الامام المهدي علیه السلام و مفهوم الانتظار

هویة الكتاب

بطاقة تعريف:المصباح، كاظم جعفر، - 1322

عنوان واسم المؤلف:الامام المهدي علیه السلام و مفهوم الانتظار/ تالیف كاظم جعفر المصباح

تفاصيل المنشور:تهران: دار البصائر، 1423ق. = 2002م. = 1381.

مواصفات المظهر:ص 275

ISBN:964-91773-9-620000ریال ؛ 964-91773-9-620000ریال

حالة الفهرسة: الفهرسة المسبقة

لسان:العربية

ملحوظة:الحرف كعنوان فرعي

عنوان:مهدویت -- انتظار

محمدبن حسن(عج)، امام دوازدهم، 255ق. - -- غیبت

تصنيف الكونجرس:BP224/4/م 53الف 8

تصنيف ديوي:297/462

رقم الببليوغرافيا الوطنية:م 81-19250

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: القائمة السابقة

ص: 1

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحمیم

ص: 2

ص: 3

الامام المهدی علیه السلام و مفهوم الانتظار

تالیف:الشیخ كاظم جعفر

الناشر

دار البصائر

للطباعة و النشر

ص: 4

المقدمة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

والحمد للّه ربّ العالمين بارئٌ الخلائق أجمعين،ثم الصلاة والسلام على خاتم رسله ومبلغ رسالاته أبي القاسم محمد وعلى آله المنتجبين،واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين، من الأولين والآخرين إلى قيام يوم الدين.

يتناول كتابنا هذا موضوعاً حيوياً مهماً تفرع من قضية الإمام المهدي (عج)،وذلك هو موضوع الانتظار للمهدي المنتظر(عج)وكيفيته.

اختلف المؤمنون بالإمام المهدي(عج)ونهضته الحقة التي ستنشر العدل وتمحق الظلم والضلال حول مفهوم الانتظار له في عصر الغيبة الكبرى اختلافا بينا متضادة،لا يمكن تسويته وإزالة آثاره السيئة إلّا بدراسة النصوص المتعلقة بالموضوع دراسة منطقية موضوعية تنسجم مع مفاهيم الرسالة الإسلامية الجهادية التي تأبي الخنوع والاستسلام لقوى الشر والضلال مهما ازدادت قوة وشراسة.

وتجلى هذا الاختلاف بشكل صريح في مفهومين للانتظار متضادين،

ص: 5

أحدهما إيجابي،والآخر سلبي.

فالمفهوم الإيجابي يدعو إلى إقامة أحكام الدين،ومقارعة المستكبرین، ونشر الأفكار والمفاهيم الإسلامية في أوساط المسلمين،والسعي لايجاد مجتمع إسلامي ترعاه حكومة إسلامية عادلة تحت اشراف وتوجيهه النائب العام للإمام المهدي(عج)وهو الولي الفقيه،وبذا يتم تمهيد الأرضية الصالحة لحكومة المصلح العالمي المهدي المنتظر(عج).

والمفهوم السلبي يدعو إلى الاستسلام والتراخي والدعة،والعزلة والانزواء

والابتعاد عن ساحات الجهاد،ومسالمة الكفر العالمي،والسكوت عما يرتكبه من الظلم والاضطهاد حتى يتفشى الكفر والفساد في كل أرجاء المعمورة ليكون ذلك سبباً موجباً لتعجيل فرج الإمام المهدي(عج)،وبزوغ فجر دولتهالعادلة،لأن حملة مفهوم الانتظار السلبي يعتقدون بأن مسألة ظهوره المبارك متوقفة على اشتداد الظلم،وانتشار الكفر والفساد.

ويدعو لهذا المفهوم السلبي جماعة من المؤمنين السذج الذين وقعوا تحت تأثیر عوامل شتی ساعدت على حملهم له،ويزعم هؤلاء أن المستفاد من النصوص المتعلقة بالانتظار تستلزم تجميد الطاقات الإنسانية،والنشاطات

الإسلامية، والشعائر الدينية،وترك الأمر بالمعروف،والنهي عن المنكر،والتوقف عن جهاد أعداء الإسلام،أو مسالمتهم وغض النظر عن جرائمهم البشعة والرضوح لمشيئتهم حتى تتمهد الأرضية الموجبة لظهوره المبارك..

ومنشأ هذه الفكرة هو سوء الفهم للنصوص المتعلقة بالموضوع، وعدم دراستها بلحاظ ظروفها الموضوعية المحيطة بها،ووجود التعارض الشديد فيها، الذي لم يكن بمقدور حملة المفهوم رفعه وإيجاد الحل الصحيح له،والرأي السليم الذي يمكن الفرد المؤمن من انجاز مهامه الرسالية،وأداء ما افترض عليه

ص: 6

من الفرائض الدينية في زمن الغيبة الكبرى، واعداد نفسه لاستقبال إمامه ونصرة نهضته،والجهاد تحت رايته حتى يتمكن من احقاق الحق، وإزالة آثار الظلم والفساد،وإقامة حكومته العادلة..

فالذي أوقع هؤلاء السذج من المؤمنين في هذا الانحراف الواضح عن خط مذهب أهل البيت (علیهم السلام)الإسلامي الأصيل الذي لا يهادن ولا يساوم أعداء الدين مهما تعاظمت قوتهم، واشتد خطرهم-هو كثرة النصوص الداعية إلى ترك الجهاد في زمن الغيبة الكبرى،وملازمة الأرض،والصبر على البلاء،وعدمتعريض النفس للتهلكة،وممارسة التقية باعتبارها هي الدين الذي يلزم أتباعه في زمن غيبة المعصوم،ثم سوء فهمهم للحديث القائل«كل راية ترفع قبل قیام القائم فصاحبها طاغوت...».

وبناءٌ على ما تقدم نرى أن أصحاب هذه النظرية البائسة التي لا تستند إلى دلیل معقول،والمنافية لفطرة الإنسان السليمة،وعقيدته الإسلامية الأصيلة، يستهجنون فكرة قيام دولة إسلامية قبل قيام دولة المهدي(عج)المباركة، بحجة أنها تعيق مجيئه،وتأخر ظهوره،متناسين أن هناك عدد غير قليل من الروايات المتواترة التي تشير إلى خروج الممهدين لدولته قبل ظهوره،وتحث المسلمين على الالتحاق بهم ولو حبواً على الثلج..

يا لها من عقول متحجرة خاوية صاغت نظريتها من سوء فهمها للنصوص المتعلقة بهذا الموضوع،واستندت إلى حديث واحد،ومرتكزات واهية لاتمت للواقع بصلة،وتغاضت عن نصوص قرآنية صريحة،وأحادیث متواترة تدعو إلى الجهاد ومقارعة المستكبرين،والأمر بالمعروف،والنهي عن المنكر،ومكافحة الكفر والجهل والظلم والفساد.

فاستناد هذه الجماعة الضالة إلى رواية واحدة لم تستوعب عقولهم

ص: 7

الخاوية مضامينها بشكل صحيح،ومخالفتهم الصريحة لنصوص القرآن الكريم، والأحاديث المتواترة لا تقره الشريعة الإسلامية،ولا العقول السليمة بوجه من الوجوه مطلقاً.

فإن عجزهم عن تأويل هذه الرواية بشكل ينسجم مع منطق العقل والشرع والفطرة السليمة قد أوقعهم في هذه المتاهات الحالكة،والمئازق الحرجة التي لا يمكن التخلص منها إلا بالرجوع إلى الطريق القويم المتجسد بمذهب أهل البيت (علیهم السلام).

والظاهر أن معنى الحديث المذكور الذي لم تتوصل عقول الجماعة الضالة إلى معرفة مضامينه الحقيقية،هو أن كل راية ترفع قبل قيام القائم يدعي صاحبها أنه المهدي(عج)باطلة وضالة ومضلة لا محال،وان صاحبها طاغوت؛لأن الإمام المهدي(عج)يتمتع بأوصاف خاصة،وشمائل كريمة يمتاز بها عن غيره،وأنه يملك الدليل القاطع للبرهنة على صدق إمامته،وعدالة قضيته،وغيره لا يملك الدليل على صدق دعواه،فهذا طاغوت يريد من خلال رفعه لهذه الراية الاستحواذ على مشاعر الجماهير الموالية للمهدي(عج)،وكسب تأييدها ليتمكن من بسط نفوذه،وتحقيق مأربه في التسلط على رقاب الناس،واستنزاف الأموال في اشباع شهواته وملذاته الحيوانية..

فمراد الراوية المذكورة كما هو واضح هو تنهينا عن متابعة كل من يرفع راية يدعي أنه المهدي(عج)؛لأن الاندفاع وراءها يؤدي إلى تسويف قضية المهدي (عج)،واضعاف إيمان الجماهير المؤمنة بها بمرور الزمن.وعندئذ لا يتبقى أية أهمية لمفهوم الانتظار سواء كان إيجابية أو سلبية،لأن انتفاء أصل الموضوع يؤدي إلى انتفاء جميع فروعه ومشتقاته..

فلو أردنا التصديق بكل من يدعي أنه المهدي (عج) منذ لحظة غيابه إلى

ص: 8

الآن لكان لنا ألف مهدي ومهدي،لأن الذين ادعوا المهدوية كثيرون لا حصر لهم...

ولأجل أن لا تخدعنا دعاوي الكذابين،أورد الرسول الأكرم(صلّى اللّه عليه وآله)، والأئمة الأطهار (عليهم السلام) الكثير من الأحاديث التي تكشف لنا بجلاء عن صفات الإمام وحسبه ونسبه،وشمائله ومشخصاته،وتشرح أبعاد قضيته، والظروف والعلامات التي تسبق نهضته،كي لا توهمنا الشبهات فتوقعنا في حبائل المشعوذين والدجالين المتصيدين في المياه العكرة،الذين يستثمرون كل نقاط الضعف المرئية بحسب اعتقادقهم للايقاع بمذهب أهل البيت (علیهم السلام)، وإثبات ضعفه وهزالته،وتسويف معالمه من خلال نسب القصص الخرافية له التي صاغتها أقلامهم المسعورة..

والذي يتصور ان اشاعة مفهوم الانتظار السلبي جاء عن طريق الصدفة،وبدون مؤثرات خارجية،فهو بسيط ساذج لا يحيط علماً بمكائد الاستكبار العالمي الذي لا ينفك لحظة واحدة عن نسج مؤامراته الخبيثة الهادفة إلى نسف ركائز الإسلام واقتلاع جذوره.

فهذه وسائل الاعلام المعادية التي تتخذ من مفهوم الانتضار السلبي ذريعة لانشاء روح التخاذل والتساوم في صفوف الجماهير المؤمنة،وتحاول تطبيعها على القبول بالأمر الواقع،والرضى بحياة الذل والعبودية التي تشمل العالم الإسلامي بأسره،ثم تصف من يلتزم بنهج الخنوع والاستسلام بالذكاء والحنكة والاعتدال والنضوج السياسي والعقلي،ومن يخالف نهج الاستسلام والتعايش السلمي مع الكفر العالمي والرجعية المحلية تصفه بالارهابي المخل بأمن العالم واستقراره.

ان ارتكاب أبشع المجازر من قبل دول الاستكبار وعملائها لقمع الشعوب

ص: 9

المستضعفة،وقتل مئات الآلاف من أبنائها بهدف اخضاعها لسيطرتها أمر مألوف غير مخالف لقوانين الامم المتحدة،ولا مخل بأمن العالم،لكن قيام أبطال حزب اللّه في جنوب لبنان لمكافحة الاحتلال الصهيوني، أو قيام المجاهدين الفلسطينيين بعمليات جهادية لتحرير أرضهم المغتصبة أعمال ارهابية منافية القوانين المجتمع الدولي يجب قمعها ووضع حد لها..

فلو لم يكن مفهوم الانتظار السلبي يخدم مصالح الاستكبار،وينسجم مع استراتيجيتها الاعلامية الهادفة إلى تطبيع الشعوب المستضعفة على حالة الخنوع والاستسلام لما تم التركيز عليه،وترويج أفكاره بواسطة أحدث وسائل الاعلام المعادية بهذه الكثافة الملحوضة...

ومنشأ أهمية هذا الكتاب تكمن في مكافحته لهذا المفهوم الاستسلامي بأدلة ثبوتية مستنبطة من العقل السليم،والاجماع الصحيح،والنصوص القرآنية، والسنّة النبويّة المتواترة.

بعد نقض مفهوم الانتظار السلبي بالأدلة والبراهين القاطعة يتم اثبات المفهوم الايجابي للانتظار اعتماداً على الأدلة السالفة الذكر.واثبات مفهوم الانتظار الصحيح في هذه الأيام يكتسب أهمية خاصة،لأن حالة الغموض والالتباس التي تكتنف مسألة الانتظار أوقعت الكثير من المؤمنين في شراك الشياطين، ومكائد المستكبرين،وجعلتهم يتخلون عن مهامهم الرسالية والتزاماتهم الشرعية التي تلزمهم بنصرة المظلومين،ونجدة الشعوب المسلمة،وانقاذها من مخالب أعداء الإنسانية، وإيقاف أمواج الظلم والضلال التي تكتسح العالم بأسره،وتحرير الأرض الإسلامية المغتصبة من براثن الصهيونية المجرمة

لا سيما قبلة المسلمين الأولى القدس الشريف..

إن الإيمان بفكرة الانتظار السلبي التي روجتها وسائل الاعلام

ص: 10

الاستكبارية،والداعية بشكل صريح إلى الوقوف موقفاً سلبياً من مظاهر الظلم والاستعباد تعد من أهم العوامل الممهدة لبسط نفوذ المستكبرين،وفرض هيمنتهم على الشعوب المسلمة المستضعفة،واستنزاف خيراتها بدون حرب وقتال،بل يتم تحقيق الأهداف المرسومة بواسطة تعميم نظرية التعايش السلمي مع الكفر العالمي والأنظمة الرجعية الدائرة في فلكه..

فأصحاب هذه النظرية،والدعاة لها هم ضحايا أساليب المكر والخداع والتضليل الاستكباري؛ لأنهم يعتقدون بأن الإمام المهدي(عج)لا يظهر ما لم يشمل الظلم والفساد العالم بأسره..

ولذا تجدهم يتنصلون من وظائفهم وواجباتهم الدينية والإنسانية في آن واحد، ويغضون النظر عن الواقع المأساوي الذي تعيشه الأمة الإسلامية،أو لعلهم يستأنسون بازدياد المآسي، وانتشار المظالم وشيوع الفساد،لأن ذلك يمهد السبيل لظهور المهدي المنتظر(عج)حسب اعتقادهم ويعجّله..

انظر عزيزي القارئ كيف ابتعد هؤلاء المؤمنون عن خط الاستقامة تدريجية نتيجة خطأ يبدو لأول وهلة انه بسيط لا يلفت النظر،إلا أن النظر إلى آثاره السلبية،ونتائجه الوخيمة تثبت عدم بساطته،وشدة خطورته على مستقبل البلاد الإسلامية حيث يقف حجر عثرة في طريق حريتها واستقلالها،ويضعف من حدة الصراع المحتدم بين الحق والباطل،ويجعل الأمة أكثر استعدادا للقبول بالحلول الاستسلامية واستقبال الغزو الثقافي برحابة صدر،مما يؤدي إلى توسيع رقعة الاحتلال وتحقيق الاطماع الاستكباري..

ومنشأ هذا الخطأ-كما تقدم-هو عدم استيعاب النصوص المتعلقة بموضوع الانتظار،وفهم معانيها بصورة صحيحة تنسجم مع مبادئ الشريعة الإسلامية وقوانينها العادلة،وكان لسوء الفهم والسذاجة،وعدم الاحاطة بمبادئ

ص: 11

ص: 12

ص: 13

-نماذج من النصوص الداعية إلى الصبر في زمن

الغيبة الكبرى واعتزال الناس

وعدم الخروج على السلطان حتى قيام القائم

سنذكر هذه النصوص من دون أسانيدها لكي لا يطول الموضوع ويسبب الملل،ومن يريد أن يطلع على الأسانيد فليراجع مصادرها..

-عن علي بن الحسين (علیه السلام)قال:واللّه لا يخرج أحد ما قبل خروج القائم إلا كان مثله كمثل فرخ طار من وكره قبل أن يستوي جناحاه،فأخذه الصبيان فعبثوا به(1) .

-عن سدير قال:قال أبو عبداللّه (عليه السلام) :يا سدير ألزم بيتك،وكن حلساً من أحلاسه،واسكن ما سكن الليل والنهار، فإذا بلغك أن السفياني قد خرج فارحل إلينا ولو على رجلك.(2)

-عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال في خطبة له:الزموا الأرض،واصبروا على البلاء، ولا تحركوا بأيديكم وسيوفكم في هوى ألسنتكم،ولا تستعجلوا بما لم يعجل اللّه لكم،فإنه من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حق ربه، وحق رسوله (صلی اللّه علیه واله) ،وأهل بيته مات شهيدة،ووقع أجره على اللّه،واستوجب ثواب ما نوى من مصالح عمله،وقامت النية مقام اسلاته بسيفه،فإن لكل شيء مدة وأجلاً.(3)

ص: 14


1- الروضة:297،الوسائل11: 36
2- الروضة:273،الوسائل11: 36
3- نهج البلاغة،القسم الأول:391،الوسائل،40:11،ينابيع المودة،436- 437،الغيبة الكبرى،314

-عن أبي عبداللّه الصادق (عليه السلام) قال:كل راية ترفع قبل قيام القائم،فصاحبها طاغوت يعبد من دون اللّه عزّوجلّ.(1)

نماذج من النصوص التي تحرم طاعة السلطان الجائر

وضرورة اعداد النفس والسلاح

اليوم ظهور القائم

-عن جابر بن عبداللّه الأنصاري قال:قال رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) :من أرضى سلطان جائرة بسخط اللّه خرج عن دين اللّه.(2) -وعن الرضا،عن آبائه،عن علي (علیه السلام)قال:لا دين لمن دان بطاعة مخلوق في معصية الخالق.(3)

-عن أبي عبداللّه (علیه السلام)في قوله عزّوجّل:«واتخذوا من دون اللّه آلهة ليكونوا لهم عزاً كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً»قال:ليس العبادة هي السجود والركوع إنما هي طاعة الرجال،من أطاع المخلوق في معصية الخالق فقد عبده.(4)

-عن أبي بصير،قال:قال أبو عبداللّه (عليه السلام) :ليّعدنّ أحدكم لخروج القائم ولو سهماً،فإن اللّه تعالى إذا علم ذلك من نيته رجوت لأن ينسئ في عمره(5) حتى يدركه(فيكون من أعوانه وأنصاره].(6)

ص: 15


1- الروضة،359،الوسائل،37:11
2- الكافی،2: 373،الوسائل،421:11
3- عیون أخبار الرضا،208، الوسائل،11: 422
4- تفسير القم:215،الوسائل، 423:11
5- ينسىّ:أي يؤخر أجله إلى أن يدرك القائم(عج)
6- الغيبة،للنعماني،320

-ان هذا التعارض الصريح بين النموذجين من الروايات المختصة بهذا الموضوع أوجد اختلاف كبير في وجهات نظر المنتظرين،فمنهم من آمن بفكرة الانتظار الايجابي تبعا لمضامين القسم الثاني من الروايات،ومنهم منآمن بالانتظار السلبي لاعتقادهم بصحة القسم الأول منها.

ولم يزل هذا الاختلاف دائر بين الطرفين من المؤمنين منذ ابتداء عصر الغيبة الكبرى329إلى يومنا هذا دون أن يوجدوا له حل سليم يرفع التعارض،ويحل المشكلة القائمة طيلة قرون،ويوحد كلمة الطرفين المتناحرين،ويجمع صفوفهما على نهج الحق والصواب.

ولذا ارتئينا أن نبحث هذه المسألة الشائكة في كتابنا هذا لعّلنا من خلال دراسة المفهومين السلبي والايجابي وعرضهما على القرآن الكريم،والستة المتواترة أن نتوصل إلى معرفة الاسلوب الصحيح للانتظار في زمن الغيبة الموافق لنصوصهما،والمطابق للمبادئ الشريعة الإسلامية،كي نحضى بثواب الانتظار الصحيح المنسجم مع الشرع والعقل معاً.

ص: 16

منهجيتنا في تأليف الكتاب

يشتمل كتابنا هذا المسمى«مفهوم الانتظار للمهدي المنتظر(عج)»على فصلين رئيسيين:الأول يتعلق بدراسة مفهوم الانتظار السلبي ومرتكزاته من قبيل انتشار الظلم والفساد،وشل نشاط المؤمنين بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،والوظائف الدينية المنوطة بهم،والاقرار بظلم الحاكم وطاعته رغم فسقه وفجوره بحجة التقية والصبر وغير ذلك من المعاذير الواهية...ثم نذكر العوامل المساعدة على تركيز هذا المفهوم في أذهان البعض من المؤمنين بمرور الزمن،كالارهاب والتصفيات الدموية الرهيبة،والعداء الصارخ لآل البيت (عليهم السلام) ، ولشيعتهم ومواليهم، والجهل والتحريف وغير ذلك من العوامل الهدامة، أو الظروف التي ساعدت على نشوء الانتظار السلبي في أجوائها..

وسنذكر في هذا الفصل دور وعاظ السلاطين في وضع واختلاق المئات من الروايات الهادفة إلى تشويه قضية المهدي(عج)وتغير هويته ونفي وجوده لكي لا يبقى للانتظار موجب يستوجبه.

وبمناقشة مرتكزات المفهوم السلبي للانتظار وعرضها على النصوص القرآنية، والستة المتواترة. وبنقض المرتكزات وبيان بطلانها نختم الفصل الأول من هذا الكتاب..

وأما الفصل الثاني فسيهتم بدراسة مفهوم الانتظار الايجابي،وذكر مرتكزاته كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة أحكام اللّه، وأداء فرائضه،والجهاد في الدفاع عن الوطن والإسلام إذا ما تعرض لخطر العدوان من

ص: 17

قبل أعدائه،ودراسة مفهومي الصبر والتقية وذكر مواردهما،وكيفية العمل بهما في زمن الغيبة الكبرى مع انجاز كل ما في ذمة المكلف من وظائف دینية، وواجبات إنسانية..

ص: 18

الفصل الأول: الانتظار السلبي للمهدي المنتظر(عج)

اشارة

مفهوم الانتظار السلبي للمهدي المنتظر(عج)،أو قل نظرية الوفاق والتعايش السلمي مع الأنظمة الرجعية(1) ،والكفر العالمي،یعني مجارات الحاكم الظالم المتستر بالإسلام،والاقرار بظلمه مهما كان فاحشاً،وبجرائمه البشعة التي يمارسها ليل نهار لردع خصمه الذي يحاول وضع حد لارهابه واستبداده،وغض النظر عن فسقه وفجوره وأعماله المنكرة،وتأييد قوانينه الجائرة المخالفة النصوص الشريعة الإسلامية،والداعية إلى خلع الحجاب وإباحة السفور،والزنا والفجور،وبيع الخمور،واختلاط الجنسين في المدارس والكليات والمعاهد الدراسية،والمعامل والمؤسساتوالدوائر الحكومية والأهلية،واعطاء حرية المرأة بعدم الزامها بطاعة الرجل،وارغامها على أداء الأعمال المنزلية وتربية الأطفال، واعطائها حق الطلاق واختيار الأزواج تماما كالرجل،أو اقامة العلاقات الغير مشروعة مع من ترتئيه من الأصدقاء،ومنع المجتمع عن مضايقتها،والحيلولة دون ممارستها لحريتها المسموح بها في القانون..

ص: 19


1- نعني بكلمة الرجعية العلمانية-يعني الحكومات التي لا تحكم بما أنزل اللّه

وإذا ما أقدم الحاكم الجائر على سلب حرية خصومه بدون حق،أو مصادرة أملاكهم المنقولة وغير المنقولة،وتعريضهم للحبس والتشريد وازهاق نفوسهم البريئة بارتكاب أبشع الجرائم وأفضعها،فلابد لنا وفق هذه النظرية أن نرفع أصواتنا بالتأیید ضمن محافلهم واجتماعاتهم ومسيراتهم التي يدعو لها الحاكم الظالم لتغطية جرائمه ومآثمة،ثم نرقص على أشلاء الضحايا بغبطة وسرور..

ثم إذا منع الحاكم إقامة الشعائر والصلوات الخمسة جماعة،أو منع فريضة الحج أو الصيام بحجة أنهما توجبان ضعف الاقتصاد وخروج العملة الصعبة كما حدث ذلك في زمن أبي أرقيبة في تونس حيث منع الصيام،وزمن حكومة الجور والاستبداد في العراق وأثناء استعار محرقة القادسية التي أشعل فتيلهامجرم الحرب صدام حسين حيث منع الحج بالذريعة المذكورة أعلاه.

وإن شاء الحاكم أن يمنعنا من زيارة العتبات المقدسة،وإقامة المأتم الحسينية فلابد لنا أن نمتثل أمره ونمتنع مما يمنعنا عنه؛لأن عدم الامتثال يتنافى مع نظرية التعايش السلمي والانتظار السلبي للمهدي المنتظر(عج)الذي ألزمنا أنفسنا باتباعه في زمن الغيبة الكبرى في كل الظروف والأوقات..

ثم يجب علينا بموجب هذه النظرية الاستسلامية أن ننخرط في جيش الحاكم الجائر إذا ما استدعانا للخدمة الالزامية لغرض التعدي على بلد مجاور كي نكون أدوات بطشه وعدوانه،ونساهم عن طيب خاطر في سفك دماء اخواننا المسلمين بدون امتعاظ وتردد.

وكذا لو أراد الحاكم الجائر اضفاء الشرعية على احتلال العدو لأجزأ من وطننا الإسلامي، أو إقامة سلام غير عادل مع العدو الصهيوني، وابقاء بیت المقدس والأراضي المغتصبة في قبضته فليس لنا حق الاعتراض والامتناع عن

ص: 20

التأييد والتصفيق له..

وكان حملة هذه النظرية والداعين لها في إيران يصفقون كثيرة لشاه العمالة والاجرام عندما يقوم بتصفية علماء الدين وارتكاب مجازر بشعة كمجزرة الفيضية والجمعة السوداء وغيرها،أو عندما يقيم علاقات دبلوماسية مع الكيانالغاصب لفلسطين،أو يعقد الاتفاقيات العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية مع أمريكا كي يجعل إيران مستعمرة لها،كانت تبح أصوات الداعين النظرية الانتظار السلبي من التأييد والتمجيد به..

فمفهوم الانتظار السلبي بناء على ما تقدم يعني مسخ إرادة الأمة،وسلب حريتها،وجعلها أداة طيعة في قبضة الحكام الرجعيين يسيرونها كيف ما يشاؤون وفق أغراضهم وأطماعهم الشخصية،وأهوائهم وميولهم الشيطانية،ويرغمونها على القبول بالقوانين الجائرة،والمعاهدات والأحلاف العسكرية العدوانية..

مرتكزات نظرية الانتظار السلبي

اعتمد مفهوم الانتظار السلبي على مرتكزات واهية لا تستند إلى دليل معقول،ولا نص قرآني،ولا سنة نبوية متواترة،ولا اجماع..

وجل ارتكازها على مجموعة من المفاهيم وقواعد العمل الإسلامي التي أساؤوا فهمها،ولم يستوعبوا مضامينها الجوهرية بصورة شمولية،وأولوها بما يتفق مع بنود مبدئهم الاستسلامي،أو نظريتهم السلبية المستوحات من حالتهم النفسية المتداعية،والمغمورة بشعور الانهزام والاستسلام المطلق لمشيئة الاستكبار وعملائه،والقبول بالوضع القائم رغم علاته وسلبياته..

ومن هذه المفاهيم التي أساؤوا فهمها مفهوم التقية التي أرادها اللّه تعالی

ص: 21

أن تكون وقاءّ للنشاط الإسلامي والرسالة المحمدية،وحصناً منيعاً يحفض المؤمنين من كيد أعدائهم،ويمكنهم من مزاولة نشاطهم الإسلامي من دون أن يتركوا لعدوهم فرصة تمكنه من الانتقام منهم،والتنكيل بهم،ووضع حد النشاطاتهم الإسلامية.|أراد اللّه أن تكون التقية غطاء للنشاط الإيماني المحذور،وجعلها المؤمنون بنظرية الانتظار السلبي وسيلة لقتل روح المقاومة والصمود في نفوس البعض من المؤمنين،ومسخ ارادتهم،وتحويلهم إلى جسوم خاوية مسلوبة الإرادة والاختيار..

ومنها:مفهوم الصبر على البلاء والمكاره التي تواجه المجاهدين في سبيل اللّه، والمؤمنين المواطنين على طاعة اللّه واجتناب معاصيه،والساعين إلى إقامة أحكامه.

هذا المفهوم الإسلامي القيم الذي يراد منه بناء الشخصية الرسالية المؤمنة، وتقوية ارادتها،وتصلیب مواقفها المبدئية ليكون بمستوى الصراع العنيف الدائر بين المسلمين وأعدائهم في أماكن متعددة من العالم الإسلامي،وإن واجهتهم أصعب الشدائد،وأشد المكاره تراهم كالجبال الراسية لا تؤثر فيها الزعازع والعواصف العاتية.

فهذا المفهوم هو الآخر تحول بفعل التحريف الناشئ عن سوء الفهم إلى وسيلة لزرع روح الخنوع واللامبالات في نفوس السذج من المؤمنين بحيث لو سمع أحدهم أو شاهد الأحداث الدامية،والمجازر البشعة التي يرتكبها أعداء الإسلام يمر عليها مرور الكرام،دون أن يحرك ساكن،أو يطلق كلمة استنكار واحتجاج..

هكذا تحولت المفاهيم الإسلامية المقومة للشخصية الرسالية المجاهدة

ص: 22

والمنشطة لحركة الجهاد في صفوف المؤمنين إلى مفاهیم مجردة من مضامينها الرسالية،ومفرغة من معانيها الحركية حيث أصبحت عبارة عن أشياء جامدة لا فائدة ولا عطاء فيها..هذه بعض المفاهيم التي أساء هؤلاء المؤمنين بنظرية الانتظار السلبي فهمها وأولوها بشكل غير منطقي أفقدها ماهيتها وحيويتها وحولوها إلى مفاهیم غير نافعة..

سندرس هذه المفاهيم التي اتخذت ركائز لمفهوم الانتظار السلبي لنتعرف على مواردها وحدودها،ومدى تعارضها وتناقضها،مع ذكر تأویلات هؤلاء المنحرفون عن خط الاستقامة،وسوء فهمهم لها.

ولكي نعطي فكرة بسيطة للقارئ عن حملة مفهوم الانتظار السلبي والداعين له،لابد لنا من اعطاء تعريف موجز لهم،وهم عدد غير قليل من الفقهاء السطحيين الذين تحجرت عقولهم من جراء الوقوف على ظواهر النصوص وعدم سبر أغوارها،فصاروا يستنبطون فتياهم منها بغض النظر عن الظروف المحيطية بها،والقرائن الحالية والمقالية واللفظية والمعنوية.

فهؤلاء هم أصحاب نظرية الانتظار السلبي للإمام المهدي المنتظر(عج)، أو قل نظرية الوفاق والتعايش السلمي مع الكفر العالمي والأنظمة الرجعية.

والمراد بالأنظمة الرجعية هي الحكومات العلمانية،والحكومات التي دساتيرها وقوانينها إسلامية لكنها لم تعمل بها،ولعلها تعمل بقوانین مضادة لها وفق ما تمليه عليها دول الإستكبار المرتبطة بها.

ولعل بعض تلك الدول تسعى إلى إبادة من يطالبها بتطبيق الإسلام مثل تركيا التي بددت المعارضة الإسلامية المتمثلة في حزب الرفاه، وأخرجتها من البرلمان بانقلاب عسكري،ومارست ضد مسيراتها الاحتجاجية أقصى أساليبالارهاب قسوة واجراماً،ومنعت الحجاب في المدارس والكليات والمعاهد

ص: 23

الدراسية،وأباحت فيها مسألة اختلاط الجنسين،وسعت إلى توسيع دائرة الفساد الأخلاقي،وعقدت المعاهدات العسكرية مع إسرائيل التي تستهدف أمن واستقرار البلاد الإسلامية،أو لعلها تمهد السبيل لإسرائيل لتضم أجزاء أخرى من الوطن الإسلامي لكيانها الغاصب..

وخلاصة القول أن الدول الرجعية هي التي لم تعمل بما أنزل اللّه والتي وصفها القرآن الكريم بالظلم الفسق والكفر،فقال تعالى:«ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون»(1) ،وقال:«ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الظالمون»(2) ،وقال:«من لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الفاسقون»(3) .

وقبل الشروع بذكر مرتكزات مفهوم الانتظار السلبي نذكر مجموعة من النصوص المتعلقة بهذا الموضوع،والتي استنبطوا منها ركائز نظريتهم،أو مفهومهم الاستسلامي الداعي إلى الدعة والاعتزال والاسترخاء وترك الدعوة للإسلام والسعي إلى تطبيق أحكامه،وكأن الإنسان المؤمن في زمن الغيبة الكبرى معفوا عن انجاز مهامه وواجباته الرسالية والشرعية والإنسانية.

وهذه بعض النصوص التي استنبطت منها نظرية الانتظار السلبي:

نماذج من الروايات الداعية إلى اعتزال الناس وترك الجهاد،

وعدم الخروج على السلطان

اشارة

ص: 24


1- سورة المائدة،آية:45
2- سورة المائدة،آية44
3- سورة المائدة،آيةك47

الحسين (عليه السلام) قال:واللّه لا يخرج أحد منا قبل خروج القائم إلا كان مثله كمثل فرخ طار من وكره قبل أن يستوي جناحاه فأخذه الصبيان فعبثوا به.

2-وعن عدة من أصحابنا،عن أحمد بن محمد،عن عثمان بن عیسی، عن بكر بن محمد،عن سدير قال:قال أبو عبداللّه (علیه السلام):یا سدير ألزم بيتك،وكن

حلسة من أحلاسه،واسكن الليل والنهار،فإذا بلغك أن السفياني قد خرج فارحل إلينا ولو على رجلك.؟

3-محمد بن الحسين الرضي الموسوي في(نهج البلاغة)عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال في خطبة له:الزموا الأرض،واصبروا على البلاء، ولا تحركوا بأيديكم وسيوفكم في هوى ألسنتكم،ولا تستعجلوا بما لم يعجل اللّه لكم،فإنه من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حق ربه،وحق رسوله وأهل بيته مات شهيدة،ووقع أجره على اللّه،واستوجب ثواب ما نوی من صالح عمله،وقامت النية مقام أسلاته بسيفه،فإن لكل شيء مدة وأجلاً.

4-وعن عدّة من أصحابنا،عن أحمد بن محمد بن خالد،عن عثمان بن عیسی، عمن أخبره،قال:قال أبو عبداللّه (عليه السلام) :كقوا ألسنتكم،والزموا بيوتكم الحديث.

5-وعن محمد بن موسی بن المتوكل،عن الحميري،عن محمد بن الحسين، عن ابن محبوب،عن نجية القواس،عن علي بن يقطين قال:قال أبو الحسن (عليه السلام) :مر أصحابك أن يكفوا ألسنتهم ويدعوا الخصومة في

ص: 25

الدين،ويجتهدوا في عبادة اللّه عزّوجلّ.(1)

6-محمد بن يعقوب،عن علي بن إبراهيم،عن أبيه،عن ابن أبي عمير، عن هشام ابن سالم، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال:ما أيسر ما رضى الناس به منكم، كقوا ألسنتكم عنهم.(2)

7-جاء في كتاب المحجة فيما نزل في القائم الحجة نقلا عن كتاب الاختصاص للشيخ المفيد في حديث له-عن جابر الجعفي،عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:يا جابر!ألزم الأرض ولا تحرك بدأ ولا رجلا حتی تری علامات أذكرها لك إن أدركتها.. .(3)

8-وأخرج مسلم عن حذيفة بن اليمان-في حديث له-مع رسول اللّه(صلى اللّه علیه و آله)قال:يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي،ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في ثمان أنس.قال:قلت:كيف أصنع یا رسول اللّه(صلى اللّه علیه وآله)إن أدركت ذلك؟قال:تسمع وتطيع للأمير، وأن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع.(4)

9-أخرج الصحيحان بلفظ واحد عن رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله)قال:ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم،والقائم فيها خير من الماشي،والماشي فيها خير من الساعي.من تشرف لها تستشرفه،ومن وجد فيها ملجأ فليعذبه،وذكر كل من الشيخين لها أكثر من سند واحد.(5)

10-عن أبي ذر،عن رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله وسلم)قال:قلت:

ص: 26


1- التوحید،487،الوسائل،458:11
2- الروضة،341،الوسائل،498:11
3- المحجة فيما نزل في القائم الحجة،25،الاختصاص
4- صحیح مسلم،6: 20،الغيبة الكبری،345
5- البخاري،94:9،مسلم،8: 168،الغيبة الكبری،336

یا رسول اللّه،أفلا آخذ بسيفي فأضرب به من فعل ذلك؟قال:شاركت القوم إذن! ولكن أدخل بيتك.قلت:يا رسول اللّه،فإن دخل بيتي،قال:إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق طرف ردائك على وجهك، فيبوء بإثمه وإثمك، فيكون من أصحاب النار... .(1)

11-عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلی اللّه علیه واله) يقول،يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغنم يتبع بها شعب الجبال ومواقع القطر،يفر بدينه من الفتن.(2)

12-أخرج الترمذي عن أنس بن مالك،قال:قال رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله):يأتي على الناس زمان الصابر على دينه كالقابض على الجمر.(3)

13-وعنه يعني محمد بن يحيى،عن أحمد بن محمد،عن الحسين بن المختار، عن أبي بصير،عن أبي عبداللّه (علیه السلام)قال:كل راية ترفع قبل قيام القائم فأصحابها طاغوت يعبد من دون اللّه عزوجل.(4)

وخلاصة نظرية الانتظار السلبي تتمثل في البنود التالية:

أولا:أن يقف المسلمون موقف المتفرج أزاء مسألة إشاعة الفحشاء والمنكر،وان يغضوا الطرف عن جميع المفاسد والموبقات،ولا يأمروا بمعروف ولا ينهون عن منكر لغرض ازالة معالم الفساد، ولا يحركوا أيديهم ولا أرجلهم، ويكونوا أحلاس بيتهم؛لأن انتشار المنكرات وازدياد الفساد،واتساع رقة الظلم والاجرام يقرب من ظهور الإمام المهدي(عج)حسب بنود نظريتهم

ص: 27


1- الغيبة الكبری،339،سنن ابن ماجة،2: 1308
2- سنن أبي داود،4: 418،وسنن ابن ماجة،2: 1317،الغيبة الكبری،363
3- سنن الترمذي،3: 359، الغيبة الكبرى،346
4- الروضة،309،الوسائل،11: 37

الاستسلامية.

فالإمام المهدي هو الذي سيملئ الأرض عدلا وقسطة بعدما ملئت ظلمة وجورة،فما لم تمتلئ الأرض بالظلم والفساد لا يظهر المهدي(عج)؛لأن ظهوره يتوقف على شیوع المظالم والمفاسد،فإن لم يحصل الشرط المطلوب لم يحصل مشروطه أيضا.وهذا البند من نظريتهم مستخلص من الرواية الثانية، والثالثة،والرابعة والخامسة،والسادسة،والسابعة،والتاسعة...

ثانياً:عدم الخروج على الحاكم الظالم الساعي إلى انشاء الفساد والمنكرات، لأنه يسعى بعمله هذا إلى تمهيد الأرضية الصالحة لظهور منقذهم،لذا التزموا بطاعته وتنفيذ أوامره حتى إذا ضرب الأعناق،وسلب الأموال،واغتصب الحقوق، ومسخ إرادة الأمة عن ممارسة حرياتها،وإشاعة المعاصي والفجور...

وإن خشي المؤمن من شعاع سیف الجلاد عليه أن يلقي طرف روائه على وجهه كي يصبر على قطع نحره.

واستندوا في استنباط هذا البند إلى الرواية الأولى،والثامنة،والثانية عشر، وغيرها مما ورد في أبواب التقية.

ففي رواية عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال:وقد أذنت لكم في تفضيل أعدائنا إن الجأك الخوف إليه، وفي إظهار البراءة إن حملك الوجل عليه، وفي ترك الصلوات المكتوبات إن خشيت على حشاشة نفسك... .(1)

ولا نريد الآن مناقشة مضامين هذه الرواية لأننا خصصنا أبواب لمناقشة جميع النصوص التي أساء فهمها هؤلاء السذج من الفقهاء واستنبطوا منها

ص: 28


1- الاحتجاج،124،تفسير العسكري (علیه السلام)،69،الوسائل،11: 478

نظريتهم المذكورة.

ثالثاً:وان اشتدت الفتن فعلى المؤمن أن يترك المجتمع نهائياً ويفر بدينه إلى شعب الجبال والمغارات بعيداً عن أنظار أعوان السلطة وجواسيسها،وبالتالي يترك ساحة العمل الاجتماعي،والنشاط الإسلامي،والدعوة لمنهج أهل البيت (عليهم السلام) الذي يمثل الأصالة والاستقامة.

وبعد هذا الاستطراد في شرح بعض ما يتعلق ببنود نظرية الانتظار السلبي، وذكر النصوص التي استنبطت منها النظرية المذكورة،نبدأ الآن بذكر المرتكزات الأساسية وهي:

أولاً:الصبر وعدم القاء النفس بالتهلكة

اتخذ هؤلاء السذج من مفهوم الصبر وعدم القاء النفس بالتهلكة ذريعة التبرير نظريتهم الاستسلامية الداعية إلى مسالمة الكفر العالمي والحكومات الظالمة المستبد،ووجوب طاعتها،وعدم الخروج عليها مهما ارتكبت من جرائم بشعة، ومجازر دموية رهيبة بحق المسلمين وغيرهم ممن لم يقروا بظلمها واجرامها.

وليس هذا فحسب بل يجب علينا أن نؤيدها على ارتكاب تلك الجرائم،ونجل مرتكيبها لأنهم يسعون إلى تمهيد المناخ الملائم لظهور الحجة بن الحسن العسكري(عج)بافشاء القتل ونشر الفساد.

واستندوا في استنباط هذا المرتكز من جملة نصوص،منها قوله تعالى: «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة...»الآية.(1)

ص: 29


1- سورة البقرة،آية:

مفهوم الانتظاروفسروا هذه الآية بعدد من الروايات منها قول الإمام زين العابدین:واللّه لا يخرج أحد منا قبل خروج القائم إلا كان مثله كمثل فرخ طار من وكره قبل أن يستوي جناحاه فأخذه الصبيان فعبثوا به.(1)

ففهموا من هذا النص عدم شرعية الخروج في زمن الغيبة وقبل ظهور القائم، لأن ذلك يؤدي إلى هلاك القائمين به،كما هلك الفرخ حین طار قبل استواء جناحاه، وصار لعبة بيد الصبية.

ومنها قول أميرالمؤمنين:الزموا الأرض،واصبروا على البلاء،ولا تحركوا بأيديكم وسيوفكم في هوى ألسنتكم،ولا تستعجلوا بما لم يعجل اللّه لكم،فإنه من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حق ربه،وحق رسوله،وأهل بيته،مات شهيدة،ووقع أجره على اللّه،واستوجب ثواب ما نوى من صالح عمله،وقامت النية مقام أسلاته بسيفه،فإن لكل شيء مدة وَأجلاً.(2)

ومنها:عن الإمام أبي عبداللّه (عليه السلام) :كفوا ألسنتكم،والزموا بيوتكم...(3) .

واستخلص هؤلاء السذج من هذين الحديثين وما ماثلها شرعية الاقرار بمفاسد الظلم وجرائمه ومنكراته،وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى ينتشر الظلم،وعم الفساد الموجبان لظهور القائم(عج).

ومنها: قوله(صلّى اللّه علیه و آله):يكون بعدي أثمة لا يهتدون بهداي،ولا يستنون بسنتي،وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان أنس،

ص: 30


1- الروضة،294،الوسائل،11: 36
2- نهج البلاغة،القسم الأول،391،الوسائل،40:11،ينابيع المودة،639- 537،الغيبة الكبرى،314
3- الأصول،421،الوسائل،493:11

قال-يعني حذيفة ابن اليمان-:قلت:كيف أصنع یا رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) إن أدركت ذلك؟ قال (صلی اللّه علیه واله) :تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك،وأخذ مالك،فاسمع

وأطع.(1)

ومنها:قوله (صلی اللّه علیه واله) لأبي ذر:إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق طرف ردائك على وجهك فيبوء بإثمه وأثمك،فيكون من أصحاب النار... .(2)

ففهموا من هذين النصين وجوب الطاعة للحاكم الظالم حتى إذا أراد قتل المرء نفسه،أو قتل غيره،أو أفرط في ازهاق الأنفس وسفك الدماء،ومارس سلب الأموال والحقوق بدون حق لابد من طاعته،وعدم الاعتراض عليه.وهذا يعني طاعة غير محدودة بحد،ولا مشروطة بشرط.فيحق للحاكم الظالم بموجب هذا أن يفعل ما يشاء دون اعتراض و انتقاد.وهذا ما لا تقره الشرائع الوضعية،فكيف يرتضيه الإسلام وهو دين الحق والعدالة الإنسانية،الذي حرمقتل النفس بدون حق، واعتبر من يقتل نفسة متعمدة كمن قتل الناس جميعاً،وجعل حق الدفاع عن النفس مشروعاً،فيحق للإنسان أن يدافع عن نفس إذا ما هاجمه عدو حتى إذا أدى دفاعه إلى قتل المهاجم..

ومنها:كل راية ترفع قبل قيام القائم فصحابها طاغوت يعبد من دون اللّه عزّوجلّ... .(3)

فاستفادوا من هذه الرواية وما ماثلها بأن الخارج على سلطان زمانه

ص: 31


1- صحیح مسلم،20:6،الغيبة الكبری،345
2- سنن ابن ماجة،1308:2،الغيبة الكبری،339
3- الروضة،359،الوسائل،37

طاغوت ونهضته غير مشروعة.وبناءً على هذا جعلوا نهضة آية اللّه العظمی السيد روح اللّه الموسوي الخميني مصداقاً لتلك الراية،ولذا تراهم حكموا ببطلا ن نهضته ووقفوا منها موقفاً سلبياً.

وتجاوز البعض منهم هذا الموقف السلبي إلى موقف عدائي حيث سعی لمحاربة النظام الإسلامي وحاول إسقاطه،بحجة عدم شرعية ولاية الفقيه. والكل يعلم أن ولاية الفقيه هي أساس الحكومة الإسلامية في زمن الغيبة من حيث أقرها الإمام الصادق (علیه السلام)وسائر الأئمة الأطهار (علیهم السلام)،ودعوا لها.وسنذكر النصوص الدالة على شرعيتها عند مناقشة مرتكزات مفهوم الانتظار السلبي إن شاء اللّه.

ثانياً:التقية في زمن الغيبة الكبرى

والركيزة الثانية لنظرية الانتظار السلبي مفهوم التقية التي آمنوا بها بعد أن أساؤوا فهمها كما أساؤوا فهم الكثير من المفاهيم الحركية الإسلامية التي تختلف باختلاف الظرف والمكان.

فهم-أي أصحاب نظرية الانتظار السلبي-يعتقدون أن مفهوم التقية يمنح الفرد المؤمن في زمن غيبة الإمام فترة استراحة واستجمام،يهادن المؤمنون فيها أعداء اللّه وأعداء رسوله ويسالمونهم وإن أدى ذلك إلى التخلي عن وظائفهم الشرعية،ومهامهم الرسالية في الدفاع عن الإسلام إذا ما تعرض لخطر التحريف والتسويف،والدفاع عن المؤمنين به إذا ما أراد الحاكم الجائر إبادتهم وتصفيتهم بدون حق..

وسوء فهمهم هذا استمدوه من جملة من الروايات التي تختص بموضوع

ص: 32

التقية بعد أن جردوها من ظروفها الموضوعية والقرائن التي تحف بها.

ثم استخلصوا من تلك النصوص قواعد عامة مطلقة يتصورون أنها صالحةللتطبيق في كل زمان ومكان في عصر الغيبة..

و بموجب هذه النظرية يلتزم المؤمنون كافة بمسايرة التيار العام الذي روجته السلطة الجائرة ولا يحق لهم الوقوف بوجهه مهما كلف الثمن.ثم يجب عليهم أن يشاركوا في احتفالات القوم،وفي صلواتهم للجمعة والجماعة،والتظاهر بتأييد التحريف والتشويه الذي يمارسه وعاظ السلاطين للعقائد والمفاهيم الإسلامية بما يتفق مع توجهات الحاكم الظالم،ويبرر جرائمه وفسوقه وفجوره، ويضفي عليها طابع الشرعية.

وهذا يعني اعطاء الحق للحاكم في انفاق كل موارد المسلمين في شهواته وملذاته حتى لو أدى ذلك إلى حرمان مئات الآلاف من المسلمين وأمانتهم جوعاً ومرضاً..

واستنبطوا هذا المفهوم السيئ للتقية من النصوص التالية:

منها:عن الإمام الرضا (علیه السلام)أنه قال:لا دين لمن لا ورع له،ولا إيمان لمن لا تقية له... .(1)

ومنها:عن أبي عبداللّه الصادق (علیه السلام)قال:يا أبا عمران!تسعة أعشار الدين في التقية،ولا دين لمن لا تقية له،الحديث.(2)

ومنها:عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام)أنه قال:التقية من ديني،ودين آبائي،ولا

ص: 33


1- أعلام الوری،408،كفاية الأثر،323،فرائد السمطين،آخر الجزء الثاني، الوسائل،11: 460،الغيبة الكبری،284
2- الأصول،174،المحاسن،259،الوسائل،460:11،الكافي،2: 217

إيمان لمن لا تقية له.(1)

استفادوا من هذه النصوص المتعلقة بالتقية أن التقية قانون عام مطلق يجب العمل به في كل الظروف والأحوال طيلة فترة الغيبة الكبرى،غير آخذين بنظر الاعتبار النصوص التي اختصت بتخصيصها وتقييدها،والدالة على أن التقية في كل ضرورة وليست قانونا عام يجوز العمل به في كل الظروف بغض النظر عن مواردها المختصة بها،والتي سمح بها الشارع المقدس في حالات الاضطرار فقط.

ومنها:عن الإمام أبي عبداللّه (عليه السلام) أنه قال في رسالته إلى أصحابه: وعليكم بمجاملة أهل الباطل،تحملوا الضيم منهم،وإياكم ومماظتهم،دينوا فيما بينكم وبينهم إذا أنتم جالستموهم وخالطتموهم،ونازعتموهم الكلام بالتقية التي أمركم اللّه أن تأخذوا بها فيما بينكم وبينهم.(2)

ومنها:عن أبي عبداللّه (علیه السلام)عن أبيه الباقر (علیه السلام)قال:لا واللّه ما على وجه الأرض شيء أحب إلي من التقية،يا حبيب انه من كانت له تقية رفعه اللّه،یا حبیب من لم تكن له تقية وضعه اللّه،يا حبيب ان الناس إنما هم في هدنة فلو قد كان ذلك كان هذا.(3)

ومنها:عن أبي عبداللّه الصادق (علیه السلام)أنه قال:إياكم أن تعملوا عملاً يعيّرونا به،فإن ولد السوء يعيّر والده بعمله،كونوا لمن انقطعتم إليه زيناً ولا تكونوا عليه شیناً، صلوا في عشائرهم،وعودوا مرضاهم،واشهدوا جنائزهم،ولا يسبقونكم

ص: 34


1- الأصول،2: 219،الوسائل،460:11
2- الروضة،2،الوسائل،462:11
3- الكافي،2: 217،المحاسن،259،الوسائل،461:11

إلى شيء من الخير فأنتم أولی به منهم... .(1)

ومنها:قول الإمام علي (علیه السلام)على منبر الكوفة:انكم ستدعون إلى سبّي فسبّوني،ثم ستدّعون إلى البراءة منّي وإني لعلی دین محمد... .(2)

و أن هذه الروايات ونظائرها تشير إلى وجوب التقية في زمن الغيبة،ومجاملة الناس،ومشاركتهم في صلواتهم وأفراحهم وأتراحهم والمبادرة إلى كل عمل صالح،وأن يكون الشيعة سباقون إلى الخير ليكونوا زينة على الإمام (علیه السلام)،ولا يكونوا عليه شيناً.

أن هذه الأخلاق الحسنة التي دعا له الإمام هي عين الأخلاق التي دعا لها الإسلام وهذه غير مختصرة على زمن التقية فقط، وإنما هي سائرة المفعول في كل الأزمان،بل هي من السمات التي تطبع سلوك المسلم الخلوق ولا تنفك عنه.

وإنما الشيء الذي يختص بزمن التقية هو حضور صلواتهم جمعة وجماعة، والائتمام بأئمتهم، فإن هذا لا يجوز إلّا تقية،أي عندما يخاف الإنسان المؤمن على نفسه في حالة عدم حضورها،أو أن المراد من تلك الجماعة اظهار وحدة المسلمين،وشكوة الإسلام وهيبته،فهنا يلزم حضور تلك الجماعة بحسب رأي البعض من فقهائنا،كصلاة الشيعة خلف أئمة الستة في أيام الحج..فالخطأ الذي وقع فيه أصحاب نظرية الانتظار السلبي ان جعلوا قانون التقية عام في زمن الغيبة الكبرى،والصحيح أن التقية لا تستعمل إلا في مواردها،ويرتفع الحكم بارتفاع موضوعاته فتأمل.

ومنها:قوله (علیه السلام):لا تذلوا رقابكم بترك طاعة سلطانكم... .(3)

ص: 35


1- الكانی،2: 219
2- الكافي،2: 219
3- المجالس،54/203 ،الوسائل،472:11

أو قوله (صلی اللّه علیه واله) :طاعة السلطان واجبة،ومن ترك طاعة السلطان فقد ترك طاعة اللّه عزوجل،ودخل في نهيه،إن اللّه عزّوجلّ يقول:لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة.(1)

إن ما ورد في كتب إخواننا أبناء العامة أكثر مما ورد في كتبنا حول وجوب طاعة السلطان حتى إذا كان أحمقاً،أو فاسقاً،أو عاصيا للّه.

وسبق أن أشرنا لبعض هذه الروايات عند ذكرنا للركيزة الأولى،وخلاصة ما استنبطوه أصحاب نظرية الانتظار السلبي من هذه النصوص هو وجوب طاعة السلطان رغم كونه فاسقاً،فاجراً،جائراً،عاصياً.وهذا الأمر لا إشكال ولا ريب في بطلانه،لأنه يتنافى مع وجوب طاعة اللّه،إذ لا طاعة لمخلوق في معصية اللّه، ويتجلى هذا التنافي في موارد،منها فيما إذا أمرنا الحاكم الجائر بقتل المؤمنين بدون حق،أو أمرنا بترك إقامة الفرائض جماعةفي المساجد،أو أراد إكراهنا على شرب الخمر وممارسة الرذيلة،ففي هذه الموارد جميعة لا تجب طاعة السلطان الجائر حتى لو أدى ذلك إلى القتل.

ثالثاً:الاستدلال بمقاطع من سيرة الأئمة (علیهم السلام)على صحة نظريتهم

ومن ركائز هذه النظرية هي الاقرار بشرعية الحاكم الظالم،وعدم الاعتراض على ما يرتكبه من مظالم وتعديات حتى إذا شملت أقدس الشخصيات الإسلامية وأجلها،وحتى إذا أكره الناس على بيعته،أو سن البدع والأضاليل لا يجب الاعتراض عليه أو خلع طاعته..

واستند هؤلاء في استنباط هذه الركيزة إلى مقاطع من سيرة الأئمة الأطهار

ص: 36


1- عيون الأخبار،45،الوسائل،472:11

(عليهم السلام) واقرارهم لبعض الأمور مكرهين..

منها:ما جاء في سيرة الإمام علي (علیه السلام)أنه لما امتنع عن البيعة لأبي بكر أرغم على البيعة فبايع مكرهاً،وهذا يدل على جواز البيعة بالاكراه وقبولها.

ولما وقع الاعتداء على بضعة المصطفى وزوجة الإمام علي الزهراء في دارها وأمام جمع من الصحابة لم يعترض الإمام على ذلك،ولم يجرد سيفه لرد العدوان، بل انقاد للجماعة المهاجمة وأقر فعلهم.

وعندما نفى عثمان أبا ذر إلى الربذة لم يعترض الإمام علي (علیه السلام)ولم يردعه بالرغم من علمه بعدم أحقية هذا القرار وشرعيته،وكانت النتيجة المأساويةالتي أفرزتها الحادثة فاجعة مروعة حيث أودت بحياة أبي ذر ومن كان معه جوعا ومرضاً عدا ابنته ذر التي دلت مالك الأشتر ومن معه على مكان جثمانه الشريف الطاهر حيث قاموا بتجهيزه ودفنه.

وكذا سكت الإمام علي (علیه السلام)حين وقع الاعتداء على عمار بن یاسر في مسجد رسول اللّه وأمام حشد من صحابته من قبل الخليفة عثمان حيث استمر بضربه حتى أحدث فيه فتقاً وأغمي عليه.

ومما جاء في سيرة الإمام الحسن (علیه السلام)حين استلم معاوية الخلافة منه بعد الصلح جعل سب الإمام علي على منابر المسلمين في القنوت ستة لابد من انجازها. وكان معاوية(عليه اللعنة)أحيانا يمارس السب بنفسه، فينال من علي (علیه السلام) والزهراء (علیها السلام)والإمام الحسن جالس تحت منبره، أليس هذا الاقرار منه لهذا الأمر تقية؟

واستمرت هذه السنة السيئة طيلة85سنة دون أن يعترض عليها الأئمة الأطهار (علیهم السلام)المعاصرون لتلك الفترة.

ص: 37

وجاء في سيرة علي بن الحسين (علیهما السلام)لما قدم يزيد إلى المدينة المنورّة بعد قتله للإمام الحسين وسبي عيالاته أرسل في طلب السجاد (علیه السلام)وطلب منه الاقرار بالرقية له،إن شاء باعه،وإن شاء أعتقه أو أبقاه عبدة،فأقر السجاد بالرقية بعد أن علم أنه سيقتله كما قتل القرشي بالأمس إن رفض الاقرار بذلك.فهذا الاقرار من قبل الإمام (علیه السلام)بالرقية ليزيد الذي قتل أباه بالأمس وأهل بيته (علیهم السلام)في أبشع مشهد شهده التاريخ،ألا يدل هذا على جواز الاقرار للحاكم الجائر الفاسق بالرقية تقية بهدف حفظ النفس وحقن الدماء.(1)

وليس هذا فحسب فسكوت السجاد (علیه السلام)عن جرائم يزيد فيما بعد عندما استباح حرمة المدينة المنورّة،وهتك الأعراض،وفض بكارة ألف فتاة،وقتل المئات من الأبرياء،وسحق الأطفال تحت حوافر الخيل،وسلب الأموال وإحراق البيوت،وغير ذلك من الجرائم التي لا تعد ولا تحصى.

ثم استباح حرمة البيت الحرام وضرب الكعبة بالمجانيق وقتل ابن الزبير فيها بعد قتل المئات من أصحابه والمؤازرين له،فالسكوت على مثل هذه الجرائم من قبل الإمام زين العابدین (علیه السلام)الا يدل على جواز الاقرار بمثل هذه الأمور تقية.(2)

وجاء في سيرة الإمام محمد بن علي الباقر (علیه السلام):أنه في زمنه نهض أخيه زيد في الكوفة ضد الخليفة هشام بن عبدالملك ليسترجع منه حقه،إلا أن هشام بدلاً من أن يعطيه الحق جهز جيشأ لقتاله وانتصر عليه وقتله،ثم استخرج جثمانه

ص: 38


1- الوسائل،497:11،الروضة،234
2- أبو الفداء،1: 192،الإمامة والسياسة،200،تاریخ الخلفاء،99، العقد الفرید،3: 157،الشيعة في التاریخ،146،تهذيب الكامل،149:1

الطاهر من قبره بعد الدفن،وصلبه بباب الكناسة عارياً لمدة طويلة حتىعشعشت الطيور في بدنه الشريف،ثم أنزله بعد مضي أربع سنوات على صلبه وأحرقه.(1)

فعدم اعتراض الباقر (علیه السلام)على الخليفة لارتكابه مثل هذه الجرائم النكراء، وعدم الخروج لنصرة أخيه،أو دعوة الشيعة لمؤازرته ونصرته لأدل دليل على جواز السكوت على مثل هذه الممارسات الاجرامية تقية.

نكتفي بهذا المقدار من الأمثلة التي اتخذها المسالمون ذريعة لتبرير نظريتهم الاستسلامية وتمريرها على السذج من المؤمنين.

هذه أهم ركائز نظرية الانتظار السلبي التي حملها البعض من الفقهاء السطحيين السذج الذين لم يستوعبوا مضامين المفاهيم الإسلامية بصورة صحيحة،ولم يعوا الرسالة المحمدية الأصيلة بصورة شمولية وإنما اكتفوا بفهم بعض جوانبها وترك الأغلب الأعم منها..

ولو قدر لهذه النظرية النجاح لا سمح اللّه،فإن النتيجة ستكون اضمحلال المجتمع المسلم وتضائل عدد الصلحاء فيه بالتدريج حتى ينتفي وجودهم بمرور الزمن،أو يبقى العدد الضئيل الذي لا يفي بقيام نهضة القائم المنتظر(عج).

أن العمل بموجب هذه النظرية ليس فقط لا يقرب فرج ظهور الحجة بن ابن الحسن العسكري(عج)،بل لعل فرج ظهوره ينتفي نهائية لعدم وجود من يناصره على القيام بنهضته العالمية التي ستهدف ازالة معالم الفساد،ومحو آثار الظلم، ونشر العدل في جميع أنحاء العالم.

ص: 39


1- خطط المقريزي،4:309،الكامل في التاريخ،5: 107،شرح النهج،315:1، الشيعة في التاريخ،148

وقبل أن نناقش بنود هذه النظرية السلبية ومرتكزاتها على ضوء نصوص القرآن الكريم،والسنّة النبّوية الصحيحة،وسيرة أهل البيت (علیهم السلام)،لابد لنا أن نذكر العوامل المساعدة على تركيز مفاهيمها في أذهان السذج من المؤمنين..

العوامل المساعدة على تركيز الانتظار السلبي

أولاً:العداء الصارخ لآل البيت (علیهم السلام)

قبل أن نلج في أعماق التاريخ ونستخرج منها عبائر الحقد الأسود، والعداء الدفين التي طفحت على شفاه ألدّ أعداء آل محمد(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)،من ساسة الحكم وولاة الأمر،وتحولت فيما بعد إلى رماح طويلة، وسهام سامة،وشفار حادة حصدت رؤوس العلويين وشيعتهم،ومزقت أشلائهم، على طول التاريخ،وصنعت مجازر دموية وحشية بشعة لم يشهد تاريخ البشرية نظيراً لها.

قبل أن نذكر تلك العبائر المفعمة بالحقد والعداء نود أن نذكر ما تنبأ به سید الكائنات، وخاتم الرسل محمد(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)عما سينال عترته من ظلم واضطهاد وسجن وتشريد وتقتيل واعتصاب لحقوقها من أشرار أمته،. وكان تنبئه هذا دليل آخر على صدق نبوته،وقوة ارتباطه باللّه عزوجل،حيث أنبئه بكل ما يجري على عترته من بعده من المصائب والمصاعب،وأن الأمة سوف لا تعمل بوصاياه،ولا تلتزم باية مودة في القربي، بل ستحول المودة إلى حقد أسود، والولاء إلى عداء صارخ لا هوادة فيه، وحرب دائمة الاستعارستقطع

ص: 40

كل السواعد القوية التي حملت رايات الفتح،وحطمت السدود،واقتحمت القلاع الحصينة،وأرغمت المشركين على الاذعان لسلطة الإسلام وقوانينه العادلة.

فالذي تنبأ به الرسول الأكرم(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)كان وحياً سماوياً،وليست تنبئات شخصية.

الأمة ستغدر بعلي (عليه السلام)

بعد رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله)

-مستدرك الصحيحين:قال:عن حيان الأسدي سمعت علياً (عليه السلام) يقول: قال رسول اللّه(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم):أن الأمة ستغدر بك بعدي وأنت تعيش على ملتي،وتقتل على سنتي،من أحبك أحبني،ومن أبغضك أبغضني، وإن هذه ستغضب من هذا-يعني لحيته من رأسه-قال:الحاكم:صحیح.(1)

-وفيه أيضاً:روی بسنده عن أبي إدريس الأودي عن علي (عليه السلام) قال:إن مما عهد إليّ النبي(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)أن الأمة ستغدر بي بعده،قال: هذا حديث صحيح الاسناد،(أقول)ورواه الخطيب أيضاً في تاريخه وقالفيه:إن الأمة ستغدر بك بعدي،وذكره المتقي أيضا في كنزالعمال،وقال فيه:إن الأمة ستغدرني من بعده،قال:أخرجه ابن أبي شيبة،والحارث والبزاز والحاكم والعقيلي والبيهقي في الدلائل.(2)

-وفي مجمع الهيثمي،قال:وعن ثعلبة أنه قال-أي علي (عليه السلام) -

ص: 41


1- مستدرك الصحيحين،3: 142
2- مستدرك الصحیحین،3: 140،تاریخ بغداد، 216:11،كنزالعمال،6: 73،فضائل الخمسة،66:3

على المنبر:واللّه إنه لعهد النبي(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)الأمي إلي:إن الأمة ستغدر بي،قال:رواه البزاز.(1)

-وفي كنوز الحقائق:حاول المناوي أن يجمع بين الروايات التي تنهي علي (عليه السلام) عن القتال في حال غدر الأمة به بعد رسول اللّه(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)،والروايات التي تأمره بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين،فقال: ولفظه:یا علي!ستبلی بعدي فلا تقاتلن،قال:أخرجه أبو علي،(أقول)ومقتضي الجمع بين هذا الحديث وبين ما تقدم من قوله(صلّى اللّه علیه و آله وسلّم) المروي بطرق عديدة إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، أو ما تقدم من أمره(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)علياً بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين كما روى ذلك بطرق عديدة أيضاً وهو النهيعن القتال من بعده بلا فصل،إما لقلة الناصر،أو لمخافة أن يرتد الناس عن دينهم لقرب عهدهم بالجاهلية،أو لغير ذلك من موانع القتال،وأما بعد وجدان الناصر أو بعد ارتفاع الموانع فلابد من القتال.(2)

-تاریخ بغداد:روی بسنده عن عبداللّه بن أحمد بن كثير،وأحمد بن زهير بسنديهما،عن أبي عثمان النهدي،عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: مررت مع رسول اللّه(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)بحديقة فقلت:يا رسول اللّه ما أحسنها؟قال:لك في الجنة خير منها حتى مررت بسبع حدائق(قال)وقال أحمد بن زهير:بتسع حدائق كل ذلك أقول له،ويقول:لك في الجنة خير منها(قال):ثم جاءني رسول اللّه(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)و بكی،فقلت،یا رسول

ص: 42


1- مجمع الهيثمی،9: 137،فضائل الخمسة،3: 67
2- كنوز الدقائق،188،فضائل الخمسة،2: 67

اللّه ما يبكيك؟قال:ضغائن في صدور رجال عليك لن يبدوها لك إلا من بعدي، فقلت:بسلامة من ديني؟قال:نعم بسلامة من دينك.

وبنفس المضمون رواه المتقي في كنزالعمال،والهيثمي في معجمه، والمحب الطبري في رياضه،والحاكم في مستدركه.(1)

النبي (صلی اللّه علیه واله) يأمر علياً بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين

-مستدرك الصحيحين:روی بسنده عن عقاب بن ثعلبة،حدثني أبو أيوب الأنصاري في خلافة عمر بن الخطّاب،قال:أمر رسول اللّه(صلّى اللّه عليه(وآله)وسّلم)علي بن أبي طالب (عليه السلام) بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين.(2)

ورواه أيضاً:بسنده عن الاصبغ بن نباتة،عن أبي أيوب الأنصاري قال:سمعت النبي(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)يقول لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) :تقاتل الناكثين والقاسطين بالطرقات والنهروانات وبالسعفات،قال أبو أيوب: قلت،یا رسول اللّه مع من نقاتل هؤلاء الأقوام؟قال:مع علي بن أبي طالب.(3)

-تاریخ بغداد:روی بسنده عن خليد العصري قال:سمعت أمير المؤمنین علي (عليه السلام) يقول يوم النهروان:أمرني رسول اللّه(صلّى اللّه علیه(و آله) است

ص: 43


1- تاریخ بغداد،12: 398،كنز العمال،480:9،الریاض النضرة،210:2،ومستدرك الصحيحين،3: 139،ومجمع الهيثمي،118:9
2- المستدرك،3: 139،فضائل الخمسة،2: 398
3- المستدرك،3: 139،فضائل الخمسة،2: 398

وسلّم)بقتال الناكثين والمارقين والقاسطين.(1)

-وفيه أيضاً:روی بسنده عن علقمة والأسود قالا:أتينا أبا أيوب الأنصاري عند منصرفه من صفين فقلنا له:يا أبا أيوب إن اللّه أكرمك بنزول محمد (صلی اللّه علیه واله) ، وبمجيء ناقته تفضلا من اللّه وإكراما لك حتى أناخت ببابك دون الناس،ثم جئت بسيفك على عاتقك تضرب به أهل لا إله إلا اللّه.

فقال:يا هذا إن الرائد لا يكذب أهله،وإن رسول اللّه(صلّى اللّه علیه(و آله) وسلّم)أمرنا بقتال ثلاثة مع علي (عليه السلام) بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين.

فأما الناكثين فقد قاتلناهم أهل الجمل طلحة والزبير،وأما القاسطون فهذا منصرفنا من عندهم-يعني معاوية وعمرة-وأما المارقون فهم أهل الطرقات، وأهل السعيفات،وأهل النخيلات،وأهل النهروانات،واللّه ما أدري أين هم ولكن لابد من قتالهم إن شاء اللّه،قال:وسمعت رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) يقول لعمار:تقتلك الفئة الباغية وأنت إذ ذاك مع الحق والحق معك،يا عمار بن یاسر!إن رأيت علية قد سلك واديا وسلك الناس وادية غيره فاسلك مع علي فانه لنيدليك في ردی، ولن يخرجك من هدی،یا عمار!من تقلد سيفا أعان به علياً على عدوه قلده اللّه يوم القيامة وشاحین من در،ومن تقلد سيفا أعان به عدو علي (علیه السلام)قلده اللّه يوم القيامة وشاحين من نار،قلنا،يا هذا!حسبك رحمك اللّه، حسبك رحمك اللّه.ورواه المتقي في كنزالعمال.(2)

-في أسد الغابة:روی بسنده عن أبي سعيد الخدري،قال:أمرنا رسول

ص: 44


1- تاریخ بغداد،8: 340،و ج186:13،كنز العمال،4 :155،فضائل الخمسة،2: 398-399
2- تاریخ بغداد،8: 340،و ج13: 186،كنز العمال،4: 155،فضائل الخمسة،2: 398 -399

اللّه(صلّى اللّه عليه و آله وسلّم)بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين،فقلنا:يا رسول اللّه أمرتنا بقتال هؤلاء فمع من؟فقال:مع علي بن أبي طالب،معه يقتل عمار ابن ياسر.(1)

-وفي كنزالعمال:عن الثوري ومعمر عن أبي إسحاق،عن عاصم بن ضمرة،عن أبي صادق قال:قدم علينا أبو أيوب الأنصاري العراق فقلت له:يا أبا أيوب قد كرمك اللّه بصحبة نبيه محمد(صلّى اللّه عليه(وآله)وسلّم)وبنزوله عليك فما لي أراك تستقبل الناس تقاتلهم،تستقبل هؤلاء مرة وهؤلاء مرة،فقال إن رسول اللّه(صلّى اللّه عليه(وآله)وسلّم)عهد إلينا أن نقاتل مع علي (عليه السلام) الناكثين،فقد قاتلناهم،وعهد إلينا أن نقاتل مع علي (عليه السلام) المارقین فلم أرهم بعد،قال:أخرجه ابن عساكر.(2) -وفيه أيضا:قال:عن ابن مسعود قال:خرج رسول اللّه(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)فأتی منزل أم سلمة فجاء علي (عليه السلام) فقال رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) :يا أم سلمة!هذا واللّه قاتل القاسطين والناكثين والمارقين من بعدي،قال:أخرجه الحاكم في الأربعين وابن عساكر،(أقول)وذكره المحب الطبري أيضا في الرياض النضرة.(3)

-في مجمع الهيثمي:قال:وعن عبداللّه-يعني ابن مسعود-قال:أمر رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين،قال:رواه الطبراني،(أقول)وذكره (في ج7)أيضاً،وقال:أمر علي (عليه السلام) بقتال الناكثين والقاسطين

ص: 45


1- أسد الغابة،4: 32،فضائل الخمسة،2: 399
2- كنز العمال،6 -88،فضائل الخمسة،2: 400
3- كنز العمال،319:6،الریاض النضرة،2: 240،فضائل الخمسة،401:2

والمارقين،ثم قال:رواه الطبراني في الأوسط.(1)

-وفيه أيضاً:قال:وعن علي (علیه السلام)قال:عهد إلي رسول اللّه(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)في قتال الناكثين والقاسطين والمارقين،قال:وفي رواية أمرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين،قال:رواه البزاز والطبراني في الأوسط.(2)

-وفي كنزالعمال:قال:عن علي (عليه السلام) قال:أمرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين،قال:أخرجه ابن عدي في الكامل،وعبد الغني بن سعيد في ايضاح الأشكال،والأصبهاني في الحجة،وابن مندة في غرائب شعبة،وابن عساكر من طرق.(3)

-وفيه أيضاً مع زيادة:.. فأما القاسطون فأهل الشام،وأما الناكثون فذكرهم،وأما المارقون فأهل النهروان-يعني الحرورية-قال:أخرجه الحاكم في الأربعين وابن عساكر.(4)

النبي (صلی اللّه علیه واله) يخبر بما يجري على فاطمة (علیها السلام)و عترته

-بالاسناد قال:أخبرنا محمد بن محمد،قال:أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي بن موسی ابن بابویه،قال:حدثني أبي قال:حدثنا أحمد بن إدريس،قال:حدثنا محمد بن عبدالجبار،قال:حدثنا ابن أبي عمير،عن أبان بن عثمان،عن أبان بن تغلب،عن عكرمة،عن عبداللّه بن عباس،قال:لما حضرت رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) الوفاة بكی حتی بلت دموعه لحيته،فقيل له:يا رسول اللّه!ما يبكيك؟

ص: 46


1- مجمع الهيثمي،9: 235، و ج 7،238،فضائل الخمسة،402:2
2- مجمع الهيثمي،7: 238،فضائل الخمسة،2: 402
3- كنز العمال،6: 72
4- كنز العمال،6: 72،فضائل الخمسة،2: 401

فقال:أبكي لذريتي وما تصنع بها أشرار أمتي من بعدي،كأني بفاطمة ابنتي وقد ظلمت بعدي،وهي تنادي:يا أبتاه،فلا يعينها أحد من أمتي...(1) .

-في البحار،الجزء العاشر عن الأمالي،عن ابن عباس،عن رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) أنه قال:وإني لما رأيتها(فاطمة)ذكرت ما يصنع بها بعدي،أني وقد دخل الذل بيتها وانتهكت حرمتها،وغصبت حقها،ومنعت إرثها،وكسر جنبها،وأسقطت جنينها، وهي تنادي يا محمداه،فلا تجاب،وتستغيث فلا تغاث،فلاتزال بعدي محزونة مكروبة باكية،تتذكر انطقاع الوصي عن بيتها مرة،وتتذكر فراقي أخرى...(2) .

-في سنن ابن ماجة:عن عبداللّه بن مسعود،قال:بينما نحن عند رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) إذ أقبل فتية من بني هاشم،فلما رآهم النبي (صلی اللّه علیه واله) اغرورقت عيناه، وتغير لونه،فقلت:مانزال نرى في وجهك شيئا نكرهه؟قال:إنّا أهل بيت اختار اللّه لنا الآخرة على الدنيا،وان أهل بيتي سيلقون بلاءً وتشريداً وتطريداً...(3) .

-في مستدرك الصحيحين:روی بسنده عن عبداللّه بن مسعود قال:أتينا رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) فخرج إلينا مستبشراً يعرف السرور في وجهه،فما سألناه عن شيء إلا أخبرناه،ولا سكتنا إلا ابتدأنا حتى مرت فتية من بني هاشم فيهم الحسن والحسين(عليهما السلام)فلما رآهم التزمهم وانهملت عيناه،فقلنا يا رسول اللّه! مانزال نرى في وجهك شيئاً نكرهه،فقال:إنا أهل بيت اختار اللّه لنا الآخرة على الدنيا،وانه سيلقى أهل بيتي من بعدي تطريداً وتشريداً في البلاد...(4) .

ص: 47


1- أمالي الشيخ،1: 191
2- عنه في فاطمة من المهد إلى اللّحد:195
3- سنن ابن ماجة،2،رقم الحديث،1366،فضائل الخمسة،3: 351،ذخائر العقبی،17،وفيهما:باختلاف يسير
4- مستدرك الصحیحین،4: 464،سنن ابن ماجة،309،فضائل الخمسة،3: 350

-وفيه أيضاً:روی بسنده عن أبي سعيد الخدري،قال:قال رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) :إن أهل بيتي سيلقون من بعدي من أمتي قتلاً وتشريداً،وإن أشد قومنا لنا بغضاً بنو أمية،وبنو المغيرة،وبنو مخزوم،قال:هذا حديث صحيح الإسناد.أقول:ذكره المتقي أيضا في كنزالعمال،وقال:أخرجه نعیم بن حماد في الفتن.(1) .

-في أسد الغابة أذكر حديثاً عن عمرو ابن شعواء اليافعي قال:قال رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) :سبعة لعنتهم وكل نبي مجاب الدعوة:الزائد في كتاب اللّه،والمكذب بقدر اللّه،والمستحيل حرمة اللّه،والمستحل من عترتي ما حرم اللّه،والتارك السنتي،والمستأثر بالفيء،والمتجبر بسلطانه ليعز من أذل اللّه،ويذل من أعز اللّه عزّوجلّ...(2) .

-وروى الذهبي في ميزانه نحوه باختلاف يسير فبدل السبعة ستة.(3)

جبرائيل يخبر النبي (صلی اللّه علیه واله) بخبر قتل أمته لولده الحسین (علیه السلام)

-في تهذيب التهذيب لابن حجر:قال:وعن عمر بن ثابت،عن الأعمشي،عن شقيق،عن أم سلمة قالت:كان الحسن والحسين(عليهما السلام)يلعبان بین يدي رسول اللّه(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)في بيتي فنزل جبريل فقال:يا محمّد إن أمتك تقتل ابنك هذا من بعدك،وأومأ بيده إلى الحسين (عليه السلام) .

فبكی رسول اللّه(صلّى اللّه علیه(و آله)وسلم)وضمه إلى صدره،ثم قال رسول

ص: 48


1- مستدرك الصحيحين،4: 487،كنزالعمال،40:6،فضائل الخمسة،3: 351
2- أسد الغابة،4: 107،كنز العمال،8: 192
3- میزان الاعتدال،2: 119،المستدرك،1: 36،وج4: 90،وج 2: 525

اللّه(صلّى اللّه عليه(وآله)وسلّم):وضعت عندك هذه التربة فشمها رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)وقال:ریح كرب وبلاء،وقال:يا أٌم سلمة إذا تحولت هذه التربة دما فاعلمي ان ابني قد قُتل،فجعلتها أم سلمة في قارورة ثم جعلت تنظر إليها كل يوم وتقول:أن يوماٌ تحولين دمة ليوم عظيم.قال:وفي الباب عن عائشة وزينب بنت جحش،وأم الفضل بنت الحارث وأبي أمامة،وأنس بن الحارث وغيرهم.(أقول)وذكره الهيثمي أيضا في مجمعه، وقال:رواه الطبراني.(1)

-في ذخائر العقبي:قال:وعنها-يعني أم سلمة-قالت:رأیت رسول اللّه(صلّى اللّه عليه(وآله)وسلّم)وهو يسمح رأس الحسين (عليه السلام) ويبكي،فقلت:ما بكاؤك؟فقال:إن جبريل أخبرني أن ابني هذا يقتل بأرض يقال لها:كربلاء،قالت: ثم ناولني كفأ من تراب أحمر،وقال:إن هذا من تربة الأرض التي يقتل بها فمتى صار دما فاعلمي انه قد قتل، قالت أم سلمة:فوضعت التراب في قارورة عندي وكنت أقول:إن يوما يتحول فيه دمة يوم عظيم.قال:أخرجه الملّا في سيرته.(2)

-وفي الصواعق المحرقة:قال:بعد نقل قصة أم سلمة والقارورة(ما لفظه):وفي رواية عنها:فأصبته يوم قتل الحسين (عليه السلام) وقد صار دما،(ثم قال)وفي أخرى ثم قال:-يعني جبريل-ألا أريك تربة مقتله؟فجاء بحصيات فجعلهن رسول اللّه(صلّى اللّه عليه(و آله)و سلّم)في قارورة،قالت أم سلمة:فلما كانت ليلة قتل الحسين (عليه السلام) سمعت قائلاً يقول:

أيها القاتلون جهلاً حسيناً إبشروا بالعذاب والتذلیل

ص: 49


1- تهذيب التهذیب،2: 347،مجمع الهيثمي،189:9
2- ذخائر العقبی،147،فضائل الخمسة،3: 354

قد لعنتم على لسان ابن داود

وموسى وحامل الإنجيل

قالت:فبكيت وفتحت القارورة فإذا الحصيات قد جرت دماً.(1)

إن الأخبار التي تعرضت لذكر مظلومية أهل البيت (عليهم السلام) بعد رسول اللّه(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)كثيرة لا يستوعبه المقام،لذا نكتفي بهذاالقدر منها وننتقل إلى ذكر مصاديقها الدموية المأساوية ابتداءاً من يوم السقيفة والهجوم على بيت الزهراء إلى يومنا هذا...

ص: 50


1- الصواعق المحرقة،115

حادثة الهجوم على دار الزهراء (علیها السلام)و أضرام النار فيها

سلمان الفارسي(رضوان اللّه عليه)يروي حادثة الهجوم على دار الزهراء(عليها السلام)حيث قال:فلما أن رأى علي (عليه السلام) خذلان الناس إياه وتركهم نصرته واجتماع كلمتهم مع أبي بكر،وتعظيمهم إياه لزم بيته.

فقال عمر لأبي بكر:ما يمنعك أن تبعث إليه فيبايع،فإنه لم يبق أحد إلّا وقد بايع غيره،وغير هؤلاء الأربعة-يعني بهم سلمانة وأبا ذر والمقداد،والزبير أو عمار بن ياسر-.

وكان أبو بكر أرق الرجلين وأرفقهما وأدهاهما وأبعدهما غوراً.والآخر أفظهما وأغلظهما وأجفاهما.

فقال له أبو بكر:من نرسل إليه؟

فقال عمر:نرسل إليه قنفذاً فهو رجل فظ غليظ جاف من الطلقاء أحد بني عدي بن كعب،فأرسله وأرسل معه أعواناً.

فانطلق فاستأذن على علي (عليه السلام) فأبى أن يأذن لهم.فرجع أصحاب قنفذ إلى أبي بكر وعمر وهما جالسان في المسجد والناس حولهما.

فقالوا:لم يؤذن لنا؟

فقال عمر:اذهبوا فإن أذن لكم وإلّا فادخلوا بغير إذن.

فانطلقوا فاستأذنوا،فقالت فاطمة(عليها السلام):أحرج عليكم أن تدخلوا على بيتي بغير إذن،فرجعوا وثبت قنفذ الملعون،فقالوا:إن فاطمة قالت:كذا وكذا فتحرجنا أن ندخل بيتها بغير إذن.

فغضب عمر وقال:ما لنا وللنساء،ثم أمر أناساً حوله بتحصيل الحطب

ص: 51

وحملوا الحطب،وحمل معهم عمر فجعلوه حول منزل علي (عليه السلام) وفيه علي وفاطمة وابناها (عليهم السلام) .

ثم نادي عمر حتى أسمع علياً وفاطمة:واللّه لتخرجن يا علي ولتبايعن خليفة رسول اللّه(صلّى اللّه علیه و آله)وإلّا أضرمت عليك النهار.

فقامت فاطمة(عليها السلام)فقالت:یا عمر ما لنا ولك؟فقال:أفتحي الباب وإلا أحرقنا عليكم بيتكم.

فقالت:يا عمر أما تتقي اللّه!تدخل على بيتي؟فأبی أن ينصرف ودعا عمر بالنار فأضرمها في الباب،ثم دفعه فدخل،فاستقبلته فاطمة(عليها السلام)وصاحت:يا أبتاه!یا رسول اللّه!

فرفع عمر السيف وهو في غمده فوجا به جنبها.

فصرخت فاطمة-ثانية-يا أبتاه.

فرفع السوط-عمر-فضرب به ذراعها،فنادت:یا رسول اللّه فبئس ما خلفك أبو بكر وعمر.

فوثب علي (عليه السلام) فأخذ بتلابيه فصرعه ووجأ أنفه ورقبته وهم

بقتله،فذكر قول رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) وما أوصاه به(1) فقال:

والذي كرّم محمّد (صلی اللّه علیه واله) بالنبوّة يا ابن صهاك لولا كتاب من اللّه سبق، وعهد عهد إلي رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) لعلمت أنك لا تدخل بیتی.

فأرسل عمريستغيث.فأقبل الناس حتى دخلوا الدار،وثار علي (عليه السلام) إلى سيفه،فرجع قنفذ إلى أبي بكر وهو يتخوّف أن يخرج علي (عليه السلام) بسيفه لما قد عرف من بأسه وشدّته.

ص: 52


1- تفسیر فرات،179،البحار،496:22– 497،باب1

فقال أبو بكر لقنفذ:ارجع فإن خرج إوإلّا فاقتحم عليه بيته،فإن امتنع فاضرم عليهم بيتهم بالنار!!

فانطلق قنفذ الملعون فاقتحم هو وأصحابه بغير إذن،وثار علي (عليه السلام) إلى سيفه فسبقوا إليه وكاثروه،فتناول بعض سيوفهم فكاثروه،فألقوا في عنقه حبلاً،وحالت بينهم وبينه فاطمة(عليها السلام)عند باب البيت فضربها قنفذ الملعون بالسوط،فماتت حين ماتت وإن في عضدها مثل الدملج من ضربته لعنه اللّه.(1)

هكذا عاملوا الزهراء روحي فداها فجعلوها عرضة لسياطهم وصفعاتهم،البضعة التي أوصى بها رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) وقال:فاطمة بضعة منّي من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى اللّه.يرضي اللّه لرضاها،ويغضب لغضبها،وإذا بها تهان وتذل وتتلوى ألما تحت سياطهم وصفعاتهم ولا أحد منهم يرق لحالها.وماتت الزهراء (علیها السلام)وهي ساخطة على الشيخين أبي بكر وعمر،وهذا ما أشارت إليه كتب الجمهور بوضوح.(2)

أرغام علي (علیه السلام)على البيعة لأبي بكر

ولما مروا بعلي (عليه السلام) وهو مكبلاً بالحبال،فرآه أبو ذر،والمقداد وسلمان، فكانت ردود فعلهم متفاوتة حسب درجة صبر و تحمل كل واحد منهم

ص: 53


1- صحيح البخاري في كتاب بدء الخلق،كنزالعمال،6: 220،فیض الغدیر،4: 421، خصائص النسائی،35،مسند أحمد،4: 328،حلية الأولياء،2: 40،صحيح الترمذي،2: 319،مستدرك الصحيحين،3: 158و 159و 153،وكنز العمال،6: 219،میزان الاعتدال،2: 72
2- الإمامة والسياسة،14،مسند أحمد،1: 9،ورواه مسلم في صحيحه في كتاب الجهاد،والبيهقي في سننه،6: 300،التنمة في تواريخ الأئمة،43،ألقاب الرسول وعترته،245

وإيمانه.

فقال أبو ذر بعد أن ضرب بيده على الأخرى:ليت السيوف قد عادت بأيدينا ثانية.

وقال المقداد:لو شاء لدعا عليه ربّه عزّوجلّ.

وقال سلمان:مولاي أعلم بما هو فيه.جاؤوا بعلي (عليه السلام) وحبل الزريق في رقبته والمسلمون ينظرون إليه ولا يحركون ساكنا،ولا ينبسون ببنت شفة من شدة الخوف والذهول.

ولعل بعضهم تساءل:أهذا علي الذي زرع الخوف والرعب في قلوب أعداء اللّه فكانوا يذوبون خوفاً وفزعاً من سماع اسمه قبل أن يلمحون لمعان سيفه البتار!!!

أهذا الذي جندل أشجع فرسان العرب في سوح الوغي،وما تزال إلى الآن أحلاف الشرك والكفر والنفاق تبكي-على قتلاها-الذين بتروا بذي الفقارة دماً..

أهذا الذي قال عنه رسول اللّه يوم برز لعمر ابن ود العامري في واقعة الأحزاب:لقد برز الإيمان كله للكفر كله..

أهذا الذي قلع باب خيبر ومدها جسراً على خندق الكفر والنفاق...

وصرع أشجع شجعان اليهود مرحباً.. .

أهذا الذي أثنا عليه اللّه في كتابه المجيد وأبان فضائله في أكثر من ثلاث مائة آية من آيات الذكر الحكيم!!!

أهذا الذي قال عنه رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) :علي مع الحق،والحق مع علي لا يفترقان حتی یردا عليَّ الحوض...

أهكذا يقاد مكبلاً ذليلاً أمام مسمع ومرآی ممن يزعم أنه من صحابة

ص: 54

رسول اللّه وقد شاهد فيما مضى بطولات علي،وسمع ما جاء بفضله عن رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) ...

ألم يثير هذا المشهد المأساوي في نفوسهم الحمية والغيرة على بطل الإسلام ومركع الطغام،ومحطم الأصنام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وخصوصا عندما يروا زوجته بضعة المصطفى وهي تجري ورائه مذهولة مروعة بالضرب والسياط،ومن خلفها الحسنان يصرخان ويندبان جدهما رسول أين الضمير الإنساني؟؟أين النخوة والغيرة العربية؟؟؟

كيف سمح لجناة القوم ونفايات المجتمع أمثال قنفذ والمغيرة ونظائرهم أن تمتد أياديهم الآثمة لتنال بضعة المصطفى وريحانتيه الحسن والحسين بالضرب والتنكيل، وأن يقودوا نفس رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) مكبلاً بالحبال وبهذه الصورة المروعة. ليت السماء أطبقت على الأرض ولا نسمع بذكر هذه المشاهد المأساوية.

ودخل علي (علیه السلام)مسجد رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) -بتلك الحالة-وهو يقول:أما واللّه لو وقع سيفي بيدي لعلمتم أنكم لن تصلوا إلى هذا منّي،وباللّه لا ألوم نفسي في جهد،ولو كنت في أربعين رجلا لفرقت جماعتكم،فلعن اللّه قوماً بايعوني ثم خذلوني.

قال:فانتره عمر بن الخطّاب فقال له:بایع.

فقال:وإن لم أفعل؟قال:إذا نقتلك ذلاً وصغاراً.

قال:إذن تقتلون عبداللّه وأخا رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) .

فقال أبو بكر:أما عبداللّه فنعم،وأما أخو رسول اللّه فلا نقر لك به.

ص: 55

قال علي (علیه السلام):أتجحدون أن رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) أخي بين نفسه وبيني، فأعادوا عليه ذلك ثلاث مرات ثم أقبل علي (علیه السلام)فقال:

يا معشر المهاجرين والأنصار أنشدكم باللّه،أسمعتم رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) يقول يوم غدیر خم كذا وكذا(1) ،وفي غزوة تبوك كذا وكذا(2)،فلم يدع شيئا قاله فيه (علیه السلام)علانية للعامة إلا ذكره.فقالوا:اللّهم نعم.

فلما خاف أبو بكر أن ينصروه ويمنعونه،بادرهم فقال:كلّ ما قلته قد سمعناه بآذاننا ووعته قلوبنا،ولكن سمعت رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) يقول بعد هذا:إنّا أهل بیت اصطفانا اللّه وأكرمنا واختار لنا الآخرة على الدنيا،وان اللّه لم يكن ليجمع لنا أهل البيت النبوّة والخلافة.

فقال علي (علیه السلام):أما أحد من أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) شهد هذا معك؟فقال عمر: صدق خليفة رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) ،قد سمعنا هذا منه كما قال!!

وقال أبو عبيدة،وسالم مولى أبي حذيفة،ومعاذ بن جبل،صدق،قد سمعنا ذلك من رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) .

فقال علي (علیه السلام):لقد وفيتم بصحيفتكم الملعونة التي[قد]تعاقدتم عليها في الكعبة(3) :إن قتل اللّه محمد أو أماته أن تزووا(4) هذا الأمر عنا أهل البيت.

فقال أبو بكر:وما علمك بذلك؟أطلعناك عليها؟

ص: 56


1- في«ج»و«د»:أسمعتم رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) يقول يوم غدیر خم:من كنت مولاه فعلي مولاه اللّهم وال من والاه،وعاد من عاداه،في غزوة تبوك:يا علي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة؟قال:ولميدع شيئاً
2- في «ج» و «د»: أسمعتم رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) يقول يوم غدیر خم: من كنت مولاه فعلي مولاه اللّهم وال من والاه، وعاد من عاداه، في غزوة تبوك: يا علي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة؟ قال: ولميدع شيئا..
3- مسند سلمان،77- 78،خطى لم يطبع لحد الآن
4- يقال:زوي الشيء زوية،فانزوي:نحاه فتنحي،وزويت الشيء:جمعته وقبضته.لسان العرب،14: 363

قال علي (علیه السلام):یا زبیر ویا سلمان وأنت یا مقداد أذكركم باللّه وبالإسلام،أسمعتم رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) يقول ذلك لي:إن فلاناً وفلاناً-حتی عدّهؤلاء الخمسة-قد كتبوا بينهم كتاباً،وتعاهدوا على ما صنعوا؟

قالوا:اللّهم نعم،قد سمعناه يقول ذلك لك،فقلت له:بأبي أنت وأمي يا نبي اللّه، فما تأمرني أن أفعل إذا كان ذلك؟فقال لك:إن وجدت عليهم أعواناً فجاهدهم ونابذهم،وإن لم تجد أعواناً فبايعهم[واصبر]واحقن دمك.

فقال علي (علیه السلام):أما واللّه لو أن أولئك الأربعين رجلاً الذين بايعوني وفوا لي الجاهدتكم في اللّه واللّه[حق جهاده]،أما واللّه لا ينالها أحد من عقبكم إلى يوم

القيامة.(1)

وعن كيفية بيعة الإمام علي (علیه السلام)لأبي بكر قال صاحب(كتاب التتمة في تواريخ الأئمة):وخرجوا بعليّ يقودونه إلى مجلس أبي بكر إلى أن وصلوا به إليه،ثم عرضوا عليه البيعة له فامتنع،فوضعوا يده قهراً في يد أبي بكر،فضم أصابعه، فأرادوا فتحها فلم يمكنهم.فمسح عليها أبو بكر وهي مضمومة،وقالوا:إنه قد بايع...(2) .

اتهام علي (علیه السلام)بقتل عثمان ومطالبته بدمه

كان الغضب الجماهيري على عثمانقد بلغ ذروته من جراء سوء المعاملة وابتزاز الأموال،وممارسةالعنف،وانعدام العدل،وسوء الإدارة من قبل ولاة أمره الذين سلطهم على رقاب المسلمين،وجعلهم حكام وقضاة،وولاة،وقادة جيش لا لكفائتهم وعلمهم وحسن أخلاقهم،بل لأنهم أقربائه وأبناء جلدته ليس إلّا.

ص: 57


1- الاحتجاج،1: 213- 215
2- التنمية،52،سلیم بن قیس، 36

وعندما كان المسلمون والصحابة الأجلاء يعترضون على تصرفاته وانحيازه التام بجانب ولاته،وسكوته على قبائحهم المخزية من قبيل شرب الخمور وممارسة الفجور، كان عثمان يعرض المعترضين لأقسى العقوبات.

فنفى أبا ذر إلى الربذة ومنع الناس من تودیعه ومساعدته والعطف عليه. فذهب أبو ذر إلى الربذة ليواجه الجوع والمرض والموت البطيء.وبعد فترة قضى نحبه شهيدا في صحراء الربذة مع أفراد أسرته عدا ذر التي عاشت من بعده، وهي التي دلت مالك الأشتر وأصحابه على جثمانه فقاموا بتجهيزه والصلاة عليه ودفنه.

ولما قدّم له عمار بن یاسر عريضة المعترضين على اجراءات مروان ونظرائه التعسفية،فنزل عثمان من على منبر رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) وأخذ يضرب عمار ويشبعه رك بقدميه حتى أحدت فيه فتقا فأغمي عليه وحمل إلى بيت أم سلمة.

أن هذه الممارسات الغير إنسانية التي بدرت من عثمان هي التي أججت سخط الجماهير المسلمة وأحدثت الثورة عليه.وكان الأم المؤمنین عائشة دورة بارزة في تأليب الجماهير عليه،وتأجيج نار الثورة،حيث كانت تنادي بشعارها المعروف(اقتلوا نعثلا فقد كفر).

وحين طوقت الجماهير الثائرة بیت عثمان كان الحسنان يقومان بحراسته ومنع الناس من دخول بيته.

وطالما استنجد عثمان بمعاوية في أثناء فترة الحصار ولكن دون جدوى، لأن معاوية كما يبدو من سياق الأحداث كان راغباً من قتله كي يزيح عن طريق وصوله إلى الخلافة حجراً كبيراً،وإلّا لأنجده وفك الحصار عنه.

وبعد مقتل عثمان ومبايعة علي (علیه السلام)بالخلافة رفع الطرفان عائشة ومعاوية شعار الثأر لعثمان ومطالبة علي (علیه السلام)بدمه.

ص: 58

فقامت عائشة تحت هذا الشعار بأحداث حرب الجمل ضد علي (علیه السلام)، وقام معاوية بأحداث صفين.ويا لهما من حربين قاسيتين التهمتا عشرات الألوف من المسلمين وفي طليعتهم صحابة الرسول الأكرم (صلی اللّه علیه واله) ،وخلفت مئات الألوف من اليتامى والأرامل عاشوا المآّسي والآلام..

فبماذا نفسر هذه الأعمال العدوانية بغير الحقد الدفين،والعداء المقيت العلي وأبنائه الميامين (علیهم السلام).

وصدق رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) حين قال:...وإن أشد قومنا لنا بغضاً بنو أمية،وبنو المغيرة،وبنو مخزوم...(1) ،فلقد كشفت هذه الأحداث المؤلمة عن تحالف هذه الفصائل الثلاث ضد علي وأهل البيت (علیهم السلام)،وأظهرت شدة حقدها وبغضها لها بأجلا المصادیق وأكثرها وضوحاً..

معاوية يمارس سياسة الخداع والتضليل ونقض العهود والمواثيق

مارس معاوية ابن أبي سفيان سياسة المكر والخداع والتضليل ابتداءً من عملية رفع المصاحف على الرماح في صفين حين أيقن بهزيمته اُمام جيش الإمام علي (علیه السلام).

وكان لمكيدته هذه أثر بالغ في شق جيش الإمام (علیه السلام)وخروج أكثر من ثمانية عشر ألف مقاتل عليه يطالبونه بالتحكيم،مما أدى إلى خروج معاوية من الأزمة بسلام،وإضعاف جيش الإمام علي (علیه السلام)بانشقاقه على نفسه ونشوء فرقة الخوارج الذين خاضوا الحرب معه في النهروان وخططوا لاغتياله فيما بعد.

وسن معاوية سنة سيئة وذلك بسب الإمام علي (علیه السلام)في القنوت والبرائة

ص: 59


1- مستدرك الصحیحین،4: 487،كنز العمال،40:6،فضائل الخمسة،3: 351

منه،ومنع الروات من ذكر فضائله،بل جند الكثير من وعاظ السلاطين لتلفيق التهم ضده وتشويه سمعته حتى أنهم نسبوا له تهمة ترك الصلاة.فلما صرعالإمام علي (علیه السلام)في محرابه بمسجد الكوفة استغرب المسلمون وتساءلوا: كيف يقتل في المحراب من لم يكن مصلياً..

واستمرت عملية سب الإمام علي (علیه السلام)على منابر المسلمين أكثر من ثمانين سنة حتى جاء عمر بن عبدالعزيز إلى الخلافة فرفعها وأبطل مفعولها.

وبفضل سياسة المكر والخداع استطاع معاوية أن يفتت جيش الإمام الحسن (علیه السلام)ويفرض عليه صلحا غير عادل،ثم ينقض بنود ذلك الصلح الذي افترضه عليه حين مجيئه إلى الكوفة وصعوده منبرها حيث قال:أما العهود والمواثيق التي أعطيتها للحسن بن علي فها هي تحت قدمي هاتين.ثم أمر الناس أن يصعدوا المنبر ويلعنوا علياً.ثمّ مارس سب الإمام علي (علیه السلام)ولعنه بنفسه من على منبر الكوفة في أثناء خطبته والحسن (علیه السلام)جالساً تحت منبره.

ولما أراد قتل الحسن (علیه السلام)وتمهيد السبيل لخلافة ولده يزيد خدع جعدة بنت الأشعث ومتاها بزوجها من يزيد إن هي قتلت الإمام الحسن (علیه السلام)واعطاها مبلغا من المال،ولكن حينما قتلت الإمام بالسم الذي أرسله إليها لم يفي بعهده في زواجها من يزيد واكتفى باعطائها المال فحسب.

هذه بعض الأمثلة القليلة التي تثبت سیاسته اللاأخلاقية في ممارسة الخداع والتضليل ونقض العهود والتي لا تمت للإسلام بصلة،وقد كشفت هذه السياسة الماكرة النقاب عن مدى الحقد الأموي الدفين لعلي (علیه السلام)و آل البيت (علیهم السلام)،وساهمت بشكل فعال في إضعاف خطهم وتفريق الشيعة وتشتيتهم.

ص: 60

استشهاد الإمام الحسن (علیه السلام)ورمي جنازته بالسهام

استشهد الإمام الحسن (علیه السلام)بالسم الذي أرسله معاوية لجعدة بنت الأشعث، وحُمل نعش الإمام وأراد الهاشميون أن يزوره قبر جده ويجددوا به عهداً،غير أن عائشة ومروان ووالي المدينة من قبل معاوية-سعید بن العاص-قد منعوا دخول النعش إلى مشهد الرسول الأعظم (صلی اللّه علیه واله) ظناً منهم بأن الحسين يريد دفن أخيه بجوار قبر جده رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) .

قالت عائشة-ويومئذ كانت تمتطي بغلاً-:لا تدخلوا بيتي من لا أحب. وقال مروان: أيدفن عثمان في أقصى البقيع ويدفن الحسن عند قبر جده،لا واللّه لا يكون ذلك...ورمی من معه نعش الإمام الحسن (علیه السلام)بسبعين سهمة،وحاول الهاشميون تجريد سيوفهم للرد عليهم،وكادت الفتنة أن تقع لولا تدخل الحسين ومنع وقوعها...(1) .

هكذا كانت سهام حقد الأمويين تلاحق العلويين أحياء وأموات...

خروج الحسین (علیه السلام)و استشهاده في كربلاء

لما هلك معاوية ابن أبي سفيان واستلم الخلافة ابنه يزيد،أرسل والي المدينة في طلب الحسين بن علي ليأخذ منه البيعة ليزيد بناء على طلبه وأمره،لكن الإمام الحسين (علیه السلام)طلب منه أن يمهله إلى الغد وقال ما معناه:إن مثلي لا يبايع سراً...

ص: 61


1- كشف الغمة،1: 585،الخرائج والجرائح،1: 243،مناقب ابن شهرآشوب،4: 45،مقاتل الطالبيين،31، التتمة في تاريخ الأئمة،70- 71

وكان مروان حاضراً فقال للوليد:خذ البيعة منه الآن،فإن فاتك الثعلب فلا ترى إلّا غباره.

وقال أيضا للوليد لما استشاره في أمر الحسين وطلب البيعة منه:مع أني أعلم أن الحسين بن علي لا يجيبك إلى بيعة يزيد،ولا يرى له عليه طاعة،وواللّه لو كنت موضعك لم اراجع الحسين بكلمة واحدة حتى أضرب رقبته،كائناً في ذلك ما كان.

وعظم ذلك على الوليد وهو أحنك بني أمية وأملكهم لعقله ورشده فقال المروان:ياليت الوليد لم يولد ولم يك شيئاً مذكوراً.

فسخر منه مروان وراح يندد به قائلا:لا تجزع مما قلت لك،فإن آل أبي تراب هم الأعداء من قديم الدهر ولم يزالوا،وهم الذين قتلوا الخليفة عثمان بن عقان،ثم ساروا إلى أمير المؤمنین-یعني معاوية-فحاربوه...

ونهره الولید بن عتبة فقال له:ويحك يا مروان،اعرض عن كلامك هذا،وأحسن القول في ابن فاطمة فإنه من بقية النبوّة.(1)

ولما علم مروان برفض الحسين للبيعة،قال للوليد:لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه،أحبسه فإن بایع وإلّا ضربت عنقه.

ووثب أبي الظيم إلى الوزغ ابن الوزغ فقال له:يا ابن الزرقاء أأنت تقتلني أم هو؟كذبت واللّه ولؤمت.وأقبل على الوليد،فأخبره عن عزمه وتصميمه على رفض البيعة ليزيد قائلا:أيها الأمير!إنا أهل بيت النبوة،ومعدن الرسالة،ومختلف الملائكة،ومحل الرحمة،بنا فتح اللّه،وبنا ختم،ويزيد رجل فاسق،شارب خمر،

ص: 62


1- الفتوح،12:5- 13،وأنظر كتاب(حياة الحسين)،2: 250- 251

قاتل النفس المحرمة،معلن بالفسق،ومثلي لا يبايع مثله،ولكن نصبحوتصبحون، وننظر، وتنظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة.(1)

والغرض من هذا الاستطراد الموجز لمقدمة الثورة الحسينية هو اظهار حقد مروان والبيت الأموي لآل البيت (علیهم السلام)على حقيقته،ولا غرابة في ذلك لأن مروان والأمويون يثأرون لقتلاهم في بدر وأحد،تلك الرؤوس العفنة التي حصدها سيف الإمام علي (علیه السلام)بجدارة واقتدار.

وان ما يزيد في حقد مروان على الحسين (علیه السلام)والبيت النبوي هو نفي الرسول الأكرم (صلی اللّه علیه واله) لأباه عن المدينة المنورة ولعنه ولعن من تناسل منه.

وبعد هذا الاستطراد نعود إلى صلب الموضوع ثانية لنتابع حركة الحسين بعد رفضه البيعة ليزيد.

خرج الحسين (علیه السلام)في الليلة الثانية بأخوته وأهل بيته من المدينة المنورة قاصد مكة المكرمة،وحال وصوله إليها علم بأن الأمويين عازمون على قتله حتى إذا كان معلقا بأستار الكعبة.لذا بادر إلى الخروج منها قبل أن يكمل حجه وتوجه إلى العراق لئلا يكون السبب في هتك حرمة الكعبة المكرمة بسفك دمه فيها. وفي أثناء مسيره إلى كربلاء سمع بخبر استشهاد ابن عمه مسلم بن عقیل الذي سبق أن أرسله الحسین (علیه السلام)لأخذ البيعة له من أهل الكوفة.

ولسنا الآن بصدد دراسة أسباب فشل حركة مسلم وما ترتب عليها من نتائج، وإنما نريد أن نسلط الأضواء على الحقد الأموي الذي جسد أبشع الجرائم وأكثرها وحشية.فحالما ظفر عبیداللّه بن زیاد بمسلم بن عقیل،أمر بكر بن

ص: 63


1- تاریخ ابن الأثير،3: 265،الفتوح،18:5،حياة الحسن،2: 255

حمران بأن يصعد به إلى أعلى القصر ليضرب عنقه ويرمي بجثمانه الشریف، ويأتي برأسه...(1) .

ورمي الجثمان من أعلى القصر وربط الحاقدون الحبال برجليه وسحبوه في الأسواق والطرقات لغرض زرع الخوف والرعب في نفوس الموالين له.فكان أول شهید مثل بجسمه هذا التمثيل البشع الذي لم يسبق له نظير.

ان سماع الحسين (علیه السلام)بخبر استشهاد مسلم بتلك الصورة المأساوية وان آثار الحزن والأسى في نفسه إلا أنه لم يعيق حركة سيره نحو الهدف،بل أجدّ السير ليل نهار حتى وصل كربلاء في الثاني من المحرم عام61للّهجرة.

وفي اليوم العاشر من المحرم وقعت المعركة الدامية بين الإسلام الأصيل المتجسد بسيد شباب أهل الجنة وأخوته وأصحابه الأبرار وبين النفاق المتبرقع بالإسلام، أو بين الرسول الأكرم (صلی اللّه علیه واله) وصحبه الأخيار المتمثل بذريته وأهل بيته وعلى رأسهم الحسين بن علي (علیه السلام)،وبين أبي سفيان وأبي لهب المتمثل بیزید وصحبه الأشرار،وعادت المواجهة الشرسة بين الإسلام وأعدائه تتجلى بأبشع صورها على صعيد كربلاء لتعيد إلى الذاكرة صور الصراع الدامي الذي ذهب ضحيته عشرات الآلاف من كلا الطرفين.

وقبل شروع المعركة وقف الحسين (علیه السلام)أمام جيش الشرك والنفاق ليعلمهم بأنهم عازمون على قتل سبط الرسول الأكرم (صلی اللّه علیه واله) والذرية الطهارة من أهل البيت التي طالما أوصى بها في محافلهمواجتماعاتهم السالفة وقال:إني مخلف فيكم الثقلين كتاب اللّه وعتري أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي... ثم ذكرهم بأية المودة في القربى وأثبت لهم بأدلة مادية بأنه هو ابن رسول اللّه

ص: 64


1- تاريخ الطبري،6: 213، مروج الذهب،3: 9،والفتوح،5: 103،مقاتل الطالبيين:70-72

وسبطه وريحانته ووارثه حيث كان يمتطي فرسه،ويرتدي جبته وعمامته، ويتقلد سیفه.فأقروا له بذلك وصدّقوا جميع أقواله..فقال لهم:إذن لماذا عزمتم على قتلي وقتل آل بيتي وأصحابي الأبرار؟أتطلبوني بدم سفكته أم بسنة غیرتها،أم لبدعة أحدثتها..

فقالوا له:نقتلك بغضاً لأبيك،وبذا كشفوا حقيقة نواياهم الخبيثة،ومقاصدهم السيئة،ونزعاتهم الجاهلية،وتعصبهم القبلي،وأثبتوا بصورة عملية بأن الإسلام لم يحدث فيهم أي تغير،فلازالت رواسب الجاهلية وعاداتها المقية راسية في أعماق نفوسهم،وأنهم سيقتلون الحسين بن علي بن أبي طالب(عليهما السلام)عن عمد وسبق إصرار..

ودارت المعركة الحاسمة بين الحق والباطل وماهي إلّا ساعات قلائل حتى صرّع جميع أخوة الحسين وأبنائه وأبناء عمومته وصحبه الكرام،فسقطوا جميعاً مجزرين على صعيد كربلاء يسبحون بفيض من الدماء الزاكية.

ولا يفوتنا أن نشير إلى أن العدو قد منع وصول الماء إلى خيام الحسين (علیه السلام)منذ ثلاثة أيام،وان عيال الحسين (علیه السلام)وأطفاله وأخوته وأبناءه وصحبه باتوا ليلة العاشر من المحرم عطاشی،فلما بقي الحسين وحيداً فريداً لا ناصر له ولا معين جاؤوا له بطفل يكاد الظمأ أن يؤدي بحياته،فجاء به إلى القوم ليستسقي له ماءاً،فقال لهم:إن كان ذنب للكبار فما ذنب الصغار،واستسقى له ماء فأبوا أنيسقوه ماء، فقال:خذوه واسقوه ماءا إن خشيتم أن أشرب منه شيئاً.فكان جوابهم أن رموا طفله بسهم محدد ذبحه من الوريد إلى الوريد.يا لها من قلوب قاسية تذكرنا بقساوة هند وأحفادها..

أنظر كيف زرع الأمويون الحقد في نفوس أتباعهم لأهل البيت (عليهم السلام) بحيث لم يعد في نظرهم يمتاز الصغير عن الكبير،والمذنب عن غيره

ص: 65

بشيء.بل الكل محكوم عليه بالموت والفناء.

ففي تلك اللحظات الحرجة والحر الشديد برز الحسين (عليه السلام) لقتال القوم وقلبه يستعر نارا من شدة الظمأ،فقاتلهم قتالا شديدة ثم سقط شهيداً. وقبل أن يلفظ أنفاسه استسقاهم الماء فأبوا أن يسقوه وهو مشرف على الموت فمات ظمأناً..

وحز القوم رأسه،وسلبوا ملابسه وتركوه وأصحابه عراة مضمخين بدماءهم فوق الرمال الملتهبة من شدة حرارة الشمس..ثم داست الخيل أجسادهم الطاهرة وطحنت أضلاعهم بحوافرها..

وبفعلهم هذا لم يذبحوا الحسين وصحبه،بل ذبحوا رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) والإسلام على مذبح المصالح والأطماع الشخصية بسيوف جاهلية مفعمة بالحقد والتعصب القبلي المقيت..

ولم يكتفوا بذلك،بل راح مناديهم ينادي:أحرقوا بيوت الظالمين ولا تبقوا الأهل هذا البيت من باقية،فهجم القوم على خيام الحسين (علیه السلام)وعیالاته،فأحرقوا خيامه،وسلبوا نساءه،وسحقوا أطفاله بحوافر خيولهم،وفعلوا ما لم تفعله اليهود بأعدائها..

ودفن القوم قتلاهم وتركوا الحسين وأصحابه بلا دفن و تكفین.

ولم ينتهي الحقد الأموي عند هذا الحد،ولم تشفي دماء الضحايا غليلهم، بل راحت سیاطهم المسعورة تلهب ظهور اليتاما والأرامل نارة وذهب موكب السبايا المؤلف من النساء والأطفال وهم مربطون بالحبال،

والإمام زين العابدین وسید الساجدين قد وضعوا الجامعة في عنقه وربطوه إلى بطن الناقة بالأغلال لأنه كان عليه لا يقوى على الجلوس.

وطافوا بعقائل بيت النبوّة ويتام الإمام الحسين في شوارع الكوفة وهم

ص: 66

بأرث حال وفي أجواء مشحونة بالحقد والكراهية لأهل البيت (علیهم السلام).

ودخلوا مجلس الطاغية عبيد اللّه بن زیاد على تلك الحال ولا أحد يرق الحالهم، وأخذ الطاغية يتبجح بنصره أمام مجموعة من الثكالى واليتاما ويشتم الحسين وأباه ويعرب عن شماتته بعقيلة الهاشميين ويحاول اذلالها وأهانتها في مجلسهأمام حثالات البشر،ولما وبخته وردت أقواله المشينة تناول سوطاً وأراد أن يضربها به لولا منعه من قبل أحد جلسائه حيث قال له:أنها امرأة ولا تؤاخذ على شيء من أقوالها.

يا للجبن والخسة والدناءة،حقاً أنهم أشباه رجال وليسوا برجال،لأنهم افتقدوا كل معاني الرجولة وسماتها،كالعفة والغيرة والشهامة،واستهانوا بالمرأة-التي كرمها الإسلام ورفع شأنها إلى هذا الحد بحيث لا تؤاخذ على شيء من أقوالها حتى إذا كانت عقيلة الطالبيين وابنة خير المسلمين بعد رسول اللّه، أمير المؤمنين وخليفة المسلمين،وأمها سيدة نساء العالمين.إذا كان الأوغاد وأبناء البغايا هكذا يعاملون النساء والأسرى من آل الرسول والذرية الطيبة فكيف كانوا يعاملون الأخريات من غير آل البيت..

أن القوم أبناء القوم،ونظرة الاحتقار والاستخفاف بالمرأة هذه امتداد لنظرة الآباء لها، الذين كانوا يأدونها ويعتبرونها جزءا من ممتلكاتهم كالأنعام والبهائم..

أنسينا كيف عامل أبو لهب وأبو جهل وأبو سفیان سمية أم عمار بن یاسر حيث أشرفوا على تعذيبها تحت وهج الشمس المحرقة وعلى رمال الصحراء المستعرة حتى الموت؟

أنسينا معاملة معاوية ابن أبي سفيان القاسية مع جملة من النساء الخيرات منهن زوجة عمر بن الحمق الخزاعي.وكان يزيد خير من جسد سياسة أبيه مع عقائل آل الرسول (صلی اللّه علیه واله) في مجلسه بالشام حيث أكال لهن الشتم والسباب،

ص: 67

وأوغل في أذلالهن وأمتهانهن،وأجج نار الحزن والأسى في قلوبهن عندما تناول سوطه وأخذ يضرب به ثنايا أبي عبداللّه (علیه السلام)أمامهن.وبعد انتهاء مجلسهأنزلهن في خرابة مكشوفة حيث تلفح وجوههن حرارة الشمس ورياح الصيف العاتية.. هل هناك عداء وكراهية وقسوة أشد من هذه؟؟؟

ولو سئلنا یزید نفسه عن سبب عدائه وحقده وكراهيته لأهل البيت فيجيبنا

مترنماً بأبيات الشعر التالية:

ليت أشياخي بیدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

الأهلوا واستهلوا فرحاً

ثم قالوا:يا يزيد لا تشل

قد قتلنا القرم من ساداتهم

وعدلناه ببدر فاعتدل

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

ليست من خندف إن لم

أنتقم من بني أحمد ما كان فعل(1)

لقد أبان بصراحة سبب حقده وكراهيته لأهل البيت (علیهم السلام):وهو الانتقام والثأر لقتلاه في بدر،هذه هي الحقيقة التي لم يجرء غير يزيد التصريح بها،ثم

ص: 68


1- مصادر البحث: أنساب الأشراف، ق 1، ج 1، التأريخ السياسي للدول العربية، 2: 75، مقتل الحسین للمقرم، 367، تاريخ المظفري، 230، شرح شافية أبي فراس، سير أعلام النبلاء، 3: 209، الصراط السوي في مناقب آل النبي، 90، اللّهوف، 76، تاريخ الطبري، 1 : 191، مناقب ابن شهر آشوب، 4 : 111، تاریخ ابن كثیر، 8: 189، مقتل الخوارزمی، 2: 39، تاریخ دول الإسلام، 1: 57، وجاء فيه: أن الجيش حمل جثة " الإمام العظيم إلى ابن سعد فأمر الخبيث أن تدوس الخیل صدر الإمام وظهره. أمالي الطوسی، 191:1 ، مخطوط، مرآة الزمان في تواريخ الأعيان، 97، تاريخ الطبري، 6 : 293، المنتظم، 5: 98، عيون الأخبار الابن قتيبة، 2: 197، وفيات الأعيان، 5: 390، تاریخ ابن الأثير، 3: 298، تاريخ اليعقوبي، 2: 222، تاريخ الإسلام للذهبي، 2: 351، تاريخ القضاعي، 70، المعجم الكبير للطبراني، 1:160، صبح الأعشی، : 97، تهذيب التهذيب، 1: 157، تذكرة الخواص، 69، الفصول المهمة، 182، الإرشاد، 279، اعلام النساء، 1: 506، البداية والنهاية، 8: 192 وكثير غيرهم.

كشف النقاب عن كفره وعدم إيمانه بالإسلام بصراحة متناهية حيث قال:

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

ألا تعسة لأولئك الذين يؤمنون بخلافة هذا الوغد الكافر الحاقد الفاسق الفاجر...

ونطوي بذا صفحة العداء الأموي لأهل البيت (علیهم السلام)،انتقل إلى بيان عداء العباسييّن لهم عبر تاريخ طويل اتسم بالعدوان والقساوة المنقطعة النظير..

العداء العباسي لأهل البيت (علیهم السلام)

وسقط الحكم الأموي في سنة132على يد أبي مسلم الخراساني وأبو العباس السفاح(1) ،وبدأ دور الخلافة العباسيّة.

وظن الناس أن انفراجاً سياسياً سيحصل بمجيء دولة بني العباس،وستخف وطئة الحقد والبغض لأهل البيت (علیهم السلام)،لا سيما أن العباسيين استطاعوا أن يسقطوا الدولة الأموية بشعار الرضا من آل محمد (علیهم السلام)،وبشعار یالثارات الحسين (علیه السلام)..

ولكن خاب ظن الناس،فازداد الحقد لأهل البيت (علیهم السلام)واشتدت الهجمة الوحشية الشرسة عليهم أكثر من ذي قبل، وثبت للجميع ان تلك الشعارات رفعت لغرض تضليل الجماهير الموالية لآل محمد (صلی اللّه علیه واله) واكتساب ودها كييتمكنوا بذلك الدعم الجماهيري القوي من اسقاط الدولة الأموية..

ص: 69


1- لقب بالسفاح لكثرة القتل وسفح الدماء،واسمه عبداللّه بن محمد بن علي بن عبداللّه بن العباس.أنظر مروج الذهب،3: 251،تاريخ اليعقوبي،2: 89،إعلام الوری،272،التتمة في تاريخ الأئمة

فبدلاً من أن يعطف العباسيون على أبناء عمومتهم العلويين، ويزيحوا عن جباههم آثار النوائب والمآسي الماضية،ويخففوا من شدة أحزانهم وآلامهم، نراهم راحوا يكيدون المكائد لهم،ويعزموا على إتمام الدور الأموي باستئصال شافتهم، واقتلاع جذورهم من سطح الأرض.فأكثروا في صفوفهم القتل ووضعوا الكثير منهم في أسس الأبنية والاسطوانات الضخمة التي أشادوا عليها قصورهم ومساجدهم ودوائر قضائهم الجائرة وملئوا منهم السجون المظلمة، والدهاليز الداكنة الكتيبة التي لا يمتاز فيها الليل من النهار،وشر دوهم شر تشريد حتى ان البعض من العلوليين وصلوا إلى أقصی نقاط العالم فرارا من الارهاب والبطش العباسي.

ولنذكر الآن لك عزيزي القارئ لمحات من شرر الحقد العباسي البغيض لآل محمد (صلی اللّه علیه واله) .فبعد وفاة أبي العباس السفاح استلم زمام الخلافة أبو جعفر المنصور الملقّب بالدوانیقي وهو أخوه،وحصل ذلك في سنة ست وثلاثين ومائة.(1)

وكان المنصور شديد البغض والعداوة للصادق (علیه السلام)،وروي أنه استدعاه مرات متعددة يريد قتله.(2)

منها:ما رواه ابن طاووس في مهج الدعوات عن الربيع،قال:حججت مع أبي جعفر المنصور،فلما صرت في بعض الطريق قال لي المنصور:یا ربيع إذا نزلت المدينة فاذكرني جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي(عليهم السلام)فواللّه العظيم لا يقتله أحد غيري،إحذر أن تدع أن تذكرني به،قال:فلما صرنا إلى المدينة أنساني اللّه عز وجل ذكره،فلما صرنا إلى مكة قال لي:يا ربيع

ص: 70


1- مروج الذهب،3: 251،تاريخ اليعقوبي،2: 89،إعلام الوری،272،التنمية في تواريخ الأئمة،100
2- مروج الذهب،3: 251،تاريخ اليعقوبي،2: 89،إعلام الوری،272،التنمية في تواريخ الأئمة،100

ألم آمرك أن تذكرني بجعفر بن محمد إذا دخلنا المدينة،قال:فقلت:نسیت یا مولاي يا أمير المؤمنين،فقال لي:فإذا رجعنا إلى المدينة فذكرني به فلابدّ من قتله،فإن لم تفعل لأضربنّ عنقك.قال:فقلت له:نعم يا أمير المؤمنين،ثم قلت لأصحابي وغلماني:ذكّروني بجعفر بن محمد إذا دخلنا المدينة إن شاء اللّه، قال:فلم يزل أصحابي وغلماني يذكروني به في كل منزل ندخله وننزل فيه حتی قدمنا المدينة،فلما نزلنا المدينة دخلت إلى المنصور فوقفت بين يديه وقلت:يا أمير المؤمنین!جعفر بن محمد،قال:فضحك وقال لي:نعم،إذهب یا ربيع فأتني به،ولا تأتني به إلاّ مسحوباً،قال:فقلت له:يا مولاي حباً وكرامة،وأنا أفعل ذلك طاعة لأمرك.

قال:ثم نهضت وأنا في حال عظيم من ارتكابي ذلك،قال:فأتيت الإمام الصادق جعفر بن محمد(عليهما السلام)وهو جالس في وسط داره،ثم نهض وهو معي يمشي،قال:فقلت له:يا ابن رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) إنه أمرني ألا آتيه بك إلا مسحوباً.قال:فقال الصادق (علیه السلام):امتثل یا ربيع ما آمرك به.قال الربيع:فأخذت بطرف كمه أسوقه،فلما أدخلته عليه وهو جالس على سريره وفي يده عمود من حديد يريد أن يقتله به،ونظرت إلى جعفر بن محمد يحرك شفتيه فلم أشك أنه قاتله..ويبدو من سياق القصة إن الإمام نجی من كيد المنصور بفضل دعائه...(1) .

ومنها:وقد استدعاه بها المنصور إلى بغداد قبل قتل محمد وإبراهيم ابني عبداللّه بن الحسن(2)،روى ذلك الشريف رضي الدين بسنده عن محمد بن الربيع الحاجب،قال:قعد المنصور يوما في قصره بالقبة الخضراء،وكانت قبل قتل

ص: 71


1- الإمام الصادق،1: 97– 98
2- كان قتلهما عام145،وانتقال المنصور إلى بغداد عام146،فلا وجه لأن يكون استدعاءه إلى بغداد قبل قتلهما،فإما أن يكون إلى الكوفة والغلط من النساخ،أو الراوي،أو الاستدعاء بعد قتلهما،الإمام الصادق،1: 103

محمد وإبراهيم تدعي الحمراء،وكان له يوم يقعد فيه ويسمى ذلك اليوم يوم الذبح،وقد كان أشخص جعفر بن محمد من المدينة،فلم يزل في الحمراء نهاره كلهحتى جاء الليل ومضى أكثره قال:ثم دعا الربيع فقال له:يا ربيع إنك تعرف موضعك مني وأنه يكون بي الخير ولا تظهر عليه أمهات الأولاد وتكون أتت المعالج له،قال:قلت:يا أمير المؤمنين ذلك فضل اللّه علي وفضل أمير المؤمنین وما فوقي في النصح غاية،قال:كذلك أنت سر الساعة إلى جعفر بن محمد بن فاطمة فأتني به على الحال التي تجده فيها لا تغير شيئاً ممّا عليه،فقلت:إنا للّه وإنا إليه راجعون،هذا واللّه هو العطب،إن أتيت به على ما أراه من غضبه قتله وذهبت الآخرة،وإن لم أذهب في أمره قتلني وقتل نسل،وأخذ أموالي فمیزت بين الدنيا والآخرة فمالت نفسي إلى الدنيا،قال محمد بن الربيع: فدعاني أبي وكنت أفظ ولده وأغلظهم قلبة،فقال لي:إمض إلى جعفر بن محمد فتسلق عليه حائطه ولا تستفتح عليه بابه فيغير بعض ما هو عليه ولكن انزل عليه نزلا،فأت به على الحال التي هو فيها،قال:فأتيته وقد ذهب الليل إلا أقله،فأمرت بنصب السلالم وتسلقت عليه الحائط ونزلت داره فوجدته قائم يصلي وعليه قميص..

-إلى أن قال:ثم أدخلته فوقف بين يديه،فلما نظر إليه قال:وأنت یا جعفر ما تدع حسدك وبغيك وفسادك على أهل هذا البيت من بني العباس وما يزيك اللّه بذلك إلا شدة حسد ونكد،ما تبلغ به ما تقدره-وكان الإمام (علیه السلام)حافية حاسرة حين وقف بين يديه وهو شيخ كبير السن قد تجاوز عمره السبعين عاماً.فقال اله:واللّه يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئاً من ذلك،هذا ولقد كنت في ولاية بني أمية وأنت تعلم أنهم أعدى الخلق لنا ولكم، وأنهم لا حق لهم في هذا الأمر، فواللّه ما بغيت عليهم،ولا بلغهم عنّي مع جفائهم الذي كان لي،وكيف يا أمير المؤمنین أصنع الآن هذا وأنت ابن عمي وأمس الخلق بي رحمة،وأكثرهم عطاء وبراً،

ص: 72

فكيف أفعل هذا،فأطرق المنصورساعة،وكان على لبد(1) وعن يساره مرفقة خز معانيّة(2) ،وتحت لبده سيف ذو فقار كان لا يفارقه إذا قعد في القبة،فقال:أبطلت وأثمت،ثم رفع ثني الوسادة فأخرج منها إضبارة كتب فرمی بها إليه،وقال:هذه كتبك إلى أهل خراسان تدعوهم إلى نقض بيعتي وأن يبايعوك دوني،فقال: واللّه يا أمير المؤمنين ما فعلت،ولا أستحق ذلك،ولا هو من مذهبي،وإني ممن يعتقد طاعتك في كل حال،وقد بلغت من السن ما قد أضعفني عن ذلك لو أردته،فصيّرني في بعض حبوسك حتى يأتيني الموت فهو متي قريب،فقال:لا ولا كرامة،ثم أطرق وضرب يده على السيف فسل منه مقدار شبر وأخذ بقبضة فقلت:إنا للّه ذهب واللّه الرجل،ثم رد السيف وقال:يا جعفر أما تستحي مع هذه الشيبة،ومع هذا النسب أن تنطق بالباطل،وتشق عصى المسلمين،تريد أن تریق الدماء،وتطرح الفتنة بين الرعية والأولياء،فقال:لا واللّه يا أمير المؤمنين ما فعلت ولا هذه كتبي ولا خطي ولا خاتمي،فانتضی من السيف ذراعا،فقلت:إنا للّه مضى الرجل إلى آخره.ثم سلم الإمام منه في هذه المرة أيضا حيث قال له بعد العتاب:أظنك صادقاً.(3)

ومنها:ذكر الشريف أبوالقاسم في المرة السابعة رواية عن محمد بن عبداللّه الأسكندري،وانه كان من ندماء المنصور وخواصه،قول محمد:دخلت عليه يوما فرأيته مغتمة وهو ينفس نفساً بارداً،فقلت:ما هذه الفكرة يا أمير المؤمنین، فقال لي:يا محمد هلك من أولاد فاطمة مقدار مائة أو يزيدون،وقد بقي سيدهم وإمامهم،فقلت له:من ذلك؟قال:جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام).

ص: 73


1- لعله بساط من صوف
2- ظاهر في النسبة إلى معان
3- الإمام الصادق،1: 103- 108

فقلت:يا أمير المؤمنين إنه رجل أنحلته العبادة،واشتغل باللّه عن طلب الملك والخلافة،فقال:يا محمد لقد علمت أنك تقول به وبإمامته ولكن الملك عقیم، وقد آليت على نفسي ألّا أمسي عشیّتي هذه أو أفرع منه(1)... .

وفي هذه المرة سلم الصادق أيضاً بفضل دعاءه وأعجازه،ولكن المنصور لم يهدء له بال حتى اغتال الإمام الصادق في سنة148للّهجرة بالسمّ على يد عامله بالمدينة بعد أن قتل المئات من العلويين،ومضى الإمام مسموماً مظلوماً(2) ....

والذين قتلهم المنصور في عهده غير الإمام الصادق (علیه السلام)هم:عبداللّه بن الحسن بن الحسن ابن علي بن أبي طالب (علیه السلام)وقتل في محبسه بالهاشمية وهو ابن خمس وسبعين،سنة خمس وأربعين ومائة،وتوفي الحسن بن الحسن بن الحسن في محبسه بالهاشمية في ذي القعدة سنة145ه وهو ابن ثمان وستين سنة،وتوفي إبراهيم بن الحسن بن الحسن في الحبس بالهاشمية في ربيع الأول145ه،وهو أول من توفي منهم في الحبس وهو ابن سبع وستين سنة،وعلي بن الحسن بن الحسن وحبس معه في حبس الهاشمية سبعة من بني عمومته معه ثم قطعوا الماء والغذاء عنهم،فلما فتحوا الباب وجدوهم موتی ماعدا واحد كان فيه رمق فسقوه الماء فعاش،وفي خبر أن أبا جعفر المنصور حبسهم في محبس ستين ليلة ما يدرون بالليل ولا بالنهار ولا يعرفون وقت الصلاة إلا تسبيح علي

ص: 74


1- أحسب أن هذه القصة كانت بعد قتل محمد وإبراهيم لأن الحرب بالمدينة وبباخمري، والسجون في الهاشمية أهلكت العدد الكثير من العلويين هذا سوىمن قتله صبراً، ولعل إرساله علیه كان إلى بغداد أيضا، الإمام الصادق، 1: 111.
2- الإمام الصادق، 2: 102، نقلا عن إسعاف الراغبين، ونور الأبصار، وتذكرة الخواص، والصواعق المحرقة، والمصباح، مهج الدعوات: 198 - 202، الخرائج والجرائح، 2: 56/647

بن الحسن وتوفي علي بن الحسن وهو ابن خمس وأربعين سنة لسبع بقين من المحرم146ه،وعبداللّه بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (علیه السلام)،توفي145ه،وهو ابن45سنة،والعباس بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (علیه السلام)وتوفي سنة145ه في الحبس وهو ابن35،لسبع بقين من شهر رمضان،وإسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن أبي طالب (علیه السلام)،ومحمد بن إبراهيم بن الحسن قال له المنصور:أنت دیباج الأصفر؟قال:نعم.قال:أما واللّه لأقتلنك قتلة ما قتلها أحد من أهل بيتك.ثم أمر باسطوانة مبنية ففرقت،ثم أدخل فيها فبنيت عليه،وهو حي،وعلي بن محمد بن عبداللّه بن الحسن ابن الحسن بن علي (علیه السلام)،وأتي أبو جعفر بعلي فحبسه مع أهله فمات معهم،وقد قيل:إنه بقي في الحبس فمات في أيام المهدي،والصحيح أنه توفي في أيام أبي جعفر، ومحمد بن عبداللّه بن عمرو بن عثمان بن عفان،وعبداللّه بن الحسن بن الحسن وأهله وحبسهم بسبب محمد بن عبداللّه ومقتل من قتل منهم، وذكر محمد بن علي بن حمزة أنه سمع من يذكر أن يعقوب وإسحاق ومحمد أو إبراهيم بني الحسن قتلوا في الحبس بضروب من القتل وان إبراهيم بن الحسن دفن حية،ومحمد بن عبداللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (علیه السلام)،وكان علماء آل أبي طالب يرون فيه أنه النفس الزكية،وانه المقتول بأحجار الزيت،وكان من أفضل أهل بيته، وأكبر أهل زمانه في زمانه في علمه بكتاب اللّه،وحفظه له،وفقهه في الدين،وشجاعته وجوده وبأسه.(1)

وممن قتل غير محمد بن عبداللّه مع من خرج معه في زمن المهدي العباسي:الحسن بن معاوية بن عبداللّه بن جعفر بن أبي طالب،وقد آتاه نعي أخيه

ص: 75


1- مقاتل الطالبيين،121- 160

یزید بن معاوية حيث قتله المنصور،وفي خبر أنه خرج مع محمد بن عبداللّه، واستعمل الحسن بن معاوية على مكة،فلما قتل محمد بن عبداللّه أخذه أبو جعفر فضربه بالسوط وحبسه،فلم يزل في الحبس حتى مات أبو جعفر، فاطلقه المهدي.(1)

وعبداللّه بن الأشتر بن محمد بن عبداللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب،كان عبداللّه بن محمد بن مسعدة المعلم أخرجه بعد قتل أبيه إلى بلد الهند فقتل بها،ووجه برأسه إلى أبي جعفر المنصور.(2)

وإبراهيم بن عبداللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وبعد أن فشلت حركته وقتل،قتل معه بشير الرجال،ومحمد بن عبداللّه وهو أخيه.(3)

وشهد مع إبراهيم بن عبداللّه من أصحاب زید بن علي ثلاث نفر:سلام بن أبي واصل الحذاء،وحمزة بن عطاء البرقي،وخليفة بن حسان الكيال،وكان أفرس الناس.وخرج معه عبداللّه بن جعفر المدائني،وولي إبراهيم بن عبداللّه هارون بن سعد واسطاً وضم إليه جيشاً كثيفاً من الزيدية فأخذها وتبعه الخلق ولم يتخلف أحد من الفهقاء،وكان ممن تبعه عواد بن العوام،وزيد بن هارون،و هشيم،وكان موقف هشيم في حروبه مشهوراً،وقتل ابنه معاوية وأخبره الحجاج بن بشير في بعض الوقائع.(4)

وحمزة بن إسحاق بن علي بن عبداللّه بن جعفر بن أبي طالب،وجد عليه أبو عفر فأقامه للناس،وحبسه فمات في حبسه(رحمه اللّه).(5)

ص: 76


1- مقاتل الطالبيين،201
2- مقاتل الطالبيين،206
3- مقاتل الطالبيين،210- 234
4- مقاتل الطالبيين،237- 239
5- مقاتل الطالبيين،266

وعلي بن العباس بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (علیهم السلام)،وكان قدم بغداد ودعا إلى نفسه(سرا)فاستجاب له جماعة من الزيدية وبلغ المهدي خبره فأخذه،فلم يزل في حبسه حتى قدم الحسين بن علي صاحب فخ فكلمه فيه واستوهبه منه فوهبه له.

فلما أراد اخراجه من حبسه،دس إليه شربة سم فعملت فيه،فلم يزل ينتقض عليه في الأيام حتى المدينة فتفسخ لحمه وتباينت أعضاؤه فمات بعد دخوله المدينة بثلاثة أيام.(1)

ذكر من قتل مع الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (علیهم السلام)منهم سليمان بن عبداللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (علیهم السلام)،والحسن بن محمد بن عبداللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (علیهم السلام)ضربت عنقه صبرة بعد وقعة فخ،وعبداللّه بن إسحاق بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (علیهم السلام)وهو الذي يقال له الجدي قتل فيالواقعة.(2)

قاتل الحسین صاحب فخ بجيشه جيش موسى الهادي حتى قتل مع أصحابه، ثم صودر ما له وجعل من الصوافي.وحملت الرؤوس إلى موسی والعباس، وعندهم جماعة من ولد الحسين والحسين،فلم يتكلم أحد منهم بشيء إلا موسی بن جعفر فقال له:هذا رأس الحسين،قال:نعم إنا للّه وإنا إليه راجعون، مضي واللّه مسلمة صالحة صواما قوام آمر بالمعروف،ناهية عن المنكر،ما كان في أهل بيته مثله.

وحملت الأسرى إلى موسى الهادي،وفيهم العذافر الصيرفي،وعلي بن سابق القلانسي،ورجل من ولد الصاحب بن زارة،فأمر بهم فضربت أعناقهم

ص: 77


1- مقاتل الطالبيين،267
2- مقاتل الطالبيين،280- 289

صبراً.(1)

ونذكر فيما يلي من خرج مع الحسین صاحب فخ وقتله الرشيد منهم يحيى بن عبداللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (علیهم السلام)قتل في حبسه مسمومة،قتله هارون الرشید بعد أن منحه الأمان.وقال إدريس بن محمد بن یحیی بن عبداللّه:قتل جدي بالجوع والعطش في الحبس.(2)

وممن خرج مع يحيى إدريس بن عبداللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (علیهم السلام).قتله بالسم سلیمان بن جرير حيث أهدى إليه سمكة مشوية مسمومة،وعبداللّه بن الحسن بن علي بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (علیهم السلام)قدمه جعفر بن يحيى فضرب عنقه وغسل رأسه وجعله في منديل، وأهداه إلىالرشيد،ومحمد بن يحيى بن عبداللّه بن الحسن مات في حبس الرشید،والحسين بن عبداللّه بن إسماعيل بن عبداللّه بن جعفر بن أبي طالب (علیهم السلام)قتله والي الرشيد على المدينة بضرب السوط،والعباس بن محمد بن عبداللّه بن علي بن الحسين بن أبي طالب (علیهم السلام)قتله الرشيد بعمود من حديد.(3)

وتوج الرشید جرائمه الوحشية بقتل سيد العلويين وإمام المسلمین موسی بن جعفر،لما حج هارون الرشید فبدأ بقبر النبي (صلی اللّه علیه واله) فقال:يا رسول اللّه إني أعتذر إليك من شيء أريد أن أفعله،أريد أن أحبس موسی بن جعفر،فإنه يريد التشتت بين أمتك وسفك دمائها.

أنظر إلى هذا الغبي الذي أعمى الحقد بصيرته فلم يعي ما يقول،يريد من رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) أن يعذره على حبس ابنه وتعذيبه وقتله بالسم في نهاية المطاف

ص: 78


1- مقاتل الطالبيين،300- 302
2- مقاتل الطالبيين،308 -321
3- مقاتل الطالبيين،336-331

كما قتل المئات من ذريته بدون ذنب اقترفوه عدا أنهم يدعون إلى نهج الحق والعدل بالتي هي أحسن،فلم يسلبوا ما،ولم يقتلوا أحدة،ولم يحدثوا بدعة، ولم يحرضوا أحداً على السلطان،فكيف يريد هذا الحاقد الغبي أن يعذره الرسول (صلی اللّه علیه واله) على اقتراف جرائمه واستئصال ذريته.

ثم اعتقل الإمام وأرسله إلى عیسی بن جعفر بن المنصور،وكان على البصرة حينئني،فمضى به،فحبسه عنده سنة،ثم كتب إلى الرشيد أن:خذه منّي وسلمه إلى من شئت،وإلّا خليت سبيله فقد اجتهدت أن آخذ عليه حجة فلما أقدر على ذلك،حتى إني لأسمع عليه إذا دعا لعله يدعو علئ أو عليك فما أسمعه يدعو إلا لنفسه،يسأل اللّه الرحمة والمغفرة.

فوجه من تسلمه منه،وحبسه عند الفضل بن الربيع ببغداد،فبقي عنده مدة طويلة،وأراده الرشيد على شيء من أمره،فأبی-یعني أراد منه أن يقتله-فكتب إليه يسلمه إلى الفضل بن يحيى،فتسلمه منه.وأراد ذلك منه فلم يعفله، وبلغه أنه عنده في رفاهية وسعة ودعة،وهو حينئذ بالرقة،فأنفذ مسرورة الخادم إلى بغداد على البريد،وأمره أن يدخل من فوره إلى موسى فيعرف خبره،فإن كان الأمر على ما بلغه أوصل كتابة منه إلى العباس بن محمد وأمره بامتثاله،وأوصل كتابة منه إلى السندي بن شاهك يأمره بطاعة العباس بن محمد.

فقدم مسرور فنزل دار الفضل بن يحيى لا يدري أحد ما يريد.ثم دخل علی موسی فوجده على ما بلغ الرشيد،فمضى من فوره إلى العباس بن محمد والسندي بن شاهك،فأوصال الكتابين إليهما.فلم يلبث الناس أن خرجالرسول يركض ركضاً إلى الفضل بن یحیی،فركب معه وخرج مشدوهاً دهشاً حتى دخل على العباس فدعا العباس بالسياط وعقابين،فوجه بذلك إليه السندي،فأمر بالفضل فجرد ثم ضربه مائة سوط.وخرج متغير اللون بخلاف ما دخل،فذهبت

ص: 79

قوته فجعل يسلم على الناس يميناً وشمالاً.

وحبس الإمام بعد ذلك في حبس السندي بن شاهك،حيث الدهاليز المظلمة، والأغلال الثقيلة التي وضرضت عظام الإمام،وانحلت جسمه،وتركت آثارها البليغة على ساقيه ومعصميه حتى لم يعد الإمام يستطيع السير على قدميه من شدة الألم.فكان حبس السندي من أشد الحبوس علیه قسوة وعذاباً،وما كان الإمام فيه يميز النهار عن الليل لشدة ظلمته حيث كان يستخبر الحراس من أوقات صلاة الفرائض.

يا لها من محنة قاسية أوقعت الإمام موسی بن جعفر في أيدي أرجاس البشرية ونفاياتها حيث أذاقوه أمر أنواع العذاب وأقساه،وروعه بسياطهم وأغلالهم،وأودعوه سجونهم المظلمة الكئيبة.

إن حب الدنيا أفقد هؤلاء صوابهم، وسلب لبهم،وغيّر طبيعتهم الإنسانية، وحولهم إلى ذئاب ضارية تفترس كل من تظن أنه ينافسهم على حطام الدنيا الزائل حتى إذا كان رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) .ولذا ترى أنهم يقومون على ممارسة أبشع الجرائم في تصفية الأئمة الأطهار (علیهم السلام)وإبادة ذرية النبي الأكرم (صلی اللّه علیه واله) دون أن يترك ذلك أثرا في نفوسهم،أو يحسوا بوخزة ضمير تعتريهم،بل أصبحت تلك الممارسات زادهم اليوم الذي تتوقف عليه حياتهم وديمومة حكمهم الجائر. ولعل بعضهم يستأنس بمشاهدة الدماء المسفوكة ويود أن يشربها ليطفئبها غليل حقده المستعر كالحجاج الثقفي ونظائره.

وهذا الرشید نموذجا حية لتلك الذئاب الضارية،فلم يهاب الإمام موسی بن جعفر ولم يرعی حرمته وقربه من رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) ،ولم يراعي مشاعر الجماهير المؤمنة بإمامته،فأمر السندي بن شاهك بقتله بالسم النقيع الذي جعل ابن رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) وفلذة كبده يتلوى من شدة الألم لمدة ثلاثة أيام حيث قضى

ص: 80

مسموماً مظلوماً.

وقبل رحيله بيوم جمع السندي ابن شاهك ثمانين رجلاً من الوجوه المنسوبين إلى الخير فأدخلهم على الإمام موسی بن جعفر وقال لهم:يا هؤلاء انظروا إلى هذا الرجل هل حدث به حدث؟

فإن الناس يزعمون أنه قد فعل به ويكثرون في ذلك، وهذا منزله وفراشه موسع عليه غير مضيق، ولم يرد به أمير المؤمنین سوءاً،وإنما ينتظر به أن يقوم فيناظر أمیرالمؤمنین...

فقال الإمام موسی بن جعفر (عليه السلام) :أما ما ذكره من الوسعة وما أشبهها فهو على ما ذكره-يعني في تلك اللحظة التي هو فيها-غير أني أخبركم-أيها النفر-أني قد سقيت الشم في سبع تمرات وأنا غدا أحتضر،وبعد غدٍ أموت.

ولما استشهد الإمام وضعوه على خشبة جرداء يحملها أربعة حمالين ولازالت القيود والأغلال بيديه ورجليه،ثم وضعوه على الجسر ونادى مناديهم هذا إها افضة زيادة بالأذلال والتوهین(1).

ومن الذين قتلوا في عهد الرشيد الذهبي كما يصفه بعض الكتّاب الطائفيينالمأجورين:إسحاق بن الحسن بن زید بن الحسن بن علي بن أبي طالب (علیهم السلام)،حبسه هارون فمات في حبسه.

ذكر ایام محمد الأمين ومن قتل فيه،منهم:محمد بن محمد بن زید بن

ص: 81


1- مقاتل الطالبین، 332 - 331، كشف الغمة، 2: 233، الكافی، 1: 202، غيبة الطوسی، 26، أمالی الصدوق، 128، الإرشاد، 302، روضة الواعظين، 1: 220 - 221، أعلام الوری، 311، الفصول المهمة، 260، مناقب ابن شهر آشوب، 4: 318، مروج الذهب، 3: 350، دلائل الإمامة،1968، وفيات الأعيان، 5: 310، عمدة الطالب، 199، نور الأبصار، 197 وغيرها.

علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب (علیهم السلام)،وهو القتيل يوم قنطرة الكوفة في الحرب التي كانت بين هرثمة وأبي السرايا،والحسن بن إسحاق بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (علیهم السلام)،قتل في واقعة السوس مع أبي السرايا لما خرج عن الكوفة،ومحمد بن الحسين بن الحسن بن علي بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (علیهم السلام)،قتل في اليمن في أيام أبي السرايا،وعلي بن عبداللّه بن محمد بن علي بن عبداللّه بن جعفر بن أبي طالب (علیهم السلام)،قتل باليمن في أيام أبي السرايا.(1) هذا غير من قتل مع أبي السرايا في نهضته.

المكر والخداع والنفاق السياسي اتخذ غطاء لجرائم المأمون

كان المأمون أكثر الخلفاء العباسيين مكراً ودهاءاً،واتخذ من مكره ودهائه وسيلة وغطاء للغدر والخيانة والاجرام.ففي عهده كثرت الثورات والانتفاضات الشيعية في أطراف الخلافة الإسلامية،فأراد المأمون أن يقضي عليها بوسيلة المكر والنفاق السياسي الذي يغنيه عن استخدام القوة إلا عند الضرورة،لذا تراه أرسل الجلودي في طلب الإمام الرضا (عليه السلام) وجماعة من آل أبي طالب فحملهم إليه،ثم أرغم الإمام الرضا على القبول بولاية العهد بعد التهديد بالقتل،فاستطاع بمخططه الماكر هذا أن يكسب ودالشيعة،ويقضي على الثورات الشيعية،ويعزل الإمام عن قواعده الشعبية الموالية له ومن ثم يدس له السم فقتله.

وكادت مسألة ارغام الرضا (علیهم السلام)على القبول بولاية العهد ان تحدث للمأمون أزمة سياسية وخلافاً حاداً بين العباسيين أنفسهم لولا اختلاقه مسألة

ص: 82


1- الطبري،1: 288،والكامل،9: 112،والطبري،1: 139،والطبري1: 231و232،ومقاتل الطالبيين،343

العهد الذي عاهد اللّه عليه،فقال:إني عاهدت اللّه أن أخرجها-يعني الخلافة-إلى أفضل آل أبي طالب إن ظفرت بالمخلوع-ويعني أخيه الأمين-وما أعلم أحد أفضل من هذا الرجل-ويعني الرضا (علیه السلام)-فاجتمعا معه على ما أراد-ويعني بهما الفضل بن سهل وأخيه الحسن وزراء المأمون-فأرسلهما إلى علي بن موسی،فعرضا عليه ذلك فأبى،فلم يزالا به وهو يأبي،ثم دعا به المأمون فخاطبه في ذلك فامتنع،فقال له قوة شبيهةبالتهديد،ثم قال له:أن عمر جعل الشورى في ستة أحدهم جدك-يعني به الإمام علي (علیه السلام)-وقال:من خالف فاضربوا عنقه،وهذا تهدید ضمني بالقتل ان رفض القبول،ولما علم بنيته الشريرة تلك فأجابه علي بن موسی الرضا (علیه السلام)إلى ما التمس.

وهذه الأمور تشير بصراحة إلى أن أقرب المقربين للمأمون لم يدركوا نواياه الخبيثة ومقاصده الشيطانية من وراء تعين الإمام بولاية العهد.

ولما حقق المأمون غرضه من وراء هذه اللعبة السياسية الماكرة صار یكید القتل الإمام والتخلص منه،فذكر محمد بن علي بن حمزة أن منصور بن بشیر ذكر عن أخيه عبداللّه بن بشير،أن المأمون أمره أن يطول أظفاره ففعل،ثم أخرج إليه شيئا يشبه التمر الهندي،وقال له:افركه وأعجنه بيديك جميعاً،ففعل.

ثم دخل على الرضا (علیه السلام)فقال له:ما خبرك؟قال:أرجو أن أكون صالحاً.

فقال له:هل جاءك أحد من المترفقين اليوم؟قال:لا،فغضب وصاح على غلمانه، وقال له:فخذ ماء الرمان اليوم فإنه مما لا يستغني عنه،ثم دعا برمان فأعطاه عبداللّه بن بشیر وقال له:اعصر ماءه بيدك،ففعل وسقاه المأمون الرضا بيده فشربه،فكانذلك سبب وفاته،ولم يلبث إلا يومين حتى مات.

ولما توفي الرضا (علیه السلام)لم يظهر المأمون موته في وقته،وتركه يوماً وليلة،ثم وجه إلى محمد بن جعفر بن محمد،وجماعة من آل أبي طالب.فلما

ص: 83

أحضرهم وأراهم إياه صحيح الجسد لا أثر به،ثم بكی-وسالت دموع التماسيح من عينيه-وقال:عز علي يا أخي أن أراك في هذه الحالة،وقد كنتأؤمل أن أقدم قبلك،فأبى اللّه إلا ما أراد،وأظهر جزعة شديدة،وحزنة كثيراً.

وخرج مع جنازته يحملها حتى الموضع الذي هو مدفون فيه الآن وهو حاسر الرأس حافي القدمين حزينة باكياً.

فهل هناك أشد مكر وخداعة من المأمون العباسي الذي قتل الإمام الرضا (علیه السلام) وخرج في تشييع جنازته بتلك الصورة الماكرة،حيث ذكر بعض المؤرخون أنه شق جيبه،ولطم رأسه،وهو يقول:يا سيداه فجعت بك.وقتل المأمون غیر الرضا من العلويين خلق كثير.

فمنهم:محمد بن عبداللّه بن الحسن بن علي بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (علیه السلام)وهو ابن الأفطس،قتله المأمون بالسم.

المتوكل العباسي يكرب قبر الحسين ويعفي أثره

يتجلى حقد المتوكل لأهل البيت (علیهم السلام)في كراهيته وبغضه لعلي (علیه السلام)وأبنائه الميامين (علیهم السلام)و شیعته الموالين له، المؤمنين بولايته،والمعتقدين بإمامته وإمامة أبنائه الأحد عشر.

ص: 84

وتجسد حقده الدفين في مصادیق جلية،منها ما ذكره السيوطي في تاريخ الخلفاء ان المتوكل قتل يعقوب بن السكيت الإمام في العربية في سنة أربع وأربعين ومائتين،فإنه ندبه إلى تعليم أولاده،فنظر المتوكل يوماً إلى ولديه المعتز والمؤيد فقال لابن السكيت:من أحب إليك هما أو الحسن والحسين؟ فقال:قنبر-يعني مولي علي-خير منهما.

فأمر الأتراُك فداسوا بطنه حتى مات،وقيل:أمر بسل لسانه فمات وأرسل إلى ابنه بديته.ومع حقده الشديد هذا لآل البيت (علیهم السلام)وشيعتهم نرى السيوطي يصفه بالترفض فيقول:وكان المتوكل رافضياً،وهذا من غرائبه وعجائبه.(1)

ومنها ما ذكرته التواريخ بقيام المتوكل بكرب قبر الحسين (علیه السلام)وأعفاء أثره عدة مرات وملاحقة زواره والتنكيل بهم.

فقال أبو الفرج الأصفهاني:كان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب، غليظاً على جماعتهم،مهتماً بأمورهم،شديد الغيظ والحقد عليهم،وسوء الظن والتهمة لهم،واتفق له أن عبیداللّه بن يحيى بن خاقان وزيره يسيء الرأي فيهم، فحسن له القبيح في معاملتهم، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله. وكان من ذلك أن كرب قبر الحسين وعفى آثاره،ووضع على سائر الطرق مسالح له لا يجدون أحدة زاره إلا أتوه به فقتله أو أنهكه عقوبة.

وكان الشخص الذي كلفه المتوكل بكرب قبر الحسين هو اليهودي الذي

أسلم وأسمه الديزج.(2)

وقال السيد محمد الصدر مؤلف كتاب(الغيبة الصغری)استناداً إلى جملة من كتب التاريخ:ما كان المتوكل يستشعره من الكراهية تجاه علي (علیه السلام)

ص: 85


1- تاریخ الخلفاء،348
2- مقاتل الطالبيين،395

والعلويين،وكان آل أبي طالب-على ما ينص التاريخ-في أيامه في محنة عظيمة،قد منعوا من زيارة قبر الحسين (علیه السلام)والغري من أرض الكوفة.وكذلك منع غيرهم من شيعتهم حضور هذه المشاهد،وأمر بهدم قبر الحسين (علیه السلام)و محو أرضه،وإزالة أثره وان يعاقب من وجد به،وحدث به وزرع به،وكان يقصد من يبلغه عنه أنه يتولى علياً وأهله،بأخذ المال والدم.(1)

ومنها:استعمال المتوكل على المدينة ومكة عمر بن الفرج الرخجي،فمنع آل أبي طالب من التعرض لمسألة الناس.ومنع الناس من البر بهم،وكان لا يبلغه أن أحداً أبرأ أحداً منهم بشيء وإن قل إلّا أنهكه عقوبة،وأثقله غرماً،حتى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلين فيه واحدة بعد واحدة،يرفعنه ويجلسن على مغازلهن عواري حواسر.(2)

وقال السيد العلامة تاج الدين بن علي بن أحمد الحسيني العاملي في التتمة:وكان-يعني المتوكل-شديد العداوة والبغض لآل محمد (صلی اللّه علیه واله) ،ولم يكن أحد في زمانه من الشيعة يذكر عليا وأولاده أو زيارتهم علانية خوفاً منه،وكان من بغضه أدار الفرات على مكان قبر الحسين (علیه السلام)ليعدم أثره.(3)

وليس هذا فحسب بل أظهر المتوكل شدید حقده وبغضه لأبيه علي (علیه السلام)،فكان من جملة ندمائه عبادة المخنث.كان يشد على بطنه مخدة ويكشف رأسه وهو أصلع، ويرقص ويقول:قد أقبل الأصلع البطين خليفة المسلمين-يعني علية-والمتوكل يشرب ويضحك.

ص: 86


1- مروج الذهب،4: 51،الكامل لابن الأثير،5: 287،مقاتل الطالبيين،450،الغيبة الصغری،76
2- مقاتل الطالبيين،396
3- بحارالأنوار،45: 403،عوالم الإمام الحسين (علیه السلام)،6/728

وبمثل هذه الأفعال المنكرة كان الطاغية يظهر ما في قلبه من الحقد والبغضاء لآل البيت (علیهم السلام).

معاناة الإمام الهادي (علیه السلام)من سوء معاملة المتوكل له

كان المتوكل العباسي يجهد نفسه ليل نهار في نسج المكائد الخبيثة لغرض استباحة حرمة الإمام الهادي (علیه السلام)،وانتهاك قدسيته،وتلويث سمعته،والتقليل من أهميته المعنوية باعتباره إماماً لشيعة آل محمد (صلی اللّه علیه واله) والموالين لهم.

ولعل أول وأوضح ما يندرج في هذا الصدد،ما ذكره جماعة من المؤرخين العامة والخاصة،من أنه سعی به (علیه السلام)إلى المتوكل،وقيل ان في منزله سلاحأ وكتباً، وغيرها من شيعته وأوهموه انه يطلب الأمر لنفسه،فوجه إليه عدة من الأتراك ليلاً،فهجموا على منزله على[حين]غفلة،فوجدوه وحده في بيت مغلق وعليه مدرعة من شعر،وعلى رأسه ملحفة من صوف،وهو مستقبل القبلة يترنم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد،ليس بينه وبين الأرض بساط إلّا الرمل والحصى، فأخذ على الصورة التي وجد عليها،وحمل إلى المتوكل في جوف الليل.

فمثل بين يديه والمتوكل يستعمل الشراب وفي يده كأس،فلما رآه أعظمه وأجلسه إلى جانبه،ولم يكن في منزله شيء مما قيل عنه،ولا حجة يتعلل بها.

فناوله المتوكل الكأس الذي في يده،فقال:يا أمير المؤمنين ماخامر الحمي ودمي قط،فاعفني،فأعفاه،وقال:أنشدني شعراً أستحسنه.فقال:إني القليل الرواية للشعر،قال:لابد أن تنشدني شيئاً، پفأنشده:

باتو على قلل الأجبال تحرسهم غلب الرجال فما أغنتهم القلل(1)

ص: 87


1- ابن خلكان،5: 434،وأبو الفداء،1: 47،وابن الوردي،1 : 232،والمسعودي في مروج الذهب،4: 11،والغيبة الصغرى،124- 125

وحاول المتوكل العباسي هتك حرمة الإمام ثانية عن طريق أخيه موسی المعروف بفسقه ومجونه،فأحضره المتوكل إلى سامراء كي يشركه في مجالس الهوه ومجونه لعله بهذا يلوث سمعة أخيه الإمام علي الهادي (علیه السلام).(1)

وأثر السعايات والوشايات التي كانت ترتفع إلى المتوكل ضد الإمام بین آونة وأخرى،كان المتوكل يرسل بعض جلاوزته لكبس بیت الإمام ليتعرف على صدق الوشاية أو كذبها..(2) .

ومن ذلك كبسه لدار الإمام نتيجة لسعاية البطحائي به إلى المتوكل وزعمه:

ان عنده أموالاً وسلاحاً.

فأمر المتوكل سعيد الحاجب أن يهجم عليه ليلاً ويأخذ ما عنده من الأموال والسلاح ويحمله إليه.(3)

فأخذ سعيد معه سلمة وذهب إلى دار الإمام وصعد عليها من الشارع إلى السطح ونزل خلال الظلام فلم يدر كيف يصل إلى الدار.قال سعيد:فناداني أبو الحسن (علیه السلام)من الدار:یا سعيد مكانك حتى يأتوك بشمعة... .

وفي حادثة أخرى:يصل إلى المتوكل خبر مال يصل من قم،وهي إحدى مراكز الولاء للإمام (علیه السلام)..إليه.

فيأمر وزيره الفتح بن خاقان أن يراقب الوضع ويأتي بالخبر.فيرسل الوزير بعض مأموريه يدعى أبو موسى إلى الإمام، فيجلس في مجلسه ساكتاً،ثم تنتهي هذه المحاولة بالفشل كسابقاتها....(4) .

ص: 88


1- الإرشاد،312،الغيبة الصغرى،138
2- الغيبة الصغرى،148
3- الغيبة الصغری،150،الإرشاد،311،الفصول المهمة،298
4- الإرشاد،311، الفصول المهمة لابن الصباغ،298،الغيبة الصغر،150. ه) المناقب،515،الغيبة الصغری،151

ولما ضاق المتوكل ذرعاً بحقده على الإمام أبا الحسن فألقي القبض عليه وأودعه في غياهب السجن وأمر علي بن كركر ليراقبه فيه.(1) وفي خبر آخر أن المتوكل دفع الإمام أبا الحسن الهادي (علیه السلام)إلى سعيد الحاجب ليقتله.فوضعه سعيد في السجن حتى يتم قتله،لكن المتوكل قتل قبل أن يتم قتل الإمام (علیه السلام).(2)

وقُتل الإمام فيما بعد بالسم على يدي المعتمد العباسي وقيل المعتز، وعلى كل حال قُتل الإمام كما قتل آبائه من قبل على أيدي الخلفاء العباسي(3). وكذا قتل المعتمد العباسي أو المعتز الإمام الحسن بن علي العسكري بالسم أيضا(4). وقد قتل في زمن المتوكل والمعتمدوالمعتز الكثير من العلويين غير الإمامين الهادي وابنه الحسن (علیه السلام)،ومات الكثير منهم في حبوسهم.

هذه نماذج من الحقد العباسي الدفين لآل محمد (صلی اللّه علیه واله) قد تجسدت في مئات المصادیق الدموية عبر تاریخ الخلفاء العباسيين،فهم قتلوا خمسة من الأئمة الأطهار (علیهم السلام)وهم:الإمام الكاظم،وعلي بن موسى،والجواد وعلي الهادي والحسن العسكري،وآلاف من العلويين،غير الذين شردوهم في أقاصي بقاع الأرض، والذين اختفوا عن أنظار أعوان السلطة العباسية وماتوا في غربتهم دون أن يعرف أحد حسبهم ونسبهم...

في هذه الأجواء المشحونة حقداً أو عداءاً لآل محمد (صلی اللّه علیه واله) تمت وتركزت

ص: 89


1- أعلام الوری،346
2- الكامل في التاريخ،5: 303،الخرائج والجرائح،59، الغيبة الصغری،154
3- مصباح الكفعمي، 523، تاريخ اليعقوبي، 3: 220، مروج الذهب، 4 : 3، اثبات الوصية، 200، الكامل في التاريخ، 7: 95، البداية والنهاية، 10: 364، الجوهر الثمين، 1: 144، التمة في تواريخ الأئمة، 139.
4- مصباح الكفعمي، 523، التنمة في تواريخ الأئمة، 144.

في أذهان الشيعة الموالين لهم فكرة الانتظار السلبي للمهدي المنتظر(عج)، لأنهم اطلعوا من خلال المواجهة العنيفة بين الخلفاء في كل الأدوار وبين آل محمد (صلی اللّه علیه واله) والأئمة الأطهار على الكثير من المشاهد المأساوية التي استبيحت فيها حرمة أهل البيت (علیهم السلام)،وهدرت كرامتهم،واغتيلت شخصيتهم المعنوية، واستخف بهم إلى درجة جعلتهم أقل قدرة من سائر الناس العاديين.ثم أن سياسة التصفيات الجسدية التي مارسها الأمويون والعباسيون ضد العلويين زرعت الخوف والفزع في نفوس الموالين لهم،وثبطب عزائمهم بحيث لم يعد أحد منهم يفكر بالمواجهة حتى في عالم الرؤيا لشدة الارهاب،وقساوة قلوب الخلفاء التي مكنتهم من استئصال آل البيت (علیهم السلام)،ومحو آثارهم ولو لفترة قصيرة من الزمن. كيف يفكر بالخروج على الحاكم الجائر ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من كان يخشی زیارة قبر سيده وإمامه الحسین (علیه السلام)-التي تعدل زيارته ألف حجة-تحاشية لسيوف العباسيين المنذرة بالموت والفناء كل من يجرأ على ذلك،ثم تصادر أمواله المنقولة وغير المنقولة علانأ أمام مشهد ومسمع من المسلمين في كل مكان دون احتجاج واعتراض منهم.فلا تلم من لم يفكر بالخروج ويميل إلى الدعة،ويدعو إلى فكرة الانتظار السلبي للإمام المنتظر(عج)التي ترفع شعار المهادنة والمسالمة مع أعداء أهل البيت (علیهم السلام)، الذين لا يحكمون بما أنزل اللّه، ويمارسون كل أنواع الرذائل حتى بالمحارم وأزواج الآباء بملك اليمن.(1)

آن شيعة أهل البيت ومواليهم لما شاهدوا الحكام الجائرين مستبدين في اجراء أحكامهم المنافية لنصوص القرآن والسنة المتواترة،وأنهم لا يعيرون أية

ص: 90


1- تاریخ الخلفاء،291

أهمية لعترة رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) من فاطمة الزهراء،بل يهجمون على دار البضعة التي طالما أوصى بها رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) فيشعلون النار في باب دارها،ويدخلوه بدون إذنها،ويعصرونها بين الباب والحائط،فیكسرون ضلعها ويسقطون جنينها، ويثبتون المسمار في ثديها،ثم يقتادون بطل الإسلام،وفاتح الحصون،ومشتت الأحزاب،ومحطم الأصنام،خليفة رسول اللّه بالحق،أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام)بحمائل سيفه إلى مسجد رسول اللّه ليرغموه على البيعة كرها أمام جل صحابة الرسول الأكرم (صلی اللّه علیه واله) .

فلولا تلك الممارسات الاجرامية المنافية لأحكام الإسلام،ولأبسط حقوق الإنسان لما استطاع الأمويون من قتل الحسن (علیه السلام)بالسم،وذبح الحسين في كربلاء مع أبنائه وأخوته وأصحابه ثم الهجوم على خيامه وحرقها بالنار وسحق أطفاله وسلب نسائه،وطحن ضلوعه بحوافر الخيل،وحمل رأسه ورؤوس من قتل معه على الرماح،وسبي عقائل الهاشميين وهتك حرماتهن في دواوين الطغات.

أن الذين تجاسروا على الزهراء وأشعلوا النار في باب دارها،واقتادوا زوجها وأرغموه على البيعة هم الذين مهدوا السبيل لقتل سيدي شباب أهل الجنة وريحانتي رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) من قبل الأمويين،وقتل الأئمة الأطهار (علیهم السلام)،واجتثاث جذور العلويين فيما بعد بواسطة الخلفاء العباسيين...

لمّا شاهد شيعة أهل البيت (علیهم السلام)تلك الجرائم البشعة التي مورست في حق العترة الطاهرة انهارت معنوياتهم، وخارت عزائمهم،ورسى الخوف والرعب في أعماق نفوسهم فلم يجرأ أحدهم أن يعلن ولائه للأئمة الأطهار،لا أن يخرج على الظالم الجبار،لأنهم أيقنوا أن معاقبة الخلفاء الجائرين لهم ستكونأشد قسوة وأكثر اجراماً مما عاقبوا به العلويين.

ص: 91

فكان لعامل العداء لآل البيت (علیهم السلام)،والتصفيات الدموية لهم أثرة بالغة في اشاعة مفهوم الانتظار السلبي للمهدي المنتظر(عج)وترسيخه في أذهان البعض من الشيعة الموالين الذين أفزعتهم تلك الممارسات الارهابية،وأثارت الفزع والقلق في أعماق نفوسهم،وجعلتهم يتظاهرون بالعداء لأهل البيت (علیهم السلام).

ثانياً:التصفيات الدموية لشيعة آل محمد (صلی اللّه علیه واله)

مارست الحكومات الأموية والعباسية سياسة الارهاب والتصفيات الدموية مع المسلمين بصورة عامة والشيعة بصورة خاصة؛لأنهم كانوا يشكلون الدعامة الأساسية لحركة المقاومة للاستبداد والظلم والفساد الأموي والعباسي، ولذا ترى أن القصط الأوفي من التضحيات كان من نصيبهم.

فلو تصفحت عزيزي القارئ تاريخ الثورات والانتفاضات الموجهة ضد ملوك بني أمية وبني العباس تجد أن معظمها شيعية وقادتها من العلويين الأبرار.وهذا يشير بصراحة إلى أن الشيعة هم أكثر المسلمين مقاومة للظلم والفساد الأخلاقي الذي مارسه الخلفاء في كل الأدوار،لأنهم لا يقرون بشرعيتهم كخلفاء لهم،بل يعتبرونهم جبابرة طغات اغتصبوا الخلافة من أهلها الشرعيين الذين نصبهم اللّه ورسوله خلفاء وأئمة وقادة للمسلمين وهم الأئمة الأطهار (علیهم السلام)ابتداءاً من علي وانتهاء بالحجة بن الحسن العسكري (عليهم السلام) .

هذه نظرة الشيعة المبدئية لخلفاء الجور والفساد،بينما كان المسلمون بصورة عامة يقرون بشرعيتهم،ويؤمنون بوجوب طاعتهم وموالاتهم،والدفاع عنهم إذا ما خرج عليهم من الشيعة والعلويين،فكان الجيش الذي واجه الحسین (علیه السلام)في كربلاء بقيادة عمر بن سعد،ومارس تلك الجرائم البشعة التي ذكرتها كتب

ص: 92

التاريخ مسلماً يقول بالشهادتين ويلتزم بأداء الفرائض،وكذا الجيش الذي واجه علياً (علیه السلام)في الجمل وصفین مسلماً.

فكان المسلمون عامة من أتباع خلفاء الجور والذابون عنهم،لأنهم وقعوا تحت تأثير وسائل اعلامهم المضللة التي يروج له عدد غير قليل من وعاظ السلاطين،وفقهاء السوء الذين باعوا دينهم بدنيا غيرهم.فكان هؤلاء يفتعلون الأحاديث المادحة لخلفاء الجور والذامة للأئمة الأطهار (علیهم السلام)،وكانوا يحثون المسلمين على طاعة ولاتهم حتى إذا كانوا حمقاً يمارسون الفسق والفجور،بل يعتبرون الخلفاء مكرهين على الممارسات اللاأخلاقية وفق النظرية الجبرية التي تعتبر أفعال الإنسان هي أفعال اللّه،ولعل اللّه يثيبهم على ما اقترفوا من جرائم بشعة،ومآثم مخزية يندى لها جبين الإنسانية حياءاً وخجلاً...

وأدان هؤلاء جميع الثورات الإسلامية بما فيها ثورة الحسين (علیه السلام)،ووصفوا قادتها بالعصاة المتمردين الذين خرجوا على ولاة أمرهم وشقوا عصا الطاعة، وأحدثوا الفرقة بين المسلمين، وتسببوا في سفك دمائهم.

أما خروج معاوية بن أبي سفيان على إمام زمانه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام)يعد عملا مباركاً ممدوحاً في نظر الوعاظ؛لأن مصلحة الإسلام والأمة اقتضت ذلك.

ونتيجة هذا الاعلام المضلل،والأفكار التحريفية،والعقائد الفاسدة،والأحاديث المختلقة التي روجها الوعاظ،أوقعت الأمة المسلمة في حيرة والتباس بحيث لم تعد تستطيع التمييز بين الحق والباطل،واختلفت وجهات نظر المسلمين فيولاة الأمر اختلافا بينا تبعا لذلك التضليل والتحريف.

فبعضهم يرى أحقية الخلفاء الأمويين والعباسيين في الحكم، وبطلان دعوى الأئمة الأطهار (علیهم السلام)والعلويين.فكان هذا البعض من المسلمين أشد

ص: 93

اندفاعاً وأكثر طاعة لخلفائهم في مقاتلة الأئمة الأطهار من أهل البيت (علیهم السلام)وشيعتهم باعتبارهم خارجين على ولاة الأمر ومحدثي الفرقة والعصيان، وأكثر هؤلاء من الحزب الأموي والعباسي.

واستوى الحق والباطل في نظر البعض الآخر من المسلمين فصاروا عندما يتحدثون عن علي ومعاوية، أو يزيد والحسين،أو الصادق والمنصور،أو الرشید والكاظم،يقولون هكذا فعل سیدنا معاوية مع سيدنا علي،أو سیدنا یزید مع سیدنا الحسين،أو سيدنا المنصور مع سيدنا الصادق،كذا الرشيد والكاظم (علیه السلام).

فكان هؤلاء مترددين في قتال الخارجين على الخلفاء،يقومون مرة ويحجمون أخرى تبعا للظروف المحيطة بهم،فإذا أكرهوا على قتالهم فعلوا وإلا فلا.

وتمرد قسم آخر من المسلمين على كلا الطرفين الخلفاء والأئمة الأطهار (علیهم السلام)،ورفعوا شعار الّا حكم إلا اللّه،وحاربوا الإمام علي (علیه السلام)في النهروان، وتأمروا على معاوية وعلي وعمرو بن العاص فلم يقتلوا إلا علي في محرابه في مسجد الكوفة وهؤلاء هم الخوارج.

وهناك جماعة من المسلمين اعتزلوا الصراع مع علي ومعاوية ولم يقفوا بوجه هذا وذلك وإنما طعنوا بالاثنين معاً وهؤلاء هم المعتزلة.

وبعد هذا الاستعراض الموجز للعوامل المشتركة التي ساهمت في صنعالوقائع المأساوية،والتصفيات الدموية لشيعة آل محمد (صلی اللّه علیه واله) عبر التاريخ، التي ساهمت بشكل فعال في اضعاف قواهم،وتبديد طاقاتهم،وزرعت اليأس والقنوط في أعماق نفوسهم،وجعلت البعض منهم يحبذ مفهم الانظار السلبي للمهدي المنتظر(عج)،ويشعر بعدم جدوى مجاهدة الطواغيت المستبدين نظرة الفشل معظم الثورات في تحقيق أهدافها..بعد هذا نذكر نماذج من التصفيات الرهيبة التي مارسها الخلفاء ضد الموالين لآل محمد (صلی اللّه علیه واله) والمتعاطفين معهم،

ص: 94

على مراحل متعددة.

المرحلة الاُولى من التصفيات الدموية

تبدأ هذه المرحلة من عهد الخليفة الثالث عثمان إلى انتهاء العهد الأموي المستبد المعادي لآل البيت (علیهم السلام)ومواليهم.

وأول عمل قام به عثمان بن عفان معاډ لعليّ (علیه السلام)مریدیه هو إبعاده أبا ذر إلى صحراء الربذة ظلماً وعدواناً حيث قضى هو وبعض أفراد أسرته وزوجته جوعاً ومرضاً،ثم قام ولاته على البلاد الإسلامية بتوجيه من مروان ابن الحكم بملاحقة الموالين لعلي (علیه السلام)،والذاكرین فضائله وكراماته،لا سيما الوليد والي عثمان على الكوفة الذي تجاهر بشرب الخمر وتبذير الأموال في الفسق والفجور،ثم حبس جندب بن زهير قاتل الساحر،وأبعد عبداللّه بن مسعود الذي كان خازنة لبيت مال المسلمين في الكوفة،وهذان هما من أشد المسلمین حبة وولاءاً لعليّ (علیه السلام).

ولما قدّم عمار بن یاسر عريضة الاحتجاج على أعمال ولاة عثمان المنكرة فيالبلاد الإسلاميةلا سيما مصر والعراق،التي أمضاها أكثر من خمسين صحابياً استشاط عثمان غضبة على عمار ونزل من على منبر رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) وأخذ يضربه ضرباً مبرحاً هو وغلمانه حتى أحدثوا فيه فتقة،وبعد أن حملوه إلى بيت أم المؤمنين أم سلمة أخذ يتوعدها ويطالبها بطرده من بيتها.

وبعد مقتل عثمان وبيعة المسلمين لعليّ (علیه السلام)جاء دور الناكثين والقاسطين والمارقين فكانت المعارك الطاحنة بين علي وخصومه في الجمل وصفين والنهروان،التي ذهبت ضحيتها من جند علي أكثر من ثلاثة آلاف مقاتل،منهم:

ص: 95

عمار بن یاسر،وابن التيهان،وخزيمة بن ثابت-ذو الشهادتين-والمرقال، وهاشم بن عتبة،وكثير غير هؤلاء من قادة جيش الإمام علي (علیه السلام)،ومن أحب الخلق إليه،وأكثرهم اندفاعاً في نصرته والدفاع عنه.

وقتل محمد بن أبي بكر في مصر جماعة معاوية بن أبي سفيان بعد التحكيم ووضعوه في بطن حمار وأحرقوه بعد القتل.ثم جاء مالك الأشتر ليحل محله إلا أن معاوية أرسل من يقتله بالسم قبل وصوله للقاهرة.وهكذا توالت الأحداث حتى قضت على معظم أنصار علي (علیه السلام)وأعوانه والموالين له.وبات علي يأسي لفقدانهم..

وحين فرض معاوية الصلح على الإمام الحسن (علیه السلام)أعطاه عهداً بعدم ايذاء من بقي من شيعة أبيه،إلا أنه نقض عهده لما فرض سيطرته على الكوفة وبدأ باتخاذ اجراءاته التعسفية في تصفية عدد من تبقى من شيعة علي (علیه السلام)«وقد لاقى أنصار أهل البيت (علیهم السلام)من الأذى والاضطهاد ما تنوء بحمله الجبال،وكان أشدهم بلاءً،وأعظمهم محنة أهل الكوفة،فلقد استعمل معاوية على الكوفة بعدهلاك المغيرة،زياد بن أبيه-بعد أن نسبه إلى أبي سفيان-وكان بهم عليما وانه-یاللعجب.فقد كان قبل استلحاقه بأبي سفيان،واحد منهم،فأشاع فيهم القتل،وشردهم،وإن معاوية كتب إلى عماله:فانظروا إلى من قامت عليه البينة،أنه يحب علية وأهل بيته،فامحوه من الديوان،واسقطوا عطاءه ورزقه.

وروى ابن أبي الحديد أن معاوية كتب إلى عماله:أن برئت الذمة ممن يروي شيئا في فضائل علي وأهل بيته،وأن لا يجيزوا للشيعة شهادة،وأن يمحوا كل شيعي من ديوان العطاء،وينكلوا به،ويهدموا داره،وامتثل العمال لأمر سيدهم، فقتلوا الشيعة،وشر دوهم،وقطعوا الأيدي،وسملوا الأعين،وصلبوهم في جذوع النخل.

ص: 96

وقام الخطباء على أثر تلك الاجراءات التعسفية التي اتخذها معاوية لمحو ذكر علي (علیه السلام)وابادة شيعته،في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون علية ويبرؤون منه، ثم جعلوا اللعن لعلي سنة يرددها المسلمون في قنوة كل صلاة فرضية أو ندب.

واستمر معاوية بن أبي سفيان في اضطهاده للشيعة فانتقم شر انتقام من أنصار الإمام علي وآل البيت الطاهرين،ففريق روع في ظلمات السجون، وبقي فيها يلاقي الأمرين،حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى-كما حدث مع محمد بن أبي حذيفة-وفريق شرد في الأرض،حتى مات منفية عن وطنه وأهله-كماحدث مع صعصعة بن صوحان و غیره-وفريق صلبوا على جذوع النخل-أمثال میثم التمار-.

وبعد أن ضعفت قوى الشيعة وتبدد جمعهم من جراء عمليات التصفية والابادة أقدم معاوية على جريمته النكراء في قتل حجر بن عدني وابنه وأصحابه في مرج عذراء.

وأحدثت هذه الجريمة في العالم الإسلامي هزة عنيفة وأيقضت ضمائر الكثر ممن ناصر الخلفاء واتبع نهجهم،أو سكت عن جرائمهم البشعة التي مورست بحق الشيعة الموالين لعليّ (علیه السلام)و جلهم من الصحابة الأخيار.

فهذا الحسن البصري يقول:أربع خصال كن في معاوية،لو لم تكن فيه إلّا واحدة لكانت موبقة،ثم عددها وذكر منها قتله حجراً،ويلاً له من حجر.(1)

وقالت السيدة عائشة:أما واللّه لو علم معاوية أن عند أهل الكوفة منعة ما اجترأ على أن يأخذ حجراً وأصحابه من بينهم،حتى يقتلهم بالشام،ولكن ابن

ص: 97


1- الطبري،5 : 279،البداية والنهاية،8: 141،الكامل في التاريخ،3: 487

آكلة الأكباد علم أن قد ذهب الناس،أما واللّه،ان كانوا لجمجمة العرب،عزاً ومنعة وفقهاً.(1)

وتركت هذه الجريمة أثراً سيئاً في نفوس المعاصرين لها من المسلمين، وجرحاً مؤلماً في قلوبهم،وكانت بمثابة صدمة عنيفة لمن بقي من خيار الناس في تلك الأيام.

وشملت هذه التصفيات قنبراً مولى أمير المؤمنين (علیه السلام)،وكميل بن زياد الذيهدده الوالي الأموي بقطع عطاء قومه ان لم يسلّم فسلم وقتل صبر.

وهلك معاوية وجاء ابنه يزيد ليحتل مكانه ويمارس تصفيات أشد قساوة وأكثر عنفا من تلك التي كانت على عهد الطاغية أبيه،فلما علم بخروج الحسين (علیه السلام) من مكة وارساله مسلم بن عقیل سفيرة عنه إلى الكوفة،عیّن عبيد اللّه بن زیاد والية على الكوفة فقتل مسلم بن عقيل وجماعة من الشيعة،وسجن أربعة آلاف منهم،وسقر ما لا يقل عن سبعين ألف شخص إلى إيران وأماكن أخرى،وزرع الخوف والذعر في قلوب من تبقى منهم.وبذا مهد السبيل لمنع خروج الشيعة من الكوفة لنصرة إمامهم الحسين حال وصوله إلى كربلاء وأرسل عبيداللّه بن زیاد جیشا لا يقل عدده عن ثلاثين ألفا،حاصر الحسين (علیه السلام) وقتله وأهل بيته (علیهم السلام)،ومائة وخمس وأربعين من أصحابه شر قتلة عرفها التاريخ.

ولم تقتصر هذه التصفيات على الشيعة فحسب،بل شملت حتى المتعاطفين معهم أبناء السنة،فعلى أثر نهضة المدينة المنورّة اجتاح الجيش الأموي أرجائها وأحدث فيها من الجرائم ما لا تقل فضاعة عن جرائم هولاكو

ص: 98


1- الاستیعاب،1: 358

والمغول وهتلر.

فذكرت التواريخ أن يزيد بن معاوية قد أباح المدينة لجنده ثلاثة أيام بعد فشل النهضة والقضاء عليها.وكان قوام جيشه حوالي إثنا عشر ألف جندي،فدخلوا مدينة رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) وصاروا يفسقون بالنساء،ويقتلون فيها الناس،حتى قتل من وجوه المهاجرين والأنصار سبعمائة،ومن وجوه الموالي عشرة آلافي،ثم ان قائد يزيد بايع من بقي من الناس على أنهم خول وعبيد ليزيد ابن معاوية.(1)

ويقول ابن قتيبة:قتل في المدينة من النساء والصبيان عدد كثير،وكان الجندي يأخذ برجل الرضيع فيجذبه من أمه ويضرب به الحائط فينتشر دماغه على الأرض وأمه تنظر إليه.ويقول الفخري:إن الرجل من أهل المدينة كان إذا زوج ابنته لا يضمن بكارتها لعلها قد افتضت في واقعة الحرة حيث افتض فيها ألف عذراء من بنات المهاجرين والأنصار.(2)

ولما سمع أهالي مكة بأنباء المجازر الوحشية في المدينة اهتاجوا لذلك وتحصنوا في البيت الحرام ظنا منهم بأن الأمويين سيراعوا حرمة هذا البيت المقدس الذي آجله حتى الجاهلون. ولكن خاب ضنهم حيث راح القائد الأموي يقذف الكعبة المشرفة التي التجؤوا إليها بالمجانيق والنار.وكان أهل المدينة ومكة أكثرهم يومئذ إن لم نقل كلهم من غير الشيعة،بل كان الرئيس في مكة عبداللّه بن الزبير وميله عن علي وشيعته مشهور معروف.(3)

ص: 99


1- أبو الفداء،1: 192،الإمامة والسياسة،300
2- تاریخ الخلفاء،99،العقد الفرید،3: 157،تهذيب الكامل،1: 169،الشيعة في التاريخ،146
3- تهذيب الكامل،169:1،وفيه:تجد بغض

وهلك يزيد وجاء عبد الملك بن مروان فتفاقم الوضع سوءا واشتدت محنة الشيعة في زمنه أكثر فأكثر،حيث ولي الحجاج الكوفة بعد أن قضى على ابن الزبير فيها. وعاشت الكوفة بعد واقعة الطف إلى مجيء الحجاج أحداث دامية،منها:

حركة سليمان بن صرد الخزاعي التي ذهب ضحيتها أربعة آلاف شيعي موالي لآل البيت (علیهم السلام).ثم أعقبتها حركة المختار الثقفي التي قضى عليها ابن الزبير بعد أن فتك بالمختار ومئات من رجالات الشيعة الأخبار.فلما استلم الحجاج زمام الأمور في الكوفة كانت مغمرة بالمآسي والأحزان،إذ قلما تجد فيها بيتاً لا ناحة ولا مأتم للعزاء فيه،لأن معظم بيوتها مسكونة من قبل الأرامل والأيتام..

وما زاد من مآسيها قيام الحجاج باعتقال أعدادا كثيرة من الشيعة ووضعهم في سجون مكشوفة لا تقيهم الحر والبرد،فمكثوا فيها طويلا حتى انقرضوا بالتدريج ولم يبقى منهم أحد.

ثم لاحق المشتركين في ثورة القراء التي قادها عبدالرحمان الأشعث، ومنهم سعيد بن جبير حيث قتله في ديوانه وأمام عينيه بسبب حبه وتعطشه الرؤية الدماء.

وذهب سعيد ضحية حبه وولائه لآل البيت (علیهم السلام)،ولم يعيش الحجاج بعده إلّا أيام معدودة،ولكن التصفيات الأموية استمرت دون انقطاع-باستثناء فترة وجيزة في عهد عمر بن عبد العزيز-حتى سقوط دولتهم في132ه ومجيء دولة بني العباس حيث بدأت مرحلة أخرى من التصفيات الدموية أشد بشاعة

ص: 100

وأكثر اجراماً(1).

المرحلة الثانية من التصفيات الدموية

تبدأ المرحلة الثانية للتصفيات الدموية بمجيء الدولة العباسية للحكم، وتنتهي بسقوطها وانحلالها في أواخر القرن الرابع الهجري.

وتابعت هذه الدولة الجديدة نفس السياسة الأموية بل كانت أشد عنفاً وارهاباً،وأكثر اجراما وتقتيلا من سابقتها.فإذا كان الأمويون يوكلون عملیات التعذيب والقتل لجلاوزتهم فإن العباسيين يمارسون ذلك بأنفسهم،ويفتخرون بكثرة من قتلوا من العلويين والشيعة الموالين لهم.فهذا المنصور الدوانيقي يقول:قتلت من ذرية فاطمة ألفا أو يزيدون،و تركت سيدهم ومولاهم وإمامهمجعفر بن محمد(2).

وقال الإمام الصادق (علیه السلام)مرة:لأقتلنك ولأقتلت أهلك حتى لا أبقي على الأرض منكم قامة سوط (3).

وقد اعترف المنصور بذلك وهو في صدر الخلافة ولا يعرف عدد من قتلهم فيما بعد ذلك إلى انتهاء مدة خلافته.

ص: 101


1- النزاع والتخاصم، 124، شرح نهج البلاغة، 11: 44 - 45، الإمام الحسن، 119 - 120، الطبري، 5 : 253 - 285، الكامل في التاريخ، 3: 472 -488، أسد الغابة، 1: 461-462، الاصابة، 1: 316 - 315، الاستیعاب، 1: 356-359، معاوية بن أبي سفيان في الميزان، 108 - 110، البداية والنهاية، 8: 54 - 60 الشيعة والحاكمون، 80، الكامل في التاريخ، 4 : 579، حلية الأولياء، 4 : 490 - 495، الإمامة وأهل البيتت، 1: 233 - 239.
2- الأدب في ظل التشيع، 63، نقلا من شرح القصيدة الشافية لأبي فراس، 161.
3- مناقب آل أبي طالب، 3: 357، بحارالأنوار، 47: 178

وحدثنا التاريخ لما حمل موسی بن عبداللّه بن الحسن للمنصور فضربه خمسمائة سوط بنفسه.(1)

وحبس من العلويين جماعة في محبس ستين ليلة مايدرون بالليل ولا النهار ولا يعرفون وقت الصلاة إلّا بتسبيح علي بن الحسن.(2)

وكان حاصل أجرام المنصور أن ترك خزانة مملوءة من رؤوس العلويين وشيعتهم میراثاً لولده المهدي،وقد علّق في آذانهم أوراقاً يستدل بها على صاحب كل رأس.ومن بينها رؤوس شيوخ وشبان وأطفال.(3) وأراد المنصور بفعله هذا أن يقول لولده المهدي:إن لم تمارس سياسة القتل والإجرام ضد العلويين وشيعتهم سوف لا يدوم لك الحكم طويلاً.فكانت هذه التركة الاجرامية بمثابة درساً لمن يخلفه في الحكم وإلا كان باستطاعته اتلافها ومحو آثارها.

وكان لأبي مسلم الخراساني في عهده دوراً بارزاً في مطاردة الشيعة وقتلهم تحت كل حجر ومدر.(4)

فقال أبو بكر الخوارزمي في رسالته إلى جماعة الشيعة بنيسابور بعد أن عدد أعمال الأمويين:فبعث عليهم أبا مجرم لا أبا مسلم فنظر لا نظر اللّه إليه إلى صلابة العلوية ولين العباسية،فترك تقاه،وتبع هواه،وباع آخرته بدنياه، وسلط طواغیت خراسان،وخوارج سجستان،وأكراد أصفهان على آل أبي طالب يقتلهم تحت كل حجر ومدر،حتی سلط اللّه عليه أحب الناس إليه-يعني المنصور-فقتله... .(5)

وكان هارون الرشيد يمتاز عن سائر الخلفاء العباسيين بقسوة قلبه،

ص: 102


1- مقاتل الطالبيين،261
2- مقاتل الطالبيين،131
3- التخاصم والتنازع،103،الحياة السياسية للإمام الرضا (علیه السلام)،87
4- الشيعة في التاريخ،152
5- رسالته،128،الشيعة في التاريخ،152

وشراسة طبعه،وفضاعة اجرامه،فقتل من العلويين بما فيهم الإمام الكاظم (علیه السلام)وشيعتهم ما لا يحصى لهم عددا،فالذي ذكرته التواريخ لا يشكل إلّا جزء يسير ممن قتلهم الرشید سراً وجهراً.فكان منزوع الرحمة لا يرحم حتى أقرب الناس إليه رحمة،وكان يعذب بعض العلويين والشيعة الموالين لهم بنفسه ويقطع أرزاقهم حتى يموت جوعاً،أو يدفن بعضهم أحياء حيث يضعهم في أسس الأبنية والاسطوانات التي شيد عليها المساجد والقصور.وكان يترك ضحايا أجرامه في سجونه المعتمة الكئيبة بلا دفن وتغسيل حتى تبلى أجسادهم في قعر تلك السجون ولا يطلع أحد على ما اقترف هذا الطاغية من جرائم فضيعة لم يشهد لها التاريخ نظیر.

وفيما يلي نذكر بعض الشواهد على ذلك الاجرام:

أولا:بعد قيام الرشيد بتصفية البرامكي وقتلهم برمتهم،ومنهم رئیس وزراءه وزوج أخته العباسة جعفر البرمكي،أقدم على قتل أبناءه الأربعة وهم صبية صغار في عمر الزهور،ثم استدعى عشرة عمال ليحفروا لهم قبورة داخل قصره ليدفنهم فيها سرا،وحينما أنجزوا العمال عملهم أمر الرشيد بقتلهم جميعاً لثلّا يطلع أحد على جريمته النكراء في قتل أبناء أخته العباسة.(1)

ثانياً:وفي ليلة من ليالي حكمه الجائر أرسل الرشید صاحبه مسرور في طلب جلاده،فلما حضر قال له الرشید:بماذا تفتدي أمير المؤمنين؟فأجابه الجلاد قائلا:بنفسي ومالي،فقال له:انصرف،ثم استدعاه ثانية وكرر سؤاله السابق،فأجابه الجلاد:بنفسي ومالي وأهلي،فقال له:انصرف،ثم استدعاه ثالثة وكرر سؤاله،فقال الجلاد:أفديه بنفسي ومالي وأهلي وديني،فحالما سمع الرشید

ص: 103


1- نكبة البرامكی

جوابه هذا انبسطت أساريره وقال له:اتبع مسروراً وافعل ما يأمرك به.

فذهب الجلاد بمعية مسرور حيث أخرج له من سجن سري لا يعلم به أحد ستين علوياً وهم مقيدين بالأغلال ومعصبي الأعين وأمره أن يقتلهم جميعاً واحدة بعد الآخر،وتردد الجلاد قليلا إلا أن مسرور نهرهر وصاح به افعل ما يأمرك به أمير المؤمنين وإلا يقتلك شر قتلة.فباشر الجلاد قتلهم جميعاً ولم يبقي منهم أحداً..فكانت مجزرة رهيبة شملت ستین علوياً بريئاً لا ذنب لهم عدا كونهم من أبناء علي وفاطمة (علیها السلام).

ثالثاً:بعد أن خرّق الرشيد الأمان الذي منحه یحیی بن عبداللّه بن الحسن وضعه في أضيق البيوت وأظلمها،فقال أحد المسجونين بالقرب منه:فبينما نحن ذات ليلة كذلك إذ سمعنا صوت الأقفال وقد مضت من الليلة هجعة،فإذا هارون قد أقبل على برذون له،ثم وقف وقال:أين هذا؟-يعني يحیی بن عبداللّه بن الحسن-قالوا:في هذا البيت،قال:علي به،فأدني إليه،فجعل هارون یكلمه بشيء لمأفهمه،فقال:خذوه،فأخذوه فضربه مائة عصاً،ويحيى يناشده اللّه والرحم والقرابة من رسول اللّه(صلّى اللّه عليه وآله)ويقول:بقرابتي منك،فيقول:ما بيني وبينك قرابة.

ثم حمل فرد إلى موضعه،فقال-الرشید-:كم أجريتم عليه؟قالوا:أربعة أرغفة و ثمانية أرطال ماء.قال:اجعلوه على النصف.

ثم خرج ومكثنا ليالي ثم سمعنا وقعاً فإذا نحن به حتى دخل فوقف موقفه، فقال:علي به،فأخرج ففعل به مثل فعله ذلك،وضربه مائة عصا أخرى،ويحيى بن عبداللّه يناشده اللّه،فقال:كم أجريتم عليه؟قالوا:رغيفين وأربعة أرطال ماء.

قال:اجعلوه على النصف،ثم خرج وعاد ثالثة، وقد مرض یحیی بن

ص: 104

عبداللّه وثقل،فلما دخل قال:عليَّ به،فقالوا:هو عليل مدنف لما به.

قال:كم أجريتم عليه؟قالوا:رغيفة ورطلين ماء،قال:فاجعلوه على النصف.اور ثم خرج فلم يلبث یحیی بن عبداللّه أن مات،فأخرج إلى الناس. ودفن-رضي اللّه عنه وأرضاه-.

ووردت أخبار أخرى في سبب موته مختلفة،منها ما أشارت إلى أنه وضعه في اسطوانة بالرافقة وهو حي،ومنها ذكرت أنه قتل خنقاً،أو مسموماً.وفي خبر علي بن إبراهيم بن بنان الخثعمي،عن محمد بن أبي الخساء:أنه أجاع السباع ثم ألقاه إليها فأكلته.(1)

هذه نماذج ثلاثة أوردناها لغرض التدليل على قسوة قلب الرشید وفضاعة جرائمه،وشدة كراهيته للعلويين وشيعتهم.فهو قتل مئات ممن كافح ظلمه وجوره من العلويين وآلاف من شيعتهم الذين ناصروهم وأزروهم ضد حكمهالجائر المستبد البعيد عن الإسلام وعدله بعد السماء عن الأرض.

ولم يكتفي هارون الرشید بذلك بل راح يلاحق خيرة الرواة من صحابة الأئمة الأطهار ويضطهدهم ويلقي بهم في غياهب السجون مع علمه بأنهم ليس لهم دوراً في حركات العلويين السالفة الذكر.ومن هؤلاء محمد بن أبي عمير ومحمد بن يونس بن عبدالرحمان.فقال الجاحظ في كتابه(البيان والتبين):حدثني إبراهيم بن واحة،عن ابن أبي عمير،وكان وجهاً من وجوه الرافضة،وكان حبس في أيام الرشيد فقيل:ليلي القضاء،وقيل:أنه ولي بعد ذلك،وقيل:بل ليدلّ على مواضع الشيعة وأصحاب موسی بن جعفر (علیه السلام).وروي أنه ضرب

ص: 105


1- مقاتل الطالبيين،319- 320

أسواطاً بلغت منه،فكاد أن يقر لعظم الألم،فسمع محمد بن يونس بن عبدالرحمان وهو يقول:اتق اللّه يا محمد بن أبي عمير،فصبر ففرج اللّه عنه.(1)

وسار الخلفاء العباسيون على المسار الاجرامي الذي اختطه المنصور الدوانيقي،وهارون الرشيد في محاربة العلويين وشيعتهم،وارتكبوا بحقهم أبشع المجازر الدموية،وأكثرها بشاعة واجراماً.

فكلما ذهب مجرم متستر بالإسلام،أعقبه مجرم آخر أشد منه فتكاً،وأكثر اجراماً.(فلم يستقر للشيعة بال، ولم يهنأ لهم عيش).(2)

وقد وصف أحمد أمين المصري في كتابه(ضحى الإسلام)حال الشيعة وأئمتهم الأطهار (عليهم السلام) في عصر خلفاء الجور العباسيين،فنقل رسالة لأبي بكر الخوارزمي في هذا الشأن جاء فيها:...هذا ما فعله العباسيون معأئمة الطالبيين،ولم يكن تنكيلهم بمن تشيع من عامة الناس بأقل من ذلك،فأبو مسلم الخراساني سلط أعوانه على آل أبي طالب يقتلهم تحت كل حجر ومدر،ويطلبهم في كل سهل وجبل،وملئت سجون المنصور والرشيد بالعلويين و من تشيع لهم،ويموت إمام من أئمة الهدى فلا تشیع جنازته،ولا تجصص مقبرته،ويموت(ماجن للعباسيين)أو لاعب،أو مسخرة،أو ضارب،فتحضر جنازته العدول والقضاة،ويعمر مسجد التعزية عند القواد والولادة،ويسلم فيهم من يعرفونه دهرية أو سوفسطائياً،ولا يتعرضون لمن يدرس كتاباً فلسفياً أو مانوياً،ويقتلون من عرفوه شيعية،ويسفكون دم من سمى ابنه علياً.ويتكلّم بعض شعراء الشيعة

ص: 106


1- رجال النجاشي،عنه:326
2- الحياة السياسية للرضا (علیه السلام)،86-106،الأدب في ظل التشيع،61- 72،الشيعة في التاريخ،158-166 ،مقاتل الطالبيين،171وما بعدها

في ذكر مناقب الوصي،بل في ذكر معجزات النبي،فيقطع لسانه،ويمزق دیوانه،كما فعل بعبداللّه بن عمارة البرقي(1) ،وكما نبشی قبر منصور النمري(2) ،حتى ان هارون والمتوكل كانا لا يعطيان مالاً ولا يبذلان نوا إلا لمن شتم آل أبي طالب،ونصر مذهب النواصب،مثل مروان بن أبي حفصة الأموي،ومن الأدباء مثل عبدالملك بن قريب الأصمعي.ثم قال:يقتلون بني عمهم جوعاً وسغباً،ويملؤون دیار الترك والديلم فضة وذهباً،يستنصرون المغربي والفرغاني،ويجفون المهاجرين والأنصاري،ويولون أنباط السود وزارتهم،وقلف العجم والطماطم قيادتهم،ويمنعون آل أبي طالب میراث أمهم وفيء جدهم،يشتهي العلوي الأكلة فيحرمها،ويقترح على الأيام الشهوة ولا يطعمها،وخراج مصر والأهواز وصدقات الحرمین والحجاز تصرف إلى ابن مريم المدني،وإلى إبراهيم الموصلي،وابن جامع السهمي(3) ،والي زلزل الضارب،وبرصوما الزامر،ويقطع بختیشوع النصراني قوت أهل بلد،وبغا التركي،والأفشين الأشروسني كفاية أمة ذات عدد..والقوم الذين أحل لهم الخمس وحرمت عليهم الصدقة،وفرضت لهم الكرامة والمحبة،يتكففون ضراً،ويهلكون فقراً- إلى أن قال-:ومثالب بني أمية على عظمها وكثرتها،ومع قبحها

ص: 107


1- عبداللّه بن عمارة البرقي:شاعر عاصر الرشيد ومن بعده المتوكل،مدح الأئمة الأطهار،فوشي به إلى المتوكل وقرئت عليه قصيدة له فأمر بقطع لسانه،واحراق دیوانه فمات بعد أيام إثر ذلك.راجع الأمين،أعيان الشيعة،8: 63
2- منصور النمري:شاعر عباسي حصل بينه وبين العتابي عداء فوشي به عند المنصور أنه يمدح العلويين فغضب عليه وبعث في طلبه فوجده متوفية فأمر بنبشه ليحرق.راجع الخطيب،تاریخ بغداد،13: 69
3- هؤلاء الثلاثة كانوا من المغنين في بلاط المسلمين

و شناعتها،صغيرة وقليلة في جانب مثالب بني العباس الذين بنو مدينة الجبارين،وفرقوا في الملاهي والمعاصي أموال المسلمين.(1)

ومن الشواهد المجسدة لحقد العباسيين وبغضهم الشديد لشيعة علي (علیه السلام) والأئمة الأطهار من أبنائه هو قتل المتوكل لابن السكيت وسل لسانه.

فذكر السيوطي ذلك في كتابه(تاریخ الخلفاء)فقال:إن المتوكل قتل يعقوب ابن السكيت الإمام في العربية في سنة أربع وأربعين ومائتين،فإنه ندبه إلى تعليم أولاده،فنظر المتوكل يومأ إلى ولديه المعتز والمؤيد فقال لابن السكيت:من أحب إليك هما أو الحسن والحسين؟فقال:قنبر-يعني مولی علي-خير منهما.

فأمر-المتوكل-الأتراك فداسوا بطنه حتى مات،وقيل:أمر بسل لسانه فمات وأرسل إلى ابنه بديته.ومع حقده الشديد هذا لآل البيت (علیهم السلام)وشيعتهم نری السيوطي يصفه بالترفض فيقول:وكان المتوكل رافضية.وهذا من أغرب غرائبه وعجائبه.(2)

ومن الشواهد الأخرى الدالة على محنة الشيعة ومعاناتهم في زمن المتوكل منع الشيعة من زيارة قبر الحسين بعد أن محى أثره وقتل الكثير في هذا السبيل وصادر أموالهم.

وقد بلغ النصب بالمتوكل إلى أن كتب سنة239ه إلى مصر بإخراج آل أبي طالب منها.فأخرجوا وقدموا العراق فأخرجوا منه إلى المدينة،لما مات

ص: 108


1- أحمد أمين،في ضحى الإسلام،3: 296- 298،نقلاً عن رسائل أبي بكر الخوارزمي.أنظر كتاب التقية عند أهل البيت (عليهم السلام) ،50- 51
2- تاریخ الخلفاء،348،وفيات الأعيان،2: 310،الشيعة في التاريخ،164

المتوكل قام من بعد ابنه محمد المستنصر فكتب إلى مصر بأن لا يقبل علوي ضيعة، ولا يركب فرساً،وأن يمنعوا من اتخاذ العبيد،ومن كان بينه وبين أحد من الطالبيين خصومة قبل قول خصمه من سائر الناس فيه،ولم يطالب ببينة، وكتب إلى العمال بذلك(1).

وكانت محنة المحدثين أكبر وأعظم سواءاً كانوا من الشيعة أو السنة خصوصاً اولئك الذين يذكرون فضائل الإمام علي (علیه السلام)وإبنيه الحسن والحسين(عليهما السلام)فتعرض الكثير منهم للضرب والشتم والحبس والقتل وقطع الأرزاق، وقد أشرنا إلى الكثير من الشواهد،فراجع.

ومن هؤلاء المحدث الكبير نصر بن علي الجهضمي لما حدث بهذا الحديث عن رسول اللّه(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم):من أحبني وأحب هذين-یعني الحسن والحسين-وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة،أمر المتوكل بضربه ألف سوط،حتی كلمه في شأنه جعفر بن عبدالواحد وجعل يقول:هذا الرجل من أهل السنة.ولم يزل به حتى تركه(2).

قال الخطيب البغدادي: إنما المتوكل أمر بضربه لأنه ظنه رافضية،فلما علم انه من أهل السنة تركه(3).

واستمرت عمليات المطاردة للثوار العلويين وشيعتهم حتى شملت أكثر ولايات الدولة الإسلامية كالطالقان،وطبرستان،وخراسان،ومنطقة الري في إيران،ونينوى في أرض العراق،وقزوین و زنجان،ومصر

ص: 109


1- خطط المقريري، 4 : 153، الشيعة في التاريخ، 194، مروج الذهب، 4 : 51، الكامل في التاريخ، 5: 287، مقاتل الطالبيين، 450، الغيبة الصغرى، 76
2- أخرجه القاضي في الشفاء، 20:2 ، وابن حجر في تهذيب التهذيب، ترجمة نصر بن علي، 10.
3- تاریخ بغداد، 13: 288.

وشمال أفريقية..إلّا أن معظم هذه الثورات كانت في مدينة الكوفة التي أحرقها مزاحم بن خاقان في عهد الخليفة المستعين بالنار فاحترق منها سبعة أسواق.وذهب ضحية هذه الثورات عشرات الآلاف من الشيعة الموالين لآل البيت (علیهم السلام).(1)

وازداد الحال سوءاً في أواخر أيام الدولة العباسية حيث الفتن والاضطرابات الطائفية التي أوقعت الكثير من الضحايا،وأربكت الأوضاع العامة وكانت هذه الفتن من رواسب الدولة العباسية ومخلفاتها حيث استطاعت بواسطة أجهزةإعلامها،ووعاظ البلاط من فقهاء السوء تزرع الحقد والبغضاء في نفوس المسلمين وتوجد تیاراً مناهضاً للأئمة الأطهار (علیهم السلام)وشيعتهم الموالين لهم في كل أنحاء العالم الإسلامي.

وتفاقمت حدة الصراع الطائفي مع مجيء الدولة البويهية وهي المرحلة الثالثة من التصفيات التي تعرضت لها الطائفة الشيعية عبر مراحل تاريخية مظلمة خلال فترتي العهدين الأموي والعباسي.

المرحلة الثالثة من التصفيات الدموية

تبدأ المرحلة الثالثة من أواخر القرن الهجري الرابع حيث ضعفت الخلافة العباسية وظهرت حكومات الأقاليم المستقلة الخارجة عن سيطرة الخلفاء العباسيين الذين باتوا مسيرين من قبل قادة جيش الأتراك.

وبالرغم من ضعف الخلافة العباسية وظهور الدويلات المستقلة المتعاطفة الأمه

ص: 110


1- الغيبة الصغری،80- 87،مقاتل الطالبيين،11،الكامل في التاريخ،5: 314و 232و315و 345،و329و335و309،مروج الذهب،4: 63و68و69و94

مع الشيعة بشكل وآخر،بقيت الشيعة مضطهدة ومعرضة للقتل والتنكيل لا منقبل الحكومات وإنما من قبل الفئات الطائفية الحاقدة.

فإن نيران الاحقاد والضغائن الطائفية التي أججها العباسيون في نفوس أتباعهم ومريديهم لازالت تستعر لتلتهم مئات الآلاف من الشيعة الأبرار وتحرق تراثهم الفكري بالرغم من ضعف الدولة العباسية وانحلالها.

وبسبب تلك الأحقاد الطائفية المشار إليها تعاظمت محنة الشيعة وفقهائها أكثر فأكثر بمرور الأيام في كل ربوع الوطن الإسلامي دون استثناء.

ففي بغداد اضطرت السلطات الحاكمة إلى نفي الشيخ المفيد(رضوان اللّه عليه)مرتين في زمن الدولة البويهية الشيعية قمع للفتن الطائفية والاضطرابات المذهبية.

فكانت المرة الأولى عام393عندما اختلت الأوضاع الأمنية في بغداد،فجاء عميد الجيوش أبا علي بن أستاذ هرمز وقمع المفسدين،ومنع السنة والشيعة من إظهار مذاهبهم،ونفي بعد ذلك ابن المعلم-يعني الشيخ المفيد- فقیه الإمامية إلى خارج بغداد.

وكانت المرة الثانية في سنة398إثر فتنة طائفية وقعت بين الشيعة والسنة في جانب الكرخ من بغداد.(1)

وذكر صاحب كتاب الغيبة الكبرى الشهيد العلامة محمد الصدر هذه الأحداث والصراعات الطائفية التي حدثت في بغداد بقوله:لم يكن أهل المذاهب الأخرى ليجدوا الفرصة المؤاتية حال قوة الدولة البويهية وجبروتها،وإنما انفسح لهم المجال بشكل واضح في الفترة التي تؤرخ لها، باعتبار ما آل إليه

ص: 111


1- أعيان الشيعة،9: 422

البويهيين من التفرق والانحلال.

ولسنا نريد أن نطيل في وصف الحوادث،وحسبنا أن نعرف،أنه قد حدث في بغداد في عاشوراء عام406حوادث مؤسفة(1)،وفي العام الذي يليه في واسط(2)، وفي شمال أفريقيا حيث قتلت جميع الشيعة كما ذكر التاريخ(3).

وكذلك في بغداد في عام408أيضا،واشتد عام409حتى أدى إلى نفي أبي عبداللّه النعمان الشيخ المفيد من بغداد،تكرر مثل ذلك في الكوفة عام415، وفي بغداد أيضاً عام422(4).

وبلغ التعصب الطائفي الأعمى ذروته في إيران زمن الغزنويين الأتراك حيث تعرض الضريح الطاهر للامام الرضا (عليه السلام) للّهدم والدمار في عهد سبكتكین(5).

وفي443للّهجرة نشبت فتنة طائفية عاصفة في بغداد حيث أشعل متطرّفون من أهل السنة النار في مساجد الشيعة،بل ومراقد أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في الكاظمية،وكانت حدة التوتر تبلغ مرحلة الانفجار في مواسم عاشوراء..عندما يعلن الشيعة حزنهم على مصرع الحسين (علیه السلام)في كربلاء(6).

وعلى أثر احتلال السلاجقة بغداد عام447ه بقيادة(طغرل بيك)الذي تعصب لأهل السنة ضد إخوانهم من الشيعة،شهد جانب الكرخ حرائق مروعة، والتهمت ألسنة النيران أعظم مكتبة في بغداد،وهي مكتبة«أبو نصر سابور»(7).

ص: 112


1- الغيبة الكبرى، 57، ط قم.
2- الكامل في التاريخ، 7: 281
3- الغيبة الكبری، 57.
4- الكامل في التاريخ، 7: 299 و 300 و 316 و 355، والغيبة الكبرى، 114.
5- حياة الشيخ الطوسي، 21.
6- حياة الشيخ الطوسي، 32.
7- حياة الشيخ الطوسي، 36.

وقد أرغمت تلك الحوادث المريرة شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي على الهجرة إلى النجف الأشرف(1)،بعدما اقتحم بيته وصودرت ممتلكاته-بما في ذلك مكتبته وآثاره العلمية-(2).

وفي مصر قام الأيوبيون باضطهاد الشيعة الفاطميين أبشع اضطهاد،وجعلوا من يوم عاشوراء يوم سرور،يوسعون فيه على عيالهم،ويتبسطون في المطاعم، ويصنعون الحلاوات تماماً كما يفعلوا بالأعياد والمناسبات السارة(3).

وبعد التصفيات الدموية التي مارسها صلاح الدين ضد الشيعة الفاطمية قام بفرض عقيدة الأشاعرة على الناس بالإكراه في كل من مصر والشام-بعد القضاء على الدولة الحمدانيةالشيعية فيها-والحجاز،واليمن،والمغرب،حتى صار هذا الاعتقاد بسائر هذه البلاد بحيث ان من خالفه ضربت عنقه(4).

وفي أفريقيا حمل المعز ابن إدريس الناس على التمسك بمذهب مالك

وترك ماعداه من المذاهب،وذبح الشيعة عن بكرة أبيهم ولم يبقى منهم أحد(5).

ويحكي الشهرستاني:أن محمد بن سبكتكین السلطان قد نصر مذهب

الكرامية،وصبّ البلاء على أهل الحديث والشيعة(6).

وفي عام656ه بدأ الاجتياح المغولي للشرق الإسلامي وراحت المدن والحواضر الإسلامية تتساقط الواحدة تلو الأخرى ولاقت بغداد مركز الحكم والحضارة نفس المصير على المغول بقيادة هولاكو حفيد جنكيز خان(7).

ص: 113


1- حياة الشيخ الطوسي، 37.
2- حياة الشيخ الطوسي، 15 و 38.
3- تاریخ مصر، لابن زیدان، 2: 385، من خطط المقريزي.
4- خطط المقريزي، 4 : 186.
5- الخطط، 4 : 44.
6- الملل والنحل، 1 و 15، الشيعة في التاريخ، 156.
7- الشهيد الأول، 91.

وفي دمشق لفقت تهم باطلة للشيخ الجليل محمد بن مكي العاملي الملقب بجمال الدين أو شرف الدين وحوكم محاكمة غير عادلة وضربت عنقه في جمادي الأول عام789ه.

وفي(شذرات الذهب)ذكره المؤلف في أحداث عام786فقال:وفيها قتلمحمد ابن مكي العراقي الرافضي،كان عارفاً بالأصول والعربية،فشهد عليه بدمشق بانحلال العقيدة،واعتقاده مذهب النصيرية واستحلال الخمر الصرف،وغير ذلك من القبائح،فضربت عنقه بدمشق في جمادي الاُولى.(1)

أنظر عزيزي القارئ إلى التعصب الطائفي الأعمى كيف أعمى بصيرة هذا الرجل الحاقد فصيره إنسان فاقد الضمير والوجدان،بعيداً عن الدين والمروءة والانصاف بعد السماء عن الأرض،يخبط خبط عشواء وينسج من وحي أحقاده الدفينة تهماً ملفقة ليلصقها بأشرف وأتقأ وأفضل وأعلم رجل دين في زمانه.

وفي زمن السلطان سليمان القانوني قتل الشهيد الثاني زين الدين الجبعي العاملي ذبحاً ورفع رأسه للسلطان.(2)

وقال(حسن بيك روملو)في كتابه(أحسن التواریخ)حول مقتل الشهيد الثاني: في سنة965وفي أوساط سلطة الشاه طهماسب الصفوي استشهد حاوي المعقول والمنقول،جامع الفروع والأصول الشيخ زين الدين العاملي،وكان السبب في شهادته أن جماعة من السنيين قالوا لرستم باشا الوزير الأعظم للسطان سليمان:...ان الشيخ زين الدين يدعي الاجتهاد ويتردد إليه كثير من علماء الشيعة ويقرأون عليه كتب الإمامية، وغرضهم بذلك إشاعة التشيعّ.فأرسل

ص: 114


1- شذرات الذهب في أخبار من ذهب،6: 294
2- شهداء الفضيلة،136،أعيان الشيعة،292:33

رستم باشا الوزير في طلب الشيخ زين الدين وكان وقتئين بمكة المعظمة وذهبوا به إلى اسطنبول فقتلوه فيها من غير أن يعرضوه على السلطان.(1)

و مهما اختلفت الروايات في الأسباب التي أدت إلى مصرع الشيخ زین الدین،إلا أنها تؤكد جميعة-ربما لا يدع مكانا للشك-أن العاصمة العثمانية كانت تعتبر الشهيد خطر يهدد كيانها ويعرض أمنها للخطر،خاصة وأن سلاطين آل عثمان يتوجسون خيفة من جارتهم في الشرق-يعني الدولة الصفوية-.(2)

وكانت السلطات العثمانية في كل أرجاء امبراطوريتها تضطهد الشيعة اضطهاداً شديداً،وتسلب حريتهم،وتمنعهم من إقامة المأتم الحسينية،ومن زيارة العتبات،وتضايق فقهائهم وتمنعهم من إقامة الشعائر الدينية بالشكل المطلوب.ومارس العثمانيون أبشع الجرائم بحق الشيعة الإمامية خلال فترة حكمهم المظلم الذي استمر أكثر من خمسة قرون متتالية.

وكان للحركة الوهابية الحاقدة دورة ارهابية بارزة في تصفية القواعد الشيعية في أماكن متعددة من أرض الجزيرة العربية،حيث قتلت العديد منهم وهدمت الكثير من مساجدهم على رؤوس المصلّين فيها.(3)

ولم تختصر الجرائم الوهابية على أرض الجزيرة فحسب،بل امتدت جرائمها وشرورها إلى العراق والبلدان المجاورة. وفي العراق استباحت حرمة العتبات المقدسة في كربلاء والنجف وأحدثت المجازر الدموية الرهيبة دون أن يعترض سبيلها أحد.

ص: 115


1- أحسن التواریخ،عنه في أعيان الشيعة،292:33
2- حياة الشهيد زين الدين العاملي،105
3- الفرقة الوهابية في خدمة من،143و145

وفي إيران قام رضا بهلوي المعروف بعمالته لبريطانيا بمكافحة العقيدة الشيعة ونشر الفساد على أوسع نطاق،وحاول نزع الحجاب بالإكراه وإفشاء السفور بحجة تحرير المرأة،فتصدى له فقهاء الشيعة بقوة وفي طليعتهم آية اللّه المجاهد السيد حسين القمي الذي قاد حركة الجماهير الشيعية المؤمنة ضد حكومة البهلوي وأرغمها في نهاية المطاف على التراجع عن اجراءاتها التعسفية المنافية للشرع الإسلامي الحنيف(1) ،بعد أن قدم الشعب الإيراني عشرات الشهداء ومئات الجرحى،وآلاف السجناء في انتفاضتي مشهد و شیراز.

وفي كتاب(قیام جوهر شاد)ذكر بعض أخبار الانتفاضة فقال:وفي10ربيع الثاني1354وصلت ذروة التجمع نقطة الأوج،وكانت التقارير تصل طهران لحظة بلحظة.وتصدر أوامر رضاخان بمهاجمة المسجد-يعني مسجد جوهر شاد-وفي منتصف تلك الليلة هاجمت قوات القوزاق بقيادة العقيد«ایرج مطبوعي»وفتحت النار على الجموع العزلاء.

واستمر أزيز الرصاص مدة طويلة،وسقط العشرات من الشهداء،ونقلت56شاحنة القتلى وحتى الجرحى حيث دفنوا في مقابر جماعية،كما اعتقل أكثر من1500من أفراد الشعب وأودعوا السجون والمعتقلات،كما ألقي القبض على العديد من العلماء،وقد فر الشيخ بهلول باتجاه الحدود الأفغانية،واعتقل من قبل النظام الأفغاني وأودع السجن مدة31سنة.

لقد واجه رضاخان انتفاضة الشعب بكل قسوة،وجرت محاكمات ظالمة

ص: 116


1- تاریخ بیست ساله ایران،6: 53،صحيفة النور،1: 268،نهضت روحانیون ایران،2: 109،عنصر فضیلت و تقوی،49

طالت العديد من العلماء وفي طليعتهم(الميرزا محمد آقازاده).(1)

وبنفي الأب رضاخان ومجيء الابن محمد رضا ازداد الحال سوءاً إذ شرع محمد رضا بهلوي منذ مجيئه بافشاء العادات والتقاليد المنبثقة من الثقافة الأوروبية في أوساط الإيرانيين،ونشر الفساد في أرجاء إيران بحيث لا تكاد ترى منطقة من مناطق ایران خالية من معالم الفساد حتى بجوار العتبات المقدسة حيث تری بارات الخمور، وأماكن الفسق والفجور،ومظاهر الخلاعة والسفور،والملاهي والسينمات المنتشرة في كل مكان وهي تقدم العروض والأفلام الخليعة المبتذلة الباعثة على ممارسة الرذائل واقتراف الجرائم، والداعية إلى التحلل من الأخلاق والقيم الإسلامية.

وبفضل هذه السياسة اللا أخلاقية استطاع الشاه الجديد وبمرور الزمن أن

يطبع سلوك الكثير من الفتيات الإيرانيات بطابع التحلل والتبرج والسفور.

فالمرأة الإيرانية التي كانت فيما مضى تكافح قرار نزع الحجاب المفروضبالقوة،أصبحت تميل إلى خلع حجابها طوعا وبملئ ارادتها.وتبعا لانتشار ظاهرة السفور والتبرج تفشي الفساد الأخلاقي في أوساط الشباب والشابات الإيرانيات وتأصلت جدوره،وازدادت العلاقات الغير مشروعة بين الجنسين،وبرزت ظاهرة اختطاف الفتيات من الشوارع واغتصابهن.

ومن جهة أخرى كان الشاه المقبور يعقد المزيد من الاتفاقيات والمعاهدات السياسية والعسكرية والاقتصادية مع أسياده الأمريكان حتی حول

ص: 117


1- هو ابن المرجع الكبير الشيخ كاظم الخراساني.وكان نجله(الميرزا)من النشطين في حركة المشروطة،اعتقل بعد مذبحة جوهر شاد،لقي مصرعه في ظروف غامضة،وتشير أصابع الاتهام إلى الدكتور أحمدي الذي حقن المرحوم بأبرة هواء.قيام جوهر شاد،161،حياة السيد حسين القمي،78

إيران بمرور الزمن إلى مستعمرة أمريكية.

ونتيجة لسياسة التبعية المطلقة لأمريكا،وعدم توزيع الثروة الوطنية بشكلعادل تردت الأحوال الاقتصادية والمعاشية،وظهر التفاوت الفاحش بین الفقر المدقع الذي شمل الغالبية الساحقة من أفراد الشعب الإيراني،والغنا المفرط الذي اختص به نفر قليل من النفعيين الذين استثمروا علاقاتهم الحسنة بأفراد الحاشية الملكية لجمع المال والاستحواذ على الأراضي والمقاطعات الزراعية.

وتردت الأحوال سوء بشكل ما عادت الشرائح الواعية تطيقها و تصبر على ما تراه من عوامل الفساد والتفسخ وهي تنخر في كيان المجتمع الإيراني المسلم وتكاد أن تجعله خاويا ومجردة من أبسط القيم والأخلاق الإسلامية السامية.

فنهضت تلك الشرائح الواعية نهضة إسلامية عامرة بقيادة القائد الفذ روح اللّه الموسوي الخميني لتكافح الطغيان والاستبداد والفساد المتفشي في كل أرجاء الوطن، ولتسقط نظام الشاه البالي،وتنقذ الجماهير المسلمة من حالة البؤس والشقاء،وتحررها من العبودية والإذلال،وبادرت الجماهير فورا للالتفاف حول قيادتها المخلصة فكانت حركة الخامس عشر من خرداد.

ولما أوجس الشاه المقبور خطورة الحركة على نظام حكمه،توسل بالقوة العسكرية،واستخدم وسائل الإبادة الجماعية وبمنتهى القسوة والشراسة، فقتل عشرات الألوف من الجماهير الساخطة،وملء السجون بالمجاهدين الأبطال بما فيهم علماء الدين،ومارس ضدهم أبشع أساليب التعذيب وأحدثها، ونفى القائد المبجل إلى خارج إيران..

وظلت عوامل التذمر والسخط تغلي في نفوس الجماهير المؤمنة حتى تحولت بعد مرور فترة من الزمن إلى ثورة عاصفة واجهها الشاه بشراسته وقسوته المعهودة،فكانت مجازر الفيضية والجمعة السوداء وسقوط عشرات الآلاف من

ص: 118

القتلى والجرحى في معظم المدن والمحافظات الإيرانية الثائرة.

واستطاعت الجماهير الغاضبة أن تسقط نظام الشاه،وتعيد القائد من منفاهإلى أرض الوطن،وتثبت قواعد الإنقلاب و ترسخ أصوله..

ثم ظهرت ردود الفعل وانعكاسات الثورة الإيجابية في آفاق المجتمع المسلم لا سيما في الدول المجاورة كالعراق،وتركيا،وأفغانستان،وباكستان،وامتدت اشعاعات الثورة إلى فلسطين،وسوريا،ولبنان،وسائر أرجاء العالم الإسلامي.

ففي العراق قام النظام البعثي العميل بحملة من الاجراءات التعسفية والتصفيات الدموية الرهيبة الهادفة إلى وضع الموانع والعراقيل في طريق الثورة الإسلامية القادمة من البلد المجاور إيران،وبات خطرها يهدد كل النظم الرجعية العميلة الضالعة في ركاب الإستكبار العالمي،بما فيها النظام البعثي الحاقد الذي سبق وأن مارس أبشع أساليب التصفية الدموية لرجال العلم والفضيلة والعناصر الواعية من المؤمنین تحت شعار لا جاسوس يبقى على أرض العراق..

فعملاء الأجنبي وجواسيسه القداما الذين جاؤوا إلى دفة الحكم بقطار أنكلو أمريكي اتخذوا من شعار مكافحة التجسس ذريعة لتحجيم نشاط العلماء والحوزات العلمية،ومنع إقامة المأتم الحسينية،وتهجير مئات الآلاف من العراقيين الشيعة بعد أن سلبوا أموالهم وممتلكاتهم بحجة التبعية الإيرانية.

فكانت هذه الاجراءات التعسفية الجائرة كمرحلة تمهيدية للتصفيات الدموية البشعة التي مارسها فيما بعد.

فعلى أثر سماع النظام بحدوث الإنقلاب الإسلامي في إيران،وتفاعل العناصر الواعية من علماء الدين معه،كشر النظام عن أنيابه الدامية،وأظهر منتهی شراسته وقسوته،فمارس التهجير والتقتيل والتنكيل في آن واحد.

ص: 119

فقتل العشرات من علماء الدين و آيات اللّه العظام،بل المئات وفي طليعتهم آية اللّه الشهيد محمد باقر الصدر،وأخته العلوية الفاضلة بنت الهدى،وإعدام المئات من العناصر المؤمنة الواعية الموالية لهم.

ولم يتورع النظام عن ممارسة أقسى أساليب التعذيب الوحشي بحق المجاهدين الأبطال،وصار يلقي الأطفال الأبرياء في مكائن ثرم اللحم أمام أنظار أمهاتهم المؤمنات الصابرات،وحبس الشباب والشابات المجاهدين في مكان واحد وهم عراة،ومارس أشد أساليب الرذيلة ضعة بحق المؤمنات المجاهدات،فأفتضی بكارة العديد منهن بالإكراه واستباح حرمة العشرات أمام أزواجهن وإخوانهن وآبائهن وأبنائهن.إن أساليب الخسة والدناءة والضعة التي مارسها النظام البعثي الحاقد تذكرنا بالجرائم الدموية واللا أخلاقية التي مارسها جیش یزید بن معاوية عند استباحته للمدينة المنورة في سالف الأيام.

وبلغ حقد النظام البعثي وقسوته درجة لم يسبق لها نظير،حتى أن رأس النظام صدام حسين كان يمارس تعذيب الشهيد الصدر وأخته العلوية وبعض علماء الدين المجاهدين بنفسه،وكأنه يريد بفعله هذا أن يذكرنا بأسلافه المجرمين من الأمويين والعباسيين الذين كانوا يمارسون تعذيب العلويين وشيعتهم بأنفسهم في أثناء فترة عهديهم الغابرين..

وكان النظام البعثي بعمليات الابادة والتصفيات الدموية يمهد السبيل لإعلان حربه الظالمة ضد نظام الإسلام الذي رست قواعده في إيران.فبادر النظام إلى نقض إتفاقية الجزائر من طرف واحد،وأعلن حربه المدمرة التي دام أمدها ثمان سنوات متتالية،لتهمت بنيرانها مئات الآلاف من كلا الطرفين معظمهم من الشيعة،ودمرت عشرات المدن والقرى. فكانت صواريخه المدمرة، وأسلحته الفتاكة التي أمطر بها البيوت الأمانة، وطالت عشرات الآلاف من النساء

ص: 120

والشيوخ والأطفال بنيرانها المحرقة،كانت رسل حقده الدفين ضد الشيعة الإمامية وفقهائها الأخيار..

ومن أصدق المشاهد المأساوية دلالة على قسوة النظام البعثي وشدة إجرامه قصفه لمدينة حلبجة بالقنابل والصواريخ الكيمياوية على حين غرة وقتل الآلاف من أبناء شعبه الأبرياء دون أي مبرر يذكر عدا حقده الأسود الدفين،وشراسة طبعه،وطبيعة إجرامه التي ليس لها حد معلوم.

وبعد أخماد نيران محرقة القادسية الظالمة التاف النظام البعثي الحاقد على جارته الكويت لا بهدف تحريرها كما يزعم،وإنما بهدف تدميرها وإتلاف خيراتها، وسرقة ثرواتها،وتحطيم القواعد الشيعية المتنامية فيها،وقطع الموارد الضخمة عن مرجعيتها في النجف،وتمهيد السبيل للمستكبرين لاحتلالها،وتثبيت وتوسيع قواعدهم العسكرية فيها،وتدمير قدرات الجيش العراقي،والتقليل من خطره على إسرائيل والدول المجاورة بعد أن أنجز مهمته في تحطيم البنية التحتية لإقتصاد إيران الإسلام،وإضعاف إمكاناتها البشرية والمادية والعسكرية.

ونشبت حرب الخليج وجاء الحلفاء بأسلحتهم الحديثة المدمرة ليدفنوا أكثر من نصف مليون جندي عراقي،وثلاثة آلاف دبابة في صحراء الكويت،ثم هاجمت طائرات الحلفاء المدن الرئيسية العراقية وركزت هجماتها على العاصمة بغداد،فتعرضت المراكز الصناعية،ومصادر الطاقة الكهربائية والمائية، ومصافي النفط،والمؤسسات الحياتية لأعنف الهجمات الغربية.

وحطموا بفعل هجماتهم جميع ركائز الاقتصاد العراقي وخلفوا ورائهم الفقر والمجاعة والمرض.

وجاءت انتفاضة الخامس عشر من شعبان التي شملت معظم مدن

ص: 121

الجنوب:كالبصرة،والكوت،والعمارة،والناصرية،والقادسية،والنجف،وكربلاء وغيرها.

وقبل أن تبلغ الانتفاضة أهدافها،بادر النظام فوراً إلى تطويقها وصب نیران حقده الأسود على تلك المدن الثائرة وتم إحراقها بنار صواريخه التي أعدها لإبادة شعبه لا مقارعة العدو وصد عدوانه حسب مزاعمه الكاذبة،ولم تسلم من نيران أسلحته المدمرة حتى العتبات المقدسة في النجف وكربلاء..

وبعد أن سيطر النظام على الوضع وأخمد الانتفاضة بنيران حقده،باشر بقتل مئات الآلاف من شيعة العراق بشتى السبل والأساليب الإرهابية،فارتكب أوسع المجازر الدموية وأكثرها بشاعة وإجراما.ثم أخذ بتصفية من تبقى من مراجع الشيعة العظام الواحد تلو الآخر ابتداء من السيد الخوئي وأبنائه وأحفاده وانتهاء بالشهيد محمد الصدر.

وبهذه التصفيات الدموية الرهيبة اجتث النظام البعثي الحاقد الحوزة العلمية في النجف وكربلاء وسائر المدن المقدسة، وقتل معظم كوادرها،ولم يترك من رموزها إلا نفراً قليل وضعهم تحت الرقابة المشددة يريد استخدامهم كورقة ضاغطة عند اقتضاء الحاجة..

وكان للحصار المفروض على العراق من قبل الدول الغربية أثره المهم في تثبيت دعائم النظام وإضعاف قدرات الشعب بشكل لم يعد قادراً من الوقوف على قدميه لمواجهة القتل والظلم والاستبداد،بل أصبح جل اهتمامه الحصول على رغيف الخبز يشبع بها جوعته،ويسد رمقه..

وكانت حصيلة الحربين:القادسية واُم المعارك،والحصار المفروص،والتصفيات الدموية قتل أكثر من مليوني عراقي و تشريد مليونين،وتحولالعراق من مركز للتشيع في العالم موالية لحركات التحرير،إلى بلد مسخر لخدمة أعداء

ص: 122

المسلمين من المستكبرين والصهاينة المجرمين..

وفي لبنان أحدث أعداء الإسلام الفرقة بين طوائف الشعب اللبناني، ووجروا نار الحرب الطائفية ضد شيعة جبل عامل منذ أكثر من ثلاثين عاماً.

ووقوف إسرائيل بجانب الميليشيات المسيحية العميلة ساعد على تأجيج نار الحرب وتوسيع رقعتها،وازدياد خسائرها،وأطالت أمدها،ونسف كل محاولات التسوية والتفاهم بين الطوائف المتصارعة،فاستثمرت إسرائيل ومن ورائها دول الإستكبار العالمي هذه الحرب الطائفية لتحقيق أغراضها المادية، وأطماعها التوسيعية..ولولا وقوف حزب اللّه وقيادته المخلصة بوجه هذه الهجمة الإستكبارية الشرسة لتمكنت إسرائيل من تحطيم كل مراكز القوى في لبنان وإخضاعه لسيطرتها التامة.

فاختطاف السيد موسى الصدر وعدداً من قيادات أمل وحزب اللّه،وقتل العشرات من علماء جبل عامل،والآلاف من أبناء الشعب اللبناني،وتدمير الكثير من المناطق السكنية،والمراكز الحياتية،والمؤسسات الصناعية بعض نتائج هذه الحرب الطائفية المدمرة.

وفي الباكستان قامت العناصر والفئات المرتبطة بالوهابية والتي تطلق على نفسها اسم جيش الصحابة بعمليات اغتيال وسيعة النطاق شملت الكثير من أفراد الطائفة الشيعية بما فيهم رئيس الطائفة وعددا من علمائها المجاهدين.

وكانت هذه الحملات تشتد وطأتها في مواسم العزاء في عاشوراء.وما كانتهذه العصابات الحاقدة لا تعير أي اهتمام أو حرمة لبيوت اللّه ولكتابه المنزل.فهي تقتل المسلمين من الشيعة في حال الصلاة وفي شهر رمضان وهم داخل المساجد،وتحرق المكتبات الدينية رغم احتوائها على مئات من مصاحف القرآن.

ص: 123

ولم يسلم الأطفال الأبرياء من جرائم هذه العصابات الفاشية،بل راحت تلاحقهم في مدارسهم وتقتل العديد منهم وتضع المتفجرات في وسائل نقلهم..

وفي أفغانستان بعد إنسحاب الروس استمرت حرب داخلية ضروس بین الأحزاب المتناحرة على مواقع السلطة.وركزت الهجمات على المناطق الشيعية الآهلة بالسكان وقتل الآلاف من الشيوخ والنساء والأطفال بصورة جماعية وفي مجازر وحشية لم يشهد التاريخ نظيراً لها..

ولم يدم الحال على هذه الصورة طويلاً إذ سرعان ما جندت قوی الإستكبار عصابة الطالبان الوهابية ووظفتها لخدمة أغراضها التوسعية.ولما دخلت هذه العصابة حلبة الصراع تحولت تلك الحرب إلى حرب طائفية مدمرة التهمت بنيرانها مئات الآلاف من الشيعة الأفغان وغيرهم.

وذكرتنا جرائم هذه العصابة الفاشية بارتكاب المجازر الوحشية بجرائم النازية في أثناء الحرب العالمية الثانية، ولعل هذه فاقت تلك المجازر وحشية وهمجية..

ولم يستطع المجتمع الدولي أن يضع حدا لجرائم هذه العصابة الحاقدة المتمردة على القوانين الإسلامية والوضعية في آن واحد.

وكان للباكستان في زمن حكومة نواز شریف دورة بارزة في دعم عصابةالطالبان و تزويدها بكل ما تحتاج من الأسلحة والمؤمن،بل تجاوزت الباكستان حد التدخل الغير مباشر إلى تدخل مباشر في شؤون أفغانستان حيث زجت بقطعات من قواتها المسلحة لتشارك عصابة الطالبان في إحداث المجازر الدموية الرهيبة التي طالت مئات الآلاف من الأفغان معظمهم من الطائفة الشيعية،وتحولت المناطق السكنية والمصانع والمؤسسات الحياتية إلى مقابر جماعية للطفولة والأمومة بفعل هذه الحرب المدمرة.. وتشرد أكثر من مليوني مسلم

ص: 124

شيعي في شتى أنحاء العالم.

وبهذا نختم المرحلة الثالثة من التصفيات الدموية وحروب الابادة الجماعية الموجهة ضد الطائفة الشيعية التي استمرت أكثر من ثلاثمائة سنة وألف. ولازات قائمة على قدم وساق ولا يحتمل وضع حد لها إلا بظهور الحجة بن الحسن العسكري(عج)وإقامة حكومته العالمية العادلة..

:وكان هذا العامل من أهم العوامل التي ساعدت على نشوء فكرة الانتظار السلبي للإمام المهدي المنتظر(عج)عند البعض من أفراد الطائفة الشيعية. وهذا أمر طبيعي لا غرابة فيه؛لأن معنويات الناس وقابلياتهم على الصمود والمقاومة،وقوة إرادتهم تتوقف على مدى إيمانهم بالقضية التي يجاهدون من أجلها،فكلما قوي إيمانهم بعدالة القضية ازدادت قابليتهم على الصبر والتحمل واستطاعوا أن يواكبوا مسيرة الجهاد إلى نهاية أشواطها دون تلكؤ وإنحراف.

وإذا ما ضعف إيمان المرء بعدالة قضيته ضعفت تبعاً لذلك قدرته على الصبر والتحمل،وانهارت معنوياته عند مواجهة المواقف الصعبة،والمنعطفات الخطرة ولم يعد قادراً على مواكبة الجهاد والتصدي.فصلابة الإنسانوصموده تتوقف على مستوى إيمانه،وهذا ما أكدته التجارب الإنسانية،والوقائع التاريخية.

فسقوط ضعفاء الإيمان في أوساط الطريق مسألة طبيعية تفرزها الطبيعة الإنسانية،والحالة الإيمانية المختلفة باختلاف الأفراد.وعدم حصول هذه الظاهرة مسألة تدعو للتأمل والتفكر لأنها منافية للطبيعة الإنسانية.

فلا غرابة إذن في حمل البعض لفكرة الانتظار السلبي،لأن الأحداث الدامية، والظروف الموضوعية المفعمة بالرعب والخوف،وسياسة الإرهاب والتنكيل على امتداد التاريخ زرعت اليأس والقنوط في أعماق نفوسهم،

ص: 125

وجعلتهم يؤمنون بعدم جدوى المقاومة والصمود بوجه الحملات التصفوية التي تمارسها الحكومات الجائرة التي حملها التصعب الطائفي الأعمى والجهل وحب الدنيا على التنكيل بالطائفية الشيعية الموالية للأئمة الأطهار من أهل البيت (علیهم السلام) ..

فحالة اليأس والقنوط التي توغلت في نفوس البعض هي التي قادتهم إلى العزلة والانزواء بعيداً عن ميادين الجهاد والمقاومة،ظناً منهم بأن العزلة والانزواء تنقذهم من شرور حكام عصرهم،وتجعلهم في مأمن من عمليات التصفية والابادة.

ولكن سرعان ما ستخيب الوقائع ظنهم وتجعلهم وجهاً لوجه أمام أعدائهم التقليديين في وقت لم يكونوا قد أعدوا أنفسهم لهذه المواجهة الشرسة التي فاجأتهم على حين غرة وبدون سابق إنذار..

ومما تقدم نستنتج النتيجة التالية:وهي أن فكرة الانتظار السلبي وإن كانت حالةطبيعية ترتبط ارتباط وثيق بدرجة إيمان الإنسان،وإن الظروف الموضوعية المتسمة بالعنف والارهاب هي التي ساعدت على نشوء الفكرة وترسيخها في أذهان البعض،إلّا أنها لا تخلو من خطورة عظيمة على حملة الفكرة بالدرجة الأولى،وعلى الجماعة المسلمة التي يشكلون جزءاً لا يتجزأ منها بالدرجة الثانية.

لا ريب إن انتشار هذه الفكرة في أوساط تلك الجماعة تؤدي إلى إضعاف روح المقاومة،وتسهيل مهمة الخصم في السيطرة عليهم،واخضاعهم المشيئته..

وأما معتنقي الفكرة فهم أشد عرضة لمخاطر التصفية والابادة؛لأنهم لم يعدوا أنفسهم لمواجهة خطر التصفية،ولم يحدثوا أنفسهم في يوم ما بذلك،ولم يحتملوا حصولها بالنسبة لهم،لأنهم تركوا ميادين المواجهة منذ أمد بعيد، ولاذوا

ص: 126

بالصمت والعزلة والانزواء.

ثالثاً:الجهل والتحريف

ومن العوامل التي ساعدت على نشوء وتركيز فكرة الانتظار السلبي هو

عامل الجهل والتحريف.فالجهل بمبدأ الإمامة وقواعدها العلمية،وعدم معرفة خصائص الإمام ومختصاته،أدى إلى تشتيت الطائفة الشيعية وتفريقها بمرور الزمن نتيجة الانقسامات المتكررة.فإن أقرب الناس لآل بيت العصمة والطهارة (علیهم السلام)،وللأئمة (علیهم السلام)كانوا يجهلون هذه الأمور،ولا يعرفون أسماء الأئمة الإثني عشر المنصوص عليهم من قبل الرسول الأكرم(صلّی اللّه عليه وآله). فهم لم يعرفوا منهم عدا ثلاثة آخرهم الحسين بن علي (علیه السلام)،ولم يعلموا بوصية الحسين لولده زین العابدين بأن يخلفه في الإمامة من بعده.

فمحمد ابن الحنفية الذي هو عم الإمام زين العابدين ما كان يدري من هو الإمام بعد الحسين (علیه السلام)على وجه التعين،وكان يتصوّر أنه هو الشخص المؤهل الاحتلال منصب الإمامة،فلما صارحه الإمام زين العابدين بأنه هو الإماماً من بعد الحسین (علیه السلام)استغرب وظنّ أنه غير جاد في قوله،إذ كيف يكون إمامة من هو أصغر سناً،وأقل شئناً،وأخمل ذكراً..فنافسه على مركز الإمامة ولكن الإمام زین العابدين طلب منه الاحتكام إلى الحجر الأسود،فرضي محمد بذلك.

فكانت المعجزة الباهرة حيث نطق الحجر الأسود وحكم بإمامة الإمام زین العابدين وأذعن محمد بن الحنفية بذلك وقال بإمامته (علیه السلام).ولكن البعض من وجوه الشيعة لم يعترفوا بذلك وظلوا معتقدين بإمامة محمد بن الحنفية وشكلوا

ص: 127

مذهب الكيسانية.(1)

وكان هذا أول انقسام وقع في صفوف الطائفة الشيعية.ولما توفي محمد لم يعترفوا بموته وقالوا:إنه حي وسيكون هو المهدي(عج)الذي يملئ الأرض عدلاً وقسطاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً..(2) .

وكان الانقسام الثاني للطائفة هو ظهور الفرقة الزيدية التي اعتقدت بإمامة زیدابن علي بن الحسين (عليهم السلام) إثر قيامه ضد الدولة الأموية في زمن خلافة هشام بن عبدالملك الذي أمر بصلبه في باب الكناسة بعد أن استخرجه من قبره بعد الدفن.(3)

ولازالت هذه الفرقة موجودة في اليمن إلى يومنا هذا.

وتجلى الانقسام الثالث بظهور الفرقة الإسماعيلية التي اعتقدت بإمامة إسماعيل الابن الأكبر للإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) ،وانقسم الإسماعيلية إلى فرقتين:فريق منهم رجعوا عن حياة إسماعيل وقالوا:بإمامة ابنه محمد بن إسماعيل لظنهم إن الإمامة كانت لأبيه والابن أحق بها من الأخ-يعني الإمام الكاظم (علیه السلام)-وفریق ثبتوا على حياة إسماعيل.

وهذان الفريقان يسميان الإسماعيلية،والمعروف منهم اليوم من يزعم أن الإمامة بعد إسماعيل في ولده وولد ولده إلى آخر الزمان.ويسمى الذين قالوا بإمامة محمد بن إسماعيل العمارية،والذين أنكروا موت إسماعيل المباركة.(4)

وتجسد الانقسام الرابع في الفرقة الفطحية حيث قالوا:بإمامة عبداللّه بن

ص: 128


1- الملل والنحل،للشهرستاني،1: 13،مقدمة ابن خلدون،139
2- خطط المقريزي،4: 174
3- الشيعة في التاريخ،52
4- الإرشاد،304،الملل والنحل،1: 13

جعفر الصادق (علیه السلام)دون أخويه موسى وإسماعيل.

وكان عبداللّه أكبر أخوته بعد إسماعيل،ولم تكن منزلته عند أبيه كمنزلة غيره من ولده في الإكرام،وكان متهماً بالخلاف على أبيه في الاعتقاد.ويقال أنه كان يخالط الحشوية ويذهب مذاهب المرجئة،وادعى بعد أبيه الإمامة واحتج بأنه أكبر أخوته،فاتبعه جماعة من أصحاب أبيه (علیه السلام)ثم رجع أكثرهم بعد ذلك إلى القول بإمامة أخيه موسى الكاظم (علیه السلام)،واندثرت هذه الفرقة بعد موت عبداللّه حيث لم يعقب ولداً ذكراً(1).

وبعد استشهاد الإمام موسی بن جعفر الكاظم (عليه السلام) ظهرت الفرقة الواقفية التي وقفت عند الإمام الكاظم (علیه السلام)ولم تقل بإمامة غيره،وآمنت بأنه حي يرزق وسيظهر في آخر الزمان ليملئ الأرض عدلاً وقسط كما ملئت ظلماً وجوراً.

والسبب في نشوء هذه الفرقة هو ان وكلاء الإمام الكاظم (عليه السلام) طمعوا بالأموال الموجودة لديهم،ورفضوا تسليمها إلى الإمام الرضا(علیه السلام)بعد استشهاد أبيه بحجة أنه حي لم يمت.وتبعهم الكثير من فقهاء الشيعة ورواتها المقربين للأئمة الأطهار (علیهم السلام)(2).

ثم ظهرت فرقة أخرى من الواقفة بعد استشهاد الإمام الرضا (علیه السلام)،إذ رفضوا الإقرار بإمامة الجواد (عليه السلام) لصغر سنه،إذ كان عمره حينذاك سبع أو تسع سنين،ووقفوا عند إمامة الرضا (علیه السلام).

ص: 129


1- الإرشاد، 306، الملل والنحل: 1: 95
2- خطط المقريزي، 4 : 176، الملل والنحل، 1: 95 و 98، منهج المقال: 289، غيبة الشيخ الطوسي، 46، رجال الكشي، 409 - 460.

فالواقفة بناء على ما تقدم اسم يطلق على كل من أنكر موت أحد من الأئمة ووقف عليه، ولم يسق الإمامة إلى غيره.وقد أطلق هذا الاسم ابن خلدون: على كل من يقف من الغلاة على واحد من الأئمة لا يتجاوزه إلى غيره. وعلى هذا التوسع يكون السبائية-وهم أول الغلاة-أول الواقفة،لأنهم أول من زعم أن عليا حي لم يقتل.وبعدهم الكربية من الكيسانية:وهم أتباع أبي كرب،قالوا:بأن محمد بن الحنفية(رض)حي لم يمت وأنه في جبل رضوی بين أسد ونمر...(1) .

هذه أهم الانقسامات التي تعرضت لها الطائفة الشيعية عبر التاريخ الدامي الطويل،وبعد استشهاد الإمام الحسن العسكري (علیه السلام)تعرضت الشيعة لأعظم محنة،وأشد بلاءً،كانت أكثر تأثيراً وأعظم فتكاً بوحدة صفوفهم من تلكالانقسامات المارة الذكر،وهذه المحنة تجسدت بالشك بوجود الإمام الحجة بن الحسن(عج)وهو الإمام الثاني عشر.

ومنشأ هذا الشك الذي اعترى كافة فقهاء السنة وأكثر فقهاء الشيعة هو ان الإمام الحسن العسكري (علیه السلام)لم يخبر بولادته ووجوده عدا عدد قليل من أصحابه المقربين له بسبب الظروف الحرجة المحيطة به،خوف الإمام على وليده من أن تقتله السلطات العباسية التي كانت تترصده و تتابع أخباره عن كثب،وقد فرضت حصاراً على بيت الإمام العسكري (علیه السلام)،ووضعت عليه عشرات العيون والجواسيس كي تعلم بأخبار الوليد و تسعى في قتله قبل أن يعلم بخبره أحد.

فالظروف السرية التي أحاطت بالإمام لم تسمح باعلان إمامته بعد استشهاد أبيه إلّا في نطاق ضيق جداً.ثم احتجاب الإمام الحجة عن شيعته

ص: 130


1- خطط المقریزی،4: 176،الشيعة في التاريخ،63،الصواعق،127

واتصاله بهم عن طريق سفيره العمري زاد من نسبة الشك في وجوده المقدس.

فاستثمر جعفر الكذاب أو التواب هذه الأوضاع الغير طبيعية لاعلان إمامته خلفاً لأخيه الإمام حسن العسكري (علیه السلام)،وأنه وريثه الوحيد،لأن أخيه لم يخلف ولداً يرثه ويكون الإمام من بعده.

وقد أعانت السلطات العباسية جعفراً على تنفيذ خطته هذه لیكون بمقدورها احتواء مسألة الإمام وتسويقها على صعيد المستقبل،وإضعاف إيمان المسلمين عامة والشيعة بصورة خاصة بوجود الإمام الثاني عشر (علیه السلام).

والذي يمكّن السلطة الغاشمة من انجاز خطتها شيئين وهما جعفر الكذاب المعروف بفسقه وفجوره،وعدم علم المسلمين بما فيهم الشيعة بوجود الإمام الحجة ابن الحسن العسكري (علیه السلام)،وإن الكثير منهم كان يشكك حتى بسفرائه ولا يعتقد بصلتهم به..فإن هذان الأمران يساعدان السلطة الجائرة على انجاح خطتها في احتواء مسألة الإمامة أو تسويفها،والغاء تأثيرها السياسي باعتبارها نهج مقابل نهج الخلافة..

وما زاد في الطين بلة،وركز الشكوك أكثر فأكثر في نفوس الكثير من فقهاء الشيعة بوجود الحجة (علیه السلام):هو ظهور الكثير من الكذابين ممن اتسم بالعلم والفقاة مدعين السفارة للإمام زوراً وكذباً،وكان معظم هؤلاء من الطائفة الشيعية..واستفاد وعاظ السلاطين من الملابسات المحيطة بوجود الحجة بن الحسن(عج)،والغموض الذي اكتنف قضيته لينفوا وجوده مطلقاً،متذرعين بقول الرسول (صلی اللّه علیه واله) :«إن اللّه يصلحه بيوم وليلة»،وبهذا الحديث ونظائره من الأحاديث التي أساء وأفهمها وأولوها بشكل يخدم أغراضهم الشيطانية..

ثم افتعلوا المزيد من الروايات التي حاولت إيجاد الاختلاف في نسب الإمام المهدي(عج)،أو تغير هويته،وفيما يلي نذكر نماذج منها وردود فقهاء

ص: 131

السنة عليها:

أولاً:جاء في الصواعق تعليلاً لسبب جعل الخلافة في نهاية المطاف في أبناء الحسن قائلا:وروى أبو داود في سننه أنه من ولد الحسن،وكان سره ترك الحسن الخلافة اللّه عزوجل شفقة على الأمة،فجعل اللّه القائم بالخلافة الحق عند شدة الحاجة إليها من ولده ليملأ الأرض عدلاً...ورواية كونه من ولد الحسين واهية جداً،ومع ذلك لا حجة فيه لما زعمته الرافضة أن المهدي هو الإمام أبو القاسم محمد الحجة ابن الحسن العسكري ثاني عشر الأئمة الآتين في الفصل الآتي على اعتقاد الإمامية.(1)

ثانياً:جاء في كتاب(إبراز الوهم المكنون)في الحديث الثاني والثلاثون عن عثمان قال:قال رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) :المهدي من العباس عمي.ورواه الدارقطني في الأفراد،وهو غريب منكر،وقد جمع بأنه عباسي الأم،حسنيالأب وليس بذلك،بل الحديث لا يصح.(2) وفي كتاب(الحاوي للفتاوي):روى الدارقطني في الإفراد،وابن عساكر في تاريخه عن عثمان بن عقّان:سمعت النبي (صلی اللّه علیه واله) يقول:المهدي من ولد العباس عمّي.قال الدارقطني:هذا حديث غريب تفرد به محمد بن الوليد مولی بني هاشم.(3)

ثالثاً:عن أبي نعيم في حلية الأولياء:وإنما الخليفة المنتظر هو محمد بن عبداللّه المهدي القائم في آخر الزمان وهو يولد بالمدينة المنورّة لأنه من أهلها

ص: 132


1- الصواعق،165.وأنظر كتاب الإمام المهدي(عج)حقيقة لا خيال،217
2- إبراز الوهم المكنون،563،ط دمشق،سنة 1347ه
3- الحاوي للفتاوي،2: 165

كما أخبر به وبعلامته.(1)

وفي كنز العمال:رجل من أهل بيتي،يواطئ اسمه إسمي،وإسم أبيه إسم ابی.(2)

و وفيه أيضاً:المهدي يواطئ إسمه إسمي،وإسم أبيه إسم أبي(ذكر عن ابن سعود) الحديث.(3)

رابعاً:روی ابن ماجة عن أنس بن مالك أن رسول اللّه(صلّى اللّه عليه وآله)قال:...ولا مهدي إلّا عيسى ابن مريم.

قال القرطبي في التذكرة:إسناده ضعيف،والأحاديث عن النبي (صلی اللّه علیه واله) فيالتنصيص على خروج المهدي من عترته من ولد فاطمة ثابتة أصح من هذا الحديث،فالحكم بها دونه.(4)

وفي كتاب(إبراز الوهم المكنون)حول حدیث«لا مهدي إلّا عیسی بن مریم»قال صاحب الكتاب:وأقول إن هذا الحديث ليس بضعيف كما يقول الطاعن-يعني ابن خلدون-وإن اقتصر على ذلك غيره،بل هو باطل موضوع مختلق مصنوع لا أصل له من كلام النبي (صلی اللّه علیه واله) ،ولا من كلام أنس،ولا من كلام الحسن البصري،وبيان ذلك وإيضاحه من وجوه.(5)

وقال ابن خلدون:وربما تمسك المنكرون لشأن المهدي بما رواه محمد بن خالد الجندي،عن أبان بن صالح،عن الحسن البصري،عن أنس بن مالك،عن النبي (صلی اللّه علیه واله) أنه قال:لا مهدي إلّا عيسی حبها

ص: 133


1- عنه في كتاب المهدي عند أهل السنة،2: 46
2- كنز العمال،14،الحدیث:38667و38668
3- كنز العمال،14،الحدیث:38667و38668
4- الحاوي للفتاوي،2: 164.وأنظر المهدي عند أهل السنة،1: 396
5- الوهم المكنون،584

وهذا حديث مصنوع،فقد قال-نقاد الأسانید كالحاكم-:إن محمد بن خالد رجل مجهول،وقال ابن عبدالبر:إنه مردود،وقال الأزدي:منكر الحديث،وأخذ في مثل هذا يقول ابن حزم:إذا كان في سند الحديث رجل مجروج بكذب،أو غفلة،أو مجهول الحال،لا يحل عندنا القول به،ولا تصديقه،ولا الأخذ بشيء منه.(1)

هذه نماذج أربعة مما افتعله واختلفة وعاظ السلاطين بهدف محو آثارالإمام المهدي(عج)،ونفي وجوده المقدس.

فوعاظ السلاطين هم الذين وضعوا مئات الأحاديث المختلفة في قضية المهدي (عج) ،فغمروا بها جميع الروايات الواردة فيه حتى لم يعد يمتاز صحيحها من سقيمها.

فحديث-لا مهدي إلا عيسى،وإن إسمه إسمي،وإسم أبيه إسم أبي،وإن إسم المهدي هو محمد بن عبداللّه العلوي-وغيرها من الأسماء المختلفة التي كادت أن تفتت قضية المهدي(عج)،وتجعلها هباءً لولا جمهور المحققين المنصفين من علماء السنة والشيعة الذين انتشلوها من الضياع والتسويف.

فهذه النماذج المختلفة التي حاول بها وعاظ السلاطين نسف القضية المهدوية من جذورها،ونفي وجود المهدي في الوقت الحاضر كانت جميعها مستوحات من بلاطات الخلفاء الجائرين،والحكومات الرجعية الدائرة في فلك الاستكبار العالمي والصهيونية الحاقدة...

ولازال وعاظ السلاطين إلى يومنا هذا يبذلون جهودهم الحثيثة،ومساعيهم الخبيثة،بهدف إقناع المسلمين عامة،والشيعة بوجه الخصوص بعدم

ص: 134


1- مجلة التمدن الإسلامي،ج35و 39،سنة1950

وجود المهدي المنتظر (عج) . وإن هذه الفكرة مجرد نسج من الخيال لا واقع ولا حقيقة موضوعية لها على وجه التعين، وإن المهدي المزعوم لا يمتاز بخصائص ومقومات واقعية تميزه عن غيره.. فكل فرقة من الفرق السالفة الذكر استطاعت تنسج من وحي خيالها مهدياً، وتأمل أن ينقذها في يوم ما من حيرة الجهل والضلال، ويحررها من الظلم والإذلال.. ولكن دون جدوى؛ لأنهم يعقدون آمالهم على رموز وهمية لا واقع لها كالسراب..

هذا ما يريد تحقيقه العملاء القداما والجدد المتسترين بستار التشيع، والمتجمعون في عواصم الدول الغربية. فهم يستفيدون من كل وسائل الإعلام الغربية المتطورة لبث أفكارهم الشيطانية المريبة الهادفة إلى تجريد المسلمين من مجمل عقائدهم من خلال إثارة الشكوك والريب من حولها، ثم قطع ارتباطهم بتراثهم الإسلامي، وتاريخهم البطولي المجيد وتلك مرحلة تمهيدية تعقبها مرحلة زرع الأفكار والعقائد الغربية الفاسدة في أوساطهم لتجعلهم خاضعين لسيطرتهم بملء إرادتهم، يباركون لهم عملياتهم الإجرامية في قتل الشعوب المستضعفة ونهب خيراتها تحت شعار التحضر والتقدم، ونبذ الأفك-ار الرجعية.

والفارق البسيط بين وعاظ العصور القديمة والعصر الحديث هو أن وعاظ العصور السالفة كانوا يستفيدون من وسائل الاعلام البدائية ذات الأثر المحدود في بث أفكارهم الهادفة لاخضاع المسلمين لسيطرة خلفاء الظلم والج-ور والاستبداد، بينما وعاظ العصور الحديثة يبثون أفكارهم العدائية م--ن خ--لال أحدث وسائل الاعلام بهدف إفساد عقائد المسلمين ووضعهم في مراكز نفوذ أسيادهم المستكبرين. ومما تقدم نعلم إن وعاظ السلاطين القداما والجدد قد استثمروا كل النقاط

ص: 135

السلبية التي أفرزتها الفرق ذات العقائد الفاسدة - كالكيسانية، والفطحية،والواقفية - يشوهوا قضية المهدي المنتظر (عج) وينفوا وجوده المقدس،ويطمسوا ا معالمها.. وبفعلهم هذا يضعفوا علاقة المنتظر بمن ينتظره من خلال نفي وجوده، أو اعطاء صورة مشوهة عنه، بحيث يعجز المنتظر عن تشخيص معالمها وأوصافها، وبما أن مسألة الانتظار تتوقف على إيمان المنتظر بوجود من ينتظره ومعرفة خصائصه ومختصاته، فكلما قوي إيمانه به وازدادت معرفته له توثقت علاقته به، وازداد شوقاً للقياه، وكان انتظاره مسبوقاً باعداد ما يلزم لاستقبال من ينتظره. وإذا ضعف الإيمان بوجوده أو شوهت صورة من ينتظره ضعفت شدة الانتظار وتحولت إلى حالة سلبية جامدة لا حياة فيها لأن المنتظر غير واث-ق بوجود من ينتظره. وهذا ما يهدف إلى تحقيقه وعاظ السلاطين من خلال مساعيهم الخبيثة. وفي نهاية البحث لابد من الاشارة لأمر مهم هو أن طول الانتظار له آثاره السلبية على المنتظر إذ قد تجعله ييأس ممن ينتظره ويكف عن انتظاره، أو ينتظره انتظار شخص متردد غير جازم بمجيء من ينتظره. وانتظار كهذا لا فائدة فيه لافتقاره إلى الهوية والاعداد المسبق...

نقض نظرية الانتظار السلبي بوجوه

يمكن نقض هذه النظرية بوجوه مختلفة نظراً لاختلاف ركائزها ومتبنياتها المشتقة من مفاهيم إسلامية أو سيئ فهمها، وتم تطبيقها بشكل معكوس مخالف لمضامينها الجوهرية التي أراد اللّه أن تكون عوامل إيجابية تساهم مساهمة فعالة في بناء الشخصية الرسالية وتساعد على تركيز عوامل القوة في أوساط المجتمع

ص: 136

الإيماني وتقوية روابطه ونبذ عوامل الضعف والتداعي.

الوجه الأول:

إن نظرية الانتظار السلبي تتعارض تعارضاً صريحاً مع أحكام القرآن الكريم والسنة النبوية المتواترة، لأن الشيء الأساسي في هذه النظرية هي الدعوة إلى مسالمة الكفر العالمي، وطاعة الحكومات الضالعة في ركابه ووجوب مجاراتها ولو على حساب ديننا وعقائدنا. فإذا اقتضى الأمر أن نترك العمل بوظائفنا الرسالية، ونغض النظر عن جميع المظالم والمآثم أرضاءً لتلك الحكومات الجائرة لابد أن نفعل ونمتثل أوامرها بملء إرادتنا حتى إذا صبت كل أنواع الغضب والبلاء على رؤوس شعوبها المسلمة.

إن الطاعة المطلقة لتلك الحكومات الجائرة والاقرار بقوانينها المنافية لمبادئ شرعنا يوجب معصية اللّه أو الجمع بين طاعته وطاعة غيره في معصيته؛ لأننا لا نستطيع الجمع بين طاعتين بمستوى واحد في آن واحد. فأما أن نطيع اللّه ونعصي الطاغوت كما أمرنا أو نطيع الطاغوت ونعصي اللّه لا نمتثل لأوامره طيلة فترة الغيبة الكبرى حتى تتمهد الأرضية الصالحة لظهور مولانا الحجة بن الحسن العسكري (عج) بانتشار الظلم والفساد، لأنهما شرطان موجبان لتعجيل ظهوره حسب اعتقاد أصحاب نظرية الانتظار السلبي.

نعم، إذا كنا مكرهين على طاعة الطاغوت، وإنه قد سد علينا منافذ الهجرة إلى خارج وطننا بقرار منه بديننا وعقائدنا فلابد لنا في هذه الحالة أن نمارس التقية باظهار ما لا نظمر، أي نظهر الشرك ونضمر الإيمان كما قال اللّه عزّ وجلّ:

«... إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ »

ص: 137

بيان التعارض الصريح بين النصوص

قال اللّه في محكم كتابه الكريم « أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ...»(1)

وقال اللّه تعالى: «... وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)»(2).

وقال اللّه تعالى:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)»(3).

وبعد أن ذكر اللّه وجوب الطاعة له ولرسوله وأولي الأمر الذين يحكمون بما أنزل اللّه لا الذين يخالفون أوامره بدلالة قوله تعالى: «.... وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)» (4)، وقال تعالى: «... وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)»(5) ، وقوله تعالى «... وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)»(6) .

فبعد أن ذكر اللّه ذلك نهانا عن طاعة الطاغوت والتحاكم إليه في ف-ض خصوماتنا، وأمرنا بالكفر به وعدم الركون لظلمه والخضوع له لئلا تمسنا النار.

فقال تعالى:«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ (7)وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)(8)»

ص: 138


1- سورة المائدة آية .92
2- سورة الأنفال، آية 1.
3- سورة الأنفال آية .20.
4- سورة المائدة، آية 44.
5- سورة المائدة آية 45.
6- سورة المائدة آية 47.
7- المراد بالطاغوت: هو من لا يحكم بما أنزل اللّه.
8- سورة النساء، آية 60.

وقال تعالى:«لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)»(1) .

ووردت روايات كثيرة ترادف معاني هذه الآيات وتؤكد على طاعة اللّه واجتناب معصيته وعدم طاعة مخلوق في معصية اللّه.

منها:محمد بن علي بن الحسين بإسناده،عن الحسن بن محبوب،عن سعد بن أبي خلف،عن أبي الحسن موسی بن جعفر (علیه السلام)أنه قال لبعض ولده:یا بني!إياك أن يراك اللّه في معصية نهاك عنها،وإياك أن يفقدك اللّه عند طاعة أمرك بها،الحديث.(2)

ومنها:محمد بن الحسين الرّضي في(نهج البلاغة)عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال في حديث له-:إن ولي محمد من أطاع اللّه وإن بعدت لحمته، وإن عدو محمد من عصى اللّه وإن قربت قرابته.(3)

ومنها:أحمد بن محمد،عن علي بن الحكم،عن الحسين بن أبي العلاء قال: ذكرت لأبي عبداللّه (عليه السلام) قولنا في الأوصياء أن طاعتهم مفترضة قال: فقال:نعم،هم الذين قال اللّه تعالى:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ »(4) ،وهم الذين قال اللّه عزّوجلّ:«إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا»(5) .(6)

منها:محمد بن علي،عن ابن محبوب،عن العلاء،عن محمد،قال:سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول:إن أئمة الجور وأتباعهم لمعزولون عن دين اللّه

ص: 139


1- سورة البقرة،آية256
2- الفقيه،2: 355،الوسائل،11: 188
3- نهج البلاغة،القسم الثاني،156،الوسائل،188:11
4- سورة المائدة،آية92
5- سورة المائدة،آية55
6- الكافي،1: 187

والحق،قد ضلوا أعمالهم التي يعملونها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف،لا يقدرون على شيء مما كسبوا ذلك هو الضلال البعيد(1).

ومنها:عن ابن عيسى،عن البزنطي،عن ابن بكیر،عن محمد بن مسلم،قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول:أربع من قواصم الظهر،منها إمام يعصي اللّه ويطاع أمره(2).

ومنها:علي بن إبراهيم،عن أبيه،عن النوفلي،عن السكوني،عن أبي عبداللّه (عليه السلام) ،عن جابر بن عبداللّه الأنصاري قال:قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله):من أرضی سلطانا بسخط اللّه خرج من دين اللّه (3).

ومنها:أبو علي الأشعري،عن محمد بن عبدالجبار،عن صفوان،عن العلاء،عن محمد بن مسلم،قال:قال أبو جعفر (عليه السلام) :لا دين لمن دان بطاعة من عصى اللّه،ولا دين لمن دان بفرية باطل على اللّه...(4) .

ومنها:أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي في(الاحتجاج)عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري (عليه السلام) -في حديث-انّ الرضا(عليهالسلام) جفا جماعة من الشيعة وحجبهم،فقالوا:يا ابن رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) ما هذا الجفا العظيم والاستخفاف بعد الحجاب الصعب؟

قال:لدعواكم أنكم شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) وأنتم في أكثر

أعمالكم مخالفون،ومقصرون في كثير من الفرائض،وتتهاونون بعظیم حقوق إخوانكم في اللّه،وتتقون حيث لا تجب التقية،وتتركون التقية حيث لابدً من

ص: 140


1- المحاسن، للبرقی، 93، البحار، 110:25 ، ما رواه الحواریون، 3: 474.
2- المحاسن، للبرقي، 94، البحار، 110:25 ، ما رواه الحواریون، 3: 474.
3- الكافي، 2: 373.
4- الكافي، 2: 373، ما رواه الحواریون، 3: 568، وأمالي المفيد، 7/ 308، وفيه بسند مختلف

التقية.(1)

هذه بعض الروايات التي تثبت وجوب الامتناع عن طاعة الطاغوت والخضوع له،وان الإنسان المكلف ملزم بانجاز تكاليفه الرسالية ومهامه الإنسانية حتى في زمن الغيبة،وإن مسألة التقية والصبر على البلاء لا يوجبان ترك الواجبات، وإنما تلزما المكلف بأدائها،في كيفية تلائم الظروفالتي يمر بها..وسنذكر تفاصيل هذين الموضوعين الصبر والتقية في الفصل الثاني بشكل مفصل إن شاء اللّه.

ذكر النصوص المعارضة

فيما يلي نذكر بعض النصوص التي تدعو إلى طاعة السلطان وعدم الخروج عليه، واعتزال الناس،وعدم أداء الواجبات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وشل نشاط المؤمنين،تجميد طاقاتهم ان اقتضى الأمر،حتى إذا كانت النتائج مأساوية من قبيل استباحة حرمة المقدسات،وهدر كرامة المسلمين،وقطع أرزاقهم وإرغامهم على سب أئمتهم والتبري منهم.

منها:محمد بن علي بن الحسين في(المجالس)،عن أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني،عن علي بن إبراهيم،عن أبيه،عن موسى بن إسماعيل،عن أبيه، عن جدّه موسی بن جعفر (علیه السلام)أنه قال لشيعته:لا تذلوا رقابكم بترك طاعة سلطانكم...(2) .

ومنها:عن محمد بن علي بن بشار،عن علي بن إبراهيم القطان،عن محمد بن عبداللّه الحضرمي،عن أحمد بن بكر،عن محمد بن مصعب،عن حمّاد بن

ص: 141


1- الاحتجاج،243
2- المجالس،54/203،الوسائل،11: 472

سلمة،عن ثابت،عن أنس قال:قال رسول اللّه(صلّى اللّه علیه و آله):طاعة السلطان واجبة،ومن ترك طاعة السلطان فقد ترك طاعة اللّه عزّوجلّ،ودخل في نهيه،إن اللّه عزّوجلّ قال:«لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة».(1)

ومنها:في عيون الأخبار عن أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني،عن علي بن إبراهيم،عن محمد ابن الحسن المدني،عن عبداللّه بن الفضل،عن أبيه،عن موسی بن جعفر (علیه السلام)-في حديث طويل-قال:لولا أني سمعت في خبر عن جدي رسول اللّه(صلّى اللّه عليه وآله)إن طاعة السلطان للتقية واجبة إذا ما أجبت.(2)

ومنها:وأخرج مسلم عن حذيفة بن اليمان-في حديث له-مع رسول اللّه(صلّى اللّه عليه(وآله))قال:يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي،ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان أنس.قال:-یعني حذيفة-قلت:كيف أصنع یا رسول اللّه(صلّى اللّه عليه(وآله)و سلّم)إن أدركت ذلك؟ قال:تسمع وتطيع للأمير،وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك.فاسمع وأطع.(3)

ومنها:جاء في كتاب المحجة فيما نزل في القائم الحجة نقلا عن كتاب الاختصاص للشيخ المفيد-في حديث له-عن جابر الجعفي،عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:يا جابر!الزم الأرض ولا تحرك يدأ،ولا رجلا حتی تری علامات أذكرها لك إن أدركتها...(4) .

ص: 142


1- عيون الأخبار،45،الوسائل،11: 472
2- عيون الأخبار،45،الوسائل،11: 472
3- صحیح مسلم،20:6،الغيبة الكبری،345
4- المحجة فيما نزل في القائم الحجة،25،الاختصاص،255

ومنها:أخرج الصحيحان بلفظ واحد عن رسول اللّه(صلّى اللّه علیه و آله) وسلّم)قال:ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم،والقائم فيها خير من الماشي،والماشي فيها خير من الساعي.من تشرف لها تستشرفه،ومن وجد فيها ملجأ فليعذبه.وذكر كل من الشيخين لها أكثر من سند واحد... .

ومنها:عن أبي ذر،عن رسول اللّه(صلّى اللّه عليه(وآله))قال:قلت:يا رسول اللّه، أفلا آخذ بسيفي فأضرب به من فعل ذلك؟قال:شاركت القوم إذن!ولكن أدخل بيتك.قلت:يا رسول اللّه،فإن دخل بيتي،قال:إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فالق طرف ردائك على وجهك،فيبوء بإثمه وإنمك،فيكون من أصحاب النار... .

ومنها: وعن عدّة من أصحابنا،عن أحمد بن محمد بن خالد،عن عثمان بن عيسى،عمن أخبره،قال:قال أبو عبداللّه (عليه السلام) :كفوا ألسنتكم،والزموا بيوتكم،الحديث.

ومنها:محمد بن يعقوب،عن علي بن إبراهيم،عن أبيه،عن ابن أبي عمير،

عن هشام ابن سالم،عن أبي عبداللّه (عليه السلام) ،قال:ما أيسر ما رضى الناس به منكم،كفوا ألسنتكم عنهم.

ومنها:وعنه،عن أبيه،عن حماد بن عيسى،عن ربعي رفعة،عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال:واللّه لا يخرج أحد منّا قبل خروج القائم إلّا كان مثله كمثل فرخ طار من وكره قبل أن يستوي جناحاه فأخذه الصبيان فعبثوا به.

ص: 143

ومنها:محمد بن الحسين الرضي الموسوي في(نهج البلاغة)عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال-في خطبة له-:الزموا الأرض،واصبروا على البلاء،ولا تحركوا بأيديكم وسيوفكم في هوى ألسنتكم،ولا تستعجلوا بما لم يعجل اللّه لكم،فإنه من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حق ربّه، وحقّ رسوله وأهل بيته مات شهيداً،ووقع أجره على اللّه،واستوجب ثواب ما نوی من صالح عمله،وقامت النية مقام أسلاته بسيفه،فإن لكل شيء مدة وأجلاً.(1)

لقد تجلى التعارض في أمور،منها التعارض بين طاعة اللّه والكفر بالطاغوت، وبين طاعة الطاغوت وعدم الخروج عليه.ومنها التعارض بين أداء الوظائف الشرعية في زمن الغيبة وبين عدم أدائها ارضاءّ لرغبة السلطان،ومنها التعارض بين مشاركة الناس في جمعتهم وجماعتهم وفي عيادة مرضاهم وبين اعتزال الناس وملازمة البيوت..الخ،من صور التعارض التي نسعى إلى مناقشتها ورفعها في الباب القادم.

رفع التعارض الموجود بين النصوص

أن النصوص المذكورة إن كانت تعني السكوت والاعتزال وطاعة الطاغوت وعدم الخروج عليه في زمن اشتداد الفتن والاضطراب بحيث لو خرج الخارج بدون أعداد مسبق قتل،فإن هذا أمر عقلائي وشرعي؛لأن الإنسان مكلف بصيانة نفسه وعدم تعريضها للتهلكة كما ذكر القرآن الكريم ذلك حيث قال:«ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة»وقال:«فمن اضطر غير باغي ولا أثم

ص: 144


1- نهج البلاغة،القسم الأول،391،الوسائل،40:11،ينابيع المودة،436- 437،الغيبة الكبرى،314

عليه...».ثم خروج الإنسان بدون أعداد مسبق يكفي لازالة الطاغوت ومحو آثاره السلبية حماقة لا تمت للعقل السليم بصلة،بالإضافة إلى أنها مخالفة صريحة للقرآن الكريم الذي أمرنا بالاعداد لمكافحة الطاغوت حيث قال:

«وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة...»(1) .

وإن كانت تعني أتباع ذلك بصورة دائمة فهذا ما لا تقره العقول والشرائع في كل الأدوار والأزمان،ولا طاقة للإنسان على تحمل الظلم والجور مدی الحياة.

وهنا يحصل التنافي والتعارض الشديد بين الطائفتين من النصوص إذا قلنا باطلاق الطائفة الثانية من النصوص،ولكن هناك بعض النصوص ضمن الطائفة الثانية تقيد وتخصص الطاعة للطاغوت عند الاضطرار والإكراه وفياشتداد الفتن. وبهذا التقيد والتخصيص يرتفع التعارض وتكون الطاعة للطاغوت فقط عند الضرورة والإكراه وهي طاعة ظاهرية لفظية لا تأثير لها على إيمان الفرد المسلم،وتبقى الطاعة الحقيقية الواقعية للّه وإن اضطر المؤمن أن يقلص نشاطه الديني ويمارس بعض وظائفه الشرعية والإنسانية بصورة سرية وفي نطاق أضيق من ذي قبل.

وإن ما يضعّف الاطلاق والعموم في تلك النصوص أن بعضها يسلب من الإنسان حق الدفاع عن النفس حتى إذا هاجمه العدو في عقر داره وأراد قتله فلابد له أن يمد عنقه للقطع،ولا يحق له أن يسلت سيفه ليدافع عن نفسه،وإذا خشي الموت يلقي طرف ردائه على وجهه كي لا يرهبه لمعان سيف قاتله.

وهذا شيء غير معقول،لأن حق الدفاع عن النفس تقره جميع الشرائع

ص: 145


1- سورة الأنفال،آية60

السماوية والوضعية،وقد أكد عليه الإسلام في جملة من الآيات حيث أشارت بشكل صريح إلى أن المقصر في الدفاع عن نفسه شريك القاتل وأنه سيحاسب حساباً عسيراً،وإن الذي يُقتل دفاعاً عن نفسه أو ماله أو عرضه شهيد.

أضف لذلك أن الإنسان مجبول بفطرته في الدفاع عن نفسه إذا ما تعرض الخطر الموت من قبل إنسان أو حيوان،وكان الإنسان منذ العصور الحجرية الغابرة يوجد الوسائل البدائية للدفاع عن نفسه في أحلك الظروف وأشدها قسوة وخوفاً،وبدون أن يرشده لذلك مرشد.

فلو لم تكن مسألة الدفاع عن النفس فطرية لما استطاع الإنسان أن يبتكر تلك الأسلحة البدائية للدفاع عن نفسه،ويحافظ على نسله من الانقراض طيلة العصور الماضية.

فإذا ثبت أن الدفاع عن النفس أمراً فطرياً فلا يصح للشارع المقدس أن يكلف الإنسان ما لا ينسجم مع فطرته وطاقته.فإذا كان كذلك فلابد من تخصیص عمومات النصوص المذكورة وتقيدها في موارد معينة كالإكراه والاضطرار وعدم قدرة الإنسان على المقاومة والدفاع عن النفس.

وبثبوت التقيد والتخصيص لنصوص الطائفة الثانية يرتفع التعارض ولا يبقى له أي مبرر يذكر،فتأمل.

الوجه الثاني:

لقد استند أصحاب نظرية الانتظار السلبي إلى مقاطع زمنية من سيرة الأئمة الأطهار (عليهم السلام) وإقرارهم ببعض الجرائم التي ارتكبها خلفاء عصرهم لتبرير نظريتهم التخاذلية الاستسلامية، ولكن هذه الحجة واهية ولا يصح اتخاذها ذريعة لتبرير سكوتهم واستسلامهم؛ لأن الأئمة لم يقروا بتلك

ص: 146

الأمور وإنما أرغمتهم الظروف المحيطة آنذاك على السكوت وعدم الاعتراض

صحيح أن في عقيدتنا اقرار الأئمة الأطهار (عليهم السلام) لما يشاهدونه من أحداث يعد حجة يلزم العمل بموجبها،ولكن هذا لا يتم إلّا بملاحظة الظروف التي تم فيها الإقرار،فإن كانت ظروف طبيعية خالية من الإكراه والاضطرار يكون الإقرار الحاصل فيها حجة،وإما إذا كانت غير طبيعية،وكان الإمام مكرهة ومضطرة للقبول بها،وليس بمقدوره تغيرها من حالة السلب إلى الإيجاب، فإن إقراره يكون حجة في ظروف مماثلة وليس قانون ساري المفعول يصلح العمل به في كل الظروف والأزمان.. .

فإن إقرار الإمام علي (عليه السلام) باضطهاد زوجته الزهراء(عليها السلام)، واغتصاب حقوقها،والقبول ببيعة أبي بكر لم يكن في أجواء طبيعية،ولم يكن الإمام فيها مختاراً يملك إرادته،بل كان مرغمة على الاقرار بها،وإلا تضرب عنقه بالإضافة إلى اغتصاب حقوقه واستباحة حرمته،واضطهاد زوجته،وجحد ولايته.

كان بمقدور الإمام (علیه السلام)أن يسلت سيفه ويرد المعتدين ويبدد شملهم،ولكن النتيجة بموجب حسابات الإمام لم تكن في تلك الظروف الحالكة لصالح الإسلام الذي بذل من أجله الغالي والنفيس،بل لعلّ الإسلام من جراء خروجه والتصدي لأعدائه يتداعى وتتلاشى أركانه ولم يبقى له أثر؛لأن الناس كانوا جديدي عهد به،فلم تترسخ أفكاره ومبادئه في أعماق وجدانهم حتى لا يتأثروا ولا تتزعزع عقائدهم بالإسلام فيما إذا وقع الصراع بين أقطابه ورواده الأوائل.

فلو قدّر للإمام (عليه السلام) أن يخرج في تلك الأيام العصيبة فإما أنيكون غالباً أو مغلوباً،فإذا استطاع الإمام (علیه السلام)بمن معه من الأنصار-وهم نفر قليل لا يتجاوز عدد أصابع اليد-أن ينتصر على أعدائه-وهم الغالبية الساحقة

ص: 147

من صحابة رسول اللّه(صلّى اللّه عليه وآله)،ومعهم جمهور المسلمين-ففي هذه الحالة سيكون اندحاراً للإسلام وإن كان الإمام (علیه السلام)منتصراً؛لأنه بانتصاره هذا سیوتر الغالبية الساحقة من المسلمين،ويؤجج في قلوبهم نار الحقد والضغائن من خلال قتله لأبنائهم إخوانهم ، وآبائهم،وأعمامهم في ساحة الصراع.

وسيزداد الحقد ضراوة وانقاداً في قلوب الذين قُتل آبائهم،وأبنائهم وإخوانهم بسيف الإمام علي (علیه السلام)في معارك سابقة.

فبفعل عوامل الحقد والضغينة ضد الإمام وأهله وأصحابه يتحول ذلك الجمع الغفير من حماة الإسلام ودعاته إلى ألدّ أعدائه حيث يغمرهم شعور الثأر القتلاهم بدلاً من شعور الولاء والدفاع عن الإسلام.وباستمرار الصراع سيضعف الإسلام بالتدريج ويتلاشى ولا يبقى له أي أثر.

هذا لو قدّر للإمام أن يكون غالبا وهو احتمال بعيد جدا.وأما إذا كان مغلوباً- وهو احتمال قوي؛لأن كفة القوى ترجح لصالح أعدائه.ففي هذه الحالة سيقوم أعدائه المنتصرون بتصفيته وتصفية أبنائه وأهل بيته وأصحابه تصفية جسدية تامة فلا يبقى لعليّ (عليه السلام) وشیعته أثر يذكر.

وبفقدان الإمام علي (عليه السلام) -وهو الهادي والمرشد بعد رسول اللّه (صلّی اللّه عليه و آله)-ستنحرف المسيرة بشكل تدريجي وبمرور الأيام عن جادة الحق والصواب،وتعود إلى ما كانت عليه قبل ظهور الإسلام؛لأن القيادة الجديدة الجاهلة الحاقدة الطامعة التي قوضت أركان القيادة الروحية الحقيقية للإسلام لا يمكنها مع ضعف إيمانها وقلّة وعيها أن تقود المسيرة وتواصل السير في طريق الإسلام الأصيل الذي دعا له رسول اللّه(صلّى اللّه عليه وآله)وعين قيادته في غدیر خم قبل رحيله.

فحاصل الاحتمالين المذكورين سواء كان الإمام علي (عليه السلام) غالباً

ص: 148

أو مغلوباً ليس لصالح الإسلام أبداً،فهذه النتيجة المحتملة هي التي منعت الإمام (علیه السلام)من خوض الصراع مع أعدائه،وجعلته يستسلم لضغوطهم ويبايع أبا بكر مرغماً،ويتغاضا عن جرائمهم الوحشية،وتعدياتهم على بضعة رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) ،التي أدت إلى استباحة حرمتها،وكسر ضعلها،وإسقاط جنينها..

:فهذا الموقف المبدئي الشجاع الذي اتخذه الإمام (علیه السلام)في تلك الساعات الحرجة أوجب تقديم تضحيات جديدة وأعظمها تضحيته بالزهراء (علیها السلام)من أجل بقاء الإسلام وديمومته.

وكذا ضحى الإمام الحسن (عليه السلام) بجميع حقوقه ومختصاته،

وبأصحاب أبيه المخلصين لنفس الغاية حين عقد صلحه مع معاوية بن أبي سفيان،وتحمل المصاعب الجمة،والآثار المؤلمة التي أودت بحياته في نهاية المطاف،وامتهان جنازته حيث تطاول عليها القوم فرموها بالسهام،ورفضوا أن تدفن بجوار قبر جده رسول اللّه(صلّى اللّه علیه و آله).

وأما إقرارات بقية الأئمة الأطهار (عليهم السلام) كالسجاد والباقر والصادق (عليهم السلام) التي مرّ ذكرها ضمن العوامل المساعدة على ترسيخ فكرة الانتظار السلبي،فكانت تفرضها الظروف القاسية وترغمهم على القبول بها،حرصاً منهم على سلامة الإسلام واستمراريته.

ولا أدري لم يركز أصحاب نظرية الانتظار السلبي على هذه المواقف التي أرغم الأئمة على اتخاذها في ظروف عصيبة قهرية،ويغضوا النظر عن صفحات تاريخهم الجهادي المشرق طيلة أيام حياتهم.

فثورة الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء ضد الطاغية يزيد ألم تجيز

لنا الخروج على الحاكم الظالم المستبد فيما إذا توفرت الإمكانات والظروف الملائمة..

ص: 149

إن ما يعزز هذا الاتجاه الجهادي هو الثورات المتعاقبة التي قادها أبناء الحسن والحسين وأحفادهما و شیعتهما ضد الخلافة الأموية والعباسية الجائر تین على مدى التاريخ..

وإذا علمنا أن تلك الثورات السالفة الذكر تحضى أغليها بدعم وتأييد الأئمة الأطهار (عليهم السلام) المعاصرين لها،إزددنا إيمانا بشرعية الخروج على الحاكم الجائر الفاسق المستبد إذا ما أتيحت لنا الفرصة المناسبة للقيام ضده..

ولولا ذلك الجهاد الدامي للأئمة الأطهار (عليهم السلام) وشيعتهم،وتحملهم المصاعب الشديدة،والتضحيات الجسام لما دام الإسلام والتشيّع من أثر، ولما بقي من المؤمنين أحد ينتظر القائم(عج)،بل تنتفي الحاجة لظهوره بانتفاء المجتمع المسلم المؤمن بولايته..

الوجه الثالث:

اشترط المؤمنون بالانتظار السلبي انتشار الظلم والفساد كأمرين موجبين الظهور القائم المنتظر(عج).ولذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدفاع عن الإسلام إذا ما تعرض للخطر،وعدم نصرة المستغيثين من المسلمين وغيرهم من جور الجائرين الظالمين،على أمل أن يتفشى الظلم والفساد من جراء ذلك كي تتمهد الأرضية الصالحة لظهوره المبارك المشروط بهما كما يعتقد أصحاب نظرية الانتظار السلبي.

وقد فتد الشهيد محمد الصدر(رضي اللّه عنه)في كتابه(الغيبة الكبرى) هذهالركيزة الواهية التي اعتمد عليها أصحاب نظرية الانتظار السلبي في صياغة نظريتهم بقوله:أن المفهوم الإسلامي الواعي الصحيح للانتظار،هو التوقع الدائم التنفيذ الغرض الإلهي الكبير،وحصول اليوم الموعود الذي تعيش فيه البشرية

ص: 150

العدل الكامل،وأشراف الإمام المهدي(عج).(1)

وليت شعري،أن شرط الظهور،هو هذا المستوى الإيماني،وليس هو كثرة الظلم وامتلاء الأرض جوراً،كما يريد البعض أن يفكروا،لوضوح أن الأرض لو امتلأت تماماً بالظلم،وانعدم منها عنصر الإيمان،لما أمكن اصلاحها عن طريق القيادة العامة،بل يكون منحصر بالمعجزة،التي برهنا على عدم وقوعها،أو إرسال نبؤّة جديدة،وهو خلاف ضرورة الدين من أنه لا نبي بعد رسول الإسلام(صلّی اللّه عليه وآله)(2) .

وهذا الكلام الصادر من آية اللّه الشهيد محمد الصدر(رحمه اللّه)كافي

البيان بطلان هذه الفكرة،فلسنا بحاجة إلى أن نضيف شيء له.

وهناك أمور لم نتطرق إلى ذكرها في الوجوه الثلاثة، كالتقية والصبر،وعدم السعي إلى إقامة حكومة إسلامية في زمن الغيبة الكبرى،وغيرها مما لم يرد بحثها في هذا الفصل لعدم الحاجة إليها هنا،لأن المؤمنون بنظرية الانتظار السلبي الذين اعتزلوا ساحة الجهاد والعمل ليسوا بحاجة إلى اتباع سياسة التقية،لأن التقية يحتاجها المجاهدون العاملون لتقيهم شرور أعدائهم وتمكنهم من مواصلة جهادهم السري على أحسن وجه.فما حاجة المتخاذلين والمهادنین والتاركين النشاط والعمل الإسلامي،والمتنصلين عن أداء وظائفهم الرسالية والإنسانية.

وكذا لا يحتاجون إلى الصبر لأن الصبر الذي يثاب عليه المكلف،هو الصبر على الطاعات،والانتهاء عن المعاصي،وعلى ما يصيب الإنسان المؤمن من المصاعب والنوائب من جراء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،ومقارعة الطاغوت، وحماية الإسلام،لا على السكوت واعتزال العمل الاجتماعي،

ص: 151


1- الغيبة الكبری،341
2- الغيبة الكبرى،353

ساحة الجهاد.وهذا ما صرحت به النصوص:

قال اللّه تعالى:«يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)»(1) .

وقال تعالى:«وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)»(2) .

وقال أمير المؤمنین (علیه السلام):الصبر صبران:صبر عند المصيبة حسن جمیل،

وأحسن من ذلك الصبر عندما حرم اللّه عليك.(3)

وعن علي (علیه السلام)،عن رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) انه قال:الصبر ثلاثة صبر عند

المصيبة وصبر على الطاعة وصبر عن المعصية.(4)

وعن أبي حمزة الثمالي قال:قال أبو عبداللّه (علیه السلام):من ابتلي من المؤمنين

ببلاء فصبر عليه،كان له مثل أجر ألف شهيد.(5)

وأما موضوع السعي إلى إقامة الحكومة الإسلامية في زمن الغيبة الكبرى تحت إشراف الولي الفقيه فهو أيضا من الأمور التي لا يحتاجها القاعدون؛ لأنهم يؤمنون بعدم جدية هذا الأمر وبطلانه لاعتقادهم(بأن كل راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت...)(6) .

فهذه الأمور وغيرها ستبحث في الفصل القادم إن شاء اللّه.

ص: 152


1- سورة لقمان،آية17
2- سورة آل عمران،آية146
3- الكافي،2: 90
4- الكافي،2: 91
5- الكافي،2: 92
6- الروضة،309،الوسائل،11: 37

الفصل الثاني:مفهوم الانتظار الإيجابي للمهدي المنتظر(عج)

اشارة

آن مفهوم الانتظار الإيجابي للمهدي(عج)هو ان يعد المكلف نفسه أعداداً كاملا من جميع الجهات ليكون مأهلاً لنصرة القائم حال ظهوره على انجاز نهضته،وان يترقب ظهوره في كل لحظة ليقوم بتنفيذ الوعد الإلهي الحق، وينقذ البشرية من الظلم والمفاسد والضلال.

ونعني بالاعداد هو الاعداد المعنوي والمادي،فأما الأعداد المعنوي فيلزمالمكلف باعداد نفسه علمياً وعقائدياً وأخلاقياً ليكون من الذين يدعون إلى سبيل ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة؛ومن الدعاة إلى شرع اللّه وطاعته.

فلابد أن يكون أنصار الحجة(عج)والمنتظرون قدومه على مستوى عال

من الوعي والشعور بالمسؤولية؛لأن المؤمن الساذج البسيط لا يستطيع النهوض بالمهام الرسالية الملقاة على عاتقه في زمن الغيبة بالشكل المطلوب. فانجاز التكاليف،وأداء الفرائض،وتطبيق الإسلام على كل شؤونه الحياتية بلا استثناء،والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،وإقامة أحكام اللّه،والجهاد في سبيله إذا ما تعرضت بيضة الإسلام للخطر،وتمهيد الأرضية الصالحة لظهوره

ص: 153

المبارك،كل هذه الأمور المنوطة بالمكلف في زمن الغيبة وفي ظروف صعبة شائكة تحتاج إلى وعي وإحاطة تامة بعلوم الإسلام وأحكامه،وبأساليب العمل الملائمة لتلك الظروف العصيبة كالتقية والسرية والكتمان.

فالسذاجة والبساطة لا تمكن صاحبها من أداء واجباته في تلك الظروف المشحونة خوفا وإرهاباً بالشكل المطلوب،بل لعل النشاط الإسلامي السري كلّه يتعرض للخطر بسببهما،لأن المؤمن الساذج لا يتحمل السجن وأساليب التعذيب الرهيبة إذ سرعان ما ينهار ويدلي باعترافاته ويكشف قواعد العمل السري بسبب السذاجة والبساطة.

فأصحاب الحجة (علیه السلام)وأنصاره المؤهلون لحمل راياته،وإنجاز غاياته،هم أشد الناس بأسا،وأصلبهم عودة،وأوسعهم حلمة،وأكثرهم علماً،وأرحبهم صدراً، وأحسنهم خلقاً،وأشملهم عطفاً،وأصدقهم قولاً،وأصلحهم عملاً،لا تأخذهم باللّه لومة لائم،رحماء بينهم أشداء على الكافرين..فلابد للمؤمن المنتظر لقدوم مولاه الحجة بن الحسن العسكري (علیه السلام)أن يبلغ هذا المستوى منالاعداد المعنوي والروحي من خلال العمل والمثابرة ليكون مؤهلاً لنصرة القائم(عج)والمشاركة في نهضته،وحمل رسالته ونشر دعوته في كل أرجاء المعمورة ليتسنى له إقامة حكومته العالمية العادلة.

قال أبو عبداللّه الصادق في وصف أصحاب المنتظر(عج):..من سرّه أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق،وهو منتظر،فإن مات وقام القائم بعده كان له من الأجر مثل أجر من أدركه،فجدّوا وانتظروا هنيئاً لكم أيتها العصابة المرحومة.(1)

ص: 154


1- الغيبة،للنعماني،200

وقال أيضاً:من مات منكم على هذا الأمر منتظراً كان كمن هو في

الفسطاط الذي للقائم (عليه السلام) .(1)

وقال الشيخ النعماني بعد ذكر هذه الروايات:انظروا-رحمكم اللّه-إلى هذا التأديب من الأئمة (عليهم السلام) وإلى أمرهم ورسمهم في الصبر والكف والانتظار للفرج،وذكرهم هلاك المحاضير والمستعجلين،وكذب المتمنين، ووصفهم تجاه المسلمين،ومدحهم الصابرين الثابتين،وتشبيههم إياهمعلى

الثبات بثبات الحصن على أوتادها...(2) .

وقال في مكان آخر:...وصفة من معه من أصحابه الذين جاءت الرّوايات بعدّتهم،وأنهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، وأنهم حكّام الأرض وعمّاله عليها، وبهم يفتح شرق الأرض وغربها مع من يؤيّده اللّه به من الملائكة...(3) .

وقال السيد محمد الصدر في كتابه(الغيبة الكبرى):لا يكون الفرد على مستوى الانتظار المطلوب إلّا بتوفر عناصر ثلاثة مقترنة:عقائدية ونفسية وسلوكية،ولولاها لا يبقى للانتظار أي معنى إيماني صحيح،سوى التعسف النفسي المبني على منطق القائل:إذهب أنت وربّك فقاتلا،انّا ههنا قاعدون.(4)

وقال أيضا في مكان آخر:الجانب السلوكي للانتظار ويتمثل بالالتزام الكامل بتطبيق الأحكام الإلهية السارية في كل عصر،على سائر علاقات الفرد وأفعاله وأقواله،حتى يكون متبعاً للحق الكامل والهدي الصحيح،فيكتسب الإرادة القوية والاخلاص الحقيقي الذي يؤهله للتشرف بتحمل طرف من

ص: 155


1- الغيبة،للنعماني،200
2- الغيبة،للنعماني،201
3- الغيبة،للنعمانی،244
4- الغيبة الصغری،342

مسؤوليات اليوم الموعود.(1)

وقال اللّه تعالى في محكم كتابه:«وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...»(2) .

وأما الاعداد المادي فهو الذي أشار له القرآن الكريم:«وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ »(3) .

فبعد أن أعدّ أصحاب القائم أنفسهم معنوياً يلزمهم الاعداد المادي،أي توفير الأسلحة والمعدات،والتدريب على فنون القتال المختلفة،والاستعداد الكامل لاستقبال الحجة ابن الحسن العسكري المنتظر(عج)،وإيجاد الكوادر العسكرية الكفوءة التي تسعى في تشكيل جيش المنقذ العظیم حال ظهوره.

وبهذا الاعداد المادي والمعنوي يمهد المنتظرون الأرضية الصالحة الظهوره، وبدونه لا موجب للظهور مطلقاً.إذ كيف يستطيع القائد أن يقاتل بدونجیش معد مسبقة،ويجيد كل فنون القتال،ويمتلك القوة الكافية لخوض الحرب،وفتح مشرق الأرض ومغربها..

ومثلما يحتاج القائد إلى جيش واعي مسلح بالعقيدة والسلاح معاً،كذلك

الجيش يلزمه قائداً محنكاً مقتدراً يقوده إلى النصر المؤزر.

ولقد أشارت النصوص لكلا الأعدادين المادي والمعنوي بشكل صريح لا غموض فيه.

منها:عن أمير المؤمنين أنه قال في حديث له طویل-:إذا جهّزت الألوف،وصفّت الصفوف،وقتل الكبش الخروف،هناك يقوم الآخر،ويثور الثائر،

ص: 156


1- الغيبة الصغرى،344
2- سورة النور،آية55
3- سورة الأنفال،آية60

ويهلك الكافر،ثم يقوم القائم المأمول،والإمام المجهول له الشرف والفضل...(1) .

ومنها:عن الأصبغ بن نباتة قال:سمعت عليّاً (عليه السلام) يقول:كأني

بالعجم فساطيطهم في مسجد الكوفة يعلّمون الناس القرآن كما أنزل...(2) .

ومنها:عن أبي عبداللّه جعفر بن محمد (علیه السلام)أنه قال:كيف أنتم لو ضرب أصحاب القائم(عج)الفساطيط في مسجد كوفان،ثم يخرج إليهم المثال المستأنف...(3) .

ومنها:عن محمد بن جعفر (علیه السلام)بن محمد،عن أبيه (علیه السلام)قال:إذا قام القائم بعث في أقاليم الأرض،في كلّ أقليم رجلاً،يقول:عهدك في كقك،فإذا ورد عليك أمر لا تفهمه،ولا تعرف القضاء فيه فانظر إلى كفك واعمل بما فيها،قال:ويبعث جنداً إلى القسطنطينية،فإذا بلغوا الخليح كتبوا على أقدامهم شيئاً،ومشوا على الماء،فإذا نظر إليهم الرّوم يمشون على الماء،قالوا:هؤلاء أصحابه يمشون على الماء،فكيف هو؟فعند ذلك يفتحون لهم أبواب المدينة، فيدخلونها، فيحكمون فيها ما يشاؤون.(4)

ومنها:عن أبي بصير،قال:قال أبو عبداللّه (علیه السلام):ليعدّنّ أحدكم لخروج القائم ولو سهماً،فإن اللّه تعالى إذا علم ذلك من نیته رجوت لأن ينسئ في عمره

حتى يدركه[فيكون من أعوانه وأنصاره].(5)

أشارت هذه النصوص إلى ضرورة الاعداد قبل ظهور المهدي،وأن الذي يعد نفسه لظهور القائم (علیه السلام)ومات قبل ظهوره فإنه يموت شهيدة،وأشارت إلى أن

ص: 157


1- الغيبة، للنعماني،275
2- الغيبة،للنعماني،318
3- الغيبة،للنعماني،319
4- الغيبة،للنعماني،319
5- الغيبة،للنعماني،320

المهدي سيرسل جنده إلى أماكن متعددة،منها القسطنطينية فيفتحها.ان هذاالجيش العظيم الذي يسيطر على معظم بقاع الأرض،والمسبق بالرعب مسافة شهر على حد تعبير بعض الروايات لم يكون وليد ساعته،ولا يكوّن بفعل المعجزة،وإنما كان حصيلة إعداد مسبق لا محال..

وقد لخّص الشهيد السيد محمد الصدر في كتابه(الغيبة الكبرى)وجوب هذا الاعداد بقوله:شرائط اليوم الموعود:أن تكوّن الأمة ساعة الظهور على مستوى عال من الشعور بالمسؤولية الإسلامية،والاستعداد للتضحية في سبيل اللّه عزّوجلّ،أو على الأقل،أن يكون فيها العدد الكافي ممن يحمل هذا الشعور ليكون هو الجندي الصالح الذي يضرب بين يدي المهدي(عج)ضد الكفر والانحراف،ويبني بساعده المقتول الغد الإسلامي المشرق،ويكون الجيش المكون من مثل هذا الشخص هو الجيش الرائد الواعي الذي يملأ الأرض بقيادة المهدي(عج)قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً...(1) .

هذا هو الانتظار الإيجابي للقائم المنتظر(عج)،المقترن بأداء الفرائض والعمل الصالح،والامتثال لأوامر اللّه،وإقامة أحكامه،والخروج

على الحاكم الفاسق الجائر إن أمكن،وعدم طاعته في معصية اللّه.وهذا النوع من الانتظار ينسجم مع نصوص القرآن وأحكامه،وألسنة النبوية المتواترة، والعقل السليم،والفطرة الإنسانية،والاجماع.

أفضل العبادة انتظار الفرج

ان الانتظار الذي يكون أفضل من سائر العبادات المندوبة،ويترتب عليه

ص: 158


1- الغيبة الكبری،57

الأجر والثواب هو الانتظار المقترن بالطاعة والعمل الصالح وأداء الوظائف الشرعية والإنسانية.وتحمل المشاق والصعوبات بسببه،والاستعداد الكامل للبذل والتضحية في سبيل اعلاء كلمة اللّه ودحض كلمة الباطل.

فالانتظار المثمر الذي يفرز عطاءً وعملاً صالحاً هو الانتظار الإيجابي الموجب لهطول رحمة اللّه وجزیل ثوابه،لأن إنجاز العبادة والطاعة والاهتمام بشؤون المسلمين،ورعايةفقيرهم،ومساعدة ضعيفهم،والسعي إلى توحيد صفوفهم في ظروف صعبة مدلهمة بالمكاره،وتحت ظل دولة الباطل تعرض العاملين لأخطار جسيمة،وتضحيات عظيمة توجب مضاعفة الأجر والثواب لهم ولشمولهم بعطف اللّه ورحمته،لأن الأجر على قدر المشقة.

وفيما يلي سنذكر النصوص الصادرة عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام)

حول هذا الموضوع:

-الحسين بن محمد الأشعري،عن معلّي بن محمد،عن علي بن مرواس،عن صفوان بن يحيى،والحسن بن محبوب،عن هشام بنسالم،عن عمّار الساباطيّ قال:قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام) :أيما أفضل:العبادة في السرِّ مع الإمام منكم المستتر في دولة الباطل،أو العبادة في ظهور الحقّ ودولته،مع الإمام منكم الظاهر؟

فقال:يا عمار الصدقة في السر واللّه أفضل من الصدقة في العلانية،وكذلك واللّه عبادتكم في السرّ مع إمامكم المستتر في دولة الباطل،وتخوّفكم من عدوكم في دولة الباطل وحال الهدنة أفضل ممن يعبد اللّه عزّوجلّ ذكره في ظهور الحق مع إمام الحقّ الظاهر في دولة الحقّ،وليست العبادة مع الخوف في دولة الباطل مثل العبادة والأمن في دولة الحق..

واعلموا أن من صلى منكم اليوم صلاة فريضة في جماعة،مستتر بها من

ص: 159

عدوّه في وقتها فأتمها،كتب اللّه له خمسين صلاة فريضة في جماعة،ومن صلّی منكم صلاة فريضة وحده مستتراً بها من عدوه في وقتها قائمها،كتب اللّه عزّوجلّ بها له خمساً وعشرين صلاة فريضة وحدانية،ومن صلّى منكم صلاة نافلة لوقتها فأتمها،كتب اللّه له بها عشر صلوات نوافل،ومن عمل منكم حسنة،كتب اللّه عزّوجلّ له بها عشرین حسنة،ويضاعف اللّه عزوجل حسنات المؤمن منكم إذا أحسن أعماله،ودان بالتقية على دينه وإمامه ونفسه، وأمسكمن لسانه أضعافاً مضاعفة إن اللّه عزّوجلّ كریم.

قلت:جعلت فداك قد واللّه رغبتني في العمل،وحثتني عليه،ولكن أحب أن أعلم كيف صرنا نحن اليوم أفضل أعمالا من أصحاب الإمام الظاهر منكم في دولة الحق ونحن على دين واحد؟

فقال:إنكم سبقتموهم إلى الدخول في دين اللّه عزّوجلّ وإلى الصلاة والصوم والحج وإلى كلّ خير وفقه وإلى عبادة اللّه عزّوجلّ ذكره سراً من عدوكم مع إمامكم المستتر،مطيعين له،صابرين معه،منتظرين لدولة الحق،خائفين على إمامكم وأنفسكم من الملوك الظلمة،تنظرون إلى إمامكم وحقوقكم في أيدي الظلمة،قد منعوكم ذلك،واضطروّكم إلى حرث الدنيا وطلب المعاش مع الصبر على دينكم وعبادتكم وطاعة إمامكم والخوف مع عدوكم،فبذلك ضاعف اللّه عز وجل لكم الأعمال،فهنيئاً لكم.

قلت:جعلت فداك فما ترى إذا أن نكون من أصحاب القائم ويظهر الحق ونحن اليوم في إمامتك وطاعتك أفضل أعمالا من أصحاب دولة الحق والعدل؟

فقال:سبحان اللّه أما تحبّون أن يظهر اللّه تبارك وتعالى الحق والعدل في البلاد،ويجمع اللّه الكلمة ويؤلف اللّه بين قلوب مختلفة،ولا يعصون اللّه عزّوجلّ في أرضه،وتقام حدوده في خلقه،ويرد اللّه الحق إلى أهله فيظهر،حتى لا

ص: 160

يستخفي شيء من الحقّ مخافة أحد من الخلق،أما واللّه يا عمار لا يموت منكم ميّت على الحال التي أنتم عليها إلّا كان أفضل عند اللّه من كثير من شهداء بدر وأحد فابشروا.(1)

-حدثنا علي بن أحمد،عن عبيد اللّه بن موسى،عن هارون بن مسلم،عن القاسم بن عروة،عن برید بن معاوية العجلي،عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) في قوله عز وجل:«فاصبرواوصابروا ورابطوا»فقال:اصبروا على أداء الفرائض،وصابروا عدوكم،ورابطوا إمامكم[المنتظر].(2)

-وأخرج الترمذي عن أبي الأحوص،عن عبداللّه قال:قال رسول اللّه(صلّی اللّه علیه و آله):سلوا اللّه من فضله،فإن اللّه يحب أن يسأل.وأفضل العبادة إنتظار الفرج.(3)

-أحمد بن محمد بن عيسى،عن محمد بن الحسن بن أحمد،عن أحمد بن هلال،عن أمية بن علي،عن رجل قال:قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام) :أيما أفضل نحن أو أصحاب القائم (عليه السلام) ؟

قال:فقال لي:أنتم أفضل من أصحاب القائم (عليه السلام) ؛وذلك أنكم تمسون وتصبحون خائفين على إمامكم،وعلى أنفسكم من أئمة الجور،إن صلّيتم فصلاتكم في تقية،وإن صمتم فصيامكم في تقية،وإن حججتم فحجكم في تقية،وإن شهدتم لم تقبل شهادتكم،وعد أشياء من نحو هذا مثل هذه. فقلت:فما نتمي القائم (عليه السلام) إذا كان هذا،قال:فقال لي:سبحان اللّه أما تحبّ

ص: 161


1- الكافی،1: 333- 335، كمال الدین،2: 645
2- الغيبة،للنعماني،199
3- سنن الترمذي،5: 225،الغيبة الكبری،361

أن يظهر العدل ويأمن السبل وينصف المظلوم.(1)

-وعن أبي عبداللّه جعفر بن محمد(عليهما السلام)أنه قال:من مات منكم على هذا الأمر منتظراً كان كمن هو في الفسطاط الذي للقائم (عليه السلام) .(2)

-وعن أبي بصير،عن أبي عبداللّه (عليه السلام) أنه قال ذات يوم:ألا أخبركم بما لا يقبل اللّه عزّوجلّ من العباد عملاً إلّا به؟

فقلت:بلى،فقال:شهادة أن لا إله إلا اللّه،وأن محمداً عبده[ورسوله]والاقرار بما أمر اللّه،والولاية لنا،والبراءة من أعدائنا-يعني الأئمة خاصة-والتسليم لهم، والورع والاجتهاد والطمأنينة،والانتظار للقائم (عليه السلام) ،ثم قال:إن لنا دولة يجيء اللّه بها إذا شاء.ثم قال:من سرّه أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق،وهو منتظر،فإن مات وقام القائم بعده كان له من الأجر مثل من أدركه،فجدوا وانتظروا هنيئاً لكم أيتها العصابة المرحومة.(3) -روى الصدوق في الاكمال عن الإمام الحسين بن علي (علیه السلام)أنه قال في كلام له عن المهدي (عليه السلام) :له غيبة يرتد فيها أقوام،ويثبت على الدين فيها آخرون.ويقال لهم:«متى هذا الوعد إن كنتم صادقين»أما أن الصابر فيغيبته على الأذى والتكذيب بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول اللّه وآله الطاهرين الأخيار.(4)

_وبهذا الاسناد عن ثعلبة عن بن ابان عن عبدالحمید الواسطی

ص: 162


1- الاختصاص،للمفید،20- 21،البحار،14:13،باب فضل إنتظار الفرج
2- الغيبة،للنعماني،200،كمال الدین،2: 644
3- الغيبة،للنعمانی،200
4- كمال الدین،2،الغيبة الكبری،376

عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) قال:قلت له:أصلحك اللّه لقد تركنا أسواقنا إنتظاراً لهذا الأمر،فقال (عليه السلام) :يا عبد الحميد أترى من حبس نفسه على اللّه عزّوجلّ لا يجعل اللّه له مخرجاً؟بلى واللّه ليجعلنّ اللّه له مخرجاً،رحم اللّه عبداً حبس نفسه علينا:رحم اللّه عبداً أحيا أمرنا،قال: قلت: فإن متّ قبل أن أدرك القائم؟قال:القائم منكم أن لو أدركت قائم آل محمد نصرته،كان كالمقارع بين يديه بسيفه،لا بل كالشهيد معه.(1)

-وبهذا الإسناد،عن محمد بن مسعود،عن جعفر بن معروف قال:أخبرني محمد بن الحسين،عن جعفر بن بشیر،عن موسی بن بكر الواسطيّ،عن أبي الحسن،عن آبائه (عليهم السلام) ان رسول اللّه(صلّى اللّه علیه و آله) قال:أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج من اللّه عزّوجلّ.(2)

-وبهذا الإسناد،عن محمد بن عبد الحميد،عن محمد بن الفضيل،عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال:سألته عن الفرج؟قال:ان اللّه عزّوجلّ يقول: «انتظروا إني معكم من المنتظرين».(3)

-حدثنا أبي(رضي اللّه عنه)قال:حدثنا سعد بن عبداللّه،قال:حدثني محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني،عن القاسم بن يحيى،عن جدّه الحسن بن راشد،عن أبي بصير،ومحمد بن مسلم،عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: حدثني أبي،عن جدّي،عن آبائه (عليهم السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال في حديث الأربعمائة-:انتظروا الفرج،ولا تيأسوا من روح اللّه،فإنّ أحبّ

ص: 163


1- كمال الدین،2: 644
2- كمال الدین،2: 644
3- كمال الدین،2: 645

الأعمال إلى اللّه عزّوجل انتظار الفرج مادام عليه العبد المؤمن،الحديث.(1)

-وفيه أيضاً،أنه قال (عليه السلام) :افضل أعمال المرء انتظار الفرج من

اللّه عزّوجلّ،الحديث.(2)

-وفيه أيضا،إنه قال (عليه السلام) :والمنتظر لأمرنا كالمتشحط بدمه في سبيل اللّه،من شهدنا في حربنا أو سمع واعيتنا فلم ينصرنا أكبه اللّه على منخريه في النار،الحديث.(3)

-علي بن محمد،عن سهل بن زياد،عن ابن محبوب،عن أبي أسامة،عن هشام،ومحمد بن يحيى،عن أحمد بن محمد،عن ابن محبوب،عن هشام بن سالم،عن أبي حمزة،عن أبي إسحاق قال:حدثني الثقة من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) أنهم سمعوا أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول في خطبة له:اللّهم وإني لأعلم أن العلم لا يأزر كله،ولا ينقطع مواده وإنّك لا تخلي أرضك من حجة لك على خلقك،ظاهر ليس بالمطاع أو خائف مغمور، كیلا تبطل حججك ولا يضلّ أولياؤك بعد إذ هديتهم،بل أين هم وكم؟اولئك الأقلّون عدداً،والأعظمون عند اللّه جلّ ذكره قدراً،المتبعون لقادة الدين،الأئمة الهادین،الذين يتأدّبون بآدابهم،وينهجون نهجهم،فعند ذلك يهجم بهم العلم على حقيقة الإيمان،فتستجيب أرواحهم لقادة العلم،ويستلينون من حديثهم ما استوعر على غيرهم،ويأنسون بما استوحش منه المكذبون،وأباه المسرفون،اولئك أتباع العلماء محبو أهل الدنيا بطاعة اللّه تبارك وتعالى وأوليائه ودانوا بالتقية عن دينهم

ص: 164


1- الخصال،2: 610-616،ما رواه الحواریون،3: 514
2- الخصال،2: 621،ما رواه الحواریون،3: 515
3- الخصال،2: 625،ما رواه الحواریون،3: 515،كمال الدین،2: 645

والخوف من عدوهم،فأرواحهم معلقة بالمحل الأعلى،فعلماؤهم وأتباعهم

خرس صمت في دولة الباطل،منتظرون لدولة الحق وسيحقّ اللّه الحقّ بكلماته ويمحق الباطل،ها،ها،طوبى لهم على صبرهم،على دينهم في حال هدنتهم،ويا شوقاه إلى رؤيتهم في حال ظهور دولتهم،وسيجمعنا اللّه وإيّاهم في جنّات عدن ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذريّاتهم.(1)

المستفاد من هذه النصوص أن الانتظار المثاب عليه هو المقترن بالإيمان والطاعة،والورع ومحاسن الأخلاق،وأن الطاعة التي يمارسها المكلف في دولة الباطل مع الخوف والاضطراب يكون أجرها أضعاف مضاعفة على العبادة التي ينجزها في دولة الحق مع الإمام الظاهر من أهل البيت (عليهم السلام) ،وان الصبر على الأذى مع أداء الفرائض تجعل المنتظر أفضل من أصحاب القائم (عليه السلام) ،والذي يموت على هذا الحال يكون أفضل من كثير من شهداء بدر،والحي منهم يكون كالمتشحط بدمه في سبيل اللّه.

وهذا النمط من المنتظرين يبجلهم الإمام علي (علیه السلام)ويشتاق لرؤيتهم،

ويخبرنا عن رفيع منزلتهم،وان اللّه سيجمعهم وإياه في جنات عدن ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذريّاتهم..

ركائز نظرية الانتظار الإيجابي للقائم المنتظر(عج)

اعتمدت نظرية الانتظار الإيجابي على ركائز مهمة تهدف برمتها إلى تطبيقالإسلام المحمدي الأصيل أصوطلاً وفروعاً،وأداء الفرائض،والأمر بالمعروف،والنهي عن المنكر،والجهاد دفاعا عن الإسلام،والسعي إلى إيجاد

ص: 165


1- الكافي،1: 335

دولة إسلامية في زمن الغيبة تكون باشراف وتوجيه الولي الفقيه،وبناء المجتمع الإسلامي بناء عقائدياً سليماً،واعداده لنصرة القائم(عج)اعداداً معنوياً ومادياً، وتمهيد الأرضية الصالحة لظهوره وإنشاء دولته العالمية العادلة.. فنظرية الانتظار الإيجابي بناء على ما تقدم تغاير نظرية الانتظار السلبي مغايرة تامة،لأن الثانية تدعو إلى شل النشاط الإسلامي،وتجميد الطاقات البشرية،وتعطيل الأحكام،والتنصل من الوظائف الشرعية والإنسانية،وغض النظر عن مظاهر الظلم والفساد الاجتماعي،وإيقاف المسيرة في منتصف الطريق على أمل ظهور القائم (عليه السلام) لينتشلها من الوحل المغمورة فيه، ويقود ما تبقى من حطامها نحو الأمن والسلام.وفي هذه الحالة بدلا من أن يكون المنتظرين أعواناً وأنصاراً للقائد يؤازرونه على إنجاز مهامه الرسالية، يكونون عبئاً ثقيل عليه يعيقون حركة سيره باتجاه أهدافه المنشودة..

هذا ما تفرزه نظرية الانتظار السلبي،بينما الأولى تدعو إلى مواصلة المسيرة باتجاه الأهداف المرسومة،وعدم التوقف في أثناء الطريق رغم ما يتعرض المسيرة من موانع وعراقيل،لأن الوقوف والمراوحة في أثناء الطريق يجهضالقوى ويعرض المسيرة لأخطار عظيمة قد لا تقوى بعدها على السير خطوة واحدة نحو الأمام..

واتخذ المؤمنون بهذه النظرية من السرية والتقية أسلوباً للنشاط الإسلامي في تلك الظروف العصيبة الحالكة بناءً على توصيات الأئمة الأطهار (عليهم السلام) للحفاظ على سلامة الحركة والحركيين في آن واحد،والتقليل من نسبة الخسائر والتضحيات..

واستطاع هؤلاء بفضل دعم وتوجيهات الأئمة الأطهار (عليهم السلام) أن يفجروا ثورات كثيرة سجلها لهم التاريخ في أنصع صفحاته،وينشؤوا دول عديدة

ص: 166

في شتى أنحاء الوطن الإسلامي على مدى التاريخ الطويل..

صحيح أن معظم تلك الثورات قد فشلت ولم ينجز أهدافها كاملا،وتسببت في قتل عشرات الآلاف من أفراد الطائفة الشيعية إلا أنها ما كانت تخلو من فوائد جمة.

فهي من جهة قلمت أظافر الخلفاء الأمويين والعباسيين والحكومات الرجعية، وحجمت نفوذهم،وقلصت الكثير من جرائمهم ومآثمهم،لأنها أشعرتهم بأن قراراتهم الاجرامية التعسفية سوف لن تمر بسهولة وبدون عقاب.ومن جهة أخرى رسخت جذور التشيع وقواعده في أعماق وجدان المجتمع المسلم، ورفعت المستوى القتالي للأمة الإسلامية،وصعدت من معنوياتها وروحيتها الجهادية،وزرعت الأمل والثقة في نفسها،ومكنتها من مواجهة أعتى الطواغیت بقوة واقتدار وشجاعة فائقة..واستطاعت الأمة من خلال المسيرة الجهادية الدامية والمواجهات القتالية الطويلة الأمد أن تلفظ جميع العناصر الضعيفة المتداعية التي أنهكها المسير،وأرهقتها المحن ضعفت روحيتها وانهارت معنوياتها،فراحت ترفع شعار الوفاق والتعايش السلمي مع الكفر العالمي والحكومات الرجعية السائرة في ركابه،وابتركت نظرية الانتظار السلبي للقائم المنتظر (عليه السلام) ..

وكان من أروع ثمار هذه الحركة الجهادية الدامية التي قادها رواد الانتظار

الإيجابي إيجاد دولة إسلامية في هذا العصر الحديث في إيران الإسلام باشراف الولي الفقيه تسعى بجد إلى تهيئة المناخ الملائم لظهور القائم المنتظر (عليه السلام) .

فهذا النجاح الباهر الذي حققته نظرية الانتظار الإيجابي يبعث الأمل في نفوس المسلمين بالمستقبل الزاهر للإسلام،ويؤكد صحة نهجها،وسلامة

ص: 167

مضامينها الفكرية والعقائدية،وقدرتها على مسايرة حركة التطور والتمدن الإنساني.

بعد هذا الاستطراد الموجز في اعطاء فكرة عن مجمل ركائز مفهوم

الانتظار الإيجابي سنذكر فيما يلي الركائز الواحدة تلو الأخرى بشكل مفصل:

الركيزة الأولى:الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واحد من أهم ركائز الانتظار الإيجابي للقائم المنتظر (عليه السلام) ،وعاملاً مهماً من عوامل البناء الاجتماعيومكافحة المفاسد الأخلاقية والاجتماعية الناشئة من ضعف الإيمان،واتباع الهوى، وانفتاح العالم الإسلامي على الحضارة الغربية،وانحراف حكامه عن جادة الحق والصواب،وضعف التبليغ والإرشاد الديني،وانعدام المناهج التربوية الكفيلة بتربية الجيل الناشئ واعداده اعداداً رسالياً يتناسب مع أهمية دور الشباب في بناء المجتمع الإسلامي بناء فكرياً وعقائدياً سليماً.

وبما أن مفهوم الانتظار الإيجابي يسعى بجد إلى إيجاد مجتمع إسلامي قویم وفق تعاليم القرآن الكريم،والسنة النبوية المتواتر،واعداده اعداداً رسالياً ليكون مؤهلا لحمل رسالة السماء،وتنفيذ الوعد الإلهي مع المصلح العالمي المرتقب،ومنقذ البشرية من الجهل والظلم والضلال الحجة بن الحسن العسكري (عليه السلام) ،فلابد له أن يتخذ من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة للبناء الاجتماعي والاصلاح الديني، لأن بدونه تصبح فكرة إيجاد المجتمع الإسلامي مجرد فكرة خيالية محضة لا وجود لها على صعيد الواقع الموضوعي..

ص: 168

تعريف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان أهميتهما وذكر صورهما

و قد ورد عنهم (عليهم السلام) :«ان بالأمر بالمعروف تقام الفرائض وتأمن المذاهب،وتحل المكاسب،وتمنع المظالم،وتعمر الأرض،وينتصف للمظلوم من الظالم،ولا يزال الناس بخیر ما أمروا بالمعروف،ونهوا عن المنكر،وتعاونوا على البر،فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات،وسلط بعضهم على بعض،ولم يكن لهم ناصر فيالأرض ولا في السماء»(1) .

عرّف الشيخ الطوسي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقوله:الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضان من فراض الإسلام،وهما فرضان على الأعيان،لا يسع أحد تركهما والاخلال بهما.(2)

وعرّفه السيد الخوئي(رحمه اللّه)بقوله:من أعظم الواجبات الدينية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(3)

وعرّفه السيد روح اللّه الموسوي الخميني بقوله:وهما من أسمى الفرائض وأشرفهما،وبهما تقام الفرائض،ووجوبهما من ضروريات الدين،ومنكره مع الالتفات بلازمه والالتزام به من الكافرين...(4) .

هذه التعاريف مأخوذة من روايات وأحاديث الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ، منها قول أبي جعفر الباقر (عليه السلام) :...إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عظيمة،بها تقام الفرائض...-إلى أن قال:إن الأمر

ص: 169


1- منهاج الصالحين،1: 377
2- النهاية،للطوسي،299،ط قم
3- منهاج الصالحين،1: 377
4- تحریر الوسيلة،1: 492

بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء،ومنهاج الصلحاء فريضة عظيمة بها تقام الفرائض،وتأمن المذاهب،وتحل المكاسب،وترد المظالم،وتعمر الأرض، وينتصف من الأعداء،ويستقيم،الحديث.(1)

و مراتب الأمر بالمعروف ثلاثة:اليد واللسان والقلب،وهو أضعف الإيمان:

-عن محمد بن الحسن قال:قال أمير المؤمنين (عليه السلام) :من ترك

إنكار المنكر بقلبه ولسانه،ويده،فهو ميت بين الأحياء.(2)

-قال الرضي:وقد قال (عليه السلام) -يعني الإمام علي (علیه السلام)-في كلام له يجري هذا المجری:فمنهم المنكر للمنكر بقلبه ولسانه ويده،فذلك المستكمل الخصال الخير،ومنهم المنكر بلسانه وقلبه التارك بيده،فذلك متمسك بخصلتين من خصال الخير،ومضيع خصلة،ومنهم المفكر بقلبه والتارك بيده ولسانه، فذلك الذي ضيع أشرف الخصلتين من الثلاث وتمسك بواحدة،ومنهم تارك لانكار المنكر بلسانه وقلبه ويده،فذلك ميت الأحياء.وما أعمال البرّ كلها والجهاد في سبيل اللّه عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلّا كنقية في بحر لجيّ،وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقربان من أجل ولا ينقصان من رزق،وأفضل من ذلك كلمة عدل عند إمام جائر.(3)

ومن خلال النصوص المذكورة أعلاه عرفنا أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،إذ بدونه لا يمكن أن تقام الفرائض،ولا تأمن المذاهب ولا تحل المكاسب،ولا ترد المظالم،ولا تعمر الأرض،ولا يمكن أن نتصور للاسلام من

ص: 170


1- الكافي،5: 50،الوسائل،11: 394- 395
2- تهذیب الأحكام،6: 181،الوسائل،404:11
3- نهج البلاغة،القسم الثاني،234

وجود فعلي بدونه.وإن تاركه بمراتبه الثلاث فهو ميت الأحياء فكيف يتسطيع أصحاب نظرية الانتظار السلبي،أو دعاة الوفاق والتعايش السلمي مع الكفر العالمي والرجعية أن ينصروا القائم المنتظر(عج)بأموات الأحياء،الذين لا يهتمون بشؤون المسلمين،ولا يألمون لآلامهم ومعاناتهم،ولا تفرز طاعاتهم خيراً وعطاء،ولا يثمر عملهم شيئا،لأنه غير مقرون بعمل واخلاص.ان نصرة الحجة بن الحسن (علیه السلام)بمثل هؤلاء يكون ضرباً من المستحيل.

وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

قال اللّه في محكم كتابه:«وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)»(1) .

وقال:«كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ »(2) .

وقال:«وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)»(3) .

وقال:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا »(4) .

وقال رسول اللّه(صلّى اللّه عليه و آله):إذا أمتي تواكلت الأمر بالمعروف

والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع(5) من اللّه.(6)

ص: 171


1- سورة آل عمران،آية104
2- سورة آل عمران،آية110
3- سورة التوبة،آية71
4- سورة التحريم،آية4
5- الوقاع:يعني الهلاك وعذاب الابادة والانقراض
6- الكافي،5: 59،الوسائل،11: 394،عقاب الأعمال،32

-عن أبي عبداللّه (عليه السلام) أنه قال:أنّ رجلاً من خثعم جاء إلى رسول اللّه (صلّى اللّه علیه و آله)فقال:يا رسول اللّه،أخبرني ما أفضل الإسلام،قال: الإيمان باللّه،قال:ثم ماذا؟قال:ثم صلة الرحم،قال:ثمّ ماذا؟قال:الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،قال:فقال الرجل:فأي الأعمال أبغض إلى اللّه؟قال:الشرك باللّه،قال:ثم ماذا؟قالو قطيعة الرحم،قال:ثم ماذا؟قال:الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف.(1)

-وعن النبي أيضأ (صلی اللّه علیه واله) أنه قال:لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر،وتعاونوا على البر،فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات،وسلط بعضهم على بعض،ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء.(2)

۔عن جعفر بن محمد،عن آبائه (عليهم السلام) قال:قال النبي(صلّى اللّه عليه وآله):إن اللّه يبغض المؤمن الضعيف الذي لا زبر له،وقال:هو الذي لا ينهي عن المنكر.(3)

-وقال النبي (صلی اللّه علیه واله) :إن اللّه عزوجل ليبغض المؤمن الضعيف الذي لا دین له،فقيل له:وما المؤمن الذي لا دين له؟قال:الذي لا ينهى عن المنكر(4).

-خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) :فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال:أما بعد فإنّه إنما هلك من كان قبلكم حيثما عملوا من المعاصي ولم ينههم الربّانيون والأحبار عن ذلك،وإنهم لما تمادوا في المعاصي،ولم ينههم الربانيين والأحبار عن ذلك نزلت بهم العقوبات،فأمروا بالمعروف،وأنهوا عن المنكر،وأعلموا أن

ص: 172


1- الكافی،5: 58،الوسائل،11: 396
2- تهذیب الأحكام،6: 181،المعنية،130،الوسائل،398:11
3- معاني الأخبار،98،الوسائل،11: 399 والمراد بالزبر: العقل
4- الكافي، 5: 59، الوسائل، 397:11 .

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لن يقریا آجلاً ولن يقطعا رزقاً،الحديث(1).

-عن أبي جعفر وأبي عبداللّه(عليهما السلام)قالا:ويل لتوم لا يدينون اللّه

بالأمر بالمعروف،والنهي عن المنكر(2).

-وقال أبو جعفر (عليه السلام) :بئس القوم قوم يعيبون الأمر بالمعروف،والنهي عن المنكر(3).

-عن محمد بن عرفة قال:سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول:التأمر بالمعروف،ولتنهن عن المنكر،أو ليستعملن عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم(4).

-علي بن إبراهيم،في(تفسيره)،عن أبيه،عن بكر بن محمد،عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال:سمعته يقول:أيها الناس مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يقربا أجلاً ولم يباعدا رزقاً الحديث(5).

-عن أبي عبداللّه (عليه السلام) ،قال:قال النبي (صلی اللّه علیه واله) :كيف بكم إذا فسدت نساؤكم،وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف،ولم تنهوا عن المنكر،فقيل له: ويكون ذلك يا رسول اللّه؟فقال:نعم،وشر من ذلك،كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟فقيل له:يا رسول اللّه،ويكون ذلك؟قال:نعم،وشرّ من ذلك،كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكر والمنكر معروفاً(6).

ص: 173


1- الكافي، 5: 57، الوسائل، 395:11 .
2- الكافي56:5، تهذیب الأحكام، 6 : 176، الوسائل، 11: 393.
3- الكافي56:5، تهذیب الأحكام، 6 : 176، الوسائل، 11: 394.
4- الكافي56:5، تهذیب الأحكام، 6 : 176، الوسائل، 11: 394.
5- تفسير القمي، الوسائل، 11: 399.
6- الكافي، 5: 59، الوسائل، 11: 396

وخلاصة ما ورد في هذه النصوص هي وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،وإن تارك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مؤمن ضعيف لا عقل له وإن اللّه يبغضه،وإن عواقب ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نزع للبركات،وتسليط الأشرار على الأمة،وعدم استجابة دعاء الأخيار فيما إذا دعوا اللّه لرفع البلاء،وفساد النساء وفسق الشباب وغير ذلك من العواقب الوخيمة. وهذا يعني اضمحلال مقومات المجتمع المسلم واندثار آثاره وعدم بقاء من ينتظر القائم(عج)سلباً وإيجاباً،وهذا ما جعل المؤمنين بمفهوم الانتظارالإيجابي أن يركزوا على ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتخذنه ركيزة من أهم ركائز نظريتهم المذكورة..

نوعية الوجوب هل أنهما واجبان كفائیان أم عينيان؟

قال السيد الخوئي(رحمه اللّه):يجب الأمر بالمعروف الواجب،والنهي عن المنكر وجوب كفائية،أن قام به واحد سقط عن غيره،وإذا لم يقم به واحد أثم الجميع واستحقوا العقاب.(1)

وقال السيد روح اللّه الموسوي الخميني:الأقوى أن وجوبهما كفائي،فلو قام به من به الكفاية سقط عن الآخرين،وإلا كان الكل مع اجتماع الشرائط تاركین للواجب.(2)

وقال السيد عبد الأعلى الموسوي السبزواري:الأمر بالمعروف الواجب والنهي عن المنكر واجبان كفائیان إن قام به واحد سقط عن غيره،وإذا لم یقم به

ص: 174


1- منهاج الصالحين،1: 377
2- تحرير الوسيلة،1: 463- 464

أحد أثم الجميع واستحقوا العقاب مع تحقق الشرائط.(1)

وقال السيد علي الحسيني السيستاني:فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ببعض مراتبهما واجبان كفائیان...فإذا لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر أحد...أثمنا جميعاً..أما إذا قام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أحدنا فقط سقط عن الجميع.(2)

وقال:إنهما واجبان عینیان ببعض مراتبهما،وهي مرتبة إظهار الكراهة فعلا أو قوة من ترك المعروف وفعل المنكر...(3) .

وتقدم عن الشيخ الطوسي قوله:الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضان من فرائض الإسلام،وهما فرضان على الأعيان،لا يسع أحد تركهما والإخلال بهما.

وهل أن الأمر بالمعروف سواء أكان عينياً أو كفائياً يختص بواحد أو بفئة من الناس أو برجال الدين،أم يشمل كافة أفراد المجتمع المسلم من الذكور والأناث الذين بلغوا سن لتكليف؟ الظاهر يشمل الكل دون استثناء،ولا يسقط تكليف أزالت المنكر عنهم ما لم يقوم فرد أو جماعة بازالته.

الذي نستشفه من النصوص وفتاوي فقهاءنا أن لابد من ازالة المنكر،فإذا كان بمقدور الفرد أو الأفراد ازالته فيها،وإلا فيجب على الجميع وجوبا عينية مع اجتماع الشرائط،خصوصا إذا كان المنكر ظاهرة اجتماعية متفشية في المجتمع كالاعتياد وانتشار دور الفسق والفجور وبارات شرب الخمور،وظاهرة السفور،ولكن يلزم أن لا تتجاوز عملیات تغير المنكر حد الضرب للتأديب والردع

ص: 175


1- جامع الأحكام الشرعية،228
2- الفتاوي الميسرة،362
3- الفتاوي الميسرة،364

وممارسة التبليغ على أوسع نطاق ممكن.

أما إذا تتطلب الأمر قتل النفس وإحداث الجراحات«إن هذا الضرب لا يجب فعله إلّا بإذن سلطان الوقت المنصوب للرياسة،فإن فقد الإذن من جهته، اقتصر على الأنواع التي ذكرناها»(1).

والمراد بسلطان الوقت هو الإمام المعصوم أو من ينوب عنه فيما إذا كانا

مبسوطي اليد،وفي غير هذه الصورة موضع خلاف بين فقهائنا فتأمل.

شرائط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

أولاً:العلم بالمعروف والمنكر

معرفة المعروف والمنكر ولو إجمالاً،فلا يجبان على الجاهل بالمعروف والمنكر(2).

وقال السيد روح اللّه الموسوي الخميني(رحمه اللّه):أن يعرف الآمر والناهي أن ما تركه المكلف،أو ارتكبه معروف أو منكر،فلا يجب على الجاهل بالمعروف والمنكر،والعلم شرط الوجوب كالاستطاعة في الحج(3).

وشرط العلم من الأمور التي أجمع فقهاءنا عليه بدون استثناء.

ثانياً:احتمال التأثير

قال السيد الخوئي(رحمه اللّه):احتمال ائتمار المأمور بالمعروف بالأمر، وانتهاء المنهي عن المنكر بالنهي،فإذا لم يحتمل ذلك،وعلم أن الشخص الفاعل لا يبالي بالأمر أو النهي،ولا يكترت بهما لا يجب عليه شيء(4).

ص: 176


1- النهایة للطوسی 300
2- منهاج الصالحين، 1: 378.
3- تحرير الوسيلة، 1 : 465.
4- منهاج الصالحين، 1: 378.

وقال السيد الخميني(رحمه اللّه):أن يجوز ويحتمل تأثير الأمر أو النهي، فلو علم،أو اطمأن بعدمه فلا يجب(1).وهذا الشرط أيضاً مجمع عليه.

ثالثاً:أن يكون العاصي مصرّاً على الاستمرار،فلو علم منه الترك سقط الوجوب

ثالثاً:أن يكون العاصي مصرّاً على الاستمرار،فلو علم منه الترك سقط الوجوب(2)

وقال السيد الخوئي(رحمه اللّه):أن يكون الفاعل مصرّاً على ترك المعروف، وارتكاب المنكر،فإذا كانت إمارة على الاقلاع،وترك الاصرار لم يجب شيء، بل لا يبعد عدم الوجوب بمجرد احتمال ذلك،فمن ترك واجباً،أو فعل حراماً ولم يعلم أنه مصرّ على ترك الواجب،أو فعل الحرام ثانياً،أو أنه منصرف عن ذلك أو نادم عليه لم يجب عليه شيء،هذا بالنسبة إلى من ترك المعروف،أو ارتكب المنكر خارجة،وأما من يريد ترك المعروف،أو ارتكاب المنكر فيجب أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وإن لم يكن قاصداً إلّا المخالفة مرة واحدة(3) .وهذا الشرط مجمع عليه أيضاً.

رابعاً:أن يكون المعروف والمنكر منجزاً في حق الفاعل

قال السيد الخوئي(رحمه اللّه)حول هذا الشرط:أن يكون المعروف والمنكر منجرأ في حق الفاعل،فإن كان معذورا في فعله المنكر،أو تركه المعروف، لاعتقاد أن ما فعله مباح،وليس بحرام،أو أن ما تركه ليس بواجب،وكان معذورة في ذلك للاشتباه في الموضوع،أو الحكم اجتهادة،أو تقليدا لم يجب شيء.(4)

ص: 177


1- تحرير الوسيلة،1: 467
2- تحرير الوسيلة،1: 470
3- منهاج الصالحين،1: 378
4- منهاج الصالحين،1: 378

خامساً:أن لا يترتب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضرر

أن لا يلزم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضرر في النفس،أو في العرض،أو في المال،على الأمر،أو على غيره من المسلمين،فإذا لزم الضرر عليه،أو على غيره من المسلمين لم يجب شيء،والظاهر أنه لا فرق بين العلم بلزوم الضرر والظن به والاحتمال المعتد به عند العقلاء الموجب لصدق الخوف،هذا فيما إذا لم يحرز تأثير الأمر أو النهي،وأما إذا أحرز ذلك فلابد من رعاية الأهمية،فقد يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع العلم بترتب الضرر أيضاً،فضلاً عن الظن به أو احتماله.(1)

وقال السيد الخميني(رحمه اللّه):لو علم أو ظن أن إنكاره موجب لتوجه ضرر نفسي أو عرضي أو مالي يعتد به عليه،أو على أحد متعلقيه كأقربائه وأصحابه وملازمیه فلا يجب ويسقط عنه،بل وكذا لو خاف ذلك لاحتمال معتد به عند العقلاء،والظاهر إلحاق سائر المؤمنين بهم أيضاً.(2)

سادساً:يجب على الأمر أن يكون عاملاً بالمعروف منته عن المنكر

والشرط السادس مستفاد من النصوص القرآنية والروايات النبوية المتواترة. قال اللّه تعالى:«سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)».(3)

وقال تعالى:«أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)».(4)

-وعن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال:إنما يأمر بالمعروف وينهى عن

ص: 178


1- منهاج الصالحين،1: 378
2- تحرير الوسيلة،1: 472
3- سورة الصف،الآيات1و2
4- سورة البقرة،آية44

المنكر من كانت فيه ثلاث خصال:عامل بما يأمر به،وتارك لما ينهي عنه، عادل فيما يأمر،عادل فيما ينهي،رفيق فيما يأمر،ورفيق فيما ينهي(1).

بقية النصوص التي استنبطت منها الشرائط

-عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال:سمعته يقول وسئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أواجب هو على الأمة جميعا؟فقال:لا،فقيل له:ولم؟قال: إنما هو على القوي المطاع العالم بالمعروف من المنكر،لا على الضعيف الذي لا يهتدي سبيلا إلى أي من أي يقول من الحق إلى الباطل،والدليل على ذلك كتاب اللّه عز وجل قوله:«ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر»،فهذا خاص غير عام،كما قال اللّه عزوجل:«ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون»ولم يقل:على أمة موسي ولا على كل قومه،وهم يومئذ أمم مختلفة،والأمة واحد فصاعدة،كما قال اللّه عز وجل:«إن إبراهيم كان أمة قانتا للّه».يقول: مطيعة للّه عزّوجلّ،وليس على من يعلم ذلك في هذه الهدنة من حرج إذا كان لا قوة له ولا عدد ولا طاعة، قال مسعدة: وسمعت أبا عبداللّه (عليه السلام) يقول:وسئل عن الحديث الذي جاء عن النبي (صلی اللّه علیه واله) :إن أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر،ما معناه؟قال: هذا على أن يأمره بعد معرفته،وهو مع ذلك يقبل منه وإلا فلا(2).

-عن أبي عبداللّه (عليه السلام) :إنما يؤمر بالمعروف وينهي عن المنكر

ص: 179


1- الخصال، 1: 109، روضة الواعظين، 29. أخرجه عن الخصال، الوسائل، 403:11 .
2- الكافي، 59:5 ، الخصال، 1: ، تهذيب التهذيب، 6: 177، الوسائل، 400:11

مؤمن فيتعظ،أوجاهل فيتعلم،فأما صاحب سوط أو سيف فلا(1).

-عن أبان بن تغلب، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال:كان المسيح (عليه السلام) قول:إن التارك شفاء المجروح من جرحه شريك جارحه لا محالة-إلى أن قال:فكذلك لا تحدثوا بالحكمة غير أهلها فتجهلوا،ولا تمنعوها أهلها فتأثموا،وليكن أحدكم بمنزلة الطبيب المداوي إن رأي موضعين لدوائه وإلا أمسك(2).

-عن الرضا (عليه السلام) أنه كتب إلى المأمون:محض الإسلام شهادة أن لا إله إلا اللّه-إلى أن قال:والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان إذا أمكن ولم يكن خيفة على النفس(3).

إنتهى الحديث عن الركيزة الأولى التي اعتمد عليها أصحاب نظرية الانتظار الإيجابي في اعداد المجتمع اعدادا رسالية هادفة بحيث يجعله مهيئة الاستقبال القائم لمنتظر(عج) و المساهمة في نهضته وإقامة دولته العادلة.

الركيزة الثانية هي الجهاد بكلا شقيه:جهاد النفس وجهاد العدو

الركيزة الثانية التي ساهمت في صياغة مفهوم الانتظار الإيجابي،وكانت عاملا مهمة في بناء المجتمع المسلم هي الجهاد بكلا شقيه:جهاد العدو وجهاد النفس، وبهما تتم حراسة الوطن والدين من أعدائه الطامعين في آن واحد.

ص: 180


1- تهذيب التهذيب، 6: 178، الكافي، 60:5 ، الخصال، 1: 35، الوسائل، 400:11 .
2- الروضة، 285، الوسائل، 401:11 .
3- الخصال، 1، الوسائل، 402:11، والوسائل، 140:18 ، وعيون أخبار الرضا، 2: 131، ح 1، والبحار، 352:10 وغيره.

فإن جهاد العدو يتصدى للغزو العسكري ويخيب آمال الغزاة في احتلال الوطن واستثمار خيراته،ويضع حداً لأطماعهم التوسعية،بينما جهاد النفس يتصدى للغزو الثقافي الذي دئبت دول الاستكبار على ممارسته باستمرار وبوسائلها الاعلامية الحديثة المتطورة لأجل إفساد المسلمين عقائدياً وأخلاقياً.

والجهاد كما تعلمون قسمين:

أحدهما الجهاد الابتدائي وهو احتلال دول الكفر واخضاعها لسلطان الإسلام بعد رفضها الخضوع له سليماً.وهذا النوع من الجهاد لا يكون إلّا باشراف الرسول الأكرم (صلی اللّه علیه واله) أو من نص عليه بالخلافة له من بعده،وهو الإمام المعصوم (علیه السلام).وفي عصر الغيبة وعدم حضور الإمام (علیه السلام)لا يجب هذا النوع من الجهاد، ولذا لسنا بحاجة لدرجة في بحثنا هذا.

والآخر هو الجهاد الدفاعي الذي يعني الدفاع عن المسلمين وبلدانهم في حالة تعرضهم لاعتداء من قبل أعداء الإسلام الذين يحاولون فرض سيطرتهم بالقوة ليتسنى لهم نهب خيرتهم وتسويف عقائدهم.

هذا الجهاد يكون في غيبة الإمام ولا يستلزم حضوره،ويكفي وجود نائبه العام أو من ينوب عنه بوجه خاص.وهو واجب كفائي ما لم يتعين،فإذا عين الولي الفقيه فرداً أو أفراد،أو فرقة من فرق الجيش للقيام به أصبح واجب عيني يختص بمن عينهم فقط.

هذا إذا كانت للمسلمين دولة وفقيه مبسوط اليد،وفي حالة عدم وجودها

هم بحاجة إلى فتوى فقيه جامع للشرائط.

فبحثنا يختص بهذا النوع من الجهاد الذي نحن بأمس الحاجة إلى ممارسته في عصر غيبة الإمام الكبرى،لأننا من خلاله نستطيع أن نرفع مستوى الوعي الجهادي،والقدرة القتالية لدى المسلمين،ونزرع في أعماق نفوسهم روح

ص: 181

البذل والتضحية،ونمكنهم لخوض الجهاد الابتدائي الذي سيمارسه القائمالمنتظر(عج)حال ظهوره لبسط نفوذه على سائر أنحاء العالم وإنشاء دولته الإسلامية العالمية العادلة.

والجهاد الدفاعی حق مشروع تقره الرسالات السماوية والوضعية،سواء للأفراد،أو للجماعات البشرية المسلمة وغير المسلمة أيضاً،أو حتى سائر الموجودات الحية،فإن من حق كل موجود حي أن يدافع عن نفسه إذا ما تعرض للخطر حتى إذا أدى دفاعه إلى موت المهاجم،لأن مسؤولية موته تقع على عاتقه، وليست على عاتق المدافع عن نفسه.

النصوص الدالة على الجهاد من القرآن والسنة النبوية

قال اللّه تعالى في محكم كتابه:«انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)»(1) .

وقال تعالى:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)»(2) .

وقال تعالى:«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ...»(3) .

وقال تعالى:«قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)»(4) .

وقال تعالى:«أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ

ص: 182


1- سورة التوبة،آية41
2- سورة التوبة،آية123
3- سورة الأنفال،آية72
4- سورة التوبة،آية14

يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)»(1) .

-وعن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال:قال رسول اللّه(صلّى اللّه علیه و آله):

الخير كلّه في السيف،وتحت ظل السيف،ولا يقيم الناس إلّا السيف،والسيوف مقاليد الجنة والنار.(2)

۔عن أبي عبداللّه (عليه السلام) أنه قال:الجهاد أفضل الأشياء بعد الفرائض.(3)

-قال أمير المؤمنين (عليه السلام) :إن اللّه فرض الجهاد وعظمه وجعله نصره وناصره،واللّه ما صلحت دنیا ولا دين إلّا به.(4)

-عن فضیل بن عیاض قال:سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن الجهاد أسنة هو أم فريضة؟

فقال:الجهاد على أربعة أوجه:فجهادان فرض،وجهاد سنة لا تقام إلّا مع أعظم الجهاد،ومجاهدة الذين يلونكم من الكفار فرض.

وأما الجهاد الذي هو سنة لا يقام إلّا مع فرض فإن مجاهدة العدوّ فرض علىجميع الأمة،ولو تركوا الجهاد لأتاهم العذاب،وهذا هو من عذاب الأمة...(5) .

أجمعت النصوص المتقدمة على وجوب الجهاد في سبيل اللّه وأنه أفضل الأشياء بعد الفرائض،وإن الخير كل الخير في السيف،وإن السيوف مقاليد الجنة

ص: 183


1- سورة التوبة،آية16
2- الكافي،2:5،تهذیب الأحكام،6: 122،ثواب الأعمال،103،المجالس،463، مجلس،85،الوسائل،5:11
3- الكافي،5:8،تهذیب الأحكام،6: 121،الوسائل،7:11
4- الكافي،8:5،الوسائل،9:11
5- الكافي،5: 9،التهذیب،6: 124،الخصال،1: 24،تحف العقول،175،الوسائل،16:11

والنار،وبدون السيف لا يقوم الناس ولا يصلح الدين والدنيا إلّا به.

وتعرضت النصوص أيضاً لذكر المجاهدين وأكدت على أن الجهاد في سبيل اللّه بالأموال والأنفس سمت المؤمنين الصادقين،وإنه عملية اختبار لهم، وإنبعضهم أولياء بعض ويجب عليهم أن لا يتخذوا من دون اللّه ورسوله والمؤمنين وليجة.ثم وعدهم اللّه بنصرة إن كانوا يجاهدون كما أراد اللّه،وإنه سيعذب الكافرين على أيديهم ويشفي بذلك صدور المؤمنین.

ثواب المجاهدين ودرجاتهم الرفيعة

قال اللّه في محكم كتابه:«الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ *يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ *خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ »(1) .

-عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال:قال رسول اللّه(صلّى اللّه علیه و آله): اللجنة باب يقال له:باب المجاهدين يمضون إليه فإذا هو مفتوح وهم متقلّدون بسيوفهم،والجمع في الموقف والملائكة ترحب بهم...(2) .

-عن أبي حمزة قال:سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول:إنّ علي بن الحسين (عليه السلام) كان يقول:قال رسول اللّه(صلّى اللّه عليه وآله):ما من قطرة أحب إلى اللّه عزّوجلّ من قطرة دم في سبيل اللّه.(3)

ص: 184


1- سورة التوبة،الآيات20- 22
2- الكافي،2: 5،التهذیب،6: 123،ثواب الأعمال،103،مجالس الصدوق،463،م85،الوسائل،5:11
3- الكافي،5: 53،الوسائل،8:11

-قال أمير المؤمنين (عليه السلام) :أما بعد فإنّ الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه اللّه لخاصة أولياءه،وسوغهم كرامة منه لهم،ونعمة ذخرها...(1) .

-وقال أيضاً في يوم الجمل:أيها الناس!إن الموت لا يفوته المقيم،ولا يعجزه الهارب،ليس عن الموت محيص ومن لم يمت يتل،وإن أفضل الموت القتل، والذي نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون عليَّ من مية على فراش، الحديث.(2)

-وفي(عقاب الأعمال)باسناد تقدم في عيادة المريض،عن رسول اللّه(صلّى اللّه علیه و آله)إنه قال(في حديث):ومن خرج في سبيل اللّه مجاهداً فله بكل خطوة سبعمائة ألف حسنة،ويمحى عنه سبعمائة ألف سيئة،ويرفع له سبعمائة ألف درجة،وكان في ضمان اللّه بأي حتف مات كان شهيداً،وإن رجع رجع مغفوراً له مستجاباً دعاؤه.(3)

دونت هذه النصوص بفخر الدرجات الرفيعة للمجاهدين،وسمو مقامهم،ورفعة شأنهم عند اللّه،وأنهم مشمولین بلطف اللّه ورحمته ورضوانه، وأنهم خالدون في جنّات نعيمه في مقام صدق عند مليك مقتدر.

وكان مربي المجاهدين ومعلمهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) بكلماته

القيمة التي كان يحثهم فيها على الجهاد في سبيل اللّه،ويرغبهم فيه بقوله:لألف ضربة بالسيف أهون علي من ميتة على فراش..فهؤلاء سلكوا طريق علي بن أبي طالب (عليه السلام) امتثالا لأمر اللّه ورسوله (صلی اللّه علیه واله) فنالوا أرفع الدرجات وأسمى المراتب في الدنيا والآخرة.

ص: 185


1- الكافي،5: 4،التهذیب،1: 123،نهج البلاغة،القسم الثاني،75،الوسائل،8:11
2- الكافي،5: 54،الوسائل،8:11
3- عقاب الأعمال،51،الوسائل،12:11

وجوب الدفاع عن النفس والمال والعرض، وأن من مات دون مظلمته مات شهيداً

-عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال:قال رسول اللّه(صلّى اللّه عليه وآله):

من قتل دون مظلمته فهو شهيد.(1)

-وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال:قال رسول اللّه(صلّى اللّه علیه و آله):من قتل دون مظلمته فهو شهيد،ثم قال:يا أبا مریم!هل تدري ما دون مظلمته؟ قلت:جعلت فداك الرجل يقتل دون أهله ودون ماله وأشباه ذلك،فقال:يا أبا مریم!إن من الفقه عرفان الحق.(2)

-عن الحسين بن أبي العلاء قال:سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن الرجل يقاتل دون ماله،فقال:قال رسول اللّه(صلّى اللّه علیه و آله):من قتل دون ماله فهو بمنزلة الشهيد،قلت:أيقاتل أفضل أو لم يقاتل؟قال:أما أنا لو كنت لم أقاتل وتركته.(3)

-عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال:من اعتدى عليه في صدقة ماله فقاتل فقتل فهو شهيد.(4)

۔عن الرضا (عليه السلام) ،عن الرجل يكون في السفر ومعه جاريته له، فيجيء قوم يريدون أخذ جاريته أيمنع جاريته من أن تؤخذ وإن خاف على نفسه القتل؟قال:نعم،قلت:وكذلك إن كانت معه امرأة؟قال:نعم،قلت:وكذلك الأم والبنت وابنة العم والقرابة يمنعه وإن خاف على نفسه القتل؟قال:نعم،

ص: 186


1- الكافي،5: 52
2- الكافي،5: 52
3- الكافي،5: 52
4- الكافي،5: 52

[قلت]:وكذلك المال يريدون أخذه في سفر فيمنعه وإن خاف القتل؟قال:نعم.(1)

-عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال:قال رسول اللّه(صلّى اللّه علیه و آله): من قتل دون عياله فهو شهيد.(2)

أوجبت هذه النصوص الدفاع عن النفس والأهل والمال والعرض،وجعلت ثواب من يموت دونها كثواب الشهيد.فهذه النصوص تناغم الفطرة الإنسانية وتركزها في أعماق نفوس المؤمنين لتجعلهم أكثر اندفاعاً وحماساً في الدفاع عن النفس والمال والأهلون.وبذا يضع الإسلام الحد لأطماع اللصوص وقطاع الطرق،ويمنعهم من ممارسة العادات الجاهلية المقيتة التي حرمها الإسلام ووضع القوانين الصارمة لمجازات من يمارسها.ويهدف الإسلام من وراء تلك التشريعات نشر الأمن والاستقرار وبناء المجتمع السليم على أسس حضارية متقدّمة.

تحريم الظلم ووجوب محاربة الظالم ونصرة المظلوم

وعدم إعانة الظالم على ظلمه

عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال:من عذر ظالماً بظلمه سلّط اللّه عليه من يظلمه،فإن دعا لم يستجب له،ولم يأجره اللّه على ظلامته.(3)

-عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في وصيته لأصحابه قال:وإياكم أن تعينوا على مسلم مظلوم-إلى أن قال:فإن أبانا رسول اللّه(صلّى اللّه عليه وآله)كان يقول: إن معونة المسلم خير وأعظم أجراً من صيام شهر واعتكافه في المسجد

ص: 187


1- الكافي،5: 52
2- التهذیب،6: 157
3- الكافی،5:،الوسائل،344:11-345

الحرام.(1)

-عن عبداللّه بن سنان قال:سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول:من أعان ظالماٌ على مظلوم لم يزل اللّه علیه ساخطاً حتى ينزع من معونته.(2)

-وعن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال:العامل بالظلم،والمعين له،والراضي

به شركاء ثلاثتهم.(3)

-عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال:ما قدست أمة لم يؤخذ لضعيفها من قويها بحقه غير متعتع.(4)

-وبهذا الاسناد قال:قال علي (عليه السلام) :...لا يحضّرن أحدكم رجلاً يضربه سلطان جائر ظلماً وعدواناً ولا مقتولاً ولا مظلوماً إذا لم ينصره؛لأن نصرته على المؤمن فريضة واجبة إذا هو حضره.(5)

هذه النصوص هي تفسير لقوله تعالى:«وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ...»(6) ،وقوله تعالى:« فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ...»(7) ،وقوله تعالى:«إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42)»(8)،وكثير غير هذه الآيات التي صرح بها القرآن في ضرورة انكار الظلم ومكافحة الظالمين وعدم الخضوع والركون لهم،والسعي إلى إقامة العدل وانجاز القصاص؛لأن في القصاص حياة واستقرار،

ص: 188


1- الكافي،5:،عقاب الأعمال،41،الوسائل،345:11
2- الروضة،7،الوسائل،345:11
3- عقاب الأعمال،41،الوسائل،345:11
4- الكافي،5: 56
5- عقاب الأعمال،25،قرب الاسناد،29،الوسائل،408:11
6- سورة هود،آیة113
7- سورة البقرة،آية194
8- الشورى،آية42

وترك الجهاد الدفاعي يؤدي إلى اذلال الأمة وامتهانها، وحرفها في نهاية المطاف بالاكراه عن جادة الصواب بعد تحطيم ارادتها ونسخ شخصياتها وتسويف عقائدها..

وفيما يلي نذكر الآثار السيئة المترتبة على ترك الجهاد الدفاعي،والإقرار بظلم الظالمين وعدم مجاهدتهم.

عواقب ترك الجهاد و آثاره السيئة

-عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال:قال رسول اللّه(صلّى اللّه عليه وآله): اللجنة باب-إلى أن قال:فمن ترك الجهاد ألبسه اللّه ذلا ًوفقراًي معيشته،و محقاً في دينه،إن اللّه أغنى وأعزّ أمتي بسنابك خيلها و مراكز رماحها.(1)

-وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) انه قال:...فمن تركه ألبسه اللّه ثوب الذل، وشمله البلاء،وريث بالصغار والقماءة،وضرب على قلبه بالأسداد،وأديل الحق منه بتضييع الجهاد،وسيم الخسف،ومنع التصف،الحديث.(2)

شرح بعض كلمات الحديث:

دیث:على بناء المفعول من باب التفعيل،أي ذلك،وبعير مديث،أي مذلل بالرياضة.والصغار-بالفتح-:الذل والهوان.والصاغر:الراضي بالهوان والذل. والقماءة في النهج بدون الهاء،والقماء-بالضم والكسر-:الذل،قمأ-كجمع وكرم- ذل وصغر.والأسداد:جمع سد،وفي القاموس:ضربت عليه الأرض

ص: 189


1- الكافي،5: 2،التهذیب،6: 123،ثواب الأعمال،103،مجالس الصدوق،463،م85،الوسائل،5:11
2- الكافي،5:4التهذیب،6: 123،نهج البلاغة،القسم الثاني،75،الوسائل، 8:11

بالا سداد،أي سدت عليه الطرق وعميت عليه مذاهبه.وخلاصة هذه الكلمات ان تارك الجهاد يصاب بالذل والهوان ولم يعد يهتدي لسبيل ينقذه مما فيه... ورواه الشيخ باسناده عن أحمد بن محمد بن سعید نحوه،وزاد:وأديل الحق بتضييع الجهاد وغضب اللّه عليه بتركه نصرته،وقد قال اللّه عزّوجلّ في محكم كتابه:«ان تنصروا اللّه ينصركم ويثبت أقدامكم».(1)

وصدق زید بن علي بن الحسین (علیه السلام)حين قال:ما كره قوم قط حبّر السيوف،أو[حرّ]السيوف إلّا ذلوا.(2)

شرائط القائم قبل قيام المنتظر(عج)

-عن عيص بن القاسم قال:سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام) يقول:...إن أتاكم آت منّا فانظروا على أي شيء تخرجون،ولا تقولوا خرج زيد،فإن زيداً كان عالماً،وكان صدوقاً،ولم يدعوكم إلى نفسه،وإنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمد(صلّی اللّه عليه وآله)،ولو ظهر لوفي بما دعاكم إليه،إنّما خرج إلى سلطان مجتمع ينقضه...(3) .

-عن الرضا (عليه السلام) -(في حديث)-انه قال للمأمون:لا تقسي أخي زيد إلى زيداً بن علي،فإنّه كان من علماء آل محمد(صلّى اللّه عليه وآله)،غضب اللّه فجاهد أعدائه حتى قتل في سبيله،ولقد حدّثني أبي موسی بن جعفر أنه سمع أباه جعفر بن محمد (عليه السلام) يقول:رحم اللّه عمي زيداً إنه دعا إلى

ص: 190


1- تهذیب الأحكام،6: 124،سورة محمد (صلی اللّه علیه واله) ،آية7
2- خطط المقريزي،309:4،الشيعة في التاريخ،148
3- الروضة،264،الوسائل،11:35 -36

الرضا من آل محمد،ولو ظفر لوفي بما دعا إليه،لقد استشارني في خروجه فقلت:إن رضيت أن تكون المقتول المصلوب بالكناسة فشأنك-إلى أن قال-: فقال الرضا (عليه السلام) :إن زید بن علي لم يدع ما ليس له حق،وإنه كان أتقى لو من ذلك إنه قال:أدعوكم إلى الرضا من آل محمد(صلّى اللّه عليه وآله).(1)

-محمد بن إدريس في(آخر السرائر)نقلا من كتاب أبي عبداللّه السياري عنرجل قال:ذكر بين يدي أبي عبداللّه (عليه السلام) من خرج من آل محمد (صلّى اللّه عليه وآله)،فقال:لازال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد (صلی اللّه علیه واله) ،ولوددت أن الخارجي من آل محمد خرج وعلى نفقة عياله.(2)

ونستشف من هذه النصوص أن الخروج دفاعاً عن حق الأفراد أو الجماعات،أو عن حق الأمة إذا كانت مضطهدة من قبل الحاكم الجائر جائرة،سواءّ كان الخروج في زمن حضور الإمام المعصوم أو في زمن غيبته؛لأن الدفاع عن الحقوق المغتصبة،والجهاد في سبيل استردادها مع الامكان واجب لا محال، ومن مات دون حقه بمنزلة الشهيد المقتول بين يدي رسول اللّه(صلّى اللّه عليه و آله)في بدر وأحد وحنين..هذا إذا كانت الحقوق محصورة بنطاق الأفراد والجماعات فالجهاد دفاعاً عنها أو لغرض استردادها لا يحتاج إلى إذن مسبق من الشارع المقدس؛لأن الإنسان ملزم بالدفاع عن حقه وماله وعرضه شرعاً وعرفاً.

وأما الخروج الجماعي للدفاع عن الإسلام والمسلمين سواءً كان مع الحاكم الإسلامي الجائر أو ضده، فهذا لا يتم إلا بشروط،وهي:أن يكون الخارج

ص: 191


1- عبون أخبار الرضا (علیه السلام)،1: 476،باب47،ح1،ط مشهد،الوسائل،11: 38- 39
2- السرائر،468،الوسائل،11: 39

فقهياً عالماً ورعا تقيأ عادلا داعياً للرضا من آل محمد (صلی اللّه علیه واله) ،ولو ظفر لوفي بعده...

ولكن هذا النوع من الخروج لا يتم إلا بإذن الحاكم الشرعي وباشرافه وقيادته،ولكنه يتنافي مع ما تقدم من النصوص الداعية إلى عدم الخروج في زمن الغيبة،وضرورة الخضوع للسلطان الجائر وطاعته حتى إذا أراد قتل المسلمين بدون حق،وسلب أموالهم واغتصاب حقوقهم والغاء حريتهم،وإذا خشيه المسلم المراد قتله من لمعان سيفه عليه أن يغطي وجهه بردائه كي لا يخشى الموت ويفلت من قبضة القاتل.

وهذه النصوص هي التي اتخذها أصحاب نظرية الانتظار السلبي ذرائع التبرير نظريتهم الاستسلامية الداعية إلى التعايش السلمي مع الكفر العالمي، والوفاق مع الأنظمة الرجعية السائرة في ركابه،وهي كما ترى تتعارض مع النصوص الداعية إلى الخروج على الحاكم الجائر حتى إذا كان مسلمة،فكيف يمكننا أن نرفع هذا التعارض ونثبت صحة مفهوم الانتظار الإيجابي الذي اتخذ من الجهاد الدفاعي وسيلة لتربية الأمة على الجهاد المتواصل ضد خط الانحراف والتضليل.

وباستطاعتنا رفع التعارض بوجوه:

أولاً:ان هذا النمط من النصوص-الداعية إلى الخضوع والطاعة للحاكم الظالم حتى إذا تجاوز على حقوق رعيته، وأراد تبديد شملها بالقتل والتشريد-لم يرد بها نص في القرآن الكريم والسنة المتواترة،فأغلب الظن أنها موضوعة ومختلفة صاغتها أقلام وعاظ السلاطين التي ما فتئت إلى يومنا هذا تحاول إيجاد المعاذير الواهية لتبرير جرائم الحكام الرجعيين،وتحث الأمة على طاعتهم وإنفاذ مشيئتهم حتى إذا كانت في معصية اللّه،بل حتى لو ارتكبوا أبشع المجازر،

ص: 192

ومارسوا أخس الرذائل التي حولت قصورهم وبلدانهم فيما بعد إلى بؤر للفساد والفسق والفجور.

الثانياً:ولو غضضنا النظر عن مسألة الوضع والاختلاق،فلعل المراد من عدم الخروج والطاعة للحاكم الجائر في زمن الغيبة هو في حالة انعدام الشرائط المذكورة وعدم توفرها في شخص الخارج،كأن يدعو الخارج إلى نفسه بهدف حب الزعامة والتسلط،فهذا الخروج مذموم من قبل الشارع المقدس،لأنه ما جدوى حلول طاغوت محل طاغوت آخر.ثم أنه لم يرد به سبيل اللّه،ولم يحضى برضى آل محمد(صلّی اللّه علیه و آله)،بل كانت غايته تحقيق المنافع الشخصية.

فحامل هذه الراية يكون طاغوت يُعبد من دون اللّه كما عبرت الروايات بذلك،فكيف يسع الإنسان المؤمن الخروج معه و تأیید نهضته مع ما ورد فيه من الذم.وتجسد هذا النوع من الخروج في ثورة عبداللّه بن الزبير ونظرائه، وهو من ألد أعداء أهل البيت (عليهم السلام) .

ذكر النصوص الدالة على ذم هذا النمط من الخروج:

-عن أبي الحسن (عليه السلام) أنه ذكر رجلا يحب الرئاسة،فقال ما

ذئبان ضاربان في غنم قد تفرق رعاؤها بأضر في دين المسلم من الرئاسة(1) .

-عن أبي عبداللّه (عليه السلام) :من طلب الرئاسة هلك.(2)

-عن عبداللّه بن مسكان قال:سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام) يقول:إياكم وهؤلاء الرؤساء الذين يترأسون،فواللّه ما خففت النعال خلف رجل إلّا هلك

ص: 193


1- الكافي،2: 297
2- الكافي،2: 297

وأهلك(1).

-قال أبو عبداللّه (عليه السلام) :ملعون من ترأس،ملعون من هم بها،ملعون من حدث بها نفسه(2).

-عن أبي حمزة الثمالي قال:قال لي أبو عبداللّه (عليه السلام) :إيّاك والرئاسة، وإياك أن تطأ أعقاب الرجال،قال:قلت:جعلت فداك،أما الرئاسة فقد عرفتها، وأمّا أن أطأ أعقاب الرجال فما ثلثا ما في يدي إلا مما وطئتأعقاب الرجال(3)، فقال لي:ليس حيث تذهب،إيّاك أن تنصب رجلاً دون الحجة،فتصدّقه في كلّ ما قال(4).

۔عن أبي الربيع الشامي،عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:قال لي:ويحك يا أبا الربيع لا تطلبنّ الرئاسة ولا تكن ذئباً(5).

-عن محمد بن مسلم،قال:كتب أبو عبداللّه (عليه السلام) إلى الشيعة: ليعطفنّ ذو السن منكم والنهي على ذوي الجهل وطلّاب الرئاسة،أو لتصبینكم العنتي أجمعين(6).

ثالثاً:وربما يراد من النهي المذكور هو عدم الاشتراك في الفتن التي تحصل بين آونة وأخرى وبذرائع شتى،وصور وأشكال مختلفة فلا يجوز المساهمة فيها لورود النهي عنها،عن الرسول الأكرم(صلّی اللّه علیه و آله)،

ص: 194


1- الكافي، 2: 297.
2- الكافي، 2: 298.
3- أي مشيت خلفهم لأخذ الرواية عنهم، فأجاب (عليه السلام) بأنه ليس الغرض النهي عن ذلك، بل الغرض النهي عن جعل غير الإمام المنصوب من قبل اللّه تعالى بحيث تصدقه في كل ما يقول، وقيل وطؤه العقب كناية عن الاتباع في الفعال، وتصديق المقال، واكتفي في تفسير بأحدهما لاستلزامه الآخر غالبة.
4- الكافي، 2: 298.
5- الكافي، 2: 298.
6- روضة الكافي، 152/139 ، ما رواه الحواریون، 562:03.

والأئمة الأطهار (عليهم السلام) وقد مر ذكرها ولا حاجة لنا بالاعادة،وقد الخصها الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله:كن في الفتنة كابن اللبون لا ضرع فيحلب،ولا ظهر فيركب..

رابعا:ويحتمل قوية أن المراد من النهي هو عدم الخروج على الحاكم الظالم في ظرف غير مناسب،أو قبل أن تستكمل الثورة شرائط نجاحها وقوتها.

فإن أحداث الثورة قبل أوانها،أو في ظرف غير مناسب يؤدي حتما إلى إفشالها وتصفية القائمين بها دون أن تترك أي أثر ملحوض يبرر شرعية تفجيرها،أو تحدث انفراجة في علاقة الحاكم الجائر مع الشيعة الإمامية،أو تردعه عن ارتكاب الجرائم وممارسة الرذائل.فإن ثورة كهذه تكون بمثابة الانتحار وتعريض النفس للتهلكة وهذا ما ينهانا القرآن الكريم عن تنفيذه بقوله:ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة...

وفي غير هذه الصور المدرجة أعلاه يكون الخروج مع توفر الشرائط المذكورة عمة واجبة لابد من انجازه؛لأن سلامة الدين الأصيل المتجسد بمذهب أهل البيت (عليهم السلام) ،وحفظ شيعتهم متوقفة عليه.ولذا أشار الإمام أبو عبداللّه (عليه السلام) لهذا بقوله:لازال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارج من آل محمد(صلّی اللّه عليه و آله)،ولوددت أن الخارجي من آل محمد خرج وعلي نفقة عياله..

وبهذه الوجوه الأربعة تم رفع التعارض وإثبات صحة نظرية الانتظار الإيجابي لانسجامها مع النصوص إنسجامة تامة،فتأمل.

ذكر معوقات و موانع الجهاد

قال اللّه في محكم كتابه:«قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ

ص: 195

وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)»(1).

وقال عز من قائل:«فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)»(2).

وقال تعالى:««لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)»(3) .

وقال تعالى:«وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)»(4).

أشارت هذه النصوص إلى الموانع التي تعترض سبيل الجهاد ولخصتها في موانع حقيقية ومفتعلة.

فأما الحقيقية فهي:الضعف والعجز والمرض وانعدام الوسائل والأسلحة الكافية،وكذا الفقر والأنوثة،والعمى والعرج الذي أشارت لهما آیات ونصوص غير هذه.

فهذه مجمل الموانع الحقيقية التي أقرها الشارع المقدس وأسقط الجهاد عن المتصفین بالأوصاف المذكورة أعلاه،ولكن أوجب عليهم الدفاع عن النفس ما أمكنهم فيما إذا تعرضوا لعدوان ولا يوجد من يحميهم منه.وأما الموانع المفتعلة فهي كثيرة لا حصر لها حيث أنها تشمل جميع

ص: 196


1- سورة التوبة، آية 24.
2- سورة التوبة، آية 81.
3- سورة التوبة، آية 91.
4- سورة التوبة، آية 92.

المنافع والمصالح الشخصية والأمور الدنيوية التي أشارت الآيات لبعضها، والتي اتخذها المتخلفون ذرائع وحجج لتبرير قعودهم وتخلفهم عن الجهاد، وأتفه هذه المعاذير ما اعتذر به البعض بأن الحر مانعهم من المشاركة به.

وقد وبخ القرآن هذه النماذج المتخاذلة ووصفها بالفسق والجهل،وحذرها من العواقب الوخيمة التي ستقودها إلى حياة الذل والهوان،ولعلها تعرض جميع المكاسب التي حرصت عليها للخطر.

وتحقق فعلا ما تنبأ به القرآن الكريم حيث خسر هؤلاء المتخلفون جميع الأشياء التي اتخذوا منها ذرائع لتبرير تخلفهم وقعودهم.

ففي العراق مثلا حين اعتلى النواصب وأعداء الدين منصة الحكم أواخر الستينات حذر العلماء المجاهدون الأحرار من الخطر العظيم الذي سيطوي التشيع ويجتث جذوره عما قريب،من جراء استلام العصابة الطائفية الحاقدة مقاليد الحكم.

ولكن وللأسف الشديد ذهبت تحذيرات العلماء ودعواتهم الصريحة لمكافحة الخطر البعثي المحدق بالإسلام أدراج الرياح،ولم تلقى الأذن الصاغية؛ لأن الرأي العام الشيعي انخدع بشعارات السلطة البراقة المتسمة بالوطنية ومكافحة الجاسوسية،وبسياستها المرائية المبطنة التي ظاهرها رعاية الشعائر الدينيةوالحسينية،وباطنها الكفر والنفاق المفعم بالحقد والكراهية للإسلام والتشيع بصورة خاصة..

فكانت السلطة البعثية الحاقدة في بداية أمرها تذيع من خلال وسائل إعلامها المسموعة والمرئية المراثي الحسينية وقصة مقتل الحسين (عليه السلام) يوم العاشر من المحرم بهدف كسب مشاعر الجماهير الشيعية، وإبعادها عن علمائها و مراجعها العظام الذين فرضت عليهم السلطة الحاقدة الاقامة الجبرية في

ص: 197

أماكن تواجدهم ومنعتهم من الاتصال بقواعدهم الشعبية لئلا تنكشف مقاصدها الخبيثة،ومخططاتها الاجرامية الرهيبة الهادفة إلى تصفية معالم التشيع في العراق من خلال اتصال القيادة بقواعدها الشعبية،ومن ثم احلال الخط الناصبي الوهابي المعادي لأهل البيت (عليهم السلام) محله.

واستمر حزب الكفر والضلال يمارس سياسته المرائية حتى تركزت دعائم حكمه،وتوسعت قاعدته الجماهيرية بشكل ملحوض نتيجة المكر والخداع. فعندها شرع الحزب بتنفيذ مخططه الجهنمي في تصفية علماء الدين المجاهدين،والمراجع العظام،والحوزة العلمية في النجف الأشرف،والحركة الإسلامية،والشعائر الحسينية،بشكل تدريجي تحت شعار لا جاسوس على أرض العراق،ذلك الشعار الذي اتخذ غطاء لانجاز مخططه الإجرامي السالف الذكر..

وقد أشرنا سالفة بشكل مفصل إلى مراحل تنفيذ المخطط البعثي في تصفية جميع معالم التشيع ضمن العوامل المساعدة على تركيز مفهوم الانتظار السلبي فلا حاجة لذكرها ثانية هنا، بل نكتفي بالإشارة إلى النتائج المأساوية التيأفرزها المخطط البعثي بصورة موجزة..

فبعد مضي عشر سنوات على بدء التنفيذ التدريجي للمخطط المذكور بدأت بوادر الشر والدمار تلوح في آفاق العراق الجريح،فجر مئات الآلاف من أبنائه البررة إلى إيران بحجة التبعية الإيرانية،وسقط العشرات من علمائه الأفذاذ شهداء برصاص الحقد البعثي،وفي طليعتهم الشهيد محمد باقر الصدر وأخته العلوية الطاهرة بنت الهدی،وعدد غير قليل من شهداء آل الحكيم،والتهمت نيران الحروب التي سعرها النظام البعثي ضد جاريته إيران والكويت أكثر من مليوني إنسان عراقي معظمهم من الشيعة الموالين لأهل البيت (عليهم السلام) .

وبعد حرب الخليج مباشرة حصلت الانتفاضة الشيعية العارمة التي أججت

ص: 198

أحقاد النظام البعثي الدفينة ضد الشيعة الإمامية،وجعلته يستخدم أشد وسائل بطشه وحشية،وأكثرها إجراما،وأبشعها فتكأ وتنكي

وأصبح النظام الحاقد كالثور الهائج لا يدري كيف يطفئ غلیل حقده،فأخذ يقصف المدن الشيعية بصواريخه البعيدة المدى،وبمدفعيته الثقيلة ويصب عليها نار حقده بكثافة وبشكل عشوائي بحيث لم يسلم منها حتى الأطفال الأبرياء،فأحدث مجازر رهيبة لم يشهد التاريخ لها نظيرة.

وجاء الحصار الاقتصادي بعد حرب الخليج ليزيد الضحايا،ويركز مأساة الشعب العراقي أكثر فأكثر فارتفع عدد القتلى بسبب المرض والمجاعة إلى أكثر من ثلاثة ملايين شخص.

فكانت المحصلة النهاية من جراء تنفيذ المخطط البعثي الاجرامي هي،إزالة معالم التشيع، والغاء الشعائر الحسينية،وتحطيم ركائز الاقتصاد العراقي، واستنزاف طاقاته العسكرية والبشرية بشكل لم يعد العراق قادرة على حماية حدوده والدفاع عنها..

وفي هذه الأيام يحوك حزب الكفر والضلال مؤامرة جديدة بالتعاون مع أسياده الأمريكان والصهاينة،وهي توطين ثلاثة ملايين فلسطيني في جنوب العراق وشماله ليسد بذلك الفراغ البشري الذي أحدثته الحروب والتصفيات الدموية الرهيبة،وليمكن الصهاينة من انجاز مخططاتهم التوسعية،وفرض حلولهم الاستسلامية المذلة على البلدان العربية.. .

وكان حاصل المتخاذلين من جراء قعودهم وتخلفهم عن الجهاد الدفاعي كما ترى خسران جميع الأشياء التي اتخذوها مبرر لاستسلامهم وتخاذلهم.فلا تجارة، ولا مساكن فارهة،ولا أخوة،ولا مال،ولا بنين،بل راح الكثير منهم يبحث في المزابل ليعثر علىلقمة خبز يسد بها رمقه.وبهذه النتيجة المأساوية

ص: 199

خسر أصحاب نظرية الانتظار السلبي الدنيا والآخرة..

صحيح أن أصحاب نظرية الانتظار الإيجابي خسروا أيضاً منافعهم الدنيوية،وقدموا الكثير من الشهداء إلّا أنهم لم يتخلفوا عن أداء واجباتهم الشرعية،ووظائفهم الإنسانية والرسالية،ونالوا بذلك غفران اللّه ورحمته ورضوانه،وعاشوا حياة العز والسؤدد،وماتوا كراماً وسوف يحشرهم اللّه مع محمد و آله الأطهار (صلی اللّه علیه واله) ، ويشملهم بلطفه ورضوانه في دار الخلد والنعيم الدائم الذي لا انقضاء له..

الركيزة الثالثة هي الصبر و تحمل الصعاب

والركيزة الثالثة لمفهوم الانتظار الإيجابي هي الصبر الذي جعله اللّه ضمادة للجروح النازفة التي يصاب بها المجاهدون في ساحة الجهاد،أو مناديل رحمة يجفف بها دموع الثكالى اللواتي فقدن أزواجهن وأبنائهن،أو اليتامى الذين فقدوا آبائهم شهداء في سبيل اللّه،فكان الصبر يسلي هؤلاء جميعا ويبعث فيهم الأمل بحسن العواقب فما هي إلّا أيام قلائل ثم يلتحقوا بأعزتهم الذين قتلوا في سبيل اللّه في جنات النعيم حيث الخلود الدائم الذي لا يزول..ومثلما كان الصبر و تحمل الصعاب ركيزة لمفهوم الانتظار السلبي كما مر ذلك، كان أيضا من ركائز الانتظار الإيجابي كما سنذكره في هذا البحث،فكيف أصبح هذا الأمر مشتركة بين مفهومين متعارضين في مسارتهما النظرية والتطبيقية؟

وجوابا على هذا السؤال نقول باختصار:إن منشأ الاختلاف بينهما بالرغم من وحدة الموضوع يعود إلى اختلاف معتنقي المفهومين في فهم معنى الصبر

ص: 200

وتحمل الصعاب.

فأصحاب مفهوم الانتظار السلبي فسروا النصوص الداعية للصبر في زمن الغيبة الكبرى بمعنى الخنوع والاستسلام للحاكم الجائر مهما ارتكب من جرائم وما ثم؛ لأن تفشي الظلم،وانتشار الفساد كما أسلفنا يؤدي بنظرهم إلى تعجيل فرج القائم،وتمهيدالأرضية الصالحة لقيام نهضته.ولكن هذا الفهم بالإضافة إلى أنه لا ينسجم مع نصوص القرآن والسنة النبوية المتواترة،أنه فهم قاصرة لم يستوعب مفهوم الصبر كما هو،وإنما فسره المتخاذلون بما يتفق مع حالتهم النفسية المتداعية، وعزائمهم الخائرة،وكواهلهم المثقلة بمعاناة ومشاق سني الجهاد المؤلمة.فأراد هؤلاء المنهكون أن يجدوا لأنفسهم ذرائع ومبررات يبرروا بها خنوعهم واستسلامهم،فرأوا بعض الروايات الداعية إلى طاعة الحاكم الجائر وعدم الخروج عليه، والمختصة بظرف معين فعمموها على كل الظروف والأوقات واتخذها ذريعة للقعود والتخاذل.ثم عززوها بسوء فهمهم لكثير من المفاهيم الإسلامية كالصبر والتقية،ونسجوا منها لأنفسهم نظرية واهية لا تمت للاسلام بصلة ليبرروا بها حالة انزوائهم وابتعادهم عن ساحة الجهاد وترك أجل واجباتهم الشرعية،ووظائفهم الرسالية.

ولا أدري كيف استساغ هؤلاء مثل هذا المفهوم مع علمهم بأن اللّه عزوجل إنمايثيب الصابرين على ما تحملوا من الشدائد والمصاعب والمصائب من جراء

جهادهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر،وطاعتهم للّه،وصبرهم عن معصيته، ولا يمكن أن يثيب اللّه من تخلى عن أهم واجباته الدينية،وأطاع ملوك زمانه في معصية اللّه،ولم يدفع الشر عن الإسلام والمسلمين،ولم ينصر المظلوم منهم،أو يغيث المستغيثين من شدة الظلم والجور..

فأصحاب نظرية الانتظار السلبي أساؤوا فهم الصبر وشوهوا صورته

ص: 201

الجميلة الحسنة بقلب معانيه رأساً على عقب.بينما فسر أصحاب نظرئة الانتظار الإيجابي الصبر تفسيراً موضوعياً ينسجم مع معانيه الحقيقة المطابقة لنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المتواترة.وستری عزيزي القارئ صدق ما ذهبنا إليه من خلال مطالعتك لمضامین بحث الركيزة الثالثة المدرج أدناه.

ذكر سمات الصابرين وصفاتهم

قال اللّه تعالى:«وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)»(1).

وقال تعالى:«الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)»(2) .

وقال تعالى:«إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ »(3) .

وقال تعالى:«وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)»(4) .

منحت هذه النصوص جملة من الصفات والسمات للصابرین فعرفتهم بأنهميبذلون الأنفس والأموال « ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ »،ويقيمون الصلاة وينفقون الصدقات سراً وعلانية وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ،ويعملون الصالحات،ويصمدوا في ساحات الجهاد،ولا يظهرون الضعف والاستكانة لما أصابهم من جراء الجهاد بل يصبرون وعلى ربهم يتوكلون.

وهذا النمط من المؤمنین حاز رضى اللّه وحبّه،لأنه اهتدى بهديه،واقتدى

ص: 202


1- سورة الرعد،آية22
2- سورة النحل،آية42
3- سورة هود،آية11
4- سورة آل عمران،آية146

بنبيه،وجاهد في سبيله،فنال الدرجات الرفيعة والمقامات السامية،وأحب اللّه وغمره بفيض رحمته وغفرانه.

وفي تفسير هذه النصوص قال الفيض الكاشاني:والذين صبروا على القيام بأوامر اللّه،ومشاق التكاليف وعلى المصائب في النفوس والأموال،وعنمعاصي اللّه ابتغاء وجه ربهم طلباً لرضاه،وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة يدفعونها بها فيجازون الإساءة بالإحسان،ويتبعون الحسنة السيئة فتمحوها.(1)

وقال:الذين صبروا على أذى الكفر ومفارقة الوطن وعلى ربّهم يتوكلون يفوضون إليه الأمر كله.(2)

وقال:إلّا الذين صبروا في الشدة على الضراء إيماناً باللّه واستسلاماً لقضائه وعملوا الصالحات في الرخاء شكراً لآلائه سابقها ولاحقها اولئك لهم مغفرة وأجر كبير.(3)

وقال:...فما وهنو لما أصابهم في سبيل اللّه فما فتروا،ولم ينكسر جدهم من قتل من قتل منهم،وما ضعفوا في الدين وعن العدو،وما استكانوا وما خضعوا

للعدو وهو تعريض بما أصابهم عند الأرجاف بقتله (صلی اللّه علیه واله) .(4)

ونقل الفيض الكاشاني عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير هذه الآية بقوله: بيّن اللّه سبحانه أنه لو كان قتل(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)كما أرجف بذلك يوم أحد لما أوجب ذلك أن يضعفوا ويهنوا كما لم يهن من كان مع الأنبياء

ص: 203


1- تفسير الصافی،67:3
2- تفسير الصافی،3: 136
3- تفسير الصافي،2:434
4- تفسير الصافي،390:1

بقتلهم واللّه يحب الصابرين فينصرهم في العاقبة ويعظم قدرهم.(1)

اختبار المؤمنين و تميز الصابرين منهم

قال اللّه في محكم كتابه:«وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ *الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ *أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ »(2).

وقال تعالى:«أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)»(3) .

قال الفيض الكاشاني في تفسير هذه الآيات:«ولنبلونكم ولنصيبنكم إصابة المختبر هل تصبرون على البلاء وتستسلمون للقضاء بشيء من الخوف ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشّر الصابرين أي بالجنة كما مرّ»:وفي نهج البلاغة إن اللّه يبتلى عباده عند الأعمال السيئة بنقص الثمرات وحبس البركات وإغلاق خزائن الخيرات ليتوب تائب ويقلع ومقلع ويتذكر متذگر ویزدجر مزدجر.

وفي الإكمال عن الصادق (عليه السلام) إن هذه علامات قیام القائم يكون من اللّه عزّوجلّ للمؤمنين قال بشيء من الخوف من ملوك بني أمية في آخر سلطانهم والجوع بغلاء أسعارهم ونقص من الأموال فساد التجارات وقلّةالفضل ونقص من الأنفس الموت الذريع ونقص من الثمرات بقلة ريع ما يزرع وبشّر

ص: 204


1- تفسير الصافي،1: 391
2- سورة البقرة، الآیات155- 157
3- سورة آل عمران،آیة142

الصابرين عند ذلك بتعجيل خروج القائم (عليه السلام) ثم قال هذا تأويله إن اللّه عزّوجلّ يقول وما يعلم تأويله إلّا اللّه والراسخون في العلم.(1)

وقال في تفسير قوله تعالى:«الذين إذا أصابتهم مصيبة في الحديث كل شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة قالوا إنّا للّه وإنّا إليه راجعون».

وفي نهج البلاغة،إن قولنا إنّا للّه إقرار على أنفسنا بالملك وقولنا إنّا إليه راجعون إقرار على أنفسنا بالهلك.

وفي المجمع:عن النبي(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)من استرجع عند المصيبة جبر اللّه مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلقاً صالحاً يرضيه،وقال:قال:من أصيب بمصيبة فأحدث استرجاعاً وإن تقادم عهدها كتب اللّه له من الأجر مثله يوم أصيب.

وفي الكافي، عن الباقر (عليه السلام) :ما من عبد يصاب بمصيبة فيسترجع عند ذكره المصيبة ويصبر حين تفجأه إلّا غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه،وكل ما ذكر مصيبة فاسترجع عند ذكره المصيبة غفر اللّه له كل ذنب فيما بينهما.(2)

وقال في تفسير قوله تعالى:«أم حسبتم بل أحسبتم يعني لا تحسبو أن تدخلوا الجنة ولما يعلم اللّه الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ولما يجاهد من يجاهدويصبر من يصبر منكم».

العياشي عن الصادق(علیه السلام)في هذه الآية قال:إن اللّه هو أعلم بما هو مكونه قبل أن يكونه،وهم ذر،وعلم من يجاهد ممن لا يجاهد،كما أنه يميت خلقه قبل أن يميتهم ولم يرهم موتهم وهم أحياء.(3)

ص: 205


1- تفسير الصافي،204:1
2- تفسير الصافي،1: 209،الكافي،3: 244
3- تفسير الصافي،1: 386

-عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:إنما يبتلي المؤمن في الدنيا على قدر دينه،أو قال:على حسب دينه.(1)

-عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال:ان في كتاب علي (عليه السلام) ان أشد الناس بلاء النبيون ثم الوصيون ثم الأمثل فالأمثل،وإنما يبتلي المؤمن على قدر أعماله الحسنة فمن صح دينه وصح عمله اشتد بلائه وذلك أن اللّه عزّوجلّ لم يجعل الدنيا ثواب لمؤمن،ولا عقوبة لكافر،ومن سخف دینه وضعف عمله قل بلائه،والبلاء أسرع إلى المؤمن المتقي من المطر إلى قرار الأرض.(2)

أشارت النصوص إلى أن اللّه تعالى يبتلي عباده المؤمنين على قدر إيمانهم بشتى أنواع البلاء كالنقص بالأموال والأنفس والثمرات والخوف والجوع والمصاعب والنوائب ليمحصهم ويرسخ إيمانهم،ويجعلهم أصلب عود أو أقوى عزيمة،وأشد شكيمة،كي يؤهلهم لمواجهة المصاعب الشائكة،والشدائد المذهلة،والمصائب المفجعة، والظروف الحالكة فيصبروا عليها فيزيدهمثواب وأجرة،ويرفع درجاتهم حتى يضعهم في مصاف الأنبياء والأولياء والصالحين.

وتشتد الحاجة إلى الاختبار والامتحان في عصر ما قبل الظهور حيث تكثر الفتن وتكون كقطع الليل المظلم،تنتشر البدع،ويزداد البلاء أضعاف مضاعفة،فما لم يكن المؤمن قد مر باختبارات وامتحانات صعبة عسيرة لا يستطيع أن يواجه الفتن والبدع وأمواج البلاء المبرم في آن واحد بقوة واقتدار.

وفي عصر ما قبل الظهور يتضائل عدد المؤمنين ويصبح المؤمن أعز من الكبريت الأحمر من جراء اشتداد الفتن وتفشي البلاء وانتشار الظلم والجور والفساد.فلم يبقى من المؤمنين إلا من امتحن اللّه قلبه بالإيمان فصار كالجبل

ص: 206


1- الكافي،2: 353
2- علل الشرائع،44،الكافي،2: 259

الأصم لا تهزه الزعازع،ولا تؤثر فيه العواصف العاتية،ولا تفت في عضده الشدائد والمصاعب مهما كثرت وتعاظم خطرها.

فهؤلاء المؤمنون الصابرون الذين عركتهم الأحداث،وعجنتهم الشدائد،واشتازوا جميع الاختبارات بنجاح تام هم الذين سيكونوا جنود القائم المنتظر (عليه السلام) ،وقادة جيشه،وأركان دولته،وحماة دعوته.وهم أعلم الناس بأهل زمانهم،وأزهدهم، وأتقاهم وأرسخهم إيماناً.

فائدة الاختبار والامتحان تعود على المؤمنين الصابرين بالدرجة الأولى حيث توجد فيهم الكفائة التي تمكنهم من انجاز جميع واجباتهم الدينية والرسالية،وممارسة الأعمال الصالحة في الدنيا،وترفع شأنهم ومقامهم في الآخرة..

دواعي الصبر و موجباته ودرجات الصابرين

قال اللّه في محكم كتابه الكريم:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)»(1) .

وقال تعالى:«يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)»(2) .

وقال تعالى:«....إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)»(3) .

وقال تعالى:«فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ....»(4) .

ص: 207


1- سورة آل عمران،آية200
2- سورة لقمان،آية17
3- سورة العصر،آية3
4- سورة ق،آية 39،وسورة طه،آية 130

وقال تعالى:«فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)»(1) .

وقال تعالى:«وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ...»(2) .

وقال تعالى:«ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)»(3) .

وقال تعالى:«إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)»(4) .

وفي تفسير هذه الآيات المباركات نقل العياشي جملة من الروايات،منها:

-عن مسعدة،عن صدقة،عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في قول اللّه تبارك وتعالی:«واصبروا..»يقول:عن المعاصي و وصابروا على الفرائض«واتقوا اللّه»و يقول: آمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر،ثم قال:وأي منكر أنكر من ظلم الأمة لنا،وقتلهم إيّانا:«رابطوا»يقول:في سبيل اللّه ونحن السبيل فيما بين اللّه وخلقه،ونحن الرباط الأدنى،فمن جاهد عتا فقد جاهد عن النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)،وما جاء به من عند اللّه«لعلّكم تفلحون»يقول:لعلّ الجنة توجب لكم إن فعلتم ذلك،ونظيرها من قول اللّه وومن أحسن قولا و ممن دعا إلى اللّه وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين،ولو كانت هذه الآية في المؤذنين كما فسّرها المفسرون لفاز القدرية وأهل البدع معهم.(5)

- عن ابن أبي يعفور عن عبداللّه (عليه السلام) في قول اللّه:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

ص: 208


1- سورة غافر،آية55و77
2- سورة طه،آية132
3- سورة النحل،آية110
4- سورة هود،آية11
5- العياشي،212:1،البحار،7: 135،البرهان،1: 335،الصافي،1: 323

آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا »قال:اصبروا على الفرائض،وصابروا على المصائب، ورابطوا على الأئمة.(1)

-عن أبي بصير،قال:سئلت أبا الحسن (عليه السلام) عن قول اللّه عزّوجلّ:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا »قال:اصبروا على المصائب وصابروهم على التقية،ورابطوا على ما تقتدون به«وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)»(2) .

-عن هشام بن الحكم،عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال:إذا كان يوم القيامة يقوم عنق من الناس فيأتون باب الجنة فيقال:من أنتم؟فيقولون:نحن أهل الصبر،فيقال لهم:علی ما صبرتم؟فيقولون:كنّا نصبر على طاعة اللّه،ونصبر عن معاصي اللّه، فيقول اللّه عزّوجلّ:صدقوا أدخلوهم الجنة،وهو قول اللّه عز وجل:« إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)»(3) .

-عن الأصبغ بن نباتة قال:قال أمير المؤمنين (عليه السلام) :الصبر صبران:صبر عند المصيبة حسن جميل،وأحسن من ذلك الصبر عند ما حرم اللّه عليك.(4)

-عن علي (عليه السلام) ،قال:قال رسول اللّه(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم):الصبر ثلاثة:صبر عند المصيبة،وصبر عند الطاعة،وصبر عن المعصية،فمن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب اللّه[له]ثلاثمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة،كما بين السماء والأرض،ومن صبر على الطاعة كتب اللّه له ستمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهی

ص: 209


1- العياشي،212:1،البرهان،1: 335،البحار،7: 135
2- البرهان،1: 334
3- الكافی،2: 75،الوسائل،186:11
4- لكافي،2: 90،الوسائل،11: 187

العرش،ومن صبر عن المعصية كتب اللّه له تسعمائة درجة ما بين درجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش(1).

۔عن حمزة بن حمران، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:الجنة محفوفة بالمكاره والصبر،فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنة(الحديث)(2).

-عن حفص بن غیاث قال:قال أبو عبداللّه (عليه السلام) :یا حفص إنّ من صبر صبراً قليلاً،وإنّ من جزع جزع قليلاً،ثم قال:عليك بالصبر في جميع أمورك،فإن اللّه عزّوجلّ بعث محمداً(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)فأمره بالصبر والرفق،فقال:«وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا *وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا »(3)،وقال تبارك وتعالى: « ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[السیئة] فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ *وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ »(4)؛فصبر رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) حتی نالوه بالعظائم ورموه بها(5)،فضاق صدره،فأنزل اللّه عزوجل:«وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ *فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ »(6)،ثم كذبوه ورموه،فحزن لذلك،فأنزل اللّه عز وجل:«قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ *وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا »(7)،فألزم النبي (صلی اللّه علیه واله) نفسه الصبر،فتعدوا فذكروا اللّه تبارك وتعالى وكذبوه، فقال:قد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي ولا صبر لي على ذكر إلهي،فأنزل اللّه عزّوجلّ:«وَلَقَدْ خَلَقْنَا

ص: 210


1- الكافي، 2: 91، الوسائل، 11: 187.
2- الكافي، 2: 89.
3- سورة المزمل، آية 10.
4- سورة فصلت، آية 35
5- أي الكذب والجنون.
6- سورة الحجر، الآیات 97-98.
7- سورة الأنعام، آية 33.

السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ *فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ »(1) ،فصبر النبي (صلی اللّه علیه واله) في جميع أحواله ثم بشر في عترته بالأئمة ووصفوا بالصبر، فقال جل ثناؤه:«وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)»(2) ،فعند ذلك قال (صلی اللّه علیه واله) :الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد...(3) .

أن النصوص المذكورة ذكرت الموارد التي توجب الصبر وتحمل المشاق،

كالصبر على طاعة اللّه وإقامة الفرائض،واجتناب معاصيه،وعدم طاعة مخلوق في معصيته،والصبر على ما يلقى المؤمنون من الأذى والمتاعب من جراء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما تجلى ذلك في وصية لقمان لولده،وجعل اللّه ذلك من عزم الأمور.

وكذا يحسن الصبر على ما يواجه المؤمنون من الشدائد والمصاعب فيما إذا أرغموا بالهجرة إلى بلد آخر فراراً بدينهم وعقائدهم،أو الصبر على ما يفقدون من أعزتهم سواء في دار الهجرة أو في ساحات الجهاد في سبيل اللّه.ومعنى هذا أن الصبر يكون مع العمل والمثابرة،لا مع الكسل والخنوع والاستسلام،والإقرار بالواقع المر المفعم بالمآسي والمنكرات والسلبيات الغير متناهية..

فهذه الأمور المذكورة في النصوص أعلاه هي التي تستوجب الصبر لا ما يزعم أصحاب نظرية الانتظار السلبي بأن الصبر يعني الخضوع والاستسلام للحاكم الجائر،والسكوت عما يقترفه من جرائم ومآثم،وغض النظر عن المنكرات،وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتخلي عن الواجبات

ص: 211


1- سورة ق،آية38
2- سورة السجدة،آية 26
3- الكافي،2: 88

الدينية،والمهام الرسالية إذا اقتضى الأمر ذلك.

لقد جسد الإمام الحسين (عليه السلام) في نهضته جميع معاني الصبر تجسيداً عملياً في ساحة الجهاد البطولي ضد طاغية عصره یزید بن معاوية بن أبي سفيان،حيث قدم أنصاره،وأخوته وأبنائه بما فيهم الطفل الرضيع قرابين على مذبح الحرية وهو صابراً محتسباً.ولم تمنعه كثرة القرابين،وأعظم النوائب والمصاعب عن مواصلة جهاده الدامي،بل استمر فيه ببسالة،ورباطة جأش وشجاعة فريدة حتى لاقى مصرعه الفجيع الذي اهتزت له أركان عرش اللّه أس وحزناً،أبكى السماء والأرض دماً عبيطاً..

وكانت الحوراء زينب(عليها السلام)هي القدوة الحسنة للمرأة الصابرة المجاهدة التي واجهت المصاعب والنوائب بصمود منقطع النظير،وصبر فاق صبر الأنبياء المرسلين..

فهي شاهدت قتل أخوتها وأبنائها،وحرق خيامها،وسحق اليتاما تحت حوافر الخيول، وسلب بنات الرسالة وسبيّن معها في أرث وأسوأ حال،ووقوفها في دواوين الطغاة مقيدة بالحبال والأغلال،وشاهدت إمام عصرها وابن أخيها سید الساجدين وهو مربط على ظهر الناقة والجامعة في عنقه،فيالها من مشاهد مأساوية تبكي الصخور دماً،وتفتت عزائم الرجال الأشداء،وتهد الجبال لهولها وشدتها،ومع ذلك لم تفتر عزیمتها،ولم يضعف إيمانها، بل وقفت بكل قوة وصلابة لتحاجج أعداء اللّه، وتفند أكاذيبهم،وتميط اللثام عن أبشع ما ارتكبوه من الجرائم بحق أهل بيت النبوّة (عليهم السلام) ،وأخس المآثم والرذائل المنكرة التي كادت أن تشوه صورة الإسلام الناصعة لولا نهضة أخيها الحسين (عليه السلام) ،وجهادها البطولي،وصبرها الذي أذهل الصبر نفسه..فالإمام الحسين (علیه السلام)وأخته الحوراء زينب كانا خير من جسّدا معاني

ص: 212

الصبر على صعيد الواقع العملي المحسوس.

الركيزة الرابعة لمفهوم الانتظار الإيجابي هي التقية

ان الركيزة الرابعة لمفهوم الانتظار الإيجابي هي التقية التي طالما اتخذها أعداء أهل البيت (عليهم السلام) ذريعة للتشهير بمذهبهم،والطعن بشيعتهم باعتبارهم منافقين يظهرون ما لا يضمرون،متناسين أن القرآن الكريم أشار صراحة إلى مفهوم التقية،وأجاز العمل به،وذكر بعض مصادیقه المتجسدة في أصحاب الكهف،وعمار بن یاسر،الذي اضطر بسبب التعذيب القاسي أن ينال من رسول اللّه(صلّى اللّه عليه و آله وسلّم)ويظهر الكفر ويضمر الإيمان.

ثم تجاهل هؤلاء عن عمد أحكام الضرورة والاضطرار،وما أكره المؤمن على فعل ما لا يرتضيه،أقول ما لا يؤمن بصحته،كالسنة السيئة الصيت المتمثلة في شتم الإمام علي (عليه السلام) والبراءة منه التي فرضها معاوية بن أبي سفيان على المسلمين عامة والشيعة خاصة بالإكراه،وهدد من لا يعمل بها بالقتل،وقتل العشرات بل المئات من أصحاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وفي طليعتهم حجر الخير وأصحابه لأنهم رفضوا العمل بسنته الباطلة المبتدعة.

وفي نفس الوقت الذي أمر فيه معاوية بالعمل بسنته المبتدعة منع الرواة من ذكر الأحاديث التي تذكر مناقب علي وأهل بيت النبوة (عليهم السلام) ،و مزایاهم الفريدة التي ذكرها الرسول الأكرم(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)في مواطن شتى، وأوصى الأمة باتباعهم باعتبارهم عدل القرآن ومجسديه بصورة عملية،وأنهم أعلم المسلمين بأحكامه وعلومه،وأنهم المعصومين من الزلل بنص آياته المحكمات..

ص: 213

وحول هذا المنع قال ابن أبي الحديد في كتابه(شرح نهج البلاغة):روی المدائني في كتاب الأحداث قال:كتب معاوية نسخة واحدة إلى جميع عماله بعد عام الجماعة(1) :أن برئت الذمة ممن روي شيئاً في فضل أبي تراب وأهل بيته،فقام الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون علية،ويبرؤون منه،ويقعون فيه وفي أهل بيته،وكان أشد الناس بلاء حينئير أهل الكوفة،لكثرة من بها من شيعة علي (عليه السلام) فاستعمل عليهم زیاد بن سمية،وضم إليه البصرة،فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف لأنه كان منهم أيام علي (عليه السلام) فقتلهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل،وسمل العيون وصلبهم على جذوع النخل وطردهم وشردّهم عن العراق،فلم يبق فيها معروف منهم.(2)

ولم تختصر اجراءات معاوية التعسفية على ذلك فحسب،بل أمر عماله أيضا أن لا يجيزوا للشيعة شهادة في محاكمهم القضائية،وأن يمحوا اسم كل شيعي لم يبرء من دين عليّ (علیه السلام)من ديوان العطاء،وأن ينكلوا به وبأفراد أسرته وقبيلته،وأن يهدموا عليه داره...(3) .

وواجه الشيعة مثل هذه الظروف الإرهابية في زمن خلافة العباسيين وما بعدها إلى يومنا هذا.ففي هذه الأوقات العصيبة المشحونة ظلماً وخوفاً وإرهاباً اضطر الشيعة إلى ممارسة التقية كأسلوب للعمل الرسالي والنشاط الإسلامي لثلاً يمنحوا أعدائهم فرصة التنكيل بهم وتصفية قواعدهم المجاهدة الواعية.

فالتقية ليست نفاق كما يصورها الكتاب المأجورون المتصيدين في الماء

ص: 214


1- عام الجماعة:أطلق بنو أمية هذا الاسم على السنة التي بايع الفاس فيها معاوية بعد الصلح
2- شرح نهج البلاغة،44:11
3- الطبري،5 : 279،البداية والنهاية،8: 141،الكامل فيالتاريخ،3: 487،شرح نهج البلاغة،11:-44- 45،وابن الأثير أيضا في كامله،3: 192،والأغاني،9:16، والشيعة في التاريخ،149

العكر،الذين ما فترت أقلامهم المسمومة الحاقدة لحظة واحدة عن الطعن بمذهب أهل البيت (عليهم السلام) وإثارة الشبهات والشكوك من حوله،وإنما التقية كما أسلفنا أسلوب عمل يتخذه المجاهدون غطاء لنشاطاتهم الإسلامية المحذورة في عصور القهر والإرهاب الحالكة..

ونقول بعبارة أوضح أن التقية تعني مراعات الأوضاع السياسية السائدة،والعمل بمقتضى تلك الظروف المشبعة خوفاً ورعباً،بهدف الحفاظ على خط الولاء لأهل البيت (عليهم السلام) ،وإدامة نهجه،رغم كل العقبات الشائكة التي تعترض سبيله.. فالتقية بناءً على هذا تكون العمل بمقتضى الظرف،فإذا حصل إنفراجة فيه توسع النشاط الإسلامي وأصبح علنية بالحد المسموح به،وإذا تأزمت الأوضاع واتسمت بالعنف والإرهاب تقلص العمل ومال للسرية والكتمان،أفي هذا العمل نفاق كما يزعم الكتّاب المأجورون؟

فالطعن بمفهوم التقية يعني الطعن بالقرآن الكريم،والسنّة النبويّة المتواترة وليس الطعن بمذهب أهل البيت (عليهم السلام) فحسب.

ألا يتبصّر هؤلاء الحاقدون الذين أعمى الحقد بصائرهم وجعلهم يتخبطون خبط عشواء وينقضون ما يكتبونه في تفاسيرهم وكتب الفقه والحديث حول التقية وأحكام الإكراه والاضطرار بأنفسهم.

ولسنا الآن بصدد الردّ على هؤلاء الحاقدين،وإنما أردنا أن نعطي فكرة موجزة عن مفهوم التقية وشرعية العمل به، وشرح مضامينه وذكر موارده وكيفية استعماله من قبل أصحاب نظرية الانتظار الإيجابي في عصور القهر والإرهاب فقط لا في كل الأوقات بصورة مطلقة،ومن ثم نذكر ما يجوز ارتكابه تقية وما لا يجوز..

ص: 215

تعريف التقية

للتقية تعريفين لغوي واصطلاحي،فاًما اللغوي فهو بمعنى الحذر، فإذا قال القائل:اتقيت الشيء وتوقيته تقاء،يعني حذرته،وخشيت منه.(1)

واستعمل لفظ التقية غالباً في الحذر من غوائل الناس،والتقوى استعمل في الخوف والخشية والحذر من عقاب اللّه عزّوجلّ.

وقال الإمام علي (عليه السلام) في تعريفها لغوياً:التقية معاملة الناس بما يعرفون وترك ما ينكرون حذراً من غوائلهم.(2)

وأما التعريف الاصطلاحي للتقية هو أن يظهر المرء خلاف الواقع في مجالي العقائد والأحكام الدينية سواء كان الخلاف فعلاً أو قولاً خوفاً وحذراً على النفس أو المال أو العرض.

وفيما يلي ستنقل جملة من تعاريف العلماء السّنة والشيعة لها:

-قال الشيخ أبو زهرة في تعريفها:أن يخفي الشخص ما يعتقد دفعاً للأذي.(3)

-وقال في تعريفها ابن حجر العسقلاني بأنها:الحذر من اظهار ما فيالنفس من معتقد وغيره للغير.(4)

-وعرفها السرخسي بأنها:أن يقي الإنسان نفسه من العقوبة بما يظهره،

ص: 216


1- لسان العرب،15: 402
2- عوالي اللآلي،1: 432،جامع أحاديث الشيعة،14: 515، مستدرك الوسائل،12: 337
3- محمد أبو زهرة،الإمام الصادق،255
4- فتح الباري،12 : 279

وإن كان يضمر خلافه.(1)

-وقال الشيخ الأنصاري في تعريفها:إنها التحفظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالفاً للحق.(2)

-وعرفها محمد رشید رضا في تفسير المنار بقوله:ما يقال أو يفعل مخالفاً للحق لأجل توقي الضرر.(3)

وخلاصة هذه التعاريف هي:أن يظهر الإنسان من العقائد والأمور الدينية خلافاً لما يضمر دفعاً للأذى والضرر عن النفس والمال والعرض.

شرعية العمل بالتقية

الأدلة القرآنية والروائية:

1-قال اللّه في محكم كتابه:«مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)»(4) .

قال الفيض الكاشاني في تفسيره الصافي نقلاً عن القمي:

القمي:إلّا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان فهو عمار بن یاسر أخذته قريش بمكة فعذبوه بالنار حتى أعطاهم بلسانه ما أرادوا وقلبه مطمئن بالإيمان وقوله ولكن من شرح بالكفر صدرةاً فهو عبداللّه بن سعد بن أبي سرح بن الحارث بن لؤى قال: وكان عاملاً لعثمان بن عفّان على مصر.

ثم قال بعد نقل القول المذكور:

ص: 217


1- المبسوط،24: 45
2- رسالة التقية،37
3- تفسير المنار،3: 28
4- سورة النحل،آية106

أقول:قصة عمار على ما روته(1) المفسّرون في شأن نزول هذه الآية أن قريشاً أكرهوه وأبويه ياسر وسميّة على الارتداد فأبی أبواه فقتلوهما وهما أول قتيلين في الإسلام،وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا مكرهاً فقيل يا رسول اللّه إن عمار كفر فقال كلّا إن عمار أملئ إيماناً من قرنه إلى مقدمه،واختلط الإيمان بلحمه ودمه،فأتی عمار رسول اللّه(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)وهو يبكي فجعل النبي (صلی اللّه علیه واله) يمسح بعينيه وقال:ما لك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت(2).

وجاء في الكافي:عن علي بن إبراهيم،عن هارون بن مسلم،عن مسعدة بن صدقة قال:قيل لأبي عبداللّه (عليه السلام) :إنّ الناس يروون أنّ عليّاً (عليه السلام) قال على منبر الكوفة:يا أيها الناس إنكم ستدعون إلى سبي فسبوني،ثم تدعون إلى البراءة متي فلا تبرؤوا متي.

فقال:ما أكثر ما يكذهب الناس على علي (عليه السلام) ،ثم قال:إنما قال:إنكم ستدعون إلى سبي فسبوني،ثم ستدعون إلى البراءة متي وإني لعلی دین محمد؛ولم يقل:لا تبرؤوا منّي.فقال له السائل:أرأيت إن اختار القتل دون البراءة؟

فقال:واللّه ما ذلك عليه وما له إلا ما مضى عليه عمار بن ياسر حيث أكرهه أهل مكة وقلبه مطمئن بالإيمان،فأنزل اللّه عزّوجلّ:« إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ ....»فقال النبي(صلّى اللّه علیه و آله وسلّم)عندها:یا عمار،إن عادوا فعد

ص: 218


1- الصحیح: ما رواها...
2- تفسير الصافي، 3: 157، البحار، 90:19 ، الجامع لأحكام القرآن، 180:10 - 186، ابن كثير في تفسير القرآن العظيم، 2: 587، الفخر الرازي في التفسير الكبير، 20 : 121، تفسير الميزان، 12: 357، مجمع البیان، 6: 387، الطبقات الكبری، 3: 269، تاریخ بغداد، 1: 150.

فقد أنزل اللّه عز وجل عذرك وأمرك أن تعود إن عادوا(1).

2-وقال عز من قائل:«وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ »(2).

نقل الفيض الكاشاني في(الصافي)حول هذه الآية عن الرضا(علیه السلام)قوله: كان ابن خاله وفي خبر آخر كان ابن عمّه كما يأتي،يكتم إيمانه،القمي قال:كتم إيمانه ستمائة سنة.

وفي المجمع عن الصادق (عليه السلام) التقية من ديني ودين آبائي،ولا دین لمن لا تقية له، والتقية ترس اللّه في الأرض لأن مؤمن آل فرعون لو أظهر الإسلام لقتل(3).

3-وقال تعالى:«لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)»(4)

قال العلامة الطباطبائي في تفسيره(الميزان):وفي الآية دلالة ظاهرة على الرخصة في التقية على ما روي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) (5).

وفي البحار الرواية التالية، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:وأما الرخصة التي صاحبها فيها بالخيار فإن اللّه نهى المؤمن أن يتخذ الكافر ولياً،ثم من عليه بإطلاق الرخصة له عند التقية في الظاهر،أن يصوم بصيامه ويفطر بإفطاره ويصلي بصلاته ويعمل بعمله،ويظهر له استعمال ذلك،موسعاً عليه فيه،

ص: 219


1- الكافی، 2: 219، قرب الاسناد، 8، الوسائل، 479:11 .
2- سورة المؤمن، آية 28.
3- تفسير الصافي، 4 : 339 - 360.
4- سورة آل عمران، آیة 28.
5- تفسير الميزان، 3: 103.

وعليه أن يدين اللّه تعالى في الباطن بخلاف ما يظهر لمن يخافه من المخالفين المستولين على الأمة.ثم ذكر الآية وقال:فهذه رخصة تفضل اللّه بها على المؤمنين رحمة لهم ليستعملوها عند التقية في الظاهر(1).

4-ووردت في القرآن الكريم آيات غير هذه تشير إلى أن اللّه عز وجل رفع عن أمة محمد (صلی اللّه علیه واله) الحرج وما اضطرت إليه من تناول الميتة ولحم الخنزير في سبيل الحفاظ على النفس الإنسانية من الهلكة.

وهذه النصوص هي:

« وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ »(2).

« فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)»(3).

« فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)»(4).

« بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)»(5).

وأما الروايات الدالة على ذلك فكثيرة جداً نذكر بعضها:

فقد روى الصدوق بسنده عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال:قال رسول اللّه(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم):رفع عن أمتي تسعة:الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه،وما لا يطيقون،وما لا يعلمون،وما اضطروا إليه والحسد،والطيرة،والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة(6).

وروي عن الباقر(علیه السلام)أنه قال:ليس شيء مما حرم اللّه إلّا وقد

ص: 220


1- البحار، 75: 390.
2- سورة الحج، آية 78.
3- سورة البقرة، آية 173.
4- سورة الأنعام، آية 145.
5- سورة النحل، آية 115
6- الصدوق في التوحید، 353، والبحار، 2: 280، الخصال، 17، ورواه الكليني في الكافي، 2: 463 باختلاف يسير.

أحله لمن اضطر إليه.(1)

وفي الكافي عن الحسن الصقيل قال:قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام) :إنّا قد رويّنا عن أبي جعفر في قول يوسف(عليهما السلام):«أيتها العير إنكم السارقون»؟ فقال:واللّه ما سرقوا وما كذب،وقال إبراهيم (عليه السلام) :«بل فعله

كبيرهم هذافاً سألوهم إن كانوا ينطقون».

فقال:واللّه ما فعلوا وما كذب،قال:فقال أبو عبداللّه (عليه السلام) :ما عندكم فيها یا صقيل؟

قال:فقلت:ما عندنا فيها إلّا التسليم،قال:فقال:إن اللّه أحبّ اثنين وأبغض اثنين:أحبّ الخطر(2) فيما بين الصفين،وأحب الكذب في الاصلاح،وأبغض الخطر في الطرقات، وأبغض الكذب في غير الاصلاح.

إن إبراهيم (عليه السلام) إنما قال:«بل فعله كبيرهم هذا»إرادة الاصلاح

ودلالة على أنهم لا يفعلون،وقال يوسف (عليه السلام) :إرادة الاصلاح.(3)

وخلاصة هذه النصوص أمور:

1-ان من أكره على فعل أو قول ما لا يعتقد بصحته كإظهار الكفر لفظاً،أو متابعة من يخشى منه على نفسه في الصيام والصلاة جائزاً له بشرط أن يضمر الإيمان،في قلبه ويعمل في الباطن خلاف ما عمله ظاهراً.

2-يجوز للفرد المؤمن أن يكتم إيمان ولا يدعو له إذا خشي على نفسه الموت، وكذا يجوز له أن يتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنین ظاهراً.كما

ص: 221


1- كمال الدین،374،ابحار،75: 410،جامع أحاديث الشيعة،14: 516
2- الخطر:يعني التبختر في المشي
3- الكافي،2: 341 - 342،البحار،12: 55

فعل مؤمن آل فرعون وأصحاب الكهف.

3-التقية لا تعني الإقرار بالوضع القائم والخضوع له وترك العمل الجهادي،وإنما المراد منها مجارات الظروف السياسية ظاهراً،والعمل من أجل اصلاح الأمور بأسلوب سري وحسب ما تسمح به الظروف السائدة.

ذكر بقية النصوص الداعية للتقية

-عن أبي عبداللّه (عليه السلام) أنه قال:يا أبا عمر،انّ تسعة أعشار الدين

في التقية،ولا دين لمن لا تقية له(1).

-عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال:اتقوا اللّه على دينكم فاحجبوه بالتقية،فإنه لا إيمان لمن لا تقية له،الحديث(2).

-عن أبي عبداللّه (عليه السلام) أنه قال:التقية ترس اللّه بينه وبين خلقه(3).

-عن أبي عبداللّه (عليه السلام) أنه قال:اتقوا على دينكم فاحجبوه بالتقية، فإنه لا إيمان لمن لا تقية له،الحديث(4).

-قال أبو عبداللّه (عليه السلام) :سمعت أبي يقول:لا واللّه ما على وجه الأرض شيء أحب إلي من التقية،يا حبيب إنه من كانت له تقية رفعه اللّه،یا حبیب من لم تكن له تقية وضعه اللّه،الحديث(5).

ص: 222


1- الكافي، 2: 217، المحاسن، 259، الوسائل، 460:11 .
2- الكافي، 218:2 ، المحاسن، 252، الوسائل، 461:11 .
3- الكافي، 2: 220، الوسائل، 462:11
4- الكافي، 2: 218، المحاسن، 257، الوسائل، 11: 461.
5- الكافي، 2: 217، المحاسن، 256، الوسائل، 11: 461.

آراء علماء المسلمين وصحابة الرسول (صلی اللّه علیه واله) في التقية

-ابن مسعود:ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان إلّا كنت متكلماً به(1).

-جابر بن عبداللّه الأنصاري قال:لا جناح عليَّ في طاعة الظالم إذا أكرهني عليها(2).

-الفخر الرازي والنيسابوري:تجوّز التقية لصون المال-على الأصح-كما تجوّز لصون النفس(3).

-ابن عباس:التقية باللسان،والقلب مطمئن بالإيمان،ولا يبسط يده للقتل(4).

-الشاطبي:أنكر على الخوارج قولهم:ان التقية لا تجوز في قول ولا فعل على الاطلاق والعموم،ووصف ذلك بأنه مخالف لكليات شرعية أصلية وعملية(5).

-وكان حذيفة يقول:فتنة السوط أشد من فتنة السيف،قال السرخسي:

وكان حذيفة ممن يستعمل التقية(6).

-ابن الحنفية(الرجل من عزة):لا تفارق الأمة،اتق هؤلاء القوم بتقيتهم،ولا تقاتل معهم(قال الراوي:يعني بني أمية)،قال:قلت:وماتقيتهم؟قال:

ص: 223


1- القرطبي، الجامع لأحكام القرآن،180:10 ، ومصنف ابن أبي شيبة، 7: 643.
2- السرخسي، المبسوط، 47:24 .
3- التفسير الكبير، 13:8 ، والنيسابوري في هامش تفسير الطبري، 3: 178 - 179.
4- ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، 279:12
5- الموافقات، 4 : 180.
6- المبسوط، 46:24 .

تحضرهم وجهك عند دعوتهم فيدفع اللّه بذلك عنك عن دمك ودينك،وتصيب من مال اللّه الذي أنت أحق به منهم(1).

-الجصاص:وقوله تعالى:« إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً »يعني أن تخافوا تلف النفس وبعض الأعضاء،فتتقوهم باظهار الموالاة من غير اعتقاد لها،وهذا هو ظاهر ما يقتضيه اللفظ،وعليه الجمهور من أهل العلم(2).

-عن أبي ذر(رضي اللّه عنه)أن رسول اللّه(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)قال له:كيف أنت إذا بقيت في قوم يؤخرون الصلاة؟!ثم قال:صلّ الصلاة لوقتها ثم انهض فإن كنت في المسجد حتى تقام الصلاة فصلّ معهم(3).

-الحسن البصري:التقية جائرة للمؤمن إلى يوم القيامة إلا في قتل النفس التي حرّم اللّه(4).

العقل يحكم بوجوب التقية في تفادي الضرر

ليس الشارع المقدس لوحده يقر التقية ويحث على ممارستها لحماية النفس ودفع الضرر عنها فحسب،بل العقل هو الآخر یعدّها من الضرورات الحياتية الموجبة لسلامة الإنسان وديمومة وجوده،ويلزمه بضرورة الدفاع عن نفسه باستخدام التقية إذا عجزت الوسائل المتاحة عن تحقيق ذلك.

فحكم الشرع والعقل في هذه المسألة واحد لا اختلاف فيه،والسبب في

ص: 224


1- ابن سعد، الطبقات الكبری، 5: 96.
2- الجصاص، أحكام القرآن، 9:2 .
3- مسند أحمد، 168.
4- فتح الباري، 12 : 279، التفسير الكبير، 13:8 ، الجامع لأحكام القرآن، 4: 57، مصنف بن أبي شيبة 643:7.

ذلك يعود إلى أن الإسلام دين الفطرة،والإنسان بطبعه مفطور على الهرب من مواطن الخطر،وتوقي الضرر ما أمكن من دون أن يحثه على ذلك أحد،فهذا هو سبب التوافق بين الشرع والعقل..

فإذا عجز الإنسان أن يدفع عن نفسه الضرر ويضمن سلامتها بالوسائل الميسورة، وبالعوامل الاجتماعية المؤثرة يجد نفسه ملزماً بمداراة ومجاملة من يخاف ضرره، ويخشی سطوته،ويحذر منه على نفسه،ولعله يتظاهر له بالخضوع والاقرار بفعل أو قول ليتقى شره وعدوانه.

وهذا ما يفعله العقلاء إذا ما استوجب الأمر ذلك.ففي العراق مثلاً لما

جاءت حكومة البعث المستبدة الجائرة فرضت مبادئ حزبها على الناس بالإكراه، وامتنعت عن توظيف وتسهيل أمور المواطنين غير البعثيين،وعدم قبولهم في المدارس والكليات،مما اضطر الكثير منهم بالتظاهر بالاعتقاد بالبعثية ومجارات الأوضاع حتى يتسنى لهم تمشية أمورهم،فالبعض منهم نجح في ممارسة التقية بشكل صحيح،والبعض الآخر تخلى عن عقائده الإسلامية وإنساق وراء البعث الجائرة بهدف تحقيق مصالحه،وإشباع شهواته الحيوانية..

فالتقية بمنطق العقل وسيرة العقلاء لا تعني عدم الدفاع عن النفس والرضوخلمشيئة الخصم كي يفعل ما يريد كما يتصور أصحاب نظرية الانتظار السلبي،وإنما هي أيضاً تحث الإنسان على الدفاع عن نفسه ولكن بأسلوب مغاير لأسلوب القوة واستخدام العوامل الاجتماعية المؤثرة في ردع الخصم ودفع شروره.

ذكر موارد ما يجوز فيها التقية

-عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في رسالته إلى أصحابه قال:وعلیكم

ص: 225

بمجاملة أهل الباطل،وتحملوا الضيم منهم،وإياكم ومماظتهم،دينوا فيما بينكم وبينهم إذا أنتم جالستموهم وخالطتموهم ونازعتموهم الكلام بالتقية التي أمركم اللّه أن تأخذوا بها فيما بينكم وبينهم،الحديث.(1)

-وعن جعفر بن محمد (عليه السلام) قال-في حديث له-:...واستعمال التقية في دار التقية واجب،ولا حنث ولا كفارة على من يحلف تقية يدفع بذلك ظلماً عن نفسه.(2)

-عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:التقية في كل ضرورة،وصاحبها أعلم

بها حين تنزل به.

-عن محمد بن مسلم و زرارة قالا:سمعناً أبا جعفر (عليه السلام) يقول:

التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه اللّه له.(3)

-وفي تفسير العياشي:عن عمرو بن مروان الخراز قال:سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام) يقول:قال رسول اللّه(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم):رفعت عن أمتي أربع خصال:ما اضطروا إليه،وما نسوا،وما أكرهوا عليه،وما لم يطيقوا...الحديث.(4)

-عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال لأحد أصحابه:...و آمرك أن تستعمل التقية في دينك فإن اللّه يقول:«لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ ... إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً»وقد أذنت لكم في تفضيل أعدائنا إن ألجأك الخوف إليه،وفي إظهار

ص: 226


1- الروضة،2،الوسائل،462:11
2- الخصال،2: 152،عيون الأخبار،9: 6 /5، الوسائل،11:464
3- الكافي،2: 220،الوسائل،11: 468،مرآة العقول،9: 183،ما رواه الحواریون،3: 553
4- تفسير العياشي،160:1،الوسائل،11: 470

البراءة إن حملك الوجل عليه،وفي ترك الصلوات(1) المكتوبات آن خشيت على حشاشة نفسك الآفات والعاهات،فإن تفضيلك أعداءنا عند خوفك لا ينفعهم ولا يضرّنا،وإن إظهارك براءتك منّا عند تقيتك لا يقدح فينا ولا ينقصنا ولئن تبرء منّا ساعة بلسانك وإنك موال لنا بجنانك لتبقي على نفسك روحها التي بها قوامها... الحديث.(2)

-عن معاذ بن مسلم النحوي،عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال:بلغني أنّك تقعد في الجامع فتفتي الناس؟قلت:نعم،وأردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج،إني أقعد في المسجد فيجيء الرجل فيسألني عن الشيء فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون،ويجيء الرجل أعرفه بمودتكم فأخبره بما جاء عنكم،ويجيء الرجل لا أعرفه ولا أدري من هو، فأقول:جاء عن فلان كذا وجاء عن فلان كذا،فادخل قولكم فيما بين ذلك،قال:فقال لي:اصنع كذا،فإنّي كذا أصنع.(3)

۔عن أبان بن تغلب قال:قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام) :إني أقعد في المسجدفيجيء الناس فيسألوني فإن لم أجبهم لم يقبلوا منّي،وأكره أن أجيبهم بقولكم وما جاء عنكم،فقال لي:انظر ما علمت أنه من قولهم فأخبرهم بذلك.(4)

-عن برید بن معاوية قال:سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول:إن يزيد بن معاوية دخل المدينة وهو يريد الحج،فبعث إلى رجل من قريش فأتاه،فقال

ص: 227


1- المراد ترك ما زاد على الايماء،لما تقدم في صلاة الخوف وغيره،الوسائل،11: 479
2- الاحتجاج،124،تفسير العسكري،69،الوسائل،479:11
3- رجال الكشي،164،الوسائل،11: 482
4- رجال الكشي،212،الوسائل،11: 482

له يزيد:أتقرّ لي أنك عبد لي إن شئت بعتك،وإن شئت استرققتك-إلى أن قال-فقال له يزيد:إن لم اتقرّ لي واللّه قتلتك،فقال له الرجل:ليس قتلك إيّاي بأعظم من قتل الحسين (عليه السلام) ،قال:فأمر به،فقتل،ثم أرسل إلى عليّ بن الحسين (عليه السلام) فقال له مثل ما قاله للقرشي،فقال له عليّ بن الحسین (عليه السلام) : أرأيت إن لم أقر لك أليس تقتلني كما قتلت الرجل بالأمس؟فقال له يزيد:بلیّ،فقال له علي بن الحسين:قد أقررت لك بما سألت،أنا عبد مكره،فإن شئت فامسك،وإن شئت فبع،فقال له يزيد:أولى لك،حقنت دمك،ولم ينقصك ذلك من شرفك.(1)

-قال أبو عبداللّه (عليه السلام) :ما بغلت تقية أحد تقية أصحاب الكهف،إن كانوا يشهدون الأعياد،ويشدّون الزنانير،فأعطاهم اللّه أجرهم مرّتين.(2)

-عن هشام الكندي قال:سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام) يقول:إيّاكم أن تعملوا عملاً نعير به، فإن ولد السوء يعير والده بعمله،كونوا لمن انقطعتم إليه زيناً،ولا تكونوا عليه شيئاً،صلّوا في عشائرهم،وعودوا مرضاهم،واشهدوا جنائزهم،ولا يسبقونكم إلى شيء من الخير فأنتم أولى به منهم،واللّه ما عبد اللّه بشيء أحب إليه من الخباء،قلت:وما الغباء؟قال:التقية.(3)

-عن أبي بصير قال:قال أبو جعفر (عليه السلام) :خالطوهم بالبرانية،

ص: 228


1- الروضة،234،الوسائل،497:11
2- الكافي،218:2 ،الوسائل،471:11
3- الكافي،2: 219،الوسائل،471:11

وخالفوهم بالجوانية إذا كانت الأمرة صبيانية.(1)

-عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال:رحم اللّه عبداً اجتر مودّة الناس إلى نفسه فحدّثهم بما يعرفون،وترك ما ينكرون.(2)

الخصت هذه النصوص موارد جوار التقية في أمرين:

الأمر الأول:يجوز للمؤمن ذكراً كان أو أنثى أن يظهر الكفر لفظاً بسب الأنبياء والبراءة منهم على أن يكون قلبه مطمئن بالإيمان كما تقدم ذلك في تفسير قوله تعالى: «... إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ »،ويجوز له بالإضافة إلى ذلك أن يجامل أهل الباطل ويخالطهم ويجالسهم،ويحدثهم بما يعرفون وترك ما ينكرون أو يكرهون،وأن يحضر صلاة جماعتهم،ويعود مرضاهم،ويحضر مراسم احتفالاتهم وإن كانت باطلة مفعمة بالنصب والعداء لأهل البيت (عليهم السلام) ،وأن يقيم معهم علاقة صميمية ويكسب ودهم جهد إمكانه ولا يعتزلهم،وأن يظهر لهم شيئاً من عقائده الولائية لأهل البيت(عليهم

ص: 229


1- الكافی،2: 220،الوسائل،471:11 وجاء في هامش الكافي تعریف و توضيح وشرح لألفاظ الحديث المذكور: في النهاية في حديث سلمان «من أصلح جوانبه أصلح اللّه برانیه» أراد بالبراني العلانية والألف والنون من زيادات النسب كما قالوا في صنعاء صنعاني وأصله من قولهم: خرج فلان برأ، أي خرج إلى البر والصحراء وليس من قديم الكلام وفصيحه، وقال أيضا في حديث سلمان: إن لكل امرئ جوانية وبرانية: أي باطن وظاهرة، أو سرة وعلانية وهو منسوب إلى جوالبيت وهو داخله وزيادة الألف والنون لتأكيد، انتهى. والأمرة بالكسر: الإمارة، والمراد بكونها صبيانية كون الأمير صبية أو مثله في قلة العقل والسفاهة، أو المعنى أنه لم يكن بناء الإمارة على أمر حق بل كانت مبنية على الأهواء الباطلة كلعب الأطفال. والنسبة إلى الجمع تكون على وجهين، أحدهما أن يكون المراد النسبة إلى الجنس فيرد إلى المفرد، والثاني أن تكون الجمعية ملحوظة فلا يرد وهذا من الثاني إذ المراد التشبيه بإمارة يجمع عليها الصبيان. الكافي، 2: 220 - 221، بالهامش.
2- الخصال،1: 15،الوسائل،11: 471

السلام)لئلّا يفتضح أمره بالرفض فيعتزلونه وعندئذٍ يسهل تصفيته ومن يلوذ به والتخلص منه بدون مشقة.

والعمل بهذا النمط من أنماط السلوك المستوحى من مفهوم التقية الّا يكون إلّا في ظرف خاص يستوجبه،وهو حالة استثنائية غير طبيعية لا يعمل بها المؤمن إلّا إذا وجد نفسه مهددة بالقتل إن لم يعمل بها.وهذا ليس خروج من الدين ولا مخالفة شرعية،ولا نفاقاً كما يتصوّر البعض،بل هو الدين عينه،لأن لكل الأحكام الأولية أحكاماً ثانوية مشتقة منها تراعي حالة المكلف والظروف المحيطة به.

ثم أن العمل الرسالي والدعوة إلى الحق يستوجبان النشاط الإسلامي في وسط كهذا وإن كان مغموراً بالنصب والضلال،إذ لعل المؤمن يستطيع من خلال تواجده فيه أن يهدي بعض أفراده وينتشلهم من عالم الظلمات إلى عالم النور،ويزرع نواة حية للتشيّع في قلب مجتمع غارق في الظلم والظلام.وهذا عمل في غاية الأهمية؛لأن هداية فرد أو أفراد تكون بمثابة إحياءً لهم،ومن أحياً نفساً كمن أحيا الناس جميعاً كما وصفه القرآن الكريم.وعبّر الرسول الكريم (صلی اللّه علیه واله) عن أهمية هذا العمل بقوله:يا علي لو هدى اللّه بك شخصاً واحداً خير لك ممن طلعت عليه الشمس أو غربت،أو خير لك من حمر النعم،ولذا قال في حديث آخر في أبواب العشرة:إن أقربكم منّي غداً أقربكم من الناس.

وإن اضطر المؤمن في وسط كهذا أن يحلف بشيء كذبً لدفع الضرر والظلم عن نفسه فلا شيء عليه،ولا حنث ولا كفارة،وهذا ما يسهل عمل الداعية في مثل هذه الأوساط المعادية،أو قل الحالات الوقتية الطارئة وإن امتد أمدها.

الأمر الثاني:يجوز للمؤمن أيضا أن يفعل ما اضطر إليه،أو أكره عليه؛لأنالضرورات تبيح المحذورات، والإكراه حالة نادرة خارجة عن إرادته وقدرته؛لذا

ص: 230

برئه اللّه وعفى عنه،لأنه مضطر ومكره.

وللاضطرار والإكراه أحكام مفصلة،من شاء فليراجعها لها في كتب الفقه،ليطلع على تفاصيلهما المختصة بهما.ففعل هذان الأمران تقية لا يعد مخالفة شرعية،بل أنهما ضمن إطار الشرع ومطابقان له مطابقة حرفية لا ريب فيها.وهذا ما فعله علي بن الحسين(عليهما السلام)حيث أكره على الإقرار بالرقية الألد خصومه یزید بن معاوية وهو قاتل أبيه،من أجل أن ينقذ نفسه من الموت المحتم.وبذا استطاع الإمام أن يحافظ على وجوده المقدس كإمام مفترض الطاعة مكلف بهداية الناس لطريق الحق والصواب حتى يحل موعد أجله وتتمهد الأرضية المناسبة للإمام الذي يليه ليحل محله وهكذا دواليك.وبذا تكون التقية واحد من العوامل المهمة التي تساهم في استمرار الدين الأصيل المتجسد بمذهب أهل البيت (عليهم السلام) وبقائه حية إلى قيام الساعة برغم ظروف القهر والاستبداد.

موارد عدم جواز التقية فيها

-وباسناده عن الأعمش،عن جعفر بن محمد (عليه السلام) في(حديث شرایع الدین)قال:ولا يحل قتل أحد من الكفار والتصاب في التقية إلا قاتل أو ساع في فساد وذلك إذا لم تخف على نفسك وعلى أصحابك، الحديث.(1)

-عن أبي عبداللّه (عليه السلام) -في حديث-أنه قال:لا دين لمن لا تقيةله،والتقية في كل شيء إلا في النبيذ والمسح على الخفين.(2)

-عن زرارة قال:قلت له:في مسح الخفين تقية؟فقال:ثلاثة لا أتقى فيهن

ص: 231


1- الخصال2: 153،الوسائل،11: 414
2- الكافي،2: 217،الوسائل،11: 468

أحد:شرب المسكر،ومسح الخفين،ومتعة الحج،قال زرارة:ولم يقل الواجب عليكم أن لا تتقوا فيهن أحداً.(1)

-عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:إنما جعلت التقية ليحقن بها الدم،فإذا بلغ الدم فلیس تقية.(2)

-عن أبي حمزة الثمالي قال:قال أبو عبداللّه (عليه السلام) :لم تبق الأرض إلّا وفيها منّا عالم يعرف الحق من الباطل،وقال:إنما جعلت التقية ليحقن بها الدّم، فإذا بلغت التقية الدّم فلا تقية،وأيم اللّه لو دعيتم لتنصرونا لقلتم لا نفعل إنما نتقى،ولكانت التقية أحب إليكم من آبائكم وأمهاتكم،ولو قد قام القائم ما أحتاج إلى مسائلتكم عن ذلك،ولأقام في كثير منكم من أهل النفاق حدّ اللّه.(3)

صرّت هذه النصوص بجواز التقية في كل شيء ماعدا شرب النبيذ المسكر، والمسح على الخفين في الوضوء،ومتعة الحج،وإن كانت التقية لا تقي الإنسان من القتل وسفك دمه حينئيذً لا تقية ولا خضوع،بل يجب على المؤمن رجل كان أو امرأة أن يدافع عن نفسه ومن يلوذ به، أو عن بيضة الإسلام وجماعة المسلمين إذا عزم الحاكم الجائر على قتلهم وسفك دمائهم فيما إذا أصرّوا على التمسك بدينهم وعقائدهم الحقة.

فللتقية حدود رسمها الشارع المقدس،فإذا اشتازها أعداء الدين يجب علىالمؤمنین مقاومتهم والوقوف بوجههم وإلّا سينالوا سخط اللّه وحجته على خلقه. فلابد أن يعرف المؤمن مواطن التقية،وموارد عدم جوازها حتى لا يقع في

ص: 232


1- الكافي،3: 32،الوسائل،469:11
2- الكافی،2: 220،مرآة العقول،9: 182،ما رواه الحواریون،3: 522،الوسائل،11: 483
3- التهذیب،6: 172،الوسائل،483:11

محذور لأن المؤمن مجاهد يجاهد أعداء اللّه عزّوجلّ في دولة الباطل بالتقية، وفي دولة الحق بالسيف كما أشار لذلك الإمام الصادق (عليه السلام) .(1)

وانتقد الإمام الرضا (عليه السلام) جماعة من المؤمنين وحجبهم عن بابه؛ لأنهم أساؤوا فهم التقية،ولم يحسنوا استعمالها،فسألوه فقالوا:يا ابن رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) ، ما هذا الجفاء العظيم والاستحقاق بعد الحجاب الصعب؟قال:الدعواكم أنكم شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) وأنتم في أكثر أعمالكم مخالفون ومقصّرون في كثير من الفرائض،وتتهاونون بعظيم حقوق إخوانكم في اللّه،وتتقون حيث لا تجب التقية،وتتركون التقية حيث لابدّ من التقية.(2)

فالتقية سارية المفعول ما لم تنزل بالإسلام نازلة،فإذا هدّد الإسلام خطر جي فيجب على المؤمنين أن يبذلوا أموالهم وأنفسهم دفاعاً عنه،كما أشار لذلك أمير المؤمنين في وصيته لأصحابه حيث قال:إذا حضرت بليّة فاجعلواأموالكم دون أنفسكم،وإذا نزلت نازلة فاجعلوا أنفسكم دون دینكم،واعلموا أنّ الهالك من هلك دينه، والحريب من حرب دينه،إلا وأنه لا فقير بعد الجنة،إلّا وأنه لا غني بعد النار، لا يفك أسيرها،ولا يبرأ ضريرها.(3)

هذا في عصر الغيبة،أما إذا قام القائم ودعا المسلمين لنصرته فلابدّ من استجابة ندائه والانضواء تحت لوائه وإلّا سيوصمون بالكفر والنفاق، وسیقيم المهدي(عج)الحدّ عليهم لارتدادهم عن الإسلام ويعدم استجابتهم الداعي اللّه.

ص: 233


1- علل الشرائع،106،الوسائل،464:11
2- الاحتجاج،243،الوسائل،470:11
3- الكافي،2: 216،الوسائل،451:11

كيفية ممارسة التقية من قبل الأئمة (علیهم السلام)و أصحابهم

كانت السلطات الأموية والعباسية الجائرة التي اغتصبت الخلافة من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تحذر منهم أشد الحذر،وتخشى من تسرّب علومهم وأفكارهم وأحاديثهم التي تبين مناقبهم وفضائلهم ومنزلتهم الرفيعة لدى اللّه، وأحقيتهم بمنصب الخلافة لرسول اللّه(صلّى اللّه عليه و آله وسلّم).

ولذا بذلت تلك السلطات الغاشمة كل مساعيها،وسخرت كل امكانياتها الغرض خلق الموانع وإيجاد الحجب النفسية التي تمنع جمهور المسلمين من الاتصال بالأئمة الأطهار (عليهم السلام) والاصغاء لهم لئلّا تنكشف بواطن الأمور،وتظهر الدواعي الحقيقية وراء اندفاع خلفاء السوء في اضطهاد الأئمة (علیهم السلام)ومريديهم؛لأن إظهار الحقائق التي تسلّط الأضواء على جرائم الحكام ومآثمهم،وبطلان حكومتهم وعدم شرعيتها يؤدي حتما إلى زعزعة ثقة المسلمين بهم وعدم الانصياع لهم،وربما يترتب على تفشي هذه الحالة حصول الكثير من حركات التمرد والعصيان بين أتباعهم.ولا ريب في أن هذا يشكل خطرا على مناطق نفوذهم،ويجعل حكمهم عرضة للأخطار في كل آن.

وتفادية لهذا الخطر المحتمل اتخذت تلك السلطات اجراءات وقائية تمثلت في شن حرب نفسية مكثفة ضد أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم،وفرض نطاق العزلة عليهم،وبث مئات الجواسيس بين صفوفهم لغرض مراقبة نشاطاتهم واحصاء أنفاسهم.

أن التهم الملفقة،والقصص المختلفة التي نسجتها وسائل الاعلام السلطوية ضمن حربها النفسية شوهت سمعة أهل البيت (عليهم السلام) ،وغيّرت معالم

ص: 234

صور تهم النورانية إلى صورة مشوهة تثير الخوف والفزع في نفوس المسلمين، حيث وصفتهم بالخارجين على إمام زمانهم،والساعين إلى إيجاد الفتن والاضطرابات،وتفریق صفوف المسلمين،ونقض حالة الأمن والاستقرار في البلاد.ففي مثل هذه الظروف العصيبة المفعمة بالخوف والحقد والارهاب،اضطر الأئمة (عليهم السلام) أن يمارسوا سياسة التقية بشكل دقيق ليتمكنوا من حفظ أصحابهم،ومواصلة نشاطهم الرسالي في التوجيه والتبليغ والإرشاد في آن واحد.

وكانت ممارساتهم لسياسة التقية تتمثل في الأمور التالية:

أولاً:أكد الأئمة الأطهار (عليهم السلام) على أصحابهم بضرورة ممارسة التقية كأسلوب للعمل في تلك الأيام الحرجة وذلك بمراعاة الظروف وعدم إظهار الولاء لهم والدعوة لمذهبهم بصورة علنية،وإخفاء نشاطاتهم التبليغية عن أعين أعوان السلطة،وكتم أمر مهم وعدم ذكره للعناصر المشكوك فيها.وهذه بعض النصوص التي أشارت لذلك:

-عن مولانا علي بن محمد (عليه السلام) من مسائل داود الصّرمي قال:

قال لي:يا داود،لو قلت:إن تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقاً.(1)

-وعن الإمام علي بن محمد (عليه السلام) أيضاً،عن آبائه قال:قال

الصادق (عليه السلام) :ليس منا من لم يلزم التقية، ويصوننا عن سفلة الرعية.(2)

-وبهذا الاسناد قال:قال سيدنا الصادق (عليه السلام) :عليكم بالتقية،فإنه

ص: 235


1- السرائر،471،الوسائل،466:11
2- مجالس ابن الشيخ،179،الوسائل،499:11

ليس منّا من يجعلها شعاره ودثاره مع من يأمنه لتكون سجيّة مع من يحذره.(1)

-عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:أمرك أن تصون دينك،وعلمنا الذي أودعناك، فلا تبد علومنا لمن يقابلها بالعناد،ولا تفش سرنا إلى من يشنع علينا،و آمرك أن تستعمل التقية في دينك...الحديث.(2)

-قال أبو عبداللّه (عليه السلام) :يا سليمان،إنكم على دين من كتمه أعزه

اللّه،ومن أذاعه أذله اللّه.(3)

-وعن أبي جعفر (عليه السلام) -في حديث له-أوصى به جماعة فقال:ليقو شدیدكم ضعيفكم،وليعد غنيكم على فقيركم،ولا تبثوا سرّنا،ولا تذيعوا أمرنا.(4)

ثانياً:ممارسة التقية بالفتوى طبق فتاوي العامة إذا لم يكن السائل من شیعتهم،وهذا النمط من الفتاوی خلق لنا مشكلة التمييز بين الحديث الصحيح وغيره من الأحاديث التي صدرت تقية عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) في ظروف استوجبت ذلك.ولذا صار المحدثون ملزمون بملاحظة القرائن الحالية والمقالية التي تحف بالحديث كي يتمكنوا من تشخيص الروايات التي صدرت تقية وتميزها عن الروايات الصحيحة التي اعتمد عليها فقهائنا في استنباط الأحكام الشرعية.

وكان حصيلة هذا النوع من الروايات كثيرة منتشرة في كتب الحديث، ومشفوعة بتعليقات فقهائنا الدالة على أنها صدرت تقية لا يلزم العمل بها.

ص: 236


1- مجالس ابن الشيخ،184،الوسائل،466:11
2- الاحتجاج،124، تفسير العسكري،9،الوسائل،11: 478
3- الكافي،2: 222،المحاسن،257،الوسائل،11: 483
4- الكافي،2: 222،الوسائل،11: 484

ولم يختص الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بهذا الأمر،بل أمروا أصحابهم أيضاً بأن يفتوا الناس بما يعرفون من فتاوي فقهائهم،فكان أبان بن تغلب ومعاذ ابن مسلم النحوي وغيرهم يجلسوا في مسجد رسول اللّه(صلّى اللّه علیه و آله وسلّم)ويعملوا ما أمرهم الإمام به.(1)

ثالثاً:أطلق الأئمة الأطهار (عليهم السلام) عدداً من الروايات في ذم أصحابهم المقربين بهدف دفع الأذى عنهم وحفظ نفوسهم وأموالهم وأعراضهم،لأن السلطات الجائرة كانت تلاحق كل من يتصل بأهل البيت (عليهم السلام) ويروي حديثهم.

ومن هذه الروايات:

-عن عامر بن عبداللّه بن جذاعة،قال:قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام) :أن امرأتي تقول بقول زرارة ومحمد بن مسلم في الاستطاعة،وترى رأيهما؟فقال:ما للنساء والرأي والقول لها،أنهما ليسا بشيء في ولاية...(2) .

-عن أبي الصباح،قال:سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام) يقول:يا أبا الصباح،هلك المتریسون في أديانهم،منهم:زرارة،وبريد،ومحمد بن مسلم،وإسماعيل الجعفي،وذكر آخر لم أحفظ.(3)

-عن ابن مسكان،قال:سمعت زرارة يقول:رحم اللّه أبا جعفر،وأما جعفرفإن في قلبي عليه لفتة!فقلت له:وما حمل زرارة على هذا؟

قال:حمله على هذا لأن أبا عبداللّه (عليه السلام) أخرج مخازیه.(4)

ص: 237


1- رجال الكشي،212و164،الوسائل،11: 482
2- رجال الكشي،1: 393،ما رواه الحواریون،1: 35
3- رجال الكشي،1: 394
4- رجال الكشي،144

-عن مسمع كردین أبي سيارة قال:سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام) يقول:

لعن اللّه بريد أو لعن اللّه زرارة.(1)

-عن درست ابن أبي منصور الواسطي،قال:سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول:إن زرارة شك في إمامتي فاستوهبته من ربّي تعالی.(2)

-عن زرارة،قال:سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن أحاديث جابراً فقال:ما رأيته عند أبي قط إلا مرة واحدة،وما دخل عليَّ قط.(3)

رابعاً:ومارس أصحاب الأئمة الأطهار (عليهم السلام) التقية بتوجيه من أثمتهم بالشكل التالي:

فمحمد ابن مسلم الذي عاصر الإمامين الباقر والصادق(عليهما السلام) كان يمارس التقية بشكل جيد ويكتم أمر أهل البيت (عليهم السلام) ،ويحفظ سرّهم،ويتظاهر بالولاء لهم خوفا من بطش طواغیت عصره،وملاحقة أعوانهم، وحفظاً للأمانة،وكتماناً للسرّ.

وأبرز مثال على استعماله للتقية هو حكاية مثوله أمام شريك القاضي الأداء شهادة.فعندما مثل هو وصاحبه أبو كريبة الأزدي أمام شريك،نظر في وجهيهما مليّا،ثم قال:جعفریان فاطمیان!!

أجابه محمد بن مسلم وهو دامع العين:نسبتنا إلى أقوام لا يرضون بأمثالنا..الخ.(4)

ص: 238


1- رجال الكشي،148
2- رجال الكشي،155
3- رجال الكشي،191
4- الاختصاص،202،الكشي،1: 384،البحار،11: 224

وعلي بن يقطين أيضاً مارس التقية بأمر إمامه الكاظم (عليه السلام) ،بالرغم من كونه وزيراً للرشيد ويعيش معظم أوقاته في بلاطه لم يستطيع أحد أن يكتشف أمره بفضل سياسة التقية التي كان يمارسها.

ومرة قال له الكاظم (عليه السلام) :توضأ بوضوء العامة،فامتثل أمره واستمر على هذا الوضوء مدة، فلما وشیه به إلى الرشيد بأنه رافضي ويعتقد بإمامة الكاظم (عليه السلام) ،أراد الرشيد أن يرى وضوئه من دون أن يراه،فلما وجده توضأ بوضوئهم قال له:يا ابن يقطين لا أصدق بك واش بعد اليوم.

فبفضل سياسته التي مارسها،استطاع أن يكسب ود الرشيد،وأن يرفع الأذى عن كثير من شيعة آل محمد (صلی اللّه علیه واله) ،وأن يمدهم بمساعدات مالية كبيرة سدّت حاجة الكثير منهم،وضمنت معيشتهم.

وكان أصحاب الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بصورة عامة يمارسون التقية فلم يتخلّف عن ممارستها أحد منهم،فكانوا في ظروف القهر والخوف والإرهاب لا يفصحون عن أسماء أئمتهم عندما ينقلون عنهم حديثاً ما،فكانوا يستعملون الإشارة أو الكنية أو ذكر صفة من صفاتهم.

فإذا قالوا:أبو زينب المراد به أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ،أو قالوا:عن أحدهما،یعنون بذلك أحد الصادقین (علیه السلام)،أو قالوا:قال العالم،المراد به أحد الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ،أو قالوا:العبد الصالح،المراد به الإمام موسی الكاظم (عليه السلام) ،وإذا قالوا:أبا جعفر الأول،المراد به الإمام محمد الباقر (علیه السلام)، أو قالوا:أبو جعفر الثاني،المراد به محمد بن علي الجواد (علیه السلام)،وأشاروا إلى الحجة بلفظ القائم،لأنهم ممنوعين من ذكر اسمه.

فاستعمال اسلوب الكنى والألقاب والإشارة من قبل الرواة لتعيين الإمام المنقولة منه الرواية كان لغرض التمويه على خصوم أهل البيت(عليهمالسلام)

ص: 239

كي لا يعرفوا المصدر الذي صدرت منه الرواية وبذلك يحافظوا على وجود الإمام المقدس ووجودهم،لأنهم لم يعطوا أي دليل يثبت ارتباطهم بأئمة أهل البيت (عليهم السلام) .

أضف إلى ذلك أنهم كانوا يستعملون الأساليب البلاغية في أداء وإيصال المعلومات المنقولة شفوياً من الأئمة الأطهار (عليهم السلام) إلى شيعتهم من دون أن يصيبهم ضرر أو أذى ممن يحضر مجالسهم.وهذه الأساليب هي الكناية والتورية والإعارة وغيرها،وأحياناً يمارسون الكذب ويحلفون عليه لكي يخلّصوا أنفسهم من المواقف الحرجة وهم غير مأثومين،لأنهم معفوّين من الحنث والكفارة..

وقفة تأمل

المتأمل بدقة في نصوص التقية المارة الذكر يعلم أنها أسلوباً دقيقة ناجحاً يمكن المؤمن من إنجاز واجباته الشرعية والإنسانية في أحلك الظروف ظلماً،وأشدها خوفاً وإرهاباً.

فالعامل بالتقية مجاهد علوي لكنه يجاهد بيقضة وحذر وبما يتسع له المجال، وليس قاعد متخاذل،وتارك لواجباته ومسؤولياته كما يتصوّر السذّج من المؤمنين. وليست التقية عمة سرية محضة تجعل من الشيعة حزباً أو جمعية سياسية سرية معارضة تعمل بالخفاء،وإنما هي أسلوب للعمل بطريقة حزب اللّه وبصورة علنية تتناسب مع الظروف السياسية سعة وتضيقّاً،فإذا انفرجت الأوضاع السياسية،وخفّت وطأة الضغط والإرهاب اتسعت دائرة العمل الجماهيري

ص: 240

الإسلامي،وإذا تأزمت الأوضاع السائدة تقلص النشاط وتضيق نطاقه تبعاً الاشتداد الضغوط والإرهاب حتى يصل إلى أضيق نطاق ممكن حيث لا يتجاوز الشخصين،أو لعل المؤمن في تلك الأيام يكتفي بإرشاد نفسه وأفراد عائلته فقط.

وقد يظن البعض أن التقية تنظيماً سرياً ذات قواعد و تعالیم تعين مواصفات القيادة،وتحدد العلاقة بين قواعده وقيادته،إلّا أن النصوص المتعلقة بالتقية تخيب ظنهم حيث لا يستفاد منها هذا المعنى مطلقاً،بل كل ما يستفاد منها هو أن التقية غطاء واقياً للنشاط الإسلامي في عصر غيبة الإمام القائم(عج)،وتحت ظل حكومات الجور والضلال.

فالتقية بهذا المعنى تعني النشاط والمثابرة وعدم ترك الواجبات الدينية الجهاد الدفاعي،والتبليغ والدعوة الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، ولكن ربما يلجأ الخطيب والمبلّغ الرسالي أحياناً إلى تبطين الكلام وترك الصراحة وعدم وضع النقاط على الحروف كما يفعل في الظروف الطبيعية إذا احتمل ترتب ضرر على ذلك.ففي مثل هذه الظروف الملغومة يجب على المبلّغ والخطيب أن يمارس أساليب البلاغة كالتورية والكناية والإعارة وغيرها حتى يتمكن من إيصال المعاني المقصودة إلى أذهان السامعين دون أن يعطي مبرراً لخصمه يمكنه من تصفية نشاطه وإيذائه..

هذا ما نستشفه من النصوص المختصة بالتقية،وهي كما ترى عزيزي القارئ لا تشل العمل الرسالي،ولا تعطل الطاقات،ولا تدعو إلى التعايش السلمي مع الكفر العالمي والرجعية السائرة في ركابه كما يتصوّر معتنقوا نظرية الانتظار السلبي، بل التقية تنقض مفاهيمهم الاستسلامية التخاذلية،وتثبت صحة نظرية الانتظار الإيجابي لانسجامها مع تعاليم الإسلام ومفاهيمه إنسجاماً حرفياً

ص: 241

نتيجة البحث وخلاصته

قبل أن ندرج النتيجة المستهدفة من وراء استعمال التقية في عصر غيبة الإمام القائم(عج)،أو في ظل دولة الباطل لابد من ذكر بعض النصوص التي تشير لذلك: -عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:سلامة الدين وصحة البدن خير من المال،والمال زينة من زينة الدنيا حسنة(1).

-قال أبو عبداللّه (عليه السلام) :كان في وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لأصحابه:إذا حضرت بلية فاجعلوا أموالكم دون أنفسكم،وإذا نزلت نازلة فاجعلوا أنفسكم دون دینكم،واعلموا أن الهالك من هلك دينه...الحديث(2).

۔عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:و آمرك أن تصون دينك وعلمنا الذي أودعناك...الحديث(3).

-عن رسول اللّه(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)أنه قال:ولو شاء لحرّم عليكم التقية، وأمركم بالصبر على ما ينالكم من أعدائكم عند إظهاركم الحق،ألا فأعظم فرائض اللّه عليكم بعد فرض موالاتنا ومعاداة أعدائكم استعمال التقية على أنفسكم وأموالكم ومعارفكم... الحديث(4).

أكدت هذه النصوص على ضرورة حفظ الدين والتمسك به،وأنه خير من المال والنفس وبنت مراتب الأهمية لكل واحد منهما،فقالت إذا حضرت بلية

ص: 242


1- الكافي، 2: 216، الوسائل، 451:11.
2- الكافي، 2: 216، الوسائل، 11: 451
3- الاحتجاج، 124، الوسائل، 11: 478، تفسير العسكري، 66.
4- تفسير العسكري، 239، الوسائل، 11: 475.

فعلينا أن نبذل المال دون النفس،والنفس دون الدين؛ لأن الهالك من هلك دينه لا من هلك هو، لذا أوجبت على المؤمنين الجهاد دفاعاً عن الدين حتى فيزمن الغيبة،لأن المهم صيانة الدين،ولا خير في الحياة بدون دین،ولكن يلزم أن يكون الجهاد في تلك الفترة مقترنة بالتقية لكي يتمكن المجاهدون من إظهار الحق باستمرار وبشكل لا يجلب الضرر لهم.

ونتيجة بحثنا لموضوع التقية هي أن الغاية الأساسية التي استهدفتها التقية هي حفظ الدين الأصيل السالم من التحريف والتشويه المتجسّد بمذهب أهل البيت (عليهم السلام) وصيانته من الانحلال والاضمحلال من خلال حفظ المجتمع الإسلامي الشيعي بالمواصفات المطلوبة التي ذكرها الرسول(صلّی اللّه عليه وآله وسلّم)،والأئمة الأطهار من أهل بيته (عليهم السلام) .

وهذا ما أشار إليه السيد روح اللّه الموسوي الخميني(ره)في كتابه«الحكومة الإسلامية»بقوله:هذه التقية التي كانت تتخذ لحفظ المذهب من الاندراس،لا لحفظ النفس خاصة.(1)

ومن قول السيد هذا نفهم أن الخميني(ره)من المؤمنين بمفهوم الانتظار الإيجابي والمنظرين له،لأنه آمن بالتقية التي تدعو للجهاد الدفاعي مع التحفظ والحذر،لا بالتقية الداعية إلى الكسل والخنوع،وسعى بجد إلى إيجاد الحكومة الإسلامية في زمن الغيبة الكبرى ليمهد بذلك لظهور القائم المنتظر (عليه السلام) بصورة عملية.

وقد أفلحت جهوده فعلاً حيث تمكن بعد جهاد طویل دامي من إسقاط أقوى حكومة استبدادية عميلة في منطقة الشرق الأوسط، وأقام محلها حكومة

ص: 243


1- الحكومة الاسلامية،61

اسلامیه تسعى لإنجاز نظم الحق والعدل،مضى على تأسيسها أكثر عشرين عاماً.

الركيزة الخامسة لمفهوم الانتظار الإيجابي

هي السعي لإيجاد الحكومة الإسلامية

هذه الركيزة هي آخر ركائز مفهوم الانتظار الإيجابي المراد ذكرها وشرح فقراتها بالتفصيل في هذا البحث.وتمثلت هذه الركيزة بوجوب السعي إلى إيجاد حكومة إسلامية في زمن الغيبة الكبرى تقوم بإنجاز شريعة اللّه،وإقامة أحكامه،ورفع الظلم والفساد عن عباده،لأن ضمان استمرارية مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ،وإدامة بقائه حتى ظهور القائم المنتظر(عج)يستوجب إيجادها،إذ لولا وجودها لا يمكن أن نتصوّر لوجوده أي أثر ضمن هذه الأجواء والظروف المشحونة حقداً وعداءٌ لأهل البيت (عليهم السلام) ،والمساعي المحمومة الحثيثة التي يبذلها أعداء الدين بهدف اجتثاث جذور مذهبهم ومحو آثاره قائمة على قدم وساق!!

وبناء على ما تقدم تكون مسألة إيجاد حكومة إسلامية كمرحلة تمهيدية يتم خلالها اعداد المجتمع الإسلامي الأصيل، وتمهيد الأرضية الصالحة لظهور القائم المنتظر (عليه السلام) ،لأن نهضته تعتمد كلياً على وجود جيش عقائدي صلب كامل العدة والعدد،معد مسبقاً،وحاضراً لنصرته حال ظهوره،وإلّا فلا يمكن أن نتصور إيجاد جيش قوي قوامه مئات الآلاف،ومجهز بأحدث الأسلحة،ومدرب عليها تدريب جيد يمكنه من استعمالها بكفائة واقتدار،في غضون لحظات وجيزة.

ثم كيف تسمح قوى الشر والضلال أن يؤلف المهدي (عليه السلام) جيشه

ص: 244

الذي يستهدف سحقها وهي تقف مكتوفة الأيدي تنظر بأم عينها كيف يخطط الأبادتها ومحو وجودها.

إن هذا النوع من التصور غير قابل للتصديق،لأنه عبارة عن أمور خيالية

لا يحتمل حصولها بدون اعداد و تمهید مسبق.

وإذا قيل لنا أن اللّه تعالى يرعاه بالعامل الغيبي،ويحضر أصحابه المعينين من قبل اللّه مسبقاً وعددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً في ظرف وجيز جداً.

تقول هذا صحيح لا ريب ولا إشكال فيه،حيث أشار اللّه تعالی له بقوله:

« أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ »وصدّقته الروايات المتواترة عن الرسول الأكرم (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)والأئمة الأطهار (عليهم السلام) .ولكن الرعاية الغيبية،وإحضار الصحابة شيء،وتأليف جيش قوي مجهز بأحدث الأسلحة وقوامه مئات الآلاف شيء آخر،لأن إيجاد جيش كهذا يتوقف على إيجاد مقوماته ومواد بنائه. فالعامل الغيبي المشار إليه يتعهد بتسديد الجيش وتقوية معنوياته وزرع الخوف والرعب في قلوب أعدائه،وتمهيد الأرضية اللازمة الانتصاره،لا بایجاده و تكوينه من لا شيء كما يتصور البعض من السذج الذين لم يعوا أبعاد القضية المهدوية بصورة شمولية.هذا من جهة،ومن جهة أخرى أن حصول هذا الشيء من لا شيء أمر مناف لقانون السببية،ثم لم يسبق له نظير،ولا توجد رواية واحدة تشير إلى أن جيش المهدي(عج)سیؤلف فجئة بطرق الاعجاز في غضون فترة وجيزة.

ثم إذا كان جيش المهدي (عليه السلام) يكون بالاعجاز الإلهي فبماذا تعلل مئات الروايات المستفيضة الصادرة عن الأئمة الأطهار(علیهم السلام)،والتي تحثنا على ضرورة اعداد ما نستطيع اعداده لاستقبال القائم المنتظر (عليه السلام) ؟!

ص: 245

إذن لابد من وجود جیش معد مسبقاً قبل ظهوره المبارك (عليه السلام) ،ولا يمكن أن نحتمل وجود مثل هذا الجيش خارج إطار حكومة إسلامية ترعاه، وتسعى باستمرار إلى تقوية قدراته القتالية،وتجهيزه بما يحتاجه من المعدات الحديثة المتطورة..

أضف إلى ذلك دليل آخر يوجب وجود حكومة إسلامية في عصر الغيبة أيضاً وهو لو افترضنا أن جهود وجهاد معتنقي مفهوم الانتظار الإيجابي قد أثمرت،وتمكّن هؤلاء المجاهدون من إسقاط حكومة الظلم والضلال،ماذا ستكون الخطوة اللاحقة بعد الإسقاط؟أيتركوا المجتمع المسلم الموالي لأهل البيت (عليهم السلام) الذين حرصوا على إيجاده يعيش حالة الهرج والمرج والاضطراب بدون حكومة ترعاه وتحقق له الأمن والاستقرار،أم يوجدوا له حكومة؟

فإذا كانت الضرورة الحياتية تقتضي إيجاد حكومة تسعى إلى تطبيق القوانين، وضبط الأمن الداخلي،وحراسة حدود البلد،ورعاية مصالحه،فما نوع تلك الحكومة؟أهي حكومة علمانية لا دينية على غرار تلك الحكومة التي تم إسقاطها،أم هي حكومة إسلامية عادلة؟

فلو افترضنا أنها حكومة علمانية لا دينية،فسوف يمتنع العقل عن قبول مثل هذا لافتراض ؛ لأنه شيء غير معقول مطلقة،حيث أنه سيجعل دماء الشهداء،وجهود العلماء،وجهاد المجاهدين في مهب الرياح إذ لا تثمر شيئاً يذكر.

فلا يجوز شرعاً وعقلاً أن يهدروا دماء مئات الآلاف من الشهداء الذين بذلوا مهجهم في سبيل نصرة الإسلام بدون أن يحققوا ما كان يصبوا له الشهداء في إيجاد حكومة إسلامية عادلة.

ثم ما جدوى ذلك الجهاد الدامي الذي استغرق مدة طويلة،واستنزف

ص: 246

الكثير من الطاقات إذا كانت نتيجته إبدال حكومة علمانية بأخرى نظيرها،أو أسوأ حالاً من سابقتها لأنها دولة فتية أكثر قدرة على إفشاء الظلم ونشر الفساد.

فهل هناك إنسان يملك ذرة من العقل يسمح لنفسه أن يرتكب حماقة خرقاء كهذه،حيث يبدّل سوءاً بشيء أسوأ منه،أو نظيره على أحسن الاحتمالات؟

فإذا ثبت بطلان الاحتمال الأول لعدم إنسجامه مع الشرع والعقل،فلابدّ من تصویب وإيجاب الاحتمال الثاني وهو إقامة حكومة إسلامية عادلة لا غير.

ثم هناك دليل ثالث يجب الإشارة إليه،وهو قيام حكومات شيعية كثيرة في عصر الغيبة،كالبويهية والحمدانية وآخرها جمهورية إيران الإسلامية التي ولدت قبل أكثر من عشرين عاماً.فإن كان هذا الأمر منهي عنه كما يتصور البعض من السذّج فلم لا ينتقد أحد من فقهائنا قيام تلك الحكومات في زمن الغيبة؟بل على العكس من ذلك نجد أن الفقهاء الأتقياء مجمعون على تأييدها، لا سيما الشهيد آية اللّه محمد باقر الصدر الذي حثنا على الذوبان في شخصية الخميني المفدى لأنه ذاب في الإسلام،وطلب منا بذل الغالي والنفيس في سبيل نصرة الثورة الإسلامية وتركيز دعائمها.

فإذا ثبت ضرورة قيام حكومة إسلامية في عصر الغيبة إذا ما تمكن المجاهدون من إسقاط حكومة الجور والضلال،فماهي الأدلة القرآنية والروائية التي تدل على شرعية قيامها في غياب الإمام المعصوم (علیه السلام)،وماهي مواصفات الحاكم الذي يترأسها ويسير أمورها ويدبر شؤونها؟هذا ما سيتم الإجابة عليه من خلال سرد فقرات بحثنا هذا إن شاء اللّه تعالی..

ص: 247

أدلة شرعية قيام الحكومة الإسلامية

الدليل الأول:إن الغاية الأساسية من بعثة الأنبياء هداية الناس،وإنقاذهم من الظلم والضلال في آن واحد،وتعليمهم لمضامين الشريعة،وإقامة مجتمع المساواة على ضوء تلك التعاليم السماوية،وتنظيم كل شؤونه الحياتية وفق الموازين الشرعية،وإجراء الأحكام الحقوقية والجزائية،وفض النزاعات والاختلافات الحاصلة بين الناس بالعدل،ومنع التجاوزات وأنصاف المظلومين،وإعطاء كل ذي حق حقه،ثم إيجاد القوة الإجرائية الحريصة على إجراء القوانين وتنفيذها، وحماية أمن المجتمع ورعايته،وإيجاد جيش قوي يحرس حدود البلد، ويردع المعتدين.

ومعلوم لدى الجميع أن تحقيق الأهداف المذكورة يستلزم إيجاد حكومة إسلامية عادلة بمؤسساتها التشريعية والقضائية والتنفيذية،وإلّا لا يمكن تطبيق تعاليم السماء وإنجاز أهداف الأنبياء،وتحويلها إلى واقع ملموس.

والنصوص التي تدل على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى:«لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ...»(1) .

-قال أبو محمد الفضل بن شاذان النيسابوري-في حديث علل الشرائع-:فإن قال قائل:ولم جعل أولى الأمر وأمر بطاعتهم؟قيل لعلل كثيرة.

منها:أن الخلق لما وقفوا على حد محدود،وأمروا أن لا يتعدوا تلك الحدود لما فيه من فسادهم لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم إلا بأن يجعل عليهم فيها أمينة يأخذهم بالوقت عندما أبيح لهم،ويمنعهم من التعدي على ما حظر عليهم

ص: 248


1- سورة الحديد،آية25

لأنه لو لم يكن ذلك لكان أحد لا يترك لذته ومنفعته لفساد غيره،فجعل عليهم قيم يمنعهم من الفساد، ويقيم فيهم الحدود والأحكام.

ومنها:أن لا نجد فرقة من الفرق،ولا ملة من الملل بقوا وعاشوا إلّا بقيم ورئيس لما.لابدّ لهم منه في أمر الدين والدنيا فلم يجز في حكمة الحكيم-يعني اللّه-أن يترك الخلق مما يعلم أنه لابدّ لهم منه،ولا قوام لهم إلّا به فيقاتلون به عدوهم ويقسمون به فيهم،ويقيمون به جمعتهم وجماعتهم،ويمنع ظالمهم من مظلومهم.

ومنها:أنه لو لم يجعل لهم إمامة قيمة أمينة حافظة مستودعة لدرست الملة،وذهب الدين،وغيرت السنن والأحكام،ولزاد فيه المبتدعون،ونقص منه الملحدون،وشبهوا ذلك على المسلمين إذ قد وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غیر كاملين مع اختلافهم واختلاف أهوائهم،وتشتت حالاتهم،فلو لم يجعل فيها قيمة حافظة لما جاء به الرسول الأول لفسدوا على نحو ما بيتاه،وغيرت الشرائع والسنن والأحكام والإيمان،وكان في ذلك فساد الخلق أجمعين...(1) .

ولخص الإمام أميرالمؤمنين (علیه السلام)شرعية الحكومة الإسلامية وحدد أهدافها بكلمة قصيرة بليغة وهي:قال مرة لابن عباس-وقد كان بيد الإمام (عليه السلام) نعل يخصفه-:ما قيمة هذه النعل؟قال ابن عباس:لا قيمة لها.قال الإمام (عليه السلام) :واللّه لهي أحب إلي من أمرتكم إلا أن أقيم حقا أو أدفع باطلاً.(2)

وقال السيد روح اللّه الموسوي الخميني(ره)مؤسس جمهورية إيران الإسلامية:

ص: 249


1- علل الشرائع،253
2- نهج البلاغة،1: 80

فقد كان الهدف الحقيقي من بعثة الأنبياء هو إقامة العدل والقسط في الناس، وتنظيم حياتهم بموجب الموازين الشرعية،ولا يتم ذلك إلّا بالحكومة التي تنفذ الأحكام وهذه الحكومة كما تتمثل في شخص النبي أو الرسول،تتمثل كذلك في الأئمة (عليهم السلام) ،وفي الفقهاء العلماء المؤمنين العدول من بعدهم، لأنالقيام على الناس وإقرار الحق والنظام العادل فيهم مطلوب على كل حال.(1)

وقال الخميني(ره)بعد ذكر حديث الشرائع:فأنتم ترون أن الإمام يستدل بوجوه عدة على ضرورة وجود ولي الأمر الذي يقوم بحكومة الناس،وتلك العلل التي ذكرها موجودة في كل زمان،ويترتب على ذلك ضرورة تشكیل الحكومة الإسلامية في كل وقت،لأن التعدي عن حدود اللّه،والسعي وراء اللذة الشخصية،ونشر الفساد في الأرض،وهضم حقوق الضعفاء،كل ذلك موجود في كل زمان،وليس في زمان دون زمان،فاقتضت الحكمة الإلهية أن يعيش الناس بالعدل في الحدود التي حدّها اللّه لهم،وهذه الحكمة مستمرة وأبدية،وعلى هذا فوجود ولي الأمر القائم على النظم والقوانين الإسلامية ضروري،لأنه يمنع الظلم والتجاوز والفساد...(2) .

الدليل الثاني:أن اللّه أمر عباده الصالحين بمكافحة الطاغوت والكفر به وعدم الاحتكام إليه؛لأنه لا يحكم بما أنزل اللّه،ولا يعدل بين الناس،بل يحكم بما ينسجم مع مصالحه وأهوائه بالشكل الذي يحفض به نظام حكمه ولو على حساب ظلم وقتل وإضطهاد وتشريد الآخرين واغتصاب حقوقهم،وإفشاء الفساد والدمار في الأرض.

فقال اللّه تعالى في محكم كتابه الكريم:«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ

ص: 250


1- الحكومة الإسلامية،68
2- الحكومة الإسلامية،38- 39

آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)»(1) .

والمعنى اللغوي لطغى وطغيان وطاغوت وطاغية هو:كل شيء يجاوز القدر فقد طغى مثل ما طغى الماء على قوم نوح،وكما طغت الصيحة على ثمود. والطاغية:الجبار العنيد.والطاغوت:هو اسم الواجد.(2)

وجاء في القرآن الكريم قوله تعالى:«كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى *أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)»(3) .وذكر القرآن أيضاً أن المراد من الطاغوت هي الأوثان البشرية التي تعبد من دون اللّه،وإن الغاية الجوهرية من بعثة الرسل هي تعبيد الناس للّه، واجتناب طاعة الطاغوت والخضوع له،قال اللّه تعالى:«وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ .....»(4) .

قال الفيض الكاشاني في تفسير(الصافي):كلاّ ردع لمن كفر بنعمة اللّه الطغيانه إن الإنسان ليطغى،أن رآه استغنى أي رأى نفسه مستغنية.

القمي قال:إن الإنسان إذا استغنی يكفر ويطغى وينكر إلى ربّه الرجعي(5).

فالمستفاد من التفسير اللغوي والقرآني ان المراد من الطاغية والطاغوت هو السلطان الكافر الجائر الذي تجاوز الحد في ظلمه وطغيانه،فعلي في الأرض وأحدث فيها الفساد.والذي حمله على الكفر والطغيان هو توفر الامكانات المادية:كالقوة والمال والجاه والسلطان وغيرها من الأمور التي مكنته من التسلط على رقاب الناس واستضعافهم وفرض ربوبيته عليهم.كهامان وفرعون

ص: 251


1- سورة النساء،آية60
2- كتاب العین،2: 1084
3- سورة العلق،الآيات6و7
4- سورة النحل،آية36
5- تفسير الصافي،5: 348

وكل من لم يحكم بما أنز اللّه من طواغيت العصور الغابرة والحاضرة.

ولذا أرسل اللّه تعالى أنبيائه لمكافحة الطاغوت وإنقاذ عباده من كفرهم وظلمهم الذي تجاوز حد الافراط أيضاً.فقال تعالى:«....اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17)»(1) .

وقد فسّرت الروايات هذه الآية بأن المراد من الطاغوت المذكور فيها هو السلطان الجائر الذي لا يحكم بالعدل والإحسان كما أمر اللّه رسله وأوصياؤهم برادران اسلام انسان انسانی بذلك.

فجاء في تفسير الصافي عن الكافي،عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه سئل عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين،أو میراث فتحاكما إلى السلطان-وسلطان ذلك الوقت هو المنصور العباسي-أو إلى القضاة أيحل ذلك؟

فقال:من تحاكم إلى الطاغوت فحكم له فإنما يأخذ سحتاً(2) وإن كان حقه ثابتاً؛لأنه أخذ بحكم الطاغوت وقد أمر اللّه أن يكفر به.

قيل كيف يصنعان؟قال:انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثاً،ونظر في حلالنا وحرامنا،وعرف أحكامنا فارضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً،فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما بحكم اللّه استخف،وعلينا رد والراد علينا راد على اللّه وهو على حد الشرك باللّه.(3)

-وعن الصادق (علیه السلام)أيضاً أنه قال:إياكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور،ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإني

ص: 252


1- النازعات،آية17
2- السحت:هو كل ما لا يحل كسبه
3- تفسير الصافي،1:416،الكافي،412:7،وتهذیب الأحكام،6: 218

قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه.(1)

-عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال:أيما مؤمن قدّم مؤمناً في خصومه إلى قاضي،أو سلطان جائر فقضى عليه بغير حكم اللّه فقد شركه في الإثم.(2)

دلت هذه النصوص مجتمعاً على الأمور التالية:

أولاً:إن وجوب مقارعة الطاغوت،وعدم جواز الاحتكام إليه لم تختص بزمان معيّن، بل تستمر المقارعة مادام الطاغوت موجوداً،فكلما قامت حكومةطاغوتية جائرة وجب مقارعتها وعدم الاحتكام إليها.

ثانياً:وبموجب الأمر الإلهي يجب على المؤمنين القيام بمهمة مقارعة الطاغوت في زمن غيبة المعصوم بقيادة الفقهاء العدول،ولزوم الرجوع إليهم في فض نزاعاتهم واختلافاتهم في شتى المسائل الوراثية والحقوقية المختلف عليها؛لأن ما يأخذونه بأمر الطاغوت أو قضاته حتى إذا كان حقاً ثابتاً لهم فهو سحت.

ثالثاً:إذا حكم الفقهاء العدول،أو من يعيّنونه في هذه المسائل بحكم وجب الالتزام به،والعمل بموجبه لأن المراد عليهم والمستخف بحكمهم كمن استخف بحكم اللّه وردّ عليه.

رابعاً:ولو التزم المؤمنون جميعاً بوجوب الرجوع إلى الفقهاء العدول في فض نزاعاتهم،سوف لا يتسع وقتهم للنظر في جميع قضاياهم إلّا إذا لجأوا إلى تشكيل لجنان متعددة كاللجنة الوراثية واللجنة الحقوقية واللجنة القضائية كي يتمكنوا من فض نزاعاتهم جميعاً.لكن الرجوع إلى مثل هذه اللجنان في ظل حكم طاغوتي يلزم الخوف والحرج، لأن النظام السلطوي المستبد سوف لا

ص: 253


1- الكافي،12:7،الفقيه،3: 2،التهذیب،219:1 الوسائل،6:18
2- الكافي،411:7ء،الفقيه،3:3،التهذیب،6: 218،الوسائل،2:18

يمنحها حرية العمل إذا ما علم بوجودها،بل سيقوم حتماً بتصفيتها وإعدام أعضائها؛لأنه يعتبرها تحدّياً صريحاً له،ومخالفة عمدية لقوانينه المرعية.

ففي مثل هذه الظروف الصعبة إذا أراد الفقهاء العمل بوظيفتهم الشرعية في رفع الحرج والخوف،والعمل بمقتضى قوانين الإسلام لابدّ لهم من السعي الحثيث إلى إيجاد حكومة إسلامية عادلة حتى يتمكنوا من إنجاز أحكام اللّه بحرية تامة وبدون خوف أو حرج.

الدليل الثالث:هو رفع الحرمان،وحفظ المجتمع المسلم،وتحقيق العدل:

إن الواقع الأقتصادي الذي يعيشه المسلمون في الوقت الحاضر واقعاً مأساوياً مفعم بالبؤس والتعاسة،بسبب اشتداد التفاوت بين الغني الفاحش والفقر المدقع،حيث ترى في جانب عدداً قليلاً من عملاء الاستعمار المؤيدين الحكوماته العميلة المسلطة على رقاب المسلمين يتمتعون بامتيازات كثيرة لأحد لها،وثروة عظيمة حصلوا عليها بطرق غير مشروعة مكنتهم من استغلال المستضعفين من الناس،واستنزاف طاقاتهم بأبشع صورة تذكر. وهؤلاء تراهم يهيمنون على معظم مؤسسات البلاد الاقتصادية كالمعامل الصناعية،والشركات التجارية،والبنوك والمصارف المالية،وهم في غاية الثروة والرفاه،حتی آن كلايهم تشكو من كثرة الافراط للأكل،وتكاد تموت من أثر التخمة الملازمة لها.هذا في جانب،وفي جانب آخر ترى المآسي والمعانات الشاقة التي تغمر الملايين من المسلمين المستثمرين استثمارة بشعة،وهم يفتقرون لأبسط وسائل العيش كالمسكن والصحة والتعليم،ولا يجدون ما يسدون به رمقهم إلّا بشق الأنفس،واضمحلال القوي.ويموت من هؤلاء بسبب بؤسهم ومعاناتهم وشقائهم

ص: 254

سنوياً عشرات الملايين جوعاً ومرضاً.ناهيك عما يترتب على ذلك من الفساد الاجتماعي والأخلاقي،بالإضافة إلى ازدياد عدد السرقات وتفشي العادات السيئة كتناول المشروبات الكحولية،والاعتياد على تناول المخدرات،واختلال الأمن تبعاً لذلك يؤدي إلى شیوع الجرائم الوحشية وغير ذلك من الأمور التي لا يحمد عقباها،والتي ستقود المجتمع المسلم إلى الحضيض والانحلال والتفكك لا محال.

إن الإخلال بالتوازن الاقتصادي وخلق المآسي الإنسانية،وما يترتب عليهما من إشاعة الفحشاء والمنكر أمور لا يرتضيها اللّه،ولا يقر بها،بل وظف أنبيائه وعباده الصالحين بمكافحتها وإزالة آثارها،لأنها تنافي قوانينه وتعاليمهالداعية إلى إيجاد مجتمع السعادة والعدالة الاجتماعية على أحسن وجه.

قال اللّه في محكم كتابه:«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ »(1) .

وقال تعالى:«وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)»(2) .

وقال تعالى:« وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ »(3).

وقال تعالى:«خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ ....»(4) .

وقال تعالى:«وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ...»(5) .

وقال تعالى:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا

ص: 255


1- سورة النحل،آية90
2- سورة المعارج،آية25
3- سورة التوبة،آية34
4- سورة التوبة،آية104
5- سورة الانفال،آية 41

يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ.....»(1) .

وقال تعالى:«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ...»(2) .

هذه بعض الآيات التي تدعو ولاة الأمر المنصوص على ولا يتهم أو من يقوم مقامهم من الفقهاء العدول أن يأخذوا من أموال الأغنياء من الزكاة والأخماس ما يفي بسد حاجة الفقراء من العوام والهاشميين طرف الأب كي يحققوا بذلك العدل والمساواة، وإلغاء التفاوت الفاحش بين الغني والفقر، وإيجاد التوازن الاقتصادي المطلوب.

وسنذكر فيما يلي بعض النصوص التي أشارت لذلك:

منها:ما جاء في وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لولديه:«وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً»(3) .

وقال أيضاً:«أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة،لولا حضور الحاضر،وقيام الحجة بوجود الناصر،و ما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم،ولا سغب مظلوم،لألقيت حبلها على غاربها،وسقیت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنیا كم هذه أزهد عندي من عفطة عنز»(4) .

منها:وقال الصادق (عليه السلام) :إنما وضعت الزكاة اختباراً للأغنياء،ومعونة للفقراء،ولو أن الناس أدوا زكاة أموالهم ما بقي مسلم فقيراً محتاجاً،ولا استغنی بما فرض اللّه له،وإنّ الناس ما افتقروا ولا احتاجوا ولا جاعوا ولا عروا

ص: 256


1- سورة المائدة،آية8
2- سورة النساء،آية58
3- الحكومة الإسلامية،36
4- نهج البلاغة،41:1

إلّا بذنوب الأغنياء... (1).

ومنها:عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال:إن اللّه عزّوجلّ جعل للفقراء في أموال الأغنياء ما يكفيهم،ولولا ذلك لزادهم...(2) .

ومنها:عن رسول اللّه(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)قال:ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات،فالمنجيات خشية اللّه في السرّ والعلانية،والقصر في الغنى والفقر،والعدل في الرضا والغضب...الحديث(3).

وقال أيضاً (صلی اللّه علیه واله) :إياكم والفحش،فإن اللّه لا يحب الفاحش المتفحش،وإياكم والظلم فإن الظلم عند اللّه هو الظلمات يوم القيامة،وإياكم والشحّ فإنه دعا الذين من قبلكم حتى سفكوا دمائهم،ودعاهم حتى قطعوا أرحامهم،ودعاهم حتى انتهكوا واستحلّوا محارمهم(4).

ومنها:عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال-في حديث-:ولكن اللّه عزّوجلّ فرض في أموال الأغنياء حقوقا غير الزكاة،فقال عزّوجلّ:«وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ »،فالحق المعلوم غير الزكاة وهو شيء يفرضه الرجل على نفسه في ماله يجب عليه أن يفرضه على قدر طاقته وسعة ماله فيؤدي الذي فرض على نفسه إن شاء في كل يوم،وإن شاء في كلّ جمعة،وإن شاء في كل شهر...الحديث(5).

-وعن أبي عبداللّه (عليه السلام) في قول اللّه عزّوجلّ:«لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)»قال:المحروم المحارف الذي قد حرم كدّ يده في الشراء والبيع(6).

ص: 257


1- الفقيه، 2: ، الوسائل، 6: 4.
2- الكافي، 497:3 ، الوسائل، 6: 5.
3- الخصال، 1: 62، الوسائل، 6: 24.
4- الخصال، 1: 83، الوسائل، 6: 25.
5- الكافي، 3: 398، الوسائل، 6: 27:
6- الكافي، 3: 500، التهذیب، 6: 108، الوسائل، 6: 30.

ومنها:ما جاء عن علي (عليه السلام) قال:وأما ما جاء في القرآن من ذكر معايش الخلق وأسبابها فقد أعلمنا سبحانه ذلك من خمسة أوجه:وجه الإمارة،ووجه العمارة،ووجه الإجارة،ووجه التجارة،ووجه الصدقات،فأما وجه الإمارة فقوله:«وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ »(1) فجعل للّه خمس الغنائم...الحديث.(2)

ومنها:عن الصادق (عليه السلام) أنه قال:إن اللّه لا إله إلّا هو لمّا حرّم علينا الصدقة أنزل لنا الخمس،فالصدقة علينا حرام،والخمس لنا فريضة،والكرامة لنا حلال.(3)

ومنها:عن الإمام موسی بن جعفر (عليه السلام) أنه قال لشيعته-في حدیث-:...فإن صلاحكم في صلاح سلطانكم،وإن السلطان العادل بمنزلة الوالد الرحيم،فأحبوا له ما تحبون لأنفسكم،واكرهوا له ما تكرهون لأنفسكم.(4)

ومنها:ومن كلام للإمام علي (عليه السلام) فيما رده على المسلمين من قطايع عثمان(رض):واللّه لو وجدته قد تزوج به النساء-يعني المال-وملك به الأماء لرددته فإن في العدل سعة،ومن ضاق عليه العدل،فالجور عليه أضيق.(5)

ومنها قوله (عليه السلام) :لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وإنما المال مال اللّه...الحديث.(6)

وقال (علیه السلام)أيضا:أيها الناس،أعينوني على أنفسكم وأيم اللّه لأنصفنّ

ص: 258


1- سورة الأنفال،آية41
2- رسالة المحكم والمتشابه،57،الوسائل،6: 341
3- الفقيه2: 21،الخصال،1: 139،تفسير العياشي،الوسائل،6: 337
4- المجالس،203،م54،الوسائل،11: 472
5- نهج البلاغة،شرح صبحي الصالح،57
6- هج البلاغة،شرح صبحي الصالح،183

المظلوم من ظالمه،ولأقودنّ الظالم بخزامته،حتى أورده منهل الحق وإن كان كارهاً.(1)

ومنها:عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال:العدل أحلى من الماء يصيبه

الظمآن،ما أوسع العدل إذا عدل فيه وإن قل.(2)

وقال أيضاً:اتقوا اللّه واعدلوا،فإنكم تعيبون على قوم لا يعدلون.(3) -وعن الباقر (عليه السلام) في هذه الآية:إنّ اللّه حرم كنز الذهب والفضة وأمر بانفاقه في سبيل اللّه،قال:كان أبو ذرّ الغفاري يغدو كلّ يوم وهو بالشام فينادي بأعلى صوته بشر أهل الكنوز بكي في الجباه،وفي الجنوب،وكيّ في الظهور حتى يتردد الحرّ في أجوافهم.(4)

-وفي الخصال عن النبي (صلی اللّه علیه واله) :الدينار والدرهم أهلكا من كان قبلكم وهما مهلكاكم.

والقمي-في حديث قد سبق في سورة البقرة-:نظر عثمان بن عفّان إلى كعب الأحبار فقال له:يا أبا إسحاق،ما تقول في رجل أدى زكاة ماله المفروضة هل يجب عليه فيما بعد ذلك شيء،فقال:لا،ولو اتخذ لبنة من ذهب ولبنتاً من فضة ما وجب عليه شيء،فرفع أبو ذر عصاه فضرب بها رأس كعب،ثمّ قال له:يا ابن اليهودية الكافرة،ما أنت والنظر في أحكام المسلمين،قول اللّه أصدق من قولك حيث قال:« وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ .»الآية.(5)

هذه بعض الروايات التي عالجت موضوع العدل والحقوق الشرعية في آن

ص: 259


1- نهج البلاغة،شرح صبحي الصالح،194
2- الكافي،2: 146
3- الكافي،2: 147
4- فسير الصافی،2: 340
5- تفسير الصافي،2: 340

مفهوم الانتظارواحد.والمستفاد منها أمور:

أولاً:إن العدل أساس الحكومة الإسلامية وموجب قيامها،وأنه يشمل جميع نواحي الحياة ولم يختص بالناحية الاقتصادية فقط،وإن الحاكم العادل بمثابة الأب الرؤوف الرحيم يلزم أن ندعو له بالخير والبقاء،وأن نحب له ما نحب لأنفسنا،وأن نكره له ما نكره لها.

ثانية:إن الفقهاء العدول ملزمون شرعاً في زمن غيبة الإمام المعصوم بانقاذ المسلمين المستضعفين من الظلم والاستغلال والحرمان،لأن التزام الصمت وعدم السعي لانقاذهم يعني التخلي عن مسؤولياتهم وعدم اهتمامهم بشؤون المسلمين،وإن موقفهم السلبي هذا سيقوض مقومات المجتمع المسلم ويؤدي إلى انهياره.

ثالثاً:يجب على الفقهاء العدول المتصدين للمرجعية أن يجمعوا الحقوق الشرعية كالزكاة والخمس من أغنياء المسلمين وتوزيعها على فقرائهم بشكل عادل وشامل،وهذا لا يتم إلا باحصاء عدد الفقراء وضبط أسمائهم في سجلات معدة لذلك وذكر أماكن تواجدهم،ومعرفة المبالغ التي تجمع شهرياً ليتم تقسيمها عليهم بالتساوي وفق الموازين الشرعية.

وإنجاز هذا الأمر يستوجب وجود لجان مختصة بالأمور المالية موزعة على جميع مناطق العالم الشيعي تعمل تحت إشراف المتصدين للمرجعية كما أسلفنا.

وإن إنجاز النظام المالي الإسلامي لا يتم إلّا بوجود قوة إجرائية ونظام مالي مدون مسبقاً يتم بموجبه محاسبة المتخلّفين عن أداء الحقوق الشرعية التي بذمتهم،وهذا لا يتم إلا بوجود حكومة إسلامية كما أشار لذلك السيد الخميني(رحمه اللّه)بقوله:

أما نحن فمكلفون بانقاذ المحرومين المظلومين،نحن مأمورون بأعانة

ص: 260

المظلومين ومناوأة الظالمين كما ورد ذلك في وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) الولديه:«وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً».

وعلماء الإسلام مكلفون بمناضلة المستغلين الجشعين لئلّا يكون في المجتمع سائل محروم مقابل مرفه جشع أصابه بطر...

كيف يسوغ لنا اليوم،أن نسكت عن بضعة أشخاص من المستغلين والأجانب المسيطرين بقوة السلاح،وهم قد حرموا مئات الملايين من الاستمتاع بأقل قدر من مباهج الحياة ونعمها..

فواجب العلماء وجميع المسلمين أن يضعوا حداً لهذا الظلم،وأن يسعوا من أجل سعادة الملايين من الناس،في تحطيم الحكومات الجائرة وإزالتها،بتأسيس حكومة إسلامية عاملة مخلصة.(1)

الدليل الرابع:إجراء الأحكام،وإقامة الحدود،وحمايةالإسلام:

إن اللّه تبارك وتعالى لما أنزل كتابه المجيد وفيه جميع ما يحتاجه الإنسان المؤمن من النظم اللازمة لتنظيم كل شؤون حياته دون استثناء،أراد من أنبيائه وخلفائهم ومن يقوم مقامهم إنجاز تلك القوانين بعد إيجاد الأرضية الصالحة لإنجازها،ولم يسمح بايقاف تنفيذها أو تعطيلها أبداً،لأن حياة المجتمع المسلم وسلامته من الإنحراف والإنحلال تتوقف على تطبيقها والعمل بموجبها،كما أشار لذلك بقوله:«وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ »(2) .

وعن أبي إبراهيم (عليه السلام) في قول اللّه عزّوجلّ:«َيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا »(3) ،قال: ليس يحييها بالقطر،ولكن يبعث اللّه رجالاً فيحيون العدل فتحيي

ص: 261


1- الحكومة الإسلامية،36-37
2- سورة البقرة،آية179
3- سورة الروم،آية19

الأرض لاحياء العدل ولا قامة الحد اللّه أنفع في الأرض من القطر أربعين

صباحاً(1) .وقال رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) :إقامة حدّ خير من مطر أربعين صباحاً.(2)

ومن أجل حماية القانون ومعاقبة المتخلفين عن تنفيذه وردعهم،جعل اللّه لكل شيء حداً،وعن عقوبة محددة لمن تجاوزه واستهان به.

۔عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال:قال رسول اللّه(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) لسعد بن عبادة:إن اللّه جعل لكل شيء حداً،وجعل على كل من تعدّی حدّاً من حدود اللّه عزّوجلّ حداً،وجعل ما دون الأربعة الشهداء مستوراً على المسلمين.(3)

-وعن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال:إنّ لكل شيء حداً ومن تعدّى ذلك

الحدّ كان له حدّ.(4)

وإذا علمنا بأن القانون الإلهي لم يختص بزمان معيّن أو فترة محدودة،بل يجب إنجازه في كل زمان ومكان تواجد فيه المجتمع المسلم.ومهمة إنجازه كما هو معلوم تقع على عاتق الرسول الأكرم(صلّی اللّه عليه وآله وسلّم)،أو من ينص على خلافته له،وفي زمن غيبة الإمام المعصوم المكلف بإنجاز القانون من ينوب عنه من الفقهاء العدول.ولكن إنجاز القانون ليس بمقدورهم إلّا بإيجاد السلطات الثلاث وهيك التشريعية والقضائية والتنفيذية، پوهذه لا يمكن إيجادها خارج إطار حكومة إسلامية.

إذن إن مهمة إنجاز الدستور الإسلامي أوجب على الفقهاء واجب آخر وهو تمهيد الأرضية المناسبة لإنجازه، پوذلك يتم بإيجاد دولة إسلامية عادلة.

ص: 262


1- الكافي،7: 174،الوسائل،308:18
2- الكافي،7: 174،الوسائل،308:18
3- الكافي،2: 174
4- الكافي،2: 175

فإذا اعترض سبيل أقامتها حكومة كافرة فاسقة جائرة يجب مجاهدتها وإسقاطها إن أمكن،كي يتسنى للفقهاء المتصدين إقامة الحكم الإسلامي على إنقاضها وتنفيذ القانون الإلهي المكلفون بتنفيذه.

ثم إن حماية الإسلام من التحريف والتشويه،والحفاظ على الدولة الإسلامية الفتية،وحراسة حدود الوطن الإسلامي تكون بعهدة المؤمنين المكلفين وفي طليعتهم الفقهاء العدول باعتبارهم خلفاء النبي(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)،وأمناء الرسل،وحصون الإسلام.ولكن ليس باستطاعة هؤلاء توفير الحماية اللازمة ما لم يكون هناك جيش كامل العدة والعدد،مسلح بالعقيدة والإيمانيعينهم على صيانة الإسلام،ورد كيد المعتدين إلى نحورهم.

هذه مجمل الأدلة التي دلت على شرعية قيام الدولة الإسلامية إذا ما توفرت العوامل المساعدة على قيامها.ولكن من سيحكم هذه الدولة؟وماهي مواصفاته ومؤهلاته؟

فالجواب على هذين السؤالين يتم في البحث القادم.

ذكر الحاكم الإسلامی وبیان صفاته

معلوم لدى الجميع إن الحاكم الشرعي المجعول من قبل اللّه تعالی بعد رسول اللّه(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)هو الإمام المعصوم الذي تتوفر فيه مؤهلات الحاكم الكفوء من حيث العدالة والتقوى والورع،والإحاطة التامة بمضامين الدستور الإسلامي المتمثل بالقرآن الكريم.

ولم يكتفي الرسول الأكرم(صلّی اللّه عليه وآله وسلّم)بتعيّن الإمام عليّ (عليه السلام) فحسب،بل عيّن بوحي اللّه عزّوجلّ أسماء أحد عشر خليفة له من

ص: 263

أبنائه يخلفونه بقيادة المسلمين السياسية والدينية والإجتماعية على التعاقب.

وكان آخر هؤلاء الخلفاء المنصوص عليهم هو القائم المهدي (عليه السلام) المنتظر،الذي غاب عن الأبصار غيبته الكبرى لظروف قهرية أوجبت ذلك،فألغى السفارة بعد موت السمري ولم يعين من يقوم مقامة في توجيه المسلمين الموالين له أحداً في زمن غيبته (عليه السلام) ،عدا أنه منح الفقهاء العدول، ورواة حديثهم وكالة عامة ليس إلّا.

فإذا تمكن الشيعة الموالون له بقيادة الفقهاء العدول من إيجاد حكومة إسلامية في زمن غيبته،فمن سيكون حاكمها ومسير أمورها؟وهل ستكون قيادة جماعية ممثلة بمجلس فقهاء مثلا،أو قيادة فردية تختص بواحد منهم منتخباً من بينهم؟

الفقهاء العدول هم قادة المسيرة في زمن الغيبة

وقبل أن نجيب على السؤال المذكور،نقول:سبق أن أشرنا ضمن الأدلة الشرعية لقيام الحكومة الإسلامية إن اللّه تعالی كلف الفقهاء العدول بأخذ الزكاة والأخماس،وفض اختلافات المؤمنين،وحماية الإسلام،والمحافظة عليه سالماً من التحريف والتشويه،لئلّا يندرس بمرور الزمن وتزول آثاره،ثم الدفاع عن المجتمع المسلم إذا ما تعرض لعدوان المعتدين.

ولا ننسى أن مهمة التصدي لمرجعية الشيعة في زمن غيبة المعصوم تكون في عهدة الفقهاء العدول أيضا.فهم يتصدرون مراكز التوجيه والإرشاد وصدور الفتاوي الشرعية التي تشمل العبادات والمعاملات وجميع شؤون الحياة.

وقد أشار الشهيد محمد الصدر في كتابه(الغيبة الصغرى)إلى ضرورة

ص: 264

وجود القيادة العلمائية في زمن الغيبة،وذكر بعض أدلتها الواردة عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) فقال:

إعطاء القيادة العامة في زمن الغيبة إلى العلماء باللّه،الذين يمثلون خط الإمام (عليه السلام) ..ذلك المفهوم الذي أعطاه الإمام الصادق (عليه السلام) صيغته التشريعية بقوله:ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا،ونظر في حلالنا وحرامنا،وعرف أحكامنا،فليرضوا به حكماً،فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه،فإنما استخف بحكم اللّه وعلينا رد،والراد علينا راد على اللّه وهو على حد الشرك باللّه.(1)

أوضحه وأعطاه ضیغته الإجتماعية الكاملة الإمام الهادي (عليه السلام) حين قال: لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم (عليه السلام) من العلماء الداعين إليه والدالين عليه،والذابين عن دينه بحجج اللّه،والمنقذين لضعفاء عباد اللّه من شباك إبليس ومردته،ومن فخاخ النواصب،لما بقي أحد إلا ارتد عن دين اللّه..ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء شيعتنا كما يمسك صاحب السفينة سكانها،اولئك هم الأفضلون عند اللّه عزّوجلّ.(2)

والأساس العام الذي تقوم عليه هذه البيانات،هو:إن المسلمين الممثلين الخط الأئمة (عليهم السلام) وقواعدهم الشعبية الكبرى يجب أن لا تبقى-في زمن الغيبة وانقطاع القيادة المعصومة ومصدر التشريع-خالية عن المرشد والموجه والفكر المدبر..يعطيهم تعاليم دينهم ويرتفع بمستوى إيمانهم وعقيدتهم،ويشرح لهم إسلامهم،ويوجههم في سلوكهم إلى العدل والصلاح ورضا اللّه

ص: 265


1- الكافي،412:7ء،التهذیب،6: 218،الوسائل،3:18،الغيبة الصغرى،219
2- الاحتجاج،2: 260،الغيبة الصغرى،219

عزّوجلّ.فإن من هذه الجماهير-إن لم يكن الأكثر-من يكون ضعيف الإيمان والإرادة،يحتاج في تصعيد مستواه الروحي وعمله الإيماني إلى مرشد وموجه، وإلّا كان لقمة سائغة لمردة إبليس وشبا كه من أعداء الدين والمنحرفين وذوي الأغراض الشخصية والمصالح الظالمة.(1)

ومما تقدم ثبت بأن الشيعة في زمن غيبة الإمام القائم (عليه السلام) لم يتركوا سدی بدون موجه و مرشد يرشدهم إلى طريق الحق والهداية،بل عيّن لهم الأئمة الأطهار (عليهم السلام) قيادة علمائية تقية ورعة تتجسد بالفقهاء العدول الذين حازوا شرائط المرجعية الصالحة.

فإذا تظافرت جهود هذه القيادة الموزعة على معظم بلدان العالم الإسلامي الشيعي كان باستطاعتها إيجاد حكومة إسلامية عالمية عادلة تكون منقطعة النظير كما وصفها الإمام الراحل في كتابه(الحكومة الإسلامية).(2)

وأما إذا انفرد واحد من هؤلاء الفقهاء في بلده بقيادة شعبه،وجاهد الطاغوت الجاثم على صدره،واستطاع بعد جهاد دامي أن يسقط الحكومة المستبدة الجائرة وينشئ حكومة إسلامية تحل محلها،فلابدّ في هذه الصورة أن يكون هو الحاكم والمشرف على إدارة شؤونها؛لأنه هو أعرف من غيره بما يصلح بلده وشبعه.وهذا ما حصل فعلا في إيران الإسلام حيث انتصر الإمام الخميني العظيم على الحكومة الشاهنشاهية العميلة للإستكبار العالمي وأنشأ حكومة إسلامية أشرف بنفسه على إدارة شؤونها..

وبعد رحيله(رحمه اللّه)انتخب مجلس الفقهاء العدول فقيهاً آخر وهو السيد علي الخامنئي ليحل محله في الإشراف والتوجيه.

ص: 266


1- الغيبة الصغرى،218- 219
2- الحكومة الإسلامية،49

وخلاصة ما تقدم هو أنه إذا ما نهض أحد الفقهاء العدول في أي بلد كان، وتمكن من إيجاد حكومة إسلامية يكون هو المشرف على إدارة شؤونها،بعد أن يضع الخطوط الرئيسية لسياستها الداخلية والخارجية على ضوء قواعد العمل السياسي والإجتماعي في الإسلام، وعلى الأمة المسلمة أن تطيع أمره وتخضع السلطته باعتباره ولي أمرها الشرعي،وقائد مسيرتها الذي أوجب اللّه تعالی طاعته.

وعلى بقية الفقهاء العدول المحيطين به إسناد حكومته ومشاركته في إدارة شؤونها،ومساعدته على حل ما يواجهه من الصعوبات والمعضلات الفقهية في مجالات التقنين والقضاء والإدارة مادام حائزة على صفتي العلم والعدالة،لأن مصلحة الإسلام العليا،والحفاظ على الحكومة الإسلامية وضمان استمرارها يلزمهم جميعاً بوجوب تأييد وإسناد الفقيه العادل المنبسط اليد.

وبهذا الأسلوب الصحيح المستوحى من التجربة والنصوص يسهل معرفة الحاكم الإسلامي المكلف بإدارة شؤون الحكومة الإسلامية في زمن غيبة الإمام القائم المنتظر (عليه السلام) .

وفي غير هذه الصورة لا يمكن إيجاد الحاكم الشرعي،أو تعيين من سيخلفه في إدارة شؤون الدولة وتسيّر أمورها؛لأن الناس ماعدا أهل الحل والعقد ليس باستطاعتهم أن ينتخبوا الحاكم الشرعي لافتقارهم إلى الصلاحية والاختصاص ولأن معظمهم يتمايلون مع الأهواء والتيارات السياسية السائدة.

نعم،باستطاعة الناس إنتخاب رئيس الجمهورية الإسلامية، وأعضاء مجلس الشورى والمجالس البلدية وغيرها باشراف الولي الفقيه،ولكن ليس بمقدورهم إنتخاب الولي الفقيه نفسه،لأن هذا الأمر مختص بالفقهاء العدول وذوي الاختصاص فقط.

ص: 267

شرائط صلاحية الحاكم ومجمل وظائفه

يشترط في الحاكم الأسلامي بعد الإيمان والعقل والبلوغ وحسن لتدبير ، العلم ،والإجتهاد،والعدالة،والتقوى،والعلم بالواقع المعاش.

والمراد بالعلم هو الإحاطة التامة بالعلوم والمعارف الإسلامية بصورة عامة،وفهم واستيعاب مفردات القانون الإسلامي ومشتقاته فهماً دقيقاً يمكنه من تطبيق أحكامه على موضوعاتها بكفائة وبدون تعثر واضطراب بصورة خاصة.

ونعني بالإجتهاد هو النظر في الأدلة الشرعية لتحصیل معرفة الأحكام الفرعية التي جاء بها سيد المرسلين المتعلقة بكافة شؤون الرعية في مجالي العبادات والمعاملات وتنظيم الروابط والعلائق الفردية والإجتماعية.

وإذا ما واجه الحاكم مسائل مستجدة فعليه استنباط أحكامها من الأدلة الشرعية وهي الكتاب الكريم،والسنة النبوية الشريفة،والاجماع،والعقل،ولا يجوز له مطلقاً العمل بالهوى والقياس على تفصیل مذكور في كتب أصول الفقه.ولا يجوز له أيضا تغير الأحكام وتبديلها بأي شكل من الأشكال،لأن حلال محمد حلال إلى يوم القيامة،وحرامه حرام إلى يوم القيامة.

ونعني بالعدالة هي سلامة عقائد الحاكم من التحريف والتشويه،أي يكون شيعياً إثني عشري يعتقد بولاية الأئمة الأطهار (عليهم السلام) وبعصمتهم المطلقة.ويحافظ على استقامته وتمسكه بها،ولا ينحرف عنها يميناً وشمالاً بأن يرتكب المعاصي بترك الواجبات وفعل المحرمات بدون عذر شرعي معقول، ولا فرق في المعاصي بين الصغيرة والكبيرة..وأن يكون الحاكم عادلاً في تطبيق الأحكام،وتوزيع الحقوق.

ص: 268

وقد أعطى السيد روح اللّه الموسوي الخميني(رحمه اللّه)وصفاً دقيقاً الصفة العدالة بقوله:وعلى الحاكم أن يتحلى بأقصى حد من كمال العقيدة،وحسن الأخلاق مع العدل والنزاه من الآثام،لأن من يتصدى لإقامة الحدود وإنفاذ الحقوق،وينظم موارد بیت المال ومصارفه،لا ينبغي أن يكون ظالماً،لأن اللّه تعالى يقول في كتابه العزيز:« لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ».فالحاكم إذا لم يكن عادلاً فإنه لا يؤمن أن يخون الأمانة،ويحمل نفسه وذويه وآله على رقاب الناس.

فرأي الشيعة فيمن يحق له أن يلي الناس معروف منذ وفاة رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) وحتى زمان الغيبة،فالإمام-يعني به الحاكم-عندهم فاضل عالم بالأحكام والقوانين،وعادل في إنفاذها،لا تأخذه في اللّه لومة لائم.(1)

ونعني بالتقوى هي الملكة الراسخة في نفس الإنسان المؤمن التي تحثه على ممارسة الطاعات والمداولة عليها،وتمنعه عن إرتكاب المعاصي.

وهذه الحالة النفسية التي تترك آثارها الإيجابية على مجمل سيرة الإنسان المؤمن وتضبط جميع تصرفته وأقواله بالضوابط الشرعية،لا يكتسبها المؤمن بصورة مفاجئة وإنما تأتي نتيجة ممارسة العبادت الواجبة والمندوبة،والرياضات الروحية باستمرار حتى يكون في غاية القرب من اللّه تعالى والحب له.

فلابدّ للحاكم الإسلامي أن يتصف بهذه الصفة المهمة التي تقلل من نسبة

أخطائه،وتمنعه عن الوقوع بالغفلة الموجبة لارتكاب الخطأ والمعصية.

فإذا كان الحاكم تقياً ورعاً،يتقي اللّه ويخشاه لعلمه بأنه في محضره دائماً،وإنه يشهد جميع حركاته وسكناته،ويعلم بخواطره ونواياه ولا يخفى عليه شيء،

ص: 269


1- الحكومة الإسلامية،47

إذا كان كذلك يأمن الخلق من بوائقه وأخطائه و آثامه.

وآخر صفة يلزم أن يتصف بها الحاكم المسلم في العلم بالواقع المعاش، ونعني به الإحاطة بالقوانين والمبادئ والأفكار الوضعية،ومعرفة عادات الناس وتقاليدهم ودياناتهم المختلفة ولو بصورة مجملة؛لأن الحاكم المسلم يلزم أن يكون أعرف الناس بأهل زمانه كي يتمكن من حل جميع المشكلات التي يفرزها الواقع المعاش بسهولة،ويردّ على أفكار ومبادئ مناوئيه بالعلم والحجج القاطعة.

هذه هي الشرائط أو الصفات التي يلزم أن يتمتع بها الحاكم المسلم كي يكون مؤهلا لإدارة شؤون الدولة وتسيير أمورها في عصر غيبة الإمام المعصوم (عليه السلام) ..

ولعل سائل يسأل:لماذا لم يضيفوا صفة العصمة المطلقة للصفات المذكورة، وتشترطوها بالحاكم المسلم،كما اشترطتموها في الأئمة الأطهار (عليهم السلام) الذين يخلفون رسول اللّه(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)بالحكم؟

فنقول جواباً على هذا السؤال:إن المعصومين الذين يتصفون بالعصمة المطلقة أربعة عشر معصوماً عدا الأنبياء والمرسلين،كما ذكرهم القرآن الكريم،والرسول الأكرم(صلّی اللّه عليه وآله وسلّم)والأئمة الأطهار (عليهم السلام) ،وربما ينال درجة العصمة بعض الأوصياء والأولياء،إذا اجتهدوا بالطاعة والعبادة.وبما أن العدد محصور بهؤلاء المنصوص عليهم،فلا يمكن اشتراط العصمة في غيرهم وإن كان نائب الإمام المعصوم.ولكن الحاكم المسلم إذا اتصف بالصفات المذكورة،وشاور إخوته الفقهاء العدول المحتفين به،وأخلص نيته للّه،وطهرها من جميع الشوائب، ستقل نسبة أخطائه بالتدريج حتى يصل إلى درجة العصمة المطلقة،أو دونها بقليل. وهذا ما أشار له اللّه في محكم كتابه،فقال تعالى:

ص: 270

« وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا »(1) ،وقال تعالى:«وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا )»(2) .

هذا ما يتعلق بصفات الحاكم المسلم،وأما صلاحياته ووظائفه فهي كما تعلمون أن الحاكم المسلم في عقيدتنا هو نائب للإمام المعصوم (عليه السلام) في حال غيبته،وهو الحاكم والرئيس المطلق،له ما للإمام في الفصل،في القضايا والحكومة بين الناس،والراد علیه راد على الإمام،والراد على الإمام راد على اللّه تعالى،وهو على حد الشرك باللّه،كما جاء في الحديث عن صادق آل البيت (عليهم السلام) .

فليس الحاكم المجتهد الجامع للشرئط مرجعاً في الفتيا فقط،بل له الولاية العامة،فيرجع إليه في الحكم والفصل والقضاء،وذلك من مختصاته،لا يجوز الأحد أن يتولاها دونه،كما لا يجوز إقامة الحدود والتغريرات إلا بأمره وحكمه.(3)

ويرجع إليه أيضاً في الأموال التي هي من حقوق الإمام ومختصاته.وهذه المنزلة أو الرئاسة العامة أعطاها الإمام (عليه السلام) للمجتهد الجامع للشرائط ليكون نائباً عنه في حال الغيبة،ولذلك يسمى(نائب الإمام).(4)

وذكر الإمام الخميني(ره)صلاحيات الحاكم المسلم ووظائفه بقوله:ويملك هذا الحاكم من أمر الإدارة والرعاية والسياسة للناس ما كان يملكه الرسول(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)،وأمير المؤمنين (عليه السلام) على ما يمتاز به الرسول والإمام من فضائل ومناقب خاصة،لأن فضائلهم لم تكن تخولهم أن

ص: 271


1- سورة الطلاق،آیة2
2- سورة العنكبوت،آية69
3- عقائدنا،للشيخ المظفر،34- 35
4- عقائدنا،للشيخ المظفر،35

يخالفوا تعاليم الشرع،أو يتحكموا في الناس بعيداً عن أمر اللّه.وقد فوض اللّه الحكومة الإسلامية الفعلية المفروض تشكيلها في زمن الغيبة نفس ما فوضه إلى النبي(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)وأمير المؤمنين (عليه السلام) من أمر الحكم والقضاء والفصل في المنازعات،وتعيين الولاة العمال،وجباية الخراج، وتعمیر البلاد،غاية الأمر إن تعيين شخص الحاكم الآن مرهون بمن جمع في نفسه العلم والعدل.(1)

الخاتمة

اشتملت نظرية الانتظار الإيجابي على خمس ركائز أساسية مستنبطة من النصوص القرآنية والروائية،ومنسجمة مع الغاية الجوهرية من بعثة الأنبياء والرسل،بل مجسدة لأسمى هدف من أهدافها وهو الكفر بعبادة الأوثان الحجرية والبشرية المتجسدة بالطاغوت بكل أشكاله وحكومات الجور والضلال، والإيمان بعبادة اللّه الواحد القهار،«وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ....»(2) ،وإنجاز رسالته الداعية إلى العدل والإحسان والمساواة على أحسن وجه.

وهذه الركائز هي:الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،والجهاد دفاعاً عن الإسلام وصيانة أحكامه من التحريف والتسويف،والصبر على ما يفرزه الجهاد من المشاق،والصعوبات الهجرة والتغرب والتشريد،وما يتطلبه من البذل والتضحية، ثم ممارسة التقية بشكل صحيح بهدف مواصلة الجهاد حتى في أشد الظروف خوفاً وإرهاباً،كي تتمهد الأرضية الصالحة لإيجاد حكومة إسلامية

ص: 272


1- الحكومة الإسلامية،49
2- سورة النحل،آية36

تمهد السبيل لظهور القائم المنتظر (عليه السلام) .

وأقصى ما تستهدفه هذه النظرية هو إخراج المؤمنين من حالة الكسل والتخاذل والإقرار بالواقع المرير المفعم بالبؤس والمأساة،إلى حالة الجهاد والعمل والمثابرة،ومقارعة قوى الشر والطغيان.فبدلاً من أن يقف المؤمنون موقف المتفرج الغير مسؤول على ما يعاني المسلمون من آثار الظلم والعدوان،تحولوا بفضل تنفيذ هذه النظرية الجهادية إلى عناصر فاعلة ساهمت بشكل فعال في إنقاذ المستضعفين من الاستغلال والإضطهاد.وبذا استطاعت أن تبعث الهمم وتزرع الأمل في نفوسهم،وتجتث منها جذور اليأس والقنوط،وتعدّهم إعداداً رسالياً من خلال ممارسة الجهاد بكلا شقيه،وإنجاز الواجبات الدينية،والوظائف الإنسانية،وبناء الشخصية الرسالية بناءً صحيحاً ينسجم مع تعاليم الإسلام القيمة ومبادئه السامية،بالإضافة إلى الإعداد المادي،امتثالاً لأمر اللّه تعالى:«وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ....»،وإيجاد العدد الكافي من المؤمنين الصالحين المنتظرين لإمامهم المهدي (عليه السلام) بشوق ولهفة وهم على أتم الاستعداد للبذل والتضحية في سبيل نصرته والاستشهاد دونه حتى يتمكن من إنجاز الوعد الإلهي في إزالة آثار الظلم والفساد والضلال،وإيجاد حكومة إسلامية عالمية عادلة..

وربما يتصور المرء أن الركيزة الخامسة-وهي إيجاد الحكومة الإسلامية في زمن الغيبة-أمراً وجوبية يلزم تنفيذه على كل حال،وإن مسألة ظهور المنتظر روحي فداه متوقف على إيجادها.

يخطأ من يتصور ذلك،لأن وجوب إقامة الحكومة لا يتحقق ما لم تتوفرعوامل قيامها،وإن ظهور القائم (عليه السلام) غیر مرتبط بها إرتباطاً مصيرياً بحيث لو لم تقوم الحكومة الإسلامية لم يحصل الظهور.

ص: 273

كلّا،ليس هذا هو المقصود من وجوب قيام الحكومة الإسلامية،وإنما المقصود هو إن إيجاد الحكومة هدف من أهداف حركة الجهاد التي قادها معتنقوا نظرية الانتظار الإيجابي،ولابدّ من تحقيقه إذا ما توفرت الظروف المناسبة الإنجازه.وإن تحقيق هذا الهدف يعد واحد من أهم عوامل تمهيد الظهور،لأن ظهوره المبارك (عليه السلام) وعد إلهي حتمي لابدّ من تنفيذه في أوانه سواء قامت الحكومة الإسلامية أو لم تقم. وإنما الشيء المهم الذي يراد إنجازه على كل حال هو إعداد المؤمنين إعداداً معنوياً ومادياً،ورفع مستواهم الإيماني، وجعلهم على أعلى مستوى من الشعور بالمسؤولية من حيث القول والعمل، وإيجاد ما يكفي من المؤمنين المجاهدين الصالحين لتشكيل جيش الإمام المهدي (عليه السلام) ،وإنجاز الوعد الإلهي المحتوم،وهذا أهم هدف يسعى معتنقوا مفهوم الانتظار الإيجابي إلى تحقيقه..

وهذا ما أشار له آية اللّه السيد محمد الصدر في كتابه(الغيبة الكبرى)،فقال حول تمهيد الأرضية لظهور القائم المنتظر (عليه السلام) :أن تكون الأمة ساعة الظهور على مستوى عال من الشعور بالمسؤولية الإسلامية،والاستعداد للتضحية في سبيل اللّه عزّوجلّ.أو على الأقل،أن يكون فيها العدد الكافي ممن يحمل هذا الشعور ليكون هو الجندي الصالح الذي يضرب بين يدي المهدي (عليه السلام) ضد الكفر والانحراف،ويبني بساعده المفتول الغد الإسلامي المشرق، ويكون الجيش المكون من مثل هذا الشخص الرائد الواعيالذي يملأ الأرض بقيادة المهدي (عليه السلام) قسطا وعدلا كما ملئت ظلماً وجوراً...(1) .

وقال السيد محمد الصدر(رحمه اللّه)أيضاً في كتابه(الغيبة الصغرى)في

ص: 274


1- الغيبة الكبری،57

تقييمه لمفهوم الانتظار الإيجابي:ولا يخفى ما في الانتظار المنسجم مع المبادئ الإسلامية العليا،من الأثر الإيجابي على نفس المؤمن وسلوكه.إذا تصورنا ما في الياس والقنوط من أثر سلبي عليه،في إضعاف معنوياته وكبح جماحه والكف عن نشاطه إذا لم يكن لنشاطه أمل يرجى،أو نتيجة تقصد،على حين أن هذا الانتظار أو الأمل يعطيه الدفع الثوري،الكافي إيماناً وسلوكاً لكي ينخرط الفرد في سلك الأنبياء والشهداء والصالحين..ويشارك بمقدار جهده بتمهيد المقدمات اليوم اللّه الموعود..(1)

وبذا نختم كتابنا هذا،راجين من اللّه العلي القدير أن يتقبل منّا هذا بأحسن

قبوله إنه السميع المجيب.

تمّ الكتاب بعون اللّه وتوفيقه في24محرم الحرام سنة1421ه.

المولف

ص: 275


1- الغيبة الصغری،218

ص: 276

فهرس الكتاب

الصورة

ص: 277

الصورة

ص: 278

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.