الحلقة الرابعة التَّرْبِيَةُ مَنْظُومَةُ حُقُوقٍ

هوية الکتاب

سلسلة: تربية بلون جديد

الحلقة الرابعة التَّرْبِيَةُ مَنْظُومَةُ حُقُوقٍ

الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي

ص: 1

اشارة

ص: 2

الإهداء

إلى نرجسة البيت المهدوي

ومليكة العنصر العلوي

إلى ريحانة الدنيا

وسوسنة الدهر

إلى حاملة الأمانة الإلهية

إلى من رغبتْ في وصلة أبناء رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)...

عارفة بحقهم، مؤمنة بصدقهم، معترفة بمنزلتهم، مستبصرة بأمرهم، مشفقة عليهم، مؤثرة هواهم...

إليك يا مولاتي

يا أم الإمام المهدي(عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ)

أهدي لك ثواب هذا الكتاب

راجياً القبول من الله تعالى...

وشفاعة أهل البيت(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ).

ص: 3

ص: 4

مقدمة المعهد

معهد تراث الأنبياء، مؤسَّسة علمية حوزوية تُدِّرس المناهج الدِّينية المعَدَّة لطُلّاب الحوزة العلمية في النجف الأشرف.

الدراسة فيه عن طريق الانترنيت وليست مباشرة.

يساهم المعهد في نش-ر وترويج المعارف الإسلاميَّة وعلوم آل البيت(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) ووصولها إلىٰ أوسع شريحة ممكنة من المجتمع، وذلك من خلال توفير المواقع والتطبيقات الإلكترونية التي يقوم بإنتاجها كادر متخصِّص من المبرمجين والمصمِّمين في مجال برمجة وتصميم المواقع الإلكترونية والتطبيقات علىٰ أجهزة الحاسوب والهواتف الذكيَّة.

وبالنظر للحاجة الفعلية في مجال التبليغ الإسلامي النسوي فقد أخذ المعهد علىٰ عاتقه تأسيس جامعة متخصِّصة في هذا المجال، فتمَّ إنشاء جامعة أُمِّ البنين(عَلَيْهَا اَلسَّلاَمُ) الإلكترونية لتلبية حاجة المجتمع وملء الفراغ في الساحة الإسلاميَّة لإعداد مبلِّغات رساليّات قادرات علىٰ إيصال الخطاب الإسلامي بطريقة علمية بعيدة عن الارتجال في العمل التبليغي، بالإضافة إلى فتح التخصصات العقائدية والفقهية والقرآنية.

على أنَّ المعهد لم يُهمِل الجانب الإعلامي، فبادر إلىٰ إنشاء مركز القمر للإعلام الرقمي، الذي يعمل علىٰ تقوية المحتوىٰ الإيجابي علىٰ شبكة الانترنيت ووسائل الإعلام الاجتماعي، حيث يكون هذا المحتوى موجَّهاً لإيصال فكر أهل البيت(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) وتوجيهات المرجعية الدِّينية العليا إلىٰ نطاق واسع من الش-رائح المجتمعية المختلفة وبأحدث تقنيات الإنتاج الرقمي وبأساليب خطابية تناسب المتلقّي العصري.

ص: 5

والمعهد يقوم بطباعة ونش-ر الإنتاج الفكري والعلمي لطلبة العلم، ضمن سلسلة من الإصدارات - في مختلف العناوين العقائدية والفقهية والأخلاقية - التي تهدف إلىٰ ترسيخ العقيدة والفكر والأخلاق، بأُسلوب بعيد عن التعقيد، يستقي معلوماته من مدرسة أهل البيت(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) الموروثة.

سلسلة (تربية بلون جديد)، هي سلسلة كتب تربوية تعالج مختلف قضايا التربية، وقد قام معهدنا بإصدار الأجزاء الثلاثة الأولى منها، وهذا هو الجزء الرابع منها، لمؤلفه الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي.

نسأل الله«عَزَّوَجَل» أن يجعل عملنا في عينه، وأن يتقبَّله بقبوله الحسن، إنَّه سميع مجيب.

إدارة المعهد

ص: 6

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً﴾ [الفرقان 74]

ليست التربية مجرد نظريات تُسطر في الموسوعات، وليست هي مادةً بحث تجريبي أو علمي عقلي أو فلسفي لتبقى طيّ كتمان المختبرات أو في خبايا العقول، فلا يرقى إليها ولا يُدرك معادلاتها إلا الأوحدي، كلا، وإنما هي قواعد حياتية عملية، لن تستمر الحياة بانسيابية دون تطبيقها بطريقة مرنة، والتطبيق -كما هو معلوم- مسبوق بالمعرفة.

هذا من جهة.

من جهة أخرى، أعتقدُ أن التربية بقواعدها ونظرياتها وتطبيقاتها، يلزم أنْ تُوجّه أولاً إلى الوالدين، بمعنى أن التربية في الحقيقة هي تربية للوالدين قبل الأولاد، إذ هم ﴿كَالأَرْضِ الْخَالِيَةِ، مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيْءٍ قَبِلَتْه﴾.

فما هو من الأولاد: الانفعال، التلقّي، الأخذ.

وهذا يعني: أن على الآباء أن يعملوا على تربية نفوسهم وصقلها بصورة جيدة، قبل أن يعملوا على تربية أولادهم، وإلا، ففاقد الكمال لا يُعطيه.

من هنا، كانت سلسلة (تربية بلون جديد)، وهذا الكتاب هي الحلقة الرابعة منها.

في هذه الحلقة جوانب أربعة فيها اثنتا عشرة مفردة، هي تطبيقات لمنظومة (الحقوق

ص: 7

والواجبات)، والتي لولاها لتحولت الحياة إلى غابة تعجّ بالوحوش الكاسرة، وهي مستفادة من رسالة الحقوق للإمام زين العابدين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، تضمنت بيان العديد من الحقوق التي تنبغي مراعاتها وأداؤها، والمطلوب هي معرفة الحقوق فيها، ونقلها إلى الأولاد عملياً، بأن يعمل الوالدان على تطبيقها بمرأى ومسمع منهم، ثم دفعهم إلى أداء ما يترتب عليها من سلوكيات وأفعال خارجية.

جدير بالذكر أن العديد من هذه الحقوق كان قد أُلقي ضمن ثلاث عشرة محاضرة في (محرم الحرام 1441 ه-/أيلول 2019 م، في العاصمة بغداد، حي الجهاد، جامع وحسينية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ).) وقد تم تدوينها وإدخال بعض التعديلات عليها بما يتناسب مع كونها كتاباً، وتنقيط الخلاصات والإفادات منها، مع الحفاظ على أسلوبها الواضح البعيد عن المصطلحات المعقدة.

اسأل الله تعالى أن يوفقنا لنكون على قدر المسؤولية في تربية أولادنا، وأن يُعيننا في أداء هذه المهمة المصيرية، وأن يجعلهم لنا ولجميع المؤمنين قرة عين في حياتنا، وأولاداً لا ينسون آباءهم بعد مماتهم بالدعاء وإهداء الأعمال الصالحة، إنه سميع مجيب.

والحمد لله أولاً وآخرا، والصلاة والسلام على أفضل من انتجب، محمد وآله الطيبين الطاهرين.

حسين عبد الرضا الأسدي

النجف الأشرف

14 رجب المرجب 1441ه-

10 آذار 2020م.

ص: 8

تمهيد

اشارة

فيه نقاط ثلاثة:

النقطة الأولى:

تنطلق تربية الأولاد من مرتكزات واقعية متعددة، ترتبط مع بعضها، مكوّنةً شبكة تكاملية من المقتضيات والأسباب الجزئية، تتعاون فيما بينها في سبيل الوصول إلى هدف معين، اسمه: التربية الصالحة.

وليس المقصود من وصف الصالحة هو خصوص الصلاح الأخروي وما يرتبط بعلاقة الفرد بالسماء -وإن كان هو جانباً مهماً فيها، كونه يوفر نقطة المحور نحو التربية الصالحة في جميع مجالاتها وجوانبها-، وإنما المقصود ما يشمل الصلاح الدنيوي، سواء على مستوى علاقة الفرد بأسرته، أو بمجتمعه، أو بالطبيعة من حوله.

وهذا يعني: أن التربية الصالحة تقتضي توفير جوانب أربعة ضرورية، هي ما ينبغي أن يتعرف عليها أولادنا، مع الإلفات إلى أن تعريفهم بها يكون بعملنا وسلوكنا قبل أقوالنا.

وتلك الجوانب الأربعة هي:

1/الجانب الديني: المتمثل بالعلاقة مع الله تبارك وتعالى ورسوله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وأوصيائه(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) والدين عموماً.

2/ الجانب الأُسري: المتمثل بالعلاقة مع الوالدين والأولاد والإخوة.

ص: 9

3/ الجانب الاجتماعي: المتمثل بالعلاقة مع أفراد المجتمع على اختلاف الراوبط.

4/ الجانب الاقتصادي: وهو فرع من العلاقة بعموم الطبيعة، ولكنه فرع مهم، كونه يمثل قوام حياة الناس في الدنيا.

هذه الجوانب الأربعة، وحتى تعمل كفريق عمل واحد، لا بد لها من نظام يضبطها، ويمنهج عملها، وليس هو إلا نظام الحقوق والواجبات.

النقطة الثانية:

تعريف إجمالي بنظام الحقوق والواجبات:

الواجبات: هي إلزامات يقوم بها الفرد تجاه صاحب حقّ.

ولتوضيح المعنى نضرب مثالًا:

لو كان لشخص فضلٌ على آخر، كأنْ أقرضه أموالًا، فسيصبح هذا الشخص المتفضل صاحب حق على من تفضَّل هو عليه، أي إنه يستطيع ان يُلزِمه – أو قل: يُشرّع- عليه بعض الأمور، ولابد لمن عليه الفضل أن يلتزمها تجاه من قام بإسداء المعروف له.

مناشئ الحقوق:

في حياتنا اليومية هناك إلزامات و واجبات لها مناشئ متعددة، منها:

1/الشرعية: بمعنى أن الدين يُلزمنا ببعض الأمور التي يجب علينا امتثالها، كوجوب الصلاة.

2/العقلية: وهي الأمور التي يُلزمنا بها العقل، سواءً آمنّا بالشريعة السماوية أم لم نؤمن، وسواء كان لنا دين أم لم يكن، كالاعتراف بحسن العدل، ولزوم فعله، أو قبح

ص: 10

الظلم ولزوم الابتعاد عنه، فلا ينبغي للعاقل إلا أن يعدل، لا أن يظلم، فهذا إلزام عقلي.

نعم، الدين جاء وأقرّ مثل هذه المبادئ: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبىٰ وَيَنْهىٰ عَنِ الْفَحْشاءِ وَالمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل 90] فهذا توكيد لحسن العدل وإمضاء له وإرشاد إليه.

3/ العرفية: وهي إلزامات منشؤها التقاليد والأعراف، والتي تنشأ في بلدان معينة أو مؤسسات أو قبائل... وبعضها وإن كان يفرض القانون والاحترام، إلا أن بعضها يوجِد الظلم والجور.

ما هو منشأ الحق؟

يوضح العلماء أن منشأ الحقّ هو الدَين -المديونية- كمن يقوم بإسداء معروف لشخصٍ ما، فيصبح صاحب حق على من تفضّل عليه، أو من يقوم بظلم شخص أو التعدي عليه بأخذ أمواله أو غيرها، فهنا سيصبح المظلوم صاحب حق على من ظلمه.

للوالدين مثلاً حقٌ على الولد، نشأ من أن للوالدين دَيناً في عنق الولد، جاء من كونهما سبب وجوده، فضلًا عن أن استمرار حياته إنما هو بفضلهما.

وهذا الحق لا يقتصر على الدِين، وإنّما هو حقّ يقرّه العقل، بل نرى أن خطاب القرآن الكريم بحقّ الوالدين لم يكن خطابًا متعلقًا بمن كان أبواه على دينه ومعتقده، وإنما كان التعامل مع الوالدين تعاملًا إنسانيًا إن صح التعبير، قال تعالى: ﴿وَقَض-ىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً﴾ [الإسراء 24].

وهذا الإحسان مطلوب حتى لو لم يكونا على معتقدك، قال تعالى ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْ-رِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما﴾ [العنكبوت 8]

﴿وَإِنْ جاهَداكَ عَلىٰ أَنْ تُشْ-رِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا

ص: 11

مَعْرُوفاً﴾ [لقمان 15].

فواضحٌ أن الشرك ليس من الدين في شيء، فهما يأمرانه بالكفر، ومع هذا يأتي أمر القرآن ﴿فَلا تُطِعْهُما﴾ ولا تكفر بالله تعالى، وبذات الوقت ﴿وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً﴾.

هذا المعروف من أين جاء؟ ولماذا أمرنا الدين أن نصاحبهما معروفاً؟

ذلك لأنهما أصحاب حقّ علينا، سواء كنّا أصحاب دين أم لم نكن، ولذلك تنقل الرواية عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كُنْتُ نَصْرَانِيّاً فَأَسْلَمْتُ وحَجَجْتُ، فَدَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) فَقُلْتُ: إِنِّي كُنْتُ عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ وإِنِّي أَسْلَمْتُ.

فَقالَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): وأَيَّ شَيْءٍ رَأَيْتَ فِي الإِسْلَامِ؟

قُلْتُ قَوْلُ الله«عَزَّوَجَل» ﴿ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ ولَا الإِيمانُ ولكِنْ جَعَلْناه نُوراً نَهْدِي بِه مَنْ نَشاءُ﴾.

فَقَالَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): لَقَدْ هَدَاكَ الله. ثُمَّ قَالَ: اللهُمَّ اهْدِه ثَلَاثاً، سَلْ عَمَّا شِئْتَ يَا بُنَيَّ.

فَقُلْتُ: إِنَّ أَبِي وأُمِّي عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ وأَهْلَ بَيْتِي، وأُمِّي مَكْفُوفَةُ الْبَصَرِ، فَأَكُونُ مَعَهُمْ وآكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ؟

فَقَالَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): يَأْكُلُونَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ؟

فَقُلْتُ: لَا، ولَا يَمَسُّونَه.

فَقَالَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): لَا بَأْسَ، فَانْظُرْ أُمَّكَ فَبَرَّهَا فَإِذَا مَاتَتْ فَلَا تَكِلْهَا إِلَى غَيْرِكَ، كُنْ أَنْتَ الَّذِي تَقُومُ بِشَأْنِهَا، ولَا تُخْبِرَنَّ أَحَداً أَنَّكَ أَتَيْتَنِي حَتَّى تَأْتِيَنِي بِمِنًى إِنْ شَاءَ الله.

قَالَ: فَأَتَيْتُه بِمِنًى والنَّاسُ حَوْلَه كَأَنَّه مُعَلِّمُ صِبْيَانٍ، هَذَا يَسْأَلُه وهَذَا يَسْأَلُه، فَلَمَّا قَدِمْتُ الْكُوفَةَ أَلْطَفْتُ لأُمِّي وكُنْتُ أُطْعِمُهَا وأَفْلِي ثَوْبَهَا ورَأْسَهَا وأَخْدُمُهَا، فَقَالَتْ لِي: يَا

ص: 12

بُنَيَّ، مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِي هَذَا وأَنْتَ عَلَى دِينِي، فَمَا الَّذِي أَرَى مِنْكَ مُنْذُ هَاجَرْتَ فَدَخَلْتَ فِي الْحَنِيفِيَّةِ؟

فَقُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ وُلْدِ نَبِيِّنَا أَمَرَنِي بِهَذَا. فَقَالَتْ: هَذَا الرَّجُلُ هُوَ نَبِيٌّ؟ فَقُلْتُ: لَا، ولَكِنَّه ابْنُ نَبِيٍّ. فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، إِنَّ هَذَا نَبِيٌّ، إِنَّ هَذِه وَصَايَا الأَنْبِيَاءِ. فَقُلْتُ: يَا أُمَّه، إِنَّه لَيْسَ يَكُونُ بَعْدَ نَبِيِّنَا نَبِيٌّ، ولَكِنَّه ابْنُه. فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، دِينُكَ خَيْرُ دِينٍ، اعْرِضْه عَلَيَّ. فَعَرَضْتُه عَلَيْهَا فَدَخَلَتْ فِي الإِسْلَامِ، وعَلَّمْتُهَا فَصَلَّتِ الظُّهْرَ والْعَصْرَ والمَغْرِبَ والْعِشَاءَ الآخِرَةَ، ثُمَّ عَرَضَ لَهَا عَارِضٌ فِي اللَّيْلِ فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، أَعِدْ عَلَيَّ مَا عَلَّمْتَنِي. فَأَعَدْتُه عَلَيْهَا، فَأَقَرَّتْ بِه ومَاتَتْ. فَلَمَّا أَصْبَحَتْ كَانَ المُسْلِمُونَ الَّذِينَ غَسَّلُوهَا، وكُنْتُ أَنَا الَّذِي صَلَّيْتُ عَلَيْهَا ونَزَلْتُ فِي قَبْرِهَا.(1)

إن تعاملًا حسنًا من ولد تجاه والدته، تسبّب في إيمانها وهي لا تعرف الدين.

والخلاصة:

كلّ من أحسن إليّ فهو صاحب حق، ومديونية، سواء كان الدَين هو: حياة/ أموالًا/ تعليمًا، إذ المعلم صاحب حق ومديونية، فمن علمني حرفاً ملكني (مَلَّكَني) عبداً.

ولكن من المأسوف عليه أن الكثير من النّاس هذه الأيام انسلخت من حقوق كثيرة، رغم أن إغماض العين عنها أمرٌ خاطئ بالاتفاق، ولو عاد الإنسان إلى وجدانه لرأى وجوب تأدية تلك الحقوق.

النقطة الثالثة:

إن التربية في هذه الجوانب الأربعة تتعلق بطرفين:

ص: 13


1- الكافي: للكليني ج2 ص 160 و161 باب البر بالوالدين ح11.

الطرف الأول: هم المربّون عموماً، والآباء والأمهات خصوصاً، حيث إنهم مطالبون بالقيام بمقتضيات تلك الجهات الأربعة ومفرداتها المتنوعة.

الطرف الثاني: وهم المتربون، أي الأولاد عموماً، حيث تُلقى على المربٍّين مسؤولية إيضاح هذه الجهات الأربعة بمفرداتها إليهم، وتسليط الضوء على الحقوق فيها، وهذا أمر يقتضي التزام المربِّين أولاً بمقتضياتها، ثم العمل على تفهيم الأولاد ضرورة تلك الجوانب ثانياً، وفي مرحلة ثالثة العمل على إلزام الأولاد بأداء حقوق كل مفردة منها بأسلوب تربوي مناسب.

ثم إن تراثنا الديني لم يعدم الخطوط العامة والمرتكزات الأساسية لتلك الجوانب -وغيرها-، وإن خير ما يمكن أن يُنظّم لنا خطوات العمل المنهجي فيها هو ما وصل إلينا من تراث أئمتنا (صلوات الله عليهم)، وبالأخص ما وصلنا من رسالة الحقوق للإمام زين العابدين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، حيث اخترنا من هذه الرسالة بعض ما يدخل ضمن هذه الجهات الأربعة للحقوق موضوع الكتاب.

نسأل الله تعالى ان يوفقنا للعلم والعمل الصالح، وأن يجعل أولادنا قرة عين لنا، إنه سميع مجيب.

ص: 14

الجانب الأول: الجانب الديني

اشارة

يقصد من هذا الجانب: تعريف الأولاد ما يلزمهم من علاقتهم بالدين، المتمثلة بعبادة الله تبارك وتعالى وطاعته بتسليم وإخلاص، وما يترتب على ذلك من ضرورة معرفة الواسطة بيننا وبينه جل وعلا، خصوصاً ما يتعلق بمعرفة الإمام الحجة علينا بعد رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، وسيتم بيان ذلك ضمن المفردات التالية:

ص: 15

ص: 16

المفردة الأولى: حق الله تعالى الأكبر

إذا كان للوالدين حقّ علينا في الوجود، إذ هما سبب فيه، ولكنّه ليس بتامّ، فكيف بالسبب الحقيقي والتام للوجود، وهو الله تبارك وتعالى، فالوالدان مهما كانا فهما جزء سبب، وإنّما السبب الحقيقي هو الله«عَزَّوَجَل»، إذ لو لم يهبهم هو سبحانه هذا الرزق لما تمكنوا من إيجاد الولد، بل إن وجودهما مفتقر إلى الله تبارك وتعالى، وكل ممكن فهو مفتقر إلى الباري جل وعلا، وأول حق لله تعالى علينا هو حق الخلق والإيجاد، وإذا أردنا تعداد الحقوق فلن نتمكن من إحصائها ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها﴾ [النحل 18].

فنعمة واحدة لا يمكن إحصاؤها وبالتالي لا نتمكن من إعطائها حقها من الشكر.

نعمة البصر -مثلاً- هي نعمة لا يمكن شكرها حق شكرها، فلو فرضنا جميع النّاس عميان، فهل يمكن للحياة أن تتطور؟!

إنه«عَزَّوَجَل» خلقنا، فهو يملكنا، وملكه لنا تكويني حقيقي، وليس كمُلك أحدنا للأموال أو غيرها، والذي يعبر عنه العلماء بأنه ملك اعتباري، وتخويل، ولذا، فإن الإنسان يفارق ما يملكه بالموت.

الله«عَزَّوَجَل» ولا يناله ضعف أو موت أو غفلة، هو مالكنا بالملك الحقيقي، أوجدنا من العدم، لذلك نحن محتاجون لله«عَزَّوَجَل» في أصل وجودنا في هذه الحياة، وفي استمرارها أيضاً، لأننا نفتقر في كل شيء لله تعالى، ولذلك فإنه (لا حول ولا قوة إلا بالله).

فلا يتمكن الإنسان من القيام بأي حركة إلا بقوة الله تعالى، قال تعالى ﴿يا أَي-ُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَىٰ اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر 15]

ص: 17

ومن دعاءٍ للإمام زين العابدين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) في الصحيفة السجّادية المباركة: «...اللهمَّ وَإنَّكَ مِنَ الضَّعْفِ خَلَقْتَنَا، وَعَلَىٰ الْوَهْنِ بَنَيْتَنَا، وَمِنْ مَهِين ابْتَدَأتَنَا، فَلَا حَوْلَ لَنَا إلَّا بِقُوَّتِكَ، وَلَا قُوَّةَ لَنَا إلَّا بِقوَّتِكَ، وَلَا قُوَّةَ لَنَا إلَّا بِعَوْنِكَ، فَأيِّدْنَا بِتَوْفِيقِكَ وَسَدِّدْنَا بِتَسْدِيدِكَ...»(1).

ولتصوير كيفية افتقارنا لله تعالى بصورة مادية قريبة إلى الأذهان، يمكن أن نتأمل المصباح الكهربائي، فحتى يض-يء فهو بحاجة إلى التيار الكهربائي، كما أن استمراريته يستمدها من استمرار تدفق التيار الكهربائي في عروقه.

الإنسان يحتاج إلى الهواء في بداية حياته، ولا تنتهي حاجته إليه بعد ذلك، وإنما هو في كل لحظة محتاج إليه.

في الحقيقة، أن حاجتنا إلى الله تبارك وتعالى أعظم وأشدّ من حاجة المصباح إلى الكهرباء، ومن حاجتنا إلى الهواء، ففي اللحظة التي يقطع الله تبارك وتعالى ارتباطه بالعبد وتوفيقه له، فسينتهي وجود هذا الإنسان، ليس المعنى أنه يموت فقط، وإنما هو يتحول إلى عدم، ولا شيء.

هذا أول حق وأعظم حق علينا، ولا يتقدم عليه حق، وأيضاً حق النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وحق الإمام (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) هو في طول حق الله تعالى ومترتب عليه، مع حفظ الفارق اللا متناهي بين حق الله تعالى وحق الرسول وأهل بيته(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ).

ص: 18


1- الصحيفة السجّادية: 58/ الدعاء رقم 9.

المفردة الثانية: حقّ التعظيم لله عز وجل

لا يصح أن نتعامل مع الله«عَزَّوَجَل» كما يتعامل أحدنا مع باقي البشر، فحقٌ لله تعالى علينا أن نقدسه وإنْ كنّا لا نستطيع أداء حقه سبحانه، ولكن لا أقل من أن نتعامل معه بإجلال وتعظيم.

كيف نتعامل مع الله تعالى باحترام؟

لنأخذ مثلًا على ذلك: لفظ الجلالة، كيف نتعامل معه؟

نحن نعلم أن بعض الأسماء لها قدسية في الشريعة، فمثلًا اسم (فاطمة) له قدسية، حيث روي عَنِ السَّكُونِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ الله(عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) وأَنَا مَغْمُومٌ مَكْرُوبٌ، فَقَالَ لِي: يَا سَكُونِيُّ، مِمَّا غَمُّكَ؟ قُلْتُ: وُلِدَتْ لِي ابْنَةٌ! فَقَالَ: يَا سَكُونِيُّ، عَلَى الأَرْضِ ثِقْلُهَا، وعَلَى الله رِزْقُهَا تَعِيشُ فِي غَيْرِ أَجَلِكَ، وتَأْكُلُ مِنْ غَيْرِ رِزْقِكَ. فَسَرَّى والله عَنِّي. فَقَالَ لِي: مَا سَمَّيْتَهَا؟ قُلْتُ: فَاطِمَةَ، قَالَ: آهٍ آهٍ... أَمَّا إِذَا سَمَّيْتَهَا فَاطِمَةَ فَلَا تَسُبَّهَا ولَا تَلْعَنْهَا ولَا تَضْرِبْهَا.(1)

وعن أبي جعفر(عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) في قوله تعالى ﴿لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً﴾ [النور 63] يقول: لا تقولوا: يا محمد، ولا يا أبا القاسم، لكن قولوا: يا نبي الله، ويا رسول الله.(2)

بل روي أنه ذُكر اسم (محمد) عند الإمام الصادق(عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) فأظهر من الاحترام ما كاد

ص: 19


1- الكافي للكليني ج6 ص 49 بَابُ حَقِّ الأَوْلَادِ ح6.
2- تفسير القمي ج2 ص 110.

أن يلصق خده بالأرض، فعن أَبِي هَارُونَ مَوْلَى آلِ جَعْدَةَ قَالَ: كُنْتُ جَلِيساً لأَبِي عَبْدِ الله(عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) بِالمَدِينَةِ فَفَقَدَنِي أَيَّاماً، ثُمَّ إِنِّي جِئْتُ إِلَيْه فَقَالَ لِي: لَمْ أَرَكَ مُنْذُ أَيَّامٍ يَا أَبَا هَارُونَ؟ فَقُلْتُ: وُلِدَ لِي غُلَامٌ. فَقَالَ: بَارَكَ الله فِيه فَمَا سَمَّيْتَه؟ قُلْتُ: سَمَّيْتُه مُحَمَّداً. قَالَ فَأَقْبَلَ بِخَدِّه نَحْوَ الأَرْضِ وهُوَ يَقُولُ: مُحَمَّدٌ، مُحَمَّدٌ، مُحَمَّدٌ، حَتَّى كَادَ يَلْصَقُ خَدُّه بِالأَرْضِ. ثُمَّ قَالَ: بِنَفْسِي وبِوُلْدِي وبِأَهْلِي وبِأَبَوَيَّ وبِأَهْلِ الأَرْضِ كُلِّهِمْ جَمِيعاً الْفِدَاءُ لِرَسُولِ الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، لَا تَسُبَّه ولَا تَضْرِبْه ولَا تُسِئْ إِلَيْه. واعْلَمْ أَنَّه لَيْسَ فِي الأَرْضِ دَارٌ فِيهَا اسْمُ مُحَمَّدٍ إِلَّا وهِيَ تُقَدَّسُ كُلَّ يَوْمٍ. ثُمَّ قَالَ لِي: عَقَقْتَ عَنْه؟ قَالَ: فَأَمْسَكْتُ. قَالَ وقَدْ رَآنِي حَيْثُ أَمْسَكْتُ ظَنَّ أَنِّي لَمْ أَفْعَلْ، فَقَالَ: يَا مُصَادِفُ، ادْنُ مِنِّي، فَوَالله مَا عَلِمْتُ مَا قَالَ لَه إِلَّا أَنِّي ظَنَنْتُ أَنَّه قَدْ أَمَرَ لِي بِشَيْءٍ، فَذَهَبْتُ لأَقُومَ فَقَالَ لِي: كَمَا أَنْتَ يَا أَبَا هَارُونَ، فَجَاءَنِي مُصَادِفٌ بِثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ فَوَضَعَهَا فِي يَدِي فَقَالَ: يَا أَبَا هَارُونَ اذْهَبْ فَاشْتَرِ كَبْشَيْنِ واسْتَسْمِنْهُمَا واذْبَحْهُمَا وكُلْ وأَطْعِمْ.(1)

ولهذا تعارف عند المؤمنين أنهم يصلون على النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) كلما ذكروا اسمه، وأن من الآداب لكتابة اسم النبي (صلوات الله عليه وآله) التي يذكرها العلماء هو عدم اختصار الصلوات بحرف الصاد، بل روي عنه(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أنَّه قال: «من صلّىٰ عليَّ في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له ما دام اسمي في ذلك الكتاب».(2)

وكذلك لفظ الجلالة لابدّ أن نتعامل معه ببالغ الاحترام.

فهناك الكثير من الأحكام المفروضة علينا –وجوباً أو استحباباً ومن باب ما ينبغي- في التعامل مع لفظ الجلالة والتي منها: التقديس، بعدم ذكر لفظ الجلالة مجرداً،

ص: 20


1- في الكافي للكليني ج6 ص 39 بَابُ نَوَادِرَ ح2.
2- في كتاب منية المريد للشهيد الثاني (ص 346 - 348) عنه(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أنَّه قال: «من صلّىٰ عليَّ في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له ما دام اسمي في ذلك الكتاب».

وإنّما علينا مراعاة التقديس والإجلال، ومنها عدم مسّها بلا وضوء، كما يحرم تنجيسها.

وهذا ما ينبغي علينا أن نعلّمه لأولادنا بصورة واضحة وجلية.

القرآن يقول: ﴿وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ﴾ [البقرة 224] فالقسم كذباً بالله تعالى حرام كما هو معلوم.

بعض العلماء يقول: اليمين الغموس هو الحلف بالله«عَزَّوَجَل» كاذباً، وأن سبب تسميته باليمين الغموس لأنه يغمس صاحبه في نار جهنم.

بل إنّ على الإنسان أنْ يتجنب الحلف بالله تعالى وإن كان صادقاً، فقد روي عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَال: حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ(عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أَنَّ أَبَاه كَانَتْ عِنْدَه امْرَأَةٌ مِنَ الْخَوَارِجِ -أَظُنُّه قَالَ: مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ- فَقَالَ لَه مَوْلًى لَه: يَا بْنَ رَسُولِ الله، إِنَّ عِنْدَكَ امْرَأَةً تَبَرَّأُ مِنْ جَدِّكَ. فَقُضِيَ لأَبِي أَنَّه طَلَّقَهَا، فَادَّعَتْ عَلَيْه صَدَاقَهَا، فَجَاءَتْ بِه إِلَى أَمِيرِ المَدِينَةِ تَسْتَعْدِيه، فَقَالَ لَه أَمِيرُ المَدِينَةِ: يَا عَلِيُّ إِمَّا أَنْ تَحْلِفَ وإِمَّا أَنْ تُعْطِيَهَا [حَقَّهَا]. فَقَالَ لِي: قُمْ يَا بُنَيَّ فَأَعْطِهَا أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ. فَقُلْتُ لَه: يَا أَبَه، جُعِلْتُ فِدَاكَ، ألَسْتَ مُحِقّاً؟ قَالَ: بَلَى يَا بُنَيّ،َ ولَكِنِّي أَجْلَلْتُ الله أَنْ أَحْلِفَ بِه يَمِينَ صَبْرٍ(1).

أيّ تقديس لله«عَزَّوَجَل» وأي تعظيم لاسمه تعالى كان لدى الإمام(عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)؟! وأين نحن من هذا التقديس؟

من هنا، علينا أن نعلّم أولادنا التالي:

أ: عدم ذكر اسم الله تعالى مجرداً، بل ذكره مع التقديس والإجلال والاحترام.

ب: تعويدهم على عدم الحلف ولو صادقاً، وأعرفُ أباً أعلن لأولاده أنه يعتبر اليمين علامة على خلاف الواقع، وأنه سيُصدّق من يتحدث من دون يمين.

ص: 21


1- الكافي 7: 435/ باب كراهيَّة اليمين/ ح 5.

ج: تنبيههم على حرمة تنجيس الاسم المقدس لله تعالى، وعدم جواز رميها حيث يلزم منه التوهين، وتُراجع في ذلك الكتب الفقهية.(1)

ص: 22


1- في منهاج الصالحين للسيد السيستاني ج1 مسألة مسألة 163: لا يجوز للمحدث مسّ كتابة القرآن حتى المد والتشديد ونحوهما، ولا مسّ اسم الجلالة وسائر أسمائه وصفاته على الأحوط وجوباً، ويلحق بها على الأحوط الأولى أسماء الأنبياء والأوصياء وسيدة النساء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

المفردة الثالثة: الطاعة بشرط التسليم

اشارة

الطاعة بمعنى: الامتثال لأوامر الله«عَزَّوَجَل» حين يأمرني، والانتهاء عن نواهيه تعالى.

وتؤكد الروايات على أمر آخر بالإضافة إلى الطاعة، وهو: التسليم: أي أن لا يكون هناك اعتراض داخلي، وإنّما يكون مسلِّماً لله«عَزَّوَجَل».

فقد روي عن أبي عبد الله(عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «لو أنَّ قوماً عبدوا الله وحده لا شريك له، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وحجُّوا البيت، وصاموا شهر رمضان، ثمّ قالوا لش-يء صنعه الله تعالىٰ أو صنعه النبيُّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): ألَا صنع خلاف الذي صنع؟ أو وجدوا ذلك في قلوبهم، لكانوا بذلك مش-ركين»، ثمّ تلا هذه الآية: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما﴾ [النساء: 65]، ثمّ قال أبو عبد الله(عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «وعليكم بالتسليم»(1).

فإذا قال الله«عَزَّوَجَل» ورسوله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، فما علينا إلا أن نطيعهم بكل تسليم، فالتسليم شرط أساسي في قبول الطاعة...

وهنا، علينا أن نعلّم أولادنا التسليم لأوامر الله تعالى، ونبيّن لهم أن ذلك نابع من إيماننا المطلق بعلم الله تعالى وحكمته اللا متناهية، وأنه تعالى يحبّنا، لذلك لا يأمرنا إلا بما فيه صلاحنا، ولا ينهانا إلا عما فيه مفسدة علينا، ومن كان كذلك فلا يتردد العاقل في اتباعه وبتسليمٍ مطلق لا تردّد فيه.

وفي نفس الوقت، علينا أن لا ننسى أن نفسح لهم المجال للسؤال والاستفسار عن

ص: 23


1- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 1/ ص 271/ باب 38/ ح 365).

مفردات الدين، ولكن لو فقدنا المعرفة، كفانا التسليم، للنكتة المتقدمة.

ولا بأس بتذكريهم بقصص بعض الذين وصلوا إلى مراتب عالية من التسليم، مثل ما روي عن عبد الله بن أبي يعفور، قال: قلت لأبي عبد الله(عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): والله لو فلقت رمّانة بنصفين، فقلت: هذا حرام، وهذا حلال، لشهدت أنَّ الذي قلت حلال حلال، وأنَّ الذي قلت حرام حرام، فقال: «رحمك الله، رحمك الله»(1).

وحيث إن الطاعة تعني العبادة، إذن علينا تفصيل الكلام في ذلك:

تبين أن لله تعالى حقوقًا كثيرة، ومن هذه الحقوق: الحق الأكبر، وهو: أن نعبده ولا نشرك به شيئًا، وهناك جزاء يحصل عليه العامل بهذا الحقّ ولكن بشرط وهو: الإخلاص –كما سيأتي إن شاء الله تعالى-، فإنْ تحقّق هذا الشرط كانت النتيجة كما يقول الإمام زين العابدین (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «حقّ الله الأكبر عليك أن تعبده ولا تشرك به شيئاً، فإذا أنت فعلت ذلك بإخلاص جعلَ لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة».(2)

وهذا ما وعد به القرآن الكريم: ﴿إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحج 38]

فإذا كان حقّ الله«عَزَّوَجَل» هو أنه نعبده، فكيف نعبده سبحانه؟

العبادة: عبارة عن إجراءات، أفعال، أقوال، يقوم بها الإنسان تجاه ربّه جلّ وعلا.

وهل يحقّ للإنسان أن يخترع منهاجًا خاصًا يتعبد به لله«عَزَّوَجَل»؟

الجواب في ما روي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «... قال الله تبارك وتعالىٰ للملائكة: اسجدوا لآدم، فسجدوا له، فأخرج إبليس ما كان في قلبه من الحسد، فأبىٰ أن يسجد، فقال الله «عَزَّوَجَل»: ﴿ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾، فقال: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي

ص: 24


1- اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي (ج 2/ ص 518 و519/ ح 462).
2- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ج2 ص 618 – 619 باب الحقوق ح3214.

مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف: 12]»، قال الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «فأوَّل من قاس إبليس واستكبر، والاستكبار هو أوَّل معصية عُصِ-يَ الله بها»، قال: «فقال إبليس: يا ربِّ، اعفني من السجود لآدم (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) وأنا أعبدك عبادةً لم يعبدكها ملك مقرَّب ولا نبيُّ مرسل، فقال الله: لا حاجة لي إلىٰ عبادتك، إنَّما أُريد أن أُعبد من حيث أُريد لا من حيث تريد، فأبىٰ أن يسجد، فقال الله تبارك وتعالىٰ: ﴿فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ. وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلىٰ يَوْمِ الدِّينِ.﴾ [الحجر: 34 و35].(1)

فطاعة الله«عَزَّوَجَل» وعبادته لا تصح إلا كما يريد هو جلّ وعلا، لا كما نحن نريد.

من هنا ننفتح على ضرورة الواسطة بيننا وبين الله تعالى، لينقل لنا ما يريده الله تبارك وتعالى، ونحن بدورنا نكون على اطمئنان ويقين تام بصدق تلك الواسطة، وهو النبي المرسل، والإمام المجعول من الله تعالى، فحيث إنهما معصومان، فسيكون أخذنا منهم محطاً للاطمئنان التام.

وما يبلغونه لنا هو ما يسمى بالشريعة، والمنهاج الذي يجب أن نعبد الله تعالى من خلاله، وهو هو ما يُعرف بالدين، الذي هو عبارة عن منظومة متكاملة تحوي داخلها ثلاثة أركان رئيسية، وهي بدورها تغطّي جميع مجالات الحياة التي يحتاجها الإنسان، سواءً الدنيوية أو الأخروية.

أركان الدين:

1- أصول الدين: وهي الاعتقادات التي لا غنى للمؤمن عنها، ولا يمكن أن يُتنازل عنها، وهي: التوحيد، العدل، النّبوة، الإمامة، المعاد.

2- فروع الدين: الصلاة، الصوم، الحجّ، الزكاة…. أو قل: هي المسائل الفقهية

ص: 25


1- تفسير القمّي 1: 41 و42.

الموجودة في الرسالة العملية للفقيه، والتي هي عبارة عن روايات أهل البيت(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) صيغت بطريقة فنية من قبل المجتهد، باعتبار أن أحاديث أهل البيت (صلوات الله عليهم أجمعين) فيها من البلاغة والعلوم الكثيرة، ما يصعب على العامّة استخراج الأحكام الشرعية منها، فهي بحاجة لطي مراحل علمية كثيرة للتمكن من استخراج الأحكام الشرعية منها، ومن هنا نشأت الحوزة العلمية، وأخذ علماؤها وأفذاذها على عاتقهم استخراج الأحكام الشرعية من القرآن الكريم وروايات أهل بيت العصمة (صلوات الله عليهم)، وصياغة ذلك بالطريقة المعروفة اليوم.

3- الآداب: أي الأخلاق، وآداب العشرة في تعامل الإنسان مع باقي المخلوقات، والمستمدة من القرآن الكريم وروايات أهل البيت(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ).

والنتيجة مما تقدم:

أنه ينبغي أن نعلّم أولادنا التالي:

1- أن عبادة الله«عَزَّوَجَل» تكون من حيث هو يريد، لا من حيث نحن نريد.

2- أن عبادته جل وعلا تكون من خلال الدين بأركانه الثلاثة: الأصول، الفروع، الأخلاق.

3- أن الدين عبارة عن منهج مقدس من الله تعالى، ولكي يصل هذا المنهج السماوي لنا لا بد لنا من منظومة تكون هي حلقة الوصل بين الله تعالى وبين البشر، وهي منظومة ﴿إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ﴾ [الرعد 7] فصار هناك واسطة متمثلة بالنبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بيننا وبين السماء، يبلّغنا أحكام الدين ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة 2].

ص: 26

والملاحظ: أن وجود النبي محددٌّ بمقطع زمني ﴿إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ﴾، فإذا ما انقضى فإن خطّه لا ينقطع، وإنما يستمر بواسطة الهادي: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ﴾، ومن هنا يبدأ دور الإمامة، فالأئمة (سلام الله عليهم) حفَظة الدين والمبلغون بعد النّبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، فإذا كان أحد أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) ظاهرًا، فلا ريب في لزوم أن نأخذ الحكم الشرعي مباشرة منه، أو ممن يُنصّبهم هو بالمباشرة.

وقد يسأل سائل: إذا غاب الإمام من أين آخذ ديني؟

والجواب: نأخذ ديننا ممن أمرنا المعصوم (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أن نأخذ منه، وهذا ما ورد علىٰ لسان الإمام المهدي (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) في توقيعه الش-ريف: «وأمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلىٰ رواة حديثنا، فإنَّهم حجَّتي عليكم وأنا حجَّة الله عليهم»(1).

وعن الإمام االعسكري (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قال: «فأمَّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً علىٰ هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوامِّ أن يُقلِّدوه...»(2).

وعن الإمام الهادي (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، فقد ورد أنَّه قال (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «لولا من يبقىٰ بعد غيبة قائمكم (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) من العلماء الداعين إليه، والدالّين عليه، والذابّين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلَّا ارتدَّ عن دين الله، ولكنَّهم الذين يُمسِكون أزمَّة قلوب ضعفاء الشيعة كما يُمسِك صاحب السفينة سكّانها، أُولئك هم الأفضلون عند الله«عَزَّوَجَل»»(3).

علماً أن هناك من يغالط نفسه ولا يقبل بالرجوع إلى المجتهد، بحجة أن الرواية لم تقل: ارجعوا للمجتهدين! وهو من الأعذار الواهية، الغاية منها إبعاد الناس عن

ص: 27


1- كمال الدين للصدوق: 484/ باب 45/ ح 4.
2- الاحتجاج للطبرسي 2: 263.
3- الاحتجاج للطبرسي 2: 260.

علمائهم!

سمُّوه بأي عنوان شئتم: فقيه، مجتهد أو راوي حديث، بالنتيجة يجب أن نرجع لشخص متخصص نأخذ منه الأحكام الشرعية التي يصعب –إن لم نقل: إنه يتعذر- على عامة الناس معرفتها.

إذن، خط النبوة يستمر بالإمامة، وخط الإمامة يستمر بالفقهاء.

وبعد هذا، علينا أن ننقّط الخطوات العملية لطاعة الله تعالى؛ كي نحصل على الثمرة التي أخبرنا بها الإمام زين العابدین (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «جعل لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة».

ويتمّ هذا الأمر من خلال عدة خطوات:

الخطوة الأولى: المعرفة.

خطوة تأسيسية، وهي ضرورية لا يمكن للإنسان الاستغناء عنها، فلا بد قبل العمل أن تسبقه معرفة، معرفة بأصول الدين والأحكام الفقهية الابتلائية كالصلاة والطهارة... وغيرها من المسائل الواجب على الإنسان أن يتعلمها ليضمن صحة أعماله على الأقل، كما توجد في الدين قضايا مفصلية وهي من الأهمية بمكان بحيث إن الجهل بها يودي بالإنسان إلى مهاوي سحيقة من التيه والضلال، كالقضية المهدوية.

هذه الخطوة تقتضي منا أن نبذل جهداً ووقتاً لتحصيل المعرفة لأنفسنا أولاً، ثم نقلها ببيان واضح وسهل لأولادنا، فكما علينا أن نشبع بطونهم، علينا أن نغذي عقولهم، قبل أن يسبقنا غيرنا لهم.

لذلك كان الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يقول: «بادروا أولادكم بالحديث قبل أنْ يسبقكم

ص: 28

إليهم المرجئة»(1).

وهو الأمر الذي أشار له أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) بقوله لولده الإمام الحسن (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «... أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي لَ-مَّا رَأَيْتُنِي قَدْ بَلَغْتُ سِنًّا، وَرَأَيْتُنِي أَزْدَادُ وَهْناً، بَادَرْتُ بِوَصِيَّتِي إِلَيْكَ، وَأَوْرَدْتُ خِصَالًا مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَعْجَلَ بِي أَجَلِي دُونَ أَنْ أُفْضِ-يَ إِلَيْكَ بِمَا فِي نَفْسِ-ي، أَوْ أَنْ أُنْقَصَ فِي رَأْيِي كَمَا نُقِصْتُ فِي جِسْمِي، أَوْ يَسْبِقَنِي إِلَيْكَ بَعْضُ غَلَبَاتِ الْهَوَىٰ وفِتَنِ الدُّنْيَا، فَتَكُونَ كَالصَّعْبِ النَّفُورِ. وَإِنَّمَا قَلْبُ الْحَدَثِ كَالأَرْضِ الْخَالِيَةِ مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيْءٍ قَبِلَتْه. فَبَادَرْتُكَ بِالأَدَبِ قَبْلَ أَنْ يَقْسُوَ قَلْبُكَ وَيَشْتَغِلَ لُبُّكَ لِتَسْتَقْبِلَ بِجِدِّ رَأْيِكَ مِنَ الأَمْرِ مَا قَدْ كَفَاكَ أَهْلُ التَّجَارِبِ بُغْيَتَه وَتَجْرِبَتَه، فَتَكُونَ قَدْ كُفِيتَ مَئُونَةَ الطَّلَبِ، وَعُوفِيتَ مِنْ عِلَاجِ التَّجْرِبَةِ، فَأَتَاكَ مِنْ ذَلِكَ مَا قَدْ كُنَّا نَأْتِيه، وَاسْتَبَانَ لَكَ مَا رُبَّمَا أَظْلَمَ عَلَيْنَا مِنْه...»(2).

الخطوة الثانية: تطبيق المعرفة.

كثيرًا ما نسمع الحديث عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) القائل: «رب تال للقرآن والقرآن يلعنه»(3) وقد فُسّر بأن ذلك هو من يقرأ القرآن ولا يعمل به، واللعن هو الإبعاد عن رحمة الله«عَزَّوَجَل» الناشئ من عدم العمل بعد العلم.

عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قَالَ: «الْعِلْمُ مَقْرُونٌ إِلَى الْعَمَلِ، فَمَنْ عَلِمَ عَمِلَ، ومَنْ عَمِلَ عَلِمَ، والْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ، فَإِنْ أَجَابَه وإِلَّا ارْتَحَلَ عَنْه».(4)

فلا تكفي المعرفة فقط كي يكون الإنسان مطيعاً لله«عَزَّوَجَل»، بل لابدّ أن يعمد إلى تطبيق ما تعلمه، وإلا فسيصبح من مصاديق العالم غير العامل، والروايات تحذرنا من ذلك

ص: 29


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 47/ باب تأديب الولد/ ح 5).
2- نهج البلاغة (ج 3/ ص 40 و41).
3- بحار الأنوار ج89 ص 184.
4- الكافي للكليني ج1 ص 44 بَابُ اسْتِعْمَالِ الْعِلْمِ ح2.

كثيراً، حتى إنّ أهل جهنّم يتأذون من نتن ريح العالم غير العامل.

فعَنْ سُلَيْمِ بْنِ قَيْسٍ الْهِلَالِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أَنَّه قَالَ فِي كَلَامٍ لَه: الْعُلَمَاءُ رَجُلَانِ: رَجُلٌ عَالِمٌ آخِذٌ بِعِلْمِه فَهَذَا نَاجٍ، وعَالِمٌ تَارِكٌ لِعِلْمِه فَهَذَا هَالِكٌ،وإِنَّ أَهْلَ النَّارِ لَيَتَأَذَّوْنَ مِنْ رِيحِ الْعَالِمِ التَّارِكِ لِعِلْمِه، وإِنَّ أَشَدَّ أَهْلِ النَّارِ نَدَامَةً

وحَسْرَةً: رَجُلٌ دَعَا عَبْداً إِلَى الله فَاسْتَجَابَ لَه، وقَبِلَ مِنْه فَأَطَاعَ الله فَأَدْخَلَه الله الْجَنَّةَ، وأَدْخَلَ الدَّاعِيَ النَّارَ بِتَرْكِه عِلْمَه واتِّبَاعِه الْهَوَى وطُولِ الأَمَلِ، أَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وطُولُ الأَمَلِ يُنْسِي الآخِرَةَ.(1)

ولا يختص هذا التحذير بالعلماء، وإنّما كلّ من كانت له معرفة بواجب أو بمحرم وخالف ما علِم، فسيكون عالمًا غير عامل، وتصريح الروايات بنهج: «صوم النفس إمساك الحواس الخمس عن سائر المآثم وخلو القلب عن أسباب الشر»(2) هي دعوة لنا لتطبيق ما نعلم.

ومرة أخرى، علينا الزام خطوات عملية منهجية مع أولادنا لنعلمهم الالتزام بتطبيق المعرفة الدينية، وهو ما يقتضي:

1- الالتزام العملي بمفردات الدين أمامهم، وعدم التهاون فيها أبداً.

2- دفعهم إلى التطبيق بمختلف الوسائل، بدءاً من تقديم هدية تقديرية عند الالتزام، وانتهاءً بما روي عنه(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعاً، واضربوهم عليها إذا بلغوا تسعاً...»(3).

مع الالتفات إلى أن المقصود من الضرب هو التربوي منه، وهو ما لا ينتهي إلى

ص: 30


1- الكافي للكليني ج1 ص 44 بَابُ اسْتِعْمَالِ الْعِلْمِ ح1.
2- عيون الحكم والمواعظ ص305.
3- عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي (ج 1/ ص 252 و253/ الفصل العاشر/ ح 8):

نتائج عكسية، وبما لا يصل إلى حد الدية الشرعية.

3- الإكثار من الدعاء للأولاد، بأن يكونوا كما يُحب الله تبارك وتعالى، ولنردد دوماً: ﴿رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً﴾ [الفرقان 74]

الخطوة الثالثة: التطبيق الكامل.

من الواضح أنه لا يصح لنا أن نطبق من الدين ما يتوافق مع أهوائنا ومصالحنا ونترك الباقي، ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلىٰ أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة 85]

البعض يطبق الدين على حرف، فما كان يتلاءم مع عاداته وتقاليده أو مصالحه جاء به، وما خالفها تركه، ولاشكّ في انحراف ذلك عن جادة الصواب، والصحيح هو أن يكون التطبيق للدين شاملاً لجميع مفردات الحياة، فيجب أن يقدم الدين على التقاليد والأعراف، فإن النفس أعز، وأن تقاليد العشيرة لا تنفع فيما إذا تعارضت مع الدين

﴿يَوَدُّ المُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ. وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ. وَمَنْ فِي الْأَرضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ﴾ [المعارج 11 -14]

وهذا المعنى هو ما يجب أن يرانا أولادنا عليه، وهو ما يلزمنا أن ندفعهم إليه، فعلينا أن نوحي إليهم بأهمية الدين، بل نصرح لهم بذلك، ولنذكرهم أن الحياة الحقيقية هي ما تكون في رضا الله تبارك وتعالى.

الخطوة الرابعة: التفرقة بين الدين والمتدين.

علينا أن نفرق بين الدين والمتدين، الدين هو تلك النظريات التي جاء بها الرسول

ص: 31

الكريم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) من عند الله«عَزَّوَجَل»، وحفظها الأئمة(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) من الانحراف، وأوصلها الينا العلماء، ومن يطبق تلك النظريات يسمى: متديناً.

فإذا صدر منه خلل ما، فالخطأ يُنسب إليه لا إلى الدين.

هناك من يترك الدين بسبب تصرف خاطئ ممن يدّعي أنه يمثله، وهي مغالطة كبيرة جدًا، فالدين لا يتحمل أخطاء من يطبقونه بصورة خاطئة، ونحن علينا أن نلتزم بالدين الذي جاء من عند الله جلّ وعلا.

مرة أخرى علينا أن نجلس مع أولادنا لنوضح لهم هذه الحقيقة، إذ إن الواقع يشهد أن هناك من تأثّر سلباً عندما رأى شخصاً يدّعي التدين، ولكنه يخالف ذلك في عمله، وهو ما كان وراء الثورة ضد الكنيسة في أوروبا، حيث كان أرباب الكنائس يُظهرون التدين، ولكنهم يعملون عمل غير المتدين، كانوا يأمرون الناس بالزهد، وهم أرغب ما يكونون في الدنيا.

وقريب من هذا المعنى يقع عند بعض المسلمين.

فالمطلوب منا إذاً أن نوضح الواقع لأولادنا، وأن خطأ الشخص يُنسب إليه لا إلى الدين، وأن ندفعهم إلى فهم الدين بصورة صحيحة، والعمل على متابعة نظرياته الثابتة بالدليل المعتمد، أما مخالفة البعض لها رغم لجلجة لسانه بها، فهذا لا يؤثر على أصل الدين.

وهذه مسألة مهمة جداً، لا بد من ترسيخها في نفوس أولادنا، خصوصاً وهم في مقتبل أعمارهم وبدايات مشوارهم...

الخطوة الخامسة: حماية الدين.

الدين يحتاج الى حماية، فإن الدين لا يخلو من الشبهات، وكما أن الأنبياء والمرسلين

ص: 32

السابقين قوبلوا من أقوامهم بالرفض والمحاربة والأذى، كذلك الرسول الكريم (صلوات الله عليه وآله): «ما أُوذي نبيٌّ مثل ما أُوذيت»(1).

طريق الأنبياء والأئمة والعلماء هو طريق ذات الشوكة، ومسؤولية الحفاظ على الدين وحمايته من الشُبه هي مسؤولية الجميع، فعن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «من أصْبَحَ لا يَهْتمُّ بأُمُورِ المسْلمِينَ فلَيْسَ بِمُسْلِمٍ»(2)

فلم تخصص هذه الرواية الاهتمام بأمور المسلمين بالعلماء فقط، وإنّما شملت جميع المسلمين.

وهذا الأمر كما هو لازم علينا اليوم، كذلك هو لازم على أولادنا غداً، وهذا يعني: أن علينا أن نُعِدّ أولادنا لهذه المهمة، وأن ندفعهم نحو تحمّل مسؤولية من مسؤوليات الحفاظ على الدين، ولو بالتخطيط لتكوين أسرة متدينة، أو دفعهم نحو التعرف على الدين ودراسته بصورة جيدة حتى يكونوا مهيئين لردّ الشبهات عنه في أي وقت تقع فيه المواجهة المتوقعة.

ومما يدفعهم نحو ذلك، هو تذكيرهم بقصص الشباب الذين نذروا أنفسهم للدفاع عن الدين، من ذلك ما تنقله لنا الروايات عن ذلك الشاب الذي كان يفضّله الإمام

ص: 33


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 3: 42.
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 163/ باب الاهتمام بأُمور المسلمين والنصيحة لهم ونفعهم/ ح 1)؛ ونقله العلَّامة المجلس-ي في بحار الأنوار (ج 71/ ص 337)، وفيه: (بيان: «من أصبح» أي دخل في الصباح «لا يهتمُّ بأُمور المسلمين» أي لا يعزم علىٰ القيام بها، ولا يقوم بها مع القدرة عليه. في الصحاح: أهمَّني الأمر إذا أقلقك وحزنك، والمهمُّ الأمر الشديد، والاهتمام الاغتمام، واهتمَّ له بأمره. وفي المصباح: اهتمَّ الرجل بالأمر قام به. «فليس بمسلم» أي كامل الإسلام، ولا يستحقُّ هذا الاسم. وإن كان المراد عدم الاهتمام بش-يء من أُمورهم لا يبعد سلب الاسم حقيقةً، لأنَّ من جملتها إعانة الإمام ونص-رته ومتابعته، وإعلان الدِّين وعدم إعانة الكفّار علىٰ المسلمين. وعلىٰ التقادير المراد بالأُمور أعمُّ من الأُمور الدنيوية والأُخروية. ولو لم يقدر علىٰ بعضها فالعزم التقديري عليه حسنة يُثاب عليها...).

الصادق (صلوات الله عليه) على الكثير من كبار السّن من أصحابه، على الرغم من صغر سنّه، وهو هشام بن الحكم، وقصته المعروفة في محاججة عمرو بن عبيد المعتزلي في البصرة، فلقد كان مسددًا من قبل الله تعالى؛ لأن قلبه كان يحترق لأجل الدين.

روي عَنْ يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ قَالَ:

كَانَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِه مِنْهُمْ حُمْرَانُ بْنُ أَعْيَنَ ومُحَمَّدُ بْنُ النُّعْمَانِ وهِشَامُ بْنُ سَالِمٍ والطَّيَّارُ وجَمَاعَةٌ فِيهِمْ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ وهُوَ شَابٌّ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): يَا هِشَامُ، ألَا تُخْبِرُنِي كَيْفَ صَنَعْتَ بِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وكَيْفَ سَأَلْتَه؟ فَقَالَ: هِشَامٌ: يَا بْنَ رَسُولِ الله إِنِّي أُجِلُّكَ وأَسْتَحْيِيكَ ولَا يَعْمَلُ لِسَانِي بَيْنَ يَدَيْكَ.(1)

فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَافْعَلُوا.(2)

قَالَ هِشَامٌ: بَلَغَنِي مَا كَانَ فِيه عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وجُلُوسُه فِي مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَيَّ.(3)

فَخَرَجْتُ إِلَيْه ودَخَلْتُ الْبَصْرَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَأَتَيْتُ مَسْجِدَ الْبَصْرَةِ، فَإِذَا أَنَا بِحَلْقَةٍ كَبِيرَةٍ فِيهَا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وعَلَيْه شَمْلَةٌ سَوْدَاءُ مُتَّزِراً بِهَا مِنْ صُوفٍ، وشَمْلَةٌ مُرْتَدِياً بِهَا، والنَّاسُ يَسْأَلُونَه، فَاسْتَفْرَجْتُ النَّاسَ فَأَفْرَجُوا لِي، ثُمَّ قَعَدْتُ فِي آخِرِ الْقَوْمِ(4)

عَلَى رُكْبَتَيَّ، ثُمَّ قُلْتُ:

أَيُّهَا الْعَالِمُ إِنِّي رَجُلٌ غَرِيبٌ تَأْذَنُ لِي فِي مَسْأَلَةٍ؟

ص: 34


1- وهذا أدب من هشام بين يدي الإمام المعصوم (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ).
2- إذ الطاعة أولى من الأدب كما يُقال.
3- وهو أمر لا بد أن يكون همّ كل داعٍ ومؤمن، إذ إن الاهتمام بأمور المسلمين مما ندب إليه الدين ودعا إليه.
4- ولعله من باب الأدب؛ لأن عمر هشام كان صغيرًا، ولعله من باب إرادة أن يسمع الجميع حوارهما.

فَقَالَ لِي: نَعَمْ. فَقُلْتُ: لَه ألَكَ عَيْنٌ؟! فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، أَيُّ شَيْءٍ هَذَا مِنَ السُّؤَالِ! وشَيْءٌ تَرَاه كَيْفَ تَسْأَلُ عَنْه؟! فَقُلْتُ: هَكَذَا مَسْأَلَتِي. فَقَالَ: يَا بُنَيَّ سَلْ وإِنْ كَانَتْ مَسْأَلَتُكَ حَمْقَاءَ! قُلْتُ: أَجِبْنِي فِيهَا. قَالَ لِي: سَلْ. قُلْتُ: ألَكَ عَيْنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهَا؟ قَالَ: أَرَى بِهَا الأَلْوَانَ والأَشْخَاصَ.

قُلْتُ: فَلَكَ أَنْفٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ فَمَا تَصْنَعُ بِه؟ قَالَ أَشَمُّ بِه الرَّائِحَةَ.

قُلْتُ: ألَكَ فَمٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِه؟ قَالَ: أَذُوقُ بِه الطَّعْمَ.

قُلْتُ: فَلَكَ أُذُنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهَا؟ قَالَ: أَسْمَعُ بِهَا الصَّوْتَ.

قُلْتُ: ألَكَ قَلْبٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِه؟ قَالَ: أُمَيِّزُ بِه كُلَّ مَا وَرَدَ عَلَى هَذِه الْجَوَارِحِ والْحَوَاسِّ.

قُلْتُ: أولَيْسَ فِي هَذِه الْجَوَارِحِ غِنًى عَنِ الْقَلْبِ؟ فَقَالَ: لَا. قُلْتُ: وكَيْفَ ذَلِكَ وهِيَ صَحِيحَةٌ سَلِيمَةٌ؟ قَالَ: يَا بُنَيَّ، إِنَّ الْجَوَارِحَ إِذَا شَكَّتْ فِي شَيْءٍ شَمَّتْه أَوْ رَأَتْه أَوْ ذَاقَتْه أَوْ سَمِعَتْه، رَدَّتْه إِلَى الْقَلْبِ فَيَسْتَيْقِنُ الْيَقِينَ ويُبْطِلُ الشَّكَّ.(1)

قَالَ هِشَامٌ: فَقُلْتُ لَه: فَإِنَّمَا أَقَامَ الله الْقَلْبَ لِشَكِّ الْجَوَارِحِ؟! قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: لَا بُدَّ مِنَ الْقَلْبِ وإِلَّا لَمْ تَسْتَيْقِنِ الْجَوَارِحُ؟!(2) قَالَ: نَعَمْ.

فَقُلْتُ لَه: يَا أَبَا مَرْوَانَ، فَالله تَبَارَكَ وتَعَالَى لَمْ يَتْرُكْ جَوَارِحَكَ حَتَّى جَعَلَ لَهَا إِمَاماً يُصَحِّحُ لَهَا الصَّحِيحَ ويَتَيَقَّنُ بِه مَا شُكَّ فِيه، ويَتْرُكُ هَذَا الْخَلْقَ كُلَّهُمْ فِي حَيْرَتِهِمْ وشَكِّهِمْ واخْتِلَافِهِمْ لَا يُقِيمُ لَهُمْ إِمَاماً يَرُدُّونَ إِلَيْه شَكَّهُمْ وحَيْرَتَهُمْ، ويُقِيمُ لَكَ إِمَاماً لِجَوَارِحِكَ

ص: 35


1- وفي هذا إشارة واضحة إلى أن أصحاب المنهج الحسي لا يكفيهم الحس للوصول إلى اليقين من دون الرجوع إلى (القلب) أو العقل.
2- كرّر السؤال نفسه بعبارات مختلفة ليُقرّه على ما أجاب به، حتى لا يتمكن من الهروب من لوازمه فيما بعد.

تَرُدُّ إِلَيْه حَيْرَتَكَ وشَكَّكَ؟!

قَالَ: فَسَكَتَ ولَمْ يَقُلْ لِي شَيْئاً، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ لِي: أَنْتَ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ؟ فَقُلْتُ: لَا. قَالَ: أمِنْ جُلَسَائِه؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ. قَالَ: فَأَنْتَ إِذاً هُوَ! ثُمَّ ضَمَّنِي إِلَيْه وأَقْعَدَنِي فِي مَجْلِسِه وزَالَ عَنْ مَجْلِسِه! ومَا نَطَقَ حَتَّى قُمْتُ.

قَالَ: فَضَحِكَ أَبُو عَبْدِ الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) وقَالَ: يَا هِشَامُ مَنْ عَلَّمَكَ هَذَا؟ قُلْتُ: شَيْءٌ أَخَذْتُه مِنْكَ وأَلَّفْتُه.(1) فَقَالَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): هَذَا والله مَكْتُوبٌ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ ومُوسَى.(2)

فعلى من يرى الخطأ أن يبادر لتصحيحه؛ لأن مُضيّ الزمان على ذلك الخطأ يزيد من قوته، كالشوكة في الطريق يجب قلعها مباشرة كي لا تقوى.

إن تداعيات ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أقسى وأمرّ من متاعب التصدي لتصحيح الأخطاء، وكلما أسرعنا لمحاربة الخطأ، كلما ضمنّا حماية المجتمع من فتن لا تختص بالمقصرين، بل تتعدى للملتزمين بالدين، قال تعالى ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ﴾ [الأنفال 25]

روي عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا علىٰ البرِّ، فإذا لم يفعلوا ذلك نُزِعَت منهم البركات، وسُلِّط بعضهم علىٰ بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء»(3).

وعنه(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «ولقد أوحىٰ الله فيما مض-ىٰ قبلكم إلىٰ جبرئيل، وأمره أن يخسف ببلد

ص: 36


1- وفي هذا إشارة إلى تواضع هشام وأدبه في حضرة الإمام (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، فلم ينسب هذه المناظرة لنفسه، وفيه إشارة أيضًا إلى جواز الاجتهاد والاستنباط، إذ هشام أخبر الإمام (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) بأنه ألّف هذا المعنى مما سمعه منه، والإمام أقرّه عليه.
2- الكافي للكليني ج1 ص169 - 171 باب الاضطرار الى الحجة ح3.
3- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي (ج 6/ ص 181/ باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر/ ح 373/22).

يشتمل علىٰ الكفّار والفجّار! فقال جبرئيل: يا ربِّ، أخسف بهم إلَّا بفلان الزاهد؟ ليعرف ماذا يأمر الله به. فقال الله تعالى: بل اخسف بفلان قبلهم، فسأل ربَّه، فقال: يا ربِّ، عرِّفني لِ-مَ ذلك وهو زاهد عابد؟ قال: مكَّنت له وأقدرته، فهو لا يأمر بالمعروف، ولا ينهىٰ عن المنكر، وكان يتوفَّر علىٰ حبِّهم في غضبي لهم»، فقالوا: يا رسول الله، وكيف بنا ونحن لا نقدر علىٰ إنكار ما نشاهده من منكر؟ فقال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهُنَّ عن المنكر، أو ليعُمَّنَّكم عقاب الله»، ثمّ قال: «من رأىٰ منكم منكراً فليُنكره بيده إن استطاع، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، فحسبُه أن يعلم اللهُ من قلبه أنَّه لذلك كاره»(1).

ص: 37


1- التفسير المنسوب للإمام االعسكري (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) (ص 480/ في ذمِّ ترك الأمر بالمعروف/ ح307).

ص: 38

المفردة الرابعة: الإخلاص

اشارة

كما نأخذ منهاج العبادة من الله«عَزَّوَجَل»، كذلك الشروط للعبادة -إن وُجِدَت- يتحتم علينا أخذها منه سبحانه، وأمّا القنوات التي من خلالها نتعرف على تلك الأمور فهم الرسول الكريم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) والأئمّة الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين) كما تبين، فمن خلالهم نعرف العبادة وشروطها، وللعبادة شرط إذا أتينا به قُبل العمل وقُبلت تلك العبادة، وإلا فإنه سيُرد العمل، وذلك الشرط هو الإخلاص.

ما معنى الإخلاص؟

بعد الرجوع للروايات الشريفة نجد معنيين للإخلاص:

الأول: أن يؤتى بالعمل بنية القربة لله«عَزَّوَجَل» لا يشرك معه شيئاً، فيلزم تنزيه العمل عن الرياء الذي يطلق عليه أيضاً الشرك الخفي أو الشرك الأصغر، وهو مبطل للعمل؛ لأنّه يُخِلّ بالإخلاص.

قد يقف اثنان من المصلين، هيئة صلاتهم متشابهة، ولا اختلاف فيها ظاهراً، ولكن بالنظر إلى باطن العمل قد ترتفع واحدة إلى الله تعالى ويكون مصير الأخرى في سجين، وما ذلك إلا بفعل تأثير النية.

إن الإخلاص قوة معنوية غير مرئية، تبثّ في صاحبها طاقة عجيبة لإتيان الكثير من الأعمال التي تحتاج إلى قوة، ويكون توجهه وتعامله مع الله (عزّ وجلّ) مباشرةً.

لقد تصدق أهل البيت(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) بعدّة أقراص شعير فنزلت فيهم سورة كاملة، وكذلك

ص: 39

تصدق أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) بخاتمه فنزلت فيه آية التصدق بالخاتم أثناء الركوع، ولكن غيره تصدّق بأضعاف ذلك ولم تنزل به آية واحدة؛ لأنه لم يُرد بذلك وجه الله تعالى!

يُنقل قديماً - في بني إسرائيل - كان عابد يعبد الله دهراً طويلاً، فجاءه قوم، فقالوا: إنَّ هاهنا قوماً يعبدون شجرة من دون الله تعالىٰ، فغضب لذلك وأخذ فأسه علىٰ عاتقه وقصد الشجرة ليقطعها، فاستقبله إبليس في صورة شيخ، فقال: أين تريد رحمك الله؟ قال: أُريد أن أقطع هذه الشجرة، قال: وما أنت وذاك؟ تركت عبادتك واشتغالك بنفسك وتفرَّغت لغير ذلك، فقال: إنَّ هذا من عبادتي، قال: فإنّي لا أتركك أن تقطعها، فقاتله فأخذه العابد فطرحه إلىٰ الأرض وقعد علىٰ صدره! فقال له إبليس: أطلقني حتَّىٰ أُكلِّمك، فقام عنه، فقال له إبليس: يا هذا، إنَّ الله تعالىٰ قد أسقط عنك هذا ولم يفرضه عليك، وما تعبدها أنت، وما عليك من غيرك، ولله تعالىٰ أنبياء في أقاليم الأرض ولو شاء لبعثهم إلىٰ أهلها وأمرهم بقطعها، فقال العابد: لا بدَّ لي من قطعها، فنابذه للقتال فغلبه العابد وصرعه وقعد علىٰ صدره! فعجز إبليس، فقال له: هل لك في أمر فصل بيني وبينك، وهو خير لك وأنفع؟ قال: وما هو؟ قال: أطلقني حتَّىٰ أقول لك، فأطلقه، فقال إبليس: أنت رجل فقير، لا شيء لك، إنَّما أنت كَلٌّ علىٰ الناس يعولونك، ولعلَّك تُحِبُّ أن تتفضَّل علىٰ إخوانك وتواسي جيرانك وتشبع وتستغني عن الناس!

قال: نعم.

قال: فارجع عن هذا الأمر ولك عليَّ أن أجعل عند رأسك في كلِّ ليلة دينارين، إذا أصبحت أخذتهما فأنفقت علىٰ نفسك وعيالك وتصدَّقت علىٰ إخوانك، فيكون ذلك أنفع لك وللمسلمين من قطع هذه الشجرة التي يُغرَس مكانها ولا يض-رُّهم قطعها شيئاً، ولا ينفع إخوانك المؤمنين قطعك إيّاها!

ص: 40

فتفكَّر العابد فيما قال وقال: صدق الشيخ، لست بنبيٍّ فيلزمني قطع هذه الشجرة، ولا أمرني الله أن أقطعها فأكون عاصياً بتركها، وما ذكره أكثر منفعةً، فعاهده علىٰ الوفاء بذلك وحلف له، فرجع العابد إلىٰ متعبَّده، فبات، فلمَّا أصبح رأىٰ دينارين عند رأسه فأخذهما وكذلك لغد، ثمّ أصبح اليوم الثالث وما بعده فلم يرَ شيئاً! فغضب وأخذ فأسه علىٰ عاتقه فاستقبله إبليس في صورة شيخ، فقال له: إلىٰ أين؟ قال: أقطع تلك الشجرة، فقال: كذبت والله ما أنت بقادر علىٰ ذلك، ولا سبيل لك إليها، قال: فتناوله العابد ليفعل به كما فعل أوَّل مرَّة، فقال: هيهاتَ، فأخذه إبليس وصرعه، فإذا هو كالعصفور بين رجليه، وقعد إبليس علىٰ صدره وقال: لتنتهينَّ عن هذا الأمر أو لأذبحنَّك، فنظر العابد فإذا لا طاقة له به، قال: يا هذا غلبتني فخلِّ عنّي، وأخبرني كيف غلبتك أوَّلاً وغلبتني الآن؟

فقال: لأنَّك غضبت أوَّل مرَّة لله، وكانت نيَّتك الآخرة، فسخَّرني الله لك، وهذه المرَّة غضبت لنفسك وللدنيا فصرعتك(1).

الكثير من الطاعات بحاجة لقوة في ممارستها، فالتصدق في سبيل الله«عَزَّوَجَل» وصلاة الفجر وصلة الأرحام وغيرها الكثير من الطاعات ما لم تتوفر على النّية الخالصة لله«عَزَّوَجَل»، فإنه لن يتمكن الإنسان من إتيانها أو الثبات عليها.

هذا هو المعنى الأول للإخلاص.

الثاني: عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: جاء أعرابي إلى النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) فقال: يا رسول الله، هل للجنة من ثمن؟ قال: نعم. قال: ما ثمنها؟ قال: «لا إله إلا الله» يقولها العبد الصالح مخلصا بها. قال: وما إخلاصها؟ قال: العمل بما بعثت به في حقه، وحب

ص: 41


1- معجم المحاسن والمساوئ لأبي طالب التجليل التبريزي (ص 494 - 496).

أهل بيتي. قال: وحب أهل بيتك لمن حقها؟ قال: أجل، إن حبهم لأعظم حقها.(1)

تضمنت هذه الرواية أن هناك أمرين يحقّقان الإخلاص، وهما:

الأول: العمل بما جاء به النّبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، ويتمثل -فيما يتمثل به- بالعبادة.

الثاني: حبّ أهل البيت(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ).

إن بعثة النّبي الأكرم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) دامت 23 عامًا، منها 13 سنة في مكة، وعشر سنوات في المدينة، خاض النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) خلالها الكثير من الحروب، ومقولته الشهيرة: «ما أُوذي نبيٌّ مثل ما أُوذيت»(2) شاهدة على الصعوبات التي واجهها(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، فجاهد ما جاهد على تبليغ الرسالة، ولكن رغم ذلك وفي آخر حياته يأتيه الخطاب وفيه شيء من الشّدة: «يا أَي-ُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ﴾ [المائدة 67]

يا تُرى؟ ما هو الأمر الذي بعدم تبليغه تذهب أتعاب الرسالة أدراج الرياح حتى كأنّه لم يبلغ؟!

جاء النداء بعدها من النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) الذي اتفق الجميع بلا استثناء على صدوره منه(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ وَلِيُّكُمْ وأَوْلَى بِكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ؟ فَقَالُوا: الله ورَسُولُه. فَقَالَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاه فَعَلِيٌّ مَوْلَاه اللهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاه وعَادِ مَنْ عَادَاه ثَلَاثَ مَرَّاتٍ...»(3)

ونزلت بعد ذلك الآية الكريمة: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي

ص: 42


1- أمالي الشيخ الطوسي ص 583 ح 1207 / 12.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 3: 42.
3- الحديث متواتر لدى العامة والخاصة، انظر مثلًا: الكافي للكليني ج1 ص293 باب الإشارة والنص على أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) ح (3) ومسند أحمد بن حنبل ج1 ص 118 وسنن ابن ماجة لمحمد بن يزيد القزويني ج1 ص 45 وغيرها.

وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً﴾ [المائدة 3]

إن هذا يعني بكل وضوح أن الإسلام بلا ولاية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) غير مرضي لله«عَزَّوَجَل».

ومن هذا يتضح أيضًا: أن الإخلاص في العبادة -الذي هو أهم شرط لقبولها- هي ولاية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ).

في صحيحة أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: من شهد أن لا إله إلا الله فليدخل الجنة. قال: قلت: فعلى مَ تخاصم الناس إذا كان من شهد أنْ لا إله إلا الله دخل الجنة؟! فقال: إنه إذا كان يوم القيامة نسوها.(1)

وفي صحيحته الثانية عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قَالَ: يَا أَبَانُ، إِذَا قَدِمْتَ الْكُوفَةَ فَارْوِ هَذَا الْحَدِيثَ: مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله مُخْلِصاً وَجَبَتْ لَه الْجَنَّةُ. قَالَ: قُلْتُ لَه: إِنَّه يَأْتِينِي مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الأَصْنَافِ، أفَأَرْوِي لَهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ؟! قَالَ: نَعَمْ يَا أَبَانُ، إِنَّه إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وجَمَعَ الله الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ فَتُسْلَبُ (لَا إِلَه إِلَّا الله) مِنْهُمْ، إِلَّا مَنْ كَانَ عَلَى هَذَا الأَمْرِ.(2)

فكلمة الإخلاص التي بها يدخل العبد الجنّة، شرطها ولاية الإمام عليّ بن أبي طالب (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ).

في حديث السلسلة الذهبية، روي عن إسحاق بن راهويه قال: لما وافى أبو الحسن الرضا(عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) نيسابور، فأراد أن يرحل منها إلى المأمون، اجتمع إليه أصحاب الحديث فقالوا له: يا بن رسول الله، ترحل عنا ولا تحدثنا بحديث نستفيده منك؟ وكان قد قعد في العمارية فاطلع رأسه وقال: سمعت أبي موسى بن جعفر يقول: سمعت أبي جعفر بن محمد يقول: سمعت أبي محمد بن علي يقول: سمعت

ص: 43


1- المحاسن للبرقي ج1 ص 181 باب 42 ح 173.
2- الكافي للكليني ج2 ص521 بَابُ مَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله مُخْلِصاً ح1.

أبي علي بن الحسين يقول: سمعت أبي الحسين بن علي يقول: سمعت أبي علي بن أبي طالب يقول: سمعت رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) يقول: سمعت جبرئيل يقول: سمعت الله«عَزَّوَجَل» يقول: لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي، فلما مرت الراحلة نادى: بشروطها وأنا من شروطها.(1)

إذاً، شرط قبول الدين وعلامة إخلاصه أيضاً هي: ولاية أمير المؤمنين وأبنائه المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين).

وهذا ما يلزمنا أن نربي عليه اولادنا، وأن نعمّقه في نفوسهم، من خلال:

1- إبراز احترام أسماء المعصومين(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ)، كما تقدمت الإشارة إليه في المفردة الثانية.

2- دفعهم نحو مطالعة حياتهم(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ)، لأن فيها الكثير من العبر النافعة في مختلف مجالات الحياة، مع مراعاة المستوى العقلي للأولاد في مطالعتهم تلك.

3- زيارة مراقدهم(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) وما يتعلق بهم من آثار حسب القدرة، وإظهار الاحترام الكامل عندها، ليتعلم الأولاد احترام ما يُنسب إلى الدين عموماً، وإلى أهل البيت(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) خصوصاً.

4- إقامة الندوات والجلسات الخاصة بذكرهم(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ)، وإحضار الأولاد فيها حسب القدرة، وبأسلوب تربوي.

ص: 44


1- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق ص7.

المفردة الخامسة: معرفة الإمام

اشارة

قال النبي الأعظم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «من مات وليس له إمام فميتته جاهلية».(1)

تبين أنّ عبادتنا لله«عَزَّوَجَل» لا تكون إلا من خلال الشريعة المقدسة التي شرّعها الله«عَزَّوَجَل» والتي وصلت إلينا عن طريق الدين الذي بلّغه لنا الرسول الكريم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ).

والسؤال: بعد رجوع الرسول الأعظم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) إلى الرفيق الأعلى، من الذي يُكمل مسيرته؟

طيلة 23 عامًا وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي قام بها الرسول الأعظم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وجهاده لتبليغ الرسالة، إلا إنّ الهدف من الرسالة والمتمثل بامتلاء الأرض قسطاً وعدلاً لم يتحقق، ولم يكن ذلك لخلل في شخص الرسول الأكرم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وحاشاه، وإنما الذي حل دون ذلك:

أ: عدم ملائمة الظروف المحيطة آنذاك.

ص: 45


1- هذا الحديث متفق عليه ومتواتر، وإن اختلفت بعض ألفاظه، ولكن المعنى في الجميع واحد، ومن ألفاظه ما روي في كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص 409 عن محمد بن عثمان العمري -قدس الله روحه- يقول: سمعت أبي يقول: سئل أبو محمد الحسن بن علي3 وأنا عنده عن الخبر الذي روي عن آبائه(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ): «أن الأرض لا تخلو من حجة لله على خلقه إلي يوم القيامة وأن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية». فقال (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «إن هذا حق كما أن النهار حق»، فقيل له: يا ابن رسول الله فمن الحجة والامام بعدك؟ فقال «ابني محمد، هو الامام والحجة بعدي، من مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية. أما إن له غيبة يحار فيها الجاهلون، ويهلك فيها المبطلون، ويكذب فيها الوقاتون، ثم يخرج فكأني أنظر إلى الاعلام البيض تخفق فوق رأسه بنجف الكوفة».

ب:تدني استعداد المجتمع الإسلامي آنذاك لتحمّل أعباء الرسالة وإقامة دولة العدل.

إن إرادة الله«عَزَّوَجَل» لهذا الدين كانت على أن يظهر على الدين كلّه، والرسول الكريم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أدّى ما عليه بأكمل وجه، وقد روي عن أبي جعفر(عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «خطب رسول الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) في حجَّة الوداع فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، والله مَا مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ويُبَاعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ إِلَّا وقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِه، ومَا مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ النَّارِ ويُبَاعِدُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا وقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْه...»(1).

فلما قام بتبليغ الرسالة، جاء القرآن ليخاطبه: ﴿إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ﴾ [الرعد 7]

وهذا مفهوم جديد متعلق بالدين، وهو مفهوم: الهادي، أو الإمام، أو الوصي، أو الخليفة، مصطلحات عديدة لمعنى واحد بمعنى: الذي يأتي بعد النّبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، يخلفه في قومه ويقوم بجميع وظائفه ماعدا النّبوة، وهو ما يُشير له الحديث النبوي الشريف والمتواتر عند جميع المسلمين: من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية، أو من مات وليس له إمام فميتته جاهلية.

هذا المفهوم كان واضحاً لدى جميع المسلمين والصحابة، يُنقل أن عبد الله بن عمر ابن الخطاب لم يُبايع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، ولمّا وصل الدور إلى عبد الملك بن مروان وعامله الحجّاج بن يوسف الثقفي، ذهب إلى الحجّاج ليبايعه، إذ روي إنه ل-مَّا دخل الحجّاج مكَّة وصلب ابن الزبير راح عبد الله بن عمر إليه وقال: مُدَّ يدك لأُبايعك لعبد المَلِك، قال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية»، فأخرج الحجّاج رجله وقال: خذ رجلي فإنَّ يدي مشغولة، فقال ابن عمر: أتستهزئ

ص: 46


1- الكافي للكليني 2: 74/ باب الطاعة والتقوىٰ/ ح 2.

منّي؟ قال الحجّاج: يا أحمق بني عدي ما بايعت مع عليٍّ وتقول اليوم: من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية، أوَما كان عليٌّ إمام زمانك؟ والله ما جئت إليَّ لقول النبيِّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، بل جئت مخافة تلك الشجرة التي صُلِبَ عليها ابن الزبير...(1)

إذن، فمبدأ وجوب معرفة إمام الزمان ثابت لدى جميع من يدّعي الإسلام، وفي يوم القيامة سيُدعى كل قوم بإمامهم، ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاًQ وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلاً﴾ [الإسراء 71 – 72].

فعلينا أن نحدّد إمامنا الذي ندعى به يوم القيامة.

وهذا مطلب مهم جداً يلزمنا ضبطه بمنهجية يقينية، ونقله إلى أولادنا، فنحن مسؤولون عن عقيدتهم كما كنا مسؤولين عن تغذيتهم.

كيف نعرف إمام زمامنا؟

أو ما هو المطلوب منّا لمعرفة الإمام؟

الجواب بعدّة نقاط:

أولًا: اختلف المسلمون –غير الشيعة الإمامية- في كيفية تعيين الإمام الذي هو خليفة رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، أيكون بالانتخاب أو الشورى أو من قِبل أهل الحلّ والعقد أو بالتمليك والوراثة أو بالانقلاب العسكري؟

ورغم أنهم لم يثبتوا على طريقة محددة لتعيين الخليفة للنّبي الأكرم (صلوات الله عليه واله) إلا أنّهم جميعًا اتفقوا على أنّه(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) لو كان عيّن أحداً لذلك للزم اتباعه، ولكنه رحل إلى ربه الكريم ولم يفعل ذلك!

ص: 47


1- الكنىٰ والألقاب للشيخ عبّاس القمّي: ج 1/ ص 363.

أما الإمامية، فقد انفردوا بالاعتقاد بأنّ الإمامة كالنّبوة، لا تكون إلا بالتّنصيب الإلهي: ﴿وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة 24]

نظرية التنصيب تعني أنّ تنصيب الإمام ليس من عمل ولا شأن الأمّة، وإنّما هو بالجعل والتنصيب الإلهي، وليس للأمة من دور في ذلك سوى الطاعة والامتثال للأمر الإلهي.

ثانيًا: معرفة أنّ الإمامة بالجعل الإلهي يُرتب علينا تكليفاً هو: معرفة الإمام.

وهذا يكون عن طريق قراءة الروايات بشأنه والتمعن في زياراته والخطابات المتوجهة إليه.

إن قراءة حياتهم، فضائلهم، كراماتهم، مقاماتهم، تعود علينا بالنفع الكثير، فعن عبد السلام بن صالح الهروي، قال: سمعت أبا الحسن الرضا(عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يقول: رحم الله عبدًا أحيا أمرنا. فقلت له: فكيف يحيي أمركم؟ قال: يتعلم علومنا ويعلمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا...(1)

يوماً ما، قال نصراني للإمام الباقر(عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): أنت بقر؟ قال: أنا باقر، قال: أنت ابن الطباخة؟ قال: ذاك حرفتها، قال: أنت ابن السود الزنجية البذية، قال: إن كنت صدقت غفر الله لها، وإن كنت كذبت غفر الله لك. قال: فأسلم النصراني..(2)

وقصة الشّامي المعروفة، أهل الشّام لا يعلمون عن أمير المؤمنين وأولاده المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين) سوى أنّهم خوارج وهم من حاولوا قتل الرسول الكريم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) ليلة العقبة، وهذا ما بثّه فيهم معاوية وطابوره الإعلامي، وقد ورد في صفة حلم الإمام

ص: 48


1- معاني الأخبار للشيخ الصدوق ص 180.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج3 ص 337.

الحسن المجتبى(عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) ما روى المبرد وابن عائشة أن شاميًا رآه راكبًا فجعل يلعنه والحسن لا يرد، فلما فرغ أقبل الحسن عليه وضحك وقال: أيها الشيخ، أظنك غريبًا ولعلك شبهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك، وإن كنت جائعًا أشبعناك، وإن كنت عريانًا كسوناك، وإن كنت محتاجًا أغنياك، وإن كنت طريدًا آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرّكت رحلك إلينا، وكن ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك، لأن لنا موضعًا رحبًا وجاهًا عريضًا ومالًا كبيرًا، فلما سمع الرجل كلامه بكى ثم قال: أشهد أنك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالاته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ، والآن أنت أحب خلق الله إليّ، وحوّل رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل وصار معتقدًا لمحبتهم. (1)

إن ذلك الشامي رأى شيئًا خِلاف ما كان يسمع، كان يسمع بأنهم خوارج، ولكنه رأى روح الإسلام فيهم...

كلامهم الحسن ومواقفهم الجميلة (سلام الله عليهم) لو قرأناها ونشرناها فنحن أول من ينتفع منها، وإن استطعنا نشرها لكان لها تأثير في حياة الناس وسلوكهم.

وبهذه القصص النورانية وأمثالها، يمكننا أن ندعو أولادنا للتمسك بالأخلاق الحسنة، من دون أن نصرح لهم بذلك، لأن أولادنا في مقتبل أعمارهم يبحثون عن النموذج في كل شيء، ونفوسهم تواقة للأرقى والأكمل والأجمل، وإذا سمعوا بهذه القصص عن الأئمة(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) انغرس في نقوسهم حبُّهم وبذرةُ الاقتداء بهم، ولو نجحنا في زرع البذرة تلك، لكان فتحاً عظيماً وإنجازاً كبيراً لنا.

ثالثًا: صفات الإمام التي أهّلته للإمامة، وهي كثيرة ولكن من أهمها: العصمة،

ص: 49


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج3 ص 184.

والتي وتعني: عدم ارتكاب الذنب مطلقاً، لا سهواً ولا عمداً، ولا صغيراً ولا كبيراً، لا قولاً ولا فعلاً، كما نعتقد بأن النّبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) ﴿وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحىٰ﴾ [النجم 3 -4] وكذلك خلفاؤه(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ)، فكل شيء يصدر عنهم لا يكون خطأ ولا سهوًا بتاتًا.

فكما نعتقد بعدم صدور الخطأ مطلقاً من الرسول(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) كذلك نعتقد عدم صدور الخطأ من الأئمة(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) والقرآن يشهد: ﴿إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ [الأحزاب 33]

وأهل البيت هم فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها (صلوات الله عليهم) فعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنه قال:

«دخلت على رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) في بيت أم سلمة وقد نزلت هذه الآية ﴿إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ فقال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): يا علي هذه الآية نزلت فيك وفي سبطي والأئمة من ولدك. فقلت: يا رسول الله وكم الأئمة بعدك؟ قال: أنت يا علي، ثم ابناك الحسن والحسين، وبعد الحسين علي ابنه، وبعد علي محمد ابنه، وبعد محمد جعفر ابنه، وبعد جعفر موسى ابنه، وبعد موسى علي ابنه، وبعد علي محمد ابنه، وبعد محمد علي ابنه، وبعد علي الحسن ابنه، والحجة من ولد الحسن، هكذا وجدت أساميهم مكتوبة على ساق العرش، فسألت الله تعالى عن ذلك فقال: يا محمد هم الأئمة بعدك مطهرون معصومون، وأعداؤهم ملعونون».(1)

وهذه الرواية تثبت شمول الآية لكل الائمة الاثني عشر(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ).

وعلى كل حال، فآية التطهير صريحة بأنّ الله تعالى أراد أن يطهّرهم ويذهب عنهم الرجس، أ فيحتمل بعد ذلك صدور الذنب منهم؟!

ص: 50


1- كفاية الأثر للخزاز القمي ص 156.

وقد يرد سؤال وهو:

إذا كان الله«عَزَّوَجَل» هو من عصمهم من الذنب، فما هو وجه فضيلتهم على باقي البشر؟!

الجواب يتلخص بالتالي:

1/إن الله تعالى حكيم لا يصدر منه فعل خلاف الحكمة، والحكيم: هو من يضع الشيء المناسب في المكان المناسب في الزمان المناسب، وإذا تعلقت الإرادة الإلهية بتطهير هذه الصفوة، فمن المؤكد أنه عملٌ حكيم بعيد عن العبث، فليس الأمر عشوائيًا، وإنما لا بد من وجود حكمة كانت وراء تفضيلهم بالعصمة، فيكشف عن فضيلتهم واقعًا، وإن لم نعرفها نحن لسبب ولآخر.

2/ولو تنزّلنا عما سبق، فيمكن القول: إن نفس اختيار الله تعالى لهم وهبته لهم العصمة يعني أنهم لا يخطئون، وبالتالي فإن ما يقولونه يمثل الواقع، فلا بد من طاعتهم وعدم مخالفتهم في كل ما يقولونه ويأمرون به وينهون عنه، أما أن لهم بالعصمة فضلًا أو ليس لهم، فهذا لا ينفي لزوم طاعتهم وعدم جواز مخالفتهم؛ لمكان عصمتهم.

3/ بالإضافة إلى أن الحفاظ على العصمة من أن تزول، وتفعيلها لفائدة الناس، وصولًا إلى تنفيذ المشروع الإلهي على الأرض (ليملأها قسطًا وعدلًا)، كل ذلك هو بالاختيار من المعصوم، وهذا ما يوجب له فضيلة عظمى كما لا يخفى.

هذه المعاني لو فهمها أولادنا جيداً، حينها سيكون بيدهم سبب أو حكمة ضرورة التسليم التي تقدم الحديث عنها في المفردة الثالثة، بمعنى: أننا ندرك بوجداننا ضرورة التسليم للمعصوم في كل ما يقوله ويفعله، لأنه معصوم، فما يقوله ويفعله يمثل الواقع، فيكون تسليمنا لإل-هنا وخالقنا أولى وأشد وأوجب.

ص: 51

منشأ لزوم الإتباع:

إذاً، بما أنّهم(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) معصومون ولا يصدر منهم الخطأ مطلقاً، فحتماً سيكون أمرهم يمثل أمر الله تعالى، ونهيهم يمثل نهيه (جل وعلا)، ومن هنا قال تعالى: ﴿وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ﴾ [الحشر 7]

وقال تعالى ﴿يا أَي-ُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَىٰ اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [النساء 59]

وبهذا المنطق فإن علينا اتباعهم في كل صغيرة وكبيرة، على نهج «إنّي سلمٌ لمن سالمكم وحربٌ لمن حاربكم ووليٌّ لمن والاكم وعدوٌّ لمن عاداكم».

روي أنّ رجلاً قدم على أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) فقال: يا أمير المؤمنين، أنا أحبك وأحب فلاناً، وسمّى بعض أعدائه، فقال (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): أمّا الآن فأنت أعور، فإمّا أن تعمى وإمّا أن تبصر.(1)

فلا يصح أن نواليهم ونوالي عدوهم، فالعقيدة الصحيحة تقتضي وجوب اتباعهم ومخالفة من خالفهم، فإنّهم كما وصفهم الرسول الأكرم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بقوله: مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق.(2)

وهذا يعني: لزوم الطاعة المطلقة لهم وعدم تقديم أو تفضيل أحد عليهم.

ص: 52


1- مستطرفات السرائر لابن إدريس الحلي ص 265.
2- الحديث مروي في كتب الخاصة والعامة، وقد روى العامة عن حنش الكناني، قال: سمعت أبا ذرٍّ يقول وهو آخذ بباب الكعبة: من عرفني فأنا من عرفني، ومن أنكرني فأنا أبو ذرٍّ(رضي الله تعالى عنه)، سمعت النبيَّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) يقول: «ألَا إنَّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من قومه، من ركبها نجا، ومن تخلَّف عنها غرق» [المستدرك للحاكم النيسابوري (ج 3/ ص 150 و151).]

وبهذه العقيدة سيشعر المؤمن بحالة من الغنى لا تساويها أملاك الدنيا، فمن لحق بهم فاز ومن تخلى عنهم هلك.

من الروايات اللطيفة في هذا الجانب ما روي أنَّ رجلاً جاء إلىٰ سيِّدنا الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) فشكا إليه الفقر، فقال: «ليس الأمر كما ذكرت، وما أعرفك فقيراً»، قال: والله يا سيِّدي ما استبيت [أي لا أملك قوت ليلة واحدة]، وذكر من الفقر قطعة والصادق يُكذِّبه، إلىٰ أنْ قال له: «خبِّرني لو أُعطيت بالبراءة منّا مائة دينار، كنت تأخذ؟»، قال: لا! إلىٰ أنْ ذكر أُلوف دنانير والرجل يحلف أنَّه لا يفعل، فقال له: «من معه سلعة يُعطىٰ بها هذا المال لا يبيعها، هو فقير؟!»(1).

وقد روي عن محمّد بن الحسن بن شمون، قال: كتبت إلىٰ أبي محمّد الإمام الحسن االعسكري (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أشكو الفقر، ثمّ قلت في نفس-ي: أليس قال أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «الفقر معنا خير من الغنىٰ مع غيرنا، والقتل معنا خير من الحياة مع غيرنا»؟ فرجع الجواب: «إنَّ الله يُمحِّص أولياءنا إذا تكاثفت ذنوبهم بالفقر، وقد يعفو عن كثير، وهو ممَّا حدَّثَتْك نفسُك: الفقر معنا خير من الغنىٰ مع غيرنا، ونحن كهف لمن التجأ إلينا، ونور لمن استضاء بنا، وعصمة لمن اعتصم بنا، من أحبَّنا كان معنا في السنام الأعلىٰ، ومن انحرف عنّا فإلىٰ النار»(2).

المؤمن الحقيقي يُقدّم أهل البيت(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) على كل من يحب، امتثالاً لأمر الرسول(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): لا يؤمن أحدكم حتى اكون أنا وأهل بيتي أحب إليه من نفسه وأهل بيته.(3)

ص: 53


1- أمالي الشيخ الطوسي (ص 297 و298/ ح 584/31).
2- الخرائج والجرائح لقطب الدِّين الراوندي (ج 2/ص 739 و740/باب 15/ح 54).
3- في أمالي الشيخ الطوسي (ص 416 ح 937 / 85) عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): لا يكون العبد مؤمنًا حتى أكون أحب إليه من نفسه ومن ولده وماله وأهله. قال: فقال بعض القوم: يا رسول الله، إنا لنجد ذلك بأنفسنا. فقال (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): بل أنا أحب إلى المؤمنين من أنفسهم. ثم قال: أرأيتم لو أن رجلًا سطا على واحد منكم فنال منه باللسان واليد، كان العفو عنه أفضل أم السطوة عليه والانتقام منه؟ قالوا: بل العفو، يا رسول الله. قال: أفرأيتم لو أن رجلًا ذكرني عند أحد منكم بسوء وتناولني بيده كان الانتقام منه والسطوة عليه أفضل أم العفو عنه؟ قالوا: بل الانتقام منه أفضل. قال: فأنا إذن أحب إليكم من أنفسكم. وفي أمالي الشيخ الصدوق (ص 414 ح 542 / 9) عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه، قال: قال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه، وأهلي أحب إليه من أهله، وعترتي أحب إليه من عترته، وذاتي أحب إليه من ذاته. قال: فقال رجل من القوم: يا أبا عبد الرحمن، ما تزال تجئ بالحديث يحيي الله به القلوب.

وهذا يعني فيما يعنيه: أنه لو حصل تعارض للمؤمن بين مصلحة أحد أهله وبين تقديم موالاته لأهل بيت العصمة(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ)، أو مثلاً بعد ظهور الإمام المهدي(عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ) لو خُيّر المؤمن بين نصرة إمامه أو وقوفه في خط المعارضة مع أهله، فمع من سيقف؟

خلاصة الجانب الأول:

أن المسؤولية الدينية والعقلية تفرض على الآباء أن يُربوا أولادهم على التالي:

أولاً: أن الفطرة ترفض أن يكون هذا الوجود من دون خالق، وبالتالي يلزمنا –نحن المخلوقات- أن نبحث عن خالقنا ونحترمه ونقدسه، لأنه وهب لنا الوجود وما فيه.

ثانياً: أن العقل يفرض علينا تقديس خالقنا، كما يفرض علينا أن نطيعه فيما يأمر وينهى، بل يلزمنا ذلك مع تمام التسليم والانقياد له، وفي ذلك يكون تمام كمالنا.

ثالثاً: أن طاعتنا للخالق هي عبارة أخرى عن عبادته، والعقل يحكم بأن العبادة إنما تكون بما يرضاه هو، لا بما يخترعه البعض من عند نفسه، وهذا يعني ضرورة الواسطة بيننا وبينه جل وعلا، وهو ما يفتح ملف الشريعة والنبي والإمام.

رابعاً: يلزم علينا أن نأخذ بالدين من جميع اطرافه وجوانبه، ولا يصح أخذه من جانب دون آخر، فهذا خلاف التدين والتسليم.

ص: 54

خامساً: في كل ذلك، يلزم أن تكون أعمالنا خالصة لوجه الله تعالى، إذ هو الوحيد الذي يستحقها، وهو الوحيد الذي يمكن أن يُجازينا عليها، وغيره هو مثلنا، مفتقر إليه في تمام وجوده.

سادساً: أن الدين افترض علينا طاعة أولي الأمر، وهم الرسول وأهل بيته(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ)، واعتبرها جزءاً لا ينفك من التدين، ومن طاعة الله تبارك وتعالى، فتلزمنا طاعتهم على حد طاعة الله تعالى.

سابعاً: يلزم علينا أن نتعرف على خليفة رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) الذي جعله الله تعالى، وأن نعمل على الاقتداء به، وهو ما يلزم قبل طاعته والتسليم له، لأنه معصوم.

ثامناً: كل هذه العلاقات والمفردات هي من النوع العمودي، بمعنى أنها تحكي عن علاقة الإنسان بما هو أعلى منه رتبة، وأرقى منه وجوداً، وأعظم منه منزلة، فهي العلاقة بالدين، بالخالق جل وعلا، وبالرسول(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، وبأهل البيت(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ).

تاسعاً: مسؤولية الآباء عظيمة جداً في كل ذلك، ولا تقف عند حدود إشباع البطن –رغم أهميته-، بل إن مسؤوليتهم عظيمة فيما يتعلق بعقول الأولاد وسلوكهم، فكما نفكر في بناء بيوت لأولادنا، علينا أن نعمل على بناء عقولهم وتقويم سلوكهم.

ص: 55

ص: 56

الجانب الثاني: الجانب الأُسري

اشارة

في هذا الجانب سنعمل على محاولة تسليط الضوء على الحقوق المتبادلة داخل الأسرة، وكيفية صياغتها بطريقة تجعل الأولاد يتعرفون عليها، ويعملون على تنفيذها حرفياً أو حسب القدرة.

ص: 57

ص: 58

هذا الجانب يبدأ بالعلاقة مع الأبوين، فتصرفنا وسلوكنا مع آبائنا سينعكس على تصرف أولادنا معنا، على قاعدة الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «برّوا آباءكم يبرّكم أبناؤكم»(1).

وبالتالي، علينا أن نُحسن صياغة سلوكنا من هذه الناحية.

خطوة أخرى هنا، هي علاقة الأب بزوجته، خطوة مهمة جداً، تصوغ حياة أولادنا المستقبلية، وترسم لهم طريق الاختيار الصحيح والسلوك القويم، وهي خطوة مهمة جداً أيضاَ على الزوجة تجاه زوجها.

العلاقة مع الأولاد هي الأخرى ضرورية، فإن أولادنا يتعلمون منا كيف يتصرفون مع أولادهم في المستقبل، ولو كان سلوكنا خاطئاً معهم، فإنهم سيحتاجون وقتاً طويلاً وجهداً مريراً، وربما سيتحملون الكثير من الخسائر والتجارب الفاشلة، حتى يتمكنوا من تجاوز ما رسّخناه في قلوبهم من سلوك تجاه الأولاد، إلى أن يصلوا إلى نقطة تغيير المسار وتحسين السلوك.

أخيراً، علينا أن نلتفت إلى أنه كما نربي أولادنا، كذلك يمكن لأولادنا أن يقوموا بتربيتنا، أما كيف ذاك، فهذا ما سيتبين في محله.

وعلى كل حال، فهنا عدة مفردات يحسن أن نبينها وعلى الله تعالى الاتكال.

ص: 59


1- الكافي للكليني 5: 554/ باب إنَّ من عفَّ عن حرم الناس عُفَّ عن حرمه/ ح 5.

ص: 60

المفردة الأولى: العلاقة مع الأبوين

اشارة

إذا نظرنا إلى الحقوق المفترضة على الإنسان، نجد أنّها تتراوح فيما بينها من حيث الشّدة والضعف، فبعض الحقوق هي من الشّدة بحيث لا يُعذَر فيها الإنسان أبداً، وبعضها متوسط وبعضها ضعيف.

وقد عرفنا أنّ أعظم الحقوق على الإنسان هو حقّ الخالق (جل وعلا)، فهو أول حقّ وأعظم حقّ، ولا يتقدم عليه حقّ، وأيضًا حق النّبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، والدين، و الإمام (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، هو بمستوى حقّ الله (تعالى) مع حفظ الفارق اللامتناهي بين الله (عزّ وجلّ) وبين النّبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ).

يأتي بالمرتبة الثانية بعد حق الله«عَزَّوَجَل» ما قال عنه سبحانه في كتابه الكريم: ﴿وَقَض-ىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً. وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً﴾ [الإسراء 23 – 24]

حقٌّ هو من أعظم الحقوق على الإنسان، وهو حقّ الوالدين، ولا يُعذر فيه إنسان.

إن الله (عزّ وجلّ) حينما فرض حقًّا للوالدين على أولادهم، فهو لم يفترضه على أساس الدين فحسب، فسواء كانا مسلمينِ أم مشركينِ، دينيينِ أم ماديينِ، فالابن مطالب ببرّهما وتأدية حقوقهما ﴿وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْ-رِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما﴾ [العنكبوت 8]

﴿وَإِنْ جاهَداكَ عَلىٰ أَنْ تُشْ-رِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً﴾ [لقمان 15]

ص: 61

فلاحظ جيداً قوله (تعالى): ﴿فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً﴾

وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنه قال: وبر الوالدين واجب، فان كانا مشركين فلا تطعهما ولا غيرهما في المعصية، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.(1)

فمهما كان الوالدان، فإن لهما حقّ الوجود على الابن، ولهذا فإن الروايات تؤكد على خطورة وضرورة برّ الوالدين.

عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): يُقال للعاق: اعمل ما شئت، فإني لا أغفر لك، ويُقال للبار: اعمل ما شئت، فإني سأغفر لك.(2)

الدنيا دار عمل، والآخرة هي دار الجزاء، ولكن عاقّ الوالدين يرى جزاء عمله في الدنيا قبل الآخرة -بالإضافة إلى عقوبة الآخرة- إذ إنّ عقوق الوالدين من الذنوب التي تُعَجَّل عقوبتها.

فعن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «ثلاثة من الذنوب تُعجَّل عقوبتها ولا تُؤخَّر إلىٰ الآخرة: عقوق الوالدين، والبغي علىٰ الناس، وكفر الإحسان».(3)

فعلينا أن نحذر في معاملة الوالدين، فأثرها سلباً أو إيجاباً راجع إلينا لامحالة، يقول الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «برّوا آباءَكُم يبرّكم أبْناؤكم»(4).

حق الأب.

لا يختلف اثنان في الدور المحوري والرئيسي للأب في هذه الحياة، وفي كونه الرجل الأول في حياة الأولاد، كما لا نجد أباً لا يريد الخير لأولاده إلا إذا كان في عقله خلل.

ص: 62


1- الخصال للشيخ الصدوق ص 608 خصال من شرائع الدين ح9.
2- بحار الأنوار ج 71 ص 80.
3- أمالي المفيد: 237/ ح 1.
4- الكافي للكليني 5: 554/ باب إنَّ من عفَّ عن حرم الناس عُفَّ عن حرمه/ ح 5.

إن دور الأب أشبه بدور ربّان السفينة، فهو القائد الذي يحمل معه رعيته، ويخوض بهم غمار البحار يقود السفينة بحكمة وشجاعة وتضحية، ولا يهمه أن يتضرر هو إن سلمت رعيته.

يمكن لأي أحد منا أن ينظر إلى أبيه، كيف يكدح، وينصبّ، ويبذل، ويتحمّل، ويضحي، ولكنه يضع نصب عينيه أن الفرحة التي تملأ عيون زوجته وأولاده هي ما يزيح عن كاهله تعب الأيام وغمّ العمل، هو لا يريد من الدنيا إلا أن يوصل عياله إلى حيث التميز.

فلكل أب منا ألف تحية، وألف دعاء، وألف ثناء.

الإمام زين العابدین (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أكّد على حق الأب، فأرسى القواعد العامة لحقه بالتالي:

«وأما حق أبيك، فأن تعلم أنه أصلك، وأنك لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك مما يعجبك فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه، فاحمد الله واشكره على قدر ذلك، ولا قوة إلا بالله».(1)

هو أصلك، وهذا يعني: أنك لولاه لم تكن، وما دام هو سبباً في أصل وجودك، إذاً هو أيضاً سبب في ما تحصل عليه من كمالات، فمهما حصلت عليه من نعم، ومهما حصدت من شهادات، ومهما علقت على صدرك من أوسمة الفخر والشرف، فإياك أن تنسى صاحب الفضل الأول عليك –بعد الله تعالى-، وهو أبوك، فاحترمه، وقدّره، ولا تتجاوز آداب العقل والشرع معه.

ص: 63


1- أمالي الشيخ الصدوق ص 453 – 454.

أما ما هي تلك الآداب؟

فإليكها باختصار:

1/ أن لا يُناديه باسمه كما ينادي على أخيه أو صاحبه، بل يناديه بالأب.

2/أن لا يمشي أمامه، ولا يتقدمه، بل يمشي خلفه، وعلى الأقل بجنبه.

3/ أن لا يجلس في مجلس قبله، بل ينتظر إلى أن يختار أبوه مجلساً معيناً فيجلس دونه في المجلس.

4/أن لا يفعل ما يصير سبباً لسبّ الناس لأبيه، كأن يسبهم أو يسبُّ آباءهم، وقد يسب الناس والد من يفعل فعلاً شنيعاً قبيحاً.

وفي ذلك روي أنه سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): مَا حَقُّ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِه؟ قَالَ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): لَا يُسَمِّيه بِاسْمِه ولَا يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْه ولَا يَجْلِسُ قَبْلَه ولَا يَسْتَسِبُّ لَه.(1)

5/ إذا غضب الأب لقضية ما، فعلى الولد أن يخشع له، وأن يطأطأ له، لا أن يلاسنه، أو يرد عليه كلامه.

6/إذا كانا في سفر أو عمل ما، ونال منهما التعب، فعلى الولد أن يقدم راحة أبيه من حيث مكان الاستراحة أو الطعام أو ما شابه، ولا يُقدم نفسه على أبيه.

وفي ذلك روي عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أنه قال: من حق الوالد على ولده أن يخشع له عند الغضب، ويؤثره عند الشكاية والوصب(2).(3)

7/ أن يؤثر أباه في ماله، ما أوتي إلى ذلك سبيلاً، حتى لو كان الأب غنياً، وحتى لو لم يجب شرعاً على الولد أن ينفق على أبيه، لكنه مع ذلك فإن من البر أو كمال البر:

ص: 64


1- الكافي للكليني ج2 ص 158 - 159 باب بر الوالدين ح5.
2- الوصب: هو التعب والفتور في البدن.
3- كنز العمال للمتقي الهندي ج16 ص 473 ح ( 45512(>

أن يُقدم الولد مالاً لأبيه، ليرد له بعض الدين الذي قدّمه الأب من نفس طيبة راضية.

وعلى كل حال، فمهما قدمنا لآبائنا من أموال الدنيا، فهي لا تُساوي ما قدموه لنا من أموالهم حيث كنا أحوج ما نكون إليها، وحيث لولاهم لما كُتبت لنا الحياة، ومن هنا روي عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْعَلَاءِ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): مَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنْ مَالِ وَلَدِه؟ قَالَ(عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): قُوتُه بِغَيْرِ سَرَفٍ إِذَا اضْطُرَّ إِلَيْه.

قَالَ: فَقُلْتُ لَه: فَقَوْلُ رَسُولِ الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) لِلرَّجُلِ الَّذِي أَتَاه فَقَدَّمَ أَبَاه فَقَالَ لَه: أَنْتَ ومَالُكَ لأَبِيكَ؟

فَقَالَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): إِنَّمَا جَاءَ بِأَبِيه إِلَى النَّبِيِّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، هَذَا أَبِي وقَدْ ظَلَمَنِي مِيرَاثِي مِنْ أُمِّي! فَأَخْبَرَه الأَبُ أَنَّه قَدْ أَنْفَقَه عَلَيْه وعَلَى نَفْسِه، فَقَالَ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): أَنْتَ ومَالُكَ لأَبِيكَ، ولَمْ يَكُنْ عِنْدَ الرَّجُلِ شَيْءٌ، أفَكَانَ رَسُولُ الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) يَحْبِسُ الأَبَ لِلِابْنِ؟!(1)

حق الأم أعظم.

إذا أردنا عمل مقايسة بين حقّ الأب وحقّ الأم، فأيّهما أعظم؟

علمًا أن الحديث ليس عن الولاية، إذ نعلم أن للأب الولاية على ابنه، وعلى ابنته فلا يصحّ زواجها إلا بإذن أبيها، وغيرها من موارد الولاية المذكورة في محلها في كتب الفقه(2)، إنّما الكلام عن الحقّ.

روي أنه جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: أُمَّكَ. قَال:َ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمَّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمَّكَ. قَالَ ثُمَّ مَنْ: قَالَ أَبَاكَ.(3)

ص: 65


1- الكافي للكليني ج5 ص 136 بَابُ الرَّجُلِ يَأْخُذُ مِنْ مَالِ وَلَدِه والْوَلَدِ يَأْخُذُ مِنْ مَالِ أَبِيه ح6.
2- راجع: رسالات تربوية 155 – 160، وهي الحلقة الثانية من سلسلة تربية بلون جديد.
3- الكافي للكليني ج2 ص 159 – 160 بَابُ الْبِرِّ بِالْوَالِدَيْنِ ح9.

فحقّ الأم أعظم على الولد (ذكرًا كان أو أنثى).

مفارقة...

لا ريب أن الأب يفني حياته ويهدم بدنه في سبيل توفير الحياة الكريمة لأبنائه، وأنه لا يستطيع الولد تأدية حقّ أبيه؛ إذ به أصبح له كيان وحياة رغيدة بلا تعب ولاهمّ، والأب لا همّ له سوى توفير ما يحتاجه أولاده، وهو الوحيد الذي يعطي ذلك بالمجّان وبكل رحابة صدر.

لاحظوا: حينما يمرض الوالدان، نرى الولد يرعاهم ويبرّهم، لكن ربما بنية الخلاص منهم، أي إنه ربما يرعاهما وينتظر لحظة موتهما، أمّا رعاية الوالدين لأبنائهم فإنها بنية استمرار حياتهم بنعمة الصحة والعافية.

لماذا كان حقّ الأم أعظم بكثير من حقّ الأب؟

عدة أسباب تجعل حقّ الأم أعظم من حقّ الأب، اختصرها الإمام السجاد(عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) بقوله: وأما حق أمك، فأن تعلم أنها حملتك حيث لا يحتمل أحدٌ أحدًا، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطي أحدٌ أحدًا، ووقتك بجميع جوارحها، ولن تبال أن تجوع وتطعمك، وتعطش وتسقيك، وتعرى وتكسوك، وتظلك وتضحى، وتهجر النوم لأجلك، ووقتك الحر والبرد لتكون لها، وأنك لا تطيق شكرها إلا بعون الله وتوفيقه.(1)

ومن تلك الأسباب:

أولًا: إن الوعاء الذي حمل الولد هي الأم.

قد يقال: إن الأب أيضاً حمَله!

ص: 66


1- أمالي الشيخ الصدوق ص 453.

نعم، ولكن حمَله خفيفاً بلا ثقل أو أذى، بينما الأم تحمله خلال التسعة أشهر تذوق الموت غصة بعد غصة: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلىٰ وَهْنٍ﴾ [لقمان 14]

راحتُها، قوّتُها، وجمالها، كلها تذهب في سبيل حياة ولدها، للحفاظ عليه في قرار مكين، هكذا حتى تأتي ساعة الطلق، وهي حكاية أخرى لمعاناة ترى فيها الموت، ولهذا تعتبر بعض الروايات أن للمرأة التي تعاني ألم الطلق أو تموت أثناء الولادة ثواباً كثواب الشهيد.

ففي رواية طويلة: فقالت حواء: أسألك - يا رب - أن تعطيني كما أعطيت آدم. فقال الرب«عَزَّوَجَل»: إني قد وهبتك الحياء والرحمة والأنس، وكتبت لك من ثواب الاغتسال والولادة ما لو رأيته من الثواب الدائم، والنعيم المقيم، والملك الكبير، لقرت به عينك. يا حواء، أيما امرأة ماتت في ولادتها حشرتها مع الشهداء، يا حواء، أيما امرأة أخذها الطلق إلا كتبت لها أجر شهيد، فإن تحملت وولدت، غفرت لها ذنوبها ولو كانت مثل زبد البحر ورمل البر وورق الشجر، وإن ماتت فهي شهيدة، وحضرتها الملائكة عند قبض روحها، وبشروها بالجنة، وتزف إلى بعلها في الآخرة، وتفضل على سائر الحور العين بسبعين درجة. فقالت حواء: حسبي ما أعطيت.(1)

وهل تنتهي هنا معاناة الام؟ أو هي بداية جهاد جديد؟!

حسب التقارير العلمية فإنّ المشيمة -والتي تعتبر من أهم الأجزاء في حياة الجنين حيث تقوم بعدة وظائف غاية في الأهمية -هي مرتبطة بقلب الأم، فالأم تغذّي ولدها من قلبها، من دمها، من غذائها هي.

لا ترى الأم مشقة في سهرها لراحة ولدها، فهل يكون سهر الولد لراحة أمّه كذلك؟

ص: 67


1- تفسير البرهان للسيد هاشم البحراني (ج3 ص 356)

(ووقتك الحر والبرد لتكون لها، وأنك لا تطيق شكرها) لا يتمكن الولد من أداء شكر الأم مهما اجتهد، فالأم هي الوعاء الذي حمَلك، والحِجْر الذي تدفأت بدفئِه، وعشت في كنفه، ولم تكتب لك حياة إلا برعايتها، ومهما كان عطاء الأب فهو لا يصل إلى مستوى عطائها.

ثانيًا: إن الأم مظهر من مظاهر الرحمة الإلهية.

الروايات الشريفة إذا تحدثت عن رحمة الله«عَزَّوَجَل» تصفها يوم القيامة بأنه حينما ينشر الله تعالى رحمته، فإنه وحتى إبليس يرجو رحمته لما يراه من رحمة.

فعن الإمام الصادق جعفر بن محمد3: إذا كان يوم القيامة نشر الله تبارك وتعالى رحمته حتى يطمع إبليس في رحمته.(1)

ولكي يقرب المعصومون(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) لنا الصورة، يشبهونها برحمة الام.(2)

النبيُّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) رأىٰ يوماً أُمّاً قد فقدت ابنها، وهي تبحث عنه بلهفة وبكاء، وما أن وجدته حتَّىٰ ضمَّته إلىٰ صدرها باكية وانهالت عليه بالقُبَل، فسأل أصحابه عن عظم رحمة الأُمِّ بولدها، ثمّ أخبرهم بأنَّ الله تعالىٰ لأرحم بعباده من هذه الأُمِّ بولدها(3)، فرحمة الله تعالىٰ لا يمكن تصويرها إلَّا برحمة الأُمِّ بولدها.

ولا يعني هذا أنَّ مقدار الرحمة الإلهيَّة هو هذا، ولكنَّه أقرب ما يُوضِّح الصورة.

في بعض القصص الخيالية، ذكروا:

ص: 68


1- في امالي الشيخ الصدوق (ص 273 ح 301 / 2)
2- في التفسير المنسوب للإمام االعسكري (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) ص 37 ورد عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قال: رحيم بعباده المؤمنين، ومن رحمته أنه خلق مائة رحمة، وجعل منها رحمة واحدة في الخلق كلهم، فبها يتراحم الناس، وترحم الوالدة ولدها، وتحنو الأمهات من الحيوانات على أولادها.
3- راجع: صحيح البخاري 7: 75.

أن ملكًا مرضت ابنته، وأجمع الأطباء على أن علاجها لا بد أن يكون قلبًا قد مات صاحبه حديثًا جدًا، فما كان من الملك إلا أن أغرى شابًا ببعض الأموال ليأتيه بقلب أمه، فقيل في هذه القصة شعرٌ يصور الحالة:

أغرى امرؤ يوماً غلاماً جاهلاً *** في أمره حتى ينال به الوطرْ

قال ائتني بفؤاد أمك يا فتى *** ولك الجوائز والجواهر والدررْ

فمضى وأغرز خنجراً في صدرها *** والقلبَ أخرجه وعاد على الأثرْ

لكنه من فرط سرعته هوى *** فتمزّق القلب المعفّر إذ عثرْ

ناداه قلب الأم وهو معفر *** ولدي، حبيبي، هل أصابك من ضررْ! (1)

فعلًا قلب الأم هكذا...

هل رأيتم في حياتكم: كم ولدًا ترك أمه وحدها في البيت، تركها تعاني الأمرّين، ولكنه بمجرد أن يرجع إليها فإنها تنسى كل إساءة له، وتغفر له، وتبكي بين يديه، وليس الأب كذلك كما هو واضح.

ثالثًا: إن الأم تحتاج إلى ولدها أكثر من احتياج الأب لولده.

ولذا يقول الإمام (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): (لتكون لها)، فهي تحتاج إليك في كبرها، تحتاجك عندما

ص: 69


1- انظر الأبيات في شرح رسالة الحقوق للإمام زين العابدین (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) ص 553. 554، وقال بعد هذه الأبيات: فنظم بعضهم أبياتًا تفي الموضوع حقه، وتبين حالة الغلام بعد عطف القلب عليه: فكأن هذا الصوت رغم حنوه *** غضب السماء به على الولد انهمر ودرى فظيع خيانة لم يأتها *** ولد سواه منذ تاريخ البشر فارتدّ نحو القلب يغْسله بما *** فاضت به عيناه من سيل العبر ويقول يا قلب انتقم مني ولا *** تغفر، فإن جريمتي لا تغتفر واستلّ خنجره ليطعن قلبه *** طعنًا فيبقى عبرة لمن اعتبر ناداه قلب (الأم) كُفّ يدًا ولا *** تذبح فؤادي مرتين على الأثر!

تمرض، عندما تحتاج شيئًا ما، هي أعظم حاجة لك من الأب.

حقوق الوالدين.

لذلك رتبت الروايات الشريفة حقوقًا هي من البر للوالدين، ومنها:

الحق الأول: البر بهما: فلا يجوز للولد أن يفعل ما من شأنه أن يؤذي الوالدين شفقة منهما عليه، حتى لو كان هو السفر للدراسة مثلًا.(1)

وقد روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) فيما علّمه رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): من أحزن والديه فقد عقّهما.(2)

الحق الثاني: خدمتهما: اخدم والديك ما أوتيت إلى ذلك سبيلاً.

تصورْ أنك تجلس غدًا صباحًا، وفجأة وجدت أمك وأباك قد ماتا جميعًا، حينها، كم من الصور التي ستأتي إلى ذهنك، كم من الأمور التي سترغب أن تكون قد عملتها لهما؟!

إذاً، من الآن افعلها معهما قبل أن تذهب الفرصة منك فتكون غصة.

روي أنه قال عمر: كنا مع رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) على جبل، فأشرفنا على وادٍ، فرأيت شابًا يرعى غنماً له أعجبني شبابه فقلت: يا رسول الله، وأي شاب لو كان شبابه في سبيل الله؟ فقال النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): يا عمر، فلعله في بعض سبيل الله وأنت لا تعلم، ثم دعاه النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) فقال: يا شابُّ، هل لك من تعول؟ قال: نعم. قال: من؟ قال أمي. فقال النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): الزمها، فإن عند رجليها الجنة...(3)

ص: 70


1- لاحظ: فقه المغتربين للسيِّد السيستاني (ص 230 - 233) و الفتاوىٰ الميسَّرة للسيِّد السيستاني (ص 435 و436).
2- الخصال للشيخ الصدوق ص 621 حديث أربعمائة.
3- كنز العمال (ج4 ص 607 ح 11760).

اخدم أمك، وإياك أن تقدم أي أحد عليها، انتبهوا: أن الزوجة تتبدل، والصديق يتبدل، وكل شيء يمكن استبداله، إلا الأم! اللهم إلا إذا كانت المسألة متعلّقة بحق الله تعالى، وبالدين، وبإمام الزمان.

والحاصل مما تقدم:

1/ أن حق الأبوين عظيم جداً ولو كانا غير مؤمنين، ولا يُعذر فيه الولد، إلا ما تعارض مع حق الله تبارك وتعالى.

2/أن البر بهما يرجع إيجاباً على الولد ببِّر أولاده له، والعكس بالعكس.

3/ أن طريقة تعاملنا مع والدينا سترسم الطريق لأولادنا في كيفية تعاملهم معنا في المستقبل، وهذا يعني: أنك إذا رميت والديك في دور العجزة، فاحجز لنفسك سريراً؛ لتختصر المسافة على أولادك!

4/علينا أيضاً أن ندفع أولادنا على بر أجداهم –أبوينا نحن- وخدمتهم وعدم التردد في قضاء حوائجهم، فإن ذلك نوع من البِرّ بلا شك.

5/دع أولادك يرون برك بوالديك، إنْ في حياتهما، وإنْ بعد وفاتهما، فهذا يرسم الطريق لهم أيضاً لبرِّك حياً أو ميتاً.

6/وأخيراً، من كان أبواه حيين فليستعجل ببرّهما، وليغتنم دعواتهما، وإلا، فليبرّهما وهما ميتان، وليتذكر ما روي عن أَمِير المُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنه قال: زُورُوا مَوْتَاكُمْ، فَإِنَّهُمْ يَفْرَحُونَ بِزِيَارَتِكُمْ، ولْيَطْلُبْ أَحَدُكُمْ حَاجَتَه عِنْدَ قَبْرِ أَبِيه وعِنْدَ قَبْرِ أُمِّه بِمَا يَدْعُو لَهُمَا.(1)

ص: 71


1- الكافي للكليني ج3 ص 229 – 230 بَابُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ ح10.

ص: 72

المفردة الثانية: العلاقة الزوجية

اشارة

عندما نقرأ تاريخ البشرية، نجد أن العلاقات بنوعيها (الأفقية والعامودية) كانت قد وُلِدت منذ أن وضعَ الإنسان الأول (آدم وحواء) قدميه على هذه الأرض، وحيث إنهما كانا موحِّدين، فإن علاقتهما مع ربّ العالمين (العامودية) كانت صحيحة، وأما العلاقة الأفقية الأولى التي وُجِدَت على هذه الأرض فهي علاقة آدم بحواء، علاقة الزوج بزوجته، بعبارة حديثة هي: علاقة الأسرة.

علماء الإنسان عندما بحثوا في تاريخ البشرية قسموه لمراحل ثلاث:

1- مرحلة الهمجية.

2- مرحلة البربرية.

3- مرحلة الحضارة.

البعض لمّا بحث في تاريخ الأسر، بحث مثلًا في تاريخ الفراعنة وكيف كانت الأسرة، وكيف كان التعامل معها، والأسرة عند البابليين، والآشوريين، إلى أن يصل إلى العصور الاخيرة.

وبغضّ النظر عن هذه الأبحاث التاريخية والنفسية، فإنّ علاقة الأسرة هي علاقة واقعية لا يمكن لنا أن نُنكِرَ ضرورتها وواقعيتها، وخصوصاً في البلاد الشرقيّة، نجد أنّ للحياة الأسرية موضعًا مهمًا في حياة المجتمع، ومما يكشف عن ذلك هو التعبير الذي نردّده دوماً: (الأسرة هي اللبنة الأولى لتكوين المجتمع).

ص: 73

أنماط التعامل مع الأسرة:

الأمر المهم الذي تجدر بنا الإشارة إليه هو:

أنّ هناك أنماطًا متعدّدة من الأُسَر، هذه الأنماط المختلفة أخذت أشكالاً متباينة؛ نظراً لظروف كثيرة مرّ بها الناس، بعضها ظروف اقتصادية، وأخرى ثقافية، ونفسية وغيرها، النتيجة هي أننا لو عملنا استقراء لأنواع الأُسَر من حيث التعامل معها فيمكن أن نجد عدّة أنماط، منها:

النمط الأول: النمط الرأسمالي الاقتصادي:

إنّ البعض ينظر للأسرة على أنّها مؤسسة مالية ربحية، فيها طرفان، كلٌّ له مصدره المالي، يشتركان لتكوين هذه الأسرة.

لا يوجد إشكال في هذا المقدار، ولكن تنشأ المشكلة إذا تحولت النظرة للأسرة إلى كونها مصدرًا يدرّ دخلًا اقتصاديًا لأفراد الاسرة، لا أكثر من هذا.

في البلاد الغربية ربما هذه النظرة هي السائدة في علاقاتهم الأسرية، فيحدث هناك تكوين علاقة ينتج عنها إنجاب أطفال ولكن دون زواج (علاقة غير شرعية)، والسبب: أن هناك إعانة من الدولة للفتاة، فإذا تزوجت فستنقطع هذه الإعانة!

بعضهم لا يتزوج، والسبب -حسب اعتقاده- أنّ من الغباء أن يجعل امرأة غريبة ترث أمواله!

المرأة في تلك البلدان تشكل عنصرًا كادحًا لديمومة وخدمة الأسرة، تعمل كالرجال لتسد احتياجات نفسها واحتياجات أسرتها، والزوج لا علاقة له باحتياجات زوجته.

هذه النظرة بهذه الكيفية لا تترك مجالًا للأواصر الأسرية العاطفية والروحية أن

ص: 74

تقوى، ولا ينتج منها تلك المودة والرحمة التي تكون بين الزوج وزوجته؛ لذا قد نسمع أنه وعند موت بعض الأثرياء فإنهم يوصون بثروتهم لحيواناتهم، لأن الحيوان يكون أقرب لهم من أفراد أسرتهم!

إن مجتمعاتنا الشرقية وإن لم تكن بهذا السوء، إلا أنّ الأفكار المنحرفة لتلك المجتمعات بدأت تتنصّل إلينا، تبحث عن موطئ قدم ولو خلسة، فمثلًا توجد نظرة –ولو جزئية وعلى مستوى معين- في المجتمع في الآونة الأخيرة توجب امتناع زواج الشباب إلا من موظفة؛ وذلك لأنّها تملك مصدرًا ماليًا مستقلًا يُمكِّنها من أن تُعيل نفسها، وهذا من نوع التعامل الاقتصادي الربوي مع الزوجة!

بعض الآباء يفكّر بلزوم إتمام ابنته للدراسة، لا لكي تأخذ مقدارًا من العلم تنفع به نفسها ومجتمعها، وإنما من أجل أن تؤمّن مستقبلها فلا تعود بحاجة إلى زوجها في شيء!

هذا لا يعني أن الإسلام ضد ثقافة المرأة ودراستها، بل هو يشجع على أن تكون المرأة طبيبة ومعلمة وغيرها، ولكن هناك نقطة يجب الالتفات اليها وهي:

أن النظرية الإسلامية تنظر للمرأة على أنّها ملكة في بيتها، ويجب على الزوج النفقة عليها وتوفير جميع احتياجاتها، وإنْ كان للزوجة مصدر مالي مستقل. لا أن يحوّل المرأة إلى بنك، فتتحول العلاقة إلى تعامل مادي صرف، ويُصبح محور التعامل هو المال، مما يؤدي إلى الفتور العاطفي –إن لم يصل إلى الطلاق العاطفي- والتفكّك في العلاقة.

هذا النمط يُنتج زوجًا متكاسلًا عن أداء حقوق زوجته، كما أنه سيصبح شخصاً اتكالياً، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى تبادل الأدوار، بأن تأخذ المرأة دور القيمومة على الرجل، وهنا ستصبح الأسرة عبارة عن: إما مؤسسة تجارية، متى ما توقفت أرباحها ستنتهي، أو إلى انقلاب المعادلة، وستكون النساء حينها قوامات على الرجال!

ص: 75

النمط الثاني: النمط الانتقائي:

أي أن يكون اختيار الزوج للزوجة هو بحسب المزاجية، فبمجرد أن يُعجبه شكلها –من النظرة الأولى- مثلاً فهو يختارها زوجة، دون مراعاة المعايير والضوابط الإسلامية أو حتى العقلائية في الاختيار.

ومما يؤسف له أن الجمال لا يحمل صفة الديمومة، فهو يذهب بمرور السنين، أو بعد الولادة لأول طفل، أو حتى بالتعرض لحادث مفاجيء (وكذا غاية الغصون الذبولُ)، كما أنّ الجمال ليس له مستوىً واحد، بل هو بنسب متفاوتة ومتنوعة، فكلّ جميل يوجد من هو أجمل منه، وهكذا يبقى الانتقائي ينتقل من جميلة إلى أجمل، وهكذا.

على أن هناك من النساء من تختار الزوج على أساس الجمال أيضاً.

وهذا الأساس للعلاقات غير رصين.

أيضاً اختيار الزوج أو الزوجة لأجل الأموال فقط، هو نمط انتقائي، إذ إن المال كالزئبق، كلما حاولت الإمساك به، انساب من بين أصابعك، فالتقلبات الاقتصادية وتغيّرها متوقعة، فيمكن أن تذهب بالمال أدراج الرياح.

هذا أيضاً أساس موهون وغير متين لتأسيس علاقة.

ومنه ما يكون الاختيار فيه عن طريق الأب أو الأم من دون أن يكون للزوج أو الزوجة إرادة في ذلك، كما قد تفرض بعض الأعراف ابنة العم لابن العم، وهذا أيضاً غير صحيح.

بعض الشباب يوكل اختيار الزوجة للأب والأم، وهذا –نوعًا ما- صحيح في مستوى معين، هو صحيح في مستوى عمق تجربة الأبوين في اختيار الصالح، وفي نظرتهم البعيدة، يشفع في كل ذلك حبُّهما لولدهما وبحثهما له عن الأصلح، ونفس

ص: 76

الكلام يُقال في البنت، ولكن بالتالي هو من عليه أن يحدد الصفات التي يرغب بتوفرها في زوجة المستقبل.

وكذا على الفتيات أن يُحسنّ الاختيار ويحدّدْنَ الصفات التي تريدها.

هذا النمط يؤدي في بعض الأحيان إلى أن يحاول الطرف الآخر البحث عن أقرب فرصة للخلاص من هذا السجن، أو من هذه العلاقة الخالية من روح التعاطف والودّ، وربما –ولو على المدى البعيد- يفتح الباب للخيانة ولو بالتدريج، وحينها قد تقع كارثة بالأسرة لا تنتهي إلا بهدّها!

النمط الثالث: النمط الجاف (الصحراوي):

في هذا النمط قد يكون الاختيار صحيحًا من البداية، ولكن بعد فترة قليلة من الزواج -وشيئاً فشيئاً- تبدأ العلاقة بالجفاف العاطفي.

الجفاف العاطفي هو ما يسمى في علم النفس (بالطلاق العاطفي)، ففعلياً الزوجان معاً ويعيشان في بيت واحد، ولكنْ كلّ واحد منهما يعيش عالمه، لا يوجد بينهما ودّ، ولا تقارب، وقد يتناسى كلّ واحد منهما أن هناك طرفًا آخر معه في العلاقة يحتاج إلى الاهتمام والرعاية...

نمط لا يُرى للتعاطف، والتسامح، والودّ، أثر فيه، فتجد الرجل او المرأة -كلٌّ منهما- منشغل بعالمه الخاص وبمهامّه وعلاقاته الثانوية، وهذا ما يؤدي الى تصحّر تلك العلاقة.

النمط الرابع: النمط الإسلامي الواقعي:

وهو نمط ﴿خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الروم 21]

ص: 77

الذي تجد المرأة نفسها فيه أميرة مملكتها، والرجل يعتبر بيته المكان الوحيد الذي يرتاح فيه نفسيًا ويزيح فيه همومه.

هذا النمط هو الذي يُشير إليه الإمام زين العابدین (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) ويرسم خطوطه العامة في قوله(عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «وأما حق الزوجة، فأن تعلم أنّ الله«عَزَّوَجَل» جعلها لك سكنًا وأُنسًا، فتعلم أن ذلك نعمة من الله عليك، فتكرمها وترفق بها، وإنْ كان حقُّك عليها أوجبَ، فإن لها عليك أن ترحمها؛ لأنها أسيرك، وتطعمها وتكسوها، فإذا جهلت عفوت عنها».(1)

«وأما حقّ الزوجة فأن تعلم أن الله جعلها لك سكناً وأُنساً» وليست الزوجة فقط من تُشكّل سكناً وأُنساً للزوج، كذلك الزوج يُشكّل سكناً وأُنساً للزوجة، فكلاهما أُنس وسكن للآخر، وإذا توفر هذا النوع من العلاقة فإنه سيترتب عليها أثر، وهو ما يشير إليه إمامنا زين العابدین (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «وتعلم أنّ ذلك نعمة من الله» فحصول كلا الطرفين على من يُمثّل له الأُنس والسكن هي نعمة عظيمة من الله«عَزَّوَجَل».

إذا توفرت هذه الزوجة بهذا الوصف فعليك أيها الزوج «أن تُكرمها»، فتلك المرأة التي كانت مدلّلة في بيت والدها أصبحت زوجة لك، أعطت لزوجها أغلى ما تملك، فعليك أن ترفق بها وتراعيها.

ثم يقول إمامنا السجاد (سلام الله عليه): «وإن كان حقّك عليها أوجب» نعم، فحقّ الزوج أعظم، فالرواية عن النبي الأعظم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) تقول: ﴿لَوْ أَمَرْتُ أَحَداً أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ لأَمَرْتُ المَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا».(2)

ص: 78


1- الخصال للشيخ الصدوق ص 567.
2- في الكافي للكليني (ج5 ص 507 - 508 باب بَابُ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى المَرْأَةِ ح6) عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «أَنَّ قَوْماً أَتَوْا رَسُولَ الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله، إِنَّا رَأَيْنَا أُنَاساً يَسْجُدُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. فَقَالَ رَسُولُ الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): لَوْ أَمَرْتُ أَحَداً أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ لأَمَرْتُ المَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا».

بل روي في حق الزوج على زوجته: «هو جنتكِ وناركِ».(1)

إلا أنّ الإمام (صلوات الله وسلامه عليه) يقول: «فإنّ لها عليك أن ترحمها لأنّها أسيرك، وتطعمها، وتكسوها» وهذه النفقات الواجبة للزوجة على الزوج «وإذا جَهِلتْ عفوتَ عنها».

بهذه الخطوط العامة تتأسس لدينا أسرة اسمها (أسرة المودة والرحمة).

بعض العلماء عنده التفاتة لطيفة يقول: هذه المودة تكون بين الزوجين في مرحلة الشباب، ولكن بعد الكِبَر هناك قضايا تذهب وتبقى بينهم الرحمة.

كيف يتحقق هذا النوع من الأُسر؟ وكيف يمكننا الوصول إليه؟

هناك عدّة محاور لابدّ من مراعاتها لتحقيق ذلك:

المحور الأول: المحور الإداري:

اشارة

إذا نظرنا إلى الأسرة من جانب إداري، فإنها عبارة عن مؤسسة، ولكنها مصغّرة، وإذا لم يكن هناك تنظيم وفق منهجية وهيكلية إدارية معينة، فستعمّ الفوضى داخل هذه المؤسسة الصغيرة، والإسلام يرسم خطوط هذا التنظيم، فالولاية للأب «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته».(2)

ص: 79


1- في مسند أحمد ج6 ص 419: عن حصين بن محصن أن عمة له أتت النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) في حاجة ففرغت من حاجتها فقال لها: أ ذات زوج أنت؟ قالت: نعم. قال: فأين أنت منه. قال يعلى: فكيف أنت له؟ قالت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه. قال: انظري أين أنت منه، فإنه جنتك ونارك.
2- في عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الإحسائي ص 129 الفصل الثامن ح 3: قال(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته. فالإمام راع وهو المسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راع، وهو مسؤول عن رعيته. والمرأة في بيت زوجها راعية، وهي مسؤولة عن رعيتها. والخادم في مال سيده راع. وهو مسؤول عن رعيته. والرجل في مال أبيه راع، وهو مسؤول عن رعيته. وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.

وهذه مسؤولية عظيمة تقع على عاتق الأب، إذ يفترض به أن يتعامل مع الأم والأولاد بالشكل الذي لا يخرجهم عن جادة الصواب، وذلك عن طريق توفير احتياجاتهم المادية والمعنوية، وعدم إهمالهم، وتوفير جميع أسباب الحياة الكريمة، بالإضافة إلى متابعة كل فرد من أفراد هذه الأسرة على كل المستويات، كلّ ذلك مترتب على قيمومة الرجال على النساء وإعطائه دور الولاية على الاسرة.

ويترتب عليه: أن البنت الباكر لا يحقّ لها أن تتزوج إلا بإذن أبيها أو جدّها لأبيها، والزوجة لا يحقّ لها الخروج من بيت زوجها إلا بإذنه، نعم توجد مستثنيات، كخروج المرأة للحج الواجب، حتى لو لم يأذن لها الزوج بالخروج، لأنه فرضٌ فرضه الله«عَزَّوَجَل» عليها.

وكما أن للزوج حقّ الإدارة، فالزوجة أيضاً يجب أن يكون لها دور داخل الأسرة، ومن الخطأ أن لا يجعل الزوج أي دور واحترام للزوجة داخل الأسرة.

كما يجب أن تحافظ الزوجة على احترام زوجها داخل الأسرة بحضوره وغيابه.

المحافظة على أجواء الاحترام عمومًا داخل الأسرة أمر ضروري.

ولابدّ من التنظيم الإداري وتوزيع المهام بين الزوجين، وأن يكون بينهما اتفاق على كيفية حلّ المشاكل بعقلائية كي يلجأ الأولاد للأم أو الأب في حال تعرضهم لمشكلة معينة.

وبهذا نضمن بقاء الأبناء تحت إشراف الوالدين، وعدم لجوئهم للغريب لحلّ مشاكلهم.

إن مراعاة هذه الامور المهمة من شأنها أن تتكفل بتكوين أسرة يسودها الودّ والتفاهم.

ص: 80

المحور الثاني: العلاقة الشخصية بين الرجل والمرأة:

في رواية عن الرسول الأعظم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «قَوْلُ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ إِنِّي أُحِبُّكِ لَا يَذْهَبُ مِنْ قَلْبِهَا أَبَدًا»..(1)

كلمة بسيطة قد يكون كلا الطرفين يبذلها لجميع الناس، ولكن حينما يصل الدور لشريك حياته يشحّ بها عليه، سواء الزوج أو الزوجة، في حين أنها يجب أن تكون بينهما بكثرة؛ لأن الكلام الجميل يعمل عمل الماء في الأرض اليابسة.

وهناك جانب آخر للعلاقة الشخصية، وهو: التهيؤ والتزين، عادة ما تهتمّ المرأة بزينتها ومظهرها، ولكنّ الرجال –بعضهم على الأقل وليس جميعهم- وللأسف لا يهتم بهذا الجانب.

عن الحسن الزيّات البص-ري، قال: دخلت علىٰ أبي جعفر(عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنا وصاحب لي، وإذا هو في بيت منجَّد (أي مزيَّن)، وعليه ملحفة وردية، وقد حفَّ لحيته واكتحل، فسألناه عن مسائل، فلمَّا قمنا قال لي: «يا حسن»، قلت: لبَّيك، قال: «إذا كان غدٌ فائتني أنت وصاحبك»، فقلت: نعم جُعلت فداك، فلمَّا كان من الغد دخلت عليه وإذا هو في بيت ليس فيه إلَّا حصير، وإذا عليه قميص غليظ، ثمّ أقبل علىٰ صاحبي فقال: «يا أخا أهل البص-رة، إنَّك دخلت عليَّ أمسِ وأنا في بيت المرأة، وكان أمسِ يومَها، والبيت بيتها، والمتاع متاعها، فتزيَّنَتْ لي علىٰ أن أتزيَّن لها كما تزيَّنَتْ لي، فلا يدخل قلبَك شيء»، فقال له صاحبي: جُعلت فداك، قد كان والله دخل في قلبي شيء، فأمَّا الآن فقد والله أذهب الله ما كان، وعلمت أنَّ الحقَّ فيما قلتَ».(2)

وهل يوجد من هو أعلم وأورع وأزهد من الإمام الباقر (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)؟ ومع ذلك نراه أعطى

ص: 81


1- الكافي للكليني ج5 ص 569 باب نوادر ح 59.
2- الكافي للكليني (6: 448 و449/ باب لبس المعصفر/ ح 13.)

للزوجة حقوقها.

وعَنِ الْحَسَنِ بْنِ جَهْمٍ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا الْحَسَنِ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) اخْتَضَبَ فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، اخْتَضَبْتَ؟! فَقَالَ: نَعَمْ، إِنَّ التَّهْيِئَةَ مِمَّا يَزِيدُ فِي عِفَّةِ النِّسَاءِ، ولَقَدْ تَرَكَ النِّسَاءُ الْعِفَّةَ بِتَرْكِ أَزْوَاجِهِنَّ التَّهْيِئَةَ. ثُمَّ قَالَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): أيَسُرُّكَ أَنْ تَرَاهَا عَلَى مَا تَرَاكَ عَلَيْه إِذَا كُنْتَ عَلَى غَيْرِ تَهْيِئَةٍ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): فَهُوَ ذَاكَ، ثُمَّ قَالَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): مِنْ أَخْلَاقِ الأَنْبِيَاءِ التَّنَظُّفُ والتَّطَيُّبُ وحَلْقُ الشَّعْرِ وكَثْرَةُ الطَّرُوقَةِ...».(1)

وفي رواية أخرى أنَّ الإمام الرضا (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قال له: «... أمَا علمت أنَّ في ذلك لأجراً؟ إنَّها تُحِبُّ أن ترىٰ منك مثلَ الذي تُحِبُّ أن ترىٰ منها في التهيئة، ولقد خرجْنَ نساءٌ من العفاف إلىٰ الفجور، ما أخرجهنَّ إلَّا قلَّةُ تهيُّؤ أزواجهنَّ».(2)

لو لم تتحقق التهيئة من الرجل، فلعل المرأة تبدأ بالنظر للخارج، خصوصًا وأن بعض العوائل تسمح للمرأة بالنظر –ولو من خلال التلفاز-، وهنا ستبدأ بملاحظة الفرق بين زوجها وزوج صديقتها مثلًا! وهذا ما يؤدي إلى مخاطر جسيمة لا تحمد عقباها، فعلى الرجل أن يهتم بنفسه وبنظافته، فالرسول الأكرم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) كان لا يخرج إلى أصحابه حتى يمشط شعره ويضع العطر(3)،

وأئمتنا (صلوات الله وسلامه عليهم) أيضاً لم يُروا على حال سيئة، فقد كانوا يهتمون بأنفسهم.

في نمط آمن للأسرة مثل هذا، قد توفرت فيه هذا المقتضيات، ستجد السعادة تملأ أرجاءه، وسترى بيتاً مليئاً بالودّ والحبّ ومليئاً بروح التعاون، رغم قلّة ذات اليد وصعوبة الحياة.

بيت أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) ماذا كان فيه؟ السيدة فاطمة

ص: 82


1- الكافي للكليني 5: 567/ باب نوادر/ ح 50.
2- مكارم الأخلاق للطبرسي: 81.
3- مكارم الأخلاق للطبرسي: 32- 33.

الزهراء (سلام الله عليها) زُفت وهي لا تملك سوى ثوبين، ثوب الزفاف وثوب تلبسه، وفي صباح العرس طرقت الباب فقيرة فأعطتها ثوب الزفاف هدية، طحنت بيدها حتى مجلت يداها، وكنست البيت حتى اغبرّ وجهها، وكان أمير المؤمنين (سلام الله عليه) يساعدها في تنقية العدس، وما كان من عملٍ خارج البيت يتكفله هو، فأصبح بيته يضرب به المثل في التعاون والحبّ والمودة والرحمة.

من كل ما تقدم نخلص إلى التالي:

1/إن التفاهم والمودة المتبادلة بين الزوجين، ستنعكس إيجاباً على حياة الأولاد؛ إذ سيعيشون الاطمئنان ويستشعرون الأمان في داخل البيت، على عكس الزوجين الذينِ تملأ حياتهما المشاكل والمشاكسات، فإن البيت حينها سيتحول إلى سجن للأولاد، وسيبحثون عن متنفّس لهم خارجه، وحينها قد تسرقهم المقاهي الموبوءة أو الأماكن المشبوهة!

2/ على الأبوين أن يُقدّما النصائح المهمة للأولاد فيما يتعلق باختيار الزوجة –أو الزوج للبنت-، ويتركا لهم الخيار، لكن لو صادف أن اختيار الأولاد كان خاطئاً –بحكم العقل والشرع- فعلى الأبوين أن يقفا وقفة قوية ضدّ ذلك، وحتى لو أحسّ الأولاد بتجبّر الآباء –حسب نظرتهم السطحية والساذجة- لكنهم عاجلاً أو آجلاً سيرضخون للحقيقة، وسيعرفون أن الأبوين كانا على صواب.

طبعاً هذا لا يبرر تعسّف بعض الآباء وإجبار الأولاد على الزواج من دون رغبة ولا تخطيط ولا تكافؤ.

3/ التغافل عن المشاكل، والصبر، والهدوء، وعدم استعجال الحكم، أمور ضرورية جداً لاستمرار سفينة الأسرة بالإبحار في عباب بحار الحياة، وإلا، فإنها ستغرق في أول موجة مشاكل ولو كانت بسيطة.

ص: 83

ص: 84

المفردة الثالثة: العلاقة مع الأولاد

اشارة

العلاقات في مجملها يمكن أن نقسمها إلى قسمين:

القسم الأول: علاقات ذات حقوق من طرف واحد.

أي إنه توجد منظومة حقوق، لكنها من طرف واحد، والطرف الآخر ليس له إلا الواجبات والإلزامات تجاه الطرف الأول.

كيف يمكن لنا ان نتصور هذا النوع من العلاقة؟

نذكر لذلك مفردتين:

المفردة الأولى: هي علاقتنا مع الله«عَزَّوَجَل» ونبيّه(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) والأئمة(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ)، فالحقوق في هذه العلاقة من طرف واحد، فإن لله«عَزَّوَجَل» حقوقًا علينا نابعة من كونه مالكاً حقيقياً لنا وهو الرازق والمنعم علينا، فتترتب على أثر تلك النعم الكثيرة علينا بأن لله تعالى حقوقًا علينا.

وهل يتولد حقٌّ للإنسان على الله«عَزَّوَجَل» إذا التزم بتأدية الواجبات وترك المحرمات؟

الجواب: كلا، لا يوجد أي حق للإنسان على الله«عَزَّوَجَل»؛ لأنّ كل ما لديه هو في الحقيقة منه سبحانه، فمثلًا لولا العقل الذي وهبه الله«عَزَّوَجَل» للإنسان لما تنعَّم بنعمة الهداية لطاعته سبحانه، ولولا رزق الله«عَزَّوَجَل» لما أنفق في سبيله تعالى... وهكذا لو تأمل الإنسان لوجد أنّه لا يملك سوى أن يقدّم الشكر لله«عَزَّوَجَل»، وحتى هذا الشكر هي نعمة لا بد من أداء حق شكرها، وكما يبين إمامنا السجاد (صلوات الله عليه) في مناجاة الشاكرين ذلك ويعلمنا أنّه إنما يكون بتوفيق من الله سبحانه: ﴿فَكَيْفَ لِي بِتَحْصِيلِ الشُّكْرِ وشُكْرِي إِيَّاكَ يَفْتَقِرُ

ص: 85

إِلَى شُكْرٍ فَكُلَّمَا قُلْتُ لَكَ الْحَمْدُ وَجَبَ عَلَيَّ لِذَلِكَ أَنْ أَقُولَ لَكَ الْحَمْدُ﴾.(1)

فلا يتصورَنّ أحدٌ أنه بمجرد تأديته لما عليه من حقوق تجاه ربّ العالمين، أنّه يستوجب بذلك حقوقاً له على الله جلّ وعلا.

عنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: خَرَجَ أَبُو عَبْدِ الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) مِنَ المَسْجِدِ وقَدْ ضَاعَتْ دَابَّتُه، فَقَالَ: لَئِنْ رَدَّهَا الله عَلَيَّ لأَشْكُرَنَّ الله حَقَّ شُكْرِه. قَالَ: فَمَا لَبِثَ أَنْ أُتِيَ بِهَا فَقَالَ: الْحَمْدُ لله. فَقَالَ لَه قَائِلٌ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، ألَيْسَ قُلْتَ لأَشْكُرَنَّ الله حَقَّ شُكْرِه؟ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): ألَمْ تَسْمَعْنِي قُلْتُ: الْحَمْدُ لله.(2)

وعَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قَالَ فِيمَا أَوْحَى الله«عَزَّوَجَل» إِلَى مُوسَى(عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): يَا مُوسَى، اشْكُرْنِي حَقَّ شُكْرِي. فَقَالَ: يَا رَبِّ وكَيْفَ أَشْكُرُكَ حَقَّ شُكْرِكَ، ولَيْسَ مِنْ شُكْرٍ أَشْكُرُكَ بِه إِلَّا وأَنْتَ أَنْعَمْتَ بِه عَلَيَّ؟! قَالَ: يَا مُوسَى، الآنَ شَكَرْتَنِي حِينَ عَلِمْتَ أَنَّ ذَلِكَ مِنِّي.(3)

نعم، إن الله تعالى من رحمته وجوده وكرمه وعدَنا بأن يُدخلنا الجنّة إذا ما أدّينا الواجبات واجتنبنا المحرمات، فالجنّة ليست من استحقاقنا، وإنّما هي بفضل من الله تعالى وجوده ورحمته، وهذا ما تشير له مضامين أدعية الأئمة(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) بما مضمونه: «اللهم لا تعاملنا بعدلك وإنّما برحمتك»، فمن دعاء الإمام الحسين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يوم عرفة: «وأَنَّكَ الْحَكَمُ الْعَدْلُ الَّذي لا تَجُورُ، وعَدْلُكَ مُهْلِكي، ومِنْ كُلِّ عَدْلِكَ مَهْرَبي، فَإِنْ تُعَذِّبْني يا إِلهي فَبِذُنُوبي بَعْدَ حُجَّتِكَ عَلَيَّ، وإِنْ تَعْفُ عَني فَبِحِلْمِكَ وجُودِكَ وكَرَمِكَ.».

لو تعامل الباري جل وعلا معنا بعدله لأنتج: ﴿وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً

ص: 86


1- من مناجاة الشاكرين.
2- الكافي للكليني (ج2 ص 97 باب الشُكْر ح18).
3- الكافي للكليني (ج2 ص 98 باب الشُكْر ح27).

وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [النحل 61]

﴿وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلىٰ ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً﴾ [فاطر 45].

ولذلك فإنه: ﴿ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم 41]

فلو تعامل معنا الله تعالى وبالدقة وحاسَبَنا على الصغيرة والكبيرة، ل-مَ-ا بقي على وجه الأرض أحد.

إذاً، لله«عَزَّوَجَل» الحقّ علينا ولاحقّ لنا عليه سبحانه، وهذا من الحقوق التي هي من جانب واحد.

ويدخل في طول حقه جل وعلا حقّ النّبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وحقّ الإمام (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ).

المفردة الثانية: العطاء من دون مقابل.

كأنْ يُكرِمك إنسان لا تربطك به معرفة سابقة، وليس لك أيّ حق عليه، ولا ينتظر منك مقابلًا، سيصبح هو صاحب حق، وليس للطرف المقابل أي حق عليه.

القسم الثاني: علاقات ذات حقوق متبادلة أو منعكسة.

أي أن يكون لطرف حقّ على الطرف الآخر، وبنفس الوقت عليه واجبات تجاه الطرف الآخر، كحقّ الزوج على الزوجة وحقّ الزوجة على الزوج، صاحب العمل أيضًا عليه وله حقوق متبادلة تجاه من يقوم له بالعمل.

ومنه نعلم أن البعض يعيش خللاً منهجياً، حيث ينظر للحقّ الذي له ولا ينظر للواجبات التي عليه! فيجب أن يكون التوازن حاضراً في هذا الجانب.

ومن الحقوق المتبادلة أيضاً هي حقوق الآباء والأبناء.

ص: 87

نحن كثيراً ما نتحدث عن حقوق الوالدين وبرّهم، ولكنّنا نتناسى أنه كما أن للوالدين حقوقًا على الولد، فإن هناك حقوقًا للولد على والديه، والإنسان إذا لم يعتنِ بهذا الحقّ المتبادل، فإنه يقع في خلل منهجي، ولعله يحكم على المنظومة الإسلامية بأن فيها خللًا؛ لأنّ الطرف الآخر صار مهمشاً!

ماهي حقوق الأبناء التي يلزم على الآباء مراعاتها؟

قال الإمام السجاد (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): وأما حق ولدك: فأن تعلم: أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره، وأنك مسؤول عما ولّيته من حسن الأدب، والدلالة على ربه«عَزَّوَجَل»، والمعونة له على طاعته، فاعمل في أمره عمَلَ من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه، معاقب على الإساءة إليه.(1)

يمكن لنا أن نخرج بجملة من الحقوق للأبناء على الآباء من مجمل هذه الكلمة، ومنها:

1/صناعة السمعة الطيبة.

أي أن يصنع الوالدان سمعة حسنة لولدهما بين أصدقائه ومعارفه، وذلك عن طريق:

أ/ اختيار الزوجة الصالحة، لأنه إذا أساء الاختيار فسيؤثر سلباً على سمعة أبنائه مستقبلاً، وهذا أمر وجداني واقعي. وقد جاء في الروايات: (طوبى لمن كانت أمه عفيفة).(2)

ص: 88


1- الخصال للشيخ الصدوق ص 568.
2- في علل الشرائع للشيخ الصدوق (ج2 ص 564 باب 363 العلة التي من أجلها لا يدخل ولد الزنى الجنة) عن سعد بن عمر الجلاب قال: قال لي أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): إن الله تعالى خلق الجنة طاهرة مطهرة فلا يدخلها إلا من طابت ولادته، وقال أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) طوبى لمن كانت أمه عفيفة.

وكذا الحال بالنسبة للمرأة، فإن عليها اختيار الزوج الصالح، لأن الاختيار المناسب سيوجد سمعة طيبة للأبناء.

ب/ أن يراعي الآباء والأمهات تصرفاتهم، لأنها إذا لم تكن على مستوى المسؤولية فإنها ستنعكس سلباً على سمعة أبنائهم.

قد لا يبالي الفرد بما يعمله من سلوكيات خاطئة، ولكن ليكن معلوماً أن تصرفاته ربما تتحول إلى عنوان يوصم به أولاده، فالناس ربما لا تنسب الفعل إلى فاعله فحسب، وإنما قد تُلصقه بكل من يمتّ إلى فاعله بصلة، كما يُنقل هذا الأمر في قبيلة أنف الناقة.(1)

علينا أن نتأمل في هذا المعنى –بعيداً عن الأمثلة-

2/ صناعة عقل الطفل.

يعبر أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) عن الطفل بقوله: «إِنَّمَا قَلْبُ الْحَدَثِ كَالأَرْضِ الْخَالِيَةِ مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيْءٍ قَبِلَتْه»(2).

مما يعني أن صناعة الطفل وعقله وسلوكياته إنما تكون بيد المؤثرين عليه في بدايات حياته، وهي مسؤولية عظيمة تُلقى على كل من الأسرة والمدرسة.

ص: 89


1- قال ابن الكلبي، عن رجل من بني أنف الناقة يقال له: إسماعيل، قال: إنَّما سُمّي جعفر بن قريع بن عوف بن كعب بن زيد مناة بن تميم بن أنف الناقة، لأنَّ قريعاً نحر جزوراً، فقسَّمها في نسائه، وكان عنده ثلاث نسوة، منهم: الشموس بنت القمر، من بني وائل بن سعد بن هذيم بن قضاعة، أُمّ جعفر بن قريع، فقالت: انطلق إلىٰ أبيك، فانظر هل بقي عنده شيء، فأتاه، فلم يجد عنده إلَّا رأس الجزور، فأخذ بأنفها يجرُّه، فقيل: ما هذا؟ فقال: أنف الناقة، فسُمّي بذلك. وكانوا يغضبون من ذلك، فلمَّا مدحهم الحطيئة الشاعر صار مديحاً، مدح بغيض بن عامر بن لأبي بن شماس بن أنف الناقة، وهو قوله: قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ومن يساوي بأنف الناقة الذنبا (الأنساب للسمعاني 4: 486).
2- نهج البلاغة: 393/ ح 31.

وتتم صناعة العقل من خلال:

أ/الاهتمام بتعليمه القراءة والكتابة.

ب/ تعليمه العقيدة الصحيحة، ومتابعته؛ لئلا تنحرف عقيدته، «بادروا أولادكم [أحداثكم] بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة(1)»(2).

ج/توفير الجو المناسب لنمو عقله.

3/ بناء شخصيته.

وعدم الإفراط في دلاله، إذ الدلال الزائد قد يجعله غير قادر على الإحساس بالمسؤولية وتحملها، فيتوجب على الآباء التوازن في هذا الجانب، فلا إفراط ولا تفريط، لا القسوة الزائدة ولا الدلال المفرط.

من هنا، نجد أن المعصومين(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) كانوا يتعاملون بدقة مع أولادهم، ليحكوا لنا التربية الصحيحة المتضمنة لإعطاء الحقوق المتبادلة كلٍّ إلى أهله.

التربية المتبادلة:

أشرنا في بداية هذه المفردة إلى أن العلاقة بين الوالدين وأولادهما هي علاقة تبادلية، وتطبيقاً لهذه الحقيقة نفتح ملفاً مهماً وعملياً ومربّياً لكلا طرفي العلاقة هذه، وهو ملف: كيف يربّينا أولادُنا؟!

التربية كمفهوم عملي تعني: مراعاة السلوك الفردي –أو الجماعي- ليكون متوافقاً

ص: 90


1- أي علِّموهم في شرخ شبابهم، بل في أوائل إدراكهم وبلوغهم التمييز من الحديث ما يهتدون به إلىٰ معرفة الأئمَّة(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) والتشيُّع قبل أن يغويهم المخالفون ويُدخلوهم في ضلالتهم، فيعس-ر بعد ذلك صرفهم عن ذلك، والمرجئة في مقابلة الشيعة من الإرجاء بمعنىٰ التأخير لتأخيرهم عليًّا (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) عن مرتبته. وقد يُطلَق في مقابلة الوعيدية إلَّا أنَّ الأوَّل هو المراد هنا. (هامش المصدر).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 47/ باب تأديب الولد/ ح 5) عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ).

مع المبادئ التي يؤمن بها الفرد.

تعني: أن يصوغ الفرد سلوكه وسلوك من هم تحت دائرة مسؤوليته صياغة مستقيمة.

وحتى يتحقق هذا المعنى، نحن بحاجة إلى معرفة تفصيلية بالقواعد المنهجية للتربية.

نحن بحاجة إلى مصادر عديدة لزيادة هذه المعرفة، كالتجربة، وسؤال أهل الاختصاص، وملاحظة سلوك الآباء الناجحين مع أولادهم، وما ورثناه من أهلنا من طرق تربية رأيناها ناجعة معنا، وغيرها من المصادر.

النكتة هنا: أننا قد نغفل عن أن أولادنا يمكن أن يكونوا مصدر تربية لنا!

بمعنى: أن المعروف من التربية هو قيام الآباء بصياغة سلوك الأبناء وتعديله وتشذيبه، أما أن يقوم الأبناء بتربية الآباء وصياغة سلوكهم وتعديله، فهذا ما يحتاج إلى تأمل ووقفة جادّة.

فهل من الصحيح أن لدى الأبناء القدرة على تربية الآباء؟

الجواب: نعم، بكل تأكيد، بمعنى أننا يمكن أن نستفيد من أبنائنا ووجودهم وسلوكياتهم في تعديل سلوكنا أو إلفات نظرنا إلى ما غفلنا عنه من سلوكيات صائبة، وحتى تتضح الصورة نذكر التالي:

الخطوة الأولى: أصل وجود أولادنا في حياتنا.

إن وجود الأولاد في حياتنا يُربّينا تربية مفيدة جداً إذا لاحظنا الأمور التالية –مع الالتفات إلى أن بعض ما نذكره هنا لا يمثل قاعدة مطّردة تشمل جميع الآباء، إنما هي أمور عقلائية يستفيد منها من يُحكّم عقله ويتبع الموعظة، لا المعاند والمكابر والغافل

ص: 91

واللا أُبالي-:

الأمر الأول: إن إنجاب الذرية يجعل الأبوين يشعران بأنه انفتح لهما باب الخلود من خلال أولادهما، خصوصاً إذا ما رزقهما الله تعالى الذرية من دون مراجعات كثيرة للأطباء، ومن دون إنفاق الكثير من المال من أجل الحصول على ولد، كما يحصل لبعض المتزوجين.

وفي ذلك روي عن الرسول الأكرم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): إن لكل شجرة ثمرة، وثمرة القلب الولد.(1)

إن هذا المعنى يقتضي من الآباء أن يشكروا ربهم ويحمدوه، فنحن إذاً نتقرب إلى الله تعالى أكثر عندما نُرزق بالذرية ونستشعر الرحمة الإلهية بذلك، مما يعني أن أصل وجود الذرية يجعلنا نتقرب معنوياً أكثر من خالقنا وبارئنا.

خصوصاً وأن وجود الأولاد في حياة الأبوين يعني رفع بعض المسؤوليات عن كاهلهما كما هو مشاهد بالوجدان، وهو ما حكاه الإمام زين العابدین (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) بقوله: «إِنَّ مِنْ سَعَادَةِ المَرْءِ أَنْ يَكُونَ مَتْجَرُه فِي بَلَدِه ويَكُونَ خُلَطَاؤُه صَالِحِينَ، ويَكُونَ لَه وُلْدٌ يَسْتَعِينُ بِهِمْ».(2)

هذا فضلاً عن أن وجود الذرية يفتح باباً للعمل الصالح الذي يستمر حتى بعد الموت، فإن دعاء الولد لأبيه بعد موته نافع للأب والأم بلا أدنى شك، وكفى بهذا المعنى دافعاً لإنجاب الأولاد، وما أجمل ما روي عن أَبِي عَبْدِ الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قَالَ: «إِنَّ فُلَاناً -رَجُلاً سَمَّاه- قَالَ: إِنِّي كُنْتُ زَاهِداً فِي الْوَلَدِ، حَتَّى وَقَفْتُ بِعَرَفَةَ، فَإِذَا إِلَى جَانِبِي غُلَامٌ شَابٌّ

ص: 92


1- كنز العمال للمتقي الهندي ج16 ص 457457 ح 45415.
2- الكافي للكليني ج5 ص 257 بَابُ أَنَّ مِنَ السَّعَادَةِ أَنْ يَكُونَ مَعِيشَةُ الرَّجُلِ فِي بَلَدِه ح1.

يَدْعُو ويَبْكِي ويَقُولُ: يَا رَبِّ وَالِدَيَّ وَالِدَيَّ، فَرَغَّبَنِي فِي الْوَلَدِ حِينَ سَمِعْتُ ذَلِكَ».(1)

الأمر الثاني: البعض من الشباب –ذكوراً وإناثاً- لا يلتزمون بالتقاليد والأعراف بل والدين، لكننا رأيناهم بمجرد إنجاب الذرية قد غيّروا من سلوكهم نحو الأفضل، وكأن ولادة الأطفال تعطيهم جرعة من الهدوء والسكينة والتفكير ملياً قبل الإقدام على تصرفٍ أهوج، لأنهم –أي الآباء- صاروا يفكرون بعناصر جديدة أضيفت إلى حياتهم، وهم مسؤولون عنهم، مما يقتضي ترك بعض نزواتهم لأجلهم.

إن وجود الأولاد يعلمنا على تحمّل المسؤولية وأدائها –في الغالب- فربما تكون الفتاة مدللة أهلها قبل الزواج، ولم تتعود أن تتحمل أي مسؤولية، لأنها تجد كل شيء حاضراً لها، أما بعد الزواج، وبعد الإنجاب بالخصوص، فإنها تبدأ تشعر بوجدانها بأنها أصبحت مسؤولة على أولادها، وأنه يلزمها أداء تلك المسؤولية بكل جِدٍّ وصبر، مما يؤدي إلى صياغة الشخصية نحو الأفضل.

ونفس الكلام يُقال في الرجل.

يُضاف إلى ذلك: أن من مسؤولية الآباء هو صنع السمعة الجيدة لأولادهم، إذ الأولاد يُعرفون بالآباء، خصوصاً في بدايات حياتهم، وبالتالي على الآباء أن يعملوا على ان يكونوا بحيث لا يُعيَّر أولادهم بهم، وهذا ما يعني التزام الآباء بسلوكيات إيجابية، وابتعادهم عن السلبية منها.

وإلى هذا المعنى يُشير ما روي عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): ما نحل والدٌ ولدَه أفضل من أدب حسن.(2)

ص: 93


1- الكافي للكليني ج6 ص 3 بَابُ فَضْلِ الْوَلَدِ ح5.
2- كنز العمال للمتقي الهندي ج16 ص 456 ح 45411.

وفي رواية أخرى: ما ورّث والدٌ ولدَه أفضل من أدب.(1)

وهنا، تكمن نقطة أخرى من تربية أولادنا لنا ولو من طرف خفي.

من هنا، قد نرى بعض الآباء والأمهات يعملون على تطوير مهاراتهم الحياتية، لأجل التواصل مع أبنائهم حيث إن الحياة تتطور مع تقدمهم بالسن، وحيث إنهم يريدان أن يجعلا أولادهم يفخرون بهم بين أصدقائهم وأترابهم.

الأمر الثالث: إن وجود الأولاد في حياة الأبوين، يفرض مسؤولية إضافية عليهم، خصوصاً فيما يتعلق بالأمور المادية، مما يؤدي بالآباء إلى تقليل أو تنظيم مصاريفهم بما يفي بمصارف أولادهم، وهذا يعني التضحية بالكثير من رغبات الآباء المادية، توفيراً على الأولاد، مما يؤدي على المدى البعيد إلى العقلانية والمنهجية والتروي في التعامل مع المال.

في الوقت الذي يمثل هذا التصرف ديناً في رقبة الأولاد، عليهم أن يوفوه لآبائهم عند الكبر، هو يمثل خطوات تربوية للآباء أنفسهم، حيث يعلمهم الإيثار، والتضحية.

نذكّر: أن هذا هو المفترض بالزوجين العاقلين، بمن حكّما عقلهما جيداً، وإلا، فقد رأينا ورأيتم العديد من الشباب الذين رموا بكاهل وعبء التربية مادياً ومعنوياً على غيرهم، فربما رمى الزوج زوجته وأولادها على أهلها، وجعلها تتكففهم لقمة عيشها وعيش أولادها، وربما لم تبالِ الأم بأولادها، وبقيت على ما هي عليه من التبذير واللا أبالية...

الأمر الرابع: عادة ما يؤدي وجود الذرية إلى الشفافية في التعامل بين الزوجين، والتغافل عن تقصير بعضهم، كرامة وحباً بالأولاد، وإلى التخلي عن الأنانية حينما يفكر

ص: 94


1- كنز العمال للمتقي الهندي ج16 ص 460 ح 45435.

الآباء بأبنائهم أكثر من أنفسهم.

إن استمرار هذا المعنى بين الزوجين له ثمرات على عدة جوانب من حياتهما، أولها التفاهم، والتغاضي عن الأخطاء، والبناء على استمرار الحياة مهما كانت صعبة، وتحمل جشوبة العيش، والصبر على قلة ذات يد الزوج من قبل الزوجة، وتحمل بعض تصرفات الزوجة اللا مسؤولة من قبل الزوج، وكما تلاحظون، فإن كل هذه الأمور هي مسائل تربوية مهمة لاستمرار الحياة رغم مطبّاتها وعقباتها.

وهكذا يعمل وجود الأولاد في حياتنا على تغيير سلوكنا نحو الأفضل.

الأمر الخامس: إن ارتعاش القلب وخفقانه لو سقط ولدك على الأرض، ونسيان الأم النوم لو أصابه مرض، واختلال توازن الوالدين لو بكى الولد... وإن اشتداد الشوق لرؤية الأطفال لو غاب أحد الأبوين قليلاً عن البيت، وذهاب عناء تعب العمل عن الأم وعن الأب حينما يريان ابتسامة صغارهما، وغيرها من المواقف الكثيرة، كلها تكشف عن أحاسيس كانت عند والديكما –أيها الزوجان- من قبل، وكلها تعني أن الوقت قد حان ليرى الأبوان منكما ما كانا يرجوان، وكلها تدفعكما إلى أن تتعاملا مع والديكما برأفة أكثر، ورحمة أكبر.

حينها، يُفترض بالزوجة أن لا تقف حائلاً دون برّ زوجها بأبويه، بل عليها أن تقف إلى جانبه في ذلك، محتسبة تعب رعايتهما عند الله تبارك وتعالى، وراجيةً أن يرى أولادها ذلك من أبيهما فيبران بهما.

هو أيضاً دافع مهم للزوج أن لا يقطع صلته بأهل زوجته، ولا يمنعها من التواصل مع أبويها كلما سنحت الفرصة.

كل ذلك هو ما كنا نسمعه من آبائنا وأمهاتنا -عندما كنا نعترض على بعض

ص: 95

تصرفاتهم معنا، حين نرى شدة تألم قلبيهما علينا، واستغرابنا من ذلك، وربما اعتراضنا عليه في بعض الأحيان- فكانوا يقولون لنا: إنكم لن تُحسوا بما نحس به، ولن تشعروا به، إلا بعد أن تروا أولادكم! وإلا بعد أن تصبح أباً، وتصبحين أماً!

الأمر السادس: من الواضح للجميع ان تربية الأولاد تستلزم بذل الكثير من الجهد والوقت والمال من الأبوين، وخصوصاً الأم، ولن يستطيع الأبوان أداء مهمتهم في التربية ما لم يتحلّيا بالكثير من الصبر والتحمّل، فلسهر الليل، والمصارف الإضافية، ومتابعة شؤون الصغار، وإدارة أمورهم –ومنها ما تشمئزّ منه الأنفس- وتحمّل صراخهم وإثارتهم للمشاكل التي يُصنّفها البالغون على أنها ساذجة، ولكن الصغار يتعاملون معها على أنها مشكلة العصر، كل ذلك لا يكون إلا مع الصبر وحبس النفس، خصوصاً من أبوين ناجحين، يتعاملان مع كل ذلك بشفافية وهدوء.

إن الأبوين يعملان في تربية أولادهما عمل المصدات التي توضع للسيارة لتمتص الصدمات التي تواجهها، فالجالس بالسيارة لا يكاد يشعر مها بالصدمات المتتالية التي تواجهها السيارة، وهكذا الأبوان –الناجحان طبعاً- يتحملان كل مشاقّ التربية من أجل أن يجعلا الأولاد يعيشون حياة خالية من الصدمات أو تكاد.

فالأولاد على هذا يُربّوننا بطريقة تلقائية على الصبر والتحمل وعدم إظهار الشكوى لغير الله تبارك وتعالى، وفي ذلك فوائد جمّة للأبوين، تتسع لتشمل جميع مناحي الحياة التي تحفّها الصعوبات، ولا يمكن تجاوزها من دون صبر وضبط نفس.

ولتشجيع الأبوين أكثر على التزام الصبر في ذلك، نجد أن بعض الروايات الشريفة ذكرت لتحملهما الأجر الكبير، فعن محمّد بن مسلم، قال: كنت جالساً عند أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) إذ دخل يونس بن يعقوب فرأيته يئنُّ، فقال له أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «ما لي أراك تئنُّ؟»، قال: طفل لي تأذَّيت به الليل أجمع، فقال له أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «يا يونس، حدَّثني

ص: 96

أبي محمّد بن عليٍّ، عن آبائه(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ)، عن جدّي رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أنَّ جبرئيل نزل عليه ورسول الله وعليٌّ (صلوات الله عليهما) يئنّان، فقال جبرئيل (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): يا حبيب الله، ما لي أراك تئنُّ؟ فقال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): طفلان لنا تأذَّينا ببكائهما، فقال جبرئيل: مَهْ، يا محمّد، فإنَّه سيُبعَث لهؤلاء القوم شيعة إذا بكىٰ أحدهم فبكاؤه لا إله إلَّا الله إلىٰ أنْ يأتي عليه سبع سنين، فإذا جاز السبع فبكاؤه استغفار لوالديه إلىٰ أنْ يأتي علىٰ الحدِّ، فإذا جاز الحدَّ فما أتىٰ من حسنة فلوالديه وما أتىٰ من سيِّئة فلا عليهما»(1).

وروي عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أنَّه قال: «من بكىٰ صبيٌّ له فأرضاه حتَّىٰ يُسكِّنه أعطاه الله (تعالى) من الجنَّة حتَّىٰ يرضىٰ»(2).

وروي أيضاً: «غمُّ العيال سترٌ من النار»(3).

الخطوة الثانية: سلوك الأطفال الصغار، وكيف يربينا.

يُقصد من هذه الخطوة: أن التأمل في سلوكيات الأطفال العفوية، يكشف عن

ص: 97


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 52 و53/ باب النوادر/ ح 5).
2- الفردوس (ج 3/ ص 549/ ح 5715)، نقله عنه الريشهري في تربية الطفل في الإسلام (ص 119/ ح 342).
3- في بحار الأنوار للعلَّامة المجلس-ي (ج 73/ ص 16 و17) عن المسيّب، قال: خرج أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يوماً من البيت فاستقبله سلمان، فقال (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) له: «كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟»، قال: أصبحت في غموم أربعة، فقال له: «وما هنَّ؟»، قال: غمُّ العيال يطلبون الخبز والشهوات، والخالق يطلب الطاعة، والشيطان يأمر بالمعصية، ومَلَك الموت يطلب الروح، فقال له: «أبش-ر يا أبا عبد الله، فإنَّ لك بكلِّ خصلة درجات، وإنّي كنت دخلت علىٰ رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) [ذات يوم] فقال: كيف أصبحت يا عليُّ؟ فقلت: أصبحت وليس في يدي شيء غير الماء، وأنا مغتمٌّ لحال فرخيّ الحسن والحسين3، فقال لي: يا عليُّ، غمُّ العيال ستر من النار، وطاعة الخالق أمان من العذاب، والصبر علىٰ الطاعة جهاد، وأفضل من عبادة ستّين سنة، وغمُّ الموت كفّارة الذنوب، واعلم يا عليُّ أنَّ أرزاق العباد علىٰ الله سبحانه، وغمُّك لهم لا يض-رُّك ولا ينفع غير أنَّك تُوجَر عليه، وإنَّ أغمّ الغمِّ غمُّ العيال».

احتوائها –عادة- على مفاصل ووقفات تربوية مهمة، لو استمرت معهم إلى آخر حياتهم، ولو عملنا –نحن الكبار- على الرجوع إليها والتزامها، لأثمرت ثماراً يانعة، نقطفها هنيئة في تعاملاتنا اليومية.

طبعاً لا يعني هذا أن كل سلوكياتهم كذلك، لكن المقصود أننا يمكن أن ننظر إلى بعض أفعالهم من زاوية معينة، بغض النظر عن زواياها الأخرى، لنرى مدى إمكان استفادتنا من هذه الزاوية التربوية.

وسنذكر بعضاً منها علّنا نُدرك البقية الباقية منها، ونعمل على إحياء الطفل الذي بين جوانحنا، ضمن النقاط التالية:

النقطة الأولى: سلامة القلب وشفافية التعامل.

إن الأطفال يتعاملون بشفافية تامة –عادة-، فهم لا يُضمرون شيئاً في دواخل نفوسهم، ويُظهرون ما يُبطنون بكل صدق وإخلاص، فإذا جاعوا طالبوا بالطعام او بكوا حتى لو كنت أنت في اجتماع مهم، وإذا سُئلوا أجابوا بصدق حتى لو أوقعك صدقهم في حرج، وهم في العادة لا يتركون هذه الطبيعة إلا إذا صادفوا ضغوطاً خارجية أو تربية منحرفة تمنعهم من البوح بالصدق والشفافية...

تعالوا الآن لنا نحن الكبار، تُرى، كم بقي من تلك الشفافية في نفوسنا، وكم وصل ضغط الظروف الخارجية علينا حتى تركنا الصدق جانباً مع نفوسنا قبل تعاملاتنا اليومية مع الآخرين؟

الأمر يستحق المتابعة أكثر.

النقطة الثانية: انعدام أو ندرة الغلّ.

أنتم تلاحظون كم تحدث مشاكل بين الأطفال، تراها لأول وهلة وكأنها مشكلة

ص: 98

العصر لديهم، تفاقم بينهم حتى كأنك تعدم الحلول لها، وما إن تمرّ فترة زمنية قليلة، حتى تجدهم اجتمعوا من جديد، يتضاحكون، يتناغون، يتلاعبون، وكأنهم نفس واحدة!

هم يتناسون مشاكلهم بسرعة، ويرمون بالغلّ بعيداً عن قلوبهم وسلوكهم، ويرجعون إلى عهدهم الأول متحابّين متفاهمين.

ما أحلاه من خُلق! وما أجمله من سلوك! أن نتناسى الأضغان بيننا، وأن نقبل عذر من اعتذر منا، وأن نبحث عن عذرٍ لفعل صدر من أخ ثقة تجاههنا.

إن تناسي الغل والأحقاد لهو من مقتضيات السعادة بلا أدنى شك، ولو لم يكن كذلك لما صرّح به القرآن الكريم كنعمة من نعم أهل الجنة، حيث يقول تعالى ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ﴾ [الأعراف 42 – 43]

هلمّ بنا إذن، أن نحيي ذلك الطفل الذي يتناسى الأحقاد، ويضع كفَّه على كتف أخيه يُربّت عليه بكل حنوٍّ وعطف.

﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْأَيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر 10]

النقطة الثالثة: عدم تأثرهم كثيراً بالفقدان.

من الأمور التي تلاحظ في حياة الأطفال: أنهم يأنسون كثيراً بألعابهم، وبملابسهم، وبحصولهم على كل جديد، وهم يتعلّقون كثيراً بذلك، حتى إنك تجد منهم من يضع لعبته الجديدة معه في وسادته، ليبيت على دقّات قلبها التي لا يسمعها غيُره!

لكن، لو كُسرت لعبتُه، أو فقدها، فإنه قد يبكي قليلاً بعد أن يبحث عنها، لكنه

ص: 99

سرعان ما يعمل على تناسيها، سرعان ما يبحث عن بديل مناسب لها، وإن لم يجد، فإنه يعمل على تكييف نفسه على وضعه الجديد، فتجده يستأنف حياته بكل حيوية، خصوصاً إذا وجد جوّاً عائلياً مشجعاً في مثل هذه الظروف.

أما نحن، فقد نبقى نلوم أنفسنا ونجلد ذواتنا ونفارق أفراحنا سنوات طوالاً جرّاء فقْدنا لأمر معين، وقد يُصاب أحدهم بمرض مزمن لو فقد بعض أمواله أو اصطدمت سيارته وخربت، وقد يُنزل البعض العظيم من النقمة والكثير من الضوضاء على عائلته لو حدثت معه مشكلة مادية ما.

أين نحن عن ذلك الخُلُق الطيب لدى الأطفال؟!

دعونا نتعلم منهم، ولنتذكر ما روي أنه شكى رجل إلى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) الحاجة فقال له: اعلم أن كل شيء تصيبه من الدنيا فوق قُوْتك، فإنما أنت فيه خازن لغيرك.(1)

النقطة الرابعة: قوة التركيز:

يتميز الأطفال بقوة تركيزهم في أعمالهم، فتراهم عندما يلعبون مثلاً يتناسون حتى مرضهم، ولا يتأثرون بالظروف التي تحيط بهم، فلا يهمهم الحرُّ ولا البرد، ولا تشغلهم الضوضاء عن متابعة حركات لعبتهم، فليس عندهم إلا إنجاز مهمتهم التاريخية والمصيرية في الوصول بلعبتهم إلى ما يبتغون ويحبون...

تعالوا معي لنلاحظ أنفسنا نحن الذين نعتبر أنفسنا قد وصلنا إلى مرحلة عقلية بالغة ومتكاملة، هل ما زال التركيز حاضراً في أدائنا، أو إن التشتّت أخذ يملأ كل مساحة في ذهننا، حتى بدت الأفكار المتضاربة متزاحمة كل واحدة تبحث لنفسها عن موضع قدم في تفكيرنا وانتباهنا؟!

ص: 100


1- الخصال للشيخ الصدوق ص 16 ح 58..

هل ما زلنا نتناسى الظروف المحيطة بنا –ولو مؤقتاً- لنتمكن من التركيز على ما يوصلنا إلى أهدافنا؟!

وأصلاً هل بتنا نضع اهدافاً محددّة كما كنا صغاراً؟!

مرة أخرى علينا أن نرجع إلى الطفل الذي يكمن في جوانحنا...

النقطة لخامسة: الإلحاح.

ربما نجد أنّ أحلى مشاكلنا مع أطفالنا الصغار حينما نراهم يتملقّون لنا بإلحاح ويبحثون عن شتى الطرق التي يعتقدون أنها ترضينا، كالابتسامة –وأحلاها منهم ما كانت ماكرة متصنّعة- أو العناق أو إطلاق بعض الكلمات التي نحبُّ سماعها منهم، ولن يتوقفوا حتى يأخذوا منا ما يريدون، وإن استلزم الأمر ذرفوا الدمع بحرقة، يشق طريقه بين خدودهم ليصل إلى شغاف قلوبنا، علّهم يجدون في الدمع منفذاً إلى إقناعنا...

في الحقيقة، أن هذا الخُلُق منهم كان لأجل اعتقادهم بأننا نمثل الرازق لهم والمدبّر لأمورهم، وهم بفطرتهم يطلبون حاجاتهم منا على هذا الأساس.

ما أحلاه من خُلُق لو التزمناه مع خالقنا، وبارئنا، نحن الذين فهمنا الحقيقة، وأن الرازق الحقيقي والقادر المطلق ليس هو إلا خالقنا؟!

ما أحلاه من خُلُق عندما نتيقن أن مسبب الأسباب هو الله تبارك وتعالى!

ما أحلاه من رجوع إلى الوراء حيث ذلك الطفل الذي يطرق الباب ولا يرجع إلا بقضاء حاجته!

لاحظوا أن الروايات الشريفة أرادت أن تحيي هذه الصفة في نفوسنا.

فعن رَسُول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «رَحِمَ الله عَبْداً طَلَبَ مِنَ الله«عَزَّوَجَل» حَاجَةً فَأَلَحَّ فِي الدُّعَاءِ، اسْتُجِيبَ

ص: 101

لَه أَوْ لَمْ يُسْتَجَبْ لَه، وتَلَا هَذِه الآيَةَ: ﴿وأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا﴾»(1)

وعَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قَالَ: «إِنَّ الله«عَزَّوَجَل» كَرِه إِلْحَاحَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي المَسْأَلَةِ، وأَحَبَّ ذَلِكَ لِنَفْسِه، إِنَّ الله«عَزَّوَجَل» يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ ويُطْلَبَ مَا عِنْدَه».(2)

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قَالَ: «لَا والله لَا يُلِحُّ عَبْدٌ عَلَى الله«عَزَّوَجَل» إِلَّا اسْتَجَابَ الله لَه».(3)

النقطة السادسة: اللجوء إلى القوي.

لن يتردد أطفالك في اللجوء إلى كنف ذراعيك أو في رمي أنفسهم في حضن أمهم لو رأوا حشرة صغيرة خافوا منها، ولن يجدوا غيركما ملجأً في لحظات الخوف والحاجة والرعب...

لا بأس، فهذه هي طبيعتهم، التي تدفعهم إلى اللجوء إلى قوي يُخلّصهم من محنة ألمّت بهم.

ص: 102


1- الكافي للكليني ج2 ص 475 بَابُ الإِلْحَاحِ فِي الدُّعَاءِ والتَّلَبُّثِ ح3، والآية هي مريم: 48. وقال في هامس المصدر: حكاية عن إبراهيم (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) حيث قال مخاطبا لقومه: ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ قال الطبرسيe: أي وأتنحى منكم جانبا وأعتزل عبادة ما تدعون من دونه و ﴿وأَدْعُوا رَبِّي﴾ قال أي أعبد ربى ﴿عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا﴾ كما شقيتم بدعاء الأصنام وإنما ذكر ﴿عَسى﴾ على وجه الخضوع انتهى. وسبب الاستشهاد بالآية قوله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «استجيب له» أي سريعا «أو لم يستجب» أي كذلك أو لم يستجب في حصول المطلوب لكن عوض له في الآخرة، والحاصل انه لا يترك الالحاح لبطئ الإجابة فالاستشهاد بالآية لان إبراهيم (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أظهر الرجاء بل الجزم إذ الظاهر أن ﴿عَسى﴾ موجبة في عدم شقائه بدعاء الرب سبحانه وعدم كونه خائبا ضائع السعي كما خابوا وضل سعيهم في دعاء آلهتهم كما ذكره المفسرون. ويحتمل أن يكون في الكلام تقدير أي فرضى بعد الالحاح سواء استجيب له أم لم يستجب ولم يعترض على الله تعالى لعدم الإجابة ولم يسئ ظنه به، فالاستشهاد بالآية بحملها على أن المعنى عسى أن لا يكون دعائي سببا لشقاوتي وضلالتي ويحتمل أن يكون ذكر الآية لمحض بيان فضل الدعاء
2- الكافي للكليني ج2 ص 475 بَابُ الإِلْحَاحِ فِي الدُّعَاءِ والتَّلَبُّثِ ح1.
3- الكافي للكليني ج2 ص 475 بَابُ الإِلْحَاحِ فِي الدُّعَاءِ والتَّلَبُّثِ ح.2

لماذا لا نستثمر هذا السلوك منهم في تعديل سلوكنا، فنقطع رجاءنا من غير الله تبارك وتعالى؟!

لاحظوا كيف أن فطرتنا ما زالت ترجعنا إلى الباري جل وعلا في لحظات الخوف، وحريٌّ بنا أن نكون كذلك في كل الحالات مع الله تبارك وتعالى.

عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قَالَ: «مَنْ تَقَدَّمَ فِي الدُّعَاءِ اسْتُجِيبَ لَه إِذَا نَزَلَ بِه الْبَلَاءُ، وقَالَتِ المَلَائِكَةُ: صَوْتٌ مَعْرُوفٌ. ولَمْ يُحْجَبْ عَنِ السَّمَاءِ، ومَنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِي الدُّعَاءِ لَمْ يُسْتَجَبْ لَه إِذَا نَزَلَ بِه الْبَلَاءُ، وقَالَتِ المَلَائِكَةُ: إِنَّ ذَا الصَّوْتَ لَا نَعْرِفُه».(1)

وعَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قَالَ: «إِنَّ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ يَسْتَخْرِجُ الْحَوَائِجَ فِي الْبَلَاءِ».(2)

النقطة السابعة: الإصرار.

صحيح أن الأطفال يبكون بسرعة عادة، وصحيحٌ أنهم يغيّرون مواقفهم باستمرار، إلا أن ذلك لم يمنعهم من الإصرار والمقاومة، ويتجلى إصرارهم على الوصول إلى الهدف في بكائهم مثلاً حتى الحصول على المبتغى، وفي استمرارهم بالمحاولة رغم السقوط عدة مرات، وفي التخطيط التلقائي باستخدام أساليب متنوعة إلى ان يجدوا الأسلوب المناسب للحصول على الحاجة.

جميلٌ أن يعيش المرء الإصرارَ في حياته، إذ إن الحياة لم تُسلم قيادها بسهولة لساكنيها، وإنما هي مملوءة بالأشواك، بل مزروعة بالألغام، التي لا تعرف متى تضع رجلك على واحد منها، فيطير بك منفجراً في الهواء!

ولو عاش المرء الكسل والتواكل واليأس، فلن يحصل منها على شيء.

ص: 103


1- الكافي للكليني ج2 ص 472 بَابُ التَّقَدُّمِ فِي الدُّعَاءِ ح1.
2- الكافي للكليني ج2 ص 472 بَابُ التَّقَدُّمِ فِي الدُّعَاءِ ح3.

الإصرار، والبحث عن خطط بديلة، والاستمرار، والمقاومة، مفاتيح مهمة للنجاح في الحياة، وإن لم تُعلّمْنا التجارب، فنتعلمها من الأطفال، فالناجح هو من يأخذ العبرة من أي موجود يراه...

ثامناً: النشاط الدائم.

إن من أوضح الصفات التي نراها في الأطفال هي أن لديهم نشاطاً دائماً، حتى أنك قد ترى بعض أطفالك لا يمشي الهوينة أبداً، وما تراه إلا راكضاً أو يقفز كغزال في باحة خضراء!

ذلك باعتبار الطاقة الزائدة التي لديهم، إذ إنهم في طور البناء البدني المستمر، لكن على كل حال لا تجد للكسل عندهم موضعاً إلا نادراً.

لننظر إلى هذا النشاط المستمر لدى أولادنا، ثم نقيسه إلى ما نحن عليه من الكسل الصريح أو المقنع، فكم من مشروع لدينا لم نبدأ به لحد الآن، ولو كنا قد بدأناه لم نتمّمه، وإنما تركناه معلّقاً في منتصف الطريق، وكم من واجبات كان المفترض علينا أن نقوم بها تركناها وراء ظهورنا وكأن الامر لا يعنينا، ناهيك عن الكسل عن أداء صلاة الفجر في وقتها مثلاً.

في الحقيقة، لو دقّقنا في تصرفاتنا –نحن الذين نعتبر أنفسنا وصلنا إلى مرحلة عقلية متكاملة- لرأينا أن الكثير منها تقبع تحت ظلام الكسل، ليس هذا فحسب، بل إننا نعمل باستمرار لتبرير كسلنا بانعدام الوقت الكافي، أو التعب، أو الاشتغال بأعمال أخرى...

لو صدقنا مع أنفسنا لوجدنا أننا نحتاج إلى أن نرجع إلى هذا النشاط الصبياني، الذي لا يقف أمامه لا الجوع ولا الوقت ولا الأشغال الأخرى.

مرة أخرى نحتاج إلى أن نوقظ الطفل القابع بين حنايانا...

ص: 104

ختاماً:

من النصوص الدينية التي تُشير إلى بعض الجهات التي يُمكن أن يستفيد منها البالغون من تصرفات الصبيان، هو ما روي عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أنه قال: «أُحِبُّ الصبيان لخمسٍ: الأوَّل: أنَّهم هم البكّاؤون، والثاني: يتمرَّغون بالتراب، والثالث: يختصمون من غير حقد، والرابع: لا يدَّخرون لغدٍ شيئاً، والخامس: يُعمِّرون ثمّ يُخرِّبون»(1).

ص: 105


1- المواعظ العددية للعاملي (ص 259)، نقله عنه الريشهري في تربية الطفل في الإسلام (ص 146/ ح 411).

ص: 106

المفردة الرابعة: العلاقة بين الإخوة

اشارة

تبرز علاقة الأخوّة في داخل الأسرة كعلاقة فعّالة ونشطة، من اليوم الأول لولادة الطفل الثاني في العائلة، وتعتبر من أُولى وأَولى العلاقات للفرد، ومن أهم وأصعب وأدقّ المهام الملقاة على عاتق الأبوين في أن يعملوا على منهجتها بشكل تربوي وانسيابي، لما لهما من تأثير مباشر على صياغة هذه العلاقة بطريقة تربوية ناجحة، أو إهمالها إلى حد نشوب المشاعر السلبية وربما الحروب الدامية بين الإخوة!

وحتى نكون على بينة من الأمر، نذكر عدة نقاط توضيحية حول هذه العلاقة، مما ينبغي أن نأخذها بعين الاعتبار، وما ينبغي أن نلقيه لأولادنا تجاه بعضهم البعض:

النقطة الأولى: الأخ الأكبر بمنزلة الأب.

روي عن الإمام الرضا (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنه قال: الأخ الأكبر بمنزلة الأب.(1)

إن أول العنقود من ثمار الزواج هو الولد الأكبر، ولو كان ذكراً فهو كما عبّرت الرواية بمنزلة الأخ الأكبر، وهذا يعني التالي:

1/ضرورة احترامه من قبل بقية الإخوة، وعلى الأبوين العمل على توفير ذلك الاحترام.

ص: 107


1- الاستبصار للشيخ الطوسي ج3 ص 240 ح [ 860 ] 5، وعلق الشيخ الطوسيv بقوله: فالوجه في هذا الخبر انه بمنزلة الأب في وجوب الاكرام له والانقياد لأوامره والرجوع إلى طاعته وليس المراد به أنه بمنزلة الأب في جواز العقد له على أخته الصغيرة بغير رضاها ولا استيمار من جهتها بدلالة ما قدمناه ولو كان صريحا بذلك لحملناه على التقية لأنه مذهب بعض العامة.

2/على الأبوين تدريب الولد الأكبر على إمساك زمام الأمور حال غيابهما أو أحدهما بالتدريج، وعليهما أن يفرضا قانوناً يُلزم بقية الإخوة بالاستماع لتوجيهاته.

3/على الولد الأكبر أن يكون على قدر المسؤولية في ذلك، ولا يتجاوز حدود التعامل الأبوي مع إخوته الأصغر منه، وهذا يعني أنه بحاجة إلى توجيهات مستمرة من الأبوين حيال ذلك، إلى أن يتعلم إدارة الأمور بشكل جيد.

4/ على الأبوين القيام بخطوات عملية لتهيئة الولد الأكبر لهذه المسؤولية، من قبيل إرجاع البت في بعض الأمور ولو الجزئية إليه، وإرجاع البتّ في ما يتعلق بأمور الإخوة إليه إذا كان قادراً على ذلك، وهكذا.

تطبيقات فقهية:

التطبيق الأول: الحبوة.

وهي مختصات الأب، وهي للولد الذكر الأكبر ولو كان صبياً غير بالغ، بل حتى لو وُلد بعد وفاة والده، وخلاصة أحكام ذلك(1):

يحبى الولد الأكبر الذكر مجاناً بالتالي:

1: ثياب بدن الميت، ولو كانت متعددة، صيفية كانت أو شتوية، حتى الحزام والجورب والنعل والحذاء.

2: خاتمه.

3: وسيفه، ويتبعه غمده وقبضته، إلا مع تعدده فلا بد من المصالحة مع بقية الورثة.

4: ومصحفه، ويتبعه بيتُ المصحف، إلا مع تعدده فلا بد من المصالحة مع بقية

ص: 108


1- منهاج الصالحين للسيد السيستاني ج3 مسألة 1006 إلى مسألة 1018.

الورثة.

أما الساعة والكتب وما شابه، فلا تدخل في الحبوة.

وكذا لا تشمل الحبوة مثل الدرع والطاس والمغفر ونحوها من معدات الحرب.

والأحوط لزوماً التصالح مع سائر الورثة في البندقية والخنجر وما يشبههما من الأسلحة، وكذا الرَّحْل.

التطبيق الثاني: قضاء الصلاة والصوم عن الأب.

يجب (علىٰ الأحوط وجوباً) علىٰ الولد أن يقض-ي ما فات أباه المؤمن من الصلوات والصوم، والأحوط استحباباً أن يقضي عن أمه أيضاً. بشروط مذكورة في محلها من الكتب الفقهية. (1)

التطبيق الثالث: استئذان البنت أخاها في الزواج.

ليس لغير الأب والجدِّ للأب ولاية في تزويج البنت، سواء كانت الأُمُّ أو الخال أو العمُّ أو غيرهم. نعم الأفضل للبنت المالكة لأمر نفسها أن تستأذن أباها أو جدَّها، وإن لم يكونا حيِّين فينبغي لها أن تستأذن أخاها الأكبر.(2)

النقطة الثانية: الأخت، الأم الثانية.

الأخت في الأسرة عنصر فعّال، بل هي المحرّك لبقية الإخوة بحسب التجربة، ولتنظيم العلاقة بينها وبين إخوتها ينبغي الالتفات إلى التالي:

ص: 109


1- راجع: رسالات تربوية/ الرسالة الثانية عشرة/ الحكم الرابع عشر، وهي الحلقة الثالثة من سلسلة: تربية بلون جديد. وأيضاً راجع منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني (ج 1/ مسألة 1058)
2- التفاصيل أيضاً في رسالات تربوية/ الرسالة الثانية عشرة/ الحكم الرابع والأربعون.

1/احترامها:

قد نجد في بعض العوائل من ينظر إلى البنت نظرة جاهلية، وأنقل لكم عن واقع أن بعض الآباء –حسب ما نقل هو لي، وبحمد الله تعالى تغير إلى الأفضل بعد الحديث معه- لم يُقبّل ابنته قطّ، ولا يرغب بالنظر إليها أصلاً!

إن الإخوة إذا رأوا هذا التصرف من أبيهم فإنهم سيجدون المبرر الكافي لاسترقاقها والتعامل معها معاملة العنصر المستهلك الذي ليس له حق في الحياة سوى خدمتهم وتحمل سخافاتهم! وستكون الأخت موضعاً لصفعات أيديهم وركلات أرجلهم، وهم لن يجدوا من يردعهم!

علينا أن نعطي للبنت كرامتها، واستحقاقها بين إخوتها، وأن نساعدها على بناء شخصيتها، ولنتذكر في ذلك ما روي عَنِ السَّكُونِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) وأَنَا مَغْمُومٌ مَكْرُوبٌ فَقَالَ لِي: يَا سَكُونِيُّ، مِمَّا غَمُّكَ؟ قُلْتُ: وُلِدَتْ لِي ابْنَةٌ!

فَقَالَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): يَا سَكُونِيُّ، عَلَى الأَرْضِ ثِقْلُهَا، وعَلَى الله رِزْقُهَا، تَعِيشُ فِي غَيْرِ أَجَلِكَ، وتَأْكُلُ مِنْ غَيْرِ رِزْقِكَ.

فَسَرَّى والله عَنِّي، فَقَالَ لِي: مَا سَمَّيْتَهَا؟ قُلْتُ: فَاطِمَةَ. قَالَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): آهٍ، آهٍ... أَمَّا إِذَا سَمَّيْتَهَا فَاطِمَةَ فَلَا تَسُبَّهَا ولَا تَلْعَنْهَا ولَا تَضْرِبْهَا.(1)

2/ احترام أنوثتها.

وذلك يكون بعدم تحميلها ما لا يتناسب مع قوتها البدنية، ولا مخاطبتها بما لا يتناسب مع كونها ريحانة، وعدم احتقارها، أو التقليل من شانها بسبب أنوثتها.

صحيح أنه ينبغي للبنت تربوياً أن تساعد إخوتها –فضلاً عن أبويها- لكن ذلك لا

ص: 110


1- الكافي للكليني ج6 ص 48 – 49 بَابُ حَقِّ الأَوْلَادِ ح6.

يبرّر التعامل معها على أنها مجرد خادمة!

3/ احترام خصوصيتها.

فلا يدخل عليها إخوتها في غرفتها الخاصة مثلاً من دون استئذان، ولا يفتح خزانتها أبداً، لوجود أمور خاصة بها لا ينبغي للذكر أن يطلع عليها كما هو معلوم.

4/ إعانتها.

على الإخوة الذكور أن يُعينوا أختهم فيما تحتاج إليهم به، كحمل الأثقال عنها مثلاً، أو إعانتها المادية ولو بعد زواجها، والسؤال عنها، وما شابه.

5/ الحفاظ عليها وعلى عفتها.

وذلك بعدم السماح لها بالخروج من غير حجاب شرعي، بما يشمل الملابس والمشي بعفة، وكذا عدم السماح لها بوضع مساحيق التجميل على وجهها.

كذلك ينبغي تحذيرها –وهذه من مهام الأم بالخصوص- من الابتزاز الإلكتروني، ومن الانجرار وراء مواقع التواصل إلى الحدّ الذي تنسى فيه المهم من أعمالها والهدف من وجودها.

ينبغي للأهل عموماً أن يرافقوا البنت في خروجها لبعض حاجياتها كالطبيب أو التسوق، وحتى الذهاب للمدرسة لو احتُمل وجود من يضايقها في الطريق، بل مطلقاً.

وفي كل هذه الحقوق، على الأبوين أن يكونا محور تحقيقها، ومتابعتها، وعليهما التدخل لو حصل خلل ما، وعليهما دفع الإخوة لتحقيق هذه الحقوق مع أختهم أو أخواتهم.

النقطة الثالثة: المشاكل بين الإخوة، حقيقة واقعية.

مشكلة مزمنة، لا نجد بيتاً يخلو منها، وبعيداً عن المثاليات، نقول التالي:

ص: 111

ربما يكون ضرباً من الخيال أن نرى أولادنا من دون مشاكل ومشاكسات، خصوصاً في فترة الصغر والصبا، وبالتالي، قد تتولد بعض الأمور السلبية، كالغيرة والنميمة وغيرها.

هذا يعني: أن علينا أن نتقبل هذا الوقع، وفي نفس الوقت نعمل على التعايش معه، وعلى علاج ما يمكن علاجه، ولو بالتدريج.

فالمهم هو عدم إهمال هذه الحالة.

ومن الواضح جداً، أن أهم خطوة في علاج أي حالة مرضية هي معرفة وتشخيص سببها، وهكذا في مشاكل أولادنا، فصحيحٌ أن المشاكل أمر طبيعي بينهم، وصحيحٌ أن بعض تلك المشاكل ساذجة، لكنها على أي حال متناسبة مع مستوى إدراكهم ومرحلتهم العمرية، وتركها من دون علاج قد يؤدي إلى تحوّلها إلى مشاكل مزمنة.

من هنا، فاللازم على الأبوين معرفة سبب المشكلة، ولعلهم بالتدقيق والبحث يجدان أن السبب كان منهما؛ وذلك لأجل التالي:

أ: لعلهما لم يوفّرا المكان المناسب لكل واحد من الأولاد، سواء كان مكان النوم أو الدراسة أو حتى اللعب، لأن ضيق المكان يورث سوء الأدب كما يُقال.

ب: ولعلهما لم يوفّرا لكل واحد من الأولاد جميع ما يحتاج إليه من مستلزمات، كالألعاب، والملابس، وأدوات الكتابة، وما شابه، وبالتالي سيضطر الأولاد إلى التشارك فيما بينهم، والمشاركة مدعاة للمشاكل.

ج: ولعلهما يُفرّقان بالتعامل بين الأولاد، مما يولّد الغيرة، والتحاسد، ولذا روي عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أنَّه قال: «إنَّ الله تعالىٰ يُحِبُّ أن تعدلوا بين أولادكم حتَّىٰ في القُبَل»(1).

ص: 112


1- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 16/ ص 445/ ح 45350).

وروي أنَّه نظر رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) إلىٰ رجل له ابنان فقبَّل أحدهما وترك الآخر، فقال له النبيُّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «فهلَّا واسيت بينهما»(1).

لقد نقل القرآن الكريم أن أحد أسباب التحاسد هو التفرقة بالتعامل، فأولاد يعقوب النبي (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) صرّحوا بذلك –وإن كانوا خاطئين في حكمهم على أبيهم، ولكنه على أي حال إحساس يجده الأولاد في داخلهم وإن أخطأوا الحكم-، قال تعالى ﴿إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلىٰ أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ﴾ [يوسف 8 – 9].

ويدخل ضمن ذلك عقد المقارنات بين الأولاد، واعتبار أحدهم أفضل من الآخر، مما يسبب ضغينة في قلب الطفل، فهو ما زال لا يُشغّل عقله بصورة صحيحة، ولعله لا يكتشف المغزى من هذه المقارنة إلا بعد أن تقع المشكلة وتتفاقم!

د: ولعلهما أهملا اللعب مع الأولاد والاستماع إليهم، والجلوس معهم، وبالتالي فإن قلة خبرة الأولاد في الحياة تجعلهم يتصرفون بعشوائية، وبدون حكمة، مما يولّد المشاكل.

هذه هي أهم الأسباب بين يديكم، فلا بد من العمل على اقتلاعها رأساً، والعمل على تجذير الأُخوّة والمحبة بين الإخوة.

النقطة الرابعة: مجمل الحقوق المتبادلة بين الإخوة.

لقد اختصر الإمام السجاد (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) هذه الحقوق بقوله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «وأما حق أخيك، فأن تعلم

ص: 113


1- من لا يحض-ره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 3/ ص 483/ ح 4704)؛ ورواه العلَّامة المجلس-ي في بحار الأنوار (ج 71/ ص 84) عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) باختلاف يسير.

أنه يدك وعزك وقوتك، فلا تتخذه سلاحًا على معصية الله، ولا عدةً للظلم لخلق الله، ولا تدع نصرته على عدوه والنصيحة له، فإنْ أطاع الله، وإلا فليكن الله أكرم عليك منه، ولا قوة إلا بالله».(1)

وخلاصة ما ذكره (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) هو التالي:

1/ «أن تعلم أنّ أخاك يدك وعزتك وقوتك».

فالإنسان كثير بإخوته، والمسألة وجدانية، فنحن نرى الناس تحترم وتهاب الإخوة، خصوصاً المتفاهمين والمتعاونين فيما بينهم، ومن جهة أخرى، لن تجد أحداً يقف معك يوم ضعفك، ليعطيك عزاً من عزِّه، وقوة من قوته، غير أخيك.

ويترتب على هذا المعنى: «أن لا تتخذه سلاحاً على معصية الله«عَزَّوَجَل»».

كيف يتخذ المؤمن أخاه سلاحًا على معصية الله«عَزَّوَجَل»؟

قال تعالى: ﴿وَالْعَصْ-رِ. إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْ-رٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ﴾.

لاحظوا: تارة أحدهم يوصي الثاني، فهذه وصية، وأخرى كلٌّ منهما يوصي الآخر، وهذا معنى التواصي.

إن الذي ينبغي حصوله بين المؤمنين هو التواصي بالحق، والسّير على النّهج الإيماني الصحيح، أمّا دعوة شخص لآخر للتعدي على حرمات الله«عَزَّوَجَل» وارتكاب المعاصي، فهذا خلاف التّواصي بالحقّ، على أنّ المؤمن أنه إذا رأى أخاه المؤمن على خطأ فعليه أن يحذّره من السقوط في هاوية المعصية لله تعالى.

عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «قالت الْحَوَارِيُّونَ لِعِيسَى: يَا رُوحَ الله، مَنْ نُجَالِسُ؟ قَالَ:مَنْ

ص: 114


1- الخصال للشيخ الصدوق ص 568.

يُذَكِّرُكُمُ الله رُؤْيَتُه، ويَزِيدُ فِي عِلْمِكُمْ مَنْطِقُه، ويُرَغِّبُكُمْ فِي الآخِرَةِ عَمَلُه»(1).

يفترض بالأخوة الإيمانية أن تكون دافعاً لطاعة الله«عَزَّوَجَل»، وفي نفس الوقت أن تنهى عن معاصيه سبحانه.

ومما يترتب على ذلك أيضاً أن لا تتخذ أخاك «عدةً للظلم لخلق الله».

لقد ورد: أنصر اخاك ظالماً أو مظلوماً، وقد يستغرب البعض عن كيفية نصرة الأخ الظالم؟

والجواب فيما روي عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا. قيل: يا رسول الله، هذه نصره مظلومًا فكيف أنصره ظالمًا؟ قال: تمسكه من الظلم فذاك نصرك إياه.(2)

«و لاتدع نصرته على عدوّه والنّصيحة له»

أي إن عليك أنْ تنصره بالنصيحة، وليس بالغش والمداهنة، بأن تبين له الطريق الصحيح في التعامل، فإن أطاع الله«عَزَّوَجَل» فبها وإلا «فليكن الله«عَزَّوَجَل» أكرم عليك منه» أي لا بد من تقديم كرامة الله تعالى على كل شيء، وعلى هذا الاخ الذي لا يسير على الهدى.

ثمّ يقول (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «ولا قوة إلا بالله» أي إن هذه المسائل ليست بالهينة أو السهلة، وإنّما هي بحاجة إلى الاستعانة بالله«عَزَّوَجَل» والتوكل عليه والطلب منه بالتسديد لذلك التعامل العقائدي مع الأخوة في الله«عَزَّوَجَل».

2/ومن الحقوق أيضاً: «أنْ لا تقطعه ولا يقطعك».

أي إنه حتى لو حدث بينكما خلاف فلا تقطع صلتك معه، بعض الفقهاء يقولون بالكراهة الشديدة للمقاطعة، وبعضهم يقول بالحرمة الفعلية، أما لسان الروايات

ص: 115


1- الكافي للكليني 1: 39 / باب مجالسة العلماء وصحبتهم/ ح 3.
2- صحيح ابن حبان (ج11 ص 570 – 571 ح 5164).

فيُحرّم على المؤمنين أن تزيد القطيعة على ثلاثة أيّام. فإذا زادت قطيعة أخوين في الله على الثلاثة أيّام فقد خرجا من الطاعة إلى المعصية، والرواية تذكر أن أحبهم إلى الله تعالى أسبقهم لأخيه بالمراضاة، وإن كان هذا الفعل غير محبب بين النّاس، ولكن على المؤمن أن لا يلتفت إلا لمرضاة الله«عَزَّوَجَل»، ما دام لم يصل إلى مرحلة ذلة النفس؛ لأن الله تعالى لا يرضى للمؤمن أن يُذلّ نفس، لأن في المبادرة للصلح رفعة عند الله«عَزَّوَجَل»، ولهذا يؤكد العلماء على تواصل المؤمنين فيما بينهم حتى وإن كان عن طريق وسائل التّواصل كي لا يحدث انقطاع بينهم.

وفي هذا المجال روي عن الرسول الأعظم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا تحل الهجرة فوق ثلاثة أيام، فإن التقيا فسلم أحدهما فردّ الآخر اشتركا في الأجر، وإن لم يرد برئ هذا من الإثم وباء به الآخر، وإن ماتا وهما متهاجران لا يجتمعان في الجنة».(1)

3/ أن يكون بين الأخوة ثقة واطمئنان:

أي أن يأمن المؤمن من أخيه على نفسه وماله وعرضه.

هذا الاطمئنان من شأنه أن يوجِد علاقات رصينة وأموراً عالية من حيث التوفيقات الإلهية.

ص: 116


1- كنز العمال للمتقي الهندي ج9 ص 47 ح24869.

الجانب الثالث: الجانب الاجتماعي

اشارة

الإنسان كائن اجتماعي، بطبعة –على رأي- أو لأنه لا يتمكن من القيام بكل ما عليه ليصل إلى بغيته، فاضطر إلى إقامة علاقات مع الآخرين من بني جنسه –على رأي آخر-

ص: 117

ص: 118

بغض النظر عن فلسفة كون الإنسان اجتماعياً، فنحن ندرك بالوجدان أنه ليس وحشياً، ولا يمكنه العيش بمفرده، وحتى لو جرّب ذلك، فإنه لن تطول تجربته حتى يحدث عنده ألف أمر وأمر يضطره إلى أن يستعين بالجماعة.

من هنا، كان من أهم أهداف التربية الصالحة هي تنشئة الأولاد بطريقه تجعلهم عناصر فاعلين في المجتمع، وتهيئتهم لخوض تجاربهم المنتظرة في دوامة الشبكات العنكبوتية التي تولّدها العلاقات مع الآخرين.

وبنظرة سريعة، نجد أن تلك العلاقات الاجتماعية –خارج إطار الأسرة- متكثرة، وسنختار منها أربعة مهمة وعملية وقريبة جداً من الأولاد، وهي العلاقة مع الصاحب والكبير والصغير وذي المعروف، فهذه علاقات لا يخلو منها إنسان، وهي علاقات مهمة جداً، رغم وجود علاقات مهمة أخرى.

إن مهمة الأبوين في تربية أولادهم تتدرج من الدائرة الضيّقة إلى الواسعة، ويُقصد من الأولى هي الدائرة التي لا يكون هناك مؤثر قوي على الأطفال سوى أبويه ومن في داخل الأسرة، والجانبان المتقدمان يمكن اعتبارهما من الدائرة الضيقة ولو في بداياتها.

أما العلاقة مع المجتمع، فهي تدخل في الدائرة الأوسع، إذ سيبدأ الولد بالخروج عن البيت، وربما تطول ساعات غيابه، فتنعدم المراقبة المباشرة من الأبوين تجاهه، وهذا يعني: أن المهمة بدأت تفرض صعوباتها أكثر، وهذا لا يدعو إلى القلق إذا كان الأبوان قد قضيا ما عليهما من واجب في الدائرة الضيقة، وأدّيا ما عليهما من واجب التربية قبل أن ينفض الولد جناحيه ليطير بعيداً عنهما.

ونحن سنذكر هنا أربع مفردات، ونركز على بيان أهميتها وكيفية التعامل التربوي معها، ومن الله تعالى التوفيق.

ص: 119

ص: 120

المفردة الأولى: العلاقة مع الصاحب والصديق

اشارة

يعتبر موضوع الصديق من المواضيع الاجتماعية التي فرضت نفسها بقوة الواقع، فهناك أمور لو أردنا البحث عن دليل لها فإنها لا تحتاج إلى أكثر من النظر إلى نفس الواقع، ولو نظرنا إلى حياتنا اليومية بجميع مراحلها لوجدنا أن الصديق أمر فرض نفسه على أرض الواقع، ولا نحتاج معه إلى دليل يثبت ضرورة الصداقة والصحبة في حياتنا الاجتماعية، ولأهمية هذا الموضوع، نجد أن الإمام السجاد (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قد أبرز حقوقه ببيان واضح، فقال (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «وأما حق الصاحب فأن تصحبه بالفضل ما وجدت إليه سبيلا وإلا فلا أقل من الانصاف. وأن تكرمه كما يكرمك وتحفظه كما يحفظك ولا يسبقك فيما بينك وبينه إلى مكرمة، فإن سبقك كافأته. ولا تقصر به عما يستحق من المودة. تلزم نفسك نصيحته وحياطته ومعاضدته عليه طاعة ربه ومعونته على نفسه فيما لا يهم به من معصية ربه، ثم تكون [عليه] رحمة ولا تكون عليه عذابا ولا قوة إلا بالله».(1)

فحق الصاحب أن تصحبه بالفضل ما استطعت إليه سبيلاً، وإلا، أي إذا لم تتمكن أن تتعامل معه بالفضل، فلا أقل من الإنصاف، بأن تُحِبّ له ما تحبُّ لنفسك، وتكره له ما تكره لها، وأن تحفظه كما يحفظك وأن تكرمه كما يكرمك وأن لا يسبقك فيما بينك وبينه إلى مكرمة فإن سبقك كافأته...

وسنذكر عدة محاور للوصول إلى هدف معين:

ص: 121


1- نحف العقول للحراني ص 266 - 267

المحور الأول: مميزات علاقة الصداقة.

تحدثنا في ما سبق عن أنّ للإنسان علاقات متعددة، منها عامودية -كالعلاقة مع الله«عَزَّوَجَل»، مع الدين والشريعة، والنّبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، و الإمام (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، وما يترتب على هذه العلاقات من حقوق- وهناك علاقات أفقية: الأسرة، النسب، اللون، القومية...

من ضمن هذه العلاقات الأفقية التي تربط الإنسان بأبناء جنسه هي: علاقة الصداقة، وتمتاز هذه العلاقة عن باقي العلاقات بعدة مميزات منها:

الميزة الأولى: أُولى العلاقات.

تعتبر هذه العلاقة أول علاقة ينفتح عليها الطفل بعد أن يخرج من مدرسة أبيه وأمّه، أي من بعد علاقة الأسرة، حيث يُعتبر تأسيس صداقة مع فرد جديد خارج محيط الأسرة من الإنجازات المهمة في حياة الطفل، كونه شيئًا جديدًا وغير مألوف، وقد تستمر صداقة ما إلى نهاية العمر، ولذا فلا نتصور وجود إنسان من دون صداقات إلا في حالات شاذة.

الميزة الثانية: الانفتاح.

تتسم هذه العلاقة بالانفتاح، فالإنسان يُطلِع صديقه على أسرار وقضايا لا يفكر -مجرد تفكير- أن يُطلع عليها والديه أو أحدهما، فقد يواجهه موقفٌ ما، يرى من الصعوبة إطْلاع والديه عليه، بينما يرويه بسلاسة لصديقه، وهذا أمر وجداني.

ومع أن الانفتاح في الصداقة غير مقيد بقيد حسب الذي يُرى في الكثير من الصداقات، إلا أن الروايات الشريفة وضعت لنا حدودًا لتلك العلاقة، فهناك أمور لابدّ أن يخفيها الإنسان حتى عن الصديق، والقاعدة هي «أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْناً مَا، عَسَى

ص: 122

أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْماً مَا، وأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْناً مَا، عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْماً مَا».(1)

والقاعدة الأخرى هي ما روي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنه قال لبعض أصحابه: «لا تُطلعْ صديقك من سرِّك إلا على ما لو اطّلع عليه عدوُّك لم يضرَّك، فإنّ الصديق قد يكون عدوًا يومًا ما»(2)

أي لعلّ هذا الصديق في يوم ما يصبح عدواً لك فتضرك معرفته بذاك السر، وهذه الوصية للرجال والنّساء على حدٍ سواء، والحر تكفيه إشارة.

وهنا عدة لَفَتَات:

أ/على المؤمن أن يضع حدوداً مع الصديق لا يتجاوزها معه، ولا يسمح له بتجاوزها أيضاً.

ب/يؤكد علماء التربية على ضرورة تعامل الآباء مع أولادهم تعامل الأصدقاء، وليس بعدوانية أو علاقة الآمر النّاهي داخل البيت.

ولهذا جاء في بعض الروايات تذكر أن النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) قال: «من كان عنده صبي فليتصاب له».(3) أي لينزل لمستواه حتى يتحدث معه بلغته، ويلعب معه لعبته ليتقرب إليه، فيفهم مراداته النفسية.

ج/ولدك سيّد سبع سنين، ومَلكٌ سبعًا، وبعدها وزير(4)،

أي إن عليك أنْ تستشيره في بعض الأمور وتصاحبه.

د/على أن من الأمور التي تساعد على تأسيس علاقات صداقة بين الآباء وأبنائهم

ص: 123


1- نهج البلاغة ج4 ص 64 الحكمة (268)
2- أمالي الشيخ الصدوق ص 767 ح 1036 / 10
3- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ج3 ص 484 ح4707.
4- في مكارم الأخلاق للطبرسي ص 222 عن النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «الولد سيد سبع سنين، وعبد سبع سنين، ووزير سبع سنين، فإن رضيت أخلاقه لإحدى وعشرين، وإلا فاضرب على جنبه، فقد أعذرتَ إلى الله تعالى».

هو الزواج المبكر بشروط وضوابط خاصة، لأن ذلك يعني تقارب العمر أو المرحلة الثقافية بين الوالد والولد.

هذه التربويات الإسلامية تتناغم تماماً مع القواعد التربوية التي يذكرها علم النّفس، والتي قد ينبهر بها البعض وهي في الحقيقة موجودة في تراثنا الإسلامي.

الميزة الثالثة: أنّها علاقة متجددة.

فالكثير من العلاقات هي علاقات نسبية محدودة بحدود، أما الصداقة فهي متجددة ومتكثرة ومستمرة، وهذه الميزة لها من الإيجابيات الشيء الكثير، كما أنّها لا تخلو من سلبيات.

الميزة الرابعة: التأثير المتبادل.

من أهم خصائص هذه العلاقة ولعلها أكثرها خطرًا هي: ميزة التأثير المتبادل بين الأصدقاء فيما يتعلق بالأخلاق والسلوكيات العامّة، في إحصائية -استقراء- للشباب المدخنين، وجدوا أن نسبة (5(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ)) من الشباب مارسوا التدخين تقليداً لآبائهم، أما المدخنون المتأثرون بأصدقائهم فهم بنسبة (45(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ))، وهي نسبة خطرة، إذ إنّها تبين أن تأثير الصداقة يفوق تأثير الآباء بتسع مرات على الأقل، ولهذا نجد التأكيد في الروايات على تربية الأبناء على الدقة في اختيار الصديق، بل توجد روايات تبين أنه إذا أردت معرفة إنسان فعليك بمعرفة من يمشي معه، أو من يصاحب؛ لأن الاخلاق تنتقل.

عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «واحْذَرْ صَحَابَةَ مَنْ يَفِيلُ رَأْيُه(1)،

ويُنْكَرُ عَمَلُه، فَإِنَّ الصَّاحِبَ مُعْتَبَرٌ بِصَاحِبِه...وإِيَّاكَ ومُصَاحَبَةَ الْفُسَّاقِ، فَإِنَّ الشَّرَّ بِالشَّرِّ مُلْحَقٌ».(2)

ص: 124


1- فال الرأي يفيل، أي: ضعف (هامش المصدر)
2- نهج البلاغة ج3 ص 130 و ص 131 من كتابه (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) إلى الحارث الهمداني.

وروي أن سليمان (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قال: «لا تحكموا على رجل بشيء حتى تنظروا من يُصاحب، فإنما يُعرف الرجل بأشكاله واقرانه».(1)

وروي عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «اختبروا الناس بأخدانهم، فإنما يخادن الرجل من يعجبُه نحوُه».(2)

المحور الثاني: العلاقة العقائدية.

هناك علاقة من نوع آخر، بعيدة عن اللون أو العرق أو النسب أو القومية، علاقة محورها ومركزها: الله«عَزَّوَجَل»، وهي العلاقة العقائدية الدينية، وهي ما يلزم أن ندفع أولادنا إلى إقامتها مع أصحابهم، ما أوتوا إليها سبيلاً، لأنها علاقة حيوية نافعة، بل لا ضرر معها ولا فيها، وهي تختلف عن باقي العلاقات بما تمتاز به من مميزات.

مميزات العلاقة العقائدية:

أولًا: مع أنّ الله«عَزَّوَجَل» ونبيه الكريم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) والأئمة(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) أعطوا تلك العلاقات حقها وأهميتها وبيّنوا الحلول للمشاكل التي تحصل فيها، إلا أن هناك تأكيدًا شديدًا وحثًّا للنّاس على أن يكون ارتباطهم ارتباطاً عقائدياً، حتى إن القران الكريم إذا جاء لذكر هذه العلاقة يصفها بقوله عز من قائل: ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات 10] فجعل الارتباط بين المؤمنين يصل إلى مرحلة الأُخوّة، فمهما كانت الفوارق بينهم من لون، أو دم، أو قومية، ومهما كان التباعد بينهم جغرافيًا أو تاريخيًا، فإن رابطهم يكون بصيغة: الأخوة الإيمانية.

ص: 125


1- كنز الفوائد للكراجكي ص 36.
2- تنبيه الخواطر ونزهة الناظر (مجموعة ورام) ص 568. وفي الهامش: نحوه أي طريقه في أعماله وأفعاله. والأخذ إن جمع الخدن بكسر الخاء وهو الصديق.

علمًا أن الشريعة المقدسة لا تُنكر باقي العلاقات، وإنما تعطي لهذه العلاقة أهمية قُصوى.

ثانيًا: العلاقة العقائدية تمتاز عن باقي العلاقات بأنها لا يحدّها زمان ولا مكان.

لاحظوا العلاقة مع الجار، إنها علاقة مكان، فإذا تبدلت الدار فلربما تنتهي هذه العلاقة، وهكذا باقي العلاقات، بخلاف العلاقة العقائدية، فإنها خارجة عن حدود الزمان والمكان، بإمكان المؤمن أن يكون له أخ من بلاد نائية لم يرها ولم يصل إليها، كما يمكن أن تضرب بجذورها إلى الماضي السحيق، وهناك روايات واضحة في التأكيد على هذه المسألة، منها ما روي من كلام لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) لما أظفره الله بأصحاب الجمل وقَدْ قَالَ لَه بَعْضُ أَصْحَابِه: «وَدِدْتُ أَنَّ أَخِي فُلَاناً كَانَ شَاهِدَنَا، لِيَرَى مَا نَصَرَكَ الله بِه عَلَى أَعْدَائِكَ. فَقَالَ لَه (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): أَهَوَى أَخِيكَ مَعَنَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): فَقَدْ شَهِدَنَا، ولَقَدْ شَهِدَنَا فِي عَسْكَرِنَا هَذَا أَقْوَامٌ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ، وأَرْحَامِ النِّسَاءِ، سَيَرْعَفُ بِهِمُ الزَّمَانُ ويَقْوَى بِهِمُ الإِيمَانُ.»(1)

إذاً، يمكن للمؤمن مع فارق الزمان أن يكون مع أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) بمجرد أن يكون هواه معه (صلوات الله عليه).

كما أن لقائل كلمة «يا ليتنا كنّا معكم» أثرًا يترتب عليها، وهو ثواب من شارك مع الإمام الحسين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، فمن حديث الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) مع ابن شبيب: «يا بن شبيب، إن سرك أن يكون لك من الثواب مثل ما لمن استشهد مع الحسين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) فقل متى ما ذكرته: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما».(2)

وفي نفس هذا المضمار روي عن عبد السلام بن صالح الهروي، قال: قلت لأبي

ص: 126


1- نهج البلاغة ج1 ص 44.
2- أمالي الشيخ الصدوق ص 193 ح 202 / 5.

الحسن علي بن موسىٰ الرضا (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): يا بن رسول الله، ما تقول في حديث روي عن الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «إذا خرج القائم قتل ذراري قتلة الحسين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) بفعال آبائها»؟ فقال (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «هو كذلك»، فقلت: فقول اللهU: ﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ [الأنعام: 164] ما معناه؟ فقال: «صدق الله في جميع أقواله، لكن ذراري قتلة الحسين يرضون أفعال آبائهم، ويفتخرون بها، ومن رضي شيئاً كان كمن أتاه، ولو أنَّ رجلاً قُتِلَ في المش-رق فرضي بقتله رجل في المغرب لكان الراضي عند الله شريك القاتل، وإنَّما يقتلهم القائم إذا خرج لرضاهم بفعل آبائهم»(1).

فالقيد هو: «الرضا بفعل القوم»، ثمّ يعطي الإمام (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قاعدة: «فلو أن رجلاً قُتِلَ في شرق الأرض فرضي بقتله رجل في غربها لكان الراضي شريك القاتل في القتل».

لا علاقة لهذا بالنسب أو اللون أو القومية، وإنّما بالعلاقة الاعتقادية، فإذا رضي بقتل الإمام الحسين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) فهو يعتبر من قتلته، من هنا روي عن محمّد بن الأرقط أنه قال له الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «تنزل الكوفة؟، قلت: نعم، قال: ترون قتلة الحسين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) بين أظهركم؟، قال: قلت: جُعلت فداك، ما بقي منهم أحداً، قال: فأنت إذاً لا ترىٰ القاتل إلَّا من قُتِلَ أو من ولي القتل؟! ألم تسمع إلىٰ قول الله تعالى: «قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» [آلأعمران: 183]، فأيُّ رسول قتل الذين كان محمّد(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بين أظهرهم، ولم يكن بينه وبين عيسىٰ رسول، إنَّما رضوا قتل أُولئك فسمّوا قاتلين..»(2)

وهذا الأمر لا يترتب إلا على العقيدة، سواء من الجانب الإيجابي أو السلبي، فإنه يصبح هناك أثر وحكم يترتب على تلك العلاقة، وهو من مميزات هذه العلاقة.

ص: 127


1- علل الشرائع 1: 229/ باب 164/ ح 1
2- تفسير العيّاشي 1: 209/ ح 165

ثالثًا: أغلب العلاقات قائمة على تبادل المصالح، وقد تسري هذه السمة حتى إلى أوطد العلاقات النسبية، كعلاقة الأخ بأخيه، أو علاقة الابن بأبيه، ولكن هذه الظاهرة غير جارية في العلاقة العقائدية، فهي لا تتوقف على وجود المنافع أو المصالح.

يوم القيامة جميع العلاقات لا نفع فيها، ويحدث فيها تجافٍ بل فرار: ﴿فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُQ يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِQ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِQ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِQ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس 33 – 37]

﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَQ إِلَّا مَنْ أَتَىٰ اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء 88 – 89]

ولكن هناك علاقة واحدة تبقى قائمة حتى في أهوال يوم القيامة، تلك التي أشار لها تعالى بقوله عز من قائل: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا المُتَّقِينَ﴾ [الزخرف 67]

ولأن علاقة المتقين هي علاقة إيمانية، فقد أصبحت لها ميزة الاستمرارية والبقاء حتى يوم القيامة، أما باقي العلاقات فإن لم يكن فيها ارتباط عقائدي فلا دوام لها وقد يكون لا نفع فيها.

المحور الثالث: كيف تختار صديقك؟

أو ما هي مواصفات الصديق الذي يجب علينا اختياره؟

العلم الحديث للتربية والاجتماع والروايات الشريفة تتفق على مصاحبة من تنفعك صحبته في الدنيا والآخرة، وأما من لا منفعة فيه في الدنيا ولا في الآخرة فعليك تجنبه.

قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاًQ يا وَيْلَتىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاًQ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً﴾ [الفرقان 27 – 29]

ص: 128

من يُبعدني عن خط الرسول الكريم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) ونهج أهل البيت(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) فعليَّ تجنب صحبته، لأنّه لن تنفع النّدامة حينما يُقال: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِQ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ﴾ فيأتي الجواب: ﴿كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون 99 – 100] ولات حين مندمِ.

أي نوع من الأصحاب أُرافق؟ آلذي تذكرني رؤيته بالله«عَزَّوَجَل»؟ أم الذي يصدّ عن طاعة الله سبحانه؟

يقول عزّ من قائِل: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا المُتَّقِينَ﴾ [الزخرف 67]

يا الله! الأخلاء يوم القيامة يتحولون إلى أعداء، باستثناء المتقين.

علماء النحو يقولون عن الاستثناء: إنه شيء كثير تُخرِجُ منه شيئاً قليلاً، وعلى هذا فمعنى الآية: أن قسمًا كبيرًا من الأخلاء يوم القيامة يصبحون أعداءً، باستثناء قسم قليل منهم، هم الذين كانوا في الدنيا يتعاونون على التقوى، ويوم القيامة يبقى بينهم هذا التعاون.

﴿إِلَّا المُتَّقِينَ﴾ ماذا تعني؟ وما معنى التقوى؟

التقوى باختصار هي: «أَعِينُونِي بِوَرَعٍ واجْتِهَادٍ»(1)

كما قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، والورع: هو الابتعاد عن المحرمات، والاجتهاد: هو فعل الواجبات.

أداء الواجبات وترك المحرمات هي مرحلة من مراحل التقوى، وهي مرحلة لا يُعذر فيها أحد، فالكل مطلوب منه أن يلتزم هذه المرحلة من التقوى، وإذا أراد الإنسان الارتقاء أكثر فيمكنه ذلك عن طريق إتيان المستحبات وترك المكروهات.

ص: 129


1- نهج البلاغة ج3 ص 70.

فصُحبة صاحب التقوى تنفع في الدنيا والآخرة، حيث يُذكر أن المؤمن يشفع بمثل قبيلة مضر وربيعة، فقد روي عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا تستخفوا بشيعة علي، فإن الرجل منهم ليشفع بعدد ربيعة ومضر»(1).

علينا إذن أن نحسن اختيار الصديق، كما أن علينا أن ننقل معرفتنا وتجرابنا إلى أولادنا ليُحسنوا اختيار أصدقائهم.

توجد بعض الروايات النافعة في هذا المجال، منها ما عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «قالت الحواريون لعيسىٰ: يا روح الله، من نجالس؟ قال: من يُذكِّركم الله رؤيته، ويزيد في علمكم منطقه، ويُرغِّبكم في الآخرة عمله»(2).

وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «من صحب جاهلاً نقص من عقله»(3)

لأن الجاهل أحمق، والأحمق إذا أراد أن ينفعك فإنه يضرك، فعلينا تجنب مصاحبته.

وعَنْ أَبِي عَبْدِ الله عَنْ أَبِيه3 قَالَ: «قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (صلوات الله عليه): يَا بُنَيَّ، انْظُرْ خَمْسَةً فَلَا تُصَاحِبْهُمْ ولَا تُحَادِثْهُمْ ولَا تُرَافِقْهُمْ فِي طَرِيقٍ. فَقُلْتُ: يَا أَبَه، مَنْ هُمْ؟

قَالَ: إِيَّاكَ ومُصَاحَبَةَ الْكَذَّابِ فَإِنَّه بِمَنْزِلَةِ السَّرَابِ يُقَرِّبُ لَكَ الْبَعِيدَ ويُبَاعِدُ لَكَ الْقَرِيبَ.

وإِيَّاكَ ومُصَاحَبَةَ الْفَاسِقِ، فَإِنَّه بَائِعُكَ بِأُكْلَةٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ.

وإِيَّاكَ ومُصَاحَبَةَ الْبَخِيلِ فَإِنَّه يَخْذُلُكَ فِي مَالِه أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إِلَيْه.

وإِيَّاكَ ومُصَاحَبَةَ الأَحْمَقِ فَإِنَّه يُرِيدُ أَنْ يَنْفَعَكَ فَيَضُرُّكَ.

ص: 130


1- في أمالي الشيخ الطوسي (ص 671 ح 1413 / 20).
2- الكافي للكليني 1: 39 / باب مجالسة العلماء وصحبتهم/ ح 3.
3- كنز الفوائد للكراجكي: 88.

وإِيَّاكَ ومُصَاحَبَةَ الْقَاطِعِ لِرَحِمِه، فَإِنِّي وَجَدْتُه مَلْعُوناً فِي كِتَابِ الله«عَزَّوَجَل» فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ، قَالَ الله«عَزَّوَجَل»: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ الله فَأَصَمَّهُمْ وأَعْمى أَبْصارَهُمْ﴾ وقَالَ: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ الله مِنْ بَعْدِ مِيثاقِه ويَقْطَعُونَ ما أَمَرَ الله بِه أَنْ يُوصَلَ ويُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ ولَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ وقَالَ فِي الْبَقَرَةِ: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ الله مِنْ بَعْدِ مِيثاقِه ويَقْطَعُونَ ما أَمَرَ الله بِه أَنْ يُوصَلَ ويُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ﴾. (1)

المحور الرابع: كيف أختبر الصديق؟

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قَالَ: «قَامَ رَجُلٌ بِالْبَصْرَةِ إِلَى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ أَخْبِرْنَا عَنِ الإِخْوَانِ. فَقَالَ: الإِخْوَانُ صِنْفَانِ: إِخْوَانُ الثِّقَةِ وإِخْوَانُ المُكَاشَرَةِ، فَأَمَّا إِخْوَانُ الثِّقَةِ فَهُمُ الْكَفُّ والْجَنَاحُ والأَهْلُ والمَالُ، فَإِذَا كُنْتَ مِنْ أَخِيكَ عَلَى حَدِّ الثِّقَةِ فَابْذُلْ لَه مَالَكَ وبَدَنَكَ وصَافِ مَنْ صَافَاه، وعَادِ مَنْ عَادَاه واكْتُمْ سِرَّه وعَيْبَه وأَظْهِرْ مِنْه الْحَسَنَ، واعْلَمْ أَيُّهَا السَّائِلُ أَنَّهُمْ أَقَلُّ مِنَ الْكِبْرِيتِ الأَحْمَرِ.

وأَمَّا إِخْوَانُ المُكَاشَرَةِ، فَإِنَّكَ تُصِيبُ لَذَّتَكَ مِنْهُمْ، فَلَا تَقْطَعَنَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ، ولَا تَطْلُبَنَّ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ ضَمِيرِهِمْ، وابْذُلْ لَهُمْ مَا بَذَلُوا لَكَ مِنْ طَلَاقَةِ الْوَجْه وحَلَاوَةِ اللِّسَانِ».(2)

فالإمام علي (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يذكر إخوان المكاشرة وينهى عن كثرة مصاحبتهم.

إن الأدبيات الدينية والعقل يرشداننا إلى ضرورة اختيار الصديق قبل الثقة به، وقد روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنه قال: «لا تثق بالصديق قبل الخبرة»(3).

ص: 131


1- الكافي للكليني (ج2 ص 376- 377 بَابُ مُجَالَسَةِ أَهْلِ المَعَاصِي ح7)
2- الكافي للكليني ج2 ص 248 – 249 بَابٌ فِي أَنَّ المُؤْمِنَ صِنْفَانِ ح3.
3- عيون الحكم والمواعظ للّيثي الواسطي ص 522.

وعنه (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «لا ترغبن في مودة من لا تكشفه».(1)

هذا، وتوجد طرق أرشدتنا لها الروايات الشريفة لاختبار الصديق -الذي بعضنا يفضله حتى على أهله ويسعى جاهداً لقضاء حوائجه وإرضائه- منها:

1/الأموال: إما بإظهار العوز لنرى هل يبادر لستر العوز، أو عن طريق ائتمانه على مبلغ من المال، لمعرفة تأديته للأمانة.

وما أجمل ما روي في هذا المجال من أنَّه أُهدي لرجل من أصحاب النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) رأس شاة مشوي، فقال: إنَّ أخي فلاناً وعياله أحوج إلىٰ هذا حقًّا، فبعث إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلىٰ واحد حتَّىٰ تداولوا بها سبعة أبيات حتَّىٰ رجعت إلىٰ الأوَّل، فنزل: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾.(2)

2/الغضب: إن للغضب تأثيراً كبيراً على السلوك الإنساني، وهو في العادة يكشف عن بواطن الإنسان وما يُحاول إخفاءه في الظروف المواتية، فإذا ما غضب، وتحرر من قيود الظروف المحيطة، وأبرز ما يُخفيه، أمكنك حينها أن تعرف حقيقة توجهه إليك، مما يعني أنه يمكن اختبار الصديق عن طريق تعمّد إيصاله لمرحلة الغضب، حتى إنّ الروايات تذكر أن تعمل على أن تغضبه ثلاث مرات، وإذا وجدته لا يتكلم عنك بسوء، فهو نِعْم الصديق.

روي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «إذا أردت أن تعلم صحة ما عند أخيك فأغضبْه،

ص: 132


1- عيون الحكم والمواعظ للّيثي الواسطي ص 520.
2- مشكاة الأنوار لعليٍّ الطبرسي (ص 330). (وقيل: نزلت في سبعة عطشوا في يوم أُحُد، فجئ بماء يكفي لأحدهم، فقال واحد منهم: ناول فلاناً، حتَّىٰ طيف علىٰ سبعتهم، وماتوا ولم يشرب أحد منهم، فأثنىٰ الله سبحانه عليهم) [تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي (ج 9/ ص 430)].

فإن ثبت لك على المودة فهو أخوك، وإلا فلا».(1)

وعنه (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «لا تعتدّ بمودة أحد حتى تغضبه ثلاث مرات».(2)

وعنه (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) لبعض أصحابه: «من غضب عليك من إخوانك ثلاث مرات، فلم يقل فيك شرًا، فاتخذه لنفسك صديقًا».(3)

3/عند ذهاب القدرة: صاحب السلطة والجاه يكون له الكثير من الأصدقاء، أمّا عند ذهاب جاهه وقدرته، فربما لا يبقى معه إلا القليل، وربما لا أحد، فيمكنك أن تختبر من يدّعون صداقتك بأن تدّعي مثلاً أو تُطهر لهم أن ما عندك من قدرة أو جاه أو مال قد ذهب منك ولم يعد بيدك منه شيء، وانظرهم حينها، واحكم بنفسك، وربما يكون حينها حقّاً ما قيل: ما أكثر الإخوان حين تعدهم لكنهم في النائبات قليلُ.

4/الولاية: من الطرق التي ذكرتها الروايات لاختبار الصديق هي عند حصوله على منصب، فإذا لم يغيره المنصب في تعامله معك فهو الصديق، وقد روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنه قَالَ: «الْوِلَايَاتُ مَضَامِيرُ الرِّجَالِ»(4)

«أراد بالمضامير مظانّ معرفة جودة الفرس وهى الأمكنة الَّتي يقرن فيها الخيل للسباق، واستعار لفظها للولايات باعتبار أنّها مظانّ ظهور جودة الوالي من خسّته ورداءته كما أنّ المضامير للخيل كذلك».(5)

فالمعنى على هذا: أنه «نبّه (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) إلى أنّه كما يعرف جودة الفرس وجوهره في ميدان

ص: 133


1- تحف العقول للحراني ص 357.
2- تحف العقول للحراني ص 357.
3- أمالي الشيخ الصدوق (ص 767 ح 1034 / 8).
4- نهج البلاغة ج4 ص 102 الحكمة (441).
5- شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني ج5 ص 454.

المسابقة، يعرف كفاية الرّجل وجوهره بتصدّيه للولاية على شعب أو صقع من حيث صحّة تدبيره في إدارة الأمور وعدمها وقوّة رأيه وعزمه وضعفه ومن حيث عدله وظلمه ومن نواح أُخر يرتبط بالولاية والحكم».(1)

وعنه (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «فِي تَقَلُّبِ الأَحْوَالِ عِلْمُ جَوَاهِرِ الرِّجَالِ».(2)

أي «تقلَّب أحوال الدنيا على المرء كرفعته بعد اتّضاعه وبالعكس، وكنزول الشدائد به يفيد العلم التجربيّ بأحواله الباطنة من خير وشرّ وجلادة وضعف وفضيلة ورذيلة».(3)

ومعه، فالقاعدة في اختبار الصديق في هذا المجال هي ما روي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنه قال: «إذا كان لك صديق فوَلي ولاية، فأصبته على العشر مما كان لك عليه قبل ولايته، فليس بصديق سوء».(4)

5/السفر: واحدٌ من الطرق لاختبار الصديق هو السفر، وقد سُمّي السفر سفرًا لأنّه يُسفِر ويكشف عن الأخلاق، ففي السفر تفهم حقيقة الصديق وأنه هل يحاول تقديم راحتك على راحته، وهل يقوم بخدمتك، أو ماذا، لأنه قد يكون من أهل الخذلان في الشدائد.

عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: لا تُسمّ الرجل صديقًا سِمَةَ معرفةٍ حتى تختبره بثلاث: تغضبه فتنظر غضبه يخرجه من الحق إلى الباطل، وعند الدينار والدرهم، وحتى تسافر معه.(5)

ص: 134


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة لحبيب الله الهاشمي الخوئي ج21 ص 514.
2- نهج البلاغة ج4 ص 49 الحكمة رقم ( 217(.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي ج5 ص 353.
4- الأمالي للشيخ الطوسي (ص 279 ح 533 / 71)
5- أمالي الشيخ الطوسي ص 646 ح 1339 / 2.

إذا وجدت صديقاً نجح في هذه الاختبارات فتمسكْ به؛ لأنه ربحٌ في الدنيا والآخرة، وإلا فالبقاء بلا صديق خير من مرافقة الذي يخذل في الشدائد والنائبات.

وكل ذلك ينبغي لنا أن ننقله –مصحوباً بتجاربنا الخاصة- إلى أولادنا، لنعلمهم الطريق الصائب للحصول على صديق، والحدود التي ينبغي لهم عدم تجاوزها معهم.

ومهما تحدثنا عن الصحبة والأخوة في الله«عَزَّوَجَل»، فلا نجد واحدةً ترقى لمستوى رفعة ووفاء أصحاب الإمام الحسين (سلام الله عليه) لأنّهم نعم الأصحاب وبشهادته (صلوات الله عليه) حيث عرّفهم بمقولته الشهيرة: «اللهم إني لا أعرف أهل بيت أبرَّ ولا أزكى ولا أطهر من أهل بيتي، ولا أصحابًا هم خيرًا من أصحابي».(1)

فلنُذكّر أولادنا بجميل صُنع هؤلاء الأفذاذ، الذين ما فتئ التاريخ يذكرهم بكل إعظام وإجلال وإكبار، حشَرنا الله وإياكم معهم في ركب أبي عبد الله الحسين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ).

ص: 135


1- أمالي الشيخ الصدوق ص 215 ح 239 / 1.

ص: 136

المفردة الثانية: العلاقة مع الكبير

العوامل المشتركة بين الحقوق:

رغم اختلاف الحقوق بين الموجودات، وما يترتب عليها من واجبات وإلزامات، إلا أنها تشترك في عدة أمور وعوامل، منها:

1/ أنها تعبّر عن علاقات بين طرفين، فمثلًا حقّ الله«عَزَّوَجَل» يُعبِّر عن علاقة بين العبد وربّه، وحقّ الأم يُعبِّر عن علاقة بين الأم وولدها…، فهي علاقات فيها نوع من التفاعل والاثنينية.

2/أنها مما لابدّ منه في هذه الحياة، فلا يستطيع الإنسان الاستغناء عنها في حياته، فبعضها يغذّي الجانب الروحي، أو العقلي، أو العقائدي، وبعضها يدخل في نظام:

الناس للناس من بدوٍ ومن حضرٍ

بعض لبعضٍ وإن لم يشعروا خدمُ

3/ لابدّ لهذه العلاقات من أن تُضبط بنظام، فإذا ما أُريدَ لتلك العلاقات النجاح فلا بد أن لا تُترَك للعشوائية والانتقائية، ولابدّ أن تخضعَ لقواعد وقوانين توضع بين الطرفين ليلتزم بها كلٌّ من صاحب الحقّ ومَنْ عليه الحق والواجب.

4/ وهناك صفة أخرى كامنة داخل تلك العلاقات، وهي: أنّ التزام الإنسان بتأدية تلك الحقوق هو مؤشر وكاشف عن احترامه لتلك العلاقة، فهو ما لم يحترم علاقته مع الله«عَزَّوَجَل» -مثلاً- فلن يهتم بتأدية ما عليه من حقوق له سبحانه، وبالتالي لن يكون عبداً كما يريده الله«عَزَّوَجَل»، وهكذا باقي الحقوق.

ص: 137

الاحترام إذن هو خيط مشترك بين كلّ تلك العلاقات، فمن يحترم علاقة معينة فإنه سيقوم بتأدية ما تفرضه عليه من حقوق وإلزامات.

علماء الفقه والأصول لديهم بحث اسمه (التجري)، ومثاله: لو كان أمام شخص كأس مملوء بسائل، واعتقد ذلك الشخص أن ما في الكأس هو خمر، وهو يعلم أن الخمر حرام، مع ذلك أصبح لديه قرار بشرب ما في الكأس، وبعد أن شربه تبين أنه ماء وليس بخمر، يأتي السؤال هنا: هل يستحق هذا الشخص عقوبة أو لا؟

هناك من قال: يستحق العقوبة وعلّل رأيه: إنّه وإنْ كان المشروب ماءً وليس خمرًا، ولكنه قبْل الشرب كان يعتقد أنّه خمر، وهو يعلم أن الخمر حرام، ومع ذلك ارتكبه، فهذا يكشف عن سوء سريرته وأن لديه استعدادًا لمعصية الله«عَزَّوَجَل»، إذاً هو لم يحترم علاقته مع الله«عَزَّوَجَل»، فيعاقب لجرأته على الله سبحانه، وليس لأنّه شرب الخمر، فلا يُقام عليه الحدّ المخصَّص لشرب الخمر مثلاً؛ لأنّه لم يشرب الخمر، ولكن يُعاقب لجرأته على الله«عَزَّوَجَل».

مناشئ الاحترام في العلاقات:

في حياتنا، نجد أن الاحترام في العلاقات له مناشيء متعددة، مثلاً: احترام الولد لوالديه؛ لأنهما السبب في وجوده، واستمرار حياته، وتوفير الظروف الملائمة له.

احترام المعلم؛ لأنّه السبب في الهداية والتعليم والتخليص من الجهل.

احترام من يقدم خدمة معينة؛ لأنه ساعدك في قضية ما.

وهذا أمر عقلائي متعارف بين الناس.

وهناك مناشيء أخرى لاحترام جميع المسلمين؛ بعض النصوص والأدبيات تشير إلى أن من اللازم احترام جميع المسلمين، ذلك لأنهم أحد ثلاثة: إما أكبر منك، أو أصغر منك، أو بعمرك، فإذا كان أكبر منك فخدمته للإسلام أكثر منك، وأما الأصغر منك

ص: 138

فتحترمه لأن ذنوبه أقل من ذنوبك، وأما من كان بعمرك (تِرْبك) فتحترمه لأنك أعلم بذنوبك ولا تعرف ذنوبه.

إذن هناك مناشئ متعددة للاحترام فيما بيننا، بعضها مناشئ عرفية، وبعضها عقلائية، وأخرى دينية.

منشأ احترام الكبير.

إن من أهم الفئات التي سيكون لأولادنا علاقات معهم ولو كانت سطحية، ولو كانت علاقة عابرة في طريق أو سيارة أو مكان جلوس، هي فئة كبار السن، فلا بد أن نعرّفهم على الخطوط العامة للتعامل معهم، بما يحفظ للعلاقة معهم قيمتها، ورونقها، ولذلك نجد أن الإمام زين العابدین (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يبين لنا حقيقة وهي: أنّ الكبير لابدّ من احترامه، ولكن لماذا؟

قال (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «وحق الكبير توقيره لسنه، وإجلاله لتقدمه في الاسلام قبلك، وترك مقابلته عند الخصام، ولا تسبقه إلى طريق ولا تتقدمه، ولا تستجهله، وإن جهل عليك احتملته وأكرمته لحق الاسلام وحرمته».(1)

ذكر لنا (صلوات الله وسلامه عليه) منشأين لابدّ أن يجتمعا ليتولّد الاحترام للكبير، اي إن هناك صفتين إذا توفرتا في الكبير فلا بد من احترامه، وهما:

الصفة الأولى: توقيره لسنّه.

يمرّ الإنسان بمراحل عمرية متعددة يصل بعدها إلى مرحلةٍ يغزو الشيبُ فيها سوادَ رأسه، فيصبح شيخًا كبيرًا، والروايات تذكر أنّ الله«عَزَّوَجَل» يستحيي من شيبة الرجل الكبير في الإسلام.

ص: 139


1- الخصال للشيخ الصدوق ص 570.

ففي رواية عن رَسُولِ الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «مِنْ إِجْلَالِ الله: إِجْلَالُ ذِي الشَّيْبَةِ المُسْلِمِ».(1)

وقَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا ويَرْحَمْ صَغِيرَنَا».(2)

استطراد: في ضرورة احترام الكبير لشيبته ولعمره.

على الكبير أن يحترم كبر عمره وشيبته، ولا يُدخل نفسه في ما يجلب له الإهانة.

يجب أن لا تكون تصرفاته صبيانية.

عليه أن يبتعد عن الكلام المريب، والتصرفات المريبة.

عليه أن لا يتدخل فيما لا يعنيه.

ولا يحشر نفسه في أمور لا يفقه منها شيئاً.

ولا يتكلم في مواطن لا ينبغي له الكلام فيها.

ولا يلبس ما لا يليق بعمره.

ولا يدخل في أماكن لا يصحّ لمن بعمره الدخول إليها.

عليه أن يحافظ على كل ما من شأنه أن يحفظ له هيبته ووقاره، وأن يبتعد عن كل ما من شأنه أن يقلل من ذلك.

لابدّ للإنسان -حين يصل إلى مرحلة عمرية متقدمة- أن يحترم شيبته كي يفرض احترامه على الآخرين ويحافظ على سمعته، وإن كانت له أخطاء سابقة فعليه أن يبادر إلى التوبة منها، لأن الشيب هو أول نُذُر الموت.

عليه أن يكون وقوراً، وقد روي أنه قال الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «أول من شاب إبراهيم الخليل (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) وإنه ثنى لحيته فرأى طاقة بيضاء، فقال: يا جبرئيل ما هذا؟ فقال: هذا وقار،

ص: 140


1- الكافي للكليني ج2 ص 165 بَابُ إِجْلَالِ الْكَبِيرِ ح1.
2- الكافي للكليني ج2 ص 165 بَابُ إِجْلَالِ الْكَبِيرِ ح2.

فقال إبراهيم: اللهم زدني وقاراً».(1)

تصحيح الأخطاء الماضية والابتعاد عما يجلب الإهانة وعن أماكن الشبهة وغيرها من الأمور التي تحفظ لكبير السنّ هيبته واحترامه، هو ما يجب عليه أن يراعيه.

الصفة الثانية: تقدُّمه في الإسلام.

وهو ما أشار له (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) بقوله: «وتبجيله لتقدّمه في الإسلام قبلك» أي أن يكون مسلماً، وأن يكون ممن سلم الناس من يده ولسانه، واحترَمَ علاقتَه مع الله«عَزَّوَجَل»، وذلك يتم من خلال: «من أصلح فيما بينه وبين الله، أصلح الله ما بينه وبين الناس»(2).

على الإنسان أن يصلح علاقته مع الله«عَزَّوَجَل»، فإن فعل ذلك وجد أن الغير يحترمه، ويقدّره، لا لشيء إلا لأن علاقته مع الله«عَزَّوَجَل» جيدة، لذلك تنقل بعض الروايات عن أصحاب الأئمة(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) كهشام بن الحكم أنه كان الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يقدّمه على أصحابه الكبار وهو بعدُ لم يختطّ عارضاه، لأنّه كان قوياً في دينه.(3)

فإذا اجتمعت هاتان الصفتان: كبر السنّ، وخدمة الإسلام، عندئذٍ تترتب حقوق يجب علينا أن نؤديها لهذه الشيبة: التوقير، والتبجيل.

علينا أن نُلقي في روع أولادنا احترام الكبير لتينك الصفتين، حتى لا يتجاوزوا حدود الأدب والتربية معهم.

ص: 141


1- في من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج1 ص 130 ح 336)، وفي لفظ قصص الأنبياء للراوندي ص 113: (فقال إبراهيم: اللهم ما هذا؟ فقال: وقار. فقال: اللهم زدني وقارا.)
2- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 1/ ص 29/ باب ثواب من أصلح فيما بينه وبين الله/ ح 13) عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ).
3- الكافي للكليني ج1 ص 171 - 173 باب الاضطرار إلى الحجة ح4 عَنْ يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)... فَوَرَدَ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ وهُوَ أَوَّلُ مَا اخْتَطَّتْ لِحْيَتُه ولَيْسَ فِينَا إِلَّا مَنْ هُوَ أَكْبَرُ سِنّاً مِنْه. قَالَ: فَوَسَّعَ لَه أَبُو عَبْدِ الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) وقَالَ: نَاصِرُنَا بِقَلْبِه ولِسَانِه ويَدِه...

وكيف ذلك؟

إمامنا السجاد (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يعلمنا الكيفية بالتالي:

1/ترك مقابلته عند الخصام.

إذا كانت لأحد خصومة مع كبير، فعليه تركها؛ لكبر سنّه، وتوقيراً لشيبته، حتى وإن كان هو صاحب الحقّ ما أمكنه ذلك.

2/لا تستجهله.

أي لا تتعامل معه معاملة الجاهل، بعدم أخذ كلامه على محمل الجدّ، لأنّه صاحب خبرة في الحياة، ولك أن تستفيد من تجربته التي هي عبارة عن عصارة حياته ويقدمها لك جاهزة.

3/لا تسبقه إلى طريق ولا تتقدمه.

فعلينا أن نقدم الكبير في كلّ شيء سواء في المشي أو الكلام أو غيره.

4/ إن جهل عليك احتملته وأكرمته لِ-حَقّ الاسلام وحرمته.

أي حتى لو اعتدى عليك، فعليك أن تحترمه وتكرمه، والسبب يذكره إمامنا (صلوات الله وسلامه عليه)، وهو: حقّ الإسلام، مؤكِّدًا على أنّه إذا كانت لهذا الكبير خدمة للدين أكثر، فتوقيره وتبجيله يجب أن يكون على أعلى مستوياته.

وهذا هو مبدأ الإسلام في التعامل مع الكبير.

ص: 142

المفردة الثالثة: العلاقة مع الصغير

اشارة

للدين في خطاباته مع الجمهور مناهج وأساليب متعددة، يلاحظ فيها نوعية الخطاب ونوعية المخاطب، ولا يجمد على منهج معين لبيان الخطاب وتوضيح المضامين التي يريد إيصالها للمجتمع، بل إن عنده خطابات متعددة، بعضها لها صيغة علمية عالية جداً، تحتاج إلى العديد من المقدمات العلمية للوصول إلى مضامينها، مثل قوله عزّ مِن قائِل: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الأنبياء 22] فعندما يأتي العلماء لبيان هذه الآية يُقدّمون العديد من المقدمات المنطقية والفلسفية للوصول إلى المعنى الصحيح لهذا الدليل الذي ساقه القرآن الكريم لإثبات التوحيد.

هناك خطابات علمية، لكنها تنزل عن تلك اللغة الفلسفية العالية إلى لغة أقرب إلى الفهم العامّي، مثل قوله تعالى ﴿سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْأَفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت 53] فهذه الآية تبين دليلًا من الأدلة التي تُذكر على إثبات وجود الخالق العالم القادر الحكيم لهذا العالم، وهي تدعو الإنسان إلى أن ينظر إلى الكون وما فيه من حكمة وتدبير، وإلى أسرار نفسه وعظمة خلقته، فإذا تأمل هذه الأسرار الآفاقية والأنفسية، صارت لدى الإنسان هذه المعرفة، عندها يتبين له أن الله«عَزَّوَجَل» حقّ، وهو ما يُسمى ببرهان النُظُم.

في بعض الاحيان ينزل الخطاب عن اللغة العلمية إلى اللغة الخطابية التي يُقصد منها إقناع الجمهور بقضية معينة، عن طريق استخدام بعض القضايا المعروفة بين

ص: 143

النّاس، حتى يصل المتحدّث بالجمهور إلى نتيجة معينة.

ولذلك بيًنت الأحاديث الشريفة أن المعصومين(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) كانوا يتحدثون حسب مقدار فهم المخاطب.

فعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «ما كلَّم رَسُولُ الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) العِبادَ بكُنْهِ عَقْلِه قَطُّ»، وقال: «قال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «إنّا مَعَاشِرَ الأنْبيَاءِ أُمِرْنا أنْ نُكلِّمَ النَّاسَ عَلىٰ قَدْرِ عُقُولِ-هِم»(1).

فكان(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) لا يكلمهم بما يملكه من معرفة عالية، لأنهم لا يطيقون ذلك، وهو أسلوب عقلائي، أن ينظر الإنسان إلى نوعية الخطاب ونوعية المخاطب، ويحاول أن ينزّل خطابه وفق هذه المقاييس الموضوعية والعقلائية.

وإذا أردنا أن نذكر بعض الشواهد على هذا الأمر من حياة المعصومين(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ)، فإننا نجد فيها الكثير من هذه الأساليب نذكر منها:

عن أبي أُمامة، قال: إنَّ فتىً شابًّا أتىٰ النبيَّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه، فزجروه، وقالوا: مَهْ، مَهْ. فقال: «ادنه»، فدنا منه قريباً، قال: فجلس، قال: «أتُحِبُّه لأُمِّك؟»، قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يُحِبُّونه لأُمَّهاتهم»، قال: «أفتُحِبُّه لابنتك؟»، قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يُحِبُّونه لبناتهم»، قال: «أفتُحِبُّه لأُختك؟»، قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يُحِبُّونه لأخواتهم»، قال: «أفتُحِبُّه لعمَّتك؟»، قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يُحِبُّونه لعمّاتهم»، قال: «أفتُحِبُّه لخالتك؟»، قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يُحِبُّونه لخالاتهم»، قال: فوضع يده عليه وقال: «اللّهمّ اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصِّن فرجه»، فلم يكن بعد ذلك الفتىٰ يلتفت إلىٰ شيء. (2)

ص: 144


1- الكافي للكليني 1: 23/ كتاب العقل والجهل/ ح 15.
2- في مسند أحمد بن حنبل (ج 5/ ص 256 و257)

لو لاحظنا خطاب النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) مع الشاب لوجدنا أنه لم يكن علميًا، ولم يستخدم الخطاب الشرعي، فلم يقُل له مثلًا: «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَاباً يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَقَرَّ نُطْفَتَه فِي رَحِمٍ يَحْرُمُ عَلَيْه».(1)

وإنما استخدم معه الأسلوب التربوي، وهو أسلوب عكس الحالة، فكما لا ترضاه لنفسك، فالناس لا ترضاه أيضًا... «فارض للناس ما ترضاه لنفسك»(2).

وهو المعنى الذي أشار له أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) في وصيته لولده الإمام الحسن (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) حين قال له: «يَا بُنَيَّ اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيمَا بَيْنَكَ وبَيْنَ غَيْرِكَ، فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، واكْرَه لَه مَا تَكْرَه لَهَا، ولَا تَظْلِمْ كَمَا لَا تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ،

واسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُه مِنْ غَيْرِكَ، وارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاه لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ، ولَا تَقُلْ مَا لَا تَعْلَمُ وإِنْ قَلَّ مَا تَعْلَمُ، ولَا تَقُلْ مَا لَا تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ...»(3).

بعض الناس يصفهم القران بالمؤلفة قلوبهم، وهم كفار ولهم نصيب من الزكاة لأجل استمالتهم إلى الدين وللأمن من شرهم.

بعض الأحيان يكون الأسلوب المناسب هو السكوت وغض الطرف عن المقابل، وكان الرسول الكريم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) والأئمة(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) يتبعونه.

وقد يصل الأمر إلى أسلوب النَّهر كي يعود الفرد لنفسه ويحاسبها، ومن ذلك ما روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «أَمَرَنَا رَسُولُ الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أَنْ نَلْقَى أَهْلَ المَعَاصِي بِوُجُوه مُكْفَهِرَّةٍ»(4)

ص: 145


1- الكافي للكليني ج5 ص 541 بَابُ الزَّانِي ح1 عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)..
2- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 4/ ص 19/ ح 4972) عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ).
3- نهج البلاغة (ج 3/ ص 45 و46).
4- الكافي 5: 59/ باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر/ ح 10.

الخطاب مع الصغار.

من الفئات التي يكون معها الخطاب أمرًا واقعيًا ويوميًا وابتلائيًا دائما هم فئة الصغار، الصبيان، غير البالغين، فئة لها حياتها الخاصة ومشاكلها الخاصة، وينبغي أن يكون الخطاب متناسبًا مع هذه الفئة.

فكيف يكون الخطاب معهم؟

لقد أَولى الإسلام للصغار أهمية عظمى في خطاباته، ولو لاحظنا حياة النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) لوجدنا أنه كان يتعامل مع الصغار تعاملًا تربويًا يمتاز بالدقة، ملؤه التشجيع والاحترام والإنسانية، ليعلّمنا كيف نتعامل مع هذه الشريحة من المجتمع.

المسلمون كانوا إذا وُلد لهم ولد يذهبون به إلى النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) ليباركه لهم أو ليسميه، في إحدى المرات بال طفل في حجره الشريف، أراد اهله حمله وقطع بوله عليه، فنَهَرهم النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بقوله: مه، لا تزرموا بالصبي أي لا تقطعوا عليه بوله، وتركه إلى أن اكمل ثم أرجعه لأهله، وأخبرهم أن الثوب يطهره الماء.(1)

بهذا التعامل الإنساني كان يتعامل الرسول الأعظم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) مع الأطفال، حتى إذا صادفوه في طريق كان هو من يبدأهم بالسلام، مع عظم مكانته، ولما سأله أصحابه عن ذلك أجابهم: «كي تكون سنّة من بعدي».(2)

هذا النوع من التعامل يعرّفنا أن الإسلام أراد أن يكون الخطاب مع الصغار مختلفًا تمامًا عن أي شريحة في المجتمع، لا بد أن يكون تعاملًا ملؤه الرحمة والإنسانية.

ص: 146


1- مكارم الأخلاق للطبرسي: 25.
2- عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «خمس لا أدعهنَّ حتَّىٰ الممات: الأكل علىٰ الحضيض مع العبيد، وركوبي الحمار مؤكفاً، وحلب العنز بيدي، ولبس الصوف، والتسليم علىٰ الصبيان، لتكون سُنَّة من بعدي». (الخصال للشيخ الصدوق: ص 271).

أولادنا، صغارٌ اليوم، ولكنهم كبار الغد ورجال المستقبل، فعلينا أن نفتح معهم ملف التعامل مع الصغار، عبر خطوتين:

الخطوة الأولى: تعاملنا نحن معهم، إذ سينطبع في شخصياتهم ليتحول إلى سلوك في المستقبل.

الخطوة الثانية: دفعهم للتعامل التربوي مع من هم أصغر منهم سناً، بدءاً بإخوانهم الصغار.

الإمام زين العابدین (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يذكر لنا بعض الأساليب لذلك، والتي يصبغها (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) بصبغة الحقوق، فيقول (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «وحق الصغير: رحمته في تعليمه والعفو عنه والستر عليه والرفق به والمعونة له».(1)

1/ حق الصغير: رحمته في تعليمه.

يبدو أن الإمام (سلام الله عليه) كان ملتفتًا إلى قسوة بعض المعلمين لتلاميذهم، فصرّح بكيفية التعامل مع الصغار والأسلوب الأنسب لتعليمهم، وهو أسلوب الرحمة والتسامح، خصوصاً مع الالتفات إلى أنهم صغار لم يعتادوا الالتزام والتقييد.

ولا نغفل عن دور الآباء والأمهات داخل الأسرة في تعليمهم وتشجيعهم، لأن مسؤولية تربية وتعليم الصغار مشتركة بين الوالدين والمعلِّم، يجب عليهم جميعًا مراعاة المعاملة الحسنة التي يرتضيها الإسلام لإنشاء جيل سليم وصحي نفسياً وجسدياً.

وهذا أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) على عظمته والذي يقول فيه ضرار: «كنّا لا نُكلِّمُه ل-هيبتِه»(2)

كان يأتيه أطفال الكُتّاب يتحاكمون عنده «يا أمير المؤمنين،

ص: 147


1- الخصال للشيخ الصدوق ص 570.
2- أمالي الشيخ الصدوق ص 724 ح 990 / 2.

أحكم بيننا، أينا أحسن خطاً» فكان يقول: «أما إنّها حكومة» أي إنها محاكمة تُسأل عنها يوم القيامة فعليك بأن تحكم بالعدل.

فقد روي أَنَّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أَلْقَى صِبْيَانُ الْكُتَّابِ أَلْوَاحَهُمْ بَيْنَ يَدَيْه لِيَخِيرَ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: أَمَا إِنَّهَا حُكُومَةٌ، والْجَوْرُ فِيهَا كَالْجَوْرِ فِي الْحُكْمِ، أَبْلِغُوا مُعَلِّمَكُمْ إِنْ ضَرَبَكُمْ فَوْقَ ثَلَاثِ ضَرَبَاتٍ فِي الأَدَبِ اقْتُصَّ مِنْه.(1)

وروي أنَّ عبد الرحمن السلمي علَّم ولد الحسين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) (الحمد) فلمَّا قرأها علىٰ أبيه، أعطاه ألف دينار وألف حلَّة، وحشا فاه دُرًّا، فقيل له في ذلك، قال: «وأين يقع هذا من عطائه»، يعني تعليمه(2).

هذه قيمة المعلم، علينا أن ننتبه لذلك.

2/العفو عنه.

هو طفل لا تجربة طويلة له في الحياة، عقله صغير، فهو معرض للخطأ، فإذا أخطأ فلا يعني ذلك نهاية الدنيا، وإنّما علينا ان نعفو عنه، ولا نعني من العفو عدم الحساب، بل لا بد أن يُحاسب ولكن لا يصل إلى حدّ العقاب، نُفهمه بكل رفق سوءَ فعله وخطأه ونحذّره من تكرار الخطأ، ونعفو عنه.

3/الستر عليه.

بعض الأطفال حينما يخطئ فإنه لا يُحب أن يطّلع على خطئه أحد، إذ إن له شخصيته وكرامته، ولكن مما يؤسف له أن بعض الكبار لا يحترم الطفل، والبعض يُعنّفون أبناءهم وينتقصون منهم أمام الآخرين، بينما الإمام السجاد (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يوصينا بالستر عليهم.

ص: 148


1- في الكافي للكليني(ج7 ص 268 باب النوادر ح 38)
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 3: 222.

4/الرفق به.

يعتقد بعض الآباء أنه ومن خلال قسوته على ابنه فإنه سيبني له شخصية ويصبح بها رجلاً شجاعاً في المستقبل، البعض يدفعون أبناءهم للعمل في صغر سنهم غير مبالٍ بما سيلاقيه هذا الطفل من قسوة الحياة وتعامل المجتمع وما يمكن أن ينتقل إليه من أخلاق وسلوكيات منحرفة.

إنّ العلماء يُحذّرون من إرسال الأبناء إلى بلدان تضعف فيها عقيدتهم أو تؤدي لانحرافهم، بل ويلزم على الأولياء أن يبعدوا أبناءهم عن العمل في أماكن الريبة وما يُضعف عقيدتهم.(1)

5/المعونة له:

الطفل كائن صغير وضعيف غير مكتمل النضج، هو بحاجة إلى تقديم المساعدة في حياته واتخاذ قراراته وإدارة أموره، فعلى الكبار –وخصوصًا الآباء- أن يعاونوهم على ذلك، نعم لابأس باختباره أو إلقائه في بعض الصعاب، ولكن بعد تعليمه ومدّ يد العون له، وهذا التعامل ليس فقط مع صغارنا، وإنّما مع جميع الصغار؛ لأن هذا ما يريده الإسلام والعلم الحديث.

هكذا يعلمنا الإسلام والنّبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ).

ص: 149


1- منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني (ج 2/ مسألة 1078): (يجوز للوليِّ تسليم الصبيِّ إلىٰ أمين يُعلِّمه الصنعة أو إلىٰ من يُعلِّمه القراءة والخطّ والحساب والعلوم النافعة لدينه ودنياه، ويلزم عليه أن يصونه عمَّا يُفسِد أخلاقه فضلاً عمَّا يضرُّ بعقائده).

ص: 150

المفردة الرابعة: العلاقة مع صاحب المعروف علينا.

اشارة

لا شك أن الإنسان سيواجه في حياته من يُحسن إليه، بدءاً بالصديق، والجار، والمعلم، فضلاً عن الوالدين، والأرحام.

فكيف يتم التعامل مع صاحب المعروف علينا؟

لا بد أن نتعرف على هذه الكيفية، وننقل معرفتنا إلى أولادنا، ليُحسنوا أداء هذا الحق بكل أريحية وانسيابية.

بادئ ذي بدء، نذكر مقدمة:

تتعدد العلاقات بين البشر بتعدد الشخصيات، وعند التعامل المتبادل بين البشر –بشخصياتهم المختلفة- تتولد عدة أنماط من السلوك، ولكل نمط ميزاته وخصائصه، والمشاهد وجدانًا أن هناك أساليب يستعملها بنو البشر في سلوكياتهم، ومنها التالي:

الأول: الأسلوب الأناني:

وهو ينطبق على الشخص الذي لا يرى حقّاً إلا لنفسه في تعامله مع الآخرين تحت شعار:

هي النفس نفسي يذهب الكل عندها *** إذا سلمت فليذهب الكون عاطبًا

فهو لا يفكر إلا في مصلحته الشخصية.

في الحقيقية، أن التفكير بالمصلحة الشخصية ليس فيه خلل في حدّ نفسه، وإنما يكون الخلل والعيب إذا صار حساب المصلحة الشخصية يضر بالآخر، أو أن يبني

ص: 151

سعادته على تعاسة الآخرين، بحيث تجده يتصرف وفق أسلوب يكشف عن أنانيته، ومثال ذلك الاستعمار، حيث إنه يأتي بشعارات براقة تحت عنوان الحرية والديموقراطية وتخليصك من الدكتاتورية، ولكن عند التنفيذ تجد أنه يقدم مصلحته الشخصية على الآخرين، ولا ضير عنده في أن يستخدم الأسلحة الكيمياوية أو الجرثومية وما تخلّفه من أضرار، ولا يهمه أن يهلك شعب وتهلك الثروات الطبيعية في قبال التخلص من شخص واحد، فهو يعمل ضمن دائرة التفكير الأناني.

هناك من يرمي بالمخلّفات من سيارته حفاظًا على نظافتها، ولا يهمه نظافة الطريق وبلده، فهو لا يفكر بالمصلحة العامة.

ومثاله أيضًا البخيل، فهو يجمع الأموال على حساب سعادة أولاده وزوجته، بل هناك من يبخل حتى على نفسه.

الثاني: الأسلوب الجافّ أو القِصاصي.

أو أسلوب: من لا يفعل المعروف إلا إذا سبقْته أنت بمعروف، وهو أفضل من الأسلوب الأول بدرجة، وهو أسلوب منتشر بين العديد من فئات المجتمع، ويمكن أن تجده في صور متعددة، ومثاله: من لا يلقي التحية حتى تُلقى التحية أنت عليه، حتى وإن كان الشخص المقابل أكبر منه عمرًا أو منزلةً، في حين أن الإسلام حثّ على أهمية من يبدأ بالسلام، فقد روي في بعض الروايات: المؤمن لين المنكب يوسع على أخيه، والمنافق يتجافى يضيّق على أخيه، والمؤمن يبدأ بالسلام، والمنافق يقول: حتى يُبدأ بي.(1)

فأنت لا تستطيع أن تسبق المؤمن بالسلام حتى في المكالمة التلفونية؛ إذ يبتدئ حديثه بإلقاء السلام، والنبي الأعظم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) كان يبدأ بالسلام حتى على الصبيان لتكون

ص: 152


1- كنز العمال للمتقي الهندي (ج1 ص 156 ح 778).

سنة من بعده.(1).

في بعض الأحيان هناك مواقف تحتاج إلى مروءة، إلا أن صاحب هذا الأسلوب لا يسامح من أخطأ بحقه، حتى وإن جاء وطلب السماح منه، فلا يقبل العذر، هو صارم وجافٌّ جداً، لا تجد فيه أي نوع من الليونة في التعامل -كما في القوانين الوضعية في كثير من الأحيان- فلا تسامح ولا تعامل بالمروءة.

في بعض الأحيان هذا الأسلوب ينفع، هو أسلوب: ﴿فَمَنِ اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ﴾ [البقرة 194].

ولكن في بعض الأحيان يؤكد القرآن على التسامح وأهميته فيقول ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ [النساء 128].

إذاً، يجب أن تكون هناك مرونة في التعامل مع الآخر؛ حتى تستمرّ الحياة.

الثالث: الأسلوب الاستسلامي:

صاحب هذا الأسلوب لا يقول: (لا) أبدًا، حتى وإن سلبته حقه، أو كلّفته بأمور تضرّه في نفسه أو في عائلته أو في صحته، وحتى لو غششته، فهو يبالغ في صفة الحياء إلى الحدّ الذي تُصبح فيه سببًا لإذلاله أو ضرره.

إن الحياء مطلوب، ومن صفات المؤمن أن يكون حييًّا، ولكن بمعنى أن يكون حييًا عن الحرام، فيلزم أن لا تكون للمؤمن رغبة تذله(2)،

ولا يضع نفسه في موضع الشبهة

ص: 153


1- اُنظر: الخصال: 271 و272/ ح 12 و13.
2- في الكافي للكليني (ج2 ص 320 بَابُ الطَّمَعِ ح1 و ح2) عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قَالَ: «مَا أَقْبَحَ بِالمُؤْمِنِ أَنْ تَكُونَ لَه رَغْبَةٌ تُذِلُّه». وعن أبي جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قَالَ: «بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ لَه طَمَعٌ يَقُودُه وبِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ لَه رَغْبَةٌ تُذِلُّه».

فيُظن به ظن السوء(1)،

والمرأة الحيية يجب أن تكون مستورة ولا ترفع صوتها وضحكاتها في الشارع مثلاً، فهذا الأمر مطلوب، لكن بحدٍّ أن لا يذوب الإنسان في الآخر، بحيث لا يكون له أي رأي، فهذا الأمر منهي عنه؛ لأنه سيولّد الكثير من المشاكل في المجتمع، فمثل هذا الشخص سيقصّر مع عائلته؛ لأنه لا يستطيع أن يقول (لا) لأحد؛ خجلًا من الآخرين، بل حتى إنه لَيؤثر على نفسه وصحته.

نحن في بعض الأحيان نحبّ هذا الأسلوب من البعض تجاهنا، فمثلًا الكثير منّا يميل في قلبه على ولده المطيع المستسلم، والذي ينفّذ كل ما نطلبه منه، ولكن علماء النفس يؤكدون بأن مثل هذا الولد قد تكون شخصيته ضعيفة ومهزوزة –وإن كان يمكن أن يكون مؤدبًا وممن يحترم والديه كثيرًا-، في حين أنّ من يناقشك ويطلب السبب قبل التنفيذ، فهو ذو شخصية أقوى، إذ إن باب الحوار مع الأولاد ينمّي شخصياتهم، ومعه فيجب أن لا نغرس في أولادنا الأسلوب الاستسلامي، وإنما نعلّمهم على أسلوب النقاش والتفاهم بحدود الأدب، وعلم التنمية البشرية اليوم يؤكد على أن نتعلم كيف نقول: (لا).

الرابع: أسلوب (أنا وأنت، كلانا نربح):

وهو أسلوب التوازن في العلاقات، وأسلوب المعروف، وهو ما أكدت عليه الدراسات الاجتماعية والتنموية والتربوية وغيرها، وهو يبتني على عدة ركائز، منها:

الركيزة الأولى: قانون الحقوق والواجبات:

إن المنهج الاجتماعي يقتضي أن تأخذ وتعطي، لا أن تأخذ ولا تعطي،

ص: 154


1- في نهج البلاغة: (500/ ح 159) عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «مَنْ وَضَعَ نَفْسَه مَوَاضِعَ التُّهَمَةِ، فَلَا يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِه الظَّنَّ». وفي نهج البلاغة: (536/ ح 349): مَنْ دَخَلَ مَدَاخِلَ السُّوءِ اتُّهِمَ.

ولا أن تعطي ولا تأخذ، والمؤمن المستقيم يعمل ضمن هذا النظام مع الجميع.

في حديث للإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «الناس سواء كأسنان المشط. والمرء كثير بأخيه، ولا خير في صحبة من لم ير لك مثل الذي يرى لنفسه».(1)

فمثل هذا الذي لا يرى لك عليه مثل الذي له عليك، هو ليس لك بأخ، فهو يأخذ منك ولا يعطي.

الركيزة الثانية: الشخصية المتزنة:

فهو لا مستسلم جدًا ولا صلب جدًا، على غرار: لا تكن يابسًا فتكسر ولا ليّنًا فتُعصر، ففي المواقف الصلبة يقف ولا يتنازل عن رأيه، وفي نفس الوقت إذا ما تغير الموقف ووجد أن عليه أن يعتذر، فهو يبادر إلى الاعتذار.

إن التوازن يقتضي أن تقاس المواقف بمقياس دقيق، وأن يتم التصرف حسب الظروف الموضوعية، ويقتضي من الإنسان أن يكون صاحب معروف، وأن يضع المعروف في أهله.

وقد أرفدتنا الروايات الشريفة بما ينفعنا في هذا المجال، فعن الإمام الصادق (صلوات الله وسلامه عليه) أنه قال لعنوان البصري: «فمن قال لك: إنْ قلت واحدة سمعت عش-راً، فقل: إنْ قلت عش-راً لم تسمع واحدة، ومن شتمك فقل: إنْ كنت صادقاً فيما تقول فالله أسأل أنْ يغفرها لي، وإنْ كنت كاذباً فيما تقول فالله أسأل أنْ يغفرها لك، ومن وعدك بالجفاء فعده بالنصيحة والدعاء...»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قَالَ: «بَعَثَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) إِلَى بِشْرِ بْنِ عُطَارِدٍ التَّمِيمِيِّ فِي

ص: 155


1- تحف العقول للحراني ص 368.
2- مشكاة الأنوار لعليٍّ الطبرسي (ص 564).

كَلَامٍ بَلَغَه، فَمَرَّ بِه رَسُولُ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) فِي بَنِي أَسَدٍ وأَخَذَه، فَقَامَ إِلَيْه نُعَيْمُ بْنُ دَجَاجَةَ الأَسَدِيُّ فَأَفْلَتَه، فَبَعَثَ إِلَيْه أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) فَأَتَوْه بِه وأَمَرَ بِه أَنْ يُضْرَبَ، فَقَالَ لَه نُعَيْمٌ: أَمَا والله إِنَّ المُقَامَ مَعَكَ لَذُلٌّ، وإِنَّ فِرَاقَكَ لَكُفْرٌ. قَالَ: فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ مِنْه قَالَ لَه: يَا نُعَيْمُ، قَدْ عَفَوْنَا عَنْكَ، إِنَّ الله«عَزَّوَجَل» يَقُولُ: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي

هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ﴾ أَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّ المُقَامَ مَعَكَ لَذُلٌّ، فَسَيِّئَةٌ اكْتَسَبْتَهَا، وأَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّ فِرَاقَكَ لَكُفْرٌ فَحَسَنَةٌ اكْتَسَبْتَهَا، فَهَذِه بِهَذِه. ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يُخَلَّى عَنْه»..(1)

ومن أجل التشجيع على هذا الأسلوب وإدامته ونشره، وضع الإمام زين العابدين (سلام الله عليه) فقرة من رسالة الحقوق بأن تؤدي حق من قام بالمعروف لك، حتى لا ينقطع سبيل المعروف، فقال (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «وأما حق ذي المعروف عليك فأن تشكره وتذكر معروفه وتكسبه المقالة الحسنة وتخلص له الدعاء فيما بينك وبين الله«عَزَّوَجَل»، فإذا فعلت ذلك كنت قد شكرته سرا وعلانية، ثم إن قدرت على مكافأته يوما كافيته».(2)

وهذه الحقوق هي:

الأول: أن تشكره:

فإن من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، فيجب أن تشكر صاحب المعروف.

عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ قَالَ سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يَقُولُ: «إِنَّ الله يُحِبُّ كُلَّ قَلْبٍ حَزِينٍ ويُحِبُّ كُلَّ عَبْدٍ شَكُورٍ، يَقُولُ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى لِعَبْدٍ مِنْ عَبِيدِه يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أشَكَرْتَ فُلَاناً؟ فَيَقُولُ: بَلْ شَكَرْتُكَ يَا رَبِّ. فَيَقُولُ: لَمْ تَشْكُرْنِي إِذْ لَمْ تَشْكُرْه. ثُمَّ قَالَ: أَشْكَرُكُمْ لِلَّه أَشْكَرُكُمْ لِلنَّاسِ».(3)

ص: 156


1- الكافي للكليني (ج7 ص 268 باب النوادر ح 40).
2- الخصال للشيخ الصدوق ص 568 – 569.
3- الكافي للكليني (ج2 ص 99 باب الشكر ح 30)

الثاني: تذكر معروفه:

فعندما تجالس غيره عليك أن تذكر معروفه، إذ عندما تمدحه فإنك تشجعه وتشجع غيره على عمل المعروف.

الثالث: تكسبه المقالة الحسنة:

لعل بعض الناس يتكلم بالسوء على من يُحسن اليه، وهذا أمر قبيح، بل العقل والنقل يلزمك أن تمدحه وتنشر فعله الحسن بين الناس، فيكتسب بذلك السمعة الحسنة، ﴿هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ﴾ (الرحمن: 60).

الرابع: أن تخلص له الدعاء فيما بينك وبين الله تعالى:

أي تدعو له سرًا بينك وبين الله تعالى، ففيه نفع لك وله.

ولا شك في أن دعاءك بظهر الغيب لأخيك، سيرجع عليك بفائدة عظيمة، وقد روي عن يونس بن عبد الرحمن، قال: رأيت عبد الله بن جندب وقد أفاض من عرفة، وكان عبد الله أحد المتهجدين قال يونس: فقلت له قد رأى الله اجتهادك منذ اليوم. فقال لي عبد الله: والله الذي لا اله الا هو، لقد وقفت موقفي هذا وأفضت، ما سمعني الله دعوت لنفسي بحرف واحد، لأني سمعت أبا الحسن (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يقول: «الداعي لأخيه المؤمن بظهر الغيب ينادي من أعنان السماء، لك بكل واحدة مائة ألف، فكرهت مضمونة لواحدة لا أدري أجاب إليها أم لا».(1)

فإن فعلت كل ذلك، كنت قد شكرته سرًا وعلانية.

الخامس: يؤكد الإمام (صلوات الله عليه) على أمر آخر وهو:

أنك إنْ قدرت على أن تُرجع المعروف لصاحبه، أي أن تجازيه بمعروفه، فافعل،

ص: 157


1- اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) للشيخ الطوسي (ج2 ص 852 رقم الترجمة 1097).

فهو من ابتدأ بالمعروف، فإن مرت الأيام وكنت قادرًا على ردّ المعروف فردَّه بأفضل منه،

ولنا في أئمتنا أسوة حسنة.

فقد روي أنه خرج الإمامان الحسن والحسين3 وعبد الله بن جعفر حُجّاجاً، ففاتتهم أثقالهم، فجاعوا وعطشوا، فرأوا في بعض الشعوب خباءً رثًّا وعجوزاً، فاستسقوها، فقالت: اطلبوا هذه الشويهة، ففعلوا، واستطعموها، فقالت: ليس إلَّا هي، فليقم أحدكم فليذبحها حتَّىٰ أصنع لكم طعاماً، فذبحها أحدهم، ثمّ شوت لهم من لحمها وأكلوا وقيَّلوا عندها، فلمَّا نهضوا قالوا لها: نحن نفر من قريش نريد هذا الوجه، فإذا انصرفنا وعدنا فالممي بنا فإنّا صانعون لكِ خيراً، ثمّ رحلوا، فلما جاء زوجها وعرف الحال أوجعها ضرباً، ثمّ مضت الأيّام فأضرَّ بها الحال، فرحلت حتَّىٰ اجتازت بالمدينة، فبص-ر بها الحسن (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) فأمر لها بألف شاة وأعطاها ألف دينار، وبعث معها رسولاً إلىٰ الحسين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) فأعطاها مثل ذلك، ثمّ بعثها إلىٰ عبد الله بن جعفر فأعطاها مثل ذلك(1).

ص: 158


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 3/ ص 182).

الجانب الرابع: الجانب الاقتصادي

اشارة

يعتبر الجانب الاقتصادي من أهم الجوانب التي تشغل مساحة واسعة من تفكير الناس أمس واليوم، لما له من أثر مباشر في حياتهم اليومية.

ص: 159

ص: 160

ولأهميته القصوى، واليومية، فقد عمدت بعض الدول الاستعمارية إلى استغلال حاجة غيرهم في السيطرة عليهم وجعلهم تابعين لهم بمعنى الكلمة، وأنتم تعلمون أن من أقسى العقوبات الدولية هو الحصار الاقتصادي.

لو لم يتم إشباع هذا الجانب، فقد يندفع الفرد إلى ارتكاب الجرائم في حق نفسه أو في حق غيره، وبالتالي قد تتسبّب هذه الحالة في فوضى لا قرار لها.

هذا أمر واقعي لا يُنكر، وقد روي عن رَسُول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْراً».(1)

الدين عموماً لا يقف موقفاً سلبياً من الغنى وتحسين الحالة الاقتصادية، لا على العكس، فإن له منظومة متكاملة في هذا الجانب، بحيث يملأ كل فراغاتها، بدءاً من الدعوة إلى العمل، وجعل الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله تعالى، مروراً بضبط طرق تحسينها، وتشذيبها مما قد يؤدي إلى الطبقية المقيتة، وتحريم الطرق الملتوية وغير العقلائية ولا الشرعية، وانتهاءً بالدعوة إلى التكافل الاجتماعي عبر منظومة من التشريعات الواجبة والمستحبة.

في هذا الجانب، سنعمل على تسليط الضوء على مفردتين، تمثل الأولى منهما الصورة العامة للتعامل مع الطبيعة، وكيف أن الإنسان استخدمها إلى أقصى حد، وطرق التعامل معها، وفي الثانية منهما تخصص الكلام بالتربية الاقتصادية للأولاد، ونسأل الله تعالى التوفيق والقبول.

ص: 161


1- الكافي للكليني ج2 ص 307 باب الحسد ح4.

ص: 162

المفردة الأولى: العلاقة مع الطبيعة

اشارة

من العلاقات الواقعية التي لا يستطيع الإنسان العيش بدونها، لأنها توفر له المادة الخام لاستمراره في هذه الحياة، هي علاقته مع الطبيعة.

الموجود في هذه الأرض ليس فقط الإنسان، فهناك الحيوان، النبات، وهناك أيضاً بقية الموجودات -الطبيعة- وكما تعبّر الفلسفة القديمة هناك العناصر الأربعة: الماء، الهواء، التراب، النّار، هذه العناصر تمثل الطبيعة والتي توجد فيما بينها وبين الإنسان علاقات متجذرة منذ أول يوم وجد الإنسان على هذه الأرض، ولا غنى للإنسان عن هذه العلاقة، إذ كيف يعيش من دون ماء أو هواء...؟!

الطبيعة، النبات، الحيوان، وكل عنصر موجود -غير الإنسان- في هذه الأرض يمثل جزءاً من العلاقة الضرورية الواقعية التي يعيشها الإنسان في هذه الحياة، واذا أردنا أن نبحث في علاقة الإنسان مع هذه الطبيعة وكيف تعامل معها، فإننا نجد أن الإنسان لم يتخذ طريقة واحدة في التعامل معها، هو على كل حال انتفع من الطبيعة، ولكن كيف؟

نتحدث هنا في عدة خطوات:

الخطوة الأولى: أنواع التعامل مع الطبيعة.

أولًا: الأبحاث التاريخية تقول: إن التعامل كان على نواحٍ متعددة، بعض الحضارات وجدت أن الإنسان أضعف بكثير من بعض موجودات الطبيعة، وفي نفس الوقت هو محتاج لهذه الموجودات، فتصور أن لها تأثيراً ما، فعمد إلى التقرب إليها، فعبَدَها، فأصبح

ص: 163

هناك إله الشمس، إله الريح، إله البرق… والكثير من الآلهة التي ظنّ الإنسان أن فيها قدرة تفوق طاقته، فعبَدها علّها تخفف من وطأة غضبها عليه...

ثانيًا: هناك نوع آخر من عبادة الطبيعة، جاء متلبساً بلباس جديد، يعني أنهم لم يصرحوا بعبادتهم للطبيعة، وإنما عبدوها بطريقة مغلّفة، وذلك حين بحثوا في بدايات الخلقة للإنسان، وما هي النقطة التي انطلقت منها البشرية، فانتهوا إلى أن الطبيعة هي من خلقتهم!

إن الطبيعة ما هي إلا (الماء، الهواء، التراب، النار) وجميعها موجودات عشوائية وليست منظّمة، انظر مثلًا: العاصفة، إذا دخلت على بلد أفسدت كل شيء، النار إذا شبّت فإنها تُحرق الأخضر واليابس، والماء إذا طغى لا يرحم صغيراً ولا كبيراً، ولم نرَ ظاهرة من الظواهر الطبيعية تصنع شيئاً منظّماً، فكيف يمكن أن نعقل أن هذه الطبيعة هي التي أوجدت هذا الإنسان وبهذه الدقة التي يحكيها لنا الطب وعلم التشريح؟!

على كل حال، فإن هناك نوعًا من التعامل مع الطبيعة على أنّها إله وإن كان بطريقة مغلّفة.

ثالثًا: تعاملت النخب العلمية مع الطبيعة على أنّها مادة مختبرية لإجراء أبحاث علمية للاستفادة القصوى منها في هذه الحياة، وهذا النوع من التعامل مع الطبيعة هو الذي طوّر الحياة إلى ما نراه اليوم، إذ استطاع الإنسان أن يستفيد من العناصر الموجودة في الأرض ليبني منها ناطحات السحاب، والانتفاع من الهواء في رفع الطائرة في السماء، وذلّل الماء ليعطينا الطاقة الكهربائية، ذلل النّار ليعطينا محركات دفع قوية اختصرت علينا المسافات.

هذه النخبة من العقول استطاعت الانتفاع من الموادّ الخام لتسخيرها في خدمة الإنسان، ونجحت في ذلك، وهذا أمر جيد، والعقل يقبله والدين لا يُعارضه.

ص: 164

رابعًا: البعض تعامل مع الطبيعة مختبرياً، ولكن بالإضافة إلى ذلك كانت لهم نظرة أخرى، حيث رأوا هذه الطبيعة بهذا التنظيم اللامتناهي والذي إلى الآن لم يتمكن البشر من اكتشاف الكثير من العلاقات بين موجوداتها، فقالوا: إنّ هذا النظام الدقيق في الكون لا يمكن أن يصدر بالصدفة، ولا يمكن أن يكون بطريقة عشوائية، فلابد من وجود منظِّمٍ عالم، حكيم، قادر، هو الذي خلق هذا النظام الدقيق لهذه الطبيعة.

فانتهوا إلى وجود مدبّر لهذا الكون، وهو الذي نسميه: الله«عَزَّوَجَل».

الخطوة الثانية: تفاعل الإنسان مع الطبيعة:

علاقات الإنسان مع الطبيعة متعددة، ومرت بمراحل كثيرة، ولكن الشيء الجامع لكل هذه العلاقات هو أنّ الإنسان أراد أن ينتفع منها غاية الانتفاع.

هو محتاج إليها، وحتى يستفيد منها احتاج إلى الآلة وإلى الإنسان الآخر، احتاج إلى الفأس وإلى المِعْول وغيرها من الآلات كي يحفر الأرض ويحرثها ويوجد الأنفاق وغيرها.

احتاج إلى الإنسان الآخر لأنه أدرك أنه بمفرده لا يتمكن من إنجاز جميع أعماله، وأما كيف استخدم الإنسان الآخر؟

البعض بالإجارة، البعض بالتعاون، وآخرون بالاستعباد.

كما أن الاستفادة من الطبيعة كانت بعدة وسائل، واحدة من الوسائل التي استخدمها الإنسان لإخضاع الطبيعة هي ما تسمى بالأموال.

الأموال: وسيلة اصطنعها الإنسان حتى يتمكن من تسخير الإنسان الآخر لإخضاع الطبيعة والاستفادة منها.

المال هو مجرد أمر اعتباري، هي ورقة تمت طباعتها بطريقة معينة خاضعة لقانون

ص: 165

معين.

علينا أن نذكّر بأن الدين لا يتعارض مع إذلال الطبيعة لخدمة الإنسان، الله تعالى هو من سخرها لنا، يقول تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الجاثية 13] خلقه الله تبارك وتعالى لنا، وترك لنا أن نُفَعِّل إرادتنا ونستعمل عقولنا في كيفية الاستفادة منها للعيش في هذه الدنيا حياة رغيدة، فأصبح المال إحدى الوسائل لإخضاع الطبيعة والانتفاع منها.

الخطوة الثالثة: تعامل الإنسان مع المال.

إن تعامل الإنسان مع هذه الأموال لم يكن على نسق واحد، وإنّما اختلفت معاملته:

1/بعضهم اعتبر الأموال غاية وهدفًا، فنراه ابتُليَ برذيلة البخل، حتى إن بعضهم لديه من الأموال ما تكفي عدة أجيال من بعده، ومع ذلك نراه يكدح ويتعب نفسه في جمع وكنز الأموال!

هناك حديث لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) حول هذه الحالة يبين أن أقلَّ من ينتفع من هذه الأموال هو جامعها، فيقول (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «عَجِبْتُ لِلْبَخِيلِ يَسْتَعْجِلُ الْفَقْرَ الَّذِي مِنْه هَرَبَ، ويَفُوتُه الْغِنَى الَّذِي إِيَّاه طَلَبَ، فَيَعِيشُ فِي الدُّنْيَا عَيْشَ الْفُقَرَاءِ، ويُحَاسَبُ فِي الآخِرَةِ حِسَابَ الأَغْنِيَاءِ».(1)

وسبحان الله الذي جعل الدنيا كماء البحر كلما شرب منها العطشان ازداد عطشًا!(2)

إن من يرى أن الأموال هدف فإنه سيُبتلى بالبخل والجشع، كما أنه سيُشرْعِنُ لنفسه أي طريقة للحصول عليها، ولو كانت عن طريق السرقة والغش والربا … وغيرها من

ص: 166


1- نهج البلاغة ص 29 – 30 الحكمة (126)
2- في الكافي للكليني (ج2 ص 136 بَابُ ذَمِّ الدُّنْيَا والزُّهْدِ فِيهَا ح24) عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قَالَ: «مَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ مَاءِ الْبَحْرِ، كُلَّمَا شَرِبَ مِنْه الْعَطْشَانُ ازْدَادَ عَطَشاً، حَتَّى يَقْتُلَه».

الطرق غير المشروعة، وآخر هذا الجمع للأموال أنه سيتركها ويذهب رغمًا على أنفه!

2/ هناك بعض آخر يتعامل مع المال على أنّه وسيلة وآلة، ولكنْ لاستعباد الآخرين، فيعتبرهم كأنهم خدم له. يحسب أن أمواله تشرّفه على الآخرين، ولو لم ينته مثل هذا الفرد فإن أمواله ستهلكه عاجلاً أو آجلا...

روي أنَّه جاء رجل موسر إلىٰ رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) نقيُّ الثوب، فجلس إلىٰ رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، فجاء رجل معس-ر درن الثوب، فجلس إلىٰ جنب الموسر، فقبض الموسر ثيابه من تحت فخذيه، فقال له رسوله الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «أخفت أنْ يمسَّك من فقره شيء؟»، قال: لا، قال: «فخفت أنْ يصيبه من غناك شيء؟»، قال: لا، قال: «فخفت أنْ يوسخ ثيابك؟»، قال: لا، قال: «فما حملك علىٰ ما صنعت؟»، فقال: يا رسول الله، إنَّ لي قريناً يُزيِّن لي كلَّ قبيح ويُقبِّح لي كلَّ حسن، وقد جعلت له نصف مالي، فقال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) للمعس-ر: «أتقبل؟»، قال: لا، فقال له الرجل: ولِ-مَ؟ قال: أخاف أنْ يدخلني ما دخلك.(1)

3/هناك نوع ثالث للتعامل مع الأموال على أنّها وسيلة وآلة، كالطعام الذي هو وسيلة للاستمرار بالعيش، لا لكنزه وخزنه، وهذا النوع من التعامل أيضاً ينقسم إلى قسمين:

أ: بعض يستعمل الأموال كوسيلة لإعمار الدنيا دون الآخرة، وللتوسعة على نفسه ولكن دون مراعاة حقوق المال.

ب: وبعض يستعمله كوسيلة لعمران الدنيا والآخرة.

ولا نحتاج إلى كثير عناء لنحكم بأن أفضل من يتعامل مع المال هو الأخير.

أما ما هي حقوق الأموال التي جعلت هذا النوع من التعامل ينقسم إلى قسمين؟

ص: 167


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 262 و263/ باب فضل فقراء المسلمين/ ح 11)..

فهذا ما سنعرفه في الخطوة اللاحقة.

الخطوة الرابعة: صفات المال النعمة.

يتبين من خلال ما تقدم: أن المال يتصف بعدة صفات، إذا أُخذت بعين الاعتبار سيصبح نعمة من نِعم الله«عَزَّوَجَل»، ويصبح من العوامل المساعدة لدخول الإنسان إلى الجنة، والتي هي:

أولًا: أن المال وسيلة لا هدف، لأنه إذا أصبح هدفًا فسيولّد البخل، والغش، والسرقة، والربا، وغيرها من الرذائل الأخلاقية المهلكة.

ثانيًا: المال مسؤولية لا شرف، فهو وإن أُعتُبر في غالب المجتمعات شرفًا، لكن في نفس الوقت هو مسؤولية، فمسؤولية الغني تختلف عن مسؤولية الفقير.

مسؤولية المال: أن لا يأخذه إلا من حلِّه، ولا ينفقه إلا في وجهه، وكما تعبر الرواية عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «إذا كان يوم القيامة لم تزل قدما عبد حتَّىٰ يُسئَل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعمَّا اكتسبه من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وعن حبِّنا أهل البيت»(1).

قد يكتسبه من مصدر حلال، ولكنه ينفقه في حرام، وقد يكتسبه من حرام وينفقه في حلال، كلاهما خطأ!

على الإنسان أن يكتسبه من حلال وينفقه في حلال، فإذا أدى مسؤولية المال وأنفق على من يجب أن ينفق عليهم، فلا يجعل زوجته وأولاده يتكففون الأموال من غيره، وأخرج الحقّ المفترض من الله«عَزَّوَجَل» عليه من زكاة وخمس وغيرها «إِنَّ الله سُبْحَانَه فَرَضَ فِي أَمْوَالِ الأَغْنِيَاءِ أَقْوَاتَ الْفُقَرَاءِ، فَمَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مُتِّعَ بِه غَنِيٌّ، والله تَعَالَى سَائِلُهُمْ عَنْ

ص: 168


1- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني: 56.

ذَلِكَ»(1).

إذا أصبح التعامل مع الأموال بهذه الطريقة، فهذا سيقوده إلى الآخرة.

وفي ذلك روي أنه قال رَجُلٌ لأَبِي عَبْدِ الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): والله إِنَّا لَنَطْلُبُ الدُّنْيَا ونُحِبُّ أَنْ نُؤْتَاهَا! فَقَالَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «تُحِبُّ أَنْ تَصْنَعَ بِهَا مَاذَا؟» قَالَ: أَعُودُ بِهَا عَلَى نَفْسِي وعِيَالِي وأَصِلُ بِهَا وأَتَصَدَّقُ بِهَا وأَحُجُّ وأَعْتَمِرُ. فَقَالَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ):«لَيْسَ هَذَا طَلَبَ الدُّنْيَا، هَذَا طَلَبُ الآخِرَةِ».(2)

التوسعة على العيال، إقراض المال للمحتاجين من المؤمنين، الإنفاق في سبيل الله تعالى، هذه من الأمور الموصلة إلى الآخرة، ولهذا يخطئ من يتهم مؤمناً لأنه يسكن في بيت واسع أو يرى عليه بعض علامات الحياة المرفّهة، وكأنّ على المؤمن أن يعيش حياة القسوة والحرمان، متصوراً أنّ هذه هي حياة الزهد التي يلزم على المؤمن أن يعيشها، في حين أن الزهد هو ترك الحرام. وهو ما قاله أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا قَصْرُ الأَمَلِ وشُكْرُ كُلِّ نِعْمَةٍ والْوَرَعُ عَنْ كُلِّ مَا حَرَّمَ اللهU»(3).

فإذا حصل الإنسان على الأموال من حلال، وأنفقها في الحلال، وطلب بها مرضاة الله«عَزَّوَجَل»، فهذا لا يخالف الشريعة.

الإمام زين العابدین (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يبين أن من حق المال باختصار هو: «وأما حق مالك فأن لا تأخذه إلا من حله، ولا تنفقه إلا في وجهه، ولا تؤثر على نفسك من لا يحمدك، فاعمل فيه بطاعة ربك، ولا تبخل به فتبوء بالحسرة والندامة مع السعة، ولا قوة إلا بالله».(4)

ص: 169


1- روضة الواعظين للفتّال النيسابوري (ص 454)؛ ووسائل الشيعة للحرِّ العاملي (ج 9/ ص 29).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 72/ باب الاستعانة بالدنيا علىٰ الآخرة/ ح 10).
3- الكافي للكليني 5: 71/ باب معنىٰ الزهد/ ح 3.
4- الخصال للشيخ الصدوق ص 569.

«ولا تؤثر على نفسك من لا يحمدك» أي: لا تنفقه على شخص لا يُقدّر ذلك منك وكأنك رميت بأموالك في البحر.

«فاعمل به بطاعة ربك، ولا تبخل به فتبوء بالحسرة والندامة مع التبعة»

البعض من الذين يجمعون الأموال تتقدم بهم أعمارهم وتتكاثر الأمراض عليهم، فلا يتمكنون حتى من أن يهنئوا بأموالهم، وتبقى الحسرة والندامة في قلوبهم، كما تبقى تبعتها تلحقهم يوم القيامة إذا لم يؤدوا حقوقها.

فالمال وسيلة لا هدف، مسؤولية لا شرف، المال يُقصد منه عمران الدنيا والآخرة معاً، وليس الدنيا فقط أو الآخرة فقط، إذ إنه ورد عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «ليس منّا من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه»(1).

وروي عن العالم (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «اعمل لدنياك كأنَّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنَّك تموت غداً»(2).

إذا أصبح التعامل مع المال بهذه الطريقة، فسيصبح من الأمور النافعة في الدنيا والآخرة، وإذا حدث في هذه المعادلة خلل فإنه سيحدث خلل في المنهجية، خلل في الحياة، خلل في النتائج.

ص: 170


1- من لا يحضره الفقيه للصدوق 3: 156/ ح 3568.
2- من لا يحضره الفقيه للصدوق 3: 156/ ح 3569.

المفردة الثانية:التربية الاقتصادية

هذه الحياة قائمة على مبدأ التوازن، والخلل فيه يؤدي إلى الخلل في الحياة، وهذا الأمر شامل لكل مفرداتها، وعلى جميع المستويات.

التربية تدخل ضمن هذا المضمار، فهي مفهوم حياتي يقتضي التوازن لو أريد له النجاح، وهذا الأمر يشمل كل جوانبها، إذ للتربية جوانب متعددة، بعضها نفسية، وبعضها ثقافية، وجسدية، وغيرها، ومنها الجانب الاقتصادي، وهو محل البحث.

إن الجانب الاقتصادي يُنظر له من جانبين:

ص: 171

ص: 172

الجانب الأول: من جهة الوالدين

اشارة

أي ما يلزم على الأبوين اقتصاديًا اتجاه الأبناء، والمطلوب منهم هو إحداث عملية (التوازن) هنا، فلا إفراط ولا تفريط، لا دلال زائدًا عن الحد المطلوب، ولا بخل وتقصير فيما يحتاجونه اقتصاديًا.

وحتى تتضح الصورة نذكر النقاط التالية:

النقطة الأولى: إن إهمال الجانب الاقتصادي للأولاد، يؤدي إلى نتائج وخيمة، منها:

أولًا: شعور الأولاد السلبي بعدم قيمتهم في الحياة لدى آبائهم، فعندما يراك ولدك تهتم بسيارتك وصحتها الميكانيكية أكثر من صحته البدنية، وعندما يراك تشتري أغلى الهواتف النقّالة لإشباع رغبتك ولا تشتري له لعبته المفضلة أو حتى ملابسه الضرورية، عندها سيتمنى أن يكون حاجة من حاجياتك التي تهتم بها، وسيشعر أنه إنسان لا قيمة له عندك.

هذا إذا كان الأب يهتم بمثل تلك الأمور.

ثانيًا: أما إذا كان من النوع البخيل، فهو لا يصرف على نفسه ولا على عياله، فإنه بالإضافة إلى خسارته لولده، هو سيخسر قيمته المعنوية أمام أولاده، ذلك لأنهم وبلا شك سيسمعون أصدقاءهم يسردون عليهم مقاطع قصصية من سفراتهم الترفيهية مع آبائهم، أو صورة الهدية التي أحضرها الأبوان يوم عيد ميلادهم، أو يوم حصلوا على نتائج جيدة في الامتحان، وبمقايسة بسيطة من الأولاد سيحكمون على ذلك الأب البخيل بحكم قاسٍ جدًا، وسيحتاج الأب إلى وقت طويل ليصحح ذلك الحكم

ص: 173

ويستأنف حياته الأبوية بصورتها الإيجابية معهم، لو أراد تصحيح صورته طبعًا.

ثالثًا: إن الأولاد سينتظرون اللحظة المناسبة للتحرر من قيود سجن البيت، ذلك عندما تتاح لهم فرصة الحصول على المال، بعمل او غيره، حينها، سيستغنون عن أبيهم بالمرة، كما اضطرهم هو من قبل أن يستغنوا عن أمواله.

لا تنس أن المال يمكن تعويضه، ولكن كيف ستعوض قلبًا خسرته أو ابنًا حرمته؟!

النقطة الثانية: إن الشرع قائم على ضرورة تكفّل الأب مهمة الرعاية الاقتصادية للبيت عمومًا، فحتى لو كانت الزوجة غنية، فإن نفقتها الواجبة هي على زوجها، نعم، إذا كان للأولاد أموال خاصة فيمكن للأب –وهو وليهم الشرعي- أن يصرفها عليهم، بشرط أن لا يكون في صرفها مفسدة عليهم، أما إذا لم يكونوا يملكون المال، فإن تمام نفقتهم اللازمة هي على أبيهم، والتقصير في هذا الجانب قبيح عقلًا وحرام شرعًا.(1)

النقطة الثالثة: صحيح أنه لا يجب على الأم أن تنفق على أولادها وعلى نفسها مع

ص: 174


1- منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني (ج 2/ مسألة 85): يجوز للأب والجدِّ للأب وإن علا التص-رُّف في مال الصغير بالبيع والش-راء والإجارة وغيرها، وكلٌّ منهما مستقلٌّ في الولاية فلا يُعتَبر الإذن من الآخر، كما لا تُعتَبر العدالة في ولايتهما، ولا أن تكون مصلحة في تص-رُّفهما، بل يكفي عدم المفسدة فيه، نعم إذا دار الأمر بين الصالح والأصلح لزم اختيار الثاني إذا عُدَّ اختيار الأوَّل - في النظر العقلائي - تفريطاً من الوليِّ في مصلحة الصغير، كما لو اضطرَّ إلىٰ بيع مال الصغير وأمكن بيعه بأكثر من قيمة المثل فلا يجوز له البيع بقيمة المثل، وكذا لو دار الأمر بين بيعه بزيادة درهم عن قيمة المثل وزيادة درهمين لاختلاف الأماكن أو الدلّالين أو نحو ذلك لم يجز البيع بالأقلّ، وإن كانت فيه مصلحة إذا عُدَّ ذلك تساهلاً عرفاً في مال الصغير، والمدار في كون التص-رُّف مشتملاً علىٰ المصلحة أو عدم المفسدة علىٰ كونه كذلك في نظر العقلاء لا بالنظر إلىٰ علم الغيب، فلو تص-رَّف الوليُّ باعتقاد المصلحة فتبيَّن أنَّه ليس كذلك في نظر العقلاء بطل التص-رُّف، ولو تبيَّن أنَّه ليس كذلك بالنظر إلىٰ علم الغيب صحَّ إذا كانت فيه مصلحة بنظر العقلاء. وفي منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني (ج 2/ مسألة 1081): (ينفق الوليُّ علىٰ الصبيِّ بالاقتصاد، لا بالإسراف ولا بالتقتير، ملاحظاً في طعامه وكسائه وغيرهما ما يليق بشأنه).

وجود الأب، ولكن هذا لا يعني أن تتقوقع على أموالها لنفسها، بل ينبغي لها –تربويًا على الأقل- أن تمدّ يد العون لزوجها ولأولادها ما أوتيتْ إلى ذلك سبيلًا.

وأما إذا لم تكن ذات مالٍ، فعليها أن لا تعدم الأسلوب الجميل والابتسامة والترحيب والتشجيع المستمر، ومعالجة المواقف الحرجة بحنكة وذكاء.

عليها أن تقف إلى جنب زوجها –لو أعوزه الحال- وأن تصبر على قلة ذات يده، وعليها أن تُفهّم أولادها أن أباهم لا يملك غيرهم، وأنه يبذل قصارى جهده من أجل تلبية رغباتهم، ولكن الظروف لم تتأتّ معه كما يَجب أو كما يحُب، لذلك عليهم أن يقدّروا هذا منه، وأن يجعلوا من خططهم المستقبلية مساعدة أبيهم اقتصاديًا عندما تتاح لهم الفرصة المناسبة.

النقطة الرابعة: وكما أن التقصير في هذا الجانب خطأ، كذلك الإفراط به إلى حدّ الدلال غير المبرمج ولا المنظّم هو خطأ آخر قد يقع فيه بعضٌ آخر من الآباء.

إن من طبيعة الطفل أنه موجود مستهلك، فلو وجد الموارد أمامه متوفرة وبكثرة وبسهولة، فإنه سيزيد من استهلاكه اللا مسؤول، وسوف لن يتراجع إلى نقطة سابقة بعد أن تجاوزها...

خذ مثالاً على ذلك: الطفل لو لم يُفطم، فإنه سيستمر بالرضاع ولو تجاوز عمره الأربع أو الخمس سنوات ربما، وأعتقد انكم رأيتم طفلًا أو اثنين ممن يضعون الماصّة الخاصة بالأطفال وهم بهذه الأعمار أو ربما حتى أكبر! ولذلك شبّه أحد الشعراء النفس -التي لم توضع لها قيود من العقل- بالطفل وحبه للرضاع فقال:

والنفس كالطفل، إنْ تهمله شبّ على *** حبّ الرضاع وإن تفطمه ينفطم

فلو لم نضع له قيودًا من البداية، لبقي الطفل يسير مغمضًا عينيه يستهلك الأخضر

ص: 175

واليابس، وفي اللحظة التي يعجز الأب –لسبب ولآخر- عن توفير رغباته اللا متناهية، فإنه سيحكم على أبيه بأحكام سلبية، وسيعتبر نفسه ضحية حرب، وقد يواجهه بما لا يُحب من الألفاظ أو السلوك.

وكتطبيق عملي، ينصح علماء التربية بتحديد مصروف يومي للطفل، لا يُعطى أكثر منه إلا في حالات الضرورة القصوى، وللطفل أن يدّخر من مصروفه لحاجاته الأخرى، فذلك يعلّمه أن المال لا يُعطى دومًا بالمجّان، ويعلمه كيفية إدارة أمواله بما يخدم مصالحه، وأن يقسم موارده على ما يحتاج إليه من أمور، وكل ذلك يصبُّ في عملية البناء الاقتصادي التكاملي للطفل.

ولذلك قالوا: إن «تخصيص مصروف مفتوح وغير مقنّن للطفل، لن يعلّمه أبدًا كيف تسير الحياة من حوله، وهناك أجيال ترعرعت وهي تعيش مُسلّمات كثيرة خاطئة، ومنها: أن المال منحة مجانية، ويتوقع هؤلاء أن يبقى الآباء ينفقون عليهم ويسدّدون فواتيرهم حتى بعد أن يكبروا... فتوفير فيض زاخر من الأموال للأطفال، من دون أن نعلّمهم عادة العمل الجادّ، سيجعلهم أبناءً متذمّرين وأنانيين، يرون كل شيء في حياتهم حقًا مكتسبًا، وعندما نحرمهم من أي شيء، صغر أو كبر، يعتبرون أنفسهم ضحايا... في حين أن أسوأ ما يمكن أن تربي عليه أبناءك، هو أن يعتبروك –أو يعتبروا أي إنسان آخر- مجرد بنك متحرّك أو صرّاف آلي، يقدّم لهم المال كلّما جاؤوا للسؤال.»(1)

النقطة الخامسة: لا شك أن معظم الآباء يبذلون قصارى جهدهم من أجل توفير العيش الكريم لعوائلهم، وقد تتفهم الأم –أو على الأقل بعض الأمهات- حقيقة هذا

ص: 176


1- الأسرة والجيل الرقمي- مجموعة من الكتاب- من مقال: التنشئة الاقتصادية للأبناء- تأليف: ديف رامزي و ريتشيل كروز، ص 202 – 203.الطبعة الأولى 2016- قنديل للطباعة والنشر والتوزيع.

الأمر، وقد تتحسّس آلامه وصعابه، وإن كنّا لا نعدم الأمهات اللائي لا يقدرْن ما يبذله الأزواج من جهود في سبيل إسعادها وأولادها، كما لا نعدم في الجانب المقابل أزواجًا لا يقدّرون ما تبذله الزوجات في سبيل تحويل البيت من سجن إلى حديقة غنّاء!

ولكن الأولاد –في كل ذلك- قد لا تكون عندهم القدرة على فهم تلك الجهود المبذولة وتقديرها، خصوصًا في بدايات حياتهم، إلا بعد أن يقطعوا شوطًا طويلًا في مضمار الحياة.

وهنا، تبرز أهمية التربية الاقتصادية الناضجة، لتعمل على تهيئة الظروف المناسبة للأولاد ليتعرفوا على حجم تلك الجهود التي يبذلها الأبوان.

إن تكليف الأم لابنتها بأن تغسل أواني الطعام ليوم واحد، لهو أمر تربوي يكشف للبنت –بعده- مقدار الجهد الذي كانت ولا زالت تبذله الأم في غسل الأواني وغيره كثير من الأعمال المنزلية.

كما أن تكليف الأب لولده بأن يحرث أرض الحديقة المنزلية مثلًا، وينظفها من الأدغال، كفيل بأن يحسّس الولد بمقدارٍ قليل من التعب الذي يتجرعه الأب يوميًا عندما يهرع من الصباح الباكر لممارسة شتى الأعمال –ربما- والتي يكون تنظيف الحديقة وحرثها جزءًا يسيرًا جداً منها، كل ذلك من أجل توفير العيش الكريم لهم.

الخلاصة: أن تكليف الأولاد –في عمر مناسب- بالقيام ببعض الأعمال –المتناسبة مع أعمارهم وقواهم العضلية- كفيل بالإشارة إليهم وإشعارهم بالجهود الاستثنائية التي يبذلها الآباء والأمهات يوميًا... وهذا أمر يدخل في نظام: (تنضيج) الأولاد فكريًا وعمليًا.

ص: 177

النقطة السادسة: أساليب تربوية للتنمية الاقتصادية:

الأسلوب الأول: مهارة الادّخار.

تعوّد أبناؤنا –خصوصًا في المجتمعات الشرقية ولعله كذلك في المجتمعات الغربية- على أن يستلموا مصروفاتهم اليومية بالمجّان من أحد الأبوين، وغالبًا ما يكون الهدف من المصروف هو إنفاقه أثناء التواجد في المدرسة أو حتى في البيت، وهذا في حدّ نفسه أمر ضروري للأولاد، إذ إنهم يحتاجون لمصروف معين كما هو واضح.

المهارة هنا تكون في أن نعلّمهم وندفعهم ونحفّزهم على أن يُرشّدوا من الاستهلاك اليومي بتأجيل بعض الرغبات، أو استبدالها بأقل كلفة منها، أو التعويض عن الأكل في كافيتريا المدرسة بطعام يؤخذ من البيت، وما شابه، وتوفير ما يقابل هذه الحاجات من مال في صندوق خاص.

وقد تعمل بعض العوائل على تجميع مقدار معين من مصروفات الأولاد يوميًا لفترة معينة ليُعطى المجموع لهم بالتتالي (ما يُسمى عرفًا بالسِلفة).

هذا، وإنَّ علينا أن نعلمّهم التوفير في ما يكتسبونه من مال، سواء وصل لهم بالمجّان، كالهدايا، أو ما حصلوا عليه إزاء عمل معين قاموا به.

الادّخار أمر ضروري في توفير واردات تسدّ الحاجة وقت الفاقة أو العسر.

وقد دعا الدين في موارد عديدة وأشار إشارات واضحة إلى ضرورة العمل على مهارة (الادّخار)، ليس للصغار فقط، وإنما للكبار، مما يعني أنها مهارة حياتية تدخل ضمن مقومات النجاح وأسس الحياة وضمانات المستقبل.

«وقصة النبي يوسف (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) في القرآن الكريم خير دليل على أهمية الادّخار، وذلك عندما فسّر رؤيا فرعون مصر في البقرات السبع بسنوات عجاف، والجدب، ومن ثَمّ

ص: 178

اقترح عليه توفير القمح، لتجاوز هذه المحنة، جاء في كتاب الله العزيز: ﴿يُوسُفُ أَي-ُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْ-رٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَىٰ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَQ قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَQ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَQ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِ-رُونَ﴾ [يوسف 46 – 49].

نستلهم من هذه الآيات المباركة أن الهدف من الادّخار يكون حميدًا، لو كان الهدف منه حماية اقتصاد المجتمع، والحفاظ على أنماط تماسكه، لدرجة أن نبيًا من أنبياء الله تعالى قد تولّى هذه المهمة بنفسه»(1)

وهناك إشارات روائية عديدة لضرورة الادّخار، فقد روي عن أبي الحسن الرضا (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنه قال: «إِنَّ الإِنْسَانَ إِذَا أَدْخَلَ طَعَامَ سَنَتِه خَفَّ ظَهْرُه واسْتَرَاحَ،وكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ وأَبُو عَبْدِ الله3 لَا يَشْتَرِيَانِ عُقْدَةً(2) حَتَّى يُحْرَزَ إِطْعَامُ سَنَتِهِمَا.»(3)

وعن رَسُولُ الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «إِنَّ النَّفْسَ إِذَا أَحْرَزَتْ قُوتَهَا اسْتَقَرَّتْ».(4)

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قَالَ:« قَالَ سَلْمَانُ رَضِيَ الله عَنْه: إِنَّ النَّفْسَ قَدْ تَلْتَاثُ عَلَى صَاحِبِهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مِنَ الْعَيْشِ مَا تَعْتَمِدُ عَلَيْه، فَإِذَا هِيَ أَحْرَزَتْ مَعِيشَتَهَا اطْمَأَنَّتْ».(5)

فإذا علمنا أن أثر الادّخار أمر واقعي لا علاقة له بالعمر أو بالمستوى الثقافي،

ص: 179


1- فنّ التدبير في المعيشة- مركز نون للترجمة والتأليف- ص 164 – 165 – نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية-الطبعة الأولى 2013 م/ 1434ه-.
2- العقدة - بالضم -: الضيعة والعقار الذي اعتقده صاحبه ملكًا. ( القاموس ) [هامش المصدر]
3- الكافي للكليني ج5 ص 89 بَابُ إِحْرَازِ الْقُوتِ ح1.
4- الكافي للكليني ج5 ص 89 بَابُ إِحْرَازِ الْقُوتِ ح2.
5- الكافي للكليني ج5 ص 89 بَابُ إِحْرَازِ الْقُوتِ ح3.

فعلينا حينها أن نعلّم أولادنا على هذه المهارة منذ نعومة أظفارهم، حتى لا يقعوا فريسة الاستهلاك غير المسؤول واللاأبالية عندما يكبرون.

ملحوظة مهمة:

صحيح أنّ علينا أن نعلّم أولادنا مهارة الادّخار، كما أنّ علينا نحن أيضًا أن نمارس هذه المهارة، ولكن يلزم أنْ لا ينسى المرء نفسه فيصل إلى حدّ البخل وحرمان النفس من ضروريات الحياة، وهذه مسألة خطرة، فقد يستغرق المرء في توفير المال، فيحلو في عينه جمعُه، إلى أن يصل إلى حدّ تنقبض يده عن البسط تمامًا، فيقع في شراك البخل ومصيدة الحرمان.

وهذا يعني: أن علينا أن نزن الأمور بموازينها الواقعية، وأن نبقى على تواصل دائم مع أصحاب العقول الراجحة والتجارب الناجحة، وليس هناك أفضل من أهل بيت العصمة(عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ)، حيث أعطونا قواعد عامة يمكن أن تكون هي المنهاج الأمثل في التوفير والادّخار للكبار والصغار على حدّ سواء.

وفي هذا المجال، روي عن معتب قال: قال لي أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): وقد يزيد السعر بالمدينة، كم عندنا من طعام؟ قال: قلت عندنا ما يكفينا أشهرًا كثيرة قال: أخرجه، وبعه. قال: قلت وليس بالمدينة طعام ؟ قال: بعه. قال: فلما بعته قال: اشترِ مع الناس يومًا بيوم، وقال: يا معتب اجعل قوت عيالي نصفًا شعيرًا ونصفًا حنطة، فإن الله يعلم أني واجدٌ ان أطعمهم الحنطة على وجهها، ولكني أحب أن يراني الله«عَزَّوَجَل» قد أحسنت تقدير المعيشة.(1)

فنلاحظ أن الإمام (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) رغم أنه كان مقتدرًا على إطعام أهله الحنطة الخالصة، ولكنه

ص: 180


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج7 ص 161 باب التلقي والحكرة ح ( 710 ) 15.

أمر معتبًا بأن يخلط معه الشعير تقديرًا للمعيشة، خصوصًا وأن الرواية تشير إلى وجود نوع من قلة الطعام في المدينة آنذاك.

وفي رواية عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): فَدَعِ الإِسْرَافَ مُقْتَصِداً، واذْكُرْ فِي الْيَوْمِ غَداً، وأَمْسِكْ مِنَ المَالِ بِقَدْرِ ضَرُورَتِكَ، وقَدِّمِ الْفَضْلَ لِيَوْمِ حَاجَتِكَ.(1)

وفي رواية عَنْ مُعَمَّرِ بْنِ خَلَّادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يَقُولُ: «إِنَّ رَجُلاً أَتَى جَعْفَراً (صلوات الله عليه) شَبِيهاً بِالمُسْتَنْصِحِ لَه فَقَالَ لَه: يَا أَبَا عَبْدِ الله، كَيْفَ صِرْتَ اتَّخَذْتَ الأَمْوَالَ قِطَعاً مُتَفَرِّقَةً؟! ولَوْ كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ [وَاحِدٍ] كَانَتْ أَيْسَرَ لِمَؤُونَتِهَا وأَعْظَمَ لِمَنْفَعَتِهَا. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): اتَّخَذْتُهَا مُتَفَرِّقَةً، فَإِنْ أَصَابَ هَذَا المَالَ شَيْءٌ سَلِمَ هَذَا المَالُ، والصُّرَّةُ تُجْمَعُ بِهَذَا كُلِّه».(2)

لاحظوا كيف أن الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يعلّمنا طريقة للتوفير، وهي أن نضع أموالنا في أماكن متفرقة لا في مكان واحد، إذ لعل شيئَا ما يُصيب هذا المكان، فلو كانت مجتمعة لعطبت كلها وتلفت، أما إذا كانت متفرقة، فإن تلف بعضها لا يسري إلى البعض الآخر، وهذا من مهارات التوفير والادّخار العقلائية الواقعية.

الأسلوب الثاني: تحديد الأهداف.

إن من أكثر الأخطاء شيوعًا لدى بعض الناس –وربما الكثير منهم- هو عدم تحديدهم أهدافهم وغاياتهم التي يريدون الوصول إليها، لذلك تجدهم يسيرون سير النملة التي لا ترى أكثر من عدة سنتمترات، ولا ينظرون بعين الصقر الثاقبة التي تتجاوز الحدود المتعارفة للنظر.

إن تحديد الأهداف من الأفعال يعتبر من أهم طرق النجاح المنهجي، ولذلك تؤكد

ص: 181


1- نهج البلاغة ج3 ص 19.
2- الكافي للكليني ج6 ص 91 بَابُ شِرَاءِ الْعَقَارَاتِ وبَيْعِهَا ح1.

عليه جميع الدراسات التي تناولت التنمية البشرية، الاقتصادية وغيرها.

وفيما يتعلق بتحديد الهدف الاقتصادي للأولاد، علينا أن نتذكر أن أولادنا ما زالوا في بداية طريقهم في هذه الحياة، وأن مداركهم لم تكتمل لتتعرف على الأهداف النبيلة من غيرها، لذلك، لزم علينا –نحن الآباء والأمهات- التدخل السريع في مساعدتهم على تحديد أهداف منتجة في هذا المجال.

هل تتذكرون عندما كنا صغارًا، وكان معلِّمونا يسألوننا عما نود ونهدف أن نصل إليه في دراستنا؟!

إنها طريقة تحفيزية رائعة، ترسم هدفًا للتلميذ من أول يوم يضع فيه قدمه على خط التعلم، ليسعى إلى الوصول إليه قدر إمكانه، وأعتقد أنكم لاحظتم أن علامات التلميذ ودرجاته في الاختبارات كانت عادة متناسبة مع الهدف الذي يصبو أن يصل إليه.

وفي هذا المجال يمكن إعطاء قائمة توصيات تتعلق بالتربية الاقتصادية:

1/ علينا أن نعلم أولادنا أسلوب: الأهم والمهم، وأسلوب: المستعجل وما يمكن تأجيله، حينها سيفهم أنه لا يلزم على الأبوين توفير كل ما يرغب به مباشرة، وسيتعلم كيف يؤجل بعض رغباته لأن غيرها أهم منها.

2/علينا أن نعلّم أولادنا تحديد الأهداف من أفعالهم بدءًا بما نراه نحن فعلًا ساذجًا لا قيمة له.

عندما ترى ابنك يكسر لعبته، قبل أن تزجره اسأله: لماذا فعلت ذلك؟ قد يقول لك: إنه يريد اكتشاف ما في داخلها، حينها، يتعرف أن له هدفًا يُريد من خلاله إشباع فضوله العلمي، فهذا أمر جيد، لكن السيء في المسألة أنه اتخذ طريقًا غير صحيح للوصول إلى إشباع رغبته المعرفية، حينها، علّمه أن هناك طريقة أخرى أفضل للتعرف على ما في داخل اللعبة.

ص: 182

لو أراد ولدك أن يخرج مع صديقه، اسأله عن الهدف من وراء ذلك، وعلّمه هدفًا محترمًا لائقًا به كرجل مستقبلي.

وهكذا لو أراد ولدك أن يشتري حاجة ما، لعبة، أو حقيبة، أو ممحاة، أو مبراة... وهكذا لو تطورت طلبات الولد ليشتري جهازًا لوحيًا مثلًا، أو أراد أن يبدّل جهازه اللوحي بآخر أغلى ثمنًا منه، في كل ذلك اجلس معه جلسة صديق، وحدّد معه الهدف من كل تلك الأفعال، وستجد أن العديد من التصرفات ستتغير، والكثير من المصروفات ستقلّ عندما يفهم مثلًا أن الجهاز الأغلى يؤدي نفس عمل الجهاز الأقل سعرًا، وأن الحكمة تقتضي عدم شراء الزائد على الحاجة، وذكّره بما روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنه قال:«من اشترى ما لا يحتاج إليه، باع ما يحتاج إليه».(1)

3/ عندما تحدّد هدفًا ما لولدك، عليك أن تنبهه أن تحقيقه ليس بالمجّان، وأن عليه أن يسعى إلى رفع كل الموانع التي قد تواجهه، والتي منها الموانع النفسية.

فمثلًا تقليل المصروف قد يواجه رغبة نفسية بالصرف أكثر، لأنه يرى أن صديقه يصرف أكثر مما يصرفه هو، علّمه حينها، وضّح له أن النفس لن تشبع عند مطلب، أن النجاح يقتضي أن نقاوم شهواتنا قليلًا.

أفهمْه أن المفروض علينا هو أنْ لا نحرم أنفسنا مما تحتاج إليه، ولكننا لا نعطيها أكثر مما تحتاج إليه.

وهكذا عليك أن تجد أي فرصة لتوضح لولدك أن صرف المال لا بد أن يكون في موضعه المناسب.

الأسلوب الثالث: التأجيل أولى من القروض والفوائد.

نعيش اليوم في عالم متسارع جدًا، في مختلف مجالاته، حتى في شركات الأدوية،

ص: 183


1- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي ج2 ص 255 ح 968.

والتغذية، بل والأحذية! في كل شيء هناك تسارع، والأسعار تزداد باستمرار، والرغبات النفسية لدى الجميع لا حدود لها، وهنا، قد يقع أولادنا فريسة للإعلانات الممولة -والتي يخسر عليها أصحابها ما لا نتوقعه من أموال- فيتهالكون –أولادنا- على اقتناء أكبر قدر ممكن مما يُعرض على شاشات التلفاز أو ما تواجههم صور إعلاناته في طريق مدرستهم، أو حتى الإعلانات التلقائية على مواقع النت (you tube)، ولأن المال الذي لديهم قد لا يكفي لسد رغباتهم، قد يلجؤون إلى أساليب أخرى منها:

أ/الشراء بالآجل، الأمر الذي يعني رفع سعر الحاجة، وبالتالي قد تنكسر الحاجة التي يشتريها الولد قبل أن يُكمل تسديد ديونه عليها!

ب/الاقتراض من أصدقائهم. ووقوعهم في حرج معهم، أو ربما يتطور الأمر ليستغلهم أصدقاؤهم لبعض مآربهم، وتهديدهم بإخبار الأهل بأنهم اقترضوا منهم، وفي هذا ما لا تحمد عقباه.

ج/وربما يصل الحد إلى (السرقة) من الأب أو الأم أو حتى غيرهما!

لذا، علينا في قبال ذلك أن نعلمهم على:

أ/ أن تأجيل الرغبات أمر يحكم به العقل، وأن الإنسان لا بد أن يضبط نفسه، ولا يلهث وراء طلباتها غير المتناهية.

ب/أن نَعِدَهم بشراء الحاجة حينما تكون ضرورية لهم، بلا حاجة إلى الاقتراض أو أخذها مع تحميلها فوائد إضافية، ونصدق معهم لو جاء الوقت المناسب لشرائها.

ج/تعليمهم فن (الادّخار) كما تقدم، وتشجيعهم عليه من خلال إخبارهم بأن بإمكانهم شراء الأمور التي يحتاجونها من مدّخراتهم، وأنكم لن تعترضوا عليهم ما داموا يشترون ما يحتاجون إليه.

ص: 184

الجانب الثاني: من جهة الأولاد

اشارة

ويُقصد منه: تربية الأولاد بطريقة تجعلهم يتعاملون مع وسيلة التبادل السوقي [وهي الأموال] بطريقة اقتصادية، بما في ذلك احترام هذه الوسيلة، وسبل تحصيلها بطريقة مشروعة دينيًا وقانونيًا، وهذا يتضمن النقاط التالية:

النقطة الأولى: تعليمهم الحدود والأطر العامة للاقتصاد.

والذي يتضمن:

الحد الأول: الابتعاد عن الإفراط في الاهتمام بالأموال إلى الحد الذي يجعل الإنسان نهمًا في تحصيلها، الأمر الذي ينعكس سلبًا:

1: على الصحة: حيث إن العمل المستمر من أجل تحصيل الأموال يعني قضم ساعات الراحة للجسم، وبالتالي قد يصل الفرد إلى لحظة لا تكفيه جميع أمواله التي حصّلها طول حياته لعلاج ما يقع فيه من أمراض.

2: على العلاقات الاجتماعية: فإن الانشغال المستمر بالعمل يؤدي إلى التضحية بالكثير من العلاقات مع الأصدقاء والأرحام، وحتى العائلة.

3: على راحة العقل: حيث إن التفكير الدائم بطرق تحصيل الأموال يؤدي إلى صياغة العقل صياغة تجارية تُبعده عن ممارسة فعاليات ذهنية أخرى، مما تجعل منه عقلًا جامدًا على (الأرباح) متابعًا لمستويات (أسواق البورصة) إلى الحد الذي يفقد معه التركيز على غير هذه المعاني، الأمر الذي ينعكس سلبًا على عواطفه ومشاعره، فيتحول

ص: 185

إلى (صرّاف آلي) لا أكثر.

الحد الثاني: الابتعاد عن التفريط بالأموال، وتضييعها بدون فائدة، وعدم الانضباط في صرفها، الأمر الذي ينعكس سلبًا على الفرد في عدة جهات، منها:

1: أن الصرف غير المنضبط للأموال يعني انتهاءها قبل الوقت المحدد لها، وبالتالي سيقع الفرد في الحاجة قبل أن يحين موعد استلامه للمال في الشهر القادم مثلًا.

2: وهذا يعني الاضطرار إلى الاستدانة، أو لنقل: الجرأة على الاقتراض، خصوصًا إذا احتاج الولد إلى تصليح جهازه المحمول أو تحميل برنامج معين، وهذا يعني الوقوع في مصيدة البنوك الربوية على المدى الطويل.

3: فإذا لم يجد ما يُسدّد به الدين، هذا يعني أنه سيعمل على التهرب من أن يرى الدائنُ وجهَه، وسيتصنّع الولد المرض حتى لا يذهب للمدرسة فيطالبه صديقه بماله الذي اقترضه منه، أو سيتعمد إثارة مشاكسة معه ليقطع التواصل معه، وغيرها من طرق التهرب من الدائن.

الحد الثالث: الطموح رغم القناعة.

بمعنى: أن نربّي أولادنا على طريق متوازن فيما يتعلق بالحالة الاقتصادية، يتضمن:

1: تعليم الأولاد القناعة بالحالة التي هم عليها، وعدم النظر إلى أصحاب الأموال الطائلة، فإن هذا النظر لن يجلب لصاحبه سوى الحسرة والقنوط، وقد يجرّ إلى حالات من الاكتئاب والعزلة! وقد يصل إلى حد الاعتراض على الرزق الإلهي!

والأفضل أنْ نعلّمهم النظر إلى من هم دونهم في الحالة المادية، وكيف أنهم رضوا بما هم عليه، من دون أن يؤدي ذلك إلى توقفهم عن المشاركة في الحياة والاستمرار فيها رغم صعوباتها.

ص: 186

2: وفي نفس الوقت، علينا أن نخلق في داخلهم الدافع الذاتي وأن نزرع في قلوبهم الطموح نحو تحسين الحالة المادية للعائلة عمومًا، من خلال الطرق المشروعة والقانونية، والتي تتضمن:

أ/الاهتمام بالدراسة من أجل الحصول على شهادة محترمة تنعكس إيجابًا على الإنسان بمردود مادي محترم. بشرط أن نزرّق في أذهانهم أن لا يستعملوا وظيفتهم لاستغلال الناس أو إنهاك جيبوهم، وأن نذكّرهم دائمًا بأن مساعدة الناس هي أفضل راحة للروح، تنعكس إيجابًا على الحالة النفسية وعلى البدن، وبالتالي تؤدي إلى السعادة التي لا يُحس بها الطمّاعون والجشعون من أصحاب المهن المختلفة.

ب/فتح هامش العمل المهني لو صادف أن لم يتوفق الولد في الدراسة، وحتى لو كان موفقًا فيها، فلا مانع من تعليمه مهنة معينة تنفعه في حياته اليومية، حسب ما يُتقنه ويرغب فيه من المهن، وهو ما نتعرف عليه أكثر في النقطة التالية.

النقطة الثانية: ممارسة الأولاد لعمل تجاري.

بداية: هل من الصحيح أن ندفع أولادنا إلى العمل التجاري، أو أن نُبقيهم بدون عمل إلى أن يتزوجوا مثلًا؟

في الحقيقة، المسألة من هذه الناحية تابعة للظروف الموضوعية، ويمكن أن نقرأها من جهتين:

الجهة الأولى: أهمية العمل للأولاد.

لا شك أن العمل –بما يقتضيه من إدارة الأموال وتنميتها والحفاظ عليها- من شأنه أن يُساعد في استقلال الولد في إدارة شؤونه، وبالتالي بناء شخصيته المستقيمة، حيث يعمل على هندسة أمور حياته وفق مبدأ الموازنة بين الصادرات والواردات،

ص: 187

وتجعله يعمل على تنمية موارده بذكاء، وبالتالي ينسحب إيجابًا على قولبة شخصيته بقالب الاعتماد على الذات، بعيدًا عن تكفّف الناس أو استجداء الأموال من هنا وهناك.

وهذا ما يحكم به العقل، والتجربة خير شاهد على ذلك، فإننا نرى الأولاد الذين مارسوا العمل في بدايات حياتهم، أكثر حرصًا على تنمية مواردهم الاقتصادية من أولئك الذين تعودوا أن يحصلوا على كل شيء بالمجان من آبائهم وأمهاتهم؛ خصوصًا وأنهم يستشعرون قيمة المال، حيث واجهوا صعوبات عديدة للحصول عليه، وهم في ذلك مهدّدون بالخسارة، مما يعني حرصهم على أن تكون خطواتهم التجارية منضبطة ومنهجية في سوق المال.

وهذا أمر دعت له الروايات الشريفة، فإن هناك الكثير من الخطابات الدينية التي تدعو إلى العمل وتقدّس العامل، وتجعله في مصاف المجاهد في سبيل الله من حيث الثواب.

الجهة الثانية: أضرار العمل.

من جهة أخرى، فإننا نجد أن عمل الأولاد يواجه العديد من المشاكل الاجتماعية والتربوية، ومنها:

أ/أن الولد –خصوصًا في بدايات عمله- حيث يكون مندفعاً للحصول على المال، فإنه يحاول أن يكسبه بطريقة وبأخرى، ولربما دفعه الحرص على إبراز نفسه كتاجر ناجح أن يمدّ يده إلى غير ما حلّ من المال، الأمر الذي يعني انجرار الولد بالتدريج –لو تُرك من دون علاج لهذا الاندفاع النفسي- إلى السرقة، وربما غير السرقة.

وهذا ما حذّرت منه بعض الروايات الشريفة، فقد روي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قَالَ: «نَهَى رَسُولُ الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) عَنْ كَسْبِ الإِمَاءِ، فَإِنَّهَا إِنْ لَمْ تَجِدْ زَنَتْ، إِلَّا أَمَةً قَدْ عُرِفَتْ بِصَنْعَةِ يَدٍ،

ص: 188

ونَهَى عَنْ كَسْبِ الْغُلَامِ الَّذِي لَا يُحْسِنُ صِنَاعَةً بِيَدِه، فَإِنَّه إِنْ لَمْ يَجِدْ سَرَقَ».(1)

فالرواية تذكر بعض مضارّ عمل الأولاد، وهو أنه إذا لم يجد ما يكسب به المال فإنه سيتجرأ على السرقة، وأول سرقة ينجح فيها ستجرّه إلى ألف سرقة وسرقة أخرى.

ب/إن الولد وفي محاولة منه لتلميع صورته في عين والده مثلًا، وأنه صار رجلًا ناجحًا في الحياة، فإنه سيعمل على إخفاء بعض إخفاقاته، وإبراز صور النجاح التي يحصدها فقط، الأمر الذي يعني استمراءه للكذب، والكذب أبو المصائب.

ج/إن حبّه لذاته، يدفعه إلى البحث عن طريقة وأخرى للحصول على الربح، وبالتالي قد يبرر لنفسه تجاوز بعض الحدود الإنسانية أو الشرعية من أجل اقتناص بعض الأموال، وسيتبنى في نفسه مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة)، والذي لو تجذّر في سلوكه، فإنه سيبرر لنفسه الكثير من السلوكيات المخالفة للإنسانية والشرع والقانون.

إن ذلك نابع من كون الولد يحب –كما البالغ- أن يُحافظ على كرامته، وبالتالي فإن الإحساس بالخسارة يولّد عنده الكثير من الأحاسيس المتناقضة في داخله، والتي تتراوح بين الشعور بالفشل الذي يقتل الاندفاع الذاتي ويسحبه نحو هاوية الانقباض على الذات والشعور بالدونية، وبين استشعار أهمية الانتفاض من أجل استرداد كرامته، من خلال كسب المال، ولو بطريق معوج.

د/ قد يشعر الولد بظلم أبيه الذي دفعه نحو العمل من أجل توفير حاجاته، خصوصًا عندما يُقارن بين نفسه وبين صديقه الذي يوفر له أبوه كل احتياجاته وألعابه من دون أن يبذل أي جهد.

ه-/هذا فضلًا عن أن العمل يعني ابتعاد الولد عن أجواء البيت والتربية التي تلقّاها

ص: 189


1- الكافي للكليني ج5 ص 128 باب السحت ح8.

خلال سنيّ عمره الأولى، ودخوله في معترك الحياة، وربما مواجهته لأخلاق وسلوكيات لم يسمع عنها من قبل، الأمر الذي قد يؤدي به إلى صدمة نفسية، أو قد يتنازل الولد عن تلك المبادئ التي تغذّى بها في بيته، لينخرط مع الناس وفق مبدأ (حشر مع الناس عيد).

هاتان الجهتان تعنيان: أن عمل الولد لا بد أن يكون ضمن منهج تربوي منضبط، لا يخرج عن حدود الدين والعقل والقانون، وفي نفس الوقت يُحافظ على كرامة الولد وعدم شعوره بالدونية ولا بالظلم.

أما كيف ذلك؟

فهذا ما نذكره في النقطة الثالثة إن شاء الله تعالى.

النقطة الثالثة: توصيات:

التوصية الأولى: إفهام الولد -قبل أن يدخل في دوامة العمل- أن العمل هو عز الإنسان، وأن الإنسان الذي يكسب المال بيده إنما هو إنسان محترم، حيث إنه يكون عنصرًا منتجًا في المجتمع، لا مستهلكًا فقط، وأن الإنسان الذي يكون معطاءً، ومستغنيًا عن الناس، سيكون محل احترام وتبجيل من الجميع، فالزوج الذي يكسب ماله بيده، ويُطعم عياله من كدِّه، لهو أفضل ألف مرة ومرة، من ذاك الذي يدّعي التعبّد وهو يتكفّف الناس.

وهذا ما أشارت له العديد من النصوص، ومنها ما روي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قَالَ: «شَرَفُ المُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ، وعِزُّه اسْتِغْنَاؤُه عَنِ النَّاسِ».(1)

وقد روي أنَّ السيِّد المسيح (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قال لرجل: «ما تصنع؟»، قال: أتعبَّد، قال: «فمن

ص: 190


1- الكافي للكليني ج2 ص 148 بَابُ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ النَّاسِ ح1.

يعود عليك؟»، قال: أخي، قال: «أخوك أعبد منك».(1)

وفي هذا السياق، ينبغي على الآباء أن لا يُشعروا أولادهم أن إقحامهم في العمل هو محاولة منهم لإبعادهم عن البيت والتخلّص من مشاكلهم، فإن الولد لو فهم هذا الأمر فلعله يصنع من المشاكل ما يندم الأب معها على إلقائه في العمل.

الحلّ الأمثل إذن: أن نوحي إليهم بهذه التوصية قبل دفعهم للعمل.

التوصية الثانية: تعليم الولد صنعة أو مهنة معينة، وهذا امر مهم جدًا من جهة ضمان انشغال الولد –في العادة- بتحصيل المال من خلال صنعته، الأمر الذي أشارت إلى ضرورته رواية الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) المتقدمة، «وأنه لو لم يجد لسرق».

طبعاً علينا أن لا نغفل: أن الدراسة أهم من العمل المبكر.

التوصية الثالثة: ضرورة عدم رمي الولد في أماكن للعمل تؤدي به إلى ضعف عقيدته أو تلكؤه في أداء واجباته أو انخراطه في سلوكيات منحرفة أو تعلمه للألفاظ البذيئة، وهذا ما اكّد عليه الفقهاء (رضوان الله عليهم)، ولذا فقد جاء في منهاج الصالحين للسيد السيستاني: «يجوز للوليِّ تسليم الصبيِّ إلىٰ أمين يُعلِّمه الصنعة أو إلىٰ من يُعلِّمه القراءة والخطّ والحساب والعلوم النافعة لدينه ودنياه، ويلزم عليه أن يصونه عمَّا يُفسِد أخلاقه فضلاً عمَّا يضرُّ بعقائده».(2)

عليا إذن: أن لا نرمي الولد بأي مهنة أو صنعة، بل نختار له منها اللائق بشأنه وبشخصيته مع احترامنا لكل المهن والصنعات-

إن عدم التزام بعض الآباء بهذه الوصية يؤدي إلى أن يخسروا أولادهم، بل ويؤدي

ص: 191


1- ميزان الحكمة للريشهري (ج 3/ ص 1800/ مادَّة العبادة)، نقلاً عن تنبيه الخواطر للشيخ ورّام (ج 1/ ص 39 و65).
2- منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني (ج 2/ص 298/ مسألة 1078)

إلى أن يتضرروا كثيرًا جراء تصرفات الأولاد غير محسوبة العواقب، والواقع شاهد لا يكذب.

التوصية الرابعة: الانتظار إلى حين بلوغ الولد مرحلة عمرية معينة تكتمل فيها مداركه نسبيًا، بحيث يكون قادرًا على إتقان الصنعة أو المهنة.

بل إن بعض التصرفات لا تنفذ إلا مع البلوغ والرشد، وهو ما ذُكر تفصيله في الكتب الفقهية، فليُراجع.(1)

التوصية الخامسة: العمل على ان يكون عمل الولد بمرأى ومسمع من الأب، والأفضل أن يكون عملهما واحدًا، وإلا فمع شخص يوثق به وبسلوكه المستقيم، وذلك ليضمن الأب المتابعة الميدانية المستمرة لولده، ومساعدته في إتقان عمليه، وكذلك من أجل تشجيعه لو حصل وفشل الصبي نسبياً في عمل ما، بالإضافة إلى رعايته له أن لا يخدعه البعض أو يغرر به أو يسحبه إلى أماكن الرذيلة او الشبهات.

ص: 192


1- يمكن معرفة التفاصيل في كتاب (رسالات تربوية) ص 146 – 151 الحكم السابع والثلاثون، وهو الجزء الثاني من سلسلة (تربية بلون جديد).

مصادر الكتاب

ص: 193

ص: 194

الاحتجاج: الطبرسي/ ت محمّد باقر الخرسان/ دار النعمان/ 1386ه- .

اختيار معرفة الرجال: الشيخ الطوسي/ مط بعثت/ قم/ مؤسسة آل البيت/ 1404ه- .

الاستبصار: الشيخ الطوسي/ ت حسن الخرسان/ ط 4/ 1363ش/ مط خورشيد/ دار الكتب الإسلاميّة/ طهران.

الأسرة والجيل الرقمي: مجموعة من الكتاب/ مقال: التنشئة الاقتصادية للأبناء- تأليف: ديف رامزي و ريتشيل كروز/.الطبعة الأولى 2016- قنديل للطباعة والنشر والتوزيع.

الأمالي: الشيخ الصدوق/ ت قسم الدراسات/ ط 1/ 1417ه-/ مؤسَّسة البعثة.

الأمالي: الشيخ الطوسي/ ت مؤسسة البعثة/ ط 1/ 1414ه-/ دار الثقافة/ قم.

الأمالي: الشيخ المفيد/ ت الأستادولي، علي أكبر الغفّاري/ ط2/ 1414ه-/ دار المفيد/ بيروت.

الأنساب: السمعاني/ ت البارودي/ ط1/ 1408ه-/ دار الجنان/ بيروت.

بحار الأنوار: العلاَّمة المجلسي/ ط 2 المصحَّحة/ 1403ه-/ مؤسسة الوفاء/ بيروت.

تحف العقول: ابن شعبة الحرّاني/ ت علي أكبر الغفّاري/ ط 2/ 1404ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

تربية الطفل في الإسلام: محمد الريشهري/قم/ مؤسسة دار الحديث/1385.

تفسير الإمام العسكري: المنسوب إلىٰ الإمام العسكري/ ط1 محقَّقة/ 1409ه-/ مدرسة الإمام المهدي/ قم.

ص: 195

تفسير البرهان: السيِّد هاشم البحراني/ مؤسَّسة البعثة/ قم.

تفسير العياشي: العياشي/ ت هاشم الرسولي المحلاتي/ المكتبة العلمية الإسلاميّة/ طهران.

تفسير القمي: علي بن إبراهيم القمي/ ت طيب الجزائري/ ط 3/ 1404ه-/ مؤسسة دار الكتاب/ قم.

تفسير مجمع البيان: الطبرسي/ ت لجنة من العلماء/ ط 1/ 1415ه-/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.

تنبيه الخواطر (مجموعة ورّام): ورّام بن أبي فراس المالكي الأشتري/ ط 2/ 1368ش/ مط حيدري/ دار الكتب الإسلاميَّة/ طهران.

تهذيب الأحكام: الشيخ الطوسي/ ت حسن الخرسان/ ط 3/ 1364ش/ مط خورشيد/ دار الكتب الإسلاميّة/ طهران.

ثواب الأعمال: الشيخ الصدوق/ ت محمّد مهدي الخرسان/ ط2/ 1368ش/ مط أمير/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

الخرائج والجرائح: قطب الدين الراوندي/ ط1 كاملة محقّقة/ 1409ه-/ مؤسسة الإمام المهدي/ قم.

الخصال: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الالغفّاري/ 1403ه-/ جماعة المدرسين/ قم.

دعائم الإسلام: القاضي النعمان المغربي/ ت آصف فيضي/ 1383ه-/ دار المعارف/ القاهرة.

رسالات تربوية: الحلقة الثانية من سلسلة تربية بلون جديد/ الشيخ حسين عبد

ص: 196

الرضا الأسدي/ الطبعة الأولى/ تقديم: معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية.

روضة الواعظين: الفتال النيسابوري/ ت محمّد مهدي الخرسان/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

سنن ابن ماجة: ابن ماجة القزويني/ ت محمّد فؤاد عبد الباقي/ دار الفكر/ بيروت.

شرح رسالة الحقوق: تحقيق: شرح: حسن السيد علي القبانچي /الطبعة: الثانية/ سنة الطبع: 1406/ المطبعة: إسماعيليان – قم/ الناشر: مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر.

شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد/ ت محمّد أبو الفضل إبراهيم/ ط1/ 1378ه-/ دار إحياء الكتب العربية/ بيروت.

شرح نهج البلاغة: ابن ميثم البحراني/ ط 1/ 1362ش/ مركز النشر مكتب الإعلام الإسلامي/ إيران/ قم.

صحيح ابن حبان: ابن حبان/ ت الأرنؤوط/ ط 2/ 1414ه-/ مؤسسة الرسالة.

صحيح البخاري: البخاري/ 1401ه-/ دار الفكر/ بيروت.

الصحيفة السجّادية: أبطحي/ ت محمّد باقر الأبطحي/ ط1/ 1411ه-/ مط نمونة/ مؤسسة الإمام المهدي، مؤسسة الأنصاريان/ قم.

علل الشرائع: الشيخ الصدوق/ ت محمّد صادق بحر العلوم/ 1385ه-/ منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها/ النجف الأشرف.

عوالي اللئالي: ابن أبي جمهور الأحسائي/ ت مجتبىٰ العراقي/ ط1/ 1403ه-/ مط

ص: 197

سيّد الشهداء/ قم.

عيون الحكم والمواعظ: علي الليثي الواسطي/ ت حسين البيرجندي/ ط1/ دار الحديث.

الفتاوىٰ الميسَّرة: للسيِّد السيستاني

فقه المغتربين: للسيِّد السيستاني

فنّ التدبير في المعيش: مركز نون للترجمة والتأليف/ نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية-الطبعة الأولى 2013 م/ 1434ه-..

قصص الأنبياء: قطب الدين الراوندي/ ت غلام رضا عرفانيان/ ط1/ 1418ه-/ الهادي.

الكافي: الشيخ الكليني/ ت علي أكبر الغفّاري/ ط5/ 1363ش/ مط حيدري/ دار الكتب الإسلاميّة/ طهران.

كفاية الأثر: الخزّاز القمي/ ت عبد اللطيف الكوهكمريالخوئي/ 1401ه-/ مط الخيام/ انتشارات بيدار.

كمال الدين: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الغفّاري/ 1405ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

كنز العمّال: المتّقي الهندي/ ت بكري حياني/ 1409ه-/ مؤسسة الرسالة/ بيروت.

كنز الفوائد: أبو الفتح الكراجكي/ ط2/ 1369ش/ مط غدير/ مكتبة المصطفوي/ قم.

الكنىٰ والألقاب: الشيخ عبّاس القمي/ مكتبة الصدر/ طهران.

ص: 198

المحاسن: البرقي/ ت جلال الدين الحسيني المحدّث/ 1370ه-/ دار الكتب الإسلاميّة/ طهران.

المستدرك: الحاكم النيسابوري/ إشراف يوسف عبد الرحمن المرعشلي.

مستطرفات السرائر: ابن إدريس الحلّي/ ط 2/ 1411ه-/ مؤسَّسة النش-ر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين/ قم.

مسند أحمد: أحمد بن حنبل/ دار الصادر/ بيروت.

مشكاة الأنوار: علي الطبرسي/ ت مهدي هوشمند/ ط1/ 1418ه-/ دار الحديث.

معاني الأخبار: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الالغفّاري/ 1379ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

معجم المحاسن والمساو: الشيخ أبو طالب التجليل التبريزي/ الطبعة: الأولى/ سنة الطبع: 1417/ المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي/الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

مكارم الأخلاق: الشيخ الطبرسي/ ط6/ 1392ه-/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الغفّاري/ ط2/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب/ ت لجنة من أساتذة النجف/ 1376ه-/ المكتبة الحيدرية/ النجف.

منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: حبيب الله الهاشمي الخوئي/ تحقيق: سيد

ص: 199

إبراهيم الميانجي/ الطبعة: الرابعة/ المطبعة: مطبعة الاسلامية بطهران/ الناشر: بنياد فرهنگ امام المهدي(عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ).

منهاج الصالحين: للسيد السيستاني

منية المريد: الشهيد الثاني/ ت رضا المختاري/ ط1/ 1409ه-/ مكتب الإعلام الإسلامي.

ميزان الحكمة: محمد الريشهري/ ط 1/ دار الحديث..

نهج البلاغة: الشريف الرضي/ شرح محمّد عبده/ ط1/ 1412ه-/ مط النهضة/ دار الذخائر/ قم.

نهج البلاغة: الشريف الرضي/ ضبط نصّه الدكتور صبحي صالح/ ط 1/ 1387ه-/ بيروت.

وسائل الشيعة: الحرّ العاملي/ ط2/ 1414ه-/ مط مهر/ مؤسسة آل البيت/ قم.

ص: 200

المحتويات

ص: 201

ص: 202

ص: 203

ص: 204

ص: 205

ص: 206

ص: 207

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.