حقوق الانسان جدل النظرية و اشکالية الممارسة

هوية الکتاب

حقوق الانسان جدل النظرية واشكالية الممارسة (حقوق الإنسان عند الإمام علي (علیه السلام) أنموذجاً)

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 4221 لسنة 2017

سلسلة دراسات في عهد الإمام على (علیه السلام) لمالك الأشتر (رضی الله عنه) (35) وحدة حقوق الإنسان حقوق الانسان جدل النظرية واشكالية الممارسة (حقوق الإنسان عند الإمام علي (علیه السلام) أنموذجاً) تأليف م. د. محمد علي محمد رضا الحكيم إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة فی العتبة الحسینیة المقدسة

جميع الحقوق محفوظة العتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1439 ه - 2017 م العراق - كربلاء المقدسة - شارع السدرة مجاور مقام علي الأكبر مؤسسة علوم نهج البلاغة هاتف: 07728243600 - 07815016633 الموقع الألكتروني: www.inahj.org الإيميل: Inahj.org@gmail.com تنویه: إن الأفکار والآراء المذکورة فی هذا الکتاب تعبر عن وجهة نظر کاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 1

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 4221 لسنة 2017

ص: 2

سلسلة دراسات في عهد الإمام على (علیه السلام) لمالك الأشتر (رضی الله عنه) (35) وحدة حقوق الإنسان حقوق الانسان جدل النظرية واشكالية الممارسة (حقوق الإنسان عند الإمام علي (علیه السلام) أنموذجاً) تأليف م. د. محمد علي محمد رضا الحكيم إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة فی العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة العتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1439 ه - 2017 م العراق - كربلاء المقدسة - شارع السدرة مجاور مقام علي الأكبر مؤسسة علوم نهج البلاغة هاتف: 07728243600 - 07815016633 الموقع الألكتروني: www.inahj.org الإيميل: Inahj.org@gmail.com تنویه: إن الأفکار والآراء المذکورة فی هذا الکتاب تعبر عن وجهة نظر کاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المؤسسة:

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم من عموم نعمٍ ابتدأها وسبوغ آلاء أسداها والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين محمد و آله الطاهرين.

أما بعد:

فإن من أبرز الحقائق التي ارتبطت بالعترة النبوية هي حقيقة الملازمة بين النص القرآني والنص النبوي ونصوص الأئمة المعصومين (علیه السلام).

وإنّ خير ما يُرجع إليه في المصادیق لَحدیث

ص: 5

الثقلين «کتاب الله وعترتي أهل بيتي» هو صلاحية النص القرآني لكل الأزمنة متلازماً مع صلاحيّة النصوص الشريفة للعترة النبوية لكل الأزمنة.

وما كتاب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) لمالك الأشتر (رضی الله عنه) إلا أنموذجٌ واحدٌ من بين المئات التي زخرت بها المكتبة الإسلامية التي اكتنزت في متونها الكثير من الحقول المعرفية مظهرة بذلك احتياج الإنسان إلى نصوص الثقلين في كل الأزمنة.

من هنا:

ارتأت مؤسسة علوم نهج البلاغة أن تخصص حقلاً معرفياً ضمن نتاجها المعرفي التخصصي في حياة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) وفكره، متّخذة من عهده الشريف إلى مالك الأشتر (رحمه الله) مادة خصبة للعلوم الإنسانية التي هي أشرف العلوم ومدار بناء الإنسان

ص: 6

وإصلاح متعلقاته الحياتية وذلك ضمن سلسلة بحثية علمية والموسومة ب(سلسلة دراسات في عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر (رحمه الله)، التي يتم إصدارها بإذن الله تباعاً، حرصاً منها على إثراء المكتبة الإسلامية والمكتبة الإنسانية بتلك الدراسات العلمية التي تهدف إلى بيان أثر هذه النصوص في بناء الإنسان والمجتمع والدولة متلازمة مع هدف القرآن الكريم في إقامة نظام الحياة الآمنة المفعمة بالخير والعطاء والعيش بحرية وكرامة.

وكان البحث الموسوم ب(حقوق الإنسان جدل النظرية وإشكالية الممارسة حقوق الإنسان عند الإمام علي (عليه السلام) أنموذجاً) تناول فيه الباحث مفهوم حقوق الإنسان في الحضارات الغربية ونظرتهم وطبيعة ممارستهم لهذا المفهوم وأجرى مقارنة بينها وبين المفهوم الإسلامي

ص: 7

لحقوق الإنسان منطلقا من منهج الإمام علي (عليه السلام) في رعاية الإنسان ومنحه حقوقه المشروعة.

فجزى الله الباحث خير الجزاء فقد بذل جهده وعلى الله أجره، والحمد لله رب العالمين.

السيد نبيل الحسني الكربلائي رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 8

المقدمة

شهد العالم في مرحلته المعاصرة حقبة جديدة في مجال حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، إذ حظي هذا الموضوع باهتمام الدول الغربية التي تتمتع بحضارة مادية راقية، وتظافرت جهود المنظمات الدولية في متابعتها وتدعيمها، بهدف تحقيق حياة حرة كريمة للإنسان يتمتع فيها بحقوق معترف بها.

في هذه الأثناء كان المجتمع الإسلامي يعيش حالة من الانقسام والتجزئة، إذ لم تعد هناك دولة تمثله وإنما هناك دويلات ذات طابع علماني بعد أن ركنت الشريعة وراءها ظهريا، وعلى رأسها أنظمة استبدادية لا تهتم أكثر من توکید سلطتها ومصالحها وان جاءت على خلاف مصالح شعوبها، وأصبحت الشعوب الإسلامية تعاني الحرمان من أبسط

ص: 9

الحقوق.

ذلك قد وضع الإنسان المسلم أمام تحدي صعب، إذ هو من جهة يواجه باستمرار تهديدا قويا لوجوده وانتهاكا صارخا لحقوقه من لدن الأنظمة المتسلطة، ومن جهة أخرى فان الصيغة التي تطرحها الدول المتقدمة والمنظمات الدولية وتسعى إلى تعميمها، هي صيغة النموذج الليبرالي الغربي الذي يحظى بمنظومة فكرية تتناقض مع المتبنيات الإسلامية. وهكذا اضطربت نظرة الإنسان المسلم إلى معیار حقوقه بين تناقضات واقعه المر وما تتوفر عليه الدول الغربية المتقدمة، وتناقضات مرجعيته الفكرية وقيم العالم الحرة.

من هنا تطلب النظر في تجربة الإمام علي (علیه السلام) الغنية والمميزة في تاريخنا الإسلامي، فهي غنية على صعيد التنظير الفكري والقيمي، كما أنها غنية في حدود الممارسة الفعلية التي تتجلى فيها مستويات مختلفة سواء أكانت في مستوى المواطن المعارض

ص: 10

للحكم القائم، أم كان الخليفة والقائد للدولة الإسلامية. وهي مميزة لما تمثله شخصية الإمام في واقع العالم الإسلامي، إذ هو أحد الخلفاء الراشدين لعموم المسلمين وهو الإمام المعصوم لبعضهم، ولذا فان لقوله وفعله بعد تشریعي مهم في أدبيات الفكر الإسلامي عموما.

وتتوفر الدراسة على مبحثين، الأول تناول لمحة عن حقوق الإنسان على مدى التاريخ الإنساني، بدءا من الفكر الشرقي القديم في الصين والهند حتى بلاد الرافدين ووادي النيل، وشملت الأديان السماوية الثلاث وصولا إلى العصر الحديث. أما المبحث الثاني فقد ركز على استعراض حقوق الإنسان عند الإمام علي (علیه السلام) في ضوء عهده إلى عامله على مصر.

ص: 11

المبحث الأول لمحة في تاريخ حقوق الإنسان

أولاً: تعريف حقوق الإنسان

قبل أن نقلب صفحات التاريخ البشري من أجل التنقيب على بعض الإشارات في أقوال وأفعال الماضين مما يتعلق بحقوق الإنسان، لابد أن نحدد مفهوم الحق والمقصود من حقوق الإنسان.

(يعرف القانونيون الحق بأنه الرابطة القانونية التي بمقتضاها يخول لشخص على سبيل الانفراد والاستئثار التسلط على شيء أو اقتضاء أداء معين من آخر. ويقسمون الحقوق إلى سياسية ومدنية. والحقوق المدنية إما عامة وهي الحقوق اللازمة للفرد كحماية شخصه وكفالة حريته، وإما خاصة

ص: 12

وهي حقوق الأسرة والحقوق المالية)(1).

لقد ذاع مصطلح حقوق الإنسان بعد الحرب العالمية، وذلك بعد صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمعاهدات المتصلة به. وكان المقصود منها مجموعة القواعد والمعايير ذات المضمون الإنساني السامي. وعلى أساس هذه الحقوق التي اعترفت بها دساتير الدول، تعهدت حكوماتها للشعوب بالعمل بها ورعايتها. وبالرغم من صعوبة حصر تلك الحقوق إلا انه يمكن استنتاجها من مجمل القوانين المدونة ودساتير الدول، واعتبارها من مصادیق حقوق الإنسان. كحرية الضمير، وحق انتخاب العمل ومحل الإقامة والسكن والسفر، والمساواة أمام القانون، والحصانة من التعذيب أو الاعتقال التعسفي(2).

ص: 13


1- عثمان، د. محمد فتحي، حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والفكر القانوني الغربي، ص 15
2- الداماد، مصطفی محقق، الحقوق الإنسانية بين الإسلام والمجتمع المدني، ص 83

وتؤكد بعض المصادر على أن تلك الحقوق مستمدة من طبيعة الإنسان نفسه، وبناء عليه تكون: مطالب أخلاقية أصيلة وغير قابلة للتصرف مكفولة لجميع بني البشر بفضل إنسانيتهم وحدها، فصلت وصيغت هذه الحقوق فيما يعرف اليوم بحقوق الإنسان، وجرت ترجمتها بصيغة الحقوق القانونية، ... وتعتمد هذه الحقوق على موافقة المحكومين بها يعني موافقة المستهدفين بهذه الحقوق(1).

فيما تستنتج مصادر أخرى بعض اللوازم عن تلك الحقيقة، وبالتالي يمكن تعريفها على إنها: مجموعة الحقوق الطبيعية التي يمتلكها الإنسان واللصيقة بطبيعته، والتي تظل موجودة وان لم يتم الاعتراف بها، بل أكثر من ذلك حتى إن انتهكت

ص: 14


1- حسونة، نسرین محمد عبده، حقوق الإنسان .. المفهوم والخصائص والتصنيفات والمصادر

من سلطة ما(1).

على أن تأصيل حقوق الإنسان بإرجاعها إلى الطبيعة البشرية هي محاولة اتجاه فكري، أراد من خلالها تعميم تلك الحقوق وجعلها لصيقة بشخصه، وقد واجهة نقدا من اتجاهات فلسفية أخرى.

ثانيا: حقوق الإنسان في الفكر الشرقي القديم

ولو عدنا إلى التاريخ للبحث عن بعض المؤشرات لاحترام الحقوق الإنسانية، لوجدنا أن البوذية وهي العقيدة الثانية من حيث الانتشار في الهند، وقد تجاوزت حدودها مولدها إلى الدول المجاورة. والواقع أنها مثلت ثورة على العقيدة الهندوسية التي أقرت نظام الطبقات، إذ لا فرق بين إنسان وإنسان آخر، وان الطبيعة في الأصل فارغة، وهذا يزيل عن

ص: 15


1- السعد، غسان، حقوق الإنسان عند الإمام علي بن أبي طالب (دراسة علمية)، ص 36

البشر كل أصناف الحواجز فيما بينهم، ويجعل من أحقر الديدان قرين للأدميين؛ ولذا جاءت تعاليمها عامة لجميع الطبقات و الشرائح، لا فرق بين الأمير والفقير ليس في الجسم فحسب بل بالروح أيضا، وهي للمرأة كما للرجل، ولو كان هناك انقسام فعلي لبني البشر، فهو على أساس الصلاح فهناك فريق صالح وآخر شرير. وقد نسبوا إلى بوذا وصایا هي في مجملها قضايا أخلاقية ذات صلة بالمثل العليا للحق الإنساني، كرفض القتل والسرقة وحرمة السكر والعلاقات الجنسية غير المشروعة. ولكن تعاليمها الأولى شوهت وزيد عليها فيما بعد حتی أصبحت لا تختلف كثيرا عن التعاليم الهندوسية التي ثارت عليها(1).

أما في الصين فتتجلى العقيدة الكونفشيوسية التي تدعو إلى الأمن والسلام والإخاء بين الناس

ص: 16


1- الباش، حسن مصطفی، حقوق الإنسان بين الفلسفة والأديان، ص 21 - 22

كافة. وفي هذا الصدد تؤكد على أن الحل الوحيد لإصلاح المجتمع يكمن في إصلاح الحكم، ولا يتحقق ذلك إلا من لدن حکام يستعينون بوزراء وإداريين مستنيرين ومتحلين بأخلاق فاضلة. وفي هذه الحالة يملك الملوك ولا يحكمون، لأنهم يتركوا شؤون الحكم لأولئك الوزراء الذين عليهم أن لا يداهنوا الحاكم أو يخدعوه، ولهم أن يعارضوه علنا اذا اقتضى الأمر، لان إساءة الحاكم مع عدم وجود الناصح يؤدي لا محالة إلى الثورة وتدمير الدولة. وبهذا المعنى كان كونفشيوس يؤمن بالنظام الطبقي، إلا أن الانتماء إلى طبقة معينة يكون بموجب کفایته الشخصية التي تتحدد من علمه وحكمته وأخلاقه الفاضلة وليس بموجب الإرث الأسري، وبالتالي فان انتشار التعليم كفيل بتحقيق التوافق الاجتماعي والقضاء على الفوارق الطبقية(1).

ص: 17


1- عبد الحي، د. عمر، الفلسفة والفكر السياسي في الصين القديمة، ص 190

واذا ساد التماثل الاجتماعي حينئذ يصبح مجمل العالم جمهورية واحدة، يختار فيها الناس حكامهم من ذوي المواهب والفضائل، ويعملون على تدعيم قواعد السلم الشامل. وفي هذه الحالة تتوسع العلاقات الاجتماعية حتى تكاد لا يرى فيها الأفراد أن آباءهم من ولدوهم دون غيرهم ولا أبناءهم من ولدوا لهم، وإنا يسعون إلى تهيئة سبل العيش للجميع من دون استثناء، فيتكفلون بالمسنين حتى يستوفون آجالهم، ويهيئون سبل النماء للصغار والعيش الكريم للأرامل والأيتام والمقعدين من المرضى. هناك فقط يكون لكل إنسان حقه، وتصان شخصية المرأة فلا يعتدي عليها(1).

فالعقيدة الكونفشيوسية التي ما فتأت تؤكد على التمييز بين البشر، غير أن ذلك لم يستدعِ لديها التقسيم الطبقي على أساس الوراثي، وإنما

ص: 18


1- الباش، حسن مصطفی، حقوق الإنسان بين الفلسفة والأديان، ص 23

يقوم على التعرف على الإمكانات الحقيقية للبشر، والإتفادة منها لقيام مجتمع إنساني شامل وفق التصور الاشتراكي.

ودعا زرادشت إلى تحقيق العدل بين الناس ووضع الفواصل بين الحقوق والواجبات للفرد والجماعة واحترامها. وكان ينادي بتحقيق المعروف واجتناب الشرور التي هي برأيه الجهل والفقر والظلم والبغضاء، التي هي عقبات في طريق سعادة الإنسان. ويعتقد أن العلم يرفع من مرتبة الإنسان، لأن من يمتلك زمامه يصبح بإمكانه نشر الفضيلة بين الناس، فيخدم نفسه وبلده، وليس ذلك فحسب وإنما يرضي ربه أيضا. کما ویعد الإحسان إلى المحتاج هي أهم فضيلة يكتسبها الإنسان، ذلك لأن مساعدة الفقير البائس تسهم في إقامة إرادة الإله في الدولة، وتكسب صاحبها القرب منه. ولكن عندما اعتلى الأكاسرة عرش فارس تغيرت النظرة إلى عامة الناس وحورت العقيدة الزرادشتية فأقروا

ص: 19

نظام الطبقات(1).

وينقل أن الكتب الزرادشتية القديمة كانت تتضمن أجزاء مخصصة للشريعة والقانون، تتناول الجرائم التي ترتكب تجاه الدولة، الملك، الجار ..الخ. ولكن الامتهان والتعذيب من اجل الاعتراف بالذنب وإظهار البينة يبدو أنها كانت أمرا مألوفا عند الساميين(2).

ولعل اشهر ما وصلنا من قوانين تتعلق بالحقوق في العصور القديمة كانت شريعة حمورابي، التي يبدو أنها كانت نسخة مطورة عن الشرائع السومرية السابقة بما يتناسب مع ذلك العصر. وكان حمورابي قد سطر في مقدمتها: حمورابي الملك الكامل أنا، من أجل البشر الذين منحهم الرب إنليل وولاني رعايتهم مردوك، لم أكسل ولم أقعد مكتوف

ص: 20


1- المصدر السابق، ص 26 - 27
2- سعفان، د. کامل، معتقدات أسيوية (موسوعة الأديان)، ص 188

اليدين، بحثت لهم عن مواقع الخير، فرجت الضيق عنهم، نشرت النور فوقهم،.... أؤمن لهم العيش بسلام، وأطمئن عليهم في أعماق معرفتي، لا أسمح للقوي يسلب حق الضعيف، أضمن حق الأرامل واليتامى في بابل التي رفع كل من الإله آنو وإنليل رأسها عاليا في اسانجيلا، البيت الأزلي ثابت الأركان مثل السماء والأرض، من أجل تثبیت حقوق البلاد وتقرير مصيرها، وإعادة الحق إلى أهله، كتبت كلماتي العذبة هذه أمام صورتي كملك يقيم العدل، الملك الشامخ بين الملوك(1).

ومن الأحكام التي تضمنتها شريعة حمورابي أن العين بالعين والسن بالسن. ومن بينها عقوبات تتعلق بالسرقة والنهب والاغتصاب، والاعتداء على الوالد، واختلاس الساحر لأموال الناس والإضرار بهم. وأكدت حقوقا للمرأة حين وضعت عقوبة للشخص الذي يرمي امرأة بالفحشاء ولم يثبت ص: 21


1- المصدر السابق، ص 75

عليها ذلك، كما حددت عقوبة الشخص الذي يدلي بشهادة كاذبة تتعلق بتهمة القتل. وتنظم شريعة حمورابي ظاهرة الرق في المجتمع البابلي، ففيها فقرات تفصل حدود الرق حقوقهم وواجباتهم(1).

وفي الحضارة المصرية القديمة كانت كثير من المثل المرتبطة بحقوق الإنسان تقدم من المعلمين والحكماء في اطار التربية والتعليم إلى الناشئة على قطع من الخزف والحجر الجيري. وكشفت تعالیم اخناتون الذي قال بنوع من التوحيد عن دعوة إلى السلام والتسامح والمساواة. فالإله الواحد لا يتجلى في الوقائع الحربية ولا في الانتصارات وإنما في الزرع والخصب. وطالب بتوفير العلم للجميع من دون تمييز. کما ألغى المراسيم والتقاليد الملكية الخاصة بالفراعنة، وأكثر من ذلك نزل إلى الطرقات مع

ص: 22


1- الباش، حسن مصطفی، حقوق الإنسان بين الفلسفة والأديان، ص 28-29

عائلته کسائر أفراد المجتمع(1).

يظهر مما تقدم أن هناك إضاءات إنسانية متطورة ظهرت في مراحل تاريخية مبكرة، وعبرت من دون شك عن مؤشرات تقدير للحقوق الإنسانية، وان اختلفت في مستوياتها وفي توجهاتها. ولكن المعيار الفعلي والحقيقي الذي يحكم على تلك التجارب ويقيمها سلبا وإيجابا، لا يتعلق بقیمة الفكرة ومدی ترابطها المنطقي والعقلي، فالمحك الأساسي لها یکمن في مدى انعكاسها على ارض الواقع، وبروزها کقیم حاكمة على البشر سواء كانوا في السلطة أم خارجها. نعم هي في مجال التقييم الأخلاقي يمكن أن تجد لها محلا فيه، أما في مجال الممارسة العملية فهي ليست حاكمة ولا محددة للنشاط الإنساني. ولو نظرنا إلى شريعة حمورابي على سبيل المثال لوجدنا أنها في الحقيقة (ليست شريعة بالمعنى المعتاد للكلمة. إذ هي لا تحاول أن تغطي جميع الحالات الممكنة، فكثير

ص: 23


1- المصدر السابق، ص 32-33

من الحالات المحذوفة ذات أهمية عظيمة، ومحاولات تنظيمها قليلة جدا ... تتألف هذه القوانين ظاهريا من سلسلة مختلطة من القرارات اتخذها قضاة في حالات مستقلة. وليس هناك ما يدعو للافتراض بأن لهذه القرارات أية سلطة كحجج قانونية ملزمة لأحكام تالية كما في القانون الإنكليزي ... ولم يكن النص المكتوب للقانون ملزما ولا بأي معنی من المعاني، وإنما كان مجرد مذكرة تسجل قرارا يعتمد على المفاهيم البابلية للعدل)(1). ولو قلنا أن هذا الحكم فيه نوع من التعسف، إذ كيف يتسنى للفكر الإنساني في تلك المرحلة التاريخية إحصاء جميع الحالات وتغطيتها قانونيا؟! وكذلك ليس صحيحا مقارنة التزام القضاة بمقتضى نص القانون بین مرحلة شريعة حمورابي والقانون الإنكليزي الذي حظت فيه البشرية بمستوى تطور ملحوظ

ص: 24


1- مجموعة مؤلفين، شريعة حمورابي وأصل التشريع في الشرق القديم، ص 10-11

لا يمكن قياسه بتلك المرحلة. ومع ذلك يمكن القول أن الإنسان يميل إلى الحقوق بشكل فطري، فالعدالة نابعة من الذات الإنسانية والمساواة قائمة على أساس الفطرة، فلا خلاف في ضرورة العدل، ولم يشاهد طوال التاريخ دکتاتورا أو متعسفا رفع شعار أنه جاء من أجل الظلم والجور، ولم يجرؤ حتى الجبابرة والفراعنة على الإعلان الصريح عن معارضتهم للمفاهيم الراسخة في ضمير الإنسانية کالعدل والحرية، وإنما يزعم الجميع أنهم يهدفون إلى إقامة العدل ورفع الظلم، على الرغم من أنهم عملوا على ترسيخ كل ما يناقضها)(1)، والنتيجة التي أريد أن أتوصل إليها هي أن ما شهده الشرق القديم بل العالم أجمع من تسلط الدكتاتوريات والفراعنة طوال التاريخ، وما شهده من امتهان لحقوق الإنسان وكرامته كان يجري تحت عناوین

ص: 25


1- الداماد، مصطفی محقق، الحقوق الإنسانية بين الإسلام والمجتمع المدني، ص 85-86

الحق والعدل والمصالح العليا للبلاد وما إلى ذلك من خلال إفراغها من محتواها الحقيقي. وإن الظهور الحقيقي لمفهوم الحقوق والحريات كان في العصر الحديث بعد أن شهد الغرب ثورات کبری، نتجت عنها تحديد سلطة الحكام ووضعها تحت الرقابة الصارمة. ولذا فان كل ما سبق قوله من مفاهیم سامية تتعلق بالحق الإنساني، فإنها كانت حقائق أخلاقية ومثل سامية تطمح إليها النفوس السليمة، ولم ترق إلى أن تكون ممارسات فعلية إلا في أوقات قليلة أو ربما نادرة بالقياس إلى عموم التاريخ الإنساني.

ثالثا: حقوق الإنسان في الأديان السماوية

هناك فارق أساس في مصدرية الحقوق بین الرؤية الدينية والرؤية الوضعية. ففي الوقت الذي تستمد الأديان الحقوق من شرائعها، فنصوص الشريعة وقواعدها الكلية هي التي تقرر الحقوق

ص: 26

للإنسان. والشريعة وفق هذا المنظور هي أساس الحق ومصدره، وهي سنده وضمانه وجوده في المجتمع. في حين أن الرؤية الوضعية تجعل من الحق أساسا للتشريع، أما مصدره فهو تصور مفکر أو قرار لحاكم أو فلسفة جماعة معينة. ومهما كانت الأسس الحقوقية فطرية ونابعة عن طبيعة الإنسان إلا أن تفاصيلها وتفرعاتها ومصادقیها ليست كذلك، إذ هي خاضعة لخصوصيات الزمان والمكان؛ وبالتالي فإن معيارية الحقوق في التصور الوضعي نسبي، وقابل للتغير بحسب الزمان والمكان، وباختلاف الميراث الثقافي للجماعة الإنسانية، بل قد تنقسم الجماعة على نفسها بالرؤية للحق، ومن ثم يلجأ إلى مبدأ الأكثرية في تحديده، بخلاف الشريعة الدينية فإن الاعتقاد بربانيتها والإيمان بذلك، يخضع الجميع للحقوق المقررة فيها.

فالقوانين العبرية تضاد القوانين السابقة، فبينما كانت القوانين الحيثية وقوانين بلاد ما بين النهرين

ص: 27

علمانية بطبيعتها تدون قرارات المشرعين أو مراسيم الملوك، كان يعتقد العبرانيين يعتقدون أن الله نفسه يملي عليهم القوانين، التي تبدي انسجاما مع مطالب الدين العبري، وتلك طبيعة أخلاقية ثابتة مفقودة لدى تشريعات الشعوب المحيطة بهم. القوانين العبرية مأخوذة من أسفار العهد القديم المعروفة عند اليهود بالتوراة (القانون)، وإن الأقسام الأكثر قدما للقوانين تعود إلى عهد موسی (علیه السلام)، حينها كان العبرانيون مجموعة من القبائل الرحّل وكان عليها أن تكتسب وجودا مستقرا من خلال تشکیل دولة، ثم أضيفت إليها قوانين جديدة خلال مرور السنين، كما أعيد تفسير القوانين القديمة(1).

لقد أشارت تلك الشرائع إلى الأحكام المتعلقة ببعض القيم الأخلاقية في تنظيم العلاقات الإنسانية

ص: 28


1- مجموعة مؤلفين، شريعة حمورابي وأصل التشريع في الشرق القديم، ص 14-15

وفرض العقوبات على المتعدي بما يتناسب و أسس العدل، إذ أقرت القصاص فالنفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن وكذا اليد والرجل والكي والجرح والرض. وميزت التشريعات بين الفعل المتعمد عمن سواه، والتعدي المؤدي إلى القتل عن سائر الضرر، وتناولت عقوبات الاعتداء على الوالدين أو العبيد، حتى الجنين الذي لم يولد بعد، وفصلت موقف ولي الدم وكيفية أخذ القصاص من الجاني والأداة التي تستخدم في القصاص، وشملت بعض فقراتها اعتداء الحيوانات و محاسبة مالكيها(1). وثبتت كيفية الشهادة أمام القضاء وحدودها، وحرمة الكذب وشهادة الزور والرشي(2).

أضف إلى ذلك نجد أحكاماً نلمس منها شيئا من الحقوق الإنسانية، مثل اللوم الموجه إلى الغني والمقتدر اللذين يضران الفقير ويسيئان استعمال ما

ص: 29


1- المصدر السابق، ص 43-45
2- المصدر السابق، ص 31

أوتيا من سلطة، وتدعو إلى الرأفة والرحمة بالفقراء والدخلاء ودفع استحقاقاتهم. فقد ورد في سفر التثنية لا تهضم أجرة الفقير والدخيل الذي يعمل في الأرض، وأنه إذا نسيت حزمة من حصادك فلا ترجع عليه، وإن فرطت الزيتون أو الكرم في حقلك فلا تراجع ما بقي منه؛ لأنه من حصة الغريب واليتيم والأرملة.(1)

غير أن التشريع التوراتي تطور على أيدي الربانيين المنتسبين لليهود، ويمكن أن نلمس ذلك في كتاب التلمود وهو الكتاب المعتمد أكثر من التوراة لدى أتباع الديانة اليهودية، وفيه جرى التفريق بين اليهودي وغيره من البشر، فجسد اليهودي يختلف كليا عن أجساد الآخرين من حيث أكلهم وشربهم وطينتهم، وما يصح على الجسد (المادة) يصح على النفس (الروح)، إذ إن أصل أرواح سائر شعوب

ص: 30


1- الموحي، عبد الرزاق رحيم صلال، حقوق الإنسان في الأديان السماوية، ص 51

العالم هو من طبقات النجاسات الثلاث بينما أصل أرواح بني إسرائيل هو من الروح القدس ذاتها، وهو شعب الله المختار. واستنتجوا من ذلك أن روح اليهودي تستحق الحياة، فيما أن أرواح الآخرين لا تستحق ذلك، لان روحهم ليست ذات قيمة إلا كقيمة أدنى الحيوانات كالخنزير، ولذا فسر قوله لا تقتل إنه تعالى نهی عن قتل شخص من بني إسرائيل، وأصبح من العدل أن يقتل اليهودي الأجنبي لأنه من المحتمل أن يكون من نسل الشعوب التي سكنت أرض كنعان ولابد أن يقتلوا عن آخرهم، ومن قتل مسيحيا أو أجنبيا أو وثنيا يكافأ بالفردوس(1). وأضحت أحكامهم التشريعية تآمروهم بحروب إبادة، يقتل فيها جميع من تقع أيديهم عليهم من الأطفال والنساء والشيوخ والبهائم. لقد نذر بنو إسرائيل لله تعالى إذا حقق

ص: 31


1- الباش، حسن مصطفی، حقوق الإنسان بين الفلسفة والأديان، ص 42

لهم طلباتهم أن يبيدوا جميع الشعب والمواشي، ولم يرد أنهم سعوا إلى إصلاح أعدائهم أو التفاوض معهم في شؤون الصلح(1).

وكرست المسيحية جل اهتمامها في الاعتناء بالحياة الروحية للإنسان، وكان ذلك على حساب تنظيم الحياة الاجتماعية، التي اقتصرت فيها على جوانب ضيقة تتعلق بطقوس الزواج والطلاق وإجراءات الصلح وما إلى ذلك. ويرجع السبب في هذا القصور إلى كون المسيحية قد ظهرت في محيط اجتماعي انتشرت فيه الشريعة اليهودية أو العهد القديم كما يطلق عليه المسيحيون. ويعتبر العهد القديم إضافة إلى العهد الجديد الذي سطر ما يتعلق بتعاليم السيد المسيح، الكتاب المقدس للديانة المسيحية ومصدرا لإيمان النصاری(2). فعلى الرغم

ص: 32


1- الموحي، عبد الرزاق رحيم صلال، حقوق الإنسان في الأديان السماوية، ص 69
2- طالبي، سرور، حقوق الإنسان في ضوء المسيحية

من (أخذ المسيحية بالشرائع اليهودية التوراتية في طقوس العبادة وغيرها، إلا أن الدافع إلى قيام المسيحية كان دينيا خالصا غرضه تحقيق الخلاص الذي تنشده كل الديانات، ومقت سلوك اليهود وتصرفاتهم، فكانت صورة الخلاص المنشودة تتمثل بمجموعة من القيم الإنسانية والمثل العليا تضمن الحقوق الإنسانية والحريات للجميع)(1).

لقد قدست المسيحية الإنسان ووضعته في مكانة مميزة لم تضعه فيها أي من الديانات السماوية السابقة أو اللاحقة لها، أي الديانة اليهودية والديانة الإسلامية. فإن الإنسان في العقيدة المسيحية، هو صورة لله رب الكون، وهذا ما يجعله مميزا عن باقي المخلوقات سواء أمن حيث التكوين، أم من حيث الدرجة أو المنزلة التي من المفروض أن يتمتع بها لأنه مخلوق مبارك ذو شأن وقيمة عليا. ولما كان

ص: 33


1- الموحي، عبد الرزاق رحيم صلال، حقوق الإنسان في الأديان السماوية، ص 109-110

الأمر كذلك، فإن الإنسان ينفرد بالتمتع بالكرامة الإنسانية التي تتأصل فيه ولصيقة بشخصه لمجرد کونه إنسانا، مهما كان جنسه أو لونه أو عرقه. وما إلى ذلك. ومن هنا نجد أن الكرامة الإنسانية في المسيحية هي خصوصية أو ميزة عالمية يتسم بها جميع أعضاء الأسرة البشرية، وهذا ما يذكرنا بالفقرة الأولى من دیباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان(1).

لكن إضفاء صفة (المحورية) على الأنسان مبدأ فلسفي قديم أكدته الأساطير الإغريقية القديمة، إذ تدور حركة الإلهة وحوادث العالم حول محور الإنسان ورغباته، واعتمده سقراط والمذاهب الفلسفية التي جاءت بعده، ثم تسلل هذا اللون من التفكير إلى المسيحية الأوربية، فحلت محورية الإنسان بدلا من محورية الله، وأصبح (الله) على وفق هذا التصور في خدمة الإنسان وحاجاته. إن تصور الذنب على أنه أمر فطري في الإنسان،

ص: 34


1- طالبي، سرور، حقوق الإنسان في ضوء المسيحية

والاعتقاد بضرورة النجاة منه، أديا إلى ظهور آلية لاهوتية توجب تضحية الرب الذي تحول إلى إنسان في هيئة السيد المسيح. وهكذا أضحي الرب في خدمة الإنسان. وبهذه الطريقة حلت محورية الإنسان الغربية محل محورية الله التي هي مبدأ الدين السامي(1).

ثم إن الكنيسة المسيحية كانت في بداية الأمر محامية عن حقوق المظلومين والمهمشين، حاملة بذلك إلى الحضارة الغربية بوادر قانون حقوق الإنسان. وقد ذهب القديسون إلى القول أن الحاكم مکلف بمراعاة القوانين الإلهية لأنه يتلقی سلطانه من الرب، فاذا ما خرج عن تلك القوانين فأنه سوف يخرج عن سلطان الرب ولا يمثل إرادته، فيصبح حاكما جائرا تسقط طاعته وتجب مقاومته وعزله. وعندما قويت شوكة المسيحيين في الدولة

ص: 35


1- الداماد، مصطفی محقق، الحقوق الإنسانية بين الإسلام والمجتمع المدني، ص 97

الرومانية بعد أن كانوا مستضعفين فيها، اتخذوا موقفا حاسما في حقهم بمقاومة الطغيان ونجحوا في ذلك واستقامت الأمور لهم بعد أن تحولت روما إلى الديانة المسيحية. ولكنهم تنكروا لما دعوا إليه في بداية ظهور المسيحية من الحرية والإخاء، واعتبروا حق الغير في الاعتقاد باطلا يجب مقاومته واضطهدوا كل من يخالفهم الرأي(1). وكان مما يميز العصور الوسطى التي ظهرت فيه الكنيسة كقائد للمجتمعات الغربية، هو الانقسام الحاد إلى ثلاث طبقات، ولكل طبقة عدة درجات، فكان البون شاسعا بين الناس والخضوع هو القاعدة العامة. ومن مخلفاته ظهور محاكم التفتيش التي عملت على نشر المذهب الكاثوليكي واضطهاد الفئات والمذاهب والأديان المخالفة له. كما شهد التاريخ الحروب الصليبية وممارساتها الشنيعة تجاه الأسرى

ص: 36


1- الموحي، عبد الرزاق رحيم صلال، حقوق الإنسان في الأديان السماوية، ص 110

والأطفال والنساء.(1)

أما في الإسلام فأن الشريعة أساس الحق ومصدره، وهي ربانية ومتعالية على حدود الزمان والمكان، وهي أمانة في عنق الناس عليهم رعايتها والتمسك بها. وقد أكدت على كثير من القضايا التي ارتبطت بحقوق الإنسان. فالإنسانية كلها ترجع إلى أصل واحد، «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً»(2)، وان هذا التنوع والاختلاف بين الناس مدعاة للتواصل والترابط، وأن لا مزية لبعضكم على بعض إلا بالتقوى، فطاعة الله والقرب منه هو معيار التفاضل فيها بينكم، يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إ أرمم عند الله أتقام«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»(3). ولا يجوز التعدي على حياة الناس،

ص: 37


1- المصدر السابق، ص 122
2- النساء: 1
3- الحجرات: 13

«وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ»(1)، كما أن الجزاء مقرر لمن ينتهك هذا الحق، «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى»(2) وحق التكافل منصوص عليه، «وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ.. المعارج»(3))(4).

ولا مجال للتسلط في الإسلام، فبعد أن استبعد استعلاء العرق والجنس والطبقة، استبعد (الكهنة) أيضا، فلم يعرف المجتمع الإسلامي طبقة (رجال الدين) تحوطهم العصمة ويزعمون أنفسهم صلة بالله غير سائر البشر، ويدعون ترفعا عن شئون الدنيا وعامة الناس. إلى جانب ذلك لم يتخذ الإسلام موقفا معارضا ضد الديانات الأخرى، «

ص: 38


1- الأنعام: 151
2- البقرة: 178
3- الذاریات: 19
4- التركي، د. عبد الله بن عبد المحسن، حقوق الإنسان في الإسلام، ص 18، 25

لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ»(1)، ولذا ظل أتباع الديانات محتفظين بعقيدتهم وطقوسهم ويتمتعون بعلاقات طبيعية مع أفراد المجتمع الإسلامي، عدا أولئك الذين يتخذون موقفا عدائيا تجاه المجتمع الإسلامي، «إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»(2))(3).

غير أن مراجعة بسيطة للتاريخ الإسلامي تكشف أن القيم الإسلامية سرعان ما تبدلت، وأن معاوية والأمويين لما هیمنوا على مقدرات

ص: 39


1- الممتحنة: 8
2- الممتحنة: 9
3- عثمان، د. محمد فتحي، حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والفكر القانوني الغربي، ص 22-23

الأمة الإسلامية، ابدلوا مقوماتها التي قامت عليها كالتراحم والأخوة الإيمانية وإنكار الذات، لتظهر محلها روابط النسب وتعلو نعرة العصبية العربية، والتعالي على باقي الأجناس بل وتفضيل العرب بعضهم على بعض. كما أنهم غيبوا الأسس التي قامت عليها الخلافة، ولذلك أتهموا أنهم طغاة مستبدون سلبوا الحكم ووأدوا الشورى، وجعلوا الخلافة ملكا، وأقصوا الموالي وجعلوهم بمنزلة الأرقاء وسفكوا الدماء وانتهكوا المقدسات ولم پرعوا الحرمات(1).

وبذلك كان أغلب المسلمين ينظر إلى الأمويين على أنهم مغتصبين وغير أهل لمركز الخلافة الروحية والزمنية، وكان من جانب الأمويون أن تكون لهم (عقيدة تسند حكمهم إلى جانب القوة، ولم تكن هذه العقيدة أو الأيديولوجية بمعنى أدق إلا الجبر،

ص: 40


1- نوار، د. صلاح الدين محمد، نظرية الخلافة أو الإمامة وتطورها السياسي والديني، ص 89-90

فما من عقيدة تمسك زمام الأمر وتصرف الناس عن الثورة عليهم وعلى ولاتهم مثل عقيدة الجبر، إن وصولهم إلى الحكم وأعمالهم ليست إلا نتيجة لقدرة من الله قد قدر)(1).

رابعا: حقوق الإنسان في العصر الحديث

يمكن أن نلمس جذور الفكر الأوربي الحديث في مجال حقوق الإنسان بالتصورات الذهنية المجردة والأفكار العامة، التي ظهرت في الفلسفة اليونانية وانتقلت فيما بعد إلى القانون الروماني، وتتحدث عن القانون الثابت الذي لا يعتريه التغيير، فيعد نموذجا أعلى يجب أن تنسج على منواله مجمل قوانين المجتمع، لأنه قائم على مبادئ لم تأخذ من کتاب محدد ولا من تقاليد متواضعه، وإنما مصدره الطبيعة الإنسانية ويكتشفه العقل من روح المساواة

ص: 41


1- صبحي، د. احمد محمود، الفلسفة الأخلاقية في الفكر الإسلامي، ص 156

والعدل الكامنة في النفس. ولذا أطلق على هذا القانون بالقانون الطبيعي. وقد انتقلت فكرة القانون الطبيعي إلى أوربا عن طريق الأدب اليوناني والقانون الروماني، وبرزت فكرة العدالة في إنكلترا والتي تقول أن العدالة ينبغي أن تتفوق على القانون الحرفي المتشدد کما يوصف أحيانا، والذي يرشد إلى مبادئها الضمير والوجدان ممثلا بضمير الملك الذي يختص بامتياز توزيع العدالة بين رعاياه بمختلف الوسائل(1).

غير أنه سرعان ما هب أشراف الدولة ورجال الكنيسة وأهل المدن معلنين الثورة على حكم الطاغية ملك إنكلترا لما فرضه من ضرائب باهظة. وفي عام 1215م استطاعوا تقييد حكمه المطلق وطغيانه عندما أجبر على توقيع وثيقة (الماجنا کارتا) أو العهد الأعظم، الذي تقرر بموجبه أن لا ضريبة

ص: 42


1- عثمان، د. محمد فتحي، حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والفكر القانوني الغربي، ص 11-12

إلا بقانون من البرلمان. ومع أن الوثيقة كانت ترمي إلى خدمة مصالح نبلاء الإقطاع إلا أن الشعب الإنكليزي استطاع أن يفيد منها في استرجاع حقوقه المسلوبة. وقد عدت هذه الثورة أول احتجاج ضد الحاكم الفاسد في تأريخ إنكلترا، كما اعتبرت الوثيقة حجر الزاوية في بناء الحرية فيها(1).

وفي عام 1776م أعلن الشعب الأمريكي المتألف من مختلف الأجناس البشرية وثيق الاستقلال من الاستعمار الإنكليزي، وقد تضمنت هذه الوثيقة على مبادئ حقوق الإنسان كحق الحياة والحرية والمساواة، التي صاغها توماس جيفرسون وأكدت على أن الخالق منح الناس حقوقا متساوية في الحياة والحرية لا تنتزع. ولتأمين هذه الحقوق وجدت الحكومات التي تستمد سلطانها من رضی الشعب، فأن قضت الحكومة على تلك الغاية

ص: 43


1- الباش، حسن مصطفی، حقوق الإنسان بين الفلسفة والأديان، ص 105

صار من حق الشعب استبدالها بأخرى جديدة تعتمد أسس ومبادئ يراها أجدى لصون سلامته وسعادته. وأثرت أفكار الثورة الأمريكية في المجتمع الفرنسي، فثار على الحكم الملكي الفاسد وشکل الجمعية الوطنية الفرنسية، التي أقرت وثيقة حقوق الإنسان المكتوبة من قبل امانول جوزیف سییس، ثم سجلت هذه الوثيقة في الدستور الفرنسي الذي أصدرته الثورة سنة 1791م(1).

وأقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1948م مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بعد أن ظهرت القناعة بأن ما ورد في ميثاقها لم يكن کافيا، وقد تناول الإعلان حقوق أعضاء الأسرة الإنسانية على إنها حقوق غير قابلة للانتهاك، وتمثل معیارا مشتركا تقيس على أساسه الشعوب والأمم منجزاتها على هذا الصعيد، وإن كان لا يتضمن إلزاما للدول الأعضاء في الأمم المتحدة ولا يتوفر

ص: 44


1- المصدر السابق، ص 107-108

على الضمانات الكافية لعدم انتهاكه. ولذا اتجهت المنظمة إلى مهمة تحويل المبادئ التي جاء بها الإعلان إلى معاهدات تفرض التزامات على الدولة المصدقة بها(1).

ويقسم الدكتور عامر حسن فیاض الوثائق الدولية لحقوق الإنسان إلى: الجيل الأول يتمثل بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 الفردية البعد، ثم الجيل الثاني المتمثل بالعهود الدولية السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية التي شملت حقوق فردية مطعمة بحقوق جماعية واجتماعية مثل إعلانات حقوق المرأة وحقوق الطفل وحقوق السكان الأصليين، ثم مع التسعينات تدخل حقوق الإنسان الجيل الثالث من حيث التركيز على حقوق مثل التنمية والحق في البيئة النظيفة، والأمر يحتاج أكثر إلى أجيال رابعة وخامسة تعزز الحقوق

ص: 45


1- حسونة، نسرین محمد عبده، حقوق الإنسان .. المفهوم والخصائص والتصنيفات والمصادر

الجماعية وبشكل متوازن مع الحقوق الفردية(1).

وقد وجهت انتقادات قوية للتفسير الغربي لحقوق الإنسان، الذي جرى فيه التمييز بين حقوق الإنسان وحقوق المواطن. ولكن من هو هذا الإنسان المتميز عن المواطن؟ إنه الإنسان الأناني المنفصل عن المجتمع، إنه عضو المجتمع البرجوازي في نظر مارکس. فالحرية تتحدد حسب وثيقة الحقوق الصادرة عن الأمم المتحدة أن الإنسان باستطاعته أن يفعل كل ما لا يضر بالآخرين. فهي لا ترتكز على علاقات الإنسان بالإنسان الآخر، وإنما على انفصال الإنسان عن الإنسان، إنها الحق في هذا الانفصال. والتطبيق العملي للحرية يجري في حق الملكية الفردية، إذ هي حق الإنسان في التمتع بثروته والتصرف بها وفق مشيئته، من دون الاهتمام بسائر الناس وبصورة مستقلة عن المجتمع، إنه

ص: 46


1- السعد، غسان، حقوق الإنسان عند الإمام علي بن أبي طالب (دراسة علمية)، ص 46

الحق الأناني، الذي يتجلى فيه الآخر ليس محل لتحقيق الحرية، وإنما مقيدها. وهكذا بالنسبة لسائر الحقوق. فالأمن وهو أسمى مبدأ اجتماعي يقوم على الحماية التي يمنحها المجتمع لكل عضو لحفظ حياته وحقوقه وحريته، وبالتالي فهو الضمان للحفاظ على فرديته وأنانيته(1).

إذن ليس ثمة أي حق من حقوق الإنسان يتخطى الإنسان الأناني، بمعنی فردا مفصولا عن المجتمع ومنطويا على ذاته ومنشغلا بمصلحته الشخصية فقط. وإن غاية التجمع السياسي هي الحفاظ على حقوقه الطبيعية التي لا يمكن إلغاؤها. (فالإنسان ليس منظورا إليه في هذه الحقوق بمثابة كائن بشري اجتماعي؛ بل على العكس تماما، فأن الحياة البشرية نفسها، أي المجتمع تظهر بمثابة إطار خارجي عن الفرد، بمثابة تحديد حريته

ص: 47


1- دفاتر فلسفية (نصوص مختارة)، حقوق الإنسان (7)، إعداد وترجمة محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، ص 51،53

الأولية. والرابطة الوحيدة التي توحد بينهما إنما هي الضرورة الطبيعية، حاجة المصلحة الخاصة)(1).

من هنا يمكن القول بأن مفهوم حقوق الإنسان في العالم الغربي لا يمكن تعميمه، ذلك لأنه في الحقيقة مرتبط بتصور خاص بالإنسان وحياته الاجتماعية، وبالتالي فمن غير الصواب الادعاء بأن قيم حقوق الإنسان في النظر الغربي مطلقة، إذ لا يمكن اعتبارها مفاهيم علمية صارمة، تخضع في التقويم المعايير واحدة، في كل المجتمعات على اختلاف أسسها النظرية ومرجعيتها الفكرية.

أما في مجال الممارسة فقد أصبحت قضية حقوق الإنسان أحد أسلحة السياسة الخارجية للدول الكبرى، ذلك من خلال استخدامها معيارا في تقديم المساعدات الدولية للدولة النامية. ولا يخفی ما يترتب على تنفيذه من مشكلات في الواقع المعقد

ص: 48


1- المصدر السابق، ص 54

لنظام عالمي لم يتفق على اتجاهاته وقيمه الأساسية و موازینه، مما يفتح الباب لصور من التدخل غير المسوغ في الشؤون الداخلية للدول تحت شعار الدفاع عن حقوق الإنسان، خصوصا مع دخول أطراف غير حكومية أصبحت بمقتضى أهدافها وأنشطتها ذات صلة كبيرة بالموضوع، مما يفتح لمزيد من الاقتناع بالحق في التدخل الخارجي في السياسة الداخلية للدول، طبعا يجري ذلك وفق معيار النموذج الغربي، ومن دون اعتبار للخصوصية الثقافية والاجتماعية والدينية للمجتمعات(1).

فضلا عن اتخاذ موضوع الدفاع عن حقوق الإنسان كسلاح ضد الدول، من أجل تمرير الدول الكبرى لمصالها السياسية. ويمكن النظر إلى ازدواجية المعايير في الحكم والتطبيق في قضايا عديدة حدثت في العالم، مثل القضية الفلسطينية والمشكلة البوسنية

ص: 49


1- التركي، د. عبد الله بن عبد المحسن، حقوق الإنسان في الإسلام، ص 9-10

وغيرها التي جرت فيها انتهاكات لحقوق الإنسان أفزعت الضمير الإنساني، إلا إنها لم تواجه بموقف عادل من الدول الكبرى للدفاع عن حقوق الإنسان ورد العدوان عليها. وشمل هذا الموقف المنظمات الدولية التي اكتفت بمجرد الإدانة الباهتة التي لا تتناسب مع حجم المجازر والتشريد، فلم تلاحق المسؤولين عن هذه الجرائم الكبرى بنفس الحماس الذي تظهره في شأن أحداث أقل أهمية تجري في دول أخرى(1).

ص: 50


1- المصدر السابق، ص 20

المبحث الثاني حقوق الإنسان عند الإمام علي (علیه السلام) في ضوء عهده لمالك الأشتر

اشارة

جاءت خلافة الإمام علي في ظروف عصيبة مرت بها الأمة الإسلامية، حيث شهدت ثورة عارمة اشتركت فيها مختلف الأمصار، حين قدمت وفودها إلى المدينة لتعبر عن سخطها على الحاكم عثمان الذي لم يف بمسؤولياته في إقامة العدل، فقتل على أثرها الأمر الذي احدث فتنة عمياء هزت کیان الأمة الإسلامية، وكانت بمثابة الزلزال الذي أضعف أساسات البناء السياسي الإسلامي، وبالتالي كان من العوامل التي عجلت بإنهاء مرحلة الخلافة باستشهاد الإمام ثم تسلط بني أمية على الدولة

ص: 51

الإسلامية(1).

إن تلك الظروف المضطربة والملابسات التي أحاطت بخلافة الإمام، قد سلطت الضوء على عظم شخصية الإمام وثراء سيرته، فكانت المشكلات الكبرى والصراعات العنيفة التي حلت بالأمة الإسلامية تتطلب قرارا حاسما وموقفا صلبا، لا يقوم به إلا الأفذاذ من الناس، وكشفت عن سيرة ثرية تبدت فيها القرارات والمواقف كمنار تضيء الطريق لمن جاء بعده، ينهل منها ما شاءت قدرته وموهبته الاستفادة من ذلك المنهل الرحب والعطاء الثر.

کما إن شخصية الإمام قد أحيطت بهالة قدسية نادرة، وجد فيها الأبعدون صوتا للعدالة الإنسانية، ولمس فيها الأقربون صحابيا جليلا زق العلم من صاحب الرسالة الأعظم، منذ أن ربي في حجره إلى

ص: 52


1- نوار، د. صلاح الدين محمد، نظرية الخلافة أو الإمامة وتطورها السياسي والديني، ص 87-88

خليفة لأمته، وتمسك بها الأدنون لأنه طُهِّر من الجليل الأعلى الذي أراد له أن يكون هاديا لرسالته ومنارا لبلاده.

أما البحث عن موضوع حقوق الإنسان لدى الإمام فهو بحث شيق وعميق، تتداخل فيه الأقوال والأفعال، وتتجانس فيه العقائد والمواقف. والأسئلة التي تستوجب الإجابة عنها هي: هل يمكننا أن نعثر على متبنيات لحقوق الإنسان في أقوال الإمام؟ وإن كانت كذلك فهل التزم بها الإمام کمبادئ عمل في سيرته العملية؟ وإن صح ذلك فهل اعتمدت کمنهج عمل للدولة حين أصبح على قمة الهرم السلطوي؟ ومن ثم أيمكننا الادعاء بأن الإمام ليس كالآخرين، الذين إذا قالوا نقضوا وإذا عاهدوا نکلوا. بل تبدو سيرته بقوله وفعله وتقريره مزيجا واحدا يعكس صورة من صور الكمال المتفرد، والتمسك المعصوم بثوابت الشرع الذي يعز فصله ويستحيل نقضه، مهما

ص: 53

جاءت النتائج وغلت التضحيات؟

أولا: الحقوق المدنية

حق العمل والملكية الخاصة:

مع أن الإمام كان يستشف من بعض حديثه تلك النظرة الدونية إلى الحياة، إلا أن ذلك لم يمنعه من التأكيد على أهمية العمل والكسب ورفض الرهبانية والاقتصار على العبادة، فهو (عليه السلام) يأمر واليه ب(استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوصي بهم خيرا، ... فإنهم مواد المنافع)(1).

ولم يكتف بالحث على العمل الذي ينفع الجماعة ورعاية العاملين، ولإعلاء من شأن هذا العمل، اشترط ألا يجبر العامل على عمله، فالعمل الذي لا يواكبه رضا وجداني عميق من قبل العامل، فيه إساءة للحرية والعمل نفسه؛ وإنصافا للشخص

ص: 54


1- عهد الإمام علي بن أبي طالب إلى واليه على مصر مالك الأشتر، إعداد المستشار فليح سوادي، ص 24

يحرم إكراهه على عمل من غير مبرر، كما لابد أن تكون ثمرة العمل من حق العامل وحده(1). وكمثال تطبيقي على ذلك نذكر أهل القرية الذين طلبوا من حاكمهم إعادة فتح مجرى نهر سابق قد اندثر، وذلك بأمر القادرين على العمل بالسخرة، ولكن الإمام رفض ذلك، وطلب منه، أن يدعو الناس إلى حفر النهر، ثم يكون الأجر والنهر فيما بعد لمن عملوا بمليء إرادتهم(2).

ولا تعني حرية العمل عند الإمام أن يكون السوق مفتوحا على مصراعيه لجشع بعض التجار، كما هو حال السوق في الدول الرأسمالية، وإنما لابد للدولة من مراقبة حركة السوق، وتنظيمها وفقا لموازين التكافؤ في الفرص وتحقيق العدالة. فقد نبه الإمام في العهد: (وليكن البيع بيعا سمحا بموازین عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع

ص: 55


1- جرداق، جورج، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، ص 144
2- المصدر السابق، ص 157

[المشتري]، فمن قارف [خالط ] حكرة [الاحتکار] بعد نهيك إياه فنکّل [عاقبه]، وعاقب في غير إسراف [تجاوز حد العدل])(1).

ويركز الإمام في سياق توصياته إلى عامله أن يكون هدفه الأساس البناء والأعمار ولا يكون مبلغ همه أخذ الضرائب، فيقول: (ولیکن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لان ذلك لا يدرك إلا بالعمارة)(2). ويضيف الإمام بضرورة مراعات الناس في أخذ الضرائب: (فأن شكو ثقلا أو علة ... خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم)(3). لأن ذلك فيه صلاح الحاكم والمحكومين، (فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم

ص: 56


1- عهد الإمام علي بن أبي طالب إلى واليه على مصر مالك الأشتر، إعداد المستشار فليح سوادي، ص 25
2- المصدر السابق، ص 23
3- المصدر نفسه

وتبجحك باستفاضة العدل فيهم)(1).

وقد ورد عن الإمام (عليه السلام) في رواية مفصلة أنه بعث أحد عمال جباية الزكاة، وأوصاه بتقوى الله ورعاية حقوقه، فأن وصل لتلك المنطقة نزل بعيدا عن البيوت، ثم يأتيها وهو على سكينة ووقار فيسلم على أهلها ويقول لهم، أرسلت إليكم لأخذ منكم حق الله في أموالكم، فأن قال قائل ليس عليّ حق، فلا تراجعه، وإن أنعم منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه أو تعده إلا خيرا، ولا تدخل إلا بأذنه، وإن دخلت فلا تدخل دخول متسلط عليه ولا عنف به، ثم أقسم المال قسمين وخيره في أحدهم وخذ الآخر، وهكذا حتى يبقى ما فيه حق الله(2). وفي الحقيقة فأن هذا التعامل مع المواطنين عند أخذ الضريبة المفروضة عليهم، هو أرقی تعامل يمكن أن يتصور في نظام ضريبي حضاري.

ص: 57


1- المصدر نفسه
2- القزويني، محمد کاظم، الإمام علي من المهد إلى اللحد، ص 155

ذلك لان للمسلم حرمة في نفسه وأهله وماله لا يجوز التعدي عليها، بل تمتد هذه الحرمة لتشمل كافة مواطني الدولة الإسلامية سواء من المسلمين وغيرهم، فقد جاء في نهج البلاغة، (لا تضر بن أحدا سوطا لمكان درهم، ولا تمسن مال أحد من الناس مصل ولا معاهد، إلا أن تجدوا فرسا أو سلاحا يعدی به على أهل الإسلام)(1).

حينئذ يخرج المرء من كونه مواطن ويصبح معادي يستحق العقوبة والردع. بل نجد أن الإمام قد حث الناس على الجهاد حينما بلغه (أن رجلا منهم [الأعداء] كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة، فينتزع حجلها وقلبها و قلائدها ... ثم انصرفوا وافرين ما نال رجلا منهم كلم ولا أريق لهم دم، فلو أن أمرأ مات من بعد هذا

ص: 58


1- نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين، ص 566

أسفا ما كان به ملوما، بل كان به عندي جدير)(1).

الضمان الاجتماعي:

يؤكد الإمام علي (عليه السلام) في عهده إلى عامله على ضرورة إحاطة الطبقة الفقيرة من المحتاجين والمرضى وذي العاهات بالرعاية الأزمة، حيث يقول: (الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم والمساكين والمحتاجين وأهل البؤسي... والزمني... واحفظ الله ما استحفظك.. من حقه فيهم)(2). وضرورة عدم التقصير في ذلك بحجة الانشغال بالمصالح العليا للمجتمع، (فلا يشغلنك عنهم بطر [طغيان النعمة]، فأنك لا تعذر بتضييع التافه [البسيط الحقير] لأحكامك الكثير المهم)(3). ثم يشير الإمام إلى شريحة أخرى من الشرائح

ص: 59


1- المصدر السابق، ص 69
2- عهد الإمام علي بن أبي طالب إلى واليه على مصر مالك الأشتر، إعداد المستشار فليح سوادي، ص 25
3- المصدر نفسه

الاجتماعية التي هي بحاجة إلى رعاية خاصة من الدولة، (وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن [المتقدمون فيه] ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه، وذلك على الولاة ثقيل)(1).

أما في مجال الممارسة العملية، فقد كان شديد الحرص على مراعات هذه الشرائح الضعيفة ومواساتها، وقد نزلت فيه آيات من التنزيل تقديرا لعطاءه، فقد ذكر الواحدي أن عليا (عليه السلام) حصل على كمية من الشعير أجرا على عمل قام به، فأتی به إلى بيته فأخذوا ثلثه وعملوا منه خبزا لیأكلوه، فجاءهم مسكين فدفعوه إليه، فعملوا الثلث الثاني وأتاهم يتيما فأعطوه إياه، ثم عملوا الثلث الثالث فسألهم أسير فأطعموه ذلك. فطووا في كل ذلك الوقت من غير طعام، فنزلت هذه الآية: «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا

ص: 60


1- المصدر السابق، ص 26

وَأَسِيرًا (8)»(1))(2).

ولم يستثني من العطاء أحد من رعايا الدولة الإسلامية، ففي زمن خلافته عليه السلام مر به شیخ کبیر مکفوف يسأل الناس، فسأل الإمام ما هذا؟ فقالوا له نصراني، فقال الإمام: استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه، أنفقوا عليه من بیت المال(3).

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أن أمير المؤمنين جاء يوما إلى السوق فابتاع ثوبين أحدهما بثلاث دراهم والآخر بدرهمين، فدفع الأول إلى عبده قنبر، فقال له قنبر، أنت أولا به، لأنك تصعد المنبر وتخطب الناس، فأجابه الإمام: أنت شاب ولك شره الشباب، وأنا أستحي من ربي أن أكون أفضل منك

ص: 61


1- الإنسان: 8
2- الواحدي، أبي الحسن علي بن أحمد، أسباب نزول القرآن، ص 470
3- العاملي، الحر، وسائل الشيعة إلى تحصيل الشريعة، ج 11، ص 49

لباسا، لقد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ألبسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تأكلون(1).

كما كان شديد المحاسبة لعماله عندما يلمس منهم شيء من التقصير في ذلك، وفي سيرته كثيرا مما يصح أن يكون مثالا في هذا المقام. ومنها أنه سلام الله عليه بلغه أن عامله عبد الله بن العباس قد تجاوز على بعض الأموال العامة، وهذا الشخص من أقرب المقربين إلى الإمام، أولا لأنه ابن عمه، وثانيا لأن ابن عباس كان لصيقا بالأمام كونه أحد مستشاريه وقادته، فبعث إليه كتابا يذكر فيه خاصية القرب لهذا الرجل، فيقول: (أما بعد فأني كنت أشركتك في أمانتي وجعلتك شعاري وبطانتي، ولم يكن من أهلي رجل أوثق منك في نفسي)(2).

ص: 62


1- القزويني، محمد کاظم، الإمام علي من المهد إلى اللحد، ص 142
2- نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين، ص 545-546

وفي نفس الوقت فأن ذلك لم يمنعه من غض الطرف على جرأته على المال العام فيوبخه، وقد جاء في الكتاب: (أيها المعدود عندنا من ذوي الألباب كيف تسيغ شرابا وطعاما، وأنت تعلم أنك تأكل حراما وتشرب حراما، وتبتاع الإماء وتنكح النساء من مال اليتامى والمساكين والمؤمنين والمجاهدين، الذين أفاء الله عليهم هذه الأموال... والله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت، ما كانت لها عندي هوادة ولا ظفرا مني بإرادة حتى آخذ الحق منها وأزيح الباطل عن مظلمتهما)(1).

ومنها أيضا أنه أتته العيون بخبر عن عامله في البصرة عثمان بن حنيف، حيث بلغه أنه دعي إلى وليمة فأجاب الدعوة!! ولمجرد أنه شك في مصدر هذه الأموال وضرورة الاحتراز من الشبهات، کتب إليه كتابا طویلا ينتقده فيه نقدا مرا، ويحذره من عاقبة الوقوع في الشبهات، هذه فقرة منه: (فانظر إلى

ص: 63


1- المصدر السابق، ص 547-548

ما تقضمه من هذ المقضم فان اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه)(1).

ثم يذكره بسيرته ومواساته للفقراء، إذ يقول: (ألا وإن إمامكم قد أكتفي من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد... ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطانا وحولي بطون رثی وأكباد حری... أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش)(2)

ص: 64


1- المصدر السابق، 552
2- المصدر السابق، 552-554

حرية التنقل والسكنى:

فقد ورد في نص العهد في سياق الحديث عن أصحاب الأعمال والحرفيين، وضرورة رعايتهم من قبل السلطة فضلا عن اعتراضهم ومنعهم وهم يسعون حثيثا طلبا للرزق في أطراف البلاد المترامية، حيث يقول: (وجلابها [الأرزاق] من المباعد والمطارح [الأماكن البعيدة]، في برك وبحرك وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها [لا يمكن وصول الناس إليها] ولا يجترئون عليها، فأنهم سلم [أي التجار والصناع] لا تخاف بائقته [دهاؤه]، وصلح لا تخشى غائله، وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك)(1).

يظهر من كلام الإمام أن توصيته بهذه الشريحة، لكونها أولا لأنها تقدم في حركتها وتنقلها الخدمات للمجتمع، وثانيا لأنهم أناس مسالمين لا يخشى من

ص: 65


1- عهد الإمام علي بن أبي طالب إلى واليه على مصر مالك الأشتر، إعداد المستشار فليح سوادي، ص 25

جانبهم، فتكون حركتهم نافعة على العموم. ولكن سيرة الإمام تبين أنه لم يمنع أحد حتى حين شك في نواياهم. فقد استأذن طلحة والزبير الإمام في الخروج إلى مكة معتمرين، ولكن الإمام أظهر لهما شيئا من الشك فيما صمما عليه، فأكدا له أنهما لا يريدان غير العمرة، فسمح لهما في الخروج، مع أنه كان معتقداً بما يضمران(1). وتذكر المصادر التاريخية أنه أكد عليهما البيعة له، لتكون الحجة عليها أوثق فيما لو انقلبا عليه. وفعلا كان يقين الإمام في محله فلم يتجها إلى مكة، وإنما كانت وجهتهما إلى البصرة، التي حثوا أهلها على الخروج عن طاعة الإمام، وحدوث معركة الجمل(2).

بل إن فلسفة الإمام اقتضت عدم منع الأشخاص من التنقل حتى في الظروف العصيبة، فقد بلغه أن رجالا من أهل المدينة يخرجون خلسه

ص: 66


1- حسين، طه، الفتنة الكبرى .. علي وبنوه (2)، ص 25
2- الدينوري، أبي حنيفة بن داود، الأخبار الطوال، ص 144

للانضمام إلى صف معاوية، فكتب إلى عامله على المدينة، لا ليأمره بمنعهم عن الخروج والانضمام إلى العدو، وإنما كتب له بأن لا تأس لفراق مثل هؤلاء الذين مالوا إلى الطمع، فرجحوا الباطل على الحق. وجاء فيه: (أما بعد، فقد بلغني أن رجالا من قبلك يتسللون إلى معاوية، فلا تأسف على ما يفوتك من عددهم ويذهب عنك مددهم، فكفي لهم غيا ولك منهم شافيا فرارهم من الهدى والحق، وإيضاعهم إلى العمى والجهل... فهربوا إلى الأثرة)(1).

حرية الاعتقاد:

يأمر الإمام عامله بقوله: (وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان أما أخو لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق).(2) ويمكن

ص: 67


1- نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين، ص 618
2- عهد الإمام علي بن أبي طالب إلى واليه على مصر مالك الأشتر، إعداد المستشار فليح سوادي، ص 15-16

أن نستفيد من هذا النص حرية المعتقد؛ ذلك لان الرعية بحسب النص هم صنفان، والصنف الأول هم المسلمون، الذين ينتظمون مع الحاكم المسلم تحت عنوان (الأخوة الإسلامية)، أما الصنف الثاني فأنه يشمل كل من لا ينتمي إلى صنف المسلمين. ولما كان الإسلام دين وعقيدة، فأن الصنف الثاني يشتمل على كل من له دین وعقيدة غير إسلامية من مواطني الدولة الإسلامية. إذن فأن رعایا الدولة الإسلامية ومواطنيها هم من ديانات وعقائد مختلف، وهي معروفة ومشخصة وليست خافية على الحاكم الإسلامي، وإن الإمام سلام الله عليه حين وجه حاکمه على مصر ليس السماح لهم وغض الطرف عنهم في ممارسة دينهم وعقائدهم بحرية، وإنما يتوجب عليه أن يتوجه لهم جميعا بمختلف انتماءاتهم الدينية والعقائدية بالمحبة والرحمة عليهم واللطف بهم.

ص: 68

ولو رجعنا إلى التاريخ الإسلامي، وعددنا حركة الخوارج حركة عقائدية تصحيحية (طبعا من وجهة نظرهم)، وليست سياسية لأنهم كانوا لا يستهدفون الوصول إلى السلطة، وإنما تصحيح مسار الأمة، وذلك ما نبه إليه الإمام حين قال: لا تقتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه(1).

ولكن معارضة الخوارج للأمام لم يقابها (0) إلا بمنتهى الروية في محاولة لاستيعابهم. لقد كان الإمام خليفة وكانوا هم من رعاياه، وكان بإمكانه أن ينفذ فيهم أشد أنواع العقوبات، ولكنه لم يسجنهم ولم يجلدهم، ولم يبادرهم بحرب. فأرسل إليهم أقرب معاونيه وأعلم مستشاريه كعبد الله بن عباس وصعصة بن صوحان يجادلونهم من أجل عودتهم إلى صفوف الأمة، ثم حاورهم بنفسه ما استطاع

ص: 69


1- نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين، ص 103

لهدايتهم سبيل(1).

وكان يعرف الإمام أن أحدهم يهم بالخروج والانضمام إليهم، فلا يستكرهه ولا يستبقيه، ويفسح لهم المجال لان يتوجهوا حيث يشاؤون، ويحسن معاملة من أقام منهم، ولا يرضى أن يتعرض له من أصحابه أحد،. ثم أنه كان يعطيهم نصيبهم من الفيء أسوة بسائر الناس. فالناس أحرار في مايرون من قول وعمل، وموالاة ومعاداة، إلا أن يتجاوزوا على الناس ويعتدوا عليهم ويفسدوا في الأرض، حينذاك يتوجب على الإمام إلزامهم بالحدود في غير لين(2).

حق الحياة

ومن وصايا الإمام مالك الأشتر حرمة حياة الإنسان وعدم سفك الدماء، فكتب: (إياك والدماء

ص: 70


1- القزويني، محمد کاظم، الإمام علي من المهد إلى اللحد، ص 290 - 291
2- جرداق، جورج، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، ص 152

وسفكها بغير حلها، فليس شيء أدعي لنقمة ولا أعظم لتبعة، ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها(1).

ولست أدعي أمراً هو بحاجة إلى برهان حين أقول أن الإمام رجل حرب وبطل معارك، فقد شارك في حروب المسلمين والمشركين وغزواتهم، وقتل في تلك الحروب والمغازي أبطال المشركين، وبطش بأعلام قریش وکبار بيوتاتها. وكانت بدر وأحد والخندق شواهد على ما أقول. ولكن لو تساءلنا عن تلك السيرة المليئة بالحروب والتاريخ المضمخة بالدماء، هل كان ذلك كاشف عن عدم رعاية حق الإنسان في الحياة أم كان ناتج عن عقيدة راسخة بشرعية الجهاد؟ بداية يصرح الإمام في النص السابق على تحذيره عامله من مقاربة سفك الدماء بغير حق. ثم يردف ذلك بما يكشف عن

ص: 71


1- عهد الإمام علي بن أبي طالب إلى واليه على مصر مالك الأشتر، إعداد المستشار فليح سوادي، ص 29

فلسفته الخاصة التي تذهب إلى أن سفك الدماء من غير وجه حق، هي أكبر جريمة يمكن أن يقترفها إنسان، وهي مدعاة أكثر من أي شيء آخر للنقمة، التي توجب زوال النعمة وانقطاع مدتها.

ولو عدنا لسيرة الإمام (عليه السلام) لنبحث عن الشواهد حية، التي لا سبيل إليها بتأويل، ولا يتطرق إليها شك. إذ تذکر کتب التاريخ أن رجلا من الخوارج سمع حديث الإمام وهو يعض بعض جماعته، فبهره حديثه فصاح معجبا إعجاب الكاره الذي لا يملك بغضه ولا إعجابه: قاتله الله كافرا ما أفقهه. فانتفض بعض اتباع الإمام ليقتلوه، فنهاهم الإمام وقال لهم: إنما هو سب بسب أو عفو عن ذنب(1).

كما أن تاريخ الإمام يتحدث عن بعض المشاغبين في جماعته، الذين يعترضون عليه في كل خطوة، ويثقلون عليه باللجاجة في مواقف تضيق

ص: 72


1- العقاد، عباس محمود، عبقرية الإمام علي، ص 19

فيها الصدور. (ولم یکن الأشعث بن قيس بالوحيد في هذا الباب، بل كانوا له شركاء من الخوارج وغير الخوارج، يظهرون بالعنت في غير موضعه ويذهبون به وراء حده... ألا يخطر على البال هنا، أن ضربة من الضربات القاضية كانت تنجع في هذا العنت المكرب، حيث لا تنجع العقوبة الشرعية أو الاحاييل السياسية؟ ماذا لو أن الإمام جرد سیفه بين أولئك المشاغبين، وأطاح برأس الأشعث بن قيس قبل أن يفيق أحد إلى نفسه، ثم ولى على الفور من يقوم مقامه...؟ أكان بعيدا أن تفعل الرهبة فعلها، فيسكن المشاغب ويهاب المتطاول ويجتمع المتفرق، ويقل الخلاف بعد ذلك على الإمام؟)(1).

هذا المنهج اعتمدته الميكافيلية، واستساغته البرغماتية، واعتبرته الاشتراكية ضرورة لحفظ المجتمع. ولكن هيهات فليس ذلك في فلسفة الحكم عند الإمام، ولا طريقته في التعامل مع موضوع

ص: 73


1- المصدر السابق، ص 144

الدماء، مع علمه بنجاعته، وعدم غيابه عن نظره.

حتى قتال العدو عند الإمام له أصوله وأخلاقياته، (فليس الغدر قتالا، ولا المباغتة دون الإعذار جائزا عنده، بل لابد من الالتزام بالأصول الأخلاقية. ومن هنا فأن الإمام حينما أرسل الأشتر في مقدمة الجيش إلى مناوئيه أوصاه قائلا: إياك أن تبدأ بقتال إلا أن يبدؤوك، حتی تلقاهم فتدعوهم وتسمع منهم، ولا يحملك بغضهم على قتالهم قبل دعائهم والإعذار إليهم مرة بعد مرة)(1).

فليس البغض أو العصبية ما يحمل على القتل عند الإمام، وإنما الحجة والإعذار بالنصيحة مرة تلو الأخرى، حتى إفراغ الوسع وقيام الحجة على القتال. وليس قوله السابق لمالك نصيحة خاضعة لاشتراطات الحرب وتقلباتها، وإنما هي فلسفة عمل وضوابط شرع لا يمكن تجاوزه. فحين سمع

ص: 74


1- المدرسي، هادي، أخلاقيات أمير المؤمنین، ص 45

أن جماعة الخوارج (خارجون عليك فبادرهم قبل أن يبادروك، فقال: لا أقاتلهم حتى يقاتلوني، وسيفعلون. وكذلك فعل قبل وقعة الجمل، وقبل وقعة صفين، وقبل كل وقعة صغرت أو كبرت، ووضح فيها عداء العدو أو غمض، يدعوهم إلى السلم وينهي رجاله عن المبادأة بالشر، فما رفع يده بالسيف قط، إلا وقد بسطها قبل ذلك للسلام)(1).

العدالة:

جاء في نص العهد: (وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية)(2).

لقد ركز الإمام علي (عليه السلام) موضوع العدل أيما ترکیز، سواء على مستوى توجيهه ونصحه ومواعظه للآخرين، أم على مستوى عمله

ص: 75


1- العقاد، عباس محمود، عبقرية الإمام علي، ص 19
2- عهد الإمام علي بن أبي طالب إلى واليه على مصر مالك الأشتر، إعداد المستشار فليح سوادي، ص 21

الفعلي وممارساته العملية، حين كان خارج السلطة أم حينما تسلم مقاليد خلافة المسلمين؛ ذلك لان العدل أولا قيمة من قيم الدين ومعيار للشريعة، فكان تمسك الإمام بهذه القيم بمقدار تمسكه بدينه وشريعتها المقدسة. كما أن تشدده في التزام قيم العدالة الاجتماعية وتحقيق المساواة، ورفضه التام لأي ممارسة أو تطبيق عملي يحيد عنها ولو بصورة آنية، اقتضاء للمصالح العليا ولاعتبارات السياسة ومتطلبات الظروف التي تحيط بالدولة؛ كون أن خلافة الإمام جاءت بعد ثورة عارمة لم يشهدها المجتمع الإسلامي من قبل، نتيجة ابتعاد سياسة الدولة عن قيم الإسلام الأصيلة التي قامت على العدل والمساواة، فظهر خلالها انقسام ملحوظ للمجتمع إلى طبقات متمایزة على أسس عرقية ومادية، فكان تشدد الإمام في التمسك بتلك القيم من أجل إعادتها وإحيائها في نفوس الناس من جديد. لذا جاء تأكيده على واليه إلى مصر بالنص

ص: 76

السابق، على إقرار الحق شريعة بين الناس وتحقيق العدالة يجب أن تكون القيمة العليا للحاکم، وفي ذلك توفير الأرضية الصحيحة لكسب رضا المواطنين وجلب مودتهم، وهي في الوقت ذاته تحقق رضا الله تعالى.

ولما بويع الإمام على الخلافة ونهض بأعبائها، كان عازما على إعادة الحق إلى نصابة مهما كلفه الأمر، فقام خطيبا في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ألا لا يقولن رجال منكم قد غمرتهم الدنيا فاتخذوا العقار وفجروا الأنهار وركبوا الخيول الفارهة، واتخذوا الوصائف الروقة فصار ذلك عليهم عارا وشنارا إذا منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعملون، فينقمون ذلك ويستنكرون ويقولون حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا. ألا وأيما رجل استجاب الله وللرسول فصدق ملتنا ودخل في ديننا واستقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده، فانتم عباد الله والمال مال

ص: 77

الله يقسم بینکم بالسوية، لا فضل لاحد على أحد)(1). بل وأقسم على نفسه أن يعيد كل الحقوق التي اغتصبت إلى مستحقيها، إذ يصرح: (والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الإماء لرددته، فأن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق)(2).

وطلب من الإمام تفضيل بعض الأشراف ممن يتخوف منه مخالفته ويحتمل افتراقه عن جماعته، لان الناس أصحاب دنیا ولما رأوا ما يفعله معاوية بمن انقطع إليه منهم، فأن استتب الأمر لك عدت إلى سيرتك إلى أحسن ما کنت عليه من العدل في الرعية والقسم بالسوية. فأجابهم: (أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه من أهل الإسلام، والله ما أطور به ماسمر سمير وما أم

ص: 78


1- القزويني، محمد کاظم، الإمام علي من المهد إلى اللحد، ص 247
2- نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين، ص 50

نجم في السماء نجما، ولو كان مالهم مالي لسويت بينهم فكيف وإنما هي أموالهم)(1).

وكان الإمام (عليه السلام) إذا عين واليا على إقليم من أقاليم أو مدينة من مدن الدولة الإسلامية، أعطاه عهدا يقرأه على الناس، فأن أقره الناس، كان ذلك العهد بمثابة العقد بينه وبين الناس، لا يجوز لهم أن ينحرفوا عنه، ولا يجوز للحاكم أن يتأوله أو يخالفه، وإن خالفه وانحرف عنه في شيء قليل أو كثير، كان ذلك موجبا للحساب والعقوبة. لقد ربط الإمام ولاته وعماله بالشعب بمثل ما أرتبط به، فكان شديد المراقبة لهم، فكانت تلك الخطوة الرائعة منسجمة مع دستوره العام في الحقوق والواجبات، وهي تنسجم مع أرقی دساتير الأمم في وقتنا الحاضر، حين جعل من المحكوم نفسه رقيبا أعلى على الحاكم(2). وهكذا فعل حين ولى

ص: 79


1- الحراني، بن شعبة، تحف العقول عن آل الرسول، ص 114
2- جرداق، جورج، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية،، ص 137

الإمام مالك الأشتر على مصر.

فكانت أولى الفقرات من وصايا الإمام إلى واليه هي المحافظة على القانون والالتزام به، ف(أمره بتقوى الله وإيثار طاعته واتباع ما أمر في كتابه من فرائضه وسننه، التي لا يسعد أحد إلا باتباعها ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها)(1). فالوالي ليس حرا في تصرفه مع الناس، وإنما هو مقید بسنن الشريعة وقوانينها فيما يخص الحقوق والواجبات بين المواطنين. وفي ذات الوقت فأن طاعة المواطنين للحاکم مشروطة بالتزامه بالشريعة، ففي كتاب الإمام إلى أهل مصر (فاسمعوا له، أطيعوا أمره فيما طابق الحق)(2). ذلك لأن إقامة الحق أساس السعادة، (وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله

ص: 80


1- عهد الإمام علي بن أبي طالب إلى واليه على مصر مالك الأشتر، إعداد المستشار فليح سوادي، ص 15
2- نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين، ص 543

وتعجیل نقمته من إقامة على الظلم)(1).

ومن وصاياه سلام الله عليه لمالك الأشتر رضوان الله عليه: (انصف الله وانصف الناس من نفسك، ...، فإنك إن لم تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده)(2).

وفي هذا الباب روي أن امرأة اسمها (سودة) جاءت إلى الإمام، تشكو رجلا قد ولاه عليهم لجمع الصدقات فجار عليهم، وكان يصلي فلما انتهى من صلاته، سألها ما حاجتك، فأجابته بخبره، فبکی وقال: اللهم أنت الشاهد علي وعليهم، وأني لم آمرهم بظلم خلقك. ثم كتب كتابا على ورقة من الجلد، ودفعه إلى المرأة من دون ختم، فدفعته إلى صاحبه فانصرف عنهم معزولا. وهذا نصه: (بسم الله الرحمن الرحیم. قد جاءتكم بينة من ربکم

ص: 81


1- عهد الإمام علي بن أبي طالب إلى واليه على مصر مالك الأشتر، إعداد المستشار فليح سوادي، ص 17
2- المصدر السابق، ص 16

فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلك خير لكم إن كنتم مؤمنين، فإذا قرأت كتابي هذا فاحفظ بما في يدك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك، والسلام)(1).

ويتحدث الإمام عن قضية هي في غاية الأهمية بالنسبة للحكام وذوي النفوذ، لأنها كثيرا ما كانت محل ابتلاء وامتحان لهم، وغالبا ما فشلوا في ذلك، وهي أن قواعد العدالة توجب أن تكون عامة شاملة لكل الرعایا من غير استثناء، فلا إثرة لاحد من الناس مهما كانت له صلة القربی معه، أو كانت له حظوة لديه، بل يوصيه بعدم الأثرة حتى مع نفسه، فيقول: (وإياك والاستئثار [تخصيص النفس بزيادة] بما الناس فيه إسوة [متساوون](2). ثم

ص: 82


1- القزويني، محمد کاظم، الإمام علي من المهد إلى اللحد، ص 157
2- عهد الإمام علي بن أبي طالب إلى واليه على مصر مالك الأشتر، إعداد المستشار فليح سوادي، ص 30

يذكره بضرورة الأنصاف مع الأهل والمقربين، بقوله: (أنصف الله وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوى [تميل إليه] من رعيتك، فإنك إن لم تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده)(1). ويؤكد على هذا المعني بعبارة أخرى: (وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد، وكن في ذلك صابرا محتسبا، واقعا ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع)(2).

ولكنه (عليه السلام) ينبه إلى أن قواعد العدالة قد لا تقتضي المساواة في المعاملة بين الناس، حيث يقول: (ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة، والزم كلا منهم ما الزم نفسه)(3). ثم يضيف: (وإن

ص: 83


1- المصدر السابق، ص 16
2- المصدر السابق، ص 28
3- المصدر السابق، ص 18

ظنت الرعية بك حيفا [ظلما]، فأصحر لهم بعذرك [بين لهم عذرك فيه])(1).

ولابد من القول أن شخصية الإمام کانت تتجسد فيها مؤهلات قوية في تطبيق العدالة الاجتماعية، وكان إلتزامه بها بالغا ما بلغ هو السبب الذي أبعد عنه ذوي الأطماع والأغراض الذين يمنون أنفسهم بالأثرة، وأخاف ذوي المناصب والكنوز، وقطع آمال حواشي السلاطين، وهدد الفجرة الذين استحقوا إقامة الحدود الإلهية. فاجتمعت هذه العوامل على التأجيج ضد الإمام وجرت عليه النوائب والحروب.

ثانيا: الحقوق السياسية والقضائية

الحقوق السياسية:

من أصعب القضايا التي تتناول في مجال حقوق الإنسان وأكثرها حساسية، هي القضايا التي تتعلق

ص: 84


1- المصدر السابق، ص 28

بالحقوق السياسية للمواطنين، خاصة وأن البحث يتناول مرحلة تعود إلى مرحلة سابقة بأكثر من ألف عام، ولعل ذلك يرجع إلى أنها ترتبط ارتباطاً مباشراً بموضوع السلطة وصلاحيات السلطان، وهم حسب الفرض الراعي الأول للحقوق. فالحاكم قد لا يعسر عليه أن یکون کریما في عطائه، ومنصفا في توزيع المال، وأريحيا في تقبله لأشخاص يحملون عقيدة مخالفة، ولكن حينما يصل الأمر إلى صلاحياته في ممارسة سلطته وتقبله للمعارضة أمر ليس باليسير بأبسط عبارة يمكن أن تقال.

بداية نقول أن الإمام (عليه السلام) كان يرى أنه أحق بالخلافة بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، لأنه منصب من لدن الله تعالى وربيب النبي (صلى الله عليه وآله) وأخوه وصهره، وصاحب السابقة في الإسلام والبلاء الحسن في المشاهد كلها. وقد صرح النبي في حقه كثيراً من الأقوال، ومنها قوله ((صلى الله عليه وآله): (أنت مني بمنزلة هارون من موسی

ص: 85

إلا أنه لا نبي بعدي)، وأيضا قوله (صلى الله عليه وآله): (من کنت مولاه فهذا علي مولاه). ومن أجل ذلك طلب العباس عمه حين قبض النبي (صلى الله عليه و آله) البيعة منه، هو وأبو سفيان الذي أراد بيعة علي (عليه السلام) عصبية لبني عند مناف. ولكن الإمام أبي البيعة مخافة الفتنة. ولما بويع الخلفاء الثلاثة قبله، طابت نفسه بما كان يراه حقاله،، فصبر مخافة الفتنة وحفظا للدين وحقنا الدماء المسلمين(1)، وكان ناصحا لهم(2). وحين قتل

ص: 86


1- حيث يقول عليه السلام: (فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دین محمد (علیه السلام)، فخشيت إن لم أنصر الإسلام أهله أن أرى فيه ثلما أو هدما، تكون مصيبته به علي أعظم من فوت ولايتكم). نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين، ص 604
2- مع أن الإمام كان يعتقد بأحقيته في الخلافة، وقد اغتصبت منه، ولكنه كان ناصحا (وهو بحسب الاصطلاح الحديث معارضا) لمن تصدی منهم للخلافة، وكان عمر كثير ما يستشيره في القضايا الكبرى فيشير عليه وينصحه بما يلزم ذلك، ومنها استشارته في أمر خروجه بنفسه لغزو الروم، فأشار عليه الإمام بعدم الخروج بنفسه. نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين، ص 252

عثمان كان طبيعيا إذا أن يفكر في نفسه وما غلب عليه من حقه، ولكنه مع ذلك لم يطلب الخلافة ولم ينصب نفسه للبيعة، إلا حين استكره على ذلك، حين فزع إليه المهاجرون والأنصار يلحون عليه في تولي أمور الأمة، وإخراجهم من تلك الفتنة المظلمة التي عمت بعد مقتل عثمان، وهدد بالقتل من قبل بعض الثوار في حال عدم إجابته لهم(1). وهو يقول في وصف تلك الحال: (فأقبلتم إلي إقبال العوذ المطافيل [الأنثى صاحب الأولاد] على أولادها، تقولون: البيعة البيعة! قبضت كفي فبسطتموها ونازعتكم يدي فجاذبتموها)(2).

ص: 87


1- حسين، طه، الفتنة الكبرى .. علي وبنوه (2)، ص 17-18
2- نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين، ص 255

ويكشف الإمام (عليه السلام) سر طلبه للحكم، وقبوله للخلافة بقوله: (اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك)(1).

ثم أنه عليه السلام لما بويع لم يكره أحدا عليها، وإنما قبل البيعة ممن بايعه وترك من لم يرد أن يبايعه، فترك عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاس ومحمد بن مسلمة الأنصاري(2).

ولما أراد بعض الثوار أن يرغموا أولئك النفر المتخلفين عن البيعة، ويحملوهم قسرا عليها، أبی الإمام ذلك أشد الإباء، لان قاعدته العامة في شأن البيعة تستند إلى حرية الأفراد، فمن بايع قبلت منه،

ص: 88


1- المصدر السابق، ص 248
2- الدينوري، أبي محمد عبد الله بن مسلم ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج 1،2، ص 53

ومن أبى فهو حر في رأيه. كما يذكر لنا التاريخ أن عبد الله بن عمر لما أبي البيعة للإمام أراد نفر أن يقدم كفيلا لئلا يثير الفتنة، فأبی أيضا من تقديم الكفيل، فقال لهم الإمام خلو سبيله، وأنا كفيله(1).

وإن كانت فلسفة الإمام تستلزم الحرية السياسية والمسؤولية الشرعية، في وقت السلم وفي قضية البيعة، التي هي عقد وحرية الاختيار فيه رکن أساس، فما هو موقفه من حرية الرأي في وقت الحرب؟ إذ إن الدول الديمقراطية الحديثة تعلن فيها حالة الطوارئ، التي تضيق فيها كثير من حالات الحرية المعتادة. أما عند الإمام فالأمر مختلف. فقد جاء حبيب بن مسلم الفهري إلى الإمام حين اشتدت الفتن وسعرت نار الحرب، وطلب منه أن يعتزل الخلافة ويكون الأمر شوری بین المسلمين، فأشار عليه الإمام بأن هذا ليس محلك ولا أنت له أهل، فقام حبيب وقال: والله لتريني بحيث تكره.

ص: 89


1- جرداق، جورج، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، ص 136

وليس بخاف ما في هذا القول من التهديد الصريح، لأعلى قمة في هرم الدولة وفي زمن الحرب. فماذا يكون الرد على مثل هذا التهدید؟ هل أمر بسجنه والحيلولة دون تحقيق مبتغاه في صریح تهدیده؟ ألم يكن الإمام قادر على منعه؟ ماذا كان جواب الإمام؟ إنه لم يفعل شيء من هذا القبيل، و إنما نظر إليه وقال بلهجة الواثق من عدالته المعترف بحق الناس في القول والفعل: اذهب فصوب وصعدما بدا لك(1).

وتتخذ الدول بصورة عامة موقفا موحدا فيما إذا داهمها خطر، إذ تستحث الجميع وتسوقهم بكل السبل لدرء ذلك الخطر، أما الإمام فقد كان طريق التعبة لديه من خلال القناعة وحدها، فعندما خرج إلى حرب الجمل، بعث كتابا للناس يستحثهم، أورد فيه: (وأنا أذكر الله من بلغه کتابي هذا لما نفر إليّ، فإن کنت محسنا أعانني وإن كنت

ص: 90


1- المصدر السابق، ص 150

مسيئا استعتبني)(1). حيث لم يكن الإمام ليلجأ في ذلك إلى أي نوع من القهر المادي أو المعنوي، فالقهر بمختلف ألوانه مناف لأصول رؤية الإمام إلى الحرية وشروطها. لقد كان يتوجه إلى عقول الناس بمنطق العقل وبما يملكه من حجة وبرهان، ويتوجه إلى قلوبهم وضمائرهم بمنطق القلب والضمير، فيلحق به من يلحق ويتخلف من يتخلف. فالأمام لا يقبل الإكراه ولا يجيزه، وهو يأبى أن يلحق به أحد من الناس من غير بصيرة وإيمان، لذلك لم يجبر أحدا من الناس على اللحاق به في حرب الجمل وحرب صفين وحرب الخوارج(2). وتذكر المصادر التاريخية أن الإمام لم يتخذ موقفا ضد جماعة رفضت محاربة الخوارج، منهم عبيدة السلماني والربيع بن خثيم ومعهما نحو أربعمائة رجل، قالوا للأمام إنا شككنا

ص: 91


1- نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين، ص 599
2- جرداق، جورج، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، ص 153

في قتال هؤلاء، مع علمنا بفضلك وسابقتك. فلم يفرض عليهم الخروج لحرب الخوارج(1).

وكان الحكام يعتبرون الدولة بسكانها وأرضها ملکا خاصا لهم، يتصرفون به کما يشاؤون دون حسيب أو رقيب، وكانت أموال الدولة وأموالهم شيئا واحدا ينفقون منها كما يرون، وكانت مراکز الدولة والمسؤوليات العامة ملكا لهم، يعينون فيها ويعزلون على هواهم. أما الإمام فقد أقام نظاما إداريا محكما، حدد فيه الوظائف العامة وطرق تعيين المسؤولين، وبين واجباتهم وحقوقهم، وأقام عليهم تفتیشا دقيقا، ووضع أسس الثواب والعقاب(2)

وفي نص عهده سلام الله عليه إلى مالك الأشتر رضوان الله عليه تفصيل دقيق لتلك الأسس والقواعد والشروط الإدارية، لا مجال لذكرها هنا، لأنها تدخل في بحث النظام السياسي والإداري

ص: 92


1- الدينوري، أبي حنيفة بن داود، الأخبار الطوال، ص 165
2- طي، د. محمد، الإمام علي ومشكلة نظام الحكم، ص 171

عند الإمام. أما الوصايا التي ترتبط بموضوعنا حقوق الإنسان، فكانت تدور حول توجيه الإمام بضرورة تمسك الحاكم بقواعد القانون والشرع في تعامله مع الناس، (ولا تقولن إني مؤتمر [مسلط] آمر فأطاع)(1)، الأمر الذي يفرض عليه الخروج عن إطار الفعل الفردي المحكوم بالنظرة الشخصية والالتزام بقواعد الشرع، لأن ذلك كفيل بتحقيق العدالة الاجتماعية، ويستلزم رضا الرعية. ويمكن القول أن الأسس الدستورية في فلسفة الحكم عند الإمام علي تقوم على ثلاثة أمور هي: الحق، العدل، رضا القاعدة الشعبية، (وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية)(2). الذين هم الدعائم الأساسية للدولة. حيث يقول: (وإنما عماد الدين وجماع [جماعة]

ص: 93


1- عهد الإمام علي بن أبي طالب إلى واليه على مصر مالك الأشتر، إعداد المستشار فليح سوادي، ص 16
2- المصدر السابق، ص 17

المسلمين والعدة للأعداء، العامة من الأمة، فلیکن صفوك [الميل] لهم، وميلك معهم)(1). كما إن (سخط العامة يجحف برضى الخاصة [يذهب برضاهم]، وأن سخط الخاصة يغتفر مع رضی العامة)(2). وبالتالي فأن معیار صلاح الحكام في دستور الإمام، يستشف من رضى العامة، إذ يقول: (إنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده)(3). ورفضه التام لأساليب العنف والبطش من قبل الحكام في توطيد دعائم حكمهم، (فلا تقوین سلطانك بسفك دم حرام، فأن ذلك مما يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله)(4).

وفي هذا المجال أيضا يطالب الإمام من الحاكم أن يفرغ جزء من وقته لاستماع قضايا الناس

ص: 94


1- المصدر نفسه
2- المصدر نفسه
3- المصدر السابق، ص 15
4- المصدر السابق، ص 29

و شکایاهم، ويصف آداب التعامل معهم، إذ يقول: واجعل لذوي الحاجات [المتظلمين تتفرغ لهم فيه بشخصك للنظر في مظالمهم] منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلسا عاما، فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك [لا يتعرض لهم جندك] وأعوانك من حراسك وشرطك، حتى يكلمك متكلمهم غير متعتع [غير متردد أو خائف عن التعبير بما عنده]، .....ثم احتمل الخرق [العنف ضد الرفق] منهم والعي [العجز عن النطق]، ونح عنك الضيق(1).

ومن أجل تطبيق هذه القواعد الدستورية، ولأهمية وخطورة مواقع المسؤولية (العامل) في النظام الإداري الإسلامي، يضع الإمام شروطا مشددة في عملية اختيارهم، فيقول: (ثم أنظر في أمور عمالك فأستعملهم اختبارا [بالامتحان]، ولا توهم محاباة [من الميل الشخصي] وإثرة [استبدادا

ص: 95


1- المصدر السابق، ص 26

بلا مشورة]، ... وتوخ [اطلب وتحر] منهم أهل التجربة والحياء، من أهل البيوتات الصالحة، والقدم [السابقون] في الإسلام)(1). وفضلا عن ذلك يجب وضعهم تحت المراقبة، (وابعث العيون [الرقباء] من أهل الصدق والوفاء عليهم)(2).

وقد طبق الإمام تلك الشروط بدقة وصرامة، ولم يرض أن يتنازل عنها، مهما كانت الأسباب وجاءت النتائج، إذ كانت لتلك الأسس والشروط قيمة عليا في نظر الإمام، لا تقوم مقامها ضرورات الظروف ولا تعادلها مقتضيات المصلحة السياسية. فعندما بويع الإمام للخلافة أقبلا طلحة والزبير عليه وبایعاه راضيين طائعين، ولكنهما بدا لهما بعد ذلك من الإمام مالم يكونا ينتظران، فقد كانا يقدران أن الإمام محتاج إليهما أشد الاحتياج، إذ كانت لطلحة مكانة عند أهل الكوفة، وللزبير

ص: 96


1- المصدر السابق، ص 22
2- المصدر السابق، ص 23

مثلها عند البصريين، فكانا يطمحان في أن الإمام سيعرف لهما مكانتهما وسلطتهما على أهل الكوفة وأهل البصرة، وسيشركهما في أمره ويقاسمهما الخلافة، التي ستكون ثلاثية لهؤلاء النفر من أصحاب الشورى. وبالتالي يكون أمر الشام هينا عليه. ولما لم يريا ما كانا يتوقعانه من الإمام، وأن أمرهما سيكون كأمر غيرهما من أعلام المهاجرين، وسيأخذان عطاءهما بالتساوي كل عام، ولم يلقيا منه ما كان يمنحهما عثمان من الرفق واللين والتسامح، فدبرا أمرهما في روية وأناة(1).

وتبدو الصورة أكثر وضوحا لما جاءه عليه السلام المغيرة بن شعبة وبايعه على الخلافة، قال له (إن لك حق الطاعة والنصيحة، وأن الرأي اليوم تحرز به ما في غد، وأن الضياع اليوم تضيع به ما في غد. أقرر معاوية على عمله، وأقرر العمال على أعمالهم، حتى إذا أتتك طاعتهم وبيعة الجنود

ص: 97


1- حسين، طه، الفتنة الكبرى .. علي وبنوه (2)، ص 20

استبدلت أو تركت. فأبي وقال: لا أداهن في ديني ولا أعطي الدنية في أمري. قال المغيرة: فأن كنت أبيت علي فانزع من شئت واترك معاوية، فأن في معاوية جرأة، وهو في أهل الشام يستمع له، ولك حجة في إثباته، إذ كان عمر قد ولاه الشام. فقال علي: لا والله .. لا أستعمل معاوية يومين)(1).

وكان نتيجة الرفض الشديد لمقتضيات المصالح السياسية ومتطلبات الظروف، وتمسكه الصارم بقيمه ومبادئه، التي لم يتنازل عنها ولو آنیا؛ شاع الرأي القائل أن الإمام رجل شجاع، ولكن لا علم له بخدع الحرب والسياسة بين أصحابه ومناوئيه، معززین قولهم هذا بمخافته نصائح الدهاة من أنصاره، وما آلت إليه أحوال الأمة وعدم استقامة الأمر له(2).

وكان جواب الإمام على ذلك: (والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية

ص: 98


1- العقاد، عباس محمود، عبقرية الإمام علي، ص 122
2- المصدر السابق، ص 120

الغدر لکنت من أدهى الناس، ولكن كل غدرة فجرة، وكل فجرة كفرة، لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة)(1).

الحقوق القضائية:

عند مراجعة سيرة الإمام نجد أن أكثر ما تكلم به هو حث الناس على طاعة الله تعالى والعمل بأوامره والانتهاء عما نهى عنه في سننه وشرائعه، وقد جرت عادة الإمام أن يبتدأ بالحديث في ذلك والتأكيد عليه في كل فرصة سانحة. تلك الشرائع (التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها)(2)، ولعل أهم جزء منها ما يتعلق بالقضاء بين الناس، وضرورة تطبيقها في الفصل في الخصومات وتحقيقا للعدالة، (فأنك إلا

ص: 99


1- نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين، ص 421
2- عهد الإمام علي بن أبي طالب إلى واليه على مصر مالك الأشتر، إعداد المستشار فليح سوادي، ص 15

تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده)(1)؛ وذلك لكي يكون (الإنسان على بينة من قانونية أو عدم قانونية تصرفه، ومن العقوبات التي قد يستحقها إذا ما اقترف جرماما، وليحضر على الحاكم أن يصدر قوانين تعاقب على أفعال لم تكن تعبر جرائم عند إتيانها، أو تضع عقوبات معينة على جرائم لم تكن توضع على مرتكبيها من قبل(2).

ولأهمية المؤسسة القضائية في الدولة الإسلامية، فقد سلط الإمام الضوء عليها في عهده إلى عامله على مصر، وجاء تأكيده على أهم مفاصلها وهو القاضي وكيفية اختياره، وما هي المواصفات التي يجب أن يتمتع بها، إذ ذكر: (أختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك، ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم [لج في الخصومة وأصر على رأيه]، ولا يتمادی [یستمر ويسترسل] في الزلة]

ص: 100


1- المصدر السابق: ص 16
2- طي/ د. محمد / الإمام علي ومشكلة نظام الحكم، ص 117

السقطة في الخطأ]، ولا يحصر [لا يعيا في المنطق] من الفيء [الرجوع إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه [اقربه وأبعده]، أوقفهم في الشبهات وأخذهم بالحجج، وأقلهم تبرما [الملل والضجر] بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصر مهم [أقطعهم للخصومة وأمضاهم] عند اتضاح الحكم)(1).

ولم يترك الإمام جانب أخر مهم في حديثه عن القاضي، وهو ما يرتبط بشخصه وحياته الخاصة، حيث يقول: (وأفسح له في البذل ما يزيل علته [أوسع له في العطاء بما يكفيه]، وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك، ليأمل بذلك اغتيال الرجال له عندك)(2). وبعد ذلك يؤكد الإمام على أن يكون تحت المراقبة

ص: 101


1- عهد الإمام علي بن أبي طالب إلى واليه على مصر مالك الأشتر / إعداد المستشار فليح سوادي / ص 26
2- المصدر السابق/ص22

الشديدة، فيقول: (أكثر تعاهد [تتبعه بالاستكشاف والتعرف] قضائه)(1)؛ وبذلك يأمل الإمام تحصیل الإنسان لحق التقاضي، بالصورة التي تحقق له العدالة في الحكم والتكافؤ والمساواة بين الناس.

وعلى صعيد السيرة العملية للإمام، فقد ورد أنه عليه السلام حينما كان خليفة للمسلمين وجد درعه عند أحد النصارى، فأخذه إلى القاضي ليخاصمه عليها، فسأله القاضي: هل لك من بينة يا أمير المؤمنين؟ ولم يجد الإمام بينة على ما ادعاه، فقضى بالدرع للنصراني، فأخذها ومشى والإمام ينظر إليه، إلا أن النصراني لم يخط خطوات حتى عاد ليقر للإمام بأحقيته بالدرع، وأن هذه هي أحكام الأنبياء، ثم أسلم على يديه)(2).

أما على صعيد القضاء في موضوع الدماء فقد كان موقف الإمام حاسما، وعلى وفق تفاصيل فقهية

ص: 102


1- المصدر نفسه
2- العقاد/ عباس محمود عبقرية الإمام علي / ص 46

قانونية متعددة. إذ أشار على الخليفة الثاني بقتل أكثر من شخص ثبتت جنایتهم بقتل رجل واحد، بعد تردد بعضهم في الحكم بالقضية. وروي عن الإمام أخذ القصاص من ثلاثة أشخاص اشتركوا في قتل واحد. واقتص من حرا قتل عبدا متعمدا، ومن رجل اعتدى على امرأة فقتلها. بل يروى عن الإمام أن من رأيه الاقتصاص من المسلم الذي يقتل يهوديا أو نصرانيا(1). هذه الآراء للإمام تكشف عن مضامين إنسانية عالية، من حيث أنها تنطوي على رؤية تساوي بين البشر، إذ لا فرق بين الرجل والمرأة، وبين الحر والعبد، وبين المسلم والمعاهد من النصارى واليهود.

ولم يقتصر النظام القضائي الإسلامي على أخذ القصاص في القتل العمد أو الخطأ، إذ سن للولي الدم التخيير بين القصاص أو أخذ الدية على تفصيل.

ص: 103


1- السعد، غسان، حقوق الإنسان عند الإمام علي بن أبي طالب (دراسة علمية)، ص 61

وقد طور الإمام هذه التشريعات و کشف عن الكثير من تفصيلاتها. ومنها أن المسلم والمعاهد والمستأمن في الدية سواء. ويعد هذا المبدأ مبدءا إنسانيا في غاية السمو، لأنه ينظر إلى الإنسان كإنسان من دون النظر إلى معتقده أو مكانته في المجتمع(1).

ولم تتغير مواقف الإمام حتى وهو على فراش الموت بعد أن ضربه قاتله غدرا، حيث أوصى أن تطبق بحقه الإجراءات القانونية، فيوصي أهله بالقول: (يا بني عبد المطلب لا ألفيكم تخوضون دماء المسلمين خوضا، تقولون: قتل أمير المؤمنين. ألا لا تقتلن بي إلا قاتلي. انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه، فاضربوه ضربة بضربة، ولا يمثل بالرجل، فأني سمعت رسول الله (صلى الله عليه واله) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور)(2).

ص: 104


1- المصدر السابق: ص 67
2- نهج البلاغة: جمع الشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسينا ص 562-563

الخاتمة:

وفي ختام هذه الدراسة نأتي على توكيد بعض الأمور التي انطوت عليها، تتضمنها النقاط الآتية:

أ- شهدت الحضارات الشرقية المختلفة التي ظهرت في مراحل تاريخية مبكرة من عمر الإنسانية، تبلور طروحات تكشف من دون شك عن مؤشرات تقدير للحقوق الإنسانية، وان اختلفت في مستوياتها وفي مرجعيتها الفكرية. ولكن إلى جانب ذلك شهد الشرق القديم تسلط دکتاتوریات و فراعنة امتهنت حقوق الإنسان وكرامته؛ مما يدلل على أن المعيار الحقيقي الذي يحكم على التجارب ويقيمها سلبا أو إيجابا، لا يتعلق بقیمة الفكرة أو تماسكها المنطقي، بقدر ما تكون قيمة حاكمة على سلوك البشر، ولذا فان كل ما سبق قوله من مفاهیم سامية تتعلق بالحق الإنساني، فإنها كانت حقائق أخلاقية ومثل

ص: 105

سامية تطمح إليها النفوس السليمة، ولم ترق إلى أن تكون ممارسات فعلية إلا في أوقات قليلة أو ربما نادرة بالقياس إلى عموم التاريخ الإنساني.

ب- وتضمنت التوراة اليهودية مؤشرات مهمة في مجال حفظ حقوق الإنسان وصيانة كرامته، غير أن التشريع التوراتي قد جرى تطويره على يد الربانيين اليهود، ويمكن أن نلمس ذلك في كتاب التلمود وهو الكتاب المعتمد أكثر من التوراة لدى أتباع الديانة اليهودية، وفيه جرى التفريق بين اليهودي وغيره من البشر، فاليهودي (روحا وجسدا) يختلف كليا عن الآخرين؛ واستنتجوا من ذلك أن اليهودي فقط يستحق الحياة، فيما الآخرين لا يستحقونها، وفي ضوء ذلك فسر قوله لا تقتل أنه تعالى نهی عن قتل شخص من بني إسرائيل حصرا، شعب الله المختار، وأصبح من العدل قتل اليهودي للأجنبي لأنه قد يكون من نسل الشعب الذي سكن أرضهم المقدسة، وأضحت أحكامهم التشريعية تأمرهم

ص: 106

بحروب إبادة ضد الشعوب الأخرى.

ت- وقدست المسيحية الإنسان ووضعته في مكانة مميزة لم تضعه فيها أي من الديانات السماوية الأخرى. فإن الإنسان في العقيدة المسيحية، هو صورة لله رب الكون، وهذا ما يجعله مميزا عن باقي المخلوقات، ولما كان الأمر كذلك، فإن الإنسان ينفرد بالتمتع بالكرامة الإنسانية التي تتأصل فيه ولصيقة بشخصه لمجرد كونه إنسانا. وبهذه الصورة حلت محورية الإنسان محل محورية الله تعالى التي هي مبدأ الأديان السماوية، وأدت إلى ظهور آلية لاهوتية توجب تضحية الرب - الذي تحول إلى إنسان في هيئة السيد المسيح - من أجل سلامة الإنسان.

ثم أن المسيحيين لما هیمنوا على الدولة الرومانية بعد أن كانوا مستضعفين فيها، تنكروا لما دعوا إليه في بداية ظهور المسيحية من الحرية والإخاء، واعتبروا حق غيرهم في الاعتقاد باطلا يجب مقاومته واضطهدوا كل من يخالفهم الرأي، واتخذوا موقفا

ص: 107

حاسما في حقهم بمقاومة الطغيان. وكان مما يميز العصور الوسطى التي ظهرت فيه الكنيسة وهي تقود المجتمعات الغربية، هو الانقسام الحاد إلى ثلاث طبقات والبون الشاسع بين الناس، وظهور محاکم التفتيش التي عملت على نشر المذهب الكاثوليكي واضطهاد المذاهب فضلا عن الأديان المخالفة. كما شهد التاريخ الحروب الصليبية وممارساتها الشنيعة بالضد من حقوق الإنسان.

ث- وشهد العالم الغربي في العصر الحديث ثورات کبری، نتجت عنها تحديد سلطة الحكام ووضعها تحت الرقابة الصارمة لصيانة حقوق الإنسان وحفظ كرامته، وأقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يمثل معيارا مشترکا تقيس على أساسه الأمم منجزاتها على هذا الصعيد، واتجهت المنظمة إلى مهمة تحويل المبادئ التي جاء بها الإعلان إلى معاهدات تفرض التزامات على الدول.

ص: 108

غير أن مفهوم حقوق الإنسان في العالم الغربي لا يمكن تعميمه، إذ لا يمكن اعتبارها مفاهیم علمية صارمة، تخضع في التقويم المعايير واحدة، في كل المجتمعات على اختلاف أسسها النظرية ومرجعيتها الفكرية؛ ذلك لأنه في الحقيقة مرتبط بتصور خاص بالإنسان وحياته الاجتماعية. أما في مجال الممارسة العملية فقد اتخذ موضوع الدفاع عن حقوق الإنسان كسلاح ضد الدول، من أجل تمرير الدول الكبرى لمصالها السياسية، وأصبحت أحد أسلحة السياسة الخارجية من خلال استخدامه معيارا في تقديم المساعدات للدولة النامية.

ج- أما في الإسلام فالإنسانية كلها ترجع إلى اصل واحد، وان هذا التنوع والاختلاف بين الناس مدعاة للتواصل والترابط، وأن لا مزية لبعضکم على بعض إلا بالتقوى. ولا يجوز التعدي على حياة الناس وأموالهم، وأن الجزاء مقرر لمن ينتهك هذا الحق. غير أنه سرعان ما تبدلت، حيث أن معاوية

ص: 109

والأمويين لما هیمنوا على مقدرات الأمة الإسلامية، ابدلوا مقوماتها التي قامت عليها كالتراحم والأخوة الإيمانية وإنكار الذات، لتظهر محلها روابط النسب وتعلو نعرة العصبية العربية، والتعالي على باقي الأجناس وجعلوهم بمنزلة الأرقاء، هذا فضلا عن سفك الدماء وانتهاك المقدسات والحرمات.

ولكن تيارا إسلاميا آخر ظل متمسكا بمبادئ الإسلام قاده الإمام علي، الذي تكشف سيرته بكل تفاصيلها، سواء أكان في مستوى المواطن (الذي يوصف بالتعبير الحديث بأنه معارض للحكم)، أم كان خليفة للمسلين وقائدا للدولة الإسلامية، تكشف سيرته عن التزام صارم بالقيم الرفيعة، التي تتضمن احتراما لكرامة الإنسان وحفظا لحياته، وإيمانا عمیقا لحريته في التعبير عن رأيه وعقيدته، وتعبر عن تضامنها المطلق مع المحرومين والمعوزين. تترابط فيها الأقوال والأفعال، وتتجانس فيها العقائد والمواقف، بصورة من صور الكمال

ص: 110

المتفرد، والترابط المعصوم الذي يعز فصله ويستحيل نقضه. فهو عليه السلام ليس كآخرين، الذين إذا قالوا نقضوا وإذا عاهدوا نکلوا. بل تبدو سيرته بقوله وفعله وتقريره مزيجا واحدا، تتجلى فيها القيم الإنسانية بأبهى صورها.

ولما كانت شخصية الإمام تحوطها هالة من الاحترام والتقديس لعامة المسلمين، كونه خليفة لهم، وإماما معصوما لدى بعضهم، كان لتلك السيرة قوة تشريعية. فإلى أي مدى استلهم فقهاء المسلمين من تلك السيرة حقوقا تصون حياة الإنسان وكرامته وحريته؟ هذا التساؤل يمكن أن يجاب عليه في بحث مستقل آخر إن شاء الله تعالى.

ص: 111

المصادر:

1- الباش / حسن مصطفى / حقوق الإنسان بين الفلسفة والأديان / جمعية الدعوة الإسلامية العالمية / ط 1 / 1426 / بنغازي.

2- التركي / د. عبد الله بن عبد المحسن / حقوق الإنسان في الإسلام / نسخة pdf / الموقع الإلكتروني:

https://islamhouse.com/ar/books 3- جرداق / جورج / الإمام علي صوت العدالة الإنسانية / دار الأندلس / ط 2010/1 / بيروت / لبنان.

4- الحراني / بن شعبة تحف العقول عن آل الرسول / منشورات الفجر / ط 2008/1 / بيروت لبنان.

5- حسونة / نسرين محمد عبده / حقوق الإنسان .. المفهوم والخصائص والتصنيفات والمصادر / نسخة pdf / 2015/ شبكة الألوكة / الموقع الإلكتروني: www.alukah.net

ص: 112

6- حسين / طه / الفتنة الكبرى ..علي وبنوه (2) / دار المعارف / ط 13 / القاهرة.

7- الداماد / مصطفی محقق / الحقوق الإنسانية بين الإسلام والمجتمع المدني / دار الهادي للطباعة والنشر / ط 2002/1.

8- دفاتر فلسفية (نصوص مختارة) / حقوق الإنسان (7) / إعداد وترجمة محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي / دار طويقال للنشر.

9- الدينوري / أبي حنيفة بن داود / الأخبار الطوال / تحقیق عبد المنعم عامر / دار إحياء الكتب العربية / ط 1 / 1960/ القاهرة.

10- الدينوري / أبي محمد عبد الله بن مسلم ابن قتيبة / الإمامة والسياسة / ج 1،2/ مطبعة البابي الحلبي / ط 3/ مصر / 1963.

11- السعد / غسان / حقوق الإنسان عند الإمام علي بن أبي طالب (دراسة علمية) / مركز الأبحاث العقائدية / نسخة doc مأمنة / الموقع الإلكتروني: .1/09 0/www.aqaed.com/book htm

ص: 113

12- سعفان / د. کامل / معتقدات أسيوية (موسوعة الأديان) / دار الندى / ط 1 / 1999 / القاهرة.

13- صبحي / د. احمد محمود / الفلسفة الأخلاقية في الفكر الإسلامي / دار المعارف / ط 2/ القاهرة.

14-طالبی / سرور / حقوق الإنسان في ضوء المسيحية / الموقع الإلكتروني: http://jilrc.com.

15- طی / د. محمد الإمام علي ومشكلة نظام الحكم / مركز الغدیر / ط 1 / 1997 / بيروت / لبنان.

16- العاملي / الحر / وسائل الشيعة إلى تحصيل الشريعة / ج 11 / باب 19 / تحقيق محمد الرازي / دار إحياء التراث، بيروت، لبنان.

17- عبد الحي / د. عمر / الفلسفة والفكر السياسي في الصين القديمة / المؤسسة الجامعية للدراسات / ط 1 / 1999 / بيروت.

18- عثمان / د. محمد فتحي / حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والفكر القانوني الغربي / دار الشروق / ط 1 / 19820.

19- العقاد / عباس محمود / عبقرية الإمام علي / دار الكتاب العربي / بيروت / لبنان / 1967.

ص: 114

20- عهد الإمام علي بن أبي طالب إلى واليه على مصر مالك الأشتر / إعداد المستشار فليح سوادي / قسم الشؤون الفكرية والثقافية / العتبة العلوية المقدسة / ط 1 / 2010.

21- القزويني / محمد کاظم / الإمام علي من المهد الى اللحد / مؤسسة الأعلمي للمطبوعات / ط 3 / 2009 / بيروت / لبنان.

22- مجموعة مؤلفين / شريعة حمورابي وأصل التشريع في الشرق القديم / ترجمة أسامة سراس / دار علاء الدين / ط 2 / 1993 / دمشق.

23- المدرسي / هادي / أخلاقيات أمير المؤمنين / مؤسسة الأعلمي / ط 1 / 1993 / بيروت / لبنان.

24- الموحي / عبد الرزاق رحيم صلال / حقوق الإنسان في الأديان السماوية / دار المناهج / تقديم أ.د. سعدون محمود الساموك.

20- نهج البلاغة / جمع الشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين / تحقيق فارس الحسون / مركز الأبحاث العقائدية / ط 1 / 1419 / النجف الأشرف / العراق.

ص: 115

26- نوار / د. صلاح الدين محمد / نظرية الخلافة أو الإمامة وتطورها السياسي والديني / منشأة المعارف / 1999 / الإسكندرية.

27 - الواحدي / أبي الحسن علي بن أحمد / أسباب نزول القرآن تحقيق ودراسة کمال بسيوني زغلول / دار الكتب العلمية / ط 1 / 1991 / بيروت / لبنان.

ص: 116

المحتويات

مقدمة المؤسسة:...5

المقدمة...9

المبحث الأول: لمحة في تاريخ حقوق الإنسان...12

أولا: تعریف حقوق الإنسان...12

ثانيا: حقوق الإنسان في الفكر الشرقي القديم...15

ثالثا: حقوق الإنسان في الأديان السماوية...26

رابعا: حقوق الإنسان في العصر الحديث...41

المبحث الثاني: حقوق الإنسان عند الإمام علي (عليه السلام) في ضوء عهده المالك الأشتر...51

أولا: الحقوق المدنية...54

ثانيا: الحقوق السياسية والقضائية...84

الخاتمة:...105

المصادر:...112

ص: 117

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.