التَربيَةَ مَفهومُها وَ خُطواتُها العِلميَة

هوية الکتاب

سلسلة: تربية.. بلون جديد

الحلقة الأُولىٰ

التربية مفهومها، وخطواتها العملية

تأليف

الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي

تقديم

معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية

الطبعة الأُولىٰ: 1440ه_

العدد: 1000 نسخة

جميع الحقوق محفوظة للمعهد

ص: 1

اشارة

سلسلة: تربية.. بلون جديد

الحلقة الأُولىٰ

التربية

مفهومها، وخطواتها العملية

تأليف

الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي

تقديم

معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية

الطبعة الأُولىٰ: 1440ه_

العدد: 1000 نسخة

جميع الحقوق محفوظة للمعهد

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة المعهد:

تُمثِّل إقامة الأُسرة وتربية الأولاد مطلباً مهمًّا لأفراد بني البش_ر، وصارت أيضاً هدفاً تسعىٰ لإشباع تصوُّراته عدَّةُ علوم إنسانية، حتَّىٰ برز فيه الكثير من العلماء والمنظِّرون، وتأسَّست لأجله الكثير من المعاهد والمؤسَّسات، ويكشف عن أهمّيته أيضاً أنَّ القانون الوضعي قد استحدث قسماً خاصًّا بقضايا الأُسرة ومشاكلها، محاولاً استغلال قبضته القانونية للحدِّ من انتهاكها.

وقد أشبع الإسلام الجوانب المتعلّقة بالأُسرة ومن كافَّة متعلّقاتها، ابتداءً من الدعوة إلىٰ تكوين الأُسرة، مروراً بصياغة الطُّرُق الكفيلة ببنائها بناءً رصيناً، وانتهاءً بإيجاد الحلول الناجعة عند حدوث مشاكل فيها.

وتُمثِّل سلسلة (تربية.. بلون جديد) واحدة من الخطوات الجادَّة في هذا المضمار، حيث أخذ مؤلِّفها (سماحة الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي) فيها الإفادة من التجارب الشخصية والواقعية، والنصوص الدِّينية التربوية، ليُنقِّط بكلِّ وضوح خُطُوات عملية لبناء أُسرة مسلمة، يملأ أرجاءها التفاهم والودُّ والمحبَّة.

فجزاه الله خيراً علىٰ ما فعل، وجعله في ما يُحِبُّ الله ويرضىٰ.

ومن الجدير بالذكر أنَّنا - معهد تراث الأنبياء للدراسات

ص: 3

الحوزوية الإلكترونية - نسعىٰ لطباعة النتاجات الثقافية والعلمية ونشرها وتسويقها، طلباً منّا لرضا الله تعالىٰ، ونش_راً لعلوم آل بيت محمّد (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ)، وإثباتاً للجميع أنَّنا مجتمع منتج لا مستهلك فقط.

إدارة المعهد

ص: 4

الإهداء

إلىٰ المجتبىٰ الأمين..

إلىٰ القائم بالدِّين..

إلىٰ معزِّ المؤمنين..

ومربّي المجاهدين..

إلىٰ سيِّد شباب أهل الجنَّة..

وريحانة رسول الله..

إليك يا مولاي يا أبا محمّد الحسن بن عليٍّ..

أُهدي بضاعة مزجاة..

راجياً القبول..

* * *

ص: 5

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة المؤلِّف:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام علىٰ أشرف الخلق أجمعين، محمّد وآله الطيِّبين الطاهرين المعصومين.

«رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً 74» (الفرقان: 74).

في حياته، يسعىٰ الإنسانُ إلىٰ تحقيق أهدافٍ كثيرة يجدُها تخدمه بطريقةٍ وبأُخرىٰ. ولأجل تحقيقها يقوم بالعديد من المشاريع التي تستهلك جهده وماله ووقته وبالتالي عمره، وقد ينجح في تحقيق بعض أهدافه فيها، وقد يبقىٰ في سعيه هذا إلىٰ أنْ تُفارق روحُه جسدَه.

وتلك المشاريع تختلف باختلاف أهدافه في الحياة، تلك الأهداف التي تحدِّدُها نظرته إلىٰ الحياة ورؤيته للكون، فقد تكون مشاريعه ذات مدىٰ قصير فتكشف عن شخصية ضعيفة لا همَّة لها نحو الرُّقِيِّ، وقد تكون عملاقةً تكشف عن ذاتٍ خلّاقة للإبداع عاشقة للكمال، وفيما بينهما آلاف المشاريع والأهداف.

ولا شكَّ أنَّ أيَّ عاقلٍ يسعىٰ إلىٰ أنْ يتكامل كأعلىٰ ما يكون الكمال، إذ إنَّ حُبَّ الكمال ممَّا فُطِرَ عليه بنو البشر.

هذا أوَّلاً.

وثانياً: أنَّ كلَّ إنسان يجد في داخله أنَّه يُحِبُّ الخلود، وهو يسعىٰ للبقاء ما وجد إلىٰ ذلك سبيلاً، ولذلك تجده لا يترك نفسه جائعاً، ولا يتناول ما يُؤثِّر سلباً

ص: 7

علىٰ حياته - عادةً -، وإذا تعرَّض جسدُه لهجمة خارجية من الأمراض والأعراض أسرع يبذل ماله ولو كان عزيزاً ليدفع ذلك العارض.

ولكنَّه وَجَدَ أنَّ مطلب (الخلود) مطلب مستحيل في حدِّ ذاته، فالموت قدرُنا في هذه الحياة، ومهما طال العمر فإنَّ النهاية آتيةٌ لا محالة.

يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنَّمَا خُلِقْتَ لِلآخِرَةِ لَا لِلدُّنْيَا، وَلِلْفَنَاءِ لَا لِلْبَقَاءِ، وَلِلْمَوْتِ لَا لِلْحَيَاةِ، وَأَنَّكَ فِي قُلْعَةٍ وَدَارِ بُلْغَةٍ((1))، وَطَرِيقٍ إِلَىٰ الآخِرَةِ، وَأَنَّكَ طَرِيدُ المَوْتِ الَّذِي لَا يَنْجُو مِنْه هَارِبُه، ولَا بُدَّ أَنَّه مُدْرِكُه، فَكُنْ مِنْه عَلَىٰ حَذَرِ أَنْ يُدْرِكَكَ وَأَنْتَ عَلَى حَالٍ سَيِّئَةٍ، قَدْ كُنْتَ تُحَدِّثُ نَفْسَكَ مِنْهَا بِالتَّوْبَةِ، فَيَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ ذَلِكَ، فَإِذَا أَنْتَ قَدْ أَهْلَكْتَ نَفْسَكَ»((2)).

ومن هنا بدأ الإنسان رحلة البحث عن بديل للخلود، فإنَّه حيث استحال عليه الخلود والبقاء فليبحثْ إذن عن بديل له، فنَقَشَ البعض اسمه علىٰ ألواح ليبقىٰ فيها، ونَحَتَ البعض الآخر تمثالاً لنفسه أو لمن يُحِبُّ، وحاول البعض الثالث أنْ يُخلِّد نفسه بتسمية اكتشافٍ اكتشفَه، أو اختراعٍ اخترعَه، أو إبداعٍ أبدعَه باسمه، وآخر بعلمٍ استحدثه، أو بكتابٍ كتبه، وهكذا تعدَّدت البدائل عن الخلود.

ومن بين أهمِّ ما وجده الإنسان بديلاً عن خلوده هو استمراره باستمرار ذرّيته وأولاده ومن يحملون اسمه بعده، فسعىٰ وُسْعَه لتكوين أُسرة، باتِّخاذ زوجة وإنجاب أولاد، فكان مش_روع (الزواج) وهدف (الإنجاب) من أهمِّ مشاريع حياته. وعلىٰ أعتاب هذا المش_روع قامت

ص: 8


1- ([1]) قُلعة بضمِّ القاف وسكون اللّام، وبضمَّتين، وبضمٍّ ففتح، يقال: منزل قُلعة أي لا يُملَك لنازله، أو لا يدري متىٰ ينتقل عنه. والبلغة: الكفاية، أي دار تُؤخَذ منها الكفاية للآخرة. (هامش المصدر).
2- ([2]) نهج البلاغة (ج 3/ ص 48 و49).

مؤسَّسة (البيت) لتضمَّ (أفراداً) تربطهم (جينات وراثية) و(أواصر الحُبِّ والعطف والودِّ والرحمة).

المفارقة الغريبة هنا!

هي أنَّ أيَّ مش_روع يقوم الإنسان به فإنَّه يهتمُّ بالتخطيط له اهتماماً بالغاً، ويُعطيه من وقته وجهده وماله الشيء الكثير، وهذا أمرٌ عُقلائي.

ولكن مع الأسف نجد الكثير من الآباء والأُمَّهات يعتبرون مشروع الزواج أمراً لا يحتاج إلىٰ الكثير من التخطيط ولا البذل!

ولا أقصد من هذا التخطيطَ والجهدَ المالي والبدني، وإنَّما أقصد التخطيطَ الفكري والتربوي لإقامة أُسرة وفق قواعد التربية العقلائية والإنسانية والشرعية.

ومن هنا نجد أنَّ المرءَ قد ينجح في كثير من مشاريعه الحياتية، وقد يحصل علىٰ العديد من الشهادات الأكاديمية، وقد يحصد بعض الجوائز والأوسمة في مجالات مختلفة، ولكنَّك إذا دخلتَ بيتَه وجدتَه أوهنَ من بيت العنكبوت! فلا مودَّة، ولا تفاهم، ولا اشتياق متبادلاً، ولا هدوءاً، وربَّما تَرَكَه أولادُه في بيته وحده، وربَّما هجَرَتْه حتَّىٰ زوجته!

فما هو السبب في ذلك؟

إنَّه ليس إلَّا انعدام الاعتماد علىٰ القواعد التربوية لإنشاء الأُسرة.

وهذه مشكلة واقعية تعاني منها الكثير من الأُسَر.

ومن هنا جاءت الفكرةُ بكتابة قواعد ورسائل تربوية مستوحاة من الواقع المعاش لا الخيال، تتناغم مع الحاجات المختلفة للأولاد والآباء، وتعالج المشاكل الحياتية بمعادلة واقعية.

إنَّها معادلةٌ تتعامل مع المشاكل والحالات الاجتماعية للأولاد

ص: 9

بطريقة واقعية لا مثالية، تجمع في أطرافها الحزم في عين اللين، والانضباط في عين التسامح.

هي معادلة صعبة واقعاً، ولكنَّها بالتالي ليست مستحيلة، كلُّ ما في الأمر هي تحتاج إلىٰ عوامل مساعدة من سعة صدر والتزام من الأبوين قبل الأولاد!

وهذا يعني أنَّ هذه السلسلة هي لتربية (الآباء) قبل الأولاد!

هي موجَّهة لتخاطب عقول (الراشدين) قبل (الأطفال) و(المراهقين)!

إنَّها قواعد عملية علىٰ الأبوين التزامها لينجحوا في تربية أولادهم تربية واقعية.

هذه هي سلسلة (تربية.. بلون جديد).

تحتوي هذه السلسة علىٰ ثلاثة كُتُب لحدِّ الآن، هي التالي:

أوَّلاً: التربية.. مفهومها وخطواتها العملية.

وقد تمَّ فيه التعرُّف علىٰ مفهوم التربية عموماً بأُسلوب واضح يناغم الواقع، بعيداً عن الاصطلاحات المعقَّدة المستعملة في علم النفس والاجتماع والتربية والتنمية، ثمّ إيضاح لبعض المفاهيم التربوية واللّاتربوية. وتضمَّنَ كلُّ ذلك تقديم خطوات عملية متناسبة مع كلِّ مفهوم، لبيان كيفية التغلُّب علىٰ الصعوبات لو كانت، ولإعطاء منهج عملي متسلسل لتطبيق تلك الخطوات.

وهو الكتاب الذي بين يديك.

ثانياً: رسالاتٌ.. تربوية.

وهي عبارة عن اثنتي عش_رة رسالة تربوية مختلفة تعالج كلُّ رسالة منها موضوعاً من مواضيع التربية المختلفة، ممَّا يعاني منه الآباء والمربُّون، والتي تحتاج إلىٰ إيضاح وبيان، أو التي تتعلَّق بالسلوك العملي للأولاد فقهياً أو تربوياً أو أخلاقياً.

ص: 10

وفي الحقيقة تُمثِّل هذه الرسالات استمراراً للكتاب الأوَّل الذي تعرَّض لمفهوم التربية من نواحٍ متعدِّدة.

ثالثاً: دبابيس.. تربوية.

وهي عبارة عن مائة كلمة وكلمة تربوية، جاءت باسم (دبابيس) لتُلمِّح إلىٰ طريقة عرض المعلومة فيها، فهي في الحقيقة إشارات سريعة وتنبيهات ذكيَّة قد تلبَّست في بعض الأحيان لباس (التهكُّم) التربوي لأُسلوب خاطئ يعتبره البعض (تربوياً).

فكلُّ (دبّوس) منها يُشير إلىٰ (قاعدة تربوية)، أو يُلفت النظر إلىٰ (حقيقة واقعية)، أو يتهكَّمُ بأُسلوب خاطئ يظنُّه البعض صحيحاً، بعيداً عن (الإهانة) أو (الاستخفاف بالمشاعر).

إنَّ هذه السلسلة تُمثِّل (خُطىٰ وئيدة) لإنشاء (أُسرة سعيدة) تملؤ أرجاءها (المحبَّة والودُّ والتعاطف والاشتياق).

وهي قواعد عملية مستوحاة من التجربة الشخصية واستقراء حالات عديدة لمراهقين من أصناف مختلفة وقراءات متعدِّدة.

أسأل الله تعالىٰ أنْ يُقِرَّ أعين جميع المؤمنين والمؤمنات بأولادهم، وأنْ يُعينهم علىٰ مهمَّتهم الصعبة في التربية، وأنْ يتقبَّل منّا بقبوله الحسن، إنَّه سميعٌ مُجيب.

حسين عبد الرضا الأسدي

النجف الأشرف

السبت (16/ محرَّم الحرام/ 1439ه_)

(7/ تشرين الأوَّل/ 2017م)

ص: 11

ص: 12

مقدّمات

اشارة

ص: 13

ص: 14

المقدّمة الأولى:

تنطلق عملية التربية من منطلقات مختلفة باختلاف الثقافات المعاشة، فالأبوان اللَّذان يعيشان في أجواء المعرفة تختلف نظرتهما للتربية عن الأبوين اللَّذين يعيشان في وسطٍ أُمّي، والأبوان اللَّذان يعتبران الزواج صفقة تجارية لن يبذلا ما يبذله الأبوان اللَّذان يعتبران الزواج مش_روعاً حياتياً للبناء والاستمرار، والأبوان اللَّذان يعيشان الطمأنينة والتفاهم في حياتهما تختلف تربيتهم لأولادهما بكلِّ تأكيد عن ذينك الأبوين اللَّذين يعيشان المشاكل والصراخ والنقص العاطفي.

ومن هنا فعلىٰ كلِّ أب وأُمٍّ أنْ يراجعا حساباتهما بشكل جيِّد، وينظرا بعين واقعية إلىٰ الهدف الذي كان وراء ارتباطهما، وعليهما أنْ يُصحِّحا المسار فيما لو لم يكن في الوجهة الصحيحة الهادفة.

المقدّمة الثانية:

ليست التربية مجرَّد نظريات علمية يصوغها التربويون أو المؤلِّفون، وإنَّما هي واقع عملي وسلوكي يعيشه كلُّ فرد وفي كلِّ لحظة.

نعم، هذا الواقع العملي السلوكي يتأسَّس علىٰ أساس نظرية معيَّنة، لكنَّه علىٰ كلِّ حالٍ لا يقف عند حدود النظرية، وإنَّما لا بدَّ أنْ تتمَّ ترجمة هذه النظرية إلىٰ مفردات عملية وسلوكية متوافقة مع تلك النظرية.

ص: 15

وهذا يعني أنَّ النظرية إذا كانت صحيحة ومستقيمة كانت التربية كذلك، وأمَّا إذا كانت النظرية منحرفة ومعوجَّة فالنتيجة ستكون متوافقة معها أيضاً.

ومن هنا، كانت واحدة من المهامِّ الض_رورية لكلِّ مربٍّ هو زرع التصوُّرات المستقيمة والصحيحة في ذهن الأطفال، ممَّا سنُفصِّل الكلام فيه في موضعه إنْ شاء الله تعالىٰ.

المقدّمة الثالثة:

إنَّ التربية من نوع الموجود التراكمي التدريجي لا الموجود الدفعي، بمعنىٰ أنَّ التربية هي عملية معقَّدة جدًّا، ذات أطراف كثيرة، تتشابك فيما بينها، لتُنتِج رؤية معيَّنة لدىٰ الطفل، تتحوَّل فيما بعد إلىٰ سلوك عملي، ربَّما يستمرُّ معه طوال حياته.

إنَّ التربية تبدأ من نظرات عيون الأبوين لأولادهما، لتمرَّ بنوع الكلمات التي يستعملها الأبوان في حياتهما اليومية، آخذة في طريقها آثار الأصدقاء والمدرسة والبيئة والمجتمع.

وكلُّ واحدة من تلك المؤثِّرات تضيف شيئاً جديداً لنظريات الطفل، وإنْ كان شيئاً صغيراً جدًّا، ككلمة، أو نظرة، أو موقف.

وتأخذ تلك المؤثِّرات بالتدريج تتراكم وتتجمَّع في ذهن الطفل لتتحوَّل فيما بعد إلىٰ سلوك يقود حياته.

المقدّمة الرابعة:

إنَّ الطفل يُمثِّل اللبنة الأُولىٰ لبناء الأُسرة ثمّ المجتمع ثمّ المستقبل، وتلك اللبنة في بدايتها هشَّة جدًّا، كالعجينة تماماً، وهذا معناه أنَّ الأبوين

ص: 16

هما أوَّل مسؤولَيْنِ عن الشكل الذي ستكون عليه لبنة الطفل في المستقبل.

فبإمكانك أيُّها الأب أنْ تصنع من ابنك قائداً للمستقبل، أو فيلسوف عصره، أو عالم زمانه، وبإمكانك أيضاً أنْ تصنع منه خروفاً مع القطيع، أو مجرماً سفّاكاً، أو جاهلاً متهتِّكاً، أو حجر عثرة في الطريق يضرُّ ولا ينفع.

كذلك أنتِ أيَّتها الأُمُّ، يمكنكِ أنْ تصنعي من ابنتكِ عذراءَ زمانها، أو زهراءَ دهرها، كما يمكنكِ أنْ تصنعي منها سجاح قومها أو منبوذة بيتها.

وإنَّما قلب الحَدَث كالأرض الخالية.

المقدّمة الخامسة:

إنَّ مقدار توجُّه الإنسان إلىٰ أيِّ فعل يتناسب مع اهتمامه بذلك الفعل، فكلَّما كان الاهتمام به أكثر كلَّما كان توجُّه الإنسان بأحاسيسه وشعوره إليه أكثر، والعكس بالعكس.

ثم إنَّ أهمّية الفعل تتبع عادةً الآثار المترتِّبة عليه، فكلَّما كانت الآثار المترتِّبة أخطر وأعظم كلَّما زادت أهمّيته، كما أنَّ العكس بالعكس أيضاً.

وحتَّىٰ يعرف الإنسان أهمّية فعلٍ ما من خلال خطورة آثاره عليه أنْ يجمع المعلومات الكافية عنه، ومن مصادر متنوِّعة ذات صلة به وذات خبرة بآثاره، حتَّىٰ لو كانت تلك المصادر متضادَّة، إلىٰ أنْ يصل الفرد إلىٰ قناعة تامَّة بأهمّية الفعل أوَّلاً، وبأهمّية وخطورة آثاره ثانياً.

والتربية تدخل تحت هذا المضمار، فكلَّما كان نظر الأبوين للتربية

ص: 17

علىٰ أنَّها أمر مهمٌّ للغاية لخطورة الآثار المترتِّبة عليها، كلَّما أعطوها مقداراً إضافياً من جهدهم ووقتهم وأموالهم.

أمَّا إذا نظر الأبوان للتربية علىٰ أنَّها مهمَّة تلقائية أُوتوماتيكية لا تحتاج إلىٰ معاناة وصبر ومعرفة، فهذا معناه أنَّهما سيلقيان بمهمَّة التربية إلىٰ الظروف التلقائية والخارجية، وحينها سوف لا نرىٰ إلَّا أولاداً تربُّيهم الخادمة، أو يجرفهم تيّار الشارع!

المقدّمة السادسة:

يخطئ من يظنُّ أنَّ التربية عملية تلقائية تقودها الظروف الخارجية لوحدها، بل هي عملية اختيارية يقودها الإنسان باختياره.

نعم، تلك العملية الاختيارية تحتوشها الكثير من المؤثِّرات غير الاختيارية.

فأبواك أوَّل مؤثِّرَيْنِ فيك، وأنت لم تخترهما، وكذلك الأعراف والتقاليد وحتَّىٰ سياسات الدُّوَل، كلُّها مؤثِّرات غير اختيارية.

لكن مع ذلك تبقىٰ الكلمة الأخيرة للإرادة والاختيار.

فأنتما كأب وأُمٍّ لكما الكلمة في توجيه سلوك الأولاد، ولو علىٰ نحو المقتضي والسبب.

ولكن تبقىٰ إرادة الفرد حاكمة علىٰ السلوك.

وبالتالي، كانت مهمَّة الأبوين هي مساعدة الأبناء علىٰ توجيه اختيارهم نحو الوجهة الصحيحة، بعيداً عن الأخطاء السلوكية علىٰ جميع المستويات الشخصية والاجتماعية، وبعيداً عن الجبر الذي يُعدِم الإرادة.

وهذا التوجيه يُمثِّل الوجه الآخر للتربية، وهو الوجه الاختياري والأهمُّ فيها.

ص: 18

المقدّمة السابعة:

حالها حال أيِّ نظرية، تحتاج التربية إلىٰ معرفة مسبَقة بأساليبها وطُرُقها، وتحتاج إلىٰ معرفة معمَّقة بالطُّرُق التي نحتاجها فيما إذا حدثت أزمة معيَّنة تتعلَّق بالسلوك.

لذلك احتاج كلُّ أبوين إلىٰ أنْ يُؤهِّلا نفسيهما لرعاية أولادهما تأهيلاً علمياً وعملياً - بعيداً عن التلقائية في تلك الرعاية ممَّا نراه في أغلب الناس -.

وهذا معناه أنَّك وقبل أنْ تُربّي أولادك عليك أنت أنْ تُربّي نفسك جيِّداً، فعليك أنْ تطالع تجارب الآخرين، وأنْ تستنطق أفكارهم من خلال ما كُتِبَ في هذا المجال.

وهذا معناه أيضاً أنْ يجعل الأبوان من أولوياتهما فهم الطُّرُق والأساليب المختلفة للتربية، فليس هناك طريقة واحدة لها، ولا أُسلوب معيَّن، إنَّما لها طُرُق وأساليب تختلف باختلاف الظروف المعاشة - كما سيتبيَّن من المقدّمة التالية إنْ شاء الله تعالىٰ -.

المقدّمة الثامنة:

كما تقدَّم وأشرنا إلىٰ أنَّ التربية ليست ذات طابع ميكانيكي معيَّن وإنَّما هي ذات طابع متنوِّع، فهناك طُرُق كثيرة للتربية قد سطرتها الكُتُب المعدَّة لها.

إنَّ علىٰ الأبوين ملاحظة هذه المسألة جيِّداً، وذلك لعدَّة أسباب نذكر منها التالي:

السبب الأوَّل:

من البعيد جدًّا أنْ يخرج كلُّ أولادك بصفات سلوكية متشابهة، فليس هناك توأم متماثل تماماً من حيث السلوك.

فهناك من الأولاد العنيد.

ص: 19

ومنهم الهجومي.

ومنهم الأناني.

ومنهم الغاضب.

كذلك هناك أولاد مسالمون.

وأولاد متسامحون.

وأولاد هادئون.

وأولاد

كرماء.

ولكلِّ واحد منهم أُسلوب في التربية يختلف عن الآخر.

والتربية الناجحة تعني ملاحظة كلِّ طفل وما يناسب سلوكه الخاصّ.

السبب الثاني:

إنَّ الظروف الموضوعية للأطفال مختلفة، فقد يُولَد ابنك في عص_ر له ثقافته الخاصَّة، لكن ولدك الثاني يُولَد بعده بعدَّة سنين كانت الثقافة قد اختلفت معه.

وقد يصل أحد أولادك إلىٰ الدراسة المتوسِّطة مثلاً، وما زال ولدك الآخر حبيس البيت.

قد يكون أحد أولادك عليلاً يحتاج إلىٰ عناية خاصَّة، في حين يكون ولدك الآخر في تمام الصحَّة.

واختلاف هذه الظروف يقتض_ي تنوُّعاً في الطُّرُق والأساليب التربوية.

وهذا يحتاج إلىٰ معرفة معمَّقة من الآباء بتلك الظروف والأساليب المناسبة لها.

المقدّمة التاسعة:

عندما نطالع البحوث والمقالات التي كُتِبَت في مجال التربية فإنَّنا سوف نجد بينها خطوطاً عامَّة مشتركة تنفعنا في الخروج بنتيجة موحَّدة.

ص: 20

ولكن في نفس الوقت نجد أنَّ هناك تناقضات عديدة في اعتبار بعض الأساليب التربوية ناجحة أو فاشلة، بحيث قد يقف الباحث حائراً في اختيار إحدىٰ النظريتين.

وللخروج عن هذه الأزمة يوجد أساسان:

الأساس الأوَّل: تحكيم التجربة فيما لو كانت ناجحة وفق إحدىٰ النظريتين.

الأساس الثاني: الرجوع إلىٰ مصدر لا يقبل الخطأ في التشخيص، والمتمثِّل بتعاليم الدِّين التي وردت في مصادره الموثوقة، وهي القرآن الكريم والروايات الشريفة.

وهذا الأمر قد تمَّت الإشارة إليه في كلمة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) لولده الإمام الحسن (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) حينما قال له:

«أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي وَإِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلي، فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ، وَسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ حَتَّىٰ عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ، بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَىٰ إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَىٰ آخِرِهِمْ، فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذَلِكَ مِنْ كَدَرِه، وَنَفْعَه مِنْ ضَرَرِه، فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ نَخِيلَه، وَتَوَخَّيْتُ لَكَ جَمِيلَه، وَصَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَه، وَرَأَيْتُ حَيْثُ عَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِي الْوَالِدَ الشَّفِيقَ، وَأَجْمَعْتُ عَلَيْه مِنْ أَدَبِكَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَأَنْتَ مُقْبِلُ الْعُمُرِ وَمُقْتَبَلُ الدَّهْرِ، ذُو نِيَّةٍ سَلِيمَةٍ وَنَفْسٍ صَافِيَةٍ، وَأَنْ أَبْتَدِئَكَ بِتَعْلِيمِ كِتَابِ اللهِ عَزَّوَجَل وَتَأْوِيلِه، وَشَرَائِعِ الإِسْلَامِ وَأَحْكَامِه، وَحَلَالِه وَحَرَامِه، لَا أُجَاوِزُ ذَلِكَ بِكَ إِلَىٰ غَيْرِه»((1)).

ص: 21


1- ([1]) نهج البلاغة (ج 3/ ص 41).

وهذا الأمر يحتاج إلىٰ فطنة وذكاء من الأبوين ليوازنا بين مفردات السلوك.

وسنسعىٰ في هذا الكتاب إلىٰ طرح المتوافق مع هذين الأساسيين إنْ شاء الله تعالىٰ .

المقدّمة العاشرة:

صحيح أنَّ التربية هي عملية مشتركة بين الوالدين، ولكن - وبلا أدنىٰ شكٍّ - أنَّ للأُمِّ الدور الأهمّ والأكبر فيها، ذلك لأنَّ الوقت الذي تقضيه الأُمُّ مع أولادها أطول بكثير من الوقت الذي يقضيه الأب معهم، لانشغاله بإدارة أعماله خارج البيت أغلب الوقت، ممَّا يضيف للأُمِّ مسؤولية كبيرة في تحمُّل أعباء هذه المهمَّة.

وهذا يعني أنَّ علىٰ الأُمِّ أنْ تراعي قواعد التربية بكلِّ دقَّة وحذر، ولا تدع حرارة المطبخ أو غبار الكنس أو إرهاق غَسل الملابس يُؤثِّر سلباً علىٰ سلوكها مع أولادها، ممَّا نراه اليوم مأسوفاً عليه عند كثير من الأُمَّهات اللواتي يُفَرِّغْنَ تعبهنَّ علىٰ شكل عبوات ناسفة من الص_راخ والضرب والتبرُّم والتضجُّر.

وفي الوقت ذاته لا يعني هذا أنْ يتخلّىٰ الأب عن مسؤوليته في التربية، فينبغي له صناعة الوقت الكافي للجلوس مع أطفاله أو الخروج معهم في سفرات دورية كلَّما أُتيحت له الفرصة.

وتبقىٰ القاعدة: أنَّ التربية عملية مشتركة بين الوالدين.

* * *

ص: 22

الفصل الأوَّل:

اشارة

قصَّة تربوية افتراضية

مع ملاحظات تربوية

ص: 23

ص: 24

ما الذي يحكي التربية بمفهومها الصحيح؟

لاحظوا معي الحكاية الافتراضية التالية:

اشترىٰ رجل (دجاجة)، وأعطاها مكانها الخاصّ، وخرج ليعمل في حقله، ليرجع لها بالقمح الكافي ليلاً، حتَّىٰ تستمرَّ حياتها، ولتكون قادرة علىٰ أنْ تُعطيه - من جانبها - بيضة كلَّ يوم، وهو لا يُفكِّر بأكثر من عمله والبيضة.

واشترىٰ آخر (قرداً)، وأعطاه أيضاً المكان المناسب، والطعام المناسب، وكان يُدرِّبه كلَّ يوم علىٰ أنْ يُقلِّده في كلِّ تص_رُّفاته، إنَّه في الواقع يريد من القرد أنْ يكون نسخة ثانية عنه.

وثالث اشترىٰ (ذئباً)، وأعطاه أيضاً المكان والطعام المناسبين، وأخذ يُدرِّبه كلَّ يوم علىٰ أنْ يكتشف طُرُقاً جديدة (للفتك) و(الافتراس)، وعلىٰ (المراوغة) و(الخديعة)!

وأمَّا الرابع فإنَّه أجهد نفسه كثيراً حتَّىٰ جمع مبلغاً محترماً واشترىٰ به (دولفين) حديث الولادة، وقد وفَّر له كلَّ ما يحتاج إليه من ظروف تلائمه، وأخذ يجلس إلىٰ جنبه كلَّ يوم، ليُدرِّبه علىٰ مهارات جديدة تساعده علىٰ الاستمرار بحياته، وليُقدِّم عروضاً تأخذ بالقلب والنظر.

وما كان ذلك الرجل ليمنع (دولفينه) من حُرّية التعبير عن لعبه ببيئته الطبيعية (الماء) وإنْ كانت مختلفة عن بيئته (الأرض).

فيا ترىٰ!

أيُّ الرجال الأربعة يُمثِّل مفهوم التربية بمعناها الصحيح؟

ص: 25

مميّزات تربية الدجاجة!

لاحظوا: أنَّ من يُربّي دجاجة لتبيض له يتميَّز بالتالي:

أوَّلاً: أنَّه لا يجالس دجاجته أبداً إلَّا بمقدار إلقاء الطعام لها، هذا إذا لم يُوكِل هذه المهمَّة إلىٰ غيره.

ثانياً: أنَّه يقض_ي أكثر وقته في حقله، وإذا رجع إلىٰ البيت فإنَّه لا يهتمُّ كثيراً لدجاجته.

ثالثاً: لا يهمُّه أين ذهبت الدجاجة أو رافقت أيَّ دجاجة أُخرىٰ! المهمُّ أنْ يعرف أنَّه سيجد بيضته في مكانها!

فهل يمكن أنْ نُسمّي هذه العملية (تربية)؟!

إنَّ بعض الآباء يتعامل مع أولاده تعامُلَ ذلك الرجل مع دجاجته، فتجده منهمكاً من أوَّل الصباح إلىٰ آخر النهار وربَّما إلىٰ الليل بعمله، ولا يترك وقتاً يُخصِّصه لأولاده ليجالسهم أو يتحدَّث إليهم.

نعم، قد تجمعه معهم مائدة الطعام ولكنَّه لا يُعطيهم حتَّىٰ ذلك الوقت، وإذا طالبه أحد أولاده بساعة كلام معه اعتذر بأنَّه متعب ومرهق بسبب عمله الذي يمارسه من أجل أنْ يُوفِّر لهم المكان والطعام المناسبين لهم!

إنَّ جُلَّ وقته يقضيه مع ذلك العمل البغيض الذي سلبه عن أطفاله، الأمر الذي يترك إحساساً لديهم بأنَّهم مجرَّد (دجاجات) تنتظر صاحبها ليُطعمها (القمح) من (حقله).

فهل يمكن أنْ نعتبر هذه الطريقة تربية ناجحة؟!

التوازن بين العمل والتربية:

شاء الباري تعالىٰ أنْ يجعل للإنسان عاطفة إلىٰ جانب عقله، لها حقوقها وعليها واجباتها، كما كان العقل كذلك. والتفريط بها أو

ص: 26

الإفراط بها له أثر سيِّئ، كما هو الأمر في العقل. والمطلوب هو إحداث توازن بين متطلَّبات العاطفة والمشاعر، وبين متطلَّبات العقل.

إنَّ هذا التوازن من شأنه أنْ يدفع بالعقل نحو النموِّ والتطوُّر.

وهذا التوازن يُولِّد ما يُسمّىٰ علمياً ب_ (الذكاء العاطفي)، وقد لاحظ العلماء بأنَّ نجاح الإنسان لا يقتص_ر علىٰ الذكاء العقلي، فكم من ذكي قد فشل في حياته الأُسرية والاجتماعية، وإنَّما يحتاج إلىٰ الذكاء العاطفي الذي يساهم في البناء القلبي والعاطفي((1)).

إنَّ العقل يعتمد علىٰ المحاسبة الدقيقة، وتعامله جدّي جدًّا بحيث لا يقبل الخطأ، فهو كالآلة القاسية الجامدة التي لا تقبل إلَّا ما بُنيت عليه، ولأجل تحقيق هدفه لا يُعطي مجالاً لصفات الرحمة أو الرأفة أو التسامح، إنَّما عنده (لا يصحُّ إلَّا الصحُّ)!

وهذا الأمر وإنْ كان مطلوباً في بعض جوانب الحياة كالاعتقادات والتزام الدِّين، ولكنَّه لا يس_ري علىٰ جميع مستويات الحياة، إذ في كثير من الأحيان نحتاج إلىٰ تحكيم الرحمة والرأفة والتسامح والحُبِّ، وعدمها في موردها يُؤدّي إلىٰ خلل ملحوظ في الحياة، ولذا كان واحداً من مشاريع الإنسان الناجح هو إحداث التوازن بين متطلِّبات العقل ومتطلِّبات العاطفة.

قال أبو الطيِّب:

ووضعُ الندىٰ في موضع السيف بالعُلا *** مضرٌّ كوضع السيف في موضع الندىٰ

ص: 27


1- ([1]) المحاضرات الأخلاقية للسيِّد حسين نجيب محمّد (ص 278).

ومن هنا يذكر علماء التنمية البش_رية أنَّه لا بدَّ للرجل أنْ لا يُعطي كلَّ كيانه لعمله، بل عليه أنْ يجعل جزءاً مهمًّا منه خاصًّا بعائلته، فيُحدِّد وقتاً خاصًّا للجلوس معهم والتكلُّم معهم.

يجب أنْ يكون هناك وقت تلعب فيه مع أولادك الصغار حتَّىٰ تزرع في قلوبهم إحساساً بأنَّك إلىٰ جنبهم، وأنَّهم أهمُّ من العمل.

يجب أن تُعطي بعض وقتك لزوجتك حتَّىٰ تُكلِّمك بمشاعرها.

يجب أن تكون مستمعاً جيِّداً كما تُحِبُّ أن تكون متكلِّماً جيِّداً.

يجب أنْ تلاحظ أنَّ أولادك وبناتك يكبرون، وأنَّ كلَّ مرحلة عمرية يمرُّون بها يحتاجون فيها إلىٰ تعامل خاصٍّ بها، فابنتك تحتاج إلىٰ العاطفة أكثر من التعامل العقلي، وليس معنىٰ هذا أنَّ الولد يحتاج إلىٰ التعامل العقلي فحسب، كلَّا، بل هو أيضاً يحتاج إلىٰ العاطفة، ولكن علىٰ مستوىٰ أقلّ قليلاً من البنت.

قصَّة معبّرة:

يقال: إنَّ رجلاً كان منهمكاً بعمله الذي يدرُّ عليه أرباحاً كثيرة ومستمرَّة، فجاءه ولده يوماً وطلب منه أن يجلس معه ساعة واحدة، فردَّ عليه: يجب أن أذهب إلىٰ العمل، لأنَّني في هذه الساعة أحصل علىٰ مبلغ خمسين ألفاً، ولكن سأُعطيك ألف دينار كمص_روف يومي لك. فسكت الطفل وأخذ الألف، وبعد مدَّة من الزمن طلب من والده ألفاً آخر غير الألف المعهود، فتعجَّب الوالد الحنون، وقال: ألم أعطك مص_روفك اليومي؟! فردَّ عليه: سأُعلمك بالسبب بعد أنْ تُعطيني، فأعطاه الألف، ففرح الولد ولم تكد الدنيا تحويه، وأمسك بيد والده وجرَّه معه إلىٰ

ص: 28

غرفته، وهناك رفع وسادته وأخرج منها مبلغاً وعدَّده فإذا هو خمسون ألفاً، فأعطاها لوالده وقال له: هذه هي الخمسون ألفاً التي تحصل عليها خلال ساعة، خذها واجلس معي هذه الساعة!

التوازن في تربويات الدِّين:

وعندما نلاحظ تربويات الدِّين نجد أنَّ التوازن مطلب مهمٌّ في كثير من مستويات الحياة، يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْناً مَا عَسَىٰ أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْماً مَا، وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْناً مَا عَسَىٰ أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْماً مَا»((1)).

وهكذا الأمر في العلاقة مع الأولاد والأطفال عموماً وبالزوجة والأبوين والجيران والزملاء والأصدقاء ومن تلاقيهم في الشارع ومن يجلس إلىٰ جنب مقعدك في السيّارة...

النبيُّ الأكرم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) كان يُعلِّمنا هذا التوازن، فقد كان يُؤتىٰ بالصبيِّ ليبارك عليه، فحَدَث أنَّ صبيًّا بال في حضن النبيِّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، فقام أهله لينهروه، ولكن النبيَّ الأكرم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) لم يرتض منهم ذلك. ولربَّما خفَّف النبيُّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) صلاته، لأنَّه سمع صراخ صبيٍّ يبكي.

إنَّه الاحترام الذي لا مثيل له حتَّىٰ للرضيع، هكذا كان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ).

عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «صلّىٰ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بالناس الظهر، فخفَّف في الركعتين الأخيرتين، فلمَّا انص_رف قال له الناس: هل حَدَث في الصلاة حَدَث؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: خفَّفت في الركعتين الأخيرتين، فقال لهم: أمَا سمعتم صراخ الصبيِّ؟!»((2)).

ص: 29


1- ([1]) نهج البلاغة (ج 4/ ص 64).
2- ([2]) الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 48/ باب حقّ الأولاد/ ح 4).

وكان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) يُؤتىٰ بالصبيِّ الصغير ليدعو له بالبركة أو يُسمّيه، فيأخذه فيضعه في حجره تكرمةً لأهله، فربَّما بال الصبيُّ عليه، فيصيح بعض من رآه حين يبول، فيقول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا تزرموا((1)) بالصبيِّ»، فيدعه حتَّىٰ يقض_ي بوله، ثمّ يفرغ له من دعائه أو تسميته ويبلغ سرور أهله فيه ولا يرون أنَّه يتأذّىٰ ببول صبيهم، فإذا انص_رفوا غَسل ثوبه بعده((2)).

وروي أنَّ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أُتي بالحسين بن عليٍّ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، فوُضِعَ في حجره، فبال عليه، فأُخِذَ، فقال: «لا تزرموا ابني»، ثمّ دعا بماء فصبَّه عليه((3)).

فالنبيُّ الأكرم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) هنا قدَّم التعامل العاطفي علىٰ العقلي.

مميِّزات تربية القرد:

تقدُّم تفصيل الكلام حول تربية (الدجاج)، والآن نتكلَّم عن مميِّزات تربية ذلك الرجل الذي اشترىٰ (قرداً).

إنَّه يتميَّز بالتالي:

أوَّلاً: سيتعامل مع ذلك القرد علىٰ أنَّه مجرَّد (آلة) عليها أنْ تُنفِّذ ما يطلبه هو منها.

ثانياً: سيعمل علىٰ برمجة ذلك (القرد) بما يُحِبُّه هو من برامج.

ثالثاً: وسيستعمل شتّىٰ الوسائل - وإنْ كانت خداعاً أو مكراً أو تهديداً أو ضرباً - من أجل أنْ يُعلِّم ذلك (القرد) كيف يسلك سلوكياته.

ص: 30


1- ([1]) زرم البول: انقطع. ولا تزرموا: يعني لا تقطعوا بوله. (هامش المصدر).
2- ([2]) مكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي (ص 25/ الفصل الثاني: نبذة من أحواله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وأخلاقه).
3- ([3]) معاني الأخبار للشيخ الصدوق (ص 211/ باب معنىٰ الإزرام/ ح 1).

إنَّ بعض الآباء يُربّي أولاده تربية القرود، ففي الوقت الذي يُظهِر لهم الاهتمام ويجلس معهم فترات زمنية أطول نسبياً من (مربّي الدجاج)، إلَّا أنَّه يتعامل معهم تعامل (آلة) صَنَعَها هو!

إنَّه يريد منهم أنْ يكونوا (نسخة طبق الأصل) منه، فعليهم أنْ يلبسوا ما يختاره لهم هو من دون أنْ يكون لرأيهم قيمة، وأنْ يأكلوا ما يريده هو من دون أن يكون لرغبتهم أدنىٰ قيمة، بل إنَّه يريد منهم أنْ يتص_رَّفوا كما يريد هو، ولا يدع لهم أيَّ مجال لأنْ يُظهِروا بعض قدراتهم أو رغباتهم أو مواهبهم الخاصَّة، عدا ما يرسمه هو لهم، حتَّىٰ في مجال دراستهم وتخصُّصهم ولعبهم وطريقة كلامهم عليهم أنْ يُقلِّدوه تماماً!

لذلك يريد منه أنْ يستعمل (الملعقة) كما يستعملها هو من دون السماح لارتكاب أيِّ (خطأ) وإنْ لم يكن مقصوداً، وفي اللحظة التي يسقط فيها شيء من الطعام علىٰ ملابسه فإنَّ هذا العمل (المشين) سيلقىٰ (نظرات حادَّة) وربَّما (صراخاً مهولاً) إنْ لم تتطوَّر القضيَّة (الدولية) لتصل إلىٰ حدِّ (لطمة علىٰ الخدِّ)!

كذلك يريد من الولد أنْ يلعب بنحوٍ يتناسب مع الرجل الكبير إذ يعتبره (رجلاً كبيراً)، فلا يسمح له باللعب (بالتراب) أو أنْ (يماطل دميَّته) أو حتَّىٰ يتكلَّم مع (سيّارته)! لأنَّ هذه الأفعال لا تتناسب مع (الرجال)!

أيُّ رجلٍ أيُّها الوالد؟! إنَّه ما زال طفلاً! دَعْه يلعب يا أخي.

يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «لا تقس_روا أولادكم علىٰ آدابكم، فإنَّهم مخلوقون لزمان غير زمانكم»((1)).

فهل يمكن أنْ نُسمّي هذه العملية (تربية)؟!

ص: 31


1- ([1]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج 20/ ص 267).

ملاحظات حول هذه التربية:

الملاحظة الأُولىٰ:

لا شكَّ أنَّ الولد يُمثِّل الوجود الامتدادي للأب، فبالولد يستمرُّ الأب بعد موته، ومن هنا قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) لولده الإمام الحسن (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «وَوَجَدْتُكَ بَعْضِ_ي، بَلْ وَجَدْتُكَ كُلِّي، حَتَّىٰ كَأَنَّ شَيْئاً لَوْ أَصَابَكَ أَصَابَنِي، وَكَأَنَّ المَوْتَ لَوْ أَتَاكَ أَتَانِي، فَعَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِينِي مِنْ أَمْرِ نَفْسِي...»((1)).

ولذلك فإنَّ «المرء يُحفَظ في ولده»((2))، لأنَّهم استمرار له، ومن هنا يتذكَّر الناس من يُحِبُّونه من الرجال كلَّما رأوا ولده.

ومن نفس المنطلق اعتبر الش_رع أنَّ عمل الولد الصالح استمرار لعمل أبيه حتَّىٰ بعد موته، فإنَّ المرء إذا مات لم ينقطع عمله إذا كان له ولد صالح يدعو له((3)).

إنَّ هذا كلَّه صحيح، ولكنَّه لا يعني أنْ يستنسخ الأب شخصيته في ولده، وإنَّما يعني أنْ يعمل علىٰ أنْ يصنع من ولده شخصية فذَّة تحكي حسن التربية.

فدَعْه يُمثِّل امتدادك (الهرمي) التطوّري، لا (الدائري) المستنسخ وغير المتطوِّر.

ص: 32


1- ([1]) نهج البلاغة (ج 3/ ص 38).
2- ([2]) حديث روته الزهراء (عَلَيْهِا اَلسَّلاَمُ) عن أبيها الرسول الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) كما في: الاحتجاج للشيخ الطبرسي (ج 1/ ص 139).
3- ([3]) في الكافي للشيخ الكليني (ج 7/ ص 56/ باب ما يلحق الميِّت بعد موته/ ح 1): عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلَّا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته، وسُنَّة هدىٰ سنَّها فهي يُعمَل بها بعد موته، أو ولد صالح يدعو له».

الملاحظة الثانية:

إنَّ العالم اليوم في تسارع تطوّري مستمرّ في جميع مفاصله، والتقدُّم العلمي أخذ طابع (القفزات) التي قد يعجز (الذهن البش_ري) عن مجاراتها، حتَّىٰ إنَّه لو فُرِضَ أنْ خرج آباؤنا الذين ماتوا قبل عش_رين سنة مثلاً ورأوا الأجهزة المتطوِّرة اليوم لظنُّوا أنَّهم في حُلُم يقظة أو خيال أطفال!

والإنسان بطبعه (فضولي)، فهو يُحِبُّ أنْ يتعلَّم ما لا يعرفه، وأنْ يتقدَّم في معارفه ويُطوِّرها، وهذه غريزة فُطِرَ عليها بنو البش_ر، وهي كغيرها من الغرائز تسعىٰ لإرواء ظمئها وسدِّ رمقها من تلك المعارف المتطوِّرة.

وهذا يعني فيما يعنيه أنَّ التربية يجب أنْ تتماشىٰ مع آخر ما وصل إليه التطوُّر العلمي، وليس من الصحيح أنْ يُقيِّد أحدنا أولاده علىٰ المتوارث و(الكلاسيكي)!

لكن مع الالتفات إلىٰ الملاحظة التالية.

الملاحظة الثالثة:

إنَّ ما نواجهه في حياتنا التطوُّرية من حيث الأخلاق والسلوك يقع علىٰ نوعين:

النوع الأوَّل: النوع الثابت:

كثوابت الدِّين (الصلاة والصوم)، الأخلاق (الصدق والأمانة وبرِّ الوالدِّين وصلة الرحم)، وهذه لا بدَّ أنْ نُربّي أولادنا علىٰ الالتزام بها من خلال الطُّرُق المتناسبة مع فكره وذهنه، فنعمل علىٰ إقناعه بالتي هي أحسن، وإذا رأينا في بعض الأحيان أنَّ الضغط عليه قليلاً ينفع فلنضغط عليه بشيء يتناسب مع حجم عقله وعاطفته.

ص: 33

فهذه الثوابت لا تدخل تحت طاولة (التغيير) بفعل (التطوُّر والتقدُّم).

النوع الثاني: النوع المتغيِّر داخل الثوابت:

وهو الأُمور الكمالية مثل الملابس، فليس شرطاً أنْ يلبس ولدك نفس ملابسك أو هندامك، ولكن في نفس الوقت لا بدَّ أنْ لا يخرج عن الحدِّ المتعارف، فلا يُسمَح له بلبس اللباس الذي يكشف من الجسم ما لا يُتعارَف، لأنَّه يخالف المروءة.

وهكذا التقنيّات الحديثة من حاسبات وهواتف ذكيَّة نُوفِّرها للأولاد، لكن مع تقنين وقت اقتنائها وكيفية ومقدار استعمالها، وهكذا مثلاً قضايا اختيار لون البيت وما شابه هذه الأُمور.

الملاحظة الرابعة:

علىٰ الأب أنْ يواكب هذا التقدُّم العلمي حتَّىٰ يبقىٰ جس_ر التواصل بينه وبين أولاده ولا يقطعه بالقديم.

الملاحظة الخامسة:

إنَّ من أهمِّ آثار التقدُّم العلمي هو أنَّه سارق ماهر للوقت من حيث لا يشعر البالغ، فكيف بالصبي قليل الخبرة في الحياة؟!

فعلىٰ الأبوين إذن أنْ يتنبَّها جيِّداً علىٰ ضرورة تنظيم الوقت للولد في هذا المجال.

مميِّزات تربية (الذئب):

أمَّا من اشترىٰ ذئباً فإنَّه سيلاحظ التالي:

إنَّ طبيعة الذئب هي طبيعة مفترسة خدّاعة، فلا بدَّ أنْ يساعده علىٰ تنمية هذه الطبيعة، لذلك سيجلس معه كثيراً من أجل أنْ يطمئنَّ له ذئبه ثمّ يبدأ بتلقينه ما يُنمّي تلك الطبيعة الذئبية المودعة فيه.

ص: 34

وسيُشجِّعه علىٰ (الافتراس)، وعلىٰ (التخفّي) لحين اللحظة المناسبة، وعلىٰ أنْ يكون هدفه هو (إشباع) جوعه ولو عن طريق (الخداع) أو (سرقة) دجاجة جاره! فإنَّ (الغاية تُبرِّر الوسيلة).

وهكذا يتعامل بعض الآباء مع أولادهم، إنَّه يُوحي إلىٰ ولده بأنَّه مقبل علىٰ الدخول إلىٰ ساحة معركة أو غابة موحشة، وحتَّىٰ يجتازها عليه أنْ يتسلَّح بالعضلات المفتولة والمكر والخداع، وأنَّه (إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب).

إنَّه سيُوحي إليه بمثل التالي:

- حتَّىٰ تنجح في المدرسة، يمكنك أنْ (تغشَّ)!

- وحتَّىٰ تتخلَّص من موقف محرج، لا بأس (بالكذب).

- ويمكنك أنْ تتقمَّص شخصية (البطل) في عمل لم تقم به أبداً!

- عليك أنْ تساعدني في عملي لتحصل علىٰ مستقبل زاهر، فيلزمك أنْ تُتقِن فنَّ (المراوغة) وإقناع الزبون بجودة منتج هو رديء في واقعه!

وهكذا.

فهل يمكن أن نعتبر هذه (تربية)؟!

تسامحٌ مقنَّن:

صحيح أنَّ الحياة تحكي عن غابة همجية في بعض مفرداتها، ولكنَّ الإنصاف لا بدَّ أنْ يُقال، فإنَّ الخير ما زال له موضع قدم رحب فيها، وما زال أهل الخير يمارسون حياتهم بكلِّ دفء وهدوء وطمأنينة وراحة بال، وما زالوا يُقدِّمون الخير لغيرهم.

ص: 35

وإنَّ الناجح في هذه الحياة هو من يجالس ويخالط أهل الخير، ويتجنَّب أهل الشرِّ قدر الإمكان.

وهذه قاعدة حياتية مهمَّة ينبغي أنْ نُعلِّمها لأولادنا، فأنْ تعيش نفّاعاً لغيرك شفّافاً في سلوكك حازماً في قراراتك أفضل بكثير من أنْ تعيش المكر والخداع!

إنَّ حياة الذئاب تؤول إلىٰ (الدمار الشامل)، وهذا ما لا يرغبه أيُّ عاقل لنفسه أو لغيره، وبالتالي فليس من الصحيح أنْ نتَّخذ من أولادنا (ذئاباً) يفتكون بلا رحمة.

علينا أنْ نُعلِّمهم أنَّ الأوضاع إذا تأزَّمت فإنَّ الص_راخ أو القبضة الحديدية لن يزيدا الوضع إلَّا تعقيداً.

علينا أنْ نُعلِّمهم أنَّ الرحمة هي سيِّدة الموقف في الأوقات الحرجة.

ولكن هذا لا يعني أنْ نتحوَّل إلىٰ (غنم) تنتظر الذئب متىٰ يأكلها!

فالمطلوب إذن هو (التوازن).

مميِّزات تربية الدولفين:

إنَّ الذي اشترىٰ الدولفين الصغير سوف يعمل علىٰ التالي:

أوَّلاً: سيلاحظ أنَّ الدولفين وإنْ استطاع أنْ يخرج قليلاً من الماء، لكنَّه بالتالي يبقىٰ (سمكة) موطنها الطبيعي والذي يمكن أنْ يعيش ويتطوَّر فيه هو (الماء)، فراعىٰ هذا الجانب وإنْ كان هو يعيش علىٰ اليابسة.

ثانياً: لاحَظَ ذلك الرجل أنَّ (دولفينه) يمكنه أنْ يتنفَّس الأُوكسجين المذاب في الماء، كما أنَّه يستفيد من الأُوكسجين غير المذاب.

ص: 36

ثالثاً: ولاحَظَ أيضاً أنَّ (دولفينه) يمكنه أنْ يتعلَّم منه الش_يء الكثير، ولكنَّه لا يستطيع أنْ يُنفِّذ له كلَّ ما يريد، فتَرَك له عملية صياغة سلوكه، لكنَّه كان دائماً معه يراقبه ويعطف عليه ويُعلِّمه خطوة خطوة.

رابعاً: إنَّ ذلك الرجل كان قد عوَّد (دولفينه) علىٰ أنَّ الأمان يكون معه، فمهما أخذته المياه بعيداً، ومهما أحسَّ بالخطر قريباً منه، ولكنَّه عندما يرجع إليه فإنَّه سيحسُّ بالأمان، خصوصاً عندما يستشعر (دفء) يده وهي تمرُّ علىٰ رأسه.

وهكذا يتعامل بعضٌ من الآباء مع أولاده، إنَّه في الوقت الذي يعمل ويكدح من أجل أنْ يُوفِّر لهم لقمة العيش، إلَّا أنَّه أبداً لم ينْسَ حاجتهم إلىٰ (دفء يده) و(حنان كلماته)، فجلس معهم وقتاً كافياً لذلك.

إنَّه لم يترك تعليمهم ما ينفعهم وما يساعدهم علىٰ خوض لُجَج الحياة، لكن مِنْ موقعهم هم وبالعصر الذي يعيشونه هم.

إنَّه عرف أنَّ لأولاده ثقافة خاصَّة ربَّما تتلاءم مع ثقافته هو وربَّما تختلف معها، فأخذ يعمل علىٰ إعطائهم الفرصة المناسبة للأخذ من كلتا الثقافتين، ووقف معهم ليُجانسوا بينهما.

فهل يمكن أن لا نُسمّي هذه تربية؟!

* * *

ص: 37

ص: 38

الفصل الثاني:

اشارة

خطوات تحقيق

مفهوم التربية الناجحة

ص: 39

ص: 40

بعد أنْ قدَّمنا بعض التصوُّرات عن السلوكيات العامَّة للآباء مع أولادهم، نقف قليلاً عند خطوات عملية لتحقيق مفهوم التربية.

إنَّ التربية في المفهوم الإسلامي والإنساني عبارة عن مفهوم مركَّب من عدَّة خطوات، كلُّ خطوة منها تُمثِّل جزءاً مهمًّا من التربية، لكنَّها لا بدَّ أنْ تجتمع كلُّها حتَّىٰ نحصد الثمرة المرجوَّة من التربية، وهي التالي:

الخطوة الأولى: التنشئة البدنية:

عندما يُولَد الإنسان يُولَد وهو عاجز حتَّىٰ عن إطعام نفسه، ويمكن لمرض بسيط أو حادث ساذج أنْ يودي بحياته، فلو وقعت قطعة قماش علىٰ وجه الطفل فإنَّه ربَّما يموت اختناقاً من دون أنْ يزيحها عن وجهه!

وهنا تأتي التربية في خطوتها الأُولىٰ، والتي تعني الحفاظ علىٰ هذا الوليد (الضعيف)، وتنشئته بصورة متكاملة حتَّىٰ يصل إلىٰ مرحلة يتمكَّن معها من استخدام يديه ورجليه ولسانه وحتَّىٰ عقله ويعتمد علىٰ نفسه.

وهذا المعنىٰ ورد في القرآن الكريم فيما حكاه الله تعالىٰ عن قصَّة النبيِّ موسىٰ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) وكلام فرعون معه: ]قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ 18[ (الشعراء: 18).

فالتربية هنا «نُرَبِّكَ» لم تكن بمعنىٰ آخر غير التنشئة البدنية،

ص: 41

(وكان يقصد فرعون أنَّك يا موسىٰ عندما كنت طفلاً وفي معرض الهلاك نحن الذين أنجيناك من اليمِّ وربَّيناك وأنشأناك...)((1)).

وهذه الخطوة تتناسب مع أخذ كلمة (التربية) من مادَّة (رَبَوَ) التي تفيد معنىٰ الزيادة والإضافة، فيكون معنىٰ التربية هنا هي عملية تنشئة الطفل وتغذيته وحمايته إلىٰ أنْ يصل إلىٰ مرحلة يعتمد فيها علىٰ نفسه.

وهنا ملاحظات لا بأس بالالتفات إليها:

الملاحظة الأُولىٰ:

إنَّ هذه الخطوة من التربية تتحكَّم فيها الفطرة التي فطر الله تعالىٰ عليها الوالدين، فهما يقومان بتغذية ولدهما والحفاظ عليه ومراعاته بدافع الفطرة الأبوية، وهذا الأمر يشترك فيه الحيوانُ مع الإنسان كما هو واضح.

الملاحظة الثانية:

بالإضافة إلىٰ الفطرة الأبوية هناك الأوامر التش_ريعية التي صدرت من الشارع المقدَّس التي أمرت بجانب مهمٍّ من ذلك، وهو ما يُسمّىٰ في الفقه بالنفقات الواجبة، والتي يُلزِم فيها الش_رعُ الوالدين بالنفقة والحضانة والإرضاع((2)).

الملاحظة الثالثة:

إنَّ هذه الخطوة من التربية تُمثِّل مرحلة آنية وليست دائمة، فإنَّها تنتهي عندما يكبر الطفل ويأخذ بالاستقلال البدني ثمّ المالي شيئاً فشيئاً، وهذا معناه أنَّها لا تُمثِّل كلَّ التربية - كما قد يتوهَّم البعض ممَّن يربي أولاده كصاحب (الدجاجة) -!

ص: 42


1- ([1]) نظرة متجدِّدة في التربية الإسلاميَّة للبروفوسور خسرو باقري (ص 63).
2- ([2]) وتفاصيلها في كُتُب الفقه.

الملاحظة الرابعة:

لا يعني هذا أنْ ينظر الأولاد إلىٰ هذه الخطوة علىٰ أنَّها لا قيمة لها، كما قد تظهر بعض الكلمات من بعض الأولاد العاقّين، الذين لا يرعون حقَّ أبويهم، وقد يصل الأمر ببعضهم إلىٰ أن يقول: سأشتري لكم قنّينة حليب بدل الحليب الذي أعطيتمونيه!

ونسي أنَّه لولا تلك (القنّينة) لمات في أوَّل ساعات حياته.

إنَّ للوالدين الفضل الكبير في استمرار حياة الأولاد، فلهما عليهم حقُّ الحياة، وهذا يُمثِّل دَيناً عظيماً في رقبة الأولاد باتِّجاه آبائهم.

الملاحظة الخامسة:

إنَّ هذه الخطوة تتضمَّن الزيادة المادّية فقط، بمعنىٰ أنَّ المربّي فيها يعمل علىٰ تنشئة البدن مادّياً مع الحفاظ عليه من أنْ تهجم عليه الأمراض والعمل علىٰ علاجها لو حصلت، ولا نظر فيها للزيادة المعنوية. نعم، في الدِّين السماوي علىٰ الوالدين أنْ يُطعِما ولدهما الحلال ويُبعِداهم عن الحرام وإلَّا فإنَّ أثر الطعام الحرام سينعكس علىٰ سلوكهم في مستقبل حياتهم.

الملاحظة السادسة:

إنَّ علىٰ الوالدين في هذه الخطوة مسؤولية الحفاظ علىٰ الولد مادّياً، فيلزمهما اختيار الأطعمة المفيدة له وعدم تعريضه للأكل الضارِّ، خصوصاً ما يتعلَّق بالمعلَّبات والموادِّ الحافظة، كما أنَّ هذه الخطوة تستلزم أنْ يمارس الأب عملاً معيَّناً لتوفير هذا الجانب المادّي.

الملاحظة السابعة:

لقد أكَّدت الروايات الش_ريفة علىٰ هذه المرحلة، فكان الكادُّ علىٰ

ص: 43

عياله كالمجاهد في سبيل الله((1))، وكان لجلب هدية للعيال ثواب عظيم لا يعلمه إلَّا الله تعالىٰ.

عن ابن عبّاس، قال: قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «من دخل السوق فاشترىٰ تحفة فحملها إلىٰ عياله كان كحامل صدقة إلىٰ قوم محاويج، وليبدأ بالإناث قبل الذكور، فإنَّ من فرَّح ابنة فكأنَّما أعتق رقبة من ولد إسماعيل، ومن أقرَّ بعينِ ابنٍ فكأنَّما بكىٰ من خشية الله عَزَّوَجَل، ومن بكىٰ من خشية الله عَزَّوَجَل أدخله الله جنّات النعيم»((2)).

الملاحظة الثامنة:

إنَّ لنوعية الطعام دوراً مهمًّا في تربية الطفل، فقد أكَّدت الروايات الش_ريفة علىٰ أنَّ الطعام إذا كان حلالاً فإنَّه ينعكس إيجاباً علىٰ الطفل، والعكس بالعكس، لذا كان لزاماً علىٰ الوالدين أنْ يتحرَّيا الطعام الحلال الخالي من الحرام ومن الشبهات ليُطعِما به الأمانة التي عندهما!

عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «كسب الحرام يبين في الذرية»((3)).

وعن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: سألته عن شرك الشيطان قوله: ]وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ[ [الإسراء: 64]، قال: «ما كان من مال حرام فهو شريك الشيطان»((4)).

ص: 44


1- ([1]) في الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 88/ باب من كدَّ علىٰ عياله/ ح 1): عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «الكادُّ علىٰ عياله كالمجاهد في سبيل الله».
2- ([2]) أمالي الشيخ الصدوق (ص 672 و673/ ح 904/6).
3- ([3]) الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 124 و125/ باب المكاسب الحرام/ ح 4).
4- ([4]) تفسير العيّاشي (ج 2/ ص 299/ ح 102).

الملاحظة التاسعة:

صحيح أنَّ للوالدين فضلاً كبيراً علىٰ الأولاد فيما يتعلَّق بإطعامهم وتوفير احتياجاتهم المادّية، وصحيح أنَّهما يتحمَّلان الكثير من التعب والنصب والسهر والألم في سبيل توفير تلك المتطلَّبات، ولكن هذا لا يُمثِّل مبرِّراً لتعيير الولد بذلك، فتعييره يُشعِره بأنَّ والديه قد أُرغِما علىٰ ما فعلاه معه، وبالتالي سيُولِّد عند الأولاد أنواعاً من العُقَد النفسية التي يصعب فهمها أو حلُّها، تنعكس عملياً علىٰ سلوكهم اتِّجاه آبائهم وربَّما حتَّىٰ علىٰ أولادهم.

الملاحظة العاشرة:

إنَّ من ضمن مفردات هذه التربية هو تدريب الأولاد علىٰ بعض الرياضات والمهارات، حيث إنَّه (يبيح الإسلام اللهو المفيد في مجال اللياقة البدنية، وتنشيط الفكر، وطمأنينة الروح وتهدئة الأعصاب إذا لم يقترن بالأعمال المحرَّمة. واهتمَّت الأحاديث والروايات ببعض أنواع الرياضة واللهو وأوصت بها كالسباحة والرماية وركوب الخيل...)((1)).

وقد قيل: (العقل السليم في الجسم السليم).

وقد روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أنَّه قال: «علِّموا أولادكم السباحة والرماية»((2)).

بل قد ورد أنَّه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) كان يُشجِّع الحسنين (عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ) علىٰ التصارع، ومن الواضح أنَّ المصارعة تؤدّي إلىٰ قوَّة البدن والساعد.

فقد روي أنَّه قال لهما النبيُّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «قوما الآن فاصطرعا»، فقاما

ص: 45


1- ([1]) القيادة في الإسلام للشيخ محمّد الريشهري (ص 304).
2- ([2]) الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 47/ باب تأديب الولد/ ح 4).

ليصطرعا، وقد خرجت فاطمة (عَلَيْهِا اَلسَّلاَمُ) في بعض حاجتها، فدخلت فسمعت النبيُّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وهو يقول: «إيه يا حسن، شُدَّ علىٰ الحسين فاصرعه»، فقالت له: «يا أبه، وا عجباه، أتُشجِّع هذا علىٰ هذا؟! أتُشجِّع الكبير علىٰ الصغير؟!»، فقال لها: «يا بنيَّة، أمَا ترضين أن أقول أنا: يا حسن، شُدَّ علىٰ الحسين فاصرعه، وهذا حبيبي جبرئيل يقول: يا حسين، شُدَّ علىٰ الحسن فاصرعه»((1)).

الخطوة الثانية: التنشئة المعنوية:

من الواضح جدًّا أنَّ الإنسان موجود مركَّب من عدَّة أجزاء، وليس موجوداً مادّياً فحسب، لذلك تُمثِّل التنشئة البدنية المادّية مهمَّة لإشباع جزء من واحد من تلك الأجزاء، ومن الخطأ بمكان الاقتصار علىٰ هذا الجانب أو اعتبار التربية منحصرة به.

إنَّ التربية في خطوتها الثانية تُمثِّل مسؤولية عظيمة ملقاة علىٰ الأبوين، وهي أهمّ بكثير من الخطوة الأُولىٰ - رغم أهمّيتها -.

إنَّها مهمَّة لا تتعامل مع ظاهر الأولاد ولا أبدانهم فقط، وإنَّما تتعامل مع ضميرهم وعقلهم وسلوكهم الذي نشأ من مقدّمات عديدة معقَّدة.

إنَّها مهمَّة التنشئة المعنوية.

فماذا تعني هذه الخطوة؟

مقدّمة:

كلُّ سلوك خارجي (عضلي أو غيره) يقوم به الإنسان فإنَّه مسبوق

ص: 46


1- ([1]) أمالي الشيخ الصدوق (ص 530 و531/ ح 717/8).

بالعديد من المقدّمات تعمل كلُّ واحدة منها علىٰ إضافة لمستها الخاصَّة في الفعل، وعملية التربية في هذه الخطوة تدخل في كلِّ واحدة من هذه المبادئ والمقدّمات، وتلك المقدّمات هي:

المقدّمة الأُولىٰ: التصوُّر:

أي تكوين صورة وفكرة عامَّة ونظرية خالصة عن الفعل أو السلوك الذي يُراد القيام به، كمن يريد أن يأكل طعاماً لأنَّه جائع، فتحصل عنده فكرة عن إشباع جوعته بنوع معيَّن من الطعام.

هذه الفكرة أو التصوُّر أو قل: (الصورة العلمية) تُمثِّل الخطوة الأُولىٰ في إصدار الفعل الاختياري، إذ لا يمكن تصوُّر سلوك يصدر من إنسان ويُوصَف بأنَّه سلوك اختياري من إنسان عاقل من دون أنْ تكون هناك صورة معيَّنة وفكرة علمية له في داخل الذهن الإنساني.

وهذا يُمثِّل فرقاً من الفروق المفصلية بين فعل الفاعل المختار وبين فعل الفاعل غير المختار، فالآلة عندما تفعل فإنَّها تفعل من دون أنْ تتصوَّر في ذهنها الفعل الذي تقوم به، وبالتالي فهي تفعل فعلاً (أعمىٰ) إذا صحَّ التعبير، أي من دون صورة علمية لديها.

ومن الواضح أنَّ الإنسان ليس مجرَّد آلة لصدور الفعل، بل إنَّ لتصوُّراته مدخلية مهمَّة في صدوره.

ولذلك فقد يتصوَّر الإنسان فعلاً معيَّناً فيتحرَّك نحو إصداره، ولكنَّه إذا غيَّر تصوُّره عنه فربَّما يتركه، بل ربَّما يفعل فعلاً مقابلاً ومضادًّا للفعل الأوَّل.

قد ترىٰ طعاماً معيَّناً فتحصل عندك صورة بأنَّه طعام مفيد ونافع فتتحرَّك نحو أكله، ولكن قد تُغيِّر فكرتك تلك عندما تعلم بأنَّه يحتوي

ص: 47

علىٰ ضرر بالغ (كما لو كان فاسداً مثلاً) فتتركه، وربَّما ترمي به بعيداً عنك.

إذن، أوَّل خطوة لصدور الفعل هو التصوُّر.

المقدّمة الثانية: الاعتقاد (التصديق):

بعد أنْ تحصل عندك صورة عن نوع الفعل الذي تريد القيام به فإنَّك تنتقل إلىٰ مرحلة أُخرىٰ هي مرحلة التصديق والاعتقاد بض_رورة القيام بهذا الفعل أو عدم القيام به، لأنَّه يرجع عليك مثلاً بفائدة أو ضرر.

إنَّ صدور الفعل بدون (قناعة) يحكي عن فعل غير مبرمج، وربَّما عشوائي، لذلك كانت واحدة من مهام العِلْم هو تحصيل القناعات بالصور الذهنية.

إنَّ واحدة من أهمّ مهامِّ المعلِّمين عموماً هو تحويل التصوُّرات الذهنية لدىٰ الفرد إلىٰ قناعات واعتقادات، لأنَّ التصوُّر لوحده هو عنص_ر ضعيف يمكن أنْ يصبح هباءً منثوراً لأدنىٰ ريح ولو لم تكن عاصفة.

أنت قد تتصوَّر أمراً ما لكنَّك لا تُقْدِم عليه ليس إلَّا لأنَّك غير معتقد به ولا مقتنع، أمَّا إذا أردت أنْ تفعله فإنَّك لا بدَّ أنْ تكون قد اقتنعت به وأصدرته بعد تعقيب ذلك التصوُّر بالاعتقاد والتصديق والاقتناع.

المقدّمة الثالثة: الحُبُّ، والرغبة، والشوق:

وبعد أنْ تحصل الصورة ويعقبها الاعتقاد فمن الطبيعي أنَّ نفس الإنسان ستتفاعل مع تلك الصورة التي تمَّ الاعتقاد بها، ذلك التفاعل قد يكون بنحوٍ إيجابي، كما إذا تمَّ الاعتقاد بفائدة الفعل المترتِّب علىٰ تلك

ص: 48

الصورة وأنَّه سيرجع بالفائدة علىٰ النفس، وقد يكون بنحوٍ سلبي، كما إذا كان الاعتقاد بعكس ذلك.

فتحدث حينها حالة جديدة عند النفس هي (الحُبُّ والشوق والرغبة) في إصدار وإحداث ذلك الفعل ذي المردود الإيجابي علىٰ الإنسان، أو تحدث أحاسيس ضدّ الحُبِّ والشوق والرغبة إذا كان الفعل ذا مردود سلبي.

ومن دون الرغبة فلا يمكن أنْ نتصوَّر صدور الفعل الاختياري.

هذه الحالة الجديدة من شأنها أنْ تُوصِل الفعل إلىٰ مراحله النهائية قبل الصدور.

إنَّ الفعل الآن أشبه بمركبة فضائية علىٰ منصَّة الإقلاع تنتظر الإذن بالانطلاق.

إنَّ العدَّ التنازلي قد وصل إلىٰ مراحله النهائية ولم يبقَ إلَّا الش_يء اليسير للانطلاق.

المقدّمة الرابعة: الإرادة والاختيار (تفعيل الاختيار الإنساني):

بعد أنْ يصل الفعل إلىٰ الرغبة والشوق يقوم الإنسان بعملية جديدة هي غاية في الدقَّة والأهمّية، حيث يبدأ بتشغيل آلية من نوع جديد، هذه الآلية كان لها الفضل الأكبر في تطوُّر حياة الإنسان وقطعها هذه المسافات الطويلة نحو الكمال، إنَّها آلية (الإرادة والاختيار).

هذه الآلية تعني باختصار: أنْ يتاح أمام الإنسان خياران أو أكثر، وتُترَك له حُرّية اختيار وانتخاب أحد الخيارين دون الآخر.

إنَّ انتخابه للفعل أو عدمه يُمثِّل الحركة الأهمّ في عملية صدور الفعل، وهذه الحركة لها صفات وخصائص:

أوَّلاً: أنَّها تُمثِّل نقطة الصفر لانطلاق الفعل.

ص: 49

ثانياً: أنَّها تُلوِّن الفعل بلون الفعل الاختياري، إذ لولا وجود هذه الصفة لكان الإنسان كالآلة.

ثالثاً: أنَّها تُؤسِّس لمسؤولية الإنسان تجاه ما يصدر منه من أفعال، إذ إنَّها تلقي بمسؤولية صدور أو عدم صدور الفعل علىٰ الإنسان نفسه، فلأنَّك مختار في فعلك، إذن أنت مسؤول عنه.

النتيجة:

إذا اكتملت هذه المبادئ فحينئذٍ لا يكون أمام الفعل إلَّا أنْ يقع، فإنَّه وبعد أنْ يتمَّ اختيار الفعل يقوم الإنسان بتحريك عضلاته لتحويل الفعل من مرحلته النظرية (من تصوُّر واعتقاد وشوق وإرادة) إلىٰ مرحلته العملية (الفعل في الخارج).

وهنا تأتي المرحلة الثانية من مراحل التربية وهي مرحلة (توجيه السلوك) ورسم خارطته، بالبيان التالي:

إنَّ بعض الآباء - مع الأسف - يتعامل مع التربية تعاملاً (أعمىٰ)، وكأنَّ التربية عنده حالة تلقائية وفعل من دون مقدّمات كما تفعل الآلة فعلها، وهذا يعني أنَّه سيُلقي بمهمَّة (إشباع التصوُّرات) إلىٰ غيره، والنتائج ستكون وخيمة بلا إشكال.

إنَّ النظرية الصحيحة للتربية في هذه الخطوة تعني التالي:

في هذه المرحلة تكون مهمَّة الوالدين موزَّعة علىٰ تلك المبادئ التي لا يصدر الفعل من دونها.

وهذا ما سنُبيِّنه عبر النقاط التالية:

النقطة الأُولىٰ:

أنْ يقوم الوالدان بطرح المفاهيم والتصوُّرات الإيجابية في ذهن

ص: 50

الطفل، كمفهوم: الرحمة، النجاح، النشاط، العفو، التحدّي، الطموح، تصحيح الأخطاء، الاعتذار عند الإساءة، مساعدة الآخرين، التعاون من أجل الوصول إلىٰ الهدف، عدم استغلال المحتاج، الصدق، وغيرها من القِيَم الإيجابية.

هذه المرحلة ستُؤسِّس لسلوكيات مستقبلية للطفل، وستبقىٰ معه إلىٰ آخر حياته.

وتصوَّروا أفعال طفلٍ لم تتشكَّل عنده إلَّا مفاهيم: الغضب، الكسل، الضجر، الخمول، اليأس، التشكّي، الأنانية، العناد، اللّاأُبالية، الاستغلال، الكذب! كيف ستكون يا ترىٰ؟!

ملاحظات:

إنَّ التربية في هذه النقطة تحتاج إلىٰ عدَّة أُمور نذكر منها:

1 - أنْ تكون تلك المفاهيم الإيجابية مركَّزة ومغروسة في ذهن الوالدين، وإلَّا فإنَّ إلقاءها إلىٰ الأولاد يكون من قبيل إعطاء غير المملوك.

2 - إنَّ طرحها للأولاد يحتاج إلىٰ مراعاة المرحلة العمرية التي يعيشونها، فإنَّ إدراك تلك المفاهيم يختلف باختلاف المرحلة العمرية، وبالتالي فإنَّ طريقة إلقائها تختلف بحسبها.

إنَّ تلك المفاهيم وإنْ كان بعضها بسيطاً وسهل الإدراك إلَّا أنَّ بعضاً منها هو من قبيل المفاهيم المركَّبة التي تحتاج إلىٰ عقلٍ واعٍ لإدراكها، ممَّا يعني أنَّ علىٰ الوالدين التدرُّج في بذل تلك المفاهيم وإلقائها في روع الأطفال.

3 - صحيح أنَّ هذه المرحلة تعتمد علىٰ زرع المفاهيم الإيجابية، ولكنَّها

ص: 51

أيضاً تحتاج إلىٰ بيانٍ قليل للمفاهيم السلبية مع بيان ضرورة الابتعاد عنها، وأنَّها مفاهيم تُؤدّي إلىٰ عدم النجاح الدنيوي والفلاح الأُخروي.

4 - إنَّ إيصال فكرة تلك المفاهيم للأولاد يحتاج إلىٰ وقت طويل يستغرقه الوالدان في الجلوس مع الأولاد، وتجاذب أطراف الحديث، وتبادل النظرات الحنونة.

وليتذكَّر الأبوان أنَّهما يتعاملان مع (دولفين) يعيش في غير عصرهما، وفي غير ظرفهما، وفي غير ثقافتهما.

وقد أشارت الروايات الش_ريفة إلىٰ هذه المرحلة من إلقاء التصوُّرات، حيث نجدها بيَّنت ضرورة زرع التصوُّرات الإيجابية في أذهان الأطفال، ومن تلك الروايات التالي:

روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «إذا أفصح أولادكم فعلِّموهم لا إله إلَّا الله، ثمّ لا تبالوا متىٰ ماتوا، وإذا أثغروا((1)) فمروهم بالصلاة»((2)).

وروي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «إذا عقل الغلام وقرأ شيئاً من القرآن عُلِّم الصلاة»((3)).

وفي رواية جامعة وردت عن عبد الله بن فضالة، عن أبي عبد الله أو أبي جعفر (عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ)، قال: سمعته يقول: «إذا بلغ الغلام ثلاث سنين، يقال له سبع مرّات: قل: لا إله إلَّا الله.

ص: 52


1- ([1]) أثغروا: الإثغار: سقوط سنِّ الصبيِّ ونباتها. والمراد به هاهنا السقوط، يقال إذا سقطت رواضع الصبيُّ، فإذا نبتت بعد السقوط قيل: ثغر.
2- ([2]) كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 16/ ص 440/ ح 45328).
3- ([3]) دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي (ج 1/ ص 193).

ثمّ يُترَك حتَّىٰ يُتِمَّ له ثلاث سنين وسبعة أشهر وعش_رون يوماً، فيقال له: قل: محمّد رسول الله، سبع مرّات.

ويُترَك حتَّىٰ يتمَّ له أربع سنين، ثمّ يقال له سبع مرات: قل: صلّىٰ الله علىٰ محمّد وآله.

ثمّ يُترَك حتَّىٰ يتمَّ له خمس سنين، ثمّ يقال له: أيُّهما يمينك، وأيُّهما شمالك؟

فإذا عرف ذلك حُوِّل وجهه إلىٰ القلبة ويقال له: اسجد.

ثمّ يُترَك حتَّىٰ يتمَّ له ستّ سنين، فإذا تمَّ له ستّ سنين صلّىٰ وعُلِّم الركوع والسجود.

ثمّ يُترَك حتَّىٰ يتمَّ له سبع سنين، فإذا تمَّ له سبع سنين، قيل له: اغسل وجهك وكفّيك، فإذا غسلهما قيل له: صلِّ.

ثمّ يُترَك حتَّىٰ يتمَّ له تسع سنين، فإذا تمَّت له عُلِّم الوضوء وضُرِبَ عليه، وأُمِرَ بالصلاة وضُرِبَ عليها، فإذا تعلَّم الوضوء والصلاة غفر الله لوالديه إنْ شاء الله تعالىٰ»((1)).

النقطة الثانية:

بعد أنْ تتمَّ عملية إلقاء وزرع المفاهيم الإيجابية للأولاد، علىٰ الوالدين أنْ ينتقلا إلىٰ مرحلة جديدة في التربية، وهي مرحلة توليد الاعتقادات والقناعات وجعل الأولاد يُصدِّقون بتلك المفاهيم ويعتقدون بها وبنفعها.

وهذه النقطة تحتاج إلىٰ:

أوَّلاً: توفير الدليل الذي يُؤدّي إلىٰ الإقناع - لاحظوا: الإقناع وليس الإجبار - بفائدة تلك المفاهيم.

ص: 53


1- ([1]) أمالي الشيخ الصدوق (ص 475/ح 640/19).

ثانياً: علىٰ أنْ يكون هذا الدليل في متناول عقل الأولاد، ومنسجماً مع مرحلتهم العمرية.

ثالثاً: أنَّ أفضل دليل عملي علىٰ حقّانية تلك المفاهيم هو التزام الوالدين عملياً بها، فلا يُعقَل من أبٍ يريد أنْ يُربّي ابنه علىٰ الهدوء أنْ يكون هو الغاضب الناري في البيت!

وبدلاً من التحدُّث لساعات طويلة مع ولدك حول الصدق، عليك أنْ تكون صادقاً في أقوالك أنت.

إنَّ تصدُّقك بدرهم أمام ولدك يعدل محاضرة طويلة الذيل عن آثارها.

وهكذا في كلِّ المفاهيم.

أمَّا إذا أراد أبٌ أنْ يُعلِّم ولده الكذب، فليس عليه إلَّا أنْ يكذب أمامه مرَّة أو مرَّتين!

يُنقَل عن شابلي شابلن (الممثِّل الكوميدي المعروف):

(كنت صبيًّا بصحبة أبي، متوجِّهين لمشاهدة عرض السيرك...، وفي صفِّ قطع التذاكر كانت أمامنا عائلة بانتظار دورها، كانوا ستَّة أولاد وأُمَّهم وأباهم، كان الفقر بادياً عليهم، ملابسهم قديمة لكنَّها نظيفة، كان الأولاد فرحين جدًّا وهم يتحدَّثون عن السيرك وعن الحركات والألعاب التي سوف يشاهدونها، وبعد أنْ جاء دورهم تقدَّم الرجل وسأل مسؤول التذاكر عن كلفتها، فأجابه، فتلعثم الأب وأخذ يهمس في أُذُن زوجته). يقول شارلي: (رأيت والدي يسارع لإخراج عملة ورقية فئة العش_رين، ويرميها علىٰ الأرض...، ثمّ انحنىٰ ورفعها ووضع يده علىٰ كتف الرجل وقال له: لقد سقطت منك هذه النقود،

ص: 54

نظر الرجل في عين والدي وقال له: شكراً سيِّدي، وامتلأت عيناه بالدموع، حيث كان مضطرًّا لأخذ المبلغ لكي لا يُحرَج أمام أبنائه.

وبعد أنْ دخلوا سحب أبي يدي وتراجعنا من الطابور، لأنَّ والدي لم يكن معه غيرها، ومنذ ذلك اليوم وأنا فخور جدًّا بأبي...، لقد كان ذلك العرض أجمل عرض للسيرك وإنْ كنت لم أرَه!).

إشارات الروايات لهذه المرحلة:

لقد أكَّدت الأدبيات والروايات الإسلاميَّة علىٰ هذه المرحلة من التربية في العديد من المواقف، نذكر منها التالي:

كلُّنا سمعنا بقصَّة النبيِّ يوسف (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، وكيف أنَّ إخوته رموا به في البئر وادَّعوا عند أبيهم بأنَّ الذئب أكله، والحال أنَّهم لم يُجرِّبوا الكذب، فكيف جاء في ذهنهم أنْ يدَّعوا هذا الأمر ويرموا الذئب بدم يوسف (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)؟!

يُجيب الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) عن هذا الاستفهام بأنَّ أباهم (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) ومن حيث لا يريد نبَّههم إلىٰ اختلاق هذه الكذبة وقرَّبها إليهم عندما صرَّح لهم بأنَّه يخاف أنْ يأكله الذئب، فتبادر إلىٰ أذهانهم هذا الأمر.

عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «إنَّ بني يعقوب ل_مَّا سألوا أباهم يعقوب أنْ يأذن ليوسف في الخروج معهم، قال لهم: إنّي ]أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ 13[ [يوسف: 13]».

قال: قال أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «قرَّب يعقوب (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) لهم العلَّة، اعتلُّوا بها في يوسف (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)»((1)).

ولذلك ورد الأمر بعدم الكذب علىٰ الأولاد ولا خُلف الوعد معهم، لما في ذلك من إيحاء لهم بصحَّة هذا الفعل.

ص: 55


1- ([1]) علل الشرائع للشيخ الصدوق (ج 2/ ص 600 / باب 385/ ح 56).

وعن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «أَحِبُّوا الصبيان وارحموهم، وإذا وعدتموهم شيئاً ففوا لهم، فإنَّهم لا يدرون إلَّا أنَّكم ترزقونهم»((1)).

وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة، قال: جاء رسول الله (صلىٰ الله عليه [وآله] وسلَّم) بيتنا، وأنا صبيٌّ صغير، فذهبت ألعب، فقالت أُمّي لي: يا عبد الله، تعالَ أُعطيك. فقال رسول الله (صلّىٰ الله عليه [وآله] وسلَّم): «ما أردتِ أنْ تُعطيه؟»، قالت: أردتُ أنْ أُعطيه تمراً. قال: «أمَا إنَّك لو لم تفعلي لكُتِبَت عليكِ كذبة»((2)).

النقطة الثالثة:

إذا تمَّت عملية زرع المفاهيم وإقناع الأولاد بها، ستبدأ مرحلة جديدة لها أثر فعّال في عملية صياغة السلوك الإنساني وهي مرحلة (الترغيب والترهيب)، أو مرحلة (الإقناع) عبر نظام (المكافأة) و(العتاب - وليس العقاب -).

في هذا المرحلة يعمل الأبوان علىٰ تشجيع الأولاد علىٰ التزام المفاهيم الإيجابية وترك المفاهيم السلبية، وذلك عبر نظام بيان الثمرات العملية لكلٍّ من المفهومين: الإيجابي والسلبي.

وقد ينصح بعض العلماء بأنْ يكون التركيز علىٰ المفاهيم الإيجابية فقط، حتَّىٰ تتمَّ برمجة الولد برمجة إيجابية.

وباعتقادي، أنَّ عملية التربية ليست عملية مثالية، بل لا بدَّ أنْ ننظر إليها آخذين بنظر الاعتبار الواقع المعاش.

ص: 56


1- ([1]) الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 49/ باب برّ الأولاد/ ح 3).
2- ([2]) الدُّرُّ المنثور لجلال الدِّين السيوطي (ج 3/ ص 291).

إنَّنا نرىٰ بأُمِّ العين أنَّ الكثير من الأفراد يعيشون المفاهيم السلبية، وبالتالي علىٰ المربّي الواقعي أنْ يأخذ بنظر الاعتبار تعريف الأولاد بتلك المفاهيم، وتوجيههم نحو الابتعاد عنها.

إنَّ البيان الكافي لثمرات المفاهيم التصوُّرية كفيل بتوليد الرغبة عند الأولاد بالتزام الإيجابي منها، والابتعاد عن السلبي.

فإذا انضمَّ إلىٰ هذا البيان نظامُ المكافأة والعتاب أمكن حينئذٍ أنْ نتنبَّأ بالفعل أو بالسلوك الذي سيصدر من الأولاد.

وهنا عدَّة ملاحظات:

الملاحظة الأُولىٰ:

لا بدَّ أنْ يكون بيان الثمرات العملية للمفاهيم واقعياً وواضحاً للأولاد، لذلك ينصح بعض العلماء بالابتعاد عن تهديد الأولاد بنار جهنَّم، ففي الوقت الذي يكون إدراك عذاب جهنَّم صعباً علىٰ الأطفال هو يُولِّد عندهم نزعة الخوف والرعب من الإله الخالق، وهذا من شأنه أنْ يجعل الولد ينفر من الدِّين.

الملاحظة الثانية:

علىٰ الأبوين أنْ يُبيِّنا بصورة ذكيَّة أنَّ تلك الثمرات هي فعلاً ثمرات لا أهداف، بمعنىٰ أنْ يكون التزام تلك المفاهيم نابعاً من حسنها الواقعي الذاتي، فالهدف هو ذلك الحسن الذاتي الذي يحكي عن إيجابية مبادئ صدور ذلك الفعل، أمَّا تلك الثمرات فهي أُمور تشجيعية، قد تحصل، وقد لا.

ممَّا ينتج التالي:

1 - عدم ترك ممارسة الفعل الإيجابي حتَّىٰ لو لم تحصل الثمرة، أو لم يحصل الولد علىٰ مكافأة لسبب ولآخر.

ص: 57

2 - التدريب علىٰ فكرة (الثواب الأُخروي) المترتِّب علىٰ الأعمال العبادية.

3 - توليد الأمل في النفس بأنَّ للعمل الحسن ثمرته الإيجابية ولو بعد حين.

الملاحظة الثالثة:

إنَّ المكافأة في هذه المرحلة لا بدَّ أنْ تكون بصورة عملية، أمَّا ما يقابلها فليس هو (العقاب)، بل هو (العتاب)، وفرقٌ بين الأمرين.

العقاب يعني: الإجراءات العملية علىٰ خلفية مخالفة القانون.

أمَّا العتاب فيعني: إظهار عدم الرضا من دون إجراء عقابي.

ففي هذه المرحلة - خصوصاً مع الأطفال - يكون العتاب مؤثِّراً فيهم أكثر من العقاب، لأنَّ العقاب قد يُؤدّي إلىٰ نتائج سلبية، نذكر منها التالي:

1 - النفرة من الفعل قبل صدوره.

2 - تولُّد حالة (العناد) لدىٰ الأطفال، خصوصاً الطفل صاحب الشخصية القويَّة الذي يريد أنْ يُثبِت ذاته، بل حتَّىٰ العتاب لا بدَّ أنْ يكون بصورة متوازنة بحيث لا يُؤدّي إلىٰ تملُّصه من خطئه ولا يُؤدّي إلىٰ عناده، الأمر الذي أشار له أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) بقوله: «إذا عاتبت الحَدَث فاترك له موضعاً من ذنبه، لئلَّا يحمله الإخراج علىٰ المكابرة»((1)).

3 - إنَّ العقاب البدني عادةً ما يتحوَّل إلىٰ (عادة) لا تُغيِّر من الواقع شيئاً، وبالتالي سيضيع الأثر الذي يرجوه (الأبوان) من عقابهما للولد.

ص: 58


1- ([1]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج 20/ ص 333 / ح 819).

4 - علىٰ أنَّه ينبغي الالتفات إلىٰ ضرورة أنْ يكون هناك عقاب بمستوىٰ بسيط جدًّا يتناسب مع كون الولد (طفلاً)، وذلك عندما يبدأ الولد بإدراك بعض المعاني الأخلاقية، الأمر الذي يستدعي من المربّي و(الأبوين) ملاحظة كافَّة الملابسات الموضوعية قبل أنْ يصدر منه أيُّ إجراء عملي كعقوبة علىٰ مخالفة.

ومن هنا أشارت بعض الروايات إلىٰ أنَّ الولد يُض_رَب إذا بلغ عمره سبع أو تسع سنوات لأجل أنْ يلتزم بالصلاة، ولكن كما قلنا: ضربٌ يتناسب مع عمره، ومع الحدود الش_رعية التي حدَّدت ذلك بعدم بلوغ الضرب إلىٰ احمرار الجلد!

وهناك إشارات رائعة في الروايات الش_ريفة إلىٰ كيفية العتاب، وإلىٰ (العقاب) المتناسب مع الولد، فقد ورد أنَّه قال بعضهم: شكوت إلىٰ أبي الحسن موسىٰ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) ابناً لي، فقال: «لا تض_ربْه، واهجره ولا تُطِلْ»((1)).

وفي رواية جامعة عن الأُسلوب المناسب اتِّباعه مع الولد، روي عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): رحم الله من أعان ولده علىٰ برِّه، قال: قلت: كيف يُعينه علىٰ برِّه؟ قال: يقبل ميسوره، ويتجاوز عن معسوره، ولا يُرهِقه، ولا يخرق به»((2)).

ص: 59


1- ([1]) بحار الأنوار للعلَّامة المجلس_ي (ج 101/ ص 99/ في حقِّ الولد علىٰ والده وحقِّ الوالدين علىٰ الولد/ ح 74).
2- ([2]) الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 50/ باب برّ الأولاد/ ح 6). وفي هامش المصدر: (لا يرهقه: أي لا يسفه عليه ولا يظلمه، من الرَّهَق - محرَّكة -، أو يحمل عليه ما لا يطيقه. والخُرق بالضمِّ: الحمق والجهل، أي لا ينسب إليه الحمق).

النقطة الرابعة: تفعيل الاختيار (توجيه الاختيار):

بعد أنْ ينتهي الأبوان من رسم الصورة للأولاد يبقىٰ حينئذٍ عليهما أنْ يُشعِلا شمعة أخيرة لصدور السلوك، تلك الشمعة تتمثَّل في التوجيه الأخير للأولاد، إنَّها توجيه الاختيار الإنساني بما يتناسب وينسجم مع الصورة التي تمَّ التصديق بنفعها، وتُولِّد الشوق لترجمتها إلىٰ سلوك عملي في الواقع الخارجي.

وهنا ملاحظات يلزم الالتفات إليها:

الملاحظة الأُولىٰ:

مهما توضَّحت الصورة وقوي الاعتقاد واشتدَّ الشوق نحو الفعل، فإنَّه لن يصدر إلَّا إذا أعملَ الفرد اختياره لإصداره.

لاحظ نفسك، قد تتصوَّر صورة معيَّنة، وتعتقد بفائدتها، وتشتاق وترغب لتحويلها إلىٰ فعل خارجي، ولكنَّك في اللحظة الأخيرة تُقرِّر أنْ لا تفعل، ليس إلَّا لأنَّك مختار وقد اخترت عدم الفعل، ممَّا يعني أنَّ الخطوة الأخيرة في صدور الفعل هو (تفعيل الاختيار).

الملاحظة الثانية:

إنَّ مهمَّة الوالدين في هذه الخطوة ليست هي (إدارة) دفَّة الاختيار، وإنَّما هي (توجيه) الاختيار، بما يشبه (إشعال الشمعة) للطريق الصحيح، أو (وضع علامة) علىٰ الطريق تشير إلىٰ الاتِّجاه الصحيح.

وهذا يعني: أنَّ ما يفعله بعض الآباء من توجيه الاختيار (بالعصا) أو (الصراخ) لا يمتُّ إلىٰ التربية الصحيحة بصلة.

الملاحظة الثالثة:

هناك الكثير من المؤثِّرات - الداخلية والخارجية - التي تُؤثِّر في

ص: 60

صفة الاختيار لدىٰ الإنسان، منها ما يُشوِّش الصورة عليه، ومنها ما يزلزل الاعتقاد بها، ومنها ما يُؤثِّر علىٰ الشوق والرغبة.

هناك مؤثِّرات تشلُّ الاختيار، وأُخرىٰ تجعله عرضة للرياح العاصفة، وبحث (مؤثِّرات السلوك) طويل الذيل، وله فصله الخاصُّ الذي سنشير فيه إلىٰ أهمِّ تلك المؤثِّرات إن شاء الله تعالىٰ((1)).

المهمُّ، أنَّ علىٰ الأبوين أنْ يلاحظا تلك المؤثِّرات بدقَّة، وأنْ يعملا علىٰ تقليل أثرها أو إعدامه في صياغة القرارات الاختيارية للأولاد في المستقبل.

الملاحظة الرابعة:

إنَّ وجود صفة (الاختيار) لدىٰ الإنسان أدّىٰ إلىٰ ظهور منظومة (المسؤوليات) تجاه الأفعال الصادرة من الفرد كما تقدَّم، فلأنَّ الفعل يصدر منه باختياره فهو المسؤول إذن عن نتائجه وعن مردوداته.

وهذه الفكرة لا بدَّ أنْ تصل إلىٰ الأولاد بصورة واضحة، والتأكيد عليهم بأنَّهم مسؤولون عن أفعالهم وعن أقوالهم وعن كلِّ سلوكياتهم، لأنَّ كلَّ هذه الأُمور إنَّما تصدر منهم باختيارهم، وبالتالي فعليهم أنْ يتحمَّلوا مسؤوليتها.

إنَّ من خير ما يشير إلىٰ هذه الحقيقة هي قوله تعالىٰ: ]وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعىٰ 39[ (النجم: 39).

وقوله تعالىٰ: «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ 38» (المدَّثِّر: 38).

الملاحظة الخامسة:

في الوقت الذي كانت المسؤولية فرع الاختيار ومترتِّبة علىٰ الاختيار، كذلك كان الاختيار مبدأً للثواب والعقاب.

ص: 61


1- ([1]) وهو الفصل الخامس في هذا الكتاب.

فما دام الإنسان هو المسؤول عن أفعاله، إذن هو يستحقُّ المدح من العقلاء والثواب من الشارع المقدَّس علىٰ أفعاله الحسنة، وكذلك هو يستحقُّ الذمَّ من العقلاء والعقاب من الشارع علىٰ أفعاله القبيحة.

لذلك نجد أنَّ العاقل لا يمدح ولا يذمُّ (الآلة)، لأنَّها لا اختيار لها، وإنَّما يمدح أو يذمُّ صانعها، لأنَّه هو الذي اختار لها العمل المعيَّن.

والنتيجة من كلِّ ما تقدَّم:

أنَّ علىٰ الآباء - بعد مرحلة الإنماء البدني - مسؤولية الإنماء المعنوي، الذي يعني رسم التصوُّرات الصحيحة، والقناعات التصديقية المستدلَّة التي تُولِّد الشوق والرغبة لتفعيل الاختيار نحو إصدار الفعل أو عدمه، وبعد أنْ يقوم الوالدان بهذه المهمَّة (الصعبة والعظيمة) يبقىٰ علىٰ الأولاد أنْ يقوموا بتحريك عضلات عقولهم وأبدانهم لتصدر منهم الأفكار والأفعال المتناسبة مع التغذية المعنوية التي أخذوها من الوالدين.

وقد تلخَّصت هذه الخطوات كلُّها في حديث روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «العقول أئمَّة الأفكار، والأفكار أئمَّة القلوب، والقلوب أئمَّة الحواسِّ، والحواسُّ أئمَّة الأعضاء»((1)).

الخطوة الثالثة: المالكية والتدبير:

إنَّ التربية في خطوتها الثالثة يتمُّ النظر إليها من جهة اشتقاق كلمة (التربية) من الفعل (رَبَبَ) الذي يشير إلىٰ الربوبية، أي تدبير ما خلق، وجميع مخلوقاته جلَّ وعلا هي ملكه لأنَّه خالقها، فهو معنىٰ يستبطن (المالكية والتدبير).

ص: 62


1- ([1]) بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 1/ ص 96).

عندما نقول: إنَّ الله تعالىٰ هو ربُّ العالمين، فهو بمعنىٰ أنَّه عَزَّوَجَل المالك الحقيقي لكلِّ موجودات العالم، وهو مدبِّر أُمورها.

وحتَّىٰ يتَّضح المقصود من هذه الخطوة في التربية نذكر أمرين:

الأمر الأوَّل: أنواع المالكية:

تنقسم المالكية إلىٰ قسمين رئيسيين:

القسم الأوَّل: المالكية الحقيقية:

والتي تعني: أنْ يكون الموجود مالكاً للآخر واقعاً وتكويناً، وهذا المعنىٰ لا يصدق ولا يتحقَّق إلَّا في الموجود الذي خلق موجوداً آخر وأوجده من العدم، فهو يملكه حقيقةً، أي إنَّ هذا القسم منحص_ر بمالكية الله عَزَّوَجَل لكلِّ مخلوقاته.

إنَّ الله تعالىٰ هو المالك الحقيقي - تكويناً - لأنَّه تعالىٰ هو الذي خلق هذه الموجودات وأخرجها من ظلام العدم إلىٰ نور الوجود.

لذلك فالإنسان - مثلاً - هو مدينٌ لله تعالىٰ في كلِّ وجوده، وهو محتاج إليه في ذاته وصفاته وأفعاله وفي أصل وجوده وفي استمرار وجوده، والإنسان مع الله تعالىٰ أشبه شيء بالمصباح الكهربائي الذي يحتاج - من أجل أنْ يبدأ بالإضاءة - إلىٰ أنْ يصل إليه التيّار الكهربائي، وكذلك يحتاج في استمرار إضاءته إلىٰ التيّار الكهربائي أيضاً، وفي اللحظة التي يتمُّ قطع التيّار عنه فإنَّه لن يكون إلَّا كتلة من ظلام دامس.

وهكذا هو الإنسان، محتاج للفيض الإلهي من بداية وجوده وفي استمراره، وفي اللحظة التي يرفع الله تعالىٰ فيضه عنه فإنَّه لن يكون له مصير إلَّا العدم المحض.

ومَنْ يكن مالكاً بهذه الكيفية فإنَّ له كلّ الحقِّ في التص_رُّف

ص: 63

بمملوكه بأيِّ تص_رُّف يراه هو مناسباً، من دون أنْ يكون للمملوك أيّ حقٍّ أو فرصةٍ في الاعتراض أو النبس ببنت شفة، فله الحقُّ في أنْ يُوجِّهه الوجهة التي يُحِبُّ، وله الحقُّ في أنْ يُش_رِّع له أيَّ شريعة، بل له الحقُّ حتَّىٰ في إعدامه تماماً.

أمَّا منظومة الثواب والجزاء في الدِّين فإنَّها في الحقيقة لم تنشأ من (الاستحقاق) الحقيقي، وإنَّما نشأت من صفة كمالية لدىٰ الله عَزَّوَجَل، هو كونه عَزَّوَجَل رحيماً كريماً ودوداً لطيفاً بعباده، فمن باب التفضُّل والمنَّة أخذ الله تعالىٰ علىٰ نفسه أنْ يُثيب المطيع، وأنْ يتعامل معه تعامل من يستحقُّ عليه حقيقةً.

القسم الثاني: المالكية الاعتبارية:

وهذه المالكية لا تنشأ من حقِّ الخلق أو الإيجاد أو غيرهما من الأُمور التكوينية، وإنَّما تنشأ من الاعتبارات التي تعاهد عليها بنو البش_ر، والتي اتَّفقوا علىٰ أنَّها أسباب للتص_رُّف في شيء ما، كالبيع والشراء والهبة والحيازة و...

إنَّ هذه الأُمور وإنْ ترتَّب عليها حقُّ التص_رُّف والنقل والانتقال، ولكنَّها ليست مطلقة، وإنَّما هي مقيَّدة بقيود المعتبِر والاتِّفاق المسبق، ومحدَّدة بحدود ما يراه المولىٰ، بمعنىٰ أنَّ هذه المالكية ليست كالمالكية الحقيقية التي يملك فيها المالكُ حقَّ التص_رُّف المطلق، وإنَّما هي محدَّدة بحدود وإذن المولىٰ الحقيقي.

لذلك فقد ]أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا[ (البقرة: 275).

إذا تبيَّن هذان القسمان للمالكية نقول:

إنَّ التربية في خطوتها الثالثة تُعبِّر عن (المالكية)، لكن من الواضح أنَّ المقصود ليست الحقيقية منها وإنَّما الاعتبارية.

ص: 64

إنَّ الوالدين لهما حقّ (المالكية الاعتبارية) علىٰ ولدهما، وهذا في الحقيقة تعبير مجازي، لأنَّ الوالدين في الحقيقة وكيلان أو مخوَّلان في التعامل مع الولد وليسا مالكين له، لكن باعتبار أنَّهما أولىٰ به من غيرهما عُبِّر مجازاً عن هذه الأولوية بالمالكية.

إنَّ سبب هذه المالكية الاعتبارية هو التالي:

أوَّلاً: أنَّ الولد مدين لأبويه من جهة أنَّ جانبه المادّي قد نشأ من جانبي أبويه المادّيين، فخلايا جسمك كلُّها مدينةٌ لخلايا جسم والديك، فهما بهذا الاعتبار جزءا علَّة لبدنك.

ثانياً: أنَّ الولد مدينٌ لأبويه من جهة أنَّه لولاهما لما استمرَّت به الحياة، فحياتك مدينة لتضحية أبويك بجهدهما ومالهما ووقتهما من أجلك.

وأمَّا حدود هذه المالكية فهي التالي:

الحدُّ الأوَّل: أنَّ الوالدين لا يملكان بدن الولد، فلا يجوز لهما بيعه ولا قطع يده ولا بيع أعضائه، ولا حتَّىٰ ضربه إلَّا للتأديب، وفي الحدود الشرعية المرسومة.

الحدُّ الثاني: أنَّ للولد استقلالاً مالياً، فمالكيتهما الاعتبارية له لا تستلزم مالكيتهما لماله.

وهنا ملاحظة فقهية:

إذا كان للولد مال خاصٌّ به، فإنْ كان بالغاً رشيداً فهو يتص_رَّف به، وإن لم يكن بالغاً فحقُّ التص_رُّف بماله موكول لأبيه يتص_رَّف به بما ليس فيه مفسدة علىٰ الولد، كأنْ يشتري له الملابس أو يص_رفه في علاجه وهكذا، إذ إنَّ نفقة الولد إنَّما تجب علىٰ الأب إذا لم يكن له مال أمَّا إذا كان عنده أموال فلا يجب علىٰ

ص: 65

الأب أنْ يص_رف عليه من أمواله الخاصَّة، بل يمكن أنْ يأخذ من أموال الولد ويصرفها عليه في ما ليس فيه مفسدة عليه((1)).

الحدُّ الثالث: أنَّ هذه المالكية الاعتبارية في الوقت الذي تشير فيه إلىٰ حقٍّ علىٰ الولد (بما يُسمّىٰ في الإسلام بلزوم برِّ الوالدين وعدم عقوقهما) هي تشير أيضاً إلىٰ مسؤولية عظيمة ملقاة علىٰ الوالدين وأنَّهما مسؤولان عن الولد بما للكلمة من معنىٰ.

الحدُّ الرابع: لا تعني هذه المالكية أبداً أنَّ للأبوين الحقّ في سلب اختيار الأولاد أو إجبارهم علىٰ شيء ما، فما نراه من جبر بعض الآباء أولادَهم علىٰ دراسة اختصاص معيَّن أو زواج معيَّن أو طعام معيَّن ليس من الحقوق أبداً، بل هو استخدام للقوَّة ولليد الحديدية التي سينتظر الولد اللحظة التي يقوىٰ بها عودُه ويشتدُّ ساعده ليثور ضدَّ تلك القوَّة في حرب ضروس ستنتهي بانتصار الولد أو انعدام التوازن الداخلي والاطمئنان النفسي بين الأولاد والآباء.

طبعاً هذا لا يعني ترك إعطاء النصيحة للولد وإرشاده لما فيه مصلحته، إنَّما هي عدم سلب اختيار الولد، أي إنَّ المطلوب هو التفاهم التربوي والحوار المنطقي بينهما.

الأمر الثاني: إطلاقات الربِّ:

الربُّ في الأصل بمعنىٰ التربية، وهو إنشاء الش_يء حالاً فحالاً إلىٰ حدِّ التمام((2)).

وهذا المعنىٰ له إطلاقان علىٰ الأقلِّ:

ص: 66


1- ([1]) يُراجَع: منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني (ج 2/ مسألة 85).
2- ([2]) مفردات غريب القرآن للراغب الأصفهاني (ص 184).

الإطلاق الأوَّل: الربُّ المطلق أو المستقلُّ:

أي الموجود الذي له القدرة علىٰ إنشاء موجود آخر إنشاءً تامًّا من العدم إلىٰ الوجود، ومن الصغر إلىٰ آخر مراحل التكوين، وليس هو إلَّا الله تبارك وتعالىٰ.

قال تعالىٰ: ]وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ 12 ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ 13 ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ 14[ (المؤمنون: 12 - 14).

الإطلاق الثاني: الربُّ بقيد معيَّن، أو الربُّ غير المستقلِّ:

إذا تجاوزنا (الربَّ المستقلَّ) نجد أنَّ للربِّ عدَّة معانٍ يتحدَّد معنىٰ كلٍّ منها بما تضاف إليه، فيقال: ربُّ البيت، ربُّ العائلة، ربُّ القوم، ربُّ الإبل، وهكذا.

ويكون معنىٰ الربِّ هنا: من أُلقيت عليه مهمَّة رعاية شيء ما والحفاظ عليه وحمايته إلىٰ أنْ يصل إلىٰ هدف معيَّن.

والتربية بهذا المعنىٰ - في محلِّ كلامنا - تعني أنَّ الوالدين هما ربّا أبنائهما، بمعنىٰ أنَّه قد أُلقيت عليهما مسؤولية التالي:

1 - التنشئة البدنية.

2 - التنشئة المعنوية (وقد تقدَّم الكلام فيهما).

3 - حماية الأولاد ورعاية شؤونهم وما يتعلَّق بهم في حياتهم الفكرية والعملية.

وهذه المسؤولية الأخيرة هي ما نريد تسليط الضوء عليها.

إنَّ ربوبية الوالدين في هذه الخطوة تعني التالي:

ص: 67

أوَّلاً: علىٰ الأبوين رعاية أبنائهما رعاية فكرية، أي أنْ يقوما بالتغذية الفكرية الصحيحة، والتي تشمل زرع المفاهيم (والتصوُّرات) الإيجابية، وشحن أذهانهم بما يتحوَّل إلىٰ سلوك عملي إيجابي في المستقبل.

وهذا الأمر قد أشارت له الروايات الش_ريفة التي أمرت بتعليم الولد القرآن الكريم، وتسميته بالأسماء الحسنة - لما ثبت في محلِّه من أنَّ الاسم الحسن له تأثير إيجابي علىٰ الولد في المستقبل -، وتعليمه القراءة والكتابة وغيرها من الأُمور التي تدخل تحت عنوان التنمية المعنوية للفكر والعقل.

روي أنَّه قال رجل: يا رسول الله، ما حقُّ ابني هذا؟ قال: «تُحسِن اسمه وأدبَه، وتضعه موضعاً حسناً»((1)).

وقد روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أنَّه قال: «حقُّ الولد علىٰ والده أنْ يُعلِّمه الكتابة والسباحة والرماية، وأنْ لا يرزقه إلَّا طيِّباً»((2)).

وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «وحقُّ الولد علىٰ الوالد أنْ يُحسِن اسمه، ويُحسِن أدبه، ويُعلِّمه القرآن»((3)).

ثانياً: توفير المناخ الآمن للأولاد، الأمر الذي عبَّرت عنه الروايات الش_ريفة - التي تقدَّم بعضها - بأنَّ من حقِّ الولد علىٰ الوالد أن يُحسِن وضعه في موضع مناسب.

وهذا الأمر يشمل:

ص: 68


1- ([1]) وسائل الشيعة للحرِّ العاملي (ج 21/ ص 390 / باب استحباب تسمية الولد باسم حسن.../ ح 7).
2- ([2]) كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 16/ ص 443/ ح 45340).
3- ([3]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج 19/ ص 365).

1 - الحفاظ عليهم من مقاربة المحرَّمات من طعام حرام، واستماع غناء، ومشاهدة المناظر المحرَّمة((1)).

2 - تعليمهم الطريقة المناسبة لاختيار الأصدقاء، وفق الأنظمة الإنسانية والعقلية، وضرورة الاستمرار بفرز أصدقاء الخير وأصحاب السوء.

3 - إبعادهم عن المناخات التي من شأنها توليد سلوك منحرف أو المساعدة عليه، كرؤية الوالدين حالة الجماع، أو الاطِّلاع علىٰ عوراتهم، أو دفعهم للعمل في أماكن مريبة وأجواء قريبة من الانحراف.

الخطوة الرابعة: إراءة العقيدة:

إنَّ المحيط العائلي يُمثِّل حياة الأولاد الأُولىٰ، والتي ستبقىٰ آثارها فعّالة في سلوكهم لسنوات متمادية، وبالتالي سيكون للوالدين بالخصوص تأثير قويٌّ جدًّا علىٰ فكرهم.

والتربية في خطوتها الرابعة تقتض_ي مسؤولية عظمىٰ ملقاة علىٰ الأبوين فيما يتعلَّق بتحديد المعتقَد الغيبي الذي سيبني الأولاد حياتهم وِفْقَه.

إنَّ تأثير الأبوين فيما يتعلَّق بالاعتقادات أمر واضح جدًّا، وقد أشارت بعض الروايات الش_ريفة إلىٰ ذلك، ومنها ما روي عن أبي عبد

ص: 69


1- ([1]) الملاحظ في هذه النقطة هو المستوىٰ التربوي، أمَّا المستوىٰ الفقهي الإلزامي فيُلاحظ فيه ما ورد في منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني (ج 2/ مسألة 1082): (يجب علىٰ الوليِّ حفظ الطفل عن كلِّ ما فيه ضرر عليه وإنْ لم يصل إلىٰ الخطر علىٰ نفسه أو ما في حكمه علىٰ الأحوط لزوماً، كما يجب عليه حفظه عن كلِّ ما عُلِمَ من الش_رع مبغوضية صدوره ولو من الصبيِّ كالزنا واللواط وشرب الخمر والنميمة ونحوها، ولا يجب منعه من أكل غير الطاهر وشربه إذا لم يكن مندرجاً في أحد القسمين الأوَّلين، بل يجوز مناولته إيّاه، كما يجوز إلباسه الحرير والذهب ممَّا هو ممنوع علىٰ البالغين، كما مرَّ في المسألة (532) من كتاب الصلاة).

الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «ما من مولود يُولَد إلَّا علىٰ الفطرة، فأبواه اللَّذان يُهوِّدانه ويُنصِّرانه ويُمجِّسانه...»((1)).

إنَّ تأثير الوالدين لا ينحص_ر بالقضايا الأخلاقية للأولاد، بل إنَّه يتدخَّل في جميع سلوكياتهم، فكما أنَّ صدقك يُربّي أولادك علىٰ الصدق، وكما أنَّ غضبك يجعل منهم أطفالاً هجوميين غير واثقين بأنفسهم، كذلك اعتقاداتك ستنتقل بصورة وبأُخرىٰ إلىٰ أولادك عاجلاً أم آجلاً.

هل رأيت كيف أنَّ ولدك يقوم بالصلاة إلىٰ جنبك كلَّما صلَّيت؟

وهل رأيته كيف يغلق صوت المذياع لو عوَّدته علىٰ إغلاقه عند سماع الأذان؟

وهل رأيت كيف يقوم ولدك بمحاولة تقليدك في مشيتك؟

هل تساءلتم في أنفسكم: كيف يتقبَّل بعض الشباب أنْ تخرج أخواتهم سافرات متبرِّجات؟!

لا تُتعِبوا أنفسكم كثيراً، فقط انظروا إلىٰ أُمَّهات أُولئك الشباب!

مفردات التربية العقائدية:

لقد أعطتنا التربويات الدِّينية طريقة التربية العقائدية فيما يتعلَّق بالأولاد عبر الروايات التي وردت عن أهل بيت العصمة (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ)، مرَّة علىٰ نحو الإجمال وأُخرىٰ بالتفصيل.

أمَّا علىٰ نحو الإجمال، فقد دعت الروايات إلىٰ ضرورة تعليم الأولاد كلَّ ما من شأنه أنْ يُقرِّبهم من الباري جلَّ وعلا، ويُبعِدهم عن نار جهنَّم، فقد ورد عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «علِّموا صبيانكم ما ينفعهم الله به»((2)).

ص: 70


1- ([1]) من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 2/ص 49/الخراج والجزية/ح 1668).
2- ([2]) الخصال للشيخ الصدوق (ص 614/ حديث الأربعمائة).

وعن الإمام زين العابدين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «وأمَّا حقُّ ولدك فأنْ تعلم أنَّه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشرِّه، وأنَّك مسؤول عمَّا ولَّيته من حسن الأدب والدلالة علىٰ ربِّه عَزَّوَجَل، والمعونة له علىٰ طاعته، فاعمل في أمره عملَ من يعلم أنَّه مثاب علىٰ الإحسان إليه، معاقب علىٰ الإساءة إليه»((1)).

وأمَّا التفصيل، فذلك عبر المفردات التالية:

المفردة الأُولىٰ: الدعوة إلىٰ العقيدة الصحيحة:

بمعنىٰ أنْ يعمل الأب - وكذا الأُمُّ - علىٰ دعوة أبنائهم إلىٰ التزام العقيدة الحقَّة من خلال التزامهم العملي بها وتعليمهم إيّاها.

عن سليمان بن خالد، قال: قلت لأبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): إنَّ لي أهل بيت وهم يسمعون منّي، أَفَأدعوهم إلىٰ هذا الأمر؟

قال: «نعم، إنَّ الله يقول في كتابه: ]يا أَي_ُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ[ [التحريم: 6]»((2)).

المفردة الثانية: الإسراع بالتربية العقائدية والنصيحة للولد:

إنَّ الأطفال يكبرون بأسرع ممَّا نتوقع، وبالتالي فاحتمال أنْ تأتي المعتقدات الباطلة لتخطف عقولهم وارد جدًّا، بل إنَّ من المحتمل جدًّا أنْ يقسو قلب الطفل جراء معايشته للعقائد المنحرفة والسلوكيات الخاطئة في الشارع وما شابه، وبالتالي سيكون تأثير كلام الوالدين فيه مستحيلاً أو قريباً من الاستحالة، لذلك كان لزاماً علىٰ الأبوين أنْ ينتبها

ص: 71


1- ([1]) الخصال للشيخ الصدوق (ص 568/ أبواب الخمسين وما فوقه، الحقوق الخمسون التي كتب بها عليُّ بن الحسين سيِّد العابدين (عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ) إلىٰ بعض أصحابه/ ح 1).
2- ([2]) المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 1/ ص 231/ باب من ترك المخاصمة لأهل البيت (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ)/ ح 180).

إلىٰ هذه الحقيقة، وأنْ يبدؤوا بالتربية العقائدية منذ نعومة الأظفار، الأمر الذي أشار له أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) بقوله لولده الإمام الحسن (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ):

«... أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي لَ_مَّا رَأَيْتُنِي قَدْ بَلَغْتُ سِنًّا، وَرَأَيْتُنِي أَزْدَادُ وَهْناً، بَادَرْتُ بِوَصِيَّتِي إِلَيْكَ، وَأَوْرَدْتُ خِصَالًا مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَعْجَلَ بِي أَجَلِي دُونَ أَنْ أُفْضِ_يَ إِلَيْكَ بِمَا فِي نَفْسِ_ي، أَوْ أَنْ أُنْقَصَ فِي رَأْيِي كَمَا نُقِصْتُ فِي جِسْمِي، أَوْ يَسْبِقَنِي إِلَيْكَ بَعْضُ غَلَبَاتِ الْهَوَىٰ وفِتَنِ الدُّنْيَا، فَتَكُونَ كَالصَّعْبِ النَّفُورِ. وَإِنَّمَا قَلْبُ الْحَدَثِ كَالأَرْضِ الْخَالِيَةِ مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيْءٍ قَبِلَتْه. فَبَادَرْتُكَ بِالأَدَبِ قَبْلَ أَنْ يَقْسُوَ قَلْبُكَ وَيَشْتَغِلَ لُبُّكَ لِتَسْتَقْبِلَ بِجِدِّ رَأْيِكَ مِنَ الأَمْرِ مَا قَدْ كَفَاكَ أَهْلُ التَّجَارِبِ بُغْيَتَه وَتَجْرِبَتَه، فَتَكُونَ قَدْ كُفِيتَ مَئُونَةَ الطَّلَبِ، وَعُوفِيتَ مِنْ عِلَاجِ التَّجْرِبَةِ، فَأَتَاكَ مِنْ ذَلِكَ مَا قَدْ كُنَّا نَأْتِيه، وَاسْتَبَانَ لَكَ مَا رُبَّمَا أَظْلَمَ عَلَيْنَا مِنْه...»((1)).

دعونا نتأمَّل قليلاً في هذه الكلمة لأمير البلاغة والبيان، إنَّه عليه (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يقول:

لا بدَّ من استعجال الولد بالأدب، وإلَّا فإنَّ التأخير سوف يُسبِّب العديد من المشاكل التي تعيق تأديب الولد إذا كبر، ومن هذه المشاكل هي التالي:

1 - ربَّما يموت الأب قبل أن يوصي ويُؤدِّب ابنه «قَبْلَ أَنْ يَعْجَلَ بِي أَجَلِي».

2 - وربَّما يفقد الأب بعض حكمته إذا كبر، «أَنْ أُنْقَصَ فِي رَأْيِي»، انطلاقاً من قوله تعالىٰ: ]وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ 70[ (النحل: 70).

ص: 72


1- ([1]) نهج البلاغة (ج 3/ ص 40 و41).

3 - وربَّما يسبق هوىٰ الابن وفتنُ الدنيا الأبَ فلا تُؤثِّر فيه كلماته، وحينئذٍ سيكون الولد كالفرس الصعب غير المذلَّل فلا يقبل النصيحة.

4 - وربَّما يقسو قلب الابن إذا كبر، فلا يقبل بعدها نصيحة من ناصح.

5 - وربَّما تكثر مشاغل الولد بما يُشغِل لُبَّه وعقله، فلا يبقىٰ عنده وقت لسماع المواعظ والآداب.

6 - وربَّما يصيب قلب الولد وهنٌ إذا كبر، إذ أقوىٰ ما يكون المرء وهو شابٌّ فنفسه تميل آنذاك إلىٰ النشاط، وأمَّا إذا كبر واشتغل لُبُّه فربَّما لا تبقىٰ عنده آنذاك تلك القوَّة. ولذا عاجل أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) ولده بالوصيَّة والأدب «لِتَسْتَقْبِلَ بِجِدِّ رَأْيِكَ مِنَ الأَمْرِ».

7 - وعلىٰ فرض عدم نصيحة الأب للولد، وعلىٰ فرض أنَّ الولد طلب الأدب لوحده، فإنَّه سيتحمَّل أعباء البحث وخوض التجارب لكي يعرف الأدب من عدمه، ولذا عاجل أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) ولده بالنصيحة ليكفيه مؤونة الطلب وعلاج التجربة، ولكي تكون الموعظة عند الولد بالغة الأثر، فيضيف أدب الماضين إلىٰ أدبه ومعارفه الخاصَّة، ليكتشف بعض ما لم يكتشفه الماضون.

وفي نفس هذا السياق ورد عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «بادروا أولادكم بالحديث قبل أنْ يسبقكم إليهم المرجئة»((1)).

وتطبيقاً لهذه الحقيقة جاءت الروايات الش_ريفة لتُعلِن ضرورة تلقين الأولاد العقيدة الحقَّة من صغرهم، لذلك كان من المستحبّات هو الأذان في الأُذُن اليمنىٰ والإقامة في اليس_رىٰ((2)) في أوَّل ساعات ولادة

ص: 73


1- ([1]) الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 47/ باب تأديب الولد/ ح 5).
2- ([2]) كما فعل ذلك رسول الله الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) عندما وُلِدَ الإمام الحسن المجتبىٰ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ). راجع: علل الشرائع للشيخ الصدوق (ج 1/ ص 138/ الباب 116/ ح 7).

الطفل، ليفتح سمع أُذُنه (الذي هو نافذة القلب) أوَّل ما يفتحه علىٰ كلمات التوحيد ونغمات الحقِّ.

وأيضاً روي في نفس السياق عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «إذا أفصح أولادكم فعلِّموهم لا إله إلَّا الله، ثمّ لا تبالوا متىٰ ماتوا، وإذا أثغروا فمروهم بالصلاة»((1)).

المفردة الثالثة: تعليمهم حُبَّ أهل البيت (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ):

مثلما نعرف أنَّ المسلمين افترقوا بعد النبيِّ الأكرم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) علىٰ فِرَق متعدِّدة، وأنَّ الحقَّ كان ولا زال في واحدة منها، عبَّر عنها النبيُّ الأكرم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بسفينة نوح. وهذا أمر ثابت عند الخاصَّة والعامَّة، فقد رووا عن حنش الكناني، قال: سمعت أبا ذرٍّ 2 يقول وهو آخذ بباب الكعبة: من عرفني فأنا من عرفني، ومن أنكرني فأنا أبو ذرٍّ((2))، سمعت النبيَّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) يقول: «ألَا إنَّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من قومه، من ركبها نجا، ومن تخلَّف عنها غرق»((3)).

ومن هنا كان من أهمِّ الخطوات التي تلزم الآباء بالنسبة لأبنائهم هو تعليمهم حُبَّ آل بيت النبيِّ الأكرم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ).

وقد روي عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أنَّه قال: «أدِّبوا أولادكم علىٰ ثلاث خصال: حُبِّ نبيِّكم، وحُبِّ أهل بيته، وقراءة القرآن»((4)).

ص: 74


1- ([1]) كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 16/ ص 440/ ح 45328).
2- ([2]) إشارة منه (رضوان الله عليه) إلىٰ أنَّه الصادق بشهادة النبيِّ الأكرم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، حيث اشتهر عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أنَّه قال: «ما أظلَّت الخض_راء ولا أقلَّت الغبراء علىٰ ذي لهجة أصدق من أبي ذرٍّ». (معاني الأخبار للشيخ الصدوق: ص 179).
3- ([3]) المستدرك للحاكم النيسابوري (ج 3/ ص 150 و151).
4- ([4]) الجامع الصغير لجلال الدِّين السيوطي (ج 1/ ص 51/ حرف الهمزة/ ح 311).

المفردة الرابعة: تعليمهم الفرائض:

لا شكَّ أنَّ الفرائض - أو ما يُعبَّر عنها بفروع الدِّين - تُمثِّل الترجمة العملية للأساس الإيماني والاعتقادي الذي يؤمن به الفرد، ومن هنا كانت واحدة من أهمِّ الخطوات التي يلزم علىٰ الآباء تنفيذها في تربية أولادهم العقائدية هو تعليمهم تلك الفرائض، ودفعهم إلىٰ التزامها بخطوات وئيدة، وبتوليد الحافز لديهم لالتزامها منذ نعومة الأظفار، فإنَّ من تعوَّد شيئاً في صغره صعب جدًّا عليه أنْ يتركه إلىٰ نهاية عمره.

عن الحلبي، عن أبي عبد الله، عن أبيه (عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ)، قال: «إنّا نأمر صبياننا بالصلاة إذا كانوا بني خمس سنين، فمُرُوا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين، ونحن نأمر صبياننا بالصوم إذا كانوا بني سبع سنين بما أطاقوا من صيام اليوم، إنْ كان إلىٰ نصف النهار أو أكثر من ذلك أو أقلّ، فإذا غلبهم العطش والغرث((1)) أفطروا، حتَّىٰ يتعوَّدوا الصوم ويُطيقوه، فمُرُوا صبيانكم إذا كانوا بني تسع سنين بالصوم ما استطاعوا من صيام اليوم، فإذا غلبهم العطش أفطروا»((2)).

وهكذا تعليمهم بعض الآداب والمستحبّات حتَّىٰ يستأنسوا بها في حياتهم العبادية علىٰ طول الخطِّ، فقد ورد عن أبي هارون المكفوف، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «يا أبا هارون، إنّا نأمر صبياننا بتسبيح فاطمة (عَلَيْهِا اَلسَّلاَمُ) كما نأمرهم بالصلاة، فالزمه، فإنَّه لم يلزمه عبدٌ فشقي»((3)).

ص: 75


1- ([1]) أي: الجوع.
2- ([2]) الكافي للشيخ الكليني (ج 3/ ص 409/ باب صلاة الصبيان ومتىٰ يُؤخَذون بها/ ح 1).
3- ([3]) الكافي للشيخ الكليني (ج 3/ ص 343/ باب التعقيب بعد الصلاة والدعاء/ ح 13).

المفردة الخامسة: تعليمهم القرآن الكريم:

لكلِّ أُمَّة من الأُمَم دستورها الخاصّ الذي تعتزُّ به وتبني سلوكها وحضارتها وِفْقَه، ودستور الأُمَّة الإسلاميَّة هو القرآن الكريم، لذلك ينبغي أنْ يعمل كلُّ جيل علىٰ الحفاظ علىٰ هذا الدستور، وعلىٰ أنْ يُربّي الجيل اللاحق علىٰ المحافظة عليه من جميع جوانبه، وأهمُّها جانب التطبيق العملي لمضامينه.

وحتَّىٰ يتمَّ التطبيق العملي لمضامينه يلزم تعلُّمُه أوَّلاً، وهذا ما دعت إليه الروايات التربوية، حيث صرَّحت بأنَّ من أهمِّ ما يلزم علىٰ الوالدين أنْ يُربُّوا أولادهم عليه هو تعلُّم القرآن الكريم، ورتَّبت عليه الأثر العظيم من الثواب الجزيل.

روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أنَّه قال: «من علَّم ابنه القرآن نظراً غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، ومن علَّمه إياه ظاهراً((1)) بعثه الله يوم القيامة علىٰ صورة القمر ليلة البدر، ويقال لابنه: اقرأ، فكلَّما قرأ آية رُفِعَ بها للأب درجة، حتَّىٰ ينتهي إلىٰ آخر ما معه من القرآن»((2)).

وعن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «من علَّم ولداً له القرآن قلَّده الله قلادة يعجب منها الأوَّلون والآخرون يوم القيامة»((3)).

فضلاً عن هذا الأجر العظيم، فإنَّ التربويات الدِّينية اعتبرت تعليم الولد القرآن هو من الحقوق اللازمة علىٰ الأب، كما روي عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أنَّه قال: «أدِّبوا أولادكم علىٰ ثلاث خصال: حُبِّ نبيِّكم، وحُبِّ أهل بيته، وقراءة القرآن»((4)).

ص: 76


1- ([1]) يعني من دون أن يحفظه عن ظهر قلب.
2- ([2]) المعجم الأوسط للطبراني (ج 2/ ص 264)، ونقله عنه الشيخ محمّد الريشهري في: معرفة القرآن علىٰ ضوء الكتاب والسُّنَّة (ج 2/ ص 84 و85/ ح 940).
3- ([3]) كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 1/ ص 533/ ح 2386).
4- ([4]) الجامع الصغير لجلال الدِّين السيوطي (ج 1/ ص 51/ حرف الهمزة/ ح 311).

وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «وحقُّ الولد علىٰ الوالد أنْ يُحسِن اسمه، ويُحسِن أدبه، ويُعلِّمه القرآن»((1)).

المفردة السادسة: تحصينهم من التيّارات المنحرفة:

لم تسلَم العقيدة الحقَّة من تيّارات مناوئة ومنحرفة تلبَّست لباساً برّاقاً انخدع به البسطاء.

إنَّ الخطر لا يقف بعيداً عنّا، بل إنَّه قريب جدًّا من أيِّ واحدٍ منّا، ولعلَّكم رأيتم أو سمعتم بعائلة متديِّنة بمعنىٰ الكلمة ولكن ولدهم الذي دخل الجامعة حديثاً صارت عنده أفكار إلحادية منحرفة، أو سلوكيات غير أخلاقية!

ما هو السبب في ذلك؟

إنَّ السبب يعود إلىٰ أنَّ العقيدة ما لم تكن ثابتة بالدليل القطعي والعلمي فإنَّها تكون في مهبِّ الريح، ولذلك لم يرتضِ القرآن الكريم منّا الظنَّ في العقيدة، وأخبر بأنَّ الظنَّ لا يُغني الإنسان ولا يُسمِنه.

قال تعالىٰ: ]وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ 36[ (يونس: 36).

وقال تعالىٰ: «وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً 28» (النجم: 28).

وهذا يرجع في حقيقته إلىٰ أنَّ الظنَّ لا يتمكَّن من الوقوف في وجه الشُّبَه والإشكالات التي يُثيرها المخالفون، الذين يتمتَّع العديدُ منهم بقوَّة البيان وبصياغات تُلبِس الباطل لباس الحقِّ، وبالتالي سيقع مَنْ لا معرفة رصينة عنده في الفخِّ، ولاتَ حين مندمِ.

ص: 77


1- ([1]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج 19/ ص 365).

وهذا يستلزم من الآباء التالي:

أوَّلاً: أنْ يكونوا علىٰ اطِّلاع جيِّد بالأدلَّة العلمية علىٰ حقّانية عقيدتهم.

ثانياً: أنْ يكونوا علىٰ معرفة جيِّدة بأساليب الإقناع المتنوِّعة.

ثالثاً: أنْ يعملوا علىٰ عدم إدخال أولادهم في أجواء مشحونة بالتشكيك والابتعاد عن الحقِّ، خصوصاً إذا كانت أجواءً متحلّلة، ممَّا ترغب النفس فيه وتتوق إليه.

رابعاً: المتابعة المستمرَّة لسلوك الأولاد العقائدي، والتنبُّه للخطر في أوائل ظهوره، حتَّىٰ إذا ما بدأ بالبروز أسرع الوالدان بوأْدِه قبل أنْ يستفحل.

خامساً: الدعاء المستمرّ والتوسُّل بالله تعالىٰ في أنْ يحفظ الأولاد وإيمانهم من الوقوع في الفخِّ.

ملاحظة مهمَّة: كيف نُثبِت وجود (الله) تعالىٰ للأطفال؟

من الأسئلة المتوقِّعة من الأطفال، وفي الحقيقة هي من الأسئلة المربكة جدًّا للآباء، هو السؤال: أين الله؟ ما هو الله؟ كيف أعرف أنَّ الله موجود؟

هذه الأسئلة التي تصدر من الأطفال، والتي تحكي عفويتهم من جهة، وتحكي أيضاً فطرتهم في البحث عن المعبود من جهة ثانية، وتحكي عن نفس توّاقة لمعرفة المجهول من جهة ثالثة، تلك الأسئلة محيِّرة للآباء ومربكة لهم، باعتبار:

أوَّلاً: أنَّ بعض الآباء ربَّما هو لا يعرف ما هو جواب تلك الأسئلة!

ثانياً: أنَّ مدارك الطفل ما زالت طريَّة لا تُجيد الخوض في المفاهيم الفلسفية ولا تُدرِك ما وراء الطبيعة ولا تفهم الأشياء إلَّا بالمنظار الحسّ_ي، وبالتالي فمن الصعب بيان حقيقة الذات المقدَّسة وأنَّها ذات

ص: 78

غير مادّية ولا مرئية وأنَّها حقيقة عالية جدًّا بحيث يستحيل إدراكها، وكذلك من الصعب إقامة الأدلَّة الفلسفية والكلامية للأطفال في تلك الأعمار.

ولكن هذا لا يُعطينا المبرِّر للتملُّص من الإجابة عن مثل تلك الأسئلة، لأنَّ فشلنا في الإجابة المقنعة لهم سيُؤدّي بهم إلىٰ الغرق في أوهام لا نعرف عمقها وسيترك في نفوسهم فراغاً هائلاً، وربَّما تبقىٰ عقدة التشكيك في نفوسهم إلىٰ أنْ يكبروا، وقد تتلقَّفهم التيّارات الإلحادية أو المنحرفة، ولاتَ حين مندمِ.

فكيف نُجيب عن سؤال الأطفال: ما هو الله؟ أين هو الله؟

الجواب:

في الحقيقة نحن مضطرُّون في المراحل العمرية الأُولىٰ للأطفال بأنْ نستعين بالتمثيل والتشبيه الحسّي لنُوضِّح لهم الصورة ولو من بعيد.

وهنا عدَّة مراحل للأجوبة المناسبة للأطفال، أو لكيفية إفهامهم وجود الإله والإيمان به:

المرحلة الأُولىٰ:

وهي المرحلة التي يتعايش الطفل فيها مع الأُمور المحسوسة تماماً، وهذا يكون في السنوات الثلاثة أو الأربعة الأُولىٰ من عمره، وفي مثل هذا العمر يمكننا أنْ نُجيب عن السؤال السابق بأن نقول لهم: إنَّ الله تعالىٰ موجود معنا في كلِّ مكان.

هذا الجواب لا يستطيع الطفل أنْ يفهمه بسهولة، لذلك لا بدَّ من التمثيل الحسّ_ي له، فنعمل علىٰ أنْ نخرج معه في النهار وأنْ نصعد بالسيّارة ونمش_ي لمسافات طويلة نسبياً، ونقول له: انظر إلىٰ الشمس، إنَّها موجودة في بيتنا، وما

ص: 79

زالت معنا رغم أنَّنا مشينا مسافة طويلة، ونعمل علىٰ أنْ نُفهِمه بأنَّ هناك موجودات يمكنها أنْ تكون معنا أينما ذهبنا.

وينجح الأمر أيضاً في ليلة مقمرة، حيث نشير إلىٰ أنَّ القمر يمش_ي معنا أينما ذهبنا.

إنَّ هذه الفكرة تجعل الطفل يُدرِك بوضوح بأنَّ هناك موجودات يمكنها أنْ ترافق الإنسان لأماكن بعيدة، ولكن هذا لن يستمرَّ طويلاً، حيث إنَّ الولد أو البنت سيكبرون بس_رعة، وسينتبهون إلىٰ أنَّنا عندما ندخل البيوت فإنَّ الشمس أو القمر سوف ينسحبان من مرافقتنا، وعندها ننتقل إلىٰ مرحلة ثانية من الجواب.

المرحلة الثانية:

عندما تتطوَّر مدارك الطفل قليلاً خصوصاً عندما يدخل المدرسة، عندها يمكننا أن نستخدم بعض الأُمور التي لها آثار محسوسة، رغم أنَّها غير معلومة الكُنْه والحقيقة لدينا.

فمثلاً ندخل معه إلىٰ غرفة من البيت من دون أنْ نُشغِل فيها أيَّ جهاز كهربائي، ثمّ نقول له: هل رأيت الكهرباء؟ وهل تعرف حقيقتها؟ وكيف تعرف أنَّها موجودة الآن؟

عندها سيقول أو علىٰ الأقلّ أنت تقول له: إنَّنا لا نعرف حقيقة الكهرباء، ولكنَّنا يمكن أنْ نعلم بوجودها من خلال بعض الآثار، فننظر إلىٰ (المروحة) مثلاً ونقول له: كيف نعرف أنَّ الكهرباء موجودة من خلال المروحة؟ لا شكَّ أنَّه سيقوم ليُشغِّل مفتاحها ثمّ يرىٰ: فإنْ تحرَّكت فإنَّه سيقول: إنَّ الكهرباء موجودة، وإلَّا فسيقول: إنَّها غير موجودة.

ونُجرِّب الأمر أيضاً مع المصباح الكهربائي.

ص: 80

وعندها نقول له: انظر، فهناك أُمور لا نحسُّها ولا نراها ولكنَّنا نحسُّ بآثارها، وهكذا (الله) عَزَّوَجَل، فرغم أنَّنا لا نراه، لأنَّه أعلىٰ منّا وأعظم، ولا يمكننا أن نصل إليه((1))، ولكنَّنا نحسُّ بآثار وجوده، فهذه الموجودات كلُّها مخلوقة له تعالىٰ.

وفي مثال أرقىٰ قليلاً، نُمثِّل له بالهواء الذي نستنشقه، فرغم أنَّنا لا نراه ولا نلمسه ولكنَّنا نشعر بأنَّنا محتاجون إليه، ولا يمكننا أن نستغني عنه لعدَّة دقائق، فهو شيء موجود رغم أنَّنا لا نراه، ووجودنا وحياتنا متوقِّفة عليه.

المرحلة الثالثة:

علينا أنْ نُركِّز في أذهان أولادنا دائماً مفاهيم الرحمة الإلهيَّة والحُبِّ والعطف والكرم والجود الإلهي، ولا نُخوِّفهم منه جلَّ وعلا بنار جهنَّم، إذ لعلَّهم يرسمون صورة سيِّئة عن الإله الذي لا شُغْل له إلَّا معاقبة عبيده وترويعهم بالنار!

فبدلاً من أنْ تقول الأُمُّ لولدها: إذا لم تُصَلِّ فسيرميك الله في النار، لتقل له: إنْ صلَّيت أعطاك الله الجنَّة.

وبدلاً من أنْ تُخوِّفه بالنار لو خالف أمرها، لتقل له: إنَّك إنْ سمعت كلام أُمِّك ولم تُسبِّب الأذىٰ لها فإنَّ الله تعالىٰ سيساعدك علىٰ النجاح في المدرسة، وهكذا.

المرحلة الرابعة:

علينا أنْ نعمل علىٰ تقريب أولادنا من الله تعالىٰ برسم صورة الإله الرحيم، ولكن في نفس الوقت علينا أنْ نُعلِّمهم أنَّ احترام الإله

ص: 81


1- ([1]) نُذكِّر أنَّ المفروض هنا أنَّ الكلام مع الأطفال، وإلَّا فإنَّ الله تعالىٰ لا مكان له ولا زمان، لأنَّه خالق المكان والزمان.

ضروري جدًّا، ولأنَّه يعلم بنا فلا بدَّ أنْ لا نخالف أمره حتَّىٰ نكون محبوبين عنده. وينفع هنا كثيراً أنْ نض_رب له مثلاً بمعلِّمه الذي يُحِبُّه كثيراً، ونقول له: لو كان معلِّمك يراك من خلال كاميرا مثلاً، هل ستخالفه؟ وسيكون الجواب واضحاً ومقنعاً له بلا شكٍّ.

ملاحظة:

إنَّ هذه الطريقة يمكن أن نستعملها للجواب عن أسئلة عديدة فيما يتعلَّق بالله جلَّ وعلا، فمثلاً لو سأل الطفل: ما هو لون الله تعالىٰ؟ حينها لا بدَّ أوَّلاً أن نذكر له أُموراً لا لون لها رغم وجودها كالحُبِّ، والغضب، والألم، والشوق، والصداقة، والتفكير، والعقل...، فهذه أُمور موجودة ونحسُّ بها، ولكن لا لون لها.

فنُثبِت له من خلال هذه الأمثلة أنَّ هناك موجودات لا لون لها، وهكذا الله تعالىٰ موجود لا لون له.

وهكذا عندما يسأل: هل الله يحتاج إلىٰ طعام، أو يمرض، أو يضعف، أو يموت، كلُّ هذه الأسئلة لا بدَّ أن نبدأ معه بما يستوعبه ذهنه، ثمّ نضرب له مثالاً بما لا يتَّصف بمثل تلك الصفة، فالماء مثلاً لا يعطش لأنَّه هو الذي يروي غيره، كذلك الله تعالىٰ لا يعطش لأنَّه هو الذي يعطي غيره.

وهكذا نُثبِت لهم أنَّ الله تعالىٰ غنيٌّ لا يحتاج إلىٰ غيره، لأنَّه لا يُوجَد من هو أغنىٰ منه أو أقوىٰ منه ليحتاج إليه في ذلك.

وعلىٰ كلِّ حالٍ، إنَّ تعليم الأطفال المبادئ العقائدية مهمٌّ جدًّا، ولكنَّه أيضاً صعب فيحتاج الأبوان والمعلِّم إلىٰ ذكاء ولباقة لينقل الصورة إلىٰ ذهن الطفل، بحيث يقنعه بما يريد الوصول إليه.

والله تعالىٰ هو المستعان.

ص: 82

الخطوة الخامسة: تربية العفاف

الخطوة الخامسة: تربية العفاف((1)):

هذا الوجود تنقسم مفرداته عموماً إلىٰ موجودات حيَّة، وأُخرىٰ جامدة. والموجودات الحيَّة منها ما ينمو فقط من دون شعور وإحساس، وأُخرىٰ تنمو ومع نموِّها لها أحاسيس ومشاعر فتحسُّ بالجوع والخوف والرغبة و...

ثمّ إنَّ ما له شعور بعضها موجودات تعيش بالعقل فقط فلا غرائز لها ولا شهوات، وكلُّ ما تفعله تقيسه بمقياس العقل، ويُمثِّل هذا الصنف عالم الملائكة.

ويقف علىٰ الطرف الضدِّ من هذا الصنف موجودات تعيش بالغرائز فقط فلا عقل مدرك لها، وهو عالم الحيوانات.

وبين ذين وذين يعيش موجود بالعقل والغرائز، وجُعِلَ مش_روعه في هذه الحياة قيادة وجوده بالعقل متوازناً مع الغرائز، فليس من الصحيح أنْ يلغي دور العقل في وجوده، كما أنَّه ليس من الصحيح أنْ يلغي دور الغرائز فيها، بل المطلوب هو التوازن بين متطلَّباتهما.

فالمطلوب هو تقنين دور الغريزة في حياة الإنسان بقانون العقل((2)).

وفي إشارة إلىٰ هذا التركيب روي عن عبد الله بن سنان، قال: سألت أبا عبد الله جعفر بن محمّد الصادق (عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ)، فقلت: الملائكة أفضل أم

ص: 83


1- ([1]) يُطلَق علىٰ هذه التربية في الكُتُب المعدَّة لهذا المجال بالتربية الجنسية، ولكن قد لا تروق هذه التسمية للبعض، ويحسب أنَّ فيها إيحاءات منحرفة، رغم أنَّ هذا الكتاب يخاطب الآباء لا المراهقين. لذلك رأيت أنْ نُطلِق عليها تربية العفاف، لما في هذه اللفظة من إيحاء بالاستقامة.
2- ([2]) الأمر الذي يُطلَق عليه عنوان: الذكاء العاطفي.

بنو آدم؟ فقال: «قال أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): إنَّ الله عَزَّوَجَل ركَّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركَّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركَّب في بني آدم كليهما، فمن غلب عقلُه شهوتَه فهو خيرٌ من الملائكة، ومن غلبت شهوتُه عقلَه فهو شرٌّ من البهائم»((1)).

وهنا ملاحظات تتعلَّق بالغريزة:

الملاحظة الأُولىٰ:

إنَّ وجود الغرائز في حياة الإنسان ضروري جدًّا، لأنَّها تدفع الإنسان إلىٰ أنْ يستمرَّ بحياته، فلولا الغريزة الجنسية لما تكاثر واستمرَّ النوع الإنساني، ولولا غريزة حُبِّ التموُّل لما عمل الإنسان وتاجَر وتطوَّر، ولولا غريزة حُبِّ البقاء لما دفع عن نفسه الأمراض والأخطار، وهكذا.

الملاحظة الثانية:

في الوقت الذي يُعتَبر وجود الغريزة ضرورياً في حياة الإنسان لكنْ علينا أنْ نلتفت إلىٰ أنَّ الغرائز لا عقل لها، وفي الحقيقة أنَّها لا تُفكِّر إلَّا في إشباع رغباتها، وشعارها في ذلك هو أنَّ (الغاية تُبرِّر الوسيلة)، فحتَّىٰ تُشبِع غريزةُ حُبِّ المال رغبتها لا يهمُّها كيف تجمع المال سواءً عندها جمْعُه من حلال أو حرام أو شبهات، من تجارة أو سرقة، لا فرق عندها من هذه الناحية. وحتَّىٰ تُشبِع الغريزة الجنسية رغباتها لا فرق عندها بين الزواج والفجور.

الأمر الذي أشار إليه الحديث المروي عن رسول الله الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بقوله:

ص: 84


1- ([1]) علل الشرائع للشيخ الصدوق (ج 1/ ص 4 و5/ باب 6/ ح 1).

«لو كان لابن آدم وادٍ من مال لابتغىٰ إليه ثانياً، ولو كان له واديان لابتغىٰ لهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلَّا التراب، ويتوب الله علىٰ من تاب»((1)).

الملاحظة الثالثة:

ويترتَّب علىٰ هذا: أنَّ من أهمِّ مشاريع الإنسان في حياته سيكون هو تقنين وتقييد رغبات الشهوات غير المتناهية وتحديد حركتها ومطالبها، لأنَّ تركها من دون تقنين يعني انفلاتها، الأمر الذي يُؤدّي إلىٰ نتائج وخيمة تجعل من حياة الإنسان أسوأ بكثير من حياة الغاب، بل إنَّها تُؤدّي إلىٰ الدمار الشامل والفناء السريع.

وحقًّا:

والنفس كالطفل إنْ تهمله شبَّ علىٰ *** حُبِّ الرضاع، وإنْ تفطمْه ينفطمِ((2))

الملاحظة الرابعة:

إنَّ ما يُحدِّد ويُقنِّن رغبات الشهوات ويُقيِّد حركتها أُمور عديدة، منها التقاليد والأعراف الاجتماعية، وقانون الدولة، والحياء الشخص_ي، وحتَّىٰ المصالح المستقبلية تُحدِّد بعضاً من الشهوات طلباً لمصالح أكبر.

ولكن أهمَّ ما يُحدِدها ويُقنِّ_نها ويسير بها علىٰ الطريق الصحيح هو العقل، الأمر الذي أشار له أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) في حديث تركيب الإنسان من عقل وشهوة كما تقدَّم قبل قليل.

الملاحظة الخامسة:

إنَّ وقت ابتداء عمل الغرائز يختلف باختلاف نوع الغريزة ونوع التربية والظروف المحيطة، فغريزة حُبِّ البقاء تبدأ من اللحظة الأُولىٰ

ص: 85


1- ([1]) الجامع الصغير لجلال الدِّين السيوطي (ج 2/ ص 436/ ح 7476).
2- ([2]) البيت من قصيدة للبوصيري.

لإدراك الطفل البسيط ولذلك يبكي عندما يجوع، وغريزة حُبِّ التموُّل والادِّخار تأتي في السنوات الأُولىٰ له، حيث يتعلَّم من الكبار أنَّه قادر علىٰ شراء ما يرغب فيه من خلال المال.

وأمَّا الغريزة الجنسية، وهي في الحقيقة من أعقد وأخطر الغرائز علىٰ الإطلاق، فإنَّها تبدأ بالثوران عند البلوغ أو المراهقة، ولكن في بعض الأحيان ولأسباب موضوعية قد تبدأ بالعمل وحتَّىٰ الثوران قبل هذا الوقت، فإنَّ هذا الأمر يختلف من صبيٍّ إلىٰ آخر حسب نوع التربية التي يتلقّاها، وحسب ما يشاهده أو يسمعه أو يتصوَّره من مواقف وإثارات، فرفقة السوء مثلاً تجعل هذه الغريزة تشتعل في نهاية السنوات السبع الثانية للطفل، وقد يعيش الصبيُّ جوًّا عفيفاً بعيداً عن المثيرات الجنسية، ولكنَّه عندما يدخل الجامعة مثلاً، حيث الاختلاط، وحيث العلاقات المفتوحة، وحيث جلسات السمر والضحكات العالية، فإنَّه قد يحسُّ فجأة بضغط الغريزة قويًّا عليه.

وعلىٰ كلِّ حالٍ، نريد في هذه الخطوة الإشارة إلىٰ ضرورة تربية العفاف للطفل، وسنرىٰ أنَّنا لا نُعدَم الإشارات الروائية التربوية في هذا المجال.

ما هو الهدف من تربية العفاف في الإسلام؟

قد يتصوَّر البعض أنَّ الهدف من هذه الخطوة هي محاولة إلغاء رغبات الغريزة الجنسية، والعمل علىٰ وأْدها أو إماتتها، كلَّا فإنَّه «لا رهبانية في الإسلام»((1)).

إنَّما المقصود هي محاولة إحداث توازن بين (الغريزة الجنسية) و(العفَّة والسلامة الجنسية) بمعنىٰ أنْ يعمل الوالدان علىٰ تربية أولادهما - ذكوراً وإناثاً - بما يضمن لهم عدم اقترافهم أو وقوعهم في خطيئة

ص: 86


1- ([1]) دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي (ج 2/ ص 193/ ح 701).

جنسية عُرفاً وشرعاً، بالإضافة إلىٰ العمل علىٰ إشباع هذه الغريزة بالطُّرُق الشرعية الصحيحة.

هي في الحقيقة محاولة للحفاظ علىٰ الأولاد من أيِّ استغلال جنسي، وتوعيتهم وحثّهم علىٰ عدم استغلال الآخر استغلالاً كذلك.

فالهدف إذن ليس هو إلغاءها، وإنَّما هو تقنينها وتهذيبها.

مفردات تربية العفاف:

وحتَّىٰ يكون الأبوان علىٰ بيِّنة من الأمر نذكر هنا بعضاً مهمًّا من مفردات تربية العفاف ونُسلِّط الضوء عليها، والمطلوب هو النظر لهذه المفردات بنظرة واقعية، والعمل الجادّ علىٰ اتِّخاذ الإجراءات اللازمة من الأبوين إذا كانا قد وقعا في بعض الأخطاء فيها.

المفردة الأُولىٰ: المقاربة:

إنَّ من أخسأ وأبشع التهاونات المَقيتة لدىٰ بعض الآباء هو أنَّهم يمارسون العملية الجنسية أمام أطفالهم، محتجِّين بأنَّهم مجرَّد (أطفال) لا يفهمون ولا يعون ما يحدث أمامهم، وتناسوا أنَّ الطفل في حقيقته عبارة عن مجموعة مجسّات ورادارات تلتقط كلَّ ما تسمع أو ترىٰ، لتحفظه في ذاكرة كبيرة جدًّا، ولتمرَّ تلك (المُدخَلات) عبر سلسلة معقَّدة من التخزين والتحليل والربط والاستنتاج، لتتحوَّل فيما بعد إلىٰ سلوك عملي في المستقبل القريب أو البعيد.

علىٰ الوالدين أنْ يهتمّا بهذه المسألة كثيراً، وأنْ يحذرا من عمل هذا الفعل أمام أطفالهم أو علىٰ مسمعٍ منهم ولو كانوا رُضَّعاً، وأنْ يبتعدوا تماماً عن كلِّ ناظر أو مستمع أثناء تلك العملية.

ص: 87

وقد أشارت الروايات الش_ريفة إلىٰ خطر نظر واستماع الأطفال إلىٰ وقاع الوالدين، ومنها التالي:

عن ابن راشد، عن أبيه، قال: سمعت أبا عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يقول: «لا يجامع الرجل امرأته ولا جاريته وفي البيت صبيٌّ، فإنَّ ذلك ممَّا يورث الزنا»((1)).

وعن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «قال رسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): والذي نفس_ي بيده لو أنَّ رجلا غش_ي امرأته وفي البيت صبيٌّ مستيقظ يراهما ويسمع كلامهما ونفَسَهما ما أفلح أبداً، إذا كان غلاماً كان زانياً، أو جارية كانت زانية. وكان عليُّ بن الحسين (عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ) إذا أراد أنْ يغشىٰ أهله أغلق الباب، وأرخىٰ الستور، وأخرج الخدم»((2)).

يضاف إلىٰ ذلك أنَّ علىٰ الوالدين أنْ يُعلِّما أولادهما علىٰ فنِّ (الاستئذان) و(طرق الباب قبل الدخول) و(عدم الدخول إلَّا بعد سماع الإذن به) مهما كانت الأسباب.

ولا بدَّ أيضاً أنْ يكون لهما مكان خاصٌّ ينامان فيه بعيداً عن أنظار الأطفال حتَّىٰ ولو من دون وقاع، إذ لعلَّ الأطفال يستيقظون ليلاً لبعض شأنهم فيرون والديهما علىٰ حالة لا ينبغي لهم أنْ يروهما عليها، والحُرُّ تكفيه إشارة.

ورد في تفسير قوله تعالىٰ: ]يا أَي_ُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ

ص: 88


1- ([1]) الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 499 و500/ باب كراهية أن يواقع الرجل أهله وفي البيت صبيٌّ/ح 1).
2- ([2]) الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 500/ باب كراهية أن يواقع الرجل أهله وفي البيت صبيٌّ/ح 2).

مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ[ (النور: 58):

إنَّ الله تبارك وتعالىٰ نهىٰ أنْ يدخل أحد في هذه الثلاثة الأوقات علىٰ أحد، لا أب ولا أُخت ولا أُمٌّ ولا خادم إلَّا بإذن. والأوقات بعد طلوع الفجر، ونصف النهار، وبعد العشاء الآخرة((1)).

وروي أنَّه أتىٰ رجل إلىٰ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) فقال: يا رسول الله، هل أستأذن علىٰ أُمّي إذا أردت الدخول عليها؟ قال: «نعم، أيس_رُّك أن تراها عريانة؟»، قال: لا، قال: «فاستأذن عليها إذاً»، قال: فأُختي يا رسول الله تكشف شعرها بين يدي؟ قال: «لا»، قال: لِ_مَ؟ قال: «أخاف عليك إذا أبدت شيئاً من محاسنها إليك أنْ يستفزَّك الشيطان»((2)).

تنبيه:

ليس المقصود من مثل هذه الأحاديث هو أنَّ ممارسة ذلك الفعل أمام الأطفال يسلب منهم اختيارهم ليوقعهم رغماً عنهم في المعصية والانحراف، كلَّا، وإنَّما المقصود هو أنَّ تلك الممارسة أمامهم تُوفِّر أجواء الانحراف لهم في المستقبل، فهي علىٰ نحو المقتضي لا العلَّة لذلك.

المفردة الثانية: التفريق في المضاجع:

في أكثر مجتمعاتنا الش_رقية ينام الأطفال سوية وفي مكان واحد، وقد ينامون متراصفين بعضهم بجنب بعض، وهذا لا مشكلة فيه في السنوات الأُولىٰ من أعمارهم، ولكن عندما يدخل الذَّكَر مرحلة يُميِّز فيها بين الحسن والقبيح

ص: 89


1- ([1]) تفسير عليِّ بن إبراهيم القمّي (ج 2/ ص 108).
2- ([2]) دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي (ج 2/ ص 202/ ح 741).

ويستذْوِق فيها الجمال، وعندما تقترب البنت من مرحلة التمييز والبلوغ، فعلىٰ الوالدين آنذاك أنْ يعملا علىٰ عزلهم بعضهم عن البعض الآخر، وعلىٰ أنْ لا ينام الولد والبنت في فراش واحد.

اسمحوا لي بكلمة، وأرجو أنْ تُفكِّروا بها جيِّداً:

عندما ينام المراهقون في فراش واحد، قد تنكشف عورة بعضهم، وقد يحدث احتكاك بينهم، الأمر الذي قد يُؤدّي إلىٰ ما لا تُحمَد عقباه والعياذ بالله.

لذلك علينا أنْ ننتبه إلىٰ هذا الأمر، وأنْ نتعامل معه بجدّية.

اعزلوا أولادكم بعضهم عن البعض الآخر عند النوم.

أيَّتها الأُمُّ، علِّمي ابنتكِ أنْ تستر نفسها ومحاسنها حتَّىٰ عن إخوتها، لتتعلَّم العفَّة مع الجميع.

أيُّها الأب، علِّم ولدك أنْ لا يدخل علىٰ أُخته في خلوتها، وأنْ لا يشترك مع أخيه في الدخول إلىٰ الحمّام، فهذه الآداب الصغيرة لها ثمرات عظيمة، وعدم التزامها يُؤدّي إلىٰ ما لا تُحمَد عقباه!

عندما يبلغون السابعة وأقصاه العاشرة، علينا أنْ نُفرِّق بين فُرُشهم، ليتعلَّموا العفَّة، وليأخذ كلُّ واحدٍ منهم حُرّيته أثناء النوم، ولنأمن من خطر وقوع نظر بعضهم علىٰ ما يقبح النظر إليه، ولا لمس أو تحسُّس ما لا يحسن لمسه أو تحسُّسه.

روي عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «... ويُفرَّق بينهم في المضاجع لعشر...»((1)).

بل روي أنَّه: «إذا بلغ أولادكم سبع سنين ففرِّقوا بين فُرُشهم...»((2)).

ص: 90


1- ([1]) الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 46/ باب النشوء/ ح 1).
2- ([2]) كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 16/ ص 441/ ح 45329).

المفردة الثالثة: عدم النظر إلىٰ عورة الطفل، وعدم السماح له بالنظر إلىٰ عورة الآخر:

إنَّ من أقوىٰ المجسّات واللاقطات لدىٰ الطفل بالخصوص هي عينه، وحتَّىٰ نُربّيَه تربية عفافٍ ناجحة علينا أنْ نمنعه من النظر إلىٰ أيِّ منظر جنس_ي فاحش، مثل منظر وقاع الوالدين كما تقدَّم، كذلك علينا منعه من متابعة المشاهد الفاضحة من صور خليعة أو مواقع لا أخلاقية أو حفلات راقصة وما شابه.

إنَّ السماح للطفل بمشاهدة واحد من هذه الأُمور من شأنه أنْ يُحرِّك الكوامن في داخله، وكفيل بإثارة بركانٍ لا يخمد بسهولة، لذلك كانت الوقاية خير من العلاج.

ومن هنا يلزم علىٰ الأبوين أنْ لا يخلعا ملابسهما تماماً أمام الأطفال، خصوصاً الأُمُّ - كما هو واضح -، وعدم تكرار التسامح في هذه المسألة.

كذلك يلزم علينا أنْ نُلزِم الأطفال بعدم خلعهم ملابسَهم ليستبدلوها إلَّا في مكان معزول تماماً، أو مع غلق الباب.

وعلىٰ الأُمِّ أنْ تُعوِّد أطفالها شيئاً فشيئاً علىٰ أنْ يستحمُّوا لوحدهم، وحتَّىٰ لو حمَّمتهم هي عليها أنْ لا تخلع ملابسهم الداخلية، وأنْ تدير وجهها أو تُغمِّض عينيها إذا أرادوا استبدالها، لتوحي إليهم بقبح كشف العورة أو النظر إليها.

وفي الوقت الذي لا نسمح للطفل بأنْ ينظر إلىٰ عورة غيره، علينا أنْ نُعلِّمه أيضاً أنْ لا يسمح لأحد بأنْ ينظر إلىٰ عورته، إلَّا الطبيب - في الحالة الضرورية وبحضور أحد الوالدين -.

وقد أشارت الروايات الش_ريفة إلىٰ هذه المفردة في عدَّة مناسبات، نذكر منها التالي:

ص: 91

روي عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): لا يدخل الرجل مع ابنه الحمّام فينظر إلىٰ عورته»، وقال: «ليس للوالدين أنْ ينظرا إلىٰ عورة الولد، وليس للولد أنْ ينظر إلىٰ عورة الوالد»، وقال: «لعن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) الناظر والمنظور إليه في الحمّام بلا مئزر»((1)).

وروي عن محمّد بن عياض، قال: رُفِعْتُ إلىٰ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) في صغري وعليَّ خرقة وقد كشفت عورتي، فقال: «غطُّوا حرمة عورته، فإنَّ حرمة عورة الصغير كحرمة عورة الكبير، ولا ينظر الله إلىٰ كاشف عورة»((2)).

ملحق فقهي: أحكام النظر

ملحق فقهي: أحكام النظر ((3)):

هنا عدَّة نقاط مهمَّة:

النقطة الأُولىٰ: هل يجوز النظر إلىٰ عورة الصبيِّ غير البالغ؟

أوَّلاً: إذا كان الصبيُّ غير مميِّز جاز النظر إلىٰ عورته ولمسها، لكن بشرط عدم الريبة والتلذُّذ.

ثانياً: إذا كان الصبيُّ مميِّزاً، (يعني يعرف قبح العورة وأنَّه من العيب أنْ ينظر غيره إلىٰ عورته أو أنْ ينظر هو إلىٰ عورة غيره) لم يجز النظر إلىٰ عورته أبداً، سواء كان النظر بريبة أو بدونها، وسواء كان النظر مباشراً أو من خلال الزجاج وما شابه.

إلَّا في حالات الضرورة، كالضرورة الطبّية وما شابه.

ص: 92


1- ([1]) الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 503/ باب الحمّام/ ح 36).
2- ([2]) المستدرك للحاكم النيسابوري (ج 3/ ص 257).
3- ([3]) ملخَّص مع شرح توضيحي مأخوذ من منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني (ج 1/ المبحث الثاني من كتاب الطهارة/ أحكام الخلوة/ الفصل الأوَّل / أحكام التخلّي/ مسألة 56، وج 3/ مسألة 23 - 25).

ملاحظة:

علىٰ الأخوات الكريمات الانتباه إلىٰ أنَّه لا يجوز النظر إلىٰ عورات أبنائهنَّ وبناتهنَّ إذا وصلوا إلىٰ مرحلة التمييز، فعليهنَّ تعويد الأطفال علىٰ كيفية التطهير من دون مساعدتهنَّ، حتَّىٰ لا يقعْنَ في حرام النظر أو اللمس.

النقطة الثانية: تكملة حكم النظر واللمس لغير المميِّز:

يجب علىٰ البالغ أنْ يستر عورته ويحرم عليه كشفها، رجلاً كان أو امرأة، عن كلِّ ناظر محترم، يعني إنساناً بالغاً عاقلاً.

فهل الصبيُّ والصبيَّة غير المميِّزَيْنِ يجب عليهما ذلك أيضاً؟

الجواب: الصبيُّ والصبيَّة غير المميِّزَيْنِ خارجان عن أحكام التستُّر والنظر، فإذا كشفا عورتهما أو لمسا عورة غيرهما مثلاً فهذا ليس بحرام عليهما، باعتبار أنَّهما غير مكلَّفين، فلا تثبت عليهما الحرمة.

وكذلك يجوز للبالغ النظر إلىٰ عورتهما ولمسها لكن بش_رط عدم الريبة والتلذُّذ.

ولكن ينبغي الالتفات إلىٰ أنَّ هذا الأمر وإنْ كان جائزاً من الناحية الش_رعية، ولكن ينبغي للأبوين من الناحية النفسية والآثار المستقبلية المتوقَّعة أنْ لا يسمحا بحدوث ذلك، وأنْ يُربّيا أولادهما علىٰ أنَّ هذا الأمر خطأ، وأنْ يُفهِّما أولادهما بأنَّ هذا الأمر غير صحيح، وأنَّه يجب عليهم أنْ يبتعدوا عن مثل هذا الأُمور. وقد تقدَّم التص_ريح بالدعوة إلىٰ ذلك.

وإنَّما ذكرت هذا الأمر من باب ذكر الحكم الش_رعي، لا من باب الدعوة لممارسة هذا الجواز كما هو واضح، وقد أشرنا إلىٰ الروايات الدالَّة علىٰ لزوم ذلك من باب التربية الصحيحة.

ص: 93

النقطة الثالثة: نظر الرجل إلىٰ الصبيَّة المميِّزة:

يجوز للرجل أنْ ينظر إلىٰ جسم وعورة الصبيَّة غير المميِّزة كما تقدَّم بشرط عدم الريبة والتلذُّذ.

ولكن لا يجوز النظر إلىٰ عورتها ولا لمسها إذا صارت مميِّزة، سواء كان بريبة وتلذُّذ أم بدونه.

نعم، الأحوط الأولىٰ للرجل أنْ يقتص_ر في نظره منها إلىٰ المواضع التي جرت عادة الناس في أولادهم غير البالغين بعدم سترها بالملابس المتعارفة، أمَّا مثل صدر الصبيَّة وبطنها وفخذها وإليتيها فالأحوط الأولىٰ ترك النظر إليها حتَّىٰ مع عدم الريبة والتلذُّذ.

كما أنَّ الأحوط الأولىٰ للرجل أنْ لا يُجلِس الفتاة في حجره ولا يُقبِّلها إذا بلغت ستّ سنين.

فقد ورد عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «إذا بلغت الجارية الحُرَّة ستّ سنين، فلا ينبغي لك أنْ تُقبِّلها»((1)).

النقطة الرابعة: نظر المرأة للصبيِّ المميِّز:

يجوز للمرأة أنْ تنظر إلىٰ جسم وعورة الصبيِّ غير المميِّز بالش_رط المتقدِّم، وهو عدم الريبة والتلذُّذ الشهوي.

ويجوز لها أيضاً أنْ تنظر إلىٰ جسم الصبيِّ المميِّز بنفس الش_رط، ولكن لا يجوز لها أنْ تنظر إلىٰ عورته سواء كان بريبة وتلذُّذ أو بدونهما.

وهنا سؤال: هل يجب علىٰ المرأة أنْ تتستَّر من الصبيِّ غير المميِّز،

ص: 94


1- ([1]) الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 533/ باب حدّ الجارية الصغيرة التي يجوز أن تُقبَّل/ ح 2).

أي الذي لا يعرف أنْ يصف المرأة ومحاسنها ولا يعرف مواضع الإثارة من جسمها؟

الجواب: كلَّا، لا يجب عليها ذلك، فيجوز لها أنْ تتكشَّف أمام مثل هذا الصبيِّ.

وهنا سؤال آخر: هل يجب علىٰ المرأة أنْ تتستَّر من الصبيِّ المميِّز، أي الذي يعرف كيف يصف محاسن المرأة، ويتأثَّر بالنظر إلىٰ محاسنها كشعرها وصدرها وفخذيها وما شابه؟

الجواب: نعم، يجب عليها (علىٰ الأحوط وجوباً) أنْ تتستَّر عن مثل هذا الصبيِّ.

وقد ورد عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «سُئِلَ أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) عن الصبيِّ يَحْجِمُ المرأة؟ قال: إنْ كان يحسن يصف فلا»((1)).

المفردة الرابعة: تقبيل الأطفال:

لا شكَّ أنَّ لبراءة الأطفال رونقها الخاصّ ونكهتها اللذيذة وعطرها الفوّاح، التي تجعل كلَّ من يرىٰ طفلاً يهفو قلبه لقبلة من وجنتيه الناعمتين.

وكلُّ من كان عنده طفل وقبَّله فإنَّه يحسُّ بوجدانه بنشوة وفرح وسرور داخلي.

ومن هنا ينبغي التنبيه علىٰ أنَّ هذه المفردة لا يُقصَد منها الآباء أو المحارم، إنَّما المقصود منها هو التالي:

عندما تصل البنت إلىٰ سنِّ السادسة فإنَّ من الخطأ التربوي السماح لها بتقديم خدّيها ليُقبِّلها صديق الأب أو الجار الحنون، بل لا بدَّ

ص: 95


1- ([1]) الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 534/ باب في نحو ذلك/ ح 1).

أنْ تبدأ معها مرحلة تعليم العفَّة والاحتجاب عن الأجنبي، حتَّىٰ تُدرك أنَّها ليست متاحة للجميع، وليست سلعة مجّانية، وأنَّ لها خصوصيات لا بدَّ أنْ لا تسمح لأيِّ أحد بالتجاوز عليها.

لذلك ورد أنَّ الإمام الرضا (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) امتنع عن تقبيل واحتضان فتاة بالغة من العمر خمس سنوات.

فقد روي أنَّ بعض بني هاشم دعا الإمام الرضا (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) مع جماعة من أهله، فأتىٰ بصبيَّة له، فأدناها أهل المجلس جميعاً إليهم، فلمَّا دنت منه (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) سأل عن سنِّها فقيل: خمس، فنحّاها عنه((1)).

وفي رواية أُخرىٰ أنَّ رجلاً سأل الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) عن: جويرية ليس بيني وبينها محرم تغشاني فأحملُها فأُقبِّلها، فقال: «إذا أتىٰ عليها ستُّ سنين فلا تضعْها علىٰ حجرك»((2)).

وكذلك الذَّكَر بالنسبة للنساء - غير المحارم - فإنَّ علىٰ النساء أنْ لا يسمحْنَ له بأنْ يُقبِّلهنَّ، وعلىٰ الأُمِّ أنْ تتدخَّل لاتِّخاذ الإجراءات المناسبة واللازمة لمنع ابنها من أنْ تُقبِّله امرأة أو هو يُقبِّل امرأة، والأفضل أنْ تُعلِّمه عدم الدخول علىٰ النساء، لأنَّ هذا الفعل وإنْ لم يكن محرَّماً - فيما لو خلا من الشهوة طبعاً - لكن مع ذلك ينبغي الابتعاد عنه، حتَّىٰ لا يستمرئ الولد تقبيل غير محارمه، وحتَّىٰ نُربّيَه علىٰ العفَّة، وعلىٰ أنْ لا يحاول المساس بامرأة إذا كبر.

ص: 96


1- ([1]) الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 533/ باب حدّ الجارية الصغيرة التي يجوز أن تُقبَّل/ ح 3).
2- ([2]) الكافي الشيخ الكليني (ج 5/ ص 533/ باب حدّ الجارية الصغيرة التي يجوز أن تُقبَّل/ ح 1).

ولا شكَّ أنَّ تربية عفيفة كهذه تجعل الأولاد - ذكوراً وإناثاً - يعيشون حالة من العفاف تنمو معهم، حتَّىٰ إذا ما بلغوا لم يقترفوا أيَّ حرام أبداً.

أمَّا إذا لم نُعوِّدْهم ولم نُدرِّبْهم علىٰ ذلك فإنَّهم وبعد البلوغ حيث سيصبح مجرَّد مسِّ الذَّكَر لجسم المرأة غير محرمة عليه أو مسِّ البنت رجلاً كذلك حراماً يُعاقَب عليه المرء، فإنَّهم آنذاك سيواجهون عدَّة صعاب حتَّىٰ يصلوا إلىٰ برِّ الأمان من الحرام، منها أنَّهم يحتاجون إلىٰ فترة زمنية حتَّىٰ يُقنِعوا أنفسهم بحرمة فعلٍ كانوا يفعلونه لسنوات طويلة من دون رادع، ومنها أنَّ البعض ممَّن لا معرفة دينية جيِّدة لهم سيتَّهمونه بأنَّ (قلبه) وسخ.

أعرف شابًّا عندما عرف الحرمة وامتنع عن تقبيل (زوجة خاله) استغربت منه، باعتبار أنَّها تعتبره مثل (ولدها) وهي مثل (أُمِّه) وتطوَّرت الحالة إلىٰ أنَّها (زعلت) عليه متَّهمة إيّاه بأنَّ (دينه) دين شكٍّ وريبة وعدم ثقة!

إذن، علىٰ العوائل المتديِّنة أنْ تُعوِّد أولادها ومن مرحلة عمرية مبكَّرة علىٰ العفاف من هذه الناحية، حتَّىٰ لا يواجهوا صعوبة في تركها عند البلوغ، ولا يتحمَّلوا الحرج والتشكيك من الآخرين.

المفردة الخامسة: عدم لمس عورة الطفل:

وهذه أيضاً من المفردات التي يتهاون بها الكثير من الآباء والأُمَّهات، بل وكثير من الأقارب، بل وغير الأقارب!

إنَّهم ومن باب المزاح أو الاستلطاف أو ما شابه يكشفون عورة الصبيِّ، وربَّما يلمسونها، وحتَّىٰ قد يداعبونه بها، ويضحكون علىٰ ضحكه، والمسألة أنكىٰ وأقبح لو كانت صبيَّة!

ص: 97

إنَّ هذا التصرُّف البذيء قد ينظر البعض إليه علىٰ أنَّه مجرَّد فكاهة ومزاح مع طفل لا يفهم، ولكنَّه في الحقيقة يُؤدّي إلىٰ تساهل الأطفال مع عوراتهم والحفاظ عليها، وقد يُؤدّي إلىٰ أنْ يباشر الأطفال بعضهم البعض بلمس عورات بعضهم أو اللعب بها!

وقد يُؤدّي إلىٰ عدم امتناع الأطفال في المستقبل عن أيِّ أحدٍ يريد أنْ يلمس عوراتهم أو حتَّىٰ غير أشياء!

لذلك تُؤكِّد القواعد التربوية علىٰ ضرورة منع الطفل من إبراز عورته، وعلىٰ تعليمه علىٰ عدم السماح لأحد بلمسها، فإنَّه من الأشياء الخصوصية التي لا يحقُّ لأحد أنْ يمسَّها!

بل قد ورد في بعض الروايات النهي عن أنْ تباشر الأُمُّ أُمور ابنتها من تنظيف وما شابه، واعتبرته شعبة من الزنا، ولعلَّه إشارة إلىٰ أنَّ هذا الفعل قد يُؤدّي بالبنت إلىٰ التساهل في هذه الأُمور حتَّىٰ من غير أُمِّها!

فقد روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «مباشرة المرأة ابنتها إذا بلغت ستّ سنين شعبة من الزنا»((1)).

وقد تقدَّمت الرواية عن النبيِّ الأكرم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) التي قال فيها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «فإنَّ حرمة عورة الصغير كحرمة عورة الكبير»، فراجع المفردة الثالثة.

ممَّا يعني ضرورة تعويد الأطفال من صغرهم علىٰ أنْ يهتمُّوا بخصوصياتهم، وأنْ لا يسمحوا لأيِّ أحدٍ بأنْ ينوب عنهم في شيء يتعلَّق بها.

ويدخل تحت هذه المفردة: تحصين الأطفال من التحرُّش

ص: 98


1- ([1]) من لا يحض_ره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 3/ ص 436/ باب الحدّ الذي إذا بلغه الصبيان لم يجز مباشرتهم وحملهم ووجب التفريق بينهم في المضاجع/ ح 4505).

الجنس_ي، الأمر الذي - ومع الأسف - تفشّىٰ في المدارس والمقاهي وحتَّىٰ الأسواق.

كيف نحمي أولادنا من التحرُّش الجنسي؟

علىٰ الأبوين أنْ يُعلِّما أولادهما الطُّرُق المناسبة التي يتحصَّنون بها من التحرُّش الجنسي، ضمن النقاط التالية:

أوَّلاً: ما تقدَّم من تعليمهم عدم السماح لأحد بمسِّ عوراتهم ولو من وراء الثياب.

ثانياً: عدم بقاء البنت منفردة في السيّارة أو صفِّ المدرسة.

ثالثاً: عدم مرافقة المنحرفين الذين يتلفَّظون بالألفاظ البذيئة، أو ممَّن عندهم تصرُّفات غير أخلاقية، منحرفة أو شاذَّة.

رابعاً: تعليمهم الدفاع عن أنفسهم في حال أراد أحدٌ ما أنْ يعتدي عليهم، وتعليمهم أنَّ أولىٰ وسائل الدفاع عن النفس هو الص_راخ بصوت عالٍ، ليربك المعتدي، وإذا استطاع أنْ يعضَّ المعتدي فبها وألف نعمت، وضربه علىٰ وجهه أو إلقاء التراب في عينيه، والهروب مس_رعاً إلىٰ مكان يتواجد فيه الناس، وإخبارهم بما جرىٰ.

خامساً: عدم الصعود في سيّارة أيِّ شخص ما لم يكن هناك اتِّفاق مسبق مع الأهل، حتَّىٰ لو ادَّعىٰ السائق أنَّ أهله هم من أرسلوه ليصحبه.

سادساً:. تحصينهم ضدَّ التحرُّش (الإلكتروني) وتحذيرهم من تصوير أجسامهم وإرسالها عبر برامج التواصل الاجتماعي.

كذلك تحذيرهم - خصوصاً البنات - من التحرُّش اللفظي من خلال تلك البرامج.

ص: 99

وهذه النقطة تحتاج إلىٰ مراقبة دقيقة ونصائح مستمرَّة، وطبعاً الوقاية خير من العلاج، تلك الوقاية التي تعني عدم تمليك الأولاد ذكوراً وإناثاً أجهزة ذكيَّة إلَّا بعد تحصين عقله جيِّداً، وفي مرحلة عمرية مناسبة.

سابعاً: تعليم الأطفال من عمر مبكَّر قبح العورة أوَّلاً، وأنَّها منطقة خاصَّة به ثانياً، وأنْ لا يسمح لأيِّ أحدٍ بمسِّها أو الاطِّلاع عليها - عدا الأبوين والطبيب بحضور أحد الأبوين - حتَّىٰ لو كان هو الصديق.

ثامناً: بناء علاقة مع الأولاد بناءً صحيحاً صريحاً من دون عقبات أو عقاب مبرح علىٰ الأخطاء، الأمر الذي يُؤدّي إلىٰ أنَّ الطفل سيخبر والديه بما يجري معه، ممَّا يضمن التواصل المستمرّ معه، وبالتالي مساعدته علىٰ التخلُّص من التحرُّش.

تاسعاً: تحذيره(ها) من الإغراءات التي تُقدَّم من الغرباء، فلا صعود معه في السيّارة، ولا أخذ حلوىٰ منه، ولا لعب كرة قدم معه.

عاشراً: أنْ يكون الوالدان قدوة لأبنائهم، بأنْ لا يجعلوا الجوَّ الأُسري جوًّا (جنسياً) أو (بعيداً عن العفَّة في اللفظ والفعل) إذا صحَّ التعبير، وأهمُّ خطوة في هذا المجال (غير ما تقدَّم في المفردات السابقة) هو عدم مشاهدة الأفلام اللّاأخلاقية أو اللقطات (الرومانسية) التي تحتوي علىٰ التقبيل أو المعانقة أو الضمِّ إلىٰ الجسم وما شابه، حتَّىٰ لو كانت في فيلم كارتوني، وتعليمهم أنَّ هذه المناظر يحرم النظر إليها، وإلَّا فإنَّ هذه اللقطات ستتحوَّل إلىٰ بركان كامن داخل ذهن الطفل، وقد ينفجر في وقت أو مكان يُؤدّي إلىٰ كارثة.

ص: 100

المفردة السادسة: العفاف اللفظي:

من الأُمور المشاهدة أنَّ بعض الآباء أو حتَّىٰ الأعمام والأخوال أو الأصدقاء ليس عندهم عفافٌ لفظي، والأمر أنكىٰ وأخطر إذا كانت تلك الألفاظ تصدر من (الأُمَّهات)، الأمر الذي يجعل تلك الألفاظ البذيئة مستمرءة لدىٰ الأطفال، لكثرة سماعها من الكبار.

ومن أمثلة ذلك الخرق التربوي هو التالي:

أوَّلاً: أنْ يشتم الكبير أحدهم بلفظ بذيء، (ابن الفاعلة، أخ الفاعلة)، وما شابه.

ثانياً: أنْ يذكر العورة بألفاظها القبيحة.

ثالثاً: تداول الطرف اللّاأخلاقية والتي تحكي ألفاظاً أو مواقفاً جنسية معيَّنة.

إنَّ تلك الألفاظ قد تصدر فيما بين الأصدقاء من باب المزاح، ولكنَّها في الواقع ترسم صورة لدىٰ الطفل بإباحة مثل تلك الألفاظ حتَّىٰ لو صدرت منه، فإنَّ الكبار عنده قدوة في كلِّ شيء.

إنَّ تكرار تلك الألفاظ أمام الأطفال يجعلهم لا يتورَّعون عن النطق بها، ويدعوهم إلىٰ عدم الاكتراث بمن يذكرها أمامهم أو عليهم.

وفي الحقيقة إنَّ هذه الألفاظ هي من السماجة بمكان، بحيث ورد أنَّه كان لأبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) صديق لا يكاد يفارقه إذا ذهب مكاناً، فبينما هو يمش_ي معه في الحذّائين ومعه غلام له سندي يمش_ي خلفهما، إذا التفت الرجل يريد غلامه ثلاث مرّات فلم يرَه، فلمَّا نظر في الرابعة قال: يا ابن الفاعلة، أين كنت؟ قال: فرفع أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يده فصكَّ بها جبهة نفسه! ثمّ قال: «سبحان الله، تقذف أُمَّه! قد كنت أرىٰ أنَّ لك

ص: 101

ورعاً، فإذا ليس لك ورع!»، فقال: جُعلت فداك، إنَّ أُمَّه سندية مش_ركة، فقال: «أمَا علمت أنَّ لكلِّ أُمَّة نكاحاً؟ تنحَّ عنّي»، قال: فما رأيته يمشي معه حتَّىٰ فرَّق الموت بينهما((1)).

لذلك، كان من المناسب جدًّا للآباء تربوياً - فضلاً عن أنَّ بعض تلك الألفاظ تحرم شرعاً - أنْ يكونوا عفيفين في ألفاظهم، ويُعلِّموا أولادهم علىٰ ذلك، وأنْ يُعلِّموهم التعبير عن العورة بألفاظ كنائية، كأنْ نُعلِّمهم التعبير عنها ب_ (المنطقة الحسّاسة).

المفردة السابعة: تأخير التزويج:

كالثمرة، إذا حان وقت إيناعها فقد حلَّ وقت قطافها، فلو قطفتها قبل وقتها أو وبعد وقتها المناسب لفسدت الثمرة، كذلك هناك فترة ذهبية للزواج لكلٍّ من الشابِّ والشابَّة، فلو أنَّها تقدَّمت لأتت بنتائج مربكة ومشوَّشة، وإنْ تأخَّرت أنتجت نتائج سلبية مدمِّرة للمجتمع، فهل إنَّ الآباء كانوا ملتفتين إلىٰ هذه الحقيقة؟ وهل أخذ أحدنا في باله أنَّ لتأخير الزواج آثاراً سلبية علىٰ سلوك الشابِّ والشابَّة علىٰ حدٍّ سواء؟!

لا شكَّ أنَّ للغريزة الجنسية ضغطاً قويًّا علىٰ الشابِّ والشابَّة علىٰ حدٍّ سواء، فيما إذا وصلوا إلىٰ مرحلة المراهقة والبلوغ، حيث تكون عندهم طاقة كامنة قويَّة تتوزَّع علىٰ كافَّة أجزاء الجسم، وسيكون للغريزة والأعضاء التناسلية حظّها الأوفر منها.

ومن هنا، كان من أهمّ وأكثر أسباب الانحرافات الأخلاقية شيوعاً هو الانحراف الجنس_ي، حيث لا يجد الشباب ما يسدُّون به حاجتهم تلك.

ص: 102


1- ([1]) الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 324/ باب البذاء/ ح 5).

إنَّ تلك الغريزة لا يمكن إسكاتها بسهولة ولا خداعها بيس_ر، إنَّها تضغط علىٰ الإنسان من الداخل لتُؤثِّر علىٰ عقله وسلوكه وكلِّ وجوده، ليتحوَّل الإنسان فيما بعد إلىٰ بركان ينفجر في أوَّل فرصة، وإذا لم يتمّ إشباعها بطريقة صحيحة فإنَّها لن تتورَّع ولن تتردَّد عن سدِّ رمقها، بل إلىٰ إشباع حاجتها وإلىٰ حدِّ التخمة، بطُرُق ملتوية.

لذا كانت تربية العفاف الصحيحة تقتض_ي الإسراع بتزويج الشباب والشابّات، وتسهيل هذه العملية، حتَّىٰ تقض_ي علىٰ كثير من الانحرافات والمشاكل النفسية والاجتماعية التي نشاهد آثارها السلبية بأُمِّ العين.

ومن هنا نجد أنَّ هناك تأكيداً شديداً في التربويات الروائية علىٰ ضرورة الإسراع بتزويج المستحقِّ من الفتيان والفتيات، إذا توفَّرت الشروط الموضوعية للزواج، والتي أهمّها الرشد والكفاءة من الطرفين.

عن الإمام الرضا (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «نزل جبرئيل علىٰ النبيِّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) فقال: يا محمّد، إنَّ ربَّك يُقرئك السلام، ويقول: إنَّ الأبكار من النساء بمنزلة الثمر علىٰ الشجر، فإذا أينع الثمر فلا دواء له إلَّا اجتناءه، وإلَّا أفسدته الشمس وغيَّرته الريح، وإنَّ الأبكار إذا أدركْنَ ما يُدرك النساء فلا دواء لهنَّ إلَّا البعول، وإلَّا لم يُؤمَن عليهنَّ الفتنة، فصعد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) المنبر فخطب الناس، ثمّ أعلمهم ما أمر الله تعالىٰ به، فقالوا: ممَّن يا رسول الله؟ فقال: من الأَكْفَاء، فقالوا: ومن الأَكْفَاء؟ فقال: المؤمنون بعضهم أَكْفَاء من بعض. ثمّ لم ينزل حتَّىٰ زوَّج ضباعة [بنت الزبير] المقداد بن الأسود الكندي، ثمّ قال: أيُّها الناس، إنّي زوَّجت ابنة عمّي المقداد ليتَّضع النكاح»((1)).

ص: 103


1- ([1]) علل الشرائع للشيخ الصدوق (ج 2/ ص 578/ الباب 385/ ح 4).

وروي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته يخطب إليكم فزوِّجوه، ]إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ73[ [الأنفال: 73]»((1)).

وعن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «من سعادة المرء أنْ لا تطمث ابنته في بيته»((2)).

ولكنَّنا نجد في بعض الأحيان أنَّ هناك العديد من الشباب والشابّات من يتأخَّر زواجهم لسبب ولآخر، لاحظوا معي الحالات التالية:

بعض البنات يتأخَّرْنَ في الزواج بحجَّة إكمال الدراسات العليا!

طبعاً لا مانع من الدراسة، ولكن الزواج متقدِّم عليها، ويمكن في بعض الأحيان الاستمرار بالدراسة مع الزواج، بل إنّي أعرف رجلاً فسخ خطوبة ابنته بعد أنْ اكتملت أكثر إجراءات الزواج بسبب أنَّ الزوج لم يرضَ لزوجته بإكمال دراستها الجامعية!

ليكن في حسبان الفتيات أنَّ الشهادة الأكاديمية مهما علت فإنَّها ليست كشهادة تربية جيل ناجح، وأنَّ الشهادة المعلَّقة علىٰ الحائط لن تُعطيها سعادة سهرها لرضاعة ولدها! ولا اطمئناناً من أخطار الحياة تحت ظلِّ زوج كريم.

بعض الشباب يتأخَّر كثيراً في الزواج بحجَّة تكوين نفسه مادّياً، فهو لا يتزوَّج إلَّا بعد إكمال بيت بمواصفات معيَّنة، وإلَّا أنْ يكون له

ص: 104


1- ([1]) أمالي الشيخ الطوسي (ص 519/ ح 1145/47).
2- ([2]) الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 336/ باب ما يُستَحبُّ من تزويج النساء عند بلوغهنَّ وتحصينهنَّ بالأزواج/ ح 1).

رصيد في البنك، وإلَّا بعد شرائه لسيّارة فارهة، ويبقىٰ يجمع إلىٰ أنْ يفوته القطار!

بعض الآباء - وهذه من أسوأ حالات وأسباب تأخير زواج الفتيات - يتعمَّد أنْ يعضل ابنته، يعني لا يرضىٰ بتزويجها كلَّما تقدَّم لها رجل مناسب، مرَّة ومرَّتين وثلاثة وعش_رة، علماً أنَّه شرعاً تسقط ولايته إذا منعها من الزواج بالكفؤ، ولكنَّه لا يعلم - أو ربَّما يعلم - أنَّ تأخيره لزواج ابنته - أو بناته - سيُؤدّي بهنَّ إلىٰ أنواع من الأمراض النفسية والقلق وربَّما حتَّىٰ الخرف!

هذا إذا غضضنا النظر عن إمكان (انحراف) البنت بسبب ضغط تلك الغريزة القاتلة، خصوصاً مع توفُّر (الإنترنت) وتزايد (الذئاب البش_رية) التي تلبس لباس (المحبِّ الودود)، من الذين يبذلون كلمات (الحُبِّ) و(الإخلاص المزيَّف) ليخطف (صورة) من فتاة، يجعلها فيما بعد (ورقة ضغط واستفزاز)، لتملأ جيبه بأموال، لا يعلم إلَّا الله تعالىٰ كيف ستُوفِّرها تلك السجينة في قفص الأب!

بعض البنات تطلب مواصفات خاصَّة في الزوج من حيث الشهادة والمال وما شابه، بحيث تبقىٰ تنتظر فتىٰ أحلامها في أحلامها فقط!

بعض الشباب يبقىٰ يتذوَّق ويتململ ولا يرضىٰ بفتاة إلىٰ أنْ يتجاوز عمره الثلاثين أو يقرب من الأربعين!

وغيرها من الحُجَج الواهية التي تنتهي بشباب أو شابّات معقَّدين، وحتَّىٰ إذا تزوَّج فيما بعد فإنَّه سيكون هناك فارق وفاصل كبير بينه وبين ولده، ممَّا يُقلِّل من سهولة التواصل بينه وبين ولده، إذ من الواضح أنَّ هناك فرقاً في التعامل بينك وبين ولدك إذا كان الفارق بينكما

ص: 105

عش_رين أو خمساً وعش_رين سنة، وبين ما إذا كان الفارق أربعين أو خمسين سنة((1))!

المفردة الثامنة: لا للفراغ:

«الفراغ مفسدة»((2)).

هكذا اختص_رها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، ليُبيِّن أنَّ بقاء الإنسان من دون عمل ومن دون شيء يهتمُّ بها سيُؤدّي به إلىٰ الفساد.

ولم يُعيِّن الإمام (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) نوع الفساد، ليُشير إلىٰ أنَّ الفراغ سيفتح الباب لكلِّ أنواع الفساد، ولا شكَّ أنَّ الفساد سيبدأ بالحاجة الض_رورية أو التي تضغط أكثر من غيرها علىٰ الإنسان الفارغ.

الآن لاحظوا التالي:

شابٌّ في أوج شبابه، لا عمل له، ولا دراسة، ولا أيّ شيء، وعنده حاجة جنسية ضاغطة، وتتوفَّر لديه وسائل التواصل الاجتماعي، وقد يكون له مكانه الخاصّ المنعزل في البيت.

هذه الظروف إذا اجتمعت فإنَّها وبالتدريج ستُؤدّي إلىٰ أنْ يحاول الشابُّ - وكذا الشابَّة طبعاً - أنْ يملأ وقته، أو قل: أنْ يقتل وقته، فيعمل أوَّلاً علىٰ استكشاف العالم الخارجي، ثمّ يتمُّ استدراجه إلىٰ مشاهدة مواقع غير أخلاقية، وعندها تبدأ الكارثة بالحدوث.

ص: 106


1- ([1]) قد يفهم البعض من بعض الكلمات هنا أنَّ علىٰ الفتاة أو الفتىٰ أن يستعجلا بالزواج من دون قيد أو شرط، كلَّا فليس هذا هو المقصود، وإنَّما المقصود هو التعامل بواقعية مع الفُرَص المتاحة. ولتتميم اللوحة هنا لا بدَّ من مراجعة: الفصل الخامس من هذا الكتاب: مؤثِّرات السلوك/ المؤثِّر الأوَّل: الوالدان/ الخطوة الثانية: المرحلة الاختيارية للزواج.
2- ([2]) الإرشاد للشيخ المفيد (ج 1/ ص 298)، وتمام الحديث هو: «إنْ يكن الشغلُ مجهدة، فاتِّصال الفراغ مفسدة».

لذلك، وحتَّىٰ نقطع مادَّة الفساد، أو قل: حتَّىٰ نساعد الشباب علىٰ عدم الوقوع في مصيدة الجنس، علينا أنْ نملأ أوقاتهم تماماً، بحيث لا نترك لهم ولا دقيقة واحدة من دون عمل، حتَّىٰ لو كان ذلك العمل هو (النوم بعد التعب)، وحتَّىٰ نصل إلىٰ هذا الهدف، علينا أنْ نلاحظ التالي:

أوَّلاً: أنْ نتابع (دراسته) ونطالبه بالتفوُّق دوماً، وبأداء وإكمال واجباته المدرسية قبل كلِّ شيء.

ثانياً: أنْ نُوفِّر له ما يملأ به وقته، من كُتُب نافعة وقصص وما شابه ممَّا يهواه.

ثالثاً: إشغال أوقات فراغه بالرياضة البدنية، إذ من شأنها أنْ تستهلك طاقته، ممَّا يُقلِّل من توهُّجها وضغطها، وعلىٰ بناء جسمه وعقله بناءً جيِّداً، حتَّىٰ إذا ما تعب لم يجد بُدًّا من الاستسلام للنوم العميق مباشرة.

رابعاً: دَفْعُه لتعلُّم مواهب جديدة، كالرسم والخطِّ والسباحة والسياقة، وكذا الحياكة والخياطة والطبخ وما شابه فيما يتعلَّق بالبنات.

خامساً: الخروج في سفرات ترفيهية، علىٰ أنْ تكون السفرة متوفِّرة علىٰ شروط الأمان التربوي والدِّيني.

سادساً: الاتِّفاق مع الأولاد علىٰ عمل جدول يومي، مقسَّم حسب ساعات اليوم، ويلاحظ فيه الجانب الترفيهي للأولاد، مع الجانب التعليمي والمهني، مع الاهتمام بوقت الراحة والنوم.

وترتيب الجدول طبعاً يختلف من أُسرة إلىٰ أُخرىٰ، ومن ولد إلىٰ آخر، ومن ظرف إلىٰ آخر.

ص: 107

ملاحظة مهمَّة:

إنَّ من أهمّ أساليب التربية في أيِّ مفردة من مفرداتها هو أُسلوب (توفير البديل)، فعندما تريد من الولد أنْ يترك سلوكاً معيَّناً عليك أنْ تُوفِّر له البديل المناسب، بل الأفضل.

وجميل جدًّا ما ورد عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) من أنَّه أُتي برجل عبث بذَكَره - أي إنَّه استمنىٰ -، فض_رب يده حتَّىٰ احمرَّت، ثمّ زوَّجه من بيت المال((1)).

فنلاحظ أنَّ أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) وبعد أنْ عاقبه علىٰ فعله المحرَّم، عمل علىٰ توفير البديل المناسب، بل الأفضل لذلك الفعل المحرَّم، وفي هذا إشارة واضحة منه (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) إلىٰ أنَّ ذلك الشابَّ إنَّما فعل ذلك الفعل المحرَّم لأنَّه لم يجد البديل، وحتَّىٰ يقضي علىٰ هذا الخطأ وفَّر له البديل.

* * *

ص: 108


1- ([1]) الكافي للشيخ الكليني (ج 7/ ص 265/ باب نادر/ ح 25).

الفصل الثالث:

اشارة

أهداف التربية

ص: 109

ص: 110

لماذا تُربّي أبناءك؟

إنَّ الإنسان العاقل لا يخطو خطوة واحدة من دون هدف، فلا مكان للاهدفية ولا للعشوائية عند العقلاء.

هذا هو المفروض.

وفي الحقيقة أنَّ الإنسان في كلِّ يوم من أيّامه عندما يستيقظ من نومه ويذهب إلىٰ عمله ويرجع إلىٰ بيته، هو يقوم بالعديد من المشاريع المختلفة من حيث الأهمّية ومن حيث فترتها الزمنية.

إنَّه وفي كلِّ يوم لديه العش_رات بل المئات وربَّما الآلاف من الأهداف التي يسعىٰ للوصول إليها، فأنت عندما تستيقظ من نومك لتقوم من أجل الصلاة فإنَّ الصلاة هدف، وعندما تُقدِّم قبلها الوضوء فإنَّ الوضوء هدف آخر، وعندما تتوجَّه لصنبور الماء فإنَّ هذا هدف ثالث، وهكذا.

فانظر كيف أنَّ هدفك الأصلي كان هو الصلاة، ولكن وحتَّىٰ تصل إلىٰ هذا الهدف فقد تقدَّمته عدَّة أهداف أصغر منه - أو قل: مقدّمات له -.

وهكذا لو لاحظت بقيَّة مفردات حياتك اليومية.

ولا شكَّ أنَّ ما تبذله من:

1 - الجهد البدني.

2 - والوقت.

3 - والتفكير والتخطيط.

4 - والمال.

ص: 111

تتناسب - هذه الأُمور - مع حجم الهدف الذي تسعىٰ لتحقيقه، فكلَّما كان الهدف أعظم كلَّما عظمت تلك الأُمور المبذولة. فالعلاقة طردية بين الهدف وبين ما يحتاجه من مقدّمات لتحقيقه.

وتربية الأطفال، أو قل: تربية رجال المستقبل، أو سمِّهم: سندك في الحياة، هذه التربية هي مش_روع عظيم جدًّا، وهدف مرموق يسعىٰ لتحقيقه كلُّ أبوين عاقلين.

وهنا يحقُّ لسائل أنْ يتساءل: ما هي أهداف التربية؟

لماذا نُربّي أبناءنا؟

ما هو الهدف الذي نسعىٰ لتحقيقه من خلال بذل الكثير من الجهد والوقت والتفكير والمال في تربيتهم؟

ما الذي تسعىٰ لتحقيقه لأولادك عندما تُربّيهم؟

يمكن أنْ نجد عدَّة أهداف في هذا المقام، مع ملاحظة: أنَّ هذه الأهداف - التي سنذكرها - تتكامل فيما بينها ولا تتقاطع، وهذا يعني أنَّها تتواصل بعضها مع البعض الآخر، لتنتج في النهاية لوحة فنّية عنوانها: (التربية الصالحة الناجحة).

أهداف التربية:

الهدف الأوَّل: رجل الحياة:

تُمثِّل الحياة - بما فيها من فُرَص وتنافس - تحدّياً عظيماً يواجه كلَّ إنسان يعيشها، ولا شكَّ أنَّ الآباء يعيشون هذا التحدّي كلَّ يوم.

إنَّ الآباء يكتشفون كلَّ يوم سرًّا من أسرار الحياة يجعلهم يفهمون السبب وراء نجاحٍ حصلوا عليه، أو فشلٍ مرُّوا به.

ص: 112

الأمر الذي أشار له أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) بعبارة رائعة حيث يقول لولده الإمام الحسن (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي وَإِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلي، فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ، وَسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ حَتَّىٰ عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ، بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَىٰ إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَىٰ آخِرِهِمْ، فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذَلِكَ مِنْ كَدَرِه، وَنَفْعَه مِنْ ضَرَرِه...»((1)).

وخلال هذه الاكتشافات الكثيرة تتكوَّن عند الأبوين نظريات متعدِّدة جراء التجربة الطويلة التي مرُّوا بها، تتحوَّل فيما بعد إلىٰ خبرة عملية لمواجهة تلك التحدّيات المتكثِّرة والمتجدِّدة.

إنَّ من أهمّ أهداف الأبوين في تربيتهم لأولادهم هو نقل تجربتهم المريرة والطويلة لأبنائهم، ليعطوهم صورة مصغَّرة ومس_رَّعة عن الحياة التي مرُّوا بها.

وبالتالي فهم يعملون علىٰ صنع (رجل وفتاة الحياة) ومساعدتهم علىٰ خوض أمواج الحياة بسُفُن الوعي وأشرعة الخبرة.

ولتحقيق هذا الهدف ينفعنا التالي:

أوَّلاً: أنْ يحكي الأبوان لأولادهم قَصصاً وتجارب مرَّت بهم، سواء كانت ناجحة أو فاشلة.

ثانياً: الإفصاح عن الأسباب التي كانت وراء النجاح أو الفشل، والأفضل ترك استش_راف واكتشاف السبب للأولاد حتَّىٰ تتركَّز القضيَّة في أذهانهم أكثر.

ثالثاً: ذكر النتائج التي ترتَّبت علىٰ تلك التجارب.

ص: 113


1- ([1]) نهج البلاغة (ج 3/ ص 41).

رابعاً: استنطاق الأولاد وطلب رأيهم في هذه التجربة.

خامساً: إعطاء التوصيات النهائية لمواجهة التجارب المماثلة.

والخلاصة:

أنَّ هذا الهدف يعني باختصار: رسم خارطة الطريق وإضاءته، وترك الاختيار للأولاد في أنْ يخوضوا معترك الحياة بقدم ثابتة.

أو قل: إنَّ هذا الهدف يعني هداية الأولاد لرشدهم وكشف المستقبل أمامهم من خلال الاستفادة من التجربة التي عاشها الآباء.

الهدف الثاني: تطوير المهارات:

إنَّ نظام هذه الحياة قائم علىٰ أساس الأخذ والعطاء، فأنت حتَّىٰ تأخذ شيئاً لا بدَّ أنْ تُعطي شيئاً، فلا شيء هنا بالمجّان.

وأنت حتَّىٰ تُحسِن لعبة (الأخذ والعطاء) عليك أنْ تُحصِّل مهارات جديدة، وأنْ تُحسِّن من مهاراتك المتوفِّرة.

وهذا راجع في الحقيقة إلىٰ أنَّ الحياة تسير وفق شكل عمودي هرمي لا أُفقي، أي إنَّها حياة تكاملية تبدأ من النقطة التي انتهىٰ إليها السابقون وتستمرُّ بالتصاعد والتكامل، وليست هي كحياة الحيوانات التي تبدأ من النقطة التي ابتدأ بها الجيل السابق وتنتهي في النقطة التي انتهىٰ إليها ذلك الجيل، أي ما يشبه الحركة الدائرية.

وهذا يقتض_ي الاستمرار بالتطوير لما هو موجود، واكتشاف أُمور جديدة تساعد علىٰ التكامل الصعودي في الحياة، علىٰ اختلاف جهات وأنواع التكامل.

إنَّ علىٰ الأبوين أنْ يستهدفا هذه الحقيقة في تربية الأبناء، فعليهم

ص: 114

أنْ يُعلِّموهم المهارات الحياتية المختلفة، وأنْ يفتحوا لهم آفاقاً لاكتشافات جديدة.

وهذا يعني التالي:

أوَّلاً: توفير الجوِّ الملائم للتطوير والاكتشاف، ذلك الجوُّ الخالي من الضوضاء الفكرية والضغوط الشعورية والتشويش المزاجي.

ثانياً: عدم حبس تفكير الأولاد علىٰ الموروث المتعارف، وإطلاق العنان لهم لاكتشاف الجديد علىٰ مختلف المستويات، فإنَّهم خُلقوا لزمان غير زمان الآباء.

ثالثاً: أنْ تبقىٰ الرعاية الأبوية - التي لا تسلب الاختيار - حاضرة دوماً لإبداء الملاحظات من دون تشنُّج وتيبُّس.

رابعاً: ينفع كثيراً في هذا المجال تخصيص مكانٍ حُرٍّ للأولاد ليعملوا فيه ما يُحِبُّون من (رسم علىٰ الحائط) أو (نش_ر الخشب) أو (طرق المسامير) أو حتَّىٰ (تكسير لعبة سيّارة قديمة لاكتشاف ما بداخلها)، وكذا تعليمهم الخطَّ، والرسم، وما شابه.

ولا يخفىٰ أنَّ الروايات أشارت إلىٰ تعليمهم السباحة وركوب الخيل - أو قل: سياقة الدرّاجة الهوائية أو حتَّىٰ السيّارة -.

الهدف الثالث: حياة طيِّبة:

يسير الناس في هذه الحياة بمسارات مختلفة تبعاً لنظام الحياة الكوني الذي هو نظام (التغيُّر).

فليس هناك ثابت في هذه الحياة، فكلُّ ما فيها متغيِّر وخاضع للتغيُّر وفي معرض التغيُّر، وهذا المعنىٰ يشير إلىٰ بعض مفرداته أميرُ المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) بقوله: «... أَوَلَسْتُمْ تَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا يُصْبِحُونَ وَيُمْسُونَ

ص: 115

عَلَىٰ أَحْوَالٍ شَتَّىٰ، فَمَيِّتٌ يُبْكَىٰ، وَآخَرُ يُعَزَّىٰ، وَصَرِيعٌ مُبْتَلًى، وَعَائِدٌ يَعُودُ، وَآخَرُ بِنَفْسِه يَجُودُ، وَطَالِبٌ لِلدُّنْيَا وَالمَوْتُ يَطْلُبُه، وَغَافِلٌ وَلَيْسَ بِمَغْفُولٍ عَنْه، وَعَلَىٰ أَثَرِ المَاضِي مَا يَمْضِي الْبَاقِي...»((1)).

وهذا التغيُّر الثابت في هذه الحياة، يُفرز العديد من النتائج، ومنها ما يعنينا في هذه النقطة، وهو:

إنَّ هذا التغيُّر يُفرز شعوراً داخلياً بعدم الاطمئنان من المستقبل، والخوف من القادم المجهول، وبالتالي سيسعىٰ الفرد إلىٰ توفير حصانة معيَّنة تحيط نفسه وعياله ومستقبله بسور من الاطمئنان، علىٰ قاعدة «إنَّ النفس إذا أحرزت قوتها استقرَّت»((2)).

ومن هذا المنطلق يجد الآباء في (لا وعيهم) أنَّهم يسعون قدر الإمكان إلىٰ توفير مستقبل زاهر وحياة طيِّبة لأولادهم.

والمفارقة هنا هي أنَّهم يُفكِّرون في توفير المستقبل المادّي الجيِّد لهم، فيعملون علىٰ توفير المسكن، والملبس، ورصيد مالي معيَّن للأولاد، وما شابه.

ولكنَّهم - البعض منهم علىٰ الأقلّ - لم يضعوا في حساباتهم تهيئة المستقبل المعنوي لهم، من احترام الذات، واحترام الآخرين، وما شابه.

وهذا الهدف - لو أُريد تحقيقه - يقتضي التالي:

أوَّلاً: علىٰ الأبوين أنْ يعيشا هذا الشعور في أنفسهم، لأنَّ سمعة الأبوين ووضعهما الاجتماعي المرموق من نوع المستقبل المعنوي للأولاد، فلا تفعل شيئاً - أيُّها الأب، وأنتِ أيَّتها الأُمُّ - سيُعيَّر به أولادكما في مستقبلهم.

ص: 116


1- ([1]) نهج البلاغة (ج 1/ ص 192).
2- ([2]) الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 89/ باب إحراز القوت/ ح 2، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)).

ثانياً: لا شكَّ أنَّ للتدخُّل الغيبي أثراً مهمًّا في صناعة المستقبل - مادّياً كان أو معنوياً -، ودعاء الوالدين لأولادهما يدخل تحت هذا المضمار، ولذا كان من الأدعية المستجابة هو دعاء الوالد لولده((1)).

ثالثاً: أنَّ دور الأبوين في هذا الهدف لا يخرج عن الإطار العامِّ للتربية، أي التوجيه الهادف الذي لا يصل إلىٰ حدِّ الإلجاء والجبر، ولا إلىٰ حدِّ الدلال الزائد الذي يُولِّد الميوعة والتملُّص من المسؤولية.

رابعاً: يتلخَّص هذا الهدف في محاولة صنع مستقبل طاهر للولد، يشمل السمعة الطيِّبة الخالية من المفاسد الأخلاقية والسلوكية - قولاً وفعلاً - ومحاولة إبعاده عن كلِّ ما من شأنه أنْ يُقلِّل من سمعته أو كرامته، أو يهدرها ويرمي بها في وادٍ سحيق.

خامساً: أنَّ هذا الهدف يمرُّ بمراحل متعدِّدة، تبدأ من لحظة اختيار الأب لأُمِّ المستقبل، والأُمِّ لأب المستقبل، إلىٰ الرعاية المعنوية الخاصَّة حال الحمل، إلىٰ التسمية الحسنة، إلىٰ غيرها من مفردات تحقيق الحياة الطيِّبة للأولاد.

إذن، هذا الهدف يختزل أغلب مقدّمات ومراحل التربية الواعية.

الهدف الرابع: الوقاية:

من الواضح للعيان أنَّ المخاطر تحيط بالحياة من جميع جوانبها، وأخطر ما فيها هو أنَّها تأتي في كثير من الأحيان من حيث لا تشعر،

ص: 117


1- ([1]) في الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 510/ باب مَنْ تستجاب دعوته/ ح 6): عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «أربعة لا تُرَدُّ لهم دعوة حتَّىٰ تُفتَح لهم أبواب السماء وتصير إلىٰ العرش: الوالد لولده، والمظلوم علىٰ من ظلمه، والمعتمر حتَّىٰ يرجع، والصائم حتَّىٰ يفطر».

وكثير من هذه المخاطر لا ترفع كاهلها إلَّا بعد أنْ تأخذ مأخذاً كبيراً من الفرد، فقد تس_رق سعادتك، وقد تذهب بعزيز عليك، وقد تُشوِّش فكرك، وقد تأخذ صحَّتك، هذا إذا لم تُعدِم وجودك من الأساس.

والأبوان كانا قد عاشا هذه المخاطر أو أغلبها، وبالتالي وبدافع الحُبِّ الفطري والإنساني للأولاد، سيعملان علىٰ إحاطة الأولاد بسور من الحماية التامَّة، بحيث يحفظهم ذلك السور من تلك المخاطر، أو علىٰ الأقلّ يُقلِّل من حِدَّة تأثيرها.

إنَّ المخاطر التي تنتظر الأولاد علىٰ أنواع:

فمنها ما تكون مخاطر داخلية، كالتصوُّرات الخاطئة، والاعتقادات المنحرفة، والأحاسيس المشوَّشة، والعواطف غير المعقولة، والتفكير غير المستقيم.

ومنها ما تكون مخاطر خارجية، كتأثير الجوِّ المدرسي، والأصدقاء، والمجتمع عموماً، والزمان وتغيُّراته، وحتَّىٰ سياسات الدول والتقاليد والأعراف.

وإنَّ مهمَّة الوالدين في كلِّ ذلك هو توفير الوقاية، وكلُّ مفردة من مفردات المخاطر لها نوع خاصٌّ من الوقاية.

علىٰ أنَّ هناك مخاطر أخلاقية، كالكذب والنميمة والس_رقة، وهذه تحتاج إلىٰ رعاية خاصَّة للوصول إلىٰ حلٍّ ناجع فيها.

ويدخل ضمن هذا الهدف العنوان التالي:

قوا أولادكم الكذب!

الكذب: هو الإخبار بما ليس واقعاً، وهو أمر واضح، لا يحتاج إلىٰ بيان كثير. وحرمته شرعاً لا غبار عليها، وأضراره الاجتماعية غير خافية علىٰ أحد.

ص: 118

إنَّ من أهمّ ما يلزم علىٰ الوالدين في مقام تربية الأولاد هو أنْ لا يُعلِّموهم الكذب، وربَّما يكون هذا العنوان غريباً، ولكن الغرابة تزول إذا ما التفتنا إلىٰ أنَّ من أهمّ الأخطاء التربوية التي يقوم بها الآباء هو ذلك، والوجدان شاهد علىٰ هذا.

أمَّا كيف يُعلِّمونهم ذلك؟ فهذا يكون عبر التالي:

أوَّلاً: التعليم المباشر:

وهذا أسوأ أنواع التعليم المنحرف، بأنْ يُص_رِّح الآباء لأولادهم بأنْ يكذبوا في بعض المواقف، ليُخلِّصوا أنفسهم من موقف محرج، أو ليحصلوا علىٰ فائدة معيَّنة، فحتَّىٰ تقنع معلِّمك بأنْ يعيد لك الامتحان لا بأس أنْ تقول له: كانت أُمّي مريضة! وحتَّىٰ تبيع سلعتك الرديئة بسعر جيِّد لا بأس أنْ تُخبِر صديقك بأنَّها سليمة من كلِّ عيب!

ثانياً: التعليم المبطن:

وهذا له مفردات عديدة، نذكر منها التالي:

1 - أنْ يرىٰ الأولاد أباهم يكذب علىٰ أُمِّهم، أو أُمَّهم علىٰ أبيهم، فيتعلَّم الأولاد ذلك منهما.

2 - أنْ يُطرَق الباب، فتقول لولدك: إذا كان الطارق فلاناً فقل له: إنَّ أبي نائم!

3 - أنْ تعد أولادك بش_يء ثمّ لا تفي لهم، فيتعلَّمون منك الكذب، (كما سيتبيَّن أكثر بعد قليل إن شاء الله تعالىٰ).

4 - أنْ تعد صاحبك بشيء ثمّ لا تفي له، وأولادك يرون ذلك.

5 - الإيحاء لهم بالكذب، كما نُقِلَ هذا المعنىٰ عن النبيِّ يعقوب (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، ليس بمعنىٰ أنَّه علَّمهم الكذب، ولكنَّه قال كلمة استغلَّها الأولاد ليعملوا علىٰ أساسها كذبة.

ص: 11(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)

عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «إنَّ بني يعقوب ل_مَّا سألوا أباهم يعقوب أنْ يأذن ليوسف في الخروج معهم، قال لهم: إنّي ]أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ 13[ [يوسف: 13]»، قال: قال أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «قرَّب يعقوب (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) لهم العلَّة، اعتلُّوا بها في يوسف (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)»((1)).

ما هي أسباب الكذب عند الأولاد؟

نادراً ما نجد طفلاً لم يمارس الكذب في طفولته، وربَّما يستمرُّ به الكذب إلىٰ صباه وشبابه، بل قد يستمرُّ بهذه الصفة اللعينة حتَّىٰ آخر عمره، فيحقُّ لأحد أنْ يتساءل: لماذا يكذب الأطفال؟

بعيداً عن المثاليات، نجد أنَّ أسباب الكذب عند الأطفال عديدة، منها التالي:

السبب الأوَّل: الاعتقاد بأنَّ الكذب منجي:

اعتقاد الطفل بأنَّ الكذب خير وسيلة للتخلُّص من المواقف المحرجة، وهذا يرجع في حقيقته إلىٰ خوف الطفل من العقاب وعدم تفاهم الوالدين - والمعلِّم في المدرسة كذلك - معه، أو عدم تفهُّمهم للموقف الذي قام به.

علِّموا أولادكم أنَّهم حتَّىٰ إذا أخطؤوا فإنَّ منجاهم الأمثل هو الصدق، وأنَّهم إذا صدقوا فلن يصيبهم أيُّ مكروه، وعليكم أنْ تجعلوهم يحسُّون بقيمة الصدق عندما تعفون عن خطأ ارتكبوه واعترفوا به من دون كذب.

مرَّة كس_ر ولدي الصغير جهازاً لوحياً، فأخبرني بذلك بلا تردُّد،

ص: 120


1- ([1]) علل الشرائع للشيخ الصدوق (ج 2/ ص 600/ الباب 385/ ح 56).

سررتُ كثيراً لأنَّه لم يكذب عليَّ، والذي سرَّني أكثر أنَّه التفت إلىٰ إخوانه وقال لهم: هل ترون، كنت أعلم أنَّ أبي لن يعاقبني!

طبعاً هذا لا يعني تمرير الخطأ من دون حساب! والرهان هنا علىٰ الموازنة بين الحساب وبين دفع الطفل للصدق!

السبب الثاني: محاولة جذب انتباه الآخرين:

وهذا السبب يتولَّد عند الأطفال الذين لا يجدون عناية خاصَّة من الكبار، ولا التفاتاً إلىٰ كلماتهم، وكذلك ينشأ بسبب اهتمام الوالدين بأحد الأولاد - لسبب ولآخر - دون غيره. فيعمل الولد (المُهمَل) علىٰ أنْ يجذب انتباه الآخرين بكذبة مختلقة، فيُخبِرهم أنَّ أخاه قد دهسته سيّارةٌ، فإذا رأىٰ الكبار يهرعون إلىٰ الشارع ارتاح نفسياً، وأحسَّ بنشوة الانتصار، وأنَّه أخيراً استمع الكبار لكلامه وأخذوه علىٰ محمل الجدِّ!

السبب الثالث: التكذيب المستمرُّ للأولاد:

بعض الآباء يكون هو السبب في تعليم ولده الكذب، لأنَّه كلَّما أخبره الولدُ بش_يء فإنَّه يُشكِّك في كلامه ويُكذِّبه، فعندما يقول الولد: قد أكملت صلاتي، يأتيه الجواب: أنت كاذب، أو يقال له: من قال هذا؟ أو يقال له: لا أعتقد أنَّ كلامك صحيح...، وهكذا.

إنَّ الاستمرار بتكذيب الولد يُؤدّي به إلىٰ أنْ يتساوىٰ في نظره الصدق والكذب، حيث سيقتنع أنَّه مُكذَّب لا محالة، سواء كان صادقاً أو كاذباً، ممَّا يعني أنَّه لن يتورَّع عن الكذب بعد هذا الشعور.

السبب الرابع: خُلف الوعد معه:

فحتَّىٰ تتخلَّص من ولدك الذي تعلَّق بأذيالك يريد أنْ يخرج معك، تقول له: ابق في البيت وأنا سأجلب لك كرة قدم، أو الحلوىٰ

ص: 121

التي تُحِبُّها، ولأنَّه يثق بك كثيراً فإنَّه سيستجيب لطلبك ويبقىٰ، ولأنَّه يعتبرك القدوة له فإنَّه سيكذب كما كذبت عليه عندما رجعت إلىٰ البيت من دون أن تفي بوعدك!

وهكذا عندما يعد المعلِّم تلاميذه بأنْ يُقدِّم لهم هدية معيَّنة، أو أنْ يخرج معهم في سفرة ترفيهية، ويتناسىٰ هذا الوعد معهم.

وهذا من الأسباب المنتش_رة مع الأسف في الأوساط الأُسرية والمدرسية، ولذلك أكَّدت التربويات الدِّينية علىٰ ضرورة الابتعاد عن هذه الطريقة السمجة.

عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «أحبُّوا الصبيان وارحموهم، وإذا وعدتموهم شيئاً ففوا لهم، فإنَّهم لا يدرون إلَّا أنَّكم ترزقونهم»((1)).

وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة، قال: جاء رسول الله (صلىٰ الله عليه [وآله] وسلَّم) بيتنا، وأنا صبيٌّ صغير، فذهبت ألعب، فقالت أُمّي لي: يا عبد الله، تعالَ أُعطيك. فقال رسول الله (صلّىٰ الله عليه [وآله] وسلَّم): «ما أردتِ أنْ تُعطيه؟»، قالت: أردتُ أنْ أُعطيه تمراً. قال: «أمَا إنَّك لو لم تفعلي لكُتِبَت عليكِ كذبة»((2)).

السبب الخامس: الفضول الزائد:

التدخُّل الكثير في خصوصيات الولد، بحيث يريد الوالدان أنْ يتعرَّفا علىٰ كلِّ صغيرة وكبيرة عن أولادهم وصداقاتهم، وحتَّىٰ ما يُفكِّرون به، ممَّا يضطرُّ الأولاد - الذين يعتزُّون بخصوصياتهم ولا

ص: 122


1- ([1]) الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 49/ باب برّ الأولاد/ ح 3).
2- ([2]) الدُّرُّ المنثور لجلال الدِّين السيوطي (ج 3/ ص 291).

يُحِبُّون إذاعتها إلَّا لمن يُحِبُّون من أترابهم - أنْ يكذبوا علىٰ آبائهم ليتملَّصوا من بيان الحقيقة التي يحسبون أنَّ آباءهم لا يرضون بها.

من الواضح والض_روري أنْ يتعرَّف الوالدان علىٰ كلِّ رغبات الأولاد، وأنْ يكونوا علىٰ معرفة تامَّة بتص_رُّفاتهم، ولكن ليكن ذلك بطريقة لبقة تجعل الولد هو من يبدأ الحديث عنها، أو عن طريقة المراقبة من بعيد لسلوكيات وتصرُّفات الأولاد بقصد الحماية لهم، وتقويم السلوك الخاطئ لو صدر منهم.

الهدف الخامس: الارتباط الغيبي:

من الأُمور التي أثبتها العلماءُ والتي يشهد بواقعيتها الوجدانُ، هو أنَّ الإنسان لا يستطيع أنْ يعيش من دون معتقد، بغضِّ النظر عن كون ذلك المعتقد صحيحاً وفق نظرتي - أنا المسلم - أو لا.

إنَّ هناك توجُّهاً فطرياً في ذات الإنسان علىٰ أنَّه يلجأ إلىٰ موجود أعظم منه وأرقىٰ، يؤمن به ولو من طرف خفي، وهذا ما أشارت له بعض الروايات الشريفة التي تحاكي الوجدان.

فقد روي أنَّه قال رجل للإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): يا ابن رسول الله، دُلَّني علىٰ الله ما هو؟ فقد أكثر عليَّ المجادلون وحيَّروني، فقال له: «يا عبد الله، هل ركبت سفينة قطُّ؟»، قال: نعم، قال: «فهل كُسِ_رَ بك حيث لا سفينة تُنجيك ولا سباحة تغنيك؟»، قال: نعم، قال: «فهل تعلَّق قلبك هنالك أنَّ شيئاً من الأشياء قادر علىٰ أنْ يُخلِّصك من ورطتك؟»، فقال: نعم، قال الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «فذلك الش_يء هو الله القادر علىٰ الإنجاء حيث لا منجي، وعلىٰ الإغاثة حيث لا مغيث»((1)).

نعم، قد يقع الإنسان فريسة لعوامل متعدِّدة، تُؤدّي به إلىٰ أنْ

ص: 123


1- ([1]) التوحيد للشيخ الصدوق (ص 231).

يعتقد بمن هو ليس أهلاً للربوبية، فيقع في الش_رك الص_ريح أو المبطن، بل قد يقع في مستنقع الإلحاد وإنكار وجود الربِّ.

وهنا يبرز (الارتباط الصحيح بالغيب) كهدف أسمىٰ لا بدَّ أنْ يسعىٰ الأبوان بجدٍّ ومثابرة من أجل إيصال الأولاد إليه، بطريقة مقنعة ومستدلَّة، فإنَّ للأبوين تأثيراً في هذا الجانب شئنا أم أبينا، الأمر الذي أشار له الحديث المشهور عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «ما من مولود يُولَد إلَّا علىٰ الفطرة، فأبواه اللَّذان يُهوِّدانه ويُنصِّرانه ويُمجِّسانه...»((1)).

وحتَّىٰ يتحقَّق هذا الهدف، فعلىٰ الأبوين الالتفات إلىٰ التالي:

أوَّلاً: تذكَّروا أنَّ (فاقد الش_يء لا يُعطيه)، فأنت حتَّىٰ تجعل أولادك يؤمنون بعقيدة صحيحة عليك أنت أوَّلاً أنْ تعتقد بها.

ثانياً: ليس من الصحيح تلقين الأولاد العقيدة بصورة عمياء وغير مستدلَّة، بل لا بدَّ أنْ يتهيَّأ الأبوان لنقل العقيدة الصحيحة لأولادهم بطريقة علمية مستدلَّة تتناسب مع المستوىٰ الثقافي والعقلي للأولاد، وهذا معناه أنَّ علىٰ الأبوين أنْ يتسلَّحا بالمعرفة الكافية بطُرُق إيصال العقيدة، بعد تسلُّحهم بالأدلَّة علىٰ حقّانيتها.

واستعدَّ، ففي يوم من الأيّام سيسألك ولدك ذو الأربع سنوات: أين الله((2)

ثالثاً: وأيضاً هنا سيكون (التأثير العملي) أقوىٰ وأبلغ بكثير من (التأثير القولي)، فعليك أنْ تتمثَّل عقيدتك في سلوكك، ليرىٰ أولادك صدق ارتباطك بتلك العقيدة.

* * *

ص: 124


1- ([1]) من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 2/ص 49/ الخراج والجزية/ح 1668).
2- ([2]) يُراجع عنوان: كيف نُثبِت وجود الله تعالىٰ للأطفال؟ (ص 78).

الفصل الرابع:

اشارة

تربية متكاملة متكافئة

ص: 125

ص: 126

مقدّمات ثلاث:

المقدّمة الأُولىٰ:

من الأُمور التي باتت واضحة للعيان أنَّ الإنسان موجود مركَّب من جزئين أساسيين:

الجزء الأوَّل: جزء مادّي، وهو البدن، ذلك الجزء الذي يأكل ويش_رب، وتصيبه أمراض بدنية مادّية، ويهرم، وهو الجزء الظاهر من حقيقة الإنسان، وما يُرىٰ بالعين منها، وهنا لا نحتاج إلىٰ توصية من غيرنا من أجل الاهتمام بهذا الجزء من وجودنا، فإنَّ كلَّ واحدٍ منّا يبذل الكثير من الجهد والوقت والمال من أجل إصلاح وتهذيب وتجميل هذا البدن.

الجزء الثاني: جزء معنوي، مجرَّد، وهو الروح، وهو الجزء المخفي من حقيقة الإنسان، أي إنَّه لا يُرىٰ بالعين المجرَّدة، وإنَّما نحن نحسُّ بآثاره، ذلك الجزء لا يهرم، ويبقىٰ مع الإنسان من أوَّل لحظات حياته إلىٰ ما لا يعلمه إلَّا الله تعالىٰ، بل في الحقيقة أنَّ حقيقة الإنسان وهويَّته هي في هذا الجزء من وجوده.

ومع الأسف نرىٰ أنَّ هناك عدداً لا يُستهان به من بني البش_ر ممَّن أهمل وتناسىٰ هذا الجزء من وجوده.

المقدّمة الثانية:

اختلفت حضارات البش_ر في التعامل مع هذين الجزئين، فبينا نجد الكنيسة في بعض أدوار سيطرتها دعت إلىٰ أنَّه يجب علىٰ الإنسان أنْ يتخلّىٰ عن مباهج الدنيا ولذّاتها، فلكي يكون متديِّناً فيجب أنْ يتعبَّد في العراء أو في مستنقع أو علىٰ قدم واحدة أو غيرها من أحوال الرهبنة التي تذكرها الكُتُب التاريخية.

ص: 127

وهذه هي نظرية (الرهبنة) التي رفضها الإسلام أشدّ الرفض.

تقف في الطرف النقيض من هذه النظرية النظريةُ الغربية الحاكمة اليوم التي تقوم علىٰ أساس الاهتمام أشدّ الاهتمام بإشباع لذائذ البدن إلىٰ أبعد الحدود، الأمر الذي أدّىٰ إلىٰ عدم وجود أيِّ حدود أو خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها في هذا المجال، إلىٰ أنْ وصل مستوىٰ التدنّي الروحي فيها إلىٰ قبول الزواج المثلي!

وفي قبال هاتين النظريتين البائستين يأتي الإسلام ليُعطي نظرية واقعية تعالج كلا جزئي وجود الإنسان، وتُعطي لكلِّ جزء منهما حقَّه الذي يكفيه ويغنيه، فلا رهبانية في الإسلام، ولكن في نفس لوقت لا مادّية محضة، فهناك مادّية محكومة للش_رع والعقل، وهناك تجرُّد روحي لا يخرج بالإنسان عن حقيقته التي لا تستغني عن البدن.

فالمبدأ الإسلامي هنا قائم علىٰ التوازن بين متطلِّبات البدن والروح علىٰ حدٍّ سواء.

المقدّمة الثالثة:

لا يعيش جزءا الإنسان (بدنه وروحه) منفصلين بعضهما عن البعض الآخر في هذه الحياة، بل إنَّهما يعيشان بوجود واحد، وبينهما غاية العلاقة والارتباط((1)).

وهذه العلاقة بينهما تنعكس علىٰ سلوك الإنسان خارجاً، وهذا له عدَّة شواهد وجدانية، نذكر منها التالي:

الشاهد الأوَّل: جرِّب أنْ تتذكَّر صورة حزينة لفقدان حبيب مرَّت بك، ستلاحظ أنَّ شهيَّتك للطعام ستضعف، وقد تنتهي مؤقَّتاً.

ص: 128


1- ([1]) وإن اختلفت الفلسفات في بيان نوع هذه العلاقة، وهل أنَّها كعلاقة السائق (الروح) بسيّارته (البدن)، أم أنَّها من نوع العلاقة التي ينصهر فيها الجزءان مع بعضهما ليُكوِّنا موجوداً ثالثاً، لا يهمُّنا التعرُّض لهذا هنا، المهمُّ أنَّ الأمر الذي نجزم به هو أنَّ هناك علاقة تكامل بين الروح والبدن.

الشاهد الثاني: جرِّب أن تتذكَّر موعداً مهمًّا وأنت نعسان، ستلاحظ أنَّ شيئاً ما يتدفَّق في عروقك يدفع بجسمك نحو القيام ونفض غبار النعاس.

الشاهد الثالث: لاحظ كيف تضعف قدرتك علىٰ التركيز إذا أصابك صداع.

الشاهد الرابع: لاحظ كيف سيصفرُّ لونك وستتصبَّب عرقاً إذا تذكَّرت الظالم الذي يريد قتلك.

الشاهد الخامس: انظر إلىٰ لون وجهك كيف سيحمرُّ عندما تتذكَّر موقفاً محرجاً مررت به.

الشاهد السادس: وانظر إلىٰ الابتسامة العريضة التي تملأ وجهك عندما تتذكَّر أيّام عرسك!

هذه المواقف وغيرها كثير تشهد علىٰ ما قيل من أنَّ هناك تأثُّراً وتأثيراً متبادلاً بين طرفي وجود الإنسان.

وقد جاءت التعبيرات الأدبية لتشير إلىٰ هذه التأثير المتبادل بما قيل من أنَّ (العقل السليم في الجسم السليم).

وقد أشار الإمام الصادق جعفر بن محمّد (عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ) إلىٰ ذلك بقوله: «ما ضعف بدن عمَّا قويت عليه النيَّة»((1)).

إذا تبيَّنت هذه المقدّمات نأتي إلىٰ موضوع الفصل: التربية المتكافئة والمتكاملة، فنقول:

إنَّ التربية في واقعها الصحيح تعني أن يهتمَّ الأبوان بكلا جانبي الأولاد، لا أن يهتمُّوا بالجانب المادّي فقط.

وحتَّىٰ تتَّضح الصورة أكثر نذكر محورين:

ص: 129


1- ([1]) أمالي الشيخ الصدوق (ص 408/ ح 526/6).

المحور الأوَّل: التربية في جانبها المادّي

المحور الأوَّل: التربية في جانبها المادّي((1)):

وهنا عدَّة نقاط نذكرها باختصار:

النقطة الأُولىٰ:

إنَّ أكثر ما يتكوَّن الجانب المادّي منه هو من جهة أُمِّه، فإنَّه يعيش في أحشائها ويتغذّىٰ من دمها إلىٰ أن يكتمل وجوده بصورته النهائية، وهذا يعني أنَّ علىٰ الأولاد أن لا ينسوا هذا الفضل لأُمَّهاتهم.

النقطة الثانية:

علىٰ الأب أن يهتمَّ بتغذية الأُمِّ بصورة تساعدها علىٰ تربية جسم الطفل قبل وبعد الولادة، وأن يحثَّ الأُمَّ علىٰ إرضاع ولدها بلبنها، فما من لبن أكثر بركةً للولد من لبن أُمِّه. علماً أنَّ نفقة هذا الغذاء إنَّما هي علىٰ الأب شرعاً، إلَّا إذا تبرَّعت الأُمُّ بذلك.

قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «ما من لبن يرضع به الصبيُّ أعظم بركةً عليه من لبن أُمِّه»((2)).

وعن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «ما من امرأة حاملة أكلت البطّيخ إلَّا كان مولودها حسن الوجه والخلق»((3)).

وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «أطعموا حبالاكم السفرجل فإنَّه يُحسِّن أخلاق أولادكم»((4)).

ص: 130


1- ([1]) أكثر نقاط هذا المحور قد تمَّ علاجها أو سيتمُّ فيما بعد إن شاء الله تعالىٰ، ولكن هنا نذكر أشبه ما يكون بالفهرس العامِّ لهذا الجانب، بالإضافة إلىٰ أنَّه سيكون مدخلاً للمحور الثاني الأهمّ.
2- ([2]) الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 40/ باب الرضاع/ ح 1).
3- ([3]) بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 59/ ص 299).
4- ([4]) الدعوات لقطب الدِّين الراوندي (ص 151/ ح 405).

وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «أطعموا المرأة في شهرها الذي تلد فيه التمر، فإنَّ ولدها يكون حليماً نقيًّا»((1)).

النقطة الثالثة: لا يجوز قتل الجنين في هذه المرحلة أبداً:

بعض من النساء تحاول إسقاط حملها لأدنىٰ سبب، ككثرة أطفالها (الذين بلغوا ثلاثة أو أربعة!)، أو تعبها جراء أعمال البيت، أو أنَّ زوجها طلب منها ذلك، أو لغيرها من الأسباب الواهية، والحال أنَّه لا يجوز إسقاط الجنين الذي انعقدت نطفته علىٰ تفصيل موجود في الفقه، وخلاصته: بعد ولوج الروح لا يجوز إسقاط الجنين في غير حالة الض_رر والحرج، بل حتَّىٰ في حالة الض_رر والحرج علىٰ الأحوط لزوماً، حتَّىٰ لو كان فيه تشوُّه خَلْقي((2))، وحتَّىٰ لو كان من سفاح((3)). نعم، يجوز إسقاطه قبل ذلك لكن بش_رط أن تخاف الأُمُّ الض_رر علىٰ نفسها من استمرار وجوده.

ص: 131


1- ([1]) بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 63/ ص 141).
2- ([2]) في الفتاوىٰ الميسَّ_رة للسيِّد السيستاني (ص 432) ورد السؤال والجواب التالي: (في الآونة الأخيرة... وبفضل الوسائل العلمية الحديثة يمكن استعلام وضع الجنين وما إذا كان مصاباً بعاهة خَلقية أم لا، فإذا ثبت علمياً كونه مشوَّهاً ومصاباً بعاهات أو عاهة واحدة فهل يجوز إسقاطه؟ تشوُّه الجنين ليس بمجرَّده مسوِّغاً لإسقاطه، نعم إذا كان بقاؤه في رحم الأُمِّ ضررياً علىٰ صحَّتها أو حرجياً عليها بحدٍّ لا يُتحمَّل عادةً جاز لها إسقاطه، وذلك قبل ولوج الروح فيه، وأمَّا بعده فلا يجوز الإسقاط مطلقاً).
3- ([3]) في منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني (ج 3/ ص 115 و116/ مسألة 384): (لا يجوز إسقاط الحمل وإنْ كان من سفاح إلَّا فيما إذا خافت الأُمُّ الض_رر علىٰ نفسها من استمرار وجوده، أو كان يتسبَّب في وقوعها في حرج بالغ لا يُتحمَّل عادةً، فإنَّه يجوز لها حينئذٍ إسقاطه ما لم تلجه الروح، وأمَّا بعد ولوج الروح فيه فلا يجوز الإسقاط - حتَّىٰ في حالتي الض_رر والحرج علىٰ الأحوط لزوماً -، وإذا أسقطت الأُمُّ حملها وجبت عليها ديته، وكذا لو أسقطه الأب أو شخص ثالث كالطبيب...).

علىٰ كلِّ زوجة وكلِّ زوج أن يتذكَّرا قول الإمام الباقر (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) حينما سأله محمّد بن مسلم عن قول الله عَزَّوَجَل: ]مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً[ [المائدة: 32]، فقال له: «له في النار مقعد لو قتل الناس جميعاً لم يرد إلَّا إلىٰ ذلك المقعد»((1)).

وأيضاً ليتذكَّرا ما ورد عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً»، وقال: «لا يُوفَّق قاتل المؤمن متعمِّداً للتوبة»((2)).

النقطة الرابعة:

تشمل التربية البدنية للطفل تعليمه بعض المهارات البدنية، كالسباحة والرماية وركوب الخيل، أو قل: ركوب الدرّاجة الهوائية، وحتَّىٰ تعليمه السياقة في سنٍّ مناسبة، وهكذا...، وقد تقدَّمت في خطوة التربية البدنية روايات نافعة في هذا المجال.

النقطة الخامسة:

تطبيقاً لما تقدَّم من العلاقة التبادلية بين الروح والبدن وتأثير كلٍّ منهما في صاحبه، فإنَّ علىٰ الوالدين أن يتحرَّيا الطعام المحلَّل للأولاد، فإنَّ اللقمة الحرام تتسبَّب في ظلمة روحانية تُؤثِّر علىٰ التعقُّل والتفكُّر، وبالتالي علىٰ السلوك الخارجي.

في الحديث القدسي: «فمنك الدعاء وعليَّ الإجابة، فلا تُحتَجب عنّي دعوة إلَّا دعوة آكل الحرام»((3)).

ص: 132


1- ([1]) الكافي للشيخ الكليني (ج 7/ ص 272).
2- ([2]) المصدر السابق.
3- ([3]) عدَّة الداعي لابن فهد الحلّي (ص 128).

وعن النبيِّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «من أحبَّ أنْ يُستجاب دعاؤه فليُطيِّب مطعمه وكسبه»((1)).

وروي أنَّه قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «أطيب كسبك تُستَجب دعوتك، فإنَّ الرجل يرفع اللقمة [أي الحرام] إلىٰ فيه فما تُستجاب له دعوة أربعين يوماً»((2)).

النقطة السادسة:

علىٰ الأبوين أن يُعلِّما أولادهما كيفية الدفاع عن أنفسهم لو داهمهم الخطر، بمعنىٰ تعليمهم ردَّ المعتدي لا الاعتداء((3)).

النقطة السابعة:

علىٰ الأبوين تعليم أولادهما العادات الحسنة للطعام واجتناب العادات السيِّئة، وسيتمُّ إشباع هذه النقطة في موضوع (بناء شخصية الطفل، الخطوة المتعلّقة بالتربية الذوقية أو فنِّ الإتيكيت، وهناك أيضاً سيتمُّ تسليط الضوء علىٰ ملاحظات مهمَّة تتعلَّق بالملابس اللائقة وآداب الجلوس وغيرها إن شاء الله تعالىٰ).

المحور الثاني: التربية في جانبها المعنوي الروحي:

وهنا أيضاً عدَّة نقاط نذكرها باختصار:

النقطة الأُولىٰ:

الاهتمام بالاعتقادات التي تصقل الروح وتزيد من فاعليتها في

ص: 133


1- ([1]) المصدر السابق.
2- ([2]) مكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي (ص 275).
3- ([3]) وقد تقدَّم ما ينفع في ما يتعلَّق بالدفاع عن أنفسهم ضدّ التحرُّشات غير الأخلاقية، تحت عنوان: كيف نحمي أولادنا من التحرُّش الجنسي؟ (ص 99).

العيش باطمئنان في هذه الحياة، المتمثِّلة بتعليمهم الارتباط المعنوي بالخالق جلَّ وعلا، والتأكيد علىٰ ضرورة الدعاء لله تعالىٰ في كلِّ حاجاتهم، حتَّىٰ في امتحاناتهم الفصلية، وحتَّىٰ في حصولهم علىٰ لعبتهم المفضَّلة.

ومن هنا نجد بعض الروايات تُؤكِّد علىٰ هذا الجانب من خلال دعوة الآباء لدفع أبنائهم إلىٰ التزام بعض المستحبّات، وخصوصاً تسبيح الزهراء (عَلَيْهِا اَلسَّلاَمُ).

عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال لأبي هارون المكفوف: «يا أبا هارون، إنّا نأمر صبياننا بتسبيح الزهراء (عَلَيْهِا اَلسَّلاَمُ) كما نأمرهم بالصلاة، فالزمه، فإنَّه لم يلزمه عبد فيشقىٰ [فشقي]»((1)).

النقطة الثانية:

اصطحابهم إلىٰ الأماكن التي تُنمّي الجانب الروحي والمعنوي في شخصياتهم، كحضور مجالس الدعاء والموعظة، وصلاة الجماعة، وزيارة الأماكن المقدَّسة، فلا شكَّ أنَّ للجوِّ الإيماني أثره الطيِّب في ما يتعلَّق بالجانب الروحي.

النقطة الثالثة:

عدم الإيحاء لهم بتأثير بعض الموجودات اللّامرئية، كالجنِّ، وكالأحلام، وكالسحر والشعوذة، فإنَّ تخويف الأولاد بهذه الموجودات يُؤدّي بهم إلىٰ تأثيرات روحية سلبية تنعكس علىٰ سلوكهم في خوفهم من الأماكن المظلمة والخروج لوحدهم في الليل لمحلِّ البقالة المجاور وما شابه هذه الأُمور.

لذا، يُرجىٰ أن لا تُخوِّفوهم بهذا الشكل.

ص: 134


1- ([1]) ثواب الأعمال للشيخ الصدوق (ص 163/ ثواب تسبيح فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا اَلسَّلاَمُ))، والكافي (ج 3/ ص 343/ باب التعقيب بعد الصلاة والدعاء/ ح 13).

النقطة الرابعة:

تنمية التعامل مع الجوانب الروحية في شخصية الأطفال، كالصدق والأمانة وترك النميمة وغيرها، ولا شكَّ أنَّ أهمَّ ما يُنمّي هذا الجانب هو الالتزام العملي من الأبوين بتلك الأُمور.

وكذلك ينبغي دفع الأولاد إلىٰ الممارسة العملية في هذا المجال، فبدلاً من أن تُعطي الصدقة أنت إلىٰ الفقير أعطها لولدك ودعه هو يُعطيها إيّاه، أو أعطه مبلغاً ليدفعه هو عندما يرىٰ فقيراً، وهكذا ادفعه إلىٰ أن يقرأ لكم الدعاء المعيَّن أو لتستمع إلىٰ قراءته للقرآن، وهكذا.

النقطة الخامسة:

الاهتمام بالصحَّة النفسية للطفل، المتمثِّلة باحترامه وتقديره الذاتي، واحترام خصوصياته، وعدم إهانته، والاستماع إليه، وحلِّ مشاكله، كلُّ ذلك من شأنه أن يُطوِّر من حالته النفسية ويُنمّي الجانب المعنوي فيها.

ويدخل في ضمن هذه النقطة الجلوس مع الأولاد أطول وقت ممكن، وعدم تركهم تحت ذمَّة برامج التلفاز، فإنَّه قد يصل الأمر إلىٰ أن يُصاب أحدهم بالتوحُّد، أو أنَّه يصل إلىٰ مرحلة لا يأنس فيها إلَّا بأبطاله الافتراضيين عبر الصندوق الناطق.

* * *

ص: 135

ص: 136

الفصل الخامس:

اشارة

مؤثّرات السلوك

ص: 137

ص: 138

1 - هذا العالم يتكوَّن من أجزاء كثيرة جدًّا، منها ما يُرىٰ بالعين، ومنها ما لا يُرىٰ لبعده أو لدقَّته وصغر حجمه. ومنها ما هو مادّي، ومنها ما هو مجرَّد.

وكلُّ أجزاء العالم تعيش نظاماً دقيقاً وعلاقة عامَّة علىٰ أساس التأثير المتبادل فيما بينها، فكلُّ الأشياء في هذا العالم لا تخلو من أنْ تكون علَّةً أو معلولاً، سبباً أو مسبَّباً، مؤثِّراً أو متأثِّراً.

ضع إصبعك علىٰ أيِّ شيء شئت فإنَّك لن تراه إلَّا ضمن هذا النظام.

2 - ليس هناك وجود واقعي للصدفة أو اللّاسببية، ففي الوقت الذي كان نظام السببية عامًّا فإنَّه ينفي بعمومه وشموله أيَّ أثر من دون مؤثِّر وأيَّ نتيجة من دون سبب، فلا نتيجة تحدث صدفة ومن دون سبب، وهذا أمر وجداني بل فطري، وهو ما تُعبِّر عنه الرواية التي رويت عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «أبىٰ الله أنْ يجري الأشياء إلَّا بأسباب، فجعل لكلِّ شيء سبباً، وجعل لكلِّ سبب شرحاً، وجعل لكلِّ شرح علماً، وجعل لكلِّ علم باباً ناطقاً، عرفه من عرفه، وجهله من جهله...»((1)).

3 - ليس هناك في عالمنا - عالم المخلوقات والممكنات - علَّة بسيطة، أي علَّة منفردة لوحدها تنتج معلولاً ما، وإنَّما كلُّ العلل في هذا العالم هي من نوع العلَّة المركَّبة، وما لم تجتمع كلُّ أجزاء تلك العلَّة المركَّبة فإنَّ المعلول لن يرىٰ نور الوجود.

ص: 139


1- ([1]) الكافي للشيخ الكليني (ج 1/ ص 183/ باب معرفة الإمام والردّ إليه/ ح 7).

أنت عطشان مثلاً فتش_رب الماء لترتوي، لاحظ هذه العملية البسيطة بنظرنا، والتي نقوم بها كلَّ يوم عدَّة مرّات، تجد أنَّ هناك ألف جزء وجزء وألف مؤثِّر ومؤثِّر اجتمعت كلُّها إلىٰ أنْ حصلتَ أنت علىٰ الارتواء من الماء، فالبحر أجاد علىٰ السحاب بش_يء من قطراته التي رفعت الشمس درجة حرارتها، والتي حملتها الرياح بين أحشائها لتودعها في بطن السحاب، لتأتي بعض الظروف الجوّية - الفيزيائية والكيميائية - من انخفاض في درجة الحرارة وارتفاعها، ثمّ وبعملية التكثيف تجتمع تلك القطرات مرَّة أُخرىٰ لترمي الأرض إليها بحبل جاذبيتها تجرُّ به تلك القطرات الصغيرة إلىٰ وجه تلك الأرض الصلبة التي تُبقي الماء علىٰ ظهرها ليأخذه الإنسان عبر آلات متعدِّدة، وفي الأخير يصل إلىٰ كأسك - الذي صنعته عش_رات الأيدي في مصنع خاصٍّ - لترتوي أنت به.

وهكذا، فأنت لن تش_رب كأس الماء لترتوي به إلَّا وقد مرَّ عبر سلسلة طويلة جدًّا من الأسباب إلىٰ أنْ وصل إلىٰ فمك.

وهكذا في كلِّ مفردات هذا الوجود.

والوجدان أقوىٰ برهان.

4 - إنَّ التربية باعتبارها سبباً لتوليد سلوك الأفراد لا تشذُّ عن هذا النظام، فإنَّ السلوك الفردي أو الجماعي - لا فرق من هذه الناحية - يخضع لنظام الأسباب المركَّبة، تلك الأسباب التي يكون بعضها بسيطاً وذا تأثير ضعيف، وبعضها معقَّداً وذا تركيب قويّ، تجتمع لتُولِّد سلوكاً معيَّناً.

ومن هنا كان مناسباً أنْ نتعرَّف علىٰ الأسباب التي تُولِّد السلوك،

ص: 140

أو قل: مؤثِّرات السلوك، لنعمل علىٰ استجلاب النافع منها لأولادنا، واستبعاد الضارِّ منها عنهم.

والمؤثِّرات كما ذكر علماء التربية - والواقع يشهد أيضاً - كثيرة نقتص_ر علىٰ المهمِّ منها، وهو التالي:

المؤثِّر الأوَّل: الوالدان:

لا يشكُّ أحد في أنَّ أوَّل وأهمّ من يُؤثِّر في سلوك الأولاد هما أبواه، فإنَّ الولد وخلال عدَّة سنوات يكون حبيس بيت أبويه، ومن خلال المستشعرات التي جُهِّز بها تكويناً فإنَّه يأخذ بالتقاط واستشعار كلِّ تص_رُّف وسلوك يصدر من أبويه، ليحتفظ بتلك الصور في ذهنه، ومن خلال عمليات ذهنية معقَّدة تتحوَّل تلك الصور المخزونة عنده إلىٰ سلوك عملي.

وتأثير الأبوين في الولد يبدأ من المراحل الأُولىٰ - مراحل ما قبل التكوُّن في أحشاء الأُمِّ -.

وحتَّىٰ تتَّضح الصورة نذكر مرحلتين مهمَّتين من مراحل التأثير الأبوي:

المرحلة الأُولىٰ: مرحلة اقتران الأبوين:

يظنُّ البعض - ولو في مقام العمل - أنَّ الزواج بين الرجل والمرأة أمر يحدث بتأثير غير إرادي، هذا الظنُّ الذي ترجمه بعض الأزواج بقولهم: (الزواج قسمة ونصيب)، مُعْرِباً بذلك عن عدم توافق عاطفي أو سلوكي بينه وبين زوجته.

وفي الحقيقة هذا الكلام هروب من الواقع إلىٰ الخيال، ومحاولة

ص: 141

تبرئة النفس من قرار قامت به، فإنَّ الزواج حاله حال أيِّ فعل يصدر من الإنسان، هو فعل اختياري يخضع لعوامل صدوره - كما تقدَّم - من تصوُّر الفعل والتصديق بفائدته والشوق لفعله ثمّ اتِّخاذ القرار وتحريك العضلات و...

فالزواج إذن اختيار، وما يحدث من خلل أو نتوءات فيه سببها إمَّا (سوء الاختيار)، أو (سوء التص_رُّف بعد حسن الاختيار)، سواء كان من الرجل أو المرأة، لا فرق من هذه الناحية.

وهذه حقيقة لا بدَّ أنْ يعيها كلُّ شابِّ وكلُّ شابَّة قبل أنْ يُقْدِموا علىٰ مش_روع الزواج، لأنَّ هذا الزواج هو المؤثِّر الأوَّل في مستقبل حياتهم الشخصية، ومستقبل أولادهم عموماً.

ولتسليط الضوء أكثر علىٰ هذه المرحلة المهمَّة نذكر التالي:

إنَّ (اقتران الأبوين) يمرُّ عبر عدَّة خطوات، وكلُّ واحدة من هذه الخطوات لها نوع من التأثير في المستقبل، وأهمُّ تلك الخطوات هي التالي:

الخطوة الأُولىٰ: المرحلة التصوُّرية للزواج:

ما هو معنىٰ أنْ يقترن الرجل بالمرأة؟

هل معناه: إضافة فرد جديد إلىٰ مائدة الطعام اليومية؟!

أم أنَّ معناه: إيجاد وسيلة شرعية لإشباع الرغبات الجنسية؟!

أو أنَّ معناه: توفير خادمة مجّانية لأعمال البيت؟!

أم أنَّه مشروع لإنتاج وتدجين الأولاد؟!

أم أنَّه مش_روع حياتي للسَكَن والهدوء النفس_ي علىٰ جميع المستويات المادّية والمعنوية يتضمَّن نظرة مستقبلية لبناء جيل يافع مدرك لأهمّية ومسؤولية الحياة.

ص: 142

لا شكَّ أنَّ كلَّ مفردة من هذه التصوُّرات لها سلوك يختلف عن الأُخرىٰ، فالزوجة التي اقتنعت بأنَّها مجرَّد أداة إلهاء وإغراء سترمي بأولادها في أحضان الخادمة، لتحافظ هي علىٰ رشاقة قوامها ونظافة هندامها.

والرجل الذي يعتبر المرأة مش_روع تدجين لن يعير لها أهمّية أكثر من (دجاجة بيّاضة)!

وذاك الذي يعتبرها محلًّا للجنس فقط ستشمئزُّ نفسه منها إذا ذبلت وردة شبابها، أو نافستها من هي أرقُّ وأجمل منها!

وبالتالي فإنَّ كلَّ هذه المفردات سُتلقي بظلالها علىٰ نوع السلوك بين الزوجين، ممَّا سيتأثَّر به الأولاد عاجلاً أو آجلاً.

إنَّ الزواج في الحقيقة من أعظم المشاريع التي يمكن أنْ يقوم بها الفرد في هذه الحياة، الأمر الذي اعتبره الإسلام أعظم بناءٍ فيه، فهو مش_روع يُشبِع جميع الحاجات (الجنسية، تكوين أُسرة وأولاد، سكن وهدوء نفسي، رحمة ومودَّة، عنصر رئيسي في إدارة البيت).

وعظمة هذا المش_روع في الإسلام تكشفه الروايات الواردة في فضل الزواج.

روي أنَّه قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «ما يمنع المؤمن أنْ يتَّخذ أهلاً، لعلَّ الله أنْ يرزقه نسمة تُثقِل الأرض بلا إله إلَّا الله»((1)).

لاحظ كيف أنَّ هذا الحديث أخذ بنظر الاعتبار أنَّ الزواج مشروع لبناء جيل مستقبلي يعي مسؤولية الدِّين.

ص: 143


1- ([1]) من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 3/ ص 382/ باب فضل التزويج/ ح 4340).

وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «من تزوَّج أحرز نصف دينه»، وفي حديث آخر: «فليتَّق الله في النصف الباقي»((1)).

فلاحظ أنَّ من آثار الزواج هو إحراز نصف الدِّين، المتمثِّل بالحفاظ علىٰ عفَّة العين والفرج.

وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «ما بني بناء في الإسلام أحبُّ إلىٰ الله تعالىٰ من التزويج»((2)).

وهذا الحديث يشير إلىٰ أنَّ أهمَّ مش_روع في حياة المسلم هو الزواج، لما فيه من آثار واضحة اللمسة في كلِّ مفردات وجهات الحياة.

الخطوة الثانية: المرحلة الاختيارية للزواج:

بعد أنْ يُنظِّم الرجل والمرأة قناعة خاصَّة بمفهوم الزواج، سينتقل كلٌّ منهما إلىٰ أُولىٰ المراحل العملية للزواج، وهي مرحلة الاختيار، أو قل: التخيُّر.

فكيف يختار الرجلُ امرأةً لإقامة مشروع الزواج؟

وكيف تختار المرأةُ كذلك؟

إنَّ هذه المرحلة هي أهمّ مرحلة في الزواج، وهي المرحلة التي ستُؤطِّر المش_روع الحياتي بإطار معيَّن، يُلوِّن حياة الزوجين ما داما داخل بيت الزوجية.

إنَّ هذه المرحلة لا تخضع للانتقائية العشوائية، وإنَّما هي مهمَّة جدًّا ينبغي لكلٍّ من الرجل والمرأة فيها الاختيار بصورة صحيحة ودقيقة، بهدوء، وذكاء، وأخذ تجربة من أصحاب التجارب، واتِّخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، وأيُّ خطأ في هذه العملية فإنَّه سيُكلِّف الإنسان حياته وسعادته ومستقبله.

إنَّ الجمال كما هو مطلوب في المرأة بنظر الرجل، كذلك هو مطلوب في الرجل بنظر المرأة.

ص: 144


1- ([1]) من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 3/ ص 383/ باب فضل التزويج/ ح 4342).
2- ([2]) من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 3/ ص 383/ باب فضل التزويج/ ح 4343).

لكن الجمال وحده لا يكفي للسعادة، فكم من امرأة رائعة المفاتن لكنَّها لا تكاد تتزوَّج حتَّىٰ تُطلَّق، إذ لعلَّ جمالها يغريها لفعل أُمور لا تُحمَد عقباها، ممَّا يعني أنَّ الجمال لوحده لا يُمثِّل عصب الحياة، وإنَّما هناك أُمور أُخرىٰ لا بدَّ من مراعاتها.

قد يتزوَّج الرجل امرأة لمالها، أو تتزوَّج امرأة رجلاً لماله، ولكن المال كالزئبق، قد ينسلُّ من بين يدي مالكه كأسرع من إفلات سمكة في الماء، وبالتالي قد يرجع الفرد تحت مستوىٰ خطِّ الفقر، فلو كان المال هو عصب الحياة الزوجية لانتهىٰ الزواج بفقدان المال، هذا بالإضافة إلىٰ أنَّنا رأينا ورأيتم كم من الرجال يملك الأموال الكثيرة لكنَّه فاشل في حياته الزوجية، وكم من امرأة تزوَّجت من ثريٍّ بثراء فاحش لكنَّها تتمنّىٰ الموت علىٰ معاشرته.

علينا إذن في الوقت الذي نبحث عن الجمال (في الطرفين) ونبحث عن مستوىٰ مادّي لائق، أن نبحث أيضاً عن الصفات الأخلاقية والسلوكية التي يمكن أن تجعل من بيت فقير بستاناً مملوءاً بالتفاهم والمودَّة والمحبَّة.

علىٰ المرأة أن تبحث عن رجل يحترم المرأة كإنسانة وكزوجة وكأُمٍّ لأولادهما، وأن يملأ حياتها مشاعر قبل أن يملأ جيبها دراهم.

وعلىٰ الرجل أن يبحث عن امرأة عفيفة جميلة في قلبها قبل أن تكون جميلة في وجهها، وأن تكون متناسبة معه من حيث الثقافة العامَّة، والمستوىٰ المادّي لأهلها، ومن حيث تفهُّم الحياة بنحو أفضل.

إشارات الروايات لهذه الخطوة:

روي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «إنَّما المرأة قلادة فانظر إلىٰ ما تُقلِّده»، وقال: «ليس للمرأة خطر لا لصالحتهنَّ ولا لطالحتهنَّ، أمَّا

ص: 145

صالحتهنَّ فليس خطرها الذهب والفضَّة بل هي خير من الذهب والفضَّة، وأمَّا طالحتهن فليس التراب خطرها بل التراب خير منها»((1)).

وعن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أنَّه قال: «انكَحوا الأكْفاء، وأنكِحوا فيهم، واختاروا لنُطَفكم»((2)).

لاحظ كيف أنَّ هذا الحديث يُص_رِّح بض_رورة البحث عن التزويج بمن هو في مستوىٰ لائق، عُبِّر عنه بالكفؤ، كذلك ذكر الحديث أنَّ البحث هذا ليس فقط فيمن تتزوَّجون منهم، بل حتَّىٰ فيمن تُزوِّجون لهم.

وروي أنَّه قام رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) خطيباً فقال: «أيُّها الناس، إيّاكم وخض_راء الدمن((3))»، قيل: يا رسول الله، وما خض_راء الدمن؟ قال: «المرأة الحسناء في منبت السوء»((4)).

وروي عن أبي جعفر (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «أتىٰ رجلٌ النبيَّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) يستأمره في النكاح، فقال له رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): انكح، وعليك بذات الدِّين تربت((5)) يداك»((6)).

ص: 146


1- ([1]) الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 332 و333/ باب اختيار الزوجة/ ح 1).
2- ([2]) الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 332 و333/ باب اختيار الزوجة/ ح 3).
3- ([3]) في هامش المصدر: (قال في النهاية: فيه: «إيّاكم وخض_راء الدمن»، الدمن جمع دمنة وهي ما تدمنه الإبل والغنم بأبوالها وأبعارها، أي تلبده في مرابضها فربَّما نبت فيها النبات الحسن النضير).
4- ([4]) المصدر السابق.
5- ([5]) في هامش المصدر: (قال في الصحاح: ترب الرجل: افتقر كأنَّه لصق بالتراب يقال: منه ترب يداه دعاء عليه، أي لا أصاب خيراً. وقال الجزري: هذه الكلمة جارية علىٰ ألسنة العرب لا يريدون بها الدعاء علىٰ المخاطب ولا وقوع الأمر به كما يقولون قاتله الله. وقيل: معناها: لله درك، وقيل: أراد به المثل ليرىٰ المأمور بذلك الجدّ، وأنَّه إن خالفه فقد أساء).
6- ([6]) الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 332 و333/ باب فضل من تزوَّج ذات دين وكراهة من تزوَّج للمال/ ح 1).

وعن إسحاق بن عمّار، قال: سمعت أبا عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يقول: «من تزوَّج امرأة يريد مالها ألجأه الله إلىٰ ذلك المال»((1)).

وعن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «إذا تزوَّج الرجل المرأة لجمالها أو مالها وُكِّل إلىٰ ذلك، وإذا تزوَّجها لدينها رزقه الله الجمال والمال»((2)).

الخطوة الثالثة: ما بعد الزواج:

عند الزواج سيعيش الزوجان فترة عسلية وحياة بألوان مخملية، لكنَّها في العادة تبدأ بالخمول شيئاً فشيئاً، إذ ستظهر الخفايا للعلن، وسيشوب العسلَ شيءٌ من الحنظل، وستظهر بعضُ البقع السوداوية لتُمزِّق تلك الألوان الصافية، وربَّما لا نجد زوجين يبقيان علىٰ ما هما عليه أثناء الخطوبة إلَّا النادر.

إنَّ هذا واقع لا يُنكِره أحد، وهذه هي طبيعة الحياة، وبغضِّ النظر عن أسبابها فهي واقع معاش.

أنا لا أُريد أنْ أنقد هذه الحالة، وإنَّما أُريد الإشارة إلىٰ أنَّ علىٰ الزوجين في هذه المرحلة أنْ يتص_رَّفا بعقلانية، وإلَّا فإنَّ الهدوء سيرحل بعيداً عن البيت، والسَّكَنُ النفس_ي سيُلملم أغراضه، والابتسامة ستختفي، ليتحوَّل البيت إلىٰ سجن لكلٍّ من الزوجين، بل والأولاد.

وعليه، فلا بدَّ أنْ يسلك الزوجان سلوكاً واقعياً عقلائياً يتضمَّن الالتفات إلىٰ النقاط التالية:

ص: 147


1- ([1]) الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 333/ باب فضل من تزوَّج ذات دين وكراهة من تزوَّج للمال/ ح 2).
2- ([2]) الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 333/ باب فضل من تزوَّج ذات دين وكراهة من تزوَّج للمال/ ح 3).

النقطة الأُولىٰ: الواقعية:

فارس وفتاة الأحلام، خدعة حمراء صاغتها أيادي (هولي وود) وثيابها الحمراء؛ لتجعل الشباب يعيشون عالماً بلا واقع، حتَّىٰ إذا ما انصدموا بالواقع عاشوا التعاسة والتبرُّم والتضجُّر.

علينا أنْ نعيش واقعنا، فليس كلُّ الرجال كيوسف الصدّيق أو كأمير المؤمنين (عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ)، وليست كلُّ النساء كزليخا أو كالزهراء (عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ).

علينا أنْ نلتفت إلىٰ أنَّ كلَّ جميل فهناك من هو أجمل منه، وأنَّ العصمة لأهلها، وأنَّ الخطأ وارد عند كلِّ واحدٍ منّا، فلا ينصدمنَّ أحدنا بواقع لم يكن بالحسبان.

النقطة الثانية: التقبُّل:

ويترتَّب علىٰ النقطة الأُولىٰ أنَّ علىٰ الشباب والشابّات أنْ يتقبَّلوا هذا الوضع الواقعي، وأنْ يعملا عملاً مزدوجاً تجاهه يتمثَّل بالتالي:

أوَّلاً: تقبُّل الخطأ لو وقع.

ثانياً: العمل علىٰ تصحيحه، لكن بأُسلوب حضاري مؤدَّب بعيد عن التشنُّج والتعصُّب.

النقطة الثالثة: استشراف المستقبل:

علىٰ الزوجين بعد أنْ يعيشا ويتقبَّلا الواقعية أنْ يضعا في خلدهما أنَّهما في صدد تشييد صرح حياتي يُزيِّنه أولاد المستقبل، وبالتالي فعليهما أنْ يسحقا علىٰ كثير من أحاسيسهما ويتنازلا عن بعض مراتب كبريائهما من أجل إضفاء أجواء خلّاقة للسعادة والإبداع، ليعيش الأولاد في أجواء مريحة وهادئة.

ومن هنا عليهما أنْ ينتبها إلىٰ أنَّ لهما تأثيراً قويًّا علىٰ سلوك

ص: 148

أولادهما((1))، ويتلخَّص هذا السلوك بما ذكرته أدبيات وتربويات ديننا، ممَّا سنعرفه إن شاء الله تعالىٰ في المرحلة الثانية التالية.

المرحلة الثانية: مرحلة التأثير:

أيُّها الزوجان، اعلما أنَّه يوجد في داخل البيت معكما كائنات لطيفة جدًّا، قد تمَّ تزويدها بمجسّات ومستشعرات دقيقة ورائعة تُسجِّل كلَّ تصرُّف تقومان به، كلَّ حركة وكلَّ سكون، كلَّ كلام وكلَّ صمت.

إنَّها كائنات نظنُّ أنَّها كائنات صغيرة في عقلها كصغر أجسامها، ولكن الواقع يشهد أنَّ عقولها أكبر بكثير من أجسامها.

إنَّهم الأطفال يا سادة!

إنَّ لديهم من الذكاء والذاكرة ما نعجب لو اطَّلعنا عليها.

نعم، هم لم يصلوا إلىٰ مرحلة تُمكِّنهم من التعبير عمَّا يشعرون به أو يفهمونه، لعدم قدرتهم علىٰ تركيب الألفاظ أو اختيارها بصورة صحيحة، ولكنَّهم بالتالي يُمثِّلون منظومة متكاملة لحفظ الأقوال والأفعال وربطها واختزانها في أعمال النفس واللّاوعي، لتتحوَّل في يوم ما إلىٰ سلوك خارجي.

إذن، عليكِ أيَّتها الأُمُّ، وأنت كذلك أيُّها الأب، أنْ تحذرا من هذه الكائنات التي تراقبكما عن كثب، بعيون يقظة، وأسماع منتبهة.

أحسنا التصرُّف، لأنَّكما تغرسانه في أولادكما.

إنَّ الهدوء الذي يعيشه الأبوان سينعكس بصورة تلقائية علىٰ تصرُّفات الأطفال.

ص: 149


1- ([1]) ولأهمّية هذا الموضوع سنذكر بعد قليل استطراداً بعنوان: كيف تضفي السعادة علىٰ حياتك الزوجية؟ فانتظروا معنا.

أمَّا لو كانا يعيشان المشاكل، والمشاحنات، والاتِّهامات، والسباب، والاستهزاء، فلا شكَّ أنَّ نفسية الأطفال ستكون متلائمة مع هذه الحياة الصاخبة غير المتَّزنة.

وقد ركَّزنا كثيراً في تربية العفاف علىٰ ما يتعلَّق بهذه المفردة، وهكذا في التربية العقائدية وغيرها.

استطراد.. كيف تضفي السعادة على حياتك الزوجية؟

نحن وإنْ كنّا نتكلَّم عن تربية الأطفال، ولكن حيث إنَّ للجوِّ العائلي تأثيراً مباشراً في ذلك، فلا بأس أنْ نتعرَّض لهذا العنوان عبر تنقيط ما ينبغي وما لا ينبغي في هذه العلاقة المقدَّسة.

إنَّ واقع الحياة يفرض علىٰ الزوجين أنْ يعملا قدر الإمكان علىٰ المحافظة علىٰ نوع من السعادة في حياتهما، لما في ذلك من أثر في تحسين سلوك الأولاد، لأنَّه سيجعلهم يعيشون الهدوء والطمأنينة، فضلاً عن السكن النفسي للزوجين نفسيهما.

ولأجل المحافظة علىٰ ذلك لا بدَّ من ملاحظة خطَّين للمساعدة علىٰ ذلك: خطّ الفعل، وخطّ ترك الفعل، وبالتفصيل التالي:

الخطُّ الأوَّل: خطُّ (افعل):

وأعني به: أنَّ هناك أفعالاً إذا حافظ عليها الأبوان فإنَّ من شأنها توليد السعادة بقدر رائع، وهذا الخطُّ يتضمَّن الأفعال التالية:

الفعل الأوَّل: العبادة:

لا شكَّ أنَّ العبادة من شأنها أن تضفي الاطمئنان علىٰ النفس، قال تعالىٰ: ]الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ 28[ (الرعد: 28).

ص: 150

فإذا أراد الزوجان أنْ يحافظا علىٰ الهدوء في بيت الزوجية، فعليهما أنْ يتمثَّلا العبادة في أفعالهما وأقوالهما، ويكونا قدوة صالحة لأولادهما في ذلك.

لقد أكَّدت الروايات الش_ريفة علىٰ هذا الخُلُق العبادي، فأنْ يتعاون الزوجان علىٰ العبادة يعني أنَّهما يعيشان الهدوء الداخلي، يعني أنَّهما يمشيان وفق الخطِّ الإلهي.

إنَّ تعاونهما علىٰ طاعة الله تعالىٰ يوحي للأولاد أنَّ أبويهم يتَّفقان علىٰ ضرورة الالتزام بالعقيدة الحقَّة، الأمر الذي سينعكس علىٰ الأولاد في سلوكهم.

إنَّ رؤية الأولاد لأبويهم يدعيان معاً، أو يُصلّيان معاً، أو يتعاونان علىٰ فهم القرآن، أو يتذاكران رواية شريفة، وما شابه، لهو أقوىٰ طريق يمكنه أن يصقل روح الأولاد ويُهذِّبها من الأخطاء.

وقد روي عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «رحم الله رجلاً قام من الليل فصلّىٰ، وأيقظ امرأته فصلَّت، فإنْ أبتْ نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلَّت، وأيقظت زوجها فصلّىٰ، فإنْ أبىٰ نضحت في وجهه الماء»((1)).

وعن النبيِّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أنَّه قال: «إذا أيقظ الرجل أهله من الليل وتوضَّئا وصلَّيا، كُتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات»((2)).

الفعل الثاني: الاحتفاظ بابتسامة خفيفة في كلِّ الأوقات:

فهي كالملح في الطعام، وهي التي تجذب القلوب من دون شعور، وهي التي تُعطي الآخر إحساساً بالأمان.

ص: 151


1- ([1]) كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 7/ ص 785/ ح 21403).
2- ([2]) وسائل الشيعة للحرِّ العاملي (ج 7/ ص 257/ الباب 9 من أبواب قواطع الصلاة/ ح 9268/10).

جرِّب أنْ تدخل البيت بعد طول العمل وأنت بوجه عبوس، لاحظ كيف ستكون ردَّة أفعال زوجتك وأولادك.

وجرِّب مرَّة أُخرىٰ أنْ تدخل مبتسماً، لترىٰ كيف ستنعكس البسمة تلقائياً علىٰ زوجتك وأولادك.

وأنتِ كذلك أيَّتها الزوجة، فليس من الصحيح أنْ تلبس_ي وجهكِ بالمقلوب لأنَّ عمل البيت أتعبكِ، أو لأنَّ زوجكِ لم يسمح لكِ بالذهاب إلىٰ حفل زواج ابنة خالتكِ! فابنة خالتكِ الليلة تتصنَّع الابتسامات وتُوزِّعها بالمجّان، فلا تقلبي بيتك إلىٰ جحيم!

أنتِ أيَّتها الزوجة، بيدكِ أنْ تجعلي من بيتكِ واحة من ورود البنفسج، أو صحراء من شوك القتاد...، الأمر بيدكِ.

لقد كانت الدعابة اللطيفة والابتسامة الخفيفة من الأُمور التي دعا إليها الدِّين في تربوياته، ولقد كانت من سمات صاحب الخُلُق العظيم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، فقد روي عن عبد الله بن الحارث بن حرز، قال: ما رأيت أحداً أكثر تبسُّماً من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)((1)).

وعن أبي الدرداء، قال: كان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) إذا حدَّث بحديث تبسَّم في حديثه((2)).

وعن معمر بن خلاد، قال: سألت أبا الحسن (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، فقلت: جُعلت فداك، الرجل يكون مع القوم فيجري بينهم كلام يمزحون ويضحكون؟ فقال: «لا بأس ما لم يكن»، فظننت أنَّه عنىٰ الفحش، ثمّ قال: «إنَّ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) كان يأتيه الإعرابي فيهدي له الهدية ثمّ يقول

ص: 152


1- ([1]) ينابيع المودَّة لذوي القربىٰ للقندوزي (ج 2/ ص 264/ ح 748).
2- ([2]) مكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي (ص 21).

مكانه: أعطنا ثمن هديتنا، فيضحك رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، وكان إذا اغتمَّ يقول: ما فعل الإعرابي؟ ليته أتانا»((1)).

وعن الفضل بن أبي قرة، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «ما من مؤمن إلَّا وفيه دعابة»، قلت: وما الدعابة؟ قال: «المزاح»((2)).

وعن يونس الشيباني، قال: قال أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «كيف مداعبة بعضكم بعضاً؟»، قلت: قليل، قال: «فلا تفعلوا((3))، فإنَّ المداعبة من حسن الخُلُق، وإنَّك لتدخل بها الس_رور علىٰ أخيك، ولقد كان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) يداعب الرجل يريد أنْ يسرَّه»((4)).

الفعل الثالث: السلام:

سلِّمْ علىٰ أهلك، يكثرْ خير بيتك((5)).

أفشِ السلام، يكثرْ خير بيتك((6)).

هكذا اختصرها الرسول الأكرم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ).

إنَّه السلام، ما يضفي علىٰ الحياة رونقاً رائعاً، إنَّه ما يجعل المقابل يشعر بأنَّه في أمان منك، وبالتالي سيبادلك شعوراً صادقاً.

أخي العزيز، عليك أنْ لا تخرج من بيتك ولا تدخل إليه إلَّا وتلقي التحيَّة علىٰ من فيه.

ص: 153


1- ([1]) الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 663/ باب الدعابة والضحك/ ح 1).
2- ([2]) الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 663/ باب الدعابة والضحك/ ح 2).
3- ([3]) في هامش المصدر: (أي فلا تفعلوا ما تفعلون من قلَّة المداعبة بل كونوا علىٰ حدِّ الوسط).
4- ([4]) الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 663/ باب الدعابة والضحك/ ح 3).
5- ([5]) كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 15/ ص 909/ ح 43571).
6- ([6]) الخصال للشيخ الصدوق (ص 181/ ح 246).

علِّموا أولادكم أنْ يبدؤوا صباحهم بإلقاء التحيَّة عليكم وعلىٰ بعضهم البعض.

علِّموهم أنَّ مفتاح أيِّ كلام هو السلام.

فعن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «... وإذا دخل أحدكم بيته فليُسلِّم، فإنَّه ينزله البركة وتؤنسه الملائكة...»((1)).

الفعل الرابع: العناق:

أنْ تعانق زوجتك ليس فقط عند الحاجة الخاصَّة، بل في أوقات متباينة، هذا فعلٌ له من المردود الإيجابي في تقوية أواصر المحبَّة بينكما الشيء الكثير.

عندما تَقْدِم من سفرك، أو تريد أنْ تسافر.

عندما تجلسان صباحاً.

عندما تخلوان في بعض ساعات النهار.

عندما تتصادمان في ساحة البيت بلا قصد.

جميلٌ جدًّا أنْ يتخلَّل هذه الأحوال معانقة خفيفة.

لكن بش_رط: أنْ لا تكون أمام الأولاد، فقد عرفنا أنَّه لا بدَّ أنْ تُبعِدا أولادكما عن أيِّ فعل من شأنه أنْ يستثير فيهم الكوامن.

الفعل الخامس: القُبْلة:

فاصل إعلاني! ابقوا معنا..

التدخين مض_رٌّ جدًّا بالقُبُلات يُرجىٰ الامتناع عنه، أو تنظيف الفم قبله علىٰ الأقلِّ.

رُبَّ أكلة منعت أكلات، ورُبَّ قُبلةٍ منعت قُبُلات!

ص: 154


1- ([1]) علل الشرائع للشيخ الصدوق (ج 2/ ص 583/ الباب 385/ ح 23).

ماذا تستنج من الفاصل؟

من أقوىٰ وألطف وأرقّ الطُّرُق لتقوية الودِّ والمحبَّة بين الزوجين هي القُبلة، فهي أوَّل رُسُل الحُبِّ بينهما، ليس فقط من أجل الحاجة الخاصَّة (الوقاع)، وإنَّما لعدَّة غايات، منها:

قُبلة الشوق علىٰ الخدَّين.

قُبلة الرضا علىٰ الجبين.

قُبلة الاعتراف بالفضل علىٰ اليدين.

قُبلة الاعتذار الرقيق علىٰ الرأس.

وهذه القُبُلات تعمُّ الزوجين وغيرهما، فهي رُسُل محبَّة وودٍّ للجميع، ويمكن أنْ تقع أمام الأولاد.

أمَّا قُبلة (الفم) فلا تكون إلَّا للزوجة، ولا تكون إلَّا في مكان خاصٍّ بعيد عن الأولاد((1))، هكذا تعارف عند الناس، وهكذا أرادت التربويات العامَّة((2)).

أكثروا من القُبَل، لا تكونوا وحشيين، فهي (رشاوىٰ) مجّانية، تزيل الغمَّ، وتدفع التعب، وتُمهِّد الطريق لما تُحِبُّون.

ولا تنسوا أنْ تتعاهدوا الفم بالتنظيف والروائح العطرة، ولا حاجة للإشارة إلىٰ ضرورة ذلك أكثر من هذا.

ص: 155


1- ([1]) الكلام هنا من وجهة نظر تربوية.
2- ([2]) عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «ليس القُبلة علىٰ الفم إلَّا للزوجة والولد الصغير). (الكافي للشيخ الكليني: ج 2/ ص 186/ ح 6؛ تحف العقول لابن شعبة الحرّاني: ص 409؛ بحار الأنوار للعلَّامة الجلس_ي: ج 10/ ص 246/ ح 12؛ مشكاة الأنوار لعليٍّ الطبرسي: ص 353).

الفعل السادس: الهدية:

هي رمز الحُبِّ العميق، والتقدير الشديد.

فأنْ يلتقط الزوج أو الزوجة هدية بسيطة أو ثمينة ويُقدِّمها للآخر - سواء في مناسبة أو غير مناسبة - لهو أمر كفيل بتجديد الحُبِّ بين الزوجين.

وأنْ تتقدَّم هديةٌ بسيطة أمام اعتذار أو طلب شيء، لهو من حسن الذوق.

أنْ يتحيَّن الزوجان أيَّ مناسبة لتقديم هدية - ولو كانت علبة بسكويت أو حلوىٰ لذيذة - موجبٌ لزيادة نبضات الحُبِّ والوئام بينهما.

فعن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «الهدية تُذهِب الضغائن من الصدور»((1)).

وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «الهدية تورث المودَّة، وتُجدِّد الأُخوَّة، وتُذهِب الضغينة، تهادوا تحابُّوا»((2)).

وعن الإمام عليٍّ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «لأن أُهدي لأخي المسلم هديةً تنفعه، أحبُّ إليَّ من أنْ أتصدَّق بمثلها»((3)).

وعن

رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «الهدية علىٰٰ ثلاثة أوجه: هدية مكافأة، وهدية مصانعة، وهدية لله عَزَّوَجَل»((4)).

إنَّ خطَّ (افعل) لا ينتهي بهذه الأفعال الستَّة، وإنَّما ذكرتُ هذه الأُمور لأنَّها أُهملت بشكل مُفرط، ولأنَّ لها دوراً فعّالاً في استجذاب المحبَّة وتوطيد أواصر المودَّة.

ص: 156


1- ([1]) عيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) للشيخ الصدوق (ج 2/ ص 79/ ح 343).
2- ([2]) عوالي اللئالي للأحسائي (ج 1/ ص 294/ ح 183 و184).
3- ([3]) الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 144/ باب الهدية/ ح 12).
4- ([4]) الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 141/ باب الهدية/ ح 1).

الخطُّ الثاني: خطُّ (لا تفعل):

أعني: أنَّ هناك أفعالاً علىٰ كلا الزوجين الابتعاد عنها، لأنَّها تعمل في المحبَّة عمل الخلِّ في العسل، وعمل الكذب في الإيمان.

وهناك قائمة طويلة الذيل نذكر منها الأُمور التالية:

أوَّلاً: عدم التجسُّس علىٰ الهاتف، أو الدخول بصفحة (فيس بوك) وهمية علىٰ الآخر ومحاولة استدراجه!

ثانياً: عدم إظهار النزاعات الشخصية أمام الغير، كالأولاد، والأب والأُمِّ من كلا الطرفين، والأقارب، أو الأصدقاء، فأسراركما لا بدَّ أنْ تبقىٰ في بئر سرِّ غرفتكما، ولا تظهر لأيِّ أحدٍ أبداً.

فإظهار الشكوىٰ أمام الغير خطأ فادح لا بدَّ من الابتعاد عنه.

ثالثاً: إيّاك أيُّها الزوج أنْ تستهين بأهل زوجتك أو تتحدَّث عنهم بسوء، فمهما تكن أنت حبيبها، لكنَّهم أهلها.

وكذلك أنتِ أيَّتها الزوجة، لا تكوني ثرثارة وتتكلَّمي علىٰ (أُمِّ زوجكِ) أو (أخيه أو أُخته) أمام جاراتكِ أو أخواتكِ، فقد يصل الخبر إلىٰ زوجكِ، وعندها سيكون مأواكِ أقرب مستشفىٰ!

رابعاً: إيّاكِ - أنتِ أيَّتها الزوجة - أن تخوني زوجكِ، بكلمة، أو فعل، أو تصرُّف، فإنَّ الخيانة مصيرها مجهول، بل مصيرها الهلاك.

خامساً: لا تهن زوجتك أمام الأولاد، أو أمام الناس، مهما كانوا أقرباء، فهذا سيجعلها تحسُّ بالدونية، هذا إذا لم تُفكِّر بالثأر في يوم ما!

كذلك أنتِ أيَّتها الزوجة، إيّاكِ أنْ تُقلِّلي من شأنه في غيابه أمام أولادكما أو غيرهم، فلا أعتقد أنَّكِ تملكين الشجاعة لتتكلَّمي بوجهه بنفس الكلام بينكِ وبين صديقتكِ أو أُمِّكِ!

ص: 157

سادساً: لا تكوني غيورة أكثر من اللازم، فإنَّ شدَّة الغيرة تُولِّد المشاكل الكثيرة من أسباب تافهة، واحذري، فبعد أيّام سوف لن يهتمَّ زوجكِ كثيراً لغيرتكِ، وسيترك لكِ (أُسطوانة البيت) لتض_ربي بها (رأسكِ) متىٰ ما أعجبكِ الأمر!

وأنت أيُّها الزوج، عليك أنْ تُعطي لزوجتك إحساساً بأنَّك تثق بها، فلا تتغاير عليها أكثر من اللازم، ولكن إيّاك والتهاون في حجابها وحشمتها عند الخروج، عليك أنْ تضع خطوطاً حمراء، وبعدها يكون التفاهم وفقها واضحاً، فعليك أنْ تتعامل بالوسطية في هذا المجال، تماماً كما قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «وَإِيَّاكَ وَالتَّغَايُرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ غَيْرَةٍ((1))، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْعُو الصَّحِيحَةَ إِلَىٰ السَّقَمِ، وَالْبَرِيئَةَ إِلَىٰ الرِّيَبِ»((2)).

وكما قال الشاعر:

لا تربط الجرباء قرب صحيحةٍ *** خوفاً علىٰ تلك الصحيحة تجربُ

المؤثِّر الثاني: الإعلام:

فيما مض_ىٰ لم يكن في البيت من يقاسم الأبوين ويشاطرهما في تربية الأولاد، فلم يكن إلَّا الأبوان، يعملان علىٰ صياغة شخصية الأولاد.

أمَّا اليوم فقد دخل عنوةً ضيفٌ مرغوبٌ فيه! خفيف الظلِّ، يؤنس الوحدة، ويدفع الوحشة، لكنَّه مع الأسف صار فضولياً أكثر من اللازم، بل هو ما دخل إلَّا ليكون فضولياً، فأخَذَ يتدخَّل في

ص: 158


1- ([1]) في هامش المصدر: (التغاير: إظهار الغيرة علىٰ المرأة بسوء الظنِّ في حالها من غير موجب).
2- ([2]) نهج البلاغة (ج 3/ ص 56 و57).

خصوصيات البيت، ليُعطي نصائح هي في الواقع خطايا، وأخذ يجود بحلول للمشاكل هي في الواقع خلّاقة لمشاكل أصعب.

لقد تمادىٰ هذا الضيف في فضوله حتَّىٰ جلس مجلساً يصعب إزاحته عنه بعدها، فصار يأمر وينهىٰ، وبيده صار الفرح والحزن.

إنَّه (الإعلام).

أو قل: المذياع، والتلفاز، والإنترنت.

لقد كان الإعلام سابقاً بيد الشعراء، فالشاعر كان عبارة عن أداة إعلامية أو قناة فضائية كما اليوم، يمكن أن تجعل من فرد خامل الذكر عظيماً ولو من دون عظمة، كما يمكنها أن تجعل من الدعوىٰ الفارغة حقًّا مستدلًّا، والتاريخ حفظ لنا بعض الشواهد عن تلك الأُمور.

قيل: إنَّ بعض التجّار قدم مدينة الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) ومعه حِمْلٌ من الخُمُر - جمع خمار - السود فلم يجد لها طالباً، فكسدت عليه وضاق صدره، فقيل له: ما ينفقها إلَّا مسكين الدارمي، وهو من مجيدي الشعراء الموصوفين بالظرف والخلاعة، فقصده فوجده قد تزهَّد وانقطع في المسجد، فأتاه وقصَّ عليه القصَّة، فقال: وكيف أعمل، وأنا قد تركت الشعر وعكفت علىٰ هذه الحال؟ فقال له التاجر: أنا رجل غريب، وليس لي بضاعة سوىٰ هذا الحمل، وتض_رَّع إليه، فخرج من المسجد وأعاد لباسه الأوَّل وعمل هذين البيتين:

قل للمليحة في الخمار الأسود *** ماذا أردت بناسك متعبِّد

قد كان شمَّر للصلاة ثيابه *** حتَّىٰ قعدت له بباب المسجد

فشاع بين الناس أنَّ مسكيناً الدارمي قد رجع إلىٰ ما كان عليه، وأحبَّ واحدة ذات خمار أسود، فلم يبقَ في المدينة ظريفة إلَّا وطلبت

ص: 159

خماراً أسوداً، فباع التاجر الحمل الذي كان معه بأضعاف ثمنه لكثرة رغباتهم فيه، فلمَّا فرغ منه عاد مسكين إلىٰ تعبُّده وانقطاعه((1)).

ونُقِلَ أنَّ قبيلة من قبائل العرب كانت تُسمّىٰ (أنف الناقة)((2))، وكانت مستهجنة بين العرب لهذا الاسم، وذات يوم استضاف أحدهم الحطيئة، فأكرمه، ثمّ طلب منه حلًّا لهذه المعضلة، فقال الحطيئة فيهم بيتاً واحداً من الشعر قلب فيها سمعة بني أنف الناقة رأساً علىٰ عقب:

قوم هم الأنف والأذناب غيرهمُ *** فمن يُسوّي بأنف الناقة الذَنَبَا

فكان كلُّ واحدٍ من أفراد هذه القبيلة يفرح أنَّه منها ويفتخر بذكر قبيلته عندما يُسئل من أيِّ قبيلة هو، بل قيل: إنَّه كان لأحدهم سبع بنات لم يتقدَّم إليهنَّ أحد، وبعد كلام الحطيئة تسابق العرب علىٰ خطبتهنَّ، فخُطبْنَ جميعاً في يوم واحد((3)).

وحدث في يوم من الأيّام أنَّ جرير الشاعر هجا الراعي الشاعر من بني نمير، فقال:

ص: 160


1- ([1]) الكنىٰ والألقاب للشيخ عبّاس القمّي (ج 2/ ص 226).
2- ([2]) الأنساب للسمعاني (ج 4/ ص 486): قال ابن الكلبي، عن رجل من بني أنف الناقة يقال له: إسماعيل، قال: إنَّما سُمّي جعفر بن قريع بن عوف بن كعب بن زيد مناة بن تميم بن أنف الناقة، لأنَّ قريعاً نحر جزوراً فقسَّمها في نسائه، وكان عنده ثلاث نسوة، منهم الشموس بنت القمر، من بني وائل بن سعد بن هذيم بن قضاعة، أُمّ جعفر بن قريع، فقالت: انطلق إلىٰ أبيك فانظر هل بقي عنده شيء، فأتاه فلم يجد عنده إلَّا رأس الجزور، فأخذ بأنفها يجرُّه، فقيل: ما هذا؟ فقال: أنف الناقة، فسُمّي بذلك. وكانوا يغضبون من ذلك، فلمَّا مدحهم الحطيئة الشاعر صار مديحاً، مدح بغيض بن عامر بن لأبي بن شماس بن أنف الناقة، وهو قوله: قوم هم الأنف والأذناب غيرهمُ *** ومن يساوي بأنف الناقة الذنبا
3- ([3]) 8 طُرُق لهندسة الحياة وصناعة التأثير لعليٍّ الحمادي (ص 42 و43).

فغُضَّ الطرف إنَّك من نمير *** فلا كعباً بلغْت ولا كلابا((1))

فلقيت نمير من هذا البيت ما لقيت.

وجعلهم الشاعر مثلاً فيمن وضعه الهجاء، وهو يهجو قوماً من العرب:

وسوف يزيدكم ضِعَةً هجائي *** كما وضع الهجاءُ بني نمير

ونمير قبيل شريف، وقد ثلم في شرفهم هذا البيت((2)).

فلا يمكن لأحد اليوم أن يغضَّ الطرف عن التأثير القويِّ للإعلام، إلَّا أن يخرج عن العصر ويعيش في عالم الخيال والمثاليات.

لقد ضيَّفْنا في بيوتنا شاعراً بل شعراء، والإعلام اليوم بكلِّ قنواته وأنواعه يُمثِّل ضاغطاً قويًّا جدًّا علىٰ برمجة السلوك بوجهة معيَّنة.

كم من زوجة أرهقت كاهل زوجها ليشتري لها ما يتماشىٰ مع (الموضة)، أو ليشتري لها (حذاءً) من ماركة أكثرت (قناتها المفضَّلة) من الإعلان عنه!

وكم من ولد نظر إلىٰ أبيه نظرة شزر، لأنَّ بطله لم يُعِرْ لأبيه أيِّ أُذُن عندما منعه عن سفر معيَّن!

ص: 161


1- ([1]) في ونقل آخر: (فلا سعداً...)؛ و(البيت لجرير الخطفي، يهجو به الراعي النميري الشاعر. وغضّ النظر أي: كف بص_رك ذلًّا ومهانةً. وسعد وكلاب حيّان من تميم. وفي تفسير الطبري: فلا كعبا بلغت...). (تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي: ج 10/ هامش ص 260).
2- ([2]) حتَّىٰ نُقِلَ أنَّه مرَّت امرأة حسناء بقوم من بني نمير مجتمعين في نادٍ لهم، فرمقوها بأبصارهم، وقال قائل منهم: ما أكملها لولا أنَّها رسحاء (أي قبيحة)! فالتفتت إليهم وقالت: والله يا بني نمير، ما أطعتم الله ولا الشاعر، قال الله تعالىٰ: ]قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ[ [النور: 30]. وقال الشاعر: فغُضَّ الطرف إنَّك من نمير *** فلا كعبا بلغت ولا كلابا فأخجلتهم. (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 20/ ص 238 و239).

وكم من فتاة استمرأت الرذيلة، لأنَّ مُخرج الفيلم أحاط الرذيلة بثوبٍ من المظلومية والانكسار لفتاة خانت زوجها، لأنَّه يكبرها بعدَّة سنوات ولم تتزوَّجه عن حُبٍّ مسبق!

وهكذا، صار الإعلام نبيًّا يُوحي إلينا بامتثال أوامره ولو من طرف خفي.

إنَّ الإعلام يعمل بطريقة (step by step) أي خطوة خطوة، وهي نفسها طريقة عمل الشيطان، إذ إنَّه يعمل علىٰ إغواء بني آدم بطريقة الخطوات، للإيقاع في المصيدة، ولا يعمل بشكل مفاجئ ودفعي، قال تعالىٰ: ]وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ 168[ (البقرة: 168).

وقال تعالىٰ: ]يا أَي_ُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ[ (النور: 21).

والإعلام كذلك، فهو يتدرَّج بالإقناع، فيُوحي أوَّلاً صورة معيَّنة، يعمل المخرجون علىٰ تأطيرها بالإطار الذي يرغبون به، لتبدأ عملية الإيحاء في (لا وعي) المتابع، حتَّىٰ يُصدِّق بها ويقتنع، في عملية ممنهجة لغَسل الدماغ، وبعدها ستكون ترجمتها إلىٰ سلوك عملي سهلة جدًّا علىٰ الطبع.

وأكثر فئة تتأثَّر بالإعلام هو (الطفل)، ذلك لأنَّه وكما عرفنا أكثر من مرَّة ما زال عجينة فيها كلُّ الاستعداد للتشكَّل بأيِّ شكل يُراد له ويُصاغ عليه، فإذا فتح جميع منافذ الاستقبال لديه أسرع التلفاز لتغذيتها، بادئاً ببذر البذور في منبت نفس الطفل، ثمّ يعمل علىٰ سقايتها بالبرامج المشوِّقة والمتنوِّعة، ليصل بالتالي إلىٰ هدفه غير المعلن، ممَّا يُنظِّم سلوك الطفل حسب الذي يُحِبُّه المنتجون والمخرجون!

ص: 162

لماذا تقاسم الإعلامُ التربيةَ مع الوالدين؟

في الواقع هناك عدَّة أسباب أدَّت إلىٰ أنْ تُتاح الفرصة أمام الإعلام ليأخذ دور الش_ريك للأبوين في عملية التربية، وربَّما الش_ريك الأقوىٰ فيها، هذا إذا لم يُزِح ويُبعِد الأبوين عن أخذ أيِّ دور في التربية ولم يستأثرْ بالعملية تلك لوحده.

ومن تلك الأسباب هي التالي:

أوَّلاً: قلَّة الوعي الثقافي التربوي لدىٰ الوالدين، ممَّا يعني فقرهما بالطُّرُق الناجعة في التأثير.

ثانياً: إهمال الأولاد من دون إعطائهم الوقت الكافي، ممَّا يُؤدّي إلىٰ إحساسهم بالفراغ، وسيلجؤون إلىٰ التلفاز لملئ تلك الأوقات.

ثالثاً: الأساليب الفنّية عالية الدقَّة والتشويق، مصحوبةً بالمناظر الخلّابة والموسيقىٰ الجذّابة التي تأسر عيون الأطفال ثمّ عقولهم، ممَّا يبذل المنتجون عليه آلاف بل ملايين الدولارات!

رابعاً: وهذا أسوأ سبب، وهو: دفعُ الأبوين بأولادهما إلىٰ قضاء الوقت أمام الصندوق الناطق، تخلُّصاً من مشاكساتهم وإزعاجاتهم المستمرَّة، التي تربك الأُمَّ في مطبخها أو الأب ساعة نومه.

الأمر الذي أدّىٰ إلىٰ أن يتحوَّل (التلفاز) وال_ (الآي باد) إلىٰ مربّية أولاد وحاضنة صغار، يبعث الأبوان إليها فلذات أكبادهم، ليغرسوا فيهم (المبادئ) و(القيم) التلفازية والإنترنتية!

خامساً: تناغم البرامج التلفزيونية مع رغبات الأطفال الخيالية، إذ ترسم تلك البرامج أبطالاً خارقين، تجعل الأطفال يعيشون أحلام اليقظة في أنْ يكونوا مثلهم!

ص: 163

إنَّ هذه الأسباب وغيرها أدَّت إلىٰ (أنَّ الطفل قبل أن يبلغ ال_ (18) من عمره، يقض_ي أمام شاشة التلفاز (22) ألف ساعة، مقابل (14) ألف ساعة يقضيها في المدرسة، خلال المرحلة نفسها، ومع بدء القرن ال_ (21) زاد المعدَّل العالمي لمشاهدة الطفل للتلفزيون من ثلاث ساعات و(20) دقيقة يومياً إلىٰ خمس ساعات و(50) دقيقة، نتيجة للانتشار الواسع للفضائيات التلفزيونية)((1)).

المضمون العام لبرامج الأطفال التلفزيونية:

بمطالعة سريعة للفضائيات الموجَّهة للأطفال - والتي تجاوزت (80) قناة علىٰ بعض الإحصاءات - نجد أنَّها تشترك في بثِّ برامج تحتوي العناوين الرئيسية التالية:

العنوان الأوَّل: إشاعة روح الثقافة الغربية المنفلتة:

تتميَّز مجتمعاتنا الإسلاميَّة عموماً بالانضباط الاجتماعي وفق الأعراف والتقاليد والمبادئ التي يعيشها المسلمون، ولقد بقيت مجتمعاتنا محافِظة علىٰ قوانين الستر والناموس والغيرة والأُخوَّة الإيمانية إلىٰ فترات متمادية، إلىٰ أنْ بدأ التلفاز يغزو البيوت، ليبثَّ برامجاً تُشيع روح الثقافة المنفلتة والمستوردة من الغرب، فبدأت تلك العرىٰ الوثيقة بالانحلال شيئاً فشيئاً.

ص: 164


1- ([1]) تقرير لمنظَّمة الأُمَم المتَّحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونيسكو) حول معدّلات مشاهدة الأطفال العرب للتلفزيون/ مقال نش_رته الجمعية العربية للمسؤولية الإعلامية بعنوان: إعلام الطفل، واقعه وسُبُل النهوض فيه، دراسة تحليلية علىٰ قناة كرتون نت ويرك العربية، المؤرَّخ في 28/5/2014م/ نقلته عنه: سلسلة الاختراق الثقافي/ العدد 1/ فضائيات الأطفال وأخطارها الصادرة عن المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية (ص 7).

إنَّ برامج الأطفال اليوم تُؤكِّد علىٰ أنْ تجلس البنات بجنب الشباب من دون أيِّ حواجز، وعلىٰ أنْ يمزح بعضهم مع بعض إلىٰ حدٍّ يتصارعان علىٰ سرير واحد، تملؤ وجوههما غمرة الفرح، وتتبادل نظراتهما اللمحات المخملية.

لاحظ أيَّ فيلم كرتوني للأطفال، فإنَّك لا بدَّ وأنْ تجد قلوب الحُبِّ الحمراء تتطاير من عيون الفتيات عندما يريْنَ شابًّا وسيماً، ولا بدَّ أنْ ترىٰ شابًّا يلهث خلف فتاة أحلامه التي تتمنَّع عليه تمنُّع الراغب، إنَّها علاقات الغرام المنفتحة والحُبِّ الأعمىٰ!

وهكذا، سينغرس في نفوس بناتنا وأبنائنا التحلُّل والانفلات وعدم الانضباط، وعلىٰ الأقلِّ سوف يعيشون الرغبة الجامحة لتحويل ما يرونه في الفيلم إلىٰ واقع مع من يصادفه كلُّ واحدٍ من أفراد الجنس الآخر.

العنوان الثاني: عرض الأفكار المخالفة للعقيدة التوحيدية:

هل تعلم أنَّ اليابان تنتج ما يقرب من (100) فيلم كرتوني، وكندا مثلها، وشركة (والت ديزني) الأمريكية تمتلك حوالي (55) ألف موظَّف يعملون في إنتاج الرسوم المتحركة((1))؟!

إنَّ هذا يعني أنَّ معظم الأفلام الكرتونية تُنتَج في بلدان بعضها تعتقد الإلحاد، وبعضها تعتقد الثالوث المقدَّس، وهذا ما انعكس علىٰ تلك الأفلام، حيث ترويج (إله الش_رِّ وإله الخير)، وهناك القوىٰ الغريبة والخفيَّة، وهناك التأثير القويُّ للسحر، وهناك المعارك التي تدور بين آلهة الخير وآلهة الشرِّ، وهكذا.

ص: 165


1- ([1]) سلسلة الاختراق الثقافي (العدد 1/ ص 8)، عن كتاب: أدب الأطفال بين النظرية والتطبيق لهيثم خواجة (ص 72 و73).

هذا بالإضافة إلىٰ إنتاج الأفلام التي تُعلِّم الأطفال النظريات الدِّينية وفق المذهب السلفي المتطرِّف، الذي يُخفي جميع الشخصيات الإيجابية، ولا يذكر إلَّا من شهد القاصي والداني والتاريخ بانحرافه عن الخط ِّ الإسلامي، ليُظهروه بمظهر البطل الفاتح والرؤوف الصالح، ففي برنامج بثَّته قناة (MB(عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)) بعنوان: (رجال حول الرسول) لم يظهر فيه أيُّ ذكر لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) ولا للحسنين (عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ)، وبالتالي لم يُسلِّط الضوء علىٰ من عاداهم وقتلهم، والحُرُّ تكفيه إشارة.

العنوان الثالث: علاقات غير عفيفة، منفتحة أو شاذَّة:

لا نبالغ إنْ قلنا: إنَّ أكثر المسلسلات الكرتونية صارت تُركِّز بصورة وبأُخرىٰ علىٰ أنْ يكون للبطل شريكة جميلة، يفدي نفسه من أجلها، وهي ستقابله في نهاية كلِّ حلقة بوردة حمراء تمزجها بقبلة أُرجوانية!

وهكذا، تُكرِّر المسلسلات نزاعات الفتيات من أجل شابٍّ وسيم، أو شباب من أجل فتاة خلّابة.

فضلاً عن تشجيع الفتيات علىٰ ضرورة إظهار مفاتنها للشباب، وعلىٰ أنْ لا تخرج حتَّىٰ تتزين بأحسن زينتها، حتَّىٰ لا يقال عنها بأنَّها معقَّدة أو متخلِّفة!

إنَّ التركيز علىٰ (الجنس) أخذ مساحة واسعة من تلك الأفلام والمسلسلات الكرتونية - فضلاً عن غيرها ممَّا يشاهده الكبار بحضور الصغار! -، الأمر الذي سيُوحي للأطفال بالكثير من الخيالات الواسعة حول إمكانية تطبيق هذه اللقطات في حياتهم، ممَّا أدّىٰ إلىٰ ظهور مراهقين قبل أوان مراهقتهم، وإلىٰ ظهور تلميذات في الابتدائية يحملْنَ في حقائبهنَّ مساحيق وأدوات التجميل!

ص: 166

العنوان الرابع: إشاعة روح العنف:

عندما كنّا صغاراً نفرح كثيراً عندما يشتري لنا أهلنا كرة قدم أو سيّارة سباق كلاسيكية، أمَّا اليوم فالأولاد لا يرضون إلَّا ببندقية كبيرة أو سيف قتال!

لماذا؟

لأنَّ أبطالهم في العالم الوهمي والرقمي اشتهروا بالقوَّة، فالبطل فيها رجلٌ أعزل يهجم علىٰ عش_رات المسلَّحين ليقض_ي عليهم بأسرع من لمح البص_ر، أو أنَّه يركب سيّارة تتحوَّل إلىٰ رجل آلي عملاق يقاوم الغزاة من الكواكب الأُخرىٰ، أو فتاة جميلة تمتلك من سرعة الحركة وقوَّة البدن ما يعجز عن الوقوف في وجهها أعتىٰ الرجال...، وهكذا يعمل الطفل علىٰ تقمُّص شخصية بطله المفضَّل، ليُترجِم هذا المعنىٰ إلىٰ حركات قتالية وصياح مدوي وأسلحة فتّاكة!

وقد يصل الحال إلىٰ أنْ يحاول تطبيق تلك الحركات علىٰ أخيه الصغير أو صديقه في الشارع، بل لقد سمعت من مدير أحد مراكز الشرطة مباشرةً أنَّه حض_ر حادثة قتل، المجرم فيها طفل صغير، حيث قتل أُمَّه وهي تجلس في المطبخ تُحضِّ_ر الطعام، ول_مَّا سُئِلَ عن السبب وراء قتلها قال: إنَّه رأىٰ بطله المفضَّل في فيلمه قتل أُمَّه، فأراد أنْ يُقلِّده في ذلك!

العنوان الخامس: التشجيع علىٰ الغناء والرقص والاستعراض الجنسي:

وهذه أيضاً لم يخلُ منها فيلم أو مسلسل كرتوني، فضلاً عن غير الكرتوني.

إنَّ البرامج التي تُبَثُّ اليوم تتَّسمُ بأنَّها تتحوَّل فجأةً إلىٰ مقطع أُغنية يرقص

ص: 167

فيها الأطفال، ومشتملة علىٰ الاختلاط بين الجنسين، تتخلَّلها حركات إغرائية، فعيون الفتاة تقطر وروداً عندما ترىٰ رشاقة جسم الفتىٰ الوسيم!

وملابسها تُظهِر محاسنها برسم وتجسيم دقيق يُوحي إليك بأنَّها فتاة حقيقية!

والفتىٰ يتصنَّع السقوط ليقع بين أحضان حبيبته!

وهكذا، تُوفِّر تلك الأفلام مساحة واسعة من الاستعراضات الجنسية إلىٰ الحدِّ الذي ستحفظ معه الفتيات الصغيرات تلك الحركات الراقصة والتموّجات الغريبة في جسمٍ كأنَّه غصن بانٍ!

هذا فضلاً عن التبرُّج الصارخ الذي يملأ شاشة التلفاز بألوان زاهية، سواء من فتيات الأفلام أو حتَّىٰ مقدِّمات برامج الأطفال.

العنوان السادس: إشاعة روح الاستهلاك:

ما إنْ يتمَّ عرض بعض الأفلام أو المسلسلات حتَّىٰ تتسارع الإعلانات التجارية حول ألعاب تُجسِّم الأبطال أو أحداث تلك الأفلام.

وحالما يتسمرُّ الأطفال أمام شاشة التلفاز حتَّىٰ تطل عليهم إعلانات تجارية حول نوع الحقيبة المدرسية او حافظة الماء أو ملابس اللعبة أو مسايرة الموضة في الهندام.

وهكذا، يأتي الأب منهكاً من عمله ليستقبله أولاده في مظاهرة سلمية، وقد تتطوَّر لتكون مظاهرة مدجَّجة بسلاح الدموع أو العناد أو الصياح، وقد يكون بعضهم دبلوماسياً ليستخدم ورقة الضغط الأقوىٰ: الجدَّ أو الجدَّة مثلاً، لتضغط عليه هذه المظاهرات والقوىٰ ليستسلم لرغباتهم ومطالبهم، وسيذهب مضطرًّا للبحث كثيراً حتَّىٰ يجد المنتج المعلن عنه في القناة!

ص: 168

وبهذا يتربّىٰ الأولاد علىٰ روح الاستهلاك غير المبرَّر ولا المبرمج، إلىٰ الحدِّ الذي سيحكمون علىٰ أبيهم بالقاسي والبخيل لو لم يستطع أنْ يُوفِّر لهم تلك المنتوجات.

خلاصة مئوية لعناوين المسلسلات الكرتونية:

أصدرت منظَّمة اليونيسكو التابعة للمجلس العربي للطفولة والتنمية إحصائية بنسبٍ مئوية تُبيِّن فيها نسبة العناوين العامَّة للقنوات الفضائية الموجَّهة للأطفال، وخلاصتها التالي((1)):

1 - (97%) منها تحوي أفكاراً ومشاهد عنف.

2 - (75%) تُسبِّب البدانة.

3 - (70%) من المشاهد تحوي لبساً فاضحاً ومشاهد جنسية.

4 - (47%) تُعلِّم النصب والاحتيال.

5 - (30%) تعرض بعض الأفكار والعقائد غير المتوافقة مع المبادئ والقِيَم.

6 - (28%) يشاهدها الوالدان مع أبنائهم.

7 - (20%) تُقدِّم العلم والمعرفة!

الآثار السلبية للتلفاز على الأطفال

الآثار السلبية للتلفاز على الأطفال((2)):

حتَّىٰ نكون منصفين علينا أنْ نقول: إنَّ هناك برامجاً إيجابية تستهدف الأطفال تعرضها بعض القنوات التلفزيونية، فهناك البرامج

ص: 169


1- ([1]) سلسلة الاختراق الثقافي (العدد 1/ ص 27).
2- ([2]) مصدر العناوين العامَّة التالية هو: أطفال أصحّاء/ جامعة شمال ولاية كاليفورنيا، وجامعة ميتشغان للنظام الصحّي، والأكاديمية الأمريكية للأطفال.

التعليمية والترفيهية التي لا تتعارض مع أُصول التربية، وهناك برامج تُعلِّم الأطفال بعض المواهب العملية والمهارات اليدوية كالخطِّ والتطريز وما شابه.

ولكن نسبة هذه البرامج إلىٰ السلبية نسبة ضئيلة جدًّا، وبالتالي فإنَّ العقل يحكم بضرورة الحذر من تلك النسبة الكبيرة من البرامج السلبية، والتي تُؤدّي إلىٰ الكثير من الآثار السلبية علىٰ سلوك وعقل الطفل.

وبعد أنْ تعرَّفنا علىٰ الخطوط العامَّة لبرامج الأطفال، نُشير هنا إلىٰ جملة من الآثار السلبية التي يتعرَّض لها سلوك الأطفال حسب الدراسات والمتابعات العلمية والمسح الميداني:

الأثر الأوَّل: الاضطراب في مواعيد النوم:

يحتاج الطفل إلىٰ ساعات كافية من النوم ليأخذ جسمه راحته الكافية التي تضفي علىٰ سلوكه نوعاً من الاتِّزان، وعلىٰ عقله نوعاً من التفكير المبرمج.

إلَّا أنَّ مشاهدة التلفاز من دون تقنين أدَّت إلىٰ أنْ يتذبذب موعد النوم مدًّا وجزراً حسب الأفلام والمسلسلات التي يرتقبها الأطفال.

إنَّ أجمل الأفلام وأشوقها تُبَثُّ في ساعات متأخِّرة من الليل، وبالتالي سيضغط الطفل بكلِّ قوَّته علىٰ عينيه حتَّىٰ لا يستسلما للنعاس، ليتمتَّع بمشاهدة فيلمه المفضَّل للمرَّة العاشرة!

الأمر الذي يعني أنَّه سيقاوم النعاس كثيراً مرَّتين: مرَّة عندما يريد السهر لمشاهدة فيلمه المفضَّل، ومرَّة أُخرىٰ عندما يعلو صوت أُمِّه وهي تنادي عليه بالنهوض للذهاب إلىٰ المدرسة! عندها سيقوم يترنَّح من نومه، وسيذهب مجبوراً لمدرسته، وسيكون مجرَّد جُثَّة في فصله الدراسي،

ص: 170

من دون أنْ يستقبل عقله أيَّ معلومة من الأُستاذ، وهكذا تبدأ معاناة المعلِّم المريرة في إيصال المعلومة إلىٰ ذهن النعسان!

الأثر الثاني: التوحُّد، أو ما يقرب منه:

هل تعلم أنَّ أولادك يستمعون لبرامج التلفاز أكثر من استماعهم إلىٰ مواعظك؟! هذا لو كنت تعظهم!

وهل تعلم أنَّ الوقت الذي يقضونه مع أبطال أفلامهم أكثر من الوقت الذي تقضيه أنت معهم؟!

وهل تعلم أنَّ وَلَدَك يستمع بكلِّ إنصات لكلمات الفيلم الكرتوني، بحيث يمكن أنْ تناديه عش_ر مرّات من دون أنْ يشعر أو يسمع همس ندائك؟!

إنَّ هذه الحالة ستجعل من الطفل شيئاً فشيئاً يتَّخذ من التلفاز أباً مربّياً، وأُمًّا حنونة، إلىٰ أنْ يصل الأمر إلىٰ أنْ يألف الجلوس مفرداً معه، وحتَّىٰ لو غبتَ أنت عن البيت أيّاماً فإنَّه لن يشعر بالوحشة ما دامت برامجه المفضَّلة مستمرَّة بالعرض.

وهذا الأمر خَلَقَ قطيعةً خطرة جدًّا بين أعضاء البيت الواحد، وندرةً في تفاعل الأطفال مع أفراد العائلة، وهو إنذار خطر لا بدَّ من الإسراع في علاجه عبر خطوات تدريجية وئيدة.

الأثر الثالث: ندرة أو انعدام القراءة:

لا أعتقد أنَّ أحداً منّا لم يَعِدْ ولده بالسماح له بالجلوس أمام شاشة التلفاز لكن بش_رط أنْ يُكمِل واجباته المدرسية، واشتراط إكمال الواجبات ذلك أمر جيِّد، لكن أنْ نجعل جائزته مشاهدة التلفاز فهذا أمر علينا أن نتأمَّله قليلاً.

ص: 171

إنَّ هذه (المشارطة) تعني أنَّ الولد سيعمل بكلِّ جهد للإسراع بالانتهاء من واجباته، ممَّا يعني قلَّة التركيز عنده، بل يُؤدّي هذا الأمر بالتدريج إلىٰ أنْ يكره الولد تلك المشارطة، لأنَّها تس_رق منه وقته الممتع مع أحباب روحه في التلفاز، بل قد يصل الأمر إلىٰ أنْ يتصنَّع الولد أنَّه أكمل دروسه من أجل أنْ لا تفوته اللقطة الأُولىٰ من الحلقة!

ثمّ إنَّه ماذا تفعل إذا كان العرض قد شاهده الولد أكثر من مرَّة، ولم يعد متشوِّقاً لرؤيته، هل ستنفع المشارطة تلك في هذا الفرض؟!

وآخر ما ستصل إليه هذه الطريقة هي أنَّ الأولاد سوف لن يُفكِّروا في تطوير معلوماتهم من خلال القراءة خارج المنهج المقرَّر، وسيصل الأمر إلىٰ أنْ يكره الأولاد فكرة القراءة، فيبقون عالقين بما تُلقِّنه لهم المناهج الدراسية من معلوماتٍ أكل الدهر عليها وشرب!

والنتيجة من كلِّ هذا: تثبيط العقل عن التطوُّر والنموِّ، والجمود علىٰ معلومات لا يأخذها الأولاد إلَّا تحت تهديد الأبوين بإطفاء التلفاز، أو المعلِّم بالضرب أو الطرد!

الأثر الرابع: التأخُّر الدراسي:

في يوم من الأيام أجريتُ لقاءً شخصياً مع (طالب إعدادية) كان متأخِّراً في دراسته، وسألته عن تقسيم وقته اليومي، فكانت النتيجة كالتالي:

1 - الجلوس لمشاهدة كرة القدم، (ساعتان علىٰ الأقلِّ).

2 - الجلوس في المقهىٰ مع الأصدقاء، (أربع ساعات علىٰ الأقلِّ).

3 - الجلوس في الطُّرُقات مع الأصحاب، (ساعتان علىٰ الأقلِّ).

4 - التواجد في المدرسة، (أربع ساعات علىٰ الأقلِّ).

ص: 172

5 - المشي بين مقاصده، (ساعة علىٰ الأقلِّ).

6 - وقت الطعام، خصوصاً مع الأصدقاء، (ساعتان علىٰ الأقلِّ).

7 - ممارسة لعبة إلكترونية، (ستّ ساعات علىٰ الأقلِّ).

8 - الوقت المتبقّي (وهو أربع ساعات) لا يحصل منه إلَّا علىٰ ما لا يتجاوز الثلاث ساعات من النوم!

هذه ليست مبالغة، بل أنا سمعتها بنفسي من الطالب نفسه!

ومن بين ما يقرب من (200) طالب إعدادية لم أجد منهم من لا يلعب الألعاب الإلكترونية يومياً إلَّا ما لا يتجاوز العشرة فقط!

وأقلُّ واحدٍ منهم يلعب ما لا يقلُّ عن ساعتين يومياً، يقابله مراجعة وتحضير الدروس لمدَّة لا تتعدّىٰ الساعة الواحدة فقط!

لاحظوا، أنَّ الأولاد لم يضعوا أيَّ جدول ممنهج لأداء فروضهم المدرسية أو التحضير لها، فهل صار واضحاً الآن أحد أهمّ أسباب التأخُّر الدراسي؟!

الأثر الخامس: حلُّ المشاكل بطُرُق عدوانية:

ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ أكثر أنواع الدراما التمثيلية الكرتونية تقوم علىٰ أساس افتراض مشكلة معيَّنة، تتشابك خيوطها بصورة عشوائية، حتَّىٰ يُخيَّل للمشاهد أنَّها لا تُحَلُّ، وفي اللحظة الحاسمة يأتي البطل ليأتي بحلٍّ غير متوقَّع لهذه المشكلة.

والملاحظة المهمَّة هنا هي: أنَّ البطل عادةً ما يستخدم قواه غير الطبيعية أو تسلُّطه وقوَّته لردِّ المعتدي، وفرض العدالة المدَّعاة! أي إنَّ القبضة الحديدية هي من تكون لها الكلمة الأخيرة.

وهذا معناه أنَّ الأطفال سيتعلَّمون من بطلهم أنْ يحلُّوا مشاكلهم

ص: 173

بنفس تلك القبضة، لذلك تجد كثيراً من العدوانية بين الأطفال نتيجة تلك المشاهد الكرتونية.

هذا فضلاً عن أنَّ القوىٰ التي يُظهِرها البطل عادةً ما تكون فوق المستوىٰ الطبيعي للبش_ر، بل فوق ما يمكن أنْ يُتخيَّل أنْ يصل إليه البش_ر، وإلَّا فبماذا تُفسِّ_ر سرعة شخص تفوق سرعة طائرة حربية؟! وكيف تُفسِّ_ر خروج البطل سالماً من انفجار مهول أصاب البيت الذي كان نائماً فيه؟! وأمثال هذه المشاهد الخيالية.

إنَّ هذه الأحداث تجعل الطفل يميل إلىٰ الحلول العدوانية بعيداً عن التعاطف والتراحم وحتَّىٰ الإنسانية.

الأثر السادس: الخمول البدني:

من الواضح في علم الفسيولوجيا أنَّ الإنسان في بداية مراحل حياته تكون خلايا جسمه نشطة جدًّا، ممَّا يُؤدّي إلىٰ زيادة النموِّ، يرافقها نشاط شديد، الأمر الذي يستدعي حركة بدنية متناسبة مع ذلك النشاط، لتستمرَّ الخلايا بالنشاط والبناء، لذلك يُركِّز الأطبّاء علىٰ ضرورة أنْ يمارس الأطفال بالخصوص الألعاب البدنية الحركية بعيداً عن الخمول، بل إنَّهم يعتبرون الطفل (الخامل) و(قليل الحركة) تحت المستوىٰ الطبيعي للأطفال، ممَّا يعني أنَّ الطفل يعاني من مشكلة صحّية تستدعي مراجعة الطبيب المختصِّ.

إنَّ الجلوس لساعات طويلة أمام التلفاز وتسمُّره في مكانه يُقلِّل بل يُعدِم حركته تماماً، وحتَّىٰ لو اشتدَّ الحماس وأراد الطفل أن يماهي ذلك الحماس الكرتوني بحماس بدني يتمثَّل بطفرة عالية وصوت عالٍ أو حركة سريعة، فإنَّ أصوات بقيَّة (المشاهدين) ستعصف به طالبة منه

ص: 174

(الهدوء)، بل إنَّ (الهدوء) و(عدم الحركة) و(حبس الأنفاس) من أهمّ (آداب) مشاهدة التلفاز!

إنَّ هذا يُؤدّي بالتدريج إلىٰ ضمور الحركة الطبيعية لعضلات الجسم، لتُفرِز لنا صبيةً قليلي النشاط، يتواكلون علىٰ بعضهم حتَّىٰ في ترتيب فراش نومهم، هذا إذا لم تتبرَّع الأُمُّ - كما هي العادة - بالقيام بما عليهم هم أنْ يفعلوه، حتَّىٰ شدّ رباط الحذاء أو زر القميص!

الأثر السابع: قلَّة التواصل مع الأتراب والأصدقاء:

إنَّ من أهمّ مفردات التربية الصحيحة هي تعليم الأولاد كيفية الخروج عن بوتقة الشخصنة والانكماش علىٰ علاقة البيت إلىٰ إقامة علاقات اجتماعية ناجحة مع بقيَّة أفراد المجتمع، ابتداءً بالجيران ثمّ الأقرباء وزملاء المدرسة.

وهذه الخطوة من التربية تحتاج إلىٰ تواصل: بدني، نفس_ي، ولفظي مع الأتراب، أي مع من هم في عمر ولدك، وتحتاج إلىٰ أنْ يجلس الأولاد يتبادلون نظرات العيون، ويتجاذبون أطراف الحديث، بين بادئٍ له ومكمِّل ومعترض ومصحِّح، الأمر الذي يُقوّي عند الأولاد حاسَّة التواصل والتفاهم والتعبير عن الأفكار والمشاعر، ممَّا يمكن لأيِّ واحدٍ منّا أنْ يشاهده بأُمِّ عينيه، عندما يندمج أطفال لا تتجاوز أعمارهم الثالثة، لاحظوا كيف أنَّهم يندمجون بصورة تلقائية، ويتفاهمون بكلماتهم المتقاطعة، ويتواصلون بابتسامات عريضة.

وكلُّ هذه التصوُّرات تذهب أدراج الرياح وتُذبَح بين يدي الصندوق الناطق، عندما يسحر الفيلم الكرتوني عيون وأذهان أولادنا، بموسيقاه الخلّابة وأبطاله الأفذاذ، وسنجني في النهاية أولاداً لا يعرفون

ص: 175

حتَّىٰ كيف يُعبِّرون عن ألمهم أو فرحهم أو مشاعرهم، أولاداً لا جرأة لديهم علىٰ الدخول إلىٰ غرفة الضيوف ليُؤدُّوا التحيَّة أو ليُقدِّموا لهم العصير، أولاداً منكمشين علىٰ ذواتهم، أولاداً لا يمكنهم الذهاب إلىٰ الصفِّ الأوَّل بمفردهم إلَّا والدموع تبلُّ صدورهم! وسيكون الانتقال إلىٰ مرحلة دراسية جديدة تحدّياً صعباً يخوضونه رغم أُنوفهم!

أمَّا الدخول إلىٰ الجامعة، فهو أقسىٰ من العرض علىٰ الجلّاد.

وهذا ما يكشف عنه إصرارهم علىٰ مرافقة أحد أبويهم معهم في إجراءات التقديم للمرحلة اللاحقة، هذا إذا غضضنا الطرف عن عدم تمكُّنهم من الاستقلال بأنفسهم لشراء حاجاتهم الخاصَّة.

الأثر الثامن: التملُّص من المشاركة في أعمال المنزل:

لنحصل علىٰ تربية ناجحة مبكرة للأولاد علينا أنْ نُعلِّمهم الاعتماد علىٰ أنفسهم أوَّلاً، وعلىٰ العمل بروح الفريق ثانياً، وعلىٰ تحمُّل المسؤولية والدقَّة في الأداء ثالثاً، وعلىٰ الإصرار علىٰ الوصول إلىٰ الهدف أخيراً.

ومن الطُّرُق التي تساعد في هذا هو دفعهم للمشاركة الفعلية في أعمال البيت، كأن تُلقىٰ إلىٰ الطفل مهمَّة توضيب أغراضه الخاصَّة، أو زراعة بعض الورود، أو سقي الحديقة، أو تنظيف السُّلَم، وهكذا.

وهذه الخطوة هي من أُولىٰ ضحايا برامج التلفاز الممتعة! وجرِّب: أنْ تجعل مهمَّة سقي الحديقة مثلاً في وقت عرض الفيلم المنتظَر، لا شكَّ أنَّك ستواجه ثورة اعتراض عارمة، أو تظلُّم وشكاية، أو تملُّص مبرمج، أو عمل غير متقن، وفي النتيجة ستموت الوردة من دون سقي، بعد أنْ ماتت روح المسؤولية وتقديم الأهمِّ في قلب الولد!

ص: 176

ملاحظة:

هذه أهمّ الآثار السلبية المترتِّبة علىٰ إدمان مشاهدة برامج التلفاز والألعاب الإلكترونية، ولكن هل يعني هذا أنْ نمحو وجود التلفاز من البيت؟

تذكَّروا أنَّنا نتكلَّم حول تربية واقعية لا مثالية، ممَّا يعني ضرورة التوازن في الواجبات والحقوق، والأوامر والنواهي، والمباحات والمحظورات، فكيف نوازن بين التقليل من الآثار السلبية للتلفاز وبين فرض واقعية وجوده في البيت؟

هذا ما سنحاول الإجابة عنه في العنوان التالي إن شاء الله تعالىٰ.

نصائح واقتراحات لتقليل الآثار السلبية للتلفاز:

هنا عدَّة نصائح عملية في هذا المجال، وهذه النصائح تنفع في تقليل التعلُّق بالألعاب الإلكترونية أيضاً.

النصيحة الأُولىٰ: تقنين مشاهدة التلفاز:

مع فرض التلفاز نفسه كض_رورة في داخل البيت، الأمر الذي يعني امتناع أو صعوبة اقتلاعه من جذوره علىٰ المستوىٰ العملي، فلا بدَّ إذن من خطَّة بديلة عن ذلك، وتلك الخطَّة هي (تقنين زمن مشاهدة التلفاز).

من الخطأ جدًّا أنْ نترك الأطفال يشاهدون التلفاز من دون أنْ يكون لهم سقف زمني محدود، لأنَّ جاذبيته ستُنس_ي الأطفال أنَّهم يقضون ساعات طوال أمام تلك الشاشة، وبالتالي ستأتي كلُّ تلك الآثار السلبية.

ص: 177

والتقنين الصحيح يشمل التالي - كمقترحات، ويمكن لكلِّ أبوين أنْ يجدا طُرُقاً خاصَّة بأولادهما متناسبة مع وضعهم وحياتهم الخاصَّة -:

أوَّلاً: اختيار القنوات المسموح بها، وحذف غير المسموح بها، وتحديد المسموح به من البرامج دون غيره.

وتعيين المسموح به من غيره يتبع الدِّين والأعراف والتقاليد.

ثانياً: تحديد أوقات مشاهدة التلفاز في أوقات لا تتعارض مع وقت الفروض المدرسية أو تنفيذ المسؤوليات البيتية أو أوقات النوم المناسبة أو الراحة للعائلة أو حتَّىٰ الأكل.

ثالثاً: تحديد دقائق المشاهدة.

رابعاً: إلزام الأطفال بإطفاء التلفاز في ساعات مخصَّصة للصلاة أو الطعام أو النوم.

خامساً: الاتِّفاق علىٰ يوم يُغلَق فيه التلفاز لمدَّة (24) ساعة كاملة، وليجد الأبوان اسماً مناسباً لهذا اليوم، كيوم الانتصار علىٰ التلفاز، أو يوم مقاومة الإعلام، وما شابه.

النصيحة الثانية: التدرُّج في السيطرة:

وهذه نقطة مهمَّة جدًّا، خصوصاً مع تعوُّد الأولاد علىٰ الجلوس أمام التلفاز من دون قانون مسبق ولا خطوط حمراء، فليس من الصحيح - والحالة هذه - تنفيذ القوانين الصارمة بقبضة من حديد ومن دون سابق إنذار أو ترتيب مسبق.

علينا إذن أنْ نتدرَّج في تنفيذ خطَّتنا حسب التالي:

أوَّلاً: أنْ نبدأ بتزريق أذهان الأولاد بالآثار السلبية للتلفاز، سواء

ص: 178

علىٰ الدماغ أو علىٰ العيون أو علىٰ الحالة النفسية وهكذا، فنبدأ نُبيِّن لهم تلك الآثار من دون أيِّ فروض أو التزامات.

أي إنَّها مرحلة إعطاء تصوُّرات عن سلبية مشاهدة القنوات والبرامج غير النافعة.

ثانياً: العمل علىٰ إقناع الأولاد بأنْ يختاروا نصف عدد القنوات المفضَّلة وحذف الأُخرىٰ، وليكن تنفيذ هذا الأمر بأيديهم هم، وهنا يبدأ نوعٌ من الإلزام مع إعطاء الوقت الكافي للاختيار، وفيما إذا حصل نزاع بين الأولاد في القنوات التي ستتمُّ التضحية بها فعلىٰ الوالدين التدخُّل واختيار الأسوأ فالأسوأ منها، مع بيان الأسباب والمبرِّرات.

هذا الأمر ليس مثالياً، فالتجربة أكبر برهان!

ثالثاً: ثمّ نعمل علىٰ أنْ نُظهِر لهم أنَّ أكثر مشاهدات التلفاز تدخل ضمن الخسائر المادّية والمعنوية للإنسان، وأنَّ علىٰ الإنسان أنْ يدفع الضرر عن نفسه.

النصيحة الثالثة: توفير البديل:

عندما ندخل في أعماق أعمال الأفراد المخطئين أو الذين تضيع أوقاتهم سدىٰ بأُمور نعتبرها تافهة، نجد أنَّ عدداً لا بأس به منهم - إنْ لم يكن أغلبهم - يعرفون أنَّهم يخوضون بعيداً عن سبيل النجاح والفلاح، إنَّهم يعرفون أنَّهم مخطؤون، ولكن المشكلة تكمن في أنَّهم لم يجدوا البديل الذي يملأ فراغهم، أو لم يجدوا أحداً يدلُّهم علىٰ بديل مناسب يتناسب مع أذواقهم وتوجُّهاتهم، وهذا لا يعني تبرير خطئهم، إذ لعلَّ عدم وجدانهم للبديل ناشئٌ من الكسل أو من عدم الرغبة في التغيير، لكنَّه علىٰ أيِّ حالٍ واقع معاش.

ص: 179

وهنا تكمن نقطة من أهمّ نقاط النجاح التربوي وهي: أنَّ التربوي الناجح لا يعالج مشكلة تربوية إلَّا وقد كان في مرحلة سابقة قد وفَّر البديل المناسب قبل عملية العلاج.

وهذا ما تقدَّمت الإشارة إليه ممَّا ورد عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) من أنَّه أُتي برجل عبث بذكره [أي إنَّه استمنىٰ]، فض_رب يده حتَّىٰ احمرَّت، ثم زوَّجه من بيت المال((1)).

وهذه قاعدة مهمَّة جدًّا في تربية الأولاد عموماً، وفي خصوص ما يتعلَّق بتربيتهم فيما يتعلَّق بمشاهدة التلفاز وبرامجه الضارَّة.

في يوم من الأيّام طلبت من ابني - وكان عمره ثمان سنوات - أنْ يترك مشاهدة التلفاز لانتهاء فترته المحدَّدة، فأغلقه علىٰ الفور، لكنَّه التفت إليَّ قائلاً: والآن، ماذا أفعل؟!

سؤال في الصميم، كاد يودي بي! كان عليَّ أنْ أُوفِّر له البديل أوَّلاً، حينها طالبته بأنْ يُكمِل فروضه المدرسية، فأجاب فوراً: قد أكملتها كلَّها، وأنا مستعدٌّ للاختبار! والآن، ماذا أفعل؟!

فراوغت قليلاً وقلت له: اذهب للاستحمام! عندها أحسَّ بالنص_ر مرَّة أُخرىٰ وقال: قد استحممت قبل ساعة!

فلم يبقَ أمامي إلَّا الاستسلام!

أمَّا كيف نعالج هذه الفقرة؟ فهنا أذكر بعض المقترحات لتوفير البديل:

أوَّلاً: تهيئة مجموعة من الألعاب البدنية، أُكرِّر: البدنية، ككرة القدم أو المض_رب وما شابه، فهي من جهة ألعاب ومن جهة أُخرىٰ

ص: 180


1- ([1]) الكافي للشيخ الكليني (ج 7/ ص 265/ باب نادر/ ح 25).

تبعث علىٰ النشاط الفكري والعضلي لدىٰ الطفل، طبعاً يمكنك أنْ تجد دورك مع أطفالك في هذه الألعاب!

ثانياً: الترتيب للخروج معاً في الحديقة المجاورة للتمشّ_ي أو استنشاق الهواء النقي، وإنْ لم تكن حديقة فإلىٰ أيِّ مكانٍ يمكن أنْ ترافق فيه أولادك وتمارس معهم رياضة المش_ي - التي يعتبرها الأولاد متعة أو لعبة المشي -.

ثالثاً: ممارسة لعبة (الزراعة) بأنْ تُحدِّد لكلِّ واحدٍ من أولادك مساحة معيَّنة من الأرض ليقوم بزراعتها ورعايتها بنفسه، أو أنْ يقوم الأولاد برعاية شتلات زراعية في أحواض وأواني خاصَّة.

إنَّها من جهة متعة رائعة لهم، ومن جهة أُخرىٰ تُعلِّمهم المسؤولية، ومن جهة ثالثة تكون قد ملأت لهم جزءاً من وقتهم.

رابعاً: تعلُّم مهارات حياتية جديدة، كالرسم والخطِّ والتخريم، أو صناعة بعض الأشكال من الورق، أو المشاركة في قطع الأخشاب، أو طرق المسامير، وما شابه.

خامساً: الخروج لزيارة الأصدقاء والأقرباء ليرافقك ولدك فترة أطول، وليتعلَّم كيف يصل رحمه ويتواصل مع الآخرين.

سادساً: المشاركة في بعض الأعمال المنزلية، كترتيب مكتبة الكُتُب المبعثرة، أو تنظيف مبرِّدة الهواء، أو غَسل باحة المنزل أو السيّارة.

سابعاً: إقامة المسابقات المتنوِّعة للأطفال، كالمسابقات الفكرية (الألغاز)، أو مسابقة أسرع خطّاط، أو مسابقة (كشف الرقم المخبَّأ)، وما شابه.

وهناك العديد من الكُتُب المخصَّصة لتلك الألعاب، واقتناؤها ثمّ تنفيذ الألعاب المذكورة فيها أسهل بكثير ممَّا نتوقَّع!

في الحقيقة إنَّ قائمة (البدائل) طويلة جدًّا، ويمكن لكلِّ أبوين أنْ

ص: 181

يلاحظا البدائل المناسبة لأولاهما، ممَّا يتناسب مع ثقافتهم وحتَّىٰ حالتهم المادّية. وهذا متروك لحنكة وذكاء الأبوين.

النصيحة الرابعة: شاهد التلفاز معهم:

تنبع أهمّية هذه النصيحة من التالي:

1 - حيث إنَّ أكثر البرامج الكرتونية تقوم علىٰ أساس الخيال وما فوق الأمر الطبيعي، فستكون هناك الكثير من الاستفسارات والأسئلة التي تتضارب في ذهن الطفل، وقد يضيع الطفل في زحمتها، وبالتالي فهو يحتاج إلىٰ من يحلُّ له تلك الأسئلة الحائرة، وكونك بجانبه سيُخفِّف عنه هذه الارتباكات الذهنية، بالإضافة إلىٰ أنَّك ضمنت تواصلاً جيِّداً معه.

2 - ليس عند الطفل الكثير من الخبرة ليُميِّز الصحيح من الخاطئ، فقد يستذوق الأغاني ويستمرئ الصداقات المنفتحة، وبالتالي فجلوسك إلىٰ جنبه سيكون لأجل توجيهه الوجهة الصحيحة، فتُخبِره أنَّ هذا يلزم أنْ لا تسمعه، وذاك لا تراه، وهكذا، وبأُسلوب تربوي أبوي رحيم، إلىٰ أنْ يتعوَّد الابتعاد عن الخطأ لوحده، ومن دون توجيه خارجي، وذلك عندما تستطيع أنْ تصنع في داخله بوصلة تلقائية لرفض الخطأ وتقبُّل الصحيح.

3 - بالإضافة إلىٰ أنَّك ستُمثِّل (ساعة تنبيه) لانتهاء الوقت المحدَّد، ولكن ينبغي أنْ يكون التنبيه قبل الموعد بفترة كافية، حتَّىٰ يأخذ الطفل استعداده ووقته الكافي ليقوم بعيداً عن التلفاز.

المؤثِّر الثالث: الأصدقاء:

من الأُمور التي لا يمكن حذفها من قاموس الحياة الاجتماعية، بل هو أمر يفرض وجوده بقوَّة الواقع وبقوَّة الحاجة النفسية والاجتماعية، هو أنَّ الفرد - أيَّ فرد منّا - لا يمكنه أنْ يعيش في الحياة -

ص: 182

اجتماعياً - من دون أنْ يقيم علاقات صداقة مع أترابه وأقرانه، وبالتالي فإنَّ (الصداقة) ستكون مفهوماً حياتياً واقعياً، ومن أراد التعامل بواقعية مع الحياة فعليه أنْ يضع في حسبانه التأثير السحري للأصدقاء بعضهم علىٰ البعض الآخر.

ولا أعتقد أنَّ أحداً منّا يُنكِر أنَّه كان يُطلِع أصدقاءه علىٰ أسرار لم يحلم أنْ يُخبِر بها أبويه.

ولا أعتقد أنَّ أحداً منّا يُنكِر أنَّ للأصدقاء تأثيراً واضحاً في كثير من سلوكياتنا (السابقة أو الحالية).

وبالتالي، فعلىٰ الأبوين حيث خاضا تجربة طويلة مع أنواع من الأصدقاء، عليهما في الوقت الذي يتعاملان بواقعية مع ضرورة الصداقة في حياة الأولاد، أنْ لا يغفلا النصائح والمتابعة ونقل التجربة إليهم في التعامل الصحيح والمناسب مع هذا المؤثِّر القويِّ.

وهنا قائمة مختصرة من النصائح في هذا المجال:

النصيحة الأُولىٰ: أنَّ الصداقة أمر ضروري إنْ لم يكن اليوم فغداً، وإنْ لم يكن غداً فبعد غدٍ، وبالتالي فلا بدَّ وأنْ يقوم ولدك ببناء علاقة ودٍّ وصحبة مع بعض أقرانه، فلا تغفل هذا الجانب أبداً.

النصيحة الثانية: شجِّعْ أولادك علىٰ اتِّخاذ أصدقاء، لكن علِّمْهم طريقة اتِّخاذ الصديق بصورة صحيحة، لأنَّك إذا لم تُعلِّمْهم فسيكون اختيارهم تلقائياً ومن دون ضوابط، وربَّما مع ضوابط غير موضوعية!

النصيحة الثالثة: أكرمْ أصدقاء ولدك، وأظهر لهم الحُبَّ والاحترام، وسَلْ عن أسمائهم، وحاول أنْ تتقرَّب إليهم بالودِّ، ومن الجميل جدًّا أنْ يدعو ولدُك أصدقاءه لوليمة صغيرة في البيت، حاول قدر الإمكان أنْ تتناول الطعام معهم

ص: 183

لتتعرَّف علىٰ شخصياتهم عن كثب، وأمَّا إذا رأيت نفسك ثقيلاً عليهم، أو رأيت الخجل بادياً عليهم عند جلوسك معهم، فاستأذن منهم بكلِّ لباقة، وقم بتأجيل الجلوس معهم إلىٰ وقت آخر.

إنَّ في هذه العملية فوائد جمَّة، منها:

1 - إنَّها تزرع الثقة في ولدك، وتُوحي له بأنَّه أصبح رجلاً، تُحتَرم علاقاتُه وقراراتُه.

2 - إنَّها ترفع بعض القيود بينك وبين ولدك فيما يتعلَّق بأصدقائه.

3 - إنَّها تجعلك علىٰ اطِّلاع إجمالي علىٰ نوع الصحبة التي بين ولدك وبين أصدقائه، لتتَّخذ فيما بعد قراراً مناسباً حسب الظرف.

النصيحة الرابعة: عليك أنْ تتعرَّف عناوين أصدقاء أولادك، وإذا أمكنك التواصل مع ذويهم فهذا أمر في غاية الأهمّية، لتتعاون مع ذويهم في الوصول إلىٰ نتائج إيجابية في هذه العلاقة.

النصيحة الخامسة: لا تكن ثقيلاً مع أصدقاء أولادك في جلساتهم الخاصَّة، وتذكَّر عندما كنتَ أنت بعمرهم، وكيف كنت لا تُحِبُّ أنْ يتنصَّت عليكم أحد وأنت جالس مع أصحابك.

عليك أنْ تراقبهم من دون تجسُّس، وأنْ لا تُشعِرهم بذلك أبداً.

النصيحة السادسة: في الوقت الذي ستُعطي لولدك حُرّية اختيار أصدقائه، عليك أنْ تُبعِده عن عدَّة أصناف منهم، نذكر منهم التالي:

1 - الكسالىٰ والمتأخِّرين دراسياً، لأنَّهم سيعملون علىٰ خفض مستوىٰ ولدك إلىٰ أدنىٰ من مستواهم، إمَّا حسداً له، أو لأجل أنْ يتفرَّغ لمجالستهم أكثر، أو لتوزيع اللوم في تأخُّرهم الدراسي أمام ذويهم علىٰ غيرهم، أو لسبب وآخر.

ص: 184

2 - المنحرفين أخلاقياً، لأنَّهم لن يرضوا بأنْ يكون حال صاحبهم أفضل من حالهم، فربَّما يعملون علىٰ تزيين الرذيلة في عينه، وستكون استجابته سريعة، خصوصاً إذا كانت أهواؤهم تتوافق مع الغرائز الضاغطة والكامنة في المراهق.

3 - من يعيشون علاقات متوتِّرة مع آبائهم، وصلت إلىٰ حدِّ شرعنة مخالفة أوامر الآباء، والجرأة عليهم، وعلىٰ الردود الوقحة معهم، لأنَّهم سيعملون علىٰ تعليم ولدك هذه الوقاحات السمجة، بحجَّة أنَّه صار رجلاً، وأنَّ عليه أنْ يخرج من سجن تنفيذ الأوامر من الأبوين، وأنَّ رجولته لن تظهر إلَّا بالعناد والمخالفة.

4 - سارقي الوقت والإبداع، إذ يعيش بعض الأولاد حالة من التقهقر الاجتماعي والتراجع الفكري، بحيث إنَّهم لا يجدون ما يملؤون به أوقاتهم، لأنَّهم ابتعدوا كلَّ البعد عن القراءة ومواطن المواهب والإبداع، ولم يكن عندهم همٌّ سوىٰ قضم الوقت بالألعاب الإلكترونية والكلام الفراغ، وربَّما المملوء بما لا ينفع.

هؤلاء سيقتلون الهمَّة والحافز الذاتي لدىٰ أولادك، لأنَّهم سيوحون إليهم بأنَّ الحياة لا تصبح جميلةً إلَّا بما يفعلون، وأنَّ الدراسة والانضباط الأخلاقي والش_رعي تُمثِّل جحيماً لا يُطاق، وأنَّهم يعيشون سعداء جدًّا عندما تحلَّلوا وتحرَّروا من هذه القيود.

ملاحظة:

ربَّما يكون ولدك من قوَّة الشخصية بحيث هو يُؤثِّر علىٰ أصدقائه ولو كانوا كسالىٰ أو ما شابه.

عليك أنْ تتعرَّف علىٰ شخصية ولدك جيِّداً.

ص: 185

ومع ذلك عليك أنْ تبقىٰ تراقبه، وتُشجِّعه علىٰ تغييرهم، وأنْ يتَّخذ موقفاً صلباً من أخطائهم، وأنْ ينسحب منهم إذا لم يستجيبوا لنصائحه، أو تأمره بالانسحاب عندما ترىٰ الخطر محدقاً بولدك.

وعلىٰ كلِّ حالٍ، تُعتَبر هذه الفكرة مجازفة، وعليك أنْ تبقىٰ علىٰ أهبَّة الاستعداد للتدخُّل في الوقت المناسب.

* * *

ص: 186

الفصل السادس:

اشارة

بناء شخصية الطفل

ص: 187

ص: 188

هناك سؤال يتبادر إلىٰ الذهن حاصله:

في أُسرة متحابَّة هادئة، يعيش أفرادها الحُبَّ والوئام، لماذا يخرج بعض الأولاد ضعيفي الشخصية، مهزوزي الكيان؟!

لماذا يبقىٰ بعض الأولاد معتمدين علىٰ آبائهم في اختيار ألوان ملابسهم حتَّىٰ بعد زواجهم؟!

لماذا يواجه بعض الأولاد حرجاً شديداً من ممارسة الحياة الاجتماعية إلىٰ الحدِّ الذي يبقىٰ جائعاً لأنَّه يخجل من الأكل أمام الغرباء؟!

إنَّ هذه الحالة من (ضعف الشخصية) لم تأتِ من فراغ، وإنَّما هي نتيجة طبيعية لتربية غير منهجية قام بها الأبوان من حيث يشعران أو لا.

إنَّ التربية عملية معقَّدة جدًّا، وهناك آلاف الخيوط المتشابكة فيها، والأبوان الناجحان هما من يتعاونان علىٰ حلِّ عُقَد تلك الخيوط الواحد تلو الآخر، وستكون مهمَّتهم تلك شاقَّة جدًّا، حتَّىٰ يصلا إلىٰ الهدف الأسمىٰ من التربية.

إنَّ علىٰ الأبوين أنْ يعملا قدر الإمكان علىٰ بناء شخصية الطفل بناءً قويًّا يقف بوجه رياح الحياة العاتية، ولكن لا يصل إلىٰ حدِّ كس_ر الغير، أي بناء الشخصية بناءً متوازناً يجمع بين القوَّة واللين، وما دام الطفل في مقتبل عمره، حيث يكون كالطين الصناعي الذي يتشكَّل بحسب رغبة من هو بيده، فعلىٰ الأبوين أنْ يستغلّا هذه الفترة الوجيزة جدًّا، لتشكيل شخصية الطفل بصورة مسبوكة ودقيقة.

ص: 189

وهنا نذكر نقاطاً ثلاثة تدور حول هذا الموضوع:

النقطة الأُولىٰ: مؤشِّرات ضعف الشخصية.

النقطة الثانية: ما يهدم الشخصية.

النقطة الثالثة: خطوات عملية لبناء الشخصية.

النقطة الأولى: مؤشِّرات ضعف الشخصية:

إنَّ من أعقد الأُمور التي يصعب تمييزها لدىٰ الوالدين هي معرفة المؤشِّرات الدالَّة علىٰ ضعف الشخصية من تلك الدالَّة علىٰ قوَّتها.

والمفارقة الغريبة هنا هي: أنَّ كثيراً من الآباء يعتبرون قسماً من مؤشِّرات ضعف الشخصية علامات وبشائر لأخلاق وآداب الطفل، والعكس بالعكس.

لذلك علىٰ الوالدين أنْ ينتبها لهذه الحقيقة، ويلاحظا الأُمور التالية:

الأمر الأوَّل:

إنَّ تنفيذ الطفل لكلِّ الأوامر الموجَّهة إليه من دون تردُّد ولا نقاش ولا تململ ولا عناد ليس دائماً مؤشِّراً علىٰ الأخلاق، بل ربَّما هو في كثير من الأحيان مؤشِّر علىٰ ضعف الشخصية، فليس من الض_روري أنْ يكون هكذا طفل قدوة لإخوته! كما يُحِبُّ ذلك الأبوان، انطلاقاً من مصلحتهما الشخصية!

إنَّ العناد الذي يصدر من بعض الأطفال ورفض بعض الطلبات من قِبَلِهم، يكشف في الحقيقة عن قدرة الطفل عن التعبير عمَّا يؤمن به، وفيه إعلان عملي عن عدم رضاه باستغلاله من الغير.

ص: 190

طبعاً لا يعني هذا أنْ يتمرَّد الطفل علىٰ أبويه، ولكنَّه يعني صياغة الأوامر بطريقة تجعل الطفل يحسُّ بأنَّه مسؤول عن تنفيذ الأمر من باب أنَّه رجل البيت والمستقبل، وبالتالي فعليه أنْ يتحمَّل نوعاً من التكاليف البيتية والاجتماعية.

فرهان الأبوين علىٰ إقناعه بأنَّ تنفيذ الأوامر لا يعني سلب إرادته.

ولا يعني هذا أيضاً أنْ يقوم الوالدان بخداع الطفل بض_رورة تنفيذ كلِّ الأوامر باستمرار.

فالرهان علىٰ التوازن!

الأمر الثاني:

إنَّ بكاء الطفل الس_ريع من أيِّ موقف، أو عند رفض تلبية بعض طلباته، يكشف في الحقيقة عن قدرة الطفل علىٰ التعبير عمَّا يؤمن به، وفيه إعلان عملي عن عدم رضاه باستغلاله من الغير.

وهذا سيكون مؤشِّراً علىٰ قوَّة الشخصية!

ولكن في أحيان أُخرىٰ سيكون البكاء من أيِّ موقف مؤشِّراً علىٰ ضعف الشخصية، كما لو بكىٰ عند دخول رجل غريب، أو بكىٰ عند أوَّل يوم في المدرسة، وما شابه هذه المواقف.

والرهان هنا أيضاً علىٰ حذاقة الوالدين ليعرفا أنَّ بكاءه لإثبات شخصيته أو لضعفها!

الأمر الثالث:

عدم قدرة الطفل علىٰ اللعب مع الأطفال من أترابه ليس بالض_رورة أنْ يكون مؤشِّراً علىٰ أخلاقه العالية أو سلوكه الحسن، فقد يكون مؤشِّراً علىٰ ضعف الشخصية، بحيث لا يجرأ أنْ يشارك الأطفال في اللعب أو التعبير عن مشاعره.

ص: 191

الأمر الرابع:

إنَّ تردُّد الأطفال في اتِّخاذ أيِّ قرار شخص_ي، ودوام استشارته لأبويه حتَّىٰ في أبسط الأُمور، كاشفٌ عن ضعف في شخصيته أكثر من أيِّ شيء آخر.

إنَّ بعض الأطفال يتردَّد في اتِّخاذ أيِّ قرار، حتَّىٰ ولو كان هو اختيار لعبة معيَّنة أو أكلة معيَّنة، ولن يُقرِّر إلَّا إذا قرَّر له غيره.

طبعاً هناك فرقٌ بين من يتردَّد لكثرة الخيارات المتاحة أمامه، ويبقىٰ يتردَّد إلىٰ أنْ يختار الأصلح له بنظره، وبين من لا يتَّخذ أيَّ قرار إلَّا بمساعدة أحد غيره.

وقد يكون للأبوين أثرٌ في هذا السلوك الضعيف، إذا ما منعا أولادهما من اتِّخاذ أيِّ قرار، وتولَّيا - هما - عنهم ذلك، واستمرار لوم الأطفال علىٰ أفعالهم، التي يراها البالغون أخطاءً.

الأمر الخامس:

إنَّ من المؤشِّرات علىٰ ضعف الشخصية أيضاً هو تقليد الأطفال لغيرهم في سلوكهم وكلامهم وطريقة أكلهم بحيث تذوب إرادة الأولاد في سلوكيات غيرهم، ليس هذا فحسب، بل إنَّ التقليد قد يصل إلىٰ مرحلة ينتقل فيها تقليده وسلوكه من نوع إلىٰ آخر كلَّما أُعجب بشخص أو بسلوكياته.

علىٰ الآباء أنْ ينتبهوا إلىٰ أنَّ هذا التقليد في السلوكيات يُؤثِّر علىٰ الشخصية سلباً.

النقطة الثانية: ما يهدم الشخصية:

إنَّ شخصية الطفل - كما أشرنا أكثر من مرَّة - في بدايتها هي كالعجينة تتشكَّل بحسب تغيُّر الظروف والعلاقات، وبالتالي فهناك عدَّة أُمور من شأنها أنْ تبني الشخصية، وأُخرىٰ من شأنها أنْ تهدمها أو تُضعِفها ولو بالتدريج.

ص: 192

وهنا نذكر قائمة من الأُمور التي تُؤثِّر سلباً علىٰ شخصية الطفل:

الأمر الأوَّل: افتراق الأبوين بالطلاق:

فإنَّه من أسوء الأحوال التي يمرُّ بها الأولاد، إذ سيعيشون جوًّا من تراشق الكلام وحروب الألقاب السيِّئة ودموع التماسيح ومكر الثعالب، لأنَّه في العادة سيُلقي كلٌّ من الأبوين باللوم علىٰ الآخر، وأنَّه هو سبب الانفصال والمشاكل، وبعد الانفصال سيعيش الطفل بين أبوين كحبلٍ يجرُّه طرفان!

وسيكون أقرب الأشياء إلىٰ الطفل حينها هي الوحدة، ورفقاء السوء، وأحضان الضياع، ممَّا ينعكس علىٰ شخصية مهزوزة تنتهي بمجرم حياة، أو خجول عقيم.

الأمر الثاني:

أنْ يتكلَّم أحد الأبوين علىٰ الآخر في غيابه ويمدحه في حضوره، الأمر الذي سيجعل الطفل يعيش الازدواجية والنفاق، ممَّا يجعله يحار في تطبيق أيِّ الخُلُقين بين والديه.

الأمر الثالث:

أنْ يتعامل الوالدان مع الأولاد بدلال زائد بحيث تختفي كلمة (لا) منهما، فيتعوَّد الطفل علىٰ تنفيذ طلباته من دون تعب ولا نَصَب، الأمر الذي سيجعله (ينهار) في أوَّل اختبار للحياة.

الأمر الرابع:

أنْ يتعامل الوالدان مع الأولاد بطريقة تعسُّفية ملؤها الص_راخ والصياح والقبضة الحديدية، بحيث لا يحصل الولد علىٰ أيِّ طلب إلَّا بعد أنْ (يأكل) شيئاً من الص_راخ أو الاستهزاء أو التعصُّب، الأمر الذي

ص: 193

سينعكس علىٰ شكل خوف دائم وتردُّد مستمرٍّ من الأولاد، بحيث يعيش الفزع من أبويه، خصوصاً إذا كسر زهريةً أو إناءً من دون قصد!

إنَّ العنف لا يُولِّد إلَّا شخصية ضعيفة خائفة مهتزَّة.

الأمر الخامس:

الحماية المفرطة من الأبوين تجاه أولادهما بحيث لا يسمحان لهم بإبراز أيِّ إبداع أو حُرّية أو تعبير عن الرأي، حتَّىٰ لو مشىٰ الولد في الشارع فإنَّ أبويه لن يدعا له يده من دون إمساك، أو حتَّىٰ في طعامه وإطعامه! فالطعام يصل إلىٰ فمه من دون أنْ يُبدي أيَّ إرادة في اختيار نوع معيَّن أو رفض آخر، أمَّا الخروج من البيت لوحده لجلب شيء ما من البقّال، أو لزيارة صديقه، فهذا يُعتَبر جريمة حرب!

الأمر السادس:

عَقْدُ المقارنات بين الولد وبين أقرانه مع تأشير حالات سلبية فيه، فيقال له: انظر إلىٰ فلان، كيف صنع كذا، ونجح في امتحانه، وكيف وظَّب أغراضه لوحده، وكيف يستمع كلام أُمِّه، و...

إنَّ هذه المقارنات قد تحصل بين الولد وبين أخيه، أو بينه وبين أحد أترابه، وهي تعني عند الولد أنَّه يفتقر إلىٰ صفات معيَّنة، جعل منه افتقاره إليها شخصاً رخيصاً عند أبويه، وهي إشارات إلىٰ تخلُّفه عن الالتحاق بركب الناجحين.

إنَّها تعني مِعْولاً يض_رب في أساس الكبرياء عند الولد، وبالتالي قد يظنُّ الولد أنَّ أبويه يُحِبّان الآخر أكثر منه، ممَّا قد يُؤدّي إلىٰ (العناد) أو محاولة جذب الانتباه بطريقة (خالف تُعرَف) أو إلىٰ (تعمُّد) إحداث مشاكل معيَّنة، لا لشيء إلَّا ليُثبِت لأبويه قدرته علىٰ التأثير ولو سلباً.

ص: 194

وفي أسوأ حالات هذه المقارنات قد يقتنع الولد بفشله، وبالتالي سيقنط وييأس من إمكانية تغيير سلوكياته، فيقف علىٰ جنب الطريق ولا يتقدَّم خطوة واحدة.

الأمر السابع:

عدم السماح للولد بإقامة علاقات مع أترابه بحجَّة وبأُخرىٰ، الأمر الذي سيجعل منه إنساناً منكمشاً علىٰ ذاته، بعيداً عن الممارسة الاجتماعية، عاجزاً عن التعبير عن مشاعره أو عن تفجير طاقاته.

نحن لا نُنكِر أنَّ المجتمع يعيش في كثير من الأحيان حالات من احتضار الأخلاق وموت القيم، ولا نُنكِر أنَّ الأخطار ملغَّمة في كلِّ جوانبه، ولكن هذا لا يمنع من أنْ نُدرِّب أولادنا علىٰ خوض لُجَج الأخطار، مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة الوقوف إلىٰ جنبهم في تلك المعركة.

قد يموت الأب، والولد ل_مَّا يخض أيَّ معركة مع المجتمع والضغوط، فما هو حاله حينها؟!

الأمر الثامن:

عدم فسح المجال أمامه ليتَّخذ بعض القرارات المرتبطة به، سواء ما يتعلَّق بلون الحذاء الذي يريد أنْ يلبسه، أو لون الخطِّ الذي يريد أنْ يرسم به، فضلاً عن عدم السماح له بإبداء رأيه في ما يتعلَّق ببعض أُمور البيت، عندها سيحسُّ الولد بأنَّه مجرَّد (قرد) أو (آلة) عليها أنْ تُنفِّذ رغبات مالكها!

الأمر التاسع:

رسائل الإحباط التي يُرسِلها الأبوان من حيث يشعران أو لا، مثل التعبير عنه ب_ (الجاهل).

ص: 195

أو (أنت لا تستطيع فعل هذا).

أو (أنت قليل الخبرة في هذا العالم المخيف).

أو (أنت لا تعرف شيئاً عن هذا).

أو (أنت لن تستطيع فعل أيِّ شيء من دون مساعدتي).

أو (لا يحقُّ لك التعبير عن هذا).

أو (رأيك تافه ولا قيمة له).

وأمثال هذا الرسائل المحبطة.

إنَّ هذه الكلمات وأمثالها ستقتل ولدك من غير موت، وستجني عليه من دون سكّين.

إنَّ بعض الآباء عنده من القدرة علىٰ الإبداع في اختراع وسائل (الإحباط) بحيث لا يترك ثغرة للولد يمكن له من خلالها أنْ يُثبِت تفوّقه أو قدرته أو حتَّىٰ إبداء رأيه، إنَّهم ناجحون تماماً ومبدعون حقًّا في قتل الشخصية، وكثيرٌ ما هم!

النقطة الثالثة: خطوات عملية لبناء الشخصية:

بعد أنْ تعرَّفنا علىٰ بعض مؤشِّرات ضعف الشخصية، وعلىٰ بعض الأُمور التي تساعد علىٰ هدمها، فمن المناسب جدًّا أنْ نذكر خطوات عملية علاجية من شأنها أنْ تساعد علىٰ بناء شخصية رصينة متوازنة، يمكنها أنْ تشقَّ أمواج الحياة العاتية بقدم ثابتة.

في الحقيقة إنَّ القائمة في هذا المجال طويلة، وأهمّ شيء فيها هي قدرة الآباء علىٰ التكيُّف مع المتغيِّرات الحياتية والظروف الاجتماعية وأخذ التجربة واستخلاص النتائج منها، وزرع مفاهيم الشخصية القويَّة في نفوس أولادهم، فهذا هو الأساس في كلِّ ما سنذكره تباعاً إن شاء الله تعالىٰ.

ص: 196

إنَّ أيَّ والدين لا يملكان الاستعداد النفس__ي لبذل الجهد والراحة بل والكبرياء غير المبرَّر، فإنَّ تلك الخطوات لا تُمثِّل لديهم إلَّا مجرَّد أماني معلَّقة علىٰ الثريا، أو خيالات شاعر في ليلِ حالم!

ومعه، فعلينا - نحن الآباء والمربّين - أنْ نكون علىٰ استعداد تامٍّ للعمل علىٰ تطبيق تلك الخطوات بجدّية وصبر، وعلينا أنْ نعمل علىٰ استحداث وإبداع خطوات جديدة تتناسب مع أولادنا، الذين يختلفون فيما بينهم في الاستعدادات والقابليات.

وتلك الخطوات هي التالي:

الخطوة الأُولىٰ: التدريب علىٰ الاستقلالية:

يبدأ الطفل معتمداً بالكلّية علىٰ والديه، حتَّىٰ إنَّه قد يُفضِّل البقاء عطشاناً علىٰ أنْ يُكلِّف نفسه عناء القيام لشرب الماء!

فإذا ما وجد مطاوعة ليِّنة من الأبوين في ذلك، فإنَّه سيبقىٰ فاغراً فاه إلىٰ نهاية عمره، ليَنتُجَ عندنا في المحصَّلة رجالٌ متواكلون مهمِلون، ليس عندهم أيُّ استعداد لتحمُّل أيِّ مسؤولية.

وهنا يلزم علىٰ الأبوين أنْ لا يستسلما لهذه الرغبة، وأنْ يعملا علىٰ تدريب أولادهما علىٰ الاستقلال - ولو جزئياً - في حياتهم، لكن ضمن الحدود التالية:

أوَّلاً: ليس معنىٰ الاستقلالية إهمالَ الولد إلىٰ الحدِّ الذي يبقىٰ فيه بين فكَّي كمّاشة، وإنَّما معناه تدريبه علىٰ اتِّخاذ بعض القرارات تحت رعاية الأبوين، وتحمُّل بعض المسؤوليات الممكنة له، ممَّا يتوافق مع مرحلته العمرية والفكرية.

فمثلاً إذا أردت شراء ملابس لولدك، فخذه معك، ودعه يختار

ص: 197

قميصاً معيَّناً، فإذا أعجبك وكان مناسباً له فأثنِ علىٰ اختياره الصحيح، وأخبره بأنَّه أصبح علىٰ قدر المسؤولية في ذلك.

وأمَّا إذا لم يكن اختياره مناسباً، فعليك أنْ تستخدم أُسلوباً دبلوماسياً معه يحفظ له ماء وجهه، ويجعله يُغيِّر رأيه إلىٰ غيره، كأن تُخبِره بأنَّ ما اختاره أمر جيِّد، ولكن دعنا نبحث عن خيارات أُخرىٰ، لعلَّنا نجد ما هو أفضل.

ثانياً: كلِّفْه بالقيام بمهامٍّ صغيرة، يكون له الخيار الكامل فيها، فإذا أردت أنْ تجلب شيئاً من بيت جارك فابعثه في هذا المشوار، وإذا رأيت محتاجاً فأعطه مبلغاً من المال ليقوم هو بإعطائه له، وإذا صعدتم في سيّارة أُجرة فدعه هو من يدفع الأُجرة للسائق، وهكذا.

ثالثاً: دعه يتناول طعامه لوحده، حتَّىٰ وإنْ وقع بعض الطعام علىٰ ملابسه، فبعد عدَّة محاولات سينجح الطفل في إيصال اللقمة إلىٰ فمه من دون خسائر، وحتَّىٰ لو وقعت خسائر فعلِّمه القيام بجمعها بعد الانتهاء من طعامه، فهي أيضاً مهمَّة مستقلَّة.

رابعاً: إيّاكِ أيَّتها الأُمُّ أنْ تكتبي له واجباته المدرسية، بل عليه هو أنْ يقوم بذلك باستقلاله، نعم لا بأس بأنْ يكون تحت رعايتكِ، وعليه أيضاً أنْ يتعلَّم كيف يُحضِّر جدوله اليومي.

خامساً: دعوه يلبس ملابسه لوحده، ولا بأس بلمسات أخيرة تفيضها الأُمُّ من خبرتها في الحياة، فإنَّ ذلك يجعله يحسُّ بأنَّه وصل إلىٰ مرحلة لا بدَّ أنْ يعتمد علىٰ نفسه فيها بعيداً عن أُمِّه في هذه المهمَّة اليومية.

سادساً: لتكن له خزانة خاصَّة بملابسه وكُتُبه وحاجياته قدر

ص: 198

الإمكان، فإنَّ ذلك في الوقت الذي يُضفي علىٰ حياته نوعاً من الاستقلالية هو يعمل علىٰ بناء شخصيته وتدريبه علىٰ الاستقلال في مهامٍّ أعظم.

سابعاً: وحتَّىٰ تزيد من تفعيل (استقلالية ولدك) عليك أنْ تجعله يطمئنُّ من (العقاب) لو (أخطأ)، فإنَّ (أَمْنه) من ذلك يُشجِّعه علىٰ تفعيل استقلاليته أكثر، لأنَّه سيضمن نصيحةً من أبٍ ودود وأُمٍّ رؤوم، بعيداً عن التهكُّم والص_راخ والعقوبة البدنية. و(كلَّما كان استخدام العقاب أقلّ، كانت التربية أقرب إلىٰ السواء، والعكس صحيح)((1)).

ملاحظة مهمَّة:

صحيح أنَّ الولد يبدأ حياته كوجود غير مستقلٍّ تماماً ويعتمد كلّياً علىٰ أبويه، لكنَّه كلَّما تقدَّم به العمر واكتسب خبراتٍ أكثر من الحياة كلَّما مال بطبعه إلىٰ الاستقلال، حتَّىٰ إذا وصل إلىٰ مرحلة المراهقة فإنَّه سيعمل علىٰ تفعيل استقلاله من خلال إعلان المعارضة في أغلب الأحيان.

والمشكلة أنَّ الولد إذا لم يجد من يساعده علىٰ الاستقلال ويُوجِّهه بصورة صحيحة نحوه فإنَّه سيتص_رَّف بتلقائية ليستقلَّ، ولكن بالطريقة التي يراها هو مناسبة، والتي قد تعني في كثير من الأحيان حصول خلافات حادَّة وتقاطعات بينه وبين والديه، ومن تلك التصرُّفات:

- التأخُّر في العودة إلىٰ البيت ليلاً.

- الخروج إلىٰ أماكن بعيدة من دون علم الأبوين.

- بناء علاقات مشبوهة.

ص: 199


1- ([1]) التربية الرشيدة (7)/ ابن زمانه/ أ. د عبد الكريم بكّار (ص 21).

- مخالفة القواعد البيتية المتَّفق عليها مسبقاً.

- عدم تقبُّل النصيحة أو تصحيح الخطأ والاعتذار.

ولذلك فعلىٰ الأبوين أنْ يُدرِّبا أولادهما علىٰ الاستقلال بطريقة صحيحة ليحصلا علىٰ نتائج إيجابية مزدوجة تضمن:

1 - الاستقلال التدريجي للأولاد، ممَّا يعني بناء الشخصية.

2 - عدم تمرُّد الولد فيما إذا وصل إلىٰ مرحلة المراهقة، لأنَّه سيجد كلَّ ما يحلم به من استقلال متوفِّراً لديه من قبلُ، بالإضافة إلىٰ تمسُّكه بالبنود العائلية والاجتماعية المتَّفق عليها، لأنَّه لن يراها مخالفة لما يطمح إليه.

الخطوة الثانية: تعامل مع ولدك كرجلٍ لا كطفل:

(إنَّ الطفل يكبر، ليصبح رجلاً، لا ليبقىٰ طفلاً!).

هناك حقيقة يعيشها كلُّ أب وكلُّ أُمٍّ، وهي: إنَّه مهما كبر الولد وبلغ به العمر مبلغه فإنَّهما يحسبانه ما زال صغيراً، وهذا ما قد ينعكس علىٰ الحماية الزائدة والمستمرَّة، وعلىٰ محاولة التدخُّل في كلِّ تص_رُّف يقوم به الولد، حتَّىٰ بعد زواجه!

إنَّ هذه الحقيقة تحكي عن شعور عاطفي يعيشه الأبوان يجعلهما يعيشان من أجل أولادهما فقط، وهذا لا بدَّ أنْ يكون محلَّ تقدير من قِبَل الأولاد، وسبباً آخر من أسباب لزوم شكر الوالدين والإحسان إليهما وبرِّهما، ولكن في الوقت ذاته سيكون الإفراط بهذه العاطفة ذا آثار سلبية فيما يتعلَّق بشخصية الولد، فإنَّ الولد قد يستمرئ هذه الفكرة ليبقىٰ يعيش متطفِّلاً علىٰ غيره، مستهلِكاً لا منتجِاً، لا يتحمَّل أيَّ مسؤولية، ذا شخصية ضعيفة مهزوزة.

إنَّ من الخطوات المهمَّة في طريق بناء شخصية الطفل هي أنْ يعمل الأبوان علىٰ أنْ يتعاملا مع الطفل تعاملَ رجل المستقبل.

ص: 200

إنَّ هذا التعامل في الوقت الذي يقتض_ي من الأبوين تعاملاً خاصًّا مع الولد، بحيث يجعله يحسُّ بأنَّه فعلاً صار رجلاً، هو يقتض_ي أيضاً مراقبة دقيقة لهذا (الرجل الصبيِّ)، يتضمَّن تعديلاً للسلوك لو انحرف عن الخطِّ المرسوم له شرعاً وعرفاً وعقلاً، إذ لعلَّ إحساس الولد بأنَّه صار رجلاً - الإحساس الذي رسمه له أبواه في خطوة مهمَّة منهما لبناء شخصيته بصورة صحيحة - يجعله يتجاوز حدود مرحلته، ويبدأ بالخروج من البيت مثلاً ليغيب فترات طويلة من دون مبرِّر، وعدم تقبُّله للنصيحة من الآخر.

إنَّ هذه الخطوة وحتىٰ تُثمِر تحتاج إلىٰ تفعيل النقاط التالية:

النقطة الأُولىٰ:

اجلس مع ولدك أطول وقت ممكن، وتبادلا أطراف الحديث حول بعض أُمور البيت، أو حول لعبته اليوم مع أصدقائه، أو عن معلومة درسها في المدرسة، المهمُّ أنْ تجد طريقة معيَّنة لفتح الحديث معه.

النقطة الثانية:

استش_ره في بعض الأُمور وإنْ كانت بسيطة، وحاول أنْ تتوافق معه في رأيه، فمثلاً اطلب منه أنْ يُبدي رأيه في زراعة الحديقة، أو في ترتيب المكتبة، أو في الذهاب إلىٰ بيت العمِّ، وهكذا.

إنَّ هذه الاستشارات الصغيرة تمدُّ بينكما روابط التفاهم، وتُعطي له بالخصوص الشخصية المتَّزنة.

النقطة الثالثة:

أخبره بأنَّه مسؤول عن تص_رُّفاته، وأنَّ عليه أنْ يتحمَّل عواقب أفعاله، وأنَّ عليه أنْ يُعلِن مسؤوليته بكلِّ شجاعة، وبالطبع فأنت لن

ص: 201

تعاقبه، ولن تجعله يعيش الرعب من سياط كلامك أو قبضة يدك، فالخطأ واردٌ حتَّىٰ من الكبار، ولكنَّ المهمّ بعد وقوعه هو تصحيحه بكلِّ شجاعة.

ونُكرِّر ما قلناه سابقاً من أنَّ هذا التساهل لا يعني رفع المؤاخذة والعتاب، بل يعني التوازن في معادلة ذات ثلاثة أطراف: (العتاب، وتحمُّل المسؤولية، وتصحيح الخطأ لو وقع)، والرهان في النجاح علىٰ التوازن في هذه المعادلة.

النقطة الرابعة:

تص_رَّف معه وكأنَّه رجل، ليس في البيت فقط وإنَّما حتَّىٰ أمام الناس، فإذا دخل علىٰ أصدقائك وسلَّم عليهم وقام أصحابك بوجهه فيُرجىٰ منك أنْ تلتزم الصمت ولا تطلب منهم أنْ يجلسوا أو أنْ لا يقوموا له.

نعم فيما بينك وبين ولدك علِّمه وقل له: إنَّ من احترام الضيف أنْ تطلب منه إذا دخلت عليه أنْ يجلس ولا يقوم، خصوصاً إذا كان أكبر منك سنًّا.

وهكذا لو صعدتم في سيّارة أُجرة فلا تُجلسْه في حجرك، بل احجز له مقعده الخاصّ، وبالتأكيد لن يجعلك هذا الأمر تحت مستوىٰ خطِّ الفقر.

وإذا خرجتما إلىٰ السوق فدعه يختر معك بعض ما تريد شراءه، ولا بأس بأنْ تطلب منه أنْ يسأل عن سعر الجهاز المعيَّن، أو حتَّىٰ أنْ يقوم هو بدفع المبلغ (إذا كان عمره يُناسب هذه المهمَّة، حتَّىٰ لا تقع في إحراج مع صاحب المحلِّ بأنَّك تُقلِّل من شأنه إذا جعلت ولدك الصغير يدفع له).

ص: 202

النقطة الخامسة:

اطلب منه أنْ يُكوِّن علاقات طيِّبة مع أترابه بالش_روط المتقدِّمة في المؤثِّر الثالث.

النقطة السادسة:

إذا دعتك إدارة المدرسة لاجتماع أولياء الأُمور فلا تعتذر بحجَّة عدم توفُّر الوقت أو بأنَّك متعب، بل اصحبه واذهب معه وأَجلسْه بقربك، وعرِّف نفسك لمعلِّميه، وأنَّك ترجو له أنْ يصبح طبيباً أو مهندساً معمارياً أو داعية للخير وما شابه هذه الآمال الراقية التي توحي للولد بأنَّه لا بدَّ أنْ يصبح كذلك. وأخبرهم بأنَّك مطمئنٌّ بأنَّ ولدك مهذَّب ومجدٌّ.

إنَّ ذهابك معه يعني له الكثير، وسيحفظ لك هذا الجميل طول عمره.

النقطة السابعة:

كن مستمعاً جيِّداً له، حتَّىٰ إذا كانت مطالبه رخيصة، وحتَّىٰ إذا كانت قصَّته قديمة، وإيّاك أنْ تستهزئ به أمام الناس، أو حتَّىٰ أمام إخوته، فإنَّ ذلك يكسر رجولته، ويُحطِّم شخصيته.

الخطوة الثالثة: التوازن الحياتي:

إنَّ من أهمّ مقوِّمات النجاح في الحياة عموماً هو التوازن، بل إنَّ التوازن هو واحد من أهمّ أنظمة الكون، لذلك نجد أنَّ الله تعالىٰ أوجد العالم وفق نظام التوازن، فالحياة يقابلها الموت، فلا حياة بلا موت - وإلَّا لزم الاحتياج إلىٰ كرة أرضية ثانية وعاشرة -، ولا موت بلا حياة - وإلَّا لفنيت الحياة -.

وهكذا النباتات تأخذ ثاني أُوكسيد الكربون الذي يزفره الإنسان وتُعوِّضه بالأُوكسجين الذي يستنشقه، ولولا هذه الموازنة لمات الإنسان أو النبات.

ص: 203

وهكذا في جميع مفردات وأنظمة الحياة.

ومن نفس هذا المنطلق إذا أراد أيُّ شخص أنْ ينجح في حياته فعليه أنْ يعيش التوازن فيها، فلا يُضحّي بش_يء إلَّا لأجل الأهمّ، ولا يترك شيئاً إلَّا من أجل شيء آخر أهمّ منه.

والتربية عموماً تحتاج إلىٰ توازن، وقد تكلَّمنا عن شيء من التوازن المطلوب من الآباء فيما يتعلَّق بالعمل والتربية، في عنوان (مميِّزات تربية الدجاج).

ومن أجل بناء شخصية الطفل بناءً متَّزناً، عليك أنْ تُعلِّمه، وأنْ تجعله يمارس التوازن في حياته، ولا يميل إلىٰ الإفراط أو إلىٰ التفريط في كلِّ مفردات الحياة.

وهنا عدَّة حالات ينبغي الالتفات إلىٰ ضرورة التوازن فيها من أجل تحقيق هذه الخطوة:

الحالة الأُولىٰ: التوزان بين النوم واليقظة:

هناك ساعات محدَّدة لا بدَّ أنْ يأخذ فيها الطفل راحته، وأنْ يستسلم فيها للنوم.

علِّموه أنَّ وقت النوم محترم، ولا يجوز التجاوز عليه من دون مبرِّر، وإلَّا لسرق البدنُ لنفسه بعضاً من ساعات اليقظة والإنتاج، الأمر الذي سيُؤثِّر علىٰ وقت المدرسة مثلاً.

الحالة الثانية: التوازن بين اللعب والجِدِّ (القراءة نموذجاً):

إنَّ اللعب أمر ضروري لبناء شخصية وبُنية الطفل، ولكنْ إذا أخذ اللعب وقتاً مفتوحاً من دون حدود أو قيود، فإنَّ هذا يعني التضحية بوقت الجِدِّ والعمل والدراسة.

علِّموا أولادكم أنْ يأخذوا لعقولهم من القراءة والإبداع كما يأخذون لأبدانهم من اللهو واللعب.

ص: 204

الحالة الثالثة: التوازن بين الاستهلاك والإنتاج:

لقلَّة خبرة الطفل في الحياة من جهة، ولميله إلىٰ إشباع رغباته من دون قيود من جهة أُخرىٰ، قد يُثقِل كاهلَ أبويه بطلبات غير منتهية ولا حدود لها، الأمر الذي قد ينعكس علىٰ الأبوين برفضٍ قاسٍ، أو ديونٍ تجثم علىٰ صدرهما.

علينا أنْ نُعلِّم أولادنا أنَّ الاستهلاك لا بدَّ أنْ يكون متوازناً مع الإنتاج، وأنَّ الصرف لا بدَّ أنْ يكون متوازناً مع دخل الأُسرة.

علينا أنْ نُعلِّمهم أنَّ بعض طلباتهم تض_رُّ بهذا التوازن، وأنَّ عليهم إمَّا أنْ يستغنوا عنها، وإمَّا أنْ يستبدلوها بما لا يُخِلُّ بالتوازن.

الحالة الرابعة: التوازن بين الحقوق والواجبات:

يرغب الأولاد في أنْ يكون لهم حقوقٌ لا حدَّ لها، وأنْ يتحرَّروا من قيود الواجبات، وبالتالي يعتبرون أنفسهم أصحاب حقٍّ مطلق، فلا يتقدَّم غيرهم عليهم، ولا يُكلَّفون بتكاليف أو واجبات.

لا بدَّ للأولاد أنْ يعيشوا التوازن، فكما أنَّ لهم حقوقاً يرغبون بأخذها، كذلك عليهم واجبات لا بدَّ أنْ يقوموا بها.

لذلك، فمن المناسب أنْ نُرتِّبَ لأولادنا جدولاً ببعض الأعمال المنزلية، فالبنت مثلاً تغسل أواني الفطور، أو تكوي ملابس أبيها، والابن مثلاً يُرتِّب غرفة الاستقبال، أو يغسل السيّارة، أو يتكفَّل بالحديقة المنزلية، وهكذا.

الحالة الخامسة: التوازن بين العلاقات:

صحيح أنَّ الإنسان اجتماعي بطبعه، لكن بعض الأطفال يعيش الانطوائية علىٰ الذات.

التوازن هنا مطلوب وضروري جدًّا، فليس من الصحيح أنْ

ص: 205

يُفرِّط الطفل بطبعه الاجتماعي ليقيم علاقات مع كلِّ من هبَّ ودبَّ، ومن دون أيِّ قيود، إلىٰ الحدِّ الذي قد يذوب الطفل بأصحابه علىٰ حساب علاقاته البيتية والدراسية.

كذلك ليس من الصحيح أنْ يُفرِّط الطفل بهذا الجانب ويتركه وراء ظهره، ويرحل عنه إلىٰ غير رجعة، بحيث يكون منطوياً علىٰ ذاته، وغير مستعدٍّ لإقامة أيِّ صداقة مع أترابه.

إنَّ الإفراط ذاك والتفريط هذا قد يكون سببه الأبوين نفسيهما، فالأب الذي يطلب من ولده أنْ يعمل في أماكن مشبوهة فإنَّه يُؤدّي به إلىٰ الإفراط في الطبع الاجتماعي، وهذا سيُولِّد مشاكل كثيرة بين الأب وولده تبدأ من تمرُّد الولد علىٰ أوامر أبيه.

كما أنَّ الحماية الزائدة من الأُمِّ أو الأب قد تؤدّي إلىٰ أنْ يُصبح الولد أنانياً وانطوائياً، وقد رأيت بعض (المعلِّمات) في مدارس (خاصَّة بالبنات) تأتي بولدها (الذَّكَر) في هذه المدرسة لتُؤمِّن له حمايتها!

علىٰ الأبوين أنْ يُعلِّما أولادهما التوازن في العلاقات الاجتماعية بحيث تخرج تلك العلاقات عن طرفي الإفراط والتفريط إلىٰ التوازن.

الخطوة الرابعة: التربية الذوقية (أو: فنُّ الإتكيت

الخطوة الرابعة: التربية الذوقية (أو: فنُّ الإتكيت((1))):

هذه الحياة كبناء يُبنىٰ حجراً فوق حجر، وبانوها هم أنا وأنت وولدي وولدك، وحتَّىٰ يستمرَّ البناء بالارتفاع علينا أنْ نتعاون بعضنا مع البعض الآخر.

ص: 206


1- ([1]) الإتيكيت في الأصل كلمة فرنسية وليست عربية، تعني البطاقة بالمعنىٰ الحرفي، ولكنَّها في الموسوعة الفرنسية تعني القدرة علىٰ احترام الآخرين والتحلّي بالسلوك الذي يساعد علىٰ جذبهم والتعامل معهم بطريقة لائقة ومهذَّبة.

ولأنَّ عالمنا هو عالم التزاحم باعتبار قلَّة الفُرَص المتاحة إزاء الرغبات المتزايدة، فإنَّنا بحاجة إلىٰ تنظيم عملية الاحتكاك بين بني البش_ر، وقد وفَّرت الأديان السماوية أنظمة متوازنة شملت جميع مرافق الحياة، فنظَّمتها تنظيماً دقيقاً، ثمّ جاءت القوانين الوضعية لتضع بصمتها في هذا التنظيم، ومنذ القِدَم وإلىٰ اليوم سعىٰ الإنسان إلىٰ ذلك، فكانت (مسلَّة حمورابي)، وكانت (لائحة حقوق الإنسان)، وغيرها.

وإلىٰ جنب هذين العمودين التنظيميين فقد تعارف بنو البش_ر علىٰ التزام أخلاقيات عامَّة يحكمُ بحسنها العقلُ ولو من دون شريعة أو قانون.

وهذه الأخلاقيات في الوقت الذي تُقلِّل من حدَّة الاحتكاك بينهم هي تُؤدّي إلىٰ تقوية الأواصر الاجتماعية.

وقد أخذ بنو البش_ر علىٰ أنفسهم تقدير من يلتزم هذه الأخلاقيات التي تكشف عن ذوق رفيع واستقامة في الشخصية.

وإنَّ واحدةً من مهامِّ التربية - مما يُقوّي شخصية الطفل في نظر نفسه وغيره - هو التزام هذه الأخلاقيات الذوقية، باعتبار أنَّ التقدير الذاتي الذي يكتسبه الطفل من أدائه لتلك الذوقيات والمدح المتلألئ من الناس له يعني له الكثير، فهو سيحسُّ أنَّه وبالتزامه تلك الأخلاقيات فإنَّ الناس يعتبرونه رجلاً ناضجاً كامل الشخصية، وبالتالي فهو يستحقُّ كلَّ الاحترام والتقدير.

وهنا أذكر قائمة مهمَّة من تلك السلوكيات الذوقية التي هي في الوقت الذي تُعتَبر مهمَّة من مهامِّ التربية فإنَّ لها آثاراً في بناء شخصية الطفل وإحساسه بالمسؤولية الاجتماعية:

ص: 207

1 - التزام الأولاد بإلقاء التحيَّة والسلام علىٰ من يكبرونهم سنًّا، بل وحتَّىٰ علىٰ أترابهم وأصدقائهم، وجعْل إلقاء التحيَّة ديدناً تلقائياً.

طبعاً أوَّلُ فئة من المجتمع يلزم إلقاء التحيَّة عليها هم أفراد العائلة، ففي كلِّ مرَّة يرجع الأولاد من المدرسة أو من اللعب عليهم أنْ يُلقوا التحيَّة، وهكذا عند الاستيقاظ من النوم...

وهذا الأدب قد صرَّحت به الروايات الش_ريفة مبيِّنة الترتيب التربوي لمن يبدأ بالسلام، فقد روي عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «يُسلِّم الصغير علىٰ الكبير، والمارُّ علىٰ القاعد، والقليل علىٰ الكثير»((1)).

2 - تدريبهم علىٰ اختيار مجالسهم في مواضع أدنىٰ من مواضع من هم أكبر منهم سنًّا، والإيحاء إليهم بأنَّ هذا التص_رُّف هو من حسن الأدب وقوَّة الشخصية، ولا شكَّ أنَّ لكلِّ مجتمع آدابه الخاصَّة فيما يتعلَّق بهذا الأمر.

وينفع هنا أنْ تُذكِّروهم بما رُوي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «لا تُسْ_رِعَنَّ إلىٰ أرفع موضع في المجلس فإنَّ الموضع الذي تُرفَع إليه خيرٌ من الموضع الذي تُحَطُّ عنه»((2)).

3 - عدم مقاطعة الكبار عندما يتبادلون أطراف الحديث، وتشجيعه علىٰ المشاركة إذا أُتيحت الفرصة له أو طُلِبَ منه ذلك، مع التزام عدم رفع الصوت أكثر من الطبيعي، وإذا استلزم الأمر المقاطعةَ فليُقدِّم الولد كلمة اعتذار مثل: (معذرةً، عفواً...)، وهكذا.

4 - الاهتمام بالهندام والشكل الخارجي من حيث النظافة

ص: 208


1- ([1]) الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 64/ باب من يجب أن يبدأ بالسلام/ ح 1).
2- ([2]) عيون الِحكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 522).

والترتيب ووضع عطر مناسب قبل الخروج من البيت (هذا خاصٌّ بالولد الذَّكَر ولا يشمل البنت للمحاذير الش_رعية من وضع العطر)، والاهتمام بنظافة الأسنان وبرائحة الفم((1))، وهكذا الاهتمام بوضع الحذاء في موضعه المناسب، وعدم (الدوس) علىٰ أحذية الآخرين.

5 - تعليمه أدب الشكر عند الإحسان، فعليه أنْ يشكر أُمَّه إذا أحضرت له الطعام، وأباه إذا اشترىٰ له لعبة أو حاجة ما، ومعلِّمَه بعد انتهاء الدرس، وصديقَه بعد انتهاء جلستهما وحديثهما، وأخاه بعد تقديم مساعدة له، وهكذا ينبغي تعليمه فنَّ الطلب من الآخرين، فيُقدِّم كلمة (من فضلك، لو سمحت، أرجو منك)، وهكذا.

6 - طرق الباب قبل الدخول إلىٰ الغرفة الخاصَّة بالأبوين أو بأحد الإخوة، وخصوصاً الأخوات، أو عند الدخول إلىٰ غرفة الضيوف، كما يلزم الاستئذان من الأخ لو أراد أنْ يفتح خزانته الخاصَّة.

فالاستئذان أُسلوب لا بدَّ من تدريب الأولاد عليه، فعليهم أنْ يفهموا ويتعلَّموا كيف يحترمون خصوصيات الآخرين، ولتحذر الأُمُّ من التجسُّس علىٰ خصوصيات الأب أمام أطفالها (أو حتَّىٰ لو كانت لوحدها!).

ص: 209


1- ([1]) ومن هذا القبيل وردت كراهة أكل بعض المأكولات التي لها رائحة كريهة عند إرادة الدخول في المسجد، ففي علل الش_رائع للشيخ الصدوق (ج 2/ ص 519 و520/ باب 295/ ح 1): عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: سألته عن الثوم: فقال: «إنَّما نهىٰ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) عنه لريحه، فقال: من أكل هذه البقلة المنتنة فلا يقرب مسجدنا، فأمَّا من أكله ولم يأتِ المسجد فلا بأس». وفي (ح 2): عن محمّد بن سنان، قال: سألت أبا عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) عن أكل البصل والكرّاث، فقال: «لا بأس بأكله مطبوخاً وغير مطبوخ، ولكن إنْ أكل منه ما له أذىٰ فلا يخرج إلىٰ المسجد كراهية أذاه علىٰ من يجالس».

7 - تغطية الأنف والفم بمنديل عند العطاس أو السعال أو التثاؤب، وعدم البصق والتنخُّم والتجشُّؤ أمام الآخرين، إلَّا في مكان منعزل، ورمي المنديل في مكانه المناسب، والاعتذار لو حصل شيء من ذلك من دون قصد أو من دون إرادة.

8 - إذا أكل أولادك شيئاً له مخلَّفات ونفايات كالأغذية المعلَّبة وبعض الفواكه وأنتم في سيّارتكم الخاصَّة، فلا ترضَ أبداً برمي تلك المخلَّفات من نافذة السيّارة إلىٰ الشارع، وكذلك إذا كنتم في حديقة أو متنزَّه، فلا بدَّ من الالتزام بوضع النفايات في أماكنها المخصَّصة.

والآباء مطالَبون بتنفيذ هذا الأدب أوَّلاً.

9 - أرشد الأولاد إلىٰ أنْ يساعدوا من يحتاج المساعدة ممَّن هم أكبر منهم سنًّا، أو أُولئك الذين هم أصغر منهم، فإنَّ تقديم المساعدة في الوقت الذي يجعل الولد يحسُّ بقوَّة الشخصية هو أيضاً يجعل الآخرين ينظرون إليه بإكبار وإجلال وتقدير، الأمر الذي سينعكس بالطبع علىٰ شخصية الولد لتكون متَّزنة قويَّة.

طبعاً تشمل هذه النقطة الاستجابة إلىٰ طلب الكبير بإحضار شيء معيَّن، أو القيام بأمر ما.

10 - تعليم الأولاد آداب المائدة، من غَسل اليدين قبل الطعام وبعده، والبسملة عن البدء والحمد عند الانتهاء، وإمساك أدوات الطعام بصورة جيِّدة، والأكل ممَّا هو أمامه وأنْ لا يتجاوز إلىٰ ما هو أمام الآخرين، وعدم التكلُّم أثناء الأكل، وعدم النظر في وجوه الآخرين عندما يأكلون، ومضغ الطعام جيِّداً، وطلب المساعدة من غيره فيما لو أراد شيئاً بعيداً عن متناول يده، ولا يمدَّن جسمه فوق الطعام ليصل

ص: 210

إليه، وعدم البدء بالطعام قبل الكبار، وعدم الأكل ماشياً، وغيرها من آداب الطعام.

11 - علىٰ الآباء أنْ يُعلِّموا أبناءهم والأُمَّهات بناتهنَّ، ويُؤكِّدوا عليهم بأنَّ للبيت خصوصياته التي لا يجوز أنْ تخرج خارجه، ولا التحدُّث عنها أمام الآخرين.

ومن هذا القبيل علىٰ الأب أنْ يلتزم عدم الشكوىٰ من الأولاد أو من الزوجة أمام الضيوف أو الأصدقاء أو حتَّىٰ الأقارب، لأنَّ الولد إذا رأىٰ هذا التصرُّف من أبيه (أو من أُمِّه - لا فرق من هذه الناحية -) فإنَّه لن يتحرَّز عن إظهار أسرار البيت أمام أيِّ شخص آخر.

كذلك يلزم علىٰ الأولاد أنْ يتعلَّموا أنَّ لبيوت الناس أسراراً، فلو حدث واطَّلع بعضهم علىٰ سرٍّ منها بقصد أو من دون قصد، فعليه أنْ يحفظه ولا يُظهِره أبداً.

ملاحظات:

الملاحظة الأُولىٰ:

إنَّ الطفل لا يقصد الوقاحة أو إحراج الأبوين عندما يصدر منه تص_رُّف مخالف للذوق العامِّ (الإتيكيت)، وإنَّما تصدر منه تلك التص_رُّفات عادةً بتلقائية، أو لأنَّه لم يأخذ درساً تعليمياً مسبقاً (بصورة نظرية أو عملية) حول هذا التصرُّف.

الملاحظة الثانية:

يحتاج الطفل إلىٰ تدريب وتذكير وممارسة حتَّىٰ يُحسِّن سلوكياته الذوقية، ممَّا يعني أنَّ علىٰ الوالدين الصبر والرويَّة حتَّىٰ يُتقِنها، وعليهما أنْ لا يصاحبا عملية التدريب بالصياح أو الصراخ.

ص: 211

الملاحظة الثالثة:

قبل أنْ تُعلِّم ولدك أيَّ فنٍّ سلوكي اجتماعي بألفاظك، عليك أنْ تجعله يرىٰ ذلك السلوك في تص_رُّفاتك، وإلَّا ففاقد الش_يء لا يُعطيه، ومن يُشابِهْ أَبَهُ فما ظلم!

* * *

ص: 212

الختام

في هذه الحلقة من سلسلة (تربية.. بلون جديد) تعرَّفنا علىٰ مفهوم التربية بمعناه الصحيح، وأهمّ الخطوات العملية التي تدخل في عملية بناء الأولاد بناءً قويماً من شأنه أن يجعلهم بارِّين بآبائهم، منتجين في مجتمعهم، فاعلين في محيطهم، وهي خطوات عملية واقعية بعيدة عن المثاليات، والمطلوب هو العمل علىٰ تطبيقها واحدة بعد الأُخرىٰ، وعدم التهاون بأيِّ واحدةٍ منها، وأهمُّ ما في هذه الخطوات هي أن يعمل الآباء علىٰ غرسها بصورة عملية محبَّبة في أولادهم، وأن يستمرُّوا بالمحاولة، ولا ييأسوا من أوَّل سقطة، وأن يتوسَّلوا بالله تعالىٰ شأنه في أن يجعل أولادهم بارِّين صالحين، وليُردِّد كلُّ واحدٍ منّا:

]رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً 74[ (الفرقان: 74).

وستكون الحلقة الثانية من هذه السلسلة بعنوان (رسالات تربوية)، وهي عبارة عن مجموعة من البحوث المختص_رة التي تعالج بعض ما يتعلَّق بالتربية الصحيحة، ببيان واضح خالٍ من التعقيد إن شاء الله تعالىٰ.

والحمد لله ربِّ العالمين، وصلّىٰ الله علىٰ سيِّدنا محمّد وآله الطيِّبين الطاهرين.

* * *

ص: 213

ص: 214

المصادر والمراجع

1 - القرآن الكريم.

2 - (8) طُرُق لهندسة الحياة وصناعة التأثير: د. عليّ الحمادي/ دار ابن حزم/ ط الأُولىٰ/ 1425ه_ - 2005م.

3 - الاحتجاج: الشيخ الطبرسي، تعليق وملاحظات: السيِّد محمّد باقر الخرسان/ 1386ه_ - 1966م/ دار النعمان للطباعة والنش_ر/ النجف الأشرف.

4 - الأمالي: الشيخ الصدوق/ قسم الدراسات الإسلاميَّة/ مؤسَّسة البعثة/ ط الأُولىٰ/ 1417ه_/ مركز الطباعة والنش_ر في مؤسَّسة البعثة/ قم.

5- الأمالي: الشيخ الطوسي/ قسم الدراسات الإسلاميَّة/ مؤسَّسة البعثة/ ط الأُولىٰ/ 1414ه_/ دار الثقافة للطباعة والنش_ر والتوزيع/ قم.

6 - الأنساب: السمعاني/ تقديم وتعليق: عبد الله عمر البارودي/ ط الأُولىٰ/ 1408ه_ - 1988م/ دار الجنان للطباعة والنش_ر والتوزيع/ لبنان/ بيروت.

7 - بحار الأنوار: العلَّامة المجلس_ي/ ط الثانية المصحَّحة/ 1403ه_ - 1983م/ مؤسَّسة الوفاء/ لبنان/ بيروت.

8 - تحف العقول: ابن شعبة الحرّاني/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفّاري/ ط الثانية/ 1404ه_ - 1363ش/ مؤسَّسة النش_ر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.

ص: 215

9 - التربية الرشيدة (7) ابن زمانه: أ. د. عبد الكريم بكّار/ ط الأُولىٰ/ 1435ه_ - 2014م/ دار وجوه للنشر والتوزيع.

10 - تفسير العيّاشي: محمّد بن مسعود العيّاشي/ الحاجّ السيِّد هاشم الرسولي المحلّاتي/ المكتبة العلمية الإسلاميَّة/ طهران.

11 - تفسير القمّي: عليّ بن إبراهيم القمّي/ تصحيح وتعليق وتقديم: السيِّد طيب الموسوي الجزائري/ ط الثالثة/ 1404ه_/ مؤسَّسة دار الكتاب للطباعة والنشر/ إيران/ قم.

12 - تفسير مجمع البيان: الشيخ الطبرسي/ تحقيق وتعليق: لجنة من العلماء والمحقِّقين الأخصّائيين/ ط الأُولىٰ/ 1415ه_ - 1995م/ مؤسَّسة الأعلمي للمطبوعات/ بيروت/ لبنان.

13 - التوحيد: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: السيِّد هاشم الحسيني الطهراني/ منشورات جماعة المدرِّسين في الحوزة العلمية في قم المقدَّسة.

14 - ثواب الأعمال: الشيخ الصدوق/ تقديم: السيِّد محمّد مهدي السيِّد حسن الخرسان/ ط الثانية/ 1368ش/ مطبعة أمير/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

15 - الجامع الصغير: جلال الدِّين السيوطي/ ط الأُولىٰ/ 1401ه_ - 1981م/ دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع/ بيروت.

16 - الخصال: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفّاري/ 1403 ه_ - 1362ش/ منشورات جماعة المدرِّسين في الحوزة العلمية في قم المقدَّسة.

17 - الدُّرُّ المنثور: جلال الدِّين السيوطي/ دار المعرفة للطباعة والنشر/ لبنان/ بيروت.

ص: 216

18 - دعائم الإسلام: القاضي النعمان المغربي/ آصف بن عليّ أصغر فيضي/ 1383ه_ - 1963م/ دار المعارف/ القاهرة.

19 - الدعوات: قطب الدِّين الراوندي/ مدرسة الإمام المهدي ¨/ ط الأُولىٰ/ 1407ه_/ مطبعة أمير/ قم.

20 - سلسلة الاختراق الثقافي (1) فضائيات الأطفال وأخطارها: الصادرة عن المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية/ النجف الأشرف.

21 - شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد/ تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم/ ط الأُولىٰ/ 1378ه_ - 1959م/ دار إحياء الكُتُب العربية/ عيسىٰ البابي الحلبي وشركاه.

22 - عدَّة الداعي: ابن فهد الحلّي/ تصحيح: أحمد الموحِّدي القمّي/ مكتبة وجداني/ قم.

23 - علل الش_رائع: الشيخ الصدوق/ تقديم: السيّد محمّد صادق بحر العلوم/ 1385ه_ - 1966م، منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها/ النجف الأشرف.

24 - عوالي اللئالي: ابن أبي جمهور الأحسائي/ تقديم: السيِّد شهاب الدِّين النجفي المرعش_ي/ تحقيق: الحاجّ آقا مجتبىٰ العراقي/ ط الأُولىٰ/ 1403ه_ - 1983م/ سيِّد الشهداء/ قم.

25 - عيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق وتقديم: الشيخ حسين الأعلمي/ 1404ه_ - 1984م/ مطابع مؤسَّسة الأعلمي/ لبنان/ بيروت.

26 - عيون الحِكَم والمواعظ: عليّ بن محمّد الليثي الواسطي/ الشيخ حسين الحسيني البيرجندي/ ط الأُولىٰ/ دار الحديث.

ص: 217

27 - الفتاوىٰ الميسَّ_رة: السيِّد السيستاني/ ط الثالثة/ 1417ه_ - 1997م/ مطبعة الفائق الملوَّنة.

28 - القيادة في الإسلام: محمّد الريشهري/ تعريب: عليّ الأسدي/ ط الأُولىٰ/ مطبعة دار الحديث/ مؤسَّسة دار الحديث الثقافية/ إيران/ قم.

29 - الكافي: الشيخ الكليني/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفّاري/ ط الخامسة/ 1363ش/ مطبعة حيدري/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.

30 - كنز العُمّال: المتَّقي الهندي/ ضبط وتفسير: الشيخ بكري حيّاني/ تصحيح وفهرسة: الشيخ صفوة السقا/ 1409ه_ - 1989م/ مؤسَّسة الرسالة/ لبنان/ بيروت.

31 - الكنىٰ والألقاب: الشيخ عبّاس القمّي/ مكتبة الصدر/ طهران.

32 - المحاسن: أحمد بن محمّد بن خالد البرقي/ تصحيح وتعليق: السيِّد جلال الدِّين الحسيني (المحدِّث)/ 1370ه_ - 1330ش/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.

33 - المحاضرات الأخلاقية: السيِّد حسين نجيب محمّد/ دار هادي.

34 - المستدرك: الحاكم النيسابوري/ إشراف: يوسف عبد الرحمن المرعشلي.

35 - مشكاة الأنوار: عليّ الطبرسي/ مهدي هوشمند/ ط الأُولىٰ/ 1418ه_/ دار الحديث.

36 - معاني الأخبار: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفّاري/ 13791379ه_ - 1338ش/ مؤسَّسة النش_ر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.

37 - المعجم الأوسط: الطبراني/ قسم التحقيق بدار الحرمين/ 1415ه_ - 1995م/ دار الحرمين للطباعة والنشر والتوزيع.

ص: 218

38 - معرفة القرآن علىٰ ضوء الكتاب والسُّنَّة: محمّد الريشهري/ ط الأُولىٰ/ دار الحديث للطباعة والنشر.

39 - مفردات غريب القرآن: الراغب الأصفهاني/ ط الثانية/ 1404ه_/ دفتر نشر الكتاب.

40 - مكارم الأخلاق: الشيخ الطبرسي/ ط السادسة/ 1392ه_ - 1972م/ منشورات الشريف الرضي.

41 - من لا يحض_ره الفقيه: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفّاري/ ط الثانية/ مؤسَّسة النش_ر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.

42 - منهاج الصالحين: السيِّد السيستاني/ طبعة مصحَّحة ومنقَّحة/ 1439ه_.

43 - نظرة متجدِّدة في التربية الإسلاميَّة: البروفوسور خس_روباقري/ إصدار وترجمة ونش_ر: مركز الأبحاث والدراسات التربوية/ مطبعة دار البلاغة/ الطبعة الأُولىٰ/ 1436ه_ - 2015م.

44 - نهج البلاغة (خطب الإمام عليٍّ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)): شرح الشيخ محمّد عبده/ ط الأُولىٰ/ 1412ه_ - 1370ش/ مطبعة النهضة/ دار الذخائر/ إيران/ قم.

45 - وسائل الشيعة: الحُرُّ العاملي/ مؤسَّسة آل البيت (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) لإحياء التراث/ ط الثانية/ 1414ه_/ مطبعة مهر/ قم.

46 - ينابيع المودَّة لذوي القربىٰ: القندوزي/ تحقيق: السيِّد عليّ جمال أشرف الحسيني/ ط الأُولىٰ/ 1416ه_/ مطبعة أُسوه/ دار الأُسوة للطباعة والنشر.

* * *

ص: 219

ص: 220

الفهرس

مقدّمة المعهد. 3

الإهداء. 5

مقدّمة المؤلِّف.. 7

مقدّمات.. 13

المقدّمة الأُولىٰ. 15

المقدّمة الثانية. 15

المقدّمة الثالثة. 16

المقدّمة الرابعة. 16

المقدّمة الخامسة. 17

المقدّمة السادسة. 18

المقدّمة السابعة. 19

المقدّمة الثامنة. 19

المقدّمة التاسعة. 20

المقدّمة العاشرة. 22

الفصل الأوَّل: قصَّة تربوية افتراضية مع ملاحظات تربوية. 23

مميّزات تربية الدجاجة!. 26

التوازن بين العمل والتربية. 26

قصَّة معبّرة. 28

ص: 221

التوازن في تربويات الدِّين. 29

مميِّزات تربية القرد. 30

ملاحظات حول هذه التربية. 32

الملاحظة الأُولىٰ. 32

الملاحظة الثانية. 33

الملاحظة الثالثة. 33

النوع الأوَّل: النوع الثابت.. 33

النوع الثاني: النوع المتغيِّر داخل الثوابت.. 34

الملاحظة الرابعة. 34

الملاحظة الخامسة. 34

مميِّزات تربية (الذئب). 34

تسامحٌ مقنَّن. 35

مميِّزات تربية الدولفين.. 36

الفصل الثاني: خطوات تحقيق مفهوم التربية الناجحة. 39

الخطوة الأُولىٰ: التنشئة البدنية. 41

الملاحظة الأُولىٰ. 42

الملاحظة الثانية. 42

الملاحظة الثالثة. 42

الملاحظة الرابعة. 43

الملاحظة الخامسة. 43

الملاحظة السادسة. 43

الملاحظة السابعة. 43

ص: 222

الملاحظة الثامنة. 44

الملاحظة التاسعة. 45

الملاحظة العاشرة. 45

الخطوة الثانية: التنشئة المعنوية. 46

مقدّمة. 46

المقدّمة الأُولىٰ: التصوُّر. 47

المقدّمة الثانية: الاعتقاد (التصديق). 48

المقدّمة الثالثة: الحُبُّ، والرغبة، والشوق.. 48

المقدّمة الرابعة: الإرادة والاختيار (تفعيل الاختيار الإنساني). 49

النتيجة. 50

النقطة الأُولىٰ. 50

ملاحظات.. 51

النقطة الثانية. 53

إشارات الروايات لهذه المرحلة. 55

النقطة الثالثة. 56

الملاحظة الأُولىٰ. 57

الملاحظة الثانية. 57

الملاحظة الثالثة. 58

النقطة الرابعة: تفعيل الاختيار (توجيه الاختيار). 60

الملاحظة الأُولىٰ. 60

الملاحظة الثانية. 60

الملاحظة الثالثة. 60

ص: 223

الملاحظة الرابعة. 61

الملاحظة الخامسة. 61

الخطوة الثالثة: المالكية والتدبير.. 62

الأمر الأوَّل: أنواع المالكية. 63

القسم الأوَّل: المالكية الحقيقية. 63

القسم الثاني: المالكية الاعتبارية. 64

الأمر الثاني: إطلاقات الربِّ.. 66

الإطلاق الأوَّل: الربُّ المطلق أو المستقلُّ. 67

الإطلاق الثاني: الربُّ بقيد معيَّن، أو الربُّ غير المستقلِّ. 67

الخطوة الرابعة: إراءة العقيدة. 69

مفردات التربية العقائدية. 70

المفردة الأُولىٰ: الدعوة إلىٰ العقيدة الصحيحة. 71

المفردة الثانية: الإسراع بالتربية العقائدية والنصيحة للولد. 71

المفردة الثالثة: تعليمهم حُبَّ أهل البيت (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ).. 74

المفردة الرابعة: تعليمهم الفرائض... 75

المفردة الخامسة: تعليمهم القرآن الكريم. 76

المفردة السادسة: تحصينهم من التيّارات المنحرفة. 77

ملاحظة مهمَّة: كيف نُثبِت وجود (الله) تعالىٰ للأطفال؟. 78

المرحلة الأُولىٰ. 79

المرحلة الثانية. 80

المرحلة الثالثة. 81

المرحلة الرابعة. 81

ص: 224

ملاحظة. 82

الخطوة الخامسة: تربية العفاف.. 83

الملاحظة الأُولىٰ. 84

الملاحظة الثانية. 84

الملاحظة الثالثة. 85

الملاحظة الرابعة. 85

الملاحظة الخامسة. 85

ما هو الهدف من تربية العفاف في الإسلام؟. 86

مفردات تربية العفاف.. 87

المفردة الأُولىٰ: المقاربة. 87

المفردة الثانية: التفريق في المضاجع. 89

المفردة الثالثة: عدم النظر إلىٰ عورة الطفل، وعدم السماح له بالنظر إلىٰ عورة الآخر 91

ملحق فقهي: أحكام النظر. 92

النقطة الأُولىٰ: هل يجوز النظر إلىٰ عورة الصبيِّ غير البالغ؟. 92

ملاحظة. 93

النقطة الثانية: تكملة حكم النظر واللمس لغير المميِّز. 93

النقطة الثالثة: نظر الرجل إلىٰ الصبيَّة المميِّزة. 94

النقطة الرابعة: نظر المرأة للصبيِّ المميِّز. 94

المفردة الرابعة: تقبيل الأطفال. 95

كيف نحمي أولادنا من التحرُّش الجنسي؟. 99

المفردة السادسة: العفاف اللفظي. 101

ص: 225

المفردة السابعة: تأخير التزويج.. 102

المفردة الثامنة: لا للفراغ. 106

ملاحظة مهمَّة. 108

الفصل الثالث: أهداف التربية. 109

لماذا تُربّي أبناءك؟. 111

أهداف التربية. 112

الهدف الأوَّل: رجل الحياة. 112

الهدف الثاني: تطوير المهارات.. 114

الهدف الثالث: حياة طيِّبة. 115

الهدف الرابع: الوقاية. 117

أوَّلاً: التعليم المباشر... 119

ثانياً: التعليم المبطن. 119

ما هي أسباب الكذب عند الأولاد؟. 120

السبب الأوَّل: الاعتقاد بأنَّ الكذب منجي. 120

السبب الثاني: محاولة جذب انتباه الآخرين. 121

السبب الثالث: التكذيب المستمرُّ للأولاد. 121

السبب الرابع: خُلف الوعد معه. 121

السبب الخامس: الفضول الزائد. 122

الهدف الخامس: الارتباط الغيبي. 123

الفصل الرابع: تربية متكاملة متكافئة. 125

مقدّمات ثلاث.. 127

المقدّمة الأُولىٰ. 127

ص: 226

المقدّمة الثانية. 127

المقدّمة الثالثة. 128

المحور الأوَّل: التربية في جانبها المادّي.. 130

النقطة الأُولىٰ. 130

النقطة الثانية. 130

النقطة الثالثة: لا يجوز قتل الجنين في هذه المرحلة أبداً 131

النقطة الرابعة. 132

النقطة الخامسة. 132

النقطة السادسة. 133

النقطة السابعة. 133

المحور الثاني: التربية في جانبها المعنوي الروحي. 133

النقطة الأُولىٰ. 133

النقطة الثانية. 134

النقطة الثالثة. 134

النقطة الرابعة. 135

النقطة الخامسة. 135

الفصل الخامس: مؤثِّرات السلوك. 137

المؤثِّر الأوَّل: الوالدان. 141

المرحلة الأُولىٰ: مرحلة اقتران الأبوين. 141

الخطوة الأُولىٰ: المرحلة التصوُّرية للزواج.. 142

الخطوة الثانية: المرحلة الاختيارية للزواج.. 144

إشارات الروايات لهذه الخطوة. 145

ص: 227

الخطوة الثالثة: ما بعد الزواج.. 147

النقطة الأُولىٰ: الواقعية. 148

النقطة الثانية: التقبُّل. 148

النقطة الثالثة: استشراف المستقبل. 148

المرحلة الثانية: مرحلة التأثير.. 149

استطراد.. كيف تضفي السعادة على حياتك الزوجية؟. 150

الخطُّ الأوَّل: خطُّ (افعل). 150

الفعل الأوَّل: العبادة. 150

الفعل الثاني: الاحتفاظ بابتسامة خفيفة في كلِّ الأوقات.. 151

الفعل الثالث: السلام. 153

الفعل الرابع: العناق.. 154

الفعل الخامس: القُبْلة. 154

الفعل السادس: الهدية. 156

الخطُّ الثاني: خطُّ (لا تفعل). 157

المؤثِّر الثاني: الإعلام. 158

لماذا تقاسم الإعلامُ التربيةَ مع الوالدين؟. 163

المضمون العام لبرامج الأطفال التلفزيونية. 164

العنوان الأوَّل: إشاعة روح الثقافة الغربية المنفلتة. 164

العنوان الثاني: عرض الأفكار المخالفة للعقيدة التوحيدية. 165

العنوان الثالث: علاقات غير عفيفة، منفتحة أو شاذَّة. 166

العنوان الرابع: إشاعة روح العنف.. 167

العنوان الخامس: التشجيع علىٰ الغناء والرقص والاستعراض الجنسي... 167

ص: 228

العنوان السادس: إشاعة روح الاستهلاك. 168

خلاصة مئوية لعناوين المسلسلات الكرتونية. 169

الآثار السلبية للتلفاز على الأطفال. 169

الأثر الأوَّل: الاضطراب في مواعيد النوم. 170

الأثر الثاني: التوحُّد، أو ما يقرب منه. 171

الأثر الثالث: ندرة أو انعدام القراءة. 171

الأثر الرابع: التأخُّر الدراسي... 172

الأثر الخامس: حلُّ المشاكل بطُرُق عدوانية. 173

الأثر السادس: الخمول البدني.. 174

الأثر السابع: قلَّة التواصل مع الأتراب والأصدقاء. 175

الأثر الثامن: التملُّص من المشاركة في أعمال المنزل. 176

ملاحظة. 177

نصائح واقتراحات لتقليل الآثار السلبية للتلفاز. 177

النصيحة الأُولىٰ: تقنين مشاهدة التلفاز. 177

النصيحة الثانية: التدرُّج في السيطرة. 178

النصيحة الثالثة: توفير البديل. 179

النصيحة الرابعة: شاهد التلفاز معهم. 182

المؤثِّر الثالث: الأصدقاء. 182

ملاحظة. 185

الفصل السادس: بناء شخصية الطفل. 187

النقطة الأُولىٰ: مؤشِّرات ضعف الشخصية. 190

الأمر الأوَّل. 190

ص: 229

الأمر الثاني.. 191

الأمر الثالث.. 191

الأمر الرابع. 192

الأمر الخامس... 192

النقطة الثانية: ما يهدم الشخصية. 192

الأمر الأوَّل: افتراق الأبوين بالطلاق.. 193

الأمر الثاني.. 193

الأمر الثالث.. 193

الأمر الرابع. 193

الأمر الخامس... 194

الأمر السادس... 194

الأمر السابع. 195

الأمر الثامن. 195

الأمر التاسع. 195

النقطة الثالثة: خطوات عملية لبناء الشخصية. 196

الخطوة الأُولىٰ: التدريب علىٰ الاستقلالية. 197

ملاحظة مهمَّة. 199

الخطوة الثانية: تعامل مع ولدك كرجلٍ لا كطفل. 200

النقطة الأُولىٰ. 201

النقطة الثانية. 201

النقطة الثالثة. 201

النقطة الرابعة. 202

ص: 230

النقطة الخامسة. 203

النقطة السادسة. 203

النقطة السابعة. 203

الخطوة الثالثة: التوازن الحياتي.. 203

الحالة الأُولىٰ: التوزان بين النوم واليقظة. 204

الحالة الثانية: التوازن بين اللعب والجِدِّ (القراءة نموذجاً). 204

الحالة الثالثة: التوازن بين الاستهلاك والإنتاج.. 205

الحالة الرابعة: التوازن بين الحقوق والواجبات.. 205

الحالة الخامسة: التوازن بين العلاقات.. 205

الخطوة الرابعة: التربية الذوقية (أو: فنُّ الإتكيت). 206

ملاحظات.. 211

الملاحظة الأُولىٰ. 211

الملاحظة الثانية. 211

الملاحظة الثالثة. 212

الختام. 213

المصادر والمراجع. 215

الفهرس... 221

ص: 231

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.