مفهوم الترادف وقیمته الدلالیة بَينَ لُغَةِ القُرآنِ الكَرِیْمِ وَنَهْجِ البَلاَغَةِ
مفهوم الترادف وقيته الدلالية بَینَ لُغَةِ القُرآنِ الكَرِیْمِ وَنَهْجِ البَلاَغَةِ تأليف فراس تركي عبد العزيز إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة العتبة الحسينية المقدسة
جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد (509) لسنة 2015 م الطبعة الأولى 1436 ه - 2015 م العراق: كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة مؤسسة علوم نهج البلاغة www.inahj.org Email: inahj.org@gmail.com موبایل: 07815016633
ص: 1
بسم الله الرحمن الرحیم
ص: 2
مفهوم الترادف وقيته الدلالية بَینَ لُغَةِ القُرآنِ الكَرِیْمِ وَنَهْجِ البَلاَغَةِ تأليف فراس تركي عبد العزيز إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة العتبة الحسينية المقدسة
ص: 3
جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد (509) لسنة 2015 م الطبعة الأولى 1436 ه - 2015 م العراق: كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة مؤسسة علوم نهج البلاغة www.inahj.org Email: inahj.org@gmail.com موبایل: 07815016633
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحيم «لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» صدق الله العلي العظيم الحشر: 21
ص: 5
ظاهرةُ التَّرادُف قضيةٌ محوريةٌ في الدراساتِ اللسانيةِ، قدیمها وحديثها، وهي قضيةٌ متداخلةٌ في العلومِ والاختصاصاتِ الأخرى ويترتبُ عليها أثارٌ وضعيةٌ، مع وجودِ الاختلافِ حول التَّرادُف نفسهِ، وحول مدى فاعليته أو أوجه الاستفادة منه.
كما يعدُّ التَّرادُف من الظواهر اللغويَّةِ المهمّة؛ لما لعلاقةِ الألفاظ بالمعاني من أثرِ التواصل بين الناسِ، ففكرة التَّرادُف في حقيقتِها مسألةٌ دلاليةٌ قبل كل شيءٍ، تتعلقُ بالمعنى وما يعتريه من تغيّرٍ جراء الاستعمالِ، وقد تشعبتْ مسائلُ التَّرادُف وحظيتْ باهتمامِ العلماءِ والدارسين، فاختلفتْ آراؤهم فيها، وتباينتْ اتجاهاتُهم حولها.
إنّ الهدفَ الأساسَ من جمعِ الألفاظِ المترادفةِ والمتقاربةِ في المعنى ووضع
ص: 6
كتب خاصة بها في العصورِ الماضيةِ، كما تفيدُ مقدمات بعض هذه الكتب، هو تثقيفُ المشتغلين بالكتابةِ من الَّذين ضعفتْ أو هجنتْ لغتُهُم وقلّتْ حصيلتُهُم من الألفاظِ، ومما لاريبَ فيه أن الضعفَ اللغوي لدى المشتغلين بالكتابةِ وغيرهِم من الناشئةِ والمتعلمين عامة سائدة في واقعِنا المعاصر أكثر منه في تلكَ العصورِ، وقلة المحصولِ من ألفاظِ اللُّغةِ وصيغِها من أبرزِ أسباب هذا الضعف. فإنّ الكشفَ عن مواردَ جديدةٍ أو العملَ على توثيقِ الارتباطِ بهذه الموارد والإشارة إلى طُرق استغلالها وسُبُل الاستفادة منها، من أجلِ سدّ النقصِ القائم والفقر اللغوي المتفشي يصبحُ من أهمِّ ما يخدمُ اللُّغةَ ويعزز مكانتها ونفوذها ويبرز تراثها ويرتقي بفكرِها.
كما أنّ هذه الظَّاهرة تحتاج إلى التهذيبِ، وإبراز الأوعية الناقلة لمفرداتِها على النحو الذي يجعل المُكتسبَ من هذه المفردات صحيحاً أصيلاً وافراً وفياً بمتطلباتِ العصر، ومُعيناً على الارتقاء بمستوى العطاء الفكري لمجتمعنا العربي. لذا فإنّ قضية التَّرادُف في اللُّغة هي من الحيويةِ والحداثةِ بمكانٍ، بحكمِ توسع اللُّغة الدائم، الذي يجعل المهتمَّ بأمرِ اللُّغةِ وتطورِ دلالتها، على مفترقِ طريقين ممتدين مُنذُ عصور سلفتْ؛ بين مؤيدٍ لهذه الظَّاهرة ورافضٍ لها.
أما وصف {القيمة} ب {الدلالية} لمفهوم الترادف في عنوان البحث، فانه يكوِّن مصطلحاً دلالياً ذا مفهوم خاصّ يعرّفهُ علماء اللغة بأنه «قدرة
ص: 7
العناصر اللغوية على التأثير في المعنى(1)، ولا يخفى ما لمفهوم الترادف من قدرة على التأثير في المعنى وتغييره، وإعطائه قيمة دلالية سواء كانت سلباً أم إيجاباً.
وقد تناولت هذه الظاهرة بين لغة القرآن الكريم ونهج البلاغة، مقارناً الاستعمال اللغوي للمفردة بين استعمالها في النصّ القرآنيّ واستعمالِها في مج البلاغة؛ مع بيان موقف المعجم بإزائها، بعد تأصيل وتحديد مفهوم الترادف وأقسامه ومصادره والمواقف منه في القسم النظري من البحث.
وما يُسوّغُ لنا الخوضَ في هذا الموضوع، بعد تلكَ الدراساتِ كلّها قديمها وحديثها أربعة أمور هي:
أوّلاً: أهمية هذا البحث، وهي تَكْمُنْ فيما اخترناه من أساس للجانبِ التطبيقي، ألا وهو القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفهِ، وتلك ميزة لم يحظَ بها نصٌ آخر شعراً كان أم نثراً. لاسيما انه منطلق الدراسات اللغوية ومحورها، والأساس الثَّاني نهج البلاغة الذي قيل عنه: إنه کلامٌ فوقَ المخلوقِ ودونَ الخالق، وهو نصٌ بشريٌ مستوحى من النص القرآني وقريبٌ من زمانه.
ثانياً: إن الذين تناولوا هذه الظاهرة في الترادف وتابعوا بروزها، لم يفرقوا بين النص الأدبي والنص القرآني، إلا قلة منهم وسأسعى لإبراز هذا الفارق الذي أغفله بعضهم، من خلال القسم النظري والقسم التطبيقي.
ص: 8
ثالثاً: الاعتمادُ على النظريةِ السياقيةِ في تحديدِ دلالة المُفردَة، والاستنادُ إلى قانون الاستبدال للحكم على ترادف المفردات أو عدمه؛ ولعلّ دمج النظريةِ السياقيةِ مع قانونِ الاستبدالِ في التطبيقِ على النصِّ القرآنيِّ ونصوص نهج البلاغةِ، لم يحظَ بدراسةٍ معمقةٍ حول التَّرادُف؛ على الرغم من أنه يحوي ثماراً ناضجةً، وأفكاراً متقدمةً، تعزز عظمة اللغة العربية التي نزل بها القرآنِ الكريم.
رابعاً: ومما يسوّغُ لنا دراسة هذا الموضوع أيضاً، تناقض مواقف كثير من الباحثين حول هذه الظاهرة، إذ نجد أحدهم ينفي الترادف في بداية بحثه ثم يثبته في نهايته، أو نجد من يوسّع مفهوم التَّرادُف في البدء ثم يضيّق مفهومه، ويجعل له شروطاً تحدُّ منه؛ أو هناك من يخلط في مفهوم التَّرادُف، بين مفهومه عند اللغويين ومفهومه عند الأصوليين، ومفهومه عند أهل المنطق، ومفهومه في الدرس اللساني الحديث، من دون التمييز واتخاذ منهج واضح للوصول إلى نتيجة مقنعة، ورؤية واضحة لا ضبابية فيها.
وهذا التناقض يكشف لنا قوة الأدلة عند المنكرين والمؤيِّدين، ما أدى إلى نشوء هذه المواقف المتباينة عند الباحثين، ونجد أحد الباحثين العرب المعاصرين يصرّح علناً بقوله: {البحث حول التَّرادُف مشكل، وقد وجدتُ القضية أوسع مما كنتُ أقرر لها، {...} وجذورها تمتد إلى أغوار الزمن الأول
ص: 9
الذي نشأت فيه هذه اللُّغة؛ وهي بين قائل بالتوقيف أو الاصطلاح}(1).
ومع كثرة ما كُتِبَ حول قضية التَّرادفُ اللغوي وأثرها في إصلاح لغتنا الحاضرة، وإثراء رصيدها، مازال الباب مفتوحاً أمام دراسات نقديّة جادّة متطوّرة على النحو المطلوب، تبرز هذه الأهمية، وتجلي هذا الأثر، وتعالج الإشكاليات التي أُثيرت حولها؛ والأسباب التي منعت أو مازالت تمنع من الاحتفاء بها والتوجّه إلى استغلالها والاستفادة منها.
استناداً إلى ما سبق نشأت الرغبة لديّ في البحث عن هذه الظَّاهرة اللغويَّة في {القرآن الكريم} و {نهج البلاغة}، آملاً التوصل إلى مقاربات علميّة، أسّست هذه الظَّاهرة التي مازالت تشغل الباحثين في قضايا اللسان العربي.
وتتمثل الإشكاليّةُ بالبحث عن نتائجَ لغويةٍ، من خلال نماذجَ من اللُّغةِ العربيَّةِ، وتطبيقاتٍ على الاستعمال القرآنيِّ، واستعمال نهج البلاغة للمفردات، والإجابة عن التساؤل المفصَلِي، ألا وهو:
هل استطاع التطوُّر الدّلالي نقل دلالة اللفظ إلى مستوى صيرورته مرادفاً لبعض الألفاظ؟ وهل إنّ ظاهرة التَّرادُف أضفت دلالات أخرى على الألفاظ التي
ص: 10
أصابها التطوُّر الدّلالي؟ وتنبثق من هذه الإشكالية عدة تساؤلات هي:
كيف تطوّرت دلالة اللفظة؟ ما هي المؤثرات التي تحكمها؟ وهل تسير اللُّغة في تطوّرها على أسس ومبادئ، أو تكون خاضعة للحرية الفردية المطلقة في الكلام؟ هل الأصل في اللُّغة العربيَّة تعدد الألفاظ للمعنى الواحد؟ ما هو الأساس الذي يُعتمد عليه أو ما هو المقياس؟ هل الرجوع إلى التواضع اللغوي {الأصل اللغوي}؟ أو الرجوع إلى الاستعمال؟ أو التواضع والاستعمال معاً؟ هل اتّحاد المفهوم بين الألفاظ مستحيل أو ممكن؟ هل هذه الظَّاهرة موجودة في القرآن الكريم ونهج البلاغة أو لا؟ وما هو الدليل؟ وهل تمثل نقصاً أو ضعفاً في اللُّغة العربية لكي ننزه القرآن الكريم عنها؟ كيف قسّم الدرس اللساني العربي القديم والحديث هذه الظَّاهرة اللغويَّة؟ وعلى أيِّ أساس أو معیار؟ وما هي الركائز الرئيسة التي تساعد على فهم هذه الظَّاهرة في الدرس اللساني الحديث؟ وكيف علّلها؟ تحاول هذه الدراسة، بيان ما حصل من إفراطٍ وتفريطٍ في هذه الظَّاهرة
ص: 11
اللغويَّة، من كلا الفريقين {المنكرين والمؤيِّدين}، وإعطاء رؤية علمية معتدلة، ومستندة إلى الدّليل العلميّ، والذوق اللغويّ. مَعيني في ذلك مناهج الدرس اللساني القديمة والحديثة وأدواتها، التي أسهمت في تحليل هذه الظَّاهرة اللغويَّة وتفسيرها.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الغرض من هذه الدراسة ليس إثبات التَّرادُف أو نفيه بقدر ما هي دراسة لغويّة وصفيّة تطبيقيّة تعتمد التّحليل والتّفسير، وتقوم على التتبّع والاستقصاء بغية استجلاء غوامض هذه الظَّاهرة والكشف عن طبيعتها.
وقد شقّ البحثُ طريقهُ عبر ثلاثة فصول، سُبقتْ بمقدمةٍ وأُلحقتْ بخاتمةٍ.
الفصل الأوَّل: تناولَ تحديدَ مفهوم التَّرادُف وأقسامه في ثلاث نقاط رئيسة، اختصّتْ الأولى بتعريفِ التَّرادُف لغةً واصطلاحاً، وحاولنا فيها تتبع استعمالات لفظ {التَّرادُف} في اللُّغة ورصدها، ومدى علاقة الاستعمال اللغوي بالمفهوم الاصطلاحي، ثمّ بعد ذلك حصرنا التعريف الاصطلاحي بتعريفين، يمثّل الأوَّل التعريف الموسّع، والثَّاني التعريف المضيّق {المحدّد} المفهومِ التَّرادُف، ثم ناقشنا ظهور مصطلح التَّرادُف صراحةً، أما النقطة الثَّانية فخصّصناها لتمايز مفهوم التَّرادُف وتباينه بين اللغويين {قدماء ومحدثين} وبين الأصوليين والمناطقة؛ ونظرة السيميائيّات للمترادفات. وخلصنا إلى تعريف للترادفِ يعتمدُ عليه في الجانب التطبيقي. وتطرّقنا في النقطة الثالثة إلى
ص: 12
أقسام التَّرادُف وخلصنا إلى تقسيم التَّرادُف - بعد ذكر أقسام عدة للتَّرادف على أسس مختلفة - إلى قسمين رئيسين. وذُيّلَ الفصل بخلاصةٍ تختزل الآراء حول التَّرادُف وأقسامه.
الفصل الثَّاني: نُوقِشتْ فيه نشأةَ التَّرادُف والمواقفَ منهُ في نقطتين؛ اختصّتْ الأولى بنشوءِ التَّرادُف ومصادرهُ، موضّحاً تداخلَ اللهجاتِ، والمعرّبَ والدخيلَ، والتطوُّر اللغوي ومجالاتِهِ، والصفاتِ الغالبة على موصوفاتِها، وأثرها في نشوءِ التَّرادُف. أما النقطة الثَّانية فقد وضحنا فيها مواقف اللغويين من التَّرادُف، وصنفناهم إلى قسمين {المنكرين والمؤيِّدين} وجعلنا لكلّ قسمٍ تصنيفاً خاصّاً بحسب أسباب إنكار اللغويين أو إثباتهم، والرأي الجامع لهم، لكي نحافظ على الترابط والتَّتابع في آرائهم، ونتخلّص من التكرار، ونضمن التَّصنيف الأكاديمي لعرض الآراء. وذُيّل الفصل بخلاصةٍ أبرزتْ النتائجَ التي توصّلنا إليها في هذا الفصل.
الفصل الثَّالث: اختصّ بالتطبيق على مجموعة من المفرداتِ التي يظنّ فيها التَّرادُف في السياقِ القرآنيّ وسياقِ نهج البلاغة، واعتمدنا في هذا الفصل على نظريةِ السياقِ في تحديدِ دلالة المُفردَة، وعلى قانونِ الاستبدالِ للحكمِ بترادفِ المفردتين أو عدمهِ، وجعلنا التعريف الذي أسسناهُ في الفصلين {الأوَّل والثَّاني} مقياساً نلجأ إليه، ثم عزَّزنا الفصل الثَّالث بخلاصة أظهرت نتائج التّطبيقات. وتُوّجَ البحث بخاتمة تبين أبرز ما
ص: 13
جاء فيه، وتعرض ما توصل إليه البحثُ من نتائجَ، ووضّحتُ بعضَ الأفكارِ التي تستلزمُ الإيضاحَ بالرسومِ والمخططاتِ والجداولِ، لاستجلاءِ ما تضمّنتهُ، واستيضاحِ ما حوتهُ من أفكارٍ وإشاراتٍ.
أما المَنهَج المتّبع في البحث فهو: المَنهَج الوصفيّ تنوعت المناهج في الدراسات التطبيقية والتنظيرية، ولعل المَنهَج الوصفي يَتَلاءمُ مع طبيعة البحث، إذ يعالج فيه تفسير ظاهرة التَّرادُف وبيان أسبابها وحدوثها، من أجل الوقوف عند ظروف نشأة التَّرادُف في اللُّغة وفهم مصادرها، مستندين إلى الوصف العلمي البعيد عن الأحكام المسبقة. إذ يستلزم منّا أن ننظرَ إلى الألفاظ نظرة «وصفيّة»، آخذين بالحسبان ما آلت إليه من دلالات، ما يمكننا أن نلمس حقيقة التَّرادُف.
1. استقراء بعض المفردات التي تحتملُ القول بالتَّرادُف في لغة القرآن ونهج البلاغة.
2. الاعتماد على النظرية السياقية لمعرفة المعني، من خلال تتبع المُفردَة الواحدة في السياقات القرآنيّة وسياقات نهج البلاغة.
3. المقارنة بين معنى المُفردَة في اللُّغة العربيَّة {المعجم}، وبين استعمالها
ص: 14
في الآيات القرآنيّة، واستعمالها في نصوص نهج البلاغة.
4. الكشف عن وجوه الاتّفاق والافتراق في المفردات المدروسَة. 5. الاستناد إلى قانون الاستبدال للحكم على ترادف المفردتين أو عدمه.
وفي ما يتعلَّقُ بالمصادر والمراجع التي اعتمدتُها في الدراسةِ، فضلاً عن المصدرين الأساسيين {القرآن الكريم} و {نهج البلاغة}، استعنتُ بمعاجم اللُّغة المعتمدةِ، ولاسيّما {لسان العرب} الذي تأخّر فجمع فأوعي، و {تاج العروس}، و {تاج اللُّغة وصحاح العربيَّة} للجوهري، كما اعتمدنا كتبَ الفروق اللغوية.
ومن أبرزهِا {الفروقِ اللغويَّة} لأبي هلال العسكري، و {كلیَّات أبي البقاء}، و {الرسالة التامّة في فروق اللُّغة العامّة} للشّيخ محمد جعفر الكرباسي، ومن كتبِ اللُّغة التي رجعنا إليها، {المزهر في اللُّغة وعلومها} للسّيوطي، وكتب الألفاظ المترادفة، ومن أبرزهِا {ما اختلفتْ ألفاظهُ واتّفقتْ معانيه} للأصمعي {ت. 214 ه.} ، و {الغريب المصنّف} لأبي عبيد القاسم بن سلام {ت. 224 ه.}.
أمّا أهمّ المصادر القرآنيّة، فتمثّلت ب{المفرداتِ في غريبِ القرآن} للراغب الأصبهانيّ، و {تفسيرِ الميزانِ} للعلامةِ الطباطبائي، و { التبيانِ في تفسيرِ القرآنِ} للطّوسي، و {البرهانِ في علومِ القرآنِ} للزرکشي؛ أمّا مصادر نهج البلاغة
ص: 15
فاعتمدتُ على الشُّروح التي اهتمّت بالجانب اللغويّ ومن أبرزهِا، شرح محمّد عبده، وشرح صبحي الصّالح، وشرح كمال الدين ميثم البحراني، وشرح السيّد عبّاس علي الموسوي، و {المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة}، واعتمدتُ نصَّ نهج البلاغةِ الذي ضبطهُ وابْتَكَرَ فهارسهُ صبحي الصّالح.
أمِّا الصّعوبات التي واجهتْ البحثَ، فأبرزهُا تتبُّع المُفردَة الواحدة في السياقاتِ القرآنيّةِ، وسياقاتِ نهج البلاغةِ، مما استلزم الجهدَ الكبيرَ والوقتَ الطويلَ، في الوصولِ إلى دلالةِ المُفردَة في الاستعمالِ، للحكمِ عليها بالتَّرادُف أو عدمهِ؛ وهذه نتيجةٌ طبيعيةٌ للمنهجِ الذي سلكناهُ في التَّطبيق.
وفي الختام أسأل الله جل جلاله أن يتقبّلَ هذا العمل بقبولٍ حَسَن، وأن يجعلهُ خالصاً لوجههِ الكريم، وزاداً انتفعُ به يومَ لا ظلَّ إلاّ ظلّه. ومنهُ نستمدُّ العونَ وبه نستعين.
الباحث
ص: 16
الفصل الأول تحديد مفهوم الترادف وأقسامه
ص: 17
هو تتابع شيء خلف شيء، والجمع: الرُّدَافي، يقال: جاء القوم رُدافي أي بعضهم يتبع بعضاً. قال الأصمعي: «تعاونوا عليه وترادفوا» بمعنی تتابعوا، ورَدِفَ الرّجلَ وأردفهُ: رَكِبَ خَلْفَهُ، وارتَدفَهُ على الدَّابه، ورديفكَ: الَّذي يرادفكَ، والجمع رُدَفاء ورُدَافي، يقال رَدِفْتُ فلاناً أي صرتُ له رِدْفاً.
قال الجوهري: «الرِّدْفُ المُرْتَدَفُ وهو الَّذي يركبُ خلف الرَّاكب، والرَّديف: المُرْتَدِفُ، والجمع رِدَافٌ». واسْتَرْدَفَهُ: سألهُ أن يُردِفَهُ والرِّدْفُ: الرَّاكب خلفك. والرِّدفُ: الحقيبة ونحوها ممّا يكون وراء الإنسان كالرِّدْف.
فالرِّدف هو ما تبعَ الشيء، وكلّ شيء تبعَ شيئاً فهو رِدْفهُ، ومن هذا قولهم اللّيل والنّهار رِدفان، لأنّ كلّ واحد منهما ردفُ صاحبه، بمعنى أنّ أحدهما يتبع الآخر. وقولهم: أرداف النّجوم أي تواليها وتوابعها، وأردفتِ
ص: 18
النّجوم أي توالت.قال الجوهري: «الرَّديف النَّجم الَّذي ينوءُ من المشرق إذا غاب رقيبهُ في المغرب». وأرداف الملوك: هم الَّذين يخلفونهم في القيام بأمر المملكة، بمنزلة الوزراء في الإسلام، وأحدهم رِدف. ويقال: هذه دابّة لا ترادف، أي لا تحمل رَدِيفاً(1).
وقد فُسِّرَ قوله تعالى: «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ»(2)، بمعنى يأتون فرقة بعد فرقة على رأي الزَجَّاج، وقال الفَرَّاء: «مُردفين مُتَتَابِعين».
وقد سمّوا ضرباً من القوافي في الشّعر والعروض «بالمُتَرادف» وهو كلّ قافية اجتمع في آخرها ساكنان.
لأنّ غالب العادة في أواخر الأبيات أن يكون فيها ساكن واحد، فلمّا اجتمع في هذه القافية ساكنان مرادفان كان أحد الساكنين رِدف الآخر ولاحقاً به. وأردفهُ عليه أي أتبعهُ عليه(3).
لاحظ قافية البيت الشعري:
يا صاحِ، قد أخلفَتْ أسماءُ ما ٭٭٭ كانتْ تُمنّيِكَ، مِن حُسنِ وِصاْلْ(4)
ص: 19
يتّضحُ ممّا سبق أن التَّرادُفَ يلحظُ فيه جانب التَّتابع والتوالي في الزمان والمكان والهيئة، وسنستحضرُ هذه المعاني عندما نأتي إلى نظرة السيميائيّات(1)لمفهومِ التَّرادُفِ. والتَّرادُف مصدر يَدلُّ على الحدثِ دون الدلالة على الزمانِ، ويدلّ بصيغتهِ الصرفيّةِ، على المفاعلةِ بين طرفين، «وهما اللفظان اللَّذان یَتَعَاوَرَان موقعاً سياقياً ودلالةً»(2).
ويدخلُ ضمن دلالته، التبعيّة والخلافة، وإحلال الشيء محلّ الآخر، في أمر من الأمور، وهذا أقرب الدلالات إلى معنى التَّرادُف في الاصطلاح، حيث تمّ اشتقاق لفظ التَّرادُفِ، الَّذي يحمل دلالة المادة على الخلافة، وفيه من المجاز العلاقة المشابهة، إذ يردف اللفظ، لفظاً آخر في أداء عمله؛ ويمكننا من خلال تتبع استعمالات التَّرادُف لغةً أن نعرفه بأنه: تتابع شيئين وتواليهما على أمرٍ واحد.
يُعرّف التَّرادُف بتعبيراتٍ مختلفةٍ، فليس هناك اتّفاق تامّ بين العلماءِ والدارسين قديماً وحديثاً على تعريف اصطلاحي واحد لمفهومِ التَّرادُفِ عندهم، ولعلّ ذلك بسبب تعدّد نظرتهم لظاهرة التَّرادُف، أدّى إلى خلافٍ
ص: 20
كبيرٍ بينهم، نجمتْ عنهُ آراء وصلتْ إلى حدِّ التناقض بين مُقرٍّ بالتَّرادُفِ ومنکرٍ له، كما أدّى إلى خلطٍ واضطرابٍ في النظرِ إلى الألفاظِ والحكم عليها بالتَّرادُفِ أو عدمهِ. وسنعرضُ ذلك بالتّحليل والمناقشة لاحقاً.
ويمكننا أن نحصرَ التعريفَ الاصطلاحي للتَّرادُفِ من كتبِ التعريفاتِ والمصطلحاتِ عموماً، بتعريفين:
أولاً: «دلالة عدّة كلمات مختلفة ومنفردة على المسمى الواحد أو المعنى الواحد دلالة واحدة»(1). {كالحنطة، والبُرّ، والقمح}، و {المسكن، والمنزل، والدار، والبيت}، و {ذهب، و مضى، وانطلق} و { العِيْر والحمار}.
ثانياً: يقول التّهاوني بعد أن يعرِّف التَّرادُف لغةً: «وعند أهل العربيَّة والأصول والميزان، هو توارد لفظين مفردين، أو ألفاظ كذلك في الدلالة على الانفِراد بحسب أصل الوضع، على معنى واحد، من جهة واحدة».(2)وقوله: {بحسب أصل الوضع} هو احتراسٌ من اعتبار الدِّلالات التي تصيب الألفاظ عن طريقِ النّقل وتصيّرها إلى مترادفاتِ. لَقَد بيّنَ التَّهاوني بأنّ هذا التعريف هو حصيلة ما ذكرهُ أهل العربيَّة
ص: 21
والأصول والميزان، والملاحظة أنّ قيد الانفِراد، وأصل الوَضع، والجهة الواحدة في المعنى كان من جهد علماء الأصول أوّلاً، وتبعهم في ذلك أهل المنطق، أمّا أهل العربيَّة فقد استفادوا هذا التعريف منهم.
ويشير صاحب منتقی الجمان إلى حسبان تعدد الوضع بتعدد الألفاظ فيقول في منظومته:
تَعَدُّدُ اللَّفْظِ لِمَعْنَیً اتَّحدْ ٭٭٭ تَرَادُفٌ إنْ طَابَقَ الوَضعَ
وهي إضافة في محلّها إخراجاً لقسمٍ من الاستعمالاتِ المجازيةِ كاستعمال لفظي {الأسد} و {البطل} في الرجل الشجاع، مع وضوح اتحاد المعنى فيهما وتعدد اللفظ إلا أنّ الوضع فيهما واحد فهما ليسا بمترادفين.
ومما تقدّم يمكن أن نلحظَ العلاقةَ بين المعنى اللغوي للتَّرادُفِ والمعنى الاصطلاحي، إذ إن التَّرادُفِ لغةً هو ركوب أحد خلف آخر، وأطلقت الكلمة في الأصل على هذا المعنى، ثمّ نقلتْ دلالتها من معناها الحقيقي إلى عدّة معانٍ مجازية كما ذكرناها سابقاً، ومن جملتها إطلاق التَّرادُف على الكلمات التي تدلّ على معنى واحد. فإنّ الألفاظ قد تترادف على المعنى الواحد، كما يَترادَف الراكبان على دابة واحد، فهي علاقة مشابهة، أي شابهة ركوب أحد خلف آخر على دابّة واحدة.
ص: 22
وقد أشار الجرجاني في تعريفهِ إلى هذا المعنى موضّحاً الصلة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي للكلمة: «المُتَرادف ما كان معناهُ واحداً وأسماؤهُ كثيرة وهو ضدّ المشترك اللفظي، أخذاً من التَّرادُف الَّذي هو ركوب أحد خلف آخر، كأنّ المعني مركوب واللفظين راكبان عليه»(1).
أما ظهور مصطلح {التَّرادُف} صراحة، فالخوض التاريخي لم ينتبهِ بعد إلى رأيٍّ حاسمٍ، ويمكن القول أنّه ظهر على يد علي بن عیسی الرّماني {ت 384ه.} الَّذي جعلهُ عنواناً صريحاً لكتابهِ {الألفاظ المُتَرادفة والمتقاربة المعني}. وليس كما ذهب إليه حاكم مالك الزيَّادي إلى أنّ أقدمَ نصّ لغوي بين أيدينا ورد فيه هذا المصطَلَح صراحة هو لثعلب(2)وذلك في معرض إنكاره للتَّرادُف، اعتماداً على ما نقلهُ السيوطي(3)من
ص: 23
قول التاج السَّبكي(1)في شرح المنهاج: «ذهب بعض النّاس إلى المُتَرادفِ في اللغةِ العربيَّةِ، وزعم أنّ كلَّ ما يظنّ من المُتَرادفاتِ فهو من المتبايناتِ التي تتباين بالصفات {...}.
وقد اختار هذا المذهب أبو الحسن أحمد بن فارس(2)في كتابهِ الَّذي ألّفه في فقه اللغة العربيَّة وسنن العرب وكلامها، ونقلهُ عن شيخه أبي
ص: 24
العبّاس ثعلب»(1). ويعقّب الزيَّادي على هذا النصّ، بقولهِ: «وممّا يعزّز هذا الرأي، أيضاً، إشارة أحمد بن فارس نفسه إلى مذهبِ شیخهِ؛ ثعلب في التَّرادُفِ واعترافه بالتعويلِ عليه»(2).
والَّذي نميل إليه غير ذلك، إذ إن النصّ الَّذي اعتمد عليه الزيادي من صياغة التاج السبكي، وليس من صياغة ثعلب، والمصطلح في عصر السبكي كان موجوداً، واستعملهُ ليعبّر عمّا ارتآهُ ثعلب من الإنكار، فكان نقلاً عنهُ بالمعنى وليس باللفظ، والنصّ صريح في ذلك، إذ ورد فيه: «ذهب بعض الناس.
وزعم أنّ كلّ ما يظنّ من المُتَرادفات فهو من المتباينات» ثمّ بعد ذلك يورد في الأخير ذكر ابن فارس وثعلب وهذا دليل على النقل بالمعنى، أيضاً، وإلاّ لجعلهُ في البداية بأن يقول: «قال ثعلب» وليس زعم بعض الناس. ثمّ في قولهِ: «اختار هذا المذهب أبو الحسن أحمد ابن فارس {...} ونقله عن شيخه أبو العباس ثعلب». دليل على اتخاذهما الإنكار مذهباً وليس فيه شاهد على ذكرهما مصطلح التَّرادُف، ولا حجة بعد ذلك فيما عزّز به الزيادي رأيه من إشارة ابن فارس إلى مذهب شيخه ثعلب في التَّرادُف؛ لأنها إشارة إلى مذهبه في الإنكار وليست إشارة إلى ذكر المصطلح.
ص: 25
ولكن هذا لا يعني أنّ فكرة التَّرادُف قد ظهرت في هذا الوقت، ولم تكن معروفة أو ملحوظة بشكل ما لدى علماء اللغة ورُواتها، فقد سبقتْ ظهور هذا المصطلح عبارات وتسميات عبّرت عن هذه الظاهرة تعبيراً إجمالياً.
إنّ أقدم النصوص التي وردتْ إلينا والتي أشارت بوضوح إلى هذه الفكرة، نصّ سيبويه {ت.180ه.} حين قال: «اعلم أن من كلامهم اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين، واختلاف اللفظين والمعنى واحد، واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين، فاختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين هو نحو: جلس وذهب، واختلاف اللفظين والمعنى واحد نحو: ذهب وانطلق، واتفاق اللفظين والمعنى مختلف، قولك: وجدت عليه من المَوجِدة ووجدت إذا أردتُ وجدان الضالّة وأشباهُ هذا كثير»(1).
والَّذي يتعلق بموضوعنا في هذا التقسيم للألفاظ، هو القسم الثَّاني الَّذي ينصُّ على اختلافِ اللفظين والمعنى واحد، وقد مثل لهُ بقوله ذهب وانطلق. وهذا النوع من الألفاظ سمّي فيما بعد بالألفاظ المُتَرادفة.
ص: 26
يتّضحُ ممّا سبق أن مفهوم التَّرادُف في نصّ سیبویه، يدلّ على السعة بالقياس إلى المفهومِ الدقيق للتَّرادُفِ الَّذي حددهُ العلماءُ، كما أنّ مفهومَ سيبويه للتَّرادُفِ يصدقُ على ألفاظ مختلفة أخرى معناها واحد ولكنّها ليست مترادفة، مثل {جذب، وجبذ}، {اضمحل، وامضحل}، {السباسب، والبسابس}، {النُشُوز، والنَشُوص}(1).
هذه الألفاظ المختلفة دالّة على معنى واحد، ولكن اختلافها جاء بسبب القلب أو الإبدال وما إلى ذلك من الاختلافات الصوتيّة في الكلمة الواحدة فمثل هذه الألفاظ لیست مترادفة في الحقيقة(2)، إذ ليس ثمّة اختلاف بينها تماماً، فاللفظة واحدة جاءت بصور مختلفة، وهذا ما يدعوهُ المحدثون بالتَّرادُف الوهمي(3)، وهو أن تأتي لفظتان أو أكثر للدلالة على معنى واحد، ولكن أصلها واحد؛ والذي نميل إليه عدم ترادف هذه الألفاظ، بل يمكن أن ينصَّ على تطورها الصوتي حينما يطلب بیان معانيها.
ويُعدُّ هذا النص لسيبويه من النصوص اللغويَّة المهمّة التي أشارت إلى الحقبة الزمنية للتَّرادُف في اللغة، وقد صار هذا التقسيم مشهوراً بين العلماء،
ص: 27
حتّى جُعل أساساً تُبني عليه الكتب، ومنها كتاب الأصمعي(1)الَّذي عنونه ب«ما اختلفت ألفاظهُ واتفقت معانيه»، وكتاب «ما اتفق لفظهُ واختلف معناه من القرآن المجيد» للمبرد وكتاب «الأسماء المختلفة للشيء الواحد» من الغريب المصنّف لأبي عبيد القاسم بن سلام، وكذلك ابن الأنباري الَّذي جعل تقسیم سیبویه في مقدمة كتابه في الأضداد، وفصّل فيه القول شرحاً وتعليقاً؛ فبعد ذكره الأضداد والمشترك اللفظي قال : «وأكثر كلامهم يأتي على ضربين آخرين: أحدهما أن يقع اللفظان المختلفان على المعنيين المختلفين كقولك: الرجل، والمرأة، والجمل، والناقة، واليوم، والليلة، وقام، وقعد، وتكلم، وسكت، وهذا هو الكثير الَّذي لا يحاط به. والضرب الآخر أن يقع اللفظان المختلفان على المعنى الواحد، كقولك: البُّر والحنطة، والعَيْر والحمار، والذئب والسيِّد، وجلس وقعد، وذهب ومضی»(2).
وهكذا ظهرت فكرة التَّرادُف في مصنفاتِ اللغويين الأوائل على أساس من تعدد الألفاظ للمعنى الواحد، كما ورد في تقسیم سیبویه، بغضّ
ص: 28
النظر عن أي قيد أو شرط. وذلك من قبل الاصطلاح عليها وتطوّر البحث فيها وتحديد مفهومها.
ولإيضاح مفهوم التَّرادُف عند القدماء، نسلّط الضوء على كتاب «الأسماء المختلفة للشيء الواحد» وهو أحد الكتب التي ينقسم إليها كتاب «الغريب المصنف» للقاسم بن سلام(1)، فقد أورد ألفاظاً مختلفةً دالةً على معنى واحد، ومن ذلك ما ذكرهُ للعطية من أسماء، نحو: الشكد، والجزح، والصفد، والفرض، والرفد، واللهوة، والنوفل(2).
كما أفرد صاحب الكتاب أبواباً كثيرةً وفي مواضع متفرّقة لذكر أسماء الخمر، والعسل، والسيف، وأسماء الزوجة، والداهية، والنفس، والسباع، والضباع، والثعالب، وأسماء القصير والطويل وغير هذا، وهو يروي وينقل هذه المُتَرادفات عمن تقدّمهُ من اللغويين كالأصمعي، وأبي عمرو، والكسائي، والفرّاء.
ص: 29
ومن هذا ما جاء في باب العسل: «الضرب العسل والشهدة وهي مؤنّثة، يقال هي ضرب، والأرْي العسل والسلوى العسل»(1). وهذه المُتَرادفات للعسل هنا، قد بلغت الثمانين، بعد ذلك عند الفيروزآبادي(2)في كتابه «ترقیق الاسل لتصفيق العسل»، ثمّ استدرك عليه السيوطي باثنتين(3). وكذلك ما رواهُ المؤلّف عن الأصمعي في باب اسم حليلة الرجل: «حَنَّة الرجل امرأته وهي، أيضاً، طَلَّته، وعِرسهُ، وقَعيِدَتهُ، ورَیضُهُ، ورُبْضُهُ، وظَعِينَتُهُ، وزوجهُ»(4).
وما ذكرناهُ آنفاً ينطبقُ على أسماء السيف، والخمر، والداهية، والنفس، والأصل، والطويل، التي أوردها صاحب {الغريب المصنف} وخصّص لها أبواباً مستقلّة من كتابه.
ولو أُنِعْم النظر في كتب المتأخّرين من الَّذين جمعوا المُتَرادفات وعَنَوا بها، لوجد أنهم نقلوا عن هذا الكتاب وأضافوا إليها كثيراً وضاعفوها مرّات، حتّى بلغت المئات كما في أسماء الداهية وغيرها. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّه لا يصحّ
ص: 30
الحكم على الألفاظِ المختلفةِ كلِّها التي أوردها القاسم بن سلام للمسمّى الواحد بأنّها مترادفة. إذ إنها تبدو مترادفة في الظاهر، لكنّها عند التحقيق لیست مترادفة، فالمؤلّف لم يقتصر على مرادفات الشيء الواحد وحسب، بل ذكر مجموعة من الأسماء التي تدلّ على أحواله وأنواعه وصفاته وما يتعلّق به، شأنه في ذلك شأن كتب الموضوعات الأخرى؛ كما أنّنا نلاحظ في مواضع كثيرة عدّة صيغ وصوراً مختلفة للكلمة الواحدة ومثال ذلك: رَفهنية ورَفاهية ورَفاغية(1). ومنها، أيضاً، ما جاء في أسماء القصير، نحو: الحَبْتَر والبُحْتُر والبُهْتُر(2). ومثل هذا كثير.
إنّ هذه الألفاظ ليست من التَّرادُفِ الحقيقي في شيءٍ، خلافاً لما ذَهَبَ إليه كثير من القدماء وبعض المُحدثين الَّذين توهّموا التَّرادُف في هذا النوع من الألفاظ، حين عدّوا أقل تغيير في بنية الكلمة وشكلها، مهما كان طفيفاً - مع بقاء دلالتها على المعنى عينه - من التَّرادُف.
ما أدّى إلى خلط كثير بين المُتَرادف حقّاً وغير المُتَرادف، ما جعلهم يصلون مرحلة من الغلو في المُتَرادفات لا يمكن التسليم به. وقد أصاب حسين نصّار في وصفه هذه الكتب بأنها كانت مولعة بإيراد المُتَرادفات(3). ويتّضحُ ممّا تقدّم أنّ فكرة التَّرادُف عند القدماء تمثّلت في تعبيرهم عنها باختلاف اللفظين
ص: 31
والمعنى واحد تارة، وبما اختلفت ألفاظهُ واتّفقت معانيه تارةً أخرى، أو بالأسماء المختلفة للشيء الواحد. فكلّ هذه التَّسميات والتَّعبيرات متقاربة في دلالتها على فكرة التَّرادُف بصورةٍ واسعةٍ وبغير تحديد دقيق لها. لذلك احتوت شواهدهم على المُتَرادف وغيره.
إذ إنها لم تقتصر على الألفاظ المفردة، بل تجاوزها إلى العبارات والجمل المختلفة في الألفاظ التي تواردت على معنى واحد، وإلى المجاز والكناية والمشترك وإلى ذكر أنواع المسمّى وصفاته وأحواله في أحيان أخرى(1).
وقد حاول علماء اللّغة المتأخرون أن يحدّدوا مفهوم التَّرادُف، وأن يضعوا بعض الاعتبارات اللغويَّة، فهم لم يقفوا عند مفهوم التَّرادُف في دلالته، {عدة كلمات مختلفة على معنى واحد}، أو بمعنى آخر انصراف عدّة أسماء إلى مسمّى واحد. بل يرون أنه لابدّ من تحقق اعتبارات لغويّة معيّنة حين النظر إلى هذه الظاهرة اللغويَّة، لتميّزها من غيرها وإخراج الشواهد التي لا ينطبق عليها مفهوم التَّرادُف؛ وبهذا أصبحت فكرة التَّرادُف عندهم أكثر وضوحاً وتحديداً بعد تطوّر البحث اللغوي واتّساعه، وخير ما يمثّل ذلك تعريف التهانوي للتَّرادُف الَّذي وردَ سابقاً(2).
والملاحظ أنّهم ضيّقوا من مفهوم التَّرادُف وحدّوه؛ لئلاّ يختلط به غيره.
ص: 32
وميّزوهُ من الظواهر اللغويَّة الأخرى كالإتباع نحو {حسن بسن}، و {عطشان نطشان}؛ لأنّ بعضهم قال بترادفهما، ولكنّهما خرجا بقيد الانفراد، زد على ذلك أنّ شروط الاتّباع في الوزن وعدم إفادة التابع معنى إذا كان منفرداً تختلف عن فكرة التَّرادُف وما ينبغي أن يتحقّق فيها من اشتراطات خاصّة. كذلك أخرجوا منه التوكيد بنوعيه اللفظي والمعنوي. كما أخرجوا منه الألفاظ الدّالة على معنى واحد مجازاً.
وليس عندهم من التَّرادُف، أيضاً، تلك العبارات والجمل التي تواردت في الدلالة على معنى واحد من جهة واحدة، نحو: الإنسان قاعد، والبشر جالس، فمثل هذه وإن كانت سواء في معناها، إلاّ أنها ليست من الترادف في شيء بسبب اشتراطهم الانفراد في الكلمات المُتَرادفة(1)وهذه من قبيل التراكيب.
وعلى هذا يتبيّن لنا توهّم بعض الباحثين في عدّ التَّرادُف حتّى في الجمل والعبارات. وقد فاتهم أن ليس هناك ترادف في الجمل والعبارات بالمعنى الاصطلاحي الَّذي تواضع عليه المحقّقون من العلماء، وأنّ التَّرادُف ينبغي أن يلتمس في الألفاظ المختلفة المنفردة.
ونتيجة ذلك وقع هؤلاء في خلط عجیب وفوضى لا طائل تحتها لعدم اهتدائهم إلى المفهوم الحقيقي للتَّرادُف وشروط تحقّقه في اللغة. صحيح أن الجمل والعبارات قد تتوارد على معنى واحد، وهذا في الواقع من قبيل تنوّع
ص: 33
الأساليب البيانيّة في التَّعبير، وليس ترادفاً بمفهوم المصطلح اللغوي كما بينّاه. وإذا تجوّزنا في إطلاق «التَّرادُف» على مثل هذه الجمل والعبارات، فهذا یشكّل مفهوماً يختلف عن مفهوم التَّرادُف في اللغة.
تأسيساً على ما سبق يمكن القول: إنّ فكرة التَّرادُف من الظواهر اللغويَّة الأولى التي تنبّه إليها العلماءُ والدارسون العرب في وقتٍ مبكرٍ، نتيجة ملاحظاتهم للواقع اللغوي؛ وقد اتّضحت عندهم فكرة التَّرادُف أوّل الأمر في اختلاف الألفاظ للمعنى الواحد أو للشيء الواحد، وذلك قبل الاصطلاح عليها وتطور البحث فيها وتحديد مفهومها، وبمرور الزمن ونتيجة التأمّل في هذه الظاهرة اللغويَّة، وبسبب تباين مَناهج العلماء ومذاهبهم في النظر إليها، توصّلوا إلى مفهوم أكثر تحديداً، وقد وفقوا في ذلك إلى حدّ ما، مُدلين بأقوالهم ووجهات نظرهم المتفاوتة التي جعلت هذه الفكرة تختلف ضيقاً واتساعاً لديهم. حتّى وصل الأمر إلى المُحدثين من علماء اللغة الَّذين حدوا التَّرادُف وقيّدوه بضوابط أكثر صواباً ممّا نجدهُ عند من سبقهم، كما سنرى ذلك لاحقاً في مفهوم التَّرادُف عند المُحدثين، ولهذا ما كان المفهوم التَّرادُف أن يكون متطابقاً عند جميع العلماء وعلى اختلاف العصور.
لابدّ من الوقوف عند النظرة اللغويَّة الحديثة بغية الوصول إلى مفهومِ
ص: 34
التَّرادُف الدقيق، الَّذي يمكن أن نهتدي به في البحث، فإنّ عدم الاهتداء إلى مفهوم التَّرادُف الحقيقي، كان ومازال سبباً مهمّاً للاختلاف والاضطراب في النظر إلى هذه الظاهرة اللغويَّة عند معظم الدارسين. ومن الجدير ذكرهُ أن المُحدثين اختلفوا في نظرتهم إلى التَّرادُف، ولم يكن هناك اتّفاق حول مفهوم واحد له.
لقد اهتمّ المحدثون بظاهرة التَّرادُف ودرسوها وفقاً لمناهج البحث المختلفة، وخصَّصَ بعضُهم بحوثاً ومقالات في دوريات لشرح هذه الظاهرة وتوضيح خفاياها واستيعاب مضامينها. ويمكننا أن نصنّفهم على أربعة أقسام، وفقاً لآرائهم ونظرتهم لمفهوم التَّرادُف:
يرى بعض اللغويين أن الترادف هو اتحاد تام في المعنى ومن هؤلاء اللغويين، إبراهيم أنيس الذي أثبتَ التَّرادُف في اللغة النموذجية المثالية الأدبية بعد أن عرض آراء العلماء المؤيّدين لفكرة التَّرادُف والمنكرين لها، فأشار إلى أنّ التَّرادُف الحقيقي هو الاتّحاد التّام في المعنى، والاحتكام في ذلك للاستعمال لا الأصل اللغوي، إذ يقول: «فإذا دلّت نصوص اللغة على أنّ بين الألفاظ المختلفة الصورة فروقاً في الدلالة. مهما كانت تلك الفروق طفيفة، لا يصحّ أن تعدّ من المُتَرادفات، لأنّ شرط التَّرادُف الحقيقي هو الاتّحاد التامّ في المعنى. والحكم في هذا مرجعهُ أولاً وأخيراً إلى الاستعمال، لا إلى ما يتكهّن به بعض
ص: 35
أصحاب المعاجم»(1).
ومن هؤلاء حاكم مالك الزيادي الَّذي اعتمد المنهج الوصفي في نظرته إلى التَّرادُف، أشار إلى أنّ مفهوم التَّرادُف هو «دلالة ألفاظ مختلفة على معنى واحد على سبيل الانفراد»(2).
ولكنّه يختلف مع القدماء في تقييدهم التَّرادُف بالوضع، إذ يقول: «إنّه من الصعب أن نقف على حقيقة الألفاظ تبعاً لمعانيها الوضعية في اللغة، فالوضع الأصلي أمر مجهول لدينا لا سبيل إلى الوصول إليه والقطع به، لتعلّقه بالتَّاريخ اللغوي السَّحيق وأوليّات اللّغة التي يكتنفها الغموض»(3).
كما أنّه يختلف معهم في اشتراطهم أن تكون دلالة المُتَرادفات على المسمّى الواحد، حقيقة لا مجازاً، إذ يقول: «فأمر ليس له صفة الثبات في الألفاظ لاختلاط الحقيقة بالمجاز وتداخلهما كثيراً في اللغة. فقد تصير الحقيقة مجازاً والمجاز حقيقة، وليس لدينا مقياس ثابت لتحديد ذلك، وإنّما الأمر مردّه إلى الحسّ اللغوي العام»(4).
وبناءً على مسألة الحقيقة والمجاز المتغيّرة، يرى عدم التماس التَّرادُف في ألفاظ اللغة بمقتضى الوضع الأصلي، فلابدّ من النظر إلى التَّرادُف تبعاً
ص: 36
للاستعمال، معوّلاً على الواقع اللغوي، إذ يقول: «فإذا كان الناس يستعملون ألفاظاً مختلفةً بمعنى واحد، من غير أن يشعروا بفرقٍ بينها، بحيث يمكنهم أن يستبدلوا كلمةً بأخرى فلا يتغير المعنى المقصود، قلنا حينئذ أنّ هذه الألفاظ مترادفة»(1).
وبهذا يتفق الزيادي مع ما توصل إليه إبراهيم أنيس بأن الترادف هو اتحاد تام في المعنى، والمرجع في تحديد ذلك الاستعمال لا الأصل اللغوي، لصعوبة الوصول إليه.
يرى بعض المحدثين أن الترادف ليس اتحاداً تاماً في المعنى، فيكفي الاتحاد في جزء المعنى ومنهم رمضان عبد التوّاب، فقد أشار إلى مفهومِ التَّرادُف، مع إيمانه بتفرّد كلّ كلمة بمعانٍ خاصّة بها، قائلاً: «ورغم ما يوجد بين لفظةٍ مترادفةٍ وأخرى من فروقٍ أحياناً، فإنّنا لا يصحّ أن ننكرَ التَّرادُفَ مع من أنكرهُ جملة، فإنّ إحساس الناطقين باللغة، كان يُعامل هذه الألفاظ معاملة المُتَرادف، فنراهم يفسّرون اللفظة بالأخرى»(2).
أمّا أحمد مختار عمر فقد أورد مفهومين للتَّرادُف، فأنكر وجود التَّرادُف بالمعنى الأوَّل وأثبتهُ بالمعنى الثَّاني، إذ يقول: «إذا أردنا بالتَّرادُف التطابق التامّ
ص: 37
الَّذي يسمح بالتبادل بين اللفظين في جميع السياقات {من} دون أن يوجد فرق بين اللفظين في جميع أشكال المعنى {الأساسي، والإضافي، والأسلوبي، والنفسي، والإيحائي}، ونظرنا إلى اللفظين في داخل اللغة الواحدة، وفي مستوى لغوي واحد، وخلال فترة زمنية واحدة، وبين أبناء الجماعة اللغويَّة الواحدة، فالتَّرادُف غير موجود على الإطلاق»(1).
ثمّ يشير في نهاية بحثه إلى المفهوم الثَّاني للتَّرادُف الَّذي يثبتهُ ويذكر أمثِلَة عليه، إذ يقول: «أما إذا أردنا بالتَّرادُف التطابق في المعنى الأساسي دون سائر المعاني، أو اكتفينا بإمكانية التبادل بين اللفظين في بعض السياقات، أو نظرنا إلى اللفظين في لغتين مختلفتين أو في أكثر من فترة زمنية واحدة، أو أكثر من بيئة لغوية واحدة - فالتَّرادُف موجود لا محالة»(2).
ومن الباحثين المعاصرين محمود فهمي حجازي الَّذي بيّن رأيه في الترادف بقوله: «أنّه في ظلّ مبدأ نسبية الدلالة لا يمكن أن تكون هناك كلمات تتّفقُ في ظلال معانيها إتّفاقاً كاملاً، ومن الممكن أن تَتَقَارب الدّلالات لا أكثر ولا أقلّ. فالألفاظ المُتَرادفة هي بهذا المعنى الألفاظ ذات المعاني المتقاربة»(3).
ص: 38
إذ إنه يرى أنّ المعنى الحديث للتَّرادُف إنّما هو في الألفاظ ذات الدلالات المتقاربة، وليس في إتّفاق المعاني.
وبالموازنة بين آرائهم يتبيّن اتفاقهم في عدم اشتراط الاتحاد التام لتحقق الترادف، لكن احمد مختار عمر تميز بإضافة بعدٍ جديدٍ في اشتراط التطابق في المعنى الأساس دون سائر المعاني، كما انه لم يشترط التبادل بين اللفظين في جميع السياقات، ولم يقصر الترادف على لغة واحدة، أو زمن واحد، أو بيئة لغوية واحدة.
يرى هذا الفريق لابد من شروط لتحقق الترادف منهم، علي الجارم الَّذي أكّد في بحث مفصّل قدَّمهُ إلى «المجمع اللغوي» في القاهرة {1935 م}، على أن التَّرادُف موجود في اللغة العربيَّة ولا سبيل لإنكاره، ولكن لا تجوز المبالغة في ذلك؛ لأنّ بعض ما يظنّ أنّها مترادفات إنّما هي صفات(1)؛ إذ قيّد مفهوم التَّرادُف بشروط هي: الإفراد في أصل الوضع، والدلالة على معنى واحد من جهة واحدة، وبهذا المفهوم أخرج كثيراً من الألفاظ التي يُظن أنّها من المُتَرادفات.
ص: 39
لمفهوم التَّرادُف، قائلاً: «أختار أن أحدَّ المُتَرادف بأنّه لفظ مفرد دالّ بالوضع على معنى قد دلّ عليه بالوضع لفظ آخر مفرد يخالفه في بعض حروفه الموضوع عليها بحيث تنطق به قبائل العرب كلها إذا شاءت، أو ألفاظ مفردة كذلك بشرط استقلال تلك المفردات في الاستعمال وفي الدلالة»(1).
ثمّ شرع يفصّل القول في مفردات تعريفه: «فقولي لفظ يشمل الاسم والفعل والحرف، وقولي دالّ بالوضع على معنىي، خرج عن ذلك استعمال الألفاظ في معان مجازيّة أو كنائية، والتقييد بالمفرد؛ لأنّه لا ترادف بين المركَّبات التقييديّة والإضافيّة والإسناديّة، وقولي يخالفه في بعض حروفه الموضوع عليها بحيث تنطقُ به قبائل العرب كلّها إذا شاءت؛ لأريك أنّ الاعتداد في اعتبار اللفظين مترادفين إنّما هو بالاختلاف في الحروف الموضوعة عليها أصالة؛ ولذلك زدت الحيثية لزيادة البيان لئلا يعدّ من التَّرادُف ما كان بين اللفظين أو الألفاظ من الاختلاف في كيفية نطق قبائل العرب أو القبيلة الواحدة، وقولي بشرط استقلال تلك المرادفات في الاستعمال؛ لإخراج ما يُسمّى بالاتباع، وقولي في الدلالة لإخراج التوكيد المعنوي»(2).
ومن بين الباحثين الذين يضعون شروطاً، محمّد نور الدين المنجّد، الَّذي اختار تعريفاً، ذكر فيه شروطاً عدّة، بقوله: «التَّرادُف عندنا أن يدلَّ لفظان
ص: 40
مفردان فأكثر دلالة حقيقية، أصلية، مستقلّة، على معنى واحد، باعتبار واحد، وفي بيئة لغوية واحدة. فلا اعتداد بالألفاظ المركَّبة، ولا المعاني المجازية والأسباب البلاغية، وبشرط الأصالة تخرج الألفاظ المتلاقية على معنى واحد نتيجة لتطور صوتي أو دلالي، وبالاستقلال يخرج التابع والتوكيد، وبشرط الاعتبار الواحد يخرج ما يدلّ على ذات وصفة كالسيف والصارم، أو صفتين كالصارم، والمهند، أو صفة وصفة الصفة كالناطق والفصيح، وبشرط البيئة الواحدة يخرج ما تداخل من ألفاظ وضعتها قبائل مختلفة على معنى واحد»(1).
ويذهب مشتاق عباس معن إلى أن هناك شرطين لا بد من تحققهما كي نثبت ترادفية الألفاظ وهما: القصدية والإبلاغية.
ويعني بالشرط الأول {القصدية}: أن يكون صاحب اللغة المنسوب إليها الترادف بين ألفاظها، قاصدا الترادف بعينه وهو أمر متحقق في لغاتنا الدارجة إذ تجدنا نطلق على كثير من الأعيان أسماء معينة كوسمنا لفناء الدار {ساحة /حوش} وغيرها وهي من الألفاظ التي تدور على ألسنة عوام بغداد. ويعني بالشرط الثاني {الإبلاغية}: أن تحقق اللفظتان الدلالة المقصودة من التخاطب فقولنا {حوش الدار} يطابق تماما قولنا {ساحة الدار} وبتطابق
ص: 41
المعنيين يتحقق الإبلاغ ويحصل الإفهام وهو ديدن اللغة(1). وهذان الشرطان تنطق بهما النتيجة التي خرج بها من خلال تطبيقه نظرية الحقول الدلالية وقانون الاستبدال على ظاهرة الترادف؛ لأن القصدية وتحصيل الإبلاغ بين الألفاظ المترادفة يتحقق تطابق معانيها لا محالة.
وبالموازنة بين آرائهم نجد أنهم تشدّدوا في شروط الترادف، مما يؤدي إلى قلة وجوده. والذي نلاحظه أنهم اتفقوا في بعض الشروط واختلفوا في البعض الآخر، فالطاهر بن عاشور لم يقيد بالجهة الواحدة والبيئة اللغوية الواحدة، في حين علي الجارم اشترط الجهة الواحدة فأخرج الصفات من الترادف، وأما المنجد فأضاف لاشتراط الجهة الواحدة البيئة اللغوية الواحدة، أما الأخير {مشتاق عباس معن} فلم يشترط كل ذلك، وإنما انفرد بشرطين جديدين هما {القصدية والإبلاغية}.
لاشك ان الاختلاف في البنية والتركيب بين العربية وغيرها من اللغات متحققٌ، ومع ذلك يبقى الاستئناس بما جاء عند الغربيين مفيداً لنا، فقد عرّف أولمان التَّرادُف بأنّه: «ألفاظ متّحدة المعنى وقابلة للتبادل فيما بينها في أيّ
ص: 42
سياق»(1). وعرّفه بالمر بقوله: «التَّرادُف مصطلح مستعمل للإشارة إلى التّساوي الدّلالي بين بعض الألفاظ، إنّه مصطلح يجمع بين مجموعات كبيرة من الألفاظ في المعجم؛ لأنّها تدلّ على معنى واحد، فتسمّى هذه الألفاظ مترادفة، لما بينها من علاقة دلالية جامعة»(2). وهناك مجموعة من التعاريف تشير إلى أنّه يعني دلالة كلمتين على معنى واحد في اللغة الواحدة.
ويشير جون لاينز إلى عدّ التعاريف ذات المعنى الواحد مترادفة، وهنا يجب ملاحظة نقطتين حول هذا التعريف، النقطة الأولى أنه لا يحدّد علاقة الترادف بالوحدات المعجمية، إذ يفسحُ المجال أمام التعابير البسيطة معجمياً لأن يكون لها المعنى نفسه الَّذي تحملهُ التعابير المعقدة معجمياً. أما النقطة الثانية فهي أن هذا التعريف يتّخذ من التطابق في المعنى وليس مجرد التشابه في المعنى معياراً للتَّرادُف. ويختلف هذا التعريف في النقطة الأخيرة عن تعريف الترادف الَّذي نجده في المعاجم القياسية، ويختلف، أيضاً، عن التعريف الَّذي يعتمدهُ عادة مؤلفو المعاجم أنفسهم(3).
وبعض الأجانب لم يكتفوا بمفهوم الاتّفاق التامّ في المعنى، وإنّما يرون لا بدّ من مبدأ الاستعاضة الَّذي يعني استبدال بالكلمة ما يرادفها في النص من
ص: 43
دون أي تغير في المعنى، إذ يقول فرانك بالمر: «إنّ وجود إمكانية لاختبار التَّرادُف مفيد جدّاً، ولاسيّما إذا كانت هذه الإمكانية متجليّة في الإجراء الاستبدالي الَّذي تستبدلُ فيه المرادفات في جميع سياقاتها»(1).
وقد جعلوا الاستبدال مقياساً للتحقّق من التَّرادُف في الألفاظ، وهذا هو المفهوم الدقيق للتَّرادُف في فقه اللغة المعاصر. وهو ما ذكرهُ ماكولي {Macaulay}(2)وولیم الستن {William P.Alston}(3)وستيفن أولمان { Stephen UIImann}(4)وقد أسموهُ مبدأ الاستعاضة أو الاستبدال، وجعلوهُ أفضل سبيل للتحقق من الألفاظ المُتَرادفة. ومن الجدير ذكرهُ، أنّ هناك من قسَّم التَّرادُف على أكثر من ضرب وأعطى لكلّ قسم تعريفاً يميّزهُ من الآخر، وهذا ما سنوضّحهُ في موضوع أقسام التَّرادُف في نهاية هذا الفصل إن شاء الله تعالى.
يرى أولمان أنّ التَّرادُف التامّ يمكن أن يوجد إلا أنّه قليل، ومعظم المُتَرادفات تبدو لأوّل وهلة متماثلة في المعنى، إلا أنّ الفروق بينها تظهر بالتدريج. ومن ثَمَّ فهي تلاءم معنى خاصّاً، والتَّرادُف التامّ على الرغم من عدم استحالته نادر الوقوع إلى درجة كبيرة، فهو نوع من الكماليات التي لا
ص: 44
تستطيع اللغة أن تجود بها بسهولة ويسر، ويرى أنه إذا وقع هذا التَّرادُف التامّ، فالعادة أن يكون ذلك لمدّة قصيرة محدّدة، حيث إنّ الغموض الَّذي يعتري المدلول والألوان أو الظلال المعنوية ذات الصبغة العاطفية أو الانفعالية التي تحيط بالمدلول لا تلبث أن تعمل على تحطيمه وتقويض أركانه، وكذلك سرعان ما تظهر بالتدريج فروق معنوية دقيقة بين الألفاظ المُتَرادفة بحيث يصبح كل لفظ منها مناسباً وملائماً للتعبير عن جانب واحد فقط من الجوانب المختلفة للمدلول الواحد(1).
وقد يمثّل لهذا بكثير من الكلمات التي تشيعُ في زحمة الشارع أو قاعة المحاضرة، فكلمة «يلج» مرادفة لكلمة «يدخل»، ولكن هناك بوناً بين الكلمتين مرده إلى تلك الظلال الهامشية والعاطفية التي تكتنف هاتين الكلمتين؛ إذ إن الثَّانية تشيع على الألسنة في مقامات كثيرة، فيقال: «دخل البيت جذلاً» و «دخل السجن»، أمّا كلمة «ولج» فإنّها تلقي بظلال سلبيّة على الحدث الكلامي، فإذا ما قيل: «ولج الرجل بيت جاره» فإنّ السامع قد يستشعرُ أن بغية الرجل السرقة أو نيل مطلب ما، ولا شكّ في أنّ هذه الظلال الهامشية والعاطفية تعمل على اطراح «التَّرادُف التامّ».
وقد تشيعُ كلمات يتباين استعمالها بتباين السياق والمقام الاجتماعي، فلو قيل: «حل الملك وامرأتهُ أو {حليلته} في مضارب البادية» لكان الأمر
ص: 45
مستهجناً بعض الاستهجان؛ إذ إن هناك كلمة راقية تستعملُ في هذا السياق، وهي {عقيلته}، ولا شكّ في أنّ هناك ترادفاً، ولكنّه ليس تامّاً في هذا الموقف الَّذي عرض له(1).
ومن خلال تتبّع أغلب تعريفات الغربيين للترادف يمكن القول إنّهم يشيرون إلى الترادف التامّ أو المطلق، وقليلٌ منهم من أشار إلى مفهوم الترادف الجزئي، وسيتضح جليّاً في ما بعد أنّ أغلب اللغويين الغربيين ينكرون المفهوم الأوّل {الترادف التامّ}، ولعلّ هناك شبه أغلبية على قبول المفهوم الثاني {الترادف الجزئي}.
استناداً إلى ما سبق يمكن القول إنّ نظرة المُحدثين إلى التَّرادُف تختلف عن نظرة القدماء إليه، وهي نقطة مهمّة نتبيّن منها مدى اختلاف هذه الفكرة وتطوّرها عند هؤلاء عمّا كانت عليه عند أولئك. فلاشكّ في أنّ العلوم اللغويَّة الحديثة قطعت شوطاً بعيداً في مجال الكشف والبحث، وقد حدث تطوّر كبير في الدرس اللغوي بما توصّل إليه علم اللغة الحديث من حقائق ومعلومات، ولاسيّما في موضوعات الأصوات واللّهجات وعلم الدلالة. وهذا تهيأ للباحث اللغوي الحديث كثير من الأدوات والوسائل والعلوم التي لم تكن في وسع القدماء.
ص: 46
إنّ نظرة المُحدثين إلى التَّرادُف تتمثّل في تلك الشروط اللغويَّة التي وضعوها ورأوا أنّه لابدّ من تحقّقها حتى يمكن القول بالتَّرادُف في الألفاظ، وبغيرها لا يمكن ذلك، وهذه الشروط تتلخّص فيما يأتي(1):
1) الاتّفاق في المعنى بين كلمتين اتّفاقاً تامّاً، على الأقلِّ في ذهن الكثرة الغالبة من أفراد البيئة الواحدة. فإذا تبيّن لنا بدليل قويّ أنّ العربيّ كان حقّاً يفهم من كلمة «جلس» شيئاً لا يستفيدهُ من كلمة «قعد» قلنا حينئذ أنّه ليس بينهما ترادف؛ ويمكن أن نتبيّن ذلك من خلال السياق الَّذي وردت فيه اللفظة.
2) الاتّحاد في البيئة اللغويَّة، أي أن تنتمي الكلمتان إلى لهجة واحدة أو مجموعة منسجمة من اللهجات. وعلى هذا يجبُ ألاّ نلتمس التَّرادُف من لهجات العرب المتباينة والمتباعدة، فالتَّرادُف بمعناهُ الدقيق هو أن يكون للرجل الواحد في البيئة الواحدة، الحريّة في استعمال كلمتين أو أكثر في معنى واحد، يختارُ هذه حيناً ويختارُ تلك حيناً آخر، وفي كلتا الحالتين يكاد لا يشعر بفرق بينهما إلاّ بمقدار ما يسمحُ به مجال القول.
3) الاتّحاد في العصر: ينظر المحدثون إلى المُتَرادفات على أنّها واقعة في
ص: 47
عهد خاصّ وزمن معيّن، ويعبّرون عن هذه النظرة بکلمة Synchronic أي {الوصفية}، وليس على أساس النظرة التاريخيّة Diachronic التي تتبع الكلمات المستعملة في عصور مختلفة ثمّ تتّخذُ منها مترادفات.
فإذا بحثنا عن التَّرادُف يجب ألاّ نلتمسهُ في شعر شاعر من الجاهليين ثم نقيس كلماته بكلمات شاعر من عصر آخر مثلاً.
4) ألاّ يكون أحد اللفظين نتيجة تطوّر صوتيّ للفظ الآخر، كما في «الجثل والجفل» بمعنى النمل. حيث يمكن أن تعدّ إحدى الكلمتين اصلاً والأُخرى تطوراً لها. فالجثل والجفل ليستا في الحقيقة إلاّ كلمة واحدة. ولهذا أخرج المحدثون من التَّرادُف الكلمات التي حدث فيها تطور صوتي وصارت تنطق بعدّة صور، وعدّوها مترادفات وهميّة.
يتّبين لنا من هذا الفرق بين فهم المُحدثين للتَّرادُف بهذه الشروط وبين نظرة القدماء إليه. ولو وازنّا بين النظرتين لظهر لنا بوضوح إسراف معظم القدماء وغلوهم في القول بترادف كثير من الألفاظ بسبب إغفالهم هذه الضوابط اللغويَّة التي قيد بها المحدثون فكرة التَّرادُف. فقد كانت هذه الفكرة تتّسعُ عندهم لكثير من الألفاظ إلى الحدّ الَّذي سمحوا فيه لمئات الكلمات بأن تَتَرادَف على المعنى الواحد أحياناً. بل إنّهم قد تسامحوا في هذه الفكرة حتى شملت كثيراً من الكلمات المتقاربة في المعنى وأسماء الشيء الواحد ذات الاعتبارات المتباينة في الدلالة عليه. كما توهّموا التَّرادُف في الصور اللفظية
ص: 48
المختلفة للكلمة الواحدة بسبب العوامل الصوتية.
ويمكن القول إنّهم قد عدّوا كثيراً من الألفاظ مترادفة على الرغم من محاولتهم تحديد مفهوم التَّرادُف، ووضعهم لشروط تحقّقه في اللغة. وقد أدّت هذه النظرة المتساهلة إلى كثرة التَّرادُف في العربيَّة والمبالغة فيه الأمر الَّذي أثار استغراب باحثين واستنكار آخرين له.
على أنّنا إذا نظرنا إلى المُتَرادفات في ضوء شروط المُحدثين هذه وطبّقناها عليها، فسوف نخرج كثيراً منها ونستبعد تلك الأعداد الهائلة من الألفاظ التي يظن أنها مترادفة. ولهذا نرى أنّ شروط المُحدثين في جوهرها تسعى إلى تقليل كثرة التَّرادُف والغلو فيه حتى صارت المُتَرادفات بقدر مقبول، وكأنّهم قد أدركوا الاضطراب والخلط في هذه المسألة.
ولكنّنا لا نبخسُ القدماء حقّهم ولا ننكر فضلهم في هذا؛ إذ لا نعدمُ أحياناً، أن نجد منهم من فطن إلى بعض هذه الشروط وأشار إليها على وجه من الوجوه. فقد كان حمزة الأصفهاني ينكر التَّرادُف في اللهجة الواحدة ويعترف به في لهجتين مختلفتين.
وهذه وجهة نظر سليمة تتّجهُ إلى ما يتّجهُ إليه المحدثون في نظرتهم إلى التَّرادُف، كما يرى ذلك إبراهيم أنيس الَّذي أعجب بهذا الرأي(1).
كما أنّ المفهوم الحديث للتَّرادُف قد اقترب كثيراً من مفهومه عند ابن
ص: 49
جنّي، وذلك في قوله: «وإذا كثر على المعنى الواحد ألفاظ مختلفة فسمعت في لغة إنسان واحد، فإن أحرى ذلك أن يكون قد أفاد أكثرها أو طرفاً منها، من حيث كانت القبيلة الواحدة لا تتواطأ في المعنى الواحد على ذلك كله. هذا غالب الأمر، وإن كان الآخر في وجه القياس جائزاً»(1).
فالمقصود من كلامه هو إذا وردت عدّة ألفاظ لمعنى واحد وفي بيئة واحدة، فإن ذلك يعني أنه قد نُقل أكثرها أو بعضها من جماعات أو قبائل أخرى؛ وما يعضد هذا التحليل قوله في موضع آخر «كلما كثرت الألفاظ على المعنى الواحد، كان ذلك أولى بأن يكون لغات لجماعات اجتمعت لإنسان واحد»(2).
ورأي ابن جني هذا حري بالقبول لما فيه من الاعتدال؛ فهذا القول يكاد تتفقُ معه نظرة المُحدثين إلى التَّرادُف، ولا سيّما قوله: «فسُمِعَتْ في لغة إنسان واحد».
كما أن القدماء أشاروا إلى اتّفاق المعنى في المُتَرادفات وضرورة دلالتها على مسمّى واحد باعتبار واحد، كما رأينا ذلك آنفاً لدى بعض علماء اللغة.
نستنتجُ من هذا أن شروط المُحدثين ليست جديدة كلّها ولعلّ الجديد منها شرطان هما: الاتّحاد في العصر، وأَلاّ يكونَ أحد اللفظين نتيجة تطوّر
ص: 50
صوتيّ للفظ آخر.
وعلى أيّة حال إنّ هذه الضوابط اللغويَّة مجتمعة هي التي تمثّل نظرة الجمهور من المُحدثين إلى التَّرادُف وفهمهم له.
من الواضح وجود صلة وثيقة بين علم اللغة من جهة وعلم أصول الفقه والمنطق من جهة أخرى، إذ إن العلماء من الأصوليين والمناطقة بحاجة إلى اللغة في مباحثهم لطرائق الاستدلال والوصول إلى الأحكام. فلا يمكن التوصّل إلى ذلك إلاّ عن سبيل اللغة وفهمها وإدراك أسرارها لكونها الأداة التي يستعملها الأصوليون في مباحثهم، وتوصلهم إلى مرادهم. يقول السيّد محمّد باقر الصدر {قدس سره} في الدليل الشرعي اللفظي: «لما كان الدليل الشرعي اللفظي يتمثل في ألفاظ يحكمها نظام اللغة، ناسب ذلك أن نبحث في مستهلّ الكلام عن العلاقات اللغويَّة بين الألفاظ والمعاني، ونصنِّفُ اللغة بالصورة التي تساعد على ممارسة الدليل اللفظي والتمييز بين درجات من الظهورِ اللفظي»(1).
ص: 51
لذا ناقشوا الظواهر اللغويَّة في مباحث خاصّة، فيما يسمّى عندهم {مباحث الألفاظ والتصوّرات}، ومن أهمّ المسائل اللغويَّة التي نظروا فيها هي ظاهرة التَّرادُف؛ لما لها من أثرٍ كبيرٍ في بناء الأحكام الفقهية، وتجلية المعاني التي هي موضوع علم المنطق، فعرّفوا التَّرادُف، وأثبتوهُ، وبحثوا في أسبابه وفوائده. وطرحوا نظريّاتهم وتفسيراتهم لإمكان وقوعه. ولبيان مفهوم الترادف في بحثهم نأخذ نماذج من تعريفاتهم، منها:
(1):
فقد عرَّفَ فخر الدين الرازي التَّرادُفَ بقولهِ: «هو الألفاظ المفردة الدالّة على شيء واحد باعتبار واحد». قال: واحترزنا بالإفراد عن الاسم والحدِّ، فليسا مترادفين، وبوحدة الاعتبار عن المتباينين، كالسّيف والصارم، فإنّهما دلاَّ على شيء واحد، لكن باعتبارین: أحدهما على الذَّات والآخر
ص: 52
على الصفة(1). ونلاحظ من خلال تعريف الرازي للتَّرادُف وشرحه، أنه أكثر تحديداً من تعريف القدماء من علماء اللغة. فقد فرق بينه وبين الحد والاسم بقوله بالإفراد، وفرّق بينه وبين المتباينين بوحدة الاعتبار، كما أنّه لم يكتفِ بالتعريف، بل ميّز بينه وبين ما يحتمل التشابه معه من المؤكّد والتابع، بقوله: «والفرق بينه وبين التوكيد، أنّ أحد المُتَرادفين يفيد ما أفادهُ الآخر، كالإنسان والبشر، وفي التوكيد يفيد الثَّاني تقوية الأوَّل؛ والفرق بينه وبين التابع، أنّ التابع وحدَهُ لا يفيدُ شيئاً كقولنا: عَطْشان نطْشَان»(2).
وقد ميّز الإمام الغزالي(3)التواطؤ عن التَّرادُفِ بقولهِ: «وأمّا المتواطئة فهي التي تطلق على أشياء متغايرة بالعدد، ولكنّها متّفقة بالمعنى الَّذي وضع الاسم عليها، كاسم الرجل فإنّه يُطلق على زيد وعمر وبكر {...} وكلّ اسم مطلق ليس بمعيّن كما سبق فإنّه يُطلق على آحاد مسميّاته الكثيرة بطريق
ص: 53
التواطؤ»(1).
وهناك من ميّز الألفاظ المتكافئة عن الألفاظ المُتَرادفة، فهي تشبه المُتَرادفات، وهي الألفاظ المتحدة في الذات والمتباينة في الصفات، وأسماء الله تعالى وأسماء رسوله صلى الله عليه وآله من هذا النوع(2).
وقد عرف التَّرادُف بقوله: «هو اشتراك لفظين متغایريين في معنى واحد، والمُتَرادف هو ما يكون فيه المعنى قد وضع لهُ أكثر من لفظ لغرض الدلالة عليه، ومثالهُ الحيوان المفترس، فإنّ له مجموعة من الألفاظ قد وضعت للدلالة عليه، مثل لفظ الأسد والليث والهزبر»(3).
إنّ هذا التعريف خلا من المحددات والشروط التي رأيناها عند الفخر الرازي، ويمكن القول إنّ هذا التعريف يُصنَّف ضمن التعريف الموسّع للترادف، كما إنه ينسجمُ مع تعريف اللغويين القدماء لمفهوم الترادف.
عرَّفَ السيّد محمّد باقر الصدر قدس سره التَّرادُفَ بعد الإشارة إلى إمكان
ص: 54
وقوعه، بقوله: «التَّرادُف هو وجود لفظين لمعنى واحد بناءً على غير مسلك التعهّد في تفسير الوضع »(1).
ونلاحظ من التعريف أمرين: أحدهما، أنّ صاحب الحلقات، ربط بين موضوع التَّرادُف وتفسير الوضع، ولا يخفى ما لهذه المسألة من أهميّة في تفسير وقوع التَّرادُف وإنكاره كما سنوضّحهُ لاحقاً بالتفصيل في الفصل الثاني إن شاء الله تعالی.
وثانيهما، أنّه فسّر وقوع التَّرادُف بناءً على غير مسلك التعهّد في تفسير الوضع، والتعهّد يعني «الالتزام بالإتيان باللفظ عند قصد تفهيم المعنى»(2).
وهذا يعني يمتنع التَّرادُف المتضمّن لتعهدين من هذا القبيل بالنسبة إلى معنى واحد، إذ يلزمُ أن يأتي بكلا اللفظين عند قصد تفهيم المعنى، وهو غير مقصود من المتعهّد، بأن يأتي باللفظين للدلالة على معنى واحد، وسنناقش هذا المسلك بالتفصيل في إمكان وقوع التَّرادُف عند الأصوليين.
أمّا في إمكان وقوع التَّرادُف في اللغة، فقد أثبتوهُ في تقسیماتهم للفظ والمعنى ومنهم صاحب تهذيب الأصول، إذ يقول: «اللفظ والمعنى إمّا متّحدان، ويُعبَّر عنه بمتّحد المعنى، أو متعدّدان، ويعبَّر عنه بالمتباین. أو يكون
ص: 55
المعنى واحداً عرفاً - وإنّ تعدّد بحسب الحيثيّات والدقيّات العقلية - واللفظ متعدّداً، ويعبَّر عنهُ بالمُتَرادف، أو يكون بالعكس، ويعبّر عنه بالمشترك. ولا ريب في وقوع الجميع في المحاورات الصحيحة»(1).
وقد يقال بعدم إمكان التَّرادُف في اللغة، وذلك لأنّه لا معنى لوضع لفظين أو أكثر لمعنى واحد، بعد أن كان الغرض من الوضع هو تفهيم المعنى، وهو يحصل بوضع لفظ واحد لإفادة المعنى المراد، ومن هنا يكون وضع أكثر من لفظ لإفادة معنى واحد منافياً لحكمة الوضع، والمفترض من واضع اللغة أن يكون حكيماً لا يقدم على ما هو عبث ومناف للحكمة.
إلاّ أنّ هذه الدعوى غير تامّة بعد شهادة الوجدان على وقوع التَّرادُف في اللغة، أو الوقوع أقوى شاهد على الإمكان، على أن ذلك لا ينافي مقتضى الحكمة من الوضع، فما هو المحذور في أن يتوصّل الواضع أو المتكلّم بأكثر من لفظ لإفادة المعنى المراد عندهُ»(2).
ويرى السّيد محمّد تقي الحكيم أنّ جلّ مناشئ الخلاف قائمٌ على بعض النظريات التقليدية في نشأة اللغة، فإذا قلنا بالدلالة الذاتيّة، تعذّر علينا الإقرار بالترادف، وكذلك إذا قلنا بالواضع هو الله فهو حكيم قادرٌ، يضع لكلّ معنى
ص: 56
لفظاً، وإن قلنا بتعدّد الواضع {الإنسان} ساغ لنا القول بالترادف(1).
لكن لمّا كانت النظرية الاجتماعيّة للغة تراها إحدى مظاهر الاجتماع تولّدها حاجة المجتمع للتفاهم، ولا يقع التواضع عن تشاور فإن الترادف ممكن وقوعهُ، ثمّ يقول وقد توضع لدى مجتمعات ما ألفاظ لمعنى واحد وتضع أخرى لفظاً لشبيه المعنى، فيأتي أرباب المعاجم فيسجلونها ألفاظاً دالة على معنى واحد من دون ذکر تعدد الواضع.
إذاً لا موضع للتساؤل عن الأهداف العقلانية من وراء الترادف، مادمنا نقرّ بأنّ الوضع عملٌ تلقائي اقتضتهُ طبيعة المجتمعات(2).
المتحصّل أنّ إمكان التَّرادُف في اللغة ممّا لا ينبغي الإشكال فيه على تمام المباني في ما هو واقع الوضع، لكن يمكن الإشكال في إمكانه بناءً على نظريّة التعهّد في الوضع التي يتبنّاها السيّد الخوئي قدس سره(3)، وذلك لأنّ المتعهّد إذا التزم بأن لا يقصد تفهيم هذا المعنى إلاّ إذا جاء بهذا اللفظ، فهذا يعني أنّه لا يكون ملتزماً
ص: 57
بتعهّده إذا جاء باللفظ الآخر المرادف وقصد تفهيم المعنى نفسه إلاّ أن يكون قد التزم بالتزامين، وهو ألاّ يقصد تفهيم هذا المعنى إلاّ أن يأتي بهذا اللفظ، ثمّ يلتزمُ التزاماً آخر بأن لا يقصد المعنى نفسه إلاّ إذا جاء باللفظ الآخر المرادف.
ولا يخفى التَّهافت بين الالتزامين، فأحد الالتزامين ينافي الآخر، لكن يمكن أن يلتزم بأن لا يقصد تفهيم هذا المعنى إلاّ إذا جاء بكلا اللفظين، وهذا الالتزام، وإن كان ممكناً إلاّ أنّه خلاف المتعارف، إذ من غير المألوف الالتزام بالإتيان بكلّ المُتَرادفات لغرض تفهیم معنى واحد؛ ومثاله في اللغة على وفق هذا المبنى، أننا إذا أردنا أن نُعبّر عن الحرب علينا أن نأتي بمرادفه، فنقول في آن واحد {حرب، وغی} للتعبير عن معنى واحد، وهذا غير متعارف عليه، بل غیر معمول به، ومن الواضح بطلانه.
ويمكن توجيه الإشكال على هذا المسلك {التعهد} بأحد حلول ثلاثة ذكرها السيّد الصدر(1):
1) افتراض تعدّد الواضع، بمعنى تعدّد المتعهّدين بتعدّد المُتَرادفات.
وهذا الجواب لو تمّ فإنّه يصلح لتفسير المُتَرادفات في اللغة بناءً على مسلك التعهّد.
ص: 58
2) افتراض اتّحاد المتعهّد، إلاّ أنّ التعهّد يكون بهذه الكيفيّة، وهي أن يتعهّد بأن لا يقصد تفهيم هذا المعنى إلاّ إذا جاء بأحد هذه الألفاظ المُتَرادفة.
3) افتراض اتّحاد المتعهّد، أيضاً، إلاّ أنّ التعهّد يكون مشروطاً، بمعنى أن نفترضَ أنّ المتعهّد يتعهّد بأن لا يقصد تفهيم المعنى إلاّ أن يأتي بهذا اللفظ ولكن بشرط ألاّ يأتي باللفظ الآخر، ثمّ يتعهّد تعهداً آخر، بأنّ لا يقصد تفهیم المعنى إلاّ أن يأتي باللفظ الآخر على أن لا يأتي باللفظ الأوَّل.
نلاحظ أن في الافتراض الأول تعدّد {المتعِهّد} بالكسر أي تعدد الواضع، وفي الافتراض الثاني تعدد {المتعَهد} بالفتح أي تعدد اللفظ والواضع واحد، وفي الافتراض الثالث تعدد {التعهد} أي تعدد عملية الوضع؛ وبهذا البيان اتّضحَ إمكان التَّرادُف في اللغة على جميع المباني الأصوليّة.
ولعلّ الافتراض الأوّل ينسجمُ مع ما جاءت به البنيوية التوليدية التي أرسى أسسها لويسيان غولدمان أكثر ما يمثلُ هذا الأمر؛ ويرى هذا اللغوي «أنّ اللغة هي إنتاج مستمرّ من قِبَل الأفراد؛ أي أنّ كلّ فرد يخلقُ اللغة بطريقته الخاصّة، وذلك باستعماله اليومي لها، وبطريقة تركيبيّة للجمل التي يستخدمها، والتي تختلفُ قليلاً أو كثيراً، عن طريق استخدام أي فرد لها»(1).
وقد أشار تمام حسّان إلى تعدد الواضع واستحداث ألفاظ جديدة بقوله: «حقاً إنّ الباب ليس موصداً أمام تصدّي الأفراد لارتجال الكلمات للمعاني
ص: 59
ولتحويل الدلالة من معنى إلى آخر، فالشرط الأساسي لأن يصبح هذا الصوغ الجديد أو الاستعمال الجديد الَّذي جاء به الفرد جزءاً من مفردات اللغة هو أنّ يتقبله المجتمع ويشيع استعماله فيكتسب العرفية الضرورية لكلمات اللغة»(1).
ويتّضح من كلامه أنّ المعيار والمقياس هو الاستعمال العرفي للكلمات فلا فائدة في لفظة بلغت ما بلغت والنّاس لا تستعملها أي مهما كانت دلالتها على المعاني، ومهما كان إيحاؤها الصوتي. كما يتضح أنها إشارة إلى تعدد الواضع، وهذا يتلاءم مع الافتراض الأول الذي ذكره السيد محمد باقر الصدر.
أمّا منشأ وقوع التَّرادُف في اللغة عندهم، يمكن أن نحصره بثلاثة احتمالات: الأوَّل: إنه نشأ من تصدّي الواضع لوضع لفظين أو أكثر لمعنى واحد، أمّا في عرض واحد أو على حقبات متعاقبة، وذلك لا محذور فيه ولا منافاة معه لحكمة الوضع.
الثَّاني: إنه نشأ من اختلاف الواضع، بمعنى أنّ كلّ قبيلة من قبائل العرب قد وضعت للمعنى المراد لفظاً خاصاً، ثمّ إنّه لمّا جمعت ألفاظ اللغة أو تداخلت القبائل فيما بينها، صار للمعنى الواحد ألفاظٌ متعدّدةٌ.
وهذان الاحتمالان يمكن أن يكون أحدهما هو منشأ لوقوع التَّرادُف في اللغة، كما يمكن أن يكون مجموعهما هو المنشأ لذلك، بمعنى أنّه من
ص: 60
الممكن أن يكون بعض المُتَرادفات نشأ عن الاحتمال الأوَّل وبعضها نشأ عن الاحتمال الثَّاني(1).
الثالث: إنّ الوضع قد يكون تعيّناً، بمعنى أنّه ينشأ عن كثرة استعمال لفظ في معنىً ولا يكون لأحد تصدّ للوضع، وإذا كان كذلك فمن الممكن أن يكثر استعمال لفظ في معنىً بدرجة ينشأ عن هذه الكثرة الاستعمالية الوضع، ثمّ يكثر استعمال لفظ آخر من القبيلة نفسها في المعنى نفسه وينشأ عن ذلك وضع آخر ومن ثَمَّ يحصل التَّرادُف. ولعلّ هذا يقابل ما ذكره اللغويون في كثرة استعمال الصفات الغالبة، ما أدّى بلوغها حدّ الاسميّة، أي حلّت محلّ الأسماء لكثرة استعمالها وشيوعها، وهذا ما سنوضحه مفصلاً في السبب الرابع من نشوء التَّرادُف في الفصل الثَّاني.
ولتوضيح الاحتمال الثالث في منشأ التَّرادُف وتسليط الضوء عليه، نشير إلى ما طرحهُ علماء الأصول في مباحث الألفاظ من أنّ دلالة الألفاظ على معانيها لیست دلالة ذاتية، كدلالة الألم في عضو من أعضاء الإنسان على وجود خلل فيه، وإنّما هي بجعل جاعل واعتبار معتبر، وإلاّ لو كانت الدلالة ذاتية، للزم أن يشترك جميع البشر فيها، مع أننّا نجد العربي لا يفهم معاني الألفاظ الفارسيّة - مثلاً - وكذا العكس من دون تعلّم ودراسة(2).
ص: 61
إنّ دلالة تلك الألفاظ في كلّ لغة لمجموعة من النّاس على معانيها، تم بإحدى كيفيّتين:
الأوَّلى: التعيين، وهو الأصل في دلالة اللفظ على معناه، ويرادُ به أن يتصوّر الواضع اللفظ، ثمّ يتصوّر المعنى الَّذي يريد أن يخصّ ذلك اللفظ به، فيضعهُ بإزائه، وينصّ على أنّي وضعت هذا اللفظ : «أسد» مثلاً بإزاء «الحيوان المفترس»(1).
وتسمّى هذه الكيفيّة من الوضع ب«الوضع التعييني»(2). ويسمّى اللفظ دالاً والمعنى مدلولاً ويسمّى الإنسان الَّذي مارس غلبة التخصيص والتنصيص هذه واضعاً واللفظ موضوعاً، والمعنى موضوعاً له.
الثَّانية: الاستعمال، فإنّ كثرة استعمال لفظ وإرادة معنى خاصّ منه، يولّد علاقة خاصّة في الذهن بين ذلك اللفظ وهذا المعنى، بحيث ينتقلُ الذهن فوراً إلى المعنى عند سماع اللفظ؛ وتسمّى هذه الكيفيّة من الوضع ب«الوضع التعيُّني»(3). ويسمّى اللفظ في الوضع التعيُّني مستعملاً، ويسمّى المعنى مستعملاً فيه وقصد المستعمل إحضار المعنى في ذهن السامع عن طريق اللفظ إرادة استعمالية.
ص: 62
وفي ضوء ما تقدّم، يتّضح أنّ منشأ الوضع التعييني هو التخصيص والتنصیص بينما يكون منشأ الوضع التعيُّني هو كثرة الاستعمال وهذا الأخير يؤدّي إلى استحداث ألفاظ جديدة للمعنى نفسه، ما يؤدّي إلى نشوء ظاهرة التَّرادُف في اللغة. أضف إلى ذلك قول الفخر الرازي في إثبات وقوع التَّرادُف: « ومن الناس مَنْ أنكرهُ، وزعم أن كلَّ ما يُظنّ من المُتَرادفات فهو من المتباينات؛ إمّا لأنّ أحدهما اسمُ الذات، والآخر اسم الصفة أوصفة الصفة. قال: والكلامُ معهم إمّا في الجواز، ولاشكّ فيه؛ أو في الوقوع إمّا من لغتين، وهو، أيضاً، معلوم بالضرورة، أو من لغة واحدة؛ كالحنطة والبُرّ والقَمح، وتعسّفات الاشتقاقيين لا يشهدُ لها شُبهةُ فضلاً عن حجّة»(1).
ويتضح من كلام الرازي، أن التَّرادُف ممكن وواقع سواء أكان في لغة واحدة أم في لغتين، كما أنه أشار إلى الفروق التي يتبناها الاشتقاقيّون بين الألفاظ، وفي رأيه لا تنهض كونها شبهة فضلاً عن حجة.
أمّا التاج السبكيّ في شرح المنهاج» فلم يكتفِ بذكر، أنّه واقع في اللغة، بل وقف متعجبّاً من التكلّف في التفريق لأكثر الألفاظ المُتَرادفة، بقوله: «ذهب بعض الناس إلى إنكار المُتَرادف في اللغة العربيَّة، وزعم أنّ كلّ ما يُظنّ من المُتَرادفات فهو من المتباينات التي تتباين بالصفات، كما في
ص: 63
الإنسان والبشر؛ فإن الأوَّل موضوع له باعتبار النسيان، أو باعتبار أنّه يؤنِسُ، والثَّاني باعتبار أنّه بادي البشرة.
وكذا الخَندَريس العُقَار، فإنّ الأوَّل باعتبار العتق، والثَّاني باعتبار عَقْر الدَّنِّ لشدَّتها. وتكلّف لأكثر المُتَرادفات بمثل هذا المقال العجيب»(1).
ويجيبُ الآمدي(2)مانعي ظاهرة التَّرادُف، بقوله: «وجوابه أن يقال لا سبيل إلى إنكار الجواز العقلي، فإنّه لا يمتنعُ عقلاً أن يضع واحد لفظين على مسمّى واحد، ثم يتّفق الكلّ عليه. أو أن تضع إحدى القبيلتين أحد الاسمين على مسمّى، وتضع الأخرى اسماً آخر، من غير شعور کل قبيلة بوضع الأخرى ثم يشيع الوضعان بعد ذلك. كيف وإن ذلك جائز بل واقع بالنظر إلى لغتين ضرورة فكان جائزاً بالنظر إلى قبيلتين»(3).
ومن علماء الأصول مَنْ لم يرَ معنى لإقامة البرهان على جوازه بعد تحقق وقوعه، ومنهم من خاضَ في معمعة الإثبات والإنكار، وأدلي بدلوه في
ص: 64
النقاش والحوار، وكانت النتيجة استهجان إنكار الاشتقاقيين من أهل اللغة، ونعتهم بالتكلّف الظاهر والتعسّف البحت الَّذي لا يشهدُ بصحّته عقل ولا نقل، فوجب تركهُ عليهم(1).
ويمكن إجمال أبرز ما لاحظناهُ عند الأصوليين ونظرتهم إلى ظاهرة التَّرادُف بالآتي :
أوّلاً: دقّة علماء الأصول في تعريف التَّرادُف، وتمييزهم له ممّا يشتبه به، من المؤكّد، والتابع، والحدّ، والألفاظ المتواطئة والمتكافئة.
ثانياً: مناقشة مسألة التَّرادُف، نقاشاً عقلياً أقرب ما يكون إلى أسلوب المناطقة وعلم الكلام في التقسيم والتفريع والجدل في إثباته وإنكاره.
ثالثاً: جعل بعض منهم التَّرادُف سنّة من سنن العرب، وقسماً من كلامها، واتّساع معانيها، وأوجبهُ بالضرورة الاستقرائية.
رابعاً: إنّ أسباب نشوء التَّرادُف عندهم مبنيّة على كون اللغات اصطلاحية، إذ إن منشأ وقوع التَّرادُف عندهم يتمثّل في ثلاثة احتمالات:
الأوَّل: أن يكون بسبب تعدّد الواضع، بمعنى أنّ كلّ قبيلة من قبائل العرب، قد وضعت للمعنى المراد لفظاً خاصّاً، ولمّا جمعت ألفاظ اللغة أو تداخلت القبائل فيما بينها صار للمعنى الواحد ألفاظ متعدّدة.
الثَّاني: أن يكون بسبب تعدّد الوضع، بمعنى تصدّي الواضع بوضع لفظين أو أكثر لمعنى واحد، إمّا في عرض واحد أو على مراحل متعاقبة.
ص: 65
الثَّالث: أن يكون بسبب الوضع التعيُّني، بمعنى أنّه ينشأ عن كثرة استعمال لفظ في معنى ولا يكونُ لأحد تصدٍ للوضع.
خامساً: ذهب جمهور منهم إلى القول بوقوع التَّرادُف وإثباته في اللغة، فهم يرون أنّ التَّرادُف لا يمتنعُ عقلاً، ولا شكّ في جواز وقوعه، سواء أكان من لغتين، فهو عندهم معلوم بالضرورة، أم من لغة واحدة كالحنطة، والبُرّ، والقمح.
سادساً: وما يلاحظ أنّهم أخرجوا من التَّرادُف طائفة من الألفاظ التي قال بعض اللغويين بترادفها، وذلك كاسم الشيء وصفاته، والصفة وصفة الصفة.
إنّ فكرةَ التَّرادُفِ ليست بغريبة ولا بجديدة عند أصحاب المنطق، فقد أشار إليها أرسطو واضع المنطق من قبل، في مباحث التصوّرات التي تتّصل بكثير من المسائل اللغويَّة، كذلك ذكرها في تقسيماته للأسماء وفي باب الحدود. لقد لاحظ أرسطو تعدّد الأسماء الكثيرة للمعنى الواحد وقرّر أنّه يمكن أن يقال الشيء بعينه متى كانت الأسماء له كثيرة والمعنى واحداً بعينه وذلك بمنزلة الثوب والرداء(1)، وعنده أنّ الكلمات مثل الفرح، والطرب، والسرور كلّها أسماء
ص: 66
لمعنى واحد هو اللّذة(1).
وقد عدّ أرسطو التَّرادُف وسيلة لحدّ الشيء في البسائط، مثال ذلك أن يجعلَ بدل «الثوب» «رداء»، ومثل قولنا: «اللائق جميل، وهكذا فكلّ ما يجري هذا المجرى ينبغي عندهُ أن نجعلهُ داخلاً في باب الحدّ، وينبغي ذلك أن تبدل الأسماء بالأسماء إذا كان معناهما واحداً.
إلاّ أنّه من أعظم الخطأ أن نجعلَ التبديل بأسماء لا تعرف ومثال ذلك أن نجعلَ مكان حجر أبيض: جندل بلجاء، فما قيل بهذا الطريق لم يجز وهو أقلّ بياناً»(2).
ويبدو أنّ أرسطو ينظر إلى مرادف الكلمة على أنّه تعریف لها، مقيّداً ذلك بضرورة كون المرادف أوضح من الكلمة المراد تعريفها، وهكذا يتبيّن لنا كيف تمثّلت فكرة التَّرادُف في منطق أرسطو بهذه الصورة. وقد عرّف محمّد رضا المظفر الترادف بقوله: «تسمية لفظ إلى لفظ من جهة دلالة كلّ منهما على معنى واحد يشتركان في الدلالة عليه، ففي التَّرادُف يتّحدُ المعنى، ويتعدّد اللفظ »(3).
أي يكون للمعنى الواحد عدّة ألفاظ كلّ منها يدلّ عليه،(4)مثل أسد،
ص: 67
وليث، وهَزْبَر، وسَبُع، وضَيغَم، وغضنفر، وغيرها. فكل هذه الألفاظ متّحدة في المعنى، وعليه يكون المُتَرادف عندهم هو ما تعدّد لفظهُ واتّحد معناهُ، مثل إصبع، وبنان، وقلم، ويراع. إنّ مثل هذه الألفاظ مترادفة عندهم لأنّها متّحدة في المفهوم، ومتّحدة في المصداق(1).
إنّ من أنواع التعريف لدى المناطقة، التعريف بالمرادف، حيث اصطنعوه سبيلاً لتعريف الشيء وحدّوه وأكثروا القول في هذا النوع وزادوه تفصيلاً وبياناً؛ فقد ذكر جونسون ثلاثة أنواع من التعاريف ومنها التعريف بالمرادف Biverhal} {Definition وهو تعريف الشيء بمرادف أوضح منه(2).
وقد قال بهذا كثير من المناطقة والباحثين، كأن نقول: البر هو القمح والسجنجل هي المرآة. وقد سمّى المناطقة هذا النوع من التعريفات «التعريف اللفظی»(3).
وهم يرون في هذا النوع من التعريفات أنّ المرادف قد استخدم ليرمز بدقّة للمعرَّف، بحيث يمكن استبدال أحدهما بالآخر. فهما متكافئان ومتساويان منطقاً ودلالةً، ولا فرق بينهما إلاّ من جهة كون المرادف أكثر
ص: 68
شهرة وأوضح، لأن التعريف عندهم هو دائماً معادلة(1).
وعلى هذا الأساس أجازوا منطقاً أن تعرف الكلمة بذکر مرادفها، وجعلوهُ إحدى طرائقهم في التعريف وذلك لإدراك المفرد وتصوّره ومعرفته.
إنّ الحاجة اللغويَّة للتَّرادُف - الوظيفة المنطقية عند أهل المنطق - قد ذهب إليها، أيضاً، أصحاب المذهب الوضعي، فهي عندهم من قبيل التعريف الاسمي وضرب منه، وقد أطلقوا عليها، اسم «التعريف القاموسي» الَّذي هو، أيضاً، يعرف الكلمة بمرادفها، معتمداً في ذلك على الاستعمال القائم فعلاً بين النّاس(2). وقد توسّع الوضعيون كثيراً في هذا النوع من التعريفات، فكلّ لفظة في اللغة يمكن تعريفها بحدّها ووضع ما يساويها، لا فرق في ذلك عندهم بين لفظة وأخرى، كما أنّهم لم يقصروه على الألفاظ المفردة، بل شمل العبارات؛ ولكن على الرغم من توسّعهم هذا، فأنّهم قد أصابوا في نظرهم إلى التعريف القاموسي بوصفه حالة تاريخية؛ وذلك لأنّه تسجيل للكلمات بحسب استعمال الناس لها في ظروف معيّنة.
فإذا قلنا إنّ لفظ {س} معناه مرادف للفظ «ص» فهذا يعني تسجيلاً تاريخياً لحالة قامت بالفعل فيما مضى، وقد تكون قائمة اليوم كذلك؛ وليس لنا أن نقرّر تعریف اللفظة بما يساويها أن نضيف شيئاً من عندنا أو نحذف
ص: 69
شيئاً، إذ إن النّاس يستعملون هذه الكلمة على هذا النحو، وهم يستعملونها بحيث تساوي كذا من الكلمات الأخرى؛ فإذا استعملوا مثلاً كلمة قلم ويراع بمعنى واحد، كانت الواحدة منهما تعریفاً قاموسياً للأخرى.
ولما كانت المعاني القاموسية للكلمات تسجيلاً لما يجري به الاستعمال بين جماعة من الناس، ولهذه الجماعة أن تغير كيف شاءت من طريقة استعمالها للكلمات فإن معانيها القاموسية تتغيّر تبعاً لذلك، لذا أوجبوا ضرورة تقييد هذا التعريف بزمان معيّن ومكان معيّن، لأنّه يجوز أن يتغيّر التعريف باختلاف الزمان والمكان. فليست المعاني القاموسية بالحقائق الثابتة ثباتاً مطلقاً کجدول الضرب في الحساب(1). وربّما أنّ أصحاب المنطق الوضعي كانوا أكثر دقّة من غيرهم في النظر إلى هذا التعريف وفي فهم فكرة التَّرادُف وإدراكها. فقد اقتربوا كثيراً من حقيقتها عندما ربطوا هذه الظاهرة بتغير المعنى، ولاحظوا فيها الجانب التاريخي. كما أنّهم قد عولوا في ذلك على الاستعمال، وجعلوا صحّة التَّرادُف في الألفاظ هو الواقع اللغوي لا غير، ومقياس الصواب أو الخطأ هو النّاس أنفسهم وكيف يتفاهمون.
إنّ السيميائيّات تهتمّ بالعلامة اللغويَّة - وغير اللغويَّة - من حيث كنهها وطبيعتها، وتسعى إلى الكشف عن القوانين الماديّة والنفسيّة التي تحكمها،
ص: 70
وتتيحُ إمكانية تمظهرها داخل التراكيب والسياقات اللغويَّة والاجتماعيّة. ومن بين الأهداف المعلنة للسيميائية، إبراز لعبة المعنى أو التدليل(1).
حاول السيميائيون دراسة خصائص اللّغة، داخل النظام اللغويّ، وطرائق الدلالة، والعلاقة الموجودة بين المعجم والتركيب، واهتموا بعلاقة اللفظ بمدلوله، وأدركوا أن المفردات تتكوّن من مجموعة من العناصر يضبطها المعجم، ولكنّها، عندما تتعالق مع مفردات أخرى داخل ترکيب محدّد، فإنها تستقبلُ سمات جديدة لا يتوّفر عليها معجم تلك المفردات منفصلاً بعضها عن الآخر. وقد استعملوا في إبراز هذه المعطيات مصطلحات جديدة تحتاجُ إلى فصل بیان. فاللفظة الواحدة تتضمن مجموعة من السمات أطلقوا عليها مصطلح «Semes» أي معانم، جمع معنم، وهو «الوحدة الصغرى للدلالة». فلفظ «الكرسي» - مثلاً - يضم المعانم الآتية: «له مسند»، «له أرجل»، «لشخص واحد»، «للجلوس»، أما لفظ «الأريكة»، فهو يضمّ إلى جانب المعانم السابقة، معنم جديد وهو «له يدان»(2).
ولفظ الخشية يضم المعانم الآتية: {شعور} + {متوجه نحو المستقبل}. أما لفظ «الندم»، فهو يضم المعنم الأول {شعور} + {متوجه نحو
ص: 71
الماضي}. ولفظ التبذير يضم المعانم الآتية: {تجاوز الحد في الإنفاق} + {يختص بالمال} أما لفظ الإسراف: {تجاوز الحد في الإنفاق} + {يتعلق بكل شيءٍ وضع في غير موضعه}.
نلاحظ أنّ الإسراف، يضم المعنم الأول من التبذير، أي كلاهما يشترك بهذا المعنم، لكنه يختلف في المعنم الثاني فهو يتعلق بكل شيءٍ وضع في غير موضعه(1).
إنّ الأمثلة السابقة تبرز أن الألفاظ تتوافر على مجموعة من السمات، أو المعانم وكلّما دخلت سمة جديدة، أتيح للدارس أن يميز، بموجبها، بين الألفاظ، وهذا يدلّ على أن للمعانم وظيفة اختلافية، أي إنّه بوساطة الاختلافات الحاصلة بين المعانم، نستطيعُ أن نميز بين الألفاظ في دلالاتها. وقد ساعد على هذا الأمر قيام تحليل في الدراسات الفونولوجية واللغويَّة، سمي بالتحليل المعنمي أو المكوني، يسعى إلى البحث في مختلف السمات التي تميّز بين الحروف والمفردات على المستوى الصوتي، إلى درجة يمكن الحديث عن علاقة تشاكلیّة بين مستوى الشكل - الحروف والأصوات - ومستوى المحتوى - الدلالة. وقريب من هذا الرأي ما أشار إليه جوزف کورتیس بقوله: «يمكن لمدلول واحد أن يربط بدوال مختلفة، مثلما هو حال الترادف، حتى وإن لم يكن تاماً»(2). يتضح من كلامه أنه يشير إلى نقاط اشتراك بين المفردات
ص: 72
ونقاط افتراق ما يؤدي إلى القول بعدم وجود الترادف التام.
وما يلاحظ، بصدد دراسة الألفاظ دراسة معنمية، أن بعض التعابير تضفي على اللفظة معانم ملائمة وسمات جديدة لا نجدها في معجم تلك اللفظة. وهذا يدلّ على أنّ السياق يمارسُ دوراً في إضافة معانم ملائمة وسمات جديدة إلى الألفاظ في أثناء التركيب.
وتوضيحاً لهذه الحقيقة، يقدم بعض الدارسين الأمثلة الآتية:
هناك عاصفة في الجبال.
هناك عاصفة بين هؤلاء الناس.
فالعاصفة الأولى تتوفّر على معانم محددة وهي {عنصر طبيعي} + {دلالة على الاضطراب الجوي}. أما العاصفة في المثال الثاني، فهي تستوعب سمة جديدة لا تتوفر في المعانم السابقة، وهي التي تتيح إمكانية التوافق السياقي والمعنوي بين «العاصفة» و «النّاس»، ألا وهي: «نقاش حادّ». والمعجم لا يقدم هذه السمة الجديدة، وإنما هي من إضافات السياق، ولذلك فقد میّز السميائيون بين نوعين من المعانم : معانم ثابتة في بنية اللفظة سموها «معانم نووية» Semes» «cleaires(1)، وأخرى متحولة ومتغيرة من سياق لآخر،
ص: 73
أطلقوا عليها مصطلح «معانم سیاقية» «Classemes»(1).
ولو حاولنا ربط هذا التحليل بظاهرة التَّرادُف، فإننا نلاحظ أن كل مفردة تتوفر على سمات معينة، وعندما يروم الدارس تفسيرها بمفردة أخرى، فإنه يراعي أكبر قدر ممكن من التّشاكل الحاصل بين معانم اللفظة المفسَّرة واللفظة المفسِّرة، ويبعد أن يكون ذلك التوافق تاماً وشاملاً لجميع المعانم والسمات، لذلك يذهب {كريماس} إلى أنّه لا يوجد هناك ترادف بمعنى التطابق التام والكلّي، وإنّما يتوفّر ترادف جزئي {Synonymie partielle}، أوشبه ترادف.
وعلى صعيد الاستخدام اليومي للغة الشفوية، فإنه موجود والكاتب يستخدمه في حدود الممكن، فالأفعال {يشير}، و {يعني}، و {يبرز}، و {يلاحظ}، يمكنها أن تتبادل المواقع في بعض السياقات، من دون صعوبة، وهذا ما يتميز به الاستخدام الأدبي عن الكلام العلمي(2).
وإذا كان من المستبعد الحديث عن التَّرادُف بالمعنى التامّ، فلا أحد - وهذا ما أشار إليه كلّ من كريماس وكورتيز - يشك في وجود ترادف معنمي بين الكثير من المفردات، ففعل «Craindre» - أي خشي من، أو خاف من. وفعل «Redouter» - بمعنى خشي من، أو خاف من... - يتضمّنان، في الأقل، معنماً مشتركاً بينهما، يدعى نواة معنمية، وهو الَّذي يتيح لهذين الفعلين أن يحل
ص: 74
أحدهما محل الآخر في عدد من السياقات(1).
ومجموع الذاتیّات هو ما تسميه السيميائيات بالمعانم، ففي كلّ مفردة ذاتیات تشترك مع غيرها، لكنها تستوعبُ، في الوقت نفسه، سمات خاصّة بها، تظهر داخل كلّ سیاق، وهو ما اهتدى إليه الزرکشي في قاعدة له حول التَّرادُف تقول: «ولهذا وزعت، أي الألفاظ، بحسب المقامات، فلا يقوم مرادفها فيما استعملت فيه مقام الأخرى، فعلى المفسّر مراعاة الاستعمالات والقطع بعدم التَّرادُف ما أمكن، فإن للتركيب - أي السياق - غير معنى الأفراد - أي اللفظة مفردة - ولهذا منع كثير من الأصوليين وقوع أحد المُتَرادفين موقع الآخر في التركيب، وإن اتفقوا على جوازه في الإفراد»(2).
وعندما حاول التفرقة بين ألفاظ يظن بها التَّرادُف، لم يجد إلى ذلك سبيلاً إلاّ بالاستعانة بمقولة «التقريب» و «التضمن»، فالفرق بين «الخوف» و «الخشية» فرق مراتبي، إذ الخشية أعلى من الخوف، والفرق بين «الشح» و «البخل» هو أن البخل داخل في الشح متضمن فيه، والشح أشد البخل، بمعنى أنّه يستوعبهُ ويتجاوزه إلى معانم أخرى والفرق بين «التمام» و «الكمال»، أنهما وإن اشتركا في مقوم
ص: 75
إزالة النقصان، فإن الأول لإزالة نقصان الأصل، أما الثاني، فهو لإزالة نقصان العوارض بعد تمام الأصل(1). وممّا لاشكّ فيه أن دراسة بقية أمثلته دراسة دقيقة، تؤدي إلى نتائج تنسجمُ مع التصور الحديث للتَّرادُف. وإنّ القول بوجود التَّرادُف أو عدم وجوده يحتاج إلى تحرير القول تحريراً دقيقاً، إذ من المحتمل أن يكون الخلاف لفظياً، ولعلّ ما كان يقصده المنكرون هو تأكيد وجود معانم خاصة بكل مفردة. وانطلاقاً من التحليل الحديث، يظهر بأن من يقول بالتَّرادُف، إنّما يقصد به وجود معانم مشتركة بين لفظين، دون أن ينكر إمكانية وجود معانم خاصّة لكلّ منهما تبرز داخل سياق تركيي معيّن. ولتوضيح الفكرة نحاول أن نرسم العلاقة بين الكلمات التي شرحناها سابقاً على الشكل الآتي:
يختصّ بالمال تجاوز الحد في الإنفاق يتعلق بكلّ شيء وضع في غير موضعه التبذير الإسراف مخطط توضيحي رقم {1}
ص: 76
متوجه نحو الماضي شعور متوجه نحو المستقبل الندم الخشية مخطط توضيحي رقم {2} ومن الرسم السابق يمكن القول إنّ الَّذين ينكرون التَّرادُف ينظرون إلى العناصر التي بقيت خارج دائرة الاتحاد، أمّا الَّذين يثبتونهُ، فإنّهم يركّزون على دائرة الاتحاد {الاشتراك في المعنى}. وإذا اتّضح هذا الأمر، علمنا أنّه بالإمكان التوفيق بين النظرتين، لأنّ كلّ واحدة منهما لا تنفي إمكانيّة الأخرى؛ بل إنّ الاختلاف المتوهّم ينحصر في دائرة اختلاف زاوية النظر ليس إلاّ، فالمنكرون ينظرون إلى المعانم الخاصة بكلّ لفظة أما المثبتون
ص: 77
فينظرون إلى المعانم المشتركة بين الكلمات.
وربّما يكون النقاش حول رفض التَّرادُف أو قبوله مجرّد نقاش شکليّ يفقد جزءاً من مشروعيته عندما يحرر الكلام فيه تحريراً دقیقاً. ومن ثمّ فإنّ الخلاف حول التَّرادُف خلاف لفظي يتعيّن رفضه مع التحليل السيميائي، فالَّذي يصرُّ على أن المعانم المشتركة على قلتها موجودة، فإنها كافية للقول بوجود التَّرادُف حتى ولو كان جُزئياً، كما أنّ التَّرادُف موجود بمعنی مخصوص يجلّيه التصوّر السيميائي المعاصر. وإنّ انعدام التَّرادُف يعني انعدام التواصل اللغوي، وإفقار التجربة الإبداعية لدى الإنسان.
بعد الاطّلاع على آراء القدماء لم نجد عندهم تقسیماً واضح المعالم للتَّرادُف، بل إشارات طفيفة وبأقوال متناثرة، نستنتجُ منها بعض أقسام التَّرادُف، کالألفاظ المتكافئة والمتواردة، والألفاظ المتقارية المعنى، مثل الَّذي ذكرهُ السيوطي بقوله: «قال بعض المتأخرين وينبغي أن يكون هذا قسماً آخر، وسمّاهُ المتكافئة.
قال : وأسماء الله وأسماء رسوله صلى الله عليه وآله من هذا النوع»(1).
ص: 78
كما أشار إلى تقسيم {ألكيا}(1): «الألفاظ التي بمعنى واحد تنقسمُ إلى ألفاظٍ متواردة، وألفاظٍ مترادفة؛ فالمتواردةُ كما تسمّى الخمر عَقَاراً وصَهْبَاء، وقَهْوَة، والمُتَرادفة هي التي يُقام لفظ مقام لفظٍ لمعانٍ متقاربةٍ يجمعُها معنى واحد؛ كما يقال: أصلحَ الفاسد، ولمّ الشّعث، ورتَقَ الفتق، وشعب الصّدع»(2). ويعلّق السيوطي على هذا التقسيم بقوله: وهذا تقسيم غريب.
ويمكننا أن نستنتج من العنوان الَّذي وسم به الرّمانيّ كتابه «الألفاظ المُتَرادفة والمتقارية المعني» تقسیماً آخر، إذ يتمثَّلُ القسم الأوَّل بالألفاظ المُتَرادفة والقسم الثَّاني بالألفاظ المتقاربة في المعنى.
ومن الجدير ذكرهُ أنّ هذا التقسيم يصلح أن يدلّ على اتّساع مفهوم التَّرادُف عند القدماء من اللغويين.
أمّا إذا انتقلنا إلى الدراسات الحديثة فإنّنا نجد الخلاف قائماً، إذ يقول أحمد مختار عمر: «والقضية أكثر تشعّباً عند المُحدثين، وأشدّ إثارة للجدل لارتباطها من ناحية بتعريف المعنى، ومن ناحية أخرى بنوع المعنى
ص: 79
المقصود»(1). ولا يخفى اختلاف وجهات النظر بين الدارسين حول تعریف المعنى ومفهومه.
وقد بيّنَ المحدثون أنواعاً مختلفةً من التَّرادُف، وقد ترجم أحمد مختار عمر بعض هذه الأقسام وهي(2): 1) التَّرادُف الكامل: {full Synonymy أو genuine Synonymy}، أو التماثل {Sameness}، وذلك حين يتطابقُ اللفظان تمام المطابقة، ولا يشعرُ أبناء اللغة بأي فرق بينهما، ولذا يبادلون بحريّة بينهما في السياقات، وقد عرفوهُ بأنّه «الكلمات التي تنتمي إلى النوع الكلامي نفسه {أسماء - أفعال} ويمكن أن تتبادل في الموقع دون تغيّر المعنى أو التركيب النحوي للجملة»(3).
ويعلق حاكم الزيادي على هذا النمط قائلاً «هذا النوع نادر الوقوع في اللغة إن لم يكن لا وجود له بمفهومنا، لأنّه يتطلّب تطابقاً مطلقاً يمتدّ زماناً ومكاناً، وقابلاً للمبادلة في القيمة الفعلية التأثيرية»(4).
2) شبه التَّرادُف:
{Synonymy Less - than - full أو near Synonymy}، أو التشابه {likeness}، أوالتقارب { contiguity}.
ص: 80
أو التداخل {overlapping}. وذلك حين يتقارب اللفظان تقارباً شديداً لدرجة يصعب معها - بالنسبة لغير المتخصص - التفريق بينهما، ولذا يستعملهما الكثيرون، مع إغفال هذا الفرق، ويمكن التمثيل لهذا النوع في العربيَّة بكلمات مثل: عام - سنة - حول. وثلاثتها قد وردت في مستوى واحد من اللغة. ويحمل على هذا النوع الكثير من الكلمات التي توصفُ بالتَّرادُف مثل answer مع reply، وiLL مع sick، وown مع. possess «ويعتمد شبه الترادف على التقارب الدّلالي أو التّشابه بين كلمة وأخرى في الدلالة الموحية أو المتضمنة في الكلمات، ويتحقق التقارب الدلالي أو التشابه حين تتقارب المعاني لكن يختلف كلّ لفظ عن الآخر بملمح مهم واحد على الأقلّ»(1).
3) التقارب الدّلالي: {Semantic relation}، ويتحقّق ذلك حين تتقارب المعاني، لكن يختلفُ كل لفظ عن الآخر بملمح مهم واحد في الأقلّ. ويمكن التمثيل لهذا النوع بكلمات كل حقل دلاليّ على حدة، وبخاصّة حين نُضيّق مجال الحقل ونقصره على أعداد محدودة من الكلمات. ويمكن التمثيل له من العربيَّة بكلمتي «حلم» و «رؤیا» وهما من الكلمات القرآنية بتتبع الاستعمالات القرآنية لهما تبيّن أنّ القرآن قد اقتصر في استعماله للأولى على معنى الأضغاث المشوّشة، وهي الهواجس المختلطة، وللثانية على معنى الرؤيا
ص: 81
الصادقة(1).
4) الاستلزام {entailment}: وهو قضية {الترتب على}. ويمكن أن يعرّف كما يأتي: س 1 يستلزم س 2 إذا كان في كل المواقف الممكنة التي يصدق فيها س 1 يصدق كذلك س 2. وعلى سبيل المثال: إذا قلنا: قام محمّد من فراشه الساعة العاشرة، فإنّ هذا يستلزمُ: كان محمّد في فراشه قبل العاشرة مباشرة.
5) استخدام التَّعبير المماثل: أو الجمل المُتَرادفة {paraphrase}: وذلك حين تملك جملتان المعنى نفسه في اللغة الواحدة. وقد قسم Nilsen هذا النوع أقساماً منها:
التحويلي، وذلك بتغيير واقع الكلمات في الجملة، وبخاصّة في اللغات التي تسمح بحريّة كبيرة، وذلك بقصد إعطاء بروز لكلمة معيّنة في الجملة دون أن يتغير المعنى العام لها. مثال ذلك:
دخل محمّد الحجرة ببطء.
ببطء دخل محمّد الحجرة.
الحجرة دخلها محمّد ببطء.
التبديلي أو العكس، وذلك مثل قولك:
اشتريت من محمّد آلة كاتبة بمبلغ 100 دينار.
ص: 82
باعني محمّد آلة كاتبة بمبلغ 100 دينار.
فعلى الرغم من أنّهما مختلفتان من الناحية الظاهرية فإنّهما تشيران إلى الحادثة نفسها في عالم الحقيقة، ولذا يقال إنّهما جملتان مترادفتان.
ج - الاندماج المعجمي، وذلك مثل التَّعبير عن التجمع: covered with cement بكلمة واحدة هي cemented، أو عن التجمع to touch with the lips بكلمة واحدة هي: to kiss.
1) الترجمة: {translation} وذلك حين يتطابقُ التَّعبيران أو الجملتان في اللغتين، أو في داخل اللغة الواحدة حين يختلف مستوى الخطاب؛ كأن يترجم نص علمي إلى اللغة الشائعة، أو يترجم نص شعري إلى نثري.
2) التفسير: {interpretation}. يكون {س} تفسيراً ل{ص} إذا كان {س} ترجمة ل{ص}، وكانت التَّعبيرات المكوّنة ل{س} أقرب إلى الفهم من تلك الموجودة في {ص}.
وعلى هذا فكلّ تفسير ترجمة، ولا عكس.
وهناك تقسيم آخر ذكرهُ محمّد محمّد يونس، ربّما كان يعتمدُ على أساس تعريفات المعنى المختلفة، والنظريات التي فسَّرت المعنى، وهو كالآتي:
ويقصد به اتّفاق لفظين أو أكثر في المشار إليه، وبناءً على ذلك لا
ص: 83
يوصف اللفظان بالتَّرادُف الإشاري إلاّ إذا كان المشار إليه فيهما واحداً، ومن أمثلته أسماء النبي صلى الله عليه وآله كالمصطفى والمختار والبشير، فهي جميعها تشير إلى ذاته عليه الصلاة والسلام.
ومن أمثلته، أيضاً، التَّرادُف الواقع بين أسماء الله الحسنى، كالرحمن والرحيم والملك والقدوس والسلام.
ومثلما يكون هذا النوع من التَّرادُف في الألفاظ المفردة يكون كذلك في الألفاظ المركّبة، كأن نعبّر عن آدم عليه السلام بالتَّعبيرات الآتية:
{أول إنسان خلق في الدنيا}، {أول نبيّ على وجه الأرض}، {الجد الأول للبشرية}، {زوج حوّاء}(1).
وهو اتفاق لفظين أو أكثر في المحال إليه، ومن أمثلته الأسد، والليث، والغضنفر التي تحيل جميعها إلى ذلك الحيوان المعروف.
وكذلك نحو مسيحي ونصراني اللذين يحيلان إلى من يدين بالمسيحية.
والفرق بين التَّرادُف الإشاري والتَّرادُف الإحالي مترتّب على الفرق بين الإشارة والإحالة، وبينما تكون الألفاظ المُتَرادفة إشارياً ذات دلالة خاصّة مرتبطة بسياق معيّن ومقيّدة بذلك السياق، فإنّ الألفاظ المُتَرادفة إحالياً ذات
ص: 84
دلالة عامّة مطردة، وليست مقيّدة بسياق معيّن(1).
وهو اتفاق لفظين أو أكثر في تعبيرهما عن المعنى الإدراكي بصرف النّظر عن الاختلافات العاطفية أو التأثيرية بينها، نحو فم وثغر، وعنق وجيد، ويقابل هذا النوع من التَّرادُف، {التَّرادُف العاطفي}، الَّذي يقتضي أن تكون اللفظتان المُتَرادفتان مشتركتين في إيحاءاتهما العاطفية، وإمكاناتهما التأثيرية، علاوةً على اتّفاقهما في المعنى الإدراكي.
ويبدو أنّ التَّرادُف العاطفي نادر الوجود في اللغة؛ إذ ليس من السهل العثور على كلمتين أو أكثر متّفقتين في معناهما المركزي أو الإدراكي مع خلوّهما من الظلال العاطفية، أو تساوي تلك الظلال فيهما، ولكن مع ذلك لا يبعد أن نجد في الكلمات العلمية والاصطلاحات كلمتين أو أكثر تتفقان في المعنى الإدراكي وتخلوان من الإيحاءات العاطفيّة(2). ويذكر جون لاينز أنّ «التفريق بين التَّرادُف الإدراكي والتَّرادُف غير الإدراكي مرسوم بطرقٍ مختلفةٍ من قبل مؤلّفين مختلفين، ولكن في كلّ الحالات فإنّ التَّرادُف الإدراكي هو المعرّف أوّلاً؛ إذ لا أحد على الإطلاق يتحدّث عن الكلمات من حيث كونها
ص: 85
مترادفة عاطفياً ولكنها ليست مترادفة إدراكياً»(1).
وهناك تقسيم آخر للتَّرادُف عند {جون لاينز}؛ إذ جعلهُ على أنواع سمّاها التَّرادُف الكامل، والتَّرادُف الكلي، والتَّرادُف التامّ، يقول: «من الأمور البديهية اليوم أن نعتبر التَّرادُف المطلق، كما سأعرفه، نادراً جدّاً في اللغات الطبيعية باعتباره يمثل علاقة قائمة بين الوحدات المعجمية في أقل تقدير، وعلى هذا الأساس ينبغي التمييز بين التَّرادُف الجزئي والتَّرادُف المطلق في ضوء إخفاق التعابير في تلبية شرط واحد أو أكثر من الشروط التالية:
1. تعتبر المُتَرادفات كاملة التَّرادُف فقط إذا كانت كلّ معانيها متطابقة.
2. تعتبر المُتَرادفات مترادفة كليّاً فقط إذا كانت مترادفة في السياقات كافّة.
3. تعتبر المُتَرادفات مترادفة تماماً، فقط إذا كانت متطابقة في كلّ مجالات المعنى ذات العلاقة»(2). ولعلّ ما ذكرهُ {جون لاينز} إشارة إلى ما وصلت إليه المسألة من تعقيد وكثرة مصطلحات، فقد قسم التَّرادُف إلى مطلق وجزئي، وجعل التَّرادُف المطلق مرهوناً بتحقّق التَّرادُف الكامل والكلّي والتّام، وهو بعد ذلك يشير إلى شبه التَّرادُف ويميّزه من التَّرادُف الجزئي.
ويمكننا الخلوص إلى تقسيم التَّرادُف على قسمين رئيسين:
الأوَّل: التَّرادُف التامّ، ونختارُ تعريفاً له بأنه {تطابق لفظين تمام المطابقة،
ص: 86
والَّذي يسمحُ بالتبادل بين اللفظين في جميع السياقات دون أن يوجد فرق بين اللفظين، بحيث لا يشعر أبناء اللغة بأي فرق بينهما}.
الثَّاني: التَّرادُف الجزئي، ونختارُ تعريفاً له بأنه {إمكانية استبدال لفظ بآخر في السياق، لاشتراكهما في المعنى الأساس وما يرتبطُ به، مع وجود فائدة وخصوصية لكلّ لفظة}. وتحسنُ الإشارة إلى أنّ القسم الأوَّل لا يوجد عليه اتّفاق تام، ولا مُسلَّم الاعتراف بوجوده بين اللغويين، بل إنّ الاختلاف الأكبر وقع فيه، بينما نجدُ القسم الثاني من التَّرادُف عليه شبه إجماع بوجوده وتحقّقه في الواقع اللغوي، بل نجدُ أنّ المنكرين أشاروا إليه في ثنايا إنكارهم للتَّرادُف، مقرّين بوجود هذا القسم، وهذا ما سنوضّحهُ في الفصل القادم عند الحديث عن مواقف المنكرين من التَّرادُف.
ص: 87
ص: 88
الفصل الثاني: نشأة الترادف والمواقف منه
ص: 89
ص: 90
تشير الدراسات إلى وجود عوامل كثيرة تفاعلت فيما بينها وأدت إلى نشوء هذه الظاهرة، وسنحاول في هذه الدراسة أن نلم بها، قدر الإمكان ونوردها بنقاط على النحو الآتي:
على الرغم من تعصب معظم القُدامی للغة قُرَيش، حتى كادوا يقصرونَ الفصحى عليها، إلاّ أنّهم لم ينكروا الاختلاط والتبادل بينها وبين لغات العرب الأخرى، إذ يقول الفراء: «كانت العرب تحضر الموسم في كلّ عام، وتحجُّ البيت في الجاهلية، وأهل قُرَيش يسمعون لغات العرب، فما استحسنوهُ من لغاتهم تكلّموا به، فصاروا أفصح العرب، وخلت لغتهم من مستبشع اللّغات ومستقبح الألفاظ»(1).
ص: 91
كما أنّنا نجد مضمون هذا المعنى عند أحمد بن فارس بعد أن تحدث عن مكانة قُرَيش وفضلها، قائلاً: «وكانت قُرَيش مع فصاحتها وحسن لغاتها، ورقّة ألسنتها، إذا أتتهم الوفود من العرب، تخيّروا من تلك اللّغات إلى نحائزهم وسلائقهم التي طبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصح العرب»(1).
وهذا ما صرح به أيضاً أبو نصر الفارابي في أوّل كتابه المسمّى ب«الألفاظ والحروف» فإنّه ذكر أنّ قُرَيشاً كانت أجود العرب انتقاءً للأفصح من الألفاظ، وأنّها نقلت عن قبائل العرب الأخرى كقيس وتميم وأسد كثيراً من الألفاظ(2).
يتّضحُ ممّا سبق أنّ القُدامى يقرّون بتداخل لغات العرب المختلفة وأخذ بعضها عن بعض، ولا سيّما ما كان بين لغة قُرَيش، ولغات القبائل الأخرى.
وإذا كان أغلب القُدامى قد عدّوا اللّغة العربيَّة المشتركة هي لغة قُرَيش، أو أن معظم هذه اللّغة قد أخذت عن لغة قُرَيش، فإنّ المحققين من المُحدثين يرون غير هذا.
فالذي عليه هؤلاء أن العربيَّة المشتركة ليست لغة قُرَيش حسب، وإنّما هي مؤلّفة من مجموع لغات العرب، وقد حفلت بمواد شتّى من هذه اللّغات. يقول إبراهيم السامرائي: «لقد تبينا أنّ هذه العربيَّة التي ورثناها حفلت بموادّ
ص: 92
شتّی ممّا ندعوهُ اليوم ب«اللّهجات» وليس من العلم أن نقول إنّ لغة القرآن أو الفصحى هي لغة قُرَيش أو لغة الحجاز، والصحيح أن نقول إنه اجتمعت في هذه العربيَّة مواد كثيرة ترجع لجماعات عدّة في بيئات عدّة»(1).
وعلى هذا الرأي طائفة من المُحدثين عرباً ومستشرقين، حيث ذكروا أنّ اللّغة المشتركة هي ليست لغة قُرَيش وحدها، وإنّما هي مزيج من لغات العرب فهي لا تنتسبُ إلى قبيلة بعينها، بل تنتسب إلى العرب جميعاً، مستدلّين على هذا بأدلّة كثيرة أهمّها ملاحظتهم الفروق بين لغة قُرَيش واللّغة الفصحى التي تتمثّل في تحقيق الهمز في الفصحى بخلاف لغة قُرَيش، وبدلیل وجود الكثير من ألفاظ اللّغات الأخرى وصفاتها في القرآن الكريم(2).
وإذا اعترفنا بأنّ اللّغة المشتركة الموحّدة، قد تكوّنت من لهجات عدّة، فإنّ هذا يستلزم الاعتراف بأثر تداخل لهجات القبائل المختلفة، وبروز مظاهر هذا الاختلاط، خصوصاً ما يتعلّق بالمستوى الدّلالي للألفاظ، ولاسيّما في مسألة التسمية. إذ إنّ لهجة من اللّهجات التي تكونت منها اللّغة المشتركة الموحدة قد تسمّي شيئاً باسم معين، على حين تسميه لهجة أخرى باسم آخر، وقد تسمّيه لهجة ثالثة باسم ثالث. وبهذه الطريقة من دون أي قصد تعددت الاسماء للمسمّى
ص: 93
الواحد عند نشأة اللّغة المشتركة، وهذه نتيجة طبيعية لتداخل اللّهجات واشتراكها في لغة واحدة، ما أدى إلى وقوع التَّرادُف في اللّغة المشتركة. وهذا السبب يعدُّ من الأسباب الواضحة في حدوث هذه الظاهرة وذلك لأنّ «خاصية اللّغة المشتركة الأساسية تنحصرُ في أنّها لغة وسطى تقومُ بين لغات أولئك الذين يتكلّمونها جميعاً»(1).
ولعلّ من الأمثِلَة الواضحة على ترادف الألفاظ بسبب اختلاف لغ-ات القبائل ما دوّنه الأصمعي في كتابه: «ما اختلف ألفاظهُ واتّفقت معانيه» حيث أورد الكثير منها، وهي لغات قبائل مختلفة على الأرجح، وإن أغفلت الإشارة إلى ذلك في الغالب. ومنها مثلاً: «ويقال للذي يرضع من كل صبي أو بهيمة بلغة أهل الحجاز: رَضِع يرضَع، ويقول من دونهم: رَضَع يَرْضِع، ومَلَجَ يَمْلِجُ، ورَغَثَ يَرْغِثُ رغثاً، ورغاث، لا ينون مثل حذام، وهذا كلّه في معنى رضع»(2)ومنها: «ويقال: إنّه لكريم الطبيعة، والضريبة، وإنّه لكريم الخيم، وكريم النحاس، وكريم السليقة، وكريم السوس والتوس»(3).
يتّضحُ من هذه الأمثِلَة أنّ اختلاف اللّهجات الذي أدّى إلى وجود اسماء عدّة للمسمّى الواحد، يمكن أن يُعدُّ مصدراً طبيعياً للتّرادُف. ومن
ص: 94
الجدير ذكرهُ أنّ القُدامى قد عوّلوا كثيراً على هذا السبب في وقوع التَّرادُف، بل جعلوهُ السبب الرئيس لحدوثه، الذي عبّروا عنه أحياناً بتعدد الوضع. ولذا أشار إليه السيوطي، بقوله: «أن يكون من وَاضِعَين، وهو الأكثر بأن تَضعَ إحدى القبيلتين أحدَ الاسمين، والأخرى الاسمَ الآخر للمُسَمَّى الواحد، من غير أن تشعرَ إحداهما بالأخرى، ثمّ يَشتَهِر الوَضْعَان، ويخفی الواضعان، أو يلتبسُ وَضْع أحدهما بوضع الآخر؛ وهذا مبنيٌّ على كون اللّغات اصطلاحيّة»(1).
ومن القُدامى الذين فسَّروا التَّرادُف بتداخل اللّغات المختلفة للعرب واشتراكها في لغة إنسان واحد، ابن جنّي، وذلك بقوله: «كلّما كثرت الألفاظ على المعنى الواحد، كان ذلك أولى بأن تكون لغات لجماعات، اجتمعت لإنسان واحد، من هنا ومن هناك»(2).
والذي نراهُ أنّ القُدامى قد عوّلوا كثيراً على هذا السبب في تفسير وقوع التَّرادُف وبالغوا في أثره، والحقّ أنّه لا يمكن تفسير ظاهرة التَّرادُف بسبب معيّن ومحدّد، بل هي تعود إلى جملة أسباب.
وقد نلتمسُ العذر لهؤلاء في تعويلهم على هذا السبب بكونه من أوضح أسباب التَّرادُف وأظهرها، حتّى أنّ بعض منكري التَّرادُف كأبي هلال
ص: 95
العسكري قد اعترف بعدم التفرقة بين الألفاظ للشيء الواحد إذا كانت من لغات مختلفة، إذ استثناها من قواعده في التفرقة بين الألفاظ، يدلّ على ذلك قوله: «فإذا اعتبرت هذه المعاني وما شاكلها في الكلمتين ولم يتبيّن لك الفرق بين معنييهما، فاعلم أنّهما من لغتين مثل القدر بالبصرية والبرمة بالمكية»(1). ولقوة هذا السبب ووضوحه نجد حمزة الاصفهاني يقول: «وينبغي أن يحمل كلام من منع على منعه في لغة واحدة، فأما في لغتين فلا ينكره عاقل»(2).
إنّ حدوث التَّرادُف بتعدّد اللّهجات ثابت بالضرورة العقلية، وواقع في اللّغة، بل أشار إليه حتّى المنكرون، ولم يعترضوا عليه، وهو من أجلى أسباب نشوء التَّرادُف؛ وربّما يُستشكل على ظاهرة التَّرادُف إذا حصلت في لغة واحدة، أمّا في لغتين فلا يوجد عليها شبهة أو إشكال، ولعلّ هذا ما أراد إيضاحه حمزة الأصبهاني من كلامه.
وليس حدوث التَّرادُف بفعل هذا السبب مقصوراً على العربيَّة وحدها، فقد حدث لأكثر اللّغات الحيّة كما أكّد بعض الباحثين العرب والأجانب. وقد أشار محمد حسين آل ياسين إلى أنّ هذا السبب وإن كان وجيهاً وواضحاً، لا يفسّر لنا هذه الكثرة من المترادفات التي قد تصل إلى المئات والألوف؛ لأنّها أكثر من عدد القبائل أضعاف المرات(3)، ويعزّز هذا توزيع المترادفات الكثيرة
ص: 96
للشيء الواحد على عدد تلك القبائل؛ فإنّ عدد الألفاظ المترادفة يفوق بكثير عدد لهجات القبائل، ومن ثَمَّ يمكن أن نعدّ هذا العامل سبباً في ترادف طائفة من الألفاظ وأن نعزوها إلى هذه الحقيقة.
ويمكنُ قبول هذا الاستدلال، على افتراض أنّ وظيفة القبيلة أن تضع مرادفاً واحداً، أمّا إذا افترضنا أنّ وظيفتها تتعدّى ذلك، بأن تضع القبيلة الواحدة مرادفات عدّة للمعنى الواحد - ولا يوجد مانع لغوي أو امتناع عقلي من هذا الافتراض - فلايبقى هذا الاستدلال قائماً.
وتجدرُ الإشارة إلى أنّ محمد نور الدين المنجّد لم يعدّ اختلاف لغات القبائل من أسباب الترادف، قائلاً: «و الذي نراهُ إخراج اختلاف لغات القبائل من أسباب التَّرادُف نظراً لما اشترطناهُ في التعريف من قَصْر التَّرادُف على البيئة اللّغوية الواحدة، فإذا اختلفت الألفاظ على المعنى بين القبائل فلا نعدّ ذلك من قبيل التَّرادُف؛ لأنّ مستخدم هذا اللفظ غير مستخدم ذاك أصلاً، وإن أخذ الواحد عن الآخر فيما بعد»(1).
والّذي نذهب إليه خلاف ذلك، ويمكننا مناقشة هذا الرأي بنقاط عدّة، هي:
أوّلاً: إنّ اشتراط البيئة الواحدة، ليس بالضرورة لحصول ظاهرة التَّرادُف.
ثانياً: إنّه أخرج اختلاف لهجات القبائل من أسباب التَّرادُف، نظراً لما
ص: 97
اشترطهُ في التعريف {قَصْر التَّرادُف على البيئة اللّغوية الواحدة}، وإذا قلنا بذلك وقبلنا باشتراطه، نقول ألا تعدّ الحجاز، التي احتضنت اللّغة المشتركة الموحدة {الفصحى}، بيئة واحدة؟! إنّ بيئة قُرَيش، وهي مركز الجزيرة وملتقى اللّهجات، قد تجمّعت فيها الألفاظ المترادفة نتيجة الاختلاط وتوافد القبائل عليها في كلّ عامّ، إذ إنّها اختارت من الألفاظ أنقاها وأفصحها من لهجات القبائل، ما أدّى إلى ظهور أكثر من لفظ للشيء الواحد.
ثالثاً: يعلّل صاحب هذا الرأي، إخراج تداخل اللّهجات من أسباب التَّرادُف، بقوله: «لأنّ مستخدم هذا اللفظ غير مستخدم ذاك أصلاً، وإن أخذ الواحد عن الآخر فيما بعد»، إلاّ إنّنا نقول: إنّ اللّغة المشتركة الموحّدة {الفصحى} التي تكوِّنت من عدّة لهجات، ضمّت في طيّاتها طائفة من الألفاظ المترادفة ثم خرجت منها إلى سائر العرب، ونقلها الرواة، وأصبح مستخدم هذه الألفاظ المترادفة واحداً.
رابعاً: ما يعضد ما ذهبنا إليه أن معظم كتب الألفاظ المترادفة مثل کتاب «الغريب المصنف» لأبي عبيد القاسم بن سلام في باب الاسماء المختلفة للشيء الواحد، وما ذكرهُ ابن جنّي من شواهد على التَّرادُف، من دون نسبة أغلب الألفاظ إلى القبائل، يشير إلى مستعمل واحد، وما يعزّزُ ذلك ما نقلهُ السيوطي في كتابه حول السبب الأوَّل للترادُف: «ثمّ يَشتَهِر الوَضْعَان،
ص: 98
ويخفي الواضعان»(1)، أي تعرى اللفظة من مواضعها وتصبح عند مستعمل واحد، ممّا يؤدّي إلى ظهور الألفاظ المترادفة عند مستعمل واحد.
وقد أشار فرانك بالمر إلى أنّ تعدد اللّهجات يؤدي إلى تعدد المفردات للمدلول الواحد بقوله: «وتعدد المصدر يؤدي إلى ملاحظة أزواج ألفاظ تشير إلى مدلول واحد»(2).
ويشير في أسباب التَّرادُف الى تداخل اللّهجات واثرها في نشوء التَّرادُف بقوله: «ترجع بعض المترادفات في اللّغة الواحدة إلى التعدد اللهجي»(3). وفي موضع آخر يقول: «عرفت الدراسات العلميّة التي حللت اللّهجات درساً ووصفاً أمثلة كثيرة من التَّرادُف الناجم عن الاستعمال اللهجي»(4).
والذي نذهبُ إليه أنّ تداخل اللّهجات العربيَّة يعدُّ سبباً لطائفة من الألفاظ المترادفة، كما أن هذا التداخل لم يكن السبب الوحيد فيها، بل أسباب أخرى اجتمعت وأدّت إلى نشوء هذه الظاهرة اللّغوية.
ص: 99
ممّا لاشكّ فيه أنّ في اللّغة العربيَّة كثيراً من الألفاظ الأجنبية، والاقتراض ظاهرة لغوية عامّة في كلّ اللّغات، وليس مقصوراً على لغة دون لغة، وقد اصطلح عليها القُدامي بالمُعرّب والدخيل، على حين عبّر عنها بعض المحدثين بالاقتراض اللّغوي وعبّر عنها آخر بالامتزاج الحضاري أو الاستعارة من اللّغات الأجنبية.
أمّا مصطلح المُعرّب والدخيل، فهناك من عدّهما مصطلحين مترادفين يدلاّن على شيء واحد، فقد ذكر السيوطي أنّه يطلق على المُعرّب {دخيل}(1).
وقد سمّى الجواليقي(2)الكلمات المُعرّبة بالدخيل(3).
وهناك مَن فرّق بين المُعرّب والدخيل، وأعطى لكلّ واحد دلالته التي يتميّز بها من الآخر، من حيث المعايير الزمنية والأنماط اللّغوية في تحديد معانيها وما تشيرُ إليه من دلالة لغوية، فالمُعرّب هو ما استعملهُ الفصحاء في جاهليتهم وإسلامهم؛ أوهو لفظ استعارهُ العرب الخلّص في عصر
ص: 100
الاحتجاج من أمة أخرى واستعملوهُ في لسانهم مثل، سندس وزنجيل، وقد وضعت في القوالب العربيَّة(1).
فالمُعرّب هو الذي غيّروا فيه من حيث النطق والوزن والبنية، وابتعد عن صورته الأصلية، والدخيل هو الذي تُرِكَ على وضعه ولم يغيّروا فيه شيئاً. وقد أصبح المُعرّب والدخيل يشكّلان ظاهرة من اللّغة تناولها الدارسون بالبحث والتحليل، بعد أن تنبّهوا لها منذُ وقت مبكر، فقد أشار إلى وقوعهما الخليل بن أحمد الفراهيدي(2)، ثمّ تابعهُ أصحاب المعجمات واللّغويون، حتّى أفردت لهما مصنّفات خاصّة ك«المُعرّب» للجواليقي، و«شفاء الغليل» للخفاجي(3)، و«الألفاظ الفارسيّة المُعرّبة» للأب أدّى شير، وغير ذلك ممّا كتب القُدامى والمحدثون، والذي يعنينا تلك الألفاظ التي اقتبستها العربيَّة من اللّغات الأعجمية، ولها نظائر عند العرب من حيث الدّلالة، واستعملتها العرب إلى جوار الألفاظ العربيَّة للدلالة على الشيء الواحد، لذا عُدّ المُعرّب والدخيل من أسباب وقوع التَّرادُف. وقد عقد السيوطي فصلاً في «المُعرّب
ص: 101
الذي له اسم في لغة العرب»(1)، وفيه إشارة إلى هذا العامل المفضي إلى وقوع هذه الظاهرة، ومن أمثِلَة ماساقه: «إنّ الإبريق في لغة العرب يسمّى التأمورة، وفي الجمهرة: البط عند العرب صغاره وكباره إوز، الواحدة إوزة، وإنّ الهارون يسمّى المنحاز والمهراس، وإنّ الطاجن يسمّى بالعربيَّة المقلى»(2).
ويذكرُ علي عبد الواحد وافي(3) أشهر الكلمات التي انتقلت من الفارسيّة ويصنف التمثيل لها في: الأواني، مثل الكوز، والطشت، والإبريق، والخوان، ثمّ الأقمشة مثل الخز الابريسم، والديباج، والسندس، والاستبرق؛ وكذلك الأحجار الكريمة مثل الياقوت، الفيروز، والبلور، ومن ثمّ اسماء الخبز، مثل السميك، والكعك، والجردق، وكذلك الرياحين، مثل سوسن، وياسمين، وجلّنار، وبنفسج؛ ثمّ الطبّ مثل المسك، والقرنفل، والكافور، والجوز؛ والصناعة مثل الخندق، والعسكر، وغيرها. أمّا أشهر الكلمات التي انتقلت إلى العربيَّة من اليونانية في عصر الاحتجاج؛ سواء كان انتقالها عن طريق مباشر أم عن طريق السريانية، فهي أسماء بعض آلات الرصد، والجراحة، وبعض مصطلحات الطّب، والفلسفة، والعلوم الطبيعية، وأسماء بعض المعادن،
ص: 102
والوظائف، والمنشآت، وأدوات البناء، والموازين؛ مثل كلمات القيطون «وهو البيت الشتوي»، والفردوس، وتعني «البستان» والقرميد وتعني «الآجر» والقسطاس، وتعني «الميزان» والقولنج وتعني «مرضان» والترياق وتعني «دواء السموم». وورد الحديث عن أشهر ما عرب في عصر الاحتجاج من السريانية والعبّرية كلمات مثل «اليمّ»، و «طور»، و «طه»، و «إبراهيم، و «إسماعيل»، و «شرحبيل»، و «السموءل». أمّا مثل الكلمات التي عربت من الحبشة في عصر الاحتجاج هو «المشكاة» و «الهرج» و «الأرائك»(1).
الأصل العربي المرادف المعرّب والدخيل الأصل الأجنبي البطيخ الخربر فارسيّة السميط الروذق فارسيّة المسحاة بال فارسيّة
ص: 103
الحوك الباذورج فارسيّة القثاء خیار فارسيّة الصحراء الدست فارسيّة الداهية الفتكر فارسيّة العسل المستفشار فارسيّة الأسد قسورة فارسيّة الدجر اللوبيا فارسيّة الحائش البستان فارسيّة الخمر الاسفنط روميّة الخمر الرساطون روميّة الخمر المخندريس يونانيّة الخمر الزرجون فارسيّة الخمر الباذَق فارسيّة الخمر فيهح فارسيّة الطبيب الأسي آراميّة المرأة السجنجل روميّة
ص: 104
البحر الیمّ آرامیّة المیزان القسطاس رومیّة الکتاب سجلّ حبشيّة وخلاصة القول في المُعرّب والدخيل إنّه سبب واضح لحدوث التَّرادُف في اللّغة، كما أنّ المنكرين للتّرادُف لم ينكروهُ إذا جاء على هذا السبيل، أي إذا كان من لغتين، وقد أشار العسكري(1)إلى ذلك قائلاً: «فإذا اعتبرت هذه المعاني وما شاكلها في الكلمتين ولم يتبيّن لك الفرق بين معنيیهما، فاعلم أنّهما من لغتين مثل القِدِر بالبصرية والبُرمة بالمكيّة، ومثل قولنا الله بالعربيَّة وآزر بالفارسية»(2).
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا السبب {المعرّب والدخيل} نظير السبب السابق {تداخل اللّهجات}، فهما يشتركان في تعدد اللّغات الذي يؤدي إلى وقوع التَّرادُف؛ لكن السبب الأول يحصل داخل اللّغة العربيَّة، أما السبب الثَّاني فيحصل بين اللّغة العربية واللّغات الأخرى.
ص: 105
يقسم إلى قسمين:
أ: التطوّر الصوتي: ويدخل فيه الإبدال، والقلب، والحذف، والتصحيف، والتحريف.
- الإبدال: وهو جعل حرف مکان حرف في الكلمة، وغالباً ما يكون بين الحرفين علاقة صوتية إما في المخرج أو في الصفة. ومن أمثِلَة ذلك، دعس، ودعز، والمثالة، والحفالة، والخدالة، والحسالة، والحصالة.
وما رواه الأصمعي عن الرجلين اللذين اختلفا في لفظة «الصقر» وهل هي «الصقر» أم «السقر» وقد احتكما إلى أوّل وارد عليهما حين قال: لا أقول كما قلتما، إنّما هو «الزقر»، يبيّن كيف اختلفت أصوات هذه اللفظة في أصوات الصاد والسين والزاي.
ومن ذلك هتل وهتن؛ إذ يظن أن أصلهما واحد وتطور أحدهما عن الآخر. ويمكننا توضيح ذلك بالآتي؛ أن أصل هذين اللفظين البناء الثنائي المضعف {هتّ} وبحسب قانون المخالفة تغيّر الصوت الثَّاني من صوتي التاء «تّ=ت+ت». وللتقارب الصوتي بين اللام والنون تبادلا موضع المخالفة من البناء فوردت علينا صورتان للنطق بعد مروره بقانون المخالفة وهما:
ه بالمخالفة ل:
ن:
ص: 106
- القلب: وهو اختلاف ترتيب الحروف في اللفظ، ومن أمثِلَة ذلك جذب وجبذ، وصاعقة وصاقعة.
- الحذف: وهو حذف جزء من الكلمة ثم استخدامها، ومن أمثِلَة ذلك {سل} وأصلها {اسأل} و {حِظَة} وأصلها {حُظوة} و{علّ} وأصلها {لعلّ}(1).
- التصحيف: وهو إبدال الحرف المهمل بحرف معجم، والحرف المعجم بحرف معجم آخر، ومن أمثِلَة ذلك نقب وثقب، وحس وجس.
- التحريف: وهو تغيير الحركات، ومن أمثِلَة ذلك الضَّعف والضُّعف، والعِلاقة والعَلاقة. وذكر السَّكاكينيّ أنّ هذا التحريف كثير لا يأخذهُ إحصاء(2). وقد جعل بعض المُحدثين الإبدال، والقلب، والحذف، والتصحيف، والتحريف من أسباب التَّرادُف(3). والذي نميل إليه عدم ترادف هذه الألفاظ، بل يمكن أن ينصَّ على تطورها الصوتي حينما يطلب بیان معانيها. ونرى أنّ هذه الكلمات عبارة عن كلمة واحدة.
ص: 107
ونعني به التغيير الذي يطرأ على اللّغة في دلالة مفرداتها، نتيجة عوامل مختلفة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بحياة الأمم في مجالاتها كافّة(1). أي هو تغيير معاني الكلمات، وهي ظاهرة شائعة في جميع اللّغات أكّدها الدارسون لمراحل نموّ اللّغة وأطوارها التاريخية(2). وهناك أسباب كثيرة لتغيير المعنى منها ما هو معروف مألوف لنا من قبل، وهو الحاجة إلى كلمة أو كلمة أقدر من غيرها على التعبير عن المقصود، ومنها ما هو مرتبط بأيّة حاجة عملية(3). وفي الدراسات اللّغوية العربيَّة الحديثة، ألِّفَتْ كتب في التطوّر اللّغوي وأسباب تغيّر المعني، استفاد أصحابها من النظريات الحديثة، ومن هؤلاء علي عبد الواحد وافي الذي يجمع عوامل تطور المعنى في أربعة عوامل:
- إحدها: انتقال اللّغة من السلف إلى الخلف.
- ثانيها: تأثّر اللّغة بلغة أو لغات أخرى.
- ثالثها: العوامل الاجتماعيّة، والنفسيّة، والجغرافيّة، كحضارة الأمّة، ونظمها، وتقاليدها، وعقائدها، وثقافتها، واتجّاهاتها الفكريّة.
ص: 108
- رابعها: العوامل الأدبية التي تتمثّل فيما تنتجه قرائح الناطقين باللّغة(1).
وقد نقل {بالمر} عن العالم اللّغوي الأمريكي {بلومفيلد} أنواعاً من تطوّر دلالة الألفاظ، منها: الحصر {التقييد}، والتوسّع، والمجاز، والكناية، والمبالغة {الغلو، الإغراق} وانحطاط الدّلالة، وإعلاء الدّلالة(2).
وذكر عودة خليل عدّة عوامل لتطوّر الدّلالة، ومن أبرزها(3):
1) عوامل تتعلّق باستخدام الكلمات، فمدلول الكلمة يتغيّر تبعاً للحالات التي يكثرُ فيها استخدامها.
مثل كثرة استخدام العامّ في الخاصّ او استخدام الخاصّ في معان عامّة.
2) الانتقال من المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي وتغيّر معاني المفرادت، قد يؤدّي في النهاية إلى انقراض المعنى الحقيقي وحلول المعنى المجازي محلّه.
3) يتغيّر معنى الكلمة نظراً لأنّ الشيء الذي تدلّ عليه قد تغيّرت طبيعته أو عناصره أو وظائفه أو الشؤون الاجتماعيّة المتّصلة به. مثال ذلك كلمات الريشة والقطار والبريد. فالريشة كانت تتعلق بآلة الكتابة أيّام كانت تتّخذ من ريش الطيور، وأصبحت الآن تطلق على قطعة من المعدن مشكلة
ص: 109
في صورة خاصّة. والقطار في الماضي هو مجموعة من الإبل على نسق واحد تستخدم في السفر، واليوم هو تلك الآلة المعروفة. وكلمة البريد کانت تطلق على الدابة التي تحمل عليها الرسائل، ثم أصبحت تطلق على النظم والوسائل التي تتخذ لتنظيم هذه العملية في الوقت الحاضر(1).
بل عَدَّ أحد الباحثين المعاصرين التطوّر نافذاً، إذ يقول: «من القوانين المقرّرة التي لا خلاف عليها أنّ «اللّغة» تتطوّر، وأنّ هناك أسباباً كثيرة لتطوّر اللّغات»(2)، وإذا درسنا أسباب وجود المترادفات في اللّغة نجد أنّها لا تخرج عن العوامل العامّة في مجال التطوّر اللّغوي(3).
إنّ معظم مصنّفي كتب اللحن عرفوا السبل التي تسلكها الدّلالة في تطوّرها عبّر الزمن ومدار الاستعمال. فكثر التأليف في هذه الميادين وأشهر من ألّف في هذا المضمار «ابن السكيت» حيث ألّف كتابه «اصلاح المنطق»؛ وكذلك «ابن قتيبة» في كتابه «أدب الكاتب» وقد جاء في كلا الكتابين عنوان «ما يضعه النّاس في غير موضعه». ونجد ابن مكّي صاحب کتاب «تثقيف اللسان وتلقيح الجنان» يجعلُ المسالك الدّلالة المتطوّرة ثلاثة أبواب:
ص: 110
1) بَاب ما وضعوه في غير موضعه.
2) بَاب ما جاء لشيئين أو لأشياء فقصروهُ على واحد.
3) ما جاء لواحد فأدخلوا معهُ غيره(1).
بيد أنّ القُدامى على الرغم من اعترافهم بهذا التطوّر، فإنّهم قصروهُ على حقبة بعينها، ورفضوا كلّ تغيّر في المعنى حدث بعد ذلك، فوقف معظمهم من هذا التطوّر موقفاً معارضاً وشدّدوا على هذا الجديد في المعنى، بدافع الحرص على سلامة اللّغة والحفاظ عليها، ومن أجل تنقيتها لئلاّ تفسد، ومراعاة لمبدأ الصحة اللّغوية والفصاحة فيها، ولم يكن لهذا الموقف أن يؤثّر في الحركة الدائبة لتطوّر دلالة الألفاظ(2).
وما قالهُ علماء البَلاغة والنقاد والمفسرون القُدامى، ومن بينهم الرازي، «ممّن نظروا في إعجاز القرآن على تجاوز الدّلالة وانتقالها، وعن وجوه المعاني، وعن اتّساع اللّغة، إنّما يشكّلُ استباقاً لما سيذهب إليه علماء الألسنيّة والنقد المعاصرون من أنّ اللّغة هي بنية مولدة للمعاني، ومن أنّ المعنى هو نشاط لغوي»(3)، وهذا يعني انفتاح إمكانية تغير المجال الدّلالي(4). وهو ما
ص: 111
بحث مظاهرهُ اللّغويون، محدّدين مستويات مختلفة لذلك التغير، منها: مستوى نقل الدّلالة بين المجالين الحسّي والمعنوي، ومستوى التغير بانحطاط الدّلالة أو تساميها، ومستوى تخصيص الدّلالة وتعميمها(1).
ويعدّ التطوّر اللّغوي دليلاً على حيويّة اللّغة العربيَّة وقابليتها على التجديد والنمو بحسب الزمن مع الاحتفاظ بأصولها وقواعدها وبالفصيح من مفرداتها وشواردها(2).
وقد أشار رمضان عبد التوّاب إلى أنّ المتتبع لحركة التأليف المعجمية واللّغوية عند العرب يجد جوانب کامنة للتطوّر الدّلالي، إذ إنّ كثيراً من هذه الجوانب اللّغوية أخذت لدى الغربيين صورة النظريات المبتكرة التي أقاموا عليها مدارسهم واتّجاهاتم النظرية والتطبيقية. فقد طرق العرب هذه المباحث الدّلالية، وسبقوا إليها إلاّ أنّ علم اللّغة الحديث أعطى هذه المباحث
ص: 112
الصفة المنهجية على تصوّر کلّي للنشاط اللّغوي(1).
إنّ كثيراً من الألفاظ ذات المعاني المتقاربة حصل فيها في مرحلة تاريخية من مراحل التغيير الدّلالي تحول في معناها. وقد عَدَّ حاكم مالك الزيّادي هذا العامل من أبرز الأسباب في حصول التَّرادُف، إذ يقول: «وبهذا التفسير يمكن أن نرد كثيراً من المترادفات إلى هذه الحقيقة في التطوّر والاستعمال»(2)، وقد أشار إلى نحو هذا ابن جنّي(3)في «الفصل بين الكلام الخاص والعام» الذي عدّه المستشرق {جولد تسهير}(4)من كتب المترادفات وليس من كتب لحن العامّة كما ذهب إلى ذلك المستشرق توربیکه(5).
وهذا ما يدلّ على مدى التقارب الدّلالي بين هذه الألفاظ حتّى أصبح مدعاة للتفرقة بينها لئلا تختلط وتصبح بمعنى واحد.
ص: 113
وحينما ندقّق في الكلمات واستعمالاتها في مراحلها التاريخية نجدها قد تطوّرت دلالاتها تبعاً لتغير الاستعمال. وقد أشار إلى ذلك عبد الحسين المبارك، بقوله: «ونتيجة للتطور الدّلالي فقدت كثير من المفردات الفروق الدقيقة في معانيها وأضحت تؤدّي معنى واحداً في الاستعمال، فالحمد والشكر بسبب التقارب بين معنييهما استعملا لمقصد واحد في حين أنّ الحمد أعم من الشكر، غير أنّ تعميم التطوّر الدّلالي أزال الفرق بين معنیيهما. لأنّ الحمد معناهُ الثناء بكرم أو حسب أو شجاعة، والشكر الثناء عليه بمعروف»(1).
إنّ كثيراً ما يحدث أن يتخصّص العام أو أن يعمّم الخاص، أو أن يتغير مجال الدّلالة، بفعل الاستعمال اللّغوي، فيختفي ذلك التباين بالتدريج، ثم تصبح دالة على معنى واحد، بمرور الزمن؛ وهكذا يحدث التَّرادُف، ولأهميّة هذه الجوانب سنتناولها بشيء من التفصيل.
إنّ كثرة استخدام العام في بعض ما يدل عليه يزيل مع تقادم العهد عموم معناه، ويقصر مدلوله على الحالات التي شاع فيها استعماله، فيصبح مقصور الدّلالة على بعض ما كان له منها؛ ولدينا في اللّغة العربيَّة وحدها آلاف من أمثِلَة هذا النوع، فمن ذلك جميع المفردات التي كانت عامّة المدلول
ص: 114
ثمّ شاع استعمالها في الإسلام في معانٍ خاصّة(1).
ولبيان حقيقة تخصيص العامّ في حدوث التَّرادُف، نوردُ جملة من الأمثِلَة، منها: تخصيص الغنم باسم الضأن واستعمالهما بمعنى؛ والغنم في الأصل اسم عام يقع على الضأن والمعز جميعاً، ولكن الاستعمال قصره بعد ذلك على الضأن خاصّة. يقول ابن مكّي الصقلي: «ومن ذلك الغنم، لا يعرفوها إلاّ الضأن خاصّة، دون المعز، وليس كذلك، إنّما الغنم اسم للضأن والمعز جميعاً»(2).
ومثلهُ استعمال البعير مرادفاً للجمل. والبعير يطلق على الجمل وعلى الناقة، ثم خصّوا به الجمل. وقد سجل هذه الاستعمالات ابن مكي الصقلي كما يجري بها الاستعمال فعلاً، بيد أنّه عدّها لحناً بحجّة أنّها بخلاف الأصل، ووضعها في باب «ما جاء لشيئين أو لأشياء فقصروهُ على واحد»(3).
وما حقيقة هذه إلاّ تطوّر دلالي قد جرى على جهة تخصيص العام، وتخصيص العام ليس غلطاً، يعزز هذا ما ذهب إليه عبد العزيز مطر(4).
ومن ذلك استعمال المثقال بمعنى الدينار لاغير. والمثقال هو زنة الشيء،
ص: 115
وكلّ وزن يسمى مثقالاً، وليس مقصوراً على وزن معين هذا بحسبان الأصل، بيد أنّ الاستعمال قد قصرهُ على الدينار وحده وجری بهما مترادفين بشهادة أبي بكر الزبيدي(1)والجواليقي(2)وابن الجوزي(3). وقد ذهب هؤلاء جميعاً إلى تخطئة هذا الاستعمال معوّلين على الدّلالة الأصلية، وهذا عندهم قد جرى بخلاف ذلك.
وليس الأمر كما ذكروا، لأنّ المثقال اسم عام يشمل الدينار وغيره، ثمّ خصّ به استعمال الدينار فحسب، وهذا ليس غلطاً. وقد صوّبهُ عبد اللطيف البغدادي أيضاً بقوله: «هذا أيضاً عام قد خصصهُ الاستعمال»(4)، وهذا الرأي جدير بالقبول. وقد فسّره عبد العزيز مطر بتغير مجال الاستعمال وفي مكان آخر جعلهُ من باب تخصيص العام(5). والثَّاني هو الأصحّ بالنظر إلى طبيعة هذا التطوّر الذي بينّاهُ.
ص: 116
ومن الألفاظ التي ترادفت بسبب التطوّر الدّلالي على هذا الوجه، اليقطين والقرع. إذ إنّ اليقطين في اللّغة هو كلّ شجر ينبسطُ على الأرض، ولا يقوم على ساق كالقرع والقثاء والبطيخ ونحو ذلك(1).
إلاّ أن الاستعمال قد خصّ اليقطين بالقرع وحده دون سواه، فأصبحت الكلمتان نتيجة هذا التخصيص بمعنى واحد. وهذا ما يشهدُ به ويؤيّدهُ الواقع اللّغوي كما سجّل ذلك أصحاب کتب لحن العامّة، الذين أنكروا هذا التطوّر كعادتهم وخطأوا الاستعمال، لأنّه جرى بخلاف الأصل(2).
وليس من الصواب أن نعتمد الكلمة فيما كانت عليه من دلالة في الماضي، ولا ننظر إلى ما آلت إليه من دلالة جديدة بحكم التطوّر اللّغوي، ثم نخطَّىٴ الاستعمال العام ونقول بالتفرقة تبعاً لذلك لأن هذه التفرقة القائمة على الدّلالة القديمة للكلمة تبتعدُ عن واقع الاستعمال اللّغوي، ذلك أنّ الدّلالة القديمة قد صارت شيئاً تاريخياً منسياً في حياة الكلمة بسبب من تطورها الدّلالي، إذ هجرها الاستعمال أو تناساها بل إنّ الاستعمال العام يجهل مثل تلك الدّلالة التاريخية القديمة ولا يعنيه من الألفاظ إلا دلالتها الحالية المتداولة والمستعملة فعلاً.
ص: 117
وبفعل التطوّر الدّلالي نجد في القرن الثَّالث للهجرة العديد من الألفاظ التي أصبحت مترادفة في لغة ذلك العصر، بعد أن مكّن الاستعمال لها واختفت تلك الفروق الدقيقة بين دلالاتها. فلم يعد النّاس في استعمالهم اللّغوي العام يفرقون بينها ولا يراعون التباين في معانيها، بل إنهم يجهلون ذلك تماماً، وهذا ما لاحظه وصرح به ابن قتيبة المتوفَّى سنة 276 ه في مقدمة كتابه {أدب الكاتب} وجعلهُ من أسباب تأليفه، فقال: «فما رأيت أحداً منهم يعرف فرق ما بين الوكع والكوع ولا الحنف من الفدع ولا اللمي من اللطع، فلما رأيت هذا الشأن كل يوم إلى نقصان وخشيت إذ يذهب رسمه ويعفو أثره، جعلت له حظاً من عنايتي وجزءاً من تأليفي»(1).
ونحاول تتبع الألفاظ التي ذكرها ابن قتيبة في هذا النص، ومعرفة معناها من المعجم، لنستجلي المعنى المشترك بين هذه الألفاظ، الذي أدّى وبفعل التطوّر الدلالي إلى ترادف تلك الألفاظ في لغة ذلك العصر؛ مما جعل المجتمع آنذاك لا يفرّق بينهما، ويستعمل أحدهما بدل الآخر:
{وكع} وكعَتْه العَقْربُ بإِبرَتِها وَكْعاً ضربته ولدَغَتْه وكَوَتْه، الوَكَعُ مَيْل الأَصابع قِبَلَ السبَّابةِ حتى تصير كالعُقْفة خِلْقة أَو عَرَضاً، وقد يكون في إِبهام الرجل فيُقْبِلُ الإِبهامُ على السبَّابة حتى يُرى أصلُها خارجاً كالعُقْدةِ، وقال
ص: 118
الليث الوَكَعُ مَيَلانٌ في صَدْر القدَم نحو الخِنْصِر وربما كان في إِبهام اليد وأَكثر ما يكون ذلك للإِماء اللواتي يَكْددْنَ في العمَل(1).
أما الكَوَعُ فالتواء الكُوعِ {وهو طرَفُ الزند الذي يلي أَصلَ الإِبْهامِ}، وقيل في ترجمة وكع الكَوَعُ أَن يُقْبِلَ إِبهامُ الرجْلِ على أَخواتها إِقْبالاً شديداً حتى يظهر عظم أَصلها، قال والكَوَعُ في اليد انْقِلابُ الكُوعِ حتى يزول فترى شخص أَصله خارجاً الكسائي، وامرأَة كَوْعاءُ بَينةُ، والكَوعِ والكَوَعُ بالتحريك أَن تَعْوَجَّ اليدُ من قِبَلِ، الكُوعِ وهو رأْس اليد مما يلي الإبهام(2).
والحَنَفُ في القَدَمَينِ إقْبالُ كل واحدة منهما على الأُخرى بإبْهامها، وكذلك هو في الحافر في اليد والرجل، وقيل هو ميل كل واحدة من الإبهامين على صاحبتها حتى يُرى شَخْصُ أَصلِها خارجاً، والحَنَفُ الاعْوِجاجُ في الرِّجْل وهو أَن تُقْبِل إحْدَى إبْهامَيْ رِجْلَيْه على الأُخرى، الحَنَفُ إقْبالُ القدَم بأَصابعها على القدم الأُخرى الأَصمعي، وحَنَفَ عن الشيء وتَحَنَّفَ مال والحَنِيفُ المُسْلِمُ الذي يَتَحَنَّفُ عن الأَدْيانِ أَي يَمِيلُ إلى الحقّ(3).
أما الفَدَعُ فعَوَجٌ ومَيْلٌ في المَفاصِل كلِّها خِلْقةً أو داءٌ كأَنَّ المفاصل قد زالت عن مواضعها لا يُسْتطاعُ بَسْطُها معه، وأَكثر ما يكون في الرُّسْغِ من اليد والقَدَمِ، فَدِع فَدَعاً وهو أَفْدَعُ بَيِّنُ الفَدَعِ وهو المُعْوَجُّ الرُّسْغِ من اليد أَو الرجل
ص: 119
فيكون منقلب الكفّ أَو القدم إِلى إِنْسِيِّهِما، وأَصل الفَدَعِ الميل والعَوَجُ، وقيل الفَدَع أَن تَصْطَكَّ كعباه وتَتَباعَدَ قدماه يميناً وشِمالاً، الفَدَعُ بالتحريك زيغ بين القدم وبين عظم الساق(1).
واللُّمْيُ على فُعْلٍ جماعة لَمْياء مثل العُمْي جمع عَمْياء الشِّفاهُ السود، واللَّمَى مقصور سُمْرة الشفَتين واللِّثاتِ، وحكى سيبويه يَلْمِي لُمِیّاً إِذا اسودَّت شفته، وشَفَةٌ لَمْياء بَيِّنَةُ اللَّمَى، وقيل اللَّمْياء من الشِّفاهِ اللطِيفةُ القليلُة الدم.
وكذلك اللِّثةُ اللَّمْياء القليلة اللحم، قال أَبو نصر سأَلت الأَصمعي عن اللَّمى مرة فقال هي سُمرة في الشفة، ثم سأَلته ثانية فقال هو سَواد یکون في الشفتين، وجعل ابن الأَعرابي اللَّمَى سواداً(2).
أما اللَّطَعُ فتَقَشُّرٌ في الشفةِ وحُمْرةٌ تعلوها، واللَّطَعُ أَيضاً رِقَّةُ الشفة وقلة لحمها، وهي شَفةٌ لَطْعاء ولِثةٌ لَطْعاء قليلة اللحم؛ وقال الأَزهريّ بل اللَّطَعُ رقة في شفة الرجُلِ الأَلْطَع وامرأَة لَطْعاءُ بَيِّنةُ(3).
والذي نلاحظه هو أن المعنى المشترك بين {الوَكَعُ والكَوَعُ} هو الالتواء والميل والاعوجاج في أَصابع اليدين؛ والمعنى المشترك بين {الحَنَفُ والفَدَعُ}
ص: 120
هو الميل والعَوَجُ في إبهام القدمين، أما المعنى المشترك بين {اللُّمْيُ واللَّطَعُ} دلالتهما على لون الشفة وقلّة اللحم في اللثة.
وهذا التقارب في المعنى الأساس جوّز للمجتمع آنذاك، استعمال لفظة بدل الأخرى، وهذا ينسجم مع ما نتبناه من مفهوم للتّرادُف.
وبهذا كشف لنا المؤلف عن التطوّر الدّلالي الذي حدث لطائفة الألفاظ في عصره، تلك الألفاظ التي صارت تستعمل بمعنى وانمحت الفروق بينها نتيجة هذا التطوّر.
وإنّها لعظيمة تلك الفائدة التي نجدها في تسجيل ابن قتيبة للألفاظ بحسب معانيها التي آلت إليها في عصره وكما يجري بها الاستعمال فعلاً، وليس بحسب معانيها النقلية والمروية(1).
ومن الألفاظ التي ترادفت بسبب التطوّر وخطأها ابن قتيبة معولاً على الاستعمال القديم، كلمة الطرب حيث استعملها النّاس في الفرح دون الجزع، ولكن المؤلف يذهب إلى أن الطرب خفّة تصيب الرجل لشدّة السرور أو لشدّة الجزع. ويستشهدُ على ذلك بقول النابغة الجعدي:
وَأَرَانِي طَرِباً في إِثْرِهُم *** طَرَبَ الوَالهِ أَو كَالمُخْتَبَلْ(2)
ص: 121
وهذا صحيح بالنظر إلى الأصل أو بالنسبة إلى ذلك الاستعمال القديم بيد أنّ الاستعمال اللاحق قد خصّ الطرب بالفرح وحده، وجرى بهما مترادفين، وتخصيص المعنى تطور دلالي.
إنّ كثرة استخدام الخاصّ في معانٍ عامّة عن طريق التوسّع تزيل مع تقادم العهد خصوص معناهُ وتكسبه العموم(1).
ولتوضيح تعميم الدّلالة وأثرها في حدوث التَّرادُف، نُورد طائفة من الأمثِلَة، منها: أن أصل القرب هو طلب الماء، ولما كثر استعماله صار يقال ذلك لكل طالب. فيقال: هو يقرب كذا، أي يطلبه، ولا تقرب كذا. وفي اللسان عن الخطابي: «نقرب أي نطلب والأصل فيه طلب الماء، ومنه ليلة القرب، ثم اتّسع فيه فقيل: فلان يقرب حاجته، أي يطلبها»(2).
وأنّ العقيرة في الأصل هي الساق المقطوعة، ثم قالوا: رفع عقيرته أي صوته، وسبب ذلك أن رجلاً عقرت رجله فرفعها وصاح فقيل بعد لكل من رفع صوته: رفع عقيرته(3). وأن النجعة معناها في الأصل طلب الغيث ولكثرة الاستعمال صار كلّ طلب انتجاعاً.
ص: 122
والمنيحة أصلها أن يعطي الرجل الناقة أو الشاة فيشرب لبنها، ثم صارت كل عطيّة منيحة، والوغى كان يعني اختلاط الأصوات في الحرب، وليس نفسها، ثم كثر استعمال ذلك حتّى صارت الحرب وغى وكذلك الواغية. والراوية كانت تعني في الأصل البعير الذي يُستقى عليه، ثم استعملت بعد ذلك بمعنى المزادة فصارت المزادة راوية(1).
ومن هذا أيضاً أن كلمة الخارب في اللّغة، كانت تطلق على سارق الإبل خاصة، ثم عمموا بها حتى صارت تقال لكلّ من سرق بعيراً كان أو غيره، جاء في اللسان: «والخارب: سارق الإبل خاصة، ثم نقل إلى غيرها اتّساعاً {...} والخارب: اللصّ، ولم يخصص به سارق الإبل ولا غيرها، {...} يقال: خرب فلان أي صار لصاً»(2). وبهذا أصبحت لفظتا الخارب والسارق مترادفتين بسبب هذا التعميم في الدّلالة(3).
وتجدر الإشارة إلى أنّ عبد العزيز مطر قد علّل هذا التطوّر بتعميم الدّلالة، وأوردهُ السيوطي فيما سمّاه: «فيما وضع في الأصل خاصّاً ثم استعمل عامّاً»(4).
ص: 123
ويجوز حمله على المجاز المرسل، إذ إنّ العلاقة المجازية واضحة بين المدلولين وهي التي سوّغت اطلاق البأس بمعنى الحرب على كلّ شدّة وذلك لعلاقة السببیّة.
ومن أمثِلَة وقوع التَّرادُف بسبب التعميم في الدّلالة، إطلاق اسم الورد على كلّ زهرة، وهو في اللّغة خاصّ بالأحمر. وحول إطلاق ال-وردة على كلّ زهرة يذكر فندريس أن في اللّغات السلافية الجنوبية صار اسم الوردة يطلق على الزهرة عموماً، كما في الصربية والكرواتية وبعض اللّهجات الألمانية، ثم حدث مثل هذا أيضاً في بعض اللّهجات الإيطالية التي صارت تطلق اسم الوردة على كلّ زهرة أيّاً كانت، واضطرّت إلى أن توجد للوردة اسماً جديداً(1).
ومنها إطلاق الاستحمام على الاغتسال سواء أكان بالماء الحار أم البارد واستعمالهما بمعنى، وليس الأصل كذلك؛ لأنّ الاستحمام أصله الاغتسال بالحميم أي الماء الحار، ثم عمموهُ بعد ذلك فشمل كلّ اغتسال بأي ماء كان. وقد اعترف الجوهري بهذا الاستعمال نتيجة هذا التطوّر الدّلالي وسجله بقوله: «والحميم: الماء الحار، والحميمة مثله، وقد استحممت إذا اغتسلت به، هذا هو الأصل، ثم صار كل اغتسال استحماماً، بأيّ ماء كان»(2).
ص: 124
ومنها استعمال اللسع واللدغ والنهش بمعنى واحد. والأوَّل للعقرب، وكل ما يضرب بذنبه، والثَّاني لما يضرب بفيه، والثَّالث لما يأخذ بأسنانه. هذا هو الأصل، ولكن النّاس يعممون دلالة كلّ منها، إذ ترادف الواحد منها الأخرى ولا يفرقون بينها، وذلك باعتراف بعض اللّغويين الذين ألّفوا في لحن العامّة وسجّلوا هذا الاستعمال وخطَّأوه؛ لأنّه جاء بخلاف الأصل، ويمكن تفسير ترادف هذه الألفاظ بتعميم الخاصّ (1).
ومنها أيضاً استعمال العشّ والوكر أو الوكن مترادفة، والأوَّل ما كان من عيدان، والثَّاني لما كان نقباً في جبل أو حائط. والنّاس في استعمالهم زمن ابن الجوزي(2)لايفرقون بين هذه الألفاظ، وذلك باعتراف ابن الجوزي نفسه الذي خطأهم في هذا الاستعمال؛ لأنّه بخلاف الأصل(3).
ويبدو أنّ تَّرادُف هذه الألفاظ قديم، وذلك بدلالة قول أبي عمرو {ت. 154 ه.} «الوكر: العش، حيثما كان»(4). ومثل هذا كثير من الألفاظ
ص: 125
التي تطوّرت دلالتها على وجه تعميم الخاصّ فصارت مترادفة في طرائق الاستعمال اللّغوي من غير مراعاة أو التفات إلى التباين الذي كانت عليه.
يؤدّي الانتقال من المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي إلى تغيِّر في معاني المفردات قد يؤدّي في النهاية إلى انقراض المعنى الحقيقي وحلول المعنى المجازي محلّه(1). والمجاز من أهمّ السبل التي يتمّ بها انتقال مجال الدّلالة.
إذ ينتقلُ معنى الكلمة من محيط إلى آخر بطرقٍ أبرزها الاستعارة إلى المجاز القائم على علاقة المشابهة، والمجاز المرسل وهو الذي تكون علاقته غير المشابهة، كالسببية، والزمانية، والمحليّة، والدّلالية، والمجاوریّة، وباعتبار ما كان وما سيكون.
ويرى عبد الحسين مهدي عوّاد أنّه «يمكن أن يكون الاستعمال المجازي هو أحد ضروب التطوّر الدّلالي باعتبار أن ما جمعوهُ تحت عنوان {ما وضعوهُ في غير موضعه} يقوم على باب المجاز أوعلى ضروب الاستعارة المختلفة، فيكون هذا النحو من التصرف الدّلالي يعتمد على ما جاء من العرب الذين يعتدّ بهم»(2).
ص: 126
ويدخل حاكم مالك الزيّادي الكناية إلى جانب المجاز بوصفها قريبة منه، قائلاً: «وفي ضوء المجاز والكناية يمكن أن نفسّر الكثير من ترادف الألفاظ»(1). لقد فرّق ابن جنّي بين الحقيقة والمجاز بقوله: «الحقيقة ما أقر في الاستعمال على أصل وضعهِ في اللّغة. والمجاز ما كان بضد ذلك»(2).
إلا أنّنا لم نجد المعجمات العربيَّة تعنى بتتبع المفردات حسب الحقيقة والمجاز باستثناء الزمخشري في {أساس البَلاغة}، إذ كانوا يخلطون بين المعنى الحقيقي والمجازي حين يتحدّثون عن تلك الألفاظ. وقد أدّى هذا الخلط إلى أن تشيع الألفاظ المجازية شيوعاً ينسى معه المجازفيها، فتستعمل كأنّها حقيقة(3). إلا أنّ الشيخ البهائي(4)أخرج استعمال الألفاظ في معانٍ مجازية أو
ص: 127
کنائية؛ لأنّ ذلك الاستعمال دال بالقرينة المانعة أو المعيّنة(1).
إذ يقول الشيخ البهائي: «الحقيقة لفظ مستعمل في وضع أول، والمجاز في غيره لعلاقة ولا شيء منهما قبله»(2).
وهناك من العلماء - القُدامى والمُحدثين - من وجد أنّ قضيّة المجاز والحقيقة إنما هي مسألة ليست ثابتة، بل هي نسبيّة متغيّرة، ذلك أن الحقيقة والمجاز كثيراً ما يتبادلان هذه الصفة، فهما في حركة دائبة وانتقال مستمرّ. فما كان حقيقة قد يصير مجازاً، وما كان مجازاً قد يصير حقيقة، ومقياس ذلك هو الاستعمال والعرف اللّغوي. وقد بيّن ابن جنّي انتقال المجاز إلى الحقيقة، ونص على أن المجاز إذا كثر لحق بالحقيقة(3)، على الرغم من تعريفه لهما بحسب أصل الوضع في اللّغة. كما نقل السيوطي عنهم قولهم: «إن الحقيقة قد تصير مجازاً وبالعكس، فالحقيقة من قل استعمالها صارت مجازاً عرفاً، والمجاز متی کثر استعماله صار حقيقة عرفاً»(4).
ویری فندريس أن المجاز وإن كان هو السبب في خلق العديد من المعاني اللفظة الواحدة في اللّغة، إلا أنّه سريعاً ما ينسى، ويصبح المعنى الجديد الذي دخل اللفظ عن طريق المجاز لايقل في حقيقته عن المعنى الأوَّل الذي كان له.
ص: 128
ونحن إذا أردنا أن نحدّد معنى الكلمة أو معانيها، فعلينا أن ننظر إلى استعمالاتها كما هي اليوم، لا إلى تاريخها. ويقول فندريس: «في التسليم بأن للكلمات معنی أساسياً ومعاني ثانوية صادرة عن الأوَّل إثارة لمسألة وجهة النظر التاريخية. ووجهة النظر التاريخية تلك لا قيمة لها هنا»(1).
ويقول إبراهيم أنيس: «وحين تمر الأيام على تلك المجازات ويكثر استعمالها، لاتلبث أن تنسى الناحية المجازية فيها، وتصبح معانيها حقيقية»(2). ويرى محمد المبارك أن استعمال اللفظ بالمعنى الجديد يكون في باديء الأمر عن طريق المجاز، ولكنّه بعد كثرة الاستعمال وشيوعه بين النّاس تذهب عنه هذه الصفة وتصبح دلالته على مدلوله الجديد دلالة حقيقية لا مجازية(3).
وأشار الزيادي إلى أنّه مهما يكن السبب الذي يکمن خلف التسمية المجازية والظرف اللّغوي الخاصّ الذي استعملت فيه أوّل مرّة، ومهما تكن الأسباب والاعتبارات المتباينة التي أوحت إلى النّاس أن يسموا الشيء باسماء مختلفة ويطلقوا عليه العديد من الألفاظ على سبيل المجاز، فإنه بمرور الوقت
ص: 129
يخلق الكثير من الاسماء المختلفة للشيء الواحد. إذ إنّ هذه الاسماء المجازية، لطول العهد بها ولكثرة استعمالها وشيوعها، تنسى فيها الناحية المجازية، ثم تصبح دالة على المسمى دلالة حقيقية لا مجازية(1).
بل إن دلالتها عليها أقرب إلى الذهن من دلالتها الأصلية لشيوع المعنى الجديد وانتشاره بعد طول العهد بهذا الاستعمال. وهكذا يصبحُ أمامنا في آخر الأمر العديد من الاسماء المترادفة للمسمى الواحد. ولهذا كان المجاز سبباً مهمّاً من أسباب ترادف الألفاظ. وهذا ما عبّر عنه بعض المُحدثين ب «المجازات المنسية»(2).
ويرى الزيادي أنّه لا يجوز عدّ كل مجاز مسبباً للتّرادُف على وجه الاطلاق. فربَّ معترض يقول: إنّ من شروط التَّرادُف ألاّ يكون مجازاً. وللجواب عن هذا نقول: إنّ ذلك مقيد بما قدّمنا من صيرورة المجاز حقيقة واختفاء الناحية المجازية في التسمية تماماً، أو أنّنا نجهل أن هذا الاسم مجاز في الشيء وذاك حقيقة فيه. فالاسم الذي كان يدل على مسماه مجازاً ثم شاع استعماله حتى صار دالا عليه دلالة اسمه الحقيقي الصريح هو الذي نعنيه هنا سبباً للتّرادُف. فما دامت مثل هذه الألفاظ قد أصبحت تدلّ على شيء واحد دلالة مباشرة، دون أن نلمح فيها أي أثر مجازي، بل نكاد نجهل أنها مجاز
ص: 130
ألبتّة، فلا مناص حينئذ، في مثل هذه الحالة، من التسليم بترادفها(1).
وعلى أساس المجاز الذي صار حقيقة، نفسر الكثير من الألفاظ المترادفة فإنّ التأمّل في طائفة كبيرة من المترادفات والتحقيق فيها من الناحية التاريخية، يبيّن لنا بوضوح أنّها في حقيقتها، ليست اسماً اصيلاً للشيء، وإنّما أُطلقت عليه مجازاً أوّل الأمر. ومن أمثِلَة ذلك ترادف الوَغى والحرب. والوَغى في الأصل اختلاط الأصوات في الحرب، ثم كثر ذلك فصارت الحرب وغی، بنصّ ابن دريد(2). وتسمية الحرب وغى على المجاز المرسل لعلاقة المسبّب، وذلك لأن الحرب مسببة لاختلاط الأصوات. وعلى المجاز المرسل أيضاً نفسّر ترادف الراوية والمزادة. إذ إنّ الراوية هو البعير أو الحمار الذي يستقى عليه الماء، والمزادة هي الوعاء الذي يكون فيه الماء(3). وبسبب المجاورة في المكان انتقل معنى الراوية من الدابة التي يستقي عليها إلى المزادة. فصارت الكلمتان بمعنى واحد. وغني عن البيان أن المجاورة هي إحدى علاقات المجاز المرسل، والعرب تسمي الشيء باسم غيره إذا كان مجاوراً له أو كان منه بسبب، على حد تعبير ابن قتيبة(4). وعلى هذا النحو نفسر قول ابن دريد: «والراوية:
ص: 131
البعير الذي يستقى عليه ثم صارت المزادة راوية»(1).
لقد ذكر ستيفن اولمان {Stephen UImamn} أنّ ثمّة موضوعات معينة تكون مراكز التجمع المترادفات حولها بسبب أهميتها في المجتمع والحياة، ومثّل لهذا بعدة مسميات في الانكليزية والفرنسيّة ماله مجاميع من المترادفات؛ كفكرة {الموت} التي وصفها بأنها مرکز دائم لجذب التَّرادُف بسبب أهميتها. ثم أشار المؤلف بعد ذلك إلى أثر المجاز والكناية في مجموعة المترادفات الدالة على هذا المعنى معززاً قوله بالأمثِلَة(2)، وقد علّل كثرة مرادفات الموت تعليلاً وجيهاً حين قال: «والواقع أن الثروة الطائلة من المترادفات التي ولدتها جميع اللّغات لتخفيف صدمة الموت ووقعه على النفس إنما ترجع إلى هذا القانون:
{الاستهلاك بكثرة الاستعمال} والحاجة الدائمة إلى التجديد. ولیس دور هذا القانون في هذا المضمار بأقلّ من دور الموت نفسه، ذلك المجال الذي يضطرّنا إلى التنويع والتجديد في اصطلاحاته بسبب ماله من تأثير عاطفي»(3).
وربّما أراد أن يشير إلى أنّ هناك ألفاظاً تستلزم التَّرادُف؛ لما لها من الارتباط والتأثير في حياة الإنسان، ويمكن أنّ نمثّل بالناقة عند العربي، وارتباطها بحياته وأهميتها عندهُ، ما أدّى إلى ترادف عدّة ألفاظ للإشارة إليها أو إلى أجزائها، بل خُصّصت كتب في الإبل وصفاتها ومتعلقاتها.
ص: 132
يقول علي عبد الواحد وافي: «وقد جمع الأستاذ {دوهامر Dehammer} المفردات العربيَّة المتصلة بالجَمَل وشؤونه، فوصلت إلى أكثر من خمسة آلاف وست مئة وأربع وأربعين»(1). وذهب نفر من المُحدثين العرب إلى حدوث التَّرادُف بسبب المجاز والاستعارة، بيد أنّهم لم يربطوا ذلك مسألة التطوّر الدّلالي، ولم يبيّنوا علاقة العوامل الاجتماعيّة والنفسيّة وأثرها في هذا السبب، وأنّ من أشار منهم إليه لم يجعلهُ صراحة من أسباب نشأة التَّرادُف في اللّغة(2). على حين أنّ بعضهم قد أغفلهُ تماماً(3).
ومن المُحدثين الأجانب من تطرّق إلى ذلك فقد أشار إليه فندريس في عدّة مواضع مؤكّداً أثر الاستعارة والكناية في تعدّد التسمية بسبب العوامل الاجتماعيّة والنفسيّة. وذهب ستيفن أولمان إلى هذا السبب صراحة في الفصل الذي عقدهُ لدراسة التَّرادُف في طائفة من اللّغات، إذ ذكر أن الاستعارة {Metaphor} والكناية أوحسن التعبير {Euphemism} من أسباب حدوث التَّرادُف في اللّغة(4).
ص: 133
في حين نجدُ محمد نور الدين المنجّد لا يعدّ المجاز والكناية من أسباب نشوء التَّرادُف، قائلاً: «واعتراضنا على مثل هذه المترادفات من وجهين: الأوَّل: أنّها بين مفرد ومرکَّب، وشرط التَّرادُف: أن يكون بين مفردین.
الثَّاني: أن المركَّب تعبير كنائي عن المفرد، والكناية من الأساليب البلاغية التي تتفاوت فيها قدرات النّاس، وليس التَّرادُف من ذلك في شيء»(1).
والواضح من هذا الاعتراض أنه ناقش الأمثِلَة المركَّبة، دون النظر إلى الأمثِلَة التي ذكرناها وهي بين المفردات، كما أنّنا أشرنا سابقاً إلى أنّه لا يجوز عَدُّ كل مجاز سبباً للتَّرادُف على وجه الإطلاق، بل لابدّ من صيرورة المجاز ودلالته على الشيء دلالة الاسم الحقيقي الصريح. وذلك من خلال شیوع استعماله في هذا المعنى.
وخلاصة: القول فيما يتعلق بحقيقة ترادف الألفاظ في ضوء التطوّر الدّلالي هو أنّنا إذا نظرنا إليها نظرة {تأريخية} آخذين بالحسبان الأصول التأريخية الدلالتها، فإننا لا نجدُ ترادفاً فيها، أمّا إذا نظرنا إليها نظرة {وصفية} آخذين بالحسبان ما آلت إليه من دلالات لمسنا حقيقة ترادفها. والذي نميلُ إليه المنهج الوصفي في النظر إلى الألفاظ وما تشير إليه من دلالة عند مستعمل اللّغة. وهذا يستلزم القول بالتَّرادُف؛ لكن ليس على سبيل المبالغة فيه، ووصول المترادفات إلى المئات؛ فوظيفة اللّغة في الأساس إيصال المعنى إلى المتلقي من دون غموض أو لبس.
ص: 134
المقصود بها الصفات التي كثُر استعمالها إلى حدٍّ وصلت فيه إلى دلالتها الاسمية. ويرى الكثير من المُحدثين أن الصفات تغلب الأسماء الأصلية في الاستعمال، فتعدها في التسمية، وتصبح مرادفة لها(1).
يلاحظ في موضوع التسمية وتعددها أنه كلّما حظي الشيء المسمّى بمكانة كبيرة، أو كانت له أهمية خاصّة عند النّاس، کثرت أسماؤه تبعاً لوجوه استخدامه وتنوع احواله وصفاته، و«إذا تعددت وجوه الاستعمال الحيوان ما تعددت اسماؤه»(2). وقد تمثّل هذا الأمر الطبيعي في اللّغة وظهر أثره في مفرداتها بوصفها أداة للتعبير عن الواقع الاجتماعي وما فيه، وذلك ما نجدهُ في مسمّيات من نحو السيف، والجمل، والناقة، والعسل، والخمر، والصحراء، والأسد، والذئب، والحية، وغير ذلك من الظواهر الحيوية أو الطبيعية التي كانت ذات أهمية في الحياة العربيَّة آنذاك.
وقد اُخْتُلِفَ في عدّ الصفات من المترادفات، ومبعث خلافهم فيها أنّ الاسم يدلّ على ذات المسمى على سبيل التجريد لا المعنى فيه، في حين تدلّ الصفة على المسمّى وتشير إلى معنى خاصّ فيه.
كما يقول ابن الأثير: «فقد يوجد من الاسماء ما يطلق على
ص: 135
المسمّى بالوضع اسماً للذات لا المعنى فيه، كالسيف بإزاء هذه الآلة المعروفة كيف كانت. ومنها ما يطلق عليه لصفته فيه كالصارم، فإنّه موضوع له لصفة الحدة»(1).
وعلى هذا يجري القول في سائر الألفاظ التي عرف بها السيف.
وقد عبّر فخر الدين الرازي عن هذا الفرق بوحدة الاعتبار، فالسيف والصارم مثلاً، وإن «دلا على شيء واحد، ولكن باعتبارين أحدهما على الذات، والآخر على الصفة» وعلى هذا كانا متباينين وليسا مترادفين، الاشتراط تحقق وحدة الاعتبار في المترادفين(2).
ولكن إبراهيم أنيس مع قوله بعنوان الوصفية يرى أن الدّلالة لم تصمد ولم تكن عصية على التطوّر والتغير، بل اقتصت من أطرافها، فالتقت الألفاظ المتعددة على المعنى الواحد.
وهذا ما عبّر عنه بعض العلماء بقولهم فقدان الوصفية(3).
وهكذا تعدّدت الألفاظ المختلفة للسيف بحسب الوجوه والاعتبارات الكثيرة. وواضح أنّ الفرق بين هذه الألفاظ في أنّها تدلّ على السيف لخاصية معينة فيه، على حين تدل كلمة «سيف» على المسمّى مجرّدة من هذه
ص: 136
الاعتبارات والأوصاف فهي تقع على الكلّ أياً كان.
ولا بدّ من أنّهم كانوا يراعون مثل هذه الفروق ويلحظون تلك الاعتبارات في استعمالهم لهذه الألفاظ واطلاقها على السيف في الأصل، ولا سيّما في نظر البدوي مستعمل السيف وصاحبه، الذي يدرك هذا التباين ويحسّ به أكثر من غيره نتيجة معاينته وخبرته وتماسه المستمر بالسيف وشؤونه.
غير أنه بمرور الزمن، ولبعدنا عن التمييز بين الأصل، مجرداً ومنعوتاً من هذه الصفات، ولكثرة تداول هذه الألفاظ - أو الصفات - وشيوعها في الاستعمال، کتب لها الغلبة والشهرة فغلبت غلبة الاسماء.
وربّما طغى بعضها في الاستعمال على الاسم الحقيقي المجرد {السيف} وخاصة تلك الألفاظ التي تشير إلى صفات مستحسنة محمودة فيه، وتلك الألفاظ التي تدلّ على أحسن السيوف وأفضلها عندهم نحو الحسام، والصارم، والعضب، والمشرفي، والمهند، واليماني، والبتار.
فإنّ هذه الألفاظ الغالبة المشهورة في السيف قد كانت صفات له لا ريب في ذلك. بيد أنّه قد أغفل فيها معنى الوصف شيئاً فشيئاً بسبب كثرة الاستعمال، والتركيز على ميزة فيه تممنا أكثر من غيرها. وفي الأصل أن يكون للشيء تسمية واحدة، ولا ضير في تعدد الأوصاف، وقد سبّب تعدد الأوصاف ولادة كثير من أمثلة التَّرادُف، ولتوضيح ذلك نبيّنه بالمخطط الأتي:
ص: 137
السيف المهند الصارم الصمصام الحسام البتار القاطع، وغير ذلك.....
فإن {السيف} هو الاسم الأصل وما سواه أوصاف جاءته؛ إما من مکان صنعه، أو طبيعته، أوشكله الخارجي، ولكن كثرة استعمال الصفات وغلبتها أدّت إلى استعمالها للتعبير عن السيف ذاته.
وقد قام حاکم مالك الزيادي بدراسة استقرائية لاستعمالات کل لفظة من ألفاظ السيف في ديوان المتنبّي، قائلاً: «وخلصت من هذا الإحصاء إلى أن المتنبّي قد استعمل كلمة {السيف} اسماً أصلياً أربعاً ومائة مرّة. على حين استعمل ستاً وعشرين صفة من صفاته في تسع وثلاثين ومائة مرة.
ومن هذه الألفاظ ما يدلّ على السيف ويشير إلى زيادة معنى الوصف فيه، ومنها ما يراد به السيف فقط نحو الحسام التي استعملها ثماني عشرة مرّة، والصارم التي استعملها سبع عشرة مرّة، والهندية أو الهندواني أو المهنّد التي استعملها سبع عشرة مرّة، والمشرفي التي استعملها ثماني مرّات، والعضب التي
ص: 138
استعملها خمس مرات، والمناصل التي استعملها تسع مرّات، والصمصامة أو الصمصام التي استعملها مرّتين، واليماني التي استعملها مرّة واحدة، إلى غير ذلك من الاستعمالات الأخرى للألفاظ المتعلّقة بالسيف ویبدو واضحاً من هذا الاحصاء أن استعمال الألفاظ التي تدلّ على السيف أو عليه وعلى صفة فيه هي أكثر من استعمال الاسم الحقيقي الصريح للسيف في ديوان المتنبّي، ويدلّ هذا على شيوعها وغلبتها ومدى طغيانها على الاسم الأصلي.
وأن المتنبّي قد استعمل طائفة من هذه الألفاظ استعمال الاسم ولم یکن يقصد بها إلا السيف»(1).
وربّما كان السبب، في كثرة لفظة السيف او ما يدّلُ عليه، في القصائد المدحية للمتنبي، هو أن معظمها في مدح سيف الدولة الحمداني، وقد يكون اللقب {سيف الدولة} أثرٌ كبيرٌ في كثرة استعمال المتنبي للفظة السيف او ما يدّلُ عليه، لاستمالة ممدوحه، ومن القرائن على ذلك أن مدح المتنبي لكل من بدر بن عمار، وكافور الأخشيدي، وفاتك ابو شجاع، لا يكثرُ فيه لفظة السيف، كما هو مع سيفيّات المتنبي في مدح سيف الدولة الحمداني.
إن استعمال صفات السيف بمنزلة الاسم، يشبه استعمال العباس، والحارث، والحسن في تسمية أشخاص بأعيانهم؛ وإنّما أصل هذه أوصاف ثم
ص: 139
نقلت إلى العلمية.
وكثيراً ما نجدُ في كتب اللّغة ما يدعوهُ اللّغويون ب{الصفات الغالبة وهي إشارة إلى شيوع هذه الألفاظ وكثرة تداولها وغلبتها حتى يصار بها إلى أسماء في الاستعمال. ومن هذا ما جاء في اللسان حول الحسنة والسيئة، قوله:
«وقد كثر ذكر السيئة في الحديث، وهي والحسنة من الصفات الغالبة».
يقال: كلمة حسنة، وكلمة سيئة، وفعلة حسنة وفعلة سيئة(1).
وكذلك قوله: «والحاجب: البواب، صفة غالبة وحجبه: أي منعه عن الدخول»(2)، ونحو هذا قوله في تسمية العظمين اللذين فوق العينين بلحمها وشعرهما بالحاجبين، وأنّها صفة غالبة(3).
ومثلها كلمة جهنم التي استخدمت نعتاً يشير إلى معنى العمق، ثم أصبحت من أسماء النار بعد ذلك. فقد ذكر ابن منظور أنّ الجِهِنّام تعني القعر البعيد، وأن لفظة جهنم استخدمت صفةً تشير إلى معنى العمق حيث يقال: بئر جهنّم: أي بعيدة القعر وجهنام كذلك.
وبعد بيان أصلها يقول: «و به سمیّت جهنم لبعد قعرها»(4). ويتضح
ص: 140
من هذا كيف تكون الصفة سبيلاً من سبل تسمية الأشياء وإحدى طرائق إطلاق الألفاظ على المسمّيات.
وفي اللسان عن ابن سيده حول تسمية ضرب من الحيات بالأرقم: «الأرقم من الحيات الذي فيه سواد وبياض والجمع أراقم، غلب غلبة الاسماء فكسر تكسيرها ولا يوصف به المؤنث»(1).
وعن ابن حبيب: «و الأرقم إذا جعلته نعتاً قلت أرقش وإنّما الأرقم اسمه»(2). وممّا يؤكّد تطّور الصفة وانتقالها إلى فصيلة الأسماء، ما أقرّه البحث اللّغوي الحديث، من أن التأمّل في طائفة من الألفاظ والبحث فيها من خلال تطورها اللّغوي التاريخي، يظهر أن ثمّة أسماء كثيرة كانت في الأصل صفات. فقد لاحظ بعض المُحدثين العلاقة الوثيقة بين الصفة والاسم والشبه الحاصل بينهما، وأنّهما يتبادلان الوظيفة في اللّغات كلّها، وقالوا بتحوّل أحدهما إلى الآخر بفعل الاستعمال.
وهذا ما بيّنه فندريس فذكر أنّ «الصفة من جهتها لا يمكن تمييزها من الاسم تمييزاً واضحاً، إذ يبدو أنّهما في اللغات الهندية الاوروبية صادران عن أصل مشترك، وأنّهما في كثير من الحالات يحتفظان بصيغة
ص: 141
واحدة، وأن الاسم والصفة يتبادلان الدور في كل اللّغات، وكذلك لم يكن بينهما حد فاصل من الوجهة النحوية فيمكن الجمع بينهما في فصيلة واحدة هي فصيلة الاسم». كما بيّن فندريس أن الاسم يصير صفة وبالعكس، فهو يقول بأنّ «كون الاسم يستطيع أن يصير صفة بتلك السهولة يرينا أنّه لا يوجد فرق جوهري بين هاتين الكلمتين» وأنه «كثيراً ما يقال في التعبير عن هذا الفرق أن الصفة أشمل مضموناً من الاسم. وهذا حقّ ولكن على شرط أن تضاف إليه العبارة التالية: في نظر المتكلم».
«وتستطيع الصفة بدورها أن تصير اسماً وهذا يحدث كلّما أضيف الوصيف العام الذي يعبّر عنهُ بالصفة إلى فرد خاص، أي كلّما صارت الصفة وهي شائعة بطبيعتها - معرفة - ومن ثم جاء استعمال هذه الصفات المعرفة في اسماء الاعلام. وذلك هو السبب في أن اسماء الأعلام التي أصلها صفات تستعمل بالتعريف». وهي أيضاً تمدّنا بعدد كبير من أسماء الأشياء(1).
وإلى مثل هذا أيضاً ذهب ستيفن أولمان في دراسته تغير المعنى وأسبابه وأشكاله، إذ ذكر أن الصفة تتحول إلى اسم، جاعلاً هذا الأمر من صور التطوّر الدّلالي في الألفاظ. والملاحظ أن انتقال الصفة إلى الاسمية غالباً ما يكون له سبيلان، أوّلهما هو الصفة الشائعة والغالبة التي تستعمل بالتعريف وهو من باب إقامة وصف الشيء مقام اسمه؛ وثانيهما هو عن طريق الإضافة
ص: 142
حيث يحذف المضاف ويقوم المضاف إليه مقامه وهو من باب إضافة الموصوف إلى صفته. وفي هدى هذا نفسّر ترادف كلمات مثل الدنيا والحياة والأصل الحياة الدنيا، ومثل المسجد والجامع والأصل مسجد الجامع، وفي فقه اللّغة یک للثعالبي فصلان الأوَّل بعنوان: {فصل في إضافة الشيء إلى صفته}، والثَّاني بعنوان {فصل في إقامة وصف الشيء مقام اسمه} وقد أورد الثعالبي جملة من الأمثِلَة على ذلك من القرآن الكريم وكلام العرب(1).
وتبعاً لمبدأ انتقال الصفة إلى الاسمية نتيجة التطوّر اللّغوي كما بينّا، يمكن أن نقرّر أن الصفة بهذا المعنى هي من أسباب وقوع التَّرادُف في اللّغة. ويثبت هذا أن البحث في الألفاظ المترادفة من الناحية اللّغوية التأريخية يكشف لنا بوضوح أن كثيراً من الألفاظ إنّما هي في أصولها صفات، ثمّ صارت اسماء بفعل الاستعمال.
يقول محمد المبارك: «ولو نظرنا إلى وضع الألفاظ وتسمية المسمّيات من وجه آخر لوجدنا أن للشيء المسمّى وجوهاً وصفات كثيرة، ويمكن أن صفة بأكثر من يسمى صفاته، وأن يشتقّ له من الألفاظ كلمات متعدّدة من تبعاً لتلك الوجوه والصفات ومن هنا ينشأ التَّرادُف. وهذا هو أبرز أسباب نشوئه وظهوره في جميع اللّغات»(2). وهذا القول صحيح في جملته ولكن
ص: 143
فيه شيء من الاطلاق، ينبغي تحديدهُ وحصرهُ بالصفة الغالبة غلبة الاسم التي تطوّرت فبلغت مرحلة الاسمية وتنوسي فيها معنى الوصفية. حتى عُدّت من باب الاعلام المنقولة عن صفات. فليست كلّ صفة مسبّبة للتّرادُف مالم تستعمل استعمال الاسماء دون أي اعتبار آخر. وإذا ما علمنا أن القُدامى يشترطون الوضع والاصالة في التَّرادُف، فعندئذ لا ترادف في مثل هذه الألفاظ التي جرت على هذا السبيل أن أخذنا بهذا الشرط. وأمّا إذا اعتبرنا بتطور هذه الألفاظ وما آلت إليه فحينئذ تبدو مترادفة. ونحن نتّفقَ إلى حدٍّ ما، مع رأي الشيخ عز الدين بقوله: «و الحاصلُ أنّ من جَعَلها مترادفةً ينظرُ إلى اتّحاد دلالتها على الذات، ومن يمنعُ ينظر إلى اختصاص بعضها بمزيد معنى»(1).
ویری ماجد نجاريان أنّ الخوض في موضوع أسباب حدوث التَّرادُف في العربيَّة والوقوف على العوامل التي أدّت إلى وقوعه فيها، انطلاقاً من المبدأ سوف يُخرج جميع ما وضع في خانة المترادف من النوع الأوَّل، أي من نوع التَّرادُف التام، ويدخله في النوع الثَّاني أي شبه التَّرادُف، أو ما بالتَّرادُف الجزئي(2).
والذي نرجحه أنّ التَّرادُف ليس حالة أصيلة في الألفاظ؛ وإنما حالة
ص: 144
عرضية طرأت على الألفاظ عن طريق الاستعمال، وإنّ الأصل في التَّرادُف أن يكون جزئياً لاترادفاً تامّاً؛ كما أنّهُ لا يمكن تفسير حدوث التَّرادُف بسبب معيّن، ولا يصحّ قصر نشأتِهِ على عامل واحد دون سواهُ، على ما ذهب إليه قدامى اللّغويين وتابعهم فيه كثير من المحدثين؛ والواقع أنّ نشأة التَّرادُف تعودُ إلى جملة أسباب وعوامل مختلفة، تتفاوت أثراً ووضوحاً كما عرضنا لها في هذه الدراسة.
لم يلقَ التَّرادُف إجماعاً كاملاً عند اللّغويين {قدماء ومحدثين} بل انقسموا حيالهُ إلى قسمين، بين منکرٍ ومؤيّدٍ، لذا آثرنا أن نجعل لكلّ قسم دراسة خاصّة.
قسّمنا المنكرين إلى قسمين؛ الأول المُنكرون العرب، والقسم الثَّاني المُنكرون من الغرب، ثمّ قسّمنا العرب إلى قسمين {قدامی ومحدثين}؛ أمّا الغربيون فقسّمناهم من حيث إنكارهم للتّرادُف {التام والجزئي}، فالصّنف الأول المنكرون للتّرادُف التام، والصّنف الثاني المنكرون للتّرادُف الجزئي كما يأتي
ص: 145
أوائل المنکرین للتّرادُف، ابن الإعرابي(1)، وتلميذه ثعلب الذي يقول: «لا يجوز أن يختلف اللفظ والمعنى واحد، لأن في كل لفظة زيادة معنى ليس في الأخرى، ففي ذهب معنى ليس في مضى». وتلميذ ثعلب أحمد بن فارس، وأبوعلي النحوي. كذلك أنكره في القرن الرابع للهجرة ابن درستويه(2) الذي يقول: «لا يكون فعل وأفعل بمعنى واحد، كما لم يكونا على بناء واحد إلا أن يجيء ذلك في لغتين مختلفتين، فأمّا من لغة واحدة فمحال أن يختلف اللفظان والمعنى واحد، كما يظن كثير من اللّغويين والنحويين، وإنما سمعوا
ص: 146
العرب تتكلم على طباعها ولم يعرف السامعون العلل والفروق فظنوا أن هذه الألفاظ بمعنى واحد، فقد أخطأوا في تأويلهم، وليس يجيء شيء من هذا الباب إلا على لغتين متباينتين»(1).
ويبدو لنا من كلامه أنّه يقرّ التَّرادُف الحاصل من اختلاف اللّهجات و{هذه إشارة التفت إليها المحدثون واشترطوا في وقوع التَّرادُف اتحاد البيئة}، ويؤكّد أيضاً على الفروق الدلالية بين الكلمات وعدم إدراك السامع لها يؤدي إلى وقوع التَّرادُف وهو بهذا يؤكد على سياقها الاجتماعي.
ويرد ابن فارس على حجج مثبتي التَّرادُف، ومن خلال رده يتبيّن رأيه في مسألة التَّرادُف، يقول: «وأمّا قولهم: إن المعنيين لو اختلفا، لما جاز أن يعبّر عن الشيء بالشيء، فإنا نقول: إنما عبّر عنه من طريق المشاكلة، ولسنا نقول: إنّ اللفظتين مختلفتان، فيلزمنا ما قالوه. وإنّما نقول: إنّ في كلّ واحدة منهما معنى ليس في الأخرى»(2). فابن فارس يرى أن بين اللفظين مشاكلة، وأنّ بينهما قدراً من الدّلالة يسمحُ بنيابة أحدهما عن الآخر في الكلام، ولكنه يؤكّد أنّ كلّ لفظ منهما يحمل دلالة خاصّة ليست في الآخر(3). والمعيار الذي
ص: 147
نتبنّاهُ في دراستنا للتّرادُف هو إمكانية استعمال لفظة بدل الأخرى؛ فإن تحقّق هذا الإمكان بينهما فهما مترادفان، وإلاّ فلا. فعندنا التَّرادُف لايعني التطابق التامّ في المعنى، ولعلّ المنكرين على حقّ؛ ولكنّهم لم يلحظوا سوى التَّرادُف التطابقي أو ما يسمّى {التامّ}.
ومن المنكرين، الراغب الأصبهاني وابن الأنباري والبيضاوي الذي جزم في المنهاج أن التَّرادُف على خلاف الأصل والأصل هو التباين. ويعدّ کتاب {الفروق اللّغوية} لأبي هلال العسكري، من أكثر الكتب، التي اهتمت بالفروق بين الألفاظ في المعاني. والذي يقول في مقدّمته: «الشاهد على أن اختلاف العبارات والأسماء يوجب اختلاف المعاني أن الاسم كلمة تدلّ على المعني، دلالة الإشارة وإذا أشير إلى شيء مرة واحدة فعرف فالإشارة إليه ثانية وثالثة غير مفيدة وواضع اللّغة حكيم لا يأتي فيها بما لا يفيد»(1). ولعلّ دليل أبي هلال مقبولٌ على فرض وحدة الواضع؛ والذي نميل إليه أنّ واضع اللّغة ليس واحداً، والوضع ليس في بيئة واحدة، كما ليس في ليلة واحدة.
على الرغم من إنكار ابي هلال العسكري، نجده في موضع آخر من الكتاب في باب الفرق بين الاختصار والإيجاز، يقول: «إنّ الاختصار هو إلقاؤك فضول الألفاظ من الكلام المؤلف من غير إخلال بمعانيه، ولهذا يقال قد اختصر فلان کتب الكوفيين أو غيرها، فالاختصار يكون في كلام
ص: 148
قد سبق حدوثه وتأليفه، والإيجاز هو أن يبني الكلام على قلة اللفظ وكثرة المعاني، يقال أوجز الرجل في كلامه، فإن استعمل أحدهما موضع الآخر فلتقارب معنييهما»(1). نلاحظ أن أبا هلال العسكري بعد أن أعطى الفرق بين اللفظتين ختمها بهذه العبارة التي توحي إلى تقارب المعاني فهو لا ينكر ذلك، فربما استعمل البعض لفظة الاختصار بدلاً من الإيجاز أو بالعكس، فهو اعتراف بوجود ترادف ليس على نحو الاتّحاد التامّ في المفهوم الذي دعا إليه بعض علماء اللّغة، وإنما من باب تقارب المعنى، فيمكن إبدال احد اللفظين بالآخر؛ وهذا ما نميل إليه.
ويذهب ابن الأعرابي إلى أن مكة سميت بذلك لجذب النّاس إليها، ثمّ يقول بعد كلام طويل عن علّة بعض التسميّات لبعض البلدان «فإن قال رجل: لأي علّة سمّي الرجل رجلاً، والمرأة امرأة قلنا: لعلّة علمتها العرب، وجهلناها، فلم تزل عن العرب حكمة العلم بما لحقنا من غموض العلة وصعوبة الاستخراج علينا». وفي هذا الشأن يقول ايضاً: «كل حرفين أوقعتها العرب على معنى واحد في كل منهما معنى ليس في صاحبه، ربما عرفناه فأخبرنا به، وربما غمض علينا»(2). ويتّضح لنا من كلام ابن الأعرابي أنه يؤكّد ما تحملهُ الكلمات من معنى مختلف فيما بينها، وهو يشير إلى نقطة مهمّة هي سياق الكلمات الاجتماعية أو مقام إطلاقها على الألفاظ التي
ص: 149
كانت تستعمل فيه، وهذه إشارة واضحة إلى تلمّس الدّلالة السياقية الاجتماعية وأثرها في ترادف الكلمات في فهم أحد اللّغويين القدماء.
وباستعراض الآراء السابقة نجد أن أصحابها ينكرون وجود التَّرادُف، ويمكن أن نستنبط عللهم ونجملها في النقاط الآتية:
أولاً: إنّ الشَّارع حكيم، وإذا سلمنا بالتَّرادُف، وقعنا في عبثية لفظية، ينّزه الشارع عنها، ورأيهم هذا ينطلق من عَدِّ اللّغة توقيفاً.
ثانياً: إنّ لكل كلمة دلالة تدور في محيطها، وما لم نعلم علته، فهو معلوم في العربيَّة، وإن جهلناه.
ثالثاً: لعلّنا نأخذ على المنكرين ذكر بعض المترادفات على الرغم من إنكارهم لمبدأ التَّرادُف، ومن ذلك ما نقله السيوطي عن أمالي الزَّجاجي قال أخبرنا نَفْطويه عن ابن الأعرابي قال يقال: للعِمامة هي العمامة، والمَشْوذ، والسِّبّ، والمقطعة، والعصَابة، والعِصَاب، والتّاج، والمِكْوَرة(1)؛ وفي أمالي ثعلب يقال: وقع ذلك في روعي، وخَلَدي، ووَهْمِي، بمعنى واحد(2). ومن ذلك قول ابن الأنباري في تقسيم الألفاظ وأنواعها «والضرب الآخر أن يقع اللفظان المختلفان على المعنى الواحد، كقولك البُرُّ والحنطة، والعَيْر والحمار، والذئب والسِّيد، وجلس وقعد، وذهب ومضى»(3).
ص: 150
وأقرّ ابن فارس أيضاً بترادف فعل وأفعل، يقول: «یکونُ الفعل بالألف وغير الألف في معنى واحد نحو قولهم: رميتُ على الخمسين وأرميتُ، أي زدتُ، وعَندَ العِرْق إذا سال، وأعْنَد»(1). ويفخرُ ابن فارس باتِّساع العربيَّة وفضلها على اللّغات بقوله: «وممّا لا يمكنُ نقله ألبتّة أوصاف السيف والأسد والرمح، وغير ذلك من الأسماء المترادفة، ومعلوم أنّ العجم لا تعرف للأسد اسماً غير واحد، فأمّا نحن فنخرجُ له خمسين ومئة اسم»(2). ومن ذلك ما ذكرناهُ سابقاً عن أبي هلال العسكري من أنّ تقارب المعنى يجوّز لمستعمل اللّغة أن يستخدم أحد اللفظين بدل الآخر.
ويبدو لأول وهلة أنّ ثمّة تناقضاً وقع فيه المُنكرون حين ذكر كلّ منهم أمثلة قليلة أوكثيرة من المترادفات، مع إنكارهم النظري للتَّرادُف، حتّی دعا هذا التناقض إلى استغراب الأستاذ الزيادي، قائلاً: «وهو أمر يدعو إلى العجب والغرابة؛ لأنّه يخالف في الظاهر ما ذهبوا إليه، ويدلّ دلالة واضحة على عجزهم عن بيان الفروق وذكرها في مثل هذه الألفاظ التي يسوقوفها بمعنى واحد، وفي مسلك هؤلاء - كما نرى - تسلم بالواقع اللّغوي، وهو ما يعزِّز مذهب القائلين بالتَّرادُف إلى حدٍّ كبير.
وأمّا توجيه المنكرين وتأويلهم له بجهل تلك الفروق وغموض العلل
ص: 151
والأسباب علينا وصعوبة استخراجها، ومن أنّ العرب لابدّ أنّهم كانوا يعرفونها، فهي حجّة واهية، أقرب إلى الفرضية المنطقية، وعزوف عمّا يجري به الواقع اللّغوي»(1).
وربّما أن المنكرين توصّلوا ببعد نظرهم إلى ما توصّل إليه علم اللّغة الحديث الذي أمعن النظر في المسألة، ففرّق بين التَّرادُف الكامل وأشباه التَّرادُف، فأنكر الأوّل وأقر الثَّاني، ولايعدّ ذلك تناقضاً بين إثبات وإنكار، وإنّما هي النظرة الموضوعية التي تدرسُ الظاهرة بمختلف مستوياتهما؛ وكذا كان شأن المنكرين في ما نظنّ، فهم من نظرقم التاريخية ينكرون التَّرادُف الكامل بين اللفظين بما يحملانه من معنى عامّ ومعانٍ فرعية خاصّة، ربّما ساعد الاشتقاق وعلل التسمية على كشفها، أمّا أن يجتمع اللفظان على معنى عامّ، أو معنيين متقاربين، أو متداخلين، فلا يكترثُ بالدقّة الدلالية بينهما في التخاطب ولاينكرونُ ذلك، فهم يفرّقون بين مستويين في استخدام اللّغة، مستوى الدقة الدلالية، ومستوى التخاطب العامّ.
ويرى بعض المحدثين، عدم جواز اختلاف الحركتين في الكلمتين ومعناهما واحد، ثمّ يقولون: وإذا كان اختلاف الحركات يوجب اختلاف المعاني، فاختلاف المعاني أنفسها أولى أن يكون كذلك.
ص: 152
ولهذا المعنى قال المحققون من أهل العربيَّة: «إنّ حروف الجر لاتتعاقب» ويفرّقون بين قولي أبصرته، وبصرت به على اجتماعهما في فائدة شبه متساوية إلاّ أن أبصرت به معناه أنك صرت به بصيراً بموضعه، وفعلت أي انتقلت إلى هذه الحال، وأمّا أبصرته فقد يجوز أن يكون مرّة، وأن يكون لأكثر من ذلك.
يقول علي زوين: «والرأي القائل بنفي التَّرادُف وتوجيه ألفاظه بمزيد معنىً، له ما يعضدهُ في الدراسات الدلالية الحديثة لاسيما في {المعنى} و{ظلال المعنى}؛ فالمعنى المركزي للكلمة له ظلال متفاوتة تتميّز بخصوصیات دلالية دقيقة تظهر في السياقات، ولعلّ في ألفاظ الرؤية البصرية أمثلة مناسبة لذلك، نحو: رأي، بصر، رمق، شزر»(1).
لكنّنا نجد بعض المحدثين ينكرون التَّرادُف التام، ويعترفون بالتَّرادُف الجزئي، منهم محمود فهمي حجازي، فقد صرّح بقوله: «إنّه في ظل مبدأ نسبية الدّلالة لا يمكن أن تكون هناك كلمات تتفق في ظلال معانيها اتفاقاً کاملاً، ومن الممكن أن تتقارب الدلالات لا أكثر ولا أقلّ. فالألفاظ المترادفة هي بهذا المعنى الألفاظ ذات المعاني المتقاربة»(2).
ومن هؤلاء أحمد مختار عمر، الذي عبّر عن هذا المفهوم بقوله: «إن التَّرادُف - بمعنى التطابق الذي يسمح بالتبادل في كل السياقات من دون
ص: 153
فرق بين اللفظتين في جميع أشكال المعنى - لا وجود له وبخاصة إذا نظرنا إلى اللفظتين في داخل اللّغة الواحدة وفي مستوى لغوي واحد وخلال فترة زمنية واحدة.
أمّا إذا أردنا بالتَّرادُف التطابق في المعنى الأساسي {وحده} أو اكتفينا بإمكانية التبادل في بعض السياقات، أونظرنا إلى اللفظتين في لغتين مختلفتين أو أكثر من فترة زمنية، أو أكثر من بيئة لغوية فالتَّرادُف موجود لا محالة»(1).
ويرد إبراهيم أنيس في سياق تعليقه على مؤلفي كتب الفروق اللّغوية القدامی: «ولا نكاد نرى في كتب هؤلاء العلماء شواهد أو نصوصاً قديمة نستدلّ منها على ما يمكن أن يكون بين الدلالات من فروق، واغلب الظن أن ما التمسوه من تلك الفروق لم يكن إلا من وحي خيالهم. ومن الغريب أن نری ناقداً من النقاد القُدامى مثل أبي هلال العسكري، وهو مَنْ عُرِفَ بعنايته بمذهب اللفظية يقول: إنّ الأثر الأدبي قد يسمو باللفظ وحده إذا كان سامياً، وحسب المعنى أن يكون متوسطاً. فهو مع هذا أو برغم هذا يؤلف لنا كتاباً يسمّيه {الفروق اللّغوية} وفيه يحاول جهده أن يلتمس فروقاً دقيقةً بين مدلولات بعض الألفاظ المترادفة دون سند من نصوص أو شواهد. ولیس عمله في هذا الكتاب إلاّ عمل الأديب صاحب الخيال الخصيب الذي يرى في
ص: 154
الأمور ما لا يراه غيره، ويلتمس من خلال المعاني ما لم يخطر على ذهن أصحاب اللّغة القدماء»(1)، إلاّ أن ذلك لا يعني إنكار وجود الفروق الدلاليّة في اللّغة العربيَّة أو التقليل من شأنها ونسبتها إلى الوضع والخيال، كما يظنّ إبراهيم أنيس.
ومن خلال تتّبع آراء الذين أنكروا التَّرادُف من العرب {قدامی ومحدثين}، يمكن ملاحظة ما يأتي:
1) يمكن القول إنّ جذر هذه القضية يعود إلى أصل نشأة اللّغة، ومن المعلوم أن علماء اللّغة على اختلاف واسع ومبسوط في كتب اللّغة، ويكاد الرأي الأخير يتشعب إلى رأيين أحدهما يرى التوقيف في أصل نشأة اللّغة، وأن الله علّم آدم الأسماء كلّها، ورأي آخر يرى أن اللّغة قائمة في أصلها على الاصطلاح والتواضع. وتبعاً لهذين الرأيين انقسم علماء اللّغة إلى قسمين في قضية التَّرادُف، بين منکرٍ ومؤيدٍ. فالمُنكرون يرون أن الشارع حکیم، ومن العبث أن يأتي التَّرادُف إلا ولكل كلمة دلالة، فإذا سلمنا بتلك الدلالات المتعددة فلا ترادف.
2) يتبيّن مما سبق أن أبا هلال العسكري من القدماء، ومحمود فهمي حجازي وأحمد مختار عمر من المُحدثين وغيرهم، ينكرون التَّرادُف بمعنى الاتحاد التامّ في المفهوم ولكن يعترفون بوجود التَّرادُف إذا كان بمعنى تقارب المعاني بين الألفاظ.
ص: 155
3) إنّ بعض المنكرين يؤوّلون بعض المترادفات بالتماس فروق دقيقة بينها، ومن ذلك تفريقهم بين ما هو اسم، وما هو صفة، كما فعل ابن فارس، وهذا النوع من التفريق يتّفقون فيه مع بعض المثبتين ممّن ضيّقوا مفهوم التَّرادُف، كالآمدي وفخرالدين الرازي والغزالي.
ويرتكز أغلب الفروق الملتمسة على التوسّع في إبراز العلاقات الاشتقاقية بينها وبين كلمات أخرى، وهو مايخرجها عن دائرة التَّرادُف، وقد وصف الرازي تلك المحاولات بالتعسّف، كما وصفها التاج السبكي بالتكلّف، ومن تلك التكلفات حكمهم على العلاقة بين الإنسان والبشر بأنّها علاقة تباین وليست علاقة ترادف، موضّحين أنّ «الأول موضوع له باعتبار النسيان أو باعتبار أنّه يؤنس، والثَّاني باعتبار أنّه بادي البشرة»(1). ويمكن توجيه هذا الإشكال بقول شمس الدين المحلّي (ت. 864 ه}: «العرب تطلق الإنسان حيث لا يخطر ببالها معنى النسيان، أو الأنس، والبشر حيث لا يخطر ببالها معنى باد في البشرة»(2).
ولو كانت هذه الفروق ملحوظة من متكلّمي العربيَّة لراعوها في استخداماتهم لهاتين الكلمتين، أما وقد أهملت، وأغفلها المتكلمون فذلك يستلزم عدم اعتبارها في معنى الكلمتين ويقتضي ترادفهما طبقاً لذلك، إذ
ص: 156
كيف نتصوّر اطلاقهم كلمة إنسان أو بشر واستعمالهم لهاتين الكلمتين دون ملاحظة هذا الاختلاف مع أنّه جزء المعني على تقدير أنّهما متباینان، وربّما قيل: إنّ اعتبار التباين لأجل المناسبة، أي لأنّ تسمية كلّ منهما باعتبار مناسبة معنى ما اشتقّ منه، فلا يلزم ملاحظته عند الاستعمال، فالجواب أنّه حينئذ ليس بجزء.
4) إنّ بعض المنكرين يقصرون منع وقوع التَّرادُف في اللهجة الواحدة فقط، أما في اللغة بعامّة فلاينكرونه، وهو ما يفهم ممّا سبق من كلام ابن در ستوية، والعسكري، والأصفهاني.
5) يمكن القول: إن الأساس الذي اعتمد عليه المُنكرون للتّرادُف هو الرجوع إلى التواضع في اللّغة {الأصل اللّغوي} وليس الاستعمال اللّغوي، وإنّ الأساس في اللّغة أن كل لفظ يدلّ على معنى خاصّ به، ومن المحال اتحاد المعني بين الألفاظ، أما إذا قلنا بالاستعمال واعترفنا به فعلينا أن نعترف بما يترتّب عليه من تطور دلالي في المعنى.
6) إن موقف المنكرين في الرجوع إلى الأصل اللّغوي {التواضع في اللّغة}، فيه شيء من الإغفال لحقيقة اللّغات، ولكوفا نشاطاً حيوياً {ديناميكياً} لاتوقف فيه ولا انتهاء له.
ص: 157
ومن الذين أنكروا التَّرادُف من علماء اللّغة الغربيين المُحدثين، بلومفيلد {Bloomfield} إذ يقول: «إنّنا ندّعي أنّ كلّ كلمة من كلمات التَّرادُف تؤدّي معنى ثابتاً مختلفاً عن الأخرى، ومادامت الكلمات مختلفة صوتيّاً فلابدَّ أن تكون معانيها مختلفة كذلك. وعلى هذا فنحنُ باختصار نرى أنّه لا يوجدُ ترادف حقيقي»(1). وهذا الرأي يتفق إلى حد ما مع رأي منكري التَّرادُف في العربيَّة.
ويقول {Foundations of Linguistics} إنّهُ لا يوجدُ مترادف کامل في اللّغة، فإذا اختلف لفظان صوتيّاَ فلابدّ أن يختلفا دلاليّاً، ویری «ليونارد»(2) الذي تأثَّر به بعض المعاصرين أنّه «إذا اختلفت الصيغ صوتياً
ص: 158
وجب اختلافها في المعني»(1). ويقول {Stork}: كل الكلمات تملك تأثيراً عاطفيّاً، كما تملكُ تأثيراً إشارياً. ولهذا فمن المستحيل أن تجد مترادفات كاملة(2). ويقول فرانك بالمر: «ومع كل ما ذكر بوسع المرء أن يقف إلى جانب من زعم بعدم وجود مترادفات حقيقية، لعدم إمكانية حيازة كلمتين للدلالة نفسها على نحو كامل، ولعدم إمكانية تعايش كلمتين تشيران إلى معنى واحد تعايشاً واقعياً»(3).
لقد أشار كمال بشر إلى أن عدم اعتراف «فيرث» بالتَّرادُف «التام والجزئي» يتمشى مع مذهبه الخاصّ بالمعنى اللّغوي؛ فالمعنى اللّغوي عنده عبارة عن مجموعة الخصائص والمميزات اللّغوية للكلمة أوالعبارة أوالجملة.
؛ومن الطبيعي أن تكون المميزات الصوتية إحدى هذه المميّزات والخصائص، فإذا اختلفت من كلمة إلى أخرى {كما هو الحال في المترادفات} وجب اختلاف الكلمات في المعنى أيضاً والنتيجة الحتمية لهذا
ص: 159
هي عدم وجود التَّرادُف(1).
ولّخص collinson الفروق التي تقع بين اللفظين اللذين يدّعی ترادفهما فيما يأتي(2):
أ - أن يكون أحد اللفظين أكثر عمومية أو شمولاً من الآخر.
{بکی - انتحب}.
ب - أن يكون أحد اللفظين أكثر قوة وحدة من الآخر.
{أنهك - أتعب }.
ج - أن يكون أحد اللفظين مرتبطاً بالانفعال أو الإثارة أكثر من الآخر.
{أتون - موقد}.
د - أن يكون أحد اللفظين متميزاً باستحسان أدبي أو استهجان في حين يكون الآخر محايداً.
{تواليت، مرحاض، دورة المياه}.
ه - أن يكون أحد اللفظين أكثر تخصیصاً من الآخر.
{حكم ذاتي - استقلال }.
و - أن يكون أحد اللفظين مرتبطاً باللغة المكتوبة وأدبياً أكثر من الآخر.
ص: 160
{تلو - بعد}.
ز - أن يكون أحد اللفظين أكثر عامية أو محلية أو لهجية من الآخر.
{لحّام - جزار}.
ح - أن يكون أحد اللفظين منتمياً إلى لغة الأطفال، أو من يتحدّث إلى الأطفال بخلاف الآخر.
{مَمْ - كل}.
وخلاصة القول إنّ معظم الباحثين الأجانب ينكرون وقوع التَّرادُف المطلق حسب مصطلح {جون لاينز}، ويرون أنّ التَّرادُف يكون فيما يصحُ تسميته بشبه التَّرادُف، أو التَّرادُف الجزئي، أوالتقارب الدّلالي، أوالتداخل المعنوي، وما أشبه ذلك من المصطلحات، وقليل منهم يرى التَّرادُف نادر الحدوث، ومردّ اختلافهم في ذلك إلى تباين نظراتهم إلى فكرة المعنى اللّغوي، وذلك حسب مناهجهم والنظريات التي ينطلقون منها، كالنظريّة النحويّة، والنظريّة التصوريّة، والنظريّة الإشاريّة، والنظريّة السلوكيّة، والنظريّة التحليليّة، والنظريّة التضمينيّة، ولعلّ أهمّ العقبات التي ذكرها المُنكرون تتمثّل في المعاني الإضافية والجوانب العاطفيّة والأسلوبيّة، والإيحائيّة.
والذي نذهبُ إليه أنّ مراعاة الدّلالة الأسلوبيّة والنفسيّة والإيحائيّة تخرج بالألفاظ عن حقيقتها اللّغوية إلى مجالات غير لغوية لا يمكن ضبطها بمقاييس ثابتة، كالانطباع الذاتي، والإيحاء الروحاني، والنشوة الوجدانية، وغير ذلك ممّا
ص: 161
تُلقيه الألفاظ من ظلال وألوان في النفس، وما توحي به من معان شخصيّة تختلفُ باختلاف النّاس.
لذا فإنّ ما يعنينا في دلالة المترادفين في المجال اللّغوي - إضافة إلى ما ذكرناهُ سابقاً في تعريف التَّرادُف - هو اشتراك اللفظين في الدّلالة على المعنى الأساسي وما يحيطُ به من معانٍ لغويةٍ جزئيةٍ تتّصلُ بالمعنى الأساسي وتتفرّع عنه، مما يؤدي إلى إمكانية استبدال لفظة بدل الأخرى في السياق، ولهذا فإنّنا لا ننكرُ وقوع التَّرادُف مع من أنكره، وإنّما نضيّقُ دائرته، ونقلِّلُ من إمكانية حدوثه بهذا المفهوم.
لقد اتّبعنا عند المُؤيّدين، التقسيم الذي اعتمدناهُ عند المنكرين؛ فقسّمناهم إلى قسمين، الأوّل المؤيدون العرب، والقسم الثَّاني، المؤيدون من الغرب؛ وقسّمنا العرب إلى {قدامي ومحدثين}. وقسّمنا المحدثين إلى {الموسّعين لمفهوم التَّرادُف والمضيّقين له}. وقسّمنا المُؤّيدين من الغ-رب إلى صنفين؛ الأوّل يسمحُ بوجود التَّرادُف، مع تضييق شديد، والثَّاني يسمحُ بوجوده، مع شيء من التجوّز.
لعلّ سيبويه أول من أشار إلى ظاهرة التَّرادُف، إذ جاء في الكتاب: «إنّ
ص: 162
من كلامهم اختلاف اللفظين والمعنى واحد، نحو ذهب وانطلق»(1). وعبّر عنها المبرد {ت 285 ه.} ب«اختلاف اللفظين والمعنى واحد» ومثل له ب«ظننت وحسبت، وقعدت وجلست، وذراع وساعد»(2).
وألّف الأصمعي كتاباً بعنوان «ما اتفق لفظه واختلف معناه»، وكان يقول: أحفظ للحجر سبعين اسما، وألّف أبو الحسن الرمانيّ كتاباً بعنوان «الألفاظ المترادفة»، وابن خالويه الذي كان يفتخر بأنه جمع للأسد خمسمائة اسم وللحية مائتين وأنّه حفظ للسيف خمسين اسماً. ومنهم حمزة بن حمزة الاصبهاني الذي كان يقول: «إنّه جمع من أسماء الدواهي ما يزيد على أربعمائة»، ومنهم الفيروز آبادي الذي ألف كتاباً في التّرادف بعنوان «الروض المسلوف فيما له اسمان إلى ألوف» والذي يقول فيه: «والحق وقوعه - أي التَّرادُف - بدليل الاستقراء نحو أسد وليث»، وأيد هذه الظاهرة أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه «الغريب المصنف» حيث كانت معظم أبوابه تدور حول التَّرادُف من أمثال: {أسماء الخمر، والعسل، والسيف، والداهية، والضباع، والأسد، والذئب}، ومن العلماء الذين قالوا بالتَّرادُف علي بن عيسى، وأبو بكر الزبيدي، والباقلاني، وابن سيده،
ص: 163
والسيوطي(1).
وأشار ابن جنّي إلى هذه الظاهرة فعقد لها باباً بعنوان «باب في تلاقي المعاني على اختلاف الأصول والمباني» يقول في أوّله: «هذا فصل من العربيَّة حسن كثير المنفعة قوي الدّلالة على شرف هذه اللّغة»، وأشار إليه في {باب في استعمال الحروف بعضها مكان بعض} مستدلاً به على وقوع التَّرادُف بقوله: «وجدت في اللّغة من هذا الفنّ شيئاً كثيراً لا يكاد يحاط به». وفيه يحكم على من يُنكر أن يكون في اللّغة لفظان بمعنى واحد، ويحاولُ أن يوجد فرقاً بين قعد وجلس، وبين ذراع وساعد، بأنه متكلّف(2).
ويرى أصحاب هذا الرأي أن هناك كلمات مترادفة، تؤدي معنىً واحداً تاماً، لم تأتِ في العربيَّة عبثاً، وإنما جاءت لأغراض ومقاصد، ويستدلون على صواب رأيهم بأدلة عقلية، وحديثهم في إثبات التَّرادُف قائم من منطلق أن اللّغة اصطلاحية، وقد صرّح بذلك السيوطي في {المزهر} بقوله: {وهذا على كون اللّغات اصطلاحية»(3).
ولعلَّ من أبرز القائلين به الآمدي صاحب {الإحكام في أصول الأحكام}، إذ نصّ على ذلك، واتهم أصحاب الرأي السابق وسرد أدلة
ص: 164
عقلية على وقوعه «ذهب شذوذ من النّاس إلى امتناع وقوع التَّرادُف في اللّغة، وجوابه أن يقال: لاسبيل إلى إنكار الجواز العقلي، فإنه لا يمتنع أن يقع أحد اللفظين على مسمى واحد واحد ثمّ يتفق الكلّ عليه، وأن تضع إحدى القبيلتين أحد الاسمين على مسمىً، وتضع الأخرى له اسماً آخر، من غير شعور كل قبيلة بوضع الأخرى ثمّ يشيع الوضعان بعد ذلك»(1).
ثمّ يُدلل الآمدي على إمكانية وقوع ذلك بقوله: «ثمّ الدليل على وقوع التَّرادُف في اللّغة ما نقل عن العرب من قولهم: الصَّهْلَب، والشَّوذَب مِنْ اسماء الطويل، والبُهْتُر، والبُحتُر من أسماء القصير»(2). والسيوطي ممن يثبتون وجود التَّرادُف في اللّغة، ويعلل ذلك، ذاكراً فوائد التَّرادُف وأبرز علله ما يأتي:
أولاً: تكثير الوسائل، والطرائق، إلى الإخبار عمّا في النفس، فربّما نُسي أَحدُ اللفظين، أو عاب عليه النطق به، وقد كان بعض الأذكياء - ويقصد به واصل بن عطاء - ألثغ، فلم يحفظ عنه أنه نطق بحرف الراء، ولولا المترادفات تعينه على قصده لما قدر على ذلك؛ واستغنى بالمترادفات عن الكلمات التي فيها حرف الراء فمدحهُ الشاعر بقوله:
ويَجْعَلُ البُرَّ قَمْحَاً في تَصَرُّفِهِ *** وجَانبَ الرَّاءَ حتَّى احْتالَ للشِّعْرِ
ص: 165
ولم يُطِقْ مَطَراً والقوْلُ يُعجِلهُ *** فَعَاذَ بِالغَيثِ إشْفاقاً مِنَ المَطَرِ(1)
ثانياً: التوسّع في سلوك طرائق الفصاحة، لأن اللفظ الواحد قد يتأتى باستعماله مع لفظ آخر السجع، والقافية والتجنيس.
ثالثاً: ذهب بعض النّاس إلى أن التَّرادُف على خلاف الأصل، والأصل هو التباين، وبه كما يقول الإمام السيوطي - جزم البيضاوي في منهاجه.
رابعاً: قد يكون أحد المترادفين أجلى في تعبيره من الآخر، وقد ينعكس الحال بالنسبة لقوم آخرين.
خامساً: أثبت السيوطي التَّرادُف بنماذج لمن استقص-وا أو حاولوا استقصاء اسماء العسل، والسيف، وكأنّه بذكره لهذه الأسماء، يرى أن القائلين بإنكار التَّرادُف يتحمّلون في وضع العلل(2).
وعلى الرغم من أنّ أبا هلال العسكري، كان من الفريق الرافض للتَّرادُف المبالغ في رفضه في كتابه الفروق غير أنّه في كتابين آخرين له، ينسى هذا المبدأ ويذكر الألفاظ المترادفة، بلا اعتراض عليها، أو محاولة التفريق بينها، وأوّل هذين الكتابين هو: {التلخيص في معرفة أسماء الأشياء} وثاني الكتابين هو {المعجم في بقية الأشياء}، ذكر فيه من الاسماء الدالة على بقية
ص: 166
الماء في الحوض الجحفة والخبطة والدعث والرشف والسملة والهلال(1).
ويمكننا أن نقسّم المحدثين الذين اثبتوا التَّرادُف إلى قسمين:
ومن هؤلاء علي عبد الواحد وافي، الذي يرى أن العربيَّة تمتاز بثرائها على أخواتها السامية، بل تعدُّ من أغنى لغات العالم بالمترادفات، ويجعل هذا الغنى فخراً لها(2). ومنهم صبحي الصالح الذي يصرّح قائلاً: «لم نجد مناصاً من التسليم بوجود التَّرادُف ولا مفرّاً من الاعتراف بالفروق بين المترادفات، لكن هذه الفروق - على ما يبدو لنا - تُنُوسيت فيما بعد، وأصبح من حق اللّغة التي ضمتها إليها أن تعتبرها ملكاً لها، ودليلاً على ثرائها، وكثرة مترادفاتها»(3).
ويبيّن كمال بشر، أن المنكرين للتّرادُف قد نظروا إليه من الزاوية التاريخية، إذ إنّ هذه الكلمات في القديم كانت لها معان مختلفة ومن ثمّ لا ترادف في المعنى الحقيقي، أمّا المثبتون له فقد نظروا إليه من الناحية الوصفية الخاصة بمدة معينة؛ وفي هذه المدّة المعينة {لم تكن الوقت الحاضر}
ص: 167
قد تلاشت هذه الفروق في المعاني بين الكلمات وتنوسيت، وعلى ذلك فالتَّرادُف موجود(1).
ويرى بعض المحدثين أن التَّرادُف وسيلة من وسائل الربط المعجمي، يسهم في امتداد المعنى داخل النص بوصفه شكلاً من أشكال التكرار، وأنه يؤدي إلى إعادة الصياغة بين الجمل، وله أثر في صنع التماسك سواء على مستوى الجملة الواحدة أم بين الجمل(2).
كما نجد بعض العلماء يثبتون التَّرادُف بمعنى التطابق، ويعطونه خاصيّة التبادل بين الألفاظ في كلّ السياقات من دون فرق بين اللفظتين، خاصة إذا نظرنا إلى اللفظتين في داخل لغة واحدة وفي مستوى واحد وخلال مدّة زمنية واحدة؛ حيث يوردون احتجاج العلماء العرب القُدامى بقولهم: «إن جميع أهل اللّغة إذا أرادوا أن يفسروا «اللب»، قالوا: هو العقل وما أشبه ذلك، ولو كان لكل لفظةٍ معنى غير الأخرى لما أمكن أن يعبّر عن شيء بغير عبارته وتقول في لاريب فيه، لاشك فيه، فلو كان الريب غير الشك لكانت العبارة خطأ»(3).
وهكذا نجد في معجمنا القديم والحديث، معاً تفسير كلمة {الفؤاد} ب
ص: 168
{القلب} وتفسير {الفرح} ب{السرور} وكلمة {السرور} ب{الفرح} وكلمة {التفسير} ب{الشرح} وكلمة {بعل} و{زوج} و{خليلة} و{زوجة} و{حضر} و{جاء} يفسر كل واحد منهما بالآخر، ولو كانت الكلمة المفسِّرة مختلفة عن الكلمة المفسَّرة، لما صحّ عمل المفسِّر.
ويمكن أن يتحقق التَّرادُف كذلك عند أصحاب النظرية التحليلية الذين يعرّفونه بأنه اشتراك اللفظين في مجموع الصفات التمييزیة الأساسية؛ لأنّ ما عدا مكوّنات المعنى الأساس لا تعدّ من الصفات التمييزية الأساسية، ولذا تستبعد عند التحليل. فالمكونات الأساسية لكلمة «أب» هي نفسها مكونات «والد».
ویری أحمد مختار عمر أنّ كثيراً من الكلمات لا شفافيّة فيها، وهي ذات طبيعة معتمة. ولذا فهي تخلو أو تكاد تخلو من أي معان إضافية أو إيحائية. ومثل هذه يسهل التبادل بينها في الموقع الواحد دون حرج، وذلك مثل كلمات: وراء وخلف، قدّام وأمام، غرفة وحجرة، ساحة وفناء(1).
ويبيّن تمام حسّان العلاقة العرفية بين الكلمات ومعانيها فيقول: «العرف ملك المجتمع ولا يمكن أن يكون ملكاً للفرد مهما كانت قوته. والحقيقة أنّ الفرد يحسّ دائما انه عاجز عن تغيير النظم العرفية في مجتمعه ويحسّ كما يقول علماء الاجتماع من أتباع المدرسة الفرنسية بجبرية الظواهر
ص: 169
الاجتماعية حتّى إنّه في النهاية يشعر بأنّه مضطرّ إلى مطابقة الاستعمال الاجتماعي في جميع مظاهر سلوكه. وكلّ ذلك ص-ادق على النشاط اللّغوي للفرد ينشأ ليجد أمامه مجموعة ضخمة من الكلمات المحدّدة الأشكال صرفياً والمحدّدة المعاني»(1). وهو بهذا أراد الإشارة إلى أن اللّغة من نتاج المجتمع، وهو الذي يحدد العلاقات بين اللفظة ودلالاتها، وأولى العلاقات الدلالية هي التَّرادُف.
إن المضيّقين لمفهوم التَّرادُف يقرّون بوقوعه، لكنهم ينكرون المغالاة فيه؛ ومنهم إبراهيم أنيس الذي اشترط لتحقيق التَّرادُف: اتّحاد العصر، واتّحاد البيئة اللّغوية، والاتّفاق في المعنى بين الكلمتين اتِّفاقاً تامّاً في ذهن الكثرة الغالبة لأفراد البيئة الواحدة، واختلاف الص-ورة اللفظية للكلمتين بحيثُ لا تكون إحداهما نتيجة تطوّر صوتي عن الأخرى.
ويعلّل إبراهيم أنيس لإنكار التَّرادُف عند من أنكره من القدماء بأنّهم كانوا من الاشتقاقيين، وعلى رأسهم ابن دريد في كتابه «الاشتقاق» فهو المسؤول الأوَّل عن هذه المدرسة، وتبعه ابن فارس في مقاييس اللّغة، وبأنّ بعضهم من الأدباء الذين يرون في الكلمات أموراً سحرية، ويتخيّلون لها معاني لا يراها سواهم. ويقف هو موقفاً وسطاً، بين المغالين في إنكار التَّرادُف، والمغالين في قبوله، حيث يذكر أنه إذا استبعدت المترادفات التي
ص: 170
تحايل المثبتون على إثباتها ولم ترد في نصّ لغويّ صحيح النسبة، وجدنا أنفسنا عدد معقول من المترادفات في اللّغة العربيَّة(1).
وعلى الرغم من اعتراف أحمد فارس الشدياق(2) بالتَّرادُف، يقول: «على أني لا أذهب إلى أن الألفاظ المترادفة هي بمعنى واحد وإلاّ لسموّها المتساوية، وإنما هي مترادفة بمعنى أن بعضها يقوم مقام بعض، والدليل على ذلك أن الجمال مثلاً والطول والبياض والنعومة والفصاحة تختلف أنواعها وأحوالها بحسب اختلاف المتصف بها فخصّت العرب كلّ نوع منها باسم، ولبعد عهدهم عنا تظنيناها بمعنى واحد. وقس على ذلك أنواع الحلي، والمأكول، والمشروب، والملبوس، والمفروش، والمركوب»(3).
من كلامه يتضح أنه يقرُّ بوجود الترادف، لكنه يختلف مع إبراهيم أنيس الذي يشترط الاتّفاق في المعنى بين الكلمتين اتِّفاقاً تاماً، ويرى الشدياق أن الترادف لايعني التساوي في المعنى، بل هو قيام بعض الكلمات مقام بعض.
ص: 171
وقد ردّ الشيخ عبد الله العلايلي على المنكرين ولم يأخذْ كل ما جاء من المُؤيّدين، قائلاً: «يتّخذ بعض من دارسي العربيَّة اليوم التَّرادُف علامة على قلق اللّغة، وبعض آخر يتّخذه أثراً من الاختلاف القبلي أو ما يشبه الرواسب المتبقية من جرّاء امتدادات طويلة، والحقيقة، وإن كان في المذهب الأخير شيء من القوة والصدق ليس هو كل الحق.
أمّا الرأي الأوَّل فليس إلاّ منكراً من القول وزوراً لا ريب في ذلك ولا شكّ، ولقد يكون صحيحاً لولم يكن من مواد لا تزال دارجة في اللّغة ولها حياة قوية، كما أن تعليله بالاختلاف القبلي ليس مقبولاً على إطلاقه، لأن من المعقول أيضاً أن الاختلاف بينها لن يبلغ هذا المبلغ الكبير إلى حدٍ أن يكون التَّرادُف في رقم الأربعمائة أحياناً وفي رقم المائتين كثيراً، وهكذا مما ذكره حمزة الأصفهاني»(1).
يتضح من خلال ردّه على المنكرين، رأيه في تأييد الترادف، لكنه لايقبل التوسعة فيه بحيث تبلغ المترادفات حدّ المئات.
ويصرّح صائل رشدي «فلو أنا دقّقنا في مصنفات من أولعوا بالمترادفات، لوجدنا أن القوم قد بالغوا كثيراً في تصنيفاتهم وأصابها الخلط بين
ص: 172
ما قد يعد من التَّرادُف وبين ما قد يعد من غیره»(1).
ويرى علي الجارم أنّ الفريقين كليهما قد أسرفا فيما ذهبا إليه، فالأوَّل أسرف في إثبات الظاهرة وعدَّ منها كل متشابهين في المعنى: «حتى كأنّهم يريدون أن يزودوا مخالفيهم الحجة عليهم»(2) والفريق الثَّاني أسرف في البحث عن الفروق الدلالية بين الألفاظ.
وأشار بعد أن أجرى تحليلاً دلالياً لأسماء العسل، وأثبت أن معظمها من المجاز، وأنّ منها المقلوب مثل الشورْ، والشروْ، ومنها المقترض مثل الدستفشار، ومنها المنسوب وغير ذلك، إلى «أن نقيس على هذه الأسماء غيرها، ونحكم بأن أكثر ما نسمع من المترادفات الكثيرة إنما جمعت على ضرب من التسامح، على أنّنا لا ننكر التَّرادُف، ونرى أنه واقع فعلاً، وأنّ وجوده في اللّغات من الخير لها، ولكنّنا ندعو إلى التأمّل والتدقيق، وعدم الإغراق في التوسّع والتضييق»(3).
هناك مجموعة من الأجانب تسمحُ بوجود التَّرادُف، إمّا مع تضييق
ص: 173
شديد، أو مع شيء من التجوّز:
1) من النوع الأوَّل {ستيفن أولمان Ullmann} الذي يقول: إذا ما وقع هذا التَّرادُف التام فالعادة أن يكون ذلك لمدّة قصيرة محدودة، حيث إنّ الغموض الذي يعتري المدلول، والألوان أو الظلال المعنوية ذات الصبغة العاطفية أو الانفعالية التي تحيطُ بهذا المدلول لا تلبثُ أن تعمل على تحطيمه وتقويض أركانه، وكذلك سرعان ما تظهر بالتدريج فروق معنوية دقيقة بين الألفاظ المترادفة بحيث يصبح كلّ لفظ منها مناسباً، وملائماً للتعبير عن جانب واحد فقط من الجوانب المختلفة للمدلول الواحد(1).
ويرى أولمان في موضع آخر: «أنّ معظم المترادفات ليست إلا أنصاف(2) أوأشباه مترادفات»(3).
2) ومن النّوع الثَّاني الفريق الذي قال عنه {Lehrer}: هناك فريق يقول بوجود التَّرادُف؛ لأنّه يكتفي بصحّة تبادل اللفظين في معظم السياقات.
إنّ معظم ما جاء في بحوث اللّغويين الأجانب هو عدم اعترافهم بالتَّرادُف التام وإشارتهم إلى التقارب والتشابه بين الكلمات وإمكانية التبادل الجزئي في السياقات، ويمكننا أن نأخذ قول {Lehrere} شاهداً على ذلك يقول: «إذا اشترطنا التماثل التامّ بين المفردتين، فلن يكون هناك مترادفات، ولكن قد يكون هناك عدد من المفردات المتشابهة إلى حدّ كبير في المعنى ويمكن
ص: 174
تبادلهما بصورة جزئية»(1).
ويشير اللّغوي {Leech} إلى هذا المعنى قائلاً: «وإذا فهمنا أنّ التَّرادُف هو المساواة الكاملة في أثره الإيصالي يصبح من الصعب أن نجد مثالاً يثبت هذه المقولة، كما أنّ هناك اتفاقاً كبيراً في تحديد مصطلح التَّرادُف بأنه المساواة في المعنى المفاهيمي. وللموقف والأسلوب أهمية خاصة في التمييز بين التعبير المترادف»(2). فهو كما يبدو من النصّ يقرّ بوقوع التَّرادُف الجزئي في اللّغة، لكنه ينفي التَّرادُف التام، فقد أشار إلى وج-ود فروق دقيقة بين المترادفات يحدّدها السياق والأسلوب.
ويمكنُ القول إن أغلب اللغويين المحدثين من الغربيين، يقرّون بوقوع التَّرادُف غير التامّ أو ما يسمّى بشبه التَّرادُف، أوالتَّرادُف الجزئي، وينكرون التَّرادُف التام أو التطابقي أو المطلق.
أمّا أسباب الاختلاف بين علماء اللّغة ما بين مقر بوقوعه ومنكر، فقد أرجعها كمال بشر إلى سببين:
أوّلهما: عدم الاتفاق بين الدارسين على المقصود بالتَّرادُف. وثانيهما:
اختلاف وجهات النظر واختلاف المناهج بين الدارسين(3).
ص: 175
وقد اتّفق مع - كمال بشر - حول السبب الأوَّل، على الرغم من أن لیش {Leech} يقول: «إنّ هناك اتفاقاً كبيراً في تحديد مصطلح التَّرادُف»، لأنّ تساوي لفظين أو أكثر مساواة كاملة في الدّلالة في تركيب أو نصّ واحد وإمكانية تبادلهما لمواقعهما ليؤديا المعنى نفسه أمر ليس بالسهل التسليم به، ومن هناكان إنكار المنكرين عندما فهموا التَّرادُف «بالمساواة الكاملة في الدلالة» ولكن معظم المقرّين بوجوده اخذوا ذلك بالمنظار النسبي بين الألفاظ ودلالاتها للتيسير والتوسعة على النّاس في الاستعمال. أما السبب الثَّاني فلا أراه سبباً مقبولاً، لأنّ اختلاف وجهات النظر لا يكون سبباً في اختلاف وجهات النظر، لأن هذا يُعدُّ دوراً في المنطق، والدور ثابت بطلانه.
وربّما هناك سبب آخر للاختلاف وهو الأساس والمعيار الذي اعتمده كل فريق في دلالة اللفظ على المعنى، فالقائلون بالرجوع إلى الأصل اللّغوي يجدون فوارق معنوية بين الألفاظ، ومن ثم ينكرون التَّرادُف، أمّا القائلون بالاعتماد على الاستعمال اللّغوي للألفاظ، فيثبتون التَّرادُف.
والَّذي نميل إليه وجود التَّرادُف، الذي يعني التشابه أو التقارب أو الالتقاء في المعنى دون التطابق والتوحد التام فيه، أو توحد لفظين أو مجموعة الألفاظ على مدلول أساسي أو مركزي عام واحد مع اختصاص، كل منها بمعنى إضافي دقيق، أو معنى إيحائي أو مباشر ناتج عن تكوينها الصوتي أو موقعها الإعرابي أو تركيبها السياقي. فلا شك في أن هناك مجموعة كبيرة من
ص: 176
الألفاظ تتفق كل مجموعة منها على مفهوم ظاهري عام واحد ولها دلالة مركزيّة منظورة، وربما أطلق كل منها على معنى أو مدلول واحد مفترض أو متصوّر لدى عامّة النّاس أوعامّة المثقفين، أو أنّها استعملت على سبيل التجاوز والتوسّع أو المبالغة أو التأكيد، أواتّخذت على سبيل الكناية أو التضحية من أجل سجعةٍ في عبارة منثورة أو من أجل قافية أو استواء الوزن في بيت من الشعر.
1) إنّ الأساس الذي اعتمد عليه المُنكرون هو الرجوع إلى الأصل اللّغوي للتفريق بين دلالة الألفاظ وعدم تطابقها.
2) أمّا الأساس الذي اعتمد عليه المؤيدون، فهو الرجوع إلى «الاستعمال»، وإذا أخذنا بنظر الاعتبار هذا الأساس، فالحق وقوع التَّرادُف؛ ذلك لأن الاستعمال يغيّر الأصل اللّغوي للكلمة، ممّا يؤدّي إلى اشتراك لفظتين أو أكثر للدلالة على معنى معیّن.
3) إنّ المنكرين اقتصرت نظرتهم على التَّرادُف التامّ، ولم يلحظوا التَّرادُف الجزئي؛ الذي هو واقع في اللّغة العربيَّة.
4) مفهوم التَّرادُف الذي تبنيّناهُ هو {إمكانية استبدال لفظة بدل الأخرى في السِّياق، لاشتراكهما في المعنى الأساس وما يرتبطُ به}.
ص: 177
5) إنّ التَّرادُف ليس حالة ثابتة في كلّ العصور، بل متغيرة، تبعاً لتبدلات المعنى وتطوراته، فما كان مختلفاً سابقاً يمكن أن يكون مترادفاً حالياً، وما كان مترادفاً الآن يمكنُ أن يكون متبايناً مستقبلاً؛ أي أنّ التَّرادُف حالة عرضية في اللّغة وليس أصيلة.
6) إخترنا الرؤية المعتدلة بين الإفراط والتفريط، والتي تؤيّد وجود هذه الظاهرة اللّغوية، ولكن لا تأخذ كلّ ما جاء من المُؤيّدين، من كثرة المترادفات وبلوغها المئات، فتزل عن الهدف المنشود. ويمكنُ القول إنّه لاخلاف بين الفريقين {منكرين ومؤيّدين} في كثير من المسائل التي ذكروها، وإنمّا هو اختلاف المنهج الذي اعتمدهُ كلّ فريق في الحكم على ظاهرة التَّرادُف، فالفريق الأوّل أنكر أصالة التَّرادُف في وضع اللّغة، والثَّاني أقرّهُ في الواقع اللّغوي، ولا تناقض بين الرأيين في ذلك، وقد رأينا أنّ المنكرين كانوا يذكرون قسماً من الألفاظ المترادفة في استعمال النّاس على منهج المثبتين، إلا أن المُنكرين التمسوا الدقّة الدلاليّة في الألفاظ وبحثوا عن التطابق الكلّي بين دلالة اللفظين على المعنى العامّ والمعاني الجزئيّة وذلك شأن المتخصّصين، على حين اكتفى المحدثون بدلالة اللفظين على المعنى العام المتداول بين النّاس، ولا تع-ارض كذلك بين الاتّجاهين؛ لأنّ المنكرين لم يمنعوا دلالة اللفظين على المعنى العامّ، أو معنيين متداخلين.
ص: 178
الفصل الثالث الترادف بين لغة القرآن الكريم ونهج البلاغة تطبيقيا
ص: 179
ص: 180
يمكن الاعتماد على السِّياق في كشف المترادفات، فلا ريب أن للسياق أثراً كبيراً في توجيه المعاني، فمن خلاله يتوصل إلى المعنى المراد من اللفظ إذا احتمل اللفظ أكثر من معنى، وكذلك إذا تقاربت الألفاظ في المعاني ووقع الظن عليها أنها من المترادفات، فالسِّياق هو الحكم الفصل في تحديد ذلك، يقول ابن القيم (ت. 751 ه}: «السِّياق يشير إلى تبيين المجمل، وتعيين المحتمل والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام وتقييد المطلق وتنوع الدّلالة. وهذا من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم فمن أهمله غلط في نظره وغالط في مناظرته»(1). وللقرائن أثرٌ بارزٌ في إظهار القيم السِّياقية وتوضيح دلالتها إذ «قد يسوغ في الكلمة مع الاجتماع مع ما يقابلها مالا يسوغ فيها إذا انفردت»(2). ويرى الدلاليون أنّ اللفظة بشكلها الأحادي
ص: 181
المنفرد، تنظمها الدّلالة المعجميّة، وأنّها لا تحمل إلاّ بعض أجزاء المعنى، أمّا دلالتها المكتملة وتبايناتقا، فإنها تطفو على السطح من خلال انتظامها وتشكيلها داخل السِّياق اللغوي {linguisticcontext}، وسياق الحال {context of situation}.
أمّا الأوّل: فهو تتابعها في نصّ لغوي أو هو النظم اللفظي وموقعها من ذلك النظم، وهو يشمل عندهم الكلمات والجمل السابقة واللاحقة للكلمة، والنص الَّذي ترد فيه(1).
والثَّاني: ونعني به سياق الحال: وهو الإطار الَّذي يحدد الحدث اللغوي أو النصّ الكلامي على وفق حالات المجموعة الإنسانية وظروف تكوينها الثقافية والنفسية، ولعلّ أوضح تعريف لسياق الحال أنه كلّ ما يحيط باللفظ من ظروف تتّصل بالمكان أو المتكلم أو المخاطب في أثناء النطق فتعطي اللفظ دلالته وتوجهها باتجاه معين(2).
الدلالة التامّة السیاق اللغوي و السياق الحالي
ص: 182
وقد أشار اللغويون إلى أنَّ المعجم العربي هو الوسيلة لحفظ متن اللغة، إذ «إنّ الكلمة في المعجم إنّما وضعت من أجل استعمالها إلى جانب حفظها، وعلى هذا فإنّ المعجم ليس غاية وإنّما وسيلة»(1).
فالقيمة التمييزيّة للفظة لا تظهرُ إلاّ وهي مستعملة داخل سياقات إذ إنّ: «الألفاظ لا تَتَفَاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلم مفردة، وأنّ الألفاظ تثبت لها الفضيلة وخلافها في ملائمة معنى اللفظة المعنى التي تليها»(2). وإشارة الجرجاني هذه يؤكدها ابن الأثير بقوله: «إعلم أنّ تفاوت التّفاضل يقع في تراكيب الألفاظ أكثر مما يقع في مفرداتها»(3).
وأشار كثيرٌ من الباحثين إلى أنّ للسياق أهمية كبيرة في تحديد معنى الكلمة ودلالتها، فالكلمة المفردة لها أكثر من معنى في داخل المعجم، والسِّياق يحدد هذا المعنی(4).
ص: 183
فما جاء به جون لاينز في كتابه {اللغة والمعنى والسِّياق} يؤكّد هذا، فهو يتّخذ التشابه بين المعاني والمدى السِّياقي للحكم على المترادفات، إذ يقول: «إنما يهمّنا هو المدى السِّياقي للتعبير، أي مجموع السِّياقات التي يظهر فيها التعبير وربما يظنّ أن المدى السياقي للتعبير يحدد معناه»(1).
فلا يمكن فهم الدّلالات من خلال النظرة المجردة المعنى المفردة المعجمي، ولكن بالنظرة المركبّة، وأقصد بالمركبّة هنا المعنى المعجمي والمعنى السِّياقي، فبمثل هذه التركيبة تتكوّن عندنا الصورة الواضحة المعنى المفردة، وتتولد عندنا دلالات جديدة وإيحاءات، ويمكننا التفريق بين المعنى المعجمي والمعنى المجازي لها من خلال النظر إلى المعاني الجزئية للمفردة وعلاقة هذه المعاني بالسِّياق(2).
وقد ورد ذكرُ السِّياق كثيراً في كتب علماء الفقه والأصول، واستندوا إليه(3). لكننّا لم نجد - فيما اطّلعنا عليه - تعريفاً مصطلحيّاً محدَّداً ودقيقاً، ما خلا التعريف الَّذي قدّمهُ السيد محمّد باقر الصدر رحمه الله والَّذي عرَّفهُ بقولهِ: «و نرید بالسِّياق كلّ ما يكتنفُ اللفظ الَّذي نريدُ فهمه من دوالَّ
ص: 184
أخرى سواء كانت لفظية كالكلمات التي تشكّل مع اللفظ الَّذي نريد فهمه، كلاماً واحداً مترابطاً، أم حاليةً كالظروف والملابسات التي تحيط بالكلام وتكون ذات دلالة في الموضوع»(1).
أمّا العلامة الطباطبائي صاحب {تفسير الميزان}، فقد أولى دلالة سياق الآيات اهتماماً كبيراً، ووصفها بأنّها أقوى من ظاهر الآيات.
وكان كلّما تعارض ظاهر الآية مع سياقها، تصرّف بالظاهر حتّى يناسبَ السياق(2).
وأشار أستاذنا عبد الأمير زاهد في محاضراته، إلى أثر السِّياق كأداة لكشف المترادفات ومن ذلك قوله: «إن أقوى الآليات المعرفة التَّرادُف هو دور السِّياق، في تحديد نطاق المعنى للمفردة الواحدة»(3).
فالسِّياق أو الاستعمال الصّحيح هو الَّذي يبيّن لنا أن الكلمات مترادفة ويمكن أن تتبادل سياقات معينة وليست كلّ السِّياقات، وفي ذلك يقول أوجدن وريتشارد حول قضية المترادفات: «إنّها تقودنا بطبيعتها إلى دراسة {الاستعمال الصحيح} إن الرمز يكون صحيحاً فيما يثير محرّكاً متشابهاً إلى ما يرمز إليه عند التفسير المناسب، وفي مثل هذا الموقف سيثار قدر معين من
ص: 185
الثبات لشيء يمكن أن نطلق عليه المعنى الصحيح أو الاستعمال الجيد وذلك الشيء الثابت يوصف بأنّه معنى الكلمات الواردة في السِّياق»(1).
والسِّياق هو الَّذي يحدد إن كانت الكلمة مستعملة الاستعمال الحقيقي، أو المجازي؛ ويحدد إن كانت الكلمة من الألفاظ المشتركة، أو الألفاظ المترادفة، ويحدد زمان اللفظة ومكانها، فلكل زمان دلالات ألفاظ مختلفة.
ولأهمية السِّياق وأثره في اللغة، اهتم به العلماء قديماً وحديثاً، إلى أن أصبح نظرية متكاملة الجوانب في الدراسات اللسانية الحديثة، ويعود الفضل إلى عالم اللسانيات الإنجليزي فيرث {Firth} في تأصيل هذه النظرية من خلال وَضْعهِ للإطار المنهجيّ لتحليل المعنى.
يعني مصطلح السِّياق التركيب أو السِّياق الَّذي ترد فيه الكلمةُ ويُسهمُ في تحديد المعنى المتصوِّر لها، ويرى أصحاب هذه النظرية أنّ الدَّلالات الدقيقة للكلمة تتّضحُ من خلال تسييقها أي وَضعها في سياقات مختلفة ومثال ذلك كلمة {يَد} في هذه السِّياقات؛ يَدُ الفأسِ: مقبضها، يَدُ الطائر: جَناحَهُ، يدُ الرجل: جماعتهُ وأنصارُه، أعطاه من ظَهْرِ يدٍ: كافأَه أو أعطاه تَفَضُّلاً، أسقطَ
ص: 186
في يدِهِ: نَدِمَ، ضَرَب على يدهِ: كَفَّه ومَنَعَه(1). وإنّ استعمال الكلمةِ في رأي هؤلاء اللسانيين يحكمُه أمران: السِّياق اللُّغوي الَّذي لا ينظرُ إلى الكلمات کوحداتٍ مُنْعَزلَةٍ؛ لأنّ الكلمةَ يتحدّدُ معناها بعلاقتها مع الكلمات الأخرى، وسياق الموقف الَّذي يتكوّن من ثلاثة عناصرَ(2):
أوّلاً: شخصية المُتكلِّم والسامع، ومن يشهدُ الكلام، وأثره المُشَاهد في المراقبة أو المشاركة.
ثانياً: العواملُ والأوضاعُ الاجتماعيّةُ والاقتصادية، المتعلِّقةُ بالحدث اللُّغوي ويشملُ ذلك الزَّمان والمكان.
ثالثاً: أثر الحدث اللُّغوي كالإقناعِ والفَرَحِ.
«فالمعنى السِّياقي الكامن للمفردة البنائية هو سلسلة المعاني السِّياقية الممكنة لتلك الوحدة المنظور إليها في تجريد من كلّ نص، ومعناها السِّياق الآني هو المعنى الفعلي في مثال معيّن، في مكان معيّن، في نصّ معين مع موقف معيّن»(3).
فمعنى الكلمة عند أصحاب هذه النظرية هو {استعمالها في اللغة}، أو {الطريقة التي تستعملُ بها}، أو {الدور الَّذي تؤدّيه}. ولهذا يصرح فيرث بأن
ص: 187
المعنى لا ينكشفُ إلا من خلال تسييق الوحدة اللُّغوية، أي وضعها في السِّياقات المختلفة(1).
والألسنيّون التوزيعيّون ومن بينهم جان دوبوا {J.Dubois} يحدّدون سلّم الكلمات المتشاكمة والمتناقضة دلالياً انطلاقاً من سياقاتها المختلفة، فالفرق بين كلمات {مرض، وجع، ألم} يحددهُ السِّياق الَّذي تقع فيه كلّ واحدة، ولذلك يسمى تحليلهم بالطريقة السِّياقية(2).
ولعلّ أهمّ الميزات التي يتمتّع بها المنهج السِّياقي، أنّه - على حدّ تعبير أولمان - يجعل المعنى سهل الانقياد للملاحظة والتحليل الموضوعي، وعلى حدّ تعبير فيرث أنّه يبعد عن فحص الحالات العقلية الداخلية التي تعدّ لغزاً مهما حاولنا تفسيرها(3).
ويمكن القول: إن النظرية السِّياقية قادرة على إعطاء المعنى الدقيق للكلمة، ومن ثَمَّ التمييز بين المترادفات. ويمكن جعلها أداة لكشف المترادفات، فإن السِّياق لهُ أثرٌ في إقصاء بقية الدلالات التي تكمنُ في الكلمة المعيّنة وأبعادها، إذ تُرجّح دلالة واحدة للكلمة.
ص: 188
أخذ هذا القانون يثبت نفسه على ساحة البحث سواء أكان البحث أدبياً أم لغوياً وذلك لحيويّته وصدقه على أغلب مفاهيم الحقول الإنسانيّة؛ وقد سحب الدلاليّون هذا المفهوم الميدان بحثهم إذا استندوا إليه في التميز بين المفردات التي اختلفت ألفاظها واتفقت معانيها والتي عرفت في الدرس اللساني القديم والحديث ب{ التَّرادُف synonymy }.
إذ أكد {ستيفن أولمان} ضرورة تبني هذا القانون لمعرفة حقيقة الألفاظ المزعوم ترادفها، والَّذي قرر أن الألفاظ المترادفة هي «ألفاظ متحدة المعنى وقابلة للتبادل فيما بينها في أي سياق»(1).
واعتمدت جميع الاتّجاهات البنيوية المحور الاستبدالي في تحليلاتها؛ ومنها الاتّجاه التوزيعي حيث يرى هاريس {zelig Harris} أن أساس المنهج التوزيعي هوتصنيف بالأشكال التي لها إمكانية التبادل إحداها بالأخرى؛ أي قائمة بالأشكال التي تظهر في المحيط نفسه(2).
وفي العلاقات الاستبداليّة تدخل الوحدة اللُّغوية عبر المقارنة أو التعويض في ظرف خاصّ مع وحدات مشابة أخرى(3). وليست المسألة في
ص: 189
نظر المحدثين مسألة الاتفاق التامّ في المعنى فحسب، وإنما يرون أن مقیاس التَّرادُف في ألفاظ اللغة يقوم على مبدأ الاستعاضة الَّذي يعني استبدال الكلمة بما يرادفها في النص اللغوي دون أي تغير في المعنى، وجعلوا هذا مقیاساً للتحقق من التَّرادُف في الألفاظ، ولهذا يؤكّد المحدثون على السِّياق التي ترد فيه الكلمات وطريقة استبدالها(1).
فالمحدثون اتخذوا من الناحية {الاستبداليّة} في السِّياق وإمكانات إحلال كلمة بدل كلمة دليلاً على التَّرادُف. بناءً على ما تحملهُ الكلمات من ظلال في المعنى، وكيفية استبدالها في السِّياق الكبير مرتبطٌ بإحساس ابن اللغة(2).
وقد التفت منکرو التَّرادُف من علمائنا القدامى إلى هذا القانون ولكن بصيغة التلميح، وذلك بإنكارهم اتفاق المعنى ورفضهم لتعاقب الألفاظ، أي استبدالها في السياقات اللغوية المختلفة، وقد استند { ابن درستویه ت 367 ه} و {أبو هلال العسكري ت 395 ه} إلى هذه المسألة بوصفها دليلاً على إنكار التَّرادُف. إذ لا يمكن أن تدل اللفظتان المترادفتان على معنى واحد دلالة تامة؛ إذ لا بدّ من أن يكون «في كل واحدة منها معنىً ليس في الأخرى»(3).
ونخلصُ إلى القول بأنّنا إذا اعتمدنا على السِّياق، والحسّ اللغوي الواحد في واقع الاستعمال مقياساً للترادف، بحيث يتمكن أبناء اللغة الواحدة
ص: 190
من استبدال الكلمات المترادفة بعضها ببعض، ولم يشعروا بتغيّر المعنى المقصود، قلنا حينئذ إنّ هذه الكلمات المستعملة مترادفة.
1. استقراء بعض المفردات التي تحتملُ القول بالتَّرادُف في لغة القرآن ونهج البلاغة.
2. الاعتماد على النظرية السِّياقية لمعرفة المعني، من خلال تتبع المفردة الواحدة في السِّياقات القرآنية وسياقات نهج البلاغة.
3. المقارنة بين معنى المفردة في اللغة العربية في {المعجم}، وبين استعمالها في الآيات القرآنية، واستعمالها في نصوص نهج البلاغة.
4. الكشف عن وجوه الاتفاق والافتراق في المفردات المدروسة.
5. الاستناد إلى قانون الاستبدال للحكم على ترادف المفردتين أو عدمه .
وينبغي الإشارة إلى أنّ الفصلَ يثقلُ حملهُ، لاستيعاب المفردات التي تحتملُ التَّرادُف، والتي أحصيناها في القرآن الكريم وهج البلاغة، لذا كان لابدّ من اختيار مجموعة منها، نظنّها كافية لتعميم الحكم في هذه القضية، وفقاً لمنهج الاستقراء الناقص.
وقبل الشروع في التطبيق، نذكّر بتعريف التَّرادُف الَّذي اعتمدناهُ، ليكون مقياساً نلجأ إليه، وهو وليد التأمّل في النظرية السِّياقية وقانون
ص: 191
الاستبدال، وهو {إمكانية استبدال لفظة بدل الأخرى في السِّياق، لاشتراكهما في المعنى الأساس وما يرتبطُ به}.
وفيما يلي مجموعة من الألفاظ القرآنية والتي استعملها فج البلاغة مرتّبة حسب حروف المعجم:
في اللغة تَلَوْت القرآن تِلاوةً قرأْته وعمَّ به بعضهم کل کلام(1)، وعن الليث تَلا یَتْلو تِلاوَة يعني قرأَ قراءة، وقوله عزّ وجلّ{واتَّبَعوا ما تَتْلو الشياطينُ على مُلْك سُلَيمان} قال عطاء على ما تُحَدِّثُ وتَقُصُّ، وقيل ما تتكلم به كقولك فلان يتلو کتاب الله أَي يقرؤه ويتكلم به(2).
أما أبو هلال العسكري، فقد فرّق بين التلاوة والقراءة بقوله: «إن التلاوة لا تكون إلا لكلمتين فصاعدا، والقراءة تكون للكلمة الواحدة يقال قرأ فلان اسمه ولا يقال تلا اسمه، وذلك أن أصل التلاوة إتباع الشيء الشيء، يقال تلاه إذا تبعه فتكون التلاوة في الكلمات يتبع بعضها بعضاً ولا تكون في الكلمة الواحدة إذ لا يصح فيه التلو»(3). ومن خلال السِّیاقات القرآنية، سنلاحظ أن هذا الفرق الَّذي أشار إليه العسكري لا ينطبق على المفردة
ص: 192
القرآنية، في حين نجد انسجاماً وتقارباً، مع ما فرق به الراغب الأصبهاني بقوله: «التلاوة تختص بإتباع كتب الله المنزلة، تارة بالقراءة وتارة بالارتسام، لما فيها من أمر وفي وترغيب وترهيب، أو ما يتوهم فيه ذلك، وهي أخص من القراءة، فكل تلاوة قراءة، وليس كل قراءة تلاوة، فقوله تعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا}، فهذا بالقراءة، وقوله تعالى : {يتلونه حق تلاوته} المراد به الاتّباع له بالعلم والعمل»(1).
وقال الطبرسي في الفرق بينهما: «الفرق بين القراءة والتلاوة أن أصل القراءة جمع الحروف وأصل التلاوة، اتباع الحروف»(2).
أمّا في السِّياق القرآني، فتتبع استعمال اللفظين {تلا، وقرأ}، ونلحظ الفرق الدلالي بينهما، وخصوصية كل مفردة في الاستعمال، وهل يمكن أن نستبدل أحدهما بالآخر، لكي نقول بترادفهما أم لا، هذا ما سيتضح لنا من خلال المقارنة.
«الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ»(3).
ص: 193
ويَتْلونه حقّ تِلاوَتِه معناه يَتّبعونه حقّ اتّباعه ويؤمنون به ويعملون به حق عمله.
«لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ...»(1).
في هذا السِّياق قرن بين التلاوة، وتزكية النفس، وتعليم الكتاب والحكمة، وهذا يكشف عن تَضمُّن التلاوة معنى الفهم والتدبر.
«...إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا»(2)، في هذه الآية المباركة قَرَنَ بين التلاوة، والعلم، والسجود، وهذا يُبيّن عن تَضمُّن التلاوة معنى الفهم وتدبر آيات الله، وفي آية أخرى تقرن بين السجود، والبكاء، والتلاوة في قوله تعالی «...إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا»(3)، وهذا الاقتران بين السجود، والبكاء، والتلاوة، يوضّح أن هؤلاء على قدرٍ عميق من الفهم والاستیعاب، ما أدّى بهم إلى البكاء والسجود، وهنا نكتة عظيمة أشار اليها السِّياق القرآني تكشف عن الفرق بين {تلا وقرأ}، ففي آية أخرى ترد في سياقها لفظ {قرأ}، حيث تُقرن القراءة مع الذين لا يسجدون وذلك في قوله تعالى «وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ
ص: 194
الْقُرْآنِ لَا يَسْجُدُونَ»(1)، فهؤلاء لا يوجد عندهم فهم وتدبر لآيات القرآن الكريم، لذا استعمل السِّياق القرآني لفظ {قرأ} ولم يستعمل معهم لفظ {تلا}.
«إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ»(2).
في سياق هذه الآية المباركة قرن بين التلاوة، وإقامة الصلاة، والإنفاق، ورجاء الآخرة، وهذا السِّياق يكشف عن تَضمُّن التلاوة معنى العمل بآيات الله وأحكامه.
ب: موارد استعمال لفظ {قرأ} في السِّياقات القرآنية :
«فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»(3).
«أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ»(4).
«اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا»(5)، في هذه الآية قَرَنَ بين القراءة وكتاب الإنسان، ومن هذا السِّياق يتضح أن قرأ
ص: 195
تستعمل للقرآن وغيره.
«فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ»(1)، لاحظ في هذا السِّياق قرن لفظ {قرأ} مع القرآن، والسِّياق يشير إلى القراءة التعبدية.
«اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ»(2).
يتضح لنا من خلال المقارنة بين سياق الآيات التي وردتْ فيها لفظ {تلا} وسياقات {قرأ} ثلاثة أمور:
1. إنّ في تلا معنى أوسع من قرأ، فالتلاوة يصاحبها تدبر آيات الله وفهمها واستيعابها والعمل بها؛ بينما القراءة تتضمّنُ التعبّد، وحفظ الآيات وترديدها.
2. إنّ التلاوة خاصّة بالقرآن الكريم، أمّا القراءة تستعملُ مع القرآن وغيره.
3. إن كلّ تلاوة هي قراءة وليس كلّ قراءة تلاوة.
4. وربما يكون استعمال تلا في المواضع التي فيها الانقياد والتدبر والخشوع والعمل، لأن معنی تلا يتضمن دلالة إتباع شيء لشيءٍ، أي إتباع تلاوة القرآن الكريم بالعمل. أما معنى قرأ ليس فيها دلالة على ترتب شيء بعدها غير القراءة. أما في سياقات نهج البلاغة فقد وردت لفظة {تُلِيَ} مرّتين ومشتقاتها تسع مرات، ووردت لفظة {قرأ} مرّة واحدة ومشتقاتها ست مرّات.
ص: 196
من خطبة له عليه السلام يصفُ فيها المتقين: «أَمَّا اَللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ تَالِينَ لِأَجْزَاءِ اَلْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلاً يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ ويَسْتَثِيرُونَ(1) بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً وظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ وَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ وظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ»(2).
فالمتّقون على قدرٍ من الوعي والفهم والتدبّر لآيات القرآن الكريم، ما أدى بهم إلى الخشوع حينما يتلونَ الكتاب، ويستثيرونَ به أفكارهم، بل وصلوا إلى مرحلة الإحساس العالي بالنعيم حينما يتلونَ آيات التشويق، ويستشعرون صوت جهنّم وزفيرها، فتهرق الدموع من أعينهم؛ لذا استعمل لفظة {يتلون} التي تتصاحب مع هذه المعاني السامية من التدبر والتفكر في آيات الله عز وجلّ.
- ومن خطبة له عليه السلام في أركان الإسلام يبيّن فيها فضل القرآن قائلاً: «وَ تَعَلَّمُوا اَلْقُرْآنَ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ اَلْحَدِيثِ وَتَفَقَّهُوا فِيهِ فَإِنَّهُ رَبِيعُ اَلْقُلُوبِ واِسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإِنَّهُ شِفَاءُ اَلصُّدُورِ وأَحْسِنُوا تِلاَوَتَهُ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ اَلْقَصَصِ»(3).
ص: 197
وفي هذا السِّياق قرنَ بين العلم والتفقه وشفاء الصدور والتلاوة، وهذا يكشفُ أن التلاوة ليست لقلقة لسان بل تتضمن التفكر والتدبر.
- ومن خطبة له عليه السلام في صفة من يتصدّى للحكم بين الأمة وليس لذلك بأهل «إِلَى اَللَّهِ أَشْکُومِنْ مَعْشَرٍ يَعِيشُونَ جُهَّالاً ويَمُوتُونَ ضُلاَّلاً لَيْسَ فِيهِمْ سِلْعَةٌ أَبْوَرُ(1) مِنَ اَلْكِتَابِ إِذَا تُلِي حَقَّ تِلاَوَتِهِ»(2). وربّما المقصود من {إذا تلي حقّ تلاوته} إذا فُسِّرَ لهم وتوضح المراد من الكتاب، وعلى الرغم من ذلك يجعلونهُ خلف ظهورهم. لذا شکاهم الإمام عليه السلام إلى الله، فقد قُدمتِ الحجة وعرض عليهم الفهم والتدبر، لكنهم لم يستقيموا، بل أفسدوا رزقهم بالبوار.
- ومن خطبة له عليه السلام: «أَوْهِ أَوِّهِ(3) عَلَى إِخْوَانِيَ الَّذِينَ تَلَوا اَلْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ وتَدَبَّرُوا اَلْفَرْضَ فَأَقَامُوهُ أَحْيَوُا اَلسُّنَّةَ وَأَمَاتُوا اَلْبِدْعَةَ دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأَجَابُوا ووَثِقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوهُ»(4).
وفي هذا السِّياق يتأوّه الإمام عليه السلام على الإخوان {الَّذين قضی نحبهم} والَّذين تلوا القرآن وتدبّروه فجعلوهُ حكماً لاتباع الحقّ وأعوانه؛ وهنا قرن بين التلاوة والحكمة.
ص: 198
- ومن خطبة له عليه السلام قال فيها: «إِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ اَلْعَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً»(1).
ما يلاحظ من السِّياق أنّه قرن بين القراءة والكتاب الَّذي هو غير القرآن إذ جاء في {كتاباً} نكرةً بمعنى أيّ كتابٍ من العرب، وليس فيها إشعار أن القراءة تستتبع شيئاً آخراً.
- ومن قصار حكمه عليه السلام «مَنْ أَصْبَحَ عَلَى اَلدُّنْيَا حَزِيناً فَقَدْ أَصْبَحَ لِقَضَاءِ اَللَّهِ سَاخِطاً ومَنْ أَصْبَحَ يَشْكُو مُصِيبَةً نَزَلَتْ بِهِ فَإِنَّمَا يَشْكُو رَبَّهُ ومَنْ أَتَي غَنِيّاً فَتَوَاضَعَ لَهُ لِغِنَاهُ ذَهَبَ ثُلُنَا دِينِهِ وَمَنْ قَرَأَ اَلْقُرْآنَ فَمَاتَ فَدَخَلَ اَلنَّارَ فَهُوَ مِمَّنْ كَانَ يَتَّخِذُ آيَاتِ اَللَّهِ هُزُواً»(2).
في هذا السِّياق جاءت القراءة مصاحبة للاستهزاء، وهذا يكشف أنّ القراءة لم تتضمن تدبّر آيات الله والعمل بها.
والخلاصة من خلال السِّياقات القرآنية، وسياقات نهج البلاغة يتضح عدم إمكان استبدال لفظ {قرأ} بلفظ {تلا} في السياق القرآني وسياق فج البلاغة، وهذا يعني عدم ترادفها، وفقاً للمفهوم الذي اعتمدناه للتَّرادُف، والمنهج الذي سلكناه في التطبيق.
ص: 199
قيل بترادف اللفظين في اللغة، جاء في لسان العرب: «الكمال: التمام»(1)، وفي الألفاظ المؤتلفة: «باب التمام: کامل وزائد وتام»(2).
وقيل {تَمَّ}: تشعر بحصول نقص قبلها، و {کمل} : لا تشعر بذلك، يقال: {رجل کامل} إذا جمع خصال الخير، و{رجلٌ تامّ} إذا كان غير ناقص الطول(3).
واعتمادا على هذا الفارق، قال ابن حجة الحموي في تفرقته بين {التتميم والتكمیل}: «لقد وهّم جماعةٌ من المؤلفين وخلطوا التكميل بالتتميم... والفرق بين التكميل والتتميم، أنَّ {التتمیم} يَرِد على الناقص فيتمُّه، و {التكميل} يرد على المعنى التام فيكمله، إذ الكمال أمر زائد على التميم»(4).
ص: 200
وقيل: «الكمال: اسم لاجتماع أبعاض الموصوف به، و{التمام} اسمٌ للجزء الَّذي يتمُّ به الموصوف، ولهذا يقولون: القافية تمام البيت، ولا يقولون: كماله، ويقولون: البيت بكماله»(1). وبعكسه قال السيوطي، ولم أرَ مثله لغيره.
وقيل الفرق بين {التكميل والتتميم}: «أنَّ الأول: استيعاب الأجزاء التي لا توجد الماهيَّة إلاّ بها، و{التتميم}: لما وراء الأجزاء من زيادات يتأكّد بها ذلك الشيء الكامل، ولذلك قال تعالى: «تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ» أي: لم تنقص أجزاؤها. وقال تعالى: «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ» «سوره البقره: الآیة: 196» روي: إحرامُها أن تُحْرِم بهما من دويرة أهلك»(2). وهو وصف فيه زيادة على الأجزاء، فإنَّ ماهيتي الحجّ والعمرة توجدان بغيره.
وقيل {الإتمام}: «لإزالة نقصان الأصل، و{الإكمال}: لإزالة نقصان العوارض بعد تمام الأصل، ولهذا كان قوله تعالى: «تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ»(3)، أحسن من {تامة}؛ لأنَّ {التمام} من العدد قد علم، وإنَّما
ص: 201
نفی احتمال نقص في صفاها»(1)، لذا قال الزمخشري في قوله تعالی:
«وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ»(2)، إنَّ {كاملين} توكيدٌ، كقوله تعالی «تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ»(3)، «لأنَّه ممَّا يتسامح فيه، فتقول: {أقمت عند فلان حولين} ولم تستكملهما»(4).
وفرّق العسكري بين الكمال والتمام بقوله: «إن قولنا کمال اسم الاجتماع أبعاض الموصوف به ولهذا قال المتكلمون العقل كمال علوم ضروریات يميز بها القبيح من الحسن يريدون اجتماع علوم، ولا يقال تمام علوم، لأنّ التمام اسم للجزء والبعض الَّذي يتمّ به الموصوف بأنه تام، ولهذا يقال هذا تمام حقك للبعض الَّذي يتم به الحق ولا يقال كمال حقك»(5). وقال الراغب: «كمال الشيء: حصول ما في الغرض منه، وقال تمام الشيء: انتهاؤه إلى حد لا يحتاج إلى شيء خارج عنه»(6).
ويمكننا أن نحصل على تشخيص معنى اللفظين من طريق آخر، وهو أنَّ آثار الأشياء، التي لها آثار، على ضربين {أحدهما}: ما يترتب على الشيء عند وجود جميع أجزائه، إن كانت له أجزاء، إذ لو فقد شيئاً من أجزائه أو
ص: 202
شرائطه لم يترتب عليه ذلك الأمر، كالصوم فإنَّه يفسد إذا أُخِلَّ بالإمساك في بعض النهار، ويسمَّى كون الشيء على هذا الوصف ب{بالتمام}، قال تعالى:
«ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ»(1)، وقال تعالى: «وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا»(2).
أمَّا {الضرب الآخر}: فهو الأثر الَّذي يترتَّب على الشيء من غير توقف على حصول جميع أجزائه، بل {أثر المجموع} ک{مجموع آثار الأجزاء}، فكلَّما وُجِدَ جزء ترتَّب عليه من الأثر ما هو بحسبه، ولو وجد الجميع ترتَّب عليه كلُّ الأثر المطلوب منه، قال تعالى: «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ»(3)، وقال: «وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ»(4)، فإنَّ هذا العدد يترتَّب الأثر على بعضه كما يترتَّب على كُلِّه، ويقال: {تَمَّ لفلان أمره وكَمُل عقله} ولا يقال: «تَمَّ عقله وكمُل أمره»(5). فالعلماء مجمعون، عدا السيوطي في {قطف الأزهار}، على أنَّ {التمام: اسم للجزء الَّذي يتمُّ به الموصوف، فهو لإزالة نقصان الأصل؛ لذلك قيل بتصوُّر النَّقص قبله، وهو مترتِّب على وجود جميع أجزائه، وانتهاء الشيء إلى حدِّ لا يحتاج إلى شيء خارج عنه.
ص: 203
و{الكمال}: اسم للأثر الَّذي يترتب على الشيء من غير توقف على حصول جميع أجزائه، فلا يشترط معه تصوُّر حصول نقص قبله، إذ هو لإزالة نقصان العوارض، لذلك قيل إنَّه حصول ما فيه الغرض، وقيل بعدم تصوُّر النقص بعده.
أما السِّياق القرآني فقد فرق بين لفظ {التمام} و{الكمال} على مستوى الاستعمال.
ج: سياق لفظ {التمام} ومشتقاته في الآيات المباركة - قوله تعالى: «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ...»، ثم قال تعالى في الآية نفسها «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ»(1)، وقوله تعالى {تلك عشرة كاملة} إنما ذكر العشرة، ووصفها بالكاملة لا ليعلمنا أن السبعة والثلاثة مجموعها عشرة، فهذا من الواضحات، بل ليبيّن أن بحصول صيام العشرة يحصل كمال الصوم القائم مقام الهدي.
: «وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»(2)، قال الآلوسي في هذه الآية: «قال بعض المحقِّقين: إنَّه سبحانه لمَّا أخبر بتمام كلمته، وكان التَّمام يعقبه النَّقص غالباً، كما قيل:
ص: 204
إذا تَمَّ أمْرٌ بَدا نَقْصُهُ *** تَوَقَّعْ زَوالاً إذا قيلَ: تَمّ
ذكر ذلك احتراساً وبياناً؛ لأنَّ تمامها ليس کتمام غيرها»(1).
وقال ابن الأَثير إنما وصف كلامه بالتمام؛ لأَنه لا يجوز أَن يكون في شيء من كلامه نَقْص أَو عَيْبٌ كما يكون في كلام الناس(2).
وفي الآية الكريمة «وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ» بمعنى أنهما وصلت إلى حدٍ لا تحتاج إلى شيءٍ خارج عنها.
«وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ»(3)، وقال {حولين كاملين} للإشارة إلى حصول ما في الغرض، وهو تمام الرضاعة، والتمام يستلزم وجود جميع أجزائه، والانتهاء إلى حد يزول فيه النقص، وفي الآية تنبيهٌ أن ذلك غاية ما يتعلق به صلاح الولد.
- وقوله تعالى «لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(4)، الآية تشير إلى أنه يحصل لهم كمال العقوبة؛ بحصول ما في الغرض منها، وذلك
ص: 205
لإقامة الحق والعدل، بين المؤمنين والمذنبين الَّذين استوجبوا العقاب، كما أنه لا يتصوّر نقص العقاب، وهذا يدلُّ عليه استعمال لفظ {كاملة}.
ج - السِّياق القرآني الَّذي يجمع بين {التمام والكمال} ويفرّق بينها:
قال تعالى: «حالْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا»(1)، وقد اجتمع {التمام والكمال} في هذه الآية، وفرق المفسرون ما بين دلالتي اللفظتين، فقالوا: «ليس بعد التمام إلا الكمال»(2). وقالوا: والعطف يقتضي المغايرة(3). وقد أنكر المبرِّد {عطف المترادفات}، ومنع عطف الشيء على مثله، إذ لا فائدة فيه(4). وقيل في هذه الآية التي تجمع بينهما «لما كان {أركان}(5) الدين، وجد فيها الجزء الأخير، إذ ذاك استعمل فيه لفظ {الكمال}، ولما كانت نعم الله خالصة للمؤمنين، قبل ذاك اليوم، غير ناقصة، استعمل فيها الإتمام ؛ لأنَّه زيادة على نعم الله التي كانت قبل كاملة»(6).
وبعد بحثٍ مفصل في تفسير الميزان حول هذه الآية المباركة لما تتضمنه
ص: 206
من أمر عظيم، وهو كمال الدين وتمام النعمة ويَأْسِ الكافرين، أشار العلامة الطباطبائي إلى نتيجة موجزة بقوله: «إنّ المراد بالدين هو مجموع المعارف والأحكام المشرعة وقد أضيف إلى عددها اليوم شيء، وإنّ النعمة أيّاً ما كانت أمر معنوي واحد كأنه كان ناقصا غير ذي أثر فتمم وترتّب عليه الأثر المتوقع منه»(1).
ويمكننا القول: إن كمال الدين هو حصول الغرض منه، وعدم تصور النقص بعده. أما تمام النعمة فبوصولها إلى حدٍ لا تحتاج إلى شيءٍ خارج عنها، وهذا مترتب على وجود جميع أجزائها.
وممّا تقدم يمكن القول بالتفرقة الدلالية بين {الكمال} و{التمام} علَّةً للاختيار على مستوى التعبير القرآني؛ لشهادة الاستقراء لآيات القرآن الكريم بذلك.
- من خطبة له عليه السلام تعرف بخطبة {الأشباح} وهي من جلائل خطبه «وَ لاَ شَرِيكٍ أَعَانَهُ عَلَى إِبْتِدَاعِ عَجَائِبِ اَلْأُمُورِ فَتَمَّ خَلْقَهُ بِأَمْرِهِ».
وتمام الخلق يستلزمُ وجود جميع اجزائه.
ص: 207
- ومن وصية له عليه السلام لابنهُ الحسن عليه السلام «فَإِنْ أَيْقَنْتَ أَنْ قَدْ صَفَا قَلْبُكَ فَخَشَعَ وتَمَّ رَأْيُكَ فَاجْتَمَعَ وكَانَ هَمُّكَ فِي ذَلِكَ هَمّاً وَاحِداً فَانْظُرْ فِيمَا فَسَّرْتُ لَكَ» وكأن الرأي يتكون من أجزاء ولا بدَّ من جمعها، وتجاوز الرأي الناقص إلى رأي تام يجمع أجزاءه ويزيل النقص عنه. ومن السِّياق يتضح أن الإمام عليّاً عليه السلام يأمر ابنهُ الحسن عليه السلام بترك كل شائبة أو شبهة حتّى يصل مرحلة اليقين من قلبه والتمام في رأيه.
- ومن قصار الحكم له عليه السلام «إِذَا تَمَّ اَلْعَقْلُ نَقَصَ اَلْكَلاَمُ» وفي هذا النص ربط بين التمام والنقص، كما أنه لم يستعمل لفظ الكمال للعقل، فلم يقلْ {كمال العقل}.
- ومن قصار الحكم له عليه السلام «وَبِالتَّوَاضُعِ تَتِمُّ اَلنِّعْمَةُ». وقد استعمل مع النعمة التمام ولم يستعمل الكمال، كما هو في السِّياق القرآني ومنها الآية المباركة: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا»(1)، وتمام النعمة وصولها إلى حد لا تحتاج إلى شيء خارج عنها كما قررناه في السِّياق القرآني.
- ومن خطبة له عليه السلام في التوحيد «وَلَكَانَ لَهُ وَرَاءٌ إِذْ وُجِدَ لَهُ أَمَامٌ ولاَلْتَمَسَ اَلتَّمَامَ إِذْ لَزِمَهُ اَلنُّقْصَانُ». في سياق نفي النقص وتنزيه الذات الإلهية المقدسة، يقابل بين مفردة التمام والنقصان، ويشير إلى مسألة عقائدية،
ص: 208
لوكان في الذات نقصٌ للزمَ أن تطلب وتسعى إلى التمام. وهذه إشارة واضحة إلى ما ذهبنا إليه من أنّ التمام هو إزالة النقص وانتهاء الشيء إلى حدٍ لا يحتاجُ إلى شيء خارج عنه.
أ - موارد لفظة {أكمل} ومشتقاتها في السِّياقات:
- ومن خطبة له عليه السلام وفيها بيان صفة الحق جل جلاله ثمّ عظة الناس بالتقوى والمشورة «وَ عَمَّرَ فِيكُمْ نَبِيَّهُ أَزْمَانَا حَتَّى أَكْمَلَ لَهُ ولَكُمْ فِيمَا أَنْزَلَ مِنْ كِتَابِهِ دِينَهُ الَّذي رَضِيَ لِنَفْسِهِ».
استعمل الإمام عليه السلام مفردة {أكمل} مع {الدين} كما استعملها القرآن الكريم، واستعمل التمام مع النعمة في نص أوردناه سابقاً، والمتأمل يستشعر أنّ هذا النصّ ينطقُ عن الآية المباركة: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا»(1)، وكمال الدين بحصول ما في الغرض منهُ، ويقتضي عدم تصور النقص بعدهُ.
- ومن خطبة له عليه السلام في الكوفة يوصي فيها بالتقوى «فَلَوْ أَنَّ أَحَداً يَجِدُ إِلَى اَلْبَقَاءِ سِلْماً أَوْ لِدَفْعِ اَلْمَوْتِ سَبِيلاً لَكَانَ ذَلِكَ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ اَلَّذِي سُخِّرَ لَهُ مُلْكُ اَلْجِنِّ وَاَلْإِنْسِ مَعَ اَلنُّبُوَّةِ وعَظِيمِ اَلزُّلْفَةِ فَلَمَّا اِسْتَوْفَی طُعْمَتَهُ واسْتَكْمَلَ مُدَّتَهُ رَمَتْهُ قِسِيُّ اَلْفَنَاءِ بِنِبَالِ اَلْمَوْتِ». والملاحظ من السِّياق أنّه استعمل مفردة {استكمل} مع المدة كما استعمل القرآن الكريم {كاملة
ص: 209
مع تلك عشرة كاملة} إشارة إلى الأياّم وهي مدّة أيضاً. ومن السِّياق يتضح أن سليمان عليه السلام على الرغم من ملكه ومدة بقائه، وصل إلى مرحلة الاستيفاء من رزقه واستكمال مدته، فقد كمل الحصول ما في الغرض.
- ومن كلام له عليه السلام في تعليم الحرب والمقاتلة «مَعَاشِرَ اَلْمُسْلِمِينَ اسْتَشْعِرُوا اَلْخَشْيَةَ وَتَجَلْبَبُوا اَلسَّكِينَةَ وعَضُّوا عَلَى اَلنَّوَاجِذِ فَإِنَّهُ أَنْبَی لِلسُّيُوفِ عَنِ الْهَامِ وأَكْمِلُوا اَللاَّمَةَ وقَلْقِلُوا اَلسُّيُوفَ فِي أَغْمَادِهَا قَبْلَ سَلِّهَا».
واَللاَّمَةَ: الدّرع، وإكمالها أن يزادَ عليها البَيْضَةُ ونحوها. وقد يراد من اللامة آلات الحرب والدفاع، وإكمالها على هذا المعنى استيفاؤها.
- من خطبة له عليه السلام في فضل القرآن الكريم «فَالْقُرْآنُ آمِرٌ زَاجِرٌ وَصَامِتٌ نَاطِقٌ حُجَّةُ اَللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ أَخَذَ عَلَيْهِ مِيثَاقَهُمْ وَارْتَهَنَ عَلَيْهِمْ أَنْفُسَهُمْ أَتَمَّ نُورَهُ وَأَكْمَل بِهِ دِينَهُ»(1).
في هذا النصّ أورد المفردتين {أتم} و{أكمل} في جملتين متجاورتين بينهما عطفٌ بحرف الواو {والعطف يقتضي المغايرة(2) بين اللفظين} ،
ص: 210
واستعمل التمام لإزالة النقص والَّذي يستلزم انتهاء الشيء إلى حدٍ لايحتاجُ إلى شيء خارج عنه. واستعمل الكمال مع الدين كما استعملهُ القرآن الكريم، وهو يشير إلى حصول ما في الغرض من القرآن الكريم بكمال الدين. واستعمل التمام مع النور كما استعمله القرآن الكريم مصاحباً للتمام في الآية:
«يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ»(1).
النتيجة من خلال السِّياقات القرآنية، وسياقات نهج البلاغة يتضح أن {أكمل} فيها معنى غير {أنم}، ومن ثَمَّ عدم إمكان استبدال أحدهما بالآخر، وهذا يعني عدم ترادفهما بالمفهوم الَّذي اعتمدناهُ.
لا يكاد اللغويون يفرِّقون بينهما، فقد قيل الخَشْيَة: الخَوْف خَشِيَ الرجل يخْشی خَشْية أَي خاف. ويقال هذا المكان أَخْشى من ذلك أَي أَشدُّ خوفاً(2). وقد نقل أبو هلال العسكري عن المحقق الطوسي في بعض مؤلفاته ما حاصله: أن الخوف والخشية وإن كانا في اللغة بمعنى واحد إلا أن بين خوف
ص: 211
الله وخشيته وفي عرف أرباب القلوب فرقاً، وهو أن الخوف تألم النفس من العقاب المتوقع بسبب ارتكاب المنهيات، والتقصير في الطاعات. وهو يحصل الأكثر الخلق وإن كانت مراتبه متفاوتة جداً، والمرتبة العليا منه لا تحصل إلا للقليل. والخشية: حالة تحصل عند الشعور بعظمة الخالق وهيبته وخوف الحجب عنه، وهذه حالة لا تحصل إلا لمن اطلع على حال الكبرياء وذاق لذة القرب، ولذا قال تعالى: «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»(1)، فالخشية: خوف خاصّ، وقد يطلقون عليها الخوف. قلتُ {والكلام هنا لأبي هلال العسكري} ويؤيد هذا الفرق أيضاً قوله تعالى يصف المؤمنين {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ اَلْحِسَابِ}(2) إذ ذكر الخشية في جانبه سبحانه والخوف في جانب الحساب. هذا وقد يراد بالخشية: الإكرام والإعظام(3).
وقد ذهب الراغب إلى هذا الفرق الدلالي بين اللفظتين، فذكر أن الخشية خوف يشوبه تعظيم وأكثر ما يكون ذلك من علم بما يخشى منه، ولذلك خص العلماء بما في قوله تعالى: «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»(4).
ص: 212
«إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ»(1).
«الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا»(2)، نسب الخشية إلى المرسلين، ونفى عنهم الخشية من غير الله.
«إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ»(3).
«...لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي...»(4)، في هذه الآية في عن خشية الَّذين ظلموا، وأمر بخشية الله.
«لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي»(5)، وهنا نكتة عظيمة، إذ إن هذه القشعريرة التي أشارت إليها الآية المباركة لا تحصل لكل إنسان بل تختص بالَّذين يخشون ربهم.
ص: 213
«لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»(1). «وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا»(2)، وهذا تمي عن قتلهم حتى مع تيقن الفقر لذلك قال تعالى «نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ»، بينما في سورة الأنعام «وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ»(3)، فعقب عليها بقوله «نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ»، أي إن الثَّانية معناها بسببه لكون الإملاق متحققاً فعلاً، بينما في سورة الإسراء متوقع على نحو القطع والتيقن.
«أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا»(4)، تعبير عن قلق المؤمن من عدم كفاية عمله في الدنيا. وكذلك قوله تعالى «وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ»(5).
ص: 214
«وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا»(1)، وهي دعوة للإصلاح المجرّد الخوف الظني.
«قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى»(2)، لأن موسى وهارون {عليهما السلام} لا يقطعان بحصول الضرر من فرعون لقوقما بالله سبحانه، كذلك قوله تعالی «وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ»(3).
«قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ»(4)، فإن يعقوب عليه السلام كان يحتمل حصول الضرر ليوسف عليه السلام.
«وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ»(5)، لأنّ أم موسی کانت تظن أن يلحق بموسى الضرر.
«وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى»(6).
ولابدّ من الإشارة إلى أن الخوف من الله لا يراد به ما يخطر بالبال من الرعب کاستشعار الخوف من الأسد، بل إنما يراد به الكف عن المعاصي
ص: 215
واختيار الطاعات، ولذلك قيل: لا يعدُّ خائفا من لم يكن للذنوب تاركاً.
«وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ»(1).
«وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا»(2).
إن من بدائع سياقات القرآن الكريم آيتين تجمع بين {الخشية والخوف} وتفرّق بينهما في الدّلالة. على الرغم من أن الآية الثانية لم تذكر المُخشي منه صراحةً، الاّ أننا ومن خلال قرينة «فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ» الواردة في آخر الآية، نعرف أن الخشية من الله عزّوجلّ، أي ليخشَ الله في أمر اليتامى فإنهم كأيتام أنفسهم في أنهم ذرية ضعاف يجب أن يخاف عليهم ويُعتني بشأنهم ولا يضطهدوا ولا يهضم حقوقهم فالكلام في مساق قولنا: من خاف الذل والامتهان فليشتغل بالكسب وكل يخاف ذلك. ولم يؤمر الناس في الآية بالترحم والترؤف ونحو ذلك بل بالخشية واتقاء الله وليس إلا أنه تمدید بحلول ما أحلوا بأيتام الناس من إبطال حقوقهم وأكل مالهم ظلما بأيتام أنفسهم
ص: 216
بعدهم، وارتداد المصائب التي أوردوها عليهم إلى ذريتهم بعدهم(1).
والملاحظ أنه استعمل الخشية من الله، لأنه تیقن وقطع بحصول السيئة المماثلة من الرب، لو فعل الظالم ذلك بالأيتام، كما أن الخشية من عظم المقابل وهو الله عز وجل، أما الخوف «لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ» ومن خلال السِّياق الَّذي ورد في اللفظ يتضح أن الخوف هو الظن والضرر المحتمل الَّذي يصيب الذرية الضعفاء.
ولعل ما يساعد على هذا التفريق ما قاله أبو البقاء أيوب بن موسی الحسيني الكفومي والخشية أشد من الخوف؛ لأنها مأخوذة من قولهم شجرة خاشية أي يابسة وهو فوات بالكلية، والخوف النقص من ناقة خوفاء، أي با داء وليس بفوات، ولذلك خصت الخشية بالله في قوله تعالی:
«وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ»(2).
ويُلحظ من خلال تتبع السِّياق القرآني لاستعمال المفردتين (الخَشْيَة والخَوْف) فوارق عدّة هي:
أولاً: إنّ الخشية قطع بالضرر الواقع، أما الخوف فظن غير متيقن بحلول مكروه أو فوات محبوب. ولذا فالخشية أعظم من الخوف.
ص: 217
ثانياً: إنّ الحشية يشوبها التعظيم، لذا تستعمل غالباً من الله عزّوجلّ على حين يستعمل الخوف من المكروهات، فالحشية تأتي مسندة في الغالب إلى الرسل والمؤمنين والعلماء.
ثالثا: إنَّ {الخشية} تكون من عِظَم المخشيِّ، وان كان الحاشي قوياً، و {الخوف} يكون من ضعف الخائف، وإن كان المَخُوْفُ أمراً يسيراً.
أمّا في نهج البلاغة فقد ورد لفظ {الخشية والخوف} ومشتقاقهما كثيراً وللإيجاز نأخذ أمثلة منها:
- من خطبة له عليه السلام في عجیب صنعة الكون قال: «قَد ذَلَّ لِأَمْرِهِ وَأَذْعَنَ لِهَيْبَتِهِ وَوَقَفَ اَلْجَارِي مِنْهُ لِخَشْيَتِهِ»(1) وهنا إشارة إلى وقوف البحر لخشية الله سبحانه وتعالى وعظمته.
- وفي مدح القرآن قال: عليه السلام «وفُرْقَاناً لاَ يُخْمَدُ بُرْهَانُهُ وتِبْيَاناً لاَ تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ وشِفَاءً لاَ تُخْشَى أَسْقَامُهُ»(2). نلاحظ هنا قطعاً ويقيناً بأنّ القرآن الكريم شفاءٌ لا سقم بعده، لذا استعمل {لا تخشی} فإن الإمام عليه السلام على يقين من ذلك.
- ومن خطبة له في تهذيب الفقراء بالزهد وتأديب الأغنياء بالشفقة
ص: 218
«فَاحْذَرُوا مِنَ اَللَّهِ مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ {شَخْصِهِ} وَاخْشَوْهُ خَشْيَةً لَيْسَتْ بِتَعْذِير(1)»(2) وهنا الخشية من الله يشوبها التعظيم لعلم ما يخشى منه.
- ومن كتاب له عليه السلام للأشتر النخعي لمّا ولاّه مصر وأعمالها وهو أطول عهد كتبهُ وأجمعه للمحاسن. «فَفَرِّغْ لِأُولَئِكَ(3) ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ اَلْخَشْيَةِ وَاَلتَّوَاضُعِ»(4) لأنّ الطبقة السفلى من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم، فهم يحتاجون إلى رعاية وعناية خاصّتين، فلا أحد يهتمّ بكم في المجتمع، لذا أمر الإمام عليه السلام مالك الأشتر أن يخصّص لهؤلاء أهل الحشية الَّذين على يقين وقطع بالضرر الواقع في يوم القيامة في حال لولم ينصفوهم ويقضوا حوائجهم بدون منّة وعناء.
- ومن كتاب له عليه السلام لأهل مصر «فخشيتُ إن لم أنصر الإسلامَ وأهله أن أرى فيه ثلماً(5) وهدماً»(6). وواضح من النصّ أنّ الإمام كان على يقين وقطع من أنّ الإسلام يخرق أو يهدم في حال لو لم ينصرهُ، لذا عبّر بفعل الخشية لعظم الأمر المتوقع حصوله.
ص: 219
- من خطبة له عليه السلام في الحثّ على العمل الصالح «رَحِمَ اَللَّهُ اِمْرَأً {عَبْداً} سَمِعَ حُكْماً فَوَعَى ودُعِيَ إِلَى رَشَادٍ فَدَنَا وأَخَذَ بِحُجْزَةِ هَادٍ فَنَجَا رَاقَبَ رَبَّهُ وخَافَ ذَنْبَهُ قَدَّمَ خَالِصاً وعَمِلَ صَالِحاً»(1). والخوف هنا يرادُ به الكفّ عن المعصية واختيار الطاعة وترك الذنب.
- ومن خطبة له عليه السلام «وَكَأَنَّ اَلَّذِي فُرِضَ عَلَيْكُمْ قَدْ وَضِعَ {وُضِعَ} عَنْكُمْ فَبَادِرُوا اَلْعَمَلَ وَخَافُوا بَغْتَةَ اَلْأَجَلِ فَإِنَّهُ لاَ يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ اَلْعُمُرِ مَا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ اَلرِّزْقِ»(2).
والخوف هنا فيه إشارة إلى ضعف الخائف وهو الإنسان.
- ومن وصيّة له عليه السلام للحسن بن عليّ عليه السلام كتبها إليه بحاضرین(3) عند انصرافهم من صفّين قائلاً: «وَأَمْسِكْ عَنْ طَرِيقٍ إِذَا خِفْتَ ضلاَلَتَهُ فَإِنَّ اَلْكَفَّ عِنْدَ حَيْرَةِ اَلضَّلاَلِ خَيْرٌ مِنْ رُکُوبِ اَلْأَهْوَالِ»(4). ومن السِّياق يتّضح أنّ الخوف هنا ظنّ غير متيقّن ولكنّه يحتمل الضرر والوقوع في المكروهات.
ص: 220
- ومن قصار حكمه عليه السلام «مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ رَبِحَ وَمَنْ غَفَلَ عَنْهَا خَسِرَ وَمَنْ خَافَ أَمِنَ وَمَنِ اِعْتَبَرَ أَبْصَرَ وَمَنْ أَبْصَرَ فَهِمَ وَمَنْ فَهِمَ عَلِمَ»(1) فمن خاف الذنب واحتمل الضرر وابتعدَ عنهُ بلغَ الأمن.
- ومن قصار حكمه عليه السلام «إِذَا هِبْتَ أَمْراً فَقَعْ فِيهِ فَإِنَّ شِدَّةَ تَوَقِّيهِ أَعْظَمُ مِمَّا تَخَافُ مِنْهُ»(2). فإن الاحتراز من الأمر أعظم من الخوف منهُ وهنا إشارة واضحة إلى أنّ الخوف هو الشكّ في احتمال الضرر، أمّا الاحتراز يقينٌ أنت تفعلهُ، واليقين أعظم من الشكّ، كما أنّ الأمر الَّذي تخافُ منه يمكن ألاّ يضرّك إذا تعاملتَ معهُ بحكمةٍ ورويّة.
والخلاصة من خلال السِّياقات القرآنية وسياقات نهج البلاغة التي وردت فيها اللفظتان {الخشية والخوف} التي ذكرناها سابقاً يتّضحُ عدم إمكانية استبدال كلمة الحشية بكلمة الخوف، لخصوصيّة السِّياق في استعمال كلّ لفظة للدّلالة على المراد والنتيجة أنّ اللفظتين غير مترادفتين.
{عَجَلَ} العَجَلُ والعَجَلة السرْعة خلاف البُطْء(3). وفرق سیبویه بین سَرُع وأَسْرَعَ فقال أَسْرَعَ طَلَبَ ذلك من نفسه وتَكَلَّفه كأَنه أَسرَعَ المشي أَي
ص: 221
عَجّله(1).
أمّا الراغب الأصفهاني ففرّق بين السرعة والعجلة بقوله: «العجلة:
التقدم بالشيء قبل وقته - وهو مذموم - والسرعة: تقديم الشيء في أقرب أوقاته - وهو محمود - ويشهد للأول قوله تعالى: {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه} وقوله تعالى: {أتي أمر الله فلا تستعجلوه} وللثاني في قوله تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربکم}(2).
والسِّياق القرآني يفرّق بين السرعة والعجلة، فالسرعة هي التقدم فيما ينبغي أن يتقدم فيه، وهي محمودة، وضدها الإبطاء وهو مذموم؛ والعجلة هي التقدم فيما لا ينبغي أن يتقدم فيه، وهي مذمومة، وضدها الأناة وهي محمودة.
«فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا»(3).
فالآية تنهى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن العجلة بالقرآن حتى يوحى إليه. وهنا نكتةٌ عظيمة وإشارة لطيفة، وهي أنّ القرآن الكريم مخزون في صدر محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأجمعه، فقد أنزلهُ الله إليه دفعة واحدة،
ص: 222
ولكن أمرهُ بأن لا يعجل به حتّى يقضي إليه الوحي، وهذا يبيّنه الفرق بين الفعلين اللذين وردا في مجموعة من الآيات القرآنية وهما {أَنزَلَ ونُزِّلَ} فالأوّل يشير إلى النزول دفعة واحدة على صدر الرسول صلى الله عليه وآله والثَّاني يشير إلى النزول التدريجي للقرآن عبر الوحي، ولا تعارض بينهما، ولعلّ الآية التي ذكرناها تفسّرُ صحّة ما نذهب إليه. فقد تضمّنت نهي الرسول صلى الله عليه وآله عن العجلة بالقرآن من قبل أن يقضي إليه الوحي، وهذا يدلّ على أنه مخزون في صدري وموجود عندهُ، وعليه أن ينتظر الإذن الإلهي عبر الوحي قبل أن يحرّك به لسانَهُ كما قالت الآية المباركة: «لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ»(1)، والَّذي يهمّنا أن العجلة فيها في قرآني، لأنّها تتضمّن التقدّم فيما لا ينبغي التقدّم فيه.
«قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ»(2).
وفي الآية نجدُ عتَبَ النبي صالح عليه السلام لقومهِ؛ لأنّهم يستعجلون بالسيئة قبل الحسنة، ونستكشف هذا بقرينة «لِمَ». من السِّياق يتضح أنّ الآية فيها ذم لأهل النار؛ لأنّهم كانوا يستعجلون العذاب.
«يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ
ص: 223
أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ}(1). من سياق الآية وما قبلها يمكن القول: إن الَّذين لا يؤمنون بالساعة {بها ضمير يعود إلى الساعة بقرينة الآية السابقة}. يستعجلون بالساعة؛ أمّا الَّذين آمنوا فهم مشفقون منها؛ وأصبح واضحاً ذمّ العجلة بالساعة.
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِیَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}(2). الَّذين يؤمنون بالباطل ويكفرونَ بالله يستعجلون العذاب، وهنا أيضاً نكتة قرآنية عظيمة في جملة {وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} أي لأنّهم يستعجلون العذاب، يستحقون أن يأتيهم العذاب فوراً، إلا أنّ حلم الله ورحمته، جعل أجلاً مسمّى لكلّ قومٍ لعلهم يتوبون أو يرجعون عن غيّهم.
«وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ»(3). جاءت السرعة بصيغة فعل الأمر {سارعوا}، لأنّها تتضمّن التقدم فيما ينبغي التقدّم فيه وهي {المغفرة والجنّة} وهو أمر محمود، وبخلاف العجلة التي ورد فيها أمي عن الفعل لأن فيها أمراً مذموماً.
ص: 224
«يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ»(1). جاءت السرعة في سياق الَّذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، أمّا العجلة فجاءت في أغلب الآيات في سياق الَّذين يكفرون بالله واليوم الآخر، وفي هذه الآية نكتة قرآنية تبيّن دقّة اختيار القرآن للألفاظ؛ إذ استعمل لفظ {يسارعون} بصيغة فعل المضارع الَّذي يدلّ على الاستمرارية بالفعل؛ بمعنى الَّذين يستمرّون بفعل الخيرات، ويفعلون ذلك بسرعة، فأولئك كما عبّر القرآن من الصالحين، فهم لم يفعلوا خيراً واحداً بل {خيرات} ومستمرّون عليها.
«فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ»(2). جاءت الآية بعد أن سبقتها آيات ذكرت الأنبياء السابقين واستجابة دعواهم من قبل الرب العظيم، فذكرت {إبراهيم، ولوط، وداود، وأيّوب، وإسماعيل، وإدريس، وذا الكفل، ويونس {صاحب الحوت}، وزكريا الَّذي استجاب الله لدعوته بیحی} فقال تعالى عنهم: «إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ» فقد جاءت السرعة في سياق الأنبياء لكونها أمراً محبّذاً، وممّا ينبغي التقدم فيه.
الجميحد حجم
ص: 225
«أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ»(1).
جاءت الآية في سياق الَّذين يؤمنون والَّذين هم من خشية ربّهم مشفقون، والَّذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة، أضف إلى ذلك أنّها {السرعة} جاءت مقرونة مع الخيرات، وكلّ هذا يبيّن أنّ السرعة في القرآن محمودة.
ومن خطبة له عليه السلام في النهي عن عيبة الناس «یَا عَبْدَ اَللَّهِ لاَ تَعْجَلْ فِي عَيْبِ أَحَدٍ بِذَنْبِهِ فَلَعَلَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ ولاَ تَأْمَنْ عَلَى نَفْسِكَ صَغِيَر مَعْصِيَةٍ فَلَعَلَّكَ مُعَذَّبٌ عَلَيْهِ»(2) في هذا النصّ في صريح عن العجلة بذكر عيوب أحد من المجتمع، فلعلّه مغفور له عند الله، ولعلّك غير مغفور لك. والسِّياق يكشف عن ذم العجلة.
ومن كتاب له عليه السلام للأشتر النخعي «وَ لاَ تَعْجَلَنَّ إِلَى تَصْدِیقِ سَاعٍ فَإِنَّ اَلسَّاعِيَ(3) غَاشٌّ وإِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ»(4). في هذا النص في مؤكد
ص: 226
عن العجلة في تصديق النمام بعيوب الناس، لأنه أمر مذموم وقبيح.
وفي الكتاب ذاته يقول عليه السلام: «وَإِيَّاكَ واَلْعَجَلَةَ بِالْأُمُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا أَوِاَلتَّسَقُّطَ(1) فِيهَا عِنْدَ إِمْكَانِهَا أَوِ اَللَّجَاجَةَ فِيهَا إِذَا تَنَكَّرَتْ أَوِ اَلْوَهْنَ عَنْهَا إِذَا اسْتَوْضَحَتْ فَضَعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوْضِعَهُ وَأَوْقِعْ کُلَّ عَمَلٍ «أَمْرٍ» مَوْقِعَهُ»(2). وفي هذا النصّ تحذير من العجلة بالأمور قبل وقتها المناسب بدلالة {إيّاك}، وبالمقابل أمر بالتروّي والحكمة {فضع كلّ أمر موضعه}.
من قصار الحكم له عليه السلام «عَجِبْتُ لِلْبَخِيلِ يَسْتَعْجِلُ اَلْفَقْرَ اَلَّذِي مِنْهُ هَرَبَ وَيَفُوتُهُ اَلْغِنَى اَلَّذِي إِيَّاهُ طَلَبَ فَيَعِيشُ فِي اَلدُّنْيَا عَيْشَ اَلْفُقَرَاءِ ويُحَاسَبُ فِي اَلآْخِرَةِ حِسَابَ اَلْأَغْنِيَاءِ»(3). فِي هذا النصّ تعجب بالفعل الصريح من استعجال البخيل للفقر، فهو يريد أن يهرب من الفقر بجمع المال وتكون له الحاجة فلا يقضيها، ويكون عليه الحقّ فلا يؤدّيهِ، فهذا فقرٌ بعينه.
ومن خطبة له عليه السلام «وَلاَ يَحْمِلُ هَذَا اَلْعَلَمَ إِلاَّ أَهْلُ اَلْبَصَرِ وَاَلصَّبْرِ وَاَلْعِلْمِ بِمَوَاقِع «بِمَوَاضِع» اَلْحَقِّ فَامْضُوا لِمَا تُؤْمَرُونَ بِهِ وَقِفُوا عِنْدَ مَا
ص: 227
تُنْهَوْنَ عَنْهُ وَلاَ تَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ حَتَّى تَتَبَيَّنُوا»(1) في هذا النصّ في عن العجلة في عموم الأمور {أمر: جاء نكرة للدلالة على الإطلاق} فلا يصحّ أن نصدر الأحكام قبل التأكد، ولا يصحّ أن نحكم على إنسان قبل أن نجمع الأدلة عليه، والَّذي يعنينا في هذا النصّ أنّ العجلة أمر منهي عنهُ؛ لأنّها تعني التقدم فيما لا ينبغي التقدّم فيه وهي مذمومة.
ومن خطبة له عليه السلام يُومئ فيها إلى الملاهي ويصفُ فئة من أهل الضلال «فَلاَ تَسْتَعْجِلُوا مَا هُوَ كَائِنٌ مُرْصَدٌ ولاَ تَسْتَبْطِئُوا مَا يَجِيءُ بِهِ اَلْغَدُ فَكَمْ مِنْ مُسْتَعْجِلٍ بِمَا إِنْ أَدْرَكَهُ وَدَّ أَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْهُ»(2). من السِّياق يتضح أن المستعجل للحصول على شيء، ربّما يكون وبالاً عليه، فيتمنى لو أنّه لم يستعجل في الأمر، وهذا يعني أن العجلة مذمومة، وربّما تترتب عليها نتائج وخيمة.
ومن خطبة له عليه السلام تسمى {الغرّاء} «فَاتَّقُوا اَللَّهَ تَقِيَّةَ مَنْ سَمِعَ فَخَشَعَ واقْتَرَفَ فَاعْتَرَفَ ووَجِلَ فَعَمِلَ وحَاذَرَ فَبَادَرَ وأَيْقَنَ فَأَحْسَنَ وعُبِّرَ فَاعْتَبَرَ وحُذِّرَ فَحَذِرَ وَزُجِرَ فَازْدَجَرَ وَأَجَابَ فَأَنَابَ وَرَاجَعَ {رَجَعَ} فَتَابَ
ص: 228
وَاقْتَدَى فَاحْتَذَى وَأُرِيَ فَرَأَى فَأَسْرَعَ طَالِباً وَنَجَا هَارِباً»(1). جاءت السرعة بصيغة {أَسْرَعَ، مقرونةً بطلب الحق واتباعه، وهو أمرٌ ممدوحٌ ومحبّذٌ، وينبغي التقدّم فيه.
ومن قصار الحكم له عليه السلام «وَمَنْ زَهِدَ فِي اَلدُّنْيَا اسْتَهَانَ بِالْمُصِيبَاتِ وَمَنِ ارْتَقَبَ اَلْمَوْتَ سَارَعَ فِي «إِلَى» اَلْخَيْرَاتِ»(2). وهنا جاءت بصيغة {سَارَعَ}، والمسارعة في الخيرات من الممدوحات.
ومن قصار الحكم له عليه السلام حينما سئلَ عن الخير ما هو؟ فقال: «لَيْسَ اَلْخَيْرُ {اَلْخَيْرَ} أَنْ يَكْثُرَ مَالُكَ ووَلَدُكَ وَلَکِنَّ اَلْخَيْرَ أَنْ يَكْثُرَ عِلْمُكَ وَأَنْ يَعْظُمَ حِلْمُكَ وَأَنْ تُبَاهِيَ اَلنَّاسَ بِعِبَادَةِ رَبِّكَ فَإِنْ أَحْسَنْتَ حَمِدْتَ اَللَّهَ وَإِنْ أَسَأْتَ اسْتَغْفَرْتَ اَللَّهَ وَلاَ خَيْرَ فِي اَلدُّنْيَا إِلاَّ لِرَجُلَيْنِ رَجُلٍ أَذْنَبَ ذُنُوباً فَهُوَ يَتَدَارَكُهَا بِالتَّوْبَةِ وَرَجُلٍ يُسَارِعُ فِي اَلْخَيْرَاتِ»(3). وهنا جاءت بصيغة فعل المضارع للدلالة على الاستمرارية بالسرعة لفعل الخيرات.
ومن كتاب له عليه السلام إلى أميرين من أمراء جيشه «وَ قَدْ أَمَّرْتُ عَلَيْكُمَا وَعَلَى مَنْ فِي حَیِّزِکُمَا مَالِكَ بْنَ اَلْحَارِثِ اَلْأَشْتَرَ فَاسْمَعَا لَهُ وَأَطِيعَا وَاجْعَلاَهُ دِرْعاً وَمِجَنّاً فَإِنَّهُ مِمَّنْ لاَ یُخَافُ وَهْنُهُ وَلاَ سَقْطَتُهُ وَلاَ بُطْؤُهُ عَمَّا
ص: 229
اَلْإِسْرَاعُ إِلَيْهِ أَحْزَمُ وَلاَ إِسْرَاعُهُ إِلَى مَا اَلْبُطْءُ عَنْهُ أَمْثَلُ»(1). يتضح من السِّياق أنّ السرعة ضدّها البطء وهو صفة مذمومة والسرعة صفة محمودة، لذا أمر الإمام علي عليه السلام الأميرين بإطاعة مالك الأشتر، لأنّه يحملُ عدّة صفات مميزة منها أنّه مسارع في حزم الأمور لا يتباطأ ولا يتواني، ولا يخفى أنّ الجيش يستلزمُ صفة الإسراع في حزم الأمور.
والخلاصة أنّ السرعة في التقدم فيما يحسنُ التقدم فيه، وهي محمودة وضدّها الإبطاء وهو مذموم، والعجلة هي التقدم فيما لا ينبغي التقدم فيه، وهي مذمومة وضدها الأناة وهي محمودة. ومن السِّياقات يتضحُ عدم إمكان استبدال كلمة العجلة بكلمة السرعة وهذا يعني عدم ترادفهما.
قال أَبو الهيثم: العهْدُ جمع العُهْدَةِ وهو الميثاق واليمين التي تستوثقُ بها من يعاهدُك، وقيل وليُّ العهد، لأَنه ولي الميثاقِ الَّذي يؤْخذ على من بایع الخليفة(2). وجعل بعضُهُم العَهْدَ بمعنَى المَوْثِقِ إلا إذا عُدِّيَ ب{إلى} فهو حينئذٍ بمعنى الوصية، والمِيثاقُ من المُواثَقةِ والمعاهدة(3). وقال بعض المفسرين: العَهْد كُلُّ ما عُوهِد اللهُ عليه وكل ما بينَ العِبَادِ من المَوَاثِيقِ فهو
ص: 230
عَهْدٌ(1).
أما أبو هلال العسكري ففرَّق بينهما قائلاً: «الفرق بين الميثاق والعهد: أن الميثاق توكيد العهد من قولك أوثقت الشيء إذا أحكمت شده، وقال بعضهم: العهد یکون حالا من المتعاهدين والميثاق يكون من أحدهما»(2).
أما في السِّياق القرآني فإن لكلِّ منهما، استعمالاً خاصاً، وللعهد صورٌ مختلفة، فإن كان المقصود {عهد الله} فهو لا يُؤخذ من أحدٍ، بل يُعهدُ به لأحدٍ، ولايُعهدُ به لظالمٍ بخلاف الميثاق، والعهد {يُتَّخذُ} بينما الميثاقُ {یُؤخذُ}. ويتضح ذلك من خلال تتبع السِّياقات التي وردتْ فيها المفردتان، فقد وجدنا آیات تختص بالعهد، وآيات تختص بالميثاق، و آیات تجمع بينهما وتفرّق في دلالتيهما.
- «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا»(1).
- «وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا»(2).
- «وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا»(3).
وكذلك في الآيات {الأعراف: 102، والتوبة: 7، والرعد: 25، والإسراء: 34، وطه: 86}
- «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ»(4).
- «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ»(5).
- {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا
ص: 232
تَكْتُمُونَهُ»(1).
- «إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ»(2).
- «وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا»(3).
- «أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ»(4).
وكذلك في الآيات {النساء: آية 21، وآية 92، وآية 154، المائدة: 70، والأنفال: 72، والأحزاب: 7}. نلاحظ في أغلبها ورود الفعل {أخذ، أخذنا، يؤخذ} قبل لفظة الميثاق، وهذا يعني أن الميثاق يُؤخذُ، بينما العهد یُتَّخذُ.
ج - الآيات التي تجمع بينهما.
- «الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ»(5).
- «وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ»(6).
ص: 233
ففي الآية الأولى عطف الإيفاء بالعهد، على نفي نقض الميثاق، والعطف في السياق القرآني يقتضي المغايرة؛ وهذا دليل آخر على عدم ترادف المفردتين. والآية الثانية واضحة الدّلالة في التفريق بينهما. والملاحظ أن العهد أضيف في الآيتين إلى الله عزوجل، بينما الميثاق لم يكن كذلك.
لقد جاء لفظ {العهد} في ثمانية موارد، أما اشتقاقاته فزادت على الثلاثين، وورد لفظ {الميثاق} بهذه الصيغة في أربعة موارد، أمّا اشتقاقاته فزادت على الأربعين، وعطفاً على اللغويين فإن أغلب شرّاح نهج البلاغة، كذلك لم يفرّقوا بين الميثاق والعهد، فقد ورد في هامش الشروح التي راجعناها، والتي اهتمت بشرح المفردات اللغوية مثل {شرح محمد عبده}، و {شرح صبحي الصالح}، و {شرح سید عباس علي الموسوي}، و {المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة}، في الخطبة الأولى وفي فقرة اختيار الأنبياء، فسّروا كلمة {میثاقهم} بكلمة {عهدهم}(1). لكنّنا وبالاعتماد على النظرية السِّياقية لمعرفة المعني التي تقتضي الرجوع إلى السِّياق الَّذي ورد فيه اللفظ المعرفة دلالته، وبالعودة إلى نصوص نهج البلاغة التي استعملت فيها لفظ
ص: 234
الميثاق والعهد، نجد لكلّ مفردة دلالتها واستعمالها الخاصّ.
في سياق حديث الإمام علي عليه السلام عن الملائكة مبيّناً عهد الله للملائكة بالسجود لآدم عليه السلام والسِّياق يفرّق بين العهد والوصية «وَاسْتَأْدَی(1) اَللَّهُ سُبْحَانَهُ اَلْمَلاَئِكَةَ وَدِيعَتَهُ لَدَيْهِمْ وَعَهْدَ وَصِيَّتِهِ إِلَيْهِمْ فِي اَلْإِذْعَانِ بِالسُّجُودِ لَهُ وَاَلْخُشُوعِ لِتَكْرِمَتِهِ»(2).
في سياق كتابه للأشتر النخعي لمّا ولاّهُ على مصر، فقد ذكرَ العهد بأنه جعلٌ إلهي بقوله: «وَ قَدْ جَعَلَ اَللَّهُ عَهْدَهُ وذِمَّتَهُ أَمْناً أَفْضَاهُ(3) بَيْنَ اَلْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ»(4).
وفي الكتاب نفسه ذكر العهد مضافاً إلى لفظ الجلالة {عهد الله} بقوله: «وَلاَ يَدْعُوَنَّكَ ضِيقُ أَمْرٍ لَزِمَكَ فِيهِ عَهْدُ اَللَّهِ إِلَى طَلَبِ النْفِسَاخِهِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ»(5).
ص: 235
ورد في الخطبة الأولى تأدية العباد ميثاق الفطرة «فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ ووَاتَرَ(1) إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ لِيَسْتَأْدُوهُمْ(2) مِيثَاقَ فِطْرَتِه(3)»(4).
في سياق حديثه عن القرآن والأحكام الشرعية «بَيْنَ مَأْخُوذٍ مِيثَاقُ عِلْمِهِ وَمُوَسَّعٍ عَلَى اَلْعِبَادِ فِي جَهْلِهِ»(5). والملاحظ أن هذا يتوافق مع ما وجدنا من فرقٍ بين العهد والميثاق في سياق القرآن الكريم، فالميثاق يؤخذ، كما عبّر الإمام علي عليه السلام {مأخوذ} والعهد {يتخذ} وهذا فرق في الدّلالة والاستعمال. ومن كلام له عليه السلام «فَنَظَرْتُ فِي أَمْرِي فَإِذَا طَاعَتِي قَدْ سَبَقَتْ بَیْعَتِي وإِذَا اَلْمِيثَاقُ فِي عُنُقِي لِغَيْرِي»(6). ومن السِّياق واضح أن الميثاق یتخذ.
ومن خطبة له في عظة الناس «وَلَنْ تَأْخُذُوا بِمِيثَاقِ اَلْكِتَابِ حَتَّى تَعْرِفُوا اَلَّذِي نَقَضَهُ»(7). وهنا استعمل الفعل الصريح {تَأْخُذُوا} الَّذي
ص: 236
يشير إلى أن الميثاق يؤخذ.
ومن حلف له عليه السلام كتبه بين ربيعة واليمن «ثُمَّ إِنَّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ عَهْدَ اَللَّهِ وَمِيثَاقَهُ إِنَّ عَهْدَ اَللَّهِ كَانَ مَسْؤولاً»(1). نلاحظ استعمل عهد الله معطوفاً على الميثاق بأداة العطف الواو، والعطف يقتضي المغايرة. ثم السِّياق يشير إلى وجود فارق بينهما في الدّلالة.
في سياق حديثه عن اختيار الأنبياء فقد أورد الميثاق عليهم، واستعمل العهد مضافاً إلى لفظ الجلالة، كما استعملهُ القرآن الكريم في التفريق بين المفردتين «وَاصْطَفَى سُبْحَانَهُ مِنْ وَلَدِهِ أَنْبِيَاءَ أَخَذَ عَلَى اَلْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ وعَلَى تَبْلِيغِ اَلرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ {إِيمَانَهُمْ} لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اَللَّهِ إِلَيْهِمْ فَجَهِلُوا حَقَّهُ واتَّخَذُوا اَلْأَنْدَاَد مَعَهُ»(2). والخلاصة إن بعض المعاجم اللغوية، ومعظم المفسّرين، وأغلب شرّاح نهج البلاغة لا يفرّقون بين اللفظتين إلاّ أنّنا وجدنا بالاعتماد على السِّياق، أنّ القرآن الكريم، ونهج البلاغة، استعملا كلّ واحد منهما في سياق معيّن وفي دلالة محددة ولا يمكن استبدال لفظة بأخرى في السِّياق الَّذي وردت فيه، وهذا يعني أن اللفظتين غير مترادفتين.
ص: 237
في لسان العرب، الفَلَح والفَلاحُ الفوز والنجاة والبقاء في النعيم والخير(1). وفي تاج العروس، الفَلحُ محرّكَةً والفَلاحُ: الفَوْزُ بما يُغْتبَط به وفيه صَلاحُ الحال(2). وفي حديث أَبي الدَّحْداحِ بَشَّرَك الله بخير وفَلَحٍ أَي بَقاءٍ وفَوْز وهو مقصورٌ من الفلاح؛ قال ابن الأَثير وهو من أَفْلَحَ كالنجاح من أَنجَحَ أَي هَلُمُّوا إِلى سبب البقاء في الجنة والفوز بها وهو الصلاة في الجماعة(3).
لم يذكر أبو هلال العسكري في كتابه {الفروق اللغوية}، الفرق بين الفوز والفلاح، إلا إنه فرّق بين {الصلاح والفلاح} وبين {النجاة والفوز} ومن خلال هذا التفريق، يمكننا أن نعرف رأيه في الفوز والفلاح. قال في الفرّق بين الصلاح والفلاح: إن الصلاح ما يتمکن به من الخير أو يتخلص به من الشر؛ والفلاح نيل الخير والنفع الباقي أثره وسمي الشيء الباقي الأثر فلحاً(4).
أما الفرق بين النجاة والفوز: فإن النجاة هي الخلاص من المكروه، والفوز هو الخلاص من المكروه مع الوصول إلى المحبوب ولهذا سمي الله تعالی المؤمنين فائزين لنجاتهم من النار ونيلهم الجنة، ولما كان الفوز يقتضي نیل المحبوب قیل فاز بطلبته، وقال تعالى: «يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا
ص: 238
عَظِیماً»(1) أي أنال الخیر نیلاً کثیراً(2).
ومن خلال المقارنة بین مفهوم الفلاح والفوز، في الموضعین نجد أن أبا هلال لم یوفقْ في التفریق بینهما، فلم یورد تحدیداً واضحاً لکل منهما، بل نشعر أن هناك ضبابیة في المعنی، ولعل ذلك منبثقٌ من عدم ترکیزه علی المفردتین، والنظر إلیهما في موضع واحد. أمّا في السِّیاق القرآني فنجد أنّ الفوز هو النجاح في الآخرة، أمّا الفلاح فهو الظفر في الدنیا ویتضحُ ذلك من خلال السِّیاقات التي وردت فیها مفردتا الفلاح والفوز:
أ: موارد لفظ {الفوز} في السِّیاقات القرآنیة:
«يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»(3).
«فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ»(4).
«وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ
ص: 239
أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»(1).
«قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»(2).
«إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ»(3).
يتضح من خلال سياق الآيات القرآنية أنّ الفوز هو الظفر بالخير والنعيم في الآخرة، فالمساكن الطيبة في جنّات عدنٍ، والدخول في رحمة الربّ، ورضوان الله الأكبر، وجزاء صبر المؤمنين، أنما يكونُ في الآخرة وليس في الدنيا.
«يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»(4).
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»(5).
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
ص: 240
تُفْلِحُونَ»(1).
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»(2).
«لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ إِخْوَانِهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُم أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحِ مِنْهُ وَیُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(3).
ومن السِّياقات القرآنية يتضح أن الفلاح في القرآن الكريم هو الظفر في ميادين العمل والجهاد في هذه الحياة الدنيا؛ فإنّ إتيان البيوت من أبوابها، وعدم أكل الربا، والصبر والمثابرة والمرابطة، والجهاد في سبيل الله، كلّها تحصل في الدنيا ويفلحُ من يؤدّيها في هذه الحياة.
أمّا في سياقات نهج البلاغة فقد ورد لفظ {الفوز} ومشتقاته ثلاث عشرة مرّة، وورد لفظ الفلاح ومشتقاته مرّتين فقط.
ص: 241
من خطبة له عليه السلام فيها مواعظ للنّاس «أُوصِيكُمْ عِبَادَ اَللَّهِ بِتَقْوَى اَللَّهِ اَلَّتِي هِيَ اَلزَّادُ وَبِهَا اَلْمَعَاذُ «المعاد» زَادٌ مُبلِغٌ وَمَعَاذٌ مُنْجِحٌ دَعَا إِلَيْهَا أَسْمَعُ دَاعٍ ووَعَاهَا خَيْرُ وَاعٍ فَأَسْمَعَ دَاعِيهَا وَفَازَ وَاعِيهَا»(1). فإنّ تقوى الله تؤدي إلى الفوز في {النجاح في الآخرة} والحصول على الجنان ورحمة المنّان، فمن وعاها {التقوى} نال جزاءها في الآخرة.
ومن خطبة له عليه السلام: يعظ فيها ويزهد في الدنيا «أَ مَا رَأَيْتُمُ اَلَّذِينَ يَأْمُلُونَ بَعِيداً وَيَبْنُونَ مَشِيداً وَيَجْمَعُونَ كَثِيراً كَيْفَ أَصْبَحَتْ بُيُوتُهُمْ قُبُوراً وَمَا جَمَعُوا بُوراً وَصَارَتْ أَمْوَالُهُمْ لِلْوَارِثِينَ وَأَزْوَاجُهُمْ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لاَ فِي حَسَنَةٍ يَزِيدُونَ ولاَ مِنْ سَيِّئَةٍ يَسْتَعْتِبُونَ «یُسْتَعْتَبُونَ» فَمَنْ أَشْعَرَ اَلتَّقْوَى قَلْبَهُ بَرَزَ مَهَلُهُ(2) وَفَازَ عَمَلُهُ»(3). فصاحب التقوى فاق الآخرين بتقدّم الخير، وفاز في الآخرة بعمله التقوائي.
ومن خطبة له عليه السلام يعظ بالتقوى «وَسِيقَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى اَلْجَنَّةِ زُمَراً قَدْ أُمِنَ اَلْعَذَابُ وَاِنْقَطَعَ اَلْعِتَابُ وَزُحزِحُوا عَنِ اَلنَّارِ وَاِطْمَأَنَّتْ بِهِمُ اَلدَّارُ وَرَضُوا اَلْمَثْوَى وَاَلْقَرَارَ الَّذينَ كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي اَلدُّنْيَا زَاكِيَةً وأَعْيُنُهُمْ
ص: 242
بَاكِيَةً وَكَانَ لَيْلُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ نَهَاراً تَخَشُّعاً واسْتِغْفَاراً وَكَانَ نَهَارُهُمْ لَیْلاً تَوَحُّشاً وانْقِطَاعاً فَجَعَلَ اَللُّهُ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ مَآباً وَاَلْجَزَاءَ ثَوَاباً وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وأَهْلَهَا فِي مُلْكٍ دَائِمٍ وَنَعِیمٍ قَائِمٍ فَارْعَوْا عِبَادَ اَللَّهِ مَا بِرِعَايَتِهِ يَفُوزُ فَائِزُكُمْ»(1). ومن السِّياق يتضح أنّ الفوز هو الظفر بالخير والنعيم بالآخرة، فقد تقدّم {يفوز فائزكم}، ذكر {المثوى والقرار والجنّة والجزاء والثواب وملك دائم، ونعيم قائم} وكلّ ذلك إنما يكون في الآخرة.
ومن خطبة له عليه السلام في النهي عن الفتنة: «أَيُّهَا اَلنَّاسُ شُقُّوا أَمْوَاجَ اَلْفِتَنِ بِسُفُنِ اَلنَّجَاةِ وَعَرِّجُوا عَنْ طَرِيقِ اَلْمُنَافَرَةِ وَضَعُوا تِيجَانَ اَلْمُفَاخَرَةِ أَفْلَحَ مَنْ نَهَضَ بِجَنَاحٍ»(2). فالقضاء على الفتنة والنجاة منها، والابتعاد عن الطرائق الملتوية وترك المفاخرات، إنما تكون في الدنيا، وقد أفلح من ابتعد عنها. ويتضح من السِّياق أنّ الفلاح هو النجاة والنجاح في الدنيا.
ومن كتاب له عليه السلام إلى عثمان بن حنيف الأنصاري، وكان عامله على البصرة وقد بلغهُ أنّه دعي إلى وليمة قومٍ من أهلها، فمضى إليها «طُوبَى لِنَفْسٍ أَدَّتْ إِلَى رَبِّهَا فَرْضَهَا وَعَرَكَتْ بِجَنْبِهَا بُؤْسَهَا وهَجَرَتْ فِي اَللَّيْلِ غُمْضَهَا حَتَّى إِذَا غَلَبَ اَلْكَرَى علَيْهَا افْتَرَشَتْ أَرْضَهَا وَتَوَسَّدَتْ كَفَّهَا
ص: 243
فِي مَعْشَرٍ أَسْهَرَ عُيُونِهُمْ خَوْفُ مَعَادِهِمْ وتَجَافَتْ عَنْ مَضَاجِعِهِمْ جُنُوبُهُمْ وَهَمْهَمَتْ بِذِكْرِ رَبِّهِمْ شِفَاهُهُمْ وَتَقَشَّعَتْ بِطُولِ اسْتِغْفَارِهِمْ ذُنُوبُهُمْ أُولئِكَ حِزْبُ اَللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اَللَّهِ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ فَاتَّقِ اَللَّهَ يَا بْنَ حُنَیْفٍ وَلْتَكْفُفْ أَقْرَاصُكَ(1)»(2). بعد أن يسوق الإمام جملة من الأعمال التي يقوم بها الإنسان في هذه الدنيا، استشهد بقول الله عزّوجلّ: «لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(3).
فالَّذين يتّبعون أوامر الله ويتقونهُ يفلحونَ في هذه الدنيا.
والنتيجة تتضح ممّا سبق لا يمكن استبدال كلمة {فوز} بكلمة {الفلاح} في سياقات الآيات القرآنية، ولا في سياق نهج البلاغة، وهذا يعني عدم ترادفهما استناداً إلى ما اعتمدناهُ من قانون الاستبدال والتعريف الَّذي اخترناهُ للترادف.
ص: 244
البَعْثُ في كلام العرب على وجهين أَحدهما الإِرْسال كقوله تعالى «ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى» معناه أرسلنا، والبَعْثُ إِثارةُ باركٍ أَو قاعدٍ، تقول: بَعَثْتُ البعير فَانبَعَثَ، أَي أَثَرْتُه فَثار، والبَعْثُ أَيضاً الإِحْياء من الله للمَوْتی ومنه قوله تعالى «ثم بَعَثْناكم من بَعْدِ موتِكم» أَي أَحييناكم، وبَعَثَ المَوْتی نَشَرَهم ليوم البَعْثِ وبَعَثَ اللهُ الخَلْقَ يَبْعَثُهُم بَعْثاً نَشَرَهم(1). وقال الزجاج يقال نَشَرهُم الله أَي بعثَهم كما قال تعالى وإِليه النُّشُور(2).
أما العسكري ففرّق بين البعث والنشور بقوله: إن بعث الخلق اسم الإخراجهم من قبورهم إلى الموقف، ومنه قوله تعالى {من بعثنا من مرقدنا}، والنشور اسم لظهور المبعوثين وظهور أعمالهم للخلائق، ومنه قولك نشرت اسمك ونشرت فضيلة فلان، إلا أنه قيل أنشر الله الموتى بالألف، ونشرت الفضيلة والثوب للفرق بين المعنيين(3).
وأشار الراغب في مفرداته إلى أصل البعث وأنواعه بقوله: «أصل البعث إثارة الشيء وتوجيهه يقال: بعثته فانبعث، ويختلف البعث بحسب اختلاف ما علق به فبعثت البعير أثرته وسيرته، وقوله عز وجل: «وَالْمَوْتَی يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ» و أي يخرجهم ويسيرهم إلى القيامة. - إلى أن قال - فالبعث
ص: 245
ضربان: بشري كبعث البعير وبعث الإنسان في حاجة، وإلهي وذلك ضربان: أحدهما: إيجاد الأعيان والأجناس والأنواع عن ليس وذلك يختص به الباري تعالى ولم يقدر عليه أحد، والثَّاني إحياء الموتى وقد خص بذلك بعض أوليائه کعیسی علیه السلام»(1).
أمّا في السِّياقات القرآنية فوردت مادة {البعث} سبعاً وستّين مرّة، ووردت مادة {نشر} إحدى وعشرين مرّة، خمساً منها بلفظ {النشور}، ومن تتبّع السِّياقات تبيّن لنا أن البعث هو {الإحياء من جديد، ويكون في الدنيا والآخرة}، أمّا النشر فهو {إحياء الميّت حاملاً معهُ صفاته التي مات عليها، ويختصّ بالآخرة}.
«فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا»(2).
فأهل الكهف أمام الله في أثناء حياتهم الدنيا مدة محددة ثمّ بعثهم من جديد، ليكون ذلك دليل على قدرة الخالق على بعث من يموت، كما أنهم آية للنّاس لعلّهم يتفكّرون كما قال تعالى: «وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا
ص: 246
«أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا»(1).
«أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(2). فقد أماتهُ الله وأحياهُ من جديد في هذه الحياة الدنيا لذا استعمل لفظة {بعثهُ}، ولم يستعمل لفظة {نشرهُ}.
«وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ»(3).
في سياق هذه الآية المباركة يكون الأحياء للآخرة، من خلال بعث الميت من القبر.
«يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»(4). وهنا ايضاً الإحياء للآخرة، من خلال بعث الأموات من جديد للحساب.
«فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ
ص: 247
بِالْحَقِّ»(1)، عبّر تعالى بالبعث دون الإرسال وما في معناه؛ لأن هذه الوحدة المخبر عنها من حال الإنسان الأولي حال خمود وسكوت، وهو يناسب البعث الَّذي هو الإقامة عن نوم أو قطون ونحو ذلك، وهذه النكتة لعلها هي الموجبة للتعبير عن هؤلاء المبعوثين بالنبيين دون أن يعبر بالمرسلين أو الرسل(2). وهذا الاستعمال فيه نكتة قرآنية عظيمة المضمون، فبعثُ الأنبياء إلى الأمم، هو إحياء لهم من الظلم والطغيان والجهل في هذه الحياة الدنيا.
«ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ»(3).
«وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ»(4). من السِّياق يتضحُ أنّ الآية تفيدُ معنى النشر السابق، وهو أوسع من معنى البعث.
«وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا»(5).
ص: 248
ومن خطبة له عليه السلام وفيها يصف العربَ قبل البعثة، ثمّ يصف حاله قبل البيعة لهُ «إِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّداً ص نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ وَأَمِيناً عَلَى اَلتَّنْزِيلِ»(1).
وَبَعْثُ النبيّ محمد صلى الله عليه وآله هو إحياء جديد للإنسانيّة بعد أن كانت في الشرك والظلال وعبادة الأصنام وقتل البنات «وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ»(2).
فبعث الله إليهم محمداً صلى الله عليه وآله ليخرجهم من الظلمات إلى النور، من الموت إلى الحياة. ومن خطبة له عليه السلام وهي الخطبة العجبية وتسمّى {الغرّاء} «عِبَادُ مَخْلُوقُونَ اقْتِدَاراً وَمَرْبُوبُونَ اِقْتِسَاراً(3) وَمَقْبُوضُونَ اِحْتِضَاراً وَمُضَمِّنُونَ أَجْدَاثاً(4) وَكَائِنُونَ رُفَاتاً(5) وَمَبْعُوثُونَ أَفْرَاداً وَمَدِينُونَ جَزَاءً
ص: 249
وَمُمَیَّزُونَ حِسَاباً»(1). ومن السِّياق يتضحُ أنّ العباد تقبضُ أرواحهم، ثمّ يقبرون وتتحول أجسادهم إلى رفات، ثم بعد ذلك يبعثون من جديد على هیأتقم بعد أن أصبحوا رفاتاً، ليحاسبوا وكلّ يأخذ جزاءهُ، فالبعثُ هنا هو الإحياء من جديد في عالم الآخرة.
«حَتَّى إِذَا تَصَرَّمَتِ اَلْأَمُورُ وَتَقَضَّتِ اَلدُّهُورُ وأَزِفَ اَلنُّشُورُ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ضَرَائِحِ اَلْقُبُورِ وَأَوْكَارِ اَلطُّيُورِ وَأَوْجِرَةِ اَلسِّبَاعِ وَمَطَارِحِ اَلْمَهَالِكِ سِرَاعاً إِلَى أَمْرِهِ مُهْطِعِینَ إِلَى مَعَادِهِ رَعِيلاً صُمُوتاً قِيَاماً صُفُوفاً»(2).
في هذا النصّ وجدنا أمرين لابدّ من التفصيل والإشارة إليهما:
أولاً: إن أغلب شرّاح نهج البلاغة، ولاسيما الشروح التي اهتمّت بالجانب اللغوي، مثل شرح محمد عبده، وشرح صبحي الصالح، والمعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة، وشرح السيد عباس علي الموسوي {وهو شرح جديد لأكبر عدد من المفردات اللغوية}، قد عبّروا عن النشور في هذا النص بالبعث {أَزِفَ النشور: قرب البعث }(3). إلا أنني وجدتُ شرحاً واحداً
ص: 250
للمؤلف كمال الدين مثيم البحراني، لم يشرْ أنّه البعث بل قال بعد أن نفى أن يكون المعاد روحانياً فقط، وأثبت المعاد الجسماني والروحاني معاً، {أزفَ النشور: أي دنا انتشار كلّ واحد في عالم الآخرة من قبور الأبدان}(1).
ثانياً: من خلال تتبع سياق الخطبة، وجدنا بعد مقطع واحد، يشير الإمام عليه السلام إلى البعث بلفظه الصريح إذ يقول: «وَمَبْعُوثُونَ أَفْرَاداً» وقد أوضحناه في سياقات لفظ البعث سابقاً. وهنا يتبيّن أن الإمام عليه السلام أوضح مسألتين هما البعث والنشر، ولو كانا يدلان على معنىً واحد، لما استلزم منه أن يوضحهما في مقطعين ولاكتفى بذكر أحدهما، ولعل المراد من النشر هو إحياء الأموات حاملين معهم صفاتهم التي كانوا عليها، ويحصل ذلك بالآخرة. وأراد من البعث هو الإحياء من جديد وميّزهُ بالأفراد {وَمَبْعُوثُونَ أَفْرَاداً} أي مبعوثون من جديد، مجردون عن استصحاب الأهل والأموال(2)، كما قال تعالى: «وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا»(3).
والنتيجة أنّ هناك فرقاً بين {البعث والنشر}؛ فالمعنى الأساس للبعث هو الانبعاث فقط دون أي صفة أخرى، أمّا النشر فهو الانتشار الَّذي يحملُ صفة ما كان عليه، وقد استعمل لفظ {البعث} في لغة القرآن الكريم ونهج
ص: 251
البلاغة بمعنى الإحياء من جديد في الدنيا والآخرة، أمّا النشر فقد استعمل بمعنى إحياء الميّت على الصفة التي مات عليها ونشرهُ للحساب، ومن هنا يتّضحُ عدم إمكان استبدال لفظة {البعث} ب{النشر} وهذا يستلزمُ عدم ترادفهما بالمفهوم الَّذي تبنّيناهُ للترادف.
ورد في لسان العرب، الفَتْحُ: النصر. وفي حديث الحديبية: أَهو فَتْحٌ أَي نصر. واسْتَفْتَحْتُ الشيءَ وافْتَتَحْتُه والاستفتاح: الاستنصار. واسْتَفْتَحَ اللَّهَ على فلانٍ: سأَله النصر عليه ونحو ذلك. والفَتَاحَةُ: النُّصْرَةُ. وفي الحديث: أَنه كان يَسْتَفْتِحُ بصعاليك المهاجرين أي يستنصر بهم ومنه قوله تعالى «إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ»(1) واسْتَفْتَحَ الفَتْحَ: سأله. وقال الفراء : قال أَبو جهل يوم بدر: اللهم انْصُر أَفضلَ الدينين وأَحَقَّه بالنصر، فقال الله عز وجل: «إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ» قال أَبو إِسحق: معناه إِن تستنصروا فقد جاءكم النصر(2).
يلاحظ أنّ المعجم اللغوي جعل الفتح هنا مرادفاً للنصر، أمّا السِّياق القرآني ففرّق بينهما في الدّلالة، فإنّ لكلّ مفردة سياقها الخاصّ، الَّذي يعطيها معنی مغايراً للمفردة الأخرى. فقد ورد لفظ {النصر} وما اشتقّ منهُ في مئة
ص: 252
وثلاثٍ وأربعين آية، أُسند فيها غالباً النصر إلى الله سبحانه وتعالى. وورد لفظ {الفتح} واشتقاقاته في ثمانٍ وثلاثين آية.
«لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ»(1).
«إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ»(2).
«وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»(3).
نلاحظ من السِّياق القرآني لهذه الآية المباركة أسلوب الحصر الَّذي يعني أنّ النصرَ مقصورٌ على الله سبحانه، وهو لا يكونُ إلاّ لمن يستحقّونه ممّن ينصرون الله ويقاتلونَ في سبيله وما نلاحظهُ من خلال تتّبع سياق الآيات أنّ النصر أُسند في الأغلب إلى الله عزّ وجلّ. وفي آيات قليلة ورد {النصر} مسنداً لغير الله، مثل بعض المخلوقات الأخرى التي يدعي المشركون أنّها شركاء الله، ولعلّ هذا الإسناد من باب التعجيز والاستخفاف بالمشركين؛ لأنّ من يستغفر بغير الله فلا ناصر له. وذلك واضح من قوله تعالی: «وَاتَّخَذُوا
ص: 253
مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ»(1).
ولابدّ من الإشارة إلى نكتة لطيفة يحملها معنى {النصر} وهو غلبة الحقّ والخير دائماً؛ لأنّ الله لا ينصر إلا الحقّ، أمّا غلبة قوّة على أُخر من دون نصر الله ؛ فهي غلبة فقط، قد لا تحملُ معنى الخير، بل تحمل في الغالب الشرّ، ومن ثَمَّ فليس هذا نصراً بالمنظور القرآني، وهذا سرّ أسلوب الحصر في الآية المباركة وما النصر إلاّ من عند الله.
«إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا»(2). وفي هذه الآية إشارة إلى فتح مكّة الَّذي حصل من دون قتال وجهاد وعناء، لذا استعمل مفردة {الفتح}، ولو كان فيه قتال وجهاد، لاستعمل مفردة {النصر}. «وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ»(3). بعد أن قال المسلمون إن لنا يوماً نستريح فيه وننعم، قال الكافرون «مَتَى هَذَا الْفَتْحُ» وهذا الحوار يدلّ على أنّ الصحابة فهموا الفتح معناهُ {الراحة، والصفاء، وتحقّق الأهداف.
ص: 254
«وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ»(1).
«إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ»(2).
في سياق الآيتين قدم النصر على الفتح، وهذا يدلّ على أنّ الفتح نتيجة من نتائج النصر، وسياق الآية الأولى يكشفُ لنا أنّ النصر مترتّب على الجهاد في سبيل الله في ميادين القتال، فإذا تحقّق من المؤمنين الجهاد، كان النصر من الله، «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ»(3).
ثمّ بعد ذلك يتحقّق الفتح وهو انتشار الإسلام ومعالم الحقّ، نتيجة جهودهم، هذا في الدنيا، أمّا في الآخرة فهو النجاة من العذاب الأليم، ودخول الجنان والفوز بالرضوان.
لذا استحقّوا البشرى للفتح الَّذي تحقّق على أيديهم في الدنيا، وبهذا المعنى ارتبط الفتح بالنصر في السِّياق القرآني.
سياقات نهج البلاغة لقد ورد لفظ {النصر} ومشتقاته تسعاً وستّين مرّة، أما لفظ {الفتح} ومشتقاته فورد ستاً وثلاثين مرّة.
ص: 255
من كلام له عليه السلام لابنه محمد بن الحنفية، لمّا أعطاهُ الرآية «تزُولُ اَلْجِبَالُ ولاَ تَزُلْ(1) عَضَّ عَلَى نَاجِذِكَ أَعِرِ اَللَّهَ جُمْجُمَتَكَ(2) تِدْ فِي اَلْأَرْضِ قَدَمَكَ اِرْمِ(3) بِبَصَرِكَ أَقْصَى اَلْقَوْمِ وغُضَّ بَصَرَكَ(4) وَاعْلَمْ أَنَّ اَلنَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ»(5).
نلاحظ في هذا المقطع التأكيد على أنّ النصر من عند الله سبحانه وتعالى، وهي حقيقة أكّدها القرآن الكريم في سياقات متعددة؛ ثمّ إنّه عليه السّلام بعد تعليمه آداب المحاربة والمقاتلة قال له: {واعلم أنّ النّصر من عند الله سبحانه} ليتأكد ثباته بوثوقه بالله سبحانه، كما نلاحظ من السِّياق قرن
ص: 256
النصر بأفعال جهادية {لا تَزُلْ، عضَّ، أَعِر، تِدْ، إرمِ، غُضَّ} وهذا يبيّن أنّ النصر الَّذي يمنحهُ الله سبحانه وتعالى لابدّ أن يَسبِقُهُ المؤمنون بالجهاد والعناء والقتال في سبيل الله؛ وليس بالراحة والهناء.
ومن كلام له عليه السلام وقد استشارهُ عمر بن الخطّاب في الشخوص القتال الفُرس بنفسه «إِنَّ هَذَا اَلْأَمْرَ لَم يَكُنْ نَصْرُهُ ولاَ خِذْلاَنُهُ بِكَثْرَةٍ ولاَ بِقِلَّةٍ وهُوَ دِينُ اَللَّهِ الَّذي أَظْهَرَهُ وجُنْدُهُ الَّذي أَعَدَّهُ وأَمَدَّهُ حَتَّى بَلَغَ مَا بَلَغَ وَطَلَعَ حَيْثُمَا طَلَعَ وَنَحْنُ عَلَى مَوْعُودٍ مِنَ اَللَّهِ واَللَّهُ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ ونَاصِرٌ جُنْدَهُ»(1). ثم يقول في آخر كلامه «وَ أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ عَدَدِهِمْ فَإِنَّا لَمْ نَكُنْ نُقَاتِلُ فِيمَا مَضَى بِالْكَثْرَةِ وإِنَّمَا کُنَّا نُقَاتِلُ بِالنَّصْرِ واَلْمَعُونَةِ»(2).
ومن السِّياق يتّضح أنّ النصر مقصورٌ على الله سبحانه وتعالى لا غيره، وأن النصر مقرون بالقتال، ويمنحه الله جندَه من عباده المؤمنين.
من كتاب له عليه السلام للأشتر النخعي «وَأَنْ يَنْصُرَ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ بِيَدِهِ وَقَلْبِهِ «بِقَلْبِهِ وَيَدِهِ» وَلِسَانِهِ فَإِنَّهُ جَلَّ اسْمُهُ قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ وَإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ»(3).
ومن السِّياق يتضح أنّ النصر من الله لابدّ أن يُسبِقُهُ المؤمن بالإعداد والاستعداد لنصرة الحق والخير.
ص: 257
من خطبة له عليه السلام «وَذَلِكَ إِذَا قَلَّصَتْ(1) حَرْبُكُمْ وشَمَّرَتْ عَنْ سَاقٍ وَكَانَت ضَاقِتَ اَلدُّنْيَا عَلَيْكُمْ ضِيقاً تَسْتَطِيلُونَ مَعَهُ أَيَّامُ اَلْبَلاَءِ عَلَيْكُمْ حَتَّى يَفْتَحَ اَللَّهُ لِبَقِيَّةِ اَلْأَبْرَارِ مِنْكُمْ»(2).
ومن السِّياق نعرفُ أنّ الفتح يكونُ للأبرار، بعد أن يمرّ بأيّام البلاء إلى أن يُكلّل بالفتح من الله الَّذي يتضمّن معنى الراحة بعد التعب، ونستشعرُ ذلك من قوله: {يَفْتَحَ اَللَّهُ لِبَقِيَّةِ اَلْأَبْرَارِ مِنْكُمْ}، فحتّى تشير إلى نهاية مرحلة العناء والبلاء، وتؤذن بمرحلة الرخاء والعطاء.
من كتاب له عليه السلام إلى عبد الله بن عبّاس، بعد مقتل محمّد بن أبي بكر رحمه الله: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مِصْرَ قَدِ افْتُتِحَتْ ومُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ رَحِمَهُ اَللَّهُ قَدِ اُسْتُشْهِدَ فَعِنْدَ اَللَّهِ نَحْتَسِبُهُ(3) وَلَداً نَاصِحاً وعَامِلاً کَادِحاً وسَيْفاً قَاطِعاً ورُكْناً دَافِعاً»(4).
فإنّ فتح مصر جاء بعد الجهاد والعناء والدعوة سرّاً وجهراً كما أشار الإمام عليه السلام في هذه الخطبة، والفتح ترتّب على ذلك، فهو نتيجة من نتائج النصر.
ص: 258
والنتيجة أنّ النصر في السِّياق القرآني وسياق نهج البلاغة أُسندَ إلى الله عزّ وجلّ ويمنحهُ لمستحقّيه، كما أنه يتضمّن معنى القتال والجهاد والعناء، أمّا الفتحُ فهو من نتائج النصر، ويتضمّن معنى الراحة والرخاء بانتشار الإسلام ومعالم الحقّ على ربوع الأرض، ويمكن أن يحصل الفتح من دون قتال مثل فتح مكّة المكرمة؛ وبعد ما تقدم يتضح عدم إمكان استبدال كلمة النصر بكلمة الفتح في السياق وهذا يعني أنهما ليسا مترادفين.
يمكن القول بعد تحليل مجموعة من الألفاظ التي يظنّ بترادفها في سياقات القرآن الكريم وسياقات نهج البلاغة، خلوّهما من ظاهرة التَّرادُف {إن صحّ تعميم الحكم على سائر الألفاظ في القرآن الكريم وهج البلاغة}؛ فإن المتأمّل لألفاظ القرآن الكريم في سياقاته المتعددة، والمتبصّر لألفاظ هج البلاغة في نصوصه المتنوعة، ليجدُ هذه النتيجة أمامهُ لاتنفكّ عنه. فإن كلّ مفردة في القرآن الكريم، تختصّ بدلالة لا يمكن أن تؤديّها مفردة أخرى مهما كانت قريبة منها أو مشتركة معها في المعنى العامّ وما يعضّد ذلك، ما توصّلت إليه بنت الشاطئ في ما اشتغلت به على المدى الطويل في الدراسات القرآنية إذ تقول: «شهد التتبّع الاستقرائي لألفاظ القرآن في سياقها، أنّه يستعمل اللفظة بدلالة معيّنة لا يمكن أن يؤدّيها لفظٌ آخر، في المعنى الَّذي تحشد له المعاجم وكتب التفسير عدداً قلّ أو كثر من الألفاظ»(1).
ص: 259
على الرغم من عدم موافقتنا بنحو کامل لآراء المنجد في نظرته للترادف وأسبابه في اللغة العربية(1)، نقتربُ منه في نظرته للترادف في القرآن الكريم، بعد تطبيقنا للآيات المباركة التي اخترناهُ عيّناتٍ للوصول إلى حقيقة التَّرادُف في القرآن الكريم، وإنّ ما وصلنا إليه ينسجمُ إلى حدٍ ما مع ما وصل إليه من نتائج تطبيقاته، علماً أننا اخترنا ألفاظاً لم يدرسها وسلكنا طريقاً لم يسلكه، ووضعنا تعريفاً للترادف غير الَّذي ارتضاهُ لنفسه فهو يؤكد قائلا: «لا يخفی بعد هذا أن خلو القرآن الكريم من ظاهرة التَّرادُف كان مما تحدّى الله به أرباب البيان العربي، فأعجزهم أن يأتوا بسورة من مثله تختلف ألفاظها وتتقارب بعض معانيها حتى يظن فيها التَّرادُف، وما هي من التَّرادُف في شيء، وإنما لكل لفظة في نظمه المبين مقام لا يقوم في غيره. ونحن إذ ننكر التَّرادُف في ألفاظ القرآن الكريم فإننا لا ننكره في لغة العرب، إذ لا يخفى أن الألفاظ تتفاوت مقاماقا بين رديء ومذموم وضعيف ومتروك، وفصيح وأفصح، وغير ذلك، فلا غرابة بعد ذلك أن يدل ضعيف وفصيح أو متروك ومتواتر على معنى واحد، دلالة حقيقية باعتبار واحد في بيئة لغوية واحدة فتقول إنما مترادفان.
ولعل هذا واقع كثير من المترادفات في العربية، أما القرآن الكريم فلاشك أن ألفاظه على صراط واحد في الطبقة العليا من الفصاحة
ص: 260
والبيان، وإنكار التَّرادُف في القرآن الكريم يتوافق مع سمو بیانه وفصيح ألفاظه مادام كثير من المترادفات تتفاوت مراتبها في سلم الفصاحة، ونخلص من ذلك إلى أن القول بترادف لفظين دليل على أن أحدهما أو كليهما دون الطبقة العليا في الفصاحة بدرجة أو درجات، لذلك خلا القرآن الكريم من التَّرادُف في ألفاظه والله أعلم»(1).
والَّذي نميل إليه وأقرب إلى النفس وجود التَّرادُف في اللغة العربية، مع تضييقه والتسامح في مفهومه، إلاّ أنّ ذلك لا يستلزم وجوده في لغة القرآن الكريم، صحيح أن القرآن الكريم نزل بلغة العرب، لكنه أعجزهم عن الإتيان بمثله بل الإتيان بسورة واحدة، فالأحرف التي استعملها القرآن الكريم، هي عين الأحرف التي استعملها العرب، إلا أن الصياغة التي جاء بها القرآن الكريم، والهيئة التي ظهرت بها الآيات وما تحتويه من مضمون عظيم ومعنى كبير، أدى إلى الحيرة في تصنيف القرآن العظيم فهو ليس بشعر ولا نثر، هو کلام الله خالق الإنسان، وموجد الكلام، هو نور الله وهدايته للبشر، فمن الخطأ أن نقيس القرآن الكريم بمقاييس الشعر والنثر، وليس بالضرورة ما يجري للشعر والنثر يجري على القرآن الكريم.
لذا يرى الباحث عدم وجود التَّرادُف في الكتاب العزيز، والدليل على ذلك، أن الكلمات في الآيات الشريفة التي ظنّ البعض أنها من المترادفات،
ص: 261
بعد مراجعتها وتحليلها من خلال تتبع سياقاها، اتضح أن كل لفظة لها دلالتها الخاصة، وإيحاؤها الخاص.
أمّا في نهج البلاغة الَّذي لم يحظَ بدراسة من هذا النوع، ومن خلال تتبع السِّياقات التي وردت فيها المفردات اللغوية مقارنة بورودها في الآيات القرآنية، فالراجح عدم وجود ظاهرة التَّرادُف فيه، بل وجدنا أن استعمال المفردة في نهج البلاغة يتقارب مع استعمالها في القرآن الكريم، وهذا يكشف عن قرب صاحبه من كتاب الله عز وجل وكيف لا وهو ربيب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورفيق دربه، وقيل في هجه أنّه {كلام فوق المخلوق ودون الخالق}، فهو على درجة من الفصاحة والبلاغة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ المنطلق الَّذي اعتمدنا عليه في هذا الحكم، هو ما توصّلنا إليه من تعريف للترادف، والمنهج الَّذي اخترناه لتحديد المعنى وهو السِّياق، وقانون الاستبدال الَّذي استندنا إليه لكشف المترادفات، وهو يتلاءم مع التعريف الَّذي أسّسناهُ لمفهوم التَّرادُف.
ص: 262
الألفاظ التي يظن فيها الترادف التفاوت الدلالي في استعمال الألفاظ في القرآن الكريم ونهج البلاغة تلا قرأ إنّ في تلا معنى أوسع من قرأ، فالتلاوة هي تدبر آیات الله وفهمها واستيعابها والعمل بها؛ بينما القراءة تتضمّنُ التعبّد، وحفظ الآيات وترديدها. كما أنّ التلاوة خاصّة بالقرآن الكريم، أمّا القراءة تستعملُ مع القرآن وغيره.
التمام الکمال التمام: اسم للجزء الذي يتم به الموصوف، فهو لإزالة نقصان الأصل؛ لذا قيل بتصور النقص قبله، وهو مترتب على وجود جميع أجزائه، وانتهاء الشيء إلى حدٍّ لا يحتاج إلى شيء خارج عنه.
والكمال: اسم للأثر الذي يترتب على الشيء من غير توقف على حصول جميع أجزائه، فلا يشترط معه تصور حصول نقص قبله، إذ هو لإزالة نقصان العوارض، لذا قيل إنَّه حصول ما
ص: 263
فيه الغرض، وقيل بعدم تصوُّر النقص بعده.
الخشیة الخوف الخشية قطع بالضرر الواقع، أما الخوف فهو ظن غير متيقن بحلول مكروه أو فوات محبوب، لذا فالخشية أعظم من الخوف. إنّ الخشية يشوبها التعظيم، لذا تستعمل غالباً من الله عزّ وجلّ على حين يستعمل الخوف من المكروهات، فالحشية تأتي مسندة في الغالب إلى الرسل والمؤمنين والعلماء. السرعة العجلة السرعة هي التقدم فيما ينبغي أن يتقدم فيه، وهي محمودة، وضدها الإبطاء وهو مذموم؛ والعجلة هي التقدم فيما لا ينبغي أن يتقدم فيه، وهي مذمومة، وضدها الأناة وهي محمودة.
العهد المیثاق للعهد صورٌ مختلفة، فإن كان المقصود {عهد الله} فهولا يُأخذ من أحدٍ، بل يُعهدُ به لأحدٍ، ولا يُعهدُ به لظالمٍ بخلاف الميثاق، والعهد {يُتَّخذُ} بينما الميثاقُ {يُؤخذُ}.
الفوز الفلاح الفوز: هو الظفر بالخير والنعيم في الآخرة. أما الفلاح: هو الظفر في ميادين العمل والجهاد في هذه الحياة الدنيا.
ص: 264
البعث النشر البعث هو {الإحياء من جديد، ويكون في الدنيا النشر والآخرة}، أمّا النشر فهو {إحياء الميّت حاملاً معهُ صفاته التي مات عليها، ويختصّ بالآخرة}.
النصر الفتح إنّ النصر في السِّياق القرآني وسياق نهج البلاغة أُسندَ إلى الله عزّ وجلّ ويمنحهُ لمستحقّيه، كما أنه يتضمّن معنى القتال والجهاد والعناء. أمّا الفتحُ فهو من نتائج النصر، ويتضمّن معنى الراحة والرخاء بانتشار الإسلام ومعالم الحقّ على ربوع الأرض ويمكن أن يحصل الفتح من دون قتال مثل فتح مكّة المكرمة أبان الحقل الفروقات الدلالية لمجمل الألفاظ المرصودة، وبذا يكون التطابق منفيا بين دلالات هذه الألفاظ، كما يدل على عدم إمكانية استبدال لفظة بأخرى في السياقات.
ص: 265
ص: 266
ص: 267
ص: 268
الحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات، وبرحمته تنزل البركات والصلاة على نبيه وآله وصحبه، ومن سار على طريقهم إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ، فظهر اهتمام علماء العربية بموضوع التَّرادُف، وخاضوا في الحديث عنهُ منذ مراحل مبكرة من جهودهم في وضع أسس اللغة العربية وقواعدها، وجمع ألفاظها، وترتيبها وتصنيفها، وشرح معانيها ودلالاتهما، ومنذ ذلك الحين دبّ الخلاف فيما بينهم، حول أصالة التَّرادُف في العربية، فقد لاحظنا منهم من أثبته، وغالي في الدفاع عن موقفه، ومنهم من أنكره، ليصرّح باستحالة وقوعه عقلاً ونقلاً.
ويمكنُ إجمال أبرز ما توصل إليه البحث في نقاط عدة هي:
1. إن التَّرادُف ظاهرة موجودة في اللغة العربية، ولكن ليس بالكثرة المزعومة، فإن أغلب ما سمّي بالمترادف لا صحة له، وربّما كان لخلط جامعي
ص: 269
الألفاظ المترادفة ومنهجهم، الأثرُ الأكبرُ في ذلك، فالبحث لا يميل إلى كثرة المترادفات وبلوغها المئات، فتزل عن الهدف المنشود. 2. توصّل البحث إلى أنّ مفهوم التَّرادُف لا يعني الاتحاد التامّ في المعنى، ولا يعني المساواة في الدلالة، وإلاّ لسميّت بالألفاظ المتساوية، وإنّما هي مترادفة بمعنى أنّ بعضها يقوم مقام بعض.
3. إنّ نشوء التَّرادُف لا يمكن إرجاعه إلى سبب واحد، كما تصوّر بعض الباحثين، بل أنّ هناك عوامل كثيرة، عملت على نشوئه في العصور الماضية، ومازالت تعملُ في وقتنا الحاضر، والتي منها اختلاف اللهجات العربيّة، وتأثّر العربية بلغات أخرى جاورها أو اشتركت معها في الأصل أو الموطن أو في مصالح و منافع الحياة {المعرّب والدخيل }، أدت إلى حصول ظاهرة التَّرادُف في اللغة العربية، ولا يخفى ما للاستعمال من أثر كبير في نشأة الألفاظ المترادفة، ذلك أن الاستعمال يؤدي إلى تغيير معنى الكلمة إلى معنى آخر تستعمل فيه، ما يؤدّي إلى اشتراك لفظين في المعنى الأساس للمفردة.
4. تبيّن لنا من خلال البحث خطأ بعض الباحثين في عَدّ التَّرادُف في الجمل والعبارات، وقد فاتهم أن ليس هناك ترادف في الجمل والعبارات بالمعنى الاصطلاحي الذي تواضع عليه المحقّقون من العلماء، وأنّ التَّرادُف ينبغي أن
ص: 270
يلتمس في الألفاظ المختلفة المنفردة.
ونتيجة ذلك وقع هؤلاء في خلط عجيب وفوضى لا طائل تحتها لعدم اهتدائهم إلى المفهوم الحقيقي للترادف وشروط تحقّقه في اللغة.
5. ردّ البحث عدّ التطور الصوتي الناتج عن القلب، والإبدال، والحذف، والتصحيف، والتحريف، سبباً من أسباب التَّرادُف، وأكّد عدم ترادف الألفاظ التي أصابها تطور من هذا النوع، وأشار إلى إمكان أن ينصَّ على تطورها الصوتي حينما يُطلب بيان معانيها مثل كلمة {الزقر، والسقر، والصقر}.
6. إن اختلاف العلماء في إثبات التَّرادُف وإنكاره في اللغة العربية، يعودُ إلى المنهج الذي سلكهُ كلّ فريق، فالذين اعتمدوا المنهج التاريخي، الذي يعتمدُ على أصول الألفاظ، أنكروا التَّرادُف، والذين اعتمدوا المنهج الوصفي، الذي يعتمدُ على رصد الواقع اللغوي بعيداً عن أصول الألفاظ، أثبتوا التَّرادُف، وعلى الرغم من ذلك هناك نقاط اشتراك بينهما أشرنا إليها في ثنايا البحث.
7. من نتائج التطبيقات على النصّ القرآني ونصوص نهج البلاغة، اتضح خلوّهما من ظاهرة التَّرادُف، لوجود الفروق الدلالية بين المفردات؛ فإنّ القرآن الكريم معجز بسياقه، فهو النصّ الذي جاء سياقه اللغوي مطابقاً سياقه الاجتماعي من قبل واضعه عزّ وجلّ، فالكلمة في القرآن الكريم، اختارها الله سبحانه وتعالى قاصداً لفظاً ومعنى في موقعها المحدّد، فهي أصيلة في وضعها
ص: 271
ومعناها.
8. لعلّ استعمال القرآن الكريم ما كان مترادفاً في اللغة استعمالاً خاصّاً يخرجها من دائرة التَّرادُف، هو من مظاهر إعجازه وينطوي تحت ما تحدّى به الله عزّ وجلّ أرباب البيان، فأعجزهم عن الإتيان بمثلهِ بل الإتيان بسورةٍ من مثلهِ.
9. أكد البحث أن الفروق الدلالية في التعبير القرآني؛ يشهد بها الاستقراء، وهي دلالات تكتسبها المفردة من السياقات التي تدخلها.
10. أغلب المفسرين لم يغفلوا الفروق الدلالية بين المترادفات، بل فرّقوا بينها على أساس من المعنى الإيحائي، بيد أنهم لم يوظفوا السياقات لبيان الفوارق اللغوية، فكلامهم ظل متناولاً الفارق اللغوي من غير أن يرتقي غالباً إلى الفارق السياقي، وطرائق تصوير المعاني المتباينة بحسب حاجة السياق، فالبحث في الفروق اللغوية ظل بحثا أصولياً لم يأخذ طابع البحث البلاغي القائم على موافقة الكلام للمقتضى السياقي.
11. إذا كان هناك اختلاف كبير بين اللغويين والبيانيين بشأن {التَّرادُف } نفياً أوإثباتاً في اللغة، يجب ألاّ يسحب هذا الخلاف إلى القرآن الكريم، فالنص القرآني يستعمل المفردة في كثير من المواضع استعمالاً خاصاً متجاوزاً الدلالة المعجمية، مضيفاً إليها دلالةً جديدة من خلال الاستعمال الخاص، فكلُّ لفظة {نعمة} مثلاً إنَّما هي لنعم الدنيا أينما وردت في القرآن،
ص: 272
على اختلاف أنواعها، يطرد ذلك ولا يتخلَّف منها شيء في مواضع استعمالها كلِّها، مفردة كانت أم جمعاً، أما لفظة {النعيم} فقد استعملت بدلالة إسلامية خاصَّة بنعيم الآخرة، يطَّرِد هذا أيضاً في القرآن، ولا يتخلَّف منها شيء في آيات النعيم كلِّها. 12. يتطلّب استيعاب مقاصد الآيات القرآنية ومفاهيمها، جهداً أبعد من الإلمام بالمعاني المتداولة للألفاظ، وهو معرفة سياق الألفاظ وتراكيب العبارات. وعلى ضوء ما تقدم نشيرُ إلى أمرين:
- الأول: الاهتمام بالسياق لتفسير القرآن الكريم، وشرح نهج البلاغة، وإنشاء التفسير السياقي للنص القرآني، الذي يستلزم جهوداً مشتركة من ذوي الاختصاص.
- الثاني: ضرورة تأسيس معجم دلالي قرآني، يفيد من كتب الأشباه والنظائر، وكتب الفروق اللغوية، وكتب الإعجاز القرآني، مع الاعتماد على السياق كأداة لتحديد دلالة المفردة القرآنية.
أتمنى في نهاية هذا العمل، الذي منحني معرفة لغوية، وغمرني بلذةٍ معرفيةٍ، وعرّفني الدقة الدلالية في السياق القرآني، وفي سياق نهج البلاغة، أن يوفقني الله في عملي هذا، وأن ينال رضا أساتذتي وأن يحظى بقراءة نقدية وموضوعية من الدارسين والباحثين.
والحمد لله ربِّ العالمين، أولاً وآخراً، وهادياً ومنعماً.
ص: 273
- القرآن الكريم.
1. إبراهيم أنيس، دلالة الألفاظ، مكتبة الأنجلو، مصر، ط 2، 1963 م.
2. إبراهيم السامرائي، التطور اللغوي التاريخي، دار الأندلس، بيروت، ط 2، 1980 م.
3. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، تح: مُحمَّد أبو الفضل إبراهيم، دار الجيل، بيروت، لا. ط، 1987 م.
4. ابن الأثير، المُرصّع، تح: إبراهيم السامرائي، مطبعة الإرشاد، بغداد، 1971 م.
5. ابن العربي {543 ه} ، أحكام القرآن، تح: مُحمَّد البجاوي، دار الجيل، بيروت، لا. ط، 1988 م.
ص: 274
ابن جنّي، الخصائص، تح: مُحمَّد علي النجار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 3، 1988 م.
7. ابن دريد، الجمهرة، مكتبة المثنى، بغداد، بالأوفسيت عن طبعة {1346 ه}.
8. ابن قتيبة، أدب الكاتب، تح: ماكس كرنيرت، مطبعة برلين، لندن، 1900 م، أعادت طبعه بالأوفسيت، دار صادر، بيروت، 1967 م.
9. ابن مالك الجياني، الألفاظ المختلفة في المعاني المؤتلفة، تح: مُحمَّد حسن عواد، دار الجيل، بيروت، ط 1، 1411 ه.
10. ابن مكي الصقلي، تثقيف اللسان وتلقيح الجنان، تح: عبدالعزيز مطر، دار التحرير، القاهرة، لا.ط.، 1966 م.
11. إبن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، ط 1، 2000 م.
12. أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفومي، الكليات، تح:عدنان درويش - مُحمَّد المصري، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1419 ه- 1998 م.
13. أبو الثناء محمود الآلوسي {1270 ه}، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، دار إحياء التراث، بيروت، لا. ط، لا. ت.
14. أبو الحسن الماوردي، تفسير {النكت والعيون}، تح: خضر مُحمَّد خضر، مطابع مقهوي، الكويت، ط 1، 1982 م.
ص: 275
15. أبو العلاء عفيفي، المنطق التوجيهي، مطبعة لجنة التأليف والترجمة، القاهرة، ط 11، 1953 م.
16. أبو الفتح ضياء الدين بن الأثير {673 ه}، المثل السائر، تح: مُحمَّد محیي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، ط 2، بیروت، 1995 م.
17. أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، تقويم اللسان، تح: عبد العزيز مطر، دار المعرفة، القاهرة، ط1، 1966 م.
18. أبو بكر الزبيدي، لحن العوام، تح: رمضان عبد التواب، مطبعة الكمالية، القاهرة، ط 1، 1964 م.
19. أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط، دار الفكر للطباعة، دمشق، ط 2، لا. ت.
21. أبو علي القالي، الأمالي، المكتب التجاري للطباعة، بيروت، ط 2، لا. ت.
22. أبو منصور الجواليقي، تكملة إصلاح ما تغلط فيه العامة، تح: عزالدين التونخي، مطبعة المجمع العلمي العربي، لا. ط.، لا. ت.
22. أبو هلال العسكري، الفروق اللغوية، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط 4، 1980م.
23. أحمد بن فارس، الصاحبي، تح: السيد أحمد صقر، البابي الحلبي، القاهرة، لا. ط، لا. ت.
24. أحمد عبده خير الدين، علم المنطق، المطبعة الرحمانية، مصر، ط 1، 1930 م.
ص: 276
25. أحمد محمّد المعتوق، ظاهرات لغوية دراسة نقدية ومسارد، مكتبة لبنان ناشرون، ط 1، 2008 م.
26. أحمد فارس الشدياق، الساق على الساق في ماهو الفارياق، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، لا. ط.، لا. ت.
27. أحمد مُحمَّد قدروة، مدخل إلى فقه اللغة، دار الفكر، دمشق، لا. ط، لا. ت.
28. أحمد مختار عمر، علم الدلالة، عالم الكتب، القاهرة، ط 5، 1998 م.
29. أرسطو، منطق أرسطو، تح: عبد الرحمن بدوي، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، لا. ط، 1948 م.
30. إسماعيل بن حمّاد الجوهري، تاج اللغة وصّحاح العربية، تح: احمد عبد الغفور عطار، القاهرة، ط 2، 1982 م.
31. إسماعيل بن عمر الدمشقي أبو الفداء {774 ه}، تفسير ابن كثير، تح: أحمد يوسف الدقاق، دار الفكر، بيروت، ط 2، 1401 ه.
32. الأصمعي {216 ه}، ما اختلف لفظه واتفق معناه،تح: ماجد حسن الذهبي، دار الفكر، دمشق، ط 1، 1986 م.
33. الآمدي {631 ه}، الإحكام في أصول الأحكام، دارالكتب العلمية، بیروت، لا. ط، 1980 م.
34. بسّام مرتضى، دروس في المنطق، مؤسسة النعمان، بيروت، لا. ط.، 1994 م.
ص: 277
35. تقي الدين ابن حجة الحموي {837 ه}، خزانة الأدب، تح: عصام شعيب، دار ومكتبة الهلال، ط 1، بيروت، 1987 م.
36. تمام حسان، اللغة العربية معناها ومبناها، دار الثقافة، القاهرة، لا. ط، لا. ت کشاف اصطلاح الفنون، تح: لطفي عبد البديع، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1963 م.
38. الثعالبي {429 ه}، فقه اللغة، تح: جمال طلبة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 4، 2008.
39. جلال الدين السيوطي {911 ه}، الإتقان في علوم القرآن، الهيئة المصرية العامة للكتاب، لا. ط، لا. ت.
40. المزهر في علوم اللغة وأنواعها، دار احياء الكتب العربية، لا. ط، لا. ت.
41. الدر المنثور، تح: د. مازن المبارك، دار الفكر، ط 1، بيروت، 1993 م.
42. معترك الأقران، تصحيح: أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1988 م.
43. جلال الدين القزويني، الإيضاح في علوم البلاغة، تح:لجنة من أساتذة الأزهر، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، لا. ط، لا. ت.
44. الجواليقي، المعرب من الكلام الأعجمي، تح: أحمد محمد شاكر، دار الكتب، القاهرة، 1361 ه.
ص: 278
45. جوزف كورتيس، سيميائية اللغة، تر: جمال حضري، مجد {المؤسسة الجامعية للدراسات}، بيروت، ط. 1، 2010 م.
46. جون لاينز، اللغة والمعنى والسياق، تر: عباس صادق الوهاب، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط 1، 1987 م.
47. حاكم مالك الزيادي، الترادف في اللغة، منشورات وزارة الثقافة والإعلام،العراق، 1980 م.
48. حسين نصّار، المعجم العربي نشأته وتطوره، دار مصر، ط 2، 1968 م.
49. خضر بن محمّد بن علي الرازي، شرح الغرّة في المنطق، تحقيق: ألبير نصري نادر، دار المشرق، بيروت، 1983 م.
50. ديوان أبي تمام، شرحه: إيليا الحاوي، الشركة العالمية للكتاب، ط 1، بيروت 1981 م.
51. ديوان أبي العتاهية، دار بيروت للطباعة والنشر، لا. ط، 1964 م.
52. ديوان الأخطل، شرح وتقديم: مهدي محمد ناصر الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1986 م.
53. ديوان البحتري، تحقيق وتعليق: حسن كامل الصيرفي، دار المعارف، مصر، ط 3، لا. ت.
54. ديوان العباس بن الأحنف، دار صادر، بيروت، لا. ط، لا. ت.
ص: 279
55. ديوان سقط الزند، دار صادر، بيروت، لا. ط، 1980 م.
56. ديوان عبد الله بن المبارك، دار الوطن، الرياض، لا. ط، 2000 م.
57. الراغب الأصفهاني {502 ه}، المفردات في غريب القرآن،تح: مُحمَّد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، لا. ط، لا. ت.
58. رمضان عبد التواب، التطور اللغوي {مظاهره وعلله وقوانينه}، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط 3، 1997 م.
59. فصول في فقه اللغة، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط 3، 1987 م.
60. لحن العامّة والتطور اللغوي، دار المعارف بمصر، القاهرة، ط 1، 1967 م.
61. الزركشي، البرهان في علوم القرآن، تح: مُحمَّد أبو الفضل إبراهيم، دار المعرفة، بيروت، ط 2، 1972 م.
62. الزركلي {خير الدين} {1310 - 1396 ه = 1893 - 1976 م}، الأعلام: قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين، دار العلم للملايين، بيروت، ط 7، 1986. زكي نجيب محمود، المنطق الوضعي، مكتبة أنجلو المصرية، القاهرة، ط 4، 1965 م.
الزمخشري، أساس البلاغة، دار الكتب، لا.ط.، 1923م.
64. سامي عياد حنا، وكريم زكي، ونجيب جريس، معجم اللسانيات الحديثة، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، لا. ط، لا. ت.
ص: 280
65. ستيفن أولمان، دور الكلمة في اللغة، تر وتعليق كمال بشر، دار غریب، القاهرة، ط 12، لا. ت.
66. سیبویه. أبو بشر عمر بن عثمان {180 ه}، الكتاب، تحقيق وشرح: عبد السلام مُحمَّد هارون، ط 3، عالم الكتب، بیروت، 1938 م.
67. السيد عباس علي الموسوي، شرح نهج البلاغة، دار الهادي، بيروت، ط 3، 2009 م.
68. السيد عبد الأعلى السبزواري، تهذيب الأصول، دار الهادي، بيروت، ط 2، 1996 م.
69. السيد مُحمَّد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، الحلقة الثانية، دار المنتظر، بیروت، ط 1، 1985 م.
70. شهاب الدين أحمد الهائم {815 ه}، التبيان في تفسير غريب القرآن، تح: فتحي أنور الدابولي، دار الصحابة للتراث، مصر، ط 1، 1992 م.
71. شهاب الدين الأبشيهي {850 ه}، المستطرف في كل فن مستظرف، دار الفكر، مطبعة أوفيست منير، بغداد، لا. ط، 1986 م.
72. شهاب الدين الخفاجي في كتابه، شفاء الغليل فيما ورد في كلام العرب من الدخيل، تح: مُحمَّد عبد المنعم الخفاجي، المطبعة المنيرية بالأزهر ، القاهرة، ط 1952، 1م.
ص: 281
73. الشيخ عبد الله العلايلي، مقدّمة لدرس لغة العرب وكيف نضع المعجم الجديد، دار الجديد، ط 2، 1997 م.
74. صائل رشدي، عناصر تحقيق الدلالة في العربية دراسة لسانية، مطبعة الأهلية، الأردن، ط 1، 2004 م.
75. صبحي الصالح، دراسات في فقه اللغة، دار العلم للملايين، بيروت، ط 12، 1989 م.
76. نهج البلاغة، دار الأسوة، طهران، ط 5، 1425 ه.
77. عائشة عبد الرحمن، الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق، دار المعارف بمصر، القاهرة، لا. ط.، 1971 م.
78. عبد الحسين مبارك، فقه اللغة، مطبعة جامعة البصرة، العراق، 1985. 79. عبد الحسين مهدي عواد، فقه اللغة العربية {فصول في نشأته ومباحث في تأصيلات معارفه}، مؤسسة العارف، بيروت، ط 1، 2008 م.
80. عبد العزيز مطر، لحن العامة في ضوء الدراسات الحديثة، دار القومية، القاهرة، لا. ط، 1966 م.
81. عبد القاهر الجرجاني {471 ه}، دلائل الإعجاز، تصحیح: الشيخ مُحمَّد عبده، القاهرة، لا. ط، 331 ه.
ص: 282
82. عبد اللطيف بن الحافظ البغدادي، ذيل فصيح ثعلب، ضمن فصيح ثعلب والشروح التي عليه، نشر وتعليق : مُحمَّد عبدالمنعم الخفاجي. لا. ط، لا. ت.
83. عبد الأمير کاظم زاهد، قضايا لغوية قرآنية، مطبعة أنوار ، دجلة، بغداد، ط 1، 2003 م.
84. عبده الراجحي، فقه اللغة في الكتب العربية، دار النهضة العربية، بيروت، لا. ط.، 2009 م.
85. عزة شبل مُحمَّد، علم لغة النص النظرية والتطبيق، مكتبة الآداب، القاهرة، 2007 م.
86. علي بن مُحمَّد الشّريف الجرجاني، التعريفات، مكتبة لبنان، بيروت، 1969 م.
87. علي حرب، التأويل والحقيقة، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، ط 1، 1985 م.
88. علي زوين، منهج البحث اللغوي بين التَّرادُف وعلم اللغة الحديث، بغداد، ط 1، 1986 م.
89. علي سامي النشار، المنطق الصوري منذ أرسطو وتطوّره المعاصر، مطبعة دار نشر الثقافة، الإسكندرية، ط 1، 1955 م.
90. على عبد الواحد وافي، فقه اللغة، لجنة البيان العربي، ط 9، 1968 م.
ص: 283
91. عمرو بن بحر الجاحظ {255 ه}، البيان والتبين، تح: عبد السلام مُحمَّد هارون، القاهرة، لا. ط، 1960 م. 92. عواطف کنوش المصطفی، الدلالة السياقية عند اللغويين، دار السياب للطباعة والنشر، لندن، ط. 1، 2007 م. 93. عودة خليل أبو عودة، التطور الدلالي بين لغة الشعر ولغة القرآن، مكتبة المنار، الأردن، ط 1، 1985.
94. الغزالي، المستصفی من علم الأصول، دار أحياء التراث العربي، بيروت، لا. ط.، لا. ت.
95. فرانك بالمر، مدخل إلى علم الدلالة، تر: خالد محمود جمعه، مكتبة دار العروبة للنشر والتوزيع، الكويت، ط، 1997 م. 96. فريد عوض حیدر، علم الدلالة دراسة نظرية وتطبيقية، الآداب، القاهرة، ط 1، 2005 م.
97. الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، منشورات المعارف، إيران، لا. ط، 1379 ه. 98. فندريس، اللغة، تر: عبد الحميد الدواخلي و محمد القصاص، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1950 م.
ص: 284
99. كاظم مُحمَّدي - مُحمَّد دشتي، المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة، دار الأضواء، بیروت، لا. ط.، 1986 م. 100. کمال الدين مثيم البحراني، شرح نهج البلاغة، دار الرافدين، بيروت، ط 1، 2009 م.
101. لويس عجيل ومجموعة من المؤلفين، المنجد في الأعلام دار المشرق، بيروت، ط 24، لا. ت.
102. المبرد، مُحمَّد بن يزيد، ما اتفق لفظه واختلف معناه من القران المجيد، تح: عبد العزيز الميمني، المطبعة السلفية، القاهرة، 1350 ه.
103. مجموعة من المؤلفين.، الموسوعة العربية العالمية، مؤسّسة أعمال الموسوعة الرياض، ط 1، 1996 م. 104. مُحمَّد إسحاق الفياض، محاضرات في أصول الفقه {تقرير لبحث أبو القاسم الخوئي رحمه الله، مطبعة الآداب، النجف الأشرف، لا. ط، 1974 م.
105. محمّد الأنطاكي، الوجيز في فقه اللغة، دار الشرق، بيروت، ط 2، 1969 م.
106. مُحمَّد الحناش، البنيوية في اللسانيات، دار الرشاد الحديثة، المغرب، ط. 1، 1980 م.
107. مُحمَّد باقر المحمودي، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، ط. 1، 1976 م.
ص: 285
108. مُحمَّد بن أبي بكر أيوب الزرعي، بدائع الفوائد، تح:عادل عطا عادل عبد الحميد العدوي وأشرف أحمد، مكتبة نزار مصطفى الباز، ط 1، مكة المكرمة، 1996 م.
109. مُحمَّد بن الحسن الشيباني، نهج البيان عن كشف معاني القرآن، دائرة المعارف الإسلامية، طهران، ط 1، لا. ت.
110. مُحمَّد بن قاسم الانباري، الأضداد، تح: مُحمَّد أبو الفضل إبراهيم، دائرة المطبوعات والنشر، الكويت، لا. ط، 1960 م.
111. مُحمَّد بن مُحمَّد العمادي أبو السعود {951 ه}، تفسير أبي السعود {إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم}، تح: أحمد يوسف الدقاق، دار إحياء التراث العربي، ط 2، بيروت، 1974 م.
112. مُحمَّد بن مُحمَّد بن عبد الرزّاق الحسيني أبو الفيض الملقّب بمرتضى الزَّبيدي، تاج العروس من جواهر القاموس، المطبعة الخيرية، 1306 ه. 113. مُحمَّد التونجي، معجم علوم العربية، دار الجيل، بيروت، ط. 1، 2003 م.
114. مُحمَّد جعفر الكرباسي، الرسالة التامة في فروق اللغة العامة، مكتب الصفا، النجف الأشرف، لا. ط، لا. ت. 115. مُحمَّد جعفر شمس الدين، مدخل إلى دراسة علم أصول الفقه، دار الهادي، بیروت، ط 1، 2008 م.
ص: 286
116. مُحمَّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، دار الكتب الإسلامية طهران، ط 3، لا. ت.
117. مُحمَّد حسين علي الصغير، تطور البحث الدلالي، دار الكتب العلمية، مطبعة العاني، بغداد، ط 1، 1988 م.
118. مُحمَّد رضا المظفر، المنطق، دار التعارف، بیروت، 1982 م.
119. مُحمَّد صنقور علي، المعجم الأصولي، منشورات الطيار، بيروت، ط 3، 2007 م.
120. مُحمَّد عبد الحميد الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، تح: مکتب البحوث والدراسات، دار الفکر، بیروت، ط 1، 1996 م.
121. مُحمَّد عبده، شرح نهج البلاغة، دار الأندلس، بیروت، ط 2010، 1 م. 122. مُحمَّد غاليم، التوليد الدلالي في الدلالة والمعجم، دار توبقال، المغرب، ط 1، 1987 م.
123. محمّد فتحي الشنيطي، المنطق ومناهج البحث، مطبعة مینت برس، بیروت، ط 1، 1969 م.
124. مُحمَّد مُحمَّد يونس علي، وصف اللغة العربية دلالياً في ضوء مفهوم الدلالة المركزية، منشورات جامعة الفاتح، ليبيا، لا. ط، 1993 م.
ص: 287
125. محمّد نور الدين المنجد، الترادف في القرآن الكريم بين النظرية والتطبيق، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط 2، 2007 م.
126. محمود فهمي حجازي، علم اللغة بين التراث والمناهج الحديثة، وكالة المطبوعات، الكويت، لا. ط، 1973 م.
127. مشتاق عباس معن، دروس في فقه اللغة العربية، مركز عبادي للدراسات والنشر، صنعاء، ط 1، 2003 م.
128. منصور مذکور شلش الحلفي، قضية المعنى في القرآن الكريم، دار الأوائل دمشق، ط 1، 2008 م.
129. منقور عبد الجليل، علم الدلالة أصوله ومباحثة في التراث العربي، منشورات اتحاد كتاب العرب، دمشق، 2001 م.
130. مهدي أسعد عرار، جدل اللفظ والمعنى {دراسة في دلالة الكلمة العربية} ، دار وائل، عمان، ط 1، 2002 م. 131. يوهان فك، العربية، دراسات في اللغة واللهجات والأساليب، ترجمة وتحقيق: عبد الحليم النجّار، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1951.
ص: 288
{الرسائل والأطاريح الجامعية} 132. ابن درستویه، تصحيح الفصيح، دراسة وتح: عبدالله أحمد الجبوري، رسالة ماجستير، جامعة بغداد، 1972 جلال الدين السيوطي، قطف الأزهار في كشف الأسرار، دراسة وتحقيق الفاتحة والبقرة، تح: أسماء عدنان محمد سلمان، دكتوراه، كلية الشريعة، جامعة بغداد، 1997 م.
133. جليلة صالح العلاّق، البحث الدلالي في مفاتيح الغيب، أطروحة الدكتوراه، جامعة الكوفة، 2007 م.
134. عدوية حياوي، البحث الدلالي عند الشيخ البهائي، أطروحة الدكتوراه، كلية التربية للبنات، جامعة الكوفة، 2008 م. 135. مُحمَّد حسين آل ياسين، الأضداد في اللغة، رسالة ماجستير، جامعة بغداد، 1973 م.
{الدوريات} 136. أحمد جواد، الحقول الدلالية وإشكالية المعنى، مجلة المورد، وزارة الثقافة - جمهورية العراق ، العدد الثاني، 2002 م.
137. أحمد مختار عمر، ظاهرة التَّرادُف بين القدماء والمحدثين، المجلة العربية للعلوم الإنسانية، عدد 6، مج 4، 1982 م.
ص: 289
138. عائشة عبد الرحمن {بنت الشاطئ}، من أسرار العربية في السياق القرآني، مجلة اللسان العربي، الرباط، مجلد 8، ج 1، 1971 م.
139. ماجد نجاریان، ظاهرة التَّرادُف في العربية، مجلة آفاق الحضارة الاسلامية، عدد 14، 2004 م.
140. مُحمَّد إقبال عروي، السيميائيات وتحليلها لظاهرة الترادف في اللغة والتفسير، مجلة عالم الفكر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب - دولة الكويت، العدد 3، 1996 م.
141. موريس أبوناظر، مدخل إلى علم الدلالة والألسنية، مجلة الفكر العربي المعاصر، مركز الإنماء القومي، العدد 18، مارس 1982 م.
142. هاشم صالح، البنيوية والحداثة، مجلة مواقف، عدد 36، 2006 م.
ص: 290
المقدمة...6
أما التقنيات المتبعة في التطبيق فتتضمّن ما يلي:...14
الفصل الأول تحديد مفهوم الترادف وأقسامه 17
أولاً: الترادف لغة، اصطلاحا...17 ثانياً: مفهوم الترادف وتباينه بين اللغويين والأصوليين والمناطقة...17 1. مفهوم التَّرادُف عند القدماء من اللغويين...17
2. مفهوم التَّرادُف عند المُحدثين من اللغويين...17
3. مفهوم التَّرادُف عند الأصوليين والمناطقة...17
4. نظرة السيميائيات المفهوم التَّرادُف...17
ثالثاً: أقسام التَّرادُف...17
1. التَّرادُف الكامل...17
2. شبه التَّرادُف...17
ص: 291
تقسيم آخر للتَّرادُف...17
1. التَّرادُف الإشاري...17
2. التَّرادُف الإحالي...17
التَّرادُف الإدراكي...17
أوّلاً: التَّرادُف لغةً، اصطلاحاً...18 التَّرادُف لغةً...18
التَّرادُف اصطلاحاً...20
ظهور المصطلح...23
ثانياً: مفهوم التَّرادُف وتباينه بين اللغويين والأصوليين والمناطقة وفي السيميائيات...26
1 - مفهوم التَّرادُف عند القدماء من اللغويين...26
2 - مفهوم التَّرادُف عند المُحدثين من اللغويين...34
الَّذين يرون التَّرادُف اتحاداً تاماً في المعنى...35
الَّذين يرون التَّرادُفَ اتحاداً جزئياً...37 الَّذين يضعون للتَّرادُف شروطاً تحدُّ من كثرته...39
التَّرادُف في الدراسات الغربية...42
3 - مفهوم التَّرادُف عند الأصوليين والمناطقة...51
أ - مفهوم التَّرادُف عند الأصوليين...51
تعريف الفخر الرازي:...52
ص: 292
تعريف صاحب المعجم الأصولي...54 تعریف صاحب حلقات الأصول...54 إمكان وقوع التَّرادُف عند الأصوليين...55
الإشكال على نظرية التعهد...57 توجيه الإشكال...58
منشأ التَّرادُف عند الأصوليين...60
ب - مفهوم التَّرادُف عند المناطقة...66 4 - مفهوم التَّرادُف في السيميائيّات...70
ثالثاً: أقسام التَّرادُف...78
1 - الترادف الإشاري {Referential Synonymy}... 83
2 - التَّرادُف الإحالي {Denotational Synonymy}...84
3 - التَّرادُف الإدراكي {Cognitive Synonymy}... 85
الفصل الثاني:
نشأة الترادف والمواقف منه 89
أولاً: نشوء التَّرادُف و مصادره...89 1. تداخل اللّهجات العربيَّة...89
2. المُعرّب والدخيل...89
3. التطوّر اللّغوي...89
ص: 293
أ- التطوّر الصوتي...89
ب - التطوّر الدّلالي...89
{1} تخصيص العام {تضييق الدّلالة}...89
{2} تعميم الخاصّ {توسيع الدّلالة}...89
{3} الانزلاق الدلالي {انتقال مجال الدلالة}...89
4 - الصفات الغالبة على موصوفاتها...89
ثانياً: مواقف اللّغويين من التَّرادُف...89
إنكار التَّرادُف...89
إثبات التَّرادُف...89
أولاً: نشوء التَّرادُف ومصادره...91 1. تداخل اللّهجات العربيَّة...91
2. المُعرّب والدخيل...100
أمثلة من المرادفات المعربّة والدخيلة...103
3. التطوّر اللّغوي...106
ب: التطوّر الدّلالي:...108
{1} تخصيص العام {تضييق الدّلالة}...114
{2} تعميم الخاصّ {توسيع الدّلالة}:...122
{3} الانزلاق الدلالي {انتقال مجال الدلالة}...126
ص: 294
1. الصفات الغالبة على موصوفاتها...135
ثانياً: موقف اللّغويين من التَّرادُف...145
1. إنكار التَّرادُف...145
أ: المُنكرون العرب...146
{1} المُنكرون من القُدامى...146
{2} المُنكرون من المحدثين...152
ب: المُنكرون من الغرب...158
{1} المُنكرون للتّرادُف التامّ...158 {2} المُنكرون للتّرادُف الجزئي...159 1. إثبات التَّرادُف...162
أ: المؤيدون العرب...162
{1} القُدامى...162 {2} المحدثون من العرب...167
{أ} الموسّعين لمفهوم التَّرادُف...170 {ب} المضيّقين المفهوم التَّرادُف...170
أ: المؤيّدون من الغرب...173
والَّذي يمكننا الخلوص إليه مايأتي:...177
ص: 295
الفصل الثالث الترادف بين لغة القرآن الكريم ونهج البلاغة تطبيقيا
السِّياقُ والاستبدالُ أدواتٌ لكشفِ التَّرادُف...181
أولاً: السِّياق...181
النظريّة السِّياقية واختبار المترادفات...186
نظرية السِّياق {Context theory}... 186
ثانياً: الاستبدال...189
أما تقنيات التَّطبيق فهي:...191
{تلا - قرأ}...192
أ: موارد استعمال لفظ {تلا} في السِّياقات القرآنية:...193
أ: سياقات {تلا} ومشتقاتها في نهج البلاغة:...197
ب: سباقات لفظة {قرأ} ومشتقاتها في نهج البلاغة:...199
{التمام - الكمال}...200
أ: سياق لفظ {الكمال} ومشتقاته في الآيات المباركة...205
سياقات نهج البلاغة...207
ب: موارد لفظة {أنتم} ومشتقاتها في النصوص...207
ج - السياق الذي يجمع بين {التمام والكمال} ويفرّق بينها...210
{الخَشْيَة - الخَوْف}...211
ص: 296
السياقات القرآنية...213
أ - موارد لفظ {الخشية} ومشتقاتها في السِّياقات القرآنية:...213
ب - موارد لفظ {الخوف} ومشتقاته في السِّياقات القرآنية...214
ج - آیات تجمع بين {الحشية والخوف} في السِّياقات القرآنية:...216
أ: موارد لفظ {الحشية} في سياقات نهج البلاغة:...218
ب: موارد لفظ {الخوف} في سياقات نهج البلاغة:...220
{السرعة والعجلة}...221
ج: سياقات لفظ {العجلة} ومشتقاتها في القرآن الكريم...222
د: سياقات لفظ {السرعة} ومشتقاتها في القرآن الكريم:..224
سياقات لفظ {العجلة والسرعة} في نهج البلاغة...226
ه: سياقات لفظ {العجلة} ومشتقاتها:...226
و: موارد لفظ {السرعة} ومشتقاتها:...228
{الميثاق - العهد}...230
أ - سياقات {العهد} في الآيات القرآنية...231
ب - سياقات {الميثاق} في الآيات القرآنية...232
ج - الآيات التي تجمع بينهما...233 سياقات نهج البلاغة...234
أ: موارد لفظ {العهد} في نهج البلاغة...235
ص: 297
ب: موارد لفظ {الميثاق} في نهج البلاغة:...236
ج - السِّياقات التي تجمع بين {العهد والميثاق} وتفرّق بينهما...237
{الفوز - الفلاح}...238
ب: موارد لفظ {الفلاح} في السِّياقات القرآنية...240
ج: سباقات لفظ {الفوز} في نصوص نهج البلاغة...242
د: سياقات لفظ {الفلاح} في نهج البلاغة...243
{النشر - البعث}...245
أ: سياقات لفظ {البعث} ومشتقاته في القرآن الكريم...246
ب: سياقات لفظ {النشر ومشتقاته في القرآن الكريم...248
سياقات نهج البلاغة...249
أ: موارد لفظ {البعث}...249
ب: موارد لفظ {النشر}...250
{النصر - الفتح}...252
ج: موارد لفظ {النصر} في سياق القرآن الكريم...253
أ: موارد لفظ {الفتح} في سياق القرآن الكريم...254
ب - الآيات التي تجمعُ بين {النصر والفتح}...255
أ: موارد لفظ {النصر} في نهج البلاغة...256
ب: موارد لفظ {الفتح} في نهج البلاغة...258
ص: 298
الخلاصة...259
«جدول الألفاظ المدروسة»...263 الخاتمة...269
المصادر والمراجع...274
«المصادر والمراجع»...274 المحتويات...291
ص: 299