الاقتباس القرآني في عهد الامام علي (علیه السلام) الى مالك الاشتر ( رضی الله عنه )

هوية الکتاب

الاقتباس القرآني في عهد الامام علي (علیه السلام) الى مالك الاشتر ( رضی الله عنه )

جميع الحقوق محفوظة

العتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى

1439ه - 2017م

العراق - كربلاء المقدسة شارع السدرة مجاور مقام علي الأكبر

مؤسسة علوم نهج البلاغة

هاتف: 07728243600 - 07815016633

الموقع الألكتروني: www.inahj.org

الإيميل: Inahj.org@gmail.com

إن الأفکار والآراء المذکورۃ فی هدا الکتاب تعبر عن وجهة نظر کاتبها،و لا

تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 1

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 4208 لسنة 2017

ص: 2

سلسلة دراسات في عهد الإمام

على (علیه السلام) لمالك الأشتر(رضی الله عنه)

تٲلیف

أ. م. د. خولة مهدي الجراح

إِصْدَارْ

مؤسسة علوم نهج البلاغة

فِیْ الْعَتَبَةِ الْحُسَیْنیَّةِ الْمُقَدَسَةُ

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

العتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى

1439ه - 2017م

العراق - كربلاء المقدسة شارع السدرة مجاور مقام علي الأكبر

مؤسسة علوم نهج البلاغة

هاتف: 07728243600 - 07815016633

الموقع الألكتروني: www.inahj.org

الإيميل: Inahj.org@gmail.com

إن الأفکار والآراء المذکورۃ فی هدا الکتاب تعبر عن وجهة نظر کاتبها،و لا

تعبر بالضرورۃ عن وجهة نظر العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مقدمة المؤسسة:

الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر بها ألهم، والثناء بما قدّم، من عموم نعمٍ ابتدأها، وسبوغ آلاء أسداها، والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين محمد و آله الطاهرین.

أما بعد:

فإنَّ من أبرز الحقائق التي ارتبطت بالعترة النبوية هي حقيقة الملازمة بين النص القرآني والنص النبوي ونصوص الأئمة المعصومين (عليهم السلام أجمعين).

وإنّ خير ما يُرجع إليه في المصادیق لَحديث الثقلين «ِتَابَ اَللَّهِ وَ عِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي» هو صلاحية

ص: 5

الاقتباس القرآني

النص القرآني لكل الأزمنة متلازماً مع صلاحيّة النصوص الشريفة للعترة النبوية لكل الأزمنة.

وما كتاب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه) لمالك الأشتر (عليه الرحمة والرضوان) إلا أنموذجاً واحداً من بين المئات التي زخرت بها المكتبة الإسلامية، والتي اكتنزت في متونها كثيراً من الحقول المعرفية مظهرة بذلك احتياج الإنسان إلى نصوص الثقلين في كل الأزمنة.

من هنا:

ارتأت مؤسسة علوم نهج البلاغة أن تخصص حق معرفياً ضمن نتاجها المعرفي التخصصي في حياة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وفكره، متخذة من عهده الشريف إلى مالك الأشتر (رحمه الله) مادة خصبة للعلوم

ص: 6

الإنسانية، التي هي من أشرف العلوم وعليها يقع مدار بناء الإنسان وإصلاح متعلقاته الحياتية؛ وذلك ضمن سلسلة بحثية علمية موسومة بسلسلة دراسات في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رحمه الله )، التي ستصدر بإذن الله تباعاً، حرصاً منها على إثراء المكتبة الإسلامية والمكتبة الإنسانية بتلك الدراسات العلمية، والتي تهدف إلى بيان أثر هذه النصوص في بناء الإنسان والمجتمع والدولة، متلازمة مع هدف القرآن الكريم في إقامة نظام الحياة الآمنة والمفعمة بالخير والعطاء والعيش بحرية وكرامة.

وكان البحث الموسوم ب(الاقتباس القرآني في عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الأشتر رضوان الله عليه) واحد من البحوث التي درست العلاقة القرآنية التي كان يمتاز بها الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)،

ص: 7

فرصد هذا البحث مواطن الاقتباس القرآني في العهد الشريف، ولم يقف عند ذلك وإنما سعی

جاهداً لبيان دقة توظيف المادة القرآنية في كلام

أمير المؤمنين (عليه السلام).

فجزى الله الباحثة خير الجزاء فقد بذلت جهدها وعلى الله أجرها، والحمد لله رب العالمين.

السيد نبيل الحسني الكربلائي

رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 8

المقدمة :

الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدّم من عموم نعمٍ ابتدأها وسبوغ آلاءٍ أسداها، وتمام مننٍ أولاها، والصلاة والسلام على الهادي الأمين محمدٍ وعلى أهلِ بيتِه الطيبين الطاهرين الهداة الميامين.

وبعد...

إن عهد الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) لواليَّه على مصر مالك الأشتر، جاء في فترة زمنية تكاد تكون من أكثر أزمنة الإسلام عدلاً وإنصافاً للإنسان وحقوقه ، وهي فترة خلافة الإمام علي (علیه السلام).

أراد أمير المؤمنين علي (علیه السلام) أن يكون هذا العهد خطاباً موجهاً لجميع حكام المسلمين، وغير المسلمين من خلال شخص واحد أراده أن یکون حاکم على مصر، وهو مالك الأشتر، الصديق

ص: 9

الصدوق للإمام علي (علیه السلام).

كما أن هذا العهد، الذي وضعه الإمام علي (علیه السلام) کدستور يسترشد به مالك الأشتر في حكم مصر قد دوَّن في نهج البلاغة، وهو الكتاب الذي جمع فيه الشريف الرضي ما ثبت لديه من كلام جده علي بن ابي طالب (علیه السلام) . ورغم شمولية هذا العهد

الدستور) لكن الإمام علي (علیه السلام) خصَّ به مالك الأشتر، فكم هي عظيمة مكانة مالك الأشتر عند الإمام ؟ فمن هو مالك الأشتر ؟ وما هي مكانته عند أمير المؤمنين علي (علیه السلام) ؟ هذا ما سيتناوله البحث في المبحث الأول بعد بيان معنى الاقتباس وماهية العهد عموما ومشروعيته.

تنطلق فرضية الدراسة من نقطة مفادها أنّ للقران الكريم صورة لفظيَّة ومعنويَّة في العهد، تراوحت ما بين الآيات القرآنية المقتبسة لفظاً مباشراً ، والآيات القرآنية التي قد دخل عليها

ص: 10

التحوير، أو نقلت بالمعنی، موحدة في خطواتها ومتنوعة في اختيارها بحسب ما تتطلبه طبيعة السياق النَّصَّيّ حتى تصل بذلك إلى نتائج علميَّة مرضية و مستنطقة لكل ما يتضمنه ذلك العهد من اقتباسات وإشارات مثيرة، وإن جاء فيها تقصیر أو غيره وما تتطلبه تلك الدراسة من صفاء نية وإخلاص لله تعالى فالتعامل معها يكون على حذر وتأمُّل.

أمّا المنهجيَّة المعتمدة كانت عن طريق استقراء

نص العهد وشرحه ثمَّ ذكر النَّصّ القرآني المقتبس في هذا العهد فكان بحثي عبارة عن ثلاثة مباحث فكان المبحث الأول في بيان معنى الاقتباس في اللغة والاصطلاح، ومعنى المعاهدة و مشروعيتها في القرآن ومن ثم نبذة مختصرة عن حياة مالك الأشتر.

أمّا المبحث الثاني فتناولت فيه خصائص الاقتباس،

وهي على نوعين: خصائص دلالية وخصائص فنية .

ص: 11

ثم المبحث الثالث الذي تطرقت فيه إلى وظائف الاقتباس و هي أيضاً على فرعين دلالية وفنية .

وقد استقى البحث مادته العلمية من مصادر التراث العربي و البلاغة، وكتب التفسير وشروح نهج البلاغة ومصادر حديثة مهمَّة أعانت البحث في تسليط الضوء على المقاربات بين العهد والقرآن الكريم.

12

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ص: 12

المبحث الأول

سوف يتطرق الباحث في هذا المبحث إلى تعريف الاقتباس لغة واصطلاحا، ثم التعرف على ماهية المعاهدة ومشروعيتها، ومن ثم نبذة موجزة حول الصحابي الجليل مالك الأشتر.

أولا: المفهوم اللغوي والاصطلاحي للاقتباس

1- الاقتباس لغة:

الشعلة ، يُقال: خُذلي قبساً من نار(1) . وقال ابن فارس في مقاییس اللغة: (القاف والباء والسين أصل صحيح يدل على صفة من صفات النار، ثم

ص: 13


1- ظ: العين: الفراهيدي: 1/ 383

پستعار من ذلك القبس: شعلة النار)(1)کا ورد في قوله تعالى: «إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى »(2).

2- الاقتباس اصطلاحاً:

هو أن يضمَّن الكلام (شعراً كان أم نثراً ) شيئاً من القرآن الكريم أو الحديث الشريف(3). وقد عرفه الرازي (ت 606ه): (هو أن يضمن الكلمة من القرآن الكريم أو آية منه في الكلام تزين لنظامه وتفخيم لشأنه )(4)، وقد وسع العلامة الحلي (ت 5 72ه) ذلك ليشمل الحديث الشريف، فيقول: ( هو أن يضمن الكلام شيئا من القرآن أو

ص: 14


1- معجم مقاییس اللغة: ابن فارس: 5/ 39
2- سورة طه، الآية: 10
3- ظ: الإيضاح في علوم البلاغة: القزويني: 1/ 381
4- نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز: الرازي:147

الحديث ولا ينبه عليه للعلم به )(1)، وقد حصر بعض العلماء الاقتباس على القرآن الكريم وحده(2).

هناك بعض من العلماء يُقرِن الاقتباس بالتضمين منهم، (ابن المعتز (ت 296ه)، و(أسامة بن المنقض (584)، والتضمين هو: أن يأخذ المتكلم كلام من كلام غيره يدرجه في لفظه لتأكيد المعنی الذي أتى به، فإن كان كلاماً كثيراً أو بيتاً من الشعر فهو تضمين وإن كان كلاماً قليلاً أو نصف بيت فهو إبداع)(3). ففي قول الحريري:( أنا أنبئکم بتأويله، وأميز صحيح القول من عليله)(4)، حيث ضمن فن خطابه قوله تعالى: «وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ »(5) ومعناه

ص: 15


1- حسن التوسل إلى صناعة الترسل: العلامة الحلي: 323
2- أنوار الربيع في أنواع البديع : ابن معصوم المدني : 2/ 212
3- الفوائد المشوقة إلى علوم القرآن وعلم البيان: ابن قيم الجوزية: 45
4- ظ: الإيضاح في علوم البلاغة : القزويني: 129/1
5- سورة يوسف : آية 45

غالباً ما يستمد الشعراء والخطباء رؤاهم الإبداعية من نور هدى القرآن الكريم، فيقتبسون ماینیر مقاصدهم البارزة في رسالاتهم، ويقوم ألسنتهم في إبراز الذوق البياني الرفيع بأي شكل من أشكال الاستمداد القرآني فقد يكون استمداد لفظياً أو فنياً أو معنوياً أو بيانياً وغير ذلك كما سيتضح في بيان الخصائص الاقتباسية ووظائفها.

ثانيا: ماهية المعاهدة ومشروعيتها

بدأ ظهور المعاهدات الدولية كوسيلة اتصال بين الشعوب منذ العصور القديمة، حيث عرفت منذ مصر الفرعونية وبابل و آشور، فكانت على شکل معاهدات تحالف أو صلح.

تطلق المعاهدة الدولية على العقد الذي يتألف من دولتين أو أكثر، وموضوعها القواعد العامة للقانون الدولي أو المقررات المتعلقة بالموضوعات

ص: 16

الخاصة في العلاقات الدولية(1).

وقد عرّف القانون المعاهدة على أنها: (اتفاق يكون أطرافه الدول أو غيرها من أشخاص القانون الدولي، ممن يملكون أهلية إبرام المعاهدات، ويتضمن الاتفاق إنشاء حقوق والتزامات قانونية على عاتق أطرافه، كما يجب أن يكون موضوعه تنظيم علاقة من العلاقات التي يحكمها القانون الدولي)(2).

خصائص المعاهدة

تتضح من خلال التعريف السابق خصائص

المعاهدة، وهي:

1- الاتفاق: يبرز مجموعة التزامات تصدر من الأطراف المتعاهدة تكون بمثابة الكلمة القانونية

ص: 17


1- ظ: الزنجاني / القانون الدولي في الإسلام/ 442
2- عبد الكريم علوان / الوسيط في القانون الدولي العام/ 259

التي يتوقف عليها بنود أو شروط الاتفاق، ويعد التجاوز عليها خلاف ذلك التعهد أو الاتفاق، ویکون مدعاة لإلغاء الطرفين لها لعدم الوفاء بالاتفاق ولابد أن تنص تلك المعاهدة على اتفاقات مجدولة.

2- إنشاء حق: هذا الاتفاق لابد وأن يخطط

الحالة قد تعدى عليها أطراف أو خشية التعدي عليها فبالأخير هي تنظم لدفع أو جلب منفعة ( إنشاء حق).

3- تنظيم علاقة: وحاصل تلك الوثيقة المنشئة للحق تنظيم أمور الدول وتكون بمثابة خط الشروع نحو تحقيق حالة من الاستقرار والأمان الاجتماعي من خلال تنظیم بنود المعاهدة على شکل اتفاقيات - علاقات - قانونية معتمدة.

نلمس هذه الخصائص جلية وواضحة في عهد

الإمام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر.

ص: 18

مشروعية المعاهدة:

جاءت الآيات القرآنية متعددة للدلالة على

مشروعية المعاهدات، منها:

1- قوله تعالى : « وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا »(1).

2- قوله تعالى:«يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ »(2).

3- قوله تعالى : « وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا »(3).

4- قوله تعالى: «مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ » (4).

ص: 19


1- الإسراء: 34
2- البقرة: 40
3- البقرة: 177
4- التوبة: 4

هذا هو حكم الإسلام في المعاهدات التي توقعها الدولة الإسلامية حتى مع الدول الأخرى لحفظ السلام، فنحن مطالبون بالوفاء بها، وعدم نقضها، إلا إذا نقضها الطرف الآخر، أما إذا لم ينقضها ولم يظاهر على عداء المسلمين، فعلى المسلمين الوفاء لهم، إذ ليس هناك من وسيلة أكثر فاعلية من المعاهدة في التنظيم العادل للعلاقات الدولية.

ثالثا: نبذة مختصرة عن حياة مالك الأشتر

هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن مسلمة إلى جده النخع، ولقد اشتهر مالك (بالأشتر)

حتی یکاد يطغى على اسمه الحقيقي ولا يعرف إلا به، وكنيته أبو إبراهيم. وقد لُقب بالأشتر وكبش العراق، وهناك روايتان في كيفية شُتر عينه، الأولى: إن عينه شُترت في حروب الردة في جهاده عن الإسلام عندما ضربه أبو مسیكمه على رأسه . والرواية الثانية إن عينه شترت في وقعة اليرموك ،

ص: 20

عند مبارزته لرجل مشرك من الروم وقتله .. وربا تكون عينه قد فقئت في حروب الردة ثم أصيبت ثانية في معركة اليرموك . ولقب كذلك (بكبش العراق) ، وقد أورده الرازي في مختار الصحاح ونصر بن مزاحم في كتابه وقعة صفين (1).

ويستدل من بعض القرائن إن ولادة مالك كانت لما يقرب من عشرين سنة سبقت البعثة النبوية الشريفة وأنه كان معروفاً و مشهوراض في عهد النبي (صلی اله علیه و آله وسلم) (2). وقد ولد في بيشه الواقعة في أعلى اليمن وهي بلاد ذات خصب ونخيل وأشجار وعيون ماء (3) .

وشخصية مالك الأشتر شخصية الرجل

ص: 21


1- ظ: نجاح عبيد حسون/ مالك الأشتر: سيرته والحضارة الإسلامية /30-33
2- ظ: نجاح عبيد حسون/ مالك الأشتر: سيرته والحضارة الإسلامية / 30.
3- م.ن/

الشجاع الذي يفرض نفسه في كل موقف، وهو الذي لم تُرد له راية او ينكسر له جیش(1). وقد قال فيه ابن أبي الحديد: (الله در أم قامت عن الأشتر ، لو أن إنسانا يقسم أن الله ما خلق في العرب ولا في العجم أحداً أشجع منه إلا أستاذه علي بن أبي طالب لما خشيت عليه الإثم...)(2) . وقد قتل يوم اليرموك أحد عشر رجلاً من بطارقتهم وقتل ثلاثة منهم مبارزةً. ومما يُحسب له قتله للعلج الرومي في الشام، والذي لم يستطع أحد أن يبارزه(3). ومما يؤثر عنه عند إعادته إلى ميمنة أهل العراق عند هزيمتهم في وقعة صفين فهي شجاعة وتأثير في الناس الذين أعادهم وهذه دلالة على قيادة حازمة وثقة كبيرة من الجيش بشخصيته . وقوله للإمام علي (علیه السلام)

ص: 22


1- م.ن/ 38
2- ابن أبي الحديد / شرح نهج البلاغة / 2/ 213
3- ظ: نجاح عبيد حسون/ مالك الأشتر: سيرته والحضارة الإسلامية / 39-40

عندما انشق عليه الجيش في وقعة صفين وقد صار قاب قوسين أو أدنى من النصر (احمل الصف على الصف تصرع القوم)(1)، هي شجاعة قلَّ نظيرها ، وقد اتفقت جميع المصادر التي ذكرت جانبا من حياة مالك الأشتر على شجاعته(2).

وقد استشهد رحمه الله مسموماً بتدبير من معاوية بن أبي سفيان وهو في طريقه إلى مصر لتسلم إمارتها بناء على أمر أمير المؤمنين علي (علیه السلام) (3) .. وقد حدث هذا سنة 37 ه على رواية او سنة 38ه برواية أخرى . وقد شهد مع الإمام علي (علیه السلام) صفين والجمل ومشاهده كلها(4).

وكما اُختلف في سنة وفاته، فقد اُختلف في مكان

ص: 23


1- ابن أبي الحديد / شرح نهج البلاغة / 2/ 219
2- م.ن/40
3- خواند أمير / تاريخ حبيب السير في أخبار أفراد بشر /1/ 568
4- ظ: نجاح عبيد حسون/ مالك الأشتر: سيرته والحضارة الإسلامية / 153.

وفاته، واُختلف في موضع قبره ، فمنهم من يرى أنه في القلزم، ومنهم من يقول انه في العريش، ومنهم من قال انه في بعلبك ، وآخرون ادعوا انه في المدينة المنورة(1).

وقال (علیه السلام) وقد جاءه نعي الأشتر رحمه الله : مالك وما مالك . والله لو كان جبلاً لكان فینْداً (أي جبلاً عظیماً) ، ولو كان حجراً لكان صلداض. لا يرتقيه الحافرُ، ولا يُوفي عليه الطائر)(2). وقال فيه أيضا: (إن الرجل الذي كنت وليته أمر مصر، كان رجلاً لنا ناصحاً، وعلى عدونا شدیداً ناقماً. فرحمه الله، فلقد استكمل أيامه ولاقى حِمامَهُ، ونحن عنه راضون . أولاه الله رضوانه وضاعف الثواب له)(3) . وقوله : (على مثلك فلتبك البواكي يا مالك وأنی

ص: 24


1- م.ن/ 178
2- لبيب بيضون/ تصنیف نهج البلاغة / 577
3- لبيب بیضون/ تصنيف نهج البلاغة / 576

مثل مالك)(1)، و (رحم الله مالكا فلقد كان لي كما کنت لرسول الله (صلی اله علیه و آله وسلم)(2).

شيء عن عهد الإمام علي ( علیه السلام)الأشتر ألنخعي

في هذا العهد، وكما جاء في تقديم الشريف الرضي له (ومن عهدله علیه السلام كتبه للأشتر ألنخعي لما ولاه على مصر وأعمالها حين اضطرب محمد بن أبي بكر وهو أطول عهد وأجمع كتبه للمحاسن)،

وقد ابتدأه عليه السلام بالبسملة ثم «هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهد إليه حين ولاه مصر ...»(3) .

نلاحظ إن الإمام علي (عليه السلام) قد ابتدأ عهده بالأمر وشرع بهذا الأمر یُعدد الواجبات التي ينبغي على مالك الأشتر القيام بها، والأمور التي

ص: 25


1- اليعقوبي / تاريخ اليعقوبي / 194/2
2- م.ن/ 173
3- محمد عبدة/ شرح نهج البلاغة / 3/ 82-83

عليه مراعاتها، وحقوق الناس التي يجب تأديتها . ويبين له (عليه السلام) أن الحاكم ما هو إلا مسئول مؤتمن على حقوق الناس وخدمتهم، وعدل الحاكم هو ما يوجب على الرعية إتباعه. والمتدبر في قراءة العهد يجد أن الإمام علي أنكر أن يكون الحاكم والحكومة سلطة متجبرة متسلطة على رؤوس الناس بل أن يكون الحاكم والحكومة في خدمة الناس ومداراتهم، وإلا تحولت الحكومة إلى منصب دنیوي يلهث وراءه كل من يحب الدنيا ومغرياتها، وكل باحث عن جاهٍ، وهذا ما حذر منه الإمام علي (عليه السلام) ونبه عليه، وخوَّف من عاقبته في الدنيا والآخرة.

وقد نال هذا العهد من الاهتمام والدراسة والتمحيص والتفسير والشرح والبيان ما لم ينله نص آخر مماثل له في التوجه على مر العصور ، وقد تُرجم إلى كثير من لغات العالم ، وفي بعض اللغات تُرجم وشرح مرارا وتكراراً، وهذا دليل على قيمة

ص: 26

المعاني الإنسانية العظيمة التي يحتويها هذا العهد، وتناوله مختلف شؤون الحياة أولاً، وواجبات الحاكم والحكومة ثانياً.

وقد خطَّ أمير المؤمنين في خاتمة عهده إلى مالك الأشتر داعياً: (وَأَنْ یَخْتِمَ لِی وَلَکَ بِالسَّعَادَةِ وَالشَّهَادَةِ،)(1)، وقد أستجيب دعاؤه بحقه وبحق مالك الأشتر.

لقد أكد الإمام علي (عليه السلام) في عهده للأشتر على جملة من القواعد والقوانين التي تُدار وتُحكم من خلالها الدولة ، وتُراعي شؤون الرعية، فحينما توجه مالك لإدارة شؤون مصر كان مزوداً بدستور حکم ناضج ومكتمل القواعد والشروط، وبما يوفر العدل والمساواة ويحفظ كرامة الإنسان وحقوقه ، ويؤكد على عمارة البلاد واستصلاحها، والابتعاد عن الطمع وحب الشهوات ، والالتزام بالذكر

ص: 27


1- نهج البلاغة / 3/ 111

الحسن ، والعمل الصالح. كما أكد العهد على الرحمة بالرعية واللطف بهم، وعدم ظلم الآخرين . وقد أوصى الإمام مالكاً إلى الحذر من دعوة المظلوم، والى عدم المساواة بين المحسن والمسيء، والی مدارسة العلماء والحكماء .. وأراد منه أن يولي اهتماما خاصاً بذوي الحاجات والمسكنة والفقراء، وأن يعمل على بث العيون لمراقبة الحكام ، وليس مراقبة المحكومين کا تفعل الأنظمة المستبدة على مر العصور، وأن يعمل على مداراة اليتامى وكبار السن، والابتعاد عن الَمنَّ على الرعية والتواضع ونشر العدل والإنصاف والعفو والصفح، وقضاء حاجات الناس، وقول الحق ، والعمل على نشر المساواة بين الناس، فالناس إما أخ لك في الدين أو نظيره لك في الخلق، وموضوعات أخرى كثيرة وردت في هذا العهد الذي أنفذه الإمام علي إلى مالك الأشتر ليكون دستور حكم يعتمد عليه في حكم مصر.

ص: 28

المبحث الثاني خصائص الاقتباس

خصائص الاقتباس تكون على قسمين:

أ- خصائص دلالية .

ب- خصائص فنية.

أ- الخصائص الدلالية للاقتباس :

التي تمثل إضاءة لصور الاقتباس وعمقها، والمتحقق بفعل عرض خصائصها التي استهدفت المنح الدلاليَّة لبنى الاقتباس في النصوص، وتجلّى في بعض الخصائص التي انطوت تحت جناح المستوى الدلالي وهي:

ص: 29

1- تغيير المفردة تبعا لمقتضى السياق:

المفردة القرآنية مقدسة عميقة الدلالة، ولها تأثير في نفس المتلقي، لها قدرة على بث المعاني والدلالات المكتنزة فيها، وحملها للمعاني التي يطول شرحها، فإذا أراد المتكلم الاعتيادي التعبير عن مثل هذه المعاني التي أرادها القرآن لم يصل بغيته إلا بلفظ حول توضيحها في كلام الأئمة (علیه السلام) کا جاء في نهج البلاغة والصحيفة السجادية.

ومن أمثلة ذلك نجد في عهد الإمام علي (علیه السلام) المالك الأشتر في الإنصاف لله وللناس من نفسه ومن خاصة أهله، ومن له فيه هویً من رعیته، وإن لم يفعل يظلم، وإن الله تعالى للظالمين بالمرصاد: (أأَنْصِفِ اللهَ وَ أَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِکَ، وَ مِنْ خَاصَّةِ أَهْلِکَ، وَ مَنْ لَکَ فِيهِ هَوًى مِنْ رَعِيَّتِکَ، فَإِنَّکَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ؛ وَ مَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهِ کَانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ، وَ مَنْ خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ، وَ کَانَ لِلَّهِ

ص: 30

حَرْباً حَتَّى يَنْزِعَ أَوْ يَتُوبَ. وَ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إِلَى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللهِ وَ تَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَة عَلَى ظُلْم، فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ دَعْوَةَ الْمُضْطَهَدِينَ وَ هُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ)(1).

نجد الإمام (علیه السلام) قد اقتبس مفردة (بالمرصاد) من قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ »(2) إنَّ معنی قول الإمام (علیه السلام) جاء في حكم الظالم وجزاءه عند الله سبحانه وتعالى، فكان الله له بالمرصاد.

فقد جاء المقتبس منسجماً والسياق العام للعهد، وذلك أن الله سبحانه كان بصدد الكلام عن فرعون ذي الأوتاد«وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10)الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12)فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)«إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)»(3) وهذه صفات الظالم المكثر للفساد وما الله إلا له بالمرصاد.

ص: 31


1- الإمام علي (علیه السلام)/ نهج البلاغة / 3/ 85
2- الفجر:14
3- الفجر: 10-14

ومن ذلك أيضا قوله (علیه السلام) في الحديث عن

مصداق من مصاديق العمل الصالح الذي حبَّ واِلَيهُ مالك عليه وهو (شح النفس) في قوله (علیه السلام): (ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالِكُ أَنِّي قَدْ وَجَّهْتُكَ إِلَى بِلَادٍ قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ مِنْ عَدْلٍ وَ جَوْرٍ، وَ أَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ فِي مِثْلِ مَا كُنْتَ تَنْظُرُ فِيهِ مِنْ أُمُورِ الْوُلَاةِ قَبْلَكَ وَ يَقُولُونَ فِيكَ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِيهِمْ، وَ إِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحِينَ بِمَا يُجْرِي اللَّهُ لَهُمْ عَلَى أَلْسُنِ عِبَادِهِ. فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَامْلِكْ هَوَاكَ وَ شُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ، فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الْإِنْصَافُ مِنْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ أَوْ كَرِهَت)(1). فاقتبس الإمام (علیه السلام) مفردة الشح) من قوله تعالى :«وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ

ص: 32


1- نهج البلاغة / 3/ 83

وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ »(1).

والشح بالنفس هو البخل بها عن الوقوع في غير الحل، فليس الحرص على النفس إيفاءها كل ما تحب ، بل من الحرص عليها أن تحمل على ما تكره إن كان ذلك في الحق ، فرب محبوب يعقب هلاكا ومكروه محمد عاقبة. 2- التنوع الدلالي بتغير مواقع الاقتباس

احتلت النصوص القرآنية في عهد الإمام (علیه السلام) مواقع مختلفة تبعا لاختلاف سیاقي الحال والمقال، فأفضت إلى هبات دلالية أمتاز بها كل موقع دون سواه كقوله (علیه السلام) في رد الأمور بعد التنازع إلى الله ورسوله( صلی الله علیه و آله وسلم): (واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور فقد قال الله تعالى لقوم أحب إرشادهم «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ

ص: 33


1- الحشر: 9

تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ »(1) فالرد إلى الله الأخذ بمحكم كتابه ، والرد إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة)(2)

إن نص كلامه (علیه السلام) في معرض رد ما يشتبه على الحاكم من الأمور إلى محكم كتاب الله وسنة نبيه ، وإن السياق جاء متوافقا مع النص القرآني: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا »(3)

والإمام علي (علیه السلام) يؤسس هنا لقاعدة قرآنية مهمة وهي إرجاع المتشابه إلى المحكم وليس عدم

ص: 34


1- النساء:59
2- الإمام علي (علیه السلام)/ نهج البلاغة / 3/ 93
3- النساء: 59

العمل به کايجد ذلك بعض العلماء)(1).

ومثله أيضا قوله (علیه السلام) في خلف الوعد: (وإياك والمن على رعيتك بإحسانك ، أو التزيد فيما كان من فعلك أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك ، فإن المن يبطل الإحسان، والتزيد يذهب بنور الحق ، والخلف يوجب المقت عند الله والناس، قال الله تعالى«كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)»(3)

فسياق الآية القرآنية تداخل مع سياق الوصية بحيث لم ينفصل أحدهما عن الأخر فجسدت الآية القرآنية مفهوم الوصية بأكملها من الدعوة إلى الوفاء بالعهد؛ ذلك أن عدم الوفاء والخلف به يوجب مقت الله وهو بغضه وسخطه .

ص: 35


1- ظ: الطباطبائي الميزان / 3/ 33 ، محمد باقر الحكيم/ علوم القرآن/ 204
2- الصف: 3
3- الإمام علي (ع) / نهج البلاغة / 3/ 109

3- التنوع الدلالي بتنوع الأساليب وتغير الاشكال

إنَّ الدلالة تبع للشكل والأسلوب عند القدماء، ويأتي هذا عبر السياقات المختلفة بدءاً من المفردة وانتهاء بالجملة، أخذت هذه الأساليب أشكالا عديدة في تنوعها، لتنعكس في قراءة نص العهد فيقتضي أضواءً متنوعة الدلالة والتعبير فكان الاقتباس الجزئي من الآية ودلالته في النَّص حضوراً بارزاً مع ما كان يستحضر جزءاً من الآية، لأنَّه كان تفعيلا وإنعاشا للنَّصّ لما يحمل من إشارات ودلالات مكثَّفة من عهده (علیه السلام) لواليه على مصر مالك الأشتر( رضی الله عنه ) كما في قوله (علیه السلام): (وَ أَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَ يَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ، فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ اللَّهُ) (1)فقد ختم كلامه بالكلمات القرآنية المقتبسة من قوله تعالى: «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ

ص: 36


1- نهج البلاغة / 3/ 83

إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ »(1)

كان نص العهد هنا هو أمر الإمام (علیه السلام) والَيهُ بکسر نفسه من الشهوات، وكفها عن مطامعها إذا جمحت عليه فلم تنقد لقائد العقل الصحيح و الشرع الصريح، وقد ضمنه جزءً من النص القرآني حول أمارة النفس بالسوء ليكون نصا متناسقا في الشكل والمضمون.

ب. خصائص الاقتباس الفنية:

تُعد اللغة وسيلة من أهم وسائل التّعبير عن الإحساس، وما يعتري النفس من خلجات، إلا أنَّها بجانب ذلك كلّه تغدو وسيلة فنية لها خصوصية جمالية عند الأديب المقتدر فتصبح ذات أثر وتأثير كبيرين في المتلقي ويختلف هذان الأمران من أديب

ص: 37


1- يوسف: 53

إلى آخر(1)، واللغة ليست مدلولا معنويا فقط إذ

ليس الشأن في إيراد المعاني وحدها، وإنما هو جودة

اللفظ ....)(2)

والخصائص الفنية سات كثيرا ما اتصفت بها

النصوص الدينية ، إذ هناك حميمية بين الغرض الديني والغرض الفني ، فيجعل منه وسيلة للتأثير والتمكين قصد الاستجابة ، والإذعان، ذلك أنَّ للإنسان جانباً وجدانياً فلا مناص من مخاطبة هذا الجانب بلغة النظر الفني وجماله(3) .

وانتظمت الخصائص الفنية للاقتباسات في أدعية الصحيفة السجادية في مستويين هما المستوى الموسيقي والمستوى البلاغي .

ص: 38


1- كاظم عبد فريح الموسوي / الاقتباس والتضمين في نهج البلاغة دراسة أسلوبية / 142.
2- أبو هلال العسكري/ الصناعتين / 65
3- ظ: كال أبو ديب / في البنية الإيقاعية للشعر العربي / 319

أ- المستوى الموسيقي :

يكشف لنا هذا المستوى أثر إيقاع الحروف والكلمات المقتبسة في النَّصّ وجماليته ، سواء أكانت تؤثر فيه أم هي التي تتأثر ، وأثر ذلك في المتلقی ، انطلاقاً من أنَّ اللغة لما كانت ظاهرة صوتية تختلف اختلافاً كلياً عن سائر الرموز الأخر غير اللغوية)(1).

فنجد الإمام (علیه السلام) في خطبه ورسائله الكثيرة في نهج البلاغة ومنها عهده إلى مالك الأشتر قد اقتبس الآيات القرآنية التي تلاءم الص، کما في قوله (علیه السلام) في أهمية النظر إلى عظم ملك الله وقدرته وذلك في خفض الجراح والنشوز، وإرجاع ماغاب من العقل، حيث قال: (وَ إِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةً أَوْ مَخِيلَةً فَانْظُرْ إِلَى عِظَمِ مُلْكِ اللَّهِ فَوْقَكَ وَ قُدْرَتِهِ مِنْكَ عَلَى مَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ، ف

ص: 39


1- محمد بو عامة / الصوت والدلالة - مجلة التراث العربي / عدد 85

َإِنَّ ذَلِكَ يُطَامِنُ إِلَيْكَ مِنْ طِمَاحِكَ وَ يَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ وَ يَفِيءُ إِلَيْكَ بِمَا عَزَبَ عَنْكَ مِنْ عَقْلِكَ (1)هنا اقتبس الإمام (علیه السلام) مفردة ( يفيء) من قوله تعالى: « فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ »(2)وقد اقتبس الإمام (علیه السلام) هذه المفردة لدلالتها على معنى الرجوع(3)، فجاءت في الآية الشريفة بمعنی (حتی ترجع إلى أمر الله)(4) وكذا في كلامه (علیه السلام) بمعنى ويرجع إليك ماغاب من عقلك.

ومعنی کلامه (علیه السلام) في نصيحته للأشتر: أنه إذا

ص: 40


1- نهج البلاغة / 3/ 85
2- الحجرات: 9
3- ظ: الفراهيدي / العين/ 8/ 407 ، أبو هلال العسكري / الفروق اللغوية/ 361، ابن فارس/ معجم مقاییس اللغة/ 4/ 435، الزمخشري أساس البلاغة / 735
4- ابن الأنباري/ الزاهر في معاني كلمات الناس / 446

أصابته العظمة والكبرياء، والخيلاء والعجب بسبب السلطة والحكم، فلينظر إلى ملك الله العظيم فوقه، وقدرته التي لا تدانی؛ لأن ذلك يخفض النشوز والجاح، ويكف الحدة، ويرجع ماغاب من العقل.

ب- المستوى البلاغي:

يتمحور هذا المستوى بالاهتمام حول محاولة

التَّعرُّف على نمط بعض الأساليب البلاغيّة التي ظهرت كخصائص دون سواها في عملية الاقتباس وليس الأمر معنياً بالوقوف عند التقسيمات البلاغية، وبعنواناتها المتعارف عليها، فالاهتمام ينصبّ على ما يتعلق بعملية الاقتباس أولاً، وبوضوحه كظاهرة بارزة ثانيا(1)، وقد أخذ الإمام (علیه السلام) صورا مختلفة تباينت أشكالها بقدر اغتراف الإمام (علیه السلام) من معين القرآن الكريم غير المحدود فقد استقى الفكرة

ص: 41


1- الاقتباس والتضمين في نهج البلاغة دراسة أسلوبية: كاظم الموسوي: 165

وتوسع في كلام على أساسها، فتارة يقتبس اللفظ ويوظفه في موقف آخر، وتارة أخرى يستعمل الشاهد القرآنّي بمعناه و مبناه أوكل ذلك يدل على مدى عمق المعرفة القرآنيَّة عنده (علیه السلام) حتّی انصهرت روحه فيها و اتصفت بها نتيجة ذوبانها .

ومن هذه الأساليب:

1- الابتداء : ابتداء الشيء وبه افتتحه قدمه في

العمل وفضله(1).

أشار علاء البلاغة إلى أنَّ الأديب يجدر به أن يتأنق في ثلاثة مواضع في كلامه حتی یکون أعذب لفظاً وأحسن سبكاً و أصح معنی؛ وهي الابتداء و التخلص و الانتهاء(2).

والابتداء أن یکون مطلع الكلام شعراً أو نثراً أنيقاً بديعاً لأنَّه أول ما يقرع السمع فيقبل السامع

ص: 42


1- ظ: لسان العرب: ابن منظور: 1/ 16
2- ظ: المعجم المفصل في علوم البلاغة: إنعام فوال عكاوي: 17

على الكلام ويعبه وإن كان بخلاف ذلك أعرض عنه ورفضه وإن كان في غاية الحسن(1). ومن أمثلة ذلك وصيته(علیه السلام) لمالك بالنظر في أمور عمّاله وتوسعة الرزق عليهم فقال: ( ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِمُ الاْرْزَاقَ، فَإِنَّ ذَلِکَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِصْلاَحِ أَنْفُسِهِمْ، وَغِنًى لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ، وَحُجَّةٌ عَلَيْهِمْ إِنْ خَالَفُوا أَمْرَکَ أَوْ ثَلَمُوا أَمَانَتَکَ)(2).

فقد اقتبس (علیه السلام) جزءً من الآية (20) من سورة لقمان واستهل به وصيته للأشتر؛ وهو قوله تعالى: «أ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً »(3) ففيه إجلاء كامل لفعل الإسباغ بالنعمة وتفصيلاً من حيث كونها ظاهرة وباطنة، والإسباغ هو التوسعة في الرزق وإكماله؛ لذلك أمر ( علیه السلام) واليّهُ به لأن فيه

ص: 43


1- ظ: معجم الاصطلاحات البلاغية وتطورها: أحمد مطلوب: 21
2- نهج البلاغة / 3/ 96
3- لقمان: 20

قوة لعماله على استصلاح أنفسهم وحجة عليهم إن

خالفوا أمره أو خانوا أمانته.

2- التذييل بالآيات والأسماء الإلهية :

التذييل من الذيل آخر كل شيء وذيل فلان ثوبه تذيلاً أي طوله(1) وهو (أن يذیل الناظم أو الناثر كلامه بعد تمام کلامه و حسن السكوت عليه بجملة تحقق ما قبلها من الكلام و تزیده توکيدة و تجري مجرى المثل بزيادة تحقيق )(2) ، إذا یکون التذييل المقصود من البحث في عهد الإمام (علیه السلام) هو اختتام الكلام بآية من الكتاب العزيز أو جزء من ألفاظ الآية أو مفردات قرآنية فنجد الإمام (علیه السلام) قد ذیّل مواضع قليلة من دعائه بآية قرآنية كاملة لكن في بعض الاقتباسات النَّصَّية المباشرة قد ذيّل بعض الفقرات من العهد بتلك النصوص

ص: 44


1- ظ: لسان العرب / ابن منظور: 260/11
2- المعجم المفصل في علوم البلاغة: إنعام فوال عكاوي: 300

القرآنية لذا نجد الغالب في استعمال الإمام (علیه السلام) هو التذييل بجزء من آيات القرآن الكريم فالإمام (علیه السلام) قد جعل الكلام القرآني موافقاً و خلاصة لما يعنيه من كلامه السابق وهذا الأسلوب يكثر في استعمالات القرآن الكريم . ومن ذلك ما استعمله (علیه السلام) في تذييل قوله: (إِيَّاکَ وَ مُسَامَاةَ اللهِ فِي عَظَمَتِهِ، وَالتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ، فَإِنَّ اللهَ يُذِلُّ کُلَّ جَبَّار وَ يُهِينُ کُلَّ مُخْتَال)(1).

فقد ذیّل کلامه (علیه السلام) باقتباس مفردتين قرآنيتين هما: جبار ومحتال، وذلك في قوله تعالى : «الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ »(2)، وقوله تعالى: «وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى

ص: 45


1- نهج البلاغة / 3/ 85
2- غافر: 35

وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا »(1). لقد اقتبس (علیه السلام) هاتين المفردتين وذيل بها كلامه لما يكتمل البيان بها، فهو (علیه السلام) في صدد التحذير عن مباراة الله سبحانه في عظمته، والتشبه به في جبروته ، ومن هذه فعاله وصفه بالجبار والمختال اللذان وصف الله تعالى بها من يجادل في آيات الله بغیر سلطان، ومن يشرك بالله ولا يحسن لوالديه وللفئات المذكورة في الآية.

ص: 46


1- النساء: 36

المبحث الثالث: وظائف الاقتباس في عهد الإمام

علي (علیه السلام) لمالك الأشتر

وظّف الإمام ما اقتبس من القرآن الكريم في نصوصه بطرق شتى عن طريق توظيف المعاني والدلالات والإشارات في الآية فاستحضارها لم يكن استحضاراً شكلياً بل هو توظيف دلالي و قصدية مرجوة و مبتغاة فلم يكن غرضه الأساس هو تزيين الشكل و إنمَّا الطلب المعنوي والشكل عنده يأتي عفوياً تابعاً للمعنی فالنَّصّ ليس عملاً إبداعياً فقط إنما هو (مدونة حدث كلامي ذي وظائف متعددة )(1).

ص: 47


1- تحليل الخطاب الشعري- إستراتيجية التناص: محمد مفتاح: 120

ويدرك المتلقي لنصوص العهد الغرض الوظيفي المتعدّد الجوانب و الناتج عن تفعيل الخزين المعنوي للنصوص المقتبسة فيها ولا تقل أهمَّيَّة الوظيفة عن أهمَّيَّة الإبداع باعتباره استثماراً لذلك الإبداع و يشمل المبحث نوعين من المستويات الوظيفية: المستوى الدلالي والمستوى الفني و بيان ما لهذين المستويين من أقسام و فروع .

أولا - الوظائف الدلالية :

يسلط الضوء في هذا المستوى على أبرز الاتجاهات الرئيسة في التَّوظيف الدَّلاليّ و المتمثل في أناط وظيفيَّة هي: وظيفة النصح والإرشاد ووظيفة المعاهدة .

1- وظيفة النصح والإرشاد:

إن أكثر ما يتسم به عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر هو وظيفة النصح والإرشاد، إذ جاء العهد كله بصيغة النصيحة عن طريق وصية؛ ذلك أنه كان وصية لحاكم مما يستلزم أن تكون نصوصه عبارة عن

ص: 48

نصح وإرشاد فيما يخص الحاكم والمحكوم والدولة، فنجد العهد قد شمل في النصيحة السلطات التي أسندها الإمام (علیه السلام) لمالك وهي: جباية الخراج وتعني الوظائف المالية والميزانية وخزينة الدولة، وجهاد العدو ويعني السياسة الخارجية والتعامل مع الدول الأخرى، واستصلاح الأهل ويعني السياسة الداخلية، وعمارة البلاد وتعني التنمية الاقتصادية .

أما السلطة الأولى فمنها أنه (علیه السلام) أوصى مالكاً بعدم إدخال البخيل في مشورته بقوله: (وَلاَ تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِکَ بَخِيلاً يَعْدِلُ بِکَ عَنِ الْفَضْلِ وَ يَعِدُکَ الْفَقْرَ، وَلاَ جَبَاناً يُضْعِفُکَ عَنِ الاُْمُورِ، وَلاَ حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَکَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ؛ فَإِنَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَالْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى، يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ)(1) .

وقد اقتبس (علیه السلام) في شأن البخل من قوله تعالى :

«الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ

ص: 49


1- نهج البلاغة / 3/ 87

فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ » (1)كذلك قوله تعالى :

«الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ »(2).

فنصيحة الإمام هنا بأن لا يدخل الحاكم في مجلس مشورته بخي" يعدل به عن الإحسان بالبذل ويخوفه من الفقر لو بذل؛ لأن من يخوّف من الفقر هو الشيطان كما جاء في الآية الشريفة. فالإمام (علیه السلام) قد جمع في وصيته مفاد نصّين قرآنيين أحدهما يتمم الآخر في الموضوع، وهذا ما يطلق عليه بالمنهج الموضوعي في أحد مجالاته وهو (المقالة التفسيرية).

أما السلطة الثانية - السياسة الخارجية - سوف نبحثها في الوظيفة التالية. وأما السلطة الثالثة سوف نبحثها في الوظائف الفنية.

ص: 50


1- الحديد: 24
2- البقرة: 268

2- المعاهدة:

العهد هو: (الوصية والتقدم إلى صاحبك بشيء، ومنه اشتق العهد الذي يكتب للولاة ويُجمع على عهود، وقد عهد إليه يعهد عهد، والعهد: الموثق وجمعه عهود)(1) والعهدهو: الميثاق والذّمة والاتفاق الملزم لأطرافه ویستوثق به من تعاهده .

وقد ورد العهد كثيرا على لسان الإمام (علیه السلام) الأهمَّيَّته، كونه شرطا في تحقيق الوفاء بينه وبين

خالقه، أو من يجري معه العهد لا سيما مع الخصم، فقد استنكر الغدر ونكث عهود الأمان المعطاة للخصوم؛ لأن الوفاء بالعهود يقوي بطبيعة الحال حالة الاستقرار والأمن المتفشي بسبب عهد الأمان والصلح، كما أنه لا يسمح بأي خروقات.

قال الإمام (علیه السلام): (وَإِنْ عَقَدْتَ بَيْنَکَ وَبَيْنَ عَدُوِّکَ عُقْدَةً، أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْکَ ذِمَّةً، فَحُطْ عَهْدَکَ بِالْوَفَاءِ،

ص: 51


1- العين: الفراهيدي: 1/ 102

وَارْعَ ذِمَّتَکَ بِالاَْمَانَةِ، وَاجْعَلْ نَفْسَکَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَيْتَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرَائِضِ اللهِ شَيْءٌ النَّاسُ أَشَدُّ عَلَيْهِ اجْتِمَاعاً، مَعَ تَفَرُّقِ أَهْوَائِهِمْ وَتَشَتُّتِ آرَائِهِمْ، مِنْ تَعْظِيمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ. وَقَدْ لَزِمَ ذَلِکَ الْمُشْرِکُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا اسْتَوْبَلُوا مِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ؛ فَلاَ تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِکَ، وَلاَ تَخِيسَنَّ بِعَهْدِکَ، وَلاَ تَخْتِلَنَّ عَدُوَّکَ، فَإِنَّهُ لاَ يَجْتَرِئُ عَلَى اللهِ إِلاَّ جَاهِلٌ شَقِيٌّ. وَقَدْ جَعَلَ اللهُ عَهْدَهُ وَذِمَّتَهُ أَمْناً أَفْضَاهُ بَيْنَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ، وَحَرِيماً يَسْکُنُونَ إِلَى مَنَعَتِهِ، وَيَسْتَفِيضُونَ إِلَى جِوَارِهِ، فَلاَ إِدْغَالَ وَلاَ مُدَالَسَةَ وَلاَ خِدَاعَ فِيهِ. وَلاَ تَعْقِدْ عَقْداً تُجَوِّزُ فِيهِ الْعِلَلَ، وَلاَ تُعَوِّلَنَّ عَلَى لَحْنِ قَوْل بَعْدَ التَّأْکِيدِ وَالتَّوْثِقَةِ، وَلاَ يَدْعُوَنَّکَ ضِيقُ أَمْر لَزِمَکَ فِيهِ عَهْدُ اللهِ، إِلَى طَلَبِ انْفِسَاخِهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ؛ فَإِنَّ صَبْرَکَ عَلَى ضِيقِ أَمْر تَرْجُو انْفِرَاجَهُ وَفَضْلَ عَاقِبَتِهِ، خَيْرٌ مِنْ غَدْر تَخَافُ تَبِعَتَهُ، وَأَنْ تُحِيطَ بِکَ مِنَ اللهِ فِيهِ طِلْبَةٌ،

ص: 52

لاَ تَسْتَقْبِلُ فِيهَا دُنْيَاکَ وَلاَ آخِرَتَکَ)(1)وفي هذا المضمون جاء خطاب القرآن الكريم، والإمام (عليه السلام) في عهده يحاكي صفة الوفاء بالعهد، التي تُعدّ من الصفات الحميدة والمحبوبة عند الله تعالى، فقد جاء العهد والوفاء به في آيات كثيرة أورد البحث بعضا منها في المبحث الأول ضمن مشروعية المعاهدة.

ثانيا: الوظائف الفنية

يتعاضد التأثير الدلالي، والتأثير الفني في خلق الإفهام، والإمتاع عند المتلقي، ويمتزجان فيما بينها؛ اليوصلان إلى إضاءات تنير النص، وتكشف عن مضامینه، وتظهر جمالية بنائه باله من آثار صوتية، أو ترکيبية، أو تصويرية.

وينطلق الحديث في هذا المستوى من الحرف إلى الكلمة فالجملة، وما ينتج عنها من آثار بيانية،

ص: 53


1- نهج البلاغة / 3/ 106-107

وهذا يعني حتمية البدء بالتوظيف الصوتي؛ لما له من علاقة بالحرف والكلمة، مروراً بالتوظيف النحوي؛ لعلاقته بالجملة، ثم الوقوف عند التوظيف البلاغي؛ لعلاقته بالأثر البياني للجملة العربية، وما بين الجمل من علاقات سیاقية، ک(الصوتية والنحوية والبنية)(1).

ويتمحور (التوظيف الفني) حول توظيف الجملة العربية وما يعتريها من تغيرات تفضي إلى تغيير في الدلالات، وتمتد تلك التغييرات ليدخل في حيّزها كل ما تقدم ذكره من أحوال الجملة وما يستتبعه من أساليب بلاغية لها أثرها في العطاء الدلالي للجمال والنصوص.

ومثاله قول الإمام (عليه السلام): (وَلْيَکُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِکَ مِنْکَ وَأَشْنَأَهُمْ عِنْدَکَ، أَطْلَبُهُمْ لِمَعَائِبِ النَّاسِ؛ فَإِنَّ فِي النَّاسِ عُيُوباً الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا، فَلاَ تَکْشِفَنَّ

ص: 54


1- الاقتباس والتضمين في نهج البلاغة : 98

عَمَّا غَابَ عَنْکَ مِنْهَا، فَإِنَّمَا عَلَيْکَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَکَ، وَاللهُ يَحْکُمُ عَلَى مَا غَابَ عَنْکَ، فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ يَسْتُرِ اللهُ مِنْکَ مَا تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِيَّتِکَ)(1).

لقد استخدم الإمام (عليه السلام) هذه اللفظة (أشنأهم) التي تدل على البغض بصيغة اسم التفضيل (أَفْعَل)؛ وذلك لشدة البغض، كأن هناك حالات للبغض متساوية إلا أن أشدها هو ما ذكره الإمام (عليه السلام) فيها يخص أشد الناس طلبا للمعائب . وقد حوّل المفردة من صيغة اسم الفاعل کا وردت في قوله تعالى: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (2)إلى اسم التفضيل لشدة البغض.

ص: 55


1- نهج البلاغة / 3/ 87
2- الكوثر: 3

الخاتمة

بعد رحلة البحث في رحاب عهد الإمام علي (عليه السلام) المالك الأشتر (رضی الله عنه ) والاقتباسات القرآنيَّة فيه، يخرج البحث بمجموعة من النتائج هي خلاصة لما تناوله البحث في المواطن السابقة، وهي:

1- امتاز عهد الإمام علي (عليه السلام) بأن الإمام قد اتخذ فيه لنفسه منهجاً للبيان والإرشاد، فكانت نصوصه وثائق ثقافيَّة دينيَّة تعلم الناس أسلوب الرجوع إلى الله تعالى، وتلهب الروح، وتملأ القلب حبا لله وخشية منه عزَّ وجلَّ والتزاما بأحكامه.

3- كان الإمام (عليه السلام) حريصا على تبيين أهمية

القرآن في حياة الإنسان عن طريق الإرشاد والموعظة، فكانت أدعيته تتضمن اقتباسات قرآنيَّة

ص: 56

لها خصائص دلاليَّة وأخرى فنيَّة، فكانت الخصائص الدلالية تمثل إضاءة لصور الاقتباس وعمقها.

4 - القرآن الكريم يحمل قيمة معنويَّة عالية

وقداسة خطابيَّة، ولقداسته وجماله نجد نصوص الإمام (عليه السلام) مستوحية منه وذلك بتضمن آیات قرآنية فيكون الاقتباس تارة نصياً مباشراً، وتارة اقتباساً معنوياً، وهذه الاقتباسات أضافت للنصوص

جمالية كي يستمتع القارئ أو السامع للنص ويتأثر

به .

5- من خلال استقراء نصوص العهد تبين وبجلاء تركيز الإمام على وظيفة الحاكم وتعامله مع الرعية وفق السلطات التي أسندها الإمام له

ص: 57

المصادر والمراجع

خير ما نبتدئ به القرآن الكريم

1- أساس البلاغة/ الزمخشري / دار ومطابع الشعب

القاهرة / 1960م.

2- أنوار الربيع في أنواع البديع / علي صدر الدين ابن معصوم المدني / ط1 - النعمان/ النجف الأشرف / 1968م/ تحقيق: شاکر هادی شکر .

3- الإيضاح في علوم البلاغة / جلال الدين القزويني شرح وتعليق: محمد عبد المنعم خفاجي/ طه - منشورات دار الكتاب اللبناني - بيروت/ 1980م.

4 - تاريخ اليعقوبي / أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر

المعروف باليعقوبي / نشر: دار صادر-بيروت.

5- تحليل الخطاب الشعري-إستراتيجية التناص / محمد

مفتاح دار التنوير للطباعة والنشر / بيروت/ 1985م.

ص: 58

6- تصنیف نهج البلاغة / لبيب بيضون/ ط 3/ مرکز

النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي

حسن التوسل إلى صناعة الترسل / شهاب الدين

محمود الحلبي / تحقيق: أكرم عثمان يوسف/ دار الحرية بغداد/ 1987م .

7- الزاهر في معاني كلمات الناس / أبو بكر محمد بن

القاسم الأنباري | تعليق: يحيى مراد/ منشورات محمد علي بيضون - بيروت / ط1/ 1424.

8- شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد تحقيق محمد أبو

الفضل إبراهيم / منشورات مكتبة المرعشي

9- الصناعتين/ أبو هلال العسكري / تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي البجاوي / مطابع عيسى البابي - مصر.

10- علوم القرآن / محمد باقر الحكيم/ ط2/ مؤسسة

الهادي - قم/ 1417.

11 - العين / الخليل بن أحمد الفراهيدي / تح: مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي / ط 2/ مؤسسة دار الهجرة/1410.

12- الفروق اللغوية/ أبو هلال العسكري / تحقيق:

ص: 59

مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين - قم/ ط 1412/1

. 13 - الفوائد المشوقة إلى علوم القرآن وعلم البيان/ ابن

قيم الجوزية / القاهرة/ 1327.

14- في البنية الإيقاعية للشعر العربي / کال أبو دیب/

ط 2/ دار العلم للملايين/ 1981م.

15- القانون الدولي في الإسلام / عباس علي العميد الزنجاني / تعريب: علي هاشم الأسدي / ط 2/ مؤسسة الطبع والنشر التابعة الأستانة الرضوية المقدسة مشهد/ 1429.

16- لسان العرب/ أبو الفضل جمال الدين ابن منظور

ط1/ دار المعارف للمطبوعات - القاهرة

17- مالك الأشتر: سيرته والحضارة الإسلامية في عصره/ نجاح عبيد حسون/ أطروحة دكتوراه جامعة سانت کلمنت .

18- معجم المصطلحات البلاغية وتطورها/ أحمد مطلوب / مطبعة المجمع العلمي العراقي / بغداد/ 1981م.

19 - المعجم المفصل في علوم البلاغة/ إنعام فوال عكاوي/ مراجعة : أحمد شمس الدين / دار الكتب العلمية -

ص: 60

بیروت / 1996م .

20- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم محمد فؤاد عبد الباقي / ط 3/ منشورات ذوي القربی / 2004م.

21- معجم مقاییس اللغة/ ابن فارس بن زکریا تحقيق: عبد السلام هارون/ ط 1/ دار إحياء الكتب العربية / القاهرة / 1366.

22- الميزان في تفسير القرآن / محمد حسين الطباطبائي /

منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية - قم

23- نهاية الإيجاز في دلالة الإعجاز فخر الدين الرازي / تحقيق: إبراهيم السامرائي و محمد بركات حمدي/ دار الفكر للنشر والطباعة عمان/ 1985م.

26- نهج البلاغة/ مجموع ما اختاره الشريف الرضي من كلام سيد الوصيين علي بن أبي طالب (ع) / شرح: محمد عبده / ط 1 - النهضة/1412.

20- الوسيط في القانون الدولي العام / عبد الكريم علوان/ ط 4 / دار الثقافة للنشر والتوزيع- الأردن/ 2009م.

ص: 61

الرسائل الجامعية:

26- الاقتباس والتضمين في نهج البلاغة دراسة

أسلوبية / كاظم عبد فريح الموسوي / أطروحة دكتوراه كلية التربية جامعة البصرة/ 2005م.

الدوريات:

27 - التناص بين عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر والرسالة الخاصة (في نصيحة الملوك السعدي الشيرازي / صبيح مزعل جابر المالكي وعاد الدين عبد الرزاق العباسي / مجلة جامعة بابل - العلوم الإنسانية / مجلد22/ العدد 2/ 2014م

28 - الصوت والدلالة / محمد بوعمامة | مجلة التراث

العربي / العدد 85

ص: 62

المحتويات

مقدمة المؤسسة: ... 5

المقدمة : ... 9

المبحث الأول ... 13

أولا: المفهوم اللغوي والاصطلاحي للاقتباس ... 13

ثانيا: ماهية المعاهدة ومشروعيتها ... 16

ثالثا: نبذة مختصرة عن حياة مالك الأشتر ... 20

المبحث الثاني: خصائص الاقتباس ... 29

أ- الخصائص الدلالية للاقتباس: ... 29

ب - خصائص الاقتباس الفنية: ... 37

المبحث الثالث: وظائف الاقتباس في عهد الإمام

علي (ع) لمالك الأشتر ... 47

أولا – الوظائف الدلالية : ... 48

ثانيا: الوظائف الفنية ... 53

الخاتمة ... 56

المصادر والمراجع ... 58

ص: 63

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.