم فأصبحت خرابا يباباً).

وفي الكامل:12/397: (فلما كان الغد عاد الكفار إلى غزنة وقد قويت نفوسهم بعبور المسلمين الماء إلى جهة الهند وبعدهم ، فلما وصلوا إليها ملكوها لوقتها لخلوها من العساكر والمحامي ! فقتلوا أهلها ونهبوا الأموال وسبوا الحريم ولم يبق أحد ، وخربوها وأحرقوها وفعلوا بسوادها كذلك نهبوا وقتلوا وأحرقوا ، فأصبحت تلك الأعمال جميعها خالية من الأنيس خاوية على عروشها ، كأن لم تغن بالأمس !

ومضى طائفة منهم على طريق الموصل فوصلوا إلى قرية تسمى المؤنسة وهي على مرحلة من نصيبين بينها وبين الموصل فنهبوها ، واحتمى أهلها وغيرهم بخان فيها فقتلوا كل من فيه ! وحكي لي عن رجل منهم أنه قال اختفيت منهم ببيت فيه تبن فلم يظفروا بي وكنت أراهم من نافذة في البيت ، فكانوا إذا أرادوا قتل إنسان فيقول لا باللّه ، فيقتلونه ، فلما فرغوا من القرية ونهبوا ما فيها وسبوا الحريم رأيتهم وهم يلعبون على الخيل ويضحكون ، ويُغَنُّون بلغتهم بقول: لا باللّه) !

وفي الكامل:12/501: (ولقد بلغني أن إنساناً منهم أخذ رجلاً ولم يكن مع التتري ما يقتله به فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح ، فوضع رأسه على الأرض ومضى التتري وأحضر سيفاً فقتله به ! وحكى لي رجل قال: كنت أنا ومعي سبعة عشر رجلاً في طريق فجاءنا فارس من التتر وقال لنا حتى يكتف بعضنا بعضاً ، فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم فقلت لهم هذا واحد فلم لا نقتله ونهرب؟ فقالوا: نخاف ! فقلت هذا يريد قتلكم الساعة فنحن نقتله فلعل اللّه يخلصنا ، فواللّه ما جسر أحد يفعل ذلك فأخذت سكيناً وقتلته وهربنا فنجونا ! وأمثال هذا كثير) .

وفي سير الذهبي:22/239: (وقال الموفق عبد اللطيف: قصدت فرقةٌ أذربيجان وأران والكرج ، وفرقةٌ همذان وأصبهان وخالطت حلوان قاصدة بغداد ، وماجوا في الدنيا بالإفساد ! إلى أن قال: وعبروا إلى أمم القفجاق واللان فغسلوهم بالسيف، وخرج من رقيق الترك خلق حتى فاضوا على البلاد .

ص: 36

وأما الخليفة فإنه جمع الجموع وجيَّشَ الجيوش وحشر فنادى ! وأتته البعوث من كل حدب ينسلون ! ولما جاء رسول التتار احتفل الجيش وبالغوا ، حتى امتلأ قلبه رعباً ودماغه خيالاً فرجع مخبراً...! ومتى التمس الشخص رحمتهم ازدادوا عتواً ، وإذا اجتمعوا على خمر أحضروا أسارى ويمثلون بهم بأن يقطعوا أعضاءهم فكلما صاح ضحكوا ، نسأل اللّه العافية . وقد جمع فيهم من كل وحش ردئ خلقه). انتهى.

9- بركة خان المغولي الذي ضخموه !

اشارة

من الأمور الملفتة في تاريخ المغول أن أتباع الخلافة ضخموا شخصين هما الباخرزي الصوفي، وسيأتي ذكره في الحديث عن الجوينيين. والثاني: بركة خان بن توشي خان بن جنكيز خان ، فقالوا إنه أسلم على يد الباخرزي وأسلمت مملكته وأقام شعائر الإسلام ، وأنه مع الباخرزي نهيا هولاكو عن عزمه على احتلال بغداد وقتل الخليفة ، فتأخر بسبب ذلك سنتين !

وكثرت رواياتهم عن(فضائل) بركة خان ، ومراسلاته وهداياه المتبادلة مع الخليفة ومع سلطان مصر بيبرس ، وصوروا حربه مع هولاكو بأنها كانت بتحريك سلاطين المسلمين! وأكثر من بالغ في أمر بركة القلقشندي في مآثر الخلافة ، والعيني في عقد الجمان ، وابن خلدون:5/529 . وقال الذهبي في تاريخه:49/189: (بركة بن توشي بن جنكز خان المغلي ، ملك القفجاق وصحراء سوداق ، وهي مملكة متسعة مسيرة أربعة أشهر وأكثرها براري ومروج ، وبينها وبين أذربيجان باب الحديد في الدربند المعروف... وكان قد أسلم وكاتب الملك الظاهر... وله عساكر عظيمة ومملكة تفوق مملكة هولاكو من بعض الوجوه ، وكان يعظم العلماء ويعتقد في الصالحين ولهم حرمة عنده . من أعظم الأسباب لوقوع الحرب بينه وبين هولاكو كونه قتل الخليفة... وقد سافر من سقسين سنة نيف وأربعين إلى بخارى لزيارة الشيخ سيف الدين الباخرزي ، فقام على باب الزاوية إلى الصباح ثم دخل وقبل رجل الشيخ . وأسلم

ص: 37

معه جماعة من أمرائه . وهذا في ترجمة الباخرزي ، نقله ابن الفوطي) .

وقال القلقشندي في مآثر الإنافة:2/90: (وكان للمستعصم وزير يقال له مؤيد الدين بن العلقمي رافضي ، فشق ذلك عليه فكتب الى هولاكو بن طولى بن جنكزخان ملك التتر وأطمعه في البلاد ، فخرج هولاكو للإستيلاء على بلاد الخليفة . وكان برَكة بن طوجى خان صاحب بلاد الشمال التي قاعدتها الآن السراي قد أسلم على يد الباخرزي أحد مشايخ الصوفية وأوصاه بالخليفة المستعصم ، وكتب بركة الى الخليفة يعرفه ذلك ، وأنه معاضده وناصره وانتظمت الصحبة بينه وبين الخليفة ، فمرَّ هولاكو على بركة قاصداً بغداد فاعترضه بركة ومنعه من ذلك وقال: إن الخليفة صاحبي فلا سبيل الى وصولك اليه ، وإن لم ترجع عنه حاربتك ! فتوقف هولاكو حينئذ عن قصد بغداد سنتين حتى مات بركة فقصد بغداد حينئذ). انتهى.

أقول: عندما تدقق في أمر بركة هذا تجد أن ما قالوه فيه كذبٌ ! وأنه لم ينهَ ابن عمه هولاكو عن غزو بغداد ولا عن قتل الخليفة ، بل مدَّه بجيش لذلك !

قال الذهبي في تاريخه:48/35: (وركب هولاكو إلى العراق ، وكان على مقدمته باجو نوين وفي جيشه خلقٌ من الترك والكرج ، ومن عسكر بركة بن عم هولاكو ومدد من صاحب الموصل) ! ونحوه في سيره:23/181 .

كما نصت مصادرهم على أن بركة غزا قبل هولاكو تركيا بلد السلاجقة المسلمين ، وفرض عليهم مالية ضخمة ، وترك فيها حامية مغولية ورجع !

قال ابن كثير في النهاية:13/277: (ثم أغار بركه خان على بلاد القسطنطينية فصانعه صاحبها ، وأرسل الظاهر هدايا عظيمة إلى بركه خان ).

وفي عبر الذهبي:5/167: (سنة إحدى وأربعين وست مئة . فيها حكمت التتار على بلد الروم ، وألزم صاحبها ابن علاء الدين بأن يحمل لهم كل يوم ألف دينار ومملوكاً وجاريةً وفرساً وكلبَ صيد ) !

وفي النجوم الزاهرة:6/346: (وفيها(سنة 641) صالح صالح الروم التتار على أن يدفع

ص: 38

إليهم في كل يوم ألف دينار وفرساً ومملوكاً وجارية وكلب صيد . وكان صاحب الروم يومئذ ابن علاء الدين كيقباذ ، وهو شاب لعاب ظالم قليل العقل ، يلعب بالكلاب والسباع ويسلطها على الناس ، فعضه بعد ذلك سَبُعٌ فمات). انتهى.

فهذا يكذِّب كل ما رووه عن بركة ، ويدل على أنه نقمة وليس بركة !

بل يكفي أن تعرف أن هولاكو هلك سنة662وأن بركة برك ومات سنة665 ، فكيف تأخر هولاكو سنتين ولم يَغْزُ بغداد حتى مات بركة؟! (سير الذهبي:23/366).

كما أن حرب بركة مع هولاكو لم يكن من أسبابها أنه قتل صديقه الخليفة كما زعم الذهبي (من أعظم الأسباب لوقوع الحرب بينه وبين هولاكو كونه قتل الخليفة) !

بل سببها أن بركة خان لم تكفه غنائم غزوته لتركيا ،فطلب من هولاكو أن يعطيه سهماً من أموال البلاد التي غزاها وسلبها فلم يعطه ! قال ابن كثير:13/272: (وفيها وقع الخلف بين هولاكو وبين السلطان بركه خان بن عمه ، وأرسل إليه بركه يطلب منه نصيباً مما فتحه من البلاد وأخذه من الأموال والأسرار ، على ما جرت به عادة ملوكهم ! فقتل رسله ، فاشتد غضب بركه ، وكاتب الظاهر ليتفقا على هولاكو) .

وهذه هي الحرب الثانية لبركة مع هولاكو، أما الحرب الأولى فكانت قبل غزو هولاكو لبغداد ، وقد وقعت في سياق اختلاف أولاد جنكيز وأحفاده على مملكته ! فقد هلك جنكيز سنة624(سير الذهبي:23/158)وكان له ستة أولاد، فرأى في ولده أوكتاي الكفاءة أكثر من إخوته فتشاور معهم وأوصى له بالملك.(تاريخ الذهبي:45/186).

وسبب حرب بركة مع هولاكو كما في نهاية الإرب/6227، أن طوجي أوتوشي بن هولاكو غزا المنطقة الشمالية أو البلاد الشمالية بأمر أخيه منكوقاآن سنة627 وحكمها الى أن توفي سنة641 ، وحكمها بعده ابنه باطوخان نحو عشر سنين الى أن مات سنة650، وكان له ثلاثة أولاد طغان وبركة وبركجار فنازعهم عمهم صرطق بن توشي وحكم سنة وشهرين ومات سنة652 ولم يكن له أولاد . وكانت زوجة طغان واسمها براق شين تريد الحكم لابنها تدان منكوا ، لكن أعمام ولدها وقادة الجيش لم يقبلوا

ص: 39

وولوا عليهم بركة ، فكتبت براق الى هولاكو تستغيثه وتطلب منه أن يحتل المنطقة ويحكمها، ثم خرجت قاصدة هولاكو فلحقوا بها في الطريق وقتلوها، وطمع هولاكو بأن يساعده أنصارها فغزا مملكة بركة وكانت بينهما حرب طاحنة !

هذا كل ما في الأمر ! لا إسلام فيه ولا من يسلمون ! قال ابن كثير:13/277: (وفيها التقى بركه خان وهولاكو ومع كل واحد جيوش كثيرة ، فاقتتلوا فهزم اللّه هولاكو هزيمة فظيعة وقتل أكثر أصحابه وغرق أكثر من بقي ، وهرب هو في شرذمة يسيرة وللّه الحمد . ولما نظر بركه خان كثرة القتلى قال: يعز عليَّ أن يقتل المغول بعضهم بعضاً ولكن كيف الحيلة فيمن غيَّر سنة جنكيز خان) ؟! انتهى.

لقد اعترف بركة بأن حربه من أجل سنة جنكيز خان التي تعطيه هو حق الحكم لأنه حفيد توشي خان فاتح المنطقة، وأن هولاكو هو المعتدي الذي غيَّر سنة جده ! ثم أظهر بركة خان تأسفه على قتال المغول مع بعضهم ! ورووا أنه دفن جثث جيش هولاكو الذين تجمعوا على جليد النهر فانخسفوا !

ومن الغريب أنهم رووا أن بركة توجه بعد معركته مع هولاكو مباشرة لغزو بلاد المسلمين ، لكنهم أغمضوا عيونهم عن ذلك ، ومدحوا بركة وإيمانه !

قال العيني في عقد الجمان/189: (وأما الحرب التي وقعت بين بركة خان وهلاون فكانت حرباً عظيمة انكسر فيها هلاون كسراً شنيعاً وقتل أكثر أصحابه وغرق أكثر من بقي ، وهرب هو في شرذمة قليلة من أصحابه . وبعد فراغ بركة خان من الحرب عاد على بلاد القسطنطينية وصانعه صاحبها ) . انتهى.

ومعنى هذا أن بركة قام بحملتين على تركيا ، وقد روى ابن العبري/223 أنه غزا تركيا سنة640 ، أي قبل حملة هولاكو بخمس عشرة سنة ! قال: (وفي سنة أربعين وستمائة سار السلطان غياث الدين كيخسرو(السلجوقي) إلى أرمينية في جمع كثيف وجهاز لم يتجهز أحد مثله في عساكره وعساكر اليونانيين والفرنج والكرج والأرمن

ص: 40

والعرب لمحاربة التاتار ، فالتقى العسكران بنواحي أرزنكان بموضع يسمى كوساذاغ وأول وهلة باشر المسلمون ومن معهم الجيوش النصرانية الحرب وذُهلوا وأدبروا وولوا هاربين ، فانهزم السلطان مبهوتاً فأخذ نساءه وأولاده من قيسارية وسار إلى مدينة أنقورة فتحصن بها ! وأقام المغول يومهم ذلك مكانهم ولم يقدموا على التقدم فظنوا أن هنال كميناً إذ لم يروا قتالاً يوجب هزيمتهم وهم في تلك الكثرة من الأمم المختلفة. فلما تحققوا الأمر انتشروا في بلاد الروم فنازلوا أولاً مدينة سيواس فملكوها بالأمان ، وأخذوا أموال أهلها عوضاً عن أرواحهم ، وأحرقوا ما وجدوا بها من آلات الحرب وهدموا سورها ! ثم قصدوا مدينة قيسارية فقاتل أهلها أياماً ثم عجزوا ففتحوها عنوةً وأبادوا أكابرها وأغنياءها معاقبين على إظهار الأموال وسبوا النساء والأولاد وخربوا الأسوار وعادوا ولم يتوغلوا في باقي بلاد السلطان . ولما سمع أهل ملطية ما فعل التاتار بقيسارية هلعوا وجزعوا أفحش الجزع) .انتهى.

إن تزوير رواة الخلافة لتاريخ بركة يجعلنا نرد روايتهم بأن الباخرزي نهى هولاكو عن غزو بغداد وعن قتل الخليفة ! ونشك في تعظيمهم لمقام الباخرزي والمؤكد أنه كان صوفياً يعتقد المسلمون وبعض التتار أنه من أولياء اللّه ، ويبدو أنه ما كان يتدخل في شئ من السياسة ، حتى لو خربت الدنيا !

بركة يتودد الى حاكم مصر لمصلحة المغول

نعم ، كان بركة خان يتودد الى المسلمين لا حبّاً بهم ولا بالإسلام ، بل نكايةً بهولاكو ، وقد استفاد من ذلك أنه أرسل دفعات من جيش المغول الى مصر فاستقبلهم السلطان بيبرس ، ووظفهم وصار لهم شأن في تاريخ مصر .

قال المقريزي في المواعظ والإعتبار/1447: ( فلما كثرت وقائع التتر في بلاد المشرق والشمال وبلاد القبجاق ، وأسروا كثيراً منهم وباعوهم تنقلوا في الأقطار واشترى الملك الصالح نجم الدين أيوب جماعة منهم سماهم البحرية ، ومنهم من

ص: 41

ملك ديار مصر وأولهم المعز أيبك... ثم كثرت الوافدية في أيام الملك الظاهر بيبرس وملؤوا مصر والشام ، وخطب للملك بركة بن يوشي بن جنكز خان على منابر مصر والشام والحرمين ! فغصت أرض مصر والشام بطوائف المُغُل وانتشرت عاداتهم بها وطرائقهم ! هذا وملوك مصر وأمراؤها وعساكرها قد ملئت قلوبهم رعباً من جنكز خان وبنيه ، وامتزج بلحمهم ودمهم مهابتهم وتعظيمهم ، وكانوا إنما رُبَّوا بدار الإسلام ولقنوا القرآن وعرفوا أحكام الملة المحمدية ، فجمعوا بين الحق والباطل وضموا الجيد إلى الردئ ، وفوضوا لقاضي القضاة كل ما يتعلق بالأمور الدينية من الصلاة والصوم والزكاة والحج ، وناطوا به أمر الأوقاف والأيتام ، وجعلوا إليه النظر في الأقضية الشرعية كتداعي الزوجين وأرباب الديون ونحو ذلك . واحتاجوا في ذات أنفسهم إلى الرجوع لعادة جنكز خان والإقتداء بحكم الياسة ! نصبوا الحاجب ليقضي بينهم فيما اختلفوا فيه من عوايدهم، والأخذ على يد قويهم وإنصاف الضعيف منه على مقتضى ما في الياسة ! وجعلوا إليه من ذلك النظر في قضايا الدواوين السلطانية عند الإختلاف في أمور الإقطاعات لينفذ ما استقرت عليه أوضاع الديوان وقواعد الحساب ، وكانت من أجلِّ القواعد وأفضلها حتى تَحَكَّمَ القبط في الأموال وخراج الأراضي فشرَّعوا في الديوان ما لم يأذن به اللّه تعالى ، ليصير لهم ذلك سبيلاً إلى أكل مال اللّه تعالى بغير حقه).

وقال المقريزي في السلوك/264: (وكتب السلطان إلى النواب بإكرام الوافدية من التتار والإقامة لهم مايحتاجون إليه من العليق والغنم وغيره وسيرت إليهم الخلع والإنعامات والسكَّر ونحوه، وساروا إلى القاهرة فخرج السلطان إلى لقائهم في سادس عشري ذي الحجة ولم يتأخر أحد عن مشاهدتهم ، فتلقاهم وأنزلهم في دور بنت لهم في اللوق ظاهر القاهرة وعمل لهم دعوة عظيمة هناك ، وبعث إليهم الخلع والخيول والأموال ، وأمَّر السلطان أكابرهم ونزل باقيهم في جملة البحرية . وكانوا مائتي فارس بأهاليهم فحسنت حالهم ودخلوا في الإسلام) !

ص: 42

وقال في المواعظ والإعتبار/1240: (فلما بلغ التتار ما فعله السلطان مع هؤلاء وفد عليه منهم جماعة بعد جماعة ، وهو يقابلهم بمزيد الأحسان فتكاثروا بديار مصر وتزايدت العمائر في اللوق وما حوله ، وصار هناك عدة أكال عامرة آهلة...

ولما قدمت رسل القان بركة في سنة إحدى وستين وسبعمائة أنزلهم السلطان الملك الظاهر باللوق وعمل لهم فيه مهماً ، وصار يركب في كل سبت وثلاثاء للعب الأكرة باللوق في الميدان . وفي سادس ذي الحجة من سنة إحدى وستين قدم من المغل والبهادرية زيادة على ألف وثلثمائة فارس فأنزلوا في مساكن عمرت لهم باللوق بأهاليهم وأولادهم ) . وقال العيني في عقد الجمان/180: (وفيها(سنة661) في سادس ذي الحجة وصلت جماعة كبيرة من التتار مستأمنين وفي الإسلام راغبين ، فكانوا زهاء ألف نفس وفيهم من أعيانهم: كرمون ، وأمطغيه ، ونوكيه ، وجبرك ، وقيان ، وناصغيه وطبشور ، وتبتو ، وصبخي ، وجوجلان ، وأجقرقا ، وأرقرق ، وكراي ، وصلاغية ومنقدم ، وصراغان ، وهؤلاء كانوا من أصحاب بركة وكان قد أرسلهم إلى هلاون نجدة (يقصد الى هولاكوفي العراق) فأقاموا عنده مدة ، فلما وقع بينه وبين بركة وتمكنت العداوة كتب بركة إليهم بأن يفارقوا هلاون ويحضروا إليه ، وإن لم يتمكنوا من التوجه إليه فينحازوا إلى عساكر الديار المصرية ، ولما وصلوا أسلموا وطهروا ، قدم كبراؤهم المذكورون وأمِّروا ، وعُينت لهم الإقطاعات والطبلخانات ، وأفيضت عليهم الصلات والخلع والهبات ، وأنزلهم باللوق).

أقول: ثم قام بركة المغولي بتزويج ابنته إلتطمش للظاهر بيربس ، فأنجبت له ولداً وسمته بركة خان على إسم أبيها وأقنعت بيبرس فجعله ولي عهده ، ولما مات بيبرس كان عمره19سنة فحكم مدة يسيرة وكان سلوكه مشيناً ، فثار عليه الأمراء وخلعوه وبايعوا أخاه سلامة مكانه ! قال في النجوم الزاهرة:7/259: (السلطان الملك السعيد ناصر الدين أبو المعالي محمد المدعو بركة خان بن السلطان الملك الظاهر بيبرس البندقداري الصالحي النجمي، الخامس من ملوك الترك

ص: 43

بمصر ، سميَ بركة خان على اسم جده لأمه بركة خان بن دولة خان الخوارزمي).

وفي نهاية ابن كثير:13/338: (غلبت عليه الخاصكية فجعل يلعب معهم في الميدان الأخضر فيما قيل ، فربما جاءت النوبة عليه فينزل لهم ! فأنكرت الأمراء الكبار ذلك وأنفوا أن يكون ملكهم يلعب مع الغلمان ويجعل نفسه كأحدهم ، فراسلوه في ذلك ليرجع عما هو عليه فلم يقبل فخلعوه) . وفي أعلام الزركلي:6/52: (وكان حسن الشكل جسيماً كريماً على الرعية، عيَّ اللسان منقطع الحجة، يسمع الخطاب ولا يرد الجواب وقال ابن تغري بردي: كان سيئ التدبير).(راجع وافي الصفدي:9/204، والنجوم العوالي للعصامي/1282، وصبح الأعشى:10/164، وفيه: أن بيربرس أضاف له لقب (خان) فخالفه المصريون) !

وهذا يدل على أن الهوى الشركسي المغولي كان في دم مماليك مصر !

10- انشغل المغول عن بغداد أكثر من ثلاثين سنة !

انحسر مدُّ المغول عن إيران والعراق لأكثر من ثلاثين سنة بعد اجتياحهم الأول ، ففي تلك المدة ركزوا حملاتهم على شرق أوروبا وأرمينية وروسيا ، ولم تكن لهم حملات مهمة على بغداد إلا غارت قليلة صغيرة ، لكن حكام المسلمين وهم الخليفة وسلاطين الخلافة لم يستفيدوا من هذه الفرصة ، ولم يستعدوا لرد خطر المغول !

وذكرت بعض المصادر أن التتار شنوا غارتين في تلك المدة على بغداد سنة635 ، وأنهم لاقوا مقاومةً ما ورجعوا، وفي الثانية هزموا جيش الخلافة وغنموا غنيمة عظيمة ومعناه أن خطرهم بقي ماثلأً أمام المسلمين ، ولكن الخليفة وقائدَيْ الجيش الشرابي والدوادار بدل أن يُقَوُّوا جيشهم ودفاعاتهم قاموا بحل الجيش ، مبررين ذلك بأنهم يعطون ميزانية الجيش للتتار ، ويصانعونهم بذلك !

قال ابن العبري في تاريخه/222: (وفيها(سنة635) غزا التاتار العراق ووصلوا إلى تخوم بغداد إلى موضع يسمى زنكاباذ وإلى سُرَّ مرأى ، فخرج إليهم مجاهد الدين الدويدار وشرف الدين إقبال الشرابي في عساكرهما فلقوا المغول وهزموهم، وخافوا

ص: 44

من عودهم فنصبوا المنجنيقات على سور بغداد . وفي آخر هذه السنة عاد التاتار إلى بلد بغداد ووصلوا إلى خانقين ، فلقيهم جيوش بغداد فانكسروا وعادوا منهزمين إلى بغداد بعد أن قتل منهم خلق كثير ، وغنم المغول غنيمة عظيمة وعادوا) .انتهى.

ومعنى ذلك أن التتار بعد أن هزموا جيش الخلافة ، كان بإمكانهم أن يواصلوا تقدمهم الى بغداد ، قبل عشرين سنة من احتلالها ! وقبل أن يأتي الخليفة المستعصم ثم ينصب وزيره المدني محمد بن العلقمي (رحمه اللّه) .

**

11- حملة المغول الثانية بقيادة هولاكو

قال في تاريخ مختصر الدول/232: (ولما فرغ خاطر مونككاقاآن من أمر المخالفين شرع في ترتيب العساكر وضبط الممالك فأقطع بلاد الخطا من حد الميري إلى سليكاي وتنكوت ، وتبَّت لقبلاي أغول أخيه ، والبلاد الغربية لهولاكو أخيه الآخر . ومن جهة تحصيل الأموال: ولى على البلاد الشرقية من شاطئ جيحون إلى منتهى بلاد الخطا الصاحب المعظم يلواج وولده مسعود بيك . وعلى ممالك خراسان ومازندران وهندوستان والعراق وفارس وكرمان ولور وأران وآذربيجان وكرجستان والموصل والشام الأمير أرغون آغا . وأمر آن المتمول الكبير ببلاد الخطا أن يؤدي في السنة خمسة عشر ديناراً ، والوضيع ديناراً واحداً ، وببلاد خراسان يزن المتمول في السنة عشرة دنانير ، والفقير ديناراً واحداً ، ومن مراعي ذوات الأربع الذي يسمونه قويجور يؤخذ من كل من له مائة رأس من جنس واحد رأس واحد ، ومن ليس له مائة لايؤخذ منه شئ . وأطلق العباد وأرباب الدين من الوثنيين والنصارى والمسلمين من جميع المؤونات والأوزان والتكليفات...).

(يقول الدكتور حسين مؤنس: الصين كانت قسمين: الصين الجنوبية وهي المعروفة باسم الصين ، وهي التي كثر تردد المسلمين إلى سواحلها . والصين الشمالية التي تعرف باسم بلاد الخطا أو الخطاي والعرب أول من أطلق هذا الاسم على شمال الصين وعاصمته خان بالق أو بكين ، وعنهم أخذ الأوروبيون الاسم فظلوا يسمون بلاد الصين كلهاcathay من القرن الثالث عشر إلى القرن السادس عشر. وهؤلاء الترك الخطا غزوا الصين وأنشأوا فيها دولة دامت خلال القرنين العاشر والحادي عشر). (الإسماعيليون والمغول للسيد حسن الأمين/152).

وقال ابن العبري/234: (وفي سنة إحدى وخمسين وستمائة توجه هولاكو إيلخان من نواحي قراقورم إلى البلاد الغربية ، وسير معه مونككا قاآن الجيوش من كل عشرة

ص: 45

اثنين ، وصحبه أخوه الصغير سنتاي أغول ، ومن جانب باتوا بلغاي بن سبقان وقوتار أغول وقولي في عساكر باتوا، ومن قبل جغاتاي تكودار أغول بن بوخي أغول ، ومن جانب جيحكان بيكي بوقا تيمور في عسكر الأويرات ، ومن ناحية الخطا ألف بيت من صناع المنجنيقات وأصحاب الحيل في إصلاح آلات الحرب ، فكان أمير الترك كيدبوقا الباورجي ، وكان القائم مقام هولاكو بأردو مونككا قاآن ولده جومغار بسبب أن أمه أكبر خواتين هولاكو أبيه ، وأخذ صحبته ابنه الكبير آباقا وابنه الآخر يسمون ، ومن الخواتين الكبار دوقوز خاتون المؤمنة المسيحية ، والجاي خاتون) .

وقال السيد الأمين في الإسماعيليون والمغول/154: (وقبل أن تبدأ الحملة زحفها أرسل منكوقا آن خبراء الطرق ليكشفوا على الطريق الذي ستسلكه حملة هولاكو في مرحلتها الأولى من قراقورم حتى شاطئ نهر جيحون ، وليقيموا الجسور على الأنهار والمجاري ، وحدد لكل جندي مائة من الدقيق ، وقربةَ من النبيذ ، وأوصى هولاكو بما يلي: حافظ على تقاليد جنكيز وقوانينه في الكليات والجزئيات ، وخصَّ كل من يطيع أوامرك ويجتنب نواهيك في الرقعة الممتدة من جيحون حتى أقاصي مصر بلطفك وبأنواع عطفك وإنعامك . أما من يعصيك فأغرقه في الذلة والمهانة مع نسائه وأبنائه وأقاربه وكل ما يتعلق به..).

وقال المقريزي في السلوك/211: (وفيها(649)وردت الإخبار بأن منكوخان ملك التتر سيَّر أخاه هولاكو لأخذ العراق فسار وأباد أهل بلاد الإسماعيلية قتلاً ونهباً وأسراً وسبياً ، ووصلت غاراته إلى ديار بكر وميافارقين وجاءوا إلى رأس عين وسروج وقتلوا ما ينيف على آلاف وأسروا مثل ذلك ، وصادفوا قافلة سارت من حران تريد بغداد فأخذوا منها أموالاً عظيمة من جملتها ستمائة حمل سُكَّر من عمل مصر ، وست مائة ألف دينار ، وقتلوا الشيوخ والعجائز ، وساقوا النساء والصبيان معهم ، فقطع أهل الشرق الفرات وفروا خائفين) .

وقال الكتبي في فوات الوفيات:2/580: (هولاكو بن تولي قان بن جنكز خان ملك

ص: 46

التتار ومقدمهم . كان طاغية من أعظم ملوك التتار ،وكان شجاعاً مقداماً حازماً مدبراً ذا همة عالية وسطوة ومهابة وخبرة بالحروب ومحبة للعلوم العقلية من غير أن يتعقل منها شيئاً . اجتمع عنده جماعة من فضلاء العالم وجمع حكماء مملكته وأمرهم أن يرصدوا الكواكب ، وكان يطلق الكثير من الأموال والبلاد وهو على قاعدة الترك في عدم التقيد بدين ، لكن زوجته تنصرت . وكان سعيداً في حروبه ، طوَّف البلاد واستولى على الممالك في أيسر مدة ، وفتح بلاد خراسان وفارس وأذربيجان وعراق العجم وعراق العرب والشام والجزيرة والروم وديار بكر ، وقتل الخليفة المستعصم وأمراء العراق وصاحب الشام وصاحب ميافارقين). وأبو الفداء/744.

**

ص: 47

ص: 48

الفصل الثاني: التهمة الظالمة للشيعة بأنهم سببوا سقوط الخلافة

اشارة

ص: 49

ص: 50

1- قدَّموا بلاد المسلمين الى المغول واتهموا الشيعة !

وصلت الخلافة العباسية قبيل الغزو المغولي الى غاية ضعفها بسبب استغراق الخليفة وبطانته وسلاطينه في اللّهو الترف وجمع المال ! وكان خطر غزو المغول واضحاً ماثلاً أمامهم ، لكن الخليفة المستعصم باللّه ، بقي مستعصماً في اللّهو والخمر والنساء ، حتى بعد أن وصل الزحف المغولي الى قصره !

وقد شهد بذلك المؤرخ المعاصر للحدث ابن الطقطقي في الآداب السلطانية/27: (وكان المستعصم آخر الخلفاء شديد الكلف باللّهو واللعب وسماع الأغاني ، لا يكاد مجلسه يخلو من ذلك ساعة واحدة ، وكان ندماؤه وحاشيته جميعهم منهمكين معه على التنعم واللذات ، لا يراعون له صلاحاً ! وفي بعض الأمثال: الحائن لا يسمع صياحاً !(الحائن: لذي حان هلاكه بحمقه) وكتبت له الرقاع من العوام وفيها أنواع التحذير وألقيت فيها الأشعار في أبواب دار الخلافة ، فمن ذلك:

قل للخليفة مهلاً *** أتاك ما لا تحبُّ

ها قد دَهَتْكَ فنونٌ *** من المصائب غُربُ

فانهض بعزم وإلا *** غَشَّاكَ ويْلٌ وحَرْبُ

كسرٌ وهتْكٌ وأسْرٌ *** ضَرْبٌ ونَهْبٌ وسَلْبُ

وفي ذلك يقول بعض شعراء الدولة المستعصمية من قصيدة أولها:

يا سائلي ولمحض الحق يرتادُ *** أصِخْْ فعندي نُشْدَانٌ وإنشادُ

واضيعةَ الناس والدين الحنيف وما *** تلقاه من حادثات الدهر بغدادُ

هتكٌ وقتلٌ وأحداثٌ يشيب بها *** رأس الوليد وتعذيبٌ وأصفادُ

ص: 51

كل ذلك وهو عاكفٌ على سماع الأغاني واستماع المثالث والمثاني ، وملكه قد أصبح واهي المباني ! ومما اشتهر عنه أنه كتب إلى بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل يطلب منه جماعة من ذوي الطرب ، وفي تلك الحال وصل رسول السلطان هولاكو إليه يطلب منه منجنيقات وآلات الحصار ! فقال بدر الدين: أنظروا إلى المطلوبَيْن وابكوا على الإسلام وأهله ! وبلغني أن الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي كان في أواخر الدولة المستعصمية ينشد دائماً:

كيف يُرجى الصلاح في أمر قومٍ ضيَّعوا الحزمَ فيه أيَّ ضياعِ فمطاعُ المقال غيرُ سديد وسديدُ المقال غير مطاعِ).انتهى.

2- اختاروا خليفةً ضعيف الشخصية ليكون القرار بيدهم !

قال الذهبي في تاريخه:48/259: (قال الشيخ قطب الدين: كان(المستعصم)متديناً متمسكاً بالسنة كأبيه وجده ، ولكنه لم يكن على ما كان عليه أبوه وجده الناصر من التيقظ والحزم وعلو الهمة فإن المستنصر باللّه كان ذا همة عالية وشجاعة وافرة ونفس أبية ، وعنده إقدام عظيم ، استخدم من الجيوش ما يزيد على مائة ألف ، وكان له أخ يعرف بالخفاجي يزيد عليه في الشهامة والشجاعة وكان يقول: إن ملكني اللّه لأعبرن بالجيوش نهر جيحون وأنتزع البلاد من التتار واستأصلهم ! فلما توفي المستنصر لم يَرَ الدويدار والشرابي والكبار تقليد الخفاجي الأمر وخافوا منه وآثروا المستعصم لما يعلمون من لينه وانقياده وضعف رأيه، ليكون الأمر إليهم ، فأقاموا المستعصم). انتهى.

وقال ابن العبري في تاريخ مختصر الدول/226: (وفي سنة أربعين وستمائة بويع المستعصم يوم مات أبوه المستنصر، وكان صاحب لهو وقصف وشغف بلعب الطيور واستولت عليه النساء ، وكان ضعيف الرأي قليل العزم كثير الغفلة عما يجب لتدبير الدول . وكان إذا نُبِّهَ على ما ينبغي أن يفعله في أمر التاتار إما المداراة والدخول في

ص: 52

طاعتهم وتوخي مرضاتهم أو تجييش العساكر وملتقاهم بتخوم خراسان قبل تمكنهم واستيلائهم على العراق ، فكان يقول: أنا بغداد تكفيني ! ولا يستكثرونها لي إذا نزلت لهم عن باقي البلاد! ولايهجمون عليَّ وأنا بها وهي بيتي ودار مقامي ! فهذه الخيالات الفاسدة وأمثالها عدلت به عن الصواب ، فأصيب بمكاره لم تخطر بباله).انتهى.

أقول: أنظر الى هذه البطانة السيئة أيَّ نوع من الناس نصبته خليفة؟! وما الفرق بين منطق(الخليفة)ومنطق مدمن مخدرات؟! وهل منطق بطانته إلا مثله؟!

ثم اعجب للذين يريدون تبرئة هؤلاء السكارى الخوَّارين ، ووضع جريمتهم على عاتق شيعي تقي لا يسكر ولا يرقص ، هو محمد بن العلقمي (رحمه اللّه) !

فأين كان ابن العلقمي عندما فرض(الدويدار والشرابي والكبار)مستعصمهم في سنة640، لأنه مفصَّلٌ على مقاسهم (لما يعلمون من لينه وانقياده وضعف رأيه ليكون الأمر إليهم )؟! وكان ذلك قبل سقوط بغداد بخمس عشرة سنة ؟!

وقد وصف في النجوم الزاهرة:6/345 تخليفهم له فقال: (وفيها(640) توفي الخليفة أمير المؤمنين المستنصر باللّه... وخطب له يومئذ بالجامع حتى أقبل شرف الدين إقبال الشرابي ومعه جمع من الخدام ، وسلم على ولده المستعصم باللّه أمير المؤمنين ، واستدعاه إلى سدة الخلافة ، ثم عرَّف الوزير وأستاذ الدار ، ثم طلبوا الناس وبايعوه بالخلافة ، وتم أمره ) .

3- قام الخليفة وبطانته بعمل أحمق فحلوا جيش الخلافة !

وقد شهدت مصادرهم المعادية للشيعة بهذا المرسوم العجيب ، وأجمعت على أن المستعصم وأباه المستنصر وقادة جيشه الشرابي والدويدار الصغير وأباه الكبير ، اتخذوا قرار تسريح جيش الخلافة وكان عدده مئة ألف ، وأنهم

ص: 53

أصروا على ذلك رغم الإعتراضات ، وخطر مجئ المغول الى العاصمة !

قال أبو الفداء في تاريخه/804: (ولما مات المستنصر اتفقت آراء أرباب الدولة مثل الدوادار والشرابي على تقليد الخلافة ولده عبد اللّه ولقبوه المستعصم باللّه ، وهو سابع ثلاثينهم وآخرهم ، وكنيته أبو أحمد بن المستنصر باللّه منصور ، وكان عبد اللّه المستعصم ضعيف الرأي فاستبد كبراء دولته بالأمر ، وحسنوا له قطع الأجناد ، وجمع المال ومداراة التتر ، ففعل ذلك وقطع أكثر العساكر) .

وقال القلقشندي في مآثر الإنافة:2/89: (وأبطل أكثر العساكر ، وكان التتر من أولاد جنكزخان قد خرجوا على بلاد الإسلام على ما تقدم ، وملكوا أكثر بلاد الشرق والشمال...وكان عسكر بغداد قبل ولاية المستعصم مائة ألف فارس ، فقطعهم المستعصم ليحمل الى التتر متحصل إقطاعاتهم ! فصار عسكرها دون عشرين ألف فارس). انتهى.

قال الذهبي في تاريخه:48/34: (وكان المستنصر باللّه(والد المستعصم)قد استكثر من الجند حتى بلغ عدد عساكره مائة ألف فيما بلغنا ، وكان مع ذلك يصانع التتار ويهاديهم ويرضيهم). انتهى.

أقول: كان إقبال الشرابي التركي قائد لجيش الخلافة ، وهو الذي اتخذ قرار حل الجيش مع الخليفة المستنصر ، وثار عليه الجند فقمعهم بعنف وقتل منهم قبل أن يجئ المستعصم وابن العلقمي!(النجوم الزاهرة:6/345، وأعيان الشيعة:9/85) .

فكيف نصدق المتعصبين في تحميلهم مسؤولية حل الجيش لابن العلقمي؟! والصحيح أن ابن العلقمي حاول أن يعيد تشكيل الجيش فلم يسمعوا له ! وقد شهد الذهبي وغيره بذلك عن غير قصد، كما شهدوا بأن الخليفة وقائد (جيشه) لم يكونا يسمعان لابن العلقمي رأياً ! قال في تاريخه:48/290: (كان وزيراً كافياً ، قادراً على النظم ، خبيراً بتدبير الملك ولم يزل ناصحاً لمخدومه حتى وقع بينه وبين

ص: 54

حاشية الخليفة وخواصه منازعة فيما يتعلق بالأموال والإستبداد بالأمر دونه ، وقويت المنافسة بينه وبين الدويدار الكبير وضعف جانبه حتى قال عن نفسه:

وزيرٌ رضي من بأسه وانتقامه *** بِطَيِّ رُقاعٍ حشوُها النظمُ والنثرُ

كما تسجع الورقاءُ وهي حمامةٌ *** وليس لها نهيٌ يطاعُ ولا أمرُ). انتهى.

وروى ابن كثير أن نتيجة مرسوم حل الجيش أنَّ بغداد لم تقاوم المغول ! قال في النهاية:13/234: (فأحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة ، لا يبلغون عشرة آلاف فارس وهم وبقية الجيش كلهم قد صرفوا عن إقطاعاتهم ، حتى استعطى كثير منهم في الأسواق وأبواب المساجد ، وأنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لهم، ويحزنون على الإسلام وأهله ! وذلك كله عن آراء الوزير ابن العلقمي الرافضي) ! انتهى.

فاعجب لتعصبهم على ابن العلقمي (رحمه اللّه) الذي لم يكن يملك شيئاً من القرار، وتبرئتهم للمجرمين الحقيقيين الخليفة المستنصر والمستعصم وقادة الجيش الأتراك الذين أصروا على حل الجيش ، وفرضوا خليفة ضعيفاً يطيعهم في استمرار حل الجيش وتوفير ميزانيته ، بينما كان خطر المغول واضحاً للعيان !

وقد اضطر الزركلي وهو متعصب كالذهبي للقول إن مؤرخين ثقاة حكموا ببراءة ابن العلقمي، قال في الأعلام:5/321:(محمد بن أحمد...مؤيد الدين الأسدي البغدادي المعروف بابن العلقمي، وزير المستعصم العباسي وصاحب الجريمة النكراء في ممالأة هولاكو على غزو بغداد في رواية أكثر المؤرخين... وكان حازماً خبيراً بسياسة الملك كاتباً فصيح الإنشاء ، اشتملت خزانته على عشرة آلاف مجلد ، وصنف له الصغاني العباب وابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة . ونفى عنه بعض ثقات المؤرخين خبر المخامرة على المستعصم حين أغار هولاكو على بغداد سنة656، واتفق أكثرهم على أنه مالأه ). انتهى.

ص: 55

لكن الزركلي أظهر خبثاً عندما ترجم للمستعصم ونقل افتراء ابن تيمية ، فقال في:4/140: (وكان المغول قد استفحل أمرهم في أيام سلفه المستنصر فكاتب ابن العلقمي قائدهم هولاكو يشير عليه باحتلال بغداد ويَعده بالإعانة على الخليفة، فزحف هولاكو سنة645، وخرجت إليه عساكر المستعصم فلم تثبت طويلاً ، ودخل هولاكو بغداد فجمع له ابن العلقمي ساداتها ومدرسيها وعلماءها فقتلهم عن آخرهم) !

يقصد بذلك غارات المغول الصغيرة في زمن المستنصر قبل غزو هولاكو ، وكلها قبل وزارة ابن العلقمي ، فاتهامهم له كذبٌ وتعصب ، كاتهامهم له بأنه أتى بالفقهاء الى هولاكو ليقتلهم ، وستعرف أن الذي فعل ذلك عالمٌ سني !

4- حاول ابن العلقمي أن يعيد بناء الجيش فاتهموه !

وقع الذهبي في تناقض عجيب بسبب تعصبه فاتهم ابن العلقمي بحل الجيش ، ثم اتهمه بأنه حرك الجنود المطالبين بإعادة تشكيل الجيش للضغط على الخليفة لإعادته ! قال في تاريخه:47/63: (وفيها(سنة 648)كثر الحرامية ببغداد وصار لهم مقدم يقال له غيث ، وتجرؤوا على دور الأمراء . وفيها ثارت طائفة من الجند ببغداد ومنعوا يوم الجمعة الخطيب من الخطبة واستغاثوا لأجل قطع أرزاقهم . ثم أضاف الذهبي: وكل ذلك من عمل الوزير ابن العلقمي الرافضي) ! انتهى.

لقد أراد الذهبي أن يذم فمدح ! وكشف أن ابن العلقمي ساند أو دفع حركة الجنود لإعادة تشكيل الجيش للدفاع عن العاصمة والخلافة ! وهي شهادة كافية لتبرئة ابن العلقمي (رحمه اللّه) وإدانةٌ فاضحة للخليفة والدويدار والشرابي وسليمان اتلسلجوقي الذين أصدروا مرسوم حل الجيش قبل وزارة ابن العلقمي ليأكلوا ميزانيته ونفقاته ، بحجة أنهم يريدون جمع المال لمداراة التتر ! فالميزانية كانت بيدهم وقرار حل الجيش بيدهم، وقد اتهموا العلقمي بأنه يضغط لإعادة الجيش

ص: 56

ليعطوه ميزانيته!(لتبرز إليه الأموال ليجند بها العساكر فيقتطع منها لنفسه)!(ابن الطقطقي/231).

وقد شهد ابن الطقطقي المعاصر لهم بنزاهة ابن العلقمي وبراءته ، قال في الآداب السلطانية/233: (وكان مؤيد الدين الوزير عفيفاً عن أموال الديوان وأموال الرعية متنزهاً مترفعاً. قيل إن بدر الدين صاحب الموصل أهدى إليه هدية تشتمل على كتب وثياب ولطائف قيمتها عشرة آلاف دينار ، فلما وصلت إلى الوزير حملها إلى خدمة الخليفة، وقال: إن صاحب الموصل قد أهدى لي هذا واستحييت منه أن أرده إليه ، وقد حملته وأنا أسأل قبوله فَقَبل . ثم إنه أهدى إلى بدر الدين عوض هديته شيئاً من لطائف بغداد قيمته اثنا عشر ألف دينار ، والتمس منه ألا يهدي إليه شيئاً بعد ذلك! وكان خواص الخليفة جميعهم يكرهونه ويحسدونه ! وكان الخليفة يعتقد فيه ويحبه وكثروا عليه عنده فكفَّ يده عن أكثر الأمور ونسبه الناس إلى أنه خامر(تآمر مع هولاكو) وليس ذلك بصحيح) .

5- اعترفوا بأن ابن العلقمي حاول إنقاذ الخلافة فمنعوه !

فعندما أحسوا بقرب وصول حملة المغول استشار الخليفة وزيره ابن العلقمي فأشار عليه أن يرسل الى طاغيتهم هولاكو هدايا وفيرة ، ويطمئنه بأنه يعترف به سلطاناً كالسلطان البويهي والسلجوقي ، ليعترف هولاكو بالخليفة ولا يهاجم بغداد ! وقد اقتنع الخليفة بهذا الرأي وأمرهم فباشروا بتهيئة الهدايا والرسل ، لكن القائد السني المتعصب الدويدار وبقية البطانة استكثروا الهدية ومنعوا الخليفة من إرسالها فأطاعهم ، وأحبطوا بذلك محاولة إنقاذ الخلافة !

قال ابن العبري في تاريخ مختصر الدول/240: (وفيها في شهر شوال رحل هولاكو عن حدود همذان نحو مدينة بغداد ، وكان في أيام محاصرته قلاع الملاحدة قد سيَّر

ص: 57

رسولاً إلى الخليفة المستعصم يطلب منه نجدة ، فأراد أن يسيِّر ولم يقدر ، لم يمكنه الوزراء والأمراء وقالوا: إن هولاكو رجل صاحب احتيال وخديعة وليس محتاجاً إلى نجدتنا ، وإنما غرضه إخلاء بغداد عن الرجال فيملكها بسهولة . فتقاعدوا بسبب هذا الخيال عن إرسال الرجال ! ولما فتح هولاكو تلك القلاع أرسل رسولاً آخر إلى الخليفة وعاتبه على إهماله تسيير النجدة ، فشاوروا الوزير فيما يجب أن يفعلوه فقال: لا وجه غير إرضاء هذا الملك الجبار ببذل الأموال والهدايا والتحف له ولخواصه . وعندما أخذوا في تجهيز مايُسَيِّرونه من الجواهر والمرصعات والثياب والذهب والفضة والمماليك والجواري والخيل والبغال والجمال ، قال الدويدار الصغير وأصحابه: إن الوزير إنما يدبر شأن نفسه مع التاتار وهو يروم تسليمنا إليهم فلا نمكنه من ذلك ! فأبطل الخليفة بهذا السبب تنفيذ الهدايا الكثيرة ، واقتصر على شئ نزر لا قدر له ، فغضب هولاكو وقال: لا بد من مجيئه هو بنفسه أو يسيِّر أحد ثلاثة نفر: إما الوزير وإما الدويدار وإما سليمان شاه . فتقدم الخليفة إليهم بالمضي فلم يركنوا إلى قوله ، فسيَّر غيرهم مثل ابن الجوزي وابن محيي الدين ، فلم يُجديا عنه) . انتهى.

وقال الذهبي في تاريخه:48/32: (وفي سنة خمس(655)سار هولاكو من همدان قاصداً بغداد ، فأشار ابن العلقمي الوزير على الخليفة ببذل الأموال والتحف النفيسة إليه ، فثناه عن ذلك الدويدار وغيره وقالوا: غرض الوزير إصلاح حاله مع هولاكو فأصغى إليهم وبعث هدية قليلة مع عبد اللّه بن الجوزي فتنمر هولاكو ، وبعث يطلب الدويدار وابن الدويدار وسليمان شاه فما راحوا ، وأقبلت المُغُل كالليل المظلم . وكان الخليفة قد أهمد حال الجند وتعثروا وافتقروا وقطعت أخبازهم ، ونظم الشعر في ذلك ! فلا قوة إلا باللّه). انتهى.

فلماذا يتعامى أتباع الخلافة عن حقيقة أن مركز القرار والميزانية كانا بيد الخليفة وبطانته ، ويضعون المسؤولية على شيعي مدني لايملك القرار؟! ولماذا

ص: 58

لايُدينون الخليفة البخيل المنهار الذي عرف أن المغول قصدوا العراق فأرسل معتمده محتسب بغداد الفقيه السني ابن الجوزي الى هلاكو ليسلمه الأهواز التي كانت خاضعة للخليفة مباشرة ! قال الذهبي في سيره:23/374: ( وقد أرسله المستعصم إلى خراسان إلى هولاكو ثم رجع وأخبر بصحة عزمه على قصد العراق في جيش عظيم ، فلم يستعدوا للقائه ! ولما خرج المستعصم إليه طلب منه أن ينفذ إلى خورستان من يسلمها ، فنفذ شرف الدين هذا بخاتم الخليفة فتوجه مع جماعة من المغول وعرفهم حقيقة الحال) ! انتهى.

ومع كل ذلك ظل(الخليفة)مستغرقاً في خمره حتى عندما أحاط جيش هولاكو بقصره وأصابت سهامهم راقصته ، فكان جوابه أن قال: كثفوا الستائر؟!

6- قال الخليفة: قتلوا راقصتي فكثِّفوا الستائر !

قال ابن كثير في النهاية:13/233: (وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب حتى أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه ، وكانت من جملة حظاياه وكانت مولَّدَةً تسمى عَرَفة ، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة ، فانزعج الخليفة من ذلك وفزع فزعاً شديداً !

(وأحضر السهم الذي أصابها بين يديه فإذا عليه مكتوب: إذا أراد اللّه إنفاذ قضائه وقدره أذهب من ذوي العقول عقولهم)! فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الإحتراز وكثرة الستائر(الجُدُر) على دار الخلافة ! وكان قدوم هلاكو خان بجنوده كلها وكانوا نحو مائتي ألف مقاتل إلى بغداد في ثاني عشر المحرم من هذه السنة ، وهو شديد الحنق على الخليفة بسبب ما كان تقدم من الأمر الذي قدره اللّه وقضاه وأنفذه وأمضاه ، وهو أن هلاكو لما كان أول بروزه من همدان متوجهاً إلى العراق، أشار الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي على الخليفة بأن يبعث إليه بهدايا سنية ليكون ذلك مداراةً له

ص: 59

عما يريده من قصد بلادهم ، فخذل الخليفة عن ذلك دويداره الصغير أيبك وغيره وقالوا إن الوزير إنما يريد بهذا مصانعة ملك التتار بما يبعثه إليه من الأموال ، وأشاروا بأن يبعث بشئ يسير فأرسل شيئاً من الهدايا فاحتقرها هلاكو خان وأرسل إلى الخليفة يطلب منه دويداره المذكور وسليمان شاه(وهو ممثل سلطان السلاطين الخوارزمي ، وحذف ذكر ابن العلقمي!)فلم يبعثهما إليه ولا بالى به حتى أزف قدومه ، ووصل بغداد بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة ممن لايؤمن باللّه ولا باليوم الآخر ، فأحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة ، لايبلغون عشرة آلاف فارس وهم وبقية الجيش كلهم قد صرفوا عن إقطاعاتهم حتى استعطى كثير منهم في الأسواق وأبواب المساجد ، وأنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لهم ويحزنون على الإسلام وأهله ، وذلك كله عن آراء الوزير ابن العلقمي الرافضي وذلك أنه لما كان في السنة الماضية كان بين أهل السنة والرافضة حرب عظيمة نهبت فيها الكرخ ومحلة الرافضة حتى نهبت دور قرابات الوزير ، فاشتد حنقه على ذلك ، فكان هذا مما أهاجه على أن دبر على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرُخّ أبشع منه منذ بنيت بغداد وإلى هذه الأوقات ، ولهذا كان أول من برز إلى التتار هو ! فخرج بأهله وأصحابه وخدمه وحشمه فاجتمع بالسلطان هلاكو خان لعنه اللّه ، ثم عاد فأشار على الخليفة بالخروج إليه والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم ونصفه للخليفة، فاحتاج الخليفة إلى أن خرج في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية ورؤس الأمراء والدولة والأعيان ، فلما اقتربوا من منزل السلطان هولاكوخان حجبوا عن الخليفة إلا سبعة عشر نفساً فخلص الخليفة بهؤلاء المذكورين ، وأنزل الباقون عن مراكبهم ونهبت وقتلوا عن آخرهم ، وأحضر الخليفة بين يدي هلاكو فسأله عن أشياء كثيرة فيقال إنه اضطرب كلام الخليفة من هول ما رأى من الإهانة والجبروت ، ثم عاد إلى بغداد وفي صحبته خواجه نصير الدين الطوسي والوزير ابن العلقمي وغيرهما ، والخليفة تحت الحوطة

ص: 60

والمصادرة ، فأحضر من دار الخلافة شيئاً كثيراً من الذهب والحلي والمصاغ والجواهر والأشياء النفيسة ، وقد أشار أولئك الملأ من الرافضة وغيرهم من المنافقين على هولاكو أن لايصالح الخليفة، وقال الوزير: متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا إلا عاماً أو عامين ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك ، وحسَّنوا له قتل الخليفة ، فلما عاد الخليفة إلى السلطان هولاكو أمر بقتله) . انتهى.

أقول: لاحظ تناقضهم حيث اعترفوا بفساد خليفتهم وبطانته وجبنهم ، ثم أُصرُّوا على تغطية عوراته باتهام الوزير الشيعي (رحمه اللّه) بأنه سبب سقوط بغداد !

وما زال أتباعهم الى عصرنا خاصة الوهابية ، يطبِّلون بهذه الكذبة ضد نصير الدين الطوسي رحمه الله علیه الذي أخذه المغول أسيراً واستبقوه لأنه طبيب ، وضد الوزير محمد بن العلقمي (رحمه اللّه) الذي لم يكن تحت إمرته جندي واحد ، وكان يصرُخّ في آذان الخليفة قبل سنوات منذراً بالخطر ، ولا من مجيب !

فلماذا يرمون بذنوبهم من لاذنب له ، ولا يعترفون بأن الخليفة السكران وقائد جيشه الجبان هما اللذان أدارا الأزمة سنوات قبل وزارة ابن العلقمي ، وكان القرار بيدهما لا بيده ، وأنهما السبب في ذلك السقوط المهين للخلافة !

7- كان سلاطين الخلافة كلهم مثل الخليفة

تدل رواياتهم على أن المستنصر كان جباناً ، أما ولده المستعصم فكان جباناً ومدمناً للخمر ، وبخيلاً ، ومفرطاً في هواية جمع المال كقائد جيشه الدويدار !

وقد تقدم قوله عندما حذروه من غزو المغول إن بغداد تكفيه ولابد أنهم سيتركونها له ! وتقدمت شهادة المتعصب ابن كثير بأنه عندما قتلت سهام المغول راقصته قال كثفوا الستائر ، ستائر سور القصر ، أو قاعة الرقص !

ص: 61

قال الباحث السيد حسن الأمين في كتابه الإسماعيليون والمغول/130: ( ويذكر السائح البندقي ماركو بولو الذي مرَّ ببغداد بعد انقضاء الدولة الإيلخانية بقليل قصة كانت ذائعة في عهده، خلاصتها: أن هولاكو بعد أن قبض على الخليفة اكتشف بغرابة أن للخليفة برجاً مليئاً بالذهب ! فاستدعاه بين يديه وأنبه لجشعه وبخله اللذين منعاه من استخدام كنوزه في تكوين جيش يدافع به عن عاصمته ، التي كانت مهددة منذ مدة طويلة ، ثم أمر بحبسه في ذلك البرج بدون طعام حيث مات هناك بين كنوزه ! وكذلك فإن عبد اللّه بن فضل اللّه الشيرازي ذكر اختلاف الروايات في كيفية قتل الخليفة ، وإلى أن أحدها ذكر أن الخليفة منع عنه الطعام ، وعندما طلب شيئاً من الموكلين به الحراس وصل الخبر إلى هولاكو فأمر أن يقدم إليه طبق ملئ بالذهب ، فقال الخليفة وكيف يمكنني أكل الذهب؟! فصدر الأمر عن طريق المترجم أن يقال له: إذا كنت تعرف أن الذهب لا يؤكل ، فلماذا لم تفرقه على عسكرك وأعوانك لتفدي به نفسك والعدد الكبير من معاونيك ، فتحفظ بذلك ملكك؟! فلم يُحِر الخليفة جواباً ! والحقيقة أن هاتين الروايتين: رواية ماركو بولو ورواية الشيرازي تعودان في الأصل إلى حقيقة واقعة هي أن هولاكو بعد أن دخل بغداد أحضر الخليفة وطلب إليه إحضار كنوزه فأحضر إليه بعض الأموال والجواهر ، فرفضها هولاكو وقال له: أذكر ما تملكه من الدفائن ما هي وأين توجد؟ فاعترف الخليفة بوجود حوض مملوء من الذهب في ساحة القصر ، فحفروا الأرض حتى وجدوه ، وكان مليئاً بالذهب الأحمر ، وكله سبائك تزن الواحدة مائة مثقال) ! انتهى.

إن وجود المستنصر والدويدار والسلطان محمد خوارزم على رأس هرم السلطة كان كافياً لانهيار نظام الخلافة ! لكنهم يبرؤونهم لمجرد أنهم سنيون ! ثم يتهمون غيرهم بأنهم كانوا سبب انهيار الدولة ، لمجرد أنهم شيعة !

إقرأ ما كتبه كبار علمائهم ومؤرخيهم عن سلطان سلاطين الخلافة محمد

ص: 62

خوارزم المسمى كذباً (غياث الدين) فقد كان أفسد من خليفته ، لأنه مع فساده الأخلاقي سخيفٌ الى حد الجنون !

قال ابن العبري في تاريخ مختصر الدول/227: (وكان السلطان غياث الدين مقبلاً على المجون وشرب الشراب غير مرضي الطريقة ، منغمساً في الشهوات الموبقة ، تزوج ابنة ملك الكرج فشغفه حبها وهام بها إلى حد أن أراد تصويرها على الدراهم فأشير عليه أن يصور صورة أسد عليه شمس لينسب إلى طالعه ويحصل به الغرض ! وخلَّف غياث الدين ثلاثة بنين عز الدين وأمه رومية ابنة قسيس ، وركن الدين وأمه أيضاً رومية، وعلاء الدين وأمه الكرجية . فولي السلطنة عز الدين وهو الكبير وحلف له الأمراء وخُطب له على المنابر . وكان مدبره والأتابك له الأمير جلال الدين قرطاي رجل خير ديِّن صائم الدهر ممتنع عن أكل اللحم ومباشرة النساء ، لم ينم في فراش وطئ وإنما كان نومه على الصناديق في الخزانة ، أصله رومي وهو من مماليك السلطان علاء الدين وتربيته ، وكان له الحرمة الوافرة عند الخاص والعام).انتهى.

لكن ماذا ينفع سكرتير صالح مع سلطان فاسد من قرنه الى قدمه؟!

وقال ابن الأثير في الكامل:12/495: (وكان جلال الدين سئ السيرة قبيح التدبير لملكه ، لم يترك أحداً من الملوك المجاورين له إلا عاداه ونازعه الملك وأساء مجاورته ، فمن ذلك أنه أول ما ظهر في أصفهان وجمع العساكر قصد خوزستان فحصر مدينة ششتر وهي للخليفة فحصرها ! وسار إلى دقوقا فنهبها وقتل فيها فأكثر وهي للخليفة أيضاً ، ثم ملك آذربيجان وهي لأوزبك فملكها ، وقصد الكرج وهزمهم وعاداهم ، ثم عادى الملك الأشرف صاحب خلاط ، ثم عادى علاء الدين صاحب بلاد الروم، وعادى الإسماعيلية ونهب بلادهم وقتل فيهم فأكثر وقرر عليهم وظيفة من المال كل سنة، وكذلك غيرهم . فكل الملوك تخلى عنه ولم يأخذ بيده...وانضاف إلى ذلك أن عسكره اختلفوا عليه وخرج وزيره عن طاعته في طائفة كثيرة من العسكر . وكان السبب أن ظهر من قلة عقل جلال الدين ما لم يسمع بمثله ! وذلك

ص: 63

أنه كان له خادم خصي وكان جلال الدين يهواه واسمه قلج ، فاتفق أن الخادم مات فأظهر من الهلع والجزع عليه ما لم يسمع بمثله ولا لمجنون ليلى ! وأمر الجند والأمراء أن يمشوا في جنازته رَجَّالة ، وكان موته بموضع بينه وبين تبريز عدة فراسخ فمشى الناس رَجَّالة ومشى بعض الطريق راجلاً فألزمه أمراؤه ووزيره بالركوب ، فلما وصل إلى تبريز أرسل إلى أهل البلد فأمرهم بالخروج عن البلد لتلقي تابوت الخادم ففعلوا فأنكر عليهم حيث لم يبعدوا ولم يظهروا من الحزن والبكاء أكثر مما فعلوا ، وأراد معاقبتهم على ذلك فشفع فيهم أمراؤه فتركهم ! ثم لم يدفن ذلك الخصي وإنما كان يستصحبه معه أينما سار وهو يلطم ويبكي فامتنع من الأكل والشراب ! وكان إذا قدم له قدم له طعام يقول إحملوا من هذا إلى قلج ولا يتجاسر أحد يقول إنه مات ، فإنه قيل له مرة إنه مات فقتل القائل له ذلك! إنما كانوا يحملون اليه الطعام ويعودون يقولون إنه يقبل الأرض ويقول إنني أصلح مما كنت! فلحق أمراءه من الغيظ والأنفة من هذه الحالة ما حملهم على مفارقة طاعته والإنحياز عنه مع وزيره ، فبقي حيران لا يدري ما يصنع لاسيما لما خرج التتر فحينئذ دفن الغلام الخصي ، وراسل الوزير واستماله وخدعه إلى أن حضر عنده ، فلما وصل اليه بقي أياماً وقتله جلال الدين ! وهذه نادرة غريبة لم يسمع بمثلها). انتهى.

ثم تحدث ابن الأثير المعاصر لغزو المغول عن الوضع المزري للسلاطين الحكام ومدى فسادهم وجبنهم ، قال في الكامل:12/374: (وصلوا(المغول)إلى تبريز وبها صاحب أذربيجان أوزبك بن البهلوان ، فلم يخرج إليهم ولا حدَّث نفسه بقتالهم لانشغاله بما هو بصدده من إدمان الشرب ليلاً ونهاراً لا يُفيق ! وإنما أرسل إليهم وصالحهم على مال وثياب ودواب وحمل الجميع إليهم ، فساروا من عنده يريدون ساحل البحر، لأنه يكون قليل البرد ليشتُّوا عليه والمراعي به كثيرة) ! وقال في الكامل:12/502: (في أول هذه السنة أطاع أهل

ص: 64

بلاد آذربيجان جميعها للتتر... وسبب طاعتهم أن جلال الدين لما انهزم من التتر وتفرقت عساكره وتمزقوا كل ممزق...وملوك الإسلام منحجرون في الأثقاب ! ولقد وقفت على كتاب وصل من تاجر من أهل الري كان قد انتقل إلى الموصل وأقام بها هو ورفقاء له ، ثم سافر إلى الري في العام الماضي قبل خروج التتر ، فلما وصل التتر إلى الري وأطاعهم أهلها وساروا إلى آذربيجان سار هو معهم إلى تبريز فكتب إلى أصحابه بالموصل يقول: إن الكافر لعنه اللّه ما نقدر أن نصفه ولا كثرة جموعه ، حتى لا تنقطع قلوب المسلمين فإن الأمر عظيم....وإن البلاد خالية من ملك وعساكر ، فقوي طمعهم وهم في الربيع يقصدونكم... فانظروا لأنفسكم . هذا مضمون الكتاب ، فإنا للّه وإنا اليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم).

8- صنعوا من الدويدار الجبان بطلاً لأنه عدو للشيعة !

أنظر كيف ترجم الذهبي للدويدار بإعجاب فقال في تاريخه:46/18: (وفيها كان عرس مجاهد الدين أيبك الدويدار الصغير على بنت بدر الدين صاحب الموصل وكان عرساً ما شُهد مثله ! وخلع عليه الخليفة وأعطاه ونوَّه باسمه ، ومشى في ركابه الأمراء ووزراء بألوية المُلك ، وأعطي أنواعاً كثيرة وتحفاً ، واستمرَّ دخوله إلى دار الخلافة في كل يوم ) . (ووهبه ليلة عرسه مائة ألف دينار ، وكان دخله في العام من ملكه وإقطاعه خمسمائة ألف دينار). (تاريخ الذهبي:47/443). وقال في سيره:23/371: (الدويدار الملك مقدم جيش العراق ، مجاهد الدين أيبك الدويدار الصغير ، أحد الأبطال المذكورين والشجعان الموصوفين! الذي كان يقول:لو مكنني أمير المؤمنين المستعصم لقهرت التتار ، ولشغلت هولاكو بنفسه! وكان مغرىً بالكيمياء له بيت كبير في داره فيها عدة من الصناع والفضلاء لعمل الكيمياء ولا تصح ، فحكى شيخنا

ص: 65

محيي الدين بن النحاس قال: مضيت رسولاً فأراني الدويدار دار الكيمياء وحدثني قال: عارضني فقير وقال: يا ملك خذ هذا المثقال وألقه على عشرة آلاف مثقال يصير الكل ذهباً ففعلت فصح قوله ، ثم لقيته بعد مدة فقلت علمني الصنعة قال: لا أعرفها لكن رجلاً صالحاً أعطاني خمسة مثاقيل فأعطيتك مثقالاً ولملك الهند مثقالاً ولآخرين مثقالين وبقي لي مثقال أنفق منه ، ثم أراني الدويدار قطعة فولاذ قد أحميت وألقى عليها مغربي شيئاً فصار ما حمي منها ذهباً وباقيها فولاذ) !

وقال في تاريخه:48/281: (مقدم جيوش العراق كان بطلاً شجاعاً موصوفاً بالرأي والإقدام ، كان يقول: لو مكنني أمير المؤمنين لقهرت هولاكو). انتهى .

أقول: كانت قيادة جيش الخلافة كله بيد هذا القائد الغلام المدلل الذي أعطاه الخليفة لقب(الملك)وكان دخله الشخصي وحده كافياً لميزانية جيش !

لكنه بشهادتهم كان مترفاً همُّه جمع المال وتحويل الحديد الى ذهب ! وهو كاذبٌ في قوله إن درويشاً أعطاه مادة تحول الحديد الى ذهب، كما هو كاذبٌ في عنترياته بأن الخليفة لو مكنه لهزم هلاكو ! فماذا يريد من الخليفة السكران وهو بيده؟ومتى منعه من الدفاع؟ ولماذا هرب في زورق فقبضوه كالدجاجة !

قال السبكي في طبقات الشافعية:8/270: (وركب السلطان هولاكو إلى العراق وكان على مقدمته بايجو نوين وأقبلوا من جهة البر الغربي عن دجلة فخرج عسكر بغداد وعليهم ركن الدين الدويدار فالتقوا على نحو مرحلتين من بغداد وانكسر البغداديون وأخذتهم السيوف وغرق بعضهم في الماء وهرب الباقون) !!

هذا على رواية السبكي المفرط في تعصبه للخليفة وبطانته ، لكن غيره روى أن أحداً لم يخرج من بغداد لمقاومة المغول ، ولم تكن بينهم معركةٌ أبداً !

قال السيد الأمين في أعيان الشيعة:9/93:(ولما حمي وطيس الحرب في بغداد وضاق الحال على الأهالي أراد الدواتدار أن يركب سفينة وأن يهرب إلى ناحية

ص: 66

المسيب ، ولكنه بعد أن اجتاز قرية العقاب أطلق جند بوقا تيمور حجارة المنجنيق والسهام وقوارير النفط واستولوا على ثلاث سفن وأهلكوا من فيها ، وعاد الدواتدار منهزماً ! فلما وقف الخليفة على تلك الحال يئس نهائياً من الإحتفاظ ببغداد ولم يرَ أمامه مفراَ ولا مهرباَ قط فقال: سأستسلم وأطيع ! ثم أرسل فخر الدين الدامغاني وابن الدرنوش مع قليل من التحف إلى هولاكو زاعماً أنه لو بعث بالكثير لكان ذلك دليلاً على خوفه فيتجرأ العود ! فلم يلتفت هولاكو إلى هذه الهدايا ، وعادا محرومين).

9- اخترعوا للخليفة السكران كرامات ومعاجز !

قال السبكي في طبقات الشافعية:8/270: (وأما الخليفة فقيل إنه طلبه ليلاً وسأله عن أشياء ثم أمر به ليقتل ، فقيل لهولاكو: إن هذا إن أهريق دمه تظلم الدنيا ويكون سبب خراب ديارك فإنه ابن عم رسول اللّه وخليفة اللّه في أرضه ! فقام الشيطان المبين الحكيم نصير الدين الطوسي وقال: يُقتل ولا يراقُ دمه ! وكان النصير من أشد الناس على المسلمين، فقيل إن الخليفة غُمَّ في بساط ، وقيل رفسوه حتى مات ، ولما جاءوا ليقتلوه صاح صيحة عظيمة). انتهى.

وهذا غاية كذبهم وافترائهم على المرجع الأسير نصير الدين الطوسي رحمه الله علیه! وقد قلد السبكي في ذلك ابن تيمية ! ثم أضاف من قصص الغلو والكذب:

(ولقد حكي أن الخليفة كان قاعداً يقرأ القرآن وقت الإحاطة بسور بغداد فرمى شخص من التتار بسهم فدخل من شرفات المكان الذي كان فيه وكانت واحدة من بناته ! بين يديه فأصابها السهم فوقعت ميتة ! ويقال كتب الدم على الأرض إذا أراد اللّه أمراً سلب ذوي العقول عقولهم! وإن الخليفة قرأ ذلك وبكى ! وإن هذا هو الحامل على أن أطاع الوزير في الخروج إليهم .

وللّه ما فعلت زوجة أمير المؤمنين! قيل: إن هولاكو دعاها ليواقعها فشرعت تقدم له

ص: 67

تحف الجواهر وأصناف النفائس تشغله عما يرومه ، فلما عرفت تصميمه على ما عزم عليه اتفقت مع جارية من جواريها على مكيدة تخيلتها وحيلة عقدتها فقالت لها: إذا نزعت ثيابك وأردت أن أقدك نصفين بهذا السيف فأظهري جزعاً عظيماً ، فأنا إذ ذاك أقول لك إفعلي أنت هذا بي ، فإن هذا سيف من ذخائر أمير المؤمنين وهو لا يؤثر إذا ضُرب به ولا يجرح شيئاً ، فإذا أنت ضربتيني فليكن الضرب بكل قواك على نفس المقتل ! ثم جاءت إلى هولاكو وقالت: هذا سيف الخليفة وله خصوصية وهي أنه يضرب به الرجل فلا يجرحه إلا إذا كان الضارب الخليفة ! ثم دعت الجارية وقالت أجرب بين يدي السلطان فيها فلما عاينت الجارية السيف مصلتاً والضرب آتياً صاحت صيحة عظيمة وأظهرت الجزع شديداً ، فقالت السيدة رضي اللّه عنها: ويلك أما علمت أنه سيف أمير المؤمنين ؟ مالك أتخشينه أما تعرفينه؟! خذيه واضربيني به فأخذته فضربتها به فقدتها نصفين ! وماتت وما ألمت بعار ، ولا جعلت فراش ابن عم رسول اللّه فراشاً للكفار! فتحسر هولاكو وعلم أنها مكيدة! وقد رأيت مثل الحكاية جرى في الزمن الماضي لبعض الصالحات راودها عن نفسها بعض الفاجرين)! انتهى.

أقول: إن أمثال هذه التلفيقات تجعلنا نشك في سبب وضعهم لها ! فقد يكون السبب أن إحدى زوجات الخليفة أو جواريه كان سلوكها بالعكس تماماً !

10- من رواياتهم المعقولة في استسلام بغداد

منها رواية تاريخ مختصر الدول/242 ، قال: (وأمر هولاكو أن يخرج إليه الدويدار وسليمان شاه ، وأما الخليفة إن اختار الخروج فليخرج وإلا فليلزم مكانه ! فخرج الدويدار وسليمان شاه ومعهما جماعة من الأكابر، ثم عاد الدويدار من الطريق بحجة أنه يرجع ويمنع المقاتلين الكامنين بالدروب والأزقة لئلا يقتلوا أحداً من المغول! فرجع وخرج من الغد وقتل ، وعامة أهل بغداد أرسلوا شرف الدين المراغي وشهاب

ص: 68

الدين الزنكاني ، ليأخذا لهم الأمان . ولما رأى الخليفة أن لا بد من الخروج أراد أو لم يرد ، استأذن هولاكو بأن يحضر بين يديه فأذن له ! وخرج رابع صفر ومعه أولاده وأهله ، فتقدم هولاكو أن ينزلوه بباب كلواذ وشرع العساكر في نهب بغداد ، ودخل بنفسه إلى بغداد ليشاهد دار الخليفة ، وتقدم بإحضار الخليفة فأحضروه ومَثُل بين يديه وقدم جواهر نفيسة ولآلئ ودرراً معبأة في أطباق ، ففرق هولاكو جميعها على الأمراء، وعند المساء خرج إلى منزله وأمر الخليفة أن يفرز جميع النساء التي باشرهن هو وبنوه ويعزلهن عن غيرهن ففعل فكنَّ سبعمائة امرأة ، فأخرجهن ومعهن ثلاثمائة خادم خصي! وبقي النهب يعمل إلى سبعة أيام ثم رفعوا السيف وأبطلوا السبي).انتهى.

ومثله في المعقولية والوثاقة رواية الآداب السلطانية لابن الطقطقي/231، قال: (وفي آخر أيامه(الخليفة)قويت الأراجيف بوصول عسكر المغول صحبة السلطان هولاكو فلم يحرك ذلك منه عزماً ولا نبَّه منه همَّةً ولا أحدث عنده هماً ! وكان كلما سمع عن السلطان (هولاكو)من الإحتياط والإستعداد شئ ، ظهر من الخليفة نقيضه من التفريط والإهمال ، ولم يكن يتصور حقيقة الحال في ذلك ، ولا يعرف هذه الدولة يسر اللّه إحسانها وأعلى شانها حق المعرفة . وكان وزيره مؤيد الدين بن العلقمي يعرف حقيقة الحال في ذلك ويكاتبه بالتحذير والتنبيه ويشير عليه بالتيقظ والإحتياط والإستعداد ، وهو لايزداد إلا غفولاً ، وكان خواصه يوهمونه أنه ليس في هذا كبير خطر ولا هناك محذور ، وأن الوزير إنما يعظم هذا لينفق سوقه ، ولتبرز إليه الأموال ليجند بها العساكر فيقتطع منها لنفسه ! وما زالت غفلة الخليفة تنمو ويقظة الجانب الآخر تتضاعف حتى وصل العسكر السلطاني إلى همذان وأقام بها مدة مديدة .

ثم تواترت الرسل السلطانية إلى الديوان المستعصمي فوقع التعيين من ديوان الخليفة على ولد أستاذ الدار وهو شرف الدين عبد اللّه بن الجوزي ، فبعثه رسولاً إلى خدمة الدركاه السلطانية بهمذان ، فلما وصل وسمع جوابه علم(هولاكو)أنه جواب مغالطة ومدافعة فحينئذ وقع الشروع في قصد بغداد وبث العساكر إليها فتوجه عسكر

ص: 69

كثيف من المغول والمقدم عليهم باجو إلى تكريت ، ليعبروا من هناك إلى الجانب الغربي ويقصدوا بغداد من غربيها ، ويقصدها العسكر السلطاني من شرقيها ، فلما عبر عسكر باجو من تكريت وانحدر إلى أعمال بغداد أجفل الناس من دجيل والإسحاقي ونهر ملك ونهر عيسى ، ودخلوا إلى المدينة بنسائهم وأولادهم ، حتى كان الرجل أو المرأة يقذف بنفسه في الماء ، وكان الملاح إذا عبر أحداً في سفينة من جانب إلى جانب يأخذ أجرته سواراً من ذهب أو طرازاً من زركش ، أو عدة من الدنانير !

فلما وصل العسكر السلطاني(هولاكو)إلى دجيل وهو يزيد على ثلاثين ألف فارس خرج إليه عسكر الخليفة صحبة مقدم الجيوش مجاهد الدين أيبك الدويدار ، وكان عسكراً في غاية القلة فالتقوا بالجانب الغربي من بغداد قريباً من البلد فكانت الغلبة في أول الأمر لعسكر الخليفة ، ثم كانت الكرة للعسكر السلطاني فأبادوهم قتلاً وأسراً وأعانهم على ذلك نهر فتحوه في طول الليل ، فكثرت الوحول في طريق المنهزمين فلم ينج منهم إلا من رمى نفسه في الماء ، أو من دخل البرية ومضى على وجهه إلى الشام ! ونجا الدويدار في جمعية من عسكره ووصل إلى بغداد . وساق باجو حتى دخل البلد من جانبه الغربي ووقف بعساكره محاذي التاج ، وجاست عساكره خلال الديار(دون مقاومة) وأقام محاذي التاج أياماً .

في يوم الخميس رابع محرم من سنة ست وخمسين وستمائة ، ثارت غبرة عظيمة شرقي بغداد على درب بعقوبا بحيث عمت البلد ، فانزعج الناس من ذلك وصعدوا إلى أعالي السطوح والمناير يتشوفون ، فانكشفت الغبرة عن عساكر السلطان وخيوله ولفيفه وكراعه وقد طبق وجه الأرض وأحاط ببغداد من جميع جهاتها ، ثم شرعوا في استعمال أسباب الحصار ، وشرع العسكر الخليفي في المدافعة والمقاومة(لايصح) إلى اليوم التاسع عشر من محرم . فلم يشعر الناس إلا ورايات المغول ظاهرة على سور بغداد من برج يسمى برج العجمي من ناحية باب من أبواب بغداد يقال له باب كلواذى ، وكان هذا البرج أقصر أبراج السور وتقحَّمَ العسكر السلطاني هجوماً

ص: 70

ودخولاً(بلا مقاومة) فجرى من القتل الذريع والنهب العظيم والتمثيل البليغ ما يعظم سماعه جملة ، فما الظن بتفاصيله:

وكان ما كان مما لستُ أذكره *** فظُنَّ ظناً ولا تسأل عن الخبرِ !

وأمر السلطان بخروج الخليفة وولده ونسائه إليه ، فخرجوا فحضر الخليفة بين يدي الدركاه، فيقال إنه عوتب ووُبِّخ بما معناه نسبة العجز والتفريط والغفول إليه!ثم أُوصل إلى اليأس هو وولداه الأكبر والأوسط ، وأما بناته فأُسرن ، ثم استشهد المستعصم في رابع صفر سنة ست وخمسين وستمائة). وقال العصامي في سمت النجوم/1212: (وفي رواية: أن خروج الخليفة المستعصم إليه كان قبل وقوع شئ من القتال). انتهى.

وهو المنسجم مع انهيار الناس عامة ، وانهيار الخليفة وبطانته المترفة بشكل خاص !

11- أخفوا أدوار بطانة الخليفة شركاء قائد الجيش !

تغاضى ابن تيمية والذهبي وبقية أعداء الشيعة عن كل ما ارتكبه الخليفته (المستعصم بلهوه) وقائد جيشه الدويدار وسلاطين البلاد ! والسبب أنه متعصب ضد الشيعة مثله ، ولعل الدويدار شركسي كالذهبي فأخذته له عصبة الدم ! فالذهبي هو ابن قايماز المصري التركماني، ولم أجد نصاً في الدويدار، لكن وجدت في الدويدار المصري أنه: (قدم به خواجا محمود من بلاد الجاركس في جملة مماليك إلى ثغر الإسكندرية).(المنهل الصافي لابن تغري الشركسي/839 ) .

كما غيَّبوا أدوار بقية بطانة الخليفة (الكبار) وكلهم سنة متعصبون مثلهم ، وأعداءٌ للشيعة وللوزير ابن العلقمي (رحمه اللّه) ! ومنهم أحمد بن الخليفة ، الذي كان بطل مجزرة الكرخ حيث قاد جيش الخلافة مع الدويدار وهاجموا أحياء الشيعة في بغداد (فنهبوا الكرخ ، وهتكوا النساء ، وركبوا منهن الفواحش) ! (أبو الفداء/833، وعقد الجمان للعيني/79).

وهما اللذان قاما بحركة انقلاب وأرادا قتل الخليفة ليأخذ الخلافة أحمد: ( فهاشت

ص: 71

العامة وعظم الأمر وقتل جماعة كثيرة وجرح خلق) ! (تاريخ الذهبي:48/24) .

ومنهم أحمد بن الدامغاني صاحب الديوان ، الذي اختاره هولاكو ليكون صاحب ديوانه ! (تاريخ الإسلام:48/260) . وابن بهرام: (الحاجب الأوحد شمس الدين الخالدي البغدادي وأباه مشرف عرض الجيوش في دولة المستعصم). (تاريخ الإسلام:52/223).

وصدر الدين بن النيار شيخ الشيوخ في بغداد ، وأخوه عز الدين وكيل أولاد المستعصم ! (الوافي:13/29). (ومحي الدين بن الجوزي الصاحب العلامة سفير الخلافة التيمي البكري البغدادي الحنبلي أستاذ دار المستعصم).(عبر للذهبي:5/237). (وقد أرسله المستعصم إلى خراسان إلى هولاكو) . (سير الذهبي:23/374).

وقد أورد في أعيان الشيعة:9/87 ، حقائق مفحمة لهم من مختصر تاريخ الدول لابن العبري ، وجامع التواريخ لرشيد الدين الهمداني ، وتاريخ ابن الطقطقي .

12- لماذا لم يتهموا شخصيات سنية كانت مع المغول؟

اشارة

كان التتار مجاورين للمسلمين في شرق خراسان ، وكانت لهم علاقات تجارية وقبلية معهم ، ولملوكهم علاقات مع شخصيات سنية عديدة ، وقد كان مع جنكيز في حملته الأولى سنة617، ومع هولاكو في حملتهم الثانية شخصيات منهم قبل أن يقع نصير الدين الطوسي رحمه الله علیه في قبضته . فقد رووا أنه كان معه محمد الجويني واستأذن هلاكو أن يأخذ كتب وآلات رصد من مكتبة قلعة ألَمُوت ! فلماذا يتهمون نصير الدين رحمه الله علیه وينسون هؤلاء؟!

بل منهم من أرسله جنكيز الى سلطان خراسان طالباً منه التسليم ! قال الذهبي في تاريخه:44/22: (وفيها(516)عاد السلطان خوارزم شاه محمد إلى نيسابور ، وأقام بها مدة وقد بلغه أن التتار خذلهم اللّه تعالى قاصدون مملكة ما وراء النهر ، وجاءه

ص: 72

من جنكس خان رسل: وهم محمود الخوارزمي وخواجا علي البخاري ومعهم من طُرَفٌ هدايا الترك من المسك وغيره). انتهى.

وقال الأمين في: الإسماعيليون والمغول/75: (وكان فيمن أخلص لجنكيز في هذا الصراع ثلاثة رجال مسلمين هم: جعفر خوجا الذي يقال أن جنكيز متزوجاً أخته ، وحسن ، ودانشمند الحاجب ، وكان هذان الإثنان مع جنكيز في هجومه على خوارزم وأدَّيا له خدمات جليلة لاسيما في مفاوضاته مع أهل البلاد المفتوحة . وقد عاش دانشمند25سنة بعد جنكيز ، وكان مؤدباً لأحد أحفاد جنكيز ابن ابنه أوكتاي بن جنكيز . وهؤلاء المسلمون وأمثالهم جاءوا في الأصل إلى تلك البلاد تجاراً ، وكان التجار المسلمون القادمون من الغرب هم الذين يتولون التجارة مع منغوليا والصين .

وكان ممن عمل مع جنكيز قبل الهجوم على خوارزم ، محمد يلواج الذي أرسله جنكيز رسولاً إلى محمد خوارزم شاه واتخذ منه جنكيز وزيراً ومستشاراً ، وبعد إستيلاء جنكيز على ما وراء النهر جعله حاكماً عليها ، حيث قام بإعمار ما خربه المغول وأدار البلاد إدارة صحيحة أحسنت إلى الناس .

وممن عملوا مع جنكيز خان: فخر الدين محمود بن محمد الخوارزمي الذي يقول عنه ابن الفوطي: كان من أعيان وزراء جنكيز خان وعليه مدار الملك في المشرق ، وإليه تدبير ممالك تركستان وبلاد الخطا وما وراء النهر وخوارزم . وكان مع ذلك الذكاء كاتباً سديداً يكتب بالمغولية والخوارزمية والتركية والفارسية الخطائية(لهجة من لهجات تركستان)والهندية والعربية ، وكان غاية في الفهم والذكاء والمعرفة ، وبتدبيره الشديد انتظم للمغول ملكهم). انتهى.

أقول: والأعجب من ذلك أنهم سكتوا عن سنيين ذهبوا الى المغول وطلبوا منهم أن يأتوا ويحتلوا بلادهم؟! قال ابن خلدون:5/529: (واستقل منكوفان بالتخت ، وولَّى أولاد جفطاي عمه على ما وراء النهر إمضاء لوصية جنكزخان لأبيهم التي مات دونها ووفد عليه جماعة من أهل قزوين وبلاد الجبل يشكون ما نزل بهم من ضرر

ص: 73

الإسماعيلية وفسادهم ، فجهز أخاه هلاكو لقتالهم واستئصال قلاعهم فمضى لذلك ، وحسَّن لأخيه منكوفان الإستيلاء على أعمال الخليفة فأذن له فيه). انتهى.

أقول: في اعتقادي أن المغول لايحتاجون الى سبب خارجي لاجتياح البلاد الإسلامية ، لكن أتباع الخلافة يصرون على سبب خارجي لإتهام الشيعة فأين هم من هذا الوفد الرسمي من قزوين وبلاد الجبل ، وكان معهم قاضي القضاة شمس الدين أو قبلهم ، في عاصمة منكوقاآن طالبين منه أن يحتل بلادهم ! فاستجاب لهم وأصدر أمره الى أخيه هولاكو، بشهادة ابن خلدون !

وقال السيد الأمين في الإسماعيليون والمغول/119: (ويقول الجوزجاني: (أنظر طبقات ناصري/413): إن شمس الدين هذا كان على اتصال بالمغول وكان إماماً وعالماً كبيراً ، ذهب مرة إلى منكو خان وطلب مه أن يضع حداً لشر الملاحدة ويخلص الناس من فسادهم . ويقول الجوزجاني أيضاً: إن كلمات هذا القاضي كان لها أثر عميق في نفس منكوخان إذ نسب إليه الضعف والعجز لأنه لم يستطع أن يستأصل شأفة هذه الطائفة التي تدين بدين يخالف ديانات المسيحيين والمسلمين والمغول ، وما ذلك إلا لأنهم(الإسماعيلية)ستطاعوا أن يغروا منكو خان بالمال بينما هم يتحينون فرصة ضعف دولته فيخرجون من الجبال والقلاع ليقضوا على البقية الباقية من المسلمين ، ويعفوا آثارهم) ! انتهى.

فلماذا لم يتهموا هؤلاء الشخصيات السنية الذين جاؤوا من قزوين وبلاد الجبل الى طاغية المغول يحثونه على غزو بلاد المسلمين بحجة الإسماعيلية ، وقد كانوا وفداً سنياً برئاسة قاضي القضاة ؟!

**

ومنهم من اعتمد عليهم جنكيز وهولاكو فجعلاهم حكاماً في بلاد المحتلة !

ففي النجوم الزاهرة:7/16: (وأما ملوك الشرق فسلطان ما وراء النهر وخوارزم: السلطان ركن الدين وأخوه عز الدين ، والبلاد بينهما مناصفة وهما في طاعة هولاكو

ص: 74

ملك التتار) . وفي تاريخ مختصر الدول/237: (وفيها سيَّر السلطان عز الدين رسولاً إلى خدمة هولاكو شاكياً على بايجو نوين أنه أزاحه عن ملكه ، فأمر هولاكو أن يتقاسما الممالك هو وأخوه ركن الدين). وفي النهاية:13/236: (وكان رحيل السلطان المسلط هولاكو خان عن بغداد في جمادى الأولى من هذه السنة إلى مقر ملكه ، وفوض أمر بغداد إلى الأمير علي بهادر فوض إليه الشحنكية بها ) .

وفي أعيان الشيعة:9/95 ، عن جامع التواريخ:1/262: (وفي نفس اليوم الذي قتلوا فيه الخليفة أرسلوا إليها مؤيد الدين ابن العلقمي ليقوم بالوزارة وفخر الدين الدامغاني ليكون صاحب الديوان ، وجعلوا علي بهادر شحنة لها ، وعينوا المحتسبين لمراقبة المقاييس والأوزان ونصبوا عماد الدين عمر القزويني نائباً للأمير قراتاي، وهو الذي عمَّر مسجد الخليفة ومشهد موسى والجواد (صلی الله عليه وآله وسلم) . وكذلك نصب نجم الدين أبو جعفر أحمد بن عمران الملقب براست دل المخلص ، والياً على أعمال شرقي بغداد مثل طريق خراسان والخالص والبندنيجين . وأمر هولاكو بأن يكون نظام الدين عبد المنعم البندنيجي قاضياً للقضاة) .

وفي كتاب الإسماعيليون والمغول/286: (رأينا فيما تقدم أسماء ثلاثة أشخاص عينهم هولاكو على رأس الحكم فور سقوط الحكم السابق، لإدارة العراق بأيد عراقية وهم مؤيد الدين بن العلقمي وعلي بهادر وفخر الدين الدامغاني والقاضي عبد المنعم البندنيجي... ويمكننا القول إن أول حاكم فعلي حكم العراق بعد سقوط بغداد مباشرة هو عماد الدين عمر بن محمد القضوي القزويني). وقال في هامشه: (بعد أن استقر الأمر لهولاكو عين للإشراف العام على إدارة البلاد التي أخضعها كلاً من ابنه الأكبر أبقا على العراق وخراسان ومازندران حتى نهر جيحون ، وابنه يسموت على أران وآذربيجان ، والأمير تودان على ديار بكر وديار ربيعة حتى شاطئ الفرات ، ومعين الدين بروانه على آسيا الصغرى ، والملك صدر الدين على تبريز ، والأمير أنكيانو على فارس ، وفوض منصب صاحب ديوان البلاد كلها لشمس الدين الجويني وأطلق يده في كل الأمور . وفوض حكم

ص: 75

بغداد إلى أخيه علاء الدين عطا ملك ).

**

ومنهم حكام من أسرة صلاح الدين بايعوا المغول وقاتلوا معهم !

ففي كتاب الإسماعيليون والمغول/121:(على أن الأمر لم يقف عند هذا الحد فبعد احتلال هولاكو لبغداد وزحفه إلى بلاد الشام انضم إليه من انضم من ملوك المسلمين وساروا معه لقتال إخوانهم المسلمين ومعاونته في فتح بلادهم ! نذكر منهم الملك السعيد ابن الملك العزيز بن الملك العادل أخي صلاح الدين الأيوبي ! الذي سلَّم لهولاكو الصبيبة (قلعة على جبل شاهق تطل على بانياس)وانضم إليه في زحفه .

ويقول عن ذلك أبو الفداء في تاريخه:3/204: وسار الملك السعيد معهم وأعلن الفسق والفجور وسفك دماء المسلمين... وكان معهم أيضاً في هذه المعركة الملك الأشرف موسى صاحب حمص الذي استطاع الفرار عند حصول الهزيمة فلم يؤسر ، وهو من أحفاد شيركوه عم صلاح الدين الأيوبي ، وممن حرضوا المغول على غزو الشام ومصر الملك المغيث فتح الدين عمر بن العادل بن الكامل بن العادل شقيق صلاح الدين الأيوبي... قبض عليه الظاهر بيبرس وأحضر الفقهاء والقضاة وأوقفهم على مكاتبات من التتر إلى المغيث أجوبة عما كتب إليهم في إطماعهم في ملك مصر والشام ، كما نص على ذلك أبو الفداء:3/217، وبصيرة ابن تيمية المغشاة بعصبيته لا ترى شيئاً من هذا ! ونحن هنا نسأل ابن تيمية ومن لف لفه وما أكثرهم: ماذا كنتم ستفعلون لو أن ملكاً شيعياً هو الذي سلم(الصبيبة)لهولاكو وانضم إلى جيشه؟! وماذا كنتم ستفعلون لو أن ملكاً شيعياً أو أي شخص شيعي كان يقاتل مع المغول في معركة عين جالوت؟ لقد انضم ملوككم إلى المغول وحاربوا المسلمين وكسبوا الخزي فتجاهلتم ذلك ورحتم تتهمون الأبرياء الشرفاء... !

لم يبصر ابن تيمية وفود الخيانة متزاحمة على أبواب هولاكو ، ملوكاً وسلاطين وصدوراً وأعياناً ، بل أبصر نصير الدين الطوسي وحده ، لأنه عندما كان يكتب....

ص: 76

كانت بصيرته مغشاة بعصبيته فانحجبت عنها الحقائق وتجلت الأباطيل...لأنه يريد بأية وسيلة أن ينال ممن يكرههم ، يكرههم لا لشئ يستدعي الكره ، بل لأنهم لا يرون رأيه في كل شئ ، وكل من لا يرى رأيه فهو مكروه منه ! بل هو حلال الدم حلال الكرامة حلال الإستباحة ! الإستباحة بالسيف أو الإستباحة بالقلم ! وبهذا الإستحلال بفتاوى ابن تيمية سفكت دماء المسلمين في كسروان بلبنان ، وكادت تسفك دماء المسلمين في بعلبك والهرمل،ودماء المسلمين في جبل عامل، لولا أنهم لم يؤخذوا على حين غرة...وبهذا الإستحلال استبيحت سمعة نصير الدين الطوسي)!

أقول: يطول الكلام لو أردنا سرد أتباع المذاهب السنية الذين تعاونوا مع المغول خوفاً أو طمعاً أو خيانة ، أو استعانة بهم على خصومهم من مذهب آخر ، وحتى من مذهبهم ! فقد سجل ابن أبي الحديد في شرح النهج:8/237: (ولم يبق لهم إلا أصبهان فإنهم (المغول) نزلوا عليها مراراً في سنة627وحاربهم أهلها وقتل من الفريقين مقتلة عظيمة ولم يبلغوا منها غرضاً ، حتى اختلف أهل أصبهان في سنة633، وهم طائفتان حنفية وشافعية وبينهم حروب متصلة وعصبية ظاهرة ! فخرج قوم من أصحاب الشافعي إلى من يجاورهم ويتاخمهم من ممالك التتار فقالوا لهم: أقصدوا البلد حتى نسلمه إليكم ! فنقل ذلك إلى قاآن بن جنكيز خان بعد وفاة أبيه والملك يومئذ منوط بتدبيره فأرسل جيوشاً من المدينة المستجدة التي بنوها وسموها قرا حرم ، فعبرت جيحون مغربة وانضم إليها قوم ممن أرسله جرماغون على هيئة المدد لهم، فنزلوا أصفهان في سنة633 المذكورة وحصروها ، فاختلف سيفا الشافعية والحنفية في المدينة حتى قتل كثير منهم، وفتحت أبواب المدينة فتحها الشافعية على عهد بينهم وبين التتار أن يقتلوا الحنفية ويعفوا عن الشافعية !

فلما دخلوا البلد بدؤوا بالشافعية فقتلوهم قتلاً ذريعاً ولم يفوا مع العهد الذي عهدوه لهم ، ثم قتلوا الحنفية ثم قتلوا سائر الناس ) ! انتهى.

ص: 77

أقول: كان هذا العمل من السنة المتعصبين الشوافع، سنة633، أي قبل حملة هولاكو على بغداد بأكثر من عشرين سنة ! فأين كان العلقمي والطوسي؟!

واتهموا الخليفة الناصر العباسي لأنه شيعي !

من عجائب تعصبات أتباع الخلافة ماذكره أبو الفداء في تاريخه/759 ، في ترجمة الخليفة الناصر العباسي المتوفى622، قال: ( ويقال إنه هو الذي كاتب التتر وأطمعهم في البلاد ، لما كان بينه وبين خوارزم شاه من العداوة ، أملاً بأن يشغله بهم عن الزحف إلى العراق).انتهى. وهذا يدلنا على أن صراع مراكز القوى في دولة الخلافة كان سبباً أساسياً في تطميع المغول بغزو بلاد المسلمين . وإن كنا نرجح أن تهمتهم للخليفة الناصر (رحمه اللّه) سببها تشيعه وتعصبهم لخصمه السني المتعصب خوارزم شاه ، لأن خطر المغول لم يكن فعلياً في عصر الناصر !

13- من أدلتهم الواهية أن هولاكو لم يقتل ابن العلقمي (رحمه اللّه)

يثير هذا التساؤل المتعصبون ضد الشيعة ! وجوابه: أن هولاكو أبقى الكثيرين من السياسيين والشخصيات في كل بلد احتله ، واستفاد من كثير منهم .

وقد رووا هم أن هولاكو لما حاصر بغداد طلب الخليفة ووزيره ابن العلقمي وقائد جيشه الدويدار والقائد السلجوقي سليمان شاه ، فخاف الخليفة وأرسل وزيره ابن العلقمي وعدداً من الشخصيات ليفاوضوا هولاكو ، لكن بعد فوات الأوان ! وكان مع ابن العلقمي علمان سنيان: فخر الدين أحمد بن الدامغاني وتاج الدين علي بن الدوامي ، وأخبر هلاكو بواقع الأمر وأن رأيه كان من الأول أن يسلم الخليفة لهولاكو بالسلطنة كما سلم لأسلافه السلاجقة والخوارزمية لكنهم لم يسمعوا كلامه، واستشهد على كلامه باللذيْن معه وطلب

ص: 78

الأمان لنفسه ولهما فأعطاهم هلاكو الأمان ثم أرسلهم لإحضار الخليفة بنفسه..الخ.(أعيان الشيعة:9/95، وذكر ثوثق ابن العلقمي من هلاكو: أبوالفداء/833 ، ومآثر الإنافة:2/91) .

وأراد الذهبي أن يطعن في ابن العلقمي بأنه حسد الدامغاني السني ، فشهد بأن وزير بلاط الخليفة الدامغاني السني كان أقرب الى هولاكو من الوزير ابن العلقمي، قال في تاريخه:48/260:(إلى أن رفع السيف فأتينا دار فخر الدين أحمد بن الدامغاني صاحب الديوان ، وقد أراد ابن العلقمي أن يضره فقال لهولاكو: هذا يعرف أموال الخليفة وذخائره وأمواله وهذا كان يتولاها. فقال: إذا كان الخليفة اختاره لنفسه فأنا أولى أن أوليه . وكتب له الفرمان وقال للوزير:لاتفعل شيئاً إلا بموافقته).

قال السيد الأمين في كتابه الإسماعيليون والمغول/123: (وممن يتجاهل ابن تيمية جرائمهم ويتهم الأبرياء..كبار علماء هولاكو الذين وضعوا أنفسهم في تصرفه فعاونوه على سفك دماء المسلمين ، منهم أبو بكر فخر الدين عبد اللّه بن عبد الجليل القاضي المحدث الذي ذكر صاحب كتاب الحوادث الجامعة أنه كان يتولى إخراج الفقهاء البغداديين ليقتلوا في مخيم هولاكو ! وصاحب الحوادث الجامعة مؤرخ معاصر شهد الأحداث بنفسه، وأن الذي كان يَدْهَم بيوت فقهاء بغداد ويخرجهم منها ليسوقهم إلى هولاكو ليقتلهم هو القاضي المحدث الملقب ب(فخر الدين)! إن حامل هاتين الصفتين وهذا اللقب كان جلاد هولاكو الساعي بدماء الفقهاء العلماء إلى السفاك السفاح ، إنه يعرفهم واحداً واحداً لأنه منهم ويعرف مراتبهم ودرجاتهم ويعرف بيوتهم ومجالسهم فكان يسهل عليه انتقاؤهم وسحبهم لتهرق دماؤهم ! وابن تيمية يغمض عينيه عنه وعن أمثاله ، ولا يرى فيما فعلوه ما يستحق المؤاخذة) ! انتهى.

وقد روت كتب التاريخ أن بعض التجار والشخصيات أعطوا مبالغ للمغول لاستثناء بيوتهم من النهب والتخريب ، وبعض البيوت صدر الأمر بعدم التعرض لها ومنها بيت صاحب الديوان وبيت الحاجب وبيت ابن العلقمي ، فلعل

ص: 79

السبب الأمان الذي أعطاه إياه هولاكو ، أو وساطة نصير الدين الطوسي رحمه الله علیه.

قال الذهبي في تاريخه:48/39: (وكان ببغداد عدة من التجار سلِموا لفرمانات والتجأ إليهم خلق ، وسلم مَن بدار ابن العلقمي ، ودار ابن الدامغاني صاحب الديوان ودار ابن الدوامي الحاجب ، وما عدا ذلك ما سلم إلا من اختفى في بئر أو قناة ، وأحرق معظم البلد ، وكانت القتلى في الطرق كالتلول ! ومن سلم وظهر خرجوا كالموتى من القبور خوفاً وجوعاً وبرداً . وسلم أهل الحلة والكوفة ، أمَّنهم القان وبعث إليهم شحاني . وسلمت البصرة وبعض واسط . ووقع البلاء فيمن تخلف).

وقال في أعيان الشيعة:9/86: (ومما نقلنا من الإخبار يظهر للقارئ أن الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي لم يكن السالم من القتل وحده حتى يتهم بالخيانة ذلك الإتهام الباطل، وإنما سلم معه ونال مرتبة في الدولة المغولية فخر الدين أحمد ابن الدامغاني الحنفي الذي كان صاحب الديوان في آخر أيام المستعصم ، وتاج الدين علي بن الدوامي الذي كان حاجب باب النوبي للمستعصم باللّه ونجم الدين أحمد بن عمران الباجسري أحد عمال الخليفة والغالب على أهل باجسرى الحنبلية ، وأقضى القضاة عبد المنعم البندنيجي الشافعي ، وسراج الدين بن البجلي الشافعي ، وفخر الدين المبارك ابن المخرمي الحنبلي ، وعز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي ، والشيخ عبد الصمد بن أبي الجيش الحنبلي المقرئ المشهور) . انتهى.

لكن وساطة نصير الدين وابن العلقمي لم تنفع في منع المغول من نهب ما أبقاه جيش الخليفة من أحياء الشيعة في الكرخ وغيرها، فلم يفرق هولاكو (في استباحته لبغداد بين السنيين والشيعيين بينما استثنى النصارى) ! (أعيان الشيعة:9/101).

وقد شهد بن تغري المتعصب في النجوم الزاهرة:7/50، أن التدمير شمل(الرافضة) كالسنة وأن (التتار يبذلون السيف مطلقاً في أهل السنة والرافضة معاً ، وراح مع الطائفتين أيضاً أمم لا يحصون كثرة).انتهى.كما لم يستطيعا منع المغول من إحراق مشهد الإمامين الكاظمين (عليهما السلام) فنهبوه وخربوه كجامع الخليفة !(أعيان الشيعة:9/96) .

ص: 80

14- وهابيون منصفون ألفوا في الدفاع عن ابن العلقمي

من المواضيع التي ما زال يثيرها الوهابيون ويركزون عليها ويكرورنها تبعاً لإمامهم ابن تيمية: أن الشيعة هم السبب في غزو المغول لبلاد المسلمين وإسقاط الخلافة الشرعية ! فقد كان وزير الخليفة محمد بن العلقمي (رحمه اللّه) شيعياً وكان عدواً لقائد الجيش وابن الخليفة ، وغاضباً من هجومهما على محلة الكرخ ومحلات الشيعة في بغداد قبل سنتين من غزو المغول ، فكاتب ابن العلقمي هولاكو وشجعه على غزو بغداد !

ويجيب الشيعة بأن ذلك كذبٌ وافتراءٌ من ابن تيمية ، فإن ابن العلقمي عالمٌ تقيٌّ منزهٌ عن ذلك ، بل عمل للدفاع عن بغداد فلم يسمعوا كلامه ، ثم عمل لتجنيب بغداد دخول المغول وتدميرهم ، فلم يسمعوا كلامه !

كما يجيب الشيعة بجواب أشد على الوهابيين يقول: لو سلمنا أن الشيعة كانوا السبب في سقوط الخلافة العباسية فقد أقام المسلمون بعدها خلافة أقوى منها وأوسع هي الخلافة العثمانية ، فجاء الوهابية وتآمروا عليها مع الإنكليز وحاربوها معهم سنين طويلة حتى أسقطوها ! فقد قاتل الوهابيون في الجزيرة جيش الخلافة المصري وقتلوا الحكام الشرعيين المنصوبين من الخليفة ! كل ذلك جنباً الى جنب مع الإنكليز ! بينما قاتل فقهاء الشيعة وعشائرهم في العراق الجيش الإنكليزي جنباً الى جنب مع جيش الخلافة ، واختلط دم شهدائهم بدم الأتراك، ودخل مجاهدوهم السجن مع ضباط الجيش العثماني وأعدموا جميعاً بيد الإنكليز !

ص: 81

كان الوهابيون وما زالوا يطمسون هذه الحقائق ويرفعون عقيرتهم في تهمة الشيعة وابن العلقمي رحمه الله علیه ونصير الدين الطوسي رحمه الله علیه بالخيانة، وأنهم سبب سقوط الدولة العباسية ! لكن في هذه السنوات الأخيرة ظهر منهم كتَّاب منصفون تجرؤوا رغم القمع التكفيري وجهروا ببراءة ابن العلقمي والطوسي .

من أولئك الباحث أ.د. سعد بن حذيفة الغامدي أستاذ التاريخ الإسلامي ودراساته الشرقية ، كلية الآداب قسم التاريخ جامعة الملك سعود ، في كتابه (سقوط الدولة العباسية ودور الشيعة بين الحقيقة والإتهام). وقد كتب لي الأخ هشام بن الحكم أنه يوجد بحث آخر للدكتور الهلابي ينفي فيه أسطورة عبداللّه بن سبأ وفق المفهوم السلفي الأسطوري، وأن له سجالاً ثقافياً مع بعض مشايخ الوهابية في جريدة الرياض ، وهناك الشيخ حسن المالكي والمفكر ابراهيم البليهي، وغيرهم ممن تجرؤوا على تحدي القمع الوهابي والتعتيم الثقافي !

ولم أجد كتاب الدكتور الغامدي لكني وجدت غضبهم عليه ! فقد كتب سليمان بن صالح الخراشي في منتدى صيد الفوائد ، موضوعاً بعنوان: دكتور في جامعة الملك سعود يردد أكذوبة شيعية! جاء فيه:

http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/mm/19.htm

(سقوط الدولة العباسية ودور الشيعة بين الحقيقة والإتهام) كتابٌ للأستاذ الدكتور سعد بن حذيفة الغامدي أحد منسوبي جامعة الملك سعود قسم التاريخ ، صدر قريبًا وكتب على طرته (دراسة جديدة لفترة حاسمة من تاريخ أمتنا)وهذا ما أغراني لاقتنائه منتظرًا ماسيجود به قلم الدكتور من جديد في هذه القضية ، إلا أنني تفاجأت عندما رأيته يردد ما ردده الشيعة الرافضة من تكذيب لأي خيانة لأسلافهم ، وهو ما تتابع عليه ثقات المؤرخين ، فهذا الجديد عنده !

يقول الدكتور محاولاً دفع تهمة الخيانة عن الرافضة:(ومع هذا فإن سؤالاً يتبادر

ص: 82

إلى الذهن وهذا السؤال هو: هل كان هولاكو محتاجاً إلى مساعدة المسلمين الشيعة ضد المسلمين السنة حتى نقبل أنهم كانوا أحد العوامل التي أدت إلى سقوط بغداد؟ في الحقيقة لم يكن هولاكو محتاجاً إلى مساعدة من أي فرد شيعياً كان أم سنياً ، لذلك فإننا نجد كما يظهر لنا أنه من غير المحتمل إن لم يكن من المستحيل أن يكون لهذه الطائفة من المسلمين أي دور فعال ، سواء من داخل أو من خارج بغداد في هجوم المغول ضد العاصمة العباسية بغداد وخلافتها السنية !

يقول الدكتور/333: إن للمرء أن يقول بأن هذه الإتهامات لاأساس لها من الصحة؛ إذ لم تدعم أو تثبت بأي دليل قاطع ، يقوم أساساً على تقرير شاهد عيان معاصر؛ كما أنها لم تظهر هذه الإتهامات أو الشائعات بمعنى أدق إلا بعد سنوات طوال من بعد سقوط العاصمة بغداد ، وانقراض أسرتها الحاكمة العباسية !

جاءت هذه الإتهامات التي وجهت ضد أتباع المذاهب الشيعي عامة ووزير الخليفة المستعصم ابن العلقمي خاصة ، في جميع المراجع السنية تقريباً والتي تسنى لنا الرجوع إليها، والتي كتبها مؤرخونا أولئك الذين جاؤا فيما بعد . إذ نجد أن كل مؤرخ يأخذ عن المؤرخ الذي سبقه ثم يضيف كما سبقت الإشارة إلى هذه الحقيقة إلى ما نقله من سلفه، ثم إضافة كلام من عنده هو إشاعات أكثر منه حقيقة تاريخية ثابتة، ولكننا نجد أن هذه الإتهامات تظهر أيضاً في مؤلف لمؤرخ غير مسلم وهذا المؤرخ هو المكين بن العميد جرجس المسيحي الديانة ، حيث يقول بتآمر الوزير مع المغول ضد الخلافة العباسية ، وقد أخذ بعض مؤرخينا الحديثين رواية ابن العميد تلك على أنها دليل قاطع بلا ريب أو شك عندهم ، على أن الوزير مذنب ! كان ابن العميد مؤرخاً مسيحياً معاصراً عاش في مصر وكتب تاريخه باللغة العربية عن بني أيوب . ولكننا عندما نرجع إلى حقيقة ما قاله ابن العميد في هذا الشأن فإن المرء سيجد أن هذا المؤرخ لم يكن على علم بما وقع فعلاً وأنه لم يكن يروي في كتابته عن هذه المسألة إلا مجرد شائعات وأقاويل جارية لم يثبتها تقرير

ص: 83

من شاهد عيان ، وفي هذا الخصوص يقول ابن العميد ما يلي: وقيل إن وزير بغداد كتب إلى هولاؤون(يعني بذلك هولاكو) بأن يصل إلى بغداد ويأخذ البلاد .

أما مؤرخو الشيعة الذين أثبتوا خيانة أسلافهم وافتخروا بها ! فإن الدكتور يجعلها مكتوبة بوازع من التعصب المتطرف الأعمى لإظهار الولاء للمذهب الشيعي بطريقة لاتقوم على أساس علمي لباحث عن الحقيقة، فأقدموا على إثبات دور ابن العلقمي التآمري بدافع من ذلك المنظار الضيق، فجعلوا من هذا الوزير بطلاً أسطورياً مخلصاً لدينه وإخوانه أتباع مذهبه ! والذي نراه صحيحاً في هذا الشأن ما يبدو لنا هو: أن المؤرخين الذين اتهموا الوزير العلقمي وعلى رأسهم الجوزجاني كانوا مؤرخين سنيين متطرفين ، فقد وجهوا إليه تلك التهم أصلاً بدافع من التعصب المذهبي تمليه حوافز عدوانية وعواطف تحاملية يكنُّونها تجاه هذا الوزير المسلم الشيعي المذهب!

لهذا فإن المرء ليقف عند روايات من هذا القبيل موقف الشك ، هذا إذا لم يرفضها رفضاً قاطعاً ، وأن ما أورده أولئك المؤرخون في تقاريرهم حول هذا الشأن لا يقوم على أساس علمي دقيق ومحقق . إن هذه الإتهامات التي وجهت ضد الوزير لم تكن من مؤرخين عراقيين معاصرين لتلك الأحداث في بغداد ، بل جاءت من مؤرخين من خارج الأراضي العراقية كالمؤرخ الفارسي الجوزجاني الذي كان يعيش في دهلي بالهند أيام سقوط العاصمة العباسية بغداد ،كما جاءت تلك الإتهامات في كتاب تراجم رجال القرنين السادس والسابع أو الذيل على الروضتين لأبي شامة الذي كان يعيش في أراضي الشام ، ربما كان في دمشق !

وفي الحقيقة لايوجد أي شاهد عيان يثبت أنه رأى ذلك الرسول المزعوم الذي أرسله الوزير ابن العلقمي لمقابلة القائد المغولي هولاكو ! كما أننا لم نعثر في مصادرنا على أية رواية يستنتج منها أنه ربما يمكن أن يكون هناك وثيقة تتعلق بهذا الأمر قد أخفيت بحيث تضع هذا الوزير العباسي في مركز قد يصبح فيه متهماً !

كان المؤرخ السوري أبو شامه الذي عاش في الشام ومات بها سنة665 هو أول

ص: 84

مؤرخ عربي سني حسب معلوماتنا يذكر هذه الإدعاءات ضد الوزير وذلك في كتابه المعروف بتراجم رجال القرنين السادس والسابع ، أو الذيل على الروضتين ويظهر لنا أن أبا شامه لم يكن يعرف عن حقيقة ما كان يجري من أحداث في داخل بلاط الخليفة المستعصم ، بل لم يكن مطلعاً على إخبار القطر العراقي في جملته إذ لم يعرف إلا النزر اليسير عن شؤون الدولة العباسية العامة فقط ، ثم إنه لم يكن لديه سوى فكرة عائمة يشوبها الغموض والتشويش وعدم الوضوح . إن حقيقة كون هولاكو أبقى على الوزير ابن العلقمي حياً وعينه كواحد من كبار موظفي المغول تبدو لنا أن المؤرخين المتهمين للوزير قد أوَّلُوها على أنها برهان قاطع على تآمره مع العدو ضد الدولة العباسية التي يحتل منها مكانة عليا . والذي يظهر لنا هو أن القائد المغولي قام بتعيين ابن العلقمي ليخدم في إدارة شؤون حكومة بغداد تحت نفوذ السلطة المغولية، لا لأنه كان قد سبق له وتعاون معهم ، أو لأنه حثهم على القدوم إلى بغداد وأخذها ومن ثم القضاء النهائي على حكومة العباسيين فيها).انتهى.

ولم يستطع الكاتب الخرَّاش أن يجيب على هذا الكلام العلمي، فلجأ الى كلام ناصر القفاري الذي نقل كلام ابن تيمية في اتهام ابن العلقمي وسبه !

وسبب غضبهم على مؤلف الكتاب أنه بإسقاطه كلام ابن أبي شامة يُسقط كلام إمامهم ابن تيمية لأنه اخذ منه اتهام الشيعة بأنهم السبب في غزو المغول !

**

هذا ، وتوجد دفاعات أخرى قوية عن ابن العلقمي (رحمه اللّه) والشيعة لايتسع المجال لإيرادها جميعاً ، ومنها: دفاع السيد الأمين في أعيان الشيعة:9/100 فقد رد التهمة عنه بوجوه عديدة، خلاصة السابع منها: أنه توجد عدة مصادر أصلية معاصرة لابن العلقمي وللحدث كذَّبت هذه التهمة وشهدت أنها من تدبير عدوه الدويدار ، كتاريخ ابن الطقطقي ، وتاريخ رشيد الدين ، وعبد الرحمن سنبط بن قنيتو الإربلي في كتابه الذهب المسبوك وهو عراقي معاصر للحدث ، وكذلك أبو الفرج بن العبري في

ص: 85

كتابه تاريخ مختصر الدول ، وابن الفوطي البغدادي الحنبلي.. وكلهم معاصرون واسعوا الإطلاع على الأحداث ! فهذا يدل على أن التهمة من تدبير المتعصبين ضد ابن العلقمي والشيعة ! خاصة أن الدويدار دبر مع ابن الخليفة محاولة انقلاب على الخليفة فكشفها ابن العلقمي وأحبطها !

ويظهر لمن قرأ عن حالة بغداد بعد الغزو المغولي لخراسان سنة617 ، أن قصص وحشية المغول وتدميرهم وقتلهم العام للناس كانت تصل فتنشر الرعب وأن الشعور بالعجز عن مقاومة المغول كان مسيطراً على الخليفة وقائد جيشه الشرابي وبقية البطانة ، فسرى منهم الى ابنه المستعصم وقائد جيشه الدويدار! ثم سرى منهم الى الناس! وقد رأيت وصف المؤرخين لرعب الناس من فرقة جيش المغول التي اتجهت الى بغداد من جهة تكريت وأن الناس هربوا كالمجانين! (الآداب السلطانية/231). بل انتشر الرعب والإنهيار في السلطة والناس قبل عشرين سنة من سقوط لبغداد فترك الناس الحج خوفاً من المغول !

قال الذهبي في تاريخه:46/21: (ولم يحج أحد أيضاً في العام من العراق بسبب كسرة التتار لعسكر الخليفة وأخذ إربل في السنة الماضية). أي سنة635 قبل دخول المغول لبغداد بعشرين سنة ! وقال في:46/39 ، عن أحداث سنة637: (ولم يحج ركب العراق في هذه السنين للإهتمام بأمر التتار)! وشبيه به في النهاية:13/150، عن أهل الشام !

فالترف الذي انغمس فيه الخليفة وبطانته وجهازه الإداري ، سرى الى الناس فكان سبب هذا الإنهيار والرعب العام ، والناس على دين ملوكهم !

ولاشك في أن الظلم الذي شمل فئات واسعة من المسلمين ، والشيعة خاصة ، كان سبباً في نقمتهم على السلطة وزيادة ضعفها وانهيارها !

**

ص: 86

15- الحاكم الكافر العادل خيرٌ من المسلم الجائر

(لما فتح السلطان هولاكو بغداد في سنة ست وخمسين وستمائة أمر أن يستفتى العلماء أيهما أفضل: السلطان الكافر العادل أم السلطان المسلم الجائر ؟ ثم جمع العلماء بالمستنصرية لذلك ، فلما وقفوا على الفتيا أحجموا عن الجواب وكان رضيُّ الدين علي بن طاووس حاضراً هذا المجلس وكان مقدماً محترماً ، فلما رأى إحجامهم تناول الفتيا ووضع خطه فيها بتفضيل العادل الكافر على المسلم الجائر ، فوضع الناس خطوطهم بعده). (الآداب السلطانية لابن الطقطقي/2).

أقول: هذه الفتوى قد تصدم شعور المسلم المثالي الذي يعيش أجواء النظرية دون التطبيق ، وينظر الى الشكل والإسم أكثر من المضمون والجوهر !

ولكي تُقنع هؤلاء الذين يحلِّقون في عالم النظرية ينبغي أن تحدثهم عن شئ من الواقع ليصححوا رؤيتهم ! والواقع هنا: أن الدين عندما تستعمله السلطة لمصادرة الحد الأدنى من حق الإنسان في حقه في العيش وحرية الإعتقاد والتعبير ، فلا يمكنك أن تطلب منه أن يعترف بشرعيتها ، أو يسكت على اضطهادها له ولا يقاوم . فالمشكلة مع سلطة كهذه متقدمةٌ رتبةً على الدين لأن الدين موضوعه الإنسان ، فإذا سحق الإنسان فقد سحق موضوع الدين !

إن علينا أن نعترف بأن تاريخ أمتنا ملئٌ بالإجبار والإكراه والإضطهاد ، وبأنا لانجد في تاريخنا أحداً يحترم الإنسان المسلم إلا النبي وآله (صلی الله عليه وآله وسلم) ولهذا كانت معركة المسلمين مع حكوماتهم دائماً مطالبتها بألف باء حرية الإنسان واحترامه!وهي معركة بدأت بمجرد أن أغمض النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) عينيه وما زالت !

قال ابن قتيبة/30: (إن أبا بكر أخبر بقوم تخلفوا عن بيعته عند علي فبعث

ص: 87

إليهم عمر بن الخطاب فجاء فناداهم وهم في دار علي وأبوا أن يخرجوا فدعا عمر بالحطب فقال: والذي نفس عمر بيده لتخرجن أو لأحرقنها عليكم على مافيها ! فقيل له: يا أبا حفص إن فيها فاطمة ! فقال: وإنْ ) ! انتهى.

إن كل القضية تكمن في هذا التحول في يوم وفاة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ،حيث استبدلت تأكيدات الوحي باحترام الإنسان، بقانون تحالف قريش بالإجبار على بيعة المتغلب ، وإلا فيستحق الممتنعون الحرق وهم أحياء حتى لو كان فيهم عترة النبي وأطفاله (صلی الله عليه وآله وسلم) ! فهذا هو الأساس الذي قامت عليه كل الأنظمة وجاء بكل الخلفاء في العصور! واليك هذه النماذج من تعامل الخلافة مع المسلم:

قال ابن كثير في النهاية:8/123: ( إن معاوية لما مرض مرضته التي هلك فيها دعا ابنه يزيد فقال: يا بني إني قد كفيتك الرحلة والترحال ووطأت لك الأشياء وذللت لك الأعداء ، وأخضعت لك أعناق العرب ، وإني لا أتخوف أن ينازعك هذا الأمر الذي أسسته إلا أربعة نفر: الحسين بن علي ، وعبد اللّه بن عمر ، وعبد اللّه بن الزبير ، وعبد الرحمن بن أبي بكر . فأما ابن عمر فهو رجل ثقة قد وقذته العبادة وإذا لم يبق أحد غيره بايعك ، وأما الحسين فإن أهل العراق خلفه ليدعونه حتى يخرجونه عليك فإن خرج فظفرت به فاصفح عنه فإن له رحماً ماسة وحقاً عظيماً . وأما ابن أبي بكر فهو رجل إن رأى أصحابه صنعوا شيئاً صنع مثله، ليست له همة إلا في النساء واللّهو.

وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد ويراوغك روغان الثعلب ، وإذا أمكنته فرصة وثب ، فذاك ابن الزبير ، فإن هو فعلها بك فقدرت عليه فقطعه إرْباً إرْباً ).

وفي تاريخ دمشق:10/256: (بشْرُ بن مروان بن الحكم كان إذا ضرب البعث(التجنيد) على أحد من جنده ثم وجده قد أخل بمركزه ، أقامه على كرسي ثم سمَّرَ يديه في الحائط ثم انتزع الكرسي من تحت رجليه فلا يزال يتشحط حتى يموت) !

وفي تاريخ الطبري:6/525: (كنت فيمن جاء إلى الرشيد بأخي رافع(أسيراً) قال

ص: 88

فدخل عليه وهو على سرير مرتفع عن الأرض بقدر عظم الذراع ، وعليه فرش بقدر ذلك أو قال أكثر ، وفي يده مرآة ينظر إلى وجهه قال: فسمعته يقول: إنا للّه وإنا إليه راجعون . ونظر إلى أخي رافع فقال: أما واللّه يا ابن اللخناء(القذرة)إني لأرجو أن لا يفوتني خامل يريد رافعاً كما لم تفتني! فقال له: يا أمير المؤمنين قد كنت لك حرباً وقد أظفرك اللّه بي فافعل ما يحب اللّه أكن لك سلماً ولعل اللّه أن يلين لك قلب رافع إذا علم أنك قد مننت عليَّ . فغضب وقال: واللّه لو لم يبق من أجلي إلا أن أحرك شفتي بكلمة لقلت: أقتلوه ! ثم دعا بقصاب فقال: لا تشحذ مداك أتركها على حالها(لاتحدَّ سكاكينك)وفَصِّلْ هذا الفاسق وعجِّل لايحضرن أجَلي وعضوان من أعضائه في جسمه ! ففصله حتى جعله أشلاء فقال: عُدَ أعضاءه فعددت له أعضاءه فإذا هي أربعة عشر عضواً ، فرفع يديه إلى السماء فقال: اللّهم كما مكنتني من ثأرك وعدوك فبلغت فيه رضاك ، فمكني من أخيه ! ثم أغمي عليه وتفرق من حضره ثم مات من ساعته). (وغرر الخصائص/394 ، والنهاية:10/231).

وفي عيون إخبار الرضا (عليه السلام) :1/172: (وكان الجلودي في خلافة الرشيد لما خرج محمد بن جعفر بن محمد بالمدينة، بعثه الرشيد وأمره إن ظفر به أن يضرب عنقه ، وأن يغير على دور آل أبي طالب وأن يسلب نساءهم ولايدع على واحدة منهن إلا ثوباً واحداً ! ففعل الجلودي ذلك ، وقد كان مضى أبو الحسن موسى بن جعفر فصار الجلودي إلى باب دار أبي الحسن الرضا هجم على داره مع خيله، فلما نظر إليه الرضا جعل النساء كلهن في بيت، ووقف على باب البيت فقال الجلودي لأبي الحسن:لا بد من أن أدخل البيت فأسلبهن كما أمرني أمير المؤمنين!فقال الرضا: أنا أسلبهنَّ لك وأحلف أني لاأدع عليهن شيئاً إلا أخذته! فلم يزل يطلب إليه ويحلف له حتى سكن

ص: 89

فدخل أبو الحسن الرضا فلم يدع عليهن شيئاً حتى أقراطهن وخلاخيلهن وأزرهن إلا أخذه منهن ، وجميع ما كان في الدار من قليل وكثير) !!

وفي مقاتل الطالبيين/396: (استعمل المتوكل على المدينة ومكة عمر بن الفرج الرخجي فمنع آل أبي طالب من التعرض لمسألة الناس، ومنع الناس من البر بهم وكان لايبلغه أن أحداً أبر أحداً منهم بشئ وإن قل إلا أنهكه عقوبة وأثقله غرماً، حتى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلين فيه واحدة بعد واحدة ثم يرقعنه ويجلسن على مغازلهن عواري حواسر إلى أن قتل المتوكل)!

وفي عيون إخبار الرضا (عليه السلام) :2/102: (لما بنى المنصور الأبنية ببغداد جعل يطلب العلوية طلباً شديداً ويجعل من ظفر منهم في الأسطوانات المجوفة المبنية من الجص والآجر ! فظفر ذات يوم بغلام منهم حسن الوجه عليه شعر أسود من ولد الحسن بن علي بن أبي طالب ، فسلمه إلى البناء الذي كان يبني له وأمره أن يجعله في جوف أسطوانة ويبني عليه ، ووكل عليه من ثقاته من يراعى ذلك حتى يجعله في جوف أسطوانة بمشهده ، فجعله البناء في جوف أسطوانة فدخلته رقه عليه ورحمه له فترك الأسطوانة فُرْجةً يدخل منها الروح فقال للغلام: لا بأس عليك فاصبر فإني سأخرجك من جوف هذه الأسطوانة إذا جن الليل ، فلما جن الليل جاء البناء في ظلمه فأخرج ذلك العلوي من جوف تلك الأسطوانة وقال له: إتق اللّه في دمي ودم الفعلة الذين معي وغيِّب شخصك ، فإني إنما أخرجتك ظلمه هذه الليلة من جوف هذه الأسطوانة لأني خفت أن تركتك في جوفها أن يكون جدك رسول اللّه يوم القيامة خصمي بين يدي اللّه عز وجل) ! وفي بيت الأحزان/103:(فلما نام القوم دخل خالد بمن معه على مالك في بيته وقتله غدراً ودخل بامرأته في ليلته... ثم سباهم وسماهم أهل الردة ).

وفي معجم البلدان: 4/447: ( أبو جعفر الكرخي...وكان أبو القاسم بن أبي عبد اللّه البريدي لما ملك البصرة صادره على مال أقرف به وسمر يديه في حائط وهو قائم

ص: 90

على كرسي ، فلما سُمِّرت يداه بالمسأمير في الحائط نحَّى الكرسي من تحته وسلت أظافيره وضرب لحمه بالقضيب الفارسي) .

وفي شرح النهج: 18/270: (فاستأذن عليه جماعة من أهل البصرة منهم ابن المقفع فأدخل ابن المقفع قبلهم وعدل به إلى حجرة في دهليزه، وجلس غلامه بدابته ينتظره على باب سفيان ، فصادف ابن المقفع في تلك الحجرة سفيان بن معاوية وعنده غلمانه وتنور نار يسجر فقال له سفيان: أتذكر يوم قلت لي كذا؟! أمي مغتلمة إن لم أقتلك قتله لم يقتل بها أحد ! ثم قطع أعضاءه عضواً عضواً وألقاها في النار وهو ينظر إليها حتى أتى على جميع جسده ، ثم أطبق التنور عليه وخرج إلى الناس).

وفي أعيان الشيعة:1/28: (وفعل المنصور ببني الحسن السبط الأفاعيل فحملهم من المدينة إلى الهاشمية بالعراق مقيدين مغللين وحبسهم في سجن لا يعرفون فيه الليل من النهار، وإذا مات منهم واحد تركه معهم ، ثم هدم السجن عليهم). (راجع مروج الذهب:3/299 ، وابن الأثير:5/551) .

(وكان لنمروذ تنور من حديد يحرق فيه من غضب عليه). (نهاية الإرب/2599).

وفي وفيات الأعيان:5/100: (وكان ابن الزيات المذكور قد اتخذ تنوراً من حديد وأطراف مسأميره المحددة إلى داخل وهي قائمة مثل رؤوس المسال ، في أيام وزارته ، وكان يعذب فيه المصادرين وأرباب الدواوين المطلوبين بالأموال ، فكيفما انقلب واحد منهم أو تحرك من حرارة العقوبة تدخل المسأمير في جسمه فيجد لذلك أشد الألم ، ولم يسبقه أحد إلى هذه المعاقبة ، وكان إذا قال له أحد منهم أيها الوزير ارحمني فيقول له: الرحمة خور في الطبيعة)!

(سنة سبع وعشرين وستمائة ، فيها أخذ السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه مدينة خلاط بعد حصار طويل أقام عليها عشرة أشهر ، ولما بلغ صاحبها الملك الأشرف ذلك استنجد بملك الروم وغيره من الملوك وواقع جلال الدين الخوارزمي المذكور وكسره بعد أمور، وقتل معظم عسكره وامتلأت الجبال والأودية منهم وشبعت

ص: 91

الوحوش والطيور من رممهم، وعظم الملك الأشرف في النفوس) ! (النجوم الزاهرة:6/273).

(سار إلى خلاط فنهب وسبى الحريم ، واسترق الأولاد وقتل الرجال ، وخرب القرى وفعل ما لايفعله أهل الكفر).(السلوك للمقريزي/122) .

(وأخذز زوجة الأشرف ودخل بها من ليلته).(نهاية الإرب للنويري/6648)

وفي أعيان الشيعة:2/69: (الشيخ أيوب بن عبد الباقي البوري البحراني . هو من أعيان العلماء ، وفي السنة التاسعة بعد الألف رحل من البحرين لضيق المعيشة وقطن في الديار المصرية ، وصار مدرساً للشافعية حتى فهموا منه التشيع فقتل في حجرته في السنة العاشرة بعد الألف). انتهى. فتأمل جيداً في قوله: (حتى فهموا منه التشيع فقتل) ! فيكفي أن يظنوا أو يشكوا شكاً في تشيعه ، حتى يستحق الموت !!

أقول: على ضوء هذا الواقع فإن سؤال أيهما أفضل: الحاكم الكافر العادل أم المسلم الجائر؟ ينبغي أن يوجه الى المسلمين المضطَهدين المسلوبين أبسطَ حقوقهم ، فهم ضحايا الجور الذين يفهمون السؤال وأنه يعني: أيهما تفضل: الحرية الدينية باسم الكفر ، أو الإضطهاد الديني باسم الإسلام ؟

وعلى هذا السؤال أجاب ابن طاووس (رحمه اللّه) وتبعه فقهاء المذاهب وأفتوا بتفضيل حكم الكافر العادل على حكم المسلم الجائر ، وبه يجيب كل صاحب دين .

وبه حكمَ الإمام الصادق (عليه السلام) ففي الكافي:2/410: (عن أبي بكر الحضرمي قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : أهل الشام شرٌّ أم الروم؟ فقال: إن الروم كفروا ولم يعادونا ، وإن أهل الشام كفروا وعادونا ! ) . انتهى.

**

ص: 92

16- حكم إستعانة المسلمين بالكفار لرفع ظلم المسلمين

ومما يتصل بذلك مسألة بحثها فقهاء المذاهب الإسلامية: هل يجوز الإستعانة بالكفار في قتال الكفار ، وفي قتال البغاة والجائرين من المسلمين ؟ ومحصل كلامهم واحد ، وهو أن استعانة المسلمين بالغير في قتالهم للباغي والظالم تتبع مصلحة الإسلام كدين والمسلمين كأمة ، وأن لايكون الضرر عليهم منه أكثر من الفائدة ، وإنما الخلاف كل الخلاف في تطبيقات ذلك، ومن له حق تقدير المصلحة والضرر ؟

وقد طبقه أتباع ابن تيمية على الإستعانة بالإنكليز في قتال الخلافة العثمانية وكانوا عاملاً مهماً في انهيارها ! ثم طبقه فقهاء الوهابية على الإستعانة بالقوات الأمريكية لحماية البلاد من خطر إيران ، ثم أفتى كبير علمائهم عبد العزيز بن باز بجواز الإستعانة بالأمريكان وغيرهم ضد نظام صدام لتحرير الكويت من قبضته .

ثم أفتى بعض علماء الشيعة بجواز الإستعانة بالأمريكان وغيرهم ، لإسقاط صدام وتخليص الشعب العراقي من ظلمه وجوره .

**

ص: 93

17- علماء الحلة يجنبون منطقتهم تدميرالمغول

قال العلامة الحلي رحمه الله علیه في كشف اليقين/80،عن إخبار أمير المؤمنين (عليه السلام) بالمغيبات: (ومن ذلك: إخباره (عليه السلام) بعمارة بغداد وملك بني العباس ، وذكر أحوالهم وأخذ المغول الملك منهم،رواه والدي (رحمه اللّه) وكان ذلك سبب سلامة أهل الكوفة والحلة والمشهدين الشريفين من القتل ، لأنه لما وصل السلطان هولاكو إلى بغداد قبل أن يفتحها ، هرب أكثر أهل الحلة إلى البطائح إلا القليل ، فكان من جملة القليل والدي والسيد مجد الدين بن طاووس والفقيه بن العز ، فأجمع رأيهم على مكاتبة السلطان بأنهم مطيعون داخلون تحت الإيلية، وأنفذوا به شخصاً أعجمياً ، فأنفذ السلطان إليهم فرماناً مع شخصين أحدهما يقال له نكلة والآخر يقال له علاء الدين ، وقال لهما: قولاً لهم إن كانت قلوبكم كما وردت به كتبكم تحضروا إلينا ، فجاء الأميران فخافوا لعدم معرفتهم بما ينتهي الحال إليه فقال والدي: إن جئت وحدي كفى؟ قالا: نعم ، فأصعد معهما ، فلما حضر بين يديه وكان ذلك قبل فتح بغداد ، قال له: كيف أقدمتم على مكاتبتي والحضور عندي قبل أن تعلموا ما ينتهي إليه أمري وأمر صاحبكم ، وكيف تأمنون إن صالحني ورحلت عنه ؟ فقال له والدي: إنما أقدمنا على ذلك لأنا روينا عن إمامنا علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه قال في بعض خطبه: الزوراء وما أدراك ما الزوراء؟ أرض ذات أثل يشتد فيها البنيان ، ويكثر فيها السكان ويكون فيها قهازم وخزان ، يتخذها ولد العباس موطناً ولزخرفهم مسكناً ، تكون لهم دار لهو ولعب ، يكون بها الجور الجائر والخوف المخيف ، والأئمة الفجرة والقراء الفسقة ، والوزراء الخونة ، يخدمهم أبناء فارس والروم ، لا يأتمرون بمعروف

ص: 94

إذا عرفوه ، ولا يتناهون عن منكر إذا أنكروه ، يكتفي الرجال منهم بالرجال والنساء بالنساء ، فعند ذلك الغم الغميم والبكاء الطويل والويل والعويل ، لأهل الزوراء من سطوات الترك وما هم الترك ، قوم صغار الحدق ، وجوههم كالمجانِّ المطرَّقة ، لباسهم الحديد ، جردٌ مردٌ ، يقدمهم ملك يأتي من حيث بدا ملكهم ، جهوري الصوت قوي الصولة عالي الهمة، لا يمر بمدينة إلا فتحها ، ولاترفع له راية إلا نكسها ، الويل الويل لمن ناوأه ، فلا يزال كذلك حتى يظفر ! فلما وصف لنا ذلك ووجدنا الصفات فيكم رجوناك فقصدناك. فطيَّب قلوبهم وكتب لهم فرماناً باسم والدي ، يطيِّب فيه قلوب أهل الحلة وأعمالها . والأخبار الواردة في ذلك كثيرة).

(رويت كلمة قهازم في النسخ: محارم محاذم مهادم مهارم مخازن مخادم مهازم، وهي غير مقنعة ، ولايبعد أن تكون قهازم مصحفة عن قهارم جمع قهرمان ، والقهرمان هو الوكيل المخول ، ويسمى به أمناء الملك وخاصته ، وهو أعلى من الخازن كما في العين:4/11، ولسان العرب:12/496 ، وهي كلمة فارسية معربة ولعل أصلها الفارسي (كارفرما) وقد وردت في الحديث النبوي . فيكون المعنى: أن ملوك بني عباس يكون لهم وكلاء وخزان كالفرس . هذا ، وقد ورد في بعض رواياته زيادة في آخره: يدفع بظفره الى رجل من أهل بيتي...وفيها كلام) .

أقول: قد يشكل بعضهم على عمل فقهاء الحلة رضوان اللّه عليهم بأنهم تركوا الجهاد الدفاعي عن الإسلام وعن الخلافة وعن منطقتهم ، وبأنه استعجال ومغامرة صادف أنها أصابت ونجحت وحنبت منطقتهم من تدمير المغول .

والجواب: أن هؤلاء الفقهاء الكبار يعرفون أن الجهاد الدفاعي لايجب مطلقاً بل له شروط لم تكن متوفرة في العراق ، فمنها إمكانه، وفائدته ونتيجته،

ص: 95

وقيادته الشرعية .

إن الذي يرى أن عملهم مغامرة لايملك يقينهم بكلام أمير المؤمنين (عليه السلام) وانطباقه على بغداد العباسيين وغزاتها المغول . وقد ثبت أن يقينهم هو الصحيح وشك غيرهم هو الظن والمغامرة . وتقدمت رواية الذهبي في تاريخه:48/39: (وكان ببغداد عدة من التجار سلموا لفرمانات والتجأ إليهم خلق... وأحرق معظم البلد، وكانت القتلى في الطرق كالتلول ! ومن سلم وظهر خرجوا كالموتى من القبور خوفاً وجوعاً وبرداً ، وسلم أهل الحلة والكوفة ، أمَّنهم القان وبعث إليهم شحَّاني (مسؤول شرطة) وسلمت البصرة ، وبعض واسط ، ووقع البلاء فيمن تخلف ) .

**

ص: 96

الفصل الثالث: المرجع الشيعي العبقري يغيَّر معادلة الغزو المغولي

اشارة

ص: 97

ص: 98

1- نصير الدين الطوسي رحمه الله علیه من نوادر العباقرة

اتفق العلماء على الإشادة بعبقرية نصير الدين الطوسي رحمه الله علیه وشخصيته العلمية الموسوعية ، فهو عند الفقهاء والمتكلمين مرجعٌ ما زالت كتبه تُشْرَح وتُدَرَّس في المعاهد العليا، وكتابه (تجريد العقائد) أول تأصيل لعلم الكلام .

وقد ألف السيد عبد العزيز الطباطبائي (رحمه اللّه) كتاباً سماه (مكتبة العلامة الحلي رحمه الله علیه) أحصى فيه ما استطاع من مؤلفات العلامة الخلي وأمكنة نسخها .

ولم أجد من ألَّف في كتب المحقق الطوسي رحمه الله علیه خاصة ، لكن عامة مصادر التاريخ والتراجم أوردت مؤلفاته ، وأوسع من فصَّلها الطهراني (رحمه اللّه) في كتابه الذريعة الى تصانيف الشيعة . وهذا عرضٌ لأغلب مؤلفاته خاصة الفقهية والعقدية منها ، فقد ألَّف رحمه الله علیه في الفقه والعقائد والمنطق والفلسفة والعرفان والتربية والرياضيات والفلك والجغرافيا والطب والتاريخ والأدب والنحو.. وغيرها:

فله في الفقه: الفرائض النصيرية في أحكام الإرث ، ويسمى تحرير الفرائض ، أو التحرير ، لأنه تحرير لكتاب أستاذه النابغة معين الدين سالم بن بدران المصري المازني في الإرث ، كما صرح بذلك رحمه الله علیه ونقل بعض آرائه . وهو مرتب على قسمين أولهما في فقه المواريث وهو في فنَّيْن أولهما في بابيْن ، أول البابين في مراتب الوراث وثاني الفنين ما يدخل فيها بالعرض من الوصايا والإقرارات في كيفية التخصيص وتصحيح السهام . وقد شرحه عديدون وعلقوا عليه ، منهم الشيخ البهائي العاملي وحفيد أخ الشيخ البهائي ، والمحقق الكركي الشيخ علي بن الحسين بن عبد العالي ، والسيد الأمير عبد الحي بن عبد الوهاب الحسيني، والمولى عبد اللّه بن الخليل، والمولى أبو الحسن بن أحمد الشريف القائني . (الذريعة:16/150، و:13/379 ، و:13/380، و3/377 ، و:6/162و:26/156) . رسالة في الشك والسهو والتلافي والجبران في

ص: 99

صلاة الآيات والعيدين وما يجري مجراهما . (الذريعة:14/213).

رسالة في أحكام الإعتكاف، وأصلها لأستذه سالم بن بدران المازني البصري ، وقد حررها نصير الدين رحمه الله علیه بمعنى أنه جعلها على فتاواه . (الذريعة:2/230)

رسالة في تمييز الصبح الصادق من الكاذب ، ويسمى رسالة في وقت الفجر كتبها جواباً عن سؤال بعض الأمراء . (الذريعة:11/147، و:15/7) .

تحرير الطلوع والغروب ، لأوطولوقس الذي أصلحه ثابت بن قرة الحراني المتوفى سنة288 وحرره المحقق خواجة نصير الدين الطوسي ، وهو مرتب على مقالتين فيهما ستة وثلاثون شكلاً ، رأيت نسخة منه في النجف الأشرف في مكتبة المرحوم المولى محمد علي الخوانساري ، وتوجد نسخة منه في المكتبة الخديوية ، تاريخ كتابتها ثالث عشر رجب سنة1146 كما ذكر في فهرسها ). (الذريعة:3/386).

رسالة في التولي والتبري ، فارسية على مشرب أهل التعليم ، ألفها في قهستان بطلب شخص إسمه نجيب الدين . (الذريعة:11/159) .

وقد نقلت عنه آراء في الفقه لاتوجد في كتبه التي وصلتنا ، وهو يدل على وجود مؤلفات أخرى في الفقه ، أو أن آراءه نقلها تلاميذه .

وله في العقائد: تجريد الكلام في تحرير عقايد الإسلام، وهو أجلُّ كتاب في تحرير عقايد الإمامية أوله: ( أما بعد حمد واجب الوجود على نعمائه... فإني مجيب إلى ما سألت من تحرير مسائل الكلام وترتيبها على أبلغ نظام.. إلى قوله: وسميته بتحرير العقايد ، ورتبته على ستة مقاصد.. فيظهر منه أنه سماه تحرير العقايد ، لكنه اشتهر بالتجريد ، رأيت منه نسخاً... وطبع مستقلاً ومع بعض شروحه مكرراً . وأثنى عليه عامة العلماء ومدحه كافة شراحه ، واعتنى بشرحه العامة والخاصة ، وقد شرحه الفاضل القوشچي بطلب من السلطان بو سعيد بن السلطان محمد خدابنده ، ومدحه بأنه: (مخزون بالعجائب ، مشحون بالغرائب ، صغير الحجم ، وجيز النظم ، كثير العلم جليل الشأن ، حسن النظام ، مقبول الأئمة العظام ، لم يظفر بمثله علماء الأمصار ) .

ص: 100

فيه فصول: في مبحث الوجود والعدم . في الجواهر والأعراض . في إثبات الصانع تعالى وصفاته . في النبوة . في الإمامة . في المعاد . وعليه حواشٍ لاتحصى وشروح كثيرة ، فأول الشروح شرح تلميذ المصنف آية اللّه العلامة الحلي المتوفى سنة726 ، وهو مطبوعٌ متدأول إسمه كشف المراد ، وله شرح منطقه مستقلاً ، في مجلد سماه الجوهر النضيد في شرح منطق التجريد . وشرح شمس الدين محمد الأسفرايني البيهقي سماه: تعزيز الإعتماد في شرح تجريد الإعتقاد ، مزجه بالأصل..

ثم عدد صاحب الذريعة (رحمه اللّه) مجموعة من شروحه القديمة والمتأخرة . منها شرح البيهقي والفاضل القوشچي المتقدميْن ، وشرح الشريف علي بن محمد الجرجاني المتوفى سنة816 . وشرح المحقق النيريزي فرغ منه سنة913 ، وشرح الإلهيات منه للمولى زين الدين علي البدخشي بالفارسية سماه تحفة شاهي وعطيه إلهي ، فرغ منه سنة1023 . وشرح عبد الرزاق بن علي بن الحسين اللاهجي المتوفى سنة1051، وشرح الأمير محمد أشرف بن السيد عبد الحسيب العاملي المتوفى سنة1145). (الذريعة:3/352 و:13/138). (وكشف الحجب والأستار/97). وذكر له في:11/302 شرحاً باسم روضة المتقين في بحث إمامة الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ). (الذريعة:13/138).

إثبات الواجب تعالى ، أرسله إلى نجم الدين الكاشاني ، ولعله بطلبه.. ذكر في إثباته بطريق المتكلمين وجوهاً أربعة وبطريق الحكماء ثلاثة وجوه ). (الذريعة:1/108).

وذكر في الذريعة: 10/181، كتاباً لنجم الدين علي بن عمر الكاتبي القزويني ويظهر منه أن كتاب نصير الدين رحمه الله علیه تعليقات عليه . والكاتبي فيلسوف معروف .

مناظره في إثبات وجود اللّه تعالى بكطريقة الحوار . (الذريعة: 22/292).

رسالة في علم الباري بالجزئيات ، أولها: سألني مولاي قاضي القضاة في666 عن قول الحكماء في كيفية صدور الموجودات عن مبدئها الأول ، وعن مذهبهم في علمه بالجزئيات. بخط الشيخ عبد الرحيم التستري ذكر أنه نقلها عن خط قطب الدين محمد بن مسعود الشيرازي كتبها عن خط مصنفها . (الذريعة:15/320)

ص: 101

إثبات اللوح المحفوظ ، ولعله متحد مع إثبات الجوهر المفارق ) . (الذريعة:1/99).

آغاز وأنجام ، بالفارسية بمعنى المبدأ والمعاد ، ألفه بطلب بعض أحبائه ، في المبدأ والمعاد وأحوال القيامة والجنة والنار وغيرها ، وله كتاب آخر بنفس الإسم ، مرتب على أربعة فصول ، الحيوان ، النبات ، المعدن ، المتفرقات ، والنوادر ، وفي كل فصل أبواب) . (الذريعة:1/36).

ترجمة بقاء النفس ، وهو تحرير كتاب بقاء النفس لأرسطو ، ترجمه إلى الفارسية الخواجة أفضل الدين الكاشاني ، وطبع في طهران ). (الذريعة:26/192).

قواعد العقايد ، منه نسخة في مكتبة محمد الفاتح ، سراى همايون بإسلامبول) (الذريعة:17/186) . وله شروح ، منها بإسم: تحرير القواعد الكلامية ، في شرح الرسالة الإعتقادية الموسومة بقواعد العقايد للمولى عبد الرزاق بن المولى مير الجيلاني الرانكوئي الشيرازي المولد المعاصر للمولى عبد الرزاق اللاهيجي ، ألفه لمحمود خان حاكم بلاد كوه كيلويه ) . (الذريعة:3/387).

المقنعة في العقايد ، رسالة مختصرة جداً في الأصول الخمسة . (الذريعة:22/125). ولعله منتخب العقايد . (الذريعة:22/416).

الإعتقادات ، في أقل ما يجب اعتقاده ، ولعله الذي سماه الشيخ سليمان الماحوزي بالوجيزة ، وكتب عليه في بعض النسخ العقيدة المفيدة) . (الذريعة:2/226). ونفسه: أقل ما يجب الإعتقاد به ، جواب سؤال عن أقل ما يجب اعتقاده على المكلفين وذكر باسم الإعتقادات ، وواجب الإعتقاد ) . (الذريعة:2/274 . وفي الذريعة:15/306، باسم العقيدة المفيدة المختصرة ، وفي الذريعة:16/139، باسم فرائد العقائد ، والظاهر أنه تصحيف قواعد العقايد . وفي الذريعة:13/94، شرح أصول الدين وشرح مقدمة الكلام .

تلخيص المحصل ، شرح وتهذيب للمحصل للرازي ويقال له نقد المحصل . قال في مقدمته: (لم يبق في الكتب التي يتداولونها من علم الأصول عيانٌ ولا خبرٌ ، ولا من تمهيد القواعد الحقيقية عينٌ ولا أثر ، سوى كتاب المحصل الذي إسمه غير

ص: 102

مطابق لمعناه ، وبيانه غير موصل إلى دعواه ، وفيه من الغث والسمين ما لا يحصى) .

طبع محرَّفاً في ذيل المحصل في مطبعة الحسينية بمصر1323. وأقدم نسخة منه رأيتها في الخزانة الغروية وهي بخط الفاضل الماهر محمد بن سنقر فرغ من الكتابة في يوم الخميس (3 ع 1- 673) ثم كتب بخطه أيضاً على هامش آخر النسخة أنه قابلها بنسخة مقابلة بخط المؤلف مع الإمام العالم الفقيه لسان الحكماء والمتكلمين شرف الدين محمد بن القزويني ) .(الذريعة:4/426).

وفي مستدركات أعيان الشيعة:1/233: ألف بطلب من عطا ملك علاء الدين الجويني ، كما ألف رسالة أوصاف الأشراف بالفارسية حول أخلاق العرفاء والزهاد ، لأبيه محمد الجويني) .

انتخاب تلخيص المحصل،لعز الدولة سعد بن منصور بن كمونة البغدادي المتوفى سنة690 ، قال: تشتمل هذه الأوراق على فوائد التقطتها من كلام الخواجة نصير الدين الذي في تلخيص المحصل.. وقال في آخره بعد الحمد والصلاة (وكان الفراغ منه انتخاباً ونسخاً في العشر الأوسط من ذي القعدة سنة سبعين وستماية) . والنسخة بخطه رأيتها في الخزانة الغروية).(الذريعة:2/357،ورد نسبته الى نصير الددين:4/419).

الفصول النَّصِيرية ، فارسي في أصول الدين ، مرتب على أربعة فصول ، في التوحيد والعدل والنبوة والمعاد . عربه المولى ركن الدين محمد بن علي الجرجاني ، القريب من عصره ، وعلى هذا المعرب شروح كثيرة ) (الذريعة:16/246). وله شروح ففي الذريعة:13/383 ، شرح الفصول ، لمؤلف كتاب معارج السؤول في آيات الأحكام المولى كمال الدين الحسن بن محمد بن الحسن الاسترآبادي النسفي ، فرغ منه سنة870 . كتبه لسلطان الحويزة الأمير كمال الدين بن فلاح المشعشعي الموسوي الحويزي . مزجي مشحون بالنكات والتحقيقات وعليه حواشي ، وشكك صاحب الذريعة في أن يكون ألفه للمشعشعي المذكور ، لأنه متأخر عن المؤلف .

شرح الفصول النصيرية المعربة ، في الكلام ، وأصله فارسي ، عربه محمد بن علي الجرجاني الحلي الغروي تلميذ العلامة الحلي سنة697 . (الذريعة:6/126)

الإمامة وبيان شرايطها ، نسخة منه عند السيد النسابة شهاب الدين التبريزي نزيل قم، ونسخة أخرى في مكتبة راغب پاشا بإسلامبول كما في فهرسها).(الذريعة:2/336).

ص: 103

حصر الحق بمقالة الإمامية ، ويحتمل أنه إثبات الفرقة الناجية في:1/98 ، ولعل العلامة الحلي رآه فنقل مضمونه مختصراً لولده فخر المحققين كما في ديباجة القواعد) (الذريعة:7/23). ولعله ما ذكره في:1/98 ، باسم إثبات الفرقة الناجية.وذكره في الذريعة:26/175 باسم تحقيق المذهب الحق . قال الزنجاني في دروس الفلسفة إنه مطبوع).

إنشاء الصلوات والتحيات للأئمة الإثني عشر (عليهم السلام) ،يعرف بالفارسية(دوازده إمام)كما في الذريعة:2/392. وفي:15/86 ، باسم: الصلوات والتحيات على أشرف البريات وآله الأئمة السادات ، وذكر له في:13/261، و:7/140، شرحاً للسيد علي بن محمد باقر الحسيني، ينقل فيه عن الشيخ البهائي والمحقق الداماد والمقدس الأردبيلي . وفي:2/392 ،و:8/268 ، شبيهه لعلي بن حماد أنشأه ليقرأ في الخطب ويقال له الخطبة أيضاً وهو أبسط من كتاب النصير رحمه الله علیه. وله كما في الذريعة:7/238: صحيفة الخلافة .

وفي أعيان الشيعة:9/419: رسالة في الإمامة ، رسالة في العصمة ، رسالة في الجبر والإختيار ، رسالة الجبر والقدر ، روضة القلوب ، روضة التسليم ) .

وله في المنطق والفلسفة والعرفان مؤلفات مهمة، فهو رحمه الله علیه فيلسوف من وزن ابن سينا ، وقد نقد العديد من آرائه في شرحه لفلسفته ، ووصفه الذهبي بكبير الفلاسفة (تذكرة الحفاظ:4/1491) . ومؤلفاته فيها هي: رسالة في العقل ، العلل والمعلولات ،تجريد المنطق ، شرح الإشارات ، رسالة إثبات الجوهر المفارق ، رسالة في العلم الإكتسابي واللدني ، تعديل المعيار في نقد تنزيل الأفكار ، نقد تهافت الفلاسفة ، مصارع المصارع . رسالة بقاء النفس بعد فناء الجسد ، رسالة في النفي والإثبات ، ربط الحديث بالقديم ، المقولات ، أساس الإقتباس . السير والسلوك ، معرفة النفس .

لكن نصير الدين رحمه الله علیه اشتهر أكثر بعبقريته في الرياضيات والفلك ، خاصة في ابتكاراته العلمية والعملية في مرصد مراغة وجامعتها، ومؤلفاته فيها عديدة هي: رسالة في الشعاع ، رسالة في انعطاف الشعاع وانعكاسه ، تحرير إقليدس ، تحرير المجسطي ، تحرير كرة وأسطوانة أرخميدس ، تحرير مأخوذات أرخميدس ، تحرير كتاب

ص: 104

المفروضات لأرخميدس ، تحرير كتاب معرفة مساحة الأشكال البسيطة والكرية ، تحرير كتاب الكرة المتحركة لاطولوقوس ، الرسالة الشافية عن الشك في الخطوط المتوازية ، كشف القناع عن أسرار شكل القطاع ، رسالة في الحساب والجبر والمقابلة ، الأسطوانة ، المخروطات ، في أحوال الخطوط المنحنية ، تربيع الدائرة ، جامع الحساب ، رسالة في علم المثلثات . تحرير مانالاوس ، تحرير ثاوذوثيوس ، تحرير كتاب المناظر ، تحرير كتاب المساكن ، تحرير كتاب ثاوذوثيوس في الأيام والليالي ، تحرير ظاهرات الفلك ، تحرير كتاب أطولوقوس في الطلوع والغروب ، تحرير كتاب أبسقلاوس في المطالع ، مدخل في علم النجوم كتاب أرسطرخس في جرمي النيرين وبعديهما ، تحرير المعطيات ، ترجمة ثمرة الفلك ، التذكرة النصيرية ، ترجمة صور الكواكب ، الرسالة المعينية ، ذيل الرسالة المعينية، الزيج الإيلخاني ، مقدمة الزيج الإيلخاني، عشرون باباً في معرفة الأسطرلاب زبدة الهيئة ، تعريف الزيج ، ثلاثون فصلاً في الهيئة والنجوم ، زبدة الإستدراك في هيئة الأفلاك ، مائة باب في معرفة الأسطرلاب ، استخراج قبلة تبريز .

قال السيد الأمين في كتابه: الإسماعيليون والمغول ونصير الدين الطوسي/301: (ويعترف المؤرخون للعلوم الرياضية بأن برهان نصير الدين الطوسي يعتبر نقطة التحول في تطور علم الهندسة وظهور الهندسات الإقليدية الجديدة التي تلعب الآن دوراً عظيماً في دراسة الفضاء الكوني ، وتفسيرات النظرية النسبية بعد أن تطورت على أيدي الروسي لوباتشوفسكي والألماني ريمان وغيرهما . ولا يزال هناك الكثير من النظريات والأفكار الهندسية التي تم الكشف عنها في ثنايا الكتب والمخطوطات التي تم تحقيقها ، أو التي تنتظر جهود المخلصين من أهل الإختصاص للبحث عنها وتعريف الأجيال برواد العلم وصناعه الحقيقيين من نوابغ العرب والمسلمين). انتهى.

وله في الطب: تعليقته على كتاب القانون لابن سينا ، جواب في رفع التناقض في أقوال حنين وابن سينا . وفي التفسير: تفسير سورة الإخلاص والمعوذتين والعصر .

ص: 105

وفي الأخلاق والتربية: الأخلاق الناصرية ، وأوصاف الأشراف ، آداب المتعلمين ديباجة الأخلاق الناصرية وخاتمتها . وفي التاريخ: واقعة بغداد . وفي الجغرافيا: (أعيان الشيعة:9/419 ). وذكر له في مستدركات أعيان الشيعة(1/236): 186 كتاباً ورسالة منها: رسالة في أحكام منازل الرمل الإثني عشر بالفارسية ، ورسالة الرمل ، تسكين الدائرة بالعربية ، ورسالة الجواهر واسمها بالفارسية (تنسيق نامه إيلخاني) في صفات الأحجار الكريمة وخواصها ، ألفها بطلب هولاكو . وعدَّ له الصفدي في الوافي:1/149: الفرائض على مذهب أهل البيت (عليهم السلام) .

أقول: كَتَبَ المحقق الطوسي رحمه الله علیه مؤلفاته بالعربية والفارسية ، ونُشر عددٌ منها في عصرنا ، وتُرجم بعض الفارسي منها الى العربية ، وترجم بعضها مستشرقون بلغات أجنبية . وقد أشرنا الى أن كتبه رحمه الله علیه أكثر مما ذكرنا ، وبعضها لم يصلنا .

قال السيد أحمد الحسيني في تراجم الرجال:1/532 ، في ترجمة محمد الجرجاني من علماء القرن السابع- الثامن: (ترجم أكثر رسائل نصير الدين الطوسي إلى العربية لاستفادة طلبة العراق ، غيرةً عليها من الضياع ، وترجماته التي رأيناها جيدة التعبير رصينة الألفاظ ، وقد صرح في أول ترجمة أوصاف الأشراف بإكمال ترجمة الأخلاق الناصرية ، وأساس الإقتباس ، ورسالة الجبر والقدر ، والفصول الإعتقادية ، وشرح كتاب بطلميوس في النجوم).

وله في الطب:الحاشية على القانون لابن سينا ، طبع مع شرح القانون للعلامة الحلي.(الذريعة:13/389). ضوابط الطب، وسماه في كشف الظنون بقوانين الطب . (الذريعة:15/120) وله: شجرة طوبى في الإختلاجات ، أو رسالة في الإختلاجات(الذريعة:13/32) .

وله في الفلسفة والعرفان والأخلاق: شرح تهافت الفلاسفة نسخة في مكتبة نور عثمانية في اسلامبول . (الذريعة:13/155) . الفوائد الثمانية في الحكمة ، رأيتها ضمن مجموعة في المجلس:3850 ، أوله: فوايد حكمية ثمانية للعلامة الطوسي رحمه الله علیه. المكان

ص: 106

ماله وضع لذاته الزمان ما يقدر به كل ما ينقضي ويحدد وبقاء ما لا يتجدد أو لا ينقضي.. وفيها فوائد منها في العلل والمعلولات ، فوائده في العصمة في المبدأ الأول أفعال العباد ، العقل المجرد المسمى بالعقل الكلى ،ويوجد منه نسخة في مكتبة راغب پاشا كما في فهرسها . (الذريعة:16/329) . رسالة في السير والسلوك ، كتبها لسلطان عصره ومن تبعه . طبعه المدرس الرضوي بطهران سنة1325.(الذريعة:12/285). أخلاق ناصري ، فارسي ، ألفه لأمير قهستان ناصر الدين عبد الرحيم ، حرر فيه كتاب الطهارة في الأخلاق لعلي بن مسكويه ، وزاد عليه أشياء كثيرة منها مقالتان في سياسة المدن وتدبير المنزل ، ورتبه على ثلاث مقالات في ثلاثين فصلاً ، وهو كتاب حسن لم يعمل في تهذيب الأخلاق مثله ، يضرب المثل به في الفصاحة والبلاغة (الذريعة:1/380 ، وكشف الحجب/32 ، وكشف الظنون:1/38 ) .

وله في الهيئة والفلك: قصيدة في اختيارات البروج الإثني عشر، ومرَّ بعنوان اختيارات المهمات بحسب تحويل القمر في البروج الإثني عشر (الذريعة:17/124). منازل القمر أو أحكام منازل ، وهو غير اختيارات مسير القمر أو اختيارات المهمات (الذريعة:22/249). موضح الرسوم في علم النجوم ، ألفه لحسام بن شمس الدين الخطيب اللاهيجاني المشهور بخطابي ، نسخة منه دار الكتب في القاهرة . الميقات فارسي، في100ورقة . (الذريعة:23/266) .

وله في الأدب والنحو: معيار الأشعار في العروض والقوافي ، في مقدمة ذات فصول ثلاثة وفنين: أولهما في العروض ، والثاني في القوافي . طبع1320، بمباشرة عبد الغفار نجم الدولة ونسخه الخطية شايعة . وأخرى طهران أدبيات 1/138 د ) و(طوپقپوسراى A 1646 ) كتابتها720 ، كما في فهارسها.(الذريعة:21/277). ويظهر أنه نفسه الوافي في العروض والقوافي، ولعله نفس معيار الأشعار في:15/256 و:21/277 .(الذريعة:25/16) .

شرح ديوان امرئ القيس ، في مكتبة محمد پاشا بإسلامبول . (الذريعة:13/265) .

ديوان الخواجة الطوسي، وهو مجموعة من شعره . (الذريعة:9 ق 2/651)

ص: 107

الوافية في شرح الكافية ، هو الشرح الوسيط للسيد محمد الحسن بن محمد بن شرفشاه العلوي الحسيني الأسترآبادي تلميذ الخواجة نصير الطوسي وشارح قواعد العقايد ،قال فيه: وبعد فإني بعدما شرحت كتاب الكافية في النحو أولاً مع إيرادات وأجوبة وأبحاث كثيرة ، وشرحته ثانياً مقتصراً على حل ألفاظه وشرح معانيه والإشارة إلى تحليل تركيباته ومبانيه ، وجعلته لرسم خدمة الأمير ناصر الدين يحيي بن الملك جلال الدين إبراهيم ابن يغرش بيلكا ملك الختني ، ورأيت نسخة منه عند السماوي كتابتها 848 ، وتوجد أربع نسخ منه في مكتبة قُولهْ . (الذريعة:25/18).

وله في التاريخ: ذيل تاريخ جهانگشاى ، الذي ألفه الوزير الخواجة علاء الدين عطا ملك الجويني المتوفى681 وهو من بدء السلاطين المغولية إلى655في ثلاثة أجزاء . والذيل له فارسي كأصله ، وقد طبع الذيل هذا وهو مختصر في/12 آخر الجزء الثالث بمباشرة الميرزا محمد خان القزويني في ليدن ، وذكر أنه ترجم بالعربية وجعل فصلاً من كتاب مختصر الدول لابن العبري.(الذريعة:10/48) .

وله مراسلات منها: كتاب المفاوضات أو جوابات المسائل القونوية ، بينه وبين صدر الدين القونوي ، وهو مسائل فلسفية ، منها في وجود اللّه تعالى وفي النفس. (الذريعة:5/230 ، و:21/312 ، (وكشف الظنون:2/1758) وفيه أن القونوي توفي سنة673 .

ورسائل الشيخ ميثم البحراني إليه وبعض أجوبتها. (الذريعة:20/297).

هذا، ويحتاج إحصاء مؤلفاته رحمه الله علیه الى مؤلف خاص ، يتتبع مصادرها ونسخها المخطوطة ، وترجماتها ، وفيها المفقود من بلادنا والموجود عند الغربيين أو المخفي عندهم ، ومنها موجود ولم يطبع الى الآن..الخ.

**

ص: 108

2- نشأة نصير الدين الطوسي رحمه الله علیه

أبو جعفر نصير الدين ، محمد بن محمد بن الحسن الطوسي رحمه الله علیه ، ويصفونه بالقمي ويصفون أولاده بالدستجردي ، لأن والده من قرية في دَسْتَجِرْد ، وهي تابعة لولاية قم . (خاتمة المستدرك:2/426 ، ورياض العلماء:1/235).

ولد في طوس سنة597 ، حيث كان يسكن والده الفقيه المحدث محمد بن الحسن فتربى في حجره ودرس عليه الفقه والحديث ، ودرس الفلسفة والرياضيات على خاله نور الدين علي بن محمد الشيعي ، ودرس على كمال الدين محمد الحاسب . أما وفاته فكانت في بغداد يوم الغدير سنة672، ودفن في مشهد الكاظمين (عليهما السلام) في قبر كان أعده الخليفة الناصر العباسي لنفسه فلم يدفنوه فيه . (أعيان الشيعة:9/414).

ويظهر أنه رحمه الله علیه نبغ في علوم عصره من مطلع شبابه في طوس، ثم هاجر الى نيشابور مواصلاً طلب العلم عند كبار علمائها . (خاتمة المستدرك:2/423).

وكان في نيشابور في العشرين من عمره عندما اجتاح المغول منطقة خراسان في غزوهم الأول سنة617، وأعملوا سيوفهم قتلاً عاماً في المسلمين ، ودمروا المدن التي احتلوها ، فهرب الناس من بطشهم الى القرى والمناطق البعيدة . وكان أكبر سبب في هلع الناس وفرارهم هروب سلطان السلاطين غياث الدين خوارزم شاه ، حاكم إيران وما وراء النهر ، فقد هرب بقسم من جيشه هروباً ذليلاً ، فطارده المغول من بلد الى بلد ، حتى وصل الى البحر ثم اختفى ، وقيل اختبأ في قلعة شاهقة في الهند !

كما هرب أهل نيشابور قبل أن يصلوا اليها: (كان الطوسي حائراً لا يدري أين يلجأ ولا بمن يحتمي ، وكان المحتشم ناصر الدين عبد الرحيم بن أبي منصور متولي قهستان ، قد ولي السلطة على قلاع الإسماعيليين في خراسان من قبل علاء الدين محمد زعيم الإسماعيليين آنذاك ، وكان ناصر الدين هذا من أفاضل زمانه وأسخياء عهده وكان يعني بالعلماء والفضلاء ، وكانت شهرة الطوسي قد وصلت اليه وعرف

ص: 109

مكانته في العلم والفلسفة والفكر، وكان من قبل راغباً في لقياه ، فأرسل يدعوه إلى قهستان ، وصادفت الدعوة هوى في نفس المدعو الشريد ، ورأى أنه وجد المأمن الذي يحميه فقبل الدعوة وسافر إلى قهستان). (أعيان الشيعة:9/415) .

أقول: ذهب بعضهم الى أن نصير الدين رحمه الله علیه أجبر على الذهاب الى قهستان ، وأن حاكمها الإسماعيلي بعث اليه بعض رجاله فأسروه وأتوه به ، وكان الحكام يحرصون على من هو طبيب ومنجم وحكيم . ففي أعيان الشيعة:9/415: (جاء في درة الإخبار أن أوامر قد صدرت إلى فدائيي الإسماعيليين باختطاف الطوسي وحمله إلى قلعة ألَمُوت وأن الفدائيين ترصدوه في أطراف بساتين نيسابور وطلبوا اليه مرافقتهم إلى ألَمُوت وأنه امتنع فهددوه بالقتل وأجبروه على مرافقتهم ، وأنه كان يعيش هناك سنواته شبه أسير أو سجين . وكذلك فإن سرجان ملكم في تاريخه قد أيد إرغامه على السفر إلى ألَمُوت وأن كان قد ذكر هذا الإرغام برواية تختلف عن رواية درة الإخبار).انتهى.

وقد استشهد أصحاب هذا الرأي بما كتبه رحمه الله علیه في آخر شرح الإشارات/636 ، حيث قال: (رقمت أكثرها في حال صعب لا يمكن أصعب منها حال ورسمت أغلبها في مدة كدورة بال ، بل في أزمنة يكون كل جزء منها ظرفاً لغصة وعذاب أليم وندامة وحسرة عظيم ، وأمكنة توقد كل آن فيها زبانية نار جحيم ويصب من فوقها حميم . ما مضى وقت ليس عيني فيه مقطراً ولا بالي مكدراً، ولم يجئ حين لم يزد ألمي ولم يضاعف همي وغمي . نعم ما قال الشاعر بالفارسية: بلا أنكشترى ومن نكينم.. بكردا كردخود جندانكه بينم وما لي ليس في امتداد حيأتي زمان ليس مملواً بالحوادث المستلزمة للندامة الدائمة والحسرة الأبدية ، وكان استمرار عيشي أمير جيوشه غموم وعساكره هموم . اللّهم نجني من تزاحم أفواج البلاء وتراكم أمواج العناء ، بحق رسول المجتبن ووصيه المرتضى ، وفرج عني ما أنا فيه بلا إله إلا أنت وأنت أرحم الراحمين) انتهى.

ص: 110

لكن لايمكن لخبير بالكلام أن يقبل أن هذ النص الركيك من كلام المحقق الطوسي رحمه الله علیه ، صاحب الأسلوب البليغ والعبارات المليئة الغنية ، التي شغلت العلماء بشروحها وما زالت ! مضافاً الى أنه كلامٌ لايتناسب ما يكتبه المؤلفون في ختام كتبهم ، فليس فيه ذكر لتاريخ انتهاء التأليف ولا إسم مؤلفه ! وغاية ما فيه قوله (رقمت أكثرها في حال صعب)ورقمتُ تنطبق على الناسخ أيضاً ، فالظاهر أنه كلامه لا كلام المؤلف !

وفي قهستان ألف نصير الدين رحمه الله علیه لحاكمها المحتشم ناصر الدين كتاباً في الأخلاق سماه (أخلاق ناصري) وعدداً من الكتب في علم الفلك والرياضيات والطب ، ثم طلبه علاء الدين محمد زعيم الإسماعيليين من واليه المحتشم فذهب به اليه في قلعة ألَمُوت ، فاستبقاه علاء الدين عنده حتى توفي ، ثم استبقاه ابنه الأكبر ركن الدين خورشاه حتى استسلم مع أعوانه لهلاكو سنة651، فقَتَل هولاكو الزعماء المستسلمين واستبقى نصير الدين لنفسه لأنه طبيب ومنجم ، يحرص الحكام أن يكون عندهم مثله ولا بد أن يكون هولاكو سمع باسمه ! (أعيان الشيعة:9/415).

وهكذا قَدَّرَ اللّه لنصير الدين (رحمه اللّه) أن يكون مع هولاكو في حملته على بغداد ، فبدأ يُخطط للتأثير على هذا الطاغية وتخفيف طغيانه وبطشه ما استطاع ، فكان هولاكو يأنس بكلامه وينفذ نصائحه أحياناً ، من ذلك أنه استطاع حفظ ما بقي من مكتبات بغداد ومدارسها ، فقد جعله هولاكو مسؤولاً عنها وعن كل الأوقاف ، كما قبل وساطته بعدم قتل بعض العلماء كابن العلقمي وابن أبي الحديد ، لكنه لم يستطع إنقاذ مشهد الكاظمين (عليه السلام) ومحلات الشيعة من نهب وتخريب الجنود الوحوش ! لكن مع ذلك وطد علاقته مع هلاكو وأولاده حتى أسلم بعضهم ، كما يأتي !

3- من إيمان نصير الدين الطوسي وأخلاقه رحمه الله علیه

قال المناوي في فيض القدير:5/412:( لو كان الفحش خلقاً لكان شرَّ خلق اللّه:

ص: 111

وقد اتفقت الحكماء على تقبيح الفحش والنطق به ، ووقع للحكيم نصير الدين الطوسي أن إنساناً كتب إليه ورقة فيها يا كلب يا ابن الكلب ! فكان جوابه: أما قولك كذا فليس بصحيح ، لأن الكلب من ذوات الأربع ، وهو نابح طويل الأظفار ، وأنا منتصب القامة ، بادي البشرة عريض الأظفار ، وناطق ضاحك ، فهذه فصول وخواص غير تلك الفصول والخواص ، وأطال في نفض كل ما قاله برطوبة وحشمة وتأن ، غير منزعج ، ولم يقل في الجواب كلمة فاحشة ) !

**

قال الماحوزي في كتاب الأربعين/98: (روى ثقة الإسلام في الكافي عن زرارة عن الباقر (عليه السلام) أنه قال: أما لو أن رجلاً قام ليله وصام نهاره وتصدق بجميع ماله وحجَّ جميع عمره ، ولم يعرف ولاية ولي اللّه فيواليه وتكون جميع أعماله بدلالته إليه ، ما كان له على اللّه حق في ثوابه ، ولا كان من أهل الايمان .

وقد نظم هذا المعنى العلامة الفيلسوف أفضل المتأخرين ورئيس المحققين ، نصير الدين محمد بن محمد الطوسي قدس اللّه سره وبجنان الخلد سَرَّه ، في هذه القطعة:

لو أن عبداً أتى بالصالحاتِ غداً *** وودَّ كل نبيٍّ مرسلٍ وولي

وصام ما صام صواماً بلا ضجر *** وقام ما قام قواماً بلا ملل

وحج ما حجَّ من فرض ومن سُنَنٍ *** وطاف ما طاف حافٍ غيرَ مُنتعل

وطار في الجوِّ لا يأوي إلى أحد *** وغاص في البحر مأموناً من البلل

يكسو اليتامى من الديباج كُلِّهِمُ *** ويُطعم الجائعينَ البُرَّ بالعَسَل

وعاشَ في الناس آلافاً مؤلفة *** عار من الذنب معصوماً من الزلل

ما كان ذلك يوم الحشر ينفعه *** إلا بحُبِّ أمير المؤمنين علي

والذريعة:22/237، وأعيان الشيعة:9/418 ، ومفاتيح الرحمة:2/46 ، والأربعون في حب علي (عليه السلام) :3/11، والكنى والألقاب:2/141، وقد نسبها بعضهم الى الخليفة الناصر العباسي مثل ابن جبر في نهج الإيمان/459 ، وابن عقيل في النصائح الكافية/109. وفي روايتهم تفاوت يسير في بعض ألفاظها .

**

وفي تأويل الآيات:1/190:(سئل عن الفرقة الناجية فقال: بحثنا عن المذاهب وعن قول رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة منها فرقة ناجية والباقي

ص: 112

في النار . فوجدنا الفرقة الناجية هي الإمامية لأنهم باينوا جميع المذاهب في أصول العقائد وتفردوا بها ، وجميع المذاهب قد اشتركوا فيها ، والخلاف الظاهر بينهم في الإمامة . فتكون الإمامية الفرقة الناجية ، وكيف لا وقد ركبوا فلك النجاة الجارية وتعلقوا بأسباب النجوم الثابتة والسارية ، فهم واللّه أهل المناصب العالية ، وأولوا الأمر والمراتب السامية ، وهم غداً فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ، فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ، قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ، ويقال لهم:كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ . والصلاة والسلام على الشموس المشرقة والبدور الطالعة في الظلمات الداهية ، محمد المصطفى وعترته الهادية صلاة دائمة باقية ).

4- شبه نصير الدين الطوسي بالحسين بن روح رحمه الله علیه

نلاحظ شبهاً كبيراً بين نصير الدين الطوسي (عليه السلام) وبين السفير أبي القاسم الحسين بن روح رحمه الله علیه ، في عمق الشخصية والمتانة وأسلوب العمل . وكذلك في الدقة والتقوى ، وعلاقاتهما بحكام عصريهما ، ومكانتهما الجليلة عندهم !

أما الحسين بن روح رحمه الله علیه فهو معدٌّ من رب العالمين عز وجل لدور كبير عظيم ليكون سفيراً عن وليه الأعظم الإمام المهدي أرواحنا فداه ، ويقوم بما يأمره به من أعمال لم نكتشف الى الآن إلا قليلاً منها ، وقد كتبتُ شيئاً من سيرته في المعجم الموضوعي لأحاديث الإمام المهدي .

وأما نصير الدين الطوسي رحمه الله علیه فهو عالمٌ مرجع نابغ ، قدَّر له اللّه تعالى دوراً عظيماً ، أدَّاه حسب اجتهاده ظاهراً ، لكني أحدس بأنه كان يتلقى في خطوط عمله توجيهات الإمام المهدي أرواحنا فداه ! ومن الطبيعي أن ذلك يحتاج الى دليل أقوى من الحدس وإن كان قوياً . لكن من مؤشراته شهادة العلامة الحلي رحمه الله علیه التي تقدمت في حقه ، قال: (وكان هذا الشيخ أفضل أهل عصره في العلوم العقلية والنقلية ، وله مصنفات كثيرة في العلوم الحكمية والأحكام الشرعية على مذهب الإمامية ،

ص: 113

وكان أشرف من شاهدناه في الأخلاق ، نور اللّه ضريحه). فإن أفعلي التفضيل من العلامة رحمه الله علیه يدلان على مقام مميز بين العلماء والأتقياء ، عالٍ جداً ، وخاصٍّ جداً .

ومنها: توجيهاته رحمه الله علیه العملية لطالب العلم في كتابه آداب المتعلمين ، وكتبه الأخلاقية والعرفانية ، بمثل قوله: (ينبغي لطالب العلم أن يفرغ يومه للكتابة والمطالعة والفكر والحفظ ، فيجد بذلك بركة عظيمة ، وأن يفعل أفعال الخير كالمواظبة على الصلاة والصيام في كل أسبوع يوماً أو يومين ، والصدقة ولو بفلس واحد ، ويتجنب عن الشر والخبائث ، على اختلاف أنواعها ). (الذريعة:1/26) .

وكذلك شهادة المحقق الكركي رحمه الله علیه في حقه ، قال في الخراجيات/74: (ومن تأمل في كثير من أحوال الكبراء من علمائنا السالفين مثل السيد الشريف المرتضى علم الهدى وأعلم المحققين من المتقدمين والمتأخرين: نصير الحق والدين الطوسي ، وبحر العلوم ، ومفتي العراق جمال الملة والدين الحسن بن مطهر ، وغيرهم رضوان اللّه عليهم ، نظر متأمل منصف ، لم يعترضه الشك في أنهم كانوا يسلكون هذا المنهج ويفتحون هذا السبيل، وما كانوا ليودعوا بطون كتبهم إلا ما يعتقدون صحته). ورسائل الكركي:1/270، والمكاسب:2/219 ، ونهاية الدراية للسيد الصدر/31).

**

5- شذَّ ابن تيمية فاتَّهم الطوسي رحمه الله علیه بالتآمر مع هلاكو !

مع أن الجميع يعرفون أن نصير الدين الطوسي رحمه الله علیه كان أسيراً بيد الطاغية هولاكو ، فقد أخذه بعد أن احتل قلاع الإسماعيلية وقتل زعماءهم !

لكن ابن تيمية المعروف بعقدته من الشيعة استغل وجوده مع هولاكو فاتهمه بأنه هو الذي دعاه الى غزو بغداد ، وأشار عليه بقتل الخليفة المستعصم ! وقد خالف ابن تيمية بعض مؤيديه كالذهبي وابن كثير ، ودافعوا عن النصير رحمه الله علیه .

قال ابن كثير في النهاية:13/313: ( النصير الطوسي محمد بن عبد اللّه الطوسي ،

ص: 114

كان يقال له المولى نصير الدين ويقال الخواجا نصير الدين ، اشتغل في شبيبته وحصل علم الأوائل جيداً ، وصنف في ذلك في علم الكلام وشرح الإشارات لابن سينا ، ووزر لأصحاب قلاع الألَمُوت من الإسماعيلية ، ثم وزر لهولاكو وكان معه في واقعة بغداد ، ومن الناس من يزعم أنه أشار على هولاكو خان بقتل الخليفة فاللّه أعلم ، وعندي أن هذا لا يصدر من عاقل ولا فاضل ، وقد ذكره بعض البغاددة(أي الحنابلة) فأثنى عليه وقال: كان عاقلاً فاضلاً كريم الأخلاق ودفن في مشهد موسى بن جعفر في سرداب كان قد أعد للخليفة الناصر لدين اللّه ، وهو الذي كان قد بنى الرصد بمراغة ورتب فيه الحكماء من الفلاسفة والمتكلمين والفقهاء والمحدثين والأطباء وغيرهم من أنواع الفضلاء ، وبنى له فيه قبة عظيمة وجعل فيه كتباً كثيرة جداً ، توفي في بغداد في ثاني عشر ذي الحجة من هذه السنة وله خمس وسبعون سنة ، وله شعر جيد قوي . وأصل اشتغاله على المعين سالم بن بدار بن علي المصري المعتزلي المتشيع ، فنزع فيه عروق كثيرة منه حتى أفسد اعتقاده).انتهى.

وقال في النهاية:13/281: (وفيها (سنة662) قدم نصير الدين الطوسي إلى بغداد من جهة هولاكو فنظر في الأوقاف وأحوال البلد ، وأخذ كتباً كثيرة من سائر المدارس وحولها إلى رصده الذي بناه بمراغة ، ثم انحدر إلى واسط والبصرة).

**

وقد كتب آية اللّه السيد الميلاني بحثاً بعنوان (الشيخ نصير الدين الطوسي رحمه الله علیه وسقوط بغداد) وفَنَّدَ فيه اتهام ابن تيمية ، ومما قاله: (يقول ابن تيمية: هذا الرجل قد اشتهر عند الخاص والعام أنه كان وزيراً للملاحدة الباطنية الإسماعيلية في الألَمُوت ، ثم لما قدم الترك المشركون إلى بلاد المسلمين وجاؤوا إلى بغداد دار الخلافة ، كان هذا منجماً مشيراً لملك الترك المشركين هولاكو ، أشار عليه بقتل الخليفة وقتل أهل العلم والدين ، واستبقاء أهل الصناعات والتجارات الذين ينفعونه في الدنيا ، وأنه استولى على الوقف الذي للمسلمين ، وكان يعطي منه ما شاء اللّه

ص: 115

لعلماء المشركين وشيوخهم من البخشية السحرة وأمثالهم .

وأنه لما بنى الرصد الذي بمراغة على طريقة الصابئة المشركين، كان أبخس الناس نصيباً منه من كان إلى أهل الملل أقرب ، وأوفرهم نصيباً من كان أبعدهم عن الملل مثل الصابئة المشركين ومثل المعطلة وسائر المشركين .

ومن المشهور عنه وعن أتباعه الإستهتار بواجبات الإسلام ومحرماته ، لا يحافظون على الفرائض كالصلوات ولا ينزعون عن محارم اللّه من الفواحش والخمر وغير ذلك من المنكرات ، حتى أنهم في شهر رمضان يذكر منهم من إضاعة الصلوات وارتكاب الفواحش وشرب الخمور ما يعرفه أهل الخبرة بهم . ولم يكن لهم قوة وظهور إلا مع المشركين الذين دينهم شر من دين اليهود والنصارى ، ولهذا كان كلما قوي الإسلام في المغل وغيرهم من الترك ضعف أمر هؤلاء ، لغرض معاداتهم للإسلام وأهله....

وبالجملة فأمر هذا الطوسي وأتباعه عند المسلمين أشهر وأعرف من أن يعرف ويوصف . ومع هذا فقد قيل: إنه في آخر عمره يحافظ على الصلوات الخمس ويشتغل بتفسير البغوي وبالفقه ونحو ذلك ، فإن كان قد تاب من الإلحاد فاللّه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات واللّه تعالى يقول: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أنفسهِمْ لاتَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

لكن ما ذكره هذا إن كان قبل التوبة لم يقبل قوله وإن كان بعد التوبة لم يكن قد تاب من الرفض بل من الإلحاد وحده ، وعلى التقديرين فلا يقبل قوله . والأظهر أنه إنما كان يجتمع به وبأمثاله لما كان منجماً للمغل المشركين ، والإلحاد معروف من حاله إذ ذاك ، فمن يقدح في مثل أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، ويطعن على مثل مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وأتباعهم ويعيرهم بغلطات بعضهم في مثل إباحة الشطرنج والغناء ، كيف يليق به أن يحتج لمذهبه بقول مثل هؤلاء الذين لايؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم اللّه ورسوله ولايدينون دين الحق ، من الذين أوتوا الكتاب حتى

ص: 116

يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، ويستحلون المحرمات المجمع على تحريمها كالفواحش والخمر في شهر رمضان، الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وخرقوا سياج الشرائع واستخفوا بمحرمات الدين وسلكوا غير طريق المؤمنين.... لكن هذا حال الرافضة دائماً يعادون أولياء اللّه المتقين من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، ويوالون الكفار والمنافقين) . (منهاج السنة :3/445).

ورد عليه السيد الميلاني بأن اتهامه تعصبٌ وافتراءٌ بلا دليل ، واستشهد بنصوص مؤرخين عاصروا سقوط بغداد ، وأولهم ابن الفوطي البغدادي الذي شهد تلك الحادثة وأُسِرَ فيها ، وهو عالم سني حنبلي ، مدحه الذهبي ووصفه بأنه إمام (تذكرة الحفاظ:4/1493، وابن كثير في النهاية:14/106) وقد أرُخّ لسقوط بغداد في كتابه الحوادث الجامعة ولم يذكر شيئاً من افتراء ابن تيمية !

ثم قال السيد الميلاني في ابن قيم الجوزية: (لم يتبع ابن تيمية فقط بل زاد على ما قال شيخه أشياء أخرى أيضاً ! لاحظوا عبارته بالنص عندما يذكر نصير الدين الطوسي رحمه الله علیه يقول: نصير الشرك والكفر والإلحاد وزير الملاحدة النصير الطوسي وزير هولاكو ، شفى نفسه من أتباع الرسول وأهل دينه فعرضهم على السيف حتى شفى إخوانه من الملاحدة ، واشتفى هو فقتل الخليفة المستعصم ، والقضاة ، والفقهاء والمحدثين....واستبقى الفلاسفة والمنجمين ، والطبايعيين والسحرة ، ونقل أوقاف المدارس والمساجد والربط إليهم وجعلهم خاصته وأولياءه ، ونصر في كتبه قدم العالم وبطلان المعاد وإنكار صفات الرب جل جلاله من علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره ، واتخذ للملاحدة مدارس ورام جعل إشارات إمام الملحدين ابن سينا مكان القرآن فلم يقدر على ذلك ، فقال: هي قرآن الخواص وذلك قرآن العوام ، ورام تغيير الصلاة وجعلها صلاتين فلم يتم له الأمر ! وتعلم السحر في آخر الأمر فكان ساحراً يعبد الأصنام)! انتهى.

ص: 117

ثم بيَّن السيد الميلاني أن سبب اتهامهم للطوسي رحمه الله علیه نجاح كتابه (تجريد الإعتقاد) الذي نصر به مذهب التشيع المظلوم ، فهو أول كتاب أصَّل بحوث علم الكلام ، وفرض نفسه على الأوساط العلمية والمعاهد، وصار مرجع البحث والتدريس، قال: (حينئذ أصبح الآخرون عيالاً على الخواجة نصير الدين الطوسي رحمه الله علیه في علم الكلام والعقائد ، وبتبع كتاب التجريد ألفت كتبهم في العقائد ، وهذا مما يغتاظ منه القوم)! ثم نقل إعجاب عدد من علمائهم بالمحقق الطوسي رحمه الله علیه .

أقول: ومن مفارقات ابن القيم أنه لخص في شرح قصيدته:1/245، ترجمة نصير الدين الطوسي رحمه الله علیه من تاريخ ابن شاكر ، واختار في تلخيصه مديحاً قوياً له فقد جاء فيه: (وأما النصير الطوسي فهو محمد بن محمد بن الحسن نصير الدين الطوسي صاحب الرياضي والرصد ، كان رأساً في علم الأوائل لا سيما في الأرصاد والمجسطي فإنه فاق الكبار...وكان حسن الصورة سمحاً كريماً جواداً حليماً حسن العشرة غزير الفضائل، واختصر المحصل للإمام فخر الدين وهذبه وزاد فيه ، وشرح الإشارات ورد على الإمام فخر الدين في شرحه وقال: هذا جرح وما هو بشرح ! وقال فيه: حررته في عشرين سنة وناقض فخر الدين كثيراً ، ومن تصانيفه التجريد في المنطق ، وأوصاف الأشراف ، وقواعد العقائد والتلخيص في علم الكلام، وشرح كتاب ثمرة بطليموس ، وكتاب المجسطي، وشرح مسألة العلم ورسالة الإمامة ، ورسالة إلى نجم الدين الكاتبي في إثبات الواجب، وحواش على كليات القانون ، وغير ذلك ). انتهى.

فقد تبنى ما لخصه في مديحه وهو أقوى من نقله كلام ابن شاكر كاملاً ، وأقوى من نقله اتهامات شيخه ابن تيمية دون أن يتبناها بل تركها على عهدة شيخه وذمته .

أما الذهبي فقد خالف اتهامات ابن تيمية بوضوح ، قال السيد الأمين في كتابه:

ص: 118

الإسماعيليون والمغول ونصير الدين الطوسي/129:(حتى الذهبي وهو في العصبية مع ابن تيمية فَرَسَا رهان ، حتى الذهبي لم يستطع أن يدعي هذه الدعوى على الطوسي فقال في كتابه: سير أعلام النبلاء:23/181: فضرب(هولاكو)أعناق الكل ورفس المستعصم حتى تلف. وقال في/182: ثم جرت له(هولاكو)محاورة معه وأمر به وبابنه أبي بكر فرفسا حتى ماتا). وحسبنا أن يكون المكذب لابن تيمية هو الذهبي) ! انتهى.

أقول: وقد خالف الذهبي ابن تيمية حيث ترجم لنصير الدين الطوسي رحمه الله علیه في تاريخه:50/113، ونقل فيه مديحاً كثيراً ولم يتهمه ، قال: (محمد بن محمد بن حسن الشيخ نصير الدين أبو عبد اللّه الطوسي ، الفيلسوف ، كان رأساً في علم الأوائل لا سيما معرفة الرياضي وصنعة الأرصاد فإنه فاق بذلك على الكبار ، قرأ على المعين سالم بن بدران المصري المعتزلي الرافضي وغيره ، وكان ذا حرمة وافرة ومنزلة عالية عند هولاكو ، وكان يطيعه فيما يشير به ، والأموال في تصريفه ، وابتنى بمدينة مراغة قبة ورصداً عظيماً ، واتخذ في ذلك خزانة عظيمة عالية فسيحة الأرجاء وملأها بالكتب التي نهبت من بغداد والشام والجزيرة ، حتى تجمع فيها زيادة على أربعمائة ألف مجلد . وقرر للرصد المنجمين والفلاسفة والفضلاء وجعل لهم الجامكية(الرواتب)وكان سمحاً جواداً حليماً حسن العشرة غزير الفضائل جليل القدر ، لكنه على مذهب الأوائل في كثير من الأصول نسأل اللّه الهدى والسداد . توفي في ذي الحجة ببغداد وقد نيف على الثمانين ويعرف بخواجا نصير .

قال الظهير الكازروني: مات المخدوم خواجا نصير الدين أبو جعفر الطوسي في سابع عشري ذي الحجة ، وشيعه خلائق وصاحب الديوان والكبراء ودفن بمشهد الكاظم . وكان مليح الصورة جميل الأفعال مهيباً عالماً متقدماً سهل الأخلاق متواضعاً كريم الطباع محتملاً ، يشتغل إلى قريب الظهر . ثم طول

ص: 119

الكازروني ترجمته وفيها تواضعه وحلمه وفتوته . ثم رأيت في تاريخ تاج الدين الفزاري:حدثني شمس الدين الأيكي أن النصير تمكن إلى الغاية والناس كلهم من تحت تصرفه ، وكان حسن الشكل فصيحاً خبيراً بجميع العلوم . كان يقول: اتفق المحققون على أن علم الكلام قليل الفائدة وأقل المصنفات فيه فائدة كتب فخر الدين ، وأكثرها تخليطاً كتاب المحصل . قال: وأقمت مع شيخنا النصير سبع سنين وصنَّف كتباً عدة ، ومولده بطوس يوم الأحد حادي عشر جمادى الأولى سنة597 ). انتهى.

6- نصير الدين الطوسي رحمه الله علیه يليِّن الطاغية هولاكو وأولاده

اشارة

(قال الأستاذ الأزهري الشيخ عبد المتعال الصعيدي: (استطاع نصير الدين الطوسي أن يهزم بالعقل والعلم الدولة الطاغية الباغية ، وأن تنجح خططه في تحويل المغول من وثنيين إلى مسلمين) . (مستدركات أعيان الشيعة/1/229).

وقال السيد الأمين في أعيان الشيعة:9/417: (استطاع بتأثيره على مزاج هولاكو أن يستحوذ تدريجياً على عقله ، وأن يروض شارب الدماء فيوجهه إلى إصلاح الأمور الإجتماعية والثقافية والفنية ، فأدى الأمر إلى أن يوفد هولاكو فخر الدين لقمان بن عبد اللّه المراغي إلى البلاد العربية وغيرها ليحثَّ العلماء الذين فروا بأنفسهم من الحملة المغولية فلجؤوا إلى إربل والموصل والجزيرة والشام ويشوِّقهم إلى العودة ، وأن يدعو علماء تلك البلاد أيضاً إلى الإقامة في مراغة).

وقال السيد الأمين في: الإسماعيليون والمغول ونصير الدين الطوسي/294: (ولكن الذي استطاع أن "يروض شارب الدماء" وأن يستغل الجبار الطاغية فيقيم تحت سمعه وبصره مكتبة الإسلام ويشيِّد مدرسة الإسلام ، ويقيم مجمع علماء الإسلام ، سيستطيع بإخلاصه وإيمانه الذين لا حد لهما وبعقله الكبير وفكره المنظم وتدبيره الحازم ،

ص: 120

سيستطيع أن يُشرب قلوب المغول الميل إلى الإسلام ثم اعتناق الإسلام . فأعد لهذه المرحلة الحاسمة جماعات واعية تحسن التخطيط والتنفيذ ، كان في الطليعة منها: آل الجويني الذين نشأوا على حب أهل البيت (عليهم السلام) وما يبعثه هذا الحب من إخلاص وحمية ونضال وتفانٍ في سبيل الإسلام . ثم في النهاية أسلم المغول على يدي تلاميذ الطوسي ونجح مخطط الطوسي نجاحه الأكبر) ! انتهى.

ويظهر من النص التالي أن تأثير نصير الدين رحمه الله علیه على الطاغية هولاكو جعله يتقبل التلفظ بالشهادتين حتى لو كان شكلياً من أجل الزواج بامرأة !

قال الكتبي في فوات الوفيات:2/580: (قال الظهير الكازروني: حكى النجم أحمد بن البواب النقاش نزيل مراغة قال: عزم هولاكو على زواج بنت ملك الكرج فأبت حتى يسلم ، فقال: عرفوني ما أقول؟ فعرضوا عليه الشهادتين فأقر بهما وشهد عليه بذلك خواجا نصير الدين الطوسي وفخر الدين المنجم ، فلما بلغها ذلك أجابت فحضر القاضي فخر الدين الخلاطي، وتوكل لها النصير الطوسي ولهولاكو الفخر المنجم ، وعقدوا العقد باسم ماما خاتون بنت الملك داود إيواني على ثلاثين ألف دينار ! قال ابن البواب: وأنا كتبت الكتاب في ثوب أطلس أبيض). كما عدَّ في الذريعة:24/181، من كتب نصير الدين رحمه الله علیه كتاب: (نصيحة أبآقا خان بن هولاكو خان ، كتبه الخواجة نصير الطوسي لأبآقا خان بعد موت أبيه وإبائه عن تحمل مسؤولية السلطنة، وَرَدَ بتمامه في روضة الصفا).انتهى. وهو يكشف عن تأثير المرجع الطوسي رحمه الله علیه على أولاد هولاكو أيضاً .

وذكر الذهبي في تاريخه:47/454 ، و:49/183، و:52/37 ، والتبريزي في مرآة الكتب/142، إسلام قازان خان في أواخر أيامه على يد إبراهيم بن سعد الدين الحموئي الجويني ، وهو تلميذ نصير الدين الطوسي ، ومؤلف كتاب: فرائد السمطين في فضائل المرتضى والبتول والسبطين (عليهم السلام) .

ص: 121

كما أورد الذهبي في تاريخه:52/75 ، نسخة كتاب لقازان ، يعلن فيها إسلامه ويبرر هجومه على بلاد الشام ومصر ، جاء فيه: (بقوة اللّه تعالى: ليعلم أمراء التومان والألف والمائة وعموم عساكرنا من المغول والتازيكا والأرمن والكرج وغيرهم ممن هو داخل تحت طاعتنا ، أن اللّه لما نور قلوبنا بنور الإسلام وهدانا إلى ملة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أَفَمَنْ شَرَحَ اللّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ... ولما سمعنا أن حكام مصر والشام خارجون عن طرائق الدين ، غير متمسكين بأحكام الإسلام ناقضون لعهودهم...الخ.).

وذكر في/80 ، احتلال قازان للشام والخطبة له في مسجدها .

كما وصف الصفدي في الوافي:20/126 ، دخول قازان مدرسة المستنصرية التي كانت مركز التعصب ضد الشيعة فقال: ( فلما أتى غازان المستنصرية احتفل الناس له واجتمع بالمدرسة أعيان بغداد وأكبرها من القضاة والعلماء والعظماء ، وفيهم الشيخ زين الدين الآمدي لتلقي غازان...فحين وضع يده في يده نهض له قائماً وقبل يده وعظم ملتقاه والإحتفال به وأعظم الدعاء له باللسان المغلى ثم بالتركي ثم الفارسي ثم بالرومي ثم بالعربي ورفع به صوته ورفع به صوته إعلاماً للناس فعجب السلطان من فطنته وذكائه وحدة ذهنه مع ضرره(أي كان أعمى)ثم إن السلطان خلع عليه في الحال ووهبه مالاً ورسم له بمرتب في كل شهر ثلاثمائة درهم). انتهى.

وقال السيد الأمين في أعيان الشيعة:2/355: (وملك منهم في بلاد الإسلام واحد وعشرون ملكاً وكانت مدة ملكهم168سنة وشهرين من سنة603 إلى سنة771... وأول من أسلم منهم السلطان أحمد خان بن هولاكو ، ثم غازان خان بن أرغون بن أبقا بن هولاكو ، وأسلم باسلامه ثمانون ألفاً من المغول . ثم أخوه محمد خدابنده الجايتو والد المترجم ابن أرغون ، وتشيع على يد العلامة الحلي (رحمه اللّه) ) .

وفي فوات الوفيات:2/482: (غازان المُغُلي محمود بن أرغون المغلي الجنكزخاني صاحب العراقين وخراسان وفارس وأذربيجان والروم ، كان شاباً عاقلاً شجاعاً مهيباً

ص: 122

مليح الشكل ، ملك سنة ثلاث وتسعين وستمائة فحسَّن له نائبه توزون الإسلام ، فأسلم سنة أربع وتسعين ، وفشا الإسلام في التتار ). انتهى.

وقال الصفدي في الوافي:1/147: (وكان النصير قد قدم من مراغة إلى بغداد ومعه جماعة كثيرة من تلامذته وأصحابه ، فأقام بها مدة أشهر ومات ، وخلف من الأولاد صدر الدين علي والأصيل حسن والفخر أحمد ، وولي صدر الدين علي بعد أبيه غالب مناصبه فلما مات ولي مناصبه أخوه الأصيل ، وقدم الشام مع غازان وحكم تلك الأيام في أوقاف دمشق ) .

وفي تراث كربلاء للسيد آل طعمة/42 ، أن السلطان قازان حفر ثلاثة فروع لنهر الفرات لسقي أراضي كربلاء ، وسمي بالنهر الغازاني الأعلى والأسفل) . (وفي سنة ثمان وستون وستمائة توجه السلطان غازان إلى الحلة، وقصد زيارة المشاهد الشريفة (النجف وكربلاء) وأمر للعلويين والمقيمين بمال كثير ، ثم أمر بحفر نهر من أعلى الحلة فحفر وسمي بالغازاني ، وتولى ذلك شمس الدين صواب الخادم سكورجي وغرس الدولة) . (مرقد الإمام الحسين (عليه السلام) /157، عن الحوادث الجامعة/497).

أقول: مهما يكن إسلام قادة المغول وجنودهم سطحياً مخلوطاً برواسبهم الوثنية ، لكنه كان البداية حتى تحسن إسلام بعضهم مع الزمن ! ويبقى العمل الأهم تليين أذهانهم وقلوبهم للإسلام، وهو ما قام به العالم العبقري نصير الدين الطوسي رحمه الله علیه وتلاميذه الأفذاذ خاصة آل الجويني والعلامة الحُلِّي ، كما سيأتي .

الذهبي يميل الى إسلام هولاكو !

قال الذهبي في تاريخه:49/180: ( قال لي الظهير الكازروني: حكى لي النجم أحمد بن البواب النقاش نزيل مراغة قال: عزم هولاكو على زواج بنت ملك الكرج ، قالت: حتى تسلم . فقال: عرفوني ما أقول . فعرضوا عليه الشهادتين فأقر بهما وشهد عليه بذلك الخواجا نصير الطوسي وفخر الدين المنجم . فلما بلغها ذلك أجابت ،

ص: 123

فحضر القاضي فخر الدين الخلاطي فتوكل لها النصير وللسلطان الفخر المنجم ، وعقدوا العقد باسم تامار خاتون بنت الملك داود بن إيواني على ثلاثين ألف دينار . قال ابن البواب: وأنا كتبت الكتاب في ثوب أطلس أبيض ، وعجبت من إسلامه .

قلت: إن صح هذا فلعله قالها بفمه لعدم تقيده بدين ، ولم يدخل الإسلام إلى قلبه واللّه أعلم . قال قطب الدين: كان هلاكه بعلة الصرع فإنه حصل له الصرع منذ قتل الملك الكامل صاحب ميافارقين فكان يعتريه في اليوم المرة والمرتين . ولما عاد من كسرة بركة له أقام يجمع العساكر وعزم على العود لقتال بركة ، فزاد به الصرع ومرض نحواً من شهرين وهلك فأخفوا موته وصبروه وجعلوه في تابوت ثم أظهروا موته ، وكان ابنه أبغا غائباً فطلبوه ثم ملكوه . وهلك هولاكو وله ستون سنة أو نحوها وقد أباد أمماً لا يحصيهم إلا اللّه . ومات في هذه السنة قيل في سابع ربيع الآخر سنة ثلاث وستين ببلد مراغه ونقل إلى قلعة تلا وبنوا عليه قبة ، وخلف من الأولاد سبعة عشر ابناً سوى البنات وهم: أبغا ، وأشموط ، وتمشين ، وبكشي ، وكان بكشي فاتكاً جباراً ، وأجاي ، ويستز ، ومنكوتمر الذي التقى هو والملك المنصور على حمص وانهزم جريحاً ، وباكودر ، وأرغون ونغابي دمر ، والملك أحمد . قلت: وكان القاءان الكبير قد جعل أخاه هولاكو نائباً على خراسان وأذربيجان فأخذ العراق والشام وغير ذلك ، واستقل بالأمر مع الإنقياد للقاءان والطاعة له والبُرُد واصلة إليه منه في الأوقات ، وتفاصيل الأمور لم تبلغنا كما ينبغي ، وقد جمع صاحب الديوان كتاباً في إخبارهم في مجلدتين . ووالد هولاكو هو تولى خان الذي عمل معه السلطان جلال الدين مصافاً في سنة ثماني عشرة، فنصر جلال الدين وقتل في الوقعة تولى إلى لعنة اللّه . وكان القاءان الأعظم في أيام هولاكو أخاه مونكوقا بن تولى بن جنكزخان ، فلما هلك جلس على التخت بعده أخوهما قبلاي فامتدت دولته وطالت أيامه ومات سنة خمس وتسعين بخان بالق أم بلاد الخطا وكرسي مملكة التتار .

وكانت دولة قبلاي نحواً من أربعين سنة، في آخر أيامه أسلم قازان على يد شيخنا

ص: 124

بدر الدين ابن حمويه الجويني . وقال الظهير الكازروني: عاش هولاكو نحو خمسين سنة ، وكان عارفاً بغوامض الأمور وتدبير الملك ، فاق على من تقدمه وكان يحب العلماء ويعظمهم ويشفق على رعيته ويأمر بالإحسان إليهم .

قلت: وهل يسع مؤرخاً في وسط بلاد سلطان عادل أو ظالم أو كافر ، إلا أن يثني عليه ويكذب فاللّه المستعان ، فلو أثني على هولاكو بكل لسان لاعترف المثني بأنه مات على ملة آبائه وبأنه سفك دم ألف ألف أو يزيدون ، فإن كان اللّه تعالى مع هذا وفقه للإسلام فياسعادته ، لكن حتى يصح ذلك ، واللّه أعلم). انتهى.

نلاحظ أن الذهبي تأرجح في موقفه ، لكنه فتح باب احتمال إسلام هولاكو ! والسبب أن الظهير الكازروني مدحه له وأخبره أنه أسلم من أجل امرأة ! لكن الذهبي يريد تأييداً لكلام الكازروني ليحكم بإسلام هولاكو وسعادته ! حيث يغفر اللّه له جرائمه العريضة وسفكه لدماء مليون مسلم ، بتلفظه بالشهادتين ! وليت الذهبي يعامل من يخالفه في الرأي بهذا اللين الذي به عامل به هولاكو !

7- خطة نصير الدين الطوسي رحمه الله علیه لرد غزو المغول

اشارة

اعتمد المرجع المحقق الطوسي رحمه الله علیه أسلوباً فريداً في رد الغزو المغولي والنهوض بالأمة ثقافياً وعمرانياً ، هو أسلوب العمل بنفسه على أهم الأصعدة ومع أعلى مراكز القرار ، وفي نفس الوقت العثور على الطاقات القابلة للنبوغ ، وتنميتها وإطلاقها في الأمة في كل المجالات النافعة ومن أي مذهب كانت ! وهذا يشبه عمل الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) ! ولا عجب فمن تأمل عمله رحمه الله علیه ونمط تفكيره ، لايستبعد أن يكون موجهاً من خاتم الأئمة صلوات اللّه عليه .

كان (رحمه اللّه) يركز نظره على الشخصيات النابغة ، فعندما عاد من زيارته للحلة

ص: 125

سئل عما رأى فيها؟ فقال: رأيت خِرِّيتاً ماهراً وعالماً إذا جاهد فاق ، يقصد المحقق الحلي ، والعلامة الحلي الذي كان عمره يومذاك بضع عشرة سنة !

وعندما وجد محمد الجويني وأولاده تبناهم ودعمهم عند هولاكو وحماهم من غضبه وبطشه ، حتى كانوا وزراءه وحكام العراق لأكثر من عشرين سنة فأعادوا عمرانه بأحسن مما كان في زمن الخلافة العباسية !

وعندما رأى ابن الفوطي غلاماً بيد المغول خلصه منهم وعلمه ووظفه !

وعندما رأى المشايخ آل الحموئي قوَّى موقعهم عند هولاكو وعند أولاده ، فكان إسلام شخصيات المغول على أيديهم !

وهكذا العديد العديد من الأطباء ، والمهندسين ، والفلكيين ، والسياسيين ، الذين اختارهم رحمه الله علیه واعتنى بهم ، وفتح لهم أبواب العلم والعمل !

وقد ذكروا له رحمه الله علیه تلاميذ ومعتمدين عديدين في العلوم والمجالات المختلفة ورووا أن قطب الدين الشيرازي محمود بن مسعود كان برأي ابن هولاكو خليفته في الطب ففي الدرر الكامنة:2/118: (كان من كبار تلامذة النصير الطوسي وكان مبجلاً عند التتار وجيهاً متواضعاً حليماً) .وقال في:6/100:(محمود بن مسعود بن مصلح الفارسي قطب الدين الشيرازي الشافعي العلامة، ولد في شيراز سنة634 وكان أبوه طبيباً فقرأ عليه وعلى عمه وعلى الزكي البركشائي والشمس الكتبي ، ورُتِّبَ طبيباً بالمرستان وهو شاب ، ثم سافر إلى النصير الطوسي فقرأ عليه الهيئة وبحث عليه الإشارات وبرع . قال له أبغا بن هلاوو: أنت أفضل تلامذة النصير وقد كبر فاجتهد أن لا يفوتك شئ من علومه ، فقال له: قد فعلت وما بقي لي به حاجة ، ثم دخل الروم فأكرمه صاحبها وولي قضاء سيواس وملطية وقدم الشام رسولاً من جهة أحمد ، ثم أكرمه أرغون ، وسكن تبريز وأقرأ بها العلوم العقلية وحدث بجامع الأصول...وكان كثير المخالطة للملوك متحرزاً... وكان دخله في العام ثلاثين ألفاً فكان لا يدخر منها شيئاً

ص: 126

بل ينفقه على تلامذته... وكان غازان يعظمه ويعطيه ، وكان كثير الشفاعات....قال الذهبي قيل كان في الإعتقاد على دين العجائز وكان يخضع للفقهاء... وتلاميذه يبالغون في تعظيمه، ومات في24 رمضان سنة710). ونحوه البدر الطالع:2/299 ، والوافي:12/36 ، وفيه: (وكان وافر الجلالة عند التتار وله عليهم إدرارات جيدة تبلغ في الشهر ألفاً وخمسمائة درهم).

وفي النهاية:13/350 ، أن السلطان أحمد بن هولاكو أرسله سنة681 في وفد الى ملك مصر قلاوون: (يطلب منه المصالحة وحقن الدماء فيما بينهم ، وجاء في الرسلية الشيخ قطب الدين الشيرازي أحد تلامذة النصير الطوسي ، فأجاب المنصور إلى ذلك ). وفي النجوم الزاهرة:9/213: (وتولى قضاء بلاد الروم ولم يباشر القضاء ولكن كانت نوابه تحكم في البلاد ، وكان معظماً عند ملوك التتار، وكان من تلامذة النصير الطوسي ).

وذكروا أن نصير الدين رحمه الله علیه اعتمد على أربعة حكماء في مرصد مراغة وجامعتها هم: ( فخر الدين الخلاطي ، وفخر الدين محمد بن عبد الملك المراغي ، ومؤيد الدين العرضي ، ونجم الدين القزويني ، وهم الذين اختارهم نصير الدين ، وأنفذ السلطان في طلبهم ) . (أعيان الشيعة:9/418) .

وفي الوافي:1/150: (قال شمس الدين الجزري: قال حسن بن أحمد الحكيم صاحبنا: سافرت إلى مراغة وتفرجت في هذا الرصد ، ومتوليه صدر الدين علي بن الخواجا نصير الدين الطوسي وكان شاباً فاضلاً في التنجيم والشعر بالفارسية ، وصادفت شمس الدين محمد بن المؤيد العرضي ، وشمس الدين الشرواني ، والشيخ كمال الدين الأيكي ، وحسام الدين الشامي ، فرأيت فيه من آلات الرصد شيئاً كثيراً منها ذات الحلق وهي خمس دوائر متخذة من نحاس: الأولى دائرة نصف النهار وهي مركوزة على الأرض ، ودائرة معدل النهار ، ودائرة منطقة البروج ، ودائرة العرض ، ودائرة الميل ، ورأيت الدائرة الشمسية يعرف بها سمت الكواكب ، واصطرلاباً تكون سعة قطره ذراعاً ، واصطرلابات كثيرة وكتباً كثيرة . قال وأخبرني شمس الدين ابن العرضي أن نصير الدين أخذ من هولاكو بسبب عمارة هذا الرصد ما لا يحصيه إلا

ص: 127

اللّه ، وأقل ما كان يأخذ بعد فراغ الرصد لأجل الآلات وإصلاحها عشرون ألف دينار خارجاً عن الجوامك والرواتب التي للحكماء والقومة...

وقال الخواجا نصير الدين في الزيج الإيلخاني: إنني جمعت لبناء الرصد جماعة من الحكماء ، منهم المؤيد العرضي من دمشق والفخر المراغي الذي كان بالموصل ، والفخر الخلاطي الذي كان بتفليس والنجم دبيران القزويني ، وابتدأنا ببنائه في سنة سبع وخمسين وست مائة ، في جمادى الأولى بمراغة ). انتهى.

وقال ابن العبري في تاريخ مختصر الدول/256: (وفي هذا التاريخ توفي خواجا نصير الدين الطوسي الفيلسوف صاحب الرصد بمدينة مراغة ، حكيم عظيم الشأن في جميع فنون الحكمة . واجتمع إليه في الرصد جماعة من الفضلاء المهندسين... وكان من الفضلاء في زمانه نجم الدين القزويني ، منطقي عظيم صاحب كتاب العين ، ومؤيد الدين العرضي ، وفخر الدين المراغي ، وقطب الدين الشيرازي ، ومحيي الدين المغربي . ومن الأطباء المشهورين فخر الدين الأخلاطي ، وتقي الدين الحشائشي ، واشتهر هذا في عمل الترياق شهرة عظيمة وإن لم يكن من الأطباء المشتغلين المشهورين ، وبسفاهته استظهر على باقي الأطباء في هذا الزمان ، وبينهم نفيس الدين بن طليب الدمشقي ، وولده صفي الدين النصراني الملكي).

وفي طرائف المقال:2/448: (وكان من أعوانه على الرصد من العلماء وتلاميذه جماعة ، أرسل إليهم الملك هلاكو خان وأمر بإحضارهم منهم العالم الأعلم العلامة قطب الدين محمود الشيرازي صاحب شرف الأشراف والكليات...ومنهم مؤيد الدين العروضي الدمشقي، وكان متبحراً في الهندسة وآلات الرصد ، توفي بمراغة فجأة في سنة أربع وسبعمائة . ومنهم فخر الدين كان طبيباً فاضلاً حاذقاً . ومنهم نجم الدين القزويني ، وكان فاضلاً في الحكمة والكلام . ومنهم محي الدين الأخلاطي ، وكان فاضلاً مهندساً في العلوم الرياضية . ومنهم محي الدين المغربي، وكان مهندساً فاضلاً في العلوم الرياضية وأعمال الرصد . ومنهم نجم الدين الكاتب البغدادي وكان فاضلاً

ص: 128

في أجزاء الرياض والهندسة وعلم الرصد كاتباً مصوراً وكان أحسن الخلائق خلقاً) .

جعل من خادمه عبد الرزاق ، ابن الفوطي وشيخَ الذهبي

عندما سقطت بغداد ودخلها المغول ، وعاثوا فيها نهباً وقتلاً وتدميراً ، أخذوا فيما أخذوا طفلاً في نحو العاشرة من عمره هو عبد الرزاق بن الفوطي . وفي سنة660 رآه نصير الدين الطوسي رحمه الله علیه في مراغة فتوسم فيه النبوغ فخلصه من عبودية المغول واتخذه تلميذاً ومساعداً ، ثم جعله أميناً على مكتبة المرصد فصار خبيراً بالكتب ومؤلفيها، ثم أخذه محمد الجويني وزير هولاكو ووظفه عنده . وعندما نصب هولاكو ابنه علاء الدين الجويني(عطا الملك)حاكماً على العراق ، أعاد ابن الفوطي معه الى بغداد سنة679 ، وجعله أميناً على مكتبة المستنصرية ويسَّر له عطا ملك الجويني حياته فكان لابن الفوطي دورٌ ثقافي واسع ومتنوع حتى بلغت مؤلفاته مئة مجلد .

وقد كتب في شخصيته مؤرخان معاصران هما الدكتور محمد رضا الشبيبي في محاضرة موسعة سماها مؤرخ العراق ابن الفوطي ، والدكتور مصطفى جواد ، بنفس العنوان . (مجلة المجمع العلمي العراقى: 6/1378).

وقد عده الحنابلة منهم فقال ابن العماد في شذرات الذهب:3/60:(وفيها (سنة723) مؤرخ الآفاق العالم المتكلم كمال الدين عبد الرزاق بن أحمد بن محمد بن أحمد بن عمر بن أبي المعالي محمد بن محمود بن أحمد بن محمد بن أبي المعالي الفضل بن العباس بن عبد اللّه بن معن بن زائدة الشيباني المروزي الأصل ، البغدادي الإخباري الكاتب المؤرخ الحنبلي ابن الصابوني ، ويعرف بابن الفوطي ، محركاً نسبة إلى بيع الفوط وكان الفوطي المنسوب إليه جده لأمه ، ولد في سابع عشر محرم سنة اثنتين وأربعين وستمائة بدار الخلافة من بغداد وسمع بها من الصاحب محي الدين بن الجوزي ثم أسر في واقعة بغداد وخلصه النصير الطوسي الفيلسوف).

وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ:4/1493: (ابن الفوطي العالم البارع المتفنن المحدث المفيد ، مؤرخ الآفاق ، مفخر أهل العراق...الفوطي نسبة إلى جد أبيه لأمه ،

ص: 129

ويعرف أيضاً بابن الصابوني ، ينتسب إلى معن بن زائدة وأصله مروزي ، مولده في المحرم سنة اثنتين وأربعين وست مائة ببغداد ، وأسر في الوقعة وهو حدث ثم صار إلى أستاذه ومعلمه خواجا نصير الطوسي في سنة ستين وست مائة ، فأخذ عنه علوم الأوائل...وله ذكاء مفرط وخط منسوب رشيق وفضائل كثيرة) .

وقال في تاريخه:51/77: (قرأت بخط الفوطي:توفي رئيس الأصحاب شيخنا جلال الدين الحنبلي مدرس المستنصرية في شعبان). انتهى.

ومعنى أن ابن الفوطي نسب نفسه الى معن بن زائدة أنه مولى آل زائدة ، فقد نص عدد من المصادر على أن أصله مروزي أي من مرو في خراسان ، ونسبه السيد المرعشي الى بخارى فقال في شرح إحقاق الحق:17/209: (عبد الرزاق كمال الدين بن أحمد البخاري الشهير بابن الفوطي) .

هذا ، وقد عده صاحب أعيان الشيعة(3/437)من الشيعة مستدلاً بقراءته كتاب كشف الغمة في معرفة الأئمة (عليهم السلام) على مؤلفه ابن عيسى الإربلي ، قال: (وفي هذا من الدلالة على تشيع ابن الفوطي ما لايخفى ، وهناك ما أصرح منه ذكرناه في ترجمته).

ولم أجد ما وعد به (رحمه اللّه) ولا أجد في ذلك دليلاً على تشيع ابن الفوطي ، فقد كان الإربلي (رحمه اللّه) عالماً كاتباً كبيراً في ديوان الدولة ، وكان يأتي الى مكتبة المستنصرية ومديرها ابن الفوطي ، فقراءته عليه فيها اعتبار معنوي لابن الفوطي ، وكون كتاب في سيرة الأئمة (عليهم السلام) لايدل على موافقته على مذهبه .

وقد وافق السيد الأمين صاحب الذريعة وغيره على تشيع ابن الفوطي ، قال في الذريعة:4/426: (المحدث المؤرخ الإخباري المروزي المعروف بابن الفوطي... استظهر تشيعه الفاضل العارف في مجلة العرفان ، وكذلك الفاضل الشبيبي في محاضرته المطبوعة1359، وغيرهما من المعاصرين ، ويشهد بذلك بعض كلماته في الحوادث الجامعة واتصاله بعلماء الشيعة وتلمذه على مثل الخواجة نصير الدين الطوسي سنين ، وشدة عنايته به). ونحوه في الذريعة:3/225.

ص: 130

وقال في الذريعة:7/94:(الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في الماية السابعة.... طبع بعضه في بغداد في1351، وهو من سنة626 إلى700 ، وطبع في أوله مقدمة الشيخ محمد رضا الشبيبي ومصطفى جواد البغدادي ، وقد استظهر ثانيهما كون المؤلف شافعياً ، لكن الحق ما استظهر في مجلة العرفان من وجود آثار تشيعه في خلال تصانيفه، ومال إليه الشبيبي في المحاضرة التاريخية التي ألقاها في بغداد1359، وطبعت في تلك السنة ، وبسط من ترجمه قديماً الذهبي في تذكرة الحفاظ:4/284 ، ولم يدع الوقيعة فيه كما هو ديدنه في كل شيعي ، لكنه احتمل أن يصير سماعه للحديث وكتابته له كفارة عن خطاياه، وأعظم خطاياه في نظر الذهبي ملازمته الكثيرة لخدمة رئيس الشيعة الخواجة نصير الدين الطوسي ثلاثة عشر عاماً ، وروايته عن مشايخهم الكبار مثل السيد عبد الكريم بن طاوس الذي كتب لخدمته الدر النظيم فيمن سمى بعبد الكريم ، واتصاله بالوزير الجويني ومبالغته في تقريظ هؤلاء ، الذين عبر عنهم الذهبي بالمغول وأتباع المغل ، وترجمه في الشذرات:6/60). انتهى.

أقول: إبن الفوطي حنبلي بحكم نشأته في بغداد ومحيطه، لكنه حنبلي معتدل بحكم تربيته في أجواء الشيعة خاصة تلمذه على صاحب الخلق الرفيع المرجع نصير الدين رحمه الله علیه وتلميذه الوزير ابن الجويني (رحمه اللّه) . إنه دليل على عراقة الإنفتاح والحرية المذهبية في الحكم الشيعي بعكس غيره !

وهو من جهة نموذجٌ من خطة المرجع نصير الدين رحمه الله علیه في انتقاء الطاقات وتنميتها وإطلاقها في الدولة المغولية ومساعدتها لتأخذ مجراها في مكافحة الغزو المغولي وترسيخ الثقافة الإسلامية ، ولو كانت من مذهب آخر !

وهو من جهة ثالثة ، دليلٌ ونموذجٌ على قدرة المذهب الشيعي بخصوصيته وبالحرية التي يتبناها ، على ترويض أتباع المذاهب وإجبارهم على الإنفتاح وعدم التعصب ! فظاهرة ابن الفوطي لا تنحصر فيه ولافي مذهبه ، فهناك شيعة

ص: 131

منفتحون على المذاهب السنية كالجوينيين والحموئيين ، كان السنة يعدونهم منهم ، بينما هم في الواقع شيعة .

شيوخ الصوفية سعد الدين بن حَمُويَهْ وأولاده

ترجع علاقة المغول بالجوينيين الى الصوفي الأسطورة سعيد بن المطهر الباخرزي الذي كان يسكن في منطقة بخارى ويعتقد به المسلمون ، ويحترمه التتار ومنهم جنكيز خان وابنه هولاكو ! وهذه خلاصة ترجمته من سير أعلام الذهبي:23/363:

(الباخرزي ، الإمام القدوة شيخ خراسان سيف الدين أبو المعالي سعيد بن المطهر بن سعيد بن علي القائدي الباخرزي نزيل بخاري . كان إماماً محدثاً ورعاً زاهداً تقياً أثرياً منقطع القرين بعيد الصيت ، له وقع في القلوب ومهابة في النفوس... وقد ذكره في معجم الألقاب ابن الفوطي فقال فيه: هو المحدث الحافظ الزاهد الواعظ ، كان شيخاً بهياً عارفاً تقياً فصيحاً ، كلماته كالدر...وانتشر صيته بين المسلمين والكفار... ولد بباخرز وهي ولاية بين نيسابور وهراة قصبتها مالين... وعرف الشيخ بين التتار (بالغ شيخ) يعني الشيخ الكبير وبذلك كان يعرفه هولاكو... .وكان المستعصم يهدي من بغداد إلى الباخرزي التحف ، من ذلك مصحف بخط الإمام علي رضي اللّه عنه ، وكان مظفر الدين أبو بكر بن سعد صاحب شيراز يهدي إلى الشيخ في السنة ألف دينار ، وأنفذ له لؤلؤ صاحب الموصل ، وأهدت له ملكة بنت أزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان سنَّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذي كسر يوم أحد (والصحيح أنه لم يكسر!) وكان يمنع التتار من قصد العراق ويفخِّم أمر الخليفة ، وممن راسله سلطان الهند ناصر الدين أيبك وصاحب السند وملتان غياث الدين بلبان ، قال: وبعث إليه منكو قآن لما جلس على سرير السلطنة بأموال كثيرة ، وكذلك وزيره برهان الدين مسعود بن محمود يلواج.. وكان إذا جاء إلى الشيخ قبَّل العتبة ووقف حتى يؤذن له ويقول: إن أبي فعل ذلك ، ولأن له هيبة في قلوب ملوكنا حتى لو أمرهم بقتلي لما توقفوا !

ص: 132

وامتدحه جماعة منهم سعد الدين بن حمويه ، كتب إليه بأبيات منها:

يا قرةَ العين سلْ عيني هل اكتحلتْ *** بمنظر حَسَن مُذْ غبتَ عن عيني

ومدحه الصاحب بهاء الدين محمد بن محمد الجويني ، وابنه الصاحب علاء الدين عطا ملك صاحب الديوان. وكان إذا رقي المنبر تكلم على الخواطر ويستشهد بأبيات منها: إذا ما تجلَّى لي فكُلِّي نواظرٌ وإن هو ناداني فكلي مَسَامعُ...

ومنها: وما بيننا إلا المدامة ثالث *** فيملي ويسقيني وأملي ويشربُ !

وأوصى أن يكفن في خرقة شيخه نجم الكبرى...وكان يوم وفاته يوماً مشهوداً لم يتخلف أحد ، حزر العالَم بأربع مئة ألف إنسان). انتهى.

وقال عنه في تاريخه:48/387: (الإمام القدوة المحدث سيف الدين أبو المعالي الباخرزي ، شيخ زاهد عارف كبير القدر ، إمام في السنة والتصوف ، عَنِيَ بالحديث وسمعه وكتب الأجزاء ورحل فيه ، وصحب الشيخ نجم الدين الكبري وسمع منه ، ومن أبي رشيد محمد بن أبي بكر الغزال ببخارى ، ومن علي بن محمد الموصلي ، وجماعة ببغداد . وخرَّج لنفسه أربعين حديثاً رواها لنا عنه مولاه نافع الهندي ، وحدثني أبو الحسن الخشني أنه توفي في هذا العام . وكان شيخ ما وراء النهر وله جلالة عجيبة وعلى يده أسلم سلطان التتار بركة، وله ترجمة طولى في سير النبلاء).

أقول: بَيَّنَّا كذب ادعائهم في أن بركة خان المغولي كان مسلماً ، ومن تعصبهم أنهم لم يذموا الباخرزي مع أنه كان صديقاً حميماً لأبناء جنكيز وهولاكو ولم يصدر منه ولو نصيحة لهولاكو أن لايغزو بلاد المسلمين !

وقد انتقلت مشيخة التصوف بعد هذه الشيخ(الإمام)في منطقة بخارى وما حولها ، الى تلميذه سعد الدين بن حمويه الجويني ، وبعد سعد الدين صار شيخ الطريقة ابنه ابراهيم ، فكان التتار يحترمانهما لأنهما كشيخهما لم يقفا ضدهم في اجتياحهم لبخارى وخراسان والعراق .

ص: 133

والحموئي نسبةً الى حَمُوَيْه قرب جوين من ولاية آمل . وقد شاء اللّه تعالى أن يهدي إبراهيم هذا فصار تلميذاً لنصير الدين رحمه الله علیه وألف كتاب (فرائد السمطين في فضائل المرتضى والبتول والسبطين) (عليهم السلام) وأسلم عدد من قادة المغول على يده قال الذهبي في تاريخه:47/454: (الشيخ سعد الدين أبو إبراهيم الجويني الصوفي كان صاحب رياضات وأحوال ، وله كلام في التصوف على طريقة أهل الوحدة . وكان قد حج وأقام بقاسيون يتأله ويتعبد مدة في زاوية له ومعه جماعة من الصوفية ، ولهم سَمْتٌ وجلالة وتعفف ، فلما ضاق به الحال رجع إلى خراسان واجتمع به جماعة من أمراء التتار وأسلم على يده غير واحد منهم وبنى بآمل خانكاه ورزق القبول التام . ثم زار قبر جدهم القدوة الكبير محمد بن حمويه الجويني بحيراباذ من أعمال جوين ، فأقام عنده أسبوعاً وعبر إلى اللّه تعالى . وهو والد شيخنا صدر الدين إبراهيم الذي أسلم على يده قازان).

وقال في تاريخه:52/37: (وفيها دخل الإسلام قازان بن أرغون بن أبغا بن هولاكو ملك التتار بوساطة نوروز التركي وزيره ومدبر مملكته وزوج عمته ، واسمه (قازان) بالعربي محمود ، أسلم في شعبان بخراسان على يد الشيخ الكبير المحدث صدر الدين إبراهيم بن الشيخ سعد الدين بن حمويه الجويني . وذلك بقرب الري بعد خروجه من الحمام وجلس مجلساً عاماً فتلفظ بشهادة الحق وهو يبتسم ووجهه يستنير ويتهلل وكان شاباً أشقر مليحاً ، له إذ ذاك بضع وعشرون سنة. وضج المسلمون حوله عندما أسلم ضجة عظيمة من المُغُل والعجم وغيرهم ، ونثر على الخلق الذهب واللؤلؤ وكان يوماً مشهوداً ، وفشا الإسلام في جيشه بحرص نوروز فإنه كان مسلماً خيراً صحيح الإسلام ، يحفظ كثيراً من القرآن والرقائق والأذكار . ثم شرع نوروز يُلقِّنُ الملك غازان شيئاً

ص: 134

من القرآن ويجتهد عليه ودخل رمضان فصامه، ولولا هذا القدر الذي حصل له من الإسلام ، وإلا كان قد استباح الشام لما غلب عليه ).

وإبراهيم هذا من شيوخ الذهبي، قال عنه في تذكرة الحفاظ:4/1505: (وسمعت من الإمام المحدث الأوحد الأكمل فخر الإسلام صدر الدين إبراهيم بن محمد بن المؤيد بن حمويه الخراساني الجويني شيخ الصوفية . قدم علينا طالب حديث ، روى لنا عن رجلين من أصحاب المؤيد الطوسي ، وكان شديد الإعتناء بالرواية وتحصيل الأجزاء ، حسن القراءة مليح الشكل ، مهيباً ديناً صالحاً ، على يده أسلم غازان الملك ، مات سنة اثنتين وعشرين وسبع مائة ، وله ثمان وسبعون سنة ، رحمه اللّه تعالى). انتهى.

وفي مجلة تراثنا:17/101: (ولد مؤلفنا الحموئي في آمل طبرستان ليلة السبت 26 شعبان سنة644 ، في أسرة علمية عريقة ، أسرة علم وحديث وتصوف ومشيخة وصدارة وحشمة منذ القرن الخامس حتى القرن العاشر، قال الذهبي في المشتبه: بنو حَمُوَيْه الجويني نالوا المشيخة والإمرة، وللحموئي رحلة واسعة في طلب الحديث، طوَّف البلاد وأدرك المشايخ والأسانيد العالية. وتزوج عام671 بابنة الصاحب علاء الدين عطا ملك بن بهاء الدين محمد صاحب الديوان الجويني ملك العراق وحاكمها من قبل هولاكو ، وكان الصداق خمسة آلاف دينار ذهباً أحمر ! وتوفي الحموئي في5 محرم سنة722).

وفي هامش مرآة الكتب/146: (يروي الحموئي عن المحقق الطوسي في فرائد السمطين، ويعبر عنه تارة بالصدر الإمام العلامة نصير الدين أبي جعفر محمد... وأخرى: قدوة الحكماء نصير الدين ، والحكيم العلامة نصير الدين . قال الحموئي: أخبرني قدوة الحكماء نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن المشهدي الطوسي تغمده اللّه برحمته ، إجازة في ذي الحجة سنة اثنين وسبعين وستمائة بمدينة الكوفة .

ص: 135

(أنظر فرائد السمطين:1/18 و97 ، و:2/73) .

وفي خاتمة المستدرك:2/396: (الإمام الهمام وشيخ المسلمين والإسلام إبراهيم بن الشيخ سعد الدين محمد بن المؤيد أبي بكر بن الشيخ الإمام العارف جمال السنة أبي عبد اللّه محمد بن حمويه بن محمد الجويني ، المعروف بالحموئي وابن حمويه جميعاً ، كان من عظماء علماء العامة ومحدثيهم الحفاظ ، وكذا أبوه وجده . إلى أن قال: ولهذا الشيخ من الكتب المشهورة بين الفريقين كتابه المسمى: بفرايد السمطين... إلى أن قال: وكان في طبقة العلامة ومن عاصره من أجلاء علمائنا رضوان اللّه تعالى عليهم ، بل وله الرواية في ذلك الكتاب وغيره أيضاً عن الشيخ سديد الدين يوسف بن المطهر والد العلامة ، وعن المحقق الحلي ، وابن عمه يحيى بن سعيد ، وعن ابني طاووس ، والشيخ مفيد الدين بن جهم من كبراء أصحابنا الحليين. وكذا عن الخواجة نصير الدين الطوسي، والسيد عبد الحميد بن فخار بن معد الموسوي ، بحق رواياتهم جميعاً عن مشايخهم الثقات الأجلة من فقهاء الشيعة... هذا وله الرواية أيضاً أو لأبيه الشيخ سعد الدين عن الشيخ منتجب الدين صاحب الفهرست ) .

وفي غاية المرام:2/287: (الحديث الثاني: إبراهيم بن محمد الحمويني هذا قال: عن السيد السند النقاب النقيب الأطهر الأزهر الأفضل الأكمل الحسيب النسيب ، شرف العترة الممجدة الطاهرة عزة جبين عزة الطهارة والأسرة العلوية الزاهرة الذي شرفني بمؤاخاته في اللّه فافتخر بإخائه وأعدُّ ما ذخر ليوم العرض على اللّه تعالى ولقائه ، جمال الدين أحمد بن موسى بن جعفر بن طاوس الحسني الجلي الحُلي شريف أخلاقه من كل ما يتطرق إليها به من ذم وعاب ، الحَليِّ بأنوار فضائله وآثار بركاته التي يتحلى بها الزمان، وميامنها بتخلي غيوم الحلي وتنجاب ، أفاض اللّه تعالى عليه وعلى سلفه سحائب لطفه ورضوانه ، وأسكنه وذريته الكريمة واسع فضله غرف جناته ، قراءةً عليه وأنا أسمع بداره بمحلة عجلان بالحلة السيفية المزيدية يوم الخميس ثاني عشر ذي قعدة ، سنة إحدى وسبعين وستمائة ، قال: أنبأنا الشيخ نجيب

ص: 136

الدين محمد بن أبي غالب ، عن أبي محمد جعفر بن أبي الفضل بن شعرة ، عن نجم الدين عبد اللّه بن جعفر الدورستي وعاش مائة وثماني عشرة سنة ، عن عماد الدين أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ، كانت وفاته رحمة اللّه عليه رحمة واسعة سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة ، قال: نبأنا محمد بن عبد اللّه بن محمد بن عبد الوهاب ، أنبأنا أبو نصر منصور بن عبد اللّه بن إبراهيم الأصفهاني ، نبأنا علي بن عبد اللّه الإسكندري، أنبأنا أبو علي ابن أحمد بن علي بن المهدي الرقي أنبأنا أبي ، نبأنا علي بن موسى الرضا (عليهم السلام) والتحية والثناء حدثني أبي موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد صلوات اللّه عليهما ، عن أبيه محمد بن علي (صلی الله عليه وآله وسلم) عن أبيه علي بن الحسين (عليهما السلام) عن أبيه الحسين بن علي صلوات اللّه عليهما ، عن أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات اللّه عليه وعليهم أجمعين قال: قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : طوبى لمن أحبك وصدَّق بك ، وويلٌ لمن أبغضك وكذب بك ، يا علي محبوك معروفون في السماء السابعة ، والأرض السابعة السفلى وما بين ذلك ، هم أهل الدين والورع والسمت الحسن والتواضع للّه عز وجل ، خاشعةٌ أبصارهم وَجِلةٌ قلوبهم لذكر اللّه ، وقد عرفوا حق ولايتك ، وألسنتهم ناطقة بفضلك ، وأعينهم ساكنة تحنناً عليك وعلى الأئمة من ولدك ، يدينون اللّه بما أمرهم به وأولو الأمر في كتابه ، وجاءهم به البرهان من سنة نبيه ، عاملون بما يأمرهم به وأولو الأمر منهم ومتواصلون غير متقاطعين ، متحابون غير متباغضين ، إن الملائكة لتصلي عليهم وتؤمن على دعائهم ، وتستغفر للمذنب منهم ، وتشهد حضرته ، وتستوحش لفقده إلى يوم القيامة). وشرح إحقاق الحق للسيد المرعشي:5/102، عن مخطوط فرائد السمطين .

وفي مرآة الكتب/142: (أقول: ذكر تشرف غازان خان بقبول دين الإسلام في تاريخ حبيب السير أيضاً ، إلا أنه أرُخّ ذلك في رابع شهر شعبان سنة أربع وتسعين وستمائة ، قال: (وكان ذلك بحضور الشيخ صدر الدين إبراهيم بن الشيخ سعد الدين الحموئي....كان من عظماء علماء العامة ومحدثيهم الحفاظ ، وكذا أبوه وجده ، بل

ص: 137

وكثير من سلسلة نسبة الحموئيين...

قال في الروضات: لهذا الشيخ من الكتب المشهورة بين الفريقين كتابه المسمى بفرائد السمطين في فضائل المرتضى والبتول والسبطين (عليهم السلام) ، عندنا منه نسخة تزيد على عشرة آلاف بيت ، بَيْدَ أن أكثرها أسانيد ، إلى أن قال: وكان في طبقة العلامة ومن عاصره ، بل وله الرواية في هذا الكتاب وغيره أيضاً عن الشيخ سديد الدين يوسف بن المطهر والد العلامة ، وعن المحقق الحلي ، وابن عمه يحيى بن سعيد ، وعن ابني طاووس ، وعن الشيخ مفيد الدين بن جهم من كبراء أصحابنا الحليين ، وكذا عن الخواجة نصير الدين الطوسي ، والسيد عبد الحميد بن فخار بن معد الموسوي ، بحق رواياتهم جميعاً عن مشائخهم الثقات الأجلة من فقهاء الشيعة . ولذا اشتبه الأمر على صاحب الرياض حيث ذهب إلى تشيعه، أو لما ظفر به في تضاعيف كتابه من أحاديث الوصية والتفضيل ، وسائر إخبار الإرتفاع التي قل ما يوجد مثلها في شئ من كتب العامة ، غافلاً عما قد اشتمل عليه وتضمنه من النص على خلافة الثلاثة والإشارة إلى فضائلهم ). انتهى.

أقول: سبب اختيار المرجع العبقري الطوسي رحمه الله علیه لآل حُمُويَهْ أنهم أقرب الناس الى قلوب المغول ، فهم مشيخة التصوف الذين ورثوا الصوفي الكبير الباخرزي شيخ المنطقة المجاورة لبلاد المغول ، والذي يعتقد المغول أنه ولي ويسمونه (بالغ شيخ) أي الشيخ المحترم ، ومن هذا تفهم لماذا تبرك قازان بلبس جبة والد الشيخ إبراهيم عندما أسلم .

وكون هذا الشيخ (رحمه اللّه) من شيوخ الذهبي وقد يكون من شيوخ ابن تيمية أيضاً، يدل على وجاهته في العالم الإسلامي وعلى سعة تحركه ، وأن نشاطه امتد من حدود الصين الى الشام ، بل ربما وصل الى مصر فقد ورد ذكر بعض آل حمويه في مصر، حيث ترجم ابن حجر في إنباء الغمر/76 ، للمؤيد بن حَمُويَه

ص: 138

ولقبه علاء الدين الجويني، المعروف بالشيخ زادة شيخ الشميساطية ، وأنه استعاد المشيخة بعد أن أخذها البدر بن جماعة وغيره . وترجم الذهبي في تاريخه:45/160: ل(علي بن عبيد اللّه بن أحمد بن أبي سعيد بن حمويه، أبو القاسم الجويني الأصل المصري الدار الصوفي).انتهى.

أما تشيع ابن حَمُويَه فيكفي دليلاً عليه أن أحمد بن طاووس رحمه الله علیه قد آخاه ، يعني عاهده على أنه إذا قدر له أن يدخل الجنة لا يدخلها إلا معه . ثم كتابه الذي يروي فيه أفضلية أهل البيت (عليهم السلام) على جميع الصحابة، وهو مذهب الشيعة ولا ينافيه أنه ذكر فيه فضائل لغيرهم ، تقية ، أو قبل استبصاره (رحمه اللّه) .

الجوينيون من أهم وسائل نصير الدين الطوسي رحمه الله علیه

من أهم الأعوان الذين اعتمدهم نصير الدين رحمه الله علیه للإدارة والإعمار: آل الجويني ، وأصلهم شمس الدين محمد بن محمد بن محمد الجويني وكان وزيراً لخوارزم شاه وأخوه علاء الدين الملقب عطا ملك ، وأولاد علاء الدين ، وهم مسلمون سنيون من خراسان قيل من ذرية الفضل بن الربيع وزير المأمون ، وكان منهم وزراء في زمن الدولة العباسية مثل علي بن عبد اللّه الجويني ، استوزره السلطان طغرلبك والي خراسان . (الكامل:9/526 ، وشروح نهج البلاغة/26).

وكان أشهرهم في ذلك العصر أبو المعالي الجويني أستاذ المدرسة النظامية الملقب بإمام الحرمين ، المشهور بتعصبه ضد الشيعة والأحناف ، وهو الذي أقنع السلطان محمود الغزنوي بترك المذهب الحنفي وتبني المذهب الشافعي ! روى ذلك الذهبي في تاريخه:29/72، قال: (وذكر إمام الحرمين الجويني أن السلطان محمود كان حنفي المذهب مولعاً بعلم الحديث ، يسمع من الشيوخ ويستفسر الأحاديث ، فوجدها أكثرها موافقاً للمذهب الشافعي فوقع في نفسه فجمع الفقهاء في مرو ، وطلب منهم الكلام في ترجيح أحد المذهبين فوقع الإتفاق على أن يصلوا بين يديه على مذهب

ص: 139

الإمامين ليختار هو ، فصلى أبو بكر القفال بطهارة مسبغة وشرائط معتبرة من السترة والقبلة ، والإتيان بالأركان والفرائض صلاة لا يجوز للشافعي دونها ، ثم صلى صلاة على ما يجوز أبو حنيفة فلبس بدلة كلب مدبوغاً قد لطخ ربعه بالنجاسة وتوضأ بنبيذ التمر وكان في الحر فوقع عليه البعوض والذباب وتوضأ منكساً ثم أحرم وكبر بالفارسية ، وقرأ: دو برك سبز (وهو ترجمة مدهامتان بالفارسية) ثم نقر نقرتين كنقرات الديك من غير فصل ولا ركوع ولا تشهد ، ثم ضرط في آخره من غير نية السلام وقال: هذه صلاة أبي حنيفة ! فقال: إن لم تكن هذه الصلاة صلاة أبي حنيفة لقتلتك . قال: فأنكرت الحنفية أن تكون هذه صلاة أبي حنيفة فأمر القفال بإحضار كتب أبي حنيفة ، وأمر السلطان كاتباً نصرانياً كاتباً أن يقرأ المذهبين جميعاً فوُجدت كذلك ! فأعرض السلطان عن مذهب أبي حنيفة وتمسك بمذهب الشافعي . هكذا ذكر إمام الحرمين بأطول من هذه العبارة) . انتهى.

وروى ابن الأثير أن السلطان لم يكن يحترم أبا المعالي كثيراً لأنه يتقرب اليه ويمدحه ! قال في الكامل:10/209: (كان نظام الملك إذا دخل عليه الإمام أبو القاسم القشيري ، والإمام أبو المعالي الجويني يقوم لهما ويجلس في مسنده كما هو ! وإذا دخل أبو علي الفارمذي يقوم إليه ويجلسه في مكانه ، ويجلس هو بين يديه ! فقيل له في ذلك؟ فقال: إن هذين وأمثالهما إذا دخلوا عليَّ يقولون لي أنت كذا وكذا يثنون علي بما ليس بي فيزيدني كلامهم عجباً وتيهاً ، وهذا الشيخ يذكر لي عيوب نفسي وما أنا فيه من الظلم ، فتنكسر نفسي لذلك وأرجع عن كثير مما أنا فيه). انتهى.

كما روى ابن الأثير صراع عائلة أبي المعالي الجويني مع الأحناف والكرامية ، قال في الكامل:10/251:(وكان مقدم الشافعية(في نيشابور وكانت مركز أئمة المذاهب)أبا القاسم بن إمام الحرمين أبي المعالي الجويني ، ومقدم الحنفية القاضي محمد بن أحمد بن صاعد ، وهما متفقان على الكرامية ، ومقدم الكرامية محمشاد ، فكان الظفر للشافعية والحنفية على الكرامية ، فخربت مدارسهم وقتل كثير منهم ومن غيرهم ، وكانت فتنة

ص: 140

عظيمة) . وقال في:10/291: (وفيها(492) قتل أبو القاسم بن إمام الحرمين أبي المعالي الجويني بنيسابور وكان خطيبها ، واتهم العامة أبا البركات الثعلبي بأنه هو الذي سعى في قتله فوثبوا به فقتلوه وأكلوا لحمه) ! انتهى.

وهذا غايةٌ في القسوة والوحشية ، وهو من نوع سياسة حكومات الخلافة القرشية عبر العصور في قمع أصحاب الرأي الآخر وإبادتهم !

**

وقد اصطحب هلاكو عندما غزا قلاع الإسماعيليين في شمال إيران ثم العراق عدداً من الشخصيات السنية منهم محمد الجويني ، ولقبه شمس الدين وأخوه علاء الدين. (أعيان الشيعة:9/91). (شهد علاء الدين الجويني مع هولاكو فتح قلاع النزاريين وعني بوصف ما جرى هناك وصفاً تاريخياً ممتعاً في كتابه الذي ألفه بالفارسية وسماه (جهان كشا) قائلاً: كنت أعرف بأن هناك خزانة كتب ثمينة طبقت شهرتها الآفاق ، وقلت يحسن انتهاز الفرصة للإطلاع على هذه الخزانة فوافق هولاكو فوراً ، وزرت الخزانة وانتقيت أنفس ما فيها من المصاحف والكتب وأخرجتها كما يخرج الحي من الميت ، وحملت محتوياتها من آلات الرصد ، كذات الكرسي وذات الحلق ، إلى أنواع من الإسطرلابات التامة والمنصفة وذات الشعاع). (الإسماعيليون والمغول/136).

(وكان هولاكو اتخذ تبريز عاصمة له واستوزر محمد الجويني صاحب الديوان... وعندما توفي محمد الجويني سنة661، نصب ابنه علاء مكانه وجعل أخاه محمد بن محمد وزيراً له ) . ( النجاة لابن ميثم البحراني/13).

وروى الصفدي في الوافي:1/147، والكتبي في الفوات:2/252 ، أن هولاكو غضب على علاء الدين الجويني وأمر بقتله ، وكانوا على وشك التنفيذ ، فهرع أخوه الى المحقق الطوسي رحمه الله علیه وكان هولاكو محتجباً فاحتال الطوسي فحمل مَبْخَرَةً ودخل عليه وحمد اللّه على سلامته وأخبره أن النجوم تدل على أن شراً كان سينزل به ! وحمله على أن يصدر أمراً بالعفو عن جميع المحكوم عليهم بالقتل في مملكته ، فأصدر أمره

ص: 141

بالعفو وشمل ابن الجويني ! لكن روايته لطريقة نصير الدين في التأثير على هلاكو لاتتناسب مع شخصيته وأخلاقه رحمه الله علیه لكن القصة تدل على أنه كان صاحب دالة على هولاكو، وصاحب يد على الجوينيين ، مصراً على تقوية موقعهم في الدولة المغولية .

8- الجوينيون طبقوا مذهب التشيع في الحرية والإعمار

يأخذك العجب عندما تقايس بين نمط الإدارة المغولي ونمط الإدارة المملوكي ، مع أنهما متعاصران ، وجنس المماليك متقارب مع جنس المغول ، بل هم مشتركون في الذهنية وكثير من العادات وحتى في الدم !

لكن المماليك في مصر والبلاد التابعة لها ، حكموا مباشرة وتدخلوا في صغار الأمور ! والمغول في العراق والبلاد التابعة له حكموا من بعيد بشكل غير مباشر ، ولم يتدخلوا إلا في نصب كبار الولاة وعزلهم .

وقد حققت هذه السياسة مشاركة واسعة لأهل البلاد في حكمها وإدارتها ، كما حققت قدراً كبيراً من الحرية الفكرية والمذهبية ضمن الإطار العام الذي تتبناه السلطة ، خاصة أن المغول بقادتهم وجنودهم غائبون غالباً عن المحافل السياسية والإجتماعية ، بينما المماليك حاضرون حتى في السوق والقرية !

هنا تلمس بصمات نصير الدين الطوسي رحمه الله علیه ونظرية المذهب الشيعي في الحكم والحرية ! فقد استطاع (رحمه اللّه) أن يقنع طاغية المغول بهذا النمط من إدارة البلاد ، وأن يركز جهده على اختيار (الكوادر) الكفوءة في الحكم والإدارة .

ومع أن الجوينيين فُرْسٌ لكنهم عرب الثقافة مقبولون عند السنة العراقيين الذين خسروا نظام الخلافة ، ومقبولون عند الشيعة بحكم رعاية المرجع نصير الدين لهم ، وتشيعهم على يده . وهم أصحاب كفاءة سياسية وإدارية عالية ،

ص: 142

ويجيدون التعامل مع الناس، لأنهم من عائلة اجتماعية معروفة هي عائلة الفضل بن الربيع أشهر وزراء المأمون . ومن هنا كان اختيارهم لحكم العراق موفقاً ، فقد كان إنجازهم في ربع قرن أفضل من إنجاز الخلافة العباسية في قرنين !

تقرأ عن الجوينيين محمد وأولاده شمس الدين وعلاء عطا ملك ، فتجد لهم آثاراً جليلة وأنهم أعادوا بناء مدن العراق وقراه وازدهار زراعته وتجارته في مدة وجيزة ، حتى شهد بعض المؤرخين بأنه عاد أفضل مما كان قبل احتلال المغول ! وكان سر نجاحهم قبل كفاءتهم تطبيقهم لنظرية المذهب الشيعي في الحرية التي رسمها لهم نصير الدين رحمه الله علیه ! وهو أمرٌ لم ينتبه له الباحثون أو لا يريدون الإعتراف به من فهمه !

تقرأ عن اهتمام الجوينيين بالعلم وتشييد المكتبات والمدارس والمستشفيات وخدمة العلماء وطلبة العلم وإكرامهم من كل المذاهب.. فتقول إنهم حكام محترفون للإعمار والتنمية ، ولا شأن لهم بالمذهب ؟!

وتقرأ أن نصير الدين الطوسي رحمه الله علیه قد ألف كتاب تلخيص المحصل باسم عطا ملك الجويني سنة669، وهو نقدٌ لعقائد الفخر الرازي المسمى: محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين. كما ألف رسالة أوصاف الأشراف بالفارسية حول أخلاق العرفاء والزهاد ، لأبيه محمد الجويني. (مستدركات أعيان الشيعة:1/233)

وأن علاء الدين الجويني(عطا ملك)كان شاعراً وله قصيدة في مدح أمير المؤمنين (عليه السلام) وبيعته يوم الغدير ، وفي مدح المحقق الطوسي رحمه الله علیه .(الغدير:5/436) .

وتقرأ زياراتهم لمشاهد الأئمة (عليهم السلام) في الكاظمين والنجف وكربلاء وسامراء ، واهتمامهم بها وبحوزاتها وعلمائها، وبمشاريع البنى التحتية فيها ، ومنها أنه شق نهراً من الأنبار الى النجف ، ونهراً في كربلاء ، وشييد مدارس للطلاب وفنادق

ص: 143

للزوار ، وشجع حركة التأليف وأعطى الجوائز للمؤلفين .

وتقرأ أن علاء الدين الجويني (رحمه اللّه) طلب من الشيخ ميثم البحراني ، فألف له كتاباً في شرح نهج البلاغة ، وطلب من الطبري الشيعي المتعصب لمذهبه أن يؤلف له كتباً في السقيفة وفضائل أهل البيت (عليهم السلام) وظلامتهم . (الذريعة:18/95).

فتقول إنهم شيعة متعصبون !

ثم تقرأ عن خدماتهم لمعاهد المذاهب السنية، ورعايتهم للمدرستين النظامية والمستنصرية ، اللتين أسستا لتعليم المذاهب الأربعة وتخريج القضاة والعلماء ، وأن الجوينيين ومن بعدهم من الحكام الشيعة أبقوها على وضعهما ، وحافظوا على استمرارهما في عملهما دون مساس أو تغيير..

وتقرأ عن إبقائهما الجهاز القضائي السني كما كان في عصر الخلافة ، باستثناء المناطق الشيعية فقد عينوا فيها قضاة شيعة .

وتقرأ عن تشجيعهم لعلماء السنة أن يؤلفوا في مذاهبهم ، وإعطائهم الجوائز على ذلك ! فتقول إن الجوينيين سنيون ، لكنهم يدارون الشيعة مداراة !

لكن كل القضية أنهم كانوا شيعة بعقلية نصير الدين الطوسي رحمه الله علیه والعلامة الحلي رحمه الله علیه فهم يؤمنون بالحرية الفكرية والحرية المذهبية !

وهذه القناعة بالحرية هي التي جعلت علاء الدين الجويني يستكتب الطبري الشيعي وأمثاله من المتشددين للتشيع ، وفي نفس الوقت كانت زوجته عصمت خاتون حفيدة صلاح الدين الأيوبي متعصبة لمذهبها الحنفي ، وأرادت أن تبني مدرسة خاصة لتدريسه ، فبناها لها زوجها الحاكم الشيعي ! قال الدكتور مصطفى جواد (رحمه اللّه) :(ففيها(671)تكاملت عمارة المدرسة العصمتية نسبة إلى ذات العصمة شاه لبني بنت عبد الخالق بن ملكشاه بن أيوب الأيوبية ، زوجة أبي بكر أحمد بن

ص: 144

المستعصم باللّه ولي العهد أولاً ، ثم زوجة الصاحب علاء الدين عطا ملك الجويني ثانية، فقد جعل عفيف الدين ربيع هذا مدرساً للحنفية فيها... العصمتية التي ذكرنا آنفاً تاريخ افتتاحها ، كانت مجاورة لمشهد عبيد اللّه العلوي المعروف اليوم بأبي رابعة بالأعظمية). (هامش الغارات:2/878 ):

وهذا يدل على أن الحكام الشيعة كانوا يعتقدون بحرية المذاهب ويطبقونها ، وأن علاء الدين لم يجبر زوجته الأيوبية على مذهبه ، بل احترم عقيدتها ونفذ رغبتها في بناء مدرسة لفقه مذهبها ! وهو أمرٌ لم يقم به أي حاكم في العراق مطلقاً إلا في عصر حكم الشيعة البويهيين ، أو في عصر الخليفة الناصر العباسي الشيعي ، أو عصر الحكم الشيعي في سلطان المغول !

وينبغي أن نلفت الى أن هولاكو كان نَصَبَ عمر بن محمد القضوي القزويني حاكماً على العراق قبل الجويني ، وقد عمل بنفس سياسة الجوينين لكنه لم يعش طويلاً ، وهو أمر يشير الى أن واضع سياسة الإعمار والحرية هو نصير الدين (عليه السلام) ، وأنه الذي اختارالجوينيين وعمر القضوي قبلهم .

قال ابن الفوطي عن عمر القضوي: ( كان من أعيان أهل قزوين المعروفين بمتانة الدين وحسن اليقين...عمر المساجد والمدارس ورمم الربط والمشاهد وأجرى الجرايات من وقوفها للعلماء والفقهاء والصوفية وأعاد رونق الإسلام بمدينة السلام..). (الإسماعيليون والمغول/287).

9- الحرية المذهبية جزءٌ من مذهب التشيع

قد يقال: لماذا لم يقم نصير الدين والعلامة الحلي وعلماء الشيعة بتحويل أجهزة الدولة ، خاصة جهازها الديني والقضائي الى مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ؟

والجواب: أن ذلك كان ممكناً ، فمن السهل تحويل المدرسة النظامية أو

ص: 145

المستنصرية من مدرسة للمذاهب الأربعة الى مدرسة لمذهب الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ،لكن تفكير المحقق الطوسي رحمه الله علیه والعلامة الحلي رحمه الله علیه كان عميقاً فهم من جهة لايوافقون على سياسة فرض المذهب، ومن جهة يريدون المحافظة على إستقلالية المرجعية والحوزة العلمية والجهاز الديني الشيعي عن السلطة ، أي سلطة حتى لو كانت شيعية .

لذلك قرروا إبقاء مؤسسات المذاهب الأربعة كما كانت ، فتركوا لها المدرسة المستنصرية وأوقافها الواسعة ومبالغها الهائلة! قال الذهبي في تاريخه:46/7:(رأيت نسخة كتاب وقفها (المستنصرية) في خمسة كراريس ، والوقف عليها عدة رباع وحوانيت ببغداد ، وعدة قرى كبار وصغار ما قيمته تسعمائة ألف دينار فيما يخال إليَّ ، ولا أعلم وقفاً في الدنيا يقارب وقفها أصلاً سوى أوقاف جامع دمشق ، وقد يكون وقفها أوسع). وقال في سيره: 23/157: (بلغ مغلُّ وقف المستنصرية مرة نيفاً وسبعين ألف دينار في العام ). انتهى.

ولم يستفد الشيعة من ماليتها لأوقافهم بفلس واحد ! واتجهوا بدل ذلك الى تقوية المؤسسات الشيعية الأهلية كالحوزات والمساجد والمشاهد ، وإنشاء مؤسسات كمؤسسة دور السيادة التي أنشأها السلطان محمد خدابنده لخدمات السادة من ذرية النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) . وبذلك تعرف أن الحرية المذهبية جزءٌ من فكر المذهب الشيعي وقناعة فقهائه ، وهي التي حققت النجاح للسلطة التي تنتمي الى مذهب التشيع . وكذلك كانت سياسة الحكم الشيعي بعد الجوينينن .

قال السيد المرعشي في شرح إحقاق الحق:7/402: (ولا يخفى على من تأمل في تواريخ الدولة القاهرة الإيلخانية المنسوبة إلى السلطان الفاضل السعيد أولجايتو محمد خدابنده ، أن زمانهم أكثر تربية للأولياء والعلماء الحكماء والفقهاء ، وكان معاصر المصنف العلامة خلق كثير كنجم الدين عمر الكاتبي ، القزويني ، والقاضي

ص: 146

البيضاوي ، والعلامة الشيرازي ، والحكيم أحمد بن محمد الكيشي ، والمولى الفاضل بدر الدين محمد الحنفي الشوشتري ، والقاضي نظام الدين عبد الملك المراغي ، والسيد ركن الدين موصلي ، وولد صدر جهان البخاري ، وغيرهم من مشاهير الحكماء والمتكلمين الذين عجزوا عن مناظرته فسلموا له حقيقة مذهبه إلى أن اختار السلطان مع كثير من أهل زمانه مذهب الإمامية على التفصيل المشهور المسطور في سير الجمهور). انتهى.

إن أكثر هؤلاء الذين ذكرهم السيد المرعشي (رحمه اللّه) من كبار علماء السنة ! ولو رجعنا الى مصادر التراجم لرأينا أن علماء السنة الذين ظهروا في عصر السلاطين المغول الشيعة: السلطان قازان والسلطان خدابنده ووزيره عطا الملك ثم ابنه بو سعيد وابنه الشيخ حسن ، وبرعايتهم وتشجيعهم.. كانوا مميزين في النوعية وأصحاب ذهنية شمولية ! وهذا دليلٌ على الحرية المذهبية في ظل السلطة الشيعية ، بل ورعايتها لعلماء المذاهب وحركتهم الثقافية !

لقد شهدت المعاهد السنية وخاصة المدرسة المستنصرية ازدهاراً في عهد الدولة الشيعية أكثر من أي وقت ، وتخرج منها أعداد ملفته كماً وكيفاً من كبار العلماء والقضاة . وكانت مكتبتها التي يحدثنا عنها مديرها ابن الفوطي كالمعجزة في ذلك العصر !

ومن نماذج الحرية المذهبية في الحكم الشيعي الجعبري الذي ترجم له ابن حجر في الدرر الكامنة:3/129، قال: ( عبد الرحمن بن عمر بن علي الجعبري التستري الطبيب نور الدين ، تفقه بالنظامية ومهر في الطب وبرع في الإنشاء وفنون الأدب والخط المنسوب وأخذ عن ابن الصباغ وابن البسيس وغيرهما ، واتصل بصاحب الديوان علاء الدين ثم أقبل على التصوف ودخل في تلك المضايق وعمر لنفسه خانقاه وقعد فيها شيخا، وعظم شأنه عند خربندا وانثالت

ص: 147

عليه الدنيا حتى كان يقال إن مَغَلَّهُ في كل سنة بلغ سبعين ألفاً إلى أن مات في سنة723 ، وقد شاخ).

ومن نماذجها: أن أهم كتابين في تأصيل عقائد السنيين هما: المواقف للعضدي الإيجي وشرحه للشريف الجرجاني ، وكتاب المقاصد لسعد الدين التفتازاني ، وقد تم تأليف أولهما وأهمها بطلب السلطان خدابنده ورعايته !

قال في كشف الظنون:1653: (المواقف في علم الكلام ، للعلامة عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي القاضي المتوفى سنة756 ، ألفه لغياث الدين وزير خدابنده وهو كتاب جليل القدر رفيع الشأن اعتنى به الفضلاء ، فشرحه السيد الشريف علي بن محمد الجرجاني المتوفى سنة816 ...الخ).

وقال القمي في الكنى والألقاب:2/472: (القاضي عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي الشافعي الأصولي المتكلم الحكيم المدقق . كان من علماء دولة السلطان أولجايتو محمد المعروف بشاه خدابنده المغولي ، يقال إن أصله من بيت العلم والتدريس والرياسة ، وتولى القضاء بديار فارس إلى أن سلم له لقب أقضى القضاة في مدينة شيراز مع نهاية الإعزاز . ويقال إنه كان من أهل النصب متعصباً معانداً للشيعة الإمامية ، له شرح مختصر ابن الحاجب وهو معروف بين العلماء، وله المواقف في علم الكلام الذي شرحه المحقق الشريف وله كتاب في الأخلاق مختصر في جزء لخص فيه زبدة ما في المطولات شرحه تلميذه شمس الدين محمد بن يوسف الكرماني المتوفى سنة786 إلى غير ذلك . وآخر مصنفاته: العقائد العضدية التي شرحها الدواني).

وقال السيد الميلاني في بحثه الشيخ نصير الدين الطوسي وسقوط بغداد/9:

(هذا الكتاب (تجريد الإعتقاد) الذي أصبح من المتون الأصلية والأولية في

ص: 148

الحوزات العلمية كلها ، وكان يدرس وما زال في بعض الحوزات العلمية ، ولذا كثرت عليه الشروح والحواشي من علماء الشيعة والسنة ، وحتى أن كتاب المواقف للقاضي الإيجي ، وكتاب المقاصد للسعد التفتازاني ، هذان الكتابان أيضاً إنما ألفا نظراً إلى ما ذكره الخواجة نصير الدين في كتاب التجريد ، ويحاولون أن يردوا عليه آراءه وأفكاره، ولربما يذكرون إسمه بصراحة).انتهى.

وانظر الى نعمة الحرية والثروة التي كان يعيش فيها هذا العالم السني المتعصب ، قاضي قضاة الدولة الشيعية العاملة بتوجيهات المرجعية ، والذي ألف كتباً في نقد الفكر الشيعي ! قال ابن شهبة في طبقات الشافعية/232: (عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار قاضي قضاة الشرق وشيخ العلماء في تلك البلاد ، العلامة عضد الدين الإيجي بكسر الهمزة وإسكان المثناة من تحت ثم جيم مكسورة ، الشيرازي ، شارح مختصر ابن الحاجب الشرح المشهور وغير ذلك من المؤلفات المشهورة في العلوم الكلامية والعقلية.... وكان صاحب ثروة ، وجود وإكرام للوافدين عليه . تولى قضاء القضاة في مملكة أبي سعيد فحمدت سيرته ، وقال السبكي في الطبقات الكبرى: كان إماماً في المعقولات عارفاً بالأصلين... له في علم الكلام كتاب المواقف وغيره...وكانت له سعادة مفرطة ومال جزيل وإنعام على طلبة العلم وكلمة نافذة... وكانت أكثر إقامته أولا في مدينة السلطانية وولي في أيام أبي سعيد قضاء الممالك.. وأنجب تلاميذه اشتهروا في الآفاق مثل شمس الدين الكرماني، وضياء الدين العفيفي ، وسعد الدين التفتازاني وغيرهم).انتهى.

بل انظر الى المدرسة التي بناها السلطان الشيعي محمد خدابنده في عاصمته الجديدة السلطانية: (كان يُدَرِّس فيها خمسة من الفقهاء بالمذاهب الخمسة

ص: 149

منهم العلامة رحمه الله علیه بمذهب الشيعة... حضر السلطان يوماً من الأيام لإمامة الجمعة فسأل العلماء بعد اجتماعهم عن وجه وجوب الصلاة على الآل ثم قال: لعل النكتة فيه أن اللّه تعالى أراد عدم نسيان الآل وأن يكونوا في ذكر الناس حتى يرجعوا إليهم). (البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر/عن نفائس الفنون:2/260).

**

ويطول الكلام في النماذج والحقائق الكثيرة عن احترام الدولة الشيعية وعلماء الشيعة لحرية المذاهب السنية وعلمائها في عهد دولة السلاطين المغول الذين شرفهم اللّه بمذهب أهل البيت (عليهم السلام) . كذلك الحديث عن ارتقاء المستوى العلمي لعلماء السنة بسبب التفاعل والتلاقح الفكري مع علماء الشيعة وعلاقة الإحترام المتبادل في ظل الدولة الشيعية ، بعد أن كانت علاقة توتر وتكفير وصراعات برعاية الدولة العباسية !

يقول ابن العماد في شذرات الذهب:3/90، في ترجمة إمام الحنابلة ابن أبي البركات: (وقال الشيخ عبد اللّه اليونيني ما أعتقد أن شخصاً ممن رأيته حصل له من الكمال في العلوم والصفات الحميدة التي يحصل بها الكمال سواه... ومن تصانيفه في أصول الدين البرهاني في مسئلة القرآن وجواب مسألة وردت من صرخد في القرآن جزء، والإعتقاد جزء ، ومسألة العلو جزءان ، وذم التأويل جزء ، وكتاب القدر جزءان ، ومنهاج القاصدين في فضائل الخلفاء الراشدين ، ورسالة إلى الشيخ فخر الدين بن تيمية في عدم تخليد أهل البدع في النار... قال ابن رجب: انتهت إليه رياسة العلم ببغداد من غير مدافع ، وأقر له الموافق والمخالف وكان الفقهاء من ساير الطوائف يجتمعون به ويستفيدون منه في مذاهبهم ويتأدبون معه ويرجعون إلى قوله ويردهم عن فتاويهم فيذعنون له ويرجعون إلى ما يقوله حتى ابن المطهر شيخ الشيعة كان الشيخ يبين له خطأه في نقله لمذهب الشيعة فيذعن له...ويوم وفاته قال الشيخ شهاب الدين عبد الرحمن بن عسكر شيخ المالكية لم يبق ببغداد من يراجع في علوم الدين مثله...وولي القضاء توفي ببغداد...ودفن بمقابر الإمام أحمد).انتهى.

ص: 150

أقول: بقطع النظر عن صحة ما ذكره عن تصحيحه خطأ للعلامة الحلي رحمه الله علیه في بعض مسائل مذهب الشيعة ، فإن النص يدلك على التواصل والإحترام بين علماء الشيعة وعلماء الحنابلة ، وهو ما لم يكن قبل دولة الشيعة .

وتكشف لنا الرسالة التالية بين العلامة الحلي والقاضي البيضاوي صاحب التفسير المعروف بتفسير البيضاوي ، عن العلاقة الطبيعية التي حققها الحكم الشيعي: (لما وقف القاضي البيضاوي على ما أفاده العلامة في بحث الطهارة من القواعد بقوله: ولو تيقنهما، أي الطهارة والحدث ، متحدين متعاقبين وشك في المتأخر فإن لم يعلم حاله قبل زمانهما تطهر وإلا استصحبه .

كتب بخطه إلى العلامة:يامولانا جمال الدين أدام اللّه فواضلك أنت إمام المجتهدين في علم الأصول ، وقد تقرر في الأصول مسألة إجماعية هي: أن الإستصحاب حجة ما لم يظهر دليل على رفعه ومعه لايبقى حجة بل يصير خلافه هو الحجة لأن خلاف الظاهر إذا عضده دليل صار هو الحجة وهو ظاهر والحالة السابقة على حالة الشك قد انقضت بضدها فإن كان متطهرا فقد ظهر أنه أحدث حدثا ينقض تلك الطهارة ثم حصل الشك في رفع هذا الحدث فيعمل على بقاء الحدث بأصالة الإستصحاب وبطل الإستصحاب الأول وإن كان محدثا فقد ظهر ارتفاع حدثه بالطهارة المتأخرة عنه ثم حصل الشك في ناقض هذه الطهارة والأصل فيها البقاء وكان الواجب على القانون الكلي الأصول أن يبقى على ضد ما تقدم .

فأجابه العلامة: وقفت على ما أفاده مولانا الإمام العالم أدام اللّه فضائله وأسبغ عليه فواضله ، وتعجبت من صدور هذا الإعتراض عنه ، فإن العبد ما استدل بالإستصحاب بل استدل بقياس مركب من منفصله مانعة الخلو بالمعنى الأعم عنادية وحمليتين . وتقريره: أنه إن كان في الحالة السابقة متطهراً فالواقع بعدها إما أن يكون الطهارة وهي سابقة على الحدث أو الحدث الرافع للطهارة الأولى فتكون الطهارة الثانية بعده ولا يخلو الأمر منهما ، لأنه صدر منه طهارة واحدة رافعة الحدث في الحالة الثانية

ص: 151

وحدث واحد رافع للطهارة ، وامتناع الخلو بين أن يكون السابقة الطهارة الثانية أو الحدث ظاهراً ، ويمتنع أن يكون الطهارة السابقة وإلا كانت طهارة عقيب طهارة ، فلا تكون طهارة رافعة للحدث والتقدير خلافه فتعين أن يكون السابق الحدث ، وكلما كان السابق الحدث فالطهارة الثانية متأخرة عنه ، لأن التقدير أنه لم يصدر عنه إلا طهارة واحدة رافعة للحدث ، فإذا امتنع تقدمها على الحدث وجب تأخرها عنه ، وإن كان في الحالة السابقة محدثاً ، فعلى هذا التقدير إما أن يكون السابق الحدث أو الطهارة والأول محال وإلا كان حدث عقيب حدث فلم يكن رافعاً للطهارة ، والتقدير أن الصادر حدث واحد رافع للطهارة فتعين أن يكون السابق هو الطهارة، والمتأخر هو الحدث فيكون محدثا . فقد ثبت بهذا البرهان أن حكمه في هذه الحالة موافق للحكم في الحالة الأولى بهذا الدليل لا بالإستصحاب ، والعبد إنما قال: استصحبه أي: عمل بمثل حكمه. ثم أنفذه إلى شيراز ولما وقف القاضي البيضاوي على هذا الجواب استحسنه جداً وأثنى على العلامة).(قواعد الأحكام:1/127).

وقد ترجم القاضي البيضاوي في طبقات المفسرين/254: (عبد اللّه بن عمر بن محمد بن علي الشيرازي أبو الخير القاضي ناصر الدين البيضاوي الشافعي صاحب المطالع والمصباح في أصول الدين ومختصر الكشاف في التفسير المسمى بأنوار التنزيل وأسرار التأويل ، وله شرح المصابيح في الحديث ، كان إماماً مبرزاً نظاراً صالحاً متعبداً زاهداً ، ولي قضاء القضاة بشيراز ودخل تبريز وناظر بها ، وصادف دخوله إليها مجلس درس قد عقد بها لبعض الفضلاء فجلس القاضي ناصر الدين في أخريات القوم بحيث لم يعلم به أحد ، فذكر المدرس نكتة زعم أن أحداً من الحاضرين لا يقدر على جوابها وطلب من القوم حلها والجواب عنها فإن لم يقدروا فالحل فقط وإن لم يقدروا فإعادتها ، فلما انتهى من ذكرها شرع القاضي ناصر الدين في الجواب فقال له: لا أسمع حتى أعلم أنك فهمتها فخيره بين إعادتها بلفظها أو معناها ، فبهت المدرس وقال: أعدها بلفظها فأعادها ثم حلها ، وبين في تركيبه إياها

ص: 152

خللاً ثم أجاب عنها، وقابلها في الحال بمثلها ودعى المدرس إلى حلها فتعذر عليه ذلك فأقامه الوزير من مجلسه وأدناه إلى جانبه وسأله: من أنت؟ فأخبر أنه البيضاوي وأنه جاء في طلب القضاء بشيراز فأكرمه وخلع عليه في يومه). انتهى.

إنه يكفي للباحث المنصف أن يقرأ عن المؤسسات الدينية الشيعية والسنية في عهد دول السلاطين الشيعة ، والعلماء الذين نشأوا وعاشوا في ظلها ، ليرى ارتقاء المستوى العلمي والأخلاقي ، وعلاقة الإحترام المتبادلة بين علماء المذاهب وأتباعها . وكذلك الأمر في المؤسسات السياسية وهو ما لم يتحقق إلا في ظل الحكم الشيعي أو النفوذ الشيعي القوي !

**

10- سبب احترام الشيعة للطرف الآخر

قال ابن خلكان في وفيات الأعيان:2/362 ، في ترجمة أبي الفوارس سعد بن محمد بن سعد التميمي الفقيه الشافعي الشاعر المعروف بحَيْص بَيْص:

(كان فقيهاً شافعي المذهب ، تفقه بالري على القاضي محمد بن عبد الكريم الوزان ، وتكلم في مسائل الخلاف إلا أنه غلب عليه الأدب ونظم الشعر ، وأجاد فيه مع جزالة لفظه... وأخذ الناس عنه أدباً وفضلاً كثيراً وكان من أخبر الناس بأشعار العرب... قال الشيخ نصر اللّه بن مجلي مشارف الصناعة بالمخزن وكان من الثقات أهل السنة : رأيت في المنام علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه فقلت له: يا أمير المؤمنين تفتحون مكة فتقولون من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ثم يتمُّ على ولدك الحسين يوم الطف ما تم ؟! فقال: أما سمعت أبيات ابن الصيفي في هذا ؟ فقلت: لا ، فقال: إسمعها منه . ثم استيقظت فبادرت إلى دار حيص بيص فخرج إليَّ فذكرت له الرؤيا ، فشهق وأجهش بالبكاء وحلف

ص: 153

باللّه إن كانت خرجت من فمي أو خطي إلى أحد ! وإني كنت نظمتها إلا في ليلتي هذه ثم أنشدني:

ملكنا فكان العفوُ منا سَجيَّةً *** فلما ملكتم سالَ بالدَّمِ أبطحُ

وحلَّلتمُ قتل الأسارى وطالما *** غدونا عن الأسرى نَعُفُّ ونصفح

فحسبكُمُ هذا التفاوت بيننا *** وكلُّ إناء بالذي فيه ينضحُ).انتهى.

فبنو أمية ينضحون بما فيهم ، وهو التكبر ومعاداة القيم ، وإجبار الناس وقهرهم على بيعة خليفتهم واتباع مذهبهم ، واضطهاد من خالفهم أو سكت ولم يعلن الخضوع لهم ، وعقابه القتل أو يبايع على أنه عبد قنٌّ رقٌّ طلقٌ لهم ، كما فعل يزيد بالصحابة والتابعين في المدينة ، في وقعة الحَرَّة !

أما أهل البيت النبوي من بني هاشم الذين اختارهم اللّه للنبوة والإمامة (عليهم السلام) فهم ينضحون بما فيهم ، وهو الإنسانية واحترام الإنسان وإن خالفهم بالرأي ، وعدم إجبار الناس على موافقتهم ، والتعايش معهم بسعة صدر حسب أحكام الإسلام ، والتمسك في نفس الوقت بعقيدتهم وقيمهم ، والعمل لها بحكمة وعقل حسب أحكام الإسلام ، والتضحية من أجلها إذا لزم الأمر .

وعلى نهج كلٍّ سار شيعتهم عبر التاريخ ، حتى أنك نستطيع القول إن أهل البيت (عليهم السلام) هم الذين ضَخُّوا في وجود الأمة دم البقاء ، وشكلوا في تاريخها دفعاً متواصلاً لحقوق الإنسان المسلم وسقياً لحريته في العقيدة والتعبير !

وقد كتبنا في جواهر التاريخ: أن علياً (عليه السلام) عمل لإعادة العهد النبوي في احترام الإنسان ، فلم يكن عنده إجبار لأحد على بيعته ولاحطبٌ ولا حرقُ بيوت ! وكيف يجبر عليٌّ أحداً على بيعته وهو الإنسان الصافي الإنسانية أباً عن جد ، من أبي طالب الى إبراهيم وآدم (عليهم السلام) ، والمؤمن بمحمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وما أنزل عليه وفي أوله حقوق الإنسان

ص: 154

المقدسة في شريعة الإسلام .

كيف يجبر أحداً وهو التقيُّ الذي يخاف أن يعصي ربه في نملة يسلبها جلب شعير ، فكيف بالتعدي على حق إنسان له كرامته وحرمته عند اللّه ؟!

قال (عليه السلام) :(واللّه لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي اللّه في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت ، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها ! ما لعليٍّ ولنعيم يفنى ولذة لاتبقى) !(نهج البلاغة:2/18)

(قالوا له: إن عبداللّه بن عمر وسعد بن وقاص وأسامة بن زيد تخلفوا عن بيعته ، واستأذنه عمار بن ياسر أن يأتي بهم ليجبرهم على البيعة كما جرت سنة قريش ! فقال له: دع عنك هؤلاء الرهط الثلاثة ، أما ابن عمر فضعيف في دينه وأما سعد بن أبي وقاص فحسود ، وأما محمد بن مسلمة فذنبي إليه أني قتلت قاتل أخيه ، مرحباً يوم خيبر) . ( المعيار والموازنة للإسكافي/108) . ولذلك كان علي (عليه السلام) الخليفة الوحيد الذي أعطى الحرية لمعارضيه وناقديه والعاملين ضده ، ولم ينقص من حقوقهم من بيت المال ولا غيره شيئاً ، حتى دعوا الى الثورة عليه وشتموه في وجهه! (كان (عليه السلام) جالساً في أصحابه فمرت بهم امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم فقال (عليه السلام) :إن أبصار هذه الفحول طوامح وإن ذلك سبب هُبابها ، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله ، فإنما هي امرأة كامرأة! فقال رجل من الخوارج: قاتله اللّه كافراً ما أفقهه! فوثب القوم ليقتلوه فقال (عليه السلام) :رويداً إنما هو سبٌّ بسب أوعفوٌ عن ذنب).(نهج البلاغة:4/98 ).

وبهذه الحرية التي أعطاها أمير المؤمنين (عليه السلام) لخصومه فَضَحَ القرشيين الذين قتلوا المسلمين على الكلمة وبطشوا فيهم على التهمة ، وجعلوا شيخ القبيلة رئيس الدولة أعظم حرمةً من اللّه تعالى ورسله (عليهم السلام) !

ومن هنا كان علي (عليه السلام) هو الخليفة الوحيد الذي لم يُجبر أحداً على الحرب معه ، بل ندب المسلمين الى نصرته وأوضح لهم حقه وباطل أعدائه، فاستجاب له من أراد وتخلف عنه من أراد ! ولم يُنقص من حقوقهم شيئاً ! ففضح بذلك سياسة إجبار

ص: 155

الناس على القتال التي وصلت الى أن:( بشِْر بن مروان بن الحكم كان إذا ضرب البعث على أحد من جنده ثم وجده قد أخل بمركزه، أقامه على كرسي ثم سمَّر يديه في الحائط ثم انتزع الكرسي من تحت رجليه فلا يزال يتشحط حتى يموت) ! (تاريخ دمشق:10/256) .

لقد كان حكم علي (عليه السلام) دفعةً ربانية ونسيماً نبوياً رَفَد جسم الأمة بالبقاء ، وأثبتت للناس أن هذه الأمة فيها نبوةٌ وقرآنٌ وقيمٌ ، واحترامٌ لإنسانية الإنسان !

وقد أسهم في هذا الإثراء الإنساني أتباع عليً (عليه السلام) ومنهم أمويون انشقوا عن بني أمية واستبصروا بنور علي (عليه السلام) كخالد بن سعيد بن العاص وأخوه أبان وأخوه عمرو، ثم معاوية بن يزيد (رحمه اللّه) الذي بايعوه بعد هلاك أبيه يزيد ، فخطب خطبة العرش وفضح جده معاوية وأباه يزيداً وبني أمية وأشاد بالنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وعلي والعترة النبوية الطاهرة (عليهم السلام) (جواهر المطال لابن الدمشقي:2/261، وحياةالحيوان لدميري:1/98) . قال لهم في خطبة البيعة: (فاختاروا مني إحدى خصلتين: إما أن أخرج منها وأستخلف عليكم من أراه لكم رضاً ومقنعاً ، ولكم اللّه عليَّ ألا آلوكم نصحاً في الدين والدنيا . وإما أن تختاروا لأنفسكم وتخرجوني منها . قال: فأنفَ الناس من قوله وأبوْا من ذلك وخافت بنو أمية أن تزول الخلافة منهم ! فقالوا: ننظر في ذلك يا أمير المؤمنين ونستخير اللّه ، فأمهلنا . قال: لكم ذلك وعجِّلوا عليَّ. فلم يلبثوا بعدها إلا أياماً حتى طُعن).(الإمامة لابن قتيبة:2/10).

كان هذا الشاب الأموي مؤمناً باللّه ورسوله وقيم الوحي المنزل عليه ، وكان يعرف أن بني أمية لايفوضونه أن يولي عليهم من يراه أهلاً للخلافة لأنهم يعرفون أنه سيولي زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام) الذي قتلوا أباه الحسين بالأمس ! ولكنه مع ذلك ضحى بإمبراطوريته ودمه وهو في سن الثلاث والعشرين! فكانت تضحيته رفداً لمسيرة الأمة بإنسانية علي (عليه السلام) والنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) .

ثم جاء شعار القيم التي ادعاها الثوار الحسنيون والعباسيون برفعهم شعار: ثارات الحسين (عليه السلام) وظلامة أهل بيت النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ودعوا الأمة الى إنهاء جور بني أمية وسلبهم لحرية الأمة ومقدراتها ! فحققت ثورتهم انفراجاً ما وأعطت هامشاً من الحرية لكنه

ص: 156

سرعان ما انتهى وتبنى الطاغية المنصور نفس سياسة بني أمية ، وزاد عليها !

ثم كانت مرحلة صراع أبناء هارون الرشيد على خلافته فتبنى المأمون التشيع النظري ، وفرض على الإمام الرضا (عليه السلام) القبول بولاية عهده ليغيض العباسيين الذين عزلوه ! ونتج عنه هامش حرية للإمام (عليه السلام) وشيعته ، وظهر منه العلوم والمعجزات فكانت دفعة جديدة من روح الدين والإنسانية في الأمة .

وقد تحول هذا التراكم الشيعي مع السنين الى مخزون في وجدان الأمة اتسع بسببه التشيع لأهل البيت (عليهم السلام) ، حتى تمثل بقيام دولة لهم في طبرستان في شمال إيران وفي في اليمن . ثم تمثل بثورة البويهيين الشيعة في إيران ، فاكتسحوا بغداد وفرضوا على الخليفة الإعتراف بقائدهم سلطاناً وحاكماً للدولة الإسلامية كلها ، وجعلوا الخليفة أشبه بموظف عندهم! وكان حكمهم على سيئاته دفعة في الإنفتاح والحرية والإحترام النسبي للإنسان ، خاصة أنه تزامن مع نشوء الدولة الفاطمية التي كانت تتبنى التشيع وحرية المذاهب ، وترفع شعار احترام الإنسان المسلم .

واستمرت حالة الأمة على ذلك حتى سقطت الدولة البويهية بيد السلاجقة الأتراك المتعصبين ، وسقطت الدولة الفاطمية بيد الأكراد السنة المتعصبين ثم مماليكهم !

ومن عجائب حيوية التشيع والحرية فيه ، أنه حتى بعد سقوط البويهيين في العراق وسقوط النظام الفاطمي الشيعي الإسماعيلي في مصر ، احتفظ التشيع بجاذبيته فتبنت الخلافة العباسية في بغداد مذهب التشيع على يد الخليفة العباسي الناصر، وكان ذلك معاصراً لتحريم التشيع في مصر وإبادة الشيعة بمقابر جماعية على يد صلاح الدين ونائبه قراقوش ، الذي مازال يضرب به المثل !

ثم عادت بعد الخليفة الناصر سياسة التعصب السني ، وعاد الإضطهاد المذهبي العباسي حتى الغزو المغولي وقيام الدولة الشيعية بتوجيه نصير الدين رحمه الله علیه .

إن الحكم والنفوذ الشيعي كان دائماً يحارب الإضطهاد المذهبي ويعمل لتحقيق الحرية المذهبية له ولغيره ، والى هذا وجه مراجعهم السلاطين المغول الشيعة ، وشهدت به الدراسات المنصفة لعهد الحكم المغولي في العراق وإيران .

ص: 157

11- الإعمار والعدل في حكم الجوينيين

اشارة

قال في أعيان الشيعة:8/7: (وترجع شهرة الجويني مضافاً إلى عبقريته السياسية ونجاحه في إدارة شؤون الدولة المغولية ولا سيما في العراق ، إلى غزارة علمه والى آثاره الممتعة في الأدب والسياسة والتاريخ ، وتشجيعه للتأليف والمؤلفين في شتى الفنون . وقد كتب ابن الفوطي لخزانته كثيراً من الكتب ومنها تاريخه الكبير ، كما أهدى ابن ميثم البحراني شرح نهج البلاغة له وأهدى ابن كمونة بعض مؤلفاته لآل الجويني ، منها كتابه في شرح الإشارات أهداه لشمس الدين الجويني صاحب ديوان الممالك .

ويَعُدُّ ابن الفوطي أعظم أيادي الجويني عليه إعادته إلى بغداد ، واليكم ما يقوله في ترجمة الجويني: هو الذي أعادني إلى مدينة السلام سنة تسع وسبعين وستمائة وفوض إليَّ كتابة التاريخ والحوادث ، وكتب لي الإجازة بجميع مصنفاته ، وأملى عليَّ شعره في قلعة تبريز سنة سبع وسبعين وستمائة".

هذا وقد عهد إلى ابن الفوطي فور وصوله إلى بغداد بالإشراف على خزانة المستنصرية، وهو عمل أتقنه ابن الفوطي منذ كان في مراغة ، وتعد كتب ابن الفوطي أحسن مرجع للإطلاع على شؤون الكتب والمكتبات العامة والخاصة ، خصوصاً ما كان منها في عصره كمكتبة دار الرصد ومكتبة المستنصرية هذه ، وقد رفعته خبرته في فن الخطوط ومعرفته بمشاهير الناسخين والخطاطين ، وحذقه بأصول إنشاء المكتبات إلى مستوى الأئمة في هذا الشأن ، وقد كون لنفسه مكتبة خاصة تعدُّ بين المكتبات الثمينة المعروفة في عصره ، وكان منزله ومكتبته المذكورة في بغداد ملتقى طلبة العلم، ومجتمع الطبقة المهذبة من البغداديين والطارئين على بغداد ، ومن عادته أن يشير في معجمه إلى زواره وزوار مكتبته من العلماء والأعيان ، أو من المعجبين

ص: 158

بمؤلفاته المتنافسين في اقتناء آثاره في شتى المواضيع والفنون .

كانت مكتبة المستنصرية المذكورة في وقت إشراف ابن الفوطي على شؤونها أشهر مكتبة عامة في العالم كله، كما كانت مفخرة من مفاخر بغداد ، وتزار في مقدمة ما يقصد ويزار من معاهدها العظيمة ، وقد عني ابن الفوطي بتاريخها من هذه الناحية ووصف زيارة من زارها من الملوك والرؤساء وغيرهم في أيامه ، ومنهم سلاطين المغول وأعيانهم ، فقد زارها منهم السلطان محمود غازان في مقدمه إلى بغداد سنة696 ، كما زارها أشهر رجال دولته القادمين معه . قال ابن الفوطي في الحوادث الجامعة: دخل خزانة الكتب ولمحها...الخ.). انتهى.

أقول: لابد أن نذكر مع مؤهلات الجويني والفوطي وأمثالهما من الكوادر والشخصيات ، أن سبب نجاحهم هو النمط الفكري والعملي الذي تعلموه من أستاذهم العبقري نصير الدين رحمه الله علیه ، وإلا فقد عمل أمثالهم من النابغين في الإدارة والثقافة مع النظام العباسي وضاعوا في أنفاق نظامهم المتعصب الفاسد ، أو اصطدموا بالعقبات الكبيرة لطموحهم ومشاريعهم ، كأكثر الوزراء الشيعة مثل آل الفرات ، وآل روح ، وآل العلقمي .

وقد اعتمد الذهبي على شهادة ابن الفوطي الحنبلي في مدح الجوينيين الشيعة !

قال في تاريخه:51/80: (وكان علاء الدين وأخوه فيهما كرم سؤدد وخبرة بالأمور وفيهما عدل ورفق بالرعية وعمارة للبلاد . وليَ علاء الدين نظر العراق سنة نيف وستين بعد العماد القزويني(عمر القضوي)فأخذ في عمارة القرى وأسقط عن الفلاحين مغارم كثيرة ، إلى أن تضاعف دخل العراق وعظم سوادها ، وجرَّ نهراً من الفرات مبدؤه من الأنبار ومنتهاه إلى مشهد علي رضي اللّه عنه ، وأنشأ عليه مائة وخمسين قرية . ولقد بالغ بعض الناس وقال: عَمَّر صاحب الديوان بغداد حتى كانت أجود من أيام الخلافة . ووجد أهل بغداد به راحة . وحكى غير واحد أن أبغا قدم العراق

ص: 159

فاجتمع في العيد الصاحب شمس الدين وعلاء الدين ببغداد ، فأحصيت الجوائز والصلات التي فرقها فكانت أكثر من ألف جائزة . وكان الرجل الفاضل إذا صنف كتاباً ونسبه إليهما تكون جائزته ألف دينار ، وقد صنف شمس الدين محمد بن الصيقل الجزري خمسين مقامة ، وقدمها فأعطي ألف دينار . وكان لهما إحسان إلى العلماء والصلحاء ، وفيهما إسلام ، ولهما نظر في العلوم الأدبية والعقلية .

وفي وقتنا هذا الإمام المؤرخ العلامة أبو الفضل عبد الرزاق بن أحمد ابن الفوطي مؤرخ عصره ، وقد أورد في تاريخه الذي على الألقاب ترجمة علاء الدين مستوفاة: هو الصدر المعظم الصاحب علاء الدين أبو المظفر عطا ملك ابن الصاحب بهاء الدين محمد بن محمد بن محمد بن علي بن محمد بن محمد بن محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن إسحاق بن أيوب بن الفضل بن الربيع الجويني ، أخو الوزير شمس الدين . قرأت بخط الفوطي: كان جليل الشأن تأدب بخراسان وكتب بين يدي والده وتنقل في المناصب إلى أن ولي العراق بعد قتل عماد الدين الدويني فاستوطنها وعمر النواحي وسد البثوق ، ورفد الأموال وساق الماء من الفرات إلى النجف وعمل رباطاً بالمشهد . ولم يزل مطاع الأمور رفيع القدر إلى أن بلي بمجد الملك في آخر أيام أباقا بن هولاكو . وكان موعوداً من السلطان أحمد أن يعيده إلى العراق فحالت المنية دون الأمنية ، وسقط عن فرسه فمات ونقل إلى تبريز فدفن بها (ربما لأنهاعاصمة المغول). وله رسائل ونظم ، كتب منشوراً بولاية كتابة التاريخ بعد شيخنا تاج الدين علي بن أنجب .(يقصد مشروع كتابة التاريخ المسمى: جهان كشا) وكان مولده في سنة ثلاث وعشرين وستمائة ، ومدة ولايته على بغداد إحدى وعشرون سنة وعشرة أشهر . وقرأت بخطة وفاة علاء الدين في رابع ذي الحجة سنة681).

أقول: لاحظ أن أبغا الولد الوارث لهولاكو طاغية اليهود الأكبر ، الذي دخل قبل بضع عشرة سنة قائداً في جيش أبيه فقتل في بغداد من قتل ودمر ما دمر ، كيف يزور بغداد ويعتز بسياسة نائبه الجويني في الإعمار والثقافة ، ويحضر

ص: 160

توزيع الجوائز على النابغين المؤلفين في العلوم المختلفة ! فمن أين للسلطان أبغا هذه السياسة والحكم غير المباشر، وإطلاق يد نائبه في العراق ، ودعم سياسته في الإعمار والحرية والنهضة العلمية، إلا من نصير الدين رحمه الله علیه .

**

وكان للجوينيين اهتمام بالمشاهد المشرفة فقد أعادوا بناء مشهد الإمام موسى بن جعفر والإمام الجواد (عليهما السلام) بأفضل مما كان عليه ، وبنوا بقية مشاهد الأئمة (عليهم السلام) . وكانوا أول من نجح في شق فرع من نهر الفرات الى النجف ، كما وفروا خدمات البنى التحتية للزوار وطلبة العلم . قال السيد ابن طاووس في فرحة الغري/157:(ولقد أحسن الصاحب عطا ملك بن محمد الجويني صاحب ديوان الدولة الإليخانية رضي اللّه عنه حيث عمل الرياط به وكان وضع أساسه من سنة ست وسبعين وستمائة، وابتدأ تحقق الحفر للقناة إليه سنة اثنتين وستين وستمائة ، وأجرى الماء في النجف في شهر رجب سنة ست وسبعين وستمائة وقد كان سنجر بن ملكشاه أجهد في ذلك من قبل فلم يتفق).

وفي هامشه: (وقد ذكر الذهبي أن علاء الدين في ولايته على بغداد قد عمر ما خربه المغول وأزال عنهم ما نالهم وأعاد إلى بغداد عمارتها وراحتها ، كما أنه أجرى نهراً من قصبة الأنبار إلى النجف الأشرف... والظاهر أن النهر المذكور هو المعروف اليوم ب(كري سعده). أنظر:تاريخ العراق بين احتلالين:1/309 . وفي الحوادث الجامعة قال: في سنة666 أمر علاء الدين الجويني صاحب الديوان بعمل رياط بمشهد علي ليسكنه المقيمون هناك وأوقف عليه وقوفاً كثيرة ، وأدرَّ لمن يسكنه ما يحتاج إليه . أنظر: الحوادث الجامعة: 172. وفي فرحة الغري/158:(سنة سبع وستين وستمائة ابتدأ بعمل البركة في جامع الكوفة ، وفرغ على ما أقوله سنة ثمان وستين ).

وفي أعيان الشيعة:1/628،عن مشهد الإمام الحسين (عليه السلام) :(العمارة السابعة الموجودة الآن أمر بها السلطان أويس الإيلخاني سنة767 وتاريخها هذا موجود فوق المحراب القبلي مما يلي الرأس الشريف وأكملها ولده أحمد بن أويس سنة786 ، وقد زيد فيها وأصلحت من ملوك الشيعة وغيرهم .وفي عام930أهدى الشاه إسماعيل الصفوي صندوقاً بديع الصنع إلى القبر الشريف ، وفي عام 1048 شيد السلطان مراد العثماني

ص: 161

الرابع القبة وجصصها . وفي سنة1135 أنفقت زوجة نادر شاه مبالغ طائلة لتعمير الروضة الحسينية . وفي سنة1232 أمر فتح علي شاه بتذهيب القبة الشريفة) . انتهى.

شهادات باحثين معاصرين لحاكم العراق الجويني

(يقول الدكتور جعفر خصباك في كتابه: (العراق في عهد الملوك الإيلخانيين): وقد كثر الكلام عن التخريبات الواسعة التي أحدثها الغزو المغولي للعراق ولسنا في مجال الدفاع عن أولئك الغزاة البرابرة أو النيل منهم... هولاكو لم يَجْر على سنة جده جنگيز خان بتخريب أكثر أو كل المدن التي تقع في طريق زحفه وقتل سكانها . ويبدو لنا أن الصورة التي رسمها المؤرخون لفاتح بغداد المغولي ، إنما هي انعكاس للأعمال التي قام بها جده فيما وراء النهر وخراسان !

ثم يقول: وقد عهد هولاكو أمر تنظيم العراق وإدارته بعد الفتح إلى مسلمين يعرفون شؤونه ويعطفون على أهله ، فعملوا على إعادة تعميره ونشر الإستقرار فيه...

إن الكثير من تنظيمات العراق الإدارية والإقتصادية وأحواله الإجتماعية ، لم تخضع لتغييرات مفاجئة أو عميقة ، بل إن الإستمرارية ظلت واضحة فيها ، فكأن البلاد فقدت الخليفة العباسي ووزراءه وعدداً من وظائفه، ولكنها احتفظت بالكثير من نظمهم ووظائفهم الإدارية... وأخذت شخصية البلاد الثقافية الناتجة من تراثها الغني العميق تعود إلى الظهور من جديد،كما ظهر بنو العباس وصارت لهم نقابة خاصة بهم! ويقول عن بغداد: ومن هذا كله يبدو أن عبارات التخريب التي أوردها المؤرخون عما جرى للمدينة بالغ فيها ، لأن المعالم الرئيسية للمدينة كقصور الخليفة والمدارس والأسواق وغالب المحلات بقيت دون أن يصيبها غير تخريب محدود أمكن إصلاحه في وقت قصير... يضاف إلى ذلك أن الكتاب الموسوم بالحوادث الجامعة وهو معاصر يؤكد وجود دار الخلافة ودار الدويدار الكبير وجامع الخليفة والمدرسة النظامية وسوقها ، والمدرسة المستنصرية ، والمدرسة التتشية ، ومدرسة الأصحاب ، ومدارس وربط أخرى . ويقول في الحوادث الجامعة/333 وفي جامع

ص: 162

التواريخ:2/قسم 1/595: إن هولاكو قد أمر بعد انتهاء عمليات الإستباحة بإصلاح ما خرب من المدينة وترميم أسواقها ، وإعادة أعمال أهلها إلى ما كانت عليه سابقاً.... وهكذا نرى أن هولاكو لم يحكم العراق حكماً مغولياً مباشراً برجال مغول ، بل ترك حكمه لأهله مستقلين به....ويمكننا القول إن أول حاكم فعلي حكم العراق بعد سقوط بغداد مباشرة هو عماد الدين عمر بن محمد القضوي القزويني... وكل الأحداث تشهد أنه حكم العراق حكماً مستقلاً وأن يده أطلقت في هذا الحكم إطلاقاً كاملاً لاتدخل مغولياً فيه ولا سيطرة(هولاكوية)تحول بينه وبين تنفيذ ما يخطط لإنهاض الوطن... ثم يصف ابن الفوطي بعض ما فعله هذا الحاكم في العراق عامة وفي بغداد خاصة: تداركهم اللّه بلطفه فقدمها وعمَّر المساجد والمدارس ورمَّم الرُّبط والمشاهد وأجرى الجرايات من وقوفها للعلماء والفقهاء والصوفية ، وأعاد رونق الإسلام بمدينة السلام

وحاز بهذا الفعل الجميل الذي يبقى على جبهات الزمان ، حسن الأجر والثناء ، وذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء .

وإذا كانت جملة في هذا الكلام تستحق الوقوف عندها طويلاً ، فإننا نكتفي بالوقوف أمام جملة واحدة تغني عن الوقوف على كل ما عداها: أعاد رونق الإسلام بمدينة السلام . لقد عاد رونق الإسلام إلى مدينة السلام: عُمرت المساجد والمدارس والربط والمشاهد ، وأجريت الجرايات للعلماء والفقهاء والصوفية... أجل عاد رونق الإسلام إلى بغداد في ظل الحكم الإستقلالي الذي توفر للعراق بعد فتح بغداد...

وإذا كانت مدة عماد الدين في حكم العراق لم تطل فقد خلفه في منصبه علاء الدين عطا ملك الجويني سنة657 الذي تركه المغول يستقل بالعراق إستقلالاً كاملاً والذي تفوق على سلفه في التوسل بجميع الوسائل الممكنة لبعث حركة عمرانية كبرى في العراق بأسره ، فهو الذي جدد المدارس المتداعية ، وأنشأ جملة من المدارس ودور الكتب وغير ذلك ، كما أنشأ جملة من الرباطات والملاجئ والمستشفيات وأجرى عليها الجرايات ، وعني بتعمير المشاهد في النجف وكربلاء

ص: 163

والكاظمية وحفر الأنهار والترع . وهو الذي شجع حركة التأليف والمؤلفين وأجزل العطاء والبذل لهم . ومن هذه الناحية نجد جملة من أمهات الأسفار والمصنفات في شتى الموضوعات العلمية والأدبية والتاريخية مهداة لخزانته أو خزائن أهله وذويه .

وفي الواسع أن نقول: إن الجويني بز جميع من حكموا في عهد المغول في بعث حركة إنشائية كبيرة شملت العراق وارس وآذربيجان .

واستمر عطا ملك في منصبه طوال حكم هولاكو إلى أن توفي هذا سنة663 وحل محله ابنه آبقا فظل عطا ملك في عهده مستقلاً بحكم بغداد وسائر العراق وكان مهتماً كما قلنا بتعمير البلاد وصالح العباد ، فخفف من الضرائب التي كانت تجبى من الفلاحين والدهاقين ، وأجرى القنوات وأنشأ القرى وشق نهراً من الفرات إلى الكوفة والنجف ، وكلفه ذلك قرابة مئة ألف دينار ذهباً ، وأسس على ضفافه مئة وخمسين قرية ، فعمرت الأراضي القاحلة واخضوضرت ، كما بنى رباطاً قرب مشهد أمير المؤمنين (عليه السلام) في النجف . ولم تمض مدة وجيزة على سقوط بغداد بيد المغول حتى عادت إلى وجهها المشرق واطمأن الناس فعادوا إلى أعمالهم وزراعاتهم ، فتضاعفت عائدات بغداد . حتى ليقول ابن شاكر الكتبي في كتابه: فوات الوفيات:2/75:

كانت بغداد أيام علاء الدين عطا ملك أجود مما كانت عليه أيام الخليفة .

كما قال اليونيني في ذيل مرآة الزمان:4/224، عن عطا ملك: كانت سيرته من أحسن السير وأعدلها بالرعية . واستمر حكمه في بغداد ما يقرب من أربع وعشرين سنة ، ست منها في عهد هولاكو وسبع عشرة سنة في عهد أباقا إلى سنة680 ، والسنة الأخيرة كانت في عهد تكودار . ويقول الشبيبي في الجزء الثاني من كتابه ابن الفوطي: وفي سيرة علاء الدين الجويني كل ما بدل على التنكر للوثنيين الطغاة من حكام المغول ، وإعادة الأمم الإسلامية المغلوبة على أمرها في الشرق إلى العيش في ظل راية إسلامية ، ولو كان هؤلاء المسلمون من الشعوب المغولية). (الإسماعيليون والمغول للسيد حسن الأمين/285)

ص: 164

الفصل الرابع: العلامة الحلي يواصل جهود المحقق الطوسي رحمه الله علیه

اشارة

ص: 165

ص: 166

1- خصائص شخصية العلامة الحلي رحمه الله علیه

منذ أشرقت على العراق شمس النبوة ، وحطت فيه شمس الإمامة ، كان وما زال مركز إشعاع ومنبع هداية ، وكان لمدينة الحلة الفيحاء من ذلك نصيب وافر فلو لم يكن لها إلا العلامة الحلي رحمه الله علیه لكفاها فخراً !

الفقيه المرجع ، والفيلسوف الناقد ، والعالم الموسوعي ، وصاحب الشخصية المميزة ، التي شغفت أحباءها وأثرت في أعدائها .

كان العلامة رحمه الله علیه أعجوبة في الذكاء والحفظ ، وتوقد الذهن ، وعمق الفكر ، وسعة الصدر ، وهو أول من عرف بلقب(آية اللّه) وقد ألف العديد من كتبه في أسفاره مع السلطان أو في سفره الى الحج وزيارة قبر النبي والأئمة (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وكان يصحب معه مكتبته التي يحتاج اليها على بضعة جمال ، لكن ما يحمله صدره تعجز عن حمله مئات الجمال !

قال الصفدي في الوافي:13/54: (الحسن بن يوسف بن المطهر الإمام العلامة ذو الفنون ، جمال الدين ابن المطهر الأسدي الحلي المعتزلي(!) عالم الشيعة وفقيههم ، صاحب التصانيف التي اشتهرت في حياته . تقدم في دولة خربندا تقدماً زائداً ، وكان له مماليك وإدارات كثيرة وأملاك جيدة ، وكان يصنف وهو راكب ! شرَحَ مختصر ابن الحاجب ، وهو مشهور في حياته). انتهى.

وعندما زار المحقق الطوسي رحمه الله علیه الحلة ، حضر درس المحقق المرجع الحلي رحمه الله علیه صاحب كتاب شرائع الإسلام ، ولم يقبل أن يقطع درسه وكان في مسألة القبلة فذكر الأستاذ استحباب التياسر في القبلة لأهل العراق ، فقال المحقق الطوسي: لا وجه للإستحباب لأن التياسر إن كان من القبلة إلى غيرها فهو حرام وإن كان من غيرها

ص: 167

إليها فواجب . فقال المحقق في الحال: بل منها إليها ، فسكت المحقق الطوسي ، ثم ألف المحقق في ذلك رسالة وأرسلها إليه فاستحسنها ، وقد أوردها ابن فهد في المهذب . (معجم رجال الحديث:5/30) .

وقال السيد الأمين في أعيان الشيعة:9/418: (الإستحباب المذكور مبني على أن الكعبة المعظمة هي قبلة القريب والحرم قبلة البعيد ، والحرم عن يسار الكعبة ثمانية أميال وعن يمينها أربعة أميال فإذا انحرف العراقي إلى جهة يساره لم يخرج عن سمت القبلة لاتساع المسافة فيما يستقبل ، فالانحراف اليسير إلى بعض جهاتها لايخرج عنها بل يكون منها إليها).

وقد التقى المحقق الطوسي رحمه الله علیه في سفره بالعلامة الحلي رحمه الله علیه وكان في مقتبل عمره فأعجبه نبوغه وتفوقه العلمي ، ولما سئل بعد زيارته عما شاهد في الحلة قال: رأيت خِرِّيتاً (خبيراً) ماهراً ، وعالماً إذا جاهد فاق . قصد بقوله خِرِّيتاً المحقق الحلي صاحب الشرائع ، وبالعالم العلامة الحلي . (أعيان الشيعة:5/396).

2- دراسة العلامة عند المحقق الطوسي رحمه الله علیه

من المتفق عليه أن العلامة الحلي رحمه الله علیه ولد في سنة ست مئة وبضع وأربعين ، وقيل ثمان وأربعين ، وكان مجئ المحقق الطوسي مع الطاغية هلاكو سنة655 فمن الممكن أنه زار الحلة في ذلك الوقت بعد احتلال المغول لبغداد ، وكان عمر العلامة الحلي يومذاك أقل من عشر سنين .

لكن الظاهر أن زيارة المحقق الطوسي رحمه الله علیه للحلة عندما جاء الى العراق موفداً من هولاكو ليتفقد أوضاعه ، وهو المفهوم من قول العلامة رحمه الله علیه : (وكان الشيخ الأعظم خواجة نصير الدين محمد الطوسي رحمه الله علیه وزير هلاكو خان فأنفذه إلى العراق فحضر الحلة ، فاجتمع عنده فقهاء الحلة...فأشار إلى الفقيه نجم الدين

ص: 168

جعفر بن سعيد وقال: من أعلم هؤلاء الجماعة؟ فقال له: كلهم فاضلون علماء إن كان واحد منهم مبرَّزاً في فن كان الآخر مبرزاً في فن آخر ، فقال: من أعلمهم بالأصولين؟ فأشار إلى والدي سديد الدين يوسف بن المطهر وإلى الفقيه مفيد الدين بن محمد بن جهيم فقال: هذان أعلم الجماعة بعلم الكلام وأصول الفقه) (مجمع الفائدة:1/17، وطرائف المقال:2/242).

ويؤيده رواية ابن كثير أن المحقق الطوسي زار العراق سنة662، قال في النهاية:13/281: (وفيها (سنة 662) قدم نصير الدين الطوسي إلى بغداد من جهة هولاكو فنظر في الأوقاف وأحوال البلد...). انتهى. فيكون عمر العلامة الحلي يومذاك خمس عشرة سنة ويكون وصف المحقق الطوسي له بأنه (عالمٌ إذا جاهد فاق)شهادةً بنبوغه المبكر ، وأنه كان على صغر سنةه ثاني شخصية جذبت نظره بعد خاله المحقق الحلي رحمه الله علیه .

وانفرد الحر العاملي (رحمه اللّه) بقوله إن الطوسي درس الفقه على العلامة ! قال في أمل الآمل:2/81: ( الشيخ العلامة جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر الحلي . فاضل عالم علامة العلماء ، محقق مدقق ثقة ثقة فقيه محدث متكلم ماهر ، جليل القدر عظيم الشأن رفيع المنزلة ، لا نظير له في الفنون والعلوم العقليات والنقليات ، وفضائله ومحاسنه أكثر من أن تحصى. قرأ على المحقق الحلي والمحقق الطوسي في الكلام وغيره من العقليات ، وقرأ عليه في الفقه المحقق الطوسي . وقرأ العلامة أيضاً على جماعة كثيرين جداً من العامة والخاصة ). انتهى. ولم يذكر الحر العاملي مصدره ، ولو صح فمعناه أن المحقق الطوسي كان يذاكر العلامة في بعض مسائل الفقه ، لأن أكثر شغله في سنواته الأخيرة كان في الفلك والرياضيات وغيرها .

أما دراسة العلامة على المحقق الطوسي فكانت في أواخر حياته عندما ترك مراغة وسكن في بغداد ، ويدل عليه قول العلامة رحمه الله علیه في إجازته لبني زهرة:

( فمن ذلك جميع ما صنفه والدي سديد الدين يوسف بن علي بن المطهر

ص: 169

قدس اللّه روحه وقرأه ورواه وأجيز له روايته عني عنه . ومن ذلك جميع ما صنفه الشيخ السعيد المعظم خواجة نصير الملة والحق والدين محمد بن الحسن الطوسي قدس اللّه روحه وقرأه ورواه عني عنه ، وكان هذا الشيخ أفضل أهل عصره في العلوم العقلية والنقلية ، وله مصنفات كثيرة في العلوم الحكمية والأحكام الشرعية على مذهب الإمامية ، وكان أشرف من شاهدناه في الأخلاق نور اللّه ضريحه. قرأت عليه إلهيات الشفا لأبي علي بن سينا ، وبعض التذكرة في الهيئة تصنيفه (رحمه اللّه) ، ثم أدركه الموت المحتوم قدس اللّه روحه . ومن ذلك جميع ما صنفه الشيخ السعيد نجم الدين أبو القاسم جعفر بن الحسن بن سعيد وقرأه ورواه وأجيز له روايته ، عني عنه وهذا الشيخ كان أفضل أهل عصره في الفقه . ومن ذلك جميع ما صنفه السيدان الكبيران السعيدان رضي الدين علي وجمال الدين أحمد ابني موسى بن طاوس الحسنيان قدس اللّه روحيهما وروياه وقرآه وأجيز لهما روايته عني عنهما وهذان السيدان زاهدان عابدان ورعان وكان رضي الدين علي (رحمه اللّه) صاحب كرامات حكى لي بعضها وروى لي والدي (رحمه اللّه) عنه البعض الآخر).(البحار:104/62).

ويظهر من ذكر العلامة أستاذه نصير الدين بعد والده وقبل خاله المحقق الحلي مكانته الخاصة عنده . وقال عنه مرة: (هو أستاذ البشر والعقل الحادي عشر).(أعيان الشيعة:9/414). بل صرح بأفضلية نصير الدين على خاله في علم الهيئة ، وربما مطلقاً فقال (رحمه اللّه) :(وأهل هذا العلم (علم الهيئة)في هذا العصر قليل جداً ورأيناه منحصراً في خالي الذي ما سمح الزمان بمثله ، بعد نصير الملة والدين . (مجمع الفائدة:1/هامش37).

وقد يكون العلامة رحمه الله علیه شرح كتاب المحقق تجريد الإعتقاد قبل تلك الفترة ، لكن يصعب قبول ما نقله بعضهم عن مصدر بالفارسية ، أن المحقق الطوسي قال: لولا هذا

ص: 170

الشاب العربي لكانت كتبي عصيَّة كبخاتي خراسان ! أي جِمالها .(إرشاد الأذهان:1/67، عن مخطوط اللآلي المنتظمة والدرر الثمينة/62).

3- العلامة الحلي رحمه الله علیه خليفة المحقق الطوسي رحمه الله علیه

اشارة

مع أن الأدوار التي قام بها تلاميذ المرجع العبقري نصير الدين رحمه الله علیه كانت مهمة، سواءً في مجال الطب والفلك والرياضيات والسياسة وغيرها.. فإن خلافته العلمية العقائدية محصورة بالعلامة الحلي رحمه الله علیه ، وقد ساعد على ذلك أن العلامة درس عليه في مرحلة أوْج عبقريته وتجاربه ، فاستفاد من علمه ومن خبراته أيضاً . وطبيعي أن يكون هولاكو وأولاده وشخصيات الدولة عرفوا إعجابه به وثقته الكاملة بعقله وعلمه وتقواه ، وأن يكون عرَّفه لهم ، فهو الوحيد الذي يستحق خلافة نصير الدين الطوسي رحمه الله علیه بتعبير مطلق ، أما الآخرون فيصح وصفهم بأنهم خلفاء نسبيون لنصير الدين الطوسي رحمه الله علیه .

السادة آل طاووس وبقية علماء الحلة

لايفوتنا أن نذكر في تلاميذ المحقق الطوسي ومعتمديه رحمه الله علیه علماء الحلة ، خاصة السادة من آل طاووس كالسيد علي بن موسى بن طاووس صاحب كتاب الطرائف واليقين والإقبال ، وقد كان له دور فكري واجتماعي وروحي واسع في العراق وغيره وكان من الشخصيات المعروفة في بغداد من زمن الخليفة العباسي المستنصر ، فقد كان صهر وزيره ناصر بن مهدي، وعرض عليه الخليفة بعده أن يكون وزيره فلم يقبل ثم طلبه للإفتاء فلم يقبل أن يتقلد منصباً ، وترك بغداد وسكن الحلة . وهو من شيوخ العلامة الحلي رحمه الله علیه قال عنه:( السيد السند رضي الدين علي بن موسى بن طاووس ، كان من أعبد من رأيناه من أهل زمانه ، وقال في إجازته لبني زهرة: ومن ذلك جميع ما صنفه السيدان الكبيران السعيدان رضي الدين علي وجمال الدين أحمد ابنا موسى

ص: 171

بن طاووس الحسنيان قدس اللّه روحهما وروياه وأجيز لهما روايته عني ، عنهما ، وهذان السيدان زاهدان عابدان ورعان ، وكان رضي الدين علي صاحب كرامات حكي لي بعضها وروى لي والدي البعض الآخر).(فرحة الغري/130) (اليقين لابن طاووس/61).

وعند احتلال المغول لبغداد ، كان للسيد ابن طاوس دورٌ مع علماء الحلة في تجنيب الحلة وكربلاء والنجف حملة المغول. ثم اختاره نصير الدين لنقابة العلويين فقبل ذلك. قال ابن الفوطي إنه ولي نقابة الطالبيين بالعراق سنة661وتوفي سنة664 .

وقد تولى نقابة العلويين عدة أشخاص من السادة آل طاووس ، منهم أخوه السيد أحمد ، ومنهم تلميذه وابن أخيه السيد عبد الكريم صاحب فرحة الغري ، وهو تلميذ نصير الدين الطوسي رحمه الله علیه (فرحة الغري/23) وقد روى عن أستاذه النصير كثيراً قال في فرحة الغري/67: (وأخبرني الوزير السعيد خاتم العلماء نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن الطوسي طيب اللّه مضجعه عن والده... وساق السند الى أبي مطر من أصحاب أمير المؤمنين، أنه (عليه السلام) قال: فإذا مت فاقتلوه فإذا مت فادفنوني في هذا الظهر في قبر أخويَّ هود وصالح) . وفي فرحة الغري/87: (وأخبرني الوزير المعظم نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن الطوسي ، عن والده ، عن فضل اللّه ، عن ذي الفقار ، عن الطوسي ، عن المفيد..). وساق السند الى الإمام الصادق (عليه السلام) .

أولاد المحقق الطوسي رحمه الله علیه

وهم علي ولقبه صدر الدين ، وحسن ولقبه الأصيل، وأحمد ولقبه فخر الدين ، ويمكن عدُّهم من خلفائه النسبيين ، وقد نصت المصادر على أن كبيرهم صدر الدين علي ، تولى أكثر مناصب أبيه من الرصد والمراكز العلمية وأوقاف البلاد الإسلامية ، لكنه لم يعش طويلاً بعده . قال في الوافي:1/147: (وكان النصير قد قدم من مراغة إلى بغداد ومعه جماعة كثيرة من تلامذته وأصحابه فأقام بها مدة أشهر ومات وخلف من الأولاد صدر الدين علي

ص: 172

والأصيل حسن والفخر أحمد ، وولي صدر الدين علي بعد أبيه غالب مناصبه فلما مات ولي مناصبه أخوه الأصيل ).

وقال ابن حجر في الدرر الكامنة:1/464: (أصيل بن الشيخ نصير الدين محمد بن محمد الطوسي ، كان كبير القدر عند المُغُل ، وولي نظر الأوقاف والرصد ، ومات في صفر سنة715 . وقال السيد تاج الدين بن محمد بن حمزة بن زهرة الحسيني في أوائل كتابه غاية الإختصار في البيوتات العلوية المحفوظة من الغبار ما لفظه: ذكر الباعث الذي حداني على هذا الكتاب أنه لما وردت إلى مدينة السلام صحبة الحضرة السلطانية المراد به غازان سلطان المغول ، ورأيت المولى الوزير الأعظم الصاحب الكبير المعظم ، ملك أفاضل الحكماء ، قدوة أماثل العلماء ، مختار الملوك عضد الوزراء ، أصيل الحق والدين ، نصير الإسلام والمسلمين ، الذي أنشر ميت الفواضل ونشر طي الفضائل ، وأقام مراسيم العلوم في عصر كسدت فيه سوقها ، وأنهض معقدات المحاسن بعد ما عجزت عن حمل أجسامها سوقها ، وذب عن الأحرار في زمان هم فيه أقل من القليل...أبو محمد الحسن بن مولانا الإمام الأعظم إمام العلماء وقدوة الفضلاء وسيد الوزراء فريد دهره علماً وفضلاً ، وقريع عصره جلالة ونبلاً ، نصير الحق والدين ملاذ الإسلام والمسلمين ، أبي جعفر محمد بن أبي الفضل الطوسي قدس اللّه روحه ، ونور ضريحه... حضرت مجلسه الأرفع الأسمى ، ومثلث بحضرته الجليلة العظمى ، فشنف مسامعي بمفاوضات أوعبت منها درراً... فقال لي في أثناء المفاوضة: أريد أن تضع لي كتاباً في النسب العلوي يشتمل على أنساب بني علي لأقف منه على بيوت العلويين ، فأجبته بالسمع والطاعة وبذلت له استنفاد الوسع والإستطاعة..). (أعيان الشيعة:5/269).

وقال ابن الفوطي في حوادث سنة687: (وفيها كُفَّت يد صدر الدين وإخوته أولاد خواجة نصير الدين الطوسي عن النظر في وقوف العراق، وأعيد الأمر فيها إلى حكام

ص: 173

بغداد ، ثم عاد الأمر إليهم في سنة688). (أعيان الشيعة:3/150).

أقول: وقع أولاد نصير الدين رحمه الله علیه في اشتباه كبير حيث ابتلوا ثلاثتهم بأوقاف العراق وإيران وتركيا وغيرها ، ووقعوا في مشاكل مع الحكام ومع علماء المستنصرية من أتباع المذاهب الأربعة وطلبتهم !

ويظهر من نص الفوطي وغيره أن حكام بغداد كانوا يطمعون في السيطرة على الأوقاف ، وأنهم أخذوا منها حصة كبيرة للدولة فلم يكف الباقي لإدارة المساجد والمدارس الدينية خاصة المستنصرية ! يضاف الى ذلك الحسد لأبناء نصير الدين الطوسي ، والتعصب ضد الشيعة .

وقد وصف ابن الفوطي احتجاجاً لفقهاء المذاهب وطلبة المستنصرية ، ضد المدير العام للأوقاف الذي سماه (جمال الدين الدستجردي) قال ابن الفوطي في حوادث سنة683: (وفيها اجتمع الفقهاء بالمستنصرية على جمال الدين الدستجردي صدر الوقوف ونالوا منه وأسمعوه قبيح الكلام ، لأنهم كانوا قد قيل لهم: من يرضى بالخبز وحده وإلا فما عندنا غيره ! فحماه منهم الشيخ ظهير الدين البخاري المدرس وخلَّصه من أيديهم فاتصل ذلك بالحكام فعزلوه ورتبوا رضي الدين بن سعيد فلم ينهض بأمور الوقف ، فأعيد جمال الدين الدستجردي . ووصل بعد ذلك فخر الدين أحمد بن خواجة نصير الدين الطوسي وقد أعيد أمر الوقوف بالممالك جميعها اليه ، وحذفت الحصة الديوانية في الوقوف ، ووُفِّرت على أربابها ، فعيَّن علي مجد الدين بن إسماعيل بن الياس صدراً بالوقوف عوضاً عن جمال الدين الدستجردي ، فعيَّن علي عز الدين محمد بن شمام نائباً عنه فيها..).انتهى.

وقد يتصور بعضهم أن الدستجردي هو ابن نصير الدين رحمه الله علیه لأن نسبته الى دستجر من أعمال قم كنسبتهم ، لكن ليس فيهم من لقبه جمال الدين ، ولايعلم أن جمال الدين هذا من أقاربهم ، حيث لم أجد له ترجمة في مصادرنا! بل وجدت في طبقات

ص: 174

الحنفية/94 ، شخصاً من سكنة بغداد منسوباً الى دستجرد أخرى في أفغانستان من توابع بلخ وليست من توابع قم وهو (محمد بن علي بن عبد اللّه بن أبي حنيفة بن أبي جعفر أبو بكر الدستجردي الفقيه من أهل بلخ ودستجرد إحدى قراها ، كان فقيهاً فاضلاً قدم بغداد في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وعشرين وخمس مائة وحدث بها). فلعل هذا من أولاده ! ومهما يكن فهذه الحادثة التي ذكرها ابن الفوطي تدل على اضطراب الأوقاف بسبب تدخل الدولة فيها ، وأن وضعها لم يستقر إلا بولاية أحمد بن نصير الدين رحمه الله علیه .وهذا يكشف أن اتهامهم لأولاد نصير الدين رحمه الله علیه بسرقة الأوقاف من كذب أعداء أبيهم وحاسديهم رحمه الله علیه ، ثم رددها الصفدي وأمثاله ! فقد نص ابن الفوطي على أن مشكلة الأوقاف أن الديوان أخذ منها حصة قد تكون أكثرها ! وليست خيانة أولاد نصير الدين رحمه الله علیه .

وقال الأتابكي في النجوم الزاهرة:9/232: (وتوفي الشيخ أصيل الدين الحسن بن الإمام العلامة نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن الطوسي البغدادي . كان عالي الهمة كبير القدر في دولة قازان ، وقدم إلى الشام ورجع معه إلى بلاده ، ولما تولى خربندا الملك ووزر تاج الدين علي شاه ، قرب أصيل الدين هذا إلى خربندا حتى ولاه نيابة السلطنة ببغداد ثم عزل وصودر ، وكان كريماً رئيساً عارفاً بعلم النجوم ، لكنه لم يبلغ فيه رتبة أبيه نصير الدين الطوسي ، على أنه كان له نظر في الأدبيات والأشعار وصنف كتبا كثيرة وكان فيه خير وشر وعدل وجور ومات ببغداد).انتهى.

لاحظ قوله: (ولاه نيابة السلطنة ببغداد ثم عزل وصودر)ولم يقل نيابة السلطنة على أي شئ ، فهو من تدليسهم ضده ! وإنما كانت تولية الأصيل ونيابته عن السلطان في الأوقاف، ثم ذكر عزل الحكام له بعد موت السلطان خدابنده (رحمه اللّه) .

أما الصفدي فحكم بخيانة أبناء الطوسي رحمه الله علیه وسرقتهم للأوقاف ! قال في الوافي:1/147: (وكان النصير قد قدم من مراغة إلى بغداد ومعه جماعة كثيرة من تلامذته وأصحابه فأقام بها مدة أشهر ومات وخلف من الأولاد صدر الدين علي والأصيل

ص: 175

حسن والفخر أحمد وولي صدر الدين علي بعد أبيه غالب مناصبه ، فلما مات ولي مناصبه أخوه الأصيل ، وقدم الشام مع غازان وحكم تلك الأيام في أوقاف دمشق وأخذ منها جملة ، ورجع مع غازان وولي نيابة بغداد مدة فأساء السيرة فعزل وصودر وأهين ، فمات غير حميد . وأما أخوهما الفخر أحمد فقتله غازان لكونه أكل أوقاف الروم وظلم). انتهى.

وعلى عادتهم في تعصبهم ضد الشيعة وذمهم الكفاءاتهم وخيارهم ، لم يذكر الصفدي مصدر هذه التهمة ! ويظهر أنها من كلامه لأنه نقل فقرة لنصير الدين من كتابه(الزيج الإلخاني)ثم قال وكان النصير... ثم تكلم عن أولاده !

وأخيراً ، فمع مكانة أولاد نصير الدين رحمه الله علیه وبراءتهم مما اتهموهم ، لكن لم يكن أحد منهم بمستوى خلافة أبيهم رحمه الله علیه ، وإن كانوا علماء بالمستوى العادي .

ذرية نصير الدين الطوسي رحمه الله علیه

قال الشيخ رضا أستاذي في الرسائل العشر للشيخ الطوسي رحمه الله علیه /58: (هذه العائلة المعروفة إلى هذا الوقت ب "نصيري" أو "خواجة نصيري" أو "نصيري طوسي" المنتشرة حالياً في أرجاء إيران المختلفة مثل طهران ، ومشهد وأصفهان وغيرهما إنما تنتسب إلى المحقق المشهور خواجة نصير الدين الطوسي672 وقد أعددت مذكرات كثيرة حول هذه العائلة ورجالها الذين كانوا يعيشون في نهاية العظمة لدى الملوك ولا سيما ملوك الصفوية مبجلين لدى البلاط ، موظفين حتى زمن قريب في الدولة ، وقد قررت لهم رواتب شهرية أو سنوية . وكل الذين سماهم العلامة الطهراني ، هم من رجال هذه الأسرة الجليلة . والمتتبع يقف على أسمائهم وأسماء آخرين منهم في كتاب"عالم آراء عباسي. ثم قال: ويبدو أن هذه الأسرة عاشت بعد المحقق الطوسي في آذربايجان، ولا سيما في مدينة "أردوباد" ثم تفرقت في البلاد).

ونبَّه الشيخ أستاذي الى خطأ نسبتهم الى المرجع الشيخ الطوسي رحمه الله علیه . انتهى.

ص: 176

وفي أعيان الشيعة:9/22: (ميرزا كافي المشهدي. توفي سنة969 في قزوين ونقل إلى المشهد الرضوي فدفن فيه . من ذرية الخواجة نصير الدين الطوسي وآباؤه وأجداده كانوا في أذربايجان قضاة ومن أهل الشرع ).

وفي الذريعة:12/273: (السياسة المحمدية ، لشمس الأفاضل الميرزا رشيد بن الشيخ يوسف بن عباس على المنتهى نسبه إلى جلال الدين بن الخواجة نصير الطوسي، دفع فيه اعتراض بعض النصارى).

وفي أعيان الشيعة:8/126: (الشيخ عبد المنان الطوسي ، كان من مدرسي أصفهان ومفسريها ومحدثيها توفي سنة1219 وله تفسير شريف ، وهو من ذرية المحقق الطوسي الخواجة نصير الدين ، وقبره في أوائل مقبرة تخت فولاد ).

وفي كشف الظنون:1/762:(ده نامه.فارسي منظوم للشيخ أوحدي المراغي المتوفى سنة697، نظمه باسم ضياء الدين يوسف من أحفاد نصير الدين الطوسي ).

وفي الذريعة:6/4: (الحاتمية: في بيان خط نصف النهار ومعرفة القبلة...ألفه باسم الخواجة ناصر الدولة والدين حاتم بيك ، والظاهر أنه بعينه هو الوزير اعتماد الدولة الأردوبادي الذي ألف الشيخ البهائي باسمه" التحفة الحاتمية"...من أعاظم أركان الدولة في عصر الشاه عباس.. وكان من أحفاد الخواجة نصير الدين الطوسي).

وفي الذريعة:9 ق2/577: ( 3183: ديوان صادق أردوبادى ، واسمه الميرزا صادق بن أخ الميرزا كافى...من أحفاد الخواجة نصير الدين الطوسي...هاجر إلى الهند970 وكان حياً في988... سافر إلى مشهد خراسان وهجا رجال الآستانة فنفوه فخرج إلى دكن.... تقرب بدكن عند نظامشاه ومات هناك حين تسلط أكبر پادشاه على البلاد).

وفي الذريعة:9 ق2/584: (ديوان صافي أردوبادي.. هو الوزير اعتماد الدولة حاتم بيگ الأردوبادي ، ينتسب إلى الخواجة نصير الدين الطوسي ، وكان ابن عم الميرزا كافي ، استوزره الشاه عباس ومات فجأة.... في1019، وحمل إلى مشهد خراسان).

وفي الذريعة:9 ق2/601: (ديوان صدر الأفاضل شيرازي ، الميرزا لطف علي 1268

ص: 177

عند أحفاده المتسمين نصيري أميني ، لأنهم ينسبون أنفسهم إلى الخواجة نصير الدين الطوسي ). وفي الذريعة أيضاً:9 ق 3/1105: ( ديوان منشى أردوبادي ، واسمه زين العابدين بن عبد الحسين النصيري منشى الممالك ، في عصر الشاه عباس ، من بيت ينسبون إلى الخواجة نصير الطوسي ).انتهى.

وختاماً نقول: مع وجود شخصيات كثيرة من النوابغ والعباقرة في الطب والفلك والرياضيات والإدارة والسياسة والفقه والتوجيه ، ومع أنهم جميعاً اغترفوا من بحر علم المحقق الطوسي رحمه الله علیه وتوجيهه وخبرته ، وقاموا بأدوار عظيمة في إغناء ثقافة المسلمين وحياتهم ، فساعد ذلك على جبران خساراتهم الفادحة من تدمير الغزو المغولي وقبله الظلم العباسي.. لكن الدور الأكبر والتأثير الأكثر كان لتلميذه العلامة الحلي رحمه الله علیه ولذلك كان جديراً بأن يوصف بأنه خليفة نصير الدين الطوسي رحمه الله علیه لأنه توفر في شخصيته مالم يتوفر في غيرها ، وأنه واصل نفس الأسلوب الذي بدأه أستاذه نصير الدين رحمه الله علیه ، فقد ركز جهده على العمل العقائدي مع الشخصيات القيادية كالسلطان وكبار معاونيه ، وزرع فيهم عقيدة التشيع والولاية لأهل البيت (عليهم السلام) والتي تعطي صاحبها احترام الإنسان وتقبل الرأي الآخر ، وتشجع فيه روح العمل والعمران والإبتكار .

**

ص: 178

4- السلطان المغولي يتشيع ويدعو للمذهب الشيعي

نبدأ بشهادة ابن بطوطة لكونه سنياً متعصباً يعيش مع عوام الناس ويكتب آراءهم ، قال في:1/149: (كان ملك العراق السلطان محمد خدابنده قد صحبه في حال كفره فقيه من الروافض الإمامية يسمى جمال الدين بن مطهر فلما أسلم السلطان المذكور وأسلمت بإسلامه التتر زاد في تعظيم هذا الفقيه فزين له مذهب الروافض وفضله في غيره ، وشرح له حال الصحابة والخلافة وقرر لديه أن أبا بكر وعمر كانا وزيرين لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأن علياً ابن عمه وصهره فهو وارث الخلافة ، ومثَّل له ذلك بما هو مألوف عنده من أن الملك الذي بيده إنما هو إرث عن أجداده وأقاربه مع حداثة عهد السلطان بالكفر وعدم معرفته بقواعد الدين (!) فأمر السلطان بحمل الناس على الرفض وكتب بذلك إلى العراقين وفارس وأذربيجان وأصفهان وكرمان وخراسان وبعث الرسل إلى البلاد فكان أول بلاد وصل إليها بغداد وشيراز وأصفهان ، فأما أهل بغداد فامتنع أهل باب الأزج منهم وهم أهل السنة وأكثرهم على مذهب الإمام أحمد بن حنبل وقالوا لا سمعٌ ولا طاعة ، وأتوا المسجد الجامع في يوم الجمعة ومعهم السلاح وبه رسول السلطان ، فلما صعد الخطيب المنبر قاموا إليه وهم اثنا عشر ألفاً بسلاحهم وهم حماة بغداد والمشار إليهم فيها ، فحلفوا له أنه إن غيَّر الخطبة المعتادة ، إن زاد فيها أو نقص منها فإنهم قاتلوه وقاتلو رسول الملك ومستسلمون بعد ذلك لما شاءه اللّه ! وكان السلطان أمر بأن تسقط أسماء الخلفاء وسائر الصحابة من الخطبة ولا يذكر إلا اسم علي ومن تبعه كعمار رضي اللّه عنهم، فخاف الخطيب من القتل وخطب الخطبة المعتادة !

ص: 179

وفعل أهل شيراز وأصفهان كفعل أهل بغداد فرجعت الرسل إلى الملك فأخبروه بما جرى في ذلك، فأمر أن يؤتى بقضاة المدن الثلاث فكان أول من أتي به منهم القاضي مجد الدين قاضي شيراز ، والسلطان إذ ذاك في موضع يعرف بقراباغ وهو موضع مصيفه ، فلما وصل القاضي أمر أن يرمي به إلى الكلاب التي عنده وهي كلاب ضخام في أعناقها السلاسل مُعدة لأكل بني آدم فإذا أوتي بمن يسلط عليه الكلاب جعل في رحبة كبيرة مطلقاً غير مقيد ، ثم بعثت تلك الكتاب عليه فيفر أمامها ولا مفر له فتدركه فتمزقه وتأكل لحمه ! فلما أرسلت الكلاب على القاضي مجد الدين ووصلت إليه بصبصت إليه وحركت أذنابها بين يديه ولم تهجم عليه بشئ ! فبلغ ذلك السلطان فخرج من داره حافي القدمين فأكبَّ على رجلي القاضي يقبلهما وأخذ بيده وخلع عليه جميع ما كان عليه من الثياب ، وهي أعظم كرامات السلطان عندهم وإذا خلع ثيابه كذلك على أحد كانت شرفاً له ولبنيه وأعقابه يتوارثونه ما دامت تلك الثياب أو شئ منها ، وأعظمها في ذلك السراويل .

ولما خلع السلطان ثيابه على القاضي مجد الدين أخذ بيده وأدخله إلى داره وأمر نساءه بتعظيمه والتبرك به ، ورجع السلطان عن مذهب الرفض وكتب إلى بلاده أن يُقَرَّ الناس على مذهب أهل السنة والجماعة ، وأجزل العطاء للقاضي وصرفه إلى بلاده مكرماً معظماً ، وأعطاه في جملة عطاياه مائة قرية من قرى جمكان ، وهو خندق بين جبلين طوله أربعة وعشرون فرسخاً يشقه نهر عظيم ، القرى منتظمة بجانبيه ، وهو أحس موضع بشيراز ومن قراه العظيمة التي تضاهي المدن قرية مَيْمَنْ وهي للقاضي المذكور ) ! انتهى.

أقول: هذا النص يدل على أن تشيع السلطان كان له وقعٌ شديد على الحنابلة

ص: 180

المتعصبين ، فباب الأزجّ محلتهم في بغداد .(السمعاني:1/119 ، ولباب ابن الأثير:1/45) وكانوا أعداء السنة والشيعة معاً ، قال في الكامل:9/551: (ولما سار الملك الرحيم عن بغداد كثرت الفتن بها ودامت بين أهل باب الأزج والأساكفة وهم السنية ، فأحرقوا عقاراً كثيراً ). انتهى.

ووصف ابن كثير علاقتهم السيئة بسنة بغداد فقال في النهاية:12/197: (منصور أبو المعالي الجيلي القاضي الملقب سيدله ، كان شافعياً في الفروع أشعرياً في الأصول وكان حاكماً بباب الأزج ، وكان بينه وبين أهل باب الأزج من الحنابلة شنآن كبير ، سمع رجلاً ينادي على حمار له ضائع فقال: يدخل الأزج ويأخذ بيد من شاء ! وقال يوما للنقيب طراد الزينبي: لو حلف إنسان أنه لا يرى إنساناً فرأى أهل باب الأزج لم يحنث... ولهذا لما مات فرحوا بموته كثيراً). (والكامل:10/227).

وكان علماء الحنابلة وأئمتهم من العجم ، ففي تاريخ الذهبي:39/89: (قال ابن السمعاني: أبو محمد عبد القادر فخر أهل جيلان إمام الحنابلة وشيخهم في عصره ، فقيه صالح ديِّن ، كثير الذكر دائم الفكر سريع الدمعة ، تفقه على المخرمي وصحب الشيخ حماد الدباس ، قال وكان يسكن باب الأزج في المدرسة التي بنوا له ، مضيت يوماً لأودع رفيقاً لي فلما انصرفنا قال لي بعض من كان معي: ترغب في زيارة عبد القادر والتبرك به فمضينا ودخلت مدرسته وكانت بكرة ، فخرج وقعد بين أصحابه وختموا القرآن فلما فرغنا أردت أن أقوم فأجلسني وقال: حتى نفرغ من الدرس ، وألقى درساً على أصحابه ما فهمت منه شيئاً ! وأعجب من هذا أن أصحابه قاموا وأعادوا ما درس لهم ، فلعلهم فهموا لإلفهم بكلامه وعبارته). انتهى.

وبهذا يتبين أن ابن بطوطة أخذ كلامه من مبالغات الحنابلة وخيالاتهم !

ويشبه كلامه كلام الصفدي في الوافي:2/129:(وكان(خدابنده)مسلماً فما زال به الإمامية إلى أن رفَّضوه ، وغيَّر شعار الخطبة وأسقط ذكر الخلفاء من الخطبة سوى

ص: 181

علي رضي اللّه عنه . وصمم أهل باب الأزج على مخالفته فما أعجبه ذلك وتنمر ورسم بإباحة مالهم ودمهم ، فعوجل بعد يومين بهيضة مزعجة داواه الرشيد فيها بمسهل منظف فخارت قواه ، وتوفي في رمضان سنة ست عشرة وسبع ماية ، ودفن بسلطانية في تربته وهو في عشر الأربعين). انتهى.

فقد كفَّر الصفدي الشيعة وأخرجهم من الملة ، وكذَّب رواية صاحبه ابن بطوطة عن الإثني عشر ألف مسلح من محلة باب الأزجّ ، وعن قاضي شيراز وكلابه المفترسة ، وتوبة السلطان المغولي وعودته الى التسنن ! واخترع بدلها موت السلطان بعد يومين من أمره بقتل الحنابلة ! ولم ينتبه الصفدي وواضعوا الرواية قبله الى أن مرسوم السلطان كان في سنة703 ، ووفاته سنة717 ، وأن مدة اليومين لاتكفي لنقش أسماء الأئمة (عليهم السلام) على العملة ، وأن تصل الى جنوب لبنان وينظم شاعرهم قصيدة في مدح السلطان كما روى الصفدي نفسه !

ولا تكفي لتأليف العلامة كتابه منهاج الكرامة سنة709 ، وانتشاره في بلاد المسلمين وتأثيره في الأوساط العلمية، وهو الأمر الذي سبب خوف ابن تيمية!

لكن ابن كثير ، وهو أشد تعصباً من الأتابكي، جعل مرسوم حذف ذكر أبي بكر وعمر من خطبة الجمعة في سنة709 ، ثم كشف لنا أن رواية ابن بطوطة عن بطولة حنابلة بغداد إنما كانت: بكاء خطيبهم ! فاستبدلوه بخطيب آخر !

قال في النهاية:14/56: (وفيها أظهر ملك التتر خربندا الرفض في بلاده وأمر الخطباء أن لا يذكروا في خطبتهم إلا علي بن أبي طالب وأهل بيته ، ولما وصل خطيب باب الأزج إلى هذا الموضع من خطبته بكى بكاءاً شديداً وبكى الناس معه ونزل ولم يتمكن من إتمام الخطبة ، فأقيم من أتمها عنه وصلى بالناس).

كما كذَّب ابن كثير رواية تراجع السلطان عن مرسومه ومذهبه، فقال في:14/77: (ثم تحول إلى الرفض وأقام شعائره في بلاده وحظي عنده الشيخ جمال الدين

ص: 182

بن مطهر الحلي تلميذ نصير الدين الطوسي وأقطعه عدة بلاد . ولم يزل على هذا المذهب الفاسد إلى أن مات في هذه السنة !). انتهى.

فالصحيح إذن أن ذلك السلطان المغولي تشرَّف بمذهب أهل البيت (عليهم السلام) على يد العلامة الحلي (رحمه اللّه) وكتب مرسوماً الى البلاد بتدريس التشيع في المدارس وإعلان معالمه ، وأنه لم تكن في بغداد ردة فعل قوية من السنيين كما زعموا ، غايته أن حنابلة باب الأزج بكى خطيبهم الحنبلي ، هذا إن صحت الرواية ! وسبب شكنا في صحتها أنهم لا بد أن يكونوا أعدوا خطيباً يقبل الإقتصار على ذكر علي والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) .

لكن عدم صحة أماني الحنابلة وتخيلاتهم لاينفي وقوع أحداث من متعصبين في غير بغداد من البلاد التي طبق فيها السلطة مرسوم السلطان ، كما سيأتي .

ص: 183

5- لماذا تشيع السلطان محمد خدابنده ؟

اشارة

ذكروا ثلاثة أمور في أسباب تشيع السلطان قازان وأخيه محمد خدابنده .

الأول: أن السلطان طلق زوجته بالثلاث وندم ، فأفتى له فقهاء المذاهب بأن طلاقه صحيح وأنها تحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره ، فأرشدوه الى العلامة الحلي رحمه الله علیه فأحضره وناظر الفقهاء وأثبت لهم بطلان الطلاق ، لأنه بلا شهود ، وأنه الطلاق بالثلاث إذا استجمع الشروط لايقع إلا طلاقاً واحداً .. الخ.

والثاني: أن السلطان زار قبر أمير المؤمنين (عليه السلام) ورأى مناماً في النجف ، فدفعه ذلك الى البحث عن مذهب التشيع ، فأعجبه وانتمى اليه .

والأمر الثالث: أن السلطان غازان خان محمود كان سنة702 في بغداد ، فاتفق أن سيداً علوياً صلى الجمعة مع السنة ، ثم صلى الظهر منفرداً فقتلوه ! فشكا ذووه إلى السلطان ، فتألم له وغضب من قتل رجل من أولاد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، لمجرد أنه إعادة صلاته ! فأخذ يبحث عن المذاهب وكان في أمرائه جماعة متشيعون منهم الأمير طرمطار بن مانجو بخشي ، وكان في خدمة السلطان من صغره وله وجه عنده فرغَّبه بمذهب التشيع فدخل فيه واهتم بالسادة وعمارة مشاهد الأئمة (عليهم السلام) وأسس دار السيادة في إصفهان وكاشان وسيواس روم ، وأوقف عليها أملاكاً كثيرة ، وكذا في مشهد أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد بقيت بعض آثاره الى الآن . وأنه بعد أن توفي سنة703 خلفه أخوه وأعلن تبنيه لمذهب الشيعي .

ومصدر هذه الروايات الثلاثة كتاب (ذيل جامع التواريخ) للمؤرخ الحافظ آبرو الخوافي ، وبعضهم نقلها عن مخطوط (اللئالي المنتظمة) . (راجع في الموضوع: خاتمة المستدرك:2/403 ، ولؤلؤة البحرين/224 ، ومجالس المؤمنين:2/571 . ومقدمة طبعة قواعد الأحكام وإرشاد الأذهان ، وشرح تبصرة المتعلمين ) .

ص: 184

قال في الذريعة:10/49: (ذيل جامع التواريخ رشيدي) الذي ألفه الوزير رشيد الدين فضل اللّه الطبيب وزير غازان ، ثم شاه خدابنده ، إلى أن قتل . (717) ، وانتهى تاريخه إلى وفاة غازان في(703) فذيَّله المؤرخ الشهير حافظ أبرو ، شهاب الدين عبد اللّه بن لطف اللّه بن عبد الرشيد الخوافي الخراساني المولود حدود (763) كان مع الأمير تيمور في حروبه في(788) بأمر شاهرُخّ كاتب (تاريخ شاهرخي في819) . وفي820 أمره السلطان شاهرُخّ بتأليف هذا الذيل فألحق بتاريخ الرشيدي من (703) إلى (795) وتوفي حافظ أبرو (834) وطبع الذيل مع مقدمة وتعليقات للدكتور خان بابا البياني في(1317ونسخة من الذيل مع أصله كتابتها حدود(1000) في (الرضوية) على ظهرها تواريخ(1105)وما بعدها ذكر في خطبة الذيل الصلاة والسلام على رسوله وخير خلقه محمد وآله أجمعين. وذكر في أثنائه: أن أول من تشيع من المغول السلطان غازان ومنشؤه قتل العلوي ببغداد في(702) لأجل صلاة الجمعة. قال: وكان شيعياً إلى أن توفي. وكذا ذكر سبب تشيع أخيه السلطان خدابنده وأتباعهما ). انتهى.

أقول: الظاهر أن تشيع السلطان خدابنده (رحمه اللّه) كان قبل ذلك ، وأنه وأخاه قازان وأباهما وجدهم هولاكو تعرفوا على المذهب وأحبوه ، وهذا يؤيد نص الشيخ البهائي وغيره . وعليه فمجالس المناظرة التي كانت تجري بحضور السلطان ، أو كان يعقدها ويدعو اليها العلامة رحمه الله علیه وفقهاء المذاهب الأربعة ، كانت عملاً مقصوداً لتكون مبرراً علمياً لإعلان تشيعه وإصدار المرسوم السلطاني بذلك .

**

وقد ذكرت الروايات عدة مناظرات لها علاقة بإعلان السلطان لتشيعه ، شارك فيها من الشيعة العلامة الحلي والعالم تاج الدين الآوي ، وقاضي القضاة نظام الدين عبد الملك المراغي الشافعي وله تآليف في المعقول ، وابن صدر جهان الحنفي البخاري وقطب الدين الشيرازي ، وعمر الكاتبي القزويني، وأحمد بن محمد الكيشي ، وركن الدين الموصلي . وذكروا أن ابن العلامة فخر المحققين كان شاباً في العشرينات من

ص: 185

عمره وحضر مع والده ، وقد يكون شارك فيها .

أما مواد هذه المناظرات فلم تذكر الروايات إلا القليل منها:

من ذلك: أن العلامة (رحمه اللّه) دخل الى مجلس السلطان وتعمد أن يأخذ حذاءه بيده ويجلس عند السلطان ، فقال الفقهاء للسلطان: ألم نقل لك إنهم ضعفاء العقول ؟! فقال الملك: سلوه ما فعل؟ فقالوا له: لأي شئ أخذت نعلك معك وهذا مما لا يليق؟! قال: خفت أن يسرقه الحنفية كما سرق أبو حنيفة نعل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فصاحت الحنفية: متى كان أبو حنيفة في زمن رسول اللّه ، بل كان تولده بعد المائة من وفاة رسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ! فقال: نسيت لعله كان السارق الشافعي ! فصاحت الشافعية وقالوا: كان تولد الشافعي في يوم وفاة أبي حنيفة ، وكان نشوؤه في المائتين من وفاة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: لعله كان مالك ! فقالت المالكية بمثل ما قالته الحنفية . فقال: لعله كان أحمد بن حنبل ! فقالوا بمثل ما قالته الشافعية .

فتوجه العلامة إلى الملك فقال: أيها الملك علمت أن رؤساء المذاهب الأربعة لم يكن أحدهم في زمن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ولا في زمن الصحابة ! فهذه إحدى بدعهم أنهم اختاروا من مجتهديهم هؤلاء الأربعة ، ولو كان منهم من كان أفضل منهم بمراتب لايجوِّزون أن يجتهد بخلاف ما أفتاه واحد منهم .

فقال الملك: ما كان واحد منهم في زمن رسول اللّه والصحابة؟ فقال الجميع: لا . فقال : ونحن معاشر الشيعة تابعون لأمير المؤمنين (عليه السلام) نفس رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وأخيه وابن عمه ووصيه (عليه السلام) . وعلى أي حال فالطلاق الذي أوقعه الملك باطل لأنه لم تتحقق شروطه ومنها العدلان فهل قال الملك بمحضرهما؟قال: لا.وشرع في البحث).

ومن ذلك: أن العلامة خطب بعد انتصاره في المناظرة ، فصلى على النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وعلى الأئمة الإثني عشر (عليهم السلام) فاعترض السيد ركن الدين الموصلي وقال: ما الدليل على جواز الصلاة على غير الأنبياء ؟ فقرأ العلامة في جوابه مباشرةً قوله تعالى: الَّذِينَ إذا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ

ص: 186

رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ . فقال: أي مصيبة أصابت علياً وأولاده ليستوجبوا بها الصلاة؟ فذكر له العلامة مصائبهم المشهورة وقال:وأي مصيبة أعظم عليهم وأشنع أن حصل من ذراريهم مثل الذي يرجح المنافقين الجهال المستوجبين اللعنة والنكال عليهم ! فتعجب الحاضرون من قوة جواب العلامة وضحكوا على الموصلي . ونظم بعض الحضار الشعراء في ذلك المجلس هذين البيتين في شأن هذا السيد:

إذا العلويُّ تابع ناصبياً *** لمذهبه فما هو من أبيهِ

وكان الكلب خيراً منه حقاً *** لأن الكلب طبعُ أبيه فيه !

ومن ذلك: أن أحدهم سأل في المجلس عن جواز نكاح البنت المتولدة من الزنا على مذهب الشافعي فقرره القاضي وقال: هو معارض بمسألة نكاح الأخت والأم في مذهب الحنفية ، فأنكر ابن صدر جهان ذلك ، فقرأ القاضي من منظومة أبي حنيفة: وليس في لواطة من حدِّ... ولا بوطئ الأخت بعد عقدِ. فأفحموا وسكتوا .

ومن ذلك: أنه كان مع العلامة رجل ظريف يدعى الملا محسن الكاشاني ، فلما تشيع السلطان قال له الملا محسن:أريد أن أصلي ركعتين على مذهب الفقهاء الأربعة وركعتين على المذهب الجعفري ، وأجعل السلطان حكماً بصحة أي الصلاتين ! ثم قال: أبو حنيفة مع أحد الفقهاء الأربعة يجوِّز الوضوء بالنبيذ ، ويقول إن الجلد يطهر بالدباغة ، وإنه يجوز بدل قراءة الحمد وسورة قراءة آية واحدة حتى إذا كانت بالترجمة، ويجوِّز السجود على نجاسة الكلب ، ويجوِّز بدل السلام بعد التشهد إخراج الريح ! وقد روى الذهبي وغيره أن أبا المعالي الجويني أقنع السلطان خوارزم شاه التركي ببطلان مذهب أبي حنيفة ، بهذه الفتاوى له في الوضوء !

وقد اعتمد السيد رضا الصدر (رحمه اللّه) في مقدمته لطبعة نهج الصدق ، على رواية تقول إن السلطان خدابنده أصيب بصدمة من تناقضات المذاهب وبعض فتاويها ، فبقي متحيراً في اختيار المذهب ثلاث سنوات فاقترح عليه أحد أمرائه المسمى طي مطاز اختيار مذهب الشيعة لأن الملك غازان كان أعقل أهل زمانه وأكملهم وقد اختار

ص: 187

مذهب الشيعة ، فلم يعجب الشاه كلامه وطلب من العلامة أن يؤلف له كتاباً في التشيع فكتب له(نهج الحق وكشف الصدق) و(منهاج الكرامة) وزاره في عاصمته السلطانية وأهداهما له ، وجرت هناك مناظراته مع علماء المذاهب .

ولا يمكن الأخذ بهذه الرواية لأن السلطان خدابنده وأسرته كانوا من قديم يعرفون التشيع وعلماء الشيعة والعلامة الحلي رحمه الله علیه جيداً .

وذكر السيد الأمين في أعيان الشيعة:5/399 ، أنه توجد مؤشرات على أن المناظرة جرت في بغداد وقال: (قال في الروضات: وتقدم العلامة عند هذا السلطان على سائر علماء حضرته ، مثل القاضي ناصر الدين البيضاوي ، والقاضي عضد الدين الإيجي ، ومحمد بن محمود الآملي صاحب كتاب نفائس الفنون وشرح المختصر وغيره ، والشيخ نظام الدين عبد الملك المراغي من أفاضل الشافعية ، والمولى بدر الدين الشوشتري، والمولى عز الدين الإيجي، والسيد برهان الدين العبري، وغيرهم ، وكان في القرب والمنزلة عند السلطان المذكور بحيث كان لا يرضى أن يفارقه في حضر ولا سفر، بل نقل أنه أمر له ولتلاميذه بمدرسة سيارة من الخيام المعمولة من الكرباس الغليظ تنتقل بانتقاله أينما سافر معه ، يدل على ذلك ما وجد في آخر بعض مؤلفاته أنه وقع الفراع منه في المدرسة السيارة السلطانية في كرمانشاهان).

وأضاف السيد الأمين: (وفي مدة إقامته في صحبة السلطان المذكور ألف له عدة كتب مثل كتاب منهاج الكرامة ، وكتاب كشف الحق ، ورسالة نفي الجبر ورسالة حكمة وقوع النسخ ، التي سأله عنها السلطان . وأكمل هناك الألف الأول من كتاب الألفين . قال في مقدمة كشف الحق: وامتثلت فيه مرسوم سلطان وجه الأرض الباقية دولته إلى يوم النشر والعرض ، سلطان السلاطين ، خاقان الخواقين ، مالك رقاب العباد وحاكمهم ، وحافظ أهل البلاد وراحمهم ، المظفر على جميع الأعداء ، المنصور من إله السماء ، المؤيد بالنفس القدسية والرياسة الملكية ، الواصل بفكره العالي إلى أسنى مراتب المعالي ، البالغ بحدسه الصائب إلى معرفة الشهب الثواقب ،

ص: 188

غياث الحق والدين الجايتو خربندا محمد ، خلد اللّه ملكه إلى يوم الدين ، وقرن دولته بالبقاء والنصر والتمكين ، وجعلت ثواب هذا الكتاب واصلاً اليه ، أعاد اللّه بركاته عليه بمحمد وآله الطاهرين، صلوات اللّه عليهم أجمعين . وقال في أول منهاج الكرامة: فهذه رسالة شريفة ومقالة لطيفة ، إلى أن قال: خدمت بها خزانة السلطان الأعظم...الخ. ثم قال السيد الأمين: في آخر الموجود من كتاب الألفين: فهذا آخر ما أردنا إيراده في هذا الكتاب وذلك في غرة رمضان المبارك سنة712، وكتب حسن بن مطهر ببلدة جرجان في صحبة السلطان الأعظم غياث الدين محمد أولجايتو خلد اللّه ملكه...وصنف في سفره ذلك الرسالة السعدية ، ولعله ألف في سفره ذلك الرسالة التي في جواب سؤالين سأل عنهما الخواجة رشيد الدين فضل اللّه الطبيب الهمذاني وزير غازان، الذي اجتمع به في ذلك السفر الآتي ذكرها في مؤلفاته. قال في مقدمتها كما في النسخة التي رأيناها في طهران في مكتبة الشيخ علي المدرس ما لفظه: يقول العبد الفقير إلى اللّه تعالى حسن بن يوسف بن المطهر: إنني لما أمرت بالحضور بين يدي الدركاه المعظمة الممجدة الإيلخانية ، أيد اللّه سلطانها وشيد أركانها...الخ.).

ص: 189

6- الوجه الشرعي لتعظيم العلامة للسلطان المغولي

الوجه فيه أن باب التقية مع السلطان واسع، ففي الكافي:2/217، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال:( التقية من دين اللّه . قلت: من دين اللّه؟ قال: إي واللّه من دين اللّه ولقد قال يوسف: أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ، واللّه ما كانوا سرقوا شيئاً ! ولقد قال إبراهيم:إِنِّي سَقِيمٌ ، واللّه ما كان سقيماً.

وعنه (عليه السلام) قال: ما بلغت تقية أحد تقيةَ أصحاب الكهف ، إنْ كانوا ليشهدون الأعياد ويشدون الزنانير(فيها الصلبان) فأعطاهم اللّه أجرهم مرتين) .انتهى.

وفي قصة إبراهيم (عليه السلام) مع الملك القبطي:(فسار إبراهيم (عليه السلام) بجميع ما معه وخرج الملك معه يمشي خلف إبراهيم إعظاماً لإبراهيم وهيبة له ، فأوحى اللّه تبارك وتعالى إلى إبراهيم أن: قف ولا تمش قدام الجبار المتسلط ويمشي هو خلفك ، ولكن اجعله أمامك وامش خلفه وعظمه وهبه ، فإنه مسلط ولا بد من إمرة في الأرض برة أو فاجرة! فوقف إبراهيم (عليه السلام) وقال للملك:إمض فإن إلهي أوحى إلي الساعة أن أعظمك وأهابك وأن أقدمك أمامي وأمشي خلفك إجلالاً لك ، فقال له الملك: أوحى إليك بهذا ؟ فقال له إبراهيم: نعم ، فقال له الملك: أشهد أن إلهك لرفيق حليم كريم ، وأنك ترغبني في دينك ، قال: وودعه الملك فسار إبراهيم حتى نزل بأعلى الشامات وخلف لوط في أدنى الشامات). (الكافي:8/372) .

أضف الى ذلك أن العلامة رحمه الله علیه له هدف مهمُّ من هذا التبجيل والتعظيم ، وهو تشجيع السلطان في تبني المذهب الحق ، وأن تأخذ كتبه طريقها بمراسيم سلطانية الى المراكز والأوساط العلمية ، وهذا ما حصل والحمد للّه. لهذا أهدى عدداً من كتبه الى خزانة السلطان ، يشكر له بذلك تبنيه لنشر مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وليأخذ الكتاب صفة الرسمية في معاهد الدولة ، ومنها كتبٌ ألفها بطلب السلطان نفسه ، فكان طبيعياً أن يهديها الى خزانته .

**

ص: 190

الفصل الخامس:عامل مهم في صناعة التاريخ لم يعرفه المؤرخون

اشارة

ص: 191

ص: 192

1- سياسة إجبار الشيعة على ولاية أبي بكر وعمر !

يقول بعض الباحثين: من الخطأ تفسير التاريخ بعامل الصراع المذهبي وتصوير أن كل أحداثه كان يحركها الصراع السني الشيعي !

فالقضية انتهت من يومها ، بعد أن رضي علي (عليه السلام) وبايع أبا بكر وعمر .

والقضية انتهت ، من يوم انتهت الدولة الدينية وجاءت الدولة العصرية .

والقضية انتهت ، من فكر الجيل المعاصر الذي يهتم بالقضايا المعاصرة ، ولا يهتم بالتسنن والتشيع ، ولا بالخلاف الذي كان بين علي وأبي بكر وعمر .

والقضية انتهت ، حيث بدأ العالم في الغرب والشرق يتشكل في أوطان ومجموعات بشرية ، تتعايش وتتعاون وتتحد على أساس الحقوق الإنسانية في الحرية والديمقراطية والمساواة ، بعيداً عن الإنتماء القومي والديني والمذهبي !

يقول مثل هذا المثقف: إن تفسير تاريخنا وحاضرنا بالعامل المذهبي ، مضافاً الى أنه خطأ من ناحية علمية ، فهو خطرٌ على المجتمع لأنه يثير حساسيات ماضية ، ويحيي أضغاناً زائلة ، ويبث الفرقة بين الناس !

نقول لهؤلاء: شكراً لكم على هذا الكلام الجميل ، لكنه إنما ينطبق على المنفتحين مثلكم على مفاهيم العصر ، وحقوق الإنسان ، والتعددية والتعايش مع من يخالفهم في الرأي والمذهب .. لكن كم يبلغ هؤلاء في من حولكم؟!

إنهم نسبة قليلة ضئيلة أيها السادة ، أما عامة الناس وملايينهم الذين يعيشون في الرباط والقاهرة وبيروت وبغداد وطهران وكراتشي وجاوة ، فهو عندهم كلامٌ نظري مفصولٌ عن الواقع ، والواقع عندهم ضده تماماً !

إنه كلامٌ فيما ينبغي ، لكن مشكلتنا ما هو موجود الآن والذي هو ابن

ص: 193

الماضي القريب ، وحفيد الماضي البعيد !

فالواقع هو الديكتاتورية.. وليس كلامنا عن الحكومات بل عن المسلمين ! فإن واقعهم الفرض بالجبر والقهر ، والتعتيم والعزل !

الجبر على أن تتولى أبا بكر وعمر وتعتقد فيهما في داخل عقلك وقلبك ما يفرضونه عليك ! وإلا ، فجزاؤك القمع والقهر والحرمان من الحقوق المدنية بل من حق الحياة ، لأنهم يُفْتُونَ بهدر دمك ووجوب قتلك ، وبأن أموالك غنائم شرعية حلالٌ زلالٌ لهم ، وعِرْضُكَ أي زوجتك وأختك وأمك ، يَصِرْنَ إماءً مملوكات شرعاً لمن يستولي عليهن ، ولا يحتاجون الى عقد زواج عليهن ولا عقد إجارة ليأمرونهنَّ بخدمته !

يقول أصحاب الكلام الشاعري الجميل: هذا كلامٌ فيه مبالغة وتضخيم !

ونقول لهم: نعذركم لأنكم لم تتطلعوا على ملفات محاكم البلد الفلاني ومئات أحكام الإعدام التي أصدرها القضاة بتهمة المساس بأبي بكر وعمر !

ولا اطلعتم على فتاوى تكفير ملايين المسلمين ومئات ملايينهم وهدر دمائهم بسبب أنهم لا يعتقدون ما يعتقده أصحاب الفتاوى في أبي بكر وعمر !

ولا اطلعتم على سياسة الطالبان في أفغانستان ودماء ألوف الشيعة التي أراقوها ونسائهم التي سَبَوْهَا واسْتَرَقُّوها ، بسبب أبي بكر وعمر !

ولا على التطبيق العملي لفتوى الزرقاوي من جماعته وحلفائهم جماعة صدام، وما أراقوا من دماء زكية لرجال ونساء وأطفال باسم أبي بكر وعمر !

يقولون لك: هذه مواقف المتعصبين من الوهابيين السلفيين ، فلا يقاس عليها الوضع في كافة بلاد المسلمين!

نقول: نشكركم لأنكم اعترفتم بأن العامل المذهبي عامل فعالٌ في صناعة

ص: 194

الأحداث عند هؤلاء الذين تسمونهم المتعصبين ، لكن ألا ترون أن أفكارهم المتعصبة هي المسيطرة أو المتبناة في عامة البلاد ؟! فلو أن إمام مسجد صغير في مصر ، وهي ألْيَنُ البلاد السنية وأكثرها مرونةً ، قال أنا لا أعتقد بإمامة أبي بكر وعمر ورأيي فيهما سلبي ، فماذا سيكون موقف الناس منه ثم موقف السلطة ! سيفتحون عليه قضية في المحكمة أنه عدو لصحابة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وعدو للّه تعالى ولرسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) ولقرآنه ودينه! فهل هذا إلا الإكراه الفكري؟!

أليس معناه أولاً: أن حزب أبي بكر وعمر لهم الحق في السيطرة على عقلك وقلبك ، فهم لذلك يُصدرون لك الأمر أن تجعل في فكرك وشعورك عقيدة ولاية أبي بكر وعمر ، وأنهما إمامان بعد النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) .

تسألهم: أنا بشرٌ مثلكم، فلماذا تصادرون حريتي في أن أفكر وأعتقد ما يصل اليه فكري ويقتنع به شعوري ، فمن أعطاكم هذا الحق والولاية عليَّ ؟ فيقولون لك: اللّه أعطانا ذلك !

تقول لهم: ثم كيف تطلبون مني أمراً غير مقدور، فالقناعة الفكرية والحب القلبي ليس أمراً اختيارياً ! فيقولون: لا ، نحن نأمرك أن تقنع نفسك وقلبك !

أليس معناه ثانياً:أنهم حزبُ (من لم يكن معنا فهو علينا ومن كان علينا يقتل) ! وهو نفس منطق الذين هاجموا بيت علي وفاطمة (عليهما السلام) يوم وفاة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وقالوا: من لم يبايع أبا بكر فحكمه أن نحرق عليه بيته !

ومعناه ثالثاً: أن اللّه تعالى فَوَّض أبا بكر وعمر أن يفرضا على هذه الأمة بعد نبيها رأيهما ، ويحرِّما عليها الرأي الآخر تحت طائلة العقوبة بالقتل ، ولهذا كان حكم أهل البيت (عليهم السلام) والسبعين صحابياً الذين امتنعوا عن بيعة أبي بكر القتل أو الحرق ! وهذا ما لم يفوضه لنبي ولا لصحابة نبي طوال التاريخ !

ص: 195

ومعناه رابعاً: أنه لايجوز لأحد من الأمة أن يطرح الرأي الآخر ، حتى لو كان حديثاً عن وصية النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بإمامة أهل بيته (عليهم السلام) وأنها إمامة ربانية !

ومعناه خامساً: أنه لايجوز لأحد أن يتكلم بما يعتبر عند حزب أبي بكر وعمر إساءةً لهما ، حتى لو كان كلامه آيةً قرآنيةً أو حديثاً نبويأً !

معناه: أن تكون مسلماً يعني أن تقبل بمصادرة حريتك وفكرك ومشاعرك ! وأن تدخل في أمة الرأي الواحد ، وفي دولة الحزب الواحد ، وديكتاتوريته !

هذا هو واقع تاريخنا البعيد والقريب ، تاريخ الدول والحكام وعلمائهم! وهو نفسه الواقع في عصرنا ، وليس الكلام الجميل الذي يقوله المنادون بالإنسان وحقه في الرأي والتعبير !

فهل رأيت كيف عمل أتباع الخلافة وما زالوا يعملون ليفرضوا على كل الأمة إمامة أبي بكر وعمر وتقديسهما ؟ وهل اقتنعت أن خطة فرض ولايتهما كانت وما زالت عاملاً في صناعة الأحداث ؟!

2- الوحدة الإسلامية من وجهة نظر أهل البيت (عليهم السلام)

من الأدوات المهمة التي يستعملها أتباع الخلافة لقمع مخالفيهم وإجبارهم على تولي أبي بكر وعمر، شعار: الوحدة الإسلامية .

يقولون لك: ألستَ تعتقد أن وحدة الأمة الإسلامية فريضةٌ شرعية على جميع المسلمين ، ومطلبٌ حيأتي منطقيٌّ للجميع؟ فتقول: بلى ، أعتقد بذلك .

يقولون لك: إذن حَكَمْتَ على نفسك! فلا تطالب بالحرية التي تضر بالوحدة ويجب عليك أن تتولى أبا بكر وعمر ولا تمس بهما ، لأن المساس بهما يثير أولياءهما ويخرِّب الوحدة !

ص: 196

ثم يقولون لك إن من يتولونهما هم الأكثرية وعلى الأقلية أن تطيع الأكثرية !

وهو كلام ظاهره حقٌّ وباطنه باطل ، لأن نتيجته: مصادرة قناعتك وعقيدتك ومصادرة أرادتك ومصيرك !

تقول لهم: يا مسلمين ألا يوجد عندكم حلٌّ آخر ، يضمن وحدتنا ويرضيكم ولايسلبني ما منحني ربي من حرية التفكير والتعبير والإعتقاد والعبادة ؟

يقولون: لا ، لايوجد إلا ما قلنا لك !

إن الخطأ في هذا المنطق أنه يحصر مشاريع الوحدة الإسلامية والإنسانية في الإجبار على مذهب الحاكم ! وهي الوحدة التي طبقها الخلفاء بعد النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أبو بكر وعمر وعثمان وبنو أمية وبنو العباس ، ثم دولة الأدارسة في المغرب ، والأمويين في الأندلس ، والمماليك في مصر ، ودولة أبناء عثمان جُق !

وهي الوحدة التي يتبناها الوهابيون وكل الإسلاميين أصحاب مشروع الخلافة في عصرنا ، وتقوم على أساس الغلبة القبلية والقهر، وفرض البيعة بالقوة بلا شورى ولا انتخاب ولا حق في الإمتناع عن الرأي ! وبكلمة: على أساس مصادرة حرية كل من خالف الحاكم ! إنهم يريدون إعادة دورة النظام القرشي الذي أنتجته السقيفة وقمعت به الأنصار وأهل البيت (عليهم السلام) ،فكان نتيجته أن تَسَلَّطَ بنو أمية ، ثم كانت ردة الفعل فتسلط بنو عباس ، ثم تسلط العسكر من المماليك والأتراك ، حتى دفنت الخلافة العثمانية في استانبول ، بأيدي الغربيين ومساعدة الوهابيين !

أما مذهب أهل البيت (عليهم السلام) فيقدم مشروعاً للوحدة بين المسلمين أنفسهم أو بينهم وبين غيرهم ، هو الوحدة السياسية التي تخلو من القهر والغلبة ، وتحترم حرية الإنسان المسلم التي قررها له الإسلام ، في التفكير والبحث والإجتهاد ،

ص: 197

والإعتقاد والتعبير والممارسة . فهذه هي الوحدة التي دعا اليها وعمل لها أهل البيت النبوي الأطهار (عليهم السلام) بعد أن فقدت الأمة وحدتها الطبيعية بوفاة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وانتقلت الى الوحدة الجبرية بالغلبة والقهر ، وفرض مذهب الخليفة الحاكم .

3- كان التشيع دائماً طاقةً لتجديد حياة الأمة

من سنن اللّه تعالى أنه يَمُدُّ الحياة البشرية بالطاقة الجديدة دائماً ، طاقة الطبيعة المتجددة يومياً وسنوياً.. وطاقة الناس الذين يولدون فيجددون حياة الأمم والمجتمعات . وبمجموعة أخرى من عوامل استمرار الكائن الفردي أو الإجتماعي ، التي تُؤَمِّن مواصلته للحياة وتطوره وتكامله .

وعندما قال اللّه تعالى لعرب الجزيرة في أواخر حياة نبيه (صلی الله عليه وآله وسلم) : هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)؟(محمد:38) ، فهو يقصد أن هذا القانون جاهز وَسَيُفَعِّلُه اللّه تعالى في وقته! خاصةً أنه حذرهم به في سورة (محمد)التي تطلب منهم تحديد موقفهم من نبوته وعترته ، وحمل رسالته من بعده (صلی الله عليه وآله وسلم) !يقصد عز وجل أن عنده مخازن جديدة من الأمم الأخرى سيضيفها الى الأمة التي أنشأها فيمدها بدم جديد، ويكون الجيل الثاني خيراً من الأول(ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)! وليس كما زعموا أنه أفضل الأجيال !

فلو لم تدخل الشعوب الأخرى المحيطة بالجزيرة في الإسلام ، لأكلت قبائل الجزيرة بعضها بعضاً باسم الإسلام ، وأماتوه وماتوا !

كيف لا ، وهم الذين أكلوا بعضهم بالأمس في صراعات سخيفة وحروب وحشية ، من أجل متاع بألف درهم ، أو من أجل عنفوان بدوي فارغ ؟!

ص: 198

إن دخول اليمن في أواخر حياة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) في الأمة وبطريقة فيها إعجاز كان مقصوداً إلهياً لإغناء مخزون الأمة ، فلا ننسَ أن ثقل الفتوحات الإسلامية قام على أكتاف اليمانيين .

وكذلك كان دخول الشعوب المحيطة في الجزيرة في الإسلام مقصوداً إلهياً أخبر به رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وبشَّر به من أول بعثته ، فوعد أمته بلاد كسرى وقيصر، ثم دفع الأمة باتجاهه بحيث يجد الحاكم بعده نفسه مجبراً على مد الإسلام الى محيط الجزيرة ، ولهذا فرضت الفتوحات نفسها على أبي بكر وعمر رغم مخالفتهما لها ! وهذا موضوع مهم لسنا في صدد بحثه ، بل نحن بصدد بيان المخطط الإلهي لبقاء الإسلام وتجديد الطاقة والدم في الأمة بمخزون العترة النبوية ومأساتها ! فلولا وجود أهل البيت (عليهم السلام) لفرضت القبائل القرشية خلافتها بدون معارض، أو بمعارض من الأنصار لايملك بديلاً فكرياً ولا عملياً ، ولَسَارَ التاريخ بمسار آخر ، في منطقة جغرافية أقل ، وبعقلية إدارية شبيهة بتقاسم قبائل قريش للرفادة والسقاية والحجابة وراية الدفاع عن حقوق القبيلة !

ولَمَا عرفت الأمة البديل الكامل لمذاهب الخلافة ، في العقيدة والشريعة ، ولما عرفت الإجتهاد ودور العقل ، والإنفتاح على العلوم..

ولولا عليٍّ وبقية العترة النبوية (عليهم السلام) لَمَا ظهرت حقيقة زعماء قريش وفرضهم على تاريخ الأمة قانون الغلبة والتسلط والإجبار ، ومصادرة حريات الآخرين وقتلهم ! ولَمَا وجد مشروع إعادة العهد النبوي واستنقاذ الأمة من مخالب بني أمية ! ولَمَا كانت ثورة الإيرانيين على ظلم بني أمية وتقديمهم قيادة الثورة على طبق من الدماء الى العباسيين .

ولولا العترة النبوية الطاهرة (عليهم السلام) ، لَمَا كانت مأساتهم وإقصاؤهم عن الحكم ،

ص: 199

واضطهادهم وظلمهم وتقتيلهم في كل أرض وتحت كل نجم . ولَمَا وجد دويُّ هذه (التراجيديا) الدينية العميق في وجدان الأمة ، ولاتكوَّن مخزونها الفاعل في ضميرها ، وصار طاقة تحركها باتجاه التغيير والثورة .

إن كل ما نراه اليوم من غنى وتحفز في ثقافة الأمة، وهذا التطلع من مفكري الأمة ومثقفيها للتعرف على قضية أهل البيت وأطروحتهم (عليهم السلام) ..إنما جاء من قناعة الأمة بأن فكر الخلافة والإجبار قد استنفد طاقته ، فهي تبحث عن بديله التاريخي عند أهل البيت (عليهم السلام) .

وبهذا المنظار ، نجد أن التشيع كان في تاريخ الأمة وما زال ، مضخةً تُجدد دروتها الدموية كلما انخفض ضغط الأمة من تراكم الفساد وتفاقم المرض ! ونفحةً نبوية تُرَوْحِنها ، كلما دفعها هجيرها البدوي نحو اليَبَس!

ألا ترى كيف تَخَثَّر المخزون الديني والروحي والإنساني في أواخر خلافة عثمان ؟ فثار الصحابة وولوا علياً (عليه السلام) فأيقظ حيويتها وأغنى مخزونها ؟

ثم كيف انخفض مستوى الأمة الإنساني في زمن يزيد ، فأحيا مسيرتها الإمام الحسين (عليه السلام) بدمه الطاهر ، ودماء الطالبين بثاره ، وأجَّجَ فاعليتها ؟!

والى أيِّ مستوىً هابط وصلت الأمة بتهتك خلفاء بني أمية ، فضَخَّت فيها ثورة زيد بن علي (رحمه اللّه) وشعارات الحسنيين والعباسيين بثارات الحسين وظلامات أهل البيت (عليهم السلام) ، روحَ الثورة والتغيير والتجديد ؟

وعندما أفرط ملوك بني عباس بطغيانهم ، كيف مدَّت ثورات العلويين الأمة بالقيم ، وعلمتها انتزاع حقها في الثورة والتغيير ؟

وعندما غرقت الدولة العباسية في أفكار المادية اليونانية والفارسية ، كيف أثرى الإمام الرضا (عليه السلام) مخزونها من صريح الإسلام ووحي النبوة ؟

ص: 200

وعندما تهرَّأ النظام العباسي ، كيف جاءت الموجة الفاطمية من الغرب وقدمت بديلاً منافساً ، جدَّد الحياة والتفكير في الأمة ؟

ثم رفدتها موجة البويهيين ففرضت على العاصمة أن تخرج من جمودها الحنبلي ، وتعطي لمذهب أهل البيت (عليهم السلام) حريته ليغني فكرها !

وعندما ضعفت دولة البويهيين وجاءت موجة التعصب والترف السلجوقي كيف فَقَدَ جسم الأمة قدرته على المقاومة والدفاع ، فجاءتها دفعة المضادات الحيوية من وحشية المغول لتحرك كرياته البيضاء ، ولم تكن هذه الكريات المباركة إلا الشيعة ومذهب أهل البيت (عليهم السلام) ؟

وعندما زاد ضغط الصليبيين على سواحلها وأعماقها ، كيف تشكلت في دول وإمارات وكان للشيعة في حلب ومصر والشام ولبنان دور قيادة المقاومة !

ينسى أتباع الخلافة مقاومة الشيعة الفاطميين ، وقرنين من مقاومة الجيش المصري الشيعي للروم والفرنجة ، ويُطبِّلون لصلاح الدين السني ! وهل كان جيشه إلا الجيش المصري الشيعي الذي تسلق صلاح الى قيادته، وجيش الحمدانيين في حلب الذين اشترطوا على ابن الزنكي حريتهم المذهبية، فوقَّع لهم على شروطهم ؟!

ثم انظر كيف جاءت موجة الأتراك العثمانيين لضرب القوة الشيعية وفرض الخلافة السنية بكل تعصب العباسيين والأمويين ، فرافقتها موجة شيعية أقامت الدولة الصفوية لحفظ حريتها المذهبية !

وعندما انهارت الخلافة العثمانية بضغط الإنكليز وحروب الوهابيين ضدها ، ودفنوها في إستانبول ! كيف انهارت المؤسسة الدينية في العالم السني وصمدت المؤسسة الشيعية وحفظت وجودها واستقلالها ؟

ص: 201

وعندما فشلت مقاومات الأمة القومية منها واليسارية والحركات السنية، كيف ظهرت المرجعية الشيعية في إيران ، فضخَّت في الأمة روح المقاومة والحياة ؟

وعندما انهزمت الجيوش والأنظمة العربية أمام إسرائيل، كيف ظهرت موجة المقاومة الحسينية في شيعة لبنان فهزمت فئة قليلة دولة إسرائيل الأسطورية ، وضخَّت في الأمة الدم الجديد للحياة والمقاومة ؟!

وعندما أرادت الوهابية أن تقلد الشيعة في الثورة على الغرب ، وضربت مركزهم التجاري العالمي فجُنُّوا وأعلنوا الحرب على المسلمين ، كيف عجز السنة أن يخاطبوهم فجاء الخطاب الشيعي موازناً بين خطي المقاومة والتعايش!

**

إن بقاء الأمة اليوم بعناصر القوة في ثقافتها ، مدينً للفكر الشيعي الذي تمسك بالنص ، ولم يخضع لمنطق القبيلة في السقيفة .

ومدينٌ في مواصلة حياته لدماء أهل البيت (عليهم السلام) التي بذلوها بسخاء لسقي قِيَم الوحي والدفاع عن حرية الإنسان المسلم المستباحة !

وبهذا تعرف سبب ما يشهده عصرنا من توجه واسع في شعوب الأمة نحو أهل بيت النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) تريد أن تفهم قصتهم ومذهبهم ، لأنهم في مخزونها الذهني والتاريخي مشروع نجاة ، عندما يستنفد مذهب الخلافة طاقته وخطابه !

**

ص: 202

4- الآثار الإيجابية لمرسوم السلطان بتبني التشيع

كان ذلك المرسوم إنصافاً ضرورياً لمذهب أهل البيت (عليهم السلام) وإنهاءً لظلمهم وسلب حريتهم في ممارسة مذهبهم وإجبارهم على مذهب الخليفة !

والنقطة الإيجابية الثانية فيه: أنه كان كسراً للتعتيم العباسي الجائر على مذهبهم ومنع الأمة من التعرف على أئمة العترة النبوية وعلومهم وسيرتهم العطرة ، وأنهم هم أهل البيت النبوي وآل النبي وعترته المطهرون الذين أوصى بهم (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وليس زوجات النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وبني العباس كما أشاع إعلام الخلافة !

ولهذا تنفس الشيعة الصعداء وفرحوا في كافة البلاد كما نص المؤرخون ، وكما نقرأ في قصيدة ابن الحسام العاملي التي رواها الصفدي في الوافي:2/129 قال: ( السلطان خربندا محمد بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن جنكز خان المغلي القان غياث الدين خدابندا ، معناه عبد اللّه وإنما الناس غيروه وقالوا خربندا ، صاحب العراق وأذربيجان وخراسان ، ملك بعد أخيه غازان وكانت دولته ثلاث عشرة سنة... وكان مسلماً فما زال به الإمامية إلى أن رفَّضوه وغيَّر شعار الخطبة وأسقط ذكر الخلفاء من الخطبة سوى علي رضي اللّه عنه... ولما تشيع السلطان خدابندا المذكور قال جمال الدين إبراهيم بن الحسام المقيم بقرية مجدل سلم من بلاد صفد يمدحه:

أهدي إلى ملك الملوك دعائي *** وأخصُّه بمدايحي وثنائي

وإذا الورى والَوْا ملوكاً غيره *** جهلاً ففيه عقيدتي وولائي

هذا خدابندا محمدٌ الذي *** سادَ الملوكَ بدولة غرَّاء

ملكُ البسيطة والذي دانت *** له أكنافُها طوعاً بغير عناء

أغنتك هيبتُك التي أعطيتها *** عن صارم أو صَعدةٍ سمراء

ولقد لبستَ من الشجاعة حُلةً *** تغنيك عن جيش ورفع لواء

ص: 203

ملأ البسيطة رغبةً ومهابةً *** فالناس بين مخافة ورجاء

من حوله عُصَبٌ كآساد الشرى *** لا يرهبون الموت يوم لقاء

وإذا ركبت سرى أمامك للعدى *** رعبٌ يقلقلُ أنفس الأعداء

ولقد نشرتَ العدل حتى أنه *** قد عمَّ في الأموات والأحياء

فلْيُهْن ديناً أنت تنصرُ مُلكه *** وطبيبَه الداري بحَسْم الداء

نبَّهته بعد الخمول فأصبحت *** تعلو بهمته على الجوزاء

وبسطت فيه بذكر آل محمد *** فوق المنابر ألْسُنَ الخطباء

وغدَتْ دراهمك الشريفة نقشُها *** باسم النبيِّ وسيِّد الخلفاء

ونقشتَ أسماء الأيمة بعده *** أحْسِنْ بذاك النقش والأسماء

ولقد حفظتَ عن النبي وصيةً *** ورفعتَ قرباهُ على القرباء

فابشرْ بها يوم المعاد ذخيرةً *** يُجْزيكَهَا الرحمنُ خيرَ جزاء

يا ابن الأكاسرة الملوك تقدموا *** وورثتَ ملكهم وكل علاء)انتهى.

والنقطة الثالثة: أن هذا المرسوم فتح الباب رسمياً أمام فكر أهل البيت (عليهم السلام) بأصالته وشموله وقوته ، فشقت أحاديث أهل البيت وسيرتهم (عليهم السلام) طريقها بقوة وجاذبية ! ومؤلفات علماء مذهبهم ، خاصة مؤلفات المرجعين العبقريين نصير الدين والعلامة الحلي رحمهمااللّه ، واحتلت مكان الصدارة والإعجاب في حواضر العالم الإسلامي ، وعند كبار علماء المذاهب .

وقد بخلت مصادر التاريخ بأكثر أخبار هذه الفترة ، لأنه جاءت بعدها موجة حكم الشراكسة والعثمانيين، المعادين للشيعة الحريصين على تشويه تاريخهم ! وسترى مدى ظلم مؤرخيهم لعهد السلطان المتشيع وابنه بو سعيد !

والنقطة الرابعة: أن هذا المرسوم ضمنَ تطبيق سياسة المذهب الشيعي في توفير الحرية لكل المذاهب ، وهو ما لا يستطيع توفيره غيره !

ص: 204

كما ضمن الإنفتاح العلمي على التطوير والإعمار ، وهو ما يتميز به المذهب الشيعي عن غيره ، فإن نظرة الى الإعمار والخدمات والتقدم الإقتصادي الذي تحقق للعراق في ظل الحكم الشيعي،وإحصائية بسيطة لعدد العلماء والمؤلفات في ذلك العهد وما بعده ، تضع يدنا على سعة ما قام به ذلك السلطان الشيعي بل المحقق الطوسي والعلامة الحلي وتلاميذهم ، وما أثمرته مشاريعهم على مدى العالم الإسلامي .

5- مضمون مرسوم السلطان محمد خدابنده وأبعاده

شمل المرسوم السلطان محمد خدابنده بتبني مذهب التشيع: العراق بكامله والخليج واليمن ، وإيران بكاملها ، وما وراء النهر أي بلاد آسيا الوسطى ، وتركيا التي كانت تسمى بلاد الروم .

أما وقته فتدل النصوص على أن مرسوم السلطان كان في أول توليه السلطة ، فكان استكمالاً لعمل أخيه السلطان قازان ، فهو المفهوم من قول الشيخ البهائي في توضيح المقاصد/27: (فيه (شهر شوال) سنة ثلاث وسبع مائة توفي السلطان محمود غازان ، وكان له ميل تام إلى التشيع ولكنه لم يتمكن من إظهاره ، وإنما أظهر أخوه السلطان محمد شاه خدابنده أنار اللّه برهانه ).

وفي الذريعة:3/270: ( وحكى القاضي في مجالس المؤمنين عن تاريخ غازاني هذا سبب استبصار الأخوين السلطان محمود غازان وشاه خدا بنده محمد وإثبات تشيعهما وولائهما لأهل البيت (عليهم السلام) بنوع يظهر منه ارتضاؤه لطريقتهما ).

وفي مقدمة طبعة مختلف الشيعة:1/111: (فتشيع الملك(قازان)وبعث إلى البلاد والأقاليم حتى يخطبوا للأئمة الإثني عشر (عليهم السلام) في الخطبة ويكتبوا أساميهم (عليهم السلام)

ص: 205

في المساجد والمعابد . والذي في أصبهان موجود الآن في الجامع القديم الذي كتب في زمانه في ثلاث مواضع ، وعلى منارة دار السيادة التي تممها سلطان محمد بعد ما أحدثها أخوه غازان أيضاً موجود . وفي محاسن أصفهان موجودٌ أن ابتداء الخطب كان بسعي بعض السادات إسمه ميرزا قلندر ، ومن المعابد التي رأيت معبد بير بركان الذي في لنجان بنيَ في زمانه، الأسامي موجودة الآن ، وكذا في معبد قطب العارفين نور الدين عبد الصمد النطنزي الذي له نسبة إليه من جانب الأم موجود الآن).(مجالس المؤمنين:2/361 عن تاريخ الحافظ آبرو ، تحفة العالم:1/176 ، خاتمة المستدرك:460 إحقاق الحق 1/16 11 ، أعيان الشيعة 5/400 ، وغيرها).

ولم تذكر المصادر نص المرسوم ، بل ذكرت مضمونه وأنه أمرَ بحذف اسم أبي بكر وعمر من خطبة الجمعة ، أي ما كان فرضه المنصور العباسي على المسلمين ! فأمر خدابنده أن يُحذف ويثبت بدله إسم علي والأئمة الأحد عشر من ولده (عليهم السلام) ، فثارت ثائرة أتباع الخلافة ورفعوا عقيرتهم بأنه حدثٌ كبير خطير وبدعةٌ في الدين ! وبكوا وناحوا من أجله ! مع أنه ليس أكثر من استبدال إسم صحابيين باسماء العترة النبوية الذين هم صحابة وأهل بيت النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) !

والأمر الثاني ، الذي ذكرته المصادر من عمل السلطان خدابنده ، أنه كتب أسماء الأئمة الإثني عشر (عليهم السلام) على العملة الذهبية والفضية .

والأمر الثالث ، أنه أنشأ في عدد من المناطق داراً باسم (دار السيادة) لخدمة السادة من ذرية النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) من أبناء علي وفاطمة (صلی الله عليه وآله وسلم) وهي مؤسسات اجتماعية تهتم بمعيشتهم وتعليمهم وحل مشاكلهم .

والأمر الرابع ، أنه أعاد (حَيَّ على خير العمل) الى الأذان ، وهذه الفقرة لها أهمية وتاريخ ، فقد حذفها عمر بن الخطاب من الأذان وهدد من يقولها ،

ص: 206

وأصرَّ عليها أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم عبر العصور ، حتى علامةًً للشيعة والزيدية وشعاراً الثورة على نظام الخلافة ، ولذا خصنناها بعنوان !

والأمر الخامس ، أن السلطان عمَّمَ مصادر مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ونشر كتب علمائه ، خاصة نصير الدين الطوسي والعلامة الحلي، وقد نص المؤرخون على أن كتب العلامة الحلي رحمه الله علیه انتشرت في حياة مؤلفها ، وهذا نادراً ما يحصل .

قال الصفدي في الوافي:13/54: (الحسن بن يوسف بن المطهر الإمام العلامة ذو الفنون ، جمال الدين ابن المطهر الأسدي الحلي المعتزلي(!) عالم الشيعة ، وفقيههم ، صاحب التصانيف التي اشتهرت في حياته . تقدم في دولة خربندا تقدماً زائداً ، وكان له مماليك وإدارات كثيرة وأملاك جيدة ، وكان يصنف وهو راكب ! شرَحَ مختصر ابن الحاجب ، وهو مشهور في حياته). انتهى.

وأكثر كتاب اشتهر منها في حياة مؤلفه كتاب تجريد الإعتقاد للمحقق الطوسي رحمه الله علیه وقد شرحه علماء من مذاهب مختلفة ، كما اشتهر كتاب شرح ابن الحاجب في أصول الفقه للعلامة الحلي رحمه الله علیه وفرض نفسه بسرعة كتاب تدريس في مدارس المذاهب الأربعة في مختلف البلاد ، ثم اشتهر كتابه منهاج الكرامة الذي أثار حفيظة المتعصبين كابن تيمية ، فرد عليه بكتاب سماه الرد على الرافضي ، ثم سموه له من بعده: منهاج السنة ! ولا بد أن مصادر مذهب أهل البيت الأساسية كالكافي وكتب الفقه وسيرة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) قد انتشرت في أنحاء البلاد يومذاك .

أما ما عدا ذلك من الأوضاع الثقافية والدينية فلم تمسه السلطة الشيعية ، بل أبقت المدرسة النظامية والمستنصرية للمذاهب الأربعة ولم تضف اليها تدريس المذهب الشيعي، وكذلك أبقت المدارس والمساجد السنية بأيديهم ، بل روت

ص: 207

المصادر أنه كانت تبنى مدارس جديدة تابعة للمذاهب .

وكذلك جهاز القضاء بقي كما كان ، لكن من الطبيعي أن يمنع فرض قضاة سنة على مناطق الشيعة ، كما كان يحصل في الدولة العباسية .

6- أضواء على حذف ذكر الشيخين من خطبة الجمعة

اشارة

أوحى اللّه الى نبيه (صلی الله عليه وآله وسلم) أن يأمر أمته بأن يصلوا عليه في صلاتهم ويقرنوا معه آله وعترته ، فيصلون عليهم معه (صلی الله عليه وآله وسلم) وروت ذلك أصح المصادر عند الجميع .

كما أوحى تعالى الى نبيه (صلی الله عليه وآله وسلم) أن يوصي أمته بالقرآن والعترة (عليهم السلام) بعده ويقرنهما معاً . لكن القرشيين أطاعوا في صلاتهم فصلوا على النبي وعلى آله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وابتدعوا في غيرها قَرْنَ زعمائهم بالنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) عند الصلاة عليه !

وهكذا رفعوا شعار(صحابة النبي) مقابل الشعار النبوي: (أهل بيت النبي (عليهم السلام) ) !

ثم أضاف معاوية الى صلاة الجمعة أن يذم الخطيب علي بن أبي طالب وأولاده (عليهم السلام) ويلعنهم في خطبته ، حتى ألغى مرسومه عمر بن عبد العزيز بعد نصف قرن ، لكن اللعن استمر بشكل وآخر الى آخر دولة بني أمية !

ثم اختلف الخليفة العباسي المنصور الدوانيقي مع حلفائه الحسنيين ، فثاروا عليه فأراد أن يغيظ العلويين ويرغم أنفهم وأنف نفسه كما قال ! فأمر بمدح أبي بكر وعمر في خطبة الجمعة والدعاء للخليفة ! وكان ذلك في أواسط القرن الثاني. قال العلامة الحلي رحمه الله علیه في نهج الحق وكشف الصدق/449، وهو الكتاب الذي ألفه عن عقائد الشيعة بطلب من السلطان خدابنده (رحمه اللّه) :

(ذهبت الإمامية إلى أن الجمعة يجوز فعلها في الصحراء مطلقاً . وقال أبو حنيفة: لا يجوز إلا في نفس المصر أو في موضع يصلى فيه العيد . وقال مالك:

ص: 208

لا تصح الجمعة إلا في الجامع . وقد خالفا عموم القرآن . وقد ظهر من هذه المسائل للعاقل المنصف أن الإمامية أكثر إيجاباً للجمعة من الجمهور ومع ذلك يشنعون عليهم تركها حيث إنهم لم يجوزوا الإئتمام بالفاسق ومرتكب الكبائر والمخالف في العقيدة الصحيحة ، وأنهم لا يجوٍّزون الزيادة في الخطبة التي خطبها النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وأصحابه والتابعون إلى زمن المنصور) .

وقال العلامة رحمه الله علیه في منهاج الكرامة/69: (فانظر إلى من يغير الشريعة ويبدل الأحكام التي جاء بها النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ويذهب إلى ضد الصواب معاندة لقوم معينين هل يجوز اتباعه والمصير إلى أقواله؟ مع أنهم ابتدعوا أشياء اعترفوا بأنها بدعة وأن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قال:كل بدعة ضلالة وكل ضلالة فإن مصيرها إلى النار ! وقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد عليه ! ولو رُدُّوا عنها كرهته نفوسهم ونفرت قلوبهم ! كذكر الخلفاء في خطبتهم مع أنه بالإجماع لم يكن في زمن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ولا في زمن أحد من الصحابة والتابعين ، ولا في زمن بني أمية ولا في صدر ولاية العباسيين ، بل هو شئ أحدثه المنصور لما وقع بينه وبين العلوية فقال: واللّه لأرغمن أنفي وأنوفهم وأرفع عليهم بني تيم وعديٍّ ، وذكَرَ الصحابة في خطبته ! واستمرت هذه البدعة الى هذا الزمان).انتهى.

أقول: على ضوء هذه الحقائق يكون مرسوم السلطان محمد (رحمه اللّه) تصحيحاً لتحريف سنة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وحذفاً لما ابتدعوه واستدركوه على رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) !

وقد شهد بعض علمائهم بأن ذكر أبي بكر وعمر في خطبة الجمعة بدعة ، قال المقريزي في الإمتاع:11/3: (قال الشيخ محي الدين أبو زكريا النووي: واتفقوا على جواز جعل غير الأنبياء(كالصحابة)تبعاً لهم في الصلاة ، ثم ذكر هذه الكيفية وقال: الأحاديث الصحيحة في ذلك ، وقد أمرنا به في التشهد ولم يزل السلف عليه خارج

ص: 209

الصلاة أيضاً . قالوا: ومنه الأثر المعروف عن بعض السلف: اللّهم صل على ملائكتك المقربين وأنبيائك المرسلين، وأهل طاعتك أجمعين، من أهل السماوات والأرضين .

وأجيب: بأن ادعاء الإتفاق غير معلوم الصحة ، فقد منع جماعة الصلاة على غير الأنبياء (عليهم السلام) مفردة وتابعة كما تقدم ، فمن جعل الإتفاق؟

وهذا التفصيل الذي ذكرتموه وإن كان معروفاً عن بعضهم في أصلهم بقوله: بل يمنعه ، وهب أنا نجوز الصلاة على أتباعه بطريق التبعية له ، فمن أين يجوز إفراد المقرّ أو غيره بالصلاة عليه إستقلالاً ؟! ودعواكم أن الأحاديث صحيحة في ذلك غير مسلم بها ، فأين تجدون في الأحاديث الصحيحة الصلاة على غير النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وأزواجه وذريته حتى قلتم (والصحابة) ؟ فليس فيما ذكر الصحابة ولا الأتباع ، وكذا قولكم وقد أمرنا به في التشهد ، فما أمرنا في التشهد إلا بالصلاة على آله وأزواجه وذريته فقط دون من عداهم ، أوجدونا ، ولن تجدوه أبداً ).انتهى.

وقد هاجم الحافظ المحدث عبد اللّه الصديق الغماري المغربي ، المحدث الوهابي ناصر الألباني وحكم عليه بأنه مبتدعٌ ، لأمور منها أنه يضيف الصحابة في صلاته على النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) .وكتب المغربي رسالة سماها: (القول المقنع في الرد على الألباني المبدع) قال فيها: ( وننبه هنا على خطأ وقع من جماهير المسلمين قلد فيه بعضهم بعضاً ولم يتفطن له إلا الشيعة ! ذلك أن الناس حين يصلون على النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يذكرون معه أصحابه ، مع أن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) حين سأله الصحابة فقالوا: كيف نصلي عليك ؟ أجابهم بقوله: قولوا: اللّهم صل على محمد وآل محمد . وفي رواية: على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم . ولم يأت في شئ من طرق الحديث ذكر أصحابه ! مع كثرة الطرق وبلوغها حد التواتر ! فذكر الصحابة في الصلاة على النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) زيادة على ما علمه الشارع واستدراكٌ عليه وهو لا يجوز ! وأيضاً فإن الصلاة حق للنبي ولآله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ولا

ص: 210

دخل للصحابة فيها ، لكن يترضى عنهم).انتهى. ورد عليه الألباني في مقدمة سلسلة الأحاديث الضعيفة:3/8 ، رداً أطال فيه صفحات ، لكنه لم يأت بطائل !

على أن أتباع الخلافة يحرِّمون مثل هذه البحوث ، لأنهم يريدون أن يكون مقام الصحابة فوق مقام أهل بيت النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بدون أن يناقش فيه أحد !

بل لا يرضون بتفسير آيات القرآن في توبيخ الصحابة ، ولا برواية أحاديث النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) الصريحة في ذمهم !

اخترع المنصور الترضي على أبي بكر وعمر في الخطبة

تحالف العباسيون مع الحسنيين في الثورة على بني أمية ، وكانوا أتباعاً لهم فقد بايعوا محمد بن عبداللّه بن الحسن المثنى ، وكان المنصور يأخذ بركابه ، ثم استطاع العباسيون أن يتفقوا مع قائد الثورة أبي مسلم الخراساني ويعزلوا الحسنيين عن القيادة ، فغضب الحسنيون وثاروا عليهم واحتلوا اليمن والحجاز والبصرة ، وقاد ابراهيم بن عبداللّه بن الحسن سبعين ألف مقاتل نحو الكوفة وكاد يحتلها، وهيأ المنصور العباسي فرسه للّهرب وهو يصيح: أين قول صادقهم ، يقصد أن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أخبره بأنك ستملك ! في ذلك الوقت الحرج شاء اللّه أن يصيب قائد الجيش الحسني إبراهيم سهم طائر ويقتله فانفرط جيشه وانتصر العباسيون !

بعد هذا فكر المنصور العباسي أن يضرب أبناء علي (عليه السلام) كلهم ويأخذ منهم المرجعية الدينية للأمة ، بأن يؤسس مذهباً فقهياً وعقائدياً مقابل أئمة أهل البيت (عليهم السلام) . فأمر مالكاً إمام المذهب أن يؤلف كتاباً موطأًً أي سهلاً في الحديث والفقه ليلزم المسلمين به دون غيره ، وأصدر أمره بمنع أهل البيت من الفتوى فقال: لا يُفتين أحد ومالك في المدينة ! فألف مالك الموطأ .

ص: 211

ثم صعَّد المنصور الموقف ليغيض الحسنيين والعلويين عامة ، فتبنى تنقيص مكانة علي (عليه السلام) وتكبير مكانة أبي بكر وعمر، وقال كلمته المشهورة: (واللّه لأرغمن أنفي وأنوفهم وأرفع عليهم بني تيم وعديٍّ ، وذكَرَ الصحابة في خطبته واستمرت هذه البدعة الى هذا الزمان على حد تعبير العلامة الحلي رحمه الله علیه .

وبذلك غير العباسيون سياستهم مئة وثمانين درجة ، وتبنوا سياسة الأمويين التي ثاروا عليها مع الحسنيين بشعار يالثارات الحسين ، وشعار الدعوة الى الرضا من آل محمد والبراءة من بني أمية وظالمي آل محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) !

وحرص المنصور على أن يبدأ بنفسه تطبيق ذلك فصلى الجمعة ومدح أبا بكر وعمر في خطبتة الصلاة .

وعلَّم مالكاً إمام المذهب سياسته الجديدة وامتحنه فيها: قال ابن كثير في النهاية:10/130: (قال مالك: قال لي المنصور: من أفضل الناس بعد رسول اللّه ؟ فقلت: أبو بكر وعمر . فقال: أصبت ، وذلك رأي أمير المؤمنين). انتهى.

بعدها كان مالك يظهر ندامته لأنه خالف سياسة المنصور الجديدة وكتب في موطئه أحاديث ذم الصحابة ، وذلك قبل أن يتبى المنصور إمامة أبي بكر وعمر وروى في موطئه (أحاديث الحوض) التي تنص على أن الصحابة يدخلون النار ولاينجو منهم إلا مثل هَمَل النعم حسب تعبير بخاري . فكانمالك يتأسف على ذلك لأن الكتاب انتشر في الناس ولا يمكنه حذف ذم الصحابة منه !

قال الصديق المغربي في فتح الملك العلي/151: (حكي عن مالك أنه قال: ما ندمت على حديث أدخلته في الموطأ إلا هذا الحديث ! وعن الشافعي أنه قال: ما علمنا في كتاب مالك حديثاً فيه إزراء على الصحابة إلا حديث الحوض ، ووددنا أنه لم يذكره) ! انتهى.

ص: 212

صارت بدعة المنصور ديناً عند أتباع بني أمية !

من يومها صار الغلو في أبي بكر وعمر وتنقيص حق أهل البيت (عليهم السلام) ديناً رسمياً ، تتولى الحكومة الناس عليه وتتبرأ منهم عليه ، وتكفِّر من لا يوافقها على رأيها فيهما وتهدر دمه ! وقد قتلوا ألوفاً مؤلفة من المسلمين عبر العصور من أجل أبي بكر وعمر ، وألبسوا جريمتهم ثوباً دينياً !

وهذا بالذات سبب بغضهم للسلطان خدابنده وعملهم لتشويه شخصيته (رحمه اللّه) . وهو نفسه سبب عقدة ابن تيمية من كتاب منهاج الكرامة ومؤلفه العلامة الحلي رحمه الله علیه ،قال في منهاجه:4/165:(والرافضة شر من هؤلاء وهؤلاء(النواصب والخوارج)يبغضون أبا بكر وعمر وعثمان ويسبونهم بل قد يكفرونهم ، فكان ذكر هؤلاء وفضائلهم رداً على الرافضة . ولما قاموا في دولة خدابنده الذي صنف له هذا الرافضي هذا الكتاب ، فأرادوا إظهار مذهب الرافضة وإطفاء مذهب أهل السنة والكتاب ، وعقدوا ألوية الفتنة وأطلقوا عنان البدعة ، وأظهروا من الشر والفساد ما لا يعلمه إلا رب العباد . وكان مما احتالوا به أن استفتوا بعض المنتسبين إلى السنة في ذكر الخلفاء في الخطبة هل يجب؟ فأفتى من أفتى بأنه لا يجب ، إما جهلاً بمقصودهم وإما خوفاً منهم وتقية لهم ، وهؤلاء إنما كان مقصودهم منع ذكر الخلفاء ، ثم عوضوا عن ذلك بذكر علي والأحد عشر الذين يزعمون أنهم المعصومون . فالمفتي إذا علم أن مقصود المستفتي له أن يترك ذكر الخلفاء وأن يذكر الإثني عشر وينادي بحي على خير العمل ليبطل الأذان المنقول بالتواتر من عهد النبي ويمنع قراءة الأحاديث الثابته الصحيحة عن رسول اللّه (يقصد في فضل أبي بكر وعمر)ويعوض عنها بالأحاديث التي افتراها

ص: 213

المفترون (يقصد في مدح أهل البيت (عليهم السلام) )ويبطل الشرائع المعلومة من دين الإسلام ويعوض عنها بالبدع المضلة ، ويتوسل بذلك من يتوسل إلى إظهار دين الملاحدة الذين يبطنون مذهب الفلاسفة ويتظاهرون بدين الإسلام ، وهم أكفر من اليهود والنصارى ، إلى غير ذلك من مقاصد أهل الجهل والظلم الكائدين للإسلام وأهله ، لم يحلَّ للمفتي أن يفتي بما يجرُّ إلى هذه المفاسد . وإذا كان ذكر الخلفاء الراشدين هو الذي يحصل به المقاصد المأمور بها عند مثل هذه الأحوال، كان هذا مما يؤمر به في مثل هذه الأحوال وإن لم يكن من الواجبات التي تجب مطلقاً، ولا من السنن التي يحافظ عليها في كل زمان ومكان).انتهى.

فقد اعترف ابن تيمية بأن بعض فقهاء مذاهب الخلافة أفتوا بصحة مرسوم السلطان بحذف ذكر أبي بكر وعمر من خطبة الجمعة ، لأنه لا يوجد دليل على تشريع ذكرهما فيها ! لكن ابن تيمية رد فتواهم وأفتى بأن ذكر أبي بكر وعمر في خطبة الجمعة واجب وإن لم يكن فيه تشريع ! وذلك لأجل حفظ دين الحكومات ومذاهبها والذي من أصوله العداء لأهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم !!

(راجع نقد السيد الميلاني لاستدل ابن تيمية على مشروعية بدعتهم ، في شرح منهاج الكرامة:1/316) .

وختاماً ، تدل النكتة التالية على مبالغتهم في فرض الصحابة والشيخين على عوام المسلمين ! رواها منهم أبو حيان في البصائر والذخائر/712، قال: (قال بعض المغفلين وقد جرى ذكر الصحابة: أنا لا أعرف إلا الشيخين: اللّه والنبي)!

**

ص: 214

7- حَذَفَ عمر (حَيَّ على خير العمل)وأثبتها الشيعة

كانت فقرة (حَيَّ على خير العمل)فصلاً من الأذان في عهد النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وعهد أبي بكر ، وقسمٍ من عهد عمر ، ثم حذفها عمر بحجة أن الناس قد يتصورون أن الصلاة خيرٌ من الجهاد ويتركون فتح البلاد ! واعترض عليه أهل البيت (عليهم السلام) وبعض الصحابة والتابعين ، وكان ابنه عبداللّه بن عمر يؤذن بها !

وقد ألف عدد من العلماء رسائل في إثبات كونها جزءً من الأذان الذي أوحاه اللّه تعالى الى نبيه (صلی الله عليه وآله وسلم) وعلمه إياه جبرئيل (عليه السلام) ، تزيد عن خمسين رسالة.

قال في الإيضاح/201): (ورويتم عن أبي يوسف القاضي ، رواه محمد بن الحسن وأصحابه ، عن أبي حنيفة قالوا: كان الأذان على عهد رسول اللّه وعلى عهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر ينادى فيه: حيَّ على خير العمل. فقال عمر بن الخطاب: إني أخاف أن يتكل الناس على الصلاة إذا قيل: حي على خير العمل ويدعوا الجهاد ! فأمر أن يطرح من الأذان حيَّ على خير العمل).

وفي دعائم الإسلام:1/142: (وروينا عن أبي جعفر محمد بن علي صلوات اللّه عليه قال: كان الأذان بحي على خير العمل على عهد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وبه أمروا في أيام أبى بكر وصدر من أيام عمر ، ثم أمر عمر بقطعه وحذفه من الأذان والإقامة ، فقيل له في ذلك فقال: إذا سمع الناس أن الصلاة خير العمل تهاونوا بالجهاد وتخلفوا عنه ! وروينا مثل ذلك عن جعفر بن محمد صلوات اللّه عليه ، والعامة تروى مثل هذا ، وهم بأجمعهم إلى اليوم مصرون على اتِّباع عمر في هذا وترك اتباع رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ! واحتجوا بقول عمر هذا ، وظاهر هذا القول يغني عن الإحتجاج على قائله ، وإنما أمر اللّه عز وجل بالأخذ عن

ص: 215

رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، وقال: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أمره أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وقال: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أمرهمْ وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً . وقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : إتبعوا ولا تبتدعوا ، فكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار !

أفكان عمر عند هؤلاء الرعاع أعلم بمصالح الدين والمسلمين أم اللّه ورسوله؟ وقد أنزل اللّه عز وجل في كتابه من الرغائب والحضَّ على الصلاة وعلى الجهاد ، وعلى كثير من أعمال البر ، ما أنزله ، وافترض فرائضه ! فهل لأحد أن يُسقط من كتاب اللّه عز وجل شيئاً مما حض به على فريضة من فرائضه ؟ أو هل وسع لأحد في ترك فريضة لأنه حض ورغب في غيرها أكثر مما حض ورغب فيها؟! هذا ما لا يقوله عالم ولا جاهل ، ولا بلغنا عن أحد من الناس أنه توهمه... وفساد هذا القول أبين من أن يحتاج إلى الشواهد والدلائل... نسأل اللّه العصمة من الزيغ عن دينه والثبات على طاعته وطاعة أوليائه).انتهى.

وقال السيد شرف الدين في النص والإجتهاد/199: (وفي رواية أخرى أنه قال: أيها الناس: ثلاثٌ كنَّ على عهد رسول اللّه وأنا أنهى عنهن وأحرمهن وأعاقب عليهن: متعة الحج ، ومتعة النساء ، وحي على خير العمل) ! وقد أنكر عليه في هذا أهل البيت كافة وتبعهم في ذلك أولياؤهم جميعاً ، ولم يقره عليه كثير من أعلام الصحابة وإخبارهم في ذلك متواترة ). ونحوه في كتابه مسائل فقهية/68

(أورد القوشجي قول عمر: ثلاثٌ كنَّ على عهد رسول اللّه وأنا أحرمهنَّ وأعاقبُ عليهنّ: متعة النساء ومتعة الحج وحيَّ على خير العمل ! ثم قال: إن ذلك ليس مما يوجب قدحاً فيه، فإن مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الإجتهادية ليس ببدع !

وهو كلام عجيب حقاً فهل تحريم الرسول الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا

ص: 216

وحيٌ يوحى ، كان رأياً واجتهاداً منه (صلی الله عليه وآله وسلم) حتى يعارضه القوشجي باجتهاد آخرين؟!

وهل يصح اجتهاد عمر في مقابل النص القرآني والتشريع النبوي؟!

وإذا كان عمر قد اجتهد في هذا الأمر ولنفرض أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) قد اجتهد فيه أيضاً نعوذ باللّه من خطل القول ، فأيهما أحق أن يتبع؟ وأيهما قال اللّه في حقه: ما آتاكم الرسول فخذوه؟ وماذا على من ترك اجتهاد عمر لعمر وأخذ بالنص القرآني والتشريع الإلهي الوارد على لسان النبي الأمي؟!

وماذا يصنع القوشجي بقول الرازي: إن ذلك يوجب تكفير الصحابة ، لأن من علم أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حكمَ بإباحة المتعة ثم قال: إنها محرمةٌ محظورةٌ من غير نسخ لها ، فهو كافر باللّه؟! ومن الواضح أن القوشجي وصاحب المنار والرازي وغيرهم لم يستطيعوا أن يدركوا وجه العذر لعمر في إقدامه على تحريم المتعة وغيرها فتشبثوا بالطحلب ، بل صدر منهم ما فيه أيضاً نيل من كرامة الرسول الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) وتصغير لشأنه من حيث يعلمون أو من حيث لايعلمون) ! (شرح التجريد للقوشجي/484 ، وكنز العرفان/158، عن الطبري في المستنير ، والصراط المستقيم:3/277 ، عن الطبري ، والغدير:6/213، عن الطبري ، وجواهر الإخبار ، والآثار المستخرجة:2/192 ، عن التفتازاني في حاشيته على شرح العضدي ، ونفحات اللاهوت/98. وعدَّ في شرح النهج:3/363 تحريم عمر للمتعة من اجتهاده ، زواج المتعة:3/8 ، للسيد جعفر مرتضى ) .

أقول: ومن يوم حرَّم عمر ما فرضه النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) تحركت شرطة الخلافة لقمع كل مسلم يطيع النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ولايطيع عمر! وما زالت شرطتهم وتهويلهم تطارد الشيعة باسم الدين الى يومنا هذا ! وكان مطلب الشيعة منهم أن يتركوهم يؤذنون في مساجدهم ومناطقهم كما يعتقدون ، ولم تفرض أي حكومة شيعية على أحد الأذان بحيَّ على خير العمل ! فالفرض والإجبار كان وما زال من عمل شرطة عمر والقبائل القرشية !

**

ص: 217

8- شريط تاريخي لجهاد الشيعة من أجل سنة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)

كافح الشيعة عصوراً طويلة من أجل هذا الفصل من الأذان ، حتى صار الأذان بحيَّ على خير العمل علامةً للإمامية والزيدية والإسماعيلية ، وشعاراً يرفعه الثوار على الحكومات ! وهذا شريط تاريخي يوضح إصرار الشيعة على سنة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وإصرار أتباع الخلافة على فرض سنة عمر بدلها !

**

في سير الذهبي:15/164: (قلت: ظهر هذا الوقت الرفض وأبدى صفحته وشمخ بأنفه في مصر والشام والحجاز والغرب بالدولة العبيدية ، وبالعراق والجزيرة والعجم بيني بويه ، وكان الخليفة المطيع ضعيف الدست والرتبة مع بني بويه، ثم ضعف بدنه وأصابه فالج وخرس فعزلوه وأقاموا ابنه الطائع له ، وله السكة والخطبة وقليل من الأمور ، فكانت مملكة هذا المعز أعظم وأمكن... وأعلن الأذان بالشام ومصر بحي على خير العمل . فللّه الأمر كله ).

**

وفي تاريخ أبي الفداء/507: (وفي هذه السنة (444)كانت الفتنة ببغداد بين السنية والشيعة ، وأعادت الشيعة الأذان بحي على خير العمل ، وكتبوا في مساجدهم محمد وعلي خير البشر) .

**

وفي النهاية:12/96: (وأعادت الروافض الأذان بحي على خير العمل ، وأذن به في سائر نواحي بغداد(في مساجدهم)في الجمعات والجماعات ، وخطب ببغداد للخليفة المستنصر العبيدي على منابرها وغيرها، وضربت له السكة على الذهب والفضة وحوصرت دار الخلافة).

**

ص: 218

وفي النجوم الزاهرة:5/281:(وهي سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة فيها أزال السلطان نور الدين محمود بن زنكي صاحب دمشق من حلب الأذان بحي على خير العمل وسب الصحابة بها ، وقال: من عاد إليه قتلته ، فلم يعد أحد).

أقول: لم يكن الشيعة يسبُّون الصحابة ، نعم كانوا وما زالوا يلعنون ظالمي أهل البيت (عليهم السلام) ، وهو مبدأ متفق عليه ، فقد لعن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ظالمي أهل بيته الطاهرين بأحاديث صحيحة عند الجميع ، بل لعنهم اللّه تعالى في صريح قرآنه بقوله: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرض وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ! أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ. (محمد:22-23) ، وقد استدل أحمد بن حنبل بهذه الآية على لعن يزيد ، وروى كبار محدثيهم تفسيرها ببني أمية ، لكن بمجرد أن يقول الشيعي لعن اللّه ظالمي آل محمد ، يقولون له إنك تقصد أبا بكر وعمر ! إنك تلعن وتسب وتشتم الصحابة ، ويصورون الشيعة كأن شغلهم الشاغل في ليلهم ونهارهم شتم الصحابة ! وغرضهم من هذا التهريج أن يمنعوهم من لعن ظالمي أهل بيت النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ومضطهديهم وقاتليهم !

**

وصف أبو الفرج في مقاتل الطالبيين/297 ، حركةً للعلويين في المدينة المنورة فقال: (فاجتمعوا ستة وعشرين رجلاً من ولد علي (عليه السلام) ، وعشرةٌ من الحاج ، ونفرٌ من الموالي ، فلما أذَّن المؤذن للصبح دخلوا المسجد ثم نادوا: أحد ، أحد ، وصعد عبد اللّه بن الحسن الأفطس المنارة التي عند رأس النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) عند موضع الجنائز فقال للمؤذن: أذِّنْ بحيَّ على خير العمل ، فلما نظر إلى السيف في يده أذن بها ، وسمعه العمري(حاكم المدينة من قبل المنصور العباسي) فأحس بالشر ، ودهش وصاح: أغلقوا البغلة(يقصد الباب)وأطعموني حبتي ماء ! قال علي بن إبراهيم في حديثه: فوُلده إلى الآن بالمدينة يُعرفون ببني حبتي ماء) !

**

ص: 219

وقال ابن الجوزي في المنتظم:5/28: (وفي أول يوم من شوال حضر الموكب النقباء والأشراف والقضاة والشهود ، فنهض بعض المتفقهة وأورد إخباراً في مدح الصحابة وقال: ما بال الجنائز تمنع من ذكر الصحابة عليها بمقابر قريش وربع الكرخ؟ والسنة ظاهرة ويد أمير المؤمنين قاهرة؟! فطولع بما قال فخرج التوقيع بما معناه: أنهيَ ما ارتكب بمقابر قريش من إخمال ذكر صاحبي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتورطهم في هذه الجهالة ، واستمرارهم على هذه الضلالة ، التي استوجبوا بها النكال واستحقوا عظيم الخزي والوبال ، وإنما يتوجه العتب في ذلك نحو نقيب الطالبيين ، ولولا ما تدرَّع به من جلباب الحكم وأسباب يتوخاها ، لتقدم في فرضه ما يرتدع به الجهال ، فليؤجر بإظهار شغل السنة في مقابر باب التبن ورَبْع الكًرْخ من ذكر الصحابة على الجنائز ، وحثهم على الجمعة والجماعة ، والتثويب بالصلاة خير من النوم ، وذكر الصحابة على مساجدهم ومحاريبهم أسوة بمساجد السنة ، والتقدم بمكاتبة ابن مزيد(الشيعي حاكم الحلة والمشهدين النجف وكربلاء)ليجري على هذه السيرة في بلاده ، فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أمره أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

أقول: أنظر الى أسلوب الخلافة العدواني وأن حيثية هذا المرسوم الخلافي هو: إخمال ذكر الصحابة ، ومعناه أن الشيعة في مساجدهم ومناطقهم يذكرون أهل البيت (عليهم السلام) ، ولا شغل لهم بغيرهم ، فاعتبر ذلك إخمالاً لذكر أبي بكر وعمر وعثمان الذين يجب إحياء ذكرهم ! فحيثية المرسوم أن ذكر أبي بكر وعمر واجب (والسنة ظاهرة ويد أمير المؤمنين قاهرة)؟! أي قادرة على إجبار الشيعة على مذهب الحكومة ! ومعناه أنه كلما أمكن الإجبار بالقوة وجب ! وهذه سياسة أتباع أبي بكر وعمر وبني أمية ، الى يومنا هذا !

ولا تعجب من ذلك فقد كانت سياسة الخلافة عدوانية ضد الشيعة وكانت تحرك لها الغوغاء ومؤرخوها يغطون جرائمها ويبكون من ظلم الشيعة لهم !

ص: 220

قال ابن الجوزي في المنتظم:6/217: (ثم دخلت سنة إحدى وستين وخمسمائة.. وظهر في هذه الأيام من الروافض أمر عظيم من ذكر الصحابة وسبهم ، وكانوا في الكرخ إذا رأوا مكحول العين ضربوه) ! (ومثله الذهبي في تاريخه:39/5)

أقول: يقصد هذان الناصبيان أن الشيعة في مجالس عزائهم على الإمام الحسين (عليه السلام) يلعنون ظالمي آل محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وقاتليهم ! ولم يبينا لماذا كان بعض الشيعة يضربون مكحول العين إذا دخل الى محلاتهم في الكَرْخ أو غيرها ! وهذا أسلوب أتباع الخلافة فهم يُغَطُّون جريمة المجرم ويظهرونه مظلوماً ويبكون عليه ! والقضية أن الشيعة يتخذون أيام عاشوراء أيام حزن ويلبسون السواد ويعقدون مجالس النوح والرثاء وذكر فضائل أهل البيت (عليهم السلام) .

وكان أتباع الخلافة يعملون لتعطيل تلك المراسم ، بل كانوا يُظهرون الفرح ويلبسون الثياب الجديدة ويتخذون تلك الأيام عيداً ! ولم يكتفوا بذلك في بلادهم ومحلاتهم بل كانوا في بغداد والشام يلبسون الثياب الجديدة ويكتحلون ويذهبون الى محلات الشيعة ليغيضوهم بذلك ! فمن الطبيعي أن يواجه شباب الشيعة النواصب المكحَّلين والمكحَّلات الذين يَتَحَدَّوْنَهم !

ومن العجيب أن الدولة العباسية (الهاشمية) لم تمنع الشماتة والفرح بقتل الإمام الحسين (عليه السلام) الذي ثارت باسمه ، بل كانت تشجع النواصب على إظهار الفرح لإغاضة الشيعة ، ثم تدافع عنهم وتدعي أنهم مظلومون !

قال البكري في إعانة الطالبين:2/301، وهو من كبار علماء السنة : (يكره الكحل يوم عاشوراء ، لأن يزيداً وابن زياد اكتحلا بدم الحسين هذا اليوم ! وقيل بالإثمد لتقرَّ عينهما بفعله . قال العلامة الأجهوري: ولقد سألت بعض أئمة الحديث والفقه عن الكحل وطبخ الحبوب ولبس الجديد وإظهار السرور فقال:

ص: 221

لم يرد فيه حديث صحيح عن النبي ولا عن أحد من الصحابة ، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين).انتهى. وهذا يدلك على أن عداءهم لأهل البيت (عليهم السلام) دفعهم الى تعمد الكذب على رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لتصحيح عمل يزيد وابن زياد وشيعتهما وجعل إظهار الفرح بيوم عاشوراء جزءً من الإسلام !

قال ابن حجر في الدراية:1/280: (قوله: وقد ندب النبي إلى الإكتحال يوم عاشوراء وإلى الصوم فيه . أما الإكتحال فأخرجه البيهقي في الشُّعب في الثالث والعشرين منه ، من طريق جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس رفعه (يعني الى النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ): من اكتحل بالإثمد يوم عاشوراء لم يرمد أبداً ! وهو إسنادٌ واهٍ . (لأن الضحاك لم يلق ابن عباس) وأورده ابن الجوزي في الموضوعات من هذا الوجه ، ومن حديث أبي هريرة بسندين فيه أحمد بن منصور الشونيزي ، فكأنه أدخل عليه ، وهو إسناد مختلف لهذا المتن قطعياً).انتهى. الى آخر كلامهم في فقههم !

لكن لا تغترَّ بما تقرؤه في كتب فقهائهم وعلمائهم مما يتعلق بأهل البيت (عليهم السلام) والصحابة ، فهم نظرياً ينفون صحة أحاديث التكحل والفرح بنصر يزيد والتبرك بيوم عاشوراء ،ولكنهم عملياً يطبقونه ، وقد يطبقه فقيههم أكثر من عوامهم !

وكذلك تراهم ينفون صحة حديث (أصحابي كالنجوم) ويحكمون بأنه موضوع مكذوب، ولكنهم يستشهدون به في الفقه والأصول والتفسير والعقائد ، ويقمعون به من لا يقدس صحابتهم المفضلين ، ويطبلون به في إعلامهم حتى يكون الحديث الموضوع عملياً أقوى من الحديث الصحيح !

**

وفي تاريخ أبي الفداء/503:(وفيها(سنة 441)وقعت الفتنة ببغداد بين السنية والشيعة وعظم الأمر حتى بطلت الأسواق وشرع أهل الكرخ في بناء سور عليهم محيطاً بالكرخ ، وشرع السنية من القلابين ومن يجري مجراهم في بناء سور على سوق

ص: 222

القلابين ، وكان الأذان بأماكن الشيعة بحي على خير العمل ، وبأماكن السنية الصلاة خير من النوم ) .

**

وفي كامل ابن الأثير:9/576 ، في أحداث سنة443، قال: (وكان سبب هذه الفتنة أن أهل الكرْخ شرعوا في عمل باب السمَّاكين وأهل القلائين في عمل ما بقي من باب مسعود ، ففرغ أهل الكرخ وعملوا أبراجاً كتبوا عليها بالذهب محمد وعلي خير البشر ، وأنكر السنية ذلك وادعوا أن المكتوب محمد وعلي خير البشر فمن رضي فقد شكر ومن أبى فقد كفر ! وأنكر أهل الكرخ الزيادة وقالوا ما تجاوزنا ما جرت به عادتنا فيما نكتبه على مساجدنا ، فأرسل الخليفة القائم بأمر اللّه أبا تمام نقيب العباسيين ونقيب العلويين وهو عدنان بن الرضي لكشف الحال وإنهائه ، فكتبا بتصديق قول الكرخيين فأمر حينئذ الخليفة ونواب الرحيم بكف القتال فلم يقبلوا !

وانتدب ابن المذهب القاضي والزهيري وغيرهما من الحنابلة أصحاب عبد الصمد أن يحمل العامة على الإغراق في الفتنة فأمسك نواب الملك الرحيم(آخر السلاطين البويهيين)عن كفهم غيظاً من رئيس الرؤساء لميله إلى الحنابلة ، ومنع هؤلاء السنية من حمل الماء من دجلة إلى الكرخ ، وكان نهر عيسى قد انفتح بثقه فعظم الأمر عليهم وانتدب جماعة منهم وقصدوا دجلة وحملوا الماء وجعلوه في الظروف وصبوا عليه ماء الورد ، ونادوا الماء للسبيل فأغروا بهم السنية !

وتشدد رئيس الرؤساء على الشيعة فمحوا خير البشر وكتبوا( (عليهما السلام) )فقالت السنية لانرضى إلا أن يقلع الآجر الذي عليه محمد وعلي وأن لايؤذن حيَّ على خير العمل ! وامتنع الشيعة من ذلك ودام القتال إلى ثالث ربيع الأول...

قصدوا(الحنابلة)مشهد باب التبن فأغلق بابه فنقبوا في سورها وتهددوا البواب فخافهم وفتح الباب فدخلوا ونهبوا ما في المشهد من قناديل ومحاريب ذهب وفضة وستور وغير ذلك ، ونهبوا ما في الترب والدور وأدركهم الليل فعادوا !

ص: 223

فلما كان الغد كثر الجمع فقصدوا المشهد وأحرقوا جميع الترب والأراج واحترق ضريح موسى وضريح ابن ابنه محمد بن علي والجوار والقبتان الساج اللتان عليهما)!!

**

تاريخ الذهبي:30/9:(سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة... فلما كان في ربيع الآخر خطب(وزير الخليفة)بجامع براثا مأوى الشيعة ، وأسقط من الأذان حي على خير العمل ودق الخطيب المنبر بالسيف ، وذكر في خطبته العباس) . انتهى.

لاحظ فعل الخطيب بحضور وزير الخليفة متحدياً الشيعة في مسجدهم الكبير في العاصمة: (ودقَّ الخطيب المنبر بالسيف) ! إنها أخلاق خلافة قريش في القهر والإجبار واضطهاد من خالفها في الرأي حتى في مسجده وعبادته ووضوئه وصلاته ، وحتى في نيته في قلبه ! فهي خلافة عصا القبيلة وسوط رئيسها ، وليست خلافة النبوة والإسلام !

**

في النجوم الزاهرة:5/59: ( وهي سنة ثمان وأربعين وأربعمائة . فيها عم الوباء والقحط بغداد والشام ومصر والدنيا . وفيها أقيم الأذان في مشهد موسى بن جعفر ومساجد الكرخ بالصلاة خير من النوم على رغم أنف الشيعة ! وأزيل ما كانوا يقولونه في الأذان من حي على خير العمل).

**

وفي المواعظ للمقريزي/1677: (وفي إمارة هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون أنكر رجل من أهل مصر أن يكون أحد خيراً من أهل البيت ، فوثبت إليه العامة(عوام الحكومة وغوغاؤها) فضرب بالسياط يوم الجمعة في جمادى الأولى سنة خمس وثمانين ومائتين ! ومازال أمر الشيعة يقوى بمصر إلى أن دخلت سنة خمسين وثلاثمائة ، ففي يوم عاشوراء كانت منازعة بين الجند وبين جماعة من الرعية عند قبر كلثوم العلوية بسبب ذكر السلف والنوح قتل فيها جماعة من الفريقين ، وتعصب السودان(غلمان الحكومة)على الرعية(المصريين)فكانوا إذا لقوا أحداً قالوا له: من خالك

ص: 224

فإن لم يقل معاوية وإلا بطشوا به وشَلَّحُوه ! ثم كثر القول معاوية خال علي ! وكان على باب الجامع العتيق شيخان من العامة يناديان في كل يوم جمعة في وجوه الناس من الخاص والعام: معاوية خالي وخال المؤمنين وكاتب الوحي ورديف رسول اللّه ! وكان هذا أحسن ما يقولونه، وإلا فقد كانوا يقولون معاوية خال علي من هاهنا ويشيرون إلى أصل الأذن...! وفي شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، أخذ رجل يعرف بابن أبي الليث الملطي ينسب إلى التشيع ، فضرب مائتي سوط ودرة ، ثم ضرب في شوال خمسمائة سوط ودرة ، وجعل في عنقه غِلٌّ وحُبس ، وكان يُتفقد في كل يوم لئلا يخفف عنه ، ويبصق في وجهه ، فمات في محبسه! فحمل ليلاً ودفن فمضت جماعة إلى قبره لينبشوه ، وبلغوا إلى القبر فمنعهم جماعة من الإخشيدية والكافورية فأبوا) !

فانظر الى سياسة الخلافة وقمعها الوحشي لهذا المؤمن الملطي ، أي الذي أصله رومي مسيحي (رحمه اللّه) ، وملطية مدينة رومية في تركية (معجم البلدان:5/193) ويظهر أن الروم بنوها على إسم جزيرة مالطة الأوربية .

**

في المواعظ للمقريزي/1546، وسلك الدرر للمرادي/887:(وكان أول تأذينه بذلك في أيام سيف الدولة بن حمدان بحلب في سنة سبع وأربعين وثلاثمائة، قاله الشريف محمد بن أسعد الجواني النسابة، ولم يزل الأذان بحلب يزاد فيه حي على خير العمل ومحمد وعلى خير البشر إلى أيام نور الدين محمود ، فلما فتح المدرسة الكبيرة المعروفة بالحلاوية استدعى أبا الحسن علي بن الحسن بن محمد البلخي الحنفي إليها فجاء ومعه جماعة من الفقهاء وألقى بها الدروس ، فلما سمع الأذان أمر الفقهاء فصعدوا المنارة وقت الأذان وقال لهم: مُرُوهم يؤذنوا الأذان المشروع ، ومن امتنع كُبُّوهُ على رأسه ! فصعدوا وفعلوا ما أمرهم به ، واستمر الأمر على ذلك !

وأما مصر فلم يزل الأذان بها على مذهب القوم إلى أن استبدَّ السلطان صلاح

ص: 225

الدين يوسف بن أيوب بسلطنة ديار مصر وأزال الدولة الفاطمية ، في سنة سبع وستين وخمسمائة ، وكان ينتحل مذهب الإمام الشافعي وعقيدة الشيخ أبي الحسن الأشعري ، فأبطل من الأذان قول حي على خير العمل ، وصار يؤذن في سائر إقليم مصر والشام بأذان أهل مكة ، وفيه تربيع وترجيع الشهادتين ، فاستمر الأمر على ذلك إلى أن بنت الأتراك المدارس بديار مصر وانتشر مذهب أبي حنيفة في مصر فصار يؤذن في بعض المدارس التي للحنفية بأذان أهل الكوفة وتقام الصلاة أيضاً على رأيهم ، وما عدا ذلك فعلى ما قلنا ). (ونحوه المواعظ للمقريزي/1547) .

أي أن قوة الأتراك في مصر أجبرت صلاح الدين على إعطائهم الحرية المذهبية في مؤسساتهم فرضخ وأعطاهم ! وبقيت المذاهب الأخرى مضطهدة !

**

وفي نهاية ابن كثير:12/355: (ثم سار إلى حلب فنزل على جبل جوشن ، ثم نودي في أهل حلب بالحضور في ميدان باب العراق ، فاجتمعوا فأشرف عليهم ابن الملك نور الدين فتودد إليهم وتباكى لديهم وحضَّهم على قتال صلاح الدين ، وذلك عن إشارة الأمراء المقدمين ، فأجابه أهل البلد بوجوب طاعته على كل أحد ، وشرط عليه الروافض منهم أن يعاد الأذان بحي على خير العمل وأن يذكَّر في الأسواق (بذكر فضائل أهل البيت (عليهم السلام) )وأن يكون لهم في الجامع الجانب الشرقي ، وأن يُذكر أسماء الأئمة الإثني عشر بين يدي الجنائز ، وأن يكبروا على الجنازة خمساً ، وأن تكون عقود أنكحتهم إلى الشريف أبي طاهر بن أبي المكارم حمزة بن زهرة الحسيني فأجيبوا إلى ذلك كله ! فأذن بالجامع وسائر البلد بحي على خير العمل).

**

وفي النجوم الزاهرة:5/120: (وكان بدر الجمالي أرمني الجنس فاتكاً جباراً قتل خلقاً كثيراً من العلماء وغيرهم وأقام الأذان بحي على خير العمل ، وكبر على الجنائز خمساً ، وكتب سب الصحابة على الحيطان . قلت: وبالجملة إنه كان من مساوئ

ص: 226

الدنيا جزاه اللّه . وغالب من كان بمصر في تلك الأيام كان رافضياً خبيثاً ، بسبب ولاة مصر بني عبيد ، إلا من ثبته اللّه تعالى على السنة ).انتهى.

أقول: هذا ظلم صريح لقائد الجيش المصري الملك الأفضل الجمالي، الذي شهدوا له بالعدل والنزاهة والشجاعة الفائقة ، فقد قاتل الصليبين بجدارة في مصر والشام وفلسطين ، وحقق عليهم انتصارات وعزاً للمسلمين ، ثم جاء بعده صلاح الدين فقاتلهم قليلاً لكنه ضعف وصالحهم وأعطاهم إمتيازات ومناطق لم يحلموا بها زمن القائد الشيعي بدر الجمالي (رحمه اللّه) . ولا مجال للتفصيل.

**

وفي رحلة ابن جبير/51: (وللحرم أربعة أثمة سنية وإمام خامس لفرقة تسمى الزيدية . وأشراف أهل هذه البلدة على مذهبهم وهم يزيدون في الأذان: حي على خير العمل إثر قول المؤذن حي على الفلاح ، وهم روافض سبابون واللّه من وراء حسابهم وجزائهم ، ولايُجَمِّعُون مع الناس إنما يصلون ظهراً أربعاً ، ويصلون المغرب بعد فراغ الأئمة من صلاتها).

**

وفي نهاية ابن كثير:12/323: (ثم دخلت سنة خمس وستين وخمسمائة ، في صفر منها حاصرت الفرنج مدينة دمياط من بلاد مصر خمسين يوماً ، بحيث ضيقوا على أهلها وقتلوا أمماً كثيرة... وفيها قطع صلاح الدين الأذان بحي على خير العمل من ديار مصر كلها ، وشرع في تمهيد الخطبة لبني العباس على المنابر).

**

وفي تاريخ الذهبي:42/127: (صالح بن عيسى بن عبد الملك الفقيه الصالح.... لما زالت دولة العبيديين كان يخرج إلى البلاد المصرية ويخطب بها ، وينسخ ما كان بها من الأذان بحي على خير العمل ، ثم ينتقل إلى بلد آخر احتساباً) .

أقول: لابد أن هذا الشيخ كان معه شرطة تفرض على قرى مصر أذان الدولة!

**

ص: 227

وفي سير الذهبي:20/276: (البلخي الذي تنسب إليه المدرسة البلخية بباب البريد ، هو الإمام أبو الحسن علي بن الحسن بن محمد البلخي الحنفي ، نزيل دمشق ومدرس الصادرية . وعظ وأقرأ وجعلت له دار الأمير طرخان مدرسة ، وثارت عليه الحنابلة لأنه نال منهم ، وكان ذا جلالة ووجاهة ويلقب بالبرهان البلخي . درس أيضاً بمسجد خاتون وأبطل من حلب الأذان بحي على خير العمل ).

**

وفي النجوم الزاهرة:6/103: (وفيها دخل سيف الإسلام أخو صلاح الدين إلى مكة ومنع من الأذان في الحرم بن حي على خير العمل).

**

وفي تاريخ أبي الفداء/604: (ثم دخلت سنة ست وعشرين وخمسمائة ، فيها قتل أبو علي بن الفضل بن بدر الجمالي وزير الحافظ لدين اللّه العلوي ، وكان أبو علي المذكور قد حجر على الحافظ وقطع خطبة العلويين وخطب لنفسه خاصة ، وقطع من الأذان بحي على خير العمل، فنفرت منه قلوب شيعة العلويين(وهماهل مصر)وثار به جماعة من المماليك وهو يلعب الكرة فقتلوه ونهبت داره) .

**

وفي اليواقيت لأبي الفداء/58: ( وغيَّر سعد الدولة الأذان بحلب وزاد فيه: حي على خير العمل محمد وعلي خير البشر . وقيل: إنه فعل ذلك في سنة369 ، وقيل: سنة58 ثمان وخمسين وثلاثمائة) .

**

وفي النجوم العوالي للعصامي/1436: (واستولى الزيدية على غالب حضرموت ، ثم في سنة سبعين استولى على حضرموت كلها ، وأمرهم أن يزيدوا في الأذان حي على خير العمل ، وترك الترضي عن الشيخين) .

**

وفي كامل ابن الأثير:9/592: (وأعاد الشيعة الأذان بحي على خير العمل ، وكتبوا على مساجدهم محمد وعلي خير البشر ، وجرى القتال بينهم وعظم الشر ).

**

ص: 228

وفي سير الذهبي:15/159:(هو المعز لدين اللّه، أبو تميم معد بن المنصور إسماعيل بن القائم ، العبيدي المهدوي المغربي ، الذي بنيت القاهرة المعزية له ، كان صاحب المغرب وكان ولي عهد أبيه . وليَ سنة إحدى وأربعين وثلاث مئة ، وسار في نواحي إفريقية يمهد ملكه فذلل الخارجين عليه...وساروا في أول سنة ثمان وخمسين في أهبة عظيمة وكانت مصر في القحط فأخذها جوهر ، وأخذ الشام والحجاز . ونفذ يعرِّف مولاه(المعز)بانتظام الأمر ، وضربت السكة على الدينار بمصر وهي: لا إله إلا اللّه محمد رسول للّه علي خير الوصيين . والوجه الآخر اسم المعز والتاريخ . وأعلن الأذان بحيَّ على خير العمل، ونودي: من مات عن بنت وأخ أو أخت فالمال كله للبنت . فهذا رأي هؤلاء).

**

وفي أعيان الشيعة:9/91: (جاء البساسيري بجيش عظيم من مصر إلى بغداد وقبض على الخليفة وسجنه في الحديثة ، وفي بغداد جعل الخطبة والسكة مدة عأمين باسم المستنصر الذي كان خليفة الإسماعيلية في مصر ، وفي النهاية علم طغرلبك بذلك فأسرع من خراسان وقصد البساسيري في جيش جرار وقبض عليه وقتله ، وأخرج الخليفة من السجن وأعاده إلى بغداد ، وأجلسه على عرش الخلافة).

ويقول ابن كثير في النهاية12/96 ، عن هاتين السنتين: (وأعادت الروافض الأذان بحي على خير العمل ، وأذن به في سائر نواحي بغداد في الجمعات والجماعات وخطب ببغداد للخليفة المستنصر العبيدي على منابرها وغيرها ، وضربت له السكة على الذهب والفضة ، وحوصرت دار الخلافة).

أقول: هذا يدل على أن شعبية الخلافة الفاطمية في بغداد كانت أكثر من شعبية الخلافة العباسية ، وأن عدد الشيعة في بغداد أكثر من السنة .

**

وفي نهاية الإرب/5257: (وفي سنة اثنتين وستين ورد رسول صاحب مكة... وأسقط خطبة صاحب مصر وترك الأذان بحي على خير العمل ، فأعطاه السلطان(ألب

ص: 229

السلجوقي)ثلاثين ألف دينار وخلعاً نفيسة ، وأجرى له في كل سنة عشرة آلاف دينار).

**

وفي النجوم الزاهرة:5/89: (السنة السابعة والثلاثون من ولاية المستنصر معد على مصر وهي سنة أربع وستين وأربعمائة . فيها بعث الخليفة القائم بأمر اللّه الشريف أبا طالب الحسن بن محمد أخا طراد الزينبي، إلي أبي هاشم محمد أمير مكة بمال وخلع وقال له: غيِّر الأذان وأبطل حي على خير العمل ، فناظره أبو هاشم المذكور مناظرة طويلة ، وقال له: هذا أذان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، فقال له أخو الشريف: ما صح عنه وإنما عبد اللّه بن عمر بن الخطاب روي عنه أنه أذن به في بعض أسفاره ، وما أنت وابن عمر ؟! فأسقطه من الأذان ) !

**

وفي الدرر الكامنة:2/8: (ثم تزوج بنت بيبرس فتضاعفت حرمته ، ولما كانت وقعة شقحب انهزم هزيمة قبيحة فغضب منه السلطان ثم عفا عنه بشفاعة الأمراء فأمره على الحج سنة702، فأبطل الأذان بحي على خير العمل، وجمع الزيدية ومنعهم من الإمامة بالمسجد الحرام ).

**

وفي صبح الأعشى:4/171: (ثم تغلب عليها أتسز بن أرتق الخوارزمي ، أحد أمراء السلطان ملكشاه السلجوقي في سنة ثمان وستين وأربعمائة ، وقطع الخطبة بها للمستنصر الفاطمي وخطب للمقتدي العباسي ، ومنع من الأذان بحي على خير العمل ولم يخطب بعد ذلك بالشام لأحد من الفاطميين) .

**

وفي نهاية ابن كثير:12/137: (قلت: الأقسيس هذا.. وهو أول من استعاد بلاد الشام من أيدي الفاطميين وأزال الأذان منها بحي على خير العمل بعد أن كان يؤذن به على منابر دمشق وسائر الشام مائة وست سنين ، كان على أبواب الجوامع والمساجد مكتوب لعنة الصحابة رضي اللّه عنهم(يقصد لعنة ظالمي آل محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) !)فأمر هذا السلطان المؤذنين والخطباء أن يترضوا عن الصحابة أجمعين ونشر العدل وأظهر السنة ).انتهى.

ص: 230

أقول: لاحظ أن مطلب الشيعة كان دائماً حريتهم في مساجدهم ، وأن يكتبوا في مساجدهم أو محلاتهم محمد وعلي خير البشر (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ويقولوا في مجالسهم اللّهم العن ظالمي آل محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ويكتبوها شعاراً دينياً . فكل مطلبهم حرية عبادتهم وعقيدتهم في مناطقهم ، ولا يريدون فرضها على أحد !

بينما سياسة مخالفيهم أن يفرضوا عليهم في مساجدهم ومناطقهم حذف (حي على خير العمل) والترضي على أبي بكر وعمر وعثمان ومدحهم !

والنص التالي لابن كثير يشهد بأن السلاجقة أول ما سيطروا على بغداد ألغوا الحرية المذهبية التي كانت في زمن الدولة البويهية الشيعية ، وفرضوا مذهبهم بالإجبار والقتل ! قال في النهاية:12/86: (وفيها أُلْزِمَ الروافض بترك الأذان بحي على خير العمل ، وأمروا أن ينادي مؤذنهم في أذان الصبح بعد حي على الفلاح: الصلاة خير من النوم مرتين، وأزيل ما كان على أبواب مساجدهم من كتابة: محمد وعلي خير البشر ، ودخل المنشدون من باب البصرة إلى باب الكرخ ينشدون بالقصائد التي فيها مدح الصحابة ! وذلك أن نَوْءَ الرافضة اضمحل لأن بني بُويَهْ كانوا حكاماً وكانوا يقوونهم وينصرونهم ، فزالوا وبادوا وذهبت دولتهم ، وجاء بعدهم قوم آخرون من الأتراك السلجوقية الذين يحبون أهل السنة ويوالونهم ويرفعون قدرهم ، واللّه المحمود أبداً على طول المدى .

وأمر رئيس الرؤساء الوالي بقتل أبي عبد اللّه بن الجلاب شيخ الروافض لمَا كان تظاهر به من الرفض والغلو فيه فقتل على باب دكانه، وهرب أبو جعفر الطوسي ونهبت داره ).انتهى. وهكذا يحمدون اللّه تعالى على توفيقهم لمصادرة حريات الناس وإكراهم على الأذان والعبادة حسب مذهب الحكومة ، وعلى توفيقهم لقتل أحد علماء الشيعة أمام دكانه ، واضطرار مرجع الشيعة وكبير

ص: 231

علماء بغداد الشيخ الطوسي الى الهرب من بغداد الى النجف ! ويتأسفون لأنهم لم يقتلوه لكنهم عوضوا عن ذلك بنهب داره ومكتبته ، وقتل آخرين !

**

وفي مقابل هذا الجوْر القاسي من الخلافة ، لم يسجِّل أحد من الرواة أن الشيعة أجبروا أحداً على أذانهم ومذهبهم ، ولا قتلوا أحداً من علماء السنة من أي مذهب، طيلة دولة السلاطين البويهيين الشيعة ، ودولة الخليفة الناصر العباسي الشيعي ، ودولة السلاطين المغول الشيعة ، بل كان علماء المذاهب محترمين مقربين من الحكام الشيعة ، ومن علماء الشيعة . وبهذا صح قول ابن الصيفي (رحمه اللّه) : (وكل إناء بالذي فيه ينضحُ) .

**

ص: 232

الفصل السادس: تشويه علماء الخلافة لشخصية السلطان محمد خدابنده

اشارة

ص: 233

ص: 234

1- الغزو المغولي سيئ لكنه فتح الباب للطاقات الجديدة

كان الغزو المغولي لبلاد المسلمين وعاصمتهم سيئاً ، لكن نتائجه كانت ضرورية ! ويكفي في فوائده أنه أزاح قوى الجمود والترف ، وجاء بطاقات علمية وعملية قادت الأمة وأعادت بناءها ! وكان أول تأثير هذه الطاقات إسلام سلاطين الغزاة المغول على أيديهم ! لكن ذنب هؤلاء السلاطين عند رواة الخلافة ليس أنهم غزاة مغول ، بل أنهم اختاروا مذهب التشيع ، ولم يختاروا مذهب الخلافة ! لهذا كثر كذبهم عليهم ، وصار عليك أن تشك فيما كتبوه ضدهم ! حتى عن طاغيتهم الأكبر هولاكو !

لاشك في أن المغول قتلوا ودمروا في بغداد وغيرها ، لكن عندما تفحص ما كتبوه عن تدميرهم للمكتبات تجده مبالغات وكذباً ! فقد أقنع نصير الدين الطوسي هولاكو أن يعين من يحافظ على مدارس بغداد ومساجدها ومكتباتها ، فسلمت كلها ، ولم يسجل الرواة المعاصرون لذلك إلا تدمير جنود المغول لمركزين فقط هما: جامع الخلفاء ، ومشهد الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) .

وقد تقدم ما رواه الذهبي عن سلامة المستنصرية وضخامة أوقافها ، بل نص المؤرخون المتعصبون على سلامة كل المؤسسات العاصمة الثقافية وأوقافها ! فقال في صبح الأعشى:4/334، يصف بغداد: (ومن بيوتها ما هو مفروش بالآجر أيضاً ملصق بالقِير وهو الزِّفْت ، ولهم الصنائع العجيبة في التزويق بالآجر ، وبها وجوه الخير من الجوامع والمساجد والمدارس والخوانق والربط والبيمارستانات والصدقات الجارية ، ووجوه المعونة ، وناهيك أنها كانت دار الخلافة ومقر ملوك الأرض ، ومنها قلائد الأعناق ، وترابها لُمَى القُبَل ، وإثمد الأحداق . قال في مسالك الأبصار: قال الحكيم نظام الدين بن الطياري: وأوقافها جارية في مجاريها ، لم تعترضها أيدي العدوان في دولة هولاكو ولا فيما بعدها ، بل كل وقف مستمرٌّ بيد مُتوليه ومن له الولاية عليه ،

ص: 235

وإنما نقصت الأوقاف من سوء ولاة أمورها لا من سواها). انتهى.

وقال ابن كثير في النهاية:13/249: (وفيها عمل الخواجة نصير الدين الطوسي الرصد بمدينة مراغة ، ونقل إليه شيئاً كثيراً من كتب الأوقاف التي كانت ببغداد ، وعمل دار حكمة ورتب فيها فلاسفة ، ورتب لكل واحد في اليوم والليلة ثلاثة دراهم، ودار طب فيها للطبيب في اليوم درهمان ، ومدرسة لكل فقيه في اليوم درهم، ودار حديث لكل محدث نصف درهم في اليوم). وتقدم مدح الذهبي لنصير الدين في تاريخه:50/113، وأنه بنى مكتبة في مراغة جمع فيها أكثر من400 ألف مجلد .

إن مراجعة بسيطة للموضوع تكشف اهتمام السلاطين المغول الشيعة بالكتب والعلم والعلماء والمدارس والمراكز، أضعاف اهتمام الخليفة العباسي ! ويكفي أن تقرأ ما كتبه ابن الفوطي مدير مكتبة المستنصرية ، عنها وعن غيرها من المكتبات والمدارس ، وزيارة السلطان وكبار المسؤولين لها !

2- السلطان محمد خدابنده في مصادرنا

سبب غضب رواة الخلافة على السلطان محمد خدابنده وزيادة كذبهم عليه ، أنه أعلن تبنيه لمذهب أهل البيت (عليهم السلام) وكتب إسم علي والأئمة (عليهم السلام) على العملة ، وأمر بذكرهم في خطبة الجمعة ، وحذف ذكر أبي بكر وعمر، الذي كان أمر به المنصور العباسي قبل خمسة قرون . لذا وجب أن نقرأ تاريخ هذا السلطان في مصادر الطرفين ، ونبدأ بمصادرنا:

قال السيد المرعشي في شرح إحقاق الحق:1/70: (قال المؤرخ الجليل معين الدين النطنزي في كتابه منتخب التواريخ ، الذي شرع في تأليفه سنة816 وأتمه سنة817 ، وطبع بطهران1336، ما ملخصه: إن السلطان محمد خدا بنده الجايتو كان ذا صفات جليلة وخصال حميدة ، لم يقترف طيلة عمره فجوراً وفسقاً ،

ص: 236

وكان أكثر مجالسته ومؤانسته مع الفقهاء والزهاد والسادة والأشراف ، مصَّر بلدة سلطانية وبنى فيها تربة لنفسه ذات قبة سامية عجيبة ، وعينها مدفناً له. وفقه اللّه لتأسيس صدقات جارية منها: أنه بنى ألف دار من بقاع الخير والمستشفيات ، ودور الحديث ، ودور الضيافة ، ودور السيادة ، والمدارس ، والمساجد ، والخانقاهات ، بحيث أراح الحاضر والمسافر ، وكان زمانه من خير الأزمنة لأهل الفضل والتقى . ملك الممالك وحكم عليها ستة عشرة سنة وكان من بلاد العجم إلى إسكندرية مصر وإلى ما وراء النهر تحت سلطته ، توفي سنة717 أو719 ، ودفن بمقبرته التي أعدها قبل موته في بلدة سلطانية إلى آخره. وقال مولانا العلامة السعيد القاضي الشهيد في المجالس ما محصله: إن لفظة أولجايتو (الجايتو)كلمة مغولية معناها بالفارسية (فرخنده). (المبارك).

ومن آثار هذا السلطان بناء دار السيادة في أصفهان وكاشان وسيواس من بلاد الروم ، وفي مشهد أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وبالشام وديار بكر وغيرها ، وعيَّن لهذه الأبنية عدة أوقاف ، إلى أن قال: وراج حال أهل العلم والفضل في دولة هذا السلطان العادل ، بحيث رتب لهم مدرسة سيارة ، وكان يتنقل معه أينما انتقل جماعة من العلماء والمدرسين والمشتغلين كمولانا العلامة الحلي ، والمولى بدر الدين التستري ، والمولى نظام الدين عبد الملك المراغي ، والمولى برهان الدين ، والخواجة رشيد الدين ، والسيد ركن الدين الموصلي ، والكاتبي القزويني ، والكيشي ، وقطب الدين الفارسي ، وغيرهم . توفي ليلة عيد الفطر سنة716 . وفي كتاب تحفة الأبرار المخطوط في مكتبة العالم الفاضل السيد مهدي اللازوردي القمي ، للعلامة آقا محمد جعفر الكرمانشاهي قال: وكان الجايتو من أفاضل الملوك، سريع الإنتقال حاضر الجواب ، وتحكى

ص: 237

عنه في سرعة الذهن وحضوره غرائب وعجائب...

ثم اعلم أن لهذا الملك الجليل عدة بنين وبنات ، أشهرهم ابنه السلطان أبو سعيد ، وله ولإخوته عقب متسلسل وذرية مباركة ، فيهم الفقهاء والأمراء والشعراء وأرباب الفضل والحجى والورع والتقى ، وقد ذكرت أسماء بعضهم في معاجم التراجم . ولا يذهب عليك أنه بعد ما اختار التشيع لقب(خدابنده) غيرَّ بعض المتعصبين من العامة كابن حجر العسقلاني وغيره ذاك اللقب الشريف إلى (خربنده) وذلك لحميتهم الجاهلية الباردة ! ومن الواضح لدى العقلاء أن صيانة قلم المؤرخ وطهارة لسانه وعفة بيانه من البذاءة والفحش من الشرائط المهمة في قبول نقله والإعتماد عليه والركون إليه .

ومن العجب أن بعض المتأخرين من الخاصة تبع تعبير القوم عن هذا الملك الجليل ولم يتأمل أنه لقبٌ تنابزوا به! وما ذلك إلا لبغض آل الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، هذا الداء الدفين في قلوبهم وتلك الأحقاد البدرية والحنينية ! وإلا فما ذنب هذا الملك بعد اعترافهم بجلالته وعدالته وشهامته ورقة قلبه وحسن سياسته وتدبيره ؟! وهاك صورة الدراهم التي ضربت باسمه في محيطها أسماء الأئمة الطاهرين عليهم الصلاة والسلام ، وفي وسطها هذه الجملة: (ضرب في أيام دولة السلطان الأعظم مالك رقاب الأمم الجايتو سلطان غياث الدنيا والدين خدا بنده محمد خلد اللّه ملكه)، وعندنا شئ من تلك السكك والضروب ، وقد نقشت أسماء المعصومين (عليهم السلام) متصلة بمحيط الدائرة الكائنة على السكة ، وفي وسطها اسم السلطان خدا بنده . هذا ما أهمنا ذكره في هذا المقام من ترجمته ، وتركنا الكثير منها روماً للإختصار ، والتفصيل يطلب من كتب التواريخ كروضة الصفا ، وحبيب السير ، وتاريخ المغول ، وتواريخ بلاد العجم ، وغيرها). انتهى.

**

ص: 238

3- تشويه أتباع الخلافة لشخصية السلطان محمد خدابنده

اشارة

المغول والمماليك من فصيلة واحدة ، والحكم الشرعي فيهما أنهما فئتان تسلطتا على بلاد المسلمين بدون رضاهم ، ولا نصٍّ شرعي من نبيهم (صلی الله عليه وآله وسلم) . فأصل الحكم فيهما كإناءين لايصلحان لشرب ولا وضوء: أَهْرِقْهُمَا وتَيَمَّمْ !

فلماذا يقبل مؤرخوا الخلافة المماليك ويمدحونهم ، ولا يقبلون المغول ؟

المغول أفسدوا في غزوهم ودمَّروا ، ثم استعمروا بشكل غير مباشر وعمَّروا ! والمماليك غزوا الأمة من الداخل بإفساد أقل ، لكنهم استعمروا بشكل مباشر وأفسدوا أكثر ؟! فلماذا يفضلونهم على أولئك ؟

السبب أن شغل رواة الخلافة ليس بعمل المماليك والمغول وعدلهم أو ظلمهم ، وإنما بمذهبهم وهل هم سنة لكي يمدحوهم أو شيعة ليذموهم !

لا تعجب ، واقرأ أي صفحات من تاريخ الأمة من يوم السقيفة الى يومنا ، ستجد أن رواة الخلافة وعلماءها ومؤرخيها يتَّحِدُون ضد كل الأنظمة والحكومات والزعامات والشخصيات الشيعية التي ظهرت ، لأنها لاحقَّ لها برأيهم في مسرح الحكم ، ولا لإمامها علي بن أبي طالب (عليه السلام) ! لأن النبوة كانت لبني هاشم ، ثم صار المسرح حقاً لقبائل قريش ، دون عترة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ولأبي بكر وعمر دون علي والعترة (عليهم السلام) ! فلا تنتظر منهم أن يمدحوا السلطان خدابنده الشيعي ! إلا ما استطعت أن ترصده من فلتاتهم ، أو تقرأه بين سطورهم !

لقد استطاعوا أن يزوروا تاريخ أخيه السلطان قازان ، وولده السلطان بَهَادُر بو سعيد الذي حكم مدة أطول من أبيه خدابنده ، وقالوا إنهما كانا سنيين !

لكنهم لايستطيعون أن يقولوا إن خدابنده كان سنياً، لأنه أصدر مرسوماً أبطل فيه مرسوم المنصور العباسي بأن يمدح خطيب الجمعة أبا بكر وعمر وعثمان ،

ص: 239

وأمر أن يمدح الخطيب بدلهم علياً والأئمة من أولاده (عليهم السلام) فقط !

ولهذا وجب عندهم أن يتحاملوا عليه ويشوهوا صورته ما استطاعوا ! لأنه أذنب ذنباً عظيماً ! ولا يشفع له أنه ضمن الحرية لبقية المذاهب ، وساعد مؤسساتها واحترم علماءها ، وأن الحكام الجوينيين في عهده عمَّروا العراق حتى عاد أفضل مما كان في عهد العباسيين !

إن كرههم لهذا السلطان بل وعقدتهم منه: أنه قال إن ذكر إسم أبي بكر وعمر بعد الصلاة غير واجب فلا تفعلوه ! والنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أوصى بالقرآن والعترة فاذكروهم . فاستحق بذلك النار ، وصار الكذب عليه واجباً !

وأول مكذوباتهم عليه أنهم سموه (عبد الحمار!) لأن إسمه محمد ولقبه (خدابنده) وهو فارسي بمعنى عبداللّه ، فجعلوه(خربندا) ، أي عبد الحمار !

ولا تقل إنهم لايعرفون معنى ذلك ، فأكثر رواة الخلافة فُرْسٌ أقحاح ، وهم أسسوا لها المذاهب ضد أهل البيت (عليهم السلام) ، وأكثر العلماء المتعصبين ضد أهل البيت منهم ! بل لك أن تقول إن الذي يغير (خدابنده) الى(خربندا)هو فارسي متمكن من الفارسية ! قال في مآثر الإنافة:2/128: (وملك بعده أخوه خدابندا ، والعامة تقول خربندا). انتهى. وأخطأ القلقشندي أو كذب باتهام العامة بذلك ، فقد ترجم له أكثر علمائهم باسم(خربندا)ومنهم القلبقشندي نفسه ! فهل هو والذهبي وابن حجر وابن كثير وابن خلدون وأمثالهم ، من العوام ؟!

بل زعم ابن تغري الشركسي الشامي في النجوم الزاهرة:9/238، أنه وجد سبب تسمية أبيه له(عبد الحمار) ! قال: (ومن الناس من يسميه خُدابندا بضم الخاء المعجمة والدال المهملة ، والأصح ما قلناه (أي خربندا) ! وخدابندا معناه عبد اللّه بالفارسي غير أن أباه لم يسمه إلا خربندا وهو اسم مهمل معناه عبد الحمار !

ص: 240

وسبب تسميته بذلك أن أباه كان مهما ولد له ولد يموت صغيراً ، فقال له بعض الأتراك: إذا جاءك ولد فسمه إسماً قبيحاً يعش ، فلما ولد له هذا سماه خربندا في الظاهر واسمه الأصلي أبجيتو (المبارك) فلما كبر خربندا وملك البلاد كره هذا الإسم واستقبحه فجعله خدابندا ، ومشى ذلك بمماليكه وهدد من قال غيره ، ولم يُفده ذلك إلا من حواشيه خاصة ! ولما ملك خربندا أسلم وتسمى بمحمد واقتدى بالكتاب والسنة وصار يحب أهل الدين والصلاح وضرب على الدرهم والدينار إسم الصحابة الأربعة الخلفاء(لا صحة له)حتى اجتمع بالسيد تاج الدين الآوي الرافضي وكان خبيث المذهب فما زال بخربندا حتى جعله رافضياً ، وكتب إلى سائر ممالكه يأمرهم بالسب والرفض ! ووقع له بسبب ذلك أمور ! قال النويري: كان خربندا قبل موته بسبعة أيام قد أمر بإشهار النداء ألا يذكر أبو بكر وعمر رضي اللّه عنهما ، وعزم على تجريد ثلاثة آلاف فارس إلى المدينة النبوية لينقل أبا بكر وعمر رضي اللّه عنهما من مدفنهما ، فعجل اللّه بهلاكه إلى جهنم وبئس المصير هو ومن يعتقد معتقده كائناً من كان) . انتهى.

أقول: هذا مثل على أنهم كذبهم المكشوف ! فهم يعرفون أن السلطان قازان هو أخ السلطان خدابنده (ولما هلك قازان وليَ بعده أخوه خربندا وابتدأ أمره) (وتاريخ الذهبي:52/37، وابن خلدون:5/549) ، وله إخوة أكبر منه ذكرهم المؤرخون أتباع الخلافة وهم: أخوه نوروز بن أرغون بن أبغا(الدرر الكامنة:4/25) وبيدار بن أرغون(نهاية ابن كثير:13/385) ! ومنه تعرف أنهم يكذبون جهاراً حسبةً لنصرة السنة ! ومنه قولهم إنه نوى إرسال ثلاثة آلاف فارس لنبش قبر أبي بكر وعمر ونقل عظامهما من قرب قبر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فحدثت معجزة لأبي بكر وعمر ومات محمد خدابنده بعد سبعة أيام !

ص: 241

ومن هذا النوع قول المقريزي في السلوك:2/513: (وكان رافضياً قتل أهل السنة ! وكان منهمكاً في شرب الخمر متشاغلاً باللّهو ! وقام بعده ابنه أبو سعيد بعهده إليه . وكان مُحْوَلاً بإحدى عينيه ، عادلاً في رعيته ، ملك ثلاث عشرة سنة وأشهراً) .

وقال في مآثر الإنافة:2/128، تحت عنوان (خربندا): (فافتتح أمره بالدخول في الإسلام وتسمى بمحمد وتلقب غياث الدين، وأقام دين الإسلام وعظَّم الخلفاء وكتب أسماءهم في سكته على الدراهم والدنانير...).

وقال ابن خلدون:5/549: (ولما هلك قازان وليَ بعده أخوه خربندا وابتدأ أمره بالدخول في دين الإسلام وتسمى بمحمد ، وتلقب غياث الدين وأقر قطلوشاه على نيابته... وأقام في سلطانه حسن الدين معظماً للخلفاء وكتب أسماءهم على سكته ! ثم صحب الروافض فساء اعتقاده وحذف ذكر الشيخين من الخطبة ونقش أسماء الأئمة الإثني عشر على سكته ، ثم أنشأ مدينة بين قزوين وهمذان وسماها السلطانية ونزلها واتخذ بها بيتاً لطيفاً بلبن الذهب والفضة ، وأنشأ بإزائها بستاناً جعل فيه أشجار الذهب بثمر اللؤلؤ والفصوص ، وأجرى اللبن والعسل أنهاراً ، وأسكن به الغلمان والجواري تشبيهاً له بالجنة ، وأفحش في التعرض لحرمات قومه ! ثم سار إلى الشام سنة ثلاث عشرة وعبر الفرات ونزل الرحبة ورجع ، ثم هلك . ويقال مات مسموماً على يد بعض أمرائه سنة ست عشرة ، واللّه تعالى أعلم) . انتهى.

أقول: لم يذكر ابن خلدون ولا غيره مصدرهم فيما قالوه عن السلطان الشيعي مع أن عصره قريب منهم ! وهذه قاعدة لك في بعض أنواع كذبهم ، أنهم لايذكرون سنداً، أو يقولون قال أهل العلم !

فالسلطان خدابنده متوفى سنة716، وابن خلدون مثلاً سنة808 ، ومعناه أنه رأى بقايا الجيل الذين عاصروا السلطان ! لكن تاريخ الشخصية الشيعية عندهم لايحتاج الى مصدر ويجب الكذب عليه أو نقل مكذوبات الأتقياء المحتسبين حتى لو كان ملكاً معروفاً (كان من بلاد العجم إلى إسكندرية مصر وإلى ما وراء النهر تحت

ص: 242

سلطته) ! فالمؤرخ عندهم يجوز له أن يكذب في تاريخ الشيعي ما شاء ، فسوف يصدقه أتباع الخلافة !وزاد ابن خلدون:5/494:(وشاع بين الناس أنه داخل الروافض الذين عند خربندا في إخراج الشيخين من قبريهما وعظم ذلك على الناس). انتهى.

أقول: شكراً لابن خلدون لأنه صرح بأن ذلك شائعة لاسند لها، ولم يبالغ كمن قال إن السلطان الشيعي أمر المسلمين بسب أبي بكر وعمر ! ولم يذكر المعجزة في أسطورة ابن بردى، أو أسطورة الذهبي التي زعم فيها أن شمس الدين الموصلي(ابن الحشيشي)عندما أمر السلطان بحذف إسم أبي بكر وعمر من الخطبة أخذ يسبهما (فورمت عيناه حتى كادت تخرج من وجهه ، واسودَّ جسمه حتى بقي كالقير وانتفخ ، وخرج من حلقه شئ يصرع الطيور(صفير شديد !) فحمل إلى بيته فما جاوز ثلاثة أيام حتى مات ، ولم يتمكن أحد من غسله مما يجري من جسمه وعينيه ودفن ! وقال ابن منتاب: جاء إلى بغداد أصحابنا وحدثوا بهذه الواقعة وهي صحيحة)!(الوافي:3/18) .

وقال الذهبي في ذيول العبر:6/46: (وأظهر خربندا الرفض بمملكته ، وغيَّر الخطبة ، وشمخت الشيعة وجرت فتن كبار ) !

زاد ابن تيمية على الجميع في التجني

أما ابن تيمية فهو دائماً مفرطٌ في تعصبه ! قال في منهاجه:6/375: (والرافضة إذا تمكنوا لايتَّقُون، وانظر ما حصل لهم في دولة السلطان خدابندا الذي صنف له هذا الكتاب ، كيف ظهر فيهم من الشر الذي لو دام وقوي أبطلوا به عامة شرائع الإسلام).انتهى. ولم يقف ابن تيمية عند تخوفه من قوة السلطان والشيعة و(شرهم) بل أضاف أنه بلغه من مجهول أن السلطان خدابنده اتهم النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بأنه لاعقل له لأنه صحب أبا بكر مع أنه يبغضه !

ص: 243

وقال في منهاجه:8/430: (ولقد بلغني عن ملك المغول خدابنده الذي صنف له هذا الرافضي كتابه هذا في الإمامة ، أن الرافضة لما صارت تقولأل له مثل هذا الكلام إن أبا بكر كان يبغض النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكان عدوه ، ويقولون مع هذا إنه صحبه في سفر الهجرة الذي هو أعظم الأسفار خوفاً . قال كلمة تلزم عن قولهم الخبيث وقد برأ اللّه رسوله منها لكن ذكرها على من افترى الكذب الذي أوجب أن يقال في الرسول مثلها ، حيث قال: كان قليل العقل ! ولا ريب أن فعل ما قالته الرافضة فهو قليل العقل وقد برأ اللّه رسوله وصديقه من كذبهم وتبين أن قولهم يستلزم القدح في الرسول)!

عتَّموا على كل منجزات السلطان محمد خدابنده !

ذكرنا بعض ما افتروه على هذا السلطان الشيعي ! ثم تعمدوا إهمال محاسنه ومنجزاته ، فاكتفى بعضهم بقوله كان (عادلاً في رعيته).(السلوك:2/513) ، ولم يبين شيئاً من عدالته ! كما أهملوا ذكر الحريات والعمران في عصره ، وأن المغول أوكلوا حكم مناطقهم المحتلة الى أهلها ، وأن السلطان خدابنده أطلق يد الجوينيين فعمَّروا العراق بمستوى قياسي في مدة قياسية !

ولا ذكروا خدماته في الحرمين وطريق الحج ومشاهد أهل البيت (عليهم السلام) وأنه أراح الحجاج والزوار والمسافرين ، ولا ازدهار المكتبات والمدارس والعلم والعلماء في عهده ، ولا أنه أنشأ جامعة في السلطانية وجاء لها بكبار علماء المذاهب الأربعة ، وكان يجلس في بعض دروسهم !

وأنه كان يجالس العلماء ويحبهم ، وأنه برعايته للسنة ظهر منهم علماء كبار مشهورون كصدر جهان الحنفي ، ونظام الدين المراغي ، والعضدي الإيجي ، وبدر الدين الشوشتري ، وقطب الدين اليمني التستري ، وغيرهم وغيرهم .

وغاية ما قاله ابن كثير: (كان موصوفاً بالكرم ومحباً للّهو واللعب والعمائر)

ص: 244

(النهاية:14/88) . ولم يقل أي لهو ، ولم يقل إنها عمائر المدارس والمكتبات ، ومحطات طريق الحج..الخ. ! وقد أشرنا الى كثرة العلماء والمؤلفات في عهد سلاطين المغول الشيعة ، وواردات الأوقاف الضخمة وجوائز الدولة السخية للمؤلفين.(راجع تاريخ المغول للدكتور عباس إقبال ، فقد أرُخّ للجوانب الحضارية والثقافية والصناعات والأدب والتاريخ وأعلام الثقافة من المغول ومن ارتبطوا بهم ).

ولا ذكر رواة الخلافة الموسوعة التاريخية برعاية محمد خدابنده .

قال في كشف الظنون:1/539: (جامع التواريخ فارسي، لخواجة رشيد الدين فضل اللّه الوزير المقتول في سنة718 ، وهو تاريخ كبير في دولة جنكيز وأولاده ، ذكر فيه أنه لما شرع في التبييض مات السلطان غازان في شوال سنة704 ، وجلس مكانه ولده خدابنده محمد فأمره بإتمامه وإدخال إسمه في العنوان ، وأمر أيضاً بإلحاق أحوال الأقاليم وأهلها ، وطبقات الأصناف ، وبأن يجعل جامعاً لتفاصيل ما في كتب التواريخ . وأمر من تحت حكمه من أصحاب تواريخ الأديان والفرق بالإمداد اليه من كتبهم ، وأمر أيضاً بأن يجعله مذيلاً بكتاب صور الأقاليم ومسالك الممالك .

وكتب أحوال الدولة الجنكيزية وأمة الترك مفصلاً في مجلد ، وذكر خلاصة الوفيات في مجلد آخر، وأورد صور الأقاليم في مجلد آخر على أن يكون ذيلاً له ، ونقل إخبار كل فرقة على ما وجد في كتبهم بلا تغيير ، ورتب على ثلاثة مجلدات: الأول فيما كتبه باسم غازان وهو على بابين: الأول في ظهور الأتراك وبلادهم ، والثاني في المغول . الثاني فيما كتبه باسم أولجايتو محمد وهو على بابين أيضاً: الأول في أحواله والثاني في قسمين، الأول: في تواريخ الأنبياء والخلفاء وطبقات الملوك والأصناف من لدن آدم الى سنة سبعمائة . والثاني في تاريخ كلويوم من أهل ختاي وماجين وكشمير وهند وبني إسرائيل والملاحدة والإفرنج ، والثالث في صور الأقاليم ) . انتهى. وقد ألف الأستاذ المحامي عباس العزاوي كتاباً خاصاً في التعريف

ص: 245

بهذه الموسوعة باسم: (التعريف بالمؤرخين في عهد المغول) قال فيه: (شرع فيه في شعبان699 وفرغ منه في شعبان سنة711 ، إلا أن المؤلف لم يقف عند حدود هذه السنة ، إنما استمر إلى سنة728 ، فزاد عليه وختمه بمناقب السلطان أبي سعيد ، قال: ولم يكتبه للتاريخ ، وإنما اتخذ التاريخ وسيلة فأبدى قدرة في التحرير والبلاغة ، وصناعة الإنشاء والترصيع والتسجيع ، ولكنه مملوء فوائد تاريخية لايستهان بها بوجه). (مجلة تراثنا/58/180).

**

ولا يتسع المجال لبسط تاريخ السلطان خدابنده ، لكن نؤكد على ضرورة الشك فيما رووه عن أحداث عصره ، فقد كذبوا مثلاً في سبب معركته مع أهل كيلان وجعلوه أنه أراد أن يفرض عليهم سب المذاهب !

قال الذهبي في عبره:6/34: (أن يكون له عندهم نائب ، وأنهم يسبون الأشعري وأبا حنيفة ) ! لكن ابن كثير قال في النهاية:14/50: (وفي المحرم(سنة 707)وقعت الحرب بن التتر وبين أهل كيلان ، وذلك أن ملك التتر طلب منهم أن يجعلوا في بلادهم طريقاً إلى عسكره فامتنعوا من ذلك). ثم ذكر ابن كثير أن أهل كيلان أبادوا جيش خدابنده وكان ستين ألفاً وقال: (ثم إن ملك التتر أرسل الشيخ براق الذي قدم الشام فيما تقدم إلى أهل كيلان يبلغهم عنه رسالة فقتلوه وأراحوا الناس منه ، وبلادهم من أحصن البلاد وأطيبها لاتستطاع ! وهم أهل سنة وأكثرهم حنابلة لايستطيع مبتدع أن يسكن بين أظهرهم) ! انتهى.

أقول: وهذا من تزويرهم ليجعلوا المعركة ضد السنة ! ومتى كان أهل كيلان أو طبرستان حنابلة أو سنيين؟! فهم شيعة زيديون من زمن بني أمية وزمن الدولة العباسية ، ودولة الزيديين في طبرستان معروفة أرُخّ لها الجميع ومنهم بعض هؤلاء المؤرخين والمحدثين الكذابين !

قال في أعيان الشيعة:1/200: (جيلان: مشتملة على جبال وعقبات كثيرة والأشجار

ص: 246

مشتبكة بينها ، وتنقسم قسمين قسم لاهجان وتوابعها ، وقسم رشت وملحقاته . وأهل تلك البلاد كانوا زيدية جارودية من زمان ناصر الحق الذي كان باعث إسلامهم ، إلى ظهور الشاه عباس ثم انتقل سلاطينهم مع أكثر أهل لاهجان إلى مذهب الإمامية). (أعيان الشيعة:1/200) . وفي خلاصة الأثر للمحبي/486: من كلام العماد مع رجل: (وذلك لأنك كنت كيلانياً وأهل كيلان زيديون) .

**

في الختام: ينبغي أن نذكر تآمر المتعصبين لقتل هذا السلطان ، كما ذكرته مصادرهم ومنهم قاضي بغداد ابن عصية العجمي الحنبلي! ففي السلوك:2/471: وفيها قدم البريد من حلب بأن خربندا ملك التتر قتل جماعة من خواصه) !

وفي الدرر الكامنة:5/358: (محمد بن علي الساوجي العجمي كان من الكبار بالعراق وأنشأ ببغداد جامعاً غرم عليه ألف ألف ، وغضب عليه خربندا فأمر بقتله وقتل الوزير مبارك شاه ويحيى بن إبراهيم بن صاحب سنجار فقتلوا جميعاً في شوال سنة711 ، بسبب أن الشريف تاج الدين رفع عليهم عند خربندا أنهم تواطؤوا على قتله . ويقال إن الساوجى حين قدم للقتل صلى ركعتين وودع أهله وثبت للقتل وخلع فرجيته على قاتله) ! انتهى.

أقول: هذا من عنتريات الحنابلة في شجاعة قاضيهم أمام القتل ! فقد قال الصفدي إن السلطان خدابنده لم يقتله بل أمر بتعزيره فعزروه بالضرب ولم يقتلوه ، وأنه عاش بعد ذلك عشر سنوات !

قال في الوافي:6/185: (أحمد بن حامد بن عصبة القاضي جمال الدين قاضي بغداذ الحنبلي الذي عزر في أيام خربندا، توفي سنة إحدى وعشرين وسبع مائة) ! وأيده ابن حجر في الدرر الكامنة:1/135،ونقض ما رواه أولاً فقال: (ولي قضاء بغداد وعظم قدره عند خربندا ، ثم تغير عليه ، ومات سنة721 ) .

**

ص: 247

5- السلطان بهادران بو سعيد بن محمد خدابنده

اشارة

نشير الى (بو سعيد) إسم مبني ، كما نص عليه الصفدي في الوفيات:10/202: (بو سعيد ملك التتار صاحب العراق وخراسان وأذربيجان والروم والجزيرة.. والصحيح على أنه علَمٌ بلا ألف ، هكذا رأيت كتبه التي كانت ترد منه على السلطان الملك الناصر يكتب على ألقابه الذهبية(بو سعيد)باللازورد الفائق، ويزمِّك بالذهب).

وقد مدح المؤرخون الشيعة السلطان المغولي بو سعيد ، لأنه بشكل عام واصل خط أبيه في تبني التشيع والحرية المذهبية وسياسة الإعمار . ووافقهم المؤرخون السنة على مدحه حتى الذين ذموا أباه وأبغضوه ، فقد مدحوه وأثنوا عليه ! والسبب أنهم جعلوه سنياً مخالفاً لأبيه فصار مدحه واجباً ! وهذه نصوص مختارة من مصادر الطرفين ، نعلق عليها بما يوضح شخصيته ونظام حكمه :

قال السيد الأمين في أعيان الشيعة:2/355: (السلطان أبو سعيد بهادر خان بن السلطان محمد خدابنده ، الملقب بالجايتو خان المغولي... وملك منهم (المغول) في بلاد الإسلام واحد وعشرون ملكاً وكانت مدة ملكهم 168 سنة وشهرين ، من سنة603 إلى سنة771 ، ودخلوا في دين الإسلام أخيراً . وأول من أسلم منهم السلطان أحمد خان بن هولاكو ، ثم غازان خان بن أرغون بن أبقا بن هولاكو ، وأسلم بإسلامه ثمانون ألفاً من المغول ، ثم أخوه محمد خدابنده الجايتو والد المترجم ابن أرغون ، وتشيع على يد العلامة الحلي... في بعض التواريخ الفارسية المخطوطة أنه (بو سعيد)كان قد تعلم حسن الخط على الخواجة عبد اللّه الصيرفي ، وكان في الشجاعة ممتازاً على جميع سلاطين المغول ، وهو أول سلطان في إيران أضيف إلى إسمه لقب بهارد ، وكان يصيِّف في مدينة سلطانية ويشتو في بغداد أو قراباع ، وله ميل تام إلى أهل الفضل والنباهة والشعراء ، وكان حسن السيرة والصورة ، وبقي في السلطنة

ص: 248

19سنة وثلاثة أشهر ، وبعد وفاته وقع الهرج والمرج في المملكة ، ولم يبق لسلاطين المغول بعده إستقلال بالسلطنة في بلاد إيران ، بل كان في كل طرف من إيران ملك حاكم... ذكره صاحب مجالس المؤمنين في عداد الملوك الشيعة ، ويؤيده أن أباه السلطان محمد خدابنده كان قد تشيع على يد العلامة رحمه الله علیه كما هو معروف ومر آنفاً ، والولد على سر أبيه ، وكذا عم أبيه السلطان أحمد كان قد تشيع ، وكذا عمه السلطان غازان كما يأتي في ترجمتهما...

في مجالس المؤمنين: تولى السلطنة بعد أبيه بولاية العهد ، وجاء من خراسان إلى مدينة سلطانية وفي أوائل صفر سنة717 جلس فيها على سرير السلطنة وعمره اثنتا عشرة سنة ، وتولى تدبير المملكة الأمير جوبان ولم يكن لأبي سعيد من السلطنة إلا الاسم فصبر أبو سعيد على ذلك... وأخيراً غضب السلطان على الجوبانيين فأمر بقتل الأمير جوبان وأولاده ونهب دوره ودور أولاده وأتباعه ، فأخرجت من دورهم خزائن الأموال ، وأمر بقتل الجوبانيين في جميع الولايات .

ولما استقل أبو سعيد بالملك استوزر الخواجة غياث الدين محمد بن الخواجة رشيد الدين الذي قتله الأمير جوبان ، ونشر لواء العدل وبسط بساط الأمن والرفاهية كما ذكره الأوحدي الذي كان من خواص ذلك السلطان في كتابه جام جم ، والأيمني الشاعر كان في زمانه ، وقال في ذلك شعراً بالفارسية . اه- .

وفي بعض التواريخ الفارسية المخطوطة...تولى السلطان أبو سعيد بهادر خان بن الجايتو الملك بعد أبيه ، وحيث أنه كان طفلاً ابن اثنتي عشرة سنة ، سلم زمام السلطنة بيد الأمير جوبان سلدوز فولى الأمير جوبان أولاده على البلاد ، فولى ولده الأمير حسن على أيالة خراسان ، وولده الشاه محمود على كرجستان ، وولده الأمير تيمور تاش على ديار بكر والروم ، وجعل ولده الأمير دمشق نائب السلطان . وزوج السلطان بابنة ابنه دلشاد خاتون بنت الأمير دمشق ، وعزل الخواجة رشيد الدين من الوزارة ثم قتله بتهمة أنه سم السلطان الجايتو ،وكان قتله في حدود أبهر سنة718 .

ص: 249

وبعد مضي12سنة من سلطنة أبو سعيد تغير على الأمير جوبان ، وعشق ابنته بغداد خاتون التي كانت متزوجة بالأمير الشيخ حسن الإيلخاني ! وأراد من جوبان أن يطلقها من الأمير الشيخ حسن ويزوجه إياها فلم يمكنه الأمير جوبان من ذلك ، فقامت بسبب ذلك فتنة عظيمة ذهب فيها الأمير جوبان وأولاده الثلاثة ، وكان ذلك آخر أمرهم . وأخيراً طلق الأمير الشيخ حسن بغداد خاتون وتزوجها السلطان وسلم بيدها زمام الحكم ولقبها بخواندكار. وكان الجوبانيون في زمان غازان خان والجايتو خان والسلطان محمد خدابنده من الأمراء الكبار . وفي زمان السلطان أبو سعيد كان مدار السلطنة على الأمير جوبان مدة12سنة ، وكان جوبان متصفاً بمحامد الأخلاق ومحاسن الأوصاف ، وعمر عمارات في طريق مصر والشام وبادية مكة المعظمة ، وعمل خيرات كثيرة وأجرى الماء في مكة المعظمة ، وعمل من الخيرات ما لم يعمله غيره ، وكان قتله في هراة سنة728 ودفن في البقيع) . انتهى.

ونسجل هنا ملاحظات:

1- استمر السلطان بو سعيد يدير مملكته من عاصمتهم في إيران ، وهي مدينة السلطانية قرب قزوين . واستمر في عهده الحكم في العراق بسياسة آل الجويني في الإعمار واحترام الحريات ، وسجلت المصادر اهتمامه شبيهاً بأبيه بالنهضة العلمية والثقافية، وأنه كان يطلب تأليف كتب في موضوعات، مثل:

كتاب: روضة أولي الألباب في تواريخ الأكابر والأنساب ، في أحوال ملوك خطا وأوصافهم ، للمؤرخ فخر الدين محمد بن أبي داود . (كشف الظنون:1/925).

وكتاب: نزهة القلوب، لحمد اللّه بن أبي بكر المستوفي ، في التاريخ من زمن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) إلى عصره ، ألفه لوزيره محمد بن رشيد الدين . (أعيان الشيعة:2/356).

وكتاب: نزهت جهان ونادرهء زمان ، لمعين الدين الأسفرايني ألفه بطلب السلطان بو سعيد . (كشف الظنون:2/1976).

وكتاب: مثنوي شاهنامه ، لأحمد بن محمد التبريزي نظمه باسم السلطان أبو سعيد خان

ص: 250

بهادر وهو في التاريخ من عهد يافث بن نوح إلى سنة738 ، ويوجد في المتحف البريطاني2/or2780 ). (الذريعة:19/217). وفي:19/230: (مثنوي شهنشاه نامه أو منظومة أحمدي لأحمد بن محمد التبريزي، في تاريخ المغول (المتحف البريطاني:or2780).(الذريعة:19/230).

وكتاب: مجمع الأنساب، لمحمد بن علي بن أبي بكر ألفه باسم السلطان أبو سعيد والأمير محمد بن رشيد والدين. (المتحف البريطاني:Add 16696 ، والملية بباريس:d 1278 . S). (الذريعة:20/19). وكتاب: نسائم الأسحار من لطائف الإخبار ، في تاريخ الوزراء بالفارسية لناصر الدين بن منتجب المنشي ألفه باسم أبي سعيد بهادر خان في: أيا صوفيا- 3487 بعنوان ألقاب الوزراء. (الذريعة:24/132).

وكتاب: مثنوي هما وهمايون ، لكمال الدين محمود الكرماني مدح في مقدمته أبو سعيد بهادر خان والخواجة غياث الدين محمد الوزير . (الذريعة:19/342).

وكتاب: سمط العلى ، في تاريخ القراختائيين في كرمان ، تأليف ناصر الدين المنشي ابطلب من وزيره محمد رشيد الدين . (الذريعة:12/230).

2- نلاحظ أن المغول بشكل عام كانوا يميلون الى اللغة الفارسية أكثر من العربية ، والسبب أن الفارسية كانت منتشرة في مناطق بخارى وما وراء النهر المجاورة لهم ، وربما كان هولاكو وأولاده يعرفون الفارسية من صغرهم .

ولعلهم لذلك اتخذوا عاصمتهم السلطانية في إيران وكتبوا واستكتبوا مؤلفين بالفارسية ، وكانت الفارسية اللغة الرسمية في بلاطهم ثم العربية ، أما في بغداد فكانت الفارسية منتشرة الى جانب العربية من زمن العباسيين ، لأن أكثر قادتهم العسكريين وعلماء البلاط من الفرس .

كما نلاحظ أن الملوك المغول الذين انتقلوا الى بغداد وحكموها مباشرة بعد بو سعيد الذين كانوا يجيدون العربية ، وأولهم الشيخ حسن الجلايري أو الإيلخاني ، فقد كان متعلماً متقناً للعربية .

ص: 251

3- يختلف السلطان بو سعيد عن أبيه محمد خدابنده (رحمه اللّه) ، فشخصية أبيه أرقى من شخصيته وأمتن . وسبب ضعفه أنه عندما توفي أبوه وتسلم السلطنة سنة716 كان غلاماً ابن اثنتي عشرة سنة ، في ولاية والدته وخاله ، وكان وزير أبيه رشيد الدين الهمداني عاقلاً مدبراً ، لكنه كان كبير السن وكان جوبان زوج عمته أقوى منه فهو مغولي وقائد جيوش المغول وحاكم تركيا ، لذلك سيطر على البلاط السلطاني بمجرد وفاة خدابنده ، وجعل ابنه دمشق خان ممثلاً له ونائباً للسلطنة ، وقلص نفوذ الوزير رشيد الدين ، ثم اتهمه بقتل خدابنده وقتله ! وبلغ من نفوذ جوبان أنه منع السلطان بو سعيد من التصرف حتى احتاج الى مصاريف فاستدان من تاجر ، كما روى ابن بطوطة ! بل فكر جوبان بعزل بو سعيد واستبداله بسلطان آخر من أولاد هولاكو ، أو الحلول مكانه وإن لم يكن هولاكياً . وسبب ذلك غضب بو سعيد على جوبان وأولاده فقتلهم سنة728 ، أي عندما صار في الثالثة والعشرين من عمره .

4- نلاحظ أن مدح رواة الخلافة لجوبان أكثر من مدحهم لبو سعيد ، والسبب أنه كان سنياً متعصباً أو متواطئاً معهم ، يعمل في الخفاء لضرب مذهب التشيع الذي تبناه خدابنده وضرب شخصياته الذين قربهم خدابنده . والنص التالي يكشف ذلك !

قال السخاوي في التحفة اللطيفة:1/249: (جوبان بن تدوان نائب القان أبو سعيد بن خربندا ، امتلك البلاد المشرقية وهو صاحب المدرسة الجوبانية بالمدينة التي بنيت في سنة أربع وعشرين وسبعمائة ، وجعل له فيها تربة ملاصقة لجدار المسجد بين جدار الشباك والحصن العتيق ، واتخذ فيها شباكاً في جدار المسجد وهو اليوم مسدود . كان مناصحاً للمسلمين في الباطن ، وفيه خير ودين... دبر المملكة في أيامه مدة طويلة على السداد ، ثم تغير عليه سلطانه وقتل ولده دمشق خواجا في سنة سبع وعشرين ، فهمَّ جوبان بمحاربة أبي سعيد فلم يتمكن ، ثم ظفر أبو سعيد به فقتله... وكان شجاعاً مهيباً شديد العطاء كبير الشأن كثير الأموال عالي الهمة صحيح الإسلام

ص: 252

ذا حظ من صلاة وبر ، بذل ذهباً كثيراً حتى أوصل الماء إلى بطن مكة ، وقيل إنه أخذ من ملكه ألف ألف دينار ، وكانت ابنته بغداد زوجة أبي سعيد وابنة تمرتاش متولي ممالك الروم وابنه دمشق قائد عشرة آلاف، وكان سلطانه أبو سعيد تحت يده!

ثم زالت سعادتهم وتنمر لهم أبو سعيد فقتل دمشق وفر أبوه جوبان إلى والي هراة لائذاً به ، فقتله بأمر أبي سعيد في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة ولعله من أبناء الستين ، قاله الذهبي في ذيل سير النبلاء . وقد ترجمه المجد فقال: الجوبان الأمير الكبير نائب المملكة القاءانية وأتابك العساكر المغلية ومنشئ المدرسة الجوبانية بالمدينة الشريفة وليس بها مدرسة ولا رباط ولا دار أحسن بناء وأتقن وأمكن وأمتن وأحصن منها... وأطال في مدحه وخدماته في مكة والمدينة ثم قال: وله على المسلمين أياد منها إيقاع الصلح بين السلطانين أبي سعيد والملك الناصر ولولاه لثارت فتن تقطعت منها الأواصر وتشققت منها الخواصر ، ومنها ترحيل خربندا عن رحبة مالك بن طوق وإخماد تلك الثائرة التي جل غمرها عن الطوق يحكي أنه لما نزل خربندا على الرحبة ونصب المجانيق رمى منجنيق قرا سنقر حجراً زعزع القلعة وشق منها برجاً ولو رمى آخر لهدمها ، وكان رحمه اللّه يطوف على العساكر ويشاهد المحاصرين ، فلما رأى ذلك أحضر المنجنيقي وقال له: تريد أن أقطع يدك الساعة وسبه وذمه بانزعاج وحنق ! وقال: وذلك في شهر رمضان تحاصر المسلمين وترميهم بحجارة المنجنيق ولو أراد القاءان أن يقول لهؤلاء المغل الذين معه إرموا على هذه القاعدة تراباً كل فارس مخلاة كانوا طموها ، وإنما يريد هو أن يأخذها بالأمان من غير سفك دم ، واللّه متى عدت لرمي حجر آخر سمَّرتك على سهم المنجنيق ! وكان رحمه اللّه ينزع النصل من النشاب ويكتب عليه إياكم أن تذعنوا وتسلموا وطولوا روحكم فهؤلاء مالهم ما يأكلونه وكان يحذرهم هكذا دائماً بسهام يرميها إلى القلعة .

ثم اجتمع بالوزير وقال له هذا القاءان ما يبالي ولا يقع عليه عتب وفي غد وبعده إذا تحدث الناس أيش يقولون: نزل خربندا على الرحبة وقاتل أهلها وسفك دماءهم

ص: 253

وأهدرها في شهر رمضان ! فيقول الناس: فما كان له نائب مسلم ولا وزير مسلم وقرر معه أن يحدثا القاءان خربندا في ذلك ويحسنا له الرحيل عن الرحبة....

وهذه الحركة تكفيه إن شاء اللّه تعالى ذخيرة ليوم حسابه حقن دماء المسلمين ودفع الأذى عنهم . وكان السلطان أبو سعيد تزوج بابنته بغداد ، وكان ابنه دمشق قائداً لعشرة آلاف فارس ، فدالت دولتهم وزالت سعادتهم وتنمر لهم أبو سعيد وقتل دمشق خواجا ولده وهرب أبوه إلى سلطان هراة مستجيراً فآواه ثم أدخله القلعة ، ثم أشار عليه بعض المفسدين بقتله فقتله ، ونقل في تابوت إلى بغداد في سابع عشر شوال سنة ثمان وعشرين وسبعمائة وصلى عليه في المدرسة المستنصرية ، فعل ذلك بإشارة ابنه بغداد خاتون...

وأما الصلاح الصفدي فإنه قال: لما جهزت ابنته بغداد تابوته ليدفن بالمدينة بلغ الخبر السلطان الملك الناصر فجهز الهجن إلى المدينة وأمرهم أن لا يمكنوه من الدفن في تربته فدفن تابوته في البقيع... توفي في العام المذكور شهيداً ، وخلف من الأولاد تمرتاش ودمشق خواجا وصرغان شبرا ويغبصبطي وسلجُق شاه والأشرف والأشتر . انتهى ما ترجمه ابن المجد ، وهو في الدرر وتاريخ الفاسي).انتهى.

ويقصد السخاوي بقوله: (كان مناصحاً للمسلمين في الباطن وفيه خير ودين) المسلمين السنيين وأن جوبان كان يساعدهم سراً ! ومنه نفهم سبب صراع جوبان مع الوزير الشيعي الكفوء رشيد الدين الهمداني، وزير السلطان خدابنده وأخيه قازان قبله وتلميذ نصير الدين رحمه الله علیه ، وصاحب كتابي جوامع التاريخ ومفتاح التفاسير . فقد اتهمه جوبان بأنه قتل خدابنده وقتله بشكل وحشي ، وذلك باسم السلطان الصغير !

كما تلاحظ أنهم جعلوا جوبان سبب رجوع خدابنده عن مواصلة حملته على دمشق ، وتراجعه عن احتلال الرحبة ، ولا نعرف السبب الحقيقي لذلك ، لكن نعرف أنهم كذابون في ادعاء الفضائل لجوبان المغولي ، وادعاء المساوئ لخدابنده .

5- إن قرار العلامة الحلي رحمه الله علیه بترك عاصمة المغول(السلطانية)بمجرد وفاة

ص: 254

السلطان خدابنده (رحمه اللّه) يدل على أن جو البلاط المغولي لم يكن مساعداً له لمواصلة مشروعاته في خدمة المذهب الحق ، والسبب نفوذ جوبان وسيطرته على أمور البلاط حتى كبر السلطان بو سعيد وتخلص منه !

وقد كانت فرصة جيدة للسلطان بو سعيد، بعد أن قَتَل جوبان المتعصب وثأر منه لوزير أبيه الشيعي رشيد الدين واستوزر محمداً بن رشيد الدين ، أن يدعو العلامة مجدداً الى السلطانية، لكن شخصية بو سعيد لم تكن قوية كأبيه (رحمه اللّه) .

ولا بد أن العلامة الحلي (رحمه اللّه) كان يدرك أن وضع المغول والبلاد يشهد صراعات ومؤامرات معقدة ، ويقف على عتبة تحولات كبيرة ، وأن الواجب على مرجعية الشيعة وعلمائهم أن ينأوا بأنفسهم عن تلك الأجواء .

**

ص: 255

السلطان بو سعيد مغولي قبل أن يكون شيعياً

قال ابن كثير في النهاية:14/77: (وقام في الملك بعده ولده أبو سعيد ، وله إحدى عشرة سنة ، ومدبر الجيوش والممالك له الأمير جوبان ، واستمر في الوزارة علي شاه النيريزي . وأخذ أهل دولته بالمصادرة وقتل الأعيان ممن اتهمهم بقتل أبيه مسموماً ، ولعب كثير من الناس به في أول دولته ، ثم عدل إلى العدل وإقامة السنة فأمر بإقامة الخطبة بالترضي عن الشيخين أولاً ثم عثمان ثم علي رضى اللّه عنهم ، ففرح الناس بذلك ، وسكنت بذلك الفتن والشرور والقتال الذي كان بين أهل تلك البلاد وبهراة وأصبهان وبغداد وإربل وساوه وغير ذلك) .

وفي النهاية:14/201: (ثم دخلت سنة ست وثلاثين وسبعمائة... وجاءت الأخبار بموت ملك التتار أبي سعيد بن خربندا بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن تولى بن جنكزخان في يوم الخميس ثاني عشر ربيع الآخر بدار السلطنة بقراباغ ، وهي منزلهم في الشتاء ، ثم نقل إلى تربته بمدينته التي أنشأها قريباً من السلطانية مدينة أبيه ، وقد كان من خيار ملوك التتار وأحسنهم طريقة ، وأثبتهم على السنة وأقومهم بها ، وقد عز أهل السنة بزمانه وذلت الرافضة بخلاف دولة أبيه ، ثم من بعده لم يقم للتتار قائمة ، بل اختلفوا فتفرقوا شذر مذر إلى زماننا هذا ، وكان القائم من بعده بالأمر ارتكاوون من ذرية أبغا ، ولم يستمر له الأمر إلا قليلاً ).

أقول: لاحظ أن ابن كثير المتعصب حمَّلَ بو سعيد الطفل مسؤولية أعمال جوبان ! ثم زعم أن بو سعيد صَلُحَ بعد ذلك وتراجع عن مذهب أبيه وأذلَّ الشيعة (الرافضة) الذين أعزَّهم أبوه ! ولم يأت ابن كثير بدليل قليل ولا كثير على زعمه ! ثم زعم أن مرسوم خدابنده بتبني المذهب الشيعي ، كان سبباً لفتن

ص: 256

وحروب وأن بو سعيد أطفهأها بمرسومه المضاد ! (وسكنت بذلك الفتن والشرور والقتال الذي كان بين أهل تلك البلاد بهراة وأصبهان وبغداد وإربل وساوه ، وغير ذلك) ! وهذا ادعاء لم أرَه عند غيره ! وهي فتن وأحداث قد تكون مكذوبة من أصلها، كالتي زعموها في محلة الحنابلة ببغداد، أو أحداثاً مفتعلة ضد الشيعة فحرفوها الى الضد كعادتهم ، وقد تكون أحداثاً صحيحة صغيرة ضخموها !

**

وقال الصفدي في الوفيات:10/202:(بو سعيد ملك التتار صاحب العراق وخراسان وأذربيجان والروم والجزيرة ، القان بن القان خربندا بن أرغون بن أبغا بن هولاكو المُغلي. أكثر الناس يقولون أبو سعيد على أنه كنيته ، والصحيح على أنه علَمٌ بلا ألف هكذا رأيت كتبه التي كانت ترد منه على السلطان الملك الناصر يكتب على ألقابه الذهبية(بو سعيد)باللازورد الفائق ، ويزمِّك بالذهب . لما هادن الملك الناصر أراد الناصر أن يبتدئه بالمكاتبة فبقي كاتب السر القاضي علاء الدين بن الأثير يطالبه السلطان بالمكاتبة وهو يقول له: يا خوند إن كتبنا له المملوك قد لايكتب لنا المملوك ، وإن كتبنا والده أو أخوه قبيح ، ثم إنه قال له يوماً: ياخوند رأيت أن نكتب موضع الإسم ألقاب مولانا السلطان بالطومار ذهباً ونكتب على الكل محمد نسبة طغرة المناشير ، فقال: هذا جيد ، فلما كتبوا ذلك وعاد الجواب من بو سعيد جاء كذلك خلا بو سعيد فإنها باللازورد المليح المعدني ، فقال السلطان: ونحن نكتب كذلك ، فقال له ابن الأثير: لا يا خوند لأنا نكون قد قلدناهم...

توفي بو سعيد بالأردو بأذربيجان في ربيع الآخر سنة ست وثلاثين وسبعمائة وله نيف وثلاثون سنة ، وكانت دولته عشرين سنة ، وكان قد أنشأ له تربة بالسلطانية فنقل إليها . وكان مسلماً(أي سنياً)قليل الشر وادعاً يكره الظلم ويؤثر العدل وينقاد للشرع ، ويكتب خطاً قوياً منسوباً ، ويجيد ضرب العود ، وصنف مذاهب في النغم نقلت عنه . أبطل بوساطة وزيره محمد بن الرشيد مكوساً كثيرة وفواحش وخموراً ،

ص: 257

وهدم كنائس بغداد وخلع على من أسلم من الذمة ، وأسقط مكوس الفاكهة من سائر ممالكه ، وورَّث ذوي الأرحام (أي كل التركة للبنت كما هو مذهب الشيعة) .

وكان قبل موته بسنة قد حج ركب العراق وكان المقدم عليه بطلاً شجاعاً فلم يمكن أحداً من العرب أن يأخذ من الركب شيئاً ، فلما كانت السنة الثانية خرج العرب على الركب ونهبوه وأخذوا منهم شيئاً كثيراً، فلما عادوا شكوا إليه ، فقال: هؤلاء العرب ليسوا في مملكتنا أو في مملكة الناصر ، وإنما هؤلاء في البرية لايحكم عليهم أحد ، يعيشون بقائم سيفهم ممن يمر عليهم . وقال: هؤلاء فقراء كم مقدار ما يأخذون من الركب، نحن نكون نحمله إليهم من عندنا كل سنة ، ولا ندعهم يأخذون من الرعايا شيئاً . فقالوا له يأخذون ثلاثين ألف دينار، ليراها كثيرة فيبطلها ! فقال هذا القدر ما يكفهم ولا يكفيهم، إجعلوها كل سنة ستين ألف دينار ، وتكون تحمل من بيت المال كل سنة إليهم صحبة متسفر من عندنا . فمات تلك السنة (رحمه اللّه) ولم يسفر شئ . وهادن سلطان الإسلام وهاداه ، وانقرض بيت هولاكو بموته ، وجرت بعده أمور يطول الشرح فيها ). وقال ابن تغري في النجوم الزاهرة:9/309: (وكان بوسعيد المذكور ملكاً جليلاً مهاباً كريماً عاقلاً ولديه فضيلة ، ويكتب الخط المنسوب له ، ويجيد ضرب العود والموسيقى ، وصنف في ذلك قطعاً جيدة في أنغام غريبة من مذاهب النغم . وكان مشكور السيرة ، أبطل في سلطنته عدة مكوس وأراق الخمور في بلاده ومنع الناس من شربها ، وهدم الكنائس وورث ذوي الأرحام ، فإنه كان حنفياً ، وهو آخر ملوك التتار من بني جنكزخان). انتهى.

وهذه النصوص تعطينا أضواء على شخصية السلطان بو سعيد ، منها:

1- أن شخصيته كانت محبوبة ، ويدل أمره بتعيين رواتب سنوية للبدو الذين كانوا يغيرون على قوافل الحجاج ، على أنه كان كريماً ، عملياً . كما يدل إبرامه صلحاً دائماً مع سلطان مصر المملوكي على أنه سياسي واقعي ، فقد

ص: 258

تخلى عن أخلام المغول في اجتياح بلاد الشام ومصر وأوربا الغربية .

2- لكن بو سعيد كان يتصرف كحاكم مغولي يواجه في مملكته أطماعاً وتعقيدات أهمها طمع زوج عمته ووزير أبيه جوبان المغولي الذي كان القائد العام لجيش المغول ، والحاكم الفعلي لتركيا (بلاد الروم) وقد تسلط على مملكة أبيه ونصب أولاده حكاماً على مناطق تركيا وأرمينيا وغيرها مما تحت يده .

3- عندما كبر بو سعيد وضع خطة مع خاله وبعض قادة جيشه ، للتخلص من جوبان وأولاده ، ونجح في ذلك وقتل جوبان وأولاده بعد معركة وحِيَل ، واستوزر بدله محمد بن رشيد الدين الهمداني . وكان السبب الأساسي في انتصاره على جوبان أنه من ذرية هولاكو وجنكيز ، والمغول بشكل عام مطيعون لسلطانهم وعائلته حتى مقابل قادتهم الذين ينشقون عليهم ! ويكفي أن تلاحظ نصوص معركته مع جوبان الذي كان قائدهم العام وحاكم تركيا: (ومعه(جوبان)أولاده مير حسن وهو الأكبر وطالش وجلوخان وهو أصغرهم وهو ابن أخت السلطان أبي سعيد من أمه ساطي بك بنت السلطان خذابنده ، ومعه عساكر التتر وحواميها ، فاتفقوا على قتال السلطان أبي سعيد وزحفوا إليه، فلما التقى الجمعان هرب التتر إلى سلطانهم وأفردوا جوبان !! فلما رأى ذلك جوبان نكص على عقبيه وهرب إلى صحراء سجستان وأوغل فيها ، وأجمع على اللحاق بملك هراة غياث الدين مستجيراً به ومتحصناً بمدينته ، وكانت له عليه أياد سابقة ، فلم يوافقه ولداه حسن وطالش على ذلك وقالا له: إنه لايفي بالعهد وقد غدر بفيروز شاه بعد أن لجأ إليه وقتله ، فأبى الجوبان إلا أن يلحق به ففارقه ولداه وتوجه معه ابنه الصغير جلوخان فخرج غياث الدين لاستقباله وترجل له وأدخله المدينة على الأمان ، ثم غدره بعد أيام وقتله وقتل ولده

ص: 259

وبعث برأسيهما إلى السلطان أبي سعيد)!(ابن بطوطة:1/247) .

هروب الدمرداش بن جوبان الى مصر !

قال ابن خلدون:5/435: (ولما بلغ الخبر بمقتله إلى ابنه دمرداش في أمارته ببلاد الروم ، خشي على نفسه فهرب إلى مصر وترك مولاه أرتق مقيماً لأمر البلد وأنزله بسيواس ، ولما وصل إلى دمشق ركب النائب لتلقيه وسار معه إلى مصر فأقبل عليه السلطان وأحله محل الكرامة ، وكان معه سبعة من الأمراء ، ومن العسكر نحو ألف فارس فأكرمهم السلطان وأجرى عليهم الأرزاق وأقاموا عنده ، وجاءت على أثره رسل السلطان أبي سعيد وطالبه بذمة الصلح الذي عقده مع الملك الناصر ، وأوضحوا لعلم السلطان من فساد طويته وطوية أبيه جوبان وسعيهم في الأرض بالفساد ، ما أوجب إعطاءه باليد ، وشرط السلطان عليهم إمضاء حكم اللّه تعالى في قراسنقر نائب حلب الذي كان فرَّ سنة ثنتي عشرة مع أقوش الأفرم إلى خربندا...فلما شرط عليهم السلطان قتله كما قتل دمرداش أمضوا فيه حكم اللّه تعالى وقتلوه جزاء بماكان عليه من الفساد في الأرض) ! انتهى.

أقول: كانت سوريا تابعة لسلاطين مصر المماليك ، وقد غضب سلطانهم في سنة712 على حاكم حلب قراسنقر وهو قائد مملوكي ، فهرب الى سلطان المغول خدابنده ، فجعله حاكم همدان ولم يسلمه الى سلطان مصر ، ولما هرب دمرداش من بو سعيد الى مصر سنة728، أرسل اليه بو سعيد يطالبه بتطبيق معاهدة الصلح وأن يقتله ويبعث اليه رأسه ، فطلب سلطان مصر مقايضته بقرا سنقر ! فدمرداش وقراسنقر ، إن اتفق السلطانان صار مفسدين في الأرض يجب قتلهما وتبادل رأسيهما ، وإن اختلف السلطانان فهما أميران محترمان وحاكمان عادلان لمنطقتين من بلاد المسلمين ، يأتمُّ المسلمون بهما

ص: 260

في الصلاة ويدعو لهما خطيب الجمعة ! وهذا دين ورثه السلاطين من الخلافة وسلاطينها ، ولذا قلنا إن المماليك والمغول كإناءين نجسين لايصلحان لشرب ولا وضوء: (أَهْرِقْهُمَا وتَيَمَّمْ) !

5- ذكر رواة الخلافة أن سبب حربه مع جوبان أن بو سعيد عشق ابنة جوبان (بغداد خاتون) المتزوجة ! وطلب منه أن يطلقها من زوجها ويزوجه إياها فأبى جوبان! وأنه بعد أن قتل جوبان وأولاده طلقها من زوجها وتزوجها!

قال الصفدي في الوافي:10/111: (بغداد خاتون: ابنة النوين جوبان ، كان السلطان بو سعيد يحبها ويميل إليها ميلاً عظيماً إلى الغاية ، وكان أبوها لا يدعها تقرب من الأردو ، ولكن تكون غائبة مع زوجها الشيخ حسن هنا وهنا ! فلما قتل بو سعيد أخاها دمشق خواجا وهرب أبوها جوبان ثم قتل ، ودخل أخوها تمرتاش إلى مصر ، تمكن بو سعيد منها وأخذها من زوجها ، وصارت عنده مكينة لها الحكم في الممالك، ولها وزيرة وتركب في موكب من الخواتين وتشد في وسطها السيف، وتحكمت وهرب منها علي باشا أخو أم بو سعيد وخاله ، ولم يأخذه في هواها لومة لائم ، ولم تزل كذلك على ما هي عليه من المكانة عند بو سعيد حتى مات ، وتملك أربكوون المذكور فيما تقدم فأخذها وقتلها سنة ست وثلاثين وسبع مائة وكانت كثيرة التنقيب على إخبار أخيها تمرتاش). انتهى.

أقول: وقد روت مصادرنا القصة بنحو ذلك ، فإن صحت فهي تدل على أن مغولية السلطان بو سعيد كانت غالبة على إسلامه وتشيعه ! لكنها لا تصلح سبباً لحربه مع جوبان ، وإن صلحت لزيادة البغضاء بينهما ! وهي قصة ناقصة وفي بعض جوانبها غير مفهومة ، فقد قالوا إنها كانت زوجة الشيخ حسن وهو شيعي من المقربين للسلطان بو سعيد ! كما ذكروا أنها كانت تعمل لإنقاذ أخيها

ص: 261

دمرداش الذي هرب الى مصر، وأصر بو سعيد على سلطان مصر فقتله وبعث اليه برأسه ! كما رووا أن السلطان بو سعيد كرهَ معشوقته بغداد خاتون وتزوج غيرها ، فقامت بسُمِّه ، فمات وعمره32 سنة ، ولا تكفي المعطيات التي بأيدينا للحكم بشئ .

**

ص: 262

الفصل السابع: انهيار المارد المغولي ونهضة شعوب الأمة

اشارة

ص: 263

ص: 264

1- أذنَ اللّه بزوال المغول فأعقمَ سلطانهم !

حَكَمَ المغول القسم الأكبر من بلاد المسلمين بنشر قواعد عسكرية فيها تسمى(الشَّحْنَة) ، وكان قادة هذه الشحنات هم الحكام الحقيقيين للبلاد ، وتحت نفوذهم الحكام الفعليون من أهل البلاد أو غيرهم الخبراء فيها ، وكان السلطان المغولي في عاصمته وشحناته في أماكنهم لايتدخلون عادة إلا في الأمور الأمنية الأساسية للبلد . وبهذا امتاز حكمهم عن مماليك مصر الذين تبنوا سياسة الحكم المباشر لمصر وبلاد الشام والحجاز التي كانت بيدهم .

وتوسع المغول في نشر شحناتهم ، فشملت عواصم البلاد ومدنها الكبيرة وأحياناً الصغيرة والقرى والطرق الأساسية ، وقد يصل عدد مجموع شحناتهم في البلاد التي احتلوها الى مئة شحنة،وعدد جنودها الى ثلاث مئة ألف جندي!

وكانت القوات المغولية المنتشرة في بلاد المسلمين ثلاثة أقسام ، فمنهم شيعة ، وهو الطابع العام لمن أسلم منهم ، ومنهم سنة أو بيْن بيْن كالذين مع جوبان وأولاده . ومنهم من لم يدخلوا في الإسلام أصلاً وظلوا متمسكين بطاعة أولاد جنكيز وبشريعة الياسة الوثنية ! وكانت طاعتهم تامة لسلطانهم من ذرية هولاكو ، ثم لقادتهم الميدانيين الذين ينصبهم ، ولم يؤثر تشيع سلاطينهم أو قادتهم على طاعتهم لهم ! وقد رأيت أنهم عندما نشبت المعركة بين قائدهم التاريخي المغولي جوبان وبين السلطان بو سعيد، تركوا جوبان وحيداً وانحازوا الى سلطانهم الشيعي الشاب بو سعيد ، وأدوا له مراسيم الولاء والطاعة ، فاضطر جوبان الى الهرب !

ومات السلطان بو سعيد ولم يكن له ولد ، ولا ولي عهد من أقاربه أولاد

ص: 265

جنكيز العائلة المالكة الوحيدة التي يطيعها المغول ! فبادر وزيره محمد بن رشيد الدين الى اختيار شخص من أولاد جنكيز ، ولم يكن اختياره موفقاً !

قال ابن حجر في الدرر الكامنة:1/413: (أربكوون ويقال أرخان المغلي من ذرية جنكزخان ، كان أبوه قتل فنشأ هذا جندياً في غمار الناس ، فلما مات أبو سعيد نهض الوزير محمد بن رشيد الدولة فقال هذا الرجل من عظماء ألقان فبايعه العسكر وولي السلطنة بعد القان بوسعيد ، فظلم وعسف وقتل الخاتون بغداد بنت جوبان زوج بو سعيد ، وكان علي باشاه بالجزيرة فلم يدخل في الطاعة ، وأخذ بغداد وأحضر موسى بن علي بن بايدو بن أبغا بن هلاكو وسلطنه ، وعمل بين الفريقين مصاف فاستظهر ابن علي بابه(السلطان الجديد)وقتل الوزير(بن رشيد الدين) صبراً في ثامن رمضان وقتل أربكون في شوال صبراً أيضاً ، وذلك في سنة736 وكانت مدة سلطنته شهيرات خمسة أو ستة ، واستقر موسى الذي سلطنوه نحو ثلاثة أشهر). انتهى.

أقول: هذه صورة للوضع في بغداد ، ولم يكن غيرها من ولايات العراق وإيران وتركيا وما وراء النهر والقوقاز أفضل منها ! فقد أذن اللّه تعالى بانهيار المغول ، الذين كانوا أكبر قوة عسكرية مقاتلة ، لكنها بقيت بلا ملك يرث قيادتها من آل هولاكو أو جنكيز فاضطربت وانقسمت !

وقد شاهد ابن بطوطة السلطان بو سعيد في فترة الشتاء أو الربيع التي كان يمضيها في بغداد وكتب شهادته عنه وعما جرى بعده ، قال في رحلته:1/245: (ولما مات ولي الملك ولده أبو سعيد بهادرخان ، وكان ملكاً فاضلاً كريماً ملك وهو صغير السن ، ورأيته ببغداد وهو شامل أجمل خلق اللّه صورة ، لا نبات بعارضه ، ووزيره إذاك الأمير غياث الدين محمد بن خواجه رشيد ، وكان أبوه من مهاجرة اليهود واستوزره السلطان محمد خذابنده والد أبي سعيد رأيته يوماً بحرَّاقة في الدجلة وتسمى عندهم السيارة وهي شبه سلورة ، وبين

ص: 266

يديه دمشق خواجة بن الأمير جوبان المتغلب على أبي سعيد ، وعن يمينه وشماله شباران ، فيهما أهل الطرب والغناء ، ورأيت من مكارمه في ذلك اليوم أنه تعرض له جماعة من العميان فشكوا ضعف حالهم ، فأمر لكل واحد منهم بكسوة وغلام يقوده ونفقته تجري عليه . ثم ذكر ابن بطوطة سيطرة جوبان على البلاط ، وكيف ثار عليه بو سعيد وقتله وقتل أولاده حتى الذي هرب الى مصر وعشق ابنته خاتون وانتزعها من زوجها ! ثم قال: (وغلبت هذه الخاتون على أبي سعيد وفضَّلها على سواها ، وأقامت على هذه مدة أيام ، ثم تزوج امرأة تسمى بدلشاد فأحبها حباً شديداً وهجر بغداد خاتون فغارت لذلك وسمته في منديل مسحته به بعد الجماع فمات ، وانقرض عقبه ، وغلبت أمراؤه على الجهات كما سنذكره . ولما عرف الأمراء أن بغداد خاتون هي التي سمته أجمعوا على قتلها ، ودبر لذلك الفتى الرومي خواجة لؤلؤ وهو من كبار الأمراء وقدمائهم ، فأتاها وهي في الحمام فضربها بدبوسه وقتلها وطرحت هنالك أياماً مستورة العورة بقطعة تليس ، واستقل الشيخ حسن بملك عراق العرب وتزوج دلشاد امرأة السلطان أبي سعيد ، كمثل ما كان أبو سعيد فعله من تزوج امرأته!

ومن المتغلبين على الملك بعد موت السلطان أبي سعيد الشيخ حسن بن عمته الذي ذكرناه آنفاً تغلَّب على عراق العرب جميعاً . ومنهم ابراهيم شاه ابن الأمير سنيته تغلب على الموصل وديار بكر . ومنهم الأمير أرتنا تغلب على بلاد التركمان المعروفة أيضاً ببلاد الروم . ومنهم حسن خواجة بن الدمر طاش بن الجوبان تغلب على تبريز والسلطانية وهمدان وقم وقاشان والري ورأمين وفرغان والكرج . ومنهم الأمير طغيتمور تغلب على بعض بلاد خراسان . ومنهم الأمير حسن بن الأمير غياث الدين تغلب على هراة ومعظم بلاد خراسان.

ص: 267

ومنهم ملك دينار تغلب على بلاد مكران وبلاد كبج . ومنهم محمد شاه بن مظفر تغلب على يزد وكرمان وورقو. ومنهم الملك قطب الدين يمهتن تغلب على هرمز وكيش والقطيف والبحرين وقلهات . ومنهم السلطان أبو إسحاق الذي تقدم ذكره تغلب على شيراز وأصفهان وملك فارس، وذلك مسيرة خمس وأربعين. ومنهم السلطان أفراسياب أتابك تغلب على إيذج وغيرها من البلاد ). انتهى.

وقد تطابقت شهادات المؤرخين مع شهادة ابن بطوطة في انقسام القوات المغولية ، وأطالوا في إخبار صراعات قادتها مع بعضهم ومع القادة المحليين في إيران والعراق وتركيا وغيرها . نقتطف منها فقرات قوية الدلالة:

قال القلقشندي في مآثر الإنافة:2/139: (ومات أبو سعيد سنة ست وثلاثين وسبع مائة ودفن بمدينة السلطانية ولم يعقب ، وانقرض بموته ملك بني هولاكو ، واختلف أهل دولته وافترقت الأعمال التى كانت بيده وصارت طوائف ، كما كانت ملوك طوائف الفرس . ولما مات أبو سعيد نصب أهل الدولة موسى خان من أسباطهم على بغداد وتوريز(تبريز) وأعمالهما ، وقام بتدبير دولته علي باشا من أمراء دولتهم .

وكان الشيخ حسن بن حسين بن أقبغا بن أبلكان المعروف بالشيخ حسن الكبير وهو ابن عم السلطان أبى سعيد معتقلاً ببلاد الروم ، فأخرج من السجن بعد موت أبى سعيد ، ووصل بغداد وخلع موسى خان ونصب مكانه محمد بن عنبرجى ، من عقب هولاكو ، واستولى الشيخ حسن على بغداد وتوريز(تبريز) وسار إليه حسن بن دمرداش من بلاد الروم فغلبه على توريز ، وقتل محمد بن عنبرجى...الخ.).

وفي أعيان الشيعة:5/48: (وكان آخر ملك مستقل من أولاد جنكيز هو السلطان أبو سعيد بهادرخان بن الجايتو خربندا بن أرغون خان بن أبقاخان بن هلاكوخان بن تولي خان بن جنكيزخان . ومن بعد السلطان أبو سعيد لم يكن لهم إستقلال في

ص: 268

الملك ، فكان في كل جهة من بلاد إيران ملك نظير ملوك الطوائف ، وهم ست طوائف وكلهم شيعة(؟)ملكَ منهم أربعة وثلاثون ملكاً في مدة ثلاثمائة وأربع وعشرين سنة وستة أشهر . فالطائفة الأولى الجوبانيون ، والطائفة الثانية الإيلخانيون ، ملك منهم أربعة المترجم(الأمير حسن)وابنه الشيخ أويس وابنه السلطان حسين بن الشيخ أويس وأخوه السلطان أحمد بن الشيخ أويس ، وكانت مدة ملكهم أربعاً وستين سنة . والطائفة الثالثة المظفرية . والطائفة الرابعة التركمانية ، والطائفة الخامسة السربدارية ، والطائفة السادسة التيمورية . ورجال كل هذه الطوائف مذكورة في أبوابها .

وكان الإيلخانيون أمراء في عهد جنكيز وأولاده مقربين عندهم ، ومنهم الأمير آق بوقا ابن الأمير أيلخان فكان في زمان سلطنة كيخاتوخان له منصب أمير الأمراء ، وقتل في فتنة بايدرخان... أما المترجم فكان في آخر عهد السلطان أبو سعيد حاكماً على ديار بكر وأرضروم .

مقابر الإيلخانية في النجف: موقعها في جهة الشمال بين الطارمة الكبيرة، التي من جهة الشرق وأواوين الصحن الشمالية ، وهذه ظهرت حينما أصلحت إدارة الأوقاف العثمانية الصحن الشريف أيام إقامتنا بالنجف الأشرف ، وهي سراديب مبنية جدرانها وأرضها بالكاشي الفاخر الذي لا نظير له في هذا الزمان ، أجمل بناء وأتقنه ، وقد ذهب سقفها وبقيت جدرانها ، وقرأنا كتابتها وقد كتب على بعضها هكذا: المبرور شاهزاده سلطان بايزيد طاب ثراه ، توفي في شهر جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة هلالية . وعلى بعضها: هذا ضريح الطفل السعيد سلالة السلاطين شاهزاده شيخ أويس طاب ثراه. وعلى بعضها: اللّه لا إله إلا هو . هذا قبر الشاه الأعظم معز الدين عبد الواسع أنار اللّه برهانه ، توفي في خامس عشر جمادى الأولى سنة تسعين وسبعماية . وعلى بعضها: هذا قبر السعيدة مرحومة بابنده سلطان...الخ.). انتهى.

**

ص: 269

2- نماذج من صراعات المغول مع أنفسهم وغيرهم

هذا شريط موجز من تاريخ ابن خلدون، لصراعات القادة المغول أنفسهم ، وصراعهم مع غيرهم ! قال في تاريخه:5/549:(ثم انعقد الصلح سنة ثلاث وعشرين بعدها بين الملك الناصر وبين أبى سعيد ، واستقامت الأحوال وحج أكابر المغل من قرابة أبي سعيد ملك التتر بالعراقين ، واتصلت المهاداة بينهما.. الخ.

وهلك السلطان أبو سعيد سنة ست وثلاثين ولم يعقب ، ودفن بالسلطانية واختلف أهل دولته وانقرض الملك من بني هلاكو ، وافترقت الأعمال التي كانت في ملكهم وأصبحت طوائف ، في خراسان ، وفي عراق العجم ، وفارس ، وفي آذربيجان كله ، وفي عراق العرب ، وفي بلاد الروم... الخ.

نصب أمراء المغل الوزير غياث الدين وخلع أورخان ، ونصب للملك موسى خان من أسباطهم ، وقام بدولته الشيخ حسن بن حسين بن بيبقا بن أملكان وهو ابن عمة السلطان أبي سعيد سبط أرغو بن أبغا ، أنزله أبو سعيد بقلعة كانج من بلاد الروم ووكل به ، فلما هلك أبو سعيد وانحل عقاله ذهب أبو نور بن ماس وعفى عليها ، وبلغه شأن أهل الدولة ببغداد فلم يرضه ونهض إليها فقتل علي ماسا القائم بالدولة وعزل موسى خان الملك ونصب مكانه محمد بن عنبرجي ، وهو الذي تقدم في ملوك التخت صحة نسبه إلى هلاكو ، واستولى الشيخ حسن على بغداد وتوريز(تبريز).

ثم سار إليه حسن بن دمرداش من مكان إمارته وإمارة أبيه ببلاد الروم وغلبه على توريز ، وقتل سلطانه محمد بن عنبرجي ، ولحق الشيخ حسن ببغداد واستقر حسن بن دمرداش في توريز... الخ.

وافترقت مملكة بني هلاكو فكان هو(الشيخ حسن)ببغداد و(حسن)الصغير بتوريز(تبريز) وابن المظفر بعراق العجم وفارس ، والملك حسين بخراسان ، واستولى على أكثرها

ص: 270

ملك الشمال أزبك صاحب التخت بصراي ، من بني دوشي خان بن جنكزخان .

ثم استوحش الشيخ حسن من سلطانه سليمان خان فقتله واستبد ، ثم هلك الشيخ حسن الصغير بن دمرداش بتوريز سنة أربع وأربعين وملك مكانه أخوه الأشرف ، ثم هلك الشيخ حسن الكبير ببغداد سنة سبع وخمسين ... الخ.

وانتظم في ملكه عراق العجم وتوريز وتستر وخوزستان ، ثم سار أويس فانتزعها من يد ابن المظفر واستقرت في ملكه ، ورجع إلى بغداد وجلس على التخت واستفحل أمره ، ثم هلك سنة ست وسبعين حسين بن أويس ، وقد خلف بنين خمسة وهم الشيخ حسن وحسين والشيخ علي وأبو يزيد وأحمد .

وكان وزيره زكريا وكبير دولته الأمير عادل ، كان كافلاً لحسين ، ومن إقطاعه السلطانية ، فاجتمع أهل الدولة وبايعوا لابنه حسين بتوريز ، وقتلوا الشيخ حسن وزعموا أن أباهم أويساً أوصاهم بقتله . وكان الشيخ علي بن أويس ببغداد فدخل في طاعة أخيه حسين... الخ.

ثم انتقض عليه أهل دولته سنة ست وثمانين وسار بعضهم إلى تمر سلطان بني جفطاي بعد أن خرج من وراء النهر بملكه يومئذ ، واستولى على خراسان...الخ.

ثم خطا إلى أصبهان وعراق العجم والري وفارس وكرمان ، فملك جميعها من بني المظفر اليزدي ، بعد حروب هلك فيها ملوكهم وبادت جموعهم ، وشد أحمد ببغداد عزائمه وجمع عساكره ، وأخذ في الإستعداد ثم عدل إلى مصانعته ومهاداته... الخ.

وجاءت الإخبار بأن تمر عاث في مخلفه ، واستصفى ذخائره واستوعب موجود أهل بغداد بالمصادرات لأغنيائهم وفقرائهم حتى مستهم الحاجة ، وأقفرت جوانب بغداد من العيث ... الخ.

ثم قدم أحمد بن أويس على السلطان بمصر في شهر ربيع سنة ست وتسعين مستصرخاً به على طلب ملكه والإنتقام من عدوه ، فأجاب السلطان صريخه ونادى في عسكره بالتجهز إلى الشام ، وقد كان تمر بعدما استولى على بغداد زحف في

ص: 271

عساكره إلى تكريت مأوى المخالفين وعش الحرابة ورصد السابلة وأناخ عليها بجموعه أربعين يوماً فحاصرها ، حتى نزلوا على حكمه ، وقتل من قتل منهم ، ثم خربها وأقفرها ، وانتشرت عساكره في ديار بكر إلى الرها ، ووقفوا عليها ساعة من نهار فملكوها وانتسفوا نعمها وافترق أهلها !

وبلغ الخبر إلى السلطان فخيم بالزيدانية أياماً أزاح فيها علل عساكره وأفاض العطاء في مماليكه واستوعب الحشد من سائر أصناف الجند ، واستخلف على القاهرة النائب سودون وارتحل إلى الشام على التعبية ومعه أحمد بن أويس... الخ.

وكان العدو تمر(تيمور لنك)قد شغل بحصار ماردين فأقام عليها أشهراً وملكها ، وعاثت عساكره فيها واكتسحت نواحيها ، وامتنعت عليه قلعتها ، فارتحل عنها إلى ناحية بلاد الروم ، ومر بقلاع الأكراد فأغارت عساكره عليها واكتسحت نواحيها ، والسلطان لهذا العهد وهو شعبان سنة خمس وتسعين(وسبع مئة)مقيم بدمشق ، مستجمع لنطاحه والوثبة به متى استقبل جهته !

3- بداية نشوء الدول الشيعية في إيران

(كان أحمد المظفر من أهل يزد وكان شجاعاً ، واتصل بالدولة أيام أبي سعيد فولوه حفظ السابلة بفارس وكان منها مبدأ أمرهم . وذلك أنه لما توفي أبو سعيد سنة ست وثلاثين وسبعمائة ولم يعقب اضطربت الدولة ومرج أمر الناس ، وافترق الملك طوائف وغلب أزبك صاحب الشمال على طائفة من خراسان فملكها ، واستبد (استقل) بهراة الملك حسين وألان محمود فرشحه من أهل دولة لسلطان أبي سعيد عاملاً على أصبهان وفارس ، فاستبد بأمره واتخذ الكرسي بشيراز ، إلى أن هلك وولي بعده ابنه أبو اسحق أمير شيخ ، سالكاً سبيله في الإستبداد ، وكانت له آثار جميلة وله صنف الشيخ عضد الدين كتاب المواقف ، والشيخ عماد الدين الكاشي شرح كتاب المفتاح وسموهما باسمه . وتغلب أيضاً محمد بن المظفر على كرمان ونواحيها فصارت بيده

ص: 272

وطمع في الإستيلاء على فارس...الخ.

وكان أبو إسحق أمير شيخ قد قتل شريفاً من أعيان شيراز ، فنادى بالنكير عليه ليتوصل إلى غرض انتزاع الملك من يده وسار في جموعه إلى شيراز ومال إليه أهل البلد لنفرتهم عن أمير شيخ لفعلته فيهم ، فأمكنوه من البلد وملكها واستولى على كرسيها وهرب أبو إسحق أمير شيخ إلى أصبهان واتبعه ففر منه أيضاً ، وملك أصبهان وبث الطلب في الجهات حتى تقبض عليه وقتله قصاصاً بالشريف الذي قتله بشيراز .

وكان له من الولد أربعة: شاه ولي ومحمود وشجاع وأحمد ، وتوفي شاه ولي أيام أبيه وترك ابنيه منصوراً ويحيى ، وملك ابنه محمود أصبهان وابنه شجاع شيراز وكرمان ، واستبد عليه محمود وشجاع وخلفاه في ملكه سنة ستين وكحَّلاه (بمسمار مُحمى) ! وتولى ذلك شجاع ، وسار إليه محمود من أصبهان بعد أن استجاش بأويس بن حسن الكبير فأمدَّه بالعساكر سنة خمس وستين وملك شيراز ، ولحق شجاع بكرمان من أعماله وأقام بها ، واختلف عليه عماله ثم استقاموا على طاعته ، ثم جمع بعد ثلاث سنين ورجع إلى شيراز ففارقها أخوه محمد إلى أصبهان ، وأقام بها إلى أن هلك سنة ست وسبعين ، فاستضافها شجاع إلى أعماله وأقطعها لابنه زين العابدين ، وزوجه بابنة أويس التي كانت تحت محمود ، وولي على مردي بن أخيه شاه ولي ، ثم هلك شجاع سنة سبع وثمانين واستقل ابنه زين العابدين بأصبهان ، وخلفه في شيراز وفارس منصور ابن أخيه شاه ولي...الخ.). (ابن خلدون:5/556) .

4- القواعد العسكرية المغولية في تركية

( هذه المملكة كانت لبني قليج أرسلان من ملوك السلجوقية ، وهم الذين أقاموا فيها دعوة الإسلام وانتزعوها من يد ملوك الروم أهل قسطنطينية ، واستضافوا إليها كثيراً من أعمال الأرض ومن ديار بكر ، فأنفسحت أعمالهم وعظمت ممالكهم وكان كرسيهم بقونية ، ومن أعمالها أقصرا وأنطاكية والعلايا وطغرل ودمرلو وقرا حصار

ص: 273

ومن ممالكهم آذربيجان ، ومن أعمالها أقشهر وكامخ وقلعة كعونية ، ومن ممالكهم قيسارية ، ومن أعمالها نكرة وعداقلية ومنال ، ومن ممالكهم أيضاً سيواس وأعمالها ، ملكوها من يد الوانشمند ، كما مر في إخبارهم ، ومن أعمالها نكسار وأقاسية وتوقات وقمنات وكنكرة كورية وسامسول وصغوى وكسحونية وطرخلوا وبرلوا ، ومما استضافوه من بلاد الأرمن خلاط وأرمينية الكبرى وأنى وسلطان وارجيس وأعمالها ، ومن ديار بكر خرت برت وملطية وسميساط ومسارة ، فكانت لهم هذه الأعمال وما يتصل بها من الشمال إلى مدينة برصة ثم إلى خليج القسطنطينية ، واستفحل ملكهم فيها وعظمت دولتهم ، ثم طرقها الهرم والفشل ، كما يطرق الدول .

ولما استولى التتر على ممالك الإسلام وورثوا الدول في سائر النواحي واستقر التخت الأعظم لمنكوفان أخي هلاكو ، وجهز عساكر المغل سنة أربع وخمسين وستمائة إلى هذه البلاد وعليهم بيكو من أكابر أمرائهم وعلى بلاد الروم يومئذ غياث الدين كنجسرو بن علاء الدين كيقباد وهو الثاني عشر من ملوكهم من ولد قطلمش ، فنزلوا على أرزن الروم وبها سنان الدين ياقوت مولى علاء الدين فملكوها بعد حصار شهرين واستباحوها ، وتقدموا أمامهم ولقيهم غياث الدين بالصحراء على أقشهر وزنجان وانهزم غياث الدين واحتمل ذخيرته وعياله ولحق بقونية ، واستولى بيكو على مخلفه ثم سار إلى قيسارية فملكوها ، وهلك غياث الدين أثر ذلك وملك بعده بعهد ابنه علاء الدين كيقباد ، وأشرك معه أخويه في أمره وهما عز الدين كيكاوس وركن الدين قليج أرسلان ، وعاثت عساكر التتر في البلاد فسار علاء الدين كيقباد إلى منكوفان صاحب التخت واختلف أخواه من بعده وغلب عز الدين كيكاوس ، واعتقل أخاه ركن الدين بقونية ، وبعث في أثر أخيه علاء الدين من يستفسد له منكوفان ، فلم يحصل من ذلك على طائل ، وهلك علاء الدين في طريقه وكتب منكوفان بتشريك الملك بين عز الدين وركن الدين ، والبلاد بينهما مقسومة فعز الدين من سيواس إلى تخوم القسطنطينية ، ولركن الدين من سيواس إلى أرزن

ص: 274

الروم متصلاً من جهة الشرق ببلاد التتر ، وأفرج عز الدين عن ركن الدين واستقر في طاعة التتر وسار بيكو في بلاد الروم قبل أن يرجع عز الدين ، فلقيه أرسلان دغمس من أمراء عز الدين فهزمه بيكو إلى قونية ، فأجفل عنها عز الدين إلى العلايا وحاصرها بيكو فملكها... واستقر عز الدين وركن الدين في طاعة التتر ، ولهما إسم الملك والحكم للشحنة بيكو .

ولما زحف هلاكو إلى بغداد سنة ست وخمسين استنفر بيكو وعساكره ، فامتنع واعتذر بمن في طريقه من طوائف الأكراد الفراسيلية والياروقية ، فبعث إليه هلاكو العساكر ومروا بآذربيجان وقد أجفل أهلها الأكراد فملكوها وساروا مع بيكو إلى هلاكو ، وحضروا معه فتح بغداد وما بعدها ، ولما نزل هلاكو حلب استدعى عز الدين وركن الدين فحضرا معه فتحها ، وحضر معهما وزيرهما معين الدين سليمان البرواناة واستحسنه هلاكو ، وتقدم إلى ركن الدين بأن يكون السفير إليه عنه ، فلم يزل على ذلك....الخ. وبقي أمراء المغل يتعاقبون في الشحنة ببلاد الروم ، وكان منهم أول المائة الثامنة الأمير علي ، وهو الذي قتل ملك الأرمن هيشوش بن ليعون صاحب سيس ، واستعدى أخوه عليه بخربندا فأعداه وقتله...الخ.

ثم ولَّى السلطان أبو سعيد على بلاد الروم دمرداش بن جوبان سنة ثلاث وعشرين واستفحل بها ملكه وجاهد الأرمن بسيس ، واستمد الناصر محمد بن قلاون صاحب مصر عليهم فأمده بالعساكر وافتتحوا أياس عنوة ورجعوا .

ثم نَكَبَ السلطان أبو سعيد نائبه جوبان بن بروان وقتله... وبلغ الخبر إلى دمرداش ابنه ببلاد الروم فاضطرب لذلك ، ولحق بمصر في عساكره وأمرائه...

وكان دمرداش لما هرب من بلاد الروم إلى مصر ترك من أمرائه أرتنا ، وكان يسمى النوير اسم أبناء الملوك فبعث إلى أبي سعيد بطاعته ، فولاه على البلاد فملكها ونزل سيواس واتخذها كرسي ملكه...الخ. (ابن خلدون:5/558) .

**

ص: 275

5- بداية نشوء دولة العثمانيين في تركيا

(ولما ملك التتر ببلاد الروم وأبقوا على بني قطلمش ملوكهم ، وولوا ركن الدولة قليج أرسلان ، بعد أن غُلب أخوه عز الدين كيكاوس وهرب إلى القسطنطينية .وكان أمراء هؤلاء التركمان يومئذ محمد بك ، وأخاه الياس بك ، وصهره علي بك وقريبه سونج ، والظاهر أنهم من بني جق(جُق أي الصغير)، فانتقضوا على ركن الدولة وبعثوا إلى هلاكو بطاعتهم وتقرير الأثر عليهم ، وأن يبعث إليهم باللواء على العادة ، وأن يبعث شحنة من التتر تختص بهم فأسعفهم بذلك وقلدهم ، وهم من يومئذ ملوكٌ بها.... والظاهر أن بني عثمان ملوكهم لهذا العهد من أعقاب علي بك أو أقاربه ، يشهد بذلك اتصال هذه الإمارة فيهم مدة هذه المائة سنة ). انتهى. (ابن خلدون:5/558) .

**

ص: 276

الفصل الثامن: الموجة المغولية الثالثة بقيادة تيمور لنك

اشارة

ص: 277

ص: 278

1- أحلام جنكيز وهولاكو تملأ رأس تيمور لنك !

رافقت عملية تَشَكُّل شعوب الأمة في دول جديدة ، عمليةٌ أخرى كانت عاملاً في تسريعها أحياناً أو تبطيئها ، وهي مغامرة تيمور لنك المغولي وهَوَسُه أن يكون ثالث جنكيز وهولاكو ! فقد بدأ تيمور لنك(تيمور الأعرج)عمله في منطقة المغول بعد وفاة السلطان بو سعيد ، واتخذ سمرقند عاصمة له ، وادعى أن أمه من ذرية جنكيز ، ومع ذلك جاء بشخص مطيع له من ذرية جنكيز غسمه (صرغتمش) فبايعه سلطاناً وجعل نفسه نائبه المفوض !

وكان هدفه تكوين قوة كبيرة يجتاح بها العالم كله ! وخاض حروباً مع ملوك محليين وانتصر عليهم ، وجمع نحو ثلاث مئة ألف جندي ، ووضع في رأسه أهداف جنكيز وهولاكو ، لكنه لم يكن عنده عقلهما الإداري !

اجتاح تيمور بلاد القوقاز وروسيا ، ثم إيران ، ثم العراق ، ثم سوريا وأحرق دمشق ، ثم رجع واحتل بغداد ثانية ، ثم احتل تركيا وأسر ملكها العثماني ، ثم غزا الهند واحتل عاصمتها دلهي ، ثم عاد الى عاصمته سمرقند وهيأ جيشاً جراراً لغزو ممالك الصين ، وسار في فصل الشتاء فمات قسم من جيشه من شدة البرد والثلوج ومات هو في سنة808 هجرية وعمره نحو ثمانين سنة ، فرجع حفيده بجنازته ودفنه في سمرقند وحكم مكانه ، وكان ولي عهده شاه رُخّ يحكم أفغانستان وشرق إيران وعاصمته هراة . وهذا كل ما بقي لورثة تيمور من طول البلاد وعرضها التي اجتاحها ! فقد كان هذا المجنون ماهراً في التدمير والإحتلال ، غبياً في الإحتفاظ بما احتله ، فهو ينسى الهدف الذي بيده

ص: 279

ويسارع الى هدف آخر لتصوره أنه يغتنم الفرصة !

كان عمله كموجة الجراد التي تهاجم منطقة وتأكل ما فيها ، ثم تتركها الى منطقة أخرى ! فكانت القوى التي هزمها أو غيرها تعود بعد مغادرته وتحكم المنطقة ! فلم يستعمل سياسة جنكيز وهولاكو في إبقاء قواعد عسكرية إلا في المناطق القريبة من سمرقند ، ثم في بغداد التي احتلها ثلاث مرات ، ونصب عليها والياً مسعود السربداري فطرده المغول الإيلخانيين من ذرية هولاكو ، وفي الثالثة نصب عليها والياً ابنه شاهرُخّ بن تيمور ، فلجأ الإيلخانيون الى الأتراك والمصريين فساعدوهم فاسترجعوا بغداد وطردوا شاه رُخّ ، فغضب تيمور لذلك وعاد من دمشق واحتل بغداد ثم احتل تركيا وأسر ملكها ثم ذهب منها الى سمرقند ولم يرتب وضع بغداد ولا تركيا ، بل انشغل بمشروع غزو الصين ومات في أول مسيره اليها !

2- تَشَيُّعُ تيمور لنك وأولاده.. نظريٌّ دنيوي

ترجم المرحوم السيد محسن الأمين رحمه الله علیه في موسوعته (أعيان الشيعة) للسلاطين قازان ومحمد خدابنده وأولادهم الإيلخانيين ، ولتيمور لنك وأولاده واستدل بأمور وقرائن على تشيعهم .

أما السلطان قازان ومحمد خدابنده والشيخ أويس وأولاده ، فكانوا صادقين في تشيعهم ، وقد تمسكوا بمذهب أهل البيت (عليهم السلام) وخدموه وطبقوه الى حدّ . أما الباقون فكان تشيعهم سياسياً نظرياً ، ولم يكن عقائدياً بأي درجة مقبولة !

والذي أفهمه أن المغول ككل يحترمون الدين أيَّ دين كما يفهم من صحيفة شريعتهم (الياسة) ، لكنهم لا ينظرون الى الدين كما ينظر المؤمنون الصادقون من الشعوب الأخرى ! فالمغولي الصادق في تدينه خارجٌ عن القاعدة السائدة

ص: 280

عندهم ، وعن القيم العميقة التي ينشؤون عليها في عوائلهم ومجتمعهم ، وهي المادية والعنف والغرور القومي ! ولهذا لم يتحسن سلوكهم وتصرفهم بدخولهم في الإسلام إلا قليلاً ، ومن الأدلة على ذلك الجيل الثالث من المغول الذين كانوا في تركيا وكانت تسمى (بلاد الروم)فقد كانوا أكثر من ثلاثين ألفاً وولدوا هناك ، والمفروض أنهم مسلمون ولهم مساجد وقضاة ! بل المفروض على رواية أتباع الخلافة أنهم أسلموا مع بركة خان المغولي لأنهم من جنوده وقد غزا تركيا سنة641 ، أي قبل غزو هولاكو لبغداد ببضع عشرة سنة ! ثم عززهم هولاكو وأحفاده قازان وخدابنده وبو سعيد .

فعندما أراد تيمور لنك أن يحتل تركيا كاتَبَهم ليساعدوه فلم يقبلوا، ولما انتصر تيمور على الأتراك في أنقرة وأخذ سلطانهم با يزيد أسيراً ، كان من نصائح بايزيد لتيمور: (لا تترك التتار بهذه الديار فإنهم مواد للفسق والفساد، فلا تهمل أمرهم ولا تأمن مكرهم ، فخيرهم لا يعدل شرهم ، ولا تذر على أرض الروم منهم دياراً ، فإنك إن تذرهم يملؤوها من قبائلهم ناراً ويجروا من دموع رعاياها ودمائهم بحاراً وهم على المسلمين وبلادهم أضر من النصارى)! (عجائب المقدور لابن عربشاه/146) .

(وأخذ التتار كالمأسورين ووعدهم بإصلاح أمورهم ثم حملهم معه إلى بلاده عملاً بنصيحة بايزيد ، وفرقهم في البلاد ، فبعث طائفة منهم إلى كاشغر وأخرى إلى جزيرة أسى كول بجوار المغول ، وضم باقيهم إلى أرغون شاه وجهزه إلى ثغور الدشت وحدود خوارزم). (أعيان الشيعة:3/668).

وهذه الشهادة من بايزيد التي قبلها تيمور ، تدل على سوء سلوك القواعد العسكرية المغولية في تركيا ، وقد أيدتها مصادر التاريخ . نعم لابد أن نستثني

ص: 281

من عصمه اللّه فأسلم وحسن إسلامه !

ومن أدلة ضعف تشيعهم أن تيموراً غزا دولة السربداريين الشيعة وغدر بملكهم ! ثم غزا دولة المغول الإيلخانيين في بغداد ، وهو يعرف أنهم على مذهبه ، وأنهم من بني قومه وليسوا دونه لأنهم من ذرية ملكه الكبير جنكيز !

ومن أدلة ضعف تشيعهم ، هذا الطغيان الشيطاني على الشعوب ، والسرف في إهراق الدماء ، وقد نصت المصادر على أن تيموراً اعترف بأن مشروعه تخريب العالم ! فقد روى في نفح الطيب:2/994 ، حضور ابن خلدون مع القضاة والعلماء عند تيمور بعد فتحه حلب ، ثم في دمشق ، قال: (وذكر بعض العلماء أن ابن خلدون لما أقبل على تيمورلنك قال له(ابن خلدون): دعني أقبل يدك ! فقال(تيمور): ولمَ ؟ فقال له: لأنها مفاتيح الأقاليم ! يشير إلى أنه فتح خمسة أقاليم ، وأصابع يده خمسة ، فلكل أصبع إقليم ! وهذا أيضاً من دهاء ابن خلدون.... ثم قال لتيمورلنك: إني ألفت كتاباً في تاريخ العالم . ثم قال له تيمورلنك: كيف ساغ لك أن تذكرني فيه وتذكر بختنضر مع أننا خربنا العالم؟! فقال له ابن خلدون: أفعالكما العظيمة ألحقتكما بالذكر مع ذوي المراتب الجسيمة . أو نحو هذا من العبارات فأعجبه ذلك). انتهى.

ويفهم منه أن مديح ابن خلدون لتيمور كان أكثر مما ذكره ! وشاهِدُنا من النص أن تيموراً كان يعترف بأنه طاغية كبختنصر في التدمير وسفك الدماء !

ونقل في أعيان الشيعة:3/663 ، عن ابن خلدون: (قال لي(تيمور): أين بلدك ؟ قلت بالمغرب الجواني ، قال: وما معنى الجواني في وصف المغرب؟ قلت: معناه الداخلي أي الأبعد ، لأن المغرب كله على ساحل البحر الشامي من جنوبه ، فالأقرب إلى هنا برقة وإفريقية ، والمغرب الأوسط تلمسان وبلاد زناته، والأقصى فاس ومراكش وهو

ص: 282

معنى الجواني. فقال لي: وأين مكان طنجة من مُلك المغرب؟ فقلت في الزاوية التي بين البحر المحيط والخليج المسمى بالزقاق ومنها التعدية إلى الأندلس لقرب مسافته لأن هناك نحو العشرين ميلاً ، فقال: وسلجماسة ؟ فقلت: في الحد ما بين الأرياف والرمال من جهة الجنوب ، فقال: لا يقنعني هذا وأحب أن تكتب لي بلاد المغرب كلها أقاصيها وأدانيها وجبالها وأنهارها وقراها وأمصارها ، فقلت يحصل ذلك بسعادتك . فكتبت له بعد انصرافي من المجلس ما طلب ، أقمت في كسر البيت وكتبته في أيام قليلة وأوعبت الغرض في مختصر وجيز يكون في اثنتي عشرة كراسة ودفعته اليه فأخذه من يدي وأمر موقعه بترجمته إلى اللسان المغلي ، وهذا يدل على عقله وبعد نظره ، وأنه ربما كان يخطر بباله فتح إفريقية كما فتح آسيا) !

وفي أبجد العلوم:2/140: (فقال له يوماً: لي تاريخ كبير جمعت فيه الوقائع بأسرها فخلفته بمصر وسيظفر به المجنون يشير إلى برقوق ! فقال له: هل يمكن تلافي هذا الأمر واستخلاص الكتاب؟ فاستأذنه في أن يعود إلى مصر ليجئ به فأذن له).

وقد روت مصادر أتباع الخلافة ما ينص على تشيع تيمور ، من ذلك:

ما رواه (الإمام) أحمد بن محمد الحنفي الدمشقي المعروف بابن عربشاه عجائب المقدور في إخبار تيمور/93، ونحوه في سمت النجوم/1322: (وفي يوم رابع عشر شهر ربيع الأول أخذ القلعة(قلعة حلب)بالأمان والأيمان التي ليس معها إيمان ، وفي ثاني يوم صعد إليها ، وآخر نهار طلب علماءها وقضاتها فحضرنا إليه فأوقفنا ساعة ثم أمر بجلوسنا ، وطلب من معه من أهل العلم فقال لأمير عنده ، وهو المولى عبد الجبار بن العلامة نعمان الدين الحنفي والده من العلماء المشهورين بسمرقند: قل لهم إني سائلهم عن مسألة سألت عنها علماء سمرقند وبخارى وهراة وسائر البلاد التي افتتحتها فلم يفصحوا عن جواب ، فلا تكونوا مثلهم ولا يجاوبني إلا أعلمكم وأفضلكم ، وليعرف ما يتكلم فإني خالطت العلماء ولي بهم اختصاص وألفة ، ولي في العلم طلب قديم ، وكان يبلغنا عنه أنه يتعنت العلماء في الأسئلة ، ويجعل ذلك

ص: 283

سبباً لقتلهم أو تعذيبهم ! فقال القاضي شرف الدين موسى الأنصاري الشافعي عني: هذا شيخنا ومدرس هذه البلاد ومفتيها سلوه وباللّه المستعان ، فقال لي عبد الجبار: سلطاننا يقول إنه بالأمس قتل منا ومنكم؟ فمن الشهيد قتيلنا أم قتيلكم؟ فوجم الجميع وقلنا في أنفسنا هذا الذي بلغنا عنه من التعنت ، وسكت القوم ففتح اللّه عليَّ بجواب سريع بديع وقلت: هذا سؤال سئل عنه سيدنا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأجاب عنه وأنا مجيب بما أجاب به سيدنا رسول اللّه. قال لي صاحبي القاضي شرف الدين موسى الأنصاري بعد أن انقضت الحادثة: واللّه العظيم لما قلت هذا السؤال سئل عنه رسول اللّه وأجاب عنه وأنا محدث زماني ! قلت: هذا عالمنا قد اختل عقله وهو معذور ، فإن هذا السؤال لا يمكن الجواب عنه في هذا المقام ، ووقع في نفس عبد الجبار مثل ذلك ، وألقى تمرلنك إليَّ سمعه وبصره وقال لعبد الجبار يسخر من كلامي: كيف سئل رسول اللّه عن هذا وكيف أجاب؟ قلت: جاء أعرابي إلى رسول اللّه وقال يا رسول اللّه إن الرجل يقاتل حميةً ويقاتل شجاعةً ويقاتل ليرى مكانه ، فأينا في سبيل اللّه؟ فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : من قاتل لتكون كلمة اللّه هي العليا فهو الشهيد ، فقال تمرلنك خوب خوب . وقال عبد الجبار: ما أحسن ما قلت ! وانفتح باب المؤانسة وقال إني رجل نصف آدمي وقد أخذت بلاد كذا وكذا وعدد سائر ممالك العجم والعراق والهند وسائر بلاد التتار ، فقلت: إجعل شكر هذه النعمة عفوك عن هذه الأمة ولا تقتل أحداً ، فقال: واللّه إني لا أقتل أحداً قصداً وإنما أنتم قتلتم أنفسكم في الأبواب ، واللّه لا أقتل أحد منكم وأنتم آمنون على أنفسكم وأموالكم !

وتكررت الأسئلة منه والأجوبة منا ، فطمع كل من الفقهاء الحاضرين وجعل يبادر إلى الجواب ويظن أنه في المدرسة والقاضي شرف الدين ينهاهم ، ويقول لهم: باللّه أسكتوا ليجاوب هذا الرجل فإنه يعرف ما يقول ، وكان آخر ما سأل عنه: ما تقولون في علي ومعاوية ويزيد؟ فأشرت إلى القاضي شرف الدين وكان إلى جانبي أن إعرف كيف تجاوبه فإنه شيعي ! فلم أفرغ من سماع كلامه إلا وقد قال القاضي علم

ص: 284

الدين القفصي المالكي كلاماً معناه أن الكل مجتهدون ، فغضب لذلك غضباً شديداً وقال: علي على الحق ومعاوية ظالم ، ويزيد فاسق ، وأنتم حلبيون تبع لأهل دمشق ، وهم يزيديون ، قتلوا الحسين ! فأخذت في ملاطفته والإعتذار عن المالكي بأنه أجاب بشئ وجده في كتاب لا يعرف معناه ، فعاد إلى دون ما كان عليه من البسط ، وأخذ عبد الجبار يسأل عني وعن القاضي شرف الدين فقال عني: هذا عالم مليح ، وعن شرف الدين وهذا رجل فصيح ، فسألني تمرلنك عن عمري فقلت: مولدي في سنة تسع وأربعين وسبع مائة ، وقد بلغت الآن أربعاً وخمسين سنة ، فقال للقاضي شرف الدين: وأنت كم عمرك فقال أنا أكبر منه بسنة ، فقال تمرلنك: أنتم في عمر أولادي أنا عمري اليوم خمساً وسبعين سنة. وحضرت صلاة المغرب وأقيمت الصلاة وأمَّنا عبد الجبار وصلى تمرلنك إلى جانبي قائماً يركع ويسجد ، ثم تفرقنا .

وفي اليوم الثاني غدر بكل من في القلعة وأخذ جميع ما كان فيها من الأموال والأقمشة والأمتعة ما لا يحصى ! أخبرني بعض كتابه أنه لم يكن أخذ من مدينة قط ما أخذ من هذه القلعة وعوقب غالب المسلمين بأنواع من العقوبة وحبسوا بالقلعة ما بين مقيد ومزنجر ومسجون ومرسم عليه ! ونزل تمرلنك من القلعة وأقام بدار النيابة وصنع وليمة على زي المغل ، ووقف سائر الملوك والنواب في خدمته ، وأدار عليهم كؤوس الخمر ، والمسلمون في عقاب وعذاب وسبي وقتل وأسر وجوامعهم ومدارسهم وبيوتهم في هدم وحرق وتخريب ونبش ، إلى آخر شهر ربيع الأول !

ثم طلبني ورفيقي شرف الدين وأعاد السؤال عن علي ومعاوية ؟ فقلت له: لا شك أن الحق كان مع علي وليس معاوية من الخلفاء ، فإنه صح عن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال: الخلافة بعدي ثلاثون سنة وقد تمت بعلي ، فقال تمرلنك: قل علي على حق ومعاوية ظالم ، فقلتُ ). انتهى.

وقال الشوكاني في البدر الطالع:1/175: (وكان آخر ماسألهم عنه أن قال: ما تقولون في معاوية ويزيد هل يجوز لعنهما أم لا؟ وعن قتال على ومعاوية؟ فأجابه القاضى

ص: 285

علم الدين القفصي المالكي بأن علياً اجتهد فأصاب فله أجران ، ومعاوية اجتهد فأحطأ فله أجر ! فتغيظ من ذلك . ثم أجاب الشرف أبو البركات الأنصاري الشافعي بأن معاوية لا يجوز لعنه لأنه صحابي ، فقال تيمور: ما حدُّ الصحابي؟ فأجاب القاضي شرف الدين: أنه كل من رأى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال تيمور: فاليهود والنصارى رأوا النبي ! فأجاب بأن ذلك بشرط كون الرائي مسلماً . وأجاب القاضي شرف الدين المذكور أنه رأى في حاشية على بعض الكتب أنه يجوز لعن يزيد ، فتغيظ لذلك ! ولا عتب عليه إذا تغيظ فالتعويل في مثل هذا الموقف العظيم في مناظرة هذا الطاغية الكبير في ذلك الأمر الذي ما زالت المراجعة به بين أهل العلم في قديم الزمان وحديثه ، عن حاشية وجدها على بعض الكتب ، مما يوجب الغيظ) !

وذكر ابن العماد في شذرات الذهب:4/65، امتحان تيمور لعلماء دمشق شبيهاً بامتحانه لعلماء حلب ، قال: (ثم جرت مناظرة بين إمامه(إمام تيمور المرافق له)عبد الجبار وفقهاء دمشق وهو يترجم عن تيمور بأشياء ، منها وقائع علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه مع معاوية ، وما وقع ليزيد بن معاوية مع الحسين وأن ذلك كله كان بمعاونة أهل دمشق له ، فإن كانوا استحلوه فهم كفار وإلا فهم عصاة بغاة ، وإثم هؤلاء على أولئك ! فأجابوه بأجوبة ، قبل بعضها ورد البعض ، ثم قام من الجامع وجدَّ في حصار القلعة... ولما أخذ تيمور قلعة دمشق أباح لمن معه النهب والسلب والقتل والإحراق فهجموا المدينة ولم يدعوا بها شيئاً قدروا عليه ، وطرحوا على أهلها أنواع العذاب وسبوا النساء والأولاد وفجروا بالنساء جهاراً ، ولا زالوا على ذلك أياماً وألقوا النار في المباني حتى احترقت بأسرها ! ورحل عنها يوم السبت ثالث شعبان سنة ثلاث وثمانمائة ، ثم اجتاز بحلب وفعل بأهلها ما قدر عليه ، ثم على الرها وماردين ، ثم على بغداد وحصرها أيضاً حتى أخذها عنوة في يوم عيد النحر من السنة ووضع السيف في أهلها ، وألزم جميع من معه أن يأتي كل واحد منهم برأسين من رؤس أهلها ، فوقع القتل حتى سالت الدماء أنهاراً ، وقد أتوه بما التزموه فبنى

ص: 286

من هذه الرؤس مائة وعشرين مأذنة ، ثم جمع أموالها وأمتعتها ، وسار إلى قرى باغ فجعلها خرابا بلقعاً ! ثم قال ابن حجر: فلما كان سنة أربع وثمانمائة قصد بلاد الروم فغلب عليها وأسر صاحبها أي أبا يزيد بن عثمان ، ومات معه في الإعتقال .

ودخل الهند فنازل مملكة المسلمين حتى غلب عليها ، وكان مغرى بقتل المسلمين وغزوهم وترك الكفار(غير صحيح بل كان شره عاماَ) وكان شيخاً طوالاً شكلاً مهولاً طويل اللحية حسن الوجه بطلاً شجاعاً جباراً ظلوماً غشوماً سفاكاً للدماء مقداماً على ذلك ، وكان أعرج سُلَّت رجله في أوائل أمره ، وكان يصلي عن قيام ، وكان جهوري الصوت يسلك الجد مع القريب والبعيد ولا يحب المزاح ، ويحب الشطرنج وله فيها يد طولى وزاد فيها جملاً وبغلاً ، وجعل رقعته عشرة في أحد عشر ، وكان ماهراً فيه لا يلاعبه فيه إلا الأفراد .

وكان يقرِّب العلماء والصلحاء والشجعان والأشراف وينزلهم منازلهم ، ولكن من خالف أمره أدنى مخالفة استباح دمه ! وكانت هيبته لا تدانى بهذا السببب ، وما أخرب البلاد إلا بذلك ! وكان من أطاعه في أول وهلة أمن ، ومن خالفه أدنى مخالفة وهن ! وكان له فكر صائب ومكايد في الحرب وفراسة قلَّ أن تخطئ ، وكان عارفاً بالتواريخ لإدمانه على سماعها ، لا يخلو مجلسه عن قراءة شئ منها سفراً ولا حضراً . وكان مغرى بمن له صناعةٌ ما إذا كان حاذقاً فيها . وكان أمياً لايحسن الكتابة ، وكان حاذقاً باللغة الفارسية والتركية والمغلية خاصة . وكان يقدم قواعد جنكز خان ويجعلها أصلاً ، ولذلك أفتى جمع جم بكفره مع أن شعائر الإسلام في بلاده ظاهرة ! وكان له جواسيس في جميع البلاد التي ملكها والتي لم يملكها ، وكانوا ينهون إليه الحوادث الكائنة على جليتها ويكاتبونه بجميع ما يروم ، فلا يتوجه إلى جهة إلا وهو على بصيرة من أمرها ! وبلغ من دهائه أنه كان إذا قصد جهة جمع أكابر الدولة وتشاوروا إلى أن يقع الرأي على التوجه في الوقت الفلاني إلى الجهة الفلانية ، فيكاتب جواسيس تلك الجهات فيأخذ أهل تلك الجهة المذكورة حِذْرَها

ص: 287

ويأنس غيرها ، فإذا ضرب بالنفير وأصبحوا سائرين ذات الشمال عرج بهم ذات اليمين ، فلا يصل الخبر الثاني إلا ودَهَمَ الجهة التي يريد وأهلها غافلون !

وكان أنشأ بظاهر سمرقند بساتين وقصوراً عجيبة وكانت من أعظم النزه ، وبنى عدة قِصَاب سماها بأسماء البلاد الكبار ، كحمص ودمشق وبغداد وشيراز . انتهى.

وقال في المنهل: وكان يستعمل المرَكَّبَات والمعاجين ليستعين بها على افتضاض الأبكار ، وخرج من سمرقند في شهر رجب أي من هذه السنة قاصداً بلاد الصين والخطا وقد اشتد البرد ، حتى نزل على سيحون وهو جامد فعبره ومر سائراً ، واشتد عليه وعلى من معه الرياح والثلج وهلكت دوابهم وتساقط الناس هلكى ، ومع ذلك فلا يرقُّ لأحد ولا يبالي بما نزل بالناس ، بل يجد في السير ! فلما وصل إلى مدينة أنزار أمر أن يستقطر له الخمر حتى يستعمله بأدوية حارة وأفاويه ، لدفع البرد وتقوية الحرارة ، وشرع يتناوله ولايسأل عن إخبار عسكره وما هم فيه ، إلى أن أثرت حرارة ذلك في كبده وأمعائه فالتهب مزاجه حتى ضعف بدنه وهو يتجلد ، ويسير السير السريع وأطباؤه يعالجونه بتدبير مزاجه ، إلى أن صاروا يضعون الثلج على بطنه لعظم ما به من التلهب وهو مطروح مدة ثلاثة أيام ، فتلفت كبده وصار يضطرب ولونه يحمر إلى أن هلك في يوم الأربعاء تاسع عشر شعبان ، وهو نازل بضواحي أنزار ولم يكن معه من أولاده سوى حفيده خليل بن أميران شاه بن تيمور ، فملك خزائن جده وتسلطن وعاد إلى سمرقند برمة جده إلى أن دفنه على حفيده محمد سلطان بمدرسته ، وعلق بقبته قناديل الذهب من جملتها قنديل زنته عشرة أرطال دمشقية ، وتقصد تربته بالنذور للتبرك من البلاد البعيدة ، لا تقبل اللّه ممن يفعل ذلك ! وإذا مرَّ على هذه المدرسة أمير أو جليل خضع ونزل عن فرسه إجلالاً لقبره ، لما له في صدورهم من الهيبة ! وتوفي عن نيف وثمانين سنة ، وخلف من الأولاد أميارن شاه والقان معين الدين شاه رُخّ صاحب هراة ، وبنتاً يقال لها سلطان بخت ، وعدة أحفاد انتهى باختصار ). انتهى.

ص: 288

3- بدأ تيمور حياته السياسة بخيانة ولي نعمته !

في النجوم الزاهرة:12/254: (مولده سنة ثمان وعشرين وسبعمائة بقرية تسمى خواجا أيلغار من عمل كش ، أحد مدائن ما وراء النهر ، وبعد هذه البلدة عن مدينة سمرقند يوم واحد...وقيل إن والده كان إسكافاً ، وقيل بل كان أميراً عند السلطان حسين صاحب مدينة بلخ ، وكان أحد أركان دولته وإن أمه من ذرية جنكزخان...

وكان تيمورلنك يقول لهم في تلك الأيام: لا بد أن أملك الأرض وأقتل ملوك الدنيا ! فيسخر منه بعضهم ويصدقه البعض لما يرونه من شدة حزمه وشجاعته...

ولاه السلطان حسين على جشاره ولا زال يترقى بعد ذلك من وظيفة إلى أخرى حتى عظم وصار من جملة الأمراء ، وتزوج بأخت السلطان حسين وأقام معها مدة إلى أن وقع بينهما في بعض الأيام كلام فعايرته بما كان عليه من سوء الحال فقتلها وخرج هارباً وأظهر العصيان على السلطان حسين ، واستفحل أمره واستولى على ما وراء النهر... إلى أن خافه السلطان حسين وعزم على قتاله وبلغه ذلك فخرج هارباً وبلغه ذلك فخرج هارباً من بلد إلى أخرى) .

وفي المنهل الصافي/632: (وكان إبتداء أمره بعد سنة ستين وسبعمائة ، ولما قوي أمره وملك عدة حصون... ثم قصده السلطان حسين في عسكر عظيم حتى وصل إلى قاغلغا وهو موضع ضيق يسير الراكب فيه ساعة وفي وسطه باب إذا أغلق وأحمي لا يُقدر عليه ، وحوله جبال عالية فملك العسكر فم هذا الدربند من جهة سمرقند ، ووقف تيمور بمن معه على الطريق الآخر ، وفي ظنهم أنهم حصروه وضيقوا عليه ، فتركهم ومضى في طريق مجهولة، فسار ليله في أوعار مشقة حتى أدركهم في السحر وقد شرعوا في تحميل أثقالهم ، على أن تيمور قد انهزم وهرب خوفاً منهم ، فأخذ تيمور يكيدهم بأن نزل هو ومن معه عن خيولهم وتركوها ترعى في تلك المروج ، وناموا كأنهم من جملة العسكر ، فمرت بهم خيوله وهم يظنون أنهم منهم قد قصدوا

ص: 289

الراحة ، فلما تكامل مرور العسكر ركب تيمور بمن معه أقفيتهم وهم يصيحون ، وأيديهم تدقهم بالسيوف دقاً ، فاختبط الناس وانهزم السلطان حسين بمن معه لا يلوي أحد على أحد ، حتى وصل إلى بلخ فاحتاط تيمور بما كان معه ، وضم إليه من بقي من العسكر فعظم جمعه وكثرت أمواله ، واستولى على ممالك ما وراء النهر ورتب جنوده... ومضى معه إلى بلخ فنزل عليها وحصرها وبها السلطان حسين إلى أن ضعف عليه حاله وسلم نفسه فقبض عليه... ثم عاد إلى سمرقند ومعه السلطان حسين فنزلها واتخذها دار ملكه ، ثم قتل السلطان حسين في شعبان سنة إحدى وسبعين وسبعمائة ، وأقام عوضه رجلاً من ذرية جنكر خان يقال له سرغتميش وجعله السلطان ، ولم يجعل له شيئاً من لأمر) . انتهى.

وفي عجائب المقدور/20: (فلم يبق في خراسان أمير مدينة ولا نائب قلعة مكينة ولا من يُشار إليه إلا وقصد تيمور وأقبل عليه ، فمن أكابرهم أمير محمد حاكم باورد وأمير عبد اللّه حاكم سرخس ، وانتشرت هيبته في الآفاق ، وبلغت سطوته مازندران وكيلان وبلاد الري والعراق ، وامتلأت منه القلوب والأسماع وخافه القريب والبعيد وعلى الخصوص شاه شجاع ، وكل هذا في مدة قصيرة وأيام قلائل يسيرة ، نحواً من سنتين بعد قتله السلطان حسين العجم أبا الفوارس شاه شجاع ).انتهى.

أقول: تعلم تيمور لنك من عمل سلاطين الخلافة العباسية ونصبهم خليفة شكلياً يحكمون باسمه ، فنصب شخصاً من ذرية جنكيز وحكم باسمه !

قال في النجوم الزاهرة:13/32: (السلطان محمود خان وكان يعرف بصرغتمش الذي كان تيمور لنك يدبر مملكته وليس له من الأمر مع تيمور إلا مجرد الاسم فقط وهو من ذرية جنكز خان ، ولهذا كان سلطنه تمر وصار مدبر مملكته لكون القاعدة عند التتار لا يتسلطن إلا من يكون من ذرية الملوك) . ونحوه:12/269 .

ص: 290

4- ثم غزا تيمور قسماً من روسيا

قال المقريزي في السلوك/1669: (وفي السبت ثاني ذي الحجة(سنة 797): قدم الأمير طولو بن علي شاه المتوجه إلى طقتمش خان ، وأنه بعد ما اتفق معه على محاربة تيمور توجه تيمور لمحاربته ، فسار إليه وقاتله ثلاثة أيام فانكسر من تيمور ومرَّ إلى بلاد الروس ، فخرج طولو من سراي إلى القرم ، ومضى إلى الكفا فعوقه متملكها ليتقرب به إلى تيمور ، حتى أخذ منه خمسين ألف درهم ، فملك تيمور القرم والكفا وخربها). انتهى. وهذا يدل على أنه خاض حرباً مع الملك طقتمش على حدود روسيا .

لكن في أعيان الشيعة:3/670: (عن كتاب في سيرة تيمور لنك تأليف الكاتب الإنكليزي هارولد لامب ، تعريب عمر أبو النصر ، جاء فيه: فتحه البلاد الروسية: لما نشأ تيمور كانت المملكة المغولية في فجرها وعظمتها وهي مؤلفة من طوائف شتى المغول والروس والتتار والترك والأرمن وغيرهم ، وكان أهلها يحكمون الأمراء الروس دون ان يقيموا بينهم ، أما عاصمتهم فكانت تسمى ساري وهي واقعة على نهر الفولكافي قلب البلاد الروسية المعروفة عندنا اليوم ، وكانوا يسيطرون على السياسة الأوروبية الشرقية في عهدهم ، حتى أن جيشاً منهم في الماضي تقدم إلى بولونيا نفسها ، وكان يأتي إلى بلادهم كثير من تجار فينيس وإيطاليا وغيرهم.

قهره توكتاميش في قلب بلاد الروس: هرب توكتاميش أحد أمراء بلاد القرم إلى بلاد تيمور ، وكان من أتباع الخان أورس الذي كان يحكم ساري ، فأرسل الخان يطلبه من تيمور ، وكان قتل ابن أحد كبارهم وإن لم يسلمه حاربه فأبى تيمور أن يسلمه . ثم مات الخان وأخذ توكتاميش يطالب بالعرش وأعانه تيمور حتى جلس على العرش بعد ما كان طريداً . ثم كفر النعمة وحدثته نفسه بالإستيلاء على سمرقند فهاجم حدود تيمور ، وكان تيمور في جهات خراسان ، فلما بلغه الخبر أسرع إلى ملاقاة توكتاميش ، وكان ابنه عمر شيخ يحارب توكتاميش ، فلما أبلغ توكتاميش

ص: 291

قدوم تيمور أسرع إلى بلاده بعد أن خرب في طريقه كثيراً من المدن والمزارع... وعاد توكتاميش بجيش عظيم نحو مملكة تيمور ، ولم يكن مع تيمور سوى عدد قليل من جيشه لأن معظم الجيش كان يحارب الثوار في جهات كيفا وغيرها ، فأشار على تيمور قواده ونصحاؤه بالذهب إلى سمرقند لجمع الجيش والعود إلى قتال توكتاميش فلم يقبل، وتقدم بجنده القليل نحو جند توكتاميش وراح يدور خلفه ليوهمه أن هناك مدداً عظيماً قادماً اليه من وجهه ! فرجع توكتاميش إلى بلاده وعاد تيمور بجنده إلى جهات كيفا وأرجانج فاستباحها وأعمل فيها السيف والنار ، ونقل من بقي من سكانها إلى سمرقند... ولما انتهى من توطيد السلام في مملكته عاد إلى مهاجمة توكتاميش وكان الوصول لتلك البلاد فيه مشقة عظيمة وصعوبة شديدة ، فإن نابليون لما غزا بلاد الروس بعد أربعمائة سنة من هذا العهد تمكن من الإستيلاء على موسكو ، ولكنه فقد أكثر جيشه الكبير فقد كان من المستحيل على جيش مهما كثر عدده وعدده أن يدوخ بلاد الروس ويخرج سالماً لوعورة الأرض وصعوبة المفاوز وقلة الأقوات وبعد الشقة وكثرة الثلوج . والقيصر بطرس الأكبر أرسل جيشاً إلى الجنوب سنة1716م. لمحاربة سكان كيفا وبعض التركمان ، وكان طريقه على هذه البلاد التي يقيم فيها توكتاميش . فهلك فيها الجنرال الروسي البرنس بكوتوفيتش مع أكثر جنده وأخذ الباقون أسارى . وكذلك كان مصير جيش آخر بعد سنة من هذه الرحلة وقد هلك أكثره ومات عشرة آلاف جمل ، ومثلها من خيل عربات الزحف ونقل الذخائر . فتقدم تيمور من خصمه بشئ كثير من الحذر ، وانتقل من حصن إلى حصن من الحصون القائمة على الحدود ، حتى اضطرته الثلوج إلى انتظار انتهاء فصل الشتاء فجاءته رسل توكتاميش بالهدايا وطلب الصلح والإعتذار عن الخطأ الذي وقع منه ، فقال لهم تيمور: إن أميركم لما جاءني هارباً ساعدته بالرجال والمال على الخان ، وأرسلت معه جنودي ليجلس على العرش وقد هلك بعضهم بسبب ذلك ، فلما قوي تناسى خدماتي له واقتحم بلادي يهدم مدنها ويقتل أهلها ، ثم أرسل جيشاً ثانياً

ص: 292

لمحاربتي ، فلما تقدمت نحوه أرسل يطلب الصلح ! فأنا لا أثق بعهوده فإن كان يريد الصلح حقاً فليرسل وزيره علي بك للإتفاق معه فلم يأت علي بك ، فتقدم تيمور بجنده بعد أن أرسل نساءه إلى سمرقند مع جند للمحافظة عليهن . ومشى تيمور وجنده على الثلج حتى وصلوا إلى بلاد يسميها ابن بطوطة بلاد الأشباح لأن أهلها لا يظهرون إلا في الليل ، وأغرب من ذلك أن الجيش لم يلاق في طريقه إنساناً حتى الآن ، وأرسل تيمور ابنه عمر شيخ مع عشرين ألفاً للإستكشاف فأخبروا أنهم عثروا بالقرب من نهر كبير على آثار نار ، مما يدل على أن بعض جيش العدو كان هناك ، فأسرع تيمور إلى ذلك المكان وأرسل بعض عيونه ، فقبض على فارس فسأله تيمور فقال إنه لا يعرف شيئاً عن توكتاميش إلا أنه رأى عشرة فرسان يسيرون نحو الغرب ، فأرسل فقبض عليهم فذكروا أن توكتاميش يبعد عن المكان الذي فيه تيمور مسيرة أسبوع ! قال: وليس بمقدور المؤرخ أن يصف هذا الجري السريع الذي كان تيمور يدفع رجاله اليه ، فقد كان فوق الطبيعة وفوق قوة الإنسان في هذه الأصقاع النائية وهو يقود مائة ألف جندي ، وإن حاجة هذا الجند الكثير إلى الغذاء والماء ، لم تكن من الأمور التي يسهل الحصول عليها في مثل هذه البلاد المنقطعة ، وكان تيمور يمنع جيشه من إشعال النار ليلاً لئلا يعلم به عدوه حتى سار في هذه البلاد نحو خمسة أشهر وقطع1800 ميل حتى التقى الجيشان واقتتلا إلى أن انهزم توكتاميش وغنم تيمور منه غنائم عظيمة وعاد إلى سمرقند ، بعد غياب ثمانية أشهر .

ثم إن توكتاميش انتقض عليه مرة أخرى ، فرجع اليه تيمور فكسره وأحرق عاصمته ساري ، واتجه إلى موسكو ولكنه لم يدخلها ، وأحرق مدينة دون ، ومات ابنه عمر شيخ فقال: لقد أعطاني اللّه إياه ثم أخذه مني ) .

5- ثم غزا الممالك الشيعية في إيران !

في صبح الأعشى:7/329: (ومن هذه المملكة انساب على بلاد إيران حتى استولى

ص: 293

على جميعها ، وسار إلى بلاد الهند فاستولى عليها ، ثم طاح إلى الشام في سنة ست وثمانمائة وعاث فساداً وخرب وأفسد ، ولقيه السلطان الملك الناصر فرج بن الظاهر برقوق صاحب مصر والشام على دمشق ، وجرت بينهما مراسلة ثم طرأ للسلطان الملك الناصر ما أوجب عوده إلى مصر لأمر عرض له).

وفي معجم رجال الحديث للسيد الخوئي:18/287، عن الذي طلب من الشهيد الأول تأليف اللمعة الدمشقية: (قال الشهيد الثاني رحمه الله علیه ...هو شمس الدين محمد الآوي من أصحاب السلطان علي بن مؤيد ملك خراسان ، وما والاها في ذلك الوقت إلى أن استولى على بلاده تيمورلنك فصار معه قسراً إلى أن توفي في حدود سنة خمس وتسعين وسبع مائة ).

وفي مستدركات أعيان الشيعة:2/182: (وفي سنة783 دخل تيمور لنك السفاك التتري المعروف مدينة سبزوار منتصراً ، وقد استقبله علي المؤيد فأبقاه تيمور في بلاطه وأكرمه واعترف بسلطانه ، ولكن لم يسمح له بالعودة إلى سبزوار ، إلى أن أمر بقتله سنة788 . وبعد وفاة علي بن المؤيد قام أهالي مدينة سبزوار الأبطال الذين صعب عليهم قبول سلطة الملك والأتراك بدلاً من حكومة أمراء جماعة السربداريين فقاموا في سنة785 بانتفاضة عامة بقيادة الشيخ داود السبزواري لإحياء حكومة جماعة السربداريين إلا أن تيمور توجه إلى سبزوار حالاً ، وحاصر المدينة وتعذر على الأهالي مجابهة حكومة تيمور المقتدرة ، وانتهت الإنتفاضة بالفشل والهزيمة . وبالرغم من الدفاع البطولي عن المدينة إلا أن مدينة سبزوار استسلمت في بداية شهر رمضان سنة785 ودخلت عساكر تيمور إلى المدينة وقام تيمور بمذبحة رهيبة ، وأمر بدفن ما يقارب من ألفين من المشاركين في الإنتفاضة أحياء في جدار أحد الأبراج .

إلا أن هذه المذبحة لم تؤثر في معنوية أهالي مدينة سبزوار ، ولم تقلل من عزيمة هؤلاء الناس الذين كانوا يطالبون بالإستقلال ، وكانوا مفعمين بمعنوية ممتازة عالية. وبعد وفاة تيمور سنة807 ثارت جماعة السربداريين في سبزوار وضواحيها ضد

ص: 294

السلطان شاهرُخّ بن تيمور ، وانتخبت أحد أحفاد وجيه الدين مسعود سلطاناً لها . ولكن تمكنت عساكر شاهرخ(ابن تيمور) بصعوبة من القضاء على هذه الثورة) .

6- حاكم شيراز الشاه منصور أشجع من قاوم تيمور!

في النجوم الزاهرة:12/260: (فلقيه شاه منصور في ألفي فارس لا غير ، وشاه منصور هذا هو أفرس من قاتل تيمور من الملوك بلا مدافعة ! فإنه برز إليه في ألفي فارس وعساكر تيمور نحو المائة ألف ! وعند ما برز له شاه منصور فرَّ من عسكره أمير يقال له محمد بن أمين الدين إلى تيمور بأكثر العساكر ، فبقي شاه منصور في أقل من ألف فارس فقاتل بهم تيمور يومه إلى الليل ، ثم مضى كل من الفريقين إلى معسكره ، فركب شاه منصور في الليل وبيت التمرية ، فقتل منهم نحو العشرة الآف فارس ، ثم انتخب شاه منصور من فرسانه خمسمائة فارس فأصبح وقاتل بهم من الغد وقصد بهم تيمورحتى أزاله عن موقفه ، وهرب تيمور واختفى بين حرمه فأحاط بهم التمرية مع كثرة عددهم وهو يقاتلهم حتى كلت يداه وقتلت أبطاله ، فانفرد عن أصحابه وألقى نفسه بين القتلى! فعرفه بعض التمرية فقتله وأتى برأسه إلى تيمور ، فقتل تيمور قاتله أسفاً عليه ! واستولى تيمور أيضاً على جميع ممالك العجم بأسرها.. ثم أخذ تيمور في الإستيلاء على مملكة بعد مملكة حتى ملك العراقين وهرب منه السلطان أحمد بن أويس ، وأخرب غالب العراق مثل بغداد والبصرة والكوفة وأعمالهم ، ثم ملك غالب أقاليم ديار بكر ، وأخرب بها أيضاً عدة بلاد) .

7- غزو تيمور لبغداد عاصمة دولة الإيلخانيين الشيعة

قال السيد الأمين في أعيان الشيعة:2/482: ( أما الإيلخانية فكانوا شيعة إمامية ، وحكموا نحو مائة وثلاث وعشرين سنة من سنة736 إلى813 ، وأول من ملك منهم الشيخ حسن بن أمير حسين ، ثم ولده الشيخ أويس أو الشاه أويس ، ثم السلطان

ص: 295

حسين بن الشيخ أويس ، ثم أخوه السلطان أحمد بن الشيخ أويس وهو آخرهم . وكان حكمهم في آذربايجان وأران ومغان وخراسان وبغداد والموصل وبلاد الروم وبلاد الأرمن... كان السلطان أحمد ذا فضل وأدب باهر شاعراً بالعربية والفارسية عالماً بالفنون الجميلة... وذكره دولتشاه السمرقندي في كتاب التذكرة المطبوع بلندن على ما حكي ، فقال: إنه كان سفاكاً للدماء سئ التدبير مستعملاً الأفيون ، ضجرت من سوء سياسته الرعايا والقواد والأمراء ، وتابعوا الكتب إلى تيمور خان الكوركاني وهو المعروف بتيمور لنك أي الأعرج ، في حقه حتى أخذ منه خراسان وتبعه إلى بغداد . وكان السلطان أحمد قد قتل أخاه السلطان حسين سنة784 وتملك مكانه واستولى على آذربايجان إلى حدود الروم وملك بغداد ! ولما قتل أخاه حاربه أخواه الآخران الشيخ علي وبير علي طلباً بثار أخيهما فدحراه ، واستمد أحمد قره محمد التركماني أحد أمرائه وصهره على ابنته فأمده وعاد إلى قتالهما فغلب عليهما وقتلهما مع عدة من الأمراء الكبار ، وقبض على أخيه السلطان بايزيد وأنفذه إلى بغداد .

ثم خرجت عليه جيوش تيمورلنك في خراسان فجاء إلى بغداد ، ثم قصد تيمورلنك بغداد في جيش كثيف سنة791 ، فملكها وولى عليها الخواجة مسعود السربداري وعاد عنها ، ولما دخلها تيمور هرب السلطان أحمد إلى الروم ملتجئاً إلى يلدرم بايزيد العثماني فأمده بجيش ذهب به إلى بغداد فملكها وأخرج مسعوداً منها ، وبقي فيها عدة سنين جرت له فيها حروب مع عساكر تيمور لنك ، ثم أخذها منه تيمور وعاد إلى السلطان بايزيد ! وكان قد خرج على السلطان أحمد قره يوسف بن قره محمد وملك تبريز ، فلما دخلها تيمور هرب قره يوسف أيضاً إلى السلطان بايزيد فحرضه الإثنان على قتال تيمور ، فكتب إليه بايزيد يتهدده ويشتمه أقبح الشتم فقابله تيمور باللين وطلب منه السلطان أحمد الجلائري وقره يوسف التركماني فلم يسلمهما ، فزحف إليه تيمور وملك بلاد الروم وأسر السلطان بايزيد ، ففر السلطان أحمد وقره يوسف إلى الشام فقبض عليهما نائبها مراعاة لتيمورلنك وسجنهما ، ثم

ص: 296

أطلقهما فذهبا إلى مصر ملتجئين إلى الظاهر برقوق ملك مصر والشام ، من ملوك الجراكسة . ولما وصل السلطان أحمد إليها خرج برقوق للقائه وذلك سنة795 ومشى الأمراء في ركابه إلى داخل البلد ، ثم خرج برقوق بالعساكر إلى دمشق ومعه السلطان أحمد لمعاونة نائبه الناصري على منطاش ، فهرب منطاش وتوجه برقوق إلى حلب وسيَّر العساكر مع السلطان أحمد إلى بغداد ، وكان تيمورلنك قد توفي فملكها وأخرج واليها من قبل شاهرُخّ بن تيمور ، وعاد قره يوسف إلى تبريز فملكها وكان السلطان أحمد وقره يوسف قد تعاهدا فنقض السلطان أحمد العهد وجهز جيشاً إلى آذربايجان ففتحها ، وكان قره يوسف في غزو الروم في سنة813 ، فرجع وحارب السلطان أحمد وقهره ، ثم قبض عليه وقتله مع عدة من أولاده. وبه انقرضت دولة آل جلاير ، ولم يتول أحد منهم بعد السلطان أحمد سوى اثنين أو ثلاثة في خوزستان ، أياماً قليلة وملك بعدهم التركمان . استدرك المؤلف على الطبعة الأولى بما يلي: في أعلام النبلاء قال ابن إياس في سنة795: حضر إلى حلب قاصد نائب الرحبة وأخبر بأن القان أحمد بن أويس صاحب بغداد قد وصل إلى الرحبة ، وهو هارب من تيمورلنك وقد احتاط على غالب بلاده وملكها ، وكان سبب أخذ تيمورلنك بلاد القان أحمد بن أويس أن تيمورلنك أرسل إلى القان أحمد كتاباً يترفق له فيه ويقول له: أنا ما جئتك محارباً وإنما جئتك خاطباً ، أتزوج بأختك وأزوجك بنتي ففرح القان بذلك وظن أن هذا صحيح فكان كما قيل في المعنى:

لا تركننَّ إلى الخريف فماؤه *** مُسْتَوْخمٌ وهواؤه خطاف

يمشي مع الأيام مشيَ صديقها *** ومن الصديق على الصديق يُخاف

وكان القان أحمد استعد لقتال تيمورلنك وجمع له العساكر ، فلما أتى قاصد تيمورلنك بهذا الخبر ثنى عزمه عن القتال واستعاد من العسكر الذين قد جمعهم ما أعطاهم من آلة للقتال وصرف همته عن القتال ، فلم يشعر إلا وقد دهمته عساكر تيمورلنك من كل مكان فضاق بهم رحب الفضاء ، فخرج إليهم القان أحمد بمن بقي

ص: 297

من العساكر فبينما القان يقع مع عسكر تيمورلنك ، إذ فتح أهل بغداد بقية أبواب المدينة وقد خافوا على أنفسهم مما جرى عليهم من هولاكو أيام الخليفة المستعصم باللّه فلما رأى تيمورلنك أبواب المدينة مفتحة دخل إلى المدينة وملكها ، ولم يجد من يرده عنها ! فلما بلغ القان أحمد ذلك ما أمكنه إلا الهرب فأتى إلى جسر هناك فعدى من فوقه ثم قطعه ! فلما بلغ ذلك عسكر تيمورلنك تبعوا القان أحمد وخاضوا خلفه الماء فهرب منهم فتبعوه مسيرة ثلاثة أيام ، فلما حصلت له هذه الكسرة قصد التوجه إلى الديار المصرية ، ثم حضر قاصد نائب حلب وأخبر بأن القان أحمد بن أويس قد وصل إلى حلب ، فلما تحقق السلطان برقوق صحة هذا الخبر جمع الأمراء واستشارهم فيما يكون من أمر القان أحمد فوقع الإتفاق على أن السلطان يرسل إليه الإقامات ويلاقيه ، فعند ذلك عيَّن السلطان الأمير أزمرد الساقي وصحبته الإقامات وما يحتاج إليه القان أحمد من مال وقماش وغير ذلك ، فخرج الأمير أزمرد على جياد الخيل . ثم عقب ذلك حضر إلى الأبواب الشريفة قاصد بايزيد بن عثمان ملك الروم مراد بك على يده تقادم عظيمة للسلطان ، وكان سبب مجئ قاصد ابن عثمان بايزيد أنه أرسل يخبر السلطان بأمر تيمورلنك ويحذره الغفلة في أمره .

قال ابن خلدون في أوائل الجزء الخامس من تاريخه: لما استولى تيمورلنك على بغداد وانهزم منه صاحبها القان أحمد بن أويس ، وصل أحمد إلى الرحبة من تخوم الشام فأراح بها وطالع نائبها السلطان بأمره ، فسرح بعض خواصه لتلقيه بالنفقات والأزواد ، وليستقدمه فقدم به إلى حلب وأراح بها ، وطرقه مرض أبطأ به عن مصر وجاءت الإخبار بأن تيمورلنك عاث في مخلفه واستصفى ذخائره ، ثم قدم أحمد بن أويس على السلطان بمصر في شهر ربيع سنة796 مستصرخاً به على طلب ملكه والإنتقام من عدوه ، فأجاب للسلطان صريخه ونادى في عسكره بالتجهز للشام ، وخيَّم بالزيدانية عدة أيام أزاح فيها علل عسكره ، وأفاض العطاء في مماليكه واستوعب الحشد من سائر أصناف الجند ، واستخلف على القاهرة النائب سودون

ص: 298

وارتحل على التعبية ومعه أحمد بن أويس بعد أن كفاه مهمة وسرب النفقات في تابعيه وجنده ، ودخل دمشق آخر جمادى الأولى وبقي فيها إلى شعبان سنة796 .

وقال ابن أياس: إن السلطان دخل من الريدانية وصحبته القان أحمد بن أويس وسائر الأمراء ، وجدَّ في السير حتى وصل إلى دمشق يوم الإثنين12ربيع الآخر ، فنزل بالقصر الأبلق الذي في الميدان ، ثم توجه إلى حلب فأتاه قاصد من عند السلطان بايزيد بن عثمان بأن يكون هو والسلطان يداً واحدة على دفع العدو الباغي تيمورلنك ، فأجابه السلطان إلى ذلك ، ثم حضر إليه قاصد طقتمش خان صاحب بسطام بمثل ذلك ، فأجابه كما أجاب ابن عثمان ، ثم بلغه أن تيمورلنك رجع إلى بلاده ، ولما تحقق ذلك قصد السلطان الرجوع إلى الديار المصرية ، وكذلك القان أحمد بن أويس رجع إلى بلاده). انتهى.

8- تيمور يجتاح الهند ثم بغداد !

قال ابن تغري في جوم الزاهرة:12/261: (ثم قصد البلاد الشامية في سنة ثمان وتسعين وسبعمائة ثم رجع خائفاً من الملك الظاهر برقوق إلى بلاده ، فبلغه موت فيروز شاه ملك الهند عن غير ولد وأن أمر الناس بمدينة دلي في اختلاف وأنه جلس على تخت الملك بدلي وزير يقال له ملو فخالف عليه آخو فيروز شاه واسمه سارنك خان متولي مدينة مولتان ). انتهى.

أقول: هذا ادعاء من ابن تغري ، هو أشبه بما ينشره إعلام السلطان برقوق ! ولعل تيموراً أشاع أنه قاصدٌ الشام لكي يخفي قصده الهند كما هي عادته !

ثم قال ابن تغري: (فلما سمع تيمور هذا الخبر اغتنم الفرصة وسار من سمرقند في ذي الحجة سنة ثمانمائة إلى مولتان وحاصر ملكها سارنك خان ستة أشهر وكان في عسكر سارنك خان ثمانمائة فيل حتى ملكها ، ثم سار تيمور إلى مدينة دلي وهي تخت الملك فخرج لقتاله صاحبها ملو المذكور وبين يديه عساكره ومعهم الفيلة ،

ص: 299

وقد جعل على كل فيل برجاً فيه عدة من المقاتلة ، وقد ألبست تلك الفيلة العدد والبركستوانات وعلق عليها من الأجراس والقلاقل ما يهول صوته ليجفل بذلك خيول الجغتاي ، وشدوا في خراطيمها عدة من السيوف المرهفة ، وسارت عساكر الهند من وراء الفيلة لتنفر هذه الفيلة خيول التمرية بما عليها ، فكادهم تيمور وحسب حسابهم بأن عمل آلافاً من الشوكات الحديد مثلثة الأطراف ونثرها في مجالات الفيلة وجعل على خمسمائة جمل أحمال قصب محشوة بالفتائل المغموسة بالدهن، وقدمها أمام عسكره، فلما تراءى الجمعان وزحف الفريقان للحرب أضرم تيمور في تلك الأحمال النار وساقها على الفيلة فركضت تلك الأباعر من شدة حرارة النار، ثم نخسها سواقوها من خلف هذا، وقد كمن تيمور كميناً من عسكره ثم زحف بعساكره قليلاً قليلاً وقت السحر ، فعندما تناوش القوم للقتال لوى تيمور رأس فرسه راجعاً يوهم القوم أنه قد انهزم منهم ، ويكفُّ عن طريق الفيلة كأن خيوله قد جفلت منها ، وقصد المواضع التي نثر فيها تلك الشوكات الحديد التي صنعها ، فمشت حيلته على الهنود ومشوا بالفيلة وهم يسوقونها خلفه أشد السوق ، حتى داست على تلك الشوكات الحديد ، فلما وطئتها نكصت على أعقابها ! ثم التفَّ تيمور بعساكره عليها بتلك الجمال وقد عظم لهيبها على ظهورها وتطاير شررها في تلك الآفاق وشنع زعاقها من شدة النخس في أدبارها ، فلما رأت الفيلة ذلك جفلت وكرت راجعة على العسكر الهندي ، فأحست بخشونة الشوكات التي طرحها تيمور في طريقها فبركت وصارت في الطريق كالجبال مطروحة على الأرض ، لا تستطيع الحركة وسالت أنهار من دمائها ! فخرج عند ذلك الكمين من عسكر تيمور من جنبي عسكر الهنود ثم حطم تيمور بمن معه ، فتراجعت الهنود وتراموا بالسهام ، ثم إنهم تضايقوا ، وتقاتلوا بالرماح ، ثم بالسيوف والأطبار ، وصبر كل من الفريقين زماناً طويلاً إلى أن كانت الكسرة على الهنود بعد ما قتل أعيانهم وأبطالهم وانهزم باقيهم ، بعد أن ملوا من القتال ! فركب تيمور أقفيتهم حتى نزل على مدينة دلي وحصرها مدة حتى أخذها

ص: 300

من جوانبها بعد مدة عُنوة ، واستولى على تخت ملكها واستصفى ذخائرها ، وفعلت عساكره فيها على عادتهم القبيحة من الأسر والسبي والقتل والنهب والتخريب .

وبينما هم في ذلك بلغ تيمور موت الملك الظاهر برقوق صاحب مصر ، وموت القاضي برهان الدين أحمد صاحب سيواس من بلاد الروم ، فرأى تيمور أنه بعد موتهما ظفر بمملكتيهما ، وكاد أن يطير بموتهما فرحاً ! فنجَّز أمره وولَّى مسرعاً بعد ان استناب بالهند من يثق به من أمرائه ، وسار حتى وصل سمرقند ، ثم خرج منها عجلاً في أوائل سنة اثنتين وثمانمائة فنزل خراسان. ثم مضى منها إلى تبريز فاستخلف بها ابنه ميران شاه ، ثم سار حتى نزل قرا باغ في سابع عشر شهر ربيع الأول فقتل وسبى ثم رحل منها ، ونزل تفليس في يوم الخميس ثاني جمادى الآخرة وعبر بلاد الكرج وأسرف فيها أيضاً في القتل والسبي .

ثم قصد بغداد ففر منه صاحبها السلطان أحمد بن أويس في ثامن عشر شهر رجب إلى قرا يوسف فعاد تيمور من بغداد وصيَّف ببلاد التركمان ، ثم سار إلى ماردين فعصى صاحبها عليه الملك الظاهر مجد الدين عيسى ، فتركه تيمور ومضى إلى سيواس ، وقد أخذها الأمير سليمان بن أبي يزيد بن عثمان فحصرها تيمور ثمانية عشر يوماً حتى أخذها في خامس المحرم من سنة ثلاث وثمانمائة ، وقبض على مقاتلتها وهم ثلاثة آلاف نفر ، فحفر لهم سرداباً وألقاهم فيه وطمَّهم بالتراب بعدما كان حلف لهم ألا يريق لهم دماً ، وقال: أنا على يميني ما أرقت لهم دماً !! ثم وضع السيف في أهل البلد وأخربها حتى محا رسومها ! ثم سار إلى بهسنا فنهب ضواحيها وحصر قلعتها ثلاثة وعشرين يوماً حتى أخذها . ومضى إلى ملطية فدكها دكاً ، وسار حتى نزل قلعة الروم فلم يقدر عليها فتركها وقصد عين تاب ففر منه نائبها الأمير أركماس الظاهري وهو غير أركماس الدوادار في الدولة الأشرفية . ثم قصد حلب) .

ص: 301

9- ثم اجتاح تيمور ديار بكر وحلب ودمشق !

وصف ابن تغري حملة تيمور على حلب والشام وتأثير ذلك على مصر، بتفصيل ، ونأخذ منه خلاصة ، لأنه شاهد متحيز لأهل ومصر . قال في النجوم الزاهرة:12/227: ( وأما أهل دمشق فإنه لما قدم عليهم الخبر بأخذ حلب ، نُوديَ في الناس بالرحيل من ظاهرها إلى داخل المدينة ، والإستعداد لقتال العدو المخذول فأخذوا في ذلك ، فقدم عليهم المنهزمون من حماة ، فعظم خوف أهلها وهمُّوا بالجلاء فمُنعوا من ذلك ونُودي: من سافر نُهب ! فعاد إليها من كان خرج منها ، وحُصِّنت دمشق ونُصبت المجانيق على قلعة دمشق ، ونُصبت المكاحل على أسوار المدينة ، واستعدوا للقتال استعداداً جيداً إلى الغاية . ثم وصلت رسل تيمور إلى نائب الغيبة بدمشق ليتسلموا منه دمشق ، فهمَّ نائب الغيبة بالفرار فرده العامة رداً قبيحاً ، وصاح الناس وأجمعوا على الرحيل عنها واستغاث النساء والصبيان وخرجت النساء حاسرات لا يعرفن أين يذهبن حتى نادى نائب الغيبة بالإستعداد ، وقدم الخبر في أثناء ذلك بمجئ السلطان إلى البلاد الشامية ففتر عزم الناس عن الخروج من دمشق ما لم يحضر السلطان !

وأما أمراء الديار المصرية فإنه لما كان ثامن عشر شهر ربيع الأول وهو بعد أخذ تيمور لمدينة حلب بسبعة أيام ، فُرقت الجماكي(المخصصات)على المماليك السلطانية بسبب السفر ، ثم في عشرينه نودي على أجناد الحلقة بالقاهرة أن يكونوا في يوم الأربعاء ثاني عشرينه في بيت الأمير يشبك الشعباني الدوادار للعرض عليه . ثم في خامس عشرينه ورد عليهم الخبر بأخذ تيمور مدينة حلب وأنه يحاصر قلعتها ، فكذبوا ذلك وأمسك المخبر وحُبس ، حتى يعاقب بعد ذلك على افترائه !

ووقع الشروع في النفقة فأخذ كل مملوك ثلاثة آلاف وأربعمائة درهم ، ثم خرج الأمير سودون من زادة والأمير إينال حطب على الهِجْن في ليلة الأربعاء تاسع عشرينه لكشف هذا الخبر ، ثم ركب الشيخ سراج الدين عمر البلقيني وقضاة القضاة

ص: 302

والأمير آقباي الحاجب ونودي بين أيديهم الجهاد في سبيل اللّه تعالى لعدوكم الأكبر تيمورلنك ، فإنه أخذ البلاد ووصل إلى حلب ، وقتل الأطفال على صدور الأمهات وأخرب الدور والجوامع والمساجد وجعلها إسطبلات للدواب ، وإنه قاصدكم يخرب بلادكم ويقتل رجالكم فاضطربت القاهرة لذلك ، واشتد جزع الناس وكثر بكاؤهم وصراخهم ، وانطلقت الألسنة بالوقيعة في أعيان الدولة !

واستهل شهر ربيع الآخر فلما كان ثالثه قدم الأمير اسنبغا الحاجب وأخبر بأخذ تيمور مدينة حلب وقلعتها باتفاق دمرداش ، وحكى ما نزل بأهل حلب من البلاء وأنه قال لنائب الغيبة بدمشق يخلي بين الناس وبين الخروج من دمشق ، فإن الأمر صعب ! وإن النائب لم يمكِّن أحداً من السير ، فخرج السلطان الملك الناصر من يومه من القاهرة ونزل بالريدانية بأمرائه وعساكره والخليفة والقضاة ، وتعين الأمير تمراز الناصري أمير مجلس لنيابة الغيبة بالديار المصرية ، وأقام بمصر من الأمراء الأمير جكم من عوض في عدة أخر وأقام الأمير تمراز يعرض أجناد الحلقة وفي تحصيل ألف فرس وألف جمل وإرسال ذلك مع من يقع عليه الإختيار من أجناد الحلقة للسفر.... وأخذ الأمير تمراز في عرض أجناد الحلقة وتحصيل الخيول والجمال وطلب العربان من الوجه القبلي والبحري لقتال تيمور ، كل ذلك والسلطان بالريدانية . ثم خرج الجاليش(الطليعة)في بكرة يوم الجمعة ثامن شهر ربيع الأخر وفيه من أكابر الأمراء مقدمي الألوف الأتابك بيبرس ، والأمير نوروز الحافظي رأس نوبة الأمراء ، والأمير بكتمر الركني أمير سلاح ، وآقباي حاجب الحجاب ، ويلبغا الناصري ، وإينال باي بن قجماس ، وعدة أخر من أمراء الطبلخانات والعشرات .

ثم رحل السلطان ببقية الأمراء والعساكر من الريدانية يريد جهة الشام لقتال تيمورلنك وسار حتى نزل بغزة في يوم عشرين من الشهر . واستدعى بالوالد وآقبغا الجمالي الأطروش نائب حلب كان من القدس وأخلع على الوالد باستقراره في نيابة دمشق عوضاً عن سودون قريب الملك الظاهر برقوق ، بحكم أسره مع تيمور ، وهذه

ص: 303

ولاية الوالد على دمشق الأولى ، وخلع على الأمير آقبغا الجمالي الأطروش باستقراره في نيابة طرابلس عوضاً عن شيخ المحمودي بحكم أسره مع تيمور أيضاً ، وعلى الأمير تمربغا المنجكي باستقراره في نيابة صفد عوضاً عن ألطنبغا العثمانى بحكم أسره ، وعلى طولومن على باشاه باستقراره في نيابة غزة عوضاً عن عمر بن الطحان وعلى صدقة بن الطويل باستقراره في نيابة القدس ، وبعث الجميع إلى ممالكهم...

ثم رحل السلطان ببقية عسكره من غزة في سادس عشرينه وسار الجميع حتى وافوا دمشق ، وكان دخول السلطان دمشق في يوم الخميس سادس جمادى الأولى وكان لدخوله يوم مهول من كثرة صراخ الناس وبكائهم والإبتهال إلى اللّه بنصرته وطلع السلطان إلى قلعة دمشق وأقام بها إلى يوم السبت ثامنه ، فنزل من قلعة دمشق وخرج بعساكره إلى مخيمه عند قبة يلبغا ظاهر دمشق ، وتهيأ للقاء تيمور هو بعساكره وقد قصرت المماليك الظاهرية أرماحهم حتى يتمكنوا من طعن التمرية أولا باول لازدرائهم عساكر تيمور ، فلما كان وقت الظهر من اليوم المذكور وصل جاليش(طليعة)تيمور من جهة جبل الثلج في نحو الألف فارس فبرز إليهم مائة فارس من عسكر السلطان وصدموهم صدمة واحدة بددوا شملهم وكسروهم أقبح كسرة وقتلوا منهم جماعة كبيرة وعادوا .

ثم حضر إلى طاعة السلطان جماعة من التمرية وأخبروا بنزول تيمور على البقاع العزيزي فلتكونوا على حذر ، فإن تيمور كثير الحيل والمكر فاحترز القوم منه غاية الاحتراز ، ثم قدم على السلطان خمسة أمراء من أمراء طرابلس بكتاب اسندمر نائب الغيبة بطرابلس يتضمن أن الأمير أحمد بن رمضان أمير التركمان هو وابن صاحب الباز وأولاد شهري اتفقوا وساروا إلى حلب وأخذوها من التمرية وقتلوا من أصحاب تيمور زيادة على ثلاثة آلاف فارس ، وأن تيمور بعث عسكراً إلى طرابلس فثار بهم أهل القرى وقتلوهم عن آخرهم بالحجارة لدخولهم بين جبلين ، وأنه قد حضر من عسكر تيمور خمسة نفر وأخبروا بأن نصف عسكر تيمور على نية المسير إلى طاعة

ص: 304

السلطان ! وكان ذلك من مكايد تيمور ! ثم قال: وإن صاحب قبرص وصاحب الماغوصة وغيرهم وردت كتبهم بانتظار الإذن لهم في تجهيز المراكب في البحر لقتال تيمور معاونة للسلطان ، فلم يلتفت أحد لهذا الكتاب وداموا على ما هم فيه من اختلاف الكلمة .

ثم في يوم السبت نزل تيمور بعساكره على قطنا فملأت عساكره الأرض كثرة وركب طائفة منهم لكشف الخبر فوجدوا السلطان والأمراء قد تهيئوا للقتال وصفت العساكر السلطانية فبرز إليهم التمرية وصدموهم صدمة هائلة وثبت كل من العسكرين ساعة فكانت بينهم وقعة انكسر فيها ميسرة السلطان وانهزم العسكر الغزاوي وغيرهم إلى ناحية حوران ، وجرح جماعة !

وحمل تيمور بنفسه حملة شديدة ليأخذ فيها دمشق فدفعته ميمنة السلطان بأسنان الرماح حتى أعادوه إلى موقفه ، ونزل كل من العسكرين بمعسكره وبعث تيمور إلى السلطان في طلب الصلح وإرسال أطلمش أحد أصحابه إليه وأنه هو أيضاً يبعث من عنده من الأمراء المقبوض عليهم في وقعة حلب ، فأشار الوالد ودمرداش وقطلوبغا الكركي في قبول ذلك لما يعرفوا من اختلاف كلمتهم لا لضعف عسكرهم ، فلم يقبلوا وأبوا إلا القتال ، ثم أرسل تيمور رسولاً آخر في طلب الصلح وكرر القول ثانياً وظهر للأمراء ولجميع العساكر صدق مقالته وأن ذلك على حقيقته ، فأبى الأمراء ذلك ، هذا والقتال مستمر بين الفريقين في كل يوم .

فلما كان ثاني عشر جمادى الآخرة اختفى من أمراء مصر والمماليك السلطانية جماعة ! منهم الأمير سودون الطيار ، وقاني باي العلائي رأس نوبة ، وجمق ، ومن الخاصكية يشبك العثماني ، وقمش الحافظي ، وبرسبغا الدوادار ، وطرباي في جماعة أخر ! فوقع الإختلاف عند ذلك بين الأمراء وعادوا إلى ما كانوا عليه من التشاحن في الوظائف والإقطاعات ، والتحكم في الدولة وتركوا أمر تيمور كأنه لم يكن ، وأخذوا في الكلام فيما بينهم بسبب من اختفى من الأمراء وغيرهم ! هذا وتيمور في

ص: 305

غاية الاجتهاد في أخذ دمشق وفي عمل الحيلة في ذلك ، ثم أعلم بما الأمراء فيه فقوي أمره واجتهاده بعد أن كان عزم على الرحيل واستعد لذلك !

ثم أشيع بدمشق أن الأمراء الذين اختفوا توجهوا جميعاً إلى مصر ليسلطنوا الشيخ لاجين الجركسي أحد الأجناد البرانية ، فعظم ذلك على مدبري المملكة لعدم رأيهم وكان ذلك عندهم أهم من أمر تيمور ! واتفقوا فيما بينهم على أخذ السلطان الملك الناصر جريدة وعوده إلى الديار المصرية في الليل ! ولم يعلموا بذلك إلا جماعة يسيرة ولم يكن أمر لاجين يستحق ذلك ، بل كان تمراز نائب الغيبة بمصر يكفي السلطان أمرهم ، ولكن ليقضي اللّه أمراً كان مفعولاً !

فلما كان آخر ليلة الجمعة حادي عشرين جمادى الأولى ركب الأمراء وأخذوا السلطان الملك الناصر فرج على حين غفلة ، وساروا به من غير أن يعلم العسكر به من على عقبة دمر يريدون الديار المصرية ، وتركوا العساكر والرعية من المسلمين غنماً بلا راع ! وجدُّوا في السير ليلاً ونهاراً حتى وصلوا إلى مدينة صفد ، فاستدعوا نائبها الأمير تمربغا المنجكي وأخذوه معهم ، وتلاحق بهم كثير من أرباب الدولة وأمرائها وسار الجميع حتى أدركوا الأمراء الذين ساروا إلى مصر عليهم من اللّه ما يستحقوه بمدينة غزة ، فكلموهم فيما فعلوه فاعتذروا بعذر غير مقبول في الدنيا والآخرة ! فندم عند ذلك الأمراء على الخروج من دمشق حيث لا ينفع الندم ، وقد تركوا دمشق أكلة لتيمور ، وكانت يوم ذاك أحسن مدن الدنيا وأعمرها !

وأما بقية أمراء مصر وأعيانها من القضاة وغيرهم لما علموا بخروج السلطان من دمشق خرجوا في الحال في إثره طوائف طوائف ، يريدون اللحاق بالسلطان ، فأخذ غالبهم العشير(العشائرفي الطريق)وسلبوهم وقتلوا منهم خلقاً كثيراً ! أخبرني غير واحد من أعيان المماليك الظاهرية قالوا لما بلغنا خروج السلطان ركبنا في الحال غير أنه لم يعقنا عن اللحاق به إلا كثرة السلاح الملقى على الأرض بالطريق مما رمتها المماليك السلطانية ، ليخفَّ ذلك عن خيولهم ، فمن كان فرسه ناهضاً خرج ، وإلا لحقه

ص: 306

أصحاب تيمور وأسروه ! فممن أسروه قاضي القضاة صدر الدين المناوي ، ومات في الأسر حسبما يأتي ذكره في الوفيات . وتتابع دخول المنقطعين من المماليك السلطانية وغيرهم إلى القاهرة في أسوأ حال من المشي والعري والجوع ! فرسم السلطان لكل من المماليك السلطانية المذكورين بألف درهم وجامكية شهرين .

وأما الأمراء فإنهم دخلوا إلى مصر وليس مع كل أمير سوى مملوك أو مملوكين وقد تركوا أموالهم وخيولهم وإطلابهم وسائر ما معهم بدمشق ، فإنهم خرجوا من دمشق بغتة بغير مواعدة لما بلغهم توجه السلطان من دمشق ، وأخذ كل واحد ينجو بنفسه . وأما العساكر الذين خلفوا بدمشق من أهل دمشق وغيرها فإنه كان اجتمع بها خلائق كثيرة من الحلبيين والحمويين والحمصيين وأهل القرى ، ممن خرج جافلاً من تيمور ، ولما أصبحوا يوم الجمعة وقد فقدوا السلطان والأمراء والنائب غلقوا أبواب دمشق وركبوا أسوار البلد ونادوا بالجهاد ، فتهيأ أهل دمشق للقتال وزحف عليهم تيمور بعساكره فقاتله الدمشقيون من أعلى السور أشد قتال وردوهم عن السور والخندق ، وأسروا منهم جماعة ممن كان اقتحم باب دمشق وأخذوا من خيولهم عدة كبيرة.... وبينما أهل دمشق في أشد ما يكون من القتال والإجتهاد في تحصين بلدهم قدم عليهم رجلان من أصحاب تيمور من تحت السور وصاحا: الأمير يريد الصلح ، فابعثوا رجلاً عاقلاً حتى يحدثه الأمير في ذلك...ولما سمع أهل دمشق كلام أصحاب تيمور في الصلح وقع اختيارهم في إرسال قاضي القضاة تقي الدين إبراهيم بن محمد بن مفلح الحنبلي ، فأرْخِيَ من سور دمشق إلى الأرض ، وتوجه إلى تيمور واجتمع به ، وعاد إلى دمشق وقد خدعه تيمور بتنميق كلامه وتلطف معه في القول وترفق له في الكلام وقال له هذه بلدة الأنبياء والصحابة وقد أعتقتها لرسول اللّه صدقة عني وعن أولادي ولولا حنقي من سودون نائب دمشق عند قتله لرسولي ما أتيتها وقد صار سودون المذكور في قبضتي وفي أسرى وقد كان الغرض في مجيئي إلى هنا ولم يبق لي الآن غرض إلا العود ولكن لا بد من أخذ عادتي من

ص: 307

التقدمة من الطقزات ! وكانت هذه عادته إذا أخذ مدينة صلحاً يخرج إليه أهلها من كل نوع من أنواع المأكول والمشروب والدواب والملابس والتحف تسعة ، يسمون ذلك طقزات والطقز باللغة التركية تسعة ، وهذه عادة ملوك التتار إلى يومنا هذا !

فلما صار ابن مفلح بدمشق شرع يُخذِّل الناس عن القتال ويُثني على تيمور ودينه وحسن اعتقاده ثناء عظيماً ، ويكفّ أهل دمشق عن قتاله فمال معه طائفة من الناس وخالفه طائفة أخرى وأبوا إلا قتاله ، وباتوا ليلة السبت على ذلك وأصبحوا نهار السبت وقد غلب رأي ابن مفلح على من خالفه وعزم على إتمام الصلح ، ونادى في الناس إنه من خالف ذلك قتل وهدر دمه ، فكف الناس عن القتال !

وفي الحال قدم رسول تيمور إلى مدينة دمشق في طلب الطقزات المذكورة فبادر ابن مفلح واستدعى من القضاة والفقهاء والأعيان والتجار حمل ذلك كل واحد بحسب حاله ، فشرعوا في ذلك حتى كمل وساروا به إلى باب النصر ليخرجوا به إلى تيمور فمنعهم نائب قلعة دمشق من ذلك وهددهم بحريق المدينة عليهم إن فعلوا ذلك ! فلم يلتفتوا إلى قوله وقالوا له: أنت احكم على قلعتك ونحن نحكم على بلدنا وتركوا باب النصر وتوجهوا وأخرجوا الطقزات المذكورة من السور ، وتدلى ابن مفلح من السور أيضاً ومعه كثير من أعيان دمشق وغيرهم ، وساروا إلى مخيم تيمور وباتوا به ليلة الأحد وعادوا بكرة الأحد وقد استقر تيمور بجماعة منهم في عدة وظائف ما بين قضاة القضاة والوزير ومستخرج الأموال ونحو ذلك ، معهم فرمان من تيمور لهم وهو ورقة فيها تسعة أسطر يتضمن أمان أهل دمشق على أنفسهم وأهليهم خاصة ، فقرئ الفرمان المذكور على منبر جامع بني أمية بدمشق وفتح من أبواب دمشق باب الصغير فقط ، وقدم أمير من أمراء تيمور جلس فيه ليحفظ البلد ممن يغبر إليها من عساكر تيمور ، فمشى ذلك على الشاميين وفرحوا به ، وأكثر ابن مفلح ومن كان توجه معه من أعيان دمشق الثناء على تيمور وبث محاسنه وفضائله ودعا العامة لطاعته وموالاته وحثهم بأسرهم على جمع المال الذي تقرر لتيمور عليهم وهو ألف

ص: 308

ألف دينار ، وفرض ذلك على الناس كلهم فقاموا به من غير مشقة لكثرة أموالهم ، فلما كمل المال حمله ابن مفلح إلى تيمور ووضعه بين يديه ، فلما عاينه غضب غضباً شديداً ولم يرض به وأمر ابن مفلح ومن معه أن يخرجوا عنه فأخرجوا من وجهه ووكل بهم جماعة حتى التزموا بحمل ألف تومان ! والتومان عبارة عن عشرة آلاف دينار من الذهب ، إلا أن سعر الذهب عندهم يختلف ، وعلى كل حال فيكون جملة ذلك عشرة آلاف ألف دينار ! فالتزموا بها وعادوا إلى البلد وفرضوها ثانياً على الناس كلها عن أجرة أملاكهم ثلاثة أشهر ، وألزموا كل إنسان من ذكر وأنثى حر وعبد بعشرة دراهم ، وألزم مباشر كل وقف بحمل مال له جُرْم .

فنزل بالناس باستخراج هذا منهم ثانياً بلاء عظيم ، وعوقب كثير منهم بالضرب فغلت الأسعار وعز وجود الأقوات ، وبلغ المُدّ القمح وهو أربعة أقداح إلى أربعين درهماً فضة ، وتعطلت صلاة الجمعة من دمشق فلم تقم بها جمعة إلا مرتين ، حتى دعي بها على منابر دمشق للسلطان محمود ولولي عهده الأمير تيمورلنك ، وكان السلطان محمود مع تيمور آلةً ، كون عادتهم لايتسلطن عليهم إلا من يكون من ذرية الملوك... .ثم قدم شاه ملك أحد أمراء تيمور إلى مدينة دمشق على أنه نائبها من قبل تيمور ، ثم بعد جمعتين منعوا من إقامة الجمعة بدمشق ، لكثرة غلبة أصحاب تيمور..

كل ذلك ونائب القلعة ممتنع بقلعة دمشق وأعوان تيمور تحاصره أشد حصار ، حتى سلمها بعد تسعة وعشرين يوماً ، وقد رمى عليها بمدافع ومكاحل لا تدخل تحت حصر... وكان تيمور لما اتفق أولاً مع ابن مفلح على ألف ألف دينار يكون ذلك على أهل دمشق خاصة ، والذي تركته العساكر المصرية من السلاح والأموال يكون لتيمور فخرج إليه ابن مفلح بأموال أهل مصر جميعها ، فلما صارت كلها إليه وعلم أنه استولى على أموال المصريين ألزمهم بإخراج أموال الذين فروا من دمشق فسارعوا أيضاً إلى حمل ذلك كله وتدافعوا عنده حتى خلص المال جميعه ! فلما كمل ذلك ألزمهم أن يخرجوا إليه جميع ما في البلد من السلاح جليلها وحقيرها

ص: 309

فتتبعوا ذلك وأخرجوه له ، حتى لم يبق بها من السلاح شئ !

فلما فرغ ذلك كله قبض على ابن مفلح ورفقته ! وألزمهم أن يكتبوا له جميع خطط دمشق وحاراتها وسككها ، فكتبوا ذلك ودفعوه إليه ، ففرقه على أمرائه وقسم البلد بينهم ، فساروا إليها بمماليكهم وحواشيهم ، ونزل كل أمير في قسمه وطلب من فيه وطالبهم بالأموال ! فحينئذ حلَّ بأهل دمشق من البلاء ما لا يوصف ! وجرى عليهم أنواع العذاب من الضرب والعصر والإحراق بالنار والتعليق منكوساً رغم الأنف بخرقة فيها تراب ناعم ، كلما تنفس دخل في أنفه حتى تكاد نفسه تزهق !

فكان الرجل إذا أشرف على الهلاك يخلي عنه حتى يستريح ، ثم تعاد عليه العقوبة أنواعاً فكان المعاقب يحسد رفيقه الذي هلك تحت العقوبة على الموت ! ويقول ليتني أموت وأستريح مما أنا فيه...كانوا يأخذون الرجل فتُشد رأسه بحبل ويلويه حتى يغوص في رأسه ! ومنهم من كان يضع الحبل بكتفي الرجل ويلويه بعصاه حتى تنخلع الكتفان ! ومنهم من كان يربط إبهام يدي المعذب من وراء ظهره ثم يلقيه على ظهره ويذر في منخريه الرماد مسحوقاً ، فيقر على ما عنده شيئاً بعد شئ حتى إذا فرغ ما عنده لايصدقه صاحبه على ذلك ، فلا يزال يكرر عليه العذاب حتى يموت ! ويعاقب ميتاً مخافة أن يتماوت ! ومنهم من كان يعلق المعذب بإبهام يديه في سقف الدار ويشعل النار تحته ، ويطول تعليقه ! فربما يسقط فيها فيسحب من النار ويلقوه على الأرض حتى يفيق ، ثم يعلقه ثانياً ! واستمر هذا البلاء والعذاب بأهل دمشق تسعة عشر يوما آخرها يوم الثلاثاء ثامن عشرين شهر رجب من سنة ثلاث وثمانمائة فهلك في هذه المدة بدمشق بالعقوبة والجوع خلق لا يعلم عددهم إلا اللّه تعالى !

فلما علمت أمراء تيمور أنه لم يبق بالمدينة شئ خرجوا إلى تيمور فسألهم: هل بقي لكم تعلق في دمشق؟ فقالوا: لا ، فأنعم عند ذلك بمدينة دمشق على أتباع الأمراء فدخلوها يوم الأربعاء آخر رجب ومعهم سيوف مسلولة مشهورة وهم مشاة ، فنهبوا ما قدروا عليه من آلات الدور وغيرها ، وسبوا نساء دمشق بأجمعهن وساقوا

ص: 310

الأولاد والرجال ، وتركوا من الصغار من عمره خمس سنين فما دونها ، وساقوا الجميع مربوطين في الحبال ! ثم طرحوا النار في المنازل والدور والمساجد وكان يوم عاصف الريح فعمَّ الحريق جميع البلد حتى صار لهيب النار يكاد أن يرتفع إلى السحاب ! وعملت النار في البلد ثلاثة أيام بلياليها آخرها يوم الجمعة ! وكان تيمور لعنه اللّه سار من دمشق في يوم السبت ثالث شهر شعبان بعدما أقام على دمشق ثمانين يوماً ، وقد احترقت كلها ! وسقطت سقوف جامع بني أمية من الحريق ، وزالت أبوابه وتفطر رخامه، ولم يبق غير جدره قائمة، وذهبت مساجد دمشق ودورها وقياسرها وحماماتها ، وصارت إطلالاً بالية ورسوماً خالية ، ولم يبق بها دابة تدب إلا أطفال يتجاوز عددهم آلاف فيهم من مات ، وفيهم من سيموت من الجوع !

وأما السلطان الملك الناصر فَرَج ، فإنه أقام بغزة ثلاثة أيام وتوجه إلى الديار المصرية بعد ما قدم بين يديه آقبغا الفقيه أحد الدوادارية ، فقدم إلى القاهرة في يوم الإثنين ثاني جمادى الآخرة، وأعلم الأمير تمراز نائب الغيبة بوصول السلطان إلى غزة فارتجت القاهرة وكادت عقول الناس تزهق! وظن كل أحد أن السلطان قد انكسر من تيمور وأن تيمور في أثره ! وأخذ كل أحد يبيع ما عنده ويستعد للّهروب من مصر وغلا أثمان ذوات الأربع حتى جاوز المثل أمثالاً ! فلما كان يوم الخميس خامس جمادى الآخرة المذكور ، قدم السلطان إلى قلعة الجبل ، ومعه الخليفة وأمراء الدولة ونواب البلاد الشامية ونحو ألف مملوك من المماليك السلطانية...الخ).

وروى نحوه أستاذه المقريزي ، ووصف إرهاق سلطان مصر لأهلها بالضرائب بحجة الإستعداد لحرب تيمور ! فقال في السلوك/1781: (وأما السلطان فإنه لما استقر بقلعة الجبل أعاد شمس الدين محمد البخانسي إلى حسبة القاهرة ، وفيه أذن للأمير يلبغا السالمي أن يتحدث في كل ما يتعلق بالمملكة ، وأن يجهز عسكراً إلى دمشق لقتال تمرلنك ، فشرع في تحصيل الأموال وفرض على سائر أراضي مصر فرائض ، فجبي من إقطاعات الأمراء وبلاد السلطان وأخباز الأجناد وبلاد الأوقاف

ص: 311

عن عبرة كل ألف دينار خمسمائة درهم ثمن فرس ، وجبى من سائر أملاك القاهرة ومصر وظواهرها أجرته عن شهر ، حتى أنه كان يقوم على الإنسان في داره التي هو يسكنها ويؤخذ منه أجرتها ! وجبى من الرزق وهي الأراضي التي يأخذ مَغَلَّها قوم من الناس على سبيل البر، عن كل فدَّان من زراعة القمح أو الفول أو الشعير عشرة دراهم ، وعن الفدان من القصب أو القلقاس أو النيلة ونحو ذلك من القطاني ،مائة درهم . وجبى من البساتين عن كل فدان مائة درهم . واستدعى أمناء الحكم والتجار وطلب منهم المال على سبيل القرض . وصار يكبس الفنادق وحواصل الأموال في الليل ، فمن وجد صاحبه حاضراً فتح مخزنه وأخذ نصف ما يجد من نقود القاهرة وهي الذهب والفضة والفلوس، وإذا لم يجد صاحب المال أخذ جميع ما يجده من النقود. وأخذ ما وجد من حواصل الأوقاف ومع ذلك فإن الصيرفي يأخذ عن كل مائة درهم تستخرج مما تقدم ذكره ثلاثة دراهم ، ويأخذ الرسول الذي يحضر المطلوب ستة دراهم ، وإن كان نقيباً أخذ عشرة دراهم ! فاشتد الضرر بذلك وكثر دعاء الناس.... وفي حادي عشرينه: قدم قاضي القضاة موفق الدين أحمد بن نصر اللّه الحنبلي من الشام في أسوأ حال . وقدم أيضاً قاضي قضاة دمشق علاء الدين علي بن أبي البقاء الشافعي ، وحضر أيضاً كتاب تمرلنك على يد أحد مماليك السلطان يتضمن طلب أطلمش أطلندي وأنه إذا قدم عليه أرسل من عنده من النواب والأمراء والأجناد والفمهاء وقاضي القضاة صدر الدين المناوي ويرحل ! وفيه توجه الأمير بيسق أمير أخور رسولاً إلى تمرلنك بكتاب السلطان .

وجدَّ الأمير يلبغا السالمي في تحصيل الأموال وعرض أجناد الحلقة ، وألزم من كان منهم قادراً على السفر بالخروج إلى الشام ، وألزم العاجز عن السفر بإحضار نصف متحصل إقطاعه في السنة . وألزم أرباب الغلال المحضرة للبيع في المراكب النيلية أن يؤخذ منهم عن كل إردب درهم ، وأن يؤخذ من كل مركب من المراكب التي تتنزه فيها الناس مائة درهم...

ص: 312

شهر شعبان أوله الخميس: فيه قدم قاضي القضاة ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون من دمشق ، وقد أذن له تمرلنك في التوجه إلى مصر وكتب له بذلك كتاباً عليه خطه وصورته تيمور كركان ، وأطلق معه جماعة بشفاعته فيهم منهم القاضي صدر الدين أحمد بن قاضي القضاة جمال الدين محمود القيصري ناظر الجيش...

وفي سابعه: قدم الأمير سيف الدين شيخ المحمودي نائب طرابلس هارباً من تمرلنك فتلقاه الأمراء وقدموا إليه الخيول بالسروج الذهب والكنابيش الذهب والقماش والجمال وغير ذلك..الخ. ).

وقال في النجوم الزاهرة:12/247، تعليقاً على فرض الضرائب الباهضة على أهل مصر: (قلت وبالجملة فهم أحسن حالاً من أهل دمشق وإن أخذ منهم نصف ما لهم ! وأيْش يعمل(الأمير)السالمي مسكين وقد ندبه السلطان لإخراج عسكر ثان من الديار المصرية لقتال تيمور.... ثم في خامس شعبان برز الأمراء المعينون للسفر لقتال تيمور بمن عين معهم من المماليك السلطانية وأجناد الحلقة ، إلى ظاهر القاهرة ، وهم الذين كانوا بالقاهرة في غيبة السلطان بدمشق...وفي اليوم قدم الأمير شيخ المحمودي نائب طرابلس فاراً من أسر تيمور إلى الديار المصرية ، وأخبر برحيل تيمور إلى بلاده ، فرسم السلطان بإبطال السفر ورجع كل أمير إلى داره من خارج القاهرة .

ثم في الغد قدم دقماق المحمدي نائب حماة فاراً أيضاً من تيمور). انتهى.

10- تواطَأ السلطان الشركسي مع تيمور المغولي !

الذي أظنه قوياً أن السلطان الناصر بن برقوق اتفق مع تيمور أن يترك له الشام يستبيحها كما يشاء ، مقابل أن يترك له تيمور مصر ولايهاجمها !

ومن مؤشرات ذلك اختفاء المراسلات بينه وبين تيمور في تلك المدة ، فلم يذكر المؤرخون من أتباعه إلا رسالة متأخرة جاءته من تيمور عند رحيله ، فأرسل له جوابها مع الأمير بيسق(السلوك/1781) ! والمفروض أن تتواصل بينهما الرسائل المملوءة

ص: 313

بالوعد والوعيد كما هو منطق الأمور وعادة تيمور !

وقد تقدم قول القلقشندي في صبح الأعشى:7/329: (ولقيه السلطان الملك الناصر فرج بن الظاهر برقوق صاحب مصر والشام ، على دمشق ، وجرت بينهما مراسلة ، ثم طرأ للسلطان الملك الناصر ما أوجب عوده إلى مصر لأمر عرض له) ! انتهى.

أقول: السر كل السر في هذه المراسلة !

ومن مؤشراته القوية شهادة المقريزي في ذم السلطان الناصر التي نقلها تلميذه ابن تغري في النجوم الزاهرة:13/150، قال: (ولنذكر هنا من مقالة الشيخ تقي الدين المقريزي في حقه من المساوئ ، نبذة برمتها ، وللناظر فيها التأمل، قال: وكان الناصر أشأم ملوك الإسلام فإنه خرَّب بسوء تدبيره جميع أراضي مصر وبلاد الشام من حيث يصب النيل إلى مجرى الفرات ، وطرق الطاغية تيمور بلاد الشام في سنة ثلاث وثمانمائة وخرب حلب وحماة وبعلبك ودمشق ، حتى صارت دمشق كوماً ليس بها دار ! وقتل من أهل الشام مالا يحصى عدده ، وطرق ديار مصر الغلاء من سنة ست وثمانمائة ، فبذل أمراء دولته جهدهم في ارتفاع الأسعار بخزنهم الغلال وبيعهم لها بالسعر الكثير ، ثم زيادة أطيان أراضي مصر حتى عظمت كلفته ، وأفسدوا مع ذلك النقود بإبطال السكة الإسلامية من الذهب ، و(فرضوا) المعاملة بالدنانير المشخصة التي هي ضرب النصارى، ورفعوا سعر الذهب حتى بلغ إلى مائتين وأربعين درهماً كل مثقال ، بعد ما كان بعشرين درهماً ، ومكسوا كل شئ !

وأهملَ عمل الجسور بأراضي مصر وألزم الناس أن يقوموا عنها بالأموال التي تجبى منهم وأكثر وزراؤه من رمى البضائع على التجار ونحوهم بأغلى الأثمان ، وكل ذلك من سعد الدين بن غراب وجمال الدين يوسف الأستادار وغيرهما ، فكانا يأخذان الحق والباطل ويأتيان له به لئلا يعزلهم من وظائفهم ، ثم ماتوا فتم هو على ذلك يطلب المال من المباشرين فيسدون بالظلم ، فخربت البلاد لذلك وفشا أخذ أموال الناس ! هذا مع تواتر الفتن واستمرارها بالشام ومصر وتكرار سفره إلى البلاد

ص: 314

الشامية ، فما من سفرة سافر إليها إلا وينفق فيها أموالاً عظيمة زيادة على ألف ألف دينار يجبيها من دماء أهل مصر ومهجهم ، ثم يتقدم إلى الشام فيخرب الديار ويستأصل الأموال ويدمر القرى ! ثم يعود وقد تأكدت أسباب الفتنة وعادت أعظم ما كانت فخربت الإسكندرية وبلاد البحيرة وأكثر الشرقية ومعظم الغربية وتدمرت بلاد الفيوم وعم الخراب بلاد الصعيد ، بحيث بطل منها زيادة على أربعين خطبة !

ودثر ثغر أسوان وكان من أعظم ثغور المسلمين ، وخرب من القاهرة وأملاكها وظواهرها زيادة عن نصفها ، ومات من أهل مصر في الغلاء والوباء نحو ثلثي الناس وقتل في الفتن بمصر مدة أيامه خلائق لا تدخل تحت حصر ، مع مجاهرته بالفسوق من شرب الخمر وإتيان الفواحش والتجرؤ العظيم على اللّه جلت قدرته !

ومن العجيب أنه لما ولد كان قد أقبل يلبغا الناصري بعساكر الشام لينزع أباه الملك الظاهر برقوق من الملك ، وهو في غاية الاضطراب من ذلك فعند ما بشر به قيل له ما تسميه قال بلغاق يعني فتنة ! وهي كلمة تركية ، فقبض على أبيه الملك الظاهر وسجن بالكرك كما تقدم ذكره ، فلما عاد إلى الملك عرض عليه فسماه فرجاً ولم يسمه أحد لذلك اليوم إلا بلغاق ، وهو في الحقيقة ما كان إلا فتنة أقامه اللّه سبحانه وتعالى نقمة على الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا...

قلت: وكان يمكنني أن أجيب عن كل ما ذكره المقريزي... غير أني أضربت عن ذلك خشية الإطالة والملل على أني موافقة على أن الزمان يصلح ويفسد بسلطانه وأرباب دولته ولكن البلاء قديم وحديث..). انتهى.

أقول: لم يستطع ابن تغري المملوكي، الدفاع عن السلطان الناصر لقوة منطق أستاذه المقريزي . ولعله يوافق أستاذه لكنه خاف فجعل عهدة على المقريزي ! فأبوه تغري مملوكٌ لبرقوق وكان أميراً على حلب ! (معجم المطبوعات العربية:1/51).

ص: 315

11- غزو تيمور لبغداد مرة ثالثة !

النجوم الزاهرة:12/261: ( وكان رحيله عن دمشق في يوم السبت ثالث شعبان من سنة ثلاث وثمانمائة المذكورة ، واجتاز على حلب وفعل بها ما قدر عليه ثانياً ، ثم سار منها حتى نزل على ماردين يوم الإثنين عاشر شهر رمضان من السنة ، ووقع له بها أمور ، ثم رحل عنها وأوهم أنه يريد سمرقند يوري بذلك عن بغداد ، وكان السلطان أحمد بن أويس قد استناب ببغداد أميراً يقال له فرج وتوجه هو وقرا يوسف نحو بلاد الروم ، فندب تيمور على حين غفلة أمير زاده رستم ومعه عشرون ألفاً لأخذ بغداد ، ثم تبعه بمن بقي معه ونزل على بغداد وحصرها حتى أخذها عنوة في يوم عيد النحر من السنة ووضع السيف في أهل بغداد.... وقال المقريزي تسعين ألف إنسان ، وهذا سوى من قتل في أيام الحصار ، وسوى من قتل في يوم دخول تيمور إلى بغداد ، وسوى من ألقى نفسه في الدجلة فغرق وهو أكثر من ذلك....

12- غزو تيمور لتركيا

وأضاف في النجوم الزاهرة:12/261: (ثم رحل تيمور من بغداد وسار حتى نزل قراباغ بعد أن جعلها دكاً خراباً . ثم كتب إلى أبي يزيد بن عثمان صاحب الروم أن يخرج السلطان أحمد بن أويس وقرا يوسف من ممالك الروم وإلا قصده وأنزل به ما نزل بغيره ! فرد أبو يزيد جوابه بلفظ خشن إلى الغاية ، فسار تيمور إلى نحوه فجمع أبو يزيد بن عثمان عساكره من المسلمين والنصارى وطوائف التتر ، فلما تكامل جيشه سار لحربه فأرسل تيمور قبل وصوله إلى التتار الذين مع أبي يزيد بن عثمان يقول لهم: نحن جنس واحد وهؤلاء تركمان ندفعهم من بيننا ويكون لكم الروم عوضهم ! فانخدعوا له وواعدوه أنهم عند اللقاء يكونون معه . وسار أبو يزيد بن عثمان بعساكره على أنه يلقى تيمور خارج سيواس ويرده عن عبور أرض الروم ،

ص: 316

فسلك تيمور غير الطريق ومشى في أرض غير مسلوكة ودخل بلاد ابن عثمان ونزل بأرض مخصبة وسيعة ! فلم يشعر ابن عثمان إلا وقد نهبت بلاده فقامت قيامته وكرَّ راجعاً وقد بلغ منه ومن عسكره التعب مبلغاً أوهن قواهم وكلَّت خيولهم ، ونزل على غير ماء فكادت عساكره أن تهلك ! فلما تدانوا للحرب كان أول بلاء نزل بابن عثمان مخامرة التتار بأسرها عليه ، فضعف بذلك عسكره لأنهم كانوا معظم عسكره !

ثم تلاهم ولده سليمان ورجع عن أبيه عائداً إلى مدينة برصا بباقي عسكره ، فلم يبق مع أبي يزيد إلا نحو خمسة آلاف فارس فثبت بهم حتى أحاطت به عساكر تيمور وصدمهم صدمة هائلة بالسيوف والأطبار حتى أفنوا من التمرية أضعافهم واستمر القتال بينهم من ضحى يوم الأربعاء إلى العصر فكلَّت عساكر ابن عثمان وتكاثروا التمرية عليهم يضربونهم بالسيوف لقلتهم وكثرة التمرية ، فكان الواحد من العثمانية يقاتله العشرة من التمرية ، إلى أن صرع منهم اكثر أبطالهم وأخذ أبو يزيد بن عثمان أسيراً قبضاً باليد ، على نحو ميل من مدينة أنقرة ، في يوم الأربعاء سابع عشرين ذي الحجة سنة أربع وثمانمائة ، بعد أن قتل غالب عسكره بالعطش ، فإن الوقت كان ثامن عشرين أبيب بالقبطي وهو تموز بالرومي ، وصار تيمور يوقف بين يديه في كل يوم ابن عثمان ويسخر منه وينكيه بالكلام !

وجلس تيمور مرة لمعاقرة الخمر مع أصحابه وطلب ابن عثمان طلباً مزعجاً فحضر وهو يرسف في قيوده وهو يرجف ، فأجلسه بين يديه وأخذ يحادثه ، ثم وقف تيمور وسقاه من يد جواريه اللائي أسرهن تيمور ، ثم أعاده إلى محبسه ! ثم قدم على تيمور إسفنديار أحد ملوك الروم بتقادم جليلة فقبلها وأكرمه ورده إلى مملكته بقسطمونية ! هذا وعساكر تيمور تفعل في بلاد الروم وأهلها تلك الأفعال المقدم ذكرها ). انتهى.

وفي تاريخ الدولة العثمانية لمحمد فريد/146: (فأغار تيمور بجيوشه الجرارة على بلاد آسيا الصغرى وافتتح مدينة سيواس بأرمينيا وأخذ ابن السلطان بايزيد المدعو

ص: 317

أرطغرل أسيراً وقطع رأسه ! ولذلك جمع السلطان بايزيد جيوشه وسار لمحاربة تيمور الأعرج فتقابل الجيشان في سهل أنقره ، واستمرت الحرب من قبل شروق الشمس إلى بعد غروبها وأظهر السلطان خلالها من الشجاعة ما بهر العقول وأدهش الأذهان ، ولكن ضعف جيشه بفرار فرق آيدين ومنتشا وصاروخان وكرميان وانضمامها إلى جيوش تيمور لوجود أولاد أمرائهم الأصليين في معسكر التتار ، ولم يبق مع السلطان إلا عشرة آلاف إنكشاري وعساكر الصرب فحارب معهم طول النهار حتى سقط أسيراً في أيدي الموغول هو وابنه موسى ، وهرب أولاده سليمان ومحمد وعيسى ولم يوقف لابنه الخامس مصطفى على أثر ، وكان ذلك في19 ذي الحجة سنة804 -20يوليو سنة1402 م . فعامل تيمورلنك أسيره بايزيد بالحسنى وأكرم مثواه لكنه شدد في المراقبة عليه نوعاً بعد أن شرع في الهروب ثلاث مرات وضبط ، ويقال إنه سجنه في قفص من الحديد حتى مات في15 شعبان سنة805-10 مارس سنة1403م. وعمره44 سنة ، ومدة حكمه 13سنة ... واستقل في هذه الفترة كل من البلغار والصرب والفلاخ ، ولم يبق تابعاً للراية العثمانية إلا قليل من البلدان ! ومما زاد الخطر على هذه الدولة الإسلامية عدم اتفاق أولاد بايزيد على تنصيب أحدهم بل كان كل منهم يدعي الأحقية لنفسه ، فأقام سليمان في مدينة أدرنه حيث ولاه الجنود سلطاناً ، ولأجل أن يستظهر على إخوته عقد محالفة مع ملك الروم إيمانويل الثاني وتنازل له عن مدينة سلانيك وسواحل البحر الأسود ، لينجده على إخوته الباقين ، ولزيادة الوثوق منه تزوج إحدى قريباته) !

أقول: وبعد رجوع تيمور من تركيا الى عاصمته سمرقند ، أعد العدة لمغامرة جديدة ، فتوجه في فصل الشتاء الى غزو ممالك الصين ، فمات في أول طريقه !

13- الطاغية السني غفر اللّه له.. والطاغية الشيعي لعنه اللّه !

قال السيد الأمين رحمه الله علیه في أعيان الشيعة:3/649: (بالغ جل من ذكر تيمور من

ص: 318

المؤرخين خصوصاً ابن عربشاه والقرماني في سبه وشتمه ولعنه ، كلما مر ذكره ووصفه بأقبح الصفات ونعته بأبشع النعوت ، وقال الدحلاني في الفتوحات الإسلامية فيما حكي عنه: كان ظهور تيمور لنك من أشد المحن والبلايا على هذه الأمة ، أفسد في الأرض وأهلك الحرث والنسل ، وهو وإن كان يدعي الإسلام إلا أن قتاله مثل قتال الكفار لأنه فعل أفعالاً مع المسلمين أكثر مما تفعله الكفار ، من القتل والأسر والتخريب ، وكان رافضياً شديد الرفض . انتهى.

ولا شك أن للنحلة والمذهب في ذلك دخلاً ، فقد وقع في تاريخ الإسلام ما هو مثل أفعال تيمور وأفظع وأشنع ، ولم نرَ هؤلاء المؤرخين تناولوا فاعليها ببعض ما تناولوا به هذا الرجل ! وأي ملك تغلب على بلاد لم يكن تغلبه عليها بالقهر والقتل وسفك الدماء وهتك الأعراض ونهب الأموال إلا ما شذ .

هؤلاء السلاجقة وهم من ملوك الإسلام لما تغلبوا على بلاد الموصل كانت النساء العربيات يقتلن أنفسهن خوفاً من الفضيحة !

وتاريخ الإسلام حافل بالفظائع ، قتل يوم الجمل في البصرة خمسة عشر ألفاً من المسلمين على الأكثر وعشرة آلاف على الأقل على أي شئ؟!

وقتل من عبد القيس في وقت الهدنة سبعون رجلاً صبراً كانوا يجرون كالكلاب فيقتلون فيما ذكره الطبري على غير ذنب !

ونتفوا لحية عثمان بن حنيف الأنصاري وحاجبيه وأشفار عينيه بعد الأمان ، أفكان هذا مثل فعل الكفار ، أو أقل أو أشد ؟!

وسار بسر بن أرطاة وهو صحابي يستعرض المسلمين بالسيف ظلماً وعدواناً حتى أتى مكة والمدينة واليمن ، وقتل في خروجه ذلك ألوفاً من المسلمين على غير ذنب وذبح ابني عبيد اللّه بن العباس وهما طفلان صغيران على درج صنعاء تحت ذيل أمهما ، فذهب عقلها !

وسبى نساء مسلمات فأقمن في السوق فكان يكشف عن سوقهن فأيتهن كانت

ص: 319

أعظم ساقاً اشتريت على عظم ساقها ، أ فكان الكفار يفعلون أعظم من هذا؟!

وأرسل معاوية بعض أصحاب حجر بن عدي من الشام إلى زياد بن سمية بالكوفة وأمر أن يدفنه حياً فامتثل ودفنه حياً ، فهل فعل الكفار مثل هذا أو أفظع منه ؟!

وقتل المسلمون الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو ابن بنت نبيهم (صلی الله عليه وآله وسلم) وليس لنبيهم ابن بنت غيره ، فكانوا بين قاتل وخاذل ، وقد أوصى به (صلی الله عليه وآله وسلم) ونوه بفضله ، وبايعوا بالخلافة يزيد الخمير السكير اللاعب بالقرود والفهود المعلن بالكفر ، وقتلوا مع الحسين سبعة عشر رجلاً من أهل بيته ، ونيفاً وسبعين من أصحابه بعد ما منعوهم الماء ومعهم الأطفال والنساء ! ومثَّلوا بالحسين (عليه السلام) بعد القتل وسبوْا نساءه وساروا بهن وبرأسه ورؤوس أصحابه من بلد ! أفكان هذا أكثر مما تفعله الكفار أو أقل ! هذا والعهد بالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) قريب والإسلام غض طري ؟!!

وحوصرت المدينة يوم الحرة وذلك في صدر الإسلام وقتل أهلها قتلاً عاماً ، وفيها الصحابة وسميت نتنة ، ونتفت لحية أبي سعيد الخدري وهو شيخ كبير صحابي وأبيحت ثلاثاً حتى حملت مئات النساء من الزنا ، وولد مئات الأولاد لايعرف لهم أب ! وكان الرجل من أهلها بعد ذلك إذا أراد أن يزوج ابنته لم يضمن بكارتها يقول لعله أصابها شئ يوم الحرة ! وبويع الناس وفيهم بقايا المهاجرين والأنصار على أنهم عبيد رق ليزيد بن معاوية ، ومن أبى قتل ! فأين هذا من فعل الكفار؟!

وسلط عبد الملك بن مروان وهو يحمل لقب الخلافة وإمرة المؤمنين ، الحَجَّاجَ على المسلمين يقتل وينهب ويسلب ويسجن ويعاقب بأفظع العقوبات ، بذنب وبغير ذنب ، حتى غزا مكة المكرمة وضرب البيت الحرام بالمنجنيق ، وقتل ابن الزبير وهو صحابي وصَلَبَه ، وختم على أيدي الصحابة وأعناقهم كما يفعل بالكفار !

وولاه العراق فعمل فيه من الظلم ما لا يدركه الحصر ، وقتل من المسلمين ما لا يحصيه العد ، ووجد في سجنه بعد هلاكه ألوف لم يكن لأحد منهم ذنب يستحق به السجن ! وكان يسجن الرجال والنساء في سجن واحد وليس له سقف ! فهل وجد

ص: 320

في الكفار من يشبه فعله فعل الحجاج مع المسلمين؟!

وإن الأفعال المارّ ذكرها فرَّقت كلمة المسلمين وأوقعت بينهم العداوة والضغائن إلى اليوم ، فكانت من هذه الجهة أشدَّ من محنة تيمور ، هل قال أحد إنها من أشد المحن والبلايا على هذه الأمة ؟!

بل نرى اليوم من يشيد بذكر من قتَل الحسين (عليه السلام) ، ومن سلط الحجاج وأشباهه على هذه الأمة على المنابر ، ويذكر ميزاته ومناقبه ويلوم من لا يتابعه على ذلك !

ولما أخذ صلاح الدين مُلْكَ الفاطميين بمصر ، حبس رجالهم ونساءهم وفرق بينهم في الحبس حتى لا يتناسلوا ! أ فيوجد ظلم أفظع من هذا عند الكفار؟!

نحن لا نقول إن تيمور لم يكن ظالماً فهو طاغية ظالم كغيره من الظلمة المتغلبين ، ولكننا نسأل هؤلاء المؤرخين: لماذا إذا مروا بذكر غيره من الظلمة ممن هو مثله أو أكثر منه ظلماً أو أقل ، وكانت مفاسد ظلمه أضر على هذه الأمة ، لم يتناولوه بسب ولا شتم ، وربما التمسوا له العذر أو قالوا إنه مأجور ! وإذا مروا بذكر تيمور تناولوه بالشتم واللعن كلما ذكر؟! لا شك أن للعصبية المذهبية دخلاً في ذلك) !

14- العالم السني الذي رافق تيمور وساعده.. أمره الى اللّه

المنهل الصافي لابن تغري/513، وشذرات الذهب لابن العماد:4/43: (السيد الشريف المعتقد، المعروف بالشريف بركة . كان لتيمورلنك فيه اعتقاد كبير إلى الغاية وله معه مجريات ، من ذلك أن تيمور لما أخذ السلطان حسين صاحب بلخ في سنة إحدى وسبعين وسبعمائة ثم سار لحرب القان تقتمش ملك التتار وتلاقيا على أطراف تركستان واشتد الحرب بينهما حتى قتل أكثر أصحاب تيمور وهمَّ تيمور بالفرار، وظهرت الهزيمة على عسكره وقف في حيرة وإذا بالسيد بركة هذا قد أقبل عليه على فرس فقال له تيمور: يا سيدي أنظر حالي، فقال له الشريف بركة: لا تخف ثم نزل عن فرسه ووقف على رجليه يدعو ويتضرع ، ثم أخذ من الأرض ملء كفه

ص: 321

من الحصباء ورمى بتلك الحصا في وجوه عسكر تقتمش خان وصرُخّ بأعلى صوته: ياغي قجتي ، ومعناه باللغة التركية: العدو هرب ! فصرُخّ بها معه تيمور وعسكره وحمل بهم على القوم فانهزموا أقبح هزيمة ، وظفر تيمور بعساكر تقتمش وقتل وأسر على عادته القبيحة . فيا ليت شعري هل للشريف بركة المذكور فيما فعله ثواب أم يكون رأس برأس؟ أم عليه الوزر بدعائه لهذا الظالم الكافر ، فاللّه أعلم . وله معه أشياء من هذا النمط، ولهذا كانت منزلته عند تيمور إلى الغاية ودام مع تيمور إلى أن قدم معه إلى دمشق في سنة ثلاث وثمانمائة وفعل تيمور بالبلاد الشامية ما فعل! وقد اختلف في أصل هذا الشريف بركة ، قيل إنه كان مغربياً حجاماً بالقاهرة ثم سافر إلى سمرقند وادعى بها أنه شريف علوي ، وقيل إنه من أهل المدينة المنورة ، وقيل إنه كان من أهل مكة . فعلى كل حال أنا لا أعتقده لمصاحبته للطاغية تيمورلنك ، خصوصاً إعانته له على أغراضه الكفرية ، فأمره إلى اللّه سبحانه وتعالى) .

ورواه في/633 ، وجاء فيه: (ثم ركب فرسه ورمى بها في وجوههم ، يعني جماعة تقتميش وصرُخّ قائلاً: يا غي قشتي ، يعني باللغة التركية: العدو هرب ، وصرُخّ بها أيضاً تيمور فامتلأت آذان التمرية بصرختهما وأتوه بأجمعهم بعد ما كانوا هاربين، وتركوا جميع ما معهم ، فكربه تيمور ثانيا وما منهم أحد إلا وهو بصرُخّ ياغي قشتى فانهزم عسكر تقتميش خان ، وركبت التمرية اقفيتهم وغنموا منهم من الأموال ما لا يدخل تحت حصر فاستولى على غالب بلاد تقتمش خان). انتهى .

أقول: قارن بين موقفهم من هذا الصوفي الذي لايعرف أصله ولا تعرف صحة الحكاية التي نقلوها عنه ، ولا صحة ما نقلوه عن اعتقاد تيمور فيه..

وبين موقفهم من العالم الشيعي نصير الدين الطوسي رحمه الله علیه الذي أخذه هولاكو أسيراً من قلاع الإسماعيلة ، ولم يثبت أنه أعان هولاكو بحرف، بل ثبت أنه أثر عليه تأثيراً كبيراً لمصلحة الإسلام والمسلمين !

ص: 322

ولا عجب أن تكون عندهم حساسية وبغض للشيعة ، فقد كانت حساسيتهم مع بعضهم عالية الوتيرة ، فهذا الإمام أحمد بن محمد الحنفي الدمشقي المعروف بابن عربشاه ، يقول في كتابه عجائب المقدور في إخبار تيمور/106: (وبينما هم يوماً قاعدون في حضرة ذلك البصير(تيمور)وإذا بالقاضي صدر الدين المناوي في أيديهم أسير ، وكان قد تبع السلطان(سلطان دمشق) في الهرب، فأدركه في ميسلون الطلب ، فقبضوا عليه وأحضروه بين يديه وإذا هو بعمامة كالبُرْج ، وأرْدانٍ كالخُرْج ، فتخطى الرقاب وجلس من غير إذن فوق الأصحاب ، فاستشاط تيمور وملأ المجلس لهباً ، وانتفخ سحره ، وسَجَرَ غيظاً نَحْرُه ، وشخر ونخر ، ومَخَرَ بَحْرَ حَنَقه وزخر ، وأمر طائفة من المعتدين بالتنكيل بالقاضي صدر الدين فسحبوه سحب الكلاب ، ومزقوا ما عليه من ثياب ، وأوسعوه سباً وشتماً ، وأشبعوه ركلاً ولكماً، ثم أمرهم بتشديد أسره وتجديد كسره، وترادف الإساءة إليه) ! فما هذا الأسلوب الساخر في وصف فرار المناوي وشكله ، إلا لأن ابن عربشاه حنفي المذهب ، والمناوي شافعي !

15- عالم سني يخدم تيمورلنك ويمدحه.. غفر اللّه له !

أنظر الى مديحهم للعالم الحافظ محمود الخوارزمي، ومدحه هو لتيمور وكيف حدثه عن نعم اللّه عليه فأبكاه !قال ابن عربشاه في عجائب المقدور/238: (حكى لي مولانا محمود الحافظ المحرق الخوارزمي ، ولُقِّب بالمحرق لأن سهام ترجيعاته كانت تصيب حبات الحشاشات إذ تُرمى ، ويُفَوِّق رنَّات أوتارها نحو آذان القلوب فتُصمى ولا تُنمى ، فإن صدعت من القلوب حجراً تطاير من اقتداحها في الأرواح شرراً ، فيحرق برناته الأرواح ، ويشعل بنغماته الأشباح ، قال: استصحبني تيمور في بعض أسفاره ، فكنت ملازم خدمته في ليله ونهاره ، فنزلت عساكره على حصن تحاصره ، وضرب خيمته على مكان عال ليشرف منه على القتال ، ويتفرج في صنع الرجال ، ففي بعض الزمان حضرت عنده أنا ورجلان ، وكان قد حصل له

ص: 323

حُمَّى أورثته كرباً وغماً ، وكانت سماء النزال ذات حبك واحتباك ، ورماح القتال في التواء واشتباك ، فأراد أن يطالع أحوالهم ويشاهد أفعالهم ، وأفرطت شهوته في ذلك إلى العيمة ، فقال إحملوني إلى باب الخيمة ، فدخل ذانك الرجلان تحت إبطيه ، وأوقفاه بباب الخيمة وأنا بين يديه ، فجعل يشاهد حربهم ويتميز طعنهم وضربهم ، ثم أراد أن يأمرهم بشئ فقال لي: يا محمود إليَّ ، فأسرعت إلى يده ودخلت تحت عضده ، فأرسل أحد الرجلين إلى عسكره يأمرهم بما عنَّ له من عجره وبجره ، فكأنه لم يبرئ عليلاً ولم يرو غليلاً ، فقال لنا: دعاني وعلى الأرض ضعاني ، فوضعناه فسقط كأنه رمة بالية أو لحمة على بارية ، ثم أرسل ذلك الرجل الآخر إليهم ، وأمرهم بما اقتضته آراؤه وأكد عليهم ، فبقيت أنا وهو وحدنا ، ولم يبق أحد عندنا ، فقال لي: يا مولانا محمود أنظر إلى ضعف بنيتي وقلة حيلتي ، لا يد لي تقبض ولا رجل تركض ، لو رماني الناس هلكت ولو تركوني وحالي ارتبكت ، لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً ولا أجلب خيراً ولا أدفع شراً ، ثم تأمل كيف سخر اللّه تعالى لي العباد ويسر لي فتح مغلقات البلاد ، وملأ برعبي الخافقين ، وأطار هيبتي في المغربين والمشرقين ، وأذل لي الملوك والجبابرة ، وأهان بين يدي كل الأكاسرة والقياصرة ! وهل هذه الأفعال إلا أفعاله ، وهذه الأعمال إلا أعماله ، ومن هو أنا غير سطيح ذي فاقة ، لا باب لي في الدخول إلى هذه الأفعال ، ولا طاقة ! ثم بكى وأبكاني حتى ملأت بالدموع أرداني) !

وقال في المنهل الصافي/650: (حدثني العلامة شهاب الدين أحمدابن عبد اللّه بن عرب شاه من لفظه ، ومن خطه نقلت عن مولانا محمود الخوارزمي المعروف بالمحرق أنه حكى له عن تيمور أنه قال في مجلس خلوه: يا مولانا محمود أنظر إلى ضعفي وقلة حيلتي ولا يدَ لي ولا رجل ، لو رماني أحد لهلكت ولو تركني الناس لا رتبكت، ثم تأمَّل كيف سخر اللّه لي العباد.... فهل هذا إلا منَّةٌ ؟ ثم بكى وأبكى ! قال: وكان مع ذلك قد اشتد به الحمى ، وهو ينظر إلى أصحابه وهم يحاصرون حصناً

ص: 324

ويقتلون فيه قتلاً ذريعاً ). انتهى.

أقول: كلام تيمور يشبه كلام معاوية في تبنيه لمذهب الجبرية القدرية ، ونسبة أعماله الى اللّه تعالى ، يقول بذلك للناس إن تسلطه من فعل اللّه تعالى فهو خليفة اللّه في أرضه ، وأعماله كلها ليست منه بل من اللّه تعالى ، فلا يجوز الإعتراض عليها ! إن هؤلاء الجبابرة يتناسون عن عمد قاعدة مسؤولية الإنسان عن عمله ، وينسبون أعمالهم الى اللّه تعالى افتراءٌ عليه عز وجل وسيحاسبهم عليه ، كما قال تعالى: وَإذا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) !! (لأعراف:28)

وكذلك افتراؤهم على اللّه تعالى وجعلهم قدرتهم على الشر التي امتحنهم اللّه بها، نعمةً ومنَّةٌ خصهم اللّه بها دون الناس لكرامتهم عليه ! فسيحاسبهم اللّه عليه!

وكأن تيموراً ومعاوية لم يقرآ قوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنفسهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ .

وكأن تيموراً الذي هو شيعي نظرياً ، لم يقرأ قول أمير المؤمنين (عليه السلام) عن أمثاله: (كأنهم لم يسمعوا كلام اللّه حيث يقول: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ . بلى واللّه لقد سمعوها ووعوها ، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها). (نهج البلاغة:1/36).

**

ص: 325

16- شاه رُخّ بن تيمور..صورة ضعيفة لأبيه

اختلف ورثة تيمور لنك على تركته بعد دفنه ، كما هي سنة الحياة ! وتقاتلوا على البقية الباقية من البلاد العريضة في شرق الأرض وغربها ، التي اجتاحها ودمرها تيمور أو احتلها وفرض حكمه عليها ! وقد بقي له منها بعض الممالك في الهند ، أدارها أولاده ووسعوها ، وسميت ممالك المغول في الهند .

وبقي له سمرقند وما حولها وقد أوصى بها لحفيده خليل بن أميران شاه الذي كان معه في زحفه الى الصين وعاد بجثته الى سمرقند ، وبقي له أكثر إيران وكان عين عليها ولده شاه رُخّ وعاصمة حكمه هراة .

وكانت مصائب آل تيمور من طمع شاه رُخّ ، فقد بادر الى قتال ابن أخيه خليل بن أميران وغلبه وسيطر على سمرقند .

وزعم ابن تغري أن معاصره شاه رُخّ ، هو الوارث الشرعي لتيمور ، وبرر قتاله لابن أخيه خليل ! قال في المنهل الصافي/962: (لما مات تيمور بأهنكران من شرقي سمرقند ، وثب خليل المذكور على الأمر وتسلطن... وبلغ شاه رُخّ هذا الخبر في هراة فجمع ومشى عليه ووقع بينهما حروب وخطوب إلى أن ملك شاه رُخّ المذكور واستقل بممالك العجم وعراقه وعظم أمره وهابته الملوك وحمدت سيرته وشكرت أفعاله ، وقدمت رسله إلى البلاد المصرية مراراً عديدة ، وراسلته ملوك مصر ، إلى أن تسلطن الملك الأشرف برسباي فوقع بينهما وحشة بسبب طلب شاه رُخّ هذا أن يكسو البيت الشريف، فأبى الأشرف وخشَّن له الجواب . وترددت الرسل بينهما مراراً واحتج شاه رُخّ أنه نذر أن يكسو البيت الشريف ، فلم يلتفت الأشرف إلى كلامه ورد قصاده إليه بالخيبة . ثم أرسل بعد ذلك شاه رُخّ بجماعة أخر وزعم أنهم أشراف وعلى يدهم خلعة للملك الأشرف برسباي ، فجلس الأشرف مجلساً عاماً للحكم

ص: 326

بالإصطبل السلطاني على عادة الملوك ، ثم طلب القصاد المذكورين فحضروا ومعهم الخلعة ، فأمر بها الأشرف فمزقت شذرمذر ثم أمر بضرب حاملها عظيم القصاد ، فضرب بين يدي السلطان ضرباً مبرحاً أشرف منه على الهلاك ثم ضرب الباقين ، ثم أمر بهم فألقوا في فسقية ماء بالإصطبل السلطاني منكوسين رؤوسهم إلى أسفل وأرجلهم إلى فوق والأوجاقية تمسكهم بأرجلهم ، واستمروا يغمسونهم في الماء حتى أشرفوا على الهلاك ، ولا يستجرئ أحد من الأمراء يشفع فيهم ولا يتكلم لشدة غضب السلطان في أمرهم بكلمة واحدة ، والسلطان يسب شاه رُخّ جهاراً ، ويحط من قدره ، على أنه كان قليل الفحش والسب لآحاد الناس ، وصار لونه يتغير لعظم حنقه ، ثم طلب القصاد إلى بين يديه ، وحدثهم بكلام طويل سمعت غالبه محصوله أنه قال لهم: قولوا لشاه رُخّ الكلام الكثير ما يصلح إلا من النساء ، وأما الرجال فإن كلامهم فعل لا سيما الملوك ، وها أنا قد أبدعت فيكم كسراً لحرمة شاه رُخّ ، فإن كان له مادة وقوة فيتقدم ويسير إلى نحوي وأنا ألقاه حيث شاء ، وإن كان بعد ذلك ما ينتج منه أمر فكلامه كله فشار وهو أفشر من كلامه ، وكتب له بأشياء من هذا المعنى وانفض الموكب فتحقق كل واحد بمجئ شاه رُخّ المذكور إلى البلاد الشامية وقاسوا على أنه ما أرسل هذه الخلعة إلا وهو قد تهيأ للقتال ، وقد أفحش الأشرف أيضاً وأمعن في الجواب .

فلما بلغ القان شاه رُخّ ما فعل الأشرف بقصاده ما زاده ذلك إلا رعباً وسكت عن كسوة الكعبة ، ولم يذكرها بعد ذلك إلى أن مات الملك الملك الأشرف، وآل الملك إلى الملك الظاهر جقمق بعث شاه رُخّ رسله إلى الملك الظاهر بهدايا وتحف ، وأظهر السرور الزائد بسلطنته ، وأنه لما بلغه سلطنة الملك الظاهر جقمق دقت البشائر بهراة وزينت له أياماً ، فأكرم الملك الظاهر جقمق قصاده وأنعم عليهم، ثم بعث السلطان إليه في الرسلية الأمير ششك بغا دوادار السلطان بدمشق ، فتوجه إليه وعاد إلى السلطان الملك الظاهر جقمق بأجوبة مرضية .

ص: 327

ثم بعد ذلك في سنة ست وأربعين وثمانمائة ، أرسل شاه رُخّ المذكور يستأذن في إرسال ما نذر قديماً أنه يكسو الكعبة ، فأذن له السلطان الملك الظاهر جقمق في ذلك ، فأرسل شاه رُخّ بعد ذلك كسوة للكعبة فصعب ذلك على الأمراء وعلى أعيان الديار المصرية فلم يلتفت السلطان لكلامهم ، وأمر أن يأخذها ناظر الكسوة بالقاهرة ويبعثها كي تلبس من داخل البيت ، وتكون كسوة السلطان من خارج البيت على العادة ، ورأيت أنا الكسوة المذكورة ، وما أظنها تساوي ألف دينار . واستمرت الصحبة بين الملك الظاهر جقمق وبين شاه رُخّ إلى أن مات شاه رُخّ في سنة إحدى وخمسين وثمانمائة .

كان خرج لقتال حفيده محمد سلطان بن باي سنقر بن شاه رُخّ المذكور وتولى الملك من بعده حفيده علاء الدولة بن باي سنقر ، نصبته جدته لأبيه كهرشاه خاتون أرادت بولاية علاء الدولة المذكور وعدم ولايتها ولدها ألوغ بك صاحب سمرقند ، أن يكون الأمر إليها . فلما سمع ألوغ بك ذلك عز عليه وحشد ومشى على والدته كهرشاه المذكورة وعلى ابن أخيه علاء الدولة بن باي سنقر ووقع له معهما أمور وحوادث ، ذكرناها في ترجمة ألوغ بك وغيره . ثم قتل ألوغ بك على ما ذكرناه في ترجمته ، واستمرت الفتنة بين بني تيمور . وما أظن بيت تيمور عاد يعمر ، بعد موت شاه رُخّ صاحب الترجمة ، وبعد قتل ولده ألوغ بك صاحب سمرقند.. وكان شاه رُخّ ملكاً عادلاً ديناً خيراً ، فقيهاً متواضعاً ، محبباً لرعيته ، غير محجوب عنهم ، لم يسلك طريقة والده تيمور ، لعنه اللّه وقبحه . وكان يحب أهل العلم والصلاح ويكرمهم ويقضي حوائجهم . وكان متضعفاً في بدنه يعتريه مرض الفالج فلا يزال يتداوى منه . وكان يحب السماع الطيب ، وله حظ منه بل كان يعرف يضرب بالعود ، وكان ينادمه الأستاذ عبد القادر بن الحاج غيبي ويختص به . وكان له حظ من العبادة وله أوراد هائلة لم يزل غالب أوقاته على طهارة كاملة مستقبل القبلة والمصحف بين يديه ، وكان مسيكاً لا يصرف المال إلا لحقه (رحمه اللّه) ). انتهى.

ص: 328

أقول: يمثل كلام ابن تغري موقف أغلب علماء السنة من السلطان شاه رخّ، وسبب قبولهم له أنه لم يكن يظهر تشيعه ، وكان يداريهم ويكرم علماءهم ويراسل سلطان مصر ، ويطلب منه كتب المذاهب السنية !

ففي النجوم الزاهرة:14/334 ، أنه أرسل الى سلطان مصر في سنة833، يطلب كتباً منها فتح الباري والسلوك للمقريزي ! قال الشوكاني في البدر الطالع:1/89: (ورد كتاب في سنة833 من شاه رُخّ بن تيمور ملك الشرق يستدعي من السلطان الأشرف برسباي هدايا من جملتها فتح الباري فجهز له صاحب الترجمة ثلاث مجلدات من أوائله ، ثم أعاد الطلب في سنة839 ولم يتفق أن الكتاب قد كمل فأرسل اليه أيضاً قطعة أخرى ، ثم في زمن الظاهر جقمق جهزت له نسخة كاملة ، وكذا وقع لسلطان الغرب أبي فارس عبد العزيز الحفصي فإنه أرسل يستدعيه فجهز له ما كمل من الكتاب ، وكان يجهز لكَتَبَة الشرح ولجماعة مجلس الإملاء ذهباً يُفرَّق عليهم ، هذا ومصنفه حي ، ولما كمل شرح البخاري تصنيفاً وقراءة عمل مصنفه وليمة عظيمة بالمكان الذي بناه المؤيد خارج القاهرة في يوم السبت ثامن شعبان سنة842 وقرأ المجلس الأخير هنالك ، وجلس المنصف على الكرسي . قال تلميذه السخاوي: وكان يوماً مشهوداً ، لم يعهد أهل العصر مثله ، بمحضر من العلماء والقضاة والرؤساء والفضلاء ، وقال الشعراء في ذلك فأكثروا وفُرِّق عليهم الذهب ، وكان المستغرق في الوليمة المذكورة نحو خمسمائة دينار ، ووقعت في ذلك اليوم مطارحة أدبية ، فمنها أن المقام الناصري قال للمصنف يامولانا شيخ الإسلام هذا يوم طيب ، فلعل أن تنعشونا فيه ببيت من مفرداتكم ، لعل أن نمشي خلفكم فيه ، فقال المُتَرجم له(ابن حجر): أخشى إن إبتدأتُ أن لا يكون موافقاً لما وقع في خاطرك ، والأحسن أن تبتدئ أنت ، فقال الناصري:

هويتها بيضاءَ رَعْبُوبةٌ *** قد شَغَفَتْ قلبي خُودٌ رداحْ

فقال صاحب الترجمة: سألتها الوصل فضنَّتْ به إنَّ قليلاً في الملاحِ السَّمَاحْ

ص: 329

فقال علي الدوساني: قد جرحت قلبي لما رَنَتْ *** عيونها السودا لمراض الصحاح

فهمْهَمَ الشرف الطنوني ولم يمكنه أن يقول شيئاً ، فقال صاحب الترجمة: ما للطنوني غدا حائراً؟ فقال الناصري لعلي المتقدم: أجزه، فقال: وحياة أبيك السلاري والفرس! فقال: هما لك من غير مهملة وتراخ ، فقال: وخرَّبَ البيتَ وخلَّى وراحْ) .

وقد ذكرنا نص القصة كاملةً لأنها تكشف من جهة عن تبني النظام المصري للبخاري أي للتسنن المتعصب ، وعن مجاراة شاه رخّ لهم طمعاً أن يدخل الحكم المصري تحت سلطانه ، مع أن المغول عجزوا عن احتلال مصر ، ومع أن مصر تبنت الخلافة العباسية وجاءت بها الى مصر بعد أن أطاح بها هولاكو !

وقد أجمل ابن تغري في المنهل الصافي/962 ، أن رسل شاه رُخ جاؤوا مع طلب كسوة الكعبة بطلب أكبر وهو أن يلبس السلطان الأشرف برسباي خلعة شاه رخ وتاجه ويعلن تبعيته له ويجعل الخطبة والنقود باسمه !

وقد بين ذلك ابن حجر في إنباء الغمر/1064، فقال: (وفي يوم الثلاثاء سابع عشري جمادى الآخرة منها (سنة 839) أو في شهر رجب ، وصل أقطوه الدويدار الذي كان رسولاً إلى شاه رُخّ ابن تمرلنك وصحبته رسل منه ، فاجتمع بالسلطان في يومه ثم وصل الرسل يوم الأربعاء وأنزلوا بالقاهرة ، ثم أخذ منهم الكتاب فقرئ وفيه إنكار ما يصنع بمكة من أخذ المكوس والتحذير من أمر إسكندر ابن قرا يوسف ، والإذن له في دخول هذه البلاد ، وأن يخطب له بمصر وتضرب السكة باسمه ، والتغليط في ذلك والتهديد ، وصحبة الرسول خلعة بنيابة مصر وتاج ، ثم راسله القاصد بأن معه كلاماً مشافهة ، فأحضر يوم السبت فأداه ، فأمر بضربه وضرب رفيقه، فضربا ضرباً مبرحاً وغمساً في ماء البركة في شدة البرد ولكن بثيابهما حتى كادا يهلكان غماً ! ثم أمر بإخراجهما فأعيدا إلى المكان الذي أنزلا فيه ، ثم أمر بنفيهما إلى مكة في البحر ، فحجا وتوجها إلى العراق ، وعزم السلطان على السفر إلى البلاد الحلبية بالعساكر،

ص: 330

وكاتب الأشرف بن عثمان أن يكون عوناً على شاه رُخّ، وجهز المراسيم إلى بلاد الشام بتجهيز الإقامات وكتب إلى جميع المدن الكبار بتجهز العساكر ، واستخدام جند من كل بلد ! فاللّه يختم بخير). انتهى.

وهذا يكشف أن طلب شاه رخ أن يسمح له بكسوة الكعبة ، والذي أطال فيه الرواة حتى جعلوه قصة وكتب بعضهم حوله بحثاً ، إنما كان مدخلاً أو رمزاً لقبول سلطان مصر خلعته وتاجه ، وإعلانه سلطاناً على عموم العالم الإسلامي ، ففي تلك السنة قبل أربعة أشهر بعث شاه رخ الى الحاكم العثماني لتركيا وعدد من رؤساء القبائل بخلع فلبسوها كلهم كنواب عنه ، خوفاً منه !

قال ابن تغري في النجوم الزاهرة:15/63: (ثم في صفر من سنة تسع وثلاثين وثمانمائة ورد الخبر على السلطان أن شاه رخ ابن تيمورلنك أرسل إلى السلطان مراد بك بن عثمان متملك الروم، وإلى الأمير صارم الدين إبراهيم بن قرمان المقدم ذكره وإلى قرايلك وأولاده وإلى ناصر الدين بك بن دلغادر ، بخلع على أنهم نوابه في ممالكهم فلبس الجميع خلعه فشق ذلك على السلطان من كون ابن عثمان لبس خلعته). انتهى.

وقد توترت العلاقة بين سلطان مصر وشاه رخ ، حتى شاع في تلك السنة (في أواخر شهر ربيع الآخر(سنة 839)شاع أن شاه رُخّ قاصد البلاد الشامية ، فنودي في أجناد الحلقة بالعرض فعرضوا عند الدويدار الكبير ، وحصل لهم مشقات كبيرة خصوصاً لصعاليكهم ، واستمر التشديد عليهم). (إنباء الغمر/1062).

ولكن شاه رخ كان أضعف من أبيه والحمد للّه ، فهو يرعد ولا يمطر ! فلم تسجل له أي حرب خارج إيران ، وقد استطاع سلطان مصر الجديد جقمق ومَن بعده أن يستوعبوا طموحاته الخيالية باللين السياسي واحترام مبعوثيه !

قال ابن حجر في إنباء الغمر/1154:(وفي يوم السبت سادس عشرين(ربيع الثاني843) وصل رسول ملك الشرق شاه رُخّ ابن اللنك ، وكان الخبر بوصوله وصل قبل ذلك ،

ص: 331

وأنزل في بيت جمال الدين الأستادار بين القصرين ، وزُيِّنَت البلد لذلك زينةً عامة في جميع الحارات ، وبالغوا في ذلك أعظم من زينة المحمل(زينةإرسال الكسوة الى الكعبة الشريفة) ، ثم أحضر الرسول يوم الإثنين وقرئ الكتاب الواصل صحبته بالقصر الكبير بمحضر من الأمراء والقضاة والمباشرين ، ومحصله الجواب عن الكتاب الواصل إليه والسرور به وقبول الهدية ، وتجهيز هدية صحبة الرسول المذكور ، وعرضت في القصر على رؤوس أربعين من الحمالين في الأقفاص . ثم أمرهم السلطان بعد ذلك برفع الزينة بعد أن كان أشيع أنها تقيم شهراً وأكثر ، والسبب في رفعها ما اشتهر من المفاسد التي تقع في الحوانيت وغيرها في الليل) . انتهى.

**

وكانت أصعب معركة خاضها شاه رخ ، مع حاكم تبريز التركماني قرا يوسف زعيم قبيلة قرا قوينلو ، فقد خاض معه ثلاثة حروب (أعيان الشيعة:7/328) ، حتى مات قرا يوسف سنة841 ، فورثه ابنه إسكندر ، وحاربه شاه رخ حتى قتله واستباح تبريز .

قال ابن تغري في النجوم الزاهرة:14/334: (وفي هذه السنة (832)كان خراب مدينة تبريز وسبب ذلك أن صاحبها إسكندر بن قرا يوسف بن قرا محمد بن بيرم خجا التركماني زحف على مدينة السلطانية وقتل متملكها من جهة القان شاه رُخّ بن تيمور لنك في عدة من أعيان المدينة ونهب السلطانية وأفسد بها غاية الإفساد ، فسار إليه شاه رُخّ في جموع كثيرة فخرج إسكندر من تبريز وجمع لحربه ولقيه ، وقد نزل خارج تبريز فانتدب لمحاربة إسكندر المذكور الأمير عثمان بن طر على المدعو قرايلك صاحب آمد وقد أمده شاه رُخّ بعسكر كثيف وقاتله خارج تبريز في يوم الجمعة سادس عشر ذي الحجة قتالاً شديداً ، قتل فيه كثير من الفئتين إلى أن كانت الكسرة على إسكندر وجماعته وانهزم وهم في أثره يطلبونه ثلاثة أيام ففاتهم إسكندر ، فنهبت الجغتاي(المغول) عامة بلاد أذربيجان وكرسي أذربيجان تبريز ، وقتلوا وسبوا وأسروا وفعلوا أفاعيل أصحابهم من أعوان تيمور ، حتى لم يدعوا بها ما تراه

ص: 332

العين ! ثم ألزم شاه رُخّ أهل تبريز بمال كبير ، ثم جلاهم بأجمعهم إلى سمرقند فما ترك في تبريز إلا ضعيفاً أو عاجزاً لا خير فيه ، ثم بعد مدة طويلة رحل إلى جهة بلاده وبعد رحيله انتشرت الأكراد بتلك النواحي تعبث وتفسد حتى فقدت الأقوات وبيع لحم الكلب الرطل بعدة دنانير) ! انتهى.

ومع ذلك يقول ابن تغري:15/72: (قلت: وفي الجملة إن جور أولاد تيمورلنك أحسن من عدل بني قرا يوسف) ! انتهى.

وقال ابن حجر في إنباء الغمر/1061:(وفي شوال(سنة 833)رجع شاه رُخّ إلى الشرق واستناب بتبريز شاه جهان ، وأنعم عليه بجميع نساء إسكندر بن قرايوسف)!

وفي النجوم الزاهرة:15/78: (كان في عصمته أزيد من ثمانين امرأة)!

أقول: هلك هذا الطاغية سنة853 (شذرات الذهب:4/275) وكان من مهماته كل عمره بما بدأه بعد أبيه من سفك دماء بني تيمور لأجل الكرسي ، فقد كان إسكندر بن قرا يوسف سلَّم بلاد فارس الى إسكندر بن عمر شيخ ابن أخ شاه رخ ، فماذا فعل به عمه شاه رخ ؟

قال في النجوم الزاهرة:14/137: (ودام إسكندر على ملك فارس سنين إلى أن بدا له مخالفة عمه شاه رُخّ بن تيمور لنك ، فسار إليه شاه رُخّ المذكور وقاتله وأسره وسَمَلَ عينيه بعد أمور وحروب ، وأقام شاه رُخّ عوضه أخاه رستم بن أميرزة عمر شيخ ، فجمع إسكندر المذكور جمعاً ليس بذلك وقدم عليهم ابنه وجهزهم إلى أخيه رستم ، فخرج إليهم رستم المذكور وقاتلهم وهزمهم ، وأخذ إسكندر هذا أسيراً ثم قتله بأمر عمه شاه رخ) !

وفي المنهل الصافي/964: (في سنة إحدى وخمسين وثمانمائة كان خرج لقتال حفيده محمد سلطان بن باي سنقر بن شاه رخ المذكور ، وتولى الملك من بعده حفيده علاء الدولة بن باي سنقر نصبته جدته لأبيه كهرشاه خاتون... فلما سمع ألوغ بك ذلك عز عليه وحشد ومشى على والدته كهرشاه المذكورة وعلى ابن أخيه علاء

ص: 333

الدولة بن باي سنقر ووقع له معهما أمور وحوادث... ثم قتل ألوغ بك.. واستمرت الفتنة بين بني تيمور . وما أظن بيت تيمور عاد يعمر بعد موت شاه رخ..).انتهى.

17- الطاغية شاه رُخّ مؤمن عادل.. لأنه سني !

عندما يشهد السخاوي ، فأستاذه ابن حجر يشهد ، ويفوز الطاغية شاه رخ بشهادة كبار أئمة السنة بأنه عادل كالصحابة ، وفقيه كالقضاة ، وخيِّرٌ من أهل الجنة !

قال السخاوي في الضوء اللامع: (وبالجملة كان عدلاً ديناً خيراً فقيهاً متواضعاً محبباً في رعيته ، محبا لأهل العلم والصلاح مكرماً لهم قاضياً لحوائجهم ، لا يضع المال إلا في حقه ، ولذا يوصف بالإمساك ، متضعاً في بدنه يعتريه الفالج كثيراً ، محباً للسماع ذا حظ منه ، بل كان يعرف الضرب بالعود ، كل ذلك مع حظ من العبادة والأوراد ومحافظته على الطهارة الكاملة ، وجلوسه مستقبل القبلة والمصحف بين يديه) . (أعيان الشيعة:7/328) .

وحينئذ ، فكل جرائمه مغفورة.. قَتْلُهُ للألوف المؤلفة ، وتدميره للمدن وإحراقها ، ونهبه أموال المسلمين ، وتشريدهم وتجويعهم، وحفلات غنائه ورقصه وشربه الخمر ! فهي بشهادة السخاوي مغفورة لأنه كان (حظ من العبادة) ! وقد تقدم قول ابن تغري في المنهل الصافي/694: (وكان يحب السماع الطيب وله حظ منه بل كان يعرف يضرب بالعود ، وكان ينادمه الأستاذ عبد القادر بن الحاج غيبي ويختص به). والغيبي هذا فنان مؤلف في الموسيقى (الذريعة: 23/257، وأبجد العلوم:2/535).فلماذا كل هذا الكرم والسخاء من هؤلاء المحتاطين الفقهاء؟!

الجواب الوحيد: أن السلطان شاه رخ أظهر التسنن وولايته لأبي بكر وعمر ، بعكس أبيه الذي كان مجاهراً بالتشيع والرفض ! وهذا كل شئ ! فولاية أبي بكر وعمر عندهم حسنة لاتضر معها سيئة ! ومثل شاه رخ عندهم كالسلطان بو

ص: 334

سعيد بن محمد خدابنده، يقولون فيهما: سبحان من يخرج الطيب من الخبيث !

ونحن نقول لهم: لقد استعمل الطاغية شاه رخ السياسة ليتقرب اليكم فغشكم ! وهو عندنا شيعي نظرياً رهينٌ بأعماله، وولاية علي (عليه السلام) عندنا حسنة لاتضر معها سيئة ، لكن لمن مات عليها ، أما الطغاة فإن ذنوبهم تسلب منهم التوفيق فلا يموتون عليها ! قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : (ما من عبد إلا وعليه أربعون جُنَّة حتى يعمل أربعين كبيرة فإذا عمل أربعين كبيرة انكشفت عنه الجُنَن ، فيوحي اللّه إليهم أن استروا عبدي بأجنحتكم فتستره الملائكة بأجنحتها ، قال: فما يدع شيئاً من القبيح إلا قارفه حتى يمتدح إلى الناس بفعله القبيح ، فيقول الملائكة: يا رب هذا عبدك ما يدع شيئاً إلا ركبه وإنا لنستحيي مما يصنع ! فيوحي اللّه عز وجل إليهم أن ارفعوا أجنحتكم عنه ، فإذا فعل ذلك أخذ في بغضنا أهل البيت ، فعند ذلك ينهتك ستره في السماء وستره في الأرض فيقول الملائكة: يا رب هذا عبدك قد بقي مهتوك الستر ، فيوحي اللّه عز وجل إليهم: لو كانت للّه فيه حاجة ما أمرتكم أن ترفعوا أجنحتكم عنه) . (الكافي:2/279).

18- گوهر شاد زوجة شاه رخ

أرخ عديدون لگوهر شاد زوجة شاه رخ على أنها شيعية ، مستشهدين ببنائها مسجداً ضخماً بجوار مشهد الإمام الرضا (عليه السلام) مازال قائماً يعرف باسم مسجد گوهر شاد ، ونسب بعضهم اليها بناء دار السيادة ، وهي جزء من بناء المشهد الشريف .

وذكر في أعيان الشيعة:7/329 ، أن شاه رخ عيَّد الأضحى في سنة815 في المشهد المقدس ، وزاره في سنة821 ، في شعبان ، وقال: ( وكانت زوجته گوهرشاد قد بنت قبل هذا جامعاً في جوار القبة الرضوية في غاية العظمة والزينة ، وتم في تلك الأيام ووقع موقع الإستحسان في نظر الشاهرُخّ ، وأمر ببناء قصر عال في الجانب الشرقي

ص: 335

من المشهد المقدس لينزل فيه عند زيارته للمشهد ، وعاد إلى هراة في غرة شهر رمضان .

وعن تاريخ حبيب السير أنه ذكر في وقائع سنة822 أن شاهرُخّ جاء من هراة لزيارة المشهد الرضوي وعمل قنديلاً من الذهب وزنه ألف مثقال وعلقه في القبة الشريفة ، وأنعم على المجاورين والمتولين وعاد إلى هراة في شهر رمضان . وفي سنة842 أيضاً جاء الشاهرُخّ لزيارة المشهد المقدس الرضوي).

وترجم لها في:9/37 ، قال: (هي زوجة الميرزا شاه رخ بن الأمير تيمور الكوركاني وهي التي بنت مسجد گوهرشاد العظيم الباقي إلى اليوم بجنب الحضرة الشريفة الرضوية ، وعمرت الحضرة وزينتها(؟) وقامت هي وزوجها مدة في المشهد الرضوي وسكنا هناك ، وهذا المسجد واقع في الجهة الجنوبية من المشهد الشريف ، وله صحن واسع عظيم ، وعلى المسجد قبة عظيمة مبينة بالكاشي ، وأمام المسجد من جهة الشمال إيوان عظيم عال إلى الغاية وفي جانبيه منارتان شاهقتان عجيبتا الصنع في غاية الحسن . وجميع الإيوان والمنارتين كلها مبنية بالكاشي البديع الصنع ، وقبة هذا المسجد مع منارتيه أول ما يلوح للوارد إلى المشهد المقدس بعد القبة الشريفة الرضوية والمنارتين المذهبتين مع القبة . ومن بنائها في المشهد المقدس الرضوي دار الحفاظ وهو بناء عال واقع في جنب الروضة الشريفة مربع الشكل مستطيل طوله 16 ذراعاً وعرضه7 أذرع ونصف وهو منسوب إلى حفاظ القرآن الكريم، والدور التي في المشهد المقدس هي:1- دار الحفاظ .2- دار السيادة . 3 - دار التوحيد . 4- دار الضيافة . ومسجد گوهرشاد غاية في حسن البناء وأحكامه والزينة ، قلَّ أن يرى نظيره ، وفي الحقيقة كأنه صحن جنوبي للحرم المطهر ، وكله مبني بالكاشي المعرق وغير المعرق ، وفيه من بدائع الصنعة شئ كثير وهو بصفاء الصيني . وسعة فضاء المسجد قريب53 ذراعاً ، وعرضه قريب 48 ذراعاً ، وله أربعة أواوين من أربع جهات ، وله قبة عالية إلى الغاية ، وفم الأيوان اثنا عشر ذراعاً ونصف ، وارتفاعه

ص: 336

خمس وعشرون ذراعاً ونصف ، وطوله34 وارتفاع القبة الواقعة في وسطه41 ذراعاً ، وقطر أساطين الإيوان5 أذرع ، وفي جانبيه منارتان من الكاشي عاليتان ارتفاع كل منهما41 ذراعاً . وكفى في إتقان عمارته أنه من تاريخ سنة820 إلى الآن لم يحتج إلى مرمَّة وبقي في كمال الرونق . وفي وسط صحن هذا المسجد مكان مربع يعرف بمسجد العجوز يقال أن عجوزاً كان لها دار هناك لم ترض ببيعها وعملتها مسجداً ، وقد كتب على بعض جهات هذا الجامع: الأمرة بعمارة هذا المسجد صاحبة الرشد والرشاد والعظمة كوهرشاد . ولهذا المسجد أوقاف جليلة باقية إلى اليوم وله ناظر مستقل عن نظارة المشهد المقدس الرضوي) .

وترجم في أعيان الشيعة:2/356 ، للميرزا السلطان أبو سعيد من أحفاد تيمور ومدحه وذكر أنه سيطر على خراسان ودخل هراة سنة861 ، أي بعد وفاة شاه رخ بعشر سنين ، وقتل زوجته گوهر شاد بيگم ، ولم يذكر السبب . وأن حسن بيك قبض على السلطان أبي سعيد سنة872 ، وسلمه إلى يادكار محمد بن بنت كوهرشاد بيگم فقتله أخذاً بثار جدته كوهرشاد .

كما ترجم لخادمتها في أعيان الشيعة:3/562 ، قال: (بريزاد خانم من جواري گوهرشاد آغا زوجة شاهرخ ابن الأمير تيمور الكوركاني المعروف بتيمور لنك بريزاد بالباء الفارسية . من بنائها مدرسة في المشهد المقدس الرضوي تسمى بمدرسة بريزاد خانم بنتها حين بنت سيدتها مسجد گوهر شاد ووقفت لها موقوفات فيها من عشرين إلى ثلاثين من الطلبة ، كذا في كتاب مطلع الشمس ، وعدد المدارس التي في المشهد المقدس 16 مدرسة). انتهى.

أقول: قد عرفتَ أن تشيع شاهرخ معلول ، كتشيع أبيه تيمور ، بما ارتكباه في حق الشخصيات والكيانات الشيعية ، وكان شاه رخ مفرطاً في مداراته للسنة على حساب تشيعه ، طمعاً أن يعترف المخالفون به سلطاناً !

ويبدو أن زوجته گوهر شاد مثله ، وقد تكون أقل منه تشيعاً ، والمؤكد أنها

ص: 337

بنت هذا المسجد باسمها الى جنب مشهد الإمام الرضا (عليه السلام) ، وقد تكون قبته أعلى من قبته في ذلك العصر! ولم يعهد عنها اهتمامها بمشهد الإمام الرضا (عليه السلام) أما دار السيادة التي ذكروا أنها بنتها فكانت مؤسسة خدمية من زمان السلطان محمد خدابنده (رحمه اللّه) .

**

ص: 338

الفصل التاسع: تطور موجة التشيع التي أحدثها نصير الدين والعلامة الحلي

اشارة

ص: 339

ص: 340

1- ملاحظات على تشكل الدول بعد انهيار المغول

1- كان فقدان المغول للسلطان أكبر ضربة تلقوها بعد جنكيز وهولاكو ، فقد سبَّبَتْ انقسامهم وصراعهم على السلطة ! وحرَّكت الزعماء المحليين في البلاد فانتفضوا على القواعد العسكرية المغولية وطردوهم من بلادهم أو أخضعوهم ! وصار بعضهم مواطنين عاديين أو جنوداً تحت إمرة الزعماء المحليين ، وقليل منهم رجع الى منغوليا ومنطقتها .

ولم يبق من المغول لاعبٌ في الصراع على السلطة إلا الإيلخانيون في بغداد وتيمور لنك وأولاده وأحفاده في شرق إيران ، لكن هؤلاء كانوا يصارعون بصفتهم مسلمين شيعة ، ووارثين للمغول في نفس الوقت !

2- أخذ انهيار عهد المغول أشكالاً متعددة ، فبعض البلاد بادر زعماؤها المحليون الى السيطرة وطرد الحامية المغولية كما في البلاد الصغيرة ، وبعضها احتاج الى مدة ومعارك كرٍّ وفرٍّ بين القوى الجديدة والقديمة ، كما في بعض ممالك إيران ، أما تركيا فواصل الزعماء العثمانيون توسيع مملكتهم بالممالك المجاورة ، وعزلوا الحامية المغولية في مدينة سيواس الأناضولية .

3- يلاحظ أن السلطانية عاصمة المغول انتهت بعد وفاة بو سعيد ، وصارت العاصمة بدلها تبريز وبغداد وهراة ، وأن الدول التي تشكلت في العراق وإيران وتركيا كانت شيعية محضة ، أو منفتحة على التشيع ، ومنها دولة العثمانيين التي كان يغلب عليها التشيع الى إمارة با يزيد العثماني .

4- كانت مصر هدفاً لغزو المغول في زمن هولاكو، وفي عهد ابنه قازان ، ثم في زمن تيمور لنك ، وقد احتلوا دمشق مقدمة لغزو مصر ، لكن اللّه تعالى

ص: 341

شاء أن تنجو منهم مصر ، وأن يتراجع هولاكو وتيمور عن غزوها ، وأن ينهزم السلطان قازان في معركة عين جالوت على يد الأمير قطز المملوكي ! ومن الطبيعي أن يسبب ذلك العداء الشديد بين المغول والمماليك ، حتى كان بينهم احتكاكات عسكرية كثيرة في أطراف العراق ومصر وتركيا ، وحتى في داخل مصر ، وفيما وراء النهر ، خاصة بخارى !

ونتج عن ذلك أنه في مقابل تبني المغول للتشيع ، تبنى المماليك الخلافة العباسية وجاؤوا بشخص عباسي ونصبوه خليفةً شكلياً ، ولم يكن يسمع به أحد إلا في مناسباتٍ التشريفات ، واستمروا على ذلك حتى سقط حكمهم بيد العثمانيين سنة923. كما جمع المماليك رموز المتعصبين المعادين للمغول وللشيعة واستعملوهم للدعاية الواسعة والتحريك ضد المغول وضد المذهب الشيعي ! واستطاعوا بذلك أن يحدثوا موجة تعصب في عوامهم ضد الشيعة والتشيع ، وكان من أبرز من سخَّروه لذلك عبد الحليم بن تيمية ، الذي رد على مذهب الشيعة في كتابه الذي سماه (الرد على الرافضي) وسموه بعده منهاج السنة ، قد كفَّرَ فيه الشيعة واتهمهم بأنهم هم الذين جاؤوا بالمغول ! فساند بذلك حملة المماليك ضدهم في بلاد الشام حتى هاجموا مناطقهم وهي بعلبك وكسروان وجبل عامل ! مع أن ابن تيمية نفسه كان اعترف بإسلام السلطان قازان عندما احتل دمشق وجاءه مع وفد علماء دمشق وخطب معلناً له الطاعة وخطبوا باسمه كسلطان المسلمين في خطب الجمعة !

5- يتعمد أكثر المؤرخين أن يغيِّبوا عن قرائهم وأنفسهم أهم الأدوات في فهم الأحداث وصراع القوى في تاريخنا الإسلامي، وخاصة فترة المغول ! وهي أن الصراع كان مذهبياً بين الشيعة ومن معهم من السلاطين وجهاز الدولة ،

ص: 342

وبين بقايا الخلافة في الشام ، وبعض سلاطين المماليك الشراكسة حكام مصر الذين كانوا يتعصبون للمذهب السني ! فبدون فهم عامل الصراع المذهبي لايستطيع الباحث أن يفهم مجرى الصراع السياسي في تلك المرحلة !

نعم ، توجد عوامل أخرى مؤثرة في الأحداث ومن أهمها العامل القومي والإقليمي ، والصراع على السلطة حتى بين السنة أنفسهم أو الشيعة أنفسهم ، لكن العامل المذهبي كان وما زال الى يومنا في طليعة هذه العوامل .

6- تَمَحْوَرَ الخلاف السني الشيعي حول وجوب اتِّباع الصحابة ، أو اتِّباع أهل البيت (عليهم السلام) . ولبُّه حول موقف الشيعة من أبي بكر وعمر ، فقد جعله السنيون المقياس الشعبي والرسمي والعقائدي والسياسي من الشيعة !

فالشيعة مُصِرِّون على أن المسلمين مكلفون باتِّباع أهل البيت (عليهم السلام) دون غيرهم لأن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أوصى بالثقلين القرآن والعترة ولم يوص باتِّباع الصحابة ، فالمسلم حرٌّ في أن يعتقد فيهم ما يصل اليه علمه ، ومنهم أبو بكر وعمر !

والسنيون مصرِّون على وجوب اتباع الصحابة خاصة أبي بكر وعمر ، وقد جعلوا ولايتهما أول ركن في الإسلام ، وجعلوا المساس بهما كفراً يوجب خروج صاحبه من الدين ، وهدْر دمه واستباحة عرضه وماله !

كان هذا في كل مراحل التاريخ وما زال في عصرنا ، فباستطاعتك أن تلمسه عند من شئت من علماء السنيين وحكامهم وحركاتهم الدينية ! أو تقرأ فتاوى الوهابية في الشيعة ، وتنظر الى تنفيذها بفعل الزرقاوي وأتباعه في العراق !

ومن أدلة ذلك في موضوعنا ما أحدثه مرسوم السلطان خدابنده من غضب واستنفار في السنيين المتعصبين ، خاصة من مُجَسِّمة الحنابلة في بغداد ودمشق مركز الفكر الأموي ، كما ترى في أشدهم تعصباً عبد الحليم بن تيمية .

ص: 343

كل هذا مع أن مرسوم خدابنده لم يكن أكثر من حذف أمر أضافه وابتدعه المنصور العباسي كما عرفت !

7- قد يكون وراء مدح أتباع الخلافة لابن خدابنده السلطان أبي سعيد وقائده جوبان وقولهم إنه تاب عن فعل أبيه ، وأمر أن يُذكر في خطبة الجمعة إسم أبي بكر وعمر.. أن وزيره جوبان حاكم تركيا تساهل في ذلك ، فكانوا يطمعون في نجاح عملهم لتراجع السلطان بو سعيد رسمياً عن مذهب أبيه (رحمه اللّه) !

4- كان المد الشيعي الذي أحدثه نصير الدين الطوسي رحمه الله علیه مداً قوياً نتج عنه تشيع عدد من سلاطين المغول وقسم من جنودهم ، وبلغ أوجه على يد تلميذه العلامة الحلي رحمه الله علیه وإعلان السلطان خدابنده تشيعه رسمياً ، وإصداره المراسيم لمصلحة أهل البيت (عليهم السلام) ونشرمذهبهم في العالم الإسلامي .

وقد ساعد على نجاح هذه المد الشيعي أنه لم ينشأ من فراغ ، بل كان وريثاً لعدة موجات شيعية بدأت بولاية الإمام الرضا رحمه الله علیه في القرن الثاني ، ثم موجة الفاطميين والبويهيين في القرن الثالث والرابع والخامس .

كما ساعد على نجاحه أن الحكم المغولي طبق بتوجيه نصير الدين والعلامة الحلي سياسة مذهب أهل البيت (عليهم السلام) في الحريات المذهبية والعامة ، وفي الإعمار والخدمات ، وحقق إنجازات موفقة .

لكنَّ لكل شئ وقتاً ومدىً، فقد ضعفت مركزية المغول بعد السلطان خدابنده حتى على بعض قادته وجنوده ! ومن أمثلة ذلك أن القائد المغولي جوبان فرض سيطرته على البلاط والسلطان الصغير ، الأمر الذي أوجب أن يترك العلامة الحلي عاصمتهم ، ثم حصل الإنهيار الواسع بموت السلطان بو سعيد .

8- كان العامل المذهبي مؤثراً في كل تلك الأحداث والتحولات التي نتج

ص: 344

عنها تَشَكُّلُ دول جديدة ، بل كان أحياناً العامل الأول قبل العامل القومي والصراع على السلطة . ولهذا نجد أن العراقيين الذين يغلب عليهم التشيع لم يطرحوا أحداً منهم لقيادة البلد ، بل قبلوا بحكم المغول ورثة السلطان بو سعيد رغم صراعاتهم فحكم العراق عدة ملوك منهم لمدة طويلة زادت عن قرنين !

ومع أن العراق كان فيه أقلية سنية متعصبة ، والمفروض أن تمثل خط الخلافة ، وأشدهم حنابلة بغداد، لكنهم لم يتحركوا ولم يتصدوا لقيادة للعراق ، ورضوا بحكم ذرية هولاكو الشيعة ، وكانوا يعملون للتأثير عليهم ، ويقيمون العلاقات المذهبية القوية مع سنة دمشق ومماليك مصر . وهذا يدل على ضعف الوجود السني في بغداد والعراق من جهة ، وعدم جاذبية طرح الخلافة من جهة أخرى ! ولذلك بقي العراق موحداً تحت حكم الملوك المغول الشيعة مع ولايات من إيران يغلب عليها التشيع كالأهواز وتبريز وهمدان وغيرها ، حتى نشأت الدولة الشيعية الصفوية في إيران فوحدتها بسهولة تحت سلطانها.

9- نجح العثمانيون وهم مغول من أولاد عثمان جُق فوسعوا مملكتهم في ظل حكم المغول وغزوا الممالك المسيحية المجاورة للقسطنطينية وممالك في أوروبا الشرقية، حتى صاروا عند موت بو سعيد ملوك دولة كبيرة قوية رغم صراعهم الدموي فيما بينهم ، وعزلوا حامية المغول التي كانت تتمركز في مدينة سيواس في الأناضول ، حتى جاء تيمور لنك فاحتل بلادهم وأسر ملكهم بايزيد بعد معركة طاحنة قرب أنقرة سنة804 ، ومع ذلك استعادوا قوتهم بعده وأنهوا الوجود المغولي في بلادهم .

10- احتاجت عملية تَشَكُّل الأمة بعد المغول واستيعاب موجتهم الثالثة الى نحو قرن من الزمان ! نتج عنها ولادة الدولة العثمانية والصفوية . أما دولة

ص: 345

المماليك فقد شاء اللّه أن تبقى خارج حكم المغول حتى احتلها السلطان سليم العثماني سنة923.

11- يسأل بعضهم: لماذا المماليك والمغول.. وأين العرب؟ وجوابه أن العرب كانوا استنفذوا مخزونهم العسكري ، وهذا بعض التفصيل:

قرأتُ أن أحدهم كان يمدح البابا أمام ملك أوروبي ، فسأله الملك: كم فرقة من الجيش يملك البابا؟! وسمعت من معاصرين أنه عندما احتل الإنكليز العراق وهزموا الجيش العثماني ومعه مجاهدي القبائل الشيعية وعلماءهم ، واحتلوا بغداد ودخلوا النجف الأشرف ، قبضوا على مئات الناس وأعدموا فرسان الثورة الشعبية في النجف الذين يسمونهم كاظم صبي وجماعته رحمهم اللّه . ثم أخذ الضابط الإنكليزي يحاكم المعتقلين ، فأتوا له بالعالم الخطيب الزاهد الشيخ محمد علي الخراساني رحمه الله علیه فدخل الشيخ المحكمة وهو يحمل سبحته ويردد وِرْدَهُ اليومي: (اللّهم العن الإنكليز.. اللّهم العن الإنكليز) ولم يسلم على الضابط وجلس ! فسأل الضابط المترجم: ماذا يقرأ هذاالشيخ ؟ فأخبره ، فسأل: هل هو مرجع؟ قالوا: لا ، هو خطيب واعظ . فسأل: هل عنده قبيلة أومسلحون؟ قالوا: لا . قال: أطلقوا سراحه لا شئ عليه .

هاتان القصتان فيهما تبسيط لتأثير الشخصيات على المجتمعات ، لكنهما من جهة أخرى تركزان على أن العامل الحاسم في الصراعات السياسية عبر التاريخ هو القوة المسلحة ، فقد كان لها الكلمة الفصل في صناعة الأحداث ، وكان تأثير كل أمة وشعب بقدر ما يملك من قوة قتالية .

لذا كان من الضروري فهم منابع القوة العسكرية ومقوماتها، من العدد الكافي وطاعة الجنود ، والشجاعة والمهارة القتالية ، والتمويل..الخ.

ص: 346

ويظهر أن هذا الأمر كان سبباً في تركيز النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) على جذب اليمن للإسلام فاليمن هي مخزون العرب المقاتل ، لوجود العدد والطاعة في أهلها .

إن قبائل الجزيرة فيها مقومات البدء بالإنطلاق لتحقيق أهداف النبوة فقط ، لكنها لا تكفي لاستمرار المسيرة المطلوبة بدون مخزون اليمن .

وفي مرحلة لاحقة ، وبعد فتح المسلمين العرب للمناطق المحيطة بهم ، وهي العراق وإيران والشام ومصر ، استهلكت القوة العسكرية العربية ، ومنها القوة اليمانية التي كان لها الدور الأول في الفتوحات ، لانشغالهم بإدارة البلاد التي فتحوها وتأثير الرفاهية عليهم وعلى أولادهم ، فكان لابد من دخول مخزون مقاتل جديد هو مخزون خراسان ، المنطقة ذات الكثافية السكانية الأولى في إيران ، والتي يتوفر فيها العدد والطاعة والمهارة القتالية .

ولذا أخبر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بدور مخزون خراسان واليمن في حركة المهدي (عليه السلام) في المستقبل ، كما أخبر وصيه أمير المؤمنين (عليه السلام) بأن العباسيين سيستغلون حديث النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) عن مخزون خراسان وراياتها السود ، وأنه ملكهم سنتهي بموجة المغول من جهة خراسان، فقال: (ملك بني العباس عُسْرٌ لا يُسْرَ فيه ، لو اجتمع عليهم الترك والديلم والسند والهند والبربر والطيلسان لن يزيلوه، ولايزالون في غضارة من ملكهم حتى يشذ عنهم مواليهم وأصحاب ألويتهم، ويسلط اللّه عليهم علجاً يخرج من حيث بدأ ملكهم لايمر بمدينة إلا فتحها ولاترفع له راية إلا هدها ولا نعمة إلا أزالها).(غيبة النعماني/258). ومعناه أن مخزون المغول الآتي بعد قرون سينهي ملك بني عباس ، ويكون ككاسحة صخور ضخمة لا يقف أمامها المشاة! فقصة المغول أن منطقتهم ذات مخزون مقاتل مطيع أكثر من غيرها، وقد هاجموا بلاداً ضعف مخزونها المقاتل بسوء تصرف قادتها وترفهم!

ص: 347

وقصة المماليك عجز النظام العباسي عن تجنيد مقاتلين من العرب ماهرين مطيعين ، لسد حاجته في حماية الخليفة وعاصمته وبلاده من العدو ، فقرر أن يستورد مقاتلين من مخازن شعوب أخرى ، وأخذ الخليفة يشتري الفتيان اسواق القوقاز ومنغوليا وتركيا وغيرها ! وصارت تجارة الرقيق والعبيد أهم تجارة بين عاصمة الخلافة وأقاصي الأرض ، ونشأت (مافيا)سرقة الناس لبيعهم في عاصمة الخلافة ، وقد نقلوا أن التركمان الغُزّ سرقوا جماعة كان فيهم طالب علم فكانوا في طريقهم يَحُلُّون وثاقه وقت الصلاة ليصلي بهم إماماً ! فاعتنم الفرصة وسألهم يوماً: هل يجوز بيع القرآن ؟ قالوا: لا ، فقال: إن الإمام كالقرآن فلايجوز لكم بيعي فأطلقوني ! فتشاوروا مع رئيسهم ثم قالوا له: هل يجوز إهداء القرآن؟ قال نعم. قالوا: أنت كالقرآن لانبيعك بيعاً بل نهديك هديةً !

وقد بلغ من كثرة المماليك وأذاهم في بغداد ، أن الناس ضجوا وأجبروا الخليفة المعتصم أن يبني له ولمرتزقته عاصمة جديدة ، فبنى سامراء !

ثم انتقلت (ثقافة)الخلافة هذه الى مصر وبقية البلاد فاستكثر صلاح الدين من المماليك الشراكسة القوقازيين والمغول حتى صاروا مجتمعاً ، وسيطروا على الحاكم ثم على البلد ، ونصبوا أنفسهم حكاماً لأكثر من ثلاث مئة سنة حتى احتل العثمايون مصر ودخلها سلطانهم سليم في سنة923 ، وألحقها بدولته .

**

ص: 348

2- التشكل السياسي والفكري الجديد لبغداد والعراق

يمكنك أن تعرف تأثير موجة التشيع التي أحدثها نصير الدين والعلامة الحلي رضوان اللّه عليهما ، في بغداد ، من الصورة الخيالية التي يقدمها أتباع الخلافة ، ومن الواقع الذي اختارته بغداد ، بعد انهيار مركزية دولة المغول !

فقد صور رواة الخلافة أن المغول احتلوا بغداد بمساعدة الشيعة ، وأنهم فرضوا على أهل بغداد والسنة في العراق حكماً شيعياً ، ثم فرضوا عليهم المذهب الشيعي ومنعوا ذكر أبي بكر وعمر في خطبة الجمعة . وزعموا أن السنيين ثاروا في بغداد ! وقد تقدم قولهم لابن بطوطة إن الحنابلة في محلة باب الأزج خرجوا في اثني عشر ألف مقاتل مستنكرين مرسوم السلطان محمد خدابنده في حذف إسم أبي بكر وعمر من الأذان !

ولم تمض مدة حتى انكشفت هذه الأكاذيب ، فقد شاء اللّه تعالى أن ينهار حكم المغول بعد هذا التاريخ بقليل بموت السلطان بو سعيد بن خدابنده ، فأين كان السنة ، والإثنا عشر ألف مقاتل من محلة باب الأزج وحدها ؟

بل لماذا لم يظهر من مجموع السنة أتباع الخلافة في العراق عشرة آلاف مقاتل ليحسموا الأمر ويطردوا بقية المغول ويعيدوا الخلافة؟!

ولماذا اختار أهل العراق حاكماً من المغول الشيعة؟أو رضوا به ولم يقاوموه؟

الجواب: أن بغداد طلقت الخلافة العباسية بالثلاث غير آسفة عليها ، فعندما جاءت موجة الثقافية الشيعية ونمط الحكم الحيوي الذي قدمه التشيع في الحرية والبناء ، تغيرت آراء الناس فلم يعد يتعصب لخلافة بني العباس أحد ، ولم يعد يعادي مذهب أهل البيت (عليهم السلام) أحد ، اللّهم إلا الشاذ النادر ، وصار

ص: 349

الناس سنة وشيعة يفضلون نمط حكم الشيعة ! لذلك تراهم بعد انهيار المغول في العالم ، اختاروا ملوكاً من الإيلخانيين المغول الشيعة ، أو رضوا بهم .

أما الحفنة المتعصبة لخلافة بني عباس فليس أمامهم إلا السكوت ، لأنهم إن رفعوا راية الخلافة لم يجدوا من يقبلهم حتى من أقاربهم !

هذا هو السبب في أنك تقرأ في القرن الثامن والتاسع التفاف البغداديين والعراقيين عموماً حول الحكام الإيلخانيين الشيعة ، ووقوفهم معهم أمام الغزو الخارجي ، سواء كان من المغول كتيمور ، أو من الفرس أو الترك .

وهذا يعني أن الناس صاروا يفضلون نمط الحكم الشيعي في الحرية والإعمار ، وأن هؤلاء الحكام صاروا عراقيين يشعر الناس أنهم منهم ولهم ، وقد تقدم الحديث عن سياستهم الموفقة .

**

ص: 350

3- تشكل الدول الشيعية وشبه الشيعية في إيران

كثرة الأحاديث السُّنِّية في مدح الإيرانيين

تكثر الأحاديث الصحيحة في مصادر السنيين في مدح الفرس ! ومنها ما يفضلهم على العرب ! وسببه أن الفرس كانوا القوة العسكرية والفكرية للسلطة العباسية وهم الذين أسسوا لها المذاهب في مقابل مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ، ودونوا لها المصادر .

من ذلك ما رواه أبو نعيم في كتاب ذكر أصفهان/12، بطرق منها أبي بكر أن النبي قال: إني رأيت الليلة كأن غنماً سوداً تتبعني ، ثم أردفها غنم بيض، حتى لم أرَ السود فيها ! فقال أبو بكر: هذه الغنم السود العرب تتبعك ، وهذه الغنم البيض هي العجم تتبعك فتكثر حتى لاترى العرب فيها ! فقال رسول اللّه: (صلی الله عليه وآله وسلم) هكذا عَبَّرها الملَك . وعن أبي هريرة قال: ذكرت الموالي أو الأعاجم عند رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: واللّه لأنا أوثق بهم منكم) ! وحديث: (لو كان العالم والإيمان في الثريا)..

وفي مسند أحمد/417 ، عن أبي هريرة قال: كنا جلوساً عند النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) إذ نزلت عليه سورة الجمعة ، فلما قرأ: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ، قال رجل: من هؤلاء يا رسول اللّه؟ فلم يراجعه (صلی الله عليه وآله وسلم) حتى سأله مرة أو مرتين أو ثلاثاً ، وفينا سلمان الفارسي قال: فوضع النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يده على سلمان وقال: لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء). ورووه بطرق ومصادر كثيرة تبلغ صفحات !

وحديث: (ضحكت من ناس يؤتى بهم من قبل المشرق يساقون إلى الجنة يساقون الى الجنة) ، رواه أحمد:5/338 والروياني/202 ، والطبراني الكبير:6/157، وغيرهما .

وحديث الضياطرة..رواه في شرح النهج:20/284، قال:جاء الأشعث إليه(إلى علي (عليه السلام) )

ص: 351

فجعل يتخطى الرقاب حتى قَرُب منه ، ثم قال له: يا أمير المؤمنين غلبتنا هذه الحَمْراء على قربك ، يعني العجم ، فركض المنبر برجله حتى قال صعصعة بن صوحان: ما لنا وللأشعث ! ليقولن أمير المؤمنين اليوم في العرب قولاً لايزال يذكر . فقال (عليه السلام) : من عذيري من هؤلاء الضياطرة ، يتمرغ أحدهم على فراشه تمرغ الحمار ، ويهجر قوماً للذكر ! أفتأمرني أن أطردهم؟! ما كنت لأطردهم فأكون من الجاهلين . أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ليضربنكم على الدين عوداً كما ضربتموهم عليه بدءاً).انتهى.

وكلها تدل على أن للإيرانيين دوراً مميزاً في نصرة الإمام المهدي (عليه السلام) ، وقد وثقنا ذلك الفصل(23) من معجم الإمام المهدي (عليه السلام) .

إيران مخزن جنود ومخزن علمي للعباسيين

مضافاً الى المخزون العسكري الذي استطاع القادة الخراسانيون أن يشكلوا منه جيشاً يثور على الحكام الأمويين ويسيطر على خراسان ، ثم على بقية إيران ، ثم يتجه الى العراق والشام ويقضي على قوات الأمويين ، ثم على قوة الحسنيين التي بلغت سبعين ألف مقاتل !

فقد كان مخزون الإستعداد العلمي لايقل عن الجيش لخدمة الدولة العباسية ! فعندما رأى المنصور العباسي أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) من العلويين هم المرجعية العلمية للأمة ، فكَّر أن يؤسس في مقابلهم مرجعية وينشئ مذاهب ! فلجأ الى مالك بن أنس مولى بني الأصبح فقال له: (إنه لم يبق على وجه الأرض أعلم مني ومنك وإني قد شغلتني الخلافة فضع أنت للناس كتابا ينتفعون به تجنب فيه رخص ابن عباس وشدائد ابن عمر ووطئه للناس توطئة قال مالك فواللّه لقد علمني التصنيف يومئذ)! (تاريخ ابن خلدون:1/17 ، وفي الديباج لابن فرحون/25، (وفي رواية عن مالك فقلت له ان أهل العراق لا يرضون علمنا فقال أبو جعفر نضرب عليه عامتهم بالسيف ونقطع عليه ظهورهم بالسياط) ! ونحو ذلك الجرح والتعديل:1/12، وتاريخ الذهبي:11/

ص: 352

321 ، وتقريب المسالك لعياض/123 . راجع محاولتهم لجعل مالك عربياً وطعن الأئمة والنسابين في نسبه: التمهيد لابن عبد البر:1/89 ، وفي/91: (أمه العالية بنت شريك بن عبد الرحمان بن شريك من الأزد وحملت به سنتين وقيل ثلاث سنين) وتاريخ بخاري الصغير:2/30، و200، ومشاهير ابن حبان/223، والتعديل والتجريح لابن خلف:3/1244 ، وإكمال الكمال:1/98 ، وسير الذهبي:8/70، وتهذيب التهذيب:3/403 ، ومعجم المؤلفين لكحالة:8/168، وأنساب السمعاني:1/174 .

ثم كان المذهب الثاني في عهد ولده هارون الرشيد باسم أبي حنيفة على يد تلميذه القاضي أبي يوسف وهما فارسيان .

ثم المذهب الثالث في عهد المعتصم على يد الشافعي وهو فارسي مولى قريش .

والمذهب الرابع في عهد المتوكل على يد أحمد بن حنبل وهو فارسي مولى بني شيبان .

فأئمة المذاهب كلهم من المخزون الإيراني، وكذلك كبار أئمتهم المؤلفين لمصادر هذه المذاهب . ويكفي أن تقرأ فقه أي مذهب سني وتفحص أسماء علمائه ورواته ، أو عقائده ، أو تفسيره...الخ. لترى أن القسم الأكبر منهم إيرانيون !

ويبدو أن هذا هو السبب الذي جعل بعض الباحثين وبعض المتعصبين في عصرنا يقول: إن إيران كانت كلها قبل الصفوين سنية ، فأجبروها على التشيع ! فهم يرون أن كل ما عند المذاهب أو جله من الإيرانيين ، فيتصورون أن إيران كانت كلها سنة !

إيران مخزن إعلامي لأهل البيت (عليهم السلام)

وقد عبرنا بمخزن إعلامي لأن العلماء الإيرانيين السنة تغلب عليهم صفة الإبتكار لمذاهبهم والعمل بالرأي ، بينما الشيعة منهم يغلب عليهم التلقي عن أهل البيت (عليهم السلام) ، وابتكارهم إنما هو في التبليغ ، وليس عندهم عمل بالرأي .

والتشيع في إيران قديم من مطلع الإسلام ابتدأه بفعالية سلمان الفارسي (رحمه اللّه) .

وينبغي أن نشير هنا الى اشتباه وقع فيه بعض الذين أرخوا للتشيع وأرادوا أن

ص: 353

يردوا عنه تهمة أنه مذهب فارسي ، فتراهم يقررون أن التشيع عربي النشأة والموطن من المدينة المنورة الى اليمن والكوفة والشام والعالم ، ويستشهدون بنماذج وبمفردات تعصب ضد الشيعة والتشيع من الإيرانيين ، وكل هذا صحيح لكن الخطأ فيما يوحي من كلامهم بأن إيران لم تعرف التشيع إلا متأخراً . ولا يتسع المجال لأن نسرد المفردات التي ترد ذلك ، لكنا نلخص شريط التشيع في إيران بأن سلمان الفارسي (رحمه اللّه) غرس بذرته المباركة عندما قام بدوره الواسع في فتح إيران، ثم في حكمه لها سنين من المدائن عاصمة كسرى ، ومعه كبار الصحابة من شيعة علي (رحمه اللّه) كحذيفة وعمار والعشرات من شخصيات الشيعة وفرسانهم ممن شاركوا في فتح العراق وإيران وعملوا فيها ، وبلغوا الدين ، وعلموا القرآن ، وحدثوا الإيرانيين .

ثم نصل الى عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) وأصحابه من الإيرانيين الذين كانوا يلتفون حول منبره في الكوفة حتى جاء الأشعث بن قيس وأراد أن يجلس قرب المنبر فلم يجد مكاناً فقال كما تقدم: (يا أمير المؤمنين غلبتنا هذه الحَمْراء على قربك ، يعني العجم...الخ.) .

ثم نصل الى أصحاب الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) فنجد كثرة من أصحابهم من مناطق إيران المختلفة ومدنها العديدة ، كما نجد العديد منهم من كابل وبلخ وبخارى وسمرقند والشيشان والكرج أي جورجيا ومدن آذربيجان وتركيا .

من نماذج ذلك ما رواه الكشي:2/866: عن ( محمد بن جعفر بن إبراهيم الهمداني ، وكان إبراهيم وكيلاً ، وكان حج أربعين حجة، قال: أدركت بنتٌ لمحمد بن إبراهيم بن محمد فوصف جمالها وكمالها ، وخطبها أجلة الناس فأبى أن يزوجها من أحد ، فأخرجها معه إلى الحج ، فحملها إلى أبي الحسن (عليه السلام) ووصف له هيأتها وجمالها وقال: إني إنما حبستها عليك تخدمك ، قال: قد قبلتها فاحملها معك إلى

ص: 354

الحج وارجع من طريق المدينة ، فلما بلغ المدينة راجعاً ماتت ! فقال له أبو الحسن صلوات اللّه عليه: بنتك زوجتي في الجنة يا بن إبراهيم) .

ثم نصل الى ثورة التوابين وبعدها ثورة المختار للأخذ بثار الحسين (عليه السلام) فنرى كثرة الإيرانيين المشاركين فيها ، حتى سماهم إعلام السلطة الكيسانية نسبة الى كيسان الفارسي الذي كان من أصحاب المختار الخاصين .

ثم نصل الى عصر الإمام الباقر (عليه السلام) وتأسيس الأشعريين الشيعة لقم وانتقال العلماء والرواة المضطهدين في الكوفة اليها ، وسرعة عمرانها وامتلائها بالشيعة ونشاطهم لنشر التشيع في إيران .

ثم نصل الى مجئ الإمام الرضا (عليه السلام) الى إيران ، والهزة العميقة التي أحدثها في عقيدة الإيرانيين وأفكارهم ، والتلاميذ الذين تخرجوا عليه ، وتأثروا به .

ثم نصل الى دولة الشيعة الزيديين في شمال إيران التي دامت أكثر من قرن .

ثم نصل الى حركة البويهيين وكانوا سياسيين طالبين للم