الانسان و بناء الذات

هویّة الكتاب

بطاقة تعريف: باهنر، محمدجواد، 1360 - 1312

عنوان واسم المؤلف: الانسان و بناء الذات/ محمدجواد باهنر؛ ترجمه خلیل الزامل

تفاصيل المنشور: قم: موسسة المعارف الاسلامیة، 1416ق. = 1995م. = 1374.

مواصفات المظهر: ص 153

ISBN : بها:4000ریال ؛ بها:4000ریال

ملاحظة : العنوان الرئيسي: الإنسان وتحسين الذات.

ملاحظة : ببليوغرافيا مع ترجمة

الموضوع: تحسين الذات (الإسلام)

رجل (الاسلام)

المعرف المضاف: زامل، خلیل، مترجم

المعرف المضاف: موسسة المعارف الاسلامیة

ترتيب الكونجرس: BP250/ب 2الف 8043 1374

تصنيف ديوي: 297/63

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 75-10508

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: سجل كامل

جمعية خيرية رقمية: مركز خدمة مدرسة إصفهان

المحرر: محمدكاظم ظفري

ص: 1

اشارة

این كتاب با استفاده از كاغذ حمایتی وزارت فرهنگ و ارشاد اسلامی به چاپ رسیده است.

هویّة الكتاب:

إسم الكتاب: ... الانسان و بناء الذات.

تألیف: ... الدكتور الشهید محمد جواد باهنر.

ترجمة: ... خلیل الزامل.

نشر: ... مؤسّسة المعارف الاسلامیّة.

صفّ الحروف: ... مؤسّسة المعارف الاسلامیّة.

الطبعة: ... الأولی 1416ھ .ق.

المطبعة: ... پاسدار اسلام.

العدد: ... 2000 نسخة.

السعر: ... 400 تومان.

ص: 2

الانسان

وبناء الذات

الدكتور الشهید

محمد جواد باهنر

البیان للترجمة

ص: 1

جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة

لمؤسّسة المعارف الاسلاميّة

الطبعة الأولىٰ

1995 م - 1416 ھ

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيم

ص: 3

ص: 4

بقلم السيد رئيس الجمهورية الاسلامية

في ایران حجة الاسلام والمسلمین

الشيخ الهاشمي الرفسنجاني

المقدمة

ان المبادرة الى جمع ونشر مؤلفات الشهيد العالم الدكتور محمد جواد باهنر عملٌ يبعث علىٰ الارتياح ويعد خطوة مفيدة وذات أثر ايجابي علىٰ المجتمع والثورة والاسلام.

قد لا يوجد هناك من يشعر بالارتياح بالقدر الذي اشعر به؛لانه قلما تجد - او ربما لا تجد - ابداً من يعرف شخصية رئيس الوزراء الشهيد بالشكل الذي اعرفه انا . ولهذا السبب فاني اجد نفسي غريباً أو فريداً في مشاعر الحزن العميق علىٰ هذه الشخصية.

ولقد كنت ولثلاثين سنة تقريباً من اقرب اصدقاء ورفاق وزملاء الدكتور الشهيد في الميادين المختلفة. ولعلي كنت شريكاً وانيساً له في كافة مجالات الحياة ، واعتقد باننا لم نكن نخفي شيئاً عن بعضنا البعض، ولهذا السبب، فاني اعطي الحق لنفسي بالقول باني حقاً فرید ووحيد في معرفته و نعيه والأسىٰ عليه.

بدأت آفاق المعرفة والتعاون فيما بيننا منذ الايام الأولىٰ لمجيئه الى مدينة قم المقدسة وفي مطّلع الثلاثينيات من هذا القرن(1) وبدأت علاقتنا مع ابتداء صفوف الدراسة وحتىٰ آخر ساعات حياته في الثامن من شهریور(2) عام 1360 عندما كان

ص: 5


1- وفق التقويم الايراني الشمسي اي قبل ما يقارب الأربعين سنة.
2- الشهر السادس من السنة الايرانية.

يشغل منصب رئيس وزراء الجمهورية الاسلامية حيث كانت علاقاتنا تطوي مسيرتها التكاملية بشكل متواصل من غير ان تطرأ عليها علامات الفتور اطلاقاً. واللّه يعلم بان اهتمامي وتعلقي به كان ذا منحىِّ تكاملي طوال تلك المدّة ويعود السبب في ذلك الى ان كل حدث أو واقعة جديدة كانت تؤدي الى فتح صفحة جديدة أمامي مفعمٍة بالطراوة والجاذبية من صفحات كتاب وجوده الكبير.

لقد كان شهيدنا وبحق جامعاً لصفات الانسان المسلم الواعي والملتزمٌ، حيث كان يتصف بالايمان؛ الاخلاص؛ النجابة؛ الاصالة؛ العلم؛ البحث والتحقيق؛ الكتابة؛ رسوخ القدم؛ الادب؛ الفن؛ الجهاد ، الايثار ، العبادة؛ الشهامة والرشاد؛ المثابرة؛ الاستقامة؛الكتمان؛ المحبة؛ الخلوص؛ الصفاء؛الوفاء؛ النشاط؛ الامل؛ الولاية والعرفان وسجايا اخرىٰ كثيرة من اصول و موازين الاخلاق والآداب والعلوم الدينية والفن والعمل الانساني والاسلامي مماكانت تفوح به حياته المباركة.

لقد كنت معه شخصياً جنباً الى جنب سواء في صفوف الدراسة، اثناء المناقشات، في اعداد نشرات وكتب المذهب الشيعي، في الحياة المشتركة اثناء الدراسة في حجرات الدراسة الدينية في مدينة قم، وخلال عشرين عاماً من جهاد علماء الدين، وفي ادارة مدرسة الرفاه، وفي تأليف الكتب والكراسات الدراسية والاجتماعية والاسلامية، وفي ادارة الجلّسات الأسبوعية وإلقاء الخطب في مرحلة النضال السلبي وفي السجن، وفي تأليف كتابة البيانات والمنشورات السرية التي كانت توزّع ليلاً ونشرات «بعثت وانتقام» السرية، وفي المشاكل العائلية وفي الحياة الخاصة والسعي من اجلّ تهيئة مستلزمات الحياة المعاشية، وفي المظاهرات التي كانت تقام عندما وصل النضال الى ذروته، وفي السفرات السياسية -الاجتماعية والخاصة المتكررة، في احياء الهيئات المؤتلفة، في ادارة رابطة العلماء الثوريين، وفي ادارة الاضرابات، وتأسيس الحزب الجمهوري الاسلامي، وفي كتابة وتدوین مبادىء الحزب، وفي مجلّس قيادة الثورة، وفي مجلّس الشورىٰ الاسلامي،

ص: 6

وصفوة القول: في جميع المعضلات والمواقف والتحديات التي واجهتنا، وأشهد اللّه سبحانه وتعالىٰ بانني لم الحظ عليه اي نقطةٍ ضعف في جميع هذه المیادین او علىٰ الاقل لا أتذكر شيئاً من هذا القبيل له أهمية تذكر.

وقد بقيت الكثير من صفات وخصال شهیدنا هذا ونقاط القوة فيه خافية اليوم عن الناس وذلك لحيائه وحبه للعمل والخدمة واحترازه من الرياء والتظاهر، وقلةكلامه، وكثرة عمله، وغيرها من فضائلها الأخرىٰ.

ان هذه الخطوة يجب ان تكون نقطةٍ انطلاق وثّابة من اجلّ التعريف بشكل افضل بهذه الشخصية الفذة، واني أدرك أهمية هذه الخطوة القيّمة والخدمة الجلّيلة في نضج وترشيد المجتمع والثورة. ويجب ان تكون مؤلفاته وخطاباته ولقاءاته وأحاديثه المسجلّة في الاجتماعات الرسمية وغير الرسمية، وخدماته في الحوزات، وفي النضال، وفي مجلّس قيادة الثورة، وفي التربية والتعليم، وفي مدرسة الرفاه، وفي مؤسسة نشر الثقافة الاسلامية، وفي مجلّس الشورىٰ، وفي رئاسة الوزراء او في اي مكان آخر، المرفقة بالتحدلات والتوضيحات اللازمة، يجب ان تكون موضوعاً لسلسلة من المطبوعات والاصدارات كي تكون في المستقبل منهلاً ومصدراً للباحثين عن سبيل الحق.

ونظراً للملاحظات التي ذكرتها انفاً، فان القاريء الكريم سيعطيني الحق في التعبير عن عميق حزني وأسفي لهذا المصاب الجلّل، والافصاح عن شدة استيائي وغضبي لهذه الجريمة البشعة والجناية المروعة والتي ارتكبت علىٰ ايدي المنافقين. ولو وضعتم انفسكم مكاني لادركتم شدة وقع ما جرىٰ علي في تلك اللحظة التي سمعت فيها صوت الانفجار في مكتب رئاسة الوزراء كنت حينها مشغولاً في مكتبي في مجلّس الشورىٰ الاسلامي واتّضح بان الدكتور باهنر وشهيدنا الكبير رجائي و ... كانوا في المكتب، وكنت أرىٰ من نافذة غرفتي لهيب النيران وألسنة الدخان وأسمع اصوات الاستغاثة وأتوقع بان هؤلاء الاعزاء يحترقون في ذلك المكان، فكنت اشعر

ص: 7

بان جميع اوصالي تحترق وتذوب معهم ولم اكن في تلك اللحظة قادراً علىٰ القيام باي عمل لانقاذهم غير الدعاء لهم والتحسر والتألم عليهم، والمصيبة الأدهىٰ من ذلك، هي تلك اللحظة التي جاؤا فيها بجنازتي الشهيدين رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية الى قاعة المجلّس وفتحوا التابوتین و شاهدت جسديهما المحترقين حيث تعرفت علی جنازة الشهيد باهنر من خلال سنِّه الذهبي في مقدمة فمه فقط - والذي كان يبدو وكانه ابرزه من خلال ابتسامة ساخرة تطفح بالمرارة علىٰ المصير الاسود لاعداء الثورة و اسيادهم الجلّادين في آخر لحظات حياته - وتبادر الى ذهني بان رجائی و باهنر في تلك اللحظة، وكما حصل لي ولجميع الحاضرين قد تجسدت امامهم صورة تلك الذكرىٰ المؤلمة لانفجار مكتب الحزب الجمهوري الاسلامي والذي أودىٰ بحياة اثنين وسبعين مجاهداً من انصار الامام وخاصة الشهيد المظلوم وهم وسط السنة النيران وهول الانفجار. ولم يكن قد مضىٰ علىٰ تلك الفاجعة المؤلمة سوى شهرين.

والآن عندما اتذكر تلك اللحظات القاسياً والمرّة ولكن المفعمة بالعظمة يتبادر الى مخيلتي وكان العالم بأسره قد جمع في مطرقة عظيمة وهوت علىٰ رأسي ومع هذا فقد بقيت حياً، واني لأعجب لنفسي كيف تمكنت من ان اتمالك نفسي واعجب ايضاً لعظمة هذه الامة وهذا الامام وجمیل صفحهم عن اولئك المجرمين الذين لا أرىٰ مثوىٰ لهم سوى جهنم جزاء لماكسبت ایدیهم.

وفي الخاتمة، اريٰ من المناسب ان أعبر عن أسمىٰ درجات الشكر والاحترام لعائلة وأسرة فقيدنا المبجلّة، الذين صانوا بوقارهم وجلّدهم حيال هذه المصيبة الكبرى عزة ومكانة هذه الشخصية العظيمة التي كانت مصدر فخر للثورة ونصيراً مخلصاً للامام، وأسأله تعالىٰ ان يلهمهم الصبر والاجر والسعادة.

الصديق الذي هجره الدكتور باهنر

اكبر هاشمي رفسنجاني

ص: 8

المقدمة

ان الثامن من شهريور هي ذكرىٰ استشهاد اسوتي الايمان اللذين تمسكا بحبل الهداية الالهية الوثقىٰ ولم ينحرفا طرفة عين عن مسيرهما في طريق الحق، وجاهدا جهاداً دؤوباً في سبيل اللّه بلطافة روحٍ وفكر وقاد وعميقٍ من اجلّ تبلور وانبثاق الثورة الاسلامية وبذلا جهداً قيّماً وهمة عالية خاصةً في تربية الشباب و احیاء الفكر الاسلامي في اوساطهم وفي نهاية المطاف، احترقا في نيران احقاد المنافقين، كما تحترق الفراشات بنار الشمع، وتحررت لآلئ ارواحهم الدرّية من صدف الأجساد الترابية لتلتحق بالمعبود الحق تعالیٰ.

من المسلّم به، ان حفظ و نشر آثار و مؤلفات الرجال الذين كانوا من الاركان الاساسية للثورة الاسلامية والسواعد المقتدرة لقائدها العظيم الامام الخميني-قدس سره الشريف اضافة الى دورهم المتميز في تنوير وهداية المتعطشين الطريق الحق، يمكن ان يصبح وسيلة للحفاظ علىٰ التأريخ من تحريف المنحرفين حتىٰ يُتاح للاجيال القادمة- ومن خلال مطالعة آثار هؤلاء الأعزاء، وادراك ومعرفة معتقداتهم وافكارهم- التعرف علىٰ بواعث ودوافع هذه النهضة الالهية وماهيتها الأصيلة.

ص:9

وكان من الاجدر طبعاً القيام بهذه الخطوة في وقت قبل هذا، الا ان المشاكل والعوائق، أو ربما ضعف همتنا ايضاً كان له دخلٌ في تأخير تنفيذ هذا العمل المهم. و علىٰالرغم من قيام بعض الناشرين الاجلّاء بنشر بعض كتبه القيّمة، و الذي يعد بحد ذاته عملاً يستحق الشكر والتقدير، الا ان هذا العمل لم يُعط لحد الآن الوقت الكافي والدقة اللازمة والجهد المركّز لانجازه بالشكل الأمثل. و لا يفوتنا ان نذكر هنا بان عملية جمع اغلب آثار الشهيد، بما في ذلك الاشرطة الصوتية والمسودات المكتوبة بخطه، قد بدأت في السنوات الأولىٰبعد استشهاده، ومن هنا فاننا نطلب من كافة الذين يحتفظون بأشرطة او صور او ذكريات او اي شيء آخر من آثار شهيدنا الغالي ان يراسلونا علىٰ هذا المكتب و علىٰ عنوان مكتب نشر الثقافة الاسلامية لكي يرسلوا تلك النتاجات في حالة عدم توفّرها في آرشيف المكتب.

ان كتاب الانسان وبناء الذات من وجهة نظر الاسلام هو الكتاب الأول الذي قام مكتب تدوین و نشر آثار الشهيد باهنر باعداده ونشره . ويشتمل هذا الكتاب علىٰ مجموعتين من مقالات الشهيد باهنر؛ الأولىٰ: عبارة عن بحث موضوع «بناء الذات من وجهة نظر القرآن و نهج البلاغة» والذي القي علىٰ مدىٰ ثلاث جلّسات في شهر رمضان المبارك عام 1357، وتم تنظيمها في هذا الكتاب في ثلاثة مواضيع وتحت العناوين التالية : «معرفة النفس الخطوة الأولىٰ في بناء الذات»، «النفس في القرآن» و«بناء الذات من وجهة نظر نهج البلاغة»، والثانية عبارة عن بحث موضوع «بناء الذات وابعاده في الاسلام» والذي القي علىٰ مدىٰ اربع جلّسات في نقابة الأطباء الاسلامية، وتم تنظيمها وطرحها في هذا الكتاب تحت اربعة عناوين هي «معرفة الانسان في الاسلام»،«اتباع الهوىٰٰ وبناء الذات»، «المعايير الاخلاقية» و«المعايير الاخلاقية في الروابط الاجتماعية».

ص: 10

وفي ما يتعلق بتنظيم بحوث هذا الكتاب نُلفت انتباه القاريء الكريم الى الملاحظات التالية :

1- لقد بذلنا جهوداً حثيثة في تنظيم وعرض مواضيع الكتاب مع مراعاة ادخال الحدّ الأدنىٰ من التغييرات علىٰ المتن الأصلي للمقالات وفي المواضيع النادرة، وحسب الاقتضاء لغرض اتمام معنىٰ جملةٍ ناقصة او في حدود اضافة كلمة او عدة كلمات فقط.

2- لقد سعينا وبقدر الامكان لان نجمع كافة الأشرطة الخاصة والمتعلقة بموضوع الكتاب حتىٰنضع بحثاً متكاملاً نسبياً لشهيدنا الكبير في متناول ايدي قرائنا الاعزاء، لذا نسترعي انتباهكم اذا ما لاحظتم التكرار المحدود أحياناً في بعض مباحث الكتاب فذلك من اجلّ اداء واجب الأمانة ليس الا.

3- الهوامش المتعلقة بتعريف الكتب، وكذلك تلك التي تم تمييزها بحرف «د» هي من تنظيم هذا المكتب وجميعها تتعلق بالشهید باهنر، حيث تم تفكیكها و تجزئتها حسب الضرورة.

4 - لو كانت هذه البحوث قد طبعت في حياة شهيدنا الكريم لكانت بهيئةٍ افضل طبعاً؛ إذن فنقاط القوّة في هذا الكتاب لمؤلفه الرفيع القدر، ونقاط الضعف مِنّا.

ونأمل من أصحاب الفضيلة وذوي العلاقة ان يعينونا بتوجيهاتهم وارشاداتهم القيّمة لتلافي نقاط الضعف هذه.

وفي الختام نتقدم بالشكر والتقدير الفائقين لكافة الذين عاضدونا وساعدونا باخلاصهم وجهدهم في ابراز هذا الأثر علىٰ ما هو عليه، ونسأله تعالىٰ ان يمد الينا يد العون والنصرة انه سميع مجيب.

مكتب تدوين ونشر آثار الشهيد باهنر

ص: 11

ص: 12

معرفة النفس: هي الخطوة الأولىٰ في بناء الذات

يدور بحثنا حول بناء الذات من وجهة نظر القرآن الكريم ونهج البلاغة. لا بدلنا قبل ان نخطو في مسير بناء الذات ان نعرف انفسناكي نتعرف علىٰ «انا» او النفس المراد بناؤها. ولذا فعندما نتناول الأبحاث التربوية، التي تعنىٰ بشكل مباشر بتربية القابليات الانسانية، يجب ان نضع نصب أعيننا هذا البحث الفلسفي الخاص المتعلّق بمعرفة الانسان من وجهة نظر مدرسة فكرية معنيةٍ؛ وعندئذٍ يتبلور المعنىٰ المراد من«التربية» في تلك المدرسة.

وسوف لا نتوسع في بحثنا حول الانسان لكن سنشير بشكل مختصر الى موضوع معرفة الانسان من وجهة نظر الاسلام لكي نهيء الارضية لتناول موضوع بناء الذات.

ص: 13

الانسان كائن ذو بعدين

تتلخص احدىٰ الدراسات التي تتناول معرفة الانسان في الاسلام هي انها تعتبر الانسان عباره عن مزيج مادي وملكوتي او بتعبير آخر فهو مادي والهي. ويمكن الاستفاضة حول هذا الموضوع من خلال بعض الايات القرآنية التي تتحدث عن الخلقة الماديّة والطبيعية للانسان حيث تتحدث هذه الايات عن «التراب» و«الصلصال» اي الطين المتيبس (1) و«حمأ مسنون» اي الطين المتعفن و«طين لازب» اي له خاصية الالتصاق، وكذلك التي تبين تدرج النموّ الطبيعي ومراحل تكامل جنین الانسان في رحم الام من قبيل النطفة والعلقة والمضغة وتكوين العظام ونمو اللحم. ويستفاد من هذه المجموعة من الايات تبين الجانب الترابي للانسان وعلىٰاية حال، فهو كائنٌ مادي منبثقٌ من اعماق الطبيعة وينمو في عالم الطبيعة. وكذا الحال بالنسبة للايات التي تتناول مسألة الاكل، الشرب، الرزق والمعيشة والتعبيرات التي من هذا القبيل، أو الايات التي تبين النعم الماديّة من قبيل الاعناب، الفواكه، النخل، الزيتون وانواع المأكولات والملبوسات التي يستخدمها الانسان، فهي ايضاً تنظر الى الانسان ككائن مادي يحتاج طبيعياً الى الغذاء او مثلاً يحتاج الاصواف، الاوبار، شعر وجلّود الانعام (2) ( الصوف، الريش الناعم شعر وجلّود الحيوانات). اي ما تستخدمونه لاعداد وتهيئة الملابس او تعبير المسكن الذي قد استعمل في القرآن في مورد الانسان ايضاً. وفي المجموع فان هذه الايات تبين الجانب المادّي للانسان منذ بداية وجوده و وصولاً الى نموّه واستمراره في إدامة حياته.

ص: 14


1- إشارة الى التراب المفخور بحيث لو ضرب لاسمع صوتاً.
2- اشارة الى الآية 80 من سورة النحل.

وهناك ايات اخرىٰ في القرآن الكريم تتناول البعدُ الروحي والمعنوي والالهي للانسان ؛ مثل الايات التي تتناول نفخة الروح الالهية{وَ نَفَخْتُ فيهِ مِنْ رُوحي...}(1)؛ او الايات التي بعد تناولها السير التكاملي المادّي من النطفة والعلقة والمضغة تصل الى قوله:{...ثُمَ انشَاناهُ خَلْقاً آخَر...}(2) ؛أو آیات التي توضح مسألة تعليم الانسان، مثل{عَلَّمَ الانسان ما لَمْ يَعْلَم} او {وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ...}(3)؛ وكذلك، الايات التي تطرح موضوع إئتمان الانسان وان الانسان قبل الأمانة وتحمَّلها:

{انا عَرَضْنَا الْأمانة علىٰ السَّماواتِ وَ الْارض وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ ان يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الانسان ...}(4).

أو الايات التي تبين مسألة النفس، والتي بحد ذاتها تعتبر موضوعاً شيقاً ومنفعاً بالجاذبية في القرآن الكريم؛ حيث ان النفس تكون أحياناً اساس

العجز والتبعية والتعلق بالمادة في الانسان، وأحياناً تمثل الجوانب الملكوتية المتعالية؛ مثل:

{وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها}(5).

اي انه تعالىٰ الهم الخير والشر، وطريق الكمال وطريق السقوط لهذه النفس، اي ان القرآن الكريم أخذ بنظر الاعتبار نوعاً من الالهام والبصيراً النفسانية والفطنة الذاتية، ونوعاً من وضوح الرؤية والتسديد من داخل وباطن الانسان.

ص: 15


1- الحجر: 29 وص: 72.
2- المؤمنون: 14.
3- البقرة: 31.
4- الأحزاب: 72.
5- الشمس: 7 و 8.

وكذا الحال ، بالنسبة للايات التي تتناول مسألة الارادة والمشيئة في الانسان :{...فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُر...}.

حيث ترتكز هذه المسألة علىٰ ارادة الانسان. فعندما أكون قادراً علىٰ القيام بعملٍ ما أو تركه، فان ذلك يُعَدَّ نفحةً الهية وتجلّياً ملكوتياً، ان هذه المشيئة، وهذه الارادة الحرة عبارة عن نوعٍ من التجلّي الالهي للانسان.

أو الايات الأولىٰ من سورة (الدهر) او (الانسان) التي تعكس صوراً مختلفة لتعريف الانسان، حيث يقول سبحانه وتعالىٰ : {انا خَلَقْنَا الانسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَليهِ فَجَعَلْناهُ سَميعاً بَصيراً}(1)؛ حيث يمكن ان تفسر هذه النطفة علىٰ انها مركبة من أحد المركبات الطبيعية والعناصر الماديّة والترابية، المستخدمة في تكمیل الانسان، او قد يراد بها أحياناً تلك الجينات المختلفة التي تعد كل واحدةٍ منها اساساً لأحد انواع الخصال أو الحالات او الكيفيات في الانسان. ولكن التفسير الاقویٰ الذي قد يتبادر الى الذهن ، هو انا خلقنا الانسان من خليطٍ من العناصر الماديّة والملكوتية ومن الأحاسيس والغرائز والمغريات والدوافع الترابية والالهية.. انساناً محباً للعلم وطالباً للكمال والحق، وفي نفس الوقت ، عبارة عن موجود يسعىٰ لكسب المنفعة وذي غرائز جنسية ورغبات ماديّة طبيعية، مثل الرغبة للغذاء والمنصب والمسكن وغيرها.

ثم يقول سبحانه و تعالىٰ : «نبتليه». فلو ان الانسان ذو دافع واحد و مسیر واحد وقناة واحدة فان ذلك لا يستدعي تعريضه للاختبار؛ حيث سينحدر و يتحرك تلقائياً في تلك القناة. ولكن الانسان وبسبب حالة الامتزاج التي تجعله دائماً رهن الرغبات المتعددة والمغريات المتضادّة والمتناقضة أوجدت له

ص: 16


1- الانسان: 2.

وضعاً خاصاً جعله عرضة للاختبار، لكي يدرك اياً من هذه العوامل يجب ان يحاربها، وأمام اي منها يجب ان يستسلم؛ كيف يحارب التأثيرات الشيطانية، ويتمكن من وضع نفسه في معرض عوامل الجذب الملكوتية والالهية. ولذلك فان كلمة «نبتليه» جاءت بعد عبارة «من نطفةٍ امشاج»، ويقول سبحانه وتعالىٰ في نهاية الآية: { فَجَعَلناهُ سميعاً بصيراً}. هذا الانسان يمتلك الآذان والعيون، فهو يسمع ويریٰ ويدرك ويفهم وبناء علىٰ ذلك توجد فيه الارضية والاستعداد، للمرحلة التالية وهي مرحلة {انا هَدَيْناهُ السَّبيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُورا}(1)، فهو يمتلك البصر، والأذن، وعوامل الجذب والرغبات المتعددة وفي نفس الوقت، فقد نشرنا صحيفة هدایتنا في خضم هذه الرغبات الباطنية المتضادّة، وهديناه السبيل. ان كلمة «إمّا» في هذه الآية لها أهمية خاصة، فهي تعني ان الانسان بإمكانه ان يكون شاكراً أو ان يظهر الكفران، بامكانه ان يسير في طريق التكامل أو السير في طريق السقوط ، ان هذه الحالة التي تمكن الانسان ان يختار واحدة من حالتين، وهذه الارادة الحرة، والقدرة علىٰ اتخاذ القرار هي من أعظم النفحات الملكوتية والالهية، ومن أعلىٰدرجات مظاهر الانسانية في الانسان، وقد تكون أفضل معیارٍ في تحمّل الأمانة الالهية.

إذا قمنا بتحدل هذه الأمانة، لوجدنا ان قدرة التشخيص وقدرة الارادة واتخاذ القرار، تنتجان معاً «المسؤولية»، وهي الأمانة الالهية بعينها، اي ان الانسان يستطيع بل يجب ان يكون مسؤولاً. لقد اردنا من خلال ما قدمناه، الاشارة الى بعض الخصائص النموذجية والجوانب المضيئة التي يتناولها القرآن الكريم عن الانسان، تمهيداً للبحث التالي.

ص: 17


1- الانسان: 3.

وبناء علىٰ ذلك، فان الانسان من وجهة نظر القرآن الكريم، عبارة عن مزيج من المادة والمعنىٰٰ، مزيج من التراب والخصائص الالهية ، من الخصال الربانيّة والروح المتعالية والالهية، ومن نفسٍ ماديّة شيطانية حيوانية متدنية.اذ تلاحظون بان الانسان موضوع في هاتين الدائرتين، وهو أمر لا بد منه؛لان الدوافع الماديّة للانسان، ومجموعة مكوناته من الأوردة والعروق والجلّد والخلايا وطبيعة الحاجات الطبيعية، تقتضي ان يكون للانسان تعلقٌ واندفاعٌ للحصول علىٰ الغذاء والمسكن والملبس والزوجة؛ لكي تتولد فيه نوع من القدرة والحاكمية والمقام؛ لان النتيجة هي ان لدينا بدناً مادياً يجب ان ينمو ونحافظ علىٰ سلامته، وان يقوم بتوليد المثل ويشيع النسل، وبناء علىٰ ذلك، لا بد من وجود الدوافع والغرائز في باطن الانسان لتحمله علىٰ المحافظة علىٰ بدنه ويعمل علىٰ انمائه ، وتوجهه نحو تلبية احتياجاته الطبيعية.

أما الدوافع والموجهات الانسانية والملكوتية التي ينتج عنها حب العلم وحب الحق وحب الخير والسعي نحو الكمال، والتي تؤدي الى ظهور صفات الصفاء والاخلاص والمعنويات وقناعة الطبع والترقي والتسامي الانساني وأمثالها فكلها عوامل تميز الانسان -وهو في هذا الخضم المادّي والترابي- مسحةّ من التجلّىٰ الملكوتي والالهي.

العلاقة بين البعدين الالهي والمادّي للانسان

اننا لا نصر علىٰ اعتبار هذين البعدين، في حالة تضادّ حاد، لانه قد يصار الى التعبير علىٰان هذين البعدين احدهما مقابل الاخر وان كلاً منهما يعمل علىٰ سحق الآخر، ولو تمكنا من الانتصار علىٰالجنبة الماية والغرائز وعملنا علىٰ

ص: 18

انهاء دورها وسحقها واخراجها من الميدان تماماً، عندها يمكن ان نعتبر انفسنا موفقین ولكن قد لا يكون ذلك صحيحاً، فلو كنا نتصور انه يجب ان تخرج الغرائز والدوافع الماديّة من بواطننا وان ندعها جانباً، لما استلزم ايداعها فينا. ولو ادعینا بانه يجب التنازل عن حاجتنا للماكل والمسكن والملبس والضرورات الأخرىٰ، لما استلزم ايداعها فينا ايضاً. اذن نستنتج ان ایداع هذه الضرورات في الانسان دليل علىٰ لزومها ووجوب وجودها فيه.ومن هذا المنطلق نريد ان نبدأ بحثنا حول بناء الذات.

ان لدينا انساناً يمتلك هذه الأبعاد المختلفة، التي ان لم نقل عنها بانها في مواجهة ساخنة، منها علىٰ اي حال اتجاها مختلف عن الآخر، وهذا طبعاً يؤدي الی ایجاد نوع من المواجهة بيّنهما، وهي لازمة، ويجب ان يكون كذلك، لكي یُرشد الانسان ويُهدي في هذين المسارين. اي كما قلنا انفاً،لو لم تكن مسألة التعلق والحاجة للمال والثروة والغذاء وامثالها موجوداً في الانسان، لما عُمِّرتْ ارض، ولا استُخرجَ معدنٌ، ولا طوِّرَتْ صناعةٌ، ولَمٰا اُعدَّتْ متطلبات العيش، ولَما توفَّر الرفاه الاجتماعي لأحد، ولما بَقي هذا النسلُ ونَما اساساً. وعلىٰ سبيل المثال، نأخذ مسألة حب الجاه للبرهنة علىٰ ذلك: لو لم يكن حب الجاه موجوداً في الانسان، ولم يَسْعَ الناس لحفظ وجاهتهم وكرامتهم وشخصيتهم فماذا ستكون النتيجة؟ من الطبيعي ان يركن نوع الانسان الى اي شكل من اشكال الانكسار والانحطاط، وبالتالي سحق شخصيته وتحطيمها. ونفس مسألة السعي للحصول علىٰ الجاه والنفوذ هي بحد ذاتها، وتعدُّ سبباً يبعث علىٰ الحركة وبذل الجهد. وبناء علىٰ ما تقدم، فان وجود مثل هذه الدوافع يعتبر امراً لازماً وضرورياً.

ص: 19

الحركة التكاملية للانسان نحو اللّه

أما الدوافع المعنوية والملكوتية، والتي تعتبر الهدف الأساسي المراد من وراء خلق الانسان فهي التي يجب ان يعمل علىٰ انمائها وتكاملها والسير باتجاهها الى ما لا نهاية وحتىٰ الوصول الى اللّه ،حيث ان اللّه تعالىٰ هو ايضاً غير متناه - وبناء علىٰ ذلك، فان حركتنا التكاملية في الابعاد المعنوية لا نهاية لها-نجد مثلاًان حب العلم ليست له حدود معينة فينا، ولو كان له حد معين فاننا سنتوقف عند نقطةٍ معينة في طلبه. لاي حد يجب ان نُحبَّ الفضيلة؟ولاي حد يجب ان نحبَّ الكمال؟الشهامة وسمو الطباع والكرامة والتضحيٰة وحب الانسان والحق لاي حدٍ يجب ان نحبها ونسعیٰ لها؟ لا حدود لحب هذه الاشياء. والطريق الى هذه الخصال دائماً سالكة ومفتوحة للحركة باتجاهها، وليست لها نهاية معينة ولكي لا تتوقف هذه الحركة التكاملية وتكون غير قابلة للانتهاء، يجب ان تكون وجهة هذه التحولات وهذا التكامل نحو اللّه سبحانه وتعالىٰ، الذي لا منتهىٰ له ايضاً ان هذا السير الى اللّه سبحانه وتعالىٰ حالة مستمرة بالنسبة للانسان، لها صفة الديمومة الأزلية دونما توقف.

وعليه، نجمل القول، بانه ومن خلال هذه المواجهة بين الجوانب الماديّة والمعنوية، والتي بحد ذاتها تعد ميداناً للابتلاء والاختبار، وهي نفس المقصود من «نبتليه»، نستنتج وجوب وحتمية وجود هذين البعدين في الانسان؛ لاننا نجد مثلاً ان العضلات تنمو وتتقویٰ من خلال لعبة المصارعة؛ ومن خلال الصراع مع الجاذبية الارضية، تنمو عضلات متسلق الجبال، حيث تستعيد

ص: 20

الرئتان نشاطهما وتتغذىٰ الخلايا بشكل جيد، وبالنتيجة يتقوىٰ الشخص وينشط. وتحقق هذه القوة وهذا النشاط من خلال سلسلة الحركة والصراع هذه. أما اذا القيتم بانفسكم في مجرىٰ نهرٍ هائج طافحٍ بالفيضان، دون ان يكون لكم اي تمرين أو حركة؛ وبدون ترويض «للنفس» فان «نفسكم» في هذه الحالة لن تزدهر وتتفتح ولن تثمر هذه النفس ولا تؤتي أُكلها. ولذلك فان مثل هذا الميدان وهذا المحيط ضروري جداً للمواجهة والصراع.

تأثير الرؤىٰ المختلفة حول النفس علىٰ تحرك البشرية

وبناءً علىٰ ما تقدم، فان الخطوة الأولىٰ التي يجب اتخاذها في طريق بناءالذات هي معرفة النفس. وبعد معرفة النفس تأتي مسألة الصراع ضد الآفات والموانع التي تقف حائلاً أمام حركتنا ونموِّنا وازدهارنا. في البداية يجب ان نعلم باننا بشر؛ نعلم بان النفخةِ الالهية قد نُفِخَ فينا، ونعلم باننا قد أُوتينا النفس اللّوامة، ويجب علينا ان نكتشف النفس المطمئنة الراضية المرضية. ونعلم باننا قد أُوتينا المعرفة والبصيراً، حتىٰ نعلم وجهتنا وهدفنا الى اين، ولاي شيء خلقنا. ان امتلاكنا لنظرة صحيحة متكاملة حول الانسان، هي نقطةٍ الانطلاق في هذه الحركة.

لو نظرنا الى الانسان علىٰ انه عبارة عن ذلك الموجود المادّي الذي يجب ان يجدّ ويجتهد كي يؤمّن الرفاه المادّي لنفسه، أو ان يمتلك مثلاً مقاماً و منصباً ما فان نقطة انطلاق ذلك الانسان في هذه الحالة ستكون قطعاً ذات شكل آخر. أما لو كانت نظرتنا للانسان ذات منطلقات صحيحة، وعلمنا بان الانسان في الوقت الذي هو بحاجة الى المسكن والملبس والعمل والمال والمعيشة (حيث ان

ص: 21

القرآن الكريم قد اشار الى تلك المتطلبات ايضاً ) بانه ايضاً «خليفة اللّه»(1) ومظهر اللّه في روحه، وعندما يعلم بانه سيحيا بعد هذه الحياة الماديّة المحدودة، حياةً اخروية واسعة ومتعالية، وحياة خالدٌةً هي حاصل عمله في هذه الحياة، وحاصل سعيه في دنياه.

.. وعندما يكتشف بان نفسه هي مصدر الارادة والقدرة علىٰ التصميم والمشيّة، وان ارادته هي التي تقوده لبناء وتغيير نفسه ومجتمعه ومحيطه، ويعلم بانه يمتلك مثل هذا الشرف والغرة وبانه يمثل منبع ومصدر هذه الطاقة، فان مثل هذا الانسان سیتكامل حتماً. عندما يتضح له {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}(2) بان العمل وضّاء ومضيء وحي، وله مردود وروح، وان العمل يولِّدُ دائماً شيئاً من نوعه وجنسه، ويوجد انعكاساً لنفسه بنفسه، بحيث ان الانسان عندما يفتح عينيه علىٰ العالم الآخر، يرىٰ اعمال الخير أمامه، واعمال الشر ايضاً أمامه ، وقد طوقت عنقه ولا تنفصل عنه، وهو غارقٌ فيها ومعها { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ... }(3). وعليه فان هذه الايات وضَّحَت للانسان بان عمله وفعله له رد فعل مناسب و مثمر. وبان الانسان خالدٌ وبصير. ان من تكون لديه مثل هذه النظرة الواسعة والرؤية الواضحة عن الانسان، يرىٰ نفسه فجأةً بانه عظيم وشريف، وعزيز وفي نفس الوقت مسؤول وملزم؛ ملتزمٌ أمام كل كلمةٍ تخرج من لسانه، وكل خطوةٍ يخطوها. وكل لقمةٍ طعامٍ يتناولها، وكل قرارٍ يتَّخذه

ص: 22


1- اشارة الى الآية 30 من سورة البقرة.
2- سورة الزلزال : 7و8.
3- آل عمران: 30.

يشعر بثقل المسؤولية الملقاة علىٰ عاتقهِ الضعيف. ولكن اسمحوا لي ان أقول بثقلها علىٰ عاتقه القوي المقتدر.

مثل هذا الانسان يتغير بشكل كامل، ويصمم علىٰ اتخاذ القرار بشكل آخر تماماً، وتكون مواقفه وطريقةُ تعاملهِ في مواجهة القضايا والمشكلات بصورةٍ أخرىٰ؛ هذه العيون اكثر يقظةٌ امام المنزلقات ، وهذه الروح اكثر ثباتاً وتصميماً لكي ينهض بنفسه نحو الكمال.

تهذیب و تزيين النفس

{ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها}(1). ان هذا الانسان الذي أعطيناه هذه النفس البصيراً والعليمة، لو طهَّر نفسه وهذّبها وزينها، فانه سوف ينمو ويرقيٰ، اما لو لوَّنها، فانه سوف ينحدر ويسقط. ان البذور التي يغطيها الفلّاح تحت التربة لو كانت حيّة وتمتلك الطاقة اللازمة، فانها ستبذل جهوداً حثيثة ومضنية، كي تتغلب علىٰ ثقل التراب، وتخرج من تحت وطأته، بل تفتت الصخور وتشققها وتخرقها خارجة الى النور والحرية والنمو، وعندها يُقال ان هذا البذر قد «أفلح» ونجح وتحرر رافعاً هامته بكل شموخ، وفي نفس الوقت فان جذوره لا تزال في التراب وتتغذىٰ منه.

نريد ان نقول بان علاقتنا بالمادّيات لا تنقطع، فهذه البذرة تتغذىٰ ولكنها تنمو وتزداد ارتفاعاً، بعكس البذرة الضعيفة والتي سلبت منها خاصية الحياة والحيوية. عندما ندفنها تحت التربة فانها تتعفن وتتلف، او بعكس تلك

ص: 23


1- الشمس: 9 و 10.

السويقة الفتية الخارجة لتوها من تحت التربة، لو قلعنا شتلتها، وقطعنا ارتباطها بالطبيعة فانها سرعان ما تتيبس.

لو تمكنا ان نجعل من نفس محيطنا المادّي والاجتماعي، ومن اعمالنا وجهودنا ودراستنا وتغذيتنا وزواجنا ونفس هذه الروابط الماديّة، منصة الانطلاقتنا وحركتنا نحو المراحل السامية والذروة والتكامل، فاننا سوف نصل في هذه الحالة الى الفلّاح. {قد أفلح من زگیها}: اننا نبتلى بالآفات دائماً. ومثال ذلك بسيطٌ جداً: ان الحديقة التي بين يديك، والازهار النامية فيها، لولم تهتم بها باستمرار، ولم تقدم علىٰ ازالة النباتات المتطفلة الضارّة وإبادة الأفات المهلكة، فان هذه الأزهار سوف تتوقف عن النمو ولا تحمل البراعم الجديدة. اما لو أقدمت بشكل منتظم علىٰ مكافحة الآفات والنباتات المتطفلة الضارة فانها سوف تنمو وتزهر براعمها وترتفع عالياً { أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماء تُؤْتي أُكُلَها كُلَّ حينٍ بِإِذْنِ رَبِّها... }(1).

{ وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها } : أما مَن لوَّثَ ذاته وربط نفسه بالاهواء، وحبّ الجاه، او المنافع الدنيئة الفانية، وقيدها بالاحقاد والحسد، وبالمنافسة غير الشريفة علىٰ السلطة والاستبداد، فانه يتسبب انذاك في اذلال وتدني تلك النفس الشامخة والمثمرة.

رمضان شهر بناء الذات

واما الشيء الذي اُريد أن أُبيّنه بعنوان الخاتمة في نهاية هذا البحث بخصوص شهر رمضان الذي هو بحق شهرٌ مليء بالبركات، وأقول انهضوا

ص: 24


1- ابراهیم: 24 و 25.

لاستقباله. لقد كنا نشعر دائماً باننا عندما ننشغل في النشاطات والاعمال، فان تلك الفعاليات تُحرِم الانسان من التمتع بحالات الصفاء والالطاف المعنوية والاتصالات الروحية، وتؤدي بالانسان الى الاحساس أحياناً بانه قد أصبح مظلماً وصغيراً. ان شهر رمضان فرصة طيبة جداً. ولا أجد صعوبةً بان نتوجه بقلوبنا الى اللّه سبحانه وتعالىٰ ولو لنصفِ ساعةٍ من أوقات السحر المباركة، وان نستانس حقاً بذكر اللّه ونتضرع اليه بالدعاء والتوسل.

لقد كان الاعتقاد السابق، ينحصر في ان الدين عبارة عن أعمال التوسل والعبادة ليس الا؛ أما الأعمال الاخرىٰ من قبيل الانشطة والفعاليات الاجتماعية والعمران وتقديم الخدمات والحركة والمجاهدة وغيرها، فليست من الدين بشيء، ولكن علينا ان لا نسقط في نفس الخطأ، بان نحصر فهمنا للدين في هذه الانشطة والاعمال والفعاليات فقط. صحيح ان ارواحنا وسرائرنا تهذب وتصقل من خلال هذه الفعاليات الاجتماعية الاسلامية البنّاءة، ولكن يجب ان لا نغفل عن لحظات الاستئناس مع اللّه سبحانه وتعالىٰ . أحياناً يعيش الانسان حالة معينة فيطيل سجوده ويتحدث بكل اخلاص مع اللّه سبحانه وتعالىٰ ويستانس معه، في هذه الحالة، يشعر بنورانية اكبر ويصل الى درجات أعلىٰ في لطافة، وشفافية الروح. وعلىٰ الرغم من اننا في سني الشباب الأولىٰ كنا نعيش بعض الحالات المعنوية، الا اننا ومع الأسف، عندما يتقدم بنا العمر، اخذت هذه الحالة بالتغير، وظهرت علينا حالة اخرىٰ مغايرة، وكان احدنا قد انقطع اتصاله وارتباطه، مكتفياً بأداء صلاةٍ جامدة خالية من اية روح في آخر الوقت، وكذلك في شهر رمضان فاننا ننظم وقتنا بالشكل الذي نستيقظ فيه قبل نصف ساعة أو أقل من وقت الأذان، بحيث نتمكن ان نتناول طعام السحر ثم نصلي مباشرة ونعود للنوم ثانيةً. يجب ان لا تتحول المسألة الى هذه الحالة، بل علينا ان نهتمَّ قليلاً بانفسنا

ص: 25

ونستأنس مع اللّه سبحانه وتعالىٰ . وان نهتم قليلاً بمحاسبة النفس ومراقبتها مراقبة ذاتية، وان نغوص للحظاتٍ في أعماقنا ونفكر في اعمالنا ونوزنها ونحاسب انفسنا عما قدمناه والی این نحن متجهون. هذه التوقفات والتأملات تعطينا المزيد من اللطافة والشفافية والطاقة والمزيد من النشاط وتصبح منبعاً ومصدراً للطاقة التي تجعل الانسان لا يشعر بالتعب والملل، وتمكنه من بذل ما يشاء من الجهد والتحرك فيما بعد.

ذكر اللّه علىٰ كل حال

انه لمن دواعي العجب بان كان الدعاء والتوسل والاستئناس بذكر اللّه موجوداً حتىٰ في ميادين القتال وفي خضم لهيب المعركة: { وَ كَاينْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ في سَبيلِ اللَّهِ وَ ما ضَعُفُوا وَ مَا اسْتَكانوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرين وَ ما كان قَوْلَهُمْ إِلاَّ ان قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ اسرافَنا في أَمْرِنا وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ انصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرين}(1).

اي ان الايدي كانت ترتفع للدعاء في ميادين الحرب ايضاً بالقول: اللّهم، انا توجهنا إليك وقمنا في سبيلك، فلا تحرمنا رحمتك وعنايتك ، وفيضك، ولطفك، و لا تكلنا الى انفسنا؛ وقد رصَّ الاعداء صفوفهم لمواجهتنا. واعددت سيفي وخرجت العيون من الاحداق وتظاهر الاعداء علينا، ويبغون الهجوم علينا. وترتفع فجأةً هذه المناجات اللطيفة من الرسول الاكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويمنحهم هذا الدعاء الروحية والمعنوية والطاقة، والتحرك والشوق. فعليكم ان لاتنسَوا

ص: 26


1- آل عمران : 146 و 147.

ذلك، اي ان يمتزج عملنا مع هذه الحالات المعنوية والروحية اللطيفة لكي نشعر بحالة { وَ الى اللَّهِ الْمَصيرُ }(1).

ونعلم باننا ذاهبون للقاء اللّه تبارك وتعالىٰ. وبناءً علىٰ ذلك، علينا ان نسرع الاستقبال هذا الشهر، لانهذا الشهر مخصص لتربية وبناء أرواحنا، واكسابها القدرة والطاقة في طريق اداء الواجب والخدمات الاسلامية والانسانية الفعالة.

ص: 27


1- النور:42، « وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْارض وَ الى اللَّهِ الْمَصيرُ».

خلاصة البحث السابق :

لقد كان البحث يدور حول بناء الذات واجمالاً تحدثنا بشكل مختصر حول معرفة الانسان، وتوصلنا الى هذه النتيجة وهي ان لدىٰ الانسان دوافع متعددة ، ويمتلك الارادة التي يفترض بواسطتها تنظيم وتعديل هذه الدوافع والسيطرة عليها. ثم اشرنا بعد ذلك الى ان مسألة التضاد ليست بتلك الصورة التي تجعل هذه الدوافع في حالة المواجهة بشكل مستمر، ولكن اتجاه هذه الدوافع يختلف عن بعضها البعض. مثلاً الدوافع النفعية أو الشهوية وعبادة المقام لها تجاه واحد، وطلب الكمال والفضيلة والخير لها اتجاه آخر. وان دور ارادتنا بعد تشخيصنا هو هذا بان نتمكن من توجيه هذه الدوافع بشكل صحيح، ونضعها في المسار الصحيح، لا ان نعمل علىٰ تحطيمها وإخراجها من الساحة ؛ بل ان الحدّ الاقصىٰ لواجبنا هو ان نعرف حدود حاجتنا لكل دافع منها، وما هو المدىٰ الذي يجب ان نعطيه لهذا الدافع بخصوص بقية الدوافع والميول والموجِّهات وما هو تأثيره وكم يجب ان نعطيه من الأهمية. مثلاً كيف نستجيب لمشاعر الحاجةِ الى الغذاء وكيف ننظم هذه المشاعر مع مشاعرنا بحب العلم وتعلقنا به؟ كما يجب علينا ان نعطي من الأهمية لهذا وكم تعطى للآخر؟

ص: 28

النفس في القرآن

لكي يتسنّىٰ لنا متابعة هذا البحث من وجهة نظر القرآن الكريم بشكل أدق، سنورد عدداً من الايات القرآنية الشريفة المتعلقة بالنفس، ونتناولها بقدر من البحث والتحیل. في هذه الايات المختلفة تنعكس لنا صور وأوجه متعددة للنفس: فأحياناً تعكس لنا تلك الصورة المتنازلة والمتجهة نحو المادة وطباعها، و أحياناً تعكس لنا صورتها السامية والمتكاملة والمتعالية؛ وأحياناً اخرىٰ صورتها المصممة والموجهة. اي ان هذه الذات والنفس مبيِّنة في القرآن الكريم باشكال واوجه متعددة ؛ ولذلك فان الانسان ليس بوسعه ان ينسىٰ او يغفل عن اي منها. ولكن يتوجب علينا ان نعرف هذه الاوجه والحصول عليها والسيطرة عليها وكبح جماحها وتوجيهها.

ص: 29

التجلّي الشيطاني للنفس في القرآن

• الآية الاولیٰ:

{وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهوىٰ فَان الجنّة هِيَ الْمَأْوىٰ}(1).

تتناول هذه الآية وبشكل دقيق تلك الفكرة المؤدّية الى السقوط وتلك الفكرة السالبة والدافع الشهواني الحيواني المتدني للانسان بمصطلح هویٰ النفس. فمن خاف اللّه كبح جماح هوىٰ النفس، ومن نهیٰ هوىٰ النفس فانه سيدخل الجنّة. اذن اصبح معلوماً بان مسألة الجنّة والخوف من اللّه تتنافىٰ مع هوىٰ النفس. النفس ذات التفكير الحيواني، والشهواني المؤدّي الى السقوط والأسر، والتي تبعد الانسان عن اللّه وتحرمه الجنّة.

• الآية الثانية

{... وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} (2)

في هذه الآية وُضع شح النفس وحرصها، في مقابل الفلّاح والفوز، اي ان الانسان لو وقع في أسر حرص النفس فانه سيفقد الفلّاح والحرية وسلوك طريق التكامل، بنفس تعبير الفلّاح الذي استخدمناه في بحثنا السابق من انه يعني نوعاً من الحرية والانعتاق من أسر القيود. يفهم من ذلك بان شح النفس هو الذي يبعث علىٰ الذل والعبودية والأسر. اذن، فان النفس في هذه الآية تجلّت بصورتها الشيطانية وبصورتها الترابية.

ص: 30


1- النازعات: 40و41.
2- الحشر : 9.

• الآية الثالثة:

{وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسي ان النَّفْسَ لأمّارةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي ان رَبِّي غَفُورٌ رَحيمٌ}(1).

انها قصة يوسف (عليه السلام) الذي واجهته اختبارات مختلفة، وتمكن وبالاعتماد علىٰ قدرته الروحية والايمان باللّه سبحانه وتعالىٰ من التغلب علىٰ شهوات النفس، وطبقاً لهذه الآية الشريفة فانیوسف(عليه السلام) يقول انا لا أُبریُّ نفسي؛ ولن أتعهد وأجزم باني سوف لن انحرف ابدً. كلا، لان خاصية النفس هكذا (لأمّارةٌ بالسوء) فانها تقود الانسان وتأمره بارتكاب السوء. لاحظوا: فان النفس اُشيرَ لها هنا بانها النفس الامّارة، اي النفس الي تدفع الانسان الى السوء. فهل ان المقصود بالنفس هنا، كل الانسان وكل الهوية الانسانية؟ لقد قلنا بان هوية الانسان لها ابعاد مختلفة، ومجموع الانسان لا توجد فيه خاصية «لأمّارة بالسّوء». اذن، فهذه هي احدىٰ صور النفس، واحدیٰ دوافع النفس، والتي تأمر الانسان بالسوء.

• الآية الرابعة:

{وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الانسان وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُه...}(2).

الوسوسة تعني نوعاً من الخداع والمكر الذي يظهر في باطن الانسان، ونوعاً من التصورات التي تظهر في الذهن، حيث تقوم هذه الخواطر والتصورات بتغذية الانجذاب والتمايل نحو السوء وتشبعها تدريجياً والى ان تتم تقوية

ص: 31


1- يوسف: 53.
2- ق: 19.

هذا التمايل اكثر فاكثر، وبعد هذا التمايل القوي، يكون الانجرار نحو اعمال السوء والرذيلة.

قد تتصور أحياناً في ذهنك بانك تريد ان تتشاجر مع شخصٍ ما. بعد ذلك تتصور بانه يتهجم عليك بكذا وكذا من القول، وانت ايضاً ترد عليه بكذا وكذا من القول، وشيئاً فشيئاً تخرج العيون من الاحداق ويحمرّ الوجه، وتنتفخ عروق الرقبة، وتنقبض قبضتك، وفجأة ترىٰ نفسك في حالة من العصبية الشديدة، بحيث تلكم الحائط لكمةً قوية؛ بمعنىٰ ان وساوس النفس الباطنية هذه - والتي ليست في الأساس اكثر من مجرد خيال - تزيد من قبل الانسان الى التشاجر الى اعلىٰ مستوياته بحيث تستنفر كافة قواه العضلية لهذا الأمر.

هذه الوسوسة موجودة ايضاً في الابعاد الشهوانية، وحب المال ، والنفعية. وهكذا فان جذور الوسوسة مختلفة. وعندما يراجع الانسان حساباته يرىٰ أن جذور الجنايات، وحب التسلط واعمال الظلم لكثيرٍ من الناهبين والظلمة والدكتاتوريين في العالم كانت عبارة عن نوع من الوساوس الحمقاء جداً والمتدنية والصغيراً والتي تبلورت بمرور الوقت في انفسهم، حتىٰ اصبحت مصدراً عظيماً للطاقة ومخزناً للقوىٰ الواقعة نحو الشر والفساد، والتسلط، والنفعية، وحب الجاه ، وعبادة الشهوات وحب المال، بحيث وصلت الى حد الانفجار - طبعاً لا نرغب الخوض لا في بحث فلسفي ولا...، بل نحن في صدد بيان توضيحي مختصر. كانت هذه نماذج من الايات التي تبين النفس في القرآن بصورتها الشيطانية.

التجلّي الملكوتي للنفس في القرآن

سيكون بحثنا هنا حول التجلّيات الربانيّة والملكوتية للنفس في القرآن الكريم.

ص: 32

• الآية الأولىٰ:

هناك اية في القرآن الكريم تعرف بعالم الذر، ويمكن التعبير عنها بفطرة الانسان وهی:

{وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَني آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى انفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا...}(1).

اي ان هذه النفس قد جبلت طينتها بشكلٍ جعلها تطلق صرخة بلیٰ من الاعماق دون اي تعليم، اي انها جُبِلَتْ فطرياً علىٰ الايمان باللّه والبحث عن اللّه وحب اللّه . اذن، فان نفس الانسان عارفة اللّه وباحثة ومریدة للّه سبحانه وتعالىٰ . وبناءّ علىٰ ذلك، هناك ارتباط بين النفس والخالق جلّ وعلا، ونشاهد النفس هنا باحدىٰ الصور السامية والمتعالية جداً.

ان النفس في هذا المقام تنفض عن نفسها غبار الشهوات وغبار النوازع الشيطانية والدوافع الماديّة التي في صدد سحقها واسقاطها، وتتجلّىٰ في صورتها المتعالية، وتصبح مظهراً لتجلّي اللّه تبارك وتعالىٰ ، حيث تتعالىٰ منها نداءات اللّه من جميع ابعاد وجودها مناديةّ : لبيك اللّهم ، اذن، فان النفس تصبح مرآةً للّه ومظهراً لتجلّيه سبحانه وتعالىٰ، وتشهد ذلك.

بل هي الشاهد علىٰ ذلك، والشاهد هو الذي يكون حاضراً وبالشكل الذي لا توجد اي فاصلة او حجاب في البين . فيطلب منها ان تشهد وهي تشهد، وكانها كانت حاضراً؛ اي لم توجد اي فاصلة بيّنها وبين الذات المقدسة للّه سبحانه وتعالىٰ ، وقد أدركت اللّه بتمام وجودها. هذه حالةٌ من الحالات المتعالية التي يعكسها القرآن الكريم للنفس.

ص: 33


1- الأعراف: 172.

• الآية الثانية:

{بَلِ الانسان عَلى نَفْسِهِ بصيراً}(1).

الآية السابقة عَبَّرتْ عن «المعرفة باللّه» وهذه الآية تعبر عن «المعرفة بالنفس»، اي ان النفس خلقت بصورة متبصِّرة بصيراً ونافذة بحيث تكون قادراً

علىٰ النظر الى ذاتها والاحاطة بنفسها ومعرفتها وتقييمها، وان تغوص في اعماق ذاتها وخصالها، وتخرقها وتكتشف نفسها وتُعِينَ ذاتها.

• الآية الثالثة:

{اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسيبٰاً }(2).

اي ان نفسك هي مظهر اعمالك؛ ان لهذه الآية درجةً عاليةً من الشفافية، بحيث انها اظهرت النفس، وقد دوَّنت في داخلها وعلىٰ صفحتها كلَّ الخواطر والأعمال والنشاطات ، وحاصل العمر كلِّهِ ولها الحضور والشهود فيها ان يوم القيامة هو يومٌ ترىٰ فيه كلَّ نفسٍ اعمالها حاضرةً امامها؛ اي انهُ لا توجد فاصلة بين العمل والنفس وبل ان النفس هي تجلٍ للعمل.

وبناءً علىٰ ذلك، فان النفس لها مثل هذا الموقع الرفيع من حيث الرقابة والاحاطة والحضور وتدوين وحفظ جميع الاعمال والنشاطات اليومية. وكانها عبارة عن جهاز كومپیوتر في غاية الدقة، ولها القدرة والاستطاعة والالمام بكل ابعاد ومظاهر نفسها والاشراف عليها وارادتها - ولو كان الموضوع عن القيامة، لكان بامكاننا البحث بشكل أوسع وأشمل.

ص: 34


1- القيامة: 14.
2- الأسراء : 14.

اننا ننظر لهذه الآية من بعدين؛ الأول: من بُعْدِ المحاسبة والتدوين والحفظ. والثاني : من بُعْدِ التهذيب والنضج من جراء العمل. اي بمعنىٰ ان انفسنا هي اعمالنا؛ اي بالشكل الذي يمكن ان نقول بانها كصحيفة اعمالٍ دوَّنوا فيها اعمالنا، وايضاً ان نقول بان النفس ذاتها صِيغَتْ وعُجِنتْ اساساً مع اعمالنا وخصالنا، ولذلك فان انفسنا، هي أعمالنا وخصالنا الاخلاقية، وحاصلُ سعينا وجهدنا، وهذه النفس تُبنيٰ في هذه الدنيا علىٰ اثر ریاضاتنا وفعالياتنا ومجاهداتنا، وتصل الى درجات سامية جداً، وتكون ذات فضيلة، وطاهرة ، وتوبة، وسيطرة، ومتجددة.

{ وَ مَنْ جاهَدَ فَانما يُجاهِدُ لِنَفْسِه...}(1).

اي انه يعمل علىٰ بناء نفسه ، ويجاهد ويسعىٰ ، ولكن هذا السعي والاجتهاد يعود له ويرتبط به، ويتبلور في نفسه. لقد طَهَّر نفسه وعمل علىٰ تنقية وتصفية ساحة المواجهة في داخله، ولذلك، لو سألوا ما هي النفس، نقول: انها عين اعمالكم، وقيمة النفس تكمن في قيمة اعمالكم، وفي المجموع في اعمالنا هي التي تشكل انفسنا وكياننا.

• الآية الرابعة:

{ وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَة} (2)

ان النفس في هذه الآية ليست عبارة عن مرآةٍ وتُظهر التجلّي فحسب ، بل انها تقود وتأمر وتنهیٰ وتهدي وتوجه ايضاً. أُقْسمُ بالنفس. اي نفس؟ النفس

اللّوامة، للائمة والمنتقدة. انها تنتقد، وتوجه وتهدي غير قابلة للسكون

ص: 35


1- العنكبوت: 6.
2- القيامة : 2

والتوقف بل هي باحثة ومنبعٌ للحركة، وبالاضافة الى كونها مُحقّقَة وتنظم الأضابير ، فهي قاضية ايضاً. وتقول اِفعلْ أو لا تفعل ؛ وكذا عملِ اقدمت عليه جيد، أو ردئ.

التجلي القيادي وقدرة النَّفس علىٰ التصميم في القرآن :

نستفيد من مجموعتي الايات السابقة دلالتها علىٰ حالتي القيادة واصدار الأوامر وحالة الارادة ومشيئة النفس. مثلاً نستفيد من كلمة «لأمّارة بالسوء» بان النفس تمتلك حالة القيادة والامرة. ومن كلمة «نهى النفس» نستنتج بان النفس قادراً علىٰ المنع والنهي . وكذلك نستفيد منها حالةً اخریٰ للنفس؛ اي حالة التصميم واتخاذ القرار، فأحياناً تأمر واخرىٰ تنهیٰ . ولكن الفعل في الآية (9) من سورة الحشر جاء بصيغة المبني للمجهول : { وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} اي من يُحْفَظْ من الحرص وشح النفس، ولا يصرح القرآن الكريم بان يحفظ الانسان نفسهُ، ولكن نستنتج بشكل غير مباشر، بان ارادة الانسان هي التي تحدُّ من حرص النفس. وقضية اللّوامة، يمكن اعتبارها علىٰ الاوّل بانها مقدمة للتصميم واتخاذ القرار.

التأثير المتقابل لبناء الذات والجهاد:

دققوا النظر في هاتين الايتين، بخصوص قضية الدور الارادي البنّاء والفعال للنفس، والتي تبين خصلة التصميم واتخاذ القرار فيها:

{ وَ مَنْ جاهَدَ فَانما يُجاهِدُ لِنَفْسِه}

{ ... ان اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِانفُسِهِمْ ..}(1).

ص: 36


1- رعد: 11.

نلاحظُ وجود ارتباط وعلاقة بين النفس ومسألة الارادة والمشيّة بين التحولات والتغييرات وعمليات البناء وبين ما يظهر من الباطن ويصدر منه . والآية رقم 11 من سورة الرعد تقول: «ان اللّه سبحانه وتعالىٰ لا يغير مصير أمةٍ من الأمم ما لم يغير ابناء هذه الأمة انفسهم» وبعد ان يحدث هذا التغيير في داخل انفسهم - التغيير في اخلاقهم، وفي تعاملهم، وفي توجهاتم، وفي اهدافهم وحرصهم - يبدأ التحرك ؛ ونتيجة لهذا التحرك، يتغير المجتمع ويتبدل النظام، ومن جهة اخرىٰ فان الآية رقم (6) من سورة العنكبوت تبين انه ومن يجاهد ويسعىٰ، فان نتيجة هذه الجهود تعود عليه شخصياً. ومن هذا الجانب، لا بد من بناء انفسنا لكي تتحقق المحاربة والمجاهدة وبذل الجهود ويتحقق التغيير الاجتماعي، ومن الطرف الآخر، فان بناء انفسنا يحصل في معترك التغيير الاجتماعي. ولذا فان البعض كانوا يرون طرفاً واحداً من القضية فيقولون :علينا ان ننتظر، فلو أصلح الناس انفسهم فان الاوضاع سوف تتحسن. ولكن من الممكن ان تبقىٰ البشرية في حالة انتظار لعدة سنين ، ولا يقدم أحدٌ علىٰ تغيير واعداد نفسه، وبالتالي تبقىٰ الأوضاع ایضاً دون تغيير أو إصلاح. وعليه يجب ان نقول بانه يجب ان تبدأ عملية التحرك والنضال وبذل الجهود، حتىٰ يتم بناء الناس من خلال مجريات العمل.

ومن الاسرار التي اودعها اللّه سبحانه وتعالىٰ في جملة القوانين والأوامر العبادية التي وضعها لنا ۔ خاصة عندما يتم التأكيد علىٰ تكرار هذه العبادات – هو لغرض التأكيد علىٰ ان عملية بناء النفس والروح يجب ان تحصل من خلال مجريات العمل وتتبلور فيه. فالانسان يدفع الزكاة حتىٰ يدخل بواسطة هذا الانفاق ، مبلغاً من المال في جيوب الفقراء والمساهمة في ردم الفوارق الاجتماعية العميقة بين ابناء المجتمع الواحد. ولكن فيما يتعلق بالصلاة

ص: 37

والصيام والدعاء والعبادة والحج، ما هو الأثر المترتب عليها من الناحية العبادية، أو من قبيل الامور الاجتماعية ؟ قد تكون احدىٰ مبرراتها هذه القضية، وهي ان بناء النفس يجب ان يتم ويتبلور من خلال استمرار العمل، والّا فان الانسان لا يتمكن من تغيير نفسه بمجرد التفكير الصرف، ولا بالتصميم الخاوي المتيبس ، وبغير الاستناد الى دعامة العمل، ولكنه عندما يدخل الى ميدان العمل - بالعبادة، والدعاء، والصلاة والصيام ومحاربة النفس، والنهوض مبكراً لصلاة الصبح، واداء الصلوات في أوقاتها وغيرها - فانه يُصْقَلْ ويتمكن من بناء نفسه. حتىٰ عملية الانفاق نفسها، وبغض النظر عن بعدها الاقتصادي - الاجتماعي، فانها جيّدة للغاية في بُعدها وأثرها في عملية بناء النفس . ولذلك فان مسألة النية مطلوبة في الاسلام: فبالاضافة الى رغبتكم في دفع الزكاة والانفاق، فانكم ستحصلون علىٰ الأجر والثواب عندما يكون هذا العمل لوجه اللّه تعالىٰ ، لكي يحصل في داخل الانسان ايضاً نوع من الجهد والمجاهدة . ان تكون في الباطن رغبةٌ وارتباطٌ وحركة، ويتصل العمل بمكان آخر.

لقد ذكرنا نماذج من الايات القرآنية التي تتحدث عن النفس، وبناءً علىٰ ما قدمناه فهل باستطاعتنا ان نبين كم معنىً للنفس في القرآن الكريم ؟ هذه النفس التي تمثل الشيطان تارة وتمثّل البعد الالهي تارة اخرىٰ وفي مكان صالحة وفي آخر طالحة. اعتقد بان هذا الأسلوب ليس صحيحاً، في تفسير تلك الايات، فعندما يصرح القرآن الكريم بالقول:

{ وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها»}(1) فانه يعني بان الانسان يصبح بالشكل الذي يتمكن فيه من ان يفهم بان النفس أحياناً تصبح مظهراً

ص: 38


1- الشمس: 7 و 8.

لتجلي الهوس والحرص، واخرىٰ مظهراً لتجلّي المشيّة و الارادة و التصميم والعزم، وأحياناً اخریٰ في مظهر المجاهدة . اذن، من اجل ان نعثر علىٰ تفسير انسب لهذه الايات، دون ان نرىٰ اي تضادّ و تناقض بيّنها، فمن الافضل ان نقول، بان النفس لها معنىً واحد، وهو عين الانسان وذات الانسان وحقيقته وهويته وكيانه. وكلما في الأمر ان هوية الانسان ممتزجة بانماط وافكارٍ و ابعادٍ متعددة {انا خَلَقْنَا الانسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَليهِ فَجَعَلْناهُ سَميعاً بَصيراً}(1)

ان التعبيرات القرآنية تبين ايضاً بصورٍ مختلفة هذا الجانب من النفس، بما يتناسب في ابعادها وانماطها وصورها. فهي تبين مرةً جانبها الإلهي وأخرىٰ مظهرها الشيطاني، حيث ان احداهما تعبر عن مظاهر الفضيلة والاخرىٰ عن مظاهر الرذيلة.

ماذا يجب ان نفعل؟

والآن، وبعد ان أصبح من المسلَّم به من وجهة نظر القرآن ايضاً بان نفس الانسان ذات ابعاد مختلفة، نعود الى ما ينبغي ان يقوم به الانسان ذو الارادة والمشيئة، والذي أعطاه اللّه سبحانه وتعالىٰ القدرة والاستطاعة، وسط هذا الطوفان والأوضاع المعقدة؟

تعلمون بان النفس - وبسبب كونها «لأمّارَةٌ بِالسُّوء» تدفع الانسان بكل سهولة نحو السوء والأهواء النفسية، وفي بعض الأحيان تدفعه وتهديه نحو اللّه تبارك وتعالىٰ . وهذا هو عين ما نقصده من قولنا، بان بناء الذات، يعني استنفار جميع الطاقات التي وهبها اللّه تعالىٰ للانسان في طريق اذلال وتنظيم هذه الدوافع

ص: 39


1- الانسان: 2.

الداخلية المختلفة، والانسان الاكثر توفيقاً هوالأوفق في تنظيم وتعديل هذه الدوافع، ويمكن ان تُرسَم اللوحة بشكلٍ أجملٍ، في حالة تنظيم المضامین المتناسبة مع شكل اللوحة بشكل أدق وأذوق واكثر استيعاباً مع بعضها البعض. افترضوا لو زودونا بمجموعة من الاصباغ الحمراء والخضراء والبيضاء، لكي نمزج هذه الألوان بشكل منسّق ونوجد منها لوحةً جميلة ؛ فكيف تستخدم هذه الالوان ؟ وباي خطة ؟ ولاي هدف؟ وباي محتوىٰ واي منظر جميل أو قبيح نرسم فيه هذه اللوحة؟

والان، لنسخِّر هذه الأقلام الملونة في بلورة انفسنا، فنحن نحب العلم، ونحن طلاب الفضيلة وطلاب الكمال، ومعرفة اللّه تعالىٰ. هذه هي ابعادنا المتعالية، اننا نملك في داخلنا الشوق للّه سبحانه. ان الذي يصل الى اللّه والی مرتبة الحضور والشهود ولقاء اللّه تعالىٰ، تجدونه في ذلك المعنىٰ العرفاني الظريف والدقيق الذي بيّنه القرآن الكريم حيث يقول: « أَشْهَدَهُمْ عَلى انفُسِهِم» وفي اية { وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَريد} ، ولكن هوسك وحرصكم والانا هو الحجاب الملقىٰ علىٰ وجوهكم، وهي تَحولُ دون تجلّي اللّه سبحانه و تعالیٰ بمظهره المتعالي فيكم.

ان اللّه سبحانه و تعالىٰ اطلعنا منذ ان فطرنا علىٰ نفسه اكثر من باقي المخلوقات. ولكن دوافع الحرص والتعلقات الدنيوية هي التي توجد الحجب والاستار دائماً، وتوجد الظلمات دائماً. هذه المرآة الصافية الشفافة، التي كانت تعكس تجلّي اللّه سبحانه وتعالىٰ فيها، تجلّت بالغبار وانحرفت زاوية انعكاسها بدرجةٍ كبيراً جداً ، بحيث ان الانسان يرىٰ فيها أحياناً كل شيء الّا اللّه سبحانه.

ص: 40

والآن، سأبين عكس ذلك المطلب، فالانسان أحياناً ينتبه ويهمّ بنفسه، ويعمل علىٰ تهذيبها وبنائها، من ثم يبدأ بالحركة، نتيجةً لاعمال التذكرة والتبشير والتنذير التي جاء بها الانبیاء (ويثيروا لهم دفائن العقول )(1)، حيث أن وظيفة الانبياء تكمن في إثارة الدفائن الكامنة في أعماق القلوب، وفتح تلك المنابع والمصادر المنسيَّة في بواطن النفوس (ويذكروهم منسي نعمته)(2). ان من خواص الانبياء ازالة الغبار المتراكم علىٰ تلك المنابع الداخلية المنسيّة والعمل علىٰ رفعة وسمو الانسان المكبل الاسير المتدني. يذكرونه بقوله واقراره «أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى». لا تنسَ استثناسك مع اللّه ، لا تنسَ عهدك وميثاقك مع اللّه :

{أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَني آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبين...}(3).

این عقدت هذه المعاهدة ؟ هل تقرون بان اللّه جلّ وعلا عقد معنا مثل هذا العهد؟ ان القرآن يشير بصراحة الى هذا المطلب :{ أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ} . هذا العهد هو العهد الذي عقده اللّه تعالىٰ مع ارواحنا وفطرتنا؛ اي ان ارواحنا متعلقة باللّه تعالىٰ وتتحرك نحوه، انها تريد اللّه وتحبّه . تريد ان يكون عَملُها لوجه اللّه ، ولكن الغبار المتراكم أحياناً يجعل الانسان قاسياً بشكل حاد جداً بحيث يصبح مصداقاً لقوله تعالىٰ {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَة...} (4) فيصبح قلبُهُ كالحجارة بل اشد واسوأ. فيخرج الماء من بطن هذه الحجارة ولكن لا يُؤثر فيه .

ص: 41


1- عبارة من المقطع 35 من الخطبة الأولىٰ في نهج البلاغة.
2- نفس المصدر السابق.
3- يس : 60.
4- البقرة : 74.

والآن، فلنعد وندخل الى ميدان العمل . ان هذه المراقبة والمحاسبة ضرورية دائماً ؛ كلما نجعل عملنا اكثر نقاءً وخلوصاً للّه تعالىٰ ، فهو أبلغ وأكثر أثراً في بناء انفسنا. ان نمنح انفسنا فرصةً للتفكير وفرصة للانتخاب و تنقية انفسنا، وان نعلم بان كل خطوةٍ، وكل قولٍ نتقوله وكل مبلغٍ من المال ننفقهُ، فان له دوراً فعالاً في بناء جانب ظریفٍ من جوانبِ انفسنا، وان نعلم بان انفسنا دائماً في حالة بناء، لكي نرىٰ بعد عشرات السنين ما تمّ بناؤه وباي ذخيرة واي راس مالٍ نسرع للقاء اللّه تعالیٰ! تماماً مثل الرَّسام الذي يمسك ريشتهُ المرهفة ويرسم لوحة جميلة في غاية الكمال والدقة.

ان هذه الطاقات التي تعمل علىٰ بنائها، كلما كانت بشكل افضل واقوىٰ، فانها راسمالٍ لمجتمعنا ورأسمال ثورتنا، وذخيرةٌ لطريقنا. وكلما نعمل علىٰ بناء رجال اكثر نقاءً، وجدية، وخلوصاً، وایماناً، وتضحيةً، فانها ذخيرة لنا ولمستقبلنا، لان ذلك فيه روحنا، وهويتنا وكلّ ما نملكه. وبناءً علىٰ ذلك، فان اعمال الرقابة والمحاربة هذه وكذلك الانكار والمثابرة واعمال التنقية والتزكية الداخلية ضرورية جداً.

طالما بقيت زمرة الشيطان وجنود الطاغوت في داخلنا، من الضروري ان نقوم بين الحين والآخر بتنقية محيطنا وتنظيفه، لكي نحول كل ذلك الى جنودٍ الهيين ودوافع ربانيّة (1).

* * *

ص: 42


1- مع الاخذ بنظر الاعتبار التناسب الموضوعي ، فقد تم ایراد الجلّسة الثالثة في هذا البحث تحت عنوان (بناء النفس في نهج البلاغة) في نهاية هذا الكتاب . (د)

معرفة الانسان في الاسلام

{ وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها }(1)

موضوع البحث، هو مسألة بناء الذات وابعاده في الاسلام، هذه المسألة التي تحتاج علىٰ اي حال ان يضع الانسان لها خطةً معينة ، في كل تحرك اجتماعي، وفي كل توجهٍ حياتي وفي كل إقدام، لان الطاقات الانسانية هي التي ستقوم بمواصلة الطريق وايجاد النظام في كل الاحوال، ولكي يتمكن الأفراد من مواصلة هذا الطريق بكل جدية دون ان يضلوا سبيلهم، أو ينخدعوا، أو ينكصوا وسط الطريق، ولا يخونوا بعضهم البعض، ولا يفقدوا استقامتهم وطهارتهم وصفاءهم وخلوصهم وانسجامهم وجهودهم ومثابرتهم وسائر الخصال التي يحتاجها الأفراد في التوجه الذي يختارونه، لا بد من امتلاكهم لبعض الخصال والصفات والمميزات لغرض مواصلة الطريق واستقرار النظام.

ص: 43


1- الشمس:7۔10.

الرسالة ودعوة الاسلام :

ان الاسلام وعلىٰ العكس من بعض الفلسفات والمدارس الفكرية، التي لا تملك رسالةً او دعوةً وتكليفاً لمجتمعاتها، فانه يمتلك الرسلة والدعوة والتكليف تجاه مجتمعه : {ادْعُ إِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَن... }(1).

الدعوة الى سبيل اللّه ، الدعوة الى الفوز والى الفلّاح، والى النصر والى الفتح والنجاة. ونشاهد تعابیر مختلفة في العديد من الايات القرآنية، التي تصرّح بان الاسلام جاء لكي يرتقي بالانسان الى الفوز والفلاح؛ جاء من أجل انتصار البشرية ونجاتها. وبناءً علىٰ ذلك، فانه يمتلك برنامجاً لهذا الفوز والفلاح والنصر. وجعل قسماً من هذا البرنامج للجانب الاجتماعي، اي استقرار النظام والروابط الخاصة، والقسم الآخر لبناء «الافراد»، وكيفية بنائهم لكي يتمكنوا من مواصلة الطريق والعمل علىٰ استقرار النظام.

تناسق جميع التعاليم الاسلامية :

لابد من ذكر ملاحظتين كمقدمة لموضوع بناء الذات :

الاولىٰ ، لو اردنا فهم مسألة بناء الذات ضمن حدود القيم الاخلاقية، اي البناء ضمن محيط القيم الاخلاقية، نجد ان المسائل الاخلاقية، ومع كونها ممتزجة مع سائر التعاليم ودعوات الاسلام، الّا انها وللاسف بقيت مهجورة وغريبة .

ص: 44


1- النحل:125.

ولقد قسّموا التعاليم الاسلامية ولسنوات طويلة بهذا الشكل، بحيث جعلوا قسماً للمعتقدات، وقسماً للاحكام، والقسم الأخير جعلوه للاخلاق، ولكن نفس هذا الفصل، اي فصل العقيدة عن العمل، والعمل عن الاخلاق، يُعدّ خسارةً كبيراً اُلْحِقَتْ بالاسلام. اي ان يكون الاعتقاد باللّهِ والمعادِ والنبوّۃِ والامامةِ وكافة الأصول، مفصولاً عن الصلاة والجهاد والانفاق والأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكر والطهارة وغيرها من قبيل هذه المسائل .ان يُوضع الاعتقاد بالمسائل العقائدية في زاوية معينة ثم تطرح مسائل الأحكام والأعمال والعبادات والروابط الاجتماعية، واخيراً، وفي نهاية المطاف نطرح المسائل الاخلاقية، اي مسائل بناء الذات والتي وضعت تقريباً في زاوية الدين والحياة ، لقد كانت المسائل الاخلاقية مطروحة علىٰ اساس انها مسائل كمالية، والتي يجب التعبير عنها بانها من الأمور المستحبّة. وعلىٰ سبيل المثال، فان مسألة الوفاء بالعهد، الصدق، الاستقامة ، التعاون، الاحسان، حب الخير ، البِرْ، وغيرها من قبيل هذه المسائل ، كانت مركونةً في احدىٰ الزوايا وموضوعةً جانباً سواء في بعدها الفردي او في بعدها الاجتماعي.

بينما نجد ان الاسلام ليس بهذا الشكل، وكان ذلك في الواقع خسراناً وآفةً تنخر روح الدعوة الاسلامية . فلو جاءت الدعوة الى الايمان بالغيب ، في القرآن الكريم والدعوة الاسلامية ، تأتي بعدها الدعوة الى اقامة الصلاة، والدعوة الىٰ الانفاق، والى الايمان بدعوة الانبياء والى سائر المسائل الاسلامية ، أو إذا طرحت مسألة الصيام {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(1) يأتي بعدها مباشرة ذكر مسالة التقوىٰ

ص: 45


1- البقرة : 183.

{لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ}. أو مثلاً الآية الشريفة : {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} يأتي بعدها {الَّذينَ هُمْ في صَلاتِهِمْ خاشِعُون}(1). والی ....؛ وتطرح بعدها مسألة الصلاة، والأمانة ، والعفة والانفاق. اي ان جميع المسائل العبادية والاخلاقية والعقائدية ممتزجة مع بعضها بشكل كامل. فيجب بناء الفرد واعداده من مختلف الابعاد نحو هدف واحدٍ مُشَخَّص ومحدد. ولقد راينا نتيجة هذا العمل وكيف ان الأفراد في المسائل العقائدية يتزودون أحياناً بالمعلومات والأبحاث الفلسفية والعلمية المختلفة، ولكنهم يتنازلون كثيراً في مقام العمل ، أو إذا كانوا يمارسون الاعمال العبادية، فان الضعف في المقام الاخلاقي والشخصية الانسانية كان كبيراً عندهم. وعلىٰ اي حالِ، فان هذه المسائل وهذا التعليم يجب ان يستمر ويتطور بشكل مُنَسَّق، وان تتم مراعاتها والعمل بها معاً دون فصل.

والملاحظة الثانية التي يجب طرحها بعنوان الارضية الممهدة لهذا البحث ايضاً، هي ان بناء الذات تعني بناء النفس والفرد والشخص، تعني بناء الانسان. اذن، يجب علينا أولاً ان نعرف الانسان بالشكل الذي تمّ تعريفه في الاسلام، وبعد ذلك نعمل علىٰ انمائه وتحريكه ودفعه الى الامام . وبناءً علىٰ ذلك، فاننا مضطرون لطرح موضوع انسان الاسلام كمقدمةٍ في هذا البحث، وبما ان هذا الموضوع لا يمثل الموضوع الأساسي في بحثنا هنا، لذا سنشير له بشكل مختصر.

خصائص الانسان في الاسلام :

1- مقام الخلافة:

من المعلوم لدينا بان الانسان من وجهة نظر الاسلام، ذو جنبةِ طبيعية وترابية ومُلكيَّة ، واخریٰ الهية ، وملكوتية ، فاذا ذكرت خلقة الانسان في القرآن الكريم،

ص: 46


1- المؤمنون: 1 و 2.

بانها من «التراب»(1). و «الصلصال» و«حمأٍ مسنون»(2) او من «طين لازب»(3)، وفي المراحل الاخرىٰ تم التطرق الى مسألة النطفة، والعلقة، والمضغة، والعظام واللحم (4)، التي تمثل الابعاد الماديّة والطبيعية في خلقة الانسان، نریٰ انه بعد هذه الايات تأتي مسألة النفخة الالهية والروح الالهية ايضاً. {ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَر} (5)، ان مسألة النشأة الأخرىٰ، تحدث عن تحول آخر وتكامل أفضل في هذه المسيرة والحركة الطبيعية والماديّة للانسان وبناءً علىٰ ذلك، فان الانسان الترابي يصل الى مرحلة يكون فيها لائقاً لشمولهِ بافاضة الروح الملكوتية والالهية ووصول النفخةِ الالهية إليه، وبالنتيجة ينال مقام الخلافة { ...إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَليفَة...}(6)، ان هذه المسألة وان لم تُشر بشكل صريح الى مسألة الخلافة الالهية، لكنها علىٰ اي حال، تمثل نوعاً من الحاكمية وتسلط وسيطرة البشر علىٰ الكرةِ الارضية. لان الخلافة هي نوعٌ من وراثة السلطة؛ اي تلك السلطة والحاكمية التي كانت للّه او للافراد او للموجودات السابقة علىٰ سطح الارض. وان خلافة الارض تعني في الواقع، ان الحاكمية وقدرة التصرف والارادة والادارة تقع بيد الانسان. طبعاً ليس من المستبعد ان يكون المقصود من ذلك الخليفة عين هذا المعنىٰ، اي قائمقام اللّه علىٰ الارض، علىٰ اي حال، فان هذا الانسان ينال مقام الخلافة.

ص: 47


1- اشارة الى آل عمران: 59.
2- اشارة الى الحجر: 26 - 28.
3- اشارة الى الصافات: 11.
4- اشارة الى المؤمنون: 14.
5- اشارة الى المؤمنون: 14.
6- البقرة : 30.

2 - العلم والبصيراً:

وبعد ذلك، فان الانسان يصل في ظل هذه النفحة الالهية والروح الربانيّة والنفحة الملكوتية، الى مقامٍ يؤهله بان يكون عالماً وبصيراً: {وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ...}(1).

{وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(2).

بتلك الأدوات، اي البصر والسمع والفؤاد، التي وضعها اللّه تعالىٰ تحت تصرف الانسان لغرض المعرفة، يحصل علىٰ أهلية وامكانية محاربة الجهل الذي ولد معه حين خروجه من رحم الأم. وبناءً علىٰ ذلك، أصبح مؤهلاً للتعلم.

{عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ }(3).

ولذلك فان مسألة العلم والقدرة علىٰ التشخيص موجودة في الانسان لكي يكون قادراً علىٰ حل المشكلات والعثور علىٰ الطريق .

{بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصيرَة} (4).

تشير الآية هنا الى مسألة البصيراً، وان الانسان قادرٌ علىٰ معرفة نفسه واكتشافها، وان يشعر بانه موجود، وكيف يجب ان يكون، وبامكانهِ ان يفكر بنفسه ومصيره.

ص: 48


1- البقرة: 31.
2- النحل: 78.
3- العلق: 5.
4- القيامة: 14.

{سَنُريهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ في أَنْفُسِهِم... } (1).

وفي مكان آخر:

{أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا في أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى ...}(2).

3- الارادة والحريّة:

من المسائل الاخرىٰ التي يتمتع بها الانسان، هي مسألة الارادة والحرية:

{فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُر... }(3).

{...إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً}(4).

{...فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها... }(5).

هذه الحالة التي يتمكن الانسان فيها ان يختار ویرید، ويكون قادراً علىٰ ان يصمم وينتخب الطريق، هي من أعظم الامتيازات التي اعطاها اللّه تعالىٰ للانسان وتكرّم بها عليه.

4 - الابداع وقدرة التصرف:

المسألة الاخرىٰ هي مسألة الابداع ، وقدرة التصرف. وقد يكون ايضاً ما يعبر عنه القرآن الكريم أحياناً بمسألة التسخير {وَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما

ص: 49


1- فصلت : 53.
2- الروم: 8
3- الكهف: 29.
4- الدهر: 3.
5- يونس: 108.

فِي الْأَرْضِ جَميعاً مِنْه... }(1)؛ انها قدرة التسلط والسيطرة التي يمتلكها الانسان علىٰ الطبيعة والتي تجعله قادراً علىٰ تسخيرها وتغييرها وصياغة الاشكال المتعددة منها، وان تكون لديه الخلّاقية من الناحية الماديّة والطبيعية، ويصنع الادوات في الطبيعة ويوجدها . وتتحقق الخلّاقية بصورة البناء في نفسه، وفي مجتمعه وايضاً البناء في الطبيعة ومحيطه الطبيعي، حيث تعد مسألة صنع الادوات احدىٰ جوانبها . وبناءً علىٰ ذلك، فان مسألة الخلّاقية هي احدیٰ أعظم الفضائل والكرامات والشرف للانسان.

5- قبول المسؤولية:

قد تكون «المسؤولية» هي النتيجة المستحصلة من المسائل الثلاث الانفة الذكر وهي التشخيص والتصميم والخلّاقية، وبناءً علىٰ ذلك، فمن يكون قادراً علىٰ ان يصمم ويغير، فهو مسؤول؛ مسؤول علىٰ بناء نفسه ومسؤول علىٰ بناء المحيط واعداده . وقد تكون المسؤولية التي حملها الانسان، اي كان يمتلك الأهلية والارضية المساعدة لحملها، هي عين أمانة المسؤولية:

{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ... }(2).

قد تكون هذه الأمانة هي نفس تلك المسؤولية لاداء التكليف والواجب وتحسين وبناء نفسه ومحيطه ومجتمعه.

وبناءً علىٰ ذلك، لا بد أن نرىٰ ما موجود من الخطط والبرامج اللازمة لاعداد وبناء ونجاة وفلّاح هذا الانسان - اي خليفة اللّه ، المطّلع، صاحب الارادة والابداع، حامل الأمانة الالهية والروح الالهية، وباختصار ذو الفضيلة والكرامة.

ص: 50


1- الجاثية : 13.
2- الأحزاب: 72.

6- البعد المادّي والترابي للانسان

نصل هنا الى هذه المسألة، وهي ان القرآن الكريم يورد تعبیرات عجيبة في وصف هذا الانسان الذي يتصف ويمتلك الصفات الحميدة من النجابة والفضائل ، لانه يمتلك اضافةً لذلك صفات غريزية حيوانية وماديّة وترابية، فهو يعبر عنه أحياناً بتعبير «هلوع»:

{إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً*إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً}(1).

وهو «منوع»، اي ان اللّه سبحانه وتعالىٰ عندما يعطيه شيئاً، فانه يلتصق به بكلتا يديه ، وغير مستعد ان يعطي الآخرين شيئاً مما اعطاه اللّه ، فتراه يمنع ويمتنع عن خدمة الآخرين والانفاق عليهم، وهو «جزوع»، اي عندما يواجهُ مصيبةً ما، فانه ينزعج ويطلق صرخات الاستغاثة ويفقد توازنه . وأحياناً اخریٰ يعبر عنه بال«عجول» {...وَ كانَ الْإِنْسانُ عَجُولا}(2).

ان نفس الانسان تبدو أحياناً بمظهر ال«امّارة»، اي النفس التي تأمر وتقود نحو القُبح والسوء، وتصبح نفساً مغرية ودافعة نحوالفساد والهلكة: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوء...} (3). ويصبح هذا الانسان اسیراً لاهواء النفس، وهذا الهوىٰ في حالة إشباعه واستغنائه يَقُوده الى الطغيان {كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى} (4). ذلك الانسان، الذي كان يتمتع بالنفخة الالهية وقدرة الادارة والتشخيص، تتملكه حالة الاستكبار ويبتلي بالطغيان؛ ويصبح في حالة

ص: 51


1- المعارج: 19 - 21.
2- الاسراء: 11.
3- يوسف: 53.
4- العلق:6 و 7.

الاستعلاء والتكبّر والأنانية والشعور بالافضلية والطغيان والظلم والتجاوز علىٰ الآخرين. هذا الانسان ذو الابعاد الماديّة والغرائز الطبيعية المودعة فيه يتحول الى حالة تزين في نظره مسألة حب النساء والشهوات والسلطة وتجعله في حالة من الحيّرة والانبهار وتستحوذ علىٰ مشاعره واحاسيسه {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنينَ وَ الْقَناطيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآب}(1).

الاموال الطائلة، والذهب والفضة ووسائل الركوب، والخيل والانعام، والزراعة وتربية الحيوانات، وانواع المنافع والمكاسب والفوائد تجعله اسيراً وعبدا ذليلاً، ويتحول ذلك الانسان المتعالي والمتكامل الى هذه الحالة. وبناءً علىٰ ذلك، فان هذا البعد هو احد ابعاد الانسان والذي يعد طبعاً من خاصية خلقة الانسان.

وقد طرح هنا هذا السؤال، ماهو المراد من فلسفة خلق الانسان ككائن ذي بعدين ولماذا يبتلي الانسان بعوامل الاستقطاب السلبية في سعيه نحو العوامل المساعدة علىٰ نموه وتكامله؟

والجواب هو ان مسألة وجود النوع الانساني، اي ان يكون الانسان انساناً، في مقابل الملائكة او مقابل الحيوانات، تقتضي ان يكون الانسان كائناً ذا بعدين، فلو كان الانسان ذا بعد روحاني وملكوتي فقط، لم نعثر فيه علىٰ حالة الارادة والحركة الذاتية، اي سيكون ذا غريزةٍ ودافعٍ معين تحفزه للسير نحو هدفٍ معين دون مانع او رادع او ارادةٍ منه ، ولو كانت له ارادة معينة، فلن يوجد اي مانع امام ارادته ورغبته هذه، ويصبح كالملك او الحيوان. وبناءً علىٰ ذلك،

ص: 52


1- آل عمران: 14.

فان الكائن الذي يكون قادراً علىٰ شق طريقه ، وقادراً علىٰ ان يصمم بنفسه ، وان يكون مريداً ومبدعاً، علىٰ الرغم من كل الموانع والعراقيل ، لهو جديرٌ بأن يحتلّ مكانة المرموق في عالم الوجود؛ موجوداً حائزاً علىٰ مقام الخلافة الالهية.

ولكن هل ان هذه الغرائز هي في صالح الانسان ام لا؟ ان جميع ما أعطاه اللّه سبحانه وتعالىٰ للانسان، وجعله كائناً ذا بعدين هي في صالح الانسان ومنفعته بجميع ابعادها وخصائصها. أما الحيوان فان غرائزه هي التي تحدده وتسيطر عليه .اي ان الحيوانات تستخدم شهوتها مثلاً بالقدر والابعاد والحدود اللازمة لاستمرار وادامة حياتها، أو ان مساعيها وجهودها هي بالحدّ اللازم لادارة حياتها او يتم ضبط وضعه العام والسيطرة عليه بواسطة غرائزها. وتوجد في الانسان ايضاً هذه الدوافع الترابية لادارة الطبيعة وبدن الانسان؛ وكذلك توجد الدوافع الملكوتية ولكن لا يُوجد تحديد للغرائز او سيطرة ذاتية في الانسان. فانه ليس بالشكل الذي تتم فيه السيطرة وتوجيه سعيه للتفوق، أو حدود تغذيته ، او حدود استخدام شهوته بشكل تلقائي وغريزي. وان احدىٰ دواعي وجود قدرة التشخيص والارادة والتصميم، وذلك الوعي والهداية في الانسان هي لغرض تحريك هذه الدوافع، والسيطرة عليها والاستفادة منها في الوقت المناسب وحسب الحاجة (1)، وبناءً علىٰ ذلك، بما ان الجانب الطبيعي في

ص: 53


1- لا نريد قطعاً ان نحدد ونقول بان هذه المرتكزات وجدت لغرض السيطرة علىٰ الغرائز، كان نقول مثلاً بان الانسان يكسب المال من خلال بعده المادّي، ثم ينفق هذا المال في سبيل اللّه بواسطة بعده الملكوتي . كلا ، بل نقول يجب ان يحصل علىٰ المال لتأمين متطلبات حياته ، وان الانسان موجود طبيعي ويجب ان يتغذىٰ، لكي يتمكن من مواصلة حياته، اذن ، فانه يجب ان يتغذىٰ وبحاجة الى توليد المثل من نوعه. وبناءً علىٰ ذلك، فقد اعطيت له هذه الدوافع لادارة بُعْدِهِ الطبيعي.

الانسان لا تتم السيطرة عليها ذاتياً وغريزياً، فيجب عليه السيطرة علىٰ هذه المسائل وتعديلها من خلال الهداية وقدرته علىٰ التشخيص والاختبار، وان يشبع هذه الغرائز كلّاً حسب حدوده ، دون افراط او تفریط ، حيث ان احدىٰ المسائل المتعلقة بمسألة بناء الذات هي مسألة تعديل الغرائز. بمعنىٰ ماذا ينبغي ان نفعل من اجل تعديل الغرائز المختلفة والدوافع الترابية والملكية المتنوعة .

لو ان اللّه سبحانه وتعالىٰ خلق موجوداً ذا بعدٍ واحدٍ، فلا يمكن اعتباره حينذاك انساناً . فهل ان في اقتيادي الى المسجد وبيت اللّه مكتوف الايدي و معصوب العينين يعد فضيلةً لي، ام ان الفضيلة تكمن في تصميمي وعزمي علىٰ المضي قدماً في الطريق علىٰ الرغم من وعورته واضطراري الى مواجهة الحيوانات المفترسة الموجوده فيه لاصل الى الهدف المراد، حيث يوجد الخير هناك، تاركاً وباختياري الجانب الآخر أو الطريق الآخر علىٰ الرغم من كونه ممهداًومنبسطاً، وأتمكن من السير فيه بكل سهولةٍ وارتياح ؟ فهل هذا نوع من الكمال الانساني وان الانسان يمكن اعتباره الافضل بين الموجودات، وموجوداً نموذجياً في عالم الخلقة، أم انه موجودٌ لا حول له ولا قوة، يمسكون بيده ويقتادونه الى حيث يوجد الخير؟ هنا لا وجود للانا اطلاقا ولا وجود لشخصية الانسان.

لقد اراد اللّه سبحانه وتعالىٰ ان يخلق موجوداً يكون خليفةً له ومصداقاً للتجلّي الالهي و«تخلقوا بأخلاق اللّه»، ويتخذ القرار ويصمم بنفسه علىٰ الرغم من كل العوامل السلبية . لقد كان الوجود باسره مفتقراً لمثل هذا الموجود، ولو لم يكن مثل هذا المخلوق موجوداً، لوجب علينا آنذاك ان نسأل عن ماهية فلسفة خلق الوجود. ولو افتقر الوجود الیٰ موجودٍ ذي ارادة وقدرةٍ علىٰ التشخيص لظهر عليه النقص والخسران، ولم يمتلك نقطةٍ الذروة وراس الهرم .

ص: 54

وبناء علىٰ ذلك، لا بد من وجود موجود مريد وذي ارادة ، علىٰ الرغم من كل الظروف الطبيعية والجغرافية والبيئة ودوافعه العائلية المحيطة به؛ والارادة لها موانع كثيرة، وفيها صراع عنيف، الّا أنه يتطور ويندفع الى الامام من خلال مواجهة هذا الصراع والموانع الموجوداً في طريقه . مثل هذا الموجود يمكنه ان يكون خليفة اللّه.

وبناءً علىٰ ذلك، فان الانسان مزيج من البعدين الملكوتي والمادّي، ويعاني من الصراع بين الدوافع الربانيّة والدوافع الشهوانية والماديّة . ويوجد داخل الانسان مثل هذا الاضطراب والتضاد والصراع والتناحر بين هذين النوعين من الدوافع ؛ دوافع السموّ والتكامل وطلب الخير وحب الفضيلة والعدالة، والحق وطلب الكمال، وفي مقابلها الدوافع الماديّة المتدنيّة المتمثلة باشباع الغرائز الحيوانية والطبيعية.

والآن، ماذا يجب علينا أن نفعل، لكي يهتدي هذا الانسان، ولا يقع في الضياع والخسران، مع المحافظة علىٰ جميع خصائصه الطبيعية والفطرية والانسانية؟ اي أننا لا نقول بأن نعمل علىٰ تحطيم ايّ من هذه الخصوصيات الطبيعية والفطرية للانسان بمعناها السامي والمتعالي ، فلو لم تكن ضرورية، لما اودعت فيه. لو لم يكن مقرراً ان يتغذىٰ لما اعطيت له صفة الحاجة الى الغذاء؛ لو كان مقرراً بأن يقضي علىٰ الشهوة بصورة نهائية، لما اودعت فيه هذه الغريزة الشهوية اساساً لو لم يكن مقرراً بان يبقىٰ وينمو، لما اودعت فيه غريزة صيانة النفس والدفاع عنها . اذن، ماذا يجب ان نفعل لكي يتمكن هذا الانسان ، بجميع ابعاده الفطرية والطبيعية والملكوتية المودعة فيه، من مواصلة طريقه ، طريق الفوز والفلاح والسعادة؟

ص: 55

الهدف من حركة الانسان:

المسألة الاخرىٰ والتي لا بد من تناولها بقدرٍ من البحث والتفكير، هي التساؤل التالي، ما هو الهدف من مجموع حركة الانسان؟ ما هو الهدف الذي تقتفيه حركة وحياة الانسان بمجموعها؟ لانهذه المسألة مطروحة في كل فلسفةٍ لها بُعدٌ اجتماعي وانساني، وفي كل المذاهب والمدارس الفكرية التي عملت في ميدان التربية والتعليم والميادين الاجتماعية والنفسية . فالانسان في نهاية المطاف ذاهبٌ نحو ماذا، ولماذا، والیٰ این؟ الى اي جهةٍ يجب ان يوجّه الجهود والمساعي؟ في البداية لا بد ان يكون الهدف واضحاً، حتىٰ يتم تشخیص وتحديد وجهة الحركة، وبعد ذلك نطرح هذه المسألة، وهي ان نعمل علىٰ بناء هذا الانسان ومراقبته ، بطريقةٍ يتمكن بواسطتها من الاستمرار في مواصلة طريقهِ نحو ذلك الهدف المقصود؛ نحو الاهداف التي يمتلكها الاسلام في الابعاد والميادين الاجتماعية والفردية . اي ان الاسلام بمجموعه، بجميع برامجه واوامره وتعاليمه، يجعل الهدف معلوماً وواضحاً بشكل كامل. ففي الوقت الذي يأمر باداء الصلاة والزكاة والجهاد والحج، فانه في المقابل يقول كن صادقاً، اتصف بالأمانة، كن نظيفاً طاهراً، افعل كذا ولا تفعل كذا. لماذا وما هو المقصود من ذلك؟ لان كل واحد من هذه التعاليم خیرٌ بحد ذاته، وفضيلةٌ بحد ذاتها: الصدق فضيلة، الصلاة بأثرها وفلسفتها فضيلة، الزكاة ايضاً فضيلة. وبكلمة اخرىٰ فان كل هذه التعاليم يمكن ان تصبح اهدافاً، ولكن في نفس الوقت، فان مجموع هذه التعاليم هي عبارة عن احدىٰ الوسائل واحدیٰ الطرق لبناء الانسان واخذه. اخذه الى اين ؟

ص: 56

ان جميع هذه التعاليم انضاج مجموعة الاستعدادات والدوافع الموجودة في الانسان، ولغرض تسامي وتعالي وتكامل الانسان نحو الكمال المطلق. انه كائن يمتلك مجموعةً من الاستعدادات والامكانيات، التي لا بد وان تنضج وتثمر ويُستفاد منها لكي يزيد من حركته و يسرع بها، ولكي يقف بوجه الآفات ویزیل الموانع؛ وحركة الانسان هذه نحو الكمال، والصعود والرقي، ونقطة الذروة في

تعالي الانسان، هي الوصول الى اللّه : { ...إِلَى اللَّهِ الْمَصيرُ}(1)، انه سيرٌ الى اللّه.

{يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقيهِ}(2).

او يقول سبحانه وتعالىٰ في مكانٍ آخر:

{...فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً...}(3).

ان هذا اللقاء والوصول الى اللّه ، هذه الصيرورة والتحول الذي يكون هدفه اللّه تعالىٰ، واللّه يعني مجموعة الفضائل، والكمالات، والعلم المطلق ، والقدرة المطلقة، والفيض المطلق، والغنىٰ المطلق ، والعدالة التامة، والكمال التام، وهذا الانسان عليه ان يتحرك نحو القمة ونقطة الذروة في الفضائل والكمالات، وجميع الأشياء التي تتجسد بصورتها النموذجية والانسانية الراقية. حركة الانسان يجب ان تكون نحو منبع الكمال هذا. لا بد من محاربة كل ما يقيد الانسان ويعمل علىٰ تحطيمه وكسر شوكته وكل ما يستعبده ويفسده ويجعله خاملاً، لكي ينمو وينضج هذا الانسان، وبالتالي يصبح عادلاً وحراً وخلّاقاً ومبدعاً ومتحركاً ومتعالياً.

ص: 57


1- (1) النور: 42.
2- الانشقاق: 6.
3- الكهف : 110.

الصيرورة المستمرة في الفلسفة التربوية للاسلام :

نظراً لوجود مسألة السير الى اللّه ، ومسألة الهجرة ومسألة السباق والاستباق في الفسلفة التربوية للاسلام، فان الفلسفة التربوية للاسلام وبناءً علىٰ ما تقدم معجونة بالاساس مع الحركة والصيرورة والسير ومحاربة الركود والخمود. ان وجود الجيد ليس هو المطلوب، بل المطلوب هو صيرورة الجيد. الصيرورة والحركة، بل الصيرورة بصورتها اللامتناهية وبلا توقف هي المطلوبة؛ الصيرورة التي تقول من كان يومه مثل أمسه فهو مغبون (1). اي لا بد أن يكون يومه افضل من أمسه؛ ولا بد ان تكون ساعته هذه افضل من سابقتها.. التحسن المتزامن مع الحركة ، لا نهاية له ، ولا سبيل للتوقف فيه؛ واضافة لذلك فانّ نقطة الهدف مشخصة ومحددة فيه ايضاً.

وجود الهدايات المختلفة من وجهة نظر الفلسفة التربوية للاسلام :

نصل هنا الى نقطة اخرىٰ وهي مسألة الهداية. اي ان الانسان الذي توجد فيه الارضيات المساعدة والمثمرة والحركة، مع وضوح وتشخيص الهدف، فان نوعاً من الهداية من الداخل والخارج تسيّره نحو نقطة الذروة المقصودة وفق وجهة نظر الفلسفة التربوية وقد استخدم القرآن الكريم بحدود ثلاثمائة مورد كلمات: الهداية ، الاهتداء، يهدي، الهادي، وسائر مشتقاتها الاخرىٰ. اي ان الفلسفة الاسلامية لا تنظر الى الانسان موجودٍ عبثي وسائب ومتروك فيسس

ص: 58


1- «من تساوى يوماه فهو مغبون» (مقطع من حديث شريف ).

المحيط. من الممكن ان يتصور البعض أحياناً بأنه طليق بحيث ينتخب بنفسه؛ وقد ألقَوا به في اعماق الظلمات، وعليه أن ينتخب في ظل هذه الظروف، وعندما يمكنه العثور او الوصول الى ما يمكنه الوصول اليه، فان ذلك هو طريقه، وهو الخير والقيّمة، وعليه ان يتحرك نحوه . اما الاسلام فانه يقول بأن العالم بأسره عبارة عن نورٌوهداية؛ وتلألأ ساطعة في كل مكان منه شعلة الهداية والدلالة؛ وان العالم بأسره يمتلك نوعاً من النظم والترابط ، ونوعاً من التوجيه والرسالة والهداية للافراد المتبصرين والمتفكرین والمتدبرين، الذين لو تفكروا في خلق السموات والارض، وتدبّروا في ما يوجد في أطرافهم واكنافهم، فانهم سيكتشفون شعلة الهداية من اعماق العالم. العالم عبارة عن نور والقرآن الذي يعد الكتاب التشريعي لهذا الكتاب التكويني هو الآخر عبارة عن ضياء، ونور، وبصيرة وهداية وبيان وتبيين . ولكن قلب الانسان وروحه ونفسه هي التي يجب ان تُصاغ وتُبنيٰ وبالشكل الذي يتمكن فيه من الاستفادة من شعلة الهداية هذه . والّا فان القرآن في غير هذه الصورة يستخدم عبارة «الانعام» بحقهم:

{ ...لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَل}(1).

هنا يصبح ذا قوائم أربع. ان انسانية الانسان هي بتلك النورانيةالباطنية بحيث يمكنه الاستفادة من هذه الشعلة المنبثقة للّهداية في جميع انحاء عالمي التكوين والتشريع.

ص: 59


1- الأعراف: 179.

اهمية العقل والوعي في مسألة الهداية:

قد يكون المقصود من جميع الفعاليات الطواغيت والمستكبرين والملأ والمترفين، وكل الذين يريدون ايقاع الانسان في القيد والعبودية، هو سلب هذه الشعلة من نفسه و روحه، وتخديره واضلاله، وسلب نضوجه وتشخيصه ووعيه؛ اي اضلال وتحطيم النضج الفكري للناس، لكي يصيح ما يعطونه اياه ويلقنونه له طعاماً ومضجعاً مناسباً لتربيته تربيةً بهيمية كتربية النعاج والاغنام ويستثمرون لبنه وجلّده واصوافه، وبهذه الطريقة يستثمرون طاقاته العملية والفكرية لأغراضهم النفعية والاستعلائية والاستكبارية والتألهيّة. اما الاسلام فانه يُصرُّ علىٰ انماء هذه الجوهرة المعبرة عن انسانية الانسان، وهي عين وعيه ونضجه. ولهذا السبب فان باب العلم والجهل، وباب العقل كان مقدماً في كتبنا الروائية علىٰ كافة الأبواب، بما فيها باب التوحيد، فلا بد أولاً من تفتح العقل وهذا التفكر، لكي يمكن الوصول فيما بعد الى معرفة اللّه والاشياء الاخرىٰ ايضاً. وبناءً علىٰ ذلك، فان الخطوة الاساسية الاولىٰ في هذه المسألة هي عدم تعطيل هذه الافكار.

الفطرة ، احدیٰ الهدايات الالهية :

اذن ، فان الهداية موجودة في جميع انحاء الوجود فهي موجودة في الطبيعة، لاننا نعتقد بأن الوجود خلق بشكل منظّم، ولا يوجد من فطورٍ (1) في السماء ولا

ص: 60


1- اشارة الى سورة الملك : 3.

في الارض ولا طريق للفوضوية والتمزق والاختلال فيه ، وهناك مجموعةُ من القوانين والسنن الهادفة والحيّة والمنظّمة والمتصلة ببعضها البعض، تتولىٰ الادارة والقيادة، ضمن الاطار العام لجميع ارجاء العالم، وكذلك يُمثل القرآن دعوات الرسل والانبياء مجموعة من الهداية التشريعية وضعت للبشرية و تحت تصرفها. وتوجد في داخل الانسان ايضاً الدوافع والمحفزات الملكوتية التي تعد ايضاً نوعاً من الهداية المتعالية فيه. بمعنىٰ آخر، اضافةً لما يجب وجوده من الوعي ووضوح الرؤية، لكي يتمكن الانسان من الاستفادة من الهداية الخارجية،فتوجد في داخله ايضاً مادة الحركة والطاقة المحركة هذه؛ اي ما يعبر عنه القرآن الكريم بال«فطرة». والفطرة، هي التي تحرك الانسان وتسوقُهُ من داخله. فلا يمكنه ان لا يعلم، انه يريد ان يعلم؛ ولا يمكنه ان لا يفهم، بل يريد ان يفهم؛ ولا يمكنه ان لا يصمم ، بل يريد ان يصمم؛ ويريد ان يتطور وذو حركةٍ وفعالية . اذن، فان تلك الفطرة الالهية الطاهرة والنقية والارضية الالهية والملكوتية المساعدة، التي توجد في داخل الانسان، تعد ارضية اخرىٰ لتقبّل الهداية. ليس فقط التقبل، بل انها بحد ذاتها تعد عاملاً محركاً في هذه الحركة. وبناءً علىٰ ذلك، فان للّهداية مكانة كبيرة في الاسلام، بحيث يمكن ان تسمىٰ فلسفة الاسلام اساساً بفلسفة الهداية.

حرية الانسان في دائرة الهداية

نصل هنا الى هذه النقطة وهي ان الانسان خلق حراً؛ والانسان له القدرة علىٰ الاختيار، ولكن ضمن اطار الهداية، أحياناً يُنظر الى الحرية علىٰ انها بمعنىٰ عدم وجود اي قید و بمعنىٰ الانفلات او التسيّب او اللامبالاة لما يحصل، او كل ما

ص: 61

يتمناه ويريده القلب. في الوقت الذي لا توجد مثل هذه الحرية في النظرة العالية للاسلام. بل الحرية هي ضمن اطار الهداية؛ اي ان يتمكن الانسان من السير بحرية في طريق النور بواسطة الهداية التي تقوده من الداخل والخارج، نحو الكمال الوجودي وتعمل علىٰ تعاليه؛ اي ان يتمكن من تشخيص السنن ومن ثم الاستفادة منها؛ وان يتمكن من السير ونقل خطواته بالشكل الذي يعمل علىٰ نموه وتطوره . هذه هي حرية الاسلام، ولذا فان حرية التربية والتعليم، وحرية اختيار المسكن، وحرية الهجرة، حرية قبول الوطنية، وكل انواع الحريات التي يمكن ان تؤثر في انماء الانسان وانضاجه، ضمن اطار الهداية المتعالية وضمن اطار التكامل، يجب ان تكون في متناول الانسان تحت تصرفه، والّا فان الحرية العمياء والخرساء والحرية المظلماً غير مأخوذة بنظر الاعتبار؛ مثل الاعمىٰ الذي يمتلك نوعاً من الحرية، فيضرب الحائط احياناً بيديه، وأحياناً يكسر شيئاً ما، وأحياناً يتحدث بهذا الحديث او ذاك. مثل هذه الحرية لا هدف لها؛ ونشاطاتها خارج اطار الهداية؛ حركاتها غير هادفة ولا تقصد غايةً ما. انها عبارة عن حرية خرساء وعمياء، وباصطلاح القرآن الكريم يريد ا ٔن يُنضج الارادات،وان يزيد من قدرة الانسان علىٰ التصميم، ولكنه يريد ايضاً ان يسوق هذه القدرة علىٰ التصميم والارادة ، بحيث يجعلها ضمن اطار هداية الانسان، لا ان يوجد نوعاً من الفساد المكَبِّل والاختلال للانسان. واي نوع من الهوىٰ المقيِّد والمكبِّل، هو ضد الحرية النموذجية للاسلام؛ لان هذا الفساد يعمل علىٰ سلب ذلك التألق والتوجه الداخلي وقدرة الارادة تلك من الانسان. هذه الوساوس تقوم بمحاربة الدوافع العاملة علىٰ تكامل الجانب الانساني :

ص: 62

{أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْم...}(1).

فالهوىٰ يسلب الحياة من الانسان المضطرب ويسلب منه توجهاته . حيث ان الهوىٰ يُحدِث أحياناً وخزةً وصعقة معينة، ويقوم الفرد بعدها الى اتباع احدیٰ الشهوات ، فيسعىٰ الى اكتساب مالٍ ، او الركون الى ذلةٍ ، او اللّهاث للحصول علىٰ منصبٍ من مناصب الدنيا، ومن ثم الضلال وتوقف الهداية.

وبناءً علىٰ ذلك، فان الحرية لا تعني التخلي عن القوانين والسنن او الانفلات والاعتماد المطلق علىٰ النفس. مثل هذا الاستنتاج من مفهوم الحرية كمن يتصور ان قلع الشجرة من أصلها يعني تحريرها. بينما تعني هذه الحرية السقوط والفساد والانحراف التام. فلو بقي أصل هذه الشجرة ثابتاً في الارض، وعملنا علىٰ ازالة موانع نموها، وكافحنا الآفات التي تصيبها، وتغذت بمقدارٍ كافٍ ، نكون قد ساعدنا هذه الشجرة علىٰ الاستمرار في مسيرتها التكاملية الصحيحة. اي ان هذه الشجرة اصبحت حرةً في حركتها ومسيرتها وتكامل نموها. اما لو ضربنا اغصانها بالحجر، ولو لم نسقيها، ولو أوجدنا الموانع، فان ذلك يعني سلب الحرية عنها. اذن ، فان الحرية تجد معناها الحقيقي ضمن اطار السنن والعوامل المساعدة في تكاملها، وليست بمعنىٰ التخلي والانفلات من كل قیدٍ و شرطٍ واصلٍ وقاعدةٍ وقانون.

ماذا نفعل؟

وبناءً علىٰ ما تقدم، ماذا يجب ان نفعل لكي يصاغ هذا الانسان مع كل هذه الدفائن الباطنية وكل هذه الامدادات الغيبية والالهية والملكوتية، ومع هذا الهدف السامي الذي بُيِّنَ وَمُحَدِّدَ له؛ لكي يصاغ ويبنيٰ ويتحرك كما يجب ؟ هذه

ص: 63


1- الجاثية: 23.

هي ارضية موضوع بناء الذات. ماذا نفعل لكي لا يتوقف هذا النمو الفكري، ولكي لا تصبح ارادة الانسان وحريّته لعبةً بيد انواع العبوديات، وسلب الارادة واللامبالاة ؟ ماذا نفعل لكي لا يقع الانسان في مسيرته نحو الكمال بالهویٰ والحرص والوساوس، ولا ينخدع وان لا تظهره التعلقات الماديّة والطبيعية، بصورة الانعام والحيوانات ؟ ما هي آفات هذه الحركة، وكيف يجب ان نكافح هذه الآفات؟

ماذا نفعل لكي لا نتشبث بالمال والمنصب والمقام وامثالها؟

علينا ان نصمم ونتعلق بالهدف ونتشبث به حتىٰ نتمكن ان نستقيم اكثر في طريق الهدف، ان نتحلىٰ بالشجاعة، ونمتلك الشهامة والقدرة علىٰ التصميم، ونتحلىٰ بنكران الذات وعدم السعي لكسب الشهرة، وحتىٰ في مسألة الجهاد في سبيل اللّه يجب ان نستبعد مسألة الأنانية وحب الذات . والّا يكون هنا في ان يسجل العمل الفلاني باسمي واكراماً لي، وان ينتزع من الانسان حرصه في ان يكون هو في الامام والصدارة، وان يكون هو القائد ويذاع حديثه، ويذیب نفسه في اللّه سبحانه وتعالىٰ؛ ذائباً في الهدف والطريق وفي سبيل اللّه ومجتنباً المسألة الأنا.

وبناءً علىٰ ذلك، لا بد من دراسة سبل الفوز والفلّاح والنجاة في القرآن الكريم بقدرٍ من الأهمية، ومن ثم العثور علىٰ الطرق المؤدّية اليها. ومن الممكن ان تكون القضية واضحة، بأن التقویٰ تعد أمراً جيداً، وان الصلاح ونكران الذات من الأمور المقبولة، وعبادة الهوىٰ والطغيان والأنا من الامور المذمومة ولكن ماذا نفعل كي نوجد التقوىٰ، وكيف يمكن ان لا نقع في أسر وعبودية الطاغوت من حيث نعلم او لا نعلم؟ طاغوت الباطن والطاغوت الخارجي والمجتمع. ماذا نفعل لكي نكون مصداقاً للاية الشريفة : { ...فَمَنْ يَكْفُرْ

ص: 64

بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فقد استَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى...}(1)، لكي تحدث حالة الكفر بالطاغوت والايمان باللّه؟ لا أن تحدث حالة الايمان بالطاغوت، وتكون النتيجة حلول الظلمات والضلال والحيّرة، تواجه الانسان اینما يوّلي وجهه الصعوبات ويصبح كلّه ياس وتشاؤم وتيه وحيرة هذه هي خلاصة البحث وبدايته ، نأمل ان نكون قادرين من الجلّسة القادمة علىٰ الدخول والخوض في صلب البحث.

ملاحظة

ملاحظة(2)

أود أن اؤكد علىٰ هذه النقطة، وهي اننا لسنا بصدد البحث في موضوع الروح والجسم، وهل ان للانسان روحا مجردة غير البدن الطبيعي ام لا. فلو دار البحث حول الروح والنفخة الالهية، فان ذلك لا يعني باي شكل من الاشكال، بأن حديثنا يدور حول مسألة تجرد الروح، أو حول شيء بمقابل الطبيعة والمادة والجسم. وفي نفس الوقت، فاننا لا نقول بان كل ذلك عبارة عن جسم ومادةوطبيعة . ان بحثنا عبارة عن بحث فلسفي و بحث خاص بمعرفة الانسان . نرید أن نقول بان الانسان كائن ذو ملكات و دوافع الهية وملكوتية، ونريد ان نصل بعد ذلك الى القول بأن الانسان، ومن وجهة نظر فلسفية، لا فسيولوجية، ليس موجوداً مادياً وطبيعياً صرفاً، ولا نرىٰ بان جميع خصال وملكات الانسان منبعثة من الطبيعة والتراب والمادة ، لكي نقول بعد ذلك بارتباط الانسان وملكاته بأي نوع من المسائل الطبيعية والماديّة ، ولو بصورة المسائل الاقتصادية او ادوات

ص: 65


1- البقرة : 256.
2- بداية البحث في الجلّسة الثانية .

الانتاج او العلاقة بين الانتاج والتوزيع. فعندما ننظر الى الانسان باعتباره كائناً ذا رشحةٍ الهية وغيبية ، فانه وبناءً علىٰ ذلك، يكون كل ما اكتسبه، وكل انواع تحركاته، وبعثه ونشوره، غير نابعة من اعماق الطبيعة، وان كان موجوداً مادياً ونابعاً ومتولداً من الطبيعة، ولكنّه في احدىٰ المراحل اللائقة والسامية تعرض الافاضة الروح الالهية عليه وقبل الرشحة الالهية. ولذا فاننا لا نرىٰ بأن معنويات الانسان، وافكاره وثقافته واخلاقه الانسانية منبعثة من المادة الصرفة او من المسائل الماديّة الصرفة، بل ان له منبعاً آخر للالهام.

كما ان بحثنا لا يدور ايضاً حول ما اذا كانت الروح في البداية منفصلة عن البدن، ومن ثم الحقت به ام لا؟ وكذلك فانه لا يدور حول بحث الملا صدرا، وهل ان الروح جسمانية الحدوث وروحانية البقاء ؟ أي هل ان الروح حاصلة من الجسم ؟ أي هل ان اساسها ومصدرها الجسم ويمكنها بعد ذلك من خلال تدرجها وتطورها ان تبقىٰ بمعزلٍ عن البدن ايضاً؟ ولا شأن لنا بالجوانب الفلسفية الخاصة بالبحث.

ماهية الانسان :

ان الانسان يمتلك مجموعة من الاستعدادات فقط . فهل ان الانسان ذو ماهية معينة ، ام انه يفتقر الى ذلك وعليه ان يصوغ الماهية لنفسه؟ وهو نفس البحث الذي تتناوله فلسفة اصالة الوجود.. ويدور حول ماهية الانسان وهل ان الانسان يولد بدون ماهية ؟ وله وجود فقط، ولكن دون ان يكون له أي لونٍ او خصوصية، ويجب عليه ان يصوغ لنفسه ماهية معينة، ويحدد أبعادها وخصوصياتها؟

ص: 66

ومن ناحية أخرىٰ، هل ان الانسان يولد بماهية معينة، بحيث يوضع في خط جبري معين، وعليه ان يواصل السير قسراً في الطريق المحدد له دون اعتراض؟

ان فلسفة اصالة الوجود تلك تريد ان تصمد وتقاوم امام الفلسفة الجبرية الاصالة الماهية، لانها تريد ان تحرر الانسان من الجبر وتمنحه الشخصية والحرية المطلقة. انها تقول، بأن الانسان وبخلاف سائر الموجودات التي لها ماهية، لا يمتلك الماهية . بمعنىٰ ان الحيوانات عندما تدخل الى عالم الوجود، فانها توضع في المسير المعين لها و تقع تحت تأثير مجموعة الغرائز المودعة فيها وليس بمقدورها التخلف عن ذلك المسير . اذن، أصبح معلوماً بانها كيف ستكون والی این يجب ان تذهب.

وجهة نظر الاسلام في هذا المجال :

اننا نقول بأن الماهية لو كانت بمعنىٰ الارضية والاستعداد فانها موجودة في الانسان. أي ان الانسان عندما يدخل الى هذا العالم فانه يمتلك مجموعة من الاستعدادات والمؤهّلات. فالتربة التي تمتلك خصائص معينة ، لها الاستعداد علىٰ تربية نوع معين من النباتات، والظروف المناخية والشرائط الطبيعية الخاصّة، تمتلك الاستعداد والقابلية علىٰ تربية ونمو نوع معين من الأزهار والنباتات. ولكي يجب زراعة هذا المحصول وتربيته. وهكذا بالنسبة للانسان فانه يمتلك الماهية بمعنىٰ الاستعداد والارضية؛ انه يريد ان يتعلم، ويريد ان ينتفع، يسعىٰ لكسب الجاه و جلب الاحترام. مثل هذه الخصال والطباع موجودة فيه، ولكنها ليست بتلك الصورة القيّمة والتي نراها ونعتقد بها، ويجب عليه ان

ص: 67

يصنعها هو لنفسه. وتقع تلك الماهية والطبيعة بين اسفل السافلين واعلىٰ عليين . أي من ادنىٰ مقام بحيث ان الانسان عندما يراهُ يقول{يا لَيْتَني كُنْتُ تُراباً}(1) وهو ادنىٰ من مقام الحيوانات، والى ان يصل الى اعلىٰ المقامات وذروة العروج ويصبح انساناً متكاملاً. هذا المقام يجب ان ببنيه ويصوغه بنفسه .ان نعمة اللّه ولطفه ورحمته تتمثل في اعطائه ومنحه الاستعدادات المختلفة، وايضاً بالذخيرتين العظيمتين، أي قدرة التشخيص وقدرة الاختيار والانتخاب.

وفي خضم هذه العوامل المختلفة، فان حب الجاه والمقام يستحوذان عليه أحياناً ويذلانه ويستعيدانه بدرجةٍ كبيراً، بحيث يضحي بمقامه وقيمته الوجودية قرباناً علىٰ مذبح الصنم، ويضع حيثيته في مهب الريح. وأحياناً أخرىٰ فان نفس هذا الانسان يفكر تفكيراً متعالياً وسامياً، بحيث انه يضحي بمقامه، وامواله، واكثر من ذلك كله بنفسه في سبيل اللّه وفي سبيل الهدف، ولذا فانه ينال الفوز والفلّاح والنجاة والعظمة .

يقول اللّه جل وعلا في القرآن الكريم:

{يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَليم تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ في سَبيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً في جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظيمُ}(2)

ص: 68


1- النبأ:40.
2- الصف: 10-13.

ان مقدار ما تمتاز به هذه الآية الشريفة من الغنيٰ يتمثل بذكر افضل الاشياء في آخرها. فقد وردت فيها عبارات الخير ، وغفران الذنوب ، أي ازالة آثار كل انواع النقص والعيوب والاعوجاج والمنزلقات ، واكتساب الطهارة والتخلية والتزكية. وكذلك ذكرت مسألة الجنات والانهار، والمساكن الطيبة في جنات عدن. ويوجد ايضاً الى جانب ذلك كله الفوز العظيم والنصر والفتح والبشارة. بعد أي شيء يحصل كل ذلك؟ بعد الايمان باللّه ورسوله وجهادٍ في سبيل اللّه بالاموال والانفس، وبذل الجهد في سبيل هذا الهدف. أي انه يجب علىٰ الفرد ان يعثر علىٰ مسألة الايمان بالهدف في ظل التشخيص الحسن، وان يختار الجهاد في ظل حسن انتخاب الهدف عليه ان يستفيد من هاتين الذخيرتين العظيميتن المودعتين فيه أي قدرة التشخيص وقدرة الانتخاب-ویكتشف هدفه السامي، وينتخب طريقه، الذي يعني جهده وسعيه الذي يبذله من اجل استقرار هدفه، وينال بعد ذلك الفلاح والاشياء الأخرىٰ.

وبناءً علىٰ ذلك، لو كان المقصود من الماهية، بان الانسان خُلق منذ البداية، ووضع جبراً في طريق معين ومحدد له، دون ان تكون له ادنىٰ ارادةٍ او اختیار، فاننا نرفض مثل هذه الطبيعة والماهية للانسان . ولو فُسِّرَ القضاء والقدر علىٰ اساس ان تُحقَّرَ امةٌ من الأمم، وان تمجد امةٌ أخرىٰ، بدون وجود أي سبب او مبرر، وبدون أي ارادةٍ واختيار منهم، فان اللّه سبحانه وتعالىٰ لم يخلق مثل هذه الحتمية للانسان. ومن جهةٍ اخریٰ لو أردنا ان نقول بأن الانسان ليس بشيء وعبارة عن موجود فارغ المحتوىٰ، ويخلو باطنه من أي رسالةٍ أو صرخة، أو الهام، أو لا يوجد في محيطه الخارجي أي أثرٍ للّهداية والنور والافاضة النورانية،فان وجهة النظر هذه ايضاً ليست صحيحة. لقد خلق الانسان وهو يمتلك بداخله الملكات والدوافع المتعددة، وتوجد حوله وفي محيطه الخارجي

ص: 69

عوامل الاثارة والجذب والانوار، والظلمات والشياطين، والطواغيت والكثير من منابع و مصادر الالهام؛ الالهام الصادر أحياناً عن الشياطين، وأحياناً أخرىٰ عن اللّه والانبياء.

وبناءً علىٰ ذلك، فقد وصلنا الى هذه النقطة، وهي ان الانسان ليس

كائناً طليقة او خاويا وفارغة وبلا مضمون أو اساس: فهو ذو مضمون

داخلي وخارجي ايضاً. وتتجاذبه المؤثرات الخارجية والاستجابات الداخلية: صرخات الخير والشر، وصرخات السعادة والشقاء، وصرخات

الهداية والضلال.

حرية الانسان في اطار السنن:

المطلب الآخر الذي أود ان أبيّنهُ هو ان الانسان - وضمن «اطار السنن» - كائن حر. ما هو المقصود باطار السنن؟ المقصود: هو اننا نعتقد من وجهة النظر الإسلامية، بأن العالم مليءٌ بالنظم والقوانين والسنن، والمجتمع كذلك مليءٌ بالسنن والقوانين والنظم الاجتماعية الخاصة. والانسان كذلك يمتلك في داخله سلسلة من القوانين والسنن.

والانسان كائن حر ويمتلك قدرة الاختيار والانتخاب، ولكن ضمن هذه

المجموعة من السنن. يعني من الممكن أحياناً ان يعتبر الانسان عبداً واسيراً للسنن: اي قيدوه وساقوه بواسطة سلسلةٍ من القوانين والضوابط؛ كما هو الحال بالنسبة للنبات الذي يتوجب عليه ان ينمو تحت ظروف خاصة؛ ويواصل نموه شاء أم ابيٰ، وعلم ام لم يعلم؛ فقد وضعوا وحدّدوا له طريقاً معيناً وعليه ان يسير في هذه الطريق. ووضعوا كذلك للمجتمع مجموعة من السنن، بحيث ان هذه التحولات الاجتماعية، وهذه المراحل والمراتب الاجتماعية تتحقق بشكل

ص: 70

تلقائي شئنا أم أبينا . والتأريخ كذلك تابع للسنن المسيِّرة له، وهي ليست تحت سيطرتنا بطبيعة الحال.

ويقال أحياناً بمقابل ما تقدم ذكره، بأنه لاتوجد بالاساس أي سنّةٍ او قانون أو حساب.

كلا، فان هذين الرأيين ليسا علىٰ صواب و محكومان بالخطأ. اننا نقول بأن الانسان يمتلك الحرية وقدرة الانتخاب، ولكن في نفس الوقت، فان العالم ملجيء بالنظم والسنن والقوانين. والآن، يطرح هذا السؤال، وهو لو ان الانسان كان قادراً علىٰ الانتخاب، فما هو دور السنن اذن، ولو كانت السن موجوداً، فما معنیٰ قدرة الانسان علىٰ الاختيار والانتخاب ؟ طبعاً، لا نريد الخوض في بحث القضاء والقدر والجبر والاختيار؛ ولكي نشير فقط الى الحدود التي توجد فيها

ارضية ومنطلق لبحث موضوع بناء الذات.

الانسان موجود ضمن دائرة مجموعة النظم والسنن التي تحكم هذا العالم، ولكن بلورة هذه السنن واحيائها، ومعرفة هذه السنن وكيفية الاستفادة منها، وتسريع الحركة أو إبطائها من خلال الاستفادة من هذه السنن، هي في متناول اختيارنا وانتخابنا وارادتنا الحرّة. ونكرر استخدام التربة كمثال بهذا الخصوص:

ان للتراب خاصيّة معينة، وهي انه يعمل علىٰ تربية وانماء نوعٍ خاص من النباتات دون غيره، أما لو قمت انا الانسان الحر، بتطعيم نباتٍ علىٰ نبات آخر، وهيأت الظروف الطبيعية بالشكل الذي اتمكن فيه من جني المحصول مرتين في السنة ومن تربةٍ واحدة، فقد عملت علىٰ الاستفادة من نفس السنن الطبيعية. ولم أقُم انا الانسان الحر بخلق السنن ، بل انني محكوم بهذه السنن ایضاً؛ ولكننا أحياناً نترك الارض لينمو فيها أي نبات بدون تدخلٍ من قبلنا، او ندع شجرة ما علىٰ حالها، تنمو وتعطي الثمار حسب قابليتها الطبيعية، وفجأةً اتدخل انا

ص: 71

الانسان الحر ايضاً، في حركة السنن الطبيعية ؛ فأقوم بتقليم وقطع الاغصان الزائدة، واُكافح الآفات والأمراض النباتية بواسطة المواد السامة، واستخدم الاسمدة، واقوم باجراء أعمال المراقبة والمتابعة الأخرىٰ. وكل هذه الاعمال هي ايضاً من السنن والقوانين الالهية. ولو استخدمت السموم الكيمياوية فقد استخدمت سنةً الهية جديدة في العمل، اذن، استطيع انا الانسان الحر، ان استفيد من السنن المختلفة الموجودة في الطبيعة.

دور السنن في المجتمع:

وبهذا الشكل، فان المجتمع ايضاً خاضع لمجموعة من السنن، كما ان عزة او ذلّة مجتمع ما؛ قوته أو ضعفه؛ تطوره او ركوده خاضع لمجموعةٍ من القوانين. علىٰ سبيل المثال، فان القرآن الكريم يقول بأن التقوىٰ باعتبارها احدیٰ السنن، سببٌ في النصر؛ والصلاح سبب للوراثة، والايمان والعمل الصالح يبعثان علىٰ الفوز العظيم. ويعد هذا سنّة وقانوناً قطعياً. فأقوم بدوري في التعرف علىٰ هذا القانون وتطبيقه. بمعنىٰ اني أقوم بايجاد التقوىٰ في نفسي وفي مجتمعي، لكي

تحقق العاقبة الحسنة بعد ذلك، وأوجداًلصلاح في نفسي ومجتمعي، لكي تتحقق الوراثة والفلاح بعد ذلك. ان معرفة السنن ومعرفة كيفية الاستفادة منها، تعُد مسألة اساسية جداً للانسان الحر الذي يمتلك قدرة الانتخاب.

ولذلك لو طرح السؤال التالي، هل ان التاريخ خاضعاً للجبر ام لا، فنقول: نعم وكلا. أما كونه خاضعاً للجبر ، فبمعنىٰ ان التاريخ له سنةٌ وقانون، السنن التي لا تحویل ولا تبديل لها.

ص: 72

{...فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْديلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْويلاً}(1).

وكونه غير خاضعٍ للجبر، بمعنىٰ ان للانسان دورٌ في تغيير مسار التاريخ وتحويل هذه السنن، وتسريعها او ابطائها، او في ايجاد الموانع والعقبات أمامها، ويستطيع التدخل في كيفية الاستفادة من تلك السنن والقوانين.

وبناءً علىٰ ذلك، فالانسان كائن حر، ولكن هذه الحرية تحققت ضمن اطار القوانين والسنن الالهية، ولذا فان ابداء المقاومة والمجابهة امام هذه السنن يساوي الهزيمة والانكسار. وانكار السنن والقوانين الالهية ونفيها مساوٍ للانحطاط والضعف والانكسار. انّ الاستكبار، والتجبّر، والتكبّر، والاستعلاء التي نلاحظها كثيراً في المصطلحات الاسلامية، هي بمعنىٰ انكار القوانين والسنن الالهية، وعدم اعتبار الحق والقوانين الالهية ؛ اي ان التصور القائل، بان الانسان قادرٌ علىٰ ان يتجاوز الحقائق تحت اقدامه وينكرها، وانه قادرٌ علىٰ ان يظهر مخالفته للحق، انما هو تصورٌ باطل ومحكوم بالهزيمة والانكسار.

* * *

ص: 73


1- فاطر : 43.

ص: 74

اتباع الهوىٰ وبناء الذات

اتباع الهوىٰ وعبادة الذات أساس جميع الذنوب:

{وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى}(1)

وصلنا في بحثنا السابق الى هذه النقطةٍ، ماذا نفعل لكي تصاغ فعلاً وننمو ونندفع الى الإمام ؟ ماذا نفعل لكي نكون بمنزلة انسان الاسلام فعلاً؟ ان هذه المناقشات، إذا كانت لها جوانب فنيّة واحياناً علميّة ، فانها مقدمة للجوانب العملية والتنفيذية لتلك المواضيع.

ان الملاحظة الأولىٰ التي يجب دراستها والتأكيد عليها، باعتبارها اساس مسألة بناء الذات، فهي موضوع عبادة الهوىٰ وعبادة النفس.

وقد ورد في بعض الروايات ان الذنوب صنِّفت الى سبعين نوعاً، ثم يختصرونها الى سبعة، ومن ثم يختصرونها مرة اُخرىٰ الى ذنب واحد. ان اساس جميع الذنوب هي مسألة «عبادة النفس وعبادة الهوىٰ» . بمعنىٰ ان يصبح رأي الانسان؛ مقامه؛ موقعهُ؛ مصالحه ومطامعه صنمه الذي يعبده، ومن ثم يضحي بكل شيء قرباناً علىٰ مذبح هذا الصنم. وعندما يريد أن يقضي ويحكم، فانه يأخذ بنظر الاعتبار مصالحه الشخصية أولاً ، ويصدر حكمه علىٰ اساس تلك المصالح ويتفق مع كل فكرةً او سبيل أو منفعة أخریٰ تلتقي مع رأيه ومنافعه الشخصية، ويقبلها لو كانت متناغمة ومنسجمة مع منافعه ومطامعه.

ص: 75


1- النازعات: 60 و 61.

جهاد النفس:

يطرح القرآن الكريم مجموعة من المسائل في هذا المجال، ومنها مسألة جهاد النفس. ومما يثير العجب، عندما نبحث عن الروايات الاخلاقية المتعلقة بمسألة جهاد النفس، نتصور وطبقاً لتصورنا الذهني المسبق بانه يجب علينا ابتداءً، ان نعثر عليها في المواضيع الاخلاقية، التي تطرح عادةً في زاويةٍ قليلة الأهمية. ولكن وجدنا بأن الأبحاث الروائية الاخلاقية مذكورة في بعض الكتب في بحث موضوع الجهاد، ومن جملة هذه الكتب؛ وسائل الشيعة والكافي وفروع الكافي؛ أي انهم ذكروا مسألة جهاد النفس ضمن بحث موضوع الجهاد ومواجهة الأعداء واحكامه واقسامه. وتوجد في كتاب الجهاد روایات تتعلق بموضوع الصدق؛ وبخصوص موضوع الأمانة؛ والاستقامة، ومحاربة الانانیة والنفعية، واجتناب الظن واختيار السبيل عن طريق الظن والاحتماًل، حيث يستفاد من هذه الروايات بانه لا بد من اعداد النفس وتهيئتها نحو هذا النزال الكبير وقد يكون الاعتقاد السائد في الماضي بأن قوة السواعد والمهارة في استخدام الأسلحة، تعد شرطاً لازماً لأي حرب او جهاد. اما الاسلام فانه يعد مسألة بناء الذات، أي تحريرها وتربيتها علىٰ الاستقامة والصلاح، وجعلها ذات شهامة وارادة وطهارة، وتربيتها علىٰ الايثار ونكران الذات، یعُدّها من الأدوات والوسائل الهامّة، لايجاد حالةٍ من الجهاد الاجتماعي الواسع، والشامل، ولذلك فانه يرىٰ ضرورة وجود الملازمة في تعلم المسائل المتعلقة بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمسائل المتعلقة بالجهاد، الىٰ جانب تعلم مسائل بناء الذات والمسائل الاخلاقية .

ص: 76

وهناك رواية معروفة عن الرسول الاكرم ( ص ) أنه قال بعد عودته من احدىٰ المعارك : عليكم بالجهاد الاكبر. فتعجب المجاهدون العائدون من ميدان القتال وقالوا: وما هو الجهاد الاكبر هذا؟ قال: جهاد النفس؛ فان محاربة النفس، وبناؤها وصقلها يعدً مصدراً للكثير من الطاقات. لو تم بناء الذات، ففي ذلك الكثير من مصادر و منابع الطاقات والتجهيزات ومنطلقات الفتح والنصر.

وتوجد الكثير من الآیات والروايات المتعددة التي توضح لنا هذه المسألة بشكل جلی، وهي أنّ حصول الفتح والنصر في ميدان القتال يتم علىٰ يد الانسان الذي يتصف بالأمانة والوفاء بالعهد والصدق، الانسان الذي يجاهد نفسه؛ ونصيب المصلي المنفق الذي يتنازل عن ماله ويقوم بالاعمال الصالحة مقام الفلاح؛ ويكون الفوز والفلاح من نصيب الحاج ذو الصفات الفاضلة والمحب للصلاح والخير. ولذلك فان التعبيرات القرآنية تثير العجب حيث يقول سبحانه وتعالىٰ :{ ...الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقين}(1). ولم يقل بان العاقبة لمن يمتلك وكذا في الذخيرة الحربية والمعسكرات القتالية؛ بل انه يقول بان العاقبة والنصر النهائي تتحقق في ظل التقوىٰ.

{وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ}(2).

ان العباد الصالحين هم الذين سيرثون الارض، لانه بعد الصلاح تتحقق الوراثة، وبعد التقوىٰ يتحقق النصر. وهنا يكمن الأساس والمصدر.

ص: 77


1- الأعراف: 128.
2- الانبياء : 105.

حقيقة كبح جماح النفس:

بسبب الاستنتاج الخاطئ الذي قام به البعض للاخلاقيات الاسلامية، من الممكن أن يطرح هنا هذا السؤال: هل يجب سحق وكبح جماح الذات والنفس؟ أن بعض المستشرقين يُشكلون ويحتجون علىٰ هذه المسألة ويقولون: لماذا يتم التأكيد دائماً في الاسلام علىٰ هذه المسألة، وهي تحطيم النفس، قتل النفس، وتحطيم الهوىٰ؟ فمعنىٰ ذلك اني اسحقٌ ذاتي واحقِّرها؛ وبناءّ علىٰ ذلك، فاني لم اعمل علىٰ جعل هذا الانسان واثقاً من نفسه وناضجاً ومتطوراً، بل اوجدت انساناً محطّماً ومنكسراً. فهل حقاً أن المقصود من عملية قتل أو كبح جماح النفس ومخالفة ومحاربة الهوىٰ في الاسلام، المقصود منها تحقير الانسان، أم ان المقصود هو مسألة أخرىٰ؟

أن الهوىٰ والنفس التي يجب العمل علىٰ كبح جماحها، كما ورد في القرآن والروايات هي النفس التي تخالف اللّه وتقف بوجه الحق وتخالفه. ومسألة الأنا يمكن ان تواجه كل انسان. والانسان اقرب لنفسه من كل شيء آخر، وعليه فهو

يريد طبعاً تأمین منافعه واهوائه وصيانة نفسه قبل أي شيء آخر. أما الاسلام، ومن اجل صيانة هذه الذات، فانه يصر علىٰ ان يقوم الانسان بجعل جميع مساعيه ونشاطاته وتحركاته ضمن اطار الحق. وما هو الحق؟ انه مجموعة السنن الالهية والمجموعة التي لا بد من وجودها؛ وهي المجموعة المعروفة باسم الفضيلة والخير والكمال. أن الاسلام يقول: اجعلوا هذا الانسان داخل قالب اللّه والحق، لكي يمضي ويندفع الى الامام في مسيرة الكمال. ولو خرج هذا الانسان وهذه الذات من اطار الحق، وابتلي بالباطل والرغبات الفانية

ص: 78

والاّنيَة، فانه سيقع في الغلّ والسلاسل والقيود. ان حب الذات والانانیة والاتصاف بالنفعية وحالة الانحطاط والانكسار هذه، تجعل من ذلك الانسان المتعالي الذي يجب أن يتحرك نحو أعلىٰ عليين، تجعله محروماً و فاقداً للكمال.

وبناءً علىٰ ذلك، يجب كبح جماح الهوىٰ الذي يخالف اللّه ويقف بوجه الحق ويخالفه، لكي تتكامل تلك النفس البصيرة(1)، والتي الهمت بالفجور والتقویٰ(2)، والتي تم تعليمها بالاسماء(3)، ولكي تتحرر وتمكن الوصول الىٰ الذروة. والآن نورد مجموعة من الآیات والروايات المتعلقة بهذا الموضوع من اجل دعم وتأييد هذه المسألة من وجهة النظر القرآنية والروائية:

يخاطب اللّه سبحانه وتعالىٰ نبيه الاكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في سورة الشورىٰ بهذا الخطاب:

{فَلِذلِكَ فَادْعُ وَ اسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتاب ...} (4).

أي قل يا أيّها الرسول بأني آمنت وسلمت ل«ما أنزل اللّه» لا لما تريد اهواؤكم. تأملوا: أن كلمة «الهوىٰ» جاءت مقابل دعوة النبي «وما أنزل اللّه»، وطريق الهداية والنجاة. وهذا يعني بان الهوىٰ والنفس هما اللذان يكبح جماحهما دائماً. وبالنتيجة، فان مساحة حرية الانسان وشخصيته هي بمقدار سيطرته علىٰ هواه، ويقول سبحانه وتعالىٰ في تتمة الآية:

{...وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُم....}.

ص: 79


1- «بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصيرَة» (القيامة: 14).
2- «فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها» (الشمس: 8).
3- «وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها...» (البقرة: 31) .
4- الشوری: 15.

ولقد اُمرت بايجاد التوازن والتعادل بین اهدافكم المختلفة؛ الطبيعية منها والملكوتية؛ وجئت لبناء انسان متعادل، ونظامٍ اجتماعي عادل.

والآن هل يجب العمل علىٰ تقوية الهوىٰ، لتكون النتيجة،تحطيم دعوة الانبياء وسحق العدالة؟

ويقول سبحانه وتعالىٰ في آية أخرىٰ:

{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ ...}(1).

هناك مجموعة من الناس تخالف النبي، وكلما يدعوهم يظهرون العناد واللجاجة ويخاطبه اللّه سبحانه وتعالىٰ من باب التبرير او المواساة بهذه الآية الكريمة، اي أن اتباع الهویٰ هو الذي يحملهم علىٰ الوقوف بوجه الحق الذي

تدعو له.

ويقول سبحانه وتعالىٰ في اية أخریٰ:

{أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْم ٍ...}(2).

أي أن مسألة الهوىٰ أصبحت له بمنزلة الاله والصنم، والنتيجة هي الضلال والضياع والحَيرة؛ لأنه اذا اصبحت الفكرة النموذجية، او الشعار، او الهدف السامي ومجموعة القيم النبيلة والهدف الذي يسعىٰ له الانسان هو اللّه جلّ وعلا، فانه سيعمل علىٰ وضع نفسه في اطار تلك السنن وذلك المسير، ويتحرك نحو التعالي والتكامل. اما اذا لم يفعل ذلك و «أضله اللّه علىٰ علم»: فقد ابتلي بهواه وبالضلال والحيّرة والسوء، ويتغير حالة في كل يوم، ويرقص علىٰ ايقاعٍ ما.

ص: 80


1- القصص: 50.
2- الجاثية : 23.

ويقول سبحانه في مكان آخر:

{...فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا...}(1).

أن العدالة تقف بمقابل الهوىٰ، ولذلك فان اتباع الهوىٰ، يعني التخلي عن العدالة.

وبناءً علىٰ ذلك، فاننا نريد من جانبٍ أن نسحق حقيقة النفس ونحطمها و نجعلها اسيرة ومستعدة، ومن جانب آخر نعمل من اجل تحرير هذه الحقيقة ونقوي اجنحتها لتحلّق بكل طمأنينة. وعليه؛ فان المقصود بقتل النفس ومخالفة الهوىٰ في الاسلام، هو محاربة، ومخالفة آفات تكامل نفس الانسان. ولعل من اكبر الآفات ايضاً هي هذه الآفة؛ الهوىٰ.

قبول الحق ، مظهر تجلي الانسانية:

لو شاركنا في مجلسٍ للبحث والمناظرة، او في مناظرة لتقييم اجتماعي او في مناقشةٍ ما، وفي تحزبٍ او انحيازٍ ما، فهل يا ترىٰ نكون الى جانب الحق، أم الىٰ جانب مآرب معينة في انفسنا؟ من الممكن أن نتناول هذه المسألة بشكل طبيعي جداً، ونمر عليها مرور الكرام، بينما نجد بأننا غالباً ما نبتلي بالهوىٰ في مرحلة التشخيص الفكري ومرحلة الانتخاب والحكم الصحيح علىٰ المسائل والقضايا .. حيث نختار موضوعاً او حكماً معيناً، علىٰ اعتبار ان المراد هو هذا الحكم فقط دون غيره، وعندها نكون غير مستعدين لسماع رأي الآخرين اطلاقاً.

ص: 81


1- النساء : 135.

ولعل من أعظم مواطن ومظاهر تجلّي الحالة الانسانية، هي عندما يكون الانسان مستعداً للتخلي عن مواقفه وآرائه، بعد ثبوت خطئها، ثم التسليم امام هذه الحقيقة. ولعل الكثيرين يُبدون ضعفهم في هذه المرحلة، ويكونون غیر مستعدين للاعتراف بأخطائهم، والرجوع عن السبيل الباطل الذي سلكوه، والتخلي عن الآراء والافكار الخاطئة التي بدرت منهم، وأحياناً يسيطر الهوىٰ وحب الانا علىٰ الانسان، هذا الهوىٰ الذي يتجلىٰ أحياناً بصورة تفكير معين، يسيطر عليه سيطرة كبيرة، بحيث يتصورانه يسير علىٰ ذات الطريق التي حددها اللّه سبحانه لَهُ، وأن هذا السبيل هو عين تكليفه وواجبه فتراه يطعن هذا، ويذم ذاك، ويخطيء آخراً، معتقداً بانه يأمر بالمعروف وینهیٰ عن المنكر بشكل صحيح. ولكن لو أمعنّا النظر جيداً نرىٰ بأن القضية معكوسة؛ فهو يجعل من كل

شيء قرباناً علىٰ مذبح صنم هواه، وأن تعصبه الشخصي لذاته هو الذي يحركه بهذا الشكل. هذه هي المرحلة الأولىٰ من القضية.

الاسلام يعني قبول الحق:

المرحلة التالية هي {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلام}(1) أي أن الدين عند اللّه يتلخص بكلمة واحدة وهي الاسلام، بمعنىٰ التسليم أمام الحق وايضاً {...فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُون}(2)(لواعرض الاخرون ولم يقبلوا فقولوا بانا قد سلَّمنا امام الحق ).

هل أن التسليم امام الحق، يعني الذلة والصغار، ام يعني العزة والكرامة والشموخ والعظمة؟ فهل من العزة أن يتراجع الانسان امام الحق، استجابة

ص: 82


1- آل عمران: 19.
2- آل عمران: 64.

لمنافعه ومقامه الشخصي، أو بسبب تهديد او ترغيب الآخرين؟ وهل أن الحق أسمیٰ ام المطامع والأهواء الشخصية لكي يظهر الانسان تواضعه امامه؟ وهل يعد الذي يظهر اللجاجة والعناد ويصر علىٰ خطئه، صاحب الشخصية والكرامة ام ذلك الذي يظهر التسليم امام الحق؟ {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبين}(1)

فالمؤمن علىٰ استعداد أن يقول الحق ويقبل الحق، حتىٰ وأن كان ذلك علىٰ نفسه وعلىٰ أبيه وأمه واقربائه.

واذكر هنا عدداً من الروايات، لكي تلاحظوا أهمية مسألة مراعاة الحق والتسليم امام السنن الالهية. فقد ورد عن الامام الصادق(عليه السلام)،فِيمَا أَوْحَى اللَّهُ- عَزَّ وَ جَلَّ- إِلى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا دَاوُدُ، كَمَا أَنَّ أَقْرَبَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ الْمُتَوَاضِعُونَ، كَذلِكَ أَبْعَدُ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ الْمُتَكَبِّرُون (2).

عندما تطالعون الروايات الواردة في باب التواضع، ستلاحظون الكثير من العبارات التالية: «التواضع للّه»، «التواضع للحق». فعندما يتعلق الانسان ويرتبط بالحق، فقد اوجد مركباً سليماً يتمكن من خلاله أن یترقیٰ ويتكامل.

وقد ورد عن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال:

أَلَا إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ خَلَّتَانِ: اتِّبَاعُ الْهَوى، وَ طُولُ الْأَمَلِ؛ أَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وَ أَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِي الْآخِرَة(3).

أن اتباع الهوىٰ، يضل الانسن عن الحق؛ أي أن الحق يقف في جانب، والهوىٰ والحرص في جانب آخر. وكذلك الآمال الطويلة والعريضة من اجل

ص: 83


1- النساء: 135.
2- اصول الكافي: ج 2/ص 126.
3- بحار الانوار، ج 73/ص163.

الحياة المرفهة وجمع وادخار الاموال والثروات وامثالها، فان عاقبتها ونتيجتها تكون نسيان الآخرة وفقدانها.

في حديث منقول عن الامام محمد الباقر(عليه السلام) عن الرسول الاكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) انه قال:

يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ وَ عِزَّتِي وَ جَلَالِي وَ عَظَمَتِي وَ كِبْرِيَائِي وَ نُورِي وَ عُلُوِّي وَ ارْتِفَاعِ مَكَانِي لَا يُؤْثِرُ عَبْدٌ هَوَاهُ عَلَى هَوَايَ إِلَّا شَتَّتُّ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَ لَبَّسْتُ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ وَ شَغَلْتُ قَلْبَهُ بِهَا وَ لَمْ أُؤْتِهِ مِنْهَا إِلَّا مَا قَدَّرْتُ لَه (1).

اقسم بعزتي وجلّالي، وكبريائي، ونوري وعلوي وارتفاع مكاني، بأنه ما مِن عبدٍ يؤثر هواه علىٰ هواي، ويؤثر رغباته علىٰ أوامري وارادي وسنتي وسبيلي، الّا شتّت عليه أمره. أي جعلت نصيبهُ حياةً مضطربة وغير منظمة و فوضوية ومفككة، وعالماً ظلمانياً مشبوهاً لا وجود لأي نورٍ فيه، وقلباً مضطرباً ومشغولاً، يخلو من أي مساحةٍ فارغةٍ او نور او راحة وأمان. وفوق ذلك كله، لن يكون نصيبه في هذه الحياة الّا المقدار الذي تقتضيه وتحدده مجموعة السنن والقيم والعلل والاسباب(2).

ص: 84


1- میزان الحكمة: ج 10/ص 386.
2- ان استخدام التعبيرات الآنفة الذكر ليست بدون مناسبة وهي لطيفة جداً أن كلمات العزة، والجلال والكبرياء، والنورانية والعلو، والتفوق وارتفاع المكان. تعني أن يتمكن الانسان من تشخيص الطريق ويلمح افقاً مفتوحاً واسعاً في طريقه. وأن اختیار صفات اللّه هذه ليست اعتباطية. وكما تلاحظون جاء في نهاية احدىٰ الآیات «انَّ اللّهَ شديدُ العِقاب» وفي آیة اخرىٰ «انَّ اللّهَ رَؤوفٌ بِالعِباد». أن اللّه دائماً «رَؤوفٌ بِالعِباد»، اما كونه جاء في آخر الآية هنا فلأنه يتناسب مع موضوع الآية. وعلىٰ هذا الاساس، فعندما تتناسب الآية مع مسألة الانتقام، فانها تبين موضوع شدة العقاب انَّ المعيار والسنة الكلية الحاكمة علىٰ موضوع الآية، هي التي تُطرح دائماً في آخر الآية. أي أن هذه الآية يجب أن تتجلىٰ وتطرح من خلال هذه القناة والمجریٰ. و عندما يكون الحديث هنا حول مسألة العزة والجلال والكبرياء، يستفاد من ذلك الرغبة

وفي مقابل ذلك يقول سبحانه:

وَ عِزَّتِي وَ جَلَالِي وَ عَظَمَتِي وَ نُورِي وَ عُلُوِّي وَ ارْتِفَاعِ مَكَانِي لَا يُؤْثِرُ عَبْدٌ هَوَايَ عَلَى هَوَاهُ إِلَّا اسْتَحْفَظْتُهُ مَلَائِكَتِي وَ كَفَّلْتُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرَضِينَ رِزْقَهُ وَ كُنْتُ لَهُ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَةِ كُلِّ تَاجِرٍ وَ أَتَتْهُ الدُّنْيَا وَ هِيَ رَاغِمَة.

ان ذلك يعني الاهتمام والانتباه الى مسألة الامر الالهي، طبعاً لا ينبغي ان یداخلنا التصور القائل، بأن المهم ان تسعىٰ لاصلاح نفسك، وبعد ذلك سيأتيك رزقك اليومي تلقائياً، دون أن تبذل أي جهدٍ آخر، بل أن المقصود، هو ان تضع نفسك ضمن مسيرة الحق والسنن الالهية، واجتهد من خلال طرقها وسبلها المتاحة واندفع للامام، ولاحظ بعد ذلك كيف أن السموات والارضين ستعينانك وتساعدانك وتفتحان امامك السبل، علىٰ الرغم من رغباتك الشخصية، التي تكون أحياناً عبارة عن الميل الى الخمول والكسل، او المصالح الشخصية الفانية والآنية، او عبارة عن الخوف او اشياء أخرىٰ.

ينقل عن الامام الصادق (عليه السلام) انه قال:

قال رسول اللّه صلىٰ اللّه عليه وآله وسلّم:

لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ عَبْدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ وَ لَا يَدْخُلُ النَّارَ عَبْدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَان.

ثم يُسأل الامام الصادق عليه السلام: هل ان المراد بالكبر، ان يرتدي الانسان لباساً حسناً او أن يركب مركباً يدل او يعطي الانطباع بأنه مغرور؟ فيُبيّن له(عليه السلام) ان مراده هو شيء آخر. الكبر يعني انكار الحق والايمان الإقرار بالحق(1)؛ وان

في منح الانسان درجات العظمة والعمل علىٰ تعاليه ورقيّه.

ص: 85


1- (1) بحار الانوار : ج 73/ ص 235.

يرىٰ الانسان نفسه عظيماً وكبيراً، وبالحد الذي يجعله انساناً لجوجاً ومعانداً امام الحق، وغير مستعد للتسليم والاقرار.

اذن، فمن لا يذعن للحق لا يجد طريقه الى الجنّة، لا جنة هذه الدنيا ولا جنة الآخرة، ولا ينال سعادة وفلاح ونجاة هذه الدنيا ولا الآخرة. ان انكار الحق مساوٍ للذلة والدناءة والسقوط والدخول في جهنم ومقابل ذلك، يقول (ع ) بأن الايمان هو الاقرار بالحق. والمقصود بذلك، ان الاسلام ليس جنسيةّ، وفقط عندما يسأل عن عدد الالهه يجيب بوحدانية اللّه. الايمان هو الاقرار بالحق والاذعان له.

مظاهر تجليات الطاغوت:

ان الطاغوت في التعبيرات القرآنية، له ثلاثة تجليات وثلاثة مصادیق كبری، احدها هي الطواغيت الاجتماعية: الذين يريدون الهيمنة الاستحواذ علىٰ كل شيء. والآخر هو الشيطان، الذي يتمثل بمجموعة الوساوس والعوالم الخادعة والمضلّة المتجليّة فيه. والثالث هو طاغوت النفس؛ ويعني ذلك الصنم القابع في باطن الانسان {كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى}(1) ويعني ذلك الطغيان، والعناد والكبر الباطني. {..فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فقد استَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى...}(2)، ان الكفر بالطاغوت يعني عدم الاستسلام للطواغيت الاجتماعية التي تعني الذلة والعبودية وسوء الحظ والابدي، وايضاً عدم الاستسلام والاذعان لطاغوت النفس.

ص: 86


1- العلق : 6 و 7.
2- البقرة : 256.

وبناءً علىٰ ذلك، فان الانسان يمكن ان يصبح متكاملاً ومتعالياً، عندما يتحرر من الأنا.. من الأهواء والوساوس النفسانية ايضاً، والّا فانه لن يكون عبداً واسيراً وذليلاً، امام الغير وامام الوقائع في الخارج فحسب، بل أحياناً توجد بعض الأشياء داخل الانسان تأسره وتستعبده و تسيطر عليه. ولذلك يجب محاربة الأنا في الأحكام الاجتماعية والمواقف وجميع التصرفات الأخرىٰ.

حتىٰ انكم تلاحظون بأن احد الاشخاص قد يقف الى جانب حق معين، ولكن عندما تحللون هذا الموقف، تجدون بأنه طالما ضمن تأمین منافعه الشخصية ومطامعه النفسانية، وطالماً يوجد له مركزٌ اوارضية معينة في هذا الصف، ولأنه يحظىٰ بمدح وثناء الأفراد، وبالمجموع طالما توجد في هذا الصف مجموعة من المنافع والمطامع الاجتماعية لشخصه، او يبني عليها الآمال المستقبلية، فانه يدخل في ذلك الصف. انني لن اقترح عدم دخوله في ذلك الصف؛ ولكن أقول عليه أن يصلح نفسه، اقول يجب علينا أن نصلح انفسنا في البدایة، وبعد ذلك ندخل في ذلك الصف بكل صدق واخلاص لكي لا نلحق الضرر به. والّا فان الذي لا يدخل في مسيرةٍ معينة بكل صدق واخلاص، فما أسرع ان يلحق ضرراً كبيراً لتلك المسيرة ويوجه ضربة موجعةً لها. من الممكن أحياناً ان يشخّص الانسان ذلك الصف وينتخبه بكل اخلاص، ولكن تسيطر عليه مسألة الهوىٰ في الموقع او المكان الذي يجب أن يكون فيه، حيث أن مسألة وجوب جعل الرئاسة من نصيبي، ووجوب ان اكون انا المعروف والمشهور، دليلٌ علىٰ الأهواء والوساوس النفسانية.

وما اكثر الذين الحقوا الصدمات غير المقصودة بصفوفهم، لانهم كأنوا يريدون أن يُعلموا الآخرين، بقيامهم بالعمل الفلاني فقط، او اظهار انفسهم امام

ص: 87

الاخرين بمظهر المطّلع علىٰ ان العمل الفلاني تم بالصورة الفلانية وقد كُشِفَتْ الكثير من الاسرار بهذه الطريقة.

او ان يُصر علىٰ أما أن أكون في المكان الفلاني، والّا، يجب بعثرة وضرب هذا الصف. ان الهوىٰ والحرص ليست مسألةً لا بد من انعدامها دائماً منذ البدء.

وعلىٰ رأي الرواية التالية التي تقول «آخر ما يخرج من قلوب الصديقين حب الجاه»، والصديق هو ذلك الشخص الصادق

بتمام وجوده؛ والشخص المخلص الخالص والطاهر؛ وبناء علىٰ ذلك، من الممكن وجود الهوىٰ والحرص في باطنه وفي اعماقه وزوايا وجوده، ولكن لو أن هذا الهوىٰ سيطر في أي مرحلة من المراحل وفرض سلطانه، فانه سيتحول الى آفةٍ خطرة.

العودة الى الذات:

ماذا نفعل لكي نعير قدراً من الاهتمام بانفسنا ایضاً، اثناء الجهود التي تبذلها، وتزامناً مع أي خطوةً نخطوها، وأن نعود الى انفسنا ونرىٰ هل نمتلك الاستعداد القبول الحق؟ هل انا مذعن امام اللّه وامام السنن الالهيّة؟ هل أنا ضمن اطار السنن، ام أن الأنا وعبادة الهوىٰ ما زال موجودين في اعماق وزوايا قلبي؟ ولذا فان اللّه سبحانه وتعالىٰ يقول بان نتيجة السيطرة علىٰ النفس هي العزة والعظمة والكمال وتوفير الأمن والحماية.

يقول اللّه سبحانه وتعالىٰ في تلك الآية المعروفة:

{ قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ

ص: 88

وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ في سَبيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ...}(1).

لا يوجد من يقول: لا تحب الابناء، والنساء، والمسكن، والازواج، ولكن المراد والمقصود هي مسألة {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ}. فلو كان في احد الجانبين الهوىٰ والمنافع الشخصية وفي الجانب الآخر اللّه ورسوله، فهل اُرجّح اللّه ورسوله ام أُرجّح منافعي و مصالحي؟ وهنا يبين من هُوَ إلَه الانسان.

وبناءً علىٰ ذلك، فان مسألة محاسبة النفس والمراقبة وهذه المسائل الواردة في رواياتنا. تمتاز بأهمية كبيرة جداً، واصبحت هذه المسائل شيئاً فشيئاً بيد مجموعة من الصوفيين، والذين يمارسونها كحرفة ومهنة مع كثير من التصنّع.

حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا(2)

لا بد من ممارسة النقد والعودة الى الذات، وأن يعود الانسان ويراجع نفسه ويقيم نفسه ويرىٰ هل أن اهمية وقيمة الحق اكبر عنده، ام الاشياء التي يفكر بها هو؟

ان المطامع ايضاً لا تتمثل دائماً بالمال والمنصب والمقام الاجتماعي فقط.

أحياناً يتصور الانسان فكرة معينة مع نفسه، ويرىٰ بأن هذه الفكرة اصبحت جزءاً من وجوده، ويصبح غير مستعد للمناقشة في انه قد يكون الحق مع غيره وليس معه، وتراه يصرّ علىٰ ذلك ويتعصب لرأيه. مثل هذا الانسان مستعبد ومسترَقّ وذلیل ولا حول له ولا قوة:

مَا مِنْ رَجُلٍ تَكَبَّرَ أَوْ تَجَبَّرَ إِلَّا لِذِلَّةٍ وَجَدَهَا فِي نَفْسِه (3)

ص: 89


1- التوبة: 24.
2- بحار الانوار : ج 7/ص 3.
3- بحار الانوار: ج73/ص225.

أن التكبر حالة مرافقة للذلة؛ والتكبّر هو عين الذل؛ والانانية والتعصب غیر المبرر هو عين الذلة والانحطاط. وبشكل ادق؛ فعندما يفكر الانسان بأن مصالحه فوق كل شيء ويجب أن تبقىٰ محفوظة دائماً، ولو علىٰ حساب الحق، فانه في هذه الحالة يكون في منتهىٰ الذلة والانحطاط، اما عندما يكون متواضعاً امام الحق، فانه يتحول الى انسان وملكوتي، ومستعد للتسليم والاذعان امام الحق.

هذه هي احدىٰ الابحاث التي تناولناها كمدخل ومفتاح لهذا الموضوع فقط، لغرض التأكيد علىٰ أن مسألة الكبر والتجبّر والطغيان الذاتي، ومسألة الهوىٰ، تكمن جذورها في داخل الانسان. يجب علينا أن نقوم بالبحث عن ارضیات التحولات التاريخية، والتحولات الفردية والاجتماعية، في داخل البشر ومن

خلال وجودهم. وأن نعلم بأن هذه التحولات تستمد حيويتها من داخل انفسنا، وان البشرية هي التي تصنع التاريخ وتغير مساره؛ وان الدوافع الطغيانية الداخلية للافراد هي السبب في ايجاد مجتمع غير عادل وغير متوازن؛ وان الاهواء هي السبب في ايجاد الظلم وسحق العدالة والحق، والذين يبحثون عن الحق، ويطلبون العدالة، هم الذين يغيرون مسيرة التاريخ، ويبنون المجتمع السالم.

وفاة الزهراء (سلام اللّه عليها):

لقد كان في نيتي أن اخصص قسماً من حديثي في ذكرى وفاة سيدة الاسلام العظيمة، الصديقة الطاهرة سلام اللّه عليها(1). والحقيقة فان حلول مثل هذه الايام التاريخية، تعطينا فرصة طيبة للتعرف أكثر علىٰ عظماء وأئمّة ديننا

ص: 90


1- القي هذا البحث بمناسبة تقارن ایام وفاة الزهراء (سلام اللّه عليها) مع زمان هذه المحاضرة.(د)

الحنفيف. ولكن للاسف لم يتسنّ لنا تناول هذا الموضوع بالشكل الذي يليق به بسبب ضيق المجال، ولكون ان سياق البحث لم يكن بهذا الخصوص. نسأل اللّه سبحانه وتعالىٰ ان يحيي في قلوبنا معرفة اهل البيت وعظماء وقادة ديننا الحنيف، وأن يضاعف محبتنا وارتباطنا باهل هذا البيت والطريق الذي ساروا عليه، والصفات والخصال والاخلاقيات التي كانوا يمتلكونها.

والحقيقة يتمكن الانسان ان يجد فاطمة الزهراء (سلام اللّه عليها) في تجلياتها الروحية والمعنوية وفي شخصيتها الانسانية؛ تجلي فاطمة (سلام اللّه عليها) في حسن التبعل، وفي الأمومة، وتربية الأبناء، وفي مواقفها الاجتماعية، والمشاكل الاجتماعية ومعتركاتها، وفي ترجيح الحق علىٰ الرفاه واللامبالاة وعلىٰ الاهواء. ان حياتها وان كانت قصيرة، ولكنها مثمرة وغنية بالمواقف، فهي عبارة عن نموذجاً انسانيّاً والهيّاً. وتخضي في كل مساحةٍ صغيرةٍ من حياتها، فصلاً كبيراً وعظيماً من التعليم الاجتماعي والتعليم الفكري الديني انها عبارة عن اعمالٍ وممارسات تعكس حقيقة الاسلام، ونمتلك اليوم بحمد اللّه تعالىٰ افراداً صالحين يمثلون نماذج عملية تبشر بالخير. لو اراد الانسان ان يكون مجداً، ويجاهد في سبيل اللّه، ليصبح انسان الاسلام، ويكون موقفه موقفاً اسلامياً، تجاه الاخلاقیات والخصال الاسلامية فان وجود الفرد الذي يعبر في اعماله عما يريده الاسلام في مجتمع ما، أو في العائلة والاسرة او المحيط الذي يعيش فيه، له من الاثر البالغ والاعلام المؤثر الذي يفوق بكثير تأثير مئات الساعات من الخطب والمحاضرات. ان الخطب بدون العمل و بدون وجود الافراد النموذجيين -في العفو، والأدب، والتواضع وعزة النفس، والمناعة، وحسن الخلق، والعبادة

والشهامة -له تأثير ضئيل ومحدود جداً. أن اعظم وافضل الادوات الاعلامية للاسلام هم الأفراد الصالحون . وانهم يعوضون عن الكثير من الكتب والتأليف

ص: 91

والبحوث والتفاسير والفلسفات، في تبليغ الاسلام ونشره وهداية البشرية.

نرجو من اللّه سبحانه وتعالىٰ أن يوفقنا جميعاً لبناء ذواتنا، وأن ينبهنا عن نومة الغافلين، وأن يجعلنا من انصار الحق والعدل، وانصار طريق اللّه والمدافعين عن سبيله.

* * *

ص: 92

خلاصة المباحث السابقة:

قلنا بان احدىٰ واجبات الانسان تتمثل في معرفته للسنن والقوانين التي لو تمت مراعاتها، فانها تستوجب وصول الانسان الىٰ كماله الوجودي. والواجب الآخر هو التحرك ومحاربة الموانع والآفات. وتوجد في الاسلام سلسلة من القوانين التي يمكن ان تمثل نوعاً من بناء الذات واعدادها المحاربة الآفات والانانيات وعبادة الشهوات. وعلىٰ سبيل المثال، فان الانفاق، اضافةً لبعده الاجتماعي، المتمثل في كونه خدمة للمجتمع، وفي سد النواقص والاحتياجات وتعديل الثروة، فانه يساعد علىٰ البناء والانعتاق من التعلق بالثروة والمنافع الشخصية، وكذا مسائل الصلاة والصيام، والدعاء والانابة، والعبادات والاعمال الاخرىٰ الموجودة في الاسلام، فان قسماً كبيراً من اهدافها تتمثل في بناء ذات الانسان، ومحاربة الذات، وتحريك الانسان وتهذيبه لغرض وصوله الى الكمال.

وقلنا ايضاً، لو ان الانسان وصل الى هذه المرحلة من الكمال

بحيث لا يكون الهه هواه، وان لا تكون اهوائه الشخصية معياراً

يستند اليها في تقيياته واختياراته وافعاله، فان هذا الانسان يعد انساناً حراً وفالحاً:

ص: 93

ص: 94

معايير الأخلاق

{... وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون}(1)

{يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبيرٌ بِما تَعْمَلُونَ}(2).

ص: 95


1- الحشر:9.
2- المائدة : 8.

تأثير الظروف المختلفة علىٰ خصال الانسان:

ان القسم الآخر من هذا البحث، والذي يجب ان تناوله بقدرٍ من البحث والدراسة، هو أن الظروف الطبيعية، والظروف المحيطة سواء الاجتماعية، او الاقتصادية أو السياسية، لها دور اساسي ومهم جداً في بلورة خصال الأفراد، وحتىٰ علىٰ عملية الاستنتاج ونوع الحكم علىٰ القيم، فان لها نفس الدور الهام الآنف الذكر: أي الانسان ليس حراً بالمفهوم المطلق، ولا يمكنه ابداً ان يصل بشكل سريع الى تلك الهداية الذاتية الباطنية {فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها} .(1) دون اي مانع أو رادع.

ان المحيط، هو الذي يبنيٰ ويصقل الانسان، ويقوم بايجاد الأصول والقيم، ويلقنها للفرد، واحياناً يتمثل المحيط بمجموعة من الظروف الاقتصادية، وأحياناً بنوعٍ من الاعلام السياسي أو الروابط الاجتماعية. ان الآداب والتقاليد الوطنية لامةٍ من الأمم بل النظام باُسره، التي تحوّل تلك الامة الى امةٍ كسولة،وتحوّل الشعب الى شعب مكبّل ومستعبد، لا يرىٰ الّا نفسه. ان الظروف الاجتماعية هي التي تغذي الانسان وتلقنه بهذه الخصال. وشيئاً فشيئاً تتولد بعض الظروف التي تجعل الانسان يعتقد بأن القيم هي هذه لا غير؛ بمعنىٰ انه حقيقةً يختار لنفسه الأصول والقيم الاخلاقية، علىٰ اساس تلك الظروف الاجتماعية والتربية الاجتماعية؛ فيستنبط من مفاهيم الذكاء والدراية والفطنة وامثالها بعض المعاني المطابقة والمنطبقة مع ظروف المحيط الذي يعيش فيه.

ص: 96


1- الشمس: 8.

احد المنزلقات:

نواجه هنا منزلقاً وانحرافاً في فهم احدىٰ المسائل، وهو ان البعض قد تصوروا، بأن القيم والأصول الاخلاقية، لا توجد اساساً بشكل ذاتي، وبأن الاخلاق عبارة عن أمر نسبي؛ وبأنها وليدة المحيط والسياسات والعلاقات الاقتصادية؛ وان الظروف الاجتماعية وحدها التي تغذي وتلقن الناس، ببعض الامور باسم الاصول الاخلاقية، التي تصبح جزء اًمن الفلسفة السياسية للمحيط، وجزءاً من الطابع الاجتماعي المعاش وبما ان الظروف والأوضاع والانظمة مختلفة ومتعددة، فان الأصول والقيم تتولد بشكل متنوع و متعدد ولذلك فانهم يتصورون، بأن الأصول الاخلاقية، بمعنىٰ الواقعيات والحقائق التي تمتاز باصالتها بعيداً عن المجتمع وظروفه المختلفة لا وجود لها، بل ان كل هذه التصورات، عبارة عن تحلیلات فرضتها ظاهرة التنوع في الظروف. وبالنتيجة، تلاحظون احياناً، ان بعض المدارس الفكرية تنفي مسألة الاخلاق بالاساس، وينكرون الأصول الاخلاقية، ويقولون بان النظام الاقتصادي، ونوعية علاقات الانتاج والتوزيع في الظروف المختلفة، هي التي تولِّد أو تحتِّم اصولاً اخلاقية خاصة والجدير ذكره بان هذا المنزلق يعدّ من اكثر المنزلقات غرابة وظرافة.

أحياناً يدور بحثنا حول واقعية المسألة، واخرىٰ حول حقيقتها ومرةً نبحث عما موجود و ما نجده، واخرىٰ يكون بحثنا دون اعتبار واقعیات المحيط والتي هي وليدة الظروف، عن الاصول والحقائق وهل لها وجود ام لا؟

نقول بكل اطمئنان وبدون أي شك، ان الانظمة التي تشيع الاستبداد والعبودية، توجد نوعاً من الاخلاق التي تقول، بان الانسان المتملّق هو مواطن

ص: 97

جيد؛ ولو كان يتعايش مع الآخرين فانه ينفع في الحياة المشتركة، هذه هي الأخلاق المطلوبة للتعايش. «التعايش» في ظل ظروف اجتماعية معينة، يمثل «الأخلاق المطلوبة في الحياة»، ان السعي والعمل علىٰ تحقيق المصالح المعيشية، علىٰ اساس المنافع والمطامع، واختيار نوع العمل والطريق المراد السير عليه، هي التي تمثل اخلاق اي مجتمع من المجتمعات. ان التفكير المصلحي للمعيشة، بمعنىٰ ان يفكر الانسان بطريقةٍ، بحيث يختار علىٰ ضوئها نوع العمل والتخصص الدراسي وموقفه الاجتماعي وعلاقاته، بحيث يتمكن من انجاز اعماله ويحصل علىٰ دخلهِ بدون ضوضّاء وبكل هدوء وراحة، ويحافظ علىٰ منصبه ولا يشغل نفسه بالخوض مع الاخرين . يمثل ذلك نوعاً من الأخلاق الحياتية لمجتمع من المجتمعات وله قواعد و اصول معينة. ومن المؤكد بأن انظمةً عديدة تبرز الى الوجود بهذه الطريقة.

ان الفضيلة في بعض الظروف الاجتماعية والبيئية ايضاً، تعني الحركة والمواجهة والنضال وعدم الاستسلام وعدم المساومة، هذه الظروف الاجتماعية لها نوع من الحالات الثورية والحماسية والنشطة المتغلغلة والنافذة الى كافة زوايا العوائل وفي اعماق المجتمع . فالفرد الذي يختار اصولاً معينة لتغيير مجتمعه وتطويره، هو الفرد المطلوب والمحبوب و محل التقدير والثناء. في مثل هذا المجتمع، ومن خلال ظروفه الاجتماعية، تولد قيمٌ جديدة؛ ان وجود الهدف والتحرك يوجدان اصولاً جديدة، وتقومان بتلقينها للمجتمع والجماهير .

افترضوا، بأن مسألة التعصب، في الظروف المعاشة الجاهلية تمثل الأخلاق الحياتية. بمعنىٰ أن اضحي بنفسي واعرضها للقتل في سبيل قومي وقبيلتي، بسبب تعرض قبيلتي للاهانة مثلاً. أي ان الذي يقاتل لمدة ستين سنةٍ، ويضحي

ص: 98

بنفسه، بسبب تعرض بعير القبيلة الفلانية للاهانة، يعد عمله هذا من الاخلاق الحياتية. بل ان الذي لا يحمل السيف ولا يحارب دفاعاً عن كرامة قبيلته، يعد شخصاً عديم الاخلاق و منحرف. نفس هذا المجتمع يتغير حاله، ومع مجيء الاخلاق والتربية الاسلامية، يحمل ذلك الشخص السيف بيده، ويحارب ضد عمه واخيه وأبيه وافراد قبيلته، لكونهم مشركون وظلمةً ومناوئون للحق. هنا يتجلىٰ الحق والعدالة كقواعد و اصول اخلاقية؛ وتصبح نظرية اسلامية وقواعد و اصول. نفس ذلك الأب، والاخ، والام، الذي قاتل من اجله ثلاثين عاماً، عاد وحمل السيف بوجهم واخذ يحارب ضدهم، ويصبح ذلك اخلاقاً.

وبناءً علىٰ ذلك، اصبح من المؤكد، بأن الظروف الاجتماعية المختلفة، تطرح بعض المسائل، بعنوان الاخلاق والقيم الاخلاقية وتغذيها للناس، وتلقِّنها اياهم، وتنمّيهم علىٰ هذا الأساس: والسؤال هذا هل توجد اصول و قيم معينة اخرىٰ، غير ما تفرضه المجتمعات والظروف المختلفة علىٰ الانسان ام لا؟ لو كانت غير موجودة، فان الاخلاق وبناءً علىٰ ذلك تعد أمراً نسبياً، تفتقر الى أي اساسٍ أو قاعدة.

وتصبح مسألة القدرة علىٰ البقاء، وكل ما يمكن ان يساعد الانسان، ويعينه علىٰ العيش بشكل اكثر رفاهاً وهدوءً، يصبح هو الأصل والقاعدة والمعيار.

وجود المعايير الاخلاقية الثابتة:

اما الاسلام فانه يعلمنا بانه ناهيك عما يوجد خلف النظام والقوم والقبيلة وافراد العائلة وجميع المسائل التي لها أدنىٰ نوع من التعلق والارتباط بالانسان، فانه توجد فيما وراء انفسكم مجموعة من القيم ايضاً. لان ارتباط اي شيء بالانسان مهما كان نوع ارتباطه وتعلقه به، لا يقترب من الانسان بقدر قربه هو

ص: 99

من نفسه وذاته وروحه، واقرب شيء للانسان هي ذاته ونفسه. ان الاسلام يقول لا تجعل حتىٰ من نفسك معیاراً لتحديد و تشخیص القيم والأصول. يوجد شيء ما فيما وراء ذاتك، وتلك هي مجموعة السنن التي تطرح لك بعنوان الحق. ويتوجب عليك ان تدور حول محور الحق، و تضع نفسك ضمن

اطار مسيرته، ولو تمسّكت به، فقد تمسَّكَت بالعروة الوثقىٰ {...فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فقد استَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى...}(1).

وفي هذه الحالة، فانك ستطوي سَيْركَ الصعودي نحو التكامل، ويعكسه فان النتيجة ستكون السقوط {...فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوي بِهِ الرِّيحُ في مَكانٍ سَحيق}(2).

وبناءً علىٰ ذلك فان الاسلام يعتقد بوجود مجموعة من الاصول باسم الأصول الاخلاقية خلف هذه الظروف والعوامل الاجتماعية والآداب والسنن.

ولكننا لا ننكر وجود الظروف والأعباء الاجتماعية المفروضة، ولذلك فان مواجهة الظروف الاجتماعية المختلفة، تطلب ممارسة المجاهدات المختلفة، بمعنىٰ أن المجتمع الذي يريد ان يتخلص من ظروف الانحراف والفساد، ويخرج منها نحو الحق، يجب عليه ان يُحدد العوامل المؤثرة، والتي عملت علىٰ افساد المجتمع؛ وما هي نوعية التلقينات الخاطئة، وطرق التربية و تبلیغات السوء، والثقافة المشؤومة المفروضة علىٰ الأمة، لكي يتسنىٰ قلع تلك الجذور الفاسدة وهدم قواعد الفساد الفكريّة والاخلاقيّة ومحاربتها. بمعنىٰ انه لا يمكن محاربة نوعية الروابط الاجتماعية، قبل تغيير تلك الاسس الفكرية والاخلاقية وتلك المفاهيم السائدة في المجتمع. ويجب علىٰ تلك الأمة ان تغير معتقداتها

ص: 100


1- البقرة : 256.
2- الحج: 31.

وافكارها اولاً، ليتسنىٰ لها استيعاب وقبول انظمة الحق والعدالة. عليها اولاً ان تحدد تلك الانحرافات ومن ثم تتحرك نحو الحق. وبناءً علىٰ ذلك، فان المراد بالتربية الاخلاقية، وبناء الذات، وبناء المجتمع، هو تغيير الأسس والمفاهيم المفروضة، والذي يعد بحد ذاته جهاداً اجتماعياً كبيراً . وكما ان جهاد النفس - أي بناء الذات - يمثّل الجهاد الاكبر، فان بناء المجتمع، بمعنىٰ تطويرالافكار وتوسيع آفاقها، وادخال التربية الاخلاقية الصحيحة، فايجاد الافكار الجديدة والصحيحة، يعد واحداً من حالات الجهاد الاجتماعي الكبير.

ضرورة وجود المعايير الأخلاقية:

والآن ؛ ما هي الأصول والمعايير الاخلاقية في الاسلام؟ ولو صار الامر الى ان لا يكتسب الاخلاق من ثقافة امته ولا من الثقافة المفروضة عليه من الشرق والغرب، واراد فعلاً ان يحصل علىٰ هذه الجذور والاسس والاصول الاخلاقية، فما هي هذه الأصول الاخلاقية؟

ان المسألة تعد من المسائل المعقدة في الاسلام، يقول الاسلام كما جاء في القرآن والروايات بأن الشجاعة صفةٌ حسنة، والسخاء عمل صحيح، والتواضع كذا، والاتفاق كذا. ان هذه المسائل الاخلاقية تؤخذ بنظر الاعتبار احياناً، لأنه يمكن البحث عنها بكل سهولة في الاسلام. ان القواعد الاخلاقية واضحةً تماماً و كثيرة جداً ايضاً، ولكن الأصول والمعايير ضرورية من وجهة نظرتنا العالمية واصولنا الفكرية من جهة، وضرورية ايضاً لأن حالة هذه التعاليم من الممكن ان تتغير في الظروف المتغيرة اننا بأمس الحاجة لرؤية فكرية والأساس معين لعملنا.

النأخذ مثلاً مسألة الصدق، فانه يعد وبشكل قطعي وواضح، تعليماً وأصلاً اخلاقياً صحيحاً. ولكن هل بإمكاننا ان نكون دائماً صادقین، ام لا بد من الكذب

ص: 101

في بعض الظروف؟ من الممكن ان تظهر بعض العناوين الثانوية لموضوع الكذب ، وهل يمكن اعتباره مسألة واجبة ام مستحبة، ولكن ما هو المعيار الذي يتمكن الانسان بواسطته، قياس هذا الحكم علىٰ اساسه، ليریٰ اين يتم تأیید هذا الحكم والموافقة عليه، واين يجب الغاء او تحديد هذا الحكم؟ وبناءً علىٰ ذلك، فان امتلاك المحك والمعيار ضروري جداً للمسائل الاخلاقية، وذلك لكي يتمكن الانسان بواسطة ذلك المحك، ان يقيس التعاليم التي لم يسبق له التعرف عليها، ليعلم هل انها تعاليم اخلاقية ام لا من جهة، وايضاً لكي يطلع علىٰ أُطُر تلك التعاليم ويتعرف علىٰ فروعها واجزائها ومصادیقها وتفاسيرها من جهة أخرىٰ.

معايير تشخيص الخضال الاخلاقية:

يبدو لي انه يمكنني ان أذكر عدداً من المسائل، بعنوان اسس الاخلاق الاسلامية المتعالية:

1- الكمال:

احداها هي مسألة الكمال، ويعني أي نوعٍ من انواع العمل او أي خصلةٍ، تعطي الحركة للانسان و تساعد علىٰ نضجه في ابعاده الوجودية، وتعمل علىٰ تسريع هذه الحركة، وأي نوعٍ من الأعمال أو الروحية أو الخصال والاسس الموجودة في الانسان او التي يتم ايجادها فيه، والتي تساعد هذه الحركة التكاملية للانسان وتعمل علىٰ تسريعها. يمكن ان يعدّ هذا اصلاً كلياً. ولانه لا يلبي المفهوم المراد بشكل كافٍ فان قبوله كأصل يعد أمراً مشكلاً تقريباً. من الممكن ان تدعي الكثير من المدارس الفكرية بانها ترمي الى كمال الانسان،

ص: 102

ولكنها تفسر الكمال بأنماط مختلفة. وعلىٰ سبيل المثال، من الممكن ان تریٰ احدىٰ المدارس الفكرية كمال الانسان بصورة اكثر في اللذة ؛ لان فلسفة تلك المدرسة مبنية علىٰ اللذة. وهكذا فان كمال الانسان من وجهة نظر تلك المدرسة يكمن في هذا الأمر، وهو ان ينال قدرة اكبر من اللذة. أو افترضوا بان

تحسين العلاقات الاقتصادية تصبح هي الأساس، من وجهة نظر احدی المدارس الفكرية، وبناء علىٰ ذلك، فان المجتمع او الفرد الذي يتمكن من ایجاد نوع من التعادل والاشتراك والتنسَيق الاقتصادي، يكون قد اتجه نحو الكمال المطلوب. اذن، فان ممارسة وبذل أي جهلي في هذا المجتمع، واي روحية يمتلكها الفرد، مثل روحية العمل والتعاون وتساعد هذه الروحية علىٰ ایجاد هذا التوازن والاعتدال الاقتصادي، فان ذلك يعد صفة اخلاقية وحركة تكاملية ، لانهذه الخصلة تصبح السبب الذي يدفع هؤلاء الأفراد الى الحركة الايجاد هذا النظام الاقتصادي.

وبناءً علىٰ ذلك، يجب علينا ان نرىٰ اولاً ما هو تفسير الكمال في الاسلام، وكيف يفسر الاسلام مفهوم التكامل، ولكي نعلم كيف ينظر الاسلام الى الانسان الكامل والمتعالي والمتكامل، فاننا مضطرون ايضاً الى ان نستمد العون من سائر الاصول الاسلامية. حسب رأي الاسلام، فان السير التكاملي للانسان عبارة عن السير الى اللّه وان يكون الانسان الهياً، وايجاد الصفات الإلهية وتحلیتها وانضاجها في وجود الانسان، بحدود مساحته وسعته، ولذلك فان أي خصلةٍ وأي عمل يساعد الانسان على نموه و كماله ، يمكن ان يعد خصلةً وعملاً اخلاقياً، وكل خصلةٍ تمنع الانسان عن كماله ونموه ، فهي خصلةٌ لا أخلاقية.

ص: 103

2- كرامة النفس:

قد يكون هذا الأصل ، افضل من الأصل الأول. وهناك رواية عن الرسول الاكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، يقول فيها:

إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاق (1)

او هناك تعبيرٌ في القرآن الكريم يقول:

{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُم ...}(2)

التقوىٰ هي اساس ولب الكرامة، والاكثر تقوى هو الأكثر كرامة. ماذا تعني الكرامة ؟ انها تعني كل خصلةً أخلاقية. وكل اساسٍ يكون سبباً في بلورة شخصية الانسان الوجودية، وسبباً لشرف وعظمة الفرد فهو من الأخلاق، وكل شيءٍ يكون سبباً في منقصةِ الانسان، وذلته وصغاره، يعد شيئاً مخالفاً للاخلاق ؛ مثل الخوف مقابل الشجاعة، والامساك مقابل السخاء، فمن يتصف بحالة الامساك و البخل ، فقد ألصق المال بنفسه، ولا يمتلك الاستعداد لاطلاقه المساعدة غيره ، مثل هذا الفرد محدود و حقیر و ذلیل ويتصف بالدناءة والصغار؛ انه واقعٌ في أسر امواله. أما الفرد الذي يمتلك الاستعداد على انفاق هذه الثروة في خدمة الاهداف الكبيرة ، فانه يمتلك نوعاً من الكرامة و عظمة النفس، و نوعاً من المكارم في داخله، تمكّنه من اداء مثل هذه الأعمال.

لا بد من تناول هذه المسألة بقدرٍ من الاهتمام والتركيز ، بان نعتبر كل خصلةٍ او دافعٍ او روحيةٍ تبعث على التدنّي على انها منافية للاخلاق، وكل شيء يبعث على المكارم على انه امرٌ اخلاقي. فالعلم يبعث علىٰ المكارم و لذا فهو امرٌ

ص: 104


1- میزان الحكمة:ج3/ص149.
2- حجرات:13

«اخلاقي». والجهل يبعث على القصور والمحدودية والذلة والصغار، ولذا فهو أمرٌ «لا اخلاقي».

وبهذا الخصوص اذكر رواية تبين نموذجاً من المكارم الاخلاقية .

يقول الامام الصادق (عليه السلام):

لَنُحِبُّ مَنْ كَانَ عَاقِلًا فَهِماً فَقِيهاً حَلِيماً مُدَارِياً صَبُوراً صَدُوقاً وَفِيّاً إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ خَصَّ الْأَنْبِيَاءَ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فَمَنْ كَانَتْ فِيهِ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ وَ مَنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ فَلْيَتَضَرَّعْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ لْيَسْأَلْهُ إِيَّاهَا قَالَ قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ وَ مَا هُنَّ قَالَ هُنَّ الْوَرَعُ وَ الْقَنَاعَةُ وَ الصَّبْرُ وَ الشُّكْرُ وَ الْحِلْمُ وَ الْحَيَاءُ وَ السَّخَاءُ وَ الشَّجَاعَةُ وَ الْغَيْرَةُ وَ الْبِرُّ وَ صِدْقُ الْحَدِيثِ وَ أَدَاءُ الْأَمَانَة.(1)

فالامام يريد للفرد المسلم والشيعي ان يكون بهذا الشكل : عاقلاً وذا فهم جيد، وان يكون متبصراً بأمور دينه، وحلیماً اي ان لا يفقد سيطره وتوازنه عندما يتعرض لابسط حالةٍ عصبية ويفقد بالتالي زمام امره، و ان لا يكون متعجرفاً غير منسجم مع الآخرين أو انانياً لجوجاً، بل يكون ثابتاً راسخاً امام الازمات و المشاكل، صادقاً، وفياً امام التعهدات والامانات ثم قال ان اللّه تبارك وتعالىٰ خصّ الانبياء بمكارم الأخلاق، فمن كانت فيه هذه المكرمات فليحمد اللّه على ذلك، ومن لم تكن فيه فليشعر بفقدانها وحرمانه منها بشكل واقعي وجدّي؛ و عليه ان يتضرع بالدعاء والبكاء والعويل، ويسأل اللّه ان يمنّ عليه

بهذه الخصال والمكرمات؛ لانه ان لم يتحلَّ بهذه الخصال فانه فقير ومغلوب على أمره وخاوٍ صفر اليدين . ثم سُئِلَ : وما هي هذه المكارم الاخلاقية ؟ قال : الورع، أي حالة التقوىٰ الرفيعة التي تحفظه من الابتلاء بالآفات و الذنوب

ص: 105


1- بحار الانوار : ج 69/ص397.

والفساد، وهي حالة تمكنه من حفظ نفسه و وقايتها امام الفساد . والقناعة بمقابل الحرص والشّح؛ بمنى ان لا يوقع نفسه في أسرٍ منافعه و مطامعه، ويتصف بحالة القناعة و التحرر الروحي صبوراً شكوراً، والشكر يعني الحالة التي تمكنه من معرفة قدر النعمة و يحسن الاستفادة منها على أحسن وجه، حيث ان المعنىٰ الاساسي للشكر هو حسن الاستفادة من النعمة. فمن يجهل قدر النعمة ليس بالشكور، والذي يعرف اهمية النعمة ولكنه لا ينتفع منها بطرقها الصحيحة، لا يستفيد من اليدين والعينين والفكر والاذنين والمال والمنصب والموقع الذي يشغله ومن اللسان والعلم الذي يحمله بشكل صحيح، ايضاً ليس بالشكور. والحلم يعني حالة القناعة والصبر والسكينة الروحية بحيث تكون ازمَّته بيده و تحت سيطرته. والحياء يعني ان يتحرر الانسان من التلوث بالفساد. و يمكن التعبير عن الحياء بذلك الضمير الحي واليقظ تقريباً؛ أي ان يلوم الانسان نفسه امام ادنىٰ مخالفة يرتكبها ؛ وان يشعر بانه قد هُزِمَ خَسِر فيعود ثانية ويُصْلحْ نفسه ؛ و يشعر بالراحة امام خدماته واعماله المفيدة ؛ و لا يتصف باللامبالاة، بل يكون حساساً امام الفساد والسوء و الانحراف و الاعوجاج بحيث ان تلك النفس اللوامة والناقدة لذاته تكون حيةً فيه. والسخاء، وهو كرامة النفس وعظمتها، و الشجاعة والغيرة. الغيور يعني ذلك الشخص الذي لا يكون غير مكترث بناموسه ودينه وارضه وكرامته ووجوده وكيانه عندما يتعرض للاعتداء و التجاوز ؛ بل يظهر ردة فعله امام الاعتداء الحاصل على كيانه ووجوده، والبرّ و صدق الحديث ( أي ذو لسان صادق ) واداء الأمانة.

والآن، لنعد و نرىٰ هل ان هذه المكارم والاخلاقیات الرفيعة، لها وجود في الامور التي ذكرها الامام (عليه السلام)؟ بمعنىٰ ان الذي يتحلى بهذه الصفات، يتصف بالكرامة ام الذلة ؟

ص: 106

احدىٰ هذه الصفات هو العقل، والذي يتحلّىٰ بالعقل، واضحٌ بأنه ذو كرامة ، و لا داعي للبحث في هذه المسألة(1). و يتصف بكونه صبوراً وثابتاً وذا استقامة .

وكلما كان الطريق أطول، والهدف اسمىٰ و أعلىٰ، فان المشكلات اكثر. و مع تعرض الانسان لابسط صدمةٍ فانهم يقولون: الم نقل ؟ ألم تَرَ بانه لا يمكن فعل شيء كما قلنا؟ لا بد من الاستقامة في طي هذا الطريق، لا بد من الصدق، و الوفاء ، الوفاء بالعهد الذي عقدناه مع اللّه تبارك و تعالىٰ ، حيث قبلنا فيه التسليم اللّه كما جاء في الآية الكريمة : {أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا ...} (2) لا ان نطأطئ رؤوسنا أمام ای صنمٍ، او طاغوت او الحرص والجاه والمقام وكل رغبةٍ شخصية، وهناك الكثير من الأصنام في حياتنا و وجودنا وفي طريقنا. و بعد ذلك يأتي الورع و الزهد ، فهل ان الذي يجثوا ركبتيه ويركع أمام ادنىٰ طمعٍ يلوح له يعد من ذوي المكارم الاخلاقية ، ام الذي يحفظ نفسه و يسيطر عليها؟

ص: 107


1- مما يؤسف له، ان الفهم للامور الدينية والاخلاق الاسلامية و الزهد الاسلامي وصل الى درجة كبيرةٍ من التدني والقصور ، بحيث يعدّون فرداً ما فرداً متديناً و ذا اخلاقٍ دينية ، في الوقت الذي يكون ذلك الفرد بالضد من هذه المفاهیم تماماً. و احدیٰ خساراتنا للاسف هي هذه المسألة . فكأن الفرد كلما كان أعقل وأفهم واذكیٰ فهو الابعد عن الدين، وكلما كان قليل العقل احمق واكثردناءةً وعبودیّةً فهو الفرد المرغوب والمتنور. بينما لاحظنا كيف ان الامام (عليه السلام) يقول ان الفرد المسلم والشيعي يجب ان يكون عاقلاً فهيماً حلیماً مدارياً صبوراً، لا ان يكون الفرد امام حالات التعصب غير المستساغة والانانيات في حالةٍ نفسية مضطربة جداً، بحيث انه لا يفسح المجال للآخرين لكي يطرحوا آراءهم و يبينوا وجهات نظرهم. ان حالة الضعف والقصور و التدني هذه يمكن تلمّسها لدىٰ بعض الأفراد بشكل واضح. فقد آمن هذا البعض بفكرة قديمة بالية ومتخلفة جداً واتخذها كدينٍ لنفسه، ولا يفسح المجال أمام الآخرين لطرح افكارهم و وجهات نظرهم، متهماً اياهم بالاستناد الى اوهامه المتخلفة بالكفر و الشرك والارتداد فوراً. - نلفت انتباه القاريء الكريم الى ان تاريخ القاء هذه المحاضرة يعود الى ما قبل انتصار الثورة الاسلامية .
2- الأعراف: 172.

يقول الامام علي (عليه السلام):

«اكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع».

ان الانسان يخدع نفسه ويذلّها أمام اي منصبٍ او مقامٍ يعرض له ، بحيث

يلغي دور العقل ويهمشّه؛ و ينسىٰ اللّه و الأصول و الدين ، و الظريف ان مثل

هؤلاء الأفراد يدّعون في نفس الوقت الورع و الزهد؛ الورع هي حالة التجنّب

والابتعاد عن الآفات ؛ الابتعاد عن الوقوع في الفساد والمحرمات والاجتناب عن السقوط. انه التحفظ والاحتراز والثبات، والقناعة، نعود ثانية ونقول مع

الأسف ، فاننا نتصور وكما لقنونا مفهوم القناعة عبر الاعصار و القرون، بان القناعة تعني، بان لا يفكر الانسان او يهتم بالعمل والاعمار وان لا يسعىٰ

للحصول علىٰ السلطة والثروة ومصادر القوة؛ و اذا حقروه فعليه ان يطأطئ

رأسه، و لو افرغوا أحد جيوبه واخذوا أمواله فعليه ان يقدّم جيبه الآخر لهم

ايضاً. فهل ان معنىٰ القناعة هكذا، ام انها تلك الحالة الروحية المتمثلة بان لا

يكون الانسان اسير الحرص والشحّ؟ و ان لا يهتم فقط بأموره الماديّة و الشخصية عندما يبدأ يومه، بل يكون مصداقاً للحديث الشريف «َ يَهْتَمُّ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِين»(1)، وان لا يكون تفكيره محصورة فقط في الجهة التي عليه ان يذهب لها، وماذا يجب ان يفعل لكي يمتلك مالاً أكثر، وبيتا أوسع، و عيشةً افضل،و طعاماً وشراباً اكثر. فهل ان الذي يبذل كل اهتماماًته من اجلّ اهدافه وايمانه يتصف بكرامة النفس ام الذي يقع اسيراً لهذه الشهوات والمطامع الذليلة فيخسر نفسه ويبيعها؟ الصبر والشكر والحلم والحياء: هذه الصفات تعد من اسس كرامة و عظمة وشرف الانسان ايضاً. السخاء والشجاعة والغيرة والبرّ؛

ص: 108


1- بحار الانوار: ج 73 ص 170.

تضم هذه الصفات صفة الكرامة وليست بحاجة الى الشرح والتوضيح. والصدق

ايضاً يمثل تلك الشخصية والعظمة الروحية. بمعنىٰ ان يتمكن الانسان من

امتلاك لسان صدقٍ بعكس الذي يسعىٰ الى تحقيق منافعه الشخصية ، من خلال الوعد و الوعيد و الكلام المعسول و استخدام اساليب المكر والخداع و الكذب. فلسانه يتوسل بمختلف انواع الكذب والتحريف، وانواع الدسائس و المكر، ان المكر، حالة دفاعية يستخدمها الحيوان الضعيف، مثل الثعلب فانه يحفظ نفسه بالمكر والخداع، لانه لا يملك مخالب قوية وقرون قاتله، وسيقان سريعة مثل الغزال. هذه علامة ودليل علىٰ الذلة. واعلموا بان أي فردٍ او مجموعةٍ مهما توسلت بأساليب الكذب والخداع، فانها اكثر خسراناً وضعفاً وذلةً . وذلك يدل علىٰ الخواء والتحلل الداخلي. أما الذي يتحلىٰ بالاصالة و الشرف والمحتوىٰ الطيب ، فليس بحاجة الى ان يحرّف اقواله وأعماله لهذا الحدّ من الانحطاط وينكر اقواله و أعماله ان مختلف انواع الرياء والنفاق دليل علىٰ الخواء والذلة . الوفاء! الوفاء! الوفاء واداء الأمانات؛ الأمانات الملقاة علىٰ عواتق الأفراد؛ المسؤوليات والواجبات الموكولة بيد الأفراد ، انها تمثل اماناتٍ اجتماعية فهل ان الانسان يسلم هذه الامانات بشكل سليم الى الافراد والمجتمع ، ام انه يلجأ الى الخيانة؟

هذه مجموعة من الصفات التي يقول عنها الامام الصادق (عليه السلام) بانها مكارم اخلاقية . وهي التي تُعزّ الانسان. هذه الصفات تمثل الشرف والكرامة مقابل اللاشرف واللاكرامة. هذه هي احدىٰ المعايير الاخلاقية في الاسلام . ان الاسلام يعتقد بان الأصول الاخلاقية ، لا تتغير بتغير الأوضاع الاجتماعية، والظروف الاجتماعية وتغير النظام في المجتمع وبأن هذه الاصول مستقلة عن تلك الظروف . كما ان الاسلام لا يقول غیّر اخلاقك بحيث يمكنك مسايرة الناس

ص: 109

والتأقلم معهم، بل انه يقول وبكل وضوح بان الشرف في ان تكون ثابتاً ، مستخدماً لعقلك، وصادقاً، و ان تخضع للقيم تحت كل الظروف، ولذا، نعود ثانية لحديثنا السابق ، حيث ان الاسلام يعتقد بوجود مجموعة من السنن في المجتمع ، وفي الطبيعة، والعالم والانسان ، يتوجب علينا معرفتها، والتحرك في طریق تلك السنن والاصول، هذه السنن عبارة عن السنن التكوينية والسنن التشريعية ايضاً، أي مجموعة القوانين التي وضعها اللّه تبارك وتعالىٰ لنا. انها تمثل مجموعة السنن التي تعمل علىٰ ايجاد نظامٍ متعادلٍ ومتكامل. وعلينا ان نعرف هذا النظام، ونتحرك بكل اخلاص في طريق هذا النظام .

3- التقرب الى اللّه:

ان الاسلام يریٰ بأن المعيار الآخر من المعايير الاخلاقية هي مسألة «التقرّب الى اللّه». ويقول بان اي عملٍ يقربكم الى اللّه فهو عملٌ اخلاقي، وكل عملٍ يبعدكم عن اللّه فهو منافٍ للاخلاق، ما هو اللّه ؟ اللّه هو الكمال المطلق، والفضيلة المطلقة، والحق المطلق ، وكل عملٍ يقرب الانسان الى الفضيلة، والی الكمال والحق والفيضِ والعلم المطلق فهو عملٌ اخلاقي.

ان القرب الى الحق والتقرب الى اللّه لا يحصل من خلال ایراد ذكرِ معين على

لسان الانسان بينما يكون تفكيره في مكانٍ آخر. التقرب الى اللّه يعني ان يجعل الانسان وجوده وجوداً الهياً؛ ان يبعث و يحيي تلك الصفات الإلهية في نفسه ،فمن كان جاهلاً أحمق و فاقد للاحساس والشعور كيف يدّعی دعوىٰ القرب من اللّه ؟ انه بعيدٌ عن اللّه، وبعيد جداً ، كيف يمكنه ان يتقرب من منبع الحكمة و العلم؟ و من كان ممسكاً، كيف يمكنه التقرب من منبع الفيض؟ من كان في داخله يشعر بالضعف والذلة والخواء، كيف يمكنه التقرب من اصل و مبدأ

ص: 110

القوة ؟ من كان يفتقر للشخصية الروحية لا يمكنه ان يتحلىٰ بالقرب من اللّه الذي هو منبع الكمال و مبدأ القوة اذن ، بالمقدار الذي تُحيا فيه الصفات الإلهية فينا، نكون قد وصلنا ( بنفس ذلك المقدار ) الى الفضائل الاخلاقية والىٰ الأصول الاخلاقية. وكل عملٍ يبعدنا عن اللّهِ تبارك وتعالىٰ فهو عملٌ منافِ للاخلاق. و علىٰ هذا أصبح الطريق واضحاً تقريباً؛ أي ان المسألة لم تعد نسبية و مبهمة غامضة . ان الانسان يمكنه وبكل سهولة ان يجعل عمل فردٍ ما، و عمل مجتمع و امةٍ ما في المحك ، و يوزنه لیريٰ هل ان هذا الفرد او هذه الأمة في عمل حركتها، تسير نحو العبودية والضعف والذلّة ام نحو الشرف والكرامة و العظمة ؟ هل انها متجهة نحو السقوط ام تسير في طريق الحياة ؟ هل ان هذه الامة تسير نحو اللّه ام نحو الشيطان ؟.

وبناءً على ذلك، فان الحركة التكاملية وتحصيل الكرامة ، تحصیل كرامة النفس وعظمتها وشرفها ومسألة التقرب الى اللّه ، تعدّ معايير و أركان الاخلاق الاسلامية . ان التعاليم الاخلاقية هي الاخرىٰ كثيرة و وفيرة في الاسلام، ولكن يجب فهم هذه التعاليم بشكل جيد و ايجابي. و يجب ادخالها الى المجتمع بصورتها النموذجية المتعالية باعتبارها شعاراً اخلاقياً، و تناولها بالبحث والدراسة بشكل مركز. وكما اشرت لذلك آنفاً، لا بد من التعرف على القناعة و ماذا تعني، و ما هو معنىٰ الشكر والصبر والحياء والعفة. لا بد من تناوله هذه المسائل بالبحث والدراسة في مجتمعاتنا وتقديم تفسير عملي عن هذه المسائل، ولكي يتمكن الانسان بعد ذلك من بناء نفسه وفق هذه الفضائل و يجعل من نفسه انساناً الهياً عليه ان يبذل جهوده و يسعىٰ في هذا المجال .

* * *

ص: 111

ص: 112

المعايير الأخلاقية

في الروابط الاجتماعية

{ان اللّه ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيمه}(1)

ان موضوع هذا البحث والذي يشكل آخر حديثٍ لنا في هذا الخصوص يتمثل بهذه المسألة وهي «تحدید معيار المسائل الاخلاقية في مجال الروابط الاجتماعية». كيف يجب ان يكون موقف الانسان أمام الآخرين من أبناء نوعه؟ بأي معيارٍ نقّيم روابطه و معاملاته مع الاخرين لكي نرىٰ هل انها اخلاقية ام منافية للاخلاق؟

ص: 113


1- آل عمران : 51.

المواقف الثلاثة للانسان في العالم:

مواقف الانسان في كل العالم علىٰ ثلاثة انواع؛ أحدها: التسليم، والآخر التسخير، والثالث : هو الانصاف.

نقيم أولاً الانسان امام اللّه والحق: يجب ان يكون موقف الانسان في هذا المجال التسليم؛ ان يتحلّىٰ بالتسليم وحالة العبوديّة امام اللّه والحق نقيّم الانسان تجاه الطبيعة والمادة: الموقف هو موقف التسخير والسلطة والتصرف والاستفادة. نقيم موقف الانسان بين البشر وافراد نوعه: يجب ان يكون موقفه موقف الانصاف. ان الانصاف تعبير لطيف في الروايات الاسلامية وهو ذات المساواة والمواساة. لو فهمنا الاخلاق علىٰ أنها مجموعة القوانين والاوامر العملية التي وضعت من اجل تنظيم حياة الانسان ونموّه، والاخلاق عبارة عن مجموعة الأعمال والجهود التي تدفع الانسان الى التسليم امام الحق، وتمنحه حالة السلطة والتسخير والاستفادة تجاه محيطه الطبيعي، وحالة الانصاف والعدل والمساواة والمواساة تجاه جميع الناس. لونظمت هذه المواقف الثلاثة للانسان وصيغت بشكل صحيح، تتم عندها صياغة انسانٍ اخلاقي في الاسلام، ويتبلور علىٰ اساس ذلك انسان الاسلام.

1- التسليم امام اللّه والحق:

ذكرنا بعض الاشارات بخصوص القسم الأول، في تلميحاتنا السابقة. ونذكر ثانيةً عدداً من الآیات الكريمة، التي تطلب من الانسان ان يظهر حالة التعبد والتسليم تجاه اللّه تبارك وتعالىٰ. وطبعاً، توجد آيات كثيرة بخصوص هذا الموضوع، حيث نكتفي بالاشارة الى البعض منها فقط:

ص: 114

{وَ لَقَدْ بَعَثْنا في كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوت...}(1).

أي ان دعوة كل نبي بالاساس كانت لهذا الغرض، ان كونوا متعبدين ومسَلِّمين امام اللّه واتقوا الطاغوت واجتنبوه. ولطالما حصل هذا الأمر لكافة الانبياء:

. { وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّه ...}(2).

. { وَ إِبْراهيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّه ...}(3).

. {وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّه ...}(4).

. {وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّه ...}(5).

. {وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّه ...}(6).

فكأن عصارة وخلاصة الدعوة أو ان مقدمة وعنوان دعوة الانبياء تتمثل في التعبد والتسليم أمام اللّه:

.{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْدا }(7).

.{ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقيم}(8) .

سأعطي توضيحاً موجزاً حول الآية الاخيرة. اعبدوا اللّه لانه ربٌّ وخالق. ولانه مهّد السبل وفتح آفاق النمو للرشد بهذا الانسان اللائق للتكامل والنمو

ص: 115


1- النحل: 36.
2- المؤمنون: 23.
3- العنكبوت: 16.
4- الأعراف : 65.
5- الأعراف: 85.
6- الأعراف: 73.
7- مریم : 93.
8- آل عمران: 51.

والرشد والنضج، ضمن دائرة او امرهِ ، ويعمل على تربيته وانمائه ورشده .

«فَاعْبُدُوهُ»: فعليكم ان تظهروا تسليمكم واقراركم للسنن الالهية وامام الامر و الارادة الالهية . وهذا هو الطريق المستقيم (هذا صراطٌ مستقیم). لان حياة الانسان علىٰ أي حال ضمن دائرة السنن . أَلَمْ نُقِر وتعترف بتحكم مجموعة من السنن على حياتنا الماديّة والطبيعية والاجتماعية، وعندما نسير في أي طريق تتجلّىٰ أمامنا صورة لاحدىٰ السنن ؟ أما الصراط المستقيم فانه يعني بان الانسان و من اجل ان يصل الى الهدف المراد، فمن أي من القوانين والسنن والمؤسسات الاجتماعية الموجودة يجب ان يستفيد لكي يصل الى الهدف؛ يقول الشاعر مامعناه ، لن اشرب من كاس السم لكي لا اضطر الى الهلاك؛ لن استخدم مؤسسة الظلم فتكون العاقبة سقوط وهلاك الامة. و تعد هذه المسألة سنة بحد ذاتها فعندما يكون الظلم هو الحاكم على مجتمعٍ ما فالنتيجة تكون الخيبة واليأس والسقوط والهلاك . اما لو وضعت نفسي ضمن دائرة سنّة الحق فالنتيجة هي «الثبات والتكامل والرشد». فعندما يتم وضع مجموعة من السنن للانسان ، فان تشخیص هذه السنن وانتخاب الصحيح منها واستخدامها ويمثل الصراط المستقيم وسبيل اللّه ، ويمثل العبادة والتسليم للاوامر الالهية.

ان المراد بمسألة التسليم هنا لا يعني ذلك الخسران والتذلل و الاضطرار، وان يتخلىٰ عن كل ما يعود له، وعن انسانيته، حيث ان هذا المعنىٰ لا يلاقي القبول احیاناً بخصوص الأديان.

انّ علىٰ الانسان أنْ يحدد ويعرف الطريق ويتحرك في اطاره ويذعن له. لا ان يسير دون وجهةٍ او طريق، وان لا يتحرك باثارة الهرج والمرج حوله، وبالحيرة والضلال الواردة في التعبيرات الاسلامية. فهل يمكن ان تكون حالة الحيرة والضلال والضياع وعدم امتلاك الأصالة، وعدم اختيار الطريق الصحيح، معبرة

ص: 116

عن الحرية ؟ ام انها عبارة عن الهرج والمرج والتشتت؟ والّا فكون الانسان يتمكن من تشخيص الطريق الذي يوصله الى النتيجة، ومن ثم يتحرك من خلال ذلك الطريق، وان يسلِّم للطريق الذي يوصله الى الكمال، واجتناب اي شيء يعدّ مانعاً امام تكامله ويشتبك معه ويحارِبُه، فان ذلك هو عين التحرر.

ان التوافق مع كل ما يريد ان يطبع الادمغة بالتحجّر، والافكار بالخدر، ويحطِّم ويدمِّر ازدهار حرية الأفراد في مجالات العلم والافكار والمجتمع وانواع التطور الأخرىٰ، ايضاً هي بمعنىٰ التحرر، ولكن بمعنىٰ التحرر من السنن ومن الموازين والقوانين، ومن الأصول والضوابط الصحيحة، ووضعها تحت الاقدام و عدم مراعاتها، بمعنىٰ الضياع والانحلال والهرج والمرج وبمعنىٰ اسقاط الحرية. وبناءً علىٰ ذلك، لا بد من التأمل والتفكير بهذين النوعين من الحرية. لان الانسان يمكنه ان يكون انساناً بمعنىٰ الكلمة وان ينطلق في طريق انسانيته، عندما يستخدم مجموعة السنن التي تعنيه علىٰ التعبير عن انسانیته ويستفيد منها. وبغير ذلك فان عاقبته هي اليأس والهلاك والسقوط والفضيحة.

اذن، يجب ان يكون موقفنا أمام اللّه والحق، موقف التسليم، وليس ذلك خلافاً للحريّة بل هو بمعنیٰ حسن استخدام الحريّة والاستفادة منها. كما ان الحق ممتزج باللّه تبارك وتعالىٰ:

{... وَ اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبيل}(1).

{ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِل...}(2).

ص: 117


1- الاحزاب: 11.
2- لقمان: 30.

{وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَق...}(1)

{ ذلِكَ بِأَنَّ الَّذينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَ أَنَّ الَّذينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ...}(2).

ان المؤمن من أتباع الحق؛ أي التسليم لمحتوىٰ الكون واسسه الثابتة المتأصلة، ويتحلّىٰ بالانسجام مع القانون والنظام الحاكم علىٰ العالم، والتسليم للحسبان والميزان والحق والتعبيرات الاخرىٰ الواردة في القرآن الكريم. ان الانسان يجب ان يضع نفسه ضمن اطار الحق، حيث ان الحق يمثل محوراً هو عین محور اللّه تبارك وتعالىٰ.

{ قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَ رَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُون}(3).

{يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَليفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ... }(4).

وبناءً علىٰ ذلك، فاننا مأمورون بالتسليم للّه وللحق اللذين يحملان نفس المفهوم، والحق عبارة عن التجليات والسنن الالهية، فنحن مأمورون بالتسليم لهما، وليس بالعناد والطغيان. ان تكليفنا وواجبنا هو معرفة الطريق، والتعاون والتحرك في هذا الطريق.

2- تسخير الطبيعة:

وأما بخصوص الطبيعة فان قانون الاسلام يقول بان نكون نحن الحاكمین علىٰ المادّة والطبيعة دون ان نكون محكومین من قبلهما. والمحكومية علىٰ نوعين:

ص: 118


1- الحجر : 85.
2- محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : 3.
3- الانبياء : 112.
4- ص: 29.

احداهما تلك المحكومية السابقة علىٰ الانسان والتي كان البشر يخضع لها في مرحلة ما قبل انبثاق العلم، وخوفه من كل شيء ومن الطبيعة، كان يخشىٰ الطوفان، ويخاف من الزلزلة والفيضان، وكان مقهوراً وعبداً للطبيعة، ويتخذ أحياناً من مظاهر الطبيعة المتلألئة الهةً له، لكي يتوسل لها ويسألها، يقدم لها القرابين ليتجنّب سخطها، وبعد ذلك تأتي مرحلة الخرافات والخضوع والذلة والتي قادته الى عدم مقدرته علىٰ الاستفادة في الحياة بشكل مطلوب. وكان لا بد من ازالة حالة المقهورية امام الطبيعة هذه، والتي تعدّ وليدة الجهل وضعف الانسان. ان الاسلام يدعو الى العلم، يدعو الى معرفة الطبيعة والعالم، وبالتالي يدعو الى تسخيرها والتسلط عليهما. قبل التسلط علىٰ السموات والارض والبحار والحيوانات وغيرها :{أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْض...}(1)، {... ِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهار}(2)، {وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دائِبَيْن... }(3)...الخ.

لقد ظهرت محكومية ومقهورية جديدة الى عالم الوجود والمتمثلة بالسلطة الجديدة للحياة الماديّة الآلية والصناعية علىٰ الانسان. اي ان الانسان المقهور للطبيعة، يسعىٰ في ظل العلم، ليكون قاهراً ومسيطراً علىٰ الطبيعة، ولكنه يعود ثانيةً الى مرحلة محكوميته. وفي هذه المرة يفتح عينيه، فیریٰ بانه قد أصبح عبداً للطبيعة وعبداً للصناعة والحياة الآلية. مثل هذه الحياة التي تفْقَدَ فيها انسانية الانسان بين دوران العجلات وضجيج الآلة، يتحكم فيها الانضباط الآلي الجاف علىٰ الحياة تحكماً قاسياً بحيث لا تترك مجالاً ومتسعاً للتفكير الحر

ص: 119


1- الحج: 65.
2- ابراهیم: 32.
3- ابراهیم: 33.

للانسان؛ وان اختيار الطريق ونوع العمل والمسكن ونوعية الملبس وآداب الحياة الجاهزة والمقولية المفروضة علىٰ الانسان بشكلٍ ثقيل، بحيث عندما يفتح الانسان عينيه یریٰ فجأة بأنه مقيد، وواقع بین دوران الآلات، وقد سلبت منه ارادته.

ان القوىٰ الصناعية العظمىٰ، هي التي تحدد مسار الامم والاقوام، ومسار المجتمعات والبشرية فرداً فرداً من البداية الى النهاية؛ وهي التي تحدد مسار الطفل من مرحلة الروضة، بل من بداية ولادته؛ ويشترون طاقاته وفعالياته.

وتوجد هنا مساحة واسعة ودائرة مفتوحةً لدراسة آفات الحياة الصناعية البعيدة عن الحياة الانسانية، والخالية من انسانية الانسان. وبناءً علىٰ ذلك، فان الاسلام لن يتنازل ابداً عن شعاره هذا، فانه عندما يقول:{وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ}، {سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهار}و{سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ}، فان ذلك يعني بان البحر والقمر والشمس والطبيعة يجب ان تكون مقهورة للانسان وليس العكس.

وكذلك فان الانسان يجدّ انواعاً اخرىٰ من المحكوميات والمقهوريات امام الطبيعة والمادة فالانسان يصبح اسيراً لحياته المادية والمنافع الماديّة لحياته؛ واسيراً للمظاهر الزائفة والنعم الماديّة، ويفتح عينيه فيریٰ بان كل جهوده ومساعيه اصبحت من اجلّ حياةٍ دورية متسلسلة تدور بين الانتاج لغرض الاستهلاك، والاستهلاك من اجل الانتاج. يریٰ بانه وقع في دوامة معقدة، بحيث ان كل جهوده تصبح منصبة علىٰ ان ينتج اكثر لكي يتغذىٰ بشكل افضل ويشرب ويلبس وليتنعم بالهدوء بشكل افضل، وهذا في الحقيقة نوع آخر من الاسر. انها عبودية وذلة اخرىٰ، ولكن بلباس حدیث ، ولذلك فان میدان هذه المواجهة مع عبادة المادة والكماليات والنفعية والطمع واسعٌ جداً.

ص: 120

3- الانصاف تجاه الناس:

واما القسم الثالث من مواقف الانسان فهو موقفه تجاه الآخرين، والذي يشكل اساس بحثنا في هذا الموضوع. ان الموقف والعلاقة التي يراها الاسلام للانسان تجاه الآخرين وابناء نوعه هي رابطة الانصاف والعدالة. بمعنىٰ انه يتوجب عليه ان يعامل الناس بنفس الطريقة التي يتوقعها منهم علينا ان نتجاوز هذه «الأنيّة» في احكامنا وعلاقتنا الاجتماعية، ونعمل علىٰ احلال ال«هو» وال«انت» محل «الانا»:

أحِب لنفسك ما تحبّ لغيرك.

وعليه، فالو أجب ان تحب لنفسك ما تحبه لغيرك، وتكره لنفسك ما تكرهه لغيرك.

كما تحب من الآخرين ان يحدثوك ويتعاملون معك ويعاشرونك، ومثلما تحب ان يراعي الناس حقوقك، فكن للناس كذلك ان هذه المسائل هي من المسائل الاخلاقية البسيطة جداً ولكنها في نفس الوقت، فهي من المسائل المنسية بشكل مجحف. وفيما يخص الأحكام التي يريد ان يصدرها الانسان علىٰ آرائه وعقائده، فانه يریٰ عادةً بأن مسألة «الأنا» مسيطرة عليه سيطرة كاملة بحيث تجعل نظرية (الأنا) هي الأصل والحق، ونظرية الغير منسية. وان الأنا و«الانية» مسيطرة علىٰ الانسان سيطرة كبيرة، بحيث يفسر الحق بما ينطبق علىٰ منافعه الشخصية.

ومن المستحسن هنا ان نستمع الى هذه المواضيع من لسان الروايات:

قال أبو عبداللّه (عليه السلام) قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إِنَّ أَعْظَمَ الْكِبْرِ غَمْصُ الْخَلْقِ وَ سَفَهُ الْحَقِّ قَالَ قُلْتُ وَ مَا غَمْصُ الْخَلْقِ وَ سَفَهُ الْحَقِّ قَالَ يَجْهَلُ الْحَقَّ وَ يَطْعُنُ

ص: 121

عَلَى أَهْلِهِ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ نَازَعَ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ رِدَاءَهُ.(1).

التواضع:

في رواية عن الامام الرضا(عليه السلام) يقول:

«التواضع درجات».

اما يعلم الانسان ما المقصود بهذا التواضع؟ من الممكن ان يعتقد البعض بان التواضع يعني السفه والصغار والتذلل والانحناء امام أي شخصٍ واي قوة. ولكنه (عليه السلام) يقول بان للتواضع درجات واحداها ما يلي:

مِنْهَا أَنْ يَعْرِفَ الْمَرْءُ قَدْرَ نَفْسِهِ فَيُنْزِلَهَا مَنْزِلَتَهَا بِقَلْبٍ سَلِيمٍ لَا يُحِبُّ أَنْ يَأْتِيَ إِلَى أَحَدٍ إِلَّا مِثْلَ مَا يُؤْتَى إِلَيْهِ إِنْ رَأَى سَيِّئَةً دَرَأَهَا بِالْحَسَنَةِ كَاظِمُ الْغَيْظِ عَافٍ عَنِ النَّاسِ وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.(2)

علىٰ كل فرد ان يعرف قدر نفسه ومنزلتها، وان يعرف تأثيره ومقدار وعيه واستيعابه وتدبيره وتشخيصه وقدراته، ومن ثم ينزل نفسه بقلب سلیم منزلتها الواقعية. دققوا هنا فانه مع ذم الكبر فقد تم ذم الذلة ايضاً. بمعنىٰ انه ليس هناك أي مبررٍ، لكي يتمثل الانسان بحالات الانكسار النفسي التي يتظاهر بها البعض عادةً، من قبيل ان يقول باني لا أُجيد شيئاً، لا يمكننا ان نفعل شيئاً، اننا لا نساوي شيئاً. كلا، لا داعي لهذه التصرفات ان التواضع الاصيل هو ان يعرف الانسان نفسه كما هي وينزلها منزلتها هذه، دون مبالغة أو اجحاف. بمعنىٰ عدم تبني الادعاءات الفارغة، وايضاً عدم تجاهل تلك القدرات والقيم التي يمتلكها، ومما يؤسف له، فان الحياء والخجل والتواضع المفرط تتسبب أحياناً في عدم نمو بعض القيم في الأفراد وعدم نضج الاستعدادات والامكانيات. وقد جربنا

ص: 122


1- بحار الانوار : ج 73 / ص 218.
2- بحار الانوار ج 75 / ص 135 و اصول الكافي ، ج 2 ص 124.

ذلك مراراً وهي انه من الضروري ان يتواضع الفرد بقدر معين ولكن دون ان يستصغر شأنه، لانه من الممكن ان يطرح موضوع معين للنقاش اثناء حضوره في احد المجالس، وكثيراً ما يحدث ان تكون لديه ملاحظة قيّمة حول ذلك الموضوع وبامكانه ان يبين ذلك ، ولكنه وبسبب تواضعه يمتنع عن طرح رأيه؛ اي انه وبسبب حالة الخجل والتواضع المفرط، ينصرف ويتخلى عن حق من حقوقه وعن احياء كلمةٍ مفيدة. وليس هذا بالصواب . وعلى العكس من ذلك ، من الممكن ان تتملكه حالة الكبر والغرور بحيث يغفل عن الحق ویری صواب معتقداته فقط. اذن، فان هذا الموضوع يمتاز بالاهمية، وهي ان يضع المرء نفسه موضعها ومنزلتها كما هي بقلبٍ سليم.

ثم يتطرق الامام (عليه السلام) الى علاقة المرء بالناس فيقول : لا يحب ان يأتي الى احد الّا مثلما يؤتىٰ اليه ، أي يحب ان يحدثه الناس، بمثل ما يحدثهم؛ وان يحترمه الناس، بمقدار احترامه لهم؛ وان يؤدوا له حقه، بمثل ما يؤدي هو حقهم؛ و باختصار ان يعامله الناس، بمثل ما يعاملهم، وان يتمكن الانسان ان يضع الآخرين مكانه ، ويضع نفسه مكان الآخرين. هي احدىٰ المعايير المهمة جداً التشخيص المسائل الاخلاقية الاجتماعية.

دَرْءُ الاساءة بالاحسان :

ان رغبة الانسان لمعاملته من قبل الآخرين بالمثل تمثّل حالة التعادل والتوازن. ولكن توجد في الاخلاق الاسلامية حالة النموذجية والذروة في التعامل . فمن حالة العدل تصل أحياناً الى حالة الاحسان، ومن حالة الانتقام الى العفو: «ِ إِنْ رَأَى سَيِّئَةً دَرَأَهَا بِالْحَسَنَة»، «كاظم الغيظ»، «عافٍ عن الناس»، «وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين».

ص: 123

لا بد من الإشارة هنا، الى ان المقصود من هذا العفو ليس هو التنازل عن الحقِّ والسكوت امام الظالم؛ لانه عندما تقرأ هذه الرواية أحياناً يطرح التساؤل: لو دعت احدىٰ الآیات او الروايات الى العفو احياناً، فهل ان المقصود منه سكوت الانسان على اغتصاب حقه ؟ هل عليه ان يعفو ويسكت ويصفح عن الظلم الواقع، او على الانحرافات وحالات الفساد والاعتداءات الواقعة ؟ كلا، هذه الحالة خلاف الموازين الاسلامية وانها عين الذلة والخضوع. ان الدعوات الموجوداً في القرآن الكريم حول الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، و حول اقامة الحق وقول كلمة الحق عند السلطان الجائر ، كل هذه الدعوات تمثل الأصول والموازين واسس ثبات الانسان أمام الناس وامام المسائل الاجتماعية.

و قد يصدر أحياناً تصرف خاطئ من أحد الأشخاص، و كثيراً ما تحدث مثل هذه الحالات اثناء قيادة السيارات، تریٰ مثلاً احد السائقين يريد ان يتقدم بسيارته امام الآخرين، فننفعل وتتملكنا العصبية ونصرخ فيه : لماذا فعلت كيت وكيت ؟ وان اكثر حالات الغيرة والشهامة والشجاعة تتعرض الى الهدر وسوء الاستخدام في مثل هذه المواجهات الاجتماعية البسيطة.

وهناك ملاحظة لطيفة بخصوص المشاكل المرورية والازدحام في الشوارع، بحيث يبدو فيها وكأن خصال الانسان تدفن جميعها عندها . ان الانسان يحب ان يتقدم علىٰ غيره، ويحب ان ينتقم، ويحب ان يواجه ويعامل، وان يفرح، وينتصر و يتفوق. ولكن انتصاره هذا يكمن في ان يتقدم ولو خطوة أمام عجلّة غيره، وهزيمته في تخلفه وراء غيره.

ان جميع هذه المشاعر والأحاسيس، وحالات التعصب، والانتصارات، و الافراح، والتفرعن، والتكبّر والتواضع يتضاءل في هذه المسائل اليومية البسيطة. ان كرامة النفس اثناء التعامل اليومي المتداول واثناء الاعمال والروابط

ص: 124

الاجتماعية البسيطة تكمن في ان يتحلى الانسان في كثير من الموارد بالعفو والصفح؛ بالكرم والترفّع لا بالذلة والخنوع، فالرسول الاكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يفتح مكة، و بعد ذلك يقول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن موضع القوة والعزة ومن موضع عظمة واباء الروح: اذهبوا فانتم الطلقاء؛ وهو في حالة السيطرة علىٰ عدوه، وبإمكانه ان ينتقم،و الجميع مستعدون في حالة صدور أمر الانتقام، مستعدون لابادة جميع الأسر و القبائل والاطفال والنساء. ولكن في مثل هذه الظروف يعفو الرسول الاكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويصفح عنهم . هذا العفو غير العفو المؤدي للذلة ، حيث ان الذي لا يمتلك القدرة علىٰ مواجهة الظالم، يقول اني قد عفوت؛ او انه لا يمتلك الشهامة والتهور والغيرة ولا يريد المواجهة والمقاومة، لذا يلجأ الى الاستسلام.

عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له:

أَلَا إِنَّهُ مَنْ يُنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إِلَّا عِزّاً.(1)

وعن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) سَيِّدُ الْأَعْمَالِ ثَلَاثٌ إِنْصَافُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ وَ مُوَاسَاةُ الْأَخِ فِي اللَّهِ تَعَالَى وَ ذِكْرُكَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى كُلِّ حَالٍ.(2)

ان ذكر اللّه و تذكره على كل حال ، يعد تجديداً للعهد مع الحق مع اللّه تبارك و تعالىٰ، ان الانسان ومن خلال امتلاكه لتلك اللطافة الروحية، وكرامة النفس و صفاء القلب واطمئنانه، يمكنه في مثل هذه الأجواء ان يعامل الناس بكل انصاف و على احسن وجه .

ص: 125


1- بحار الانوار : ج 75 / ص 33.
2- بحار الانوار: ج 93/ص 101.

الانصاف في المال :

بعد ذلك، توجد جملة وسؤال مقتضب ومختصر جداً وهو، من هو المؤمن الحقيقي :

قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) :

مَنْ وَاسَى الْفَقِيرَ مِنْ مَالِهِ وَ أَنْصَفَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ فَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ حَقّاً.(1)

ان لا يتصف المؤمن بالانا وانت، و الانت و انا. في هذا الحديث تمت الاشارة الى الانصاف في بعده المالي بشكل خاص؛ أي مراعاة الانصاف و المواساة في الابعاد المالية ايضاً، الحالة التي تستبدل فيها وبشكل حقيقي حالة «الانا» الى ال«نحن» وتتعاهد فيها الأمة مع اللّه وتصبح امةً الهية، وتستبدل فيها الحالة الفردية بحالة جماعية، وتتكامل الحالة الجماعية وترتبط باللّه تبارك وتعالىٰ . مثل هذه الحالة تعدّ اخلاقاً اسلامية.

وبشكل عام، فاننا لم نوفق خلال هذه الأبحاث بتناول موارد خاصة، وعلى سبيل المثال، يجب ان ندرس مسائل الحسد، التقية والتكبّر والكثير من المسائل الاخلاقية السلبية منها والايجابية وابعادها في الاسلام، والتي غالباً ما تكون كثيرة. ويجب ايضاً ان نركز بشكل جدي في دراسة هذه المسائل، لان الانسان عندما يصل الى حقيقة معينة في هذه المسائل الاخلاقية، يریٰ بانها تمثل الفلسفة، والنظرة العالمية ، وايضاً تمثل أساس الحقوق والقوانين، وايضاً اساس النظام الاجتماعي في الاسلام والكثير من الاشياء الاخرىٰ التي يراها الانسان في هذه المسائل الاخلاقية .

ص: 126


1- بحار الانوار: ج 75/ص 25.

بحث الروائي في بناء الذات

من اجل ان نستخلص بحثنا في نهاية المطاف، نذكر عدداً من الروايات بخصوص التأكيد على بناء الذات، من جوانبها المختلفة والمتضمنة التأكيد على عدم نسيان الانسان لحالة مراقبة ومحاسبة النفس، لكي لا يتصور احدٌ على الاطلاق بأنه قد بنىٰ نفسه وانتهت المسألة، كلا، عليه ان يعلم بأنه دائماً هدفٌ للآفات ومعرض للسقوط؛ السقوط الاجتماعي الواسع والشديد، والسقوط الاخلاقي الواسع. من الممكن اذا ارتكب الانسان ادنىٰ خطأ وابسط حالة من الانانية ان يقع في منزلق حاد، بحيث لا يمكنه ان يرفع راسه والى الابد. يجب ان تبقىٰ حالة المراقبة الدائمة ومحاسبة النفس دائماً محل اهتمام الانسان.

1-التوبة:

مجموعةٌ من هذه الروايات، تتعلق بالتوبة. ومنها قول الامام الباقر(عليه السلام):

التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ وَ الْمُقِيمُ عَلَى الذَّنْبِ وَ هُوَ مُسْتَغْفِرٌ مِنْهُ كَالْمُسْتَهْزِئِ.(1).

ان الشخص الذي يمكن ان يكون تواباً حقيقياً هو الذي يعود عن ذنبه فعلاً. ولذا فان ابا بصير يسأل الامام جعفر الصادق (عليه السلام) بخصوص المقصود من التوبة النصوح الواردة في الآية الشريفة:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً...(2)}.فيجيب عليه السلام:

ص: 127


1- بحار الانوار: ج6 /ص 41.
2- التحریم: 8.

هو ان يتوب الرجل من ذنب وينوي ان لا يعود اليه أبداً(1).

ان القرآن الكريم يدعو دائماً الى توبةٍ تشمل الخصال الداخلية من جهة، وايضاً تشمل العمل الفردي وكذلك العمل والعلاقات الاجتماعية، وتشمل ايضاً النظام الشامل للامة، وكذا الحال بالنسبة للانسان حيث يجب ان يتحلّىٰ دائماً بحالة التوبة ودرء الذنب والتكفير عنه، وان لا يؤخر ذلك اطلاقاً.

طبعاً، من الممكن ان يكون الذنب فردياً او اجتماعياً. ومن الممكن ان يتوب مجتمع ما، ويعود عن مسيرة الانحراف والسقوط، وان يثور على حالة الذلة والانحطاط والطرق الملتوية التي كان يسير فيها، ويتوب ويرجع الى جادة الصواب. ولو عاد الى جادة الصواب فان الماضي سيلغىٰ ويتم تجاوزه.

2. مكانة الانسان عند اللّه:

يقول الامام ابو عبداللّه جعفرٍ الصادق(عليه السلام) في رواية لطيفة جداً:مَنْ أَرَادَ أَنْ يُعْرَفَ كَيْفَ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَ اللَّهِ فَلْيَعْرِفْ كَيْفَ مَنْزِلَةُ اللَّهِ عِنْدَهُ فَإِنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ الْعَبْدَ مِثْلَ مَا يُنْزِلُ الْعَبْدُ اللَّهَ مِنْ نَفْسِهِ.(2)

نعم من اراد أن يعرف كيف منزلته عنداللّه وما مقدار رقم الحساب الذي فتحه اللّه له عنده، فليعرف كيف منزلة اللّه عنده، ما هي الحدود التي يراعي اللّه فيها في اعماله، ما مقدار رقم الحساب الذي فتحه اللّه عنده ويعمل في سبيله، ما هي حدود خشيته من اللّه ، ما هي منزلة اللّه واثره في مجموع حركته الحياتية؛ وبمقدار ذلك فان اللّه تبارك وتعالىٰ يفتح له حساباً عنده. فلو لم افتح اي حساب اللّه عندي، واخدع نفسي فكيف اتوقع من اللّه تبارك وتعالىٰ ان يفتح لي حساباً عنده؟

ص: 128


1- بحار الانوار : ج 6 / ص 22.
2- بحار الانوار : ج 71/ص159.

يقول الامام الصادق (عليه السلام):

وَ مَنْ خَلَا بِعَمَلٍ فَلْيَنْظُرْ فِيهِ فَإِنْ كَانَ حَسَناً جَمِيلًا فَلْيَمْضِ عَلَيْهِ وَ إِنْ كَانَ سَيِّئاً قَبِيحاً فَلْيَجْتَنِبْهُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ أَوْلَى بِالْوَفَاءِ وَ الزِّيَادَةِ وَ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فِي السِّرِّ فَلْيَعْمَلْ حَسَنَةً فِي السِّرِّ وَ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فِي الْعَلَانِيَةِ فَلْيَعْمَلْ حَسَنَةً فِي الْعَلَانِيَةِ.(1)

فالانسان عليه ان يراقب نفسه خطوة بخطوة. واذا ما حصل منه انحراف سرّي فعليه ان يعوض عن ذلك فوراً، واذا ما ظهر منه انحرافُ علني فعليه ان يعوض مباشرةً. عليه ان يراقب نفسه ، والّا فان الحِمل سيكون ثقيلاً.

3-محاسبة ومراقبة النفس:

يقول الامام علي (عليه السلام): «مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ رَبِحَ وَ مَنْ غَفَلَ عَنْهَا خَسِرَ وَ مَنْ خَافَ أَمِن». نعم، فمن حاسب نفسه فقد ربح، وعليه ان لا يتوقّع من الآخرين یوفّون حسابه ويقيّمونه؛ وان لا ينتظر الى ان يحين اليوم الذي يتجرأ فيه الناس عليه ويذكرون افعاله وعيوبه. عليه ان يحاسب نفسه بنفسه، وان يكون مراقباً لنفسه ومنتقداً لها وهكذا بالنسبة للجماعة التي تسير في طريق معين ، عليهم ان ينتقدوا أنفسهم، ويحاسبوا أنفسهم، ويحاولون فتح صحيفة اعمالهم كل صباحً، وينظروا مقدار استقامتهم على الجادة ومقدار انحرافهم عنها، فان كانوا قد انحرفوا عن الطريق فعليهم ان يعودوا فوراً . «وَ مَنْ غَفَلَ عَنْهَا خَسِرَ»: وهذه العبارة معناها واضح، «وَ مَنْ خَافَ أَمِن»: ومن خاف من الانحراف، واتصف بحالة الاضطراب والمراقبة والخوف البنّاء، فانه سيصل الى هدفه بكل أمنً وطمأنينة. فمن كان لا يبالي بالانحراف والذنب، فانه سيصاب بالاضطراب

ص: 129


1- بحار الانوار: ج 71 /ص 263.

الشديد والحيرة والفضيحة نهاية المطاف والمقصود من الخوف المذكور في الاسلام هو الخوف البناء، وليس الخوف الذي يبحث على اليأس. «ومن اعتبر أبصر ومن أبصر فهم ومن فهم علم»(1): ومن اعتبر من الماضي واعمال الآخرين، ومن اعماله وحاسب نفسه بشكل منتظم، فقد ابصر ونضج، ومن ابصر فقد فهم، ومن فهم علم، ومن علم فقد عثر على الطريق وخرج من تلك الظلمات والضلالات.

ويتملكني الاسیٰ ان لم اذكر هذه الرواية أيضاً:

قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) :ِ حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا وَ زِنُوا قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا وَ تَجَهَّزُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَر(2)

نعم، قبل يزنكم میزان العدل الالهي ويقيمكم فعلى الانسان ان يقيِّم نفسه . «وتجهزوا للعرض الاكبر»: تجهزوا لليوم الذي تعرض فيه اعمالكم في محكمة العدل الالهي، ويقف الانسان حينذاك على حقيقة نفسه، ويریٰ كم هو ذلیل وصغير ، وكم هو منحرف، فالمعيار معيارٌ الهي، والميزان هو ميزان العدل الالهي . وبدلاً من ان يصاب الانسان في ذلك اليوم «يوم الندامة» و«يوم الحسرة» ، فليصب بذلك في هذه الدنيا، لكي تصبح المسألة قابلة للتعويض والاصلاح.

4-الحركة الدؤوبة نحو الكمال:

واخيراً، من الممكن ان يرضىٰ الانسان عن اعماله في هذه العملية التقييمية ومحاسبة النفس ، ويتصور مع نفسه ويقول باني لم ارتكب معصية في هذا اليوم ايضاً بحمد اللّه - ولكن ما فرق اليوم عن الأمس؟ هذه الساعة مع الساعة التي

ص: 130


1- بحار الانوار : ج 70 / ص 73.
2- بحار الانوار : ج 70 / ص 73.

سبقتها؟ هذا العام بالنسبة للعام الماضي؟ فهل في الحقيقة نتقدم نحو الامام في حركتنا ام نحو الخلف؟

في رواية معروفة عن الامام الصادق(عليه السلام) يخاطب فيها هشام بن سالم يقول: من استوىٰ يوماه فهو مغبون ومن كان آخر يوميه خيرهما فهو مغبوط ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون.

نعم من استوىٰ يوماه فهو مغبون. على افتراض بانه قام بنفس المقدار من الاعمال الحسنة في يومه هذا قياساً لليوم الماضي. مثل هذا الشخص مغبون وخاسر. ومن يومه افضل من أمسه، فله مقام يغبطه عليه الآخرون. اي انه موقف وناجح بحيث يغبطه الآخرون على ذلك . ومن كان يومه اسوأ من أمسه فهو ملعون ومبعدٌ عن رحمة اللّه وعن الكرامة والعظمة الالهية ف-(اللعنة) تعني البعد والتأخر والسقوط. ويكون التوقف احياناً بمعنىٰ الذلة والتقهقر.(1)

* * *

ص: 131


1- الى هنا ينتهي شريط التسجيل ولكن المحاضرة استمرت لفترة اخریٰ.(رد).

ص: 132

بنا ء الذات فی نهج البلاغة

ترجمه و توضیح قسم من خطبة همام

فيما يتعلق بموضوع بناء الذات(1)، ومع الاخذ بنظر الاعتبار بأن موضوع الحديث هو بناء الذات من وجهة نظر القرآن ونهج البلاغة، ننتقل الى دراسة خطبة معروفة تسمىٰ في نهج البلاغة بخطبة همام(2). ان الاطلاع على نهج البلاغة وعلى افكار الامام علي (عليه السلام) يمكن ان يكون يتخذ دوراً اساسياً في عملية بنائنا.

ان السبب في تسمية هذه الخطبة بخطبة همام هي ان هذا الشخص وكان من اصحاب الامام علي (عليه السلام) المعروفين بالتقوىٰ والطهارة وبناء الذات، طلب من الامام علي(عليه السلام) ان يصف له المتقين حتىٰ كانه يراهم؛ فكانه يقول للامام : ارسم لي لوحةً دقيقة تصور وجه المتقين بحيث انظر فيها الى المتقي دون ان يكون فيها اي ابهام او غموض . فتثاقل عليه السلام عن جوابه ثم قال: يا همام! اتق اللّه وأحسن فان اللّه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.(3)، فلم يقنع همام بهذا القول،وقال:هذا لا يكفي .انا اريد منك ان تذكر لي صفات و خصال المتقي لكي اتعرف عليه بشكل كامل. حتى عزم الامام علي(عليه السلام) على بيان المتقي لهمام ولغيره على شكل خطبة، فحمد اللّه واثنىٰ عليه، وصلى على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم قال عليه السلام:

ص: 133


1- مع ملاحظة المناسبة التي تتعلق بالامام علي(عليه السلام).
2- نهج البلاغة لفيض الاسلام ، الخطبة 184.
3- اشارة الى الآية 128 من سورة النحل: «إنَّ اللّه مَعَ الَّذينَ اتَّقَوا و الَّذينَ هُمْ مُحْسنُونَ».

اما بعد، فان اللّه سبحانه وتعالىٰ خلق الخلق حين خلقهم غنياً عن طاعتهم، امنا من معصيتهم، لانه لا تضره معصية من عصاه ولا تنفعه طاعة من اطاعه.

اذن، فان اوامره سبحانه وتعالىٰ لم تكن لمنفعةٍ تصيبه ، ولا نواهيه كذلك لدفع الشر والضرر عن نفسه تبارك وتعالی . بل نحن البشر الضعاف، لو أمرنا غيرنا بشيء ما، فقد يحصل ذلك في الغالب لكي يدخل شيءِّ ما في جيوبنا وتكون فيه منفعة معينة لنا، ولو أخفينا شيئاً عن الآخرين او نهيناهم عن عملٍ ما فلأننا نخشىٰ الضرر منه. نقول: لا تكذب، ولا تغتب، ولا تقل ما لا يليق، لا تعدّي؛ لانه لو تعتدیٰ سيأخذ شيئاً منا ولو اتّهم سيقلل من شأننا ويحط من مكانتنا. اذن فهذه المعصية تلحق الضرر بي، وتلك الطاعة تكون مفيدةً لي - او على الاقل لنا.

وبناءً على ذلك، فان مآل النفع والضرر، والامر والنهي، ضمن اطار البشر والموجودات الماديّة والترابية والناقصة يعود عليهم. ولكن اللّه غني عنها - فلو اطاعته كل الدنيا وما فيها لا يضاف له شيء، وان عصاه كل الناس، لا يمسّون كبرياءه بشيء. ولا يغضب، وان لاحظتم اختصاص كلمة الغضب باللّه تبارك وتعالىٰ احياناً، فذلك يحدث بواسطة الظروف والمسببات التي تثير الغضب لدىٰ الناس . اما بالنسبة للّه تعالىٰ فلا معنىٰ للغضب المتأجج والذي يؤدي الى ان يفقد اعصابه وسيطرته اطلاقاً. فلو أطاعه الجميع او عصوه فالامر سيان بالنسبة له تبارك وتعالى، بل انه لا معنىٰ لردّة الفعل والاحساس الروحي الدال علىٰ التأثر او الفرح على الاطلاق. وبناء على ذلك، فان اللّه سبحانه وتعالىٰ لا يصيبه اي نفع او ضرر من طاعتنا او معصيتنا له.

ص: 134

• فقسّم بينهم معايشهم ووضعهم من الدنيا مواضعهم

ثم يقول(عليه السلام): ان اللّه تعالی قسم بين الناس المعايش والارزاق ، وهيأ الظروف والاجواء الماديّة والجغرافية والطبيعية المختلفة لكل فرد. الى هنا كانت مقدمة. والآن يبدأ ببيان صفات المتقين الواحدة بعد الاخرىٰ:

• فالمتقون فيها هم اهل الفضائل

فالمتقون في هذه الدنيا هم الذين يحملون كل الصفات الفاضلة. لا بد من توفر كل الصفات الحسنة في الفرد، لكي يمكن تسميته بالمتقي . فالمتقي ليس ذلك الشخص الذي يتحلِّىٰ بالصدق فقط، وبالتضحية فقط أو انه نزيه فقط، كلا، بل المتقي هو مجمع الفضائل والمكرمات. ثم يوضح عليه السلام هذه الفضائل.

• منطقهم الصواب وملبسهم الاقتصاد

عندما يتحدثون فقولهم الصدق ويجتنبون قول الكذب. ويبتعدون عن الاعتماد على الظن او اشاعة امرِ ما. يقولون الصدق ويوضحون الحق. ثم يقول(عليه السلام) ان ملبسهم مبني على الاعتدال؛ بسيط ويخلو من البهرجة طبعاً، يمكننا ان نقول بأن كف القمح نموذج البيدر، بمعنىٰ انه(عليه السلام) عندما يتحدث هنا عن الملبس ، فانه يشمل طبعاً وسائل المعيشة، ومكان السكن والمركب وسائر الاشياء الاخرىٰ.

• ومشيهم التواضع

ان مشيهم وطبيعة تعاملهم مع الاخرين مبني على اساس التواضع. يمشي البعض ااحياناً بتكبر و تبختر، ويكون تعامله مع الآخرين بتكبر وانانية ويلجأ الى

ص: 135

تحقير الآخرين، واحياناً ايضاً يتعامل بتواضع وتخشّع وتعرفون طبعاً، بان مسألة التخشّع هي غير حالة التملّق والذلة.

وقد اعتاد البعض من ذوي التربية الطاغوتية على التواضع بصورة التملق والتصاغر امام الأقوياء وامام رؤسائهم، ويرون انفسهم اقل شأناً من غيرهم حقاً. وقد تمت تربيتهم على حالة الدناءة والذلة هذه، ونفس هذا الشخص الذي كان يتصاغر ويتملق ويكثر الثناء امام الذي يطمع فيه او يخشاه وامام الرئيس والمافوق، وكأنه عبده الذي اشتراه بمقابل الذهب، نفس هذا الشخص عندما يتعامل مع من تحت يده يتظاهر بالفخر عليهم، وبأنه كبير وعظيم ويتكبر عليهم. انه في الواقع صغير وحقير ودنيء؟ هناك كان بتلك الذلة، وهنا ايضاً فان روحه على جانب كبير من الصغر، بحيث انه يتبختر ويتكبر امام مرؤوسيه وامثاله وكأنه لا يعرف نفسه. هذه التصرفات مخالفة للتواضع تماماً.

جاء في احدى القصائد الشعرية في بيان خصوصیات وصفات الامام السجاد(عليه السلام) ما يلي:

يغضي حياءً ويُغضیٰ من***مهابته فلا يكلّم الا حين يبتسم

انه يغض بصره حياءً وخجلاً ويرمي ببصره الى الارض، وكأن بصره يعاني من الضعف بحيث لا يستطيع النظر الى الطرف المقابل، كان دائماً يتحلّىٰ بالحياء والخجل ، ولكن في نفس الوقت ، كان يتمتع بهيبةٍ عظيمة بحيث لا يتجرأ الاخرون على النظر بشكل مباشر في عينيه. ولذا فانه لا يجرؤ على محادثته الّا حين يبتسم. اي انه بابتسامته هذه يقوي قلوبهم، ويمنحهم الجرأة على محادثته. هذه الشخصية الروحية والمهابة الروحية هي غير ذلك التعامل الخشن الذي ينمّ عن التكبر، ويجب علينا ان لا نخلط بين تلك الدناءة والذلة

ص: 136

والانحطاط الروحي، وهذا الحياء والخجل. ومن خلال حالة التواضع هذه، يتمكن الانسان من المحافظة على هيبته وشخصيته الروحية، وفي نفس الوقت يكون تعامله مع الآخرين، تعاملاً اخوياً حميماً.

• غضوا أبصارهم عما حرم اللّه عليهم ووقفوا اسماعهم على العلم النافع لهم

يستمر الامام (عليه السلام) في بيان صفات المتقين، ويقول بانهم غضوا ابصارهم عما حرم اللّه عليهم، اي أن اللّه تبارك وتعالىٰ لما حرم النظر الى الاجنبي، فان المتقي قد أدّب نفسه جيداً وسلَّحها وجَهَّزها، بحيث اصبح مستعداً لكي يتصرف بخلاف رغباته وشهواته ويسيطر على نفسه الى درجة الامتناع عن النظر الى ما لا يجب النظر اليه. اذن، فهم يغضون ابصارهم عما حرم اللّه عليهم، ووقفوا اسماعهم على العلم النافع لهم. بمعنىٰ ان السمع الذي يُعد من نِعَمِ اللّه تعالىٰ، والافضل منه نعمة الفكر والروح هذه النعمة الالهية العظيمة، فانهم لا يستخدمون هذه النعم في اللّهو والامور التافهة بقضاء الاوقات الثمينة في الكلام العابث وغير المفيد انهم يستخدمون السمع في العلم النافع لكي يتعلموا ويستفيدوا . وحتىٰ جلساتهم العائلية الخاصة، هي جلسات مفيدة ونافعة.

ان الجلسات التي كانت تعدّ في السابق ودعوات الضيافة التي كان تضمّ السادة العلماء والمؤمنين الملتزمين كان ينظر لها على انها ساعة فراغ او وقت فائض عن الحاجة ولا بد من قتله بالمزاح والكلام الفارغ. او مثلاً رحلات السفر التي كانوا يقومون بها، فكأنهم حذفوا وقت السفر الثمين من حياتهم فيتحدثون بكل ما يطيب ويروق لهم، ويعملون ما يخطر على بالهم. ان حالة عدم الاهتمام والاعتناء بالوقت وعدم الاعتناء بما يسمعون كانت موجودة في السابق. ولكن لحسن الحظ، شاهدنا ومن خلال تواجدنا داخل الحركة الشبابية خلال الخمس

ص: 137

والعشرين سنة الماضية شاهدنا بان الشباب اخذوا ينصرفون عن هذه الحالة تدريجياً، ويتجهون نحو الالتزام ويسعون للاستفادة بشكل افضل من اوقاتهم. ولذا، فانهم يحاولون حتى في جلسات الضيافةالعائلية، توجيه الحديث الی حدیث علمي وسياسي او اجتماعي، لكي لا يستخدم الاذن والسمع، استخداماً غير نافع، ولا يصبح العقل مستغنىً عنه كماء المجاري، بل كمجاري المياه الاسنة. حقيقةً ان الانسان ااحياناً يحول هذا الدماغ وهذا العقل الى مجرىٰ للمياه الاسنة، وفي الحقيقة فان هذا العمل خسارة مؤسفة جداً ومؤلمة.

آمل ببركة هذا اليوم العزيز ان تكون هذه الملاحظات نافعة لنا جميعاً ان شاءاللّه. لقد كنت احفظ هذه الخطبة قبل حوالي عشرين سنة، وقرأتها على المنابر عدة مرات، ومع ذلك فان الانسان عندما يعيد قراءتها یریٰ بأنه قد ابتعد هو ايضاً عن مضمونها؛ ابتعد مسافة كبيرة عن معنىٰ المتقي الذي بيّنه الامام علي(عليه السلام) في هذه الخطبة. ولذلك، فانه يشعر بأنه لا زال بحاجةٍ الى قراءتها، ولا زال بحاجةٍ الى تذكير نفسه وتحذيرها.

• نزلت انفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء

ان المتقين في حالة سواء اثناء البلاء او الرخاء؛ في حين ان بعض الناس يظهر بوجهين:عندما تصيبهم مصيبةٌ ما يتوجهون الى اللّه ويذكرونه... ولكن بمجرد ان يزول عنهم البلاء ويتنفسوا الصعداء ينسون اللّه. وتراهم يهتمون بالنذر والدعاء والتضرع الى اللّه اثناء المرض، واثناء الشدائد والفقر والعوز، ويكثرون من قراءة القرآن عند الشدائد في الصحراء أو حين ركوبهم في السفينة، لانهم يواجهون امواج البحر المتلاطمة هناك يرفعون ايديهم بالدعاء ويتوجهون الى اللّه بكل اخلاص؛ ويتحولون الى مسلمين وعَباد وزهَّاد . ولكن

ص: 138

بمجرد شعورهم بابتعاد الخطر عنهم ولو قليلاً، واحساسهم بانهم لا يواجهون المصيبة وانهم صاروافي مأمن، فسرعان مایشركون(1). بل لاداعي اصلاً للشرك؛ يصنع لنفسه صنماً، بل ويجعل نفسه مكان اللّه تبارك وتعالىٰ. يشعر بانه يملك كل شيء، وان بامكانه القيام بأي عمل، اذن فهو ليس بحاجة الى اللّه جلّ وعلا.

وبناءً على ذلك، فالذي يكون في ظروف المصيبة و في ظروف النعمة بحالة واحدة. وفي ظروف الرخاء وظروف البلاء كذلك، فهذه الحالة تمثّل حالة الاطمئنان الروحي؛ وتمثل مناعة طبعية تدل على التربية الروحية العالية. ولذلك فان ارتباطه باللّه سبحانه وتعالىٰ محفوظ دائماً، وحتى عندما يصبح الفتح والنصر من نصيبه فانه لا يغفل عن ارتباطه باللّه تعالیٰ.

وبناءً على ذلك، علينا ان نسعىٰ طالما ان الفرصة مواتية، وطالما نمتلك الامكانيات الماليّة والفرصة السانحة. علينا أن نسخر كل هذه الامكانيات لخدمة الآخرين. ان لا نصاب بالغرور ولا نبتعد عن اللّه تعالیٰ.

• ولولا الاجل الذي كتب اللّه عليهم لم تستقر ارواحهم في اجسادهم طرفة عين شوقاً الى الثواب وخوفاً من العقاب.

ويستمر الامام(عليه السلام) فيقول: ان المتقين من اولئك الذين لا تستقر ارواحهم في أجسادهم الضيقة طرفة عين. ولولا الاجل الذي قدّره اللّه لكل فردٍ، وان الموت سيلحقه في الوقت المحدد له، لوقع هذا الأمر ولحلّقت ارواحهم من ابدانهم. الشدة شوقهم الى الجنّة، ولشدة خوفهم من النار ولما استقرت ارواحهم في ابدانهم. ولكن تم تحديد الاجل لكل انسان، ولا يمكنه الموت قبل تحقق الشروط المطلوب تحققها لوقوع الموت.

ص: 139


1- اشارة الى بعض الآيات مثل الآية 65 من سورة العنكبوت والاية 32 من سورة لقمان.

واما المقصود من الاشتياق هو ان المتقين كأنهم يرون الجنة بأم أعينهم، فيمنحهم العشق والشوق الى الجنة يمنحهم اجنحة التحلیق اليها. والمراد من الخوف هو كأنهم يرون الجحيم فيؤدي بهم الخوف الى ارتعاش ابدانهم. فلا تستقر ارواحهم في ابدانهم. ان كل هذه الامور هي اشارةٌ الى حالة الخوف والرجاء، واليأس والامل وضرورة ان تكون هاتان الكفّتان متساويتين ومتعادلتين.. وبأن يشعر الانسان بالاضطراب وعدم الاستقرار من طرق الانحراف والمنزلقات، لئلا يرتكب معصية فيها من جهة، وايضاً ان يشعر بالشوق الى الاعمال الصالحة وثوابها والشوق الى الجنة والسبيل المؤدي اليها. ان هاتين الكفتين؛ الشوق والخوف هما السبب في ان يضع الانسان نفسه على الصراط المستقيم. ولكن اذا كان الخوف اكثر، فان حالة الأمل ستسلب منه ويتحول الى شخص یائس. وان كان شوقه اكثر وازداد أمله بالجنّة، فان حالةً من اللامبالاة وعدم الاهتمام تتولد لدىٰ الانسان بحيث تؤدي به الى اهمال المراقبة والانتباه الى اعماله. ولذلك، عليه ان يشعر بالخوف من جهة ويشعر بالامل ايضاً. فالانبياء كانوا مبشرين ومنذرين؛ يبعثون الخوف في النفوس ويبعثون الامل ايضاً .

• عظم الخالق في انفسهم فصغر ما دونه في أعينهم

ان العظمة الموجودة في انفسهم هي للّه وحده، ولذا فان خوفهم من اللّه فقط، وعشقهم وشوقهم للّه ورجاءهم باللّه. وهذه الجملة رائعة جداً، ذلك انها تبين كيف ان الانسان يعيش في حالةٍ روحية عالية بحيث يصبح كل شيء في عينه صغيراً.

ص: 140

• فهم والجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعمون وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون.

اي ان تحسسهم للنار ليس كمن يضع يده عن بعدٍ على النار، ولم يركنوا فقط الى وعود القرآن بالدخول الى الجنة، بل ان اعتقادهم بالجنّة يصل الى درجة اليقين وكأنهم فيها، واعتقادهم بالنار كبير وكأنهم معذبون فيها. اي انهم يتحسسون الشرر المتطاير من لهيب جهنم في اعماق انفسهم ، ويتلمّسون نعیم الجنّة وحلاوتها في اعماقهم ايضاً. فالذي يرىٰ الجنّة والنار بعينيه، ويتلمسهما باعماق روحه، كيف يكون مستعداً للقيام بعملٍ يبعده عن الجنة؟ انه يتصرف على النحو الذي يبعده عن النار ويقربه من الجنّة. هذا هو المتقي. ان كلمة التقوىٰ التي نمرّ عليها مرور الكرام وبكل بساطة، هي التي تخلق مثل هذه الحالة الروحيّة.

• قلوبهم محزونة

طبعاً، ان المقصود بهذا الحزن، ليس الحزن على الدنيا، بل انه الحزن النوراني والروحاني والرباني الذي يقدح البريق في القلب، ويهدي الانسان الى جادّة الصواب. وارىٰ انه من المجحف لو أردت تشبيه هذا الحزن بكلمة الاضطراب المستخدمة في النظرية الجبرية والتي تقول بانه لا بد من ایجاد حالة الاضطراب في الانسان لكي تتولد عنده حالة الشعور بالمسؤولية والارادة. ان المراد بهذا الحزن ليس ذلك الحزن المتعارف، بل هو مصدر الطاقة، وعندما يشعر الانسان بالمسؤولية في داخله ، فكأنما يحمل حملاً ثقيلاً من الهموم في داخله، على العكس ممن يتصف باللامبالاة، ولا يعني ذلك عنده اي شيء.

ص: 141

• وشرورهم مأمونة

المتقون هم اولئك الذين يشعر الناسُ بالأمان من شرورهم. انها عبارة بسيطة جداً، فعندما يخرج من بيته صباحاً لا يخشىٰ احدٌ من هذا الشخص بتدبير مؤامرةٍ عليه، أو ان يكذب عليه، أو يأخذ ماله، أو يخونه، او يعيّره ويطعن فيه، او ينافسه منافسةً غير نزيهة، لا بل انه في مأمن من شرّه وهذه تعدّ نوعاً من السعادة.

• واجسادهم نحيفة وحاجاتهم خفيفة

هذا النوع من الافراد لهم ابدان نحيفة على اثر مساعيهم والرياضات والعبادات والتأملات التي يمارسونها، وأمنياتهم ايضاً قليلة وبسيطة. ولو توفر للفرد متسعِّ من الوقت ويقف لبضع ساعات بين الجموع المتواجداً في جوار مرقد الامام الرضا(عليه السلام)، الذي يعد مناخاً ووسطاً جيداً لدراسة علم الاجتماع، ويطلع على ما يريده الناس. فلكل منهم حمل من الطلبات والحاجات:

شافِ ولدي، ادِّ عني ديني، حسِّن۟ ظروف عملي. وهكذا حاجةً بعد حاجة: اللّهم لقد تأخّرت ترقيتي، أو فقدت منصبي وهكذا يطلب حاجاته الواحدة تلو الاخرىٰ. ولكن ترىٰ غيره قليل الحاجات بسيطاً في طلباته ويشعر بالتحرر وكأنه لا يحمل اي متعلقاتٍ في ذهنه تجاه الآخرين. انه ذلك الشخص الذي يشعر بثقل هم المسؤولية تجاه مجتمعه، ومثل هذا الفرد ليست لديه حاجات ماديّة، وخفيفٌ في حمله . (طبعاً مسألة الدعاء وطلب الحاجات یكون من عند اللّه تبارك وتعالىٰ، وعلى الانسان ان يطلب قضاء حوائجه من اللّه تعالىٰ ، ان المنن، وكيفية اختيار الحاجة ونوع الدعاء، نوع التعلق والرغبة، كلها تدل على ذلك الشيء الذي استحوذ على روح الانسان وسخره لمصلحته ).

ص: 142

لقد كان الدكتور علي شريعتي يقول بانني اجريت دراسةً وتحقيقاً حول الادعية الواردة علىٰ لسان الائمة عليهم السلام في الصحيفة السجادية وفي أماكن أخرىٰ، فذكر احصاءً يقول بأن ثمانين بالمئة من الادعية وردت بخصوص المسائل الاجتماعية، والبقية في الامور الاخرىٰ. انه(عليه السلام) يدعو ولكن للناس، ولسعادتهم وراحتهم، لحفظ الثغور، لتقوية الجيوش وثباتها، ولنشر العمران، ولشفاء المرضىٰ، ولخلاص الفقراء والمحرومين. وحتىٰ عندما يريد ان يدعو لنفسه فانه يقول: اللّهم طهر قلبي، اللّهم اجعل عملي خالصاً لوجهك، اللّهم اغفر لي خطيئتي. اي انه(عليه السلام) يذكر الماديّات في نهاية دعائه وبنسبة واحد بالمئة تقريباً.

• وانفسهم عفيفة

ان عالمهم وانفسهم ممزوجة بالعفة، بنوع من الطهارة وبنوع من الخلوص. بل ان هذه الروح طاهرةٌ اساساً. ان بريق العفة والطهارة والرغبة عن الذنب والفرار من الشهوات والخبائث ونظائرها يتلأ۟لأ في جميع انحاء وجوده. لعلكم شاهدتم احياناً الفرد النجيب ذاتاً وحقيقةً. انه عفيفٌ بكل وجوده. انه ليس بحاجةٍ لان يجبر نفسه دائماً ويحملها ويكرهها لئلاً تزل قدمه في هذا الموضع او ذاك. ان هذا الفرد تم بناؤه وصياغته . ولَكُم۟ تكون هذه الانفس معطّرة، كم هي طيبة الانسام، فما أنقىٰ واصفیٰ هذه الارواح.

• صبروا ایاماً قصيرة اعقبتهم راحة طويلة، تجارة مربحة يسّرها لهم ربهم.

لقد صبر المتقون واستقاموا ایاماً قصيرة، ولكن اعقبتهم راحة طويلة بعد هذا الصبر القصير. يا لها من تجارة مربحة! رأسمال قليل وربح وفير ونتيجة عظيمة! اي انهم تمكنوا من المقاومة والسيطرة، ومنع الشهوات، والحد من الاستغلال،

ص: 143

وارتكاب الذنوب والمعاصي خلال ايام عمرهم التي بمجموعها لاربعين او خمسین او ستين سنة، وبعد ذلك فازوا بعمر خالد ولذةٍ دائمة وراحة غير منقطعة. استقاموا ایاماً قصيرة، وأعقبتهم راحة طويلة. يا لها من تجارة مربحة يسرّها لهم ربهم، لان اللّه سبحانه وتعالىٰ هو الذي يسرَّ لهم هذا الربح المتمثل بالجنّة والحياة الخالدة في دار الآخرة.

• ارادتهم الدنيا فلم يريدوها وأسرَت۟هم فقدوا انفسهم منها

لقد طلبتهم الدنيا ولكن لم يطلبوها، وقصدهم الدنيا ولكنهم لم يقصدوها.

طبعاً، انكم تعلمون ليس المقصود بذلك، بان لا يذهب الفرد مثلاً الى عمله، او ان يرفض قبول منصبٍ او عملٍ يعرض عليه وبامكانه ان يقدم من خلال هذا المنصب او العمل خدمةً للآخرين. ان المقصود بالفرار من الدنيا، ليس الفرار من العمل والسعي، او الفرار من تحمل و قبرا، المسؤولية وامثالها، بل المقصود منه الفرار من الاستغلال وطلب اللذات وحب المال الدنيوي فقط، قصدتهم الدنيا، وفتحت ابوابها لهم وكان بامكانهم اكتناز الذهب وجمع الثروات الطائلة في طرق مختلفةً، ولكنهم لم يريدوا جمع الثروات. لقد كان هدفهم وطريقهم مقدّماً علىٰ كل شيء. ثم يقول(عليه السلام) بعد ذلك بان الدنيا قد اسرتهم، لعلكم لاحظتم اسرىٰ الحروب، بكثير من المنّة يعملون على اطلاق سراحه، يعطون المال، احياناً، او هديةً او شيئاً آخر لغرض اطلاق سراحه وتحريره. ولكنه (عليه السلام) يقول بأن الدنيا قد اسرت هؤلاء الافراد ولكنهم اهدوا انفسهم واعطوها؛ اي انهم تنازلوا عن انفسهم، تنازلوا عن اهوائهم، لكي يتحرروا من الاسر، فتحرروا ونَجَوا من الاسر والذلة ومن المشكلات.

ص: 144

•اما الليل فصافّون اقدامهم تالين لاجزاء القرآن يرتلونه ترتیلا، يحزنون به انفسهم ويستثيرون به دواء دائهم

يستمر الامام (عليه السلام) في بيان صفات المتقين فيقول: عندما يجنّ الليل، وينتشر الظلام، يصفّون اقدامهم بكل ثبات متجهين الى اللّه سبحانه وتعالىٰ، متهيئين الاداء عباداتهم(1). يقرأون اجزاءً من القرآن بكل هدوء وتأنٍ، و تعمق وترتيب،دون ان تساورهم الرغبة في المرور على الآيات والكلمات بسرعة، وبهذه القراءة للقرآن يزيدون احزانهم وهمومهم ويرفعون حالتهم العاطفية والمعنوية. وهذا يفيد بان القرآن الكريم لو قرأ بتلك الالحان الحزينة والانغام التي تؤثر بالروح فسوف تفعل فعلها العجيب فيه. ولذلك فانه(عليه السلام) يقول: انهم یقرأون القرآن بشكل عجيب وكأن ارواحهم ممزوجة بالحزن وطافحة بالغم والهجران وشدة الشوق الى الوصال؛ ويغوصون في القرآن هذه تخرج لهم عصارة دواء دائهم وتفور منها. وتتبدل آلامهم، وانحرافاتهم، ومنزلقاتهم، وظلماتهم من خلال هذه الآيات الى حالاتٍ من النورانية، ويحصلون من خلال هذه الايات على دواء دائهم.

• فاذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا اليها طمعاً وتطلعت نفوسهم اليها شوقاً وظنوا انها نصب اعينهم.

وعندما يصلون الى آيات فيها تشویق و أمل، يقفون عليها و يكررون قراءتها يقفون بسبب طمعهم، ويقولون هل لي من نصيب في هذه الحقائق التي تصرح الآيات و تصفها ام لا؟ هل لي من نصيب في هذه الآمال التي تعطيها للصالحين والمتقین، ام لا؟ هل سيكون هذا الفيض، وهذه الجنّة، وهذا الرضوان من

ص: 145


1- في الحقيقة ان الانسان يقرأ هذه الجمل بكل حياء، لاننا غير موفقين لهذه الطاعات.

نصيبي ایضاً ام لا؟ ولذلك عندما يصلون الى هذه الآيات لا يستطيعون تجاوزها، وكأن ارواحهم قد اطلّت من بوابةٍ صغيرة. ولعلكم شاهدتم الشمس اثناء شروقها عندما ترمي باشعتها من خلال الشباك الى داخل الغرفة؛ وكأن الشمس تطل براسها داخل الغرفة . فارواح هؤلاء تطل بهذه الصورة وهي نقول: اللّهم! هل ان هذه الآمال، وهذا الوعد هو من نصيب الآخرين ام ان لي نصيباً في ذلك ايضاً؟ في هذه الحالة، يظنون وكأن الجنّة ولذاتها، وذلك التعالي الروحي، وذلك الرضوان، يظنون بان كل ذلك نصب اعينهم.

• واذا مرّوا باية فيها تخويفٍ اصغوا اليها مسامع قلوبهم وظنوا ان زفير جهنم وشهيقها في اصول اذانهم، فهم حانون علىٰ اوساطهم مفترشون لجباههم واكفهم وركبهم واطراف اقدامهم، يطلبونه الى اللّه تعالىٰ في فكاك رقابهم. واما اذا مروا بآية فيها تخويف وترهيب ووعيد، فانهم يفتحون جميع بويبات قلوبهم وبصائرهم ويستمعون لها. في الواقع توجد في نهج البلاغة تعبيرات جميلة جداً. ويجد الانسان فيها قمة الاحساس المعنوي؛ وعظمة وجمال البلاغة الادبية. فهناك يقول بانهم يطلّون ويتطلعون بانفسهم ليروا هل لهم من نصيب، وهنا حيث آية العذاب والتخويف، فانه(عليه السلام)يقول يفتحون جميع بويبات و آذان ومسامع قلوبهم لتأخذ هذه الآيات طريقها الى اعماق قلوبهم وارواحهم. انهم يسمعون ويشعرون بزفيرجهنم المرعب وشهيقها في اعماق آذانهم. اي انهم يصعقون فجاّةً وكأنه نزلت بهم مصيبة الطوفان ويتحسسون جهنم وكأنهم فيها. فيلقون بانفسهم على الارض، مفترشین جباههم واكفهم وركبهم واطراف اقدمهم على الارض، واضعين مساجدهم السبعة على الارض، وبينما هم علىٰ تلك الحالة يطلبون من اللّه تعالىٰ فكاك رقابهم من نار جهنم.

ص: 146

ويقضون الليل بهذه الحالات المعنوية وبهذه العبادات.

• واما النهار فحلماء علماء ابرار اتقیاء، قد براهم الخوف بري القداح، ينظر اليهم الناظر فيحسبهم مرضىٰ وما بالقوم من مرض ويقول لقد خولطوا ولقد خالطهم امر عظيم.

واما في النهار فهم حلماء امام المصائب والمشكلات والمنزلقات، ويواجهونها بسعة صدورهم وحلمهم؛ ويسعون في طلب العلم والمعرفة؛ وهم ابرارٌ، ويقدمون الخدمة لمجتمعهم ولهم اثر فعال؛ واعمالهم وحياتهم تطفح بالخدمة للآخرين؛ وقد فعل بهم الخوف من العذاب والاحساس بالمسؤولية كما يُفْعل بنصل السهم، فنحلت ابدنهم وضعفوا. وعندما ينظر اليهم الناظر يحسبهم مرضىٰ وما بالقوم من مرض؛ ويتصور بأن ارواحهم قد أصبحت في وضع غير طبيعي وقد خالطتها بعض التخيلات والاوهام - اي كالذي مسّه الجن فتتملكه حالة غير طبيعية، ولكنهم لم يبتلوا بالاوهام التي تؤدي بهم الى القلق الروحي، بل خالطهم امر عظیم الا وهو الاحساس بالمسؤولية، والخوف من العذاب وشدة الشوق للقاء اللّه ، وهذا الامر هو الذي جعلهم علىٰ هذه الحالة من الاشتياق وهو الذي اوجد لهم مثل هذه الحالة من الاضطراب والوضع القلق.

• لا يرضون من اعمالهم القليل ولا يستكثرون الكثير فهم لانفسهم متهمون ومن اعمالهم مشفقون.

ان المتقين هم من اولئك النوع الذي لا يرضى عن نفسه بالقليل من اعماله. احياناً قد نرضىٰ عن انفسنا، ونعتقد بأننا مشغولون باداء أعمالنا بشكل جيد، وقد انجزنا تكالیفنا. كلا، فاؤلئك المتقين لا يرضون بالقليل من اعمالهم، وحتىٰ لو انجزوا عملاً كثيراً، فلا يهوّلون ما قاموا به، لئلا يداخلهم الغرور

ص: 147

والرياء. ويتهمون انفسهم دائماً، بعدم اداء الواجب، بالتقصير اي ان يتهم الفرد نفسه، ويجعل من نفسه محكمة للنظر في الاتهام، واضافة لذلك ينصب نفسه قاضياً في المحكمة. فهولاء يخافون من اعمالهم ويستوحشون من تعاملهم الغير لائق.

• اذا زكی احد منهم خاف مما يقال له فيقول انا اعلم بنفسي من غيري وربي أعلم بي من نفسي . اللّهم لا تؤاخذني بما يقولون واجعلني افضل مما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون.

اذا مدحوهم واثنوا عليهم بانكم مثلاً كذا وكذا، فانهم يخافون مما يقال فيهم، ويستوحشون، ولا يداخلهم الغرور بهذا المديح، كأن يقولوا نعم لقد انجزت اعمالاً اخرىٰ غير هذه ولكنكم غير مطلعين عليها؛ فاين انتم من باقي اعمالنا؟ كلا، فانه يقول انا اعلم بنفسي من غيري؛ انكم تمدحونني ولكني اعلم باني بعيدٌ عما تقولون؛ فانا اعلم بنفسي من غيري وربي اعلم بي من نفسي. بمعنىٰ انه يعلم هل صحيح اني شخص صالح واستحق المدح، ام لا.

واضافة لذلك فانهم يرفعون ایدیهم الى اللّه تعالیٰ اثناء هذا المديح مبتهلين:اللّهم! لا تؤاخذني بما يقولون عني، واجعلني افضل مما يظنون، واحب ان اكون افضل مما يقولون عني . اللّهم! واغفر لي ما لا يعلمون من اعمالي التي قمت بها.(1) هل تعلمون ماذا فعل همام بعد سماعه هذه الخطبة ؟ أخذ يردد علي علي علي الى ان ارتفعت روحه الى بارئها علىٰ اثر هذه الحالة الروحية؛ وعندها انقلب حاله، وتغير لون وجهه وارتعش بدنه؛ وبينما كان الامام (عليه السلام) مستمراً في خطبته انقلبت حالته بشكل شديد سقط وسلّم الروح الى خالق

ص: 148


1- مما ينبغي ذكره ان شهيدناالغالي لم يتناول الخطبة بكاملها في هذا البحث.(د)

169الارواح. ولذا قال الامام علي(عليه السلام): لقد كنت اعلم عاقبة هذا الامر، حيث امتنعت في البدء ولم ارغب ان اصف له المتقين. كنت اعلم بالحالة المعنوية والروحية التي يتصف بها، بحيث انه لا يتحمل ولا يطيق البقاء بعد استماعه لهذا الحديث. ولشدة ذوبانه واستغراقه اتصل بربّه.(1)

* * *

ص: 149


1- هذه الجمل قريبه من مضمون قول الامام علي (عليه السلام).(د)

ص: 150

الموضوع الصفحة

المقدمة...5

المقدمة...9

معرفة النفس: هي الخطوة الاولىٰ في بناء الذات...13

الإنسان كائن ذو بعدين...14

العلاقة بين البعدين الالهي والمادي للانسان...18

الحركة التكاملية للانسان نحو اللّه...20

تأثير الرؤى المختلفة حول النفس علىٰ تحرك البشرية...21

تهذیب وتزيين النفس...23

رمضان شهر بناء الذات...24

ذكر اللّه علىٰ كل حال...26

خلاصة البحث السابق...28

النفس في القرآن...29

التجلي الشيطاني للنفس في القرآن...30

التجلي الملكوتي للنفس في القرآن...32

التجلي القيادي وقدرة النَّفس علىٰ التصميم في القرآن...36

التأثير المتقابل لبناء الذات والجهاد...36

ماذا يجب أن نفعل...39

ص: 151

معرفة الإنسان في الاسلام...43

الرسالة ودعوة الاسلام ...44

تناسق جميع التعاليم الاسلامية...44

خصائص الانسان في الاسلام...46

الهدف من حركة الانسان...56

الصيرورة المستمرة في الفلسفة التربوية للاسلام...58

وجود الهدايات المختلفة من وجهة نظر الفلسفة التربوية للاسلام...58

أهمية العقل والوعي في مسألة الهداية...60

الفطرة، احدىٰ الهدايات الالهية...60

حرية الانسان في دائرة الهداية...61

ماذا نفعل...63

ملاحظة...65

ماهية الانسان...66

وجهة نظر الاسلام في هذا المجال...67

حرية الانسان في اطار السنن...70

دور السنن في المجتمع...72

اتباع الهوىٰ وبناء الذات...75

جهاد النفس...76

حقيقة كبح جماح النفس...78

قبول الحق مظهر تجلي الانسانية...81

الاسلام يعني قبول الحق...82

مظاهر تجليات الطاغوت...86

ص: 152

العودة الى الذات...88

وفاة الزهراء (سلام اللّه عليها)...90

خلاصة المباحث السابقة...93

معايير الاخلاق...95

تأثير الظروف المختلفة علىٰ خصال الانسان...96

احد المنزلقات...97

وجود المعايير الاخلاقية الثابتة...99

ضرورة وجود المعايير الاخلاقية...101

معايير تشخيص الخصال الاخلاقية...102

المعايير الاخلاقية في الروابط الاجتماعية...113

المواقف الثلاثة للانسان في العالم...114

التواضع...122

دَر۬ءُ الاساءة بالاحسان...123

الانصاف في المال...126

بحث روائي في بناء الذات...127

بناء الذات في نهج البلاغة...133

ص: 153

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.