السبك النصي في العهد العلوي الإحالة أنموذجاً
رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 4222 لسنة 2017
سلسلة دراسات في عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر(رضی الله عنه) (33) وحدة الدراسات اللغوية السّبك النصيّ في العهد العلوي الإحالة أنموذجاً تأليف م. د. ظافر عبيس الجياشي إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة فی العتبة الحسینیة المقدسة
جميع الحقوق محفوظة العتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1439 ه - 2017 م العراق - كربلاء المقدسة - مجاور مقام علي الأكبر عليه السلام مؤسسة علوم نهج البلاغة هاتف: 07728243600 - 07815016633 الموقع الألكتروني: www.inahj.org الإيميل: Info@ Inahj.org تنویه: إن الأفکار و الآراء المذکورة فی هذا الکتاب تعبر عن وجهة نظر کاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسینیة المقدسة
ص: 1
رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 4222 لسنة 2017
ص: 2
سلسلة دراسات في عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر(رضی الله عنه) (33) وحدة الدراسات اللغوية السّبك النصيّ في العهد العلوي الإحالة أنموذجاً تأليف م. د. ظافر عبيس الجياشي إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة فی العتبة الحسینیة المقدسة
ص: 3
جميع الحقوق محفوظة العتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1439 ه - 2017 م العراق - كربلاء المقدسة - مجاور مقام علي الأكبر عليه السلام مؤسسة علوم نهج البلاغة هاتف: 07728243600 - 07815016633 الموقع الألكتروني: www.inahj.org الإيميل: Info@ Inahj.org تنویه: إن الأفکار و الآراء المذکورة فی هذا الکتاب تعبر عن وجهة نظر کاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسینیة المقدسة
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم من عموم نعمٍ ابتدأها وسبوغ آلاء أسداها والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين محمد و آله الطاهرين
أما بعد:
فإن من أبرز الحقائق التي ارتبطت بالعترة النبوية هي حقيقة الملازمة بين النص القرآني والنص النبوي و نصوص الأئمة المعصومين (علیهم السلام).
وإنّ خير ما يُرجع إليه في المصادیق لَحديث
ص: 5
الثقلين «کتاب الله وعترتي أهل بيتي» هو صلاحية النص القرآني لكل الأزمنة متلازماً مع صلاحيّة النصوص الشريفة للعترة النبوية لكل الأزمنة.
وما كتاب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) لمالك الأشتر (رضی الله عنه) إلا أنموذجٌ واحدٌ من بين المئات التي زخرت بها المكتبة الإسلامية التي اكتنزت في متونها الكثير من الحقول المعرفية مظهرة بذلك احتياج الإنسان إلى نصوص الثقلين في كل الأزمنة.
من هنا:
ارتأت مؤسسة علوم نهج البلاغة أن تخصص حقلاً معرفياً ضمن نتاجها المعرفي التخصصي في حياة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) وفكره، متّخذة من عهده الشريف إلى مالك
ص: 6
الأشتر (رحمه الله) مادة خصبة للعلوم الإنسانية التي هي أشرف العلوم ومدار بناء الإنسان وإصلاح متعلقاته الحياتية وذلك ضمن سلسلة بحثية علمية والموسومة ب(سلسلة دراسات في عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر (رحمه الله)، التي يتم إصدارها بإذن الله تباعاً، حرصاً منها على إثراء المكتبة الإسلامية والمكتبة الإنسانية بتلك الدراسات العلمية التي تهدف إلى بيان أثر هذه النصوص في بناء الإنسان والمجتمع والدولة متلازمة مع هدف القرآن الكريم في إقامة نظام الحياة الآمنة المفعمة بالخير والعطاء والعيش بحرية وكرامة.
وكان البحث الموسوم ب(السبك النصي في العهد العلوي الإحالة انموذجاً) تحت عنوان الدراسات اللسانية التي عالجت التماسك النصي
ص: 7
في العهد العلوي في عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الأشتر وبينت إن وصف الكلام بالوقوف عند الجملة الواحدة وصف غير كاف ولا بد من الانتقال إلى وحدة أخرى وقد خاض الباحث في بيان الإحالة ودورها في تماسك النص و تکامل معناه
فجزى الله الباحث خير الجزاء فقد بذل جهده وعلى الله أجره، والحمد لله رب العالمين.
السيد نبيل الحسني الكربلائي رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة
ص: 8
بسم الله الرحمن الرحيم
الإحالةُ من الوسائل المهمة في السبك النصي، وظاهرةٌ من الظواهر النحويَّة التي تخرجُ عن إطار الجملة المفردة إلى العناية بالجوانب الدلالية والتواصلية في النصوص، وأداةٌ ذات أثر فاعل في ربط أجزاء النص وسبکه، فهي تقع في أساس كلّ منظومة فكريّة، وقد رأى اللسانيون ضرورة دراستها في إطار لسانیّات النصّ؛ لأنها من أهمّ وسائل السبك ومن المعايير المهمّة التي تسهم بنحو فعّال في الكفاءة النصيّة، وهي من أكثر وسائل السبك انتشاراً في نصوص العهد العلوي المبارك، إذ لا تكاد تخلو فقرة أو جملةٌ من ضميرٍ، أو عنصر إشاري، أو موصول، يربطُها بمواطنَ
ص: 9
أخرَى في النص، لذلك فهي من أهمِّ عوامل سبك النصوص التي تقفُ وراءَ خلقِ نصِّيَّتها.
وبناء على ما ذكر وقع اختيار الباحث على هذا الموضوع، بما ظهر له من ملامح جلية في العهد المبارك وقف عندها وحللها. واقتضت طبيعة البحث أن يقسم على مقدمة، وثلاثة مباحث، جاء الأول بعنوان: معنى النص، والثاني: معنى السبك، والثالث: معنى الإحالة، وتناول أقسامها، وعناصرها المتمثلة ب(الضمائر، وأسماء الإشارة، والأسماء الموصولة)، بعدها سجل الباحث خلاصة لأهم نتائج البحث.
ص: 10
إنّ النظر إلى النصّ هو إفراز حتميّ لمجموعة من التحوّلات المعرفيّة والمنهجيّة التي حدثت في نظريّة اللغة وأصولها ومستوياتها ووظائفها والفلسفة العلميّة الكامنة وراءها(1)؛ إذ تطوَّرَ النسق المعرفيّ اللغويّ عبر الزمن حتى وصل إلى لسانيّات النصّ(2) فبعد أن وقَفَت جُلّ البحوث اللسانيّة عند حدود الجملة ونَظَرَت إليها على أنّها الوحدة الكبرى للتحليل تطوّرَ البحث اللسانيّ، وأثبتَ محدوديّة هذا النوع من الدراسات وقصوره في تحليل اللغة(3) إذ لحظ الباحثون أنّ
ص: 11
البشر عندما يتواصلون لغوّياً لا يمارسون ذلك في جُمل منعزلة(1) بل ((في تتابعات مجاوزة للجملة مترابطة متماسكة))(2) فأدركوا أنّ وصف الكلام بالوقوف عند الجملة الواحدة وصفٌ غيرٌ كافٍ ولا بدّ من الانتقال إلى وحدة أخرى؛ هي النصّ(3) فأشار عدد من العلماء إلى ضرورة تجاوز حدود الجملة الواحدة في الدراسات اللغوية، وتعدُّ هذه الإشارات البذرة الأولى في ظهور هذا الاتجاه في الدرس اللغويّ المعاصر، فقد كان ظهوره في اللسانيات الغربية بعد إرهاصات
ص: 12
قدَّمها (هيالمسلاف)، و (هاريس)، إذ عدَّ الأولُ النصَّ قسماً أكبرَ قابلاً للتحليل، وتجاوز الثاني الجملةَ واعتنى بتحليل الخطاب(1)، ثُمَّ توالت بعدها الدراسات والبحوث والمقالات التي خَصَّت هذا العلم - النص - بالدراسة، فتعدَّدت تعريفاتُه، وتشعَّبت مفاهيمُه.
والفرق بين نظامي الجملة والنصّ، هو أنّ: ((نظام الجملة يوضّح كيفيّة ارتباط المفردات الواحدة بالأخرى في أبنية معيّنة أمّا لسانیّات النصّ؛ فتبحث فيما فوق الجملة... ويتجاوزها الى أفكار كليّة))(2).
وتعددت تعريفات النص باختلاف
ص: 13
المرجعيات والمنطلقات المعرفية والغايات والإجراءات لأصحابها، فمنها ما كان بنيوياً، ومنها ما كان سيميائياً، وبعضها ما كان اجتماعياً، وبعضها الآخر ما صدر عن لسانیات النصِّ وتحليل الخطاب ويلحظ ذلك عند النصِّيِّينَ أنفُسِهم(1)، وهو ما دعا بعض علماء النصّ إلى تصنیف تعريفات النصيين على ثلاثة أصناف(2): صنفٍ اعتمدَ تكوّنَ النص من بني سطحية، وثانٍ يرى أنَّ مجالَ النص هو الدلالة والمضمون، وثالث دمج بين الصياغة والدلالة وعدَّها وسيلةً تتحقق بها استقلالية النص.
فذهب (برینك) إلى أنَّ النصَّ ((تتابع مترابط من الجمل، ويستنتج من ذلك أن الجملة بوصفها
ص: 14
جزءاً صغيراً ترمز إلى النص، ويمكن تحديد هذا الجزء بوضع نقطة أو علامة استفهام أو علامة تعجب، ثم يمكن بعد ذلك وصفها على أنَّها وحدة مستقلة نسبياً))(1)، وهو تعريف يوضح النص بالجملة، فهو تتابع من الجمل، والجملة جزء منه وثمة علاقة بينها وبين الأجزاء الأخرى المكوِّنة للنص(2).
وحَدَّهُ (فاینرش) بأنَّه ((كلٌّ تترابط أجزاؤه من جهتي التحديد والاستلزام، إذ يؤدي الفصل بين الأجزاء إلى عدم وضوح النص، كما يؤدي عزل أو إسقاط عنصر من عناصره إلى عدم تحقق الفَهم، ويفسر هذا بوضوح من خلال
ص: 15
مصطلحي (الوحدة الكلية) و (التماسك الدلالي) للنص))(1).
وقد أشار هاليداي، ورقية حسن إلى أنَّ ((كلمة نص Text تستخدم في علم اللغويات لتشير إلى أي فقرة مكتوبة، أو منطوقة مهما كان طولها، شريطة أن تكون وحدة متكاملة، ويظهر واضحاً هذا التركيز على أن النص يتضمن المكتوب والمنطوق على أن يكون وحدة متكاملة دون تحديد حجمه طولاً أو قصراً))(2).
وقد وضع د. عثمان أحمد أبو زنید بعد أن ذكر تعريفات النص في ضوء الاتجاهات والمدارس المختلفة تعريفاً للنص، هو أنَّه: ((نظامٌ کُلِّي ينطوي على أبعاد دلالية ومحمولات معرفية
ص: 16
تشكل وحدة تواصلية في فضاء نصي مركب من مجموعة من العلاقات المتبادلة بين مجريات لغوية ومعطيات إنجازية خاضعة للدلالة العميقة المنتجة له، ولإطار التلقي المفترض في مرحلة الإنتاج))(1).
إلا أنَّ أهمَّ هذه التعريفات هو تعريف (دي بوجراند) و (دریسلر) ويعني أنَّ النص: ((حدث تواصلي يلزم لكونه نصاً أن تتوافر له سبعة معايير للنصية مجتمعة، ويزول عنه هذا الوصف إذا تخلف واحد من هذه المعايير))(2).
ص: 17
وهذه المعايير هي(1): السبك (Cohesion) أو الربط النحوي، والحبك (Coherence) أو التماسك الدلالي، والقصد (Intentionality) أي هدف النص، والمقبولية (Acceptability) وتتعلق بموقف المتلقي من قبول النص، والإخبارية أو الإعلام (Informativity) أي توقع المعلومات الواردة فيه أو عدمه، والمقامية (Situationality) وتتعلق بمناسبة النص للموقف، والتناص (Intertextuality) ويختص بالتعبير عن تبعية النص لنصوص أخرى، أو تداخله معها. وقد صُنِّفت هذه المعايير على
ص: 18
النحو الآتي(1):
1- ما يتّصل بالنصّ: (السبك والالتحام (الحبك).
2- ما يتّصل بمستعمل النصّ: منتجًا أو متلقيًا، (القصد والقبول).
3- ما يتّصل بالسياق الماديّ والثقافيّ المحيط بالنصّ: (الإعلام، والمقاميّة، والتناص).
ويؤكد الدكتور سعيد بحيري أنَّ (دي بوجراند ودریسلر) لا يعنيان ضرورة تحقق هذه المعايير كلِّها في نص ما کي يوصفَ بالنصية، وإنما تتحقق النصية بوجودها، وأحياناً تتكون نصوص بأقل قدر منها(2). ويُعدُّ هذا التعريف ثمرة جناهادي بوجراند من التعريفات السابقة
ص: 19
على تعريفه، وهو شامل لجميع الجوانب التي أُهملَ بعضُها فيما سبقه من الحدود؛ لذلك آثر عدد من الدارسين(1) هذا التعريف على غيره؛ لأنه ((يراعي المتحدث، أو المرسل والمستقبل، ويراعي كذلك السياق، وكذا يراعي النواحي الشكلية والدلالية...))(2)، وهو ما يذهب اليه الباحث مع من ذهب.
ص: 20
السبك: أوَّلِ وأهمِّ المعايير النصية السبعة التي ذکرها (دی بوجراند)(1)، والتي يجب ُتوافرها في النَّص کي يحكمَ له بالنَّصِّیَّة، وقد نال عناية كبيرة من قبل اللسانيين النصيين فهو جوهري في تشكيل النص وفهمه وتفسيره، فيعمل على جعل الكلام مفيداً، ويعمل على ثبات النص واستقراره، بعدم تشتت الدلالة الواردة في نص معين، ويقوم بتنظيم بنية المعلومات داخل النص مما يساعد في عملية فهم النص؛ عبر متابعة خيوط الترابط المتحركة داخل النص التي تمكّن المتلقي من ملء الفجوات، ویری (فان دايك) أن
ص: 21
السمات الشكلية في النص تحدد بنيته الدلالية(1)
فالسبك هو: ((خاصية دلالية للخطاب؛ تعتمد على فهم كل جُملة مكونة للنص في علاقتها بما يفهم من الجُمل))(2) وقيل بأنّه: ((ذلك التماسك الشديد بين الأجزاء المشكلة لنصّ / خطاب ما، ويُهتمّ فيه بالوسائل اللغويّة الشكليّة التي تصل بين العناصر المكوّنة لجزء خطاب، أو الخطاب برمته))(3) فهو يدرس إحكام علاقات الأجزاء(4)؛ أي: ((يقف على مجموع الإمكانيّات المتاحة في اللغة؛ لجعل أجزاء النصّ
ص: 22
متماسكة بعضها ببعض))(1) وأهمّ ما يحقّقه السبك في النصّ صفة الاطّراد والاستمراريّة في ظاهره فإنّنا نجد في كلّ مرحلة من مراحل النصّ نقاط اتصال بالسابقة(2) إذن هو ذو طبيعة خطيّة أفقيّة شكليّة يُعني بالتتابع والترابط الجُملي للنصّ والإجراءات المستعملة في توافر الترابط بين عناصره الظاهرة فضلًا عن تحقيقه استمراريّة الوقائع في النصّ؛ مما يساعد القارئ على متابعة خيوط الترابط المتحركة عبره ويقود إلى الانسجام النصّيّ، فيظهر النصّ ككلٍّ واحدٍ يُسهم في تماسكه عدد من الروابط أهمّها الروابط السطحيّة التي تؤدِّي إلى الروابط العميقة للبنی النصّيّة السطحيّة(3)
ص: 23
أمَا أهم وسائل و اشكال السبك، فهي:
- الاتساق الصوتيّ؛ ويشمل: السجع، الجناس، التنغيم.
- الاتساق المعجميّ؛ ويشمل: التكرار، المصاحبة المعجميّة.
- الاتساق النحويّ؛ ويشمل: الإحالة الحذف، الربط. وسيقتصر بحثنا على الاحالة بما يناسب المقام والموضوع. وسيتمّ بحثها من وجهة نظر نصيّة في هذا البحث، وإسهامها في تحقيق السبك بين مكوِّنات النصّ.
ص: 24
الإحالةُ وسيلةً مهمةً من وسائلِ السبك النصي، وظاهرةٌ من الظواهر النحويَّة التي تخرجُ عن إطار الجملة المفردة إلى العناية بالجوانب الدلالية والتواصلية في النصوص، وأداةٌ ذات أثر فاعل في ربط أجزاء النص وسبکه(1)، ثم إنَّ دراسة العلاقات الإحالية في النص تثيرُ البنيةَ الدلاليةَ فيها بشيوع صيغها في النص بالقدرِ الذي يَجعلُ منهُ وحدةً مسبوكة منسجمة فهي تقع في أساس كلّ منظومة فكريّة ف((اللغة نفسها نظام إحاليّ إذ تحيل إلى ما هو غير اللغة))(2). وقد رأى (فان دايك) ضرورة دراسة الإحالة
ص: 25
في إطار لسانیّات النصّ(1) فهي من أهمّ وسائل السبك ومن المعايير المهمّة التي تسهم بنحو فعّال في الكفاءة النصيّة(2).
وقد عرَّف بعضُ علماء النصّ الإحالةَ بأنَّها: العلاقة القائمة بين الأسماء و المسمَّيات(3)، ومنهم من ذكر أنَّها علاقةٌ ((بين العبارات من جهة وبين الأشياء والمواقف في العالم الخارجي الذي تشير إليه العبارات))(4)، وهذه العلاقة علاقة دلالية تخضع لقيد دلالي هو وجوب التطابق بين
ص: 26
العنصر المُحيل والآخر المحال إليه(1)، وتحدثُ بوساطة قسم من الألفاظ تسمى (العناصر الإحالية)، وهي ألفاظ لا تمتلك دلالة مستقلة ولا تكتفي بذاتها من حيث التأويل، إذ لا بدَّ من العودة إلى ما تشير إليه في أجزاء أخرى من الخطاب؛ من أجل تأويلها(2).
ويمكننا القول: إنّها ((عمليّة ذات طبيعة تداوليّة تقوم بين المتكلّم والمخاطب في موقف تواصلي معيّن يحيل فيه المتكلّمُ المخاطبَ إلى ذات معيّنة))(3) بإحالة لفظة مُستَعمَلة إلى لفظة متقدّمة عليها(4)، لذلك فصَّل أحدُ الباحثِينَ في تعريفِها
ص: 27
فَقَال: ((إنَّ الإحالة هي علاقة بين عنصر لغوي وآخر لغوي أو خارجي بحيث يتوقَّف تفسيرُ الأوَّل على الثاني؛ ولذا فإنَّ فهم العناصر الإحالية التي يتضمَّنها نصٌّ ما يقتضي أن يبحث المخاطبُ في مكان آخر داخل النص أو خارجه))(1).
ويتضح من هذا أنَّ الإحالةَ علاقةٌ دلاليةٌ بينَ عنصرين تشير إلى عملية استرجاع المعنی الحالي في النصّ مرة أخرى من طريق مجموعة من الكلمات، يُسمى الأوَّلُ مُحُيلاً، والثاني مُحَالاً إليه، والأوَّلُ ليس له معنی مستقلٌ في ذاته، ويمكن معرفة دلالته بالرجوع إلى العنصر الثاني الذي يقع في أجزاء أخرى من النص كالضمائر وأسماء الإشارة والأسماء الموصولة ونحوها، أو
ص: 28
قد يكون خارجياً يفهم من المقام، وبذلك يتمُّ استرجاعُ المعنی الدلالي مرة أخرى. فالمُحال قد يكون داخل الجملة نفسها، فتنحصر وظيفة الإحالة هنا في ربط عناصر الجملة، ومن ثُمَّ تقلُّ نسبةُ وجود الإحالة، ((وكلما كان المُحال إليه بعیداً اتَّسعَ الربطُ ليتحول إلى ربطِ نَصّي))(1)، فهي تقوم بمدِّ شبكة من العلاقات الإحالية بين العناصر المتباعدة في فضاء النصّ فتجتمع عناصره مشکِّلة كلّا واحد، فضلًا عن ذلك تُجنِّب المتكلّم التكرار المشتِّت للذهن؛ فيتحقّق بذلك الاقتصاد في اللغة فهي تختصر هذه العناصر الإحاليّة وتجنب مستعملها إعادتها.
ص: 29
للإحالة أقسام متعدّدة تبعًا للزوايا التي يُنظَر منها إلى الإحالة، و تشترك في عملية الإحالة مجموعة من العناصر تبدأ بالمتكلّم ثم اللفظ المحيل والمحال إليه والعلاقة بين اللفظ المحيل والمحال إليه(1) ومن أكثر أقسام الإحالة تداولًا بين الباحثينَ نوعان(2) هما:
1. إحالة نصيَّة: وهي إحالة على العناصر اللغوية الواردة في النص، ويتفرَّعُ عن هذه الإحالة نوعان: إحالة على سابق، وتسمى
ص: 30
(قبلية)، وهي تعود على مفسِّر سبقَ التلفظُ به، وهي الأصلُ في العربية(1)، وتمثِّلُ أكثر أنواع الإحالة دوراناً في الكلام(2)، وإحالة على لاحق، وتسمى (بعدية) وهي تعود على عنصر إشاري مذكور بعدها في النص ولاحق عليها، وهذا النوع قليل لا يتعدى مواضع معينة، إذ إنَّه من ((الأكثر صعوبة أن نتصوّر کیف یمکن التصرّف بالنسبة للعود إلى متأخِّر عندئذٍ يتحتّم اللفظ الكنائيّ أن يُركم حتى تأتي العبارة المشاركة له في معنى الإحالة))(3).
وبهذا تتحدّد نوعيّة الإحالة قبليّة أو بعديّة وكلتا الإحالتين القبليّة والبعديّة متّفقة من
ص: 31
حيث الطبيعة ومختلفة من حيث صور الإجراء؛ إذ تقومان على صورة خاصة من الإحالة غير المباشرة بالنسبة إلى ضرب خاص من العناصر اللغويّة تتمثّل في قصور العنصر عن الإحالة بمفرده إلى مرجعه أو خارجه ولا يكون ذلك إلّا بالاتِّكاء على عنصر آخر يعضِّده في القيام بهذه الوظيفة لكنّ الإحالة القبليّة تقوم على تقدّم العنصر المُتَّكأ عليه أمّا الإحالة البعديّة فإنّها بخلاف ذلك، تقوم على تأخّر ذلك العنصر(1)
2. إحالة مقامیَّة: وهي إحالةُ عنصرٍ لغوي على عنصرٍ إشاري غير لغوي موجود في المقام الخارجي، نحو إحالة ضمير المتكلم، الذي يوجهُ المخاطبَ إلى عنصرٍ إشاري غيرِ لغوي هو ذات المتكلم
ص: 32
ويمكن الاستعانة بالمخطط الآتي لتوضيح أقسام الإحالة السابقة(1):
الاحالة نصية إحالة داخل النص مقامية إحالة إلى خارج النص (إلى سابق) قبلية (إلى لاحق) بعدية
أما عناصر تتحقّق الإحالة، فتتحقّق الإحالة داخل النصّ بمجموعة من العناصر النحويّة التي من وظائفها الأساسيّة الربط بين الجُمل، وأهمها: الضمائر، وأسماء الإشارة، والأسماء
ص: 33
الموصولة(1).
الضمير من أعرف المعارف لكنّه مبهم لا يُفهم إلّا بما يرتبط به(2) فهو ((الاسم المتضمِّن للإشارة إلى المتكلّم أو المخاطب أو إلى غيرهما بعد سبق ذكره))(3) وإذا كان الضمير من المبهمات في ذاتها فالواجب البحث عن الظاهر الذي يفسِّر المضمر أي تحديد المشار إليه (العنصر الإشاري) الذي يقيم علاقة الربط مع الضمير المحيل
ص: 34
(العنصر الإحالي)(1) وتُعدُّ الإحالةُ بالضمير أهم مُعطيات النص التي تُسهِمُ في نصيتّه وكفاءَته، وله مهامّ عدِّة منها: الاختصار وأمن اللبس بالتكرار وإعادة الذكر(2) إلاّ أنّ تركيز الدراسات النصيّة كان على أثره في ربط الجُمل بعضها ببعض داخل النصّ فهو ((على وجه العموم فارغ الدلالة بمعنى أنّ دلالته في المعجم تمثّل صفراً ومن ثم لا يقوم بوظيفته إذا استُعمِل منفرداً بل لا بدّ له من ترکیب یعمل به كالحرف الذي يحتاج إلى مجرور فهو يحتاج إلى تركيب يستطيع به أن يقوم بوظيفته وليس المُراد بالإبهام في الضمير التنكير بل إنّ وقوع الضمائر على كلّ شيء من
ص: 35
حيوان وجماد أو غيرهما هو مدار الإبهام في الضمائر))(1)، فهي تمثل العصب الرئيس في بناء النصّ فيها يتبدّی سبکه وبها يمكن تلقّيه ومن دونها يغدو مفکّکًا إذ تقوم بوظيفة الرابط بين أجزاء النصّ بنحوٍ عام(2).
وقد قسَّمَ محمد خطابي الضمائر على(3):
1. وجودیَّة مثل: أنا، أنت، نحن، هو، هم، هن... إلخ. وهي ضمائر (المتكلمين، والمخاطبين، والغائبين).
2. وضمائر الملكية أو الضمائر المتصلة مثل: کتابی، کتابك، کتابهم، کتابه، کتابنا، إلخ..
ص: 36
ومن زاوية السبك میَّز الباحثان هاليداي ورقية حسن بين نوعين من الضمائر: الأوَّل ما سَمَّيَاه ب( أدوار الكلام)، وتندرجُ تحتَه كل الضمائر الدالة على المتكلم والمخاطب، وتكون الإحالة فيها مقامية خارج النص، والثاني ما أطلقا عليه (أدواراً أخرى)، ويخلفُ هذا النوعُ من الضمائر أثراً مُهِمَّاً في اتساق النص، فهي تربطُ أجزاءَهُ، وتَصِلُ بين أقسامِه، وتندرجُ ضمنَها ضمائرُ الغيبة إفراداً وتثنية وجمعاً(1).
وقد حقَّقتِ الضمائرُ السبك بين العناصر المُكوِّنة لنصوص العهد المبارك؛ فتكرارُها في أكثر من موضع، وعودتُها على مرجع واحد يخلقُ شبكة إحالية تربطُ الجملَ، وتغني عن إعادة لفظ المحال إليه.
ومن أمثلة ذلك قوله (عليه السلام): ((وأَشْعِرْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِیَّةِ والْمَحَبَّةَ لَهُمْ واللُّطْفَ بِهِمْ ولَا
ص: 37
تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ یَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ وَیُؤْتَی عَلَی أَیْدِیهِمْ فِی الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ الَّذِی تُحِبُّ وَتَرْضَی أَنْ یُعْطِیَكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَوَآلِی الْأَمْرِ عَلَیْكَ فَوْقَكَ وَاللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ وَقَدِ اسْتَکْفَاكَ أَمْرَهُمْ وَابْتَلَاكَ بِهِمْ.
وَلَا تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا یَدَ لَكَ بِنِقْمَتِهِ، وَلَا غِنَی بِکَ عَنْ عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ وَلَا تَنْدَمَنَّ عَلَی عَفْوٍ، وَلَا تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَهٍ وَلَا تُسْرِعَنَّ إِلَی بَادِرَهٍ وَجَدْتَ مِنْهَا مَنْدُوحَهً وَلَا تَقُولَنَّ إِنِّی مُؤَمَّرٌ آمُرُ فَأُطَاعُ فَإِنَّ ذلِكَ إِدْغَالٌ فِی الْقَلْبِ وَمَنْهَکَهٌ لِلدِّینِ وَتَقَرُّبٌ مِنَ الْغِیَرِ))(1).
ص: 38
المحال إليه الإحالة العنصر المحيل نوع الاحالة
مالك الأشتر ((رض أَشعِر (الضمير المستتر (أنت نصيَة - قبليَة
قَلبَكَ (الضمير المتصل (الكاف =
لَا تَكُونَنَّ (الضمير المستتر (أنت =
تَغتَنمُ (الضمير المستتر (أنت =
لَكَ، لَكَ، لَكَ (الضمير المتصل (الكاف =
فَأَعطِهِم (الضمير المستتر(أنت =
عَفوَكَ (الضمير المتصل (الكاف =
صَفحَكَ (الضمير المتصل (الكاف =
تُحِبُّ (الضمير المستتر (أنت =
وَتَرضَى (الضمير المستتر (أنت =
یُعطِیَكَ (الضمير المتصل (الكاف =
فَإنَّكَ (الضمير المتصل (الكاف =
عَلَّيكَ (الضمير المتصل (الكاف =
فَوقَكَ (الضمير المتصل (الكاف =
وَلَّاكَ (الضمير المتصل (الكاف =
استَكفَاكَ (الضمير المتصل (الكاف =
ابتَلَاكَ (الضمير المتصل (الكاف =
لَا تَنصِبَنَّ (الضمير المستتر(أنت =
نَفسَكَ (الضمير المتصل (الكاف =
لَكَ، بكَ (الضمير المتصل (الكاف =
لَا تَندَمَنَّ (الضمير المستتر (أنت =
ص: 39
لَا تَبجَحَنَّ (الضمير المستتر (أنت =
لَا تُسرِعَنَّ (الضمير المستتر (أنت =
وَجَدتَ (الضمير المتصل (التاء =
لَا تَقُولَنَّ (الضمير المستتر (أنت =
إِنِّی (الضمير المتصل (الياء =
فَأَطَاعُ (الضمير المستتر (أنا =
ومن النظر الى الجدول السابق يتبيَّن الآتي:
1- جميع الضمائر الواردة في الجدول تحيلُ إلى نواةٍ واحدة هي لفظة (مالك الأشتر (رضي الله عنه))، وفي وحدةِ النواةِ، وكثرةِ الضمائرِ التي تُحيلُ إليها تحقيقٌ لسبك النص ووحدتِه الدلالية، وزيادةٌ في قوة الربط وقدرة الإحالات على السبك، ودعمٌ لسمة النصية(1)، وهذه ظاهرة بارزة في الاحالة النصية، إذ إنّ أهم عنصر إشاري
ص: 40
في النص يرتبط به أكبر عدد من العناصر الإحالية وقد سماها د. الزناد ب((السُلَّميَّة الإحالية))(1).
2- كلُّ الإحالات الواردة في هذا الجدول إحالاتٌ نصيةٌ قبليةٌ، وفي هذا تأكيدٌ لما قاله بعض الباحثين من أنَّ هذا النوع هو الأكثر دوراناً في الكلام(2).
3- للضمائرِ المتَّصلةِ الغلبةُ على غيرها، فقد تجلّت وسائل الإحالة على نحو واضح في ظاهر النصّ؛ إذ بلغ عدد الضمائر التي أسهمت في تحقيق السبك على مستوى النص (30) ضميراً منها (18) ضميراً متَّصلاً و (12) ضميراً مستتراً وهذا التوزيع للضمائر جاء مطابقاً لما أقرّه
ص: 41
النحويون القدماء من أنّ الضمير المتَّصل له الغَلبَة في الحضور على غيره؛ ((لأنّه أكثر وأسيرَ في الاستعمال))(1)، يُضافُ إلى ذلك أنَّ ((الضمير إذا اتصل فلربَّما أضاف إلى الخفة والاختصار عنصراً ثالثاً هو الاقتصار، وهذه العناصر الثلاثة هي من مطالب الاستعمال اللغوي))(2).
4- كشفت هذه الضمائرُ عن دلالة النص الكلية، وعملت على ربط أوَّل نسيج النصِّ بآخره ربطاً أفقياً(3)، وقد صنع هذا الربطُ جسوراً كبرى للتواصل بين أجزاء النص التي تُفصِحُ عن معناها، و تجمعُ شتاتَها - على الرغم من تباعدها - وحدةُ المرجع المفسِّر.
ص: 42
5- لا يخلو النصّ من ضمائر تحيل إلى غير المحور الرئيس (مالك الأشتر رض)) إذ يكون لها مرجعيّة مستقلّة ويمكن ملاحظة ذلك في قوله (عليه السلام): (الَمحَبَّهَ لَهُمْ وَاللَّطْفَ بِهِمْ... عَلَیْهِمْ... أَکْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ... مِنْهُمُ... لَهُمُ... أَمْرَهُمْ... بِهِمْ). إذ جاءت الألفاظ لتحيل الى الرعية، وبعض الالفاظ أحالت إلى الله سبحانه وتعالى في قوله: (أَنْ یُعْطِیَکَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ... بِنِقْمَتِهِ... عَفْوِهِ وَ رَحْمَتِهِ) وحقّق عود الضمير على هذا النحو السبك والاختصار بوضوحٍ في النصّ.
وقد مثل هذا المقطع أول شيء أوصى أمير المؤمنين (عليه السلام) به مالكاً الأشتر أراد منه أن يكون خطاباً موجهاً لجميع حكام المسلمين، وغير المسلمين من خلال شخص واحد أراده أن يكون حاکماً على مصر، وهو مالك الأشتر،
ص: 43
الصديق الصدوق للإمام علي (عليه السلام). أوصاه أن يكون محبَّاً للرعية، محترماً لمشاعر الناس من أي فئة كانوا، سواء كانوا مسلمين أم من أهل الأديان الأخرى، ولا يخفى أن في ذلك تثبيتاً لإنسانية الإسلام واحترامه لمشاعر الناس، وتقوية لبنية النظام والحكومة، ثمَّ أوصاه أن يعفو ويصفح عمَّن أساء واجترأ عليه، أو على خاصته، وليس في قواميس الأديان و مذاهب السياسة مثل ما سنه (عليه السلام) من الرفق بالرعية على اختلاف ميولها وأديانها فليس للوالي إلا اللطف والمبرة بها وأن لا يشمخ عليهم بولايته ویکون سبعاً ضارياً عليهم وعليه أن لا يحاسبهم على ما صدر منهم من علل أو زلل ويمنحهم العفو والرضا، وعدم التبجح بعقوبة انزلوها على أحد وليس له الاعتزال بالسلطة والغرور بالحكم فإن في ذلك مفسدة للدين ومفسدة للمواطنين
ص: 44
وعليهم أن ينظروا إلى قدرة الله الى عليهم فإنه المالك لهم لتنعم البلاد بالأمن وتسود فيها.
ومثال الاحالة النصية البعدية على متأخر قول الإمام (عليه السلام): ((عْلَمْ أَنَّهُ لَيسَ شَيءٌ بِأَدْعَى إِلَى حُسْنِ ظَنِّ رَاعٌ بِرَعِيتِهِ مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَيهِمْ وَ تَخْفِيفِهِ لِلْمَئُونَاتِ عَنْهُمْ وَ تَرْك اسْتِكرَامِهِ إِياهُمْ عَلَى مَا لَيسَ لَهُ قِبَلَهُمْ))(1).
فالضمير الهاء في (إنّة)، احالة على جملة (ُسْنِ ظَنِّ رَاعٌ بِرَعِيتِهِ)، فهي التي تفسره، وفي هذه الحالة تنتقل دلالة الضمير من الاحالة على الاسم الظاهر الى الكناية عن مضمون الجملة الواقعة بعده، إذ تؤدي وظيفة التفسير له، وتسمى حينئذٍ عند النحاة ب(ضمير الشأن)، قال ابن یعیش: ((اعلم أنّهم إذا أرادوا ذِكرَ جملة من الجُمَل
ص: 45
الاسميّة، أو الفعليّة، فقد يُقدِّمون قبلها ضميراً يكون كنايةٌ عن تلك الجملة، وتكون الجملة خبراً عن ذلك الضمير، وتفسيراً له ويُوَحِّدون الضمير؛ لأنّهم يريدون الأمرَ والحديثَ؛ لأنّ كلَّ جملة شأنٌ وحديثٌ، ولا يفعلون ذلك إلّا في مواضع التفخيم والتعظيم))(1). فالقصد من هذا الضمير شدّ الانتباه بالإبهام إلى ما يليه رغبة في تعظيم شأنه، ليصبح ذهن السامع في غاية التنبه والترصد لما سيبين الضمير.
ومثال الاحالة المقامية قوله (عليه السلام): ((اخْتَرْ لِلْحُکْمِ بَیْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِیَّتِكَ فِی نَفْسِكَ مِمَّنْ لَا تَضِیقُ بِهِ الْأُمُورُ وَلَا تُمَحِّکُهُ الْخُصُومُ وَلَا یَتَمَادَی فِی الزَّلَّهِ وَلَا یَحْصَرُ مِنَ الْفَیْءِ إِلَی الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ وَلَا تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَی طَمَعٍ وَلَا یَکْتَفِی
ص: 46
بِأَدْنَی فَهْمٍ دُونَ أَقْصَاهُ وَأَوْقَفَهُمْ فِی الشُّبُهَاتِ وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَهِ الْخَصْمِ، وَأَصْبَرَهُمْ عَلَی تَکَشُّفِ الْأُمُورِ وَأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُکْمِ، مِمَّنْ لَا یَزْدَهِیهِ إِطْرَاءٌ وَلَا یَسْتَمِیلُهُ إِغْرَاءٌ وَأُولَئِكَ قَلِیلٌ))(1)
لم يبين الامام الحاكم بعينه وشخصه، بل وضع له خصائص وصفات إن وجدت كان الواجب اختياره ويترك للمقام الحالي آنذاك الكشف عنه واختيار، ومثلت الضمائر المتصلة والمستترة العائدة إليه شبكة من أحداث الترابط الشكلي تبعه احداث التماسك الدلالي، مع قصدية في تحقيق الغاية التي يسعى الامام لإبرازها وهي انتخاب الحكام غير خاضع للمؤثرات التقليدية وإنما يكون عن دراسة جادة للحاکم نفسياً
ص: 47
وفكرياً وإدارة ومعرفة بشؤون الحكم والإدارة على ضوء الشريعة المقدسة، وما كانت لتبرز على هذا النحو من السبك والدقة والانسجام، لو لم تسهم الضمائر مساهمة فاعلة في النص.
فظهر أنَّ الإحالة المقامية زادت من وحدة النصَّ، واکسبته صفة الاستمرارية والسبك بوجود العنصر المحال إليه؛ لأنّ الإحالة في هذا النوع أحدَ طرفيها لا يظهرُ على سطح النص، ولا يحدثُ الربط بين رکنیها إلا بالتوصل إلى المفقود، فاستحضاره إذن يفضي إلى الترابط والسبك، بخلاف الإحالة النصِّية التي يوجد طرفا الإحالة داخل النص فيحصلُ الربطُ بينَهما مقالياً.
ثانيا: الإحالة بأسماء الإشارة
تعدِّ أسماء الإشارة من المبهمات کما نصّ
ص: 48
النحويون على ذلك(1)، فقد عدَّها سيبويه من المبهمات؛ لأنَّها تقع على كل شيء(2). فمثلها كمثل الضمائر لا تفهم إلا إذا رُبِطت بما تُشير إليه(3)؛ إذ إنَّها من المعاني اللغوية غير القائمة بذاتها، وتُصنَّف من المعارف الاستعماليّة وليست من المعارف الوضعيّة؛ أي: أسماء الأعلام إذ يجتمع فيها الإبهام والتعريف(4) أمّا الإبهام فشأنه شأن إبهام الضمير وكونه من المعارف؛ إذ لا بدّ من أن يرد اسم الإشارة في سياق ترکیبيّ يحضر فيه أطراف الخطاب حضوراً عينياً أو حضور ذهنياً؛
ص: 49
من أجل إدراك مرجعيّتها(1)، وتُصنّف في اللغة بحسب معايير کثيرة نحو: العدد والجنس وبعد المرجع عن المرسل أو قربه(2) فلها وظيفةً توضِّحُ مدى قرب المشار إليه أو بعده من موقع المتكلم مكاناً وزَماناً؛ لذلك جرى تقسيمُها في اللغة العربية باعتمادِ المسافة(3)، وجمهور النحاةِ على أنَّ لها ثلاثَ مراتبَ: قُربي، ووُسطى، وبُعدی(4)، غير أنَّ علماء النص ذهبوا إلى أنَّ هنالك عدةَ إمكانيات لتصنيفها: إما حسب الظرفية: الزمان
ص: 50
(الآن، غداً...)، والمكان (هنا، هناك...)(1) أو حسب الإشارة المحايدة، وتكون بأداة التعريف، أو الانتقاء (هذا، هؤلاء...)، أو البعد (ذاك، تلك...) والقرب (هذا، وهذه...)(2).
ولأسماء الإشارة أهمِّيَّةٍ كبيرةٍ في سبك النص واتساق أجزائه(3)، ويمكن لها أن تحيل إحالة قبلية أو بعدية، بمعنى إنَّها تربط جزءاً لاحقاً بجزءٍ سابق أو العكس، فهي تحيل بشتّى أصنافها إمّا إلى عنصر إشاريّ قبل العنصر الإحاليّ أو بعده فتحقق السبك بين الجُمل کما يتميز اسم الإشارة المفرد منها ((بما يسميه المؤلفان - هاليداي ورقية
ص: 51
حسن - (الإحالة الموسعة)، أي إمكانية الإحالة إلى جملة بأكملها أو متتالية من الجمل))(1).
وأركان أسماء الإشارة هي(2): معنی من المعاني اللغوية غير القائمة بذاتها، ولها أركان:
المُشير المتكلم
المشار إليه الشيء في الخارج
المشار له بالمشار إليه و المخاطب
المشار به عبارة الإشارة (اللفظ الذي المشار به - تتحقق به)
عمل الإشارة الحاصل معنی و خارجاً من الإشارة).
ص: 52
وقَسَّمَ الدكتور سعيد بحيري الإحالة الإشارية بأسماء الإشارة استناداً إلى تقسيم الإشارة على نوعين حسيّة ومعنويّة على نوعين:
النوع الأول: إحالة ذات مدى قريب، وتجري في مستوى الجملة الواحدة إذ لا توجد فواصل ترکيبية جمليّة.
النوع الثاني: إحالة ذات مدى بعيد، وهي تجري بين الجمل المتصلة أو المتباعدة في فضاء النص، وهي تتجاوز الفواصل أو الحدود التركيبية القائمة بين الجمل(1)، وهذا التقسيم هو ما سنعتمده في التطبيق على أمثلة مختارة من العهد الشريف.
مثال النوع الأول، قوله (عليه السلام): ((ثُمَّ
ص: 53
أَسْبِغْ عَلَیْهِمُ الْأَرْزَاقَ فَإِنَّ ذَلِكَ قُوَّهٌ لَهُمْ عَلَی اسْتِصْلَاحِ أَنْفُسِهِمْ وَغِنًی لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَیْدِیهِمْ وَحُجَّهٌ عَلَیْهِمْ إِنْ خَالَفُوا أَمْرَكَ أَوْ ثَلَمُوا أَمَانَتَكَ))(1).
فقد أحال اسم الإشارة (ذلك) إحالة قبلية على إسباغ الأرزاق على أهل التجربة والنصيحة الذين ذكرهم الإمام قبل الإحالة ((وَتَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَالْحَیَاءِ مِنْ أَهْلِ الْبُیُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَالْقَدَمِ فِی الْإِسْلَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَإِنَّهُمْ أَکْرَمُ أَخْلَاقاً وَأَصَحُّ أَعْرَاضاً وَأَقَلُّ فِی الْمَطَامِعِ إِشْرَاقاً وَأَبْلَغُ فِی عَوَاقِبِ الْأُمُورِ نَظَراً))(2).
وأركان الإحالة في هذا النص على النحو الآتي:
ص: 54
المُشير الإمام علي (عليه السلام).
المشار إليه أهل التجربة والحياء.
المشار له بالمشار إليه مالك الأشتر.
المشار به (ذلك).
عمل الإشارة الإحالة إلى المشار إليه، وربطه ب(اسباغ الأرزاق على أهل التجربة)، والجمع بين أجزاء المحال إليه كلها. وبدا واضحاً ما لاسم الإشارة من أثر كبير ومهم في بناء النصِّ العلوي وسبك أجزائه وانسجام معانيه، عندما أَغنى عن إعادة التكرار للألفاظ التي أحالَ إليها.
ومثال النوع الآخر - احالة ذات مدى بعيد قوله (عليه السلام): ((وَلَا تُقْطِعَنَّ لِاَحَدٍ مِنْ حَاشِیتِكَ وَحَامَّتِكَ قَطِیعَةً وَلَا یطْمَعَنَّ مِنْكَ فِی
ص: 55
اعْتِقَادِ عُقْدَةٍ تَضُرُّ بِمَنْ یلِیهَا مِنَ النَّاسِ فِی شِرْبٍ أَوْ عَمَلٍ مُشْتَرَكٍ یحْمِلُونَ مَؤُونَتَهُ عَلَی غَیرِهِمْ فَیکُونَ مَهْنَأُ ذلِكَ لَهُمْ دُونَكَ وَ عَیبُهُ عَلَیكَ فِی الدُّنْیا وَالْآخِرَةِ وَأَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِیبِ وَالْبَعِیدِ وَکُنْ فِی ذلِكَ صَابِراً مُحْتَسِباً وَاقِعاً ذلِكَ مِنْ قَرَابَتِكَ وَخَاصَّتِكَ حَیثُ وَقَعَ وَابْتَغِ عَاقِبَتَهُ بِمَا یثْقُلُ عَلَیكَ مِنْهُ، فَإِنَّ مَغَبَّةَ ذلِكَ مَحْمُودَةٌ. وَإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِیةُ بِكَ حَیفاً فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ وَاعْدِلْ عَنْك ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ فَإِنَّ فِی ذلِكَ رِیاضَةً مِنْكَ لِنَفْسِكَ وَرِفْقاً بِرَعِیتِكَ وَإِعْذَاراً تَبْلُغُ بِهِ حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِیمِهِمْ عَلَی الْحَقِّ))(1).
وردت في النص عدة احالات عن طريق اسم الاشارة (ذلك)، فأحال الأول الى اقتطاع الارض للمقربين من الحاكم، واعطاء العقود
ص: 56
لهم، وعمل الصفقات بينهم، واحال الثاني والثالث الى لزوم الحق والصبر عليه، واحال الرابع الى العاقبة المحمودة لمتبع الحق والمنصف أهله، وأحال الخامس الى دفع التهم الموجه من الرعية إليه ومکاشفتهم بالواقع الصحيح.
فهذه الاحالات شكلت مفصلاً أساسياً في عقدٍ صلةٍ وثيقةٍ بين أجزاء النص، وجعلها منسبكة ذات وسائل متلاحمة، فقد ربطت عناصرَ الجملة، الواحدَ منها بالآخر، وتجاوز ذلك الجملةَ الواحدةَ إلى سائرِ الجملِ في النص، فربطت بين عناصرَ منفصلةٍ متباعدۃٍ من حيثُ التركيب النحوي، متصلةٍ أشدَّ الاتصال من حيثُ الدلالة والمعنى، وإذا ترابطت أجزاءُ الملفوظ فإنَّه سيكتملُ نصاً(1).
ص: 57
لقد كان أمر الإمام حاسماً في شؤون خاصة الولاة وبطانتهم فقد سد عليهم جميع ألوان الطمع والتلاعب بأموال الدولة، فأراد إنصاف الناس والاطلاع على شؤونهم بشكل مباشر، وحذر عامله من خاصته وبطانته، وما يقع لهم من استغلال للنفوذ واستئثار وتطاول وقلة إنصاف للناس في المعاملة، و أمره بردع هؤلاء والامتناع عن أن يحملهم على رقاب الناس ويمكنهم من الاستئثار بالنعم دونهم والإذلال لهم، وأضاف الإمام يأمره بإتباع الحق ولزومه، ثم أكد على الرفق بالرعية ومراعاة عواطفها وإذا ظنت به حيفاً فعليه أن ينطلق إلى ساحتها ويقدم لها الاعتذار، والحجة القاطعة على أمانته، وبهذه الصراحة المخلصة تطمئن القلوب اليه وتثق به النفوس، وهذا الهمل يروض نفسه بالتواضع للحق والعدل.
ص: 58
تُعدّ الاسماء الموصولة من ضروب المبهماتِ؛ لأنَّها، كالضمائر وأسماء الإشارة، تقعُ على كلِّ شيءٍ من حيوان وجماد وغيرهما(1)، فهي اسماء ناقص الدلالة لا يتَّضِح معناها إلَّا إذا وصلَ بصلتِها(2)، وسُمي الاسم الموصول بذلك؛ لأنَّه يوصلُ بكلام بعدَه هو من تمام معناه، وهذا ما أكَّده النحويون المتقدمون، قالَ ابن یعیش: ((معنى الموصول أن لا يتِمَّ بنفسه، ويفتقر إلى کلام بعدَه، تصله به ليَتِمَّ اسماً، فإذا تمَّ ما بعدَه، كان حكمُه حكم سائر الأسماء التامة))(3) وبهذا المعنى يُعدّ من المبهمات التي يُزال الإبهام عنها بالتركيب الذي يلحقها فالأسماء الموصولة
ص: 59
((تشارك بقية الأدوات الاتساقية الإحالية في عملية التعويض، فهي ألفاظ کنائية لا تحمل دلالة خاصة، وكأنها جاءَت تعويضاً عما تُحيل إليه)(1)، فهي تقوم بالربط والسبك من خلال مايأتي بعدها من صلة الموصول (التي تضع ربطاً مفهومیاً بین ما قبل (الذي) وما بعده، إذ إنّ تلك الصلة ينبغي أن تكون معلومة للمتلقي قبل ذكر اسم الموصول)(2).
ويُعَدُّ (دي بوجراند) أول من أَشارَ إلى الاسم الموصول بوصفه ((وسيلةً من وسائل الإحالة))(3)، وأَيَّده الزناد بقوله: ((أنّها من الألفاظ الإحالية التي لا تملك دلالة مستقلة، بَل تعودُ إلى عنصر، أَو عناصر أُخرى مذكورة في
ص: 60
أجزاٍء أُخرى من الخطاب))(1).
وتمارس الأسماء الموصولة وظيفتها في تحقيق السبك النصي وممّن لفت الانتباه إلى وظيفة الربط في الاسم الموصول د. تمّام حسّان؛ إذ قال: ((لم يُشَر من قبل إلى هذا النوع من الربط... وما ألفت النظر هنا فهو ما في الموصول من طاقة الربط بين أوصال الجملة أو السياق القائم على أكثر من جملة... والدليل على أنّ الموصول رابط أنّه كما قال البلاغيّون حلّ محلّ الضمير فلو عدلت عن الموصول واستعملت الضمير المطابق له لحدث الربط المطلوب))(2) فالاسم الموصول من الأدوات التي تشدّ من التلاحم النحويّ بين ما تقدّم ذكره والعلم به ومايُراد من المتكلم أن
ص: 61
يعلم به أو أن يضمّه إلى ما سبق من العلم به(1)، إذ تربط أجزاء الجملة بعضها ببعض أو تربط بين الجمل، كذلك تربط النص بسياقه المقامي الذي قيل فيه(2)، وبذلك فهي تؤدي وظيفة السبك النصيّ.
والموصولات من العناصر الإحالية(3) التي تقومُ على مبدأ التَّماثلِ والتَّطابقِ بينَها وبينَ ما تعوضه(4)، ويظهرُ هذا المبدأُ في اسم الموصول المختص مثل: (الذي، التي، اللذان، اللتان، الذين، اللاتي... إلخ)، أمَّا الموصولات العامة من، وما،...) فإنَّ فكرة التطابق والتاثل لا
ص: 62
تنطبق عليها(1).
مثال ذلك قوله (عليه السلام): ((إِنّ شَرّ وُزَرَائِكَ مَن كَانَ لِلأَشرَارِ قَبلَكَ وَزِيراً وَ مَن شَرِكَهُم فِي الآثَامِ فَلَا يَكُونَنّ لَكَ بِطَانَةً فَإِنّهُم أَعوَانُ الأَثَمَةِ وَ إِخوَانُ الظّلَمَةِ))(2).
ورد في هذا النص إحالتان بالاسم الموصول، كلاهما بالموصول (مَن)، فالمُحيل هو الموصول، والمحال إليه هو السابق المُعوَّض، كما هو واضح في المخطط الآتي:
شر الوزراء - مَن - مكان للأشرار وزیر
شر الوزراء - مَن - شركهم في الاثام.
يظهر من المخطط اعلاه أنَّ الاسم الموصول
ص: 63
الأول قد أحال إلى الاسم الظاهر (شر الوزراء)، وأحال الثاني إلى الاسم ذاته، فعوَّضَ كلٌ منهما عمَّا يسبقه، واكتسب دلالتَهُ منه، ويلحظ أنَّ كلاً منهما يرتبطُ بصلتِه سبکياً من جهة، ويصنعُ ربطاً مفهومياً بين هذه الصلة والمُحال إليه الذي يسبقه من جهة أخرى(1)، من خلال اشتراك الاسم الموصول بالاسم الذي قبله، وجملة صلة الموصول التي بعده، في جعل النص على مستوى واحد من السبك والتماسك یُدرِکُه المتلقي حالَ النظر إليها.
ومثال ذلك أيضاً، قوله (عليه السلام): ((اجعَل لذِوَيِ الحَاجَاتِ مِنكَ قِسماً تُفَرّغُ لَهُم فِيهِ شَخصَكَ وَ تَجلِسُ لَهُم مَجلِساً عَامّاً فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ لِلّهِ ألّذِي خَلَقَكَ وَ تُقعِدُ عَنهُم جُندَكَ وَ أَعوَانَكَ مِن
ص: 64
أَحرَاسِكَ وَ شُرَطِكَ حَتّي يُكَلّمَكَ مُتَكَلّمُهُم غَيرَ مُتَتَعتِعٍ))(1).
التواضع لله - الذي - خلقك.
حَقَّقَ الاسم الموصول وصلته مع احالته على سابق الربط السبكي من الربط المفهومي بين ما قبل (الذي) وهو (التواضع لله) وما بعدها، وهو (خلقك)، إذ ربط أجزاء الجملة بعضها ببعض، وربط النص بسياقه الذي قيل فيه كما هو واضح في المخطط اعلاه.
الزم الامام مالكاً بتخصيص ساعات من وقته للمحتاجين عنده، يتفرغ لهم فيه، ويرفع عنهم كلفة المراسيم بتنحية الحرس والجنود، لإزالة الرهبة عن نفوسهم، حتى يكلموه بغير تلجلج ولا ارتباك، بعد أن يتبسط معهم ويحتمل
ص: 65
منهم السذاجة والعي ويبعد عنهم الضيق والأنف، ففي ذلك رحمة من الله ساقها اليه، وذخر له في يوم الحساب والجزاء، وهذا منتهی العدل الذي أسسه رائد الحضارة والعدالة في الإسلام.
وبعد ذلك يمكن أن نخلُصَ إلى أنَّ الإحالة من أكثر وسائل السبك انتشاراً في نصوص العهد العلوي المبارك، إذ لا تكاد تخلو فقرة أو جملةٌ من ضميرٍ، أو عنصر إشاري، أو موصول، يربطُها بمواطنَ أخرَى في النص، لذلك فهي من أهمِّ عوامل سبك النصوص التي تقفُ وراءَ خلقِ نصِّيَّتها.
1- إنّ وصف الكلام بالوقوف عند الجملة الواحدة وصفٌ غيرُ كافٍ ولا بدّ من الانتقال
ص: 66
إلى وحدة أخرى؛ هي النصّ؛ لأنّ نظام الجملة يوضّح كيفيّة ارتباط المفردات الواحدة بالأخرى في أبنية معيّنة، أمّا لسانیّات النصّ؛ فتبحث فيما فوق الجملة ويتجاوزها الى أفكار كليّة، وهو افراز حتميّ لمجموعة من التحوّلات المعرفيّة والمنهجيّة التي حدثت في نظريّة اللغة، وأصولها، ومستوياتها، ووظائفها، والفلسفة العلميّة الكامنة وراءها.
2- يعد السبك أوَّلِ وأهمِّ المعايير النصية السبعة التي ذكرها (دي بوجراند) في النَّص كي يحكمَ له بالنَّصِّیَّة، وقد نال عناية كبيرة من قبل اللسانيين النصيين فهو جوهري في تشكيل النص وفهمه وتفسيره.
3- ظهر أن السبك في نصوص العهد العلوي المدروسة عمل على ثبات النص واستقراره،
ص: 67
بعدم تشتت الدلالة الواردة فيه، وتنظيم بنية المعلومات داخله مما ساعد في عملية فهم النص؛ عبر متابعة خيوط الترابط المتحركة داخله، فهو خاصية دلالية للخطاب؛ تعتمد على فهم كل جُملة مكونة للنص في علاقتها بما يفهم من الجُمل، فضلاً عن تحقيقه استمراريّة الوقائع في النصّ؛ مما يساعد القارئ على متابعة تلك الخيوط المتحركة عبره، ويقود إلى الانسجام النصّيّ، فيظهر النصّ ككلٍّ واحدٍ.
4- الإحالةُ من الوسائل المهمةً في السبك النصي، وظاهرةٌ من الظواهر النحويَّة التي تخرجُ عن إطار الجملة المفردة إلى العناية بالجوانب الدلالية والتواصلية في النصوص، وأداةٌ ذات أثر فاعل في ربط أجزاء النص وسبکه، فهي تقع في أساس كلّ منظومة فكريّة، وقد رأى اللسانيون ضرورة دراستها في إطار لسانیّات النصّ؛ لأنها
ص: 68
من أهمّ وسائل السبك، ومن المعايير المهمّة التي تسهم بنحو فعّال في الكفاءة النصيّة.
5- مثلت الاحالة بالضمير في العهد العلوي أهم مُعطيات النص التي تُسهِمُ في نصيّته وكفاءَته، وقد حقَّقتِ الضمائرُ السبك بين العناصر المُكوِّنة لنصوص العهد المبارك، فهي تمثل العصب الرئيس في بنائه، فيها يتبدّی سبکه، وبها يمكن تلقّيه، ومن دونها يغدو مفكّكاً، إذ تقوم الاحالة بمدِّ شبكة من العلاقات الإحالية بين العناصر المتباعدة في فضاء النصّ، فتجتمع عناصره مشکِّلة كلّا واحدا، فضلًا عن ذلك تُجنِّب المتكلّم التكرار المشتِّت للذهن؛ فيتحقّق بذلك الاقتصاد في اللغة؛ لأنها تختصر هذه العناصر الإحاليّة، وتجنِّب مستعملها إعادتها.
6- كثرةِ الضمائرِ التي تُحيلُ الى وحدةِ
ص: 69
النواةِ ((مالك الأشتر))؛ لتحقيقٌ السبك النصي ووحدتِه الدلالية، وزيادة قوة الربط وقدرة الإحالات على السبك، ودعمٌ لسمة النصية، إذ إنّ أهم عنصر إشاري في النص يرتبط به أكبر عدد من العناصر الإحالية، وقد صنع هذا الربطُ جسوراً کبری للتواصل بين أجزاء النص التي تُفصِحُ عن معناها، و تجمعُ شتاتَها - على الرغم من تباعدها - وحدةُ المرجع المفسِّر.
7- حققت أسماء الإشارة أهمِّيَّةٍ كبيرةٍ في العهد العلوي في سبك نصّه واتساق أجزائه، إذ أمكن لها أنَّ تربط جزءاً لاحقاً بجزءٍ سابق أو العكس، فهذه الاحالات شكلت مفصلاً أساسياً في عقدِ صلةٍ وثيقةٍ بين أجزاء النص، وجعلها منسبكة ذات وسائل متلاحمة، فقد ربطت عناصرَ الجملة، الواحدَ منها بالآخر، وتجاوز ذلك الجملةَ الواحدةَ إلى سائرِ الجملِ في
ص: 70
النص، فربطت بين عناصرَ منفصلةٍ متباعدۃٍ من حيثُ التركيب النحوي، متصلةٍ أشدَّ الاتصال من حيثُ الدلالة والمعنى، وإذا ترابطت أجزاءُ الملفوظ فإنَّه سيكتملُ نصاً.
8- مارست الأسماء الموصولة وظيفتها في تحقيق السبك النصي في العهد العلوي، فهي تقوم بالربط والسبك من خلال التلاحم النحويّ بين ما تقدّم ذكره والعلم به، وما يُراد من المتكلّم أن يعلم به، أو أن يضمّه إلى ما سبق من العلم به، إذ تربط أجزاء الجملة بعضها ببعض أو تربط بين الجمل، او النص بسياقه المقامي الذي قيل فيه، وبذلك فهي تؤدي وظيفة السبك النصّي.
ص: 71
القرآن الكريم
الإحالة في نحو النصّ أحمد عفيفي د.ط کتب عربية، د.ت.
و استراتيجيّات الخطاب مقاربة لغويّة تداوليّة، عبد الهادي ظافر الشهري ط 1، دار الكتاب الجديد المتّحدة بیروت 2004 م.
أصول تحليل الخطاب في النظرية النحوية العربية، تأسيس نحو النص، محمد الشاوش، ط 1، كلية الآداب منوبة - تونس بالاشتراك مع المؤسّسة العربيّة للتوزيع، 1421 ه - 2001 م.
بلاغة الخطاب وعلم النصّ، صلاح فضل عالم المعرفة المجلس الوطنيّ للثقافة للفنون والآداب الكويت 1992 م.
ص: 72
بلاغة النصّ مدخل نظريّ ودراسة تطبيقيّة: د. جميل عبد المجيد دار غریب للطباعة والنشر والتوزيع القاهرة 1999 م.
البيان في روائع القرآن، د. تمَّام حسَّان، ط 2، عالم الكتب، القاهرة، 1420 ه - 2000 م.
الترابط النَّصِّي في ضوء التحليل اللساني للخطاب، خلیل یاسر البطاشي، ط 1، دار جریر، عمّان، الأردن، 1434 ه - 2013 م.
دراسات لغوية تطبيقية في العلاقة بين البنية والدلالة، د. سعيد حسن بحيري، ط 1، مکتبة الآداب، القاهرة، 1426 ه - 2005 م.
الدرس النحوي النصي في كتب إعجاز القرآن الكريم، د. أشرف عبد البديع عبد الكريم، مکتبة الآداب، القاهرة، 2008 م.
السبك في العربيّة المعاصرة بين المنطوق والمكتوب، د. محمد سالم أبو عفرة تقديم: د. محمد
ص: 73
العبد ط 1 مكتبة الآداب القاهرة 2010 م.
شرح ابن عقیل، بهاء الدين عبد الله بن عقیل (ت 769 ه)، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، ط 20، دار التراث، القاهرة، 1400 ه - 1980 م.
شرح الرضي على الكافية، محمد بن الحسن الاستراباذي (ت 688 ه)، تصحیح و تعليق: د. يوسف حسن عمر، ط 2، منشورات جامعة قار يونس، بنغازي، 1996 م.
علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق، دراسة تطبيقية على السور المكِّية، د. صبحي إبراهيم الفقي ط 1، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1421 ه - 2000 م.
علم لغة النص المفاهيم والاتجاهات، د. سعيد حسن بحيري، ط 1، الشركة المصرية العالمية للنشر - لونجان، القاهرة، 1997 م.
علم لغة النص النظرية والتطبيق، د. عزة شبل
ص: 74
محمد، تقديم: د. سليمان العطار، ط 1، مكتبة الآداب، القاهرة، 1428 ه - 2007 م.
علم النص مدخل متداخل الاختصاصات، تونا. فان دایك، ترجمة وتعليق: د. سعيد حسن بحيري، ط 2، دار القاهرة، القاهرة، 2005 م.
في البلاغة العربية والأسلوبيات اللسانية آفاق جديدة، د. سعد عبد العزيز مصلوح، ط 1، مجلس النشر العلمي، لجنة التأليف والتعريب والنشر، جامعة الكويت - الكويت، 2003 م.
في اللسانيات ونحو النص، د. إبراهيم محمود خلیل، ط 2، دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة، عمَّان - الأردن، 1430 ه - 2009 م.
قضايا في اللغة واللسانيات وتحليل الخطاب، د. محمد محمد یونس علي، ط 1، دار الكتاب الجديد المتَّحدة، بيروت - لبنان، 2013 م.
قضايا اللغة العربيّة في اللسانيّات الوظيفيّة بنية
ص: 75
الخطاب من الجملة إلى النصّ، د. أحمد المتوكّل د ط دار الأمان للنشر والتوزيع الرباط د ت.
لسانيّات النصّ عرض تأسیسیّ، کریستین آدمتیسك ترجمة: د. سعيد حسن بحيري ط 1 مکتبة زهراء الشرق القاهرة 2009 م.
لسانیات النص، مدخل إلى انسجام الخطاب، محمد خطابي، ط 1، المركز الثقافي العربي، بیروت، 1991 م.
مدخل إلى علم اللغة النصّيِّ، فولفجانج هاینه و دیتر فيهفيجر ترجمة: صالح شبيب العجميّ د ط جامعة الملك سعود 1419 ه - 1999 م.
مدخل إلى علم النصّ مشکلات بناء النصّ، زيتسيسلاف واورزنیاك ترجمة: د. سعيد حسن بحيري ط 1 مؤسسة المختار للطبع والتوزيع القاهرة 1424 ه - 2003 م.
المصطلحات الأساسيّة في لسانيّات النصّ
ص: 76
وتحليل الخطاب دراسة معجميّة، د. نعمان بوقرة ط 1 عالم الكتب الحديث جدارا للكتاب العالميّ عمّان 1429 ه - 2009 م.
معاني النحو، د. فاضل صالح السَّامرَّائي، ط 2، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، عمَّان، 1420 ه - 2000 م.
المعاييرُ النَّصِّيَّة في القرآن الكريم، د. أحمد محمد عبد الراضي، ط 1، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 1432 ه - 2011 م.
مفتاح العلوم، أبو يعقوب يوسف بن محمد السكاكي (ت 626 ه)، حققه وقدَّم له وفهرسة: د. عبد الحميد هنداوي، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، 1420 ه - 2000 م.
نحو النص اتجاه جديد في الدرس النحوي، د. أحمد عفيفي، ط 1، مکتبة زهراء الشرق، القاهرة، 2001 م.
ص: 77
نحو النص إطار نظري ودراسات تطبيقية، د. عثمان حسين أبو زنيد، ط 1، عالم الكتب الحديثة، إربد، 2010 م.
النحو الوافي مع ربطه بالأساليب الرفيعة والحياة اللغويّة المتجدِّدة، عباس حسن ط 1 مکتبة المحمّديّ بیروت 1428 ه - 2007 م.
نسيج النص، بحث فيما يكون به الملفوظ نصاً، الأزهر الزناد، ط 1، المركز الثقافي العربي، بیروت، 1993 م.
النص والخطاب والإجراء، روبرت دي بوجراند، ترجمة: د. تمام حسان، ط 1، عالم الكتب، القاهرة، 1418 ه - 1998 م.
النصب والخطاب قراءة في علوم القرآن، د. محمد عبد الباسط عيد تقديم: د. صلاح رزق ط 1 مکتبة الآداب القاهرة، 2009 م.
نظام الارتباط والربط في تركيب الجملة العربية،
ص: 78
د. مصطفى حميدة، ط 1، الشركة المصرية العالمية للنشر - لونجمان، الجيزة - مصر، ومكتبة لبنان ناشرون، بیروت - لبنان، 1997 م.
نظرية علم النص، رؤية منهجية في بناء النص النثري، د. حسام أحمد فرج، تقديم: د. سليمان العطّار ود. محمود فهمي حجازي، ط 1، مکتبة الآداب، القاهرة، 1428 ه - 2007 م.
همع الهوامع في شرح جمع الجوامع جلال الدين السيوطي، تحقيق: أحمد شمس الدين، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، 1418 ه - 1998 م.
نهج البلاغة للإمام علي (عليه السلام) جمع أبي الحسن محمد بن الحسين الموسوي، (ت: 406 ه) ضبط نصّه وابتكر فهارسه،د. صبحي الصالح، ط / 4 ، الناشر: دار الكتاب المصري - القاهرة، ودار الكتاب اللبناني - بيروت،، 1425 ه - 2004 م.
ص: 79
الاتساق في الصحيفة السجادية، دِراسَةٌ في ضَوءِ لِسانِيّاتِ النّصِّ، حیدر فاضل العزاوي (رسالة ماجستير)، مقدمة إلى مجلس كليّة التربية للعلوم الإنسانيّة في جامعة كربلاء، 1435 ه - 2014 م.
نحو أجرومية للنص الشعري دراسة في قصيدة جاهلية، د. سعد مصلوح، مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مج 10، العدد 1 و 2، يوليو 1991 م.
ص: 80
مقدمة المؤسسة...5
مقدمة...9
المبحث الأول معنى النص...11
المبحث الثاني معنى السبك...21
المبحث الثالث معنى الإحالة...25
اقسام الإحالة...30
أولا: الإحالة بالضَّمائر...34
ثالثاً / الإحالة بالأسماء الموصولة...59
نتائج البحث...66
المصادر والمراجع...72
الكتب المطبوعة...72
الرسائل الجامعية...80
البحوث المنشورة...80
ص: 81