التوحيد في القرآن من مواهب السيّد عبد الأعلى السبزواري

هويّة الکتاب

التوحيد في القرآن

من مواهب السيد عبد الأعلى السبزواري

جميع الحقوق محفوظة

الطبعة الأولی

1432ه-- 2011م-

دار الکاتب العربي للطباعة والنشر والتوزيع

هاتف:257984/ 03- فاکس:553456/ 01- ص،ب: 355/ 25- غبيري- بيروت

Daralkatebalarabi@hotmail.com

المتبرع الدیجیتالي : مركز خدمة مدرسة إصفهان

ویراستار: السيّد محمّد هادي الرضوي الخانکهداني

ص: 1

اشارة

جميع الحقوق محفوظة

الطبعة الأولی

1432ه-- 2011م-

دار الکاتب العربي للطباعة والنشر والتوزيع

هاتف:257984/ 03- فاکس:553456/ 01- ص،ب: 355/ 25- غبيري- بيروت

Daralkatebalarabi@hotmail.com

خيرانديش ديجيتال: مركز خدمة مدرسة اصفهان

ویراستار: السيّد محمّد هادي الرضوي الخانکهداني

ص: 2

التوحيد في القرآن

من مواهب

السيد عبد الأعلى السبزواري

إعداد

السيّد إبراهیم سرور

دارالکاتب العربي

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 4

مقدّمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرین.

وبعد،

إن جميع الأنبياء والرسل إنّما بعثوا من قبل الله تبارك وتعالی لأجلّ أن يكونوا أدلّاء على الله تعالى من خلال توحيده والإيمان بأنّه لا شريك له ولا نظير، ولذلك أصّل هذا المطلب وجعل أصلاً من أصول الدّين، وهو أهم الأصول الاعتقادية الخمسة التي تُبنی عليها عقائد المؤمن وجميع الأصول الباقية، إنّما ترتبط ارتباطاً قهريً بهذا الأصل التوحيدي الذي مَن لم يجعله من أصوله الاعتقادية يُعد بالله كافراً، ولا تنفعه بقية الأصول، لأن التوحيد مقدمة وبابٌ لكلّ تلك الأصول، من النبوة والإمامة والعدل والمعاد، فتكون القضية سالبة بانتفاء الموضوع، يعني لا إمامة ونبوة بدون توحيد، ولا معاد وعدل بدونهما، وأصل التوحيد في الحقيقة هو الجامع الحقيقي

ص: 5

لكل تلك الأصول على المستويين النظري والعملي.

وللاطلاع أكثر على تفاصيل هذا الموضوع ونظائره في علم التوحيد علينا بمطالعة هذا الكتاب الذي يبيّن لنا علم التوحيد وحقيقته من نفحات ومواهب آية الله العظمى السيد عبد الأعلى السبزواري (قدّس سرّه).

والله الموفق والمستعان

السيد إبراهيم سرور

27 محرّم 1931ه-

ص: 6

بحث عرفاني توحيدي

التوحید سر من الأسرار الإلهية تجلى به الله على مخلوقاته فأقر به الخلائق قبل الخلق يطلبه الملائكة المقربون وتهفوا إليه أفئدة المخلوقين، دعا إليه الأنبياء والمرسلون تتجلى عظمته في أنّه أهم صفات الله تعالى إذ له ارتباط بين الخالق والمخلوق وهو آنس شيء للنفس الإنساني والأقرب إلى القلوب تتفانى فيه الروح وتنجذب إليه النفوس وتحن إلى معرفته العقول، وعلى مراتب عرفأنّه تتصاعد النفوس إلى الملكوت الأعلى ودرجات القرب لدى جنابه عزّ وجلّ فما أعظمها مسألة!! وما أشد تعلقها بالإنسان في جميع شؤونه وعوالمه؟! تتجسد فيه جميع الكمالات الواقعية، وتذوب فيه كل المطالب والغايات، ولعل السر في ذلك أنّه أودع في الفطرة وأخذ عليه الميثاق وهو من لوازم حب المخلوق لخالقه بل المخلوقات كلها مظاهر توحيده وصفاته العليا وأسمائه الحسنى، فما أعذبه على النفوس؟! وما أخلبه للقلوب؟! هام فيه المحبون لديرکوا ما أملوه فازدادوا حباً وطلبه العارفون فانجذبوا إليه وانمحت ذواتهم وانصاعت لديه أفئدة السالكين فخلب لبّهم لما شاهدوه من الآثار العظام، ومع ذلك لم يصل أحد إلى كنه حقيقته إلّا ما أدركوه

ص: 7

من الآثار والتجليات فصار محور الدراسات والنقض والأبرام، والوجه في ذلك يكمن في أنّهم خلقوا على اختلاف في الفكر شدّة وضعفاً وتفاوت في الإدراك زيادة ونقصاناً، فكان ذلك سبباً في اختلافهم في الفهم والتعقل لهذه الجوهرة الفريدة، ثم الأنس بالمادة والابتعاد عن المعين الصافي مما أوجب الانحراف والخروج عن الاستقامة التي كانت الفطرة تدعوا إليها، واشتد ذلك بمرور الزمن حتى تحقق الهجران فازدادوا في الاختلاف فكان ما كان من الشرك وعبادة الأوثان وتأليه ما لم يقر به العقل والبرهان.

فما أقسى هذا الإنسان وما أشد مکابرته وعناده للحق؟!! كيف وصل إلى هذا الحد من الخسران حيث أبعد نفسه من منبع الخير والرضوان؟!! فصار التوحيد من أقدم المسائل وأبعدها غوراً في التعمق والتحقيق وأصعبها فهماً وتصوراً، وقد ظهر في صور مختلفة ومر بمراحل متعددة فطوراً يظهر بأبسط الصور المودعة في الفطرة الإنسانية بإلهامها الخفي، وآخر في كلمات الحكماء المتألهین والعرفاء الشامخين وما وصل إليه أفهامهم إلى نوع من التوحيد، وطوراً ثالثاً في أفکار أحاد الإنسان مع ما هم عليه من الاختلاف العظيم - كما عرفت - وإن كان لهم شيء من الاتفاق على ما تمليه الفطرة عليهم من التوحيد ولكنها طمست لسوء الأفهام وكثرة المعاصي والآثام حتى جعلوا الأوثان والأصنام قرناء الله تعالى وأثبتوا لها بعض الصفات، وهكذا كانت هذه المسألة أسيرة الاختلاف ولكنها لم تمح من صفحة الوجود بمقتضى نور الفطرة المودع في

ص: 8

كل أفراد الإنسان وجعلته الشرائع الإلهية لها المكانة العليا في معارفها وعلومها وأحكامها حتى بلغت أوج کمالها في القرآن الكريم الذي بين حقيقته وسائر خصوصیاته بأحسن وجه وأتم بیان، وأوضحت معالمه وأركأنّه أقوال المعصومين لا سيما الإمام سید العرفاء وإمام الموحدين وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) وهذا الذي ذكرناه مما شهد به تاريخ العلم والإنسان وقرره محکم القرآن، كما صرح به عزّ وجلّ في قوله تعالى «َلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إنّما يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ» (سورة الزمر، الآية 9)، وقد تقدّم قوله «انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» الذي يدلّ على وجود الاختلاف والعناد واللجاج في البشر، فقالوا بالتشريك الذي هو خلاف المركوز في الفطرة التي تهدي إلى التوحيد، وإن للعالم صانعاً لا يشبهه شيء من مصنوعاته ومخلوقاته، وقد كان الناس على هذه الفطرة المستقيمة تهتدي بهداها وتستضيء بنورها، وكانوا أمة واحدة كما قال عزّ وجلّ «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً» لا اختلاف في عقيدتها وسلوكها ودعوتها إلى الواحد العظيم، إلّا أن هذه الوحدة لم تبق على صورتها الحقيقية، فقد فسرها الإنسان بتفاسیر متعددة بعد شيوع شبه الملحدين وتشكيك المشككين فحصل التفرق والاختلاف فبعث الله الأنبياء والمرسلين لإحياء الفطرة وبعثها من جديد كما قال أمير المؤمنین علی (عليه السّلام): «لِيُثِيرُوا لَهُم دَفَائِنَ العُقُولِ».

ويستفاد من القرائن الكثيرة أن أقدم الشبهات ما قيل في عبادة

ص: 9

الأوثان من أنّها مبنية على أساس التوحيد وإثبات الشفعاء لديه، قال تعالى «مَا نَعْبُدُهُمْ إلّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى» فكان ذلك بداية الانحراف عن التوحيد الحقيقي حتى آل الأمر إلى إعطاء الأصالة والاستقلال لكل ما اتخذ إلهاً من دون الله، وكانت الشكوك والشبه والاعتراضات لها الأثر الكبير في خفاء معنى التوحيد وقد عرفت أن لها أسباباً عديدة، وإذا دعت الفطرة إلى الرجوع إلى الوحدة الحقة ولكن الأنس بالمادة وإن أول ما يبتلى به الفرد في حياته اليومية هو الوحدة العددية فصار ذلك سبيلاً في تفسير التوحيد الذي تدعو إليه الفطرة بالوحدة العددية.

فظهور الثنوية وتعدد الآلهة ثم ابتلاء المؤمنين بالتوحيد الحقيقي بهؤلاء وقيام الصراع بينهم مما أوجب الغفلة عن حكم الفطرة واشتد ذلك حتى ما رجعت كلمات الفلاسفة والعلماء وفي تفسير التوحيد إلى الوحدة العددية فأضافت الشبهات وكثرت التأويلات حتى لم يبق توحيداً سالماً من شائبة الشرك إذ ربما يكون الشرك خفياً لم يتنبه إليه الفرد المؤمن فضلاً عن غيره، قال تعالى: «وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ» حتی سطع نور الإسلام ونزل القرآن الكريم بما فيه من المعارف الحقة الحقيقية فأخرجت التوحيد من تلك الشبهات والأباطيل وظهرت بصورتها الحقيقية ولكن آل الأمر إلى علماء الكلام ووقعوا في نفس الخلاف القديم ودخلوا في متاهات هم في غنى عنها لولا رجوعهم إلى معادن الوحي وأعدال القرآن في تفسير تلك الحقيقة القرآنية وبيأنّها وحينئذٍ

ص: 10

كان اللازم هو الرجوع إلى القرآن الكريم وما ورد في كلمات الأئمة المعصومین (صلوات الله عليهم أجمعين) في تفسير الوحدانية الكبرى والتوحيد الحقيقي ليسلم من كل شرك خفي وجلي ولا تحتاج إلى كلمات الحكماء المتألهين والفلاسفة الشامخين فأنّها إن اشتملت على شيء قويهم فهو مأخوذ من كلمات المعصومين فذكرها يكون منت التطويل.

ص: 11

معنى التوحيد

تطلق الوحدة على معان متعددة يجمعها الانفراد، والواحد هو كون الشيء مبدأ للتكثر، وهي تارة تكون محدودة وأخرى غير محدودة ولما كانت الوحدة على دقة في المعنى وصعوبة في الفهم فلا بأس بذكر القسمين، إمّا الوحدة المحدودة فهي إمّا أن تكون في الجنس، أو النوع، أو يكون واحداً بالاتصال من حيث الخلقة أو يكون من حيث الصناعة، أو يكون واحداً لعدم نظيره.

إمّا في الخلقة كقولك الشمس واحدة، أو في الفضيلة كقولنا واحد دهره ونسيج وحده، أو يكون واحداً لامتناع التجزي فيه إمّا الصغره کالهباء أو لشأن آخر أو يكون مبدءاً للعدد كقولك واحد، اثنان، وإمّا مبدءاً الحظ كالقول النقطة الواحدة.

ويمكن درج بعضها في بعض فتقل الأقسام وجميعها محدودة ومن صفات المادة فإن الكل تشترك في كون الشيء مبدءاً للكثرة وهو الذي تلحقه النسب والإضافات كما أشار إليه قول أمير المؤمنين (عليه السّلام) «إِنَّ القَولَ فِي أَنَّ اللهَ وَاحدٌ عَلَى أَربَعَةِ أَقسَامٍ: فَوَجهَانِ مِنهَا لَا يَجُوزَانِ عَلَى اللهِ عزّ وجلّ... فَقُولُ القَائِلِ: وَاحِدٌ

ص: 12

يَقصِدُ بِه بَابُ الأَعدَادِ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ مَا لَا ثَانِيَ لَه لَا يَدخُلُ فِي بِابِ الأَعدَادِ، فَهَذَا مَا لَا يَجُوزُ لَه لَا يَدخُلُ فِي بَابِ الأَعدَادِ إمّا تَرَى أنّه كَفَرَ مَن قَالَ أنّه ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَقَولُ القَائِلِ هُوَ وَاحدٌ مِنَ النَّاسِ يُرِيدُ بِهِ النَّوعَ مِنَ الجِنسِ فَقَط مَا لَا يَجُوزُ لِأنّه تَشبِيهٌ، وَجلّ رَبُّنَا تَعَالَی عَن ذَلِكَ.

ولا يمكن أن تعرض على الله تعالى الذي هو منزه عنها فإن الوحدة فيه عزّ وجلّ تكون بلا تأويل فهو الواحد الذي لا يصح التجزي والتكثر عليه من جميع الجهات بخلاف غيره عزّ وجلّ، فإن الوحدة فيها باعتبار أمر ما والمقصود الشايع من أقسام الوحدة التي يقع الحس عليها مباشرة هذا المعنى للوحدة، ولهذا ترى أنّهم إذا أطلقوا الواحد على الإله فلا يخرج عن هذا النوع من الوحدة لشدّة أنسهم به فيثبتون لله تعالى من صفة الوحدة مثل ما يصنعون به سائر ما اتخذوه إلهاً وهي الوحدة العددية قال تعالى: «وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ» * «أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ» * «وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ» (سورة ص، الآية 6).

وإنّما عجبوا لأجلّ عدم تمكنهم من أبعاد الوحدة العددية من أذهأنّهم وإذا قرع سمعهم الدعوة إلى التوحيد كانوا يتلقونها دعوة إلى الوحدة العددية التي تقابل الكثرة العددية، كما في جميع الآيات التي تدعو إلى نبذ التفرق في اتخاذ الآلهة والتوجه إلى الواحد

ص: 13

الأحد كما في قوله تعالى «وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إلّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ» (سورة البقرة، الآية 163). والحاصل مما ذكرناه أن الوحدة على قسمين، فإمّا أن تكون وحدة مبدء للكثرة ومنها الوحدة العددية وهي الشائع من أقسامها. وإمّا أن تكون وحدة حقيقية وهي عبارة عن كون الموجود لا يقبل التكثر، والفرد الذي لم يزل وحده ولم يكن معه آخر وهذا هو المراد من قول أبي جعفر الجواد (عليه السّلام) بعدما سئل معنى الوحدة «إِجمَاع الأَلسُنِ عَلَيهِ بِالوَحدَانِيَّة لِقَولِه تَعَالَىَ «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ» (سورة الزخرف، الآية 9)، ولصعوبة هذه الوحدة قال تعالى «وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» (سورة الزمر، الآية 45). والقرآن الكريم ينفي جميع أنحاء الوحدة عنه عزّ وجلّ، سواء كانت وحدة عددية أو وحدة نوعية أو جنسية أو أية وحدة كلية مضافة إلى كثرة فإن جميعها مقهورة بالحد والنسب والإضافات والله تعالى هو المنزه عنها ولا يقهره شيء فليس بمحدود في شيء يرجع إليه، فهو موجود لا يشوبه عدم، وحق لا يعرضه بطلان، وهو الحي الذي لا يخالطه موت، والقادر الذي لا يعجزه شيء، والعليم الذي لا يدب إليه جهل، والعزيز الذي لا ذل له، وقد جمع عزّ وجلّ النوعين من الوحدة في قوله تعالى: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سبحانه وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ» (سورة يونس، الآية 18)، ولأجلّ

ص: 14

ذلك كله صارت الوحدة أم الأسماء الحسني والصفات العليا، كما ستعرف إن شاء الله تعالی.

ويمكن تعريف التوحيد حينئذٍ بأنّه عبارة عن كون الموجود له من صفات الكمال والتناهي عن الجلال بحيث لا يمكن أن يحده حد، ولا يصح فرض ثان له أبداً فهو الحق الصرف الذي يملك كل شيء وغيره الباطل الذي لا يملك لنفسه شيئا.

ص: 15

التوحيد قبل الإسلام

عرفت أن التوحيد بالمعنى الذي ذكرناه لم يكن متحققاً عند آحاد أفراد الإنسان قبل نزول القرآن إلّا ما كان عند الأنبياء والمرسلين والمؤمنين بهم حق الإيمان الذين دعوا إلى التوحيد في العبادة ونفي الشريك، وإمّا غيرهم فإن أقصى مراتب التوحيد عندهم هي الوحدة العددية التي عرفت أنّها المأنوس عندهم والتي يمكن أن تتصور في أذهأنّهم بعدما كانت الفطرة تدعوهم إلى الوحدة والتوحيد في الإله، إلّا أن هذا النوع من التوحيد لم يسلم من شوائب الشرك لأجلّ أسباب عديدة ذكرنا بعضها في ما تقدّم، فدخلت الوثنية في العقيدة فأثبتوا تعدد الإله، ولا تخلو الأقوام القديمة من آلهة متعددة جعلوها رب الأنواع فاعتقدوا للريح إلهاً وللسماء إلهاً وللأرض إلهاً وللجمال إلهاً إلى غير ذلك من الآلهة، وقد يقع الصراع بين تلك الآلهة فتغضب ويحدث سفك الدماء في الأرض، ومارسوا طقوساً معينة لإرضائها، وقد يحدث الزواج بين إلهين إلى غير ذلك من الخرافات التي نقل لنا التاريخ قسماً منها وما تزال بعضاً منها موجودة حتى الآن عند الوثنيين في هذا العصر، وكان شأن الرسالات السماوية إبطال تلك وإرساء قواعد التوحيد

ص: 16

الحقيقي عند الإنسان وإبقاء نور الفطرة وقاداً فيهم وجاهدوا في هذا الأمر حق الجهاد، ولهم في ذلك أساليب متعددة ذكر بعضها القرآن الكريم، ولكن الوثنية التي أنشبت أظفارها في النفوس لم تجعل أن تتفهم تلك الوحدة الحقيقية والتوحيد الواقعي حق الفهم وربما تظهر بوضوح على عقيدتهم، كما ظهرت على قوم موسي (عليه السّلام) وهو بين ظهرانيهم قال الله تعالى حكاية عنهم لما عبروا البحر بقيادته (عليه السّلام) فَرأوا عبادة الأصنام فقالوا: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ» (سورة الأعراف، الآية 138)، وقصة عبادة العجلّ في اليهود معروفة كما حكاها القرآن الكريم بالتفصيل، فإذا كان هذا شأن القوم الذين فضلهم الله تعالى ومنحهم الكرامة وأنعم عليهم أنواع النعم، فما بال غيرهم من الأقوام الذين لم يكونوا بهذه المرتبة من العلم والفهم ثم إذا تجاوزنا من قوم موسی بن عمران إلى قوم عیسی فنراهم أسوء حالاً، فقد دخلت فيهم خرافة التثليث وجعلوا عیسی (عليه السّلام) إلهاً يعبدونه من دون الله وغير ذلك من العقائد التي هي بحد ذاتها يحيطها الغموض والإبهام وقام الدليل على بطلأنّها ما زالت موجودة عندهم.

هذه حال الملل العقائدية التي نزلت فيهم الرسالة والكتب الإلهية وإمّا غيرها من الأمم فقد أثبتت الأبحاث التاريخية ثبوت الشرك بل التثليث فيهم أيضاً، فهذه الديانة البرهماتية أصحابها قد اعتقدوا التثليث وأن الرب تجلى عندهم في ثلاثة مظاهر ثم انتقال ذلك إلى الديانة الهندوسية.

ص: 17

وإمّا الفرس فقد اعتقدوا بالثنوية وجعلوا لهم إلهين إله الخير وإله الشر. وتبادلت الأقوام تلك الخرافات والعقائد الباطلة وإمّا الفلاسفة والحكماء والعلماء فلم يسلم تفكيرهم من هذه الرواسب وإن بذلوا أقصى الجهد في إقصاء الشرك وإبعاد الإله عن صفات المخلوقين، إلّا أنّهم ما برحوا عن الوحدة العددية وما انفكت أقوالهم عَنها.

وإمّا العرب فهم كانوا على أقصى درجات الشرك والتعدد وقد عرفوا بالعناد واللجاج والمقاومة العنيفة مع عقيدة التوحيد التي نزل بها القرآن الكريم وبسط الكلام فيها وأقام الأدلة والبراهيم التي امتازت بكونها بسيطة تخاطب الروح وتقبلها النفس، مع أن التوحيد من العقائد الرئيسة في حياة الإنسان وله من الشمولية والبسط ليشمل جميع الموجودات كلها، فلا بد من بيان التوحيد القرآني وما ورد في تفسيره في كلمات المعصومين (عليهم السّلام) الذي بلغ القمة من الكمال ووصل إلى أقصى درجات الشموخ ونهاية العرفان.

ص: 18

التوحيد في القرآن الكريم

لم يعهد في القرآن الكريم أن تكون عقيدة بهذه المثابة من الأهمية فقد بسط القول في التوحيد وفي أقسام الوحدة المحدودة وأبطل التشريك بجميع مظاهره بين أقسام الوحدة الحقيقية مع ذكر الأدلة والبراهين القويمة وبأساليب مختلفة، وقد جعل الإسلام شعاره الشهادة بالوحدانية الله تعالى ونفي ما عداه من الألهة، فقال الرسول الأكرم (صلّی الله عليه وآله وسلّم) كلمته المشهورة «قُولُوا لَا إِلَه إلّا الله تُفلِحُوا» وإذا راجعنا القرآن الكريم وجدنا أن هذا التهليل ورد في أكثر من أربعين موضعاً منه. ولما كانت هذه العقيدة لها من السمو والرفعة من جهة والصعوبة في الفهم من جهة أخرى فقد اتخذ أساليب معينة في تثبيت هذه العقيدة وإرساء أركأنّها في أذهان الناس ابتداء من حصر الألهة في إله واحد وتوجيه العباد إليهن فقال عزّ من قائل

«وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إلّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ» (سورة البقرة، الآية 193)، وقال تعالى: «وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ» (سورة العنكبوت، الآية 46). وقال تعالى: «قُلْ إنّما هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ» (سورة الأنعام، الآية 19)، وقال تعالى: «وَلِيَعْلَمُوا إنّما هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ» (سورة إبراهيم، الآية 52)، وقد

ص: 19

تقم قوله تعالى: «وَمَا مِنْ إِلَهٍ إلّا إِلَهٌ وَاحِدٌ» الذي فيه من الدقة في المعنى كما عرفت سابقاً، فراجع.

وغير ذلك من الآيات الشريفة التي تثبت إلهاً واحداً للعباد، وترفض الألهة الكثيرة بشدّة، فقال تعالى: «أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» (سورة النمل، الآية 61)، وقال تعالى: «أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» (سورة النمل، الآية 64)، وقال تعالى: «أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ» (سورة الطور، الآية 43)، وقال تعالى: «أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ» (سورة الصافات، الآية 86)، وقال تعالى: «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا» (سورة الأنبياء، الآية 22)، ولقد أكد القرآن الكريم في تعاليمه على إثبات الوحدة المطلقة ونفي الوحدة العددية عن الإله العظيم جلّ جلاله الذي له من العظمة والجلالة والقهارية ما يوجب قهر المحدودية الحاصلة من الوحدة العددية التي لها من النسبة التي تفرضها عند ملاحظتها مع غيرها فإن تلك الوحدة العددية توجب عروض الكثرة العددية، وهو عزّ وجلّ منزه عنها مطلقاً، فهو القاهر الذي لا يقهره من سواه والغالب الذي لا يغلبه شيء، فلا يمكن سلب تلك الوحدة عنه وهو منزه عن النسبة والإضافة فلا تعرض الكثرة العددية ولا الوحدة العددية، ولعله لذلك كانت الآيات التي تنفي الأرباب والألهة المتعددة توصفه بالقهارية بعد إثبات الوحدة المطلقة له. كقوله تعالى: «لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سبحانه هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ» (سورة الزمر، الآية

ص: 20

4)، وقوله تعالی: أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ» (سورة يوسف، الآية 40)، وقوله تعالى: «قُلْ إنّما أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إلّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ» (سورة ص، الآية 65).

فإن سياقها يدلّ على إثبات الوحدة المطلقة وتنفي جميع أنحاء الوحدة المحدودة عنه فأنّه القهار الذي لا يقهره في الذات والصفات والأفعال فليس هو محدوداً في شيء، ثم إثبات الكمال المطلق له عزّ وجلّ، فهو كمال محض وخیر محض لا يحد لكماله حد، وتدلّ عليه تلك الآيات التي تصف الله بالصفات العليا وتحصر الكمال فيه، قال تعالى: «اللَّهُ لَا إِلَهَ إلّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى» (سورة طه، الآية 8)، وقال تعالى: «هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إلّا هُوَ» (سورة غافر، الآية 65)، وغيرها من الآيات التي تدلّ ظاهراً على أن كل كمال مفروض له فهو المستغني عن خلقه وغیره محتاج إليه كما قال تعالى: «أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» (سورة فاطر، الآية 15)، ثم لأجلّ عدم التناهي في جميع شؤونه عزّ وجلّ وإثبات كل كمال لله تعالى كان محيطاً بما سواه أحاطه مطلقة فلا يضره فقد المتناهي في شيء من شؤون كماله فهو القائم بنفسه على نفسه الشهيد عليه المحيط به ويستفاد ذلك من قوله تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أنّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ «إلّا أنّهمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ إلّا أنّه بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ» (سورة فصلت، الآية 54)، وبعد ثبوت الكمال المطلق له عزّ وجلّ وأنّه المحيط بما سواه إحاطة

ص: 21

واقعية لا يشوبها نقص، فكل ما يفرض بعد ذلك إنّما يكون محدوداً يشوبه شيء من النقص صح للعقل حینئذ أن يفرض له لاثاني فصح عنده أن يتصف بالكثرة بالنظر إلى نفسه وإن كان ممتنعاً في الواقع وليس كذلك الله تعالى، فهو واحد لا بالوحدة العددية ولا غيرها من أقسام الوحدة المحدودة التي تلازم النقص ويشوبها الحرمان، ثم بعد إثبات الوحدة المطلقة له بحيث لا يحد بحد ولا يمكن فرض ثان له أبداً ويبطل ما عداه من الآلهة وكل أنحاء الشرك.

ومما ذكرناه يبين حقيقة قوله تعالى: «إنّما اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ» (سورة النساء، الآية 171)، أي أن الإله لا بد أن يكون واحداً جامعاً لصفات الكمال وهو منحصر في الله الواحد الأحد، ويدلّ على ذلك ما نقل عن الإمام الرضا (عليه السّلام) من خطبة له قال: «لَيسَ لَهُ حَدٌّ يُنتَهَي إِلَى حَدِّهِ، وَلَا لَهُ مِثلٌ فَتعرف لَهُ مِثل) فأنّه بعد نفي الحد عنه وإثبات الكمال المحض له عزّ وجلّ يلازمه نفي المثل له.

وبعد تحقق ذلك وبيان تلك المراحل الدقيقة في إثبات الوحدة المطلقة له عزّ وجلّ ينتهي إلى إثبات الأحدية لله تعالى الذي ينفي فرض التعدد مطلقاً عنه فقال تعالى: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ»، فأنّه بعد التدرج في تلك المراحل التي ذكرناها ووضح الأمر في التوحيد نوعاً ما اقتضى المقام إلى استعمال أسلوب جديد لا يحتاج

ص: 22

على النفي ولا التقييد ولا غير ذلك مما استعمل سابقاً في اثبات التوحيد الله تعالى وهو استعمال الأحد في هذه السورة المباركة في أسلوب الإثبات وتعقيبه بما يرفع الحد عنه عزّ وجلّ ليفيد أن هويته متمحضة في التوحيد بحيث يدفع فرض من يماثله أبداً سواء أكان في العقل أو الوهم أو الخارج، وله من البساطة والتجرد ما لم يمكن فرض التركب فيه بوجه من الوجوه والأحد والواحد وإن كانا يشتركان في الدلالة على الوحدانية، إلّا أن الأحد يمتاز عن الواحد بأن الأول يدلّ على المتفرد بالذات والمعنى، والواحد يدلّ على المتفرد بالذات فقط وإن الواحد يدخل في الضرب والعدد ويمتنع دخول الأحد في ذلك فأنّه إذا قيل «ما جاءني أحد» ينفي به أن يكون قد جاء الواحد والاثنان والأكثر ولم يخرج عن حكمه عدد ولم يشذ منه شاذ. ثم بعد إثبات التوحيد الكامل التام له عزّ وجلّ وصفه الله تعالى في هذه السورة بأنّه صمد أي السيد المطاع الذي يقصد في قضاء الحاجات، أي الجامع لكل خير متعقل. أو أنّه المصمت الذي لا جوف له ولا مكاناً خالياً منه ولا فيه صفة من صفات الممكنات، وثانيا بأنّه لم يلد، وثالثا بأنّه لم يولد، ورابعا بأنّه لم يكن له كفوا أحد، وكل واحد منها ينفي نوعاً من المحدودية والانعزال ويشير إلى ذلك قول أمير المؤمنین علي (عليه السّلام): «وَإمّا الوَجهَانِ اللَّذَانِ يَثبُتَانِ فِيهِ فَقَولُ القَائِلِ هُوَ وَاحِدٌ لَيسَ لَهُ فِي الأَشيَاءِ شِبهٌ أنّه عزّ وجلّ أَحَد المَعنَى لَا يَنتَظِمُ فِي وُجُودٍ وَلَا عَقلٍ وَلَا وَهمٍ»، وسيأتي في محله تفسير هذه السورة المباركة إن شاء الله

ص: 23

تعالی.

ومن جميع ذلك يظهر أن التوحيد القرآني قد وصل من الكمال ما لم يصل في غيره من الأديان والأفكار وإن كان فيه من الدقة التي لا بد من الرجوع إلى كلمات المعصومين (عليهم السّلام) في توضيح المراد ولا يفوتنا التنويه إلى أن ما يقال في ذلك هو قاصر عن درك الحقيقة فإن كل ما يتصور من المعاني الكمالية هي أوصاف محدودة ولا تقع عليه عزّ وجلّ حق الوقوع. قال تعالى: «سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إلّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ» (سورة الصافات، الآية 160)، وهم معادن الوحي والعلم وكفى أن يكون القول محدوداً ولا يمكن إحاطة المحدود لغير المحدود، ولا يسعنا إلّا الاعتراف بالعجز إمام عظمته وكبريائه ولا نقول إلّا ما قاله الرسول الكريم (صلّی الله عليه وآله وسلّم) في كلمته المعروفة التي تعتبر من جوامع كلماته: «لَا أُحصِي ثَناءً عَلَيكَ أَنتَ كَمَا أَثنَيتَ عَلَى نَفسِكَ».

ص: 24

الدليل على التوحيد

ذكر العلماء ولا سيما الحكماء المتألهون والفلاسفة الشامخون أدلة كثيرة لإثبات الوحدانية الكبرى لله عزّ وجلّ تشترك جميعها في الغموض والإبهام وهذا هو شأنهم في كثير من المعارف الربوبية، فأنّهم وإن أخذوها من القرآن الكريم ولطائف عباراته ودقائق كلماته المباركة وما ورد عن الأئمة المعصومين (عليهم السّلام) إلّا أن صياغتها في عباراتهم أوجبت غموضها وبعدها عن الفهم العرفي مع أن البراهين والأدلة التي وردت في القرآن الكريم امتازت بالوضوح والرجوع إلى الفطرة المستقيمة، وقد ذكرنا في الآيات السابقة أن ما ورد فيها كان مما يدركه الفهم البسيط والعقل الساذج ونحن نذكر تلك الأدلة القرآنية بما ورد في تفسيرها في كلمات المعصومين وهي على وجوه:

الأول: برهان الإمكان الذي يدلّ على أن ما سواه عزّ وجلّ ممكن يحتاج في وجوده إلى علة، وإن الموجودات الإمكانية وما يتبعها من الأفعال والآثار مخلوقات الله سبحانه وتعالى والممكن فقير بذاته ولا يمكنه الاستغناء عن الله الذي هو غني في ذاته

ص: 25

وفعله، والفقير الفاقد لكل شيء واجد في ظل خالقه وحينئذٍ يكون كل أثر وفعل مستندة إلى الله تعالى فيعلم أن هناك خالقة واحدة واجبة غنية بذاته، وإمّا غيره فإذا كان واحدة لشيء فهو بإقدار منه سبحانه وإذنه ومشيئته ويدلّ على ذلك قوله تعالى: «مَا الْمَسيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُل» وقد تقدّم تفسير، فراجع.

وقوله تعالى: «قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّار» (سورة الرعد الآية 16)، وقوله تعالى: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إلّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فَاعْبُدُوه» (سورة الأنعام، الآية 102)، فالإمكان بحد نفسه ينافي الألوهية المبنية على الوجوب والاستغناء والتوحد في جميع الشؤون، وهذا البرهان ينفي كل معبود سواه عزّ وجلّ أيضاً.

الثاني: برهان الحاجة أي أن كل من كان محتاجاً بوجه من الوجوه ينافي أن يكون إلهاً لأنّه يجري على سبيل الحاجة والافتقار، وهو ينافي الوحدة فلا يمكن أن يكون إلهاً الذي يجب أن يكون واحداً غنياً بذاته، ويدلّ على ذلك قوله تعالى: «مَا الْمَسيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ» فإن ما ورد فيه من صفاتهما إنّما هو على سبيل الحاجة والافتقار من دون أن يكونا ربين. واحتياج المخلوقات إلى الله تعالى أمر يقربه العقل والنقل فإن الإمكان قرين الحاجة والافتقار

ص: 26

وإن المخلوق يحتاج على رب يدبر أمره ويرعى شؤونه فإن الحاجة التي اقتضت وجوده تقتضي أيضاً إلى رعاية شؤونه، فالمربوب كما هو محتاج في وجوده محتاج إلى إدامة وجوده وجميع شؤونه وقد تقدّم في قوله تعالى: «بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتان» بعض الكلام، فراجع.

ويتجلى ذلك بوضوح في قوله تعالى: «إلّا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمينَ» (سورة الأعراف، الآية 54)، فأنّه يدلّ على التوحيد في الخلق والتوحيد في الربوبية، ويدلّ على ذلك قوله تعالى: «لَوْ كانَ فيهِما آلِهَةٌ إلّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُون» (سورة الأنبياء، الآية 22).

وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السّلام) جواباً عن سؤال هشام بن الحكم عن الدليل على أن الله واحد؟ قال (عليه السّلام): «اتِّصَالُ التَّدبِيرِ وَتَمَامُ الصُّنعِ» كما قال الله عزّ وجلّ: لَوْ كانَ فيهِما آلِهَةٌ إلّا اللَّهُ» فإن حاجة الخلق إلى مدبر وانتظام تدبيره ووحدة صنعه يدلّ على أن المدبر واحد، قال الله تعالى: «مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُون» (سورة المؤمنون، الآية 91)، ومن هنا كان نفي الأرباب موافقاً للفطرة التي تدعو إلى الوحدة في الله الغني وتشتت المحتاجين وتفرقهم، قال تعالى: «أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّار» (سورة يوسف، الآية 39).

الثالث: إن الذي يمكن أن يتخذ إلهاً لا بد أن يكون مالكاً

ص: 27

لأمر نفسه يدفع عن من يتخذه رباً الضر ويجلب إليه النفع وهذا مما يملکه الله تعالی وجده دون غيره وحينئذٍ تنتفي الحاجة من عبادة غير الله، وهذا أمر يدركه العقل بأدني رويه وما سواه لا يملك لنفسه شيئاً عند نفسه إلّا بأقدار من الله تعالى وإذنه ومشيئته، كما يدلّ عليه قوله تعالى: «إِنَّ الَّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقين * أَ لَهُمْ أَرْجلّ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ» (سورة الأعراف، الآية 195)، فإن الآية الكريمة تنفي جميع ما ينسب إليهم من شؤون وجودهم وإن الذي منحهم تلك أحرى بأن يتخذ إلهاً فهو الله الواحد الأحد الغني عن خلقه وهم محتاجون إليه ولأجلّ ذلك ورد النهي عن اتخاذ الأرباب من دون الله، قال عزّ وجلّ: «وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» (سورة آل عمران، الآية 64)، فأنّه خلاف الفطرة الداعية إلى أن يكون الرب واحداً.

الرابع: إن الإله بما هو إله المتخذ معبوداً ورباً لا بد أن يكون إلهاً واحداً مع قطع النظر عن العناوين الأخرى التي ذكرناها مما يوجب الوحدة الحقة الحقيقية، ولعله هذا هو المراد من قوله تعالى: «إنّما اللَّهُ إِلهٌ واحِد».

ولو فرض التعدد في الآلهة استلزم الخلف وهذا الدليل وإن كان له غموض نوعاً ما إلّا أنّه حدث لأجلّ شوب الأذهان

ص: 28

بالشبهات وأنس النفس بالمادة وإن تجرد الإنسان عن ذلك وتصور معنى الإله بحد نفسه لأذعن أن الإله يجب أن يكون واحداً وهو الله تعالى فأنّه الحق المطلق بجميع شؤونه وإن وجوده طارد لكل تعددية في النسب والإضافات التي هي عدم بالنسبة إلى وجوده العظيم، قال تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبيرُ» (سورة الحج، الآية 62)، وهناك أدلة أخرى على وحدانية الله تعالى وقد ذكرها الإلهيون في كتبهم وكلها مستمدة من كلمات مولانا الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) والأمة عيال عليه قد أخذت التوحيد من علمه (صلوات الله عليه)، ونحن نذكر جملة مما نقل عنه والذي أبدع فيه ففي نهج البلاغة، قال (عليه السّلام): « أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ وَكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ وَكَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ وَكَمَالُ تَوْحِيدِهِ الْإِخْلاصُ لَهُ وَكَمَالُ الإِخْلاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أنّها غَيْرُ الْمَوْصُوفِ وَشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أنّه غَيْرُ الصِّفَةِ فَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ سبحانه فَقَدْ قَرَنَهُ وَمَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ وَمَنْ ثَنَّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ وَمَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ وَمَنْ جَهِلَهُ فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَمَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ وَمَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ».

وقد تضمن هذا البيان البديع الذي هو فوق کلام المخلوق إشارات دقيقة ومعان سامية منها عينية الصفات والذات وهي برهان الوحدة الذي يوجب تنزيهه تعالى عن سائر أنواع التركيب والتجزئة ومنها أن المعرفة ركن من أركان الدين بل من أهمها، فمن لم

ص: 29

يعرف الله فهو بعيد عن الدين، ومنها أن معرفته عزّ وجلّ تستدعي التصديق به عزّ وجلّ، فإن المعرفة بدونه لا تتم ولا تكون كاملة، ومنها أن معرفته تنتهي في استكمالها إلى نفي الصفات الزائدة عن ذاته وقد بين (عليه السّلام) في وجه ذلك أن إثبات الصفات تستلزم التعددية بين الصفة والموصوف وإن الوحدة فيها تكون من الوحدة العددية التي تقدّم الكلام فيها وقلنا أنّها تتوقف على التحديد والتركيب والحاجة غير الجائز عليه تعالى فكمال معرفته يلازم نفي الوحدة العددية منه وإثبات وحدة أخرى، وهي اتحاد الصفات والذات الذي يستدعي تنزيهه سبحانه وتعالى عن التركيب والتجزئة ونفي الاحتياج وهو التوحيد النزيه الجامع لكل صفات الكمال وهو الخير المحض، ثم أن العلم يستدعي العمل ويكمل أحدهما الآخر، وأهم يثاره التصديق به عزّ وجلّ فأنّه ينبئ أن العارف قد أخذ المعروف صدقاً وانبسط على جميع مظاهره وخضعت له تعالى جميع جوارحه وجوانحه، ولا يتم هذا الخضوع إلّا بنفي الشريك والإعراض عن غيره فيكون كمال التصديق به توحيده الذي هو على مراتب مختلفة ولا يكمل إلّا بالإخلاص له وإعطاء الألوهية حقها من الإذعان به والخضوع له، ولا يتم ذلك إلّا بإثبات الكمال المطلق فيخصه بالخضوع له وعبادته حقها فيخلص له قولاً وعملاً واعتقاداً بحيث يظهر على أعماله جميع آثاره فتكون من كمال التوحيد والإخلاص له.

والإخلاص له عزّ وجلّ يستدعي الاعتراف بالعجز إمام عظمته

ص: 30

وتنزيهه مما لا يليق بساحة كبريائه فإن كل صفة ينسبها له تعالى، إنّما هي لا تخلو عن كونها محدودة لأنّها لا تخرج عن المألوف بین آحاد أفراد الإنسان والمأنوس الممكن عندهم التي تتصف بالتدافع ولا تقبل الائتلاف والامتزاج فإن كل مفهوم منها يخلو عن المفهوم الآخر، وهذا واضح فلا يمكن أن تنطبق مثل تلك الصفات عليه عزّ وجلّ فلا محيص من اعتراف المخلص بالعجز ونقص الأوصاف التي يصفه بها ربه فيقع في حيرة واضطراب فلا بد حينئذٍ من نفي الصفات عنه فيعتبر ذلك هو الكمال في الإخلاص فقال (عليه السّلام): «أَوَّلُ اَلدِّینِ مَعْرِفَتُهُ وَ کَمَالُ مَعْرِفَتِهِ اَلتَّصْدِیقُ بِهِ وَ کَمَالُ اَلتَّصْدِیقِ بِهِ تَوْحِیدُهُ وَ کَمَالُ تَوْحِیدِهِ اَلْإِخْلاَصُ لَهُ وَ کَمَالُ اَلْإِخْلاَصِ لَهُ نَفْیُ اَلصِّفَاتِ عَنْهُ لِشَهَادَةِ کُلِّ صِفَةٍ أنّها غَیْرُ اَلْمَوْصُوفِ وَ شَهَادَةِ کُلِّ مَوْصُوفٍ أنّه غَیْرُ اَلصِّفَةِ» فلا إثنينية هناك بل وحدة مطلقة ولا حد ولا عد له عزّ وجلّ فلا بد من نفي الصفات عنه فإن (مَن وَصَفَ اللهَ فَقَد قَرَنَهُ) للمغايرة بين الصفة والموصوف والجمع بينهما حينئذٍ يكون قرناً بينهما ومن قرنه فقد ثناه للتغاير بين الوصف والموصوف وهما اثنان، ومن ثناه فقد جزأه إلى جزئين، ومن جزأه فقد جهله فأنّه إشارة إليه والإشارة عقلية، ومن أشار إليه فقد حده لانفصال المشار عن المشار إليه وإيجاد البعد بينهما ويرجع بالأخرة إلى أن الحد يستلزم العد وهذا هو الذي بدأ به أولاً في كلامه وهذا من الدقائق الذي لا يدركه إلّا من الهمه الله تعالي الدقائق ولا يمكن لأحد درك عظمة الباري وكبريائه، وقد قال (عليه السّلام) في ابتداء خطبته:

«اَلَّذی لایُدْرِکُهُ بَعْدُ الْهِمَمْ وَ لایَنالُهُ غَوْصُ الْفِطَنْ اَلَّذی لَیْسَ

ص: 31

لِصِفَتِهِ حَدَّ مَحْدُود وَ لا نَعْتٌ مَوْجُود وَ لا وَقْتٌ مَعْدُود وَ لا اَجلّ مَحدُود»» وهذه الخطبة المباركة تدلّ على عينية الصفات والذات كما سيأتي البحث عنها.

وفي التوحيد بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال: بَيْنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السّلام) يَخْطُبُ عَلَي مِنْبَرِ الْكُوفَةِ إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجلّ يُقَالُ لَهُ- ذِعْلِبٌ ذُو لِسَانٍ بَلِيغٍ فِي الْخُطَبِ شُجَاعُ الْقَلْبِ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ قَالَ وَيْلَكَ يَا ذِعْلِبُ مَا كُنْتُ أَعْبُدُ رَبّاً لَمْ أَرَهُ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ رَأَيْتَهُ قَالَ وَيْلَكَ يَا ذِعْلِبُ لَمْ تَرَهُ الْعُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الْأَبْصَارِ وَ لَكِنْ رَأَتْهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَيْلَكَ يَا ذِعْلِبُ إِنَّ رَبِّي لَطِيفُ اللَّطَافَةِ لَا يُوصَفُ بِاللُّطْفِ عَظِيمُ الْعَظَمَةِ لَا يُوصَفُ بِالْعِظَمِ كَبِيرُ الْكِبْرِيَاءِ لَا يُوصَفُ بِالْكِبَرِ جَلِيلُ الْجَلَالَةِ لَا يُوصَفُ بِالغِلَظِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ لَا يُقَالُ شَيْ ءٌ قَبْلَهُ وَ بَعْدَ كُلِّ شَيْ ءٍ لَا يُقَالُ لَهُ بَعْدٌ شَاءَ الْأَشْيَاءَ لَا بِهِمَّةٍ دَرَّاكٌ لَا بِخَدِيعَةٍ فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا غَيْرُ مُتَمَازِجٍ بِهَا وَ لَا بَائِنٌ مِنْهَا ظَاهِرٌ لَا بِتَأْوِيلِ الْمُبَاشَرَةِ مُتَجلّ لَا بِاسْتِهْلَالِ رُؤْيَةٍ نَاءٍلَا بِمَسَافَةٍ قَرِيبٌ لَا بِمُدَانَاةٍ لَطِيفٌ لَا بِتَجَسُّمٍ مَوْجُودٌ لَا بَعْدَ عَدَمٍ فَاعِلٌ لَا بِاضْطِرَارٍ مُقَدِّرٌ لَا بِحَرَكَةٍ مُرِيدٌ لَا بِهَمَامَةٍ سَمِيعٌ لَا بِآلَةٍ بَصِيرٌ لَا بِأَدَاةٍ لَا تَحْوِيهِ الْإمّاكِنُ وَ لَا تَضْمَنُهُ الْأَوْقَاتُ وَ لَا تَحُدُّهُ الصِّفَاتُ وَ لَا تَأْخُذُهُ السِّنَاتُ سَبَقَ الْأَوْقَاتَ كَوْنُهُ وَ الْعَدَمَ وُجُودُهُ وَ الِابْتِدَاءَ أَزَلُهُ- بِتَشْعِيرِهِ الْمَشَاعِرَ عُرِفَ أَنْ لَا مَشْعَرَ لَهُ وَ بِتَجْهِيرِهِ الْجَوَاهِرَ عُرِفَ أَنْ لَا جَوْهَرَ لَهُ وَ بِمُضَادَّتِهِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ عُرِفَ أَنْ لَا ضِدَّ لَهُ وَ بِمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ

ص: 32

عُرِفَ أَنْ لَا قَرِينَ لَهُ ضَادَّ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ وَ الْيُبْسَ بِالْبَلَلِ وَ الْخَشِنَ بِاللَّيِّنِ وَ الصَّرْدَ بِالْحَرُورِ مُؤَلِّفٌ بَيْنَ مُتَعَادِيَاتِهَا وَ مُفَرِّقٌ بَيْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا دَالَّةً بِتَفْرِيقِهَا عَلَي مُفَرِّقِهَا وَ بِتَأْلِيفِهَا عَلَي مُؤَلِّفِهَا وَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَي- وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَفَرَّقَ بَيْنَ قَبْلٍ وَ بَعْدٍ لِيُعْلَمَ أَنْ لَا قَبْلَ لَهُ وَ لَا بَعْدَ لَهُ شَاهِدَةً بِغَرَائِزِهَا أَنْ لَا غَرِيزَةَ لِمُغْرِزِهَا مُخْبِرَةً بِتَوْقِيتِهَا أَنْ لَا وَقْتَ لِمُوَقِّتِهَا حَجَبَ بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ لِيُعْلَمَ أَنْ لَا حِجَابَ بَيْنَهُ وَ بَيْنَ خَلْقِهِ كَانَ رَبّاً إِذْ لَا مَرْبُوبَ وَ إِلَهاً إِذْ لَا مَأْلُوهَ وَ عَالِماً إِذْ لَا مَعْلُومَ وَ سَمِيعاً إِذْ لَا مَسْمُوعَ - الحديث».

أقول: هذا الحديث مشهور بين الخاصة والعامة، روي بأسانید متعددة وألفاظ مختلفة ومجموعه يدلّ على عينية الصفات وأحدية الذات في جميع ما يصدق عليه ويتصف به، فهو تعالى اللامحدود وغير المتناهي وهو المحيط بكل شيء المهيمن على كل أمر، فلا تلحقه صفة تمتاز عن ذاته فإن ذلك يستلزم محدودیته وانتفاء أزليته، ويستفاد أن كل وصف يوصف به عزّ وجلّ لا بد أن يكون من الكمال والعظمة لا يكون لهما حد محدود فلا يصح أن يتصف بوصف يدفعه الغير أو يدفع الغير كما في أوصاف المخلوقين، فإن كل وصف فيهم كالعلم يدفع غیره کالقدرة مثلا، فبين تلك الأوصاف من المدافعة ما يثبت التناهي والمحدودية والتعددية فيها وهو تعالی منزه عن جميعها، فإن الصفات هناك متحدة مع الذات، فهو عزّ وجلّ إحدى الذات والمعنى ولا يمكن أن يحدها بحد فإن

ص: 33

كل ما هناك من الدقة والسمو ما هو ألطف معنى وأبعد غوراً، فهو اللطيف لكن لا بالمقاییس المحدودة، وكذا بقية الأوصاف فأنّها وإن أخذت من المعاني المحدودة في الخارج إلّا أن إطلاقها عليه عزّ وجلّ لا بد أن لا يكون على نحو يستلزم انعزال كل مفهوم عن الآخر وانعزال الذات عن الخلق، وهو مفاد قوله (عليه السّلام) «لا تحده الصفات» وهذا له من الدقة التي تحيّر الإنسان اللبيب.

وقد تقدّم في خطبته المباركة السابقة «وَكَمَالُ الإِخلَاصِ لَهُ نَفيُ الصِّفَاتِ عَنهُ» فهو (صلوات الله عليه) يثبت الصفات له وفي نفس الحال ينفيها عنه عزّ وجلّ لأن الإثبات يستلزم التحديد ونفي الحد يستلزم إسقاطها، وهذا يعني اتحاد الصفات وعينينها ولا حد حينئذٍ، وهذا هو الذي يدو الحديث حوله، وإمّا عن المفردات الواردة فيه يحتاج إلى الشرح والتفسير وله موضع آخر ويستفاد من الحديث الشريف مجهولية الماهية التي هي مسألة معروفة في الفلسفة، فإن قوله (عليه السّلام): « بِتَشْعِيرِهِ الْمَشَاعِرَ عُرِفَ أَنْ لَا مَشْعَرَ لَهُ وَ بِتَجْهِيرِهِ الْجَوَاهِرَ عُرِفَ أَنْ لَا جَوْهَرَ لَهُ» والسر في ذلك أنّه لا يجوز أن يكون بعض أفراد الطبيعة الواحدة علة لبعض آخر بالذات لما ثبت في الحكمة المتعالية من امتناع ذلك فجاعل الشيء يستحيل أن يكون مشاركاً مع مجعوله في الطبيعة الواحدة، ثم أن إفاضية الله تعالى الكمالات على عباده دليل على أنّه عزّ وجلّ متصف بها على الوجه الأتم الخالي من شرب النقصان لأنّه دليل على الافتقار المنافي للألوهية والربوبية فهو الواحد في الصفات والذات لا تدرکه

ص: 34

العقول ولا تحيطه العلوم، وقد قال عزّ وجلّ: « يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْديهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحيطُونَ بِهِ عِلْماً» (سورة طه، الآية 110).

ثم مسألة عينة الصفات والذات من المسائل المهمة الدقيقة التي دلت عليها الأدلة العقلية والنقلية التي وردت عن الأئمة الهداة لا سيما ما ورد عن سيد الموحدين أمير المؤمنين (عليه السّلام) وتقدّم قوله في خطبته المباركة «وَ کَمَالُ اَلْإِخْلاَصِ لَهُ نَفْیُ اَلصِّفَاتِ عَنْهُ (الزائدة) لِشَهَادَةِ کُلِّ صِفَةٍ أنّها غَیْرُ اَلْمَوْصُوفِ وَ شَهَادَةِ کُلِّ مَوْصُوفٍ أنّه غَیْرُ اَلصِّفَةِ، فَمَن وَصَفَ اللهَ (بصفة زائدة على ذاته) فَقَد قَرِنَه (أي قرن ذاته بشيء) وَمَن قَرِنَهُ فَقَد ثَنَّاهُ وَمَن ثَنَّاهُ فَقَد جَزَّأَهُ، وَمَن جَزَّأَهُ فَقَد جَهِلَهُ (لم يعرفه فلم يوحده) وهو صريح في عينيه الصفات مع الذات والتي هي غاية التوحيد، وفي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السّلام): «لَمْ یَزَلِ اللّه عزّ وجلّ رَبَّنَا، وَالْعِلْمُ ذَاتُهُ وَلاَ مَعْلُومَ، وَالسَّمْعُ ذَاتُهُ وَلاَ مَسْمُوعَ، وَالْبَصَرُ ذَاتُهُ وَلاَ مُبْصَرَ، وَالْقُدْرَةُ ذَاتُهُ وَلاَ مَقْدُورَ» وهو يدلّ على أن لذاته من الكمال والجمال لا يخرج عن حيطة ذاته المقدسة والحديث وإن كان في قسم خاص من العلم إلّا أنّه يشمل الصفات الأخرى ومن ذلك يعرف بطلان نظرية الزيادة التي ذهب إليها الأشاعرة ونظرية النيابة التي ذهب إليها المعتزلة وشرح تلك المسائل يطلب من الكتب الفلسفية.

وفي النهج من خطبة له (عليه السّلام): «الْحَمْدُ للهِ الدَّالِّ عَلَی وُجُودِهِ بِخَلْقِهِ، وَبِمُحْدَثِ خَلْقِهِ عَلَی أَزَلِیَّتِهِ، وَبِاشْتِبَاهِهِمْ عَلَی أَنْ لاَ شَبَهَ لَهُ.

ص: 35

لاَ تَسْتَلِمُهُ الْمَشَاعِرُ، وَلاَ تَحْجُبُهُ السَّوَاتِرُ، لِإِفْتِرَاِق الصَّانِعِ وَالْمَصْنُوعِ، وَالْحَادِّ وَالْمَحْدُودِ، وَالرَّبِّ وَالْمَرْبُوبِ. الْأَحَدُ بِلَا تَأْوِیلِ عَدَدٍ، وَالْخَالِقُ لاَ بِمَعْنَی حَرَکَهٍ وَنَصَبٍ. وَالسَّمِیعُ لاَ بِأَدَاهٍ، وَالْبَصِیرُ لاَ بِتَفْرِیقِ آلَهٍ، وَالشَّاهِدُ لاَبِمُمَاسَّهٍ، وَالْبَائِنٍ لاَبِتَرَاخِی مَسَافَهٍ، وَالظّاهِرُ لاَبِرُؤیَهٍ. وَالْبَاطِنُ لاَ بِلَطَافَهٍ. بَانَ مِنَ الْأَشْیَاءِ بَالْقَهْرِ لَهَا. وَالْقُدْرَهِ عَلَیْهَا، وَبَانَتِ الْأَشْیَاءُ مِنْهُ بَالْخُضُوعِ لَهُ، وَالرُّجُوعِ إِلَیْهِ. مَنْ وَصَفَهُ فَقَدْ حَدَّهُ، وَمَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ، وَمَنْ عَدَّهُ فَقَدْ أَبْطَلَ أَزَلَهُ».

أقول: الحديث يدلّ على أنّه تعالى أحد لا بتأويل وإن الصفات التي اتصف بها غير محدودة بحد، فإن جميع ما يطلق عليه من المعاني والصفات المشهورة في الممکنات هي أمور محدودة قد خلقها الله تعالى وأوجدها وأفاضها على مخلوقاته، فإذا كان الحد من صنعه فكيف يطلق عليه فهو تعالى منزه عن كل حد يحده، وهو يستلزم أن يكون بائناً عن خلقه لا بينونة عزلة وانفصال عن مخلوقاته بل بمعنی قهره لهم وقدرته عليهم وخضوعهم له ومن ذلك يظهر أن الألفاظ المستعملة في المخلوقات إن استعملت في الخالق فهو بضرب من التأويل وذلك واضح لأن الألفاظ والاستعمال والمستعمل من الزمانيات وكل ذلك من الحدود والله تعالی منزه عنها، فهو السرمدي الذي نسبته إلى الزمان نسبة روح الروح، لأن الدهر روح الزمان والسرمد روح الدهر، فالألفاظ المستعملة فيه عزّ وجلّ ومخلوقاته إنّما تكون بالاشتراك اللفظي، فتدبر الأخبار الواردة عن الأئمة الهداة (سلام الله عليهم أجمعين)

ص: 36

تجد صدق ما ادعيناه وفي توحيد الصدوق عن مولانا الرضا (عليه السّلام) في خبر طويل في بيان الصفات قال (عليه السّلام) عند بيان معنى السمع والبصر والقدرة (فَقَد جَمَعنا الاسمَ وَاختَلَفَ المَعنَی) ولعلنا نتعرض لذلك في مستقبل الكلام إن شاء الله تعالی.

وكيف كان فإن قوله (عليه السّلام) «مَنْ وَصَفَهُ فَقَدْ حَدَّهُ، وَمَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ، وَمَنْ عَدَّهُ فَقَدْ أَبْطَلَ أَزَلَهُ» يدلّ على التوحيد الذاتي وعينيه الصفات من لاذات وفيه إبطال الوحدة العددية لإن إبطال الأزل يستلزم ذلك فإن حقيقة الأزل فيه عزّ وجلّ عدم التناهي في الذات والصفات والحد لا أن يكون المراد من الأزل في الزمان أي أنّه سابق على مخلوقاته تقدّماً زمانياً غير متناه فإن ذلك من الخطأ كما هو معلوم.

فالأزل فيه عزّ وجلّ أنّه غير مسبوق بشيء يتقدّم عليه كما أن الأبد فيه باعتبار أنّه غير ملحوق بشيء يتأخر عنه وإذا اعتبر من الجانبين كان الدوام.

وفي الاحتجاج عن علي (عليه السّلام) في خطبة « دَلِیلُهُ آیَاتُهُ، وَوُجُودُهُ إِثْبَاتُهُ، وَمَعْرِفَتُهُ تَوحِیدُهُ، وَتَوحِیدُهُ تَمْییزُهُ مِنْ خَلْقِهِ وَحُکْمُ التَمِییزِ بَیْنُونَهُ صِفَهٍ، لَا بَیْنُونَهُ عُزْلَهٍ. أنّه رَبٌّ، خَالِقٌ غَیْرُ مَرْبُوبٍ مَخْلُوقٍ کُلُّمَا تُصُوِّرَ فَهُوَ بِخِلافِهِ ... إلى أن قال (عليه السّلام): «لَیْسَ بِإِلهٍ مَنْ عُرِفَ بِنَفْسِهِ. هُوَ الدَّالُّ بِالدَّلِیلِ عَلَیْهِ وَالْمُؤَدِّی بِالْمَعْرِفَهِ إِلَیْهِ».

أقول: هذه الخطبة المباركة تشتمل على بليغ البيان في بيان التوحيد ويحتاج إلى شرح طويل، فأنّه يدلّ على أن وجوده عین

ص: 37

وحدته، كما أن معرفته إنّما تكون في وحدته، وهو ينفي كل المعاني التي ذكرناها في الوحدة المحدودة التي منها الوحدة العددية، فأنّها غير الذات التي تثبت الوحدة فإذا كانت غيرها فيحتاج ثبوت الوحدة إلى أمر خارج عن الذات وهذا خلف هذا المعني غاية في الدقة وهو يدلّ على ما ذكرناه في الدليل الرابع من أن الإله بكل ما يتصور من المعنى اللائق به يثبت الوحدة فلا يحتاج إلى أمر خارج فتدبر قوله (عليه السّلام) «لَیْسَ بِإِلهٍ مَنْ عُرِفَ بِنَفْسِهِ. هُوَ الدَّالُّ بِالدَّلِیلِ عَلَیْهِ وَالْمُؤَدِّی بِالْمَعْرِفَهِ إِلَیْهِ»، فهو يدلّ على أنّه عزّ وجلّ في غاية الجلال والعظمة والكبرياء، فهو أجلّ من أن يتعلق به معرفة وفهم وإدراك، فهو القهار، وتعالى أن يحيط به معرفتنا، وهو الدليل الذي يدلّ على ذاته بذاته المقدسة فهو المحيط بذاته وعلى ما سواه فكيف يمكن أن يهتدي الذي يحيط به عزّ وجلّ إليه.

وفي المعاني بإسناده عن علي (عليه السّلام) قال: «قال رسول الله (صلّی الله عليه وآله وسلّم): التوحید ظاهره في باطنه وباطنه في ظاهره، ظاهره موصوف لا يرى، وباطنه موجود لا يخفى، يطلب بكل مكان، ولم يخل عنه مكان طرفة عين، حاضر غير محدود، وغائب غير مفقود».

أقول: الحديث الشريف يدلّ على كونه عزّ وجلّ غير محدود بحد، والتوحيد الكامل التام، وعينية الذات والصفات، فأنّه لا تمایز وانعزال بين الظاهر والباطن وتوصيف أحدهما دون الآخر. فإن كل

ص: 38

واحد منهما ينعزل بالحد، فإذا ارتفع اتحدا فکانت وحدة حقيقية واقعية وكذلك الأمر في الظاهر الموصوف والباطن الموجود، فأنّه إنّما يخفى إذا كان محدوداً، فإذا اتحدا فلم يتجاوز كل منهما حده المعين.

والحاصل إذ تحقق الحد بین الذات والوصف والظاهر والباطن والحاضر والغائب فأنّه يوجب الافتراق وينفي الاتحاد، وإمّا إذا ارتفع الحد وانتفت المحدودية اختلط الجميع واتحدت وتحققت الوحدة الحقيقية بينها فتكون جميعها حاضرة ولكن مع حفظ كل منها شأنه المضروب له.

هذه بعض الأحاديث التي وردت في هذا المقام، وهي غيض من فيض، ومن جميع الأخبار الواردة في هذا الشأن نستفيد أن التوحيد الذي بينه القرآن الكريم لم يصل إلى هذه المرتبة من الدقة والكمال والوضوح ولم ينكشف غطاؤه إلّا بما ورد عن إمام الموحدين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) خاصة فأنّه الذي كشف رموزه ورفع الحجاب عن دقائقه وأبان غموضه بأوضح برهان وأوضح سبيل وأتم وجه وبأسلوب متين يفوق كل كلام سوى ما ورد في القرآن الكريم الذي يعتبر الإمام في هذا السبيل فأنّهم (عليهم السّلام) بفكرهم الثاقب وفهمهم الوقاد وما أفاض عليهم رب الأرباب استفادوا ما ذكروه من تلك الدقائق القرآنية وقد صرح غيرهم من العلماء الإلهيين والفلاسفة الشامخين أنّهم استفادوا مما ورد في كلماتهم لا

ص: 39

سيما من كلام سيد العرفاء وإمام الموحدين علي بن أبي طالب وأولاده المعصومين (عليهم السّلام) والحق الذي ينبغي أن يقال أنّه لولاهم (عليهم السّلام) لما ظهرت هذه المسألة التي هي في غاية الدقة بهذا الوضوح بل بقيت على ذلك المعنى الذي ورد في الأديان الإلهية السابقة التي كانت تدعو إلى التوحيد في العبادة ونبذ الشرك والأنداد الله عزّ وجلّ وتوجيه العباد إليه حتى نزل القرآن الكريم فكان ما بينه أول الخطوات في تعليم هذه المعرفة وقد تلقتها الأئمة الهداة بالشرح والبسط والتفسير وقد غفل غيرهم عنها وأهملوا هذا البحث الشريف وعلماء الكلام وإن ذكروه في كتبهم إلّا أنّهم لم يأتوا بشيء سوى ما يلوح من كلماتهم من الوحدة العددية التي ذكرنا أن القرآن الكريم ينفيها ويثبت وحده حقة حقيقية واقعية ونكتفي بما ذكرناه من الروايات والتفصيل يطلب من الكتب المعدة لذلك.

وختإمّا نذكر دعاء الإمام سید الساجدين علي بن الحسين (عليه السّلام) في صحيفته المباركة الذي يبين فيه التوحيد الحقيقي ويشرحه بأتم وجه ويذكر أثاره على المخلوقات.

قال (عليه السّلام): «أَنْتَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إلّا أَنْتَ الْأَحَدُ الْمُتَوَحِّدُ الْفَرْدُ الْمُتَفَرِّدُ وَ أَنْتَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إلّا أَنْتَ الْکَرِیمُ الْمُتَکَرِّمُ الْعَظِیمُ الْمُتَعَظِّمُ الْکَبِیرُ الْمُتَکَبِّرُ وَ أَنْتَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إلّا أَنْتَ الْعَلِیُّ الْمُتَعَالِ الشَّدِیدُ الْمِحَالِ وَ أَنْتَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إلّا أَنْتَ الرَّحْمَنُ الرَّحِیمُ الْعَلِیمُ الْحَکِیمُ وَ أَنْتَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إلّا أَنْتَ السَّمِیعُ الْبَصِیرُ الْقَدِیمُ الْخَبِیرُ وَ أَنْتَ اللَّهُ لاَ

ص: 40

إِلَهَ إلّا أَنْتَ الْکَرِیمُ الْأَکْرَمُ الدَّائِمُ الْأَدْوَمُ وَ أَنْتَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إلّا أَنْتَ الْأَوَّلُ قَبْلَ کُلِّ أَحَدٍ وَ الْآخِرُ بَعْدَ کُلِّ عَدَدٍ وَ أَنْتَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إلّا أَنْتَ الدَّانِی فِی عُلُوِّهِ وَ الْعَالِی فِی دُنُوِّهِ وَ أَنْتَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إلّا أَنْتَ ذُو الْبَهَاءِ وَ الْمَجْدِ وَ الْکِبْرِیَاءِ وَ الْحَمْدِ وَ أَنْتَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إلّا أَنْتَ الَّذِی أَنْشَأْتَ الْأَشْیَاءَ مِنْ غَیْرِ سِنْخٍ وَ صَوَّرْتَ مَا صَوَّرْتَ مِنْ غَیْرِ مِثَالٍ وَ ابْتَدَعْتَ الْمُبْتَدَعَاتِ بِلاَ احْتِذَاءٍ...».

أقول: بين (عليه السّلام) صفات الواحد الأحد واتحادها مع الذات بالوحدة الحقة الحقيقية، فهو الأحد المتوحد الفرد المتفرد في غاية الكمال والكبرياء ولا نظير له ولا مثيل، فهو أحدي الذات المتوحد في الصفات الكمالية التي أوجبت توحیده عزّ وجلّ، ثم كشف عن عظيم أثر التوحيد في المخلوقات ومدی تعلقها به وقد تقدّم شرح مفردات الدعاء في ما تقدّم، فراجع.

ولم نذكر كلمات الآلهيين في المقام، لأن ما تشتمل منها على شيء قويم، إنّما هو مأخوذ من كلمات الأئمة الهداة الواردة في شرح القرآن الكريم وتفسيره، كما صرح جمع منهم بذلك، فلا حاجة إلى ذكرها حينئذٍ والله العالم.

ص: 41

مظاهر التوحيد

ذكرنا أن التوحيد الحق الذي بينه إمام الموحدين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) هو الوحدة التامة الكاملة التي لا تقبل التأويل والتنظير والتمثيل فهو أحدي الذت وأحدي الصفات لا تفاوت بينهما له من الكبرياء والعظمة والجمال والقهارية ما لا يمكن درکها بوجه من الوجوه وإلّا كان محدوداً مقهوراً وهو خلاف ما عليه من القهارية المطلقة والإحاطة التامة الكاملة غير المحدودة كما عرفت آنفاً، فالوحدة فيه عزّ وجلّ لا تقبل التعدّد لها من البساطة واللطافة ما لا تقبل التركب فكان الذات عين الصفات ومتحداً مع الذات إلّا أنّه بلحاظ الآثار والمتعلق والتجليات يمكن تقسيمها إلى وجوه.

الأول: التوحيد في الذات وقد فسره العلماء بمعنيين أحدهما أنّه واحد بمعنى أنّه لا مثيل له ولا نظير، وثانيهما أحد بمعنى أنّه بسيط لا جزء له، وقد أشار سبحانه وتعالى إليهما في سورة الإخلاص «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» أي بسيط لا جزء له وقوله تعالی في ختامها «وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» أي لا ثاني له، فهو تعالى «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ» وهذه الوحدة تسمى بالوحدة الحقيقية

ص: 42

عند العلماء أي كون الموجود لا يقبل الاثنينية، ولا التكرر ولا التكثر كما قال تعالى «وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» وقد تقدّم قول أمير المؤمنین (عليه السّلام) «مَعنَی هُوَ وَاحِدٌ أنّه لَيسَ لَهُ مِنَ الأَشيَاءِ شِبهٌ وَ قَولُ القَائِلِ أنّه عزّ وجلّ أَحَدي المَعنَى يَعنِی بِهِ أنّه لَا يَنقَسِمُ فِي وُجُودٍ وَلَا عَقلٍ وَلَا وَهمٍ وَكَذَلِكَ رَبُّنَا عزّ وجلّ» وسبق قوله تعالی «وَ ما مِنْ إِلهٍ إلّا إِلهٌ واحِد» الدال على نفي الشريك والنظير والشبيه والمثيل.

الثاني: التوحيد في الصفات بمعنى عينية الصفات والذات واتحادها فأنّه لا ريب في أنّه عزّ وجلّ جامع لجميع الكمالات الواقعية ويتصف بصفات الكمال والجمال لكن لا على وجه اتصاف المخلوقين ببعض الصفات فأنّها زائدة على ذاتها بمعنى أن هناك عرضاً وذاتاً معروضاً ينتزع من اتصاف الذات بالعرض عنوان العالم والقادر وغير ذلك من الصفات العارضة، فالعالم من له العلم والقادر من له القدرة فيكون الواقع في التوصيف هي البينونة ويستحيل اتصاف الله تعالى بالأوصاف كذلك فأنّه يستلزم تعدد القدماءن وهو المحذور الذي وقع فيه الأشاعرة كما هو مفصل في علم الكلام إلّا أن الحق كما عليه الإمامية ودل عليه العقل والنقل هي عينية الصفات والذات بمعنى اتحاد الذات مع الصفات والعرضية في الصفات ليست أمراً لازماً لها بل قد يكون كذلك كما في الصفات الحادث المخلوق، وقد تكون جوهراً كعلم النفس بذاتها، وثالثة فوق الجوهر والعرض فتكون واجبة قائمة بنفسها فلا

ص: 43

أثنينية بين الذات والصفات حتى يستلزم التركب الذي هو قرین الحدوث والحاجة. وقد دلت الأدلة العقلية والنقلية على ذلك وتقدّم قول مولانا أمير المؤمنین (عليه السّلام) «وَكَمَالُ الإِخْلاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ - أي الزائدة عنه - لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أنّها غَيْرُ الْمَوْصُوفِ وَشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أنّه غَيْرُ الصِّفَةِ».

وعن الإمام الصادق (عليه السّلام): «لَمْ یَزَلِ اللّه عزّ وجلّ رَبَّنَا، وَالْعِلْمُ ذَاتُهُ وَلاَ مَعْلُومَ، وَالسَّمْعُ ذَاتُهُ وَلاَ مَسْمُوعَ، وَالْبَصَرُ ذَاتُهُ وَلاَ مُبْصَرَ، وَالْقُدْرَةُ ذَاتُهُ وَلاَ مَقْدُورَ».

والحديث وارد في العلم الذاتي، ولعل قوله تعالى «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ» يشير إلى ذلك فإن إجراء الأوصاف علیه عزّ وجلّ أمر خاص به لا يكون له مثيل في هذا النحو من التوصيف ويمكن استفادة هذه النظرية من الدقائق القرآنية، ومن ذلك يعرف بطلان نظرية المعتزلة من نيابة الذات عن الصفات ونظرية الأشاعرة من زيادة الصفات على الذات وللتفصيل محل آخر.

الثالث: التوحيد في الخلق أي كون الخالق هو الله تعالى وإن كل ما سواه مخلوق مربوب له عزّ وجلّ فلا خالق حقيقة سواه سبحانه وتعالى إلّا أن المخلوق تارة يكون منسوباً إليه عزّ وجلّ مباشرة وأخرى بالتسبيب وهذا لا يضر في صحة إطلاق الخالق عليه عزّ وجلّ وتوحده فيه، وهذا هو التوحيد في الخالقية وهو الله تعالى، وإن غيره إمّا أنّه غير خالق لشيء أو خالق بإقدار منه عزّ

ص: 44

وجلّ وإذنه ومشيئته سبحانه، ويدلّ على ذلك مضافاً إلى العقل الذي يحكم بأن المخلوقية آية الحاجة إلى الخالق في الذات والفعل والأثر وهو الفقير بالذات والله هو الغني المطلق فيكون الممكن الفقير واجداً في ظل خالقه في الذات والفعل والأثر. الدليل النقلي وقد تقدّم قوله تعالى «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ لا إِلهَ إلّا هُوَ» (سورة غافر، الآية 92)، وقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ (سورة فاطر، الآية 3).

وفي الحديث عن الإمام الجواد (عليه السّلام) حيث سئل عن معنی الواحد قال (عليه السّلام): «إِجمَالُ الأَلسُنِ عَلَيهِ بِالوَحدَانِيَّةِ» لقوله تعالی «وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» فإن إجماع الألسن على كونهم مخلوقين مربوبین كدليل على حاجتهم إلى الخالق العظيم الغني بذاته المتوحد في خلقه السموات والأرض، وهذا لا ريب فيه، إنّما الكلام في أن الخالقية المحصورة فيه عزّ وجلّ تستدعي نسبة جميع الموجودات إليه بحيث لا يكون مؤثراً ولا خالقاً سواه على نحو يستلزم سلب الإرادة والاختيار عن العبد فإن ذلك يستلزم الجبر الذي ذهبت الأشاعرة إليه فأنكرت قانون العلية والمعلولية، والأسباب والمسببات، والتأثير والتأثر بین الموجودات الإمكانية. وبالأحرى ذهبوا إلى أن الفاعل هو الله تعالی والإنسان محل فعله عزّ وجلّ ومجرد آلة واستندوا إلى ظواهر بعض الأدلة التي إذا جمعناها نرى أنّها تدلّ بمجموعها على بطلان ذلك

ص: 45

وقد ذكرنا ما يتعلق بمذاهب الجبر وفساد أدلتهم في ما سبق من هذا الكتاب وفي كتابنا تهذيب الأصول، فراجع.

وبإثبات التوحيد الخالقي لله عزّ وجلّ ينفي الشرك في الخلق وأن هناك خالقاً أو خالقين مستقلين مؤثرين في العالم والقائلون به كثيرون منهم المفوضة الذين يعتقدون بتفويض أفعال البشر إلى أنفسهم فهم مستقلون في خلق الأفعال وإيجادها من دون نسبة إلى الخالق العظيم سبحانه وتعالى وهم في مقابلتهم للمجبرة من الأشاعرة كانوا قطبين متضادين في تاريخ المسلمين فالمجبرة أرادوا من قولهم نفي الشرك عنه تعالى فوقعوا في تعطيل البعث والتكليف وبطلأنّهما، كما أن القول في التفويض الذي أرادوا منه التنزیه يستلزم التعطيل والشرك. وكيف كان فبطلان مذهبهم معروف ذكرنا ما يتعلق به في هذا الكتاب، فراجع.

ومنهم الثنوية من الزرادشتية القائلون بإله الخير وإله الشر وبطلأنّه أوضح من أن يخفي، وهناك مذاهب أخرى عفى عليها الزمن وأدلة التوحيد في اللق تبطلها جميعاً.

الرابع: التوحيد في الربوبية بمعنى انحصار التدبير والربوبية العظمى فيه عزّ وجلّ، قال تعالى في سورة الفاتحة «رَبِّ الْعالَمين» والاعتقاد بخلاف ذلك يكون من الشرك الذي كان شائعاً بين الوثنيين، فأنّهم وإن اعترفوا بأنّه ليس في الوجود إلّا خالق واحد وهو الله كما حكى عزّ وجلّ عنهم في قوله «وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ

ص: 46

السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» (سورة لقمان، الآية 220)، ولكنهم كانوا يشركون في التدبير والربوبية وتفويض تدبیر الخلق إلى غيره متحداً كان أو متعدداً واعتزاله عن الربوبية العظمی، وقد اختلفوا في المفوض إليه فإن بعضهم كاني قول بأنّه الكواكبن وآخر الملائكة، وثالث الأرواح المقدسة، ورابع أصنام وأوثان صنعوها بأيديهم بما هي مثال للآلهة التي كانوا يعتقدون بها التي فوض إليه تدبير العالم وغير ذلك من المذاهب التي تتحد في التشريك في عالم التكوين، وهناك مذاهب يعتقد أصحابها بالشرك في عالم التشريع وجعل زمام التشريع بيد أشخاص كما اعتقد اليهود والنصارى في علمائهم من الأحبار والرهبان فاتخذوهم أربابا من دون الله، قال تعالى: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبأنّهمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّه» (سورة التوبة، الآية 31)، فجعلوا لله شريكاً في التشريع وهو يشترك مع سابقه في البطلان، وقد دلت الأدلة الاعقلية والنقلية على بطلان الشرك في الربوبية والتدبير سواء كان في عالم التكوين أو في عالم التشريع وإن التوحيد يقتضي القول بأن الخير والشر وتدبير ما سواه تكويناً وتشريعاً بيده عزّ وجلّ ومنحصرة فيه ولا يملك غيره شيئاً. قال تعالى: «بِأَمْرِهِ إلّا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمين» (سورة الأعراف، الآية 54)، وقال تعالى: «لَوْ كانَ فيهِما آلِهَةٌ إلّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُون» (سورة الأنبياء، الآية 22)، وقال تعالى: «مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ» (سورة

ص: 47

المؤمنون، الآية 91)، ويستفاد من ذلك أن وحدة النظام ومجال الكون وتمام الصنع وكماله يدلّ على وحدة الخالق والمدبر للعالم وإلّا لذهب كل إله بما خلق وفسدت السموات والأرض كما دل عليه قول الإمام الصادق (عليه السّلام): «فَلَمَّا رَأَیْنَا الْخَلْقَ مُنْتَظِماً، وَالْفَلَکَ جَارِیاً، وَالتَّدْبِیرَ وَاحِداً، وَاللَّیْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، دَلَّ صِحَّةُ الاْمْرِ وَالتَّدْبِیرِ، وَائْتِلاَفُ الاْمْرِ عَلی أَنَّ الْمُدَبِّرَ وَاحِدٌ» وهذه الأدلة وإن اقتضت کون الخالق والمدبر واحداً وانحصار التدبر فيه عزّ وجلّ استقلإلّا لا ينافي أن يفوض التدبير إلى بعض مخلوقاته كما قال تعالى «فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً» (سورة النازعات، الآية 5)، وقال تعالى: «وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً» (سورة الأنعام، الآية 61)، وقد ثبت أن الملائكة وسائط فيضه عزّ وجلّ كذلك الأنبياء والمرسلون وسائط التشريع والتفصيل في محله.

الخامس: التوحيد في العبادة وما يتبعها من المغفرة والشفاعة الذي اتفق عليها جميع الألهين، وأن الموحد لا يطلق إلّا على من خص العبادة بالله وحده وإلّا لا يكون موحداً ولا مسلماً، وقد صرح بذلك القرآن الكريم، قال تعالى: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعين» وإن الدعوة إلى التوحيد في العبادة هي الغاية من بعث الأنبياء والمرسلين (عليهم السّلام)، قال تعالى: وَ لَقَدْ بَعَثْنا في كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ» (سورة النحل، الآية 36)، وقد ذكرنا أن التوحيد في العبادة هو أهم مظاهر التوحيد في الأمم السابقة وقد أمر الله عباده بعبادته «يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذي

ص: 48

خَلَقَكُمْ وَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون» (سورة البقرة، الآية 21)، بل جعل تعالی العبودية شعار جميع الموجودات الشاعرة، قال تعالى: «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إلّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْدا» (سورة مريم، الآية 93)، وتقدّم في سورة الفاتحة معنى العبادة وانحصارها في الله تعالى، وإمّا المشركون الذين اتخذوا آلهة لعبادتهم فقد اختلفوا في اعتقادهم فبعضهم كانوا يجعلون لمعبوداتهم الاستقلال في التصرف والشؤون كما عرفت والبعض الآخر اتخذوها شفعاء عند الله ويطلبون المغفرة عندهم، كما قال تعالى: وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» )سورة يونس، الآية 18) وقال تعالى حكاية عنهم «ما نَعْبُدُهُمْ إلّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» (سورة الزمر، الآية 3).

والآيات الشريفة تدلّ على أن المشركين إنّما اتخذوا آلهة وأربابا ليعبدوهم بالخضوع والتذلل والتعظيم لها ونسبوا إليها ما يختصّ به الله عزّ وجلّ من الشؤون الإلهية والأفعال، وهذا هو الذي أكد القرآن الكريم على بطلأنّه وحصر العبودية في الله تعالی ولكن ذلك لا ينافي الخضوع والتعظيم لغيره لا باعتقاد أنّه غله والعقل والنقل لا يبطله وعلى ذلك يصح التوسل بأولياء الله والاستعانة بهم في قضاء الحوائج وجعلهم شفعاء عن الله عزّ وجلّ، ومن عظيم حقهم يصح الاستحلاف والاستغاثة بهم والتبرك بهم في حياتهم وبعد مماتهم ونحو ذلك مما يشعر بالخضوع والتذلل عندهم

ص: 49

لا باعتقاد أنّهم آلهة يستحقون العبادة بحسب ذاتهم الذي نفاه عزّ وجلّ عن غيره والتفصيل يطلب من محله.

السادس: التوحيد في الطاعة والحاكمية اللتين هما من شؤون ربوبيته العظمى التي تقتضي توحيده في الطاعة والحاكمية بمعنى أن الله تعالى هو الرب للموجودات الإمكانية ومنها الإنسان الذي خلقهم من العدم وأنعم عليهم بأنواع النعم، فهو المالك للوجود ورب الكون الذي منه الإنسان، وهو الذي يجب أن يطاع دون سواه، والمراد من الطاعة هي وضع الأمور مواضعها التي يريدها الله تعالى ويرضاها، فهو المطاع بالذات قال تعالى: ِ«وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصيرُ» (سورة البقرة، الآية 285).

ولكن الطاعة الذاتية الحقيقية لله تعالى لا تنفي أن يطاع غیره بإذن منه كما أمر عزّ وجلّ بإطاعة الرسل والأنبياء وأولي الأمر والوالدين، قال تعالى: «وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إلّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ» (سورة النساء، الآية 64)، وقال تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَطيعُوا اللَّهَ وَ أَطيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» (سورة النساء، الآية 59)، فإن طاعة جميع هؤلاء إنّما تكون من طاعة الله فأنّه لولا أمره لما كان لأحد حق الطاعة على غيره ويدلّ عليه قوله تعالى: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّه» (سورة النساء، الآية 80).

نعم تختلف مراتب الطاعة في غيره عزّ وجلّ فأنّها في الله تعالی تامة من جميع الجهات وفي غيره يتبع الدليل الذي يدلّ

ص: 50

عليها، ففي الرسول تكون الطاعة في جميع جهات التشريع والولاية التشريعيّة والقضاء وتنظيم النظام وكذلك في أولي الأمر الذين نصبهم الله علماً على عباده، فإن طاعتهم طاعة الرسول وطاعة الرسول طاعة الله، والبحث مذكور في علم الكلام. كما أن ثبوت الربوبية العظمى له عزّ وجلّ وانحصارها فيه يستلزمان توحيده في الحاكمية بمعنى ثبوت الحق المطلق له في التصرف والتسلط على ما سواه وله الولاية الكاملة على الإنسان ويكون مسلطاً عليه بأنحاء التصرفات ولا تثبت مثل هذه الولاية لغيره عزّ وجلّ إذ الجمعي إمام الخالق العظيم واحد ويدلّ على ثبوت مثل هذه الحاكمية المطلقة له عزّ وجلّ إذ الجمعي إمام الخالق العظيم واحد ويدلّ على ثبوت مثل هذه الحاكمية المطلقة له عزّ وجلّ مضافة إلى الدليل العقلي والأدلة النقلية، قال تعالى: «وَ هُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إلّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُون» (سورة القصص، الآية 70)، وقال تعالى: «ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ إلّا لَهُ الْحُكْمُ وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبين» (سورة الأنعام، الآية 92).

وإطلاق الحكم يشمل حصر جميع أنواع الولاية التكيونية والتشريعيّة في الله تعالى، وقد تقدّم آنفاً أن حصر هذه الحاكمية فيه وتوحيده عزّ وجلّ فيها لا ينافي إثبات الولاية التشريعيّة أو التكوينيّة أو كليهما لغيره بإذن منه ورضاه عزّ وجلّ كما اثبتها لرسوله الكريم، قال تعالى: «وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّه» (سورة المائدة، الآية 49)، وهو وإن اختص بالتشريعي إلّا أنّه دل الدليل على ثبوت التكويني أيضاً له؛ وقد أثبت الولاية التشريعيّة

ص: 51

والآمرة والحكم لداود (عليه السّلام)، قال تعالى: «وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ» (سورة البقرة، الآية 251).

فلا ريب في توحیده عزّ وجلّ في الحاكمية والطاعة وثبوت هذا الحق له عزّ وجلّ أولاً وبالذات وإن كانتا تثبت لغيره بالعرض وبإذن منه ورضاه عزّ وجلّ على تفصيل في كيفية الثبوت وحدودهما كما عرفت.

ومن جميع ما ذكرناه يستفاد أن التوحيد الحقيقي هو الذي يشمل جميع مظاهره وتجلياته وهو الوحدة الحقة الحقيقية التامة الكاملة الثابتة للذات الجامعة لجميع الكمالات الواقعية الحقيقية، فهو الفرد المتفرد والواحد المتوحد وقد تجلی به عزّ وجلّ على جميع ما سواه فأوجدهم برحمته وأنعم عليهم بأنواع آلائه، وأسبغ عليهم من نعمه وأفاض عليهم بفيوضاته، فكان التوحيد منبع كل خير ورحمة فإذا أراد الإنسان معرفته من ناحية مظاهره وتجلياته على المخلوقات أمکن درکه بآثاره وغذا اراد معرفته من ناحية الواحد الأحد والذات المقدسة فلا يمكن درکه، لقصور فهم المخلوق وعظمة الخالق ولطافته ولذا كان التوحيد في عين أنّه في غاية الدقة في غاية الوضوح باعتبار الآثار والتجليات، كما قال أبو عبد الله الحسين (عليه السّلام): «سبحانه أَن يَكُونَ لِغَيرِكَ مِنَ الظُّهُورِ مَا

ص: 52

لَيسَ لَكَ حَتَّى يَكُونَ هُوَ المُظهِرُ لَكَ، مَتَى غِبْتَ حَتَّى تَحْتَاجَ إِلَى دَلِيلٍ يدلّ عَلَيْكَ، مَتَى بَعُدْتَ حَتَّى تَحْتَاجَ إِلَى مَا يُوصِلُنَا إِلَيکَ، عَمِيَتْ عَيْنٌ لا تَرَاكَ وما تزال عَلَيْهَا رَقِيباً» ويختلف ذلك أيضاً باختلاف فهم الإنسان ومراتب مدركاته ولأجلّ ذلك كان للتوحید مراتب مختلفة، كما سنراه إن شاء الله تعالی.

ص: 53

مراتب التوحيد

عرفت معنى التوحيد الذي تدعو إليه الفطرة، وقد ورد في تفسير قوله تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْديلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُون» (سورة الروم، الآية 30).

عن الإمام الصادق (عليه السّلام) أنّه قال «فَطَرَهُم عَلَى التَّوحِيدِ» وهذا التوحيد الفطري مبني على الابساطة والخلوص من شوائب الأوهام ويدعو الناس إلى التوجه إلى الله تعالى الذي لا يحجبه عن خلقه سوى ضعف الخلق وفقرهم واحتياجهم إليه كما في الحديث الشريف عن موسى بن جعفر (عليه السّلام): «لَيسَ بَينَهُ وَبَينَ خَلقِهِ حِجَاب غَير خَلقِهِ) وهذا هو المراد مما ورد في خطبة سيد الموحدين أمير المؤمنین (عليه السّلام): «تَوْحِیدُهُ تَمْیِیزُهُ عَنْ خَلْقِهِ وَ حُکْمُ التَّمْیِیزِ بَیْنُونَهُ صِفَهٍ لَا بَیْنُونَهُ عُزْلَهٍ» وهذا التوحيد هو الذي دعا إليه الأنبياء والمرسلون في توجيه العباد إلى الله العزيز المتعال ودعوتهم إلى الوحدانية ونبذ الشرك بجميع معانيه التي كانت متفشية عند أممهم كما عرفت إلّا أن هذه الفطرة لم تبق على استقامتها وإن كانت تظهر

ص: 54

في وقت الحاجة والاضطرار وتدعو إلى الله الواحد القهار. قال تعالى: «وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَ كانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً» (سورة الإسراء، الآية 67). وقد أخذ كل فرد من آحاد الناس في حدود فهمه الذي آتاه الله عزّ وجلّ فأنّهم لم يخلقوا سواسية في الفكر والعقل، يفسر التوحيد بحدود فهمه وحسب ما يراه ويدركه من المعاني فظهرت مذاهب فيه والقرآن الكريم بين الحقيقة الناصعة في هذا الأمر المهم بأحسن أسلوب وأتم بيان، وكان للأئمة الهداة (صلوات الله عليهم) ولا سیما سید الموحدين منهم وأمير المؤمنين (عليه السّلام) الدور الكبير في شرح معناها وبيان خصوصیاته كما عرفت آنفاً ولكن ظهور الشبهات وإدعاءات بعض العلماء ولا سيما المتصوفة منهم المكاشفات وتنازع الفرق فيما بينهم أوجب الغموض والبعد عن الحقيقة والابتعاد عن منبع النور وما ورد في كلمات جملة الوحي وخزان العلم فأثبتوا للتوحيد معاني جديدة وأولوه بتأویلات عديدة حتى ظهرت وحدة الوجود بل وحدة الوجود والموجود الذي اعتبروه من أقصى درجات التوحيد وأكملها حيث له مراتب ودرجات منها توحید العوام وتوحيد الخواص وتوحيد خاص الخاص وتوحيد أخص الخواص. ومنها توحيد الأفعال وتوحيد الصفات وتوحيد الذات وبعض كلماتهم واعتقاداتهم يرجع إلى الكفر الصريح ونحن لا ننكر بأن للتوحید مراتب حسب القرب والبعد عن الله تعالى إلّا أن ما ذكروه يحتاج إلى شرح وتفسير لا سيما وأن بعض القائلين بوحدة

ص: 55

الوجود من أعاظم الحكماء المتألهين والعرفاء الشامخين فإن أمكن تأويلها بما يوافق الشرع فنعم الوافق وإلّا فيرد العلم به إلى أهله إن لم تكن مخالفة لصريح الشرع المبين وتفصيل الكلام موکول إلى محله إن شاء الله تعالی.

ص: 56

مراتب الإيمان والكفر

إن الإيمان هو التصديق، واختلفوا في أن التصديق بسيط أو مرکب، وكان هذا الاختلاف بين الفلاسفة ولكنه سرى إلى غيرهم. وقد أثبتنا في محله سقوط أصل النزاع رأسا لأن مثل التصديق الذي هو من الصفات النفسانية إن لوحظ باعتبار مبادئ فهو مركب عند الجميع. وإن لوحظ باعتبار نفسهن فهو بسيط كذلك، فالنزاع بينهم لفظي.

لكن في الإيمان نزاع آخر قديم بينهم وهو أن العمل على طبق الوظيفة الشرعية جزء مقوم لحقيقة الإيمان، بحيث إن من لم يعمل بالوظيفة الشرعية لا إيمان له وإن كان له التصديق القلبي الجازم بأصول الدين، أو أن العمل بالوظيفة الشرعية شيء خارج عن أصل التصديق القلبي، فيكون من كان معتقدة بأصول الدين ولا يعمل بالوظيفة مؤمنة ولكنه فاسق.

والمتحصل من مجموع الآيات المباركة المشتملة على جملة «الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ» والسّنّة المقدسة المسوقة في هذا السياق أن للإيمان کمالاً ونقصاً وشدّة وضعفاً، ويختلف متعلقه -

ص: 57

كما تقدّم - قلباً وعملاً ولساناً، فيكون إيمان كل شيء بحسبه، فإيمان القلب بالاعتقاد، وإيمان اللسان بالإقرار، وإيمان الجوارح بالعمل، فإذا تحقق الجميع يثبت الإيمان الكامل، وإذا تحقق بالنسبة إلى البعض فهو إيمان ناقص يثبت بالنسبة إلى ما تحقق وينتفي بالنسبة إلى ما لم يتحقق، ويثبت الكفر مكأنّه.

والكفر له مراتب کمراتب الإيمان من حيث الشدّة والضعف ومن حيث الكمال والنقص، ويتحقق بالنسبة إلى الاعتقاد واللسان وعمل الجوارح فيمكن أن يكون شخص مؤمناً اعتقاداً ولساناً ولكنه کافر عملاً لا اعتقاداً ولا إقراراً، وهذا معنى الأثر الذي تقدّم من أن «الإيمان اعتقاد بالجنان وإقرار باللسان» فإيمان كل شخص مبثوث على الجوارح، فالإيمان والكفر کالنور والظلمة فقد يكون النور في كل مورد وقد يكون في مورد دون آخر، ولا ريب في أنّه متى ما انتفى النور يحل محله الظلمة لا محالة ولا واسطة بينهما، وهذا معنى ما تقدّم من الأخبار من قوله: «لَا يَزنِي الزَّانِي حِينَ يَزنِي وَهُوَ مُؤمِنٌ» إلى غير ذلك مما ورد، فإذا اجتمع الإيمان بالله قلباً والإقرار باللسان والعمل بما أمر الله وترك ما نهى عنه يكون مؤمناً، وإذا لم يتحقق الإيمان قلباً وتحقق لساناً وعملاً يكون منافقاً، وإذا تحقق قلباً ولساناً ولم يتحقق عملاً يكون فاسقاً وهو لا ينافي إطلاق الكفر العملي عليه - أيضاً - كما في قوله لي: «وَإمّا الرّشَا فِي الأَحكَامِ فَهُوَ الكُفرُ بِاللهِ العَظِيمِ».

ص: 58

فكل من جهل شيئاً من أمور دينه ينقص من إيمأنّه بقدر جهله، وكل من أنكر ما يجب عليه تصديقه في الشريعة فله حظ من كفر الجحود إلى أن يصل إلى الجحود المطلق، وكل من أظهر بلسأنّه ما لا يعتقده بقلبه بغير عذر شرعي فله حظ من النفاق إلى أن يصل إلى النفاق المطلق، وكل من كتم حقاً شرعياً بعد معرفته فله حظ من الجهود إلى أن يصير كذلك مطلقة، وكل من استبد برأيه ولم يتبع الشريعة فله حظ من الضلالة إلى أن تتم فيه، وكل من ارتكب حرإمّا أو ترك واجباً فله حظ من كفر الاستخفاف إلى أن يصل إلى الكفر المطلق، إن لم يتدارك ذلك بالتوبة. ولكن من أسلم وجهه لله تعالى واتبع الشريعة المقدسة في جميع ما جاء به وتدارك ذنبه بالتوبة فهو المؤمن حقاً.

هذه خلاصة ما يستفاد من الكتاب والسنة بعد رد المجمل إلى المفصل والمتشابه إلى المحكم.

ص: 59

بحث روائي

عن العسكري (عليه السّلام) أنّه قال: «الَّذِينَ يُؤمِنُونَ بِالغَيبِ عُنِيَ بِمَا غَابَ عَن حَوَاسِهِم مِنَ الأُمُورِ الَّتِي يَلزَمُهُم الإِيمانُ بِهَا، كَالبَعثِ وَالنُّشُورِ وَالحِسَابِ وَالجَنَّةِ وَالنَّارِ وَتَوحِيدِ اللهِ، وَسَائِرِ مَا لَا يُعرَفُ بِالمُشَاهَدَةِ وَإنّما يُعرَفُ بِدَلَائِلَ قَد نَصَبَهَا اللهُ تَعَالَی دَلَائِلَ عَلَيهَا».

وعن الصادق (عليه السّلام) أنّه قال: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ يَصدقُونَ الْبَعْثَ وَالنُّشُورَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ».

وعنه (عليه السّلام) أيضاً: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أَيْ مَنْ آمَنَ بِقِيَامِ الْقَائِمِ عَلَی أنّه حَقٌّ».

أقول: الغيب شامل لكل ما لم يكن محسوساً ويكون داعياً إلى الله تعالى، فإيمان المسلمين في هذا الزمان بنبينا الأعظم و وسائر أنبياء الله تعالى من الإيمان بالغيب، وكذا كل حجة منه تعالی تدعو إليه، فا ذكر في الخبر صحيح لا ريب فيه، لأنّه من باب أحد المصادیق ومن باب التطبيق.

وإمّا ما فسره جمع برجال الغيب أيضاً، وفضلوا القول فيه فليس ذلك إلّا من مجرد الدعوى، ولم يقم دليل على صحته لا عقلاً ولا نقلاً،

ص: 60

کجملة كثيرة من أقوالهم في الركن والولي والمرشد والأوتاد و نحو ذلك.

وعن الصادق (عليه السّلام): «فَطَرَ النَّاسَ جَمِيعاً عَلَى التَّوْحِيدِ».

وعنه (عليه السّلام) قال أيضاً: «فَطَرَهُمْ عَلَى الْمَعْرِفَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّی اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ): كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، يَعْنِي عَلَى الْمَعْرِفَة بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقُهُ»..

أقول: يستفاد من ذلك أن الإيمان بالغيب مودع في الفطرة ومن مصادیقه الإيمان بالله، كما يأتي في الآيات المباركة.

وعن الصادق (عليه السّلام) في قوله تعالى: «وَمِمَّا رَزَقنَاهُم يُنفِقُونَ» أي: «مِمَّا علمناهم يُنْبِئُونَ، وَ مَا علمناهم مِنَ الْقُرْآنِ يَتلُونَ».

هذا يدلّ على ما قلناه من أن الآنفاًق لا يختصّ بالمال بل يشمل كل ما ينفع الغير ولا اختصاص لقوله (عليه السّلام) بعلم الشريعة بل يشمل كل علم ينتفع به الغير في دينه أو دنياه - ما لم يكن منهياً عنه شرعاً - کعلم الطب وغيره مما يقوم به نظام المجتمع، الذي لا ينافي وجوب آنفاًقه أخذ الأجرة عليه، كما بيناه في الفقه.

وَ عَنْهُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) أيضاً حَيْثُ سُئِلَ فِي كَمْ تَجِبُ الزَّكَاةُ؟ فَقَالَ لَهُ: الزَّكَاةُ الظَّاهِرَةُ أَمِ الْبَاطِنَةُ تُرِيدُهُ فَقَالَ: أريدها جَمِيعاً، فَقَالَ: «إمّا الظَّاهِرَةُ فَفِي كُلِّ أَلْفٍ خَمْسَة وَ عِشْرُونَ، وَ إمّا الْبَاطِنَةُ فَلَا تَسْتَأْثِرْ عَلَى أَخِيكَ بِمَا هُوَ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنْكَ».

ص: 61

عقيدة الإنسان

الإنسان بلحاظ عقیدته لا يخلو عن أقسام ثلاثة بالحصر العقلي، لأنّه إمّا مؤمن بالله العظيم ونهجه القويم، أو كافر به، أو منافق.

وبتعبير آخر: إمّا في الصراط المستقيم، أو منحرف عنه وفي طريق الغواية، وإمّا مزدوج بين الطريقين، وكل طائفة تنال جزاءها المختص حسب عمله الناشئ عن عقيدته.

والإيمان بالله تعالى يحصل باختيار الإنسان، إلّا أن السعادة الكائنة في الفطرة كجزء المقتضي للاختیار، وأن السبب التام هو الاختيار، فيختار إمّا السعادة - حسب فطرته - وإمّا الشقاء للانحراف عنها، فينتفي الجبر وشبهه كما ينتفي التفويض، على ما تقدّم في هذه الآيات المباركة وغيرها.

وإمّا الجزاء على الأعمال الصالحة المنبعثة عن العقيدة، فلا شك أن المؤمن بالله تعالى ينال جزءا عمله بالمقإمّات العالية والدرجات الرفيعة، إمّا في هذه الدنيا - كما تقدّم في أحد مباحثنا السابقة ويدلّ عليه قوله تعالى: «وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها»

ص: 62

(سورة آل عمران، الآية 145)، - أو في الآخرة من الجنات والنعم وغيرها مما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، كما أن الجزاء على أعماله السيئة يكون كذلك، عقاباً دنيويّاً أو أخرويّاً.

وإمّا بالنسبة إلى أعمال الكافر، فإن كان العمل سيئاً بمقتضی عقيدته، فينال جزاءه السيئ إمّا في هذه الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معاً. وإن كان العمل حسناً وصالحاً ينبئ عن أن بعض عقائده يرضى الشارع به، فيجازيه عزّ وجلّ إمّا في هذه الدنيا، أو في عالم البرزخ، أو في عالم الخلود، كما في الروايات الصادرة عن المعصومين (عليهم السّلام)؛ ولقاعدة: «العدل والإنصاف».

وبتعبير آخر: العمل إن كان مصدره عن عقيدة وثبات في الرأي ينال جزاءه المناسب له، مؤمناً كان العامل أو كافراً، وأن الانحراف في العقيدة لا يوجب التأثير في أصل الجزاء وإن اختلفت كيفيته.

وإمّا جزاء أعمال المنافق، فالمستفاد من الآيات الشريفة والسنن المطهرة أن أعماله الحسنة لا تفيده أصلا. لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة. لأنّها لم تصدر عن عقيدة راسخة ونهج معترف به، قال تعالى: «مُذَبْذَبينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَ لا إِلى هؤُلاءِ»، أي: المنافق لا ينال جزاء المؤمن ولا ينال جزاء الكافر في أعماله الصالحة، فيكون المنافق أسوء حإلّا من الكافر، قال تعالى: «إِنَّ الْمُنافِقينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصيراً»، ولم يرد

ص: 63

هذا التعبير أو ما ينزل تلك المنزلة بالنسبة إلى الكفار وإن كان الكافر يرد جهنم أيضاً، قال تعالى: «وَ جَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرينَ حَصيراً» (سورة الإسراء، الآية 8).

وإمّا قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقينَ وَ الْكافِرينَ في جَهَنَّمَ جَميعا» الذي يستفاد منه التسوية في العذاب، فباعتبار أصله لا باعتبار مراتبه ودرجاته، فعذاب المنافقين أسوء وأشد كما تقدّم في الآية الكريمة السابقة.

إن قلت: مقتضى الآيات المباركة أن الجزاء تابع للعمل سواء كان العامل مؤمناً أو كافراً أو منافقاً، قال تعالى: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه» (سورة الزلزلة، الآية 7 - 8)، خصوصاً على القول بأن الجزاء والثواب من الآثار الوضعية للعمل، وإن كانت تختلف باختلاف العقيدة.

قلت: المراد من العمل في الآية الشريفة العمل الصادر عن عقيدة وإرادة - لا كل عمل - والمفروض أن المنافق لم يكن له عقيدة؛ لأنّه مذبذب ومزدوج، له صورة العمل وهيكله)(1).

ص: 64


1- مواهب الرحمن، ج10، ص80-81.

الولاية الإلهيّة

الولاية الإلهية التي أثبتها عزّ وجلّ لنفسه ومنحها لرسوله الكريم والذين آمنوا وهم علي وبنوه الكرام(صلوات الله عليهم) فثبتت لهم الإمامة والدلائل والقرائن والأخبار وشأن نزولها وغير ذلك من الشواهد والإشارات كلها تشهد وتدلّ عليه، ولكن مع ذلك ناقش الجمهور في دلالتها ونحن نذكر المهم مما ذكروه في المقام وهو على وجوه:

الأول: إن المراد من الولي الناصر، فإن الولي لفظ مشترك يقال للناصر والمحب والأولى بالتصرف والمشترك إذا تردد بین معانيه يلزم وجود القرينة للمعنى المطلوب، فلا يكون نصاً على إمامة علي (عليه السّلام) فبطل الاستدلّال به.

وفيه: ما عرفت أن لفظ الولي إذا جيء به مفرداً يدلّ على الولاية التصرفية وهو المتبادر منه ولا نحتاج إلى قرينه بل غيره يحتاج إليها، وعلى فرض القبول يمكن أن يقال أن الولي مشترك معنی موضوع للقائم بالأمر أي الذي له السلطان على المولى عليه ولو في الجملة فيشمل ولي المرأة والصبي والرعية والصديق

ص: 65

والمحب فإن لهما ولاية وسلطاناً في الجملة على صديقه، فالمراد به القائم بأموركم، يضاف إلى ذلك أنّه لو فرض تعدد المعاني والاشتراك اللفظي فإن القرائن تدلّ على أن المعنى المناسب في المقام هو الأولى بالتصرف، وقد تقدّم في التفسير ما يدلّ على ذلك، فراجع.

الثاني: إن «الَّذِينَ آمَنُوا» صيغة جمع فلا تصرف إلى الواحد إلّا بدليل وشأن النزول وقول المفسرين لا يقتضي الاختصاص ما لم يبلغ إلى درجة الإجماع.

وفيه: ما عرفت آنفاً أن استعمال صيغة الجمع وإرادة الواحد من الأساليب البلاغية المعروفة وقد نزل القرآن عليها واستعملها فيه لفوائد كثيرة منها تنظيم الفاعل والمتصف بتلك الصفات والإشارة إلى أنّه بمنزلة جميع المؤمنين المصلين المزكين لأنّه رئيسهم وعميدهم، وإمّا شأن النزول فهو وإن لم يكن موجباً للاختصاص كما هو المعروف لكن الروايات الواردة في تفسير الآية الكريمة هي من الكثرة بمكان بحيث تكون موجبة للاختصاص وإلّا لم يصح الركون إلى شيء من الروايات كما ذكرنا، فراجع.

ومما ذكرنا يظهر أن قول المفسرين إنّما كان مستنداً إلى دلالة الآية الشريفة والسنة فلم يكن جزافاً ومن غير دليل. ومن كثرة الروايات بل تواترها يمكن دعوى القطع بالاختصاص ولا يقل المقام عن غيره مما لم يصل إلى هذه الدرجة من نقل الروايات

ص: 66

والقرائن فلا يصغي إلى قول بعضهم أنّه لا نسلم الإجماع على نزولها في الأمير (عليه السّلام)(1) فأنّه إذا لم نقل بذلك ما عرفت من الروايات ففي أي مورد يمكن دعوى الإجماع حينئذٍ وإمّا الروايات الآحاد التي نقلها في شأن النزول فلا يمكن لها النهوض في معارضة تلك الكثرة من النصوص على فرض صحتها، فراجع.

الثالث: إن الحصر المستفاد من كلمة (إنّما) يكون فيما يحتمل الشركة والتردد والنزاع، ولم يكن وقت نزول هذه الآية تردد ونزاع في الإمامة وولاية التصرف بل كان في النصرة والمحبة.

وفيه: أن ذلك مبني على كون المراد من (أولياء) في ما سبق من الآيات هي ولاية النصرة والمحبة، وقد عرفت بطلأنّه، وعلى فرضه يكون حكم الآية الشريفة خاصاً بها لا يرتبط بما سبق وعلى فرضه فإن إثبات ولاية التصرف تستدعي المحبة والنصرة دون غيرها، يضاف إلى ذلك أن كلمة (إنّما) تفيد الحصر ونفي الأولياء المزعومين ووجوب الموالاة والإمامة وانحصارهم في من ذکر دون غيرهم، كما تقدّم.

الرابع: إن الاستدلّال بالآية الكريمة بالتقريب الذي تذكره الإمامية يدلّ على سلب الإمامة عن الأئمة المتأخرين الاثني عشر (صلوات الله عليهم) بعين التقرير الذي نفوا به إمامة المتقدّمين وفيه:

(1)

ص: 67


1- القائل أبو الثناء الآلوسي في تفسير الآية من (روح المعاني).

أولاً: إن الآية إذ دلت على إمامة علي (عليه السّلام) وأثبتت ولايته الشرعية فهو الحجة في تعيين غيره.

وثانياً: إن الآية بقرينة الآية التي سبقتها تدلّ على إمامة من توفرت فيه الصفات التي تؤهله للإمامة، وهذا الإشكال إنّما تشأ من الغفلة عن ارتباطها بسابقتها والعجيب أنّهم يفسرون الولي في الآيات السابقة ويقطعونها عن أقرب الآيات منها، وقد عرفت فيما سبق أن قوله تعالى «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دينِه» يشتمل على جملة من الأوصاف التي يجب أن تتوفر في من يتولى شؤون الأمة، فراجع.

وعلى هذا فالآية تنفي إمامة غير من عينهم الله عزّ وجلّ.

وثالثاً: إن الأئمة هم معلومون وقد عينهم الرسول الكريم في عدة مقإمّات وقد نقل أرباب الحديث تلك الروايات، فراجع.

الخامس: إن الآية الكريمة إذا دلت على ولاية الذين آمنوا على زعم الإمامية فإن ولايتهم في زمان الخطاب غير مرادة، لأن ذلك عهد النبوة، والإمامة نيابة فلا تتصور إلّا بعد انتقال النبي (صلّی الله عليه وآله وسلّم) وإذا لم يكن زمان الخطاب مراداً تعين أن يكون المراد الزمان المتأخر عن زمن الانتقال ولا حد للتأخير فليكن ذلك بالنسبة إلى الأمير (عليه السّلام) بعد مضي زمان الأئمة الثلاثة فلم يحصل مدعی الإمامة.

وفيه: إن ذلك مكابرة واضحة فإن الآية إنّما تدلّ على كون

ص: 68

الذين آمنوا هم الأولياء من غير نظر إلى الزمان من قبيل القضايا الحقيقية، وعلى القبول فأنّها تدلّ على ولايتهم بعد الرسول بلا فصل وتنفي ولاية غيرهم فكيف تثبت بعدهم وهناك إشكالات أخرى في غاية الضعف يظهر الجواب عنها من مطاوي ما ذكرناه في التفسير، ولعمري أنّها تأویلات باطلة وتفسير للآية الشريفة بالرأي الذي اتفق المسلمون على بطلأنّه وحرمته. ولو فتحنا باب مثل هذه التأويلات الفاسدة لا سيما مع مخالفتها للشواهد والأخبار لما كانت آية حجة على أمر البته فيا ليتهم صرفوا عمرهم في استخراج كنوز القرآن العظيم فلو تركوا هذه المغالطات لكان للمسلمين شأن غير الذي هم عليه لكن حرموا أنفسهم من الفيوضات وحرموا أعقابهم منها وهذا من الظلم العظيم(1).

ص: 69


1- مواهب الرحمن، ج12، ص87 - 90.

مقام الولاية

إن التبليغ المأمور به فيما إنّما تعلق بأمر خاص له شأن كبير في هذا الدين بل له مساس في بقائه، ولو كنا نحن وهذه الآية الكريمة كانت كافية في الدلالة على المقصود ولوجب علينا التفحص في ما أمره به ربه والأحاديث المتواترة لفظاً ومعنىً تعین ذلك وتثبت أن المأمور به هي الولاية الكبرى والخلافة العظمی وكان ما فعله الرسول الكريم (صلّی الله عليه وآله وسلّم) بمقتضى الأمر بالتبليغ هو نصب علي (عليه السّلام) ولياً وخليفةً يحفظ به هذا الدين القويم وينصر به أهله، وهذا المقدار كافٍ في الحجة وإلزام الناس بمضمون الآية الشريفة إلّا أن القوم أولوها بتأویلات باطلة وجردوها عن المعنى المقصود وتلاعبوا في دلالتها ثم ناقشوا في الأخبار تارة في سندها، وقد عرفت في البحث الروائي بطلان مناقشتهم وأنّها أخبار متواترة عند الفريقين وأخرى في دلالتها ونحن نذكر المهم منها والجواب عنه.

الأولى: إن الحديث الذي ورد فيه «مَن کُنتُ مَولَاهُ فَعَلِيٌّ مَولَاهُ» لا يدلّ على ولاية السلطة التي هي الإمامة أو الخلافة، ولم يستعمل هذا اللفظ في القرآن بهذا المعنى بل المراد بالولاية فيه

ص: 70

ولاية النصرة والمودة التي قال الله فيها في كل من المؤمنين والكافرين «بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ» ومعناه من کنت ناصراً وموالياً له فعلیّ ناصره ومواليه، أو من والاني ونصرني فليوال علياً (عليه السّلام) وينصره بل إن مفعل بمعنى أفعل لم يذكره أحد من أئمة العربية، وإن الاستعمال على خلافه لجواز أن يقال هو أولى من كذا دون مولی من كذا، ولم يقم دليل على أن المراد بالأولى - على فرض التسليم - التصرف والتدبير، بل يجوز أن يكون في المحبة كما عرفت، فلا يدلّ الحديث على إمامته، وزاد بعضهم بأنّه لو كان المراد بالولاية أولوية التصرف، يلزم اجتماع الولايتين في زمان واحد، إذ لم يقل الرسول (صلّی الله عليه وآله وسلّم) (بعدي)، ولا يتصور الاجتماع بخلاف ما إذا كان المراد المحبة.

وفيه أولا: إن المولى في الحديث بانضمام سائر القرآن الحالية والمقالية يدلّ على أن المراد به الأولى بالتصرف، إذ لا يصح قطع جزء من الحديث عن القرائن الحافة به والحكم عليه، ولو أمعن النظر في الأحاديث الكثيرة التي ورد فيها هذا المقطع «مَن کُنتُ مَولَاهُ فَعَلِيٌّ مَولَاهُ» صدراً وذيلاً وحإلّا ومحلاً لتبين أن المراد منه الأولى بالتصرف وإلّا لحكمنا على كثير منها بالبطلان والفساد، ويجلّ فعل النبي (صلّی الله عليه وآله وسلّم) عنهما وهو المعصوم من كل خطأ وزلّة، فمن تلك القرائن قوله: «أَلَستُ أَولَى بِالمُؤمِنِينَ مِن أَنفُسِهِم» فأنّه لا معنى لكون المراد فيه المحبة كما هو الظاهر. ومنه قوله (صلّی الله عليه وآله وسلّم) «اللَّهُمَّ وَالِ مَن وَالَاهُ وَعَادِ مَن عَادَاهُ» فأنّه ظاهر أيضاً في

ص: 71

ذلك وتأويلهما إلى ولاية المحبة خلاف الظاهر من الفقرتين، ومنها: ذكر هذه الفقرات في خطبة قد جمعت كثيراً من التشريعات الخاصة التي تدلّ على ولاية التصرف ولا وجه لجرد تلك الفقرات عن البقية إلّا بدليل وهو مفقود، ومنها ذكرها في جمع غفير في يوم هجير على رمضان لم يمكن عليها المسير من شدّة الحر فأنّه أهم قرينة حالية على أن المراد ما ذكرناه ولا وجه لأن يجمعهم الرسول (صلّی الله عليه وآله وسلّم) لبيان محبة علي (عليه السّلام) وقد أمروا سابقاً بمودة القربی ومحبتهم وغير ذلك من القرائن الكثيرة.

وثانياً: إن من يفسر المولى بالأولى بالتصرف لم يرد أنّه اسم تفضيل حتى يستشكل عليه بأنّه يقال هو أولى من كذا ولا يقال: مولی من كذا، بل أراد التفسير بقرينة صدر الحديث «أَلَستُ أَولَى بِالمُؤمِنِينَ مِن أَنفُسِهِم» الدال على أن المراد الأولى بالتصرف وتفسيره بالمحبة كما فعله بعض المفسرين خلاف الظاهر، بل يمكن لنا القول بأن المولى يراد مالك الأمر وهو المعنى الحقيقي المستعمل في سائر الموارد، ففي الحديث «أَيُّما امرَأَةٍ نَكَحَت بِغَیرِ إِذنِ مَولَاهَا» وغير ذلك فيدلّ على الولاية بغير احتياج إلى التصرف، وكل ما يقال في توجيه دلالة إلّا لحديث على ولاية المحبة خلاف المعنى الحقيقي والاستشهاد ببعض الأمور لإثبات ذلك إنّما يكون إجمال الحدیث، والمفروض عدمه وظهوره في الولاية التصرفية.

ص: 72

وثالثاً: على فرض التنزّل، وقلنا بأنّه لم يعهد أن يكون المراد من المولى الأولى، فهذا أبو عبيدة الذي هو من أئمة العربية وغيره من اللغويين والمفسرين فسروا المولى بالأولى في قوله تعالى: «مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُم» أي أولی بكم، وإلّا يراد عليه بأن أبا عبيدة إنّما هو في مقام بيان حاصل المعنى يعني النار الموضع اللائق بكم، فليكن المقام من بیان حاصل المعنى لما ذكرناه من القرائن.

وإمّا ما قيل: بأن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال ذلك عندما شكا بعضهم من علي (عليه السّلام) كما ورد في الحديث المتقدّم، فذكر (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ذلك مبالغة في طلب موالاته وتلطفاً في الدعوة إليها.

فأنّه باطل فإن المبالغة في طلب موالاته يقتضي نصبه علماً وهادياً وإماماً لا أن يرشد إلى محبته فقط التي اقتضتها آیات وأحاديث أخرى. والآية الكريمة المبحوث عنها والأحاديث الواردة في شأنها بمعزل عن ولاية المحبة فقط، فصرف اللفظ إليها من الزور الباطل.

الثاني: أنّه لو سلم دلالة الحديث على إمامة علي (عليه السّلام) فلا نسلم دلالته على كونها بعد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بلا فصل حتى تنتفي إمامة غيره ممن تقدّمه.

وفيه: أن نصب الولاة والحكام أمر عادي، فما يقال فيها يقال في الحديث أيضاً، فإن السلطة لا يقول هذا ولي عهدي بلا فصل

ص: 73

بل يجري الكلام على ظاهره ويؤخذ به على كونه بعده بلا فصل فإن ذلك هو المتبادر من اللفظ، يضاف إلى ذلك أن ذكر (بعدي) لا يرفع الإشكال، فإن البعدية من الأمور النسبية فأنّه يمكن أن يقال أنّه إمام بعد الثلاثة.

ثم أنّه كيف يسوغ لأحد أن ينصب حاكماً وولياً ويترك ذكر من يقوم بعده من غيره وهو غير جائز عندهم، فكيف يجوز نسبته إلى ساحة النبي(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقد تقدّم في قوله تعالى: «إنّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذينَ آمَنُوا الَّذينَ يُقيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ» بعض الكلام، فراجع.

وهناك مناقشات أخرى واهية، بل هي محض مكابرة للحق، ومن أراد الإطلاع عليها فليراجع الكتب الكلامية(1).

ص: 74


1- مواهب الرحمن، ج12، 198 - 201.

بحوث في التوصية والألوهيّة

قال تعالى: «لَقَدْ كَفَرَ الَّذينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسيحُ ابْنُ مَرْيَمَ».

بيان حال طائفة أخرى من أهل الكتاب التي لا تقل عن الطائفة الأولى في قبائح الأقوال والأفعال واشتراكها معها في أن الانتساب إلى المسيح وكونهم نصارى لم تنفعهم وليسوا على شيء بعد کفرهم بالله إذ أثبتوا له شريكاً فلم يؤمنوا به حق الإيمان ولم يقيموا الإنجيل الذي دعاهم إلى التوحيد، وقد أكد عزّ وجلّ بالقسم كفر القائلين بأن الله هو المسيح بن مريم من النصارى، وقد اختلفت مقالتهم في كيفية اشتمال المسيح بن مريم على جوهر الإلوهية، فمنهم من يقول بالحلول ومنهم من يقول بالأقانيم على اختلاف وجوهها، ومنهم من يقول بالانقلاب، وتقدّم تفصيل ذلك في سورة النساء فراجع.

وكيف كان فهم لغوا في نبيهم المسيح بن مریم علی کغلو اليهود في الكفر به فضاهوهم بذلك، ولكن النصارى كفرت فيه وقالت أن المسيح هو الله.

ص: 75

وقد رد تبارك وتعالى تلك المقالة الشنيعة والعقيدة الزائفة بوجوه عديدة.

الوجه الأول: إن المسيح هو ابن مریم فكيف يمكن أن يكون الإله ابن امرأة كلاهما مخلوقان من تراب والله منزه عن مجانسة مخلوقاته.

قوله تعالى: «وَ قالَ الْمَسيحُ يا بَني إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ».

هذا هو الوجه الثاني: وهو الاعتراف فمن يعتقد بإلوهيته بأنّه عبد مربوب مثلهم، فقد أمرهم بعبادة الله تعالى وحده الذي هو ربه وربهم، وهذا القول منه (عليه السّلام) لا يزال محفوظاً في بعض الأناجيل المعروفة عندهم كما ستعرف في محله إن شاء الله تعالی.

قوله تعالى: «أنّه مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ».

هذا هو الوجه الثالث: وهو إخباره (صلوات الله عليه) عنه عزّ وجلّ بأن الشرك بالله يوجب الحرمان عن الجنة وهذه حقيقة واقعية لا تقبل التغيير والتبديل، فإن كل من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة، فلو كان عيسى بن مريم إلهاً لما حرم الله الجنة على من اعتقد فيه بأنّه إله، فأنّها دار الموحدین من عباده.

قوله تعالى: «وَ مَأْواهُ النَّار»

هذا هو الوجه الرابع: وهو أن عيسى بن مريم لو كان إلهاً

ص: 76

الأمكن أن ينجي أنصاره ومريديه من النار وقبلت شفاعته فيهم، وفي الآية المباركة إشارة إلى بطلان ما يدعونه في المسيح من أنّه اختار الصلب لخلاص النصارى، فهو فدى نفسه عنهم فهم لا يمسون النار ويدخلون الجنة بغير حساب، وتقدّم في سورة آل عمران تفصيل ذلك.

قوله تعالى: «وَ ما لِلظَّالِمينَ مِنْ أَنْصار».

هذا هو الوجه الخامس: وهو أن الشرك بالله ظلم. بل ظلم عظیم كما في آية أخرى، والظالم كذلك ليس له نصير بنصره من عذاب الله المعد للمشركين وإتيان الجمع للدلالة على تعدد من يعتقدونه بألوهيته أو الشافعين لهم ولبيان الأولى، فإن الأنصار على كثرتهم لا ينفعون، فنفي الناصر وهو الذي يعتقدون بإلوهيته، يكون بالأولى.

فهذه الحجج الخمس مما احتج الله تعالى بها عليهم وهي براهین قويمة اعترف الخصم بها ولا يسعه إنكارها. فكانت أتم وأثبت.

قوله تعالى: «لَقَدْ كَفَرَ الَّذينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ».

تأكيد آخر على كفر الذين قالوا بأن الله تعالى أحد الثلاثة الذين يعبّرون عنهم ب-(الأقانيم) وهي الأب والابن وروح القدس. وقد اختلفت اتجاهات النصارى في هذه المقالة، فقيل بأنّها ثلاثة اعتباراً، ولكنها واحد، وهذا هو القول الأول الذي حكاه عزّ وجلّ عنهم «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسيحُ ابْنُ مَرْيَمَ».

ص: 77

وقيل: إن الثلاثة كل واحد منها إله والألوهية مشتركة بينهم كما هو ظاهر قوله تعالى للمسيح «أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُوني وَ أُمِّيَ إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّه» ومسألة التثليث عندهم معروفة، ولما كان بطلأنّها واضحاً لا تحتاج إلى إقامة البراهين، إذ لا يمكن تصویرها وتعقلها، فادعى بعضهم بأنّها من المسائل المأثورة من مذاهب السلف عندهم لا تقبل الحل بحسب الموازين العلمية، ولكن المأثور إذا لم يقم عليه الدليل المعتبر فهو باطل ونسبته إلى الشرع جناية أخرى لا تغتفر، وقد تقدّم في سورة النساء بعض الكلام فراجع.

قوله تعالى: «وَ ما مِنْ إِلهٍ إلّا إِلهٌ واحِد».

حقيقة من الحقائق الواقعية التي لا تختص بعالم من العوالم حتى في عالم التصوير والتعقل، فإن الإله لا بد أن يكون إلهاً واحداً وإلّا لم يكن إلهاً.

فالآية الشريفة تشتمل على حجة قويمة احتج بها على من قال بالشرك والتثليث وغير ذلك من المعتقدات الفاسدة في الإله وهي أعظم آية في القرآن الكريم التي تثبت التوحيد بكل معنى الكلمة وتشتمل على برهان قویم ففيها دعوىً مع إقامة الحجة عليها، فالإله يجب أن يكون واحداً وهو الله تعالى الذي لا يقبل الكثرة، فهو واحد في ذاته وصفاته وهي عین ذاته ولا تقبل التعدد، فهناك تتحد الذات والصفات والإضافة فلا تورث إضافة الصفة إلى الذات

ص: 78

المقدسة كثرة وتعدداً، فهو كما عرفت إحدى الذات لا يقبل الشركة والتقسيم بأي وجه من الوجوه، لا في العقل ولا في الوهم ولا في الخارج، وقد اشتملت الآية الكريمة على أنحاء من التأكيدات، فإن أسلوب النفي والإثبات من أعظم الأساليب لتثبيت المطلوب وتأكيده كما هو معلوم، ثم دخول (من) على النفي لتأكيد الاستغراق، ثم إتيان المستثنى (إله واحد) نكرة ليفيد التنويع ولو كان معرفة مثل (الإله الواحد) لم يفد ذلك في إثبات حقيقة التوحيد، ثم إن الآية الكريمة احتفت من طرفيها بالأدلة والبراهين على نفي الشريك وإثبات الوحدانية الحقة الحقيقية، وسيأتي في البحث العرفاني بعض الكلام إن شاء الله تعالی.

والمعنى ليس في الوجود وجنس الإله أبداً إلّا إله واحد له من الوحدة لا تقبل التعدد أصلاً لا في الذات ولا في الصفات لا خارجاً ولا فرضاً، وهي حقيقة التوحيد التي أثبتها القرآن الكريم ولم مثل ذلك في أي بحث علمي أو فلسفي مع ما للعلماء من التحقيق والتدقيق، وهذه هي من معاجز الكتاب الإلهي الذي فيه من المعارف الإلهية الدقيقة التي قل من يدركها إلّا من ألهمه الله تعالی من فيضه الأقدس، وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالی.

قوله تعالى: «وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَليم»

توعيد منه عزّ وجلّ لمن لم يكفوا عن القول بالكفر والتثليث

ص: 79

وتهديد لهم بالعذاب الأليم، وهو ظاهر إلّا أن الكلام في أن التهديد عام لكافة الذين أشركوا بالله من النصارى وقالوا بالتثليث أو خاص ببعضهم كما هو مفاد (من) التبعيضية، والظاهر أن القول بالتثليث لم يكن صادراً عن جميع النصارى، فإن بعضهم كان على التوحيد ولم يقل في المسيح إلّا كونه عبداً لله تعالى ورسوله الذي أرسله للناس، أو أن القول بالتثليث لم يكن عند بعضهم عن اعتقاد بل كان لأجلّ التشريف ورفع مقام الأبوة والنبوة، ولذا كانوا يرجعون عنها إذا عرفوا أن التشريف في غير هذه العقيدة، وكيف كان فالمعنى لئن لم ينته النصارى عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم وهم القائلون بالتثليث عذاب أليم وقد نسب القول إلى الجميع باعتبار بعضهم وهو من الأساليب المعروفة المتكررة في القرآن الكريم، وقد ذكروا في المقام بعض الأمور في (من) وغيرها مما لم يقم عليها الدليل، أعرضنا عن ذكرها فراجع.

قوله تعالى: «أَ فَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ».

تقرير وتوبيخ ويمكن أن يكون الاستفهام للتعجيب من حالهم وإصرارهم على التثليث مع وضوح بطلأنّه وما جاءتهم البينات والنذر.

قوله تعالى: «وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحيمٌ».

تحضيض للتوبة والاستغفار، فإن رحمته واسعة، يغفر لهم ويمنحهم من فضله العميم إن تابوا إلى الله ورجعوا عن قولهم بالتثليث.

ص: 80

قوله تعالى: «مَا الْمَسيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلّا رَسُولٌ»

جملة استئنافية مسوقة لبيان الحق، وبرهان لبطلان التثليث وكون المسيح رباً وإلهاً، وهو يتضمن أموراً ثلاثة جميعها تدلّ على نفي الألوهية بجميع مراتبها عنه (عليه السّلام)، فقد ذكر عزّ وجلّ.

أولا: ما امتاز به (صلوات الله عليه) من الصفات الكمالية، فصار من أفضل أفراد الجنس، ثم ذكر.

ثانيا: الوصف المشترك بينه وبين بني نوعه.

وثالثا: بین حاله وحال أمه (عليه السّلام) وهذه الأمور مما اعترفت به الأناجيل الموجودة عندهم، فتكون حججاً على كونه (عليه السّلام) عبداً رسولاً وتنفي الألوهية عنه وعن أمه (عليه السّلام) على اختلاف مذاهبهم في كيفية اتخاذها إلهاً.

فإن بعضهم يقول بإلوهيتها كالمسيح كما يظهر من قوله تعالى: «أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُوني وَ أُمِّيَ إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّه» (سورة المائدة، الآية 116).

أو كانوا يقدسونها تقديس خضوع لم يكن لبشر مثلها، كما هو المنسوب إلى أهل الكتاب من أنّهم اتخذوا أحبارهم ورهبأنّهم أرباباً من دون الله، وكيف كان فالآية الشريفة تدلّ على أن المسيح بن مریم قد حضي من أفضل الكمالات وهي الرسالة وكونه مبعوثاً من الله فهو مقصور عليها لا يتخطاها إلى ما تزعم النصارى فيه إذ كيف يمكن أن يكون الرسول بمنزلة المرسل في الألوهية وإلّا بطلت

ص: 81

الرسالة، وها مما لا تقبله النصارى فأنّهم يعتقدون برسالته كما عرفت.

قوله تعالى: «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُل»

برهان آخر وهو أن المسيح لم يكن بدعاً عن سائر الرسل الذين خلوا من قبله فكلهم في عالم الإمكان واحد كانوا بشراً منحهم الله تعالى صفة الرسالة وبعثوا إلى أقوامهم ثم أدركهم الموت فالآية الشريفة تؤكد على كون المسيح بشراً يجوز عليه الحياة والموت كما جاء على سائر الرسل من قبله.

قوله تعالى: «وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ»

برهان ثالث يدلّ على أنّهما اشتملا على أمر ينافي الألوهية، فإن أمه (سلام الله عليها) كانت تصدق بكلمات الله وآياته وقد نزهت عن التعليق بغير الله وبالغت في التصديق به عزّ وجلّ كما قال تعالى «وَصَدَّقَت بِكَلِماتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ» وبلغت مرتبة الصديقين، وهي وابنها كانا يأكلان الطعام بمقتضى الحاجة والافتقار وإن المسيح عبد ورسول رب العالمين، وهذه كلها تدلّ على نفي الألوهية بجميع مراتبها عنهما (عليهما السّلام) التي تقوم بالوجود وعدم الافتقار بوجه من الوجوه. وإنّما ذكر عزّ وجلّ أكل الطعام وما يستتبعه من اللوازم البيان صفة الحاجة والافتقار التي تلازم جميع المخلوقات وكيف يصير الممكن إلها؟!!

قوله تعالى: «انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ»

ص: 82

خطاب لأشرف مخلوقاته وسید أنبيائه (صلوات الله عليهم) ومنه السائر المخاطبين الذين لهم الأهلية تعجباً من حالهم كيف يدعون لهما الربوبية بعدما تبينت لهم الحقيقة. وقامت الدلائل القطعية على بطلان دعوى الألوهية في المسيح وأمه (عليهما السّلام).

قوله تعالى: «ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُون».

مبالغة في التعجب وشدته كيف أنّهم عرفوا الدلائل الواضحة التي لا يعتريها الشك والريب وأنّها بلغت أقصى الغاية في التحقق والأيضاًح.

ثم انظر مدی نکرأنّهم وإعراضهم، فإن ذلك أعجب منهم إذ كيف لا تصل إليها عقولهم وإدراكهم مع طول المدة وامتداد الآيات وهم لا يتأثرون بها بل يكذبونها.

قوله تعالى: «قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً».

خطاب آخر واحتجاج جدید بما تمليه فطرتهم في عبادة الرب، فإن عامة الناس إلّا من كان له نوع معرفة في عبادة الله الواحد الأحد إنّما يعبدون الرب ويخضعون له طمعاً في دفع الشر عنهم أو جلب النفع لهم فإذا لم يتمكن المعبود من ذلك فلا وجه لعبادته والاستفهام للإنكار والمعنى أتعبدون شيئاً من دون الله لا يملك القدرة مثل ما يستطيعه الله تعالى من دفع الشر والضر وإيصال الخير والنفع، فإن ما دون الله تعالى لا استطاعة له ولا يملك شيئاً

ص: 83

من ضر ولا نفع، فأنّه مملوك مربوب، وإن كل ما يستطيعه إنّما هو بإقدار من الله تعالى عليه لا من عند نفسه، فكيف يمكن أن يتخذ إلهاً معبوداً، فيجب عبادة الله الواحد القادر ولا يتعدى إلى غيره فهو العالم بكل ما يحتاج إليه العبد والسميع لدعوته والقادر على إيصاله إلى ما يفيده، والآية الشريفة تتضمن احتجاجاً آخر على من اتخذ إلهاً من دون الله تعالى، وأنّه يشترك مع الحجج المتقدّمة في أنّها من برهان الإمكان والاحتياج على نفي ألوهية غير الله تعالی ولكنها تمتاز عن أخوأنّها بأمرين:

أحدهما: أنّها عامة تشمل جميع ما يعبد من دون الله سواء كان من البشر أم من الأوثان والأصنام كما هو ظاهر كلمة (ما) التي تشمل الجميع.

والثاني: أنّها تشتمل على برهان الإمكان الأشرف الذي هو من البراهين القويمة على وحدانية الله تعالى ونفي الشريك عنه عزّ وجلّ، وقد ذكره الحكماء المتألهون والفلاسفة الشامخون في كتبهم وخلاصته إن كل ما يمكن أن يتصور من الكمالات من صفات الجمال، أو السلوب من صفات الجلال لا بد أن يكون متحققاً في الإله المعبود وإلّا لم يكن واجباً بعد تطرق النقص إليه وهو ينحصر في واجب الوجود وهو الله تعالى، وما سواه من دون الله يستحيل أن يكون إلهاً معبوداً. وحينئذٍ يكون الضر والنفع إمّا من باب المثال الصفات الجلال والجمال وإنّما ذكراً لأجلّ أهميتهما عند عامة

ص: 84

الناس، أو أنّهما أول ما تدعو الفطرة إليه في عبادة الإله، أو بحسب وصول غاية مداركم إلى هذين الأمرين. أو لأجلّ أنّهما بالتحليل العقلي يرجعان إلى صفات الجلال وصفات الجمال، كما عرفت.

قوله تعالى: «وَ اللَّهُ هُوَ السَّميعُ الْعَليم».

أي أتشركون بالله والحال أنّه هو المحيط بكم إحاطة تامة فهو السميع لأقوالكم المجيب لدعواتكم، العليم بحاجاتكم وسائر أحوالكم فيعلم ما أنتم عليه من الأقوال الباطلة والعقائد الزائفة، وهذه الآية الشريفة بانضمام صدرها تدلّ على ما ذكرناه من قاعدة الإمكان الأشرف التي استدلّ بها على إثبات واجب الوجود المتصف بجميع صفات الكمال والمنزل عن السلوب وجميع النقائص، وإنّما ذكر هاتين الصفتين (السَّمِيعُ العَلِيمُ) لملازمتهما الصفات الكمال فأنّهما تستلزمان الحياة والقدرة والربوبية والقيومية والإرادة وغيرها، وفي إثباتهما له عزّ وجلّ يستلزم إثبات النقص والعجز لغيره ولا يصح عبادة العاجز.

قوله تعالى: «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا في دينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ».

خطاب آخر يبين سبب انحرافهم عن الحق بعد بيان الحجج القويمة والبراهين الدامغة على نفي ألوهية المسيح (عليه السّلام) وغيره ممن يعبد من دون الله، والخطاب لأهل الكتاب لأنّهم المبتلون بالغلو

ص: 85

على أنحاء مختلفة وخاصة النصارى منهم فيعمل الجميع الذين غلوا في أصول دينهم وفروعه.

إمّا الأول فقد كان له وجوه مختلفة؛ فتارة يقولون بأن بعض الأنبياء أبناء الله تعالى كما حکی تبارك وتعالى عنهم «وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ»(سورة التوبة، الآية 30).

وأخرى يعتبرون المسيح إلهاً كما حكى عزّ وجلّ عن النصارى في ما سبق من الآية «لَقَدْ كَفَرَ الَّذينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسيحُ ابْنُ مَرْيَمَ».

وثالثه قالوا إن الله ثالث ثلاثة كما في قوله تعالى: «لَقَدْ كَفَرَ الَّذينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ».

ورابعه اتخذوا أحبارهم ورهبأنّهم أرباباً من دون الله يعتقدون فيهم القداسة والنزاهة ما لم يعتقدوا في غيرهم من البشر كما في قوله تعالى: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبأنّهمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ الْمَسيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ ما أُمِرُوا إلّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إلّا هُوَ سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ» (سورة التوبة، الآية 31).

وخامسه الغلو في اتهام أنبياء الله، ونكران الجميل الذي أسدوه إلى أممهم كما اتهمت اليهود المسيح (عليه السّلام) بأنّه ولد غير شرعي

ص: 86

وسادسه الغلو في جعل أنفسهم أبناء الله تعالى كما حکی عزّ وجلّ عنهم «وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ» (سورة المائدة، الآية 18).

وإمّا الغلو في فروع الدين فأنّه يتمثل في تحريف الكتب الإلهية لفظاً ومعنيً وإدخال ما ليس من الدين في الدين مما لم يأذن به الله عزّ وجلّ كما حکی عنهم في مواضع مختلفة من القرآن الكريم، ومنها إطلاق الأب والابن على الله عزّ وجلّ الممنوع شرعاً ولأنّهما مخلوقة.

ومادة (الغلو) تدلّ على التجاوز عن الحد سواء كان في الدين أو القدرة والمنزلة أو في الماء إذا طفح والغضب. ولا يكون الغلو إلّا بغير الحق، فيكون القيد في قوله تعالى (بغير الحق) للتأكيد وتذكير لازم المعنى لئلا يذهل عنه السامع، كما في قوله تعالی «وَقَتلَهُمُ الأَنبِياءَ بِغَيرِ حَقٍّ» وما ذكر بعض المفسرين من أن الغلو على قسمين غلو بحق وبغير حق و ضرب المثال للأول بالتعمق في المباحث الكلامية فيكون الوصف للتقيد.

كل ذلك مما لا وجه له بل خلاف استعمال اللفظ ولا يسمّى الغور في المسائل الكلامية غلواً إذا لم يكن منهياً عنه.

قوله تعالى: «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا في دينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثيراً».

الأهواء جمع هوي وهو الباطل الموافق للنفس وسمي به لأنّه

ص: 87

يهوي بصاحبه إلى النار وإنّما ورد بلفظ الجمع تنبيهاً على أن لكل واحد هوى غير هوى الآخر أو باعتبار كثرة الأباطيل التي عمموها بين الناس وأضلوهم بها. ثم أنّه بعد أن نهاهم عزّ وجلّ عن الغلو في الدين بجميع مظاهره ووجوهه وأنّه غير حق ويجب الاجتناب عنه، نهى عزّ وجلّ في هذه الآية الكريمة عن إتباع الأقوام الذين كانوا السبب في إدخال الغلو في الدين وهم الذين اتخذوهم أرباباً من دون الله واتبعوهم في أمور دينهم وأطاعوهم في آرائهم وبدعهم التي لم ينزل بها الله من سلطان، فهم الضالون والمضلون لغيرهم، فإن العقل لم يأذن لأحد أن يتبع غيره في أمور دينه بالتي لم يشرعها الله عزّ وجلّ لهم إلّا إذا ورد الإذن من صاحب الشرع في الإتباع بحدوده وقيوده المعلومة.

ومما ذكرنا يعلم أن النهي عام يشمل جميع أهل الكتاب الحاضرين منهم وقت الخطاب وغيرهم، كما يشمل عباد الأصنام والأوثان أيضاً.

قوله تعالى: «وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبيل».

أي أن الجميع من التابعين والمتبوعین ضلوا عن المحجة البيضاء والطريق المستقيم، وخرجوا عن طاعة رب العالمين، وكان هذا الضلال حصيلة ضلالهم وإضلالهم، وتشتمل هذه الآية جميع صور الضلال ومنها إنكارهم لنوبة خاتم الأنبياء وتكذيبهم لدينه وابتعادهم عن الحق، فتكون الآية الشريفة تأكيداً لضلالة الجميع

ص: 88

وتعميماً لجميع صوره ووجوهه وبياناً بأن الذي هم عليه ليس من سواء السبيل الذي أمر الله تعالى عباده بإتباعه.

ص: 89

بحوث المقام

بحث أدبي

قوله تعالى: «وَقَالَ المَسِيحُ» حال من فاعل (قالوا) بتقدير قد لمزيد التقبيح.

وإمّا قوله تعالى «فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّة»، أي المنع من دخولها بقهر إلهي نتيجة أفعالهم وأقوالهم وأصل الحرام المنع، فلا تكون من المجاز أو الاستعارة كما زعمه بعض المفسرين متوهماً أنّه بمعنى الحرمة التكليفية ولا تكليف ثمة بل استعمل الحرام في معناه الحقيقي وهو المنع.

وأفراد الضمائر في «حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ» و «مَأوَاهُ» باعتبار لفظ (من) في «مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ» والجمع في ما للظالمين من أنصار باعتبار معنی (من).

و «ثَالِثُ ثلثة» لا يكون إلّا مضافاً كما في رابع أربعة ونحوه، وأجاز النصب بعض القراء وعلماء النحو.

ص: 90

وإله في قوله تعالى: «وَ ما مِنْ إِلهٍ إلّا إِلهٌ واحِدٌ» رفع على البدل من إله على الموضع. و(من) لتأكيد الاستغراق والتعميم.

وقال الكسائي يجوز إتباعه على اللفظ فيجر، وهو لا يجيز زيادة (من) والحق عدم الزيادة كما ذكرنا مکرراً.

وقد تقدّم في التفسير ما يتعلق بهذه الجملة المباركة وقوله تعالى: «لَيَمَسَّنَّ الَّذينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَليم» قيل أنّه جواب قسم محذوف سادّ مسدّ جواب الشرط، والأكثر مجيء اللازم الموطئة لجواب القسم المحذوف، وقد تحذف اللام والتقدير لئن لم ينتهوا... .

وما في قوله تعالى: «عَمَّا يَقُولُونَ» موصولة وحذف الضمير العائد.

وإلغاء في «أَفَلَا يَتُوبُونَ» للعطف على مقدر يقتضيه المقام حجزت بین همزة الاستفهام ولا النافية هذه، والكلمة تفيد الحض والحث وجملة «وَاللهُ غَفُورٌ رَحِیمٌ» في موضع الحال وهي مؤكدة.

و(صديقة) للمبالغة واختلفوا في أنّها من الثلاثي المجرد نحو سكير من سكر، وقيل: أنّها من صدق مضاعفاً.

و(كيف) في قوله تعالى: «اُنظُر كَيفُ» معمول لنبين الجملة في موضع النصب. و(ثم) لإظهار ما بين العجبين من التفاوت أو للتراخي بين العجبين والمراد بيان استمرار زمان بيان الآيات وامتداده أي أنّهم مع طول الزمان لا يتأثرون.

ص: 91

و(ما) في قوله تعالى: «قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ» عام يشمل المسيح والأوثان والأصنام وكل ما عبد من دون الله تعالى إمّا لأن هذه الحجة أيضاً تقام على الوثنيين وعبدة الأصنام التي لا شعور لها ولا دخل للمسيح (عليه السّلام) الذي هو من أولي العقل في تمامية الحجة، أو لأن كل محدث من حيث ذاته إنّما يدخل في ما لا يشعر، أو لبيان أن المسيح (عليه السّلام) من دون مدد إلهي يكون من هذا الجنس.

و(غير الحق) منصوب على أنّه صفة مصدر محذوف أي غلو غير الحق. وذكرنا ما يتعلق بالتقييد في التفسير، فراجع.

وقيل: أنّه منصور على الاستثناء المتصل أو المنفصل ولكنه تبعيد للمسافة.

بحث دلالي

تدلّ الآيات الشريفة على أمور:

الأول: يدلّ قوله تعالى: «لَقَدْ كَفَرَ الَّذينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسيحُ ابْنُ مَرْيَم» على أن الذين قالوا بهذه المقالة الباطلة واعتقدوا بهذه العقيدة الزائفة هم من الكفار الذين أنكروا الألوهية رأساً فلا ينفعهم الانتساب إلى النصرانية وكونهم أهل الكتاب، فإن جعل المسيح إلهاً أخرجهم عن ربقة أهل الإيمان وأدرجهم في جماعة الكافرين وإن كان لهم نبي مرسل وكتاب إلهي، وقد تقدّم في الآيات السابقة أقسام الكفر.

ص: 92

نعم إن مجرد انتسابهم إلى كتاب إلهي وكونهم أهل الكتاب في القرآن الكريم أوجب ترتب بعض الأحكام الشرعية عليهم فاختلفوا عن المشركين من عبدة الأصنام والأوثان كما هو مذكور في الكتب الفقهية، وذكرنا بعضاً منها في سورة النساء وراجع كتابنا مهذب الأحكام.

الثاني: يستفاد من قول المسيح «يا بَني إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ» أن القول بإلوهيته كان في حياته (صلوات الله عليه) وأنكرها أشد إنكار واحتج عليهم بأمور.

أحدها: أن الإله هو الله وحده دون غيره والعبادة إنّما تكون له.

وثانيها: إن الإله الذي لا بد من عبادته إنّما له من الصفات العليا ما لم تكن في غيره، فهو الرب الذي خلق العباد وأحاط بهم إحاطة تامة وهو ينحصر في الله رب العباد جميعهم المسيح وغيرهم، فإن في الربوبية العظمى تظهر قهاریته وكبريائه وعطفه ورحمته وعلمه وإرادته وحياته فهو الرب العظيم الذي خلقهم وأفاض عليهم من نعمائه وآلائه وبعث فيهم أنبيائه ورسله ومنهم المسيح المبعوث إليهم المربرب له عزّ وجلّ فلا يعقل أن يكون إلهاً.

ثالثها: إن المسيح لا يقدر أن يدخلهم الجنة بعد أن منع الله دخولهم جنته ودار کرامته، وكيف يمكن أن يعبد المسيح الذي هو عاجز عن إدخالهم الجنة إذ لم يأذن له الله تعالی.

ص: 93

رابعها: إن المسيح لا يمكن أن يصرف عنهم العذاب فلا يدخلون الجنة إذا استحقوا العذاب فقد انتفت عنه أعظم صفة من صفات الله تعالى وهي القدرة الكاملة، وهو لا يملك لهم الضرر والنفع ولا يعقل أن يجعل مثل ذلك إلهاً يعبد من دون الله وهذا أمر فطري كما سيأتي.

وخامسها: عن الذين قالوا بأن الله هو المسيح من الظالمين وما لهم من أنصار ينصرونهم أو لم يأذن الله تعالى للمسيح أن ينصرهم من عذاب الله، فإذا لم يقدر المسيح الذي اعتقدوا فيه الألوهية نصرتهم فغيره يكون بالأولى.

الثالث: يدلّ قوله تعالى: «لَقَدْ كَفَرَ الَّذينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَة» على أن القول بالثليث والتشريك بالله العظيم مثل القول بأن المسيح هو الله كفر، وظاهر الآية أن هذه المقالة حدثت بعد رفع المسيح علي وغيابه عنهم أحدثه علماؤهم لأغراض خاصة معلومة ذكر بعضها القرآن الكريم وقد تقدّم البحث عن هذه العقيدة في سورة النساء، فراجع.

وكيف كان فإن الاحتجاج عليهم وردها إنّما كان من الله تعالی إلّا من المسيح نفسه مثل ما تقدّم في قولهم بأن المسيح هو الله - تعالى الله عما يقولون علوا كبيرة-.

الرابع: يدلّ قوله تعالى «وَ ما مِنْ إِلهٍ إلّا إِلهٌ واحِدٌ» على الوحدانية العظمى التي هي من أهم الأغراض التي بعثت الأنبياء

ص: 94

والمرسلين لأجلّ بيأنّها وتثبيتها وهي من أقدم العقائد ومتوغلة في القدم توغل الخلق فيه، وقد أودعها الله تعالى في فطرة الخلائق كلها ومرت بمراحل كثيرة ومتعددة، فظهرت تارة وانزوت أخرى لأجلّ شبهات الملحدين وتشکیکات الكافرين حتى وصلت إلى دین الإسلام وشريعة الأنبياء (صلوات الله عليهم أجمعين) فتجلت بأحسن صورها وأبهى معانيها وأدق ما يمكن أن يتصور فهيا وبلغت مبلغا لم يصل إليه الفكر الإنساني على مر العصور فتميزت بعرفان زاخر وعلم باهر، واشتملت الآية الكريمة على هذه الجوهرة الفريدة ومفخرة الكمالات وعنوأنّها بأحسن أسلوب وأتم برهان وهو أسلوب النفي والإثبات الذي هو من أتم الأساليب في إثبات المطلوب ونجاحه مع اشتماله على تأكيد الاستغراق بدخول (من) على النفي وإتيان المستثنى بالتنكير المفيد للتنويع فلو جيء به معرفة لم يدفع به قول النصارى وغيرهم القائلين بالتشريك وإن الذات واحدة في عين أنّها كثيرة متعددة الصفات ولكن الآية تنفي جميع تلك المزاعم وتثبت الذات الواحدة بالوحدة المطلقة التي لا تتألف منه كثرة ولا تقبل التعدد أبداً لا في الذات ولا في الصفات ولا في الفرض والتوهم ولا في الخارج، وهذه هي حقيقة التوحيد في الإسلام التي يلوح إليه الكتاب الإلهي وكلمات الأئمة المعصومين (عليهم السّلام) وسيأتي مزید بیان إن شاء الله تعالی.

الخامس: يدلّ قوله تعالى: «وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُون» على أن ما اشتملت عليه الآية الشريفة من حقيقة التوحيد، وما عرفت

ص: 95

فيها من لطائف المعاني ودقائق الرموز هي آخر المطاف والمنتهی من كل الأقوال، ويجب الانتهاء إليه والوقوف عند حده والتجاوز عنه كفر وليس له عذر بعد ذلك، فإن انتهوا عند هذا الحد وآمنوا به کانوا مؤمنين وإلّا كانت النار جزاؤهم ومأواهم وبئس المصير.

السادس: يدلّ قوله تعالى: «لَيَمَسَّنَّ الَّذينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَليم» على أن القول بالتثليث من الذنب العظيم الذي يوجب هذا النوع من الجزاء هو مس العذاب المؤلم لأبدأنّهم وإدراكهم له جزاء نكرأنّهم للتوحيد بعد إدراكهم له ومعرفتهم به، فينالون بأبدأنّهم ومشاعرهم من أنواع الأذى والآلام.

السابع: يستفاد من قوله تعالى: «أَ فَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ» إن التوبة عن هذا الذنب إنّما تتحقق بالرجوع إلى الله وعبادة الواحد الأحد ونفي الشريك عنه والانقلاع عن ما يقولونه وطلب الغفران منه عزّ وجلّ والله غفور رحيم فلا يكفي مجرد الاستغفار وطلب الخلاص، وفي الآية الشريفة إشعار بإصرارهم على ذلك وعدم الانقلاع من هذا القول.

الثامن: يستفاد من قوله تعالى: «مَا الْمَسيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُل» نفي إلوهية المسيح أولاً وكونه أحد الثلاثة لكونه ابن امرأة فهما ممکنان، ثم أنّه يموت كما مات الرسل من قبله وإن كان قد شرف بصفة الرسالة فكان داعياً إلى من أرسله ولا يخالفه في شيء.

ص: 96

وكل تلك الصفات هي من صفات سائر أفراد البشر ولا يتميز عن غيره إلّا بالرسالة التي هي صفات المخلوقين أيضاً والإله لا يتصف بها. ثم نفي إلوهية مرمي وأنّها أحد الثلاثة لكونها تتصف بصفة الإمكان كما اتصف ابنها بها وأنّهما محتاجان کسائر أفراد جنس الحيوان، ولكنها تتصف بصفة التصديق التي هي من صفات المخلوقين أيضاً فتشرف أحدهما بالرسالة والآخر بصفة التصديق، وهما وإن كانتا من الكمالات لكنهما لا تجعلان المنصف بهما من الآلهة، وإلّا استلزم الخلف كما هو واضح فتعين أن يكون الإله واحداً وهو الله الواحد الأحد، فهذه آیات واضحات لا ريب فيها ولا غموض ولكن العناد واللجاج منهم يمنعهم عن الإذعان لها فكانوا من المكذبين المؤتفكين الذين سينالهم جزاؤهم. وإنّما قدم سبحانه الكمال ما لأفراد جنسهما من نقائص البشرية لئلا توحشهم مفاجأة ذلك.

التاسع: ذكر بعض المفسرين أن المراد من قوله تعالی: «كانا يَأْكُلانِ الطَّعام» المعنى الكنائي وهو قضاء الحاجة لأن من أكل الطعام احتاج إلى النفض، فيكون ذكره أمر ذوقاً في أفواه مدعي إلوهيتهما لما فيه من البشاعة العرفية وليس المقصود سوی الرد على النصارى في اعتقادهم الكريه، ولكن المعنى الذي ذكرناه في التفسير أعم لدلالته على اللازم والملزوم كما عرفت.

العاشر: يستفاد من تكرار الأمر بالنظر في الموردين«انْظُرْ

ص: 97

كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُون» لزوم المراقبة ودوام التفكير في الآء الله تعالى ونعمائه وآياته وقدم الأمر بالنظر في الكمالات ولزوم التحلية بها لأهمية الموضوع وأنّه مع الدوام على ما هم عليه ينتفي موضوع النظر الثاني الذي هو أمر بالتخلية من الرذائل فمع بقائها في النفس والوصول إلى درجة العناد واللجاج لا يصير مؤهلاً لتلقي الفيض والنظر في الآيات البينات.

الحادي عشر: يستفاد من قوله تعالى: «قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً» إن الحجة لا بد أن تكون مما يدركه الفهم المتعارف والعقل البسيط الساذج فإن الخطاب في الآية الكريمة مع الفطرة في هذا الأمر المهم أن أول ما يدركه الإنسان في اتخاذ الرب لعبادته هو دفع الشر والضر عنه وجلب النفع إليه، وهذا إنّما يملکه الله دون غيره المملوكين الذين يفقد فيهم ذلك وفاقد الشيء لا يعطي، فيجب أن يرفض عبادة غير الله تعالی. وإنّما قدم عزّ وجلّ الضر على النفع جرياً على الطبع لأن الإنسان بحسب طبعه إنّما يلتجئ في مقام الضر وفقدان النعم إلى الرب اليدفع عنه ذلك. وإمّا إذا كانت النعم موجودة عنده وقد تلهى بها ولم يجد في نفسه ألم فراقها فلا يلتفت إليه، فيكون مس الضر أبعث للإنسان إلى الخضوع للرب وعبادته من وجدان النفع كما بينه عزّ وجلّ في غير هذا الموضع، قال تعالى: «وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُورا» (سورة الفرقان، الآية 3). وبين

ص: 98

ذلك بوضوح في قوله تعالى: «وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجانِبِهِ وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً» (سورة الإسراء، الآية 83).

الثاني عشر: يستفاد من قوله تعالى: «يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا في دينِكُمْ غَيْرَ الْحَق» أن الغلو في الدين لا يكون حقاً أبداً، وأنّه من الضلال والخروج عن سواء السبيل الذي جعل عزّ وجلّ دينه القيم منه.

الثالث عشر: يستفاد من ذكر كلمة (ما) في قوله تعالی: «قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ». إن ما سوى الله تعالی من دون فيضه ونعمه من الجماد الذي لا يعقل، فإن من كان له من الشعور والعقل لا يملكهما من عند نفسه كسائر ما ينسب إليه من شؤون وجوده، قال تعالى «إِنَّ الَّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ * أَ لَهُمْ أَرْجلّ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كيدُونِ فَلا تُنْظِرُون» (سورة الأعراف، الآية 195).

بحث روائي

العياشي عن زرارة قال: كتبت إلى أبي عبد الله (عليه السّلام) مع بعض أصحابنا في ما يروي عن النبي (صلّی الله عليه وآله وسلّم) أنّه مَن أَشرَكَ بِاللهِ فَقَد وَجَبَت لَهُ النَّارُ، وَمَن لَم يُشرِك بِاللهِ فَقَد وَجَبَت لَهُ الجَنَّةُ؟ قال (عليه السّلام): «إِنَّ مَن أَشرَكَ بِاللهِ فَهَذَا الشِّركُ البَيِّنُ وَهُوَ قَولُ اللهِ «مَنْ

ص: 99

يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» وإمّا قوله: من لم يشرك بالله فقد وجبت له الجنة، فقال أبو عبد الله (عليه السّلام): ههنا النظر هو من لم يعص الله».

أقول: ما ذكره (صلوات الله عليه) موافق للقواعد العامة والأدلة الكثيرة التي تدلّ على أن دخول الجنة إنّما يكون بالإيمان والعمل الصالح والطاعة وهي إتيان الواجبات وترك المعاصي والمحرمات، وإن مجرد الابتعاد عن الشرك لا يوجب الدخول في الجنة إلّا مع توفر بقية الشروط.

في تفسير القمي عن أبي جعفر الباقر (عليه السّلام): إمّا المَسِيحُ فَعَصَوهُ وَعَظَّمُوهُ فِي أَنفُسِهِم حَتَّى زَعَمُوا أنّه إِلَه ابنُ اللهِ، وَطَائِفَةٌ مِنهُم قَالُوا ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَطَائِفَةٌ مِنهُم قَالُوا هُوَ اللهُ.

أقول: يستفاد من الحديث أن المسيح (عليه السّلام) كان عارفاً ببعض تلك المقالات الباطلة وردعهم عنها فعصوه، وأن تلك إنّما حدث من الغلو فيه (عليه الصّلاة والسّلام) فقدسوه وعظموه حتى انتهى الأمر بهم إلى قول بالتأليه فيه بنحو من الأنحاء.

في العيون عن الرضا (صلوات الله عليه) عن آبائه عن علي (عليه السّلام) في قوله تعالى: «كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ»؛ معناه: أنّهما كانا يتغوطان.

أقول: رواه العياشي مرفوعاً. وتقدّم أنّه من المعنى الكنائي وعرفت الوجه في ذلك.

ص: 100

وفي الاحتجاج عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) في جواب الزنديق في قوله تعالى «كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ» يعني أَنَّ مَن أَكَلَ الطَّعَامَ كَانَ لَهُ ثِقلٌ وَمَن كَانَ لَهُ ثِقلٌ فَهُوَ بَعِيدٌ عَمَّا ادَّعَتهُ النَّصارى لِابنِ مَریَمَ.

أقول: إن ما ذكره (صلوات الله عليه) إنّما هو من لوازم الإمكان والحاجة كما أن التغوط والمعنى الحقيقي للكلمة كلها من ذلك أيضاً أو أن المراد له ثقل خرج عن التجرد ومفارقته للمادة وهو بعيد مما ادعته النصارى لابن مريم من الألوهية.

ص: 101

من أدلة التوحيد

اتفق المتكلمون على عدم المجانسة بين الله تعالى وبين مخلوقاته واستدلّوا عليه بأدلة كثيرة، منها قوله تعالی: «بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَ الأَرضِ» وكما وردت فيه روایات متواترة عن الأئمة الهداة عليهم السّلام)، وهو المستفاد من أقوال أكابر محققي الفلاسفة الإلهيين.

وخلاصة ما ذكروه في ذلك يرجع إلى ما ورد عن علي (عليه السّلام): «بَائِنٌ عَن خَلقِهِ بَينُونَةَ صِفَةٍ لَا بَينُونَةَ عَزلَةٍ»، ولا يصح أن ينسب إليهم القول بالسنخية والمجانسة، فأنّه لا يمكن أن يلتزموا بلوازمها، مع جلالة مقامهم وقد تقدّم بعض الكلام في آخر سورة الحمد.

وعلى هذا فينتفي موضوع الولد له تعالى رأساً، لأنّه مستلزم للسنخية والمجانسة، وبه ممتنعة بالنسبة إليه.

فالآية المباركة تدلّ على امتناع المدعي بوجوه:

والأول: قوله تعالى: «سبحانه» بأنّه دليل إجمالي على تنزهه عن جميع ما لا يليق به، فأنّه أحدي الذات، وأحدي

ص: 102

الصفات، ليس كمثله شيء. كما ورد في سورة الإخلاص، فقد روي أنّه جاء نفر من اليهود إلى نبينا الأعظم؛ وقالوا: «أنسب لنا ربك. فأنزل الله تعالى سورة الإخلاص»..

الثاني: قوله تعالى: «لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ الأَرضِ» فأنّه يدلّ على أن مناط اتخاذ الولد هو الحاجة، وبعد كون ما سواه ملكا له كيف يعقل الحاجة بالنسبة إليه تعالى حتى يتخذ ولداً؟!!

الثالث: قوله تعالى: «کُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ» أي: خاضعون لربوبيته وعظمته، ولا يعقل نسبة الولد إليه مع شهادة ما سواه على تنزيهه، قال تعالى: «وَإِن مِن شَيءٍ إلّا يُسَبِّحُ بِحَمدِهِ» (سورة الإسراء، الآية 44).

الرابع: قوله تعالى: «بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَ الأَرضِ» فهذا دليل تفصيلي على نفي المدعي، بیأنّه: أنّه تعالى مبدع الخلق ومبدؤه بلا سبق مثال ونظير ولا احتیاج إلى روية وتفكير، ولا تعب، ولا لغوب، فهو مستغن عن الغير، فلا يحتاج إلى الولد.

الخامس: قوله تعالى: «إِذا قَضى أَمْراً فَإنّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُون» دليل آخر تفصيلي لنفي الولد شرحه في قوله تعالى: «أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ» (سورة الأنعام، الآية 101)، وذلك لأن الولدية بحسب نظام التكوين تتوقف على صاحبة وجرت سنة الله تعالى في خلقه على هذا النظام، فإذا لم تكن له صاحبة كيف يعقل الولد له عزّ وجلّ، فجميع هذه الآية المباركة متدردة على حسب فهم المخاطبين.

ص: 103

منصب الإمامة والنبوة

تقدّم أن الإمامة هي السلطة الإلهية لتقويم العباد وتنظيم أمورهم الدينية والدنيوية بما يريده الله تعالى، فتكون الإمامة من قسم الهداية الموصلة إلى المطلوب لا مجرد إراءة الطريق، وإلّا لزم الخلف.

والآيات الكثيرة المشتملة على هذا العنوان تشير إلى ذلك، قال تعالى: «وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا» (سورة السجدة، الآية 24)، فذكر الصبر والثبات يشعر بما تحملوا - في إيصال الخلق إلى المطلوب. من المتاعب والبلايا، وكذا قوله تعالى: «وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إيتاءَ الزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدينَ» (سورة الأنبياء، الآية 73)، إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

إن قيل: لو كانت حقيقة الإمامة هي الإيصال إلى المطلوب لا مجرد إراءة الطريق فقد نرى خلافه في الخارج من عدم وصول عامة الناس إلى المطلوب الحقيقي مع تماديهم في غيهم وضلالهم.

يقال: إن الإيصال إلى المطلوب بنحو الاقتضاء لا العلية التامة

ص: 104

المنحصرة، وإلّا لبطل الجزاء، فمهما تخلل الاختبار في البين، يكون الإيصال بنحو الاقتضاء، كما هو معلوم. وسيأتي التفصيل في المباحث الآتية.

ثم إن الإنسان لا بدَّ له من إمام يقتدي به في أفعاله وأعماله، ويدبر له أموره الدينية والدنيوية، ولم يختلف أحد في ذلك، وإنّما الخلاف في أمور أخرى ذكرها العلماء في مبحث الإمامة في الكتب الكلامية والحديثية وغيرهما، حتى ألفوا فيها كتباً ورسائل مستقلة. والمتأمل في المجموع يعترف أن جملة كثيرة منها أقرب إلى الأغراض الجزئية من المباحث العلمية.

وبعد التدبّر في مجموع الآيات المباركة والروايات، يظهر أن الإمامة – كالنبوة-.

فتارة: يبحث فيها عن الإمامة العامة الشاملة لإمامة إبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد (صلّی الله عليه و آله وسلّم).

وأخرى: عن الإمامة الخاصة.

إمّا الأولى، فهي: كالنبوة العامة، فأنّها وإن كانت من جهات التشريع لكن لها دخل في نظام التكوين أيضاً، فإن تكميل النفوس الناقصة بالمعارف الحقة الواقعية من أهم جهات التكوين، ولا يهتم ذلك إلّا بإرسال الرسل وبعث الأنبياء وإنزال التشريعات الإلهية، وجعل التشريع بلا وجود قوة مجرية لغو، وهو قبيح بالنسبة إليه عزّ وجلّ ... .

ص: 105

وإمّا الثانية: فهي المنصوصة من قبل الله تعالى بواسطة النبي (صلّی الله عليه و آله وسلّم)، وتتصف بصفات حميدة راسخة لم تكن في غير ما نص عليه (صلّی الله عليه و آله وسلّم)؟

فالإمامة: هي القوة المجرية لجهات التشريع السماوي، فيجب لطفا عليه تعالى جعل الإمام، وهذه القاعدة تجري في الإمامة الخاصة أيضاً.

ولا يكفي في القوة المجرية مجرد العقل والعقلاء، فأنّه لا بد فيهما من التقرير بالحجة الظاهرة، ومع غلبة النفس الإمّارة والألوهية الشيطانية، كيف يصلح أن يكون العقل والعقلاء قوة مجرية لوحي السماء؟!

ولا يخفى أن ذلك من حكمة نصب الإمام، لا أن يكون من العلة التامة، وإلّا فإن الإمامة شيء واقتضاء الظروف والحالات وسائر الجهات لكونه قوة مجرية لوحي السماء شيء آخر، لا ربط الأحدهما بالآخر.

يضاف إلى ذلك أن التشريع الذي يقتضي سعادة الإنسان والمتكفل لجميع جوانب الحياة الإنسانية في الدنيا والآخرة، لا بد أن يستند إلى الله تعالى رب السموات والأرض، أو عقل من ملکوته الأعلى، وإلّا فلا يكون التشريع جامعة أو نظامة إنسانية، لكثرة ما نراه من اختلاف آراء الناس بالفطرة، وقد قال تعالى:

«وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فيهِنَّ»

ص: 106

سورة المؤمنون، الآية 71)، فإذا كان حدوث التشريع من قبل الله تعالى على ألسنة الأنبياء الحافظين للشريعة والعالمين بها، فالبقاء لا بد أن يكون بالإمامة، لانقطاع النبوة في خاتم الأنبياء (صلّی الله عليه و آله وسلّم).

ومما ذكرنا يظهر: أن هذا الجعل تكويني تشريعي، فتکوینه يكون دخيلاً في تشريعه، وأن تشریعه له دخل في تكوينه.

وأن الإمام يجب أن يكون معصومة كالنبي (صلّی الله عليه و آله وسلّم) وإلّا استلزم الخلف.

ويدلّ عليه ظاهر الآية المباركة: «قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمين»

فما ذكره العلماء في منصبي الإمامة والنبوة من أنّهما منصبان مجعولان من الله تعالى، وأنّه ليس في البشر من يفوقهما في علم التشريع، وأنّهما مرتبطان بعالم الغيب، كل ذلك صحيح ومطابق للقواعد العقلية(1).

ص: 107


1- مواهب الرحمن، ج2، ص20. 22

بحث عقائدي حول المسيح (عليه السّلام)

الآيات المباركة المتقدّمة من جلائل الآيات التي نزلت في شأن المسيح عيسى بن مريم (عليهما السّلام) الذي اختلف فيه اختلافا كبيراً، فقد أبغضته اليهود حتى رموه بما لا يليق بشأنه، وقدسته النصاری حتى ادعوا فيه الألوهية وأنّه ابن الله وهو ثالث ثلاثة، وكلا الفريقين غلوا في دينهم كما حكي عزّ وجلّ عنهما في القرآن الكريم، لا سیما هذه السورة المباركة، وأمرهم باتباع الحق في عقائدهم وأقوالهم ونهاهم عن الغلو في الدين؛ لأن الإيمان بأنبياء الله تعالی - بكونهم رسلا مبشرين ومنذرين، وأنّهم عباد مکرمون خصهم الله عزّ وجلّ بالفيض - أحد أركان الإيمان المطلوب، قال تعالى: «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ» (سورة البقرة، الآية: 285).

وقد أشار سبحانه وتعالى في هذه السورة إلى بعض ما اعتقده النصارى في المسيح، وخص بالذكر مسألة الصلب والفداء وبين الحق فيها، ومسألة ألوهيته وأنّه ثالث ثلاثة ونهاهم عن القول فيها

ص: 108

فضلا عن الاعتقاد بها، وإنّما خصهما بالذكر لأهميتهما في دينهم، وأثرهما العميق في عقيدتهم، ولدلالتهما على بعدهم عن الحقيقة والواقع، وشهادتهما على تحريفهم لكتبهم المقدسة، ونهاهم عن قول ما يوجب الانحراف عن الواقع والإعراض عن ما أنزله الله تعالى. وقد ذكرنا أن أحد المباحث السابقة بعض ما يتعلق بمسألة الصلب والفداء، وتعرضنا لما ذكره المسيحيون فيها وناقشناهم فيها فراجع.

وفي هذا البحث نذكر ما يتعلق بمسألة ألوهية المسيح عيسى بن مريم (عليهما السّلام) التي لا تقل أهمية عن سابقتها إن لم تكن بأعظم منها؛ لأنّها تمس عقيدة التوحيد التي بنيت عليها الأديان الإلهية، ولأثرها الخطير في الأحكام الشرعية، ولتأثيرها في النفوس وإطفاء نور الفطرة فيها.

وقد عالج جلّ شأنه هذه المسألة في آيات محكمة ذات أسلوب بلاغي رائع، فذكر خلق عیسی بن مریم، ورسالته، وأنّه عبد من عباد الله تعالى لا يستنكف عن عبادته، وبين الحق فيها وأقام الحجج والبراهين عليه، ونهاهم عن القول بالتثليث، فأثبت عقيدة: «لا إله إلّا الله» التي لم ينفك القرآن الكريم عن الدعوة إليها.

ونذكر في هذه البحث الألوهية في القرآن الكريم وما ذكره عزّ وجلّ في شأن هذا النبي العظيم الذي يعد معجزة إلهية في جميع

ص: 109

أحواله من خلقه وولادته ومبعثه ورفعه إلى السماء، ثم نذكر عقيدة المسيحيين وما يتعلق بها، كما نبين وجه البطلان فيها، ثم نذكر مآخذ هذه العقيدة والسبب في دخولها في المسيحيين إن شاء الله تعالی.

ص: 110

الإله في القرآن الكريم

يعد القرآن المجيد من أمتن الكتب الإلهية وأعظمها في معالجة مسألة الألوهية وبيان خصائصها، فقد أثبت الإله الواحد الأحد وأشاد بعقيدة التوحيد وأسّس أُسسها وقواعدها، وأقام دعائم الوحدانية واستدلّ عليها بأدلة وبراهين متعددة، الفلسفية منها والوجدانية والطبيعية وغيرها، حتى جعلها أقرب الأمور إلى النفوس وأعذبها إليها، ورفض الشرك بجميع أشكاله وعذه من الظلم العظيم الذي لا يغفر، قال تعالى: «وَإِنَّ اللهَ لَا يَغفِرُ أَن يُشرِكَ بِهِ» واعتبره أمراً مرفوضاً بالفطرة، وله آثار وضعية جسيمة على الإنسان وبقية المخلوقات، وحاج المشركين بجميع أصنافهم.

وإمّا التوحيد، فقد أودعه في الفطرة الإنسانية وأخذ العهد من بني آدم على تثبيته اعتقاداً وعملاً، فصار أمراً فطرياً لا يقبل الإنكار، ولا محالة يلجأ إليه الإنسان عندما تشتد به الحاجة وتنجلي عنه ظلمة الجهل مهما كابر وعاند، وعظم القرآن الكريم أمر التوحيد ببيان جميع جوانبه، فأقام أركأنّه بإثبات الخالق العظيم وبيان صفاته عزّ وجلّ، وذكر قواعدها وبين خصوصياتها وقسّمها

ص: 111

إلى صفات کمالية يتصف بها الباري تعالى، وصفات جلالية منزّه عنها سبحانه وتعالى، وذكر من أفعاله وآثاره وإبداعه في خلقه ما يدلّ على علمه الأتم وحكمته المتعالية وقدرته التامة وقهاریته العظمی وقيوميته الكاملة، بحيث لا يدع مجإلّا للشك في وجوده ووحدانيته واستجماعه لجميع الصفات العليا الجمالية، فليس كمثله شيء، وبرّء ساحته عن مجانسة مخلوقاته مهما بلغت من الكمال؛ لأنّها خلقه عزّ وجلّ يدبر أمرها - إيجاداً وإبقاءً وإعدإمّا - إلّا أن مسألة الألوهية مع كثرة اهتمام القرآن بها وتبسيطها إلى أقرب الحدود، لكنها لا تخلو من تعقيدات؛ لأنّها من الأمور الغيبية التي يتطرق إليها الظنون والأوهام، فلم تنج من شبهات الملحدين وزيغ المبطلين، فلا بدّ للمؤمن الذي يعتقد بهذه المسألة التي لها الأثر الكبير في حياته الدنيويّة والأخرويّة، كما يجب على المفكر الباحث أن يستقي المعلومات فيها من عين صافية بعيدة عن كلّ زیغ وضلال.

وقد حدّد القرآن الكريم مصادرها، وهي إمّا الوحي من الله تعالى العالم بجميع الحقائق، وهذا خاص بمن اصطفاهم الله تعالی وليس لغيرهم نصيب منه، أو يكون رسولاً اصطفاه الله تعالی بالرسالة، وأفاض عليه من أنواع العلوم والمعارف الإلهية وحلة الإمّانة الكبرى لتبليغ شرائعه وتعليماته وتوجيهاته إلى الناس، وأيده بالمعجزات وخوارق العادات ما تثبت دعاویه، وهذا يختصّ بالحاضرين في عصره، فلا يشمل الغائبين المعدومين. أو يكون

ص: 112

كتاباً سماوياً احتوى جميع ما يوجب رقي الإنسان ورشده إلى كماله وسعادته في الدارين، ويشترط فيه أن يكون مأموناً من التحريف، وهو ينحصر بالقرآن الكريم الذي اتفقت الأمة على سلامته وأمنه من کل تحريف وبطلان، فكان معجزة إلهية من جميع جوانبه كما هو معلوم.

وإمّا سائر الكتب الإلهية، فقد ثبت تحريفها بأدلة كثيرة مذكورة في محلها إلّا أن القرآن الكريم لما لم يمكن فهم مقاصده بسهولة، فلا بد أن يرجع في تفسيره وبيان مقاصده إلى من نزل القرآن المجيد عليه الذي علمه الله تعالى جميع رموزه وعلمه من أسرار التأويل ما يزيل كل شك وريب. هذا موجز الكلام في هذه المسألة المهمة العظيمة وللتفصيل موضع آخر.

ومن جميع ما ذكرناه يعرف أن الإله في القرآن الكريم لم يكن أمراً وهمياً كما يدّعيه بعض، ولا أمراً نسبياً كما يدّعيه آخرون، بل هو حقيقة واقعية، فهو الإله الواحد الأحد الذي عرّفه القرآن الكريم بأمور أربعة لا يمكن أن تتحقّق في غيره.

الأول: أن يكون الإله واحداً أحداً لا مثل له ولا شبيه ولا ندّ له، فلو كان غير ذلك لظهر الفساد في الخليقة، قال تعالى: «لَوْ كانَ فيهِما آلِهَةٌ إلّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُون» (سورة الأنبياء، الآية: 22)، ولبان الاحتياج في الخالق، وهو منفي بالوجدان.

ص: 113

الثاني: أن يكون مستحقاً للعبودية؛ لكونه الخالق العظيم العليم الحكيم الغني الذي لا يستغني عنه غيره وهو مستغن عنه، قال تعالى: «لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُون» (سورة الأنبياء، الآية: 23)، وقد ذكرنا ما يتعلق به في سورة الفاتحة فراجع.

الثالث: أن يكون مستجمعاً لجميع صفات الكمال - كالعلم والحياة والقدرة ونحوها وإلّا استلزم الخلف، وتقدّم في آية الكرسي ۔ 255 من سورة البقرة ما يتعلق بذلك.

الرابع: أن يكون منزّهاً عن جميع صفات الجلال - كالزمان والمكان والجسمية - وإلّا احتاج إلى غيره، وهو ينافي الألوهية.

وفي الآيات التي تقدّم تفسيرها يبين عزّ وجلّ جملة من الصفات الكمالية والجمالية.

منها: أنّه إله واحد؛ لأنّه الله المستجمع لجميع الصفات الكمالية، قال تعالى: «إنّما اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ»، فليس له شريك ولا نظير ولا ولد.

ومنها: أنّه مال لما في السموات وما في الأرض - خلقاً وتدبيراً وتصريفاً وإبقاءً وإفناءً. فهو الغني عن خلقه وهم محتاجون إليه ولا يحتاج إلى معين أو ولد، ويدلّ على ذلك آيات كثيرة أيضاً.

ومنها: أنّه الولي على خلقه يدبّر شؤونهم والقيّم عليهم؛ فإذا كان الله تعالی واجداً لهذه الصفات الكريمة فلا يحتاج إلى ولد،

ص: 114

وهو منزّه عن أن يكون له ولد؛ لدلالته على احتياجه واتصافه بصفات المخلوقين، ولا يعقل الإله أن يكون كذلك، وقد تقدّم في التفسير ما يتعلق بذلك أيضاً فراجع، فإذا ادّعى أحد الألوهية، وإمّا رفع المخلوق إلى مقام الخالق الإله، وهذا أيضاً باطل.

ص: 115

المسيح في القرآن الكريم

عظّم القرآن المجيد الإنسان وأسمى شأنه وميّزه من سائر مخلوقاته وأعزّ به، فقال جلّ شأنه: «فَتَبَارَكَ اللهُ أَحسَنَ الخَالِقِينَ» (سورة المؤمنون، الآية: 14) ولم يعظم سائر مخلوقاته بمثل ما عظم هذا المخلوق العجيب الذي منحه العقل والإرادة، وأودع فيه الإمّانة الكبرى التي أبت السماوات والأرض أن يحملنها وأشفقن منها فحملها الإنسان، أنّه كان ظلوماً جهولاً.

وقد خصّ بعض أفراد الإنسان بالفيض وجعلهم مورد الاستفاضة، وهم الأنبياء الذين أرسلهم الله تعالی لهداية البشر، وأنزل إليهم الكتاب وفيه تبيان كلّ شيء، واصطفى من الأنبياء بعضاً فخصّهم ببعض الفيوضات الخاصة، منهم عيسى ابن مريم الذي يعدّ معجزة إلهية في خلقه وحياته ورفعه إلى السماء، فقد خلقه عزّ وجلّ من غير أب وأسباب عادية التي لا بد من توفرها في سائر أفراد الحيوان، فتعلقت الإرادة الأزلية أن يخلقه بكلمة (كن) التكوينيّة من غير سبب مادي عادي تعلّقت بمريم العذراء، فولد منها فكان

ص: 116

محتاجاً إليها حين الحمل والولادة والرضاعة والتربية، ثم خصّه بالفيض واصطفاه بالرسالة، فكان رسولاً مبلغاً عن الله تعالی محتاجاً إليه في الفيض وسائر شؤونه، وكان هذا الاصطفاء سبباً في زيادة تعلقه (عليه السّلام) بخالقه العظيم، فصار عبد من عباده المخلصين الذين عرفوا معنى العبودية وأدّوا لوازمها وحقوقها فلم يتخطّوا عن تلك، وإلّا خرجوا عن مورد الفيض وهبطوا عن ذلك المقام السامي، فقال تعالى فيه: «وَ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُوني وَ أُمِّيَ إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لي بِحَقٍّ» (سورة المائدة، الآية: 119)، فهو عبد الله تعالى اصطفاه وجعله مورد الإفاضة بخلقه من غير أب كما اصطفاه بالرسالة، فلم يكن له أن يقول ما ليس له فيه حق، فلم يدع الألوهية لنفسه ولا لأمه الطاهرة التي هي مثله في الخلق والعبودية، وإلّا خرج عن مورد الاصطفاء ولم يف بحقوق العبودية، وهذا هو السبب في تعظيم شأن عيسى ابن مريم في القرآن الكريم.

والآيات الشريفة المتقدّمة تضمنت أموراً عديدة تدلّ على نفي كل ما يدعي فيه من الألوهية وحلول الباري عزّ وجلّ فيه وأنّه ولد الله تعالى، وغير ذلك مما يدعيه النصارى في حق هذا النبي العظيم، فيخرجونه بها من حدود الإنسانية ويجعلونه في مصاف الألوهية، فهي التي يبطلها القرآن الكريم بوجوه عديدة.

منها: أنّه مخلوق مبارك لم يكن قديماً اختص بالفيض فصار

ص: 117

خلقه معجزة إلهية كما عرفت في التفسير، والإله لا يعقل أن يكون مخلوقاً حادثاً كما ثبت في الفلسفة الإلهية.

ومنها: أنّه محدود، فأنّه منسوب إلى امرأة طاهرة هي أمه، فهو محتاج إليها في بعض مراحله، قال تعالى: «إنّما المَسِيحُ عِيسَى ابنُ مَريَمَ»، وتعالى الله أن يكون محدوداً ومحلاً للحوادث كما عرفت.

ومنها: أنّه مرکّب من بدن مثالي خارجي وروح قدسية صارت مورد الفيض، قال تعالى «وَکَلِمَتُهُ أَلقَاهَا إِلَی مَريَمَ وَرُوحٌ مِنهُ» على ما تقدّم في التفسير، والإله منزّه عن التركيب لدلالته على الاحتياج.

ومنها: أنّه رسول الله تعالى تحمّل الإمّانة الكبرى إلى الناس يجب عليه تبليغها إليهم، ولا ريب أن جميع ذلك ينافي الألوهية والولدية لله تعالى عن ذلك علواً كبيراً.

ص: 118

المسيح في عقيدة النصارى

لم يكن المسيح عيسى ابن مریم (عليهما السّلام) فرداً عادياً كسائر الأفراد من بني البشر، فقد خصّه الله تبارك وتعالى بالكرامة بأن

خلقه من غير أب وجعله مورد الفيض القدسي، وأجرى على يديه المعجزات الباهرات، فكانت حياته من حين انعقاد حمله إلى رفعه إلى السماء معجزة إلهية. ولا ريب في ثبوت ما له (عليه السّلام) من الشرف والمكانة السامية عند المسلمين والمسيحيين على حد سواء، فهم جميعاً يحترمونه ويجلّونه ويقدّسونه، إلّا أن مثل هذا الفرد لا يسلم من التقوّل عليه بما هو خارج عن حقيقته، والغلو فيه وإخراجه عن طور الإنسانية والعروج به إلى مقام الألوهية، كما حکی عزّ وجلّ في الآيات الشريفة السابقة، قال تعالى: «يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا في دينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلّا الْحَقَّ» (سورة النساء، الآية: 171)، وقد كان هذا النبي العظيم ملتفتاً إلى هذه الجهة في حياته على الأرض، فكانت أفعاله وأقواله تدلّان على أنّه إنسان ولد من أنثى وهي مريم العذراء، وأنّه يبقى برهة من الزمن على هذه الأرض ثم يموت كما يموت سائر المخلوقات، وأنّه عبد الله تعالى وهو ابن الأرض - كسائر أفراد البشر - وليست سیاحته في

ص: 119

الأرض إلّا لإعلام هذه الجهة، وقد أخذ المواثيق من حوارييه على عدم التقوّل عليه بعد رفعه كما حكى عزّ وجلّ عنه في عدة مواضع من القرآن الكريم، وفي العهد الجديد الكثير من ذلك، وقد كان أتباعه أثناء حياته على الأرض على التوحيد ولم يعتقدوا فيه إلّا ما كان حقاً، وكذلك كانوا بعد رفعه إلى السماء برهة من الزمن حتى دبّ الخلاف فيهم واشتدّ الصراع بينهم في تفسير حياته (عليه السّلام)، فحصلت لهم آراء مع فرقهم المختلفة في شأنه (عليه السّلام) مجمعون على التثليث، فيقولون: إن الله جوهر واحد ثلاثة بالأقانيم: أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم روح القدس، ويجعلون كل أنوم إلهاً، ويعنون بالأقانيم الوجود، والحياة، والعلم، فيريدون من الأب الوجود، ومن الورح الحياة، ومن الابن المسيح.

واختلفوا في تفسير هذه المقالة اختلافاً فاحشاً بعد اتفاقهم على أن الله تعالی جوهر - بمعنى أنّه قائم بنفسه. غير متحيّز، ولا مختص بجهة، ولا مقدّر بقدر، ولا يقبل الحوادث بذاته، ولا يتصور عليه الحدوث والعدم.

ولعل منشأ الاختلاف في المسيح عيسى ابن مريم وادّعاء الألوهية فيه يرجع إلى أمور يعتقدونها فيه (عليه السّلام).

الأول: القول بتجسّد الكلمة، أي: أن الله تعالی تجسّد في المسيح (عليه السّلام)، واختلفوا في كيفيته، فقال بعضهم: إن الكلمة قد تجسدت بمعنى أن الإله - أقنوم الابن ثالث الثالوث - الذي هو واحد

ص: 120

حقيقة، وثلاثة حقيقة قد تجسّد في الأرض وتوشّح الطبيعة البشرية فأخذ جسداً من مريم (عليها السّلام) عليق وبقى أقنوم الأب، وأقنوم الروح القدس في السماء، وبعد ثلاثين سنة انفتحت السماء ونزل أقنوم الروح القدس وحل على أقنوم الابن المتجسّد، وبقي الأب في السماء، وصار أقنوم الابن المتجسّد، وأقنوم الروح القدس الحال عليه في الأرض - إلى آخر ما ذكروه في المقام.

وقال آخرون: باتّحاد الكلمة بجسد المسيح فولدت مريم العذراء (عليها السّلام) إلهاً أزلياً، وانقلبت الكثرة وحدة، فالمسيح ناسوت كلي لا جزئي، وهو قديم أزلي، وهذا القول هو المعروف بينهم باتحاد اللاهوت بالناسوت.

وقال ثالث: بأنّ الاتّحاد كان بمعنى الامتزاج كامتزاج الخمر بالماء.

وقال رابع: بأنّه كان بمعنى الإشراق، أي: أرقت كإشراق الشمس من النور وهو قول بعض حکمائهم.

وقال جمع آخر: بأنّ الاتّحاد لم يبطل الأزلية، فالمسيح إله تام، وإنسان تام، وهما قديم وحادث والاتّحاد غير مبطل لقديم القديم ولا لحدوث الحادث، والقتل وقع على الناسوت دون اللاهوت.

وقال جمع آخر: إن الكلمة انقلبت لحماً ودماً، فصار الإله

ص: 121

هو المسيح، ورووا عن يوحنا أنّه قال في صدر إنجيله: إنّ الكلمة صارت جسداً وحلّت فينا.

وقال جمع منهم: إنّ اللاهوت ظهر بالناسوت بحيث صار هو هو، وذلك كظهور الملك لمريم العذراء (عليها السّلام) المشار إليه في القرآن الكريم: «فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا» (سورة مريم، الآية: 17).

وقال بعضهم: بالتركب، أي: جوهر الإله القديم وجوهر الإنسان المحدث تركباً كتركب النفس الناطقة مع البدن فصار جوهراً واحداً، وهو المسيح وهو الإله، فيقولون: صار الإله إنساناً وإن لم يصر الإنسان إلهاً، وإن مریم ولدت إلهاً والقتل والصلب وقعا على اللاهوت والناسوت جميعاً، إذ لو كان على أحدهما لبطل الاتّحاد.

ومنهم مَن قال: بالاتّحاد بین اللاهوت والناسوت على نحو الظهور، فلم ينتقل من اللاهوت إلى الناسوت شيء ولا حل فيه، وذلك كظهور نقش الطابع على الشمع والصور المرئية في المرآة، فإن القول بهذا النحو من التجسّد ممّا أوجب القول بألوهية المسيح، بلا فرق في القول بين الاتحاد أو الحلول أو التركب، ولشدّة ارتباط بینه (عليه السّلام) وبين مريم العذراء، فقد ادّعى الألوهية فيها، وهذا هو المحكي في القرآن الكريم: «أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُوني وَ أُمِّيَ إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّه» (سورة المائدة، الآية 116)، وكان هذا أصل الأقانيم الثلاثة والقول بالتثليث.

الثاني: من جهة الاختلاف في صفات الباري جلّت عظمته،

ص: 122

فقيل: إن الأقانيم صفات للجوهر القديم وهي الوجود، والعلم، والحياة، وعبروا عن الوجود بالأب، والحياة بروح القدس، والعلم بالكلمة، وهذا القدر من التفسير لا يدلّ على الشرك، وإن كان باطلاً من جهة أخرى كما لا يخفى على الخبير، فإن الصفات مهما کثرت، فأنّها عین ذاته المقدسة، وكذا تفسيره بما ذكروه.

وقيل: إن الأقانيم غير الجوهر القديم، وإن كل واحد منها إله، فصرحوا بالتثليث، فكل واحد إله قدیم حقيقة، وإن الله ثالث ثلاثة تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وهذا يدلّ على الشرك في الذات، وهو باطل كما هو معلوم.

وقيل: إن الله تبارك وتعالى واحد والأقانيم الثلاثة ليست غیر ذاته ولا نفس ذاته، وإن الاتّحاد كان بمعنى الإشراق كما عرفت آنفاً، وهذا باطل ولم يعرف له وجه أبداً.

وقيل: إن الله تعالى وهو الأب، والمسيح كلمة الله تعالی وابنه على طريق الاصطفاء، وهو مخلوق قبل العالم، وهو خالق للأشياء كلها، وهذا يدلّ على الشرك في الفعل وهو باطل أيضاً، كما يدلّ على قدم الحادث وهو فاسد.

والمعروف بينهم أن الله تعالى هو الواحد الأب صانع كل شيء ومالك كل شيء وفاعل ما يرى وما لا يرى، وأن المسيح ابن الله تعالى الواحد بكر الخلائق كلها، الذي ولد من أبيه قبل العوالم كلها وليس بمصنوع، إله حق من إله حق من جوهر أبيه الذي بيده

ص: 123

اتّقنت العوالم وخلق كل شيء، الذي من أجلنا ۔ معاشر الناس - ومن أجلّ خلاصنا نزل من السماء واتحد مع روح القدس ومريم وصار إنساناً وحبلت به وولد من مريم البتول، وهذا القول باطل، الاستلزامه انقلاب الحقائق، وتعدد القدماء، وقدم الحادث.

الثالث: من جهة خلق عیسی (عليه السّلام) من غير أب وصدور المعجزات التي تخرج عن مقدور البشر، فينبغي أن يكون المقدر عليها موصوفاً بالإلهية.

هذه هي عمدة ما يمكن أن يستفاد من أقوالهم المتفرقة وآرائهم المتشتتة في هذه المسألة، وقد خبطوا فيها كثيرة حتى أخرجوها عن حدود الأدلة والبراهين، واستدلّوا عليها بأمور عاطفية وادعاء الرؤية في المقام وغير ذلك ممّا لم يقم عليه برهان، بل ادّعى بعضهم: «بأن ألوهية المسيح فوق المتعقّل، ولكنه معقول»، فإذا لم يكن متعقلاً فكيف يمكن أن يكون معقولا؟! فهل يكون ألوهية الله تعالى التي اتفقوا عليه أمراً غير متعقّل إلّا أن يقال: بأن ألوهية المسيح إنّما تكون كذلك لأنّه إنسان مخلوق حادث ويراد إخراجه عن حدود البشرية والعروج به إلى حدود الإلهية التي عرفت أنّها تختص بالواحد الأحد، ويستحيل أن يصل إليها أحد من المخلوقات.

وكيف كان، فنحن نتعرض في المقام إلى ما يمكن أن نذكره من المناقشات في ما ذكروه إجمالاً، والتفصيل في موضع آخر إن شاء الله تعالی.

ص: 124

ما يتعلّق بعقائدهم

ذكرنا جملة من عقائد المسيحيين في السيد المسيح (عليه السّلام)، وكثير منها إن لم تكن كلها دعاوي مجردّة لم يقم عليها دليل إن لم تكن الأدلة على خلافها، وحاول بعضهم إقامة الأدلة العقلية والنقلية عليها ولكنه لم يأت بشيء جديد سوى إضافة دعاوي جديدة عليها والاستدلّال بأمور عاطفية أو عنایات أو بما هو أقرب إلى الجدل والسفسطة، كما لا يخفى على من راجعها في كتبهم. ولظهور فسادها اعترف بعضهم بأن مسألة تجسد الكلمة التي هي من أمهات عقائدهم - فوق عقولنا ولكنه معقول، ولم يعلم وجه هذا القول، فإن المسألة إذا خرجت عن حدود فهم البشرية وكانت فوق عقولهم كيف يمكن أن تكون معقولاً ويقام عليه الأدلّة العقلية؟!.

وكيف كان، فنحن نذكر في المقام بعض القواعد المسلمة عند جميع العقلاء - بما فيهم المسيحيون أنفسهم- التي تدلّ على فساد جملة كثيرة مما اعتقدوه في عيسى ابن مريم (عليهما السّلام)، ثم نذكر ما يمكن الرد عليها.

الأولى: اتّفق المليون الذين يعتقدون بالإله الواحد الأحد أن

ص: 125

الله تعالی ليس بجسم ولا بمتحيّز، وليس في جهة ولم يكن محلاً للحوادث، وقد أقاموا الأدلّة والبراهين القويمة العقلية والنقلية على ذلك، وأن القول بتجسد الكلمة ينافي ذلك بلا ريب، فإن تجسّد الإله - سواء كان على نحو العينية أو الحلول أو التركب أو الإشراق وغير ذلك - يستلزم أن يكون الإله جسماً ومتحيّزاً في جهة، وأن يكون محلاً للحوادث ومشابهاً لمخلوقاته، إلّا أن يراد بتجسد الكلمة غير الذي أرادوه فلا بد من بيأنّه.

الثانية: امتناع قلب الحقائق فأنّه مما أجمعت عليه العقلاء، فيمتنع قلب حقيقة إلى حقيقة أخرى مخالفة للأولى إلّا بإعدامها، والقول بأن المسيح الذي هو مخلوق حادث صار إلها قديماً أزلياً يصادم هذه القاعدة المسلمة.

الثالثة: امتناع حلول صفات القديم بغير ذات الله تعالی فيمتنع قولهم بأن الكلمة امتزجت بجسد المسيح وغير ذلك مما اعتقدوه في تجسد الكلمة الأزليّة.

الرابعة: امتناع تعدّد الكلّي الواحد والإشارة إليه وكونه مرئياً، كما هو مبين في علم المنطق، والقول بأن عيسى (عليه السّلام) إنسان كلي باطل، فإنّ الإنسان الكلّي لا اختصاص له بجزئي دون جزئي آخر، وقد اتّفق النصارى على كون المسيح مولوداً من مريم (عليها السّلام)، فإن كانت مريم كلّياً كما يدعيه بعضهم، فإن كان هو غير إنسان المسيح الزم أن يكون المسيح مريم ومريم المسيح، ولزم أن يولد الشيء من

ص: 126

نفسه. وكلاهما باطل، وإن كان إنسان مریم جزئياً، فالكلّي ما كان صالحاً لاشتراك الكثرة فيه، فيلزم أن يكون المسيح جزءاً من مفهوم مریم وبالعكس، وهو محال.

مضافاً إلى أنّ الكلّي لا يمكن أن يقع مورد الإشارة إلّا بالإشارة إلى جزئي من جزئياته، أو يقع مورد القتل والتعذيب والاضطهاد، فأنّه محال.

هذه بعض القواعد المسلمة عند الجميع، التي يستلزم القول بها بطلان جملة كثيرة من معتقدات النصارى في المسيح عيسى بن مریم (عليهما السّلام).

وإمّا القول بتجسّد الكلمة الأزلية، فأنّه مجرد دعوی بلا دلیل، بل الأدلة قائمة على خلافه، فأنّه إن كان المراد منه حلول الباري القديم عزّ وجلّ في المسيح الحادث وتقمص جسده، فهو باطل بلا إشكال، ويدلّ على بطلأنّه ما دل على بطلان كونه الله تعالی جسماً، وامتناع حلول الحوادث تلك.

وإن كان المراد منه رفع المسيح الحادث إلى مقام الألوهية، فهو من انقلاب الحقائق الذي هو ممتنع عن الجميع، إذ كيف يمكن للمخلوق الحادث أن يكون إلهة أزلياً قديماً.

وإن كان المراد منه إشراقاً من الله تعالى عليه، فإن كان المراد من الإشراق إشراقاً نورياً كإشراق الشمس، فهو باطل لأنّه من لوازم الجسمية، والله تعالى منزّه عنها.

ص: 127

وإن كان المراد من الفيض ونحوه، فهو لا يختصّ بالمسيح، فإن آدم علي وسائر الأنبياء العظام لهم مثل تلك الفيوضیات الربوبية، كلّ حسب استعداده.

وإمّا القول بالأقانيم، فإن كان المراد منها صفات الله تعالى، فلا بدّ من تطبيقها على القواعد المسلمة التي ذكرت في الفلسفة الإلهية، من كونها عين الذات إذا كانت من صفات الذات، وأنّها أزلية أبدية لا يمكن تحديدها بحد كما لا يمكن تحديد الذات المقدسة، وعدم اختصاصها بواحد أو اثنين أو ثلاثة بل المدار على ما ميّزوا به صفات الذات عن صفات الفعل وغير ذلك، فإن كان مرادهم من الأقانيم تلك فلا مشاحة في الاصطلاح ولكنهم لا يقولون به.

وإن كان المراد تعدّد الآلهة كما يظهر من كلماتهم، فإن أدلة التوحيد تنفي ذلك صريحاً كما عرفت آنفاً.

وإمّا القول بأن خلق المسيح (عليه السّلام) من غير أب يدلّ على كونه إلهاً، فإن آدم (عليه السّلام) أبا البشر أحرى بأن يكون إلهاً على ما يزعمون، فأنّه خلق من غير أب ولا أم وهم لا يقولون بذلك، فليس الخلق من غير أب أو غير أم أو كليهما إلّا لبيان تمام قدرة الله تعالى على خلقه.

وإمّا القول بأن صدور المعجزات الباهرات وخوارق العادات منه (عليه السّلام) لدليل على كونه إلها، إذ لم تصدر تلك إلّا من الإله.

ص: 128

فهو بطل أيضاً، فأنّها إن صدرت منه استقلإلّا ومن دون إقدار الله تعالى عليه، فكان أولى له أن يخلص نفسه من العذاب الذي حل فيه من أعدائه ولم يحتج إلى التماسه من أبيه لينجيه من ذلك، كما ورد في العهد الجديد وقد تقدّم في البحث السابق، وإن لم تكن من مقدوراته، فهو (عليه السّلام) وجميع الأنبياء في هذه الجهة على حد سواء.

وإمّا الاستدلّال على دعاويهم بما ورد في الأناجيل المعروفة عندهم، فيرد عليه..

أولاً: أنّه لا بدّ من إثبات ذلك، فإن الأناجيل المعروفة لم تسلم من يد التحريف، كما نطق به التنزيل.

وثانياً: أنّه معارض بمثله، كما ورد في الأناجيل المذكورة، ولقد كفانا مؤنة ذلك شيخنا الجليل الشيخ البلاغي (طاب ثراه)، فمن شاء فليراجع كتابه (الهدى إلى دين المصطفى) وتفسيره القيم ( آلاء الرحمن).

وثالثاً: أنّه يمكن تأويله بما لا يصادم القواعد المسلمة إن أمكن التأويل، وإلّا فيردّ.

هذه خلاصة ما يمكن أن يقال في المقام، ولعل ما ورد في القرآن الكريم في شأن المسيح عيسى بن مريم (عليهما السّلام) بتعابير مختلفة، كنسبته إلى أمه العذراء الطاهرة؛ للدلالة على كونه منسوباً و مخلوقاً كسائر أفراد الإنسان، وإثبات كونه رسولاً، والتأكيد على

ص: 129

أنّ ما صدر منه من المعجزات إنّما كانت بإذنه جلّ شأنه، كما في سورة آل عمران والمائدة وغيرهما من التعابير الدالة على كونه فرداً كسائر الأفراد، كل ذلك لنفي ما يزعمه النصارى وما يعتقدونه فيه.

ص: 130

أصل عقيدة التثليث

لا ريب أن الشرك وكل عقيدة تدلّ عليه ليس لها أصل ولا واقع في الأديان الإلهية المبنية على التوحيد ونبذ الأنداد، وإذا ظهر شيء منها في دين إلهي أو أية عقيدة أخرى تتخذ التوحيد أساساً لها، فلا بدّ أن يكون لأحد أمور على سبيل منع الخلو:

منها: فقدان المعلم المرشد الذي يمثل التوحيد قولاً وعملاّ ويبينه بياناً واضحاً لا لبس فيه لاتباعه.

ومنها: احتكاك الأمة مع الأمم التي تدين بالوثنية وتقليدهم فيها على عمي وجهالة.

ومنها: تأويل مَن لا خبرة له ولا معرفة لما ورد في الكتب الإلهية وقول الأنبياء بما يوافق التشريك، فيكون مجإلّا خصباً لزيغ المبطلين وإفساد المفسدين.

ومنها: إدخال الأعداء الآراء الهدّامة في الدين ودسّ الأفكار المضلّة في معارفه وأحكامه، فيكون سبباً لاندراس أصول الدين وأركأنّه حتّى لا يبقى من الدين إلّا اسمه ولا من الكتاب إلّا رسمه، ولكل واحد من هذه الأمور طرق وشعب متعدّدة لا يسع المجال ذكره.

ص: 131

وعلى ضوء ما ذكرناه تعرف أنّ عقيدة التشريك في النصرانية والتي هي دین إلهي، لا تخرج عن سائر الأديان الإلهية التي تتخذ التوحيد أصلاً من أصولها، بل أساس كل معتقد وفكرة فيهان ليس لها أساس ولا واقع وإنّما دخلت فيها نتيجة أمور وظروف معينة، وقد حكى عزّ وجلّ في القرآن الكريم عن عيسى بن مريم (عليهما السّلام) أنّه كان يأمر بالتوحيد ونبذ الأنداد، فقال تعالى: «وَ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُوني وَ أُمِّيَ إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما في نَفْسي وَ لا أَعْلَمُ ما في نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * ما قُلْتُ لَهُمْ إلّا ما أَمَرْتَني بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهيداً ما دُمْتُ فيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَني كُنْتَ أَنْتَ الرَّقيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهيدٌ» (سورة المائدة، الآية: 112 - 117).

ويستفاد من هذه الآية المباركة أن عبادة الله تعالى الواحد الأحد كانت من أساسيات هذا الدين العظيم، وكان عیسی (عليه السّلام) يأمر بها وهو الشهيد على ذلك؛ لعلمه بأنّها كانت قائمة عند وجوده فيهم، وإمّا بعد ارتحاله وفقدان المعلم المرشد فيهم، فالأمر كان على خلاف ذلك، فقد دبّ الخلاف فيهم وتعددت الأناجيل وكثر المتأولون لآياتها، فضلّوا وأضلّوا کما حکی عزّ وجلّ في القرآن الكريم عنهم، ويدلّ عليه بعض الأناجيل أيضاً، فقد روی یوحنا في الفصل السابع عشر من إنجيله قول عيسى (عليه السّلام): وهذه هي الحياة

ص: 132

الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته»، وهو يدلّ على أن الله تعالى واحد، وهو الإله فقط والمسيح رسوله، وهذا هو الذي دعا إليه القرآن الكريم كما ورد في الآيات التي تقدّم تفسيرها. ونقل مرقس في الفصل الثاني عشر من إنجيله أول الوصايا: «فأجابه يسوع أوّل الوصايا اسمع یا أسائیل الربّ إلهنا ربّ واحد»، وهو يدلّ على أن عقيدة التوحيد هي المعقول وأساس هذا الدين، فإذا كان شيء يخالف ذلك فلا بدّ من تأويله إن كان قابلاً له، وإلّا فهم أولى بتفسير کلمات کتابهم.

ويذكر علماء تاريخ الأديان الإلهية أسباباً عديدة لدخول عقيدة التثليث في النصرانية، والمعروف بينهم أن النصارى كانوا على دين الإسلام برهة من الزمن بعدما رفع عيسى ابن مريم (عليهما السّلام) إلى السماء، ولعلّ الوجه في ذلك أنّه كان بينهم بعض الحواريين الذين اتّبعوا المسيح (عليه السّلام) حقّ الاتّباع، وهم الذين نشروا تعاليمه في البلاد فكانوا أوصياؤه (عليهم السّلام)، وبعد غيابهم دخلت تلك العقيدة في النصرانية، فقيل: إن السبب في ذلك هم اليهود الذين عرفوا ببغضهم لهذا الدين، فأدخلوا فيه هذه العقيدة لهدمه، وكانت لهم أساليب متعدّدة.

وذكر بعضهم أنّه لما وقعت الحرب بينهم وبين اليهود خرج رجلّ يقال له بولس، فيقتل جماعة من أصحاب عیسی (عليه السّلام)

ص: 133

فاحتال لأن يفرق جمعهم ويشتت شملهم فأوقع فيهم الخلاف وأضلهم بهذه العقيدة، على ما هو المذكور في كتاب التأريخ.

وقيل: إنّ السبب هو نقل المتنصرين الذين دخلوا في النصرانية عقائدهم البدائية الوثنية، فأولوا آیات التوحيد وأدخلوا التحريف والتأويل فيها، وتدلّ عليه شواهد كثيرة؛ لأن النصرانية كانت محاطة بأمم تتخذ التثليث عقيدة لهم، منهم البراهمة؛ ومنهم البوذائيين، ومنهم قدماء المصريين، ومنهم الرومان، فقد تأثرت النصرانية بعقائدهم، وقيل غير ذلك، فراجع كتب تاريخ الأديان والعقائد والله العالم(1).

ص: 134


1- مواهب الرحمن، ج 10، ص 213- 229

بحث كلامي في التكاليف الإلهيّة

كلّ تکلیف ۔ سواء أكان خالقية أم خلقية. لا بدّ وأن يتعلق بالمقدور، وإلّا كان تکليفاً بالمحال وهو قبيح عقلا ويمتنع بالنسبة إلى الله تعالى، وقد استدلّ الفلاسفة والمتكلمون على ذلك بأمور كثيرة، ويكفي في ذلك الآيات الكثيرة الدالة على ذلك، قال تعالى: «لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفساً إلّا وُسعَهَا» (سورة البقرة، الآية: 286)، وغيرها من الآيات الشريفة المرشدّة إلى حكم العقل.

ونسب إلى بعض الأشاعرة جواز التكليف بالممتنع الذاتي، بل وقوعه.

ولكن ذلك مردود عقلاً ونقلاً، كما فّل ذلك في محله، ولعلنا نتعرض له في بعض الآيات المناسبة له إن شاء الله تعالی.

ثم إن القدرة المعتبرة في التكاليف على أقسام ثلاثة:

الأول: القدرة العقلية - أي الإمكان الذاتي - في مقابل الامتناع العقلي.

الثاني: القدرة التعبدية الشرعية.

ص: 135

الثالث: القدرة العرفية كما في جميع الأمور الاختيارية الصادرة عن الناس.

ولا وجه للأول، وإلّا لاختل النظام ولزم العسر والحرج في امتثال الأحكام، كما لا وجه للثاني لعدم الإشارة إليها في الكتاب والسنة، وما ذكر في الأحكام من الشروط والأجزاء أو الأوصاف يرجع إلى الثالث، بل لا معنى عندنا للتعبد في الأحكام الشرعية مطلقة فضلاً عن موضوعاتها، لأنّ كلّ ذلك يرجع إلى مقرّرات الفطرة، وإنّما أشار إليها الشارع الأقدس وكشف عنها كما تقدّم منّا مكرراً في هذا التفسير وبينّاه في علم الأصول. فيتعين الأخير كما هو المستفاد من الكتاب والسنّة الشريفة، قال تعالى: «لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفساً إلّا وُسعَهَا» (سورة البقرة، الآية 286)، وقال تعالى: «يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسرَ» (سورة البقرة الآية: 185)، وقال تعالى: «وَمَا جَعَلَ عَلَيکُم فِي الدِّينِ مِن حَرَجٍ» (سورة الحج، الآية 78)، ومن السنّة قول نبينا الأعظم (صلّی الله عليه وآله وسلّم) المتواتر بين الفريقين: «بُعِثتُ عَلَى الشَّرِيعَةِ السَّهلَةِ السَّمحَاءِ». وقوله تعالی: «مَنِ استَطَاعَ إِلَيهِ» في الآية التي تقدّم تفسيرها يبيّن ذلك كما هو معلوم(1).

ص: 136


1- مواهب الرحمن، ج6، ص192- 193.

بحث الإرادة

إشارة:

من المباحث المهمّة في الفلسفة الإلهية والحكمة المتعالية مبحث الإرادة، التي لها ارتباط وثيق بمواضيع متعدّدة في جملة من العلوم، وقد شغلت قسطة وافرة من الكتب الفلسفية والكلامية وغيرهما، فإن بحث الجبر والاختبار في الإنسان يرتبط بالإرادة، كما يرتبط بالإرادة الإلهية مباحث حدوث العالم وقدمه واختياره تبارك وتعالى وغير ذلك، ونحن نذكر في هذا البحث تعريف الإرادة، وما يتعلق بإرادة الإنسانن وإرادته جلت عظمته، وبيان حقيقتها، وأقسامها، وأسباب فعله عزّ وجلّ، والفرق بين المشيئة والإرادة، وارتباطها بعلمه ع وجل، ثم مبحث اتحاد الطلب مع الإرادة.

تعريف الإرادة:

الإرادة: من الأمور الوجدانية لكل ذي إدراك وشعور - إنساناً كان أو حيواناً - حتى لقد عرّف الحيوان المطلق بأنّه جسم نامٍ متحرك بالإرادة، فهي من لوازمه التي لا تنفكّ عنه، بل قد أثبت بعض قدماء الفلاسفة الإرادة في النبات، ولا يبعد ذلك على نحو الجملة والإجمال كما ستعرف.

ص: 137

وكيف كان، فقد فسّروا الإرادة بوجوه: فمنهم مَن فسّرها بالقصد، واستدلّ بالتبادر.

ومنهم مَن فسّرها بالطلب.

وأشكل عليه بأنّه مبرز للإرادة نفسها.

ومنهم مَن فسّرها بالميل الذي يعقب اعتقاد النفع.

وقال بعض المحدّثين: أنّها تصمیم واع على أداء فعل معین، باعتبار أنّ التصميم هي الإرادة النافذة، والإرادة بلا تصميم نيّة مؤجّلة.

وقال بعضهم: إنّ الإرادة هي الرغبة التي ترافق الفعل إلى أن تبلغ به إلى الغاية.

والحقّ أن هذه التعاريف لا تخلو من مناقشة واضحة، فإن الإرادة غير الميل، بل هو في مقدّماتها، والتصميم إرادة مؤكدة. ولكن مما يسهل الخطب أن الإرادة من الأمور الوجدانية التي تتداخل مقدّمات حصولها بعضها مع بعض، بحيث يصعب التمييز بينها، ولأجلّ ذلك اختلفوا في تعريف الإرادة، فأنّه قد يختلط بينها وبين المقدّمات التي هي الإدراك وتوجه النفس والعزم، أي: التصميم، وتصوّر الغاية الذي به يتميّز الإنسان عن الحيوان، فأنّهما ذوا شهوة كشهوة الطعام والشهوة التناسليّة، وهي تدفع الحيوان والإنسان إلى الفعل، ولكن الحيوان لا يفعل ذلك متعقّلاً كالإنسان.

ص: 138

إرادة الإنسان:

لا شكّ أن المخلوقات بالنسبة إلى الإرادة على أقسام:

الأول: تلك المخلوقات التي تخلو عن الرغبة والشهوة كالحيوانات الدنية - كالديدان والهوام والنباتات - فإنّ هذه تفعل وتسعى إلى الفعل لأجلّ الحاجة، لا الرغبة والشهوة، فإنّ تغلغل جذور النبات وتفرّع فروعها في الهواء واتّجاه أوراقها إلى الشمس ونمو أصلها، كلّ ذلك صادر عن حكم الحاجة إلى الغذاء، بل يفعل بمقتضى الطبيعة فيها، نظير صدور الأفعال الحتميّة الصادرة في الحيوانات العليا، كالتنفّس والنبض والتثاؤب والنوم ونحو ذلك، فهذه كلّها تصدر عن الحاجة والطبيعة دون الإرادة.

نعم، قد يشتبه الأمر، ففي بعض الحيوانات والنباتات تصدر الأفعال عن رغبة وشهوة ملحّة، ولعل من قال من الفلاسفة: إن بعض النباتات فيها الإرادة، كان نظره إلى خصوص هذا الأخير فقط، وإلّا ليس كلّ حيوان فضلاً عن النبات ذا رغبة أو شهوة تتقوّم بها الإرادة.

الثاني: المخلوقات التي لها الإحساس والشهوة - كالحيوانات. فأنّها تفعل الأفعال بإرشاد الغريزة والشهوة المجردة عن الرغبة وإرشاد العقل والتعقل، فهي أيضاً لا تكون ذات إرادة إلّا إذا صحّ إطلاق الإرادة على المقدّمات، فتكون الحيوانات حينئذٍ كلها ذوات إرادة.

ص: 139

الثالث: المخلوقات التي لها الإحساس والشهوة والرغبة والإدراك كالإنسان، فأنّه يفعل فعله بحث من الشهوة والرغبة وإرشاد من الإدراك، فهو يفعل ويفهم أنّه يطلبه، بخلاف الحيوان فأنّه يسعى حين تلح عليه الحاجة ومتى زالت هدأ وسكن، ولا يدرك تلك الحاجة.

وإمّا الإنسان، فهو يفهم ويرغب في السعي ولو كانت الحاجة في حين الفعل منتفية.

ولكن يمكن أن يقال: إنّ من ذهب إلى وجود الإرادة في الحيوان، أراد بها بعض مقدّماتها. ومن نفي عنها الإرادة إنّما نفى الإرادة الثابتة في الإنسان، وبذلك يمكن أن يجمع بين الآراء والكلمات.

الرابع: المخلوقات التي لها التعقّل والإدراك الكامل، فأنّها تفعل عن تعقل كامل من دون شهوة وقتية كالملائكة، فإن فيهم الإرادة الكاملة لما يريدون أن يفعلوه في عالمهم.

ومن ذلك كله يعلم أن الإنسان هو الفرد الكامل الذي اجتمعت فيه مقدّمات الإرادة، فهو الحيوان الحسّاس المتحرك بالإرادة، ولكنه قد يغفل عن الإرادة، فلا يلتفت إليها حين توجه نفسه إلى المراد، بل يكون تمام توجّهها إلى نفس المراد فقط.

وإرادة الإنسان مسخّرة تحت إرادة الله تعالى القهارة، ولا استقلال لها بوجه من الوجوه، ففي بعض القدسیات: «یَا ابنَ آدَمَ

ص: 140

تُرِيدُ وَأُرِيدُ، وَأُتعِبُكَ فِي مَا تُرِيدُ ثُمَّ لَا يَكُونُ إلّا مَا أُرِيدُ»، وعن سید العارفين (عليه السّلام): عَرَفتُ اللهَ بِفَسخِ العَزَائِمِ وَنَقضِ الهِمَمِ»، وهذا غير مورد الجبر الباطل؛ لأنّ مورده نفي الإرادة، والمقام من تخلّف المراد عن الإرادة.

حقيقة الإرادة:

عرفنا أن الإرادة من الأمور الوجدانية التي يعرفها كلّ فاعل مختار، ومن له إدراك وشعور، ولها مقدّمات، وتسمّى مقدّمات الفعل أيضاً، وهي: الإدراك، وتوجّه النفس، والعزم، وتصوّر الغاية، والقدر والقضاء، والإرادة هي الجزء الأخير من تلك المقدّمات.

وفي الفلسفة الحديثة: إنّ الإرادة خاصيّة مستقلّة عن المؤثّرات والظروف الخارجيّة، ولكن للفطنة والحكمة سلطة عليها، التي تصدر الحكم الذي تبلغه الإرادة إلى القوى الفاعلة، فتكون الإرادة هي الأمر بالعمل أو النهي عنه.

وهذه هي المسألة المعروفة التي ذكروها في علم الأصول، وهي اتّحاد الطلب والإرادة، وسيأتي موجز الكلام فيها.

فالإرادة: جهد نفسي وعملية ذهنيّة يقوم عليها الصمود ورباطة الجأش، بل قال بعض الفلاسفة: أنّه لا إرادة حيث لا استطاعة. وقد ذهب بعض المادّيين إلى أنّ الإرادة ثمرة المعرفة والتجربة والتربية.

ص: 141

وبعبارة أخرى: أنّ الإرادة الإنسانية ليست غير ما تمليه قوانین الطبيعة والمجتمع، وهذه طريقتهم في تفسيرهم لكل الأمور في هذا العالم.

وما أبعد مقالة هؤلاء عمّا يقوله بعض الفلاسفة الرواقيين من أنّها أساس المعرفة والسلوك، ولكن لا يمكن إنكار تأثّر الإرادة الإنسانية بما يحيط بها من البيئة والمجتمع.

والإرادة هي الدافع الرئيسي والعامل النفساني الأول في الفعل الإنساني وما يصاحبه من الانفعالات. وفي الإسلام تعتبر الإرادة من أهمّ مقومات الجزاء، وهي محور الأخلاق والسلوك، وسيأتي في بحث إرادة الله تعالى أن نظام الكون يتقوم بإرادته عزّ وجلّ وحينئذٍ يحقّ لنا أن نقول إنّ أساس الكون هي الإرادة، سواء إرادته عزّ وجلّ أم إرادة المخلوق في تنظيم النظام وصدور الأفعال.

ولا بدّ لكلّ إرادة من متعلّق وهو المراد، وبها يفترق العمل الإرادي عن اللاإرادي، وتختلف الإرادة حسب اختلاف المتعلقات، فلا يمكن حصر أقسامها. ولكن ذهب بعض الفلاسفة إلى تقسيم الإرادة إلى أربعة أقسام، الّتي هي أصول كل إرادة، وهي:

إرادة الحياة، وهي الجهد الذي يبذله كلّ فرد للحفاظ على صورة الحياة، وبها يحقق كلّ كائن نموذج نوعه، وهي غريزة من الغرائز التي لا ترتبط بالشعور والرأي.

ص: 142

إرادة القوة: وهي الصراع الأجلّ الوجود، الذي يكون الدافع الحقيقي للتطوّر.

إرادة الخير: وهي استعداد الفرد لبذل أفضل ما يطيقه من جهد لفعل الخير، وهذه الإرادة هي التي يقاس بها الإنسان الخير عن غيره.

إرادة الاعتقاد: وهي التي تميّز الاعتقاد الصحيح عن الفاسد، والتسليم بمعتقدات واختيارها لما يترتّب عليها من منافع عملية.

هذه هي أقسام الإرادة كما ارتآه بعض الفلاسفة.

ولكن المناقشة في هذا التقسيم واضحة، فإنّ بعضاً منه. کالقسم الأول - يرجع إلى الغريزة والفطرة، والإرادة بمعزل عنها. والبعض الآخر هو من مجرّد الأمثلة، فلو كان المناط على ذلك الوجب ذكر كل ما يتعلّق به الإرادة. وممّا يهون الخطب أنّه مجرّد اصطلاح منهم، ولا ضير في ذلك.

نعم، الأمر الذي لا يسع لأحد إنكاره هو أن الإرادة قد تضعف وقد تشتدّ حتى تصل إلى حد التصميم والعزيمة، وقد ورد في القرآن الكريم بعض الموارد التي عبّر عنها بأنّها من عزائم الأمور، وهي التي لا بدّ فيها من إرادة قوية وحزم وجزم قال تعالی مخاطبة لنبيّه (صلّی الله عليه وآله وسلّم): «وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلين» (سورة آل عمران، الآية 159)، وقال تعالى: «وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُور» (سورة آل عمران، الآية 186).

ص: 143

إرادة الله تعالى:

لا ريب ولا إشكال في ثبوت الإرادة له عزّ وجلّ، وقد دلت الأدلة الأربعة عليه، فمن القرآن الكريم آيات كثيرة، منها الآيات التي تقدّم تفسيرها، ومنها قوله تعالى: «يُريدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُريدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» (سورة البقرة، الآية 185)، ومنها قوله تعالی: «إِنَّ اللهَ يَفعَلُ مَا يُرِيدُ» (سورة الحج، الآية 14)، ومنها قوله تعالى: «إِذَا أَرَدنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُون» (سورة النحل، الآية 40)، وغير ذلك ممّا هو كثير.

وإمّا السنة فسيأتي نقل بعضها.

وإمّا الإجماع، فقد أطبق أرباب الملل والنحل بل جميع العقلاء على ثبوتها له عزّ وجلّ.

ومن العقل حكمه البتّي بأن الله تعالى عالم حكيم في أفعاله، وهما يقتضيان الفاعلية بالإرادة والاختيار، فليس جلّ شأنه من قبيل الفاعل الموجب، وكلّ من كان كذلك لا بدّ وأن تكون له إرادة؛ ولذا نرى وجود بعض الممکنات، وحدوثها في وقت دون آخر، بل نری آثار إرادته في جميع الممكنات، وهذا الدليل يتم أيضاً حتى بناءً على القول بأن إرادته تعالى إنّما هي الإيجاد والإحداث، لأنّ العلم والحكمة من مقتضيات الفاعلية على وجه الاختيار، وهي الإرادة.

ص: 144

فما ذكره بعض العلماء من أن إثبات الإرادة الله عزّ وجلّ من جهة النقل دون العقل.

مردود، كما عرفت.

وإمّا السنّة، فقد وردت أخبار كثيرة في شرح كلتا الإرادتين - إرادة الخالق تعالى وإرادة المخلوق - ونحن نورد جملة منها، ونذكر ما يستفاد منها.

ففي الكافي: عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي اَلْحَسَنِ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أَخْبِرْنِي عَنِ اَلْإِرَادَةِ مِنَ اَللَّهِ وَ مِنَ اَلْخَلْقِ قَالَ فَقَالَ اَلْإِرَادَةُ مِنَ اَلْخَلْقِ اَلضَّمِيرُ وَ مَا يَبْدُو لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ اَلْفِعْلِ وَ إمّا مِنَ اَللَّهِ تَعَالَى فَإِرَادَتُهُ إِحْدَاثُهُ لاَ غَيْرُ ذَلِكَ لِأنّه لاَ يُرَوِّي وَ لاَ يَهُمُّ وَ لاَ يَتَفَكَّرُ وَ هَذِهِ اَلصِّفَاتُ مَنْفِيَّةٌ عَنْهُ وَ هِيَ صِفَاتُ اَلْخَلْقِ فَإِرَادَةُ اَللَّهِ اَلْفِعْلُ لاَ غَيْرُ ذَلِكَ يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ بِلاَ لَفْظٍ وَ لاَ نُطْقٍ بِلِسَانٍ وَ لاَ هِمَّةٍ وَ لاَ تَفَكُّرٍ وَ لاَ كَيْفَ لِذَلِكَ كَمَا أنّه لاَ كَيْفَ لَهُ.

أقول: ليس لي في مقام بيان حقيقة الإرادة من حيث هي على نحو الحدّ المنطقي حتى تكون إرادة الخالق مباينة مع إرادة الخلق من كلّ جهة، وإنّما هو الي في مقام التمييز بينهما في الجملة؛ لأنّ الإرادة من الخلق كما نراها متقوّمة بالتفكر والروية في المبدأ وفي الغاية. فالضمير في الخلق عبارة عن مقدّمات الإرادة التي تحصل في القلب، وقوله لي: «وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل»، يمكن أن يستظهر منه أنّ الإرادة في الخلق هي فعلهم

ص: 145

أيضاً، فالفرق بين الإرادتين إنّما هو في المقدّمات لا في نفس الإرادة من حيث هي، وقوله (عليه السّلام): «فَإِرَادَتُهُ إِحدَاثُهُ»، أي: أنّ إرادته تعالى إنّما هي نفس الفعل، وهي ما قلناه في إرادة المخلوق، ولكن التفرقة في المقدّمات. ويظهر ذلك بوضوح من نفي هذه المقدّمات عنه عزّ وجلّ، ولكن ذلك لا يستلزم نفي الحكمة والعلم بالنسبة إلى المراد.

ومنها: صحيحة سليمان بن جعفر الجعفري، قال: «قال الرضا (عليه السّلام): «اَلْمَشِيئَةُ وَ اَلْإِرَادَةُ مِنْ صِفَاتِ اَلْأَفْعَالِ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اَللَّهَ عَزَّ وَ جلّ لَمْ يَزَلْ مُرِيداً وَ شَائِياً فَلَيْسَ بِمُوَحِّدٍ».

أقول: هذا الحديث يدلّ على أنّ الإرادة والمشيئة هي الفعل، وإنّما يفرق بينهما بالجزئية والكلية، فالإرادة تتعلّق بالجزئيات والمشيئة تتعلّق بالكليات.

وإمّا قوله: «فَمَن زَعَمَ أَنَّ اللهَ لَم يَزَل مُرِیداً شَائِياً فَلَيسَ بِمُوَحِّدٍ»، فلأنّه لو كانت المشيئة والإرادة في مرتبة الذات وهما يقتضيان المراد - لاستحالة تخلف الإرادة عن المراد - فحينئذٍ لا بدّ من القول بالقدم الذاتي للأشياء، فينتفي التوحيد مع أنّهما متجددان بالنسبة إلى الخلق في كلّ عصر وزمان، فيلزم التجدّد في الذات والتغير والحدوث فيها، وكلها باطل بالضرورة.

ومنها: صحيحة ابن أذينة عن الصادق علي قال: «خَلَقَ اَللَّهُ اَلْمَشِيئَةَ بِنَفْسِهَا، ثُمَّ خَلَقَ اَلْأَشْيَاءَ بِالْمَشِيئَةِ»

ص: 146

أقول: ذكرنا أنّ المشيئة والإرادة حقيقة واحدة، وإنّما تختلفان بالكلية والجزئية، والحديث يبيّن أنّ المشيئة حادثة، وليس المراد من خلقها بنفسها كونها موجودا جوهريّاً خارجيّاً، بل المراد بذلك تقديرها في نظام العالم يدبّر بها المخلوقات.

ومنها: رواية أبي سعيد القمّاط عنه (عليه السّلام) قال أيضاً: «خَلَقَ اَللَّهُ اَلْمَشِيئَةَ قَبْلَ اَلْأَشْيَاءِ ثُمَّ خَلَقَ اَلْأَشْيَاءَ بِالْمَشِيئَةِ».

أقول: المراد بالقبليّة هي الرتبة الواقعية لا الزمانية، وهكذا في «ثُمَّ».

ومنها: رواية بكير بن أعين قال: «قلت لأبي عبد الله (عليه السّلام): «عِلْمُ اَللَّهِ وَ مَشِيئَتُهُ هُمَا مُخْتَلِفَانِ أَوْ مُتَّفِقَانِ فَقَالَ (عليه السّلام): اَلْعِلْمُ لَيْسَ هُوَ اَلْمَشِيئَة أَ لاَ تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ سَأَفْعَلُ كَذَا إِنْ شَاءَ اَللَّهُ وَ لاَ تَقُولُ سَأَفْعَلُ كَذَا إِنْ عَلِمَ اَللَّهُ فَقَوْلُكَ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أنّه لَمْ يَشَأْ فَإِذَا شَاءَ كَانَ اَلَّذِي شَاءَ كَمَا شَاءَ وَ عِلْمُ اَللَّهِ اَلسَّابِقُ لِلْمَشِيئَةِ».

أقول: الحديث يدلّ على أن المشيئة منبعثة عن العلم الربوبيّ، فلا يعقل كونهما في مرتبة واحدة، كما هو الأمر في علمنا ومشيئتنا.

ومنها: صحيحة محمد بن مسلم عن الصادق (عليه السّلام) قال: «المَشِيئَةُ مُحدَثَةٌ».

أقول: لأنّ كلّ ما كان منبعثاً عن مرتبة الذات محدث لا

ص: 147

محالة، والمارد به هو الحدوث الذاتي منه، لا الزماني، وإن تحقّق الثاني في سلسلة المتدرّجات.

ومنها: صحيحة عاصم بن حميد عن أبي عبد الله الصادق (عليه السّلام): «قُلْتُ لَمْ يَزَلِ اَللَّهُ مُرِيداً قَالَ إِنَّ اَلْمُرِيدَ لاَ يَكُونُ إلّا لِمُرَادٍ مَعَهُ لَمْ يَزَلِ اَللَّهُ عَالِماً قَادِراً ثُمَّ أَرَادَ».

أقول: الحديث يفسّر حقيقة إرادته تبارك وتعالى بمقدّماتها، وبيّن أيضاً أنّ من مقدّمات الإرادة العلم والقدرة، فتكون الإرادة منبعثة عنهما، فتكون حادثة ولم يبيّن (عليه السّلام) أنّها الفعل، لأنّه (عليه السّلام) ليس في مقام بيان ذلك.

ومنها: حديث الأهليلجة المعروف عن أبي الحسن الرضا (عليه السّلام) قال في جواب الطبيب: «إِنَّ اَلْإِرَادَةَ مِنَ اَلْعِبَادِ اَلضَّمِيرُ وَ مَا يَبْدُو بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ اَلْفِعْلِ وَ إمّا مِنَ اَللَّهِ عَزَّ وَ جلّ فَالْإِرَادَةُ لِلْفِعْلِ إِحْدَاثُهُ إنّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ بِلاَ تَعَبٍ وَ لاَ كَيْفٍ».

أقول: مرّ بيان هذا الحديث الشريف في حديث صفوان عن أبي الحسن موسی بن جعفر (عليهما السّلام).

ومنها: رواية الهاشمي المشتملة على مباحثة الإمام الرضا (عليه السّلام) مع أهل الملل والنحل، قال (عليه السّلام): «مَشِيئَتُهُ وَاسمُهُ وَصِفَتُهُ، وَمَا أَشبَهَ ذَلِكَ، كُلُّ ذَلِكَ مُحدَثٌ مَخلُوقٌ مُدَبَّرٌ - إِلَى أَن قَالَ (عليه السّلام)-: وَاعلَم أَنَّ الإِبدَاعَ وَالمَشِيئَةَ وَالإِرَادَةَ مَعنَاهَا وَاحِدٌ وَأَسمَاؤُهَا ثَلَاثَةٌ».

ص: 148

أقول: الحديث يدلّ على ما ذكرناه آنفاً من أنّه لا فرق بين المشيئة والإرادة، وإنّما جعل علي الإبداع هي الإرادة والمشيئة؛ لأنّها عبارة عن الفعل والإحداث، فتكون محدثة. ولكن الفلاسفة فرّقوا بين الإبداع والخلق، فجعلوا مورد الإبداع خلق الروحانيين، والخلق أعم من ذلك، وهذا لا يرتبط بالمقام.

ومنها: رواية عبد الرحيم القصير عن الصادق (عليه السّلام) قال: کانَ (عَزَّ وَ جَلَّ) وَ لاَ مُتَكَلِّمَ وَ لاَ مُرِيدَ وَ لاَ مُتَحَرِّكَ وَ لاَ فَاعِلَ جلّ وَ عَزَّ رَبُّنَا فَجَمِيعُ هَذِهِ اَلصِّفَاتِ مُحْدَثَةٌ غَيْرَ حُدُوثِ اَلْفِعْلِ مِنْهُ».

أقول: الحديث يدلّ على أن الإرادة هي الفعل، وهي حادثة، وأنّ كلّ ذلك ليس في مرتبة الذات.

ومنها: صحيحة يونس عن أبي الحسن الرضا (عليه السّلام): «قُلْتُ فَمَا مَعْنَى شَاءَ؟ قَالَ (عليه السّلام): اِبْتِدَاءُ اَلْفِعْلِ قُلْتُ فَمَا مَعْنَى أَرَادَ؟ قَالَ (عليه السّلام): اَلثُّبُوتُ عَلَيْهِ».

أقول: الحديث يدلّ على أنّ الفرق بين المشيئة والإرادة هو الفرق بين التقدير والإيجاد، ويمكن إرجاعه إلى ما قلناه من أنّ الفرق بينهما بالكلية والجزئية، لأنّ الكلّي مقدّم على الجزئي بالإضافة، ويفسّره الحديث الآتي.

ومنها: صحيحة ابن إسحاق عن أبي الحسن (عليه السّلام) قَالَ: أَتَدرِي مَا المَشِيئَةُ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: هَمُّهُ بِالشَّيءِ، أَو تَدرِي مَا أَرَادَ؟ قَالَ: إِتمَامُه عَلَى المَشِيئَةِ».

ص: 149

أقول: الحديث ليس في مقام الفرق بين مشيئة الله عزّ وجلّ وإرادته تعالى، بل إنّما هو في مقام بیان طبيعة المشيئة والإرادة بالنسبة إلى الخلق، وإلّا فليس له تعالی «همّ» ولا روية، كما تقدّم في الحديث، ويمكن أن يستفاد من لفظ «الهمّ» الكلية، فيكون في مقام بيان الفرق بين مشيئته تعالى وإرادته عزّ وجلّ.

هذه جملة من الأخبار الواردة في هذا الموضوع المهمّ، والذي اتّفقت عليه جميع هذه الأحاديث أنّها لم تشر إلى أنّ الإرادة من الصفات الذاتية أو أنّها عينها، كما هو الأمر في سائر الصفات العليا، فأنّهم (عليهم السّلام) بیّنوا ذلك فيها. فلا ريب ولا إشكال في ثبوت الإرادة له جلّ شأنه عقلا ونقة، بل يعد ذلك من الضروريات، كما عرفت.

معنى الإرادة فيه عزّ وجلّ:

ذكرنا في أحد مباحثنا المتقدّمة أنّ العقول تحيّرت في ذاته جلّت عظمته، وفي صفاته تعالی مطلقة، سواء كانت صفات الذات أم صفات الفعل؛ لأنّ التحيّر في الذات تحيّر في ما هو عین ذاته تبارك وتعالى أيضاً.

وأمّا صفات الفعل، فلأنّها منبعثة عما لا يدرك ذاته وصفاته، فلا بد من التحيّر فيها أيضاً.

والإرادة من الصفات التي هي من أتم مظاهر الجلال والجمال وتجليات الذات قولاً وفعلاً، ولا ريب أنّ الإرادة بالمعنى الذي

ص: 150

ذكرناه في إرادة الإنسان لا يمكن اتصافه عزّ وجلّ بها؛ للزوم كونه محلاً للحوادث، وهو منزه عنها، إلّا إذا قلنا بأن الإرادة في الإنسان أيضاً هي فعله - كما هو الحق - فيتّحد معنى الإرادتين حينئذٍ.

ولكن قد اختلفت تعبيرات العلماء في إرادة الله تعالى، وعمدة الأقوال فيها ثلاثة:

الأول: أنّها ابتهاج الذات بالذات، وقد اختاره جميع من محقّقي العلماء، وقال بعض الفلاسفة:

فحيث ذاته أجلّ مدرك *** أتم إدراك لأبهي مدرك

مبتهج بذاته بنهجه *** أقوى ومن له بشيء بهجة

مبتهج بما يصير مصدره *** من حيث أنّه يكون أثره

وعن شيخنا المتألّه المحقّق الشيخ محمد حسين الغروي الأصفهاني، قال (قدّس سرّه) في بيان هذا القول: «ومن البيّن أنّ مفهوم الإرادة - كما هو مختار الأكابر من المحقّقين - هو الابتهاج والرضا وما يقاربهما مفهوماً، ويعبّر عنه بالشّوق الأكيد فينا، والسرّ في التعبير عنها بالشوق فينا، وبصرف الابتهاج والرضا فيه تعالی إنّما لمكان أنّنا ناقصون غير تامّين في الفاعلية، وفاعليتنا لكلّ شيء بالقوّة، فلذا نحتاج في الخروج من القوّة إلى الفعل إلى أمور زائدة على ذواتنا، من تصوّر الفعل والتصدیق بفائدته والشوق الأكيد، المملية جميعاً للقوّة الفاعلة المحرّكة للعضلات، بخلاف الواجب

ص: 151

تعالى، فإنّه لتقدّسه عن شوائب الإمكان وجهات القوّة والنقصان، فاعل وجاعل بنفس ذاته العليمة المريدة، وحيث إنّه صرف الوجود، وصرف الوجود صرف الخير، فهو مبتهج بذاته أتم ابتهاج وذاته مرضية لذاته أتم الرضا، وينبعث من هذا الابتهاج الذاتي - وهي الإرادة الذاتية - ابتهاج في مرحلة الفعل، وهي التي وردت الأخبار عن الأئمة الطاهرين (سلام الله تعالى عليهم) بحدوثها»، وبناء على هذا القول تكون الإرادة صفة تقابل سائر الصفات العليا، فلا ترجع إلى العلم حينئذٍ، فتكون في مرحلة الذات عين ذاته عزّ وجلّ، وفي مرتبة الفعل لصدور الإيجاد، فتكون حادثة.

وأشكل عليه: بأنّ الإرادة غير الشوق والابتهاج عندنا، لما نراه في تناول الأدوية والأفعال العادية والجزافية والعبثية، وأمّا الابتهاج في حقّه تعالى، فهو بريء عنه؛ لأنّه منزّه عن الجسم والجسمانيات، إلّا أن يراد فيه عزّ وجلّ معني آخر غير ما نجده في أنفسنا.

وفيه: أنّ الابتهاج حاصل في كلّ فاعل لا محالة، ولكن ابتهاجه عزّ وجلّ مباين مع ابتهاج الخلق، كما في سائر صفاته تعالى، كالسميع والبصير ونحوهما، ولا يضرّ ذلك بأصل ثبوت هذه الصفة.

الثاني: أنّ إرادته عزّ وجلّ علمه بالنظام الأحسن والأصلح.

ص: 152

وقد ذهب إليه جمع آخر من الحكماء، وعلى هذا القول ترجع الإرادة إلى العلم، فتكون عين ذاته.

وقال بعض مشائخنا في توجيه هذا القول بما يرجع إلى القول الأول: «والوجه في تعبير الحكماء عن الإرادة الذاتية بالعلم بنظام الخير وبالصلاح، أنّهم بصدد ما به يكون الفعل اختيارياً، وهو ليس العلم بلا رضا، وإلّا كانت الرطوبة بمجرد تصور الحموضة اختيارياً، وكذلك ليس الرضا بلا علم، وإلّا كانت جميع الآثار والمعاليل الموافقة لطبائع مؤثراتها وعللها اختيارياً، بل الاختياري هو الفعل عن شعور ورضا، فمجرد الملائمة والرضا المستفادین من نظام الخير والصلاح التام، لا يوجبان الاختيارية، بل يجب إضافة العلم إليهما، فما يكون به الفعل اختيارياً منه تعالى هو العلم بنظام الخير، لا أنّ الإرادة فيه تعالی بمعنى العلم بنظام الخير».

أقول: وهو توجیه حسن.

الثالث: أنّ الإرادة هي الإيجاد عن علم وحکمة، وبه يمكن الجمع بين الأقوال؛ لأنّ كلّ من تأمّل في تعبيرات العلماء على اختلافها، يرى أنّها ترجع إلى شيء واحد، لعدم إمكان قطع النظر عن العلم والحكمة المتعالية في إرادة الله عزّ وجلّ، فمن نظر إلى أساس المقدّمات أدخل العلم في حدها، ومن نظر إلى النتيجة مجردة عن المقدّمات حدها بغير ذلك، فيصح أن يقال: إن الإرادة هي الإيجاد عن علم وحكمة متعالية، فالمراد من حيث الإضافة إلى

ص: 153

الجاعل يسمّى إيجادة وإرادة، ومن حيث لحاظه في نفسه يسمّى فعلاً.

وهذا المعنى لا يختصّ به عزّ وجلّ، بل يجري في إرادة الإنسان أيضاً، ومما يؤكّد ذلك أن الأئمة (عليهم السّلام) جعلوا الإرادة من صفات الفعل.

ومن ذلك يظهر أنّ جعل الإرادة العلم بالنظام الأحسن ليس المراد به أنّ العلم بنفسه هو المؤثر التّامّ لصدور الأشياء ووجودها، حتّى يلزم المحاذير الّتي ذكروها في الكتب الفلسفية والكلامية، وإن كان القول بذلك صحيحاً في الجملة، بمعنى المنشأيّة والمصدريّة، كما ذكرنا.

وقد ظهر ممّا تقدّم بطلان ما قيل: من أنّ الإرادة لا ترجع إلى العلم؛ لأنّه يستلزم إمّا إلى إرادة الشر والظلم والكفر والقبائح؛ لأنّه تعالى يعلمها، أو يلزم أن يكون منشأ التأثير في الممكن الأصلح اعتباريّاً محضاً، ولا يرجع إلى نفس العلم لتعلقه بالمعلومات على حدّ سواء، أو يرجع إلى نفس الأصلح، وهو يرجع إلى كون شيء واحد مؤثّراً ومتأثّراً.

والكلّ باطل؛ لأنّ علمه تعالی إن كان علّة تامّة لحصول المعلوم مطلقاً يلزم ما ذكر، ولكنّه ليس كذلك، بل علمه الأزلي بالأشياء من مجرّد المقتضي، فالعلية التامة تتوقّف على أمور كثيرة أخرى، فمن يقول إنّ الإرادة هي العلم بالممكن الأصلح، لا يريد

ص: 154

أنّ العلم لوحده هو السبب لوجوده، بل العلم مع اختياره عزّ وجلّ ويدلّ على ذلك ما رواه الكليني عن أبي عبد الله (عليه السّلام): «عَلِمَ اللهُ سابق لِلمَشِيئَة»، حيث يستفاد أنّ العلم بوحده لم يكن المؤثّر من دون المشيئة والإرادة.

والحاصل: أنّ الإرادة هي الإيجاد عن علم وحکمة، وهي فعله، فتكون من صفات الأفعال، ولا بدّ من انبعاث صفات الأفعال عن العلم والحكمة.

ويمكن رفع الاختلاف من أصله لما تسالموا عليه من أنّ العلل التوليديّة يصحّ انتساب الأثر فيها إلى نفس المعلول وإلى العلّة، كما في قولك: أحرقته النّار فمات، أو مات بالنّار، كما لا فرق بين قولهم (عليهم السّلام): «الطهور نور»، أو: «الوضوء نور» وأمثال ذلك كثير، وفي المقام أنّ الإرادة هي العلّة التي يترتّب عليها المراد، بلا فرق بين إرادة الخالق وإرادة المخلوق، فالإرادة بما هي من شؤون المرید باعثة لصدوق المراد والفعل.

فمن نظر إلى المراد جعل الإرادة الفعل، ومن نظر إلى أنّها لا تحصل إلّا بالعلم والحكمة جعلها منهما، ومن نظر إلى توسط الإرادة بين العلم والمراد، جعلها ابتهاجاً وشوقاً، فيرجع الجميع إلى شيء واحد في هذا الموضوع الذي له شؤون مختلفة.

ولعلّ من قال من الفلاسفة الأقدمين: إنّ الإرادة في الإنسان هي الفعل. فإن كان نظره إلى ذلك، وهذا هو المرتكز في

ص: 155

النفوس، فإن الإنسان لا يرى حين إرادته شيئا إلّا المراد فقط، غافلاً عن نفس الإرادة ومقدّماتها، وإن كانت هي منطوية في النفس انطواء الجزء في الكلّ.

أقسام الإرادة:

قسّم الحكماء والفلاسفة الإرادة إلى إرادة تكوينيّة وإرادة تشريعيّة، وعرّفوا الأولى بأنّها ما تعلقت بفعل نفس المريد، والثانية ما تعلقت بفعل الغير مع سبق إرادته، وهما تتصوران بالنسبة إلى إرادة الله تعالى وإرادة الإنسان معا.

أمّا بالنسبة إلى إرادته عزّ وجلّ، فقد تقدّم، وقد وردت في القرآن الكريم كلتاهما.

قال تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَليمٌ خَبير» (سورة الحجرات، الآية 13). فإنّها إرادة تكوينيّة. وقوله تعالى: «وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) (سورة الآنفاًل، الآية 1) وهي إرادة تشريعيّة.

وأمّا في المخلوق، فمثل قولك: «ذهبت إلى المسجد»، فإنّها إرادة تكوينية، وقولك لولدك: «اذهب إلى المسجد»، وهي إرادة تشريعيّة، وفي القرآن الكريم القسمان من الإرادة التكوينيّة والتشريعيّة معاً، والسنّة الشريفة حوت الإرادة التشريعيّة وبيّنت خصوصیّاتها.

ص: 156

وهذا التقسيم إنّما هو من باب الوصف بحال المتعلق، وغلا فلا فرق بين ذات الإرادة في الموردين.

ثم إنّ التشريعيّة إن كانت بالنسبة إلى الفعل ولم يستظهر من القرائن الداخليّة أو الخارجيّة الترخيص في الترك، يعبّر عنها بالوجوب، وإلّا فهي الندب والاستحباب، وإن كانت بالنسبة إلى الترك ولم يستظهر من القرائن الترخيص في الفعل، يعبّر عنها بالحرام، وإلّا فهي الكراهة، وبذلك تنتظم الأحكام التكليفيّة، وقد أثبتوا أنّ الأصل في الأشياء الإباحة إلّا مع الدليل على الخلاف.

وإرادة الله التشريعيّة ليست إلّا لتكميل الإنسان، فلو قلنا: بأن الإرادة التشريعيّة منه عزّ وجلّ غاية الإرادة التكوينيّة بل أصلها وأساسها، لم يكن به بأس، وعليه الشواهد الكثيرة، ويصح العكس أيضاً لشدّة ارتباطهما، فقد ورد في العقل المجرد سيّد الأنبياء أحمد (صلّی الله عليه وآله وسلّم): «خلقت الأشياء لأجلك، وخلقتك لأجلي»، وقال الله تعالى بالنسبة إلى موسى بن عمران: «وَاصطَنَعتُكَ لِنَفسِي» (سورة طه، الآية 41).

ولذا جعل بعض مشائخنا(قدّس سرّهم) الإرادة التشريعيّة من التكوينيّة؛ لأنّ التشريع من مراتب النظام الأحسن، وهو متين جدّاً.

وقيل: إنّه لا وجه للإرادة التشريعيّة؛ لأنّ إرادته تعالى إن تعلقت بفعل الغير يتحقق لا محالة، فيتحقّق الجبر، وحينئذٍ يكون فعله تعالى لا فعل الغير، فالإرادة التشريعيّة باطلة.

ص: 157

وفساده واضح؛ لأنّ الإرادة التشريعيّة تتعلّق بما يصدر من العبد مع إرادته واختياره، فالإرادة تتعلّق بفعله مع تخلّل القصد والاختبار، وأنّه فاعل مختار، ولعلّ تقسيم الإرادة إلى هذين القسمين لبيان الفرق بين متعلّقي الإرادتين(1).

ص: 158


1- مواهب الرحمن، ج8، ص80 - 100

صفات الله التنزيهيّة

أنّ صفات الله جلّ شأنه تنقسم إلى أقسام عديدة حسب اختلاف الوجوه والاعتبارات:

فتارة: تنقسم إلى صفات الذات وصفات الفعل.

وأخرى: إلى الصفات العامة كالخالقيّة، والخاصّة كالفيوضات الخاصّة على أنواعها وأقسامها.

وثالثة: تنقسم إلى الصفات الثبوتيّة والصفات السلبيّة، وفي هذا البحث يقع الكلام في القسم الأخير، أي الصفات الثبوتيّة والصفات السلبيّة، والمراد بالأولى تلك الصفات التي تكون كمالاً للمتصف بها، ولا يستلزم من نسبتها إليه عزّ وجلّ نقصن فيجب حينئذٍ الاتّصاف بها، وهي كثيرة، كالعلم والحياة والقدر ونحو ذلك، وتسمّى بالصفات الجماليّة أو الكماليّة.

والمراد بالثانية هي تلك الأمور التي يمتنع ثبوتها لذاته المقدسة، وتسمّى بالصفات الجلالية، أي: يجلّ وينزّه تعالی عنها، وهي النواقص ولواحق الإمكان وكلّ صفة إذا استلزمت النسبة إليه عزّ وجلّ نقصاً، وهي كثيرة وقد ورد جملة منها في

ص: 159

القرآن الكريم والسنّة الشريفة، مثل أنّه تعالى ليس بجسم، ولا بمكاني ولا زماني، ولا كيف له، وأنّه ليس بمتحرّك، ولا سکون له، ولا يرى، أي: لا تدركه الأبصار وغير ذلك، كما سيأتي في الموضع المناسب شرح ذلك كلّه. إلّا أنّ البحث في المقام يقع في نفي الظلم عنه عزّ وجلّ، كما دلّت عليه الآية التي تقدّم تفسيرها.

وقبل أن نتعرّض لذلك لا بدّ أن نشير إلى الصفات التنزيهيّة التي تجلّ ذاته الأقدس عن الاتّصاف بها؛ للزوم النقص، هي غير البحث الذي أشار إليه الأئمة المعصومون، وهو أن الصفات الكمالية التي يتصف بها عزّ وجلّ لا يمكن درکها بحقيقتها وكنهها، ولا يمكن أن يصل غليها عقول البشر، فالله تعالی عالم، أي: ليس بجاهل، لأنّ حقيقة علمه عزّ وجلّ لا يمكن درکها ولا تصل إليها فهم الإنسان، فإنّ ذلك في الصفات الكماليّة التي يجب أن يتّصف بها الذات المقدّسة، وإلّا استلزم النقص بالنسبة إليها، لا الصفات السلبيّة التي يجلّ أن يتّصف بها.

ثم أنّه جلّت عظمته منزّه عن الظلم، كما دلّت عليه الأدلة الكثيرة، فمن الكتاب آیات عديدة، منها قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَ لكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون» (سورة يونس، الآية 44)، وقوله تعالى: «وَلَا يَظلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» (سورة الكهف، الآية 49)

ص: 160

ومنها: الآية التي تقدّم تفسيرها: «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً»، والمستفادُ من هذه الآية الشريفة أمور:

الأول: أنّ عدم وقوع الظلم منه لا عن نقص في القدرة الأزلية، بل لأجل أن حكمته اقتضت أن لا يظلم أحداً، وهذا هو معنى العبارة المعروفة: «إِنَّ اللهَ لَا يَظلِمُ لِحِكمَة، لَا لِقُدرَة» كما تقدّم، فإن قدرته تامة كاملة قد تعلقت بجميع الأشياء حتّى الممتنعات، ولكنّ الحكمة الإلهية اقتضت أن لا يفعل ذلك، وهو لا يفعل شيئا خلاف الحكمة، فإنّ الذي يقدر على مضاعفة الحسنات لقادر على سلبها عن صاحبها، ولكنّه لا يظلم أحداً.

الثاني: أنّ وقوع الظلم منه يستلزم الجهل، وهو منزّه عنه تعالى، فيرجع نفي الظلم عنه إلى علمه الأتمّ بحقائق الأشياء، والظالم يجهلها فيظلم.

الثالث: استغناؤه عن الظلم، فلا غرض له يتعلق به، وهو منزّه عنه؛ لأنّ الله تعالى يضاعف الحسنات ويعطي الأجر العظيم لمن استحقّه، فهو أجلّ من أن يسلبه عنه.

ثمّ إنّ نفي الظالم عنه تعالى لا يثبت العدل له جلّت عظمته، بخلاف العكس كما هو واضح(1).

ص: 161


1- مواهب الرحمن، ص217 - 218، ج8.

بحث فلسفي کلامي

لا ريب في ثبوت السعادة والشقاوة للإنسان، والأولى عبارة عن الخير للإنسان. والثانية تقابل ذلك. وللعلماء والفلاسفة فيهما أقوال ومذاهب. ومحصَّل تلك هي: أنّه إذا لوحظ الإنسان بالنسبة إليهما يتصوّر على وجوه:

الأول: أن تكون السعادة ذاتية للسعيد، والشقاوة ذاتية للشقي، بالذاتي الحقيقي المعبَّر في محلّه بالذاتي الإيساغوجي.

الثاني: أن يكون كلّ واحد منهما ذاتيّاً له، بمعنى كونهما من لوازم الذات، كذاتية الزوجية الأربعة والفردية للثلاثة، المعبَّر عنه في محلّه بذاتي باب البرهان.

وهذان الوجهان باطلان في نظام التشريع، لأنّ القول بهما ينافي الاختبار الذي يتقوّم به التشريع مطلقاً، كما دلّت عليه الأدلة العقليّة والنقليّة.

ولكن استند بعض إلى قول نبينا الأعظم (صلّی الله عليه وآله وسلّم): «النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، خِيَارُهُم فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُم فِي الإِسلَامِ، وَشِرَارُهُم فِي الجَاهِلِيَّةِ شِرَارُهُم فِي الإِسلَامِ».

ص: 162

ويرد عليه ما عرفت آنفاً من أنّ القول به ينافي القواعد العقلية المتقنة، الدالة على ثبوت الاختبار، وأن التشبيه في الحديث الشريف إنّما هو من بعض الجهات دون جميعها:

الثالث: أن يكون من مجرد الاقتضاء لا الذاتي، وهذا هو الصحيح الذي يستفاد من مجموع الأدلة الواردة في الطينة والميثاق، والشقاوة والسعادة، وهو الموافق للقواعد العقلية الدالة على ثبوت الاختبار في استحقاق الثواب والعقاب.

وحينئذٍ فالشفاعة الكبرى التي ذكرنا أنّها ثابتة لنبينا الأعظم (صلّی الله عليه وآله وسلّم) الذي هو واسطة الفيض، وسائر الأنبياء والأوصياء، إنّما هي في هذا القسم من السعادة والشقاوة، ولا موضوع لها في الوجهين الأولين، لعدم قابلية المحل لها، وقد ذكرنا أنّها شرط في ثبوت الشفاعة، ويدلّ على ذلك ما ورد في الشفاعة، ويدلّ على ذلك ما ورد في الشفاعة، مثل قوله (عليه السّلام): «ادَّخَرَت شِفَاعَتِي لِأَهلِ الكَبَائِرِ مِن أُمَّتِي»، فإنّ المستفاد منه أن موردها الأفعال، فلا تكون في مرتبة الذات والذاتیات، فيكون مورد الشفاعة السعادة والشقاوة على الوجه الثالث، فإنّه القابل للتغيير والتبديل بعروض الموانع.

وقد ذكرنا أنّ السعادة والشقاوة على درجات:

منها: ما يكون الإنسان فيهما بالغاً إلى أقصى درجات الكمال.

ومنها: ما يكون الإنسان سعيداً ذاتا وشقياً فعلاً، وبالعكس.

ص: 163

ومنها: ما لتتم له فعلية السعادة والشقاوة، ولكن لا بد من زوال الهيئات الرديئة وبروز الحقيقة، فإمّا أن ترزق التطهير فتزول الشقاوة العرضية، أو تسلب السعادة العرضية وتظهر شقاوة النفس، أو تكون مرجوة لأمر الله تعالى إن لم تكتمل في السعادة والشقاوة وفارقت الحياة ناقصة مستضعفة، فالشفاعة في هذه المراتب والأقسام إنّما تزيل الهيئات الرديئة الشقية التي لزمت النفوس.

أمّا النفوس الكاملة في الشقاوة، التي أثرت المعاصي والذنوب في ذاتها، وانقلب المقتضي إلى الذاتي، فلا موضوع للشفاعة فيها، وهذا من إحدى الأصول التي بني بعض أكابر الفلاسفة (رحمة الله عليه) المعاد الجسماني عليها، وقال بعضهم:

قدم خمرت طينتنا بالملكة *** وتلك فينا حصلت بالحركة

«اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْديهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظيم»

الآية الشريفة تقرّر أعظم المعارف الإلهية، وأهمّ أصل من أصول الدين، الذي إليه يدعو جميع الأنبياء والمرسلين. وأنّ الاعتقاد به يجعل العبد في الصراط المستقيم، ويحثه على العمل القويم، يطلبه الإنسان بالفطرة ويترنّم باسمه في كلّ حالة، إلّا وهو الله المعبود بالحق الواحد الأحد الذي اجتمع فيه جميع صفات الكمال.

ص: 164

وما في الآية الشريفة هو الحدّ الفاصل بين الاعتقاد الصحيح وغيره، فقد قرّرت توحيد الله تعالى في الذات والمعبودية والصفات.

وقد وصفته بأصول صفات الكمال وهي الحياة، والقيومية، والمالكية، والربوبية العظمى، والعلم، فلا تخفى عليه خافية في السماوات والأرض، ولا يحبط بعلمه أحد. وهذه هي أمهات الأسماء الحسنى، وإليها يرجع سائرها، وقد نزهت عنه جميع ما لا يليق بساحة كبريائه.

فهي تثبت المبدأ والمعاد للتلازم بينهما، فتضمنت الآية الشريفة توحيد الله تعالى والصفات العليا والأسماء الحسنی، وتنزيهه عما لا يليق به، واتصافه بصفات الجمال والجلال، على نحو يستشعر العبد بعظمته وكبريائه، وحكمته وعلو قدره وعظم شأنه، فيقف بين يديه خاضعا ذليلا مذعنا بوجوب طاعته والوقوف عند حدوده وأحكامه، ونبذ ما لا يليق بساحة كبريائه والإعراض عما يسخطه ولا يرضى به، فالمعتقد بها يؤمن بما ورد في القرآن الكريم، وما جاء به سيد المرسلین.

فالآية المباركة بحقّ أعظم آية في كتاب الله المجيد، وإنّها من كنوز العرش، وأنّها تعدل ثلث القرآن.

ومن ذلك يعلم وجه الارتباط بما سبق وما يأتي من الآيات الشريفة.

ص: 165

في رحاب آية الكرسي

قوله تعالى: «الله»

الله: عَلَم لواجب الوجود المعبود بالحق إله العالمین جلّ جلاله، وهو أجلّ لفظ لأعظم معنين فوق ما نتعقله من معنی العظمة والجلال.

وتقدّم في سورة الحمد ما يتعلق به، وقلنا: إنّه سواء كان اللفظ من وَلِه بمعنى التحيّر، لتحيّر جميع ما سواه فيه جلّ وعلا، وأنّ غاية ما في وسع الجميع إنّما هي الإشارة إليه تعالى بهذا اللفظ العظيم وأمثاله من أسمائه المباركة، وإمّا الحقيقة، فدونها حجب كثيرة.

أو كان من أَلِهَ بمعنى العبودية، لكونه المعبود بالحق.

أو عَلَم مختصّ به جلّ جلاله، فإنّ جميع ذلك يستلزم أنّه متّصف بجميع صفات الكمال، ومنزّه عن النقائص والأوهام، وقد نسب إلى نبينا الأعظم (صلّی الله عليه وآله وسلّم): «أَنَّ هَذَا هُوَ الاسمُ الأَعظَمُ الَّذِي يَتَأَثَّرُ مِنهُ العالَم،.

ص: 166

قوله تعالى: «لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ».

نفي للمعبود مطلقاً وحصر فيه جلّ وعلا، بل نفي للحقيقة الحقة وإثبات لها فيه تعالى، لأنّ غيره في معرض الزوال والفناء.

والإله هو الذات المتّصفة بصفات الألوهية، من وجوب الوجود والحياة والقدرة وغيرها.

أي: لا ذات تستحق الصفات الإلهيّة إلّا الله تعالى، والضمير يرجع إلى اسم الجلالة الدالّ على الذات المقدّسة، المتّصفة بجميع صفات الجمال والجلال، وقد تقدّم بعض الكلام في قوله تعالی: «وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ» (سورة البقرة، الآية 163).

ونزيد هنا: أنّ الوجه في إتيان الضمير مفرداً دون الجمع، لما ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّه تعالى إذا كان في مقام بیان الصفات المقدسة العليا، أو في مقام الرحمة والامتنان على العباد، يأتي بالمفرد، وإذا كان في مقام بيان القدرة والقارية والكبرياء، يأتي بضمير الجمع.

وقد كرّرت هذه الجملة المباركة المبتدأة باسم الجلالة والمنتهية بلفظ «هو» في ستّة مواضع من القرآن الكريم، أحدها المقام، والثاني قوله تعالى: «اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ» (سورة آل عمران، الآية 3)، والثالث قوله تعالى: «اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ» (سورة النساء، الآية 87)، والرابع قوله تعالى: «اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسمَاءُ الحُسنَي) (سورة طه، الآية 8)، والخامس قوله تعالی:

ص: 167

«اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ العَرشِ العَظِيمِ» (سورة النمل، الآية 26)، والسادس قوله تعالى: «اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ». (سورة التغابن، الآية 13). وعن بعض المتتبعين أنّ لهذه الجملة المباركة آثاراً عجيبة حصلت بالتجربة، ويشهد لما ذكره (قدس سره) أنّ هذه الجملة في جميع الموارد التي ذكرت اقترنت بمهام الصفات الجمالية والجلالية. ووحدته الحقّة الحقيقية سرت إلى الألفاظ التي تطلق عليه عزّ وجلّ.

قوله تعالى: «الحَيُّ»

حصر للحياة فيه تعالى، فهي فيه عزّ وجلّ حقيقية ذاتية، لا أن تكون إضافية، كما ستعرف.

أي: هو الحي فقط، وغيره في معرض الزوال ومستمد منه عزّ وجلّ، قال تعالى: «وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّوم» (سورة طه، الآية 111).

والحي من الصفات المشبّهة التي تدلّ على الثبوت والدوام، کالرحيم والعليم، أي: أنّه الحياة الثابتة، ومفهوم الحياة معلوم وظاهر، وهي التي تبتني عليها جميع الإحساسات والإدراكات، ويلازمها العلم والقدرة، وبانتفائها تتعطل جميع قوى الحيّ ومشاعره وأفعاله، وهي على مراتب، وأصولها الحياة الإنسانية والحيوانية والنباتية، وحياة المجردات، وقد ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم في مواضع متعددة، قال تعالى: «وَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحيِی

ص: 168

الأَرضَ بَعدَ مَوتِهَا» (سورة الحديد، الآية 17)، وقال تعالى: «وَهُوَ يُحيِى المَوتَی» (سورة الشورى، الآية 9).

وأقسامها ثلاثة: الحياة الدنيا، والحياة البرزخية، والحياة الآخرة، وقد وردت في القرآن الكريم، قال تعالى: «رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ» (سورة غافر، الآية 11)، وسيأتي أنّ المراد من الحیاتین الحياة البرزخية والحياة الآخرة.

وأمّا الحياة الدنيا فقد وصفها الله تعالى بأوصاف مختلفة، كلّها تدلّ على ذم هذه الحياة ورداءتها وزوالها، بخلاف حياة الآخرة التي وصفها الله تعالى بأنّها الحياة الكاملة، قال تعالى: «وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُون» (سورة العنكبوت، الآية 64)، كما وصفها بالأمن والخلود والهناء وعدم النقص في كل ما يرتبط بها، قال تعالى: «آمِنينَ * لا يَذُوقُونَ فيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَ وَقاهُمْ عَذابَ الْجَحيمِ» (سورة الدخان، الآية 56)، وهي أبدية لا غاية لها بحسب الآخر والمنتهى، قال تعالي: «خالِدينَ فيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ» (سورة هود، الآية 108)، ولكنها محدثة مسبوقة بالعدم، فهي الحياة الكاملة على الإطلاق، ولكن مع ذلك هي مسخرة تحت إرادة الله تعالى، مملوكة له عزّ وجلّ، قال تعالى: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُون» (سورة النحل، الآية 97).

ص: 169

فتكون حياته جلّت عظمته حياة حقيقية كاملة واجبة فيه عزّ وجلّ، بريئة من النقص، يستحيل عليها الموت والفناء، قال تعالى: «وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذي لا يَمُوتُ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَ كَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبيراً» (سورة الفرقان، الآية 58)، وهي متقوّمة بالعلم والقدرة، ولها مراتب غير متناهية، لانتهائها إلى ما يكون عین ذات الله جلّت عظمته، ولا مبدأ لأولها ولا منتهی الآخرها، لأنّه أزلي أبدي بذاته، وكذلك يكون ما هو عين ذاته، أي الحياة والعلم والقدرة.

وهذه الحياة منحصرة في الله تعالى، وليست حياته حياة فردية شخصية، بل هي حياة كلية حقيقية، هي مبدأ حياة كل حي، من حياة النبات والحيوان والإنسان والروحانيين، والأرواح الشامخة والعقول المجرّدة، بل وجميع ما سواه حتّى الجمادات، فإنّ لها حياة خاصّة لا ندركها، كما يظهر من قوله تعالى: «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِه» (سورة الإسراء، الآية 44)، وقوله تعالى: «وَأَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيءٍ» (سورة فصلت، الآية 21)، فإنّ جميعها مستمدّة من تلك الحقيقة الواحدة البسيطة، فتكون حياته عزّ وجلّ منشأ الأرواح وأصلها، وبدوامها تدون، بلا فرق بين الأرواح العلوية والأرواح السفلية والجواهر المقدّسة الروحانية، فهي منشأ الخيرات ومنبع البركات، وهي الغيث المستغيث والغياث المستغاث في عالمي الأمر والخلق، اللذين يجمعان جميع الممكنات.

والحيّ أم الأسماء الحقيقية المحضة، كالقدرة ونحوها كما يأتي.

ص: 170

قوله تعالى: «القيوم».

حصر للقيّومية فيه عزّ وجلّ فقط، قلبت الواو ياء بعد أن كان الأصل قيوومة، وادعمنا فصار قیومة، للقياس المطّرد على ما هو المعروف عند الأدباء، كما أن أصل القيام القوام، فعل به ما فعل بنظيره.

والقيّوم من أسمائه الحسنى، ومعناه: القائم بالأمر، المتعهد بالحفظ والتدبير والمراقبة، وقد أطلق عليه تعالى قبل الإسلام أيضاً، قال أميّة بن أبي الصلت:

لم تخلق السماء والنجوم *** والشمس معها قمر يقوم

قدّره مهیمن قيّوم *** والحشر والجنة والنعبم

إلّا لأمر شأنه عظيم

وهو تعالى قائم بأمر خلقه وتدبير شؤونهم عن علم تام وحكمة كاملة، وهو دائم بدوام ذاته، لا يعتريه ضعف ولا فتور.

وتستلزم القيمومة على خلقه جملة من الصفات العليا الحقيقية ذات الإضافة، كالخلق والرزق، والإحياء، والإمّاتة، والرحمة، والغفران، ونحو ذلك مما يتطلّبه شؤون خلقه.

فهو من أمهات الأسماء ذات الإضافة، والفرق بين الأسماء الحقيقية ذات الإضافة والإضافية المحضة، يأتي في البحث الفلسفي إن شاء الله تعالی.

قوله تعالى: «لَا تَأخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَومٌ».

ص: 171

السّنة - بكسر السين - النعاس، وهو الفتور الذي يعتري الإنسان قبل النوم، واصل السنة، وَسنة حذفت الواو.

والنوم معروف، وهما - أي السنة والنوم - متلازمان غالباً، ولكن قد يطرأ النوم من دون أن تغلب السنة.

وقد نفى سبحانه وتعالى عن ذاته الأقدس كلا الأمرين، لأنّ القيّوميّة على خلقه تتطلّب أن يكون قائماً على تدبير خلقه في جميع الحالات، وإلّا كان من الخلف الباطل، فلا مقتضي للنوم فيه جلّ جلاله بوجه من الوجوه، فيكون ترتّب هذه الجملة على الحيّ القيّوم من ترتّب المعلول على العلّة، فيستفاد منها أنۀ ما لا يكون كذلك تأخذه السنة والنوم.

ومن ذلك يعلم: أنۀ تقديم السنة على النوم إنّما هو من باب إثبات عدم النوم بالأولوية، ولو قدّم النوم لما أفاد هذا المعنى، أي: من لا تأخذه مقدّمات النوم، كيف يعقل أن يأخذه النوم؟!

وما قيل: من أنّ هذه الجملة على خلاف الترتيب الذي تقتضيه البلاغة في أمثال المقام، فإنّه لا بدّ أن يكون من الأقوى إلى الأضعف، بخلاف مقام الإثبات، فإنّ الترتيب فيه يكون من الأضعف إلى الأقوى.

فإنّه يرد عليه مضافاً إلى ما تقدّم: أنّ الترتيب في كلا المقامين - مقام الإثبات ومقام النفي - إنّما يدور مدار صحة الكلام- .

ص: 172

والتعبير ب-(الأخذ)، لنفي جميع ما يتصوّر في عروض السنة والنوم على ذاته الأقدس عزّ وجلّ.

قوله تعالى: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ).

معلوم آخر للواحد للحيّ القيوم، فإنّه إذا انحصر الحي القيوم في الفرد الواحد، يكون كلّ ما سواه له، لا بمعنى المالكيّة والملكيّة فقط، بل إنّ كلّ ما يتصوّر في السماوات والأرض من جهات الاحتياج والاستكمال له تعالى، وليس ذلك من المشترك اللفظي في شيء، لأنّ اللفظ مستعمل في المالكيّة الحقيقية للذات بجميع لوازمها وملزوماتها، فالسموات والأرض وما فيهما خاضعة لإرادته وحاضرة لديه، وهي قائمة به عزّ وجلّ، فالقيّوميّة العظمی تستدعي سعة إحاطته وقدرته وملکه لجميع السماوات والأرض، وهي تدلّ على تفردّه بالألوهية، وأنّ السلطان المطلق لله تعالی.

وممّا ذكرنا يعرف: أنّ هذه الجملة في موضع التعليل لنفي السنة والنوم عنه تعالى أيضاً، يعني: من كان مالكاً للسماوات والأرض وما فيهما وقیّومة عليها، لا يمكن أن تأخذه السنة والئوم، وإلّا استلزم المحال، وهو تعطیل شؤون الملك، كما أنّه لو نام ربان السفينة مثلاً وغفل عن شؤونها لغرقت السفينة.

قوله تعالى: «مَن ذَا الَّذِي يَشفَعُ عِندَه إِلَّا بِإِذنِهِ».

استفهام إنكاري، أي ليس لأحد الشفاعة والتأثير في ملکه وسلطانه إلّا بإذنه، لأنّه إذا كان المعبود بالحق منحصرة فيه عزّ

ص: 173

وجلّ، وهو الحيّ القيّوم لجميع خلقه، وله جميع ما سواه ملكاً وتدبيراً وإيجاداً وإفناءً، لا يعقل أن يشفع عنده بدون إذنه، لأنّه محال بالضرورة.

والآية الشريفة بعد إثبات السلطان المطلق له تعالى والملكيّة الحقيقية فيه عزّ وجلّ، تثبت قانون الأسباب والمسبّبات، أي الشفاعة التكوينيّة بإذن الله تعالى، وقد ذكرنا سابقاً أنّ الشفاعة المنفيّة ما إذا كانت منافية للسلطان الإلهي ومستقلة عن مشيئة الله تعالى، وأمّا إذا كانت بإذنه عزّ وجلّ، فلا مانع منها، فإنّه ما من سبب إلّا ويكون تأثيره من الله تعالى، فهو القيّوم المطلق، فتصرّفه إنّما يكون منه جلّت عظمته، بل إنّ الأسباب في عالم التكوين حاكية عن جماله وصفاته العليا، ونظير الآية المباركة قوله تعالی: «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلا تَذَكَّرُون» (سورة يونس، الآية 3).

وأنا الشفاعة التشريعيّة، فتكون بإذنه عزّ وجلّ بالأولى، لأنّها من شؤون تشريعاته المقدّسة التي يكون التكوين من مقدّمات حصولها، وقد تقدّم الكلام في الشفاعة فراجع.

قوله تعالى: «يَعلَمُ مَا بَينَ أَيدِيهِم وَمَا خَلفَهُم».

كناية عن كمال إحاطته بالموجودات، وسعة علمه بالمخلوقات.

ص: 174

والمراد بما بين أيديهم الحاضر المشهود، وبما خلفهم الغائب المستور، فيشمل جميع سلسلة الزمان الحاضر والماضي والمستقبل، وهي بمنزلة التعليل لنفي الشفاعة إلّا بإذنه.

يعني: أن مناط الشفاعة هو العلم الإحاطي بالعباد بما فعلوه ويفعلونه، وسائر جهاتهم وخصوصياتهم في سلسلة الزمان من الحاضر والماضي والمستقبل، ومثل هذا العلم منحصر في الله جلّت عظمته، فلا بدّ أن تكون أصل الشفاعة وجميع ما يتعلق بها وسائر إضافاتها، من حيث الشافع والشفيع ومتعلق الشفاعة، بإذنه واختياره عزّ وجلّ، حدوثاً وبقاءً في الدنيا والآخرة، فلا كمال ولا استكمال إلّا منه تعالى، ولا يقدر أحد على التصرف في ملكه، ولا رادّ لقضائه جلّت عظمته إلّا منه وبه تعالى، ولهذه الآية الشريفة نظائر في القرآن الكريم، قال تعالى: «بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْديهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (سورة الأنبياء، الآية 26 و 27 و 28).

قوله تعالى: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَیءٍ مِن عِلمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ».

تأكيد لسعة علمه وكمال إحاطته ونفي علم ما سواه به تعالی. أي: أنّ أحداً من خلقه لا يقدر أن يحيط بما يعلمه إلّا إذا شاء.

ومن هذه الآية الشريفة يستفاد عجز ما سواه عن الإحاطة به تعالی، لأنّ صفاته العليا وأسماء الحسنی غیر متناهية كذاته

ص: 175

المقدّسة، وما سواه متناه، وعدم إمكان إحاطة المتناهي بغير المتناهي من البديهيات الأولية.

فالعلم لله تعالى وحده، وهو يختصّ به عزّ وجلّ، وما يوجد عند غيره إنّما هو من علمه ومشيئته وإرادته، وهو تعالی محیط بما سواه وقائم على خلقه، ولا تتمّ قیّومیته على خلقه إلّا بإفاضة ما يحتاجون إليه من العلوم والمعارف لتكتمل بذلك سعادتهم الدنيويّة والأخرويّة، ولا يختصّ ذلك بذوي العقول، بل لطفه وعنايته شاملتان لجميع مخلوقاته، فهي مستفيضة من فيضه العلي، ويدلّ على ذلك جملة من الآيات المباركة، قال تعالى: «وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً» (سورة النحل، الآية 68)، وهي تحت إرادته وتربيبه العظمى، ومن مظاهر فيضه وإحسانه وآثار رحمته وامتنانه، ذاتاً وصفةً حدوثاً وبقاءً، فجميع نظامه التكويني والتشريعي ينبعث عن نظامه الربوبي، وما سواه محتاج إليه في البقاء كاحتياجه إليه عزّ وجلّ في أصل الحدوث، لا يقدر أن يقدم على خلاف إرادته عزّ وجلّ، وهو قائم بإرادته وتدبيره الأتم وحكمته البالغة، وفي كلّ آن له تعالی ربوبية خاصة وشأن غير ما في الآن السابق، قال تعالى: «كُلُّ يَومٍ هُوَ فِي شَأنٍ» (سورة الرحمن، الآية 29)، ومن كان كذلك يكون جميع ما سواه کرسيّاً له، لأنّ أظهر صفات الكرسي كونه مظهراً من مظاهر القدرة والاقتدار والتدبير والإرادة.

فالآية الشريفة تدلّ على تمام تدبيره وكمال إحاطته بمخلوقاته،

ص: 176

وهي عاجزة عن الإحاطة بخالقها وصفاته العليا، إلّا بقدر ما يفيضه عليها ويرشدها إلى الكمال المطلوب.

قوله تعالى: «وَسِعَ کُرسِيّهِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ»

مادة (ك ر س) تأتي بمعنى الجمع والمجتمع، ومنه الكرّاسة، والكرسي - في العرف.: اسم لما يقعد عليه، ولوحظ فيه المعنی اللغوي أيضاً لاجتماع الحال والمحلّ، أو اجتماع الأجزاء فيه، ولم يرد هذا اللفظ في القرآن الكريم إلّا في موردين، أحدهما المقام، والثاني قوله تعالى: «وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَدا» (سورة ص، الآية 34)، ویکتی به عن الملك.

والمراد به في المقام: اقتداره التام وسعة سلطانه، وهو تشبيه بليغ بين ما هو المعقول - بل فوق المعقول - بما هو المحسوس، وله نظائر كثيرة في الكتاب الكريم.

وتعقيب تلك الصفات العليا والأسماء الحسنی بهذه الآية يدلّ على أن المراد هو ثبوت الملك الحقيقي له تعالى، وكمال إحاطته واقتداره و تمام تدبیره به، وقيام جميع الممكنات به عزّ وجلّ، فإنّ کرسیّه بمعنى انتساب جميع المخلوقات إليه انتساباً إشراقياً. وهو من مظاهر فيضه المطلق غير المحدود، فيعمّ جميع الممكنات.

فكما أنّ في أسماء الله المقدسة اسماً جامعاً لجميعها، ويصحّ انتزاع سائر الأسماء الحسنی منه، وهو اسم الجلالة (الله)، حيث ينتزع منه الربّ، والرحمن، والرحيم، والجميل، والجليل،

ص: 177

والجواد، وغيرها من الأسماء الحسنی، فكذا لكرسيّه جلت عظمته لحاظ إجمالي، وهو جميع ما سواه من الممكنات التي وجدت وستوجد إلى الأبد، ولعلّ أجلّ تلك الكراسي كرسي العلم، الذي به تقوم السموات والأرض، كما أنّ به تنتظم شؤون خلقه وتدبير ملكه على الحكمة البالغة.

وإنّما شبه سبحانه وتعالى - ما في ساحته المقدّسة التي تجلّ عن المادة وشؤونها، فإنّه لا کرسيّ ولا جلوس هناك، تقريباً إلى الأفهام - بما اعتاد في صفات الملوك والعظماء فشبّه عظمته وكبرياءه وسلطانه التام بكرسي الملك المقتدر المدير لرعيته والمدبّر لشؤونها، وإلّا فليس ما سواه إلّا من مظاهر أسمائه وصفاته.

وفي المقام كلام طويل على بعض مباني الفلسفة الإلهية، أعرضنا عن ذكره وسيأتي في الموضع المناسب بيأنّه إن شاء الله تعالی.

ومن ذلك تظهر المناقشة في كثير مما ذكره المفسّرون في تفسير هذه الآية المباركة، والعجب أنّ بعضهم أقرّ بأن كرسيه تعالی كناية عن كمال إحاطته وتدبيره وسلطانه التامّ، يقول بأنّ الكرسي شيء يضبط السموات والأرض لا يمكن معرفة كنهه وحقيقته. وليس ذلك إلّا من التهافت في الكلام.

قوله تعالى: «وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما».

الأود: المشقة والثقل والجهد، والضمير يرجع إليه عزّ وجلّ،

ص: 178

أي: لا يشق عليه حفظ السماوات والأرض، ولا يجهده ويتعبه ذلك. ولا ريب فيه لأنّ الإخراج من العدم إلى الوجود أقوى وأشدّ من الحفظ بعد الوجود والثبوت، وبعد أنّ الممكن بعد الحدوث يحتاج إلى العلّة، فالعلّة المحدثة في كلّ آنٍ تكون معه، فلا يتصوّر موضوع للأود والمشقّة بالنسبة إليه تعالى، مضافاً إلى قيّوميته المطلقة التي لا حدّ لها ابداً، فيكون عروض الأود من فرض القيّومية المطلقة من الجمع بين المتنافيين، فالآية الشريفة تؤكّد السعة العلمية والربوبية العظمى.

قوله تعالى: «وَهُوَ العَليُّ العَظِيمُ»

هذه الجملة تدلّ على حصر جميع الكمالات فيه عزّ وجلّ، فلا علوّ ولا عظمة إلّا فيه ومنه تعالى، وقد وردت في عدّة مواضع من القرآن الكريم، وقرن اسم العلي بالكبير، قال تعالى: «وَهُوَ العَليُّ الکَبِيرُ» (سورة سبأ، الآية 23)، وبالحكيم قال تعالى: «إِنَّهُ عَلِيٌّ حَکَيمٌ» (سورة الشورى، الآية 51)، وقال تعالى: «لَعَلِيٌّ حَکَيمٌ» (سورة الزخرف، الآية 4)، كما أطلق اسم الأعلى عليه جلّ جلاله، قال تعالى: «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» (سورة الأعلى، الآية 1)، وقال تعالى: «إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى» (سورة الليل، الآية 20)، كما أورد اسم العالي في أسمائه المباركة الحسني في جملة من الدّعوات المأثورة.

والمعنى: هو العليّ في ذاته وجميع شؤونه وصفاته، فهو

ص: 179

المتعالي عن الشرك والأنداد، وعن الضعف في وجوده وصفاته، والفتور في ملکه وأمره العظيم في شأنه وجلاله، وأمره وسلطانه، فلا يعجزه كثرة مخلوقاته، وهو المنزّه عن الاحتياج إلى غيره في ملکه وسلطانه.

ويمكن أن تكون هذه الجملة حالية، أي: كيف يؤوده حفظهما وهو العليّ العظيم بالنسبة إلى ما سواه مطلقاً، فلا يعقل عروض التعب والمشقّة عليه.

وهذه الآية الشريفة خلاصة ما ورد في المعارف الربوبيّة، تشتمل على الذات المقدّسة وأمّهات الأسماء الحسنى وأصول الصفات العليا، وكلّ ما قيل في ذلك مقتبس من هذا النور الإلهي، فهو الله لا إله إلّا هو المتنزّه عن الأشباه والأنداد، له جميع الصفات العليا الجمالية والجلالية.

فهو الحيّ القيّوم الذي لا يأخذه ضعف ولا فتور ولا يصيبه کلال ولا ملال في حفظ مخلوقاته، وهي محتاجة إليه تعالی متعلّقة بأمره ومشيئته، وهو متعال عنها، عظيم في جميع شؤونه، لا يشبهه أحد من خلقه.

وقد اشتملت هذه الآية على كل ما يسوق العباد إليه. وهي تملأ القلب مهابة من الله جلّ جلاله، وتجعل النفس خاشعة ذليلة إمام عظمته وكبريائه وجلاله، وتزيد في معرفة العبد الله تعالى، وتقوده إلى ساحة قدسه، وهو يستشعر بالحياء منه وقلبه مليء من

ص: 180

عظمته وجلاله، قد أعرض عن غيره وقطع أمله عن سائر خلقه، وتوكّل عليه واعترف بالعجز والقصور لينال ما هو المأمول.

ولأجل اشتمال هذه الآية على تلك المعارف العليا كانت لها آثار خاصّة لم تكن في غيرها من الآيات، ذكر في السنّة الشريفة بعض منها(1)

ص: 181


1- مواهب الرحمن، ص216 - 220، ج4.

بحوث المقام

بحث دلالي:

تدلّ الآية الشريفة على أمور:

الأول: إنّما عبّر باسم الجلالة (الله) في صدر الآية المباركة، لدلالته على الكمال المطلق فوق ما نتعقله من معنى الكمال، ولازم ذلك انحصاره في فرد ونفي الشريك عنه ذاتاً وصفة وفعلاً، لأن الشرك مطلقاً ينافي فرض الكمال المطلق وهو خلف، وبهذا الدليل القويم يستدلّ على التوحيد في الذات والصفات والأفعال، وهو يغنينا عن إطالة الكلام في ذلك، ولأجل ذلك تكررت هذه الآية في القرآن الكريم، قال تعالى: «اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» (سورة طه، الآية 8)، وقال تعالى: «اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظيم» (سورة النمل، الآية 26)، وقال تعالى: «اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون» (سورة التغابن، الآية 13)، إلى غير ذلك من الآيات المباركة لا سيّما إذا انضمّ إليها جملة (الحيّ والقيّوم)، لأنّها تتضمن أمّ الأسماء الجماليّة والجلاليّة، والأصل في نظامي التكوين والتشريع، والرابط بين عالم الغيب بالشهادة وعالم

ص: 182

الشهادة بعالم الغيب، وفيها أهمّ أسرار عالم الملكوت، وهي النور الذي يتدفق عن عالم الجبروت، يستحيل على الممکنات تحمل معناها، فترى العقول صرعى دون بلوغ مغزاها، قد أدهش الأملاك جلالها، فتراهم خاضعين لا يرفعون الرؤوس، وحيّر الأفلاك فلا تزال تتحرك شوقاً إلى الاقتراب، وكلّما تقترّب ميلاً تفرّ أميالا لشدّة أشعة الجلال وعظمة الاحتجاب، يحترق كلّ من دنا منها، وماذا أقول في اسم هو حياة كلّ ذي حياة وقيّوم كلّ ذي ذات - جوهراً كان أو عرضاً.

الثاني: يستفاد من قوله تعالى: «وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما»، أنّ حفظ السماوات والأرض أعظم من إيجادهما، فإن حفظ الشيء أعظم بكثير من إيجاده، لأنّه يتطلّب جهداً أكبر، فكم قد رأينا أنّ مَلِكاً وصل إلى الملك ولم يقدر على حفظه وإبقائه، فحرم من الاستمتاع به، ولكن هذا غير متصور بالنسبة إلى الله تعالى، فأنّه القادر القهّار على جميع ما سواه، حدوثاً وبقاءً، إيجاداً وإفناءً، فلا مضادّ له في حكمه ولا ندّ له في ملكه، وقد جمع ذلك في قوله عزّ وجلّ: «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما».

الثالث: يستفاد من قوله تعالى: «يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْديهِمْ وَ ما خَلْفَهُم»، تمام الإحاطة العلمية بالمخلوقات، وأنّ جميع المتدرجات الزمانية بل الدهرية، حاضرة لدى علمه عزّ وجلّ، حضوراً علميّاً إحاطياً، وأنّها كذرة فلاة غير محدودة.

ص: 183

والتدّرج إنّما هو في مرتبة المعلوم بالعرض، لا في مرتبة العلم الإحاطي الغيبي، وأنّ غیب الغيوب حاكم على الشهادة بكل معنى الحكومة إيجاداً، وتقديراً، وتدبيراً، وإفناءً، وتبديلاً لصورة إلى أخرى، فهو المبدئ والمعيد والمصوّر لكلّ ما شاء وأراد.

كما يشمل قوله تعالى جميع الممكنات - الّتي منها الإنسان - من بدء حدوثها إلى آخر فنائها، إذ لا معنى لمالكيته تعالی للسّماوات والأرض وعلمه بها إلّا ذلك، فيعلم تعالى جميع ما يتعلق بالإنسان، أنواعه وأفراده، وجميع صفاته وحالاته، وسعادته وشقاوته وأفعاله وأقواله، حتى خطرات القلوب ولمحات العيون.

الرابع: يدلّ قوله تعالى: «وَ لا يُحيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاء»، على أنّه تمتنع الإحاطة بعلم الباري تعالي إلّا بمسمّی المشيئة، ويستفاد منه أنّ كلّ علم يفاض منه تعالى على الممكن لا بدّ أن يكون محدوداً بالمشيئة، ولا يمكن للعقول درك خصوصيات المشيئة ولا الجهات المقتضية للإفاضة، وإن كان يستفاد من قوله تعالى: «وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللَّه» (سورة البقرة، الآية 282)، أنّ الحقيقة التقوى دخلاً كبيراً فيها، فإنّها توجب صفاء القلب واستعداده للاقتباس من الأنوار الغيبية، فإذا انعكس شعاع الشمس على المرأة الظاهرية الجسمانية، كيف يحتمل أن لا تنعكس الأنوار الغيبية الواقعية في المرآة الحقيقية الواقعية؟!

الخامس: يحتمل أن يكون متعلق المشيئة الإحاطة، كما

ص: 184

يحتمل أن يكون نفس العلم، ويحتمل أن يكونا معاً، وعلى أيّ تقدير لا يكون إلّا بقدر القابليات والاستعدادات، قال تعالى: «أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها» (سورة الرعد، الآية 17).

نعم، لو فرض الفناء المطلق فيه جلت عظمتهن بحيث تزول الاثنينية، فهناك بحث خاص يقصر اللسان عن بيانه والقلم عن تحریره، فإنّ جميع جهاته حاليّة لا أن تكون مقالية.

السادس: يستفاد من هذه الآية الشريفة - وما في سياقها من الآيات - أنّ المعبود بالحق، لا بدّ أن يكون فيه هذه الأمور: الحيّ القيّوم، لا تأخذه سنة ولا نوم وغيرها، لأنّ هذه كلّها ذاتيّة له، فيمتنع التخلّف وتنحصر لا محالة في الله جلّت عظمته.

وما يتوهَّم من أنّه يستلزم التركّب في الذات الأقدس، لا وجه اله، لأنّ جميع ذلك يرجع إلى سلب الإمكان والنواقص الواقعية والإدراكية عنه، فتكون الذات بسيطة فوق ما نتعقّله من معنى البساطة.

السابع: ظاهر نفي السنة والنوم عنه تعالى، نفي حقيقتهما عنه مطلقاً، فيكون عدم الاختياري منهما عنه جلّت عظمته أيضاً، بل بالأولى، كما أنّ مقتضى ذلك نفيهما عنه تعالى في الأزل والأبد، إلّا أن يكون مختصّاً بوقت دون آخر.

وظاهر الآية الشريفة أنّ عدمهما مختصّ به عزّ وجلّ، أي نفي ذاتهما مطلقاً بجميع مراتبهما الممكنة فيهما.

ص: 185

وأمّا غيره تعالى، فإنّه لا دليل من عقل أو نقل على انحصار حقيقة النوم والسّنة فيما يعرضان للحيوان فقط، بل لهما مراتب كثيرة لا يعلمها إلّا علّام الغيوب، ومن تلك المراتب ما نسب إلى نبينا الأعظم (صلّی الله عليه وآله وسلّم): «تَنَام عَينِي وَلَا يَنام قَلبِي»، وقد رأينا بعض المشايخ أنّه رحمه الله كان في أثناء بحث التفسير ينام، مع أنّه كان مشغولاً بالبحث حين النوم بلا خلل منه في البين.

فالقيّوم الذي له القيّومية الفعليّة على ما سواه من كلّ جهة، والممكن الذي هو زوج ترکيبي له ماهية ووجود، شيئان لا وجه القياس أحدهما بالآخر.

مع أنّ للسّنة والنوم مراتب كثيرة، ونفي جميعها منحصر به تعالى، كما أثبتناه سابقاً.

وأمّا العقول وبعض الروحانيين وسادات الملائكة، فإن نفي بعض المراتب عنهم لا يستلزم نفي الجميع كما هو معلوم.

مع أنّ المقهوريّة المطلقة لما سواه عزّ وجلّ من أعظم أنواع النوم لجميع الممکنات.

نعم، من كان حياته بحياته وأفني جميع شؤونه في مرضاتهن بحيث لا يرى لنفسه ذاتاً ولا صفة ولا فعلاً، وقد وصل إليه كتاب کریم من الحيّ القيّوم إلى الحيّ القيّوم كما في بعض الروايات، فهو خارج عن موضوع ما يكتب وما يختلج في الأوهام، ولكنه مع

ص: 186

ذلك كلّه بالنسبة إلى الأبد، لا بالنسبة إلى الأزل، فارتفع الوفاق وحصل الافتراق.

الثامن: قد أهمل تعالى إفاضة ما يفيضه من العلم، وعلقه على مشيئته وإذنه تعالى، إذ لا يحتمل البيان غير الإجمال، لأنّ إفاضة العلم منه عزّ وجلّ على أقسام:

الأول: أن تكون الإفاضة من سلسلة العلل الطوليّة، حتى تنتهي إلى ذاته المقدسة، فيحيط المفاض عليه بتمام خصوصیات عالم الشهادة والغيب، حتّى يصل إلى غيب الغيوب الذي لا يعقل له حدود ولا نهاية، فتكون حقائق جميع ما سواه تعالى منطوية في هذا العلم، وفي بعض الدعوات المأثورة عن نبينا الأعظم: «اللّهُمَّ أَرِنَا الأَشيَاءَ كَمَا هِيَ».

الثاني: أن تكون الإفاضة علم الحقائق العامة البلوي بما لها من الآثار.

الثالث: أن يفيض علم الآثار من حيث لوازمها وملزوماتها دون أصل الحقائق.

الرابع: إفاضة بعض الآثار إجمالاً.

الخامس: أن يتخصّص كلّ فرد بخصوصيّة خاصّة. ويمكن أن تُصوّر الأقسام أكثر من ذلك، والتفصيل لا يسعه المجال في مقام الثبوت ومقام الإثبات.

ص: 187

بحث أدبي:

المعروف بين أهل اللغة والأدب أنّ (اللام) تأتي للملك المجرد في مقابل سائر المعاني اللازمة للملكيّة، من التدبير، والتنظيم، والإيجاد والإفناء وغير ذلك من لوازم الملكية عقلاً وعرفاً، وقد وضع لذلك كلّه ألفاظ أخرى يستعملونها مع تحقّق المعنى، ولا تستعمل مع عدمه مع صحّة الانفكاك. وقد حصل ذلك من تصوّر الملكيّة في الممکنات، وانتفاء الملكيّة الواقعيّة الحقيقيّة من جميع الجهات.

وإمّا فيما هو الحقيقي الواقعي، فالملكيّة والمالكيّة تشمل جميع ما لها من اللوازم والآثار، التي لا يستلزم منها النقص من إطلاقه عليه تعالى، إيجاداً وإفناءً وتدبيراً وغير ذلك. فإنّ الملك فيه حقيقيّ، لا اعتباريّ كالدائر بين الإنسان، فالمستفاد من قوله تعالی: «لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ»، أنّ له الملكية الذاتية الحقيقية، الشاملة لجميع اللوازم والملزومات، التي لا توجب النقص إمّا بالدلالة التضمنية أو الالتزامية، كما يقال: فلان رجل عاقل، أي: يحسن تدبيراته وعمله وشؤونه ونحوها، والكلّ منطو في معنى اللفظ الواحد.

وكلّ ما اتسع المعنى ازدادت آثاره ولوازمه وملزوماته، ولا نحتاج إلى تكثير اللفظ خصوصا فيه جلت عظمته، ولأجل ذلك قلنا: إن لفظ (الله) اسم للذات المستجمع لجميع الصفات الكمالية

ص: 188

الواقعية، المسلوب عنه جميع النقائص الواقعية والإدراكية، وتشهد لذلك الأدلة العقلية والسنة الشريفة، فيكون إطلاق اللفظ الواحد بمنزلة إطلاق ألفاظ كثيرة وسلب معان متعددة، وهذا الإطلاق يكون على نحو الحقيقة دون المجاز.

بحث روائي:

تقدّم أنّ آية الكرسي هي أعظم آية في القرآن الكريم، التي تشتمل على جملة من المعارف الإلهية، منها التوحيد الخالص وبيان الصفات العليان ويكفي في شرفها أنّ اسم الله تعالی تکرّر فيها ثمان عشرة مرّة، بين ظاهر ومضمر، بل يمكن القول بأنّها تحتوي على كليات وأصول المعارف الحقة:

أمّا التوحيد - فيكفي فيه قوله تعالى: «اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ».

وأمّا العدل - فإنّه يكفي فيه قوله تعالى: «الحَيُّ القَيُّومُ»، إذ القيّومية المطلقة لا تتمّ إلّا بالعدل، وإن به قامت السّماوات والأرض.

وأمّا النبوة - فيرشد إليها قوله تعالى: «مَن ذَا الَّذِي يَشفَعُ عِندَهُ».

والنبوّة والمعاد - متلازمان تلازم المبدأ والمعاد، لفرض أنّ النبيّ يخبر عن المعاد، فهو بوجوده في هذا العالم وجود المعاد، كما تدلّ عليه الآيات المباركة.

ص: 189

ومنه يستفاد الولاية أيضاً، إذ لا نبوّة كاملة إلّا بتعيين الوصاية والولاية.

ولشرافة ما تضمّنته هذه الآية الكريمة صارت من أعظم الآيات وأفضلها وأجمعها، فقد ورد في السنة الشريفة ما يدلّ على فضلها وعظمة أمرها والاعتناء بها اعتناء بليغة، والتوصية بقراءتها وحفظها، لما فيها من الآثار العجيبة، وقد اشتهرت بذلك من حين نزولها، ونحن نذكر في هذا البحث جملة ممّا ورد في فضلها، وما يتعلّق في عددها، وما يتعلق بالكرسي، وما ورد في تفسير مفرداتها.

ص: 190

فضل آية الكرسي وشأنها

روى السيوطي في الدر المنثور: عن النبي (صلّی الله عليه وآله وسلّم) أنّه قال: «آيَةُ الكُرسِي سَيِّدَةُ آيِ القُرآنِ».

وروى البيهقي في شعب الإيمان: عن أبي ذر: «قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَفضَلُ مَا أَنزَلَ عَليَكَ؟ قال (صلّی الله عليه وآله وسلّم): آيَةُ الكُرسِيِّ».

وأخرج البخاري في تأريخه، وابن الضريس: عن أنس: أن النبي (صلّی الله عليه وآله وسلّم) قال: «أُعطِيتُ آيَةُ الكُرسِي مِن تَحتِ العَرشِ».

وأخرج أحمد والطبراني: عن أبي إمامة قال: قلت: يَا رَسُولَ اللهِ، أيُّمَا أَنزَلَ عَلَيكَ أَعظَمُ؟ قال (صلّی الله عليه وآله وسلّم): اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ، آيَة الكُرسِي»، رواه الخطيب البغدادي أيضاً.

وفي سنن الدارمي: عن أيفع بن عبد الله قال: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ أَعظَمُ؟ قَالَ (صلّی الله عليه وآله وسلّم): آيَةُ الكُرسِي: اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ - الحديث - ».

وفي الكافي: عن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد الله (عليه السّلام): «لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنْ يَهْبِطْنَ إِلَى الْأَرْضِ تَعَلَّقْنَ بِالْعَرْشِ وَ قُلْنَ أَيْ رَبِّ إِلَى أَيْنَ تُهْبِطُنَا إِلَى أَهْلِ الْخَطَايَا وَ الذُّنُوبِ فَأَوْحَى اللَّهُ

ص: 191

عَزَّ وَ جَلَّ إِلَيْهِنَّ اهْبِطْنَ فَوَ عِزَّتِي وَ جَلَالِي لَا يَتْلُوكُنَّ أَحَدٌ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ- وَ شِيعَتِهِمْ فِي دُبُرِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ إِلَّا نَظَرْتُ إِلَيْهِ بِعَيْنِي الْمَكْنُونَةِ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ نَظْرَةً أَقْضِي لَهُ فِي كُلِّ نَظْرَةٍ سَبْعِينَ حَاجَةً وَ قَبِلْتُهُ عَلَى مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْمَعَاصِي وَ هِيَ أُمُّ الْكِتَابِ وَ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَ الْمَلَائِكَةُ وَ أُولُو الْعِلْمِ وَ آيَةُ الْكُرْسِيِّ وَ آيَةُ الْمُلْكِ».

أقول: يستفاد من أمثال هذه الرواية أنّ للآيات الشريفة حياة حقيقية واقعية وإن كنا لا ندرك ذلك، ويدلّ عليه قوله تعالی: «وَكَذِلَكَ أَوحَينَا إِلَيكَ رُوحاً َمِن أَمرِنَا» (سورة الشورى، الآية 52).

وفي تفسير العياشي: عن عبد الله بن سنان، عن الصادق (عليه السّلام): «إِنَّ لِكُلِّ شَيءٍ ذَروَة، وَذَروَة القُرآنِ آيَةُ الكُرسِي».

وفي أمالي الشيخ بإسناده عن أبي إمامة الباهلي: «أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ (عَلَيه السّلام) يَقُولُ: مَا أَرَى رَجُلًا أَدْرَكَ عَقْلُهُ الْإِسْلَامَ وَ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ يَبِيتُ لَيْلَةَ سَوَادِهَا قُلْتُ وَ مَا سَوَادُهَا؟ قَالَ (عَلَيه السّلام) جَمِيعُهَا حَتَّى يَقْرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» -إِلَى قَوْلِهِ- «وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ» قَالَ فَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا هِيَ -أَوْ قَالَ مَا فِيهَا- مَا تَرَكْتُمُوهَا عَلَى حَالٍ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّی اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) قَالَ أُعْطِيْتُ آيَةَ الْكُرْسِيِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ وَ لَمْ يُؤْتَهَا نَبِيٌّ كَانَ قَبْلِي قَالَ عَلِيٌّ (عَلَيه السّلام) فَمَا بِتُّ لَيْلَةً قَطُّ مُنْذُ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّی اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) إلّا قَرَأتُهَا»

ص: 192

وفي تفسير العياشي: عَنِ الصَّادِقِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ أبوذر: «یا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَفْضَلُ مَا أَنْزَلَ عَلَيْكَ؟ قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): آيَةُ الْكُرْسِيِّ، مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَ الْأَرَضُونَ السَّبْعُ فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضِ بلافع، ثُمَّ قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): وَ إِنَّ فَضْلَهُ عَلَى الْعَرْشِ كَفَضْلِ الْفَلَاةِ عَلَى الْحَلْقَةِ».

وَ سُئِلَ النَّبِيُّ (صَلَّی اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ): «الْقُرْآنُ أَفْضَلُ أَمِ التَّوْرَاةُ؟ فَقَالَ (صَلَّی اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ): إِنَّ فِي الْقُرْآنِ آيَةً هِيَ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ كُتُبِ اللَّهِ، وَ هِيَ آيَةُ الْكُرْسِيِّ».

وَ عَنْ نَبِيِّنَا الْأَعْظَمُ: «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ لَمْ يَمْنَعهُ دُخُولَ الْجَنَّةِ إِلَّا الْمَوْتَ، وَ مَنْ قَرَأَهَا حِينَ يَنَامُ آمَنَهُ اللَّهِ وَ جَارَهُ وَ أَهْلَ الدويرات حَوْلَهُ».

وَ عَنْ عَلِيِّ (عليه السّلام) قَالَ: سَمِعْتُ نَبِيَّكُم (صَلَّی اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ - وَ هُوَ عَلَى أَعْوَادِ الْمِنْبَرِ-: مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ لَمْ يَمْنَعهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ إِلَّا الْمَوْتُ، وَ لَا يُوَاظِبُ عَلَيْهَا إِلَّا صِدِّيقٌ أَوْ عَابِدٌ، وَ مَنْ قَرَأَهَا إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ آمَنَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ وَ جَارَهُ وَ جَارَ جَارِهِ وَ الْأَبْيَاتِ حَوْلَهُ» .

أقول: الأخبار في فضلها كثيرة مروية عن الخاصة والجمهور، وقد ورد استحباب قراءتها في مواضع كثيرة، منها عند السفر وبعد الصلاة، وبعد الوضوء وعند المريض، وحال النزاع وسکرات الموت، وغير ذلك مما هو کثیر، راجع الكتب المعدّة لذلك.

ص: 193

عدد آية الكرسي

لا ريب في أن كل ما ورد فيه ذكر آية الكرسي يراد بها إلى قوله تعالى: «وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ»، وتقدّم في حديث أبي إمامة الباهلي عن علي (عليه السّلام) التصريح بذلك، ويظهر ذلك أيضاً مما ورد في قراءة آية الكرسي وآيتين بعدها، فإنّه ظاهر في خروجها عنها، وهو المنصرف من إطلاق آية الكرسي، أي الآية التي يذكر فيها الكرسي، هذا إذا لم تقم قرينة على الخلاف، كما في بعض الروايات من زيادة إلى «هِم فِيهَا خَالِدُونَ»، أو زيادة «آيتين بعدها»، ففي الخبر عن علي بن الحسين (عليهما السّلام) قال: قال رسول الله (صَلَّی اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ): مَنْ قَرَأَ أَرْبَعَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ الْبَقَرَةِ وَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ وَ آيَتَيْنِ بَعْدَهَا وَ ثَلَاثَةً مِنْ آخِرِهَا، لَمْ يَرَ فِي نَفْسِهِ وَ مَالِهِ شَيْئاً يَكْرَهُهُ، وَ لَا يَقْرَبُهُ الشَّيْطَانُ وَ لَا يَنْسَى الْقُرْآنَ»، فحينئذٍ يؤخذ بها في موردها.

وفي تفسير القمي ذكر آية الكرسي إلى: هم فيها خالدون - والحمد لله رب العالمين..

أقول: يمكن أن يكون التحميد إرشاداً إلى استحباب ذکر الحمد بعد تمام الآيات، كما ورد في سورة التوحيد من استحباب

ص: 194

قول: «كَذِلَكَ اللهُ رَبِّي»، وفي سورة الجحد من استحباب قول: «رَبِّيَ اللهُ وَدِينِي الإِسلَامُ» بعد تمامها، ومثل ذلك كثير في القرآن.

ص: 195

معنى الكرسي

في الكافي عن الفضيل بن يسار قال: «سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السّلام) عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجِلَ: «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ» فَقَالَ: يَا فُضَيْلُ، كُلَّ شَيْ ءٍ فِي الْكُرْسِيِّ، السَّمَاوَاتُ وَ الْأَرْض، وَكَّلُّ شَيْ ءٍ فِي الْكُرْسِيِّ».

أقول: إمّا قوله (عليه السّلام) أولاً: «كُلُّ شَيءٍ فِي الكُرسِيِّ» فيه إجمال، وقد بيّنه بقوله (عليه السّلام): «السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ»، وأمّا قوله (عليه السّلام) ثانياً: «كُلُّ شَيءٍ فِي الكُرسِيِّ» فهو عبارة عمّا في السماوات والأرض من الجواهر والأعراض والنفوس والمجردات والأملاك والأفلاك.

والمراد به: الإحاطة العلمية بما سواه كلّية وجزئية، كما فسّر بها في رواية أخرى، أو الإحاطة القيّومية، فإنّه تعالی محیط بجميع ما سواه وقائم عليه بتمام معنى الإحاطة والقيومية.

وفي الكافي – أيضاً- عن زرارة قال: «سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السّلام) عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجِلَ: «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ

ص: 196

وَالأَرضَ» السَّمَاوَاتُ وَ الْأَرْضُ وَسِعْنَ الْكُرْسِيَّ، أَوِ الْكُرْسِيُّ وَسِعَ السَّمَوَاتِ وَ الْأَرْضَ؟ فَقَالَ (عليه السّلام): إِنَّ كُلَّ شَيْ ءٍ فِي الْكُرْسِيِّ».

أقول: ظهر معنى الرواية ممّا مرّ في سابقتها. وأمّا سؤال زرارة فهو سؤال بدا في ذهنه ابتداءً قبل التأمّل فيه، فأبدی الإمام (عليه السّلام) الجواب على حقيقته بما يزيل الوهم.

وفي المعاني: عن حفص بن غیاث قال: «سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السّلام) عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجِلَ: «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ»؟ قَالَ (عليه السّلام): عِلْمُهُ ».

أقول: يصح التعبير عن العلم المحيط بالعرش والكرسي، ويصح هذا التعبير باعتبار الإحاطة والاستيلاء، فيشمل جميع جهات إحاطته تبارك وتعالى، مثل كرسي الجمال والجلال والعزة والقدرة والعظمة، فما ذكره الإمام (عليه السّلام) بعض منها تقريباً للأفهام، ولأنّ الإحاطة العلمية جامعة لجميع ذلك.

وفي المعاني - أيضاً.: عن المفضّل بن عمر قال: «سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السّلام) عَنِ الْعَرْشِ وَ الْكُرْسِيِّ مَا هُمَا؟ فَقَالَ (عليه السّلام): الْعَرْشُ فِي وَجْهٍ: هُوَ جُمْلَةُ الْخَلقِ، وَ الْكُرْسِيُّ وِعَاؤُهُ. وَفِي وَجْهٍ آخَرَ: الْعَرْشُ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي اطَّلَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَنْبِيَاءَهُ وَ رُسُلَهُ وَ حُجَجُهُ. وَ الْكُرْسِيُّ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَنْبِيَائِهِ وَ رُسُلِهِ وَ حُجَجِهِ (عليهم السّلام)».

ص: 197

أقول: المراد من الوعاء ليس الوعاء الجسماني، بل الإحاطة الحقيقية.

وأمّا الوجه، فهو بيان مراتب علمه التي هي غير متناهية، وسيأتي البحث في علمه عزّ وجلّ مستقلاً إن شاء الله تعالی.

وفيه أيضاً: عن الصادق (عليه السّلام): «السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ وَ ما بَيْنَهُما فِي الْكُرْسِيِّ. وَ الْعَرْشُ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ قَدْرَهُ».

أقول: تقدّم ما يتعلق بقوله: « السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ وَ ما بَيْنَهُما فِي الْكُرْسِيِّ»، أي: الكرسي بمنزلة الوعاء لها. وإمّا قوله (عليه السّلام): «الْعَرْشُ هُوَ الْعِلْمُ»، فهو صحيح بالنسبة إلى العرش الذي بمعنی العلم، وقوله: « الَّذِي لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ قَدْرَهُ »، أي: لا يقدر على فهم حقيقته أحد، ولا يمكن الإطلاع على جميع خصوصياته.

في تفسير العياشي: عن زرارة في قوله عزّ وجلّ: «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ»، قال (عليه السّلام): «لَا، بَلِ الْكُرْسِيُّ وَسِعَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ الْعَرْشَ، وَكَّلَ شَيْ ءٍ خَلَقَ اللَّهُ فِي الْكُرْسِيِّ».

قال الأصبغ بن نباتة: « سُئِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السّلام) عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجِلَ: « وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ»؟ فَقَالَ (عليه السّلام): إِنَّ السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ مَا فِيهِمَا مِنْ خَلقٍ، مَخْلُوقٌ فِي جَوْفِ الْكُرْسِيِّ، وَلَهُ أَرْبَعَةُ أَمْلَاكٍ يَحْمِلُونَهُ بِإِذْنِ اللَّهِ».

أقول: قوله ظل: « لَا، بَلِ الْكُرْسِيُّ وَسِعَ السَّمَاوَاتِ

ص: 198

وَ الْأَرْضَ وَ الْعَرْشَ»، دفع لما یكن أن يتوهم من أنّ السّموات والأرض وسعت الكرسيّ كما سأله زرارة نفسه في رواية أخرى.

والمراد بالعرش: سائر مخلوقاته عزّ وجلّ أي: العرش الجسماني، وقوله (عليه السّلام): « فِي جَوْفِ الْكُرْسِيِّ»، عبارة عن سعته للسّماوات والأرض وما فيهما، كما تقدّم في الرواية السابقة.

وأمّا حمل الملاك الأربعة الكرسيَّ، فهو عبارة عن مظاهر قدرة الله تعالى لحمل كرسيّ العالم الجسماني، فلا تنافي بين هذه الرواية وبين الآيات الدالة على ثبوت الحمل للعرش، قال تعالى: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ» (سورة غافر، الآية 7)، وقال تعالى: «وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ» (سورة الحاقة، الآية 17)، ويأتي شرحها في موضعها، وقريب من هذه الرواية ما ورد في الاحتجاج عن الصادق (عليه السّلام).

ومحصَّل الكلام في العرش والكرسي أنّهما إمّا معنویان روحانیان، أو جسمانيان أي عالم الأجسام، ولا بدّ وأن يميز بحسب القرائن بين الأقسام الأربعة، لئلا يختلط بعضها ببعض، والقرائن موجودة في نفس الأخبار لمن تأمّل فيها.

في تفسير القمّي: عن الأصبغ بن نباتة: « أَنَّ عَلِيَّ (عليه السّلام) سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجِلَ: «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَ الْأَرْض»؟ فَقَالَ: السَّماواتُ وَ الْأَرْضِ وَ مَا فِيهِمَا مِنْ مَخْلُوقٍ فِي جَوْفِ الْكُرْسِيِّ، وَلَهُ أَرْبَعَةُ أَمْلَاكٍ يَحْمِلُونَهُ بِإِذْنِ اللَّهِ- الحديث -». ورواه العياشي أيضاً.

ص: 199

أقول: تقدّم ما يتعلق به في الرواية السابقة.

في الكافي: عن الحسين بن زید الهاشمي، عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال: «جَاءَتْ زَيْنَبُ الْعَطَّارَةُ الْحَوْلَاءُ إِلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ (صَلَّی اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وَ بَنَاتِهِ وَ كَانَتْ تَبِيعُ مِنْهُنَّ الْعِطْرَ فَجَاءَ النَّبِيُّ (صَلَّی اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وَ هِيَ عِنْدَهُنَّ فَقَالَ (صَلَّی اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ): إِذَا أَتَيْتِنَا طَابَتْ بُيُوتُنَا؟ فَقَالَتْ بُيُوتُكَ بِرِيحِكَ أَطْيَبُ يَا رَسُولَ اللَّه،ِ قَالَ (صَلَّی اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ): فَإِذَا بِعْتِ فَأَحْسِنِي وَ لَا تَغُشِّي فَإِنَّهُ أَتْقَى وَ أَبْقَى لِلْمَالِ، فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَتَيْتُ بِشَيْ ءٍ مِنْ بَيْعِي وَ إِنَّمَا أَتَيْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ عَظَمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ فَقَالَ (صَلَّی اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ): سَأُحَدِّثُكِ عَنْ بَعْضِ ذَلِك- إلى أن قال (صَلَّی اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ): وَهَذِهِ السَّبْعُ وَ الْبَحْرُ الْمَكْفُوفُ وَ جِبَالُ الْبَرَدِ وَ الْهَوَاءُ وَ حُجُبُ النُّورِ عِنْدَ الْكُرْسِيِّ كَحَلْقَةٍ فِي فَلَاةٍ قِيٍّ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ» وَ هَذِهِ السَّبْعُ وَ الْبَحْرُ الْمَكْفُوفُ وَ جِبَالُ الْبَرَدِ وَ الْهَوَاءُ وَ حُجُبُ النُّورِ وَ الْكُرْسِيُّ عِنْدَ الْعَرْشِ كَحَلْقَةٍ فِي فَلَاةٍ قِيٍّ وَ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: «الرَّحْمن عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى».

أقول: القيّ - بالكسر - هي الأرض القفر الخالية. وحقيقة مثل هذه الأحاديث لا يعرفها إلّا من عبر تلك المحالّ المقدّسة، وهو مختصّ بسيّد الأنبياء، ويمكن أن يراد بالكرسيّ والعرش، الجسماني منهما. كما تقدّم - والله تبارك وتعالی محیط على الجسم والجسمانيات والروح والروحانيات.

ص: 200

في التوحيد: عن حنان قَالَ: «سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السّلام) عَنِ الْعَرْشِ وَ الْكُرْسِيِ فَقَالَ إِنَّ لِلْعَرْشِ صِفَاتٍ كَثِيرَةً مُخْتَلِفَةً لَهُ فِي كُلِّ سَبَبِ وَضْعٍ فِي الْقُرْآنِ صِفَةٌ عَلَى حِدَةٍ فَقَوْلُهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ يَقُولُ الْمُلْكُ الْعَظِيمُ وَ قَوْلُهُ الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى يَقُولُ عَلَى الْمُلْكِ احْتَوَى وَ هَذَا مُلْكُ الْكَيْفُوفِيَّةِ فِي الْأَشْيَاءِ ثُمَّ الْعَرْشُ فِي الْوَصْلِ مُتَفَرِّدٌ مِنَ الْكُرْسِيِ لِأَنَّهُمَا بَابَانِ مِنْ أَكْبَرِ أَبْوَابِ الْغُيُوبِ وَ هُمَا جَمِيعاً غَيْبَانِ وَ هُمَا فِي الْغَيْبِ مَقْرُونَانِ لِأَنَّ الْكُرْسِيَّ هُوَ الْبَابُ الظَّاهِرُ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي مِنْهُ مَطْلَعُ الْبِدَعِ وَ مِنْهُ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا وَ الْعَرْشُ هُوَ الْبَابُ الْبَاطِنُ الَّذِي يُوجَدُ فِيهِ عِلْمُ الْكَيْفِ وَ الْكَوْنِ وَ الْقَدْرِ وَ الْحَدِّ وَ الْأَيْنِ وَ الْمَشِيَّةِ وَ صِفَةِ الْإِرَادَةِ وَ عِلْمُ الْأَلْفَاظِ وَ الْحَرَكَاتِ وَ التَّرْكِ وَ عِلْمُ الْعَوْدِ وَ الْبَدْءِ فَهُمَا فِي الْعِلْمِ بَابَانِ مَقْرُونَانِ لِأَنَّ مُلْكَ الْعَرْشِ سِوَى مُلْكِ الْكُرْسِيِّ وَ عِلْمَهُ أَغْيَبُ مِنْ عِلْمِ الْكُرْسِيِّ فَمِنْ ذَلِكَ قَالَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَيْ صِفَتُهُ أَعْظَمُ مِنْ صِفَةِ الْكُرْسِيِّ وَ هُمَا فِي ذَلِكَ مَقْرُونَانِ قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ فَلِمَ صَارَ فِي الْفَضْلِ جَارَ الْكُرْسِيِّ قَالَ (عليه السّلام): إِنَّهُ صَارَ جَارَهُ لِأَنَّ عِلْمَ الْكَيْفُوفِيَّةِ فِيهِ وَ فِيهِ الظَّاهِرُ مِنْ أَبْوَابِ الْبَدَاءِ وَ أَيْنِيَّتِهَا وَ حَدِّ رَتْقِهَا وَ فَتْقِهَا-فَهَذَانِ جَارَانِ أَحَدُهُمَا حَمَلَ صَاحِبَهُ فِي الصَّرْفِ وَ بِمَثَلٍ صَرَّفَ الْعُلَمَاءُ ولِيَسْتَدِلُّوا عَلَى صِدْقِ دَعْوَاهُمَا لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيز»

أقول: أمّا قوله (عليه السّلام): «إِنَّ للعرش صِفَاتٍ كَثِيرَةٍ مُخْتَلِفَةٍ» مطابق للواقع والحقيقة، لأنّ كلّما عظم الشيء کثرت صفاته، والعرش والكرسي أعظم المخلوقات، فتكون لهما صفات كثيرة،

ص: 201

وقد يجتمعان في بعضها وقد يختلفان. وهذه الفقرة تدلّ على ما ذكرناه آنفاً من انقسامهما إلى قسمين، روحانی وجسماني.

والمراد من قوله (عليه السّلام): «فِي كُلِّ سَبَبٍ وُضِعَ فِي الْقُرْآنِ»، أي: لكل سبب اصطلاح خاص في القرآن.

والمراد من قوله (عليه السّلام): «وَهَذَا عِلمُ الكَيفُوفَة» أي: العلم بالمخلوق من حيث الكيفية، لأنّ العرش والكرسي مخلوقان له تعالى، فيجري فيهما الكيفية وسائر الجهات المخلوقة، وإن لم تجر الكيفيّة بالنسبة إلى الباري عزّ وجلّ، لقولهم (عليهم السّلام): «وَ هُوَ الَّذِي كَيَّفَ الْكَيْفَ، فَلَا كَيْفَ لَهُ».

والمراد من قوله (عليه السّلام): « ثُمَّ الْعَرْش فِي الْوَصْلِ مُفْرَدٌ عَنِ الْكُرْسِيِّ»، أي: من حيث ملاحظة العرش مع الكرسي، فهما شيئان مختلفان، لأنّهما بابان من أبواب الغيب، وإن كان يجتمعان في كونهما من الغيب، وهذه صفة كلّ جنس له نوعان مختلفان، وأمّا كونهما بابين من أبواب الغيب، فلفرض احتوائهما على جميع ما سوى الله عزّ وجلّ، ولا يمكن أن يحيط بذلك غيره تعالى، والحاوي والمحتوي غيبان محجوبان عن البصائر فضلاً عن الأبصار.

والمراد من الظهور في قوله (عليه السّلام): « لِأَنَّ الْكُرْسِيِّ هُوَ الْبَابُ الظَّاهِرُ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي مِنْهُ مَطْلَع الْبِدَعِ»، النسبي منه، أي بالنسبة إلى العرش، فيكون العرش بمنزلة الباب الداخل والكرسيّ بمنزلة

ص: 202

الباب الخارج، والكرسي مطلع الموجودات الإبداعية التي خلقها الله تعالی.

ويمكن أن يراد بباب الغيب، أي ما فوقهما لا ما فيهما، وما فوقهما هو غیب الغيوب الذي هو سرّ محجوب.

والمراد من قوله (عليه السّلام): « الْعَرْشُ هُوَ الْبَابُ الْبَاطِنُ»، العرش الروحاني العلمي، لفرض أنّه (عليه السّلام) حدّد المعلومات بالنسبة إليه، ومنه يكون البداء كما ذكره (عليه السّلام) من جملة العلوم، وكذا علم العدد، فإنّه من أهمّ العلوم الغيبية، وكلّ ذلك منطو في قوله (عليه السّلام): « الْعَرْشُ هُوَ الْبَابُ الدَّاخِلِ، وَ الْكُرْسِيُّ هُوَ الْبَابُ الْخَارِجُ»، فيكون تفصيلاً لذلك الإجمال.

والمراد من قوله (عليه السّلام): «وَ بِمِثْلِ صَرفِ الْعُلَمَاءِ»، يعني أنّ علومهم تنتهي إلى هذا الباب الخارج، مؤيّداً من الله تبارك وتعالی.

ص: 203

ما ورد في تفسير مفردات آية الكرسي

مباحث

في تفسير القمي: عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السّلام) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ»، قَالَ: ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فأمور الْأَنْبِيَاءِ وَ مَا كَانَ، وَ مَا خَلْفَهُمْ مَا لَمْ يَكُنْ بَعْدُ إِلَّا بِمَا شَاءَ، أَيْ بِمَا يُوحَى إِلَيْهِمْ».

أقول: هذا تفسير الكلّي ببعض مصادیق العلم، وإلّا فإنّ علمه تعالی عین ذاته، فهو إحاطي بجميع ما سواه، ويمكن أن يجعل ذلك أيضاً من التعميم، فإنّ جميع العلوم لا تخرج عما يوحى إلى أنبيائه، وعمّا يكون في الممکنات.

وفي تفسير العياشي: عن معاوية بن عمّار، عَنِ الصَّادِقِ (عليه السّلام) قَالَ: مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، قَالَ: نَحْنُ أُولَئِكَ الشَّافِعُونَ» ، ورواه البرقي في المحاسن أيضاً.

أقول: هذا من باب التطبيق.

في معاني الأخبار: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السّلام) قَالَ: «سَأَلْتُهُ هَلْ كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلٍ عَارِفَاً بِنَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ؟ قَالَ (عليه السّلام): نَعَمْ. قُلتُ: يَرَاهَا وَ يَسْمَعُهَا؟ قالَ (عليه السّلام):

ص: 204

ما كَانَ مُحْتَاجَاً إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَسْأَلُهَا وَ لَا يَطْلُبُ مِنْهَا هُوَ نَفْسُهُ وَ نَفْسُهُ هُوَ، قُدْرَتُهُ نَافِذَةٌ، فَلَيْسَ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُسَمِّيَ نَفْسَهُ وَ لَكِنَّهُ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَسْمَاءً لِغَيْرِهِ يَدْعُوهُ بِهَا، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُدْعَ بِاسْمِهِ لَمْ يُعْرَفْ، فَأَوَّلُ مَا اخْتَارَ لِنَفْسِهِ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، لِأَنَّهَا أَعْلَى الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا. فَمَعْنَاهُ اللَّهُ وَ اسْمُهُ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ. وَ هَذَا أَوَّلُ أَسْمَائِهِ، لِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرُ».

أقول: المراد من هذا العرفان هو الوجدان بالذات، أي يجد نفسه بنفسه ويكون حاضراً لدى نفسه، وهذا يجري في غيره تعالی أيضاً، لأنّ الإنسان يعرف وجود نفسه.

وإمّا قوله (عليه السّلام): « اخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَسْمَاءً»، لعلمه الأزلي باحتياج خلقه إليه ودعاء عباده له، فجعل تلك الأسماء وسيلة لهم.

قال تعالى: «اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ».

تقدّم بعض الكلام فيه في تفسير آية الكرسي (255 من سورة البقرة)، ونزيد هنا: الله اسم للذات المستجمعة لجميع الكمالات الواقعيّة والإدراكيّة، والمسلوب عنها جميع النقائص كذلك، ونفس تصوّر هذا المعنى بما ذكرناه في فرض العقل يغني عن إثبات صفات جماله وجلاله ومعبوديّته المطلقة، وخضوع ما سواه له، ولا نحتاج إلى إقامة دليل آخر على ذلك، فالهويّة المطلقة في الكمال المطلق مجرّدة عن كلّ قيد وإضافة، منحصرة فيه عزّ وجلّ، وقد روي أنّ علياً (عليه السّلام) قال: «یا مَنْ هُوَ، يَا مَنْ لَيْسَ هُوَ إِلَّا هُوَ»،

ص: 205

وعرض ذلك على سيد الأنبياء (صلّی الله عيه وآله وسلّم) فقال لعلي: « عَلِمتَ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ»، نعم هو اسم أعظم لمَن انقطع إليه تعالي كمال الانقطاع فتجلّى له حينئذٍ حقيقة أنّه ليس هو إلّا هو.

والحيّ القيّوم بالمعنى الحقيقي لا يمكن للعقول المحدودة الإحاطة بهما، لأنّهما عين الذات المقدّسة، والعقول قاصرة من وصول تلك السّاحة العظمى، بل الحياة في ما سواه عزّ وجلّ من المجرّدات، وغيرها تكون شارقة جزئية من شوارق تلك الحياة.

كما أنّ المراد بالقيّوميّة فيه عزّ وجلّ مدیریّته ومدبرينه وتربيته العظمى لجميع عوالم الممکنات، قيوميّة حياة تستلزم العلم والقدرة والهيمنة والإحاطة، لا أن تكون قیوميّة فاقدة للشعور والحياة، كما في الأسباب الطبيعية التكوينيّة.

فيكون لفظ القيّوم بهذا المعنى من الأسماء الخاصّة به تعالی كلفظ (الله)، ولكن لو لوحظ فيه مبدأ الاشتقاق، وهو مطلق القيام بالشيء وعلى الشيء، ومطلق القيوميّة يكون من الوضع العام والموضوع له العام بحسب أصل المعنى، ولكن بحسب الإطلاق منحصر فيه عزّ وجلّ.

هذا إذا لم يحصل مثل هذه الألفاظ عَلَماً له عزّ وجلّ وإلّا فيسقط أصل البحث، ولعلّ أحد أسرار توقيفية أسمائه المقدّسة عدم تدخّل الجهات اللغوية والأدبية المتعارفة فيها، لتكون بنفسها مرجعاً وأصلاً يرجع إليها، لا أن يرجع فيها إلى غيرها.

ص: 206

ويصحّ أن يراد من القيّوم مقوّم وجود كلّ موجود حدوثاً وبقاءً.

كما يصحّ أن يراد به مقوّم حياة كلّ ذي حياة، حيوانية كانت أو نباتية.

ويصحّ أن يراد به قيّوم كمال كلّ ذي كمال.

والحقّ هو الأخير وسائر المعاني منطوية فيه، ولذا عقّبه سبحانه وتعالى بقوله: «إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيه شَيْ ءٌ فِي الْأَرْضِ وَ لَا فِي السَّمَاءِ وَ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُکُم فِي الْأَرْحَامِ کَيفَ يَشَاءُ»، لأنّ ذلك من شؤون حياته وقيّوميته المطلقة.

والحيّ والقيوم من أعظم الأسماء الحسنی.

والأول من أسماء الذات، بل الثاني أيضاً إن رجع إلى الحكمة التّامّة التدبيريّة والقدرة الجامعة التامّة، كما يصحّ أن يكون برزخ بين اسم الذات واسم الفعل باختلاف الجهة.

وإنّما ذكرهما سبحانه هنا وفي آية الكرسيّ (255 من سورة البقرة)، لأنّهما دون لفظ (الله) وفوق باقي أسمائه المباركة إلّا الاسم الأعظم، بناء على كونه من مقولة اللفظ كما يظهر من بعض الروايات، ويصحّ أن يكونا من بعض أجزائه الّتي من علم خصوصيات التركيب يؤثر الأثر المطلوب.

ويمكن أن يستدلّ بهذه الآية الشريفة على وحدة المعبود، بأن

ص: 207

يقال أنّه لا بدّ أن يكون حيّاً قيّوماً، والحيّ القيّوم منحصر في واحد عقلاً ونقلاً، فالمعبود منحصر بواحد كذلك.

وافتتاح هذه السورة بهذه الجملة المباركة الجامعة لجميع صفات الجلال والجمال يدلّ على كمال الاعتناء بها، وحقّ لها أن تكون سورة الاصطفاء.

وفيها التعليل لما ورد في الآية التالية، أي الله الذي هو واحد في ألوهيته وذو الحياة الكاملة، والقائم على تدبير خلقه بأحسن نظام وأتمّ حكمة، لقادر على أن ينزل الكتاب الفارق بين الحقّ والباطل، ولا يخفى عليه أمر مخلوقاته، فمن آمن بما أنزل على رسله فقد فاز، ومن كفر فقد خاب وسيجزيه الله، أنّه عزیز ذو انتقام.

قوله تعالی: «نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ».

المراد بالكتاب القرآن الكريم، والباء في (بالحقّ) إمّا في موضع الحال، أو للمصاحبة، أي: حال كونه بالحقّ أو مصاحبة له لا يفارقه، ولا تعتريه شبهة، ولا يطرأ عليه الباطل في جميع شؤونه.

ومصدقاً حال آخر، أي: حال كونه معترفاً بصدق ما بين يديه ومبيّناً له.

والمراد بما بين يديه: ما تقدّم من الكتب الإلهية، وهي التوراة والإنجيل وغيرهما.

ص: 208

والتنزيل: هو النزول، وقد تقدّم في قوله تعالى: «شَهْرُ رَمَضانَ الذی أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» (سورة البقرة، الآية 185)، كيفية نزول القرآن، والفرق بين النزول والإنزال الذي يدلّ على الدفعة.

والآية تدلّ على صحة نسبة الكتب الإلهية المتقدّمة إلى الوحي الإلهي، وصدق بعض الحقائق التي ورد فيها، وتدلّ على ذلك آیات كثيرة، منها قوله تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنا التَّورَاةَ فِيهَا هُدیً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَخْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ» (سورة المائدة، الآية 44)، وقال تعالى: «وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدیً وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وهُدیً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ» (سورة المائدة، الآية 46)، وقال تعالى: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ» (سورة المائدة، الآية 48)، وقال جلّ شأنه: وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلًا لِکُلِّ شَيْ ءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَومَکَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُورِیکُم دارَ الْفاسِقِينَ (سورة الأعراف، الآية 145)، ويستفاد من هذه الآية الشريفة كثرة عناية الله تعالى بالتوراة، لأنّ جميع الكتب السماوية - بما فيها القرآن الكريم - تشترك في أصول المعارف الإلهية التي منها الدعوة إلى المبدأ جلّ جلاله وتوحيده ونفي الأضداد والأنداد، ومنها المعاد والعدل الإلهي، والترغيب إلى رحمة الرحمن والتحذير من الشيطان وعداوته للإنسان، ومن عذاب الله تعالى، كما تذكر قصص الأنبياء

ص: 209

وما لاقوه من الظالمين في جنب الله ونصرة الله لهم، وتبيّن قصة ابتلاء آدم (عليه السّلام) وإخراجه من الجنّة.

كما أنّها تشترك في بيان مكارم الأخلاق وما يرتفع به الإنسان إلى أعلى الجنان وما ينزله إلى حضيض الحيوان، وتشترك في بيان المستقلّات العقليّة، كحسن الإحسان وقبح الظلم، وبيان جملة من التكوينيّات والطبيعيّات.

إلّا أنّها تختلف في بعض الفروع العملية الذي يقتضيه السير التكاملي الإنساني الذي تنوط به المصالح التشريعيّة، وهذه كلّها أصول نظام التشريع الّتي لا بدّ وأن تجمعها جميع كتب السماء.

وبعبارة أخرى: أنّ الوحي السماوي بالنسبة إلى أنبياء الله تعالی واحد بوجود نوعي، والتوراة والإنجيل والقرآن من أفراد ذلك النوع، كما أنّ الإنسان واحد نوعي له أفراد كثيرون، فيصحّ لنا تأسيس قاعدة كلية وهي الاتحاد في الكتب السماويّة، ولكنّ القرآن مظهر لجميعها، فما كان منها موافقة للقرآن يكون صحيحة ومعتبرة، وما كان مخالفة له يرد علمه إلى أهله، إلّا إذا ثبت بدلیل معتبر جهة المخالفة، والأدلّة القطعيّة التي أقاموها على نسخ القرآن هو إنّما يكون بالنسبة إلى الجهات المخالفة، لا المساواة والموافقة الّتي هي مقتضى الأصل والقاعدة فيها.

والآية الشريف وإن دلّت على صحّة نسبة التوراة والإنجيل إلى الله تعالى، ولا بدّ أن تكون في الجملة، لا على نحو الكلية

ص: 210

والمجموع، لدلالة آيات أخرى على وقوع التحريف فيهما، قال تعالى: «فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ» (سورة المائدة، الآية 13)، وقال تعالى: «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ» (سورة المائدة، الآية 10).

قوله تعالى: «وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ»

التوراة لفظ عبراني ومعناها الشريعة، وتطلق على العهد القديم المتكون من أسفار موسى الخمسة، التي يسمّيها بالناموس، وهي: سفر التكوين، وسفر التثنية، وسفر الخروج وسفر اللاويين أو الأحبار، وسفر العدد. وقد وقع الخلاف بين المؤرخين في صحّة نسبة التوراة الموجودة بين أيدينا إلى موسى (عليه السّلام)، ولا يزال كثير من اللاهوتيين يشكون في صحّة النسبة ويرون أنّها كتبت بعد عصر موسی (عليه السّلام)، وإن كان القول بأن جميع تلك الأسفار ليست من الوحي لا يخلو من غلو وإفراط في القول، فإنّ فيها ما يكون منسوباً إلى موسى (عليه السّلام)، كما تشهد له الأدلة الكثيرة إلّا أن المراد من التوراة في القرآن هي الحقيقية المنزلة على موسى (عليه السّلام) بوحي من الله تعالى، كما تدلّ عليه الآيات الكثيرة، قال تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ» (سورة المائدة، الآية 44)، وقد

ص: 211

وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في ما يقرب من ثمانية عشر مورداً مقرونة بالتجليل والتعظيم.

واختلف الأدباء في اشتقاقها، ونحن في غنى عن ذلك بعد كونها غير عربية الأصل.

والإنجيل كلمة يونانية ومعناها (الجلوان)، أي ما يعطى لمن يبشر بالشيء، أو البشرى بالخلاص، وتطلق عند المسيحيين على الأناجيل الأربعة، وهي إنجيل لوقا، وإنجيل مرقس، وإنجيل متى، وإنجيل يوحنّا، والعهد الجديد يطلق على هذه الأناجيل الأربعة المتكونة من سبعة وعشرين سفراً، تتضمّن سيرة المسيح وتعاليمه وأعمال الرسل (الحواريين) ورؤيا يوحنا اللاهوتي، وقد اختلفوا في تأريخ كتابتها.

ولكن الإنجيل في القرآن الكريم هو الكتاب المنزل من الله تعالی علی عیسی (عليه السّلام) الموصوف بأنّه كتاب واحد حقيقي مشتمل على النور والهداية، وقد ورد ذكره في القرآن الكريم في ما يقرب من اثني عشر مورداً.

وقد اختلف العلماء في اشتقاق هذه الكلمة على وجوه، ولكن كونها غير عربية الأصل يكفينا عن الخوض في ذكرها.

ويستفاد من مجموع الآيات التي وردت هذه الكلمة فيها أن الإنجيل كتاب واحد حقيقي وليس هو متعددة كما يدعيه المسيحيون، وأنّه لم يؤمن من السقط والتحريف كالتوارة، ويرشد

ص: 212

إلى ذلك إفراد الاسم والتوصیف بأنّه هدى للناس، وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام في ذلك إن شاء الله تعالی.

وإنّما ذكرهما سبحانه في أول السورة توطئة لما سيذكره من قصصهم وما يتعلق بولادة عيسی (عليه السّلام).

ومن سياق الآية المباركة يستفاد أن التوراة والإنجيل نزلتا جملة واحدة، بخلاف القرآن فأنّه نزل تدريجياً، حيث عبّر تعالی: «نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ»، وقال تعالى: «وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ»، كما مرّ سابقاً.

إن قيل: ورد نفس التعبير في قوله تعالى: «وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ»، فيدلّ على نزول القرآن جمعاً ودفعاً، فيتحقّق التنافي بين الآيتين.

قلنا: لو كان النزول والتنزیل مرّة واحدة حقيقة فالإشكال وارد، ولكن للقرآن نزولات متعدّدة كما تقدّم سابقاً في قوله تعالى: «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» (سورة البقرة، الآية 185)، فمرّة نزل نجوماً ومراراً نزل دفعة، وإنّما ذكره هنا تجليلاً وتعظيماً المقام القرآن بالنسبة إلى سائر الكتب السماويّة.

قوله تعالى: «وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ».

الفرقان: ما يفرق بين الحقّ والباطل، وقد استعملت هذه المادة في القرآن الكريم كثيراً، وجميعها تدلّ على تلك المعارف الإلهيّة والأصول الحقّة النظاميّة، التي تبيّن وظيفة العبد وما هو مطلوب في مقام العبودية وإقامة العدل والحقّ، فيشمل الكتب

ص: 213

الإلهية وأنبياء الله تعالى والأحكام الإلهية التي تعيّن وظائف العبد، كما يشمل العقل وكلّ أمر محكم، ويدلّ على ذلك آيات متعدّدة، منها قوله تعالى: «وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ» (سورة الأنفال، الآية 41)، وقال تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ» (سورة الأنبياء، الآية 48)، وقال تعالى: «تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا» (سورة الفرقان، الآية 1).

والمراد به هنا القرآن الكريم، فهو باعتبار وجوده الجمعي يسمّى قرآناً، وباعتبار تفرقته بين الحقّ والباطل يسمّى فرقاناً، وباعتبار إرشاداته يكون نوراً، وباعتبار كونه أساساً للعمل والحكم بالعدل يسمّى ميزاناً، وتختلف أسماؤه الشريفة باختلاف صفاته المباركة.

وقيل: المراد بالفرقان: العقل، وقيل: الدلالة الفاصلة بين الحقّ والباطل، وقيل: النصر، وقيل: الحجّة القاطعة للرسول (صلّی الله عليه وآله وسلّم) على من حاجّه في أمر عيسی (عليه السّلام). وفي بعض الروايات: «الْفُرْقَانُ هُوَ كُلِّ أَمْرٍ مُحْكَمٍ وَ الْكِتابُ هُوَ جُمْلَةُ الْقُرْآنِ الَّذِي يُصَدِّقَهُ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ»، ويظهر وجه جميع ذلك ممّا ذكرناه آنفاً.

قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ»

أي: إن الذين كفروا بآيات الله وجحدوا بها لهم عذاب شدید، وذلك لأنّ الكفر بآيات الله حرمان عن منبع النور والهداية

ص: 214

والسعادة، مع أن النفس مستعدّة لجميع ذلك ولها قابلية إبراز كلّ كمال من الكمالات الممكنة إلى الظهور، فيكون نفس هذا الحرمان عذاباً لما يتبعه من الندامة والشقاوة، فلا يختصّ العذاب بالآخرة، وهو ظاهر إطلاق الآية الشريفة التي توعد الكافرين بآيات الله بالعذاب في الدنيا والآخرة، وهذا من الحقائق القرآنية التي تؤكّدها جملة من الآيات الشريفة، فتعدّ حرمان النفس عن الكمالات التي أعدّها الله تعالى لها من العذاب، ويعدّ المعرض عنها شقياً قد سلب السعادة عن نفسه، فكلّ ما يكون سبباً لسعادة الإنسان إذا کفر به يكون عذاباً وشقاءً له، فتكون السعادة والشقاوة في نظر القرآن بسعادة الروح وشقاوتها، وأمّا سعادة الجسم والبدن فهي أن أوجبت سعادة الروح فهي السعادة العظمى والكمال الأتم، وإلّا كانت شقاءً وعذاباً، قال تعالى: «مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ» (سورة آل عمران، الآية 197)، فالعذاب الإلهي إنّما يكون بالنسبة إلى الروح والجسم، ولكنّ المهمّ هو الأوّل. وهذا بخلاف ما يراه الإنسان الذي لم يعبأ بما وراء المادّة ولم يتخلّق بأخلاق الله تعالی في السعادة والشقاء، فإنّه يعتبر ما يكون سبباً للاستمتاع المادّية - کالمال والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضّة - سعادة، وما يكون بخلاف ذلك شقاءً وعذاباً، وهذا مخالف لما عليه الواقع الإنساني المؤلّف من البدن والروح، والكتب الإلهية إنّما نزلت لتهذيب الروح وإسعادها ورفع شقائها، لا خصوص سعادة الجسم فقط، وللبحث تتمة تأتي في الموضع المناسب.

ص: 215

قوله تعالى: «وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ»

مادة (نقم) تدلّ على إراءة الكراهة، سواء كانت باللسان أم بالعقوبة، وهي كثيرة الاستعمال في القرآن الكريم، ولا تدلّ المادّة بشيء من الدلالات على أن يكون الانتقال للتشفّي، كما هو الدائر في انتقام الإنسان، فإنّ الله تعالى أعزّ جانباً وأبعد ساحةً من أن ينتفع أو يتضرّر بشيءٍ من أعمال عباده. ولكن منشأ الانتقام يكون فيهم (أي المنتقم منهم)، ويقوم بهم قيام الصورة بالمادّة، وبينهما تلازم، ولا يعقل انفکاکهما إلّا في فرض الوهم.

والمعنى: أن الله قوي شديد نافذ في إرادته، منيع الجانب لا يرضى بأن تهتك محارمه، ينتقم ممّن خالفها وأعرض عنها.

وما ورد في هذه الآية الشريفة معلول آخر للحياة الحقيقية - من كلّ جهة - والقيّوميّة المطلقة، ولا معنى لهما إلّا إيصال كلّ ممکن إلى ما يليق به، بعد بسط العدل والإحسان والرحمة والعفو والغفران.

قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ».

معلول آخر للحياة الحقيقية والقيّوميّة المطلقة، فإنّ وحدة الحيّ القيّوم تستلزم الإحاطة المطلقة، وأن لا يخفى عليه شيء مما سواه، وإلّا كان خلفاً ولا يعقل غفلة العلّة - العليم الحكيم - عن معلوله.

ص: 216

ويصحّ أن يكون ما ورد في هذه الآية الشريفة كالعلّة، أي: لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فهو الحيّ القيّوم.

وإنّما قدّم تعالى الأرض على السماء لقربها إلى أذهان المخاطبين وأنسهم بها، وإرشادهم إلى أنّ أرضهم - التي يفعلون فيها ما يفعلون - تحت إحاطته الفعلية.

ويستفاد من هذه الآية الكريمة أنّ معنى العلم فيه تبارك وتعالی يرجع إلى أمر سلبي، أي: لا يخفى عليه شيء لقصور العقول عن درك علمه بالمعنى الإثباتي، لقصورها عن درك ذاته، ويدلّ على ذلك أخبار كثيرة.

كما تدلّ الآية المباركة أيضاً على العلم التفصيلي الفعلي الإحاطي لله تعالى، وتدلّ عليه آيات أخرى، منها قوله تعالی: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ» (سورة الحجر، الآية 21)، وقال تعالى: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» (سورة الأنعام، الآية 59).

كما تدلّ الآية المباركة أيضاً على العلم التفصيلي الفعلي الإحاطي لله تعالى، وتدلّ عليه آيات أخرى، منها قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ» (سورة الحجر، الآية 21)، وقال تعالي: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا

ص: 217

إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» (سورة الأنعام، الآية 59).

قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ»

الصورة تطلق... تارة على الهيئة الخاصة، وبهذا المعنى يصح أن تكون من الأعراض، كالصور المنصورة في الأذهان، أو ما ينتقش على الجدران أو ما ترتسم في المرأة أو في كلّ جسم شفاف له قابليّة المحاكاة. وفي العصر الحديث اتّسعت دائرتها، وهي بهذا المعنى تعم ما يكون له ظل كالتمثال أو ما لا ظل له.

وتطلق أخرى في مقابل المادّة، فتكون جوهرة من مقومات الجواهر المركّبة من المادّة والصورة، ويعبّر في الفلسفة عن المادّة بالجنس باعتبار الوجود الذهني، وعن الصورة بالفصل كذلك أيضاً، وإلّا فالحقيقة واحدة والتصوير إلقاء الصورة.

والرحم في الحيوان هو العضو الذي يتكون فيه الجنين إلى حين الولادة ومحل تربية الطفل. واستعير للقرابة باعتبار انتهاء أفرادها إلى رحم واحد. ويتضمّن معنى الرأفة والإحسان أيضاً، وبهذا المعنى يطلق على الله تعالى، فهو الرحمن الرحیم. وفي الحديث عن نبينا الأعظم (صلّی الله عليه وآله وسلّم): «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الرَّحِمِ قَالَ تَعَالَى: أَنَا الرَّحْمَنُ وَ أَنْتَ الرَّحِمِ، شَقَقْتُ اسْمَكَ مِنِ اسْمِي، فَمَنْ وَصَلَكِ وَصَلْتُهُ، وَ مَنْ قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ»، ومنه يظهر معنى الحديث الآخر:

ص: 218

«الرَّحِمَ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ: اللَّهُمَّ صِلْ مَنْ وَصَلَنِي، وَ اقْطَعْ مَنْ قَطَعَنِي»، ومخاطبة الرحم الله تعالی ليست ببعيدة، فإن الأشياء كلّها - بحقائقها الواقعيّة - مرتبطة مع الله عزّ وجلّ، يخاطبها الله تعالی وتخاطبه، ولكنّها مستورة إلّا على أهل البصيرة والبصائر.

وإنّما خصّ سبحانه وتعالى تقدير الإنسان وتصويره بالذكر مع أنّه له التقدير العام في جميع المخلوقات، لكمال العناية بالإنسان، الذي هو أعزّ خلقه وأشرفه، فقد ذكر تعالى تصوير الإنسان في آیات أخرى، قال تعالى: «وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ» (سورة التغابن، الآية 3)، وقال تعالى: «فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ» (سورة الانفطار، الآية 8)، ولبيان كيفية خلق عيسی (عليه السّلام) الوارد في هذه السورة والتعريض بالنصارى في ما يقولونه فيه (عليه السّلام).

وقد أبدع سبحانه وتعالى في تصوير الإنسان، مما يدلّ على بديع صنعه وحكمته البالغة وعلمه الأتمّ، واعتني بجميع تفاصيله اعتناء بليغاً، وأودع فيه من الحكم والأسرار وفق قوانین منظما تعجز عقول البشر عن الوصول إلى كنهها ومعرفة دقائقها مهما بلغوا في العلم والمعرفة، فقد كشف العلم الحديث عن بعض جوانب تلك الأسرار والحكم مما يبهر العقول ويجلّ عن الوصف، فحقیق الله تعالى أن يقول في خلق الإنسان: «فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ» (سورة المؤمنون، الآية 14)، ويكفي جانب من تلك الجوانب وجهة من جهاته أن تكون حجّة على العباد، وعن علي (عليه السّلام):

ص: 219

الصورة الإنسانية أكبر حجّة الله على خلقه، وهي الجسر الممدود بين الجنّة والنّار».

وأمّا ما ورد في الحديث عن نبيّنا الأعظم (صلّی الله عليه وآله وسلّم): «أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ»، فإن المراد صورة مخلوقة اختارها الله تعالی لنفسه، وجعلها حجّة على عبادة وسخّر لها ما في السموات والأرض، وليس المراد صورة الله تعالى، لأنّه يستحيل أن تكون الله صورة كما ثبت ذلك في الفلسفة العلمية، ويدلّ على ما ذكرناه ما ورد في الحديث يشرح هذه الرواية، وهو أنّه: «سَبَّ رَجُلٌ شَخْصاً بِحُضُورِ النَّبِيِّ (صلّی الله عليه وآله وسلّم) فَقَالَ: قَبَّحَكَ اللَّهِ وَ قَبَّحَ مَنْ عَلَى صُورَتِكَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيِّ (صلّی الله عليه وآله وسلّم): لَا تَقُلْ هَكَذَا، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ (عليه السّلام) عَلَى صُورَتِهِ»، أي على صورة الرجلّ المسبوب، فيكون سبّه سبّاً لآدم (عليه السّلام) وسائر الأنبياء أيضاً.

قوله تعالى: «كَيْفَ يَشَاءُ».

لفظ (کیف) يستعمل في ما فيه شبيه وما لم يكن له شبيه، کالأبيض والأسود والصحيح والسقيم ونحوها.

و(کیف) من إحدى المقولات التّسع العرضية المعروفة في الفلسفة القديمة والحديثة، ويدخل فيه الاشتداد والتضعّف لاتّصافه بالحركة، كما أنّ فيه الشدّة والضعف بذاتها.

وهو من ألفاظ العموم، ولا يطلق عليه تعالى لتقوّمه بالغير كما في غيره، وفي الحديث: «هو الذي كيّف الكيف ولا كيف

ص: 220

له»، وإلى ذلك تشير القاعدة التي أسسها أئمة الدين (عليهم السّلام) في المعارف الربوبية: «كُلُّ مَا يُوجَدُ فِي الْمَخْلُوقَ لَا يُوجَدُ فِي الْخَالِقِ»، وقصارى ما يكن القول فيه عزّ وجلّ هو: إنّه تعالى شيء لا كالأشياء وذات لا كالذوات، حتى لا يلزم التعطيل.

وإطلاق الكيف في المقام باعتبار المخاطبة مع الناس والإنسان المخلوق وأطواره في الأرحام، لا بالنسبة إلى الملك العلام.

ومادّة (شيء) تأتي بمعنى المشيء وجوده، فكلّ موجود شيء وبالعكس، ولا يطلق على العدم، وقد أثبت الفلاسفة مساوقة الوجود للشيئية، وقال بعض أكابرهم:

ما ليس موجوداً یکون لیسا *** قدساوق الشيء لدينا أيسا

ولا يطلق بهذا المعنى على الله عزّ وجلّ، وتقدّم في الحديث: «إنَّهُ شَيْ ءٌ لَا کَالأَشيَاءِ».

والمشيئة بالمعنى الوصفي تكون من صفات الفعل: والفرق بنيها وبين الإرادة بالكلية والجزئية، أو الحدوث والبقاء، فالحدوث يسمّى مشيئة، والبقاء والإبقاء إرادة.

بيان ذلك أنّ كلّ فعل اختياري صادر من الفاعل المختار لا بدّ وأن يسبقه أمور لا يمكن تخلّف واحد منها، كما هو الثابت بالوجدان والبرهان، وهذه الأمور تسمّى بأسباب الفعل، وهي:

الأول: هو العلم ولو على نحو الإجمال، وفي الجملة لئلّا يكون من طلب المجهول المطلق الذي هو قبيح من العاقل، بل هو

ص: 221

محال في نفسه، لأن توجّه النفس إلى شيء لا يتحقّق إلّا بتعين ذلك الشيء في الجملة.

الثاني: المشيئة بمعنی توجه النفس إلى طلبه إجمالاً.

الثالث: التقدير، وهو التفات النفس إلى خصوصيّاته كماً وكيفاً ومن سائر الجهات.

الرابع: القضاء، أي: حكم النفس بإيجاده خارجاً.

الخامس: إبرام هذا القضاء، أي الاستقامة فيه وجعله بحيث لا يتخلف.

السادس: الإرادة الموجودة للفعل.

وهذه كلّها موجودة في كلّ فعل اختباري يحصل من الفاعل المختار، ولو كان هو الله تعالى الخالق القهّار.

نعم، في الإنسان واقعها موجودة في النفس ومرتكزة فيها إجمالاً وإن لم يعلم بها تفصيلا، ولا يضرّ ذلك، لأنّها بوجودها الواقعي مقتضية لحصول الفعل لا بوجودها العلمي التفصيلي الفعلي.

وأمّا بالنسبة إلى الله تعالی فمن حيث إحاطته الوجودية فوق ما نتعقّله من معنى الإحاطة، فإنّ جميع تلك الأمور موجودة ومعلومة له تعالی تفصيلاً، فهو عالم بجميع أطوار وجود الفعل وشؤونه، بل عالم بما سواه كلّية وجزئية قبل الإيجاد وبعده وجميع مراتب

ص: 222

التغيّرات والتبدّلات، وكذلك هو عالم بقدره وقضائه وإمضائه وإبرامه وإرادته - التي هي عين فعله الأقدس - علماً تفصيلياً إحاطياً.

ويمكن تقليل ما ذكرناه من الأسباب بإدخال بعضها في البعض، ويمكن تکثيرها بتفصيل بعضها إلى أمور، ولذا اختلفت الأحاديث الشريفة الواردة في أسباب الفعل قلة وكثرة.

وكيف كان، فقد وقع الكلام في أنّ هذه الأسباب من صفات الفاعل أو من صفات الفعل. أمّا في الإنسان فيصحّ أن تعدّ من صفات الفاعل، كما يصحّ أن تعدّ من صفات الفعل، ولا محذور فيه من عقل أو نقل، فيقال: فاعل مريد، وفعل مراد، وفاعل مقدر (بالكسر). وفعل مقدّر (بالفتح)، خصوصاً في العلم الذي لا إشكال فيه من أحد أنّه من صفات الفاعل في الخالق والمخلوق، وكذا القدر والقضاء والإبرام، إمّا باعتبار منشئهما وهو العلم الإحاطي الأكمل والحكمة البالغة، أو باعتبار إضافتهما إلى الممكن المخلوق، فلا ريب في كونهما من صفات الفعل.

وأمّا بالنسبة إليه تعالى، فما كانت مستلزمة للتغيير والتبدّل فمن صفات الفعل، وما لم تكن كذلك فمن صفات الذات.

وأصل الإشكال الذي ذكروه في عدم إمكان جعل المشيئة والإرادة من صفات الذات، أنّ الإرادة علّة تامّة منحصرة لحصول المراد، فإن كانت في مرتبة الذات فيلزم إمّا تعدّد القدماء، أو كون

ص: 223

الذات المقدّسة محلّاً للحوادث، وكلّ منهما مستحيل. وقد أثبتوا امتناع كلّ ذلك بالبراهين المتقنة.

ولكن يمكن الجواب عن ذلك...

أولاً: بأن علّية الإرادة لحصول المراد إنّما تكون في الفاعل الموجب (بالفتح) - أي الفاعل غير المختار - دون الفاعل العالم المختار، الذي تكون الإرادة فيه من المقتضيات، كسائر أسباب الفعل فلا يلزم محذور فيه أبداً، خصوصاً في الإرادة الأزلية، فالاختيار في الفعل والترك، والقدرة القارية باقية قبل الإرادة وحينها وبعدها، وحين حصول الفعل أيضاً، ولعلّ إحدى مصالح جعل البداء الله جلّ جلاله ترجع إلى ذلك، حيث قال تعالى: «يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» (سورة الرعد، الآية 39).

وثانياً: أنّه على فرض كون الإرادة علّة تامّة لحصول المراد، ولكنّ العلّية لا تكون على نحو الجزاف، بل هي على نحو منظّم بالنظام الأحسن الأكمل الأتمّ، فإذا أراد جلّت عظمته خلق آدم وهبوطه، أو طوفان نوح، وبعثة نبينا الأعظم (صلّی الله عليه وآله وسلّم)، وقيام الساعة، وجزاء أهل الجنة والنار، بل جميع العوالم الطولية والعرضية، يكون مورد إرادته الكاملة وفق النظام الأحسن الأكمل، وإلّا يكون من تخلف المراد عن الإرادة، وهو محال.

وثالثاً: أنّ الإرادة إن كانت علّة تامّة لحصول المراد، فإنّما هو

ص: 224

بالنسبة إلى حصول المراد بالأصل لا المراد بالعرض. والمراد بالأصل فيه عزّ وجلّ يرجع إلى ابتهاج ذاته بذاته في ذاته، بلا محذور في البين، كما قالوا ذلك في علمه الأزلي بما سواه، وسمعه، وبصره. وفي الحديث: «عَالِمٌ إِذْ لَا مَعْلُومَ، وَ سَامِعٌ إِذْ لَا مَسْمُوعَ، وَ بَصِيرٌ إِذْ لَا مُبْصَرَ».

وبعبارة أخرى: تكون الإرادة التكوينيّة من هذه الجهة، كالإرادة التشريعيّة، فإذا أراد الله تعالى الصلاة - مثلا - من عباده، أرادها وفق نظام خاص، بحيث يكون أولها تكبيرة وآخرها تسليمة، مع تخلّل القيام والركوع والسجود والأذكار في البين، فإرادته انبساطية على جميع ذلك، كما أنّ إرادته الأزلية التكوينيّة تكون كذلك.

قد يقال: إنّ ما ذكر ينافي قوله تعالى: «إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (سورة آل عمران، الآية 47).

ويمكن الجواب عنه: بأنّ مرتبة الأمر التكويني غير مرتبة الإرادة، كما هو ظاهر الآية الكريمة. هذا كلّه بحسب القواعد العقليّة.

وأمّا بحسب ظواهر النصوص التي تدلّ على جعل الإرادة والمشينة من صفات الفعل لا الذات، فلا بدّ من إتباعها، ولا محيص عمّا ورد فيها. هذا إجمال ما يتعلّق بموضوع القضاء والقدر، اللذين هما من أسباب الفعل في كلّ فاعل مختار.

ص: 225

وأمّا أسرار القضاء والقدر في فعل الله جلّ جلاله، فقد حيّرته الملائكة المقرّبين والأنبياء المرسلين. وفي الحديث عن علي (عليه السّلام): «بَحْرٌ عَمِيقٌ فَلَا تَلِجَهُ، وَ طَرِيقٌ مُظْلِمٌ فَلَا تَسلُكهُ، وَ أَنَّهُ سِرُّ اللَّهِ فَلَا تَتَكَلّفهُ»، وسيأتي في الموضع المناسب تتمّة الكلام إن شاء الله تعالی.

وتعليق التصوير على المشيئة الإلهية إنّما هو لأجل تعميم التصوير ليشمل جميع أقسامه في أصل الخلق والصفات والكيفيّات الأخلاقيّة والطبيعيّة، والإرشاد إلى عدم إحاطة الأفهام والعقول، كما لا يكمن الإحاطة بالمشيئة الإلهية.

والمشيئة في قوله تعالى: «يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ»، مشيئة تقدير وإرادة مشيئة حتم، وهو يرشد إلى اختلاف الحالات والعوارض واللوازم الواردة على النطف في الأرحام، فإنّ جميع تلك الأمور ۔ سواء كانت من لوازم الوجود أم من لوازم الماهية، التي هي مجعولة بالعرض - تكون تحت القدرة الإلهية، بل تشمل جميع التقديرات الحاصلة للإنسان كالعزّة والذلّة والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر والعذاب ونحو ذلك، فإنّ جميعها يكون في الرّحم على نحو الاقتضاء والمشية، كما يظهر من الأخبار، منها قول نبينا الأعظم (صلّی الله عليه وآله وسلّم): «السَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَ الشَّقِيُّ مَنْ شَقِیَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ»، ولا بأس بتسمية جميع ذلك بالصورة بمعناها الأعم.

ومن ذلك يعلم الوجه في تعقيب الآيات المتقدّمة بهذه الآية

ص: 226

الشريفة، ويصحّ أيضاً أن تكون تحذيراً وتخويفاً بقدرة الله تعالى، فإنّه قادر على أن يبدل صورة الإنسان إلى صورة أخرى، إتماماً للحجّة وبياناً للقدرة الكاملة، ليرتدع الناس عن المعاصي والآثام.

قوله تعالى: «لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»

تعليل لما تقدّم، وعود إلى ما بدأ به الكلام من التوحيد، أي: هو المتوحّد في الألوهيّة والمتفرّد في جميع شؤون خلقه، العزيز بقدرته وسلطانه، لا يغلب في إرادته وقضائه، هو الحكيم، أي: يفعل بمقتضى الحكمة التامّة.

بحث دلالي:

تدلّ الآيات المتقدّمة على أمور:

الأول: أنّه قد أثبت أكابر الفلاسفة المتألّهين توحيد الذات، وتوحيد المعبود، وتوحيد الصفة والفعل لله جلّ جلالها - بمعنى أنّه لا شريك له تعالى في شيء من ذلك، فهو واحد متوحد متفرد في جميع ذلك - ببراهين عقلية متينة (جزاهم الله تعالی خیراً)، ويمكن استفادة وجه يجمع تلك البراهين من قوله تعالى: «اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ»، فإنّه يدلّ على وحدانية الذات المستجمعة لجميع صفات الجلال والجمال والمعبودية الحقيقية في الإله الواحد القهّار.

وذلك بأن يقال: إنّ الذات الجامع لجميع الكمالات الواقعية، والمسلوب عنه جميع النقائص كذلك، إمّا أن يفرض وجوده أو لا؟

ص: 227

والثاني باطل بالضرورة، والأول يستلزم تحّققه كذلك، أي مسلوبة عنه جميع النقائص الواقعيّة وجامعة لجميع الكمالات كذلك، وإلّا لزم الخلف، وهو باطل بالضرورة أيضاً، ولا بدّ أن يسلب عنه الإمكان، ويكون العلم والحياة والقيّوميّة والحكمة عين ذاته، لأنّ خلاف كلّ ذلك نقص، والمفروض أنّه مسلوب عنه جميع النقائص الواقعيّة مطلقاً.

الثاني: إنّما ذكر سبحانه: «الحَيُّ القَيُّومُ» أولاً ورتّب عليه تنزيل الكتاب بالحقّ، ليعلم من عظمة المنزل عظمة التنزيل، فكما لا حدّ للحيّ القيّوم جلّت عظمته، كذلك لا يمكن تحديد هذا الكتاب العظيم الذي نزل بالحقّ، المهيمن على جميع الكتب الإلهية، ويكون ترتب تنزيل الكتاب بالحق على الحيّ القيّوم من قبيل ترتّب المعلول على العلّة التامّة المنحصرة، يعني حيث أنّه تعالی حيّ وقيّوم نزل الكتاب بالحقّ.

الثالث: إنّما عبّر سبحانه بالتنزيل، للإشارة إلى كثرة العناية والاهتمام بوجود القرآن العظيم، فإنّه کنسخة واحدة لشرح نظامي التكوين والتشريع، فقد تجلى الله تعالى فيه وأنزله بالحقّ ومن الحقّ، وإلى الحقّ.

أمّا أنّه بالحقّ، فهو من لوازم كونه من الحقّ المطلق: إذ لا يعقل نزول شيء منه إلّا بالحقّ.

وأمّا أنّه في الحقّ، لأنّه نزل الكتاب لتكميل الإنسان کمالاً

ص: 228

معنوياً وظاهرياً، حتّى يصير بذلك خلاقاً لما يشاء وفعّالاً لما يريد من المعنويات.

وأمّا أنّه نزل إلى الحقّ، لأنّه نزل من الحيّ القيوم إلى قلب سيد المرسلين، والغاية منه هو النعيم الأزلي الذي يبقى ولا يفنی.

الرابع: يدلّ قوله تعالى: «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ» على أنّ اعتبار الكتب الإلهيّة السابقة إنّما يكون بإمضاء القرآن العظيم، فهو الأصل في مدرك الاعتبار، ويكون هو المعتمد في الموافقة والمخالفة، وفي الكلام من براعة الأسلوب وروعة البيان ما لا يخفی.

الخامس: إنّما قدّم سبحانه تنزيل الكتاب على نبيه في الذكر على إنزال التوراة والإنجيل، لأّ القرآن العظيم هو الأصل في الكتب السماويّة، وأن تأخّر إنزاله في سير الزمان لمصالح كثيرة، منها حصول استعداد النفوس لذلك، وإلّا فهو الأول والأصل، فمعارفه شموس طالعة، وأحكامه أقمار منيرة، وآدابه نجوم مضيئة، تستشرق الأرواح من شوارقه وتستنير النفوس من بوارقه، تحيا الأرواح حياة أبدية وتنعم الأشباح بنعمة سرمدية، توصلها إلى قاب قوسين أو أدنى والاقتراب من العلي الأعلى.

ألم بنا وصف أجلّ من الوصف *** أدقّ من المعنى وأخفى من اللطف

تمازجه الأرواح وهي لطيفة *** إذا هو روح الروح والروح كالظرف

نعمنا به رغداً من العيش برهة *** وراس رتبته المعقول في عالم الكشف

ص: 229

السادس: الفرقان يصحّ أن يكون وصفاً بحال ذات القرآن، فإنّه الفارق بين الحق والباطل، والهداية والغواية، كما يصحّ أن يكون ذلك وصفاً بحال المتعلق، أي الفارق بين المؤمن وغيره، فيستفيد كل منهم بقدر لياقته واستعدادهن قال تعالى: «أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا» (سورة الرعد، الآية 17).

السابع: إنّما كرّر سبحانه وتعالى مادّة (نزل) في الآية المباركة ثلاث مرات، للاهتمام التامّ بالمنزل وكثرة العناية به، والمراد بالكتاب في أول الآية المباركة هو القرآن الذي هو بين أيدينا، بقرينة قوله تعالى: «نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ»، والمراد من التنزيل التدريجي نجوماً متفرقة حسب تعدّد الخصوصيات، فلاحظ سبحانه وتعالى باعتبار وجوده الجمعي بعد تماميّة مراتب التنزيل وذكره مستقلاً.

وأمّا التوراة والإنجيل فيستظهر من الآية الشريفة: «وَ أَنْزَلْنا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ» أنّهما نزلا دفعة وهو كذلك، لأنّ الإنجيل مقتبس من التوراة، وهي نزلت دفعة.

وأمّا قوله تعالى: «وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ»، فهو عبارة عن المحكمات الفارق بين الحقّ والباطل، التي تكون في ضمن القرآن، والتكرار ثانياً لكثرة أهميتها وجعل إنزالها إنزالاً دفعياً مضافاً إلى التنزيل التدريجي، ولا بأس بجعل الاختلاف في التعبير من باب التفنن في الكلام الذي هو من جهات الفصاحة والبلاغة.

ص: 230

ويمكن أن يوجّه بوجه آخر أدقّ وألطف، وهو أنّه إذا لوحظ الوحي بالنسبة إلى الموحي وقلب الموحى إليه، فهو نزول مطلقاً، التنزههما عن الزمان والزمانیّات، ولكن إذا لوحظ بحسب هذا العالم المادي الزماني المتدرج الوجود، فهو تنزیل، فيكون كلّ منهما بحسب وعائه وعالمه، وبذلك يجمع بين جميع الآيات السابقة من غير محذور في البين.

الثامن: يستفاد من قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ» تقدير جميع الأمور المتعلّقة بالإنسان، فيكون كفر الكافر وإيمان المؤمن غير خارجين عن تقدير الله تعالى على نحو الاقتضاء، ويكون الكلام تعميماً بعد التخصيص، وقد ذكر التقدير في الإنسان إتماماً للحجّة، وتثبيتاً لإيمان المؤمن، وتطييباً لنفوسهم وتخويفاً بانتقام الكافرين وتعريضاً بالنصارى في أمر المسيح (عليه السّلام).

المسيح: يدلّ قوله تعال: «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» بعد ذكر ما تقدّم من إنزال الكتب الإلهيّة والفرقان والانتقام من الكافرين وتصوير الإنسان في الأرحام، على أنّ جميع ذلك دليل على وحدانيّته، وأنّه لا بد من استنادها إلى إله واحد مدبّر حکیم، يفعل ذلك بعزّته فلا يغلبه أمر.

العاشر: أن المتأمّل من أهل العرفان في جملة من الآيات الشريفة من سورة آل عمران، والآيات المباركة في آخر سورة الحشر، والآيات الأول من سورة الحديد، يعلم أنّها تتضمّن أبواباً

ص: 231

من المعارف، وحقائق من الواقعيات، وإشارات من المعنويات، ولا يصل إلى جميع ذلك إلّا بتصفية النفس والمجاهدة في سبيل الله تعالی.

وعن بعض المشائخ: أن في هذه الآيات أسراراً أفاضها الله تعالی علینا، أنّه ولى الإفاضة، خصوصاً في تكرار لفظ «هو» أربع مرات...

تارة: مشيراً إلى تجلّي الذات.

وأخرى: مشيرآً إلى التجلّي الفعليّ بتصوير صورة الإنسان، التي هي أعظم آية وعليها يدور خلق سائر العوالم.

وثالثة: مشيراً إلى تجلّي العزّة والحكمة.

ورابعة: بالتجلّي التشريعيّ في المعارف الحقّة والقوانين التامّة، ويلزمه التجلّي الجزائيّ أيضاً، فإنّ التشريع بلا جزاء لغو.

بحث روائي:

في الكافي: عَنِ الصَّادِقِ (عليه السّلام) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «أَنْزَلَ الْفُرْقانَ» قَالَ (عليه السّلام): «الْقُرْآنُ جُمْلَةُ الْكِتَابِ، وَ الْفُرْقَانُ الْمُحْكَمُ الْوَاجِبُ الْعَمَلُ بِهِ».

وفي تفسير القمي: «الْفُرْقَانُ هُوَ كُلِّ أَمْرٍ مُحْكَمٍ، وَ الْكِتابُ جُمْلَةُ الْقُرْآنُ الَّذِي يُصَدِّقَهُ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ».

أقول: قد تقدّم ما يتعلّق بذلك في التفسير.

ص: 232

في المجمع: عن الكلبي، ومحمد بن إسحاق والربيع بن أنس، وفي الدر المنثور: عن أبي إسحاق وابن جرير وابن المنذر، عن محمد بن جعفر بن الزبير وعن أبي إسحاق، عن محمد بن سهل بن أبي إمامة وغيرهم: « أَنَّ صَدْرَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ إِلَى بِضْعٍ وَ ثَمَانِينَ آيَةٍ مِنْهَا نَزَلَتْ فِي وَفْدِ نَجْرَانَ لِمَا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلّی الله عليه وآله وسلَّم)، وَ كانُوا ستین رَاكِباً وَ فِيهِمْ أَرْبَعَةُ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، وَفِي الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ إِلَيْهِمْ يؤول أَمْرُهُمْ، العاقب: أَمِيرُ الْقَوْمِ وَ صَاحِبُ مَشُورَتِهِمْ الَّذِينَ لَا يَصْدُرُونَ إِلَّا عَنْ رَأْيِهِ وَ اسْمُهُ عَبْدُ الْمَسِيحِ، وَ السَّيِّدُ ثمالهم وَ صَاحِبُ رَحْلَهُمْ وَ اسْمُهُ الْأَيْهَمِ، وَ أَبُو حَارِثَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ أُسقُفُهُم وحبرهم وَ إِمَامُهُمْ وَ صَاحِبُ مدارسهم، وَ كَانَ قَدْ شُرِّفَ فِيهِمْ وَ دَرَّسَ كُتُبَهُمْ حَتَّى حُسِّنَ عِلمَهُ فِي دِينِهِمْ، وَ كَانَتْ مُلُوكُ الرُّومِ قَدْ شَرَّفُوهُ ومَوَّلُوهُ وَ بَنَوْا لَهُ الْكَنَائِسَ لِعِلْمِهِ وَ اجْتِهَادِهِ، فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلّی الله عليه وآله وسلَّم) فِي الْمَدِينَةِ وَ دَخَلُوا مَسْجِدِهِ حِينَ صَلَّى الْعَصْرَ، عَلَيْهِمْ ثِيَابُ الحبرات جباتٌ وَ أَرْدِيَة ، فِي جَمَالِ رِجَالِ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ کعب، يَقُولُ بَعْضُ مَنْ رَآهُمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ (صلّی الله عليه وآله وسلَّم) مَا رَأَيْنَا وَفْداً مِثْلَهُمْ، وَقَدْ حَانَتْ صَلَاتُهمْ فَأَقْبَلُوا يَضْرِبُونَ بالناقوس وَ قَامُوا فَصَلُّوا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلّی الله عليه وآله وسلَّم) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلّی الله عليه وآله وسلّم): دَعُوْهُمْ فَصَلُّوا إِلَى الْمَشْرِقِ، فكَلِمَ السَّيِّدُ والعَاقِبُ رَسُولَ اللَّهِ (صلّی الله عليه وآله وسلَّم)، فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ (صلّی الله عليه وآله وسلَّم): أَسْلَمَا. قَالَا: قَدْ أَسْلَمْنا قَبْلَكَ، قَالَ: كَذَبْتُمَا، يَمنَعُكُمَا مِنَ الْإِسْلَامِ دُعَاؤُکُما لِلَّهِ وَلَداً، وَعِبَادَتُكُمَا الصَّلِيبَ وَأَكلُكُمَا الْخِنْزِيرَ، قَالَا: إِنْ لَمْ يَكُنْ

ص: 233

عیسی وَلَداً لِلَّهِ فَمِنْ أَبُوهُ؟ وَ خَاصَمُوهُ جَمِيعاً فِي عیسی، فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيِّ (صلّی الله عليه وآله وسلَّم): أَ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَلَدٌ إِلَّا وَ هُوَ يُشْبِهُ أَبَاهُ؟ قالُوا: بَلَى، قَالَ: أَ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَبَّنَا حَيٌّ لَا يَمُوتُ، وَأَنَّ عيسی يَأْتِيَ عَلَيْهِ الْفَنَاءُ؟ قالُوا: بَلَى، قَالَ: ألسم تَعْلَمُونَ أَنَّ رَبَّنَا حَيٌّ لَا يَمُوتُ، وَأَنْ عِيسَى يَأْتِيَ عَلَيْهِ الْفَنَاءُ؟ قالُوا: بَلَى، قَالَ: أَ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَبَّنَا قَيِّمٌ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ يَحْفَظُهُ وَ يَرْزُقَهُ؟ قالُوا: بَلَى، قَالَ : فَهَلْ يَمْلِكُ عِيسَى مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً؟ قالُوا: لَا، قَالَ: فَإِنَّ رَبَّنَا صَوَّرَ عِيسَى فِي الرَّحِمِ كَيْفَ شَاءَ، وَ رَبَّنَا لَا يَأْكُلُ وَ لَا يَشْرَبُ وَ لَا يُحْدِثْ، قالُوا: بَلَى، قَالَ: أَ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عِيسَى حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كَمَا تَحْمِلُ الْمَرْأَةُ، ثُمَّ وَضَعَتْهُ كَمَا تَضَعَ الْمَرْأَةُ وَلَدَهَا، ثُمَّ غَذَی کما يَغذِي الصَّبِيُّ ثُمَّ كَانَ يَطْعَمُ وَ يَشْرَبُ وَ يُحْدِثْ؟ قالُوا: بَلَى، قَالَ: فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا كَمَا زَعَمْتُمْ؟ فَسَكَتُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلٍ فِيهِمْ صَدْرَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ إِلَى بَعْضٍ وَ ثَمَانِينَ آيَةٍ مِنْهَا».

أقول: ما ورد في الرواية مطابق للأدلة العقلية أيضاً، وليس فيها جهة من جهات التعبّد، ويمكن أن يكون نزول مجموع الآيات التي ذكرت في الرواية بعضها من باب المقدمة لدفع احتجاجاتهم، إلّا أن تكون بنفسها احتجاجاً عليهم.

في العلل: عن النبي (صلّی الله عليه وآله وسلَّم): «سُمِّيَ الْقُرْآنُ فُرْقَاناً لِأَنَّهُ مُتَفَرِّقُ الْآيَاتِ، وَ السُّوَرُ نَزَلَتْ فِي غَيْرِ الْأَلْوَاحِ وَ غَيْرِ الصُّحُفِ، وَ التَّوْراةُ وَ الْإِنْجِيلُ وَ الزَّبُورُ أُنْزِلَتْ كُلُّهَا جُمْلَةً فِي الْأَلْوَاحِ وَ الْوَرِقِ».

ص: 234

أقول: إمّا التوراة والإنجيل والزبور أنزلت جملة واحدة، فيمكن أن يستشهد بقوله تعالى: «وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ» [سورة الأعراف، الآية: 154].

فيستفاد منه أنّ التوراة كانت مكتوبة بالخطّ الأزلي في الألواح، وأمّا أنّ الألواح من أيّ شيء كانت، فلا يستفاد ذلك من الآية المباركة. ويشهد لما قلنا قوله تعالى: «صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى» [سورة الأعلى، الآية 19].

وأمّا أن الإنجيل نزل جملة واحدة، فلقوله تعالى: «وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ» [سورة المائدة، الآية: 46]، وغيره من الآيات المباركة التي يستفاد من سياقها أنّه كان مكتوباً وأتاه الله إلى عيسی (عليه السّلام).

وأمّا الزبور، فيشهد قوله تعالی: «وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً» [سورة النساء، الآية: 193]، فإن المنساق منه أيضاً النزول الجمعي.

ثم إنّ القرآن والفرقان من الأمور الإضافية النسبية، فيصحّ نسبة الجمع إلى القرآن في كلّ ما يصحّ انتساب الجمع إليه، کالجمع بين الدفتين، أو الجمع في قلب سيد الأنبياء (صلّی الله عليه وآله وسلَّم)، أو الجمع في اللوح المحفوظ، أو الجمع في علم الله تعالى، أو الجمع في غير ما ذكر من العوالم.

كما أنّ الفرقان يصحّ بانتساب التفريق إلى كلّ ما صحّ ذلك عقلاً و شرعاً من التفريق بين المحكم والمتشابه، والتفريق بين

ص: 235

أصول المعارف والأحكام، والتفريق بين الآيات الدالّة على التكوين والآيات الدالة على القصص والحكايات، إلى غير ذلك من جهات الفرق. فما ذكر في الروايات في معنى الفرقان يكون من باب ذکر المصداق، كما مرّ.

وفي الكافي: عن الباقر (عليه السّلام) قال: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ النُّطْفَةَ الَّتِي مِمَّا أَخَذَ عَلَيْهَا الْمِيثَاقَ فِي صُلْبِ آدَمَ أَوْ مَا يَبْدُو لَهُ فِيهِ وَ يَجْعَلَهَا فِي الرَّحِمِ حَرَّكَ الرَّجُلَ لِلْجِمَاعِ وَ أَوْحَى إِلَى الرَّحِمِ أَنِ افْتَحِي بَابَكِ حَتَّى يَلِجَ فِيكِ-خَلْقِي وَ قَضَائِيَ النَّافِذُ وَ قَدَرِي فَتَفْتَحُ الرَّحِمُ بَابَهَا فَتَصِلُ النُّطْفَةُ إِلَى الرَّحِمِ فَتَرَدَّدُ فِيهِ أَرْبَعِينَ يَوْماً ثُمَّ تَصِيرُ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْماً ثُمَّ تَصِيرُ مُضْغَةً أَرْبَعِينَ يَوْماً ثُمَّ تَصِيرُ لَحْماً تَجْرِي فِيهِ عُرُوقٌ مُشْتَبِكَةٌ ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكَيْنِ خَلَّاقَيْنِ يَخْلُقَانِ فِي الْأَرْحَامِ مَا يَشَاءُ اللَّهُ فَيَقْتَحِمَانِ فِي بَطْنِ الْمَرْأَةِ مِنْ فَمِ الْمَرْأَةِ فَيَصِلَانِ إِلَى الرَّحِمِ وَ فِيهَا الرُّوحُ الْقَدِيمَةُ الْمَنْقُولَةُ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَ أَرْحَامِ النِّسَاءِ فَيَنْفُخَانِ فِيهَا رُوحَ الْحَيَاةِ وَ الْبَقَاءِ وَ يَشُقَّانِ لَهُ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ جَمِيعَ الْجَوَارِحِ وَ جَمِيعَ مَا فِي الْبَطْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ثُمَّ يُوحِي اللَّهُ إِلَى الْمَلَكَيْنِ اكْتُبَا عَلَيْهِ قَضَائِي وَ قَدَرِي وَ نَافِذَ أَمْرِي وَ اشْتَرِطَا لِيَ الْبَدَاءَ فِيمَا تَكْتُبَانِ فَيَقُولَانِ يَا رَبِّ مَا نَكْتُبُ فَيُوحِي اللَّهُ إِلَيْهِمَا أَنِ ارْفَعَا رَءُوسَكُمَا إِلَى رَأْسِ أُمِّهِ فَيَرْفَعَانِ رُءُوسَهُمَا فَإِذَا اللَّوْحُ يَقْرَعُ جَبْهَةَ أُمِّهِ فَيَنْظُرَانِ فِيهِ فَيَجِدَانِ فِي اللَّوْحِ صُورَتَهُ وَ زِينَتَهُ وَ أَجَلَهُ وَ مِيثَاقَهُ شَقِيّاً أَوْ سَعِيداً وَ جَمِيعَ شَأْنِهِ قَالَ فَيُمْلِي أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فَيَكْتُبَانِ جَمِيعَ مَا فِي اللَّوْحِ وَ يَشْتَرِطَانِ الْبَدَاءَ

ص: 236

فِيمَا يَكْتُبَان ثُمَّ يَخْتِمَانِ الْكِتَابَ وَ يَجْعَلَانِهِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ثُمَّ يُقِيمَانِهِ قَائِماً فِي بَطْنِ أُمِّهِ قَالَ فَرُبَّمَا عَتَا فَانْقَلَبَ وَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا فِي كُلِّ عَاتٍ أَوْ مَارِدٍ وَ إِذَا بَلَغَ أَوَانُ خُرُوجِ الْوَلَدِ تَامّاً أَوْ غَيْرَ تَامٍّ أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ إِلَى الرَّحِمِ أَنِ افْتَحِي بَابَكِ حَتَّى يَخْرُجَ خَلْقِي إِلَى أَرْضِي وَ يَنْفُذَ فِيهِ أَمْرِي فَقَدْ بَلَغَ أَوَانُ خُرُوجِهِ قَالَ فَيَفْتَحُ الرَّحِمُ بَابَ الْوَلَدِ فَيَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكاً يُقَالُ لَهُ زَاجِرٌ فَيَزْجُرُهُ زَجْرَةً فَيَفْزَعُ مِنْهَا الْوَلَدُ فَيَنْقَلِبُ فَيَصِيرُ رِجْلَاهُ فَوْقَ رَأْسِهِ وَ رَأْسُهُ فِي أَسْفَلِ الْبَطْنِ لِيُسَهِّلَ اللَّهُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَ عَلَى الْوَلَدِ الْخُرُوجَ قَالَ فَإِذَا احْتُبِسَ زَجَرَهُ الْمَلَكُ زَجْرَةً أُخْرَى فَيَفْزَعُ مِنْهَا فَيَسْقُطُ الْوَلَدُ إِلَى الْأَرْضِ بَاكِياً فَزِعاً مِنَ الزَّجْرَةِ».

أقول: هذا الحديث يبيّن جملة من أسرار التكوين ببيان واضح، والأمور التي ذكرت فيه أسرار معنوية وأسرار تكوينيّة حقيقة لا تنافي الأسباب الطبيعية المعروفة، إذ يمكن أن يكون في شيء واحد أسباب جلية واضحة وأسباب خفية معنوية، لا يحيط بها إلّا الله تعالى، وهما في حاق الواقع يرجعان إلى شيء واحد. وكلّ واحد منهما يكون من المقتضي لتحصيل المعلول، أو يكون كلّ واحد منهما علّة تامّة مترتّبة كلّ سابقة علّة للاحقتها، فيصير كلّ واحد علّة تامّة من جهة ومقتضياً من جهة أخرى، كما هو شأن العلل والمعلولات المترتّبة في حصول النتيجة القصوى.

وأمّا قوله (عليه السّلام): «النُّطْفَةَ الَّتِي مِمَّا أَخَذَ عَلَيْهَا الْمِيثَاقَ»، فهو مطابق للقانون العقلي، وهو انبعاث المعلول عن علّته، ولا ريب

ص: 237

في أنّ جميع الموجودات خصوصاً النطفة التي يريد أن يجعلها سوياً أتمّ خلق الله وأهمّه، وارتباطه تكويناً مع الله ثابت، ويصحۀ أن يعبّر عن هذا الارتباط بالميثاق، فهو میثاق تكوينيّ من جهة، واختياريّ من جهة أخرى، يسمّى في الأخبار بعالم الذرّ والميثاق، كما يأتي شرحه عند قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ» [سورة الأعراف، الآية 172]، ويصحّ أن يعبّر عن ذلك بالطينة أيضاً، لما ورد فيها من أخبار كثيرة.

وأمّا قوله (عليه السّلام): «أَوْ مَا يَبْدُو لَهُ» من البدء الذي دلّت عليه نصوص كثيرة، ويظهر من الرواية أنّ البداء يكون في مرتبة الميثاق أيضاً، فالميثاق قضاء حتمي وما يبدو له غیر حتمي متوقّف على البدء.

وأمّا قوله (عليه السّلام): «فَتَصِلُ النُّطْفَةُ إِلَى الرَّحِمِ» هذا من الأسباب الطبيعيّة، وقد تقدّم آنفاً أنّه يمكن أن يجتمع مع الأسباب المعنويّة أيضاً.

وأمّا قوله (عليه السّلام): «ثُمَّ تَصِيرُ لَحْماً تَجْرِي فِيهِ عُرُوقُ مُشْتَبِكَةٌ»، قد ورد في ذلك كمية وكيفية نصوص كثيرة، وقد كشف العلم الحديث كثيرة منها، وفرّع الفقهاء على ذلك تعيين دية ما في الأرحام.

ص: 238

وأمّا قوله (عليه السّلام): «ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ ملکين خَلَّاقَيْنِ»، يصحّ أن يعبّر عن القوّة الخلّاقة بالملك، لأنّ الطبيعة بأجزائها وجزئياتها كلّها من جنود الله تعالی.

وإمّا قوله (عليه السّلام): «يَقتَحِمَانِ فِي بَطْنِ الْمَرْأَةِ مِنْ فَمِ الْمَرْأَةِ»، المراد من الاقتحام هو تشبيه المعقول بالمحسوس، توضيحاً للأفهام وتشريفاً للملك، فإنّه مختصّ بأعالي البدن، وفي الحديث: «نَظِّفُوا المأزقتين فإنّهما مَحَلُّ الرَّقِيبُ والعَتيدِ»، والملك إن كان جسماً لطيفاً فهو ألطف من البخار الحاصل من حركة الدم، فاقتحامه في البطن والعروق معلوم، ويعبّر عن ذلك في الفلسفة ب-(الروح البخاري)، وإن كان مجرّدا فهو أوضح من أن يخفى، فيكون من سنخ الإدراكات المحسوسة التي توجب حصول صورة في النفس وكما أنّ أعالي البدن موکولة بالملك فأسافلها موكولة بأفعال الشيطان، كما يظهر من روايات كثيرة.

وأمّا قوله (عليه السّلام): «فَيَصِلَانِ إِلَى الرَّحِمِ وَ فِيهَا الرُّوحُ الْقَدِيمَةُ الْمَنْقُولَةُ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَ أَرْحَامِ النِّسَاءِ»، يمكن أن يراد من الروح القديمة موضع مادّة الروح، وهي ماء الرجلّ وماء المرأة معاً، فيكون بمنزلة الموضوع لتعلق الحياة به، والتعبير ب-«القديمة» لفرض التقدّم الزماني على نفخ الروح الحياتي، فالمراد به القدم الإضافي، لا القدم الحقيقي.

وأمّا قوله (عليه السّلام): «فَيَنْفُخَانِ فِيهَا رُوحَ الْحَيَاةِ وَ الْبَقَاءِ وَ يَشُقَّانِ لَهُ

ص: 239

السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ جَمِيعَ الْجَوَارِحِ وَ جَمِيعَ مَا فِي الْبَطْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ»، يصحّ انطباق ذلك كلّه على القوى الطبيعية المسخّرة تحت أمر الله تبارك وتعالى، فإن شئت فسمّها ملكاً، وإن شئت فسمّها قوی طبيعية مسخّرة تحت إرادة الله عزّ وجلّ، ويصحّ التعبير في جميع ذلك ب-(الحركة الجوهرية)، التي هي تحت إرادته عزّ وجلّ، لأنّ إرادته الأزلية تعلّقت بالاستكمال والترقّي والتعالي.

وأمّا قوله (عليه السّلام): «ثُمَّ يُوحِي اللَّهُ إِلَى الْمَلَكَيْنِ اكْتُبَا عَلَيْهِ قَضَائِي وَ قَدَرِي وَ نَافِذَ أَمْرِي وَ اشْتَرِطَا لِيَ الْبَدَاءَ فِيمَا تَكْتُبَانِ»، يظهر من جملة من الروايات أنّ المكتوب عليه هو الجبين. وأمّا اشتراط البداء فيدلّ عليه نصوص كثيرة، الدالّة على ثبوته في جملة من موارد القضاء والقدر، وسنتعرض لتفصيل ذلك إن شاء الله تعالی.

وأمّا قوله (عليه السّلام): «فَيَقُولَانِ يَا رَبِّ مَا نَكْتُبُ فَيُوحِي اللَّهُ إِلَيْهِمَا أَنِ ارْفَعَا رَءُوسَكُمَا إِلَى رَأْسِ أُمِّهِ فَيَرْفَعَانِ رُءُوسَهُمَا فَإِذَا اللَّوْحُ يَقْرَعُ جَبْهَةَ أُمِّهِ فَيَنْظُرَانِ فِيهِ»، لأنّ محلّ مجمع الحواس هو الجبهة، فيكون أشرف من سائر أعضاء البدن، والتخصيص بالأمّ لأن الأب قد انفصل عنه بانفصال النطفة، ولكثرة علاقة الأمّ بالحمل، ولذا يكون جبينها حاملاً للمواثيق.

وإمّا قوله (عليه السّلام): « فَيَجِدَانِ فِي اللَّوْحِ صُورَتَهُ وَ زِينَتَهُ وَ أَجَلَهُ وَ مِيثَاقَهُ شَقِيّاً أَوْ سَعِيداً وَ جَمِيعَ شَأْنِهِ قَالَ فَيُمْلِي أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فَيَكْتُبَانِ»، ولعلّ

ص: 240

اشتراط البداء من أجلّ أن الحوادث اللاحقة على الإنسان وما يجري عليه في المستقبل، تكون لأجلّ مقتضيات خاصة لا بد من تبدّلها وتغيرها، فلا بدّ من اشتراط البداء حينئذٍ، حفظاً لنظام الأسباب والمسبّبات، وممّا ذكرنا ظهر شرح بقية الحديث.

القمّي في قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ»، قال (عليه السّلام): «يَعْنِي ذَكَراً أَوْ أُنْثى وَ أَسْوَدَ وَ أَبْيَضَ وَ أَحْمَرَ وَ صَحِيحاً وَ سَقِيماً»..

أقول: ما ذكره (عليه السّلام) ليس من باب الغالب والمثال وإلّا فتصورات الأرحام بالنسبة إلى جميع الجهات والمقتضيات غير معلومة إلّا له تبارك وتعالى، ولذا قال تعالى: «كَيْفَ يَشَاءُ» معلّق على مشيئته غير المحدودة، ويشهد لذلك أنّه (عليه السّلام) لم يذكر الجمال - مثلاً - مع أنّه من أهمّ وأتمّ جهات صور الإنسان.

ص: 241

بحث فلسفي كلامي

بحثٌ:

عن جمع من الفلاسفة أنّهم حدّدوا الفيض النازل من الحيّ القيوم إلى الممکنات بحدّ خاصّ مترتّب طولا، فلا يستفيض كلّ لاحق إلّا بواسطة السابق عليه، وجعلوا أوّل هذه السلسلة ما اصطلحوا عليه ب-«القاهر الأعلى»، وآخرها ما أسموه ب-«الهيولی الأولى»، وفصّلوا القول في ذلك بالنسبة الى خلق الممکنات من علوياتها وسفلياتها، وهو تصور حسن في نفسه، ولكنّه تحديد القدرة الله تبارك وتعالى وإرادته الكاملة، بحسب غاية ما يدركونه بعقولهم، وهو أعمّ من الواقع بلا إشكال، لأن الواقع ذاتا وصفة وفعلاً ومن كل حيثية وجهة غير محدود، فكما أنّ ذاته الأقدس أجلّ من أن يحيط به العقول، فكذا صفاته العليا وفعله وسائر ما هو من ناحيته جلّت عظمته، فلا يمكن تحديد قوله تعالى: «إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» بشيء أبداً.

نعم إن أرادوا به السنّة الإلهية من أنّه أبى أن يجري الأمور إلّا بأسبابها، فهو صحيح، ولكن لا دليل على تحديد ما ذكروه من عقل أو نقل، وللبحث بقية نتعرّض لها إن شاء الله تعالی.

ص: 242

بحث عرفاني كلامي:

لا ريب في أنّ الإنسان أشرف الممکنات، لأنّه الفصل الأخير لجميعها في المسير الاستكمالي، فيكون الكلّ متوجهاً إليه بالتكوين، توجّه المقدّمات بالنتيجة.

وفيه اجتمعت العلل الأربع، أمّا العلّة الفاعليّة، فقد قال الله تعالى بعد ذكر الأدوار وعوالم خلق الإنسان: «فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» [سورة المؤمنون، الآية: 14].

وأمّا العلّة المادّية، فقد أخبر سبحانه وتعالى أنّه المباشر للخلق والتربية: «إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ» [سورة ص الآية 71]، وقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ» [سورة الأنعام، الآية: 2]

وأمّا العلة الصورية قال تعالى: «هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ»، وقال تبارك وتعالى: «هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ» [سورة الحشر، الآية 24].

وإمّا الغائية فقد قال الله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا» [سورة البقرة، الآية: 29].

فجميع الموجودات يحب الإنسان محبّة تكوينيّة، فالكلّ مسخّر له، قال تعالى: «أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً» (سورة لقمان، الآية: 20]، كما أنّ الإنسان بطبعه يحبّ جميع الموجودات لفرض تفانيها فيهن فتكون

ص: 243

المحبّة والعشق من الطرفين (أي تعاشقا)، فالموجودات كالشجرة بالنسبة للإنسان وهو كالثمرة، فخلقت الدنيا له ولأجله.

فلا بدّ للإنسان من بذل الجهد لكشف أسرار الموجودات ورموزها واستخراج الحقائق منها، وذلك لا يكون إلّا بالارتباط التامّ مع الربّ المطلق والقيّوم بالحقّ، قال الله تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» [سورة الأعراف، الآية: 91]، فهو أشد أنحاء العلم وأمتنه وأقواه، کما أثبته الفلاسفة - من قديمهم وحديثهم - وجميع أهل العرفان.

ولكنّ الإنسان قصّر في ذلك، فأوقع نفسه في ظلمات بعضها فوق بعض، لا يمكنه التخلّص عن بعضها فكيف عن جميعها، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» [سورة الحديد، الآية: 28]، وليس المراد بهذا المشي في طريق خاصّ أو علم مخصوص، بل المشي في جميع أبواب العلوم والمعارف، مشياً مطابقاً للواقع يصل إلى النتيجة الحقّة، قال تعالى: «وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» [سورة الحشر، الآية: 19] (1).

ص: 244


1- مواهب الرحمن، ج 5، ص8 - 36.

الفهرس

مقدمة...5

بحث عرفاني توحيدي...7

معنى التوحيد...12

التوحيد قبل الإسلام...16

التوحيد في القرآن الكريم...19

الدليل على التوحيد...25

مظاهر التوحيد...42

مراتب التوحید...52

مراتب الإيمان والكفر...57

بحث روائي...60

عقيدة الإنسان...62

الولاية الإلهية...65

مقام الولاية...70

بحوث في التوصية والألوهية...75

بحوث المقام...90

ص: 245

بحث أدبي...90

بحث دلالي...92

بحث روائي...99

من أدلة التوحيد...102

منصب الإمامة والنبوة...104

بحث عقائدي حول المسيح (عليه السّلام)...108

الإله في القرآن الكريم...111

المسيح في القرآن الكريم...116

المسيح في عقيدة النصاری...119

ما يتعلق بعقائدهم...125

أصل عقيدة التثليث...131

بحث کلامي في التكاليف الإلهية...135

بحث الإرادة...137

تعريف الإرادة...137

إرادة الإنسان...139

حقيقة الإرادة...141

إرادة الله تعالى...144

معنى الإرادة فيه عزّ وجلّ...150

أقسام الإرادة...156

صفات الله التنزيهية...159

بحث فلسفي کلامي...162

ص:246

في رحاب آية الكرسي...166

بحوث المقام...182

بحث دلالي...182

بحث أدبي...188

بحث روائي...189

فضل آية الكرسي وشأنها...191

عدد آية الكرسي...194

معنى الكرسي...196

ما ورد في تفسير مفردات آية الكرسي...204

بحث دلالي...227

بحث روائي...232

بحث فلسفي کلامي...242

بحث عرفاني كلامي...243

ص: 247

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.