استراتيجية الحجاج التواصلي في عهد امير المؤمنين (علیه السلام) الى مالك الأشتر (رضی الله عنه) مقاربة تداولية
رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 4213 لسنة 2017
سلسلة دراسات في عهد الإمام على (علیه السلام) لمالك الأشتر (رضی الله عنه) (31) وحدة الدراسات اللغوية استراتيجية الحجاج التواصلي في عهد أمير المؤمنين (علیه السلام) الى مالك الاشتر (رحمه الله) مقاربة تداولية تأليف أ. د. علي كاظم المصلاوي أ. د. كريمة نوماس المدني
جميع الحقوق محفوظة العتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1439 ه - 2017 م العراق - كربلاء المقدسة - مجاور مقام علي الأكبر عليه السلام مؤسسة علوم نهج البلاغة هاتف: 07728243600 - 07815016633 الموقع الألكتروني: www.inahj.org الإيميل:
Info@ Inahj.org
ص: 1
رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 4213 لسنة 2017
ص: 2
سلسلة دراسات في عهد الإمام على (علیه السلام) لمالك الأشتر (رضی الله عنه) (31) وحدة الدراسات اللغوية استراتيجية الحجاج التواصلي في عهد أمير المؤمنين (علیه السلام) الى مالك الاشتر (رحمه الله) مقاربة تداولية تأليف أ. د. علي كاظم المصلاوي أ. د. كريمة نوماس المدني
ص: 3
جميع الحقوق محفوظة العتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1439 ه - 2017 م العراق - كربلاء المقدسة - مجاور مقام علي الأكبر عليه السلام مؤسسة علوم نهج البلاغة هاتف: 07728243600 - 07815016633 الموقع الألكتروني: www.inahj.org الإيميل:
Info@ Inahj.org
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم من عموم نعمٍ ابتدأها وسبوغ آلاء أسداها والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين محمد وآله الطاهرين.
أما بعد:
فإن من أبرز الحقائق التي ارتبطت بالعترة النبوية هي حقيقة الملازمة بين النص القرآني والنص النبوي ونصوص الأئمة المعصومين (علیهم السلام).
ص: 5
وإنّ خير ما يُرجع إليه في المصادیق لَحدیث الثقلين «كتاب الله وعترتي أهل بيتي» هو صلاحية النص القرآني لكل الأزمنة متلازماً مع صلاحيّة النصوص الشريفة للعترة النبوية لكل الأزمنة.
وما كتاب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) لمالك الأشتر (رحمه الله) إلا أنموذجٌ واحدٌ من بين المئات التي زخرت بها المكتبة الإسلامية التي اكتنزت في متونها كثيراً من الحقول المعرفية مظهرة بذلك احتياج الإنسان إلى نصوص الثقلين في كل الأزمنة.
من هنا:
ارتأت مؤسسة علوم نهج البلاغة أن تخصص حقلاً معرفياً ضمن نتاجها المعرفي التخصصي في حياة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) وفكره، متّخذة من عهده الشريف إلى مالك
ص: 6
الأشتر (رحمه الله) مادة خصبة للعلوم الإنسانية التي هي أشرف العلوم ومدار بناء الإنسان وإصلاح متعلقاته الحياتية وذلك ضمن سلسلة بحثية علمية موسومة ب (سلسلة دراسات في عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر (رحمه الله)، التي ستصدر بإذن الله تباعاً، حرصاً منها على إثراء المكتبة الإسلامية والمكتبة الإنسانية بتلك الدراسات العلمية التي تهدف إلى بيان أثر هذه النصوص في بناء الإنسان والمجتمع والدولة متلازمة مع هدف القرآن الكريم في إقامة نظام الحياة الآمنة والمفعمة بالخير والعطاء والعيش بحرية وكرامة.
وكان البحث الموسوم ب(استراتيجية الحجاج التواصلي في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضوان الله عليه) مقاربة تداولية) إحدى هذه الدراسات في الجانب اللغوي من
ص: 7
العهد، التي بينت أهمية الحجاج التواصلي في الخطاب العلوي، معتمدة التحليل التداولي للنصوص للوصول إلى المقاصد التي أراد الإمام عليه السلام إبلاغها عبر هذا العهد.
فجزى الله الباحثين خير الجزاء فقد بذلا جهدهما وعلى الله أجرهما، والحمد لله رب العالمين.
السيد نبيل الحسني الكربلائي رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة
ص: 8
بسم الله الرحمن الرحيم
إن اللُّغة لا تظهر خصائصها إلا من خلال (المنجز التلفظي) في سياق معين، فالتلفظ هو عبارة عن فاعلية اجتماعية تنشأ بين شخصين منتميين عضوياً الى مجتمع ما. هذا يقتضي ان يقع کل تلفظ في نمط إِطار معين أو اكثر يُطلق عليه (خطاب).
ومن هنا عرّف إميل بنفنست (-E Benvensite) الخطاب إنّه: ((كل تلفظ يفترضُ
ص: 9
متکلماً و مستعملاً، و عند الأوّل هدف التأثير على الثاني بطريقةِ ما)).(1)
ويحاولُ بنفنست أن يجسّد العلاقة التأثيرية بين مُنتجِ الخطاب ومتلقيه استناداً إلى طريقةٍ ما، وهذه الطريقة هي ما نطلق عليها مُصطلح (الأستراتيجية)، ويُقصد بها: ((مجموع عملیات المعالجة الموّجهة الى هدف، و الجارية عند وعي إنتاج الخطاب)).(2)
وكل محاولة للوصول الى أهداف معينة لا يتم إلا من خلال (فعل التلفظ) وهو فعل لغوي موجّه لشخص آخر تتضمنه خطة وأبعاد تأويلية وهذه العملية التفاعلية - الاجتماعية لا تتم إلا
ص: 10
من خلال وظيفة التواصل.
ولذا تُعدُ الوظيفة التواصلية من أهمّ وظائف اللّغة كونها تسمح لمستعمليها بالدخول في علاقات مع بعضهم بعضاً؛ فهي تكون غالباً متعلقة: ((بالبُعد الاجتماعي للمتخاطبين، وفيها يتمُّ تحديد زاوية المتكلم ووضعه، وأحكامه، وتشفيره لدور علاقته في المقام، وحوافز قوله لشيء ما في علاقته مع المخاطب)).(1)
ويرى علماء اللسانيات، ولعل من أبرزهم في هذا المجال هو العالم اللساني فيليب بروتون، أن الحجاج هو من أبرز أشكال التواصل مع الآخر من أجل التأثير، وهذا التأثير ينتجُ من
ص: 11
خلال استعمال وسائل مختلفة، وذلك في قوله: ((الحجاج وسيلة قوية يهدفُ الى تقسيم وجهة النظر مع الغير، الذي يمكن ان تكون نتائجه التأثير؛ مُستَبعِداً ممارسة العنف، مستعيناً بالإغواء أو البرهنة العلمية)).(1)
فالحجاج التواصلي يمثلُ دراسة العلاقة بين مصطلحي أو مفهوميّ (الحجاج) و (التواصل) عبرَ دراسة أثرهما في الاستعمال التداولي، أي اننا ندرس الحجاج بعدهِ لغة تداولية - اقناعية، ولذا عُرّف الحجاج بأنه: ((حاملٌ نصیٌّ من مكونات مختلفة تتعلق بمقامٍ ذي هدف اقناعي)).(2)
ص: 12
والتواصل هو الفاعلية الاجتماعية بين أطراف هذا التواصل، وقد عدّ دايفيد لوبيس التواصل انتاجاً وتأويلًا للمعطيات، فهو إجراء يضعُ طرفين في معالجة المعلومة، ولهذا سُميّ منوالاً استدلالياً زيادة على صفة الإفادة التي تلازم الحدث التواصلي بعده مبدأً مركزياً لتحقيق نجاعة الملفوظ.(1)
فعملية التواصل التي تشمل أطراف مستعملي اللَّغة التداولية كل من: المرسل والمرسل إليه، والرسالة، والسياق. وهنا تكمن أهمية المنهج التداولي في احتوائِهِ أطراف العملية التواصلية، فدراسة العلاقة التخاطبية بين مستعملي هذه العلامات اللغوية يعني الجمع بين جانبين مهمين هما: التواصل والتفاعل، ولذا يُعدّ الحجاج عنصراً
ص: 13
مهماً وشكلاً من أشكال التواصل والتخاطب.
فهو: ((ظاهرة اجتماعية وثقافية له علاقة بالاستدلال والمنطق ومحایث لنظام اللغة الداخلي، ومنفتح على العالم الخارجي، ومرتبط بدواعي القول)).(1)
وتقومُ العملية التواصلية بحسب تصوِّر جاكسبون على ستة عوامل هي (المرسل، الرسالة، المرسل اليه، السُنن المرجع، والقناة)، وكل عنصر تقابله وظيفة معينة (التعبيرية، الانتباهية، الإِفهامية، المرجعية، وظيفة ما وراء اللغة، و الوظيفة الشعرية).(2)
وتجدر الإِشارة إلى أن السياقات القائمة على
ص: 14
التواصل في الخطاب الحجاجي متنوعة ومتعددة، فهذا يستتبع بالضرورة تنوعاً في الاستراتيجيّات، فما يكون مناسباًة في سياق معين قد لا يكون كذلك في سياق آخر، وهكذا تأخذ الاستراتيجية بُعدين(1)
الأوّل: البُعد التخطيطي: وهو الذي يتحقق على مستوى الذهني.
الثاني: البُعد المادي: وهو الذي يتحقق على مستوى الفعل مجسداً الاستراتيجيّة.
ویری د. طه عبد الرحمن أنه كلما كان الحجاج تواصلاً، فاننا نحصل على ثلاثة نماذج تواصلية للحُجة وهي على النحو الآتي:(2)
ص: 15
تكون فيه الوظيفة التواصلية للحُجة وظيفة وصل، إذ يُعامل الحُجة معاملة البناء الاستدلالي المستقل الذي تكون عناصر موصولة وصلاً
وتكون فيه الوظيفة التواصلية للحُجة وظيفة إيصال لانه يجعل من الحُجة فعلاً استدلالياً يتوجه به المتكلم الى المستمع.
تكون فيه الوظيفة التواصلية للحُجة وظيفة اتصال، اذ يُنظر في الحُجة بوصفها فعلاً مشتركاً، بين المتكلم والمستمع، جامعاً بين توجيه الأوّل،
ص: 16
وتقويم الثاني.
وهذا يدلُّ على سعة العملية التواصلية للحجاج وعمقها وشموليتها ليشمل كل هذه الأطراف. فأنجع الحجاج ما وفِّق في جعل حدَّة الاذعان تقوی درجتها لدى المتلقي او المستمع بشكل يحمله على المطلوب انجازه، أو الامتناع عنه، وتحقيق الإقناع في منطقة وسطی بین الاستدلال والإقناع.(1)
وإذا كان الإقناع مجال البحث الحجاجي، فان التواصل هو الفعل الانجازي الأهم في الوظيفة الحجاجية حيث تتطلب وعياً بآليات من شأنها تحريك المعنيين بالكلام صوب الفعل وتغييره بما ينسجمُ مع المقام، وتتطلبُ مقاصد النصّ وطموحات الخطيب بوصفهِ مفكراً وحاملاً
ص: 17
لرؤية معينة يسعى الى إرسالها أو جعلها راجحة في مواجهة أخرى مناوئة.(1)
وتجسدّ في خطاب أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) الى مالك الأشتر حين ولاه على مصر، استراتيجيّات عدة أهمها، وأكثرها حضورا، الاستراتيجية التضامنية، والاستراتيجية التوجيهية.
ص: 18
وتُعرفّ بأنها: ((الاستراتيجيّة التي يُحاولُ المرسل فيها أن يجسّد درجة علاقته بالمرسل إليه ونوعها، وإن يعبر عن مدى احترامه لها ورغبته في المحافظة عليها أو تطويرها بإزالة معالم الفروق بينهما ... والتقرب من المرسل إليه وتقريبه)).(1)
وفيها يكون طرف العملية التواصلية (المرسل - المرسل إليه) من الأقران لغة لتأسيس العلاقة الودِّية بين طرفي الخطاب، ولتفعيل التضامن في علاقات المجتمع وكسب المحبة
ص: 19
والتودد بينهم وبين حاكمهم، وتحسين صورة الخلفية أو راعي الرعية.
وتتجسد الاستراتيجيّة التضامنية من خلال علامات لغوية معينة تشير الى رغبة المرسل في التضامن مع المرسل إليه، مما يجعله يستنتج انَّ المرسل قدّم تنازلات عن سلطتِهِ التي يتمتع بنفوذها.(1)
وتُعدُّ هذه العلامات اللغوية من الوسائل اللسانية التي يجعلها المرسل علامة لتوجيه الخطاب الى المرسل إِليه من الناحية النفسية والاجتماعية، وهذه تشملُ (الضمائر، الأسماء، الاعلام، الألقاب، الكُني)، التي تمثلُ كلاً من علامات التضامن بين طرفي الخطاب.
ولعل من أبرز الأمثلة التي تضمنت الاستراتيجية التضامنية في كتاب الإمام أمير
ص: 20
المؤمنين (عليه السلام) الى مالك الأشتر قوله (عليه السلام):
((ثم أعلم يامالك، أنَّي قد وجهّتك الى بلادٍ قَد جرت عليها دُولٌ قبلك بين عدلٍ وجورٍ، وإنّ الناس ينظرون من أمورك في مثل ماکنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك ويقولون فيك ماكنت تقول فيهم، وإنما يُستدلُّ على الصالحين بما يجري اللهُ لهم على ألسنِ عباده)).(1)
إنَّ من شأن هذه الاستراتيجيّة ان تساوي بين درجات أطرافه وإنَّ تقلّص المسافات المتباعدة بين النفوس، فتؤثر في طبيعة العلاقة الاجتماعية بين الطرفين، وهنا تحقق للتضامن سمته الغالبة في الاحترام و التهذيب والتودد لكسب الطرف الآخر، وقد برز هذا النوع في الخطاب التضامني لأمير
ص: 21
المؤمنين (عليه السلام) الى مالك حين بدأ قوله ((واعلم يامالك ...،) فتوظيف الاعلام من آليات الحوار التضامني المتسم بالتخلق والتواضع من دون اعتبار للسلطة العُليا التي يتمتعُ بها.
فيقول (عليه السلام): ((يامالك، وانَّ الناس ينظرون إليك في مثل ما کنت تنظر اليهم، وانما يستدل الله على ألسن عباده على الصالحين)).
كلها علامات إشارية تجسد درجة التضامن من التعامل الأخلاقي: ((لان للتعامل الأخلاقي الأولوية في الاستراتيجيّة التضامنية، وهذا ما يسميه طه عبد الرحمن ب (التخلّق)).(1)
ومن أمثلة الاستراتيجيّة التضامنية أيضاً ما ورَدَ في كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) بما یخصُّ الجنود الذين هم أساس السلطة وحُماة الرعية، إذ
ص: 22
کتب (عليه السلام):
((وليكن آثُر رؤوس جندكَ عندكَ مَن واساهم في معونِتِه، و أفضلَ عليهم من جدَّتِهِ، بما يسعهم ويسع من ورائهم من خلوف أهليهم حتّی یکون همّهم همَّاً واحداً في جهاد العدوِّ، فإن عطفك عليهم يعطفُ قلوبهم عليك، وانَّ أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدلِ في البلاد ...)).(1)
ففي الخطاب اعلاه يظهرُ حرص الإمام (عليه السلام على البُعد التضامني في التخاطب، والاشارة الى أهمية هؤلاء الفئة (الجنود) والاهتمام بهم والتضامن معهم، لانهم يشکِّلون العمود الفقري لبناء الدولة وحماية أمنها واستقرارها، ففي هذا الخطاب التضامني تبرز كفاءة المحاجج وغايته في بناء خططه القولية ورؤيته المنهجية لقيام دولة
ص: 23
اسلامية صحيحة الأسس.
ويظهر ذلك البُعد التضامني في العلامات الإشارية بقوله (عليه السلام): ((حتی یکون همهم هماً واحداً في جهاد العدوّ، فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك، وان أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل)). ومن هنا أصبحت العبارة الأخيرة في الخطاب الحجاجي اعلاه نتيجة حجاجية لتجعل السلطة أداة حجاجية ناجعةً في نجاح المجمع، وهذه العلامات الاشارية: ((تُعدُّ تقنيات حجاجية وكيانات مجردة يشغلها المحاجج بجملة من القيم والحقائق حتى تصبح فاعلة في الخطاب الحجاجي موجهة حركته)).(1)
ثم يختتمُ الإمام (عليه السلام) كتابه الى مالك
ص: 24
الأشتر بدعوته التضامنية التي يبين فيها مدى حبه لصاحبه مالك بعيداً عن أمور السلطة والدنيا التي يرجو بها رضا الله (سبحانه) اذ يدعو بقوله (عليه السلام): ((وأنا أسألُ اللهَ بسعةِ رحمتِهِ، وعظيم قُدرتِهِ على إعطاء كل رغبة، أن يوفقني وإياك لما فيه رضَاه من الإقامة على العُذر الواضح وإليه والى خلقِهِ)).(1)
ولعل من أبرز الآثار الإيجابية التي دعت إليها الاستراتيجيّة التضامنية هو درجة التآلف وتطابق الشعور والأهداف والتفكير، وهذا ما تبلور في خاتمة رسالة أمير المؤمنين (عليه السلام) الى مالك الأشتر حين خاطبه بهذا الخطاب الذي يبرز فيه دلالته القريبة، وتقوّي أسباب الانتفاع العاجل به، لنفسهِ ولمخاطبِه، ومعلوم انَّ كل تبادل بين
ص: 25
طرفين يكون مبناه أساساً على سعي كل منهما تحقيق أغراض تكون مشتركة أو متساوية ...(1)
ولذا كان من أهداف هذه الاستراتيجيّة ومسوغاتها هو تأسيس الصداقة بين طرفي الخطاب، والعمل على تمرير العلاقة بين طرفين لهما علاقة دائمة، ونحن نعلم مدى العلاقة الطيبة بين الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وبين مالك الأشتر فهو صاحبه في الحروب وفي السّراء والضّراء ولذا قيل: ((ان التضامنية هي السبيل اإلى الصداقة، حيث تماثل ما ندعوه بالألفة)).(2)
ص: 26
وهي النوع الثاني من أنواع الاستراتيجيّات التخاطبية وتُعرف بأنها: ((الاستراتيجيّة التي يرغب المرسل بها بتقديم توجيهات ونصائح وأوامر ونواهي، يُفترض أنها لصالح المخاطب أو المرسل إليه)).(1)
وتجدر الإشارة الى أنَّ القيم التوجيهية بكل مسوغاتها لاتُعدُّ أفعالاً لغوية فحسب، وأنما تُعدُّ من وظائف اللغُّة التي تُعنى بالعلاقات الشخصية بحسب تصنيف هاليداي، اذا يُعدُّ اللغة هي ((تعبير عن سلوك المرسل وتأثيره في
ص: 27
توّجيهات المرسل إليه وسلوكه)).(1)
ويمكن القول ان في دراسة الاستراتيجيّة التوجيهية اتجاهين مهمين:(2)
الاتجاه الأوّل: يهتمُّ بالدراسات التي تحضُّ على التأدّب، ويمثله كل من (لتيش وروبين لاكوف، وبراون وليفنسون).
الاتجاه الثاني: ويهتم بالدراسات التي تبينُّ كيفية التلفظ بالخطاب وفقاً للتوجيهية مع عرض بعض آلياتها وأدواتها، ومَن مثّل هذا الاتجاه هو كل (جرایس وسيرل و براون وليفنسون وباخ).
وقد صنَّف ((باخ)) الأفعال التوجيهية ضمن الأصناف الأربعة التي حدَّدها للأفعال الكلامية
ص: 28
وهي الأفعال التقريرية أو الوصفية والتوجيهية والالتزامية وأفعال التعبير عن المشاعر، وتشملُ الأفعال التوجيهية عند باخ الأصناف الآتية:(1)
1. الطلبات: وتأتي على شكل سؤال أو تضرّع أو توسل أو مناشدة أو إلحاح أو دعوة، أو طلب، أو حثّ، أو استدعاء، أو ابتهال أو حجاج.
2. الأسئلة: وتأتي في الأمور الآتية (السؤال، الاستعلام، الاستجواب، التشكك).
3. المتطلبات: وتمثل (العرض، التكليف، الأمر، الطلب، الارشاد، المنع، التعليم، الغرض).
ص: 29
4. التحريمات: وتمثل (المنع، الحظر، التحريم، التقييد).
5. أفعال النصح: وتأتي على أشكال منها (الحثّ، النصح، التحذير، الاقتراح، الإنذار، التوصيات).
وقد مثلَّت الاستراتيجيّة التوجيهية حضوراً مكثفاً في رسالة أمير المؤمنين (عليه السلام) الى مالك الأشتر بتنوع وحضور أفعال الأمر والتوجيه والحث والطاعة والارشاد والنهي والالتزام بأوامر الله، ووصايا رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) والنهي عن الأمور الدنيوية.
وقد صنفَّ العلماء المرسل إليه عند استعمال هذه الاستراتيجيّة صنفين، المرسل إِليه (المتخيل) وهنا يكون المرسل على معرفة مستقيمة بالمرسل إِليه ويمتاز الخطاب في هذه الحالة بالعموم
ص: 30
والديمومة والمناسبة لكل وقت.
أما الصنف الثاني فهو المرسل إليه الحاضر عند التلفظ بالخطاب هنا قد يكون الخطاب او التوجيه مقتصراً عليه، والسبب في ذلك هو ضيق السياق الذي يدور فيه الخطاب. مما يعطي للفعل التوجيهي قوته الإنجازية هي (سلطة المرسل).
وقد يعتبر الفعل الإنجازي - التوجيهي من خلال نتيجته إلزاماً للمرسل إليه لأنه خاضع السلطة المرسل؛ لان الأفعال التوجيهية قائمة على علاقة سلطوية بين المرسلُ المرسل إليه، والسلطة في هذه الحالة هي مؤشر لنجاح هذه الأفعال.
ص: 31
أن الخطاب الأمري يستندُ عموماً الى الإيعازات الاستدعائية التي يُطلقها المخاطب تعبيراً عن الوظيفة الإفهامية والإدراكية (الطلبية) التي تمنحه طاقة وهيأة تأثيرية يخضعُ لها المُخاطَب بوصفِهِ المحور الثاني في العملية التخاطبية والمستجيب قولاً وفعلاً للإيعازات الصادرة من المخاطِب الذي يمثلُّ المحور الأول في العملية التخاطبية ذاتها، وبذلك يتأصّل الخطاب الأمري بعقد آصرة تواصلية بين الطرفين بحيث يشترطُ في الطرف الثاني الوجود الحضوري لإتمام الحلقة الحوارية التخاطيبة مما يُعينُ على فهم العلاقات الأكثر عمومية بين الطرفين.(1)
ص: 32
وعُرّف الأمر بأنَّه: ((صفِة تستدعي الفعل، أو قول يُنبئ عن استدعاء الفعل من جهة الغير على جهة الاستعلاء)).(1)
وقد أظهرَ لنا استقصاؤنا لصيغ الأمر بأنواعها في كتاب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الى مالك الأشتر میلاً واضحاً نحو هذه الأفعال الأمرية وتوظيفها في سياقات توجيهية مختلفة.
وقد مثَّلت صيغ الأمر الصريحة المباشرة حضوراً فاعلاً وتوجيهياً عِبرَ تلك الرسالة الموجهة الى مالك الأشتر، وتتدرج غايات هذه الأفعال الأمرية بالتمسك بعبادة الله ورضاه وكسر شهوات النفس، والإرشاد والتوجيه والاهتمام بطبقات الرعية واختلاف مستوياتهم.
ص: 33
ومن أمثلة ذلك، ما بدأ به الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتابه الى مالك الأشتر حين ولاه مصر، بمجموعة أوامر توجيهية، وهذه الأفعال الأمرية بصيغها المتنوعة عبّرت عن مکنونات الخطاب الحجاجي ومقاصده الدلالية - التوجيهية إذ كتب (عليه السلام): ((أَمَرهُ بتقوى الله، وإِيثار طاعته، واتّباع ما أمرَ به في كتابِهِ من فرائضِهِ وسُنِنِه التي لا يُسعد أحدٌ إلاَّ باتباعهِاِ، ولا يشقَىَ إلاّمَعَ جحودِهِا وإضاعتها)).(1)
تُفصح الرسالة في بنيِتِها الاستهلالية على مقدمات حجاجية متمثلةً بأفعال الأمر الإيعازية - الصريحة (المباشرة) لتوجيه الوالي في الالتزام بطاعة الله (سبحانه) والعمل بفرائضِهِ وكتابه وسنِنِه وبمخالفتها یکون الخسران والشقاء.
ص: 34
وهذه الحجة الكبرى التي تُبني عليها أسس الدولة الصحيحة وإدارة أمور الرعية بالعدل والتقوى ورضاء الله والبُعد عما يُغضبه، انَّ هذه الأوامر الإيعازية تمثلُ سلطة حجاجية على المتلقي فهي استراتيجية توجيهية - إقناعية يمارسها الباث على المتلقي.
ثم تبدأ القوة الإنجازية لأفعال الأمر الأخرى لأنَّها تستند عليها الحجة الكبرى التي استهّل بها مقدمة كتابه (عليه السلام)، إذ قال: ((وأمرهُ أن يكسر نَفسَهُ من الشهواتِ، وينزعَهَا عند الجمحات، فانَّ النفسَ أمَّارةٌ بالسوء الا ما رحم الله)).(1)
وهنا تبدأ العملية التخاطبية ضمن هذه
ص: 35
الاستراتيجيّة في التواصل مع (الذات) في السيطرة على هواها وقمع شهواتِهِا والابتعاد عما لا یُرضي الله (سبحانه)؛ فهذه الحجة ضمن هذا الفعل التوجيهي، يحيل بالضرورة الى مجموعة أهداف منطقية يترتب عليها أمور كثيرة، وفي ذلك تعظيم الدولة والوقوف على الأسس القويمة التي يتحققُ بها أمن الرعية وسلامتهم واستقرارهم.
ثم نلحظ توالي أفعال الأمر الإنجازية والربط بين المقدّمات والآليات الحجاجية، التي سهَّلَت وظيفة المُحاجج.
فمن حُجية السلطة، ما أورده أمير المؤمنين (عليه السلام) في قولِهِ: ((فاعطهم من عَفوِكَ وصَفحكَ مثل الذي تُحبُّ أَن يُعطيكَ اللهُ من عفوه وَ صفحِهِ، فإنك فوقهم، ووالي الأمر
ص: 36
عليك فوقَكَ، واللهُ فوق مَن ولاّك ...)).(1)
إذ يتجلى واضحاً مفاد الحُجة التوجيهية في الفعل الأمر واعطهم في نسق لغوي يعكسُ ترنماً وفضاء حجاجياً يمتدُ نحو الخضوع والإنصات لتلك الأوامر التي احتلت مساحة واسعة بين مفردات الرسالة، وقد أدت فضلاً عن كونها صيغ أمر صريحة صدرت من سلطة (عليا) (الحاکم) الى (الوالي) وظيفة دلالية في انتاج معنى النصَّ، فنحن ((عندما نتكلمُ عن العلاقات الدلالية بين الجمل لتتابع ما؛ فإنَّ المقصود في النتيجة هو وجود علاقات بين معاني هذه الجمل أو الأفعال و مراجعها)).(2)
ثم نراه في رسالته (عليه السلام) يدعم الحجج
ص: 37
المتقدمة بحجة فعل انجازي أكبر في قوله (عليه السلام): ((أنصفِ الله؛ وأنِصفِ الناسَ من نفسكَ، ومن خاصةِ أهلكَ، ومن لكَ فيه هوىً من رعيتك، فإنك إلاَّ تفعل تظلم،...)).(1)
إذ نجد ان الإمام (عليه السلام) يوظَّف الحجج القائمة على العلاقات التواصلية مع الله (سبحانه - وتعالى)، ومع الناس (الآخر) ومع النفس (الذات)، اذ افتتح تلك الأوامر التوجيهية والوصايا بصيغة (فعل الأمر الصريح) التي شكلت سلسلة من الترابطات النسقية، أفصحت عن دلالات وأحداث مطابقة لمتطلبات الموقف بما يوحي باستكناه البنية العميقة للنصّ الحجاجي؛ لان فعل الأمر في أصله لا يصدر إلاَّ ممَّنَّ كان الأمر فيه أقوى وأعلى من المأمور.(2) وموجهة الى المتعلق
ص: 38
مأمور وجبَ عليه تنفيذ الأوامر والوصايا.
ويوظَّفَ أمير المؤمنين (عليه السلام) الأسلوب الخبري مع الفعل الأمري لإنجاز الاستراتيجيّة التوجيهية، وذلك مما نراه في مقاطع كثيرة من الرسالة، إذ كتب (عليه السلام): ((وأعلم أن الرعيةَ طبقاتٌ لا يصلح بَعضُها إلاّ ببعض، ولاغنى ببعضها عن بعضٍ، فمنها جنودٌ الله، ومنها کُتَّابُ العامّةِ والخاصة، ومنها قُضاةُ العدل، ومنها عُمّال الانصاف والرفقَ، ومنها أهل الجزية والخراج، ومنها أهل الذمة، ومسلمة الناس، ومنها التجّار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السُّفلى من ذوي الحاجات والمسكنة، وکُلاَّ قد سّمی الله سهمه)).(1)
انَّ قيمة التخاطبية للنصّ تكمن في مقدرتها
ص: 39
على اختزال الخطاب وتشكيل قوة الانجاز الحجاجي على نحو ارتبط بوجود حُجية السلطة الذي لايمكن انُ يفصح عنه الا من يملك المسوّغ للتوجيه الفعلي الإنجازي مترادفاً معه الخبر الاسنادي، ولذا تؤدي حُجة السلطة هنا الى ((التقليل من المجازفة في استعمال هذه الاستراتيجية في انتاج الخطاب، وذات السبب هو ما يسوّغ استعمال الأمر والنهي الصريحة)).(1)
وتجدر الإشارة ان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يدعمُ حججه الكبرى باستشهادات قرآنية لتقوية تلك الحجج. إذ كتب (عليه السلام): ((واردد الى الله ورسولِهِ ما یُضلُعكَ من الخطوب، واشتبه عليكَ من الأمور، فقد قال الله تعالى لقوم أحبَّ إرشادهم «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
ص: 40
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ»(1))).(2)
ويمكن القول ان الميزة الرئيسة والمهمة للحجة حين تُدعم بنص قرآني تقّوي تلك الحُجة، فهي تُعدّ في الحقل التداولي - الحجاجي صورة تدعم الحجج وتوضحها، اذ يقول بيرلمان في هذا الصدد: ((لما كان الاستشهاد يهدفُ الى تقوية حضور الحُجة، بجعل القاعدة المجردة ملموسة بواسطة حالة خاصة، فقد نظر الى الاستشهاد على أنَّه صورة)).(3)
وهذه كلها تُعدُّ مؤشرات على الاستراتيجيّة التوجيهية للإمام علي (عليه السلام) للأخذ
ص: 41
بمبادئ الدولة الصحيحة الأسس، ولقيام مجتمع اسلامي يتبني قوانين القرآن الكريم وأسسه المستقيمة لبناء مجتمع سليم.
ومن صيغ الأمر التي وردت بكثرة في رسالة أمير المؤمنين (عليه السلام) الى مالك الأشتر، صيغة لام الأمر الداخلة على المضارع، إذ بدأها بقوله (عليه السلام):
((وليكنَّ أحبَّ الذخائر إليكَ ذخيرةُ العمل الصالح))(1)، وفي موضع آخر يقول (عليه السلام): ((وليكن أحبَّ الأمور إليك أوسطها في الحقَّ، وأعمَّها في العدل، وأجمعها لرضى الرعية، فإنَّ سخط العامة يُجحف برضى الخاصة)).(2)
نرى انَّ دلالة (النصح والارشاد والتوجيه)
ص: 42
التي حملتها هذه الأفعال الأمرية عبر لام الأمر الداخلة على الفعل المضارع في صيغة (لیکن) نجدها تتحرك في مجال الوظيفة الانفعالية وتتجه بؤرتها نحو المخاطب مع حضوره في الدائرة الحجاجية.
وفي موضوع آخر يكتب أمير المؤمنين (عليه السلام) بما يخصُّ الجنود و طبقات المجتمع الأخرى، وبدأها بهذه الطبقة لانَّهم رُعاه أمن الدولة واستقرارها. إذ يقول (عليه السلام): ((وليكن آثرُ رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته، وأفضل عليهم من جندته،...))
ثم يوجّه استراتيجيتّه نحو عمارة الأرض والاهتمام بها اذ يقول: ((ولیکن نظرك في عمارة الأرض، وأبلغ من نظرك في استجلاب الخراج
ص: 43
وأهله؛ لأن ذلك لايُدرك إلاّ بالعمارة ...)).(1)(1)
ثم يختتم رسالته في اسلوب الأمر ذاته اذ يقول (عليه السلام): ((وليكن في خاصة ما تخلص به الله دينك))
اذا شکَّلت هذه الأفعال الأمرية رابطاً صمیمیاً عدِلَ به الإمام (عليه السلام) عن دلالة الطلب الى دور توجيهي في اطار الوعظ تنضوي تحته كثير من الدلالات التي يسعى المحاجج الى تحقيقها.
ومن صيغ الأمر الأخرى (اسماء الأفعال) لاسيما (إياك) اذ شكّل رابطة حججياً صميمياً عدل به الإمام (عليه السلام) عن دلالة الطلب الى دور توجيهي في اطار الوعظ والحذر والتنبيه تنضوي تحته كثير من الدلالات التي يسعى
ص: 44
الواعظ او المحاجج الى تحقيقها. فمن أمثلة ذلك؛ ماكتبه الإمام (عليه السلام) ((إيّاكَ ومُساواة الله في عظمتِهِ، والتشبه في جبروتِهِ، فإنَّ الله يَذلُّ كلَّ جبَّار، ویهينُ كلَّ مختال)).(1)
ففي النصّ اعلاه شکَّلت صيغة الأمر سلسلة من الترابطات النسقية التي خرجت الى اغراض مجازية أفصحت عن درجة العلاقة بين المخاطِب (الحاكم) والمخاطَب (الوالي) التي تعكسُ مدى اعتزاز الأمر بالمأمور ليرغبه في ذلك الأمر، لذا عُدَّ (الأمر المجازي) اسلوباً انشائياً طلبیاً مهماً له قيمة إيحائية - وحجاجية في بنية النصّ.
وقد يكون الأمر موجّهاً (للتنبيه والتحذير)، ومن أمثلة ذلك ما كتبه أمير المؤمنين (عليه السلام) ((وإيّاك والدماء وسفكما بغير حِلِّهَا،
ص: 45
فإنَّهُ ليس شيءٌ أدعي لنقمةٍ، ولا أعظمَ لتبعةٍ ولا أحرى بزوالٍ نعمةٍ، وانقطاع مُدةٍ من سفكِ الدماء بغير حقِّها)).(1)
اذ تفصحُ صيغة اسم فعل الأمر (إيّاك) عن بنية حجاجية أخذت دور المنبه الأسلوبي لتوجيه ذهنية المتلقي نحو ثيمة الخطاب التواصلي.
ومن أمثلة ذلك أيضاً ما ورد في كتابه (عليه السلام) في مسألة العُجب بالنفس؛ لانه فيها دمار للنفس، إذ قال: ((وإيّاكَ والاعجابَ بنفسكَ، والثقة بما يُعجبكَ منها، وحُبَّ الأطراء، فإنَّ ذَلك من أوثق فُرص الشيطان في نفسِهِ ليمحق ما یکون من إحسان المُحسنين)).(2)
ويمكن القول انَّ التنوع في صيغ أفعال
ص: 46
الأمر بين الأفعال الأمرية الصريحة، والأفعال المضارعة الداخلة عليها لام الأمر، وأسماء الأفعال، أسهمت في توسيع دائرة التخاطب الحجاجي لتحقيق التوافق بين هذه الحجج المتنوعة وسياقاتها الدلالية عبر تلك الأفعال الأمرية - الإيعازية التوجيهية المعبَّرة عن فكرة الرسالة التي كتبها أمير المؤمنين (عليه السلام) الى عامله مالك الأشتر على استشعار المسؤولية والطاعة لتلك الأوامر
الملفظ الفعل التوجيهي الغرض التداولى
أمره بتقوى الله وإيثار يتار طاعته واتباعه ما أمر بهِ کتابه أمره، و ایثار، واتباع الوجوب
أمره أن يكسر نفسه من الشهوات أمره ان يكسرَ نفسه النصح والإرشاد
ثم اعلم يامالك اني قد وجهتك الى بلاد أعلم يامالك أمر حقيقي
ص: 47
فأملك هواك وشُحّ بنفسكِ فأملك هواك وشُح بنفس التوجيه وارشاد
وأشعر قَلبكَ الرحمة للرعية وأشعر الاستعطاف
فأعطهم من عفوك فأعطهم الوجوب والارشاد
فانظر الى عظم ملك الله فوقك فانظر النظر والأعتبار
أنصف الله و أنصف الناس أنصف النصح والارشاد والتوجيه
وأكثر من مدارسة العلماء أكثر التوجيه
وأعلم أان الرعية طبقات اعلم التنبیه والتحذير
الصق بذوي الأحتساب وأهل البيوتات الصالحة الصق توجيه
واردد الى الله ورسولِهِ ما يضلعك من الخطوب وارد وجوب
واختر للحكم أفضل رعيتك اختر توجيه وتنبيه
وأنظر في أمور عُمِالكِ انظر النصح والإرشاد والتوجيه
وتفقد أعمالهمَ تفقد والتوجيه
ص: 48
وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم ابعث التحذير والتنبيه
استوصي بالتجارة وذوي الصناعات واوصِ بهم استوصي، أوص بهم الأستعطاف والرحمة
واحفظ لله ما أستحفظك أحفظ الوجوب والتوجيه
وتعهد أهل اليتيم وذوي الرقة في السنِ تعهد الاستعطاف والرحمة
فاعَط الله من بدنكَ في ليلكَ ونهاركَ اعطِ التوجیه والأرشاد
والزم الحقَ من لزمه الزم التوجيه والوجوب
فليكنَّ أحب الذخائر اليك ذخيرة العمل الصالح فليكنَّ الارشاد والتوجيه
وليكن آثر رؤوس جندك لکفَّ تنبیه وتوجيه وتحزیر
وليكن البيع بيعاً سمحاً ليكنَّ توجيه و تحذير
الخطبة: كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) الى مالك الأشتر حين ولاه مصر
ص: 49
وهي إحدى آليات الاستراتيجيَّة التوجيهيَّة ويصدر ممن هو أعلى مرتبة الى من هو دونه، ويمثل (النهي) بنية حجاجية يُنسجُ منها المحاجج خطابه الإقناعي لأنَّه يتخذُ منه وسيلة اقناعية بما يخدم المقصد الذي يسعى إليه و تشکیل بنية النهي داخل السياق حُجة وعلى المرسل إليه أن يلتزم بها، وكلها تدخل في إِطار التوجيه والتحذير؛ فمن أمثلة ذلك ما كتبه (عليه السلام) الى مالك الأشتر، وردت فيه أفعال نهي تحمل التوجيه وهو قوله: ((ولا تندمَنَّ على عفوٍ، ولاتَبجَحَنَّ بعُقوبةٍ، ولاتُسرعَنَّ الى بادرَة وجدتَ منها مندُوحةً، ولا تقولنَّ إني مُؤمَّرٌ آمرٌ فأطاعُ)).(1)
عبرَ هذا الفعل التوجيهي استطاع الإمام (عليه
ص: 50
السلام) ان یماسكَ الشدّ النصيّ التركيبي الذي أحدثه فعل النهي بوصفه حجَّة برهانية - اقناعية تقتضيها العملية التواصلية بين المخاطِب والمخاطَب، وهي تسمى علاقات حوارية تشدّ الخطاب الى عوامل انتاجه وتجعله فعلاً خطابياً دینامیکیاً وملتحماً بشروط تداولية)).(1)
ومن الأمثلة الأخرى التي تُشير الى صُحبة السلطة والاخذ بأفعال التوجيه والنهي عنها، ما كتبه الإمام (عليه السلام) في باب النصح والارشاد وهو قوله:
((ولا تنقض سُنَّةً صالحةً عَمَلَ بها صُدورُ هذه الأمة واجتمعت بها الألفة وصلحت عليها الرعيَّة، ولا تُحدِثَنّ سُنّةً تضرُّ بشيءً من ماضي
ص: 51
تلك السَّنن فیکون الأجرُ لمن سنَّها، والوزرُ عليك بما نقضتَ منها)).(1)
فأفعال النهي الواردة في (لاتنقض، ولا تحدثن) أفادت قوة انجازية تكمنُ في عرض النصح والإرشاد والتنبيه وتبیین الحقائق والدعوة الى النهي عنها وقوتها التأثيرية في إقناع المتلقي بفكرة المرسل، فيتعظ المرسل إليه بما سيقَ له من ارشادات ومواعظ، وهذا ما نلحظه في سلطة الخطيب وهي إدارة النصح والارشاد وتوجيه الخطاب وجهة نفعية، بحيث أن الخطاب يتمحور في منفعة المتلقي.(2)
ومن أمثلة القوة الإنجازية الأخرى الاستراتيجيّة التوجيه - النهي - ما وردت في
ص: 52
رسالته (عليه السلام): ((ولا یکونُ المُحسنُ والمُسيءُ عندكَ بمنزلةٍ سواء، فإنَّ ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كُلاَّ منهم ما ألزمَ نفسه)).(1)
إنَّ الفعل الخطابي التوجيهي التنبيهي لا يُنجز إلا في مواقف اجتماعية وتواصلية معينة تقتضيها العملية التواصلية، ففي النص المتقدم تكمن قوة انجاز الفعل في صورة التضاد التي وصف عبرها الإمام (عليه السلام) فكرة (الإحسان والإساءة) على مستوى البنية السطحية، ليؤسس حجته على بنية تضادية قائمة على المقارنة.
ص: 53
الفعل التوجیهی (النهی)
الملفظ الفعل التوجيهي الغرض التداولي
ولا تكوننَّ عليهم سَبُعاً ضارياً لا تكوننَّ النصح والإرشاد
لاتندمنَّ على عفو و لاتبجحنَّ بعقوبةً لاتسرعنّ الى بادرة ولا تقولنَّ إني مُؤمرُ لاتندمنَّ لاتبجحنَّ لاتسرعنّ لاتقولنَّ تنبیه، وتوجيه تنبیه، تنبیه، توجيه توجیه و ارشاد
ولا تدخلنَّ في مشورتكَ بخيلاً يعدلُ بك عن الفضل لاتدخلنَّ النُصح، والأرشاد
ولا تطولنَّ احتجابكَّ عن رعيتك لاتطولنَّ توجيه، تنبيه
ولا تدفعنَّ صُلحاً دَعاكَ إليه لاتدفعنَّ نصح وتوجيه وتنبيه
ولا تختلنَّ عدُوّكَ فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقيّ لا تختلنَّ تنبیه و توجیه
ولا تعولنَّ على لحن قول بعد التأكيد والتوثيقة لاتعولنَّ تحذير وتنبيه
ص: 54
لا تقوینَّ سُلطانك بنفسك دمَ حرام لا تقوینَّ تنبیه و توجیه و تحذير
إياك والدماء إياك (النهي) تحذير وتنبيه
الخطبة: كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) الى مالك الأشتر حين ولاه مصر
ص: 55
- مثَبل نهج البلاغة في خطابه التداولي دستوراً تبليغياً مؤسساً لشؤون الدولة والمجتمع الإسلامي، إذ استطاع أن يؤثر في المتلقي لاعتماده استراتيجيّات تواجه روح المتلقي وعقله وضميره.
- يمثلُ مصطلح (الحجاج التواصلي) فاعلية اجتماعية - تداولية انتاجية للمعطيات الخطابية - الإقناعية لتحقيق نجاعة الملفوظات وأهدافها الفكرية والدينية والسياسية.
- اتضحت في رسالة أمير المؤمنين (عليه السلام) الى مالك الأشتر سعة العملية التواصلية للحجاج وعمقها، اذ تمثلت في استراتجيتين مهمتين هما (الاستراتيجيّة التضامنية) و (الاستراتيجيّة التوجيهية).
ص: 56
- تنوَّعت أدوار الآليات التداولية الحجاجية، فكان لأفعال الكلام القوة الإنجازية في توجيه الخطاب لاسيما في أفعال الأمر والنهي.
- إن الأسلوب التفاعلي - التداولي الناجع في كتاب امير المؤمنين (عليه السلام) الى مالك الأشتر یُكمن فيه السلوك الحميد الذي يتجلى في التأدب والتوجيه والقول السديد والنصح والارشاد والتنبيه والتحذير لكل والٍ يتولى المسلمين وقيادة شؤونهم لبناء دولة صحيحة الأسس.
ص: 57
القرآن الكريم.
- الاستراتيجيّات التخاطبية في السنة النبوية أ.م.د. أدريس مقبول، مجلة كلية العلوم الإسلامية العدد 2 - 15، سنة 2014 - 1435 ه.
- استراتيجيّات الخطاب (مقاربة لغوية - تداولية) د. عبد الهادي ظافر الشهري، دار الكتاب الجديد المتحدة ليبيا، ط 1، 2004 م.
- استراتيجيّة الخطاب الحجاجي (دراسته تداولية في الاشهارية العربية)، د. بلقاسم دفة، مجلة المخبر، جامعة بسكرة - الجزائر، العدد 10، 2014 م.
- الاستراتيجيّة وعلاقاتها بالنصّ والخطاب، عبد الكريم جمعان ،...
- تاريخ نظريات الحجاج، فليب بروتون،
ص: 58
جيل جويتية، ترجمة محمد صالح ناجي الغامدي، ط 1، مركز النشر العلمي، مطابع الملك عبد العزيز، 2011 م.
- تحليل الخطاب الروائي، سعيد يقطين، ط 4، المركز العربي الثقافي، 2005 م.
- التواصل اللساني والشعرية، الطاهر بومزبر، ط 1، منشورات الاختلاف - الجزائر، 2007 م.
- التواصل والحجاج، عبد الرحمن والحجاج، عبد الرحمن طه، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط منتديات سور الأزبيكة.
- الحجاج في خطابات النبي إبراهيم (عليه السلام)، سعدية الكحل، رسالة ماجستير، جامعة مولود معمري.
- الحجاج والحقيقة وآفاق التأويل (بحث في الأشكال والأستراتيجيّات)، د. علي الشعبان، تقديم حمادي صّمود، دار الكتاب الجديد، ط 1، 2010 م.
- الحجاج وتوجيه الخطاب (مفهوم ومجالاته وتطبيقات في خطب ابن نباته)، د، باسم خيري
ص: 59
خضير، ط 1، دار نیبور، 2016 م.
- دروس في البلاغة العربية (نحو رؤوية جديدة)، الأزهر الزناد، ط 1، المركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، بيروت، 1992 م.
- الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الاعجاز، العلوي بن حمزة (ت 754) مراجعة وضبط وتدقيق محمد عبد السلام شاهين، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1999 م.
- العلاماتية وعلم النصّ، د. منذر عياشي، مركز الانماء الحضاري، دمشق 1949 ه، 2009 م.
- عندما نتواصل نغير (مقاربة تداولية - معرفية الآليات، عبد السلام عشير التواصل والحجاج) أفريقيا الشرق، المغرب، 2006 م.
- اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، طه عبد الرحمن، ط 1، المركز الثقافي العربي، 1998 م.
- اللغة العربية في أطارها الإجتماعي (دراسة في علم اللغة الحديث) مصطفى لطفي، ط 1، معهد
ص: 60
الأنماء، بیروت، 1976 م.
- المقاربة التداولية، فرانسواز ارمينكو، ترجمة د. سعدية علوش، مركز الإنماء القومي، الرباط، 1986 م.
- من لسانيات الجميلة الى علم النصّ، بشير إبرير، مجلة التواصل، عدد 14، باجي مختار عناية - الجزائر، 2005 م.
- نظرية الحجاج عن بيرلمان، د. عبد الحسين بنو هاشم، ط 1، دار الكتاب الجديد، 2014 م.
- نقد النقد (مدخل ابستمولوجي)، د. محمد الدعمومي، مجلة الإقلام، العدد 6، السنة 25 بغداد، 1999 م.
ص: 61
مقدمة المؤسسة...5
المدخل...9
مفهوم الحجاج التواصلي...9
أ- النموذج الوصلي للحُجة:...16
ب- النموذج الإيصالي للحُجة:...16
ج- النموذج الاتصالي للحُجة:...16
المحور الأول: الاستراتيجية التضامنية:...19
المحور الثاني: الاستراتيجيّة التوجيهية:...27
أولاً: الأمر...32
ثانياً: النهي...50
الخاتمة:...56
مصادر البحث:...58
ص: 62