أَفَلاَ تَعْقِلُونَ

هویة الکتاب

أَفَلاَ تَعْقِلُونَ

الدكتور محمّد التيجاني السّماوي

إصدار مؤسسة مسجد السهلة المعظم

الطبعة الأولى

1436ﻫ

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

أَفَلاَ تَعْقِلُونَ

الدكتور محمّد التيجاني السّماوي

إصدار مؤسسة مسجد السهلة المعظم

الطبعة الأولى

1436ﻫ

ص: 3

ص: 4

مقدمة

مؤسسة مسجد السهلة المعظم

بِسْمِ اللِّّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين الأمين على الخلق محمد وأهل بيته الطاهرين.

هدايات الإسلام وتوجيهاته ما تزال تشغل الباحثين الذين يرجعون في تلمس حقائقها إلى منابعها الأولى لا إليها في صورها الأخيرة..

إلى الإسلام في كتابه المعصوم وفي سننه القويمة الصحيحة فهو الدين الذي استطاع أن يحتفظ بصورته الأصيلة بين عصف الأهواء وزلزلة الآراء، فأقام حولها سداً من المعرفة، وضرب فوقها

سرادقاً من البرهان، وثبتها على أساس من القرآن.

ولقد مشى المسلمون مع الأهواء يوم توزعوا على أنفسهم شيعاً، ويوم انقلبوا -لا كما أراد الله منهم- أعداءً ، ثم اتسع الهوى فكانت لكل شخص غاياته، وتقطعت العصم فعاد كل فرد أمة، ووهت الصلة

بالدين فأصبح كل رأي مذهباً !!.

ص: 5

وامتد الزمن، واطردت الأحداث، وتلبد الأفق، وبعدت الشقة عن الدين، وجاء دور المبادئ الملونة، فكان المبدأ دينا يقرر الإيمان والكفر، وكانت مقتضياته فروضا توجب الشقاوة والسعادة، وكان الاعتصام به صلة تفرض الحب أو البغض!!، ونبغ فريق من مدعية الإسلام يقرون ظاهراً لمحمد صلی الله علیه و آله بالنبوة، ويعترفون لكتابه بالعصمة، ويثبتون لشريعته البقاء والخلود، ثم ينبذون أحكام نبيهم وكتابهم ظهريا ، قد ملكت عليهم العصبيات الطائفية مذاهب القول، وأوصدت عليهم منافذ التفكير، فهم مستبدون يتخذون من الإسلام ستار اً ثم يحكمون في أمره ويتحكمون ويقولون في أهلهويتقولون، والله حسيبهم على ما يصنعون.

إن مذهب أهل البيت علیهم السلام هو الإسلام كما نزل على رسول الله صلی الله علیه و آله، وهو استمرار خط النبوة بالأئمة الذين أمر النبي صلی الله علیه و آله الأمة باتباعهم بعده، وقضية أهل البيت النبوي علیهم السلام هي لبُّ الإسلام، وظلامتهم هي ظلامة الإسلام، وفضائلهم فضائل الإسلام، وأن الأولوية في العمل الإسلامي لتعريف المسلمين والعالم بهم، ورد الشبهات عنهم وعن

ص: 6

شيعتهم، والدفاع عن حقهم ودفع ظلامتهم، وتطبيق الإسلام الذي تلقيناه منهم، فلقد دأب المؤرخون المسلمون على تدوين التأريخ الإسلامي من زاوية الحاكمين حتى لقد غدا التأريخ الإسلامي – في الأغلب – سجلا لنشاط هؤلاء الحاكمين في لهوهم وجدهم وسياستهم التي كانت تهدف غالبا الى الفوز بالمغانم والمجد الشخصي.

وفي نافذة على حقيقة الإسلام مثلما أرادها نبي الرحمة صلی الله علیه و آله يشرق علينا بإطلالة جديدة السيد د. محمد التيجاني السماوي ليتناول بعلميته المعروفة ونهجه الرصين وشفافية الطرح بعضا مما آل إليه الإنحراف الفكري عن خط الرسالة، ليشدد مرة أخرى كما – ألفناه في سلسلة أهل البيت علیهم السلام التي جاد بها يراعه الثر على – أن الإسلام هو ما رعاه سادات بيت النبوة الأئمة المعصومون علیهم السلام، فيقدم للقارئ الكريم كتابه الجديد (أفلا تعقلون)، الذي حظيت مؤسسة مسجد السهلة المعظم بحظوة طباعته في طبعته الأولى بجهد كريم وسعي متواصل من لدن أمين مسجد السهلة المعظم

ص: 7

السيد مضر السيد علي خان المدني الذي ما برح يتابع مع السيد التيجاني كل فترة مراحل إتمامه لسِ فره القيّم.

ورغم أننا نعلم أن الكاتب الكبير غني التعريف إلّا أننا رأينا أن من واجبنا أن نثبت هنا لمحة وجيزة عن الرجل الذي شاء الرب الكريم أن يسمو بفكره فوق كل عصبية فيتخذ منهاج الصالحين دربا لرسالته.

ولد د. محمد التيجاني السماوي عام 1943م بمدينة قفصة الواقعة في جنوب تونس، درس العلوم الدينية والعلوم الحديثة في بلاده، وأنهى دراسته في جامعة الزيتونة العريقة، عمل في سلك التدريس 17عاما،ً حصل على شهادة الماجستير من جامعة باريس عن أطروحته حول المقارنة بين الأديان، ثم حاز على شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون عن أطروحته (النظريات الفلسفية في نهج البلاغة) .. انتهز الأجواء الدينية المحيطة له لينال أسمى درجات التكامل العلمي والمعرفي والديني في أقصر مدة ممكنة، فحفظ

ص: 8

نصف القرآن وهو بعد لم يبلغ العاشرة من عمره، وقد تشرف بحج بيت الله الحرام وله من العمر ثمانية عشر عام ا،ً والتقى خلال إقامته في مكة أثناء أداء فريضة الحج بمجموعة من العلماء الوهابيين واستمع إلى محاضراتهم فانجذب إلى جملة من أفكارهم وتأثر ببعض مبادئهم التي نالت إعجابه، لكنه بعد العودة إلى بلده وجد أن ما حمل معه من الفكر الوهابي يتناقض ويصطدم مع الطقوس الصوفية، فاعترته حالة من التشويش الفكري ونشأ في نفسه صراع سلب منه حالة الإعتدال والتوازن، فبقي متحير اً بين الأخذ بعقيدة تعتبر التوسل بغير الله شرك وبين الطريقة الصوفية التي فيها يتم التقرب إلى الله عن طريق التوسل بالأولياء الصالحين.

وكان دأب الدكتور التيجاني كثرة السفر، فصادف ذات يوم خلال سفره من الإسكندرية إلى بيروت أن تعرف في الباخرة على شخص عراقي هو أستاذ في جامعة بغداد اسمه منعم، وقد جاء إلى القاهرة لتقديم أطروحة الدكتوراه في الأزهر، فدار بينهما حديث طويل أدى

ص: 9

إلى توثيق العلاقة بينهما، فحوله حديث صديقه الجديد إلى باحث طالب للحق.. ودعاه بعدها لزيارة العراق وان يحل ضيفا عليه، وبالفعل تحققت أمنية التيجاني لرؤية عاصمة الدولة العباسية، فسافر إلى العراق ونزل ضيفا عند الأستاذ منعم، ثم التقى هناك بكبار علماء الشيعة في مدينة النجف الأشرف كالسيد الخوئي والشهيد الصدر والكثير من الأساتذة .

وانكشف له خلال ذلك قلة مستوى إلمامه بالتأريخ الإسلامي، وعرف أن سبب ذلك هو أن الأساتذة والمعلمين الذين تتلمذ على أيديهم كانوا يمنعونه من قراءة التأريخ مدعين بأنه تأريخ أسود مظلم لا فائدة من قراءته .

كما تبين للدكتور التيجاني أن جميع الصور السلبية التي كان يعتقد بها عن الشيعة ليست إلّا إشاعات وادعاءات باطلة وأن التشيع يحمل فكر اً منطقي ا يدخل العقول بدون استئذان.

وكان لكلام السيد الخوئي مع الدكتور حول التشيع وقع خاص، ويقول الدكتور في ذلك: (بقيت أفكر في أقواله وأنا مطرق أحلل

ص: 10

وأتذوق هذا الحديث المنطقي الذي نفذ إلى أعماقي وأزال غشاوة عن بصري).

وبعد رجوع الدكتور التيجاني إلى أرض الوطن فوجئ عند دخوله إلى المنزل بكثرة الكتب التي بعثها علماء وفضلاء الشيعة الذين أخذوا عنوانه ووعدوه بإرسال الكتب إليه، فقرأ (عقائد الإمامية) و(أصل الشيعة وأصولها) و(المراجعات).

وأدرك أنه بحاجة إلى دراسة معمقة وبحث جاد في رحاب العقيدة ليتمكن من الوصول إلى الحقيقة، كما أدرك أن الأمر هذا لا يتحقق إلّا بالاعتماد على الأحاديث الصحيحة والابتعاد عن المؤثرات العاطفية والتعصبات المذهبية؛ فخاض في هذا المضمار بروح بناءة وعقلية منفتحة، فواجه نصوصا صريحة قلبت عنده الموازين، ثم أدرك الحق الذي لا يصل إليه إلّا الذي يتحرر عن تعصبه الأعمى وكبريائه وينصاع للدليل الواضح، فيقول في هذا الجانب: (غسلت دماغي من أوساخ رانت عليها طوال ثلاثين

ص: 11

عاما أضاليل بني أمية، وطهرته بعقيدة المعصومين الذين أذهب - الله عنهم الرجس وطهرهم تطهير اً).

من مؤلفاته: (ثم اهتديت)، (لأكون مع الصادقين)، (فاسألوا أهل الذكر)، (الشيعة هم أهل السنة)، (اتقوا الله)، (إعرف الحق)، (كل الحلول عند آل الرسول)، (فسيروا في الأرض فانظروا)، وغيرها((1)) وقد آثرنا أن نتوكل على العلي القدير في طباعة هذا السفر القيم، سائلين إياه جلَّ شأنه أن يأخذ بأيدينا لما فيه خير المسلمين وصلاح أمر الأمة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ص: 12


1- مضر السيد علي خان المدني - الإمام المهدي بين مسجدين– ط 1- إصدارات مؤسسة السهلة – ص 404

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيّدنا ومولانا محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين المعصومين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.

ورضوان الله تعالى على أصحابه المنتجبين الذين ثبتوا من بعده على ولاية أمير المؤمنين وما غيّروا وما بدّلوا وكانوا لله من الشاكرين.

وسلامٌ على عباده الصالحين من الأنبياء والمرسلين وعلى كلّ مَن تبعهم بإحسان من المؤمنين إلى يوم الدين.

وبعد تمرّ على أُمّتنا في هذا العصر أيّاماً عصيبة ومحناً شديدة ومؤامرات دنيئة قد تُودّي بنا إلى الهاوية إذا لم نتدارك ألامها وأسقامها ونبحث لها عن الدواء الناجع الذي يشفي أمراضها ويضمّد جراحها.

بالأمس القريب هتفنا لثورَتها وصفّقنا لتحريرها من الظلم والاستبداد وقيل لنا بأنّ الربيع العربي قد أقبل فاستعدّوا لجني

ص: 13

الثمار اليانعة وقطف الورود والأزهار الفائحة، فقد ولّى عهد الدكتاتوريّة الظالمة وأقبل أمامنا عهد الديمقراطيّة العادلة وكم دوّت حناجرنا هاتفة:

إذا الشّعب يوماً أراد الحياة *** فلابدّ أن يستجيب القدر

ولابدّ للظلم أن ينجلي *** ولابدّ للقيد أن ينكسر

وأصبح بعض المفكّرين الذين يفكّرون بطريقتهم الخاصّة ويحلّلون في مختبراتهم المظلمة يستخرجون من القرآن الكريم بعض الآيات التي تبيح الجهاد فيعزلون ما قبلها وما بعدها ليستنتجوا من خلالها ما يحلو لهم ليُظهروه للجاهلين والمغرضين لكي يموّهوا ويقلّبوا الأمور، خصوصاً بعد المؤامرة الكبرى على سوريا وشعب سوريا ومن وراءهم الولايات المتحدّة الأمريكيّة.

ص: 14

فأصبح المسلم يقتل أخاه المسلم ويشقّ صدره ويستخرج قلبه ويأكله أمام شاشات التلفزيون والمسلمون يتحاربون ويتقاتلون وتسفك الدماء البريئة وتنتهك الحرمات وتستباح الأعراض وتغتصب النساء والبنات ويذبح الأطفال والشيوخ كالنعاج باسم الله أكبر.

فكيف لا يستغل أعداء الإسلام كلّ هذه المظاهر للتنديد والتشويه والتزوير والاستغلال لإظهار الإسلام بأبشع صورة ودليلهم على ذلك ما وقع وما يقع في بلاد المسلمين من تخلّف وجهل وقتل وقتال.

فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ القدير. أفلا تعقلون

ص: 15

ص: 16

المقدّمة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين، صاحب الحكمة والتدبير، الذي أحاط بكلّ شيء علماً، ووسع خلقه رحمة وعلماً وعدلاً وحلماً.

أحمده وهو العزيز القدير الذي يُجزي على القليل والكثير ويُثيب على الجليل والحقير يُزكّي الحسنات ويمحو السيّئات ويعفو عن الكبير، ولو يؤاخذ الله النّاس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخّرهم إلى أجل مسمّى لعلّهم يرجعون.

وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له تنزّه عن الشبيه والنظير، وانفرد بالقضاء والتقدير وتعالى عن مخلوقاته علوّاً كبيراً، من يهده الله فلا مُضلّ له ومن يُضلل الله فلا هادي له، وما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم وهو اللطيف الخبير.

ص: 17

وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحقّ ليُظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون، أدّى ما حمّله إلى العباد وجاهد في سبيل الله حقّ الجهاد، وأنّه بشّر بما هو حقّ من الثواب، وأنذر بما هو صدق من العذاب، فوعده بالنصر والتأييد وأعزّه بأهل الإيمان والتوحيد وعلى رأسهم أخوه وابن عمّه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، الذي امتحن الله قلبه للإيمان فكان في ذات الله شديد فهو المقدّم بعد رسول الله على كلّ المخلوقين، وقد تجلّى للعالمين أنّه بطل الإسلام وهو خير من نطق بالحقّ والصواب وقد أتاه الله الحكمة وعلم الكتاب وألهمه البلاغة وفصل الخطاب.

اللّهم صلّ وسلّم وزد وبارك على سيّدنا محمّد وعلى آل سيّدنا محمّد كما صليّت وسلّمت وباركت على سيّدنا إبراهيم وعلى آل سيّدنا إبراهيم في العالمين إنّك حميدٌ مجيد.

اللّهم وأرض عن أصحابه المنتجبين الذين صاحبوه بصدق واخلاص ويقين، وثبتوا من بعده على الولاء فما انقلبوا وما بدّلوا وكانوا لله من الشاكرين.

ص: 18

وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، اللّهم وفّقنا للسير على نهجهم القويم والعمل بكلّ ما جاء في قرآنك الكريم وما صدع به رسولك العظيم، فقد قلت وقولك الحقّ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}((1)).

أمّا بعد فقد أصبحنا اليوم في عالم يهدّد الإسلام والمسلمين من كلّ الجهات وأصبح المسلمون يتّهمون بالإرهاب وأنّهم يقفون وراء كلّ عمل تخريبي وأنّهم ضدّ الحضارة وضد تقدّم الإنسان وأنّهم لا يريدون لغيرهم أن يعيش في أمن وأمان.

بل أكثرهم أصبح يشكّك في كتابهم المقدّس (القرآن) ويتّهمه بأنّه مصدر كلّ المصائب التي تواجه الإنسانيّة بأسرها.

وأنّ تعاليمه التي تلقاها المسلمون هي التي جعلت منهم أُمّةً دمويّة وإرهابيّة عنصريّة لا تحب إلاّ نفسها ومن ينتمي إليها وبقيّة

ص: 19


1- الحشر: 7.

الشعوب والأديان الأُخرى هي عدوّة لها ويجب محاربتها ولابدّ من القضاء عليها.

وسرعان ما تبخّر هذا الحلم الجميل لنستيقظ على أضغاث أحلام وكوابيس مزعجة تبدّل فرحنا إلى حزن عميق وتغيّر أمالنا إلى يأس مقيت وإذا بالكثير يتمنّى رجوع الدكتاتور بظلمه الذي قد يكون أهون علينا - كما يقول البعض - ويستدلّ بالمثل التونسي القائل: (شدّ مشومِك لا يأتيك ما هو أشوم).

وليسمح القارىء العزيز إذا قلت بأنّ الغرب وأمريكا الذين اطلقوا على الثورات العربيبّة هذه التسميّة، فمرّة يسمّونها ثورة الياسمين وأُخرى ربيع عربي فإنّهم في الحقيقة يسخرون منّا ويمعنون في الإستهزاء بنا وإلاّ هم يعلمون علم اليقين بأنّ هذا الربيع إنّما هو ربيع أمريكا وإسرائيل والدول الغربيّة التي بعدما مرّ عليها صيف الأزمة الاقتصاديّة الخانقة وكادت أن تتفكّك فإذا بربيع الدول العربيّة ينقذها من ورطتها من خلال الحرب الكونيّة التي أججوا نارها على دولة الصمود والتصدّي دولة العزّة والكرامة سوريّا

ص: 20

العروبة والإسلام والمقاومة فأصبحت معامل الأسلحة الفتّاكة تشتغل عندهم ليلاً ونهاراً وترسل إلى الارهابيين بأثمان باهضة تدفع كلفتها السعوديّة وقطر ودول خليجيّة أُخرى لقتل الأبرياء من الأطفال والنساء والمدنيّين وتخريب البلاد والعباد.

وهؤلاء من الدول العربيّة لا يدفعون ثمن السلاح فحسب وإنّما يدفعون أيضاً مليارات الدولارات لتجنيد الإرهابيين من الشيشان والأفغان والألبان والهند والباكستان والأتراك ومن كلّ دول أفريقيا وأسيا وأُوربّا وأمريكا وقد أحصوا مائة دولة مشاركة في الحرب الظالمة ضدّ الشّعب السوري وكلّهم عرب ومسلمون يشهدون أن لا الله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله.

فأيّ ربيع هو أزهر وأثمر من هذا الربيع الذي يقدّمه العرب والمسلمون إلى أمريكا وإسرائيل وباقي الدول الغربيّة التي هي الحليف الأوّل للعدوّ الإسرائيلي وبينما كانت إسرائيل تتخوّف من حركات المقاومة وعلى رأسها (حزب الله الغالب) الذي هزمها في

ص: 21

حرب 2006 وكانت تعيش كابوس الخوف والرعب وهاجس الزوال.

وإذا بالربيع العربي ينتشلها وينقذها ويقول لها: اطمئنّي فسوف نقضي على كلّ من يهدّد كيّانكِ فأنتِ صديقتنا وحبيبتنا، وكلّ من يريد زوالكِ فهو عدوّنا فسوريا وحزب الله وحماس وإيران وكلّ مقاوم هو عدوّ لنا، وهاهي إسرائيل اليوم تقف آمنةً مطمئنّة تتفرّج وتضحك وتزهو وترقص لأنّها نجحت لتحويل المارد العربي إلى كلب مطيع وأمين.

وتحويل الأُسود الضارية إلى نعاج فاشلة يحوطونها برعايتهم ويمنعون وصول الأذيّة اليها.

وهاهي أمريكا التي خرجت من العراق تجرّ أذيال الخيبة والهزيمة وتستعدّ للخروج من أفغانستان بنفس النتيجة المخزية بعدما خسرت جنودها وأموالها بدعوى القضاء على الإرهاب ونشر الديمقراطيّة هاهي اليوم تُشجّع الإرهاب بالأموال الخليجية والدعم التركي لتتخلّص منه بالمجّان في الأراضي السوريّة.

ص: 22

وهاهي فرنسا الدولة الاستعماريّة المعروفة والمشهورة بحروبها الصليبيّة تحارب الإرهاب في أفريقيا ومالي وتدعمه في سوريا بكل قوّة وحزم.

كذلك بريطانيا وألمانيا والدول الأُوربيّة وجدت متنفّساً لها لبيع السلاح والمعدّات من جهة والتخلّص من الإرهاب الذي بات يهدّدها في عقر دارها من جهة أُخرى.

وليست الدول العربيّة وخصوصاً (الخليجيّة منها) بمنأى عن هذه المصالح والأهداف وبالخصوص الدول التي يحكمها الملوك والأمراء الذين يحافظون على عروشهم وعلى العائلات المالكة ولو كلّفهم ذلك قتل شعوبهم مثل ما يحدث في السعوديّة والبحرين وغيرها.

ولذلك تراهم يُلقون بالمودّة لأمريكا وإسرائيل والدول الغربيّة ويعطونهم كلّ ما يريدون حتّى القواعد العسكريّة ويغذّون بنوكهم بالأموال الطائلة (ولا يأخذون عليها فوائد بدعوى الربا)! ويبيعونهم البترول والغاز الطبيعي بأبخس الأثمان كلّ ذلك للحفاظ

ص: 23

على كراسيهم وعروشهم وليغضّوا الطرف عن أعمالهم الإجراميّة ضد شعوبهم وضد حقوق الإنسان.

وسوف أضرب لذك مثلاً واحداً على صدق ما أقول - الجميع يعرف أنّ السعوديّة وقطر ودول الخليج يحاربون النظام السوري بدعوى إعانة الشّعب السوري، للحصول على الحريّة والديمقراطيّة والجميع يعرف أنّ النظام السوري هو نظام ديمقراطي تقدّمي علماني وقومي، ففي سوريّا يعيش ويتعايش أكثر من عشرة طوائف ومذاهب مختلفة، فهناك المسلم والمسيحي والقبطي والدرزي والكردي والأرمني والعلوي والسُنّي والشيعي وغيرهم وكلّهم يتعايشون في أمن وأمان وسلم وسلام.

وترى في سوريّا المرأة التي ترتدي النقاب ولا ترى منها إلاّ السواد وفي نفس الشارع ترى المرأة السافرة ترتدي (ميني جيب) وكل النّاس أحرار في أديانهم ومذاهبهم ومعتقداتهم ولا يعترض أحدٌ على غيره.

ص: 24

سوريا البلد العربي الوحيد الذي يدخل اليه العرب كلّهم بدون تأشيرة للدخول بينما في بعض دول الخليج والسعوديّة قد تنتظر شهراً كاملاً للحصول على تأشيرة إذا سمحوا لك بالدخول، ففي بعض دول الخليج يمنعونك من الدخول إلاّ إذا كنت متعاقداً للعمل.

وفي سوريا يدخل أي عربي فيتخرّج في المدارس والكلّيات والجامعات مجاناً وبدون أي كلفة.

بل ويعالج مجّاناً ولا يجد أي تعقيدات اداريّة.

في سوريّة يملك العقار أي عربيّ ويتزوّج بكلّ سهولة.

في سورية لا تستوقفك الشرطة لطلب الهويّة أبداً.

وباختصار لا توجد هذه الميزات في أيّ دولة عربيّة أُخرى فضلاً عن دول الخليج.

أضف إلى كلّ ذلك سوريا البلد العربي الوحيد الذي يأكل من أرضه ولا يستورد شيئاً من غذائه بل هو يصدّر.

سوريا البلد العربي الذي ليست له ديون خارجيّة.

ص: 25

سوريا البلد العربي الوحيد الذي عرّبَ كلّ العلوم الدراسيّة بما في ذلك العلوم الطبّية وذلك من عام 1960 وما قبلها.

سوريا البلد العربي الوحيد المقاوم للكيان الإسرائيلي المحتلّ.

سوريا البلد العربي الوحيد الذي يصنع الأسلحة المتطوّرة والصواريخ والتي كشف عنها أمين عام حزب الله السيّد حسن نصر الله والتي كانت سبب الانتصار في حرب 2006.

سوريا البلد الوحيد الذي احتضن كلّ حركات المقاومة وسلّحها وموّلها ودرّبها بما في ذلك حماس والجهاد وغيرها.

هذا ما يحضرني وقد فاتني أشياء أُخرى كثيرة ضربت عنها صفحاً روماً للإختصار.

وبعد كلّ هذا تأتي السعوديّة وقطر ودول الخليج التي لا تعرف من حقوق الإنسان حقّاً واحداً.

والتي تحرّم على المرأة حقّها في الانتخاب بل وتمنعها من سياقة سيّارتها - ولا تعطي للشعوب أبسط الحقوق حتّى في المسيرات السلميّة - .

ص: 26

تأتي تطالب سوريا بإعطاء شعبها الحريّة والديمقراطيّة إنّ هذا لشيء عُجاب والله!

ثمّ عن أيّ طريق؟ عن طريق الحرب المدمّرة واشعال نار الفتنة وقتل الابرياء من الأطفال والنساء وإباحة الحرائر من النساء وتدمير وتخريب البيوت والمنشأت والمعامل والمطارات والمستشفيات وكلّ شيء فيه حياة.

وتسمع بعد ذلك أنّهم يريدون اسقاط النظام والرئيس بشّار الأسد لأنّه لا يريد قطع علاقاته بحزب الله وإيران محور الشرّ الذي يريد ازالة إسرائيل من الوجود.

وربّ عذر أقبح من ذنب وما عشت أراك الدهر عجباً.

كنت في تونس مع بعض المعارضين لنظام بشّار والذين كانوا يرون في فتوى يوسف القرضاوي بالجهاد في سوريا أمراً طبيعيّاً بل واجباً.

وبعدما سمعوا منّي كلّ هذه الحقائق التي ذكرتها والتي يعرفها أكثرهم لأنّهم كانوا يتردّدون على سوريا لأُمور تجاريّة والبعض

ص: 27

منهم تخرّج من الجامعات السوريّة بعدما طُرد وأُبعد عن الدراسة في تونس ولذلك أقرّوا بما ذكرته في فضل سوريا ورئيسها ولم يبق إلاّ اعتراض واحد وهو أوهن من بيت العنكبوت، قال بعضهم: ولكن بشّار ورث الحكم من أبيه الذي استخلفه ودام حكمهم لسوريا أربعين سنةً.

قلت: أوّلاً، أبوه لم يستخلفه، وهذه أُكذوبه مفضوحة وإنّما الحزب الحاكم وهو حزب البعث هو الذي رشّحه للرئاسة وحوّر الدستور من أجل عمر بشّار.

ثانياً: إذا كان الأب والإبن حكموا أربعين سنة، فإنّ القذافي وحده حكم أكثر من أربعين سنة، أمّا الملوك في السعوديّة فإنّ العائلة السعوديّة تملك وتحكم منذ مئاتي سنة وكذلك ملوك الخليج وهذه عادة العرب حتّى من الرؤوساء، ألم يكن بورقيبة عندنا بُويع مدى الحياة؟

فسكتوا ولم يجدوا جواباً.

ص: 28

وأقنعتهم بأنّ هؤلاء العرب يحاربون سوريا بالوكالة ولو قبل بشّار الأسد بقطع علاقته بإيران وحزب الله لما حاربوه ولو بقي رئيسّاً مدى الحياة.

قلت لأحدهم لأنّي أعرفه: ألم تكمل دراستكَ في دمشق؟

قال: نعم، والحمد لله وقد جئت بشهادات عليا اعترفت بها الحكومة التونسيّة.

قلت: دخلتَ سوريا بدون تأشيرة فرحّبوا بك ووجدت عندهم كلّ المساعدات من الدراسة المجانيّة والعلاج المجاني وغير ذلك من المساعدات؟

قال: نعم وأنا لا أنكر ذلك.

قلت: وأنت تعرف أنّ سوريا هي دولة إسلامية تقام في مساجدها الصلوات الخمس ويصومون شهر رمضان ويصلّون التراويح وصلاة العيدين وعندهم من المساجد والمزارات الإسلامية الشيء الكثير؟

قال: نعم وأنا من الشاهدين على ذلك.

ص: 29

فقلت: كيف تذهب لمحاربتهم إذاً؟ ((1))

فقال: يا أخي أوّلاً إنّي رأيت دولتي التونسيّة قطعت علاقتها مع سوريا وطردت السفير السوري ثمّ رأيت في محطّة الجزيرة الفضائيّة أنّ الجيش السوري يدوس مصاحف القرآن بأحذيته ورأيته يقصف المساجد والمأذن ويقتل النساء والأطفال، بل رأيت بعيني كيف يغتصبون النساء والبنات وحتّى الأطفال، ثمّ الذي هزّني أكثر عندما رأيت أحد الجنود التابعين للنظام يصيح في وجه أحد الأسرى ويقول له: قُل بشّار هو الله.

عند ذلك قرّرت أن أُجاهد هؤلاء الكفّار.

سألته: وعندما ذهبت وشاركت في الجهاد أرأيت ما كنت تراه وتسمعه في محطّة الجزيرة طيلة بقاءك هناك؟

قال: رأيت العكس تماماً ولذلك رجعتُ مسرعاً.

ص: 30


1- كنت على علم بأنّه ذهب إلى سوريا مجاهداً مع الجيش الحرّ ولكنّه رأى ما أنكره من هتك وحرق لبعض الجثث وتجارة بالأعضاء، فهرب راجعاً إلى تونس وقد حكى سبب عودته على شاشة التفلزة.

فقلت له: أنت مسؤول أمام الله يوم القيامة إذا لم تنشر هذه الحقائق بين النّاس المشتبهين عسى الله سبحانه أن يغفر لك ما فعلته في سوريا.

فقال: سأفعل إن شاء الله ومنذ رجعتُ وأنا أُدافع عن النظام السوري، وكن على يقين بأنّني حملت السلاح بعد التدريب ولكنّي بحمد الله لم أقتل أحداً.

التفتُ بعدها إلى المجموعة وأنا متأكّد أنّهم غيّروا الكثير من أرائهم خصوصاً بعدما سمعوا المحاورة التي دارت بيني وبين هذا المجاهد الذي بصّره الله بحقائق الأُمور.

قلت لهم: با لله عليكم تصوّروا لو أنّ كلّ هؤلاء الذين ذهبوا للجهاد في الأراضي السوريّة وعددهم لا يقل عن مائة ألف مقاتل وما يحملونه من أسلحة ثقيلة وفتّاكة، تصوّروا لو أنّهم توجّهوا إلى فلسطين المحتلّة وتحالفوا مع المقاومة من حماس والجهاد وحزب الله أكان يبقى لإسرائيل وجود في فلسطين وفي القدس؟

ص: 31

بالله عليكم تصوّروا لو أنّ كلّ هذه الأموال التي بذلتها دول الخليج بالخصوص قطر والسعوديّة وهي كثيرة جدّاً وتعدّ بمليارات الدولارات.

تصوّروا لو صُرفت هذه الأموال في المشاريع الخيريّة في دولنا العربيّة والاستثمارات المفيدة والمنشأت الاقتصاديّة لما بقي فقير واحد في بلداننا العربيّة والإسلامية ولا أزدهرت وتقدّمت تلك الدول وتحرّرت من الهيمنة الغربيّة والتي يفرضها صندوق النقد الدولي على أكثر دولنا ويجعلها تركع لشروطه وقراراته فنكون لهم تابعين ولأحكامهم منفّذين.

ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.

وفي نهاية المطاف نجد بأنّ ما يسمّى بالربيع العربي ليس هو في الحقيقة إلاّ خريف أذبل كلّ الزهور ودمّر كلّ الأوراق وأتلف كلّ الثمار وأجدب الأرض وأيبسها، فها هي تونس التي احتفلت بثورتها وأفتخرت بأنّها صدّرت ونقلت تلك العدوى إلى باقي الشعوب نجدها اليوم تنقسم إلى معارض وموالي إلى أحزاب

ص: 32

متفرّقة ومتعادية يلعب فيها الإرهابيّون أدواراً خطيرة من الاغتيالات السياسيّة واخافة النّاس وعدم الاستقرار وبثّ الفوضى وقطع الطرقات وضرب المنشأت وتكديس الأسلحة في المخازن ونصب العبوات النّاسفة وقتل وذبح رجال الأمن والله وحده يعلم نهاية مصيرها.

وهاهي مصر أم الدنيا كما يُسمّيها المصريّون تدخل في نفق مسدود وينقسم شعبها إلى مؤيّد ومعارض وتزهق مئات الأرواح والمصابون بالآلاف وتتعطّل مصالح النّاس وكذلك تتعطّل مصالح الدولة بكاملها ويفرض فيها حالة الطوارىء ومنع التجوال وتحرق فيها الكنائس والمساجد ودور العبادة وكذلك المراكز الحكوميّة ورأينا قبل ذلك كيف يقتل شيخ أزهري هو ورفاقه ويسحلون في الشوارع ويُمثّل بأجسادهم من غير جُرم اقترفوه وذنبهم الوحيد أنّهم تشيّعوا لأهل البيت علیهم السلام والله وحده يعلم كيف ستؤول اليه الأُمور في مصر.

ص: 33

وهاهو العراق الجريح المظلوم يصول فيه المجرمون الإرهابيّون ويجولون، يقتلون ويفجّرون في كلّ يوم عشرات السيارات المفخّخة تتفجّر في كلّ المدن والقرى العراقيّة فتخلّف الموت والدمار والخراب.

ففي شهر رمضان وحده أُحصي ألف شهيد وستّة الآف من المصابين والجرحى ولأنّه شهر العبادة والتقرّب إليه سبحانه وتعالى بالتقوى والعمل الصالح والتكفيريّون يتقرّبون إليه بقتل المؤمنين وتمزيق أجسادهم إلى أشلاء متناثرة فالذبح والنّحر وأكل أكباد وقلوب البشر أصبح متعة يستمتع بها الإرهابيّون والتكفيريّون حتّى سمعنا ورأينا أحدهم على شاشة التلفاز وهو يفتخر في الكويت على مرأى ومسمع من العالم بأنّه قام بنفسه بنحر سيّد من السّادة العلماء ونحر ابنه وهما من سلالة النبيّ صلی الله علیه و آله والنّاس من حوله يهلّلون ويكبّرون ثمّ يقول إذا تمكنتم من حزب الله فاتركوا لي عشرة لأستمتع بنحرهم.

والله وحده يعلم متى ستنتهي هذه المأساة.

ص: 34

وهاهي اليمن ينقسم شعبها إلى فئتين متصارعتين بين موال للحكومة ومعارض لها والطائرات الأمريكيّة تقصف هؤلاء وأولئك، لا تفرّق بين أحد منهم والله وحده يعلم من الذي سينتصر في النهاية.

وهاهي ليبيا التي كانت بالأمس آمنة ومطمئنّة تنعم بالخيرات وتفخر بأنّها جماهيريّة عظمى نجدها اليوم في حرب عمياء بين القبائل والعشائر المتنافرة والمتطاحنة يقتل بعضها بعضاً ويريدون تقسيمها إلى دول ثلاث فقيرة معدومة لأنّ الغرب يقتسم ثرواتها ونفطها كثمن لما قام به حلف الناتو في إنهاء حكم القذافي والقضاء عليه.

والله وحده يعلم إلى أين ستذهب ليبيا.

وهاهي البحرين وما أدراك ما البحرين المظلومة التي تعاني منذ ما يقارب ثلاث سنين في ثورة شعبيّة سلميّة لم يحمل الثوّار فيها حجراً واحداً فضلاً عن السلاح ومع ذلك يجابهها الحكّام بشتّى أنواع الأسلحة والقتل والتعذيب وهتك الأعراض وقتل الأبرياء من

ص: 35

الأطفال والشيوخ وحبس النساء ومع ذلك ولأنّ أمريكا مكّنتها الحكومة البحرينيّة من بناء قاعدة عسكريّة في دولة البحرين فهي تغطّي عليها ولا تترك حتّى للإعلام أن يتحدّث عنها بل أعطت الضوء الأخضر للجيش السعودي أن يتدخّل لإنقاذ النظام في البحرين وفي حين يفتي يوسف القرضاوي بالجهاد في سوريا صراحة ولا يتكلّم بكلمة واحدة عن البحرين وما يجري فيها.

وهاهي السودان الدولة العربيّة الكبرى ذات الأراضي الخصبة منزل نهر النّيل الخالد التي لوزرعت واستثمر فيها ملوك الخليج ببعض أموالهم الطائلة لأطعمت كلّ البلدان العربيّة التي تستورد خبزها من الخارج ((1)).

وهاهي السودان تنقسم إلى دولتين، دولة مسيحيّة في الجنوب ودولة إسلامية في الشمال وهم يقتتلون على تقسيم أبار النفط ومن البديهي أن تكون إسرائيل هي اللاعب الأساسي في هذا التقسيم

ص: 36


1- لقد رأينا مصر عندما قطعت عنها أمريكا معونة القمح والدقيق كيف أصبح النّاس يقتتلون على رغيف من الخبز.

ومن وراءها أمريكا وكلّ دول الغرب الذين يسعون بكلّ جهودهم ونفوذهم أن يقسّموا الدول العربيّة إلى دويلات طائفيّة ومذهبيّة وعشائريّة متفرّقة ومتحاربة لكي يتمكّنوا من السيطرة عليهم جميعاً ويسلبوا منهم خيراتهم وثرواتهم.

وهاهي لبنان الدولة العربيّة الصغيرة في حجمها عندما اكتشفوا في سواحلها البترول والغاز الطبيعي يريدون تقسيمها إلى دول ثلاث دولة مسيحيّة ودولة سُنيّة وأُخرى شيعيّة، فهم يشعلون نار الحرب في كلّ أرجاءها ويعملون جاهدين على اثارة الفتنة الطائفيّة والمذهبيّة، فإطلاق الصواريخ على الأحياء السكنيّة وادخال السيارات المفخّخة بالمتفجّرات والعبوات النّاسفة في كلّ القرى والمدن اللبنانيّة لقتل المدنيّين الأبرياء واغتيال الشخصيّات السياسيّة من كلّ الطوائف والأحزاب، والتحريض على محق حزب الله المقاوم للكيّان الصهيوني المحتلّ للأراضي اللبنانيّة والفلسطينيّة والقدس الشريف.

ص: 37

ولأن حزب الله إنتصر على إسرائيل في حرب 2006 وهو يُهدّدها في كلّ مناسبة بالمحق والزوال فقد لجأت الولايات المتحدة الأمريكيّة ودول الغرب إلى تصنيف حزب الله ضمن لائحة الإرهاب.

عجباً لهؤلاء الحكّام في أمريكا وأُوروبّا الذين أعمت العصبيّة أعينهم فأصبحوا يكيلون بمكيالين من أجل حماية إسرائيل والحفاظ عليها مع علمهم بأنّ إسرائيل احتلّت الأراضي العربيّة بقوّة السلاح وبدعم منهم.

فالأمريكان حاربوا الأنكليز لطردهم من أراضيهم والفرنسيّون حاربوا الألمان لإخراجهم من فرنسا وقامت الحرب العالميّة الأُولى والحرب العالميّة الثانية وقتل أثناء الحربين خلق كثير يُعدُّ بالملايين وأهدرت فيها أموال لا يُحصي عددها إلا الله، كلّ ذلك بدعوى تحرير الأراضي المحتلّة من الغاصبين المعتدين وهاهي الاحتفالات تقام في بلدانهم تخليداً لذكرى انتصاراتهم على المحتل الغاصب، حتّى هذا اليوم.

ص: 38

وهاهي شوارعهم في العواصم والمدن الكبرى تحمل أسماء الأبطال الذين شاركوا في معارك التحرير.

وهاهي أكاليل الزهور توضع على قبر الجندي المجهول تخليداً وتمجيداً للجندي الذي قُتِلَ من أجل الدفاع عن أرضه.

وهاهي المدارس والكليّات والجامعات في بلدانهم تدرّس الطلبة والتلامذة تاريخ أولئك الأبطال لكي يغرسوا في نفوسهم حبّ الجهاد والتضحية بالأرواح من أجل الدفاع عن الوطن.

وهاهي كلّ الدول العالميّة القويّة منها والضعيفة الغنيّة والفقيرة تخصّص وزارة كاملة للدفاع الوطني والمعروف أنّ وزارة الدفاع تحضى بأغلب الميزانيّة للحكومة ولنا أن نسأل لماذا وزارة الدفاع؟ الدفاع عن ماذا؟

أليس هو الدفاع عن أرض الوطن المقدّس عند كلّ الشعوب.

ألم يستقل وزير الدفاع الأمريكي من منصبه عندما هوجم البرجان في نييورك والبنتاغون في واشنطن لأنّه لم يتمكّن من حماية أرضه، وكادت كلّ الحكومة تسقط لأنها لم تقم بحماية أرضها

ص: 39

ومع ذلك قام رئيسهم جورج بوش بالانتقام من الدول العربيّة والإسلامية التي أتّهموها بهذا الحدث فجيّش لذلك الجيوش من كلّ الدول حتّى تبنّى مقولة: (من لم يكن معي فهو ضدّي) ((1)) وأرسل أساطيله وبوارجه وطائراته ودبّاباته وجنوده بكلّ أسلحة الدمار، وقام بتدمير العراق وتخريبه وقتل أكثر من ثلاث ملايين بعدما قضى على ألجيش العراقي الذي كانت إسرائيل تتوجّس منه خيفة.

وكذلك فعل في افغانستان وباكستان.

فالإحصائيات الرسميّة لهذه الحروب التي شنّها رئيس أمريكا تبلغ ملايين من القتلى فلا تسأل عن المصابين والمهجّرين ولا تسأل عن النساء الثكالى والأطفال اليتامى كلّ هذا من أجل القضاء على الارهاب - على حسب زعمه - .

مع العلم بأنّ تحطيم الأبراج في نييورك والبنتاغون في واشنطن كانت بطائرات أمريكيّة لم تأتي من خارج أمريكا وأن كلّ ما قيل بأنّ جماعة ابن لادن هم المهاجمون هو وهم وكذب ولا يقوم

ص: 40


1- المقولة مقتبسة في الأصل من استالين.

على دليل بل الأرجح على أنّها طبخة أمريكيّة إسرائيليّة لأغراض دنيئة وهو الاستيلاء على العالم العربي والإسلامي وتمزيقه ليصل إلى ما وصل اليه اليوم.

والأحرار والشرفاء من الأمريكان يعرفون كلّ ذلك وقد سجّلوا أدلّتهم العلميّة في قرص (C . D) بعشرة لغات عالميّة ووزّعوه ونشروه مع الحضر والمنع الشديد من السلطات الأمنيّة في أمريكا وقد أهداني أحدهم هذا القرص ودخلت به إلى تونس فاستنسخت منه عدّة نسخ وقمت بتوزيعها. وهذا القُرص يبيّن بوضوح بأنّ العملية هي مؤامرة دَنيئة لم يشارك فيها المسلمون لا من قريب ولا من بعيد.

وإذا رجعنا إلى موضوع الكيل بمكيالين فإنّنا سنجد أمريكا والغرب يبيحون لأنفسهم ما يحرّمونه على غيرهم، يبيحون لأنفسهم الدفاع عن أراضيهم والقتل والانتقام ممّن يعتدي عليهم، (ولو كان الإعتداء من غير احتلال الأرض)، ويحرّم على حزب الله المقاومة لتحرير أرضه المغتصبة من الكيان الصهيوني، مع العلم

ص: 41

أنّ حزب الله ومنذ أن تأسّس لم يهاجم إسرائيل ولم يشن عليها حرباً في كلّ تاريخه وإنّما كانت إسرائيل دائماً هي المهاجمة وقد شنّت عدّة حروب واحتلّت الأراضي اللبنانيّة والقرى والمدن بما فيها العاصمة بيروت وهي لا تزال حتّى الآن تحتلّ مزارع شبعة وكفر شوبه من الأراضي اللبنانيّة ومع ذلك لم يشنّ عليها حزب الله حرباً حتّى الآن، أضف إلى كلّ ذلك أنّ حزب الله لم يقم بعمليّة واحدة خارج الأراضي اللبنانيّة، بل كانت كلّ العمليات التي قام ويقوم بها داخل الأراضي اللبنانيّة لدفع وصدّ الإعتداءات الإسرائيليّة التي تهتك الأجواء والمياه والأراضي اللبنانيّة متى شاءت رغم وجود (قوات الأونيفيل) على الحدود اللبنانيّة الفلسطينيّة، لأنّ إسرائيل تضرب بكلّ الاتفاقات والقرارات الدوليّة عرض الجدار ولا تقيم لها وزناً وقد شنّت عدّة حروب.

ومن الكيل بمكيالين أنّه يسمح لإسرائيل أن تمتلك سلاحاً نوويّاً وقد اعترفت بأنّ لديها أكثر من ثلاثمائة رأس نووي وأنها لا تسمح حتّى للوكالة الدوليّة بالدخول إليها أو بمراقبتها.

ص: 42

وفي نفس الوقت تمنع الجمهوريّة الإسلامية الإيرانيّة بامتلاك مفاعل نووي سلمي لأغراض سلميّة بحتة مع أن إيران تسمح للوكالة الدوليّة بالمراقبة والزيارة في كلّ الأوقات.

ومع ذلك فإنّ أمريكاوكلّ الدول الغربيّة يحاصرون إيران اقتصاديّاً ويفرضون عليها اشدّ العقوبات من أجل وقف البرنامج النووي السلمي وهم يعلمون أنّ إيران ليس عندها نيّة صنع قنبلة نوويّة ولكن لا يريدون لإيران أن تتقدّم علميّاً وتكنولوجيّاً لتصبح في عداد الدول الكبرى لأنّ ذلك سيشلّ مصالحهم الاقتصاديّة في المنطقة إنّها سيّاسة الدول الامبرياليّة الاستعماريّة الكبرى وعلى رأسهم الولايات المتّحدة الأمريكيّة التي عندما تعييها الحيل في ترويض الحكومات التي تتمرّد عليها ولا تقبل بالخنوع والخضوع اليها. فهي تلجأ للعقوبات الاقتصاديّة لتجويع الشعوب وخنقها في أقواتها ومعاشها لتثور على حكوماتها وتطيح بها.

ص: 43

فقد فعلت ذلك مع العراق سابقاً وبعدما كان الدينار العراقي يعادل أربع دولارات أمريكيّة أصبح بعد الحصار دولار أمريكي واحد يعادل ألف دينار عراقي (شيء لا يصدّق)! ولكنّه واقعي.

وها هي اليوم تفعل نفس الخطّة مع إيران الإسلامية بعدما كان التومان الإيراني الواحد يعادل أكثر من دولار أصبح اليوم وبعد تشديد العقوبات والحصار الذي بدأ من بداية الثورة أصبح الدولار الواحد يعادل ثلاث آلاف وخمسمائة تومان إيراني، أضف إلى ذلك المؤامرات والدسائس وتمويل الجواسيس والمعارضين من أجل قلب النظام الذي لم يخضع لهم وقد وافق الكونغرس الأمريكي بتخصيص ميزانيّة تقدّر بملايين الدولارات من أجل قلب النظام والقضاء عليه، وقد أعلنوا ذلك صراحة وبدون حياء!

{لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}((1)).

ص: 44


1- الأنبياء: 10.

الورقة الخاسرة

يبدو أنّ كلّ مشاكل الدول العربيّة والإسلامية في العالم بأسره سببها الأوّل هو وجود الكيان الإسرائيلي في أرض فلسطين المحتلّة، ولأنّ الدول الغربيّة ومعهم أمريكا هم الذين غرسوا هذا الكيان في داخل الأُمّة العربيّة وهم الذين يدعمونه بالمال والسلاح ويدافعون عنه بكلّ جهودهم ويجعلون منه قوّة متفوّقة في كلّ المنطقة للحفاظ على مصالحهم واستغلال الثروات النفطيّة والغازيّة التي يزخر بها الوطن العربي لأنّ هذه الثروات تمثّل عصب الحياة للغربيين وقد شاهدنا بأعيننا كيف تعطّلت كلّ مشاريعهم الإجتماعيّة والاقتصاديّة وتوقّفت كلّ السيارات عندما أوقف الملك فيصل ملك السعوديّة آنذاك مدّهم بالبترول لأيام قلائل معدودة فدسّوا اليه من قتله في واضح النهار وأرهبوا بذلك كلّ الملوك والرؤوساء العرب على أنّ القتل هو مصير كلّ من تحدّثه نفسه بتعطيل مصالحهم أو الاساءة إليهم بأيّ شكل من الأشكال ولذلك نرى اليوم الملوك

ص: 45

والأُمراء من الدول الخليجيّة يسارعون في إرضاءهم والتزلّف إليهم وإعطائهم القواعد العسكريّة وتنفيذ أوامرهم بدون تردّد، ومن يريد منهم التقرّب إلى أمريكا ونيل رضاها تشترط عليه أن يطبّع علاقته مع إسرائيل ويعلن عداؤه لإيران ونحن نسمع اليوم الكثير منهم يقول صراحة بأنّ الخوف كلّ الخوف يأتي من إيران وليس من إسرائيل، وقد طاف الرئيس الأسبق الأمريكي جورج بوش الإبن على كلّ دول الخليج ورحّبوا به وأهدوه السيوف الذهبيّة ورقصوا معه على هذه النغمات بأنّ إسرائيل هي صديقة لكم وعدوّتكم هي إيران وعملت أمريكا ودول غربيّة أُخرى على نشر هذه الأفكار عبر وسائل الاعلام والصحف حتّى خرج علينا أحد العراقيين في شاشة الجزيرة الفضائيّة ليقول أمام العالم وكأنّة يلتمس تبرير إسرائيل لإحتلالها لأرض فلسطين ولبنان وسوريا، فقال: ان كانت إسرائيل دولة احتلال فإنّ إيران هي أيضاً دولة احتلال لأنّها تحتل ثلاثة جزر عربيّة هي طنب الصغرى وطنب الكبرى وأبو موسى.

ص: 46

وأنا شخصيّاً لا ألوم هذا المسكين فقد يكون مشتبه في الأمر أو أن البترو دولار جعله لا يفرّق بين إسرائيل وإيران ولكن اللوم وكلّ اللوم على زعيم حركة النهضة الإسلامية في تونس الذي حضر اجتماع

(I P A CِA) وهي منظّمة إسرائيليّة في أمريكا فقال صراحة ان إسرائيل ليستْ عدوّة لنا وان أمريكا هي أكبر أصدقاءنا. كلّ ذلك من أجل ارضاء اليهود والأمريكان ليعطوه سدّة الحكم في تونس ما بعد الثورة وكذلك فعل الرئيس الإخواني في مصر محمّد مرسي والذي بعث برسالة إلى شيمون بيريز يقول في مطلعها: إلى صديقي العزيز شيمون بيريز. لقد أفصح الرئيس مرسي عن مكنون قلبه بأنّه يكن المودّة والمعزّة إلى الإسرائيليين الصهاينة، كما يكنّ الحقد والكراهيّة والعداء الشديد للمسلمين الشّيعة الذين يوالون أهل البيت علیهم السلام وقد أظهر ذلك عندما عقد مؤتمراً حضر فيه أقطاب الإخوان المسلمين وقادتهم، وقام أحدهم خطيباً وشتم الشّيعة الذين وصفهم بالأنجاس

ص: 47

الروافض ملوّحاً بسحقهم والقضاء عليهم، كلّ ذلك والرئيس مرسي يسمع ويبتسم راضياً وموافقاً.

وفي نفس اليوم هُوجم بيت الشيخ حسن شحادة من طرق غوغاء الإخوان بالمئات وقُتل هو ومن معه من اخوته المؤمنين ومثّلوا بأجسادهم وسحلوهم في الشوارع المصريّة على مرأى ومسمع من الشرطة ولم يكن بينهم رجل رشيد ليقول لهم: أتقتلون رجلاً أن يقول ربّي الله.

أتقتلون علماء من الأزهر الشريف لأنّهم استبصروا إلى الحقّ واتّبعوا مذهباً ينتسب إلى أهل بيت النبوّة، أفلا تعقلون.

ولكن الله ليس بغافل عمّا يعمل الظالمون إنّ ربّك لبالمرصاد ولم يمض على هذه الحادثة الشنيعة أياماً معدودة حتّى سقط مرسي من على عرشه وأنتقم الله لدماء الشهداء الابرياء وجعل الله كيدهم في نحورهم، وأصبح المصريّون يقتتلون في الشوارع والميادين وأصبحت مصر في خطر كبير لا يعرف مداه إلاّ الله.

ص: 48

وإذا ربطنا الأحداث بعضها ببعض لتبيّن لنا بأنّ المؤامرة الدنيئة التي تحيكها أمريكا وإسرائيل والدول الغربيّة وبعضاً من الدول العربيّة هي ضرب العرب والمسلمين بعضهم ببعض عن طريق الفتنة المذهبيّة بين الشّيعة والسُنّة وبما أنّ أغلب الدول العربيّة وخصوصاً دول الخليج الحاكمون من الملوك والأُمراء والرؤوساء كلّهم على المذاهب السُنيّة، وليس هناك دول شيعيّة إلا الجمهوريّة الإسلامية الإيرانيّة.

أمّا العراق فالحكم فيه يشترك بين الشّيعة والسُنّة والأكراد وبما أنّ حزب الله في لبنان هو من الشّيعة وهو الذي إنتصر على إسرائيل ولا يزال يمثّل الخطر والتهديد على إسرائيل وبما أنّ الجمهوريّة العربيّة السوريّة دولة سُنيّة ولكنّها تحالف إيران وحزب الله وحماس وكلّ حركات المقاومة، فإنّ التخطيط الغربي والإسرائيلي والامريكي وبعد دراسة الأوضاع في المنطقة لعبوا الورقة الأخيرة وهي إثارة الفتنة النائمة وإيقاظها للقضاء النهائي

ص: 49

على المسلمين وفي هذا التخطيط وفي هذة المؤامرة يحقّقون عدّة أهداف مربحة لهم، ومن هذه الأهداف:

أوّلاً: القضاء على ما يسمّونه محور الشرّ والمتمثّل في حزب الله وسوريا وإيران، ولذلك شنّوا الحرب الكونيّة على سوريا لأنّها الدولة القويّة بجيشها الوطني وبأسلحتها ولأنّها متأخمة للحدود الإسرائيليّة وهي تمثّل خطراً دائماً للكيان الصهيوني.

وقد تبيّن للعالم كلّه وبعد تصريح السيّد حسن نصر الله بأنّ سوريا ليست بوابة لنقل الأسلحة الإيرانيّة لحزب الله فحسب، وإنّما إنتصر حزب الله وكذلك حركة حماس بأسلحة من صنع سوريا وأكثر من ذلك صرّح السيّد بأنّ خلال حرب 2006 كانت غرفة العمليات في سوريا وأنّ الصواريخ التي دمّرت دبابات الميركافا الإسرائيليّة هي صناعة سوريّة وليست أمريكيّة ولا روسيّة.

ولذلك تعرّضت سوريا لعدّة هجمات من سلاح الجوّ والطيران الإسرائيلي الذي دمّر عدّة مخازن للأسلحة السوريّة وادّعت

ص: 50

إسرائيل بأنّها دمّرت الأسلحة التي كانت متوجّهة إلى حزب الله في لبنان، اقرأ وأعجب من غطرسة إسرائيل وعدوآنهاعلى كلّ القيم والقرارات الدوليّة التي تمنع من اختراق الأجواء لدولة ذات سيادة وعضو في منظّمة الأُمم المتّحدة.

هذا في ما يخصّ اختراق الأجواء، فضلاً عن إطلاق الصواريخ والقنابل المدمّرة وقتل الأبرياء، فما بال منظّمة الأمم المتّحدة تسكت ولا تعاقب إسرائيل على عدوآنهاالمتكرّر على سوريا؟ والجواب معروف.

ثانياً: القضاء على حزب الله اللبنانيّ الذي بات هاجساً مقلقاً للدولة العبريّة وقد لقّنها درساً لن تنساه أبداً خلال حرب تموز 2006 وقد أوشكت إسرائيل على الإنهيار لولا تدخّل أمريكا والغرب لتوقيف القتال بطلب منها، وقد أوضح كلّ هذه المعطيات السيّد حسن نصر الله قائد المقاومة خلال مقابلة تلفزيونيّة مع السيّد غسّان بن جدّو مدير المحطّة الفضائيّة الميادين.

ص: 51

ولأنّ حزب الله يتشكّل أغلبه من الشيعة يعارضه تيار المستقبل ذو الأغلبية السنية وكثير من منظّمات الإرهاب التي تعشعش في لبنان لذلك خطّطوا لإثارة السُنّة ضدّ حزب الله لتدخل لبنان في حرب أهليّة من جديد وتستريح إسرائيل من تهديدات حزب الله المتواصلة.

وقد رأينا كيف ثارت مجموعةمن أهل السُنّة بزعامة أحمد الأسير الذي كان ينادي بأعلى صوته لمحق حزب الله وأنصاره وقامت في العالم السُنّي في كلّ مكان دعوات مماثلة تزعّمها مفتي الإخوان في قطر يوسف القرضاوي وأصبح المسلمون من أهل السُنّة يسمّون حزب الله بحزب الشيطان وبعضهم يُسمّيه حزب اللات وحسن نصر الله يسمّونه نصر اللات. وبذلك بدأت حملات التشويه الإعلاميّة ضدّ حزب الله خصوصاً وضدّ الشّيعة عموماً، واستفحل العداء أكثر عندما تدخّل حزب الله في سوريا وقام بتحرير مدينة القصير وقد سمعنا بالأمس القريب عندما شُنّت الحرب الكونيّة على سوريا، سمعنا قائد المعارضة

ص: 52

يقول بكلّ صراحة سنقضي على نظام بشّار ثمّ نقطع علاقتنا مع إيران ونُطبّع مع إسرائيل ثمّ نحارب حزب الله ونسحقه ((1)).

ثالثاً: القضاء على المنظّمات الإرهابيّة والتكفيريّة التي تهدّد الحضارة الغربيّة بأسرها وقد عجزت أمريكا والغرب في القضاء عليها في العراق وأفغانستان والباكستان وفي دول عربيّة أُخرى، فجنّدتهم وسلّحتهم بأموال عربيّة قطرية وسعوديّة وخليجيّة وأدخلتهم إلى الأراضي السوريّة عبر تركيا التي يحكمها الإخوان بقيادة أوردغان وعبر الأردن وعبر لبنان والعراق فجاؤا من كلّ حدب وصوب حتّى من الشيشان تغريهم الأموال والرواتب الشهريّة التي تصبّ في جيوبهم.

وهؤلاء الإرهابيّون التكفيريّون هم في الحقيقة من المرتزقة الذين تدرّبوا على فنون القتال في مدارس أمريكيّة عندما جنّدتهم

ص: 53


1- طبعاً هذا ما صرّح به لوكالات الأنباء العالميّة قائد المعارضة عندما كانت أمالهم وأحلامهم تمنّيهم بأنّ النظام السوري على وشك الإنهيار وبأنّ بشّار الأسد سيسقط بعد شهرين أو ثلاثة، والعجيب أنّ كلّ من نادى بسقوط بشّار الأسد كان هو من الساقطين وبقي بشّار الأسد شامخاً ومنتصراً.

لقتال الاتحاد السوفياتي في أفغانستان وبعدما طردوا الروس من أفغانستان وقويت شوكتهم تحت رعاية طالبان التي بدأت تتطاول على أسيادها في الغرب وفي أمريكا وتهدّد الحضارة الغربيّة برمّتها لما تحمله من عقائد تكفيريّة لكلّ من يخالفهم في الرأي من المسلمين فضلاً عن العلمانيّين والليبرياليين والملحدين وباقي الطوائف من اليهود والنصارى.

لكلّ ذلك كان مخطّط إسرائيل وأمريكا والغرب أن يغزوا بهم الأراضي السوريّة والأراضي اللبنانيّة والأراضي العراقيّة والليبيّة والتونسيّة واليمنيّة والمصريّة وربّما الجزائريّة والمغربيّة، أملاً منهم أن تكون حرب عالمية ثالثة ولكنّها حرب إسلامية عربيّة بدلاً من عربيّة إسرائيليّة أو إسلامية إسرائيليّة لأنّ إسرائيل باحتلالها للقدس الشريف أثارت ضدّها كلّ الشعوب الإسلامية.

فهذه الحرب العربيّة الإسلامية ضدّ بعضهم البعض ستدمّر الجميع سواء كانوا مسلمين متشدّدين أو مسلمين أرهابيّين أو مسلمين تكفيريّين أو مسلمين معتدلين عرباً كانوا أو عجم شيعة

ص: 54

أو سُنّة أكراداً كانوا أو علويّين المهم ستأكل نار الحرب أكثرهم وهذا تخفيف الحمل على إسرائيل وسواء إنتصر النظام السوري على الإرهابيين أو إنتصر الإرهابيّون على النظام السوري، ففي كلتا الحالتين هو ربح لإسرائيل ولأمريكا وللغرب.

وبدلاً من إرسال الجيوش الأمريكيّة والغربيّة والإسرائيليّة وصرف الأموال الطائلة للدفاع عن إسرائيل ووجودها فبهذا المخطّط التآمري قد وفّروا على أنفسهم كلّ هذه الأتعاب ليجلسوا متفرّجين آمنين مطمئنّين يضحكون ويمرحون ولسان حالهم يقول: (وكفى الله المؤمنين القتال).

نعم وأقول: وكفى الله إسرائيل القتال بالسعوديّة وقطر والجامعة العربيّة والدول الخليجيّة.

فهنيئاً لإسرائيل وأمريكا على هذا المخطّط المحكم الذي أتاح لهم نصراً وشغّلوا الأُمّة العربيّة والإسلامية ببعضها ليتفرّدوا بالفلسطينيين وبالقدس.

ص: 55

ويشغلوهم بالمفاوضات المستمرّة منذ أربعين سنة ولم يحصلوا من وراءها إلاّ على السّراب، فبعدما كانت المفاوضات تتّجه نحو تحرير الأراضي المحتلّة عام 1967 أصبحت الأن تتجه نحو توقيف الإستيطان وحتّى هذا الشرط ضربت به إسرائيل عرض الجدار، فقد دخل محمود عباس في المفاوضات وبناء المستوطنات لم يتوقّف.

وبعدما كانت المفاوضات على عودة ملايين الفلسطينيين المهجّرين أصبحت اليوم مفاوضات على إطلاق سراح بعض المساجين السياسيّين.

واستجابت إسرائيل لهذا الطلب فأطلقت سراح ثلاثين سجيناً من أجل مواصلة المفاوضات والله وحده يعلم ما هي الصفقة التي تنازل عنها محمود عباس للحصول على هذا المطلب، ورأينا الفلسطيّنيون المساكين من الرجال والنساء يرقصون ويهلّلون لسراح هؤلاء المساجين وإذا رأيت هذا الفرح وهذا الرقص وهذا

ص: 56

الحشد يخيّل اليك أنّهم حرّروا فلسطين واستعادوا حقوقهم المسلوبة.

وهناك في السجون الإسرائيليّة آلاف المساجين سوف تفاوض على إطلاق سراحهم إسرائيل دفعة بعد أُخرى لتصل في النهاية إلى كلّ أهدافها وشروطها.

نعم أصبح الإسرائيليّون هم الأُسود وأصبح العرب نعاج كما صرّح بذلك أحد الأُمراء، ولأنّ إسرائيل قويّة والعرب ضعفاء وللقويّ أن يفعل ما يشاء كما قال المثل: (ودعوى القويّ كدعوى السّباع من النّابِ والظفر برهانها).

رابعاً: القضاء على كلّ الثروات العربيّة التي منّ الله بها علينا من الذهب الأسود والغاز الطبيعي والموارد الأُخرى والتي تكوّن في جملتها تهديداً اقتصاديّاً قويّاً بأيدينا، ضدّ الدول الكبرى.

فقد خطّطوا من وراء هذه الحروب المدمّرة أن يتدخّلوا بعد تأجيج النار والفتن لينصروا فريقاً على حساب فريق آخر ويسلّمون له كرسي الحكم ولكن بعدما يستنزفوا كلّ ثروات البلاد بدعوى أنّ

ص: 57

تكلفة التدخّل كلفتهم مصاريف كثيرة والمثال العراقي والليبي أكبر شاهد على ذلك ولا ننسى المثال الكويتي أيضاً الذي حرّره الأمريكان من الاحتلال الصدامي وقاموا بإطفاء الآبار النفطيّة التي أشعلها صدّام قبل خروجه من الكويت وأعادوا أمير الكويت إلى عرشه وأعادوا إعمار ما خرّبه صدّام وكلّف ذلك دولة الكويت مليارات الدولارات حتّى أنّ الميزانيّة الكويتيّة تضعضعت في تلك الأيام.

لذلك تراهم اليوم يثيرون الحروب هنا وهناك في الأُمّة وكلّ تكاليفها هو من خزينة الدول النفطيّة العربيّة وفي نفس الوقت يبيعون لتلك الدول الأسلحة الفتّاكة بمليارات الدولارات، ولك أن تسأل لماذا تتهافت الدول العربيّة لشراء هذه الأطنان من الأسلحة وهي تعلم أنّها ممنوعة الاستعمال ضدّ إسرائيل فالسعوديّة مثلاً وأخواتها من قطر والبحرين يشترون الأسلحة من إسرائيل نفسها ويبعثون بها مباشرة إلى المعارضة السوريّة لتفتك بالشّعب

ص: 58

السوري من جنود ومدنيّين ونساء وأطفال وكلّ من يتطوّع للدفاع عن سوريا من أحرار الأُمّة.

أبعد كلّ هذه البراهين والأدلّة التي نشاهدها تموّهون علينا وتهزؤون منّا وتُمعِنون في الإساءة الينا عندما تتشدّقون بأنّه ربيع عربي؟

نعم إنّه ربيع أمريكي إسرائيلي غربيّ وأنّه ربيع وهابيّ تكفيريّ ارهابيّ أكل الأخضر واليابس المتبقي لهذه الأُمّة... أفلا تعقلون؟

ص: 59

الربيع الوهابي التكفيري

نعم بعد الثورات العربيّة في كلّ من تونس وليبيا ومصر ورُكُوب الإخوان المسلمون فوقها وذلك بإعانة الأمريكان والانكليز والدول الغربيّة وإسرائيل.

والثورات العربيّة كانت عفويّة لم يَقُدْها جماعة الإخوان ولم يشاركوا حتّى في تأجيج شعلتها ولكن التخطيط والمكر والحيل والدّهاء الغربي لعب أخبث الأدوار، ففي وقت كانت السلطات الفرنسيّة ترسل باخرة مملوؤة بالأسلحة إلى نظام بن علي في تونس لقمع المتظاهرين ولمّا هرب الرئيس بن عليّ من تونس ونجحت الثورة عند ذلك أوقفت شحنات الأسلحة في البحر الأبيض المتوسّط لتعود أدراجها وسرعان ما انقلبت الحكومة الفرنسيّة لتأييد الثورة والركوب عليها حفاظاً على مصالحها كما يزعمون.

وهذه عادتهم وديدنهم، فهذا ساركوزي رئيس فرنسا عندما علم بنجاح الثوّار في ليبيا وأنّ القذافي أصبح خائفاً ومختبئاً أعلن عند

ص: 60

ذلك ساركوزي تأييده للثوّار وأبدى استعداده لمساعدتهم، الشيء الذي جعل الرئيس الليبي معمّر القذافي يبوح بسرّه ويعلن على رؤوس الأشهاد أنّه هو الذي أوصل ساركوزي إلى الرئاسة الفرنسيّة بتمويله الحملة الإنتخابيّة بملايين الدولارات التي سُرقت من الشّعب الليبي وكثيراً ما كان القذافي يمنّ على العديد من الرؤوساء الذين يصلون إلى سدّة الرئاسة ببركة أمواله الطائلة فهذا برلسكوني رئيس وزراء إيطاليا نفسه رأيناه يقبّل يد القذافي على شاشة التفلزة لأنّه السبب الرئيسي أو قلّ لأنّ أموال الشعوب العربيّة التي يستبدّ بها رؤوساؤهم وملوكهم هي التي تلعب كلّ هذه الأدوار الخبيثة.

وإذا رجعنا إلى موضوع الإخوان المسلمين الذين ركبوا على هذه الثورات العربيّة بدعم وتأييد من أمريكا والغرب وإسرائيل فسوف نرى زعماءهم قد سارعوا إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة واجتمعوا مع المنظّمات اليهوديّة التي تدعم إسرائيل - كما سارعوا طائعين إلى الملوك في السعوديّة وقطر لأخذ العون والتأييد منهم،

ص: 61

ونحن لا نشكّ في أنّ ثمانين بالمائة من الإخوان وهابيّون في عقيدتهم غربيّون في سياستهم وقد نجحوا في صناديق الإنتخابات بما أغدقته دول الخليج من أموال مغرية في تونس كما في مصر والمعروف أنّ أغلب الشعوب العربيّة فقيرة تعطي أصواتها لمن يُطعمها ويُسقيها.

ووصل الغنوشي وجماعته إلى السلطة في تونس وأوّل شيء فعلوه مكافأة لقطر والسعوديّة اللّتان أشعلتا الحرب في سوريا أنّهم قطعوا علاقاتهم بالدولة السورية وطردوا السفير السوري من تونس واستدعى الغنوشي أُستاذه القرضاوي إلى تونس ليطوف به في المدن الكبرى التونسيّة ويقيمون صلاة الجماعة في كلّ المساجد التي علّقوا على جدرآنها صوراً بالألوان تمثّل قائد الثورة الإسلامية السيّد عليّ الخامنئي ومعه الدكتور أحمدي نجاد وتحتهم الرئيس بشّار الأسد والسيّد حسن نصر الله وتحت كلّ هؤلاء أجساد ممزّقة ورؤوس مقطوعة ودماء سائلة .

ص: 62

وبعد اقامة الصلاة يخطب القرضاوي لشحن نفوس المصلّين ضد هؤلاء الأربعة وتعبئتهم للجهاد في سوريا الكافرة ثمّ يختمون بعد ذلك بشتّى الأدعية على هؤلاء الأربعة بأن يهلكهم الله ويشتّت شملهم ويقطع نسلهم وأرحامهم ويدمّر بلدانهم الخ... وبهذا الأُسلوب تطوّع للجهاد في سوريا الآلاف من شباب تونس.

ومن المعروف لدى العقلاء بأنّ هؤلاء الأربعة هم سادة المقاومة ضد الكيان الصهيوني الإسرائيلي وقد قدّموا آلاف الشهداء في حرب إسرائيل ولا زالوا يقدّمون كلّ غال ونفيس للدفاع عن القدس وفلسطين وشعارهم في ذلك: (هيهات منّا الذلّة).

أوليس هذا دليل على خيانة الإخوان المسلمين للأُمّة وركضهم وراء أعداء الأُمّة للوصول إلى الرئاسة التي طالما حلموا بالوصول إليها منذ أكثر من ستّين عاماً.

وكذلك فعل الرئيس مرسي الذي كشف عن هويّته بعد الوصول إلى سدّة الرئاسة برسالته الخالدة إلى عزيزه شيمون بيريز وافتضح أكثر عندما أمر جنوده بالقبض على شباب الثورة الذين

ص: 63

هاجموا السفارة الإسرائيليّة وأودعهم في السجون ثمّ أوغل في التحدّي للثوّار المصريّين عندما قرّر قطع العلاقات مع سوريا وأغلق سفارتها وبقي العلَم الإسرائيلي يرفرف في سماء القاهرة كما تعهّد مرسي باحترام اتفاقيّة (كامبدافيد) التي أبرمها السادات وتعهّد بالحفاظ الأمني على الكيان الإسرائيلي رغم نداءات شباب الثورة في مصر بالغاء كلّ الاتفاقيات مع الصهاينة وطرد السفير الإسرائيلي.

ص: 64

ص: 65

ص: 66

ما عَدَا مِمَّا بَدَا !

كلمة قالها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام لطلحة والزبير عندما بايعاه في المدينة ثمّ خرجا عليه يحاربانه في البصرة.

وأنا أقولها بدوري لرفيق الكفاح زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي الذي انقلب مائة وثمانون درجة من أجل الوصول للحكم.

فقد كنّا [أقول كنّا] لأنّي كنت من مؤسّسي الحركة الإسلامية في تونس في سنة 1964 وكنّا نسمّيها حركة الإخوان المسلمين قبل أن تطوّر وتصبح في ما بعد حركة الإتجاه الإسلامي، وكنت ثالث ثلاثة فكان المحامي عبد الفتّاح مورو في العاصمة وكان الأُستاذ راشد الغنوشي في القيروان وكنت أنا أستاذاً في المعهد الثانوي بقفصة وكنّا نعمل بالتنسيق، فكنت أجمع شباب الحركة في مدينة قفصة وما جاورها من المناجم عندما تقام بعض الندوات واللقاءات من أجل الدعوة وأخر مرّة كان لقاؤنا في مدينة سوسة وفي جامعها الكبير وقد أخذت معي ستّة عشر شابّاً من قفصة

ص: 67

وشاركنا في الإجتماع غير أنّ رجال الأمن في زمن بورقيبة أوقفونا ومنعونا من مواصلة إجتماعنا وأرادوا نقلنا من الجامع إلى مركز أمن الدولة وجاءت سيارات الشرطة ولكن ولحسن الحظّ جاء عدد من السوّاح الأجانب وبدأو يلتقطون بعض الصور، وبما أنّ الحكومة التونسيّة كانت تخشى من الدعاية الخارجيّة فأرجعونا إلى مدننا سالمين وأخذوا علينا التزامات تمنعنا من الإجتماعات.

وبعد ذلك وبمشيئة الله سبحانه استبصرت واعتنقت مذهب أهل البيت علیهم السلام وذكرت قصّة استبصاري كلّها في كتابي «ثمّ اهتديت».

والتقيت بعدها بالأخ راشد الغنوشي الذي طلب منّي مصاحبته إلى تونس العاصمة لتهنئة زميلنا عبد الفتّاح مورو بمناسبة زفافه وفي الطريق كنت أحكي لراشد رحلتي للعراق وسبب استبصاري وتغيير مذهبي ولم يبد راشد أيّ اعتراض وعندما دخلنا على الأُستاذ عبد الفتّاح وقدّم لنا بعض المشروبات والحلويات عند ذلك قال راشد لعبد الفتّاح إنّ التيجاني تشيّع وقامت القيامة ووقعت

ص: 68

القطيعة من ذلك اليوم وأصبحت منبوذاً عندهم وكأنّني كفرت بالله ورسوله.

والمهم هنا أنّ أعود لسؤالي للأخ راشد الغنوشي لأقول له ما عَدا ممّا بَدَا.

فقد كنّا في بداية الدعوة نتحامل على الرئيس بورقيبة وتكفيره بسبب إصداره مجلّة الأحوال الشخصيّة التي فرضها على الشّعب التونسي وفيها ما فيها من الأحكام التي تتعارض مع الشريعة الإسلامية بدءاً بالحجاب الذي منعه على المرأة وكذلك منع الزواج بأكثر من واحدة بينما فتح المستشفيات لاستقبال أولاد الزنا كذلك أبطل الزواج والطلاق الشرعي وأبدله بالزواج والطلاق المدني - كذلك أحكم قانون التبنّي المحرّم في الإسلام بنصّ القرآن وأشياء أُخرى لا مجال لذكرها كمحاولته إبطال الصوم في شهر رمضان وعدم اعتماد الرؤيا لشهر الصيام وغير ذلك ((1)).

ص: 69


1- كغلق جامعة الزيتونة ومنع الكتاتيب التي تعلّم القرآن الكريم وإبدالهم بالرَوْضات التي تشرف عليها بعض الرّاهبات.

من أجل ذلك كنّا نجهد بمعارضته وتكفيره وعرّضنا أنفسنا للسجن والتعذيب وكنت أنا في كلّ جمعة وقبل أن يصعد الإمام إلى المنبر أُلقي أنا درساً ومن خلاله أهاجم الرئيس وقد سُجنتُ عديد المرّات وعذّبتُ ورجال قفصة الكبار منهم يعرفون كلّ ذلك وكذلك كان راشد وعبد الفتّاح على ما أعلم لأنّهم دخلوا السجن ثمّ خرج راشد إلى لندن في بريطانيا التي منحته اللجوّ السياسيّ وأصبح يتنقّل من دولة إلى أُخرى.

وعاد إلى تونس بعد نجاح الثورة التي لم يشارك فيها من قريب ولا من بعيد وفوجئت عندما سمعته يصرّح إلى الصحافة التونسيّة بأنّ مجلّة الأحوال الشخصيّة هي مكسب من مكاسب الجمهوريّة ويجب المحافظة عليها.

عند ذلك تمنّيت لقاءه لأقول له: ما عدا ممّا بدَا، أيمكن أن تقلب شراهة الوصول إلى السلطة كلّ المبادىء والأخلاق إلى هذا الحدّ؟

ص: 70

نعم ولا شكّ في ذلك فهذا الأُستاذ عبد الفتّاح مورو مؤسّس الحركة في تونس عندما وجد نفسه منبوذاً من زميله راشد ومن الحركة وكان يظنّ أنّه سيعطونه حقيبة وزاريّة سيّاديّة فلم يحصل على شيء عند ذلك اتّهمهم بالإرهاب وقال بأنّ الرئيس بن عليّ تعامل مع حركة النهضة بقسوة لأنّهم كانوا قد استوردوا من ليبيا صاروخ (ستينقر) ليقصفوا طائرته ويقتلوه وكتبت الصحف التونسيّة يومها تقول: مورو يلقي قنبلة على حركة النهضة.

ولمّا علمت حركة النهضة بخطورته وتأثيره استرضوه وأعطوه منصب نائب أمين عام حركة النهضة فانقلب للدفاع عن الحركة.

فالسياسة هي نفس السياسة والمصالح هي نفس المصالح وسلام على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب الذي كان يقول: «والله ما معاوية بأدهى منّي ولكنّه يغشّ وينافق، ولولا الغشّ والنفاق لكنت أدهى العرب».

وقد بلغني من مصادر موثوقة بأنّ المشرفين على كتابة الدستور الجديد في تونس أرادوا اضافة فصل يقول بتجريم التطبيع

ص: 71

مع الكيان الصهيوني فعارضت حركة النهضة هذا الفصل معارضة شديدة ولم تسمح بإضافته((1)).

بدعوى أنّ السوّاح الأجانب الذين يزورون تونس فيهم الكثير من اليهود الإسرائيلين الذين يزورون جزيرة جربة التونسيّة ويساهمون في دعم قطّاع السياحة بالعملة الصعبة التي نحن بحاجة إليها، فلايمكن أن نقول بتحريم التطبيع ونحن بحاجة إليهم أكثر ممّا هم بحاجة إلينا لقد تبيّن لكم العدوّ من الصديق أفلا تعقلون؟

ص: 72


1- ويشاع لدى العارفين بالكواليس إنّ إصرار النائب الشهيد الحاج محمد الإبراهيمي على طرح قانون تحريم التطبيع مع إسرائيل على المجلس التأسيسي حتى يكشف مَن هو مع التطبيع ومن هو ضدّه قد كان من أسباب إغتياله.

تكفير الوهابيّة للشيعة

بما أنّ أغلبيّة الإخوان المسلمين هي كما قدّمنا متأثّرين بالوهابيّة الحاقدة فإنّنا سنجد الإخوان هم من يوصفون بالجماعة التكفيريّة التي تكفّر كلّ من يخالفها حتّى في الرأي فضلاً عن الخلاف في العقيدة وبما أنّ الوهابيّة ترمي جلّ المسلمين بالشرك سواء أكانوا شيعة أو سنة لأنّ عقيدتهم قائمة على هذا الأساس وهو تحريم الوسيلة وعدم التوسل إلى الله سبحانه وتعالى حتّى في الدعاء.

فالشّيعة عندهم مشركون لأنّهم يتوسّلون بالنبيّ محمّد وآله الأطهار - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - والسُنّة عندهم مشركون لأنّهم يتوسّلون بالنبيّ وبعبد القادر الجيلاني وأحمد التيجاني وأحمد اليدوي وبكلّ أولياء الله.

ص: 73

ولا أُريد الإطالة في هذا البحث فقد تكلّمت فيه كثيراً ونقلت بعض المحاورات التي دارت بيني وبين بعض علمائهم في كتابي {فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا ...}.

ولكن أردت فقط أن أربط هنا بين مَا عليه الوهابيّة وجماعة الإخوان المسلمين من وفاق وانسجام في نبذ عقائد أغلب المسلمين الذين يخالفونهم في هذه النظريّة أو قلّ في هذه الشبهة من تأويلهم لبعض الآيات القرآنيّة التي يُفسّرونها على هواهم كقوله سبحانه وتعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} ((1)).

وحتّى لا أجعل من نفسي مفسّراً لكتاب الله ولا أدّعي أنّي فهمت ما لم يفهم غيري، فالقرآن حمّال أوجه وهو صامت لا ينطق، ولكنّي أدّعي أنّ الصحابة الكرام الذين نزل القرآن بلغتهم والذين عاصروا النبيّ الذي بيّنه لهم، هؤلاء توسّلوا بالنبيّ وبغيره ولم ينكر عليهم أحد.

ص: 74


1- سورة الجنّ: 18.

فالبخاري وكلّ الصحاح عند أهل السُنّة يخرجون في كتبهم ومسانيدهم أنّ عمر بن الخطّاب نفسه قد توسّل بالعبّاس عمّ النبيّ صلی الله علیه و آله فى عام الرمادة والجفاف وقد استجاب الله لتوسّله وسقاهم المطر ثلاثة أيام حتّى خافوا الغرق، فإذا كان الله قد استجاب لتوسّله بالعبّاس فهذا أكبر دليل على قبول الله ورضاه بهذا التوسّل وعند ذلك يصبح كلام الوهابيّة في هذا المعنى هراء ولا دليل عليه بل الدليل على خلافه هو الصحيح.

وسؤالي الذي لا يجيب عليه أيّ عالم من علماء الوهابيّة هو: هل يرضون بحكمهم على عمر بن الخطّاب أنّه كان مشركاً لأنّه جعل واسطة بينه وبين الله سبحانه وتعالى، وقول عمر في هذه الرواية الصحيحة: «اللّهم إنّا كنّا نتوسّل إليك بحبيبكَ محمّدٍ ولم يبق معنا إلاّ عمّ حبيبك»، لدليل قاطع أنّ الصحابة كلّهم كانوا يتوسّلون بأنبياء الله ورسله وأولياءه وأوصيّاءه ودأب المسلمون على ذلك جيلاً بعد جيل وخلف عن سلف طيلة أربعة عشر قرناً ولا يزالون على ذلك حتّى هذا اليوم فهل يعقل أنّ كلّ الصحابة والتابعين لهم

ص: 75

وكلّ الأُمّة الإسلامية مشركة بالله ويبقى فقط الوهابيّون هم المخلصون بالتوحيد مع العلم أنّ عمر الوهابيّة لا يتجاوز مائتي سنة على أكثر تقدير - فاتّقوا الله في أُمّة محمّد أيّها الوهابيّون أفلا تعقلون.

ثمّ انّ عمر بن الخطّاب توسّل بالعباس عمّ النبيّ، والعبّاس كما هو معلوم ليس بنبيّ ولا وصيّ ولا وليّ وإنّما فقط لأنّه عمّ النبيّ بالعلاقة النسبيّة، فكيف تُنكرون على الشّيعة الذين يتوسّلون بسيّد الأوصياء من كان بمنزلة هارون من موسى ومن كان كنفس النبيّ بنصّ القرآن ويتوسّلون بسيّد شباب أهل الجنّة ويتوسّلون بالزهراء سيّدة نساء العالمين، فهل توسّل الشّيعة بمراجعهم وعلماءهم؟

كلاّ إنّما هم يتوسّلون بمحمّد وآل محمّد الذين لا تقبل الصلاة إلاّ بهم. أفلا تعقلون.

وأمّا تكفير الوهابيّة أو الاخوان المسلمون للشيعة فواضح جليّ ولا يتطلّب أن نقيم عليه دليلاً، ففي تونس ومنذ نجاح الثورة احتلّ

ص: 76

الإخوان كلّ المساجد وطردوا الأئمّة ونصّبوا أئمّتهم ومن يرضون عنهم وفي خطبهم ومنابرهم لا تسمع إلاّ تكفيراً للشيعة والتحذير منهم حتّى وصل الأمر أن ينادي خطيبهم البشير بن حسن من فوق المبنر بقتل التيجاني السماوي صراحة وهذا مسجّل عليه من جامع مدينة مساكن في ولاية سوسة ولا ذنب للتيجاني عند البشير بن حسن سوى أنّه تشيّع لأهل البيت علیهم السلام .

كذلك ما وقع في مصر من قتل الشيخ حسن شحاته ومن معه والتمثيل بأجسادهم وسحلهم في الشوارع لأكبر دليل على ما نقول فليس للشيخ شحاته ورفاته من ذنب سوى أنّهم درسوا وبحثوا واعتنقوا ما صحّ عندهم أنّه الحقّ، إلاّ أنّ الإخوان في مصر لا يقبلون بالشّيعة، فأين حريّة المعتقد؟ أين حقوق الإنسان؟ أين حريّة الرأي؟ أين التعدّديّة وعدم الإقصاء؟ أين لا إكراه في الدين؟ أفلا تعقلون.

أكثر من ذلك فسأروي هنا مدى الحقد والكراهيّة التي يحملها الإخوان المسلمون لشيعة أهل البيت علیهم السلام من أجل أن يسجّل التاريخ

ص: 77

هذه الحقائق لعلّ النّاس ينتفعون بها على مرّ السنين، فقد قال سبحانه وتعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} ((1)).

نحن شيعة أهل البيت تعلّمنا من أئمّتنا حسن الخلق والتسامح حتّى مع ألدّ أعدائنا فعندما رجع الأخ راشد الغنوشي إلى تونس والله وحده يعلم كم تعبت للحصول على رقم هاتفه، واتّصلت به مرحّباً ومتمنّياً له كلّ النجاح والتوفيق وطلبتُ منه مقابلة لكي نجدّد علاقتنا ولكي نذيب الجليد الذي تلبّد بمرور الشهور والسنين كان جوابه بارداً واعتذر بأنّه سيسافر إلى تركيا ووعدني بأنّه سيلاقيني بعد عودته من السفر.

وظننت خيراً، واتّصلت بالمستبصرين في تونس الذين كانوا ينتظرون نصيحتي في مسألة الإنتخابات وأكّدت عليهم أن يصوّتوا إلى حزب حركة النهضة لأنّنا كمسلمين ملتزمين، يجب علينا أن نكون مع النهضة بقطع النظر عن السُنّة والشّيعة، فكلّهم عندنا

ص: 78


1- الذاريات: 55.

مسلمون مؤمنون والله يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}((1)).

والنبيّ صلی الله علیه و آله يقول في حديث مشهور: «صِلْ مَنْ قطعك واعطِ من حرمك وأعفُ عمّن ظَلمك».

والإمام عليّ علیه السلام يقول: «النّاس اثنان إمّا أخ لكَ في الدين أو نظير لك في الخلق».

وبالتأكيد أنّ الأخ في الدين أقرب من النظير في الخلق وكان الأمر كذلك فكلّنا صوّتنا للنهضة.

ورجع الأخ راشد إلى تونس وانتظرت إتصاله طويلاً بدون جدوى، وأتّصلت أنا من جديد واتّصلتُ مراراً وكان الجواب دائماً إنّ الشيخ في اجتماع وسيتّصل بكَ فور انتهاءه من الإجتماع، ثمّ اتصلت بعد أسبوع أكثر من مرّة ولكن كان يقطع الخطّ بعد رنّتين أو ثلاثة وفهمت أخيراً أنّه لا يريد مكالمتي فضلاً عن لقاءي.

ص: 79


1- الحجرات: 10.

ومرّت الأيام وجاءتني دعوة من الجماعة الإسلامية في أمريكا وكندا لحضور مؤتمرهم السنوي الذي يعقد في ولاية ميزوري.

وشاركت في المؤتمر وكان المشاركون يسألونني عن تونس وما يجري فيها بعد الثورة وخطر ببالي أن أتّصل من أمريكا بالأخ راشد وقلت في نفسي لا شكّ أنّه سيُجيبني لأنّ رقم الهاتف كان أمريكيّاً، وبالفعل فتح الخطّ بعد رنتين فقط وعندما تكلّمت وعرّفت بنفسي خاطبني شخص آخر مدّعياً أنّ الشيخ مشغول في اجتماع وسيعلمه بعد نهايته ثمّ أغلق الخطّ بدون أن يسمع منّي جواباً.

أضف إلى ذلك أنّه أوّل ما فتح مكتب النهضة في المدينة التي أسكن فيها ذهبت بصحبة صديق لي وانخرطنا في حركة النهضة، وسلّمونا بطاقات اشتراك وقتيّة في انتظار البطاقة الرسميّة التي ستصدرها الإدارة المركزيّة بعد أسبوعين أو ثلاثة حسب ما أعلمنا مدير المكتب المحلّي وانتظرت ثلاثة شهور ثمّ ستّة، ثمّ عاماً كاملاً، وفهمت أخيراً بل تيقّنت بأنّي شخص غير مرغوب فيه وبعد مرور أكثر من عامين على حكومة النهضة للبلاد التونسيّة كنت أتلقّى

ص: 80

من حين لآخر تهديدات فلا أعيرها أهميّة لإعتقادي بأنّها للتخويف والإرهاب ولإعتقادي أيضاً بأنّ المسلم لا يقتل النفس التي حرّمها الله إلاّ بالحق ولعلمه بأنّ هدم الكعبة أهون عند الله من اراقة دم المسلم.

ولم يخطر ببالي بأنّ الإخوان والوهابيّةة قد وجدوا لذلك فتوى من علمائهم، فقوله سبحانه: {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ}، فإنّ النفس التي تكفر أو تُشرك بالله تستوجب حقّ القتل، أمّا هدم الكعبة أهون عند الله من اراقة دم المسلم، فالكافر والمشرك ليسوا مسلمين، وبالنتيجة فإنّ الشّيعة عندهم كافرون ومشركون بل هم أخطر على الإسلام من اليهود والنصارى - كما يزعمون - ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.

فلا يمكن لك أن تقنعهم ولو جئتهم بألف دليل لأنّهم لا يقبلون الجلوس معكَ فضلاً عن الحوار، لأنّ علماءهم قد أفتوا لهم بذلك فهم لا يستمعون إلاّ إليهم ولا يعقلون إلاّ ما أدخلوه في عقولهم.

ص: 81

كنت مرّةً أجادل أحدهم ونحن ضيوف عند بعض الإخوة وكنّا قد تناولنا أحد المشائخ نقيّم أعماله وأراءه تجاه المسلمين، فنهض مغضباً وقد انتفخت أوداجه من شدّة الإنفعال وقال لي أمام الحاضرين: أنا مستعدّ لمجادلتك في كلّ ما تريد حتّى في الله أو محمّد أو عليّ، ولكن لا أسمح لك ولا للحاضرين أن تتكلّموا على الشيخ! ثمّ

خرج بدون استئذان وتبعه صاحب البيت محاولاً تهدئته وإرجاعه فلم يقبل.

هذا مع العلم أنّ الحديث عن شيخه لم يكن شتيمةً ولا نميمةً وإنّما كان تقييماً لما يدّعيه من علم الغيب وأنّه هو صاحب الزمان.

إذاً فالوهابيّة والإخوان والسلفيّة هم نمط واحد بعدّة وجوه وأنا إذا قلت هذا فلا أقصد الكلّ لأنّ فيهم أقليّة قليلة قابلة للحوار ولكن الأكثريّة الساحقة ومن لهم نفوذ داخل الجماعة هم كما ذكرت يعادون كلّ من يخالفهم في الرأي.

في ضلّ هذه الهجمة القويّة من الإخوان وبالخصوص عند خروجهم من السجون ووصولهم إلى كرسيّ الخلافة كما يعتقدون

ص: 82

وتذوّقهم لعزّ النفوذ والجاه والسلطان ازدادت شراستهم وقويت شوكتهم فأصبحوا لا يرون إلاّ أنفسهم ولا يقيمون لغيرهم وزناً.

وذات يوم وقبل حلول شهر شعبان بالتحديد، طرق باب داري أحد المستبصرين لأوّل مرّة وفاجئني بزيارته فرحّبتُ به أشدّ الترحيب لعلمي بأنّه كان دائماً يتحاشى مقابلتي فضلاً عن زيارتي في البيت، وكنت لا أراه إلاّ صدفة مرّة أو مرّتين في العام، فكان يحلّفني بالله أن أستُر عليه ولا أُخبر أحداً باستبصاره ولا يعلم بذلك إلاّ الله خالقه وأنا لأنّي سبب إقناعه وهدايته لمذهب أهل البيت علیهم السلام .

فلمّا زارني في بيتي وفرحت بزيارته ظننتُ أنّه كشف عن حقيقته ولم يعد يخفي تشيّعه على النّاس فقال لي: بالعكس أنا الآن استعمل التقيّة أكثر من أي وقت مضى ولكن سمحتُ لنفسي أن أزورك لأنّي اضطررت لذلك وبما أنّكَ صاحب الفضل عليّ رأيتُ من واجبي نصحكَ وتحذيرك لتغادر البلاد في أقرب الأوقات.

فقلت متعجّباً ومتحيّراً، لماذا؟

ص: 83

فأجاب قائلاً: أنا اشتغل مع حركة النهضة وقد اسنَدوا إليّ بعض المسؤوليات وهم لا يعلمون باستبصاري حتّى هذه الساعة، وقد اجتمعنا بقادة الحركة ليلة أمس وقد جاء ذكرك على أنّك شخص خطير تبثّ الزحف الأسود الفارسي وأنّ إيران من وراءكَ تموّلكَ لبثّ التشيّع في تونس وأنّ كثيراً من شباب السُنّة تأثّروا لدعوتكَ فلابدّ من قتلكَ وتصفيتكَ، وبعد نقاش الموضوع وافق أغلبهم على ذلك مُتمنّين أن يكون قتلك واغتيالكَ بعد الإنتخابات المقبلة، يعني بعد شهر أكتوبر.

شكرته على ذلك وأردت بقاءه للغذاء فامتنع وقال أخرج قبلي وأنظر إذا خلا الشارع من المارّة فاعلمني لأخرج.

وهذا يذكّرني بما قرأته عن الإمام جعفر الصادق علیه السلام الذي كان بعض شيعته يشتغل مع الحاكم الذي لا يعلم بتشيّعه وكان يأتي بالأخبار للإمام الصادق وكان هذا بدوره يُحذّر المؤمنين المستهدفين كي يخرجوا في أرض الله الواسعة وينجوا من الإغتيال والقتل، فالتاريخ يعيد نفسه في زمن حكم الإخوان المسلمين

ص: 84

وبقيت بعد هذا الخبر حبيس الدار لا أخرج إلاّ لضرورة ولا أخرج إلاّ مصحوباً ببعض أصدقائي أو بعض أقربائي داخل السيّارة ولا أتمشّى راجلاً.

ووقعت الواقعة في مصر وقُتل الشهيد حسن شحاته ورفاقه ظُلماً وعدواناً وبدأت الهواتف والرسائل - عبر الهاتف - تتهافت عليّ قائلة: سيكون مصيركَ في تونس كمصيره في مصر، والبعض يكتب لن تفلت من العقاب يا مشرك وثالث يقول: لن تحميك إيران يا نجس فقد جاءت نهايتك.

واضطررت لإغلاق الهاتف كي لا أسمع ولا أقرأ أمثال هذه التهديدات التي أرّقتني مع قناعتي بقول حكيم الأُمّة عليّ بن أبي طالب علیه السلام القائل: «كفى بالأجل حارساً».

فكنت كثير ما أجول في بعض البلدان فيقول أصدقائي المحبّين كيف تمشي بدون حراسة وأنت مهدّد في كلّ لحظة من الوهابيّة والسلفيّة الذين يضعون مبلغاً مغرياً على قطع رأسك؟

ص: 85

فأقول: كفى بالأجل حارساً وهذا تفسير لقول الله سبحانه وتعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّة أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَيَستَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}((1)).

نعم نحن نؤمن بدون شكّ ولا ريب بالآجال المكتوبة، ولكن هذا لا يعني أنّ نهمل الأسباب والمسبّبات ونُلقي بأنفسنا إلى التهلكة فقد قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ...} ((2)).

كان لزاماً عليّ أن أحذر من هؤلاء المجرمين الذين لم يعد يكفيهم قتل الإنسان فيتلذذون بنحره وأكل قلبه كما شاهدنا عند ذلك قرّرت الفرار من بلادي وفي نفسي حسرات عديدة حسرة على الهروب من وطني في عهد المقبور بورقيبة خوفاً من القتل وحسرة على الهروب مرّة أُخرى في عهد زين العابدين المخلوع خوفاً من السجن والتعذيب وحسرة على الهروب للمرّة

ص: 86


1- الأعراف: 34.
2- سورة النساء: 71.

الثالثة في عهد النهضة المحسوبة على الإسلام والمسلمين والحسرة الكبرى التي فاقت كلّ الحسرات وهي موافقة القيادة رفاق الدرب والكفاح الذين كان بعضهم ينام في بيتي عندما يأتي إلى مدينة قفصة وقد أكلنا الماء والملح كما يقال عندنا وتعاشرنا سنين طويلة فكيف يوافقون على قتلي وتصفيتي؟!

وقلت في نفسي إذا كانت النهضة متهمة باغتيال الشهيد شكري بلعيد [كما يقول أغلب التونسيون] لأنّهم يتّهمونه بالإلحاد ولأنّه كان يهاجمهم في خطبه وتصريحاته بكلّ جرأة وبكلّ صراحة وإذا كانت النهضة متّهمة أيضاً باغتيال الشهيد الحاج محمّد ابراهمي لأنّه رئيس حزب معارض وكان بينه وبينهم سجال حول التطبيع مع الكيان الصهيوني والعدالة الاجتماعية.

فماذنب التيجاني الذي تودّد إليهم ودفع بالتي هي أحسن حتّى سجّل اشتراكه في حزبهم وأوعز لكلّ المستبصرين بالتصويت لفائدتهم، وأذلّ نفسه فكان يتّصل هاتفيّاً بهم عملاً بقوله سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا}، وكذلك قوله:

ص: 87

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}، وقوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}. وقوله: {لا تَسْتَوي الحَسَنَة وَلا السَيّئة ادْفَع بالّتي هِيَ أحْسَن}.

وأبت نفسي إلاّ أن تتخلّق بأخلاق أهل البيت علیهم السلام الذين كانوا يعاملون أعداءهم بالحسنى حتّى أنّ الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين أجارَ قتلة أبيه وخبّأهم في داره في ثورة عبدالله بن الزبير فكان الزبيريّون يتتبّعون الأُمويّين لقتلهم فكانوا أمنين في بيته يأكلون ويشربون حتّى انتهت ثورة ابن الزبير عند ذلك خرجوا من عنده سالمين آمنين.

وكذلك فعل جدّه عليّ بن أبي طالب علیه السلام الذي كان يقول لولده الحسن إسق أسيرك قبلي والأسير هو عبد الرحمن بن ملجم الذي فلق رأسه بسيف مسموم، فهذا ما تعلّمناه من أئمّتنا سلام الله عليهم التسامح والمغفرة وكظم الغيظ والعفو عن النّاس والإحسان

ص: 88

إليهم وأن كانوا مُسيئينَ، ولكن أنظر كيف يتعامل السلفيّة والوهابيّة والإخوان مع شيعة أهل البيت.

نعم ذنب التيجاني عندهم أنّه تشيّع، أفلا تعقلون.

نعم عمري الآن سبعين عاماً قضيت منها هارباً في فرنسا ثمانية عشر عاماً في عهد الرئيس بورقيبة ثمّ قضيت أثنى عشر عاماً هارباً في أمريكا في عهد الرئيس بن عليّ وهربت الآن في عهد النهضة إلى العراق والله وحده يعلم كم ستدوم هذه الهجرة، وكم سيدوم هذا الظلم الذي كان سبباً في تشريدي وتشريد عائلتي التي لم تعرف الاستقرار حتّى الآن فأولادي متفرّقين بعضهم في فرنسا وبعضهم في أمريكا وبعضهم في تونس ونحن محرومون من جمع شملنا ولا نلتقي إلاّ في بعض المناسبات ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.

ومع هذا فنحن نحمد الله ونشكره على ما أنعم به علينا فعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون.

ص: 89

فهجرتي الأخيرة كانت إلى العراق أرض الأجداد الذين كان هروبهم من السماوة في عهد الدولة العباسيّة لأنّهم من ذريّة إبراهيم المجاب ابن محمّد العابد ابن موسى بن جعفر وكانت الدولة العباسيّة تلاحقهم، فهربوا إلى أرض الله الواسعة واستقرّ بهم المقام في تونس وشاءت الأقدار أن يكون هروبي في أواخر حياتي إلى بلد الأجداد وبعد سقوط صدام وحزب البعث وجدت في العراق أهلي وعشيرتي والعراقيّون كلّهم يحبّونني ويحترمونني ويعرضون عليّ بيوتهم لأُقيم فيها مجاناً وهذا من فضله سبحانه وتعالى، أفلا تعقلون.

ص: 90

ص: 91

ص: 92

رجعتُ إلى الكتابة من جديد

كنت مولعاً بالكتابة والتأليف في الدفاع عن رسول الله صلی الله علیه و آله وأهل البيت علیهم السلام ، وقد ألّفت اثني عشر كتاباً لم أتناول في واحد منها دليلاً واحداً من كتب الشّيعة بل كلّها من صحاح أهل السُنّة والجماعة وقد أوردت فيها حُجج دامغة وأدلّة ساطعة على أحقيّة الشّيعة ومذهبهم في الإقتداء بأهل البيت وموالاتهم وأنّهم - أي الشّيعة - هم أهل السُنّة المحمديّة التي لم تشوبها شائبة، وأعطيتُ أكثر من عشرين دليلاً على ذلك في كتبي فليراجع من أراد ذلك ولكن ومع ذلك فإنّ الكثير من إخواننا أهل السُنّة لا يزالون يعاندون ويردّدون الأقوال والأكاذيب التي دوّنها أسلافهم من عهد الأُمويّين والعباسيّين الذين عرفوا بعدائهم لأهل البيت وشيعتهم، ولو كان هؤلاء المتأخرون من جهلة النّاس وعوامهم

ص: 93

لهان الأمر علينا، ولكن أن يقوم بترديد تلك الإشاعات علماء القوم ومثقّفوهم فهذا شيء لا يطاق ورغم كلّ الكتب التي كتبت لتفنيد تلك الأراجيف المزعومة ورغم كلّ المؤتمرات التي عقدت وتعقد في إيران والعراق لتأليف القلوب والتقريب بين المسلمين بشتّى مذاهبهم واختلافاتهم ورغم كلّ الفضائيات التي تبثّ ثقافة الشّيعة ومعتقداتهم وما يقام فيها من صلوات ومن أدعيّة ومن قراءة قرآن ومن حوارات تجمع علماء الطرفين سُنّة وشيعة.

ورغم الاتصالات المباشرة والأسفار واللقاءات عبر وسائل الاعلام من البالتوك والفايسبوك والانترنيت وأنّ العالم بأسره أصبح قرية يتعايش النّاس فيها جنباً إلى جنب.

رغم كلّ ذلك ما زال بعضهم يثير النعرات ويكذب على النّاس لتشويه سمعة الشّيعة وإسقاطهم من كلّ اعتبار وهم يضنّون أنّهم سيوقفون بذلك المدّ الشيعي الذي بدأ يغزو العالم السُنّي كما صرّح بذلك علماؤهم في كثير من البلدان، فهذا يوسف القرضاوي يحذّر من غزو الشّيعة للعالم الإسلامي، وهذا ملك الأردن يحذّر من الهلال

ص: 94

الشيعي الذي بدأ يكبر وهذا المعزول حسني مبارك يتّهم حزب الله بغزو مصر التي بدأ التشيّع ينتشر فيها، وهذا ملك المغرب هو الآخر يتّهم إيران بنشر التشيّع في المغرب فيقوم بطرد السفير الإيراني ويقطع علاقاته مع الجمهوريّة الإسلامية في إيران وهؤلاء علماء السعوديّة والوهابيّة يصيحون في كلّ مكان:

أدْرِكوا السُنّة فإنّ أهل السُنّة تشيّعوا وتراهم يبكون بحرارة ويدعون اللّهمّ عليك بالروافض، اللّهمّ جمّد الدماء في عروقهم، وسلّط عليهم السرطان ويبّس أرحام نساءهم، اللّهمّ العن علماءهم ومراجعهم ودمّرهم تدميرا.

وهذا الرئيس المصري المعزول محمد مرسي هو الآخر يعقد مؤتمراً في القاهرة يحضر فيه أقطاب الإخوان وعلماؤهم ليسبّوا الشّيعة ويلعنوهم ويسمّونهم الروافض الأنجاس والرئيس مرسي يسمع ويضحك مزهوّاً بين أنصاره وجماعته وليس منهم رجل رشيد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ليذكّرهم بقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِن قَوْم عَسَى أَن

ص: 95

يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِن نِسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الْاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيَمانِ وَمَن لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}((1)).

حتّى أنّ بعضهم تأثّروا بموقف الرئيس فهجموا على بيت الشيخ حسن شحاته وقتلوه ومن معه ومثّلوا بهم وسحلوهم فاستشهدوا إلى رحمة الله ورضوانه على خُطى ومنهج أهل البيت فهنيئاً لهم وإنّ ربّكَ لبالمرصاد فلم تمض على استشهادهم أيّام قلائل حتّى لقي الرئيس محمّد مرسي نفسه معزولاً يقبع في السجن وأنصاره مقتولين ومجروحين ومطاردين في كلّ مكان {وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}((2)).

فاعبتروا يا أُولي الألباب.

ص: 96


1- سورة الحجرات: 11.
2- سورة هود: 102.

أمّا عندنا في تونس فالمهاجمون للشيعة لم يكونوا أقلّ خطراً من إخوانهم في مصر، فقد حاول البعض أيضاً التصدّي للمدّ الشيعي حتّى ذهب أحدهم وهو محامي يُدعى أحمد حسّانة لتأسيس جمعيّة أسماها: جمعيّة التصدّي للمدّ الشيعي وقد وافقت حكومة النهضة على إعطاءه تأشيرة قانونيّة لهذه الجمعيّة.

وقد كان لي في ما سبق وفي بداية الثورة التونسيّة موقفاً مع هذا الرجل إذ كتب رسالة مفتوحة إلى وزير الداخليّة يحذّره فيها من الشّيعة وقد عمد لنشر رسالته تلك في الصحف التونسيّة وكأنّه اراد بذلك أن يشهر نفسه كمحامي يعمل على كسب المزيد من الزبائن.

وبما أنّه ذكرني شخصيّاً في رسالته لتحذير وزارة الداخليّة منّي على أنّي شخص خطير تموّلني إيران لبثّ التشيّع في تونس وبعد قراءتي لكلّ الاراجيف التي أتّهم بها الشّيعة رأيت لزاماً عليّ أن ألتقي به عسى أن يفتح الله بصيرته على الحق فيهتدي أو على الأقل أن يغيّر رأيه في الشّيعة.

ص: 97

وتحصّلت على رقم هاتفه من إحدى الصحف التونسيّة واتّصلت به مباشرة وعرّفته بنفسي ووافق على مقابلتي واتّفقنا على موعد في إحدى المقاهي في تونس العاصمة وصحبت معي السيّد عليّ العبيدي الأُستاذ المتقاعد وهو من المستبصرين الذي ساءه ما كتبه الأُستاذ أحمد حسانة المحامي واشْترطُّ عليه أن يحضر معي كشاهد ولا يشارك في الحوار، وحضر الأستاذ المحامي في الزمان والمكان ولمّا رأيته فوجئت بشاب وسيم في مقتبل العمر أنيقاً في لباسه بربطة عنقية متناسقة مع الألوان الزاهية للطاقم الذي يرتديه وبعد أداء التحيّة والتعارف المتبادل سألته عن عمره فضحك وكأنّه فهم قصدي من السؤال فقد رأى أمامه شيخاً نيّف على السبعين بلحية بيضاء، فأجاب بأنّه بلغ الثلاثين ضحكت بدوري قائلاً: لمّا كان ابني السيّد شرف متشيّع ويدعو النّاس لهذا الفكر لم تكن أنت موجوداً بعد.

وفهم قصدي طبعاً ولسان حالي يقول له: أنت أصغر من إبني فمتى عرفت الشّيعة حتّى تنتقدهم وتعارضهم!

ص: 98

سحبت من حقيبتي الجريدة التي نشرت رسالته كاملة والتي وجّهها لوزير الداخليّة الجديد الذي عيّن بعد الثورة وقلت له: أنت تقول في رسالتكَ: وبعد نجاح الثورة الإيرانيّة التي أسقطت حكومة الشاه قامت إيران على نشر مذهب الشّيعة فموّلت لذلك عدّة أشخاص ومنهم الدكتور محمّد التيجاني السماوي لنشر التشيّع في تونس؟

أجاب: لقد قلت ذلك.

فقلت: وأنا بدوري قادر على محاكمتك قانونيّاً وإذخالك السجن على إدّعاءك واتّهامك إيّاي بالباطل.

قال: وكيف ذلك؟

قلت: لأنّني سُجنت في تونس من طرف أمن الدولة في سنة 1970 بتهمة نشر التشيّع في قفصة وعندي ملف لدى وزارة الداخليّة بهذا الخصوص وقد عرفوا بأنّي تشيّعت بعد البحث الطويل الذي استغرق ثلاث سنوات من 1967 - 1970 بعد سفري إلى النجف الأشرف بالعراق وحواري مع السيّد الخوئي والسيّد

ص: 99

محمّدباقر الصدر وكثير من علماء النجف الأشرف ولمّا تحقّقوا بعد البحث والتحرّي وأنا موقوف عندهم مدّة شهر كامل وعرفوا أنّ علاقاتي بالعلماء ليست علاقة سيّاسيّة ولا أدعوا إلى حزب البعث الذي كان عدوّهم في ذلك الوقت، وأنّ عقيدتي لا تمثّل أي خطر عليهم لأنّ بورقيبة وحكومته كانت علمانيّة عند ذلك أطلقوا سراحي، فأين هذا ممّا ادعيته أنت من عمالتي لإيران؟

فإذا كنت موقوفاً من أجل بتّ التشيع عام 1970 فأين نحن من إيران التي قامت ثورتها عام 1979 وإذا كنت أنا متشيّع من سنة 1967 وقد ذكرت كلّ ذلك في كتابي الأوّل (ثمّ اهديت) وليس فيه أي ذكر أو أي حرف يذكر إيران أو الإمام الخميني، وأضفت ضاحكاً.

فثورتي أنا في تشيّعي سبقت ثورة الإمام الخميني ب- 13 عاماً.

فضحك بدوره قائلاً: سامحني لأنّي ما عرفت عنكّ إلاّ ما سمعته من النّاس.

ص: 100

قلت: أنت محامي وتعرف أنّ كلام النّاس ليس بحجّة وعلى كلّ حال ما دمت قد اعتذرت وطلبت منّي السماح فأنا بدوري سامحتكَ في حقّ شخصي، ولكن تعال إلآن لأناقشكَ في إدعاءاتك على الشّيعة وسأتناول كلّ المواضيع التي ذكرتها بالتناوب.

ذكرت بأنّ للشيعة قرآن غير قرأننا وهم يقولون بأنّ عندهم مصحف فاطمة إلى غير ذلك.

وهذه دعاية كاذبة ليس لها أساس من الصحّة عند الشّيعة وعند الكثير من علماء أهل السُنّة والقرآن عند كلّ المسلمين هو قرآن واحد لا يختلف فيه اثنان وهذه المصاحف عند الشّيعة وفي مختلف البلدان قديماً وحديثاً هي نفس المصاحف عند أهل السُنّة والجماعة، وإذا سافرت إلى أوطانهم واستمعت إلى الحفّاظ والقرّاء الذين يرتّلونه آناء الليل وأطراف النهار، وإبامكانكَ الإستماع إلى الفضائيّات من غير أن تكلّف نفسك أتعاب السفر، فسوف لن تجد

ص: 101

حرفاً زائداً ولا حرفاً ناقصاً، لأنّ الله جلّ وعلا هو الذي تكفّل بحفظه فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}((1)).

وهذا يذكّرني بالحوار الذي دَار بيني وبين عثمان الخميس والبلوشي في محطّة المستقلّة الفضائيّة منذ عشر سنوات وقد أثاروا هذا الموضوع زاعمين بأنّ للشيعة قرآناً غير الذي نعرفه وطال النقاش حتّى اتّصل أحد الأثرياء من التجّار الكويتيّن وقال لصاحب المحطّة بأنّه وضع مليون دولار في حساب الفضائيّة لمن يأتي بنسخة واحدة من هذا القرآن المزعوم، فلم يجدوا ولن يجدوا إلاّ الأوهام الكاذبة.

عند ذلك قال الأُستاذ المحامي متحمّساً: أنا قرأت هذا بنفسي في كتاب الكافي وهو أشهر كتاب عند الشّيعة ويقول الراوي في هذا الكتاب (وعندنا مصحف فاطمة...).

ص: 102


1- الحجرات: 9.

فقلت وهب أنّ هذه الرواية صحيحة فليس فيها دلالة على أنّ مصحف فاطمة يختلف عن بقيّة المصاحف التي عند المسلمين وإذا كان أهل السُنّة يقولون بأنّ عثمان ابن عفّان عندما أراد جمع القرآن استعان بمصحف عائشة ومصحف حفصة، فإذا كان لعائشة مصحف ولحفصة مصحف فلا غرابة أن يكون لفاطمة مصحف وهي أُولى منهما لأنّها ابنة رسول الله وقد واكبت القرآن من أوّل نزوله إلى نهايته.

فقال: أهذا هو المقصود من مصحف فاطمة؟!

قلت: نعم، ومن يعتقد غير ذلك فقد افترى فليست فاطمة(عليها السلام) نبيّ ولا رسول ليوحى اليها قرآناً غير قرآن أبيها.

أبدى الأُستاذ المحامي ارتياحه لهذا الشرح، فانتقلت لما بعده.

قلتَ: في رسالتك بأنّ الشّيعة ينسبون إلى الله الجهل بقولهم بالبداء ويعني ذلك بأنّ الله سبحانه قد يحكم حكماً ثمّ يغيّره لأنّ حكمه الأُوّل لم يكن صالحاً.

ص: 103

قلت: أعوذ بالله من هذا الإعتقاد الذي ليس هو من اعتقادات الشّيعة ومن يقول بذلك فهو كافر.

قال: فما معنى البداء وقولهم بدأ لله؟

قلت: إنّها آية صريحة ومحكمة من كتاب الله العزيز وهي قوله سبحانه: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}((1)).

فالله سبحانه وتعالى فعّال لما يريد {لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ}((2)).

وليس القول بالبداء (بدأ لله) هذا معناه كما توهّمت أنت ومن قبلك الذين يريدون تكفير الشّيعة فينسبون إليهم كلّ أمر مشين فحاش الشّيعة أن ينسبوا الجهل إلى الله سبحانه وهم وحدهم الذين ينزّهونه سبحانه وتعالى عن كلّ نقيصة فهم الوحيدون الذين

ص: 104


1- الرعد: 39.
2- الأنبياء: 23.

يقولون بعدم رؤيته حتّى في الآخرة وأنّها مستحيلة، فكيف ينسبون إليه الجهل تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

فقاطعني قائلاً: فما معنى قولكم بدا لله أن يفعل فعلاً عوضاً عن الفعل الأوّل أليس هذا هو الجهل بعينه؟

قلت: كلاّ يا أُستاذ أنّ المسلمين جميعاً يسألون الله سبحانه في كلّ دعواتهم أن يغيّر سوء حالهم ويترجّونه أن يعطيهم كلّ ما يسألون وهذا ما يريده الله منهم في قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ...} ((1)). ... ثم سألته عندما كنتَ صغيراً وكان أبوك يقدّم لك هديّة فبماذا كنت تدعو له؟

قال كنت أقول: الله يُطوّل عمرك يا بابا!

قلت: ذاك هو البداء لأنّ الله كتب لأبيكَ من العمر خمسين سنة على سبيل المثال، وأنت تسأل الله أن يزيد في عمره فإذا استجاب الله لدعائك سيصبح عمر أبيك ستّين بدل الخمسين مثلاً وهو

ص: 105


1- الفرقان: 77.

بالضبط قولنا بدأ لله أن يغيّر العمر الأوّل بعمر ثان، والعكس صحيح أيضاً ألم تقرأ قصّة موسى مع الخضر عليهما السلام عندما أرسله الله ليقتل ذلك الصبي فقتله واستنكر عليه موسى فقال له: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْس لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} ((1))، فكان الجواب.

{وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} ((2)).

فهل نقول في هذه الحالة بأنّ الله سبحانه وتعالى عندما خلق هذا الغلام كان جاهلاً بما سيصدر منه تجاه أبويه، فلمّا علم بذلك قصف عمره بقتله؟ نعوذ بالله من هذا القول الشنيع في حقّه سبحانه وتعالى عن ذلك علّواً كبيراً، فنحن هم الجاهلون بحكمته سبحانه وتعالى وهو القائل والله يعلم وأنتم لا تعلمون.

ص: 106


1- الكهف: 72.
2- الكهف: 80 - 81.

عند ذلك سألني الأُستاذ وهو يضحك، فكيف تفسّرون هذه القصّة؟

قلت: القصّة واضحة وعدم فهمكَ لها هو الذي حملك أن تنسب الجهل إليه سبحانه وتعالى وتتّهم الشّيعة بما تعتقده أنت في قرارة نفسك، ولو أنّكَ سألت عالم من علماء الشّيعة عن قولهم بالبداء لأقنعكَ بأنّ الله سبحانه وتعالى يغيّر ويبدّل عن علم وحكمة وليس عن جهل كما تزعمون.

قال: أنت قلت بأنّ القصّة واضحة ولكنّك لم توضّح شيئاً منها!

قلت: لا شكّ بأنّ الله سبحانه لمّا خلق ذلك الصبي كان يعلم أنّه سيُرهق أبويه طُغياناً وكفراً ولكن الأبوين لمّا آمنا بالله وتقرّبا اليه بالعبادة والتقوى وكثرة الدعاء طيلة الفترة التي كبر فيها الصبي المولود حتّى أصبح غلاماً استجاب الله دعائهما فقصف عمر ابنهما كي لا يُرهقهما طُغياناً وكفراً وبدأ لله أن يبدلهما ولداً صالحاً تقيّاً بنفعهما وتقرّ به أعينهما.

ص: 107

ولعلّ الله سبحانه وتعالى أرسل من يقتله بدلاً من إنهاء حياته بالموت الطبيعي ليعلم موسى علیه السلام ويعلم أبواه ويُعلّمنا نحن أيضاً بأنّه يمحو ما يشاء ويُثبت وعنده أم الكتاب.

ولكلّ ذلك ورد في الأدعية المأثورة عن رسول الله صلی الله علیه و آله : «اللّهمّ يا مُقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينكَ».

فالله سبحانه يقول: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}((1)).

فالتغيير والتبديل هو سُنّة الله في خلقه فإذا كان العبد صالحاً تقيّاً مطيعاً فإنّ الله سبحانه يغيّر حاله من فقر إلى غنى ومن ذُل إلى عزٍّ ومن مرض إلى شفاء وعافية.

أمّا إذا كان فاسداً فاسقاً عاصياً فإنّ الله سوف يغيّر حاله إلى تعاسة ويسلب نعمته عنه، فاسمع لقوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ

ص: 108


1- الرعد: 11.

مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَابِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}((1)).

وإذا أمعنت في نهاية الآية وقوله: {إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} تبيّنت لك حكمة الله في أنّه سميع لدعاء عباده، فيستجيب لهم ويعطيهم ما سألوه عليم بما يفسدهم وما يصلحهم، فالذي يصدر منه فهو عن علم وليس عن جهل يا حضرة الأُستاذ، فلا يجوز لك إتّهام الشّيعة على الظنّ والشبهة.

وهنا أبدى الأُستاذ المحامي رضاه بهذا البيان قائلاً: نعم إذا كان الشّيعة يفسّرون البداء بهذا المعنى فهو لا شكّ صحيح ومقبول.

قلت: فتعالى بنا إلى الفقرة الثالثة التي ادّعيت فيها بأنّ الشّيعة يقولون بأنّ أئمّتهم يعلمون الغيب في حين يقول الرسول صلی الله علیه و آله على

ص: 109


1- الأنفال: 53.

لسان القرآن: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} ((1)).

إعلم يا أُستاذ أنّ هذه الآية لا تنفي علم الغيب عن رسول الله مطلقاً وإنّما فقط في مورد طلب المشركون منه أُموراً تعجيزيّة، ومن المعلوم بالضرورة أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله كان يعلم الغيب وقد حدّث أصحابه بكثير من الأُمور الغيبيّة التي حدثت بعد وفاته بخمسين سنة كقوله: [ابني الحسن سيصلح بين فئتين عظيمتين من المسلمين]، وقوله [عمّار تقتله الفئة الباغية] وقوله: [ياعليّ يقتلكَ أشقى الآخرين الذي يضربك على رأسك فيخضّب منه لحيتك]. وقوله [الخلافة من بعدي ثلاثون عاماً ثمّ ملك عضوض] وقوله: [ان ولدي الحسين سيقتل بأرض ذات كرب وبلاء]، وقوله: لزوجته عائشة بركوب الجمل ونباح كلاب الحوأب، وقوله لأبي ذر الغفاري [ستموت وحيداً وتبعث وحيداً]، وقوله: لابنته الزهراء

ص: 110


1- الأعراف: 118.

عليها السلام [أنت أوّل مَن يلحق بيّ]، وقوله لأصحابه: [ستفتح عليكم كنوز كسرى والروم]، وقوله لهم: [لتتبعنّ سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراع بذراع حتّى لو دخلوا حجر ضبّ لدخلتموه] وهم اليهود والنصارى، وقوله لعليّ: [إنّ الأُمّة ستغدر بكَ من بعدي فاصبر حتّى تلقاني مظلوماً].

وهذه بعضاً من الأُمور الغيبيّة التي أخبر بها صلی الله علیه و آله وهناك أُموراً أُخرى كثيرة سجّلها المؤرّخون والمحدّثون، ولكنّي ذكرت لك فقط ما اتّفق عليه المسلمون كافّة ولم يختلف فيه أحد منهم.

وهذا يا اُستاذ ليس غريباً عن نبيّ الإسلام والذي هو عندنا أفضل الأنبياء والمرسلين، فإذا كان سيّدنا يوسف يقول لصاحبيه في السجن: {قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي}((1)).

ص: 111


1- يوسف: 37.

فقول الشّيعة بأنّ أئمّتهم يعلمون الغيب قول صحيح لأنّ الله سبحانه وتعالى أطلعهم على بعضه عن طريق رسوله الكريم، قال سبحانه وتعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُول فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} ((1)).

فإذا كنتم تنكرون علم الغيب حتّى على رسول الله صلی الله علیه و آله والدليل أنّك استدللت بأية: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ...}، فإنّ الشّيعة لا يوافقونكم على ذلك، وإذا اختلفنا في شيء فالله يأمرنا أن نرده إلى الله وإلى الرسول وإذا رددناه إلى الله فإنّه قال لنا بأنّه يطلع على غيبه من ارتضى من رسول وإذا رددناه إلى الرسول فإنّه حدّثنا وأطْلعَنا على الكثير من أنباء الغيب التي أطلعه الله عليها وأمره أن يحدّث بها أصحابه لكي لا تعتقدون بجهله بالغيب كما تعتقدون أنتم اليوم،

ص: 112


1- الجن: 36 - 37.

فالشّيعة حُجّتهم وأدلّتهم على ذلك قويّة وصحيحة، وأمّا حُجّتكم وإنكاركم فلا يقوم على دليل واحد.

قال الأُستاذ: طيّب آمّنا بأنّ رسول الله كان يعلم الغيب ولكن الشّيعة ينسبون علم الغيب للأئمّة الذين يعتقدون بإمامتهم.

قلت: وما الغرابة في ذلك؟

فإذا كان الشّيعة أنفسهم ينقلون عن الأئمّة قولهم: إنّه علم ورثناه من رسول الله علّمه إلى وصيّه عليّ وعلّمه عليّ إلى أوصيائه الحسن والحسين وعلّمه الحسين إلى الأئمّة المعصومين من ولده، وإنّا نكتنز هذا العلم كما يكتنز أحدكم ذهبه، وقد سجّل المؤرّخون والمحدّثون من السُنّة والشّيعة والمعتزلة كثيراً من الأخبار الغيبيّة التي تحدّث بها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب زمن خلافته وقد حدثت بالفعل كما أخبر علیه السلام والحديث في ذلك يطول فما عليك إلاّ بقراءة كتاب الملاحم والفتن أو كتاب شرح النهج لابن أبي الحديد المعتزلي لتعرف صدق الشّيعة.

ص: 113

ونأتي الآن لإنكاركَ على الشّيعة قولهم بحليّة زواج المتعة والذي ادّعيت بأنّه زنا، فالشّيعة على رأيك ورأي أهل السُنّة هم يحلّلون الزنا نعوذ بالله السميع العليم من هذة التهمة وحاش الشّيعة أن يحلّلوا ما حرّم الله أو يحرّمون ما حلّل الله، والشّيعة تبعاً لأئمّتهم هم أبرّ وأتقى لله من المخالفة لأحكامه سبحانه وتعالى وقد كتبت كتابي الرابع وأثْبتُ فيه بأنّ الشّيعة هم أهل السُنّة وأنّهم لا يخالفون كتاب الله وسُنّة رسوله في مورد واحد ولعلّ الذي جرّ عليهم كلّ هذا العداء وكلّ هذا التشنيع أنّهم رفضوا كلّ ما خالف الكتاب والسُنّة، ولأنّ غيرهم من المسلمين اتّبعوا سُنّة الصحابة وبالخصوص ما سُمّي بالخلفاء الراشدين، وتحريم زواج المتعة إنّما جاء من طريق عمر بن الخطّاب كما هو مشهور عند الباحثين وقد ورد ذلك في صحيح البخاري وصحيح مسلم وغيرهم من مسانيد أهل السُنّة والجماعة.

لذلك نبزوهم بالألقاب وسمّوهم الروافض.

ص: 114

أمّا زواج المتعة فقد نزل به القرآن الكريم في آية محكمة من سورة النساء وهي قوله سبحانه تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُم مَا وَرَاءَ ذلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيَما تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} ((1)).

ولم يختلف إثنان من المفسّرين في أنّها نزلت في نكاح المتعة وإنّما اختلفوا في الشخص الذي منعها وحرّمها وتوعد بالعقوبة لمن فعلها.

وأهل السُنّة والجماعة يختلفون، فمنهم مَن ذهب أنّ الرسول حرّمها، ومنهم من قال بأنّ عمر بن الخطّاب هو الذي حرّمها.

أمّا الشّيعة فلم يختلف منهم إثنان في حلّيتها من الله ورسوله وأنّ عمر هو الذي حرّمها وهم طبعاً لا يقتدون إلاّ بالأئمّة الطاهرين من أهل البيت الذين يقولون بحلّيتها إلى يوم القيامة.

ص: 115


1- سورة النساء: 24.

وهنا تحمّس الأُستاذ المحامي وأنبرى للدفاع عن المرأة وبأنّ هذا الزواج هو مهانة للمرأة وأنتقاص لحقوقها.

فقاطعته قائلاً: إذاً أنت أعلم من الله الذي حلّل هذا الزواج وأمر به رسول الله وفعله الصحابة في حياة النبيّ وبعد وفاته كما يشهد بذلك صحيح البخاري وغيره من الصحّاح.

فقال أنّ المذاهب الأربعة يُحرّمون هذا الزواج ولا يعملون به.

قلت: لأنّهم اتّبعوا إجتهاد عمر في رأيه الذي ارتأه.

فقال: وهل من المعقول أن يتّبعوا رأي عمر ويتركوا سُنّة النبيّ؟!

قلت: هو غير معقول بالنسبة لي ولك، ولكنّهم اتّبعوه في هذا وفي كثير من الأُمور الأُخرى التي خالف فيها الكتاب والسُنّة!

ضحك الأُستاذ وهو يقول: تريد القول بأنّ عمر بن الخطّاب كان يخالف الكتاب والسُنّة؟

قلت: نعم; للأسف هذا الواقع رغم أنفي وأنفك وسأعطيكَ الدليل على ذلك.

ص: 116

قال: أنا اسمع اليك.

قلت: أمّا مخالفته للقرآن فقد منع سهم المؤلّفة قلوبهم من الصدقات كما حرّم زواج المتعة - كذلك جعل الطلاق الثلاث في جلسة واحدة مخالفة للقرآن الذي جعل لكلّ طلقة عدّة .

كذلك كان يرى ترك الصلاة للمجنب الذي لا يجد الماء للغسل كذلك مخالفة القرآن في قوله {ولا تجسّسوا}. فهو الذي تجسّس على المسلمين زمن خلافته ورصَد لذلك عيوناً وأذاناً من الصحابة تأتيه بأخبار النّاس وما يفعلونه حتّى في السرّ - وهذا مشهورٌ عند الباحثين ويروون في ذلك قصصاً عجيبة.

أمّا مخالفته للسُنة النبويّة فكثيرة أيضاً ومنها تحريمه متعة الحجّ التي حلّلها رسول الله صلی الله علیه و آله .

كذلك بدعته صلاة التراويح التي نهى عنها رسول الله كما صرّح بذلك البخاري في صحيحه.

ص: 117

كذلك إسقاطه فصلاً من الأذان وهو حيّ على خير العمل وزيادته الصلاةُ خير من النوم.

كذلك تفضيله في العطاء المهاجرين على الأنصار والعرب على الأعاجم، وقد كان رسول الله لا يفضّل في العطاء أحداً على أحد.

كذلك مخالفته للسُنة النبويّة عندما طلب الرسول كتفاً ودواة ليكتب لهم كتاباً يعصمهم من الضلالة.

فقال: إنّ رسول الله يهجر ومنعه من الكتابة.

كذلك عيّنه رسول الله ليكون في جيش أُسامة وتحت امرته، فتخلّف ولم يلتحق به.

والمخالفات كثيرة ولكن ما ذكرته لك كاف، وقد اتبع سُنّته أصحاب المذاهب الأربعة في كلّ إجتهاداته، فكيف تستغرب إتباعهم له في تحريمهم زواج المتعة.

ومع كلّ هذه البيانات والأدلّة بقي الأُستاذ المحامي يدافع عن المرأة ولا يقبل بهذا الزواج حتّى قال لي: أترضى أن تُزوّج إبنتك أو أُختكَ زواج متعة؟

ص: 118

ثمّ أردف يقول: إذا كان الشّيعة يرضون بذلك فنحن أهل السُنّة لا نرضى به.

فقلتُ: الشّيعة لا يرضُونَ إلا بأحكام اللهِ ورسولِهِ ويرفضُون الأحكام الإجتهادية التي أحدثها الخلفاء الثلاثة بعد وفاة النبي ولذلك سمّاهم أهل السنّة [الرّوافض].

ثم أضفتُ قائلاً: هل تعرف أو تسمع بفضيلة شيخ جامع الزيتونة المعمور، صاحب التفسير المشهور بالتحرير والتنوير في ثلاثين مجلّداً؟

قال: أتقصد فضيلة الطاهر بن عاشور؟

قلت: لا غيره وأنا أحيلك عليه وهو من أعلام أهل السُنّة والجماعة وعلمائهم، فاقرأ ماذا يقول في زواج المتعة قبل أن توجّه اتهاماتك للشيعة يا حضرة الأُستاذ!

فقال متسائلاً: أيقول بأنّه حلال؟

فقلت له: أنا لا اشفي غليلك ولا أقول لك ماذا يقول فاذهب بنفسكَ وأبحث لكي تعرف ماذا يقول.

ص: 119

ثمّ نأتي الآن لما وردَ في رسالتك لإنكارك على الشّيعة في قولهم بعصمة الأئمّة وأنّهم لا يخطئون.

وقبل الدخول معك في هذا البحث أريد أن أُنبّهك للتناقض الذي وقعت فيه من حيث لا تشعر.

قال: وكيف كان ذلك؟

قلت: بدأت في الفصل الأوّل بأتّهامك للشيعة على أنّهم ينسبون الجهل إلى الله في قولهم بدأ لله.

وفي هذا الفصل تستنكر على الشّيعة قولهم بعصمة الأئمّة وأنّهم لا يخطئون، فإذا كان الشّيعة يعتقدون بأنّ أئمّتهم معصومون عن الخطأ وهم بشر مثلنا، فكيف تقبل بعد هذا أنّهم يجوّزون الخطأ على الله، سبحانه وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.

ص: 120

وأمّا بالنسبة لعصمة الأئمّة علیهم السلام فهذا أمر أثبته العقل والنقل ولنبدأ بنصوص القرآن الكريم: قال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} ((1)).

فهذه الآية الشريفة تؤكّد بأنّ الله أذهب الرجس عن أهل البيت وطهّرهم تطهيراً، والرجس يشمل كلّ الخبائث وكلّ المعاصي وكلّ الأخطاء البشريّة والتطهير من كلّ الذنوب يفيد العصمة ولأنهم عباد الله المخلصين فلا يتمكّن الشيطان أن يقترب منهم.

وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}((2)).

فقاطعني الأُستاذ قائلاً: أولي الأمر منّا هم الرؤوساء الذين يحكموننا.

ص: 121


1- سورة الأحزاب: 33.
2- سورة النساء: 59.

قلت: وهل من المعقول أن يأمرنا سبحانه بطاعة الرؤوساء والملوك الذين يشهد الله أنّهم {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ} ((1)).

ويشهد رسول الله صلی الله علیه و آله أنّهم يمثّلون ملكاً عضوض، وهل من المعقول أنّي يوم الحساب أقول لربّي أنّني أطعت الرئيس بورقيبة الذي حلّل التبنّي وأمرني بعدم الصوم وحرّم تعدّد الزوجات ومنع زوجتي وبناتي من الحجاب، أتراه سيقبل منّي عذري؟

قال الأُستاذ: لكن الرسول يقول لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

قلت: أوّلاً الرؤوساء والملوك والحكّام لا يعترفون بأنّهم يأمرون بمعصية الله، بل يقولون بأنّهم يجتهدون لمصلحة النّاس.

ثانياً: المسلم إذا قرأ القرآن فإنّه يأخذ بأحكامه وأوامره ولا يلتفت إلى الأحاديث التي فيها اختلاف كثير.

ص: 122


1- سورة النمل: 34.

ثمّ لماذا أنتم تفسّرون الآية الكريمة على شعوبنا اليوم في حين أنّ الآية تقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، بلغة المخاطب يعني أنّ الله سبحانه ينادي الصحابة الموجودين مع الرسول صلی الله علیه و آله ويأمرهم بطاعته وطاعة رسوله ثانياً وطاعة أولي الأمر ثالثاً. ومن المعلوم أنّه في زمن الصحابة لم يكن هناك لا ملوك ولا رؤساء.

والمفهوم من الآية أنّ الله سبحانه أمر الصحابة أن يطيعوا أشخاصاً موجودين معهم وهم أوّلاً رسول الله ومن بعده أهل بيته الطاهرين الذين عيّنهم وأشار إليهم بقوله: «تركتُ فيكم الثقلان كتاب الله وعترتي ما إنّ تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبداً».

فالآية الكريمة تفيد بأنّ مَن أطاع أهل البيت، فقد أطاع الرسول ومَن أطاع الرسول فقد أطاع الله سبحانه وتعالى.

وهذا يفرض بأنّ الرسول لا يأمر إلاّ بما أمر الله لأنّه معصوم عن الخطأ وأن أهل البيت لا يأمرون إلاّ بما أمر به رسول الله لأنّهم معصومون عن الخطأ.

ص: 123

وهذا ما يؤيّده العقل أيضاً لأنّ حاش لله سبحانه أن يأمر النّاس بطاعة مخلوق يخطىء ويُصيب، لأنّه إذا أخطأ وليّ الأمر فسيجرّ كلّ رعيته إلى الخطأ والمعصية وكما قيل في الحديث [النّاس على دين ملوكهم] وعند ذلك سيكون للناس حُجّة على الله إذا أراد معاقبتهم يوم القيامة، فسيقولون ربّنا أنت الذي أمرتنا بطاعته فكيف تعاقبنا؟!

فالنستمع إلى قول الله سبحانه وتعالى وكأنّه يشرح لنا مفهوم هذه الآية التي نحن بصددها; قال سبحانه وتعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}((1)).

هذا إذا أضفت لكلّ ما تقدّم من أحاديث الرسول في عترته، وأنّهم هم الأوصياء وهم الخلفاء وهم الأُمراء وهم أئمّة الهدى

ص: 124


1- سورة النساء: 165.

ومصابيح الدُّجى والعروة الوثقى وهم أهل الذكر وهم الراسخون في العلم وهم أولى الأمر الذين جعل الله طاعتهم من طاعته.

وبعد هذا البيان أبدى الأُستاذ المحامي إرتياحه.

فقلت: هيّا بنا لما بعده فقد أثرت في رسالتك بأنّ الشّيعة يسبّون الصحابة.

قال: نعم هذا معروف لدى الشّيعة.

أقول: أوّلاً أنّ هذا كذب مفضوح، فهذه كتب الشّيعة قديماً وحديثاً لا يوجد فيها هذا الإدّعاء.

فقال الأُستاذ: كتب الشّيعة تذكر مثالب الصحابة أوليس هذا هو السب؟

قلت: إنّ كان المقصود بالسبّ هو ذكر المثالب فإنّ الشّيعة لا يذكرون مثالب الصحابة إلاّ ما أثبته صحاح أهل السُنّة والجماعة، فهذا البخاري على سبيل المثال يقول بأنّ أغلب الصحابة سيدخلون النار ولا يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم، فهل هناك أكثر من هذا السب يا حضرة الأستاذ؟

ص: 125

وأعطيكَ مثلاً أنّي شخصيّاً ألّفتُ إثنا عشر كتاباً وذكرتُ فيها الكثير من مثالب الصحابة ولكنّي ما اعتمدت حديثاً واحداً من كتب الشّيعة بل كلّها من صحاح أهل السُنّة والجماعة، فما عليك يا أُستاذ إلاّ قراءة كتبكم قبل أن تتّهم الشّيعة.

قال الأُستاذ: إنّ الكويتي الذي يُسمّى ياسر الحبيب سبّ الصحابة وسبّ أم المؤمنين عائشة وهو شيعيّ، أفلا تذكر ذلك؟

قلت: نعم هو شيعي ولكن هل تُحمّل كلّ الشّيعة مسؤوليّة فرد واحد، وعدد الشّيعة في العالم يفوق أربعمائة مليون نسمة؟

وأنا في طريقي اليك اليوم عندما نزلت مع صديقي من حافلة النقل كان شاب أمامنا منفعل ويصيح بأعلى صوته يسبّ الجلالة ولم يعترض عليه أحد، فهل أقول أنا بأنّ أهل السُنّة والجماعة يسبّون الله؟

وهنا ضحك الأُستاذ لأنّه بلا شكّ تعوّد على سماع سبّ الله، فكثير ما نسمعها في تونس ولا نقدر على مقاومتها إلاّ بأضعف الإيمان وهو الإنكار بالقلب.

ص: 126

أمّا ثانياً فالشّيعة لا يتناولون كلّ الصحابة بالثلب أو السبّ وإنّما بعضهم الذين ثبت فسقهم وانقلابهم بعد النبيّ صلی الله علیه و آله وهم في ذلك يقتدون بما ورد في كتاب الله من فسقهم وتمرّد بعضهم على الرسول وتخلّفهم عنه وبما ورد في أحاديث النبيّ من قدح البعض منهم وتوعدهم بالنار، فالشّيعة ينتقصون هذا البعض وليس كلّ الصحابة.

وثالثاً: على فرض أنّ الشّيعة يسبّون الصحابة فهل يخرجهم هذا من الإيمان أو من الإسلام؟

كلاّ; فلم يقل أحد بكفر مَن سبّ الصحابة، والدليل على ذلك أنّ الصحابة أنفسهم قد سبّ بعضهم بعضاً، بل كفّر بعضهم بعضاً وقتل بعضهم بعضاً، فلو كان السب حراماً أو يخرج من الإسلام لعلموه قبلنا، فنحن إنّما اقتدينا بهم.

رابعاً: إنّ بعض الشّيعة وليس كلّ الشّيعة يسبّون بعض الصحابة وليس كلّ الصحابة إجتهاداً منهم غيرةً على الإسلام والمسلمين لمّا تبيّن لهم أنّهم أعداء الله ورسوله وآله الكرام.

ص: 127

ولما ذكرتموه أنتم في صحاحكم فهم في هذه الحالة مأجورين أجران إن أصابوا ولهم أجرٌ واحدٌ إن أخطأوا وإن لم يكونوا مجتهدين غيرة على الإسلام والمسلمين فلهم أجر إن أصابوا وعليهم إثم إذا اخطأوا، وهذا نظير قوله: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَيُظْلَمُونَ} ((1)).

فلماذا كلّ هذه الضجّة والتشهير حتّى أصبح سبّ الجلالة عند بعضهم أهون من سبّ الصحابة، أفلا تعقلون!

وقولك بأنّ الشّيعة يسبّون الصحابة، وخصوصاً الخلفاء وتقصد بالخلفاء أبو بكر وعمر وعثمان.

فإذا كان المسلم شيعي كان أم سُنّي يقرأ اليوم بأنّ أبا بكر وعمر أساءَا إلى فاطمة الزهراء بنت النبيّ وهدّداها بالحرق

ص: 128


1- سورة الأنعام: 160.

وأذياها، ويقرأ في نفس الصحاح قول النبيّ صلی الله علیه و آله : «فاطمة بضعة منّي مَنْ أذاها فقد أذاني ومَنْ أذاني فقد أذى الله».

قل لي بربّك كيف يترضّى عليهما عندما يقرأ في صحيح البخاري وصحيح مسلم بأنّها ماتت وهي غاضبة عليهما، ولا أريد الإطالة وكشف المستور، فظنّ خيراً ولا تسأل عن الخبر.

ولكن لماذا تسكتون عن معاوية الذي لعن أمير المؤمنين عليّاً وأمر الصحابة وأجبرهم على لعنه ومَن رفض قتله كحجر بن عدي وأصحابه الذين قتلهم معاوية في مرج عذراء ببادية الشام لأنّهم رفضوا لعن عليّ ودأب معاوية على ذلك حتّى سنّها سُنّة ينادى بها إمام الجمعة من فوق المنبر قبل كلّ صلاة وبقيت سُنته المشؤومة سبعين عاماً حتّى زمن عمر بن عبد العزيز رضی الله عنه فهو الذي أبطلها.

وهذه الأقوال والروايات ليست من عند الشّيعة وإنّما هي أقوالكم ورواياتكم تشهد بها صحاحكم ومسانيدكم، ومع ذلك فأنتم

ص: 129

تذكرون معاوية بكلّ خير وتترضّون عليه وتقولون بأنّه إجتهد فإن أصاب فله أجران وإن اخطأ فله أجرٌ واحد.

فلماذا لا تقولوا نفس الكلام على سبّ الشّيعة للصحابة كما تزعمون، ولماذا تكيلوا بمكيالين والله سبحانه يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْم عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا إِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} ((1)).

وأراد الأُستاذ المحامي أن يتفلسف معي بأنّ الصحابة حكمهم غير حكمنا، فلهم أن يفعلوا ما شاؤوا وليس من حقّنا الإعتراض عليهم أو انتقادهم، ولكنّه تراجع عندما طالبته بالدليل على هذه المزاعم التي هي أوهى من بيت العنكبوت ولا يقبل بها أيّ إنسان

ص: 130


1- سورة المائدة: 5.

عادي فضلاً عن العقلاء. بل أن الصحابة عقابهم عند الله أشدّ من عقابنا بدليل القرآن((1)).

قلت: بقي فصل واحد من رسالتك وهو الذي تقول فيه بأنّ الشّيعة يسبّون أم المؤمنين عائشة ويتّهمونها بالزنا.

وهنا أطلب منك أن تتعقّل وتركّز معي في هذه المسألة لكي يتبيّن لك بأنّ كلّ ما يقال على الشّيعة هو محض إفتراء وإتّهام بالباطل وقس على ذلك كلّ الأُمور التي ذكرناها في هذا البحث.

قال: سأستمع إليك بكلّ تركيز فهات ما عندك!

قلت: هل تعلم بأنّ أم المؤمنين عائشة قد أنزل الله براءتها في القرآن كما تقولون؟

قال: نعم نزلت براءتها في سورة النور.

قلتُ: هل نزل قرآن بعد النبيّ محمّد صلی الله علیه و آله ؟

ص: 131


1- نساء النبي من الصحابة والله يقول: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَة مُّبَيِّنَة يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ...}. الأحزاب: 30.

قال: لا قطعاً.

قلت: إذاً فأمّ المؤمنين عائشة قد اتُهمت بالزنا في عهد زوجها رسول الله والدليل أنّ القرآن نزل ببراءتها وقد تلا ذلك الوحي هو بنفسه.

قال: نعم بالتأكيد.

قلت: هل كان هناك شيعة في عهد رسول الله محمّد؟

وفهم السؤال وضحك طويلاً وهو يقول: لم يكن هناك شيعة ولا سُنّة.

قلت: إذاً فالذين اتّهموا أمّ المؤمنين عائشة بالزنا ليسوا الشّيعة وإنّما هم الصحابة، أصحاب محمّد. بل إنّ الذي تولّى كبره بدريّ ممّن شهد غزوة بدر.

فلماذا تريدون إلصاق هذه التهمة بالشّيعة رغم كلّ هذه الأدلّة القاطعة والبراهين السّاطعة.

واعترف الأُستاذ المحامي بأنّه وقع في خطأ فاضح معتذراً عمّا صدر منه.

ص: 132

فقلت: مع الأسف أنّ اعتذارك لا يفيدنا لأنّي أعلم بأنّك لن تكتب رسالة أُخرى لوزير الداخليّة ولا إلى الصحافة التونسيّة لتعترف بأنّك أخطأت في كلّ ما سَطَّرْتَهُ وأنّك ظلمت الشّيعة في اتهاماتك الباطلة.

قال: إنّي سائلك عن ثلاثة أشياء فهل لك أن تجيبني بكل صراحة؟

قلت: تفضل وسأُجيبكَ بكلّ صراحة وبكل صدق إن شاء الله.

قال: السؤال الأوّل: ما رأيك بقول الشّيعة في الأذان أشهد أنّ عليّاً وليّ الله وذريّته المعصومين حُجج الله؟

أجبت: الشّيعة يقولون ذلك على سبيل الاستحباب وليس على سبيل الوجوب وهو ردّ على مَن كان يسبّ عليّ وما عليك إلاّ أن تقرأ أقوال وفتاوى كلّ المراجع الشيعيّة الذين يقولون أنّ مَن ينادي بالشهادة الثالثة على أنّها جزء من الأذان أو الإقامة فقد أبطل أذانه وإقامته.

ص: 133

وهذا لا يختلف فيه اثنان من مراجع الشّيعة وعلماؤهم، وأنا أحيلك على كتابي «كلّ الحلول عند آل الرسول» الذي تناولت فيه هذا الموضوع وأشبعته بحثاً وسيعجبكَ رأيي بالتّأكيد. لأنّي سجّلتُ هناك بأنّها زيادة من بعض الشّيعة وليستْ هي من سنّة النّبي والأئمة الأطهار.

قال: السؤال الثاني ما رأيك في ما يفعله الشّيعة من ضرب الرؤوس بالسيوف في عاشوراء.

أجبت: أوّلاً ليس كلّ الشّيعة يفعل ذلك وإنّما قلّة قليلة من الشّيعة الذين تطغى عليهم العواطف من شدّة حبّهم ومودّتهم لسيّد الشهداء سيّد شباب أهل الجنّة وما وقع عليه من قتل وهتك، فهؤلاء مأجورون ومثابون حسب فتوى المرجع الذي يُقلّدونه ويرجعون اليه.

ولكن تسعون بالمائة من مراجع الشّيعة يُحرّمون ذلك ويمنعونه فأنت لماذا تسمع إلى العشرة ولا تسمع إلى التسعين بالمائة؟

ص: 134

ثمّ أنت في تونس السُنيّة هناك فرقة العيساويّة وهي فرقة من الفرق الصوفيّة والذين يضربون نفوسهم بالحراب والسيوف ويحرقون أجسادهم بالنار ويأكلون العقارب ولا ينكر عليهم أحد بل بالعكس يُدعون في الأعراس ومناسبات الأفراح ليقوموا بذلك على مرأى ومسمع من كلّ النّاس الذين يعتقدون بأنّ هؤلاء لهم بركات سيدي أحمد بن عيسى.

فهل تقول يا أُستاذ بأنّ أهل السُنّة والجماعة يُطبّرون ومن أجل من؟

وإذا كان الشّيعة يُطبّرون من أجل الحسين والسُنّة يُطبّرون من أجل أحمد بن عيسى، وشتّان بين الرجلين، الحسين بن الرسول وسيّد شباب أهل الجنّة، وأحمد بن عيسى وهو رجل نكرة لا يعرفه المسلمون ولا يسمع به إلاّ اتباعه الذين يسمّوا بالعيساويّة.

قال السؤال الثالث: ما رأيك في عصمة مراجع الشّيعة؟

ص: 135

قلت مستغرباً: وهل قال الشّيعة بعصمة مراجعهم؟ ما سمعت بهذا أبداً.

قال: سمعت بعض الشّيعة هنا في تونس يقولون ذلك.

قلت: إمّا أنّهم مشتبهين أو أنّك أنت المشتبه، إمّا أنّهم يقصدون بالمراجع هم الأئمّة الأثنى عشر الذين يرجَعُ إليهم كلّ علماء الشّيعة، وإذا كان هذا قصدهم فأنت إذا هو المشتبه لأنّك لا تفرّق بين مراجع الشّيعة وأئمّة الشّيعة.

قال: لا سمعت البعض يقول بعصمة الخميني والخوئي وغيرهم.

قلت: هذا ما لم يقل به أحد من عوام الشّيعة فضلاً عن علمائهم، والشّيعة لا يقرّون بالعصمة إلاّ للنبيّ والأئمّة علیهم السلام وعدد الأئمّة هو إثنا عشر لا يزيدون ولا ينقصون.

وأمّا غير هؤلاء فلا تشملهم العصمة مهما علت مرتبتهم وعلمهم وتقواهم.

نعم يقول الشّيعة بأنّ المعصومون هم أربعة عشر باعتبار أنّ الأئمّة الذين عدّهم رسول الله كما ورد في البخاري ومسلم

ص: 136

عددهم إثنا عشر إماماً وهم عليّ والحسن والحسين وتسعة من ذرّية الحسين، إذا أضفنا لهؤلاء رسول الله وابنته فاطمة أصبح عدد المعصومين أربعة عشر، أمّا النبيّ فمقطوع بعصمته وأمّا فاطمة فعصمتها مبيّنة في آية إذهاب الرجس والتطهير فهي المرأة الوحيدة في هذه الأُمّة التي ثبتت عصمتها.

فقال الأُستاذ: إذا كان كلّ الشّيعة مثلك فأنا أوّل شيعي وشكرته بدوري على استماعه وقبول أرائي وشهد بذلك صديقي المستبصر الأُستاذ عليّ العبيدي الذي فرح بهذا الحوار وقال تمنّيت لو قمتُ بتسجيله.

ص: 137

ص: 138

أَفَلاَ تَعْقِلُونَ

قال رسول الله صلى عليه وآله : أوّل ما خلق الله سبحانه وتعالى العقل فقال له أقبل فأقبل ثمّ قال له أدبر فأدبر، فقال سبحانه: وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً أكرم عليّ منك، فبكَ أُثيب وبكَ أُعاقب.

نعم هذا العقل الذي به كرّم الله بني آدم وفظّلهم على كثير من خلقه. يقول سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِير مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} ((1)) .

ولقد كرّر الله سبحانه وتعالى قوله {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ثلاثة عشرة مرّة في كتابه العزيز ليحثّ النّاس في كلّ مرّة على استخدام عقولهم ولا يُعطّلون هذه النعمة الكبرى التي مَنْ الله بها على عباده.

ص: 139


1- سورة الإسراء: 70.

وقد أوجب الله العذاب الأليم ونار الجحيم لكلّ مَن عطّل عقله وتصرّف تصرّف البهائم. وقد أعطانا على ذلك دليلاً. {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لاَِصْحَابِ السَّعِيرِ}((1)).

وهذا يعني أنّ هؤلاء لو عقلوا لأنقذوا أنفسهم من عذاب الجحيم وكانوا من سكّان جنّة النعيم.

ولذلك أيضاً رُفع القلم عن المجنون حتّى يبرأ فالذي فقد عقله نتيجة مرض أصابه فالله سبحانه وتعالى أعفاه من الحساب والعقاب وهذا من عدل الله تبارك وتعالى.

وهناك لابدّ من نقل المحاورة التي دارت بين هشام بن الحكم وعمرو بن عبيد، فقد روى الكليني في كتاب الكافي في الجزء الأوّل صفحة (169) عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن إبراهيم عن يونس بن يعقوب قال: كان عند أبي عبدالله

ص: 140


1- سورة الملك: 10 - 11.

الصادق علیه السلام جماعة من أصحابه منهم حمران بن أعين ومحمّد بن النعمان، وهشام بن سالم والطيّار وجماعة فيهم هشام بن الحكم وهو شاب فقال له أبو عبدالله علیه السلام : يا هشام ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد وكيف سألته؟

فقال هشام: يا ابن رسول الله إنّي أُجلّك وأستحييك ولا يعمل لساني بين يديك.

فقال أبو عبدالله: إذا أمرتكم بشيء فأفعلوا.

قال هشام: بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد وجلوسه في مسجد البصرة، فعظم ذلك عليّ فخرجت إليه ودخلت البصرة يوم الجمعة فأتيت البصرة فإذا أنا بحلقة كبيرة فيها عمرو بن عبيد وعليه شملة مرتد بها والنّاس يسألونه فاستفرجت النّاس فأفرجوا لي ثمّ قعدت في آخر القوم على ركبتي، ثمّ قلت: أيّها العالم إنّي رجل غريب أتأذن لي في مسألة؟

فقال لي: نعم.

فقلت له: ألك عين؟

ص: 141

فقال: يا بني أي شيء هذا من السؤال؟ وشيء تراه كيف تسأل عنه؟

فقلت: هكذا مسألتي.

فقال يا بنيّ سَلْ وإن كانت مسألتكَ حمقاء.

قلت: أجبني فيه.

قال لي سَل.

قلت: ألك عين؟

قال: نعم.

قلت: فما تصنع بها؟

قال: أرى بها الألوان والأشخاص.

قلت: ألك أنف؟

قال: نعم.

قلت: فما تصنع به؟

قال: أشمّ به الرائحة.

قلت: ألك فم؟

ص: 142

قال: نعم.

قلت: فما تصنع به؟

قال: أذوق به الطعم.

قلت: فلك أُذن؟

قال: نعم.

قلت: فما تصنع بها؟

قال: أسمع بها الصوت.

قلت: ألك قلب؟

قال: نعم.

قلت: فما تصنع به؟

قال: أميّز به كلّما ورد على هذه الجوارح والحواس.

قلت: أوليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟

فقال: لا.

قلت: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة.

ص: 143

قال: يا بنيّ إنّ الجوارح إذا شكّت في شيء شمّته أو سمعته، ردّته إلى القلب فيستيقن اليقين ويبطل الشكّ.

قال هشام; فقلت له: فإنّما أقام الله القلب لشكّ الجوارح؟

قال: نعم.

قلت: لابد من القلب وإلاّ لم تستيقن الجوارح؟

قال: نعم.

فقلت له: يا أبا مروان فالله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتّى جعل لها إمام ليصحح لها الصحيح ويتيقن به ما شكّ فيه ويترك هذا الخلق كلّهم في حيرتهم وشكّهم واختلافهم، لا يقيم لهم إمام ليردّون إليه شكّهم وحيرتهم، ويقيم لك إمام لجوارحكَ تردّ اليه حيرتكَ وشكك؟!

قال: فسكتَ ولم يقل لي شيئاً ثمّ التفت إليّ فقال لي: أنت هشام بن الحكم؟

فقلت: لا.

قال: أمن جلسائه؟

ص: 144

قلت: لا.

قال: فمن أين أنت؟

قلت: من أهل الكوفة.

قال: فأنتَ إذا هو، ثمّ ضمّني إليه وأقعدني في مجلسه وزال عن مجلسه وما نطق حتّى قمت.

قال: فضحكَ أبو عبدالله علیه السلام وقال: يا هشام من علّمكَ هذا؟

قلت: شيء أخذته منكَ وألفته.

فقال: هذا والله مكتوب في صحف إبراهيم وموسى.

ص: 145

ص: 146

الله سُبحانه والعقل

عن هشام بن الحكم قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام، يا هشام إنّ الله تبارك وتعالى بشّر أهل العقل والفهم في كتابه فقال: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الأَلْبَابِ} ((1)).

يا هشام إنّ الله تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول ونصر النبيين بالبيان، ودلّهم على ربوبيّته بالأدلّة فقال: {وَإِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِى فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النّاس وَمَا أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّماءِ مِن مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّة وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ لاَيَات لِقَوْم يَعْقِلُونَ}((2)).

ص: 147


1- سورة الزمر: 17 - 18.
2- سورة البقرة: 163 - 164.

يا هشام قد جعل الله ذلك دليلاً على معرفته بأنّ لهم مدبّراً فقال: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لاَيَات لِقَوْم يَعْقِلُونَ} ((1)).

وقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَاب ثُمَّ مِن نُطْفَة ثُمَّ مِنْ عَلَقَة ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنكُم مَن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمّىً وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ((2)).

وقال سبحانه وتعالى:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَاحَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَتَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم مِنْ إِمْلاق نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ((3)).

ص: 148


1- سورة النحل: 12.
2- سورة غافر: 67.
3- سورة الأنعام: 151.

يا هشام إنّ الله وعظ أهل العقل ورغّبهم في الآخرة فقال: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}((1)).

يا هشام إنّ الله سبحانه وتعالى ذمّ الذين لا يعقلون فقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}((2)).

يا هشام إنّ الله سبحانه وتعالى جعل العقل دائماً مع العلم فقال: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} ((3)).

وقال أيضاً: {أَتَأْمُرُونَ النّاس بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَبَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}((4)).

ص: 149


1- سورة الأنعام: 32.
2- سورة البقرة: 170.
3- سورة العنكبوت: 43.
4- سورة البقرة: 44.

يا هشام ما بعث الله أنبياءه ورسله إلى عباده إلاّ ليعقلوا عن الله، فأحسن العباد استجابة أحسنهم معرفة وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلاً وأكملهم عقلاً أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة.

يا هشام إنّ لله على النّاس حجّتين، حجّة ظاهرة وحجّة باطنة، فأمّا الحجّة الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة علیهم السلام وأمّا الحجّة الباطنة، فهي العقول.

وبعد هذا الاستعراض من كتاب الله العزيز بخصوص العقل والعقلاء، لابدّ للإشارة إلى تفسير ما ورد في القرآن الكريم بأنّ عقل الإنسان في قلبه وليس في رأسه كما يعتقد كلّ النّاس خصوصاً علماء الغرب الذين يصوّرون دماغ الإنسان هو أساس العقل وأن القلب هو مضخّة تضخ الدماء إلى جسم الإنسان بأكمله، لذلك أردت هنا أن ألفت نظر القارىء العزيز إلى هذه الحقيقة القرآنيّة التي تُخالف ما نذهب إليه تماماً، ولعلّ العلم الحديث سيثبتُ قول الله سبحانه في المستقبل. لقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي

ص: 150

الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء شَهِيدٌ}((1)).

ملاحظة: العلم الحديث وكذلك عند القدماء في الصين ومصر مثلاً تم تحديد الدماغ على أنه آلة الإدراك والتحكّم بكامل الجسد ويسمّى الدماغ مجازاً العقل عندنا ولكن الغربيين يميّزون بين الدماغ = (Cerveau) والعقل = (La Raison) فيمكن للإنسان أن يكون له دماغ سليم ولكن فاقد العقل (Perdre La Raison Pas Le Cerveau) وكذلك القلب إذا اعتبرنا العضو فهو آلة ضخّ ومحرّك وإذا اعتبرنا المعنى فهو مركز الشيء وكل الشعوب والحضارت تعتبر القلب مركز الإحساس والتعقّل فالجميع يعبّر مثلاً عند الحبّ برسم القلب.

خلاصة: الدماغ هو عضو وآلة إدراك وتحكّم بالجسد ، فإذا تعطّل هذا العضو (Coma) يصبح الإنسان في حكم الميّت جسدياً،

ص: 151


1- سورة فصلت: الآية 53.

مع أن جسده حيٌّ وقلبه ينبض، والذي يوازي الدماغ في الروح هو العقل والأقوى أن العقل هو قلب الروح، وهو المتحكّم بالإنسان جسداً وروحاً وسميّناه قلباً لأنه مركز الروح وأساسها وهو كذلك الرابط بين مكونات الإنسان من جسد وروح والله أعلم. كما ثبت أنه منذ الستينيات يعيش الكثير من الأشخاص بقلب صناعي.

ص: 152

العقل في القلب أم في الدماغ؟

العلم الطبّي الذي نعرفه كُلّنا هو أنّ الإنسان لا يفكّر إلاّ بعقله وهو دماغه الموجود في رأسه.

فلنستمع لقول الله سبحانه وتعالى خالق هذا الإنسان وهو أعلم به من نفسه، يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} ((1)).

يقول الإمام جعفر الصادق علیه السلام: لمن كان له قلب يعني لمن كان له عقل.

وكذلك قوله سبحانه: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} ((2)).

ص: 153


1- سورة ق: 37.
2- سورة البقرة: 97.

وتفسير قوله: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ}، يعني نزّله على عقلك، وكذلك قوله سبحانه: {وَمِنَ النّاس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} ((1)).

وتفسير يشهد الله على ما في قبله، يعني يُشهد الله على ما في عقله وكذلك قوله سبحانه: {وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبَّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلكِن لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}، يعني ليطمئن عقلي.

كذلك قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}((2)).

يعني أنّ الله سبحانه يحول بين المرء وعقله.

ص: 154


1- سورة البقرة: 204.
2- سورة الأنفال: 24.

وكذلك قوله سبحانه وتعالى: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} ((1)).

وتعني وعقله مطئمن بالإيمان.

وكذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} ((2)).

وكذلك قوله سبحانه وتعالى: {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ}((3)).

ويعني تتقلّب فيه العقول.

وكذلك قوله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْب سَلِيم} ((4))، ويعني بعقل سليم.

ص: 155


1- سورة النحل: 106.
2- سورة الكهف: 28.
3- سورة النور: 37.
4- سورة الشعراء: 88 - 89.

وكذلك قوله سبحانه وتعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَد مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاَ مَعْرُوفاً}((1))، ومعناه يطمع الذي في عقله مرض . - وكذلك قوله: {وإنّ مِن شيعته لإبراهيم إذْ جاءَ ربَّه بِقَلْبٍ سليم} (يعني عقل سليم) .

وكذلك قوله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَان أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّر جَبَّار} ((2))، يعني أنّ الله سبحانه وتعالى يطبع على كلّ عقل متكبر جبار.

ص: 156


1- سورة الأحزاب: 32.
2- سورة غافر: 35.

وكذلك قوله سبحانه وتعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْم وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} ((1)).

ومعناه أنّ الله سبحانه يختم على سمعه فلا يسمع شيئاً أو بختم على عقله فلا يفهم شيئاً وكذلك قوله: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا}((2)).

فكلّ هذه الآيات التي ذكرناها تفيد بأنّ الله سبحانه وتعالى سمّى العقل قلباً وهناك آيات أُخرى كثيرة لم نذكرها تؤدّي نفس المعاني.

لذلك ذهب بعضهم إلى تسمية الدماغ - الذي هو مصدر التفكير والذي يوجد في أعلى الرأس بالقلب واستدلّوا ببعض اشعار العرب الذين كانوا يعتقدون بأنّ دماغ الإنسان هو قلبه.

ص: 157


1- سورة الجاثية: 23.
2- سورة محمّد: 24.

ولكن الله سبحانه وتعالى لم يُعط لدماغ الإنسان اسم القلب بل ألفتنا إلى أنّ عقل الإنسان ليس في دماغه ولكنّه في قلبه، ثمّ حدّد لنا مكان القلب حتّى لا نشكّ في موضعه ومن البديهيّ أنّ الدماغ موضعه أعلى الرأس وأن القلب موضعه في صدر الإنسان.

فلنستمع إلى قوله سبحانه وتعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَي الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور} ((1)).

تفيد هذه الآية الكريمة بأنّ القلوب هي التي تعقل وهذا إشارة إلى قوله: {لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا}، فكما أنّ الأذن هي ألة للسمع فإنّ القلب هو آلة العقل.

وكذلك قوله سبحانه وتعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا}((2)).

ص: 158


1- سورة الحج: 46.
2- سورة محمّد: 24.

وهذه الآية توضّح وضوحاً كاملاً بما لا يدع مجالاً للشكّ بأنّ القلوب هي التي تفكّر وتتدبّر وتفهم.

وقوله: {أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا}، يعني أم على عقول أقفالها فلا تتدبّر ولا تفكّروبالتالي فهي لا تفهم.

ولو قرأنا هذه الآيات الكريمة لازددنا يقيناً بأنّ القلوب هي التي تفكّر.

قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَيَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَيُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَيَسْمَعُونَ بِهَا أُولئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}((1)).

وقوله أيضاً: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} ((2)).

كذلك قوله سبحانه: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ}، أي عقولنا مغلقة.

ص: 159


1- سورة الأعراف: 179.
2- سورة الحج: 46.

وقوله أيضاً: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّة مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} ((1)).

وقوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}، أي لا تحوّل عقولنا من الإيمان إلى الكفر ومن دعاء النبيّ صلی الله علیه و آله المأثور قوله: «يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك»، ويعني تثبيت العقل على دين الله.

أمّا قوله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}، فقد تكرّر في القرآن أكثر من سبع مرّات ومعناها واضح بأنّ العقول المريضة هي التي لا تفكّر بشكل سليم.

تفيد الآية الكريمة بأنّ مكان القلب هو الصدر وليس الرأس وذلك في قوله: {وَلَكِن تَعْمَي الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور} ((2))، وكذلك قوله سبحانه وتعالى: {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُل مِن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} ((3)).

ص: 160


1- سورة فصّلت: 5.
2- سورة الحجّ: 46.
3- سورة الأحزاب: 4.

تفيد هذه الآية الكريمة بأنّ الله سبحانه وتعالى جلّت قدرته وحكمته جعل لكلّ إنسان قلباً واحداً، يعني عقلاً واحداً وليس هناك إنسان له قلبان في نفس الوقت.

تفيد الآية الكريمة بأنّ هذا العقل أو هذا القلب له مكان معروف وهو جوف الإنسان وليس رأسه.

وحتّى نتأكّد من أنّ قلب الإنسان ليس هو دماغه فالنقرأ هذه الآية الشريفة قال سبحانه وتعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}((1)).

والفؤاد هو نفسه القلب وقد ورد ذكره في كتاب الله خمس مرّات.

ص: 161


1- سورة القصص: 10.

1) {وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} ((1)).

2) {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ الْسَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفؤادَ كُلُّ أُوْلئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} ((2)).

3) {كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} ((3)).

4) {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً} ((4)).

5) { فَأَوْحَى إلى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}((5)).

وكذلك نجد تعبيراً آخر في القرآن الكريم الذي يسمّي القلوب {بِذَاتِ الصُّدُورِ}.

وقد ذكر الله هذا الإسم أكثر من عشر مرّات قال تعالى:

ص: 162


1- سورة هود: 120.
2- سورة الأسراء: 36.
3- سورة الفرقان: 32.
4- سورة القصص: 85.
5- سورة النجم: 10 - 11.

1) {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ((1)).

2) {وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلُِيمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ((2)).

3) {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ((3)).

4) {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ((4)).

ص: 163


1- سورة آل عمران: 119.
2- سورة آل عمران: 154.
3- سورة المائدة: 7.
4- سورة الأنفال: 43.

5) {أَلاَ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخفُوا مِنْهُ أَلاَّ حِينَ يَستَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ((1)).

6) {وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}((2)).

7) {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ((3)).

8) {وَلا تَزَروا وَازِرَه وزرَ أخرى إلى ربّكم مَرْجعكم فيُنّبئكم بِمَا كُنتمْ تّعْمَلون إنّه عليمٌ بِذات الصّدور}((4)).

ص: 164


1- سورة هود: 5.
2- سورة لقمان: 23.
3- سورة فاطر: 38.
4- سورة الزمر: 7.

9) {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}((1)).

10) {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ((2)).

11) {يَعْلَمُ مَا فِي السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ((3)).

12) {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ((4)).

ص: 165


1- سورة الشورى 24.
2- سورة الحديد: 6.
3- سورة التغابن: 4.
4- سورة الملك: 13.

وكذلك قوله سبحانه وتعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}((1)).

فالله سبحانه وتعالى يَعْلَمُ ما في عقل الإنسان ولو كان مخفيّاً في صدره.

وفي الختام لابدّ من الوقوف على سورة النّاس التي تؤكّد لنا بأنّ القلوب التي في الصُّدور هي مدار التفكير، قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّاس* مَلِكِ النّاس* إِلهِ النّاس* مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ* الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاس* مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاس} سورة النّاس.

فالشيطان هو الذي يحاول أن يخالط عقول النّاس ليغيّر أفكارهم من إيمان وعقائد صالحة إلى كفر وعقائد فاسدة، وهذه الآية تُبيّن بصراحة بأنّ عقول النّاس تسكن في صدورهم ولم يذكر أنّ الشيطان - لعنه الله - يوسوس في رؤوس النّاس أو في أدمغتهم!

ص: 166


1- سورة غافر: 19.

وإذا أضفنا لكلّ هذا حديث النبيّ صلی الله علیه و آله قوله: «ألاَ أنّ في الجسد مضغتان ان صلحتا صلح الجسدُ كلّه وان فسدتا فسد الجسد كُلّه وهما القلب واللّسان».

وكذلك قول أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام : «لسانُ العاقل من وراء قلبه وقلب الجاهل من وراء لسانه».

لكلّ هذه المعطيات نحن مقتنعون بأنّ العلم سيعترّف في نهاية الأمر بأنّ الإنسان يفكّر بقلبه وهو العقل الذي وهبه الله لكلّ فرد منّا ليكون هو الحجّة الباطنة لله على عباده.

ص: 167

ص: 168

البراهين العقليّة هي الفيصل

ما دمنا قد تيقّنا بأنّ العقل هو أساس كلّ دليل مقنع وحُجّة كلّ برهان صادق.

وعلى هذا الأساس سنتناول بعض القضايا الإسلامية التي يختلف فيها المسلمون والتي بقيت لحدّ اليوم الغازاً يصعب حلّها من خلال النصوص القرآنيّة أو الأحاديث النبويّة.

فالنصوص القرآنيّة خضعت في التفسير والتأويل لعوامل متعدّدة منها العوامل السياسيّة والمذهبيّة والإنتصار للعشيرة وكذلك النّصوص النبويّة قد خضعت هي أيضاً لنفس العوامل.

وأُضيف اليها العوالم الحزبيّة والانتصار لشخص الحاكم بل الانتصار للقبيلة الضيّقة وللقوميّة وغير ذلك.

وإذا كان القرآن الكريم الذي تكفّل الله بحفظه، فإنّ هذا الحفظ لا يتجاوز الحروف اللفظيّة فلا يزيد حرفاً ولا ينقص حرفاً.

ص: 169

أمّا المعاني وما هو المقصود من وراءها فقد أوكله الله سبحانه وتعالى إلى رسوله الكريم صلی الله علیه و آله قال تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} ((1)).

وكذلك قوله تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْم يُؤْمِنُونَ} ((2)).

ونحن لا نشكّ مثقال ذرّة بأنّه صلی الله علیه و آله قد قام بهذه المهمّة على أكمل الوجوه ولكن الأحداث التي وقعت خلال مرضه ثمّ الأحداث التي أعقبت وفاته هي السبب الرئيسي في ضياع هذا البيان الإلهي وتعويضه بالبيان البشريّ الذي لا يخلو من الأخطاء والتناقص، ولذلك نجدهم يختلفون في تفسير الآية إلى عدّة أقوال متضاربة.

هذا بالنسبة للآيات المحكمة فلا تسأل عن الآيات المتشابهة، أمّا الأحاديث النبويّة فحدّث ولا حرج، ولأنّ أغلب ما نُسب إليه صلی الله علیه و آله

ص: 170


1- سورة النحل: 44.
2- سورة النحل: 64.

من أحاديث فهي مكذوبة ولذلك جاءت متناقضة ويبطل بعضها بعظاً وسنأتي على ذكر البعض منها خلال الأبحاث العقليّة إن شاء الله.

وإذا كان انقسام المسلمين بعد نبيّهم إلى مذاهب متعدّدة ثمّ إلى طائفة شيعيّة وطائفة سُنيّة وكما جاء في قوله: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْب بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}((1)).

{مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْب بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} ((2)).

وهذا ما وقع في الأُمّة الإسلامية التي أراد الله أن تكون أُمّة واحدة ولكنّها فشلت في الإمتحان وانقلبت على أعقابها بعد موت نبيّها حتّى وصل بها الأمر أن كفَّر بعضهم بعضاً وقتل بعضهم بعضاً - ومن الطبيعي أن تكون النتيجة هي الاختلاف والانقسام ومن

ص: 171


1- سورة المؤمنون: 53.
2- سورة الروم: 32.

الطبيعي أن تأتي الأحاديث متناقضة لأنّها من وضع الرواة وليس هي من مشكاة النبوّة قطعاً ومن الطبيعي أن يكون رواة الأحاديث من الشّيعة ساقطون

عند أهل السُنّة وكذلك رواة الأحاديث من أهل السُنّة ساقطون عند الشّيعة.

لكلّ ذلك سوف أعتمد على عقلي في الأبحاث التي سيتناولها هذا الكتاب بدون انحياز لهؤلاء أو أولئك مادمنا قد اقتنعنا في ما سبق بأنّ العقل هو الفيصل إذا تجرّد عن العاطفة وبحث عن الحقيقة لوجه الله فقط.

وأنا واثق من مداركي العقليّة بأنّي واصل إلى الحقّ من أقرب طريق بحول الله تعالى.

كما أنّي واثق بأنّ كلّ من استعمل قلبه وتدبّر في النصوص الواردة من غير تعصّب أو تحيّز فإنّه سيدرك الحقيقة بإذن الله

ص: 172

تعالى لأنّه تكفّل بالهداية فقد وعدنا بذلك في قوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُ-حْسِنِينَ} ((1)).

كما أنّه جلّ وعلا بشّر عباده الذين يشغلون عقولهم بالهداية فقال: {فَبَشِّرْ عِبَادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الأَلْبَابِ} ((2)).

وهذه الآية الكريمة تفيد بأنّ كلّ من استعمل عقله بعد الاستماع إلى الأقوال المختلفة وتدبّر فيها فإنّه سبحانه سيتكفّل بهدايته وسيثني عليه ويصنّفه من أولي الألباب، يعني أولي العقول المستنيرة بنور الله تعالى، أَفَلاَ تَعْقِلُونَ.

ص: 173


1- سورة العنكبوت: 69.
2- سورة الزمر 17 - 18.

البحث العقلي في حديث الثقلين

اتّفق المسلمون على أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله لم ينتقل من الدنيا حتّى خلّف في أُمّته تركةً عظيمة تضمن هدايتهم وعدم اختلافهم إذا ما رجعوا اليها.

وهذه التركة العظيمة التي خلّفها النبيّ في أُمّته سمّاها هو بنفسه الثقلان.

هذا ما أتّفق عليه المسلمون الذين اختلفوا بين روايتين تقول الرواية الأُولى: بأنّ الثقلان هما كتاب الله والعترة النبويّة الطاهرة ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً، وهذه الرواية تذكرها كلّ مصادر الشّيعة الموثوقة عندهم كما تذكرها مصادر أهل السُنّة أيضاً في صحاحهم ومسانيدهم.

وتقول الرواية الثانية بأنّ الثقلان هما كتاب الله والسُنّة النبويّة الشريفة، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً.

ص: 174

وهذه الرواية تذكرها بعض المصادر عند أهل السُنّة والجماعة وباختصار شديد كتاب الله وعترتي عند الشّيعة وكتاب الله وسُنّتي عند أهل السُنّة والجماعة.

فأيّ الروايتين هي الصحيحة يأ أُوليّ الألباب؟

وإن كان لأوّل وهلة يبدو أنّ لا تناقض بين الروايتين لأنّ كتاب الله لا يفهم إلاّ بالسُنّة النبويّة كما أنّ كتاب الله والسُنّة النبويّة لا يفهمان إلاّ بالعترة النبويّة، ولكي يتدبّر العقل في هذه القضيّة لابدّ من مراعاة الحيثيّات التي تحيط بجوانب القضيّة بأكلمها.

وأوّل ملاحظة يلاحظها العقل هي أن حديث كتاب الله وعترتي يرويه علماء الشّيعة وكذلك علماء أهل السُنّة.

بينما حديث كتاب الله وسُنّتي لا يرويه إلا بعض علماء أهل السُنّة ولا وجود له عند علماء الشّيعة.

وإدا اعتمدنا على الأعداد المطابقة للإجماع فسيكون حصول الشّيعة على كامل العدد أعني (عشرون على عشرين) وذلك لأنّ حديث كتاب الله وعترتي رواه الشّيعة والسُنّة ويكون حصول أهل

ص: 175

السُنّة على نصف العدد أعني (عشرة على عشرين) وذلك لأنّ حديث كتاب الله وسُنّتي رواه أهل السُنّة فقط.

الحيثية الثانية: أنّ حديث كتاب الله وسُنّتي هو حديث عام لا خصوصيّة فيه لأنّ كتاب الله صامت لا ينطق وهو حمّال أوجه متعدّدة قد يختلف المسلمون في تفسيره وتأويله حسب أراءهم واجتهاداتهم وهو ما وقع بالفعل كذلك السُنّة النبويّة، فالكتب التي جمعت أحاديث النبيّ صلی الله علیه و آله فيها كثير من الخلط والتناقض قد يختلف المسلمون في فهمها وشرحها كما قد يختلف المسلمون في قبولها أو رفضها وهو ما وقع بالفعل.

والعقل هنا سيبقى حائراً بأي تفسير لكتاب الله سيأخذ وبأيّ حديث نبويّ سيعتمد ما دامت الأحاديث تتناقض وما دامت هذه الأحاديث فيها الصحيح وفيها المكذوب فيها الغثّ والسمين وفيها التشبيه والتجسيم وفيها الجبر والتفويض وفيها ما فيها.

ومهما بلغ العقل من قوّة الإدراك والفهم والتحليل فلن يصل بمفرده إلى القناعة والقبول أو الرفض بالتدبّر فقط.

ص: 176

أمّا حديث كتاب الله وعترتي فهو حديث خاصّ أراد رسول الله صلی الله علیه و آله أن يرجع أُمّته إلى عترته الطاهرة لكي لا يختلفوا ولا يتشتّتوا وتأخذهم الأهواء والآراء ويتّبعوا السبل فتفرّقهم عن سبيله.

وبهذا الحديث أراد النبيّ أن يقول لأُمّته عليكم أن تتمسّكوا بعترتي من بعدي لأنّهم عالمون بكتاب الله وبسُنّتي فهم وحدهم

المرشّحون لتفسير القرآن وهم وحدهم المرشّحون لبيان سُنّتي الصحيحة وشرحها.

والعقل هنا سيكون مرتاحاً وراضياً خصوصاً إذا عرف بأنّ الله سبحانه وتعالى قد أذهب الرجس عنهم وطهّرهم تطهيراً والعقل سيكون مطمئناً لأنّ هذا الحديث سيقطع الطريق على كلّ المناوئين والمتأوّلين والمجتهدين وكلّ الوضّاعين والمنافقين وأعداء الدين.

ص: 177

والعقل سيكون مرتاحاً أكثر عندما يقرأ قول الله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} ((1)).

الحيثية الثالثة: تتعلّق بتدوين الأحاديث النبويّة يروي أهل السُنّة والجماعة بأنّ النبيّ صلی الله علیه و آله نهى عن كتابة أحاديثه لذلك جمع أبو بكر أحاديث النبيّ التي كتبت على عهده وأحرقها وكذلك فعل عمر بن الخطّاب وتبعهما عثمان على ذلك وتأخّر عهد تدوين الحديث النبويّ إلى عصر عمر بن عبد العزيز وهو ما يقارب سبعين عاماً، فالعقل في هذه الحالة سيرفض حديث كتاب الله وسُنّتي ويستنكر قول النبيّ صلی الله علیه و آله تركتُ فيكم كتاب الله وسُنّتي، فكيف يقول الرسول تركت فيكم سُنّتي وهو الذي نهى عن تدوينها وكتابتها على رأى أهل السنّة والجماعة؟

ص: 178


1- سورة النساء: 65.

أضف إلى ذلك قوله صلی الله علیه و آله [كثرت عليّ الكذّابة فمن كذب عليّ فليتبّوأ مقعده من النار].

فإذا كان الرسول نفسه قد نهى عن كتابة سنّته حسب ما يقوله أهل السنّة والجماعة. وإذا كان الرسول نفسه قد أكّد بأنّ سنّته سيخالطها الوضع والكذب، فكيف يقول لأُمّته: تركتُ فيكم سنّتي؟!! أفلا تعقلون

فإذا كان القرآن كتاب صامت لا ينطقُ وحمّال أوجهٍ وفيه المحكم والمتشابه وفيه الظاهر والباطن وفيه الناسخ والمنسوخ كما يقول أهل السنّة.

وإذا كانت كتب السنّة النبوية أيضاً صامتة لا تنطق وفيها الاختلاف الكثير ، بل فيها أحاديث متناقضة ومُنكرة كما يشهد بذلك العلماء والباحثون من الفريقين سنّة وشيعة، فهل يبقى معنى لقول الرسول: تركت فيكم كتاب الله وسنّتي؟!!!

أمّا عند الشّيعة فحديث تركت فيكم كتاب الله وعترتي ليس فيه أي خلل، بل هو واقع يقبله العقل ويطمئن اليه لأنّ الرسول

ص: 179

بالفعل ترك كتاب الله والعترة الطاهرة فرئيس العترة هو عليّ بن أبي طالب، باب مدينة العلم وهو الذي ربّاه النبيّ وكان منه بمنزلة هارون من موسى، فهو القيّم على القرآن فقد كتبه من أوّل نزوله إلى آخره وهو القيّم على السُنّة النبويّة والمحافظ عليها فلم يغيّر منها شيئاً والمشهور أنّ كلّ الصحابة سألوه ولم يسأل هو منهم أحداً.

قال ابنُ عرفة في علي: استغناؤه عن الكلّ واحتياج الكلّ اليه دلّ على إمامته على الكلّ. فهذا بيان ودليل قاطع، أَفَلاَ تَعْقِلُونَ.

ص: 180

حديث النجوم

ورد هذا الحديث في كتب أهل السُنّة والجماعة كما يلي:

قال رسول الله صلی الله علیه و آله : (أصحابي كالنُّجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم).

وهذا الحديث مشهور عندهم ويحتجّون به في كلّ مناسبة على عدالة كلّ الصحابة بدون استثناء.

وورد هذا الحديث أعني حديث النجوم في كتب الشّيعة وبعض من كتب أهل السُنّة والجماعة كما يلي:

قال رسول الله صلی الله علیه و آله : (النُّجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأُمّتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة صارت حزب إبليس}.

كما ورد هذا الحديث بصيغة أُخرى وهي:

قال رسول الله صلی الله علیه و آله : (النجوم أمان لأهل السماء فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون وأهل بيتي أمان لأهل الأرض فإذا ذهب أهل بيتي أتى أهل الأرض ما يوعدون).

ص: 181

عرض حديث النجوم على العقل

ولنبدأ بحديث أهل السُنّة والجماعة: (أصحابي كالنجوم بأيّهم أقتديتم اهتديتم).

وهنا لابدّ من إيراد قصّة طريفة سمعتها شخصيّاً من شيخ الطريقة الصوفيّة بمدينة توزر بالجنوب التونسي وكان يرويها بحضرة المريدين الذين كانوا يعتقدون بأنّه صاحب الزمان وكنت حاضراً معهم، فقال:

جاء أحد الرجال يبحث عن رسول الله فلم يجده ووجد أبا بكر الصدّيق فسأله ما حاجتكَ؟

فقال الرجل: لقد طلّقت زوجتي في هذا اليوم وقلت لها أنت طالق إلى حين، ولكنّي احترت متى يمكن أن اُرجعها.

فقال له أبو بكر: لقد حرمت عليكَ إلى الأبد ولا يمكن لك إرجاعها، فبكى الرجل وخرج هائماً على وجهه.

فالتقى بعمر بن الخطّاب فسأله ماذا يبكيك؟

ص: 182

فقصّ عليه الرجل قصّته في طلاق زوجته، فقال له عمر: لقد حرمت عليك أربعين سنة وبعد يمكنكَ ارْجاعها، فرجع الرجل والحزن باد عليه فالتقى في طريقه عثمان بن عفّان فساله هذا الأخير عن حزنه، فقصّ عليه قصّة الطلاق إلى حين، فقال له عثمان: حرمت عليك زوجتكَ لمدّة سنةٍ واحدة ويمكن لكَ أن ترجعها بعد عام واحدٍ.

وبالأخير إلتقى الرجل بعليّ بن أبي طالب، فعرض عليه قصّته في طلاق زوجته إلى حين، فقال له عليّ بن ابي طالب متّى طلّقتها؟

قال: في هذا الصباح.

فقال له: ابشر فيمكنكَ أن تراجعها في هذا المساء، وتبدّل بكاء الرجل وحزنه إلى فرح وسرور، ولكنّه احتار بمن سيقتدي.

فرجع الرجل إلى مسجد رسول الله صلی الله علیه و آله وانتظره حتّى أقبل وقصّ عليه قصّته في طلاق زوجته وكذلك قصّته مع أصحابه فاستدعى رسول الله صلی الله علیه و آله أصحابه الأربعة وبدأ يسألهم عن فتاواهم.

فقال أبو بكر: أنا أفتيته من كتاب الله، قال وكيف ذلك؟

ص: 183

قال أبو بكر: يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز عن أصحاب الجحيم لابثين فيها حتّى حين، يعني إلى الأبد.

فقال له رسول الله: صدقت.

ثمّ سأل عمر بن الخطّاب عن فتواه فقال عمر: أنا أيضاً أفتيته من كتاب الله، فقال له رسول الله في أي آية؟

فقال عمر: هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، وقد سمعتك تقول بأنّ الله لمّا خلق آدم بقي أربعين سنة لم تنفخ فيه الروح وذلك معنى قول الله {حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً}.

فقال له رسول الله صلی الله علیه و آله : صدقت يا عمر.

ثمّ سأل عثمان عن فتواه بتحريهما سنة كاملة؟

فقال عثمان أفتيته من كتاب الله العزيز.

فقال له رسول الله صلی الله علیه و آله وفي أيّ آية؟

ص: 184

فقال: يقول الله سبحانه في النخل والزرع: كلوا من ثمره إذا اثمر وأتوا حقّه حين حصاده، ومن المعلوم أنّ الحصاد يكون مرّة في السنة.

فقال له رسول الله: صدقت.

ثمّ سأل عليّ بن أبي طالب عن فتواه بارجاع المرأة فى نفس اليوم.

فقال عليّ: أفتيته بكتاب الله سبحانه، إذ يقول: فسبحان الله حين تُمسون وحين تُصبحون.

فقال له رسول الله: صدقت.

عند ذلك قال رسول الله صلی الله علیه و آله : (أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم).

وأوّل ما يطالعنا في هذه القصّة أنّها ملفّقة ومركّبة ومكذوبة، فقد ساقها الذي وضعها على نسق الخلفاء الراشدين الأربعة حسب تولّيهم الخلافة بالترتيب أبو بكر ثمّ عمر ثمّ عثمان ثمّ عليّ.

ص: 185

ثمّ أني لما راجعتها وجدت فيها أغلاط حتّى في الآيات التي استدلّ بها أبوبكر وعثمان فلا وجود للآية التي استدلّ بها أبو بكر في كتاب الله كما أنّ الآية التي استدلّ بها عثمان تقول: وأتوا حقّه يوم حصاده وليس حين حصاده، كما قال عثمان.

ثانياً: كيف يسمع رسول الله أصحابه يُغيّرون كلام الله فلا يستنكر عليهم بل يقرّهم على ذلك ويقول له: صدقت.

ثالثاً: كيف يقبل الرسول صلی الله علیه و آله من أصحابه هذه الفتاوى المتناقضة إذ يحرّم الأوّل الزوجة إلى الأبد ويحلّلها الرّابع في نفس اليوم!

إنه بُهتان عظيم، وهل يتصوّر هذا الراوي الكذّاب أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله كان مختلّ العقل (حاشاه) حتّى يقبل بهذه الترّهات؟!

ثمّ لا يقف الرسول عند حدّ قبول المتناقضات حتّى يوجّه أمّته لقبولها والعمل بها إذ يقول لهم: أصحابي كالنجوم بأيّهم إقتديتم إهتديتم، فعلى هذه القصّة العجيبة فإنّ هذا الزوج إذا حرّم

ص: 186

زوجته إلى الأبد أو أربعين سنة أو سنة واحد، أو يوماً واحداً، ففي كل الحالات هو مهتد! اللّهمّ إنّ هذا لهو الضلال المبين.

وهل هناك عبث بأحكام الله كهذا؟

إنّ هذا إلاّ بهتان وأفك مبين، نعوذ بالله من همزات الشياطين.

فأيّ عقل يقبل بهذا يا أولي الألباب أفلا تعقلون.

ولنترك هذه القصّة وما فيها من أكاذيب ولنعود إلى الحديث المزعوم وهو قول الرسول صلی الله علیه و آله : (أصحابي كالنجوم بأيّهم إقتديتم إهتديتم).

وإذا ناقشنا الحديث علميّاً فإنّه لا يصحّ لأنّ العرب في الزمن القديم كانوا يعتمدون على بعض النجوم وليس كلّ النجوم، فكانوا يسمّون النجوم (الدب الأكبر) و «الذئب الأصغر» و «النجم القطبي» وهذه النجوم كانوا يعرفون بها اتجاه المشرق والمغرب والقبلة والجنوب.

ص: 187

وإذا ناقشنا الحديث من حيث المتن فهو أيضاً غير صحيح لأنّ الرسول صلی الله علیه و آله كان يعلم علم اليقين بأنّ أكثر أصحابه سينقلبون على أعقابهم ويرتدّون عن الإسلام.

ويعلم أنّهم سيتّبعون سُنن اليهود والنصارى فيما لو دخلوا حجر ضبٍّ لاتبعوهم.

يعلم أيضاً أنّ منهم منافقين بنصّ القرآن ويعلم أنّ منهم الخوارج الذين يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية كما أخبر هو بنفسه ويعلم أيضاً أنّ منهم الناكثين والقاسطين والمارقين والذين أوكل حربهم وقتالهم للإمام عليّ من بعده، ويعلم أنّ منهم البغاة الظالمين الذين سيقتلون عمّار بن ياسر ويعلم أنّهم سيتنافسوا على الدنيا حتّى يكفّر بعضهم بعضاً ويقتل بعضهم بعضاً. ويعرف أيضاً أنّهم سيغصبون بضعته الزّهراء ويقتلون سبطيه سيّدا شباب أهل الجنّة ويقتلون عترته.

أبعد كلّ هذا يقول: بأيّهم إقتديتم إهتديتم، فهل هذا يقبله عقل سليم ياعقلاء؟! أفلا تعقلون .

ص: 188

ثمّ إذا تمعّنا في مدلول الحديث فالرسول هنا يخاطب أصحابه فكأنّه يقول يا أصحابي أقتدوا بأيّ واحد من أصحابي لتهتدوا، فهو أُسلوب ركيك لا يتماشى مع بلاغة الرسول وحكمته، ثمّ لو كان هذا صحيحاً فلماذا لم يعمل به الصحابة بل رأيناهم اختلفوا في كلّ شيء من تفسيرهم للقرآن والسُنّة النبويّة وتضاربت آراؤهم في الفقه حتّى أنّ خليفتهم وأعلم الصحابة عندهم كان يرى ترك الصلاة عند فقدان الماء. فهل يهتدي من يترك القرآن ويقتدي بعمر بن الخطاب؟

ولعلّ قائل يقول: الحديث موجّه لكلّ الأُمّة الإسلامية وهذا لا يصحّ أيضاً لأنّ الأُمّة لا تعرف أكثر الصحابة، فضلاً أن تعرف افتاءاتهم وفقههم وأقوالهم في الدين. وقد عرفتْ إختلافهم في كل الأحكام الفقهية.

ثانياً لا يصح هذا أيضاً لأنّ الأُمّة عرفت بأنّ عليّ ومعاوية تحاربا وتقاتلا وهما صحابيّان، فهل الذي يقتدي بمعاوية سيكون

ص: 189

من المهتدين؟ فكيف يصفه رسول الله بأنّه إمام الفئة الباغية؟! أين أصحاب العقول يا مسلمين؟

والحكم النهائي للعقل سيكون رفضاً كليّاً لهذا الحديث الذي يتناقض مع العقل ومع النقل.

ويبقى أمامنا الحديث الذي يرويه الشّيعة وهو النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأمّتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة صارت حزب إبليس.

وهذا الحديث لا يتعارض مع العقل ولا مع العلم أيضاً فالثّابت علميّاً أنّ الكرة الأرضيّة ثلثها يابس وثلثيها بحار ومحيطات، ولولا النجوم المؤثّرة في المدّ والجزر وتماسك المياه لغرقت الأرض اليابسة في المياه المحيطة.

فقول الرسول صلی الله علیه و آله (النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق) اثبته العلم الحديث في القرن التاسع عشر وهذا يعدّ من معجزات الرسول الذي علّمه الله سبحانه وتعالى وهو القائل: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا

ص: 190

فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء شَهِيدٌ} ((1)).

والمقطع الثاني من الحديث وهو قوله: (وأهل بيتي أمان لأُمّتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة صارت حزب ابليس).

وهو أيضاً معقول ولا يتعارض مع العقل فلو اتّبعت الأُمّة كلّها أهل بيت نبيّها لما وقع اختلاف في أي شيء ولكانت أُمّة واحدة كما أرادها الله سبحانه، فالربّ واحد والرسول واحد، والقرآن واحد، والقبلة واحدة، والصلاة والزكاة والصوم والحجّ واحد، ولم يختلف المسلمون إلاّ في أهل البيت، فالشّيعة اتّبعوا أهل البيت ((2)) وأهل السُنّة

والجماعة اتّبعوا كلّ الصحابة ولذلك هم يستدلّون بحديث: «أصحابي كالنجوم».

ص: 191


1- سورة فصّلت: 53.
2- لا أقصد هنا كلّ الشّيعة بل المقصود هم الجعفريّة الإماميّة الاثنا عشريّة فقط، أمّا باقي فرق الشّيعة فإنّهم لم يتّبعوا الأئمّة الأثنا عشر الذين عدهم رسول الله كما أثبت ذلك البخاري ومسلم وباقي الصحابة.

أمّا قوله: فإذا خالفتها قبيلة صارت حزب إبليس فهو أيضاً معقول ولا يتعارض مع العقل أبداً.

لأنّ إبليس - لعنه الله - قال لربّ العزّة والجلالة: {قَالَ فَبِمَ-ا أَغْوَيْتَنِي لاََقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ* ثُمَّ لاَتِيَنَّهُم مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}((1)).

وإذا رجعنا لحديث الثقلين المتقدّم في البحث الأوّل والذي أشار فيه رسول الله صلی الله علیه و آله بأنّ الأُمّة لن تضلّ إذا ما تمسّكت بالقرآن وبأهل البيت.

والنتيجة هي أنّ الذي يخالف أهل البيت سيدخل في الضلالة وهي حزب ابليس بلا شكّ.

قال تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَ-بَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ

ص: 192


1- سورة الأعراف: 16 - 17.

يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَيَقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ((1)).

ص: 193


1- سورة الأعراف: 165.

ص: 194

حديث الخلفاء الراشدين

قال رسول صلی الله علیه و آله : (عليكم بسُنّتي وسُنّة الخلفاء الراشدين من بعدي عضّوا عليها بالنواجذ).

نعم هذا الحديث رواه أهل السُنّة والجماعة في صحاحهم ومسانيدهم كما رواه الشّيعة أيضاً في كتبهم المعتبرة ويتّفقون مع أهل السُنّة والجماعة على صحّة هذا الحديث ولكنّهم يختلفون في تفسيره ومفهومه.

فأهل السُنّة والجماعة يُفسّرونه على الخلفاء الأربعة وهم أبو بكر الصدّيق وعمر الفاروق وعثمان ذي النورين وباب العلم عليّ. (كما يقولون)

فهؤلاء عند أهل السُنّة والجماعة هم المقصودون بالحديث النبوّي وهم وحدهم المخوّلون بالإجتهاد وسنّ السُنن التي ستكون ملزمة للأُمّة الإسلامية بعد وفاة نبيّها.

ص: 195

والشّيعة يُفسّرون هذا الحديث على الأئمّة الاثني عشر وهم عليّ والحسن والحسين والتسعة الباقين من ذُريّة الحسين، فهم خلفاء الرسول، الراشدون والأئمّة المعصومون والذين ذكرهم الله سبحانه في كتابه العزيز بقوله: {أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}.

ونحن وكالعادة وبدون انحياز أو تعصّب لابدّ لنا أنّ نبحث الموضوع بكلّ تجرّد ونعرضه على العقل لنعرف حكم العقلاء وماذا يقولون.

ولنبدأ بتفسير أهل السُنّة والجماعة لهذا الحديث وأوّل ما يطالعنا في هذا البحث أنّ الخلفاء الراشدين عند أهل السُنّة كان عددهم ثلاثة وليس أربعة.

والثلاثة هم أبو بكر وعمر وعثمان فقط، ولم يكن عليّاً عندهم من الراشدين بل كان يُسبّ ويُلعن على المنابر الإسلامية طيلة سبعين عاماً.

ص: 196

ثمّ إذا رجعنا إلى الموطّأ للإمام مالك وهو أوّل كتاب حديث كتب وكذلك من بعده صحيح البخاري فسنجدهم لا يذكرونَ عليّاً ولا يقيمون له وزناً فاقرأوا في هذين الصحيحين قول عبدالله ابن عمر وهو عمدة أهل السُنّة في الحديث يقول: كنّا في زمن نبيّنا نحدّث أنّ أفضل الخلق بعد رسول الله هو أبو بكر ثمّ عمر ثمّ عثمان ثمّ نمسك فلا تفاضل بين النّاس، أو النّاس بعد ذلك سَوايسيَ.

فليس لعليّ ابن بن أبي طالب فضل ولا فضيلة على حسب هذه الأحاديث والتاريخ يسجّل بأنّ عليّ بن أبي طالب اُلحق بالخلفاء الراشدين في زمن أحمد بن حنبل يعني بعد أكثر من مائتين سنة من الهجرة النبويّة ومن أراد المزيد في هذا البحث فليراجع كتاب «الشّيعة هم أهل السُنّة»، ليعرف حقيقة الأمر بشيء من التفصيل.

وعلى تفسير أهل السُنّة والجماعة في هذا الحديث فإنّ مصادر التشريع تُصبح الكتاب والسُنّة النبويّة وسُنّة أبي بكر وسُنّة عمر، وسُنّة عثمان وسُنّة عليّ وهي ستّة مصادر لأنّ أبو بكر له

ص: 197

سُنّة خاصّة وكذلك عمر له سُنّته وكذلك عثمان وكلّ هؤلاء قد تناقضو في أحكامهم وفي ما شرّعوه للأُمّة من بعدهم.

سأضرب لذلك مثلاً واحداً لكلّ خليفة منهم روماً للإختصار وإلاّ فلكل واحد منهم سُنن عديدة تفوق الإحصاء.

فهذا أبو بكر قد سنّ سُنّة قتل مانعي الزكاة خلافاً لسُنّة النبيّ صلی الله علیه و آله الذي لم يقتل مانع الزكاة.

حتّى أنّ عمر بن الخطّاب عارضه في ذلك وقال له: لا تقاتلهم لأنّي سمعت رسول الله يقول: (مَن قال لا إله إلا الله محمّد رسول الله) عصم منّي ماله ودمه وحسابه على الله.

فقال أو بكر قولته المشهورة (والله لاقاتلنّهم حتّى على عقال

كانوا يؤدّونه إلى رسول الله) ولم يلتفت إلى اعتراض عمر ولا لسُنّة النبيّ.

وهذا عمر بن الخطّاب يقول صراحة وعلى رؤوس الأشهاد (متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهي عنهما وأُعاقب

ص: 198

عليهما)، كما سنّ لهم سُنّة الطلاق الثلاث في جلسة واحدة واتّبعه المسلمون في ذلك إلى يوم النّاس هذا.

وهذا عثمان بن عفّان يتمّ الصلاة في السفر مخالفة للقرآن والسُنّة النبويّة وكانت الصلاة تُقصر في السفر على عهد النبيّ صلی الله علیه و آله ولو شئنا تعداد السُّنن التي سنّها الخلفاء الثلاثة والتي كانت تخالف القرآن والسُنّة النبويّة لعدّت بالمئات.

ولكلّ ذلك يتبيّن لنا من خلال العقل أنّ الرسول صلی الله علیه و آله لم يقصد بالخلفاء الراشدين هؤلاء الثلاثة وهذا الحديث يبطل ما تقدّم من قوله: (تركتُ فيكم كتاب الله وسُنّتي) على رواية أهل السُنّة والجماعة.

ولأنّ سُنة الخلفاء الراشدين (عند أهل السُنّة) تخالف سُنّة النبيّ وتبطلها، فالعقل السليم يحكم ببطلان تفسير أهل السُنّة والجماعة لحديث الخلفاء الراشدين، فإذأ كان الراشدون هم الذين يخالفون كتاب ربّهم وسُنّة نبيهم فعلى الإسلام السَّلام وعلى العقول رحمة الله وبركاته وهل اختلفت الأُمّة الإسلامية إلى مذاهب

ص: 199

ومدارس وفرق إلاّ بسبب هذه الاجتهادات العقيمة التي عطّلت أحكام الله ورسوله وأولي الأمر - أفلا تعقلون.

وإذا تناولنا تفسير الشّيعة لهذا الحديث وهو أنّ الرسول صلی الله علیه و آله كان يقصد بالخلفاء الراشدين هم عليّ وبنوه وعددهم إثنا عشر.

فسيكون تفسيرهم لا يتعارض مع العقل أبداً، لماذا؟

أوّلاً: أن الرسول قال كما في البخاري ومسلم الخلفاء بعدي اثنا عشر كلّهم من قريش وفي رواية كلّهم من بني هاشم في بعض مسانيد أهل السُنّة والجماعة.

أمّا في مصادر الشّيعة الموثوقة فلم يكتف الرسول بعددهم بل سمّاهم بأسمائهم حتّى بشّر بأخرهم وهو المهدي علیه السلام كما أنّ بعض مصادر أهل السُنّة توافق مصادر الشّيعة في عدّهم وتسميتهم حتّى الإمام المهدي.

ثانياً: انّ الرسول صلی الله علیه و آله كان يعلم علم اليقين بأنّ هؤلاء الأئمّة هم أئمّة الهدى ومصابيح الدجى لا يخالفون كتاب الله ولا يخالفون سُنّته المطهّرة أبداً، فهذا الإمام جعفر الصادق وهو الإمام

ص: 200

السادس في سلسلة الأئمّة عندما سأله أحد أتباعه قائلاً: ما رأيكَ يابن رسول الله في مسألة القضاء والقدر؟

فأجابه الإمام الصادق قائلاً: ويحك اتسألني ما هو رأيي، ليس لنا أراء في الدين فمن قال في دين الله برأيه فقد كفر، إنّما حديثي هو حديث أبي عن جدّي عن الحسين عن عليّ عن رسول الله عن جبريل عن الباريء.

وهذا هو الفرق بين هذا الخليفة الذي ينسب سنده إلى رسول الله وبين الخليفة الذي يقول: متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أُنهي عنهما وأُعاقب عليهما! وهذا معناه، قال الرسول وأنا أقول!

وهذا الفرق بين من يقول أن قولي وفعلي هو نفس قول وفعل رسول الله صلی الله علیه و آله لا يزيد ولا ينقص.

وبين من يقال له إن رسول الله يقول: (من قال لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله عصم مني ماله ودمه وحسابه على الله).

فيقول: لا والله لأقاتلنّهم حتّى على عقال كانوا يعطونه لرسول الله.

ص: 201

ولنا أن نسجّل هنا بأنّ هذا ليس مجرّد رأي إرتاه في مقابل السُنّة النبويّة وإنّما تحوّل رأيه إلى عمل اُريقت من جرّاءه، دماء بريئة وقتلت نفوس حرّم الله ورسوله قتلها.

واستبيحت فروج وهتكت أعراض وأموال أمر الله بصونها.

ثالثاً: إذا قبلنا تفسير أهل السُنّة والجماعة لحديث الخلفاء الراشدين فسوف يكون إتّهامُنَا لرسول الله صلی الله علیه و آله أنّه ألقى أُمّته في بحر من التناقضات والمخالفات الصريحة لكتاب الله وسنّة نبيه، لأنّ المحقّقين والباحثين أثبتوا بأنّ أبا بكر وعمر وعثمان كلّهم حكموا بأحكام تخالف كتاب الله وتخالف سُنّة رسوله صلی الله علیه و آله ، وقد قدّمنا في هذا البحث مثالاً واحداً لكلّ خليفة منهم على مخالفته وقلنا هناك بأنّ الباحث سيجد مئات المخالفات، وهذا ما شهدت به صحاحهم ومسانيدهم وكتب التاريخ عندهم، حتّى لا يقول قائل بأنّها افتراءات الشّيعة عليهم.

أمّا إذا قبلنا تفسير الشّيعة لحديث الخلفاء الراشدين على أنّهم أئمّة أهل البيت، فإنّ العقل سيكون مطمئناً لأنّ القرآن زكّاهم

ص: 202

وأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً وأوجب الصلاة عليهم وأمر الأُمّةّ بطاعتهم كما أمر الرسول بالتمسّك بحبل ولائهم واتباعهم وركوب سفينتهم.

ثمّ إنّا نجدهم جميعاً من أوّلهم إلى آخرهم قولاً واحداً لم يختلف الأول عن الثاني ولم يسجّل التاريخ لهم مخالفة واحدة للكتاب أو السُنّة النبويّة.

فإذا أخذنا بحديث الخلفاء الراشدين على تفسير الشّيعة فإنّنا سنفهم قول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ((1)).

فهذا الرسول الحريص على الأُمّة وهو بهم رؤوف ورحيم لا يريد لهم إلاّ الخير ودخول الجنّة لذلك نجده يركّز على عترته لأنّه يعلم أنّهم مثله تماماً ومن أجل ذلك كان يقول لأُمته [تركت فيكم كتاب الله وعترتي] ويقول: [مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من

ص: 203


1- سورة التوبة: 128.

ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق]، [مثل أهل بيتي فيكم كباب حطّة في بني إسرائيل من دخله غفر له].. إلى احاديث أُخرى كثيرة يطول ذكرها وهي موجودة في صحاح أهل السُنّة والجماعة وكذلك في مصادر الشّيعة.

والعقل يحكم في هذه القضيّة بأنّ الخلفاء الراشدين الذين قصدهم رسول الله صلی الله علیه و آله هم الأئمّة الاثنا عشر وليسوا الخلفاء الثلاثة كما يعتقد أهل السُنّة والجماعة، وليس هناك شكّ في أنّ أهل العقول جميعاً سيرتاحون لهذا الحكم العادل. أفلا تعقلون

ص: 204

حديث لا تسُبّوا أصحابي

يروي أهل السُنّة والجماعة أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قال: (لا تسبّوا أصحابي فمن سبّ أصحابي فقد سبّني ومن سبّني فقد سبّ الله).

ويروي الشّيعة بأنّ هذا الحديث لم يرد في الصحابة وإنّما ورد في عليّ علیه السلام ، قال رسول الله صلی الله علیه و آله : [مَن سبّ عليّاً فقد سبّني ومَن سبّني فقد سبّ الله].

هل ورد هذا الحديث في الصحابة أم في عليّ بن أبي طالب؟

ونحن نستبعد أن يكون وارد بخصوص الصحابة لأنّ أهل السُنّة والجماعة أنفسهم يروون بأنّه صلی الله علیه و آله كان يقنت بلعن بعض الصحابة الذين أذوه أو عصوا أوامره حتّى نقلوا عنه أنّه قال: «لعن الله من تخلّف عن جيش أُسامة»، كما روى البخاري في صحيحه قول الرسول صلی الله علیه و آله : «فأقول سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي ولا أرى يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم»، وفي حديث الحوض الذي سجّل ارتداد أكثر الصحابة على أدبارهم أو على أعقابهم.

ص: 205

فإذا كان هذا صحيح وهو صحيح عند أهل السُنّة والجماعة فلا يمكن للرسول أن يقول لا تسبّوا أصحابي وقد فتح هو بنفسه هذا الباب على مصراعيه ثمّ أنّ العقل وحده يوافق على سبّ مَن أذى رسول الله أو عصاه أو ارتدّ على عقبيه ولو كان من أكابر الصحابة ألم تسمع قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} ((1)).

وقد نزلت في أبي بكر وعمر لمّا رفعا أصواتهما فوق صوت النبيّ في قضيّة حابس الأقرع كما يذكرها البخاري ومسلم.

وإذا كان الرسول صلی الله علیه و آله يقول لأصحابه: [لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض]، فهل لا يستحق هؤلاء السبّ؟

ص: 206


1- سورة الحجرات: 2.

وإذا كان الرسول صلی الله علیه و آله يقول لأصحابه [لتتبعن سنن اليهود والنصارى حتّى لو دخلوا حجر ضبّ لدخلتموه]، فهل لا يستحق هؤلاء السب؟

وإذا كان الرسول يقول: [فاطمة بضعة منّي من أذاها فقد أذاني ومن أذاني فقد أذى الله]، فهل لا يستحق من أذاها السب؟

وإذا كان الله سبحانه وتعالى يقول في أصحاب محمّد: {وَمِنْهُمْ مَن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} ((1)).

ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} ((2)).

ويقول: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} ((3)).

ص: 207


1- سورة التوبة: 58.
2- سورة الصف: 2 - 3.
3- سورة الحديد: 16.

ويقول: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَة إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً} ((1)).

ويقول: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً} ((2)).

ويقول: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَة حِدَاد أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ...}((3)).

ولولا روم الاختصار لأخرجنا من كتاب الله مئات الآيات التي تذمّ بعض الصحابة فهل لا يستحق كلّ هولاء السبّ واللعن؟؟

ص: 208


1- سورة الأحزاب: 13.
2- سورة الأحزاب: 12.
3- سورة الأحزاب: 19.

فلا يمكن للرسول صلی الله علیه و آله أن يمنع من سبّ هؤلاء الذين فضحهم القرآن وأخرج ما في قلوبهم كما لا يمكن له أن يمنع من سبّ الظلمة والبغاة والمارقين والفاسقين والناكثين والقاسطين وكلّ هولاء قد لعنهم هو بنفسه ولذلك لا يصحّ هذا الحديث المنسوب اليه زوراً وبهتاناً وأغلب الظنّ أنّه من وضع معاوية وبني أُمّيّة ليكسبوا لأنفسهم حصانةً ومناعة لكيلاً يطالهم سبّ المسلمين لهم بالخصوص. فيفتضحُ أمرهم عند عامة المسلمين.

وبهذه المناسبة أذكر ما وقع لي شخصيّاً في تركيا عندما دعيت من طرق العلويين بمناسبة عيد الغدير وكان ذلك في مدينة أنطاكيا وكانت قاعة الاحتفال غاصّة بالحضور وفي الصفّ الأوّل جلست مع بعض الوزراء والمسؤولين الحكوميين وصعد إلى منصة الخطابة السيّد مفتي الجمهوريّة وألقى كلمته وكانت استفزازيّة لأنّه بدأ كلامه ليحذرنا من سبّ الصحابة وأستدلّ بهذا الحديث، قال رسول الله لا تسبّوا أصحابي، فمن سبّ أصحابي فقد سبّني ومن سبّني فقد سبّ الله وأطنب في مدح الصحابة واستدلّ بحديث أصحابي

ص: 209

كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم، وأحسست شخصيّاً بأنّه كان يستفزّني كما أحسّت بذلك زوجتي التي كانت تجلس خلفي فأسرّت في أذني قائلة «الله يرضي عليك عدّيها له»، وكان قصدها أن لا أعارضه في قوله ولا اردّ عليه خوفاً عليّ من ردّة الفعل لأنّنا ضيوف أجانب.

وجاء دوري وكان ردّي عليه صريحاً وجريئاً حتّى ألهبت القاعة تصفيقاً وتهليلاً وتكبيرأً وفهمت بأنّ الحاضرين كلّهم وقفوا لجانبي موافقةً وتأييداً.

قلت باختصار سائلاً السيّد مفتي الجمهوريّة إذا كان حديث لا تسبّوا أصحابي صحيحاً فلماذا لم يعمل به الصحابة، فهذا معاوية كاتب الوحي كما تُسمّونه يلعن الإمام عليّ ويأمر الصحابة بلعنه بل يجبرهم على ذلك وقد قتل الصحابي الجليل حجر بن عدي وأصحابه لأنّهم رفضوا لعن الإمام عليّ وهذا صحيح مسلم

ص: 210

يصرّح بأنّ معاوية أمر سعد بن أبي وقاص بسبّ عليّ بن أبي طالب علیه السلام((1)).

فهل تقول يا سيادة المفتي بأنّ معاوية سبّ النبيّ وسبّ الله؟!

ولا أظنّك تقول بذلك، وأمّا استدلالك بأنّ أصحاب النبيّ هم كالنجوم يهتدي من يقتدي بأي واحدٍ منهم؟ ولا أظن أنك تقول بهداية من يتبع إمام الفئة الباغية التي قتلت سيّدنا عمار بن ياسر، وختمتُ كلمتي متمنّياً على السيّد مفتي الجمهوريّة أن يقرأ كتابي «ثمّ أهتديت» ثمّ نزلت وذهبت اليه لأقبّله وأسترضيه. ونقلت الفضائيّة التركيّة كلّ الاحتفال وشاهده الملايين من الاتراك وسرّوا بذلك سروراً كبيراً. عرفت ذلك خلال تجوّلي في كثير من المدن التركية إذ جاء كثير من الأتراك مهنّئين...

وبالعودة إلى موضوع البحث لا يبقى لنا شكّ في أنّ حديث لا تسبّوا أصحابي حديث موضوع لم يقله الرسول ويبقى الحديث

ص: 211


1- راجع صحيح مسلم في باب فضائل علي بن أبي طالب علیه السلام .

الذي رواه الشّيعة وبعض من أهل السُنّة وهو: [مَن سبّ عليّاً فقد سبّني ومن سبّني فقد سبّ الله]، وهذا بألتأكيد حديث صحيح لا يعارضه القعل أبداً لأنّ عليّ بن أبي طالب علیه السلام هو وصيّ النبيّ صلی الله علیه و آله ،وهو إمام المتّقين وقائد الغرّ المحجّلين وخليفة رسول ربّ العالمين وهو بمنزلة هارون من موسى علیهما السلام، وهو من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وهو أخ النبيّ صلی الله علیه و آله في المؤاخاة الأُولى والمؤاخاة الثانية، وهو نفس النبيّ صلی الله علیه و آله بنصّ القرآن وهو باب مدينة العلم وهو زوج سيّدة النساء علیهما السلام، وأب سيّدا شباب أهل الجنّة علیهما السلام، وهو أسد الله الغالب وهو حامل لواء رسول الله صلی الله علیه و آله في كلّ المعارك.

فهذا الشخص جعل رسول الله صلی الله علیه و آله حبّه إيمان وبغضه نفاق، حتّى قال الصحابة كنّا لا نعرف المنافقين إلاّ ببغضهم لعليّ بن أبي طالب وشخص كهذا لا يجوز سبّه لأنّ سبّه يعني سبّ الرسول صلی الله علیه و آله ويعني سبّ الله، فقد روى أهل السُنّة والجماعة أنّ الصحابي الكبير أبو الدرداء كفّ بصره في آخر عمره وكان يمشي بقيادة إبنه فمرّ

ص: 212

بقوم يسبّون عليّاً فقال لولده: عرّج بي عليهم يابنيّ فأوصله إليهم فقال لهم أبو الدرداء: من منكم الساب لله ورسوله؟

فقالوا: حاش لله ما كان ذلك أبداً!!

فقال: مَن منكم السَّابُّ لعليّ؟

قالوا: أمّا هذا فقد كان.

فقال لهم: إنّي سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله يقول: «مَن سبّ عليّ فقد سبّني ومَن سبّني فقد سبّ الله».

ثمّ ابتعد عنهم وسأل ابنه ماذا رأيتهم فعلوا يابنيّ؟

فقال: نظروا اليك محمرّة عيونهم نظر التّيوس إلى شفار الجازر

فقال أبو الدرداء: لله درّك يابنيّ زدني زدني.

فقال: نظروا إليك مُنكّسي رؤوسهم نظر الذّليل إلى العزيز القاهر

ص: 213

{أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ* وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ* وَأَنتُمْ سَامِدُونَ}((1)). وبعد كل هذا لم تفهموا حقيقة علي بن أبي طالب علیه السلام يا عباد الله أفلا تعقلون

ص: 214


1- سورة النجم: الآيات: 59 - 61.

ص: 215

ص: 216

كيفيّة الصلاة على محمّد وآل محمّد

لمّا نزل قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلَّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} ((1)).

جاء الصحابة إلى رسول الله صلی الله علیه و آله فقالوا: (يا رسول الله عرفنا كيف نسلّم عليك ولم نعرف كيف نصلّي عليك).

فقال رسول الله: «قولوا اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد».

ثمّ أضاف: «لا تُصلّوا عليّ الصلاة البتراء».

قالوا: (وما الصَّلاة البتراء يا رسول الله)؟

قال: «أن تقولوا اللّهم صلّ على محمّد وتصمتوا وان الله كامل ولا يقبل إلاّ الكامل».

ص: 217


1- سورة الأحزاب: 56.

فهذا ما علّمه رسول الله صلی الله علیه و آله لأصحابه فكان الصحابة كلّهم إذا ذكروا محمّداً صلی الله علیه و آله يقولون اللّهم صلّ على محمّد وآله محمّد ولا يقتصرون على ذكر النبيّ صلی الله علیه و آله فقط، ولذلك نجد الإمام الشافعي يقول:

يا أهل بيت رسول الله حبّكم *** فرض في القرآن ربّ أنزله

كفاكم من عظيم الشأن أنّكم *** مَن لم يصلّ عليكم لا صلاة له

فهذه كيفيّة الصلاة التي علّمها رسول الله صلی الله علیه و آله للصحابة كلّهم فلماذا تغيّرت عند أهل السُنّة والجماعة وأصبحت عندهم صلاة بتراء وبصيغة الماضي غير الصيغة التي أمر بها النبيّ، فالشّيعة إلى اليوم يأتون بها على أصلها فكلّما سمعوا اسم محمّد صلی الله علیه و آله يصيحون بأعلى أصواتهم: اللّهم صلّ على محمّد وآله محمّد.

بينما أهل السُنّة والجماعة عندما يذكرون محمّداً صلی الله علیه و آله يقولون صلّى الله عليه وسلّم بصيغة الماضي وبدون ذكر آل محمّد، فهي

ص: 218

صلاة بتراء، فهناك فرق بين قولك: اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد وبين قولك: صلّى الله عليه وسلّم.

فالصلاة الأُولى وهي الصحيحة لأنّها كما وردت عن رسول الله صلی الله علیه و آله لأنّ فيها اللّهم يعني أنّك تسأل الله وتدعوه أن يصلّي على محمّد وعلى آل محمّد في الحاضر والمستقبل وعلى الدوام، فأنت بها تكون الداعي للصلاة فيكتب لك ثوابها.

وأمّا الصلاة الثانية المعروفة عند أهل السُنّة والجماعة فهي ناقصة لعدم ذكر آل محمّد بل لعدم ذكر محمّد نفسه، فقول القائل صلّى الله عليه وسلّم بصيغة الماضي توحي من طريق خفيّ بأنّ الله سبحانه صلّى عليه لمّا كان حيّاً وكما يقول الوهابيّون أنّه قضى ما عليه ومات فلا ينفع!

وعلى كلّ حال فإنّ الشّيعة يأتون بالصلاة الكاملة وبصيغة الطلب والدعاء.

وأهل السُنّة والجماعة يأتون بالصلاة البتراء وبصيغة الماضي الذي انتهى.

ص: 219

واليوم نسمع من الخطباء نوعين من الصلاة في بداية الخطبة فالشيعي يقول: والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين ويقصد بذلك ألصحابة الذين لم يخالفوا عليّاً بعد رسول الله.

وأمّا خطيب أهل السُنّة فيقول: والصلاة والسلام على محمّد وآله وصحبه أجمعين.

وإنّي لمّا بحثت الموضوع بكلّ جوانبه تيقّنت بأنّ الشيعي وكذلك السُنّي أخطأوا في هذه الصلاة.

لأنّه لا يجوز لنا أن نُصلّي على الصَّحابة سواء منهم المنتجبين أو كلّهم أجمعين، لماذا؟

أوّلاً: لأنّ الأمر بالصلاة إنّما جاء للصحابة فقول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلَّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} بلغة المخاطب! ومن البديهي أنّ نقول بأنّ الذين آمنوا هم الصحابة، فالله سبحانه أمر

ص: 220

الصحابة بأن يصلّوا على النبيّ والنبيّ علّمهم كيفيّة الصلاة عليه وعلى آله. وبذلك نستنتج بأنّ الصلاة خاصّة للنبي وآل النبيّ.

وقد جاء في البخاري: اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد.

فليس فيها ذكر لأصحاب محمّد ولا لأصحاب إبراهيم كما لا يخفى، فالقرآن صريح والسُنّه صريحة، نعم إذا كان الصحابة هم الذين أمرهم الله بالصلاة على محمّد وآل محمّد، فحكمهم جار على كلّ المسلمين من بعدهم إلى قيام الساعة، فعندما ينادي الله سبحانه بقوله: يا أيّها الذين آمنوا فيقصد الحاضرين والذين سيأتون من بعدهم.

وعلى هذا الأساس عرفنا قيمة محمّد وآل محمّد الذين فضّلهم الله على كلّ المؤمنين وأمر كلّ المؤمنين أن يتقرّبوا إليه بالصلاة على محمّد وآل محمّد، فأبوبكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وكلّ الصحابة بدون استثناء أضف إليهم كلّ المسلمين إلى قيام الساعة إذا لم يصلّوا على محمّد وعليّ وفاطمة والحسن

ص: 221

والحسين فإنّ صلاتهم بتراء مردودة ولا يقبلها الله سبحانه وتعالى ورحم الله الإمام الشافعي الذي فهم ما فهمناه نحن اليوم وبعد قرون عندما قال:

كفاكم من عظيم الشأن أنّكم *** مَن لم يُصلّ عليكم لا صلاة له.

واعتقادي أنّ بني أُميّة الذين كانوا يحسدون أهل البيت ويبغضونهم بل يسبّونهم ويلعنونهم على المنابر ويقتلونهم لا أشك في أنّهم عرفوا هذا الفضل الذي ميّزهم الله به في هذه الصلاة فعمدوا لإضافة الصحابة ضمن الصلاة ليقتلوا عصفورين بحجر واحد.

أوّلاً: ليشعروا النّاس بأنّ أهل البيت والصحابة في الفضل سواء.

وثانياً: ليدخلوا أنفسهم ضمن هذه الصلاة لأنّهم من دون شكّ يعدون من الصحابة وبذلك يصبح المسلم يصلّي على معاوية وعلى ابنه يزيد وعلى عَمْرو بن العاص وعلى زياد ابن أبيه وعلى

ص: 222

المغيرة بن شعبة وعلى مروان بن الحكم وعلى كلّ الفسّاق من بني أُميّة وحتّى على الذي سمّاه القرآن فاسق في قوله سبحانه: {إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَيَّنُوا}.

وأصبح المسلمون اليوم يردّدون كالببغاء وبدون علم اللّهم صلّ على محمّد وآله وصحبه أجمعين.

اللّهم إنّي أبرأ اليك من هذا البهتان العظيم.

{وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذا حَلاَلٌ وَهَذا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} ((1)).

فانتهبوا يا أُولي الألباب، أفلا تعقلون.

ص: 223


1- سورة النحل: 116.

ص: 224

العقل يعيّن لنا أهل البيت

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا} ((1)).

وقد اختلف المسلمون في تفسير هذه الآية وفي من نزلت وذهب فريق من أهل السُنّة أنّها نزلت في نساء النبيّ صلی الله علیه و آله ، وذهب فريق ثان من أهل السُنّه أنها نزلت في نساء النبيّ وفي الخمسة وهم النبيّ نفسه وعلىّ بن أبي طالب وفاطمة الزهراء وولديها الحسن والحسين.

وذهب فريق ثالث من أهل السُنّة أنها نزلت خاصّة في الخمسة المذكورين أعلاه وهؤلاء يوافقون الشّيعة فيما ذهبوا إليه.

هذا مجمل ما يقوله أهل السُنّة والجماعة وهم كما نرى مختلفون في من نزلت كما يختلفون في تفسيرها، فذهب بعضهم

ص: 225


1- سورة الأحزاب: 33.

أنّها رديفه لقوله تعالى: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} ((1)).

فهي تزكية ورحمة وذهب البعض الآخر إلى إذهاب الرجس المعنوي والتطهير المعنوي أيضاً.

أمّا الشّيعة فهم متّفقون جميعاً على أنّها نزلت في الخمسة وهم محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين لا غير، وتفسيرهم جميعاً على أنّها تفيد العصمة المطلقة.

وسنبحث الموضوع من كلّ جوانبه حتّى يتبيّن لنا الحقّ جليّاً ونحكم العقل كعادتنا، أفلا تعقلون؟

وأوّل ما يطالعنا في هذا المقطع من الآية الكريمة أنّ صيغة نون النسوة قد تبدّلت بصيغة جمع المذكر السالم.

ولمّا كان الله سبحانه وتعالى يخاطب نساء النبيّ بقوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَد مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ

ص: 226


1- سورة هود: 73.

فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاَ مَعْرُوفاً وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ}.

ومن المعقول أن يكون هذا المقطع كالآتي: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُنَّ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُنَّ تَطْهِيراً}، فلّما تغيّرت صيغة الأفعال فدلّ ذلك على أنّ نساء النبيّ لم يكنّ هن المقصودات بإذهاب الرجس والتطهير.

ولذلك شكّك بعض العلماء في أنّ آية التطهير هي ايّة مستقلّة عن هذا السياق وإنّما وضعت في هذا الموقع لسببين اثنين السبب الأوّل هو للفتنة، يعني لابدّ من البحث والتحقيق لمعرفة الحقّ، السبب الثاني هو أنّ يضرب الله لنساء النبيّ هذا المثل في التقوى والصلاح.

ص: 227

وقد يقول قائل: هذا ليس دليل قاطع، لأنّه يجوز في اللغة العربيّة أن تأتي صيغة جمع المذكّر السالم إذا كان مع كلّ النسوة رجل واحدً، مثلاً إذا دخلت في قاعة مليئة بالنساء وبينهم رجل واحد فلا تقول السلام عليكنّ بل تقول: السلام عليكم.

هذا ممكن لو لم يكن هناك إشكال ثان يقطع الطريق على كلّ المتأوّلين وهو ذكر البيت بين كلّ البيوت وإليك الشرح.

لمّا كان الله سبحانه وتعالى يخاطب نساء النبيّ، قال لهنّ: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى}، فتكلّم القرآن هنا عن البيوت بصيغة الجمع وهذا هو الأصل لأنّ كلّ زوجة لها بيت خاص بها فلا يمكن وليس من المعقول أنّ يُسْكِنَ النبيّ صلی الله علیه و آله كلّ نساءه وهن تسعة في بيت واحد بل أعدّ لكلّ زوجة بيتاً، فكان عدد البيوت أيضاً تسعة والدليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} ((1)).

ص: 228


1- سورة الأحزاب: 53.

لكلّ ذلك ورد لفظ البيوت بصيغة الجمع مرّتين في قوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ...} وكذلك في قوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ...}.

وإذا رجعنا إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.

فهمنا أنّ هذا البيت ليس من تلك البيوت وعرفنا بأنّ أهل هذا البيت ليسوا هم سكّان تلك البيوت.

فهيّا بنا الآن لنعرف من هم المقصودون بأهل البيت علیهم السلام روى مسلم في صحيحه عن عائشة أنّها قالت دخل رسول الله صلی الله علیه و آله وعليه كساء خيبري ودعا عليّاً وفاطمة والحسن والحسين فأدخلهم معه تحت الكساء وقال: «اللّهم هؤلاء أهلي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً»، فنزلت الآية.

ص: 229

وكذلك روت أم سلمة زوج النبيّ نفس الرواية وزادت بأنّها أرادت الدخول معهم تحت الكساء فمنعها رسول الله من ذلك وقال لها: «مكانكِ أنت إلى خير...» وقد روى هذه الرواية أكثر من عشرين مصدراً من مصادر أهل السُنّة والجماعة الموثوقة عندهم.

فهذا دليل قاطع على خصوصيّة هؤلاء الخمسة بأهل البيت وهم محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم أفضل الصلاة والسلام ولذلك فهمنا من قوله تعالى ب- أهل البيت ليس المقصود أهل بيت النبيّ أوّلاً: لأنّ النبيّ له بيوت وليس بيت واحد.

ثانياً: انّ النبيّ صلی الله علیه و آله هو نفسه من أهل البيت، فإذا سألنا أيّ واحد من علماء الشّيعة أو حتّى من عوامّهم من هم أهل البيت وكم عددهم؟ فسيجيب قطعاً: هم خمسة أوّلهم رسول الله ثمّ عليّ وفاطمة والحسن والحسين.

ولهذا قلنا بأنّ المقصود بأهل البيت هم أهل بيت الله الحرام، فبيتُ الله الحرام كان ينسب في عهد إبراهيم الخليل إلى

ص: 230

إبراهيم وإسماعيل(عليهما السلام) وفي عهد نبيّنا أصبح ينسب إلى هؤلاء الخمسة فهم أهل البيت الإ لاهي (بيت الله الحرام).

وهلم بنا الآن إلى مفهوم الآية الكريمة التي يستفاد منها العصمة المطلقة فإن إذهاب الرجس معناه نفي كلّ المعاصي قال تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}، وإذا ورد لفظ الرجس المعرّف بالأف وللام كما في الآية الكريمة فدلّ على كلّ المعاصي والذنوب التي يرتكبها الإنسان سواء باغراء الشيطان أو بالنفس الأمّارة بالسوء كلّ ذلك أذهبه الله عن أهل البيت وزادهم من فضله فطهّرهم تطهيراً وهي طهارة نفسيّة وقلبيّة فلا يعملون إلاّ بما يرضي الله سبحانه وتعالى ولا يصدر عنهم إلاّ الخير فقط.

وهذا أكبر دليل على أنّ هذه الآية لا تشمل نساء النبيّ لأنّهنّ لسن بمعصومات عن الخطأ والذنب.

ص: 231

أوّلاً: لأنّ عائشة زوج النبيّ عَصَتْ أمر الله سبحانه الذي أمرها بالاستقرار في بيتها وعدم التبرّج. فخرجت من بيتها وسافرت من المدينة إلى البصرة، كما عصت أمر زوجها رسول الله صلی الله علیه و آله عندما نهاها عن ركوب الجمل ونباح كلاب الحوأب عليها ولأنّها شاركت وقادت حرباً ضدّ أمير المؤمنين وتسبّبت في قتل الآلاف من المسلمين كما جاء في كتب التاريخ.

ثانياً: أنّ حياتها مع رسول الله صلی الله علیه و آله كانت مليئة بالمعاصي والمخالفات ومن أرد الوقوف على شيء من ذلك فاليراجع كتاب «فاسألوا أهل الذكر»((1)) فقرة عائشة في حياة النبيّ.

ثالثاً: لأنّ الله سبحانه وتعالى هدّدها وتوعّدها في العديد من الآيات القرآنيّة حتّى ضرب لها وللذين كفروا مثلاً امرأة نوح وامرأة لوط.

رابعاً: لا يمكن للقرآن الكريم وهو كلام الله أن يتعارض أو يتناقض فكيف يذهب الله الرجس عن نساء النبيّ ويطهرهنّ

ص: 232


1- كتاب [فسألوا أهل الذكر] لنفس المؤلف.

تطهيراً ثمّ يهددهن بقوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَة مُّبَيِّنَة يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} ((1)).

{عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنكُنَّ مُسْلِمَات مُؤْمِنَات قَانِتَات تَائِبَات عَابِدَات سَائِحات ثَيِّبَات وَأَبْكَاراً} ((2)).

{إِن تَتُوبَا إلى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ} ((3)).

فهل يبقى شكّ بعد كلّ هذه الأدلّة التي يقرّها العقل السليم في أن ما يقوله الشّيعة هو الحقّ.

خصوصاً إذا قرأنا في صحيح البخاري وصحيح مسلم بأنّ أحد الصّحابة سأل عمر بن الخطاب : مَن المرأتان اللتان تظاهرتا على رسول الله. فقال عمر : إنّهما عائشة وحفصة : أفلا تعقلون.

ص: 233


1- سورة الأحزاب: 30.
2- سورة التحريم: 5.
3- سورة التحريم: 4.

ص: 234

المهدي المنتظر والعقل

يختلف الشّيعة مع أهل السُنّة والجماعة في قضيّة المهدي المنتظر كاختلافهم في أغلب القضايا العقائديّة والمعروف عند الشّيعة أنّ المهدي المنتظر هو الإمام الثاني عشر في سلسلة الأئمّة علیهم السلام .

فالإمام الأوّل: هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام .

والإمام الثاني: هو ابنه الحسن سيّد شباب أهل الجنّة علیه السلام .

والإمام الثالث: هو أخوه الحسين سيّد شباب أهل الجنّة علیه السلام .

والإمام الرابع: هو ابنه عليّ بن الحسين الملقّب بزين العابدين علیه السلام .

والإمام الخامس: هو ابنه محمّد بن عليّ الملقّب بالباقر علیه السلام .

والإمام السادس: هو ابنه جعفر بن محمّد الملقّب بالصادق علیه السلام .

والامام السابع: هو ابنه موسى بن جعفر الملقّب بالكاظم علیه السلام .

والإمام الثامن: هو ابنه عليّ بن موسى الملقّب بالرضا علیه السلام .

ص: 235

والإمام التاسع: هو ابنه محمّد بن عليّ الملقّب بالجواد علیه السلام .

والإمام العاشر: هو ابنه عليّ بن محمّد الملقّب بالهادي علیه السلام .

والإمام الحادي عشر: هو ابنه الحسن بن عليّ الملقّب بالعسكري علیه السلام .

والإمام الثاني عشر: ابنه محمّد بن الحسن الملقّب بالمهديّ علیه السلام .

وهؤلاء الأئمّة هم الذين نصّ عليهم رسول الله صلی الله علیه و آله بأسمائهم كما ورد في كتب ومصادر الشّيعة وكذلك بعض من مصادر أهل السُنّة والجماعة وقد اقتصر البخاري ومسلم على النصّ العددي بدون ذكر الأسماء، فحدّثوا بأنّ رسول الله قال: «الأئمّة من بعدي اثنا عشر كلّهم من قريش».

وفي رواية ثانية قال علیه السلام : «الخلفاء من بعدي اثنا عشر كلّهم من قريش».

وفي رواية أُخرى الأُمراء من بعدي اثنا عشر كلّهم من قريش، وفي بعض الروايات: «إثنا عشر كلّهم من بني هاشم».

ص: 236

وقد قدّمنا في ما سبق اختلافهم في الخلفاء الراشدين والذي يهمّنا في هذا البحث هو الإمام الثاني عشر، أعني الإمام المهدي المنتظر علیه السلام أو عجّل الله فرجه كما يقول الشّيعة كلّما ذكروا إسمه.

فالشّيعة متّفقون قولاً واحداً على أنّه محمّد بن الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب - سلام الله عليهم جميعاً - .

ولد الإمام محمّد بن الحسن (عج) في النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومأتين للهجرة النبويّة وبقي مستوراً مع أبيه ولم يُعرّف به إلاّ خاصة الخاصة من شيعته ومواليه خوفاً عليه من خلفاء بني العبّاس لأنّ المتوكّل ومن جاء بعده من أولاده كانوا يتخوّفون من ظهور الإمام الثاني عشر لأنّ النصوص تقول بأنّه هو المهديّ الموعود الذي سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً وهذا معناه زوال ملكهم وحكومتهم على يديه، لكلّ ذلك كان الإمام الثاني عشر متخفّياً في ما يسمّونه بالغيبة الصغرى وتعني أنّه لا يتّصل إلاّ بأشخاص معيّنين عرفوا بالسفراء الأربعة وهم

ص: 237

عثمان بن سعيد العمري وابنه محمّد بن عثمان، ثمّ الحسين بن روح ومن بعده عليّ بن محمّد السمري، وقد توالت هذه الغيبة الصغرى ما يقارب سبعين سنة ثمّ بدأت الغيبة الكبرى من سنة تسع وعشرين وثلاثمائة إلى يومنا والغيبة الكبرى تعني أنّ الإمام مغيّب تماماً ولا يتصل بأحد من النّاس حتّى يأتي أمر الله سبحانه وتعالى.

هذا مجمل ما يقوله الشّيعة بخصوص الإمام المهدي المنتظر استناداً لما يروونه عن ائمّتهم والثقات من مواليهم ودعك من الخرافات والاشاعات المغرضة التي يقول بها أعداءهم للتضليل والتمويه من أنّ الشّيعة يسرّجون فرساً ويهيؤونه على باب السرداب الذي غاب فيه الإمام منتظرين خروجه في كلّ يوم.

أمّا أهل السُنّة والجماعة فهم يؤمنون بأنّ الإمام المهدي المنتظر سيأتي في آخر الزمان ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً ويروون نفس الروايات التي يرويها علماء الشّيعة فقد ورد في كتاب الجمع بين الصحاح الستّة بأنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قال: «لو

ص: 238

لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يُظهر المهدي من ولدي اسمه كإسمي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً».

وقد أخرج هذا الحديث مفتي الأخوان المسلمين السيّد سابق في كتابه المسمّى: (العقائد الإسلامية) وعدّ عقيدة المهدي من العقائد الإسلامية التي يجب الإيمان والتصديق بها لأنّه من الأحاديث المتواترة الصحيحة لكنّهم - أعني أهل السُنّة والجماعة - يخالفون الشّيعة في شيء واحد وهو أنّ الإمام المهدي سيولد في آخر الزمان.

ونحن نستنتج من كلّ الروايت الواردة عند كلّ المسلمين من أنّ المسلمين ينتظرون إماماً عادلاً سيخلّصهم من الجور والظلم بل سيملأ أرضهم قسطاً وعدلاً وهذا معناه أنّه سيكون أملاً لكلّ الإنسانيّة جميعاً وليس للمسلمين فقط ولذلك هم متّفقون بأنّ عيسى بن مريم سينزل من السماء ويتعاون مع الإمام المهدي لقتل المسيح الدجّال وأتباعه ولتكون الأرض كلّها إسلامية تصديقاً

ص: 239

وتثبيتاً لقول الله سبحانه وتعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ* هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} ((1)).

إذاً فقول الشّيعة بانّ الله سبحانه وتعالى هو الذي غيّب الإمام وستره عن أعين النّاس لحكمة هو أعلم بها وسيظهره أو يأذن له بالظهور في الوقت المعلوم ولذلك نراهم في كلّ دعواهم يقولون: (اللّهم عجّل لوليّك الفرج).

وهم إذ يقدّمون لنا هذه الأطروحة بالتواتر أباً عن جدٍّ ولأنّهم عاشوا زمن الأئمّة الإحدى عشر وتفاعلوا معهم وكانوا يتعبّدون الله سبحانه على طريقتهم وفقه شريعتهم ولا يبغون عنها بدلاً من حياة الإمام الأوّل أبو الأئمّة عليّ بن أبي طالب إلى حياة الإمام الحادي عشر الحسن العسكري والد الإمام محمّد

ص: 240


1- سورة التوبة: 32 - 33.

المهدي (عج) ثمّ سبعين عاماً من حياة الإمام الثاني عشر في غيبته الصغرى كما قدّمنا آنفاً.

أمّا أهل السُنّة والجماعة فلا يعتقدون بهذه الأطروحة لأنّهم لا يعترفون بإمامة عليّ وبنوه ولم يتّبعوهم في عبادة أو في عمل إنّما يعتقدون بأنّ عليّ بن أبي طالب هو رابع الخلفاء الراشدين وانتهت الخلافة من عهده وانقلبت إلى ملك عضوض حسب ما جاء في الأحاديث النبويّة وبدأت ولاية العهد من معاوية بن أبي سفيان إلى يومنا هذا في أغلب الدول العربيّة يتوارثها الأبناء عن الآباء.

ولذلك فهم لا يعرفون سلسلة الأئمّة وليست أطروحة الإمامة بعد النبوّة من معتقداتهم ويرون أنّ الخلافة هي منصب سياسي يتصدّره كلّ من قدر عليه ولو بالقوّة والقهر وهو ما وقع بالفعل على مرّ التاريخ الإسلامي ولأنّهم يعتقدون مثل الشّيعة في المهدي المنتظر فهم يرون أنّه سيولد في آخر الزمان بدون شكّ.

ص: 241

فالإمام المهديّ (عج) عندهم مجهول ولا يعرفه أحد منهم ((1)).

ولقد يسمّي بعضهم ابنه عند الولادة باسم (مهدي) راجياً أن يكون هو المقصود بأحاديث الرسول صلی الله علیه و آله ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.

وهذا يذكّرني بعقائد أهل السنّة التي كثيراً ما تميلُ إلى الصدفةِ وليس إلى تخطيط وحكمة إلهية فهم يعتقدون بأن النبي نفسه لم يكن يدري بأنه نبي ... فاجأته النبوّة صدفة في غار حراء ويقولون بأنّه حاول الانتحار مرّات عديدة وأراد أن يلقي بنفسه من قمة الجبل.

ص: 242


1- هناك بعض من علماء أهل السُنّة والجماعة من يقول بمقالة الشّيعة وقد كتبوا في ذلك كتباً واثبتوا أنّه ابن الإمام الحسن العسكري وادّعى بعضهم أنّه التقى به ولهم في ذلك قصص يطول شرحها.

فما هو حكم العقل؟

ولنبدأ بالأطروحة الشيعيّة القائلة بأنّه ولد من سنة مأتين وخمس وخمسين للهجرة النبويّة يعني منذ ألف ومائة وتسعة وسبعين عاماً وإذا طرحنا المدّة التي قضاها في الغيبة الصغرى وهي تسع وستّون سنة بقي معنا ألف ومائة وعشرة سنين (1434 - 255 = 1179 - 69 = 1110).

فغيبة الإمام الكبرى مضى عليها (1110) سنين والله وحده يعلم كم سيبقى غائباً بعد هذه المدّة الطويلة، فهل هذا معقول؟ هل يصدقه العقل؟

والجواب هو: نعم لأنّ العقل ليس محدود بزمان ولا بمكان، إذا دخل في التصوّر الذهني والخيالي، ألا ترى أنّك وأنت جالس في بيتك تسبح في خيال الذكريات فينقلك العقل إلى سنوات خلت وأنت تطوف بالبيت العتيق وتشاهد النّاس من حولك في لباس الاحرام

ص: 243

يلبّون حتّى يخيّل إليك أنّك تسمع أصواتهم فتسيل الدموع من عينيك وتهتزّ مشاعرك لهفة وشوقاً للرجوع إلى الحجّ.

وإذا تشبّع العقل بالآيات القرآنيّة التي تفتح المجال أمامه وتذكره بأنّ الله خالقه قادر على كلّ شيء فالذي أعطى لنوح علیه السلام طول

العمر حتّى بقي في قومه الف سنة إلاّ خمسين يدعوهم إلى عبادة الله وحده.

قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَة إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَدَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} ((1)). وقيل بأن عمر نوح تجاوز ألفين عام.

كما أنّ العقل يعرف بأنّ عيسى بن مريم لم يمت بل رفعه الله إلى السماء وهو حيّ يرزق وسيعود إلى الأرض قبل قيام الساعة.

ص: 244


1- سورة العنكبوت: 14.

والعقل يعلم بأنّ الخضر علیه السلام الذي أرسله الله إلى موسى ليعلّمه تأويل ما لم يستطع عليه صبراً هو حيّ إلى قيام الساعة.

والعقل يعرف بأنّ إبليس - عليه لعنة الله - هو أيضاً حيّ إلى قيام الساعة وكان مخلوقاً قبل آدم بالآف السنين: {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي

إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ* إلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ}((1)).

والعقل الذي يتدبّر في هذه الآية وهي قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ أَبَقَ إلى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ* فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ* فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} ((2)).

وهذا يعني أنّ الله سبحانه قادر على أن يطيل عمر يونس آلاف السنين ويبقى حيّاً في بطن الحوت وهذا يعني أيضاً أنّ الحوت

ص: 245


1- سورة ص: 79 - 81.
2- سورة الصافات: 139 - 144.

سيعيش آلاف السنين من أجل الحفاظ على يونس، وهذا يعني أيضاً أنّ يونس سيأكل ويشرب ويتنفّس، ونحن نعلم أنّ الإنسان إذا بقي تحت الماء دقائق معدودة قد لا يتجاوز ثلاث دقائق فإنّه يموت لفقد الأوكسيجين، فكيف به إذا كان في معدة الحوت والحوت في أعماق البحار، فسبحان الله القادر على كلّ شيء.

هذا بالنسبة لبقاء الإنسان حيّاً لمدّة طويلة، ولا ننسى أبداً قدرة الله سبحانه وتعالى على أكثر من ذلك فهذه تعدّ من الأُمور البسيطة بالنسبة لعقولنا.

وهل فكّرنا في الأُمور التي حدّثنا عنها القرآن الكريم والتي لا يجد العقل لها تفسيراً فلنستمع اليه جلّ وعلا إذ يقول: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَ-مِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَة مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَ-مِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ

ص: 246

ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} ((1)).

ولعاقل أن يتصوّر أنّ أصحاب الكهف قد ناموا يومين كاملين أو ثلاثة أيام وهذا ما يدعو للاستغراب والاستبعاد ولكن الله سبحانه يطّلعنا على أمر مستحيل لا يصدّقه العقل، قال سبحانه وتعالى

وهو أصدق القائلين: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِائَة سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} ((2)).

وليست الغرابة والعجب في طول المدّة التي استغرقوا فيها للنوم ولكنّ الغرابة في بقاء الأجسام طيلة هذه المدّة بدون تغذية بدون أكل ولا شرب ونحن نعلم بأنّ الإنسان إذا فقد الأكل والشرب لمدّة أربعين يوم فإنّه يموت، فكيف بهؤلاء الذين بقيت أجسامهم سليمة لم يصبها وهن ولا ضعف فضلاً عن الهلاك والموت، وأنّ

ص: 247


1- سورة الكهف: 17 - 18.
2- سورة الكهف: 25.

الإنسان إذا مات وبقي في العراء ثلاثة شهور فإنّ جسمه يتحلّل ويذوب وتأكله الحشرات والديدان.

وأكثر من ذلك، فالعلماء يقولون بأنّ معدّل عمر الكلاب لا يتجاوز عشر سنين، ولكن كلب أصحاب الكهف لبث معهم ثلاثمائة وتسع سنين، وعندما استيقضوا وجدوا كلبهم ينبح ولذلك قال: {قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْم قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إلى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْق مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً} ((1)).

الله أكبر ثلاثمائة وتسع سنين قدّروها ببعض يوم، يعني أنّهم ظنّوا بأنّهم إنّما استراحوا كما يستريح الإنسان لقيلولة.

وكذلك قصّ الله علينا قصّة عُزير وهو من بني إسرائيل قال: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَة وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِيْ هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِاْئَةَ عَام ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ

ص: 248


1- سورة الكهف: 19.

لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْم قَالَ بَل لَبِثْتَ مِاْئَةَ عَام فَانْظُرْ إلى طَعَامَكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إلى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إلى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ} ((1)).

وإذا كان أصحاب الكهف لبثوا ثلاثمائة وتسع سنين وهم نيام، بدليل قوله تعالى: { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ}، فإنّ الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها مات لمدّة مائة عام بدليل قوله سبحانه: {فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِاْئَةَ عَام ثُمَّ بَعَثَهُ}، فالقصّة الأُولى تحكي لنا عن النوم الذي جعله الله لنا راحة قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْل تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ

ص: 249


1- سورة البقرة: 259.

تُبْصِرُونَ * وَمِن رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ((1)).

وأمّا القصّة الثانية فهي تحكي لنا عن الموت الذي به تنتهي حياة الإنسان والحيوان والنبات وكلّ المخلوقات، قال سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((2)).

ففي القصّة الأُولى كما في القصّة الثانية أُمور مستحيلة على العقل تصديقها لولا ورودها في كتاب الله سبحانه وتعالى ولذلك نقرأ في كتاب الله مدحاً وتمجيداً للمؤمنين الذين يؤمنون بالغيب.

ولكن ليس كلّ الغيب لكيلا يصدّق المؤمنون بكل الخرافات وكلّ الإدعاءات سواءً كانت معقولة أو غير معقولة إنّما الغيب الذي يحدّثنا به القرآن الكريم لإعتقادنا بأنّ الله سبحانه وتعالى هو

ص: 250


1- سورة القصص: 71 - 73.
2- سورة القصص: 88.

أصدق القائلين ولاعتقادنا ثانياً بأنّ الله سبحانه على كلّ شيء قدير، فكلّ ما جاء في كتاب الله من الحديث عن الجنّة والنار وعن خلق الإنسان والجنّ والملائكة والشياطين وعن الكون بأسره من سماوات وأرضين والشمس والقمر والنجوم والبحار والأنهار والجبال وعن إحياء الموتى والبعث والنشور والحساب... الخ، كلّ ذلك من علم الغيب الذي لابدّ من التصديق به ولو لم نُشاهده.

أمّا لو جاءنا شخص مثلاً وادّعى أنّه شرب مائة ليتر من الماء في ساعة واحدة أو أنّه غطس تحت الماء لمدّة ساعتين وبدون جهاز التنفّس أو أنّه دخل في تنور من النار فلم يحترق فلا يمكن لنا أبداً تصديقه.

أوّلاً: لأنّه يجوز عليه الكذب.

ثانياً: لأنّه ليس على كلّ شيء قدير وأن قدراته محدودة بالإمكانيات التي منحه الله إيّاها.

ص: 251

والله سبحانه وتعالى منح لبعض أنبياءه المرسلين القوّة الخارقة للعادة كمعجزة للاستدلال على صدق دعوتهم لينقاد النّاس إليهم في عبادة الله الواحد خالق كلّ شيء والقادر على كلّ شيء.

وبعد هذا العرض فالعقل البشري لا يستبعد أن يكون الإمام المهديّ حَيٌّ يرزق طيلة هذه المدّة وهو مخفي ومستور عن أعين النّاس.

ثمّ هناك فرضيّة أُخرى لابدّ من طرحها والبحث فيها وهي فرضيّة أن يكون الإمام غير مخفي ولا مستوراً، فقد يكون مشهوداً ويتفاعل مع النّاس فهو عارف لهم وهم له منكرون، لأنّه في غيبته الصغرى التي استمرّت سبعين عاماً وهي مدّة طويلة أكلت جيلين من النّاس لم يكن الإمام يظهر لهم وبعد وفاة السفراء الأربعة الذين عرفوه لم يبق إنسان على وجه الأرض يعرفه.

فيمكن له الظهور والعيش مع النّاس والتفاعل معهم من غير أن يعرفوه، فكم تعاملنا وتفاعلنا مع أُناس لا نعرف عنهم أي شيء ولا حتّى أسماءهم.

ص: 252

وبما أنّ اللطيف الخبير القادر على كلّ شيء جعل الخلايا الجسديّة لدى الإمام تتجدّد يوماً بعد يوم فلا يهرم جسده ولا يشيب بل يبقى شابّاً قويّاً.

والدليل على ذلك أنّ أصحاب الكهف بقوا على حالهم لم يشيبوا ولم يهرموا حتّى أنّ أحدهم لمّا رجع إلى المدينة وجد حفيد حفيده شيخاً كبيراً طاعن في السنّ.

وإذا كان اخوة يوسف لم يعرفوه بعد غياب أربعين سنة فكيف سيعرف النّاس الإمام الذي غاب سبعين سنة ولم يروه أبداً. إذاً هذه فرضية قائمة خصوصاً إذاً صدّقنا أقوال بعضهم الذين ادّعوا ملاقاته في كثير من الأزمنة والأمكنة ومنهم رجال الصوفيّة من عهد ابن عربي وإلى يومنا هذا.

والذين ادّعوا رؤيته ولقاءه أكّدوا بأنّهم استفادوا بنصائحه وإرشاداته ولعلّ البعض منهم أنقذ حياتهم.

ولقائل أن يقول ما الفائدة من غيابه والنّاس في أشدّ الحاجة اليه؟

ص: 253

والجواب: أنّها حكمة الله الذي يعلم ما لا نعلم، والإمام جعفر الصادق قد أجاب على هذا السؤال عندما سأله أحد أصحابه، كيف يستفيد النّاس منه في غيابه؟

فقال: كما يستفيدون بالشمس إذا حجبتها الغيوم!

ومن الحكمة الإلهيّة أنّ بقاء الإمام طول هذه المدّة حيّاً يواكب العصور والحضارات والعلوم والتقدّم التقني والصناعي وكلّ الاختراعات والاكتشافات فتصبح أمامه كلّها أقزاماً فيسهل بذلك عليه أخذها والاستفادة منها وتسخيرها للمهمّة العظيمة التي وكّله الله سبحانه بها ليملأها قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً.

فلقد ملئت الأرض ظلماً وجوراً لأنّ النّاس سخّروا العلم وما أنزله الله سخروها لهم في الحروب والدمار والقتل والتخريب، قال سبحانه وتعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاس بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ

ص: 254

لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} ((1)).

فكان اهتمام الشيطان الأكبر بالبأس الشديد.

فلو اُنفقت الأموال الطائلة التي صُرفت على الحروب وصناعة الأسلحة الفتّاكة والمقاتلات المدمّرة والمواد المتفجّرة، لو سُخّرت تلك العقول التي أمضتْ كلّ جهودها وتدبيرها في اختراع أسلحة الدمار الشامل والقنابل النووية.

أقول لو سُخّرت تلك العقول للبحث عمّا ينفع النّاس ويُسعدهم ولو صُرفت تلك الأموال على المختبرات والعلوم النافعة لما بقي في النّاس فقير ولا جائع ولا مريض لكن عزاؤنا في كلّ ذلك أنّ الإمام المهدي المنتظر هو الموعود لكلّ هذه الأُمور إنّ ربّي لطيف لما يشاء إنّة هو العليم الحكيم.

ص: 255


1- سورة الحديد: 25.

إذاً نستنتج من هذا البحث أنّ المهدي المنتظر هو حقيقة حتميّة وضروريّة لكلّ البشريّة لذلك نرى اليهود ينتظرون المهدي والنصارى ينتظرون المهدي والمسلمين ينتظرون المهدي وكلّ أُمّة من هذه الأُمم تدّعي أنّ المهدي منها فاليهود يعتقدون بأنّه ابن الله عزير والنصارى يعتقدون بأنّه ابن الله المسيح عيسى بن مريم، والمسلمون يعقتدون بأنّه من ذريّة الرسول محمّد صلی الله علیه و آله .

والجواب على هذه المزاعم جاء في القرآن، فقد قال سبحانه وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً وَاحِداً لاَإِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ

ص: 256

بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} ((1)).

وفي هذه الآية الكريمة دليل واضح لمن تدبّرها وحجّة ساطعة على ضرورة خروج المهدي في آخر الزمان وهو من ولد المصطفى محمّد بن عبد الله خاتم الأنبياء والمرسلين - عليه وعليهم أزكى الصلاة والتسليم - .

فقوله سبحانه وتعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} ((2)).

فهل توقّف اليهود والنصارى والمشركون والملحدون على محاولاتهم لإطفاء نور الله وهو دين الإسلام؟

كلاّ إنّهم حاولوا بكلّ جهودهم وهم لا زالوا يحاولون ذلك بكلّ الوسائل بالإشاعات والأكاذيب وبالمقاومة والإرهاب والحروب

ص: 257


1- سورة التوبة: 30 - 33.
2- سورة التوبة: 32.

والترغيب والترهيب، وخصوصاً في هذا العصر الذي تكالبت فيه قوى الشرّ من إسرائيل واليهود ومن الغرب المسيحي النصراني أمريكا وفرنسا وبريطانيا والمانيا وإيطاليا وإسبانيا وغيرهم حتّى زرعوا الفتنة والشقاق بين المسلمين أنفسهم وأعطوهم كلّ الأسلحة الفتّاكة ليقتل بعضهم بعضاً.

وإنّا نرى اليوم ذلك البناء الشامخ الذي بناه الرسول محمّد صلی الله علیه و آله يتهاوى ويخرب بأيدي المسلمين أنفسهم.

ولهذا أقول بأنّ نور الله لم يتمّ بعد، ولو تمّ نور الله لما وجدت في الأرض كلّها غير المسلمين الموحّدين ولعلّ بعضهم يفسّر الآية على غير الواقع فيزعم أنّ نور الله قد تمّ بدعوة محمّد بن عبد الله وتأسيسه دولة الإسلام، وهذا بعيد كلّ البعد عن مدلول الآية الكريمة لأنّنا وجدنا أنّ نبيّ الإسلام وبعد أن نصره الله سبحانه يبعث برسائل إلى ملوك العالم في زمانه يدعوهم فيها إلى دين الإسلام فلم يستجب له إلاّ القليل ورفض أكثرهم دعوته بل نجد

ص: 258

الرسول صلی الله علیه و آله يوصي أصحابه عند وفاته بقوله: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب».

وهذا معناه أنّة وحتّى لحق بالرفيق الأعلى لم يتمكّن من تطهير الجزيرة العربيّة من المشركين فضلاً عن بقيّة الأرض.

أضف إلى ذلك ما يزيدنا قناعة إلى ما ذهب اليه قوله تعالى بعد هذه الآية مباشرة: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} ((1)).

والمعروف من دون شكّ أنّ دين الحق الذي أُرسل به رسول الله هو دين الإسلام، فقد قال في آية أُخرى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإسْلام} ((2))، وقال أيضاً: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ((3)).

ص: 259


1- سورة التوبة: 33.
2- سورة آل عمران: 19.
3- سورة آل عمران: 85.

والسؤال هو: هل ظهر دين الإسلام على كلّ الأديان؟

كلأّ! بقيت الديانات حتّى يومنا هذا، فاليهود على دينهم لم يعتنقوا الإسلام - والنصارى على دينهم لم يعتنقوا الإسلام والبوذيون على دينهم لم يعتنقوا الإسلام والعلمانيّون والملحدون والطبيعيّون وغير هؤلاء كثير وكلّهم لم يعتنقوا الإسلام. بل كلّهم يحاربونه ويريدون اطفاءه بأفواههم ولكن الله سبحانه وتعالى وعد بأنّ يتمّ نوره كما وعد بإظهار دينه على كلّ الديانات التي أبتدعها النّاس وان الله لا يخلف وعده، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النّاس إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} ((1)).

وقال: {أَلاَ إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماوَاتِ والْأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ((2)).

ص: 260


1- سورة فاطر: 5.
2- سورة يونس: 55.

والسؤال الذي يفرض نفسه هو متى يتمّ الله نوره ومتى يظهر دينه على الدين كلّه؟

والجواب هو: الله وحده يعلم التوقيت ولذلك قال لرسوله الكريم: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} ((1)).

وهذا صريح في أنّ الله سبحانه قد يؤخر وعده إلى ما بعد وفاة رسوله الكريم بيوم أو يومين قال سبحانه وتعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَة مِمَّا تَعُدُّونَ} ((2)).

ويفهم من كلّ ما سبق من أبحاث أنّ الله سبحانه وتعالى أخَّر هذا الوعد (بإتمام نوره واظهار دينه على كلّ الأديان) إلى آخر الزمان.

ص: 261


1- سورة غافر: 77.
2- سورة الحج: 47.

وبما أنّ الله أعلمنا بأنّ محمّداً هو خاتم الأنبياء والمرسلين بقوله سبحانه: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَد مِن رِّجَالِكُمْ وَلكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْء عَلِيماً} ((1)).

وبذلك يتّفق المسلمون جميعاً قولاً واحداً: لا نبيّ بعد محمّد، وهذه الآية دليل على صدق محمّد في ما يبلغه عن ربّه فقد مضى الآن خمسة عشر قرناً ولم يظهر نبيّ بعد محمّد في حين أنّ الأنبياء كانوا قبله يرسلون في كلّ أربعاً وخمسة قرون.

إذا كيف سيظهر الله دينه الإسلام على كلّ الديانات الأُخرى وكيف سيتمّ نوره رغم أنف الكافرين والمشركين؟

والعقل هنا يفترض وجود شخص تتوفّر فيه كلّ صفات الأنبياء من تقوى وصلاح وعلم وشجاعة ورحمة ورأفة ليتمكّن بعون الله سبحانه وتعالى أن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً.

ص: 262


1- سورة الأحزاب: 40.

وقد أوحى الله سبحانه لرسوله الأمين بأنّه اصطفى لهذه المهمّة أخر الأئمّة من ولده الإمام الثاني عشر كما اصطفاه هو ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين وقد أوحى الله اليه بأسماء الأئمّة وبعددهم وأمره أن يطلع أمّته عليهم ويبشّرهم بوعده سبحانه وتعالى لكي لا يهنوا ولا يحزنوا ولا يستكينوا ولا يذلّوا ولا يضعفوا وليعيشوا بأمل النصر والغلبة على أعداء الله وأعداء الإنسانيّة.

وقد قام الرسول بهذه المهمّة على أكمل الوجوه فعرّف لأُمّته بفضل عترته ومقامهم عند الله سبحانه وبأنّهم أمان الأُمّة من الضلالة، كما بشّرهم بأنّ المهدي سيكون اسمه كإسمه وأنّه سيعود بالأُمّة إلى صراط الله المستقيم ولذلك لقّبه صلی الله علیه و آله بالمهدي الذي سيهدي الله به كلّ النّاس إلى دين الحقّ فلا يبقى إنسان على وجه الأرض إلاّ ويقول أشهد أنّ لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمّداً رسول الله، ولنزول عيسى بن مريم علیه السلام من السماء فيه مافيه من حكمة الله عزّ وجلّ ولأنّ عدد النصارى اليوم في الكرة الأرضية يفوق عدد المسلمين فإنّ عدد النصارى ضعف عدد المسلمين وأنّهم هم

ص: 263

الذين يملكون الأسلحة الفتّاكة والقوّة ، فلو قامت حرب بينهم وبين المسلمين فستكون لهم الغلبة والنصر بعد سيل بحر من الدّماء البشرية، وهذا منافٍ لحكمة الله عزّ وجلّ اللّطيف بعباده والرّحيم بهم.

فإذا نزل فيهم ابن مريم وقال لهم بأنّه رسول الله من عند الله وأنّه بشّر برسول يأتي من بعده اسمه أحمد وأنّ رجال الكنيسة هم الذين خانوا الإمانة وكتموا الحقّ وهم يعلمون.

عند ذلك يعتنق كلّ النصارى دين الإسلام ويسلّمون على المهدي ويصلّون خلفه ولا يبقى من المعاندين إلاّ بعض اليهود الذين يتّبعون المسيح الدجّال فيتعاون الإمام المهدي مع السيّد المسيح على قتلهم وتخليص الإنسانيّة من شرّهم وفتنتهم. عند ذلك تشرق الأرض بنور ربّها.

ص: 264

وإذا تدبّرنا حديث الرسول صلی الله علیه و آله وقوله: «لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يظهر المهدي من ولدي اسمه كإسمي ((1)) يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً.

وقول الرسول صلی الله علیه و آله : «لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد»، دليل على بُعد الزمن وطول الانتظار ويوافق هذا الحديث النبويّ الشريف ما جاء في القرآن الكريم من قول الله سبحانه وتعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ ((2)) فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} ((3)).

فالقرآن يشير بوضوح بأنّ ظهور المهدي يكون علم للساعة ويعني أنّه سيكون قريب جدّاً من قيام الساعة.

ص: 265


1- وفي بعض الروايات المكذوبة اضافة واسم أبيه كاسم أبي وهي زيادة من الأمويين أو العباسيين.
2- هو المهدي يكون خروجه في آخر الزمان وبعد خروجه يكون قيام الساعة وقد جاء تفسير ذلك من طرق أهل السُنّة والجماعة مثل كتاب الصواعق لابن حجر، ونور الأبصار للشبلنجي الشافعي، وينابيع المودّة للقندوزي الحنفي، وكتاب البيان، للكنجي الشافعي، أمّا في كتب ومصادر الشّيعة فحدّث ولا حرج من أنّ المهدي المنتظر هو علم للساعة.
3- سورة الزخرف: 61.

والخلاصة التي يسلّم العقل بها تسليماً هي أنّ وعد الله باظهار الإسلام على كلّ الأديان لم يتحقّق حتّى يوم النّاس هذا وبما أنّ العقل يؤمن بأنّ وعد الله حقّ وأنّ الله سبحانه لا يخلف الميعاد، فلابدّ إذاً أن يأتي زمان يتولّى فيه حفيد المصطفى الإمام المهدي قيادة العالم بأسره وبالتأييد الالهي يستطيع أن يحقّق العدل الكامل والشامل في كلّ أنحاء المعمورة فلا يبقى كائن من سكّان الأرض إلا اعتنق الدين الإسلامي عن طوع، عند ذلك تشرق الأرض بنور ربّها ويتمّ نور الله سبحانه، فلا يبقى جائعٌ ولا فقيرٌ ولا مظلومٌ {هذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} ((1)) أفلا تعقلون.

ص: 266


1- سورة آل عمران: 138.

حكم العقل على المذاهب الإسلامية

كان الدين الإسلامي على عهد النبيّ منهجاً واحداً يستقي أحكامه وتشريعاته من كتاب الله العزيز وسُنّة نبيّه الكريم المتمثّلة في سيرته صلی الله علیه و آله من قول وفعل وإقرار وما يبيّنه من شرح وتفسير لآيات الذكر الحكيم، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} ((1)).

وقال سبحانه وتعالى أيضاً: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْم يُؤْمِنُونَ} ((2)).

وممّا لا شكّ فيه أنّ الذين صاحبوا الرسول وعاشوا معه والذين يناديهم القرآن بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا...} لم يكونوا كلّهم صادقين في إ يمانهم بالمعني الذي يريده الله وهو أن يكونوا

ص: 267


1- سورة النحل: 44.
2- سورة النحل: 64.

مؤمنين مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر... الخ.

بل كان بعضهم يَعبُدُ الله على حرف، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْف فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}((1)) وكان البعض الآخر منافقون: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ((2)).

ولعلّ بعض القرّاء لهذا الفصل يقعون في إشكال وربّ قائل يقول بأنّني متناقض في هذا الطرح فكيف يناديهم الله ب- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا...} وأنت تقول بأنّ فيهم المنافقين.

ص: 268


1- سورة الحج: 11.
2- سورة المنافقون: 2.

والجواب هو في نفس الذكر الحكيم فلنقرأ قول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} ((1)).

وكذلك قوله سبحانه: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَ-بَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} ((2)).

وكذلك قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَ-بِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} ((3)).

ص: 269


1- سورة الصف: 2 - 3.
2- سورة الحديد: 16.
3- سورة النساء 136.

وقال أيضاً في آية أُخرى: { مَا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} ((1)).

وقال أيضاً يخاطب المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ} ((2)).

فليس هناك تناقض في ما سطّرتُ وإنما أردتُ بيان حقيقة قرآنيّة وهي أنّ في المؤمنين خبثاء وطيّبون وفيهم كاذبون وصادقون، فأقرأوا معي هذه الآية الكريمة التي تبدأ ب- (إنّما) وهي أدات حصر كما هو معلوم عند الناطقين باللغة العربيّة.

قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} ((3)).

ص: 270


1- سورة آل عمران: 179.
2- سورة البقرة: 278.
3- سورة الحجرات: 15.

فقوله سبحانه: {أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}، تعني صادقون في إيمانهم.

أمّا المؤمنون الكاذبون في إيمانهم فيقول الله في حقّهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ} ((1)). وكذلك قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ }((2)).

ولتأييد ما نذهب إليه في صدق المؤمنين وكذبهم ما قاله سبحانه وتعالى في سورة العنكبوت: {أَحَسِبَ النّاس أَن يُتْرَكُوا أَن

ص: 271


1- سورة التوبة: 38 - 39.
2- سورة الصف: 2 - 3.

يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} ((1)).

فليس كلّ من يدّعي الإيمان هو صادق في دعواه فقد يموّه على النّاس ولكن لا يموّه على من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وقد بيّن لنا سبحانه هذه الحقيقة في قوله تعالى: { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ...}((2)).

ولو أردنا استقصاء الآيات القرآنيّة التي تناولت هذا الموضوع بالذّات لأفردنا له كتاباً كاملاً، ولكن ما سقناه فيه الكفاية لأصحاب العقول الذين يتدبّرون القرآن.

وإذا عدنا إلى صلب الموضوع فإنّنا سنجد أنّ الذين آمنوا في عهده صلی الله علیه و آله لم يثبت منهم على العهد إلاّ القليل وارتدّ أكثرهم على

ص: 272


1- سورة العنكبوت: 2 - 3.
2- سورة الحجرات: 14.

عقبيه، كما سجّل ذلك كتاب الله سبحانه في سورة آل عمران في قوله تعالى: {وَمَا مُحمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} ((1)).

وإذا أردنا معرفة الشاكرين فإنّ القرآن نفسه يعدّدهم بقوله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} ((2)).

وإذا إستطلعنا الأحاديث النبويّة في هذا الموضوع إذا لوجدنا الكثير الكثير الذي سنعرف من خلاله لماذا تفرّقت الأُمّة واختلفت إلى الحدّ الذي يصعب فهمه حتّى أنّ الذين آمنوا من الرعيل الأوّل ومن البدريّين من المهاجرين والأنصار اختلفوا وتفرّقوا وكفّر بعضهم بعضاً وتقاتلوا حتّى قتل بعضهم بعضاً وتمزّقت الأُمّة بعد ذلك إلى مذاهب متعدّدة فقد عدّ بعضهم أكثر من سبعين فرقة كلّ

ص: 273


1- سورة آل عمران: 144.
2- سورة سبأ: 13.

واحدة منهم تدّعي أنّها الفرقة الناجية من بين الفرق واستولى على قيادة المسلمين وحكومتها الفسّاق من بني أُميّة الطلقاء وأبعدوا من نصّبهم رسول الله لتلك القيادة بل حاربوهم وقتلوهم، وظهرت في التابعين لهم مذاهب متعدّدة تعدّ بالعشرات والعباسيّون أبادوا أكثرهم ولم يعترفوا إلاّ بالمذاهب الأربعة المشهورة وهم على التوالي مذهب أبو حنيفة النعمان بن ثابت ومذهب مالك ابن أنس صاحب المؤطّأ ومذهب محمّد بن إدريس الشافعي ومذهب أحمد بن حنبل وحرّموا على النّاس الإنتماء لأيّ مذهب خارج المذاهب الأربعة فانتشرت تلك المذاهب واشتهرت في مقابل مذهب أهل البيت الذي ظهر في عهد الإمام السادس لأهل البيت وهو جعفر بن محمّد الملقّب بالصادق ويسمّى المذهب الجعفري.

وانقسمت الأُمّة وظهرت فيها مذاهب أُخرى كالمذهب الزيدي والمذهب الإسماعيلي والمذهب الظاهري حتّى وصلنا اليوم إلى المذهب الوهابي الذي انتشر في القرن الرابع عشر للهجرة النبويّة.

ص: 274

وأنا لا أُريد أن أُعدّد المذاهب التي عرفها المسلمون في كلّ أدوار تاريخهم فهي أكثر ممّا ذكرت بكثير ولكن أردت فقط أن أبيّن بأنّ الإسلام بعد النبيّ صلی الله علیه و آله أصبح متعدّد المذاهب والمشارب وأصبح المجتهدون يُكيّفونه على أراءهم وأهواءهم، فقد تجد في المسألة الواحدة أربعة أو خمسة أقوال قد يكون من ضمنها التحريم والتحليل في نفس الوقت وقد يحتار المسلم إذا ما تجرّد للبحث بأيّها يأخذ وعلى أيّ قول يعتمد، فقد اختلفوا في كلّ شيء ولست مبالغاً فالبسملة عند البعض واجبة في الصلاة وعند بعضهم تذكر استحباباً وعند البعض تكره في الصلاة المفروضة وكذلك القراءة، فعند بعضهم قراءة سورة الفاتحة واجبة مع السورة وعند بعضهم قراءة الفاتحة مع بعض الآيات وعند بعضهم وجوب قراءة آية واحدة من كتاب الله مثلاً: {مُدْهَامَّتَانِ} وعدم قراءة الفاتحة، كذلك اختلفوا في إسدال الأيدي وفي قبضها وتكتيفها أثناء القيام، واختلفوا أيضاً في الوضوء هل هو مسح الرجلين أم هو غسل الرجلين والمسح على

ص: 275

الخفّين وعلى العمامة، واختلفوا في مسح كلّ الرأس أو بعض الرأس هذه الاختلافات فقط في الصلاة والوضوء.

وأضرب لذلك مثلاً واحداً حتّى نعرف أنّ الاختلاف أيضاً افترض قراءات متعدّدة في كلام الله سبحانه وتعالى.

فهذه آية الوضوء تقول: {إِذَا قُمْتُمْ إلى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلى الْكَعْبَيْنِ} ((1)).

ومنهم من قرأها... {وَأَرْجُلِكُمْ إلى الْكَعْبَيْنِ} وقالوا إذا قرئت بالنصب فهي توجب الغسل وإذا قرئت بالجرّ فتوجب المسح ونحن نعلم بأنّ القرآن عندما نزل لم يكن مشكولاً ولا منقوطاً وهل نزل القرآن الكريم بقراءات مختلفة ومتعدّدة؟

سبحانك إنّه بهتان عظيم والله سبحانه يردّ هذه الفرية بقوله: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ

ص: 276


1- المائدة: 6.

اخْتِلاَفاً كَثِيراً}((1))، وهذه الآية وحدها تنفي أن يكون في كلام الله اختلاف أو تناقض، وهل كان الرسول صلی الله علیه و آله يقرأ بعدّة قراءات لكي يبعث فيهم هذا الاختلاف وهذا النزاع في الأُمور العباديّة التي لا يقبلها الله سبحانه إلاّ إذا كانت كما يريدها هو لا كما يريدها المجتهد.

ثمّ هل لنا أن نتساءل كيف يختلف الصحابة في قراءة النصب والجر ويرتّبون عليها حكمين مختلفين بين الغسل والمسح في حين أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله كان يتوضأ في حضرتهم طيلة عشرين سنة على أقلّ تقدير.

وسيكون الجواب أيضاً متناقضاً كتناقض القراءتين، فأهل السُنّة والجماعة يروون في صحاحهم أنّه صلی الله علیه و آله توضّأ فغسل رجليه ثلاث مرّات رواية عن عثمان بن عفّان وقد أخذ أصحاب المذاهب الأربعة بهذه الرواية أمّا الشّيعة فإنّهم يروون في كُتبهم أنّه صلی الله علیه و آله

ص: 277


1- سورة النساء: 82.

توضّأ فمسح على رجليه كما أمره الله سبحانه وتعالى وكما وردَ عن أئمة أهل البيت علیهم السلام فبأي حديث سيأخذ المسلم إذا أراد الوضوء قبل الصلاة.

فأهل السُنّة والجماعة ستكون حجّتهم أنّ الأئمّة الأربعة يغسلون أرجلهم في الوضوء ((1)).

والشّيعة أتباع أهل البيت ستكون حجّتهم أنّ الأئمّة الاثنا عشر كلّهم يمسحون على أرجلهم في الوضوء.

فبأيّ الفريقين سنقتدي وبأيّ القراءتين سنعمل يا عباد الله؟

أفتوا لنا في ذلك يا أُولي الألباب. أفلا تعقلون؟

ولعلّ قائل يقول كما قيل لي أعمل بما تشاء، فهذه ليست من أُصول الدين ولك أن تغسل أو تمسح فالمهم أن تتوضّأ قبل الدخول

ص: 278


1- بعض علماء السُنّة الذين يقرؤون قراءة الجرّ يجوّزون المسح بل ذهب أكثرهم أو كلّهم إلى جواز المسح على الخفّين بدل الرجلين والمسح على العمامة بدل الرأس، اقرأ واضحك والأفضل لك أن تبكي.

في الصلاة، فقلت كيف يقبل الله صلاتي ان كان الوضوء على غير ما أراد الله؟

والبعض منهم يتفلسف ويقول الغسل أفضل من المسح لأنّه أكثر نظافة وهذا القائل يكفُرُ من حيث لا يشعر لأنّه ردّ على الله سبحانه وكأنّ الله سبحانه لا يعرف الفرق بين الغسل والمسح، ولقد محقت كثيراً من النصوص والأحكام بمثل هذه الفتاوى التي أفتى بها المجتهدون، والمجتهدون كثيرون في كلّ عصر ومصر، ففي عصرنا الحاضر طلع علينا المجتهدون بفتوى جديدة وهي جهاد النكاح أو جهاد المناكحة.

فقد ورد النصّ من رسول الله صلی الله علیه و آله بقوله: «جهاد المرأة حسن التبعّل»، ومعناه أنّ المرأة إذا أحسنت لبعلها وهو زوجها فهي مجاهدة لأنّ الله سبحانه أسقط القتال عن النساء وأوجبه على الرجال، وخرج علينا بعض المجتهدين الذي يقول «جهاد المرأة أن توهب فرجها لكلّ مقاتل»، أهذا من الإسلام؟ ألا لعنة الله على الكاذبين الذين استحلّوا حرمات الله وأباحوا فروج المسلمات في

ص: 279

سوريا العروبة والإسلام التي دخلها المقاتلون المرتزقة من كلّ حدب وصوب لقتل الأبرياء وأكل القلوب والأكباد واغتصاب الحرائر من النساء والبنات ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.

وهذه نتيجة حتميّة لأُمّة هجرت كتاب ربّها وسُنّة نبيّها واجتهدت بأراءها في مقابل النصوص الصريحة.

وأكتفي بهذا المثل الوحيد الذي قدّمته للقرّاء الأعزّاء عن الوضوء الذي ورد في القرآن بأيّة محكمة وفعله النبيّ صلی الله علیه و آله طيلة حياته يصبح محل خلاف عند المسلمين.

وإلاّ فالباحث في هذا الميدان سيجد عشرات الأحكام التي تغيّرت بعد وفاة الرسول صلی الله علیه و آله والمسلم سيقف محتاراً متشكّكاً بأيّها سيعمل وأيّ مذهب سيتّبع والله سبحانه وتعالى يحذّر نبيّه الكريم بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء} ((1)).

ص: 280


1- سورة الأنعام: 159.

وكذلك يحذّر المؤمنون ويهدّدهم بقوله: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِمَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ((1)).

وقال أيضاً: {شَرَعَ لَكُم مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبراهيم وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} ((2)).

وبعد قراءة هذة الآيات المحكمات من كتاب الله المجيد يتبيّن لنا بوضوح أنّ المسؤوليّة تقع على الصحابة بالدرجة الأُولى وبالخصوص على الخلفاء الأوّلين الذين فتحوا باب الاجتهاد في مقابل النصوص على مصراعيه وتبعهم على ذلك التابعون لهم وجاء من بعدهم أئمّة المذاهب فعمّقوا هذا الخلاف بآراءهم واجتهاداتهم فنشأت عن ذلك المدارس الكلاميّة والفرق المختلفة

ص: 281


1- سورة عمران: 105.
2- سورة الشورى: 13.

كالقدريّة والمرجئة والمعتزلة والمفوضة والمجسّمة والمشبّهة والأخباريّة والبهائيّة والصوفيّة والوهابيّة.

وقد عدّ كتاب الملل والنحل أكثر من سبعين فرقة كلّ منها تدّعي أنّها الفرقة الناجية من بين الفرق عملاً بحديث النبيّ الذي قال: «ستفترق أُمّتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلّهم في الضلالة إلا فرقة واحدة».

وقد وصف الله كلّ هؤلاء الفرق بأوجز تعبير عندما قال:

{مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْب بِمَا لَدَيْهِمْ

فَرِحُونَ} ((1)).

وبعد كلّ هذا العرض يتحتّم عليّ أن أختار طريقي الذي يوصلني إلى صراط الله المستقيم وسأكون كالعادة حياديّاً إلى أبعد الحدود ولا أترك للعاطفة سبيلاً، وسوف أتجرّد من كلّ ما يحضرني من النصوص المختلف في تفسيرها وسألجأ إلى العقل فقط لأنّه هو

ص: 282


1- سورة الروم: 32.

مفتاح الحلول عندما تختلط السبل ولأنّ الله سبحانه وتعالى أمرنا بالرجوع إليه والإستهداء به عند الحيرة والشكّ بقوله تعالى: عديد المرّات: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ، أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ، فاعتبروا يا أوليّ الألباب}.

فهل توافقني أيّها القاريء العزيز لتصل معي إلى شاطيء السلامة وتبدّل الشكّ باليقين والحيرة بالثبات والاطمئنان، فتعالى معي لتشغيل هذه النعمة الكبرى نعمة العقل.

ص: 283

وأخيراً التجأنا إلى العقل

لقوله سبحانه وتعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}؟

وبعد التفكير الطويل والتدبّر في الدليل هداني الله سبحانه وتعالى إلى سواء السبيل، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربّنا بالحقّ.

التقيت في الولايات المتّحدة في مدينة (ديترويت) بعالم من علماء الشّيعة وهو شيخ معمّم أصله من العراق من النجف الأشرف حسبما أعلمني وبدأ حديثه معي باللّوم والعتاب على ما سطّرته في كتابي الأوّل بعنوان «ثمّ اهتديت» ومن جملة ما قال لي:

كيف تدّعي الهداية باتباعك للشيعة واعتناق مذهبهم؟

وظننت لأوّل وهلة أنّه من أهل السُنّة والجماعة، ولكن تبيّن لي أنّه شيعي تخرّج من حوزة النجف الأشرف - حسب زعمه - ويُدْعى «الكرّار»، فقلت له: أنا لم أتّبع الشّيعة ولكن أتبعتُ أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً والذين وصفهم رسول الله

ص: 284

صلی الله علیه و آله بأنّهم مثل سفينة نوح ينجوا من ركب فيها وأخذت أعدّد له الأحاديث التي وردت في فضلهم وفضائلهم.

فضحك طويلاً وكأنّه استهزأ من تلك الأحاديث فقال:

من قال لك بأنّ هذه الأحاديث كلّها صحيحة؟

فأهل السُنّة وهم أغلب المسلمين ينكرونها ولا يعترفون بها.

وأعتقدت بأنّه من الشّيعة المتأثّرين بأهل السُنّة والجماعة أمثال أحمد الكاتب وعليّ الأمين وموسى الموسوي وغيرهم.

فكلّما حدّثته بحديث متّفق عليه من الشّيعة وأهل السُنّة، أجابني هذا ليس دليل قاطع لأنّ هناك كذّابين من الطرفين وضرب لذلك مثلاً فقال: هذا عبدالله بن سبأ الشخصيّة المعروفة عند السُنّة والشّيعة فهو عند الشّيعة من أصحاب أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب، وعند السُنّة هو يهودي وهو مؤسّس التشيّع.

جاء عالم شيعي في هذا العصر وهو السيّد مرتضى العسكري وأثبت أنّه من مُختلقات سيف بن عمر التميمي وهو من الكذّابين وحاولت بكل حماسة اقناعه بأنّ كتاب «ثمّ اهديت» هو نتيجة بحث

ص: 285

تواصل لمدّّة ثلاث سنوات من المقارنة والتحليل، فأجابني بأنّ أبحاثي ومقارناتي وتحليلاتي كلّها اعتمدت أحاديث ضعيفة مشكوك في صحّتها. وأدخلني في فلسفة الأحاديث فهذا ظنّيُ الدلالة والثبوت وهذا قطعيُ الدلالة والثبوت.

ورجعت إلى بيتي مهموماً محزوناً ألعن الساعة التي جمعتني بهذا الشيعي المتسنّن وقلت في نفسي إنّه من شياطين الانس جاء ليدخل في قلبي الشكّ وأنّ كلّ ما كتبته في كتاب «ثمّ اهديت» غير صحيح ولا يقوم على دليل قاطع ولا برهان ساطع، ولم يكحل عيني نوم في تلك الليلة وبقيت أُفكّر حتّى مطلع الفجر، فتوضّأت وصلّيت وجلست لأفكّر وأركّز على الحوار الذي دار بيننا أنا السُنّي المتشيّع وهو الشيعي المتسنّن وأشرقت الشمس وأشرقت معها أنوار الهداية في قلبي وفي كلّ جوارحي، فقلت وكأنّني اُخاطبه وهو أمامي:

ص: 286

سأنتصر عليك يا كرّار بالعقل، وبالعقل وحده بدون اعتماد النصوص التي لا تركن إليها ولا تصدّقها! فكلّها نصوص ظنّية الدلالة حسب زعمك.

وبدأت أُفكّر كيف يمكن لي اقناع المعاندين بالعقل فقط وشغّلت عقلي وتدبّرت وعشت دقائق مع ربّي «ثمّ اهديت».

نعم اهتديت في هذه المرّة بالعقل وليس بالنصوص.

واليك أيّها القارىء العزيز مسرحيّة العقل النعمة الكبرى التي وهبها الخالق العالم إلى المخلوق الجاهل; واليك المسرحيّة كما تخيّلها عقلي.

ص: 287

ص: 288

مسْرحية يوم الحساب

أنا التيجاني واقف بين يدي الخالق جلّ وعلا سبحانه وتعالى إذ يقول يوم القيامة {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْؤُولُونَ} ((1)).

الله سبحانه يسأل التيجاني: «بماذا جئتني يا تيجاني»؟

التيجانبي: ياربّي جئتكَ بما أمرتني به - من صلاة وزكاة وصوم وحجّ وكلّ العبادات التي أمرتني بها.

الله سبحانه وتعالى: يقول للتيجاني: «ممّن أخذت دينك وعباداتك إنّها لم تجد عندي القبول لأنّها غير صحيحة».

اليتجاني: يا ربّ أنا جئتكَ من طريق الإمام مالك، فقد وجدت أبائي وأجدادي كلّهم مالكيّة وأنت جلّ ثناؤك قلت في كتابكَ العزيز: {فَسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.

الله سبحانه وتعالى مخاطباً التيجاني: من هو الإمام مالك؟ أوجدته في كتابي أم عهد به إليك رسولي؟

ص: 289


1- سورة الصافات: 24.

التيجاني: يأخذ بين يديه كتاب الله الذي أحضرته الملائكة ويبحث فيه عن اسم الإمام مالك فلا يجده، فيقول مهزوماً لا ياربي ليس في كتابك شيء اسمه «الإمام مالك»!

الله سبحانه وتعالى: هل وجدت في سُنّة رسولي الذي أرسلته اليكم شيء أسمه الإمام مالك؟

التيجاني: يتصفّح كلّ كتب الأحاديث التي رؤيت عن النبيّ صلی الله علیه و آله وقد احْضَرَتها الملائكة فيبحث التيجاني عن حديث للرسول يقول فيه: (عليكم بالإمام مالك من بعدي) بدون جدوى فيقول خجولاً: لا ياربي ليس في سُنّة رسولك شيء اسمه الإمام مالك ولم يعهد رسولك الينا وإلى الأُمّة باتباع الإمام مالك من بعده، ثمّ يضيف التيجاني يارب أنا أعلم بأنّ الإمام مالك ولد بعد وفاة نبيّك بثمانين عاماً، فلم يعرف رسولك ولا جالسه ولا سمع منه حديثاً واحداً.

الله سبحانه وتعالى مخاطباً التيجاني: فإذا كنت تعلم كلّ هذا لماذا اتبعته إذا؟

ص: 290

اليتجاني: لأنّي من التابعين ولست من المبتدعين وجدت أبائي يتّبعون الإمام مالك فقلّدتهم.

الله جلّ وعلا للتيجاني: ألم تقرأ في كتابي: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} ((1)).

التيجاني: يبكي ويقول: نعم قرأت ذلك يارب، لكنّني ظننت أنّها نزلت في الذين عبدوا الأصنام بدلاً عن عبادتكَ.

الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}، ولقد علمت من خلال قراءتك للتاريخ ماذا وقع في المسلمين بعد وفاة رسولي وكيف تقاتلوا واختلفوا وفرّقوا دينهم ومع ذلك اتّبعتهم بدون حجّة ولا دليل.

ص: 291


1- سورة البقرة: 170.

التيجاني يجهش بالبكاء ويقول: ياربّ أين صلاتي وزكاتي وصومي وحجُي وكلّ عباداتي؟ ألا تنفعني اليوم؟ ألا تكفيني نيّتي يارب؟

الله سبحانه وتعالى: كلا أنا لا أقبلها منك لأنّها غالطة وليست على الوجه الذي أردته منكَ فقد تركت الرسول واتّبعت اجتهاد ورأي البشر ألم تقرأ قول رسولي: [إنّما الأعمال بالنيّات ولكلّ امرءٍ ما نوى فلا عمل إلا بنيةٍ ولا نية إلا بإصابة السنّة].

التيجاني يكثر من البكاء قائلاً: {يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً* يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلاِْنسَانِ خَذُولاً}.

هذا الحوار طبعاً خيالي أوحى به عقلي عندما سألته وقال لي أكثر من ذلك.

قال لي يا تيجاني هذا الحوار الذي استنتجه عقلك هو نفسه لو جئت لربّك من طريق الإمام الأعظم أبو حنيفة أو من طريق الإمام

ص: 292

الشافعي أو من طريق الإمام أحمد بن حنبل سيسألك ربّك نفس السؤال وسيقول لك هل وجدت أبا حنيفة أو مالك أو الشافعي أو بن حنبل في كتابي أو في سُنة رسولي أو عهد اليك رسولي باتّباع واحداً منهم من بعده وسيكون جوابكَ: كلاَّ لا وجود لهم في كتاب الله ولا في سُنة نبيّه.

وهنا تتدخّل الملائكة لتقول:

ألم تقرأ يا تيجاني قول الله سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} فأقول: نعم، قرأت كل ذلك وعلمته.

الملائكة للتيجاني: إذا كنت تعلم أن الله أكمل الدين في حياة الرسول، فكيف تنتظر من هؤلاء الذين ذكرتهم أن يقولوا في دين الله بآرائهم واجتهاداتهم؟ أجعلهم الله أوصياء على دينه بعد محمّد؟!

ص: 293

الجواب: كلّا إنما الأوصياء هم مَن ذكرهم الرسول ودلّ الأُمّة عليهم بأسمائهم وعددهم.

وسيكون الردّ قاسياً منه سبحانه وتعالى بقوله: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَان إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِن رَبِّهِمُ الْهُدَى} ((1)).

وأخشى ما أخشاه أن يكون الحكم قوله تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ}.

هذه هي المسرحيّة الأُولى التي صوّرها العقل واليك المسرحيّة الثانية وهي أيضاً من تصوّر العقل..

ص: 294


1- سورة النجم: 23.

المسْرحية الثانية

أنا التيجاني الواقف بين يدي خالقي يوم القيامة للسؤال:

الله سبحانه وتعالى يسأل التيجاني: بماذا جئتني يا تيجاني؟

التيجاني: جئتك ياربّ بما أمرتني وكلّفتني به من صلاة وزكاة وصوم وحجّ وكلّ العبادات التي كتبتها عليّ! وكذلك المعاملات !

الله سبحانه وتعالى يسأل التيجاني: ممّن أخذت دينك وعبادتك؟

التيجاني يجيب: يا الهي جئتك من طريق عليّ بن أبي طالب، فقد وجدت أباءي وأجدادي كلّهم مالكيّة يتّبعون الإمام مالك فقلدتُهم ردحاً من الزمن ولمّا تبيّن لي بعد البحث أنّ عليّ بن ابي طالب هو أولى تركت مالكاً واتّبعت عليّاً.

الله سبحانه وتعالى مخاطباً التيجاني: مَن هو عليّ بن أبي طالب أوجدته في كتابي؟ أم وجدته في سُنة رسولي؟

التيجاني يجيب بكلّ ثقة: نعم يا ربّ وجدته في كتابك وفي سنّة رسولك.

ص: 295

الله سبحانه وتعالى: ألك دليل على ذلك؟

التيجاني: نعم عندي أدلّة كثيرة ياربّ، وجدتك تذكر هذا الرجل في عدّة آيات من كتابك بمدح وثناء، فهذا قولك: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} ((1))، ومن المعلوم بالضرورة أنّ عليّاً أوّلهم بعد رسولك محمد صلی الله علیه و آله .

وقلت وقولك الحقّ: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} ((2)). وقد اتفق الجميع بأنها نزلت في علي بن أبي طالب.

ص: 296


1- سورة الأحزاب: 33.
2- سورة المائدة: 55 - 56.

وقلت وقولك الحقّ: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} ((1))، فدعا رسولك أخاه ونفسه عليّاً بأمرك.

وقلت وقولك الحقّ: {وَمِنَ النّاس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} ((2)). عندما بات علي في فراش النبي يفديه بنفسه طاعة لك.

وقلت وقولك الحقّ: {قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} ((3)). وقد علمنا بأن قرابة رسولك هم علي وفاطمة والحسنان.

وقلت وقولك الحق: {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمْ مَن لاَ

ص: 297


1- آل عمران: 61.
2- سورة البقرة: 207.
3- سورة الشورى: 23.

يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}((1)).

ومن المعلوم أنّ علياً علیه السلام كان المرجع لكل الصحابة بعد وفاة رسولك صلی الله علیه و آله الذي قال قبل وفاته: [عليّ مع الحقّ، والحقّ مع علي يدور معه كيف ما دار].

وقلت وقولك الحق: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَيَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَيَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ((2)). ففيه أيضاً نزلت هذه الآية.

وقلت وقولك الحقّ: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}((3)).

ص: 298


1- سورة يونس: 35.
2- سورة التوبة: 19.
3- سورة الواقعة: 10 - 11.

وكان عليّ بن أبي طالب أسبق النّاس إلى الإسلام وإلى رسولك.

وقلت وقولك الحقّ: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْس كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً* عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً* يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً}((1)) باتفاق الجميع أن المقصود بهذه الآيات عليّ وفاطمة.

وكذلك جعلت الصلاة عليه جزءاً من الصلاة على نبيّك.

الله سبحانه وتعالى للتيجاني: هذا غيض من فيض وهو دليل كاف وهل وجدت عليّاً في سُنّة رسولي؟

التيجاني: نعم يا ربّ وجدته في كلّ حياة النبيّ له أثر فهو حامل لواء الرسول في كلّ معاركه، وهو المجاهد الذي لم يفرّ من معركة أبداً وهو الذي كان بطل بدر وأُحد والخندق وخيبر وحنين وهو الذي ربّاه رسول الله في حجره منذ نعومة أظفاره

ص: 299


1- سورة الإنسان: 5 - 7.

وهو الوصيّ لرسولك وهو زوج فاطمة سيّدة نساء العالمين وهو أبو السبطين سيّدا شباب أهل الجنّة وهو باب مدينة العلم الذي إلتجأ إليه كل الصحابة ليبيّن لهم ما جهلوه ويحلّ مشاكلهم، وهو الذي سمّاه رسولك أمير المؤمنين، وقال فيه: «مَنْ كنتُ مولاه فعليّ مولاه» وهو الذي قال فيه نبيّك: [حبُّ عليّ إيمان وبغضه نفاق] حتّى كان الصحابة يقولون: كنّا لا نعرف المنافقين إلا ببغضهم لعليّ وهو الذي قال فيه رسولك: «لأعطينّ رايتي إلى رجل يحبّ اللهَ ورسولَهُ ويحبّه اللهُ ورسولُهُ كرّار غير فرّار امتحن الله قلبه للإيمان» وهو الذي عهد اليه رسولك بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين من بعده، وهو الذي قال فيه رسولك: [ياعليّ أنت إمام المتّقين وسيّد الوصيّين وقائد الغرّ المحجّلين] وقال فيه: «يا عليّ أنت أخي ووصيّ وخليفتي من بعدي» وقال له: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي» وهو الذي اختاره رسولك أخاً له في المؤاخاة الصغرى والمؤاخاة الكبرى، وهو الذي قال فيه أمينك على

ص: 300

وحيك جبرائيل علیه السلام : «لا فتى إلاّ عليّ ولا سيف إلاّ ذو الفقّار»، وقال مرّة أُخرى عندما نام على فراش النبيّ يفديه بنفسه، فقال جبرائيل من مثلك يا بن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة في السماء وهو الذي قال فيه نبيّك يوم برز إلى عمرو بن عبد ودّ: «برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه».

وهو الذي قال فيه نبيّك: «عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور معه حيثما دار»، وهو الذي عهد اليه رسولك أن يغسّله ويكفّنه ويواريه في قبره.

الله سبحانه وتعالى: هذا غيض من فيض وهو دليل كاف وحجّتكَ مقبولة وعباداتك صحيحة وهي كما أوحيت بها إلى رسولي وكيف اهتديت اليها وأنت بعيد عن زمن رسولي وبعيد عن زمن باب العلم عليّ((1)

ص: 301


1- وهذا السؤال ليس من جهل كما يتوهّم الجاهلون لحكمة الله تعالى، وإنما ليكون في الجواب حجّة واضحة وبيان للناس، وقد تعدّد السؤال في القرآن الكريم كقول الله سبحانه وتعالى لموسى علیه السلام : {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى}؟ وقوله لنبيّه إبراهيم علیه السلام : {أَوَلَمْ تُؤْمِن}؟ وقوله لعيسى علیه السلام : {ءَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ}؟ وقوله لعزير {كَم لثبتَ؟ قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام}.

التيجاني: لأنّي أخذت بقولك: {فَسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُم لاَ تَعْلَمُونَ}، وأخذت بقولك: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}، وقد علمت من رسولك بأنّ عليّ والأئمّة من ولده هم أهل الذكر وهم أولي الأمر، وهم الراسخون في العلم الذين اصطفيتهم وأورثتهم علم الكتاب، وهم عبادك المخلصين وهم الأئمة الذين جعلتهم يهدون بأمرك ومع ذلك فأنا أقول ياربّ: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ}، اللّهمّ لك الحمد أن جعلتني من أتباع محمّد رسولك وعترته الطاهرة وأركبتني سفينتهم وأنجيتني من الهلاك.

ص: 302

فيقول الله للملائكة: احشروا التيجاني مع محمّد وآل محمّد لأنّه أحبّهم واتّبعهم وقد غفرت له كلّ ما فعل في أيام ضلالته.

هذه مسرحيّة عقليّة قابلة للاعتبار يا أوليّ الألباب، أفلا تعقلون.

وبهذا وجدتُ نفسي منتصراً على الشيخ الكرار الشّيعي المتسنّن الذي حاول إغوائي وتشكيكي في عقائدي وفي كل ما كتبتُ.

وما كتبته كان كلّّه انتصاراً لرسول الله وعترته صلّى الله عليهم أجمعين.

والغريب العجيب أنّني لم أرهُ ولم التقِ به بعد اللقاء الأوّل، وسألتُ عنه كلّ العراقيين المتواجدين في (ديترويت) فلم يعرفه أحدٌ منهم، حتّى قال لي أحدهم: لا أظنّه إلا الشيطان جاءك يستفزك ليدخل في قلبك الشكّ بعد اليقين - فقلتُ الحمدلله لقد فاز من تمسّك بأهل البيت وآمن مَن لجأ إليهم.

ص: 303

وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيّدنا محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين.

ص: 304

الفهرس

مقدمة5

المقدّمة17

الورقة الخاسرة45

الربيع الوهابي التكفيري60

ما عَدَا مِمَّا بَدَا!67

تكفير الوهابيّة للشيعة73

رجعتُ إلى الكتابة من جديد93

أَفَلاَ تَعْقِلُونَ139

الله سُبحانه والعقل147

العقل في القلب أم في الدماغ؟153

البراهين العقليّة هي الفيصل169

البحث العقلي في حديث الثقلين174

حديث النجوم181

ص: 305

عرض حديث النجوم على العقل182

حديث الخلفاء الراشدين195

حديث لا تسُبّوا أصحابي205

كيفيّة الصلاة على محمّد وآل محمّد217

العقل يعيّن لنا أهل البيت225

المهدي المنتظر والعقل235

فما هو حكم العقل؟243

حكم العقل على المذاهب الإسلامية267

وأخيراً التجأنا إلى العقل284

مسْرحية يوم الحساب289

المسْرحية الثانية295

الفهرس305

ص: 306

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.