اثر نهج البلاغه في تفاسیر الامامية
اثر نهج البلاغه في تفاسیر الامامية في القرن الخامس عشر الهجري الشیخ محسن الجراعی إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة العتبة الحسينية المقدسة
جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1436 ه - 2015 م العراق كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة مؤسسة علوم نهج البلاغة www.inahj.org Email: inahj.org@gmail.com موبايل: 16633 078150
ص: 1
رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق وزارة الثقافة العراقية لسنة 2015 - 505
ص: 2
اثر نهج البلاغه في تفاسیر الامامية في القرن الخامس عشر الهجري الشیخ محسن الجراعی إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة العتبة الحسينية المقدسة
ص: 3
جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1436 ه - 2015 م العراق كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة مؤسسة علوم نهج البلاغة www.inahj.org Email: inahj.org@gmail.com موبايل: 16633 078150
ص: 4
إلى: من أخفى أعداؤه فضائله حسداً وأخفى أولياؤه فضائله خوفاً وحذراً وظهر فيما بين هذين ما طبقت الشرق والغرب إلى: من أعطته الفصاحة قيادها وملكتَّه زمامها اليك سيدي يا أمير المؤمنين أُهدي هذه البضاعة المزجاة فأوف لي الكيل وتصدق عليّ إنَّ الله يجزي المتصدقين
ص: 5
بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله رب العالمين وصلى الله على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطاهرين ... وبعد
فإنَّ دراسة كتاب نهج البلاغة تنطلق بالمتأمل إلى آفاق عظيمة السعة لشخصية رجل عظيم مثل الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الذي حارت العلماء في معرفة كنه شخصيته التي لا تفوقها أي شخصية سوى شخصية معلمه وَابن عمه وملهمه ومربيه نبيِّ الرحمة محمد صلی الله عليه وآله وسلم.
فهذا الكتاب لا تفنى فرائده، ولا ينتهي بيانه، فهو يمثل ذروة الكلام العربي الفصيح بعد كلام الله، وكلام نبيِّه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فقد أصّل البيان بأركانه، وحددَّ البلاغة بفنونها، إذ كان أمير المؤمنين عليه السلام "إمام الفصحاء وسيد البلغاء و قيل في كلامه إنه: دون کلام الخالق وفوق كلام المخلوقين ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة ..."(1)
ص: 6
ولما يزل نهج البلاغة يثير أذهان الدارسين ويحفز فيهم همة العطاء؛ كونه مليء العبارة دلالةً وإيحاءً، فهو أثرٌ لا تمله الأسماع، ينبض بالحياة، ولا شك أن سر ذلك: الحضور والتجلي القرآني الذي طبع صياغاته ومعانيه، الأمر الذي أعطى هذا الكتاب عظمةً وإشراقاً وإحاطة لا تجاری تدل بوضوح على عمق الترابط بين الإمام علي عليه السلام والمنبع الإلهي الثر، الارتباط الذي جعله ينهل من الكأس الإلهي قطرة قطرة.
فأصبح نهج البلاغة عبارة عن تجليات قرآنية مشوبة بالعبق النبوي، فالمتأمل فيه يمكنه أن يتلمس الآثار القرآنية، التي تحيل المتلقي مباشرة إلى أجواء القرآن الكريم دون کدِّ ذهنٍ، فهو أقرب للأعجاز منه إلى كتاب تنقضي آفاق إقاضاته على العلم، إذ لا يخفى على كل من أنعَمَ النظر فيه بأنَّه أعظم کتاب بعد کتاب الله تعالى، وحسبنا ما قالوا فيه أنَّه لا يوجد اسم ألَيقُ بالدلالة على معناه منه.
من هنا أقبل جملة من العلماء على شرحه، وبيان مقاصده وكشف معانيه، حتى كثر شُرّاحه وتعددت مدارسهم، إذ وَجَدَ العلماء والأدباء وأهل البلاغة والفصاحة، والتفسير، وطلاب العلم، ما يشدهم إليه، لغةً، وبلاغةً، وعقيدةً، وفكراً، وتفسيراً، وتاريخاً، وأخلاقاً.... فكان له تأثيره الواضح، وحضوره الواسع في منظومة المؤلفات التي حاولت استيعاب آفاق الرسالة
ص: 7
الإسلامية، عقائدَ، وأحكاماً، وأخلاقاً، لاسيما تلك التي توجهت بجهدها لمحاولة الكشف عن معاني النص القرآني ودلالاته، ومراده تعالى من كلامه.
ذلك الأمر الذي دفعني لمتابعة أثر نهج البلاغة في تفاسير الإمامية في القرن الخامس عشر الهجري؛ لعدم وجود دراسات مستوعبة لهذه الفكرة أكاديمياً.
وكانت أهمية البحث تنطلق على أساس بناء منظومة من الأسس والضوابط في تفسير القرآن الكريم التي أصَّلَ لها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فضلاً عن ذلك ممن أفاد من المفسرين في عملية توظيف نصوص نهج البلاغة في عملية التفسير.
وعلى وفق ذلك فقد كانت مشكلة البحث تدور حول فرضيتين:
الأُولى: إمكان الإفادة من المنهج الذي الذي وضعه وأسس له الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وكيفية إفادة الباحثين منه في عملية التفسير.
الثانية: وجوب اتخاذ هج البلاغة مصدراً من مصادير التفسير بوصفه كتاباً يمثل جزءً مهماً من تراث الإمام أمير المؤمنين عليه السلام النابع من مضامين القرآن الكريم. من هنا جاءت هذه الدراسة لتسلط الضوء على الحضور الفاعل لأسس ومعايير فهم النص القرآني الذي بيَّنه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من خلال خطبه ورسائله ووصاياه مما حفل بها نهج البلاغة.
فهذا البحث يهدف إلى الكشف عن أثر فج البلاغة في فهم النص القرآني، وإنتاج النموذج التفسيريِّ المستوعب لكافة الأُسس التي يبتني عليها التفسير.
ص: 8
كل هذه الاضاءات أسهمت في وضع الخطوط العامة لمنهجية هذه الدراسة التي اختارت أن تتناول (أثر نهج البلاغة في تفاسير الإمامية في القرن الخامس عشر الهجري) لخصوصية هذا القرن، إذ نشأت فيه مدرسة تفسيرية کبری ضمت إلى دفتيها نتاجاً تفسيرياً إبداعياً أومأت إليه أنامل الإعجاب من المفسرين، وهذه المدرسة لم تأتي فجأة وإنما جاءت نتيجة خبرت تراكمية من تفاسير أخرى سبقتها أنضجت ملامح هذه المدرسة.
وكانت من الجوانب المهمة التي أخذت من وقت الباحث وجهده الكثير تحديد المساحة التي يتحرك فيها للكشف عن أثر نهج البلاغة في تلك التفاسير، وقد أسفرت عملية السير والتدقيق التي هدفت إلى تحديد أي التفاسير أصلح لتكون مورداً لهذه الدراسة وتأكيد حضور نهج البلاغة فيها، فقد أسفرت عن تحديد مجموعة من تفاسير رائدة انماز قسم منها بشهرتها وقسم آخر اتصف بكثرة الأخذ عن نهج البلاغة فضلاً عن شهرته، وبذلك كانت هذه الأمور أُسُساً تسير عليها الدراسة في عملية الاختيار، ولا يعني ذلك استبعاد غيرها.
وقد انتظمت الدراسة في مقدمة وثلاثةَ فصول وخاتمة.
تصدى الفصل الأول منها لمحاولة كشف جهود الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في خدمة القرآن الكريم، وجاء متوزعاً على مبحثين، استقرأَ الأول منها "خصائص الإمام علي عليه السلام في فهم النص القرآني"، وعالج الثاني: "ريادة الإمام في تفسير القرآن وعلومه".
وتكفّل الفصل الثاني بالكشف "عن مصدرية نهج البلاغة في التفسير"،
ص: 9
فجاء موزعاً على مبحثين، تناول الأول: ضوابط فهم النص القرآني في نهج البلاغة، ليختم بالثاني الذي جاءَ على ذكر بعض الأمثلة التفسيرية من نهج البلاغة.
فيما توقف الفصل الثالث عند المستويات التوظيفية (التطبيقية) لنهج البلاغة في تفاسير الإمامية في القرن الخامس عشر الهجري، إذ تناول المبحث الأول منه عينات الأثر في المستوى العقائدي، وعالج الثاني تجليات الأثر في المستوى التعبدي، وختم الفصل بالمبحث الثالث الذي استعرض نماذج تطبيقية في المستوى الأخلاقي.
وانتهى البحث بخاتمة ضمت توضيحاً لأهم النتائج التي وقف عليه الباحث ثم ذیلت بتوصيات واقتراحات.
وأخيراً اسأل الله سبحانه التوفيق والسداد، وأن يجعلني ممن وفقوا لخدمة الكلمة المخلصة إرضاء له واعترافاً بجميل منه علينا.
والحمد لله رب العالمين
ص: 10
المبحث الأول: خصائص الإمام عليه السلام في فهم القرآن الكريم المبحث الثاني: ريادة الإمام عليه السلام في تفسير القرآن وعلومه وجمعه
ص: 11
ص: 12
لا يخفى على دارسٍ جهد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في خدمة القرآن الكريم جمعاً وحفظاً وتفسيراً وتوضيحاً لدى الآخرين، الأمر الذي خلف إرثاً غنياً في مجال خدمة القرآن الكريم، وقد اتصفت هذه الخدمة بإحاطة الإمام عليه السلام التامة بظروف النص وبيئات نزوله؛ لأنه كان قريباً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد روي عنه أنه قال: "كنت أسمع الصوت وأبصر الضوء سنين سبعا ورسول الله حينئذ صامت ما أذن له في الإنذار والتبليغ"(1)، وكذلك قوله عليه السلام : "... أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلی الله عليه وآله، فقلت يا رسول الله ما هذه الرنة؟ فقال هذا الشيطان
ص: 13
أيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي ولكنك وزیر وإنك لعلى خير..."(1).
وهذا الأمر يعني معرفته التامة بحيثيات النص القرآني وفهمه لها، وتميزه من سواه في تلك الإحاطة فهو ربيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى أكتافه بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قامت أعمدة الرسالة الإسلامية، لذلك كان هذا الفصل معنياً ببيان جهود الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في خدمة القرآن الكريم ولعلَّ أُولى هذه الأمور تفرده في تأصيل وتأسيس ضوابط التفسير، فهو أول من فسر القرآن الكريم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا ريب بأن تفسيره کان تفسيراً مبنياً على الدراية والخبرة بسبب قربه من الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ولدرایته الكاملة بأسباب النزول، فضلاً عن علاقته الراسخة بالقرآن الكريم، لذلك وصف بأنه القرآن الناطق.
من هنا انمازت خصائصه بتفردها في عملية فهم القرآن الكريم وقد وَرَّثَ السلسلة الذهبية تلك الميزات فصارت سمات تميزهم من غيرهم.
فلا يبعد الباحث لئن وجد أُسساً ومرتكزات تمثلها أتباع أهل البيت عليهم السلام لبيان عقيدتهم، وما هذه الأسس والمرتكزات إلا انبثاق من خصوصياتهم عليهم السلام إذ اعتقد الإمامية أن يكون الإمام أعلم الناس
ص: 14
بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذ لو لم يكن عالماً لم يؤمن أن يقلب الأحكام والحدود وتختلف عليه القضايا المشكلة فلا يجيب عنها أو يجيب عنها بخلافها"(1).
وهذا الأمر خلف اعتقاداً لدى الشيعة الإمامية بأنَّ الإمام له الولاية العامة في أمور الدين والدنيا لاتصافه بتلك الميزات المتجذرة في امتداد مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
وورد تأكيد هذا المعنى من الأئمة الأطهار علیهم السلام، بأنهم هم العالمون وغيرهم ينحدر عنهم بدرجات، من ذلك ما روي عن الإمام الباقر عليه السلام في تفسير قوله تعالى : «... قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ»(2) فقال: "نحن الذين يعلمون، وعدونا الذين لا يعلمون، وشيعتنا أولو الألباب"(3).
ومنه أيضاً ما روي عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام أنَّه قال في هذه الآية: «بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ»(4)، قال: "هم الأئمة"(5).
ص: 15
كما أنَّه عليه السلام قال في الآية المذكورة وهو يخاطب أبا بصير: "أما والله يا أبا محمد ما قال بين دفَّتيِ المصحف؟ قلت: مَن هم جعلت فداك؟ قال: من عسى أن يكونوا غيرنا"(1).
وغير ذلك من الأحاديث التي لا تبقي شيئاً من الظن يحوم حول درجة علم الإمام عليه السلام، وكونه أعلم الناس على الإطلاق بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومها يكن من أمر فإنَّ الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قد اتصف بقدرات فكرية كانت نابعة من أديم المدرسة المحمدية، فجعلته مثالاً يحتذى به، وانعكس ذلك على تراثه الذي أصبح منارَ هداية في القول والمثل والحكمة، ومما يعضد ذلك ما توارد من أنباء وروايات حوله كقول بن عباس: "والله لقد أعطى علي بن أبي طالب تسعة أعشار العلم، وأيم الله لقد شارككم في العشر العاشر"(2).
كل ذلك أثمر خصوصیات انفرد بها الإمام علي عليه السلام من سواه وسيقف البحث عليها كما سيأتي ذكره وعلى النحو الآتي:
ص: 16
إنَّ من أبرز خصوصيات الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في فهم النص القرآني التي مثلت جهداً متميزاً من جهوده في خدمة القرآن، هي الإحاطة التامة بظروف نزول النص القرآني وبيئاته، ولم تقتصر هذه الإحاطة على التفسير فقط، بل تعدت ذلك لتشمل ما له علاقة بالتفسير، كإحاطته بالأحداث والوقائع التي اقترن با نزول النص القرآني وهو ما يسمى (بأسباب النزول) أو العادات والتقاليد التي كان يعيشها المجتمع الجاهلي خصوصاً في مكة والمدينة، أو الأوضاع السياسية والأخلاقية التي كان يعيشها المسلمون أنفسهم(1).
إذ من الواضح أنَّ القرآن الكريم راعي الظروف والأوضاع السياسية والاجتماعية والنفسية والعادات والتقاليد التي كان يعيشها المجتمع الجاهلي، ولم يأتِ مجرداً عن كل هذه الظروف.
وبطبيعة الحال فإنَّ هذه الظروف تلقي بظلالها على فهم القرآن الكريم ومقاصده، لذا فإنَّ فهمها ومعرفتها له أثر كبير في فهم القرآن وتفسيره.
وهذا ما يؤكده أهل البيت عليهم السلام في بعض الروايات من خلال بیان معرفتهم بزمان نزول الآيات ومن نزلت فيه، وهذا التأكيد منهم لا يراد منه مجرد بیان سعة علمهم بالأحداث، وإنما لبيان ارتباط ذلك بفهم القرآن
ص: 17
وتفسيره، لذا كان أئمة أهل البيت عليهم السلام يوجهون الانتقاد إلى أولئك الذين يفسرون القرآن الكريم دون هذه الإحاطة(1).
فليس من شك أنَّ من تعرض لتفسير القرآن دون هذه الإحاطة كان تفسيره منقوصاً لأنَّه فاقد لأبرز معايير التعامل مع النص القرآني، فالقرآن ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض.
ومن المؤكد أنَّ هذه الإحاطة قد نشأت وتبلورت نتيجة العلاقة الراسخة بين الإمام عليه السلام والقرآن الكريم، فهي وليدة ذلك الارتباط الموضوعي بين العدلين الكتاب والعترة، إذ أنَّه رافق نزول القرآن الكريم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل مراحله، ابتداءً من النداء السماوي الأول :
«اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ»(2).
واستمرت تلك المرافقة في كل المواقف والأحداث والمواقع، التي نزل فيها وعلى ضوئها القرآن الكريم إلى درجة عبر عنها الإمام عليه السلام بقوله: (أنا القرآن الناطق)(3).
فعن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن سليم بن قيس الهلالي، عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال:
ص: 18
"إنَّ الله طهرنا وعصمنا وجعلنا شهداء على خلقه وحجته في أرضه وجعلنا مع القرآن والقرآن معنا لا نفارقه ولا يفارقنا"(1).
وهذا بطبيعة حاله يؤكد حتمية ارتباط هذه الشخصية بكتاب الله العزيز، ورفدها بالعناية واللطف الإلهيين، الأمر الذي وَلَّدَ لدى الإمام عليه السلام هذه الإحاطة التامة بالقرآن الكريم.
قال عليه السلام: "سلوني قبل أن تفقدوني فوالذي فلق الحبة ويرأ النسمة لو سألتموني عن آية آية لأخبرتكم بوقت نزولها وفي من نزلت، وأنبأتكم بناسخها ومنسوخها، وخاصها وعامها ومحكمها ومتشابها، ومکيها ومدنيها....(2).
وعن سعيد بن المسيَّب قال: "ما كان أحد من الناس يقول سلوني غير علي بن أبي طالب عليه السلام"(3).
فقد رافق القرآن الكريم في كل مراحل نزوله، حتى صار شاهداً على
ص: 19
صدق الدعوة، قال أبو سعيد الخدري: "سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قول الله (جل ثناؤه): «قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ»(1)، قال: ذلك وصي أخي سليمان بن داود فقلت: له یا رسول الله فقول الله تعالى«كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْکِتَابِ»: - الآية - قال: ذلك علي بن أبي طالب"(2).
وأكَّد هذا المعنى الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال: "إيّانا عني وعلي أولنا وأفضلنا وخيرنا بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ووضع يده على صدره ثم قال: عندنا والله علم الكتاب كله"(3).
فقد ورد في تفسير قوله تعالى تعالى: «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ»(4)، أنَّها نزلت بعلي عليه السلام.
قال العلامة الطبرسي: "ويؤيد ذلك في نزولها في علي عليه السلام ما روي عن الشعبي أنَّه قال: ما أحد أعلم بكتاب الله بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من علي بن أبي طالب عليه السلام ومن الصالحين من
ص: 20
أولاده"(1).
وقال السيد الطباطبائي في الميزان أنها نزلت بعلي بن أبي طالب عليه السلام(2).
إذن فكل هذا يؤكد امتلاك الإمام أمير المؤمنين عليه السلام شخصية علمية متفردة، كونه أعلم صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد سُئل بن عباس أين علمك من علم ابن عمك فقال: "عليّ عُلِّم علماً علمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورسول الله علمه الله، فعلم النّبيّ علم الله وعلم عليّ من علم النّبيّ، وما علمي وعلم أصحاب محمّد في علم عليّ إلاّ كقطرة في سبعة أبحر"(3).
وهناك كثير من الأحاديث والروايات التي تشير إلى سعة علمه بالكتاب العزيز، فهو عليه السلام "فهو رئيس الفضائل وينبوعها، وأبو عذرها، وسابق مضمارها، ومجلي حلبتها، كل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتفى، وعلى مثاله احتذى، وقد عرفت أن أشرف العلوم هو العلم الإلهي،
ص: 21
لان شرف العلم بشرف المعلوم، ومعلومه أشرف الموجودات، فكان هو أشرف العلوم"(1).
من هذا المنطلق فقد أخذَ الإمام عليه السلام على عاتقه خدمة القرآن الكريم، إذ بذل جهداً في حفظه، وجمعه، ونَشر ما جاء فيه من أحكام ومفاهيم، واتخذه دستوراً له في جميع أعماله ونشاطاته، حتى صار عليه السلام هو القرآن الناطق الذي يجب اتباعه والتمسك به، لأنه ضمانة من الضلال، والانحراف.
فمن لم يتمسك به لم يتمسك بالقرآن، ومن لم يعترف بولايته لم يعترف بالقرآن، انطلاقاً من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً... هم حبل الله المتين وصراطه المستقيم"(2).
كان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ألصَقَ الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل هو حسنة من حسناته، وأنَّ الرسول لم يكن ليُخفيَ عليه شيئاً مما كان ينزل عليه؛ لأنَّه كان موضع سره، وحامل أختامه، ووارث
ص: 22
علمه، وأقرب الخلق إليه، فضلاً عن عنايته الخاصة واهتمامه البالغ والمنقطع النظير به، كل ذلك من أجل إعداده إعداداً يتماشى وحجم المسؤوليات الجسام التي سوف تلقي على عاتقه الشريف، التي في صدارها النهوض بأعباء الخلافة من بعده، لذا فقد علّمه ألف باب من العلم كما هو المشهور في كتب الحديث والسيرة، فأصبح أعلم الناس وأفقههم بكتاب الله وسنة نبيه(1) صلى الله عليه وآله وسلم.
ومما يدلنا على حجم ذلك الالتصاق بالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قوله عليه السلام في كتابه لعثمان بن حنيف: "وأنا من رسول الله كالصنو من الصنو، والذراع من العضد"(2).
فقد شبه نفسه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالذراع الذي أصله وأُسُّه هو العضد، مبالغة في القرب، وهذه أعلى درجات القرب، والتي تكشف بجلاء عن ملازمته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم واقتفائه أثره حق وُصِفَ أنَّه كان ألزم له من ظله، فرزق علمه وفهمه فصار بحق باب مدينة علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إذ إنَّه تربى في حجره فتسنم بذلك سنام الفخر والشرف فقال: "أنا وضعت في الصغر بكلاكل العرب، وكسرت نواجم قرون ربيعة ومضر، وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ص: 23
بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد، يضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويسني جسده، ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل، ولقد قرن الله به صلی الله عليه وآله وسلم من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره، ولقد كنت أتَّبعه اتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما، ويأمرني بالاقتداء به ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فَأَراهُ، ولا يراهُ غيري"(1).
الأمر الذي حتَّم على المسلمين موالاته والاقتداء به بأمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد ورد عنه أنَّه قال: "من سره أن يحيي حياتي، ويموت مماتي، ويسكن جنة عدن التي غرسها ربي فليوالِ علياً بعدي، وليوالِ وليَّه، وليقتدي بالأئمة من بعدي فإنَّهم عترتي خلقوا من طيني، رزقوا فهماً وعلماً، وويل للمكذبين بفضلهم من أمتي القاطعين فيهم صلتي، لا أنالهم الله شفاعتي"(2).
إذن فهذه الخصوصية التي لم يحضَ بها غير علي عليه السلام كانت وليدة تلك الصلة الوثيقة بينه وبين النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حتى صارت سمة الأخذ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سمة بارزة من
ص: 24
سمات الإمام علي عليه السلام في كل ميادين المعرفة، فقد عهد له بما لم يعهد لغيره، فقد قال ابن عباس: "كنَّا نتحدَّث أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عهد إلى علي سبعين عهداً لم يعهد إلى غيره"(1).
وكانت جميع آيات القرآن قد أملاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم على علي عليه السلام، فخطّها بيده قال عليه السلام: "إنَّ كل آية أنزلها الله جل وعلا على محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندي بإملاء رسول الله وخط يدي، وتأويل كل آية أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكل حلال وحرام أو حد أو حكم أو شيء تحتاج إليه الأُمة إلى يوم القيامة حق إرش الخدش"(2).
ولم يقف اهتمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتعليمه للإمام إلى هذا الحد بل أنَّه كان يدعو الله له بالحفظ والعصمة وعدم النسيان، لذا قال عليه السلام: "ودعا الله أن يحفظني وأن يعصمني، فما نسيت شيئاً قط منذ دعا لي، وإنّي قلت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنك منذ دعوت الله لي دعوة لم أنسَ مما تعلمني شيئاً ولم يفتني شيء"(3). وقد أكَّد الإمام هذه الخصوصية بقوله: "وليس كل أصحاب رسول الله صلى الله
ص: 25
عليه وآله وسلم كان يسأله ويستفهمه حتى أنَّهم كانوا ليحبون أن يَجيء الطارئ فيسأله حتى يسمع"(1).
وهذا من أجلى مصاديق الأخذ المباشر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ بلغ حداً قال عنه: "هذا سفط العلم، هذا لعاب رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم، هذا ما زقّني النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم زقّا زقّا، سلوني فإنّ عندي علم الأولين والآخرین، سلوني عن كتاب الله، فإنَّه ليس من آيةٍ إلاّ وقد عرفت أبليلٍ نزلت أو بنهارٍ، في سهلٍ أو جبلٍ"(2).
إذن فهذه الخصوصية بجميع معانيها والقرب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكل تفاصيله، جعلت من شخصية الإمام عليه السلام شخصية محيطة بالكتاب العزيز إحاطةً تامة، أهلته لفهم القرآن الكريم فهماً دقيقاً وشاملاً ومفصلاً، بنحو يتيح له تحديد المدلول اللفظي لسائر الكلمات والجمل والمقاطع التي اشتمل عليها القرآن الكريم، لأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبحسب بعض الأدلة قد فسر القرآن تفسيراً شاملاً وخاصاً تلقاهُ الإمام علي عليه السلام تلقية خاصاً(3).
ومما يؤكد ذلك ايضاً ما قدمه الإمام عليه السلام من تفسير معتمداً على ما أخذه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد روي عنه أنه أسند
ص: 26
تفسير قوله تعالی: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً...»(1) إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله عليه السلام: قال رسول الله قوله تعالى: «جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا» تفترشونها لمنامكم ومقيلكم، «وَالسَّمَاءَ بِنَاءً» سقفا محفوظاً أن تقع على الأرض بقدرته تجري فيها شمسها وقمرها وكواكبها مسخرة لمنافع عباده وإمائه(2).
وفي تفسير قوله تعالى: «...نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ»(3) قال عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنت الثواب وأنصارك الأبرار(4).
وغير ذلك من الشواهد التي تظهر أن الإمام علياً عليه السلام كان يأخذ التفسير وينقله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إذ من المؤكد أنَّ السنة النبوية قد استوعبت كل القضايا التي يحتاجها الإنسان في حياته، فضلاً عن استيعاب تلك القضايا من القرآن الكريم، ولذا فقد أصبح الكتاب والسنة هما
ص: 27
المصدران الرئيسان لأحكام الشريعة، فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إنَّه ليس من شيء إلّا وقد جرى به کتاب وسنة"(1).
وعنه أيضاً أنَّه قال: إنَّ الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء حتى والله ما ترك شيئاً يحتاج إليه العباد، حتى لا يستطيع عبد أن يقول: لو كان هذا أُنزل في القرآن إلاّ وقد أنزله الله فيه"(2).
من هنا أكدَّ آل البيت عليهم السلام هذه الشمولية وهذا الاستیعاب للقرآن والسنة النبوية اللذين هما المصدران الرئيسان لأحكام الشريعة، ورفضوا أيَّ طريق آخر للوصول إلى مداليل القرآن الكريم، حتى أنَّهم حظروا ذلك على أصحابهم ولم يسمحوا لهم بأن يسلكوا الطرق الاجتهادية وغيرها(3).
ومن أهم القضايا التي استوعبتها السنة النبوية الشريفة هي عملية تفسير القرآن الكريم وتبيين مقاصده ومراميه، بياناً خاصاً تفصيلياً، فقد وردت أدلة نقلية وعقلية على أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام بعملية تفسير القرآن الكريم وبيان معانيه بشكل كامل.
من تلك الأدلة قوله تعالى: «كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ»(4).
ص: 28
ومنها أيضاً قوله تعالى: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»(1).
وغير ذلك من النصوص التي تبين أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الرائد والشارح والموضح للقرآن؛ لأنَّ القرآن الكريم نزل عليه وهو أعلم بمحكمه ومتشابه، وخاصّه وعامّه... وما إلى ذلك، إلى جانب ريادته في مجال التطبيق لمفاهيم القرآن الكريم(2).
وفي مقابل هذا يرى بعض الباحثين: بأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يفسر القرآن إلا بِعَدَد، كقول عائشة: من أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يفسر شيئاً من القرآن إلا آیاً بعدد، علمه إيّاهُنَّ جبريل(3).
هو عين ما ذهب إليه السيوطي(4).
وقد استدل أصحاب هذا الاتجاه، بأدلة عديدة منها رواية عائشة، آنفة الذكر، كما أنَّهم استدلوا بالندرة في المأثور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يتعلق بتفسير القرآن الكريم(5).
ص: 29
والبحث ليس بصدد تقصي الروايات المتعلقة بهذا الشأن، وإنَّ ما أراد البحث إثباته هو أنَّ القرآن الكريم لابد من أن يوجه توجيهاً رسالياً كي يتمكن المسلمون من أن يصلوا إلى أهدافه ومضامينه، ويندمجوا بمفاهيمه اندماجاً حقيقياً.
لذا يعتقد أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام أنَّه من أجل هذا التوجيه الرسالي للقرآن الكريم أحاط النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم علياً بتفسير القرآن تفسيراً خاصاً، حتى صارت هذه الإحاطة معلماً من معالم شخصية الإمام أمير المؤمنين عليه السلام(1).
فقد ورد عنه أنه قال "ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آية إلاّ أقرأنيها وأملاها عليَّ فكتبتها بخطي، وعلّمني تأويلها وتفسيرها"(2).
الأمر الذي يظهر بجلاء قربه عليه السلام من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومعرفته اللدنية من رسول الرحمة لأنَّ الرسول يأخذ علمه من الله، فأصبح واسطة لوصول المعرفة التي أومأ إليها الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بجوانبها التفسيرية والتأويلية فضلاً عن تعلمه القراءة من فم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتدوينه لآيات الكتاب العزيز، وذلك يدل على تفرده في عملية الأخذ المباشر من نبي الرحمة، وأن النبي أحاطه بهذه العلوم التي
ص: 30
في مقدمتها تفسير القرآن الكريم، فأصبح حينئذٍ مؤصلاً ومقعداً لكل أُسس العملية التربوية التي تتعلق بالقرآن الكريم.
وهذا بحد ذاته عملية تأسيس مرجعية أهل البيت عليهم السلام ليس فقط على مستوى التفسير فحسب وإنَّما على كل المستويات، وفي جميع الجوانب الفكرية للرسالة، وما حديث الثقلين إلاّ خير دليل على ذالك، بقصد إيجاد من يحمل تراث القرآن الكريم، ويندمج به اندماجاً مطلقاً بالدرجة ال-تي تتيح له أن يكون مرجعاً في فهم الأمة للقرآن الكريم، وضامناً لعدم تأثر الأُمة في فهمها للقرآن بإطارات فكرية خاصة، ومسبَّقات ذهنية، أو رواسب جاهلية(1).
لذا نجد أنَّ أئمة أهل البيت عليهم السلام قد شددوا على هذا الأمر انطلاقاً من تعليم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم علياً تفسير القرآن الكريم بشكل كامل من جهة، واستيعاب السنّة لكل القضايا التي يحتاجها الإنسان في حياته من جهة أُخرى.
يمثل القرآن الكريم وحدة كلامية لا تتجزأ، وتعاليمه وأحكامه مترابطة متكاملة بين بعضها بعضاً، ما يشبه الوحدة العضوية بين أعضاء الجسم الواحد، فبعضها يؤثر في بعض، ولا يجوز أن يفصل جزء أو أكثر عن سائر الأجزاء، فالعقيدة تغذي العبادة، والعبادة تغذي الأخلاق، وكلها تغذي الجانب العملي والتشريعي في الحياة.
ص: 31
ولا بد لأجل فهمه وليكون المفسر في أجواء النص القرآني، وإدراك معانيه من أن تكون لديه نظرة شاملة للقرآن الكريم تتمثل بالنظر للقرآن على أنَّه وحدة موضوعية متماسكة، فلا يمكن فهم القرآن فهما تفصيلياً إلا من خلال النظر إلى أبعاد هذه الوحدة(1).
وتكمن أهمية إدراك البناء الكلي للقرآن الكريم في إنَّ فهم بعض القرآن متوقف على جميعه، وعدُّ السورة كلها أساساً في فهم آیاتها، والموضوع فيها أساس في فهم جميع النصوص التي وردت فيها(2).
بمعنى أن الوحدة الموضوعية للنص القرآني ترتبط بوحدة موضوعية کبری يتجلى من خلالها البناء الكلي للقرآن الكريم، ومن هنا فإن فهم بعض القرآن متوقف على جميعه، وأن فهم السورة كلها متوقف على فهم آيتها، لذا فالموضوع فيها أساس في فهم جميع النصوص التي وردت فيها، أي أنَّ وحدة الموضوع للسورة متوقف على فهم آیاتها، ومن ثم فإنَّ هذه الوحدة الموضوعية ترتبط بالبناء الكلي للقرآن الكريم، الأمر الذي يتطلب إدراكاً وإمعاناً في الفهم من أجل الوصول الى مبتغى القصد القرآني.
فالقرآن الكريم هو كلام واحد يعبر عن تصور متكامل وشامل للكون والحياة والدين، لكن الحكمة الإلهية شاءت أن ينزل هذا الكل المتماسك على
ص: 32
شکل آیات و سور، والأول هو غالب القرآن ومن أمثلته في السور القصار (سورة العلق) فإنَّ أول ما نزل منها (إقرأ) إلى قوله (ما لم يعلم)، (وسورة الضحی) فإنَّ أول ما نزل منها (والضحی) إلى قوله تعالى: (فترضى)(1).
ومن أمثلة الثاني سورة الفاتحة، والإخلاص، والكوثر، والمسد، والبينة، وسورة النصر، والمعوذتان نزلنا معا(2).
وتجدر الإشارة إلى أنَّ نزول القرآن الكريم بشكل تدريجي وبشكل منظم كان لتحقيق أغراض عديدة من أبرزها هو الإمداد المعنوي المستمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كما قال تعالى: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا»(3).
وقد أحاطت بالنزول التدريجي هذا ظروف وأحداث من شأنها أن تلقي الضوء على معانيه وأهدافه من ناحية، وكان لها تأثير في أسلوب العرض والبيان والمقاصد من ناحية أُخرى(4).
وبناءً على هذا فلا يمكن فهم القرآن الكريم فهما دقيقاً وفهما تفصيلياً من دون توفر نظرة شاملة لكل هذه الأبعاد والجوانب (الناسخ والمنسوخ، العام والخاص، المحكم والمتشابه ...)، وغيرها من المسائل التي لها علاقة بفهم القرآن الكريم، إذ تُعدُّ من أهم الخصائص التي يتم بموجبها ولوج العملية
ص: 33
ريم التفسيرية، فلا بد للمفسر من معرفة مطلق القرآن ومقيده... وجدله، والموهم بالاختلاف وغير ذلك مما يستلزمه التفسير.
من هنا تتضح أهمية هذه النظرة الموضوعية، والإدراك الكلي للنص القرآني التي تفرد بها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام دون غيره من معاصري الوحي، فهي فضلاً عن عن كونها وليدة رحم الإحاطة التامة بظروف نزول النص القرآني، كذلك فهي وليدة العلاقة الراسخة بين الإمام عليه السلام والقرآن الكريم، إذ أنَّها مستوحاة من رؤية علمية وواقعية مستنبطة من القرآن الكريم وطبيعة العلاقة به.
وقد تجلى كل ذلك في خطب الإمام عليه السلام وكلماته، فنراه يقول: "ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق ولكن أُخبركم عنه ألا إنَّ فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ودواء دائكم ونظم ما بينكم"(1)، أي أنَّه لا ينطق مع كل أحد إلاّ لمن توفرت لديه الإحاطة به.
وقال أيضاً: "إنّي لأعرف ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وما حرف نزل إلّا وأنا أعرف فيمن اُنزل، وفي أيِّ يوم، وأيّ موضع اُنزل، أما تقرأون: «إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى»(2) والله هي عندي، وَرِثتها من حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن إبراهيم وموسى عليهما السلام، والله أنا الذي أَنزل الله فيَّ: «وَتَعِيَهَا أُذُنٌ
ص: 34
وَاعِيَةٌ»(1)، فإنّا كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيخبرنا بالوحي فأعيَه ويفوتهم، فإذا خرجنا قالوا: مَاذا قَالَ آنِفًا"(2).
فحين تصل نظرته عليه السلام إلى القرآن إلى حد الإحاطة بالحرف الواحد، وفي أيِّ يوم نزل لهو أجلى مصادیق ذلك الإدراك وتلك النظرة الموضوعية المستوحاة من إدراكه للبناء الكلي للقرآن الكريم من دون غيره من معاصري الوحي.
وما قوله عليه السلام: "لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً في تفسير فاتحة الكتاب"(3) إلا هو خير دليل على ذلك الإدراك، وتلك النظرة المستوعبة لك جزئیات النص القرآني.
وللإمام عليه السلام كلمة أُخرى في المعنى نفسه، جاء في بعضها:"...فنحن نعلم حلاله وحرامه... وسفريه وحضريه وفي أيِّ ليلة نزلت"(4).
وقوله عليه السلام: "ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آية إلاّ أقرأنيها وأملاها عليَّ فكتبتها بخطي، وعلّمني تأويلها وتفسيرها"(5).
وعلى وفق ذلك تتبين إحاطة الإمام علي عليه السلام بالبناء الكلي
ص: 35
للقرآن الكريم فهو عالم بأسباب نزوله وتفاصيل آياته، تفسيراً وتأويلاً الى درجة معرفته لمعنى الحرف الواحد من حروف القرآن الكريم، ومن هنا تتجلی الإحاطة التامة لديه بالبناء الكلي لكل أبعاد النص القرآني.
ومن الأمثلة على ذلك أن الخليفة عمر أتی بامرأة قد ولدت لستة أشهر فأمر برجمها، فقال له الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إن خاصمتك بكتاب الله خصمتك، إنّ الله تعالى يقول: «وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ...»(1)، ويقول جل وعلا: «...وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا...»(2)
فإذا تمت الرضاعة سنتين وكان حمله وفصاله ثلاثين شهرا كان الحمل منها ستة أشهر، فخلى عمر سبيل المرأة وثبت الحكم بذلك، يعمل به الصحابة والتابعون ومن أخذ عنه إلى يومنا هذا(3).
فقد استدل الإمام أمير المؤمنين عليه السلام على هذا الحكم من خلال الجمع بين آيتين، إذ إنَّ استنباط الحكم من الآية الأولى متوقف على فهم الآية الثانية، وهذا ما لم يتأتى لغيره من معاصري الوحي، إذ إنه منبثق من رؤية علمية مستبطة من إدراكه للبناء الكلي للقرآن الكريم، وحضور النص القرآني الديه، ونظرته له على أنه كل منسجم ينطق بعضه بالبعض الآخر.
ص: 36
يُعدُّ التأويل من المفاهيم القرآنية المهمة التي توقف عندها المفسرون بوصفه عملية مرتبطة بأقصى مدارك الفهم القرآني، ولا يقدر على الخوض فيه إلا من حباه الله سبحانه وتعالى بموهبةٍ علميةٍ خارقة مستندة إلى علم أهل البيت عليهم السلام.
ولهذا الأمر كثرت الدراسات فيه واختلفت الآراء حوله، ولكن ما يمكن القول فيه أن القرآن الكريم اشتمل على آيات يتوهم منها بحسب ظاهرها الاختلاف والتناقض، وقد أدرك العلماء أنَّهم لو فسروها على ظاهرها للزم ذلك مفاسد كثيرة، كالتشبيه والتجسيم، وارتفاع محذور كهذا لم يكن ممكناً إلا بسلوك طريق التأويل بصرف الآيات عما تدل عليه بظواهرها، الأمر الذي حفز العقل الإسلامي الى دراسة غايات التأويل وفهم النص القرآني بالرجوع إلى المجاز.
وتُعدُّ الإمامية من الفرق التي وضعت للتأويل أُسساً وضوابطَ وحدوداً ذات أبعاد منهجية(1).
وليس البحث بصدد الحديث عن أهمية التأويل واتجاهاته وإنما لإثبات خصوصية تفرد الإمام بعلم التأويل.
ص: 37
ولما كان التأويل الحقيقة الواقعية التي تستند عليها البيانات القرآنية كما ذكر ذلك السيد الطباطبائي بقوله: "إنَّ الحق في تفسير التأويل أنَّه الحقيقة الواقعية التي تستند عليها البيانات القرآنية من حكم أو موعظة أو حكمة وأنَّه موجود لجميع الآيات القرآنية محكمها ومتشابهها، وأنَّه ليس من قبيل المفاهيم المدلول عليها بالألفاظ بل هو من الأمور العينية المتعالية عن أن تحيط بها شبكات الألفاظ وإنما قيدها الله (جل وعز) بقيد الألفاظ لتقريبها من أذهاننا بعض التقريب"(1) فإن ذلك يتطلب فهماً خاصاً من لدن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار علیهم السلام، ولما كان الرسول صلی الله عليه وآله وسلم "مدينة العلم وعلي بابها وهل تدخل المدينة إلا من بابها"(2) فلا بد أن يكون الإمام علي عليه السلام قد علم التأويل وفهم مراميه على وفق قوله تعالى: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ»(3) فقد ورد عن الإمام الصادق قال: "هو أمير المؤمنين والأئمة"(4).
وبخصوص ذلك فقد وردت أحاديث كثيرة تكشف تكشف اختصاص أهل البيت عليهم السلام بهذا العلم إذ جاء قوله عليه السلام مؤكداً علمه بالتأويل من دون سواه كما في النص الآتي "أين الذين زعموا أنَّهم الراسخون
ص: 38
في العلم دوننا كذباً وبغياً علينا، أن رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم، بنا يستعطى الهدى ويستجلى العمى، إنَّ الأئمة من قریش غرسوا في هذا البطن من هاشم لا تصلح على سواهم ولا تصلح الولاة من غيرهم"(1).
فهنا بيَّن الإمام عليه السلام أنَّهم هم الراسخون في العلم من دون سواهم، وقد ذكر القرآن الكريم أنَّ علم التأويل من مختصات الراسخين في العلم وأنّه أمر يقصر عن نيله الأفهام وتسقط دون الارتقاء إليه العقول، إلاّ نفوس من طهرهم الله وأزال عنهم الرجس، فإن مثل تلك النفوس لها القابلية أن تمس القرآن وتقف على حقائقه كما دل على ذلك قوله تعالی: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ»(2)، ومعنى ذلك أنَّ الكتاب المكنون الذي فيه القرآن لا يمسّه إلا المطهرون، أو لا يمس القرآن الذي هو في الكتاب المكنون إلا المطهرون، وهم الذين طهرهم الله تعالى من الأدران ومن أرجاس المعاصي وقذارات الذنوب، وكذلك طهر قلوبهم من التعلق بغيره سبحانه(3).
فمسّه هو العلم به وهو في الكتاب المكنون(4).
ص: 39
ومنها أيضاً ما رواه بريد بن معاوية عن أحد الصادِقَين عليهما السلام قال: "فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الراسخين في العلم، قد علمه الله عز وجل جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل، وما كان الله لينزل عليه شيئاً لم يعلم تأويله، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كله"(1).
وعن الإمام الصادق عليه السلام أنَّه قال: "نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله"(2).
فهذا الرسوخ كما هو مدلول الروايات السابقة يراه أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام من أوضح مصاديق اختصاصهم بعلم التأويل، فضلاً عن تأكيد ثبوته لخاتم الأوصياء والحجج الإمام المهدي (عجل الله فرجه)، وافتراض أنَّ عصره هو عصر التأويل.
قال السيد حيدر الآملي: "فلو لم يكن مخصوصاً - أي علم التأويل - بهم وبتابعيهم لم يكن الله تعالى قيد التأويل بالإمام المنتظر منهم المسمى المهدي عليه السلام في قوله تعالى:
«هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ»"(3).
ص: 40
فقد فسرت هذه الآية في القائم (عجل الله تعالی فرجه الشريف)(1).
وروي أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال عيسی عليه السلام: نحن نأتيك بالتنزيل، وأما التأويل فسيأتي به الفارقليط في آخر الزمان، والفارقليط عندهم هو المنتظر(2).
فزمان المهدي إذن يقتضي ظهور التأويل على ما هو عليه وظهور الشريعة على ما ينبغي فهو الذي يحلل الحلال ويحرم الحرام ويقيم دولة العدل الإلهي ويصل الناس في ظل تلك الدولة إلى السعادة الحقيقية.
ومن المعلوم أنَّ المهدي هو من ولدِ علي عليه السلام وهو وارث علمه الذي هو علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وثبوت هذه الخصوصية له عليه السلام يعني ثبوتها لجده علي عليه السلام.
ومن الجدير بالذكر أن ثبوت هذه الخصوصية للإمام وأهل بيته عليهم السلام لا يعني أنَّ غيرهم لا نصيب له من هذا العلم، وإلا فليست هناك ثمة قيمة للحث على تدبر القرآن الكريم، لأنَّه لن يؤدي إلى أيَّةِ غاية، بل إنَّ
ص: 41
علماءنا يقولون بإمكانية حصول غيرهم على هذا العلم إلا أنَّه حصول مطلق كل بحسب استعداده، ووعائه الوجودي(1).
لكن حق التأويل هو وظيفة الإمام المعصوم، لا مطلق التأويل، لأنَّ التأويل تأويلان، تأويل مطلق أو تأویل کامل تام وهو أعلى درجات التأويل وهو الذي يكون من مختصات الأنبياء والأئمة، ومن شايعهم على قدم الصدق والاستقامة(2).
وآخر جعل الله في الناس قابلية على بلوغه وهو دون الأول الذي يعبر عنه بالتأويل المطلق أو مطلق التأويل(3).
والأول لا يجوز أن يُأخذ إلا منهم وعنهم، ومن تخلف عنهم في خصوص هذا العلم وأسراره غرق في بحر الهلاك والضلال والجهل.
فمن الأمثلة التي تظهر اختصاص الإمام عليه السلام بعلم التأويل جوابه عندما سأله سائل من هؤلاء الحجج في قوله عليه السلام: "... وعرف الخليقة فضل منزلة أوليائه، وفرض عليهم من طاعتهم مثل الذي فرضه منه لنفسه وألزمهم الحجة بأن خاطبهم خطاباً يدل على انفراده وتوحيده وبأن لهم أولياء تجرى أفعالهم وأحكامهم مجرى فعله، فهم العباد المكرمون لا يسبقونه
ص: 42
بالقول وهم بأمره يعملون، قال السائل: من هؤلاء الحجج؟ قال: هم وجه الله الذي قال: «...فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ...»(1) هم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن حل محله أصفياء الله الذين قرنهم الله بنفسه وبرسوله، وفرض على العباد من طاعتهم مثل الذي فرض عليهم منها لنفسه"(2).
فقد التفت الإمام عليه السلام الى مسألة التأويل فهو لم يأخذ عبارة "وجه الله" على ظاهرها وإنما وجد فيها تأويلاً يخص أولياء الله جل وعلا الذين قرنهم الله بنفسه وبرسوله، فقد أول "وجه الله" بالنبي وأهل بيته عليهم السلام لأن الله جل وعلا منزه عن الجسمية ولا يحيط به مکان ولا زمان.
لذا عندما سأله يهودي: "أين يكون وجه ربك؟ فقال عليه السلام: يا ابن عباس أئتني بنار وحطب فأتيته بنار وحطب فأضرمها، ثم قال: يا يهودي أين يكون وجه هذه النار، قال: لا أقف لها على وجه، قال: فإن ربي عز وجل عن هذا المثل، وله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثمَّ وجه الله"(3).
ونفس المعنى ورد في احتجاجه على الجاثليق عندما سأله نفس السؤال فقال عليه السلام: "هذه النار مدبرة مصنوعة لا يعرف وجهها، وخالقها لا يشبهها، ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله، لا يخفى على ربنا خافیة"(4).
ص: 43
ومثل ذلك ذلك رؤية الإمام عليه السلام التأويلية عندما سأله سائل عما اشتبه عليه من الآيات التي منها قوله تعالى: «...وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ...»(1).
قال: يخبر أنه لا يصيبهم بخير وقد تقول العرب: والله ما ينظر إلينا فلان، وإنما يعنون بذلك أنه لا يصيبنا منه بخير، فذلك النظر هاهنا من الله تعالى إلى خلقه، فنظره إليهم رحمة منه لهم(2).
وكذا الحال في قوله تعالى: «كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ»(3) قال: "فإنما يعني بذلك يوم القيامة أنهم عن ثواب ربهم محجوبون"(4) فقال السائل: فرجت عني فرج الله عنك، وحللت عني عقدة فعظم الله أجرك.
وكذلك رؤيته التأويلية في قول الله تبارك وتعالى: «وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ»(5).
فقد عرض الإمام علي عليه السلام لتأويل هذه الآية عندما سأله أحد المسلمين، فقال عليه السلام: "قد أعلمتك أن رُبَّ شيء من كتاب الله عز وجل تأويله على غير تنزيله، ولا يشبه كلام البشر، وسأنبئُك بطرفٍ منه فتكتفي أن شاء الله، من ذلك قول أبراهيم: «وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي
ص: 44
سَيَهْدِينِ»، فذهابه إلى ربه توجهه إليه عبادةً واجتهاداً وقربة إلى الله عز وجل، ألا ترى أن تأويله غير تنزيله"(1)
وغير ذلك من الشواهد التأويلية التي تظهر بوضوح اختصاصه بهذا العلم، إذ كان يستدير حوله السائلون لتميِّزه بالعصمة، فلا بد أن يكون رائداً في هذا العلم وغيره من العلوم.
ص: 45
أشار القرآن القرآن الكريم بصورة واضحة وجلية إلى أنَّ عملية تفسير القرآن الكريم تقع على عاتق النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأنَّه أول من تصدى للتفسير، كما في قوله تعالى: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»(1).
وكان تفسيره شاملاً لكل ما جاء في القرآن الكريم من عقائدَ، وعبادات، وأحكام، ومعاملات، وكل ما يتعلق بالمجتمع الإنساني ابتداءً من الأُسرة إلى الجماعة إلى الأمة وعلاقة الحاكم بالمحكوم وعلاقة المسلمين بغيرهم من الأمم في الحرب والسلم، وقد وردت عن النبي أحاديث صحيحة توضح وتفسر ما جاء في القرآن زيادة في الايضاح والبيان وهي الأحاديث المتواترة بالسند الصحيح ولذلك كانت السنّة النبوية خير مفسر للقرآن الكريم(2).
ص: 46
ويتسع مفهوم السنة لدى أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام فهي تشمل بالإضافة إلى سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنة المعصوم علیه السلام المتمثلة بقوله وفعله وتقريره.
وقد اتضح لنا خلال الأبحاث السابقة أنَّ الإمام عليه السلام كان يتمتع بشخصية علمية رائدة في كل ميادين المعرفة، ويُعدُّ الميدان القرآني من أهم الميادين التي أخذت مكان الصدارة في اهتمامات الإمام علي عليه السلام إذا أنَّه يتمتع بشخصية تفسيرية رائدة، تمثلت بمجموعة من الخصائص، جعلته يقف على رأس المفسرين؛ لمعرفته التامة بلغة القرآن الكريم وآياته، وتفصيلاتها وما ينطبق عليها من تقسيم قرآني معروف من حيث الإجمال والتفصيل والخاص والعام وغير ذلك.
ولم تقف جهود الإمام عليه السلام في خدمة القرآن الكريم على الحد المذكور وإنما شملت التأصيل لمجموعة من العلوم التي تُعدُّ علوم خادمة للعملية التفسيرية برمتها، مثل علوم القرآن، والنحو، والخط والإملاء والتجويد، فضلاً عما عرف به من بلاغة الأسلوب الذي أضفى على اللغة العربية قدسيتها وجمالها، فكان مثالاً يحتذي به الأُدباء والكتاب في كل عصر.
أخذ الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام موقع الصدارة بين الصحابة في كل ميادين المعرفة، ولاسيما في ميدان التفسير فهو أول من تكلم
ص: 47
به بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن وجوده في المقدمة عفواً بل هو اتفاق آراء المؤرخين كافة، والرواة التي أجمعت على أنَّه كان صدر المفسرين، والمؤيد فيهم وأكثر من روي عنهم من الخلفاء(1).
قال ابن أبي الحديد المعتزلى: "إذا رجعت إلى كتب التفسير علمت صحّة ذلك لأنّ أكثره عنه عليه السلام، وعن عبد الله بن عباس وقد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته له وانقطاعه إليه وأنّه تلميذه وخريجه مدرسته، وقيل له أين علمك من علم ابن عمّك، قال: كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط"(2).
وروي عنه أيضاً أنّه قال: حدّثني أمير المؤمنين عليه السلام في باء (بسم الله الرّحمن الرّحيم) من أول اللّيل إلى الفجر ولم يتمّ(3).
وعنه أيضاً قال: قال عليّ عليه السلام: "لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً في تفسير فاتحة الكتاب"(4).
فكان عليه السلام أعلم المسلمين بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكتاب الله سبحانه تفسيراً وتأويلاً؛ لأنَّه باب مدينة علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أشار إليه بقوله: "أنا مدينة العلم وعلي بابها"(5).
ص: 48
فقد غذّاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من فيض علومه حتى قال عليه السلام: علمني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألف باب من العلم ينفتح لي من كلّ باب ألف باب(1).
وقال أيضاً: "فإنَّ عندي علم الأولين والآخرين، أما والله لو ثنيت لي الوسادة فجلست عليها، لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم حتى تنطق التوراة فتقول: صدق علي ما كذب، لقد أفتاكم بما أنزل الله فيَّ، وأفتيت أهل الإنجيل بإنجيلهم حتى ينطق الإنجيل فيقول: صدق علي ما كذب لقد أفتاكم بما أنزل الله فيَّ، وأفتيت أهل القرآن بقرآنهم حتى ينطق القرآن فيقول: صدق علي ما كذب لقد أفتاكم بما أنزل الله في، وأنتم تتلون القرآن ليلاً ونهاراً، فهل فيكم أحد يعلم ما نزل فيه، ولولا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما كان وما يكون، وما هو كائن إلى يوم القيامة
وهذه الآية هي قول الله تبارك وتعالى: «يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ»(2).
ثم قال: "فوالذي برأ النسمة لو سألتموني عن آية آية أخبرتكم بوقت نزولها وفي من نزلت..."(3).
ص: 49
فلم يكن علمه فقط بالقرآن الكريم، وإنَّما بكل الكتب السماوية التي أُنزلت على الأنبياء السابقين بما فيها من عقائد وأحكام وتشريعات وأخلاق، وأخبار الأُمم السابقة وأحوالها... وغيرها.
وفي ضوء هذا كانت القدرة التفسيرية للإمام أمير المؤمنين عليه السلام تستند إلى مؤهلات معرفية أهلته لبيان مقاصد النص القرآني عبر وسائل الاستنباط التفسيرية المختلفة.
فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قرأ قوله تعالى: «وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ»(1)، ثم التفت لعلي عليه السلام وقال: سألت الله أن يجعلها أُذنك، قال الإمام عليه السلام فما سمعت شيئاً نسيته(2).
قال الرازي: "إن قلت: لِمَ قِيلَ أُذن واعية على التوحيد والتنكير؟ قلت: للإيذان بأنَّ الوعاة فيهم قلة، ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم، وللدلالة على أنَّ الأُذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن الله (جل وعز) فهي السواد الأعظم عند الله، وأنَّ ما سواها لا يبالي بم وإن ملئوا ما بين الخافقين"(3).
علماً أنَّ الرازي يستدل بالحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قراءته لهذه الآية بأنَّها نزلت بعلي عليه السلام(4).
ص: 50
وروى الكليني عن سليم بن قيس الهلالي: إنَّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يقول: ما نزلت آية على رسول الله إلا أقرأنيها وأملاها علي فكتبتها بخطي وعلمني تفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها ودعا الله لي أن يعلمني فهمها وحفظها، فما نسيت آية من كتاب الله، ولا علماً أملاه علي فكتبته منذ دعا لي بما دعا، وما ترك شيئاً علمه الله حلالاً كان أو حراماً ولا أمراً ولا نهياً كان أو يكون ولا كتاب مُنزل على أحد قبله من طاعة أو معصية إلا علمنيه وحفظته، ودعا الله أن يملأ قلبي علماً وفهماً وحكمة ونوراً، فقلت: "يا رسول الله بأبي أنت وأمي مذ دعوت الله لي لم أنس شيئاً ولم يفتني شيء لم أكتبه أو تتخوف علي النسيان فيما بعد، فقال: لست أتخوف عليك نسیاناً ولا جهلاً"(1).
لقد جاءت هذه الأحاديث وغيرها في جوانب كثيرة مؤكدة اهتمام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الشخصية التي حظيت بجعل تكويني أهله لأن يكون ولياً لله سبحانه وتعالى، وأميراً للمؤمنين وإماماً من قبل أن تعقد له له الخلافة، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "أنت يعسوب الدين وأمير المؤمنين"(2) وفي رواية أخرى: "هذا يعسوب المؤمنين وقائد الغر المحجلين"(3).
ص: 51
لذا كان يقول: "أنا يعسوب الدين وأمير المؤمنين ..."(1) واليعسوب ذکر النحل وأميرها(2)، وهي كناية عن سيد القوم وأميرهم.
ومثل ما منحه هنا سيادة القوم وهم المؤمنين فقد منحه في حديث آخر السيادة العلمية إذ قال: "أنا مدينة العلم وعلي بابها"(3)، وغير ذلك من الأحاديث التي أسست لمرجعية الإمام أمير المؤمنين الفكرية والتفسيرية.
لقد كان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام المتلقي الأول الذي يفقه ما ينزل من القرآن الكريم بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لتميزه بقدرات استيعابية خلفتها موسوعته الثقافية الناهلة من عطاء الوحي الإلهي بوصفه ربیب الرسالة إذ جعله الله الأُذَن الواعية فتلقي وتمثل كل ما نزل من القرآن الكريم، فأسس بذلك مرجعية فكرية لكافة المسلمين واعترف بهذه الحقيقة حتى المناوئين لمنهجه من أمثال الحجاج بن يوسف الثقفي وأضرابه ممن يكنون له العداوة، وخير الفضل ما شهد به العداءُ.
فقد روي أنَّ يَزِيد بن أَبِي مُسلِمٍ خَرَجَ مِن عِندِ الحَجَّاجِ فَقَالَ: "لَقَد قَضَى الأمير بِقَضِيَّة فَقَالَ لَهُ الشَّعبِيُّ: وَمَا هِيَ؟ فَقَالَ: قَالَ: مَا كَانَ لِلرَّجُلِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ وَمَا كَانَ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلمَرأَةِ فَقَالَ لِلشَّعبِيِّ: قَضَاءُ رَجُلٍ مِن أَهلِ
ص: 52
بَدرِ، قَالَ: وَمَن هُوَ؟ قَالَ: لاَ أُخبِرُكَ، قَالَ: مَن هُوَ عَلَىَّ عَهدُ اللهِ وَمِيثَاقُهُ أَن لاَ أُخبِرَهُ قَالَ: هُوَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: فَدَخَلَ عَلَى الحَجَّاجِ فَأَخبَرَهُ فَقَالَ الحَجَّاجُ: صَدَقَ وَيحَكَ إِنَّا لَم نَنقِم عَلَى عَلِيٍّ قَضَاءَهٌ قَد عَلِمنَا أَنَّ عَلِيًّا كَانَ أَقضَاهُم"(1).
وهذا يعني أنَّ علي بن أبي طالب عليه السلام كان مرجعاً ليس للصحابة فحسب وإنما لعامة الناس على اختلاف مذاهبهم وتنوع مشاربهم.
وأما الصحابة فكلهم أخذوا عنه، فمن شواهد ذلك أنَّ عمر استعجم عليه شيء وتنازع معه اثنان فکتبا إليه أن يتجشم بالحضور فكتب إليهما: العلم يؤتى ولا يأتي، فقال عمر: هناك شيخ من بني هاشم وإثارة من علم يؤتى إليه ولا يأتي، فصار إليه فوجده متكئاً على مسحاة فسأله عما أراد فأعطاه الجواب فقال عمر: لقد عدل عنك قومك وانك لأحق به، فقال عليه السلام: إنَّ يوم الفصل کان میقاتا(2).
ورجع إليه أيضاً في قضية شرب الخمر لأنَّ القرآن الكريم لم يبين حداً الشارب الخمر فأشكل الأمر على الخليفة عمر فقال الإمام علي عليه السلام: "إنه إذا شرب سكر، فإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فيحد به حد المفترى"(3)
ص: 53
قال أبن شهر آشوب: "وقد ظهر رجوعه إلى علي عليه السلام في ثلاث وعشرين مسألة حتى قال: لولا علي لهلك عمر"(1).
ومن أمثلة ذلك أيضاً رجوع الخليفة عمر بن الخطاب إليه عندما بعث له ملك الروم برسالة يسأله فيها عن تفسير سورة (الحمد)، فكتب الإمام عليه السلام إلى ملك قائلاً: "ورد کتابك وأقرأنيه عمر بن الخطاب، فأما سؤالك عن (اسم الله تعالى) فإنه اسم فيه شفاء من كل داء، وعون على كل دواء، وأما (الرحمن) فهو عون لكل من آمن به، وهو اسم لم يسم به غير الرحمن تبارك وتعالى وأما (الرحيم) فرحم من عصى وتاب وآمن وعمل صالحا وأما قوله: (الحمد لله رب العالمين) فذلك ثناء منا على ربنا تبارك وتعالى بما أنعم علينا وأما قوله: (مالك يوم الدين) فإنه يملك نواصي الحلق يوم القيامة، وكل من كان في الدنيا شاكاً أو جباراً أدخله النار، ولا يمتنع من عذاب الله شاك ولا جبار، وكل من كان في الدنيا طائعاً مديماً محافظاً إياه أدخله الجنة برحمته وأما قوله: (إياك نعبد) فإنا نعبد الله ولا نشرك به شيئا وأما قوله: (وإياك نستعين) فإنا نستعين بالله عز وجل على الشيطان الرجيم لا يضلنا كما أضلكم وأما قوله: (اهدنا الصراط المستقيم) فذلك الطريق الواضح، من عمل في الدنيا عملاً صالحا فإنه يسلك على الصراط إلى الجنة وأما قوله (صراط الذين أنعمت عليهم) فتلك النعمة التي أنعمها الله عز وجل على من كان قبلنا من النبيين والصديقين، فنسأل الله ربنا أن ينعم علينا
ص: 54
كما أنعم عليهم وأما قوله: (غير المغضوب عليهم) فأنت وأمثالك يا عابد الصليب الخبيث ضللتم من بعد عیسی بن مریم (عليه السلام) فنسأل الله ربنا أن لا يضلنا كما ضللتم"(1).
ومن الشواهد الأخرى التي تكشف عن الدور الريادي للإمام علي عليه السلام في مجال تفسير القرآن الكريم قوله: "أكذبت قریش واليهود بالقرآن وقالوا: سحر مبين تقوله فقال الله: «ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ»(2) ذلك الكتاب أي يا محمد هذا الكتاب الذي أنزلنه عليك هو بالحروف المقطعة التي منها: (ألف لام، میم)، وهو بلغتكم وحروف هجائكم فأتوا بمثله إن كنتم صادقين واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم، ثم بين أ م لا يقدرون عليه بقوله: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا»(3)" ثم قال الله: (ألم) هو القرآن الذي افتتح بألم، هو ذلك الكتاب الذي أخبرت موسی فمن بعده من الأنبياء، فأخبروا بني إسرائيل أني سأنزله عليك يا محمد كتاباً عزيزاً «لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ»(4)، (لا ريب فيه) لا شك فيه لظهوره عندهم كما أخبرهم أنبياؤهم أنَّ محمداً ينزل عليه كتاب لا يمحوه الباطل يقرؤه هو وأمتهم على سائر أحوالهم (هدى) بيان من الضلالة
ص: 55
(للمتقين) الذين يتقون الموبقات، ويتقون تسليط السفه على أنفسهم حتى إذا علموا ما يجب عليهم علمه عملوا بما يوجب لهم رضا ربهم"(1).
وهكذا فقد كان عطاء الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام التفسيري عطاء غير محدود كما جاء في هذا البحث للأسباب التي ذُكرت سابقاً المتمثلة بقربه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعرفته بخفايا القرآن الكريم بدءً بأسباب نزوله حتى فم دلالات معانيه، وإذا لا حظنا تفسيره لوجدناه قد امتاز بالوضوح والإبانة والموسوعية التي تُنبئُ عما ذكره البحث سابقاً.
فقد سأله أبن الكواء وهو على المنبر: "ما الذاريات ذروا؟ فقال: الرياح، فقال: وما الحاملات وقرأ؟ قال: السحاب، قال: وما الجاريات یسراً؟ قال: الفلك، قال: فما المقسمات أمراً؟ قال الملائكة.(2)
وجهلوا تفسير قوله تعالى: (إنَّ أول بيت وضع للناس) فقال له رجل: هو أول بيت؟ قال: "لا قد كان قبله بيوت ولكنه أول بيت وضع للناس مباركا فيه الهدى والرحمة والبركة وأول من بناه إبراهيم ثم بناء قوم من العرب من (جرهم) ثم هدم فبنته قريش(3).
الأمر الذي افتقر إليه الجلة من الصحابة فقد كانت الرواية عنهم في التفسير نزرة جداً(4).
ص: 56
قال جلال الدين السيوطي: "أما الخلفاء فأكثر من روي عنه منهم علي بن أبي طالب عليه السلام والرواية عن الثلاثة نزرة جداً ..."(1)، بل أنَّ الرواية عن أبي بكر تكاد تكون معدومة أو أنَّها لا تتعدى عدد أصابع اليد.
وعلل السيوطي قلة الرواية في التفسير عن الخلفاء بقوله: "وكأنَّ السبب في ذلك تقدم وفاتهم كما أنَّ ذلك هو ذات السبب في قلة الرواية عن أبي بكر، ولا أحفظ عن أبي بكر، في التفسير إلا آثاراً قليلة جداً لا تكاد تتجاوز العشرة(2).
والحقيقة أنَّ هذا السبب لم يكن سبباً مقنعا كما علل السيوطي ذلك بتقدم وفاتهم، وإنَّما السبب يعود إلى أنَّ فهم الصحابة للقرآن الكريم كان فهماً إجمالياً، ولم يكن فهمة تفصيلياً؛ إمّا لعدم اطلاعهم على مدلول الكلمة القرآنية المفردة من ناحية لغوية، أو لعدم وجود استعداد فکري يتيح لهم فهم المدلول الكامل، أو لفصل الجملة أو المقطع القرآني عن الملابسات والأمور التي يجب أن يقرن المقطع بما لدى فهمه.
قال الدكتور محمد حسين الذهبي: "ولو أنَّنا رجعنا إلى عهد الصحابة لوجدنا أنَّهم لم يكونوا في درجة واحدة بالنسبة لفهم معاني القرآن الكريم بل تتفاوت مراتبهم وأشكل على بعضهم ما ظهر لبعض آخر منهم، وهذا يرجع إلى تفاوهم في القوة العقلية وتفاقم في معرفة ما أحاط بالقرآن الكريم من ظروف وملابسات"(3).
ص: 57
وخلاصة ما تقدم ذكره يتبين لنا أنَّ الإمام علي عليه السلام كان مرجعاً فكرياً استدار حوله السائلون بوصفه النواة التي انطلقت منها مدرسة أهل البيت عليهم السلام فلا بدَّ أن يكون الرائد الأول بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان التفسير.
وليس هناك من شك في أنَّه عليه السلام وظف هذه الجهود في مجال خدمة القرآن الكريم والعقيدة الإسلامية، مما أسهم مساهمة فاعلة في حفظ الشريعة من الزيغ والانحراف.
يُعدُّ البعد المعرفي من أهم الأبعاد والسمات التي يجب توفرها في المفسر التؤهله لتحمل أمانة الكشف عن الحقيقة وتجليتها لمن يجهلها من البشر ويعبر عنها بآداب العالم أو سمت العلماء.
وتتمثل في جملة العلوم المساعدة والضرورية للكشف عن المراد الإلهي، والتي بدونها تذهب الجهود هدراً من دون جدوى، لأنها لم تُتهيأ لها الأسباب الكفيلة الموصلة إلى الكشف عن الحقيقة التي نطمح إلى تجليتها وبيانها.
واصطلح العلماء على تسمية هذا البعد المعرفي بشروط العالم، وقد وضعوا أيدينا على جملة آداب وشروط ينبغي توافرها في المفسر حتى يوفر لنفسه الأسباب الموصلة إلى حقائق القرآن الكريم ومن جملة هذه الشروط:
ص: 58
من فوائد هذا العلم معرفة الحكمة الباعثة على التشريع، وتخصيص الأحكام، فهو سبب قوي في فهم معاني القرآن الكريم(1).
إذ إنَّ (العبرة بعوم اللفظ لا بخصوص السبب)، فالحكم لم يكن حكراً على السبب الذي نزل به، أو الحادثة التي اقتضت نزوله، وإنما هو حكم عام ينطبق على كل ما من شأنه أن يطبق عليه.
لذا فقد بدأ الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بوضع الضمانات اللازمة لوقاية الأحكام المستنبطة من القرآن الكريم، وصيانتها من التحريف، فقد سبق غيره في الإحساس بضرورة اتخاذ هذه الضمانات، لذا فقد أصَّل عليه السلام لهذا العلم بقوله: "ثم أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأُ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقده، وبحراً لا يدرك قدره..."(2)، فقد استعرضت هذه الخطبة أموراً ذات شأن كبير، قال عنها السيد الخوئي: "استعرضت هذه الخطبة كثير من الأمور المهمة التي يجب الوقوف عليها، والتدبر في معانيها، فقوله: (لا يخبو توقده) يريد بقوله هذا وبكثير من جمل هذه الخطبة أن القرآن لا تنتهي معانيه، وأنه غض جديد إلى يوم القيامة فقد تنزل الآية في مورد أو في شخص أو في قوم، ولكنها لا تختص بذلك المورد أو ذلك الشخص أو أولئك القوم، فهي عامة المعني"(3).
ص: 59
وقد أكدَّ الإمام الباقر عليه السلام هذه القاعدة بقوله: "لو أنَّ الآية إذا أُنزلت في قوم ثم مات أولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء ولكن القرآن يجري أوله على آخره ما دامت السموات والأرض ولكل قوم آية يتلونها هم منها من خير أو شر"(1).
وهكذا فإنَّ للقرآن الكريم اتساعاً من حيث انطباقه على كل ما من شانه أن يَقبل الانطباق وأن كان خارجاً عن مورد نزول آياته.
وستأتي الأبحاث القادمة على بعض الشواهد التفسيرية الواردة عن الإمام علي عليه السلام على وفق هذه القاعدة (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب).
يعد علم الناسخ والمنسوخ من العلوم الخادمة للتفسير الذي هو أشرف العلوم وأجلها.
ومن الجدير بالذكر أنَّ هذه العلوم كانت تُؤخذ وتروی عادة بالتلقين والمشافهة، حتى مضت سنون على وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتوسعت الفتوحات الإسلامية، وبدرت بوادر تدعو إلى الخوف على علوم القرآن، والشعور بعدم كفاية التلقي عن طريق التلقين والمشافهة، نظراً إلى
ص: 60
بعد العهد بالنبي نسبياً واختلاط العرب بشعوب أخرى، لها لغاتها وطريقتها في التكلم والتفكير، لذا بدأ الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بوضع الضمانات اللازمة لوقاية القرآن الكريم وصيانته من التحريف، فقد سبق غيره في الإحساس بضرورة اتخاذ هذه الضمانات، فكان عليه السلام أول من أَسَّس لعلوم القرآن الكريم، فقد أملي ستينَ نوعاً من أنواع علوم القرآن، وذكر لكل نوع مثالاً يخصه، وذلك في كتاب يروى عنه وهو الأصل لكل من كتب في أنواع علوم القرآن الكريم(1).
ومن تلك العلوم علم الناسخ والمنسوخ الذي لاقى نصيباً وافراً من الدراسة والتدوين عند القدماء، فقد أفرد لهذا العلم من مؤلفات عديدة، وقد أحصيت أسماء المؤلفين في هذا الباب فبلغت العشرات(2).
وهو من العلوم التي تسهم مساهمة فاعلة في بيان النص القرآني ومعرفة الأحكام، فلا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله تعالى، إلا بعد أن يعرف منه الناسخ والمنسوخ وأنَّ كل من يتكلم في شيء من علم هذا الكتاب العزيز ولم يعلم الناسخ والمنسوخ كان ناقصاً.(3)
ص: 61
ومما يؤيد ذلك ما روي عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام من أنه دخل الكوفة فرأى عبد الرحمن بن دأب صاحب أبي موسى الأشعري وقد تحلق عليه الناس يسألونه وهو يخلط النهي بالأمر والإباحة بالحظر، فقال له عليه السلام: "أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال لا، فقال هلكت وأهلكت، قال أبو من أنت؟ قال أبو يحيى، قال أنت أبو أعرفوني وأخذ أُذنه ففتلها ثم قال: لا تقضي في مسجدنا بعد"(1).
فقد حذر الإمام علي عليه السلام من التصدي لتفسير القرآن الكريم من دون الإحاطة التامة بعلوم القرآن التي تجلت أهميتها لأهل بيته عليهم السلام فقد أكد أهمية هذا العلم وغيره من علوم القرآن الإمام الصادق عليه السلام فيما روي عنه أنه قال: "... وذلك أنَّهم ضربوا بعض القرآن ببعض، واحتجوا بالمنسوخ وهم يظنون أنَّه الناسخ، واحتجوا بالمتشابه وهم يرون أنَّه المحكم، واحتجوا بالخاص وهم يقدرون أنَّه العام، واحتجوا بأول الآية وتركوا السبب في تأويلها، ولم ينظروا إلى ما يفتح الكلام وإلى ما يختمه، ولم يعرفوا موارده ومصادره إذ لم يأخذوه عن أهله فضّلوا وأضّلوا، واعلموا رحمكم الله أنَّه من لم يعرف من كتاب الله عز وجل الناسخ من المنسوخ، والخاص من العام، والمحكم من المتشابه، والرخص من العزائم، والمكي والمدني، وأسباب التنزيل، والمبهم من القرآن في ألفاظه المنقطعة والمؤلفة، وما
ص: 62
فيه من علم القضاء والقدر، والتقديم والتأخير، والمبين والعميق، والظاهر والباطن .... فليس بعالم بالقرآن ولا هو من أهله، ومن ما ادعي معرفة هذه الأقسام مدع بغير دليل فهو كاذب مرتاب مفتر على الله الكذب ورسوله ومأواه جهنم وبئس المصير"(1).
فقد أوضح الإمام الصادق بعد جده علي عليه السلام مكانة هذا العلوم من بين بقية العلوم الأخرى لتعلقها بكتاب الله العزيز وحاجة العلماء إليه في تفسيره والوقوف على أحكامه.
ومن الأمثلة على ذلك في تراث الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أنه سُئل يوماً عن قوله تعالى: «...اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ...»(2) قال: والله ما عمل هذا غير أهل بیت رسول الله نحن ذكرنا الله فلا ننساه ونحن شكرناه فلا نكفره ونحن أطعناه فلا نعصيه فلما أنزلت هذه الآية قالت الصحابة لا نطيق ذلك فأنزل الله «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ...»(3)، فتناهى إلى أذهان بعض الصحابة أنها نسخت بهذه الآية فقال أبن عباس وهو يروي عن الإمام علي عليه السلام أنها لم تنسخ، ولكن حق تقاته أي أن يجاهدوا في الله حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومت لائم، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأمهاتهم(4).
ص: 63
وغير ذلك من الأمثلة التي تكشف عن دراية شاملة من لدن الإمام عليه السلام بناسخ القرآن ومنسوخه وما يترتب عليه من أحكام.
تجلى اهتمام الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بعلوم القرآن الكريم منذ بدايات نزوله، فقد رصد موضوعاته وكان له باع في الحديث عنها وقد عضد حديثه بتطبيقات قرآنية.
فمثلاً في قضية المحكم والمتشابه كان يرى عليه السلام أنَّ المحكم الذي لم ينسخه شيء في القرآن الكريم فهو قول الله عز وجل «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا...»(1).
وانما هلك الناس في المتشابه لأنهم لم يقفوا على معناه ولم يعرفوا حقيقته فوضعوا له تأويلاً من عند أنفسهم بآرائهم واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء ونبذوا قول رسول صلی الله عليه وآله وسلم وراء ظهورهم... وأما المتشابه من القرآن فهو الذي انحرف منه، متفق اللفظ مختلف المعنى، مثل قوله عز وجل: «...يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ...»(2).
فنسب الضلالة إلى نفسه في هذا الموضع، وهذا ضلالهم عن طريق الجنة بفعلهم، ونسبه إلى الكفار في موضع آخر ونسبه إلى الأصنام في آية أخرى(3).
ص: 64
أخرى(1).
الجدد وهكذا فقد كان میدان تطبيقه الآيات المتشابه إذ إنه كان يوفر حصانة لسائليه خشية التشكيك بكتاب الله تعالى لأنَّه قد ذم في كتابه العزيز متبعي المتشابه بقوله: «...فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ...»(2) ووصفهم بالزيغ وابتغاء الفتنة.
ومن أمثلة ذلك في تراث الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام جوابه لشخصٍ اشتبهت عليه بعض آیات القرآن الكريم، فكان شاكاً بكتاب الله تعالى ومعتقداً أنه يكذب بعضه بعضاً، فقد روي أنَّ رجلاً أتی أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين إني قد شككت في كتاب الله المنزل، قال له عليه السلام: ثكلتك أمك وكيف شككت في كتاب الله المنزل؟ قال: لأني وجدت الكتاب يكذب بعضه بعضًا فكيف لا أشك فيه؟ فقال علي بن أبي طالب عليه السلام: إن كتاب الله ليصدق بعضه بعضاً ولا يكذب بعضه بعضاً، ولكنك لم ترزق عقلاً تنتفع به، فهات ما شككت فيه من كتاب الله عز وجل، قال له الرجل: إني وجدت الله يقول: «فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ»(3) وقال أيضا: «...نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ...»(4) وقال: «وَمَا
ص: 65
كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا»(1) فمرة يخبر أنه ينسى، ومرة يخبر أنه لا ينسى، فأني ذلك يا أمير المؤمنين قال: هات ما شككت فيه أيضاً، قال: وأجد الله يقول:
«يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا»(2) وقال: «...ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ...»(3) وقال:
«إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ»(4) وقال: «قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ»(5) وقال: «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(6).
فمرة يخبر أنهم يتكلمون ومرة يخبر أنهم لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً، ومرة يخبر أن الخلق لا ينطقون ويقول عن مقالتهم «...قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ»(7)، ومرة يخبر أنهم يختصمون، فأني ذلك یا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع، وقد هلكت إن لم ترحمني وتشرح لي صدري فيما عسى أن يجري ذلك على يديك، فإن كان الرب تبارك وتعالی حقاً والكتاب حقاً والرسل حقا فقد هلكت وخسرت، وإن تكن الرسل
ص: 66
باطلاً فما علي بأس وقد نجوت.
فقال علي عليه السلام: قدوس ربنا قدوس تبارك وتعالى علواً كبيراً، نشهد أنه هو الدائم الذي لا يزول، ولا نشك فيه، وليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأن الكتاب حق والرسل حق، وأن الثواب والعقاب حق، فإن رزقت زيادة إيمان أو حرمته فإن ذلك بيد الله، إن شاء رزقك وإن شاء حرمك ذلك، ولكن سأعلمك ما شككت فيه، ولا قوة إلا بالله، فإن أراد الله بك خيراً أعلمك بعلمه وثبتك، وإن يكن شراً ضللت وهلكت، أما قوله: {نسوا الله فنسيهم} إنما يعني نسوا الله في دار الدنيا، لم يعلموا بطاعته فنسيهم في الآخرة أي لم يجعل لهم في ثوابه شيئاً فصاروا منسسيين من الخير وكذلك تفسير قوله عز وجل: {فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا} يعني بالنسيان أنه لم يثبهم كما يثيب أولياءه الذين كانوا في دار الدنيا مطيعين ذاکرین حين آمنوا به وبرسله وخافوه بالغيب، وأما قوله: {وما كان ربك نسياً} فإن ربنا تبارك وتعالی علوا كبيراً ليس بالذي ينسى ولا يغفل بل هو الحفيظ العليم، وقد يقول العرب في باب النسيان: قد نسينا فلان فلا يذكرنا أي أنه لا يأمر لنا بخير ولا يذكرنا به، فهل فهمت ما ذكر الله عز وجل، قال: نعم، فرجت عني فرج الله عنك وحللت عني عقدة فعظم الله أجرك.
قال عليه السلام : وأما قوله: {يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً} وقوله: {والله ربنا ما كنا مشركين} وقوله: {يوم القيمة يكفر بعضكم ببعض ويلعن
ص: 67
بعضكم بعضاً} وقوله: {إن ذلك لحق تخاصم أهل النار} وقوله: {لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد} وقوله: {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون} فإن ذلك في مواطن غير واحد من مواطن ذلك اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة، يجمع الله عز وجل الخلائق يومئذ في مواطن يتفرقون، ويكلم بعضهم بعضا ويستغفر بعضهم لبعض أولئك الذين كان منهم الطاعة في دار الدنيا للرؤساء والأتباع ويلعن أهل المعاصي الذين بدت منهم البغضاء وتعاونوا على الظلم والعدوان في دار الدنيا، المستكبرين والمستضعفين يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضاً والكفر في هذه الآية البراءة، يقول: يبرأ بعضهم من بعض، ونظيرها في سورة إبراهيم قول الشيطان: «إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ»(1) وقول إبراهيم خليل الرحمن: «...كَفَرْنَا بِكُمْ...»(2) يعني تبرأنا منكم.
ثم يجتمعون في موطن آخر يبكون فيه فلو أن تلك الأصوات بدت لأهل الدنيا لأذهلت جميع الخلق عن معائشهم، ولتصدعت قلوبهم إلا ما شاء الله، فلا يزالون يبكون الدم، ثم يجتمعون في موطن آخر فیستنطقون فيه فيقولون: {والله ربنا ما كنا مشركين} فيختم الله تبارك وتعالى على أفواههم ويستنطق الأيدي والأرجل والجلود فتشهد بكل معصية كانت منهم، ثم يرفع عن ألسنتهم الختم فيقولون لجلودهم: «وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا
ص: 68
أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»(1) ثم يجتمعون في موطن آخر فيستنطقون فيفر بعضهم من بعض، فذلك قوله عز وجل: «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ»(2).
يعدُّ المجمل والمبين من العلوم التي تسهم في عملية فهم النص القرآني، إذ إنَّ له أثراً بالغاً في فهم مقاصد القرآن الكريم، ولا سيما ما يتعلق منها بالجانب العبادي، إذ إن معظم العبادات جاءت مجملة في القرآن الكريم.
لذا عدَّ هذا العلم من السمات التي يجب توفرها في المفسر، كي يتمكن من ولوج التفسير، التي أصَّلَ لها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام فقد كان الرائد الأول في هذا العلم، إذ ورد عنه في نهج البلاغة قوله: "كتاب ربکم فيكم مبينا حلاله وحرامه وفرائضه وفضائله وناسخه ومنسوخه، ورخصه وعزائمه، وخاصه وعامه، وعبره وأمثاله، ومرسله ومحدوده، ومحكمه ومتشابكه مفسراً مجمله ومبيناً غوامضه(3).
وكان میدان تطبيقه الآيات المجملة، فمن أمثلة ذلك على سبيل المثال لا الحصر، فقد وردت الفتنة في القرآن الكريم مجملة في قوله تعالى: «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ»(4)
ص: 69
وقد ورد تفصيلها في قول الإمام علي عليه السلام : "الفتن ثلاث؛ حب النساء وهو سيف الشيطان، وشرب الخمر وهو فخ الشيطان وحب الدينار والدرهم وهو سهم الشيطان، فمن أحب النساء لم ينتفع بعيشه، ومن أحب الأشربة حرمت عليه الجنة، ومن أحب الدينار والدرهم فهو عبد الدنيا"(1).
فنرى أن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قد فصل ما ورد من إجمال في هذه الآية الكريمة، انطلاقاً من معرفته التامة بهذه العلوم التي تعد الأساس في عملية تفسير القرآن الكريم.
تعدُّ القراءات القرآنية من المسائل التي حظيت باهتمام المسلمين منذ نهضتهم الأولى على يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته الكرام إلى يومنا هذا وقد تتطوع لهذا العلم عدد كبيرٌ من علماء الإسلام لتعلقه بكتاب الله تعالى، فقد أنزله الله تعالی مُصرَّفًا على أوسع اللغات تيسيرًا للأمةِ ورفعاً للحرج عنها وما ذاك إلا دلیلٌ من دلائلِ إعجازه وبديع نظمه، إذا إنَّه جمع لغات العرب، فضلاً عن بعض الأحرف والكلمات الغريبة التي ترجع في أصلها إلى لغات مختلفة، كاللغة الفارسية والسريانية، والهندية، والحبشية، والنبطية والتي يبلغ تعدادها أكثر من مائة لفظة، علماً أنَّ أول من
ص: 70
صنف في هذا العلم هو أبان بن تغلب(1).
ولمَّا كان للقراءات القرآنية أثرٌ بالغٌ في استنباط المعاني القرآنية والأحكام الشرعية إذ تُعدُّ من جملة الخصال والمزايا التي ينبغي أن يتحلى بها المفسر ليكون قادراً على ولوج التفسير، فقد عدها بعضٌ من أول المزايا التي يجب توافرها في المفسر، اذ إنَّها ذات أهمية جليلة في أستنباط بعض الأحكام الشرعية من القرآن الكريم، ولاسيما عند من يرى حجيتها، كما أستدلوا على حرمة وطئ الحائض بعد نقائها من الحيض وقبل أن تغتسل بقراءة الكوفيين غير حفص، قوله تعالى «...وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ...»(2) بالتشديد(3).
لذا فقد جاء دور النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغها للصحابة، بما يتعلق به من حركة الفم، واللسان، والشفتين عند النطق بالحرف، إذ تلقّی الصحابة تلك الآيات من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، تلقيًاً مباشرًا عن طريق المشافهة(4).
ولعلَّ من أنصع الأدلة التيٌ تبيِّن كيف كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلقى القرآن الكريم، ويتلقی قراءته من جبريل عليه السلام قوله تعالى: «لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ
ص: 71
قُرْآنَهُ»(1)، فالآية تُؤكدُ أمر تكفل الله تعالی تعلیم النبي صلى الله عليه وآله وسلم قراءة القرآن وحفظه، فقد روي أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا لُقِّن الوحي نازع جبرائيل القراءةَ خوف النسيان، ومعنى لا تحرك به لسانك ما دام جبرائيل يقرأ، إنَّ علينا جمعه في صدرك وإتيان قراءته(2).
ويرى السيد الطباطبائي انَّ معاجلة النبي جبرائیل علیه السلام في القراءة هي لعلمه بالقرآن الكريم مسبقاً، فأمره الله تعالى أن ينصت حتى يقضى إليه وحيه(3).
ومن المقطوع به أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يُقرئ صحابته القرآن الكريم كما تلقَّاه من جبرائیل علیه السلام من دون زيادةٍ أو نقصانٍ أو تغييرٍ، إذ ليس له أن يتقول على الله سبحانه بحرف واحد، قال تعالى: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ»(4).
فما كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن يُقرئ أصحابه القرآن الكريم كما أُنزل، ويصحح لهم أخطاءهم إذا قرأوا بخلاف قراءته، فعن الأعمش عن أبي بكر بن أبي عياش في خبر طويل: "أنَّه قرأ رجلان ثلاثين آية من الأحقاف فاختلفا في قراءتهما فقال ابن مسعود: هذا خلاف ما أقرؤه فذهبت بهما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فغضب وعلي عنده فقال
ص: 72
علي: "رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمركم أن تقرأوا كما عُلِّمتم"(1).
الأمر الذي يكشف أنَّ الإمام علي عليه السلام كان أول المتلقين للقراءة القرآنية الصحيحة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ بحكم ملازمته له وقربه منه، وأخذه المباشر عنه كما بين البحث ذلك، إذ أنَّه كان يقول: "وليست منه آية إلاّ وقد أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"(2).
ومما يدلنا على إحاطة الإمام التامة بقراءة القرآن الكريم، أنَّه كان يصحح للصحابة أخطاءهم في القراءة، والتي تؤدي بدورها إلى فهم خاطئ للنصوص الكتاب العزيز.
من ذلك ما روي: "أنَّ زيداً لما قرأ (التابوه) قال علي عليه السلام: أُكتبه (التابوت) فكتبه كذلك(3).
لأنَّ القراءة الخاطئة تعطي نتائج مغلوطة، لذا كان الإمام علي عليه السلام حريصاً كل الحرص على أن تكون القراءة القرآنية صحيحة لتعطي نتائج صحيحة.
وليس معنى هذا أنَّ الإمام عليه السلام هو من وضع علم القراءات القرآنية، لكن ما أراد البحث إثباته أنّهَ هو الأصل في القراءة الصحيحة للقرآن
ص: 73
الكريم بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فقد قال ابن مسعود: "ما رأيت أحداً أقرأ من علي بن أبي طالب عليه السلام للقرآن، وهذا كاشف عن علاقة الإمام علي عليه السلام بالقرآن الكريم، فعند الاختلاف بقراءة معينة كان يُرجع إليه فيها لتكون الحجة فيها أبلغ.
ومن أمثلة ذلك ما نقله النحاس إذ قال: "قرأ أبن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك أبو العالية (كِتاباً)، وروي عن ابن عباس ولم تجدوا (كُتّاباً) قال أبو جعفر وهذه القراءة شاذة والعامة على خلافها وقلَّ ما يخرج شيء عن قراءة العامة إلا كان فيه مطعنٌ نسق الكلام يدل على كاتب قال تعالی قبل هذا «...وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ...»(1) وكتاب يقضي جماعة... هذه قراءة علي صلوات الله عليه وأهل الكوفة وأهل المدينة"(2).
وبهذا يتبين أنه كان المرجع لعموم المسلمين عند الاختلاف في قراءة القرآن الكريم، فالقراء السبعة إلى قراءته يرجعون، فحمزة والكسائي يعولان على قراءته عليه السلام ويرجعان إليه ويوافقان أبن مسعود فيما يجري مجرى الأعراب(3).
وأما نافع وأبن كثير وأبو عمرو فمعظم قراءتهم ترجع إلى ابن عباس وابن عباس قرأ على أُبي بن كعب وعلي عليه السلام والذي قرأه هؤلاء
ص: 74
القرّاء يخالف قراءة أُبي فهو إذن مأخوذ عن علي عليه السلام(1).
وأما عاصم فقرأ على أبي عبد الرحمن السلمي وقال أبو عبد الرحمن: "قرأت القرآن كله على علي بن أبي طالب عليه السلام فقالوا أفصح القراءات قراءة عاصم لأنَّه أتي بالأصل وذلك أنَّه يظهر ما أدغمه غيره ويحقق من الهمز ما ليَّنه غيره ويفتح من ألألفات ما أماله غيره"(2).
إذن تحصَّل من خلال ما تقدم أنَّ الإمام علي عليه السلام هو الرائد الأول في هذا الميدان والجميع قد رجع، حتى أولئك الذين اشترطوا في أصل القراءة الصحيحة شروط، أولها: موافقة العربية ولو بوجهٍ، وثانيها: موافقة خط أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً، وثالثها: صحة السند(3)، فهي بالنهاية تعود اليه، فمن حيث موافقة العربية، فعلي أول من نبَّه إلى هذا العلم، ومن حيث موافقتها لأحد المصاحف العثمانية، فأنَّ أول مصحف جمع في الإسلام هو مصحف علي عليه السلام كما تشير الروايات(4).
وأما من حيث صحة السند فقد تناول البحث مجموعة الروايات التي تؤكد أنَّ أصل القراءة الصحيحة يعود للإمام علي عليه السلام.
ص: 75
تشاغبت الآراء حول جمع القرآن الكريم، فمنهم من قال إنَّ أول من جمع القرآن في مصحف مرتب الآيات هو الخليفة أبو بكر سنة إثني عشر للهجرة بعد موقعة اليمامة(1).
ومنهم من يرى أنَّه جمع في عهد الخليفة عثمان بن عفان بعد أن أمر زید بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوا الصحف بالمصاحف(2).
وآخر يقول إنه جمع في زمن عمر بن الخطاب، إذ إنه سأل عن آية من كتاب الله فقيل كانت مع فلان فقتل يوم اليمامة فقال أنا لله، وأمر بالقرآن فجمع فكان أول من جمعه في المصحف(3).
إلا أن عقيدة أتباع آل البيت عليهم السلام أن أول من أمر بجمع القرآن وقام بتنظيم آیاته وأثبتها في مواضعها المرادة لله عز وجل هو الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، فهو الذي بدرايته وحفظه أتم السور ورتبها، وأشرف عليها، فإن مثل هكذا أمر يحتاج إلى تسديد مباشر من الوحي.
إذ لا يعقل أن يتركها هكذا يتخبط بها أهل الأهواء فيصبح القرآن الكريم دُولة لأمزجتهم وميداناً لآرائهم، أو يضيع بموت حفظته، وهو كتابُ
ص: 76
آخر الرسالات وانقطاع وحي السماء.
لذا فكل ما روي بشأن جمع القرآن الكريم لا يمكن التعويل عليه؛ لأنه مشوب بالتناقض والتعارض، لذا فقد وقف السيد الخوئي في تفسيره "البيان" على هذه الروايات وأظهر تناقضها وتعارضها، وأبطل حجيتها(1).
إذ قال :"أن إسناد جمع القرآن إلى الخلفاء أمرٌ موهوم، مخالف للكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل".(2)
فهي معارضة للكتاب لأن كثيراً من آيات الكتاب الكريمة دالة على أن سور القرآن كانت متميزة في الخارج بعضها عن بعض، وان السور کانت منتشرة بين الناس، حتى المشركين وأهل الكتاب، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد تحدى الكفار والمشركين على الإتيان بمثل القرآن، وبعشر سور مثله مفتريات، وبسورة من مثله، ومعنى هذا أن سور القرآن الكريم كانت في متناول أيديهم.
ومخالفةٌ للسنة، فقد أُطلق لفظ الكتاب في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي"(3) وفي هذا دلالة على أنه كان مكتوباً مجموعاً؛ لأنَّه لا يصح إطلاق الكتاب عليه وهو في الصدور، بل ولا على ما كتب في اللخاف، والعسب، والأكتاف، إلا على
ص: 77
نحو المجاز والعناية، والمجاز لا يحمل اللفظ عليه من غير قرينة. ومخالفة الحكم العقل، فإن عظمة القرآن في نفسه، واهتمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحفظه وقراءته، واهتمام المسلمين بما يهتم به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما يستوجبه ذلك من الثواب، كل ذلك ينافي جمع القرآن على النحو المذكور، "أنَّ العقل يحكم بأنَّه إذا كان القرآن الكريم متفرقاً متشتتاً منتشراً عند الناس وتصدى لجمعه غير المعصوم يمتنع عادةً أن يكون جمعه کاملاً موافقاً للواقع"(1).
ومخالفة لما أجمع عليه المسلمون قاطبة من أن القرآن لا طريق لإثباته إلا التواتر، وروايات الجمع تقول: إن إثبات آيات القرآن حين الجمع كان منحصراً بشهادة شاهدين، أو بشهادة رجل واحد إذا كانت تعدل شهادتين.(2)
فالحق إذن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما كان ينتهي من تلقي الوحي إلا ويأمر الكتبة ليدونوا ما سيمليه عليهم، فكلما نزل قرآن من السماء أمر به صلى الله عليه وآله وسلم فدون، حتى أن بعضهم كان يفتخر جمعه في مصحفه بإملاء من رسول صلی الله عليه وآله وسلم لذا كان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يفتخر إذ قال: "إنَّ كل آية أنزلها الله جل وعلا على محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندي بإملاء رسول الله وخط يدي"(3).
ص: 78
وأكد هذا الأمر الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال جابر بن عبد الله: "سمعت أبا جعفر يقول: ما ادعى أحد من الناس أنَّه جمع القرآن كله كما أُنزل إلا كَذِبَ، وما جمعه كما نزَّله الله تعالى إلا علي بن أبي طالب والأئمة من بعده"(1).
فبين الإمام عليه السلام بجلاء إنَّ القرآن الكريم لا يمكن أن يُجمع إلا على يد معصوم، فهو دون سواه من توافرت لديه الإحاطة الشاملة بالكتاب العزيز، وهذا ما بيَّنته الأبحاث السابقة، إذ عُدَّ هذا الأمر من خصائص المعصوم عليه السلام، فقد سُمِعَ الإمام الصادق يقول: "إنَّ من علم ما أُوتينا تفسير القرآن وأحكامه وعلم تغيِّر الزمان وحدثانه..."(2).
ومما لاشك فيه أنَّ دراية الإمام المعصوم بحدثان الزمان، وقراءته للغيب من وراء حجب، تجعله أشدَّ الناس حرصاً على حفظ القرآن الكريم وجمعه، خصوصاً وقد بدأت الإرهاصات الأولى للفرقة بين المسلمين تطفو على السطح.
وجاء في احتجاج الإمام علي عليه السلام على جماعة من المهاجرين والأنصار: "أيها الناس إنَّي لم أزل منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مشغولاً بغسله، ثم بالقرآن حتى جمعتُهُ كلَه في هذا الثوب، فلم ينزل الله على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم آية من القرآن إلا وقد
ص: 79
جمعتها وليست منه آية إلا وقد أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلمني تأويلها"(1).
فأول من جمع قرآناً بعد وفاة رسول صلی الله عليه وآله وسلم هو الإمام علي عليه السلام، ففي الفهرست لابن النديم، أنَّ علياً عليه السلام حين رأي من الناس عند وفاة النبي طيرةً أقسم أنَّه لا يضع عن ظهره رداءه حتى يجمع القرآن، فجلس في بيته ثلاثة أيام، حتى جمع القرآن وهو أول مصحف جمع فيه القرآن من قبله(2).
وفي الطبقات الكبرى: "أن عليا أبطأ عن بيعة أبي بكر فَلَقِيَهُ أبو بكر فقال أَكَرِهتَ إمارتي فقال لا ولكنني آليت بيمين أن لا أرتدي بردائي إلا إلى الصلاة حتى أجمع القرآن قال فزعموا أنه كتبه على تنزيله فلو أصيب ذلك الكتاب كان فيه علم قال بن عون فسألت عكرمة عن ذلك الكتاب فلم يعرفه"(3).
ص: 80
المبحث الأول: ضوابط فهم النص القرآني في نهج البلاغة.
المبحث الثاني: الشواهد التفسيرية في نهج البلاغة.
ص: 81
ص: 82
إنَّ نهج البلاغة مصدرٌ تراثي كبير أنتجه الإمام علي عليه السلام وقد تميز بالإبداع، لذا فقد أثرى الفكر الإسلامي والإنساني بكل مجالات الحياة، ولاسيما الأدبية والتفسيرية بشيء لا يمكن تجاهله؛ لأنَّ الإمام علياً عليه السلام كان يستمد معانيه من القرآن الكريم ويتمثلها ليكون نتاجه ذلك التمثل، وأي نتاج يأخذ من القرآن الكريم معانيه أرقى وأسمى من ذلك، لهذا كانت معاني نهج البلاغة ثمرة من ثمرات فهم الإمام علي عليه السلام التام للنص القرآني على وفق الخصوصيات التي أشار إليها البحث سابقاً.
فتواصل الباحثون مع تلك المعاني بشتى أنواع التلقي لتصبح محطةَ حجةٍ تسندُ آراءهم وهنا كان التاصيل، لأنّ المفسر في بعض المعارف لا ينفد إلى حلة تفسيرية حتى يأخذ من أقواله عليه السلام ما يعضد ويقوي ويرشح حجته، وهذا عين التأصيل؛ لأنَّ كلام الإمام عليه السلام اصبح بمثابة ضوء ينير الدرب للسالكين، فكلما وقع الحافر على الحافر أي المعنى الذي توصل إليه المفسر مع المعنى الذي أراده الإمام عليه السلام فإنّ ذلك يشكل قوة الرأي المفسر.
ص: 83
ولم يأتي الأخير ليأخذ نص الإمام عليه السلام كيفما شاء، وإنما يكون الاختيار على وفق ضوابط فهم النص القرآني مثلما أراد لها الإمام علي عليه السلام فتكون لدى الباحث مرجعية وضوابط مستمدة من هج البلاغة.
ولما كان النهج متنوع المشارب الفكرية والثقافية فإنَّ أفكار المفسرين قد تتنوع هي الأخرى على وفق اعتمادهم عليه بوصفه مصدراً ممولاً لثقافتهم الخاصة، ولا غرو في ذلك فهو يمثل جزء مهماً من تراث الإمام أمير المؤمنين التفسيري.
لذا جاء هذا الفصل معنياً بايضاح ضوابط فهم النص القرآني على وفق ما جاء في هج البلاغة، فضلاً عن ذكر بعض الأمثلة التفسيرية التي تؤكد ما يراد تطبيقه في هذا الفصل.
ص: 84
إنَّ أوامر القرآن الكريم تتوالى على أسماع المسلمين تأمرهم بالتدبر والتفكر والنظر والاعتبار وتتواتر على أذهانهم تدعوهم للنظر في مضامين القرآن الكريم وارتفاق خيره والانتفاع بتوجيهه وإرشاده حتى يصل المسلمون إلى فهم سليم للقرآن الكريم وإدراك عاقل لمراد الله تعالى كل بحسب سعة فهمه وتوفر أدواته، إذ ليس للقران بعدٌ واحد، نعم له بعدٌ عام میسر للجميع ينير الطريق ويهدي البشرية إلى سواء السبيل، وله أيضاً أبعاد أُخرى للعلماء والمتفکرین، لأُولئك الطامحين إلى مزيد من الارتواء، وهؤلاء يجدون في القرآن الكريم ما يروي ظمأهم إلى الحقيقة، ويعرفون من بحره قَدرَ آنيتهم، وتتسع الآنية باتساع دائرة السعي والجهد والإخلاص وإتباع أسلم القواعد والأُسس المنهجية في فهم النص القرآني(1).
ص: 85
ومما لا شك فيه أنَّ كل العلوم المتصلة بالقرآن الكريم تُعدُّ معرفتها قواعد مهمة يبتني عليها فهم النص القرآني، التي إن أدركها المفسر ووضعها في حسبانه وذهنه قصر علیه مسافات طويلة في الفهم والإدراك(1)، وهو ما بينته المباحث السابقة، والذي عُدَّ من خصوصيات الإمام علي عليه السلام في فهم القرآن الكريم.
وهكذا فقد شكلت هذه العلوم مرتكزاً أساساً من مرتكزات فهم الإسلام، وركناً عظيماً من أركان الاهتداء إلى صحيح الأحكام، وباباً واسعاً من أبواب الفهم الصحيح للقرآن الكريم وطريقاً من طرق التوصل إلى إدراك معانيه عبر وسيلة آمنة وضابطة أساسية من الضوابط التي إن أخذ بها المفسر والباحث والقارئ نجا من الزيغ والسقوط في فهم غير صحيح أو رأي غير عاقل(2).
فضلاً عن ذلك عملية فهم النص القرآني المستندة على ضوابط استقاها باعتماده على استنطاق نصوص نهج البلاغة وصولاً إلى عملية الفهم.
وقد رصد البحث ضوابط فهم النص القرآني عند المفسر من خلال اعتماد نصوص نهج البلاغة فوجدها تتفاوت فيما بينها من حيث الحضور في تفاسير بعضهم.
وربما كان التدرج المنهجي في هذا المبحث لتسلسل تلك الضوابط معتمداً على هذه السمة التي وردت سلفاً.
ص: 86
نزل القرآن الكريم بلسان العرب وعالج قضاياهم وعبَّر بلغتهم عن مراده على عهد الله تعالى في إنزال الكتب وإرسال الرسل «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»(1).
ولما كان العرب قوماً فصحاء فقد أدركوا دلالات القرآن الكريم، وفقهوا معانيها بحسب ما أراده الله تعالى لهم حينما نزل القرآن الكريم، فقد كان لسانه «...بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ»(2)
لذا حاول جمع من أعلام المفسرين أن ينهجوا منهج استنطاق القرآن الكريم، أي أنَّهم اعتمدوا تفسير القرآن بالقرآن؛ وذلك لما ورد عن النبي وأهل بيته عليهم السلام من أنَّ القرآن يفسر بعضه بعضاً وينطق بعضه ببعض، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ القرآن ليصدق بعضه بعضاً فلا تكذبوا بعضه ببعض"(3).
و المعنى ذاته ورد في خطبة الزهراء عليها السلام الكبرى قالت: "كتاب الله الناطق، والقرآن الصادق، والنور الساطع، والضياء اللامع، بينة بصائره،
ص: 87
منکشفة سرائره، متجلية ظواهره، مغتبطة به أشياعه، قائد إلى الرضوان إتباعه، مؤد إلى النجاة أسماعه، به تُنال حجج الله المنورة، وعزائمه المفسرة، ومحارمه المحذرة، وبياناته الحالية، وبراهينه الكافية، وفضائله المندوبة، ورخصة الموهوبة، وشرائعه المكتوبة"(1).
وقال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "وَ کِتَابُ اَللَّهِ بَیْنَ أَظْهُرِکُمْ نَاطِقٌ لاَ یَعْیَا لِسَانُهُ وَ بَیْتٌ لاَ تُهْدَمُ أَرْکَانُهُ وَ عِزٌّ لاَ یُهْزَمُ أَعْوَانُهُ... كتاب الله تبصرون به، وتنطقون به، وتسمعون به، وينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض ولا يختلف في الله ولا يخالف بصاحبه عن الله"(2).
ولهذا تعد عملية استنطاق القرآن الكريم من أبرز معالم نظرية أهل البيت عليه السلام في فهم القرآن الكريم فهاً دقيقاً وتفصيلياً.
قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "إنَّ الله تعالى بعث رسولاً هادياً بكتاب ناطق وأمرٍ قائم لا يهلك عنه إلا هالك وإنَّ المبتدعات المتشابهات هن المهلكات إلا ما حفظ الله منها"(3).
وتجدر الإشارة إلى أنَّ عملية استنطاق القرآن الكريم لا تتأتّى لكل أحد إلا لأهل البيت عليه السلام؛ إذ إنّ في القرآن الكريم من الأسرار ما لا يدركها إلا المعصوم والندرة من أصحابه.
ص: 88
قال عليه السلام: "ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق ولكن أُخبركم عنه ألا إنَّ فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ودواء دائكم ونظم ما بینکم(1)" أي أنَّه لا ينطق مع كل أحد، إلاّ مع أهل البيت عليهم السلام ومن سار على هديهم واتبع منهجهم في إدراك مضامين القرآن الكريم.
فمن أمثلة هذه القاعدة في تراث أهل البيت عليهم السلام ما أُثر عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام في تفسير قوله تعالى: «صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ...»(2) "أي قولوا: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق الدينك وطاعتك.
وهم الذين قال الله عز وجل: «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا»(3).
وحكي هذا بعينه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: ثم قال: ليس هؤلاء المنعم عليهم بالمال وصحة البدن وإن كان كل هذا نعمة من الله ظاهرة، ألا ترون أن هؤلاء قد يكونون كفاراً أو فساقاً فما ندبتم إلى أن تدعوا بأن ترشدوا إلى صراطهم، وإنما أمرتم بالدعاء بأن ترشدوا إلى صراط الذين أنعم عليهم بالإيمان بالله وتصديق رسوله وبالولاية لمحمد وآله الطاهرين، وأصحابه الخيرين المنتجبين، وبالتقية الحسنة التي يسلم بها من شر
ص: 89
عباد الله، ومن الزيادة في آثام أعداء الله وكفرهم، بأن تداريهم ولا تعزيهم بأذاك وأذى المؤمنين، وبالمعرفة بحقوق الإخوان من المؤمنين"(1).
نخلص من خلال ما تقدم إلى أنَّ الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أَسَّسَ لمنهج تفسير القرآن بالقرآن من خلال تأمل النص القرآني والتدبر فيه، وعدم إسقاط الأفكار المسبقة عليه، وذلك لمعرفة أسراره وتثوير مضامینه، فهو متجدد وينطق بعضه ببعض، ويدل على معانيه، فالكل يأخذ منه ولا ينقص منه شيء، ففيه علم الأولين والآخرين وفيه تبيان لكل شيء.
وكان لهذه القاعدة التي أَسَّس لها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة كبير الأثر في "تفسير الميزان" للسيد الطباطبائي إذ إنَّه بنا منهجه عليها، واستدل صراحة على صحة منهجه بما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام في هج البلاغة بقوله: "وقال علي عليه السلام يصف القرآن على ما في النهج ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض "الخطبة"، هذا هو الطريق المستقيم والصراط السوي الذي سلكه معلمو القرآن وهداته صلوات الله عليهم"(2).
ص: 90
ومن خلال طريقة استدلال السيد الطباطبائي على صحة منهجه يتبين لنا حجم التأثر بكتاب نهج البلاغة ليس في التفسير فحسب وإنما في المنهج أيضاً.
فقد أفاد السيد العلامة هذا المنهج ليس في الميزان فقط، بل في نتاجاته القرآنية كلها، كما هو الحال في (مقالات تأسيسية في الفكر الإسلامي)"(1).
لعل هذا الموضوع بالذات يحوي مجموعة من أُسس فهم القرآن الكريم وضوابطه، فهذا المفهوم تندرج تحته جملة من المصادیق، فالتكلم في القرآن بالرأي، والقول في القرآن بغير علم، وضرب القرآن بعضه ببعض، كل ذلك يحوم حول معنى واحد وهو الاستمداد في تفسير القرآن بغير الأصول المعتمدة(2).
المقصود به هو تفسير القرآن الكريم بالاستقلال والإنفراد والاختصاص، أي أن يستقل المفسر في تفسير القرآن الكريم بما عنده من الأسباب، ويعدُّ هذا التفسير من أخطر أنواع التفسير بدلالة جملة من الأحاديث الواردة عن النبي وأهل بيته عليهم السلام، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "من فسر القرآن
ص: 91
برأيه فقد افترى على الله الكذب"(1)، وكذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار(2).
ومنها قول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: "إِنّما بِدءُ وقوع الفتن أهواءٌ تُتَّبع وأحكام تُبتَدع يُخالف فيها كتاب الله"(3).
ومن تلك الروايات التي حذرت من مغبة الوقوع في ورطة التفسير بالرأي قول الإمام الصادق عليه السلام: "من فسر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر وإن أخطأَ خرَّ أبعدَ من السماء"(4).
وعليه فأنَّ التفسير بالرأي "لا يخلو عن القول بغير علم كما يشير الحديث النبوي الشريف، الأمر الذي يؤدي إلى وقوع الآية في غير موقعها ووضع الكلمة في غير موضعها، ويؤدي كذلك إلى تأويل بعض القرآن أو أكثر آیاته بصرفها عن ظاهرها"(5).
وبالتالي يجنح بصاحبه الى فسادٍ فکري تنسحب آثاره على الأمة الإسلامية فيحدث شرخاً في النسيج الاجتماعي والثقافي مسببا أمراضاً فكرية طالما عانت منها الأمة الإسلامية.
وإذا علمنا أنَّ الله سبحانه وتعالى قد أمر بالتدبر والتفكر والإمعان في نصوص القرآن الكريم فإنَّ هذا الأمر يختلف عن مسألة التفسير بالرأي غير المنضبطة.
ص: 92
إنَّ هذا الأمر من الأمور الخطيرة التي جنح إليها بعض من الناس بسبب دوافع عقائدية نأت بهم عن مهمتهم الجليلة في تفسير القرآن الكريم تفسيراً صادقاً مستنداً إلى أُسس علمية رصينة.
ولهذا "يُعدُّ ضرب القرآن بعضه ببعض مقابلاً لتصديق بعض القرآن ببعض، ويعني الخلط بين الآيات من حيث مقامات معانيها، والإخلال بترتیب مقاصدها كأخذ المحكم متشابهاً، والمتشابه محكماً ونحو ذلك"(1).
وقد وردت في هذا الجانب روايات أكدت ما ذهب إليه هذا المعنى؛ لأنه يؤدي إلى الهلاك والضلال، فضلاً عن تكذيب القرآن الكريم.
فقد سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوماً يتدارون في القرآن الكريم، فقال: "إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضاً، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه"(2).
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض الإ كفر"(3).
ص: 93
وعليه فإنَّ التعامل مع تفسير القرآن الكريم بآخر يجب أن يكون مبنياً على أسس علمية منبثقة من دراية تامة، فضلاً عن الخوف والخشية من الله سبحانه وتعالى، لأنَّ التكلم بالقرآن بالرأي والقول في القرآن بغير علم، وضرب القرآن بعضه ببعض، مرجعها إلى معنى واحد وهو "الاستمداد في تفسير القرآن بغيره"(1).
انطلاقاً من هذا فقد وضع الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أَساساً لكيفية التعامل والتعاطي مع تفسير القرآن الكريم بقوله في نهج البلاغة: "أم أنزل الله سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه، أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى، أم أنزل الله ديناً تاماً فقصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن تبليغة وأدائه والله سبحانه يقول: «....مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ...»(2).
وقال تعالى: «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا»(3)، وأنَّ القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه ولا تكشف الظلمات إلاّ به"(4).
كما أنَّ النهي عن التفسير بالرأي يُستكشَف من كتاب بعثه إلى معاوية جاء فيه: "... فعدوت على طلب الدنيا بتأويل القرآن، فطلبتني بما لم تجن
ص: 94
يداي ولا لساني، وعصبته أنت وأهل الشام بي وألَّب عالمكم جاهلكم، وقائمكم قاعدكم فاتق الله في نفسك(1)".
فمؤثرات الدنيا وشوائب العاطفة تجعل المفسر يقول بالرأي كما بين الإمام عليه السلام ذلك إذ ليس بمقدور الإنسان أن يتحرر وينعتق من قيود الذات، لذا تعد هذه الكلمات قواعد مهمة يمكن الأخذ بها في فهم القرآن الكريم.
فقد أفاد السيد الطباطبائي من هذه القواعد بقوله: "وسنورد ما تيسر لنا مما نقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل بيته في ضمن أبحاث روائية في هذا الكتاب، ولا يعثر المتتبع الباحث فيها على مورد واحد يستعان فيه على تفسير الآية بحجة نظرية عقلية، ولا فرضية علمية"(2).
وهذا يعني الابتعاد عن التفسير بالرأي المنهي عنه من النبي وأهل بيته عليه السلام، فقد شجب السيد العلامة تلك التحميلات والتكلفات التي قد تبدو من بعض المفسرين حينما يحاول أن ينأي بالآية إلى مرادات بعيدة عنها لأجل إيجاد المطابقة مع ما في ذهنه وما يتبناه من أفكار ويعتقده من رؤی تشکل راسباً لديه، بقوله: "وأنت بالتأمل في جميع هذه المسالك المنقولة في التفسير تجد أنَّ الجميع مشتركة في نقص وبئس النقص، وهو تحميل ما أنتجته الأبحاث العلمية أو الفلسفية من خارج على مداليل الآيات، فتبدل به التفسير تطبيقاً وسمي به التطبيق تفسيراً، وصارت بذلك حقائق من القرآن مجازات،
ص: 95
وتنزيل عِدَّة من الآيات تأويلات، ولازم ذلك أن يكون القرآن الذي يُعرِّف نفسه بأنَّه هدى للعالمين ونور مبين وتبيان لكل شيء مهدياً إليه بغيره ومستنيراً بغيره ومُبَيَّنًا بغيره"(1).
كما أفاد السيد السبزواري هذه القاعدة مستدلاً بجملة من الروايات عن النبي وأهل بيته عليهم السلام أبرزها ما ورد في نهج البلاغة وهو قوله عليه السلام: "ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره، فيحكم فيها بخلافه، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم، فيصوّب آراءهم جميعا، وإلههم واحد ونبيّهم واحد، وكتابهم واحد، أفأمرهم الله تعالی بالاختلاف فأطاعوه أم نهاهم عنه فعصوه..."(2).
ثم قال: "وخلاصة ما يستفاد منها على طولها أنَّ فهم القرآن لا بد وأن يكون أوّلاً بإرجاع المتشابه إلى المحكم وإرجاع المحكم إلى السنّة، ثم ترتيب الأثر بما يستفاد من المحكم والاعتراف بالعجز عن الفهم والدرك، وإنَّ التفسير بالرأي والعمل به بدون ذلك يستلزم الاختلال المذموم عقلاً و شرعاً"(3)
وأفاد من هذه القواعد في كيفية ولوج العملية التفسيرية الشيخ مکارم الشيرازي في تفسيره الأمثل إذ قال: "أخطر طريقة في تفسير القرآن هي أن
ص: 96
يأتي المفسّر إلى كتاب الله العزيز معلّماً لا تلميذاً، أي يأتي إليه ليفرض أفكاره على القرآن، وليعرض آراءه وتصوراته المتولّدة من إفرازات البيئة والتخصّص العلمي، والاتّجاه المذهبي الخاص ... ونحن في منهجنا التّفسيري سوف لا ننحو بإذن الله هذا النحو، بل نتّجه بكلّ قلوبنا وأفكارنا نحو القرآن لنتتلمذ عليه لا غير"(1).
ولا يستبعد أن يكون هذا المنحى في تفسير القرآن الكريم بكل هذا التواضع أمامه قد استقاه المفسر من معلمي القرآن وهداته، كما لا يستبعد أن يكون من فيض علوم الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة، فإنَّه أول من أسَّس ونظَّر لقواعد فهم القرآن الكريم بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
اتضح أنَّ الطريق إلى فهم القرآن الكريم غير مسدود وأنَّ البيان الإلهي والذكر الحكيم بنفسه هو الطريق الهادي إلى نفسه، إلاّ أنَّ السؤال الذي يفرض نفسه: هل يمكن ذلك لكل أحد من غير توجيه وهداية من بيانات الرسول وأهل بيته عليهم السلام؟
والجواب على هذا السؤال تكفل به حديث الثقلين وغيره من الأحاديث ليثبت أنَّه لولا هداية هؤلاء للمنهج الذي ينبغي اتخاذه لاستخراج معارف القرآن الكريم لما أمكن ذلك.
ص: 97
فقد جاء قول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام مؤكداً مرجعية أهل البيت عليهم السلام إذ قال: وعندنا أهل البيت أبواب الحُكم وضياءُ الأمر(1).
وقال أيضاً نحن شجرة النبوة، ومحط الرسالة، ومختلف الملائكة، ومعادن العلم، وينابيع الحكم(2).
وكذلك قوله عليه السلام أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا، كذبا وبغيا علينا أن رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم، بنا يستعطى الهدى ويستجلى العمى، إن الأئمة من قریش غرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم(3)
أبانت هذه الأقوال وأكدت أهلية أهل البيت عليهم السلام وأسست المرجعيتهم الفكرية؛ لأنهم سلالة ربيب النبوة الإمام علي عليه السلام إذ إنه ربط أهل بيته عليهم السلام بالعلم فهم مصدره ومأواه، لذا قال: "فالتمسوا ذلك من عند أهله فإنهم عيش العلم وموت الجهل، هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم، وصمتهم عن منطقهم، وظاهرهم عن باطنهم، لا يخالفون الدين ولا يختلفون فيه، فهو بينهم شاهد صادق، وصامت ناطق"(4).
ص: 98
ناطق"(1).
فقد "عقلوا الدین عقل وعاية ورعاية، لا عقل سماع ورواية فإن رواة العلم كثير ورعاته قليل(2)
فكل هذه الأقوال تعني أنهم قد تمسكوا بالقرآن الكريم الذي هو مصدر كل المعارف الإلهية، وتمثلوه حتى صار مظهراً لسلوكهم، فهم حملة القرآن وعيبة علم الرحمن.
فهذه الروايات وغيرها أسَّست لمرجعية أهل البيت عليه السلام في كل میادین المعرفة التي في مقدمتها تفسير القرآن الكريم، والناظر في كتاب نهج البلاغة للإمام علي عليه السلام يمكنه أن يتلمس ذلك، فمن تلك الأُسس ما جاء في وصيته لابن عباس من أن القرآن يحتمل وجوهاً، وأنَّ هناك من القرآن الكريم ما لا يُعلم ولا يُفهم إلا ببيان من أهل البيان وهم المعصومون عليهم السلام، ومن القرآن الكريم ما يُفهم معناه بدون حاجة ذلك، بحسب وصية الإمام عليه السلام الابن عباس إذ إنَّ ظاهر اللفظ واضح المعنى لا ستر فيه(3).
قال عليه السلام لابن عباس عندما بعثه للاحتجاج على الخوارج: "لا تخاصمهم بالقرآن فأنَّ القرآن حمال ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنة فأنَّهم لن يجدوا عنها محيصاً"(4).
ص: 99
ومفاد هذا أنَّ القرآن الكريم منه ما يمكن فهمه بأدوات متاحة، ومنه ما اختص المعصوم ببيانه وآخر ما لا بد من التوقف في تفسيره، وفي ضوء تلك الوصية أفاد ابن عباس أنَّ وجوه التفسير على أربعة أقسام: "تفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تعرفه العرب بكلامها، وتفسير يعلمه العلماء وتفسيرلا يعرفه إلا لله عز وجل، فأما الذي لا يعذر أحداً بجهالته فهو ما يلزم الكافة من الشرائع التي في القرآن الكريم، وجمل دلائل التوحيد، وأما الذي تعرفه العرب بلسانها، فهو حقائق اللغة، وموضوع كلامهم، وأما الذي يعلمه العلماء فهو تأويل المتشابه، وفروع الأحكام، وأما الذي لا يعلمه إلاّ الله، فهو ما يجري مجرى الغيوب، وقيام الساعة"(1).
و قطعاً أنَّ هذا القسم لا يستوي وجهاً للتفسير ما لم يُطلع الله أمناء وحیه عليه بدليل قوله تعالى: «عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا»(2)
وأيضاً بدلالة قول الإمام عليه السلام في تقسيمه لوجوه التفسير: "... وقسما لا يعلمه إلا الله وملائكته والراسخون في العلم وإنما فعل ذلك لئلا يدعی أهل الباطل المستولين على ميراث رسول الله صلى الله عليه وآله من علم الكتاب
ص: 100
ما لم يجعله الله لهم، وليقودهم الاضطرار إلى الايتمام بمن ولي أمرهم"(1).
فجعل الإمام أمير المؤمنين عليه السلام هذا القسم وهو القسم الثالث من تقسيماته لكلام الله جل وعلا من مختصات الله تعالى، ومن مختصات أُمناء وحيه، كي يستوي بذلك وجهاً من وجوه التفسير.
وأما القسم الثالث من تقسيمات أبن عباس فقد قيده الإمام عليه السلام بالعالم الذي صفي ذهنه ولطف حسه، كما في قوله عليه السلام: "وقسماً لا يعرفه إلا من صفا ذهنه ولطف حسه وصح تمييزه من شرح الله صدره للإسلام"(2).
فجعل هذه الأمور كلها مقدمات لأدراك مراد الله تعالى، من قبيل "لا يمسه إلا المطهرون" إذ جعل الله سبحانه وتعالى التطهيرَ مقدمةً للمس.
فليس كل عالم يدرك مضامين القرآن الكريم بمجرد علمه، ما لم يكن مشفوعاً بالعناية واللطف الإلهيين، كي يتمكن العالم من سبر أغوار النص القرآني.
وفي ضوء هذا أفاد السيد الطباطبائي أنَّ: "المتعين في التفسير الاستمداد بالقرآن على فهمه وتفسير الآية بالآية، وذلك بالتدرب بالآثار المنقولة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليه السلام وقيئة ذوق مکتسب
ص: 101
منها ثم الورود والله الهادي"(1).
ولعله أراد بتهيئة الذوق الاستئناس بالضوابط التي وضعوها عبر الرواية الشريفة، لتوضيح معلم التفسير، ويمكن أن يُعدُّ ذلك البداية الأُولى التي يرتكزُ عليها البناء المعرفي الذي يحرص على أن يكون الفكر متعلقاً بكتاب الله تعالى وبيان مقاصده ومراميه؛ لأنَّ القرآن الكريم حمال ذو وجوه وقد تختلط مفاهيم هذه الوجوه على بعض الباحثين، فلا بد إذن من الرجوع لأهل البيت عليه السلام للاستئناس بما ورد عنهم من تفسير للقرآن الكريم، أو تأسيس لقواعد فهمه.
وقال أيضاً: "ثم وضعنا في ذيل البيانات متفرقات من أبحاث روائية نورد ما تيسر لنا إيراده من الروايات المنقولة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين من طرق العامة والخاصة..."(2)
إنَّ التمثل بمعاني القرآن الكريم وترجمتها سلوكاً لهو خير وسيلة إلى الوصول إلى معانيه السامية واتخاذها قاعدة ينطلق منها الإنسان في حياته.
ولا يخفى على أحدٍ أنَّ مصاحبة الإنسان لصنعةٍ ما والعيش معها سوف تولد خبرةً وتماسكاً وتعشقاً من لدن ذلك الإنسان بصنعته، فما بالك بالقرآن الكريم الذي هو الناصح الذي لا يغش كما وصفه الإمام أمير المؤمنين عليه
ص: 102
السلام حين قال: " "اعلموا أنَّ هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش والهادي الذي لا يضل والمحدث الذي لا يكذب وما جالس هذا القرآن أحدٌ إلا قام عنه بزيادة أو نقصان زیادة في هدى ونقصان من عمى واعلموا أنَّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة ولا لأحد قبل القرآن من غنى فاستشفوه من أدوائكم واستعينوا به على لأوائكم فإنَّ فيه شفاً من اكبر الداء وهو الكفر والنفاق والعمى والضلال فاسألوا الله به وتوجهوا إليه بحبه ولا تسألوا به خلقه إنَّه ما توجه العباد إلى الله بمثله واعلموا أنَّه شافع مُشفَّع وقائل مصدق وأنَّه من شفع له القرآن يوم القيامة شُفِّع فيه ومن محل به القرآن يوم القيامة صدق عليه فإنَّه ينادي مناد يوم القيامة ألا إنَّ كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله غير حرثة القرآن فكونوا من حرثته وأتباعه واستدلوه على ربكم واستنصحوه على أنفسكم واهموا عليه آراءكم واستغشوا فيه أهواكم"(1).
فانتظم ذلك الآداب التي لابد أن يتحلى بها المفسر، من آداب موضوعية وآداب نفسية، تتأتّي من خلال التخلق بأخلاق القرآن الكريم والعيش معه في السلوك والعمل، والانسجام مع أهدافه انسجاماً كاملاً.
فإنَّ من أراد أن يصل إلى مضامين القرآن الكريم فعليه أن يتخلق بأخلاقه، وأن يستنصحه، وينسجم مع أهدافه، فإنَّ القرآن الكريم لا يغش من استنصحه، ولا يحيد به الطريق؛ لأنه خير هاد، لذا قال النبي الكرم عن القرآن الكريم: "... من جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه
ص: 103
إلى النار"(1).
وقوله عليه السلام "المحدث الذي لا يكذب" يعني أنَّ أصدق الحديث هو حديث القرآن الكريم، إذ إنَّ من أراد استنطاق نصوصه على وفق ما رسمه هداه ومعلموه عليهم السلام فإنه الماحل المصدق كما قال رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم "فإنه شافع مشفع وماحل مصدق"(2).
وأما قوله عليه السلام "وما جالس هذا القرآن أحدٌ..." فأن هذه العبارة توحي أنَّ من جاء القرآن تلميذاً لا معلماً، مؤمناً لا منافقاً، ثم جالسه ورافقه فما يقوم عنه إلا بزيادة في هدى، وأي هدى أبلغ من الاهتداء إلى مضامين القرآن والوقوف على خبايا أسراره.
فمصاحبة القرآن والانسجام معه فيه دواء من أكبر الداء وهو النفاق والعجب، فينبغي على المفسر أن يتخلق بأخلاق القرآن الكريم، ويتوجه إليه وأن يقبل مشورته من دون مشورة نفسه، وهو قوله عليه السلام: "واستنصحوه على أنفسكم واتهموا عليه آراءكم واستغشوا فيه أهواكم" أي اقبلوا مشورة القرآن دون مشورة أنفسكم.(3)
فلا حرث أفضل من حرثه، لذا فقد حث الإمام أمير المؤمنين عليه السلام على أن نكون من أتباعه ونستدله على ربنا ونستنصحه على أنفسنا.
ص: 104
ولكي يعطي الإمام عليه السلام على ذلك مثالاً قال: "وإنَّ الكتاب لمعي ما فارقته مذ صحبته(1)".
فمعية القرآن الكريم تجعل الإنسان يعيش القرآن الكريم عیشاً عملياً، ليتكيف مع مناخات الوحي، ويقف على خصائص النص الشريف فيعرف حلاله وحرامه وناسخه ومنسوخه....، وهذا لا يحصل إلاّ من خلال مصاحبة القرآن والانسجام مع أهدافه التي في مقدمتها الاهداف التربوية التي تعد باباً من أبواب التفاعل مع هذا الكتاب الكريم الذي لا يفتح کنوزه بحق إلا لمن عاشه وعايشه معايشة فعلية لا معايشة ثقافية ولا فكرية فحسب.
فالمرء لا يستطيع بمجرد فهم ألفاظ القرآن وإدراك معاني جُمَله فقط أن يصل إلى إدراك التفاعل النفسي الذي ينطوي عليه رجال تعايشوا مع القرآن الكريم عندما تعاملوا مع هذا السفر الخاد.
فهناك أشواق وتذوقات وإشراقات وومضات ونفحات وفتوحات لا يتوصل إليها المرء بمعرفة الألفاظ والمعاني بل لابد له من أن يعيش في نور تلك التذوقات والومضات ولن يكون ذلك إلاّ بالإيمان العميق النامي والعمل الصالح والخلق الحسن(2).
وفي هذا الصدد قال الشيخ محمد جواد مغنية: "اكتشفت من تفسيري للقرآن أن معانيه لا يدركها ولن يدركها على حقيقتها إلاّ المؤمن حقاً الذي اختلط الإيمان
ص: 105
بدمه ولحمه.. وانسجم مع أهداف القرآن انسجاماً كاملاً، وهنا يكمن السر في قول الإمام أمير المؤمنين: ذلك القرآن الصامت، وأنا القرآن الناطق"(1).
وعلى وفق هذا فقد ذم عليه السلام أُناساً عاشوا جهالاً وبين أيديهم القرآن الكريم، وهو المنبع الثر لكل المعارف التي تجعل من الإنسان إنساناً فاعلاً في محيطه، والسبب في ذلك أنَّهم لم يعيشوا القرآن الكريم على مستوى السلوك والعمل، إذ إنَّ من لا رفقة له مع الكتاب لا رفقة له مع العلم.
ترتبط الدلالة بالسياق الأسلوبي؛ لأنَّ الدلالة نتاج أساليب القول، وعليه فإنَّ من يتصدى إلى فهم معاني القرآن الكريم لا بد له أن يكون مطلعاً على خصائصه اللغوية والسياقية والفنية التي تتشابك معاً في النص القرآني حتى كان معجزة تحدي الله تعالى كما العرب.
فكما هو معلوم أنَّ القرآن الكريم نزل بلسان العرب وتحدث بحديثهم وعالج قضاياهم وعبَّر بلغتهم قال تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»(2).
وقد تميز القرآن الكريم في خطابه وبيانه وإرشاده وبلاغته بتراکیب معينة وعبارات خاصة تتطلب فهماً واسعاً من المفسر، فقد ورد عن الإمام علي عليه السلام: "وتعلموا القرآن فإنه أحسن الحديث، وتفقهوا فيه فإنه
ص: 106
ربيع القلوب، واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور وأحسنوا تلاوته فإنه أحسن القصص"(1).
وكذلك وصفه للقرآن الكريم: "وكتاب الله بين أظهركم ناطق لا يعي لسانه، وبيت لا قدم أركانه، وعز لاتهزم أعوانه"(2).
إذ يتبين هنا من كلامه عليه السلام "تعلموا القرآن وتفقهوا فيه" و "ناطق لا یعنی لسانه"، أنَّ القرآن الكريم يتميز بأساليب عالية المضامين راقية الأداء، وعليه ينبغي على المفسر أن يكون بمستوى عال من الإحاطة بهذه الأساليب، التي حاول تَتَبعها العلماء قديماً وحديثاً، إذ إنَّ وقوف المفسر على هذه التعبيرات وهذه الخصائص يساعده على فهم دقيق لما يعرض له من آیات بینات.
فقد وقف الطاهر بن عاشور على هذه القاعدة وذكرها في المقدمة العاشرة من مقدماته التي قدم جما لتفسيره فأكَّدها؛ لأنَّها من القواعد المهمة في فهم القرآن الكريم واستيعاب مراده إذ تتبع بنفسه هذا النمط من تعبيرات القرآن الكريم فوجده يمضي على طريقة مفردة فمن هذه التعبيرات على سبيل المثال: أن كلمة (هؤلاء) إذا لم يجئ بعدها عطف بیان تبين المشار إليهم فإنَّها يراد بها (المشركون من أهل مكة) كقوله تعالي: «بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ»(3) وقوله سبحانه: «فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ»(4)، ومن
ص: 107
أساليب القرآن أنَّه إذا حكى المحاورات والمجاوبات حكاها بلفظ (قال)، من دون حرف عطف إلاّ إذا انتقل من محاورة إلى أخرى(1).
وغير ذلك من الخصائص التي حفل بها أسلوب القرآن الكريم وانفراداته التي توقف القارئ والمفسر على خبر عظيم إذ يضع يده على مفاتيح الفهم ووسائل الإدراك.
ومن الأمثلة على ذلك ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: عند تلاوتة «يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ»(2)، "أدحض مسؤل حجة وأقطع مغتر معذرة لقد أبرح جهالة بنفسه يا أيها الإنسان ما جرأ على ذنبك وما غرك بربك وما أنسك بهلكة نفسك أما من دائك لو أم ليس من تومك يقظة أما ترحم من نفسك ما ترحم من غيرك فلربما ترى الضاحي من حر الشمس فتظه(3).
قال ابن أبي الحديد المعتزلي "لقائل أن يقول: لو قال: ما غرك بربك العزيز أو المنتقم أو نحو ذلك لكان أولى للإنسان المعاتب أن يقول: غرني كرمك الذي وصفت به نفسك"(4).
وهذا الانتزاع لا يأتي إلا من خلال معرفة معهود الخطاب القرآني وفهم
ص: 108
دلالاته، التي يجب أن تكون في حساب كل مفسر يروم مقاصد القرآن الكريم وسبر أغواره والكشف عن مداليله.
ولعل هذا ما انماز به "تفسير الميزان" إذ لم يَفُت السيد العلامة بعد أن يبين الغرض الكلي للسورة أو المقطع القرآني أن يبين الأغراض الأُخرى التي لم تقف إلى جانب الغرض الكلي أو الأساسي.
فهو على سبيل المثال لا الحصر نجده عند تفسير سورة (الأحقاف) بعد أن يذكر غرض السورة وهو (إنذار المشركين الرادين للدعوة إلى الإيمان بالله ورسوله والمعاد بما فيه من أليم العذاب المنكرية المعرضين عنه) يبين الأغراض الفرعية في السورة، وهي: أنَّ ثمة أمر غير الإنذار ملحوظ هو: الاحتجاج بأمور عقائدية هامة(1).
وهذا بحد ذاته ناجم عن إحاطة السيد العلامة بأبعاد النص القرآني ومعرفة دلالاته التي تُعدُّ ركيزة مهمة في فهم القرآن الكريم، التي أشار إليها الإمام علي عليه السلام في بعض كلامه في نهج البلاغة.
كان للسنة المطهرة أثر كبير في بيان مغازي القرآن الكريم سواء كان ذلك على مستوى التفسير، أو على مستوى التأسيس والتقعيد لضوابط الفهم الدقيق للقرآن الكريم، لذا فقد وقفت السنة المطهرة إلى جانب القرآن الكريم،
ص: 109
وأسهمت مساهمة فاعلة في بيان الأحكام الشرعية المستنبطة من النصوص القرآنية المتمثلة بآيات الأحكام وغيرها من الآيات.
إلا أنَّ الأخذ بالسنة المطهرة يجب أن يكون وفق ضوابط وأسس؛ لأنَّ سنة المعصوم علیه السلام هي عبارة عن مفاهیم قرآنية تمثلها المعصوم فانعكست في قوله وفعله وتقريره، وعليه فهي تشترك مع القرآن الكريم من حيث النسخ وعدمه، والإجمال والتبيين، والإطلاق والتقييد، والعموم والخصوص.... وما الى ذلك، فلابد إذن من معرفة أحكام النص الروائي الوارد عن المعصوم عليه السلام، ولاسيما إذا كان ذلك النص يحمل تفسيراً لبعض آيات الكتاب العزيز، لذا فقد ورد التأكيد من الإمام أمير المؤمنين عليه السلام على ضرورة الإمعان في النصوص الروائية الواردة عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ولاسيما فيما يتعلق بتفسير كتاب الله العزيز، ويظهر ذلك التأكيد من خلال جوابه عليه السلام لسليم بن قیس الهلالي (ت 85 ه) عندما سأله قال: إني سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذر شيئاً من تفسير القرآن وأحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير ما في أيدي الناس، ثم سمعت منك تصديق ما سمعت منهم، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم أنتم تخالفونهم فيها وتزعمون بأنَّ ذلك كله باطل، أفترى الناس يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متعمدين ويفسرون القرآن بآرائهم قال: فأقبل عليَّ وقال: قد سألت فافهم الجواب: "إنَّ في أيدي الناس حقاً وباطلاً
ص: 110
وصدقاً وكذباً وحفظاً ووهماً وقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عهده حتى قام خطيباً فقال: أيها الناس قد كثرت عليّ الكذابة فمن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار، ثم كُذب عليه من بعده، وإنما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس:
رجل منافق يظهر الإيمان متصنع بالإسلام لا يتأثم ولا يتحرج أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متعمداً....
ورجل سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يحفظه على وجهه ووهم فيه، ولم يتعمد كذباً فهو في يده يقول به ويعمل به ويرويه فيقول: أنا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلو علم المسلمون أنه وهم لم يقبلوه، ولو علم هو أنَّه وهم لرفضه.
ورجل ثالث سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً أمر به ثم نهي عنه وهو لا يعلم أو سمعه ينهى عن شيء ثم أمر به وهو لا يعلم فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ ولو علم انه منسوخ لرفضه ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنَّه منسوخ لرفضوه.
وآخر رابع لم يكذب على الله ولا على رسوله، مبغض للكذب خوفاً من الله، وتعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يسهُ بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به كما سمع لم يزد فيه ولم ينقص منه، وعلم الناسخ من المنسوخ فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ، فإنَّ أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ناسخ ومنسوخ وخاص وعام ومحکم و متشابه، قد
ص: 111
كان يكون من رسول الله الكلام له وجهان، کلام عام وكلام خاص مثل القرآن وقال الله عز وجل في كتابه: «...وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ»(1)، فيشتبه على من لم يعرف ولم يدر ما عني الله به ورسوله، وليس كل أصحاب رسول الله كان يسأله عن الشيء فيفهم وكان منهم من لا يسأله ولا يستفهمه حتى كانوا يحبون أن يجيء الإعرابي والطارئ، فيسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى يسمعوا ويفهموا..."(2).
فمن خلال هذا الجواب يتضح جلياً حرص الإمام عليه السلام الشديد على توخي الدقة في التعامل مع النصوص الروائية الموروثة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، التي تحمل تفسيراً لبعض آیات القرآن الكريم، فهي تمثل واحدة من القواعد التفسيرية التي أصَّل لها الإمام عليه السلام في نهج البلاغة، إذ يمكن الإفادة منها في تفسير القرآن الكريم، ولاسيما التفسير الذي يعتمد الأثر مصدراً ومنهجاً، فلا بد له من معرفة ناسخ الرواية ومنسوخها، وعامها وخاصها، ومجملها ومبينها... وما إلى ذلك من أحكام(3).
وبحسب التتبع لمناهج المفسرين في القرن الخامس عشر الهجري لم يعثر الباحث على أثر لهذه القاعدة في تفاسيرهم سوى بعض النقد الذي وجهه
ص: 112
السيد العلامة الطبطباطبئي لطبقة المفسرين من التابعين من أمثال (مجاهد)، و (قتادة) و (أبن أبي ليلى) و (الشعبي) و (السدي) وغيرهم في القرنين الأولين من الهجرة، إذ قال: "فإنهم لم يزيدوا على طريقة سلفهم من مفسري الصحابة شيئاً غير أنهم زادوا من التفسير بالروايات، وبينها روایات دسها اليهود أو غيرهم، فأوردوها في القصص والمعارف الراجعة إلى الحلقة كابتداء السماوات وتكوين الأرض والبحار وإرم شداد وعثرات الأنبياء وتحريف الكتاب وأشياء أخر من هذا النوع"(1).
منتقداً بذلك عملية أخذ الرواية التي تحمل تفسيراً من دون التأكد من صحة صدورها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو معرفة أحكامها وما يتعلق بها.
وعليه فقد أورد البحث هذه القاعدة في مؤخرة ما أورده من أسس وقواعد تفسيرية أصَّل لها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة، نظراً لعدم اعتمادها بشكل واضح من مفسري القرن الخامس عشر الهجري.
فهذا ما توصل إليه البحث من قواعد التفسير في نهج البلاغة، ولا أدعي أنني أحطت واستخلصت كل ما أَسس له الإمام عليه السلام في غج البلاغة، وذلك لعظمة شخصية الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، التي أنتجت هذا السفر العظيم الذي يجد الباحث نفسه أمام صعوبة كبيرة في استنطاق نصوصه وتحليلها.
ص: 113
بعد أن تم الحديث عن ضوابط فهم النص القرآني في نهج البلاغة، وكيفية إفادة المفسرين منها، يلتفت البحث إلى دراسة بعض الشواهد التفسيرية من تراث الإمام أمير المؤمنين عليه السلام التفسيري الوارد ذكره في كتاب نهج البلاغة بوصفه جزءاً مهما من تراثه المعرفي.
فقد أخذ تفسير القرآن الكريم حيزاً كبيراً من اهتمامات الإمام علي عليه السلام وكان حريصاً على إيصال تلك المضامين السامية إلى المسلمين كافة، فكان يدعو الناس إلى أن تنهل من علمه وأن تستثمر فرصة وجوده بينهم، حتى قال: "سلوني عن كتاب الله عز وجل، فوالله ما نزلت آية منه في ليل أو نهار ولا مسير ولا مقام إلا وقد أقرأنيها رسول (الله صلى الله عليه وآله) وعلمني تأويلها"(1).
ص: 114
فقال ابن الكواء: يا أمير المؤمنين، فما كان ينزل عليه وأنت غائب عنه؟ قال: كان يحفظ على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما كان ينزل عليه من القرآن وأنا عنه غائب حتى أقدم عليه فيقرئنيه، ويقول لي يا علي، أنزل الله علي بعدك كذا وكذا، وتأويله كذا وكذا، فيعلمني تنزيله وتأويله"(1).
وعلى ضوء هذا وغيره من النصوص التي تشير إلى اهتمام الإمام علي عليه السلام بتفسير القرآن الكريم، فضلاً عن ما أَسَّسه من أُسس يمكن الولوج إلى تفسير القرآن الكريم، الأمر الذي دعا البحث إلى أن يتتبع بعض الأمثلة التفسيرية في نهج البلاغة، التي لم تجد لها محلاً مناسباً في الفصل التطبيقي الثالث كي تندرج في سياقه، وحتى لا يبقى هناك شك يحوم حول انحصار أثر نهج البلاغة في المستويات التي سترد في الفصل الثالث.
وقد أثمرت هذه الأمثلة رؤى وضحت من خلالها موضوعات مختلفة، استقى منها بعض مفسري القرن الخامس عشر الهجري مصرحين بنسبتها إلى الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، كما سيرد عرضها.
ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال" "كان في الأرض أمانان من عذاب الله وقد رُفع أحدهما فدونكم الآخر فتمسكوا به، أمّا الأمان الذي رُفع فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمّا الأمان الباقي فالاستغفار.
ص: 115
قال الله تعالى: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ»(1).
وهذا الأمر من موارد الجري والانطباق المنبثق عن قاعدة تفسير القرآن بالقرآن التي أسس لها النبي الأكرم وأهل بيه عليهم السلام لذا قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام "ثم أنزل عليه الكتاب نوراً لا تُطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقده، وبحراً لا يدرك قدره..."(2).
فقد استعرضت هذه الخطبة أموراً ذات شأن كبير، قال عنها السيد الخوئي: "استعرضت هذه الخطبة كثيراً من الأمور المهمة التي يجب الوقوف عليها، والتدبر في معانيها، فقوله: (لا يخبو توقده) يريد بقوله هذا وبكثير من جمل الخطبة أنَّ القرآن لا تنتهي معانيه، وأنَّه غض جديد إلى يوم القيامة، فقد تنزل الآية في مورد أو في شخص أو في قوم ولكنَّها لا تختص بذلك المورد أو ذلك الشخص أو أولئك القوم فهي عامة المعنى"(3).
وقد أكدَّ الإمام الباقر عليه السلام هذه القاعدة بقوله: "لو أنَّ الآية إذا أُنزلت في قوم ثم مات أولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء ولكن القرآن يجري أوله على آخره ما دامت السموات والأرض ولكل قوم آية يتلونها هم منها من خير أو شر"(4).
ص: 116
وأفاد السيد الطباطبائي من هذا المنحى، وإن لم يصرح بذلك، فإنَّ من أبرز سمات "تفسير الميزان" هو تحديد موارد الجري والانطباق، فعندما يتصفح الباحث كتاب "تفسير الميزان" فإنَّه يجد أنَّ مؤلفه كثيراً ما كان يقول: "وهذا من قبيل الجري والانطباق، أو أنَّه من باب "عد المصاديق"، أو أنَّه من باب "التمثيل أو ذكر المصداق الأكمل" وهكذا...، فقد فصل مورد الجري والانطباق عن المدلول المطابقي للنص القرآني(1).
ولعلَّ هذا من موارد التأثر بما ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من التفسير بالجري والانطباق، وإن لم يصرحوا بذلك فالإمام عليه السلام أصَّل لهذه القاعدة وكانت محور هذا المنهج عنده، فنجده يُطبق معنى الآية من القرآن الكريم على ما يقبل أن تنطبق عليه من الموارد وان كان خارجاً عن مورد النزول.
فالجري والانطباق كان معلماً بارزاً من معالم التفسير عند الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، وهذه الأمور تمثل عينات من التأثر في نهج البلاغة، وسيأتي البحث على عينات أُخرى من التفسير.
كما أفاد من ذلك أيضاً الشيخ ناصر مکارم الشيرازي إذ قال: "فأنَّ مفهوم الآية لا يختص بمعاصري النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل هو قانون عام كلي يشمل جميع الناس.
لهذا فقد روي في مصادرنا عن الإمام علي عليه السلام، وفي مصادر
ص: 117
أهل السنة عن تلميذ الإمام عليه السلام أبن عباس، أنَّه قال: كان في الأرض أمانان... وقرأ هذه الآية".(1)
ورد في تفسير قوله تعالى: «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ»(2)، أنها من الآيات التي تطبق على الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشريف) في آخر الزمان، ففي تفسير الأمثل للشيخ ناصر مکارم الشيرازي: أنَّ هذه الآية هي من جملة الآيات التي تبشّر بجلاء بظهور حكومة الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)(3).
وقد استدل على ذلك بما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام بقوله - أي صاحب الأمثل -: "ونقرأ عن أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير هذه الآية أنّها إشارة إلى هذا الظهور العظيم، فقد ورد في نهج البلاغة عن علي (عليه السلام) قوله: (لتعطفن الدنيا علينا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها)(4)، وتلا عقيب ذلك: «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ»"(5).
ص: 118
وفقد فسر عليه السلام الآية المتقدمة في حديث آخر له: بأنها نازلة بأهل البيت عليه السلام قال: "هم آل محمّد (صلى الله عليه وآله) يبعث الله مهدّيهم بعد جهدهم فيعزّهم ويذل عدوّهم"(1)
فقد بيَّن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام مصاديق هذه الآية وهم آل محمد عليهم السلام وأجلى تلك المصادیق هو قائمهم المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف).
و تفسير مثل هذا يجعل المفسر يتوخي الدقة في تحديد المصاديق الخارجية لآيات القرآن الكريم، إذ يمكن القول أنَّ تحديد مصداق الآية أعسر مهام المفسر؛ لأنَّ اختلاف المفسرين إنما كان بسبب تشخيص المصادیق وهذا ما صرح به السيد الطباطبائي في مقدمة تفسيره الميزان، قال: "وكيف كان فهذا الاختلاف لم يولده اختلاف النظر في مفهوم اللفظ المفرد أو الجملة بحسب اللغة والعرف العربي الكلمات أو الآيات، فإنما هو كلام عربي مبين لا يتوقف في فهمه عربي ولا غيره ممن هو عارف باللغة وأساليب الكلام العربي، وليس بين آيات القرآن وهي بضع آلاف آية، آية واحدة ذات إغلاق وتعقيد في مفهومها بحيث يتحير الذهن في فهم معناها، وكيف وهو أفصح الكلام، ومن شرط الفصاحة خلو الكلام عن الإغلاق والتعقيد، حتى أنَّ الآيات المعدودة من متشابه القرآن كالآيات المنسوخة وغيرها، في غاية الوضوح من جهة
ص: 119
المفهوم، وإنّما التشابه في المراد منها وهو ظاهر، وإنما الاختلاف کل الاختلاف في المصداق الذي ينطبق عليه المفاهيم اللفظية من مفردها ومركبها، وفي المدلول التصوري والتصديقي".(1)
لذا يمكن القول إنَّ الصفات أبلغ من الأسماء؛ لأنَّ الصفات هي عبارة عن كلمات تصف شخص، أو شيء معين أو ضمير معين عن طريق الكلمات الوصفية أو النعتية، فهي عبارة عن محددات يتم من خلالها تحديد الموصوف وتشخيص المصاديق أكثر من الأسماء.
لأنَّ الأسم قد يشترك مع اسم آخر فيحصل الإجمال، أما في الأوصاف المختصة فيحصل الانصراف والانطباق على الشخص أو الشيء أو الضمير الجامع لتلك الأوصاف، لاسيما إذا كانت تلك الأوصاف لا تنطبق إلاّ على الشخصيات الاستثنائية، من أمثال أهل بيت الرحمة عليهم السلام.
ومن الأمثلة الأخرى ما روي عنه عليه السلام عند تلاوته: «رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ»(2).
قال: "وإنَّ للذكر لأهلاً أخذوه من الدنيا بدلاً فلم يشغلهم تجارة ولا بيع عنه يقطعون به أيام الحياة، ويهتفون بالزواجر عن محارم الله في أسماع الغافلين، ويأمرون بالقسط ويأتمرون به وينهون عن المنكر وينتهون عنه كأنما قطعوا الدنيا
ص: 120
إلى الآخرة وهم فيها فشاهدوا ما وراء ذلك فكأنما اطلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الإقامة فيه، وحققت القيامة عليهم عذابها فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس ويسمعون ما لا يسمعون(1).
فقد أوضح عليه السلام أن مصادیق هذه الآية هم رجال أذا حضر وقت الصلاة تركوا التجارة وانطلقوا إلى الصلاة وهم أعظم أجرا ممن لم يتجر.، أي لم يتجر واشتغل بذكر الله كما في روايات أخر.(2)
ورد في تفسير قوله تعالى: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ»(3).
إنَّ الدين في الأصل بمعنى الجزاء والثواب، ويطلق على الطاعة والإنقياد للأوامر، والدين في الإصطلاح: مجموعة العقائد والقواعد والآداب التي يستطيع الإنسان بها بلوغ السعادة في الدنيا، وأن يخطو في المسير الصحيح من حيث التربية والأخلاق الفردية والجماعية.
وأما الإسلام: يعني التسليم، وهو هنا التسليم لله تعالى، وعلى ذلك، فإنّ معنى (إنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإسلام): إنّ الدين الحقيقي عند الله هو التسليم لأوامره وللحقيقة.
ص: 121
وفي الواقع لم تكن روح الدين في كلّ الأزمنة سوى الخضوع والتسليم للحقيقة، وإنّما أطلق اسم الإسلام على الدِين الذي جاء به الرسول الأكرم عليه السلام لأنّه أرفع الأديان.(1)
أفاد هذا المعنى الشيخ مکارم الشيرازي في تفسيره للآية أعلاه من بیان الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ووصفه بالمعنى العميق، إذ قال: "وقد أوضح الإمام علي (عليه السلام) هذا المعنى في بيان عميق فقال: «لأنسبنّ الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي: الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل(2).
فالإمام في كلمته هذه يضع للاسم ستّ مراحل، أولاها التسليم أمام الحقيقة، ثمّ يقول إنّ التسليم بغير يقين غير ممكن (إذ أنّ التسليم بغير يقين يعني الإستسلام الأعمى، لا التسليم الواعي) ثمّ يقول إنّ اليقين هو التصديق (أي أنّ العلم وحده لا يكفي، بل لابدّ من الاعتقاد والتصديق القلبيّين) والتصديق هو الإقرار (أي لا يكفي أن يكون الإيمان قلبيّاً فحسب، بل يجب إظهاره بشجاعة وقوّة)، ثمّ يقول إنّ الإقرار هو الأداء (أي أنّ الإقرار لا يكون بمجرّد القول باللسان، بل هو إلتزام بالمسؤولية) وأخيراً يقول إنّ الأداء هو العمل (أي إطاعة أوامر الله وتنفيذ البرامج الإلهية) لأنّ الالتزام وتحمّل المسؤولية لا
ص: 122
يعنيان سوى العمل، أمّا الذين يسخّرون كلّ قواهم وطاقاتهم في عقد الجلسات تلو الجلسات وتقديم الإقتراحات وما إلى ذلك من الأُمور التي لا تتطلّب سوى الكلام فلا هم تحمّلوا إلتزاماً ولا مسؤولية، ولا هم وعوا روح الإسلام حقّاً هذا أجلى تفسير للإسلام من جميع جوانبه"(1).
قوله تعالى: «فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى»(2).
تعددت الآراء حول معنى خيفة موسى، إذ نقل السيد الطباطبائي بعض الآراء فيها.
فقد قيل: إنَّه خاف أن يلتبس الأمر على الناس فلا يميزوا بين آيته وسحرهم للتشابه فيشكوا ولا يؤمنوا ولا يتبعوه ولم يكن يعلم بعد أن عصاه ستلقف ما يأفكون.
وقيل: إنه خاف أن يتفرق الناس بعد رؤية سحرهم ولا يصبروا إلى أن يلقي عصاه فيدعي التساوي ويخيب السعي(3).
ثم قال السيد الطباطبائي: "وكيفما كان يظهر من إيجاسه (عليه السلام) خيفة في نفسه أنهم أظهروا للناس من السحر ما يشابه آیته المعجزة أو يقرب منه وإن كان ما أتوا به سحراً لا حقيقة له وما أتی به آية معجزة ذات حقيقة
ص: 123
وقد استعظم الله سحرهم إذ قال: «...فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ»(1)".
وهكذا فقد تعدد الآراء في معنى الخيفة لإطلاق اللفظ، وبالرجوع إلى كتاب نهج البلاغة نلمح أنَّ الإمام علي عليه السلام قد أوضح معنى الحيفة بقوله: "لم يوجس موسی خيفة على نفسه أشفق من غلبة الجهال ودول الضلال"(2).
فقد بيَّن عليه السلام أنَّ خيفة موسى عليه السلام ليس على أطلاقها، وإنما من غلبة الجهال واستيلائهم على الأمور.
وقد أفاد هذا المعنى السيد العلامة في تفسيره الميزان بقوله: وفي نهج البلاغة: "قال (عليه السلام): لم يوجس موسی خيفة على نفسه بل أشفق من غلبة الجهال ودول الضلال، أقول: معناه ما قدمناه في تفسير الآية"(3).
وقد تقدم الكلام أنَّ المفسر كي يتمكن من ولوج التفسير لابد له من جملة علوم مساعدة منها على سبيل المثال لا الحصر معرفة العام والخاص، والمجمل والمبين... وغيرها مما تقدم الكلام حولها، ومن تلك العلوم معرفة المطلق والمقيد، فالمطلق هو الدال على الماهية بلا قيد، وهو مع المقيد كالعام مع الخاص(4).
لذا فإنَّ المفسر يحتاج إلى معرفة هذا النوع من العلم حتى لا يقع في مزالق التفسير الخاطئ، لأنَّ عدم تقييد بعض النصوص قد يستلزم الإساءة
ص: 124
للذات الإلهية، أو لشخص نبي من الأنبياء أو يؤدي إلى الخطأ في استنباط الأحكام الشرعية ... وما إلى ذلك، فلا بد من صرف الذهن من اللفظ إلى بعض معانيه أو بعض أصنافه حتى يمنع من التمسك بالإطلاق، وهذا ما أوضحه الإمام علي عليه السلام في هذا المثال وغيره من الأمثله.
قوله تعالى: «وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ»(1).
عبَّر القرآن الكريم عن العذاب الذي أنزله فرعون ببني إسرائيل بفعل (يَسُومُونَكُمْ) واستعمال هذا الفعل بصيغة المضارع يشير إلى استمرار العذاب، وإلى أن بني إسرائيل كانوا دوماً تحت التعذيب من قبل الفراعنة.
قال الشيخ مكارم الشيرازي في الأمثل: "من الملفت للنظر أن القرآن يسمّي ذبح الأبناء واستحياء النساء عذاباً، ولو عرفنا أن استحياء النساء يعني استبقاءهنّ، وتركهنّ أحياء، لاتضح لنا أن القرآن يشير إلى أن مثل هذا الاستبقاء المذل هو عذاب أيضاً مثل عذاب القتل"(2).
وقد أستدل الشيخ في الأمثل على هذا المعنى بقول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في نهج البلاغة، إذ قال مستدلاً: "وهذا المعنى يشير إليه
ص: 125
الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) اذ يقول: "اَلْمَوْتُ فِی حَیَاتِکُمْ مَقْهُورِینَ وَ الْحَیاهُ فِی مَوْتِکُمْ قَاهِرِینَ"(1).
فقد عدَّ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام البقاء المذل من مصادیق العذاب، وهذا التوجه من الإمام أمير المؤمنين عليه السلام هو من باب عد المصاديق للآية الكريمة، فقد أومأ عليه السلام إلى ضرورة الالتفات إلى بيان مصاديق الألفاظ العامة، أي المصاديق المنظوية تحت المفهوم الوارد بلفظ العموم، أو بيان مصاديق الألفاظ التي تفيد الإطلاق، أو بيان المصداق الأعلى للآية... وما إلى ذلك بغية الوصول إلى أقرب المعاني للنص القرآني الشريف.
ويعدُ هذا الأمر كما أشار البحث سابقاً من أصعب الأمور التي تواجه المفسرين عند استقراء النصوص القرآنية والوصول إلى مقاصدها، وهذا الأمر يعد من السمات البارزة في تفسير "الميزان للعلامة الطباطبائي" كما بين البحث سابقاً(2).
وقد توافرت أمثلة كثيرة في نهج البلاغة لمسائل مختلفة تصدى لها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، ولكن البحث ملتزم بمنهجية خاصة، ولذلك توقف عند بعضها حرصاً منه على لإثبات مصدرية نهج البلاغة في تفاسير الإمامية في القرن الخامس الهجري، فاكتفي بهذه الأمثلة لتأكيد تلك المصدرية من جهة، ولإثبات أن أثر نهج البلاغة لم ينحصر في المستوى العقائدي، والمستوى التعبدي، والمستوى الأخلاقي، الذي سيرد ذكره في الفصل الثالث من جهة أخرى.
ص: 126
المبحث الأول: أثر نهج البلاغة في المستوى العقائدي.
المبحث الثاني: أثر نهج البلاغة في المستوى التعبدي.
البحث الثالث: أثر نهج البلاغة في المستوى الأخلاقي.
ص: 127
ص: 128
كان لخطب ووصايا ورسائل الإمام أمير المؤمنين عليه السلام تأثيرها الواضح، وحضورها الواسع في منظومة المؤلفات التي جاءت من بعدها، ولم يقتصر تأثيرها على المؤلفات التي عُنيت بالبلاغة وفنونها، وإنما امتد تأثيرها إلى المؤلفات التفسيرية قديماً وحديثاً، وقد بدا هذا التأثير واضحاً عند مفسري الإمامية في القرن الخامس عشر الهجري، سواءً على مستوى أُسس وضوابط التفسير، أم على مستوى التوظيف لخطب ووصایا ورسائل الإمام عليه السلام في الكشف عن مداليل الآيات القرآنية لإثبات صحة رأي المفسر، ولاسيما المفسرون الذين اعتمدوا المنهج الأثري، أو أولئك الذين اعتمدوا منهجاً غير المنهج الأثري إلاّ أنَّ تفاسيرهم ضمت بحوثاً روائيةً عديدة كانت وظيفتها في الأعم الأغلب مؤيدة ومؤكدة لفقرات التفسير، أو لإزالة شبهة معينة، أو بيان حال بعض النصوص.
وكل تلك التفاسير كان لنهج البلاغة فيها أثرٌ ملموس، على أكثر من مستوى مثل "الميزان في تفسير القرآن" للسيد العلامة الطباطبائي، "ومواهب
ص: 129
الرحمن في تفسير القرآن" للسيد السبزواري، "والكاشف" للشيخ محمد جواد مغنية، "والبيان في تفسير القرآن" للسيد الخوئي، "والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل" بإشراف الشيخ مكارم الشيرازي، وغيرها من التفاسير، وسيورد البحث بعض عينات الأثر في هذه النماذج على أكثر من مستوى، مثل المستوى العقائدي، والمستوى التعبدي، والمستوى الأخلاقي، فضلاً عن إيراد بعض الأمثلة التفسيرية الأخرى التي أثمرت قضايا أفاد منها مفسرو الإمامية في القرن الخامس عشر الهجري.
ص: 130
لقد اقتضت حكمة الخالق تعالى أن يرشد الإنسان إلى الجذور والأصول التي يستقي منها معارفه وينهل منها حقائق هذا الوجود ليصل من خلالها إلى المعتقدات الصحيحة السليمة من الشوائب، والبعيدة عن الانحراف، بعد أن منحه الله تعالى الفطرة الصافية مشعلاً يهديه إلى نور العقيدة الإسلامية الحقة، الذي أضاء بسناه ما حوله.
ومتى ما حكّم الإنسان عقله يرى أنّ العقيدة الإسلامية تشكّل نظاماً متكاملاً للحياة البشرية بمختلف أطوارها، ويرسم الطريق لكل جوانبها، وينسجم مع الفطرة الإنسانية التي تضمن تحقق حاجات الفرد الروحية ورغباته المادية بشكل متوازن ودقيق، وبما يضمن كرامته وشخصيته.
وعلى قواعد هذه العقيدة يقوم بناء الشخصية، شخصية الفرد والمجتمع، وتنتظم العلائق والروابط، وتتحدد الحقوق والواجبات، وتتحقق العدالة والمساواة.
ص: 131
لذا نجد أنَّ الجانب الأكبر من خطابات القرآن الكريم قد اختص بتأسيس أصول العقيدة، وإقامة صرح تصور إسلامي متكامل للمنظومة العقائدية التي لا يمكن لأي دين أن يكون بدونها رابطاً بين العابد والمعبود.
والأئمة عليهم السلام بوصفهم عِدل القرآن الكريم والمستنطقين والمؤهلين للكشف عن معانيه ودلالاته، كانوا أولى بتحمل مسؤولية الكشف عن أُسس العقيدة كخطوة أولى تستلزم بعدها البرهنة عليها ليتم تقديمها إلى متلقيها من أهل العقيدة أو إلى مناوئيها.
وبناءً على هذا فقد احتل الجانب العقائدي في كتاب نهج البلاغة مساحة واسعة إذ عُدَّ كتاب نهج البلاغة من الكتب التي حوت من مسائل التوحيد الشيء الكثير، حتى أصبحت تلك المسائل من أساسيات موضوعات نهج البلاغة، الأمر الذي جعل بعض الباحثين يصفها بأنَّها من أعجب بحوث هذا الكتاب إذ إنَّها تقرب من حدود الإعجاز(1).
ولا غرو في ذلك؛ لأن قسماً كبيراً من خطب وأقوال الإمام علي عليه السلام كانت مستمدة من الأصول والكليات الثابتة في القرآن الكريم، مثل التوحيد، وتوحيد الصفات، والعدل، والجبر والتفويض، وغيرها من أصول العقيدة الإسلامية التي احتلَّت حيزاً كبيراً من اهتمامات الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، فمن تلك المسائل:
ص: 132
يعدُّ موضوع التوحيد من المواضيع التي شغلت بال المفسرين منذ مجيء الإسلام وإلى يومنا هذا، وقد وصف القرآن الكريم منكري التوحيد بالكفر، وتكفل بالرد على على النصارى إذ زعموا أنَّ الله تعالى ثالث ثلاثة، بقوله تعالى: «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»(1).
وفي ضوء هذا أخذ أئمة أهل البيت عليهم السلام بيان معنى التوحيد، فقد سئل الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الموضوع عدة مرات فكان يؤكد وحدانية الله تعالى، وله في ذلك رؤية تنبثق من معرفته الصميمية بالرسالة المحمدية، وفهمه لمعنى العبودية، ووحدانية الله.
فقد روي عنه أن إعرابياً قام يوم الجمل فقال: يا أمير المؤمنين أتقول: إنَّ الله واحد... قال: يا إعرابي إنَّ القول في أنَّ الله واحد على أربعة أقسام: فوجهان منها لا يجوزان على الله عز وجل، ووجهان يثبتان فيه، فأمّا اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل: واحد يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز، لأنَّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد أما ترى أنَّه كفر من قال: إنَّه ثالث ثلاثة، وقول القائل: هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا يجوز لأنَّه تشبيه، وجل ربنا وتعالى عن ذلك، وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربنا،
ص: 133
وقول القائل: إنّه عز وجل أَحديُّ المعنى يعني به أنَّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم، كذلك ربنا عز وجل(1).
لقد أثرت هذه الرؤية في الجهد التفسيري لدى العلماء في القرن الخامس عشر الهجري، ومنهم السيد العلامة الطباطبائي، إذ قال في تفسير قوله تعالى: «...وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ...» إلى آخر الآية "ردٌّ منه تعالى لقولهم: «إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ» بأنَّ الله سبحانه لا يقبل بذاته المتعالية الكثرة بوجه من الوجوه فهو تعالى في ذاته واحد، وإذا اتصف بصفاته الكريمة وأسمائه الحسنى لم یزد ذلك على ذاته الواحدة شيئاً، ولا الصفة إذا أضيفت إلى الصفة أورث ذلك كثرة، وتعدداً فهو تعالی أحدي الذات لا ينقسم لا في خارج، ولا في وهم، ولا في عقل... فهو تعالی واحد في ذاته لكن لا بالوحدة العددية التي السائر الأشياء المتكون منها الكثرات، ولا منعوت بكثرة في ذات أو اسم، أو صفة، كيف وهذه الوحدة العددية والكثرة المتألفة منها كلتاهما من آثار صنعه وإيجاده فكيف يتصف بما هو من صنعه"(2).
ثم نرى أنَّ السيد الطباطبائي لم يكتفِ بما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام من دون الرجوع إلى نهج البلاغة لينهل من نبعه المتدفق إذ قال: "وفي النهج: أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له
ص: 134
نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنَّها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنَّه غير الصفة، فمن وصف الله فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثنّاه فقد جزَّأه، ومن جزَّأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حدَّه، ومن حدَّه فقد عدَّه"(1)، فقد وصف كلام الإمام عليه السلام بأنَّه أبدع البيان.(2)
ثم بيّنَ المقصود من كلامه عليه السلام بقوله: "ومحصل الشطر الأول من الكلام أنَّ معرفته تنتهي في استكمالها إلى نفي الصفات عنه، ومحصل الشطر الثاني المتفرع على الشطر الأول أي قوله عليه السلام: فمن وصف الله فقد قرنه... إلخ، أنّ إثبات الصفات يستلزم إثبات الوحدة العددية المتوقفة على التحديد غير الحائز عليه تعالى، وتنتج المقدمتان أنّ كمال معرفته تعالی يستوجب نفي الوحدة العددية منه، وثبات الوحدة بمعنى آخر، وهو مراده عليه السلام من سرد الكلام"(3).
وقال أيضاً: "أما مسألة نفي الصفات عنه فقد بيّنها عليه السلام: "بقوله أول الدين معرفته" لظهور أنَّ من لم يعرف الله سبحانه ولو بوجه لم يَحِل بعد في ساحة الدين"(4).
وهكذا سار السيد الطباطبائي مع كلام الإمام عليه السلام في نهج
ص: 135
البلاغة ليقف عند كل مفردة من مفردات خطابه، حتى أنَّه اقتصر في بحثه الروائي على ما ورد عنه عليه السلام(1).
ومن ثمَّ عطف قائلا: "وهذا الذي فسرنا به هذا العقد من كلامه عليه السلام هو الذي يؤيده أول الخطبة حيث يقول: الذي لا يدركه بُعدُ الهمم، ولا يناله غوص الفطن، الذي ليس لصفته حد محدود، ولا نعت موجود، ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود، على ما يظهر للمتأمل الفطن"(2).
وهناك كلمة للسيد الطباطبائي في حقيقة التوحيد تظهر للقارئ حجم الأثر الذي ترکه نهج البلاغة في هذا التفسير وهي قوله: "ولم نجد ما يكشف عنها غطاءها - أي حقيقة التوحيد - إلا ما ورد في كلام الإمام علي بن أبي طالب عليه أفضل السلام خاصة، فإنَّ كلامه هو الفاتح لبابها، والرافع لسترها وحجابها على أهدى سبيل وأوضح طريق من البرهان، ثم ما وقع في کلام الفلاسفة الإسلاميين بعد الألف الهجري، وقد صرحوا بأنَّهم إنّما أفادوا من كلامه عليه السلام، وهذا هو السر في اقتصارنا في البحث الروائي على نقل نماذج من غرر كلامه عليه السلام، لأنَّ السلوك في هذه المسألة وشرحها من مسلك الاحتجاج البرهاني لا يوجد في كلام غيره عليه السلام"(3).
فنراهُ يعقدُ فصلاً كاملاً يقف به عند كلام الإمام عليه السلام شارحاً له، وآخذاً منه ما يقيمُ صرحاً من التصور عن معنى توحيد الذات
ص: 136
المقدسة، إذ إنَّه لم يجد ما يكشف عن تلك الحقائق غطاءها سوى كلام الإمام علي عليه السلام.
قد ألجأت الفطرة الإنسان أن يسلك إلى الدلالة على الضمير من طريق الصوت المعتمد على مخارج الحروف من الفم، ويجعل الأصوات المؤلفة والمختلطة علامات دالة على المعاني المكنونة في الضمير التي لا طريق إليها إلا من جهة العلائم الاعتبارية الوضعية.
فالإنسان محتاج إلى التكلم من جهة أنَّه لا طريق له إلى التفهيم والتفهم إلا جعل الألفاظ والأصوات المؤتلفة علائم جعلية وأمارات وضعية، ولذلك كانت اللغات في وسعتها دائرة مدار الاحتياجات الموجودة(1).
وليس البحث في مصاف التنظير إلى مسألة أولية كلام الإنسان، وإنما البحث بصدد مسألةٍ أثارت تساؤلات عديدة هي وقوع التكليم منه سبحانه وتعالى لبعض الناس فقوله تعالى: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ...»(2) وكذلك قوله تعالى: «...وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا»(3) يدُّل على وقوع التكليم منه لبعض الأنبياء.
ص: 137
وهذه المسالة أثارت تساؤلات عديدة حول كيفية كلامه سبحانه، وقد کشف الإمام أمير المؤمنين عليه السلام اللثام عن حقيقة هذه المسألة فيما روي عنه في نهج البلاغة قوله: إذ قال: "الذي كلم موسى تكليماً، وأراه من آیات عظيماً، بلا جوارح، ولا أدوات، ولا نطق، ولا لهوات..."(1).
كما أنَّه عليه السلام أوضح هذا المعنى بصورة عامة، وليس فقد فيما يتعلق بكلام الله تعالى لموسى عليه السلام في خطبة إذ قال: "متكلم لا بروية، مريد لا بهمة"(2).
وقد فسر الإمام الرضا عليه السلام مضمون هذا الأمر فيما يرويه عنه صفوان بن يحيى قال: سأل أبو قرة الإمام الرضا عليه السلام فقال: أخبرني جعلت فداك عن كلام الله لموسى فقال: الله أعلم بأي لسان كلمه بالسريانية أم بالعبرانية، فأخذ أبو قرة بلسانه فقال: إنما أسألك عن هذا اللسان فقال أبو الحسن عليه السلام: سبحان الله عما تقول ومعاذ الله أن يشبه خلقه أو يتكلم بمثل ما هم متكلمون ولكنه سبحانه ليس كمثله شيء ولا كمثله قائل فاعل، قال: كيف قال: كلام الخالق لمخلوق لیس ککلام المخلوق، لمخلوق ولا لفظ بشق فم ولسان، ولكن يقول له كن فكان، بمشيئته ما خاطب به موسی من الأمر والنهي من غير ترددّ في نفس الخبر(3).
ص: 138
ولم تغب هذه المسألة الهامة عن مفسري الإمامية في القرن الخامس عشر الهجري، فقد قال السيد الطباطبائي: "فإنَّه تعالى أجلُّ شأناً وأنزه ساحةً أن يتجهز بالتجهيزات الجسمانية، أو يستكمل بالدعاوي الوهمية الاعتبارية وقد قال تعالى: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ»(1)، لكنه سبحانه فيما ذكره من قوله: «وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ»(2)، يثبت لشأنه وفعله المذكور حقيقة التكليم وإن نفي عنه المعنى العادي المعهود بين الناس، فالكلام بحده الاعتباري المعهود مسلوب عن الكلام الإلهي لكنه بخواصه وآثاره ثابت له"(3).
ومن هنا أثبتَ السيد العلامة أن كلامه تعالی - الذي يسميه الكتاب والسنّة كلاما - صفة فعل لا صفة ذات، مستنداً في ذلك على ما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، وفي مقدمتهم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام فيما روي عنه في نهج البلاغة.
وناقش السيد السبزواري هذه المسألة في تفسيره (مواهب الرحمن) ورأى أنَّ: "كل صفة إذا صح الاتصاف بها ونفيها - أي الثبوت والسلب - كانت من صفات الفعل، وكل صفة لا يمكن سلبها عنه عز وجل فهي صفة الذات،
ص: 139
والتكلم مما يمكن سلبه عنه عز وجل، وإثباته له تعالى، فهو من صفات الفعل، قال تعالى: «...وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا»(1)، وقال تعالى: «...وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ...»(2)، فهو كالرزق والهداية وغيرها من صفات الفعل التي يصح الاتصاف بها ونفيها من دون أن يلزم محذور في البين، وفعله حادث، فالتكلم حادث"(3).
وعلى وفق ذلك فإن السيد السبزواري يعقب على قوله تعالى: «...مِنْهُمْ مَنْ کَلَّمَ اللهُ»(4) أنه: "يدل على ثبوت صفة التكليم له مع بعض الأفراد، وقد ورد ما يدل على وقوع التكليم منه عز وجل في موارد أربعة:
أحدها: المقام، والثاني: في قوله تعالى: «...وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا»(5)، والثالث في قوله تعالى: «وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ...»(6)، والرابع في قوله تعالى: «...إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي...»(7)، ولقد حضي موسى عليه السلام بهذه الفضيلة السامية والموهبة العظمى في جميع تلك الموارد"(8).
ص: 140
وقد كان لنهج البلاغة أثر واضح في تحفيز أذهان المفسرين، ومنهم السيد السبزواري في التقاط هذه الشذرات الجميلة، إذ ظهر ذلك جلياً من استدلال المفسر بقول الإمام علي عليه السلام فقد قال في (المواهب): "في نهج البلاغة في خطبة له عليه السلام: "متكلم لا بروية، مريد لا بهمة"(1)، ثم استدل بالخطبة الأخرى إذ قال: وفيه أيضاً في خطبة له عليه السلام: "الذي كلم موسی تکلیماً، وأراه من آیاته عظيماً، بلا جوارح، ولا أدوات، ولا نطق، ولا لهوات..."(2)، فقد أماط اللثام عن هذه المسالة، وعضد رأيه بما ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.(3)
إذن كان لتلك الشذرات الجميلة من كلام الإمام عليه السلام حضور واضح في تفاسير الإمامية، في القرن الخامس عشر الهجري مع تفاوت في عملية التوظيف والاستدلال.
وقف الباحثون عند مسألة رؤية الله تعالى، وهل أنَّ المراد منها الرؤية القلبية، أم الرؤية البصرية، ولا شك أنَّ الله منزه عن ملاحظة العيون، وقد أسهم القرآن الكريم في إثارة هذا المعنى عند المفسرين، إذ قال تعالى: «...قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ
ص: 141
فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ»(1).
فضلاً عن قوله تعالى: «مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى»(2)، فقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة بأنَّه تعالى: "لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان"(3).
وقد أفاد المفسرون من هذه الرؤية للإمام أمير المؤمنين عليه السلام فأودعوا تفاسيرهم تلك الإفادات المستنبطة والمنبثقة من رؤيته عليه السلام فقد قال السيد الطباطبائي: "أنَّه تعالى يُثبت في كلامه قسماً من الرؤية والمشاهدة وراء الرؤية البصرية الحسية، وهي نوع شعور في الإنسان يشعر بالشيء بنفسه من غير استعمال آلة حسية أو فكرية، وإنَّ للإنسان شعوراً بربه غير ما يعتقد بوجوده من طريق الفكر واستخدام الدليل بل يجده وجدانا من غير أن يحجبه عنه حاجب، ولا يجره إلى الغفلة عنه إلا اشتغاله بنفسه وبمعاصيه التي اكتسبها، وهي مع ذلك غفلة عن أمر موجود مشهود، ثم يقول بعد بیان طويل: "هذا ما بيَّنَهُ كلامه سبحانه، ويؤيّدهُ العقل بساطع براهینه، وكذا ما ورد من الأخبار عن أئمة أهل البيت عليهم السلام"(4).
ومن جملة تلك الأخبار التي أسهمت في تحفيز عقل المفسر، قول الإمام
ص: 142
علي عليه السلام في النهج: "لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن تراه القلوب بحقائق الإيمان"(1).
وجلي هذا التأثر برؤية الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إذ لولا بیانات أهل البيت عليهم السلام لم تتضح هذه المعارف الإلهية بهذه الصورة وبهذا الوضوح الذي كان بمثابة مشعل هداية ينير الطريق لسالكي هذه المعارف الإلهية، إذ إنه عليه السلام نفى عن الذات المقدسة ما لا يليق بها وهي الرؤية البصرية، وأثبت ما يتناسب ومقام النبوة وهي الرؤية القلبية، وكانت هذه الفكرة ظاهرة بتأثيرها في آراء المفسرين.
من المؤكد أنَّ الثواب والعقاب لا يتعلقان إلاّ بالفعل الاختياري، فلو أنَّه سبحانه أجبر عباده على الطاعات أو المعاصي لم يكن جزاء المطيع بالجنة، والعاصي بالنار إلا جزافاً في مورد المطيع، وظلماً في مورد العاصي، والجزاف والظلم قبيحان عند العقلاء، ولزم الترجيح من غير مرجح، وهو قبيح عندهم أيضاً، ولا حجة في قبيح، إذ قال عزَّ من قائل: «...لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ»(2)، وقال تعالى: «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ»(3).
ص: 143
وقد وقف المسلمون عند هذه المسألة بالبحث والنقاش، وقد اختلفوا في مسألتي الجبر والتفويض، وجاء المفسرون من أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام ليلاحقوا ما ورد عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في هذه المسألة ليكون ذلك عاملاً موجهاً لآرائهم التفسيرية، فقد ورد عن الإمام علي عليه السلام أنَّ رجلاً سأله أثناء مسيره إلى صفين، قال:
"يا أمير المؤمنين خبِّرنا عن مسيرنا هذا أبقضاء من الله وقدر، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: "أجل یا شیخ فو الله ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلا بقضاء من الله وقدر.
فقال الشيخ: عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين فقال: مهلاً يا شیخ ظننت قضاءً لازماً وقدراً حاتماً ولو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، إنَّ الله سبحانه أمر عباده تخيراً ونهاهم تحذيراً"(1).
وقد جاء أئمة أهل البيت عليهم السلام ليؤكدوا هذه الرؤية عن الإمام علي عليه السلام في القول المشهر "لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين"(2).
وقد أفاد السيد العلامة الطباطبائي من روايات أهل البيت ومن النهج اوعه خاصةً.
ص: 144
فقد قال في معرض كلامه عن قوله تعالى: «يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ»(1): "أنَّ التشريع ليس مبنياً على أساس الإجبار في الأفعال، فالتكاليف مجعولة على وفق مصالح العباد في معاشهم، ومعادهم أولاً، وهي متوجهة إلى العباد من حيث إنَّهم مختارون في الفعل والترك ثانياً، والمكلفون إنما يثابون أو يعاقبون بما كسبت أيديهم من خير أو شر اختیاراً"(2).
مستدلاً بكلام الإمام علي عليه السلام الوارد في نهج البلاغة، بل إنه لم يكتفِ بإيراد النص من نصوص نهج البلاغة وإنما علق عليه بقوله "أقول: قوله: (بقضاء من الله وقدر)، إلى قوله: ( عند الله أحتسب عنائي)، ليعلم أنَّ من أقدم المباحث التي وقعت في الإسلام مورداً للنقض والإبرام، وتشاغبت فيه الأنظار مسألة الكلام، ومسألة القضاء والقدر"(3).
فهو يجعل من كلام الإمام علي عليه السلام مساراً فكرياً يسير به نحو الكشف عن أدق التفاصيل في الآية القرآنية، ليعضد به رأيه التفسيري.
وهكذا فقد أفاد المفسرون من خطب وأقوال ووصايا الإمام علي عليه السلام التي وردت في نهج البلاغة وأصبحت مساراً فكرياً يسير المفسرون بموجبه.
ص: 145
مع تطور الحياة المادية البشرية بدأ الاختلاف يدب بين الناس، وبدأ بعضهم يحاول استغلال بعض، «فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ»(1).
ليعيدوا البشرية المنحرفة إلى طريقها الصحيح، عن طريق العمل على هداية الناس؛ لأنَّ هدي الأنبياء ولاسيما هدي نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد اشتمل على جميع ما يرتبط بالسعادة التي هي غاية سعي الإنسان في حياته مطلقاً، فقد استدل على هذه الحقيقة السيد السبزواري في تفسيره بما ورد في نهج البلاغة من قول الإمام عليه السلام: "اقتدوا بهدي نبيكم فأنَّه أفضل الهدى"(2).
وانطلاقاً من هذه الأهمية احتل موضوع النبوة والأنبياء مساحة كبيرة من كتاب نهج البلاغة، فقد أولاه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام اهتماماً بالغاً، وعنايةً فائقةً، فقد أفرد "لبيب بيضون" في كتابه (تصنیف نهج البلاغة) فصلاً کاملاً اسماه "النبوة الأنبياء" في كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام(3).
ص: 146
ومن أمثلة هذا الموضوع أيضاً ما روي عنه عليه السلام في خطبة له يذكر فيها خلق آدم عليه السلام: إذ قال "وأهبطه إلى دار البلية، وتناسل الذرية، واصطفی سبحانه من ولده أنبياء أخذَ على الوحي ميثاقهم وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم لمّا بدّل أكثر خلقه عهد الله إليهم، فجهلوا حقه، واتخذوا الأنداد معه، واجتالتهم الشياطين عن معرفته، واقتطعتهم عن عبادته، فبعثَ فيهم رَسُلَهُ، وَواترَ إليهم أنبياءه ليستأدوهم میثاق فطرته، ويذكّروهم منسيّ نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ویروهم الآيات المقدّرة"(1)
فقد ذكر السيد السبزواري هذه الخطبة في ذيل قوله تعالى: «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ»(2)، بعد أن تعددت الآراء حول معنى الآية، فقيل أن الناس كانوا امة واحدة على الضلالة، بقرينة" «...فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ...»، لأنَّ إرسال الرسل وإنزال الكتب إنما يكونان لرفع الضلالة.
وقيل أنَّ المراد من الآية المباركة انَّ الناس أمة واحدة من حيث بعض الأمور الاجتماعية الفطرية، فلا غنى لهم عن الاجتماع والتعاون، والاجتماع يؤدي بالطبع إلى الاختلاف والتشجار، فلذلك بعث الله الأنبياء والمرسلين(3).
ص: 147
ثم بعد ذكره لهذه الآراء أفاد السيد (رحمه الله) الحكمة من بعثة الأنبياء من قول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الوارد في نهج البلاغة بقوله - أي صاحب المواهب -: "أقول: إنَّ هذه الخطبة تشتمل على حكمة بعث الأنبياء وإرسال الرسل عليهم السلام وأنّهم يدعون إلى الفطرة الإنسانية، كما أنّ الفطرة تدعو إليهم أيضاً، فهم مع الفطرة متلازمان في الواقع، ولكنّ الفطرة بوجودها الوجداني لا تكفي في نوع الإنسان للداعوية فلا بد من تكميلها بحجة خارجية، وهي الأنبياء والرسل"(1).
ثم إنَّ المفسر وقف على بعض مفردات خطبة الإمام عليه السلام بالشرح والتحليل، الأمر الذي يظهر أهمية تلك الخطبة في بيان المراد من بعثة الأنبياء عليهم السلام.
توصل بعض المفسرين إلى معرفة بعض أحوال الأنبياء من خلال الاعتماد على ما جاء من بيان الإمام علي (عليه السلام) بشأنهم، ففي تفسيره لقوله تعالى: «وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا»(2)، قال السيد الطباطبائي: "الرس البئر التي لم تطو ذكروا أنَّهم كانوا قوماً بعد ثمود نازلين على بئر أرسل الله إليهم رسولاً فكذبوا به فأهلكهم الله، وقيل هو اسم هر كانوا
ص: 148
على شاطئه وفي روايات الشيعة ما يؤيد ذلك"(1).
من تلك الروايات ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام حديث طويل يذكر فيه قصة أصحاب الرس، ملخصه أنَّهم كانوا قوماً يعبدون شجرة صنوبرة على شفير عين وكانت لهم اثنتا عشرة قرية معمورة على شاطئ نهر يقال له الرس وقد غرسوا في كل قرية منها من طلع تلك الصنوبرة حبة، أجروا عليها نهراً من العين التي عند الصنوبرة، وحرّموا شرب مائها على أنفسهم وأنعامهم وقد جعلوا في كل شهر من السنة يوماً في كل قرية عيداً يخرجون فيه إلى الصنوبرة التي خارج القرية يقربون إليها القرابين ويذبحون الذبائح ولما طال منهم الكفر بالله وعبادة الشجرة بعث الله إليهم رسولاً من بني إسرائيل فدعاهم إلى عبادة الله وترك الشرك فلم يؤمنوا فدعا على الشجرة فيبست فلما رأوا ذلك ساءهم فاجتمعت آراؤهم على قتله فحفروا بئراً عميقاً وألقوه فيها وشدوا رأسها فلم يزالوا عليها يسمعون أنينه حتى مات فأتبعهم الله بعذاب شديد أهلكهم عن آخرهم(2).
هذا ما نقله بعض مفسري الإمامية في تفسير هذه الآية، ومن بينهم السيد الطباطبائي معضداً ما قاله بما ورد في فج البلاغة، من قوله عليه السلام: "أين أصحاب مدائن الرس الذين قتلوا النبيين وأطفئوا سنن
ص: 149
المرسلين وأحيوا سنن الجبارين"(1).
وأفاد صاحب تفسير الأمثل من خطبة الإمام عليه السلام أنَّهم كان لهم أكثر من نبي لأنَّ عبارة "قتلوا النبيين" تشعر بذلك، قال: "ومن عبارة نهج البلاغة يستفاد أنَّه كان لهم أكثر من نبيّ واحد فقط، لأنّه عليه السلام يقول: "أين أصحاب مدائن الرس الذين قتلوا النبيّين، وأطفئوا سنن المرسلين، وأحيوا سنن الجبارين"(2) - الخطبة -.
وفي تفسير قوله تعالى: «فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ»(3)، قال السيد الطباطبائي: "نسبة العقر إلى الجمع ولم يعقرها إلا واحد منهم لرضاهم بفعله، وفي هج البلاغة، (أيها الناس إنما يجمع الناس الرضا والسخط وإنما عقر ناقة ثمود رجلٌ واحدٌ فعمهم الله بالعذاب لما عموه بالرضا فقال سبحانه: «فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ»"(4).
وكما نرى فقد أفاد المفسر هذا القيد من كلام الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة، إذ لا يخفى على كل من انعم النظر اتکاء المفسر على نص النهج آخذاً منه ما يقوي حجته في تفسير الآية.
ص: 150
كثيرةٌ هي الآيات التي تحدثت عن المبدأ والمعاد، إذ لفتت (سورة الفاتحة) الأنظار إلى هذا الأصل الهام من أصول الإِسلام، وهو قوله تعالى: «مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ»(1)، وبذلك يكتمل محور المبدأ والمعاد، الذي يعتبر أساس کل إصلاح أخلاقي واجتماعي في وجود الإنسان(2).
وهذا الموضوع تناوله القرآن الكريم بتعابير وألفاظ مختلفة، مثل القيامة، والغاشية، والواقعة، والقارعة، والحاقة، والصّاخة، والآزفة، والتغابن، ويوم الفصل، ويوم التلاقِ... وما إلى ذلك من التعابير المختلفة.
وكل هذه التعابير وهذه الألفاظ تؤكد حقيقة رجوع الإنسان إلى ربه، إما رجوعاً غير اختياري أو اختياري، كما ذكر السيد السبزوراي ذلك عند تفسيره لقوله تعالى: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ»(3).
والأول هو المعاد الذي دلَّت عليه جميع الكتب السماوية، خصوصاً القرآن الكريم الذي أكَّد هذا الموضوع تأكيداً بليغاً، فهو من الموضوعات التي ينبغي التأكيد عليها لأنَّ به يَثبُت المبدأ ووحدانية الله تعالى، وإذا ثبت المبدأ ثبت المعاد لا محالة.
وأما الثاني أي الرجوع الاختياري إليه عزّ وجلّ فهو أن يهيئ
ص: 151
الإنسان نفسه للحضور لدى الحي القيوم العالم بالسرائر والضمائر، حضور مجازاة لما فعل وعمل لا مطلق الحضور إذ الجميع حاضر لديه تعالی بهذا النحو من الحضور(1).
ثم عضد تفسيره هذا بما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة، إذ إنَّه سمع رجلا يقول: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ»: فقال له الإمام: "يا هذا إنَّ قولنا: إنّا لله إقرار على أنفسنا بالملك، وقولنا: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ إقرار على أنفسنا بالهلاك"(2).
وقد ذكر السيد (رحمه الله) أنَّ كلام الإمام عليه السلام: يستفاد منه أنَّ هذه الجملة المباركة تشتمل على الاعتراف بالمبدأ والمعاد اللذين هما أساس دعوة الأنبياء والكتب النازلة من السماء(3).
لا يخفى على دارسٍ حجم تأثر الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بالقرآن الكريم، فقد استحوذ الكتاب العزيز على اهتماماته، وانعكس على سلوكه وأدائه، حتى صارت علاقة بالقرآن سمة بارزة من سمات الإمام عليه السلام وخصوصية واضحة من خصوصياته.
ص: 152
وذلك ما أثبته حديث الثقلين وغيره من الأحاديث والروايات الشريفة الثابتة عن رسول الله وأهل بيته عليهم السلام التي تؤكّد على خاصيّة ذلك الرابط.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام في صفة القرآن الكريم: "ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ اَلْكِتَابَ، نُوراً لاَ تُطْفَأُ مَصَابِيحُهُ وَسِرَاجاً لا يَخبُو تَوَقُّدُهُ وبَحْراً لا يُدرَكُ قَعرُهُ وَمِنْهاجاً لا يَضِلُّ نَهْجُهُ وشُعاعاً لا يُظْلَمُ ضَوؤُهُ وفُرْقَاناً لا يُحْمَدُ بُرْهانُهُ وَتِبْيَاناً لا تُهْدَمُ أركانُهُ، وَشِفاءً لا تُخْشَى أَسْقَامُهُ وَ لاَ تُهْزَمُ أَنْصَارَهُ وَحْقاً لاَ أَعْوَانَهُ؛ فَهُوَ مَعْدِنُ الإِيمَانِ بُحْبُوحَتُهُ ويَنَابِيعُ الْعِلْمِ و بُحُورُهُ ورِياضُ العَدْلِ غُدْرَانَهُ وأثَافِي الإسلامِ وبُنْيانُهُ وأَوْدِيَةُ الحَقِّ وَغيطانُهُ، وَبَحرٌ لا يَنْزِفُهُ الْمُسْتَنْزِفُونَ وعُيُونٌ لا يُنْضِبُهَا الْمَاتِحُونَ ومَنَاهِلُ لا يُغِيضُهَا الوارِدونَ وَمَنازِلُ لا يَضِلُّ تَهجُّهَا المُسَافِرُونَ وأَعْلامٌ لا يَعْمَى عَنْهَا السّائِرُونَ وَأكامَ لاَ يَجُورُ عَنها القاصِدُونَ، جَعَلَهُ اللَّهُ رِيّاً لِعَطَشِ العُلَمَاءِ ورَبِيعاً لِقُلوبِ الفُقَهاءِ وَمَحاجٌ لِطُرُقِ الصُّلَحَاءِ ودَوَاءٌ لَيسَ بَعدَهُ داءٌ، وَنُوْرَاً لَيسَ مَعَهُ ظُلمَةٌ حَبْلاً وَثیقا عُرْوَتُهُ وَ مَعْقِلاً مَنیعا ذِرْوَتُهُ، وَ عِزّا لِمَنْ تَوَلاّهُ، وَ سِلْما لِمَنْ دَخَلَهُ وَ هُدًی لِمَنِ ائْتَمَّ بِه وَ عُذْرا لِمَنِ انْتَحَلَهُ، وَ بُرْهانا لِمَنْ تَکَلَّمَ بِه وَ شاهِدا لِمَنْ خاصَمَ بِه وَ فَلْجا لِمَنْ حاجَّ بِه وَ حَامِلاً لِمَنْ حَمَلَهُ وَ مَطِیَّهً لِمَنْ اَعْمَلَهُ، وَ آیَهً لِمَنْ تَوَسَّمَ وَ جُنَّهً لِمَنِ اسْتَلْأَمَ وَ عِلْما لِمَنْ وَعی وَ حَدیثا لِمَنْ رَوی، وَ حُکْما لِمَنْ قَضَی(1)".
وهذا الوصف هو أجلى الأوصاف التي وُصِفَ بها القرآن الكريم،
ص: 153
وأنصعها، حتى أنّ السيد الخوئي عقبّ على هذا الكلام بقوله: "استعرضت هذه الخطبة كثيراً من الأمور المهمة التي يجب الوقوف عليها، والتدبر في معانيها..."(1)
وهذا الوصف للقرآن الكريم ناجمٌ من تأثر نهج البلاغة الكبير بالقرآن الكريم، فقد وردت أوصاف القرآن الكريم في بعض آیاته، منها قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ»(2).
فقد بين الشيخ مكارم الشيرازي: أنَّ هذه الآية بيّنت أربع صفات للقرآن الكريم، هي: "الموعظة" التي هي عبارة عن التذكير بالنعم والطيبات المقترن برقة القلب، "والشفاء" والمقصود به شفاء أمراض القلوب، وبتعبير القرآن شفاء ما في الصدور، هي تلك التلوّثات المعنوية والروحية، كالبخل والحقد والحسد والجبن والشرك والنفاق وأمثال ذلك، وكلها من الأمراض الروحية والمعنوية، "والهداية " والمقصود بها تکامل ورقي الإنسان في كافة الجوانب الايجابية، "والرحمة" وهي النعم المادية والمعنوية الإلهية التي تشمل حال الأفراد اللائقين، فالرحمة متى ما نسبت إلى الله فإنّها تعني بذله وهبته للنعم، وإذا ما نسبت إلى البشر فإِنّها تعني العطف ورقة القلب(3).
ص: 154
ثم أتبع كلامه بما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة بقوله: "يوضح أمير المؤمنين علي عليه السلام في كلامه الجامع في نهج البلاغة هذه الحقيقة بأبلغ تعبير، حيث يقول: "فاستشفوه من أدوائکم، واستعينوا به على لأوائكم، فإِنّ فيه شفاء من أكبر الداء، وهو الكفر والنفاق، والغي والضلال"(1).
من المسائل الحيوية ذات الأهمية البالغة في حياة الرسالة الإسلامية: مسألة حفظ القرآن من التحريف، لذا فقد تصدى لهذه المسألة كبار علماء الشيعة بعد أن اتُّهموا بالقول بتحريف القرآن.
قال الشيخ الصدوق: "اعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله الله على نبيّه محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو ما بين الدفتين، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك، ومَن نَسب إلينا أنّا نقول أكثر من ذلك فهو كاذب"(2).
وقال الشيخ الطوسي: "وأمّا الكلام في زيادته ونقصانه فما لا يليق به أيضاً، لأنّ الزيادة فيه مجمع على بطلانها، والنقصان منه، فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا وهو الذي نصره
ص: 155
المرتضى وهو الظاهر في الروايات.. ورواياتنا متناصرة بالحثّ على قراءته والتمسّك بما فيه، وردّ ما يَرِد من اختلاف الأخبار في الفروع"(1).
وردّ الفيض الكاشاني على هذه التهمة بعد أن استدلَّ على بطلانها بقوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ»(2)، وقوله جل من قائل: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»(3) إذ قال: "فكيف يتطرّق إليه التحريف والتغيير"(4).
وقال أيضاً: "فإذا كان القرآن الذي بأيدينا محرّفاً، فما فائدة العرض عليه مع أنّ خبر التحريف مخالف لكتاب الله مكذّب له فيجب ردّه والحكم بفساده"(5).
فكانت هذه الآية على رأس أدلة حفظ القرآن من التحريف، فقد استدل الشيخ مکارم الشيرازي بهذه الآية على صيانة القرآن الكريم من التحريف، ثم أتبع استدلاله هذا بما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة في أكثر من خطبة إذ قال: "وخطب الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة خير شاهد ينطق بهذا الإدعاء، فنقرأ في خطبته: (وكتاب الله بين أظهركم، ناطق لا يعيا لسانه، وبيتٌ لا تهدم أركانه، وعزّ لا تهزم
ص: 156
أعوانه)(1)، ويقول في موضع آخر: (واعلموا أنّ هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل...)(2)، ونطالع قوله عليه السلام في الخطبة المذكورة نفسها: (وما جالس هذا القرآن أحدٌ إلا قام عنه بزیادة أو نقصان: زيادة في هدي، أو نقصان من عمى)(3)، ونتابع الخطبة نفسها حتى نصل لقوله عليه السلام: (وإِنّ الله سبحانه لم يعظ أحداً بمثل هذا القرآن، فإِنَّه حبل الله المتين، وسببه الأمين)(4)، ونقرأ في الخطبة: (ثمّ أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقده... ومنهاجاً لا يضل نهجه... وفرقاناً لا يخمد برهانه)(5)، وأمثال ذلك كثير في كلام الإمام علي والأئمة عليهم السلام"(6).
وهكذا نرى أن المفسر لم يكتفِ بقول واحد، أو خطبة واحدة من خطب الإمام علي عليه السلام بل عرض لكل ما له علاقة بالآية من كلام الإمام علي عليه السلام بغية الوصول إلى أقرب المعاني.
وغير ذلك من الشواهد المبثوثة في تفاسير الإمامية التي تبلغ العشرات، بل أكثر، إذ ليس بوسع البحث عرضها جميعها؛ لأنَّ ذلك يستلزم وقتاً كبيراً وتطويلاً لا مسوغ له، فغاية ما أراد البحث إثباته هو أنّ لنهج البلاغة أثراً في
ص: 157
تفاسير الإمامية على هذا المستوى، إذ مثَّل هذا الأثر حالة شاخصة لا يمكن الاستغناء عنها، فقلما تجد مفسراً لا يعتمد على نهج البلاغة في التفسير أو الاستشهاد، أو دفع لإشكال من الإشكالات وما إلى ذلك.
ص: 158
تُعدُّ العبادة من أعظم أسباب الثبات على الدين، ولهذا قال الله (جل وعلا): «وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا»(1).
لذا فإنَّ من أصول تعاليم الأنبياء والمرسلين عبادة الله الواحد الأحد، وترك عبادة كل شيء سواه، ولم تخلُ تعاليم أي نبي من ذلك، مع اختلاف في كيفية أدائها بين ديانة وأُخرى.
علماً أنَّ الناس لا يستوون في فهم العبادة بل يختلفون في ذلك، فهي عند بعضهم نوع من المعاملة والمعارضة التي يقع بها التبادل بين العمل والأجر عليه، هذا هو نوع من التصور الجاهل للعبادة عند العوام(2).
ص: 159
والتصور الآخر عن العبادة هو تصور العارفين بالله سبحانه، فالعبادة عند هؤلاء قربان الإنسان ومعراجه وتعاليمه وصعوده إلى مشارق أنوار الوجود، وهي تربية روحية ورياضة للقوى الإنسانية، وهي ساحة انتصار الروح على البدن، وأسمى مظاهر شكر الإنسان المبدأ الخلقة ومعيدها، وهي مظهر حب الإنسان للكامل المطلق والجميل على الإطلاق، وهي مسيرة الإنسانية إلى الكمال اللانهائي.
ومما لا شك فيه أنَّ مصاديق العبادة متعددة، لذا فإنَّ المتأمل في كتاب نهج البلاغة يلحظ أنَّه تناول مصاديق كثيرة، وسيأتي البحث على بعض منها نظراً لكثرتها إذ أنَّ ذكرها يتطلب وقتاً كبيراً، فمن تلك المصادیق:
لعلَّ أجلى مصاديق العبادة وأنصع صورها تلك الصورة التي رسمها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة، إذ إنَّ كلام الإمام يُعدُّ منبع الإلهام لتصور العارفين بالله تعالى من العبادة في الإسلام بعد القرآن الكريم وسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هو كلام الإمام عليه السلام.
قال عليه السلام مشيراً إلى مراتب العبادة: "إنَّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإنَّ قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإنَّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار"(1).
ص: 160
والمرتبة الثالثة مقام جلیل تقاصرت عنه قوى كثير من البشر وهي شکر مخصوص، فإذا أوقعها على هذا الوجه كانت بحق عبادة الأحرار(1).
وقد عبر عليه السلام عنها في موضع آخر بقوله: "إلهي ما عبدتك حين عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك(2)".
وقد أفاد السيد العلامة من كلام الإمام أمير علي عليه السلام في نهج البلاغة بحسب هذه المراتب، في تفسير قوله تعالى «إياك نعبد»(3) إذ إنه أومأً أومأً إلى الأصناف التي ذكرها الإمام عليه السلام، إذ قال مشيراً إلى ما يتعلق بالعبد: "وأما من من جانب العبد، فأن يكون عبادته عبادة عبد حاضر من غير أن يغيب في عبادته فيكون عبادته صورة فقط من غير معني وجسداً من غير روح أو يتبعض فيشتغل بربه وبغيره، إما ظاهراً وباطناً كالوثنيين في عبادتهم لله ولأصنامهم معا أو باطنا ًفقط كمن يشتغل في عبادته بغيره تعالی بنحو الغايات والأغراض كأن يعبد الله وهمه في غيره، أو يعبد الله طمعاً في جنة أو خوفاً من نار فإن ذلك كله من الشرك في العبادة الذي ورد عنه النهي، قال تعالى: «فَأَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ»(4) وقال تعالى: «أَلا لِلَّهِ
ص: 161
الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ»(1)، فالعبادة إنما تكون عبادة حقيقة، إذا كان على خلوص من العبد وهو الحضور الذي ذكرناه"(2)
ويتبين من خلال هذا النص التفسيري أن صاحب الميزان قد أفاد من قول الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام الذي ورد ذكره في مراتب العبادة، إذ أورد في تفسيره قول الإمام علي عليه السلام "إنَّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإنَّ...."(3)، وأومأ من خلاله إلى هذه المراتب.
وأفاد السيد الخوئي هذه المراتب أيضاً من تقسيم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة، عند تفسيره لسورة (الحمد) إذ قال: "العبادة فعل اختياري، فلا بد لها من باعث نفساني يبعث نحوها، وهو أحد أمور:
1. أن يكون الداعي لعبادة الله هو طمع الإنسان في أنعامه، وبما يجزيه عليها من الأجر والثواب، حسبما وعده في كتابه الكريم إذ يقول تعالى: «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»(4)
ص: 162
وقوله سبحانه وتعالى: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ»(1).
2. أن يكون الداعي للعبادة هو الخوف من العقاب على المخالفة قال تعالى: "«قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ»(2)، وقوله أيضاً: «إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا»(3).
أن يعبد الله بما أنَّه أهل لأن يُعبد، فإنَّه الكامل بالذات والجامع لصفات الجمال والجلال.
وهذا القسم من العبادة لا يتحقق إلا ممن اندكَّت نفسيّته فلم يرَ لذاته إنيّة إزاء خالقه، ليقصد بها خيراً، أو يحذر لها من عقوبة، وإنما ينظر إلى صانعه وموجده ولا يتوجه إلا إليه، وهذه مرتبة لا يسعنا التصديق ببلوغها لغير المعصومين عليهم السلام الذين أخلصوا لله أنفسهم فهم المخلصون الذين لا يستطيع الشيطان أن يقترب من أحدهم"(4).
ثم ذكر تحت عنوان "العبادة وأقسام دوافعها" نص كلام الإمام عليه السلام الوارد في نهج البلاغة "إنَّ قوماً عبدوا الله رغبة..."(5).
ص: 163
قال تعالى: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ»(1).
تجلت في هذه الآية أنصع صور العناية الإلهية، وأرق الأساليب القرآنية وأجملها، فهي تُشعِر أنَّ دعوة الداع مجابة من غير شرط وقيد، وذلك لأنَّ الله رحم عباده ونظر إليهم بعين العطف، وجعل الدعاء وسيلة من وسائل التذلل له سبحانه، "وخير الدعاء ما صدر عن صدر نقي وقلب تقي"(2).
وقد جاء ما يفيد ذلك في وصية الإمام علي عليه السلام علي لولده الحسين عليه السلام جاء فيها: "ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمه واستمطرت شئآبيب رحمته، فلا يقنطنك إبطاء إجابته، فإنَّ العطية على قدر النية، وربما أُخّرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل، وأجزل العطاء الآمل، وربما سألت الشيء فلا تؤتاه وأُوتيت خيراً منه عاجلاً أو آجلاً أو صرف عنك لما هو خير لك، فلربَّ أمرٍ قد طلبته فيه هلاك دينك لو أُوتيته، فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله، وينفي عنك وباله، والمال لا يبقى لك ولا تبقى له"(3).
وقد أفاد مفسرو الإمامية من مضمون هذه الوصية في مباحثهم التفسيرية، ففي تفسير قوله تعالى: «وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ
ص: 164
الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ»(1)، قال السيد الطباطبائي: "والآية تدعو إلى الدعاء وتعد بالإجابة وتزيد على ذلك حيث تسمي الدعاء عبادة بقولها: «عن عبادتي» أي عن دعائي، بل تجعل مطلق العبادة دعاء حيث إنها تشتمل الوعيد على ترك الدعاء بالنار والوعيد بالنار إنما هو على ترك العبادة رأساً لا على ترك بعض أقسامه دون بعض"(2).
وقد أظهر هذا التفسير عند السيد العلامة معنى آيات أخر من هذا الباب(3)، "وكلها تشتمل على أركان الدعاء وآداب الداعي، وعمدتها الإخلاص في دعائه تعالى وهو مواطاة القلب اللسان والانقطاع عن كل سبب دون الله والتعلق به تعالى، ويلحق به الخوف والطمع والرغبة والرهبة والخشوع والتضرع والإصرار والذكر وصالح العمل والإيمان وأدب الحضور وغير ذلك"(4).
والملاحظ أن تأثير نص الإمام علي عليه السلام: "إنَّ العطية على قدر النية"، قد ظهر واضحاً في تفسير صاحب الميزان، فقد بيّن السيد العلامة شروط الإجابة بقوله: "إنَّ وعدَ الإجابة المطلقة، إنما هو إذا كان الداعي داعياً بحسب الحقيقة مريداً بحسب العلم الفطري والغريزي مواطئاً لسانه
ص: 165
قلبه، فإنَّ حقيقة الدعاء والسؤال هو الذي يحمله القلب ويدعو به لسان الفطرة، دون ما يأتي به اللسان الذي يدور کیفما أُدير صدقاً أو كذباً جِداً أو هزلاً حقيقةً أو مجازاً... فما لا يستجاب من الدعاء ولا يصادف الإجابة من فَقَد أحد أمرين وهما اللذان ذكرهما بقوله: (دعوة الداع) و (إذا دعانِ)(1).
ثم قال: "فإنَّ قوله (فإنَّ العطية على قدر النية) يريد عليه السلام به أنَّ الاستجابة تطابق الدعوة فما سأله السائل منه تعالى على حسب ما عقد عليه حقيقة ضميره، وحمله ظهر قلبه هو الذي يُؤتاه، لا ما كشف عنه قوله وأظهره لفظه، فإنَّ اللفظ ربما لا يطابق المعنى المطلوب كل المطابقة.
وقد بين عليه السلام بها عدَّة من الموارد التي يتراءى فيها تخلف الاستجابة عن الدعوة ظاهراً، كالإبطاء في الإجابة، وتبديل المسؤول عنه في الدنيا بما هو خير منه في الدنيا، أو بما هو خير منه في الآخرة، أو صرفه إلى شيء آخر أصلح منه بحال السائل، فإنَّ السائل ربما يسأل النعمة الهنيئة ولو أُوتيها على الفور لم تكن هنيئة وعلى الرغبة فتبطئ إجابتها لأنَّ السائل سأل النعمة الهنيئة فقد سأل الإجابة على بُطء، وكذلك المؤمن المهتم بأمر دينه لو سأل ما فيه هلاك دينه وهو لا يعلم بذلك ويزعم أنَّ فيه سعادته وإنَّما سعادته في آخرته فقد سأل في الحقيقة لآخرته لا دنياه فيستجاب لذلك فيها لا في الدنيا"(2).
ص: 166
وذهب السيد السبزواري في مواهبه إلى ما ذهب إليه السيد الطباطبائي من أنَّ الاستجابة يجب أن تطابق الدعوة، إذ إنَّ الإخلاص في الدعاء وعقد القلب عليه وحسن الظن بالإجابة من شروط صحة الدعاء مستدلاً بجملة من الروايات عن النبي وأهل بيته عليهم السلام منها قول الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة.
ومن خلال هذا الاهتمام بكلام الإمام عليه السلام يتضح للقارئ حجم الأثر الذي تركه نهج البلاغة في تفاسير الإمامية، لذا كان لا بد للبحث من إيراد ونقل نص كلام المفسر ليتجلى للمتلقي مدى اعتماد ذلك المفسر على كتاب نهج البلاغة ويقف بنفسه على أنَّ هذا الاستشهاد بهذه النصوص وهذه الخطب والوصايا لم يكن استشهاداً عابراً، وإنّما يُتناول عادةً بالبحث والتحليل.
تعد التقوى من الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها المؤمن، إذ إنها تعمل على تحصينه، وتمنعه من الوقوع في كل ما من شأنه أن يؤثم قلبه، أو يشغله عن ذكر الله سبحانه وتعالى، فهي إذن مأخوذة من الوقاية، والوقاية تعني الحذر والاحتراز والبعد والاجتناب، وكلما كان الحذر أكثر كانت التقوى أكمل، ولهذا نرى أنَّ المتظاهرين بالتقوى يحذرون التدخل في أي عمل، حرصاً على سلامة تقواهم(1).
ص: 167
وهذا المفهوم يُولِّد قوة روحية لدى الإنسان، تتولد من التمرين العملي الذي يحصل من الحذر المعقول من الذنوب، وقد أشار الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: إلى هذا المعنى إذ قال: "عباد الله إنَّ تقوى الله حمت أولياء الله محارمه، وألزمت قلوبهم مخافته، حتى أسهرت لياليهم، وأظمأت هواجرهم"(1).
وفي هذه الكلمة يصرح الإمام عليه السلام: بأنَّ التقوى شيء يكون الحذر من الحرام والخوف من الله من لوازمه وآثاره، إذ يعطي للتقوى مفهوماً واسعاً.
لهذا نجد أنَّ الإمام عليه السلام في نص آخر من نصوص نهج البلاغة يعطف نظره إلى الناحية الروحية والنفسية والمعنوية للتقوى وآثارها في الروح، بحيث تبعث فيه الإحساس بحب البر والطهر، والإحساس بالتذمر من الذنوب والأرجاس والأنجاس، بقوله: "فإنَّ التقوى في اليوم الخرز والجُنَّة، وفي غد الطريق إلى الجنة"(2).
وبعبارة أخرى فهي الحصن المنيع الذي يصون الإنسان أمام طغيان الشهوات، لهذا السبب وصف أمير المؤمنين علي عليه السلام التقوى بأنَّها الحصن الذي يقي الإنسان أخطار الانزلاق إذ قال: "اِعلَمُوا عِبَادَ الله أَنَّ التَّقوَى دَارُ حِصن عَزِیز، والفجور دار حصن ذليل لا يمنع أهله ولا يحرز من لجأ إليه، ألا وبالتقوى تُقطع حمَّة الخطايا، وباليقين تدرك الغاية القصوى"(3).
ص: 168
وفي نص آخر من نصوص نهج البلاغة وصف الإمام عليه السلام التقوى بالمطايا الذلل التي توصل الناس إلى مأمنهم، وقصد بذلك الجنة، إذ قال: "ألا وَإنَّ التَّقْوی مَطایا ذُلُلٌ، حُمِلَ عَلَیْها أهْلُها، وَاُعْطُوا أزِمَّتَها، فَأَورَدَتْهُمُ الْجَنَّهَ"(1).
ومن خلال هذه الخطبة والخطبة التي قبلها نجد تأثيراً واضحاً لهما في تفسير بعضهم، كما هي الحال عند الشيخ مکارم الشيرازي، حين فسر قوله تعالى: "وَ إِذْ آتَیْنا مُوسَی الْکِتابَ وَ الْفُرْقانَ لَعَلَّکُمْ تَهْتَدُونَ"(2)، مبيناً أن اختصاص هداية القرآن بالمتقين في الوقت الذي هو هداية للبشرية جمعاء، إنما يعود إلى أن الإنسان لا يتقبل هداية الكتب السماوية ودعوة الأنبياء، ما لم يصل إلى مرحلة معينة من التقوى، (مرحلة التسليم أمام الحق وقبول ما ينطبق مع العقل والفطرة)، ومثل هذا القسم هم الذين يستفيدون من القرآن أو أيّ كتاب سماوي آخر، فكما إنّ "فاعليّة الفاعل" شرط في الهداية التكوينية وفي الهداية التشريعية، كذلك "قابلية القابل" شرط فيهما أيضاً.(3)
بعدها توصل الشيخ مكارم الشيرازي إلى حقيقة التقوى، وأنها مأخوذة من الوقاية، وأنها تعني الحفظ والصيانة من خلال رؤية الإمام علي عليه السلام في موضوع التقوى، بقوله: "التقوى من الوقاية، أي الحفظ والصيانة،... لهذا السبب وصف أمير المؤمنين علي (عليه السلام) التقوى بأنها الحصن
ص: 169
الذي يقي الإنسان أخطار الانزلاق إذ قال: (اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ التَّقْوَی دَارُ حِصْنٍ عَزِیزٍ)، مستشهداً بقول الإمام عليه السلام في معنى التقوى(1).
ثم استشهد بنص آخر من نصوص نهج البلاغة، الذي يجسم حالة التقوى إذ أورد في السياق ذاته قول الإمام عليه السلام "أَلاَ وَ إِنَّ اَلتَّقْوَی مَطَایَا ذُلُلٌ، حُمِلَ عَلَیْهَا أَهْلُهَا، وَ أُعْطُوا أَزِمَّتَهَا، فَأَوْرَدَتْهُمُ اَلْجَنَّهَ.(2)
الأمر الذي يظهر أهمية نهج البلاغة عند المفسرين، إذ نرى بعضهم لا يغادر تفسير الآية ما لم يمر بها في رحاب نهج البلاغة علَّه يجد ما يعضد تفسيره ويقوي حجته، فلا يكتفي بإيراد نص واحد إلا في حالة عدم وجود غيره يناسب المقام، فالملاحظ عند المفسرين أنه يستشهد في أكثر من نص من نصوص نهج البلاغة، وغايته في ذلك تعضيد رأيه بأبلغ الحجج، إذ ليس بعد کلام الإمام علي عليه السلام حجة ما خلا کلام الله تعالى وكلام نبيه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
الاستغفار هو طلب المغفرة، والمغفرة هي الوقاية من شر الذنوب مع سترها، أي أنَّ الله عز وجل يستر على العبد فلا يفضحه في الدنيا ويستر عليه في الآخرة، وقد كثر ذكر الاستغفار في القرآن الكريم فتارة يأمر به
ص: 170
كقوله تعالى: «وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(1) وتارة يمدح أهله كقوله تعالى: «وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ»(2) وتارة يذكر الله عز وجل أنَّه يغفر لمن استغفره كقوله تعالى: «وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا»(3).
إلا أنَّه لا يتحقق ما لم يستوف جملة من الشروط التي أوضحها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لقائل قال بحضرته (أستغفر الله) فقال الإمام: "ثكلتك أمك أتدري ما الاستغفار، الاستغفار درجة العليين وهو اسم واقع على ستة معان: أولها الندم على ما مضى، والثاني العزم على ترك العود إليه أبداً، والثالث أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله أملس ليس عليك تبعة، والرابع أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها، والخامس أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فَتُذيبهُ بالأحزان حتى يلتصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد، والسادس أن تذيق الجسم ألَم الطاعة كما أذقته حلاوةَ المعصية فعند ذلك تقول أستغفر الله"(4).
وهكذا تعدد معاني الاستغفار في نهج البلاغة حتى بات لزاماً على بعض المفسرين في معرفة معنى الاستغفار وآثاره الرجوع إلى خطب الإمام ووصاياه في للإفادة منها.
ص: 171
فقد قال السيد الطباطبائي في تفسير قوله تعالى: «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا»(1): "علل أمرهم بالاستغفار بقوله:
(إنَّه كان غفاراً) دلالة على أنَّه تعالى كثير المغفرة، وهي مضافاً إلى كثرتها منه سنة مستمرة له تعالى"(2).
وفي أثناء حديثه عن الاستغفار وسببیّته لسعة الرزق والإمداد بالأولاد من هذه الآيات، استدل السيد العلامة بكلام الإمام عليه السلام في نهج البلاغة حول الاستغفار وآثاره.
إذ قال عليه السلام: "وقد جعل الله سبحانه الاستغفار سبباً لدرور الرزق ورحمة الخلق فقال سبحانه: «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا»(3) فرحم الله امرئً استقبل توبته، واستقال خطيئته، وبادر منيَّته"(4).
قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»(5).
ص: 172
إِنّ أهم موضوع تناولته هذه الآية، هو الدعوة الموجهة للإنسان المؤمن لاختيار طريقة تؤدي به إلى التقرب لله سبحانه وتعالى، إذ تتضمن تكاليف ثلاثة يؤدي الالتزام بها وتطبيقها إلى نيل الفلاح، وهذه التكاليف هي:
إتباع الحيطة والتقوى، كما تقول الآية الشريفة: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله...).
اختيار وسيلة للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، حيث تقول الآية المباركة: (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ...).
الجهاد في سبيل الله، إذ تقول الآية الكريمة: «وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»(1).
قال الشيخ مكارم الشيرازي: "فكلمة (الوسيلة) في الأصل بمعنى نشدان التقرب أو طلب الشيء الذي يؤدي إلى التقرب للغير عن ميل ورغبة، وعلى هذا الأساس فإن كلمة (الوسيلة) الواردة في هذه الآية لها معان كثيرة واسعة، فهي تشمل كل عمل أو شيء يؤدي إلى التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وأهم الوسائل في هذا المجال هو الإيمان بالله وينبيّه صلی الله عليه وآله وسلم والجهاد في سبيل الله، والعبادات كالصّلاة والزكاة والصوم، والحج إلى بيت الله الحرام وصلة الرحم والإنفاق في سبيل الله سرّاً وعلانية وكذلك الأعمال الصالحة"(2).
ص: 173
فهذا التعداد لمصاديق الوسيلة أفاده الشيخ مكارم من كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة إذ قال مباشرة بعد تعداده لهذه المصادیق: "كما يقول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في خطبة له وردت في نهج البلاغة منها: "إِنّ أفضل ما توسل به المتوسلون إلى الله سبحانه وتعالى الإيمان به وبرسوله والجهاد في سبيله فإِنّه ذروة الإسلام وكلمة الإخلاص فإنّها الفطرة، وإقامة الصّلاة فإِنّها الملّة، وإِيتاء الزكاة فإنّها فريضة واجبة، وصوم شهر رمضان فإِنَّه جُنّة من العقاب، وحج البيت واعتماره فإِنَّهما ينفيان الفقر، ويرحضان الذنب، وصلة الرحم فإِنَّها مثراة في المال ومنساة في الأجل وصدقة السرّ فإِنّها تكفر الخطيئة، وصدقة العلانية فإِنّها تدفع ميتة السوء، وصنائع المعروف فإِنّها تقي مصارع الهوان"(1).
ويلاحظ أنّ هذا التفسير هو عين ما أشار له الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة، الأمر الذي يظهر للمتلقي حجم التأثر وحجم الاعتماد على كتاب نهج البلاغة في العملية التفسيرية على كل مستوياتها.
الصوم ببعده التربوي يعد عاملاً فعّالاً في تربية روح التقوى في جميع المجالات والأبعاد، أما ببعده الأخلاقي فيُعدُّ كاسراً لهوى النفس التقوى على التقوى بمخالفة عالم المادة والشهوة. وبعبارة موجزة: الصوم يرفع الإنسان من عالم البهيمية إلى عالم الملائكة وعبارة «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» في قوله تعالى: «يَا
ص: 174
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»(1)، تشير إلى هذه الحقائق(2).
وهكذا الحديث المعروف: "اَلصَّوْمُ جُنَّهٌ مِنَ اَلنَّارِ"(3) يشير إلى هذه الحقائق، فالأثر الروحي والمعنوي للصوم يشكل أعظم جانب من جوانب فلسفة هذه العبادة، التي عرضت لها الآية الكريمة، وابتدأت بخطاب يفتح شغاف القلب.
قال الشيخ مكارم الشيرازي: "تبتدىء الآية أولاً بأُسلوب خطابي وتقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» وهو نداء يفتح شغاف القلب، ويرفع معنويات الإنسان، ويشحذ همته... ثم تبيّن الآية فلسفة الصوم وما يعود به على الإِنسان من منافع، لتكون هذه العبادة محبوبة ملتصقة بالنفس"(4).
ثم أتبع تفسيره أستدلالاً بنهج البلاغة على فلسفة الصوم، إذ قال: "وفي نهج البلاغة عرض لفلسفة العبادات، وفيه يقول أمير المؤمنين علي عليه السلام: "فرض الله الإيمان تطهيراً من الشرك، والصلاة تنزيها عن الكبر، والزكاة تسبيباً للرزق، والصيام ابتلاءً لإخلاص الخلق... "(5)، موظفاً قول الإمام علي عليه السلام في بيان حقيقة الصوم(6).
ص: 175
لا يخفى على وجدان كلّ مسلم ما للحج من أهمية قصوى وصولاً إلى مرضاة من الله تعالى، إذ أنَّه يُعدُّ ركناً من أركان الإسلام.
وهذا هو الثابت من حديثه صلى الله عليه وآله وسلم: "بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً"(1).
لذا يُعدُّ الحجّ من أهم العبادات التي شُرّعت في الإسلام ولها آثار وبرکات كثيرة جدّاً، فهو مصدر عظمة الإسلام وقوّة الدّين واتّحاد المسلمين، إذ إنَّها الشعيرة العباديّة التي ترعب الأعداء وتضخ في كلّ عام دماً جديداً في شرايين المسلمين(2).
لهذا فليس غريباً أن نرى مثلَ أمير المؤمنين علي عليه السلام في لحظات فوزه بالشهادة وختام حياته الكريمة يوصي بالحج ويَعدُّه رمز بقاء الأمة والمسلمين، إذ قال عليه السلام:
"الله الله في بيت ربكم لا تخلوه ما بقيتم، فإنَّه إن ترك لم تناظروا"(3).
ص: 176
وفي الحديث المروي عن أمير المؤمنين عليه السلام في بيان وصف الأحكام كما ورد في نهج البلاغة أنّه أشار إلى أهميّة الحج الكبيرة وقال: "فرض الله الإيمان تطهيراً من الشرك... والحجّ تقوية للدّين"(1).
ففي بيان هذه الأهمية الكبرى لهذه الشعيرة استدل الشيخ ناصر مکارم الشيرازي بهذا الحديث في تفسيره مبيناً أهمية هذه الشعيرة(2).
كما أنَّه استدل بالخطبة المسماة "بالقاصعة" على أنَّ فريضة الحج أول ما شرعت في زمن آدم عليه السلام وذلك عند تفسيره لقوله تعالى: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»(3)، إذ قال ما نصه: "فإبراهيم وإسماعيل قد رفعا قواعد البيت التي كانت موجودة، وفي خطبة للإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام في نهج البلاغة، وهي المسماة بالقاصعة، يقول: أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اخْتَبَرَ الْأَوَّلِینَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَیهِ إِلَی الْآخِرِینَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ بِأَحْجَارٍ... فَجَعَلَهَا بَیْتَهُ الْحَرَامَ... ثُمّ أَمَرَ آدَمَ علیه السلام وَ وَلَدَهُ أَن يَثنُوا أَعطَافَهُم نَحوَهُ..."(4)
وهكذا نرى المفسر ينوع في اختيار الخطب ليقوي بها رأيه ويعضد تفسيره، فخطب نهج البلاغة هي القول الفصل في ترجيح بعض الوجوه على بعض، إذ اتضح من خلالها أنَّ تشريع الحج كان منذ زمن آدم عليه السلام،
ص: 177
وهذا مؤكد؛ لأنَّ عبادة الله سبحانه وتعالى وإقامة أماكن العبادة لم تبدأ في زمن إبراهيم، بل كانتا منذ أن خلق الإنسان على ظهر هذه الأرض.
قال تعالى: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»(1).
لعلَّ السؤال الذي يفرض نفسه هو لماذا عبر الله سبحانه وتعالى عن الإنفاق بالاستقراض، في معظم الآيات التي تحدثت عن الإنفاق، بالرغم من أنَّ المالك الحقيقي لجميع عالم الوجود هو الله تعالى وأنَّ الناس يمثلون وكلاء عن الله في التصرف في جزء صغير من هذا العالم كما ورد ذلك في سورة الحديد «آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ»(2)، ولكن مع ذلك يعود سبحانه إلى العبد ليستقرض منه، والحال أنَّ الله هو الغني المطلق.
والجواب الفصل في هذه المسألة في قول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام فقد ورد عنه في نهج البلاغة قوله: "وأنفقوا أموالكم، وخذوا من أجسادكم فجودوا بها على أنفسكم، ولا تبخلوا بها عنها، فقد قال الله سبحانه: «إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ»(3)، فلم يستنصرکم من ذُل، ولم يستقرضكم من قِلّ، استنصرکم وله جنود السماوات والأرض وهو العزيز
ص: 178
الحكيم، واستقرضكم وله خزائن السماوات والأرض وهو الغني الحميد، وإنّما أراد أن يبلوكم أيّكم أحسن عملاً"(1).
فهذه النصوص من خطبة الإمام عليه السلام أوردها صاحب تفسير الأمثل، مستدلاً بها على أنَّ هذا الاستقراض إنما كان هدفه ابتلاء المؤمنين، حتى لا يتصوروا أنَّ الإنفاق والبذل سوف يؤدي إلى قلّة أموالهم؛ لأنّ سعة أرزاقهم وضيقها بيد الله سبحانه وتعالى، فهو القادر على أن يعوض ما أنفقتموه أضعافاً مضاعفة، فإنَّ تلك الأموال التي أنفقتموها نفسها سوف تعود إليكم في الواقع، هذا من حيث البعد الدنيوي، وأمّا البعد الأخروي للإنفاق فأراد للمسلمين أن لا ينسوا أنَّ جميع المخلوقات سوف تعود إلى الله عزّ وجلّ وسوف يثيبهم حينذاك ويجزل لهم العطاء(2).
كما أوردها أيضاً الشيخ محمد جواد مغنية في تفسيره الكاشف إذ قال: "المراد بالإقراض هنا النفقة؛ لأنّ الله غني عن العالمين"(3)، ثم أورد نص كلام الإمام عليه السلام حول حقيقة الاستقراض.
في معرض حديثه عن الإنفاق وأهميته عدَّ السيد الطباطبائي هذه المسألة من أعظم المسائل التي اهتم بأمرها الإسلام، وقد توسل إليها بأنحاء التوسل
ص: 179
إيجاباً وندباً، وإنما يريد بذلك ارتفاع سطح معيشة الطبقة الفقيرة التي لا تستطيع رفع حوائج الحياة من غير إمداد مالي من غيرهم، ثم أورد السيد العلامة في هذا الصدد تأسف الإمام أمير المؤمنين عليه السلام على انحراف مسرى الإنفاق بقوله عليه السلام: "وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدباراً، والشر فيه إلا إقبالاً، والشيطان في هلاك الناس إلا طمعاً، فهذا أوانٌ قویت عدَّتُه وعمت مکیدته وأمكنت فريسته، اضرب بطرفك حيث شئت هل تبصر إلا فقيراً يكابد فقراً أو غنياً بدَّل نعمة الله كفراً أو بخيلاً اتخذ البخل بحق الله وفراً أو متمرداً كأنَّ بأُذنه عن سمع المواعظ وقراً"(1).
فمن هنا تجلت للمفسرين والدارسين حقيقة وأهمية الإنفاق الذي يعد ضمانة لبناء مجتمع متماسك لا وجود فيه للفقر ولا للطبقية؛ لأنَّ الإنفاق يحصّن المجتمع من الفقر، بل أنَّه يحصن أموال الأغنياء لأنَّه يعود بالخير على الأثرياء قبل أن يصيب خيره المحرومين، لأنّ تعديل الثروة يصون الثروة كما قال الإمام علي عليه السلام: "سوّسوا إيمانكم بالصدقة، وحصنوا أموالكم بالزكاة"(2).
قال تعالى: «الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ»(3).
ص: 180
تشير الآية هنا إلى أحد الموانع المهمّة للإنفاق، وهو الوساوس الشيطانيّة التي تخوّف الإنسان من الفقر والعوز وخاصّة إذا أراد التصدّق بالأموال الطيّبة والمرغوبة.
والمعنى الإجمالي للآية الوعد من الشيطان أنكم متى أخرجتم من أموالكم الصدقة وأديتم الزكاة الواجبة عليكم في أموالكم افتقرتم ويأمركم أيضاً بالفحشاء من المعاصي وترك طاعته، والله تعالى يعد بالمغفرة منه والستر عليكم، والصفح عن العقوبة، "وفضلاً"، يعني ويعدكم أن يخلف عليكم خيراً من صدقتكم ويتفضل عليكم ويسبغ عليكم في أرزاقكم(1).
قال ابن عباس: "اثنان من الله، واثنان من الشيطان، الشيطان يعدكم الفقر يقول: لا تنفق مالك، وأمسكه عليك، فإنَّك تحتاج إليه، ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه على هذه المعاصي وفضلاً في الرزق"(2).
ومن هنا يتجلى لنا أنَّ أهم ما يمنع الإنسان من الإنفاق هو وساوس الشيطان، إذ يولد لدى الإنسان قناعة توحي له أنَّ الإنفاق يؤدي به إلى نقص المال، وهذه هي النظرة الشيطانية الضيّقة.
وفي هذا الشأن قال الشيخ مكارم: "ولكنّنا بتدقيق النظر ندرك أنَّ الإنفاق هو ضمان بقاء المجتمع، وتحكيم العدل الاجتماعي، وتقليل
ص: 181
الفواصل الطبقية، فالقرآن أراد أن يُعلِّم الناس أنّ الإنفاق وإن بدا في الظاهر أنَّه أخذ، ولكنّه في الواقع عطاء لرؤوس أموالهم مادّياً ومعنوياً"(1).
ثم دلَّل على ذلك بما ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة أنّه قال: "إذا أملقتم فتاجروا الله بالصدقة"(2).
الموضوع المهم الذي يجب أن يُبحَث في مسألة الخمس، وهو في الحقيقة بمثابة العمدة في هذا الموضوع، هو: هل لفظ الغنيمة في قوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ»(3)، يطلق على الغنائم الحربية فحسب، أم أنَّ الموضوع أوسع من ذلك فيشمل كل زيادة في المال.
والجواب على هكذا تساؤل: انَّ القرآن الكريم وإن كان لم يبين الخمس فيما عدا ما غُنِم في المعركة، لكنَّ هذا لا يعني عدم تعلقه في سائر الموارد الأُخرى.
وعليه لابد من الرجوع للسنّة المطهرة لمعرفة ذلك، إذ لا مانع من أن يشير القرآن الكريم إلى قسم من أحكام الخمس بما يناسب مسائل الجهاد، وأن تتناول السنة الشريفة بيان أقسامه الباقية.
ص: 182
والشواهد على ذلك كثيرة، فمثلاً قد وردت الصلوات الخمس اليومية صريحة في القرآن الكريم، كما أشير إلى صلاة الطواف التي هي من الصلوات الواجبة أيضاً، ولم ترد أيّة إشارة في القرآن الكريم إلى صلاة الآيات المتفق على وجوبها بين الفرق الإسلامية من أهل السنة والشيعة كافة، ولا نجد قائلاً يقول بأنّه لا يجب الإتيان بصلاة الآيات لأنّها لم تذكر في القرآن الكريم، أو أنَّ القرآن أشار إلى بعض الأغسال ولم يذكر غيرها، فهل يجب ترك ما لم يشر إليه القرآن الكريم، فهذا المنطق لا يُقرُّه أي مسلم أبداً.
وبناءً على ذلك، فلا إشكال في أن يبيّن القرآن الكريم قسماً واحداً من أقسام الخمس وتتكفل السنة ببيان الأقسام الأُخرى.
ثم إنَّ معنى الغنيمة في اللغة لا ينحصر في غنائم الحرب، بل تشمل كل أنواع الزيادة المالية وغيرها، قال الزبيدي في تاج العروس: "والغنم الفوز بالشيء بلا مشقة، رهن لمن رهنه، له غنمه، وعليه غرمه، غُنمه أي: زيادته ونماؤه وفاضل قيمته"(1).
ومما يؤيد عدم انحصار معنى الغنيمة في غنائم الحرب، ورودها في مج البلاغة على لسان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إذ قال "اغتم المهل"(2)، وقال أيضاً: "من أخذ بها لحق وغنم"(3)، ويقول في كتابه إلى مالك الأشتر:
ص: 183
"ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أُكُلَهم"(1)، وكذلك في كتابه إلى عثمان بن حنيف: "فو الله ما كنت من دنیاکم تبراً ولا ادخرت من غنائمها وفراً"(2)، والمعنى نفسه ورد في بعض كلماته القصار كقوله عليه السلام: "إنَّ الله جعل الطاعة غنيمة الأكياس(3)"، ويقول: "واغتنم من استقرضك في حال غناك"(4)، ونظير هذه التعابير والكلمات التي تدل على عدم انحصار معنی الغنيمة في غنائم الحرب كثير.
من هنا استدل مفسرو الإمامية على أنَّ الغنيمة في الآية محل البحث لا ينحصر معناه بغنائم الحرب، وإنَّما تشمل كل ما غنمه الإنسان في حياته، اعتماد على ما جاء في كتب اللغة، وما ورد في نهج البلاغة، فمنهم من صرَّح باعتماده على نهج البلاغة مثل الشيخ مكارم الشيرازي في تفسيره الأمثل، إذ يبدو حجم الاعتماد واضحاً وجلياً، وأثر نهج البلاغة فيه بينٌ، ومن هنا كان الخمس أحد فروع الدين المعمول بها لدى أتباع مدرسة أهل البيت عليه السلام(5).
إنَّ من يطّلع على مصادر التشريع الإسلامي من الكتاب والسنّة يجد فيهما تركيزاً كبيراً واهتماماً واضحاً بموضوع الجهاد، ففي القرآن الكريم ما
ص: 184
يقارب (40 آية) تتحدّث عن الجهاد بلفظ الجهاد ومشتقاته، كقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ»(1)، وكقوله تعالى: «انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»(2)، وقوله سبحانه: «فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا»(3)، وهناك أكثر من (100 آية) تتحدّث عن الجهاد بلفظ القتال ومشتقّاته.
فضلاً عن مجموعة من الآيات التي تَتَحدّثُ عن الجهاد بلفظ الغزو والحرب والشّهادة ومشتقّاتها.
وحينما نرجع إلى السنّة المطهرّة نجد مئات الأحاديث والنُّصوص تركّز على موضوع الجهاد وتقرّر بصراحة أنّ الجهاد أهمّ وأفضل من جميع الأعمال والعبادات الأُخرى، فعن الرّسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: "فَوقَ كُلّ ذِي بِرٍ بر حَتَّى يُقتَل فِي سَبيلِ اللهِ فَإذا قُتِلَ فِي سَبيلِ اللهِ فَلَيس فَوقَه بر"(4).
وفي مصدر واحد فقط من مصادر الحديث هو کتاب (وسائل الشِّيعة) نجد (1223 حديثاً) عن الجهاد وفضله وأحكامه وما يتعلَّق به.
وإذا ما قُمنا بجولة عابرة في ربوع نهج البلاغة، فسنرى أنَّ الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، يعطي للجهاد مكانة خاصّة، ويرفعه إلى أعلى مستوى
ص: 185
من الأهمية والتّقدير، ويمنحه أعظم الصّفات، إذ يقول عليه السلام: "اَللَّهَ اَللَّهَ فِی اَلْجِهَادِ بِأَمْوَالِکُمْ وَ أَنْفُسِکُمْ وَ أَلْسِنَتِکُمْ فِی سَبِیلِ اَللَّهِ"(1).
وقال أيضا: "الجنة تحت أطراف العوالي(2)، وكذا في قوله عليه السلام: "وَ جَاهِدْ فِی اَللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَ لاَ تَأْخُذْكَ فِی اَللَّهِ لَوْمَهَ لاَئِم"(3).
وفي خطبة له عليه السلام في فضل الجهاد قال: "إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَوَسَّلَ بِهِ الْمُتَوَسِّلُونَ اِلَی اللّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَی الإِیمَانُ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، وَالْجِهادُ فِی سَبِیِلهِ، فَإِنَّهُ ذِرْوَهُ الإِسْلامِ"(4).
أما الخطبة التي أخذت أثرها في تفسير الآيات المتعلقة بالجهاد فهي خطبته التي يقول فيها: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اَلْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ اَلْجَنَّةِ فَتَحَهُ اَللَّهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِیَائِهِ، وَ هُوَ لِبَاسُ اَلتَّقْوَی، وَ دِرْعُ اَللَّهِ اَلْحَصِینَةُ، وَ جُنَّتُهُ اَلْوَثِیقَةُ، فَمَنْ تَرَکَهُ رَغْبَةً عَنْهُ، أَلْبَسَهُ اَللَّهُ ثَوْبَ اَلذُّلِّ، وَ شَمِلَهُ اَلْبَلاَءُ، وَ دُیِّثَ بِالصَّغَارِ وَ اَلْقَمَاءَةِ، وَ ضُرِبَ عَلَی قَلْبِهِ بِالْإِسْهَابِ، وَ أُدِیلَ اَلْحَقُّ مِنْهُ بِتَضْیِیعِ اَلْجِهَادِ، وَ سِیمَ اَلْخَسْفَ وَ مُنِعَ اَلنَّصَفَ"(5).
فقد أورد الشيخ مكارم الشيرازي بعض نصوص هذه الخطبة في تفسير قوله تعالى: «وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا»(6)، فبعد أن
ص: 186
تكلم عن أهمية الجهاد، إذ قال: "... وهذا هو الشيء الذي يؤكّد عليه رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول: فمن ترك الجهاد ألبسه الله ذلاً وفقراً في معيشته، ومحقاً في دينه، إنّ الله أعزّ أمّتي بسنابك خيلها ومراکز رماحها"(1)، ثم ذكر بعد ذلك مستهل خطبة الإمام عليه السلام في الجهاد(2).
هذا البحث يُعدُّ من أهم الأبحاث القرآنية، وقد أشارت إليه آيات كثيرة في الكتاب العزيز كقوله تعالى: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(3) وقوله تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ»(4) وكذلك قوله سبحانه: «يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ»(5)، وغير ذلك من الآيات، فهو مظهر من مظاهر الجهاد في سبيل الله، بل هو الجهاد الأكبر إذا توجه به الإنسان نحو نفسه
ص: 187
فوعظها وأمرها بالمعروف ونهاها عن المنكر كما يظهر من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي يرويه عنه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية، فلما رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل: یا رسول الله، وما الجهاد الأكبر قال: جهاد النفس ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه"(1).
فهو فريضة يتوقف عليها صلاح الفرد وصلاح المجتمع، وتترتب على ترکه آثار وخيمة، فقد روي عن الإمام أمير المؤمنين في لحظاته الأخيرة أنَّه قال: "لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم"(2).
فمن هنا تتجلى لنا أهمية هذه الفريضة، وانشغال الذمة بها، فلعلَّ العقل يحكم بوجوبها قبل النقل؛ وذلك لما للمنكر من آثار سيئة لا تنحصر في نقطة وقوعها، بل تتعداها إلى العلاقات الاجتماعية، إذ يمكن سراية شرارته إلى كلّ نواحي المجتمع، فتتضح بذلك الأهمية العقلية لهاتين الوظيفتين.
ولهذا يؤكد العقل والمنطق السليم لأفراد المجتمع بأن لا يألوا جهداً في الإبقاء على سلامة البيئة الاجتماعية وطهارتها من كلّ دنس، فعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "مَثَلُ القائم على حدود الله والمدهن فيها كمثل
ص: 188
قوم استَهَموا على سفينة في البحر فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها... فقال الذين في أسفلها: إنَّنا ننقبها من أسفلها فنستقي، فإن أخذوا على أيدهم فمنعوهم نجوا جميعاً، وإن تركوهم غرقوا جميعاً"(1).
ولقد جسد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بهذا المثال الرائع موضوعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنطقية هاتين الفريضتين بغض النظر عن أمر الشارع بهما.
لذلك حظي هذا الموضوع باهتمام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، فقد روي عنه أنه قال: "ولا تُنالُ مَرضاتُهُ إلّا بطاعَتِهِ لَعَنَ اللَّهُ الآمِرینَ بالمَعروفِ التّارِکینَ لَهُ والنّاهِینَ عَنِ المُنکَرِ العامِلینَ بهِ"(2).
وقال أيضاً: "وما أعمال البر كلّها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا كنفثة في بحر لجي"(3).
فقد استدل الشيخ مکارم الشيرازي بهذه الخطبة على أهمية فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد أن أورد بعضاً من كلام الإمام عليه السلام في أهمية هذه الفريضة التي لا تساوي أعمال البر بالقياس بها إلا كنقطة في بحر لجي(4).
ص: 189
وقد اكتفى المفسر بإيراد هذه الكلمات من خطبة الإمام عليه السلام وذلك عند تفسيره لقوله تعالى: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(1).
الأمر الذي يظهر بشكل واضح عدم استغناء المفسر لاسيما المفسر الإمامي عن نهج البلاغة وذلك على كل المستويات.
قال تعالى: «أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ»(2).
ذكر المفسرون أنَّ هذه الآية: خطاب لعلماء اليهود، وكانوا يقولون لأقربائهم من المسلمين: اثبتوا على ما أنتم عليه، ولا يؤمنون هم فوبخهم الله تعالى على ما كانوا يفعلون من أمر الناس بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وترك أنفسهم عن ذلك(3).
وهذا التوبيخ وإن كان موجهاً إلى علماء اليهود، إلا إنَّه يجري في كل زمان وينطبق على ما يمكن أن ينطبق عليه وإن كان خارجاً عن مورد النزول، وكما قيل العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
فالآية فيها توبيخ للداعية الذي يقول ما لا يفعل، إذ إنَّ منهج الدعاة
ص: 190
إلى الله سبحانه يقوم على أساس العمل أولاً، ثم القول ثانياً، فالدّاعية إلى الله تعالى يبلّغ بعمله قبل قوله، كما جاء في الحديث عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: "کُونُوا دُعَاهَ النّاسِ بِأَعمَالِکُم وَلاَ تَکُونُوا دُعَاهً بِأَلسِنَتِکُم"(1).
والتأثير العميق للدعوة العملية يأتي من قدرة مثل هذه الدعوة في فتح منافذ قلب السامع، فالسامع يثق بما يقوله الداعية العامل، ويرى أنَّ هذا الداعية مؤمن بما يقول وأنَّ ما يقوله صادر عن القلب، والكلام الصادر عن القلب ينفذ إلى القلب، وأفضل دليل على إيمان القائل بما يقوله، هو العمل بقوله قبل غيره.
وبهذا الشأن قال الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة: "أَیُّهَا النَّاسُ إِنِّی وَ اللَّهِ مَا أَحُثُّکُمْ عَلَی طَاعَةٍ إِلاَّ وَ أَسْبِقُکُمْ إِلَیْهَا، وَ لاَ أَنْهَاکُمْ عَنْ مَعْصِیَةٍ إِلاَّ وَ أَتَنَاهَی قَبْلَکُمْ عَنْهَا"(2).
ذكر الشيخ مكارم الشيرازي هذه الكلمات عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة، في أثناء حديثه عن أخلاقيات الداعية، وما ينبغي عليه الالتزام به وذلك عند تفسيره لقوله تعالى: «أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ»(3).
ص: 191
من أهم المرتكزات التي بني عليها الإسلام، وندب إليها القرآن الكريم التحلي بالأخلاق الفاضلة وترك السلوكيات المشينة، قال عز من قائل: «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا»(1).
ولقد بيَّن الله تعالى هذا المعنى أحسن بیانٍ حين جمع بين الإيمان به ومكارمِ الأخلاق في آية واحدة عرض فيها المدلول البر العام فقال سبحانه: «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى
ص: 192
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ»(1).
كما أنَّ نبي الإسلام صلی الله عليه وآله وسلم جاء لتکميل هذا المخطط بإيصال الإنسان إلى أعلى المراتب فقال: "إنما بعثت لأُتمِّم مکارم الأخلاق"(2)، وحثَّ المسلمين على أفضل سُبل المعاشرة والسلوك مع بني نوعهم للوصول إلى الحياة الفضلى، وهو في هذا الحديث يبين الخصال التي تجعل من الفرد إنساناً كاملاً وتؤهله للأمانة الاعتماد والثقة.
مما يكشف أنَّ الشريعة الإسلامية عندما نزلت بالجزيرة العربية لم تلغ المنظومة الخلقية وقتذاك كلها، وإنّما بارکت بعض الممارسات، وأعطتها أبعاداً إيمانية مختلفة، وأضفت على بعضها صفة الوجوب، وعلى البعض الآخر الاستحباب، مثل حفظ الجوار، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، والنجدة، وإقراء الضيف، وما إلى ذلك من الأخلاق المعمول بها أيام الجاهلية.
فقضية الأخلاق من القضايا الجوهرية في حياة البشر، وحسنُ الخلق والسلوكُ الطيب من لوازم الإيمان بالله تعالى كما هو معلوم، فكلما قوي إيمان العبد كان التزامُه بالخلق الحسن أقوى واحترافه للسلوك أمتن، قال صلی
ص: 193
الله عليه وآله وسلم: "إِنَّ أَکْمَلَ اَلْمُؤْمِنِینَ إِیمَاناً أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً"(1)، وقال أيضاً: "مَا مِنْ شَیءٍ یُوْضَعُ فی الْمیزانِ اثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلْقِ وَإِ نَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلْقِ لَیَبْلُغُ بِهِ دَرَجَهَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَ الصَّلاهِ"(2).
ولا شك أنَّ أغنى رصيد للإنسانية في ذلك هو القرآن الكريم، إلا إنَّه أعطى درساً دستورياً مكثفاً، بعيد الآفاق والأعماق في الأخلاق - أي أنَّه لم يعني بالتفصيلات - ومن بعده تأتي وظيفة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فهو أول من جاء حاملاً شعار مكارم الأخلاق، إلا أنَّ دوره کان التأسيس وطرح القضايا المبدئية، إذ إنَّ المهمة الأساس كانت متمثلة بإقامة قواعد الإيمان وشعائره، كلما تراخي الصراع الدائر حول مبدأ التوحيد وأصل الرسالة.
لذا كان في مقدور الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أن يقف تحت مظلة القرآن الكريم والرسول الأكرم، ويعمق المفاهيم الجديدة، ويركز الأُسس التي أتي بها القرآن والرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ابتداءً من أول الدين، وتوحيد الله، وصفاته تعالى، ومروراً بفلسفة الرسالات، وتقييم الإسلام ومفاهيمه وأحكامه، وشرح مواقف الرسول، وانتهاءً بوصف السماء، والأرض، والطاووس، والنملة، وأشياء كثيرة، وبحوث متنوعة، كان للجانب الأخلاقي فيها حيز كبير، تناوله المفسرون في تفاسيرهم، منها:
ص: 194
إنَّ من أوضح مصاديق الجانب الأخلاقي في نهج البلاغة الخلق المحمدي، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمتاز بسمو خلق لا يحيط بوصفه البيان ما خلا القرآن الكريم، وكان من أثره أنَّ القلوب فاضت بإجلاله وتفاني الرجال في حياطته وإكباره، بما لا تعرف الدنيا الرجل غيره، فالذين عاشروه أحبوه إلى حد الهيام ولم يبالوا أن تندق أعناقهم ولا يخدش له ظفر.
فكان يرقّع ثوبه، ويخصف نعله، ويحلب شاته، ويأكل مع العبد، ويجلس على الأرض، ولا يمنعه الحياء أن يحمل حاجته من السوق إلى أهله، ويصافح الغني والفقير، ولا ينزع يده من يد أحد حتى ينزعها هو، ويسلم على من استقبله من غني وفقير وكبير وصغير، ولا يحقر ما دعي إليه ولو إلى حشف التمر، وإذا انتهى إلى القوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، ويعطي كل جلسائه نصيبه حتى لا يحسب جليسه أنَّ أحداً أكرم عليه منه، من جالسه أو قاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يَردَّه إلا بما أو بميسور من القول، وقد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أباً، وصاروا عنده في الحق متقاربين، يتفاضلون عنده بالتقوى(1).
وأفضل وصف وُصِفَ به صلی الله عليه وآله وسلم ما ورد في نهج
ص: 195
البلاغة على لسان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إذ قال: "فتأس بنبيك الأطيب الأطهر صلى الله عليه وآله، فإنَّ فيه أسوة لمن تأسی، وعزاء لمن تعزي وأحب العباد إلى الله المتأسي بنبيه والمقتص لأثره، قَضَم الدنيا قضماً، ولم يعرها طرفاً، أهضم أهل الدنيا كشحاً، وأخمصهم من الدنيا بطناً عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها، وعلم أنَّ الله سبحانه أبغض شيئاً فأبغضه، وحقر شيئاً فحقره، وصغر شيئاً فصغره، ولو لم يكن فينا إلا حبنا ما أبغض الله ورسوله، وتعظيمنا ما صغر الله ورسوله لكفى به شقاقاً لله ومحادة عن أمر الله، ولقد كان صلى الله عليه وآله يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري ويردف خلفه، ويكون الستر على باب بيته فتكون فيه التصاویر فیقول یا فلانة لإحدى أزواجه غيبيه عني فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها، فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها من نفسه، وأحب أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتخذ منها رياشاً، ولا يعتقدها قراراً، ولا يرجو فيها مقاماً، فأخرجها من النفس، وأشخصها عن القلب، وغيبها عن البصر وكذا من أبغض شيئاً أبغض أن ينظر إليه وأن يُذكر عنده"(1).
فهذه الخطبة التي حوت أوصافاً لا يفوقها وصف، ذكرها كاملة السيد الطباطبائي في الميزان وذلك عند حديثه عن أخلاق الأنبياء، وفي مقدمتهم نبینا الأكرم محمد صلی الله عليه وآله وسلم إذ أورد بعدها مجموعة من الروايات
ص: 196
الواردة في مجامع أخلاقه التي تلوح إلى أدبه الإلهي الجميل والمؤيدة للآيات القرآنية الشريفة الحاکية عن سمو أخلاقه، فكان من أبرز تلك الروايات ما ورد عن الإمام في نهج البلاغة في وصف الخلق المحمدي(1).
الأمانة صفة الأنبياء ودأبهم، فقد جاء في القرآن الكريم على لسان عدد منهم: «إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ»(2)، وقد رشحت الأمانة نبي الله يوسف عليه السلام ليكون أميناً على خزائن الأموال في مصر، قال تعالى: «وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ»(3)، وكانت الأمانة باعثاً على اختيار شعیب لنبي الله موسى عليها السلام ليعمل لديه ويزوجه ابنته، قال الله تعالى: «قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ»(4)، ولقد كان خلق الأمانة بارزاً في شخص رسول صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة وبعدها، فقد كان معروفاً بالصادق الأمين، وتجلى هذا يوم ارتضوا حكمه في وضع الحجر الأسود، فقد هتفوا لما رأوه وقالوا: "هذا الأمين قد رضينا بما قضی بیننا"(5).
ص: 197
وكانت الأمانة من أهم الدوافع التي رَغَّبت السيدة خديجة في الزواج منه صلى الله عليه وآله وسلم.
ولا تقتصر الأمانة على أداء الودائع لأصحابها، بل يدخل فيها كل ما ائتمن الله تعالى العبد عليه، ولعل من أصدق معانيها ولاية أهل البيت عليهم السلام، قال تعالى: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا»(1).
فقد ورد في تفسير هذه الآية أنَّ المراد بالأمانة هي "الولاية الإلهية، وبعرضها على هذه الأشياء اعتبارها مقيسة إليها والمراد بحملها والإباء عنه وجود استعدادها وصلاحية التلبس بها وعدمه، وهذا المعنى هو القابل لأن ينطبق على الآية فالسماوات والأرض والجبال على ما فيها من العظمة والشدة والقوة فاقدة لاستعداد حصولها فيها وهو المراد بإبائهن عن حملها وإشفاقهن منها"(2).
لكنَّ الإنسان الظلوم الجهول لم يأبَ، ولم يشفق من ثقلها وعظم خطرها فحملها على ما بها من الثقل وعظم الخطر فتعقب ذلك أن انقسم الإنسان من جهة حفظ الأمانة وعدمه بالخيانة إلى منافق ومشرك ومؤمن، بخلاف السماوات والأرض والجبال فما منها إلا مؤمن مطيع، قال .
ص: 198
تعالى: «ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ»(1).
وذهب السيد العلامة إلى أنَّ المقصود بالأمانة: ولاية أمير المؤمنين عليه السلام فقد أستدل على ما ذهب إليه بجملة من الأحاديث عن أئمة أهل البيت عليهم السلام.
إذ قال ما نصه: "ما ورد في روايات عديدة وردت عن أهل البيت عليهم السلام من تفسير هذه الأمانة بقبول ولاية أمير المؤمنين علي عليه السلام وولده، فمن أجل أنّ ولاية الأنبياء والأئمة نور ساطع من تلك الولاية الإلهية الكليّة، والوصول إلى مقام العبودية، وطي طريق التكامل لا يمكن أن يتمّ من دون قبول ولاية أولياء الله"(2).
ومن ثم نقل السيد العلامة ما ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة: قوله: "ثم أداء الأمانة فقد خاب من ليس من أهلها إنَّها عرضت على السماوات المبنية والأرض المدحوة والجبال ذات الطول المنصوبة فلا أطول ولا أعرض ولا أعلى ولا أعظم منها ولو امتنع شيء بطول أو عرض أو قوة أو عز لأمتنعن ولكن أشفقن من العقوبة، وَعَقِلن ما جهل من هو أضعف منهن وهو الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا"(3).
ويستشف من كلام الإمام عليه السلام أنَّ المقصود بالأمانة هي ولاية
ص: 199
أهل البيت عليهم السلام بقوله "فقد خاب من ليس من أهلها" إذ إنَّ ولايتهم هي الضمانة من الخيبة والخسران بدلالة حديث الثقلين.
وما يعضد هذا الرأي حديث الإمام الصادق عليه السلام في قول الله عز وجل: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا»(1)، قال: "هي ولاية أمير المؤمنين عليه السلام".(2)
وإذا تنزلنا وقلنا أنَّ المقصود بها ليست ولاية أهل البيت عليهم السلام، فالجواب: انَّه قد ثبت من خلال تفسير الآية محل البحث أنَّ الأمانة هي الولاية الإلهية والإمامة مصداق من مصاديق الأمانة، ولعلَّه أجلاها؛ لأنّ الإمامة هي في طول ولاية الله سبحانه وتعالى، فمن أنكرها أنكر ولاية الله عزّ وجلّ، وإلا فانّ كل ما هو خير وصالح في سبيل الله سبحانه وتعالى فهو في خط ولاية الله تعالی.
من أهم الأمور التي تعمل على تقوية دعائم الثقة العامة والخاصة بين الأفراد هو "الوفاء بالعهد والميثاق" الذي يُعدُّ من الفضائل الأخلاقية المهمة في حركة الإنسان التكاملية، وبعكس ذلك "نقض العهد" الذي يُّعدُّ من أسوأ الخصال والرذائل الأخلاقية.
ص: 200
لذا نجد أنَّ الإسلام لا يعذر أحداً - وبأي حال من الأحوال - في نقض العهود والمواثيق، وهذا ما أكَّده الإمام الصادق عليه السلام بقوله: "ثلاثة لا عذر لأحد فيها: "أداء الأمانة إلى البر والفاجر، والوفاء بالعهد إلى البر والفاجر، وبر الوالدين برَّين كانا أو فاجرين"(1).
ويتضح من خلال هذا الحديث إنَّ لزوم الوفاء بالعهد يُعدٌ ركناً من أركان الفطرة الإنسانية السليمة، وبتعبير آخر أنَّ هذا المفهوم هو من الأمور الفطرية غير القابلة للتسامح وإعطاء الرخص؛ لأنها تدخل في صميم بناء الإنسان التكاملي.
وحتى في الأقوام الجاهلية نرى أنَّ الوفاء بالعهد والميثاقُ يُعدٌ من الوظائف والواجبات الحتمية للأفراد إذ نجد سعيهم الكبير في حفظ عهودهم والتعامل مع الآخرين من موقع الوفاء بالعهد والميثاق وما قصة "عبيد بن الأبرص الأسدي الشاعر إلا خير دليل على ذلك(2).
ونقرأ في الآيات القرآنية والروايات الإسلامية في هذا الباب تعابير قوية وشديدة تبين أهمية الوفاء بالعهد وتذم الذين ينقضون العهد والميثاق.
قال تعالى: «وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا»(3)، وقوله تعالی:
ص: 201
«وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ»(1)، وأيضاً: «وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا»(2)، وكذلك قوله تعالی: «بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ»(3)، وفي قوله: «إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ»(4)، كما جاء في قوله تعالی: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا»(5)، مما يكشف أهمية هذه المسألة، فقد نقل عن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "لا دين لمن لا عهد له"(6). لذا فقد جاءت آخر سورة في القرآن الكريم نزولاً لتؤكد هذا المعنى وتطرح قاعدة فقهية عامة بقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(7).
فهذه الآية من الآيات التي تستدل بها كتب الفقه، في البحوث الخاصّة بالحقوق الإسلامية وتستخلص منها قاعدة فقهية مهمة هي "أصالة اللزوم في العقود" أي أنَّ كل عقد أو عهد يُقام بين اثنين حول أشياء أو أعمال يكون لازم التنفيذ(8).
ص: 202
ولهذا تؤكد مصادر التشريع الإسلامي بشكل لا مثيل له على قضية الوفاء بالعهود التي قد تكون من القضايا النوادر التي تمتاز بهذا النوع من السعة والشمولية؛ لأنّ الوفاء لو انعدم بين أبناء المجتمع الواحد لظهرت الفوضى وعم الاضطراب فيه وزالت الثقة العامّة، وزوال الثقة يُعدُّ من أكبر الكوارث وأخطرها.
فقد جاء في هج البلاغة من قول الإمام علي عليه السلام لمالك الأشتر: "فإِنّه ليس من فرائض الله شيء للناس أشدّ عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لمّا استَوبَلوا من عواقب الغدر"(1).
وجملة لما استوبلوا من عواقب الغدر معناها: لمّا نالهم من وبال من عواقب الغدر، على حدِّ قول الشيخ مکارم في الأمثل(2).
وقد أفاد الشيخ هذه الأهمية الكبرى للوفاء بالعهد التي تناولها قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»، من خلال هذا العهد الشهير لمالك الأشتر عندما ولاه الإمام عليه السلام ولاية مصر(3).
ص: 203
قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة موضحاً كيفية التعامل مع الزوجة وذلك من كتاب بعثه إلى ابنه محمد بن الحنفية قال فيه"... وإن استطعت أن لا تُمّلك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فافعل فإنَّه أدوم لجمالها وأرخى لبالها وأحسن لبالها فإنَّ المرأة ريحانة لا قهرمانة، فدارها على كل حال وأحسن الصحبة لها فيصفو عیشك..."(1).
وبهذا يؤكد الإمام عليه السلام أنَّ وظيفة المرأة هي في ممارسة الأعمال المناسبة لها، كإنجاب أولادها ورعاية أسرتها، فهي لم تخلق لتحمِّل المسؤوليات الشائكة والأعمال التي تضر بأنوثتها، بل خلقت لتظل وردةً جميلةً وريحانةً عطرةً، فقال عليه السلام: "ولا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها، فإنَّ المرأة ريحانة وليست بقهرمانة"(2).
وفي هذا رفق كبير بالمرأة يتناسب مع رقتها وأنوثتها ولا يزيدها أعباءً فوق أعبائها، ولا يفقدها شيء من أناقتها وجمالها، إذ إنَّ مثل هكذا أمر يسهم مساهمة كبيرة في تحقيق رغبات زوجها المتعلقة بها.
وفي حديثه عن معنى قيمومة الرجال على النساء في قوله تعالى : «الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي
ص: 204
الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا»(1)، وحسن تبعل المرأة أشار السيد الطباطبائي إلى كتاب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لولده وعدَّه "أُس ما بني عليه التشريع"(2).
فقال في الميزان: "ومن أجمع الكلمات لهذا المعنى مع اشتماله على أُس ما بني عليه التشريع ما في نهج البلاغة" أنَّ المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة"(3).
قال تعالى: «وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ»(4).
هذه الآية تُعدُّ بحسب جملة من المفسرين أول آية نزلت في أمر المسلمين بقتال أهل الشرك، وقالوا: أُمرَ فيها المسلمون بقتال من قاتلهم من المشركين، والكف عمن كف عنهم، ومنهم ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية(5).
ص: 205
وقال الثعالي: "هذه أول آية نزلت في القتال فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقاتل من يقاتله ويكف عمن كف عنه... ثم نهت الآية عن قتال النساء والصبيان، والشيخ الكبير ولا من ألقى إليكم السلم وكف يده فإن فعلتم ذلك فقد اعتديتم"(1).
وذكر السيد الطباطبائي: أنَّ سياق الآيات الشريفة يدل على أنَّها نازلة دفعة واحدة، وقد سبق الكلام فيها لبيان غرض واحد وهو تشريع القتال لأول مرة مع مشركي مكة، فإنَّ فيها تعرضاً لإخراجهم من حيث أخرجوا المؤمنين، وللفتنة، وللقصاص، والنهي عن مقاتلتهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوا عنده، وكل ذلك أمور مربوطة بمشركي مكة، ثم قال: "أنَّه تعالى قيد القتال بالقتال في قوله: «وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ» - الآية - وليس معناه الاشتراط أي قاتلوهم إن قاتلوكم وهو ظاهر، و (لا) قیداً احترازياً، والمعنى قاتلوا الرجال دون النساء والولدان الذين لا يقاتلونكم كما ذكره بعضهم، إذ لا معنى لقتال من لا يقدر على القتال حتى ينهى عن مقاتلته، ويقال: لا تقاتله بل إنما الصحيح النهى عن قتله دون قتاله"(2).
عموما إنَّ الآية تأمر بمقاتلة الذين يشهرون السلاح بوجه المسلمين، وتجيز لهم أنء يواجهوا السلاح بالسلاح، بعد أن انتهت مرحلة صير المسلمين على الأذى، وحلّت مرحلة الدفاع الدامي عن الحقوق المشروعة.
ص: 206
وعبارة "فِي سَبِيلِ الله" توضّح الهدف الأساسي من الحرب في المفهوم الإسلامي، فالحرب ليست للانتقام ولا للعلوّ في الأرض والتزعم، ولا للاستيلاء على الأراضي، ولا للحصول على الغنائم... فهذا كلّه مرفوض في نظر الإسلام، فحمل السلاح إنّما يصحّ حينما يكون في سبيل الله تعالى، وفي سبيل نشر الحقّ والعدالة والتوحيد، واقتلاع جذور الظلم والفساد والانحراف(1).
وهذه هي الميزة التي تميّز الحروب الإسلامية عن سائر الحروب في العالم، وهذا الهدف المقدّس يضع بصماته على جميع أبعاد الحرب في الإسلام ويصبغ كيفيّة الحرب وكميّتها ونوع السلاح والتعامل مع الأسرى وأمثال ذلك بصبغة "في سبيل الله".
لذلك يوصي الإسلام برعاية كثير من الأصول الخلقية في الحرب، وهو ما تفتقر إليه حروب عصرنا أشدّ الافتقار، إذ منعت الآية تعرض المدنيين - خاصّةً النساء والأطفال - لهجوم، فهم مصونون؛ لأنّهم لا يقاتلون ولا يحملون السلاح. كما يجب اجتناب التعرض للمزارع والبساتين، وعدم اللجوء إلى المواد السامة لتسميم مياه شرب العدوّ كالسائد اليوم في الحروب الكيمياوية والجرثوميّة.
وهذه المعاني السامية، والأخلاق الكريمة في التعامل مع العدو في ساحة المعركة وخارجها، تمثَّلها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في قتال أعدائه إذ قال لأفراد جيشه كما ورد في فج البلاغة وذلك قبل شروع القتال في صفين:
ص: 207
"لا تقاتلوهم حتّى يبدءوكم فإنَّكم بجهد الله على حجّة، وترككم إيّاهم حتّى يبدءوکم حجّة أُخرى لكم عليهم، فإذا كانت الهزيمة بإذن الله فلا تقتلوا مدبراً ولا تُصيبوا مُعوراً ولا تجهزوا على جريح، ولا تهيجوا النساء بأذىً وإن شتَمن أعراضكم وسَبَبنَ أُمراءكم"(1).
وهذه هي أوضح مصاديق أخلاق الحرب التي ندب إليها الإسلام في الآيات محل البحث، والتي تعرض إليها المفسرون، فضلاً عن تعرضهم لكلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة، إذ إنَّه أسَّس لمنطق التعامل مع العدو داخل المعركة وخارجها، وهو ما أفاده الشيخ مكارم في تفسيره الأمثل(2).
بل إنَّ الإمام علياً عليه السلام ذهب إلى أكثر من ذلك إذ خاطب فريقاً من أصحابه الذين كانوا يسبون أتباع معاوية في حرب صفين، فقال: إِنِّي أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر"(3).
ولاشك أنَّ هذا الخلق الرفيع في التعاطي مع العدو هو من آثار تعاليم القرآن الكريم التي عكسها عليه السلام وحولها إلى واقع عملي، إذ إنَّ القرآن الكريم فهمي عن شتم عقائد الكافرين؛ لانَّ أمثال هؤلاء إذا أُثير غضبهم سعوا للانتقام والثأر بأي ثمن كان، حتى وإن كان ذلك بالإساءة
ص: 208
إلى عقائد مشتركة، لذا قال عز من قائل: «وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»(1).
وسلوك الإمام هذا بحدِّ ذاته تواصل مع منطق القرآن الكريم في ترك سبّ الضالين والمنحرفين، فقد أمر الإسلام كبار قادته بضرورة الاستناد إلى المنطق والاستدلال دائماً، وبلزوم تجنب شتم عقائد الآخرين، وقد استشهد صاحب تفسير الأمثل بنص كلام الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة(2).
ظاهرة النفاق هي من أخطر الظواهر، وأكبرها ضرراً على الأمة الإسلامية إذ عانت الأمة الإسلامية منذ اليوم الأول لولادتها من هذه الظاهرة الخطيرة.
وقد حذَّرَ الله عَزَّ وجَلَّ في القرآن الكريم رسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من خطر المنافقين في آيات عدة وبيَّن بعض صفاتهم وأساليبهم وكشف عن بعض نواياهم وخططهم الخؤونة، وأساليبهم وأهدافهم وتوعدهم بالخزي والفضيحة والعذاب الأليم في آيات كثيرة من القرآن الكريم، كما خصص الله عَزَّ وجَلَّ سورة كاملة من سُور القرآن باسم "سورة المنافقون" لتحذير المؤمنين منهم، فمن تلك الآيات على سبيل المثال لا الحصر:
ص: 209
قوله تعالى: «إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا»(1)، وقوله عزَّ مِن قائل: «إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ»(2)، وقوله جلَّ جلاله: «اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»(3)، وغير ذلك من الآيات التي تبلغ العشرات في ذم النفاق والمنافقين، والتحذير منهم ومن مخططاقم.
كما حذر الرسول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم من ظاهرة النفاق والمنافقين وفضح مخططاتهم في مواقف كثيرة، فقد ذكرت بعض الأحاديث جانباً من علامات المنافقين وصفاتهم، ففي الحديث النّبوي: "ثَلاَثٌ مَن كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقاً وَإِن صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسلِمٌ: مَن إذا ائتُمُنَ خَانَ، وَإذا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإذا وَعَدَ أَخلَفَ"(4).
والحديث لا يدور هنا طبعاً عن المنافق بالمعنى الخاص، بل عن الذي في قلبه خيوط من النفاق، تظهر على سلوكه بأشكال مختلفة، وخاصة بشكل ریاء، كما جاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: "اَلرِّيَاءُ شَجَرَةٌ لاَ تُثمِرُ إلا الشِّركَ الخَفِيَّ، وَأَصلُهَا النِّفَاقُ"(5).
ص: 210
وأظهر وصف للمنافقين بعد وصف القرآن الكريم، ما جاء في نهج البلاغة على لسان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الذي وصفه الشيخ مكارم الشيرازي في تفسير الأمثل "بالنص الرائع"، إذ قال: "وفي نهج البلاغة نصّ رائع في وصف المنافقين عن أمير المؤمنين علي عليه السلام يقول فيه: "أوصِيكُم عِبَادَ الله بِتَقوَى الله، وَأُحَذِّرُكُم أهل النِّفَاقِ، فَإِنَّهُمُ الضَّالُّونَ المُضِلُّونَ، وَالزّالُّونَ المُزِلُّونَ، يَتَلَوَّنُون أَلوَانَاً، وَيَفتَنُّونَ افتِنَاناً، وَيَعمِدُونَكُم بِكُلِّ عِمَاد"(1).
فبيّن عليه السلام أنَّ النفاق مرض خطير وجرم كبير وهو إظهار الإسلام وإبطان الكفر... والنفاق أخطر من الكفر، وقد كان استشهاد صاحب الأمثل بهذا النص عند تفسيره لقوله تعالى: «وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ»(2).
وفي تفسير قوله تعالى: «فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ».
قال الشيخ محمد جواد مغنية في الكاشف: "تعكس هذه الآية جبن المنافقين وخورهم عند القتال، وجرأتهم على الذنوب والآثام وهم آمنون مطمئنون ترتعش منهم القلوب، وتدور العيون في رؤوسهم فزعاً وهلعاً في ساحة الوغى وعند السلم والأمن يطلقون ألسنتهم السلاط تنهش المؤمنين والمجاهدين"(3).
ص: 211
معضداً رأيه بما ورد في نهج البلاغة من قول الإمام عليه السلام: "إنَّ المنافق يتكلم بما أتى على لسانه لا يدري ماذا له وماذا عليه"(1).
قال تعالى: «وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ»(2).
هذا النص يوضح أنَّ شقاء الشيطان كله كان وليدَ تكبره، وانَّ أنانيته هذه التي جعلته يرى نفسه أفضلَ ممّا هو، هي التي تسببت في أن لا يكتفي بعدم السجود لآدم، بل وينكر علم الله تعالى وحكمته، ويعترض على أمر الله سبحانه، وينتقده، فخسر على اثر ذلك منزلته ومكانته، ولم يحصد من موقفه إلا الذلة والصغار بدل العظمة، فإنَّ امتناع الشيطان من السجود لآدم عليه السلام كان تمّرداً مقروناً بالاعتراض والإنكار للمقام الربوبي، لأنّه قال: "أَنَا خَيرٌ مِنهُ"، وهذه الجملة تعني في حقيقة الأمر أنَّ أمرك بالسجود لآدم أمرٌ مخالفٌ للحكمة والعدالة وموجب لتقديم "المرجوح" على "الراجح".(3)
لهذا فإِنّ مخالفته كانت تعني الكفر وإِنكار العلم والحكمة الإلهيين، فوجب أن يخسر جميع مراتبه ودرجاته، وبالتالي كل ما له من مكانة عند
ص: 212
الله سبحانه وتعالى، ولهذا أخرجه الله عز وجل من ذلك المقام الكريم، وجرّده من تلك المنزلة السامقة التي كان يتمتع بما في صفوف الملائكة، فقال له: «قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ»(1).
وهذا ما بيَّنه الإمام عليه السلام في "الخطبة القاصعة" عند ذمّه للتكبر والعجب بقوله: "فاعتبروا بما فعل الله بإِبليس إذ أحبط عمله الطويل، وجهده الجهيد، وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة... عن كبر ساعة واحدة، فمن ذا بعد إِبليس يسلَم على الله بمثل معصيته كلا، ما كان الله سبحانه ليدخل الجنّة بشراً بأمر أخرج به منها مَلَكاً، إِنّ حكمه في أهل السماء وأهل الأرض لواحد"(2).
فأمر الإمام عليه السلام في هذه الخطبة: بالاعتبار بحال إبليس الذي عبد الله ستة آلاف سنة؛ لا يُدري أمن سني الدنيا أم من سني الآخرة، ومما لا شك فيه أنَّ قول: "لا يُدري" فيه حكمة قد لا يهتدي إليها الناس، إذ لا يعقل أنَّ الإمام عليه السلام تخفى عليه هذه السنين فلا يعرف من أيِّ السنين هي، قال ابن أبي الحديد: "وهذا يدلُّ على أنه قد سمع فيه نصاً من رسول صلی الله عليه وآله وسلم مجملاً لم يفسره له، أو فسره له خاصة، ولم يفسره أمير المؤمنين عليه السلام للناس لا يعلمه في كتمانه عنهم من المصلحة"(3).
ص: 213
وفي هذا السياق أورد صاحب الأمثل بعضاً من كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة، الذي أمر من خلاله بالاعتبار بابلیس في تفسيره لقوله تعالى: «قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ»(1)، وغيرها من الآيات التي جاءت في سياقها، وقد توصل إلى حقيقة أنَّ الشيطان ارتقى الدرجات العُلا ونال شرف العيش بين صفوف الملائكة نتيجة لطاعته السابقة لله عزَّ وجلّ، حتى أنّ البعض قال عنه: إنّه كان معلماً للملائكة، مفيداً ذلك كله من خطبة الإمام المسماة "بالقاصعة"(2).
الأمر الذي يكشف بوضوح أثر نهج البلاغة في هذا التفسير، إذ استدل الشيخ في موضع آخر من تفسيره بالخطبة القاصعة في (نهج البلاغة) أنّه عبد الله عزَّ وجلّ آلاف السنين، لكن شراك التعصب الأعمى وعبادة هوى النفس المهلك قد أدّيا إلى خسرانه كل ذلك في لحظة تكبر وغرور(3).
وغير ذلك من الشواهد المبثوثة في تفاسير الإمامية، التي توزعت على مستويات عدَّة، اختصر الباحث فيها على المستوى العقائدي، والمستوى التعبدي، والمستوى الأخلاقي، بوصفها جامعة لأكثر عينات الأثر، مما يظهر للقارئ أنَّ لنهج البلاغة أثراً كبيراً في العملية التفسيرية برمتها، ولا أدّعي هنا أنَّني أحطتُ بكل ما هو موجود في هذه التفاسير على كل هذه المستويات،
ص: 214
وذلك لعظمة كتاب نهج البلاغة، وكثرة ما تناوله المفسرون من خطب وأقوال ووصايا وكتب، وقصار الحكم، آملا أن تتاح الفرصة لباحث آخر لإكمال المشوار، وإتمام المهمة، والعون منه وحده.
والحمد لله رب العالمين.
ص: 215
يُعدُّ نهج البلاغة ذا أهمية كبرى في العلوم الشرعية وعلوم اللغة والعلوم التي تَصبُّ في خدمتها عموماً، فهو منهل للباحثين في الحكمة والأدب والعرفان، فضلا عن علوم القرآن الكريم وتفسيره، إذ إنَّها احتلت حيزاً كبيراً أفاد منه مفسرو الإمامية.
فبعد رحلة شاقة وممتعة مع المصادر والمراجع التي تضمنتها هذه الدراسة وهي تبحث عن أثر نهج البلاغة في تفاسير الإمامية في القرن الخامس عشر الهجري تبين مایلي:
أولاً: تبيّنَ من خلال البحث أنَّ كتاب نهج البلاغة عبارة عن تجليات قرآنية، تمثّلها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ثم عکسها على أرض الواقع بأسلوبه وبيانه الذي انماز عن كل أسلوب، فكان بحق فوق كلام المخلوقين ودون کلام الخالق.
ص: 216
ثانیاً: اتضح من البحث أنَّ المسائل المتعلقة بالتوحيد هي من أساسيات مواضيع نهج البلاغة، بل من أعجب بحوثه، إذ إنَّه حوی طرحاً فلسفياً بالنسبة للإلهيات لا يجاريه أي طرح آخر.
ثالثاً: بيَّن البحث أنَّ كتاب نهج البلاغة يحوي في طياته أُسُساً وضوابطَ تبتني عليها أصول النظر إلى القرآن الكريم، كان أبرزها نظرية تفسير القرآن بالقرآن التي ظهرت بصورة جلية في تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي.
رابعاً: رصد البحث بعض العينات التفسيرية المبثوثة في "نهج البلاغة" التي أفاد منها المفسرون قديماً وحديثاً، لاسيما مفسرو الإمامية، توزعت على قضايا مختلفة، كان في مقدمتها: التفسير بالجري والانطباق، وهو مما تفرد به أئمة أهل البيت عليهم السلام، إذ إنَّه ذو بعد مرتبط بنظرية تفسير القرآن بالقرآن.
خامساً: تبين من خلال الدراسة أن هنالك أثراً لنهج البلاغة في قضايا متعددة مثل موضوع البلاء وموضوع استحياء النساء وخلق البعوضة وغير ذلك من المواضيع التي يتطلب إحصاؤها وقتاً كبيراً.
توصية البحث: يرى البحث أمرين مهمين على الباحثين أن يلتفتوا إليهما:
ص: 217
أولاً: اعتماد منهج جديد في التفسير يجعل من نهج البلاغة مصدراً في التفسير بوصفه يمثل جزءاً مهماً من تراث الإمام علي عليه السلام المعرفي الذي في مقدمته التراث التفسيري، ولا سيما وقد ابتعدنا كثيراً عن عصر النص.
ثانياً: إنّ الأثر الذي تركه نهج البلاغة في العملية التفسيرية لا يمكن أن يختزل برسالة ماجستير، ولا حتى بأطروحة دكتوراه، وإنّما هو بحاجة إلى عمل مؤسساتي من أجل إحصائه وتدوينه والإفادة منه على كل الصُعد والمستويات.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
ص: 218
1. القرآن الكريم.
2. الإتقان في علوم القران، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 911 ه)، تحقيق: محمد سالم هاشم، دار الكتب العلمية، بيروت. لبنان، ط / 1، 1428 ه. 2007 م.
3. الإحتجاج: أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي (5898 ه) تحقيق الشيخ: أحمد إبراهيم البهادري ومحمد هادي به، دار الأسوة للطباعة وللنشر، إيران، 1142 ه.
4. الإرشاد، الشيخ المفيد (ت 413 ه) تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لتحقيق التراث، دار المفيد، بيروت. لبنان، ط / 2، 1414 ه - 1993 م.
5. أسد الغابة في معرفة الصحابة، محمد بن محمد بن عبد الكريم بن الواحد الشيباني المعروف بابن الأثير (ت 630 ه)، دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان، (د.ت).
6. أصول التفسير والتأويل، السيد كمال الحيدري، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت -
لبنان، ط / 1، 1427 ه - 2006.
7. أضواء على عقائد الشيعة الإمامية، الشيخ جعفر السبحاني، مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام. قم، ط / 1، 1421 ه.
8. الاعتقادات في دين الإمامية، الشيخ الصدوق (ت 381 ه)، تحقيق: عصام عبد السيد
ص: 219
دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط / 2، 1414 ه، 1993 م.
9. إعراب القرآن، أبي جعفر أحمد بن محمد بن اسماعيل النحاس (ت 338 ه)، اعتني به الشيخ خالد العلي، دار المعرفة، بيروت، لبنان، ط / 8، 1429 ه. 2008 م.
10. أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين (ت 1371 ه)، تحقيق: حسن الأمين، دار التعارف للمطبوعات، بيروت - لبنان، (د.ت).
11. الألفين في إمامة أمير المؤمنين، العلامة الحلي (ت 676 ه)، المطبعة الحيدرية، النجف الاشرف، ط / 2، 1389 ه - 1969 م.
12. الأمالي، الشيخ الصدوق (ت 381 ه)، مؤسسة البعثة قم المقدسة، 1417 ه.
13. الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مکارم الشيرازي، مطبعة أمير المؤمنين، قم - إيران، ط / 1، 1421 ه.
14. الانتصار، الشريف المرتضى (ت 436 ه)، تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المقدسة، 1415 ه.
15. أوائل المقالات الشيخ المفيد (ت 413 ه)، تحقيق: الشيخ إبراهيم الأنصاري، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت، ط / 2، 1414 ه - 1993 م.
16. بحار الأنوار، الشيخ محمد باقر المجلسي (ت 111 ه) مؤسسة الوفاء، بيروت - لبنان (د.ت)
17. بحوث في أصول التفسير، محمد لطفي الصباغ، طبعة: المكتب الإسلامي، ط / 1، 1408 ه. 1988.
18. البرهان في علوم القرآن، بدر الدين الزركشي (ت 794 ه) دار الكتب العلمية، بيروت، ط / 1.
19. بصائر الدرجات، محمد ابن الحسن الصفار(ت 290 ه)، تحقيق: ميرزا حسن کوجه باغي، منشورات الأعلمي، طهران، 1404 ه.
ص: 220
20. البيان في تفسير القرآن، السيد أبو القاسم الخوئي (ت 1411 ه) منشورات: دار العلم للإمام السيد الخوئي، النجف الأشرف، 1410ه - 1989 م.
21. تاج العروس من جواهر القاموس، محب الدين السيد مرتضى الحسيني (ت 1205 ه)، دار الفكر: بيروت - لبنان، 1414 ه. 1994 م.
22. تاريخ الكوفة، السيد حسين بن السيد احمد البراقي (ت 1332 ه)، تحقيق ماجد أحمد العطية، انتشارات المكتبة الحيدرية، 1434 ه - 1382 ش.
23. التبيان في تفسير القرآن، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي (ت 460 ه)، تحقيق: أحمد حبيب قصير، مكتب الإعلام الإسلامي، 1409 ه.
24. تحرير الأحكام، العلامة الحلي (ت 676 ه) تحقيق: الشيخ إبراهيم البهادري، مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام، ط / 1، 1420 ه.
25. التحرير والتنوير، الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، دار سحنون للنشر والتوزيع. تونس. 1997 م.
26. تخريج الأحاديث والآثار، الزيلعي (ت 762 ه)، تحقيق: عبد الله بن عبد الرحمن السعد، دار ابن خزيمة، الرياض، 1414 ه.
27. تصنيف نهج البلاغة، لبيب بيضون، مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي، ط / 3، 1414 ه.
28. تعليق التعليق، أبن حجر العسقلاني ( ت 852 ه)، تحقيق: سعيد عبد الرحمن موسى القزقي، المكتب الإسلامي - دار عمار، ط / 1 1404 ه.
29. تفسير الإمام العسكري، المنسوب للإمام العسكري، تحقيق: مدرسة الإمام المهدي قم المقدسة، الناشر: المحقق، 1409 ه.
30. تفسير الثعلبي، الثعلبي (ت 427 ه)، تحقيق: أبو محمد بن عاشور، دار إحياء التراث العربي، 1422 ه - 2002م.
ص: 221
31. التفسير الصافي، محمد محسن الفيض الكاشانی (ت 1091 ه)، مكتبة الصدر. طهران، ط /2 ، 1416 - 1374 ش.
32. تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن عمربن كثير القرشي الدمشقي (ت 774 ه)، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط / 2، 1420 ه - 1999 م.
33. تفسير القرآن الكريم برواية الإمام عليه السلام، علي عاشور، دار الصفوة، بيروت - لبنان، ط / 1، 51432 - 2011 م.
34. تفسير القرآن، عبد الرزاق الصنعاني (ت 211 ه)، تحقيق: مصطفى مسلم محمد، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع، السعودية الرياض، 1410 ه - 1989 م.
35. تفسير القمي، علي بن إبراهيم القمي (ت 329 ه)، تحقيق: السيد طيب الموسوي الجزائري، مؤسسة دار الكتاب للطباعة والنشر. قم. إيران، 1404 ه.
36. التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية (ت 1400 ه)، دار الأنوار، بيروت، لبنان، ط / 4، (د.ت).
37. تفسير المحيط الأعظم والبحر الخضم في تأويل كتاب الله العزيز المحكم، السيد حيدر الأملي، تنقيح: السيد محسن الموسوي التبريزي، مؤسسة الطباعة والنشر، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، إيران، 1414 ه.
38. تفسير جوامع الجمع، الشيخ الطوسي (ت 548 ه)، تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامية، قم المقدسة، 1921 ه، ط / 1.
39. تفسير جوامع الجمع، الشيخ الطوسي، (ت 548ه)، تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامية، قم المقدسة، 1921ه.
40. تفسير نور الثقلين، الشيخ عبد علي بن جمعة العوسي الحويزي (ت 1112 ه)، تحقيق: هاشم الرسولي المحلاتي، مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر
ص: 222
والتوزيع، قم المقدسة، ط / 4، 1912 ه - 1370 ش.
41. التفسير والمفسرون، محمد حسين الذهبي، اوند للطباعة والنشر، ط / 1، (د.ت).
42. تقريب المعارف، أبو الصلاح الحلبي (ت 474 ه)، تحقيق: فارس حسون تبریزیان، الناشر: المححق، 1617 ه.
43. التمحيص، محمد بن همام الإسكافي (ت 336 ه)، تحقيق: مدرسة الإمام المهدي عليه السلام الناشر: المحقق، قم المقدسة، (د.ت)
44. تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي (ت 672 ه)، تحقيق: السيد حسن الموسوي الخرسان، دار الكتب الإسلامية - طهران، ط / 4، 1365 ش.
45. التوحيد، أبي جعفر محمد علي بن الحسين بن بابويه القمي (الصدوق) (ت 5381)، تحقيق: هاشم الحسيني الطهراني، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة، (د.ت).
46. جامع أحاديث الشيعة، السيد البروجردي (ت 1383 ه)، المطبعة العلمية. قم، 1399 ه.
47. جامع أحاديث الشيعة، السيد حاج آقا حسين الطباطبائي البروجردي (ت 1383 ه)، المطبعة: المطبعة العلمية - قم، 1399 ه.
48. جامع البيان، ابن جرير الطبري (ت 360 ه)، تحقيق: خليل الميس، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت. لبنان، 1415 ه - 1995 م.
49. الجامع الصحيح سنن الترمذي، محمد بن عيسى أبو عيسى الترمذي السلمي (ت 279 ه) تحقيق: أحمد محمد شاكر، دار إحياء التراث العربي - بيروت (د.ت).
50. الجامع الصغير، جلال الدين السيوطي (ت 5911)، دار الفکر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت، ط / 1، 1401 ه - 1981 م.
51. جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر (ت 463 ه)، دار الكتب العلمية، بيروت، 1398 ه.
ص: 223
52. جواهر الكلام الشيخ الجواهري، (ت 1266 ه)، تحقيق: الشيخ عباس القوچاني، دار الكتب الإسلامية - طهران، ط / 2، 1362 ش.
53. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (ت 430 ه) دار الكتاب العربي - بيروت، ط / 4، 1405 ه.
54. حول مسائل الحج، السيد محمد رضا الموسوي الگلپايگاني (ت 1414 ه)، دار القرآن الكريم - قم المقدسة - إيران، ط / 2، (د.ت).
55. حياة الإمام الرضا، الشيخ باقر شريف القرشي، انتشارات: سعيد بن جبير - قم، 1372 ش.
56. الخرائج والجرائح، قطب الدين الراوندي (ت 573 ه)، تحقيق مؤسسة الإمام المهدي (عجل الله فرجه)، الناشر: المحقق، ط / 1، 1409 ه.
57. الخصال، الشيخ الصدوق (ت 381 ه)، تحقيق وتصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة، 1403 ه - 1362 ش.
58. خصائص الأئمة، الشريف الرضي (ت 406 ه)، تحقيق: محمد هادي الأميني، مجمع البحوث الإسلامية، الآستانة الرضوية المقدسة، مشهد - إيران، 1406 ه.
59. الخلاف، الشيخ الطوسي (ت 460 ه)، تحقيق: جماعة من المحققين، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المقدسة، 1407 ه.
60. دلائل الإمامة، محمد بن جرير الطبري (ت 923 ه)، تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية - مؤسسة البعثة - قم - ط / 1، 1413 ه.
61. ذخائر العقبي في مناقب ذوي القربى، محب الدين أحمد بن عبد الله الطبري، (ت 694 ه)، مكتبة القدسي - القاهرة، 1356.
62. روضة الواعظين، محمد بن الفتال النيسابوري (ت 5508)، تحقيق محمد مهدي
ص: 224
السيد حسن الخرسان، منشورات: الشريف الرضي، قم المقدسة (د.ت).
63. سنن الترمذي، الترمذي (ت 279 ه)، تحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ط / 2، 1403 ه. 1983 م.
64. السنن الكبرى، أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي (ت 458 ه)، مجلس دائرة المعارف النظامية، الهند - حيدر آباد، ط / 1، 1344 ه.
65. سنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، السيد محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 ه)، تحقيق: الشيخ محمد هادي الفقهي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المقدسة، 1419 ه.
66. سيرة ابن إسحاق، محمد بن إسحاق بن يسار (ت 151 ه)، تحقيق: محمد حميد الله، معهد الدراسات والأبحاث للتعريف، (د.ت).
67. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد عز الدين أبو حامد بن عبد الحميد بن هبة الله المدائني (ت 656 ه)، تحقيق: محمد أبي الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، عيسى البابي الحلبي، 1385 ه - 1965 م.
68. الشمس الساطعة، محمد الحسين الحسيني الطهراني (ت 1286 ه)، دار الأولياء، ط / 2، 2008 م.
69. شواهد التنزيل لقواعد التفضيل، عبيد الله بن أحمد الحاكم الحسكاني (ت 470 ه)، تحقيق: محمد باقر المحمودي، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية ط / 1، 1411 ه- 1990 م.
70. الشيعة وفنون الإسلام، السيد حسن الصدر (ت 1354 ه)، (د.ت).
71. الطبقات الكبرى، محمد ابن سعد (ت 230 ه)، دار صادر. بيروت، (د.ت).
72. عدة الأصول، الشيخ الطوسي (ت 672 ه)، تحقيق: محمد مهدي نجف، مؤسسة أهل البيت عليهم السلام للطباعة والنشر (د.ت).
ص: 225
73. العرفان الشيعي، خنجر علي حميه، دراسة في الحياة الروحية والفكرية لحيدر الآملي، دار الهادي، (د.ت).
76. عقائد السنّة وعقائد الشيعة، صالح الورداني، الغدير للدراسات والنشر، بيروت - لبنان، 1419 ه - 1999 م.
75. علل الشرائع، الشيخ الصدوق (ت 381 ه)، تحقيق: السيد محمد صادق بحر العلوم، منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها، النجف الأشرف، 1385 ه - 1966 م.
76. علوم القرآن، السد محمد باقر الحكيم، دار التعارف للمطبوعات، بيروت - لبنان، ط / 4، 1428 ه - 2007 م.
77. عوالي اللآلئ، أبن جمهور الأحسائي (ت 880 ه)، تحقيق: آقا مجتبى العراقي، مطبعة سيد الشهداء، قم المقدسة، ط / 1، 1405 ه - 1985 م.
78. عيون أخبار الرضا، الشيخ أبو جعفر الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (ت 381 ه)، تنقيح: الشيخ حسين الأعلمي، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت - لبنان، ط / 1، 1404 ه - 1984 م.
79. عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي (ت 365 ه)، تحقيق: حسين الحسيني البير جندي، دار الحديث، (د.ت).
80. الغدير، الشيخ الأمين (ت 1392 ه)، دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان، ط / 4، 1397 ه - 1977 م.
81. الغيبة، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ت 460 ه)، تحقيق: عبد الله الطهراني، علي أحمد ناصح، مؤسسة المعارف الإسلامية، قم المقدسة، ط / 1، 1411 ه.
82. فقه القرآن، القطب الراوندي (ت 573 ه)، تحقيق: السيد أحمد الحسيني، مكتبة آية الله العظمى النجفي المرعشي، 1405 ه.
ص: 226
83. فهرست ابن النديم البغدادي (ت 438 ه)، تحقيق: رضا تجدد، (د.ت).
84. في رحاب نهج البلاغة، مرتضى مطهري، ترجمة: هادي اليوسفي، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، لبنان، ط / 1، 1978 م.
85. القرآن وإعجازه العلمي، محمد اسماعيل إبراهيم، دار الفكر العربي، (د.ت).
86. القرآن والعقيدة، مسلم الحلي (ت 1401 ه)، تحقيق: فارس حسون، (د.ت).
87. قرب الاسناد، الشيخ أبي العباس عبد الله بن جعفر الحميري القمي (ت 300 ه)، تحقيق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث. قم، 1413 ه.
88. الكافي، (الأصول) محمد بن يعقوب الكليني (ت 329 ه)، منشورات الفجر، بيروت - لبنان، 1428 ه - 2007 م.
89. کنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، علاء الدين علي المتقي الهندي (ت 975 ه)، تحقيق: بكري حياني، مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، 1409 ه - 1989 م.
90. کنز الفوائد، أبو الفتح الكراجکی (ت 449 ه)، مكتبة المصطفوي، قم المقدسة، ط / 2.
91. كيف نتعامل مع القرآن، محمد الغزالي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط / 1، 1412 ه 1992 م.
92. لمحات من تاريخ القران، محمد علي الاشيقر، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان، 1408 ه - 1988 م.
93. مباحث في علوم القرآن، صبحي الصالح (ت 1407 ه)، دار العلم للملايين، بيروت - لبنان، ط / 6، 1969 م.
94. مجمع البيان في تفسير القرآن، أبو الفضل علي بن الحسين الطبرسي (ت 548 ه)، تحقيق: هاشم الرسولي المحلاتي، منشورات شركة المعارف الإسلامية، 1379 ه.
ص: 227
95. مجمع الزوائد، الهيثمي (ت 807 ه)، دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان، 1408 ه - 1988 م.
96. المحاسن، أحمد بن محمد بن خالد البرقي (ت 274 ه)، تنقيح: السيد جلال الدين الحسيني، دار الكتب الإسلامية - طهران، 1370 ه - 1330 ش.
97. المحكم والمتشابه، الشريف المرتضى (ت 676 ه) الطبعة الحجرية، إيران، 1313 ه. 98. المدرسة القرآنية، السيد محمد باقر الصدر (ت 1401 ه)، مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر، قم المقدسة، ط / 4.
99. مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، الحاج ميرزا حسين النوري الطبرسي (ت 231 ه)، تحقيق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام دار إحياء التراث، الطبعة المحققة الأولى، 1408 ه - 1987 م.
100. المستدرك على الصحيحين، محمد بن عبد الله أبو عبد الله الحاكم النيسابوري (ت 405 ه) تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية - بيروت، ط / 1، 1411 ه - 1990 م.
101. مسند أحمد، الإمام أحمد بن حنبل (ت 241 ه)، دار صادر. بيروت. لبنان (د.ت).
102. مسند الرضا عليه السلام، داود بن سليمان الغازي (ت 203 ه)، تحقيق: محمد جواد الحسيني الجلالي، مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي، 1418 ه.
103. مسند زيد بن علي بن أبي طالب، منشورات: مكتبة الحياة - بيروت - لبنان (د.ت).
104. مصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة)، حسن الميرجهاني الطباطبائي (ت 1388 ه).
105. مصباح الفقيه، آقا رضا الهمداني (ت 1322 ه)، منشورات مكتبة الصدر - طهران،
ص: 228
طبعة حجرية، (د.ت).
106. معاني الأخبار، الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسين بن بابويه القمي المعروف (بالصدوق) (381 ه)، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم المقدسة، 1379 ه - 1338 ش.
107. المعتبر في شرح المختصر، نجم الدين أبو القاسم جعفربن الحسن المحقق الحلي (ت 676 ه)، تنقيح: عدد من الأفاضل، مؤسسة سيد الشهداء عليه السلام - قم، (د.ت).
108. المعجم الموضوعي لنهج البلاغة، أويس كريم محمد، مؤسسة الطبع والنشر في الأستانة الرضوية المقدسة، 1408 ه.
109. مقالات تأسيسية في الفكر الإسلامي، مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر، تعريب خالد توفيق جواد علی، ط / 1، 1415 ه.
110. مكارم الأخلاق، الشيخ الطبرسي (ت 548 ه)، منشورات الشريف الرضي، 1392 ه - 1972 م.
111. مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب (ت 588 ه)، تحقيق: لجنة من أساتذة النجف، المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف، 1376 ه - 1959 م.
112. مناهج المتكلمين في فهم النص القرآني، الدكتور ستار الأعرجي، بيت الحكمة، العراق - بغداد، ط / 1، 2008 م.
113. منية الطالب في شرح المكاسب، الشيخ موسى بن محمد النجفي الخوانساري (ت 1363 ه)، تقريرات المحقق الميرزا محمد حسين النائيني (1355 ه)، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين قم المقدسة، 1418 ه.
114. مواهب الجليل، الحطاب الرعيني (ت 954 ه)، تحقيق: زكريا عميرات، دار الكتب العلمية. بيروت. لبنان، ط / 1، 1416 ه . 1995 م.
ص: 229
115. مواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيد عبد الأعلى السبزواري (ت 1412 ه)، منشورات دار التفسير، قم - ایران، ط / 5، 1431 ه - 2010 م.
116. موسوعة المصطفى والعترة عليهم السلام، حسين الشاكري، نشر الهادي - قم - إيران، ط / 1، 1418 ه.
117. الميزان في تفسير القرآن، العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 ه)، تحقيق: أياد باقر سليمان، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، ط / 1، 1427 ه - 2006 م.
118. الميزان في تفسير القرآن، محمد حسين الطباطبائي، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية. قم المقدسة، (د.ت).
119. الناسخ والمنسوخ في كتاب الله تعالى، قتادة بن دعامة السدوسي (سنة 117 ه)، تحقيق: حاتم صالح الضامن، مؤسسة الرسالة بيروت، ط / 3، 1409 ه - 1988 م.
120. النشر في القراءات العشر، ابن الجزري (ت 833 ه)، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط / 3.
121. نهج البلاغة، الشيخ محمد عبده (ت 1323 ه) دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان، ط / 1، (د.ت).
122. نهج الحق وكشف الصدق، العلامة الحلي (ت 676 ه)، تحقيق: رضا الصدر، مؤسسة الطباعة والنشر دار الهجرة - قم المقدسة، 1421 ه.
123. نيل الأوطار من أحاديث سيد الاخيار، محمد بن علي بن محمد الشوكاني (ت 1255 ه)، دار الجيل - بيروت، لبنان، 1973 م.
124. الهداية (في الاصول والفروع)، الشيخ الصدوق (ت 381 ه)، تحقيق: مؤسسة الإمام الهادي عليه السلام، الناشر: المحقق، قم المقدسة، 1418 ه.
125. وسائل الشيعة، الحر العاملي (ت 1104 ه) دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان،
ص: 230
ط / 4، 1391 ه.
126. وصول الأخيار إلى أصول الأخبار، حسين بن عبد الصمد العاملي (ت 984 ه)، تحقيق: عبد اللطيف الكوهكمري، مجمع الذخائر الاسلامية، 1401 ه.
127. ينابيع المودة، سلمان بن إبراهيم القندوزي (ت 1294 ه)، تحقيق: علي جمال أشرف، دار أسوة للطباعة والنشر، ط / 1، 1416ه.
128. نهج البلاغة سراج الفكر وسحر البيان، بحوث المؤتمر العلمي الدولي الأول، جامعة الكوفة، 27. 28 آذار 2011 م، ط / 1، 2011 م.
ص: 231
الإهداء...5
المقدمة...6
الفصل الأول...11
جهود الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في خدمة القران الكريم...11
المبحث الأول...13
خصائص الإمام علي عليه السلام في فهم النص القرآني...13
الخصوصية الأولى: الإحاطة بظروف نزول النص القرآني...17
الخصوصية الثانية: الأخذ المباشر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم...22
الخصوصية الثالثة: إدراك الإمام عليه السلام للبناء الكلي للنص القرآني...31
الخصوصية الرابعة: اختصاصه بعلم التاويل...37
المبحث الثاني...46
ريادة الإمام علي عليه السلام في تفسير القرآن وعلومه وجمعه...46
ص: 232
أولا: الريادة في علم التفسير...47
مرجعية الإمام عليه السلام الفكرية والتفسيرية...50
ثانياً: ريادة الإمام عليه السلام في علوم القرآن الكريم...58
1. معرفة أسباب النزول...59
2. معرفة الناسخ والمنسوخ...60
3. معرفة المحكم والمتشابه...64
4. المجمل والمبین...69
5. القراءات القرآنیة...70
ثالثاً: ريادة الإمام عليه السلام في جمع القرآن الكريم...75
الفصل الثاني...81
نهج البلاغة مصدرٌ في التفسير...81
المبحث الأول...85
ضوابط فهم النص القرآني في نهج البلاغة...85
أولاً: استنطاق القرآن الكريم...87
ثانياً: النهي عن تفسير القرآن بغير الأصول المعتمدة...91
التكلم بالقرآن بالرأي...91
ضرب القرآن بعضه ببعض...93
ثالثاً: مرجعية أهل البيت عليه السلام في التفسير...97
رابعاً: مصاحبة القرآن الكريم والانسجام مع أهدافه...102
ص: 233
خامساً: فهم دلالات النص القرآني...106
سادساً: تحديد أحكام النص الروائي في التفسير والحديث...109
المبحث الثاني...114
الشواهد التفسيرية في نهج البلاغة...114
المثال الأول...115
المثال الثاني...118
المثال الثالث...121
المثال الرابع...123
المثال الخامس...125
الفصل الثالث...127
المستويات التوظيفية لنهج البلاغة في تفاسير الإمامية...127
المبحث الأول...131
أثر نهج البلاغة في المستوى العقائدي...131
أولاً: التوحيد ومعرفة الله...133
ثانياً: كيفية "كلام الله" سبحانه...137
ثالثاً: استحالة رؤية الله تعالى...141
رابعاً: الجبر والتفويض...43
خامساً: الحكمة من بعث الأنبياء وبيان حال الناس معهم...146
ص: 234
1. الحكمة من بعثة الأنبياء...146
2. بيان حال الناس معهم...148
سادساً: المبدأ والمعاد أساس دعوة الأنبياء...150
سابعاً: أوصاف القرآن وحفظه من التحريف...152
1. وصف القرآن الكريم...152
2. حفظ القرآن الكريم من التحريف...155
المبحث الثاني...158
أثر نهج البلاغة في المستوى التعبدي...158
أولا: مراتب العبادة...159
ثانياً: الارتباط بين المسألة والإجابة...163
ثالثاً: ماهية التقوى وحقيقتها...166
رابعاً: الاستغفار...169
خامساً: التوسل إلى الله سبحانه...171
سادساً: الصوم وآثاره التربوية والاجتماعية...173
سابعاً: فلسفة الحج...175
ثامناً: حقيقة الاستقراض وأهمية...177
1. حقيقة الاستقراض...177
2. أهمية الإنفاق...178
3. موانع الإنفاق...179
ص: 235
تاسعاً: الخمس...181
عاشراً: الجهاد...183
حادی عشر: فی الأمر بالمعروف ومنهج الدعاة إلی الله...186
1. الأمر بالمعروف...186
2. منهج الدعاة إلى الله...189
المبحث الثالث...191
اثر نهج البلاغة في المستوى الأخلاقي...191
أولاً: الخلق المحمدي...194
ثانيا: أداء الأمانة...196
ثالثاً: الوفاء بالعهد والميثاق...199
رابعاً: المعاشرة الزوجية...203
خامساً: أخلاقيات المعركة...204
سادساً: النفاق208
سابعاً: التكبر...211
الخاتمة...215
المصادر والمراجع...218
المؤتمرات والبحوث...230
المحتویات...231
ص: 236