تأصيل فقه العمران عند الإمام علي (علیه السلام) مقارية في عهده لمالك الأشتر(رضی الله عنه)

هوية الکتاب

تأصيل فقه العمران عند الإمام علي (علیه السلام) مقارية في عهده لمالك الأشتر (رضی الله عنه)

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 4211 لسنة 2017

سلسلة دراسات في عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر (رضی الله عنه) (30) وحدة الدراسات الاقتصادية تأصيل فقه العمران عند الإمام علي (علیه السلام) مقاربة في عهده لمالك الأشتر (رضی الله عنه) تأليف م. د. حيدر حسن الأسدي إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة فی العتبة الحسینیة المقدسة

جميع الحقوق محفوظة العتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1439 ه - 2017 العراق - كربلاء المقدسة - شارع السدرة مجاور مقام علي الأكبر مؤسسة علوم نهج البلاغة هاتف: 07728243600 - 07815016633 الموقع الألكتروني: www.inahj.org الإيميل: Inahj.org@gmail.com تنویه: إن الأفکار و الآراء المذکورة فی هذا الکتاب تعبر عن وجهة نظر کاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 1

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 4211 لسنة 2017

ص: 2

سلسلة دراسات في عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر (رضی الله عنه) (30) وحدة الدراسات الاقتصادية تأصيل فقه العمران عند الإمام علي (علیه السلام) مقاربة في عهده لمالك الأشتر (رضی الله عنه) تأليف م. د. حيدر حسن الأسدي إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة فی العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة العتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1439 ه - 2017 العراق - كربلاء المقدسة - شارع السدرة مجاور مقام علي الأكبر مؤسسة علوم نهج البلاغة هاتف: 07728243600 - 07815016633 الموقع الألكتروني: www.inahj.org الإيميل: Inahj.org@gmail.com تنویه: إن الأفکار و الآراء المذکورة فی هذا الکتاب تعبر عن وجهة نظر کاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المؤسسة:

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم من عموم نعمٍ ابتدأها وسبوغ آلاء أسداها والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين محمد و آله الطاهرين.

أما بعد:

فإن من أبرز الحقائق التي ارتبطت بالعترة النبوية هي حقيقة الملازمة بين النص القرآني والنص النبوي ونصوص الأئمة المعصومين (علیهم السلام).

وإنّ خير ما يُرجع إليه في المصادیق لَحديث

ص: 5

الثقلين «كتاب الله وعترتي أهل بيتي» هو صلاحية النص القرآني لكل الأزمنة متلازماً مع صلاحيّة النصوص الشريفة للعترة النبوية لكل الأزمنة.

وما كتاب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) لمالك الأشتر (رضی الله عنه) إلا أنموذجٌ واحدٌ من بین المئات التي زخرت بها المكتبة الإسلامية التي اكتنزت في متونها الكثير من الحقول المعرفية مظهرة بذلك احتياج الإنسان إلى نصوص الثقلين في كل الأزمنة.

من هنا:

ارتأت مؤسسة علوم نهج البلاغة أن تخصص حقلاً معرفياً ضمن نتاجها المعرفي التخصصي في حياة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) وفكره، متّخذة من عهده الشريف إلى مالك الأشتر (رحمه الله) مادة خصبة للعلوم الإنسانية التي هي أشرف العلوم ومدار بناء الإنسان وإصلاح متعلقاته

ص: 6

الحياتية وذلك ضمن سلسلة بحثية علمية والموسومة ب (سلسلة دراسات في عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر (رحمه الله)، التي يتم إصدارها بإذن الله تباعاً، حرصاً منها على إثراء المكتبة الإسلامية والمكتبة الإنسانية بتلك الدراسات العلمية التي تهدف إلى بيان أثر هذه النصوص في بناء الإنسان والمجتمع والدولة متلازمة مع هدف القرآن الكريم في إقامة نظام الحياة الآمنة المفعمة بالخير والعطاء والعيش بحرية وكرامة.

والبحث الموسوم ب(تأصيل فقه العمران عند الإمام علي (عليه السلام) مقاربة في عهد مالك الأشتر (رضوان الله عليه) تضمن دراسة مفصلة للمظاهر العمرانية التي أوردها الإمام عليه السلام في العهد الشريف وبيّن أهمية هذا الجانب في بناء الإنسان وكذلك دور العمران في استقرار الحكم وحفظ الأمن وكسب رضى الله والرغبة في اداء

ص: 7

عمل الحاكم، وبيّن أيضاً المرتكزات التي يقوم عليها عمران البلاد وضرورة أن يأخذ الحاكم بنظر الاعتبار إضافة الى فقه العمران واجراءاته التي يجب أن تكون بالتساوي على الجميع.

فجزى الله الباحث كل خير فقد بذل جهده وعلى الله أجره والحمد لله رب العالمين.

السيد نبيل الحسني الكربلائي رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 8

المقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد واله الطيبين الطاهرين، وبعد:

يستمد فقه العمران وجوده من التصور الإسلامي العام للكون، وربما المعنى اللغوي للفقه يعين على ذلك، وعليه ليس بالضرورة اقتصار المجتهد المعاصر على تلك الموضوعات التي كانت محل ابتلاء في الماضي، اذا ما اريد للفقه مدى اوسع (الفهم والتمكن)، وان كان التعريف الاصطلاحي محدد ب «العلم بالأحكام الشرعية الفرعية من ادلتها التفصيلية» لكن ذلك لا يمنع من بحث الموضوعات ذات الافق الابعد، طالما تنتهي مرجعيتها الى القران الكريم والسنة الشريفة، وللعقل.

ص: 9

وعليه لابد من معالجة الجوانب ذات الصلة المنهجية والمعرفية بفقه السياسة وإشكالاته، إذ من المعروف وجود قراءات، وربما تنظير حول «شکل الدول وأحوالها ومدى استمراريتها»، والتملك والتغلب وأنواعه وكيف ينتهي به المآل.

ولذلك سلط البحث الضوء على ثلاثة امور تضمنها نهج البلاغة ولم تعط حقها بشكل كاف من قبل كثير من الباحثين:

الأولى: الرؤية العامة للعمران البشري، خصوصاً في نهج البلاغة

الثانية: ارتباط العمران بوجود مجال سياسي واجتماعي واقتصادي للدولة لكي ينتظم.

الثالثة: التعامل العلوي العملي مع الضبط النظري والمنهجي لفقه العمران.

لقد كان ابن أبي الحديد في منتهى الدقة والإنصاف

ص: 10

حين وصف هذا (العهد) بأنه: نسيج وحده، ومنه تعلّم الناس الآداب والقضايا والأحكام والسياسة... وحقيق مثله أن يُقتني في خزائن الملوك.(1)

في ضوء هذه المحاور العامة للبحث نوقش الرأي السائد القائل بأسبقية ابن خلدون في التنظير للعمران، وهذا لا يعني إنكار اثر واهمية التنظير الخلدوني، و (يظن البعض ان ابن خلدون هو «مبدع» فلسفة التاريخ أو «حکمته» والذي سماه بعلم العمران والاجتماع البشري، لا يُعترض على وجهة العنصر المذكور اعلاه، لكنه يجيب على أسئلة الفلسفة حول مصادر ابن خلدون ما دام ابن الازرق (ت: 887 ه) قد أخبرنا في كتابه «بدائع السلك في طبائع الملك» ان ابن خلدون قد استفاد من «النص المقدس - والسنة النبوية الشريفة» في صياغة فلسفته العمرانية الى جانب استفادته من منجزات المفكرين

ص: 11


1- شرح نهج البلاغة: 2 / 310

الاسلاميي، حتى حددهم بخمسة الاف مفکر، واطلع على اكثر من خمسة عشر الف)(1)

والدارس لنهج البلاغة، وخصوصا عهد الامام علي المالك الاشتر، يجد انه اشار وفصّل بشكل واضح لهذه المسألة، وبعض جزئیاتها مثل عمران الدولة وبقائها وديمومتها، فمن المعلوم ان ابن خلدون ربط ذلك بمبدأ «العصبية»، وایده بعض الباحثين امثال محمد عابد الجابري، في حين الرؤية العلوية ترهن بقاء وعمران او زوال الدول في مدى تعاطيها مع «الحقوق والواجبات»، مما يرجح اعتماد البعد المؤسساتي في الادارة في الاصطلاح المعاصر.

ولما كان العمران هدفا سام في القران الكريم، وفي السنة المطهرة للنبي الأعظم محمد «صلی الله علیه و آله وسلم» وسيرة

ص: 12


1- د. علي حسين الجابري، مفكرو الاسلام والعمران البشريفي فلسفة الحضارة والاجتماع، المركز العلمي العراقي - بغداد، دار ومكتبة البصائر، بیروت - لبنان، ط 1، 2011 م

اهل البيت عليهم السلام، حاولت البحث في «التأصيل لفقه العمران عند الامام علي مقاربة في عهده المالك الاشتر» فجاءت الدراسة على ثلاثة مباحث:

الأول: المقاربة الاصطلاحية للعمران.

الثاني: مرتكزات فقه العمران عند الامام علي «علیه السلام».

الثالث: اجرائیات فقه العمران عند الامام «علیه السلام».

وانتهى البحث الى مجموعة من النتائج، واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

ص: 13

المبحث الأول المقاربة الاصطلاحية للعمران ومستوياته البنيوية

لفظ (عمران) مشتق من الجذر ع.م. روله عدة معاني:

الأوّل «سکن، بقي، أقام، استوطن».

الثاني: «تعمير، كثافة، به ناس كثر، استصلح، هذّب جيدا، وعکسها قفر، صحراء، فظاظة»، الثالث: يمكن لمفردة عمران أن تعني أيضاً «بناء منزل، والسكن فيه، جعله مرفها»(1)

ص: 14


1- -2153 .Lane, Arabic-English Lexicon, V, p) (1) 2156). عن موقع: موسوعة الانسنة المتوسطية

هذه المجموعات الثلاثة من المعاني تعود كلها إلى معنيين أساسيين: من جهة إلى النشاط البشري، ومن جهة أخرى، إلى العنصر الجغرافي، أي المكان الذي فيه النشاط الإنساني وتطوره(1).

والعمارة من أعمرا وأعمره أي جعله آهلا وفي اللغة أعمرت الأرض وجدتها عامرة، قال تعالى: «هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا»(2)، أي أذن لكم في عمارتها واستخراج قوتكم منها وجعلكم عمارها وعمر عليه أي أغناه. وقوله تعالى: (وَاسْتَعْمَرَكُمْ) أي أسكنكم فيها ألهمكم عمارتها من الحرث والغرس وحفر الأنهارا وغيرها أي خلقكم لعمارتها(3). وحيث إن قوله تعالى (وَاسْتَعْمَرَكُمْ)

ص: 15


1- المصدر نفسه
2- سورة هود: 61
3- فؤاد عبد المنعم أحمد، السياسة الشرعية وعلاقتها بالتنمية الاقتصادية وتطبيقاتها المعاصرة، البنك الإسلامي للتنمية، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، جدة، 2001، ص 51

هو طلب مطلق من الله تعالى، ومن ثم يكون على سبيل الوجوب(1).

والاستعمار عند المفسرين هو طلب العمارة، والطلب من الله على سبيل الوجوب أي الفرض. وربط معنى العمارة المادية بالعمارة الروحية. والاستعمار هو جوهر حقيقة الاستخلاف، حيث المبدأ العام للشريعة إصلاح وعمارة الأرض، وتزجية معاش الناس فيها، وتحقيق التمكين عليها، وتعبيد الفعل البشري لله سبحانه، بحيث تكون جميع فعاليات الكون متوجهة إلى الله، ويكون الإنسان مقتدياً على قدر طاقته البشرية بالأفعال الإلهية، متخلقاً بأخلاق الله، ساعيا نحو أعمال صفات الله في الكون، وبهذا يتحقق الاتساق بين الفعل البشري،

ص: 16


1- عبد الهادي علي النجار، الإسلام والاقتصاد، سلسلة عالم المعرفة (63)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1983، ص 61

والهدف أو المقصد الإلهي من وجود الكون(1).

وكان لفظ «عمران» يستخدم للتعبير عن أفكار حول الحياة، حول الساكنة، الأماكن الآهلة، واستصلاح أرض ما وتعميرها. وبهذا المعنى نجد في القرآن «وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا»(2)، واستعمل بمعنى أكثر واقعية بالرجوع إلى جهات الأرض المسكونة، التي يمكن فيها میلاد الحياة وتطورها.

أما فكرة التعمير والاستصلاح فهي مرتبطة بالإنسان مشيرة إلى مكان يمكن الإقامة فيه أو مؤهلٌ لأن يكون عامرا إذا كان للنّباتات فهو مستصلح أو قابل للاستصلاح.

واستعمل ابن خلدون لفظ «عمران» في ثلاث ص: 17


1- نصر محمد عارف، نظريات التنمية السياسية المعاصرة: دراسة نقدية مقارنة في ضوء المنظور الحضاري الإسلامي، ط 4، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2006، ص 258 - 259
2- سورة الروم / 9

معان، احدهما عام، والاخرين خاصيَن:

المعنى العام: ويعني به «الحضارة» اي التساكن والتنازل في مصر أو حلة للأنس بالعشير واقتضاء الحاجات لما في طباعهم من التعاون على المعاش(1)

أما المعنيين الخاصين فنجدهما عندما يتحدث عن نوعين من الحياة بربطها بما ينتج عن كل واحدة منها، وهما «عمران بدوي»، و «عمران حضري».

بينما نجد الامام علیه السلام يصنف الناس وبالتالي محيطهم الاجتماعي الى ثلاث اقسام، يقول: «الناس ثلاثة: فعالم رباني.. ومتعلم على سبيل نجاة.. وهمج رعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لا يستضيئون بنور العلم فيهتدوا، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق؛ فینجو»(2)، ومن المعلوم ان العلم والتعلم

ص: 18


1- المقدِّمة، ص 17
2- نهج البلاغة: ص 808، و حلية الأولياء لأبي نعيم، رقم الحديث: 239

سمة ملازمة للحضارة.

والملاحظ مع بدايات القرن العشرين، واتساع حركة الاستشراق في الدول العربية والاسلامية انتقل لفظ الحضارة (civilization) الى المعجم العربي، وقد حدث اضطراب واضح في المفاهيم لعدم وضوح تعريفات ألفاظ «ثقافة» و «حضارة» و «مدنية»، خاصة مع وجود المفاهيم الثلاثة في اللغة العربية، على الرغم من عدم وجود سوی مفهومين في اللغة الانكليزية، ما أدى الى انقسام اتجاهات ترجمة المصطلح الى اتجاهين:

أحدهما: يرى انه مرادف للمدنية.

الآخر: يرى انه اقرب للحضارة، ويعد الاكثر شيوعا في الكتابات العربية.

ويعرف مالك بن نبي مفهوم الحضارة تعريفا فيه شيء من الحركية، يتححد في ضرورة «توفر مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح

ص: 19

لمجتمع معين أن يقسم لكل فرد من أفراده، في كل طور من أطوار وجوده منذ الطفولة الى الشيخوخة المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه»(1)

وفي الغالب يترجم لفظ عمران في اللغتين الإنجليزية وَالفرنسية بكلمة (حضارة civilisation) ان تحليل مختلف دلالات لفظ عمران، يسمح لنا بالعودة إلى الوقوف على إختيار ترجمة بعينها لضبط المصطلح وتدقيق المعني. أحد تلك الألفاظ التي استعملت لجعل «عمران» بمعنی مجتمع، کما فعل الباحث ناصيف نصّار، الذي اعتبر أن العلم الخلدوني، كعلم اجتماع بحق قبل وجود علم الاجتماع الحديث.

في حين يحيلنا لفظ (Sociologie) الحديث

ص: 20


1- مالك بن نبي، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، دار الفكر، ط 5، بیروت، 2005 م، ص 50

إلى اللفظ العربي اجتماع مشتق من الجذر (ج. م.ع) (ضمَّ بعضه إلى بعض، وضع معاً) ومنها علم الاجتماع (Sociologie). ويبدو ان هناك وحدة هوية بين لفظي «اجتماع» و «عمران».

ولفهم المعنى الفلسفي لكلمة عمران لا بد من الرجوع إلى فكرة العُمر: لنفس الجذر ع-م-ر التي اشتق منه الفعل عمَّرَ، بمعنى «العيش طويلا»، والإسم عمر الذي يعني حياة أو فترة الحياة.

ان وضع السياسة في قلب «علم العمران»، والتعبّير عن ذلك بعبارات أرسطية كما فعل ابن خلدون في مناسبات عديدة يحتاج الى اعادة نظر ونقد، يقول: «الدولة والملك للعمران، بمثابة الصورة للمادة، وهو الشكل الحافظ بنوعه لوجودها»(1)، ما يقصده ابن خلدون هنا بالمادة هو العناصر التي تحيا عن طريق السياسة: «فالدولة دون العمران لا

ص: 21


1- مقدمة ابن خلدون، ص 150 - 151

تتصور، والعمران دون الدولة والملك متعذر»(1) كما أن ربط - ابن خلدون بوصفه منظرا لعلم العمران البشري في القرن الثامن الهجري - من عدم امکان تصور الدولة فكرةً ووجوداً بدون عصبية. وعدها «الامتدادً المكاني والزماني لحكم عصبية ما»(2)، وما انتهى له محمد عابد الجابري ب ارتباطً عمر الدولة، أي امتدادها في المكان وديمومتها في الزمان، بالعصبية أو العصبيات، وهو ما يفيد ارتهانَ «العمران» وعمارة الأرض بهذه القوَّة التي أخذت في المتن الخلدوني اسم «العصبية» وما يدخل في معناها»(3)، نرى ان هذا الربط اقرب لمنطق التغلب والتصارع منه الى روح الاجتماع والتنظيم الذي تسعى الدول المعاصرة لتحقيقه بغية انتعاش وتطور

ص: 22


1- المصدر نفسه
2- المصدر نفسه
3- 30. محمد عابد الجابري، فکر ابن خلدون، العصبية والدولة، مركز الوحدة العربية، بیروت، 1994 من ص 213

دولها وظهورها كقوى عظمى وهو ما يسمى ب(دولة الحقوق والمؤسسات) التي تجعل الحاكم او رئيس الدولة من ضمن المنظومة المجتمعية.

ولقد حاول محمد عابد الجابري تقديم نظرة تبریرية جديدة لمفهوم العصبية وري: ان مدلول العصبية عند ابن خلدون يختلف كثيرا عن مدلولها في علم الاجتماع الحديث والتي تعني (شبكة من علاقات اجتماعية تنظم بين الأفراد والجماعات والقبائل) بل تعني عنده - أي عند ابن خلدون - وسيلة او اداة تستعملها القبيلة للدفاع عن نفسها وعن مصالحها، وهي تشبه دور الأسوار أو الجيوش بالنسبة لحماية المدن(1).

ويبدو لي ان موضوع العصبية مع وضوح جوانبه السلبية الا انه يصلح مع مجتمع البداوة والقبيلة، وارتباطه الوثيق بالبعد الاقتصادي للمجتمعات

ص: 23


1- المصدر نفسه، 160

البدائية او لنقل غير الحضارية.

ولا نبالغ أذا ما قلنا أن نهج البلاغة تضمن مبادئ تنظم علاقة الحاكم مع رعيته، وهذا المبدأ هو الأصلح حضاريا، يقول الامام علي: «وَأَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ - سُبْحَانَهُ -ِ مِنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ حَقُّ الْوَالِی عَلَی الرَّعِیَّهِ، وَحَقُّ الرَّعِیَّةِ، عَلَی الْوَالِی، فَرِیضةٌ فَرَضَهَا اللّهُ - سُبْحَانَهُ - لِکُلٍّ عَلَی کُلٍّ، فَجَعَلَهَا نِظَاماً لاُلفَتِهِمْ، وَعِزّاً لِدِینِهِمْ، فَلَیْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِیَّةُ إِلاَّ بِصَلاَحِ الْوُلاَةِ، وَلاَ تَصْلُحُ الْوُلاَهُ إِلاَّ بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِیَّةِ، فَإِذَا أَدَّتِ الرَّعِیَّةُ إِلَی الْوَالِی حَقَّهُ، وَأَدَّی الْوَالِی إِلَیْهَا حَقَّهَا، عَزَّ الْحَقُّ بَیْنَهُمْ، وَقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّینِ، وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ، وَجَرَتْ عَلَی أَذْلاَلِهَا السُّنَنُ، فَصَلَحَ بِذلِكَ الزَّمَانُ، وَطُمِعَ فِی بَقَاءِ الدَّوْلَةِ، وَیَئِسَتْ مَطَامِعُ الأعْدَاءِ. وَإِذَا غَلَبَتِ الرَّعِیّةُ وَالِیَهَا، أَوْ أَجْحَفَ الْوَالِی بِرَعِیَّتِهِ، اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ الْکَلِمَةُ، وَظَهَرَتْ مَعَالِمُ الْجَوْرِ، وَکَثُرَ الاْدْغَالُ فِی الدِّینِ، وَتُرِکَتْ مَحَاجُّ

ص: 24

السُّنَنِ، فَعُمِلَ بِالْهَوَی، وَعُطِّلَتِ الْأَحْکَامُ، وَکَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ، فَلاَ یُسْتَوْحَشُ لِعَظِیمِ حَقٍّ عُطِّلَ، وَلاَ لِعَظِیمِ بَاطِلٍ فُعِلَ! فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الْأَبْرَارُ، وَتَعِزُّ الْأَشْرَارُ، وَتَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللّهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ الْعِبَادِ»(1).

ويميل الباحث الى ان مسائل علم العمران تتقاسمها علوم أخرى من زوايا متقاربة، وهو ما سمّاه ابن خلدون «الجريان العرضي» الذي به يمكن فهم الجانب الوظيفي للقضايا، وهي المجالات التي يهتم بها علم العمران(2).

ولقد تجاهل عدد من الباحثين أهمية التركيب الإبداعي الذي دعّم ابن خلدون به أصوليته، وقد نتج عن هذا التجاهل ثلاثة اتجاهات(3):

ص: 25


1- نهج البلاغة، ص 528
2- مقدمة ابن خلدون، ص 184
3- قراءة في كتاب علم العمران الخلدوني * تأليف: صالح طاهر مشوش، موقع المعهد العالمي للفكر الاسلامي

الأول: ينكر العلاقة بين علم العمران والعلوم الشرعية.

والثاني: يقر بوجود هذه العلاقة، ولكنه يقلل من أهميتها.

والثالث: يتمثل في التأكيد على أن للمجتمع والتاريخ والعمران قوانین موضوعية يجب الرجوع إليها للحصول على معرفة علمية موضوعية حول حركته وأحواله المتغيرة.

والحقيقة أن الغرض من تسليط الضوء على الفهم الخلدوني لعلم العمران هي من أجل ذکر العلاقة بين ما اكتشفه ابن خلدون من أثر الطبائع والأحوال وفهم الاجتماع الإنساني وما سبق اليه الامام علي في نهج البلاغة وتحويل هذه المؤثرات والمفاهيم إلى آليات عمل ضمها عهده للاشتر، ومشاريع بناء، وعمارة للأرض من اجل المساهمة في صياغة فعل إنساني يتجاوز انحطاط الواقع

ص: 26

وغموض المستقبل.

ولذلك لا بد من ربط تأصيل العمران بمنهج معرفي، وقواعد علمية من شأنها مواكبة المعطيات الحضارية لغرض خدمة المجتمع.

و (فقه العمران) هو من أنواع الفقه الغائب لعقود من الزمن، اندثرت كل محاولات التنظير والترشيد لفقه يحمل المسلم إلى عمارة الأرض وبنائها، وتأسیس نهضة مدنية لمجتمعاتها. وللأسف إن الغفلة عن هذا الفقه ليس في بيانه والتعريف به فحسب؛ بل تجاوز إلى إلغائه وإنكاره أحياناً من فقه الشريعة، واعتباره من مشاغل الدنيا الفانية على حساب الآخرة الباقية(1)!

يقول الله تعالى: وَابْتَغِ فِیَما آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَهَ وَلَا تَنْسَ نَصِیبَكَ مِنَ الدُّنْیَا وَأَحْسِنْ کَمَا

ص: 27


1- مسفر القحطاني، الوعي الحضاري، الشبكة العربية للابحاث، ص 72

أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَیْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِی الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا یُحِبُّ الْمُفْسِدِینَ»(1).

المستويات البنيوية للعمران:

العمران بصفة عامة يتحدد بثلاث مستويات اساسية، هي:

المستوى الاقتصادي: ويتجلى في طرق کسب العيش، والعمل والحصول على المال، وكيفية الحفاظ عليه وعدم اهداره، فقد روي عن الإمام عليّ (علیه السلام): «قِوامُ العيشِ حُسنُ التَّقدِيرِ، ومِلاکُهُ حُسنُ التَّدبيرِ»(2). وقال ايضا: «سُوءُ اَلتَّدْبِیرِ مِفْتَاحُ اَلْفَقْرِ»(3)، وقال (ع): «لِلمُؤمِنِ ثَلاثُ ساعاتٍ فَساعَةٌ یُناجی فیها رَبَّهُ وساعَةٌ یَرُمُّ مَعاشَهُ وساعَةٌ یُخَلّی بَینَ نَفسِهِ وبَینَ لَذَّتِها فیما یَحِلُّ ویَجمُلُ ولَیسَ

ص: 28


1- سورة القصص: الآية 77
2- غرر الحکم و درر الكلم: 7 / 680
3- الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص 284

لِلعاقِلِ أن یَکونَ شاخِصا إلّا فی ثَلاثٍ مَرَمَّةٍ لِمَعاشٍ أو خُطوَةٍ فی مَعادٍ أو لَذَّةٍ فی غَیرِ مُحَرَّمٍ»(1)، ولقد اكد الامام على عدالة التوزيع على مختلف فئات المواطنين وهو ما عبر عنه بالطبقات، ولقد رد على من طلب منه ان يميز في العطاء فقال: (لو كان المال مالي لسوّيت بينهم فكيف والمال مال الله).

وسيرد الحديث عن موقفه (علیه السلام) من عدالة التوزيع وربطها بالعمران بشكل مفصل في المبحث القادم.

ومفهوم المعاش يجمع كل أشكال الأعمال المبذولة من الفرد لتحصيل وسائل العيش.

المستوى السياسي: ويتجلى ذلك في شكل السلطة وعدالة الحكم، ومراعاة حقوق الرعية (المواطن) بعيدا عن دینیه او عرقه، ولا نجد ابلغ من مقولة الإمام علي: (الناس صنفان إما اخ لك

ص: 29


1- نهج البلاغة، باب المختار من حكم أمير المؤمنين عليه السلام، 390

في الدين او نظير لك في الخلق).

ويربط الامام علي بين النمور والازدهار الاقتصادي من جهة والعمران والحرية السياسية والحكم العادل من جهة اخرى، يقول (علیه السلام) «لا يكون العمران حيث يجور السلطان»(1)، ويؤكد على قيمة الحاكم وفضيلته وملازمتها بما يقدم من نشاط عمراني، يقول: «فضيلة السلطان عمارة البلدان»(2)

المستوى العلمي والمعرفي:

يقول الإمام علي «قيمة كل امرئ ما يحسنه» (6) أي ما يحسنه من العلم والمعرفة والعمل، ونجده يقول: «اعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل به»(3).

ص: 30


1- تاريخ اليعقوبي: ج 2، ص 203
2- المصدر نفسه
3- تحف العقول، ص 141

ويعزز هذا الامر واهميته في بقاء وديمومة المجتمع وما يلحق به من تحديات، يقول (العلم سلطان من وجده صال به، ومن لم يجده صیل عليه).

وينعي الامام على أولئك الذين لا يعوا مغزى العلم والمعرفة وتحقيقها للديمومة الفردية والمجتمعية، التي تجعل الانسانية هي الهدف، فيقول: «قبيح بذي العقل أن يكون بهيمة وقد أمكنه أن يكون إنساناً، وقد أمكنه أن يكون ملكاً، وأن يرضى لنفسه بقنية معارة وحياة مستردة وله أن يتخذ قنية مخلدة، وحياة مؤبدة»(1).

ولا يخفى ان الربط بين العلم والمعرفة والعمران البشري هو من اهم غايات العلم والتعلم، وبه يصلح حال الفرد والمجتمع والنظام، وان فساد نسق معرفي معين يؤدي حتما الى انتهاء المجتمع الى

ص: 31


1- المصدر نفسه

حالة من الضياع، وعدم إسهامه في صنع الفعل الحضاري، وديمومته الاجتماعية.

ص: 32

المبحث الثاني مرتكزات فقه العمران عند الإمام علي (علیه السلام)

ورد لفظ اشتقاق لفظ العمران والعمارة في نهج البلاغة سبع مرات، اثنان أريد بها العمران المعنوي وخمس منها المادي، وهذه الإلفاظ الخمسة وردت جميعها في عهده عليه السلام للأشتر.

ويعد مصطلح العمارة من أقرب المصطلحات تعبيراً عن التنمية إذ يحمل مضمون التنمية الاقتصادية والعمرانية وقد يزيد عنه فهو نهوض في مختلف مجالات الحياة الإنسانية - بصفة أولية - جوانب التنمية الاقتصادية بمعناها المتعارف عليه - والذي لا يخرج عن تعظيم عمليات الإنتاج

ص: 33

المختلفة(1).

ويؤكد ذلك قول الإمام (علیه السلام) لمالك الاشتر النخعي لما ولاه مصر حين اضطرب أمر أميرها محمد بن أبي بكر: «وَلْيَکُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الاَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلاَبِ الْخَرَاجِ، لاَنَّ ذَلِكَ لاَ يُدْرَكُ إِلاَّ بِالْعِمَارَةِ؛ وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَة أَخْرَبَ الْبِلاَدَ، وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاَّ قَلِيلاً»(2).

إن الإمام يرى في العمارة أبعد من مجرد الزيادة في الإنتاج أو رفع الدخل الاقتصادي للدولة، أو مضاعفة متوسط دخل الفرد، لأنها تتطلب عدالة في توزيع الدخل ورفع مستوى المعيشة لجميع أفراد المجتمع، دون استثناء، سواء من كانت لديه القدرة

ص: 34


1- فؤاد عبد المنعم أحمد، السياسة الشرعية وعلاقتها بالتنمية الاقتصادية وتطبيقاتها، ص 51
2- نهج البلاغة، ص 712

على الكسب، أم من يعجز عنه، إذ تقوم الدولة بضمان مستوى الكفاية لمن يحتاجها(1).

ويعتبر عدم الإسراف والتبذير في الاستهلاك، وفي تخصيص الموارد، من مستلزمات العمارة، حيث ينبغي أن تكون عند حد الكفاية، مع مراعاة الاستمرار في عمارة الأرض. ومع اقتران الاستخلاف بالتسخير للموارد لتسهيل التكليف، واقتران التكريم بحسن الخلق، فكراً وعقلاً وإرادةً، ومن خلال هذا الاستخلاف والتكريم، فان على الإنسان انتهاج السلوك الرشيد في تخصيص الموارد ونمائها وتنميتها(2).

ص: 35


1- د. حسن لطيف الزبيدي، الإسلام والتنمية الاقتصادية: سعة المضمون وتكامله: http://hasnlz.com/permalink / 3393 html
2- حمد إبراهيم منصور، عدالة التوزيع والتنمية الاقتصادية: رؤية إسلامية معاصرة، مركز دراسات الوحدة العربية، بیروت، 2007، ص 327

ويمكن استخلاص جملة من المرتكزات لفقه العمران عند الإمام علي (علیه السلام):

المرتكز الأول: وحدة العمران البشري والاقتصادي:

بدأ الامام علي عهده المالك الاشتر بعد البسلمة بقوله: «هذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُاللَّهِ عَلِیٌّ أَمِیْرُالْمُؤْمِنِینَ، مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الْأَشْتَرَ فِی عَهْدِهِ إِلَیْهِ، حِیْنَ وَلَّاهُ مِصْرَ: جِبوةَ خَرَاجِهَا، وَ جِهَادَ عَدُوِّهَا، وَ اسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا، وَ عِمَارَةَ بِلادِهَا»(1).

هنا الامام يقدم مهمة جبوة الخراج والجهاد واستصلاح اهل مصر قبل عمارة البلاد، وهذا فيه بعد مرتبي، والاهم والمهم...... لكنه يعود في الايراد الثاني للعمران لیقول: «وَلْيَکُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الاَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلاَبِ الْخَرَاجِ، لاَنَّ ذَلِكَ لاَ يُدْرَكُ إِلاَّ بِالْعِمَارَةِ؛ وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ

ص: 36


1- نهج البلاغة، ص 712

بِغَيْرِ عِمَارَة أَخْرَبَ الْبِلاَدَ، وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاَّ قَلِيلاً»(1).

المرتكز الثاني: تحقيق النفع العام:

يقول الامام علي (عليه السلام) «فَإِن شَکَوا ثِقَلاً أو عِلَّةً، أوِ انقِطاعَ شِربٍ أو بالَّةٍ أو إحَالَةَ أرضٍ اغتَمَرَها غَرَقٌ، أو أجحَفَ بِهَا عَطَشٌ، خَفَّفتَ عَنهُم بِما تَرجو أن یَصلُحَ بِهِ أمرُهُم، ولا یَثقُلَنَّ عَلَیكَ شَیءٌ خَفَّفتَ بِهِ المَؤونَهَ عَنهُم، فَإِنَّهُ ذُخرٌ یَعُودُونَ بِهِ عَلَیكَ فی عِمارَةِ بِلادِكَ، وتَزیینِ وِلایَتِكَ»(2).

أي إذا شكوا ثِقَلاً أو علّة، يريد المضروب من مال الخراج أو نزول علة سماوية بزرعهم أضرت ثمراته. وكذلك انقِطاع الماء عن الأرض في البلاد التي تسقى بماء الانهار. وكذلك انقطاع الماء عن الارض التي تسقى بالمطر. ويصل الأمر الى فساد

ص: 37


1- المصدر نفسه
2- نهج البلاغة، ص 713

بذور الفلاحين بالتعفن او عمها من الغرق فغلبت عليها الرطوبة حتى صار البذر فيها غمقاً او أجحفت بالعطش و أتلفت وذهب بمادة الغذاء من الارض فلم ينبت. وهنا يؤكد الامام على ضرورة تدخل الدولة لإصلاح وعمارة ما فسد.

وهذا الامر اتضح في مقاربات الفقهاء حيث ميزوا بين المرافق العامة وبين المباحات، فالمعيار الفقهي للتمييز بين الأموال المرصدة للنفع العام (المرافق العامة) وبين المباحات الأصلية والاختصاص الناتج عليها بعد:

الأشياء أو الأموال التي تمنع أو تحول طبيعتها دون ان تتحول إلى الملكية الخاصة، تعتبر من المؤسسات العامة كالطرق وغيرها(1)، وما تعلقت به مصلحة الناس ومنافعهم وحاجاتهم العامة كأفنية المدن والميادين العامة والاراضي المتروكة

ص: 38


1- ظ: أبو يوسف، الخراج، 97 - 98

حول القرى(1)، والمعادن الظاهرة والباطنة تكون منافع عامة لكل أفراد الأمة على اختلاف في ذلك.

وما خصص لمنفعة من المنافع العامة بناء على ما يراه الإمام والدولة يكون من المنافع المشتركة(2) تحقيقاً للنفع العام.

وعليه فان الأموال المباحة: هي الأموال التي اطلقها الشارع ولم يخصصها أو يرصدها للمنافع العامة، وإنما أباح الانتفاع وأباح تمليكها(3).

والأموال المرصدة للنفع العام هي: الأموال التي أباح الشارع الانتفاع بها واستعمالها دون إعطاء الحق بحيازتها أو وضع اليد عليها، لتغلب طابع النفع

ص: 39


1- ظ: ابن قدامة، المغني: 5 / 426
2- أبو عبيد: الأموال: 381، وظ: الشواني، نيل الأوطار: 5 / 349
3- د. محمود المظفر، الثروة المعدنية، دار الحق، ط 2، بیروت، 1419 ه - 1998، ص 86 - 87

العام عليها(1)، ومنع الأفراد تملك هذه الأموال، بسبب تعلق حق الجماعة بها لأهميتها، و ينتفع بها الناس باعتبارهم جزأ من الجماعة(2).

وثمة فارق رئيس بين المنافع المشتركة (المرافق العامة) وبين المباحات الأصلية وهو ان المباح الأصلي ناتج من عدم تدخل أي جهة في حصوله سواء كانت هذه الجهة على وجه العموم كالدولة، أو جهة خاصة كفرد من الأفراد فان المياه وجدت بشكل طبيعي دون تدخل أي شخص، وهذا غير حاصل في المؤسسات العامة كالوقف الذي هو ناتج من واقف، فما أباح الشارع الانتفاع بمنافعها فقط مؤسسة عامة، وما أباح الانتفاع بمنافعها وأعيانها مباحات أصلية.

ص: 40


1- المصدر نفسه
2- د. منذر عبد الحسين الفضل، الملكية ووظيفتها الاجتماعية في الشريعة الإسلامية، مجلة الحقوق، السنة السادسة، العد الأول 1982، ص 113 الكويت

فقد ذكر أكثر الفقهاء ان المرافق العامة لا يثبت بها اختصاص لاحد والناس كلهم فيها سواء(1)، فعمارة الأرض بالبناء والصناعة والزّراعة والانتفاع بما في باطنها من معادن و خیرات مطلوب من النّاس عامّةً، ومن المسلمين خاصّةً، فهو من مقتضيات الاستخلاف العامّ للنّاس في الأرض. قال الإمام الغزالي: «فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم».

وعمارة الأرض أمر دعا إليه الله تعالى في القران الكريم، قال تعالى: «هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا»(2)

قال الطبري مؤكداً معنی العمارة في الآية: («واستعمرکم فیها»، يقول: وجعلكم عُمَّارًا فيها)(3).

ص: 41


1- ظ: الكاساني، بدائع الصنائع، 6 / 192، الطوسي: 30 / 276
2- سورة هود: 61
3- القرافي. الفروق 4 / 92

وقال البيضاوي: («واستعمرکم فِیهَا» عمركم فيها واستبقاكم من العمر، أو أقدركم على عمارتها وأمركم بها)(1).

وقال الطوسي: (وقوله «واستعمرکم فیها» اي جعلكم قادرين على عمارة الارض، ومکنکم من عمارتها والحاجة إلى سكناها. والاستعمار جعل القادر يعمر الارض كعارة الدار)(2).

وعلى ما مر يكون معنى قوله: «هو أنشأكم من الأرض و استعمرکم فیها» - و الكلام يفيد الحصر - أنه تعالى هو الذي أوجد على المواد الأرضية هذه الحقيقة المسماة بالإنسان ثم كملها بالتربية شيئا فشيئا و أفطره على أن يتصرف في الأرض بتحويلها إلى حال

ص: 42


1- الزركشي. المنثور في القواعد 3 / 35 انظر: السيوطي. الأشباه والنظائر 2 / 251
2- ابو جعفر محمد بن الحسن الطوسي التبيان في تفسير القرآن، الناشر: مكتب الاعلام الاسلامي طبع على مطابع: مكتب الاعلام الاسلامي الطبعة: الأولى، 1409 ه.، 6 / 15

ينتفع بها في حياته، و يرفع بها ما يتنبه له من الحاجة و النقيصة أي إنكم لا تفتقرون في وجودكم و بقائكم إلا إليه تعالى و تقدس.

وقال مجاهد معنی «استعمرکم فیها» أي اعمركم بأن جعلها لكم طول اعماركم، وفي الآية دلالة على فساد قول من حرم المكاسب، لانه تعالى امتن على خلقه بأن مكنهم من عمارة الارض فلو كان ذلك محرما لم يكن لذلك وجه، والعبادة لا تستحق إلا بالنعم المخصوصة التي هي أصول النعم فلذلك لا يستحق بعضنا على بعض العبادة ابتداء، وان استحق الشكر، ولذلك لا تحسن العبادة ابتداء، کما لا يحسن الشكر إلا في مقابلة النعم(1).

وقال العلامة الطباطبائي: (العمارة ضد الخراب يقال: عمر أرضه يعمرها عبارة قال: «و عمارة المسجد الحرام» يقال: عمرته فعمر فهو معمور قال :

ص: 43


1- الطوسي، التبيان: 6 / 15

«و عمروها أكثر مما عمروها» «و البيت المعمور» و أعمرته الأرض و استعمرته إذا فوضت إليه العمارة قال: «و استعمرکم فیها» فالعبارة تحويل الأرض إلى حال تصلح بها أن ينتفع من فوائدها المترقبة منها كعمارة الدار للسکنی و المسجد للعبادة و الزرع للحرث و الحديقة لاجتناء فاكهتها و التنزه فيها و الاستعمار هو طلب العمارة بأن يطلب من الإنسان أن يجعل الأرض عامرة تصلح لأن ينتفع بما يطلب من فوائدها)(1).

والاستعمار عند كثير من المفسرين هو الإعمار، أي جعلكم عامرينها، فالسّين والتاء للمبالغة كالتي في استبقَى واستفاق. ومعنى الإعمار أنهم جَعلوا الأرض عامرة بالبناء والغرس والزرع؛ لأنّ ذلك يُعدّ تعميراً للأرض حتى سُمّي الحرث عِمارة؛ لأنّ

ص: 44


1- الميزان في تفسير القران: 10 / 310

المقصود منه عَمر الأرض(1).

فمقصود هذه الآيات وغيرها واضح الدلالة في بیان مقصود العمارة من خلق الإنسان، وأنه واجب على مجموع الخليقة في القيام به، وقد نص على حكم الوجوب الإمام الجصاص في قوله: «(واستعمركم فيها) يعني أمركم من عمارتها بما تحتاجون إليه، وفيه الدلالة على وجوب عمارة الأرض للزراعة والغراس والأبنية»(2).

المرتكز الثالث: مرتكز الاستخلاف والتسخير:

خلق الله الكون من اجل الإنسان وجعله مستخلفاً له في الأرض وسخر له كل شيء، ويمكن بيان الرؤية القرآنية للاستخلاف والتسخير من خلال الآتي:

ص: 45


1- ظ: الماوردي: النكت والعيون 1 / 252. البغوي: معالم التنزيل 2 / 89. ابن عاشور: التحرير والتنوير 3 / 186
2- الجصاص، احکام القران: 3 / 378

أولا - الاستخلاف:

عقيدة الاستخلاف تقدر ان كل شيء في الوجود انما هو ملك لله تعالى خالقه وخالق السموات والأرض وما بينهما، وان الإنسان فيما لديه من مال انما هو حائز لوديعة أودعها الله بين يديه، فالله وحدهُ الذي له ملك السماوات والأرض، والإنسان هو خليفة الله في الأرض امره خالقه بالانتفاع بهذا المال في صورتيه، ومکنه من هذا الانتفاع منسجماً مع مصلحة المجتمع الذي يعيش فيه، ومصلحة الإنسانية بوجه عام(1).

فالأفراد وفقاً لمبدأ الاستخلاف في الأرض قد جعل الله لهم سلطاناً مباشراً على ما فيها من الخيرات والطيبات ومکّن لهم الانتفاع منها بما اعطاهم ووهبهم من القوى العقلية والجسمية، وبناءً على

ص: 46


1- الشيخ يوسف القرضاوي، الحلال والحرام في الإسلام، دار التعارف، ط 1، 1993 م، بیروت، ص 145

هذا الاستخلاف العام فان الأصل اشتراك البشر جميعاً في الانتفاع مما أوجد الله في الأرض من خيرات وطيبات(1).

إن الله تعالى أوجب على الإنسان كثمرة من ثمرات النيابة الإلهية له باستخلاف وإمكانية الانتفاع بالمخلوقات ان يعمر الأرض ويستثمر الموارد، وقد غرست الآيات القرآنية الكريمة عقيدة الاستخلاف، قال تعالى: «هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا»(2)، أي أمركم بعمارتها(3).

وعقيدة الاستخلاف تجعل المسلم يحس دائماً (ان الله خالق هاذ الكون ومالكه الاصلي، والمال

ص: 47


1- فقه البيئة، شبكة المعلومات العالمية (الانترنت)
2- سورة هود: 61
3- ظ: ابن عربي، احکام القرآن: 3 / 1059، الرازي ، التفسير الكبير،، 18 / 17، الزمخشري الكشاف، 2 / 278 القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: 9 / 56، الجصاص، احکام القرآن: 3 / 23، الطباطبائي، الميزان: 10 / 310

الذي في ايدي البشر هو مال الله وهم فيه خلفاء لا اصلاء)(1).

قال تعالى: «آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ»(2)، وقوله تعالى: «وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ»(3).

فقد استخلف الله الإنسان في الكون ليدير موارده ويعمره ويظهر أسرار الله وقدرته في خلقه وهي مهمة ارادت الملائكة ان تكون لها، وارادها الله للانسان تکریم له: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ»(4)، وقد ذكر ان

ص: 48


1- السيد محمد تقي الشيرازي، الاقتصاد، ص 37
2- سورة الحديد: 7
3- سورة النور: 33
4- سورة البقرة: 30

المراد من الخليفة المعنى المجازي، قال الطاهر بن عاشور: (المراد من الخليفة المعنى المجازي وهو الذي يتولى عملاً يريده المستخلف مثل الوكيل والوصي أي جاعل في الأرض مدبراً يعمل ما نريده في الأرض فهو استعارة أو مجاز مرسل وليس بحقيقةٍ، لان الله تعالى لم یکن حالاً في الأرض ولا عاملاً فيها العمل الذي اودعه في الإنسان وهو السلطة على موجودات الأرض؛ ولان الله لم يترك عملاً كان يعمله فوكله إلى الإنسان بل التدبير الاعظم لم يزل الله تعالى فالإنسان هو الموجود الوحيد الذي استطاع بما اودع الله في خلقه ان يتصرف في مخلوقات الأرض بوجوه عظيمة لا تنتهي خلاف غيره من الحيوان)(1)

ومن هنا فان الخلافة هي تكليف بمهمة الانتفاع بموجودات الكون يكون الإنسان فيها سيداً في الكون لا سيداً للكون، فسيد الكون

ص: 49


1- التحرير والتنوير: 1 / 398

وحاكمه ومالك امره هو الله سبحانه وتعالى، ولان الإنسان هو احد مخلوقاته قد تميز بالعقل فقد كرمه الله وانعم عليه نعمة الاستخلاف تمييزاً له عن غيره من المخلوقات(1). قال تعالى: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا»(2).

وقد اثارت مسألة الاستخلاف قضية مهمة تتعلق بسلطنة الإنسان الموارد الطبيعية هل هو نحو ملكية الرقبة ام حق اختصاص بالانتفاع أي ملكية انتفاع - وقد رجح احد الباحثين حق الاختصاص بالانتفاع (ملكية الانتفاع) وذلك للأسباب الآتية(3):

1- ان كثيراً من نصوص القرآن الكريم تضيف الملكية إلى الله تعالى: «آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا

ص: 50


1- الإسلام والبيئة، ص 3. (انترنت)
2- سورة الإسراء: 70
3- الإسلام والبيئة، ص 2، الشبكة العنكبوتية (انترنت)

مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ»(1)، وقوله تعالى: «وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ»(2)، وقوله تعالى: «لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى»(3)، وقوله تعالى: «لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ»(4)، (فإذا كان المال مال الله، وكان الناس صحيحاً عباد الله، وكانت الحياة التي يعلمون فيها ويعمرونها بمال الله وهي لله، كان من الضروري ان يكون المال - وان ربط باسم شخص معين - لجميع عباد الله يحافظ عليه الجميع وينتفع به المجتمع)(5).

2- إن وجود الإنسان في هذه الحياة مؤقت

ص: 51


1- سورة الحديد: 7
2- سورة النور: 33
3- سورة طه: 6
4- سورة المائدة: 120
5- الشيخ محمد شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة، دار الشروق، ط 19، القاهرة، 2007 م، ص 33

واستخلافه فيها مؤقت أيضا ولذلك كان انتفاعه بمواردها مؤقت: «وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ»(1)، وهذا التحديد الزمني للبقاء يترتب عليه تحديد للاستخلاف والانتفاع ومن هنا تبرز أحقية الأجيال المتعددة في الانتفاع بالموارد الطبيعية وضرورة ان يعي الإنسان هذه الحقيقية لكي يحفظ للأجيال التي بعده حقها في الانتفاع بما خلق الله في هذا الكون.

3- ان شعور الإنسان بملكيته الدائمة للموارد يثير فيه الفساد المؤدي إلى نضوب الموارد، ولذلك كانت الآيات الكريمة واضحة في النهي عن الفساد في الأرض: «وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي

ص: 52


1- سورة البقرة: 36

الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ»(1).

وفي ضوء ذلك قال احد الباحثين: «ولا نتجاوز روح التشريع الإسلامي إذا قلنا: ان القواعد والمبادئ الأساسية المنظمة لاستخلاف الإنسان في الأرض ومضمونها تنزل (حق الإنسان) على موارد الطبيعية من (حق الملكية) إلى مرتبة (حق الانتفاع) فقط، والذي تقل فيه سلطان صاحبه عن سلطان المالك وفكرة حق الانتفاع تبدو أكثر ملاءمة إذا روعيت القواعد الشرعية في أعماله، فلن يكن الانتفاع قاصراً على شخص دون آخر ومن ناحية ان المنتفع لا يجوز له إهدار أو تدمير أصل أو عين المال الذي ينتفع به، لان سلطة التصرف الشرعي في المادة لا تكون للمنتفع بل لمالك العين أو الرقبة»(2).

ص: 53


1- سورة الأعراف: 74
2- احمد سلامة، حماية البيئة في الفقه الإسلامي، مجلة الاحمدية، دبي سنة 1998، ص 295، عن احمد فتح الله الزيادي W.W.W.islamicrabta.com

ان فهم الواقع نافذة تساعد على تحقيق الاهداف والمبادى العليا للتشريع، وهو أمر ضروري يلزم عنه ضرورة النظر في توافق العُرف مع الشرع أو مخالفته، وذلك لأن مصادر الوحي تتوافر فيها الأدلة والقواعد والأحكام اللازمة والشروط العلمية والمبادئ الأصولية التي تمكّن الفقيه من التمييز بين العُرف المعتبر شرعاً وغيره. وفي مجال فقه العمران يلزم التركز على محورين، هما:

1- فطرة الإنسان.

2- طبيعة العمران.

ومن خلالهما فإنَّ علم العمران مؤهل لتقديم خدمات معرفية لتلك الأصول(1).

والكلام عن عقيدة الاستخلاف في حياة المُسلم ينطوي على نماذج ومشاريع إصلاحية عديدة، يحاول

ص: 54


1- قراءة في كتاب علم العمران الخلدوني تأليف: صالح طاهر مشوش، موقع المعهد العالمي للفكر الاسلامي

أصحابها إيجاد طريقة لتفعيلها في حياة المُسلم، فهو ليس معزولاً عن علم العمران، وأهميته لا تقل عن العمران، بدلالة الإرادة الإلهية في خلق الإنسان.

ولذلك يمكن الاستعانة بمفاهيم أخرى لتوضيح عقيدة الاستخلاف، ينبني بعضها على نظام كلي، تشكل مادته ثلاث قضايا أساسية، هي:

- مرجعية النص الوحياني.

- الفطرة السليمة التي هي عماد العمران البشري.

- الاستناد لمبدأ التسخير، ولاهمية نسلط الضوء عليه بشيء من التفصيل.

ثانياً - التسخير:

تشير آيات كثيرة في القرآن الكريم إلى ان الكون قد سخره الله سبحانه للإنسان أي طوعّه وذلله ليستطيع الانتفاع به والتصرف فيه، ويمكن ذکر بعض الآيات الكريمة في ذلك:

ص: 55

قال تعالى: «وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا»(1).

- قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»(2).

- قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ»(3).

إلى غيرها من الآيات التي تذكر ما سخره الله للانسان في الكون لينتفع به دون تملكه.

ان النظرة إلى ايات التسخير الواردة في القرآن

ص: 56


1- سورة الجاثية: 13
2- سورة النحل: 14
3- سورة الحج: 65

الكريم يمكن ان تبين امور عدة منها:

1- ان هذا التسخير المذكور في ايات القرآن الكريم محدود بإرادة الله ولا يستطيع الإنسان مهما أوتي من قوة مادية أو علمية ان يحصر الاستفادة منه بفئة معينة أو افراد محددين، ولذلك فهو لانتفاع الجميع يمكن ان يحصل حق الاختصاص بالانتفاع به عند التزاحم والاسبقية.

2- إذا كان التسخير الإلهي لمظاهر الكون للانسان نعمة فهي إذاً حق من حقوقه التي منحه الله اياها يستطيع من خلاله الانتفاع بكل ما فيه صلاح لبناء المجتمع.

3- ان جميع موارد الحياة خلقها الله لنا، وبالتالي فان الانتفاع بها يعتبر في الإسلام حقاً للجميع، وينبغي ان لا ينظر إليها انها ملكية منحصرة في جيل معين دون غيره بل هي ملكية مشتركة لجميع الناس، ينتفع بها كل جيل بحسیب حاجته دون

ص: 57

اخلال بمصالح الاجيال القادمة(1).

ومن هنا نعلم أن العمارة الحقيقية إنما تبدأ من فكر الإنسان وتنمية وعيه بقيم الحقوق والواجبات العمرانية، ولو فُقدت هذه الأحكام والمبادئ لأصبحت مهمة العمران من مفاسد الأرض وجلب الظلم وانتهاك حقوق الأفراد، وهذا ما قصده ابن خلدون في قوله: «إن الحضارة مفسدة للعمران»(2)، من حيث وصولها إلى مرحلة الترف المؤدي إلى فساد الأخلاق، وتمزق المجتمع، وذهاب ثروته نحو طبقة متفردة تنتهي بها الدولة(3). ولذلك قال الامام في بداية عهده: «وَاسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا، وَعِمَارَهَ بِلَادِهَا»(4).

ص: 58


1- ظ: د. احمد عبد الرحيم وعوض، ود. احمد عبده، قضايا البيئة من منظور اسلامي، مركز الكتاب للنشر، ط 1، القاهرة، 1425 ه - 2004 م، ص 72 - 76
2- ابن خلدون المقدمة 3 / 877
3- الجابري فكر ابن خلدون. العصبية والملك ص 233 وما بعدها
4- نهج البلاغة، ص 695

ومما تقدم يمكن ان ننتهي الى القول: ان التأسيس النظري لفقه العمران عند الامام علي، مرتبط بعدد من المفاهيم والقواعد الكلية، تشكل المنطلق للفعل العمراني، من دونها لا تتحقق غاية العمران.

ص: 59

المبحث الثالث اجراءات فقه العمران عند الامام علي (علیه السلام)

اشارة

اتضح في المباحث السابقة المعالم النظرية لفقه العمران عند الامام علي، وفي هذا المبحث نسلط الضوء على بعض الامور العملية التي اقرها الامام في سبيل عمران الدولة ومواطنيها واقاليمها.

ولعل ما قام الامام علي بتوزیع ثروات الدولة توزيعا عادلا على جميع افراد الامة، من الاجرائیات المهمة في تحقيق العمران:

أولا- إجراءات أولية.

1- المساواة في التوزيع والعطاء:

بدء الامام علي عليه السلام عهده في الخلافة بتعزيز المساواة والعدالة الاجتماعية والاقتصادية

ص: 60

التي من شأنها تحقيق العمران، يقول: «ولا يتخلّفنّ أحدٌ منكم عربيّ ولا عجميّ، كان من أهل العطاء أم لم يكن، إلّا حضر ..»(1).

وفي خطبةٍ له عليه السلام يؤكّد مبدأ المساواة والعدالة، يقول: «فأمّا هذا الفيء فليس لأحدٍ على أحد فيه إثرة، وقد فرغ الله من قسمته، فهو مال الله، وأنتم عباد الله المسلمون، وهذا كتاب الله به أقررنا وله أسلمنا، وعهد نبیِّنا بين أظهرنا فمن لم يرضَ به فليتولّ کیف شاء»(2).

فليس لاحد على أحد فضل أو امتياز، وانما الجميع على حد سواء، فلا فضل للمهاجرين على الانصار ولا لأسرة النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) و أزواجه على غيرهم، ولا للعربي على غيره، وقد طبق الامام (علیه السلام) هذه الجهة بصورة دقيقة وشاملة فكان قدساوی بین

ص: 61


1- ابن ابي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة: 7 / 37
2- المصدر نفسه: 7 / 40

المسلمين في العطاء، ولم يميز قوما على آخرين، فقد وفدت اليه سيدة قرشية من الحجاز طالبة منه الزيادة في عطائها، وقد التقت قبل أن تصل اليه بعجوز فارسية كانت مقيمة في الكوفة فسألتها عن عطائها فاذا به يساوي ما خصص لها، فأمسكت بها وجاءت بها اليه، وقد رفعت عقيرتها قائلة: «هل من العدل أن تساوي بيني وبين هذه الامة الفارسية؟!!». فرمقها الامام بطرفه، وتناول قبضة من التراب، وجعل ينظر اليه ويقلبه بيده وهو يقول: «لم يكن بعض هذا الترب أفضل من بعض، وتلا قوله تعالى پ: «إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ»(1).

وقد سببت هذه الاجراءات العمرانية في اثارة بعض النفعيين، فأعلنوا سخطهم وعداوتهم على

ص: 62


1- سورة الحجرات: الآية 13

الامام، ولم يقف الامر عند هذه الحد بل وصل الامر الى مطالبة بعض اصحابه بالعدول عن اجراءاته، حتى ان الامام اجابهم: «أَتَأْمُرُونِّی أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِیمَنْ وُلِّیتُ عَلَیْهِ! وَاللّهِ لَاأَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِیرٌ، وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِی السَّمَاءِ نَجْماً! لَوْ کَانَ الْمَالُ لِی لَسَوَّیْتُ بَیْنَهُمْ، فَکَیْفَ وَإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللّهِ. أَلَا وَإِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِی غَیْرِ حَقِّهِ تَبْذِیرٌ وَإِسْرَافٌ، وَهُوَ یَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِی الدُّنْیَا وَیَضَعُهُ فِی الْآخِرَهِ، وَیُکْرِمُهُ فِی النَّاسِ وَیُهِینُهُ عِنْدَ اللّهِ»(1).

ويرى المدائني أن من اهم الاسباب التي أدت إلى تخاذل الكثير عن الامام اتباعه لمبدأ المساواة حيث كان لا يفضل شريفا على مشروف - في العطاء - ولا عربيا على عجمي(2).

ص: 63


1- نهج البلاغة، ص 289
2- شرح ابن أبي الحديد 1 / 180

2- ربط الانفاق بالعمران:

تطوير اقتصاد الدولة، وتحقيق العمران من اهم اهداف الانفاق، وقد أكد الامام في عهده للأشتر علی عمران الارض قبل جباية الخراج يقول: «ولیکن نظرك في عمارة الارض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لان ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغیر عمارة اخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره الا قليلا...»(1). ولذلك دعا الامام ايضا الى ترشيد الانفاق.

وهذه اهم المبادئ الاقتصادية التي تشجع على الاستثمار وتحقيق الرفاهية الاجتماعية والاقتصادية لأفراد المجتمع، والتخفيف من مستوى الفقر.

ولذلك كانت للأمام وصایا و اوامر للولاة تعزز روح التعاون وتحقق مبدا الضمان الاجتماعي وفي هذا المجال جاء في عهده المالك الأشتر «ثم

ص: 64


1- المصدر نفسه

الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسي والزمني فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً واحفظ الله ما استحفظك من حقه فيهم واجعل لهم قسماً من بيت مالك من غلات صوافي الإسلام في كل بلد فإن للأقصى مثل الذي للأدنى و كل قد استرعيت حقه فلا يشغلنك عنهم بطر»(1).

ويختلف معنى الطبقة في زمن الامام (علیه السلام) عن المعاني المتغيرة، للطبقات المتطورة والمستحدثة، في العصور المختلفة، وبخاصة في العصر الراهن، ولذلك يقول في عهده لمالك الأشتر: «وَاعْلَمْ اَنَّ الرَّعِیَّةَ طَبَقاتٌ لا یَصْلُحُ بَعْضُها اِلاّ بِبَعْضٍ، وَ لا غِنی بِبَعْضِها عَنْ بَعْضٍ: فَمِنْها جُنُودُ اللّهِ، وَ مِنْها کُتّابُ الْعامَّةِ وَالْخاصَّةِ، وَ مِنْها قُضاةُ الْعَدْلِ، وَ مِنْها عُمّالُ الْاِنْصافِ وَ الرِّفْقِ، وَ مِنْها اَهْلُ الْجِزْیَةِ وَ الْخَراجِ مِنْ

ص: 65


1- نهج البلاغة ص 438

اَهْلِ الذِّمَّةِ وَ مُسْلِمَةِ النّاسِ، وَ مِنْها التُّجّارُ وَ اَهْلُ الصِّناعاتِ، وَ مِنْها الطَّبَقَةُ السُّفْلی مِنْ ذَوِی الْحاجَةِ وَ الْمَسْکَنَةِ، وَ کُلٌّ قَدْ سَمَّی اللّهُ لَهُ سَهْمَهُ، وَ وَضَعَ عَلی حَدِّه فَریضَتِهِ فی کِتابِه اَوْ سُنَّهِ نَبِیِّه (صلی الله علیه و آله وسلم) عَهْدا مِنْهُ عِنْدَنا مَحْفُوظاً»(1).

أي ان الدلالة الاقتصادية، والدينية والعسكرية، متداخلة تبعا لتداخل الفئات المذكورة في المجرى العام لحركة العمران الخاصة بالمجتمع والدولة في الاسلام، الا ان الامام علي يركز على (الوحدة) و (التنوع) في التركيبة الاجتماعية للرعية، فهو يرفض عمومية التحدث عن وحدة الرعية، مقدما رؤية واقعية عن مكان كل طبقة، وفعاليتها الاجتماعية والاقتصادية و (العسكرية)(2).

3- الفصل بين الاموال العامة وبين أموال الأفراد ص: 66


1- نهج البلاغة، ص 704
2- ظ: عزيز السيد جاسم، علي سلطة الحق، ص 419

من قبل رجال الدولة والمتصدين للشأن العام:

حرص الامام على نهي ولاته في الامصار على عدم الاستئثار بأي شيء من الأموال العامة، فقد تحرج الامام فيها كأشد ما يكون التحرج.

وبالتأكيد ان يحصل مثل هذا الامر من قبل اهل الطمع، الذين لا يناسبهم زهد الامام (علیه السلام) وأقواله حيث يقول: «ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة - ولعلّ بالحجاز أو باليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع - أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرى أو أكون كما قال القائل:

وحسبك عاراً أن تبيت ببطنة *** وحولك أكباد تحن الى القد

أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين ولا اشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش! فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات

ص: 67

كالبهيمة المربوطة همها علفها أو المرسلة شغلها تقممها تكترش من أعلافها وتلهو عما يراد بها أو أترك سدى..»(1).

وتذكر بعض المصادر ان الامام اجاب عمر بن الخطاب عندما سأل عما يصلح لي من بیت المال فقال له الامام علي: «غداء، وعشاءٌ فأخذ عمر بذلك»(2).

وكان يقول الامام (علیه السلام) لأصحابه في هذا الشأن إني سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) یقول: «لا يحل للخليفة من مال الله إلا قصعتان، قصعة يأكلها هو وأهله»(3).

ثانيا - بيت المال و الخراج والعمران:

يعد «بیت المال» مجمع الثروة الاجتماعية للدولة

ص: 68


1- المصدر نفسه: 16 / 287
2- ابو يوسف، الخراج، ص 35
3- مسند أحمد في المسند، 1 / 78. وظ: ابن کثیر، البداية والنهاية: 8 / 2، مکتبة المعارف بيروت

الاسلامية، ومصدر تنظيمها وتوزيعها، ويحمل بيت المال معنيين، حسب نوع السياسة العامة لقيادة الدولة(1):

الأول: قد یکون بیت المال الحكومي الذي يكرس إرادة قيادة سلطة الدولة ومصالح الفئات الاجتماعية المرتبطة والموالية لها، وهو بهذه المعنی ذو دلالة طبقية، ممثلة لمصالح القوى السياسية والطبقة المتنفة ومنافية للمعنى الذي حدده الاسلام لبيت المال.

الثاني: وهو المصداق الذي حدده التشريع الإسلامي، ويكون ماثلا في تكريس بيت المال لخدمة المسلمين ومن يعيش في كنف الدولة عموما.

وتتكون خزائن بیت المال بشكل اساس من «الخراج» و «الجزية» وبقية الموارد مثل الزكاة وغيرها، ويعد الخراج الدعامة الأساسية الإقتصاد

ص: 69


1- ظ: عزيز السيد جاسم، على سلطة الحق، ص 422

الدولة في الاسلام في ذلك الوقت؛ لان اغلب مراتب الجند - مثلا - من موارد الخراج: «فإذا ادت الرعية إلى الوالي حقه، وادي الوالي اليها حقها، عز الحق بينهم وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على اذلالها السنن فصلح بذلك الزمان وطمع في بقاء الدولة ويئست مطامع الاعداء»(1).

ومن الاخطاء الفادحة التي تمثل انحرافا خطيرا عن المضمون العمراني الاجتماعي لبيت المال، توجه أجهزة الدولة وجباتها الى الافراط في الجباية، على حساب الاهتمام بعمران الارض، أي أن استجلاب الخراج يصبح سياسة النظام وهمّه الكبير، دونما أي اكتراث بالعلاقة الاقتصادية والسياسية بين الخراج وأحوال الناس(2).

وكان منهج الامام علي في العمران «وحدة

ص: 70


1- نهج البلاغة، ص 419
2- ظ: عزيز السيد جاسم، علي سلطة الحق، ص 423

العناية بالخراج والجزية بالانطلاق من الاهتمام بعمران الارض»، فهو يقول في عهده للأشتر «وَلْيَکُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الاَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلاَبِ الْخَرَاجِ»،(1) غير ان عمران الارض - نفسه - مرتبط أصلا بمكانة الانسان وقيمته(2)، لذلك يقول: «وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَة أَخْرَبَ الْبِلاَدَ، وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاَّ قَلِيلاً»(3).

وتظهر وحدة الافق بين الانسان وعمران الارض والخراج وبناء الدولة في ذلك التأصيل المنهجي لوحدة العلاقة الاقتصادية بمضمونها العمراني الانساني بين تلك الاطراف في قوله عليه السلام: «وَتَفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ، فَإِنَّ فِي صَلاَحِهِ وَصَلاَحِهِمْ صَلاَحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ، وَلاَ صَلاَحَ

ص: 71


1- نهج البلاغة، ص 712
2- ظ: عزيز السيد جاسم، علي سلطة الحق، ص 423
3- نهج البلاغة، ص 712

لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلاَّ بِهِمْ، لاَنَّ النَّاسَ کُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَى الْخَرَاجِ وَأَهْلِهِ»(1).

ولكي يؤدي الخراج فاعليته المادية والمعنوية حرص الامام على وضع مجموعة من الاسس التشريعية ليحقق الخراج اثره العمراني:

1- محاسبة العمال على سياستهم عند المخالفة. حرص الامام علي بنهجه العادل على محاسبة الولاة والعمال الذين يمثلون سياسة الدولة، ومتابعة أعمالهم، ذلك ان الولاة والعمال هم وجه السلطة، وصورتها المعبرة عنها، في الامصار والمناطق البعيدة عن مركز الخلافة، فالناس يرون في الولاة والعمال عليهم صورة الخليفة ووجه الدولة، والممثل لنهجها و سیاستها(2)، فاذا انهارت ثقة الناس بهؤلاء انهارت الدولة.

ص: 72


1- المصدر نفسه
2- ظ: عزيز السيد جاسم، علي سلطة الحق، ص 433

ومن كتاب له (علیه السلام) إلى مصقلة بن هُبَيرة الشيباني وهو عامله على أردشير خُرّة: يلزمه بإعادة المبلغ الذي أخذه من بيت المال، والذي أنقذ فيه من الاسر خمسمائة رجل معظمهم من بني بكر بن وائل قوم مصقلة، قال فيه: «بَلَغَنِی عَنْكَ أَمْرٌ إِنْ کُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ إِلهَكَ، وَأَغْضَبْتَ إِمَامَكَ: أَنَّكَ تَقْسِمُ فَیْءَ الْمُسْلِمِینَ الَّذِی حَازَتْهُ رِمَاحُهُمْ وَخُیُولُهُمْ، وَأُرِیقَتْ عَلَیْهِ دِمَاؤُهُمْ، فِیمَنِ اعْتَامَكَ مِنْ أَعْرَابِ قَوْمِكَ، فَوَالَّذِی فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، لَئِنْ کَانَ ذلِكَ حَقّاً لَتَجِدَنَّ بِكَ عَلَیَّ هَوَاناً، وَلَتَخِفَّنَّ عِنْدِی مِیزَاناً، فَلاَ تَسْتَهِنْ بِحَقِّ رَبِّكَ، وَلاَ تُصلِحْ دُنْیَاكَ بِمَحْقِ دِینِكَ، فَتَکُونَ مِنَ الْأَخْسَرِینَ أَعْمَالاً»(1).

2- تحصيل الخراج بالحق، فمن كتاب له عليه السلام إلى قیس بن سعد بن عبادة، وهو عامله

ص: 73


1- نهج البلاغة، ص 673، وذكره البلاذري في انساب الاشراف، ص 160

على آذربایجان: (اما بعد فاقبل على خراجك بالحق، وأحسن إلى جندك بالإنصاف، وعلم من قبلك مما علمك الله)(1).

وبلغ من احتياط الإمام (علیه السلام) لتحقيق العدل انه كان يوصي عمال صدقاته بالتأدب مع الناس والتزام اللطف بهم، وجاوز ذلك إلى إلزامهم بالرفق بحيواناتهم المستحقة لفريضة الصدقات عليها «ولا تنفرن بهيمة، ولا تفزعنها، ولا تسوءن صاحبها فيها» ونصح بالرفق بما جبي من حيوانات الصدقة والعناية بها، لأنها ملك لبيت مال المسلمين والمستحقين لها، «ولا توكل بها إلا ناصحا شفيقا وأمينا حفيظا، غير معنف ولا مجحف ولا ملغب ولا متعب»(2).

3- اتباع سياسة التحذير لمن يعطل او يؤخر

ص: 74


1- تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 178
2- نهج البلاغة، ص 611

الحراج من الولاة، وسياسة التشجيع والتحفيز لمن يجلبه في وقته، وهذا جانب التحقيق العمران في اقاليم الدولة، فمن كتاب له (علیه السلام) الى يزيد بن قيس الارحبي(1): «أما بعد فإنك أبطأت بحمل خراجك، وما أدري ما الذي حملك على ذلك، غير أني أوصيك بتقوى الله، وأحذرك أن تحبط أجرك وتبطل جهادك بخيانة المسلمين، فاتق الله ونزه نفسك عن الحرام،

ص: 75


1- قال الشيخ الطوسي (تحت الرقم السادس من باب الياء من اصحاب أمير المؤمنين (ع) من رجاله ص 62 -: یزید بن قیس الارحبي كان عامله على الري و همدان و اصبهان. وفي شرح المختار - 25) من خطب نهج البلاغة من شرح ابن ابي الحديد: ج 2 ص 4 س 1، عکسا: انه (ع) شکا قومه ممن كاتب معاوية من اهل (الجند وصنعاء) إليه، وأراد (ع) أن يبعثه للتنكيل بهم. فراجع القضية فانها دالة على جلالته، لا سيما باضافة ما قيل من أنه أخو سعید بن قيس الهمداني المتفاني في ولاء أمير المؤمنين (ع) هو خاصة، وقومه عامة. وفي قصة اعتزال الخوارج عليا (أمير المؤمنين عليه السلام) من تاريخ الطبري: ج 4 ص 47، من حوادث سنة 37، وكذلك في كامل ابن الأثير: ج 3 ص 166

ولا تجعل لي عليك سبيلا، فلا أجد بدا من الايقاع بك، واعزز المسلمين ولا تظلم المعاهدين، «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ»(1)»(2).

ومن كتاب له (علیخ السلام) إلى سعد بن مسعود الثقفي - عم المختار - عامله على المدائن: «أما بعد فإنك قد أديت خراجك وأطعت ربك وأرضيت إمامك فعل البر التقي النجيب، فغفر الله ذنبك وتقبل سعيك وحسن مآبك»(3).

وتأكيدا للردع والنهي عن الجور والفساد في هذا الشأن - وهو الهاجس الذي يؤرق الإمام (علیه السلام) ويشغل باله لما شهده في زمان العمال قبله - حذر

ص: 76


1- القصص: 28
2- تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 176
3- المصدر نفسه

الإمام عمال الخراج، في كتاب وجهه إليهم، من سوء التصرف والتعسف في معاملة الناس واضطرارهم إياهم إلى ما لا يجوز ولا يصح «ولا تبيعن الناس في الخراج - أي بسببه - كسوة شتاء ولا صيف، ولا دابة يعتملون عليها، ولا عبدا، ولا تضر بن أحدا سوطا لمكان درهم»(1).

4 - الحرص على قوة وهيبة الدولة أمام الرعية، مع الاحتفاظ بالرحمة في باطن العمال. وعدم التعدي على حاجات الناس الأساسية، والرحمة بهم والعفو عنهم. ومما يدلل على هذا المنهج العمراني خطابه عليه السلام لاحد قَالَ: «اِسْتَعْمَلَنِی عَلِیُّ بْنُ أَبِی طَالِبٍ رَضِيَ اللهَّ عَنْهُ عَلَى عُکْبُرَاءَ فَقَالَ لِي وَأَهْلُ الأَرْضِ معي يسمعون «انْظُرْ أَنْ تَسْتَوْفِیَ مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْخَرَاجِ وَإيَّاكَ أَنْ تُرَخِّصَ لَهُمْ فِی شَیْءٍ، وَإِيَّاكَ أَنْ یَرَوْا مِنْكَ ضَعْفًا، ثُمَّ قَالَ: رُحْ إِلَيَّ عِنْدَ الظُّهْرِ، فَرُحْتُ إِلَيْهِ عِنْدَ

ص: 77


1- نهج البلاغة، ص 693

الظُهْرِ فَقَالَ لِي: إِنَّمَا أَوْصَيْتُكَ بِالَّذِي أَوْصَيْتُك بِهِ قُدَّامَ أَهْلِ عَمَلِكَ لأَنَّهُمْ قَوْمُ خِدَع، انْظُرْ إِذَا قَدِمْتَ عَلَيْهِمْ فَلا تَبِيعَنَّ لَهُمْ کِسْوَةَ شِتَاءٍ وَلا صَيْفِ، وَلا رِزْقًا یَأْکُلُونَهُ، وَلا دَابَّةً يَعْمَلُونَ عَلَيْهًا وَلا تَضْرِبَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ سَوْطًا وَاحِدًا فِي دِرْهَمٍ، وَلا تُقِمْهُ عَلَى رِجْلِهِ فِي طَلَبِ دِرْهَمٍ، وَلا تَبِعْ لأَحَدٍ مِنْهُمْ عَرَضًا فِي شَيْءٍ مِنَ الْخَرَاجِ، فَإِنَّا إِنَّمَا أَمِرْنَا أَنْ نَأْخُذَ مِنْهُمُ الْعَفْوَ فَإِنْ أَنْتَ خَالَفْتَ مَا أَمَرْتُكَ بِهِ یَأْخُذُكَ الله بِهِ دُونِي وَإِنْ بَلَغَنِي عَنْكَ خِلافَ ذَلِكَ عَزَلْتُكَ قَالَ: قُلْتُ: إِذَنْ أَرْجِعُ إِلَيْكَ کَمَا خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِكَ قَالَ: وَإِنْ رَجَعْتَ کَمًا خَرَجْتُ قَالَ: فَانْطَلَقْتُ فَعَمِلْتُ بِالَذِي أَمَرَنِي بِهِ، فَرَجَعْتُ وَلَمْ أُنقَصْ مِنَ الخَرَاجِ شَیْئًا»(1).

ويستشرف الإمام علي، المصير الذي سارت إليه دولة الأمويين، من خلال نظرتها القصيرة إلى الخراج، مقترناً لديها بالاستغلال، ذلك الذي ألبَّ

ص: 78


1- الخراج لأبي يوسف، ج 1 ص 15

عليها شعوب البلدان المفتوحة. وخلافاً لذلك، حرص علي على تكريس الشعور بالمساواة لدى هذه الشعوب، محذراً من استغلال أهل الخراج، وموصياً بالتالي أن يؤخذوا باللين والحوار والمودة.(1) ولعل كتابه إلى عمّال الخراج، يشكل نموذجاً في هذا المجال، محدداً وظيفة الخراج وطبيعتها وصفات العامل عليه ورسالته. وقد جاء فيها: «فانصفوا الناس من أنفسكم، واصبروا لحوائجهم، فإنکم خُزّانُ الرعية ووكلاء الأمة وسفراء الأئمة، ولا تحسموا أحداً عن حاجته ولا تحبسوه عن طِلبتهِ، ولا تبيعُنَّ للناس في الخراج كسوةَ شتاءٍ ولا صيف ولا دابة يعتملون عليها ولا عبداً، ولا تضربُنَّ أحداً سوطاً لمكانٍ درهم، ولا تمسُّن مال أحد من الناس مُصَلَّ ولا مُعاهَدٍ، إلا أن تجدوا فرساً أو سلاحاً

ص: 79


1- د. ابراهیم بیضون / «الامام علي في رؤية النهج» و «رواية التاريخ»

يُعتدى به على أهل الإسلام»(1).

أن الامام علي «كان يؤمن بمقولة (الناس على دین ملوكهم) وليس بمقولة (كيفما تكونوا یولَّ علیکم) فأشد ما كان يشغل فكر الإمام هو صلاح ذوي الشأن القائمين على أمور الناس في مجال الإدارة والقضاء والدفاع وغيرها من شؤون إدارة الدولة، انطلاقا من إيمانه بمقولة (صلاح الرعية بصلاح الوالي) لذلك لا نجد في (العهد) کله غير تفصيلات واجب المسؤول تجاه مسؤوليه وتذكيره بإقامة حكم الله وسلطان الحق فيهم، ثم رعايتهم بأقصى ما يستطيع من ذلك»(2)

ثالثا - اولوية العمران على جلب الخراج:

ص: 80


1- نهج البلاغة، ص 693
2- الدكتور صاحب أبو جناح، السياسة الإدارية عند الإمام علي عليه السلام قراءة في عهد التولية لمالك الأشتر: . http://arabic .balaghah.net/content

اتبع الامام علي سياسة اقتصادية واقعية في الخراج، توازن بينه وبين الواقع الاجتماعي والاقتصادي لمواطني الدولة، ليؤدي الخراج دوره العمراني.

من خلال الضبط الإداري والتفويض والصلاحية بحسب كل حالة، فأمر بعض الولاة بطاعة صاحب بیت المال فيما يتعلق به وذلك كنوع من الاستقلال، بينما أعطى ولاة آخرين مسؤولية عامة عن الحراج کالأشتر النخعي جاء في العهد: «هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللّهِ عَلِیٌّ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ، مَالِکَ بْنَ الْحَارِثِ الْأَشْتَرَ فِی عَهْدِهِ إِلَیْهِ، حِینَ وَلَّاهُ مِصْرَ: جِبَایَهَ خَرَاجِهَا، وَجِهَادَ عَدُوِّهَا، وَاسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا، وَعِمَارَهَ بِلَادِهَا...»(1)

وقد عمد الامام علي في بعض الحالات إلى فصل وظيفة الخراج، كذلك بیت المال، ضبطاً لمالية الدولة، وحتى لا تكون السلطات محصورة بكاملها

ص: 81


1- نهج البلاغة، ص 610

في يد الوالي الذي قد يلجأ إلى استغلال نفوذه الواسع. ولقد روى اليعقوبي أن علياً كتب إلى قرظة ابن کعب الأنصاري، يأمره بشق نهر كان قد عفا في أرضٍ لأهل الذمة، خاتماً رسالته بالقول: «فلعمري لأن يعمروا أحب إلينا من أن يخرجوا»(1). وهكذا يأتي تشجيع الزراعة في خدمة الاستقرار، ويقترن الخراج بعمارة الأرض وإصلاحها، ولعل هذه السياسة، وإن وجدها البعض «شديدة»، لا سيما المتضرّر من المساواة، حفرت بعمق أمام الإسلام لينتشر بتلك السرعة في البلاد المفتوحة(2).

اهتم الامام في الحفاظ على عمران الأراضي وأولويتها على أمر الخراج، وان كان الخراج مورداً رئيساً لبيت المال الذي تعتمد عليه الدولة في سد حاجاتها المالية مع الإضرار به يؤثر على حياة الأفرادا

ص: 82


1- تاريخ اليعقوبي، 2 / 192
2- د. ابراهیم بیضون / «الامام علي في رؤية النهج» و «رواية التاريخ»

وربما يؤدي إلى هلاكهم.

ولذلك يروي ان الامام (علیه السلام) كان في احد الايام يمشي في سكك الكوفة، فنظر إلى رجل يستعطي الناس: فوجه الإمام السؤال إلى من حوله من الناس قائلاً: ما هذا؟ فقالوا: إنه نصراني کبر وشاخ ولم يقدر على العمل، وليس له مال يعيش به، فيكتنف الناس.. فقال الإمام - في غضب: استعملتموه على شبابه حتى إذا کبر تركتموه؟ ثم جعل الإمام (علیه السلام) لذاك النصراني من بيت مال المسلمين مرتباً خاصاً ليعيش به حتى يأتيه الموت(1).

وهذا يدل على أن الفقر كاد أن لا يرى لنفسه مجالاً في دولة الإمام حتى إذا رأى الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) فقيراً واحداً كان يستغرب، ويعتبره ظاهرة مخالفة للعمران الذي اراده الله تعالى على هذه الارض وغير لائقة بالمجتمع الانساني.

ص: 83


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة: ج 15 ص 66 ب 19 ح 19996

ولذلك امر مالك الاشتر بعمران الارض اولا وليس جلب الخراج، ليخفف عن الناس ويزدهر العمران، قال الامام «ولیکن نظرك في إعمار الأرض أبلغَ من نظرك في استجلاب الخراج لأن ذلك يُدَركُ بالعمارة ومن طلب الخراج بغیر عمارة أضر بالبلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلاً، فإن شكوا ثقلاً أو علة أو انقطاع شرب أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش خفَفتَ عنهم بما ترجوا أن يصلح به أمرهم. فإن العمران محتمل ما حملته وإنما خراب الأرض من إعواز أهلها وإنما إعوازها أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع وسوء ظنهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعِبر...»(1).

كانت نظرة الامام علي إلى الخراج - الذي يرتبط عضوياً بالعطاء -، خصوصاً بعد توقف الغنائم إثر رکود جبهات الفتوح. وهي نظرة تؤسس لعلاقة

ص: 84


1- نهج البلاغة، ص 713

إيجابية مع شعوب البلاد المفتوحة، بما يسهم في عمرانها وتعزيز انتمائها للأمة. لذا يرى ضرورة إصلاح أمر الخراج، بما يتعدى الجباية، إلى المسألة الاقتصادية برمّتها، حيث يشكل الخراج المصدر الأساسي لها في ذلك الوقت،(1) وهذا ما يمكن قراءته بوضوح في عهده للأشتر، فيوصيه قائلاً: «تفقد أمر الخراج بما يُصلح أهله، فإن في صلاحه وصلاحهم، صلاحاً لِمَن سِواهم، ولا صلاح لمن سِواهم إلا بهم، لأن الناس كلّهم عيال على الخراج وأهله. ولیکن نظرك في عمارة الأرض أبلغَ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يُدرك إلا بالعمارة. ومن طلب الخراج بغير عبارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلاً»(2).

فإذا تعرضت الأرض إلى عطش بسبب شحّة

ص: 85


1- د. ابراهیم بیضون / «الامام علي في رؤية النهج» و «رواية التاريخ»
2- نهج البلاغة، ص 624

المطر أو انقطاع مياه الري أو إلى آثار الفيضان أو الآفات الزراعية لزمه التخفيف عن كاهل أهلها -عند الجباية - بما يصلح أمرهم، وليس في ذلك خسارة على بيت المال بل تشجيع لهم على معاودة الإنتاج بجد ونشاط، وإصلاح عمارة الأرض، فضلا عما فيه من إشاعة الطمأنينة في نفوس الناس تجاه أولياء الأمور، واستعدادهم للبذل والمعونة عند حدوث أزمة أو إلمام ملمة. فليس من المصلحة استنزاف ما في ايدي المزارعين، لأن خراب الأرض يؤتى من إعواز أهلها الناجم عن إلحاح أهل الجباية والتحصيل، وهو ما حذّر منه الإمام ع، لأنه من مظاهر الفساد والجور وسوء التدبير(1) لان من «طلب الخراج بغیر عمارة الأرض أخرب البلاد

ص: 86


1- الدكتور صاحب أبو جناح، السياسة الإدارية عند الإمام علي (علیه السلام) قراءة في عهد التولية لمالك الأشتر:. http://arabic .balaghah.net/content

وأهلك العباد»(1)

وبالعودة إلى المصادر التاريخية، نجد ان الإمام علياً يلتزم القاعدة التي اشار بها على عمر بن الخطاب بالامتناع عن تقسيم الاراضي التي فتحت عنوة بين الفاتحين، وبالتالي لزوم إبقائها بید اهلها، كي لا تؤول الى الخراب بانتقالها الى الغير(2).

وكذلك عرف عن الامام علي انه كان يعمل جهده على تحقيق عدالة التوزيع والحيلولة دون تكتل الاراضي والضياع بید افراد قلائل يستأثرون بها، دون عمرانها، ولذلك بادر فور توليه الخلافة الى الامر بإرجاع القطائع التي اقطعها عثمان الى بيت المال، يقول: «ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال،

ص: 87


1- نهج البلاغة، ص 713
2- ظ: الحنبلي، الاستخراج، ص 37، وظ: باقر شريف القرشي، ص 23

فإن الحق القديم لا يبطله شيء ولو وجدته قد تزوج به النساء وفرق في البلدان لرددته إلى حاله، فإن في العدل سعة ومن ضاق عنه العدل فالجور عليه أضيق»(1).

وهي سياسة أثارت على الخليفة الأسبق قریشاً وبعض صحابتها، كما أثارت قادة الأمصار الذين استفزهم منح الخليفة عثمان قطائع لهؤلاء ولأقربائه، وهو ما يبدو أنه كان أحد حوافز القادة للثورة على الخليفة. ولذلك كان استرداد هذه «القطائع»، جزءاً من الحركة الإصلاحية التي استهدفت من جانب علي مجمل نهج الخليفة السابق، على كافة الصعد السياسية والإدارية والاقتصادية.

ص: 88


1- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 269 270

الخاتمة

بعد هذه الوقفة الفكرية مع عهدعلي عليه السلام، يمكن ذكر بعض المستخلصات:

1. ورد لفظ اشتقاق لفظ العمران والعمارة في نهج البلاغة سبع مرات، اثنان اريد بها العمران المعنوي وخمس منها المادي، وهذه الألفاظ الخمسة وردت جميعها في عهده (علیه السلام) للأشتر.

2. وربط معنى العمارة المادية بالعبارة الروحية، حيث المبدأ العام للشريعة، وتحقيق التمكين، رکن اساس في تأصيل فقه العمران عند الامام علي (علیه السلام).

3. تضمن عهد الامام علي المالك الاشتر تأكيدا على اولوية العمران البشري ومن ثم عمارة الأرض بالبناء و الصناعة والزّراعة والانتفاع بما فيها كجزء

ص: 89

من مقتضيات الاستخلاف العامّ للنّاس في الأرض.

4. لقد سبق الإمام علي في نهج البلاغة في تأصيل مفاهیم فقه العمران وحولها الى إلى إجراءات عمل ضمها عهده للأشتر، و مشاريع بناء، وعمارة للأرض من اجل المساهمة في صياغة فعل إنساني يتجاوز انحطاط الواقع وغموض المستقبل.

5. في مجال فقه العمران يلزم التركز على محورین، هما: فطرة الإنسان، وطبيعة العمران. ومن خلالهما فإنَّ علم العمران مؤهل لتقديم خدمات معرفية لتلك الأصول، ولذلك فان التأسيس النظري لفقه العمران عند الامام علي، مرتبط بعدد من المفاهيم والقواعد الكلية، تشكل المنطلق للفعل العمراني، من دونها لا تتحقق غاية العمران.

6. تظهر وحدة الأفق بين الإنسان وعمران الأرض وبناء الدولة في ذلك التأصيل المنهجي

ص: 90

لوحدة العلاقة الاقتصادية بمضمونها العمراني الإنساني بين تلك الأطراف، ولكي يؤدي المنهج فاعليته المادية والمعنوية حرص الإمام علي على وضع مجموعة من الأسس التشريعية لتحقق الموارد المالية للدولة اثرها العمراني.

7. حرص الإمام علي بنهجه العادل على محاسبة الولاة والعمال الذين يمثلون سياسة الدولة، ومتابعة أعمالهم، ذلك ان الولاة والعمال هم وجه السلطة، وصورتها المعبرة عنها، في الأمصار والمناطق البعيدة عن مركز الخلافة، فالناس يرون في الولاة والعمال عليهم صورة الخليفة ووجه الدولة، والممثل لنهجها و سیاستها، فاذا انهارت ثقة الناس هؤلاء انهارت الدولة.

ص: 91

المصادر والمراجع

- القران الكريم.

- نهج البلاغة.

1. إبراهيم بيضون، الإمام علي في رؤية النهج ورواية التاريخ، الناشر: بيسان للنشر والتوزيع والاعلام، ط، 2 2009، بیروت.

2. ابن أبي الحديد: عز الدين عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن الحسين المعتزلي (ت: 656 ه)، شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العلمية، بيروت، ط 2، 1977م.

3. ابن خلدون: عبد الرحمن بن محمد التونسي المالكي (ت 808 ه)، المقدمة، دار الكتب العلمية، ط 8، بیروت، 2003 م.

4. ابن عاشور: التحرير والتنوير، الدار التونسية، تونس،

ص: 92

5. ابن قدامة (ت 630 ه)، المغني، دار الكتب العلمية، بیروت لبنان.

6. ابن کثیر، البداية والنهاية، مكتبة المعارف بيروت.

7. أبو عبيدة القاسم بن سلام، الأموال، مكتبة الكليات الأهرية، القاهرة، 1968 م.

8. أبو يوسف: يعقوب بن إبراهيم القاضي، کتاب الخراج، المطبعة السلفية، القاهرة، ط 2، 1352 ه.

9. احمد سلامة، حماية البيئة في الفقه الإسلامي، مجلة الاحمدية، دبي سنة 1998، ص 295، عن احمد فتح الله الزيادي، www.islamicrabta.com .

10. احمد عبد الرحيم وعوض، ود. احمد عبده، قضایا البيئة من منظور اسلامي، مركز الكتاب للنشر، ط 1، القاهرة، 1425 ه - 2004 م، ص 72 - 76.

11. امحمَّد مالكي، ابن خلدون والعُمران البشري من منظور فقه السياسة ( إعداد)، موقع: تادارات مرکز الدراسات الاباضية، http://www.taddart.org

ص: 93

12. البغوي، ابو محمد الحسين بن مسعود الفراء الشافعي (ت 516 ه)، تفسير البغوي المسمى معالم التنزيل / ، تحقيق: خالد عبد الرحمن العك ومروان سوار، بیروت، دار المعرفة، ط 1، 1406 ه.

13. البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر المتوفي سنة 279 ه، کتاب جمل من أنساب الأشراف حققه وقدم له الأستاذ الدكتور سهيل زکّار، والدكتور رياض زركلي / بإشراف مكتب البحوث والدراسات في دار الفکر للطباعة والنشر والتوزيع / الطبعة الأولى: 1417 ه.

14. الجصاص، أبو بكر أحمد بن علي الرازي المتوفي سنة 370 ه، أحكام القرآن، ضبط نصه وخرج آیاته عبد السلام محمد شاهين / ط 1، 1415 ه - 1994 م / دار الكتب العلمية بيروت لبنان. الحر العاملي، وسائل الشيعة: ج 15 ص 66 ب 19 ح 19996.

15. حمد إبراهيم منصور، عدالة التوزيع والتنمية الاقتصادية: رؤية إسلامية معاصرة، مركز دراسات الوحدة العربية، بیروت، 2007، ص 327.

16. الزمخشري، أبو القاسم جار الله محمود بن محمد

ص: 94

بن عمر بن محمد (ت 538 ه) تفسير الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، تح: عبد الرزاق المهدي، بيروت دار إحياء التراث العربي، ب ت ط

17. صاحب أبو جناح، السياسة الإدارية عند الإمام علي عليه السلام قراءة في عهد التولية لمالك الأشتر://:http .arabic.balagah.net/content

18. الطوسی، ابو جعفر محمد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن، الناشر: مكتب الاعلام الاسلامي طبع على مطابع: مكتب الاعلام الاسلامي الطبعة: الاولى، 1409 ه.، 6 / 15.

19. عبد الهادي علي النجار، الإسلام والاقتصاد، سلسلة عالم المعرفة (63)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1983، ص 61.

20. عزیز السيد جاسم، علي سلطة الحق، تحقيق: صادق جعفر الروازق، الغدير للطباعة والنشر،، قم، 2007 م.

21. فؤاد عبد المنعم أحمد، السياسة الشرعية وعلاقتها

ص: 95

بالتنمية الاقتصادية وتطبيقاتها المعاصرة، البنك الإسلامي للتنمية، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، جدة، 2001، ص 51

22. فؤاد عبد المنعم أحمد، السياسة الشرعية وعلاقتها بالتنمية الاقتصادية وتطبيقاتها المعاصرة

23. قراءة في كتاب علم العمران الخلدوني تأليف: صالح طاهر مشوش، موقع المعهد العالمي للفكر الاسلامي.

24. قراءة في كتاب علم العمران الخلدوني * تأليف: صالح طاهر مشوش، موقع المعهد العالمي للفكر الاسلامي.

25. القرافي : شهاب الدين أحمد بن إدريس (ت: 684 ه)، دار الكتب العلمية، بيروت ط 1، 1998 م.

26. القرطبي: محمد بن احمد بن ابي بكر (ت 671 ه): الجامع لاحکام القرآن المعروف ب( تفسير القرطبي)، تحقيق: احمد عبد العليم البردوني، مطبعة دار الشعب القاهرة، ط 2، 1372 ه.

27. الكاساني، علاء الدين أبي بكر بن مسعود (ت 587 ه) بدائع الصنائع:، دار الكِتَاب العربي

ص: 96

بيروت - لبنان، الطبعة الثانية، 1402 ه - 1982 م.

28. مالك بن نبي، مشكلة الأفكار في العالم الاسلامي، دار الفكر، ط 5، بیروت، 2005 م.

29. محمد شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة، دار الشروق، ط 19، القاهرة، 2007 م.

30. محمد عابد الجابري، فکر ابن خلدون، العصبية والدولة، مركز الوحدة العربية، بیروت، 1994 م.

31. محمود المظفر، الثروة المعدنية، دار الحق، ط 2، بیروت، 1419 ه - 1998.

32. منذر عبد الحسين الفضل، الملكية ووظيفتها الاجتماعية في الشريعة الإسلامية، مجلة الحقوق، السنة السادسة، العد الأول 1982، ص 113 الكويت.

33. موقع: موسوعة الانسنة المتوسطية.

34. الميزان في تفسير القرآن / العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 ه) ط 3، بیروت، مؤسسة الأعلمی للمطبوعات، 1393 ه. و طبعة ثانية، ط 1 المحققة، بيروت، 1417 ه.

ص: 97

35. نصر محمد عارف، نظريات التنمية السياسية المعاصرة: دراسة نقدية مقارنة في ضوء المنظور الحضاري الإسلامي، ط 4، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2006.

36. اليعقوبي: احمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب، (ت 284 ه)، تاريخ اليعقوبي، نشر دار صادر - بیروت (د.ط) (ب.ط)

ص: 98

المحتويات

مقدمة المؤسسة:...5

المقدمة...9

المبحث الأول: المقاربة الاصطلاحية للعمران ومستوياته البنيوية...14

المستويات البنيوية للعمران:...28

المستوى العلمي والمعرفي:...30

المبحث الثاني: مرتكزات فقه العمران عند الإمام علي (علیه السلام)...33

المرتكز الأول: وحدة العمران البشري و الاقتصادي:...36

المرتكز الثاني: تحقيق النفع العام:...37

المرتكز الثالث: مرتكز الاستخلاف والتسخير:...45

المبحث الثالث: إجراءات فقه العمران عند الإمام علي (علیه السلام)...60

أولا - إجراءات أولية...60

ثانيا - بيت المال و الخراج و العمران:...68

ثالثا - أولوية العمران على جلب الخراج:...80

الخاتمة...89

المصادر والمراجع...92

ص: 99

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.