خلفيات واقعة كربلاء وشهادة الإمام الحسين بن علي (علیه السلام)

هویة الكتاب

عنوان و نام پديدآور:خلفیات واقعه کربلاء و شهاده الامام الحسین بن علی علیه السلام [کتاب] : دراسه تاریخیه تحلیله.../مرتضی فرج.

مشخصات نشر:بیروت: موسسه الانتشار العربی، 2011م=1390.

مشخصات ظاهری:496 ص.

شماره کتابشناسی ملی:2876675

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

خلفيات واقعة كربلاء وشهادة الإمام الحسين بن علي (علیه السلام)

دراسة تاريخية تحليلة تستهدف التنقيب عن جذور واقعة كربلاء والظروف التي أدت لوصول يزيد إلى الشلطة

مرتضی فرج

الانتشار العربي

Arab Diffustion Company

ص: 4

الفهرس

الصورة

ص: 5

الصورة

ص: 6

الصورة

ص: 7

ص: 8

مقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ،والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيَّدِنا وحبيبِنا محمد (صلی اللّه علیه واله)،وعلى آله الطيَّبين الطاهرين،وصحبه المنتجبين.

الكتاب الذي بين يديك هو حصيلة سلسلة منُقَّحة وموثَّقة من محاضرات تم إلقاؤها خلال ثلاث دورات متتالية،ابتداء من محرم1429إلى1431هج.

هدف البحث

هذه المحاضرات استهدفت الحفر والتنقيب عن جذور وخلفيات واقعة كربلاء، تمهيدا لدراسة أحداثها وتداعياتها.

ولا بد في البدء أن أقول بشكل واضح وصريح أني لم أستهدف في هذه المحاضرات جرح مشاعر أخواننا وأحبائنا أهل السُنة قط،خصوصاً عندما نرى أن الأعداء يحاولون دق اسفين الفرقة بين السُنة والشيعة،في هذه البرهة من الزمن،بعدما استنفدوا كل ما بوسعهم لمنع أي محاولة لقيام هذه الأمة من جديد.لا بد أن نستذكر أيضاً أنّ الإمام علي (علیه السلام) وضع يدَه بيدأبي بكر،عندما رأی«راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعونَ إلى محق دین محمد (صلی اللّه علیه واله)»(1) ،فالوحدة وحفظ جو الألفة ليسا مطلوبين فحسب، بل هما من أهم الواجبات.

والإمامُ جعفر الصادق (علیه السلام) أوصانا-في روايات متعددة-بضرورة التعايش مع أهل الشنة،فقد روى الصدوق في الفقيه عن زيد الشام عنه (علیه السلام) أنه قال:یا زید، خالقوا الناس بأخلاقهم،صلوا في مساجدهم،وعودوا مرضاهم،واشهدوا جناهم،وإن استطعتم أن تكونوا الأئمة والمؤذَّنين فافعلوا،فإنّكم إذا فعلتّم ذلك قالوا:هؤلاء الجعفرية،رحمَ اللّٰه جعفرة ما كانَ أحسنَ ما يؤدب أصحابَهُ،وإذا تركتم ذلك قالوا:هؤلاء الجعفريَّة،فعل اللّٰه بجعفر ما كان اسوا ما يؤدب أصحابَهُ.

ص: 9


1- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،كتاب62،ص451

إذن لماذا الحفر والتنقيب الآن عن جذور وخلفيات واقعة حدثت قبل قرون متمادية؟أليس هذا فتحاً ونكاً للجروح؟والجواب أنَّا في الحقيقة بأمس الحاجة لدراسة تاريخنا من

جديد.أولاً لأنَّ الإنسان لا يمكن أن ينفصل عن تاريخِهِ؛ومن ينفصل عن تاريخه بمثابة من يفقد ذاكرتَهُ...فهل يمكن لمن فقدَ ذاكرتَهُ أن يمارس حياتَهّ-في حاضره ومستقبله-على نحو سويّ؟وثانياَ حتى نستفيد ونتَّعظ ونتعلَّم من التاريخ،ونُراكم الخبرات،ولا تكرر أخطاء الماضي في حاضرنا ومستقبلنا.وثالثة حتى نقترب من حقيقة ما جرى قدر الإمكان،واقترابنا من الحقيقة سيدفعنا للوقوف مع طرف،وتحاشي الميل لطرف آخر...فالمرء سُيحاسُب في الآخرة على محبه وبُغضه،وسيُحشر مع من أحبَّ.

إذن نستهدف من هذه المحاضرات أن تعرفَ نحن،ويعرف أبناؤنا:تاريخَنا،ودينَا، ومذهبَنا،وأئمتَنا،وأن نعرِفَ لماذا استشهد الإمام الحسين بن علي (علیه السلام)؟ ولماذا سمحَ المسلمون ليزيد بأن يعتلي سدَّة الحكم؟ما الذي جرى قبل ذلك لنصل إلى-ما وصلنا إليه-يوم كربلاء؟

منهج البحث

منهجنا في هذه المحاضرات هو«منهجٍ تاریخيٍ سرديٍ تحليلي».أعني بالمنهج»الطريقة المنظمة التي سار عليها البحث.وأعني به«تاريخ»أنَّ البحث يعتمد على تب التاريخ والسيرة والحديث كوثائق لانتزاع كل المعطيات(الشواهد والقرائن)لمعرفة جذور واقعة كربلاء.وأعني ب«سردي»أنَ البحث يضطرُّ في كثير من الأحيان للاسترسال بسرد وحكاية مجريات الأحداث حسب تسلسل وقوعها.وأعني به«تحليلي»أنَّ البحث يضطر بين فترة وأخرى للتوقف عن سرد وحكاية الأحداث من أجل تحليلها واستكشاف دلالاتها وأبعادها.هذا المنهج السَّردي التَّحليلي،قد یُری كمزيج من منهجين،المنهج الأول يُعبَّر عنه بالمنهج المتحرك عبر الزمنDiachronic،والمنهج الثاني يُعبَّر عنه بالمنهج المتزامنSynchronic.المنهج المُتحرَّك عبرَ الزمن هو المنهج الذي يدرس موضوع البحث من خلال متابعته وملاحقته حسب التَّسلسل اَّزمني لوقوع الأحداث.والمنهج المتزامن هو المنهج الذي يتوقف عند لحظة زمنية معينة ليدرس كل أبعاد ودلالات موضوع البحث ليفهم أعماق الأحداث وتشعب وترابط العلاقات فيما بينها .

إذا أردنا تشبيه ذلك بعلم البيولوجيا،نقول إنا تارة ندرس الكائن الحي من خلال دراسة سیر مراحل تطوره،فنتحدث-مثلاً-عن مرحلة انعقاد النطفة،فالمرحلة

ص: 10

الجنينية،ثم الطفولة،ثم الصبا،ثم المراهقة،فالشباب،ثم الكهولة،ثم الشَّيخوخة...وتارة أخرى نتوَّقف عند مرحلة معيَّنة من مراحل سیر تطوره لندرس ونحفر بعمق للتعرف على خصائص ومعالم هذه المرحلة،فنأخذ خلايا هذا الكائن ونضعها تحت المجهر(الميكروسكوب).

وإذا أردنا تشبیه دورنا في البحث بدور المحقق الجنائي،الذي يعمل كل ما بوسعه الاكتشاف المتورط الحقيقي-أو المتورطين الحقيقيين-في جريمة قتل، وافترضنا أنه توافر لديه مع مساعديه،تصوير لجانب مهم من تلك الجريمة من كاميرا رقمية مثبتة في مكان ما.هنا،عندما يجلس هذا المحقق مع مساعديه لمشاهدة هذا المقطع المصور...سيبدأ هوومساعدوه بمشاهدة المقطع المصور من البداية إلى النهاية،ليتابع ويلاحق تسلل الأحداث.لكن في بعض محطات المقطع المصور قد يشعر بضرورة إيقاف المقطع عند لقطة معينة، وتثبيت التنورة، لدراسة الموقع المكاني لبعض الشخصيات،أو ما يحملونه بأيديهم، أو ما يلبسون،أو لتأمل بعض تعابير الوجه، أو انتزاع رقم لوحة سيَّارة...إلخ.

من خلال هذه الأمثلة،يتَّضح لنا أنَّ دراسة موضوع البحث من خلال ملاحقة تسُلل الأحداث،يكشف عن أبعاد معينة.ودراسة موضوع البحث من خلال التوقف عند مرحلة معينة والحفر فيها بعمق يكشف عن أبعاد أخرى.ومن خلال المزج بين هذين المنهجين نتعرف أكثر على حقيقة موضوع البحث.

هذا ما حاولنا القيام به في هذا البحث.فالأصل في حركتنا هو سرد الأحداث حسب تسلل وقوعها،لكن عند لحظات تاريخية معينة قد نضطر للتوقف لدراسة أبعاد تلك الأحداث وتأمل دلالاتها.فتجد أنا بدأنا البحث من بيل بعثة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وسرنا قليلا ثم توقفنا عند معركة بدر لأهميتها في فهم واقعة كربلاء،ثم سرنا قليلا وتوقفنا عند فتح مكة لأهمية التغيرات التي وقعت في نسيج مجتمع المسلمين،ثم سرنا ببطء عند حجة الوداع مرورا بحادثة غدیر خم وانتهاء بحادثة السقيفة،لندرس بعمق أبعاد ودلالات مجريات أحداث تلك المرحلة.ثم واصلنا الشير وتوقفنا عند حادثة الفتوح الكبرى في خلافة عمر،ثم سرنا وتوقفنا عند التحولات المهمة والفساد الكبير الذي استشرى في خلافة عثمان، ودرسنا بعمق فتنة مقتله وموقف الإمام علي (علیه السلام) من ذلك.ثم سرنا إلى معركة الجمل،وتوفَّنا طويلا عند معركة صفين،لأن فهمها واستيعاب تداعياتها سيكون مفتاحا لمعرفة أسباب النكسات التالية المتمثلة بخروج الأمور عن سيطرة الإمام علي (علیه السلام)،ومعركة النهروان،وشهادته (علیه السلام)،وصلح الإمام الحسن (علیه السلام)،

ص: 11

واستتباب الأمر لمعاوية.وأخيراً توقَّفنا عند مرحلة ځُكم معاوية،لندرُس معالم سياسته والخطوات التي قام بها لتوريث السُّلطة ليزيد.إذن من خلال هذه الرحلة تجد أنا تارة نسير بطريقة سرد الأحداث حسب تسلل وقوعها تاريخياً، وتارة أخرى نتوقف عند بعض تلك الأحداث لندرسها بطريقة تحليلية عميقة.

فرضية البحث

هناك عدَّة فرضيات في تفسير تلك الحُقبة من تاريخِنا.وتفسير تلك الحقبة سينعكس-على الأرجح-على تفسير واقعة كربلاء وأهدافها وتحديد المتورطين في قتل الحسين (علیه السلام) وأصحابه،وأسر أهل بيته (علیهم السلام) وشوقهم من بلد إلى آخر.

الفرضية التقليدية لأهل الشنة في تفسير تلك الحقبة من التاريخ تتلخص في القول بان النفاق لم يظهر بين المسلمين إلا بعد هجرة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)إلى المدينة،وأن كفار قريش الذين أسلموا بيل ومع فتح مكة-وحاربوا رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) في بدر وأحد والأحزاب-حين إسلامهم،ويعدون من الصحابة العدول،وأن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) لم يوصي لأحد من بعيره،وأن جميع الصحابة عدول لا يحق لأحد التشكيك في نياتهم،وأنهم عندما يجتهدون قد يخطئون،لكنهم لا يتعمدون الخطا، وبالتالي إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطأوا فلهم أجر واحد،وأن مفاهيم الإسلام وتشريعاته ستنبط من الكتاب والشنة،وأن تفاسیر وآراء الصحابة،هي المرجعية لفهم الكتاب والسنة،وأن لأبي بكر وعمر خصوصية واحترام استثنائية،وكذلك لعثمان،وإن كانت تؤخذ عليه بعضالملاحظات في فترة كيو، وأن المتسبب الرئيس في فتنة مقتل عثمان هو عبد اللّٰه بن سبا ذو الأصول اليهودية الذي كان يحرض المسلمين عليه،وأن طلحة والزبير-ومعهما أم المؤمنين عائشة-أخطأ عندما نكثا بيعة الإمام علي (علیه السلام) لي،لكنه كان اجتهادة منهما على كل حال،وجميعهم مبشر بالجئة،وأن معاوية وعمرو بن العاص أخطأ حينما حاربة الإمام علي (علیه السلام)،لكنه كان اجتهادة منهما على كل حال،وأن معاوية صار الخليفة الشرعي للمسلمين بعد صلح الإمام الحسن (علیه السلام)،وأنه كان كاتبة أمينة للوحي،وأنه خال المؤمنين،ويجب احترامه لأنه من الصحابة، وأن العلاقة بين الصحابة وأهل بيت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)كانت على ما يرام،وكان يسودها الاحترام والتقدير المتبادل.

هذه الفرضية-رغم سعة انتشارها وقبول السواد الأعظم من المسلمين لها- تعجز عن تفسير أحداث وظواهر كثيرة في التاريخ،والتحولات الاجتماعية، والطبيعة الإنسانية.فأسباب النفاق قبل أن تكون اجتماعية،لها مناشئ ودوافع نفسية،وإن لم يظهر النفاق إلا

ص: 12

بعد هجرة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)إلى المدينة،إذن كيف فسر قوله تعالى في سورة العنكبوت:«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ»«وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ»(1) ،والعنكبوت سورة مكية أساسا؟أم أن هذا الادعاء جاء التبرئة وجهاء المهاجرين من ناحية، واللقاء من أهل مكة من ناحية أخرى،وكلهم من عدنان،لتحوم شبهات النفاق كلها على أهل المدينة من قحطان؟

وإن افترضنا أن كفار قريش الذين أسلموا قبيل ومع فتح مكة-وحاربوا رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)بالأمس-حن إسلامهم،فهل يمكن من الاحية النفسية أن يتغير الإنسان بين عشية وضحاها ويصبح من الصحابة العدول بعد أن كان قلبه مملوءة بالحقد والغل على رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،خصوصا إذا علمنا أنه لم يسلم إلا بعد أن تغيرت موازين القوى،ولم يسلم إلا ليحقن دمه،وأن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)كان يعطيه بعد إسلامه من سهم المؤلفة قلوبهم؟!كيف يعد هؤلاء من الصحابة العدول، ونضعهم في صف واحد مع السابقين إلى الإسلام من المهاجرين والأنصار وتعطيهم الدرجة نفسها من الحصانة والاحترام والتقدير؟!

وإن افترضنا أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) يوصي لأحد من بعده، فهل يعقل أن لا يشعر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بالمسؤولية،وضرورة ترتيب الأمر من بعده،ويترك المسلمين حیاری ... وفي المقابل يشعر أبو بكر وعمر بذلك،فيوصي الأول للثاني،ويشكل الثاني شوری شداسية تتكفل بتحديد الخليفة؟ وكيف فسر الأحاديث الاستثنائية الواردة في حق الإمام علي (علیه السلام) كحدي الدار والمنزلة؟بل كيف تفسر واقعة غدیر خم والعبارات التي قالها رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بحق الإمام علي (علیه السلام)؟

وإن افترضنا أن جميع الضحابة عدول لا يحق لأحد التشكيك في نياتهم،فلماذا يشك بعضهم في نبات البعض الآخر؟ولماذا يشتد الخلاف بينهم في السقيفة إلى أن كاد يصل إلى درجة لا تحمد عقباها؟ولماذا يمنعهم غمر في خلافيير من رواية الحديث إلا بضوابط مشددة؟ولماذا يمنعهم من الخروج من الحجاز إلا بإذن خاص منه؟ ولماذا كان يقيم الحد على بعضهم ويتشدد في محاسبة ولاته؟ ولماذا كان يضرب بعضهم بالدرة؟وفي أي خانة نضع أولئك الذين كانوا ينادون رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)من وراء الحجرات والذين يعبر عنهم القرآن با وأن «أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ»(2) ؟وفي أي خانة نضع فئة المنافقين-الذين

ص: 13


1- سورة العنكبوت،الآيتان:10-11
2- سورة الحجرات،الآية:4

تحدث عنهم القرآن-ممن كان يظهر الإسلام ويبطن الكفر ولم يكن معروفة بالنفاق؟وفي أي خانة نضع فئة المرجفين وفئة مرضى القلوب الذين تحدث عنهم القرآن؟وفي أي خانة نضع من دخل في الإسلام منهم،ثم ارتد بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،ثم عاد ودخل الإسلام مرة أخرى بعد أن أسر في حروب الردة،كالأشعث بن قيس؟

وإن افترضنا أن مفاهيم الإسلام وتشريعاته ستنبط من الكتاب والشنة...فلماذا وقف مر عند احتضار رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وقال:حسبنا كتاب اللّٰه؟ألم يكن هذا ردة للشنة واكتفاء بالكتاب كمرجعية؟ولماذا لم يرو الحديث الذي يوصيبالكتاب والشنة إلا برواية ضعيفة مرسلة-يرويها الإمام مالك في الموطأ-في حين يروى الحديث الذي يوصي بالكتاب وأهل البيت (علیهم السلام) في روایات معتبرة متعددة؟ولماذا-رغم ذلك-ينتشر بين المسلمين الحديث المرسل ويتم تجاهل الحديث المعتبر؟

وإن افترضنا أن تفاسیر و آراء الصحابة،هي المرجعية لفهم الكتاب والشنة،فما هو موقفنا إن كان رأي غمر الاكتفاء بالكتاب؟وما هو موقفنا إن اختلف الصحابة فيما بينهم في مسائل مهمة وقضايا مصيرية؟لمن تكون المرجعية حينئذ؟وهل يمكن اعتبار تفسیر ورأي بعض اللقاء مرجعية لفهم الكتاب والشنة؟

وإن افترضنا أن لأبي بكر وعمر خصوصية واحترام استثنائية،فهل الملاحظات التي تؤخذ على عثمان عادية ويمكن التغاضي عنها؟وهل سار عثمان على سيرة الشيخين كما وعد عبد الرحمن بن عوف؟وهل يمكن التغاضي عن حمله بني أمية-من اللقاء والمطرودين من رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وممن نزلت في حقهم آیات صريحة -على رقاب السابقين من المهاجرين والأنصار؟عندما يتحدث أحد ولاته بلغة إنما الواد قطين القريش»، فهل يعتبر هذا أمرا عاديا ويمكن التغاضي عنه وفق منطق القرآن؟وعندما يصلي وال آخر من ولاته في المسلمين صلاة الفجر أربع ركعات وهو سكران،فهل يمكن المسلم أن يقبل ذلك؟وإن كانت الملاحظات التي تؤخذ على عثمان عادية ويمكن التغاضي عنها،إذن لماذا لم يتغاض عنها كبار الصحابة كابي ذر وعمار وعبد اللّٰه بن مسعود،بل لم يتغاض عنها أمثال طلحة والبير اللذين كانا يحرضان الثوار على عثمان؟

وإن افترضنا أن المتسبب الرئيس في فتنة مقتل عثمان هو عبد اللّٰه بن سبا ذو الأصول اليهودية الذي كان يحرض المسلمين عليه،فهل يمكن ليهودي تأر إسلامه أن يحرك كبار الضحابة من المهاجرين ضد عثمان؟وهل يمكن أن يحرك ثوارة من البصرة والكوفة ومصر دون أن يقف في وجهه أحد من عقلاء الأمة ويفشلوا مخططاته؟ألا تكفي تجاوزات

ص: 14

عثمان لتحريك ضمير أي مسلم آنذاك؟ألا يعتبر هذا الادعاء محاولة لتبرئة عثمان؟وبحثا عن طرف ما لتحميله مسؤولية الفتنة؟ولماذا لا نجد ذكرة لعبد اللّٰه بن سبا القحطاني إلا في روايات سيف بن عمر العدناني؟

وإن افترضنا أن طلحة والزبير-ومعهما أم المؤمنين عائشة-اجتهدا فأخطأ عندما نكلا بيعة الإمام علي (علیه السلام)،فهل يعقل أن يتورط صحابي في سفير دماء آلاف من المسلمين،ثم تبرر فعله بالاجتهاد،بل نقول:أخطأ والمجتهد المخطئ له أجر واحد؟وهل يمكن أن يكون طلحة والژبير من جهة والإمام علي (علیه السلام) من جهة أخرى جميعهم مبشرين بالجنة وهم في الحياة الدنيا وقفوا في جبهات متقابلة وشفكت جراء ذلك الدماء الغالية؟

ولو افترضنا أن معاوية وعمرو بن العاص أخطة حينما حاربا الإمام علي (علیه السلام)،وأنه كان اجتهادة منهما على كل حال،فكيف تبرر التسبب في قتلهما عشرا الضحابة في صفين كعمار بن یاسر وابن التيهان وذي الشهادتين وغيرهم؟وإن كان رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) أخبر-بالرواية الصحيحة-أعمارة تقتله الفئة الباغية،وكان القرآن يأمر بقتال الفئة الباغية حتى تفيئ إلى أمر اللّٰه،فهل يمكن بعد ذلك تبرير اجتهاد معاوية وعمرو؟

وإن افترضنا أن معاوية صار هو الخليفة-بحكم الأمر الواقع-فهل يمكنالنظر إليه على أنه خليفة شرعي لمجرد أنه وصل إلى الحكم بالعلبة وانتصر بالحيلة والدهاء؟وهل يتعين علينا التعامل معه باحترام ووضعه في مصاف السابقين من المهاجرين والأنصار وإعطاؤه الحصانة ذاتها التي يعطيها بعضهم للضحابة؟هل يمكن قبول ذلك وهو من اللقاء ورسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)مات وهو يعطيه من سهم المؤلفة قلوبهم؟وهل من المعقول إعطاؤه حصانة وهو الذي سئ شة سب الإمام علي (علیه السلام) على المنابر؟هل يمكن النظر إليه بنظرة تقديس وهو المتهم الرئيس ليس في قتل الصحابة في صفين فحسب،بل المهم الرئيس في قتل الصحابي الجليل حجر بن عدي،الذي اهتز العالم الإسلامي لشهادته،وجرت جراء ذلك مشادة كلامية بين أم المؤمنین عائشة ومعاوية؟وهل يمكن عده من الصحابة العدول وهو المتهم الرئيس في دس الشم لسبط رسول اللّٰه الإمام الحسن (علیه السلام)؟

وهل يمكن بعد ذلك كله افتراض أن العلاقة بين الصحابة وأهل بيت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)كانت على ما يرام،وكان يسودها الاحترام والتقدير المتبادل.نعم كان الإمام علي (علیه السلام) حريصة على التعامل بإيجابية وخلق حسن مع الخلفاء الثلاثة،بل مع المسلمين جميعا...لكن من غير المعقول أبدأ تصوير العلاقة بين أهل البيت (علیهم السلام) والصحابة على أنها كانت طبيعية جدة،مع علينا بالخلاف الحاد بين فاطمة (علیها السلام) وأبي بكر بشان فدك،والذي

ص: 15

انتهى بفاطمة (علیها السلام) إلى أن توصي بأن دفن سرة وتموت وهي واجدة،ومع علمنا بالخلاف الحاد بين الإمام علي (علیه السلام) وأبي بكر وعمر بشأن الخلافة، والاحتقان الشديد في العلاقة بين الإمام علي (علیه السلام) وعبد الرحمن بن عوف بسبب موقفه من الشوری الشداسية،ومع علينا بالنصائح شديدة اللّٰهجة التي كان يوجهها الإمام علي (علیه السلام) لعثمان بسبب افتتانه بالمشورات المتكررة لمروان بن الحكم،ومع علمنا بالحرب التي خاضها الإمام علي (علیه السلام) مع ابنيه الحسن والحسين (علیهما السلام) في مواجهة طلحة والزبير وأم المؤمنین عائشة،ثم الحرب التي خاضها الإمام علي (علیه السلام) مع ابنيه الحسن والحسين (علیهما السلام) في مواجهة معاوية وعمرو،ثم دس الشم للحسن (علیه السلام)،ومنع مشيعيه من دفنه إلى جوار جده (صلی اللّه علیه واله).....ألا يكفي ذلك كله لتفنيد التنورة الوردية التي يحاول بعضهم رسمها الطبيعة العلاقة بين أهل البيت (علیهم السلام) والصحابة؟هل يصح بعد ذلك كله أن نقول إن العلاقة بين الطرفين كانت على ما يرام؟

أقول:مهما حاولنا تكييف الفرضية التقليدية لتفسير التاريخ والأحداث،سنجدها في النهاية عاجزة عن القيام بهذه المهمة.وستقودنا إلى فهم قاصر ومرتبك لواقعة كربلاء إذن لا بد من هجرها والبحث عن فرضية بديلة.

في المقابل،تحاول الفرضية التي يسير على ضوئها هذا البحث،تفسير الأحداث وتلك الحقبة من التاريخ،من خلال الاكتفاء قدر الإمكان بالمعطيات التي تقدمها المصادر الشنية.كما تحاول أن تجد المبررات الموضوعية لمواقف كبار الصحابة المهاجرين،من خلال استكشاف الظروف الاجتماعية وإعمال الحدس بالحالات النفسية،وإثارة تساؤلات وترجيح احتمالات،على ضوء المعطيات والقرائن والشواهد المتوافرة،دون أن تغرق في سوء الظنوإصدار الأحكام القاسية على النيات....ولا أدري إلى أي حد كانت الفرضية موفقة في ذلك؟

إن الفرضية المقترحة-التي يتبناها هذا البحث-تنطلق من افتراض أن كبار وجهاء المهاجرين أخطأوا في حساباتهم خطأ فادحة،واخذوا موقفا يتسم بقصر النظر، ولا ينسجم مع منطق القرآن،عندما وقعوا في السقيفة تحت تأثير العقلية القبلية التي ترى أن العرب أفضل من غير العرب،وأن عدنان أفضل من قحطان، وأ قريش أفضل قبائل عدنان وبالتالي سمحوا لأنفسهم بأن يتكئوا على قريش لاعتلاء الشلطة وإقصاء الإمام علي (علیه السلام) والأنصار عنها،ولم يعيروا لغير بطون قریش اهتماما ولم يفسحوا لهم الطريق لتكون لهم كلمة في مسألة الخلافة.هذا من ناحية.ومن ناحية ثانية،عد استئثارهم بالشلطة، استأثروا بالمال أيضا،وبقي المال والشلطة بيدهم،حتى ظوا بالتدريج أن لهم

ص: 16

حقا خاصا ومكتسبات طبيعية،لا يحق لأحد منافستهم فيها.ومن ناحية ثالثة، اعتقدوا أن بإمكانهم إيقاء الوضع تحت السيطرة دون أن يعود بنو أمية إلى الواجهة،ولم يطرأ ببالهم أن بني أمية إذا اعتلوا الشلطة فسيخرجون وجهاء المهاجرين،وباقي بطون قریش،من الساحة،وسيستأثرون هم بالشلطة والمال.ومن ناحية رابعة تورط وجهاء المهاجرين في تجاهل أوامر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)، والاستخفاف بها،عندما ذهبوا إلى أن تشخيصهم للمصلحة بأن يقصوا عليا (علیه السلام) عن الخلافة هو الأجدر والأكثر واقعية.وتذهب هذه الفرضية إلى وجود مؤامرة مدروسة من بني أمية لاعتلاء الشلطةوأنهم وجدوا من وجهاء المهاجرين جسرة البلوغ موجهم، ووجدوا أن الفرصة قد حانت عندما وصل عثمان إلى الخلافة،فنفذوا انقلابهم الكبير،الذي أدى إلى فتنة مقتل عثمان،ثم الحروب المتتالية،وأخيرا استتباب الأمر لمعاوية،الذي انتهى إلى توريث يزيد الشلطة،ووقوع فاجعة كربلاء.

وتذهب هذه الفرضية إلى أن من أهم أسباب انكشاف الحقائق وظهور«المسكوت عنه»،وظهور فضائل أهل البيت (علیهم السلام) ومظلوميتهم،هو ما جرى من تداعيات جراء الانقلاب الذي نفذه بنو أمية.حيث انقسم المسلمون-من غير شيعة الإمام علي (علیه السلام)-إلى مدرستين متخاصمنين:مدرسة عبد اللّٰه بن الربير، ومدرسة معاوية بن أبي سفيان.المدرسة الأولى كان طموحها يتلخص في استعادة أمجاد ومكتسبات وجهاء المهاجرين،وإرجاع الشلطة إلى بطون قريش الضعيفة،وترسيخ منطق الشورى.والمدرسة الثانية كان طموحها يتلخص في إبقاء السلطة في يد بني أمية،وإقصاء جميع المسلمين من قرار تحديد هوية الخليفة،وجعل الخلافة ملكية وراثية، وتوريث الشلطة ليزيد.

لقد كانت الخصومة الكبيرة بين هاتين المدرستين من الأسباب الرئيسية المهمة التي جعلت فضائل الإمام علي (علیه السلام) تملا الخافقين،وتحول دون محو ذكر أهل البيت (علیهم السلام) من صفحات التاريخ ومن ذاكرة المسلمين.وجعلت أهل الشنة يتأرجحون بينهما، تارة يميلون إلى مدرسة عبد اللّٰه بن الزبير،وتارة أخرى يميلون إلى مدرسة معاوية بن أبي سفيان.وجعلت مصادرهم التاريخية والحديثية ملأى بالروايات والأحاديث المتعارضة،غير المثقة،والتي يك بعضها بعضا.ودفعت ببعض أنصار المدرسة الأولى إلى كشف بعض فضائل أهل البيت (علیهم السلام)،ومخازي بني أمية،ليس حبا بالإمام علي (علیه السلام) وبنيه،بلنكاية بمعاوية ومدرسته.

وكادت مدرسة عبد اللّٰه بن الزبير أن تنجح وتحقق انتصارا كبيرة،عندما حققت اختراقة واضحة،ووظفت فاجعة كربلاء لمصلحتها،وأسست دولة في الحجاز في وقت متزامن مع موت يزيد وتضعضع خلافة بني أمية في الشام،واستمرت هذه الخلافة الطارئة

ص: 17

بضع سنوات،ثم انتكت،وتقوضت الدولة،وكادت هذه المدرسة أن تندثر بعد قتل وصلب رائدها في بيت اللّٰه الحرام.

في المقابل،واصل أهل البيت (علیهم السلام) الطريق،رغم المعاناة والملاحقات والتصفيات التي جرت بحق أتباعهم، طول فترة حكم معاوية،حتى تؤج الإمام الحسين بن علي (علیه السلام) هذه المسيرة بحركته وثورته ونهضته في كربلاء .

لقد جرت مع مجيئ معاوية محاولات حثيثة وغير مسبوقة لتزوير التاريخ.ووقعت عمليات تزوير منظمة ومدروسة،لتجميل صورة الجاني وتحسين شمعة الجلاد، في مقابل تشويه صورة المجني عليه وتحميل الضحية المسؤولية.وكانت المحطة أن تنجح،وكاد الظلام أن يسود،وكادوا أن يطفئوا نور اللّٰه بأفواههم ويوفهم،لولا العناية الربانية،وتضحيات أهل البيت (علیهم السلام)،والصالحون من الصحابة والتابعين،والخصومة التي وقعت بين المدرستين.

هذه الفرضية التي تزودنا برؤية شاملة للأحداث،هي-كما أعتقد-الأرضية الصحيحة لتفسير أحداث واقعة كربلاء.

قد يوجه الاعتراض والنقد التالي:لقد كان البحث انتقائية في سرير الأحداث، يتشبث ببعض المعطيات والشواهد التي تخدم الفرضية التي يسير على ضوئها، ويتجاهل معطيات وشواهد تدعم الفرضية التقليدية اليمنية،ولا تنسجم مع الفرضية المقترحة.

والجواب:أن الانتقائية في التحقيق والتقصي والبحث التاريخي أمر لا مفر منه، خصوصا عندما نعلم بوجود أكثر من جهة كان من مصلحتها تزوير تلك الحقبة التاريخية المصلحتها،وبالتالي لا يمكن التعويل على بعض المعطيات والشواهد وأخذها بجدية.المهم أن لا يكون الانتقاء اعتباطية وذاتية،وإنما انتقاء يفرضه تسلل الأحداث وسياق المواقف،بحيث تشهد بعض الأحداث بصحة بعضها الآخر، ويساهم بعضها في تفسير البعض الآخر.لنجد في النهاية أن الفرضية المقترحة متماسكة وصلبة وقادرة على تفسير الأحداث تفسيرة مقنعة.

أسأل اللّٰه سبحانه وتعالى أن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبدا،وأن يجعلنا ممن يتعظ بأخطاء الآخرين،قبل أن يعظ الآخرون بأخطائه،وأن يحشرنا مع سيد شباب أهل الجنة سبط رسول اللّٰه له الإمام الحسين بن علي علي وأصحابه الذين بذلوا مجهم دونه.

مرتضی فرج شعبان/1431هج

ص: 18

تمهيد

موضوع هذه السلسلة من المحاضرات هو«خلفيات واقعة كربلاء»نستهدف منها معرفة خلفيات شهادة الإمام الحسين (علیه السلام)،والأحداث التي سبقت شهادته (علیه السلام)،والتي خلقت ظروف مؤاتية لوصول يزيد إلى الشلطة.

قبل كل شيء لا بد من الإشارة إلى نقطة مهمة؛وهي أن بعض الباحثين عندما يريدون إدانة حركة الإمام الحسين (علیه السلام)،كيلون المدح للإمام الحسن (علیه السلام)،ولصلحه (علیه السلام) از مع معاوية،ويتحدثون عن عام الجماعة،وعن طبيعة الإمام الحسن (علیه السلام) المسالمة.يريدون بذلك كله التعريض بالحسين (علیه السلام)،وأنه لا يحمل هذه الروح المسالمة،وأنه شق عصا المسلمين....لماذا؟لأنه (علیه السلام)-حسب زعمهم-لم يكيف نفسه مع خلافة يزيد،كما كيف الإمام الحسن (علیه السلام) نفسه مع خلافة معاوية،أو كما كيف عبد اللّٰه بن عمر نفسه مع خلافة يزيد عندما آثر الاعتزال والابتعاد عن العمل السياسي.فموقف الإمام الحسن (علیه السلام) هو الموقف النموذجي تجاه خلافة معاوية،وموقف عبد اللّٰه ابن عمر هو الموقف النموذجي تجاه خلافة يزيد!!

هذه القراءة لحركة الإمام الحسين (علیه السلام)،وقبل ذلك هذه القراءة لصلح الإمام الحسن (علیه السلام)،تعبر عن تشويه عقدي وتاريخي كبير.هذه القراءة تستبطنالاعتقاد أن الإمام الحسين (علیه السلام) كان أساسا يريد الثورة مهما كانت النتائج والعواقب، حتى لو كانت ثوره هدد بيضة الإسلام ووحدة المسلمين،وهذه القراءة تستبطن أيضا أن الإمام الحسن (علیه السلام) كان أساسا يريد الصلح،لأنه (علیه السلام) بطبعه شخصية مسالمة،حب وحدة المسلمين،وتكره العنف والحرب!

والحقيقة أن هذا التفسير ينافي الايمان بالعصمة من ناحية،وينافي الحقائق التاريخية من ناحية أخرى.

هذا التفسير ينافي الايمان بالعصمة،لأن الاعتقاد بأن الإمام الحسين (علیه السلام) بطبعه يجب القتال والمواجهة ويكره الملح والشلم،يعني ضمنا بأنه (علیه السلام)كان يريد حرب یزید حتى لو كانت المصلحة الإسلامية تقتضي اللح!وهذا الاعتقاد ينافي الايمان بالعصمة.

من الصحيح أن هناك بعض الفروق الفردية-الجسدية أو النفسية-ين الأنبياء

ص: 19

أنفسهم،أو بين الأئمة فيما بينهم،أو بين الأنبياء والأئمة (علیهم السلام)،لكن هذا لايعني أبدا أن تصل تلك الفروق إلى حد أن تؤثر في المملوك والقرار الذي تفرضه المصلحة الإسلامية العليا،بحيث تكون هي المحرك للسلوك العام للنبي أو الإمام وقرارات المصيرية.لو افترضنا جدلا أن الإمام الحسين (علیه السلام) ميال بطبعه إلى القتال والمواجهة،فهذا لا يمكن أن يصل إلى حد يؤثر في سلوكه ويجعله يتخذ قرار الحرب لو كانت المصلحة الإسلامية تقتضي السلم،لأنه لو وصل إلى حد التأثير في المملوك العام والقرارات المصيرية،فهذا سينافي عصمته،لأن عصمته تعني أن علمه يعصمه عن التورط في موقف يتعارض مع أوامر اللّٰه تعالى المنسجمة دائما مع مصلحة الإسلام العليا.

لا يجب تنزيه الإمام الحسين (علیه السلام) عن ذلك فحسب،بل لا بد من تنزيه أي إنسان رسالي-بالمعنى الحقيقي-عن ذلك.أي إنسان رسالي،جاهد نفسه جهادة حقيقية،يفترض به أن يتجاوز ميوله الذاتية،لأنه يحارب إن كانت المصلحة الإسلامية تقتضي الحرب،وإن كان ميالا بطبعه إلى الصلح والسلم.ويصالح إن كانت المصلحة الإسلامية تقتضي الصلح،وإن كان ميا بطبعه إلى الحرب والمواجهة.لماذا؟لأنا نفترض أن إرادة الإنسان الرسالي خاضعة لإرادة اللّٰه التشريعية،إرادته-حربة وطلحة-يفترض أن تكون تجليا للإرادة الإلهية،فليس بوسعي أن يتخذ موقفا أو ينتهي إلى قرار يكو منافية للإرادة الإلهية والمصلحة العليا.

بالإضافة إلى ذلك،فإ هذا التفسير المشؤه ينافي الحقائق التاريخية أيضا.إذا كان حب الإمام الحسين (علیه السلام) للمواجهة هو المحرك لسلوكير العام-كما يقول هؤلاء-فلماذا لم يتجاوز الإمام الحسين (علیه السلام) أخاه الإمام الحسن (علیه السلام) عندما صالح الإمام الحسن (علیه السلام) معاوية؟لماذا صبر على هذا الوضع عشر سنوات رغم-على ما تنقل بعض كتب التاريخ-تشجيع وتحريض بعض أصحاب الحسن (علیه السلام) للحسين (علیه السلام) لكي ينهض ويتحرك لمواجهة معاوية؟قد يقال:بأنه من غير اللائق أن يتجاوز الإمام الحسي (علیه السلام) أخاه الإمام الحسن (علیه السلام) في حياته.لكن هنا يأتي الشؤال الكبير:إذا كان حب الإمام الحسين (علیه السلام)للمواجهة والقتال ورغبته في خوض مغامرة خطرة هو المحرك لسلوك العام،فلم لم ينهض ويتحرك لمواجهة معاوية بعد وفاة الإمام الحسن (علیه السلام) مباشرة؟لماذا ظل صابرة منتظرة بعد وفاة الإمام الحسن (علیه السلام) إلى موت معاوية عشر سنوات أخرى؟

من الواضح أن هذا التفسير لا ينافي الايمان بالعصمة فحسب،بل ينافي الحقائق التاريخية أيضا.

ص: 20

الأسباب البعيدة والقريبة لشهادة الإمام الحسين (علیه السلام)

الفهم هذه الحادثة التاريخية المهمة،لا بد من الجوع القهقرى إلى الحواد التاريخية التي وقعت قبل شهادة الإمام الحسين (علیه السلام).فالباحث في التاريخ، عندما يريد فهم حادثة تاريخية على نحو معمق،ينبغي له الرجوع إلى سلسلة الحواد السابقة على الحادثة المراد فهمها.

وهنا لدراسة واقعة كربلاء وشهادة الإمام الحسين (علیه السلام) لا بد من دراسة خلفيات تلك الواقعة،وهذا يتطلب منا العودة إلى الوراء لنعرف مجريات الأحداث التي سبقت واقعة كربلاء،وكيف انتهى وضع المسلمين إلى هذه الفاجعة بعد نصف قرن فقط من وفاة رسول اللّٰه محمد (صلی اللّه علیه واله)؟فقد توفي رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) في11هج، وحدثت واقعة كربلاء في61هج.وهذا يعني أن واقعة كربلاءحدثت بعد مرور خمسين سنة فقط على وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).إنه لأمر محير جدة،أن يحصل هذا القوط المدوي والتداعي السريع لهذه الأمة في برهة قصيرة بحساب تاريخ الأمم والشعوب.الشؤال الذي يطرح نفسه هو كيف تهیأت الأجواء لوقوع هذه الفاجعة...وكيف انحدر وضع المسلمين وتسائل إلى درجة أن يرتقي منصب الخلافة شخص مثل يزيد؟

الكلمة المفتاحية تكمن في«قریش»،فلا بد من التركيز على هذه الكلمة ووضعها تحت المجهر.

لكن هنا ثمة ملاحظة مهمة:قبيلة قريش،وما تتضمن من بطون كا بني أمية أو بني هاشم أو غيرها من البطون(1) ،كلمة متحركة في مدلولها مع الزمن؛فقریش مع بداية الإسلام تختلف عن قریش بعد معركة بدر،وقريش بعد معركة بدر تختلف عن قریش قبیل مقتل عثمان....إلخ،فهناك أناس يموتون أو يقتلون أو يشيخون ويفقدون القدرة على التأثير في الأحداث،وهناك أناس جدد يدخلون مسرح الحياة من هذه القبيلة أو تلك،من هذا البطن أو ذاك...فتارة يمثل قریش «الملا»الذي كان يجتمع في مكة لقمع دعوة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في بداياتها،وتارة أخرى يمثل قریش«وجهاء المهاجرين»و«الطلقاء»،وتارة ثالثة يمثلها«أبناء وجهاء المهاجرين»،وتارة رابعة يمثلها«بنو أمية»....وسوف أشير أثناء سرد الأحداث وتحليلها إلى هذا التغير(2) .

ص: 21


1- تتألف قریش من خمسة وعشرين بطنا
2- عندما أتحدث عن قريش لا أقصد التعميم،بل المزاج العام للأغلبية،لأنه توجد استثناءات في قریش، بل ثمة استثناءات في بني أمية أيضا

ينقل عدد من محب المقاتل-منهم الخوارزمي في مقتله-أن الإمام علي بن الحسين (علیه السلام) بعدما انتقل من كربلاء إلى الكوفة،ومن الكوفة إلى الشام،خرج ذات يوم، فجعل يمشي في سوق دمشق،فاستقبله المنهال بن عمرو الضبابي،فقال: كيف أمسيت يا بن رسول اللّٰه؟

فقال:أمسيث،واللّٰه كبني إسرائيل في آل فرعون،يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم،یا نهال،أمست العرب تفتخر على العجم بان محمداً (صلی اللّه علیه واله) عربي،أمست قریش نفتخر على سائر العرب بأن محمدا قرشي منها،وأمسينا آل بيت محمد ونحن منصوبون،مظلومون،مقهورون،مقتولون،مشردون،مطرودون،فإنا لله وإنا إليه راجعون،على ما أمسينا يا منهال(1)؟

إذا رجعنا إلى الوراء قليلا،نجد أن الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) يقول:«مالي ولقريش!واللّٰه لقد قاتلتهم كافرین(=يعني قبل الإسلام)،ولأقاتلنهم مفتونين (=يعني بعد استلامه الخلافة)،وإني لصاحبهم بالأمس،كما أنا صاحبهم اليوم(2)! واللّٰه ما تنقم منا قريش إلا أن اللّٰه اختارنا عليهم،فأدخلناهم في حزنا....»(3).

ويقول (علیه السلام) أيضا:«.. اللّٰهم إني أستعديل على قريش ومن أعائهم،فإنهم قطعوا رحمی،وصغروا عظیم منزلتي،وأجمعوا على منازعتي أمرا هولي»(4).

وإذا رجعنا إلى الوراء أكثر وأكثر، نعثر على حوار مهم بین ابن عباس وعمر بن الخطاب ينقله الطبري في تاريخه،هذا الحوار يسلط الضوء على نقطة مركزية في هذا البحث.

يقول عمر:يا ابن عباس أتدري ما منع قومهم منگم بعد محمد؟يقول ابن عباس:فكره أن أجيبه،فقلت:لم أكن أدري فأمير المؤمنين يدريني.

فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة،فتبجحوا(=تفخروا)على قومكم بجحة بجحة،فاختارت قريش لأنها فأصابت ووفقت(5).

ص: 22


1- الخوارزمي، مقتل الحسين، تحقيق الشيخ محمد السماوي، أنوار الهدی، ط1، 1418هج، قم، ج2، ص79.
2- إشارة إلى أنه (علیه السلام) لم يتغير حاله التي بها قاتلهم كافرين، وفائدته تذكير الخصم بوقائعه في بدو الإسلام وشدة بأسه ما تطير منه القلوب وتقشعر منه الجلود.
3- نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح، خطبة 33، ص 77.
4- المصدر السابق، خطبة 172، ص 246.
5- وفي حوار آخر بين عمر وابن عباس - ينقله ابن واضح في تاريخ اليعقوبي - يقول عمر لابن عباس: واللّٰه يا ابن عباس، إن علية ابن عمك لأحق الناس بها، ولكن قريشة لا تحتمله، ولئن وليهم ليأخذنهم بم الحق لا يجدون عنده رخصة... (أنظر: ابن واضح، تاريخ اليعقوبي، منشورات الشريفالرضي، قم، 1414هج، ط1، ج 2، ص 159).

يقول ابن عباس فقلت:يا أمير المؤمنين أتأذن لي في الكلام وتم عني الغضب (إن) تكلمت؟

فقال(عمر):تكلم يا ابن عباس.

فقلت:أما قولك يا أمير المؤمنين اختارت قریش لأنفيها فأصابت وؤفقته،فلو أن قریشة اختارت الأنفيها حيث اختار اللّٰه عزوجل لها لكان الصواب بيدها غیرمردود ولا محسود.وأما قولك:«ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ»(1) .فقال عمر: هیهات واللّٰه يا ابن عباس،قد كانت تبلغني عنك أشياء كن أكره أن أفرك عنها (=أبحث عنها)،فتزی منزلت مني....بلغني أنك تقول إنما صرفوها عنا حسدة وظلمة.

فقلت:أما قولك يا أمير المؤمنين«ظلمة»فقد تبين للجاهل والحليم،وأما قولك «حسداً»فإن إبليس حسد آدم فنح له المحسودون.

فقال عمر:هيهات أبت واللّٰه قلوبگم یا بني هاشم إلا حسدا ما يحول(=لا ينقضي)،وضغنا وغشة ما يزول.

فقلت:مهلا يا أمير المؤمنين لا ثب قلوب قوم أذهب اللّٰه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً بالحسد والغش،فإن قلب رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) من قلوب بني هاشم.

فقال عمر:إليك عني يا ابن عباس....إلخ(2) .

كما قلنا في البداية،فإين هذا الكتاب يستهدف القيام بعملية حفر تاريخي لمعرفة موقع قریش من الأحداث التي مرت على المسلمين،يبدأ من بعثة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وينتهي عند نهضة الإمام الحسين (علیه السلام).وعلى هذا الأساس،يمكن تقسيم الأسباب التي أدت إلى شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) إلى أسباب بعيدة،وأسباب قريبة.

هذه السلسلة من المحاضرات تتضمن29محاضرة. المحاضرة1- 7تتكفل بسرد

ص: 23


1- سورة محمد، الآية:9
2- لطبري،تاريخ الأمم والملوك،مطبعة الإستقامة،القاهرة،1939،ج3،ص289،ابن أبي الحدید،شرح نهج البلاغة،توزیع دار الأضواء،دار الكتب العلمية،بيروت،2003، ط3،مج6،ج12،ص33- 34

وتحليل الأسباب البعيدة لواقعة كربلاء.والمحاضرة8- 29تتكفل بسرد وتحليل الأسباب القريبة لواقعة كربلاء.

لا بد من الإشارة هنا إلى أن الكشف عن كثير من الأحداث التي سنتناولها ليس أمرا جديدة،لكن الجديد هو ترتيب تلك الأحداث بتسلسل معين،وتحليلها من خلال تسليط الضوء على دور قریش في تحريك الأحداث،إلى أن نصل إلى لحظة استلام یزید الخلافة.

ص: 24

الباب الأول:الأسباب البعيدة لشهادة الإمام الحسين (علیه السلام)

اشارة

ص: 25

ص: 26

(1)العرب ونشأة الإسلام

الأسباب التي أدت إلى شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) يمك تقسيمها إلى أسباب بعيدة، وأسباب قريبة.الأسباب البعيدة تمتد من بعثة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)إلى لحظة استلام عثمان للخلافة،يعني من(13ق.هج-35هج)،وهي تقدر ب48 سنة تقريبا.أما الأسباب القريبة فتمتد من خلافة عثمان إلى موت معاوية،يعني من(35هج-60هج)،وهي تقدر ب25سنة تقريبا،وتبدأ كتب مقاتل الحسین (علیه السلام)عادة بسرد الأحداث من لحظة موت معاوية.

نريد الآن أن نبدأ بسرد وتحليل الأسباب البعيدة لواقعة كربلاء وشهادة الإمام الحسين (علیه السلام).وستكون الكلمة المفتاحية التي نركز عليها هي«قریش».الآن: من أين جاءت قریش؟وما هو موقعها بالنسبة إلى باقي القبائل العربية؟

نبذة عن العرب

جرت العادة بين المؤرخين على تقسيم العرب إلى قسمين:العرب البائدة(مثل عاد قوم هود وثمود قوم صالح وطسم وجيريس)،والعرب الباقية(القحطانيون والعدنانيون).وبصرف النظر عن صحة هذا التقسيم،ما يهمنا هنا هو التركيز على العرب الباقية.

موطن القحطانيين الأصلي هو اليمن،لكنهم تفرقوا في الجزيرة قبيلانهيار سد مارب في سبا،ومنهم ملوك اليمن وقبائل سبا وحمير،كما أن منهم الأزد الذين تفرع منهم الأوس والخزرج(الذين سكنوا يثرب)،ولم يكن منهم أحد في مكة إلا خزاعة،ومنهم المناذرة(من لخم)الذين سكنوا عند حدود الدولة الفارسية، والغساسنة الذين سكنوا عند حدود الدولة الرومانية.

أما العدنانيون،فهم عرب الحجاز، وموطنهم الأصلي مكة.وعدنان هو من أبرز أبناء إسماعيل (علیه السلام)،وينحدر منه:ربيعة ومضر.ومن أشهر قبائل مضر:قریش(=فهر)،وينحدر من قریش:بنو عبد مناف،الذي منهم بنو هاشم، وبنو المطلب،وبنو عبد شمس(ومنه أمية)،وبنو نوفل.وقد انسجم بنو هاشم مع بني المطلب(حيث حوصروا معا في شعب أبي طالب ثلاث سنوات)،في مقابل بني عبد شمس مع بني نوفل.وهاشم هو

ص: 27

الجد الثاني لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وقريش هو الجد العاشر له (صلی اللّه علیه واله)،في حين أن عدنان هو الجد العشرون له (صلی اللّه علیه واله).

ذكرنا أن أمية ينحدر من عبد شمس،والزرقاء هي أم بني أمية.وقد صنع أمية في الجاهلية شيئا لم يصنعه أحد من العرب؛وفقا للمقريزي،قام أمية بتزويج ابن أبي عمرو من امرأته في حياته(1) .

ويتحدث المؤرخون عن تنافس هاشم وأمية على الزعامة،حيث خرج أمية ناقمة إلى الشام،وبقي هاشم منفردة بزعامة بني عبد مناف في مكة.فكان هذا أول انقسام بين الأمويين والهاشميين،هؤلاء يعتصمون بالشام وهؤلاء يعتصمون بالحجاز.ثم علا نجم أبي سفيان بن حرب بن أمية في الحجاز،فأصبحت له زعامة مرموقة إلى جانب الزعامة الهاشمية.

وما دمنا تحدثنا عن العدنانيين،عرب الحجاز الذين يسكنون مكة،فلا بد أن نتحدث عن مكة،ومكانتها بالنسبة إلى العرب عموما.

أهمية مكة بالنسبة إلى العرب

كان لمكة موقع مركزي في الجزيرة العربية وعند العرب،ففيها الكعبة المشرفة التي بناها إبراهيم (علیه السلام)،وإليها يحجون كل عام.ولذلك فإن الحج يمثل لمكة موردة اقتصادية هامة جدا.

من ناحية ثانية،تحتل مكة مكانة مرموقة،فهي أم القرى،كما يعبر عنها القرآن الكريم:«لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا»(2) .ومنها كانت تنطلق تجارة قريش المسماة «رحلة الشتاء والصيف»،التي تحدث عنها القرآن في سورة قريش(3) ،والتي كانت تدر على عدد كبير من أفراد قريش أرباحا طائلة،كأبي سفيان والوليد بن المغيرة وغيرهما،وكانت سببا للاحتكاك بحضارة الروم وما تبقى من حضارة اليمن، ومعرفة ثقافات جديدة.وبالتالي رحلة الشتاء والصيف كانت بالنسبة إلى مكة شريانة اقتصادية وثقافية بالغ الأهمية.

هكذا كان حال مكة وأهلها عند نشأة الإسلام،لكن ما موقف قریش من نشأة الإسلام؟وكيف تطور هذا الموقف مع انتشار الإسلام بوتيرة متسارعة؟

ص: 28


1- تقي الدين المقريزي،النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم،دار المعارف،القاهرة،1988،ص42
2- سورة الأنعام،الآية:92
3- بسم اللّٰه الرحمن الرحيم،يعني لتالیف قلوب قریش وإنعامه عليهم قدر اللّٰه تعالى لهم رحلة الشتاء(إلى اليمن والصيف إلى الشام)

نشأة الإسلام وموقف قریش

عندما بث محمد (صلی اللّه علیه واله)رسولا من اللّٰه تعالى سنة(13ق.هج)،جاء يدعو الناس سيرا إلى التوحيد، واستمر ثلاث سنين(13-10 ق.هج)على هذا الحال،وكان هو (علیه السلام) وأصحابه في تلك الفترة يستخفون بقريش في صلاتهم وفي الدعوة إلى هذا الدين.وكان مشركو قریش كلما رأوهم في صلاتهم سخروا منهم ومن عبادتهم.وثمة قرائن تشير إلى أن قريشا لم تتخذ موقفا من الدعوة في مرحلتها الأولى،لأنها لم تكن على ما يبدو حاسة حيال تغییر دین بعض أفرادها.بل كانت تواجه هذا الدين الجديد بالتجاهل واللامبالاة مع شيء من الشخرية والتهكم.

ثم أر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) على رأس ثلاث سنين بالجهر بالدعوة إلى التوحيد ونبذ عبادة الأصنام، فقال سبحانه:«فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ»(1) ،وقال سبحانه:«وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ»(2) .

فتدهورت علاقة قريش برسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بعد أن أدركت قریش خطورة الدعوة للتوحيد على مصالحها،وكانت تتساءل باستهجان:«أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ»(3) ،وحاولت أن تحول دون انتشار الإسلام وامتداده المتعاظم بما تملك من أدوات ووسائل.

ينقل الواقدي عن ابن عباس أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)كان ينادي قريشأ عند الصفا:يا بني عبد المطلب!یا بني عبد مناف!يا بني زهرة!-ونادی قبائل قريش كلها-إن اللّٰه أمرني أن أنذركم،خير الدنيا والآخرة في قول الا إله إلا اللّٰه».فقام أبو لهب وقال:تبا لك،ألهذا جمعتنا؟فنزلت فيه سورة المسده.

إلا أن التوازن القبلي لم يكن يسمح لقريش بالاصطدام المباشر برسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)؛الدعم آل عبد المطلب له.من هنا بدأت بمحاولة إسكاته،فاقترحوا عليه أن يدع آلهتها،وهم يتركونه وإلهه.واقترحوا عليه أن يعبد آلهتهم سنة على أن يعبدوا إلهه سنة،فنزلت سورة الكافرون(4) .

ص: 29


1- سورة الحجر،الآية:94
2- سورة الشعراء،الآية:214
3- سورة ص، الآية:5
4- بسم اللّٰه الرحمن الرحیم :«قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ »أنساب الأشرف1/ 120

لكن إذا لم تكن قریش قادرة-بسبب التوازن القبلي القائم آنذاك-على مواجهة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) مباشرة،إذن كيف أفرغت غضبها وحقدها؟

الضغط على العبيد والموالي

لم تفعل قريش في أول الأمر برسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) ما فعلت بالمستضعفين الذين اتبعوه،المكانة عمه أبي طالب وشرفه وجاهه فيهم،وقامت بصب جام غضبها وحقدها على العبيد والموالي الضعفاء كبلال،وخباب،وآل ياسر....إلخ.ثم انتقلت إلى ممارسة ضغوط شديدة على المسلمين عموما.

يروي ابن إسحاق عن عبد اللّٰه بن عباس أن مشركي قريش كانوا يضربون المسلم ويبيعونه ويعطشونه حتى كان لا يقدر على الجلوس من شدة الضرب، ليرتد عن دينه ويقول«آمن باللات والعزى»(1)،وكان بعض المسلمين يقول كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان فرارا من أذاهم،فقال تعالى:(... إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ...)(2).

ويقول المؤرخون وأصحاب السير إن مشركي قريش كانوا يخرجون عمار بن یاسر وأباه وأمه إلى الأبطح(=أرض مستوية بين مكة ومنى)إذا حميت الرمضاء،ويعذبونهم بحرها، فيمر بهم رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،فيقول:صبرة آل یاسر موعدكم الجنة)(3).ولما مات یاسر من بيئة التعذيب، أغلظت سمية القول لأبي جهل، فطعنها بحربة فماتت،وهي أول شهيدة في الإسلام.ثم أمعن مشركو قريش في تعذيب ابنه عمار،بالحر تارة،وبوضع الصخر على صدره تارة أخرى.

وعندما اعتنق بلال الحبشي الإسلام،راح يدعو له ويدافع عن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،فشد عليه مشركو قریش(4)،حتى أنهم طرحوه أرضا تحت لهيب الشمس الحارقة،وما اكتفوا بذلك حتى وضعوا صخرة كبيرة على صدره،وطلبوا منه أن يكفر باللّٰه ولكنه أبى أن يستجيب لطلبهم وبقي يردد:أحد أحد(5)،ثم قال:أقسم باللّٰه لو علم قوة أشد عليكم من هذا لقلته.

ص: 30


1- ابن هشام، السيرة النبوية، المكتبة العصرية، بیروت، 2004، ج1، ص238، أيضا : ابن إسحاق، السيرة النبوية، دار الكتب العلمية ، تحقيق أحمد فريد المزيدي، ط1، 2004، ص 229.
2- سورة النحل ، الآية: 106.
3- ابن هشام، السيرة النبوية، ج 1، ص 237، أيضا : ابن إسحاق، السيرة النبوية، ص 229.
4- وبالتحديد أمية بن خلف، أنظر: ابن هشام، السيرة النبوية، ج1، ص235.
5- ابن إسحاق، السيرة النبوية، ص 227.

أما خباب بن الأرت فقد عذبته قريش عذابا شديدة،إذ كانوا يوثقون ظهره بالمضاء ثم بالضف(=الحجارة المحماة بالنار)،فلم يزده ذلك إلا تمشك بالإسلام وإخلاصة له.وقد هاجر مع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) وشهد معه مشاهده كلها(1).

ولم يقتصر تعذيب قريش على الرجال،بل تعداهم إلى النساء.فقد أسلمت لبينة جارية بني مؤمن(وهو حي بني عدي بن كعب)قبل إسلام عمر بن الخطاب،فكان عمر يمعن في تعذيبها حتى يمل،ثم يدعها ويقول:إني لم أتركك إلا ملالة(2).

وكان أبو جهل إذا سمع بإسلام رجل من ذوي الشرف أبه وقال:«تركت دین أبيك وهو خير منك،لنسفه حلمك، ولنقيل رأيك، ولنضع شرفك».وإن كان تاجرة قال

اله:«لنكسدن تجارتك ولنهلكن مالك»،وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به(3).

وقد ضعفت عزائم فئة قليلة بتأثير هذه المحنة،على حين ساعد هذا الاضطهاد على إذكاء الحماسة الدينية في نفوس فئة أخرى؛فقد برهن عبداللّٰه بن مسعود على جرأته حين قرأ القرآن في فناء الكعبة نفسها،فتعرض له قوم من قريش وجعلوا يضربونه في وجهه،لكنه استمر يتلو القرآن، ثم عاد إلى رفاقه وأظهر استعداده للجهر بالإسلام بمثل هذه الطريقة في اليوم التالي.ولكن أصحابه أقنعوه بالعدول عن ذلك قائلين:حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون(4).

ص: 31


1- ويروي خباب : أتيت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)، وهو مضطجع تحت شجرة، واضع يده تحت رأسه، فقلت: يا رسول اللّٰه ، ألا تدعو اللّٰه على هؤلاء القوم الذين قد خشينا أن يردونا عن ديننا، نصرف عني وجهه ثلاث مرات، كل ذلك أقول له فيصرف وجهه عني، نجلس في الثالثة فقال: أيها الناس، اتقوا واصبروا، فواللّٰه إن كان الرجل من المؤمنين قبلكم ليوضع المنشار على رأسه فیشق بائنتين، وما يرند عن دينه، اتقوا اللّٰه ، فإن اللّٰه فاتح لكم وصانع. أنظر: الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، صالح اللحام، الدار العثمانية، ط1، 2007، ج 3، ذكر مناقب خباب بن الأرت، ح 5643، ص472. يقول علي (علیه السلام) في حقه: یرحم اللّٰه خباب بن الأرث، فلقد أسلم راغبأ، وهاجر طائعة، وقنع بالكفاف، ورضي عن اللّٰه، وعاش مجاهدا». نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح، ص476، وعلينا أن نتذكر اسم اخباب بن الأرت» الذي سيلتحق بالرفيق الأعلى عند عودة علي (علیه السلام) من صفين إلى الكوفة، وسينفجر الصراع المباشر بين علي (علیه السلام) والخوارج عندما يرتكبون جريمة قتل بحق أبن خباب بن الأرت ويبقرون بطن زوجته وهي حبلى، فيقرر علي (علیه السلام) الانعطاف من طريقه إلى الشام، ليواجه الخوارج في النهروان.
2- ابن هشام، السيرة النبوية، ج 1، ص 236.
3- المصدر السابق ، ص237.
4- ابن هشام، السيرة النبوية، ج 1، ص 232.

وينقل لنا أبو ذر الغفاري قصة مشابهة،وأن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) عندما عرض عليه الإسلام، أسلم على الفور،يقول أبو ذر: فقال لي: (يا ابا ذر، اكتم هذا الامر، وارجع الى بلدك، فاذا بلغك ظهورنا فاقبل). فقلت: والذي بعثك بالحق، لاصرخن بها بين اظهرهم، فجاء الى المسجد وقريش فيه، فقال: يا معشر قريش، اني اشهد ان لا اله الا اللّٰه، واشهد ان محمدا عبده ورسوله.

فقالوا: قوموا الى هذا الصابئ، فقاموا فضربت لاموت، فادركني العباس فاكب علي ثم اقبل عليهم، فقال: ويلكم، تقتلون رجلا من غفار، ومتجركم وممركم على غفار، فاقلعوا عني، فلما ان اصبحت الغد رجعت، فقلت مثل ما قلت بالامس، فقالوا: قوموا الى هذا الصابئ، فصنع بي مثل ما صنع بالامس(1).

وأرجو من القارئ أن يتذكر اسم«أبي ذر الغفاري»(2)،الذي سيلعب دورا هامة عند خلافة عثمان بن عفان،وأن يتذكر أيضا اسم اعمار بن یاسر(3)،الذي سيلعب دورة هامة عند خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام)،وخصوصا في معركة صفين.

الضغط على أبي طالب

لما رأت قريش الجد من رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في الأعوة،وسكوت أبي طالب عنه

ص: 32


1- الحاكم النسابوري، المستدرك على الصحيحين، صالح اللحام، الدار العثمانية، ط1، 2007، عمان، ج 3، كتاب معرفة الصحابة، ذكر مناقب أبي ذر الغفاري، ح5456، ص 419 - 420.
2- قال رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في حق أبي ذر على ما يروي المحدثون وأصحاب السير : ما أظلت الخضراء (= السماء) ولا أقلت الغبراء (= الأرض من ذي لهجة أصدق من أبي ذر». أخرجه أو قريب من ألفاظه : الترمذي في سننه (المناقب عن رسول اللّٰه ، مناقب أبي ذر)، وابن ماجة في سننه (دار الفكر ، بیروت، ج 1، فضل أبي ذر، ح156، ص55)، والحاكم في مستدركه (كتاب معرفة الصحابة، ذكر مناقب أبي ذر الغفاري)، وأحمد بن حنبل في مسنده (دار صادر، بیروت، ج 2، ص 163).
3- قال رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في حق عمار على ما يروي المحدثون وأصحاب السير: «إن عمارة ما بين عيني وأنفي. أنظر : ابن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص122، وأنه (صلی اللّه علیه واله) ؛ قال - على ما يروي ابن ماجة في سننه - ملئ عمار إيمانا إلى مشاشه» (دار الفكر، بیروت، ج 1، فضل عمار بن یاسر، ح 147، ص 52، وأنه (صلی اللّه علیه واله) قال - على ما يروي الحاكم في مستدركه - لخالد بن الوليد عندما سب عمارة : یا خالد، لا تسب عمارة، فإن من يسب عمارة يسبه اللّٰه، ومن يبغض عمارة يبغضه اللّٰه، ومن يسفه عمارة يسفهه اللّٰه . وروى ما يقرب منه أحمد بن حنبل في مسنده، ج4، ص89.

وعدم نهيه عن ذلك الذي يقول في آلهتهم وآبائهم،خشيت أن يعظم أمره،وبدأت بممارسة ضغوط على أبي طالب،فمشى رجال من أشرافها إليه،فقالوا:يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا،وعاب ديننا،وسقه أحلامنا،وضل آباءنا،فإما أن تكه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه،فإنك على مثل ما نحن عليه من خلاف فنكفیكه. فقال لهم أبو طالب قوة رفيقا،وردهم ردا جميلا، فانصرفوا عنه(1).

ومضى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)على ما هو عليه،يظهر دين اللّٰه ويدعو إليه،ثم شرى الأمر بينه وبينهم،حتى تباعد الرجال وتضاغنوا، وأكثرت قریش ذكر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بينها، فتوامروا فيه،وحض بعضهم بعضا عليه.

ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى،فقالوا:يا أبا طالب إن لك سئا وشرفة ومنزلة فينا،وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك،فلم تنهه عنا،وإنا واللّٰه لا نصبر على هذا،من شتم آبائنا،وتسفيه أحلامنا،وعيب آلهتنا،حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك،حتى يهلك أحد الفريقين. أو كما قالوا،ثم انصرفوا عنه .

فعظم على أبي طالب تحدي قومه وعداوتهم،ولم يطب نفسة بإسلام رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم ولا خذلانه.وبعث إلى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)فقال له:يا ابن أخي،إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا،فأبقي علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق.

يقول الرواي:فظن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) أن عمه يريد أن يخذله،وأنه ضعف عن نصرته والقيام معه،فقال:يا عم،واللّٰه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره اللّٰه أو أهلك فيه،ما تركته.ثم استعبر فبكى ثم قام.

فلما ذهب ناداه أبو طالب،فقال:أقبل يا ابن أخي،فأقبل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،فقال له: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فواللّٰه لا أسلمك لشيء أبدا(2) .

ترغیب رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)

وطرقت قریش بابا آخر،فبدأت بإطلاق سلسلة من العروض والصفقات المغربية وتقديم المال وعرض المنصب.قال ابن إسحاق-كما ينقل ابن هشام في السيرة النبوية-نزلت الآية:«قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ»(3) في رد العروض المالية للمشركين.

ص: 33


1- ابن إسحاق، السيرة النبوية،ص190
2- ابن هشام،السيرة النبوية،ج1، ص194- 195. أيضا:ابن إسحاق،السيرة النبوية،ص196
3- سورة سبأ،الآية:47

وروي عن الإمام محمد الباقر (علیه السلام) أن آيات من سورة الإسراء،وسورة الكافرون نزلت بشأن الاقتراحات التي كان قد عرضها الكافرون،قال تعال في سورة الإسراء:

«وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)»(1)

واقترح عتبة بن ربيعة(أبو هند وجد معاوية لأمو)-حین اجتمع وجهاء قريش أن يذهب إلى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) ليحدثه كي يك عن دعوته،نمشى إليه ورسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) جالس وحده في المسجد،فامتدح رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) ومكانته في قريش وقال له:يا ابن أخي إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر ماة جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا،وإن كنت تريد به شرفة سؤدناك علينا حتى لا نقطع أمرة دونك،وإن كنت تريد به مملكة ملكناك علينا،وإن كان هذا الذي يأتيك رنية تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه...

ولما أتم كلامه قال (صلی اللّه علیه واله):أقد فرغت يا أبا الوليد؟قال:نعم،قال (صلی اللّه علیه واله):فاسمع مني،ثم تلا قوله تعالى:«حم (1)تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ (5)»(2)واستمر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)يقرأ الآيات،فانبهر تبة وألقي يديه خلف ظهرو معتمدة عليها،ثم سجد رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)عند آية السجدة،ثم قال (صلی اللّه علیه واله):قد سمعت يا أبا الوليد،فأنت وذاك (3).

وقد حذر اللّٰه سبحانه وتعالى رسوله (صلی اللّه علیه واله) تحذيرة شديدة من تقديم أي تنازل، فقال:«قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)»(4)

ص: 34


1- سورة الإسراء، الآيات: 73 - 75.
2- سورة فصلت، الآيات: 1- 5.
3- ابن هشام، السيرة النبوية، ج1، ص 213 - 214، أيضا : ابن إسحاق، السيرة النبوية، ص242 -243 .
4- سورة الزمر، الآيتان: 64 - 65.

إيذاء رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)

عندما لم ينفع الإيذاء غير المباشر لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،من خلال التعرض للعبيد والموالي،لم تؤت الضغوط على أبي طالب ثمارها،ولم تنل الصفقات والعروض المغرية أي قبول من رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،اتجهت قريش إلى إيذاء رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) إيذاء مباشرة.

من أبرز الأسماء التي مارست الإيذاء المباشر لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)عمه أبو لهب(هو من بني هاشم،وزوجته هي أم جميل أخت أبي سفيان وعمة معاوية)(1).وعتبة وشيبة ابنا ربيعة،وعقبة بن أبي معيط، وأبو سفيان بن حرب وابنه حنظلة، والحكم بن أبي العاص بن أمية....وهؤلاء جميعا من بني أمية.

وأبو جهل بن هشام وأخوة العاص وعمه الوليد بن المغيرة(أبو خالد بن الوليد) ...وهؤلاء من بني مخزوم.والعاص بن وائل وابنه عمرو بن العاص....وهؤلاء من بني سهم.وأمية بن خلف وأخوه أبي....وهؤلاء من بني جمح .

انطلق هؤلاء يمارسون ألوانا من الشخرية والاستهزاء؛كان أبو سفيان بهجو المسلمين بشعره،وكان الوليد بن المغيرة وأمية بن خلف من أولئك المستهزئين،ونقل المحدثون أن اللّٰه تعالى أنزل سورة الهمزة في وصف الوليد، وقيل في أمية(2).

التاريخ ينقل لنا أيضا حالات من الاضطهاد البدني،ومعظمها-إن لم تكن كلها-بعد وفاة أبي طالب.

فقد جاء أن عقبة بن أبي معيط تجاسر مرة على رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وألقى عليه عباءته وضغط عليه حتى كادت روحه أن تزهق، وجاء ذات يوم بسلی(3)شاة فألقاه على راسه(4).

وأن عقبة وأبا لهب كانا يلقيان العذرة والأوساخ على باب داره (صلی اللّه علیه واله).وكان (صلی اللّه علیه واله)يقول:

ص: 35


1- وقد نزلت فيهما سورة المسد: «بسم اللّٰه الرحمن الرحيم، «تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)».
2- «بسم اللّٰه الرحمن الرحيم، «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2)يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5)نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6)الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8)فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)» ابن هشام، السيرة النبوية، ص 213 - 214. ابن هشام، السيرة النبوية، ج2،ص 9.
3- السلى: غشاء رقيق يحيط بالجنين ويخرج معه من بطن أمه.
4- تقي الدين المقريزي، النزاع والتخاصم بين بني أمية وبني هاشم، ص 44. وسيؤسر عقبة في معركة بدر ويأمر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بضرب عنقه .

«كنت بین شر جارین،بين أبي لهب وعقبة بن أبي معيط،إن كانا ليأتيان بالفروث فيطرحانها على بابي».وأن أبا جهل كان يلقي فوقه القاذورات وهو في صلاته.

وكانت بين عقبة بن أبي معيط وأبي بن خلف صداقة وثيقة،وحين سمع أبي أن عقبة جالس عند رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) حنق،وقال له:لا أرضى منك إلا أن تأتيه،فتطأ قفاه وتبزق في وجهه،ففعل ذلكوقال اللّٰه تعالى فيه:«وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28)»(1)

ومن المستهزئين أيضا الحكم بن أبي العاص الذي كان يشم رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)ويسير خلقه ويقلد حركاته باستهزاء(2).

وأم جميل بنت حرب-زوجة أبي لهب-(وهي كما أشرنا من بني أمية، وبالتحديد أخت أبي سفيان، وعمة معاوية)كانت تلقي الأقذار والأشواك أمامدارو في غسق الليل لتؤذي رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) عند خروجه مبكراً.

والطريف أنهم كانوا يخوفونه (صلی اللّه علیه واله)باصنامهم أن تنزل عليه البلاء،فقال تعالى:

«أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ »(3).

وصم رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)بالجنون والكهانة وقول الشعر والسحر

الوصم عملية تستخدم عادة للحفاظ على الضبط الاجتماعي والمعايير السائدة،ويتم ذلك إما من خلال الضغط على الفرد أو الأفراد لإعادتهم إلى ما يعتبره المجتمع صوابا،أو لعزل تأثير الفرد أو الأفراد على باقي أفراد المجتمع، أو لتحقيق الهدفين معا.والوصم نظرية اجتماعية تدرس حاليا في علم الاجتماع(4).

لقد خشيت قريش أن يستميل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) الحجاج الذين كانوا يفدون إلى مكة في الحج،وتشاور القرشيون فيما بينهم للقضاء على الدعوة قبل انتشارها، وفكروا في إيجاد تفسير مقنع لظاهرة محمد (صلی اللّه علیه واله)،حتى يذوا من تأثير دعوته في الحجاج،فبدأوا بممارسة

ص: 36


1- سورة الفرقان، الآيتان: 27 - 28. ابن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص14.
2- يقول المقريزي في النزاع والتخاصم عن الحكم بن أبي العاص : «فلما كان فتح مكة، أظهر الإسلام خوفا من القتل، فلم يحسن إسلامه ، وكان مغموصأ عليه في دينه، ص 44. والحكم هذا هو طريد رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)الذي سيرده عثمان بن عفان في فترة خلافته إلى المدينة، وهو والد مروان الذي سيكون المستشار الأول لعثمان في فترة خلافته .
3- سورة الزمر، الآية: 36.
4- Labling Theory

عملية الوصم بصور مختلفة؛فقال بعضهم:نقول كاهن(باعتبار أنه يحدث عن أمور غيبية مستقبلية تتعلق بعالم ما بعد الموت)وقال آخرون:نقول مجنون(باعتبار أنه يحدث عن أمور لا يمكن تصديقها بالنسبة إليهم كالبعث وإحياء العظام وهي رميم)،وقالت جماعة ثالثة:نقول شاعر(باعتبار أن القرآن الذي جاء به ينطوي على بلاغة معجزة)،وقالت جماعة رابعة:نقول ساحر....واستقروا في النهاية على اتهامه بالسحر(1).

وفي ذلك قال تعالى:«كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54)»(2)و قال تعالی فی موضع اخر:«مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ »(3).

لكن لماذا اتهموه (صلی اللّه علیه واله)بالسحرلأن السحر له تأثير خارق في النفوس،ويفرق بين المرء وأبيه،وبين المرء وأخيه،وبين المرء وزوجه،وبين المرء وعشيرته!والإسلام يومئذ كان قد اخترق نفوسهم من الداخل،وتسرب إلى بيوتهم،وبدأت تظهر اصطفافات جديدة داخل القبيلة الواحدة،والبطن الواحد، والعشيرة الواحدة.

في المقابل،كان اللّٰه سبحانه يخفف عن رسوله (صلی اللّه علیه واله)،فيقول له:«وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)» (4)وسلاه سبحانه عن استهزاء قريش بقوله تعالى:«وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ»(5)

ومن الضروب الأخرى لعملية الوصم،تردید بعضهم كلمة«مذمم»(6) ولعلهم افتعلوها في مقابل اسم رسول اللّٰه«محمد» (صلی اللّه علیه واله).وترديد أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)و أبتر ليس له ابن،والمستهزئ بذلك هو العاص بن وائل،فأنزل اللّٰه تعالى سورة الكوثر،ووصفه فيها بالأبتر،حيث قال تعالى:«إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)» (7)

ص: 37


1- ابن هشام، السيرة النبوية، ج 1، ص 198. وفي ذلك يقول تعالى: «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12)وَبَنِينَ شُهُودًا (13)وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14)ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16)سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18)فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)ثُمَّ نَظَرَ (21)ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22)ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23)فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24)إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)» [المدثر: 11 - 25]. أنظر أيضا: ابن إسحاق، السيرة النبوية، ص193 - 194.
2- سورة الذاريات، الآيات: 52 - 54.
3- سورة فصلت، الآية: 43.
4- سورة الحجر ، الآية: 97.
5- سورة الأنعام، الآية: 10، الرعد 33، الأنبياء 41.
6- ابن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص 9.
7- سورة الكوثر، الآية: 3. ابن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص 38.

اضطرار المسلمين للهجرة إلى الحبشة

لما رأى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)ما أصاب أصحابه من البلاء، وتزايد الضغوط من(10-8ق.هج)،وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء،أشار على أصحابه بالخروج إلى أرض الحبشة،فهاجرت الدفعة الأولى سنة(8ق.هج)،وفروا بدينهم(1)،وكان فيها قرابة اثني عشر إلى سبعة عشر رجلا وامراة على اختلاف الأخبار،وكان قائدهم الصحابي الجليل عثمان بن مظعون.

وبعد عام إلى ثلاثة أعوام(7-5 ق.هج)هاجرت،وبنحو تدريجي،الدفعة الثانية،وكان فيها أكثر من ثمانين من المسلمين.وكان قائدهم في الحبشة آنذاك،الصحابي الجليل الشهيد جعفر بن أبي طالب(2).وإلى ذلك أشار اللّٰه تعالى في قوله:«وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)»(3).

قال ابن إسحاق:فلما رأت قريش أن أصحاب رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) قد أمنوا واطمانوا بأرض الحبشة،وأنهم قد أصابوا بها دارة وقرارا،ائتمروا بينهم أن يبعثوا فيهم منهم رجلين من قریش جلدين إلى النجاشي،فيردهم عليهم،ليفتنوهم في دينهم، ويخرجوهم من دارهم التي اطمأنوا بها وأمنوا فيها.فبعثوا عمرو بن العاص وعبد اللّٰه بن أبي ربيعة،وجمعوا لهما هدايا للنجاشي ولبطارقته،ثم بعثوهما إليه فيهم(4)(وتذكر بعض المصادر أن معاوية بن أبي سفيان والمغيرة بن شعبة كانا معهما).لكن عمرو بن العاص وعبد اللّٰه بن أبي ربيعة لم ينجحا في مهمتهما، ورجعا يجران أذيال الخيبة(5).

وأرجو من القارئ أن يتذكر اسم اعمرو بن العاص(6) جيداً،لأن عمرو سيلعب دورة مهمة بعد مقتل عثمان بن عفان،وبالتحديد في معركة صفين.

ص: 38


1- ابن إسحاق، السيرة النبوية، ص214.
2- ابن هشام، السيرة النبوية، ج 1، ص 239 - 240.
3- سورة النحل، الآية: 41.
4- ابن هشام،السيرة النبوية، ج1، ص248.
5- ابن إسحاق، السيرة النبوية، ص 247 - 248.
6- قرشي من بني سهم، كانت أمه سبية تلقب ب «النابغة»، وكان داهية من دهاة العرب، اسلم سنة 8 هج بعد فشل قريش في معركة الأحزاب، كان له دور في فتح الشام ومصر في خلافة عمر بن الخطاب، وولاه عثمان بن عفان على مصر ثم عزله عنها ، وكان ذلك بدء الخلاف بينهما، وكان له دور محوري في معركة صفين كما سنرى.

محاولة اغتيال رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)ومحاصرته في الشعب

ثم اجتمعت قريش في مكرها على قتل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) علانية،عندها أمر أبو طالب بني عبد المطلب أن يدخلوا رسول اللّٰه في شعبهم،ويمنعوه ممن أراد قتله.وكان ذلك على الأرجح بين سنة(6-5ق.هج)(1).

واجتمع بنو هاشم وبنو المطلب على ذلك مسلمهم وكافرهم،فمنهم من فعله حمية ومنهم من فعله إيمانا ويقينا.فلما عرفت قريش أن القوم منعوا رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) اجتمع المشركون من قریش،وائتمروا أن یكتبوا كتابأ يتعاقدون فيهعلى بني هاشم وبني المطلب،على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم،ولا يبيعوهم شيئا،ولا يبتاعوا منهم،فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة،ثم تعاقدوا وتواثقوا على ذلك،ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم(2).

فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين،واشتد عليهم البلاء والجهد حتى كان يسمع أصوات صبيانهم يصيحون من ألم الجوع من وراء الشعب،ولم يدعوا أحدا من الناس يدخل عليهم طعاما ولا شيئا مما يرفق بهم(3).ثم انفك الحصار(سنة4-3 ق.هج تقريبا)بكرامة خاصة لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) مذكورة في كتب السير والتواریخ(4).

وما وافت السنة العاشرة من البعثة(3ق.هج)حتى أصيب رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بوفاة عمه وحاميه أبي طالب،ثم ماتت زوجه خديجة بعد ذلك،وكان موتهما قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين.ولا نستبعد أن يكون لموتهما علاقة بالحصار ومضاعفاته،والوضع الصحي الخطر الذي عاشوا في أجوائه طوال هذه المدة.

وصار بقاء رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في مكة محفوفة بالمخاطر،وقدرة قريش على التعرض له كبيرة جدا،وتتابعت عليه بموتهما المصائب،فكانت هذه الفترة الواقعة بين موت أبي طالب وخديجة وحتى هجرته إلى يثرب،ربما،أصعب فترات حياته.لذا يقول ابن إسحاق:....فلما هلك أبو طالب،نالت قریش من رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)من الأذى ما لم تكن تطمع به

ص: 39


1- فكانت فترة الحصار في شعب ابي طالب متزامنة تقريبا مع هجرة الوجبة الثانية إلى الحبشة بسبب تزايد الضغوط.
2- ابن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص5، أيضا : ابن إسحاق، السيرة النبوية، ص 198.
3- ابن إسحاق، السيرة النبوية، ص 201.
4- ابن هشام، السيرة النبوية،ج2، ص 25 - 26، أيضا : ابن إسحاق، السيرة النبوية، ص 203 - 204.

في حياة أبي طالب(1).وكان يقول (صلی اللّه علیه واله) ما يروي الحاكم في مستدركه:«ما زالت قریش كاعة(=تهابني وتجبن عن مواجهتي)حتى توفي أبو طالب»(2)وعلى ما يروي ابن هشام في سيرته:«ما نالت مني قريش شيئا أكرهه،حتى مات أبو طالب»(3).

محاولة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) في الطائف

بعد أن يئس رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)من استجابة قريش لدعوته،خرج إلى الطائف(3 ق.هج)لاستكشاف آفاق جديدة للدعوة،وكانت قبيلة ثقيف يومئذ سادتها وأشرافها،لكنه لم يلق منهم آذانا صاغية،بل قوبلت دعوته بالاستهزاء،وتفرق عنه وجهاء الطائف وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم،فأخذوا يبونه ويصيحون به ويرمونه بالحجارة،فلم يكن يرفع قدما ويضع أخرى إلا على الحجارة...فلجا إلى بستان وهو يناجي ربه:

اللّٰهم إليك أشكو ضعف قوتي،وقلة حيلتي،وهواني على الناس،يا أرحم الراحمين،أنت رب المستضعفين وأنت ربي،إلى من تكلني؟إلى بعيد يتجهمني(4)؟أم إلى عدو ملكته أمري(5)؟إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ولكن عافيئك هي أوسع الي.أعود بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك،أو يحل علي سخطك،لك العتبى حتى ترضى،ولا حول ولا قوة إلا بك»(6)

ابيعة العقبة الأولى والثانية ثم الهجرة

عاود رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) نشر الإسلام في مكة،لكنه ركز هذه المرة على موسم الحج، فكان يعرض نفسه على القبائل ويدعوهم إلى اللّٰه(7).ولم يرحب بدعوته سوى ثلة قليلة من خزرج يثرب جاءت للحج،فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)ودعوهم إلى الإسلام،حتى فشا فيهم،حتى إذا كان العام المقبل جاءت جماعة منهم

ص: 40


1- ابن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص 57.
2- الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحیحین، ج2، كتاب الهجرة الأولى إلى الحبشة، ح 43 42، ص 774. انظر أيضا : ابن إسحاق، السيرة النبوية، ص270.
3- ابن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص 57.
4- ويقصد ب «البعيد، ثقیف (أو أهل الطائف) كما يبدو. وايتجهمني، يعني بلقاني بوجه عبوس مكفهر .
5- ويقصد به «العدو، قریش (او أهل مكة) كما يبدو.
6- ابن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص 60.
7- المصدر السابق ، ص 62.

فبايعته في العقبة(2ق.هج)(1) ،فبعث (صلی اللّه علیه واله)معهم مصعب بن عمير يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين،ثم جاءت جماعة أخرى من الخزرج والأوس فبايعته في السنة التالية(1ق.هج)(2) ،بعدما سأله بعضهم قائلا:يارسول اللّٰه،إن بيننا وبين الرجال-يعني اليهود-حبالا،وإنا قاطعوها،فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك اللّٰه أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟فتبم رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)ثم قال:بل الدم الأم،والهدم الهدم،أنا منگم وأنتم مني،أحارب من حارم وأسالم من سالمم»(3) .وصارت الأجواء مهيأة وملائمة له في يثرب أكثر من مكة.وبدأ المسلمون بالهجرة من مكة إلى يثرب.

لاحظ هنا أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)القرشي العدناني يستعين بالخزرج والأوس القحطانيين،ووجهاء صحابة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) القرشيون العدنانيون يستعينون بالخزرج والأوس القحطانيين ويهاجرون إليهم،ليتخلصوا من اضطهاد و ظلم قریش العدنانية.

ذعر مشركو قریش من أنباء وصلتهم عن مبايعة بعض أهل يثرب لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)(4) ،وخروج المسلمين بالتدريج من مكة إلى يثرب(5) ،ورأوا أن طائفة من المسلمين قد نزلوا دارة وأصابوا منهم منعة،فحذروا خروج رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) إليهم،وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم(6) .من هنا عزموا على أن يتخذوا قرارة حازمة بشأن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).ولم يفكروا حتى ذلك الحين في قتله (صلی اللّه علیه واله)،إذ كانوا يرون أن ذلك قد يفجر خلافة داخل قريش.وكان همهم الأول هو أن يحولوا دون هجرة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) إلى يثرب ليقود المسلمين منها،وكانت الخيارات تدور بين إخراجه ونفيه من مكة أو سجنه.لكن وجدوا أن هذين الخيارين لن يحل المشكلة، فعقدوا العزم على قتل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)

ص: 41


1- المصدر السابق،ص66- 68
2- المصدر السابق،ص70- 76
3- المصدر السابق،ص77
4- المصدر السابق،ص81– 82. أقول:واعتقلت قریش جراء ذلك سعد بن عبادة،وربطوا يديه إلى عنقه،وأدخلوه مكة يضربونه
5- ابن هشام،السيرة النبوية،ج2،ص96.قال ابن هشام في سيرته:وأقام رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بمكة بعد أصحابه من المهاجرين،ينتظر أن يؤذن له في الهجرة،ولم يتخلف معه في مكة أحد من المهاجرين إلا من محبس أو فين،إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة...».انظر:ابن هشام،السيرة النبوية،ج2،ص106
6- ابن هشام،السيرة النبوية،ج2،ص106

يقول تعالى في ذلك:«وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ»(1).

وكانت خطة أبي جهل للحؤول دون تفجر نزاع داخل قریش،تقضي بأن يشترك جميع بطون قريش-حتى أبو لهب الهاشمي-في هذه المؤامرة،فلا يستطيع بنو هاشم مطالبة جميع بطون قریش بدم محمد (صلی اللّه علیه واله).

وأخبر الوحي رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)بالمؤامرة الخطيرة،وأمره بالخروج والهجرة فورا إلى يثرب،فطلب (صلی اللّه علیه واله) من ابن عمه علي بن أبي طالب (علیه السلام) المبيت في فراشه، فخاطر علي (علیه السلام) بحياته فداء لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) في موقف خلده التاريخ،ورأى علي (علیه السلام) نفسه للمرة الأولى وجها لوجه أمام قریش،ورأت قريش نفسها للمرة الأولى وجها لوجه أمام علي (علیه السلام)،ونجا رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بأعجوبة،ووصل بسلام إلى يثرب(2) .

ضيقت قريش على رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في مكة،فاحتضنه الأوس والخزرج في يثرب. وعندما وصل إلى يثرب توقف في قباء حتى يصل ابن عمه علي (علیه السلام) مع الفواطم.ثم دخل (صلی اللّه علیه واله) بعد وصول علي (علیه السلام) إلى يثرب،فأقام في بيت أبي أيوب الأنصاري،وبنی المسجد،وآخى بين المهاجرين(وأكثرهم من قریش العدنانية) والأنصا(من الأوس والخزرج القحطانيين)حتى يتجاوز المسلمون النظرة القبلية الضيقة ويحقق حالة التكافل الاجتماعي(3) .وعقد مع يهود المدينة معاهدة تظم العلاقة بين المسلمين واليهود.

الآن،إذا نظرنا إلى هذه المرحلة من تاريخ الإسلام،أعني الفترة المكية الواقعة من بعثة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)حتى هجرته إلى المدينة،ربما يتساءل القارئ باستغراب ودهشة:

ص: 42


1- سورة الأنفال،الآية:30
2- ابن هشام،السيرة النبوية،ج2،ص106- 110. الحاكم النيسابوري،المستدرك على الصحيحين،ج3،كتاب الهجرة،ح4263، و4264،ص7
3- يبدو أن المؤاخاة لم تكن دائمة بين مهاجري وأنصاري،بل في بعض الأحيان بين مهاجرين.خذ مثلا ما رواه الحاكم في مستدركه عن ابن عمر قال:إن رسول اللّٰه آخي بين أصحابه،فآخي بين أبي بكر وعمر،وبين طلحة والزبير،وبين عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف،فقال علي:يا رسول اللّٰه،إنك آخبت بین اصحابك فمن أخي؟قال رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):أما ترضي يا علي أن أكون أخاك.أنظر:الحاكم النيسابوري،المستدرك على الصحیحین،ج3،كتاب الهجرة،ح4289،ص19- 20.أقول:وفي اختبار كل فرد مع اخيه حقيقة لا تخفى على اللبيب،والأحداث اللاحقة ستؤكد هذه الحقيقة

لماذا تعاملت قريش مع الدعوة إلى التوحيد بقسوة بالغة رغم أن الذي جاء بتلك الدعوة هو رجل منها؟

أسباب مواجهة قريش لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)

عندما جاء رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) يدعو الناس إلى التوحيد،ثارت ثائرة قريش،لأسباب عدة،منها:

1.الزعامة القبلية والتنافس عليها:فقریش لم تستطع أن تفرق بين النبوة والسيادة،أو بين النبوة والملك،وحسبوا أن التسليم بدین محمد (صلی اللّه علیه واله)معناه التسليم بالزعامة له ولآله،وكانت هناك منافسة شديدة بين قبائل العرب على الرئاسة والشلطان،فلم ترد قريش أن تسلم زمامها لمحمد وآله،وأن تفقد بطونها المختلفة مكانتها وسيادتها.والشاهد على ذلك أنه عند فتح مكة،حينما مرت جحافل المسلمين أخذت أبو سفيان الدهشة حتى قال للعباس(عم النبي):واللّٰه يا أبا الفضل،لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيمة، فأجابه العباس:يا أبا سفيان إنها النبوة.وفي مورد آخر يتجلى هذا التصور عندما وضع رأس الإمام الحسين (علیه السلام) أمام يزيد حيث كان من ضمن ما أنشاه:

لعبت هاشم بالمللي فلا

خب جاء ولا وحي نزل

إذن السبب الأول لمواجهة قريش لدعوة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):التنافس على العامة بوصفها ملكا لا منصبة إلهية.

2.تحریم عبادة الأصنام وأثر ذلك في صناعة الأصنام وبيعها:كان بين العرب من يحترف نحت الأصنام،وكان هؤلاء يبيعون الأصنام للحجاج الذين كانوا كثيرا ما يشترونها للتبرك والذكرى.فلما جاء الإسلام وحرم عبادة الأصنام ونحتها وبيعها،وجد هؤلاء التجار في الإسلام حائلا بينهم وبينأرباحهم،وعامة يقضي على تجارة الأصنام ويصيبها بالكساد والبوار ولذلك سرعان ما قاوموا الإسلام وثاروا عليه.هذا فضلا عن إحساس سدنة الكعبة بأنهم سيفقدون ما كانوا يتمتعون به من ثروة ونفوذ بسبب خدمتهم للأصنام ورعايتهم لزائريها.كما ظن أهل مكة على العموم أن الكساد الاقتصادي سوف يطالهم جميعا،إذا ما بطلت عبادة الأصنام فيها،بسبب إعراض الحجيج عن مكة.

لذا تجد اللّٰه سبحانه وتعالى يطمئن المسلمين،بعد إعلان البراءة من المشركين وتحريم دخولهم المسجد الحرام بمكة،أنهم لن يواجهوا ضائقة مالية جاء القضاء على مظاهر الوثنية ويقول:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ

ص: 43

بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)»(1) .

إذن السبب الثاني لمواجهة قريش لدعوة رسول اللّٰه هو خوف قریش من تضرر مصالحها المالية والتجارية.

3.تقليد الآباء والسير على آثارهم:فتقليد الآباء واتباع سلوكهم كان شيئةراسخة لدى العرب،ولذلك كرهوا أن يخرجوا من دين آبائهم وأن يدخلوا ديناً جديداً.

وقد ذم القرآن هذا النمط من التفكير ذا شديدة،وحكي عن هؤلاء بصبغة الاستهجان:وقالوا بل غ ما ألفينا عليه،اباءنا أولو كان اباؤهم لا يتولون شيئا ولا بهدوت(2) ؟!ولا يمكن فصل هذا اللوك المذموم عن العقلية القبلية التي كانت بالغة الرسوخ في حياتهم،وسنرى ما يجدها في خلفيات واقعة كربلاء.

إذن السبب الثالث تقليد قريش الأعمى للآباء والأجداد والانسياق خلف ما يسمى با«العادات والتقاليد»وإن أدى ذلك إلى الهلاك الأخروي.

4.رفض مبدأ المساواة بين الحر والعبد،والحر والمولى،أو بين العرب وغير العرب،أو بين من ينحدر من قبيلة قوية ومن ينحدر من قبيلة ضعيفة:إن الرق كان منتشرة في الجزيرة انتشاره في كل بلاد العالم،وكان العبد رفيق العقل والقلب،فضلا عن الرق الجسماني، بمعنى أنه لم يكن له أن يتدین بغیر دین سیده،ولا يحب أو يكره إلا تبعة السيده. فلما جاء الإسلام،لم يعترف برق العقل أو القلب،فالرقيق حر في فهمه وتدينه وحبه وكراهيته،وأن رق الجسم غير مطلق،لأ للرقيق حقوقة لدى سيده في الطعام والكساء والزواج.بل تحدث الإسلام عن المساواة بين السادة والعبيد في مجالات متعددة،فلا فرق بين أبيض وأسود،إلا بالتقوى.وعندما دخل بعض العبيد في الإسلام، اعتبر سادة قريش أن هذا التصرف تمرد من العبيد،كما اعتبروا أن محمدا (صلی اللّه علیه واله) يحرض العبيد على سادتهم،ولم يطيقوا أن يوضعوا في مستوى واحد مع عبيدهم!

لذا تجد أن سبب نزول الآية:«وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)»

ص: 44


1- سورة التوبة،الآية:28
2- سورة البقرة،الآية:170

-على ما تنقل گئب أسباب النزول-أن ملأ من قریش مر على رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) وعنده صهيب وعمار وبلال وخاب ونحوهم من ضعفاء المسلمين،فقالوا:يا محمد،أرضيت بهؤلاء من قومك؟أهؤلاء الذين من اللّٰه عليهم من بيننا؟أنحن نكون تبعة لهؤلاء؟إنما آمن بك هؤلاء طمعا في المال والرفعة،اطردهم عنك، فلعلك إن طردتهم ابعناك.وينقل تفسير المنار والدر المنثور أن عمر بن الخطاب كان حاضرة واقترح على رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) أن يقبل عرض هؤلاء الملا ليتبين مدى صدق قولهم.

إذن السبب الرابع لمواجهة قريش لدعوة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)هو الاستكبار.

5.الفزع من الإيمان بالبعث:لم تستطع قريش أن تقبل هذا الدين الذي يتحدث عن عودة الإنسان إلى الحياة بعد الموت،ليحاسب بعدالة على ما ارتكبه،فصورة العدالة لا يرضاها الظالم،وصورة الحساب يفر منها المذنبون. يقول تعالى:«وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)»(1)،وكتب أسباب النزول تقول إن هذه الآية نزلت في أبي بن خلف أو العاص بن وائل،وهما من شخصيات قريش المشهورة.

إذن السبب الخامس هو خوف قریش من الاعتقاد بيوم الحساب وتمني عدم مجيئه بما قدمت أيديهم.

الخلاصة:تحدثنا فيما سبق عن موضوع البحث،وقلنا إنه يستهدف معرفة خلفيات واقعة كربلاء،وبدأنا الكلام عن الأسباب البعيدة لهذه الفاجعة،وذكرنا نبذة عن العرب،وانقسامهم إلى عدنانيين وقحطانيين،وأن قريشا تنحدر من عدنان،وأن الأوس والخزرج ينحدرون من قحطان،وقلنا إن الكلمة المفتاحية لفهم خلفيات واقعة كربلاء تكمن في

قریش»!فقریش كانت العائق الأكبر أمام رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،ولم تترك طريقة للقضاء على الإسلام إلا واستعانت بها:تعذيب جسدي،ضغط اجتماعي،حصار اقتصادي خانق،ملاحقة المسلمين إلى الحبشة وملاحقة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)إلى الطائف،ثم التصميم على قتل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).

.....لنر كيف ستتفاقم الأمور عندما يوجه لها المسلمون لطمة كبيرة في معركة بدر؟وكيف ولدت هذه المعركة عقدة في نفوس القرشيين تجاه رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،والإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام)؟

ص: 45


1- سورة يس،الآيتان:78- 79

(2)معركة بدر وبني أمية

بدأنا الحديث عن خلفيات واقعة كربلاء،وقلنا إن الكلمة المفتاحية هي«قریش»،وتحدثنا عن مواجهة قریش لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) وأسباب ذلك،ونبدأ في هذا الفصل بالحديث عن أول مواجهة مسلحة بين قریش والمسلمين،لندرس الآثار العميقة التي تركتها تلك المواجهة على الأحداث اللاحقة.

معركة بدر(2هج)

في السنة الأولى والثانية للهجرة،بدأت اصطفافات جديدة بالتبلور.فبالأمس كانت مكونات يثرب تتمثل بالأوس والخزرج واليهود،وكان اليهود يستفيدون من تناقضات الأوس والخزرج.أما اليوم فصارت المدينة تتمثل بالأنصار(المسلمون من الأوس والخزرج)والمهاجرين من القرشيين الأحرار والموالي والعبيد)،في قبال اليهود ومنافقي المدينة من الأوس والخزرج واليهود الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر).

خلال هاتين السنتين،دخل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) على عائشة،وزوج ابن عمه الإمام علي (علیه السلام) بابنته فاطمة (علیها السلام)،وبدات سورة البقرة بالنزول،ودعوة يهود المدينة إلى الإسلام،مع رفض متكرر منهم،وتوترت علاقة المسلمين باليهود، وتغيرت قبلة المسلمين من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة،وفرضت سلسلة من التشريعات المهمة كالصوم وأحكام الحيض والطلاق والرضاعة والعدة والإنفاق وتحريم الربا صراحة والحث على اجتناب الخمر.ووصلت أنباء عن مصادرة أبي سفيان لممتلكات المهاجرين وبيوتهم.

وفي السنة الثانية للهجرة وقعت معركة بدر الكبرى(1) ،بين قریش والمسلمين من المهاجرين والأنصار.

ص: 46


1- يثير بعض المستشرقين إشكالآ حول اعتراض المسلمين قافلة أبي سفيان القادمة من الشام إلى مكة،وهي الشرارة التي أشعلت حرب بدر، بوصفه عملا فوضوية وربما إرهابية....ويتناسون أن أبا سفيان - كما يؤكد المقريزي - كان قد باع دور المسلمين في مكة، وقضى بثمنها بعض دیونه، هذا مضافة إلى ما لاقاه المسلمون من قریش عمومة.... وتفصيل الحديث يحتاج إلى مقام آخر. أنظر أيضا في عدوان أبي سفيان على دور المسلمين: ابن هشام، السيرة النبوية، ج2، 124.

انطلاق الشرارة

انطلقت الشرارة بعدما وصلت أنباء تفيد بأن أبا سفيان قد باع دور المسلمين في مكة، وقضى بثمنها بعض دیونه،ثم سمع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بأبي سفيان مقبلا من الشام بقافلة كبيرة،فيها أموال لقريش وتجارة من تجاراتهم،فندب المسلمين إليهم وقال:هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل اللّٰه ينفلموها. فانتدب الناس،فخف بعضهم وثقل بعضهم،وكان أبو سفيانيتحسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان،حتى عرف أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)قد استنفر أصحابه له ولقافلته،فأرسل أبو سفيان رجلا إلى مكة،وأمره أن يأتي قريشأ يستنفرهم(1).

فجاء الرجل يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيرو، قد جد بعيره،وحول رحله، وشق قمیضه وهو يقول:يا معشر قريش،اللطيمة اللطيمة(2)،أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه،لا أرى أن تدركوها....فتجهز الناس سراعا(3).

قال ابن إسحاق:وخرج رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في ليالي مضت من شهر رمضان في أصحابه...وأتاه الخبر عن قریش...فاستشار الناس،فقام بعض المهاجرين وأظهروا استعدادهم للضحية.ثم قال رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):أشيروا علي أيها الناس، وإنما يريد الأنصار..(4).

فقال له سعد بن معاذ:واللّٰه لكائك تريدنا یا رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)؟

قال (صلی اللّه علیه واله):اجل

ص: 47


1- ابن هشام، السيرة النبوية، ج2 ص224 - 225.
2- قال الواقدي : «اللطيمة: التجارة، قال أبو الزناد: اللطيمة: جميع ما حملت الإبل للتجارة .... أنظر : الواقدي، المغازي، تحقيق د. مارسدن جونس، مكتب الإعلام الإسلامي، 1414هج، ج 1، ص 32.
3- ابن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص 227. أيضا : الحاكمالنيسابوري، المستدرك على الصحيحين ، ج3، كتاب المغازي والسرايا، ح4297، ص 27.
4- لأن الأنصار هم الذين آووا رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)، والمهاجرين، وسيضع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) والمهاجرين - بسبب بدر - الأنصار في مواجهة مباشرة مع قريش، فكانه يريد (صلی اللّه علیه واله)أن يتحملوا جزءا من مسؤولية قرار المواجهة، بوصفهم شركاء في المصير .

قال سعد:فقد آمنا بك وصدقناك،وشهدنا أن ما جئت به هو الحق،وأعطينا على ذلك عهودنا ومواثيقنا،على السمع والطاعة،فامض یا رسول اللّٰه لما أردت، فنح معك،فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فضته لخضناه معك،ما تخلف ما رجل واحد(1)..

ثم عدل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) اللصفوف،وكان عدد المسلمين قليلا،فوقف رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)يناشد ربه ما وعده من النصر قائلا:«اللّٰهم إن تهلك هذه العصابة=الجماعة من الناس اليوم لا تعبد»(2).ثم أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل قریشة بها ثم قال:

شاهت الوجوه،ثم نفخهم بها،وأمر أصحابه،فقال:شدوا(3).

المدد الغيبي

فجاء المدة الغيبي من اللّٰه سبحانه بطريقة مذهلة،وهذا ما سجله القرآن في سورة آل عمران في قوله تعالى:«وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)»(4).

ويقول تعالى في سورة الأنفال: «إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا (44)»(5).

مشاققة قريش

ويتحدث القرآن عن مشاققة قريش لله ورسوله،وعن عقاب شديد سيواجهونه إن هم استمروا في السير على هذا الطريق،يقول تعالى في سورة الأنفال:«إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى

ص: 48


1- ابن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص232 - 233.
2- المصدر السابق ، ص 244.
3- المصدر السابق، ص245.
4- سورة آل عمران، الآيات: 123 - 126.
5- سورة الأنفال، الآيتان: 43 - 44.

الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)»

ليهلك من هلك عن بينة

ثم يتحدث القرآن في السورة ذاتها عن أن معركة بدر كانت مقدرة من اللّٰه تعالی لتهلك قریش عن بينة ويحيا المؤمنون عن بینه یقول تعالی«وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»«إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)»(1)

حساب عددي للخسائر

في معركة بدر،كان هناك(1000)مقاتل من مشركي قريش في مقابل(313) أو (314)(3)مقاتلا من المسلمين....رغم ذلك،كانت نتيجة المعركة بمثابة زلزال شدید ومدمر لقريش:(72)قتيلا من رجالات قریش وساداتهم،و(70) أسيرة،في مقابل(14)شهيداً من المسلمين!!

تفجر الكراهية

هنا تفجرت كراهية قريش لبني هاشم،وبالتحديد تفجرت كراهيتهم لحمزة وعلي بن أبي طالب (علیه السلام)،بسبب ما قتلا وجرحا منهم في ذلك اليوم،وقبل ذلك تفجرت كراهيتهم لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) الذي تسبب-في نظرهم-في ذلك كله.فقد أراق بنو هاشم

ص: 49


1- سورة الأنفال، الآيتان:41- 42

ماء وجوه قریش أمام أهل مكة،وأمام باقي العرب،وتسببوا في حرج شديد لأبي سفيان الذي كان قد استنجد بقريش لحماية قافلته.

وتفجرت بدرجة أقل كراهية قریش للأنصار،وبالتحديد للخزرج،الذين شكلوا أكثر من ثلثي جیش الأنصار،وأبلوا في معركة بدر بلاء حسنا،ووفروا قبل ذلك الماری الرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وللمهاجرين.

وتحدثنا الروايات التاريخية عن بعض الجهود لمنع الحرب،ولكن هذه الجهود توقفت بسبب إصرار أبي جهل على الحرب.وسرعان ما برز من قريش ثلاثة يعدون من خيرة أبطالها،وهم في الوقت نفسه أساطين بيت واحد(من بني عبد شمس،وهو الأصل الذي ينحدر منه بنو أمية)،وهم:

1-عتبة بن ربيعة(أبو هند،جد معاوية لأمه).

2-الولید بن عتبة(أخو هند،خال معاوية).

3-وشيبة بن ربيعة(عم هند،عم معاوية لأمه).

خرج هؤلاء الأبطال من معسكر قریش واتجهوا إلى وسط الساحة التي تفصل بين الجيشين وصرخوا في معسكر المسلمين:من يبارز؟اختار رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في قبالهم:

1-عمه حمزة بن عبد المطلب(ليواجه عتبة)(1) .

2-وعلي بن أبي طالب (علیه السلام) (ليواجه الوليد بن عتبة)

3-وابن عمه عبيدة بن الحارث(فتار في القضاء على شيبة،فقتل الأخير بسيوف الثلاثة).

وقد قتل الإمام علي (علیه السلام) وحده أربعة من بني عبد شمس،واشترك في قتل خامس.

والأربعة الذين قتلهم الإمام علي (علیه السلام) هم:الوليد بن عتبة بن ربيعة (خال معاوية)،حنظلة بن أبي سفيان(أخو معاوية)،والعاص بن سعيد،وعامر بن عبد اللّٰه حلیف بني عبد شمس.كما اشترك في قتل شيبة بن ربيعة.

وقد أحصى الشيخ المفيد في كتابه الإرشاد اسماء خمسة وثلاثين نفرة ممن قتلهم

ص: 50


1- وقد فعل حمزة بقريش في بدر الأفاعيل،لذا نرى عداءهم الشديد له، وانتقامهم منه في أحد،بل تشويه سمعته في كتب التاريخ والحديث والتفسير بمختلف الطرق.فعداء قریش لم يقتصر على (علیه السلام)،بل على بني هاشم عموما،وعلى حمزة وعلي علی وجه الخصوص

الإمام علي (علیه السلام) يوم بدر سوی من اشترك في قتله(1) ،وأحصى ابن هشام في كتابه السيرة النبوية والواقدي في كتابه المغازي أسماء واحد وعشرين نفرة ممن قتلهم الإمام علي (علیه السلام) يوم بدر أو اشترك في قتلهم من مجموع تسعة وأربعين أو خمسين نفرة أحصيت أسماؤهم(أنظر الملحق رقم1)(2) .

وبعملية حسابية بسيطة لنسبة من قتلهم الإمام علي (علیه السلام) أو اشترك في قتلهم إلى المجموع الكلي للقتلى الذين أحصيت أسماؤهم،سنجد أن الإمام علي (علیه السلام) قد قتل أو اشترك في قتل40%من قتلى مشركي قريش في بدر على أقل التقادير،وقد ترتفع هذه النسبة إلى ما يقرب من60%.

أي إن عليا (علیه السلام) كان أكبر من هد بنيان بيت بني عبد شمس في ذلك اليوم، ونستطيع أن نتصور حقدهم عليه إذا تذكرنا ما فعلوه بعمه وصنوه في سن البلاء في أحد،أعني حمزة بن عبد المطلب،الذي قتل بدوره عتبة بن ربيعة بن عبد شمس(أبو هند آكلة الأكباد وجد معاوية لأمه)(3) ،ويقول ابن هشام في سيرته إن علية (علیه السلام) قد اشترك في قتله أيضا.

كما قيل لبني أمية بعید معركة بدر عقبة بن أبيمعيط، الذي أمر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بقتلي بعدما أسر في بدر.وقتل في هذه المعركة لبني أمية شيبة بن ربيعة بن عبد شمس(عم هند،يعني عم أم معاوية).كما أسر عمرو بن أبي سفيان(أخو معاوية)،الذي أطلق سراحه فيما بعد.

نشأة عقدة نفسية عند أبي سفيان وهند

لما رجعت قريش إلى مكة، قام فيهم أبو سفيان(أبو معاوية وجد یزید)وقال: يا معشر قریش،لا تبكوا على قتلاكم،ولا تتح عليهم نائحة،ولا يبيهم شاعر، وأظهروا

ص: 51


1- من الأسماء التي قتلها علي (علیه السلام):عمیر بن عثمان بن كعب بن تیم،عم طلحة بن عبيد اللّٰه،وعثمان ومالك ابنا عبيد اللّٰه،أخوا طلحة بن عبيد اللّٰه......ومن يدري،لعل هذا الموضوع كان له دور في لاشعور طلحة عندما أعلنها حربا على علي (علیه السلام) يوم الجمل؟أنظر:المفيد، الإرشاد،تحقیق مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث،بیروت،ط1،1995،ج1،ص70- 72
2- أنظر:الواقدي،المغازي،ج ،ص147- 152،وابن هشام،السيرة النبوية،ج2،ص318 -325
3- لاحظ أن هند هي أم معاوية،أما يزيد بن أبي سفيان،ومحمد بن أبي سفيان،وعنبسة بن أبي سفيان،وحنظلة بن أبي سفيان،وعمرو بن أبي سفيان،فمن أمهات شتى(شرح النهج،لابن أبي الحديد،ج1،ص 199)

الجلد والعزاء، فإنّكم إذا نحتم عليهم وبكيتموهم بالشعر أذهب ذلك غيظكم، فأكلّكم ذلك عن عداوة محمّد وأصحابهً مع أنّه إن بلغ محمّدا و أصحابه شمتوا بكم فیكون أعظم المصیبتین شماتتهم، و لعلّكم تدركون ثاركم فالدّهن و النساء علیّ حرام حتّی أغزو محمّدا...يقول المؤرخون:فمكثت قریش شهرة لا يبكيهم شاعر ولا تنوڅ عليهم نائحة!(1)

يقول الواقدي:فناحت قريش على قتلاها شهرة،ولم تبق دار بمكة إلا فيها نوح،وجر النساء شعر الرؤوس...قالوا:ومشى نساء قريش إلى هند بنت عتبة (أم معاوية وجدة يزيد)وقلت لها:ألا تبكين على أبي وأخي وعملي وأهل بيتك؟فقالت:أبكيهم فيبلغ ذلك محمدأ وأصحابه فيشمتوا بنا ونساء بني الخزرج(2) لا واللّٰه حتى أثار محمد وأصحابه،والده علي حرام أن دخل رأسي حتى نغزو محمداً....يقول المؤرخون:فمكثت على حالها لا تقرب الأهن وما قربت فراش أبي سفيان من يوم حلقت حتى كانت وقعة أحد(3).

يتضح مما سبق أن معركة بدر سیبت عقدة نفسية عند مشركي قريش عمومة،وعند بني أمية خصوصة، تجاه رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،والإمام علي (علیه السلام) وعمهما سید الشهداء حمزة (علیه السلام)(4) ،ويمكن أن نفهم كثيرة من الأحداث التالية على أنها ردود أفعال تجاه ما حدث، ومحاولات للثأر مما وقع يوم بدر.

أهم شخصيات بني أمية ودورها المعادي للإسلام

قبل أن نسترسل في سرد الأحداث التي وقعت بعد معركة بدر،سأتوقف قليلا لندرس باختصار أهم شخصيات بني أمية القرشية(5)،مستعينا في ذلكبما ينقله المقريزي في كتابه

ص: 52


1- الواقدی،المغازی،ج1،ص121
2- إن لم يقصد بالخزرج الأنصار عموماً (أوسهم وخزرجهم)، فإن هذه العبارة تشير إلى نشاة عداوة خاصة بين قریش والخزرج.... ستلاحظ أيضا بعد قليل ما تمثل به یزید بعد قتل الحسين (علیه السلام) : لیت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
3- الواقدي، المغازی، ج1، ص 122 - 124. وقد سجل لنا ابن هشام في السيرة النبوية أبيات متعددة قالتها هند بعد معركة بدر تندب فيها أقاربها، أنظر : ابن هشام، السيرة النبوية، ج3، ص35 - 36.
4- لذا تجد أن ابنة الحارث بن عامر بن نوفل تقول لوحشي قبيل معركة أحد: إن ابي تل يوم بدر، فإن أنت قتلت أحد الثلاثة، فأنت حر، إن قتلت محمدأ، أو حمزة بن عبد المطلب، أو علي بن أبي طالب، فإني لا أرى في القوم كفؤة لأبي غيرهم. أنظر: الواقدی، المغازي، ج 1، ص 285.
5- وبنو امیه صنفان: الأعياص والعنابس، فالأعياص: العاص، وأبو العاص، والعيص، وأبو العيص، والعنابس: حرب، وأبو حرب، وسفيان، وأبو سفيان. فبنو مروان وعثمان من الأعياص، ومعاوية وابنه من العنابس. ولكل واحد من الصنفين المذكورين وشيعتهم كلام طويل، واختلاف شديد في تفضيل بعضهم على بعض (انظر: ابن أبي الحديد، شرح النهج، ج 1، ص 200).

الهام«النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم»،ثم نعود بعد ذلكلنربط معركة بدر بواقعة كربلاء.

1.أبو أحيحة سعيد بن العاص بن أمية:هلك على كفر باللّٰه في أول سنة من

الهجرة....وهو يحاد اللّٰه ورسوله.

أقول:لكن ثلاثة من أبنائه كانوا من الصالحين:خالد بن سعید بن العاص مع أخويه

أبان وعمرو(1).

2.عقبة بن أبي معيط: وكان أشد الناس عداوة لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،إلى أن قاتل يوم بدر،فأتي به إلى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وقد أسير،فأمر بضرب عقبه فجعل يقول:يا ويلتي علام أقتل(يا معشر قريش أأقتل)من بين هؤلاء؟فقال رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):لعداويك اللّٰه ولرسوله،فقال:يا محمد،منك أفضل،فاجعلني كرجل من هؤلاء من قومي وقومك،یا محمد من للصبية؟.....وضرب عنقه.....

3.الحكم بن أبي العاص بن أمية:وكان مؤذية لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بمكة،يشتمه ويسمعه ما يكره،فلما كان فتح مكة،أظهر الإسلام خوفا من القتل،فلم يحن إسلامه،وكان مغموص عليه في دينه(=مطعونة في دينه). ثم قدم المدينة فنزل على عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية،وكان يطال الأعراب والكفار بأخبار رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).وبينا رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)يمشي ذات يوم، مشى الحكم خلفه فجعل يختلج(=حرك)بأنفو ونمو كأنه يحاكي رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)، ويتفكك ويتمایل،فالتفت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)فرآه،فقال

ص: 53


1- أقول: خالد بن سعيد بن العاص مثلا أسلم قديمة فكان ثالثة أو رابعة وقيل كان خامسة، وقال ابن قتيبة في المعارف: أسلم قبل إسلام أبي بكر. وكان ممن هاجر إلى الحبشة، واستعمله رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)مع أخويه على صدقات مذحج، واستعمله على صنعاء، ثم رجعوا بعد وفاة رسول اللّه عن عمالتهم، فقال أبو بكر : ما لكم رجعتم عن عمالتكم؟ ما أحد أحق بالعمل من عمال رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)، ارجعوا إلى أعمالكم، فقالوا: نحن بنو أحيحة لا نعمل لأحد بعد رسول اللّه، ولم يبايع خالد بن سعيد لأبي بكر إلا بعدما بایعه بنو هاشم، ثم مضوا جميعا إلى الشام، فقتلوا هناك ، واستشهد خالد - رضوان اللّه عليه - باجنادین . لذا لا يرد ما ذكره المقريزي بأن سبب وصول بني أمية إلى السلطة هو ما أسسه رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) من تنصيب بعض عماله من بني أمية، وأنه (صلی اللّه علیه واله)هو الذي عبد الطريق لهم، لأنه يوجد فرق جوهري بين عمال رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) من بني أمية، وعمال أبي بكر وعمر وعثمان منهم.

له:كن كذلك،فما زال بقية عمره على ذلك.واطلع يوما على رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وهو في حجرة بعض نسائه،فخرج إليه بعنزة(=أطول من العصا وأقصر من الرمح)، فقال:من عذيري في هذا الوزغة،لو أدركه لفقاث عينه.......

ثم إن النبي (صلی اللّه علیه واله) لعنه وما ولد،وغيره عن المدينة،فلم يزل خارجة عنها بقية حياة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وخلافة أبي بكر وعمر،فلما استخلف عثمان،رده إلى المدينة وولده،فكان ذلك مما أنكره الناس على عثمان(1) ،وكان أعظم الناس شؤمة على عثمان،فإنهم جعلوا إدخاله المدينة بعد إطراير النبي إياه،وبعد امتناع أبي بكر وعمر من ذلك،من أكبر الحجج على عثمان....،ومات الحكم في خلافة عثمان،فضرب عثمان على قبرو فسطاطا(وكان الجاهليون إذا توفي رجل عزیز جلیل القدر يضربون فسطاطة أو قبة على قبره تعبيرا عن حزنهم وإظهارا لقدره)،وقد قالت عائشة لمروان بن الحكم:أشهد أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)لعن أباك وأنت في صلبه.

والحكم هذا يقال له طریڈ رسول اللّٰه ولعينه، وهو والد مروان بن الحكم الذي صارت الخلافة إليه بالغلبة!!وتوارئها بنوه من بعده،وكان مروان رجلا لا فقة له، ولا يعرف بالزهير،ولا برواية الآثار،ولا بصحبة (لأنه قضى شبابه في حياة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) في المنفى مع أبيه المطرود)،ولا بعد همة،وقد ولي البحرين لمعاوية،الذي أقطع فدك المروان فوهبها بدوره لبنيه.

أقول:«مروان بن الحكم»(2) ،لا بد أن نتذكر هذا الاسم جيدة،لأنه سيلعب دورة مهما في عهد عثمان وبعد مقتله.ففي عهد عثمان،سيصبح مروان أبرز مستشاري عثمان،وسيكون له دور كبير في النهاية المأسوية التي انتهى عثمان إليها،لقيامه بخطوات أدت إلى استفزاز الثوار المستفزين أصلا.ثم بعد مقتل عثمان سيهرب مروان من المدينة إلى مكة ويلتحق بالناكثين،ثم يشارك في حرب الجمل،ويرمي طلحة بسهم فيقتله(لأن طلحة

ص: 54


1- لما طرد رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) الحكم بن أبي العاص إلى الطائف الأمور نقمها عليه،أقام بالطائف في بلة ابتاعها-وهي الكرمة-وكان يرعى غنيمات اتخذها،يشرب من لبنها،فلما ولي أبو بكر،شفع إليه:عثمان في أن يرده،فلم يفعل،فلما ولي عمر شفع إليه أيضا فلم يفعل،فلما ولي هو الأمر رده!(ابن أبي الحديد،شرح النهج،ج1،ص200)
2- روى الحاكم عن عبد الرحمن بن عوف قال:كان لا يولد لأحد مولود إلا أتي به النبي (صلی اللّه علیه واله)،فدعا له،ادخل عليه مروان بن الحكم،فقال:هو الوزغ ابن الوزغ،الملعون ابن الملعون.وقال:هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.انظر:الحاكم النيسابوري،المستدرك على الصحیحین،ج4،كتاب الفتن والملاحم،ح8477،ص588

في نظره ممن حرض على عثمان)،ثم يلتحق بالقاسطين،ويشارك في حرب صفين،ويرسخ وجوده في الدولة الأموية.وسيلعب أيضا دورة مؤثرة في عهد معاوية،بل حتى بعد موت معاوية ويكفي أن نتذكر أن يزيد بن معاوية عندما طلب من ابن عمه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان-الوالي على المدينة-أن يأخذ البيعة من الإمام الحسين (صلی اللّه علیه واله) أخذا شديدة،كان مروان هو المحرض للوليد على إجبار الإمام الحسين (علیه السلام) على مبايعة يزيد أو قتله.وسيكون له دور أساسي في انتقال الحكم من العنابس(وبالتحديد:السفيانيين)إلى الأعياص(وبالتحديد:المروانيين)بعد موت یزید واضطراب الدولة الأموية.

4.عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن أمية:أحد من عادی اللّٰه ورسوله إلى أن تل ببدر كافرة،قتله حمزة بن عبد المطلب(رضي اللّٰه عنه).وتبة هذا هو أبو هند بنت عتبة التي الاكت كبد حمزة،ثم لفظتها،واخذت مما قطعت منه أساور وخلاخيل ومعضدین وخدمتين(=خلخال أو حلقة)وأعطت وحشية قاتل حمزة جلية كان عليها من فضة وجزع(=نوع من العقيق)وخواتيم ورقة كانت في أصابع رجليها،كل ذلك شماتة بحمزة

لأنه قتل أباها عتبة رأس الكفر يوم بدر.وقيل أن علياً (علیه السلام) لما فرغ من الولید بن عتبة مال مع عبيدة بن الحارث بن المطلب فقتلاه جميعا(1).

وهند هذه،أمر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)يوم فتح مكة بقتلها فأسلمت،ولما حضرت مع الساء لتبايع بيعة الإسلام،كان مما قال له رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):ولا تقتلن أولادك، فقالت:ربيناهم یا محمد صغارة وقتلتهم كبارة.وهي أم معاوية بن أبي سفيان الذي قاتل علي بن أبي طالب (علیه السلام)،وأخذ الخلافة من الحسن بن علي (علیه السلام)،واستلحق زیاد بن شمية من زنية،واستخلف على الأمة ابنه يزيد القرود،ويزيد الفجور.

5.الوليد بن عتبة بن ربيعة:وقيل ببدر كافرة،قتله علي بن أبي طالب (علیه السلام)،والوليد هذا هو خال معاوية.

6.شيبة بن ربيعة بن عبد شمس:عم هند،أم معاوية،وكان يجتمع مع قريش فيما

يكي رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) من الأذي،وقتله اللّٰه يوم بدر فيمن قتلوا من أعدائه.

ص: 55


1- وأبو سفيان هو الذي قاد قريشا في حروبها إلى رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)، وهورئيس بني عبد شمس بعد قتل عتبة بن ربيعة ببدر، أبو سفيان - في بدر - صاحب العير، وعتبة صاحب الفير... أبو سفيان صاحب العير لأنه هو الذي قدم بالعير التي رام رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) وأصحابه أن يعترضوها، وكانت قادمة من الشام إلى مكة تحمل العطر والبر... وكانت وقعة بدر العظمى لأجلها، وكان رئيس الجيش النافر الحمايتها عتبة بن ربيعة بن عبد شمس جد معاوية لأمه.... (راجع ابن أبي الحديد، شرح النهج، ج1، ص 199 - 200)... إذن جد معاوية لأمه هو رئیس بني عبد شمس، ومن بعده أبوه أبو سفيان.

7.أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية:قائد الأحزاب الذي قاتل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)يوم أحد،وقتل من خيار الصحابة سبعين،منهم أسد اللّٰه حمزة بن عبد المطلب.وقاتل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)

في يوم الخندق(1) .

طريقة إسلام أبي سفيان

يقول المقريزي:«ولم يزل يحادد اللّٰه ورسوله حتى سار رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) لفتح مكة،فأتي به العباس بن عبد المطلب رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وقد أردفه،وذلك أنه كان صديقه في الجاهلية،فلما دخل على رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)سأله أن يؤمنه.

فلما رآه رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)قال له:ويلك يا أبا سفيان،ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا اللّٰه تعالی؟

فقال:بأبي أنت وأمي،ما أوصلك وأحلمك وأكرمك،واللّٰه لقد ظننت أنه لو كان مع اللّٰه غيره لقد أغنى عني شيئا.

فقال (صلی اللّه علیه واله):يا أبا سفيان،ألم يأن لك أن تعلم أني رسول اللّٰه تعالی؟فقال:بأبي أنت،ما أوصلك وأحلمك وأكرمك،أما هذه ففي النفس منها شيء!

فقال له العباس:ويلك اشهد بشهادة الحق قبل أن تضرب عنقك،فشهد واستم.

فهذا حديث إسلامه كما ترى.

واختلف في سن إسلامي،فقيل أنه شهد حنينا مع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وكانت الأزلام معه يستقسم بها(الأزلام جمع زلم،وهو سهم لا ریش له كان يستخدم لمعرفة ما قسم للشخص،وقد حرم اللّٰه تعالى الاستقسام بها)،وكان كهفة للمنافقين،وأنه كان في الجاهلية زنديقاً.

وفي خبر عبد اللّٰه بن الزبير،أنه رآه يوم اليرموك،قال:«فكانت الروم إذا ظهرت (=أي مالت كفة المعركة لصالح الروم)قال أبو سفيان:إيه بني الأصفر،فإن كشفهم المسلمون(=أي مالت كفة المعركة لصالح المسلمين)قال أبو سفيان:وبنو الأصفر الملوك ملوك الروم لم يبق منهم مذكور،فحدث به ابن الزبير أباه،فلما فتح اللّٰه على المسلمين،فقال الزبير:قاتله اللّٰه يابي إلا نفاقة، أولسنا خيرة له من بني الأصفر»(2) .

ص: 56


1- المقريزي،النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم،ص43-52
2- المصدر السابق،ص53-54

موقف أبي سفيان لحظة وصول عثمان إلى الشلطة

وروي عن الحسن أن أبا سفيان دخل على عثمان حين صارت الخلافة إليه، فقال:قد صارت إليك بعد تیم وغدي،فأدرها كالكرة،وفي رواية،فتزفوها تزف الكرة(=تلقفوها)،واجعل أوتادها بني أمية،فإنما هو الملك،وما أدري ما جنة ولا نار،فصاح به عثمان:قم فعل اللّٰه بك وفعل.وأبو سفيان هذا هو أبو معاوية، ولم يزل بعد إسلامه يعد هو وابنه معاوية من المؤلفة قلوبهم(1) .

أقول:بهذه الكلمة التي قالها أبو سفيان،يكون أبو سفيان هو أول من أوحى لبني أمية بفكرة توارث الشلطة،وحصرها في بني أمية،وهي الفكرة التي حاول معاوية بعد ذلك فرضها على واقع المسلمين،من خلال توريث الشلطة-لأول مرة في تاريخ المسلمين-لابنه يزيد،وهو انقلاب بني أمية الكبير على قريش والمسلمين عموما،وهو ما سيؤدي بالنتيجة إلى حدوث واقعة كربلاء(2) .

8.معاوية بن المغيرة بن العاص بن أمية:وهو الذي جدع أنف حمزة،ومئل به فيمن مثل،فلما انهزم يوم أحد دخل على عثماني بن عفان ليجيره،وكان رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم

ص: 57


1- المقريزي النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم،ص56
2- هنا ثمة سؤال قد يطرح: إن كان بنو أمية كما وصفنا، وكان أبو سفيان على هذا النحو من العتو والطغيان، فكيف يتزوج الرسول (صلی اللّه علیه واله) من ابنته رملة (= أم المؤمنين أم حبيبة)؟ الجواب : أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان، يبدو أنها أيضا من الحالاتالاستثنائية من بني أمية، أمها صفية (وليست هندة، فهي أخت معاوية - الذي كان يفخر بأنه خال المؤمنين - ولكن من أم أخرى)، أسلمت قبل الهجرة (وليس بعد فتح مكة كما فعل أبو سفيان وابنه معاوية)، وكانت زوجة عبيد اللّه بن جحش الذي أسلم وهاجر إلى الحبشة، فهاجرت معه، لكنه تنصر في الحبشة، فانفصلت عنه، وعلم رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) بثباتها على الإسلام، وأنها باقية هناك بلا معيل، وإذا رجعت إلى أبيها في مكة وأصرت على الإسلام فلا بد أن تتعرض لأشد أنواع المصاعب والبلاءات من أبيها، فوكل خالد بن سعيد بن العاص (ابن أبي أحيحة) ليزوجها له سنة 6هج، فتزوجها (صلی اللّه علیه واله) ، ويقال أن النجاشي هو الذي تكفل بدفع مهرها. وعندما أوقعت قریش بخزاعة ونقضت عهد رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)، خاف ابو سفيان فجاء إلى المدينة ليجدد العهد، فدخل على أم حبيبة، فلم تتركه يجلس على فراش رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)، وقالت: أنت مشرك. وثمة نصة تنقل عن أم حبيبة قد تعطي انطباعة سلبية عنها، لا أريد الآن أن أصدر أحكامة، لكن في حدود المعلومات المتوافرة لدي يمكن القول إن أم حبيبة لم يكن لها مواقف سلبية كبيرة وأخطاء قاتلة، مقارنة بغيرها، فالتواریخ - في حدود اطلاعي - لم تذكر لنا مثلا أنها اصطفت مع أخيها معاوية في صفين، أو أنها استقوت به بعد أن قویت شوكته، أو أنها خرجت من بيتها لأي حرب من الحروب.

قد أمر بطلبه،فأخرج من دار عثمان،وأتي به رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)فوهبه لعثمان وأقسم (صلی اللّه علیه واله)لئن وجده بعد ثلاث بالمدينة وما حولها ليقتلن،فجهه عثمان،وسار في اليوم الرابع،فقال رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):إن معاوية أصبح قريبا لم ينفذ فاطلبوه واقتلوه،فأصابوه،فأخذه زید بن حارثة وعمار بن یاسر فقتلاه،وقيل بل قتله على (علیه السلام).

ومعاوية هذا أبو عائشة،أم عبد الملك بن مروان بن الحكم،الذي سيصبح خليفة على المسلمين،فعبد الملك بن مروان أعرق الناس في الكفر،لأن أحد أبويو هو الحكم بن أبي العاص،لعيث رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وطريده،والآخر معاوية بن المغيرة(1) .

9.حمالة الحطب أم جميل بنت حرب بن أمية:كانت تحمل الشوك فتطرحه على

طريق رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،ولم تزل على شفيرها حتى هلكت(2) .وهي كما أشرنا سابقا، أخت أبي سفيان،وعمة معاوية.

ثم يقول المقريزي بعد ذكر السيرة الذاتية لأبرز شخصيات بني أمية:«وما أحد من هؤلاء الذين تقدم ذكرهم إلا وقد بذل جهده في عداوة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وبالغ في أذى من اتبعه وآمن به ونالوا(يعني المسلمين منهم من الشتم وأنواع العذاب،حتى فرژوا منهم مهاجرين إلى بلاد الحبشة،ثم إلى المدينة،وأغلقت أبوابهم بمكة،فباع أبو سفيان بن حرب دورهم وقضى من ثمنها دينا عليه،وهموا بقتل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)غير مرة،وتناظروا في أمره ليخرجوه من مكة أو يقيدوه ويحبسوه حتى يهلك أو يندبوا لقتله من كل قبيلة رجلا حتى يتفرق دمه بين القبائل،وبالغ كل أحد منهم في ذلك بنفسه وماله وأهله وعشيرته،ونصب لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) الحبائل بكل طريق سرا وجهرة ليقتله....كل ذلك حسدة منهم لرسول اللّٰه وبغية،ويأبى اللّٰه إلا تأیید رسوله (صلی اللّه علیه واله) وإعلاء كلمته حتى صدق اللّٰه وعده،ونصر عبده،وأعز جنده،وهزم الأحزاب وحده،وظهر أمر اللّٰه وهم كارهون.........واللّٰه در القائل:

عبد شمس قد أضرمت لبني ها

شم حربا يشيب منها الوليد

فاب حرب للمصطفى واب هند

لعلي وللحسبني يزيد»(3)

ص: 58


1- المقريزي،النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم،ص56- 57
2- المصدر السابق،ص57
3- المصدر السابق،ص58- 59

بنو عبد شمس وبنو نوفل لا يستحقون الخمس

ثم يتحدث المقريزي عن إبعاد رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)بني أمية عنه،وإخراجهم من ذوي قرباه،ويروي عن صحيح البخاري وغيره أكثر من رواية،تؤكد أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) عندما أراد تقسيم الخمس،أعطى لبني المطلب وبني هاشم،ولم يقسم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل.

ويروى عنه (صلی اللّه علیه واله) قوله:إنا(بنو هاشم وبنو المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام، وإنما نحن وهم شيء واحد،وشبك بين أصابعه.وفي رواية أخرى:إنا وهم لم نزل في الجاهلية والإسلام شيئا واحدة،وكانوا معنا في الشعب(=شعب أبي طالب)كذا،وشبك بين أصابعه(1).

بين معركة بدر وواقعة كربلاء

هنا نستطيع أن نفهم العبارات وأبيات الشعر المنقولة عن یزید بن معاوية.يقول

المؤرخون وأصحاب المقاتل:عندما وصل موكب السبايا إلى الشام أنشا يزيد يقول:

لما بدت تلك المحمول واشرقت

تلك الرووس على شفا جيرون(2)

نعب (3)الغراب فقل:صح أو لا تصح

فقد قضي من الرسولي ديوني

ومن هنا حكم ابن الجوزي والقاضي أبو يعلى والتفتازاني والجلال الشيوطي بكفر

يزيد ولعنه.

وعندما وضع رأس الحسين (علیه السلام) الشريف أمام يزيد،جعل پنگت(=يضرب أو ينقر)ثغر(=أسنان)الحسين (علیه السلام) ويقول:يوم بيوم بدر.

وأنشد قول الحصين بن الحمام:

أبي قومنا أن ينصفونا فانصفت

قواضب في أيماننا نقط الأما

ص: 59


1- المقريزي، النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم، ص 60 - 62.
2- زنان قديم في دمشق يؤدي إلى الجامع الأموي وقصر يزيد من جهة الشرق.
3- صوت صياح الغراب. كان العرب يتشاءمون من نعيب الغراب، وعندما وصل موكب السبايا ورای يزيد الموكب، صودف ذلك - علىما ينقل - مع سماعه للغربان تنعب، ناراد يزيد أن يقول للغربان : لا تحاولي إثارة تشاؤمي بسبب قتلي للحسين (علیه السلام) لأني قضيت من رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) دیوني، وتشفيت منه.

صبرنا وكان الصبر منا عزيمة

وأسيافنا فطعن كفا ومعصماً

نفلق هامة من رجال أعزة

علينا وهم كانوا أعق وأظلما

فقال يحيى(أو عبد الرحمن)بن الحكم بن أبي العاص(أخو مروان)وكان جالسا عنده:

لهام بجنب الطف أدنی قرابة

من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل(1)

سمية أمسى نسلها عدد الحصى

وليس لآل المصطفى اليوم من نسل

فضربه يزيد على صدره وقال:اسكت لا أم لك.

ويقول المؤرخون إن يزيد عندما كان ينكت ثنايا الحسين (علیه السلام) بقضيبه،تمثل بابیات

ابن الزبعری.... لكن من هو ابن الزبعری؟

هو عبد اللّٰه بن الزبعري بن قيس بن عدي بن سعيد بن سهم،شاعر قريش في الجاهلية،كان شديدة على المسلمين،أنشد قصيدة طويلة بعد معركة أحد-بعدما تشفت قریش نسبية مما جرى لها في بدر-ورد عليه حسان بن ثابت بقصيدة.ونقل القصيدتان ابن هشام في سيرته،جاء فيها:

یا غراب(2) البين أسمعت فقل

إنما ننطق شيئا قد فعل

كم قتلنا من كریم سید

ماجد الجدین مقدام بطل

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جرع الخزرج من وقع الأسل(3)

وزاد یزید بن معاوية عليها:

الأهلوا واستهلوا فرحاً

ثم قالوا:بایزید لاتشل

لست من خندف(4)إن لم أنتقم

من بني أحمد ماكان فعل

ص: 60


1- الوغل:المدعي نسبة كاذبة
2- لأنه ينقل أن الغربان بدأت تنعق عندما وصلت رؤوس الشهداء، وصوت الغراب إشارة على التشاؤم آنذاك.
3- ابن هشام،السيرة النبوية،ج3،ص126- 127،انظر أيضا:ابن إسحاق،السيرة النبوية، ص342.أنظر أيضا:ابن إسحاق،السيرة النبوية،ص360- 361
4- خندف امرأة إلياس بن مضر بن نزار،واسمها ليلی،سب ولد إلياس إليها،وهي أمهم. والخندفة: الهرولة والإسراع في المشي،وربما عنى يزيد بذلك إسراعه في حسم موضوع الحسين (علیه السلام)،لأنهما معا من قريش،وقريش تنتهي إلى مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار،واللّٰه أعلم

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

قد أخذنا من علي ثأرنا

وقتلنا الفارس اللب البطل

وقتلنا القرم من ساداتهم

وعدلناه ببدر فاعتدل(1)

وابن اعثم في الفتوح والخوارزمي في مقتل الحسين (علیه السلام) وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق وابن أبي الحديد المعتزلي وابن عبد ربه في العقد الفريد...كلهم ذكروا تمثل يزيد الأبيات ابن الزبعری.

وردت عليه زینب في خطبتها فكان مما قالت:....ثم تقول غير متائم ولا مستعظم:

لأهلوا واستهلوا فرحاً

ثم قالوا یا یزید لاتشل

... أتهتف بأشياخك؟زعمت تناديهم،فلتردن وشیكا موردهم،ولتون أنك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت...

الخلاصة:تحدثنا عن معركة بدر،وكيف تفجرت كراهية قريش تجاه بني هاشم،وتجاه رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) وعلي (علیه السلام) وحمزة على وجه التحديد،وكيف نشأت عقدة نفسية عند قریش عموما،وأبي سفيان على وجه الخصوص،تجاه رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وعلي (علیه السلام) وحمزة،كما استعرضنا أهم شخصيات بني أمية ودورها المعادي للإسلام،ثم ربطنا أخيرة بين معركة بدر وواقعة كربلاء.

في الفصل القادم،سوف نتناول أحداث ما بعد معركة بدر،ومحاولة قريش تصفية

حسابها مع بني هاشم.

ص: 61


1- الخوارزمی،مقتل الحسین،ج2،ص65- 66.وتذكر بعض المصادر أن يزيد تمثل مرة أخرى بهذه الأبيات بعد واقعة الحرة واستباحة المدينة ثلاثة أيام وتشفيه من الأنصار،وخصوصا الخزرج!!

(3)ما بعد معركة بدر حتى غدير خم

تحدثنا في الفصل السابق عن معركة بدر، وقلنا بان هذه المعركة كانت حاسمة في تاريخ المسلمين،وأنها ولدت عقدة داخل نفوس القرشيين عموما،وداخل نفوس بني أمية خصوصة،تجاه رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وتجاه علي (علیه السلام) وتجاه حمزة.وأن قريشا كانت تتحين الفرصة لتأخذ بثارها وتمسح العار الذي لحق بها،جراء مقتل أكثر من من ساداتها،وأسر (70)آخرين،في مقابل(14)شهيدا من المسلمين.

تهييج الناس على الإمام علي (علیه السلام)

معركة بدر التي أبلى فيها الإمام علي (علیه السلام) بلاء حسناً،وفعل مع عمير حمزة بقريش الأفاعيل،كان يفترض أن تبقى نقطة قوة له في سجله، ونقطةبيضاء ناصعة ومضيئة في سيرته،لكن بعضهم كان يحاول أن يحسن صورته الاجتماعية على حساب الإمام علي (علیه السلام)...كان يحاول أن يتقرب بعد فتح مكة إلى قريش على أساس أنه لم يفعل بهم ما فعل الإمام علي (علیه السلام) بهم،ولم يتورط في سفك دمائهم كما فعل الإمام علي (علیه السلام)،مستفيدة لتعزيز موقعه الاجتماعي من الحقد والغل المختزن في قلوب قریش تجاه الإمام علي (علیه السلام).

ينقل الشيخ المفيد،والواقدي وابن هشام بألفاظ قريبة،واللفظ للأول،أن عثمان بن عفان مر بسعيد بن العاص فقال:انطلق بنا إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب نتحدث عنده،فانطلقا،قال:فأما عثمان نصار إلى مجلسه الذي يشتهيه،وأما أنا فمل في ناحية القوم.

فنظر إلي عمر وقال:ما لی أراك كأن فی نفسك علیّ شیئا؟!أتظن أنی قتلت أباك؟!

و اللّه لوددت أنی كنت قاتله،و لو قتلته لم أعتذر من قتل كافر،لكنی مررت به یوم بدر،فرأیته یبحث للقتال كما یبحث الثور بقرنه،و إذا شدقاه(=الشدق جانب الفم مما تحت الخد)قد أزبدا كالوزغ،فلما رأیت ذلك هبته و زغت عنه.فقال:إلی أین یا ابن الخطاب؟! و صمد له علی فتناوله،فو اللّه ما رمت مكانی حتی قتله.

ص: 62

قال:وكان علي (علیه السلام) حاضراً في المجلس،فقال:اللّٰهم غفرة،ذهب الشرك بما فيه،ومحا الإسلام ما تقدم،فما لك تهيج الناس؟

فكف عمر

قال سعيد:أما إنه ما كان يشرني أن يكون قاتل ابي غير ابن عمه علي بن أبي طالب(1) .

وفي رواية يرويها الصدوق عن علي بن الحسن بن فضال،عن أبيه،عن أبي الحسن (علیه السلام)،قال:سألته عن أمير المؤمنین (علیه السلام)،كيف مال الناس عنه إلى غيره،وقد عرفوا فضله وسابقته ومكانه من رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)؟فقال (علیه السلام):إنما مالوا عنه إلى غيره-وقد عرفوا فضله-لأنه قد كان قتل من آبائهم وأجدادهم وإخوانهم وأعمامهم وأخوالهم وأقربائهم المحادين اللّٰه ولرسوله عددا كثيرة، وكان حقهم عليه لذلك في قلوبهم،فلم يحبوا أن يتولى عليهم،ولم يكن في قلوبهم على غيره مثل ذلك،لأنه لم يكن له في الجهاد بين يدي رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)مثل ما كان له،فلذلك عدلوا عنه ومالوا إلى سواه»(2) .

ما بعد بدر

على أي حال،سمى اللّٰه سبحانه وتعالى يوم بدر با«یوم الفرقان»،وبلغ من اعتزاز المسلمين بانتصارهم في بدر أن سموا كل من شهدها من المسلمين«بدرياً»،وكانوا يعتزون بهذه التسمية ويفخرون.وأجواء هذا الانتصار هيأت الظروف ليواجهوا بعد ذلك قسما من يهود المدينة(بنو قینقاع في2هج)،الذين شعروا بالقلق من تعاظم قوة المسلمين(3) .

معركة أحد(3هج)

في(3هج)اجتمع حول أبي سفيان بن حرب ثلاثة آلاف من قريش،فخرج بهم بریڈ

ص: 63


1- المفید، الارشاد،تحقيق مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث،ط1، 1416هج-1995م،بیروت،ج1،ص75- 76.نقل الواقدي ذلك في المغازي بالفاظ قريبة،أنظر:الواقدي،المغازي،ج1،ص92،كما نقل ابن هشام ذلك في السيرة النبوية بألفاظ قريبة،أنظر:ابن هشام،السيرة النبوية، ج2،ص252.والواقدي في نهاية سرده لهذا الحوار بين عمر وسعید،ذكر أن عمر قال:قريش أعظم الناس أحلام،وأعظمها أمانة،لا يبغيهم أحد الغوائل،إلا كبه اللّٰه لفيه!!أقول:لا أدري من المقصود بهذا الكلام؟ومن الذي يبغي نريشة الغوائل؟علي (علیه السلام)؟أم الخزرج؟أم الأنصار؟ام كل من قاتل قريشأ في بدر واحد من المسلمين وقتل منهم؟!
2- المجلسي،بحار الأنوار،مؤسسة الوفاء،ط2،1403 هج-1983م،بیروت،ج29،ص280- 281،رقم2،عن علل الشرائع وعيون أخبار الرضا (علیه السلام) للصدوق
3- فيما يتعلق بامر بني قينقاع،راجع:ابن هشام،السيرة النبوية،ج 3،ص42- 45

المدينة،لتدرك ثأرها لقتلى بدر،واصطحب معه القيان(جمع قينة=المغنية) ومعهم المعازف والخمر.فلما سمع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)بهم،استشار المسلمين بشان الخروج المواجهة قريش أو البقاء في المدينة والدفاع عنها،فأشار عبد اللّٰه بن أبي بن سلول بالبقاء فيها،وأل بعض الصحابة على الخروج لمواجهة قريش،فدخل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بيته ولبس الأمة الحرب،وخرج ومعه المسلمون.وفي الطريق انسحب عبد اللّٰهبن أبي مع ثلث جیش المسلمين،وواصل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) طریقه مع من بقي معه باتجاه جبل أحد(1) .

ووصل المشركون،وبدأت المعركة،وكان على رأس المشركين أبو سفيان، وعلى الخيل خالد بن الوليد،وكانت هند بنت عتبة في السوة اللاتي معها، أخذ بضرب الدفوف خلف الرجال،يحضنهم ويذگرنهم قتلى بدر.

ولما رأى المسلمون تقهقر المشركين،أهمل الرماة وصية رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) إياهم بالثبات في مواقعهم،وأخذوا يجمعون الغنائم،فانتهز خالد الفرصة،والتف على المسلمين،فاختل نظامهم.في هذه اللحظة تخاذل المسلمون واستولى اليأس على قلوب فريق منهم،باستثناء قلة قليلة،كالإمام علي (علیه السلام) وحمزة وأبي دجانة وسهل بن حنیف وعاصم بن ثابت،وفر الباقون من أرض المعركة(2) ، حتى فكر بعضهم في الارتداد عن

ص: 64


1- ابن هشام،السيرة النبوية،ج3،ص55- 59. راجع أيضاً:الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحیحین،ج2،كتاب قسم الفيء،ح2588،ص164
2- ينقل ابن هشام في سيرته أن أنس بن النضر-عم أنس بن مالك-انتهى إلى عمر بن الخطاب،وطلحة بن عبيد اللّٰه،في رجال من المهاجرين والأنصار،وقد ألقوا بأيديهم،فقال:ما يجلشم؟ فقالوا:قتل رسول اللّٰه،قال:فماذا تصنعون بالحياة بعده؟نمونوا على ما مات عليه رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،ثم استقبل القوم،فقاتل حتى قتل.أنظر:ابن هشام،السيرة النبوية،ج3،ص76،أنظر أيضا:الواقدی،المغازي،ج1،ص280.في المقابل،ينقل ابن هشام:نادى مناد يوم أحد«لا سيف إلا ذو الفقار،لا فتى الا علي.أنظر: ابن هشام،السيرة النبوية،ج3،ص92.وينقل الواقدي عن خالد بن الوليد يحدث وهو بالشام يقول:الحمد لله الذي هداني للإسلام،لقد رأيتني ورایت عمر بن الخطاب رحمة اللّه حين جالوا وانهزموايوم أحد،وما معه أحد،وإني لفي كتيبة خشناء،فما عرفه منهم أحد غيري،فنكبت عنه وخشيث إن أغريت به من معي أن يصمدوا له،فنظرت إليه موجهة إلى الشعب.انظر:الواقدی، المغازي،ج1،ص237.ويذكر الواقدي أسماء سبعة من المهاجرين وسبعة من الأنصار ثبتوا مع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) في أحد،ليس فيهم عمر بن الخطاب،ولا عثمان بن عفان.أنظر الواقدی،المغازی،ج1،ص240.ويذكر الواقدي أسماء من فر من المعركة،فيقول دوكان ممن ولى فلان»،ثم يذكر المحقق في الهامش أن ثمة نسخة أخرى لمغازي الواقدي فيها اسم اعمر وعثمان»،أنظر:الواقدی، المغازي،ص277.وينقل الواقدي في المغازي عدة روايات تؤكد فرار عثمان بن عفان يوم أحد.أنظر:الواقدی،المغازي،ج1،ص278- 279

الاسلام فقال:ليت لنا رسولا إلى عبد اللّٰه بن أبي فيأخذ لنا أمانة من أبي سفيان(1) . ويصف القرآن هذا الحال في قوله تعالى:«وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ »(=تخمدون حتهم في بداية المعركة)حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ(=أمر الرسول في الثبات في المواقع)مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ(=ووكلكم إلى أنفسكم)لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)«إِذْ تُصْعِدُونَ(تبعدون في الأرض هاربين)ولا تلون(=تلتفتون)على أحد والرسوك يدعوكم في أخراكم(=يناديكم من ورائكم)فأثابكم غم بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم(=من الغنائم)ولا ما أصابكم(=من الجراحات و وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)»َلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ(=هل لنا من النصر الموعود نصیب بعد هذه الهزيمة؟)قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ(=من الشك) مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا (=لو كان لنا من النصر نصيب كما وعدنا ما قتل أصحابنا بهذا النحو!)قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)»«إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا(=من حب الدنيا وغيرها من الذنوب) وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)»(2) .

مع هروب عدد كبير من المسلمين من أرض المعركة،انتشر خبر مقتل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وكانت هذه الشائعة سببا لنجاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)من أيدي المشركين، لأن قریش ظنت أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)

قد قتل(3) ،وانتهى أمر الإسلام.وعندما ظهر لقريش أن الأمر ليس على ما يظون،وعلم المسلمون بأن قريش تستعد الحرب جديدة،وجدوا أن قسمة ثانية من يهود المدينة(بنو النضير)بات يضعضع الجبهة الداخلية عندما تأمروا لقتل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،فتم التخلص

من هذا القسم سنة(4هج).

ص: 65


1- السيرة الحلبية،ج2،ص227
2- سورة آل عمران،الآيات:152- 155
3- اعتمادا على إخبار ابن قميئة الليثي،أنظر:ابن إسحاق،السيرة النبوية، ص337.وانسحبت قريش لأنها اكتفت بتحقيق هذا النصر،الذي قد يتحول إلى هزيمة،لأنه بلغهم أن ناسا من الأوس والخزرج قد تخلفوا،وقد يكرون عليهم،وفيهم جراح،وخيلهم عامتها قد غفرت من النبل. أنظر شرح عمرو بن العاص لأسباب انسحابهم:الواقدی،المغازي،ج1،ص229

لكن قبل أن نترك معركة أحد،أرى من المفيد الالتفات إلى النقاط التالية:

1-نتيجة معركة أحد وإن شفت نسبية الحقد والغضب المختزن في قلوب القرشيين،إلا أنها فتحت جروحة جديدة،ورشحت أحقادة تركزت هذه المرة على الإمام علي (علیه السلام).أولا:لكونه أبلى بلاء حسناً ولم يفر من أرض المعركة قط،وظل يواصل القتال حتى اللحظة الأخيرة.وثانيا:لأن النصيب الأكبر من قتلى كفار قريش في أحد كان على يد الإمام علي (علیه السلام)

أيضا،فإن كان عدد من قتل من قريش في أحد22قتيلا-كما ينقل ابن هشام في سيرته(1) -وقتلى الإمام علي (علیه السلام) وحده6،فهذا يعني أن علياً (علیه السلام) قتل وحده ما نسبته27%من مجموع قتلی قریش،وهي نسبة وإن لم تصل إلى

نسبة قتلى بدر،لكنها نسبة عالية على أي حال.وثالثا:لأن قتلى الإمام علي (علیه السلام) يعتبرون من أبطال قريش،ويكفي أن نعرف أن من بين قتلاه في أحد طلحة بن أبي طلحة،صاحب لواء المشركين،وكبش الكتيبة الذي رآه رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في رؤيا قبيل المعركة(راجع الملحق رقم2)

2-هذا الحقد المتراكم في قلوب القرشيين تجاه الإمام علي (علیه السلام)،ابتداء من مبيت لي على فراش رسول اللّٰه ليلة الهجرة والتسبب-في نظرهم-في نجاة رسول اللّٰه،مرورا بالصاعقة التي وقعت على رؤوسهم في معركة بدر،وانتهاء الآن بمجريات معركة أحد...كله سيلقي بظلاله على واقعة كربلاء،وكأن قريش كانت تنتظر لحظة تاريخية لكي صقي حسابها-وبشكل نهائي-مع الإمام علي (علیه السلام)،فكانت واقعة كربلاء

3-بعد معركة أحد،بدأت قريش بالتشقي شعرة من المسلمين،فكان منها تلك الأبيات

التي أنشدها عبد اللّٰه بن الزبعری بن قيس بن عدي بن سعيد بن سهم، والتي جاء فيها:

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جرع الخزرج من وقع الأسل(2)).

وسنرى بعد كربلاء،أن يزيد تمثل الأبيات نفسها،ثم زاد عليها:

الأهلوا واستهلوا فرحا

ثم قالوا:یا یزید لاتشل(3)

وهذا شاهد إضافي على أن فاجعة كربلاء هي امتداد لمعركتي بدر وأحد.

ص: 66


1- أنظر:ابن هشام،السيرة النبوية،ج3،ص90- 91
2- ابن هشام،السيرة النبوية،ج3،ص126-127،أنظر أيضا:ابن إسحاق،السيرة النبوية،ص361 -362
3- الخوارزمي،مقتل الحسین،ج2،ص65- 66

4-ابتدعت قریش قبيل وبعید معركة أحد شئة جديدة لم تكن مألوفة،وهي التفكير الجاد في نبش القبور والتعرض للحرم،والتمثيل الفعلي باجساد القتلى.وكان لهند بنت عتبة(أم معاوية وجدة يزيد)النصيب الأكبر في هذه الشنة القبيحة،التي سوف تتكرر من جديد في كربلاء .

يذكر الواقدي في مغازيه:«وكانت قريش لما مرت بالأبواء(في طريقها إلى أحد)قالت:إنكم خرجتم بالعن معكم،ونحن نخاف على نسائنا،فتعالوا ننبش قبر أم محمد،فإن النساء عورة...واستشار أبو سفيان أهل الرأي من قريش فقالوا:لا تذكر من هذا شيئا،فلو فعلنا نبشت بنو بكر وخزاعة موتانا»(1) .

ويذكر ابن هشام في سيرته:«ووقعت هند بنت عتبة والنسوة اللاتي معها، يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،يجدعن الأذان والأنف،حتى اخذت هند من آذان الرجال وأنفهم خدمة وقلائد،وأعطت خدمها وقلائدها وقرطها وحشية،وبقرت كبد حمزة، فلاكتها،فلم تستطع أن تسيغها،فلفظتها(2) .

.......وجاء أبو سفيان،وضرب في شدة حمزة بن عبد المطلب بزج الرمح، وهو يقول:ق محقق(=یا عاق).ثم إن أبا سفيان حين أراد الانصراف،أشرف على الجبل،ثم صرخ بأعلى صوته:إن الحرب سجال،يوم بيوم بدر»(3) .

الواقدي في مغازيه:«وكانت هند أول من مئل بأصحاب النبي (صلی اللّه علیه واله)،وأمرت النساء بالمثل-جدع الأنوف والآذان-فلم تبق امرأة إلا عليها معضدان ومسكتان وخدمتان،ومثل بهم كلهم إلا حنظلة»(4) .

ويروي الواقدي ما فعلت هند بكبد حمزة فيقول:«فمضغتها ولفظتها...قطعت مذاكيره،وجدعت أنفه،وقطعت أذنيه،ثم جعلت مسكتين ومعضدین وخدمتين، حتى قدمت بذلك مكة،وقمت بكبيره معها»(5) .

ص: 67


1- الواقدی،المغازي،ج1،206
2- ابن هشام،السيرة النبوية،ج3،ص83–84
3- ابن هشام،السيرة النبوية،ج3،ص85–86
4- الواقدي،المغازي،ج1،ص 274
5- الواقدي،المغازي،ج1،ص286. أنظر أيضا:ابن إسحاق،السيرة النبوية،ص342.وللتعرف أكثر على دور حمزة في أحد وشدة تأثر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)عند شهادته،راجع:الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين،ج2،كتاب الجهاد،ح2548،ص149،ح2557،ص152- 153،ح2558،ص153

هذه الصورة البشعة،ستتكرر عندما يأمر عبيد اللّٰه بن زياد(المنسوب إلى أبي سفيان)بأن ينتدب من يطأ بفرسه صدر الحسين (علیه السلام)،ويقطع رؤوس الشهداء،ويتعرض للحرم الحسين (علیه السلام).

ولادة الإمام الحسين (علیه السلام) (4هج)

في هذه السنة بالتحديد(4هج)ولد الإمام الحسين (علیه السلام)،وتواتر الحديث المروي عن الإمام علي (علیه السلام) وأم سلمة وزينب بنت جحش وعائشة وأم الفضل بنت الحارث وابن عباس وأنس بن مالك وأبي الطفيل ومعاذ بن جبل وأنس بن الحارث وجابر بن عبد اللّٰه الأنصاري-مع فروق طفيفة-بأن بعضهم دخل منفردة على رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)فرأى عينيه تفيضان،فسأله:يا نبي اللّٰه أغضبك أحد ما شان عينيك تفيضان؟قال:قام من عندي جبرئیل قبل فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات،فقال:هل لك إلى أن أم من تربته؟قلت:نعم،فمد يده فقبضقبضة من تراب فأعطانيها فلم أملك عيني أن فاضتا(1) .

وتواثر هذا الحديث يدل على أنه كان من الشائع عن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) أن الإمام

الحسين سيقتل شهيدة وأن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)لعن قاتليه.

المنافقون يهيجون الفتنة

وفي هذه المرحلة وقعت غزوة بني المصطلق(أو المريسيع)(2) ،وبرز جلية دور المنافقين-وبالتحديد عبد اللّٰه بن أبي بن سلول-في تأجيج الفتنة بين المهاجرين والأنصار،بعدما وقع نزاع بين رجل من الأنصار وآخر من المهاجرين، فنادى الأول:يا معشر الأنصار، ونادى الثاني:یا معشر المهاجرين.

فاستغل عبد اللّٰه بن أبي هذه الحادثة فورة،وحوض الأنصار على المهاجرين، قائلا:أوقد فعلوها؟نافرونا وكاثرونا في بلادنا،واللّٰه ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل:سمن

ص: 68


1- وقد روی عدد كبير من محدثي أهل الشنة،بأسانيد صحيحة،حوادث متعددة(وليس حادثة واحدة فقط)تتحدث عن بكاء رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)على الحسين (علیه السلام) إلى درجة أن بعض متشدديهم المتأخرين اعترف بصحة بعضها،كالألباني مثلا.وروى هذه الحوادث الحاكم في مستدركه على الصحيحين،والإمام أحمد بن حنبل في مسنده،وابن عساكر وابن سعد والطبراني والدارقطني وغيرهم.راجع في هذا الشأن:عبد الحسين الأميني، سيرتنا وسنتنا،مؤسسة البلاغ،بیروت،ط2،2006،أيضا راجع:أحمد الماحوزي، بكاء الرسول على الحسين (علیه السلام)،مكتبة الحسينية الجديدة،الكويت، 2005
2- منطفة بجنوب المدينة

كلبك يأكلك.هذا ما فعلتم بأنفسكم،أحللتموهم بلادكم،وقاسمتوهم أموالكم، ووقتموهم بأنفسكم،وأبرزتم تحوركم للقتل،نارمل(محمد)نساءكم وأيتم صبيانكم.....أما واللّٰه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأع منها الأذل.(ونزلت سورة المنافقون لتسجل هذه الحادثة المهمة(1) .

لاحظ هنا أن هذا المنافق جعل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وكأنه زعيم المهاجرين،ليتزعم بدوره هو الأنصار!مستفيداً من التوجس الذي كان يراود الأنصار دائما من أن المهاجرين سينقلبون عليهم يوما ما،ولن يقدروا لهم تضحياتهم.فرغم وجود تناقض داخلي بين الأوس والخزرج،لكن ما يجمعهم أمام المهاجرين العدنانيين القرشيين،أنهم من قحطان (رغم أن المهاجرين ليسوا كلهم من قریش العدنانية).

معركة الأحزاب(5هج)

بعد أن اتضح لقريش أن جذور الإسلام ما زالت باقية،وعادت لتنمو من جديد، لم بات عام(5هج)إلا وكانت على أهبة الاستعداد لحرب جديدة،بالتنسيق هذه المرة مع غطفان وأعراب كنانة وتهامة،وبالتنسيق أيضا مع القسم الثالث من يهود المدينة(بنو قريظة)الذين نقضوا عهدهم مع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).فقاد أبو سفيان الحرب الثالثة على المسلمين التي شميت ب«معركة الأحزاب» (=أو الخندق)(2) ،وكان عدد جيشه يربو على عشرة آلاف مقاتل(3) ،وهو عدد هائل لم تشهده الجزيرة من قبل.

ونريد هنا التركيز على ضربة الإمام علي (علیه السلام) يوم الخندق لعمرو بن عبدودالعامري،الذي كان يعد بألف فارس،والذي كان قد جرح في بدر وحرم على نفسه الدهن حتى يثار من محمد (صلی اللّه علیه واله)وأصحابه....هذه الضربة زادت من عقدة قريش وحقدها على الإمام علي (علیه السلام)،وخصوصا عندما نتذكر مجريات التحدي، عندما قال للمسلمين:«هل من مبارز؟......إنكم تزعمون أن قتلاگم في الجنة وقتلانا في النار،أفما يحب أحدكم أن يقدم على الجنة أو يقدم عدوة له إلى النار؟،وكيف أن المسلمين أحجموا عن مبارزته باستثناء الإمام علي (علیه السلام) الذي تصدى له وقضى عليه. (4)

ص: 69


1- أنظر:الواقدي،المغازي،ج1،ص415-416،أيضا ابن إسحاق،السيرة النبوية،ص439-440.لاحظ أ عبد اللّٰه بن أبي من الخزرج
2- ابن إسحاق،السيرة النبوية،ص393
3- ابن إسحاق،السيرة النبوية،ص 397. (4) لمعرفة تفاصيل الحادثة،أنظر:ابن هشام،السيرة النبوية،ج3،ص 204،والواقدي،المغاز
4- لمعرفة تفاصيل الحادثة، أنظر : ابن هشام، السيرة النبوية، ج 3، ص 204، والواقدي، المغازي، ج 1، ص 470 - 471، وفيه أن عمرو بن عبدود حينما صاح بالمسلمين قال لعلي لي : «فأنت غلام حدث، إنما أردت شيخي قريش؟ أبا بكر وعمره.وأنظر أيضا الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج3، كتاب المغازي والسرايا، ح 4329، ص 41 - 41، أيضا ابن إسحاق، السيرة النبوية، ص 401، والبيهقي، السنن الكبری، ج 9، ص 132، ويروي الحلبي في سيرته أن رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)قال في ذلك: قتل عمرو بن عبدود أفضل من عبادة الثقلين، وروى غيره أن رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)؛ قال في ذلك: لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبدود أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة. أنظر : الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحیحین، ج 3، كتاب المغازي والسرايا ، ح4327، ص 41، والرازي، التفسير الكبير، ج12، ص 31.

وانتهت المعركة دون أن تجني قريش شيئا،وذلك بعد أن طال أمد الحصار ونقصت المؤونة،وساءت الأحوال الجوية فاشتد الريح والبرد،وبدأت تصدر أوامر متناقضة من قادة الأحزاب،فدب الخلاف بينهم،وانفرط عقد التحالف.وأعطت هذه المعركة مبررة كافية للمسلمين لوضع حد لوجود بني قريظة في المدينة فأجلوهم عنها،وبذا خلت المدينة من اليهود،ولم يتبق إلافلول لهم في أطرافها،بالخصوص في خيبر.وما جاء عام(7هج)إلا وقد تخلص المسلمون من وجودهم أيضا في المناطق المحيطة بالمدينة.

يقول تعالى:«إِذْ جَاءُوكُمْ»(=الأحزاب وعلى رأسهم قريش)«مِنْ فَوْقِكُمْ»(=شمال المدينة،ربما إلى الشمال الغربي أقرب)«وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ» (=يهود بني قريظة جنوب المدينة،وربما إلى الجنوب الشرقي أقرب)«وَإِذْ زَاغَتِ» (=مالت)«الْأَبْصَارُ»(رعبا)وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ(فزعاً)وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (= بأن الإسلام سيمحق والجاهلية ستعود)،«هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)»

«وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)»(=كذباً وخداعاً بأن المسلمين سيفتحون مدائن كسرى وقيصر، ونحن لا نأمن أن نذهب إلى الخلاء)....«وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)»

«مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ »

4(كحمزة بن عبد المطلب)« وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ »(كعلي (علیه السلام))وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ....«وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا)(=لم يحققوا الحد الأدنى من النصر على الرسول والمؤمنین) وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ(=بالريح والملائكة وعلي (علیه السلام) عندما قتل عمرو بن عبدود) وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ(=عاونوا الأحزاب) مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)(=يعني بالتحديد يهود بني قريظة) مِنْ صَيَاصِيهِمْ(=حصونهم المنيعة)وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26)»(الأحزاب،10-26).

ص: 70

صلح الحديبية(6هج)

على أي حال،قبل أن يتخلص المسلمون من فلول اليهود في خيبر،كان رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)

قد عزم في عام(6هج)على العمرة،في ألف وأربعمائة من المسلمين،وقف القرشيون في طريقه على مقربة من مكة يمنعونه من دخولها،فأرسل (صلی اللّه علیه واله) عثمان بن عفان كوسيط بينه وبين قریش،فحجزت قريش عثمانة،وشاع بين المسلمين أنه قتل،عندئذ تأهب رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)للقتال،فبايعه المسلمون تحت الشجرة(بيعة الرضوان)،فارتاعت قریش،وأرسلت الوسطاء لمفاوضة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وانتهى الأمر بما يعرف ب«صلح الحديبية»(6هج)(1) .

فتح مكة(8هج)والطلقاء

كان هذا الصلح نصراً للمسلمين،حيث دخلت قبائل كثيرة في الجزيرة في الإسلام،وظل أهل مكة والطائف على حال الشرك،وأدركت قريش أ أمر الإسلام ظاهر لا محالة،لذلك أسرع عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وغيرهما،للدخول في الإسلام(2) .

وعندما نقضت قريش الصلح عام(8هج)(3) ،عقد رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)و العزم على دخول مكة في عشرة آلاف من المسلمين(4) ،ولما علمت قريش بذلك خرجت خاضعة،وكان في مقدمهم أبو سفيان،الذي أعلن إسلامه ووط في ذلك العباس(عم رسول اللّٰه)،فقال (صلی اللّه علیه واله) له:يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود اللّٰه فيراها.ومرت جنود اللّٰه والعباس يعرف الكتائب التي تمر وأبو سفيان أخذته الدهشة حتى قال:واللّٰه يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيمة،فأجابه العباس:يا أبا سفيان إنها النبوة(5) .

ص: 71


1- ابن هشام،السيرة النبوية،ج3،ص282-297
2- للتعرف على دور تغير موازين القوى في دخول عمرو وخالد في الإسلام،يشرح ذلك كل من عمرو وخالد،كما يروي الواقدي في المغازي،ج2،بشأن عمرو741-742،وبشأن خالد ص746-747،أيضا:ابن إسحاق،السيرة النبوية،ص432-434
3- لأنه نتيجة لمعركة مؤتة(8هج)بین المسلمين والروم تصؤرت قريش أن المسلمين قدضعفت قوتهم،وأنه لم يعد بمقدورهم حماية حلفائهم،فنقضوا الصلح، واعتدوا على خزاعة،التي كانت قد دخلت في عهد رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،فقتلوا منهم عشرين رجلا،فاشتكت خزاعة لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،فقال (صلی اللّه علیه واله): لا صر إن لم أنصر خزاعة فيما أنتصر منه لنفسي
4- ابن إسحاق،السيرة النبوية،ص537
5- ابن هشام،السيرة النبوية،ج4، ص38-39،ابن إسحاق،السيرة النبوية،ص525

ودخل (صلی اللّه علیه واله)وخاطبهم قائلا:يا معشر قريش ما تظنون الي فاعل بكم؟قالوا:أخ

كریم وابن أخ كريم،قال (صلی اللّه علیه واله):اذهبوا فأنُتُم الطُلقاء(1) .

وبعث رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)فيما حول مكة الشرايا تدعو إلى اللّٰه عز وجل،ولم يأمرهم بقتال،وكان ممن بعث خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي،فوطئ بني جذيمة،فلما رآه القوم أخذوا السلاح،فقال خالد:ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا.فقال رجل منهم: ويلكم يا بني جذيمة إنه خالد واللّٰه!إنه خالد واللّٰه!ما بعد وضع السلاح إلا الإسار،وما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق...

وهذا ما وقع بالفعل،فبعدما وضع القوم الشلاح لقول خالد،گفوا ثم قتلهم بالسيف،فلما انتهى الخبر إلى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) رفع يديه إلى السماء ثم قال: اللّٰهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد.ثم دعا (علیه السلام) علیاً (علیه السلام)،فأرسله إلى من تبقى منهم،فودی(=أعطى الدية)لهم الدماء وما أصيب لهم من الأموال،حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلا وداه،بقيت معه بقية من المال،فقال لهم علي (علیه السلام) حين فرغ

ص: 72


1- ابن هشام،السيرة النبوية،ج4،ص26-47،ويتحدث ابن هشام عن حالة الاضطراب الشديد التي سادت أبا سفيان عند فتح مكة،حتى دخل على علي (علیه السلام) وعنده فاطمة (علیها السلام) بنت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وعندها حسن بن علي (علیه السلام)،غلام يدب بين يديها،فقال:يا علي،إنك أمس القوم بي رحمة،وإني قد جئ في حاجة،فلا أرجع كما جئت خائبة،فاشفع لي إلى رسول اللّٰه(وفي مصادر أخرى:محمد،وهو الأرجح)،فقال:ويحك يا أبا سفيانا واللّٰه لقد عزم رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه،فالتفت إلى فاطمة فقال:يا ابنة محمد،هل لك أن تأمري بنيك هذا(يعني الحسن) نيجير بين الناس،فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟قالت:واللّٰه ما بلغ بني ذاك أن يجير بين الناس،وما يجير أحد على رسول اللّٰه،قال:يا أبا الحسن، إني أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني....إلى آخر القصة ذات الدلالة، ص32.أيضا أنظر:الواقدی،المغازی،ج2،ص792-795،وفي فتح مكة عموما أنظر ص780-835،ايضا ابن إسحاق، السيرة النبوية،ص518،أيضا531.كما وقعت بعيد فتح مكة حادثة ذات دلالة،يرري الحاكم:لما افتتح رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) مكة،أتاه نام من قريش،فقالوا:ما محمد،إنا حلفاؤك وقومك،وإنه لحق بك ارقاؤنا،ليس لهم رغبة في الإسلام،وإنما فروا من العمل،فارددهم علينا. فشاور ابا بكر في أمرهم،فقال:صدقوا یا رسول اللّٰه.فقال لعمر:ما ترى؟فقال مثل قول أبي بكر،فقال رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):يا معشر قريش،ليبعث اللّٰه عليكم رجلا منكم امتحن اللّٰه قلبه للإيمان،فيضرب رقابكم على الدين.فقال أبو بكر:أنا هو یا رسول اللّٰه؟قال:لا،قال عمر:أنا هو یا رسول اللّٰه؟قال:لا،ولكنه خاصف النعل في المسجد.وقد كان القي نعله إلى علي يخصفها،ثم قال:أما أني سمعته يقول:لا تكذبوا علية،فإنه من يكذب عليا بلج النار.راجع:الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين،كتاب قسم الفيء،ح2614،ص173-174

منهم:هل بقي لكم بقية من دم أو مال لم يرد لكم.قالوا:لا،قال:فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال احتياطا لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) مما يعلم ولا تعلمون، ففعل(1) .

وهناك حادثة مهمة ذات دلالة،تحكي عن نظرة القرشيين العدنانيين الأحرار الذين

تأخر إسلامهم،إلى الموالي والمستضعفين القحطانيين من صحابة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).

تنقل مصادر متعددة-وبتفاوت في بعض التفاصيل-أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بعث خالد ابن الوليد على سرية،ومعه في السرية عمار بن ياسر،قال:فخرجوا حتى أتوا قريبة من القوم الذين يريدون أن يصبحوهم،نزلوا في بعض الليل،قال: وجاء القوم النذير،فهربوا حيث بلغوا،فأقام رجل منهم كان قد أسلم هو وأهل بيته،فأمر أهله فيحملوا،وقال:قفوا حتى آتيكم.ثم جاء حتى دخل على عمار، فقال:يا أبا اليقظان،إني قد أسلم وأهل بيتي،فهل ذلك نافعي إن أنا أقمت، فإن قومي قد هربوا حيث سمعوا بكم؟

فقال له عمار:فأقم فأنت آمن.

فانصرف الرجل هو وأهله.

فصبح خالد القوم،فوجدهم قد ذهبوا،فأخذ الرجل هو وأهله،فقال له عمار: أن

الا سبيل لك على الرجل قد أسلم.

قال(خالد):وما أنت وذاك،أتجير علئ وأنا الأمير؟

قال(عمار):نعم أجير عليك وأنت الأمير،إن الرجل قد آمن،ولو شاء لذهب كما

ذهب أصحابه،فأمره بالمقام الإسلامه.

فتنازعا في ذلك،حتى تشاتما.

فلما قدما المدينة،اجتمعا عند رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)(إلى أن قال)فتشاتما عند رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله).

فقال خالد:یا رسول اللّٰه أيشتمني هذا العبد عندك،أما واللّٰه لولاك ما شتمني.

في بعض المصادر أن عمارة لما رأى رسول اللّٰه لا ينصره ولی وعيناه تدمعان).

ص: 73


1- ابن هشام،السيرة النبوية،ج4،ص61-63،والواقدي،المغازي،ج2،ص 875-881،وابن إسحاق،في السيرة النبوية،ص541-543.وروي ذلك البخاري في صحيحه في كتاب بدء الخلق،باب بعث النبي (علیه السلام) خالد بن الوليد إلى بني جذيمة،وفي كتاب الأحكام،باب إذا قضى الحاكم بجور

قال (صلی اللّه علیه واله):كف يا خالد عن عمار،فإين من يبغض عمارة يبغضه اللّٰه ع وجل،ومن

يلعن عماراً يلعنه اللّٰه عزوجل...(1) .

غزوة حنين(8 هج)وحساسية الأنصار

في العام نفسه،خرج رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) لمواجهة جموع هوازن(التي كانت منتشرة في نجد)وجموع ثقيف(التي كانت تسكن الطائف)في غزوة حنين،وانتصر المسلمون بعد أن كادوا يخسرون المعركة حينما أعجبتهم كثرتهم،يقول تعالى:«لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ »(2)،حيث قال أبو بكر:لا تغلب اليوم من قلة(3) ،وفر المسلمون قبل أن ينتصروا ولم يبق معه (صلی اللّه علیه واله) عدد محدود جدا!

ووقعت حوادث ذات دلالة عند توزيع الغنائم،حيث تدافعوا على رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) يلمحون عليه أن يقسم الغنائم حتى ألجأوه إلى شجرة وأخذوا رداءه،وبدأ رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)بإعطاء المؤلفة قلوبهم من الطلقاء،كأبي سفيان وابنه معاوية(4)، فثار بعضهم وطالبوه بأن يعدل في القسمة!وخشي الأنصار من أن ينساهم رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)من العطايا،بعد أن لقي قومه،وأن يستقر في مكة.

فطب رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) خواطر الأنصار وسألهم قائلا:يا معشر الأنصار،مقالة بلغتني عنكم،وجدة(=عتاب)وجدتموها علي في أنفسكم؟ألم آتكم ضلالا فهداكم اللّٰه؟ وعالة(=فقراء)فأغنام اللّٰه؟وأعداء فألف بين قلوبكم؟

قالوا:بلى،اللّٰه ورسوله أمن وأفضل.

ص: 74


1- المتقي الهندي،كنز العمال، مطبعة دار المعارف النظامية،حیدر آباد دكن،1312،ج1،ص242، أيضاج7،ص73.وقريب منه مسند أحمد بن حنبل،ج4،ص89،والحاكمفي المستدرك على الصحيحين.ونقل الواقدي أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)قال:مه یا خالد!لا تقع بابي اليقظان،فإن من يعادير يعادي اللّٰه،ومن يبغضه يبغضه اللّٰه،ومن يسفهه يسفهه اللّٰه.أنظر:الواقدي،المغازي،ج2،ص881 -882
2- سورة التوبة،الآيتان:25-26
3- الواقدی،المغازي،ج2،ص890
4- ابن هشام،السيرة النبوية،ج4،ص115،وابن إسحاق،السيرة النبوية،ص584

فقال (صلی اللّه علیه واله)لهم:ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟قالوا:بماذا نجيبك يا رسول اللّٰه؟لله ولرسوله المن والفضل.

فقال (صلی اللّه علیه واله):أما واللّٰه لو لقلتم ،فلصدقتم ولصدقتم،أتيتنا مكذبا فصدقناك،ومخذولا فنصرناك،وطريدا فآويناك،وعائلا فآسيناك(=أعطيناك)،أوجدم یا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة(=بقلة خضراء ناعمة)من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا،ووكلتكم إلى إسلامكم؟ألا ترضون يا معشر الأنصار،أن يذهب الناس بالشاة والبعير،وترجعوا برسول اللّٰه إلى رحالكم؟فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكن امرءة من الأنصار،ولو سلك الناس شعبة وسلي الأنصار شعبا،لسلك شعب الأنصار.

اللّٰهم ارحم الأنصار،وأبناء الأنصار،وأبناء أبناء الأنصار.

قال:فبكى القوم حتى اخضلت لحاهم،وقالوا:رضينا برسول اللّٰه قسمة وحظا.

ونزلت سورة الفتح:«إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2)»،وسمي عام(9هج)بعام الوفود،لأن عددا كبيرا من القبائل العربية

أرسلوا إلى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وفودة تعلن إسلامها،ولم يأت عام(10هج)حتى كانت بلاد

العرب جميعة خاضعة له (صلی اللّه علیه واله).

مشكلة بنيوية خطيرة

المشكلة البنيوية الخطيرة التي واجهها الإسلام بعد فتح مكة والطائف،أن من دخل في الإسلام دخل-على الأغلب-لا عن قناعة وإيمان،بل لأن الإسلام كان قد أصبح أمرة واقعة.دخل الكثيرون في الإسلام حتى يحافظوا على دمائهم وأموالهم وأهليهم....ربما هذه كانت ضريبة مقبولة بالنسبة إلى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) في مقابل القضاء النهائي على الوثنية وعبادة الأصنام في الجزيرة العربية.

طبعا هذا لا يعني أن الإسلام جاء للقضاء على الوثنية وعبادة الأصنام فقط، بل أعني أن الانجاز العاجل هو القضاء على الوثنية وعبادة الأصنام وإبقاء الإسلام الظاهري المنزل بين يدي البشرية،والانجاز الآجل والمستمر عبر الأجيال،والذي سيعمل علي (علیه السلام)في حروبه والحسن (علیه السلام) في صلجه والحسين (علیه السلام)في شهادته،على ترسيخه والحفاظ

ص: 75

عليه، هو إبقاء الإسلام الحقيقي بتأويله الصحيح،نقية متاحة لكل من يريد التعرف على الدين الحق حتى قيام الساعة.

نعم لقد تم القضاء على عبادة الأصنام قضاء نهائية،لكن من دخل في الإسلام كان حديث عهد به،كان في باطنه راسخة في الكفر والجاهلية... فكانت زيادة في الكم على حساب الكيف(1) !

والنتيجة هي ازدياد تأثير المنافقين والطلقاء في الرأي العام في المجتمع الإسلامي،

لأنهم صاروا جزءا من هذا المجتمع.

وهذا ما بدا جليا عندما تجهر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)للخروج في غزوة تبوك(9هج)،فقد تحدث القرآن بالتفصيل في سورة التوبة عن تثاقل الكثيرين عن الجهاد،بسبب الذكريات المؤلمة التي واجهوها مع الروم في غزوة مؤتة،فبرر بعضهم تثاقله بعد المسافة وشدة الحر،وكان للمنافقين تأثير كبير في نشر الخوف والرعب بين المسلمين حتى لا يلتحقوا بجيش رسول اللّٰه،وفي ذلك يقول تعالى:«وَفِيكُمْ سَمَّعُونَ لَهُمْ»(2) (أي فيكم من يتأثر ويستمع إلى وسوسة المنافقين).

واضطر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) أن يستبقي الإمام علياً (علیه السلام) في المدينة،لكي يسيطر ليهاويضبطها،بعد أن كادت تخرج عن السيطرة بسبب قوة تأثير المنافقين والطلقاء(3) .

لحسن الحظ،كانت نتيجة المعركة أن تقهقر جيش الروم عندما وجد أمامه ثلاثين ألف مقاتل جاؤوا رغم الحر وبعد المسافة،فما كان من المنافقين إلا أن دبروا محاولة اغتيال لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في طريق عودي؛من تبوك.وعندما وصل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) إلى

ص: 76


1- روى الحاكم عن عبد الرحمن بن عوف قال:افتتح رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) مكة،ثم انصرف إلى الطائف، نحصرهم ثمانية أو سبعة،ثم أوغل غدوة أو روحة،ثم نزل،ثم هجر،ثم قال:«أيها الناس،إني فرط،وإني أوصيكم بعترتي خيرة،موعدكم الحوض،والذي نفسي بيده،لتقيمن الصلاة ولتؤتن الزكاة،أو لأبعث عليكم رجلا مني،أو كنفسي،فليضرب أعناق مقاتليكم،وليسبين ذراريهم.قال:فرأى الناس أنه يعني أبا بكر أو عمر،فأخذ بيد علي،فقال:هذا.راجع:الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحیحین،ج2،ح2559،ص153-154
2- سورة التوبة،الآية:47
3- وأثار المنافقون تساؤلات عن سبب إبقاء رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) علياً (علیه السلام) في المدينة،وأنه خلفه مع النساء والصبيان،وأرادوا بذلك إحراج علي (علیه السلام)،فلحق (علیه السلام) برسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وأظهر له استعداده للقتال بين يديه والسير معه في تبوك،وتساءل:یا رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)خلفتني مع النساء والصبيان؟عندها قال له رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي

المدينة قام بهدم مسجد ضرار وإحراقه،وأرسل (علیه السلام) علياً إلى مكة ليتلو البيان الإلهي بالبراءة من المشركين،والذي كان من بين بنودو أن لا يحج بعد هذا العام مشرك(1).

إعلان البراءة(9 هج)

روى الشيوطي في تفسيره الدر المنثور-وروى غيره من المفسرين والمؤرخین وأصحاب السير مع بعض الفروق-أنه لما نزلت الآيات الأولى من سورة التوبة(=براءة)،دفعها رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)إلى أبي بكر وأمره أن يخرج إلى مكة ويقرأها على الناس بمنی یوم النحر،فلما خرج أبو بكر نزل جبرئیل على رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،فقال:يا محمد لا يؤدي عنك إلا رجل منك.فبعث رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)علية (علیه السلام) في طلب أبي بكر،فلحقه بالروحاء،وأخذ منه الآيات، فرجع أبو بكر إلى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)فقال:يا رسول اللّٰه أنزل اللّٰه في شيئا؟فقال (صلی اللّه علیه واله):لا إن اللّٰه أمرني أن لا يؤدي عني إلا أنها أو رجل مني.فلما قدم علي (علیه السلام) مكة خطب الناس واختر سيفه وقال:لا يطوف بالبيت عريان ولا عريانة(2)،ولا يحجن بالبيت مشرك بعد هذا العام،ومن كانت له ممدة فهو إلى مدته،ومن لم یكن له مدة فمه أربعة أشهر تبدأ من يوم الإبلاغ في العاشر من ذي الحجة فمحرم وصفر وربيع الأول وعشرة أيام من ربيع الآخر(3).

إن إبلاغ الإمام علي (علیه السلام) براءة اللّٰه ورسوله من مشركي قريش وجزيرة العرب، وبسورة لا تبدأ ب«البسملة»،وبلغة شديدة اللّٰهجة،قرية الحزم والشدة،تعني أن عليا (علیه السلام)-صار في نظر قریش والعرب الناطق الرسمي باسم اللّٰه ورسوله (صلی اللّه علیه واله)،وحربة حقيقية،وطرفا رئيسيا في تطهير مكة من بقايا الوثنية والشرك.وأضيف هذا الموقف الجديد إلى مواقفه السابقة التي لم تنها قريش في بدر وأحد والأحزاب، وهو ما كان كفيلا بأن يجعل قريشا تغلي من الداخل كالمرجل،ولكن المشكلة بالنسبة إليها أنه ليس

ص: 77


1- أنظر بدايات سورة التوبة .
2- روي في تفسير القمي عن أبي عبد اللّه جعفر الصادق (علیه السلام) أنهم كانوا في الجاهلية إذا طافوا بثيابهم، كانوا يرون أنه لا يحل لهم مسها، فكانوا يتصدقون بها ولا يلبسونها بعد الطواف. فكان من لديه ثوب واحد فقط، يضطر للطواف عريانة، رجالا ونساء.
3- أنظر أيضا بشأن دفع إعلان البراءة لعلي (علیه السلام) بعد أخذها من أبي بكر، ابن هشام، السيرة النبوية، ج4، ص 161، الواقدي، المغازی، ج 2، ص 1077، ايضا رواية لابن عمر، الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج3، ح 4373، ح 4374، ص 62 - 63.

في وسعها فعل شيء مع تغير موازين القوى لصالح رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)...وتصؤرلنا بعض آیات سورة التوبة حالة الاحتقان هذه،حيث يقول تعالى:

«فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ...«كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا »(=يراعوا أو يحفظوا فِيكُمْ إِلًّا(=قرابة أو حلفا)وَلَا ذِمَّةً(=عهدة أو حقا)يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ...«وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)»(1).

الجدير بالذكر أن في هذه المرحلة،أعني ما بعد إعلان البراءة من المشركين وقبل حجة الوداع،قدم الأشعث بن قيس مع وفد كندة على رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) ليعلنوا إسلامهم(2).كما بعث رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)علية (علیه السلام) إلى اليمن، وفي سفرو هذا دخل كعب الأحبار-كما يزعم-في الإسلام،إلا أنه لم يقدم على رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،بل بقي في اليمن حتى خلافة عمر بن الخطاب(3).

وأرجو من القارئ أن يتذكر هذين الاسمين:«الأشعث بن قیس»،الذي سيرتد بعد

وفاة رسول اللّٰه؟ويؤسر ثم يتم عليه أبو بكر ويزوجه أخته فروة ثم يندم على فراش الموت أنه لم يقتله،ثم سيصبح من الشخصيات المؤثرة جدا في جيش الإمام علي علي في صفين،وله دور أساسي في تحريض الجيش على وقف الحرب،وسيكون لابنته جعدة وابنه محمد-على الترتيب-دور أساسي في سم الحسن علي وشهادة الحسين غالي.و«كعب الأحبار»، الذي سيكون له دور كبير في نشر ما يعرف ب«الإسرائيليات»،أي الأخبار المأخوذة من التوراة،كما سيتهمه بعض الباحثين-من خلال قرائن معينة- بالتورط في قتل عمر بن الخطاب،مع المغيرة بن شعبة وأبي لؤلؤة..

ص: 78


1- سورة التوبة، الآيات: 5- 13، وينقل الواحدي في أسباب النزول عن ابن عباس في قوله تعالی : « فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ» قوله : نزلت في أبي سفيان بن حرب و.... . وسائر رؤساء قريش الذين نقضوا العهد، وهم الذين هموا بإخراج الرسول (صلی اللّه علیه واله). أنظر : أبو الحسن الواحدي النيسابوري، أسباب النزول، المكتبة العصرية، 1425هج - 2004م، صيدا - بیروت، ص 128.
2- ابن هشام، السيرة النبوية، ج4، ص 199.
3- الواقدی، المغازي، ج 2، ص 1082 - 1083.

حجة الوداع

في عام(10ج)خرج رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) قال في أكثر من مائة ألف من المسلمين لحجة

الوداع!وأقفل الإمام علي (صلی اللّه علیه واله) راجعة من اليمن،ليلتحق برسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في مكة(1)

وخطب (صلی اللّه علیه واله)في عرفة أو يوم النحر خطبة خالدة قال فيها:

أيها الناس اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي في موقفي هذا،أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلا بحقها.....أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه،ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم،فاحذروه علی دینكم...اللّٰهم اشهد، فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض،فإني قد ترك فیكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب اللّٰه وعترتي أهل بيتي(2)،ألا هل بلغت؟اللّٰهم اشهد».

ص: 79


1- وجاء من كان مع علي (علیه السلام) ليشتكيه عند رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) فقام رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) خطيبة فقال: أيها الناس، لا تشكوا علية، فواللّه إنه لأخشن في ذات اللّه، أو في سبيل اللّه ، من أن يشكی. انظر: ابن هشام، السيرة النبوية، ج 4، ص 217، وابن إسحاق، السيرة النبوية، ص 669، وروى الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحیحین، ج 3، كتاب معرفة الصحابة، من مناقب علي بن أبي طالب، ح4578، ص 134، عن بريدة الأسلمي قال: غزوت مع علي إلى اليمن، فرأيت منه جفوة، فقدم على رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)، فذكرت علية ، فتنقصته، فرأيت وجه رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) يتغير، فقال: يا بريدة ، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى يا رسول اللّه ، فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه. راجع أيضا المستدرك، ج2، كتاب قسم الفيء، ح 2589، ص 164 - 165. أقول: يبدو أن هذه الحقيقة التي ذكرها رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) لبريدة قبيل واقعة الغدير، كانت بمثابة نجوى لبريدة واصحابه ممن كانوا مع علي (علیه السلام) وجاؤوا يشكونه، ولم يصرح بها رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) أمام الملا، إلا عندما نزلت الآية :«يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ » وتكفل سبحانه بحمايته بقوله:« وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ » . أيضا يروي الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحیحین، ج 3، كتاب معرفة الصحابة، من مناقب علي بن أبي طالب، (4579)، ص134، عن عمران بن حصين، يقول: .... فلما قدمت السرية ، سلموا على رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)فقام أحد الأربعة، فقال : يا رسول اللّه ألم تر أن علية صنع كذا وكذا ، فأعرض عنه، ثم قام الثاني فقال مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم قام الثالث فقال مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم قام الرابع،فقال: يا رسول اللّه، ألم تر أن علية صنع كذا وكذا، فأقبل عليه رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) والغضب في وجهه فقال: ما تريدون من علي، إن عليا مني وأنا منه، وولي كل مؤمن.
2- في السيرة النبوية لابن هشام: كتاب اللّه وسنة نبيه، ج4، ص218، وكذا في السيرة النبوية لابن إسحاق، ص 670، لكن في المغازي للواقدي : قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به : كتاب اللّه تعالی! ج 2، ص 1103، أيضأ ص 1113، ولا أدري أين ذهبت السنة؟ ربما لموافقة الواقدي أو الراوي لوجهة نظر عمر بن الخطاب الذي اكتفى بكتاب اللّه عن التمشك بأهل البيت (علیهم السلام) أو حتى سنة رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) !! ولكن ستعرف بعد قليل، عندما نصل إلى حادثة الغدير، أن الثقلين و هما كتاب اللّه تعالى وعترة رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)من أهل بيته

وروى كثير من المحدثين والمؤرخين وأصحاب السير-بل تواتر بينهم-أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)خطب الناس يوم النحر، فقال:يا أيها الناس،أي يوم هذا؟قالو:هذا يوم حرام،قال:فأي بلد هذا؟قالوا:بلد حرام،قال:فأي شهر هذا؟قالوا:شهر حرام، قال:فإن دماءكم وأموالكم وأعراضگم عليكم حرام،كرمة يومكم هذا،في بلگم هذا،في شهركم هذا.(يقول الراوي)فأعادها مرارة،ثم رفع رأسه فقال:اللّٰهم هل بلغت؟اللّٰهم هل بلغت؟

يقول رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) ذلك،وهو يعلم بأن الحالة القبلية:حالة تعالي العرب على غير العرب،وتعالي عدنان على قحطان،وتعالی قریش على باقي العرب،حالة الاستهانة في إراقة الدماء والاستخفاف في استباحة الأموال هي حالة راسخة في حياة هذا المجتمع القبلي.ورأينا نموذجا من ذلك بعدفتح مكة،مع خالد بن الوليد وما فعل ببني جذيمة،لذا تجد رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) يركز في خطبة الوداع على محاربة هذه الحالات،ويؤكد على أن علاج بقايا الجاهلية،والضمان الحقيقي للاستقامة على الصراط المستقيم وعدم التيه والضياع يتلخص في التمشك بالقرآن وأهل البيت (علیهم السلام).لكن قسمة كبيرة ممن هم حديثو عهد بالإسلام عادوا-بعد التحاق رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)بالرفيق الأعلى-بالتدريج لتلك الممارسات،فاستباحوا أموال الناس،وسفكوا الدماء، واستضعفت قريش بني هاشم والأنصار وتركوا التمشك بالعترة الطاهرة.

يوم غدیرخم(1)

لما قضى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) مناسكه،وانصرف راجعة إلى المدينة،ومعه من كان من الجموع،وصل إلى غدیر خم من منطقة الجحفة،التي تتشب فيها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين،وذلك في يوم الثامن عشر من ذي الحجة، نزل إليه جبرئيل الأمين

ص: 80


1- الطريف أن أصحاب السير المعروفة كابن إسحاق وابن هشام والواقدي عندما ينتهون من حجة الوداع يقفزون مباشرة إلى ما بعد وصول رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) إلى المدينة، وكان شيئا في الطريق لم يحدث قط. بل بعضهم فشل الكلام في أحداث مجيئ رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)إلى حجة الوداع، وأحداث وقعت في طريق الذهاب، ثم قفز مباشرة، بعد الكلام عن حجة الوداع، إلى ما بعد عودته (صلی اللّه علیه واله)إلى المدينة ، دون أن يشير إلى أي حدث وقع في طريق العودة! لكن لحسن الحظ سنجد كما وفيرة من المفسرين والمؤرخين والمحدثين يرصدون لنا واقعة الغدير بالغة الأهمية .

عن اللّٰه تعالى بقوله:«يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ»،وأمره أن يقيم علياً (علیه السلام) علما للناس،ويبلغهم ما نزل فيه من الولاية وفرض الطاعة على كل أحد.

كان أوائل القوم قريبة من الجحفة،فأمر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)أن يرد من تقدم منهم، ويحبس من تأخر عنهم في ذلك المكان،ونهى عن ممرات(جمع«سمرة» ضرب من شجر اللح)خمس متقاربات دوحات(=جمع«دوحة»الشجرة العظيمة المتشعبة ذات الفروع الممتدة) عظام،أن لا ينزل تحته أحد،حتى إذا أخذ القوم منازلهم،فقم(=كنس)ما تحته،حتى إذا نودي بالصلاة صلاة الظهر،عمد إليه فصلي بالناس تحته،وكان يوما هاجرة(=شديد الحر)يضع الرجل بعض ردائه على رأسه وبعضه تحت قدميه من شدة الرمضاء،وظلل لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بثوب على شجرة مرة من الشمس،فلما انصرف؟من صلاته،قام خطيبة وسط القوم على أقتاب الإبل،وأسمع الجميع افعة عقيرته(=صوته)فقال:

الحمد لله، ونستعینه ونؤمن به ونتوكّل علیه ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا ومن سیّئات أعمالنا؛ الذی لا هادی لمن ضلّ ولا مُضلّ لمن هدی، وأشهد أن لا إله إلّا اللّه وأنّ محمداً عبده ورسوله.

أمّا بعد، أیّها الناس قد نبّأنی اللطیف الخبیر أنّه لم یُعمّر نبیٌّ إلّا مثل نصف عمر الذی قبله، وإنّی أُوشك أن أُدعی [فأُجیب]، وإنّی مسؤولٌ وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟

قالوا: نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجهدت، فجزاك اللّه خیراً.

قال: ألستم تشهدون أن لا إله إلّا اللّه، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وأنّ جنّته حقٌّ وناره حقٌّ وأنّ الموت حقٌّ وأنّ الساعه آتیهٌ لا ریبَ فیها، وأنّ اللّه یبعث مَن فی القبور؟

سورة المائدة ، الآية: 67. بشان نزول آية الإبلاغ في حادثة الغدیر، قال الواحدي : نزلت هذه الآية: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ » يوم غدیر خم في علي بن أبي طالب رضی اللّه عنه ، أنظر :

الواحدي، أسباب النزول، ص 107. وذكر ذلك الفخر الرازي في تفسيره الكبير، على أنه قول عاشر من أسباب نزول الآية، وذكر جلال الدين السيوطي في الدر المنثور : وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري : نزلت هذه الآية على رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله):«يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ » أن عليا مولى المؤمنين « وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ »، وذكر الشيخ محمد عبده في تفسيره المنار: روی ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري : أنها نزلت يوم غدیر خم في علي بن أبي طالب).

ص: 81

قالوا: بلی، نشهد بذلك.

قال: اللّهم اشهد.

ثُمّ قال: أیّها الناس ألا تسمعون؟ !

قالوا: نعم.

قال: فإنّی فرطٌ(=سابقكم) علی الحوض، وأنتم واردون عَلَیَّ الحوضَ، وإنّ عرضه (=عرض الحرض) ما بین صنعاء (=الیمن)وبُصری(=اطراف الشام)، فیه أقداحٌ عددَ النجوم من فضّهٍ، فانظروا كیف تُخلفونی فی الثِّقلین؟

فنادی منادٍ: وما الثِّقلان یا رسول اللّه؟

قال: الثِّقل الأكبر كتاب اللّه، طرفٌ بید اللّه عزَّ وجلَّ وطرفٌ بأیدیكم؛ فتمسّكوا به لا تضلّوا، والآخر الأصغر عترتی، وإنّ اللطیف الخبیر نبّأنی أنّهما لن یتفرّقا حتّی یردا عَلَیَّ الحوضَ، فسألتُ ذلك لهما ربّی، فلا تَقَدَّموهما فتهلكوا، ولا تُقَصِّروا عنهما فتهلكوا.

أذكّركم اللّه فی أهل بیتی، أذكّركم اللّه فی أهل بیتی، أذكّركم اللّه فی أهل بیتی(1).

ثُمّ أخذ بید علیٍّ فرفعها - حتّی رؤی بیاض آباطهما، وعرفه القوم أجمعون - فقال: أیّها الناس، مَن أولی الناس بالمؤمنین من أنفسهم؟

قالوا: اللّه ورسوله أعلم.

قال: إنّ اللّه مولای، وأنا مولی المؤمنین، وأنا أولی بهم من أنفسهم؛ فمن كنتُ مولاه فعلیٌّ مولاه - (یقولها ثلاث مرّاتٍ - وفی لفظ الإمام أحمد الحنابله: أربع مرّاتٍ)

اللّهم والِ من والاهُ، وعادِ من عاداهُ، وأحبَّ من أحبَّهُ وابغض من أبغضهُ وانصر من نصرهُ

ص: 82


1- بشأن حديث الثقلين كتاب اللّه و عترة رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)، راجع: صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل علي بن أبي طالب، (36) عن زيد بن أرقم الذي يقول: «قام رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) يوما فينا خطيبة، بماء يدعی خما بين مكة والمدينة ... إلخ». أيضأ صحيح الترمذي، في كتاب المناقب عن رسول اللّه ، مناقب أهل بيت النبي (صلی اللّه علیه واله) ، لكن يفهم من رواية جابر بن عبداللّه أن حديث الثقلين قبل في خطبة يوم عرفة، وهناك رواية أخرى في الموضع نفسه عن زيد بن أرقم. الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحیحین، ج 3، كتاب معرفة الصحابة ، من مناقب أهل رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) ، ح 4711، ص 182، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه. مسند أحمد بن حنبل، ج3، ص14، 17، 26، 59، ج4، ص371، ج 5، ص 181. الطبراني، المعجم الكبير، تحقیق حمديعبد المجيد السلفي، ط2، ج5، ح 4980، ص 169 - 170، أيضا ح4922، ص 154. أيضا : الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة، مكتبة المعارف، الرياض، مج4، ح 1761، ص 355 ، قال: قلت: لكن الحديث صحيح، فإن له شاهدة من حديث زيد بن أرقم.

واخذُل من خذلهُ وأدِر الحقَّ معه حیثُ دارَ. ألا فلیُبلّغ الشاهدُ الغائبَ.

ثُمّ لم یتفرّقوا حتّی نزل أمین وحی اللّه بقوله: « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا»(1)فقال رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله) : اللّه أكبر علی إكمال الدین وإتمام النعمه ورِضی الربّ برسالتی، والولایه لعلیٍّ من بعده.

ثُمّ طفق القوم یُهنّؤون أمیرالمؤمنین (صلی اللّه علیه واله)، وممّن هنّأه فی مقدّم الصحابه، الشیخان أبو بكر وعمر، كلٌّ یقول: بخٍّ بخٍّ لك یا بن أبی طالب، أصبحت وأمسیت مولای ومولی كلِّ مؤمنٍ ومؤمنهٍ(2).

وقال ابن عبّاس: وجبت واللّه فی أعناق القوم.

فقال حسّان: ائذن لی یا رسول اللّه أن أقول فی علیٍّ أبیاتاً تسمعهن.

ص: 83


1- سورة المائدة، الآية: 3. بشأن نزول آية إكمال الدين في حادثة الغدیر، راجع: جلال الدين السيوطي، الدر المنثور، قال: أخرج ابن مردويه وابن عساكر بسند ضعيف عن أبي سعيد الخدري قال : لما نصب رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)علیاً يوم غدیر خم، فنادى له بالولاية، هبط جبرئيل عليه بهذه الآية، وأخرج ابن مردويه والخطيب وابن عساكر بسند ضعيف (والأميني يؤكد أن رجال الحديث كلهم ثقات) عن أبي هريرة قال: لما كان غدیر خم، وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، قال النبي (صلی اللّه علیه واله): من كنت مولاه فعلي مولاه، فأنزل اللّه واليوم أكملت لكم دینكم» (راجع: الأميني، الغدیر، ج1، ص 231، أيضا ص236)، وروى عنه في الإتقان، دار إحياء العلوم، مراجعة مصطفی القصاص، بیروت، ج 1، ص 54 - 55. وهناك إصرار من مفسري أهل السنة على أن الآية نزلت يوم عرفة من حجة الوداع وأنه لم ينزل بعدها أي حكم شرعي من حلال أو حرام، أقول : إن كان رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)قد حج حجة واحدة، وهي حجة الوداع، وكان نزول الآية في يوم عرفة، فهذا يعني أنه لم يستكمل بعد بيان بقية أجزاء وواجبات الحج، وكيفية الإتيان بها، فكيف يقال أن الدين اكتمل بيوم عرفة في حجة الوداع مع أن بقية أجزاء وواجبات الحج لم تبين بعد؟
2- بشأن التهنئة، راجع: مسند أحمد بن حنبل، ج4، ص 281، أبو إسحاقالثعلبي، تفسير الكشف والبيان، في تفسير الآية. وللتفصيل بشأن حادثة غدیر خم عموما، راجع: ابن عساكر، تاریخ مدينة دمشق، ترجمة الإمام علي بن أبي طالب، تحقیق محمد باقر المحمودي، دار التعارف، بیروت، ط1، 1975، ج2، ص35 - 90. أيضا : الأميني، الغدير ، دار الكتب الإسلامية، طهران، ج 1.

فقال (صلی اللّه علیه واله):قل على بركة اللّٰه .

فسرد الأبيات التي مطلعها:

يناديهم يوم الغدير نبيّهم

بخمّ فأسمع بالرسول مناديا

فقال فمن مولاكم ووليّكم

فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت نبيّنا

ولم تلق منّا في الولاية عاصيا

فقال له قم يا علي فإنّني

رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليّه

فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك دعا اللّهمّ وال وليّه

وكن للّذي عادا عليّاً معاديا

الخلاصة:تحدثنا عن استفادة بعضهم من الحقد المختزن بداخل قريش تجاه الإمام علي (علیه السلام) لترسيخ موقعه وتضعيف مكانة الإمام علي (علیه السلام)،ورأينا أن معركة أحد كان مخططاً لها أن تتكفل بتصفية حساب قریش مع المسلمين عموما، ومع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وعلي (علیه السلام) وحمزة على وجه الخصوص، إلا أنها لم تنجح إلا في تصفية حمزة فقط،وبالتالي لم تشف معركة أحد غليل قریش تماما.في هذه الأثناء ولد الحسين (علیه السلام) واستأنفت قریش حروبها، فحبت الأحزاب،لكن معركة الأحزاب لم تحقق شيئا إلا المزيد من الاذلال لقريش، عندما نجح الإمام علي (علیه السلام) في قتل عمرو بن عبدود،وعاد المشركون من المدينة يجرون أذيال الخيبة.تحدثنا أيضا عن محاولات منافقي المدينة تأجيج الخلاف بين المهاجرين(وأغلبهم من قریش العدنانية والأنصار (القحطانيين).كما تحدثنا عن صلح الحديبية،ثم فتح مكة،ونظرة القرشيين الأحرار للقحطانيين المستضعفين،وغزوة حنين،وحساسية الأنصار عند توزيع العطايا على المؤلفة قلوبهم،وظهور مشكلة بنيوية خطيرة في النسيج الاجتماعي للمسلمين،بسبب دخول عدد كبير في الإسلام،عندما صار الإسلام أمرة واقعة،لا عن قناعة.وتحدثنا عن انكشاف قوة تأثير المنافقين في معركة تبوك.وتحدثنا عن انتداب الإمام علي (علیه السلام) من السماء لإعلان البراءة من مشركي مكة،وحجة الوداع.وتوقفنا قليلا عند خطبة عرفة ويوم الحر، التي تستبطن في عباراتها الأمور التي كانت تقلق رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).وأخيرة انتهينا إلى يوم غدیر خم،وتنصيب الإمام علي (علیه السلام) إمامة وولية للمسلمين.

في الفصل القادم سوف أتوقف عند دلالة عبارة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):«من كن مولاه فعلي مولاه،كما سأتحدث عما جرى مع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وهو على فراش الموت، ونتحدث أيضا عن ملابسات وفاته.

ص: 84

(4)ملابسات غدير خم وخطوتين احترازيتين

تحدثنا في الفصل السابق عن مرحلة ما بعد معركة بدر،وردود أفعال قریش تجاه نتائج هذه المعركة كما تجلت في أحد من خال التمثيل بأجساد الشهداء،وهي الثقافة التي تم توريثها لحفيد أبي سفيان عبيد اللّٰه بن زياد-إن صح نسبه إليه-عندما طلب من عمر بن سعد أن يندب له من يوطى الخيل صدر الحسين (علیه السلام) وظهره. كما أن فرار المسلمين وتفكير بعضهم في الارتداد يعطينا صورة عن الأحداث القادمة«وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ»؟!(1)كما مرت علينا واقعة الأحزاب،ثم فتح مكة والطائف،وتغير التركيبة الشكانية-إن صمم التعبير-وبتعبير أدق تغير النسيج الاجتماعي للمسلمين عندما دخل الناس في دين اللّٰه أفواجا،بحيث أصبح أولئك الذين يحملون قيم الإسلام الأصيلة أقلية،في مقابل تعاظم تأثير المنافقين والذين في قلوبهم مرض والمرجفين والطلقاء في الرأي العام.لذا يأتي التهديد المباشر من اللّٰه تعالى لهذه الشرائح حتى يقفوا عند حدودهم، يقول تعالى:«لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60)مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)»(2).

هذا التأثير الكبير للمنافقين تجلی بشكل واضح قبل وفاة رسول اللّٰه بسنتين أو أقل،

وبالتحديد في غزوة تبوك،عندما عانی رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)معاناة شديدة،ليجيش ويحرض المسلمين على القتال.كما تجلی تعاظم تأثير المنافقين عندما تعرض رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)و وهو في طريق عودته من تبوك إلى محاولة اغتيال، وواجه عند وصوله إلى المدينة مشكلة مسجد ضرار.

لهذا كله،عندما انتهى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)من حجة الوداع،كان قلقة من مضاعفات

ص: 85


1- سورة آل عمران، الآية: 144.
2- سورة الأحزاب، الآيات: 60 - 62.

إعلان ولاية الإمام علي (علیه السلام)،ليس من قريش فحسب،بل من الناس العرب عموما،رغم أن قريش هي العنصر الرئيس المؤثر في مسار الأحداث....لكن اللّٰه سبحانه أمره عندما وصل إلى غدیر خم بإعلان ذلك،وأنه سبحانه سيتكفل بحمايته من الناس.وبالفعل هذا ما حدث،فالناس وقريش تحديدة- سایرت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في الظاهر،حتى تقوم هي بعد ذلك بتنفيذ ما ترتئيه.

أصل حدوث واقعة غدیر خم لا كلام فيه،ولم يشك فيه المنصفون من علماء أهل الشنة،إنما شككوا في دلالتها،مدعين بان كلمة«المولی»فيعبارة«من كنت مولاه فعلي مولاه»،تعني الحب والناصر.نريد في هذه العجالة تطبيق منهج حساب الاحتمالات

التأكيد حصول الواقعة الدالة على إمامة علي (علیه السلام).

قرائن و شواهد في تفسير«من كنت مولاه فعلي مولاه»

إذا أردنا تطبيق منهج حساب الاحتمالات على واقعة الغدير من حيث ثبوت أصل الواقعة،وتفسير دلالة عبارة«من كنت مولاه فعلي مولاه»،سنجد أن أصل ثبوت الواقعة وتواترها بالغ الوضوح:فقد أحصى المرحوم الأميني في كتابه الخالد الغديره في المجلد الأول منه،مائة وعشرة من أكابر الصحابة بأسمائهم رووا هذه الواقعة،كما أحصى أربعة وثمانين تابعية بأسمائهم رووا هذه الواقعة.

فإذا لاحظنا أن هذه الواقعة متوقعة ومنسجمة مع تاريخ الإمام علي (علیه السلام) منذ بدء

إسلامه،مرورا بواقعة الدار عندما نزلت آية:«وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ »(1)،وقوله (صلی اللّه علیه واله):« إن هذا أخي وصي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا»(2)،ومبيته في فراش رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)(3) ونزول آیة:«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ »(4)،وبطولاته المتكررة في بدر وأحد والأحزاب وضربته فيها التي تعدل عبادة الثقلين (5)

ص: 86


1- سورة الشعراء، الآية: 214.
2- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج2، ص62 - 63.
3- ابن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص 106 - 110. الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج3، كتاب الهجرة، ح4263، و4264، ص7.
4- سورة البقرة، الآية: 207.
5- لمعرفة تفاصيل الحادثة، أنظر : ابن هشام، السيرة النبوية، ج 3، ص 204، والواقدی، المغازي،ج1، ص 470 - 471، وفيه أن عمرو بن عبد ود حينما صاح بالمسلمين قال لعلي : «فأنت غلام حدث، إنما أردت شيخي قريش ! أبا بكر وعمره، وأنظر أيضا الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحیحین، ج 3، كتاب المغازی والسرايا، ح4329، ص 41 - 41، أيضا ابن إسحاق، السيرة النبوية، ص 401، والبيهقي، السنن الكبری، ج 9، ص 132، ويروي الحلبي في سيرته أن رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) قال في ذلك: قتل عمرو بن عبدود أفضل من عبادة الثقلين، وروى غيره أن رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)، قال في ذلك : لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبدود أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة. أنظر : الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحیحین، ج 3، كتاب المغازي والسرايا ، ح4327، ص 41، والرازي، التفسير الكبير، ج52، ص 31.

وقلعه باب خيبر(1)،وحديث المنزلة«أنت مني بمنزلة هارون من موسى»(2)،وحديث التقلين(3)،وسائر الوقائع الأخرى المنسجمة مع واقعة الغدير...وإذا لاحظنا أن من رواة هذه الواقعة صحابة لم يكونوا من شيعة الإمام علي (علیه السلام)،مضافة إلى أن احتمال تواطؤ مائة وعشرة من أكابر الصحابة على الكذب أمر غير وارد،فضلا عن انتشار هذا الخبر في ظل حكم بني أمية ممن كانوا يحاولون منع أمثال هذه الأخبار،ترهیبة وترغيبة....كل ذلك يؤكد أصل حدوث واقعة الغدير.

إذن ليس هناك شك في أصل حدوث الواقعة،ولم يشكك فيها عدد كبير من علماء

ص: 87


1- بشأن دور علي (علیه السلام) في خيبر، راجع مثلا: صحيح البخاري، في الجهاد والسير، باب ما قيل في لواء النبي (صلی اللّه علیه واله)، وكتاب بدء الخلق، باب مناقب علي بن أبي طالب، وباب غزوة خيبر، في والجهاد والسير، باب فضل من أسلم على يديه رجل. أنظر أيضأ : صحیح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة ذي فرد، وكتاب فضل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب. وسنن الترمذي، في مناقب علي بن أبي طالب. سنن ابن ماجة، باب فضائل أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)، ومسند احمد بن حنبل، ج 1، ص 99، ج2، ص384، ج 4، ص 51.
2- صحیح البخاري، المناقب، مناقب علي بن أبي طالب، أيضا في المغازي، غزوة تبوك . سنن الترمذي، المناقب عن رسول اللّه ، مناقب علي بن أبي طالب. سنن ابن ماجة، المقدمة، فضل علي بن أبي طالب. مسند أحمد بن حنبل، مسند العشرة المبشرين بالجنة ، مسند سعد بن أبي وقاص.
3- مرة أخرى : بشان حديث الثقلين كتاب اللّه و عترة رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) ، راجع: صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي بن أبي طالب، (36) عن زيد بن أرقم الذي يقول: «قام رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) يوماً فينا خطيبة،بماء يدعی خما بين مكة والمدينة ... إلخ». أيضأ صحيح الترمذي، في كتاب المناقب عن رسول اللّه ، مناقب أهل بيت النبي (صلی اللّه علیه واله)، لكن يفهم من رواية جابر بن عبداللّه أن حديث الثقلين قيل في خطبة يوم عرفة، وهناك رواية أخرى في الموضع نفسه عن زيد بن أرقم . الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحیحین، ج 3، كتاب معرفة الصحابة ، من مناقب أهل رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)، ح 4711، ص182، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه . مسند أحمد بن حنبل، ج 3، ص14، 17، 26، 59، ج4، ص371، ج 5، ص 181. الطبراني، المعجم الكبیر، ج5، ح 4980، ص 169 - 170، أيضا ح4922، ص 154. أيضا: الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة، مج4، ح 1761، ص 355، قال : قلت : لكن الحديث صحيح، فإن له شاهد من حديث زيد بن أرقم

السنة،وإنما شككوا في دلالتها،زاعمين أن كلمة«المولی»في عبارة«من كنت مولاه فعلي مولاه»،تعني الحب والناصر.نريد في هذه العجالة تطبيق منهج حساب الاحتمالات مرة أخرى لتأكيد دلالة هذه العبارة على إمامة علي (علیه السلام).

التحديد اتجاه الدلالة،لا بد أن نستعين بالقرائن.يميز علماء أصول الفقه بين القرائن الحالية(=سياق الموقف)والقرائن المقالية(=سياق النص).وتنقسم القرائن المقالية بدورها إلى متصلة ومنفصلة(وقد لحق القرائن المنفصلة بالقرائن الحالية).

أهمية القرائن والشياق في تحديد مدلول النص

حتى تتضح الفكرة القائلة بأن مدلول الكلمة الواحدة-فضلا عن الجملةالواحدة-قد يتغير وفقا للظروف والملابسات التي استخليمت فيها هذه الكلمة أو الجملة.

خذ المثال التالي:

عندما أنادي ابني محمدة،وأقول«محمد»،فتارة أصيح بصوتي للنداء،عندما أكون

في بيتي أو أدخل بيتي وأريد منه شيئا،هنا المدلول:أريدك أن تأتي.

وتارة أخرى أصيح خوفة إذا ما أصابه مكروه،عندما لا أسمع جوابا من مكان لا أتوقع وجوده إلا فيه،هنا المدلول:هل أصابك مكروه؟

وتارة ثالثة أناديه تعجبا،عندما يتحدث بكلام لا يعقل،هنا المدلول:لا تتحدث

بكلام لا يعقل.

وتارة رابعة أناديه استنكارة،عندما أدخل غرفته وأجده يلهو ليلة الامتحان،أو إذا

قال شيئا يبعث على الاستنكار،هنا المدلول:كيف تقول ذلك؟أو كيف تفعل ذلك؟

لاحظ تعدد المدلول في لفظة«محمد»حسب سياق الموقف،فحتى نبرة الصوت قد

تؤثر في مدلول اللفظة الواحدة.

القرائن الحالية والمقالية الدالة على أن المقصود بلفظ«المولى»في عبارة «من كن

مولاه فعلي مولاه»هو ولاية الأمر على الأمة،وليس مجرد الحب والناصر(1) :

ص: 88


1- ذكر للولي27معنی،وهي:الرب،العم،ابن العم،الابن،ابن الأخت،المعيق،المعتق،العبد،المالك،التابع،المنعم عليه،الشريك،الحليف،الصاحب، الجار،النزيل،الصهر،القريب،المنعم،الفقيد،الولي،الأولى بالشيء،السيد غير المالك والمعتق،المحب،الناصر،المتصرف في الأمر،لمتولي في الأمر

1.آیة:«يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ»

حيث روى الواحدي في أسباب النزول عن أبي سعيد الخدري،قال:نزلت هذه الآية يوم غدیر خم في علي بن أبي طالب.ويستفاد من الآية الكريمة أن الذي أمر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)بتبليغه كان ذا جهتين:

الأولى:أن الشيء الذي أوقفهم لتبليغهم إياه ذو أهمية كبرى على مسيرة الأمة،حيث لو لم يفعل لما بلغ رسالة اللّٰه،وبتعبير آخر:كان أمرة إن لم يؤده (صلی اللّه علیه واله)تبقى رسالته ناقصة غير مكتملة!

ومن الواضح أنه لا يراد بذلك أن كل أمر إلهي لا يبلغ لم تبلغ رسالة اللّٰه، فهذا الكلام من قبيل توضيح الواضح وغني عن البيان،وإنما ظاهر الآية هو أن القضية المشار إليها تحظى باهتمام خاص بوصفها خلاصة الرسالة والنبوة.

الثانية:إن وعد اللّٰه تعالى بأن يعصم رسوله من الناس يدل على أن تبلیغ ما أمر بتبليغه سيثير حفيظة شرائح واسعة ممن تظاهر بالإيمان وأسلم وقلبه مملوء بالحقد والغل،أو أحاط برسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) طمعا في الرئاسة من بعده.ولا معنی من معاني الولاية يتطلب صدور هذا الوعد من اللّٰه تعالى إلا ولاية الأمر من بعد رسوله (صلی اللّه علیه واله)،ومن هنا أعلن اللّٰه سبحانه دعمه ومساندته الخاصة لرسوله (صلی اللّه علیه واله)فقال:« وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ »،ثم أكد تعالى في نهاية الآية:« وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ».

مضافة إلى هذا وذاك،من الواضح أن هذه القضية لا تتعلق بالصلاة والصوم والحج وما شابه ذلك من تشريعات الإسلام؛لأنها من آيات سورة المائدة، وسورة المائدة هي آخر سورة نزلت على رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)-أو على أقل تقدير من أواخر السور التي نزلت-أي نزلت في أواخر عمر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) المبارك، بعدما انتهى (صلی اللّه علیه واله)من بيان كافة الأركان المهمة والتفاصيل التشريعية للإسلام(1)

2-يعقل أبدا أن يأمر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)-المعروف بحكمي-بإيقاف الألوف المؤلفة من الحجاج في الحراء في حر الظهيرة،ويهتم بإرجاع من تقدم منهم وإلحاق من تأځر، وينزلهم جميعا في العراء بلا كلا ولا ماء، ويأمرهم أن يصنعوا له منبرة من الأحجار وحدائج الإبل، لكي يعلن للمسلمين أن عليا (علیه السلام) محبهم وناصرهم،ثم يطلب منهم أن يبلغ الشاهد منهم الغائب!بل لا بد أن يكون للموضوع أهمية بالغة.

ص: 89


1- يقول الفخر الرازي في ذيل هذه الآية:قال أصحاب الآثار أنه لما نزلت هذه الآية على النبي (صلی اللّه علیه واله)لم يعمر بعد نزولها إلا أحد وثمانين يوما

بعبارة أخرى:إن محبة الإمام علي (علیه السلام) لجميع المؤمنين لم يكن أمرا خافياً وسرياًومعقدة،بحيث يحتاج إلى هذا التأكيد والإيضاح،ويستدعي إيقاف ذلك الكب العظيم وسط الصحراء القاحلة والشمس الحارقة،وإلقاء خطبة عليهم، لأخذ الإقرارات من ذلك الجمع.فالقرآن يقول بصريح القول:«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ»(1)،ويقول:«وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ »(2).إذن،الأخوة الإسلامية ومودة المسلمين بعضهم لبعض من أكثر المسائل الإسلامية بداهة،فقد كانت موجودة منذ انطلاقة الإسلام، وطالما أكد عليها رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) مرارة،فضلا عن عدم الحاجة إلى بيانها بهذا الأسلوب الحاد،ولا يستدعي الأمر أن يشعر رسول اللّٰه؟بالخطر من البوح بها.

3.قبل إعلان رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) ولاية الإمام علي (علیه السلام)،أخبر أمته أنه راحل إلى ربه:«إني أوشك أن أدعى فأجيب،وإني مسؤول وأنتم مسؤولون،فماذا أنتم قائلون؟»وفي هذا الإعلان دلالة على أن ما سيقال بمثابة وصية.

4.قبل إعلان رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)ولاية الإمام علي (علیه السلام)،أوصى أمته بالكتاب والعترة، وأكد أنهما لن يفترقا،ثم قدم لهم علية (علیه السلام) معلنة«من كنت مولاه فعلي مولاه».وفي هذا السياق دلالة على تعريف من يجب على الأمة التمك به وبالقرآن

الصان عن الظلال.لاحظ بالخصوص عبارة:«تارك فيكم الثقلين»أو«فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين»،وأنهما«لن يفترقا».

5.من القرائن على أن الولاية في الحديث بمعني ولاية الأمر،أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)مهد لولاية الإمام علي (علیه السلام) بولاية اللّٰه تعالى،وقال:«اللّٰه مولاي»،ولا شكأنه لا ولاية الأحد عليه (صلی اللّه علیه واله)سوى اللّٰه تبارك وتعالى،ثم قال:«وأنا مولى كل مؤمن»،فأفاد أن تلك الولاية ثابتة له على المؤمنين،ثم قال:«من كنت مولاه فعلي مولاه»فأثبت تلك الولاية لعلي من بعدو،ومن الواضح أنها ليست إلا ولاية أمر المسلمين.

6.ومن القرائن أنه (صلی اللّه علیه واله) رفع الشبهة والشك وسد الطريق على من يريد تحریف ولاية الإمام علي (علیه السلام) التي أعلنها،حيث ذگرهم بقول اللّٰه تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأخذ منهم الإقرار بولايته وأولويته بهم،بقوله:«ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟قالوا:بلى»،ثم جعل تلك الولاية والأولوية لعلي (علیه السلام) بقوله«فمن كنت مولاه فعلي مولاه».بعبارة أخرى:فرع على سؤال «ألست أولی بكم من أنفسكم؟»قوله«فمن

ص: 90


1- سورة الحجرات، الآية: 10
2- سورة التوبة، الآية: 71.

كنت مولاه فعلي مولاه»،فلا يبقى أي شك في أن المراد من«المولى»هو ولاية الأمر على المسلمين.

بعبارة أخرى،إن سؤال رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):«ألست أولی بگم من أنهم»لا تتناسب أبدأ مع مجرد بيان مودة عادية،بل إنه يريد القول بأن تلك الأولوية والتصرف الذي لي تجاهكم وكوني إمامكم وقائدگم،كل ذلك ثابت لعلي (علیه السلام)،وأي تفسير لهذه العبارة غير ما قيل،بعيد عن سياق الموقف،خصوصا إذا ما أخذنا في الاعتبار جملة«من أنفسگم الواردة في«أنا أولی بكم من أنفسكم».

7.آية إكمال الدين وإتمام النعمة من القرائن على أن الولاية في حديث الغدير بمعنی ولاية الأمر:روى الخطيب البغدادي في تاريخه،عن أبي هريرة عن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)أنه قال:من صام يوم ثمان عشرة من ذي الحجة،تب له صيام ستین شهرة،وهو يوم غدیر خم،لما أخذ النبي (صلی اللّه علیه واله) بيد علي بن أبي طالب فقال:ألست أولى بالمؤمنين؟قالوا:بلی یا رسول اللّٰه،قال:من كنت مولاه فعلي مولاه،فقال عمر بن الخطاب:بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم،فأنزل اللّٰه:«اليوم أكملت لكم دینكم»(1) .

ولا يمكن تصور إكمال الدين وإتمام النعمة على المسلمين،إلا بتعيين شخص يين

الإسلام وينفذه بعد رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).

8.أيضا من القرائن الدالة على أن الولاية في حديث غدیر خم بمعني ولاية الأمر، فهم الحضور ثم تهنئتهم لعلي (علیه السلام):فالمسلمون عندما سمعوا خطبة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)فهموا من«المولى»الولي بعد رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،بدليل أنهم هنؤوا علية (علیه السلام) بذلك.فقد روى أحمد بن حنبل في مسنده،والخطيب في تاريخ بغداد، والرازي في تفسيره الكبير،واللفظ للأول:

عن البراء بن عازب قال:نا مع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في سفر،فنزلنا بغدیر خم،فودي فينا الصلاة جامعة،وكسح لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) تحت شجرتين،فصلي الظهر وأخذ بي علي رضي اللّٰه تعالی عنه فقال:ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟قالوا:بلى،قال:ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسي؟ قالوا: بلى،قال:فأخذ بيد علي فقال:من كنت مولاه فعلي مولاه،اللّٰهم وال من والاه،وعاير من عاداه.قال:فلقيه عمر بعد ذلك فقال له:هنيئا لك يا بن أبي طالب،أصبحت وأمسيت مولی كل مؤمن ومؤمنة(2) .

ص: 91


1- الخطيب البغدادي،تاريخ بغداد،ج8،ص290،نقلا عن:الأميني،الغدیر،ج1، ص232
2- مسند أحمد بن حنبل،ج 4،ص281

فهذه التهنئة من شخص مثل عمر،لا يمكن تفسيرها بمدح رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)علية (علیه السلام) بأمر مشترك بينه وبين غيرو.بل لا بد أن تفسر على أن عمر فهم أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)خص عليا (علیه السلام) بأمر خاص يستحق التهنئة،وليس هو إلا ولايته وزعامته على الأمة.

بعبارة أخرى:المودة العادية بين المؤمنين ليست لها مثل هذه المراسيم، وهذا لا

ينسجم إلا مع الولاية التي تقتضي الخلافة.

9.من القرائن أيضا على أن غدیر خم كان يوما استثنائية،فهم حسان بنثابت، الذي عبر عن فهمه شعراً:

يُنادِيْهِمْ يَوْمَ الْغَديرِ نَبيُّهُمْ

بِخُمٍّ وَاسْمِعْ بِالرَّسُولِ مُنادِيا

فَقالَ فَمَنْ مَوْلاكُمْ وَنَبيِّكُمْ؟

فَقالُوا وَلَمْ يَبْدُوا هُناكَ التَّعامِيا:

الهُكَ مَوْلانا وَانْتَ نَبِيُّنا

وَلَمْ تَلْقِ مِنّا فِي الْوَلايَةِ عاصِيا

فَقالَ لَهُ قُمْ يا عَلَيٌّ فَانَّني

رَضيتُكَ مِنْ بَعْدي اماماً وَهادِيا

فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَهذا وَلِيُّهُ

فَكُونُوا لَهُ اتْباعَ صِدْقٍ مُوالِيا

هُناكَ دَعا اللّهُمَّ وَالِ وَلِيَّهُ

وَكُنْ لِلَّذي عادا عَلِيّاً مُعادِيا

10.أيضا من القرائن على أن حدیث غدیر خم يدل على إمامة وزعامة علي (علیه السلام) ،ما فهمه ذاك من سأل بعذاب واقع:قال الشبلنجي في نور الأبصار،والإمام أبو إسحاق الثعالبي في تفسيره الكشف والبيان،والقرطبي في تفسيره:«أن سفيان بن عيينة-رحمه لله تعالی-سئل عن قوله تعالى:وسأل ایل ای واقع فيمن نزلت؟فقال للسائل:لقد سألتني مسألة لم يسألني عنها أحد قبلك، حدثني أبي عن جعفر بن محمد عن آبائه رضی اللّه عنه،أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)لما كان بغدیر خم نادي الناس،فاجتمعوا،فأخذ (صلی اللّه علیه واله) بيد على وقال:من كن مولاه فعلي مولاه، فشاع ذلك وطار في البلاد.وبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري(وفي بعض المصادر جابر بن النضر بن الحارث الذي قتل علي (علیه السلام) والده في معركة بدر بأمر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)بعد أن أخذ أسيرة)،فأتی رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) على ناقة،فأناخ راحلته، ونزل عنها،وقال:يا محمد!أمرتنا عزوجل بشهادة أن لا إله إلا اللّٰه، وأنك رسول اللّٰه فقبلنا منك،وأمرتنا أن تصلي خمسة فقبلنا منك،وأمرتنا بالزكاة فقبلنا،أمرتنا أن نصوم رمضان فقبلنا،وأمرتنا بالحج فقبلنا،ثم لم ترض بذلك حتى رفعت بضبعي ابن عمك تفضله علينا،فقلت:من كنت مولاه فعلي مولاه فهذا شيء منك أم من اللّٰه عزوجل؟فقال رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):والذي لا إله إلا هو، إن هذا من اللّٰه عزوجل

ص: 92

فولي الحارث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول:اللّٰهم إن كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارة من الماء او ائتنا بعذاب أليم،فما وصل راحلته حتى رماه اللّٰه عزوجل بحجر،سقط على هامته وخرج من دبره وقتله،وأنزل اللّٰه تعالى:«سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1)لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2)»(1)

(..لا شك أن أحاديث رسول اللّٰه (علیه السلام)في فضائل الإمام علي (صلی اللّه علیه واله) كانت قد بلغت المسلمين،والجديد الذي لم يكن يعرفه أمثال الحارث بن النعمان الفهري أو جابر بن النضر إنما هو ولاية الإمام علي (علیه السلام) على الأمة بعد رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)، فكان يصعب عليهم قبوله،ولذلك اعترضوا عليه.

11.ومن القرائن المهمة الدالة على أن المقصود ب«المولى»من له الولاية على الأمة، احتجاج الإمام علي (علیه السلام) في الكوفة بالغدير ومناشدة الناس: فقد احتج الإمام علي (علیه السلام)-بعد استلام الخلافة وانتقاله إلى الكوفة-بحديث الغدير،وناشد الصحابة بأن يقفوا ويقوا بأنهم شهدوا هذه الواقعة المهمة والمصيرية،وقد نقل ذلك عدد من كبار علماء الشنة) (2).

ونكتفي بما نقله ابن الأثير عن الأصبغ بن نباتة قال:نشد علي (علیه السلام) الناس في الحبة:من سمع النبي (صلی اللّه علیه واله) يوم غدیر خم ما قال إلا قام،ولا يقوم إلا من سمع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)يقول.فقام بضعة عشر رجلا،فيهم أبو أيوب الأنصاري، وأوعمرة بن عمرو ابن محسن وأبو زينب وسهل بن حنیف وخزيمة بن ثابت ........... فقالوا:نشهد أنا سمعنا رسول اللّٰه يقول:ألا إن اللّٰه عزوجل وليي،وأنا ولي المؤمنين،ألا فمن كنت مولاه فعلي مولاه،اللّٰهم وال من والاه،وعاد من عاداه،وأحب من أحبه،وأبغض من أبغضه،وأعن من أعانه(3)...وكتم قوم،فما خرجوا من الدنيا حتى عموا وأصابتهم آفة!منهم يزيد بن ديعة،وعبد الرحمن بن مدلج(4)،وفي مصادر أخرى،منهم جریر بن

ص: 93


1- سورة المعارج، الآيتان: 1- 2. وقد ذكر ابن تيمية في منهاج السنة وجوها في إبطال الحديث، لكن العلامة الأميني فندها في «الغدير»، ج1.
2- أنظر مثلا : ابن الأثير، أسد الغابة، دار إحياء التراث العربي، بیروت، ج2، ص 233ن ج 3، ص 93، ص 307، ص 321، ج4، ص28، ج5، ص6، ص205، ص276. مسند أحمد بن حنبل، ج 1، ص 118، ص 119... ومصادر أخرى كثيرة .
3- ابن الأثير، أسد الغابة، ج 3، ص 307.
4- ابن الأثير، اسد الغابة، ج 3، ص 321.

عبد اللّٰه(1)،وزيد بن أرقم،والبراء بن عازب(2)،وأنس بن مالك(3)

وإن كان تاريخ المناشدة هو(35هج)،فهذا يعني أن المناشدة حدثت بعدواقعة غدير خم بما يربو على خمسة وعشرين عامة.وخلال هذه المدة كان كثير من الصحابة الحضور يوم الغدير قد قضوا نحبهم،وآخرون قتلوا في المغازي والفتوح،ومنهم من مات بطاعون الشام،وكثير منهم منتشر في البلاد.وكان عدد الصحابة في الكوفة قليلا مقارنة بعددهم في المدينة المنورة،ولم يكن فيها إلا شراذم منهم تبعوا الحق فهاجروا إلى الكوفة في العهد العلوي،وكانت قصة المناشدة من ولائد الاتفاق من غير أية سابقة لها حتى تقصدها القاصدون،فتكثر الشهود،وتتوافر الرواة.

وعندما نتحدث عن عفوية مناشدة الإمام علي (علیه السلام) يوم الحبة،فإنما نقصد أنه (علیه السلام) لم يرسل با قبل المناشدة للصحابة في المدينة،أو مكة،أو حتى البصرة،يخبرهم بأنه سيعقد اجتماعا يطلب فيه الشهادة بمجريات غدير خم....لم يقم (علیه السلام)-وفق ما تتوافر لدينا من معطيات-بشيء من هذا القبيل، وإنما اكتفى بالصحابة الموجودين فعلا بالكوفة.

نعم،لقد شهد في رحبة الكوفة بحديث الغدير ثلاثون صحابية،منهم اثنا عشر بدرية

من أصل313بدرية سماعة عن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) راجع في ذلك مسند الإمام أحمد بن حنبل(4).وأن يشهد هذا العدد،بعد الواقعة بأكثر من 25 سنة،مع وجود عدد محدود من الصحابة في الكوفة نسبة لمجموعهم الكلي،لهو شاهد إضافي على أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)ذكر ذلك في حشد كبير من الصحابة،وفي موقف مهیب ظل راسخة في ذاكرة هذا العدد من الصحابة.

ومن البديهي أن استشهاد الإمام علي (علیه السلام) بهذا الحديث،وطلبه شهادة الصحابة

ص: 94


1- ورجع جرير أعرابية بعد هجرته، فأتى الشراة فمات في بيت أمه .
2- وأصيب البراء بالعمى.
3- حيث قال له علي (علیه السلام): مالك لا تقوم مع أصحاب رسول اللّه فتشهد بما سمعته يومئذ؟ فقال: يا أمير المؤمنين، كبرت سني ونسيت، فقال علي (علیه السلام) : إن كنت كاذبة نضربك اللّه بيضاء لا تواریها العمامة، فما قام حتى ابيض وجهه برصا، فكان بعد ذلك يقول: أصابتني دعوة العبد الصالح (ذكر ذلك ابن قتيبة الدينوري في المعارف حيث عد أنسأ في أهل العاهات).
4- مضافة إلى ذلك أخرج الإمام أحمد في مسنده أن رهطة جاء إلى علي (علیه السلام) فقالوا: السلام عليك يا مولانا، قال: من القوم؟ قالوا: مواليك يا أمير المؤمنين ، قال : كيف أكون مولاكم وأنتم قوم عرب، قالوا : سمعنا رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)يوم غدیر خم يقول: من كنت مولاه فإن هذا مولاه، قال (ریاح الراوي: فلما مضوا تبعنهم فسألت من هؤلاء؟ قالوا: نفر من الأنصار فيهم أبو أيوب الأنصاري.

الإثبات مقامه،قرينة واضحة على تعين مدلول كلمة«الولي»في ولاية أمر المسلمين.

زبدة الكلام:إن فتح مكة والطائف كان منعطفة كبيرة في تاريخ الإسلام،فقد دخل الناس في دين اللّٰه أفواجا،وبدأت قبائل الجزيرة تخضع للطة الإسلام، لكن الحالة الجاهلية والعصبيات القبلية كانت ما زالت على حالها،خصوصا عند أولئك الذين دخلوا في الإسلام عندما وجدوا أنه صار أمرا واقعة،فآمنوا بألسنتهم ليحقنوا بذلك دماءهم،فأدركوا ما أموا،لكن الأحقاد ما زالت في القلوب تغلي كالمرجل،لذا يقول دعبل الخزاعي في تائيته المشهورة:

إذا ذكروا قتلى ببدر و خیبر

ويوم حنيني أسبلوا العبرات

فكيف يحبون النبي ورهطه

وهم تركوا أحشاءنا وغرات

لقد لاينو في المقالي وأضمروا

قلوبة على الأحقاد منطويات

تذكر أن حادثة غدیر خم وقعت في(10هج)،وأن معركة بدر وقعت في(2هج)،وهذا يعني أنه لم تكد تمضي ثمان سنوات بعدما فعل الإمام علي (علیه السلام) بقريش الأفاعيل،إلا وجاء الأمر الإلهي بإعلانه إماما بعد رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)......قصر هذه المدة،ورسوخ الحالة الجاهلية في وجدان قریش،جعل قريش لا تتحمل علية الي كإمام وخليفة.

حاول رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)أن يرسخ قيمة جديدة،لخصها في خطبته في عرفة، وخشي كثيرة من مضاعفات إعلان ولاية علي (علیه السلام) لأنه يدرك تماما ما تنطوي عليه قلوب الكثيرين.لكن لسان حال أولئك يوم غدیر خم كان يقول لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):افعل ما بدا

ص: 95

لك،وقل ما تشاء بحق الإمام علي (علیه السلام)،لن نصطدم معك في ذلك،لكن لنا شأن آخر معه (علیه السلام) عندما تفارق الدنيا،ونحن منتظرون للحظة رحيلك لنبدأ بتنفيذ أجندتنا الخاصة!!

خطوتان إضافيتان قبيل الوفاة

لم يمض على حجة الوداع ثلاثة أشهر حتى مرض رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،فاتخذ قبيل شكاته أو أولها-والتي استدامت قبل وفاته أربعة عشر يوما تقريبا-خطوتين احترازیتین-على الأقل-ليسهل أمر وصول الإمام علي (علیه السلام) إلى سدة الخلافة،سيقوم وجهاء المهاجرين بإحباطها،عندما تصوروا أنهم هم نقطة الارتكاز والتوازن بعد وفاته (صلی اللّه علیه واله)

،وهم العملة الصعبة في أية عملية تسوية غير معلنة...فهم صاروا بعد فتح مكة والطائف،أكثر قوة ومنعة،لأنهم من ناحية كانوا من السابقين إلى الإسلام،ومن ناحية ثانية كانوا من قریش العدنانية (قبيلة رسول اللّٰه)،في مقابل الإمام علي (علیه السلام) الذي قتل صنادید قریش، وفي مقابل الأنصار القحطانيين.فما هما هاتان الخطوتان؟

الخطوة الأولى بعث أسامة بن زيد:وأسامة فتى لم يتجاوز العشرين من عمره،وهو ابن زید بن حارثة مولى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)...عقد له رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)الإمرة، وندبه أن يخرج بجمهور الأمة إلى حيث أصيب أبوه من بلاد الروم(في غزوة مؤتة)،واجتمع رأيه (صلی اللّه علیه واله) على إخراج جماعة من متقدمي المهاجرين والأنصار، مثل أبي بكر وعمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وأبي عبيدة الجراح وسعد بن أبي وقاص وأسيد بن

حضير وبشير بن سعد....وغيرهم(1)،حتى لا يبقى في المدينة عند وفاته (صلی اللّه علیه واله)من يختلف في الرئاسة،ويطمع في التقدم على الناس بالإمارة،ويستتب الأمر لمن استخلفه بعده،ولا ينازعه في حقه منازع.وجد (صلی اللّه علیه واله) في إخراجهم،فأمر أسامة بالبروز عن المدينة بمعسكره إلى الجرف(=موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام)،وح الناس على الخروج إليه والمسير معه،وحذرهم من الإبطاء عنه.

فبينا هو في ذلك،إذ عرضت له الشكاة التي توفي فيها،وغضب (صلی اللّه علیه واله)من تباطؤالقوم ولغطهم عندما أظهروا الطعن والاستخفاف بالقائد العام للجيش، وقالوا:أمر لاما

ص: 96


1- صرح بدخول أبي بكر في البعث أكثر المؤرخين، منهم ابن سعد في طبقاته، وابن عساكر في التهذيب، وصاحب كنز العمال، والذهبي في تاريخ الإسلام، .... إلخ، راجع السقيفة لمحمد رضا المظفر، دار الصفوة، ط1، 1413هج - 1992م، بیروت، ص 80. ويقول ابن هشام: «وأوعب مع أسامة المهاجرون الأولون»، ابن هشام، السيرة النبوية، ج4، ص220.

حدثا على جلة المهاجرين والأنصار(1).فصعد (صلی اللّه علیه واله)المنبر وقال:أيها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة؟ولئن طعنتم في تأميري أسامة،لقد طعم في تأمیري أباه من قبله،وأيم اللّٰه أنه كان لخليقة بالإمارة وإن ابنه من بعدي لخليق بها.ثم نزل ودخل بيته، وكرر وصيته:جهژوا جيش أسامة،نفذوا جيش أسامة،لعن اللّٰه من تخلف عن جيش أسامة(2).

رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،ربما،لم يرد إخلاء المدينة لعلي (علیه السلام) فحسب،بل أراد أيضا أن يعلم الناس أن الكفاءة العملية هي المعيار في الاختيار،لا التقدم في العمر،ولا الجانب القبلي،هو أساس الاختيار.

ولما أحس (صلی اللّه علیه واله) بالمرض الذي عراه،توجه إلى البقيع، وقال لمن تبعه:إنني قد أمر بالاستغفار لأهل البقيع.فانطلقوا معه حتى وقف بين أظهرهم،فقال (صلی اللّه علیه واله):

السلام عليكم يا أهل البقيع،ليه(=هنيئا لكم ما أصبحتم فيه،لو تعلمون ما انجام

اللّٰه منه،أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم،يتبع أولها آخرها»(3).

الخطوة الثانية طلبة الكتف والدواة:عندما اشتد مرض رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،واجتمع الصحابة في دارو،ولحق بهم من تخلف عن جيش أسامة،ولامهم رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) على تخلفهم واعتذروا باعذار واهية...استشرف رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)من هذه التحركات السياسية المقلقة ما ستؤول إليه الأمور،فقال لهم:ائتوني بكتاب (أو بالكتف والأواة واللوح)أكتب لكم كتابة لا تضلوا بعده،فقال عمر بن الخطاب:إن النبي غلبه الوجع(4) وعندكم القرآن،حسبنا كتاب اللّٰه.وهكذا وقع التنازع والاختلاف واللغط،ولا ينبغي(ولا يليق)عند نبي تناژع،وقالت السوة: ائتوا رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بحاجته،فقال عمر:اسگتن،فإنگن صوابه،إذا مرض عصر أعين، وإذا صح أخذت بعنقه،فقال رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):هئ خیز منكم.ثم قال:قوموا عني ولا ينبغي عندي التناع....وكان ابن عباس كلما ذكر هذه الحادثة التي عرفت برزية يوم الخميس يبكي ويقول:إن الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين كتاب رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)(5)

ص: 97


1- ابن إسحاق، السيرة النبوية، ص 707.
2- ابن أبي الحديد، شرح نهجالبلاغة، مج 1، ج 1، ص 100 - 101، مج 3، ج6، ص 33 - 34.
3- الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج3، كتاب المغازي والسرايا ، ح 4383، ص 67.
4- وفي بعض الروايات: إن نبي اللّه ليهجر»، أي يخلط في الكلام ويهذي من شدة المرض.
5- صحيح البخاري، كتاب العلم، باب كتابة العلم / صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب جوائز الوفد صحيح البخاري، كتاب الجزية، باب إخراج اليهود من جزيرة العرب صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب كراهية الخلاف صحيح البخاري، كتاب المرضي، باب قول المريض: قوموا عني / صحيح البخاری، كتاب المغازي، باب مرض النبي. صحيح مسلم، كتاب الوصية، باب ترك الوصية. مسند أحمد بن حنبل، ج3، ص 346. أيضا الواقعة هذه مروية في طبقات ابن سعد، وغيره من المصادر، طبعة مع فروق طفيفة واختلاف في الإجمال والتفصيل.

ويرى بعض الباحثين أن عمر كان على علم بما سيكتبه (صلی اللّه علیه واله)من النص على الإمام علي (علیه السلام)،لأنه قبل ثلاثة أشهر في حجة الوداع ثم في غدیر خم،تحدث عن ضرورة التمسك بأهل البيت (علیهم السلام) إلى جانب التمشك بالقرآن..... ويؤكد ذلك ما رواه مسلم في صحيحه:عن زید بن أرقم: قامَ رَسولُ اللّهِ صلی اللّه علیه و آله یَوما فینا خَطیبا بِماءٍ یُدعی خُمّا ؛ بَینَ مَكَّهَ وَالمَدینَهِ ، فَحَمِدَ اللّهَ وأثنی عَلَیهِ ووَعَظَ وذَكَّرَ ، ثُمَّ قالَ :

أمّا بَعدُ ، ألا أیُّهَا النّاسُ ! فَإِنَّما أنَا بَشَرٌ یوشِكَ أن یَأتِیَ رَسولُ رَبّی فَاُجیبَ .وأنَا تارِكٌ فیكُم ثَقَلَینِ:أوَّلُهُما كِتابُ اللّهِ فیهِ الهُدی وَالنّورُ ، فَخُذوا بِكِتابِ اللّهِ وَاستَمسِكوا بِهِ .

فَحَثَّ عَلی كِتابِ اللّهِ ورَغَّبَ فیهِ ، ثُمَّ قالَ :

وأهلُ بَیتی ، اذَكِّرُكُمُ اللّهَ فی أهلِ بَیتی ، اذَكِّرُكُمُ اللّهَ فی أهلِ بَیتی ، اذَكِّرُكُمُ اللّهَ فی أهلِ بَیتی(1).

ويؤكد ذلك أيضا ما رواه الترمذي في صحيحه:عن حبیب بن أبی ثابت، عن زید بن أرقم رضی اللّهم عنهما قالا: قال رسول اللّه صلّی اللّهم علیه وسلّم-: إنی تارك فیكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدی، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلی الأرض وعترتی أهل بیتی، ولن یتفرقا حتی یردا علیَّ الحوض، فانظروا كیف تخلفونی فیهما(2) )!!

والشاهد المؤيد لهذا التحليل،أن عمر قال:حسبنا كتاب اللّٰه،وهذا يعني أن عمر

كان يعلم أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) سوف يوصي بشيء آخر إلى جانب كتاب اللّٰه، كما ذكر في حجة الوداع وغدیر خم،فكان عمر قال:يكفينا واحد منهما وهو الكتاب ولا حاجة لنا بالآخر،وإلا فما معنى قوله حسبنا كتاب اللّٰه.

ولو افترضنا جدلا أن حديث الثقلين لم يتحدث عن كتاب اللّٰه وأهل بیت رسوله (صلی اللّه علیه واله)،وإنما يتحدث-كما جاء في رواية ضعيفة مرسلة-عن كتاب اللّٰه وسنة رسوله (صلی اللّه علیه واله)،ألا يعني موقف عمر هذا أنه هو أول من رفض الشنة النبوية واكتفى بكتاب اللّٰه؟

على أي حال،بعد حادثة رزية يوم الخميس،تذكر بعض المصادر الشيعية أن العباس

ص: 98


1- صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي بن أبي طالب، (36) ، أيضا سنن الدارمی، فضائل القرآن، فضل من قرأ القرآن.
2- سنن الترمذي، المناقب عن رسول اللّه ، مناقب أهل بيت النبي (صلی اللّه علیه واله)

قال لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):إن يكن هذا الأمر فينا مستقرة بعدك فبشرنا،وإن كنت تعلم أنا تغلب عليه فأوص بنا،فقال (صلی اللّه علیه واله):أثم المستضعفون من بعدي،وأصمت،فنهض القوم وهم يبكون قد أيسوا من رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)(1).

والذي يؤكد أن طلب رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) للكتف والأواة مرتبط بمسألة الإمامة والخلافة من بعډو،ما فهمه عبد الرحمن بن أبي بكر من هذه الحادثة.فقد نقل ابن الأثير والحاكم النيسابوري عن عبد الرحمن بن أبي بكر أنه قال:قال رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) ائتوني بكتف ودواة أكتب لكم كتابة لا تضلون بعده،(يقول الراوي)،ثم ولى(عبد الرحمن)قفاه ثم أقبل علينا فقال:يأبى اللّٰه والمؤمنون إلا أبا بكر(2). والسؤال:إن لم يگن لرزية يوم الخميس علاقة بمسألة الإمامة والخلافة،إذن لم يربط عبد الرحمن ابن أبي بكر بين هذه الحادثة واختيار أبيه أبي بكر؟!

والحقيقة أن لعمر بن الخطاب دورة أساسيا في تثبيت الأمر لأبي بكر، ولولاهما استتب الأمر للخليفة الأول في«هو الذي شد بيعة أبي بكر،ووقم المخالفين فيها،فكسر سیف الزبير لما جرده،ودفع في صدر المقداد،ووطئ في السقيفة سعد بن عبادة،وقال:اقتلوه قتله اللّٰه(3)،وحطم أنف الخباب بن المنذر الذي قال يوم القيفة:أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرب،وتوعد من لجا إلى دار فاطمة (علیها السلام)من الهاشميين(4) وأخرجهم منها،ولولاه لم يثبت لأبي بكر أمر، ولا قامت له قائمة»(5)،وهو الذي قال لعلي (علیه السلام):إنك لست متروكة حتى ثبایع،وكان علي (علیه السلام) يتهم عمر بأنه لم يشد أزر أبي بكر إلا ليجعلها له من بعده،حيث قال له مرة:احلب حلبة لك شطه واشدد له اليوم أمره ليه عليك غدا(6)

ص: 99


1- المفيد، الارشاد، ج 1، ص 184 - 185. قد يقال : كيف يسال العباس رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)عما إذا كان الأمر في بني هاشم طالما أنه رأی وسمع ما جرى في غدیر خم؟ فأقول: نفهم من سؤال العباس أنه يريد أن يعرف ما سيقع فعلا ، ولا يريد أن يسأل عما يجب أن يقع. بدليل قوله «وإن كنت تعلم أنا تغلب عليه فأوص بناه، أي إن كان لديك علم غيبي بان حق بني هاشم في الخلافة سيسلب، إذن لا بد من اتخاذ إجراءات جديدة .... لكن كما يقول سبحانه : « أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)» (هود، 28).
2- ابن الأثير، اسد الغابة ، مج 3، ص305، ايضا : الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج3، مناقب عبد الرحمن بن أبي بكر، ح6016، ص 580.
3- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج2، ص459.
4- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، تحقیق علي شيري، دار الأضواء، ط1، 1410هج، - 1990م، بیروت، ص 30.
5- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مج 1، ج 1، ص110.
6- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ص 29.

لماذا لم ينص القرآن صراحة على إمامة علي (علیه السلام) ؟

ايثار عادة تساؤل حول سبب عدم نص القرآن على إمامة علي (علیه السلام) صراحة. فطالما أين الذين لا يكتمل،والنعمة لا تتم،والرسالة لا تبلغ،إلا بإعلان إمامة علي (علیه السلام)،إذن ألم يكن من الأجدر أن ينص القرآن صراحة على إمامة علي (علیه السلام)،ليقطع مادة الخلافي والنزاع بين المسلمين؟

الجواب:طالما أن اللّٰه سبحانه وتعالى يقول عن القرآن:«إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)»،فلا بد من توفير الشروط الضرورية لحمايته من الحريف والعبث.ولو ن

القرآن صراحة على إمامة علي (علیه السلام) بنحو صریح لا يقبل التأويل،لفتح المجال واسعة الكثيرين حتى يتلاعبوا به،وينكروا ويحذفوا كل الآيات التي تنص على ذلك،ولوقع

المحذور،وهو تحريف كتاب اللّٰه تعالی.

لذا عندما يقوم علماء الشيعة برة وتفنيد بعض الروايات الضعيفة المروية في كتبهم، التي تتحدث عن تحريف وقع في كتاب اللّٰه تعالى،يتعلق بذكر فضائل أهل البيت (علیهم السلام)،ويتمسك بها شخص يدعي وقوع الحريف،كالمحدث النوري صاحب كتاب«فصل الخطاب»،يتساءلون باستغراب،إن هذا لو صح،فما هو مبرر قلق رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)من الناس قبیل إعلان إمامة علي (علیه السلام) في غدیر خم؟ ولم طلب رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) أن يأتوه بكتف ودواة؟

لتوضيح هذه النقطة،خذ ما ذكره الإمام الخميني(قده)،لتأكيد صيانة القرآن من الحريف ورد مقولة المحدث النوري،يقول:«لو كان الأمر كماتوهم صاحب فصل الخطاب-الذي....أورد روایات ضعافا أعرض عنها الأصحاب،وتنوه عنها أولو الألباب من دماء أصحابن...هذا حال كتب الروايات غالبا كالمستدرك،ولا تسأل عن سائر به المشحونة بالقصص والحكايات الغريبة التي غالبها بالهزل أشبه منه بالجد...والعجب من معاصريه من أهل اليقظة كيف ذهلوا وغفلوا حتى وقع ما وقع مما بكت عليه السماوات،كادت تتدكدك على الأرض!!وبالجملة لو كان الأمر كما ذكره هو وأشباهه-من كون الكتاب الإلهي مشحونة بذكر أهل البيت وفضلهم،وذكر أمير المؤمنين وإثبات وصايته وإمامته،فلم لم يحتج بواحد من تلك الآيات النازلة والبراهين القاطعة من الكتاب الإلهي:أمير المؤمنين، وفاطمة،والحسن والحسين عليهم السلام،

ص: 100

وسائر الأصحاب الذین لا یزالون یحتجون علی خلافته، ولِمَ تشبّت سلام اللّه علیه بالأحادیث النبویة والقرآن بین أظهرهم؟ ولو كان القرآن مشحونا باسم أمیرالمؤمنین وأولاده المعصومین وفضائلهم وإثبات خلافتهم فبأیّ وجه خاف النبی فی حجّة الوداع آخر سنین عمره الشریف وأخیرة نزول الوحی الالهی عن تبلیغ آیة واحدة مربوطة بالتبلیغ، حتّی ورد: ﴿وَاللّهُ یَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ ولِمَ احتاج النبی الی دواة وقلم حین موته، للتصریح باسم علی علیه السلام ؟ فهل رأی أن لكلامه أثراً فوق أثر الوحی الالهی؟! وبالجملة:ففسادهذا القول الفظيع والرأي الشنيع أوضح من أن يخفى على ذي مسكة(1).

وهذا السبب هو ذاته الذي جعل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) يحجم عن كتابة وصيته،بعدما سمع كلمة«غلبه الوجع»أو«یهجر»،فقد ورد في طبقات ابن سعد،أنه قيل لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بعدما قال عمر ما قال:ألا نأتيك بما طلبت؟،فأجاب (صلی اللّه علیه واله):أو بعدما قال!!لأن أي وصية سيكتبها رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)سیتهم على الفور بأنه كتبها وهو في حال هذیان.حاشاه بأبي هو وأمي.

إذن توجد في القرآن-من خلال معرفة ملابسات أسباب النزول-إشارات كافية على إمامة على (علیه السلام).وحادثة غدیر خم،موقف كاف،لمن كان له قلب أو ألقى الشمع وهو شهيد.ناهيك عن الآيات القرآنية والمواقف المتعددة المؤيدة لإمامة علي (علیه السلام).......لكن إن رفض كبار وجهاء المهاجرين هذا كله،واكتفوا بكتاب اللّٰه كمرجعية دينية،واكتفوا بقریش كظهير ومرجعية اجتماعية.... فلسان حال رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) حينئذ سيكون:«رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي »(2) « أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ »(3)فعدم نص القرآن صراحة على إمامة علي (علیه السلام) إنما هو لصياني من الحريف وعدم تهيئة الأرضية لحدوث ذلك،واللّٰه أعلم.

الخلاصة:تعرفنا فيما مضى إلى تعاظم تأثیر قریش والمنافقين بعد فتح مكة، وتناولنا عبارة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):«من كنت مولاه فعلي مولاه»بالتحليل والتفسير، ورأينا أن القرائن والشواهد وسياق الموقف لها تصب لصالح تفسير العبارة على أنه إعلان بإمامة

ص: 101


1- الإمام الخميني، أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية، تحقيق مؤسسة تنظیم و نشر آثار الإمام الخميني، ط1، 1413هج، قم، ج 1، ص 243 - 247. مع تصرف طفيف ببعض الضمائر وحذف بعض الكلمات حتى يصبح المعنى أكثر وضوحا.
2- سورة المائدة، الآية : 25.
3- سورة هود، الآية: 28.

علي (علیه السلام)، واستعرضنا الساعات الأخيرة الصعبة والمؤلمة جدا من حياة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وتجاهل أمره في بعث أسامة لأعذار واهية،وتجاهل أمره مرة أخرى لكتابة وصيته الأخيرة تحت مبرر أنه (صلی اللّه علیه واله)قد غلبه الوجع وأن كتاب اللّٰه كافي؟

الآن،عندما توفي رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وأراد الإمام علي (علیه السلام) غسله،استدعى الفضل ابن عباس،فأمره أن يناوله الماء لغسله (صلی اللّه علیه واله)،وتولى الإمام علي (علیه السلام) بنفسه غسله وتحنيطه وتكفينه،وصلى (علیه السلام)عليه (صلی اللّه علیه واله)،ثم بنو هاشم.ووقف (علیه السلام) على قبره (صلی اللّه علیه واله)؟ساعة دفنه يقول:إن الصبر الجميل إلا عنك،وإن الجزع لقبيح إلا عليك، وإن المصاب بك لجليل ،وإنه قبل

وبعد لجلل(1).

وتشير مصادر تاريخية متعددة إلى أنه لم يحضر أحد من وجهاء المهاجرين عند تجهیز رسول اللّٰه و للفن،لما جرى بينهم وبين الأنصار من التشاجر في أمر الخلافة في سقيفة بني ساعدة.

هذا كله،يوضح لنا الانقلاب الأول الذي قادته قريش،وحمل لواءه وجهاء المهاجرين،على بني هاشم والأنصار والأحداث التالية ستحمل في طياتها مفاجاة الوجهاء المهاجرين...ستحمل انقلابة ثانية،من بني أمية عليهم وعلى قريش،لتتهيأ الأرضية بالتدريج لاعتلاء يزيد الشلطة بعد موت معاوية.

في الفصل القادم نريد أن نستوعب بعمق الاصطفافات الجديدة،ولسان حال كل مجموعة من المجموعات،وكل تيار من التيارات،وتصوراتهم لمرحلة ما بعد رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،سواء صرحوا بذلك في حواراتهم،أو كان مفهومةضمنة من سياق الموقف.لسان حال قریش،لسان حال الأنصار،لسان حال وجهاء المهاجرين، وأخيرة لسان حال بني هاشم.

ص: 102


1- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،ص527

(5)الشقيفة وموقف الإمام علي (علیه السلام) منها

تحدثنا بالأمس عن ازدياد تأثير قریش والمنافقين بعد تغير النسيج الاجتماعي اللمسلمين بعد فتح مكة ومعركة حنين،ورأينا أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) كان قلقة من إبلاغ ولاية الإمام علي (علیه السلام)للناس(1) ،للحقد والغيظ اللذين كانا يملآن قلوب قریش والمنافقين،إلا أن اللّٰه سبحانه وتعالى طمأن رسوله (صلی اللّه علیه واله)؛بأنه سيعصمه من الناس،ورأينا موقف بعض وجهاء المهاجرين من بعث أسامة وطلب رسوله (صلی اللّه علیه واله)،الكتف والدواة،وقلنا با وجهاء المهاجرين والأنصار لحظة تغسيل الرسول (صلی اللّه علیه واله) وتكفينه كانوا منشغلين في السقيفة بالنزاع في أمر الخلافة.

نريد الآن استعراض لسان حال كل من:قریش والأنصار ووجهاء المهاجرين،

وأخيرة بني هاشم، من مسألة الخلافة.وأعني ب«لسان الحال»طريقة تفكير كل طرف آنذاك، ووجهة نظره،وقراءته للأحداث،والزاوية التي ينظر من خلالها إلى الأمور.

لسان حال قريش التي أسلمت بالأمس لسان حال قريش يقول:لا نقبل عليا (علیه السلام) لأنه وترنا،وقتل صناديدنا،ودماؤهم لم تجف بعد.فإن كانت وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) في سنة11هج،ووقوع معركة بدر في سنة2هج،فهذا يعني أنه لم يمر على معركة بدر إلا تسع سنوات.كما لا نقبل أيضا الأنصار القحطانيين قادة وأمراء علينا، ليس لأنهم قحطانيون فحسب،بل لأنهم هم تسببوا بكسر هيبة قريش عندما وقروا المأوى لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وقاتلوا معه ببسالة واحدوا رغم خلافاتهم على حربنا،وقتلوا منا من قتلوا......نحن نعلم أن الظروف الموضوعية لا

ص: 103


1- بل ورد ما يدل على أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)كان بحاجة حتى لحظة نزول هذهالآية إلى حراسة خاصة،لذا يروي الحاكم عن عائشة:كان النبي (صلی اللّه علیه واله) يحرس حتى نزلت هذه الآية:واللّٰه يعصمك من الاي»،فأخرج النبي (صلی اللّه علیه واله) رأسه من القبة، فقال لهم:أيها الناس انصرفوا فقد عصمني اللّٰه.راجع:الحاكم النيسابوري،المستدرك على الصحیحین،ج2،كتاب التفسير،ح3221،ص396

تتحمل أبدا أن يقفز أبو سفيان-أو أمثاله من طلقاء قريش-إلى الشلطة،لأن هذه الخطوة المستعجلة سود المسلمين بأسرهم ضدنا.

...الحل الوحيد المقبول بالنسبة إلينا هو أن يعتلي الشلطة أحد رموز المهاجرين

القرشيين من غير بني هاشم،فما دام من قریش،يعني من قبيلتنا،وبما أنه ليس عليا (علیه السلام) الذي وترنا،ولأنه ليس من الأنصار القحطانيين،فنحن نقبله كحل وسط،وكمرحلة انتقالية،وكم هو جميل أن يكون من بطون قريش الضعيفة، حتى يمكن الضغط عليه،وانتزاع ما يمكن انتزاعه منه،كقبيلة تيم(منهم أبو بكر وطلحة)أو عدي(منهم عمر)أو الحارث(منهم أبو عبيدة بن الجراح)او ژهرة (منهم سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف)...إلخ.

بعد ذلك لكل حادث حدیث،وستفرض موازين القوى الداخلية لقريش مستقبل العامة،فعلام الاستعجال،لنفتح في المجال للوجهاء من المهاجرين، وسنتدبر الأمر بعد ذلك،ونرى ما يحدث.لكن أهم خطوة الآن،أن لا يصل الإمام علي (علیه السلام) إلى الخلافة،لأن وصوله يعني بقاء الخلافة في بني هاشم(1) .

لسان حال الأنصار

لسان حال الأنصار يقول:بات من الواضح أن قريشا لن تقبل عليا (علیه السلام) كخليفة بعد رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وإن سایرت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في غدیر خم.والشاهد على ذلك التحركات المريبة لوجهاء المهاجرين القرشيين،فهم تباطؤوا في الالتحاق ببعث أسامة،وحالوا دون أن يكتب رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) وصيته الأخيرة وهو على فراش الموت.إذن فوجهاء المهاجرين،ومن خلفهم قریش،مصممون على انتزاع الخلافة من الإمام علي (علیه السلام)،فحتى لا يتزعم وجهاء المهاجرين،وينقلبوا علينا بعدما آويناهم وآثرناهم على

ص: 104


1- من أبرز الأسماء القرشية المعبرة عن هذا الموقف:سهيل بن عمرو العامري،والحارث بن هشام،وعكرمة بن أبي جهل المخزوميان،ينقل ابن أبي الحديد في شرح النهج:وكان أشد قریش على الأنصار نفر فيهم،وهم سهيل بن عمرو،أحد بني عامر بن لؤي،والحارث بن هشام،وعكرمة بن أبي جهل المخزوميان،وهؤلاء أشراف قريش الذين حاربوا النبي (صلی اللّه علیه واله)،ثم دخلوا في الإسلام،وكلهم موتور قد وتره الأنصار،أما سهيل بن عمرو فأسره مالك بن الدخشم يوم بدر.وأما الحارث ابن هشام،فضربه عروة بن عمرو،فجرحه يوم بدر،وهو فار عن أخيه.وأما عكرمة بن ابي جهل،فقتل أباه أبنا عفراء،وسلبه درعه يوم بدر زیاد بن لبیده...ثم يفصل الكلام في موقفهم ودورهم.أنظر:ابن ابی الحدید،شرح البلاغة،مج3،ج6،ص15-16. ونجد في الصفحات اللاحقة تفصيلا لموقف أبي سفيان وعمرو بن العاص والولید بن عقبة بن أبي معيط من الأنصار

أنفسنا،ويقع ما كنا نخشاه دائمة،فلا بد إذن أن نستعجل في اختيار خليفة لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) لنتغدى بوجهاء المهاجرين قبل أن يتعشوا بنا.

نحن لا نقبل المهاجرين القرشيين،لأنهم قد يتحولون إلى أداة بيد قريش التي أسلمت بالأمس،عندها ستقوم قریش بتصفية حسابها معنا.لكن هل ستسمح تناقضاتنا الداخلية برص الفوف لاتخاذ هذه الخطوة الاستباقية؟

الخزرج للأوس:تفضلوا لدينا مرشح من الأنصار،وهو ما نحن الخزرج،وهو سعد بن عبادة.

الأوس للخزرج:لا نقبل مرشحكم تحت أي ظرف من الظروف،ولم لا يكون الخليفة ما نحن....وإن أصرم على مرشحكم،فنح ممرجح أن يصل إلى الخلافة أحد وجهاء المهاجرين،على أن يصل مرشحكم للخلافة.

لسان حال وجهاء المهاجرين

لسان حال وجهاء المهاجرين يقول،قريش لا تقبل عليا (علیه السلام)،ونحن لا نقبله أيضا وقريش لا تقبل الأنصار،ونحن أيضا لا نقبل أن تكون لهم العامة علينا،وطبعة المسلمون كلهم لن يقبلوا قريش التي أسلمت بعد الفتح،فلا يوجد حل إلا أن تختاروا واحدة مئا،فنحن الآن العملة الصعبة في أي عملية تسوية غير معلنة، ونحن وحدنا القادرون على إمساك العصا من الوسط لتحقيق حالة التوازن بين قریش من ناحية،وبني هاشم والأنصار من ناحية أخرى.

وستظل تحافظ على هذا التوازن وثقي تحت السيطرة،لأن وصول الإمام علي (علیه السلام) إلى الخلافة بعد رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) يعني أنها لن تخرج من يد بني هاشمأبدا، لأنهم هم أقرب الناس إليه،وبنو هاشم هم البطن القوي الأول في قريش. ووقوع الخلافة بيد الأنصار يعني انقلابا في الموازين القبلية بين العرب آنذاك، والعرب لن يقبلوا ذلك،ولن يستطيع الأنصار ضبط الوضع.نحن في المقابل، سنجهد ما استطعنا أن لا يصل بنو عبد شمس،خصوصا بنو أمية،لأنهم هم البطن القوي الثاني في قريش،ونحن أكثرنا من بطون قريش الضعيفة،وإن وصلت الخلافة إلى بني أمية فقد لا تخرج من يدهم أيضا.ولكن اللّٰه الحمد، الوضع لا يتحمل وصول بني أمية للشلطة،لأنهم حديثو عهد بالإسلام. وقريش لا تقبل عليا (علیه السلام)،وهو المرشح الأساس لبني هاشم.

فإذن،لتظل الخلافة تدور في بطون قريش الضعيفة،فرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)من قریش، ونحن وجهاء المهاجرين-وأكثرنا من بطون قريش الضعيفة-السابقون إلى الإسلام،

ص: 105

وهذه هي فرصتنا التاريخية التي لن تعوض،نستطيع من خلالها السيطرة على العرب من ناحية،ووضع حد لبطون قريش القوية(بنو هاشم وبنو أمية) من ناحية أخرى.وعلى الجميع أن يتفهم هذه الحقيقة،ولا يحول دون وصولنا إلى الشلطة،ويبخل علينا بهذه الفرصة التاريخية التي لن تتكرر.

لسان حال بني هاشم

لسان حال بني هاشم يقول:من الواضح أن قريشة حساسية تجاه علي (علیه السلام)، ولكن إن احد المهاجرون والأنصار معا،ووقفوا خلف علي (علیه السلام)، ونفذواتوجيهات رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) وأوامره،فلن يكون بمقدور قریش فعل شيء، أولا:لأنه قرشي،وثانيا:لأنهم هم حديثو عهد بالإسلام وبالأمس القريب عفا رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) عنهم وأطلقهم وألف قلوبهم،وثالثا:لأ رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) أعلن قبل ثلاثة أشهر فقط ولاية علي (علیه السلام) صراحة في غدیر خم،وقام المهاجرون والأنصار بتهنئته،وهو أسبق الناس إسلاما وأقربهم نسبة الرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).

فالأمر الذي يحسم القضية هو وحده كلمة المهاجرين والأنصار،ووقوفهم خلف علي (علیه السلام)،عندها ستقف قريش-ومن خلفها المنافقون-مكتوفة الأيدي، وستبقى عاجزة أمام علي (علیه السلام).

ولأن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) توفي توا،فوظيفتنا الأولى الآن،من الناحية الأخلاقية احتراما لمقام رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)العظيم،ونحن ذووه وقرابته،أن ننشغل بغسله وتكفينه ودفني،بعد ذلك يقوم علي (علیه السلام) بسد الفراغ بشكل طبيعي وسلس.إذن الأمر كله مرهون بوحدة كلمة المهاجرين والأنصار.

ننتقل لتدقق في دوافع الأنصار لعقد اجتماع السقيفة،ومجريات الأمور فيها:

دوافع الأنصار لعقد الاجتماع

بمجرد وصول أنباء عن احتضار رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)عقد الأنصار اجتماعا طارئة في سقيفة بني ساعدة لبحث مسألة الخلافة،وكان من المقرر أن يظل الاجتماع سرية،حتى وصول الأوس والخزرج إلى اتفاق نهائي بشأن الخليفة القادم.....لكن لماذا عقد الأنصار هذا الاجتماع الاستثنائي والعاجل؟

و لمس الأنصار تحركة سياسية من قبل المهاجرين-واجهة قريش آنذاك- المعارضين لاستلام الإمام علي (علیه السلام) الخلافة، فقد أجمعوا على صرف الخلافة

ص: 106

عنه (علیه السلام)،وظهرت منهم بوضوح بوادر التمد،عندما تباطؤوا في الالتحاق بسرية أسامة وطعنوا في إمارته،وعندما حالوا بين رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وما رامه من الكتابة. وأكبر الظن أن الأنصار وقفوا على حقير قريش وكراهيتهم لعلي (علیه السلام) من زمن بعيد، وأنهم لا يخضعون لكم،وقد حصد رؤوس أعلامهم.وقد أيقن الأنصار أنه سيصيبهم الجهد والعناء إن استولى المهاجرون على زمام الحكم،فلذلك بادروا إلى عقد اجتماعهم،والعمل على ترشيح أحدهم.

•استبان للأنصار فيما أخبر به رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)أن أهل بيته لن ينالوا الخلافة، وأهم المستضعفون بعده،فاحتاطت الأنصار لنفسها فبادرت لعقد الاجتماع للاستيلاء على الحكم،لئلا يسبقهم إليه المهاجرون من قريش.

و كان الأنصار العمود الفقري للقوات الإسلامية المسلحة،وقد أنزلوا ضربات قاصمة بالقرشيين،فأبادوا أعلامهم،وأشاعوا في بيوتهم الحزن والحداد في سبيل الإسلام،وقد علموا أن الأمر إذا استتب للقرشيين،فإنهم سيمعنون في إذلالهم طلبة بثأرهم،وكفاهم ما سمعوا من رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):ستلقون بعدي أثرة،فاصبروا حتى تلقوني على الحوض(1) ).

وقد صرح بهذه المخاوف الحباب بن المنذر في السقيفة عندما قال لأبي بكر وعمر وغيرهما من وجهاء المهاجرين:«لكنا نخاف أن يليها بعدكم من قتلنا أبناءهم وآباءهم وإخوانهم»(2) .

هذا التنبؤ تحقق بعد ذلك فعلا،عندما استولی بنو أمية على الحكم. وتحققت مخاوفهم حيث لقوا أثرة لفترة طويلة وبلغ الظلم الواقع عليهم ذروته عندما استباح یزید المدينة في واقعة الحرة.

عندما ندرس دوافع الأنصار،لا نريد أن تسيء الظن بهم،لئلا نخسر عددا وفيرة من الصحابة.لكن عملهم نفسه-سواء أكان بسوء نية أم لا-لايسعنا أن نحكم بصيه،

ص: 107


1- صحيح البخاري،المناقب، قول النبي (صلی اللّه علیه واله) للأنصار اصبروا...،صحیح مسلم، الإمارة،الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم،أيضا في الزكاة،إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه
2- ابن أبي الحديد،شرح نهج البلاغة،مج1،ج2،ص33.أيضا في شرح النهج:فقالت الأنصار: واللّٰه ما نحسدكم على خير ساقه اللّٰه إليكم،ولا أحد أحب إلينا ولا أرضى عندنا منكم،ولكنا نشفق فيما بعد هذا اليوم،ونحذر أن يغلب على هذا الأمر من ليس منا ولا منكم».أنظر:ابن أبي الحديد،شرح البلاغة،مج3،ج6،ص6

ولا يمكننا الموافقة عليه أبدا،فإن تشرعهم في عقد اجتماعهم لنصب خليفة منهم،مع وجودهم في غدیر خم،لا يخرج عن عدو خطيئة كبرى وتفریطأ في حقوق المسلمين بلا مبرر(1).

اجتماع القيفة قبل انكشاف أمره

لما اجتمع الأوس والخزرج في سقيفة بني ساعدة،انبری سعد بن عبادة-زعيم الخزرج-إلى افتتاح الاجتماع،كان مريضا فلم يتمكن من الجهر بصوته،وبلغ مقالته بعض أقربائه،وكانت تتضمن:

•الإشادة بنضال الأنصار وبسالتهم في نصرة الإسلام،وأن لهم الفضل الأكبر في نشره،فهم الذين حموا رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) أيام محنته،فهم أولى برسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم وأحق بمنصبه من غيره.

•التنديد بالبطون القرشية التي ناجزت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)الحرب،حتى اضطر إلى الهجرة إلى المدينة،وأن من آمن بو منهم لم يتمكن من حمايته والذب عنه، وبذلك فلا حق لهم في حكم الدولة التي ما قامت إلا على سواعد الأنصار وجهادهم(2).

وتجاهل سعد حق الإمام علي (علیه السلام) في الأمر،وموقفه هذا جر على الأمة الفتن والويلات وألقاها في شر عظيم. وقد لقي سعد جزاء عمله،فإنه لم يكد يستقر الحكم لأبي بكر حتى ضيق عليه،فاضطر إلى الهجرة من المدينة -مسقط رأسه-إلى الشام،أول خلافة عمر،فبعث عمر رجلا ليضطره إلى البيعة،فرفض سعد مبايعة عمر،فرمی رجل سعدة بالشام بسهم فقتله(3)، وتحدثوا أن الجين هي التي قتلته(4)!!

ص: 108


1- ويعبر عن الموقف النزيه أروع تعبير مقالة قيس بن سعد بن عبادة ... يروي ابن أبي الحديد: ذكر سعد ابن عبادة يوما علية بعد يوم السقيفة، فذكر أمرة من أمره نسيه أبو الحسن، يوجب ولايته، فقال له ابنه قیس بن سعد: أنت سمعت رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) يقول هذا الكلام في علي بن ابي طالب، ثم تطلب الخلافة، ويقول أصحابك: منا أمير ومنكم أمير؟! لا كلمتك واللّه من رأسي بعد هذا كلمة أبدا . راجع: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مج 3، ج 6، ص 28.
2- لمعرفة تفاصيل خطبة سعد في السقيفة، راجع: الطبري، تاريخ الأمموالملوك، ج2، ص455 - 456 .
3- راجع: البلاذری، انساب الأشراف، ج 1، ص 589، ابن عبد ربه الأندلسي، العقد الفرید، دار الكتاب العربي، ط2، 1381 هج - 1962م، القاهرة، ج4، ص260.
4- راجع في اتهام الجن وأنها قالت بشأنه شعرة، الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج3، ح5102، ص316، ح 5103، ص316 - 317. أيضا ابن عبد البر، الاستیعاب .

ولم تكن للأنصار إرادة صلبة،ولا عزم ثابت،ولا جبهة موحدة،فبين الأوس والخزرج دماء مطلولة،وصدوع بالغة لا يرجى رأبها،وكان آخر أيام حروبهم يوم بعاث،المشهور،وهو قبل الهجرة بس سنين،وهو سبب إسلامهم على ما قيل،إذ جاءت الأوس بعد يوم بعاث إلى مكة تستنجد قریشة على الخزرج(1)، فالتقوا رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وهداهم اللّٰه تعالى إلى الإسلام.

يقول المؤرخون إن الأنصار بعد كلام سعد ترادوا الكلام فيما بينهم،فتساءل بعضهم:فإن أبي المهاجرون من قریش،وقالوا نحن المهاجرون وأصحابه الأولون وعشيرته وأولياؤه،فعلام تنازعون هذا الأمر بعده؟فقالت طائفة منهم: فإنا نقول ما أمير ومنكم أمير(يعني تارة يكونالخليفة منځم،ثم بعد وفاته تنتقل الخلافة إلى شخص ما،وهكذا يتم تداول الشلطة بين المهاجرين والأنصار)،ولن نرضى بدون هذا أبدا.وثار سعد حينما رأى هذه الروح الانهزامية حتى قبل مواجهة قريش،وأنهم لن يقفوا معه وقفة صلبة لا تلين، فقال:هذا أو الوهن(2).

نتوقف عند هذه اللحظة،لنخرج من اجتماع السقيفة،لنرى موقفا غريبا لعمر بن الخطاب عندما شاع خبر وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وعلت الأصوات من بيته (صلی اللّه علیه واله) بالبكاء والحيب.

موقف لعمر

قبل وصول خبر اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة إلى عمر بن الخطاب،قام عمر بتجميد الأوضاع،وإيقاف أي عملية تؤدي إلى انتخاب خليفة لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،لأن أبا بكر لم يكن في المدينة عند وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وإنما كان في السنح(3))(=محل يبعد عن المدينة بميل)،فبعث خلفه من يأتي به إلا أنه خشي أن يطرح موضوع الخلافة

ص: 109


1- لذا كانت الأوس على الدوام أقرب إلى قريش من الخزرج، وعلاقةقريش مع الخزرج تأزمت بشكل كبير بعد معركة بدر ... تذكر كلمة ابن الزبعرى التي رددها يزيد: لیت اشياخي ببدر شهدوا جرع الخزرج من وقع الأسل
2- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج2، ص 456، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مج 3، ج 6، ص 4 - 5، أيضا مج 1، ج2، ص 23.
3- صحيح البخاري، المغازي، مرض النبي (صلی اللّه علیه واله)، أيضا في المناقب، قول النبي (صلی اللّه علیه واله)لو كنت متخذا خليا، الطبری، تاریخ الأمم والملوك، ج2، ص440، 441، 442. وكان أبو بكر قبل أن يلی أمور الخلافة تاجرة، وكان منزله بالنح، ثم تحول إلى المدينة. راجع: الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج2، ص620.

قبل مجيئه،فانطلق بحالة رهيبة،يجوب أزقة المدينة،ويه بيده سيفه،وينادي بصوت عال:إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول اللّٰه قد مات،وإنه واللّٰه ما مات،ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسی بن عمران،واللّٰه ليرجعن رسول اللّٰه فيقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أن رسول اللّٰه مات(1).

وذهل الناس،وعصفت بهم أمواج رهيبة من الحيرة،لا يدرون أيصدقون مزاعم عمر بحياة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وهي من أعز ما يأملون؟أم يصدقون الأخبار المتواترة وأصوات البكاء والنحيب الصادرة من بيت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وآيات القرآن التي تؤكد إمكانية موت رسول اللّٰه؟

وهنا توجد لدينا ملاحظات:

•إن إنكار عمر لموت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وأنه ذهب إلى ربه وأنه لا بد أن يرجع إلى الأرض،لم يكن على ما يبدو عن إيمان منه بحياة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وإنما هو تضييع للوقت،حتى يمهل أبا بكر للوصول إلى المدينة.والشاهد على ذلك:أن عمر بذاته وقف أمام رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في مرضي وصده عما رامه من الكتابة،وقال: حسبنا كتاب اللّٰه،ومن الطبيعي أنه ما قال ذلك إلا وهو يدرك أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)مشرف على الموت.

هذا من ناحية،من ناحية أخرى فإن القرآن أعلن أن كل إنسان لا بد أن يموت «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ »(2)،بل تحدث عن موت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)بالخصوص في قوله تعالى:

«إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)»(3)،وقال تعالى:«وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ»(4)،وهذه الآيات ممتلی ليلا ونهارة، فهل خفيت على مثل عمر؟

مضافة إلى ذلك أن سكون عمر المفاجئ بمجرد وصول أبي بكر وتصديقه بلا مناقشة المقالته حينما أعلن وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)(5)،يؤيد التحليل القائل با حركةعمر كان المقصود منها تقطيع أوصال الوقت.

•إن حكم عمر با رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)سوف يرجع إلى الأرض ويقطع أيدي رجال

ص: 110


1- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج2، ص442، سنن ابن ماجة، ما جاء في الجنائز، ذكر وفاته
2- سورة آل عمران، الآية : 185، سورة الأنبياء، الآية: 35، سورة العنكبوت، الآية : 57.
3- سورة الزمر، الآية: 30.
4- سورة آل عمران، الآية: 144.
5- راجع، صحيح البخاري، المغازي، مرض النبي ، ووفاته .

وأرجلهم ممن أرجفوا بموته،لا يخلو من وهن،لأن تقطيع الأيدي والأرجل والحكم بالإعدام إنما يكون للذين يخرجون عن دين اللّٰه،أو يسعون في الأرض فسادة،وليس تناقل خبر موت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)موجب لذلك قطعة،بدليل أ شائعة موت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) سرت في أحرج موقف في معركة أحد،ومع ذلك لم يقم رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)بتقطيع أيدي وأرجل من تناقل خبر موته!

توجيه ابن أبي الحديد الموقف عمر

بعد أن نقل ابن أبي الحديد تفاصيل هذا الموقف لمحمر،تحدث عن التساؤلات المثارة حوله،وعرض إجابة قاضي القضاة في«المغني»،ورد السيدالمرتضى في«الشافي».ثم قام بتبرير موقف عمر على النحو الآتي:

و نحن نقول إن عمر كان أجل قدرا من أن یعتقد ما ظهر عنه فی هذه الواقعة،و لكنه لما علم أن رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) قد مات خاف من وقوع فتنة فی الإمامة و تقلب أقوام علیها إمّا من الأنصار أو غیرهم و خاف أیضا من حدوث ردة و رجوع عن الإسلام فإنه كان ضعیفا بعد لم یتمكن و خاف من ترات تشن و دماء تراق فإن أكثر العرب كان موتورا فی حیاة رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) لقتل من قتل أصحابه منهم و فی مثل ذلك الحال تنتهز الفرصة و تهتبل الغرة فاقتضت المصلحة عنده تسكین الناس بأن أظهر ما أظهره من كون رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) لم یمت و أوقع تلك الشبهة فی قلوبهم فكسر بها شرة كثیر منهم و ظنوها حقا فثناهم بذلك عن حادث یحدثونه تخیلا منهم أن رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) ما مات و إنّما غاب كما غاب موسی عن قومه و هكذا كان عمر یقول لهم إنّه قد غاب عنكم كما غاب موسی عن قومه و لیعودن فلیقطعن أیدی قوم أرجفوا بموته.

و مثل هذا الكلام یقع فی الوهم فیصد عن كثیر من العزم أ لا تری أن الملك إذا مات فی مدینة وقع فیها فی أكثر الأمر نهب و فساد و تحریق و كل من فی نفسه حقد علی آخر بلغ منه غرضه إمّا بقتل أو جرح أو نهب مال إلی أن تتمهد قاعدة الملك الذی یلی بعده فإذا كان فی المدینة وزیر حازم الرأی كتم موت الملك و سجن قوما ممن أرجف نداء بموته و أقام فیهم السیاسة و أشاع أن الملك حی و أن أوامره و كتبه نافذة و لا یزال یلزم ذلك الناموس إلی أن یمهد قاعدة الملك للوالی بعده و كذلك عمر أظهر ما أظهر حراسة للدین و الدولة إلی أن جاء أبو بكر و كان غائبا بالسنح و هو منزل بعید عن المدینة فلما اجتمع بأبی بكر قوی به جأشه و اشتد به أزره و عظم طاعة الناس

ص: 111

له و میلهم إلیه فسكت حینئذ عن تلك الدعوی التی كان ادعاها لأنّه قد أمن بحضور أبی بكر من خطب یحدث أو فساد یتجدد و كان أبو بكر محببا إلی الناس لا سیما المهاجرین (1).

مباغتة الأنصار في السقيفة

نعود إلى اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة....بينا هم مجتمعون بأسرهم(2) خرج عویم بن ساعدة الأوسي،ومعن بن عدي(3)،وانطلقا وأخبرا أبا بكر وعمر بذلك(4)،ففزعا وانطلقا مسرعين،ومعهما أبو عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة،وتبعهم جماعة آخرون من المهاجرين،فكبسوا على الأنصار في اجتماعهم،وأسقط ما بأيدي الأنصار وذهلوا وارتبكوا،وتغير لون سعد،وتخوف من خروج الأمر عنهم،لعلمه بضعف الأنصار وتصدع وحدتهم، فهو أحاط الاجتماع بكثير من الشرية،لكن الخبر تسرب إلى من يفترض أن لا يتسرب إليه الخبر.ومن كان يبغض الامارة لسعد وجد الفرصة قد حانت للانقضاض عليه.

وكاد عمر أن يبدأ بالتهجم على الحاضرين بانفعال،لكن أبا بكر أسكته،وبدأ هو

بالكلام،فكان مما قال:

خص اللّٰه المهاجرين الأولين من قومه،تصديقه والإيمان به،والمؤاساة لله والصبر معه،على شدة أذى قومهم لهم،وتكذيبهم إياهم،وكل الناس لهم مخالفت،زار عليهم،فلم يستوحشوا لقلة عددهم، وشنف الناس لهم،وإجماع قومهم عليهم،فهم أول من عبد

ص: 112


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مج 1، ج2، ص26 - 27.
2- يقول عمر: «وإنه قد كان من خبرنا حين توفي اللّه نبيه (صلی اللّه علیه واله) أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة»، راجع: صحيح البخاري، الحدود، رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت.
3- ابن هشام، السيرة النبوية، ج4، ص275، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مج 1، ج 2، ص 15. يقول عمر: أحتى لقينا رجلان صالحان فذكرا لنا الذي صنع القوم،، راجع: مسند احمد بن حنبل، مسند العشرة المبشرين بالجنة، أو مسند عمر بن الخطاب. وقد ذكر العسقلاني اسمهما في فتح الباري بشرح صحيح البخاري، عند شرحه لحديث في الحدود، رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت.
4- قال الزبير (بن بكار) : لما اجتمع جمهور الناس لأبي بكر، أكرمت قريش، معن بن عدي وعویم بن ساعدة، وكان لهما فضل قديم في الإسلام، فاجتمعت الأنصار لهما في مجلس ودعوهما ، فلما أحضرا، أقبلت الأنصار عليهما، فعيروهما بانطلاقهما إلى المهاجرين، وأكبروا فعلهما في ذلك.... فأغلظوا لهما، ونحشوا عليهما .... أنظر : ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مج 3، ج 6، ص 17 -18.

اللّٰه في الأرض،وآمن باللّٰه وبالرسول،وهم أولياؤه وعشيرته،وأحق الناس بهذا الأمر من بعده،ولا ينازعهم ذلك إلا ظالم.وأنتم يا معشر الأنصار،من لا ينكر فضلهم ولا سابقتهم العظيمة في الإسلام،رضيكم اللّٰه أنصارة لدينه ورسوله، وجعل إليكم هجرته،وفيكم جلة أزواجه وأصحابه،فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم،فنحن الأمراء،وأنتم الوزراء،لا تفتأتون بمشورة،ولا نقضي دونكم الأمور...هذا عمر،وهذا أبو عبيدة،فأيهما شئتم فبايعوا»(1) .

وكان أيضا مما قال:«ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قریش(=وجهاء

المهاجرين)،هم أوسط العرب نسبة وداراً»(2) .

ولنا هنا ملاحظات:

و إن أبا بكر لم يتحدث عن رزية وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،ولا عاهم بهذه الفاجعة،ولم يدعهم إلى القيام بتشييع جثمانه الطاهر،ليعقدوا بعد ذلك اجتماع عامة تحضره جميع طبقات المسلمين،لينتخبوا بإرادتهم وحريتهم من يرضونه خليفة لهم،لو فرضنا جدلا أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)لم يعهد لأحد من بعده.

•إن منطق هذا الخطاب هو طلب الإمرة والشلطان،فقد عرض على الأنصار صفقة،أن يتنازلوا لإخوانهم المهاجرين عن الخلافة،في مقابل أن يكونوا هم الوزراء.. لكن لما تم له الأمر،لم يمنح الأنصار مناصب عليا.

هذا الخطاب تجاهل تماما حق العترة الطاهرة،فالمنطق الذي استند إليه الأحقية المهاجرين من قريش بالخلافة هو أنهم أول الناس إسلامة،وأم الناس رجما برسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وهذا المعيار متوافر بشكل أتم في الإمام علي (علیه السلام)،فهو أول الناس إسلامة وأقرب الناس رجمة برسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،لذا تجد أميرالمؤمنين يقول في هذا المعنى شعراً:

فإن كنت بالشوری ملكت أمورهم

فكيف بهذا والمشيرون غیب

وإن كنت بالقربی حججت خصيمهم

فغيرك أولى بالنبي وأقرب(3)

ص: 113


1- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج2،ص457-458،وقريب منه في صحيح البخاري،الحدود،رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت
2- صحیح البخاري، الحدود،رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت
3- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،ص503

وكانت هذه خطوة بارعة من أبي بكر،لأنه حد نفسه من المنافسة، وجد نفسه من

جميع الأطماع السياسية،وبذلك كسب نفوس الأنصار.

وعندما اعترض الخباب بن المنذر(الخزرجي)وقال:يا معشر الأنصار،املكوا

عليكم أمركم...(ثم عرض حلا وسطا)فإن أبي هؤلاء،فمنا أمير ومنهم أمير.

عندئذ انبرى عمر فاؤد مقالة أبي بكر،فقال:هيهات لا يجتمع اثنان في قرن، واللّٰه لا ترضى العرب أن يؤمروم ونبيها من غيركم،ولكن العرب لا تمتنعأن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي أمورهم منهم،ولنا بذلك على من أبي من العرب التحة الظاهرة والشلطان المبين،من ذا ينازعنا سلطان محمد وامارته؟ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة!(1)

ولنا هنا ملاحظات:

و عمر بكلامه هذا،ورفضه لاقتراح الباب،رفض القبول بالأنصار كشركاء في

أمر الخلافة.فهو لم يتجاهل موقع الإمام علي (علیه السلام) ومنطق الوصية فحسب، بل رفض أيضا منطق تداول الشلطة بين المهاجرين والأنصار،وأغلق الباب بوجه الأنصار تماما.وهذا الأمر لا يتعلق بهوية الخليفة المقبل فحسب،بل بهوية أي خليفة مقبل.فمبدأ تداول الشلطة مرفوض عند عمر،والشلطة-في نظره-يجب أن تكون بيد وجهاء المهاجرين فحسب،ولا يمكن القبول بخليفة من الأنصار ولو في المستقبل.وهذا واضح تماما من قوله«هیهات لا يجتمع اثنان في قرن»كجواب على اقتراح ما أمير ومنهم أمير».

•نفهم من كلام عمر أيضا أن قريشا،والعرب عموما،لا تقبل خلافة أحد من الأنصار،فالعدنانيون لا يقبلون خليفة قحطانية،خصوصا مع الأخذ في الاعتبار أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) قرشي عدناني.لكن العرب في المقابل،ستقبل أن يكون الخليفة من بطون قریش العدنانية.ولا يمكن أن تعترض العرب وقريش على وجهاء المهاجرين إذا كان الخليفة منهم،وبالتالي لمهاجرة قريش الحجة الظاهرة والشلطان المبين على العرب وقريش،وهل يجرؤ العرب،بل هل تجرؤ قریش،التي أسلمت بالأمس القريب،على الاعتراض بان يتولى أحد وجهاء المهاجرين الخلافة؟فهم أولياؤه وعشيرته،وهم أول من آمن به وهاجر معه.

ص: 114


1- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج2،ص457،ابن أبي الحدید،شرح نهج البلاغة،مج3،ج6،ص6

جدل ينتهي بحسم الأمر لأبي بكر

وانبرى الحباب بن المنذر،فرد على عمر قائلا:يا معشر الأنصار املكوا عليكم أمركم،ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه،فيذهبوا بنصیبگم من هذا الأمر،فإن أبوا عليكم ما سألتموه فاجوهم عن هذه البلاد.وتولوا عليهم هذه الأمور، فانثم واللّٰه أحق بهذا الأمر منهم،فإنه بأسيافكم دان الناس لهذا الدين من دان ممن لم يكن يدين،أنا ذيلها المحكك(=من لي تجربة بالأمور)،وعذيقها المرجب(=العامة التي تعيد انحراف نمو النخلة لمسارها المستقيم)...... واللّٰه لو شئتم لتعيدها جذعة(=جديدة كما بدأ)،واللّٰه لا يرد أحد على ما أقول إلا حطمث أنه بالسيف...

قال عمر: إذا يقتلك اللّٰه.

قال الحباب:بل إياك يقتل.

وكثر اللغط،وارتفعت الأصوات.

فقال أبو عبيدة الجراح:يا معشر الأنصار إنكم كنتم أول من نصر وآزر،فلا تكونوا أول من بدل وغير.

فقام بشیر بن سعد الخزرجي(أبو النعمان بن بشير،قام ليتحدث بلسان المؤمن المتقي المتجرد من عصبياته القبلية متأثرة بمقالة أبي عبيدة متناسية حق الإمام علي عليه السلام)فقال:يا معشر الأنصار،انا واللّٰه لئن ئا أولي فضيلة في جهاد المشركين،وسابقة في هذا الدين، ما أردنا به إلا رضا ربنا وطاعة نبينا والكدح لأنهينا،فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك،ولا نبتغي به من الدنيا عرضة،فإن اللّٰه ولي النعمة علينا بذلك، ألا إن محمدا (صلی اللّه علیه واله)من قريش،وقومه أحق به وأولى،وأيم اللّٰه لا يراني اللّٰه أنازعهم هذا الأمر أبدا،فاتقوا اللّٰه ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم!

فقال أبو بكر:هذا عمر،وهذا أبو عبيدة،فأيهما شئتم فبايعوا.

فقالا:واللّٰه لا نتولى هذا الأمر عليك....

فلما ذهبا ليبايعاه،سبقهما إليه بشير بن سعد فبايعه،فناداه الخباب بن المنذر:یا

بشیر بن سعد عققت عقاق،أنفست على ابن عمك الإمارة؟

فقال:لا واللّٰه،ولكني كرهت أن أنازع قوما حقا جعله اللّٰه لهم!

ولما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعئد(الخزرجي)،وما تدعو إليه قريش،وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة،قال بعضهم لبعض-وفيهم أسيد بن حضير-:

ص: 115

واللّٰه لئن وليتها الخزرج عليكم مرة،لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة، ولاجعلوا لكم معهم فيها نصيبا أبدا،فقوموا فبايعوا أبا بكر.

فقاموا إليه فبايعوه،فانكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا أجمعوا له من

أمرهم،فأقبل الناس من كل جانب يبايعون أبا بكر،وكادوا يطاون سعد بن عبادة.

فقال أناس من أصحاب سعد:اتقوا سعدة لا تطاوه.

فقال عمر:اقتلوه،قتله اللّٰه(1) .

ثم قام عمر على رأس سعد بن عبادة فقال:لقد هممت أن أطأك حتى تندر غضوك(=تسقط أعضاؤك).فأخذ قيس بن سعد بلحية عمر فقال:واللّٰه لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي نيك واضحة(2) .

فقال أبو بكر:مهلا يا عمر،الرفق ها هنا أبلغ.فأعرض عنه عمر(3) .

ويروي الطبري في تاريخه أن أسلم أقبلت بجماعتها،حتى تضايق بهم الكك،

فبايعوا أبا بكر،فكان عمر يقول:ما هو إلا أن رأيت أسلم فأيقنت بالنصر(4)

وهذه العبارة توحي أن ما وقع كائه بمثابة انقلاب عسكري،وأن عمر كان ينتظر من خارج المدينة المدد البشري،وبالتحديد من قبيلة أستم.حتى جاءت،وضاقت بعددهم سگك المدينة،وبايعوا أبا بكر،صار هو الخليفة بحكم الأمر الواقع.

وروى أبو بكر الجوهري:أن عمر كان يومئذ-عني يوم بويع أبو بكر-محتجزة

يهرول بين يدي أبي بكر ويقول:ألا إن الناس قد بايعوا أبا بكره(5) .

قال الزبير بن بكار:فلما بويع أبو بكر،أقبلت الجماعة التي بايعته تڑه زفة إلى

مسجد رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،فلما كان آخر النهار،افترقوا إلى منازلهم(6) ...

ص: 116


1- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج2،ص457،ابن أبي الحديد،شرح نهج البلاغة،مج3،ج6،اصة. وقريب منه،صحيح البخاري،الحدود،رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت
2- علينا أن نتذكر اسم قيس جيدة،لأنه سيكون أول وال من طرف علي (علیه السلام) على مصر،بعد ذلك ستكون له مواقف بطولية في صفين،ومواقف مشرفة مع الحسن (علیه السلام) بعد شهادة أبيه علي (علیه السلام)
3- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج2،ص459
4- المصدر السابق،ج2،ص458-459
5- ابن أبي الحديد،شرح نهج البلاغة،مج1،ج2،ص34
6- المصدر السابق،مج3،ج6،ص13

بايع الناس أبا بكر،وأتوا به المسجد يبايعونه،فسمع العباس وعلي (علیه السلام) التكبير في

المسجد،ولم يفرغا من غسل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).

فقال علي (علیه السلام):ما هذا؟

وجاء البراء بن عازب فضرب الباب على بني هاشم وقال:يا معشر بني هاشم،بویع

أبو بكر.

فقال بعضهم لبعض:ما كان المسلمون يحدثون حدثا نغيب عنه ونحن أولىبمحمد.

فقال العباس:فعلوها ورب الكعبة(1).

تجهیز رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)

يروي ابن هشام في سيرته أن علي بن أبي طالب (علیه السلام)،والعباس بن عبد المطلب،والفضل بن عباس،وقثم بن عباس،وأسامة بن زيد،وشقران مولى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،هم الذين ولوا غسل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).(2)وكان الذي نزل في قبره (صلی اللّه علیه واله)علي بن أبي طالب (علیه السلام)،والفضل بن العباس وقثم بن العباس،وشقران مولى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)(3)

واتفقت الأخبار التاريخية على أن وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)كانت في منتصف نهار يوم الاثنين(4).وبويع أبو بكر يوم الاثنين في اليوم الذي قبض فيه رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)(5) .

واختلف في وقت دفنه (صلی اللّه علیه واله)؛فذهب الواقدي إلى أنه دفن يوم غد الثلاثاء في منتصف النهار حین زاغت الشمس(6) ،وذهب آخرون إلى أنه في ليلة الأربعاء وسط الليل(7) ،ويروي عن عائشة أنها قالت:ما علمنا بدفن الرسول حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل،ليلة الأربعاء(8) .وكلامها يؤكد أن الجو العام للصحابة كان منشغلا بامر الخلافة عن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وأنه لم يتفرغ لتغسيله وتكفينه (صلی اللّه علیه واله) إلا النفر الذين ذكرنا أسماءهم.

ص: 117


1- الزبير بن بكار،الموفقیات،ص580،نقلا عن:مرتضى العسكري،معالم المدرستين،مطبعة صدر،1416هج-1995م،ط5،ج1،ص149
2- ابن هشام، السيرة النبوية، ج4، ص277.
3- المصدر السابق،ج4،ص279
4- الطبري، تاريخالأمم والملوك،ج2،ص441
5- المصدر السابق،ص442
6- المصدر السابق،ص442
7- المصدر السابق،ص452،ابن هشام،السيرة النبوية،ج4،ص279
8- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج2،ص452

وهناك رواية للمفيد تشير إلى أن الخبر وصل إلى بني هاشم عندما كانوا قد فرغوا تو من دفن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).يقول المفيد:لما تم لأبي بكر ما تم،وبايعه الناس،جاء رجل إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) وهو يسوي قبر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بمسحاة في يده،فقال له:إن القوم بايعوا أبا بكر،ووقعت الخذلة في الأنصار لاختلافهم،وبدر اللقاء بالعقير للرجل خوفا من إدراككم الأمر،فوضع (علیه السلام) طرف المسحاة في الأرض ويده عليها وقال:

بسم اللّٰه الرحمن الرحيم،«الم (1)أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)»(1).

وتحدث الروايات التاريخية عن محاولة لأبي سفيان لإيقاع الفتنة،من خلال تحريض الإمام علي (علیه السلام) والعباس،وأن عليا (علیه السلام) زجره وقال له:إنك واللّٰه ما أردت بهذا إلا الفتنة،وإنك طال ما بغيت للإسلام شرة،لا حاجة لنا في نصيحتك(2).

بطبيعة الحال،كان الإمام علي (علیه السلام) ملتفتأ لذلك،ولم تنطل عليه حيلة أبي سفيان،لأن العلاقة بين أبي سفيان وأبي بكر كانت على ما يرام،وكان أبو بكر يدافع عن أبي سفيان،فقد روى مسلم في صحيحه أن أبا سفيان أتی علی سلمان وصهيب و بلال في نفر،فقالوا:واللّٰه ما أخذت سيوف اللّٰه من عنق عدو اللّٰه ماخذها.قال فقال أبو بكر:أتقولون هذا لشيخ قريش وسيرهم؟فأتى النبي (صلی اللّه علیه واله) فأخبره،فقال:يا أبا بكر لعلك أغضبتهم،لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك(3)........

وروى محمد بن إسحاق أن أبا بكر لما بویع،افتخرت تیم بن مرة(القبيلة التي ينتمي إليها أبو بكر)،قال:وكان عامة المهاجرين والأنصار لا يشكون أ علية هو صاحب الأمر بعد رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)(4).

وفي نهج البلاغة أن علية غلی سال بعد ذلك عن مجريات اجتماع السقيفة فقال:ما

قالت الأنصار؟

قالوا:قالت ما أمير ومنكم أمير.

ص: 118


1- سورة العنكبوت، الآيات: 1- 4. المفید، الارشاد، ج1، ص189 - 190.
2- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج 2، ص 449. أنظر أيضا : ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، امج 3، ج 6، ص 11 - 12، أيضا مج1، ج 2، ص 27 - 28.
3- صحيح البخاري، 2/ 362. أيضا : صحیح مسلم، فضائل الصحابة، من فضائل سلمان وصهيب وبلال، مسند أحمد بن حنبل، أول مسند البصريين، حديث عائذ بن عمرو رضی اللّه عنه.
4- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مج 3، ج 6، ص 14.

قال (علیه السلام):فهلا احتجتم عليهم بأن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وصى بأن يحسن إلى محبيهم

ويتجاوز عن مسيئهم(1) ؟

قالوا:وما في هذا من الحجة عليهم؟

قال (علیه السلام):لو كانت الإمام فيهم لم تكن الوصية بهم(2) .

ثم قال (علیه السلام):فماذا قالت قریش؟

قالوا:احتجت بأنها شجرة الرسول (صلی اللّه علیه واله).

فقال (علیه السلام): احتجوا بالشجرة،وأضاعوا الثمرة(3).

ويروى أيضا أن الإمام علي (علیه السلام) قال بعد محاولة أبي سفيان مبايعته بالخلافة،بعد أن تمت البيعة لأبي بكر:«....فإن أقل يقولوا:حرص على الملك،وإن أسمحت يقولوا:جزء من الموت!هيهات بعد الأتيا والتي،واللّٰه لابن أبي طالب آن بالموت من الطفل بثدي أمه،بل اندمج على مكنون علم لو بحث به لاضطربثم اضطراب الأرشية في الوي البعيدة (=اضطراب الحبال المتدلية في الآبار العميقة»(4) .

وتتحدث بعض المصادر عن موجة ندم أصابت كثيرة من الأنصار على بيعة أبي بكر،

ولام بعضهم بعضا،وذكروا علي بن أبي طالب وهتفوا باسمه(5) ،ولكن ولات حين مندم.

التحضن بدار فاطمة (علیها السلام)

وغضب رجال من المهاجرين والأنصار من بيعة أبي بكر،ومالوا مع علي (علیه السلام)، فدخلوا بيت فاطمة (علیها السلام) ومعهم السلاح،فبلغ أبا بكر وعمر أن جماعة من المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا مع علي (علیه السلام) في منزل فاطمة (علیها السلام) بنت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)..

وذكر المؤرخون في عداد من تخلف عن بيعة أبي بكر وتحضن بدارفاطمة:العباس

ص: 119


1- لاحظ هذه الروايات في صحيح البخاري،المناقب،قول النبي (صلی اللّه علیه واله):اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم
2- أي وصية رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،هي وصية للإمام الذي يلي أمور المسلمين،بأن يقبل من محسن الأنصار ويتجاوز عن مسيئهم،ولو كان الإمام من الأنصار،لما كان ثمة وجه لكي يوصي رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)؟ بهم.فهو (صلی اللّه علیه واله) قد أخبرهم بأنهم سيلقون من بعده أثرة
3- نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح، 67، ص 97 - 98. أي احتج وجهاء المهاجرين بأنهم من قريش التي ينتسب إليها رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)، وأضاعوا بني هاشم، البطن القرشي الذي ينتمي إليه رسول (صلی اللّه علیه واله)
4- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(5)،ص52
5- وقالوا:لا نبايع إلا علية.راجع:الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج2،ص443

ابن عبدالمطلب،سلمان الفارسي،أبو ذر الغفاري(1)،عمار بن یاسر(2)،المقداد بن الأسود(3)،البراء بن عازب(4)،أبي بن كعب(5)،خالد بن سعيد بن العاص بن أمية،وجماعة من بني هاشم،وجمع من المهاجرين والأنصار.فبعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطاب ليخرجهم من بيت فاطمة،وقال له:إن أبوا فقاتلهم. فأقبل(عمر)بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار،فلقيهم فاطمة فقالت: يا ابن الخطاب أنت لحرق دارنا؟قال:نعم،أو تدخلوا في ما دخلت فيه الأمة(6).

وقال بعد ذلك أبو بكر في مرض موته:إني لا آسي على شيء من الدنيا إلا على

ثلاث فعلتهن،وددت أني تركه....فأما الثلاثة التي فعلها فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شيء،وإن كانوا قد أغلقوه على الحرب(7).

وفي هذا يقول شاعر النيل حافظ إبراهيم في ديوانه:

ص: 120


1- هو جندب بن جنادة من بني غفار، يماني نحطاني، يقال أنه أسلم بعد أربعة، وأعلن إسلامه وتشهد الشهادتين جهارة في المسجد الحرام، وتعرض جراء ذلك للضرب المبرح، ليس من سكان مكة الأصليين، فقد كان بنو غفار يسكنون في طريق مكة إلى الشام، توفي ودفن في الربذة قرب المدينة.
2- عمار بن ياسر اصله يماني قحطاني من مذحج، أبوه یاسر جاء إلى مكة وحالف أبا حذيفة بن المغيرة المخزومي، وتزوج أمة لأبي حذيفة يقال لها سمية، فولدت له عمارة، فأعتقه أبو حذيفة، فمن ههنا صار عمار مولی لبني مخزوم.
3- هو المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك... ابن قضاعة الهراوي، نسب إلى الأسود بن عبد يغوث الزهري، لأن المقداد حالفه، فتبناه الأسود، فنسب إليه . ويقال له أيضا المقداد الكندي، يقال لأنه أصاب دما في بهراء نهرب منهم إلى كندة فحالفهم، ثم أصاب فيهم دمأ نهرب إلى مكة، فحالف الأسود، وكان المقداد من أول من أظهر الإسلام بمكة، وفي ترجمته في أسد الغابة، أن الرسول (صلی اللّه علیه واله)؛ قال : إن اللّه عزوجل أمرني بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم، قيل : یا رسول اللّه سمهم النا، قال: علي منهم، يقول ذلك ثلاثا، وأبو ذر والمقداد وسلمان.
4- البراء بن عازب بن الحارث.... الأنصاري الأوسي، رده رسول اللّه عن بدر استصغره، شهد مع علي (علیه السلام) الجمل وصفين والنهروان (هو وأخوه عبيد)، ونزل الكوفة، ومات أيام مصعب بن الزبير .
5- أبي بن كعب بن قيس .... ابن النجار الأنصاري الخزرجي، شهد العقبة وكان بدرية ، أول من كتب الرسول اللّه مقدمه المدينة. توفي سنة 30هج في خلافة عثمان.
6- ابن عبد ربه الأندلسي، العقد الفريد، ح4، ص 259 - 260. ولمعرفة تفاصيل الهجوم على بيت فاطمة (علیها السلام) ، راجع: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مج 1، ج2، ص 31 - 35، أيضا مج 3، ج 6، ص 31.
7- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج2، ص619، ابن عبد ربه الأندلسي، العقد الفرید، ج4، ص 268.

وقوله لعلي قالها عمر

أكرم بسامعها أعظم بملقيها

حرقت دارك لا أبقى عليك بها

إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها

ما كان غير أبي حفص یفوه بها

أمام فارس عدنان وحاميها!

الضغط على الإمام علي (علیه السلام) لمبايعة أبي بكر

وقد روى ابن قتيبة الدينوري تفاصيل الضغط على الإمام علي (علیه السلام) واقتياده قسرا من بيته،حتى جيء به إلى أبي بكر،وتعنيف عمر له:إنك لست متروكة حتى تبایع(1)،وجوابه ای:احلب حلبة لك شطره واشدد له اليوم أمره ليرده عليك غدا(2)!

سلب فاطمة (علیها السلام) فدك

بمجرد استلام أبي بكر الخلافة،سلب فاطمة (علیها السلام) فدك(3).وقد روي عدد من المفسرین(كالسيوطي في الدر المنثور والثعلبي في كشف البيان)بالإضافة إلى علماء آخرين(كالذهبي في ميزان الاعتدال والمتقي الهندي في كنز العمال وابن كثير في تاريخه)أنه لما نزلت الآية: «وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ »(4)،دعا رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)

فاطمة فاعطاها فدكة،وتوفي رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وفدك بيد فاطمة (علیها السلام) ،فسلبها أبو بكر فدك بحجة ما رواه عن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):«نحن معاشر الأنبياء لا نورث،ما تركنا صدقة».

ويبدو أن أبا بكر وعمر كانا يعلمان أن عائدات فدك تشكل خطرا على الخلافة الجديدة،لأنها ستتحول إلى مصدر مالي ضخم لأهل البيت (علیهم السلام) والمعارضة، وهذا أمر بالغ الخطورة بالنسبة إلى الشلطة الجديدة.إذن لا بد من تجريد أهل البيت (علیها السلام) من هذا المصدر المالي،بعد أن تم تجريدهم من السلطة.

ص: 121


1- قال الطبري في تاريخه : وتخلف علي والزبير، واخترط الزبير سيفه، وقال : لا أغمده حتى يبايع علي، فبلغ ذلك أبا بكر وعمر، فقال عمر: خذوا سيف الزبير ، فاضربوا به الحجر، قال : فانطلق إليهم عمر، فجاء بهما تعبأ ، وقال : لتبايعان وأنتما طائعان، أو لتبايعان وأنتما كارهان، فبايعا. راجع: الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج2، ص444,
2- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، باب إمامة أبي بكر
3- كانت فدك ملكة خاصة لرسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) ، لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، فأهل خيبر تحصنوا، وسألوا رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) أن يحقن دماءهم ويسيرهم، ففعل، فسمع ذلك أهل فدك، فنزلوا على مثل ذلك. راجع: ابن أبي الحدید، شرح نهج البلاغة، مج8، ج16، 123، أيضا راجع: البلاذري، البلدان فتوحها وأحكامها ، تحقيق د. سهیل زكار، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 412 اهج - 1992م، بیروت، ص35 - 40.
4- سورة الإسراء، الآية : 26.

والحقيقة أن فدكة لم تكن إرثا أصلا حتى يرد على فاطمة (علیها السلام) بهذا الحديث المنسوب إلى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،بل كانت فدك بيدها (علیها السلام) فعلا وتحت سيطرتها. وفي فقه القضاء،إذا ادعي شخص أن المال الذي بيد شخصآخر(ذي اليد) ملكه،ففي هذه الحالة،يكون الأول هو المدعي،والثاني هو المنكر،والقاضي يطلب من المدعي إقامة البينة لإثبات معاه.وفدك كانت بي فاطمة (علیها السلام) لسنين عديدة،وبالتالي هي ذات اليد،لذا قالت (علیها السلام):فدك نحلة لي،وقد وهبها رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)لها .ويدعي أبو بكر-لخليفة الجديد-با فدكة للمسلمين.حينئذ عليه أن يثبت ذلك بإقامة البينة،لا أن يطالبها هي بالبينة على أن رسول اللّٰه قد وهبها لها(1).

عندما انتزعت فدك من يد فاطمة (علیها السلام)،جاءت طالب بها بعنوان آخر. جاءت تطالب بها بعنوان إرثها من أبيها (صلی اللّه علیه واله).هنا رد عليها أبو بكر بالحديث المنسوب إلى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).لذا تقول الرواية عن عائشة:

إن فاطمة (علیها السلام) بنت النبي (صلی اللّه علیه واله)،أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميرائها من رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)، مما افاء اللّٰه عليه بالمدينة وفدك،وما بقي من خمس خیبر،فقال أبو بكر:إن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)قال:لا نورث ما تركنا صدقة إنما يأكل آل محمد (صلی اللّه علیه واله)في هذا المال، وإني واللّٰه لا أغير شيئا من صدقۃ رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،عن حالها التي كانت عليها في عهير رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) ولأعمل فيها بما عمل به رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،فأبي أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا،فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك،فلم تكتمه حتى توفيت....»(2) .

وقد ردت فاطمة (علیها السلام) على أبي بكر واستدلت على حقها بالقرآن،فالحديث المنسوبإلى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) مخالفت لصريح القرآن،حيث قال تعالى:«وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ»(3) ،

وقال على لسان زكريا (علیه السلام):رب«فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا»«يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا»(4) .

ص: 122


1- عندما طالبها أبو بكر بالبينة،جاءت (علیه السلام) بعلي (علیه السلام) فشهد،وجاءت بأم أيمن فشهدت أيضا.وجاء عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف نشهدا أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) كان يقسمها.أنظر:ابن أبي الحديد،شرح نهج البلاغة،مج8،ج16،ص126-127
2- صحیح البخاری،كتاب المغازي،غزوة خيبر،صحیح مسلم،كتاب الجهاد والسير،قول النبي (صلی اللّه علیه واله):لا نورث ما تركناه صدقة
3- صحیح البخاری،كتاب المغازي،غزوة خيبر،صحیح مسلم،كتاب الجهاد والسير،قول النبي:لا نورث ما تركناه صدقة
4- سورة مريم،الآيتان:5-6

وإن قيل أن المقصود بالتوريث في هاتين الآيتين توريث العلم والحكمة،لا توريث المال،فكيف الحال بالآية:«يوصيكم اللّٰه في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين»(1) ،والأصل في الآية وغيرها العموم،والتخصيص يحتاج إلى دليل.

لذا يقول الإمام علي (علیه السلام) بالم:«بلی كانت في أيدينا فدك،من كل ما أظلته الماء،فشكت عليها نفوس قوم(=أبو بكر وعمر)،وسكت عليها نفوس آخرین (=فاطمة وعلي)،ونعم الحكم اللّٰه.وما أصنع بفدك وغير فدك،والف مظائها في غد إلى جدث...»(2) .

على أي حال،عندما ولي معاوية بن أبي سفيان الخلافة،أقطع مروان بن الحكم ثلث فدك،وأقطع عمرو بن عثمان بن عفان ثلثها،وأقطع یزید بن معاوية ثلثها،وذلك بعد وفاة الحسن بن علي (علیه السلام)!فلم يزالوا يتداولونها حتى خلصت كلها لمروان بن الحكم أيام خلافته،فوهبها لعبد العزيز ابنو،فوهبها عبد العزيز لابنه عمر بن عبد العزيز.

فلما ولي عمر بن عبد العزيز الأمر،رد فدك إلى ولد فاطمة،فلما ولي يزيد بن عاتكة

قبضها منهم،فصارت في أيدي بني مروان كما كانت يتداولونها.فلما ولي أبو العباس السفاح ردها إليهم،ثم قبضها أبو جعفر المنصور لخلافه مع بني الحسن (علیه السلام)،ثم ردها ابنه المهدي على ولد فاطمة،ثم قبضها موسی بن المهدي وهارون أخوه،فلم تزل في أيديهم حتى ولي المأمون وردها على ولد فاطمة(3) .

سلب بني هاشم حق الخمس

حتى يطمئن وجهاء المهاجرين من استتباب الأمر لهم،عمد أبو بكر إلى التضييق

المالي على بني هاشم،فأسقط حقهم من المس المفروض في القرآن.

فقد روى النسائي في نيو عن قيس بن مسلم،قال:سأل الحسن بن محمد عن قوله عزوجل:«وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ»قال:هذا مفاتيح كلام اللّٰه،الدنيا والآخرة اللّٰه،قال:اختلفوا في هذين الشهمین بعد وفاةرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) سهم الرسول وسهم ذي القربى،فقال قائل:سهم الرسول للخليفة من بعده، وقال قائل:سهم ذي القربي لقرابة الرسول (صلی اللّه علیه واله)،وقال قائل:سهم ذي القربي لقرابة الخليفة.

ص: 123


1- سورة النساء،الآية:11
2- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(45)،ص417
3- ابن أبي الحديد،شرح نهج البلاغة،مج8،ج16،ص127

فاجتمع رأيهم على أن جعلوا هذين التهمين في الخيل والعدة في سبيل اللّٰه،فكانا في ذلك خلافة أبي بكر وعمر(1) .

لذا قال ابن أبي الحديد:«واعلم أن الناس يظنون أن نزاع فاطمة أبا بكر كان في أمرين:في الميراث والحلة، وقد وجد في الحديث أنها نازعت في أمر ثالث،وهو سهم ذوي القربى»(2) .

موقف الإمام علي (علیه السلام) من نتائج السقيفة

لا يشك الباحثون في أن عليا (علیه السلام) كان يرى نفسه أحق بخلافة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) من غيره،وأن ما أقعده عن المطالبة بحقه،عدم وجود عدد كاف من الأعوان والأنصار،لذا قال:«فنظرت فإذا ليس لي معين،إلا أهل بيتي،فضننث بهم عن الموت،وأغضي على القذى،وشرب على الشجي،وصبر على أخذ الكظم،وعلى أمر من طعم العلقم»(3) .

هذا ما تؤكده أيضا رواية عائشة التي رواها البخاري ومسلم في صحيحهما،تقول في تلك الرواية:«....فأبى أبوبكر أن يدفع إلى فاطمة منها(=من فدك) شيئا،فوجدت فاطمه علی أبی بكر فی ذلك،فهجرته فلم تكلمه حتی توفیت، و عاشت بعد النبی صلی اللّه علیه و سلم سته أشهر،فلما توفیت دفنها زوجها علی لیلا،و لم یؤذن بها أبا بكر و صلی علیها.

و كان لعلی من الناس وجه حیاه فاطمه،فلما توفیت استنكر علی وجوه الناس،فالتمس مصالحه أبی بكر و مبایعته،و لم یكن یبایع تلك الاشهر،فارسل الی أبی بكر أن ائتنا و لا یأتنا أحد معك،كراهیه لمحضر عمر...(فكان مما قال الإمام علي (علیه السلام) لأبي بكر)لكنك استبددت علينا بالأمر وكنا نرى لقرابتنا من رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)نصيبة......(ثم عندما أراد بيعة أبا بكر خطب (علیه السلام) خطبة قال فيها) لكئا نرى لنا في هذا الأمر نصيبا،فاستبد علينا،فوجدنا في أنفسينا...»(4) .

لكن ما سر التغير المفاجئ في موقف الإمام علي (علیه السلام)،من معارض ناقم جالس في

بيته ورافض لبيعة الخليفة الأول ستة أشهر،إلى معارض بنحو إيجابي وداعم؟

ص: 124


1- سنن النسائي،كتاب قسم الفيء،مج4،ج7،ص133.راجع أيضا:الحاكم النيسابوري،ج2،كتاب قسم الفيء،ح2585،ص163
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة،مج 8،ج16،ص135
3- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،كتاب26،ص68
4- صحيح البخاري،كتاب المغازي،غزوة خيبر،صحیح مسلم،كتاب الجهاد والسير،قول النبي:لا نورث ما تركناه صدقة

أم المؤمنين عائشة فنشرت ذلك بأن علياً (علیه السلام) استنكر وجوة الناس،وكأنه شعر بضغط اجتماعي ونوع من الغربة،فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته. ولكن الإمام

عليا (علیه السلام) يشرح لنا الدوافع الحقيقة لتغير موقفه.هذا الشرح نجده في كتاب له (علیه السلام)

الأهل مصر يقول فيه:

فلما مضى (علیه السلام)(يعني رسول اللّٰه)تنازع المسلمون الأمر من بعده،فواللّٰه ما كان يلقى في روعي،ولا يخطر ببالي،أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده (صلی اللّه علیه واله) عن أهل بيته،ولا أنهم منحوه عني من بعده(وهذا هو الانطباع العام السائد،فقد قلنا إن عامة المهاجرين والأنصار كانوا لایشكون أن عليا هو صاحب الأمر بعد رسول اللّٰه)(1) ،فما راعني إلا انثيال الناس على فلان(=أبي بكر)يبايعونه، فأمسك يدي حتى رأي راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام،يدعون إلى محق دین محمد (صلی اللّه علیه واله)فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله،أن أرى فيه ثلما أو هدما،تكون المصيبه به علي أعظم من فوت ولايتكم،التي هي متاع أيام قلائل،يزوث منها ما كان،كما يزول الشراب،أو كما يتقشع الشحاب،فنهض في تلك الأحداث حتى زاخ الباطل وزهق،واطمان الذي وتهنة»(2) .

وتكتمل الورة أكثر في خطبة الشقشقية التي يقول (علیه السلام) فيها:«فسدل دوئها (=دون الخلافة)ثوبا،وطويث عنها كشحا،وطفقت أرتئي(=بدأت أفكر مليا) بين أن أصول بید جذاء(=مقطوعة)،أو أصبر على طخية(=ظلمة) عمياء،يهرم فيها الكبير،ويشيب فيها الصغير،ويكد فيها مؤمن حتى يلقى ربه،فرأيت أن الصبر على هاتا أحجی ألزم وأجدر)،فصبرت وفي العيني قذي،وفي الحلق شجا،أرى ثرائي نهبا(3) .

وهذا يعني أن الإمام علي (علیه السلام) كان بين خيارين:الأول أن يظل متمسكا بموقفه المعارض،المؤكد على أحقيته في الخلافة السياسية،رغم فقدان الناصر،ويتجاهل ظاهرة الارتداد الخطيرة التي كانت تهدد وجود الإسلام، وتكون النتيجة:الضياع الشامل والتفريط في تضحيات رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،ودماء الشهداء وانهيار التجربة.الخيار الثاني أن يقف مع أبي بكر وينظر الإسلام وأهله لمواجهة المرتدين مع تحمل مرارة سلب الحق

ص: 125


1- ابن أبي الحديد،شرح نهج البلاغة،مج3،ج6،ص14
2- نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح،كتاب62،ص451
3- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،خطبة 3،ص48

وكان في العين قذى وفي الحلق شجا....بالتأكيد،اختار الإمام علي (علیه السلام) الخيار الثاني لأن مصيبة ضياع الإسلام بالنسبة إليه أو انثلامه أعظم من فوت الخلافة السياسية.

لكن لماذا انتظر الإمام علي (علیه السلام) وفاة فاطمة (علیها السلام) ليبايع أبا بكر؟الجواب:قد لا يكون هناك ربط مباشر بين مبايعته (علیه السلام) أبا بكر ووفاة فاطمة (علیها السلام)،ويبدو أن السبب الحقيقي هو استفحال ظاهرة الارتداد،وتوالي الأخبار عن ارتداد هذه القبيلة وتلك،وخروج الوضع عن سيطرة أبي بكر،هو الذي أدى إلى وصول الإمام علي (علیه السلام) إلى هذه القناعة.وقد تكون وفاة فاطمة (علیها السلام) محفزة إضافية لقيامه (علیه السلام) بهذه الخطوة،لأن مبايعته أبا بكر في حياة فاطمة (علیها السلام)،بعد غضبها من أبي بكر وعمر،بسبب اقتحام بيتها،وسلب حقها في فدك،فضلا عن سلب حقه (علیه السلام) في الخلافة،سوف يجرح مشاعرها إلى حد بعيد. على هذا الأساس،قد تكون وفاتها (علیه السلام) محفزة-وليس سببا-لاتخاذ الإمام علي (علیه السلام) هذه الخطوة الجريئة والشجاعة.

الخلاصة:شرحنا فيما مضى لسان حال كل من قريش والأنصار ووجهاء المهاجرين وبني هاشم،وذكرنا بأن الأنصار قرأوا الوضع السياسي،وبدا لهم واضحا أن قريشة عزمت على عدم تسليم الخلافة لعلي (علیه السلام)،فسارعت لعقد اجتماع سري في الشقيفة،ورسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)مسجي على فراش الموت، وأرادت الخزرج مبايعة سعد بن عبادة كخليفة،وأرادوا من الأوس الصرة،لكن سرعان ما انكشف أمر الاجتماع،فسارع أبو بكر وعمر وأبو عبيدة إلى السقيفة،واستطاع أبو بكر أن يستفيد من تناقضات الأنصار،واحتج بالسابقة إلى الإسلام والقرابة من رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،ولم ينكر على الأنصار فضلهم.ففاجأ أحد رجال الخزرج الجميع بمبايعة أبي بكر،ثم بادر رجال الأوس إلى مبايعته، وخرج الأنصار من مجال المنافسة،ولم يحضر أغلب المسلمين تغسيلوتكفين رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،لأنهم انشغلوا بأمر الخلافة،وكان الإمام علي (علیه السلام) منشغلا بتغسيل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وتكفينه ودفنه..ورأينا أن وجهاء المهاجرين كانوا قد اتكاوا على محجة أين العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش،فصارت قريش سندة لوجهاء المهاجرين،وظن وجهاء المهاجرين أن الأمر سيظل تحت سيطرتهم، وأنهم سيظلون يمثلون نقطة التوازن بين قریش من جهة والأنصار وبني هاشم من جهة أخرى.ووجدت قريش أن فرصتها الوحيدة للعودة إلى دائرة الشلطة تكمن في دعم وجهاء المهاجرين القرشيين،وإن كانوا من قبائل ضعيفة من قريش،كخطوة أولى،تتبعها خطوات نحو الشلطة،وقام عمر بمحاصرة دار فاطمة (علیها السلام) التي تحضن فيها المعارضون،وكشف دارها (علیها السلام)،وضغط

ص: 126

على الإمام علي (علیه السلام) للمبايعة،وسلب أبو بكر فاطمة فدك،وأسقط حق أهل البيت (علیهم السلام) في الخمس،حتى يتحتم وجهاء المهاجرين(وقریش من ورائها في القدرة المالية لبني هاشم.وانتهى الإمام علي (علیه السلام)-عندما استفحلت ظاهرة الارتداد-إلى ضرورة مبايعة أبي بكر ودعمه ومساندته،لمواجهة التحديات التي تهدد الإسلام في وجوده.

هذه الأحداث لها ربط مباشر بواقعة كربلاء،فتجاهل وصايا رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في عرفة بحق أهل البيت (علیهم السلام)،وتجاهل حادثة غدیر خم،ورفض الإتيان بكتف ودواة الرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).....ثم بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،سلب الإمام علي (علیه السلام) الخلافة،ثم التهديد بحرق بيت فاطمة (علیها السلام) ثم كشفه،والضغط على الإمام علي (علیه السلام) وإجباره على المبايعة،ثم سلب فاطمة (علیها السلام) فدك،ومنع ذوي القربي من حقهم من الخمس...سلسلة المواقف هذه،كسرت حواجز نفسية واجتماعية،وكانت دروسا اللقاء وأبناء الطلقاء تعلموا من خلالها كيفية التعامل مع أهل البيت (علیهم السلام).فأبو بكر وعمر-تعمدا أو لم ينعمدا-هما أول من كسرا هيبة أهل البيت (علیهم السلام) في نفوس المسلمين،تلك الهيبة التي نشات بفضل جهود رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وجهاد أهل البيت (علیهم السلام)-وتجرأ من جاء بعدهما ليتعامل معهم بطريقة مسيئة ومهينة..ثم شيئا فشيئا بطريقة مفجعة ومشينة.فتجرأ الظليق معاوية بن أبي سفيان على رفع الشيف بوجه الإمام علي (علیه السلام) الخليفة الشرعي،وتجرأ على دس السم للحسن (علیه السلام)،ثم تجرأ ابن الطليق یزید بن معاوية على سفك دم الحسين (علیه السلام) وشباب آل محمد،وقطع رؤوسهم ورفعها على أسئة الرماح،وجر أهل بيته سبايا من بلد إلى آخر.

سننتقل الآن لنتحدث عن عهد أبي بكر،وخطوات ترسيخ الوجود القرشي في المجتمع الإسلامي،ثم انتقال الخلافة إلى عمر، وعصر الفتوحات ومضاعفات هذا المنعطف المهم على النسيج الاجتماعي،ثم نتحدث عن اغتيال عمر والشورى الشداسية التي شكلها.

ص: 127

(6)عمر:الفتوحات الكبرى

تحدثنا في الفصل السابق عن مجريات السقيفة،التي انتهت إلى وصول الخلافة إلى أبي بكر.والحقيقة أن أبا بكر لم تطل فترة خلافته إلا سنتان وأربعة أشهر،لكن وضع خلالها قواعد،بنى عليها عمر فيما بعد.في هذا الفصل سنتناول معالم خلافة الخليفة الأول،وما جرى في خلافة الخليفة الثاني من فتوح كبرى كان لها أثر كبير في وضع المسلمين.

أبو بكر(11-13هج)يرسخ وجود بني أمية

من الأمور اللافتة لنظر الباحث أن أبا بكر لم يعهد باي عمل أو منصب لأحد من بني هاشم،ولا الأنصار،وكان بعض ماله من بني أمية،منهم:

1)يزيد بن أبي سفيان:استعمله واليا على الشام(كما ينقل الطبري في تاريخه)(1) .

ويقول ابن الأثير في«أسد الغابة»في ترجمته إنه أسلم يوم فتح مكة(2) .

2)عتاب بن أسيد:عينه أبو بكر والية على مكة(كما ينقل الطبري في تاريخه)(3) .

ويقول ابن الأثير في ترجمته في«أسد الغابة»إنه أسلم يوم فتح مكة(4) .

وبدأ يعلو نجم الأمويين،وبدأوا باسترداد كيانهم بعد أن فقدوه في ظل الإسلام،ويبدو لي أن أبا بكر كان يتوقع أن تظل الأمور تحت السيطرة،ويظل وجهاء المهاجرين القرشيين هم واجهة قريش،لا أن ينقلب اللقاء عليهم، ويأتي معاوية بعد أخيه يزيد اليحكم الشام ويسيطر عليها،وينطلق منها للسيطرة على العالم الإسلامي بأسره.لذا يروي أحمد بن حنبل في مسنده عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ بَعَثَنِي إِلَى الشَّامِ يَا يَزِيدُ إِنَّ لَكَ قَرَابَةً عَسَيْتَ أَنْ تُؤْثِرَهُمْ بِالْإِمَارَةِ وَذَلِكَ أَكْبَرُ مَا أَخَافُ عَلَيْكَ

ص: 128


1- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج2،ص617
2- ابن الأثير،اسد الغابة،ج3،ص358
3- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج2،ص617
4- ابن الأثير،اسد الغابة،ج5،ص112

فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَحَدًا مُحَابَاةً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا حَتَّى يُدْخِلَهُ جَهَنَّمَ وَمَنْ أَعْطَى أَحَدًا حِمَى اللَّهِ فَقَدْ انْتَهَكَ فِي حِمَى اللَّهِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ أَوْ قَالَ تَبَرَّأَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ(1)

هل تم تطبيع العلاقة مع الطلقاء والمنافقين؟

للوهلة الأولى،قد يكون من الغريب إثارة هذا السؤال،لكن ثمة مؤشرين على وقوع ذلك،المؤشر الأول: إسقاط مر لسهم المؤلفة قلوبهم في خلافة أبي بكر،والمؤشر الثاني: إسقاط التكبيرة الخامسة في الصلاة على الميت.توضيح ذلك:

فيما يتعلق بالمؤشر الأول من المعلوم أن من أسهم الزكاة المنصوص عليها في القرآن سهم المؤلفة قلوبهم.ويراد من إعطاء هذا الشهم لهذه الشريحة،إما تحييدهم أو التخفيف من شرورهم في الصراع مع الكفر،أو كسبهم إلى صف المسلمين(2) .وكتب فقه الزكاة والسير،عندما تبحث في سهم المؤلفة قلوبهم،تؤكد على أن رسول اللّٰه؟أعطى أبا سفيان ومعاوية من غنائم حنين-بعد فتح مكة-لتألیف قلبيهما،كما أعطى غيرهما أيضا ممن هم على شاكلتهما(3) .

وإعطاء المال بعنوان تألیف قلب إنسان ما،يعني أن هذا الإنسان إما غیر مسلم أصلا،وإما مسلم ضعيف الإيمان ويراد استمالة قلبي.وهذا ينطوي على نوع من الهمة.....فهل إسقاط عمر لهذا الهم-في خلافة أبي بكر ورضاه-هو لرفع التهمة والحرج عن هذه الشريحة،ونحو من تطبيع العلاقة، تحت مبرر أن اللّٰه تعالى أع بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)الإسلام وأغناه أن يتالف عليه رجال؟كما يدعي بعض فقهاء أهل الشنة الذين تحدثوا عن سقوط هذا الشهم بموت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)!!

قال القرضاوي في فقه الزكاة:«وقال جمهور الحنفية:انتسخ سهمهم وذهب، ولم

يعطوا شيئا بعد النبي (صلی اللّه علیه واله)،ولا يعطى الآن لمثل حالهم.

قال في البدائع:وهو الصحيح،لإجماع الصحابة على ذلك،فإن أبا بكر وعمر رضی اللّه عنهما ما أعطيا المؤلفة قلوبهم شيئا من الصدقات،ولم ينكر أحد من الصحابة.فإنه روي

ص: 129


1- مسند أحمد بن حنبل، مسند العشرة المبشرين بالجنة ، مسند أبي بكر الصديق رضی اللّه عنه
2- يوسف القرضاوي،فقه الزكاة،مؤسسة الرسالة،ط3،397اهج-1977م،ج2،ص594
3- ابن هشام،السيرة النبوية،ج4،ص115،وابن إسحاق،السيرة النبوية،ص584

أنه لما قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جاؤوا إلى أبى بكر واستبدلوا الخط منه لسهامهم فبدل لهم الخط ثم جاؤوا إلى عمر رضي اللّه عنه وأخبروه بذلك فاخذ الخط من أيديهم ومزقه وقال إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يعطيكم ليؤلفكم على الاسلام فاما اليوم فقد أعز اللّه دينه فان ثبتم على الاسلام والا فليس بيننا وبينكم الا السيف فانصرفوا إلى أبى بكر فأخبروه بما صنع عمر رضي اللّه عنهما وقالوا أنت الخليفة أم هو فقال إن شاء اللّه هو ولم ينكر أبو بكر قوله وفعله وبلغ ذلك الصحابة فلم ينكروا فيكون اجماعا منهم على ذلك ولأنه ثبت باتفاق الأمة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم إنما كان يعطيهم ليتألفهم على الاسلام ولهذا سماهم اللّه المؤلفة قلوبهم والاسلام يومئذ في ضعف وأهله في قلة وأولئك كثير ذو قوة وعدد واليوم بحمد اللّه عز الاسلام وكثر أهله واشتدت دعائمه ورسخ بنيانه وصار أهل الشرك أذلاء....»(1) .

أقول:إذا تذكرنا أن خلافة أبي بكر لم تدم سوى سنتين وأربعة أشهر، واجهخلالها تحديات كبيرة وتهديدات خطيرة من أهل الردة،اضطرت علية (علیه السلام) لمبايعته، ولم يكن عصر الفتوح،فتح فارس والروم،قد بدأ بنحو واسع بعد.... فلا أدري ما الذي تغير؟

صحيح أن الإسلام،قبل صلح الحديبية و فتح مكة والطائف،كان في ضعف وأهله في قلة.لكن بعد ذلك تغيرت موازين القوى تماما،قد عين اللّٰه الإسلام، وكثر أهله واشتدت دعائمه،وصار أهل الشرك أذلاء.عند هذه اللحظة التاريخية أعطى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) أبا سفيان ومعاوية من سهم المؤلفة قلوبهم، ولم يمض على ذلك إلا ثلاث سنوات.فما هو التغير الفجائي الذي حدث بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وجعل الإسلام يكثر أهله ويشتد دعائمه ويرسخ بنيانه؟!

هذا الادعاء لو أطلقه عمر في خلافته،مع فتح فارس والروم،لكان له وجه. ولكن في خلافة أبي بكر،لم يتغير،من الناحية السياسية والاجتماعية،حال المسلمين تغيرة جوهرية،بل واجه تحديات،وكاد أن يمني بانتكاسة،بسبب أهل الرئة.وهذا يرجح القول بأن إسقاط سهم المؤلفة قلوبهم يخفي وراءه دوافع سياسية،وربما كان إسقاطه نحوا من التطبيع مع هذه الفئة من فار الأمس.

بالنسبة إلى المؤشر الثاني،المتعلق بعدد التكبيرات في الصلاة على الميت،قد يقال أيضا بأن إسقاط التكبيرة الخامسة كان يستهدف تطبيع العلاقة مع شريحة المنافقين.يقول ابن رشد القرطبي في كتابه«بداية المجتهد ونهاية المقتصد»:«اختلفوا في عدي الكبير في

ص: 130


1- يوسف القرضاوي،فقه الزكاة،ج2،ص600

الصدر الأول اختلافا كثيرة من ثلاث إلى سبع:أعني الصحابة رضی اللّه عنه.ولكن فقهاء الأمصار على أن التكبير في الجنازۃ أربع،إلا ابن ليلى وجابر بن زيد فإنهما كانا يقولان:إنها خمس.وسبب الاختلاف اختلاف الآثار في ذلك»(1) .

أما الإمامية فقد أجمعوا على أن التكبيرات في الصلاة على الميت المسلم خمس،فقد جاء في الكافي في خبر معتبر عن الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) أنه قال:كان رسول اللّٰه يكبر على قوم خمسا وعلى آخرين أربعة،فإذا كثر على رجل أربعة اهم،يعني بالنفاق(2) .

وهذه الرواية تدل على أن عدد تكبیرات رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في صلاته على الميت كان

مؤشرا على حاله،من حيث كونه مؤمناً أو منافقا.

وفي رواية ثانية،عن الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) أنه قال:كان رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)إذا صلى على مي كبر وتشهد،ثم كبر ثم صلى على الانبياء ودعا،ثم كبر ودعا للمؤمنين،ثم كبر الرابعة ودعا للميت،ثم كبر وانصرف.فلما نهاه اللّٰه عزوجل عن الصلاة على المنافقين،كبر وتشهد،ثم كبر وصلي على النبيين صلى اللّٰه عليهم،ثم كبر ودعا للمؤمنين،ثم كبر الرابعة وانصرف،ولم يدع للميت(3) .

فالتكبيرة الخامسة دعاء للميت بالمغفرة،حيث يقال بعدها:«اللّٰهم اغفر لهذا

الميت،واللّٰه سبحانه أخبر رسوله (صلی اللّه علیه واله)بعدم جدوى الاستغفار للمنافقين،فقال في سورة المنافقون:«سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)»(4) .ثم أخبر بذلك مرة أخرى في سورة التوبة،التي نزلت بعد غزوة تبوك،قبيل وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،فقال:«اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)»(5)،ثم نها؛صراحة عن الدعاء والاستغفار لهم في صلاة الميت، كما نهاه عن الوقوف عند قبورهم،فقال:«وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)»(6)

ص: 131


1- محمد بن رشد القرطبي،بداية المجتهد ونهاية المقتصد،دار المعرفة، بیروت،1986،ط3،ج1،ص234
2- الكليني،الكافي،ج3،باب علة تكبير الخمس على الجنائز
3- الكليني،الكافي،ج3،باب علة تكبير الخمس على الجنائز
4- سورة المنافقون، الآية : 6.
5- سورة التوبة ، الآية: 80.
6- سورة التوبة، الآية: 84.

لذا كان رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) يكتفي عند الصلاة على ميت منافق بأربع تكبيرات. فهل

أسقطت التكبيرة الخامسة حتى تختلط الأوراق ولا يتميز المنافق من المسلم بحق(1)

عهد أبي بكر لعمر

بعد مضي سنتين وأربعة أشهر من حكمه،ألمت بأبي بكر الأمراض،فبدا بسلسلة من الاستشارات لترتيب شؤون الخلافة،وكان من الواضح أن لديه موقفة مسبقة الاستخلاف عمر.وتفاوتت إجابة المستشارين،وتخوف بعضهم من غلظة وشدة عمر.وثمة مؤشرات كافية تدل على أن أبرز الأسماء المرشحة لديه بعد عمر،كانا عثمان بن عفان وأبا عبيدة ابن الجراح....وكان اسم الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) مستبعداً!

فقد قال أبو بكر عند موته:«إني لا آسي على شيء من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن وددت أني تركتهن،وثلاث تركته وددت أني فعلتهن...أما الثلاث اللاتي وددت أني تركتهن...وددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنث قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين-يريد عمر وأبا عبيدة(2) -فكان أحدهما أميراً وكنت وزيراً»(3) .

ولما نزلت بأبي بكر الوفاة دعا عبد الرحمن بن عوف،فقال:أخبرني عن عمر؟ فقال:یا خليفة رسول اللّٰه،هو واللّه أفضل من رأيك فيه من رجل ولكن فيه غلظة فقال أبو بكر ذلك لأنه يراني رقيقا (=حتى یحقق توازنا في سلطة الحكم،فطالما أني رقيق ولين يرى أن من واجبه أن يكون صلبة خشنة)ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيرة مما هو عليه(=من الغلظة).ويا أبا محمد قد رمقته فرأيتني إذا غضبت على الرجل في الشئ أراني الرضا عنه وإذا لنت له أراني الشدة عليه لا تذكر يا أبا محمد مما قلت لك شيئا قال نعم(4) .

ثم دعا عثمان بن عفان،فقال:يا أبا عبد اللّٰه،أخبرني عن عمر؟قال:أنت أخبر به،فقال أبو بكر:علي ذاك يا أبا عبد اللّٰه،قال:اللّٰهم علمي به أن سريرته خير من

ص: 132


1- من المفيد أن نستذكر شهادة حذيفة بن اليمان على استفحال أمر المنافقين بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،فقد ورد في صحيح البخاري أن حذيفة كان يقول:«إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي (صلی اللّه علیه واله)،كانوا يومئذ يسوون،واليوم يجهرون»
2- كان أبو عبيدة بن الجراح عند وفاة أبي بكر عند حدود الشام،ولم يكن بالمدينة.راجع:الطبري، تاريخ الأمم والملوك،ج2،ص622
3- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج2، ص619
4- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج2،ص617-618

علانيته،وأن ليس فينا مثله،قال أبو بكر:رحمك اللّٰه،رحمك اللّٰه،يا أبا عبد اللّٰه، لا تذكر مما ذكرت لك شيئا،قال:أفعل،فقال له أبو بكر:لو تركه ما عدوتك..(1) .

وقال لعثمان:اكتب«بسم اللّٰه الرحمن الرحيم،هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين.أما بعد،فإني قد استخلف عليكم عمر بن الخطاب، ولم آلكم خيرة منه».ثم أفاق أبو بكر فقال:إقرأ علي،فقرأ عليه،فكبر أبو بكر(2) .

وينقل ابن قتيبة الدينوري أن أبا بكر طلب من عثمان بن عفان أن يكتب للناس عهده

في عمر،وأقر أبو بكر الكتاب،فتناوله عمر،وانطلق يهرول إلى الجامع ليقرأه على الناس،فانبرى إليه رجل،وقد أنكر عليه ما هو فيه قائلا:ما في الكتاب يا أبا حفص؟

فاجاب عمر:لا أدري،ولكني أول من سمع وأطاع.

لكن يبدو أن الرجل لم يقتنع بالجواب،فقال:ولكني واللّٰه أدري ما فيه،أمرته عام أول،وأمرك العام(3) .

ويقول آخر، وفقا للطبري:رأيت عمر بن الخطاب وهو يجلس والناس معه، وبيده جريدة،وهو يقول:أيها الناس اسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)، إنه يقول إني لم آلكم صحة،قال ومعه مولى أبي بكر يقال له شدید،معه الصحيفة التي فيها استخلاف عمر(4) .

أقول:كم من الفرق بين موقف أبي حفص هذا،حيث يأمر الناس بالسمع والطاعة،وموقفه من كتابة وصية رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)عندما رفض الإتيان بكتف ودواة وقال:حسبنا كتاب اللّٰه؟!كيف يتهم رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)بغلبة الوجع والهجر،ولا يهم أبو بكر بذلك؟!

على أي حال،موقف مستشاري أبي بكر لم يجمع على عمر،فطلحة بن عبيد اللّٰه مثلا،هو من قبيلة أبي بكر،يبدو أنه كان يرغب أن لا تخرج الخلافة من تیم!ويرغب أن يكون له من الأمر شيء.لذا،دخل على أبي بكر بعد إعلان استخلاف عمر،فقال:استخلفت على الناس عمر،وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه،فكيف به إذا خلا بهم وأنت لاق ربك،فسائلك عن رعيتك؟

فقال أبو بكر وكان مضطجعة:أجلسوني،فاجلسوه،فقال لطلحة:أباللّٰه تفرقني،أو

ص: 133


1- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج2،ص618
2- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج2،ص618
3- ابن قتيبة الدينوري،الإمامة والسياسة،ص38
4- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج2،ص618

أباللّٰه تخوفني؟إذا لقي اللّٰه ربي فسائلني،قلت استخلف على أهلك خير أهلك(1) .

فرد عليه طلحة:أعمر خير الناس يا خليفة رسول اللّٰه؟!

فاشتد غضبه،وقال:إي واللّٰه،هو خيرهم وأنت شهم.أما واللّٰه لو وليتك لجعلت أنفك في قفاك،ولرفعت نفسك فوق قدرها،حتى يكون اللّٰه هو الذي يضعها! أتيتني وقد دلك عينك،تريد أن تفتنني عن ديني،وزیلني عن رأيي؟!ثم لا أقام اللّٰه رجليك....فقام طلحة فخرج(2)

ودخل عبد الرحمن بن عوف على أبي بكر،في مرضي الذي توفي فيه، فأصابه

مهتمة،فقال له عبد الرحمن:أصبحت والحمد لله بارئة.

فقال أبو بكر:أتراه؟

قال:نعم

قال:إني ولي أمركم خيركم في نفسي،فكلكم ورم أنه من ذلك،يريد أن يكون

الأمر له دونه...وأنتم أول ضال بالناس عدا فتصدونهم عن الطريق يمينا وشمالا...

فقال(عبد الرحمن):خفض صوتك رحمك اللّٰه،فإن هذا يهية في أمرك إنما الناس في أمرك بين رجلين؛إما رجل رأى ما رأيت فهو معك،وإما رجل خالقك فهو مشير عليك،وصاحبك كما تحب،ولا نعلمك أردت إلا خيراً..(3) .

كيف كان الإمام علي (علیه السلام) يقرأ الوضع؟

قال الإمام علي (علیه السلام) في خطبة الشقشقية واصفة عملية انتقال الشلطة من الخليفة الأول إلى الثاني:«حتى مضى الأول لسبيله،فأدلى بها إلى فلان بعده،(ثم تمثل بقول الأعشى):

شتان مابومي على كورها

ويوم حبان أخي جابر(4) فيا عجبا،بينا هو يستقيلها في حياتة(5) ،إذ عقدها آخر بعد وفاتي،لشد ما تشطرا ضرعيها»(6) .

ص: 134


1- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج2،621
2- ابن أبي الحديد،شرح نهج البلاغة،مج1،ج1،ص104
3- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج2،ص619
4- أي شتان بين يوم قوم ظفروا بالمكاسب التي سعوا إليها،ويومي الذي ألاقي فيه المصاعب والمشاق.أو شتان بين يومي عندما كنت مع الرسول (صلی اللّه علیه واله) مستفيداً من علمه ووجوده،ويومي الآن بعد رحيله
5- حيث رووا أن أبا بكر قال للناس بعد البيعة:«أقبلوني فلست بخیر كم.أنظر:ابن أبي الحديد،شرح نهج البلاغة،مج1،ج1،ص106
6- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،خطبة3،ص48

فشبه الخلافة والسلطة بالضرع الذي يحلب،وأن أبا بكر وعمر طالما تقاسما السلطة

بينهما.فهي وإن كانت بيد أبي بكر رسمية،لكن كانا يتقاسمانها فعلية.

حكومة عمر(13-23 هج)وعصر الفتوحات

من أهم الحوادث التاريخية التي وقعت بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،مسألة الفتوح

الكبری،فتح بلاد فارس والروم(1) .

كان للفتوح الكبرى تأثير كبير في بنية المجتمع الإسلامي(2) .فهم مسألة الفتوح وتأثيرها الاجتماعي والاقتصادي والقبلي والجيوسياسي على بنية المجتمع الإسلامي يساعدنا كثيرة على فهم حادثة مقتل عثمان،حرب الجمل،حرب صفين،حرب النهروان،صلح الإمام الحسن (علیه السلام)،وفاجعة استشهاد الإمام الحسين (علیه السلام)....وغيرها من الحوادث(3) .

في عهد عمر بن الخطاب،حصلت أثناء وبعيد الفتوح الكبرى،طفرة مالية استثنائية ومفاجئة،واستمرت هذه الطفرة في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان.كان الإيراد الذي يصل إلى بيت المال يصل إلى حد معين،لكن عندما بدأت سلسلة الفتوحات،وبدأت ترد الكنوز والأموال والفيء والخراج من بلاد فارس والروم،وبالتحديد من بلاد فارس،حصلت طفرة اقتصادية غير عادية في بيت المال.

ص: 135


1- من الكتب المفيدة للباحث في هذا المجال،كتاب«البلدان وفتوحها وأحكامها»،للإمام أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري
2- من ضمن قصص فتوح الشام ما يرويه عبد اللّٰه بن الزبير،حيث يقول:كنث مع أبي الزبير عام اليرموك،فلما تعبي المسلمون للقتال،لبس الزبير لامنه ثم جلس على فرسه،ثم قال لموليين له:احبسا عبد اللّٰه بن الزبير معكما في الرحل فإنه غلام صغير،ثم توجه فدخل في الناس،فلما اقتتل الناس والروم،نظر إلى ناس وقوف على تل لا يقاتلون مع الناس،فأخذت فرسا للزبير كان خلفه في الرحل،فركبته ثم ذهب إلى أولئك الناس،فوقف معهم،فقلت أنظر ما يصنع الناس،فإذا أبو سفيان بن حرب في مشيخة قريش من مهاجرة الفتح وقوفا لا يقاتلون،فلما رأوني رأوا غلاما حدثا فلم يتقوني،قال:فجعلوا واللّٰه إذا مال المسلمون وركبتهم الحرب للروم يقولون:إيه إيه بلاصفر،فإذا مال الروم وركبهمالمسلمون قالوا:يا ويح بلاصفر،فجعلت أعجب من قولهم.فلما هزم اللّٰه الروم،ورجع الزبير،جعلت أحدثه خبرهم،قال فجعل يضحك ويقول:قاتلهم اللّٰه أبوا إلا ضغنا،وماذا لهم إن يظهر علينا الروم،لنحن خير لهم منهم.أنظر: الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج3،ص74-75
3- بعد فتح فارس والروم،ولی عمر بن الخطاب على الكوفة سعد بن أبي وقاص،وعلى الشام أبا عبيدة ابن الجراح

احتار عمر بن الخطاب في طريقة توزيع هذه الأموال(1) ،فوضع معیارین لفضيل في توزيع العطاء:المعيار الأول السابقة إلى الإسلام،والمعيار الثاني القرابة من رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)(2) .

وعلى هذا الأساس كلما كان الإنسان أسبق من غيره إلى الإسلام،وأقرب إلى رسول (صلی اللّه علیه واله) ،استحق من العطاء أكثر مما يستحق غيره بقدر سابقته للإسلام وقرابته لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)(3).

هذان المعياران يبدوان-للوهلة الأولى-معقولين للغاية.فهناك في بيتالمال فائض مالي كبير،والمطلوب توزيع الثروة على المسلمين،فكيف ثوعها؟ الأسبق إلى الإسلام أليس هو أجدر من غيره؟الأقرب لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،أليس هو أولى من غيره؟

ص: 136


1- راجع لمعرفة التفاصيل:البلاذري،البلدان وفتوحها وأحكامها،ص308-309، أيضأ492-505.وكتب ابن أبي الحديد:أستشار عمر في أمر المال كيف بقسمه،فقال له علي بن أبي طالب (علیه السلام): تقسم كل سنة ما اجتمع معك من المال ولا تمسك منه شيئا وقال عثمان ابن عفان: أرى مالا كثيرا يسع الناس وإن لم يحصوا حتى يعرف من أخذ ممن لم يأخذ خشيت أن ينتشر الامر. فقال الوليد بن هشام بن المغيرة: يا أمير المؤمنين قد جئت الشام فرأيت ملوكها قد دونوا ديوانا وجندوا جنودا وفرضوا لهم أرزاقا فأخذ بقوله فدعا عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم - وكانوا نساب قريش - وقال: اكتبوا الناس على منازلهم فكتبوا فبدءوا ببني هاشم ثم أتبعوهم أبا بكر وقومه، ثم عمر وقومه، على ترتيب الخلافة، فلما نظر إليه قال: وددت أنه كان هكذا، لكن أبدأ بقرابة النبي صلى اللّه عليه وآله الأقرب فالأقرب، حتى تضعوا عمر حيث وضعه اللّه.راجع:ابن أبي الحديد،شرح نهج البلاغة،مج6،ج12،ص59،الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج3،ص277-278.وأيضا كتب ابن أبي الحديد:ثم فرض للمهاجرين الذين شهدوا بدرة لكل واحد خمسة آلاف،ولمن شهدها من الأنصار لكل واحد أربعة آلاف.....ابن ابی الحدید،مج6،ج12،ص135
2- يشير ابن أبي الحديد في شرحه على النهج أن عمر كان هذا رأيه منذ خلافة أبي بكر،وأنه أشار عليه بذلك،لكنه أبي وقال:إن اللّٰه لم يفضل أحدة على أحد.لكن عندما ولي عمر أمور المسلمين قال:إن أبا بكر رأي في هذه الحال راية،ولي رأي آخر،لاأجعل من قاتل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)كمن قاتل معه
3- «ففرض للعباس وبدا به،ثم فرض لأهل بدر خمسة آلاف خمسة آلاف،ثم فرض لمن بعد بدر إلى الحديبية أربعة آلاف أربعة آلاف،ثم فرض لمن بعد الحديبية إلى أن أقلع أبو بكر عن أهل الردة ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف....ثم فرض لأهل القادسية وأهل الشام ألفين الفين،وفرض لأهل البلاء البارع منهم ألفين وخمسمائة ألفين وخمسمائة....».راجع:الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج3،ص108-109

وقفة مع معیار عمر في الفضيل

هذا ما يبدو للوهلة الأولى،ولكن تطبيق هذين المعيارين في الفضيل،أدى إلى

نتائج كارثية على المجتمع الإسلامي،لأنه أوجد تفاوت طبقية خطيراً.

لنأخذ على سبيل المثال عمرو بن العاص ومالك الأشتر.مالك الأشتر-كما يرى بعضهم-لم يكن صحابية،وإنما كان تابعياً(1) ،ولا توجد له صلة قرابة مع رسول اللّٰه،لأن مالكا ليس من قریش،بل هو يمني قحطاني.في المقابل،عمرو بن العاص وإن تأخر إسلامه إلى قبيل فتح مكة،لكنهصحابي،يعني سبق مالك في الدخول إلى الإسلام بحكم الشن.بالإضافة إلى ذلك هو أقرب إلى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)قبلياً،لأنه عدناني من قريش .فإذا ما أردنا تطبيق معيار التفضيل في توزيع العطاء،سنجد أن نصيب عمرو بن العاص يزيد على نصيب مالك الأشتر،لأن له میزتين:السابقة إلى الإسلام،والقرابة من رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله). ويكفي أن تتوافر في الإنسان ميزة واحدة ليزيد عطاؤه على غيره،فكيف إذا توافرت فيه میزتان؟!

أكثر من ذلك،إذا أردنا تطبيق هذا المعيار على المهاجرين والأنصار ،يفترض أن العطاء الذي سيذهب إلى المهاجرين يزيد على العطاء الذي سيذهب إلى الأنصار،لأن أكثر المهاجرين هم من ناحية من قریش(2).وهم من ناحية ثانية، بحكم وجودهم في مكة،كانوا أسبق للدخول في الإسلام بالمقارنة بأكثر الأنصار(3).هذا التفضيل أدى إلى تفاوت طبقي بين المهاجرين والأنصار.فمثلا سعد بن أبي وقاص أو عبد الرحمن بن عوف هما من المهاجرين،وهما من قريش،في حين أن سعد بن عبادة أو أبا أيوب الأنصاري هما من الأنصار، وليسا من قريش(4) .

ص: 137


1- وهناك من الباحثين من يؤكد إدراكه لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)
2- يقول البلاذري : وفرض للمهاجرين الذين شهدوا بدرة خمسة آلاف خمسة آلاف، وفرض للأنصار الذين شهدوا بدرة أربعة آلاف أربعة ألاف»!! أنظر: البلاذري، البلدان ونشوحها واحكامها، ص 498.
3- طبعا كان من بين المهاجرين من لا ينتمي إلى فریش مثل عمار بن یاسر وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي، وكان من الأنصار من هو أسبق للدخول إلى الإسلام من بعض المهاجرين، لكن كلامنا هنا على الحالة العامة التي تنطوي طبعة على استثناءات.
4- تطبيق هذين المعيارين لم يكن صارمة،بل كان فيه استثناءات،فمثلا،يروي الطبري أنالحسن والحسين وأبا ذر و سلمان ألحقوا في العطاء بأهل بدر،فكان هؤلاء الأربعة ياخذون ما ياخذه أهل بدر.راجع:الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج3،ص109

هذا فضلا عن تفضيل عمر للعرب على العجم،والضريح على المولى،الأمر الذي أدى إلى إيجاد حالة طبقية مريعة بين المسلمين(1) ،كما أدت إلى تصنيف الناس بحسب قبائلهم وأصولهم،فنشط النسابون لتدوين الأنساب وتصنيف القبائل بحسب أصولها،مما أدى إلى حنق الموالي على العرب.

في هذا المجال،يقول الأستاذ الشاوي:كان رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)قد ساوی بین المسلمين في العطاء،فلم يفضل أحدة منهم على أحد.وجرى أبو بكر على مبدأ التسوية هذا مدة حكمه.أما عمر،فإنه لما ولي الخلافة،فضل بعض الناس على بعض،ففل السابقين على غيرهم،وفضل المهاجرين من قريش على غيرهم من المهاجرين،وفضل المهاجرين كافة على الأنصار كافة،وفضل العرب على العجم،وفضل الصريح على المولى،وفرض لأهل اليمن في أربعمائة،ولمضر في ثلاثمائة،ولربيعة في مائتين،وفضل الأوس على الخزرج.

وقد كون هذا المبدأ سببة جديدة من أسباب الصراع القبلي بين ربيعة ومضر،وبين الأوس والخزرج،بما تفضل من تفضیل سائر مضر على سائر ربيعة،وتفضيل الأوس على الخزرج،ونظ أن هذا المبدأ قد أرسى أول أساس منأسس الصراع العنصري بين المسلمين العرب وغيرهم من المسلمين بما جرى عليه عمر من تفضيل العرب على العجم والضريح على المولى»(2) .

وبالنتيجة،استطاعت قريش أن تستأثر بالمال،كما استأثرت في القيفة بالكم، وصارت بيدها مقاليد الأمور،على حساب الأنصار وباقي المسلمين غير القرشيين.على مستوى الاستئثار بالكم،كانت ځجة عمر في السقيفة ضد الأنصار مبنية على أمرين:أن المهاجرين أول الناس إسلامة،وأنهم أقرب الناس إلى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وأمسهم به رجمة.والآن على مستوى الاستئثار بالمال، ځجه هي ذاتها،السابقة إلى الإسلام،والقرابة من رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)..

وعندما نتحدث عن قريش،فنحن نقصد كبار المهاجرين من الصحابة،كالخلفاء الثلاثة بالإضافة إلى عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبي عبيدة بن الجراح

ص: 138


1- بل میز عمر بین زوجات رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،ففرض لعائشة في اثني عشر الفأ،وفرض لصفية وجويرية في ستة آلاف.ولسائر أزواج رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في عشرة آلاف،أنظر:البلاذري،البلدان وفتوحها وأحكامها،ص498
2- علي الشاوي،الإمام الحسين (علیه السلام) في المدينة المنورة،مركز الدراسات الإسلامية،ط2،1425هج،قم،ص103-104

وطلحة بن عبيد اللّٰه،بالتحالف والتنسيق مع القرشيين الذين تأخروا في الدخول إلى الإسلام إلى قبيل أو بعد فتح مكة،كأبي سفيان وابنه معاوية ومروان بن الحكم وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد.هؤلاء الذين تأخروا في الدخول إلى الإسلام،وإن لم تكن لهم ميزة السابقة التامة إلى الإسلام، لكن لهم سابقة نسبية إذا ما قورن وضعهم بالأجيال التالية من التابعين،كما أن لهم ميزة القرابة من رسول اللّٰه،بوصفهم قرشيين.

نشوء جيل جديد

ما وقع بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،هو دخول أناس جدد إلى الإسلام،ونشوء جيل جديد لم يعاصر رسول اللّٰه،شارك فعلية في الفتوح الكبرى،لكن لم يحظ بشيء معتد به من العطاء(1) .صحيح أن أبا بكر لم يستمر في الحكم طويلا(سنتان وأربعة أشهر تقريبا)،لكن كم عمر استمر عقدة من الزمن عشر سنوات وستة أشهر وبضعة أيام،وسوف نرى أن فترة حكم عثمان ستمتد إلى أكثر من عقد من الزمن(اثنتا عشرة سنة تقريبا).فهذه التحولات الخطيرة بدأت مع الفتوحات أيام عمر،واستمرت بنحو أخطر مع أيام عثمان،كما سنرى.

من ناحية أخرى،لم يتلق الجيل الجديد،تربية روحية وثقافية وفكرية وعقائدية.هذا الجيل ظل مهمة مدة خمس وعشرين سنة.هم مشغولون بالمعارك والفتوح،وكبار الصحابة مشغولون-كما سنری-بالتحول إلى حياة الترف والبذخ.وعندما ينشغل كبار الصحابة بجمع محطام الدنيا،ويهمل الجيل الجديد من التربية والتزكية الروحية،ستعود بالتدريج العصبيات القبلية، لتفرض نفسها لأنها أمور متأصلة في الشخصية العربية.

وهناك سبب آخر لعدم تلقي هذا الجيل تلك التربية،وهو الحصار الذي فرضه عمر على الصحابة،حيث لم يسمح لهم بمغادرة المدينة إلا بإذن خاص منه، ولفترة محددة.كتب الطبري:«كان عمر بن الخطاب قد حجر على أعلام قریش من المهاجرين الخروج في البلدان،إلا بإذن منه وأجل......فلما وليهم عثمان لم يأخذهم بالذي كان يأخذهم به عمر،فانساحوا في البلاد...فكان ذلك أول وهن دخل على الإسلام،وأؤل فتنة كانت في العامة،ليس إلا ذلك».ويروي أيضا:«لم يمت عمر رضي اللّٰه عنه حتى ملته قريش،وقد كان حصرهم بالمدينة،فامتنع عليهم،وقال:إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة

ص: 139


1- أشرنا في هامش سابق إلى أن نصيب أهل بدر مثلا كان خمسة آلاف خمسة آلاف(ولو كان جليس بيته في عصر الفتوح)،ونصيب أهل القادسية ألفين ألفين،وأهل البلاء منهم ألفين وخمسمائة ألفين وخمسمائة

انتشاركم في البلاد،فإن كان الرجل ليستأذنه في الغزو،وهو ممن بس بالمدينة من المهاجرين،ولم يكن فعل ذلك بغيرهم من أهل مكة،فيقول:قد كان في غزوك مع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)ما يبلغك وهو خير لك من الغزو اليوم ألا ترى الدنيا ولا تراك.فلما ولي عثمان خلى عنهم فاضطربوا في البلاد،وانقطع إليهم الناس،فكان(عثمان)أحب إليهم من عمر»(1) .

وقد بردد.طه حسين ذلك بقوله:«لكه خاف عليهم الفتنة،وخاف منهم الفتنة،فأمهم في المدينة،لا يخرجون منها إلا بإذنه،وحبهم عن الأقطار المفتوحة،لا يذهبون إليها إلا بأمر منه.خاف أن يفتتن الناس بهم، وخاف عليهم أن يهم افتتان الناس بهم، وخاف على الدولة أعقاب هذا الافتتان....»(2) .

بالإضافة إلى ذلك، نلاحظ أن عمر لم يمنع بني هاشم والأنصار من تولي شيء من جهاز الحكم فحسب(3) ،بل أقر ولاة أبي بكر في مناصبهم،وولی یعلی بن منبه على صنعاء،والمغيرة بن شعبة على الكوفة(4) ،واستعمل عتبة بن أبي سفيان على كنانة(5)،ومنع حتى أمثال طلحة والزبير.وقد قيل له:«إنك استعملت يزيد بن أبي سفيان،وسعيد بن العاص،وفلانا وفلانا من المؤلفة قلوبهم من اللقاء وأبناء اللقاء،وتركت أن تستعمل علية والعباس والزبير وطلحة؟!فقال:أما على فأنه من ذلك،وأما هؤلاء الفر من قريش،فإني أخاف أن ينتشروا في البلاد فيكثروا فيها الفساد» (6).

هذا الإجراء لم يمنع الجيل الجديد من تلقي تربية معنوية على يد الصحابة فحسب،بل منع عددا كبيرة من الصحابة من التعرف على التحولات الخطيرة التي كانت تطرأ على العراق والشام ومتابعتها.

مراقبة شديدة للولاة لكن معاوية حالة استثنائية

كان عمر شديد المراقبة العماله وولاته،فكان لا يولي عايلا إلا أحصى عليه ماله،وإذا عزله أحصاه عليه حين العزل.يقول ابن أبي الحديد:«كان عمر إذا استعمل عاملاً

ص: 140


1- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج3،ص426-427
2- طه حسين،الفتنة الكبرى،1/ 17
3- كان عمر يستخلف عليا (علیه السلام) على المدينة عندما يخرج خارجها لفترات محدودة،ويبدو لي أن سبب ذلك هو اطمئنانه إلى أن علية (علیه السلام) لا يغدر ولا يخون
4- الطبري،تاريخالأمم والملوك،ج3،ص303-304
5- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج3،ص286-287
6- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج ، ص.

كتب عليه كتاباً،وأشهد علیه رهطاً من المسلمین أن لا یركب برذوناً(1)،ولا یأكل نقیاً ولا یلبس رقیقا ولا یغلق بابه دون حاجات المسلمین، ثم یقول: اللّهم اشهد.»(2) .

لكن الأمر لم يكن على هذا النحو مع معاوية.كان عمر هو الذي ولاه على الشام،

بعد وفاة أخيه يزيد،وكان يعامله معاملة خاصة،ربما لمبررات اختلقهامعاوية لعمر.

في ذلك ينقل الطبري أن عمر خرج إلى الشام،فرأي معاوية في موكب يتلقاه،وراح إليه في موكب،فقال له عمر:يا معاوية تروح في موكب وتغدو في مثلي،وبلغني أنك

صبح في منزلك وذوو الحاجات ببابك.

قال(معاوية): يا أمير المؤمنين،إن العدو بها قريب منا،ولهم عيوث وجواسيس،

فاردت يا أمير المؤمنين أن يروا للإسلام عزا.

فقال له عمر:إن هذا لكيد رجل اریب. أو خدعة رجلي أريب.

فقال معاوية:يا أمير المؤمنین،مرني بما شئت أصر إليه.

قال(عمر):ويحك،ما ناظر في أمر أعيب عليك فيو إلا تركتني ما أدري آم أم

أنهاك(3) ؟

وكان يقول-كما ينقل الطبري-مشيدة بمعاوية:تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما

وعندكم معاوية؟!

بل كان عمر يعين بعض نساء بني أمية،فقد أقرض هند بنت عتبة(أم معاوية) أربعة

آلاف من بيت المال تتجر فيها،على ما ينقل الطبري وابن أبي الحديده(4) .

على أي حال،لم تظهر آثار هذا التفاوت القبلي بسبب التمييز في توزيع الثروة إلا في آخر فترة حكم عمر بن الخطاب،حينما رأى الثراء الفاحش عند كثير من الصحابة،ولم تطب به نفسه،فراح يقول:«لو استقبل من الأمر ما استدبرت،لأخذ من الأغنياء فضول أموالهم فردها على الفقراء»(5) .

ص: 141


1- البرذون:يطلق على غير العربي من الخيل والبغال،من الفصيلة الخيلية، عظيم الخلقة،غليظ الأعضاء،قوي الأرجل،عظيم الحوافر
2- ابن أبي الحدید، شرح نهج البلاغة،مج6،ج12،ص15
3- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،ص 244-245
4- أيضا انظر:الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج3،ص87،أيضا:ابن أبي الحديد،شرح نهج البلاغة،مج6،ج12،ص61
5- شرح النهج،ج 9،ص29نقلا عن أعلام الهداية، الإمام علي (علیه السلام)،المجمع العالمي لأهل البيت (علیهم السلام)،ط1،1422هج،قم.ج2،ص153

خلاصة القول أن مدة حكم أبي بكر كانت قصيرة،فهو إن استطاع القضاء على ظاهرة الارتداد بفضل تماشك الجبهة الداخلية وصبر الإمام علي (علیه السلام)،فهو في المقابل رخ وجود قریش(وبالتحديد بني أمية)من خلال تنصيبهم ولاة في بعض المناطق،ثم عهد بالخلافة إلى عمر،ولم يكن تنصيب أبي بكر لعمر مفاجأة لشئة التنسيق وقوة الارتباط بين الأول والثاني.ومع عمر بدأت الفتوحات التي جاءت معها الطفرة المالية التي ألقت بظلالها الخطيرة على النسيج الاجتماعي،خصوصا إذا لاحظنا التأثير التراكمي التطبيقمعيار عمر في التفضيل في العطاء،فقریش لم تعد تستأثر بالشلطة فقط، بل صارت تستأثر بالمال أيضا.

في الفصل القادم سنتناول عملية اغتيال عمر، والترتيبات التي قام بها على عجل

التحديد هوية الخليفة القادم.

ص: 142

(7)عمر:الاغتيال والشورى السداسية

تناولنا في الفصل السابق خلافة أبي بكر،وانتقال الشلطة إلى عمر من خلال استخلاف الأول للثاني.كما تحدثنا عن الفتوحات الكبرى وبعض تداعياتها،وطريقة توزيع عمر للعطاء،وتفضيله لذوي السابقة إلى الإسلام والقرابة من رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).في هذا الفصل سنتناول ظروف وملابسات اغتيال عمر،والشورى السداسية التي شكلها على عجل، ومجريات تلك الشورى،وما انتهت إليه من وصول الخلافة إلى عثمان بن عفان،الأمر الذي أدى إلى تفرد بني أمية بالسلطة.

اغتيال عمر

التحقيق في حادثة اغتيال عمر بن الخطاب،يثير في ذهن الباحث أسئلة محيرة.رغم أني لست من أنصار نظرية المؤامرة،التي تعزو كل حدث إلى مؤامرة ما،إلا أن النصوص التاريخية المتعلقة بحادثة اغتيال عمر،تدفعنا إلى عدم استبعاد فرضية وجود مؤامرة. على ضوء تلك النصوص،يمكن افتراض ثلاث فرضيات على الأقل لتفسير

حادثة الاغتيال.

1)الفرضية الأولى:أن أبا لؤلؤة هو وحده المسؤول عن قتل عمر،وأن قتله كان بسبب غضبه وانفعاله وعدم استجابة عمر لشكواه من ارتفاعالحراج الذي كان يدفعه المولاه المغيرة بن شعبة.

2)الفرضية الثانية:أن ثمة مؤامرة ديرها الفرس،وعلى رأسهم الهرمزان وأبو لؤلؤة اللذان كانا موجودين في المدينة،انتقاما من عمر والمسلمين لفتح فارس،وما جرى بعد فتح فارس من سبي للفرس.

3)الفرضية الثالثة:أن ثمة مؤامرة، دبرتها شبكة خفية لبني أمية وحلفائهم، براشها معاوية في الشام،وتشكل أعضاؤها من المغيرة بن شعبة الثقفي في الكوفة،وعبد اللّٰه بن

ص: 143

سعد بن أبي سرح(1) ،وعبد اللّٰه بن أبي ربيعة المخزومي(2) ،وعمرو بن العاص السهمي(3) وكعب الأحبار(4) في المدينة.والأداة التي استخيرمت لتنفيذ هذه المؤامرة هي أبو لؤلؤة،حيث استفادت هذه الشبكة من الحقد المختزن في قلبه،ووظفته باتجاه اغتيال عمر،لفتح الطريق أمام بني أمية للوصول إلى الشلطة.جاء المغيرة من الكوفة إلى المدينة للإشراف على التنفيذ.وقد يكون للهرمزان دور في التنسيق مع أبي لؤلؤة في تنفيذ عملية الاغتيال.

طبعا،لا بد من الاعتراف بصعوبة الوصول إلى قناعة أكيدة حول الفرضيات الثلاث،

وإن كانت الفرضية الثالثة أكثر ترجيحة من الأولى،والأولى أكثر ترجيحة من الثانية.

الآن،قبل أن أسرد ما يرجح الفرضية الثالثة،علينا أن نتذكر اسم«المغيرة بن شعبة»جيدة،فللمغيرة دور كبير سيلعبه في خلافة معاوية.فهو سيكون الوالي من قبل معاوية على الكوفة،وسيحكمها بالحديد والنار،ويذيق شيعةالإمام علي (علیه السلام) ألوانا من العذاب،وسيكون له دور مباشر في تحريض معاوية على توريث الشلطة ليزيد.

تبدأ قصة مقتل عمر من فتح فارس، وأسر الهرمزان-الذي كان من قادة الفرس-والمجيء به إلى عمر،الذي هدده وخيره بين الدخول في الإسلام أو القتل،فتشهد الهرمزان الشهادتين،فأنه عمر وفرض له ألفين وأنزله المدينة(5).

وكان عمر حريصا على أن لا يدخل الفرس المدينة،لأسباب أمنية كما سنرى.ودخول أبي لؤلؤة إلى المدينة كان حالة استثنائية بطلب وضغط من المغيرة على عمر.

ص: 144


1- أخو عثمان بن عفان بالرضاعة،كان من أخطر المشركين وأكثرهم عداء لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وسخرية منه.كان مسلمة يكتب لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) الوحي،فربما أملى عليه رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله): «سميع عليم»فيكتب تعليم حكيم،ويقول:ما يدري محمد ما يقول إني لأكتب له ما شئت،هذا الذي كتبت يوحي إلي كما يوحي على محمد.وخرج هاربة من المدينة إلى مكة مرتدة،وعند فتح مكة،أهدر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)دمه،وطالب بقتله ولو كان متعلقة بأستار الكعبة،ثم تركه (صلی اللّه علیه واله) بعد شفاعة وإلحاح عثمان بن عفان
2- وهو الذي بعثه كفار قريش مع عمرو بن العاص لكي يطلبا من النجاشي استعادة المهاجرين المسلمين من الحبشة،وانتهت مهمتهما بالفشل
3- وعندما استتبت الأمور لمعاوية، كوفي المغيرة بن شعبة بأن صار والية لمعاوية على الكوفة، وكوفي عمرو بن العاص بأن صار والية لمعاوية على مصر.
4- يهودي يمني، أسلم في خلافة عمر، ومات في حمص في خلافة عثمان
5- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مج 1، ج 1، ص 113 - 114، ايضا : مج6، ج12، ص72.

كتب ابن أبي الحديد:كان عمر لا یأذن لصبی قد احتلم فی دخول المدینة حتى كتب المغیرة و هو على الكوفة یذكر له غلاما صنعا عنده و یستأذنه فی دخول المدینة و یقول إن عنده أعمالا كثیرة فیها منافع للناس إنه حداد نقاش نجار فأذن له أن یرسل به إلى المدینة و ضرب علیه المغیرة مائة درهم فی كل شهر فجاء إلى عمر یوما یشتكی إلیه الخراج فقال له عمر ما ذا تحسن من الأعمال فعد له الأعمال التی یحسن فقال له لیس خراجك بكثیر فی كنه عملك(1) .

وكتب الطبري:خرج عمر بن الخطاب یوماً یطوف فی السوق فلقیه أبو لؤلؤه غلام المغیره بن شعبه و كان نصرانیاً(2) ،فقال:یا أمیر المؤمنین أعدنی علی المغیره بن شعبه فإنّ علیّ خراجاً كثیراً،قال:و كم خراجك؟ قال:درهمان فی كلّ یوم،قال:و ایش صناعتك؟ قال:نجار،نقاش،حدّاد،قال:فما أری خراجك بكثیر علی ما تصنع من الأعمال قد بلغنی انّك تقول:لو أردتُ أن أعمل رحی تطحن بالریح لفعلتُ،قال:نعم،قال:فاعمل لی رحی،قال:لئن سلمت لأعملنّ لك رحی یتحدّث بها مَن بالمشرق و المغرب،ثمّ انصرف عنه،فقال عمر رضي اللّٰه تعالی عنه:لقد توعّدنی العبد آنفاً(3) .

أقول:لا أدري لم أصر المغيرة بن شعبة على إدخال أبي لؤلؤة إلى المدينة كحالة استثنائية رغم قلق عمر من دخول الفرس إليها؟وهل كان أبو لؤلؤة موظفة لتنفيذ عملية معينة في المدينة؟وهل كانت شكوى أبي لؤلؤة مسرحية مفتعلة للتمويه على المحرك الرئيس للاغتيال؟أم أنها شكوى حقيقية بسبب ارتفاع الحراج الذي يطلبه المغيرة من أبي لؤلؤة؟وعلى فرض أنها شكوى حقيقية،فهل كان رفع الخراج على أبي لؤلؤة متعمدة حتى يجد أبولؤلؤة لنفسه متنفسة وموضوعة يفرغ فيه حقده وغضبه؟خصوصا عندما نعرف أن مولاه المغيرة بن شعبة كان معروفة بأنه أبرز دهاة العرب.وعلى فرض أن شكوى أبي لؤلؤة حقيقية،فما تفسير وجود المغيرة بن شعبة في المدينة بدلا من الكوفة؟أم أن وجوده في المدينة كان مجرد صدفة؟ولم لم يوجه أبو لؤلؤة انتقامه من المتسبب المباشر في رفع الخراج،وهو المغيرة، خصوصا مع وجود الأخير في المدينة؟وهل لكعب الأحبار دور في اغتيال عمر؟ دعونا نكمل القصة.

ص: 145


1- ابن أبي الحدید،شرح نهج البلاغة،مج6،ج12،ص115-116
2- وأيد كونه نصرانية ابن عبد ربه الأندلسي،في العقد الفرید،ج4،ص272.وكتب المسعودي:وكان مجوسية من أهل نهاوند.انظر:المسعودی،مروج الذهب، تحقیق سعيد محمد اللحام،دار الفكر، بیروت،ط1،2000،ج2،ص320
3- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج3،ص263- 264

كتب الطبري:فلمّا كان من الغد جاءه كعب الأحبار فقال له: یا أمیر المؤمنین! اعهد فإنّك میّت فی ثلثه أیّام؛ قال: و ما یدریك؟ قال: أجده فی كتاب اللّه عزّ و جلّ التّوراه؛ قال عمر: اللّه! انّك لتجد عمر بن الخطاب فی التوریه؟ ! قال: اللّهمّ لا و لكنّی أجد صفتك و حلیتك و أنّه قد فنی أجلك؛ قال: و عمر لا یحسّ وجعا و لا ألما؛ فلمّا كان من الغد جاءه كعب فقال: یا أمیر المؤمنین! ذهب یوم و بقی یومان؛ قال: ثمّ جاءه من غد الغد فقال: ذهب یومان و بقی یوم و لیله و هی لك إلی صبیحتها(1) .

وكتب ابن أبي الحديد:ويروى أن كعبأ كان يقول:نجد في كتبنا تموت شهيدة، فيقول:كيف لي بالشهادة وأنا في جزيرة العرب؟!(2)

قبل سرد تفاصيل عملية الاغتيال-كما رواها الطبري-لنقف قليلا عند دور كعب الأحبار المحتمل،ونثير بعض التساؤلات:

1)إن معرفة كعب الأحبار باليوم الذي سيقتل فيه عمر غيلة،يثير علامات استفهام

حول صلته بعملية الاغتيال.

2)إن كتاب التوراة متوافر الآن بيد الباحثين،فأين هي العبارات الموجودة في

التوراة الدالة على صفة عمر،ويوم أجله،وأنه سيموت شهيدا؟!

3)إثر إصرار كعب الأحبار على تذكير عمر يومية-بطريق العد التنازلي-بابامه الأخيرة،يوحي بأنه كان يترقب من عمر أن يستخلف شخص معينة.ومن المحتمل أن تلك الشبكة المفترضة كانت تتوقع من عمر أن يعهد مباشرة إلى عثمان،دون الحاجة للدخول في متاهة الشورى الشداسية،غير مأمونة العواقب.

4)إن شعور عمر بالحاجة لمعرفة إذا كان اسمه أو صفه وأجله مذكورينفي التوراة

مخالف لتعاليم رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).

فقد روى أحمد في مسنده:أن عمر بن الخطاب أتى النبي (صلی اللّه علیه واله)بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب،فقرأه النبي (صلی اللّه علیه واله)،فغضب،فقال:أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية،لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به،أو بباطل فتصدقوا به،والذي نفسي بيده لو أن موسى (صلی اللّه علیه واله) كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني(3) .

ص: 146


1- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج3،ص264
2- ابن أبي الحديد،شرح نهج البلاغة،مج4،ج6،ص121
3- مسند أحمد بن حنبل،باقي مسند المكثرين، باقي المسند السابق

بل عمر نفسه منع عن كتابة حديث رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)لخشيته-كما يقال-من اختلاط حديثه (صلی اللّه علیه واله) بالقرآن،واختلاطهما بب أهل الكتاب.إذن لم لجأ إلى أمثال كعب الأحبار لمعرفة بعض التفاصيل المتعلقة بشخصه ومستقبله؟

فعن القاسم بن محمد بن أبي بكر:إن عمر بن الخطاب بلغه أنه ظهرت فی أیدی الناس كتب، فاستنكرها وكرهها، وقال: أیُّها الناس! إنّه قد بلغنی أنّه قد ظهرت فی أیدیكم كتب فأحبُّها إلی اللّه أعدلها وأقومها، فلا یُبقینَّ أحدٌ عنده كتاباً إلّا أتانی به، فأری فیه رأیی.

قال: فظنّوا أنّه یرید أن ینظر فیها ویقوّمها علی أمر لا یكون فیه اختلاف، فأتَوْه بكتبهم، فأحرقها بالنار!!

ثمّ قال: أُمنیة كأُمنیة أهل الكتاب(1) .وفی الطبقات الكبری:مثناة كمثناة(2) أهل الكتاب(3).

ويوجد نص تاريخي آخر له علاقة بالأمر،فقد كتب ابن أبي الحديد:

يروي عن ابن عباس أنه قال:تبرّم عمر بالخلافة في آخر ايّامه،و خاف العجز،و ضجر من سياسة الرعية.فكان لا يزال يدعو اللّه بأن يتوفاه.فقال لكعب الأحبار يوما و أنا عنده:إنّي قد أحببت أن أعهد إلى من يقوم بهذا الأمر،و أظنّ وفاتي قد دنت،فما تقول في علي؟أشر علي في رأيك،و اذكر لي ما تجدونه عندكم فإنكم تزعمون أنّ أمرنا هذا مسطور في كتبكم.

فقال(كعب الأحبار):أما من طريق الرأي فإنه لا يصلح؛إنه رجل متي الدين، لا يغضي على عورة،ولا يحلم عن زلة،ولا يعمل باجتهاد رأيه،وليس هذا من سياسة الرعية في شيء.وأما ما نجده في كتبنا،فنجده لا يلي الأمر ولا ولده،وإن وليه كان هرج شدید.

قال(عمر):كيف ذاك؟

قال:لأنه أراق الدماء،فحرمه اللّٰه الملك.إن داود لما أراد أن يبني حيطان بيت

المقدس أوحى اللّٰه إليه:إنك لا تبنيه،لأنك أرقت الدماء،وإنما يبنيه سليمان.

فقال عمر:أليس بحق أراقها؟قال كعب:داود بحق أراقها يا أمير المؤمنين.

ص: 147


1- حجية السنة:395،نقلا عن:علي الشهرستاني،منع تدوين الحدیث،مؤسسة الإمام علي (علیه السلام)،ط1،418اهج،قم،ص35
2- يحتمل أن تكون مصحفة من «مشناة»، وهي الروايات الشفوية التي دونها اليهود ثم شرحها علماؤهم.
3- ابن سعد، الطبقات الكبری، 1/ 140، نقلا عن : علي الشهرستاني، منع تدوين الحديث، ص35.

قال(عمر):فإلى من يفضي الأمر تجدونه عندكم؟

قال(كعب الأحبار):نجده ينتقل بعد صاحب الشريعة والاثنين من أصحابه،إلى أعدائه الذين حاربهم وحاربوه،وحاربهم على الدين..

فاسترجع عمر مرارة،وقال:أتستمع يا ابن عباس؟!أما واللّٰه لقد سمع من رسول اللّٰه ما يشابه هذا،سمعته يقول:«ليصعد بنو أمية على منبري،ولقد أريتهم في منامي ينزون عليه نزو القردة»(1) .وفيهم أنزل«وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ»(2) .

وهذه الرواية إن صحت، تثير تساؤلات:

5)لم لجا عمر إلى كعب الأحبار-اليهودي الذي نسب إليه الإسرائيليات- ليستشيره في صلاحية الإمام علي (علیه السلام) لتولي الخلافة؟ما هو موقعه؟ وكيف ولماذا صار مستشارة لعمر؟

6)ان كتاب التوراة متوافر الآن بيد الباحثين،فأين هي العبارات الموجودة في التوراة الدالة على أن عليا (علیه السلام) لا يلي الأمر وإن وليه كان هرج شديد،وأنه لا يلي الأمور لأنه أراق الماء،فحرمه اللّٰه الملك؟!وأين هي العبارات الدالة على أن الأمر سيؤول لا محالة إلى أعداء رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) الذين حاربهم وحاربوه؟

7)ما هي مصلحة كعب الأحبار في أن يوحي لعمر بأن الخلافة ستؤول إلى أعداء

رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)؟وهل ثمة علاقة تربطه ببني أمية؟

نعود إلى الطبري الذي كتب:فلما كان الشبح،خرج عمر إلى الصلاة،وكان يوكل بالفوف رجالا،فإذا استوت جاء هو فكبر،قال:ودخل أبو لؤلؤة في الناس، وفي يدو خنجر له رأسان نصابه في وسطه،فضرب عمر ست ضربات،إحداه تحت سرتي،وهي التي قتلته..... ....فلما وجد عمر حر الشلاح سقط،وقال: أفي الناس عبد الرحمن بن عوف؟قالوا:نعم يا أمير المؤمنین،هو ذا،قال:تقدم فصل بالناس،قال:فصلی عبد الرحمن بن عوف،وعمر طريځ،ثم احتمل فادخل داره(3) .

وفي روايات أخرى أين أبا لؤلؤة طعن عمر ثلاثة طعنات،ثم انحاز إلى أهل المسجد،فطعن فيهم من يليه حتى طعن أحد عشر رجلا سوى عمر،ثم انتحر بخنجرو.

ص: 148


1- ابن أبي الحديد،شرح نهج البلاغة،مج6،ج12،ص51
2- سورة الإسراء، الآية:60
3- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج3،ص264

وأن عمر بعد أن أدخل داره وجراحاته تنزف،قال له الطبيب:اعهد يا أمير المؤمنین عهدك.وروى عبد اللّٰه بن عمر قال:كان أبى يكتب إلى أمراء الجيوش لا تجلبوا إلينا من العلوج أحدا جرت عليه المواسي(1) فلما طعنه أبو لؤلؤة قال من بي قالوا غلام المغيرة قال ألم أقل لكم لا تجلبوا إلينا من العلوج أحدا فغلبتموني(2).

وينقل المسعودي في مروج الذهب أن عبد اللّٰه بن عمر لما أيقن بدنو أجل أبيه طلب منه أن يعين أحدة للخلافة،فقال له:يا أبه،استخلف على أمة محمد (صلی اللّه علیه واله)،فإنه لو جاء راعي إبل أو غنمك،وترك إبله أو غنمه لا راعي لها،وقلت له:كيف تركت أمانتك ضائعة،كيف بأمير محمد (صلی اللّه علیه واله)فاستخلف فيهم.فأجابه:إن أستخلف عليهم،فقد استخلف أبو بكر وإن أتركهم فقد تركهم رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)(3) !

أقول:كان الوجع قد غلب على أبي حفص،فأنساه أن رسول اللّٰه لا يمكن أن يترك أمة محمد (صلی اللّه علیه واله) راع،وأنساه يوم غدیر خم،وقوله لعلي (علیه السلام) يومها:بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة!وإن كان قد نسي يوم غدیر خم،فلا ندري لم لم يستعرض اسم أحد من صفوة الصحابة من المهاجرين كعمار بن یاسر وأبي ذر،أو الأنصار كأبي أيوب الأنصاري وحذيفة بن اليمان(4) والبراء بن عازب وعبادة بن الصامت؟

ص: 149


1- وهذه العبارة تكشف أن أسباب منع عمر دخول الفرس إلى المدينة هي «أمنية» بالدرجة الأولى، خشية و من التداعيات النفسية لفتح فارس.
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مج 6، ج12، ص116 - 117
3- المسعودي، مروج الذهب، ج2، ص 321.
4- حذيفة بن حسل بن.... بن غطفان اليمان، لقب حسل باليمان قيل لأنه أصاب دما في قومه، فهربإلى المدينة وحالف عبد الأشهل من الأنصار، فسماه قومه اليمان لأنه حليف الأنصار وهم من اليمن ، لم يشهد بدرة لأن المشركين أخذوا عليه الميثاق لا يقاتلهم فسأل الرسول (صلی اللّه علیه واله) فأمره بالوفاء بميثاقه ، قتل ابوه في أحد خطأ، صاحب سر رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)في المنافقين، شهد الحرب بنهاوند، وكان فتح همدان والري والدينور على يده، استعمله عمر على المدائن، لما نزل به الموت جزع جزعة شديدة ویكی بكاء كثيرة، فقيل : ما يبكيك؟ فقال : ما أبكي أسفة على الدنيا ، بل الموت أحب إلي، ولكني لا أدري على ما أقدم علی رضا أم على سخط؟ مات بعد قتل عثمان بأربعين ليلة. يقول المسعودي بانه لما بلغ حذيفة قتل عثمان ربيعة الناس لعلي (علیه السلام) قال: أخرجوني وادعوا الصلاة جامعة، فوضع على المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه، وصلى على النبي وآله، ثم قال: أيها الناس إن الناس قد بايعوا علية ، فعليكم بتقوى اللّه وانصروا علية ووازروه، فواللّه إنه لعلى الحق آخرة وأولا، وإنه لخير ما مضى بعد نبيكم ومن بقي إلى يوم القيامة ، ثم أطبق يمينه على يساره ثم قال : اللّهم اشهد أني قد بايع علية ! وقال : الحمد لله الذي أبقاني إلى هذا اليوم، وقال لابنيه صفوان وسعد: احملاني وكونا معه، فستكون له حروب كثيرة ، فيهلك فيها خلق من الناس، فاجتهدا أن تستشهدا معه، فإنه واللّه على الحق، ومن خالفه على الباطل، ومات حذيفة بعد هذا اليوم بسبعة أيام (أنظر : مروج الذهب، ج2، ص 381)

تنقل المصادر عن عمر أنه كان يرغب في الإيصاء لأبي عبيدة بن الجراح(1). ففي مسند أحمد بن حنبل عن عمر أنه قال:إن أدركني أجلي وأبو عبيدة بن الجراح حي استخلفه،فإن سألني ربي:لم استخلفته؟قلت:سمعت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)يقول:إن لكل نبي أمينا وإن أميني أبو عبيدة بن الجراح.فإن أدركني أجلي -وقدتوفي أبو بيدة-استخلف

معاذ بن جبل(2)،(وفي بعض الأخبار لسالم مولى أبي حذيفة)(3)فإن سألني ربي :لم استخلفته؟قلت:سمعت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)يقول:إن يحشر يوم القيامة بين يدي العلماء نبذة(4)،وقد ماتا في خلافته.

وعندما اقترح عليه أحدهم أن يستخلف ابنه عبداللّٰه،رفض رفضة شديدة، مبررة ذلك بعدم كفاءته لهذا المنصب.كتب الطبري:فقال له رجل:هل أدلك عليه،عبداللّٰه بن عمر،فقال:قاتلك اللّٰه،واللّٰه ما أردت اللّٰه بهذا،ويحك كيف أستخلف رجلا عجز عن طلاق امرأته(5).

والحقيقة أنه،إن كان بالإمكان أخذ ترشيح عمر لأبي عبيدة على محمل الجد -وهو بالمناسبة أمر مرجح جدا،فهو كان ثالث ثلاثة عندما دخل مع أبي بكر وعمر على

ص: 150


1- هو - على الأرجح - عامر بن عبد اللّه بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن نهر القرشي، شهد بدرا وأحدة ، ولما دخل عمر بن الخطاب الشام ورأى أبا عبيدة وما هو عليه من شدة العيش، قال له : كلنا غيرته الدنيا غيرك يا أبا عبيدة، توفي بسبب الطاعون سنة 18هج، راجع ترجمته في أسد الغابة، لابن الأثير، ج5، ص249.
2- هو معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الخزرجي الأنصاري، شهد بيعة العقبة، وبدرة واحدة، وآخی الرسول (صلی اللّه علیه واله)بينه وبين عبد اللّه بن مسعود، توفي بالطاعون في الشام سنة 8 أهج، تراجع ترجمته في اسد الغابة ، لابن الأثير، ج4، ص376.
3- راجع: الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج 3، ص292. سالم مولى أبي حذيفة هو سالم بن عبيد بن ربيعة، وقيل هو سالم بن معقل، وهو مولى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي، كان من أهل فارس! وهو معدود من المهاجرين لسبب، ومعدود من الأنصار لسبب آخر، ومعدود من قريش لأنه مولى أبي حذيفة، ومعدود من العجم لأنه منهم، وقيل بأنه رضع كبيرة لذا أجازت عائشة رضاع الكبير ... أنظر ترجمته في أسد الغابة، لابن الأثير، ج 2، ص 245.
4- مسند أحمد بن حنبل، مسند العشرة المبشرين بالجنة، أول مسند عمر بن الخطاب
5- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج 3، ص 292.

الأنصار في الشقيفة(1) -فمن الصعب أخذ ترشيح سالم مولى أبي حذيفة على محمل الجد،لأ سالمة لم يكن من العرب أصلا،والعقلية القبلية لا تسمح بخطوة من هذا القبيل أبدا.كما يصعب أخذ ترشيح معاذ بن جبل الخزرجي على محمل الجد أيضا،لأنه يعلم أن الأوس و قریش،لن تقبل ترشيحا من هذاالقبيل،كيف وقد حدث ما حدث مع سيير الخزرج سعد بن عبادة في التنقيفة؟!واحتج عمر نفسه في السقيفة بأن قريشا والعرب لن يقبلوا خليفة من غير وجهاء المهاجرين.

كتب الطبري:ثم احتمل(عمر)فأدخل داره،فدعا عبد الرحمن بن عوف،فقال:

إني أريد أن أعهد إليك.

فقال(عبد الرحمن):يا أمير المؤمنين نعم إن أشرت علئ قبل منك.

قال(عمر): وما تريد؟

قال(عبد الرحمن):أنشدك اللّٰه أتشير علي بذلك؟قال(عمر):اللّٰهم لا. قال(عبد الرحمن):واللّٰه لا أدخل فيه أبدا.

قال(عمر):فهب لي صمتا حتى أعهد إلى النفر الذين توفي رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وهو عنهم راض،ادع لي عليا وعثمان والبير وسعدة،وانتظروا أخاكم طلحة ثلاثا، فإن جاء وإلا فاقضوا أمركم....يا عبد اللّٰه بن عمر،إن اختلفت القوم،فكن مع الأكثر،وإن كانوا ثلاثة وثلاثة فائبع الحزب الذي فيه عبد الرحمن(2) .ويحممر عبد اللّٰه بن عمر مشيرة،ولا شيء له من الأمره(3) .

وأمر عمر بن الخطاب أبا طلحة الأنصاري أن يحبس هؤلاء الستة حتى ولوا أحدهم، فإن اتفق خمسة وأبي واحد فاضرب عنقه!وإن اتفق أربعة وأبي اثنان فاضرب أعناقهما!وإن افق ثلاثة وخالفت ثلاثة،فانظر الثلاثة التي فيها عبد الرحمن،فارجع إلى ما قد اتفق عليه،فإن أصرت الثلاثة الأخرى على خلافها فاضرب أعناقهما!وإن مضت ثلاثة أيام ولم يتفقوا على أمر،فاضرب أعناق الستة ودع المسلمين يختاروا لأنفسهم(4) !

ص: 151


1- وعرض أبو بكر على الأنصار أن يختاروا إما عمر بن الخطاب وإما أبا عبيدة بن الجراح،إلا أن عمر أصر على تقديم أبي بكر
2- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج3،ص264-265
3- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج3،ص293
4- ابن أبي الحديد،شرح نهج البلاغة،مج1،ج1،ص118

الآن،أقوى المرشحين الستة هما الإمام علي (علیه السلام) وعثمان(1)،وعلى (علیه السلام) من بني هاشم،وعثمان من بني أمية.ويبدو لي أن عمر كان يحدس أن قدرة وجهاء المهاجرين على مسك زمام الأمور مهددة،واحتمال رجوع الأمر إلى بني هاشم أو بني أمية بات واردة جدة،فهو من ناحية لا يريد أن ينتهي الأمر إلى بني هاشم،كما لا يريد أن ينتهي الأمر إلى بني أمية،لذا كان يرغب في الإيصاء لأبي عبيدة أو سالم(أو معاذ)...لكن ما الحيلة؟هو الأن بين خيارين.

يبدو أن عمر مال لبني أمية،وممثلهم عثمان بن عفان،لسابقته في الإسلام من جهة ومقبوليته من قريش وبني أمية خاصة من جهة ثانية،ومن جهة ثالثة كان يأمل أن يكون أمر عثمان تحت السيطرة مع وجود عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص بين يديه(2).

وحين اجتمع عمر باعضاء الشورى،وجه إليهم انتقادات لاذعة(3)،يهمنا ما يتعلق بعثمان بالتحديد.ينقل ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة،أن عمر قال لعثمان:

هيها إليك،كائي بك قد قلدتك قريش هذا الأمر لبها إياك،فحملت بني أمية وبني أبي معبط على رقاب الناس،وآثرتهم بالفيء،فسارت إليك عصابة من وبان العرب،فذبحو على فراش ذبحا، واللّٰه لئن فعلوا(أي ولوك)لتفعلن(أي تحمل بني أمية وبني أبي معيط على رقاب الناس)،ولئن فعلت ليفعلن(أي يقتلوك على فراشك)»،ثم أخذ بناصيته فقال:فإذا كان ذلك فاذكر قولي فإنه كائن.وقال لهم:«إنكم إن تعاونم وتوازرثم وتناصحم أكلتموها وأولادكم،وإن تحاسدم وتقاعدم وتدابرم وتباغضم،غلبكم على هذا الأمر معاوية بن أبي سفيان»(4)!

ص: 152


1- حتى أن عمر قال عند موته : ما أظن أن يلي إلا أحد هذين الرجلين علي أو عثمان. أنظر: الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج 3، ص 293.
2- من الشواهد على أن عمر كان يرجح عثمان ما رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق عن الأقرع مؤذن عمر، أن عمر مر على الأسقف، فقال : هل تجدونا في شيء من كتبكم؟ قال: ونجد صفتكم وأعمالكم ولا نجد اسماءكم، قال : كيف تجدوني؟ قالوا: قرن من حديد، قال عمر: قرن من حديد، وماذا؟ قال: أمین شديد، قال عمر : اللّه أكبر والحمد لله. قال : والذي بعدي؟ قال : رجل صالح يؤثر قرباه، فقال عمر: يرحم اللّه ابن عفان..... (أنظر : ابن عساكر، تاریخ دمشق، ترجمة الإمام علي (علیه السلام) ، ج 3، ص 80).
3- فمثلا أخذ عمر على طلحة أنه نزلت فيه الآية : « وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)» [الأحزاب: 53].
4- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مج 1، ج 1، ص118. يبدو لي أن هذا الخبر مختلق، والمستفيد من اختلاق اخبار من هذا القبيل، قریش، وبالتحديد حزب عبد اللّه بن الزبير، الذي كان يسعى دائما لإبقاء الخلافة تدور بين بطون قريش الضعيفة، ويسعى دائما لرفع مقام الخليفة الأول والثاني، والإيحاء بأن الثاني كان ملهمة، في مقابل التحفظ على الثالث، لأنه فضل أقرباءه ، ففسح في المجال بذلك ووطأ الطريق لمجيء معاوية.

إذن عمر كان يريد أن تبقى الخلافة بيد وجهاء المهاجرين،وإن وصلت الخلافة إلى عثمان،فهو من وجهاء المهاجرين،لكنه أيضا من بطن قريش القوي(بني أمية)...لذا نبههم بأنهم إن تعاونوا وتآزروا بقیت الخلافة فيهم،وإن تحاسدوا وتباغضوا فالأرجح أن تخرج الخلافة من يليهم،وتصل إلى معاوية بن أبي سفيان،مرشح بني أمية القوي،الذي ازداد قوة بعدما رسخ وجوده في الشام.

وكتب ابن أبي الحديد أيضا أن عمر بعد أن وجه انتقادات لاذعة لأعضاء الشوری،وصل الأذور إلى الإمام علي (علیه السلام)،فقال له:وأما أنت يا علي،فواللّٰه لو وزن إيمانك بإيمان أهل الأرض لرجحهم،فقام الإمام علي (علیه السلام) موئية يخرج، فقال عمر:واللّٰه إني الأعلم مكان رجل لو وليتموه أمرگم لحملهم على المحجة البيضاء،قالوا:من هو؟قال:

هذا الموتي من بينكم،قالوا:فما يمنعك من ذلك،قال:ليس إلى ذلك سبيل!

وفي خبر آخر،رواه البلاذري،أن عمر لما خرج أهل الشوری من عندو،قال:إن ولوها الأجلح(1) سلك بهم الطريق،فقال عبد اللّٰه بن عمر:فما يمنعك منه يا أمير المؤمنين؟قال:أكره أن أتحملها حيا وميتاً(2) !

مال الأمور صار واضحة للإمام علي (علیه السلام)

اجتمع أهل الشورى،وبدأوا بإجراء مباحثات لاختيار الخليفة المقبل.في هذا الشأن،يروي ابن عساكر في تاريخ دمشق روایات بطرق متعددة عن مناشدة الإمام علي (علیه السلام) لأصحاب الشورى،يسالهم:أنشدكم باللّٰه هل فيكم أحد صلى اللّٰه قبلي وصلی القبلتين؟هل فيكم أحد أخو رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) غيري؟أفيكم أحد قدم بين يدي نجوا صدقة غيري؟أفيكم أحد كان آخر عهده برسولاللّٰه (صلی اللّه علیه واله) حتی وضعه في حفرته غيري؟....إلى غيرها من التساؤلات، والقوم يجيبونه: اللّٰهم لا(3) .

ص: 153


1- الأجلح هو الذي انحسر شعره من جانبي رأسه.وعادة ما تكون مقدمة الضلع بالنسبة إلى بعضهم،وربما كان علي علي في ذلك الوقت أجلح،لم يكتمل صلعه بعد
2- ابن ابی الحدید،شرح نهج البلاغة،مج6،ج12،ص163
3- ابن عساكر، تاریخ دمشق،ترجمة الإمام علي عليك،تحقیق محمد باقر المحمودي،ج3، ص87-95

لكن،التنورة صارت واضحة بالنسبة إلى الإمام علي (علیه السلام)،فقد عرف أن القوم

تظاهروا عليه مرة جديدة،وهذا ما نلمسه بوضوح في حواره مع عمير العباس.

فقد أخرج الطبري أن عليا (علیه السلام) ما أن خرج من عند عمر،حتى تلقاه عمه العباس

فبادره (علیه السلام) قائلا:يا عم لقد دلت عنا.

فقال العباس:من أعلمك بذلك؟

فقال (علیه السلام):قرن بي عثمان،وقال عمر كونوا مع الأكثر،فإن رضي رجلا رجلا(كما لو تنازل رجل لآخر،فيظل ثلاثة)،ورجلان رجلا(كما لو تنازل رجلان لآخر،فيظل اثنين)،فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف،فسعد(=ابن أبي وقاص) لا يخالف ابن عمير عبد الرحمن(لأنهما ابنا عمومة،فكلاهما من بني زهرة، مضافة إلى أن أم سعد بن أبي وقاص هي حمنة بنت أبي سفيان بن أمية، وهذا عامل إضافي لميل سعد إلى عثمان،خصوصا إذا تذكرنا أن عليا (علیه السلام) قتل الناديد من أخواله)،وعبد الرحمن صهر عثمان(لأ زوجة عبد الرحمن هي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط،وهي أخت عثمان من امه)لا يختلفون،فيوليها عبد الرحمن عثمان،أو يوليها عثمان عبد الرحمن،فلو كان الآخران(=طلحة والزبير)معي لم ينفعاني(1) (بل من المستبعد أن يكون طلحة معه طالما أنه تيمي،وعلي (علیه السلام) معارض لخلافة أبي بكر التيمي،مضافة إلى أنه قتل عمه عمير وأخويه عثمان ومالك،لكن حتى لو وقف طلحة مع الإمام علي (علیه السلام) ما نفعه ذلك،لأن عمر جعل الترجيح بيلي عبد الرحمن أساسا).

الأمر اللافت حقا،أنه أثناء حدوث المباحثات بين أهل الشوری،جاء عمروبن العاص والمغيرة بن شعبة،فجلسا بالباب،فحصهما سعد وأقامهما،وقال: تريدان أن تقولا حضرنا وكنا في أهل الشوری(2) ؟!

وإن صځت الفرضية الثالثة في مقتل عمر،التي تتحدث عن وجود مؤامرة،فلن يكون تفسير سعد بن أبي وقاص لجلوس عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة صحيحة،بل سیفر هذا الجلوس على أنه ترب ومتابعة دقيقة لعواقب المؤامرة التي حاكتها هذه الشبكة،وأن الأحداث هل تسير وفق الخطة المرسومة أم أن المؤامرة جاءت بعواقب غير مطلوبة؟

ص: 154


1- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج3،ص294،أيضا:ابن أبي الحديد،شرح نهج البلاغة،مج1،ج1،ص121
2- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج3،ص295

ما الذي حدث بالضبط؟

كان طلحة يعلم أنه مع وجود الإمام علي (علیه السلام) وعثمان،لا فرصة له للوصول إلى الشلطة،ولن يصل إليه الدور.وسعد كان يعلم أنه مع وجود منافسين أقوياء مثل الإمام علي (علیه السلام) وعثمان وعبد الرحمن،لن يصل إليه الأور.والبير يعلم بأنه مع وجود الإمام علي علي (علیه السلام)،لن يصل إليه الأور.لذا نجد أن طلحة يتنازل لصالح عثمان،وسعد يتنازلالصالح عبد الرحمن.ولما رأى الزبير ذلك تنازل بدوره لصالح الإمام علي (علیه السلام).

كتب الطبري:لقي علي (علیه السلام) سعدة،فقال:«وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا»(1)،أسألك برحم ابني هذا من رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وبرجم عمي حمزة منك(2)، أن لا تكون مع عبد الرحمن لعثمان ظهيرة علي،فإني أدلي بما لا يدلي به عثمان(3).

ماذا جرى بعد ذلك؟قام عبد الرحمن(الذي تنازل له سعد)بإخراج نفسه من حلبة المنافسة على أن يكون رأيه هو المرجح(4) بين الإمام علي (علیه السلام) وعثمان،فصارت النتيجة واضحة سلفا.

باختصار:تنازل طلحة العثمان،لا حبا له،بل بغضا لعلي (علیه السلام).وعندما رأى الزبير ذلك تنازل بدوره لعلي (علیه السلام)،ربما لحمية النسب.كما تنازل سعد لعبد الرحمن،لأنهما من بني زهرة.فانسحب عبد الرحمن على أن يكون بيده زمام الترجيح بين الإمام علي (علیه السلام) وعثمان.

يقول ابن أبي الحديد:أؤل ما عمل طلحة أنه أشهدهم على نفسه أنه وهب حقه من

ص: 155


1- سورة النساء، الآية: 1.
2- رجم حمزة من سعد، هي أن أم حمزة هالة بنت أهيب بن عبد مناف ابن ژهرة، وهالة هذه هي عمة سعد، فحمزةإذا ابن عمة سعد، وسعد ابن خال حمزة. أنظر: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مج1، ج 1، ص 122.
3- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج 3، ص 296، أيضا : ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مج 1، ج1، ص122.
4- حيث قال: أيكم يخرج منها نفسه ويتقلدها على أن يوليها أفضلكم؟ فلم يجبه أحد، فقال : فأنا أنخلع منها . راجع: الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج 3، ص295 .

الشورى لعثمان،(لماذا؟)وذلك لعلمه أن الناس لا یعدلون به علیا و عثمان و أن الخلافة لا تخلص له و هذان موجودان فأراد تقویة أمر عثمان و إضعاف جانب علی (علیه السلام) بهبة أمر لا انتفاع له به و لا تمكن له منه . فقال الزبیر فی معارضته و أنا أشهدكم على نفسی أنی قد وهبت حقی من الشورى لعلی و إنما فعل ذلك لأنه لما رأى علیا قد ضعف و انخزل بهبة طلحة حقه لعثمان دخلته حمیة النسب لأنه ابن عمة أمیر المؤمنین (علیه السلام) و هی صفیة بنت عبد المطلب و أبو طالب خاله(وهو ابن أخي خديجة بنت خویلد، يعني فاطمة (علیها السلام) ابنة عمته) و إنما مال طلحة إلى عثمان لانحرافه عن علی (علیه السلام) باعتبار أنه تیمی و ابن عم أبی بكر الصدیق و قد كان حصل فی نفوس بنی هاشم من بنی تیم حنق شدید لأجل الخلافة و كذلك صار فی صدور تیم على بنی هاشم و هذا أمر مركوز فی طبیعة البشر و خصوصا طینة العرب و طباعها و التجربة إلى الآن تحقق ذلك فبقی من الستة أربعة.

فقال سعد بن أبي وقاص:وأنا قد وهبت حقّی من الشوری لابن عمّی عبد الرحمن _ و ذلك لانّهما من بنی زهره، و لعلم سعد أنّ الأمر لا یتمّ له _ فلمّا لم یبق إلاّ الثلاثه، قال عبد الرحمن لعلیّ و عثمان : أیّكما یخرج نفسه من الخلافه، و یكون إلیه الإختیار فی الاثنین الباقیین ؟ فلم یتكلّم منهما أحد، فقال عبد الرحمن : أشهدكم أنّنی قد أخرجت نفسی من الخلافه، علی أن أختار أحدهما، فأمسكا.

فبدأ بعلیّ علیه السلام ، و قال له : أبایعك علی كتاب اللّه، و سنّه رسول اللّه، و سیره الشیخین : أبی بكر و عمر .

فقال (علیه السلام): بل علی كتاب اللّه و سنّه رسوله واجتهاد رأیی .

فعدل(عبد الرحمن) عنه إلى عثمان،فعرض ذلك عليه.

فقال(عثمان):نعم.

فعاد(عبد الرحمن)إلى علي لي،فأعاد قوله.

فعل ذلك عبد الرحمن ثلاثة،فلما رأى أن عليا غير راجع عما قاله،وأن عثمان ينوم

له بالإجابة،صفق على يد عثمان،وقال:السلام عليك يا أمير المؤمنين.

فيقال أن عليا (علیه السلام):قال له:واللّٰه ما فعلتها إلا لأنك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه(يعني عمر من أبي بكر)،دق اللّٰه بينكما عطر منشم(1) .قيل:ففد بعد ذلك

ص: 156


1- «منشم»اسم امرأة بمكة كانت عطارة،وكانت خزاعة وجرهم إذا أرادوا القتال تطيبوا من طيبها،فإذا فعلوا ذلك كثرت القتلى بينهم،فكان يقال:«اشام من عطر منشم»،جاء ذلك في صحاح الجوهري2041/5

بين عثمان وعبد الرحمن،فلم يكلم أحدهما صاحبه حتى مات عبد الرحمن(1)، بل قيل أن عبد الرحمن أوصى أن لا يصلي علي عثمان بعد موته.

وكتب الطبري:فقال علي (علیه السلام):حبوته حبو دهر ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا فصبر جميل واللّه المستعان على ما تصفون واللّه ما وليت عثمان إلا ليرد الامر اليك واللّه كل يوم هو في شأن.

فقال عبدالرحمن يا علي لا تجعل على نفسك سبيلا فإني قد نظرت وشاورت الناس فإذا هم لا يعدلون بعثمان فخرج علي وهو يقول سيبلغ الكتاب أجله فقال المقداد يا عبدالرحمن أما واللّه لقد تركته من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون...ما رأيت مثل ما أوتى إلى أهل هذا البيت بعد نبيهم إني لاعجب من قريش أنهم تركوا رجلا ما أقول أن أحدا أعلم ولا أقضى منه بالعدل أما واللّه لو أجد عليه أعوانا؟!

فقال عبدالرحمن يا مقداد اتق اللّه فإني خائف عليك الفتنة(2).

وفي أنساب الأشراف أن عليا (علیه السلام)-بعد أن صفق عبد الرحمن على يد عثمان-كان قائما فقعد فقال له عبد الرحمن : بايع وإلّا ضربت عنقك ، ولم يكن مع أحد يومئذ سيف غيره فيقال : إنّ عليّا خرج مغضبا فلحقه أصحاب الشورى فقالوا : بايع وإلّا جاهدناك ، فأقبل معهم يمشي حتّى بايع عثمان(3)!

ومن كل هذا يظهر أن عمر كان قد جعل أمر الترجيح بيد عبد الرحمن،وهم يعلمون أن عليا (علیه السلام) يأبى أن يجعل العمل بسيرة الشيخين في عداد العمل بكتاب اللّٰه وشئة رسوله (صلی اللّه علیه واله)،وأن عثمان يوافق على ذلك،فيبايع عثمان بالخلافة،ويخالفهم الإمام علي (علیه السلام)فيعرض على السيف؟

والشاهد على ذلك ما رواه ابن سعد في طبقاته،في ترجمته لسعيد بن العاص(والذي سيقول في عهد عثمان:إنما السواد قطي لقريش!!)،ما خلاصه، أن سعید بن

ص: 157


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مج 1، ، ج 1، ص 118 - 119. ولمعرفة تفاصيل الخلاف بين عبد الرحمن وعثمان أنظر المصدر السابق، ص123 - 124. أيضا : ابن عبد ربه الأندلسي، العقد الفرید، ج4، ص305.
2- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج 3، ص 297 - 298، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مج 1، ج1، ص122 - 123.
3- أنظر أيضا : ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مج6، ج12، ص 166 - 167.

العاص أتی عمر يستزيده في الأرض ليوسع داره،يقول سعيد:فزادني وخظ لي برجليو،فقلت:يا أمير المؤمنين زدني فإنه نبتت لي نابتة من ولد وأهل، فقال(عمر):حسبك واختبئ عندك،إنه سيلي الأمر من بعدي من يصل رحمك ويقضي حاجتك.قال(سعید):فمكثت خلافة عمر حتى استخلف عثمان وأخذها عن شوری ورضی،فوصلني وأحسن وقضى حاجتي وأشركني في أمانته!

تذكر أن سعيدة هذا هو الذي قال له عمر-كما أشرنا-:مالي أراك معرضة كأنك ترى أني قتل أباك؟ما أنا قتله ولكنه قتله علي بن أبي طالب(في بدر)، فاعترض الإمام علي (علیه السلام) على ذلك واعتبره تحريضا عليه.

لكن لماذا أصر الإمام علي (علیه السلام) على رفض عرض عبد الرحمن بأن يسير بسيرة

الخليفة الأول والثاني؟

قبل أن أجيب عن هذا السؤال لدي تعليق على الشرط نفسه.الشرط الذي ابتدعه عبد الرحمن لا أساس شرعية له على الإطلاق،لأن مصادر التشريع المعتمدة هي كتاب اللّٰه تعالى وسنة رسوله.والخليفة الأول والثاني إن كانا قد سارا على كتاب اللّٰه وسنة رسوله (صلی اللّه علیه واله)،فالمهم أن يسير الخليفة الثالث على منوالهما.وإن كانا قد خالفا كتاب اللّٰه وسنة رسوله (صلی اللّه علیه واله)،والخليفة الثالث مطالب بأن يسير على منوالهما المخالف لكتاب اللّٰه وسنة رسوله،فهذا تأسيس المصدر تشريعي جديد،ولبدعة بالغة الخطورة.إذن لا موضوعية لسيرة الشيخين على الإطلاق،وهي ليست مصدرة من مصادر الشریع.مضافة إلى ذلك،أن الشيخين لم يسيرا على سيرة واحدة...فهما قد اختلفا في ملفات كثيرة؛ منها طريقة توزيع العطاء،وطريقة التعاطي مع خالد بن الوليد،وسماح الأول بمتعة النساء والحج بخلاف الثاني....إلخ.

الآن إذا عدنا للإجابة عن السؤال،ومعرفة سبب إصرار الإمام علي (علیه السلام) على رفض عرض عبد الرحمن.نقول:إن الإمام علي (علیه السلام) رفض العرض لاعتبارات عدة.فهو أولا برید أن يقول إنه امتداد لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وليس امتدادا للأول والثاني. وثانية حتى يعطينا درسة بأن الإصرار على المبدأ أهم بكثير من القيام ببعض التكتيكات السياسية،فالغاية لا تبرر الوسيلة كما ذهب ميكافيلي.وثالثة حتى لا يعطي شيكا على بياض ويمضي على كل ما قام به الأول والثاني من أفعال وسلوك وأقوال.ورابعة-وربما هو الأهم-أن عبد الرحمن بعرض هذا كان يريد أن يقول لعلي (علیه السلام):هل تقبل أن تكون واجهة القریش وراعيا لمصالحها كما كان الأول والثاني؟وبطبيعة الحال،الإمام على (علیه السلام) يرفض تماما هذا.

ص: 158

الجدير بالذكر أن المغيرة بن شعبة جاء إلى عبد الرحمن وقال له:یا أبا محمد، قد اصبت إذ بایعت عثمان! و قال لعثمان: لو بایع عبد الرحمن غیرك ما رضینا، فقال عبد الرحمن: كذبت یا اعور، لو بایعت غیره لبایعته(1).

ويبدو لي أن المغيرة كان صادقا في كلامه،لأن عبد الرحمن لو بایع غير عثمان،الكان على الأرجح (علیه السلام)،والمغيرة لا يرضى بعلي (علیه السلام)،والسبب في ذلك إن لم يكن متعلقة بدوري المحتمل في مؤامرة اغتيال عمر،التي استهدفت وصول بني أمية إلى الشلطة،فعلى الأقل،لموقف الإمام علي (علیه السلام) من قضية اتهام الشهود المغيرة بالنی،التي انتهت إلى حد الشهود حد القذف(2)!

هنا أيضا إضافة مفيدة وذات دلالة،كتب الطبري وابن أبي الحديد،واللفظ للثاني:

لما أتى اليوم الثالث(لاجتماعات الشوری)جمعهم عبد الرحمن،واجتمع الناس كافة.

فقال عبد الرحمن:أيها الناس،أشيروا علي في هذين الرجلين(يعني الإمام علي

وعثمان).

فقال عمار بن ياسر:إن أردت ألا يختلف الناس،فبايع علية (علیه السلام).

فقال المقداد: صدق عمار وإن بايعت علية سمعنا وأطعنا.

فقال عبد اللّٰه بن سعد بن أبي سرح(أخو عثمان من الرضاعة(3)) لعبد الرحمن: إن

أردت ألا تختلف قریش،فبايع عثمان.

وقال عبد اللّٰه بن أبي ربيعة المخزومي(من بني مخزوم،يعني من قريش)(4): صدق

إن بایع عثمان سمعنا وأطعنا.

فشتم عمار ابن أبي سرح وقال له:متی كنت تنصح الإسلام؟!

فتكلم بنو هاشم وبنو أمية،وقام عمار فقال:إن اللّٰه أكرمكم بنبيه وأعم بدينه، فإلى

متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بیت نبیكم؟

ص: 159


1- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص298.
2- سنشير إلى هذه القضية لاحقا في المحاضرة (27).
3- أخو عثمان من الرضاعة،كان من أخطر المشركين، أسلم وصار كاتبا للوحي ثم ارتد، وهرب من المدينة إلى مكة، أهدر رسول اللّه دمه عند فتح مكة، وطالب بقتله ولو كان متعلقة بأستار الكعبة، ثم تركه بعد شفاعة وإلحاح عثمان.
4- وهو الذي أرسلته قريش مع عمرو بن العاص إلى الحبشة لاسترجاع المهاجرين المسلمين الذين فروا من اضطهاد قريش إلى النجاشي.

فقال رجل من بني مخزوم:لقد عدوت طور با بن سمية،وما أنت وتأمير قریش الأنفيها!!!

فقال سعد بن أبي وقاص:يا عبد الرحمن أفرغ قبل أن يفتن الناس(1).

هذا الحوار لا يحتاج إلى تعليق،لأنه يضح منه جلية موقف قریش من الإمام علي (علیه السلام) وعثمان،وكيف أن قريشا كانت ترى أن الخلافة حق خالص لها، وليس من حق أمثال عمار بن یاسر(وهو المولى القحطاني)أن يدلي برأي!

هذا الأمر أئده ولصه الإمام علي (علیه السلام) نفسه،حيث قال:«إني لأعلم ما في أنفسهم،إن الناس ينظرون إلى قريش،وقریش تنظر في صلاح شأنها، فتقول:إن ولي الأمر بنو هاشم لم يخرج منهم أبدا،وما كان في غيرهم فهو متداول في بطون قریش»(2)!

يعني سيكون أمر الخلافة مرنة،وسيكون هناك تداول للشلطة بين بطونقریش ما دام الأمر خارج نطاق بني هاشم!!التابو(3)-والمحرم سياسية واجتماعية-هو أن تصل الخلافة إلى بني هاشم!!

هذا هو الجو العام،يسعى لإبقاء الخلافة في بطون قريش.أما جو الشبكة المفترضة،التي قد تكون وراء مؤامرة اغتيال عمر،فهي تسعى لجر الشلطة لمصلحة بني أمية خاصة،بطن قريش القوي....وقد تحقق مرادها عندما وصلت الشلطة إلى عثمان.

تساؤلات مشروعة

يبدو لنا أن نظام الشورى الشداسي الذي فرضه عمر بن الخطاب على واقع الأمة كان

بعيدة عن نظام الشورى.وإلا:

لماذا لم تشترك الأمة في الانتخاب؟

ولماذا ضمت الشورى الشداسية أغلبية من وجهاء المهاجرين القرشيين ممن لهم

مواقف سلبية من الإمام علي (علیه السلام)؟

ص: 160


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مج 1، ج 1، ص 122، أيضا : الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج 3، ص 297.
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مج 1، ج 1، ص 123، أيضا : الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص298.
3- تابو Taboo هي كلمة غير عربية، أصلها من لغات سكان جزر المحيط الهادي، وتعني المحرم وفق أعراف مجتمع ما أو في السياسة أو ما شابه .

ولماذا أقصي الأنصار عن المشاركة في صنع القرار؟

ولماذا لم تضم الشورى الشداسية أحدة من القحطانيين؟

وإن كان رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) مات وهو راض عن أعضاء الشورى فكيف ضرب أعناهم إن طالت مشاوراتهم أو اختلفوا؟وهل ثمة مسوغ شرعي لذلك؟وهل التلف عن الانتخاب مروق عن الإسلام؟

ألا يوجد من الصحابة من مات رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وهو عنه راض ممن هو جدير بالمشاركة في الشورى؟

ولماذا يجعل الترجيح بيد عبد الرحمن مع معرفة عمر میله لصهرو عثمان؟

وهل يصح أن يجعل أمر المسلمين ومصيرهم ومستقبلهم بيد شخص واحد يرجح من

يشاء؟

مضافة إلى أن هذه الشورى أوجدت التنافس بين أعضائها وصار كل واحد منهم يرى نفسه يدا للآخر،ونفخت فيه روح الطموح للخلافة،فصار بعضهم يحرض الناس على عثمان،وخرج بعضهم لحرب الإمام علي (علیه السلام) في الجمل؟

الإمام علي (علیه السلام) يشرح موقفه في خطبة الشقشقية

يقول الإمام علي (علیه السلام) في هذا الان:«فصبر على طول المدة(مدة خلافة عمر)،وشدة المحنة،حتى إذا مضى(عمر)لسبيله جعلها فى جماعة زعم انّي احدهم فيا للّه و للشّورى متى اعترض الرّيب فىّ مع الاوّل منهم، حتّى صرت اقرن الى هذه النّظائر! لكنّى اسففت اذ اسفّوا، و طرت اذ طاروا: فصغا رجل منهم لضغنه(=مال طلحة أو سعد القيرو)،ومال الآخر لصهره(=مال عبد الرحمن إلى عثمان أخي زوجته لأمه:ام كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط)،مع هن وهن(=مع تفاصيل مؤلمة يكفي أن تكتي عنها)»(1) .

أيضا في خطبة له يذكر فيها (علیه السلام) ما جرى له يوم الشوری بعد مقتل عمر:«وقد قال قائل(=سعد بن أبي وقاص على رواية):إنك على هذا الأمر يا ابن أبي طالب لحريص.

فقلت:بل أنتم واللّٰه لأحرص وأبعد،وأنا أخ وأقرب،وإنما طلبت حقا لي وأنتم

تحولون بيني وبيئه،وتضربو وجهي دونه.

فلما قرعته بالحجة في الملا الحاضرين هب كأنه بهت لا يدري ما يجيبني به!

ص: 161


1- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،خطبة3،ص49

اللّهم اني استعديك علي قريش و من اعانهم فانهم قطعوا رحمي و صغروا عظيم منزلتي و اجمعوا علي منازعتي امرا هو لي»(1) .

خلاصة القول أن قوة وجهاء المهاجرين،بدت في أواخر خلافة عمر،في طريقها للأفول.لذا عندما اغتيل عمر،في عملية مريبة قد تخفي وراءها مؤامرة محتملة،احتار عمر فيمن يخلفه.لكنه شگل شوری شداسية صممها بطريقة ضعف فيها احتمال وصول الإمام علي (علیه السلام) إلى الخلافة،فضلا عن الأنصار الذين لم يشركهم أصلا في الشوری.

تشكيل الشورى السداسية سيكون له تأثير خطير في نفوس أعضاء الشوری لأنهم بدأوا يشعرون لأول مرة أنهم منافسون حقيقيون لعلي (علیه السلام)،الأمر الذي دفع بعد ذلك بعضهم إلى نكث بيعة الإمام علي (علیه السلام) ومحاربته في الجمل.

قلنا إن وراء اغتيال عمر مؤامرة محتملة،والمتهمين فيها شبكة تعمل لمصلحة بني أمية.وإن لم تصح فرضية وجود شبكة وراء عملية الاغتيال،فدور بني أمية سيكون بالغ الوضوح في خلافة عثمان، وستشعر قریش-للمرة الأولى-بأن ثمة انقلابة حقيقية قد قام به بنو أمية على قريش.وهذا بالتأكيد سيمهد الطريق لمعاوية،ومن وراءه يزيد،ليرتكب من أجل إبقاء الشلطة بيد بني أمية،فاجعة كربلاء .

في الفصل الآتي سنتحدث عن حكم عثمان،وسنرى أن الخليفة الأول والثاني إن كانا هما واجهة قريش،فإن الخليفة الثالث صار واجهة بني أمية على الخصوص.كما سندرس التحولات الاقتصادية والاجتماعية والقيمية الخطيرة التي طرأت على المسلمين،بسبب استئثار بني أمية بالشلطة والمال،الأمر الذي أدى إلى ثورة انتهت بمقتل عثمان بطريقة مأسوية، ومبايعة الإمام علي (علیه السلام) أميرة للمؤمنين وخليفة على المسلمين.

ص: 162


1- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح، خطبة رقم172،ص246

الباب الثاني الأسباب القريبة لشهادة الإمام الحسين (علیه السلام)

اشارة

ص: 163

ص: 164

بدأنا هذه السلسلة بتقسيم خلفيات واقعة كربلاء،والأحداث والأسباب التي أدت إلى شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) إلى أسباب بعيدة وأسباب قريبة.وقلنا إنا نقد با«الأسباب البعيدة»المرحلة التي تمتد من بعثة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) إلى استلام عثمان الخلافة،يعني من(13 ق.هج-35هج)،وتقدر ب48سنة تقريبا. ونقصد ب«الأسباب القريبة الشهادة الإمام الحسين (علیه السلام)،الأحداث التي تمتد من مرحلة خلافة عثمان حتى موت معاوية،يعني من(35هج-60هج)،وتقدر ب 25سنة تقريبا.وتبدأ كتب مقاتل الحسین (علیه السلام) عادة من لحظة موت معاوية.

بدأت الفتوحات الكبرى مع عمر،وجاءت معها طفرة مالية،ألقت بظلالها الخطيرة على النسيج الاجتماعي،خصوصا إذا لاحظنا التأثير التراكمي لتطبيق معيار عمر في الفضيل في العطاء،فقریش لم تعد تستأثر بالشلطة فقط،بل صارت تستأثر بالمال أيضا.

في المقابل بدت قوة وجهاء المهاجرين في طريقها للأفول،لذا عندما اغتيل عمر،احتار فيمن يخلفه.كان عمر يأمل لو كان أبو عبيدة حية ليستخلفه،فأبو عبيدة بن الجراح من أبرز وجهاء المهاجرين،وهو من بنيالحارث بن فهر،أي من بطون قريش الضعيفة،حالها كحال تيم رعدي،لكنه توفي في حياة عمر. وتحدث عمر عن أمله باستخلاف سالم مولى أبي حذيفة،وفي بعض الروايات معاذ بن جبل، لو كان أحدهما حية.وقلنا بأنا لا يمكن أن نأخذ هذين الاسمين على محمل الجد،لأن سالمة فارسي الأصل،ولأن العرب العدنانيين لا يقبلون قحطانية فضلا عن شخص غير عربي، وثانية هو من الموالي،هو مولى لأبي حذيفة...إذن وفقا للمعايير القبلية لا فرصة لسالم أصلا في الوصول إلى الخلافة.كما أن معاذ بن جبل،من الأنصار القحطانيين،بل هو من الخزرج الذين احتك بهم عمر بقوة في السقيفة،وكسر شوكة زعيمهم سعد بن عبادة، وقريش لا يمكن أن تقبل مثل معاذ،إذن لا يمكن تصديق إمكانية استخلاف معاذ، وإن كان عمر-لهذه الدرجة متعاطفة مع الأنصار-إذن لماذا لم يجعل لهم من الأمر شيئا في الشورى الشداسية التي شكلها فور إحساسه بدنو أجله؟

نعم،سارع عمر عقب طعنه إلى تشكيل شوری شداسية يتم اختيار الخليفة منها،ولو دققنا في أسماء أعضاء الشوری،لوجدنا أنهم كلهم من قریش العدنانية،وبالتحديد من

ص: 165

وجهاء المهاجرين،وأدرج من بني هاشم الإمام علي (علیه السلام)،حتى لا يكون تهميشه سافرة،وأفقد الأنصار-وبشكل سافر-من أي قدرة على التأثير في القرار،بدليل أنه لا يوجد من الأنصار حتى عضو واحد في تلك الشورى الشداسية.والخلاصة أن تركيبة الشوری تجعل الإنسان يكاد يجزم بأن نتيجتها ستكون لمصلحة عثمان أو عبد الرحمن.ويبدو أن عمر كان قلقة من أن تكون النتيجة لمصلحة بني أمية على المدى البعيد،لأنهم سیتسئلون،من خلال عثمان الأموي،إلى الشلطة،لكن يبدو أنه أقنع نفسه بأنه مع بقاء عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص حول عثمان،سيبقى الوضع تحت السيطرة......المهم أن لا يصل الإمام علي (علیه السلام) إلى الشلطة،لأنها عندئذ لن تخرج من بنيه.

نريد فيما يلي أن نتحدث عن حكم عثمان،وكيف ساد شعور لدى وجهاء المهاجرين-بل لدى الأنصار وأهل العراق ومصر-بأن القرار لم يعد بيد بطون قريش الضعيفة،بل الحكم والثروة معأ صارا بید بني أمية بطن قریش القوي، إلى درجة أن بعض أقرباء عثمان من بني أمية،ممن لا سابقة له في الإسلام،بل لا صحبة له مع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،كمروان بن الحكم مثلا،صار له تأثير في صنع القرار،أكثر من كبار الصحابة القرشيين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص،فضلا عن طلحة والزبير وعلي (علیه السلام).

ويمكن أن نلخص هذا التحول الخطير بعبارة مختصرة:أبو بكر وعمر كانا واجهة

قریش،لكن عثمان حدد نفسه بدائرة ضيقة،فصار واجهة لبني أمية فقط.

نريد أن ندرس هذا التحول الخطير،كما نريد أن ندرس التحولات الاقتصادية والاجتماعية والقيمة الخطيرة التي طرأت على المسلمين،بسبب استئثار بني أمية بالشلطة والمال،الأمر الذي أدى إلى ثورة انتهت بمقتل عثمان بطريقة مأساوية،ومبايعة الإمام علي (علیه السلام) خليفة على المسلمين.

ما أن استلم الإمام علي (علیه السلام) الخلافة،حتى اضطر لخوض ثلاث حروب طاحنة في أقل من خمس سنوات،حرب الجمل مع الناكثين،وحرب صفين مع القاسطين،وحرب النهروان مع المارقين،ثم استشهد (علیه السلام) ليترك حملا ثقيلا للإمام الحسن (علیه السلام)،الذي اضطر هو الآخر لعقد صلح مع معاوية.ندخل مع معاوية فصلا جديدة وطويلا من حياة المسلمين،امتد إلى عقدين،جرت خلاله ملاحقات وتصفيات لشيعة علي (علیه السلام).انتهى العقد الأول بشهادة الإمام الحسن (علیه السلام) مسمومة،وانشغل معاوية في العقد الثاني بمحاولات متعددة لتهيئة الأجواء لتوريث الشلطة لابنه يزيد،الذي سيرتكب أكبر فاجعة في التاريخ،فاجعة كربلاء.

ص: 166

(8)عثمان:المعارضة وفتنة مقتله

من الآن فصاعدا سنشهد انقلابأ تدريجيا من بني أمية القرشية على قریش عموما(ووجهاء المهاجرين خصوصاً).وهذا أمر بالغ الخطورة،لأن عهد أبي بكر وعمر إن كان بمثابة انقلاب من وجهاء المهاجرين من بطون قريش الضعيفة على بني هاشم بطن قریش القوي،فإن عهد عثمان بمثابة انقلاب من بني أمية بطن قريش القوي على قريش بأسرها.والانقلاب الثاني أخطر من الأول بكثير، فالانقلاب الأول قام به المهاجرون القرشيون السابقون إلى الإسلام، والانقلاب الثاني قام به أولئك الذين حاربوا رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)بالأمس واضطروا لدخول الإسلام بسبب تغير موازين القوى.

تذكروا أننا ندرس خلفيات واقعة كربلاء،وكيف تسئل يزيد الأموي إلى الشلطة،وقلنا بأن قريش التي أسلمت بالأمس وجدت ضالتها في البداية بوجهاء المهاجرين،كأبي بكر وعمر،والآن ها هي أمية،التي أسلم أبرز رموزها بعد فتح مكة،تجد ضالتها في عثمان.

وقفة مع حكم عثمان(23-35هج)(1)

بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،خلال ربع قرن(25سنة)،وهو مجموع حكم أبي بكر وعمر وعثمان،نشأ جيل جديد،صفائه غريبة جدا:فهو لا يعرف تفاصيل الكثير من الحوادث التي وقعت في صدر الإسلام،ولا يميز بين الصحابة،حيث يتساوى في نظره علي بن أبي طالب (علیه السلام) وعبد الرحمن بن عوف والژبير بن العوام وطلحة بن عبيد اللّٰه،فكلهم من الصحابة،وكلهم-في نظر هذا الجيل-جديرون بالاحترام بالدرجة نفسها.غاية الأمر،أن عليا (علیه السلام) يمتاز عنهم بأمر بالغ الأهمية، وهو أنه عندما حدثت الطفرة المالية،بدأ كثير من الصحابة بكنز الأموال،وبناء القصور،والتحول نحو حياة الرفاهية

ص: 167


1- ملاحظة:مدة حكم عثمان12سنة تقريبا.ملاحظة أخرى:ولد يزيدبن معاوية سنة25أو26هج، هذا يعني أنه ولد في عهد عثمان بن عفان،وكان عمره يوم واقعة كربلاء34- 35سنة تقريبا

والترف،والتخلي عن حالة الزهد والبساطة، في حين أن عليا (علیه السلام) كان حريصا على التصدق أولا بأول بما يتوافر لديه من مال،لذا لم تتغير حياته،وحافظ على هدو وبساطة معیشت......هذا الأمر جعل علية (علیه السلام) أقرب إلى قلب هذا الجيل من بقية الصحابة،وصفه أنزه الصحابة مالية ومعيشية.طبعا بالإضافة إلى كونه أقرب من بقية الصحابة إلى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،فهو زوج ابنته فاطمة (علیها السلام)،وأبو سبطيه الحسن والحسين (علیهم السلام).

دعونا نتعرف بنحو مختصر على حياة الترف والبذخ التي تحول لها كبار وجهاء

الصحابة.

يقول المسعودي في مروج الذهب:بنی عثمان«داره في المدينة،وشيدها بالحجر والكلس،وجعل أبوابها من الشاج والعرعر واقتنى أموالا وچنانة وعيونا بالمدينة.وذكر عبد اللّٰه بن عتبة أن عثمان يوم قتل كان له عند خازنه من المال خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم،وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائة ألف دينار،وخلفت خية كثيرة وإبلا».

ويقول المسعودي أيضا:«وفي أيام عثمان اقتنى جماعة من الطحابةالضياع والدور:منهم البير بن العوام، بنی داره بالبصرة......وابتنى أيضا دورة بمصر والكوفة والإسكندرية...وبلغ مال الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار،وخلف الزبير ألف فرس،وألفت عبد وأمة»..

ويقول:«وكذلك طلحة بن عبيد اللّٰه التيمي:ابتنی داره بالكوفة...وكان غلته من العراق كل يوم ألف دينار وقيل أكثر من ذلك،وبناحية الشراة أكثر مما ذكرنا، وشيد داره بالمدينة وبناها بالأجر والجص والسج».

ويقول:«وكذلك عبد الرحمن بن عوف المري:ابتنی داره ووسّعها وكان علی مربطه مائه فرس، وله ألف بعیر، وعشره آلاف من الغنم، وبلغ بعد وفاته ثمن ماله أربعه وثمانین ألفاً».(وابن الأثير في ترجمته في أسد الغابة يقول: وخلف مالا كثيرة

قطع بالفؤوس حتی مجلت-يعني تقرحت-أيدي الرجال منه(1) .

ويضيف المسعودي:وابتنى سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق،فرفع مگها،ووع

فضاءها،وجعل أعلاها شرفات».ثم يقول:وقد ذكر سعيد بن المسيّب،أن زيد بن ثابت خلّف من الذهب و الفضة ما كان يكسر بالفئوس،غير ما خلف من الأموال

ص: 168


1- ابن الأثير،اسد الغابة،ج3،ص317

والضياع بقيمة مائة ألف دينار(1)».وزيد بن ثابت هذا وإن كان خزرجية من الأنصار،ولم يكن من وجهاء المهاجرين،لكنه كان خازنا لبيت المال عند عثمان، وكان ثمانية(أنظر ترجمته في أسد الغابة لابن الأثير).

نعود مرة أخرى،لوصف الجيل الجديد الذي نشأ بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)..

قلنا إن الإمام عليا (علیه السلام) كان في نظر هذا الجيل أنه من غيره،أبسط في حياته،وأزهد في عيشه،وأقرب إلى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،من غيره،وهو في النهاية قرشي...هذا الأمر جعل الإمام علياً (علیه السلام) مرجحا في نظرهم على بقية الصحابة.وإذا قورن الإمام علي (علیه السلام) ببقية أفراد قریش،لن يجد هذا الجيل شخصا غير علي (علیه السلام) يجمع بين المواصفات المقبولة في المجتمع آنذاك، والمواصفات التي يريدونها هم.ولم يكن هذا الجيل ينظر إلى علي (علیه السلام) بوصفه إمامة معصومة واجب الطاعة.

استفحل التفاوت الطبقي-نتيجة تطبيق معيار عمر في التفضيل في العطاء-في فترة كم عثمان بن عفان،إلى حد لا يطاق،لمصلحة قريش عموما، وبني أمية على وجه الخصوص. واستأثرت قریش بالمحكم والمال إلى حد سمح لسعيد بن العاص(وهو والي عثمان على الكوفة)أن يقول:إنما هذا السواد(2)(=العراق)قطين(3) لقريش!!فقال له الأشتر-وهو مالك بن الحارث النخعی-:«أتجعل ما أفاء اللّٰه علينا بظلال سيوفنا ومراكز رمانا بستانا لك ولقومك؟»(4)!

وعلينا أن نتذكر هذه الكلمة على الدوام:«إنما الشواد قطين لقريش»،لأنها ألهبت مشاعر جماهير العراق،ولخصت الوضع الذي تردى إليه حال المسلمين،وكان لها أثر بالغ في تهييجهم-وغالبيتهم من قحطان ممن جند لفتح العراق-ضد قریش العدنانية،كما كان لها بالتأكيد أثر بالغ في الثورة ضد عثمان.

ص: 169


1- المسعودي، مروج الذهب، ج 2، ص 331 - 332.
2- كتب البلاذري : لما رأت العرب كثرة القرى والنخل والشجر، قالوا: ما رأينا سواداً أكثر، والسواد الشجر، فلذلك سمي السواد «سوادة». أنظر : البلاذري، البلدان فتوحها وأحكامها، ص346 وكتب: كان خراج السواد على عهد عمر بن الخطاب مائة ألف ألف درهم. أنظر: البلاذري، البلدان فتوحها وأحكامها، ص314.
3- القطين : أتباع الرجل ومماليكه.
4- المسعودی، مروج الذهب، ج 2، ص 335 - 336.

صوت المعترضین یرقع

على أي حال،يتحدث ابن قتيبة الدينوري عن وثيقة كتبها بعض صحابة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،رصدوا فيها التجاوزات،التي تورط فيها عثمان خلال كمير،ولعلها أول وثيقة اعتراضية مكتوبة في الإسلام.يقول ابن قتيبة:

اجتمع ناس من أصحاب النبي- عليه الصلاة والسلام-فكتبوا كتابا ذكروا فيه ما خالف فيه عثمان من سنة رسول اللّه وسنة صاحبيه، وما كان من هبته خمس أفريقية لمروان (1)-وفيه حق اللّه ورسوله، ومنهم ذوو القربى واليتامى والمساكين-، وما كان من تطاوله في البنيان، حتى عدوا سبع دور بناها بالمدينة: دارا لنائلة(2)، ودارا لعائشة (3)وغيرهما من أهله وبناته، وبنيان مروان (4)القصور بذي خشب (=موضع بالمدینة)، وعمارة الأموال بها من الخمس الواجب لله ولرسوله، وما كان من إفشائه العمل والولايات في أهله وبني عمه من بني أمية(5) أحداث وغلمة لا صحبة لهم من الرسول

ص: 170


1- ومروان هذا ابن طرید رسول اللّه ولعينه، ولم يكتف عثمان بذلك بل أقطعه فدك التي حرمت منها فاطمة ! فوهبها مروان لبنيه.
2- هي نائلة بنت الراقصة الكلبية، زوجة عثمان بن عفان، تزوجها وهي نصرانية، وأسلمت على يديه ، وأرسلت بعد مقتل عثمان كتابة إلى معاوية مرفق معه قميص عثمان ممزقة مليئة بالدماء وأصابعها المقطعة...... واستفاد معاوية من هذا القميص والأصابع المقطعة ايما استفادة ... وصار يقال : «قميص عثمان»، للإشارة إلى اتخاذ الذرائع للوصول إلى أهداف خاصة. أنظر: ابن عبد ربه الأندلسي، العقد الفرید، ج4، ص300 - 301.
3- عائشة بنت أبي بكر، زوج رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)... كانت تحظى برعاية استثنائية من عمر حتى أنه فضلها في العطاء على بقية أزواج رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) .
4- روى الحاكم عن عبد الرحمن بن عوف قال : كان لا يولد لأحد مولود إلا أتي به النبي (صلی اللّه علیه واله)، فدعا له، فأدخل عليه مروان بن الحكم، فقال : هو الوزغ ابن الوزغ، الملعون ابن الملعون. وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. أنظر :الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج4، كتاب الفتن والملاحم، ح 8477، ص 588.
5- فقد ولى على الكوفة سعيد بن العاص الذي قال : «إنما السواد قطيئ لقريش»، بعدما عزل عنها الوليد ابن عقبة لاقترافه جريمة شرب الخمر، وولي عبد اللّه بن عامر بن كریز - ابن خاله - البصرة وكان عمره 24 - 25 سنة، بعد أن عزل عنها أبا موسى الأشعري، وولي الفاسق الوليد بن عقبة الكوفة الذي كان يجاهر بشرب الخمر، بعد أن عزل عنها سعد بن أبي وقاص، وكان أبوه من ألد أعداء رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)، وقد لقب القرآن الوليد ب «الفاسقه في آيتين، وهو الذي صلى الصبح بالناس سكرانة أربع ركعات وقال لمن خلفه: هل أزيدكم؟، وولي عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح - أخو عثمان من الرضاعة - على مصر، وكان عبد اللّه هذا من أخطر المشركين وأكثرهم عداء للنبي وسخرية منه، وأقر معاوية بن أبي سفيان على الشام، وضم له فلسطين وحمص... وهؤلاء كلهم من بني أمية وآل أبي معيط .

ولا تجربة لهم بالأمور، وما كان من الوليد بن عقبة بالكوفة إذ صلى بهم الصبح وهو أمير عليها سكران أربع ركعات ثم قال لهم: إن شئتم أزيدكم صلاة زدتكم، وتعطيله إقامة الحد عليه، وتأخيره ذلك عنه(1)، وتركه المهاجرين والأنصار لا يستعملهم على شئ ولا يستشيرهم، واستغنى برأيه عن رأيهم(2)، وما كان من الحمى الذي حمى حول المدينة(3)، وما كان من إدراره القطائع والأرزاق والأعطيات على أقوام بالمدينة ليست لهم صحبة من النبي عليه الصلاة والسلام(4)، ثم لا يغزون ولا يذبون، وما كان من مجاوزته الخيزران إلى السوط، وأنه أول من ضرب بالسياط ظهور الناس، وإنما كان ضرب الخليفتين قبله بالدرة والخيزران»(5).

ويقول المسعودي:«وقدم على عثمان عمه الحكم بن أبي العاص وابنه مروان وغيرهما من بني أمية،والحكم هو طريد رسول اللّٰه و الذي غيره من المدينة ونفاه عن جواري.وكان عماله جماعة منهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط على الكوفة(بعد عزل سعد ابن أبي وقاص)،وهو ممن أخبر النبي،أنه من أهل النار(6)،وعبد اللّٰه بن سعد بن

ص: 171


1- المقصود تعطيله إقامة حد شرب الخمر على واليه على الكوفة الوليد بن عقبة، الذي رد شهادة الشهود وعطل إقامة الحد عليه، حتى أقامه عليه أمير المؤمنين (علیه السلام).
2- لأن ولاته كانوا من بني أمية أو آل أبي معيط.
3- حيث حمى المراعي حول المدينة كلها من مواشي المسلمين كلهم إلا عن بني أمية (راجع: ابن أبي الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 125).
4- من عطاياه للأمويين: وهب صهره الحارث بن الحكم - أخا مروان - ثلاثمائة ألف درهم، ووهبه إبل الصدقة التي وردت إلى المدينة، وأقطعه سوقا في يثرب تعرف ب «مهزوز، بعد أن تصدق بها النبي على جميع المسلمين، ووهب أبا سفيان مائتي ألف من بيت المال، ووهب سعید بن العاص مائة ألف درهم، ووهب عبد اللّه بن خالد بن أسيد - زوج ابنته - ستمائة ألف درهم من بيت المال، واستقرض الوليد بن عقبة - أخو عثمان من أمه - مالا من خازن المال عبداللّه بن مسعود ورفض أن يرجعها وأنت ابن مسعود على محاسبته للوليد، وعفا عن الحكم بن أبي العاص - طريد الرسول (صلی اللّه علیه واله) - وكساه جبة خز وطيلسان ووهبه مائة ألف رولاه على صدقات قضاعة فبلغت ثلاث مائة ألف فوهبها له، أما مستشاره الخاص مروان بن الحكم فقد أعطاه خمس أفريقية، وألفة وخمسين أوقية لا يعلم ذهبا أو فضة، وأعطاه من بيت المال مائة ألف، فجاءه زيد بن أرقم خازن بیت المال يبكي فنهره تحت مبرر أنه يصل رحمه، وأقطعه فدكا .
5- ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، ص 50.
6- أسلم عند فتح مكة. وفي تفسير للآية : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا »[الحجرات، 6] ذكر ابن كثير أنه هو المعني ب «الفاسق»، يقول:وقَدْ ذُكِرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ اَلْآيَةَ نَزَلَتْ فِي اَلْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اَللَّهِ صلى اللّه عليه وسلم عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي اَلْمُصْطَلِق.

أبی سرح علی مصر(1) و معاویه بن أبی سفیان علی الشام و عبد اللّه بن عامر علی البصره(2)، و صرف عن الكوفه الولید بن عقبه(بعد صلاته بالناس سكرانا)،وولاها سعید ابن العاص(3)(الذي قال:إنما هذا الواد قطين لقريش(4)».

والحقيقة أن العالم الإسلامي شهد في عهد عثمان تلاعبا غير مسبوق بالمال العام،حيث انتشرت الشللية والمحسوبيات، وعاد التميز القبلي بشكل سافر،وتم تعيين الشاق والمستهترین بمصالح الأمة في مناصب عليا،كما تم التسامح مع أولئك الذين عاملهم رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بحزم وغلظة وأخبر أنهم من أصحاب النار.كما شهد العالم الإسلامي تفرداً بالرأي،وقسوة في التعامل مع الرعية،وانتشارة للبدع، وحياة مرفهة للحاكم وأقربائه،وتعطيا عن إقامة الحد...الخ.وأغلب هذه الأمور، لم يعهدها المسلمون في خلافة أبي بكر وعمر،كظواهر اجتماعية وسياسية واضحة.

حاول بعض الصحابه القیام بمساع اصلاحیه صادقه, قبل فوات الاوان, لكنها لم تجد نفعا, فتلك الوثیقه التی كتب فیها الصحابه تجاوزات عثمان, قدمها عمار بن یاسر الیه, فكانت النتیجه ان امر الاخیر بضربه, فضرب عمار, وشاركهم عثمان بالضرب - علی ما ینقل ابن قتیبه - الی ان فتقوا بطنه, فغشی علیه, وجروه حتی طرحوه علی باب الدار(5).

ولم يكن حظ عبد اللّٰه بن مسعود أفضل،حيث شرب حتی گیرت أضلاعه؛لأنه حاول الدفاع عن حرمة بيت مال المسلمين في العراق،ثم فرضت عليه الإقامة الجبرية في

ص: 172


1- قلنا مرارا إنه اخو عثمان من الرضاعة، أسلم وكان كاتبا للوحي يزور ما يمليه رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) عليه ، ثم ارتد وهرب إلى مكة، وأهدر رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) دمه عند فتح مكة، وأمر بقتله ولو كان متعلقة بأستارالكعبة ، لكن توسط بشأنه عثمان بن عفان وألح على رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)أن يعفو عنه.
2- ابن خال عثمان، وزوج ابنة معاوية بن أبي سفيان، وهو الذي سيدعو طلحة والزبير للمجيئ إلى البصرة للثورة علي علي (علیه السلام) ونكث بيعته.
3- قتل علي (علیه السلام) أباه في بدر، وتربى في حجر عثمان بن عفان، وكان من عمال عمر بن الخطاب على السواد، لما مات عثمان أعتزل الفتنة، فلم يشهد الجمل ولا صفين، فلما استقر الأمر لمعاوية، ولاه المدينة مرتين، وعزله عنها مرتين بمروان بن الحكم.
4- المسعودی، مروج الذهب، ج 2، ص 333.
5- ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، ص 51، أنظر أيضا : ابن عبد ربه الأندلسي، العقد الفرید، ج4، ص307.

يثرب،ومنع عنه عطاؤه،وأوصى عبد اللّٰه بن مسعود أن لا يصلي عليه عثمان(1).

وقام أبو ذر بالإنكار،حتى اضطر عثمان لنفيه إلى العراق،ثم إلى الشام، فاشتكی معاوية منه،فأعاده عثمان إلى المدينة.وعندما يئ عثمان من إسكاته،نفاه إلى الربذة(2)،فخف الإمام علي (علیه السلام) فاعترضهم مروان بن الحكم ليردّهم،فثار الإمام عليّ(عليه السّلام)فحمل علي مروان،و ضرب اذني دابته و صاح به:تنحّ نحّاك اللّه إلي النار (3)، و وقف الإمام عليّ(عليه السّلام)مودّعا أبا ذر فقال له:«يا أباذر!إنّك غضبت للّه فارج من غضبت له،إنّ القوم خافوك علي دنياهم،و خفتهم علي دينك،فاترك في أيديهم ما خافوك عليه، و اهرب بما خفتهم عليه،فما أحوجهم إلي ما منعتهم!و ما أغناك عمّا منعوك! و ستعلم من الرابح غدا...»(4).

وإن رصدنا التجاوزات التي تورط فيها عثمان في نقاط، فيمكن وضعها على النحو

التالي:

1.أرجع عمه الحكم بن أبي العاص،ابن عمير مروان،من المنفى الذي نفاه

رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)إليه(5).

2.وهب مروان بن الحكم مس أفريقية(كانت«أفريقية»تطلق على ما يشمل حاليا

تونس وشرق الجزائر وغرب ليبيا).

3.الإسراف والبذخ في المعيشة.

4.تولية أقربائه:عزل سعد بن أبي وقاص وتولية أخيه من أمه الفاسق الولید بن عقبة بن أبي معيطه(6) مكانه،ثم سعید بن العاص(على الكوفة)،وأخيه من الرضاعة عبداللّٰه بن

ص: 173


1- أنظر : البلاذری، انساب الأشراف، ج 5، ص 36.
2- والسبب المباشر لنفيه حوار حاد دار بين أبي ذر وكعب الأحبار، وثارت حفيظة عثمان على طريقة رد أبي ذر على كعب. أنظر : المسعودي، مروج الذهب، ج 3، ص 338 - 339.
3- وتشييع علي (علیه السلام) لأبي ذر وموقفه من مروان تسبب في تشج (علیه السلام) علاقته بعثمان، بل كان الأخير يريد أن يأخذ القود من علي (علیه السلام) بسبب شتمه لمروان وضرب راحلته!! أنظر: المسعودي، مروجالذهب، ج3، ص340 - 341.
4- نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح، رقم (130)، ص 188.
5- روى الحاكم عن عبد الرحمن بن عوف قال : كان لا يولد لأحد مولود إلا أتي به النبي (صلی اللّه علیه واله) ، فدعا له، فأدخل عليه مروان بن الحكم، فقال : هو الوزغ ابن الوزغ، الملعون ابن الملعون. وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. أنظر : الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج4، كتاب الفتن والملاحم، ح 8471، ص 588.
6- أسلم يوم الفتح، نزلت فيه الآية :«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا »[الحجرات :6] كان يشرب الخمر حتى بعد إسلامه وقامت الشهادة عند عثمان على ذلك، صلى بأهل الكوفة صلاة الصبح أربع ركعات ثم التفت إليهم فقال : أزيدكم؟ وقيل شهد مع معاوية في صفین

سعد بن أبي سرح(1)(على مصر)،وضم إلى معاوية إلى جانب الشام فلسطين وحمص.

5.المماطلة في إقامة الحد على أقربائي:كالمماطلة في إقامة حد شرب الخمر على

أخيه من أمه الفاسق الوليد بن عقبة بن أبي معيط.

6.تجاهل المهاجرين(خصوصا وجهاء الصحابة من قريش الذين كانت زمام الأمور بيدهم إلى الأمس القريب) والأنصار(المستضعفون أصلا بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله))في التولية والمشورة.

7.التلاعب ببیت المال من خلال إدراره القطائع والأرزاق والأعطيات.

8.ضرب الناس بالسياط عوضا عن الخيزران والدرة.

9.ضرب عمار بن یاسر وفتق بطني،وضرب عبد اللّٰه بن مسعود وكسر أضلاع، ونفي أبي ذر الغفاري إلى الربذة.

10.تحوله إلى أداة بيد مروان بن الحكم.

كانت التجاوزات تتراكم بهذا الاتجاه بالتدريج،وكان الحنق الشعبي يزداد بازدیاد تلك التجاوزات،وبات انقسام المجتمع الإسلامي إلى طبقتين عميقاً: أقلية غنية مرفهة

(قرشية)لا تخوض غمار الحروب والفتوحات،وإنما تكتفي بجني الثمار،في مقابل أكثرية فقيرة معدمة،جديدة العهد بالإسلام،تخوض المعارك،و ها أن غيرها يجني ثمار تضحياتها.

وقوع المحظور

كان طلحة بن عبيد اللّٰه والزبير بن العوام يقومان بتحريض الجماهير على عثمان(2)،

ص: 174


1- أسلم قبل الفتح ثم ارند مشركا، ويوم الفتح أمر رسول اللّه (علیه السلام) بقتله ولو كان معلقة بأستار الكعبة ، فشفع له عثمان وسكت رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)منتظراً من حوله ليقوم إليه فيضرب عنقه !! أنظر مثلا : الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحیحین، ج 3، كتاب المغازي والسرايا ، ح 4362، ص56، وهذه الرواية تقول بأن الآية : «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ »، بوصفه خائنة لرسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) في كتابته للوحي قبل ارتداده
2- يروي الطبري في تاريخه عن الواقدي : لما كانت سنة 34 كتب أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)بعضهم إلى بعض أن أقدموا فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد، وكثر الناس على عثمان، ونالوا منه أقبح ما نیل من أحد، وأصحاب رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) يرون ويسمعون، ليس فيها أحد ينهي ولا يذب، إلا (ويذكر اسماء محدودة جدا). (تاریخ الأمم والملوك، ج 3، ص375 - 376). وكان من قيادات الثوار المصريين عمرو بن بدیل بن ورقاء الخزاعي وهو من صحابة الرسول (صلی اللّه علیه واله) (تاریخ الأمم والملوك، ج3، ص402 - 403). وكان من الطاعنين على عثمان والمحرضين عليه عمرو بن العاص بعد أن عزله عن مصر واستعمل مكانه عبد اللّه بن سعد (تاریخ الأمم والملوك، ج3، ص292).

ثم بعد قتل،قاما بمبايعة الإمام علي (علیه السلام)،ثم نكثا البيعة،بعد أن فتح عمر شهيتهما للخلافة عندما أدرجهما في الشورى الشداسية،وتحالفت عائشة معهما....كل ذلك بغية استرجاع سلطة قريش التي سلبتها بنو أمية.حتى عمرو بن العاص الهمي كان من المحرضين للثوار بدهاء(1).

لكن كيف وقع المحظور وقتل عثمان؟

كان وفد الثوار من مصر بقيادة الصحابي عبد الرحمن بن عدیس البلوي(وهو من أصحاب بيعة الشجرة)،ومحمد بن أبي بكر(ولد عام حجة الوداع،لذا يمكن اعتباره من الصحابة أو التابعين وفقا لاختلاف تعريف كل منهما)(2).وكان وفد ثوار الكوفة بقيادة الضحابي عمرو بن الأهثم(3)،ومالك الأشتر،وزيد بن صوحان العبدي.وكان وفد ثوار البصرة بقيادة الصحابي حكيم بن جبلة(وعلينا أن نتذكر اسم هذا الصحابي لأنه سیستشهد على يد الناكثين في أطراف البصرة فيما يعرف ب«يوم الجمل الأصغر»).واستمر الحصار أربعين يوما على الأقل، استنجد عثمان خلالها بمعاوية(4)،لكن

ص: 175


1- وكان عمرو بن العاص السهمي ناقما على عثمان لأنه عزله عن مصر وولی مكانه عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح الأموي، وعمرو له ارتباط خاص بمصر، لأنه كان من فاتحيها، وكان يشعر بأن له حقا خاصة فيها، لذا لم يستطع معاوية بعد ذلك أن يعقد صفقة مع عمرو إلا بعد أن أغراه بمصر طعمة! فرفع قميص عثمان، وصار يبكی كالساء أمام أهل الشام على مظلومية عثمان!
2- أمه أسماء بنت عمیس وهي من أول المسلمات، هاجرت إلى الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب، عندما استشهد، تزوجها أبو بكر، فولدت له محمدا ، فلما مات، تزوجها علي (علیه السلام) ، فتربي محمد في حجر علي (علیه السلام) .
3- كان معروفة بالفصاحة والبلاغة، وهو القائل : لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق
4- عندما ذهب إلى عثمان: عامر بن عبد اللّه التميمي مندوبة عن الثوار وطلب منه تصحيح الوضع المنحرف، يقول الطبري: فأرسل عثمان إلى معاوية بن أبي سفيان وإلى عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح وإلى سعيد بن العاص وإلى عمرو بن العاص بنوائل السهمي وإلى عبد اللّه بن عامر فجمعهم لیشاورهم في أمره وما طلب إليه وما بلغه عنهم، فلما اجتمعوا عنده قال لهم : إن لكل امرئ وزراء ونصحاء وإنكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي وقد صنع الناس ما قد رأيتم وطلبوا إلي أن أعزل عمالي وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبون فاجتهدوا رأيكم وأشيروا علي، فقال له عبد اللّه بن عامر: رأيي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك وأن تجمهرهم في المغازي حتى يذلوا لك فلا يكون همة أحدهم إلا نفسه وما هو فيه من دبرة دابته وتمل فروه (تاریخ الأمم والملوك، ج 3، ص 373).

الأخير أبطأ عن إجابته،وحبس جنده في أوائل الشام،وذهب بنفسه إلى المدينة ليطلع على تطورات الأحداث،وقال لعثمان:قدم لأعرف رأيك وأعود إليهم(إلى جنده)فأجيئك بهم!فرد عثمان:لا واللّٰه،ولكن أردت أن أقتل،فتقول أنا ولي الثأر،ارجع فجئني بالناس،فرجع معاوية،فلم يعد إليه حتى قتل(1).

وضغط الثوار على عثمان،حتى أخذوا منه العهد التالي:هذا كتاب من عبد اللّٰه عثمان أمير المؤمنين،لمن نقم عليه من المؤمنين والمسلمين،أن لكم أن أعمل فيكم بكتاب اللّٰه وسنة نبيه،يعطى المحروم،ويؤم الخائف،ويرد المنفي، ولا يجمر في البعوث(=لا يحبس الجند في الغور عن العود إلى أهلهم)،ويوفر الفيئ،وعلي بن أبي طالب ضمين للمؤمنين والمسلمين،على عثمان الوفاء بما في هذا الكتاب».وشهد فيه كل من الزبير وطلحة وسعد وابن عمر وغيرهم.

لكن عثمان وبتحريض مروان نقض هذا العهد،حيث دخل عليه مروان وقال له: تكلم وأعلم الناس أن أهل مصر قد رجعوا،وأن ما بلهم عن إمامهم كان باطلا ،فإنطبتك تسير في البلاد،قبل أن يتحلب الناس عليك من أمصارهم فيأتيك ما لا تستطيع دفعه».وامتنع عثمان في البدء عن إجابته،لكن ما زال مروان يحذره من مغبة ما صنع،إلى أن استجاب له،فصعد المنبر،وقال ما طلب منه مروان....فثار القوم،وعاد الوفد المصري غاضبة بعد أن تبين له الأمر.وخرج لهم مروان وخاطبهم:ما شأنكم؟...شاهت الوجوه،تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا،اخرجوا عنا....

ونقلت كلمات مروان للإمام علي (علیه السلام) فثار غاضبة وأسرع إلى عثمان،وأحاط الثوار

بدار عثمان فمنعوا عنه الماء والطعام(2)،وأرسل الإمام علي (علیه السلام) إليه قرب الماء،إلا إن بعض الثوار دخلوا عليه،ولم يخرجوا إلا وعثمان مضرجا بديه.وتداول الناس أسماء

ص: 176


1- ابن واضح اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، منشورات الشريف الرضي، ط1، 1414هج، قم، ج2، ص 175 .
2- تذكر حادثة منع الثور الماء عن عثمان، فإن ذلك سيؤخذ ذريعة لمنع الماء عن علي (علیه السلام)في صفین، بل سيؤخذ ذريعة أيضا لمنع الماء عن الحسين (علیه السلام) في كربلاء.... . كل ذلك رغم أن عليا (علیه السلام) كان قد أرسل قرب الماء لعثمان وهو محاصر، كما أنه (علیه السلام) سمح لمعاوية وجيشه بالتزود من الماء بعدما غلب عليه، كما ستعرف في أحداث معركة صفين ...... في كل ذلك دروس وعبر، وكيف أن بعض المغرضين قد يتخذون من تصرفات بعض المتهورين ذرائع لارتكاب جرائم.

قيل أنها ممن دخل على عثمان،كالصحابي عمرو بن الحمق الخزاعي، والصحابي عبد الرحمن بن غديس البلوي،والطحابي محمد بن أبي حذيفة(وهو من بني عبد شمس،ابن خال معاوية،رباه عثمان،ثم صار من أشد الناس عليه)،بالإضافة إلى محمد بن أبي بكر،وكنانة بن بشر،وعمير بن ضابئ،وسودان بن حمران.

ما نريد التأكيد عليه أن الإمام عليا (علیه السلام)،لم تكن له سيطرة حقيقية على الثوار،بل حتى بعض قادة الثوار لم تكن لهم سيطرة حقيقية على قواعدهم الشعبية،فالفوضى واللغط وخلط الأوراق كان هو سيد الموقف.

•موقف الإمام علي (علیه السلام) من فتنة مقتل عثمان

كان وضع الإمام علي (علیه السلام) دقيقة جدا،فمن ناحية كان قد أقسم عندما عزم القوم على بيعة عثمان،بعد أن أكد على أنه أحق الناس بالخلافة من غيره، قائلا:«واللّٰه الأسلمن ما سلمت أمور المسلمين،ولم يكن فيها جور إلا علي خاصة،التماسا لأجر ذلك وفضله،وزهدا فيما تنافستموه من خوفه وزبرجه»(1) ، وها هي أمور المسلمين لم تعد سالمة،وها هو الجور لم يعد واقعة عليه خاصة،فعليه إذن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،والوقوف أمام هذا الانحراف الكبير الذي بات يهدد وجود الأمة بأسرها.

لكن موقفه حرج من ناحية ثانية،لسببين:أولهما أنه (علیه السلام) وإن كان يرى نفسه أحق بالخلافة من غيره،إلا أن أي تحرك احتجاجي سيعطي ذريعة للملتفين حول عثمان،في اتهامه بالسعي نحو الشلطة،وأنه يعرقل المسيرة،ويضع العصا في العجلة،ويحرض على نكث البيعة.فالقرار لم يعد بيد عثمان،وإنما بید قرابته وأبناء عمومته،والأجواء مهياة تماما لفبركة الاتهامات الواهية. السبب الثاني-وهو الأهم-أن الحركة الشعبية الاحتجاجية،وإن كان قد وقع الظلم عليها،لكنها حركة غير ناضجة،جديدة العهد بالإسلام،هائجة،يصعب التحكم في مسارها،اختلط عليها الحق والباطل،واختلطت عليها المعايير. وهذه القطة سنتوقف عندها بعد قليل.

كانت الأنظار تتجه نحو الإمام علي (علیه السلام)،يريدون معرفة كيفية معالجته، لمعضلة

غير مسبوقة،ألمت بالإسلام والمسلمين.فماذا صنع الإمام علي (علیه السلام)؟

حاول الإمام علي (علیه السلام) أن يمسك العصا من الوسط ما أمكنه،فلعب دور الوسيط

ص: 177


1- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،رقم(74)،ص102

أكثر من مرة،بين جماهير هائجة،فلت زمامها،ولم تد تستمع إلا لمن يريد أن يزيد تهييجها،أو على الأقل لمن يريد أن يتفهم معاناتها،وحاكم لم يعد قراره بيده، بسبب الشيخوخة وتسلط المحيطين به،وبالخصوص مروان بن الحكم.

لما اجتمع الناس إليه،وشكوا ما نقموه على عثمان،قام الإمام علي (علیه السلام) ودخل

على عثمان،وقال له:

«إن الناس ورائي،وقد استسفروني(=جعلوني سفيرة)بينك وبينهم، وواللّه ما أدري ما أقول لك، ما أعرف شيئا تجهله، ولا أدلك علي أمر لا تعرفه، إنك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلي شئ فنخبرك عنه، ولا خلونا بشئ فنبلغكه، وقد رأيت كما رأينا، وسمعت كما سمعنا، وصحبت رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) كما صحبنا، وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطاب بأولي بعمل الحق منك، وأنت أقرب إلي رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)وشيجة رحم منهما، وقد نلت من صهره ما لم ينالا، فاللّه اللّه في نفسك، فإنك واللّه ما تبصر عن عمي، ولا تعلم من جهل....وأن شر الناس عند اللّه إمام جائر، ضل وضل به، فأمات سنة مأخوذة وأحيي بدعة متروكة، وأني سمعت رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله) يقول: يؤتي يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر فيلقي في نار جهنم فيدور فيها كما تدور الرحي، ثم يرتبط في قعرها، وإني أنشدك اللّه أن تكون إمام هذه الأمة المقتول فإنه كان يقال: يقتل في هذه الأمة إمام يفتح عليها القتل والقتال إلي يوم القيامة، ويلبس أمورها عليها، ويثبت الفتن فيها، فلا يبصرون الحق من الباطل، يموجون فيها موجا، ويمرحون فيها مرحا، فلا تكونن لمروان سيقة يسوقك حيث شاء بعد جلال السن وتقضي العمر ».

فقال له عثمان:كلم الناس في أن يؤجلوني،حتى أخرج إليهم من مظالمهم. فقال (صلی اللّه علیه واله):ما كان بالمدينة فلا أجل فيه،وما غاب،فأجله وصول أمرك إليه(1) .

لكن عثمان لم يتخذ اي اجراء، فعلي يؤكد للناس ان الامور في طريقها إلى الحل.

بل على العكس، كان كلما حاول ان يتخذا اجراء من هذا القبيل، اما ان يثنيه عن ذلك المقربين منه - وبالخصوص مروان – او يقومون بخطوات تزيد من نقمة الناس، وترسل اليهم اشارات خاطئة، تؤكد لهم ان الامور يائسة بالفعل، ولا امل في الاصلاح، وان قرارات عثمان لم تعد بيده، وانما بيد ابناء عمومته، الذين لا سابقة لهم في الاسلام.

لما اشتد الطعن على عثمان، بدا الناس يهتفون باسم علي للخلافة، فاستاذن

ص: 178


1- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،رقم(164)،ص234-235

علي (عليه السلام) عثمان في بعض بواديه يتنحى إليها - حتى لا يتهم باستغلال الظرف لصالحه - فاذن له(1).

واشتد الطعن على عثمان بعد خروج علي، ارسل عثمان إلى علي (علیه السلام) يساله التوسط مرة اخرى.وتكررت الوساطات، ومن المعلوم ان الوساطات حينما تتكرر تفقد بريقها، ويفقد الوسيط تاثيره.

كان عثمان تارة يطلب من علي التوسط، وتارة اخرى يطلب منه الخروج من المدينة والا يتدخل، لذا نجده يجيب ابن عباس حينما جاءه برسالة من عثمان، وهو محاصر في بيته، يساله الخروج من المدينة:

«يا بن عباس، ما يرىد عثمان الا ان يجعلني جملا ناضحا بالغرب، اقبل وادبر! بعث إلى ان اخرج، ثم بعث إلى اقدم، ثم هو الآن يبعث إلى ان اخرج! واللّه لقد دفعت عنه حتى خشيت ان اكون آثما»(2).

والعبارة الاخيرة تهمنا للغاية: «واللّه لقد دفعت عنه حتى خشيت ان اكون آثما» ، لانها توضح تماما حقيقة المازق.

فمن ناحية هو يدافع عن الخليفة حتى لا تتورط الجماهير بهتك منصب الخلافة، وحتى لا ينفتح على الامة باب الفتن.

لكنه من ناحية ثانية يخشى من المبالغة في الدفاع عن الخليفة، الامر الذي قد يعد دفاعا عن امام جائر وركونا إلى ظالم، وخذلانا لامة مظلومة فبدل ان يكون ماجورا في وساطته، يصبح آثما.

وانصافا لعلي لابد ان نقول: لم يقف احد مدافعا عن عثمان كعلي (عليه السلام)، حتى اولئك الذين طالبوا بدمه بعد مقتله، حتى طلحة والزبير وعائشة، بل حتى مروان ومعاوية.لقد كان موقف الفريق الأول يتمثل في استثارة الجماهير وتهييجهم، فطلحة والزبير وعائشة(3)، كل واحد منهم، حرض الجماهير على عثمان. ومروان كان

ص: 179


1- لمراجعة بعض تفاصيل خروج علي (علیه السلام) إلى منطقة ينبع ثم طلب عثمانعودته، راجع: ابن عبد ربه الأندلسي، العقد الفرید، ج 4، ص 309
2- نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح، رقم (240)، ص 358،.
3- في النصف الأول من خلافة عثمان، كانت عائشة تؤيده وتطيعه، ولا تفكر في خلافه. ثم اختلفت معه، لانقطاع الألفين الزائدة في عطائها عنها على ما ذكره اليعقوبي وابن اعثم . قال اليعقوبي: وكان بين عثمان و عائشة منافرة و ذلك أنه نقصها مما كان يعطيها عمر ابن الخطاب، و صيرها أسوة غيرها من نساء رسول اللّه،». في البدء والتاريخ: «كان أشد الناس على عثمان: طلحة والزبير ومحمد بن أبي بكر وعائشة، وخذله المهاجرون والأنصار، وتكلمت عائشة في أمره، وأطلعت شعرة من شعرات رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)ونعله وثيابه ، وقالت: ما أسرع ما نسيتم سنة نبيكم، فقال عثمان في آل أبي قحافة ما قال، وغضب حتى ما كان يدري ما يقوله. ومرة أخرجت ثوبة من ثياب رسول اللّه ؛ فنصبته في منزلها وكانت تقول للداخلين إليها : هذا ثوب رسول اللّه (علیه السلام) يبل وعثمان قد أبلى سنته. ووصل الأمر إلى أن أصدرت فتوی صريحة بإهدار دمه، فقالت: «اقتلوا نعثلا فقد كفر»، فانطلقت هذه الكلمة من فم عائشة، فانتشرت بين الناس انتشار النار في الهشيم، فتلقفها منها غيرها ممن لم يكن يجرؤ على التفوه بمثلها. وكلمة انعثل، فيما ذكروه بمعاجم اللغة : أ) الذكر من الضباع ب) الشيخ الأحمق ت) وقالوا : كان رجل من أهل مصر طويل اللحية يسمى نعثلا ث) وقالوا : إن نعثلا كان يهودية بالمدينة، شبه به عثمان. راجع التفاصيل كلها في: مرتضى العسكري، أحاديث أم المؤمنين عائشة، دار الزهراء، بيروت ، ط2، 1992، ج 1، ص 90 - 152. وكتب ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة أن عائشة لما بلغهامقتل عثمان - وهي بمكة - قالت: أبعده اللّه ، ذلك بما قدمت يداه وما اللّه بظلام للعبيد.

يحرض عثمان على عدم التنازل للجماهير(1) ،ومعاوية تباطأ في نجدة عثمان ليقع الثوار في المحظور.

في الفصل القادم سوف نسلط الضوء على وضع المسلمين لحظة مقتل عثمان وتسلم الإمام علي (علیه السلام) الخلافة،كما سنتحدث عن التغيرات التي طرأت على فئة وجهاء المهاجرين،ثم حرب الجمل ومضاعفاتها،وتأثير ذلك في انكسار شوكة قريش لمصلحة بني أمية.

الخلاصة:عرفنا الآن أهم مكونات شخصية الجماهير الثائرة ثقافية وقبلية واقتصادية،وأن هؤلاء كانوا يمثلون جيلا جديدة لم يحظ بتربية ثقافية وروحية ومعنوية في حياة الخلفاء الثلاثة الذين سبقوا الإمام عليا (علیه السلام)،وأنهم كانوا يشعرون بالغبن،وأن قريشا قد ظلمتهم،وانتهكت كرامتهم،وسلبتهم حقوقهم، لأن المعيار الذي وضع عمر بن الخطاب في توزيع العطاء،جعل الثروة تتراكم في يد قریش العدنانية(من مكة)،على حساب باقي العرب من قحطان، كالأنصار من أهل المدينة،وأجناد العراق الذين كانوا وقود الفتوحات الكبرى. إذن الجماهير الثائرة في غالبيتهم من قحطان،والشلطة والمال بید قریش العدنانية....وفي طريقها لبني أمية. وعرفنا مدى استشراء الفساد الاداري والمالي-والأهم من ذلك الفساد القيمي والديني-في أواخر حياة عثمان نتيجة أخطاء

ص: 180


1- ودور مروان في استثارة الجماهير معروف لكل من قرأ تفاصيل مقتل عثمان،ويكفي كلمة علي (علیه السلام) العثمان:«فلا تكون لمروان سيقة،يسوق حيث شاء،بعد جلال السن،وتقضي العمر»

قاتلة ارتكبها هذا الأخير،الأمر الذي أدى إلى قتله،والتفاف الجماهير الغاضبة والثائرة حول الإمام علي (علیه السلام).

نعم،دراسة فتنة مقتل عثمان،بالغة الأهمية،لأن الصورة لن تتضح إلا إذا عرفنا بالضبط حقيقة موقف الإمام علي (علیه السلام) من تلك الفتنة.فأكثر الفتن اللاحقة، كان سببها ما قام به بنو أمية من خلط للأوراق،استطاعوا من خلالها التسلل إلى الشلطة،ابتداء من معاوية،مرورا بيزيد الذي ارتكب فاجعة كربلاء. وسنلمس بوضوح التوظيف المستمر المقتل عثمان ومنع الماء عنه،لقتل الإمام الحسين (علیه السلام) ومنع الماء عنه.لكن كيف استطاعوا خلط الأوراق؟وكيف استطاعوا إرباك الاحة؟سنحاول في الفصل القادم الإجابة عن هذا السؤال.

ص: 181

(9)ظروف استلام الإمام علي (علیه السلام) الخلافة

تحدثنا في الفصل الماضي عن فترة حكم عثمان،وكيف تطورت الأمور بشكل دراماتيكي إلى أن وقع ثوار العراق ومصر في المحظور،وقتلوا الخليفة الثالث عثمان بن عفان،بعد تحريض الصحابة للثوار،وتحدثنا عن موقف الإمام علي (علیه السلام) الحرج من تلك الفتنة.

نريد الآن أن تحلل وضع المسلمين لحظة مقتل عثمان واستلام الإمام علي (علیه السلام) للخلافة،ثم نتحدث بعد ذلك عن التحول الذي طرأ على فئة وجهاء المهاجرين،وكيف بدت هذه الفئة تتجه أكثر فأكثر إلى الأفول والضعف.

تحليل وضع المسلمين آنذاك:

1) مجد شحنة معنوية

يقول الشهيد السيد محمد باقر الصدر(قده):حينما طالع تاريخ الصحابة في صدر الإسلام،سوف تبهرنا أنواژهم في المجال الروحي والفكري والنفسي، في مجال الجهاد والتضحية.لقد قدمت هذه الأمة من التضحيات-في سبيل رسالتها-ما لم تقدم مثله أي أمة من أمم الأنبياء قبل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،الإيثار والتآخي الذي شاع بين المهاجرين والأنصار،التسابق على الشهادة،لقد تفاعلوا وانصهروا،فرسموا أروع صور الضحية والفداء.

إلا أن هذه الحالات كانت على ما يبدو مجرد شحنة معنوية وطاقة حرارية، كانت تمتلكها الأمة من لقاء قائدها العظيم،ولم تكن قائمة على أساس متين من الوعي الحقيقي للرسالة العقائدية.نعم،كان رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)و يمارس عملية توعية الأمة-هذه العملية التي كانت مضغوطة-لكن ما أنجز في هذه العملية هو إعطاء الأمة شحنة معنوية وطاقة حرارية في الإيمان بدرجة كبيرة جدا، وكان يفترض أن ستكمل هذه العملية،بعد

ص: 182

وفاته (صلی اللّه علیه واله)و مباشرة،مع خلافة الإمام علي (علیه السلام)(1) .

هذه الامة التي عاشت مع اكمل قائد للبشرية، اكتسبت هذه الطاقة الهائلة من اشعاع الرسول (صلی اللّه علیه واله)، فصنعت البطولات والتضحيات التي يقل نظيرها في تاريخ الانسان.

هذه النماذج الرفيعة انما هي نتاج هذه الطاقة الحرارية التي جعلت الامة الاسلامية تعيش ايام الرسول (صلی اللّه علیه واله) محنة العقيدة والصبر، وتتحمل مسؤولية هذه العقيدة بعد وفاته (صلی اللّه علیه واله)، هذه هي طاقة حرارية وليست وعيا، لذا يجب ان نفرق بين الطاقة الحرارية و الوعي.

الوعي:عبارة عن الفهم الفؤال الإيجابية التي يتأل،ويستأصل جذور المفاهيم الجاهلية الشابقة استئصالا كاملا.اما الطاقة الحرارية:فهي عبارة عن توهج عاطفي

حاز،بشعور قد يبلغ في مظاهرو نفس ما يبلغه الوعي في ظواهره،فيتحير المراقب،بحيث يصعب عليه التمييز بين الأمة التي تحمل طاقة حرارية،وأمة تتمتع بذلك الوعي،إلا بعد التبصر.

إلا أن الفرق بين الأمة الواعية والأمة التي تحمل الطاقة الحرارية كبير، فإن الطاقة الحرارية بطبيعتها تتناقص بالتدريج بالإبتعاد عن مركز هذه الطاقة الحرارية.

والمركز الذي كان يمون الامة بهذه الطاقة الحرارية هو شخص رسول اللّه (ص) القائد. فكان طبيعياً ان تصبح طاقة الأمة بعده في تناقض مستمر، حال الشخص الذي يتزود من الطاقة الحرارية للشمس والنار، ثم يبتعد عنهما، فإن هذه الحالة تتنافص عنده بإستمرار.هكذا كان حال المسلمين بعد وفاة رسول اللّٰه،وتاريخ الإسلام يثبت أن الأمة الإسلامية كانت في حالة تناقص مستمر من هذه الطاقة الحرارية التي خلفها رسول اللّٰه في أمته حين وفاته.

وهناك فرق آخر،هو أن الوعي لا تهه الانفعالات،فهو يصمد أمامها،أما الطاقة الحرارية فتهها الانفعالات الطاقة الحرارية تبرز على سطح النفس البشرية، أما الوعي فهو ش غبش في أعماق هذه النفس.ففي حالة الانفعال،سواء أكان حزنا وألما،أم فرحة وانتصارة.في كلا الحالتين سوف يتفجر ما وراء الستار،ويبرز ما كان كامنة وراء هذه الطاقة الحرارية في الأمة المزودة بهذه الطاقة فقط. أما الأمة الواعية،فوعيها يتقوی على مر الزمن،كلما مر بها انفعال جدید،أكدت شخصيتها الواعية في مقابل هذا الانفعال،وصبغته بما يتطلبه وعيها من موقف(2) .

ص: 183


1- محمد باقر الصدر،أئمة أهل البيت (علیهم السلام)،المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر(قده)،ط،1،1425هج،قم،ص69-70
2- المصدر السابق،ص70-

أقول:الشواهد على أن الأمة الإسلامية كانت تحمل مجرد شحنة معنوية وطاقة حرارية،ولم تكن تحمل وعيا مستنيراً مجتثاً الأصول الجاهلية فيها... شواهد كثيرة،ويكفي أن نتذكر بعض المواقف التي كان يرتد فيها المرء على الفور إلى القبيلة أو الفئة التي ينتمي إليها،فينادي:يا للمهاجرين،إن كان من المهاجرين،أو ينادي:يا للأنصار،إن كان من الأنصار.والحوادث التي وقعت للأمة بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وابتداء من خلافة عثمان على وجه الخصوص،تؤكد هذه المقولة.فمع ازدياد الفاصل الزمني عن وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،بدأت الصورة الإسلامية الناصعة تتغير،وبدأت ملامحها تتبدل،حيث اختلطت المعايير في أذهان عامة المسلمين،واختلط الحق بالباطل،وأصبح المعروف منكرة والمنكر معروفة،وفقدت الأمة زمام المبادرة،ولم تعد قادرة على التخطيط لمستقبلها.

وأكد لنا الإمام علي (علیه السلام) هذه الحقيقة عندما قال:«أيها الناس،إنا قد أصبحنا في دهر عنود،وزمن كنود،يعد فيه المحس مسيئة،ويزداد الظالم فيه ثوا،لا ننتفع بما علمنا،ولا نسأل عما جهلنا،ولا نتخوف قارعة حتى تحل بنا»(1) .

2)جيل جديد لم ينضج بعد

هناك نقطة أخرى لا بد أن نأخذها في الاعتبار في تحليل الواقع الإسلامي بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وهي أن ثمة جيلا جديدة بدأ يبرز على الساحة في عهد عثمان الطويل.هذا الجيل كثير منهم لم يوفق برؤية رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وصحبته،إما لصغر سنه،وإما لكونه الم يولد آنذاك بعد،فبات يعد من التابعين،وإما لدخوله في الإسلام بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وهؤلاء بمجموعهم أصبحوا يمثلون أكثرية الأمة.

هذا الجيل لم يعاصر الاسلام في بداياته، ولم يتعرف على الادوار التي لعبها رموز الجيل الطليعي، ولم يتشرف بالتزود حتى بالطاقة الحرارية من الرسول ( صلى اللّه عليه وآله) . كل ما عاصره، هو جيل الصحابة، يحكي له قصص ماض مجيد، ويفتخر بصحبته للرسول ( صلى اللّه عليه وآله)، لكن هذا الجيل - جيل الصحابة - كان يفقد بريقه ووهجه بالتدريج، بعدما تحلل من حياة الزهد، بعد فتح فارس والروم.

كان الجيل الجديد هو وقود الفتوحات الكبيرة، والجمهور المحتج على عثمان هو من

ص: 184


1- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،رقم(32)،ص74

هذا الجل الجديد، الذي شارك في الفتوحات، وقدم التضحيات، لكن كان آخرون من الصحابة وابنائهم «ياخذون العطايا ولا يغزون في سبيل اللّه»(1) .

انه جمهور مظلوم، مضطهد، مستضعف لكن من ناحية اخرى، لم يتلق هذا الجيل تربية اسلامية سليمة، ولم يفتح عينيه على الصور الرائعة التي دشن من خلالها المسلمون عهدهم، ولم يتنفس هواء نقيا، وانما هو جيل تم اهماله لفترة طويلة من الزمن - تزید علی عقدين - وفتح عينيه على تطبيق معايير مزدوجة، وعلى مجتمع من الصحابة كل يدعي الفضيلة لنفسه، فاستوى لديه الصحابي المضحي، الذي كانت له سابقة استثنائية في الاسلام، بالصحابي الذي لم يسلم الا في وقت متاخر جدا، ممن شارك في حروب ضد الاسلام، ولم يدخل في الدين الا بعد ان قويت شوكته، واصبح امرا واقعا.

هذه الامة لم تترب على الائتمام بامام، يشبع حاجاتها الروحية والفكرية والنفسية، وانما وجدت امامها خليفة متحيزا لابناء عمومته، «يخضمون مال اللّه خضمة الابل نبتة الربيع »(2) -بحسب تعبير الإمام علي (علیه السلام)-فكانت النتيجة أن أصبح كل واحد إمام نفسه!

يقول الإمام علي (علیه السلام):«وما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلافي ججها في دينها!لا يقتون أثر نبي،ولا يقتدون بعمل وصي،ولا يؤمنون بغيب، ولا يعفون عن عيب،يعملون في الشبهات،ويسيرون في الشهوات،المعروف فيهم ما عرفوا،والمنكر عندهم ما أنكروا،مفزعهم في المعضلات أنفسهم، وتعويلهم في المهمات على آرائهم،كان كل امرئ منهم إمام نفسه،قد أخذ فيما بری بری ثقات،وأسباب محكمات»(3)

3)التشتت والاختلاف

الورة التي رسمناها للجيل الجديد،قد تنطبق على أكثر دیار الدولة الإسلامية،إلا أن الشام تختص بأمر إضافي.فبسبب ضعف الحكومة المركزية في عصر عثمان،استطاع معاوية في الشام أن ينشئ مظاهر ملكية مستقلة في الشام،لا تشبه الوضع السياسي في باقي الأقاليم،مما رشح نوعا من الانفصالية في الشام عن باقي أجزاء جسم الدولة الإسلامية.فالشام لم تعرف حاكمة مسلمة قبل معاوية بن أبي سفيان،وقبل أخيه يزيد،

ص: 185


1- ابن قتيبة،الإمامة والسياسة،ص52
2- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،رقم(3)،ص49
3- المصدر السابق،رقم(88)،ص121

وكانت قد أعطيت له صلاحيات استثنائية من قبل الخليفة الثاني،بدعوى أن هذا يمثل مظهر عزوجلال للإسلام في مقابل دولة القياصرة(1) .

الجيل الجديد في الشام لم يكن غير متلق لتربية إسلامية صحيحة فحسب، وإنما تلقى تربية مشوهة على يد معاوية.ولم يكن للإمام علي (علیه السلام)-ولا غيره من كبار الصحابة-أي رصيد أو قاعدة شعبية في ذلك الإقليم على الإطلاق، لأن هذا الإقليم عاش الإسلام من منظار آل أبي سفيان،ولم يسمع لعلي (علیه السلام)(2) .

أقول:سنرى بعض صور التربية المشوهة عندما نصل إلى حرب صفين.بل هذاالأمر يؤكده معاوية نفسه عندما قال لعمار بالمدينة:

إ بالشام مئة ألف فارس،ك يأخذ العطاء، مع مثلهم من أبنائهم وعبدانهم،لا يعرفون عليها ولا قرابته،ولا عمارة ولا سابقته،ولا الزبير ولا صحابته،ولا طلحة ولا هجرته،ولا يهابون ابن عوف ولا ماله،ولا يتقو سعدة ولا دعوته»(3) .

هذه العبارات عبر بصدق عن حال أهل الشام،وعلينا أن نتذگرها جيدة لنفهم الأحداث اللاحقة....لنفهم حرب صفين،وواقعة كربلاء،وما حدث بعد واقعة كربلاء عندما وصل أسارى أهل البيت (علیهم السلام) إلى الشام.

في مثل هذه الظروف،استلم الإمام علي (علیه السلام) الخلافة:فقدان عدد كبير من الصحابة لشحنتهم المعنوية وطاقتهم الحرارية،نشوء جيل جديد غير ناضج لم يتلق تربية روحية،وواقع مليئ بالتشتت والفوضى والاختلاف.

قبل أن نبدأ بسرد وتحليل الأحداث التي وقعت في عهد الإمام علي (علیه السلام)،نقف وقفة سريعة مع التحولات التي وقعت في تركيبة فئة وجهاء المهاجرين، التي كان بيدها زمام الأمور بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).ثم نأخذ فكرة عامة عن وضع الأمصار الكبرى آنذاك.

وجهاء المهاجرين...أين هم؟

إذا استقرأنا أسماء الشخصيات المهمة والمؤثرة في فئة وجهاء المهاجرين، نلاحظ ما

يلي:

ص: 186


1- محمد باقر الصدر،أئمة أهل البيت (علیهم السلام) ص140
2- المصدر السابق،ص 234-235
3- ابن قتيبة،الإمامة والسياسة،ص46

أبو بكر:توفي

عمر:اغتيل-أبو

عبيدة بن الجراح:مات في الشام بالطاعون.

عثمان:قتل على يد ثوار العراق ومصر

عبد الرحمن بن عوف:مات غضبانا على عثمان موصية بأن لا يصلي عليه

سعد بن أبي وقاص:اعتزل العمل السياسي رغم إصرار ابنه عمر(1) على دخول حلبة المنافسة للوصول إلى الشلطة

طلحة بن عبيد اللّٰه والبير بن العوام:فتح عمر شهيتهما للخلافة عندما أدركهما

في الشورى السداسية.

ام المؤمنين عائشة:تدل على الخط لترجيح موقف طلحة والبير،وتشكل معهما تحالفة يمثل مصالح قریش.

نلاحظ من ذلك أن الأسماء الكبيرة-كأبي بكر وعمر وأبي عبيدة وعبد الرحمن

وسعد-لم يعد لها وجود اجتماعي.وهذا الحال فسح في المجال لاسمي طلحة و«البير»للتداول كاسمين مرشحين للخلافة كبديلين لعثمان.طبعا بالإضافة إلى الإمام علي (علیه السلام).

كما سنلاحظ بدء دخول أسماء الطبقة الثانية من أبناء وجهاء المهاجرين على الساحة،ممن لا يملكون ما يملك آباؤهم من رصيد تاريخي،ومن أبرزهم:عبد اللّٰه بن عمر»:الذي اعتزل العمل السياسي،لكن سيظل اسمه مطروحة للتداول،بل سيطره أبو موسى الأشعري بالفعل كبديل للإمام علي (علیه السلام) عند التحكيم، واعبد اللّٰه بن الزبير»:الذي سيكون له دور تحريضي أساسي في حرب الجمل ثم بعد ذلك في منافسة يزيد على الشلطة،بالإضافة إلى«محمد بن طلحة»:لكنه قيل مع والده في معركة الجمل،وعبد الرحمن بن أبي بكر»:لكن مشكلته أنه شهد بدرة وأحدة مع المحار،وتأخر فيدخولي الإسلام إلى صلح الحديبية.وشارك مع أخيه عائشة في معركة الجمل،ودفعت عائشة باسمو للخلافة عندما وجدت معاوية يرشح يزيد للخلافة،إلا أنه مات-كما سنرى- بیل موت معاوية بطريقة مريبة.

أما على مستوى بني هاشم فنلحظ بدء دخول اسم الإمام الحسن بن علي (علیه السلام)»

ص: 187


1- وعمر بن سعد بن أبي وقاص سيكون قائد جيش عبيد اللّٰه بن زياد الذي قاتل الحسين بن علي (علیه السلام) في كربلاء،وهنا نرصد أول اندفاعة لعمر بن سعد نحو الشلطة من خلال الدفع بوالده لدخول حلبة المنافسة على السلطة

والإمام الحسين بن علي (علیه السلام)»بقوة على الساحة،كامتداد طبيعي لأبيهما الإمام علي (علیه السلام)،بل أيضا كامتداد لجدهما رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).

الوضع في الأمصار الكبرى

من المفيد أيضا أن نتعرف على وضع الأمصار الكبرى عشية استلام الإمام علي (علیه السلام) الخلافة،وأهم الأمصار آنذاك في الحجاز:مكة والمدينة،وفي العراق:البصرة والكوفة،بالإضافة إلى الشام ومصر واليمن.

1.الوضع في المدينة ومكة:كانت تسود الحجاز حالة فوضى مع وجود ثوار العراق ومصر، خصوصا بعد مقتل عثمان،عندما تدفق الثوار والصحابة لمبايعة الإمام علي (علیه السلام)،وتخلف بعضهم عن ذلك،كعبد اللّٰه بن عمر وأسامة بن زيد وحسان بن ثابت ومحمد بن مسلمة.واقترح المغيرة بن شعبة وابن عباس إبقاء مال عثمان-أو معاوية على الأقل-برهة من الزمن إلى أن يستتب له الأمر، إلا أن الإمام عليا (علیه السلام) رفض هذا الاقتراح.وقام (علیه السلام) بترك الحجاز عند بلوغه خبر خروج طلحة والزبير إلى البصرة،وأمر على المدينة سهل بن حنیف،كما أمر على مكة ثم بن العباس.

والحجاز-بالمناسبة-فقيرة من حيث المال والجند،في مقابل غني العراق بالمال والجند.فالجند بعد قيامهم بفتح فارس،استقروا بالبصرة والكوفة،وكانت إيرادات بیت المال في هذين المصرين مرتفعة جدة.لذا عندما فگر طلحة والزبير في الانقلاب على الإمام علي (علیه السلام) خرجا إلى البصرة،وعندما أراد الإمام علي (علیه السلام) مواجهتهما خرج إلى العراق.

2.الوضع في البصرة والكوفة:ولي الإمام علي (علیه السلام) على البصرة عثمان بن حنيف،فبايع له الجمهور وقالت طائفة:لا ثبایع حتى نقل قتلة عثمان.وولي على الكوفة عمار بن شهاب،فصده طلحة بن خویلد غضبة لعثمان،فرجع إلى الإمام علي (علیه السلام)،ثم كتب أبو موسى الأشعري-الذي كان واليا على الكوفة من قبل عثمان-بمبايعة أهل الكوفة إلا القليل منهم.

3.الوضع في الشام:كان مستقرة تماما لمعاوية،لكنه (علیه السلام) رغم ذلك ولي عليها:

سهل بن حنيف الذي عاد بعد أن تلقته خيل معاوية،ثم أمره الإمام علي (علیه السلام) على المدينة كما أشرنا.

ولمعرفة وضع الشام علينا أن نتذكر كلمة معاوية:«إن بالشام مئة ألف فارس، كل يأخذ العطاء،مع مثلهم من أبنائهم وعبدانهم،لا يعرفون عليها ولا قرابته، ولا عمارة ولا

ص: 188

سابقته،ولا الزبير ولا صحابته،ولا طلحة ولا هجرته،ولا يهابون ابن عوف ولا ماله،لا يتقون سعدة ولا دعوته»(1) .

4.الوضع في مصر:كان عمرو بن العاص والية عليها ثم عزله عثمان،وبعد مقتله ولى الإمام علي (علیه السلام) على مصر قیس بن سعد بن عبادة،فبايع له الجمهور وقالت طائفة من أهل خربتا(2) :لا تبايع حتى نقتل قتلة عثمان.حاول معاوية استمالة قيس،لكن عندما فشل أشاع ميله له،وتذكر بعض الأخبارأن الإمام عليا لي بدأ يشك في وضع قيس.في المقابل تعاطى قيس مع أهل خربتا بطريقة عزت شكوك الإمام علي لي فيه،وعندما طلب الإمام علي (علیه السلام) من قيس محاربة أهل خربتا،لم يسعة الاستجابة لذلك،وطلب من الإمام علي (علیه السلام) عزله،فعزله(3) لي وعن مكانه محمد بن أبي بكر،ثم بعد ظهور نتيجة التحكيم خرجت الأمور في مصر عن السيطرة(4) ،فاضطر الإمام علي (علیه السلام) لعزل محمد وتعيين مالك الأشتر على مصر.وبعد شهادة مالك الأشتر ومحمد بن أبي بكر،خرجت مصر على سلطة الإمام علي (علیه السلام)،وصارت تحت سيطرة معاوية.

5.الوضع في اليمن:ولي الإمام علي (علیه السلام) على اليمن عبيد اللّٰه بن عباس،وظل الأمر مستقرة فيها إلى ما بعد حرب صفين وظهور نتيجة التحكيم وبدء غارات معاوية،وسيصل إليها بسر بن أرطاة بأوامر من معاوية،ليأخذ البيعة له من أهلها،والذي سيرتكب مجازر مروعة بحق شيعة علي (علیه السلام) أدمت قلب الإمام علي (علیه السلام) قبل أن يدمي أشقى الأولين والآخرين رأسه (علیه السلام).

ونلحظ في ذلك أن الوضع في الحجاز واليمن ومصر كان مستتبا تقريبا للإمام علي (علیه السلام)،بل حتى وضع العراق كان مستتبة له (علیه السلام) قبل وصول طلحة والبير إليها،بخلاف الشام التي كانت خارجة على السيطرة ابتداء.

كما نلحظ أن الإمام عليا (علیه السلام) قام بتولية الأنصار وبني هاشم،وهما الفئتان اللتان

ص: 189


1- ابن قتنبة،الإمامة والسياسة،ص46
2- قرية بمركز كوم حمادة بمحافظة البحيرة في مصر
3- وسنرى كيف أن قيس بعد أن ذهب إلى المدينة عاتبة (وشمت به حسان بن ثابت)التحق بعد ذلك مع سهل بن حنیف-والي علي (علیه السلام) على المدينة-بعلي (علیه السلام) في صفين وكانت له مواقف مشهودة ،وسنرى مواقفه أيضا مع الحسن (علیه السلام)
4- في ذلك يقول (علیه السلام):وقد أرد توليه مصر هاشم بن عتبة(المرقال،لكنه استشهد في صفين)،ولو وليته إياها لما خلى لهم العرصة،ولا أنهزهم الفرصة،بلا ذم لمحمد بن أبي بكر،ولقد كان لي حبيبة،وكان لي ربیبا،نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(68)،ص98

حرمنا من المناصب العليا بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)...فهل بن حنيف الأنصاري على المدينة،وثم بن العباس على مكة،وعثمان بن حنيف الأنصاري على البصرة، وقيس بن سعد بن عبادة الأنصاري على مصر، وعبيد اللّٰه بن عباس على اليمن،ثم عبد اللّٰه بن عباس على البصرة بعد الجمل.

علي (علیه السلام)حاكماً:(35-40هج)(1)

قلنا فيما سبق إن الجمهور الهائج المحتج على عثمان،القادم من الكوفة ومصر،لم يكن يعرف الإمام علية (علیه السلام)حق المعرفة.لم يكن ينظر إليه إلا بوصفه ابن عم رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وأقرب الناس إليه.صحابي جليل،لم تلوثه الدنيا بزخارفها-كما لوثت كثيرة من الضحابة-كانوا ينظرون إليه على أنه بدیل ملائم لعثمان، متفهم لمشاعرهم،ومتحس لآلامهم ومظلوميتهم.لم يكن ينظر إليه على أنه المنصوب من قبل اللّٰه ورسول (صلی اللّه علیه واله)،بل ربما لم ينظر إليه حتی كمرشح منافس لأبي بكر وعمر(2).لقد كانت مشكلتهم مع عثمان،والمرة الملتفة حوله، ولم يكن همهم إلا إزاحة هذا الكابوس الذي جثم على صدورهم.

بمجرد أن انتهى الجمهور الهائج من تصفية عثمان،هجموا على دار الإمام

علي (علیه السلام) يطالبونه بقبول البيعة.ويصف الإمام علي (علیه السلام) هذا الموقف بقوله:

فتد اگوا(=تزاحموا)علي تداك الإبل الهيم(=العطاش)یوم ورودها(=شربها

ص: 190


1- مدة حكمه أقل من خمس سنوات بأشهر ، ويروي ابن عساكر في تاريخ دمشق عن العباس بن هشام عن أبي قال : بويع علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بالمدينة يوم الجمعة حين قتل عثمان، لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة، فاستقبل المحرم سنة ست وثلاثين (أنظر : ابن عساكر، تاریخ دمشق، ترجمة الإمام علي (علیه السلام) ، تحقیق محمد باقر المحمودي، ج 3، ص 97).
2- فمثلا سال أهل الكوفة علياً (علیه السلام) أن ينصب لهم إمام يصلي بهم نافلة شهر رمضان (= التراويح)، فزجرهم، وعرفهم أن ذلك خلال الشنة، فتركوه واجتمعوا لأنفسهم، وقدموا بعضهم، فبعث إليهم ابنه الحسن (علیه السلام) ، فدخل المسجد ومعه الدرة، فلما راوه تبادروا الأبواب وصاحوا: وا عمراه (راجع: نهج الحق وكشف الصدق، 289 - 290). وأيضا عن علي (علیه السلام) : «قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) متعمدين لخلافه، ناقضين لعهده ، مغيرين لسنته، ولو حمل الناس على تركها، وحولتها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهدرسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) ؛ لتفرق عني جندي، حتى أبقى وحدي، أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب اللّه عزوجل وسنة رسول اللّه ...» (راجع: الكليني، روضة الكافي، تعليق محمد جعفر شمس الدین، دار التعارف للمطبوعات، ط2، 417 اهج - 1997م، بیروت، ج 8، ص 63، حدیث 21، أيضا 8، ص 56، حدیث 21).

الماء)،وقد أرسلها راعيها، ولعت مثانيها(=انفلت حبلها التي تعقل به)،حتى ظننت أنهم قاتلي،أو بعضهم قاتل بعض لدي»(1) .

إنه لموقف مخيفة حقا:جمهور هائج،يموج غضبا،يتطاير شررة،إلى درجة أن

علية (علیه السلام) ظن أن الشرر قد يطاله شخصية.ويصف الموقف في خطبة الشقشقية:

فما راعني إلا والناس-كعرف الضبع(=ما كثر على عنق الضبع من الشعر كناية عن كثرة الازدحام)-ينثالون(=يتابعون مزدحمين)علي من كل جانب،حتى لقد وطيء الحنان،وشق عطفاي،مجتمعين حولي كربيضة الغنم»(2) .

ماذا كان موقف الإمام علي (علیه السلام)؟لقد رفض البيعة،وقال لهم:

«دعوني و التمسوا غيري فإنا مستقبلون أمرا له وجوه و ألوان لا يقوم له القلوب و لا تثبت عليه العقول و إن الآفاق قد أغامت و الحجة قد تنكرت و اعلموا إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم و لم أصغ إلى قول القائل و عتب العاتب و إن تركتموني فأنا كأحدكم و لعلي أسمعكم و أطوعكم لمن وليتموه أمركم و أنا لكم وزيرا خير لكم مني أميرا»(3) .

لاحظ..أنه لا يؤكد على أن قبول البيعة-إن تم-فهو مشروط بأن يقرر ما يمليه عليه ضميره،وما يراه صواب،ولن يتأخر في اتخاذ القرارات المصيرية عند رأي هذا أو ذاك،لأن الوضع لم يعد يتحمل أي تأخير،ولن تكون تلك القرارات إلا بمثابة إنقاذ ما يمكن انقاه.فإن قبلتم الشرط فهو،وإلا اتركوني وسأكون أطوعكم لمن وليتموه أمركم.

وينقل ابن قتيبة أن عليا (علیه السلام) رفض بيعة الجماهير الغاضبة،على أساس أنهم ليسوا من أهل الحل والعقد،قائلا لهم:«ليس ذلك لكم،إنما هو لأهل الشورى وأهل بدر،فمن رضي به أهل الشورى وأهل بدر فهو الخليفة، فنجتمع وننظر في هذا الأمر»،فانصرفوا عنه،وكلم بعضهم بعضا،فقالوا:«يمضي قتل عثمان في الآفاق والبلاد فيسمعون بقتله،ولا يسمعون أنه بويع لأحد بعده، فيثور ك رجل منهم في ناحية،فلا نأمن أن يكون في ذلك الفساد، فارجعوا إلى علي،فلا تتركوه حتى يبايع»

وبعد إصرار شديد من الجماهير،وبعد أن اجتمع كبار الصحابة في المسجد،بایع

ص: 191


1- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،رقم(54)،ص90-91
2- المصدر السابق،رقم(3)،ص49
3- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة،ص65-66

الناس الإمام علي (علیه السلام)،وكان أول من صعد المنبر طلحة(1)،فبايعه،وكانت أصابعه شلاء،فتطير منها علي ليلا،فقال:ما أخلقها أن تنكث،ثم بايعه البير وسعد، وأصحاب النبي- (صلی اللّه علیه واله)-جميعا(2)».

ما أريد التأكيد عليه هو المشروعية التامة لبيعة الإمام علي علي،التي لم تشبها أي شائبة،بل لعلها أكثر البيعات شعبية،حيث أجمع عليها الغالبية الساحقة من الصحابة وعامة الناس.

لقد كان الإمام علي غير واضحة صريحة وهو يستشرف المستقبل،مدركة للتحديات التي ستواجه أصحابه،فقد قال عندما بويع:«ألا وإن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث اللّٰه نبيه صلى اللّٰه عليه وآله،والذي بعثه بالحق، لبلبئين(=لتخلطن)بلبلة،ولغرب(=لثمژ كما يميز الأقيق عند الغربلة من نخالته) غربلة،ولشاطئ سوط القدر(=كما يجعل شيئان في قدر ثم يضربان بقوة ليختلطا)،حتى يعود أسفلم أعلاكم،وأعلام أسفلگم،وليسبق سابقون كانوا قصروا،ليقصر سباقون كانوا سبقوا.واللّٰه ما كتم وشمة(=كلمة)،ولا كذب كذبة ولقد تبث بهذا المقام وهذا اليوم»(3).

نعم،لقد أخبره رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) عن هذا المقام،فقد روى ابن عساكر في تاريخ دمشق،بطرق متعددة والحاكم في مستدركه،واللفظ للأول،عن أبي سعيد الخدري قال:خرج إلينا رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وقد انقطع شسع نعله،فدفعها إلى علي (علیه السلام) يصلها،ثم جلس وجلسنا حوله دائما على رؤوسنا الطير،قال:إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتل على تنزيله،فقال أبو بكر:أنا هو يا رسول اللّٰه؟قال:لا،قال عمر:أنا هو یا رسول اللّٰه؟ قال:لا ولكنه خاصف النعل.قال:فأتينا علية (علیه السلام) بشره بذلك،فكأنه لم يرفع به رأسه،كأنه قد سمعه قبل(4).

ص: 192


1- طلحة بن عبيد اللّه التيمي، آخي الرسول (صلی اللّه علیه واله) بينه وبين الزبير بمكة قبل الهجرة، وبعد الهجرة آخی بينه وبين أبي أيوب الأنصاري، لم يشهد بدرا وشهد أحدة وقيل أنه وفي الرسول (صلی اللّه علیه واله)بنفسه واتقي عنه النبل بيده حتى شلت أصابعه .
2- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ص 66.
3- نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح، (16)، ص 57.
4- ابن عساكر، تاریخ دمشق، ترجمة الإمام علي (علیه السلام) ، تحقیق محمد باقر المحمودي، ج3، ص132 - 133، الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج3، كتاب معرفة الصحابة ، ح 4621، ص 149 - 150.

نصيحة المغيرة بن شعبة للإمام علي (علیه السلام)

كتب المسعودي أن ابن عباس قال:قدم من مكة بعد مقتل عثمان بخمس ليال،فجئ عليا (علیه السلام) أدخل عليه،فقيل لي:عنده المغيرة بن شعبة،نجلس بالباب ساعة،فخرج المغيرة...ودخلت على علي (علیه السلام) وسلمت عليه...فقلت:أخبرني عن شأن المغيرة ولم خلا بك؟

قال (علیه السلام):جاءنی بعد مقتل عثمان بیومین فقال: أخلنی(=أريد أن أجلس معك في خلوة)،ففعلت فقال لي:إنّ النصح رخيص و أنت بقيّة النّاس و إنّي لك ناصح،و إنّي اشير عليك بردّ عمّال عثمان عامك هذا،فاكتب إليهم بإثباتهم على أعمالهم،فإذا بايعوك و اطمأنّ الأمر لك عزلت من أحببت و أقررت من أحببت.فقلت له:و اللّه لا اداهن في ديني و لا اعطي الدني في أمري.فقال:فإن كنت قد أبيت عليّ فانزع من شئت و اترك معاوية فإنّ لمعاوية جرأة،و هو في أهل الشام يسمع منه،و لك حجّة في إثباته كان عمر قد ولاّه الشام كلّها.فقلت له:لا و اللّه لا أستعمل معاوية يومين أبدا.فخرج من عندي على ما أشار به،ثمّ عاد اليوم فقال لي:إنّي أشرت عليك بما أشرت وأبيت عليّ،ثم فنظرت في الأمر فإذا أنت مصيب،لا ينبغي لك أن تأخذ أمرك بخدعة،و لا يكون في أمرك دلسة.

فقال ابن عباس:فقلت له:أمّا أوّل ما أشار به عليك فقد نصحك، و أمّا الآخر فغشّك،و أنا اشير عليك بأن تثبت معاوية،فإن بايع لك فعليّ أن أقلعه من منزله.

قال عليه السّلام:لا و اللّه لا اعطيه إلاّ السيف.

رفض الإمام علي (علیه السلام) النصيحة المغيرةوابن عباس جعل المحققين في التاريخ يختلفون في تقدير الموقف الصائب...فبينما ذهب بعضهم إلى صواب موقف المغيرة وابن عباس وصحة تقديرهما للأمور،ذهب آخرون إلى صواب موقف الإمام علي (علیه السلام) وتقديره للأمور.

كتب العقاد:«تلك آراء المشيرين من ذوي الحنكة،وذلك ما عمل به الإمام

وارتضاه......فأيهما على خطأ وأيهما على صواب؟

ص: 193

ﺳﺒﻴﻞ اﻟﻌﻠﻢ ﺑﺬﻟﻚ أن ﻧﻌﻠﻢ أوﻻ: ﻫﻞ ﻛﺎن اﻹﻣﺎم ﻣﺴﺘﻄیعاً أن ﻳﻘﺮ ﻣﻌﺎوﻳﺔ ﻋﻤﻠﻪ. ﺑﺎﻟﺸﺎم؟ وأن ﻧﻌﻠﻢ ﺑﻌﺪ ﻫﺬا: ﻫﻞ ﻛﺎن إﻗﺮاره أدﻧﻰ اﻟﺴﻼﻣﺔ واﻟﻮﻓﺎق ﻟﻮ أﻧﻪ اﺳﺘﻄﻴﻊ؟

وعندنا أن الإمام لم يكن مستطيع أن يقر معاوية في عمله لسبین:

اولهما انه اشار على عثمان بعزله اكثر من مرة ، وكان اقراره واقرار امثاله من الولاة المستغلين اهم المآخذ على حكومة عثمان،في رأي على وذوي الصلاح والاستقامة بين الصحابة ، نكثيرأ ما اعتذرعنان من اقرارمعاوية بأنه من ولاة ئمربن الخطاب...فكان علي لا يقبل هذا العذر،ولا يزال يقول له:«إنه كان أخوف لعمر بن الخطاب من غلامه يرفا...ولكنه بعد موت عمر لا يخاف».

فاذا اقره وقد ولي الخلافة ، فكيف يقع هذا الاقرار عند اشياعه ؟ الا يقولون انه طالب حكم لا يعنيه اذا وصل الى بغيته ما كان يقول وما سيقوله الناس ؟واذا هو اعرض عن رأيه الاول ، فهل في وسعه ان يعرض عن آراء الثائرين الذين بايعوه بالخلافة لتغيير الحال والخروج من حكم عثمان الى حكم جديد؟

....وندع هذا،ونزعم أن إقرار معاوية بحيلة من الحيل مستطاع...فهل هو على

هذا الزعم أسلم وأدني إلى الوفاق؟

كلا...على الأرجح،بل على الجحان الذي هو في حكم التحقيق..أن معاوية لم يعمل في الشام عمل وال يظل واليًا طول حياته، ويقنع بهذا النصيب ثم لا يتطاول إلى ما وراءه، ولكنه عمل فيها عمل صاحب الدولة التي يؤسسها، ويدعمها له ولأبنائه من بعده … فجمع الأقطاب من حوله، واشترى الأنصار بكل ثمن في يديه، وأحاط نفسه بالقوة والثروة، واستعد للبقاء الطويل، واغتنام الفرصة في حينها … فأي فرصة هو واجدها خير من مقتل عثمان والمطالبة بثأره؟

....وإذا كان هذا موقف عليٍّ ومعاوية عند مقتل عثمان، فماذا كان عليٌّ مستفيدًا من إقراره في عمله وتعريض نفسه لغضب أنصاره لقد كان معاوية أحرى أن يستفيد بهذا من علي؛ لأنه كان يغنم به حسن الشهادة له وتزكية له في الولاية، وكان يغنم به أن يفسد الأمر على عليٍّ بين أنصاره، فتعلو حجته من حيث تسقط حجة الإمام»(1) .

علي (علیه السلام) وإجراءاته العاجلة

باشر الإمام علي (علیه السلام) بإجراء تحقيق فوري في مقتل عثمان؛فقد جاء (علیه السلام) بنفسه

ص: 194


1- عباس محمود العقاد،عبقرية الإمام علي عليك،منشورات المكتبة العصرية،صیدا،بیروت،ص95-96

إلى نائلة امرأة عثمان،وسألها عما اذا كانت تعرف قتلة عثمان، فقالت له: لا ادري، دخل عليه رجال لا اعرفهم، الا ان اري وجوههم، وكان معهم محمد بن ابي بكر، فدعا علي (علیه السلام)محمدا، فساله عما ذكرت امراة عثمان، فقال محمد: صدقت، واللّه قد دخلت عليه، فذكر لي ابي، فقمت عنه، وانا تائب الي اللّه، واللّه ما قتلته، ولا امسكته، فقالت: صدق(1) .

نذكر هذا حتي يتضح ان عليا (علیه السلام)لم يتوان في البحث عن قتلة عثمان، لكن من الواضح ان من طبيعة حالات الهيجان الشعبي - خصوصا اذا كانت تعبر عن حالة من الانفجار العفوي - ان يقوم البعض بتصرفات لا واعية، فتجدهم بعد ان يتفرقون، كل يلقي المسؤولية علي غيره، ولا يعرف الجاني الحقيقي.لا نقول هذا لتبرير تصرف الجماهير الغاضبة، وانما نصف حالة نفسية تعيشها الجماهير الغاضبة عادة، حالة اشبه ما تكون بالغوغاء، الذين يصفهم الامام علي (علیه السلام): «هم الذين اذا اجتمعوا غلبوا، واذا تفرقوا لم يعرفوا»(2) .

مضافاً إلى ذلك أن هدير الجماهير لم يكن يسمح لعاقل أن يستعجل في مواجهته،وهم على ما هم عليه من الانفعالي والغضب،فكان لا بد أن تهدأالأمور قليلا حتى يتسنى للخليفة الجديد التعرف على القتلة،وإنزال القصاص العادل بهم.

إذن،الإمام علي ظل استعجل إجراء التحقيق،لكن لم يستعجل القصاص.وحينما طلب بعض الصحابة عليا بمعاقبة قتلة عثمان اجابهم قائلا: «يا اخوتاه، اني لست اجهل ما تعلمون، ولكن كيف لي بقوة والقوم المجلبون علي حد شوكتهم، يملكوننا ولا نملكهم! ها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، والتفت اليهم اعرابكم، وهم خلالكم يسومونكم ما شاؤوا، وهل ترون موضعا لقدرة علي شي ء تريدونه؟ ان هذا امر جاهلية،وإن لهؤلاء القوم مادة (=امتدادات في العراق ومصر)......فاصبروا حتى يهدأ الناس، وتقع القلوث مواقعها...)(3) .

كما قام الإمام علي (علیه السلام) بتطهير جهاز الدولة،وعزل ولاة عثمان الذين سروا مقدرات المسلمين لمصالحهم الخاصة،وعزل معاوية بن أبي سفيان، وأقصى الانتهازيين

ص: 195


1- ابن قتيبة الدينوري،الإمامة والسياسة،ص66
2- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،الكلمات القصار،ص504
3- المصدر السابق،رقم(168)،ص243

وأبعد الطامعين،وأمم الأموال المختلسة من بيت المال،ووضع يده على القطائعالتي أقطعها عثمان لذوي رباه،وكان يقول:«واللّٰه لو وجده قد تزوج به النساء،ومم به الإماء لرده(1) ،وعمل على إعادة الهرم المقلوب،فساوي في توزيع العطاء،ولم يفضل لا مهاجرين على أنصار،ولا هاشمية على غير هاشمي،ولا عربية على أعجمي،ولا عدنانية على قحطاني،وتعامل مع ولايه بحزم ومراقبة دؤوبة مستمرة،وفزعت قریش وأصابها الأهول،وأيقنت أن مصالحها باتت مهددة.

وعندما غويب على التسوية في العطاء،كان لا يقول (علیه السلام):«أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن ولي عليه؟!واللّٰه ما أطوژ به(=لا أحوم حول ذلك،يعني لا آمر به ولا أقاربه)ما سمر سمير(=مدى الدهر)،وما أم نجم في السماء نجما (=طالما هناك قوانين فلكية تجبر نجمة على السير في مسار نجم آخر)!لو كان المال لي لسؤي بيتهم،فكيف وإما المال مال اللّٰه....»(2) .

موقف الإمام علي (علیه السلام) من الممتنعين عن بيعته

امتنع عدد محدود من الصحابة عن مبايعة الإمام علي (علیه السلام)،أو طلب إعفاءه من الخروج في أي حرب معه،فماذا كان موقف الإمام علي (علیه السلام) من أولئك الذين امتنعوا عن بيعته؟أو لم يرغبوا في السير معه في حروبه؟كيف تعامل معهم؟هل أجبرهم على البيعة؟هل حاربهم على رفضهم لبيعي؟أم تركهم وشأنهم؟

ينقل ابن الأعثم في الفتوح أن عمار بن یاسر أقبل إلى علي (علیه السلام) فقال:يا أمير المؤمنين،إن الناس قد بايعوك طائعين،غیر كارهین،فلو بعثت إلى أسامة بن زيد،وعبد اللّٰه بن عمر،ومحمد بن مسلمة،وحسان بن ثابت، وكعب بن مالك،ليدخلوا فيما دخل فيه الناس من المهاجرين والأنصار؟

فقال علي (علیه السلام):إنه لا حاجة لنا فيمن لا يرغب فينا.

فقال له الأشتر:يا أمير المؤمنين،إننا وإن لم يكن لنا في السابقة ما لهم،فإنهم ليسوا بشيء أولى من أمور المسلمين ما،وهذه بيعة عامة،الخارج منها طاعن علينا،فلا تدعهم أو يبايعوا،فإن الناس إنما هم باللسان،وغدة بالشنان.....

ص: 196


1- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،الكلمات القصار،خطبة 15،ص57
2- المصدر السابق،(126)،ص183

فقال (علیه السلام):يا مالك حتي ورأيي،فإني أعرف بالناس منك(1).إذن الصحابة الذين بايعوا الإمام عليا (علیه السلام)،بايعوه طائعين غير مكرهين،ومن امتنع منهم عن مبايعته لم يكرهه (علیه السلام) على ذلك،ولم يستجب (علیه السلام) لضغوط أصحابه المقربين الإجبار الممتنعين.

الخلاصة:حللنا في هذا الفصل وضع المسلمين لحظة مقتل عثمان واستلام الإمام علي (علیه السلام) الخلافة،وعرفنا أن ما كان يحمله أغلب الصحابة آنذاك لم يكن سوى شحنة أو طاقة تشبه الوعي في أعراضها،لكنها مجرد شحنة معنوية وطاقة حرارية،وعرفنا أن ثمة جيلا جديدة غير ناضج كان قد نشا،لم يحظ حتى بتلك الشحنة والطاقة،وأن وضع المسلمين كان يسوده التشتت والاختلاف.كما تناولنا أفول نجم فئة وجهاء المهاجرين،ودخولالطبقة الثانية منهم الاحة.وتناولنا الوضع في الأمصار الكبرى،ثم أخيرة تحدثنا عن حكم الإمام علي (علیه السلام) وملابسات بيعنه والإجراءات العاجلة التي اخذها،موقفه من الممتنعين عن بيعته.

وعرفنا أن عثمان بن عفان عندما قتل(2)،كانت أوضاع المسلمين تموج اضطراب.فما كاد الإمام علي (علیه السلام) يستلم زمام الشلطة،وتتحقق له بيعة عامة،حتى اضطر للدخول في ثلاث حروب طاحنة متتالية في أقل من خمس سنوات:حرب الجمل(3)،مع أولئك الذين بايعوه ثم نكثوا بيعته،بذريعة الطلب بدم عثمان،ويأتي على رأس الناكثين طلحة بن عبيد اللّٰه والبير بن العوام وساقوا معهم أم المؤمنين عائشة.ثم حرب صفين(4) في مقابل

ص: 197


1- ابن الأعثم، الفتوح، تحقیق سهیل زكار، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1992، بیروت، ج1، ص 83 – 84.
2- الأرجح أن قتل عثمان كان في ذي الحجة 35هج.
3- خرج علي (علیه السلام) من المدينة إلى البصرة آخر شهر ربيع الآخر 36هج، وكانت الواقعة بعد شهرين في جمادى الآخرة 36هج، ثم انتقل من البصرة إلى الكوفة في الشهر الذي يليه رجب 36هج..
4- في 36هج بدأت المراسلات بين علي (علیه السلام) في الكوفة ومعاوية في الشام، أرسل (علیه السلام) خلالها جريراً إليه، وظل في الكوفة أربعة شهور على الأقل إلى شوال 36هج، حيث خرج في شوال 36هج باتجاه صفين، ووصل بعد ثلاثة أشهر في محرم الحرام من 37هج (استفاد من الأشهر الحرم في المسير إلى صفين)، ومع انقضاء هذا الشهر الحرام ودخول شهر صفر بدات معركة صفين، واستمرت إلى ما بعد منتصف صفر... خلال هذه الفترة قتل عمار بن یاسر ووقعت ليلة الهرير ورفعت المصاحف، وفي النصف الثاني من صفر كتبت وثيقة التحكيم،وأعطي الحكمان مهلة إلى انسلاخ شهر رمضان من 37هج، يعني ستة إلى سبعة شهور كاملة ، وعاد علي (علیه السلام) إلى الكوفة ومعاوية إلى الشام، واجتمع الحكمان بدومة الجندل (تقع وسط العراق والشام)، وقبل انقضاء سنة 37هج كانت ظاهرة الخوارج قد بدأت بالبروز.

معاوية بن أبي سفيان الذي سيطر على بلاد الشام ورفض مبايعة الإمام علي (علیه السلام) بذريعة الطلب بدم عثمان.وأخيرة حرب النهروان(1) ضد الخوارج الذين ضغطوا على الإمام علي (علیه السلام) لوقف حرب صفين وقبول الحكيم ثم كروه لقبول الحكيم وحاولوا الضغط عليه مرة أخرى لاستئنافي الحرب ضد معاوية قبل انتهاء أمد الهدنة.

لنبدأ أولا بحرب الجمل.

ص: 198


1- بدأت محاولات (علیه السلام) مع الخوارج في37هج،وفي 38هج استفحلت ظاهرة الخوارج فحاربهم علي (علیه السلام) في هذه السنة في النهروان،وفي السنة نفسها قتل محمد بن أبي بكر في مصر،و39-40هج كانت الأسوأ بالنسبة إلى علي (علیه السلام)،عندما أرسل معاوية جيوشه إلى أنبار العراق والحجاز واليمن،وكان علي (علیه السلام) خلال هاتين السنتين يحاول علاج مضاعفات حرب صفين،ويحرض أصحابه على استنئان الحرب ضد معاوية دون جدوى،وفي 40هج استشهد (علیه السلام)،فكانت مدة خلافته (علیه السلام) خمس سنين إلا ثلاثة أشهر

(10)إرهاصات حرب الجمل

في الفصل السابق،تحدثنا عن ظروف وملابسات استلام الإمام علي (علیه السلام) الخلافة،وقلنا إنه اضطر لدخول ثلاث حروب طاحنة على التوالي في أقل من خمس سنوات.في هذا الفصل نريد أن نستعرض ملابسات وظروف حرب الجمل، وأسبابها،وبيان لسان حال كل من الناكثين(طلحة والزبير)،وبني أمية (كمعاوية ومروان)،بالإضافة إلى الإمام علي (علیه السلام)،إرهاصات هذه الحرب.

حرب الجمل(36هج)

شبت الفتنة بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان،عندما قام بعضهم بتحميل الإمام علي (علیه السلام) مسؤولية ما جرى،رغم الجهود الكبيرة التي بذلها (علیه السلام) لتفادي وقوع الفتنة ومقتل الخليفة.وبدأ الذين اهموه بذلك بتحريض الناس عليه (علیه السلام) والتمرد على خلافت ونكث بيعته،أملا في انتزاع الحكم منه،أو إلجائي إلى تقديم بعض التناژلات.ومما ساعد على استجابة بعضهم لهذا التحريض،اتباع الإمام علي (علیه السلام) سياسة صارمة في تولية الإمارات.

لم نكث الناكثون البيعة؟

بايع طلحة والزبير علياً (علیه السلام) بشكل واضح لا لبس فيه،إذن لم نكثا البيعة؟

جذور نكث البيعة تجدها في الشورى الشداسية التي أرسى دعائمها محمر،حتى أن معاوية بن أبي سفيان كان يصرح بأن الشورى الشداسية هي أشد منعطفات الانحراف أثرة في تشتيت أمر المسلمين،فقد نقل ابن عبد ربه في العقد الفريد»:

إن معاوية قال لابن حصين:أخبرني،ما الذي شئ أمر المسلمين،وفرق أهواءهم،

وخالف بينهم؟

قال:نعم،قتل الناس عثمان.قال معاوية:ما صنعت شيئة(أي لم تعط الإجابة الصحيحة والتحليل الدقيق).

ص: 199

قال:فمسير علي إليك وقتاله إياك.

قال معاوية:ما صنعت شيئا.

قال:فمسير طلحة والزبير وعائشة وقتال علئ إياهم.

قال معاوية:ما صنعت شيئا.قال:ما عندي غير هذا يا أمير المؤمنين.

قال معاوية:فأنا أخبرك،إنه لم يشتت بين المسلمين،ولا فرق أهواءهم،ولا خالف بينهم،إلا الشورى التي جعلها غمر إلى ستة نفر...فلم يكن رجل منهم إلا رجاها لنفسه،ورجاها القومي،وتطلعت إلى ذلك نفشه،ولو أن عمر استخلف عليهم كما استخلف أبو بكر ما كان في ذلك اختلاف(1) .

يعني لو أن عمر استخلف عثمان مباشرة،دون أن يدخل المسلمين في حيرة ودوامة الشورى الشداسية،لوصلت الخلافة بسلاسة إلى بني أمية، وانتقلت من عثمان إلى دون أي تعقيدات.لكن ما أطلق طموح طلحة والزبير للتطلع للخلافة،وفسح في المجال للأخذ والرد وعقد الأمور علينا،هي الشورى التي شغلها عمر قبيل وفاته.

والسبب المباشر لنكث الناكثين للبيعة تجده في نص ينقله ابن قتيبة،يقول فيه:«إن الزبير وطلحة أتيا عليا (علیه السلام) بعد فراغ البيعة،فقالا:هل تدري على ما بايعناك؟..بايعناك على أنا شريكا في الأمر

فقال علي (علیه السلام):لا ولكن ما شريكان في القول والاستقامة،والعون على العجز

والأود...

وكان الزبير لا يشك في ولاية العراق،وطلحة في اليمن،فلما استبان لهما أن

علية (علیه السلام) غير موئيهما شيئة،أظهرا الشكاة.

فتكلم الزبير في ملأ من قريش،قال:هذا جزاؤنا من علي،ثمنا له في أمرعثمانی حتى أثبتنا عليه الذنب،وسبينا له القتل،وهو جالس في بيته وفي الأمر فلما نال بنا ما أراد،جعل دوننا غيرنا.

فقال طلحة:ما اللوم إلا أنا كنا ثلاثة من أهل الشوری،كره أحدنا وبايعناه

وأعطيناه ما في أيدينا،ومتعنا ما في يده،فأصبحنا قد أخطأنا ما رجونا»(2) .

ص: 200


1- ابن عبد ربه الأندلسي،العقد الفرید،ج4،ص281
2- ابن قتيبة،الإمامة والسياسة ص70-71

إذن،كان طلحة والزبير يأملان أن يستعملهما الإمام علي (علیه السلام)على اليمن والعراق،وأن یشاركاه في يمنع القرار،ويكون الإمام علي (علیه السلام)واجهة لهما وواجهة لقريش،وحينما تبين لهما أنه لن يفعل،نكثا البيعة.ولم يكتفيا بذلك،بل ألبا الناس عليه،وهاجرا بصحبة عائشة إلى البصرة،وحرضا أهلها على قتاله.

ويبدو أنهما بادئ الأمر لم ینكثا البيعة علنا،وإنما عتبا على الإمام علي (علیه السلام) لترك مشورتهما، والاستعانة في الامور بغيرهما، وكان جوابه لهم: «لقد نقمتما يسيرا، وارجاتما كثيرا، الا تخبراني اي شيء كان لكما فيه حق دفعتكما عنه؟ ام اي قسم استاثرت عليكما به؟ ام اي حق رفعه إلى احد من المسلمين ضعفت عنه، ام جهلته، ام اخطات بابه؟ واللّه ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية اربة، ولكنكم دعوتموني إليها، وحملتموني عليها،فلما افضت الي نظرت الي كتاب اللّه و ما وضع لنا و امرنا بالحكم به فاتبعته و ما استسن النبي، صلي اللّه عليه و آله، فاقتديته، فلم احتج في ذلك الي رايكما و لا راي غيركما و لا وقع حكم جهلته فاستشيركما و اخواني من المسلمين و لو كان ذلك لم ارغب عنكم و لاعن غيركما...فليس لكما واللّه عندي و لا لغيركما في هذا عتبي. اخذ اللّه بقلوبنا و قلوبكم الي الحق و الهمنا و اياكم الصبر.»(1) .

وعندما نصح ابن عباس عليا (علیه السلام)، في ان يستعملهما علي البصرة والكوفة، لاسترضائهما، اجابه (علیه السلام): «لولا ما ظهر لي في حرصهما علي الولاية، لكان لي فيهما راي »(2) .

لقد فكر طلحة والزبير بمبرر لخروجهما من المدينة، ليهيئا نفسيهما للخطوة التالية، فاتيا عليا (علیه السلام)فقالا: يا اميرالمؤمنين، ائذن لنا في العمرة، فان تقم الي انقضائها رجعنا اليك، وان تسر تبعناك، فنظر اليهما علي (علیه السلام)، وقال: نعم، واللّه ما العمرة تريدان، وانما تريدان ان تمضيا الي شانكما، فامضيا(3) .

بعد ذلك خرجا الي البصرة، يحرضان اهلها عليه، ويعدان العدة للحرب، تحت مبرر الطلب بدم عثمان، واعانتهما علي ذلك عائشة.وقد اشرنا من قبل الي انهما - بالاضافة الي عائشة - كانا من اشد الناس تحريضا علي قتل عثمان! !(4)

ص: 201


1- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،رقم(205)ص321
2- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة،ص71
3- المصدر السابق،ص71
4- كتب ابن أبي الحديد: فقالوا : أول من سمى عثمان «نعثلا، عائشة، والنعثل: الكثير شعر اللحية والجسد، وكانت تقول : اقتلوا نعثلا ، قتل اللّه نعثلا .... قال : وروي من طرق مختلفة أن عائشة لما بلغها قتل عثمان وهي بمكة، قالت: «أبعده اللّه ! ذلك بما قدمت يداه وما اللّه بظلام للعبيد». ابن أبي الحدید، شرح نهج البلاغة، مج 3، ج 6، ص 131 - 132.

لقد كانت حجة الناكثين واهية، وعندما حاول الزبير - مثلا - تبرير بيعته للامام علي (علیه السلام)، بانه بايع بيده، ولم يبايع بقلبه! اجاب (علیه السلام): «يزعم انه قد بايع بيده، ولم يبايع بقلبه، فقد اقر بالبيعة، وادعي الوليجة، فليات عليها بامر يعرف، والا فليدخل فيما خرج منه»(1).

هذا فيما يتعلق بطلحة والزبير.

أما بالنسبة إلى أم المؤمنین عائشة،فيذكر اليعقوبي في تاريخ أن السبب في وقوفها مع الناكثين أن عليا (علیه السلام) نقضها مما كان يعطيها عمر بن الخطاب،وصيرها أسوة بغيرها من نساء رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)(2).وهذا يعني أن الإمام عليا (علیه السلام) بعد وصوله إلى الشلطة،حرم عائشة من المزايا التي كانت تتمع بها، تماماكما حرم قریش من تلك المزايا،فتضررت مصالحها.

هذا طبعا بالإضافة إلى مشاعر سلبية خاضة كانت تحملها تجاه الإمام علي (علیه السلام)،وفي ذلك يقول (علیه السلام):«و أمّا فلانه فأدركها رأی النّساء،و ضغن غلا فی صدرها كمرجل القین(=قدر الحداد)،و لو دعیت لتنال من غیری ما أتت إلیّ لم تفعل،و لها بعد حرمتها الأولی و الحساب علی اللّه تعالی»(3).

قرر الإمام علي (علیه السلام) أن يصبر على ناكثي بيعيه،ما دام لم يؤثر ذلك في وحدة المسلمين.وقد أكد ذلك بقوله:«إن هؤلاء قد تمالؤوا(=اتفقوا وتعاونوا على سخطة(=بغض وكراهة)إمارتي،وسأصبر ما لم أخف على جماعتكم، فإنهم إن تمموا على فيالة(=ضعف)هذا الرأي،انقطع نظام المسلمين،وإنما طلبوا هذه الدنيا حدا لمن أفاءها اللّٰه عليه،فأرادوا رد الأمور على أدبارها، ولكن علينا العمل بكتاب اللّٰه تعالى،وسيرة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)والقيام بحقه،والنعش(=الرفع)لسنته»(4).

ص: 202


1- نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح، رقم (8)، ص 54.
2- تاريخ اليعقوبي، ج2، ص175. عندما تحدثنا عن طريقة عمر في توزيع العطاء أشرنا في الهامش إلى تفضيل عمر لعائشة على بقية أزواج رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)في العطاء، وذكرنا هناك المصادر المتعلقة بهذه النقطة. وتجدر الإشارة إلى أن بعض المصادر تشير إلى أن عثمان كان هو الذي أنقصها مما كانيعطيها عمر، لذا نقمت وحرضت عليه .
3- نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح، (156)، ص 218.
4- المصدر السابق، رقم (169)، ص 244

معاوية يدل على الخط

من جانب آخر،تحدث بعض المؤرخين عن رسالة تحريضية أرسلها معاوية إلى الزبير

ابن العوام يقول فيها:

«عبد اللّٰه البير أمير المؤمنين!من معاوية بن أبي سفيان...سلام عليك،أما بعد فإني قد بایعت لك أهل الشام،فأجابوا واستوسقوا كما يستوسق الجلب، فدونك الكوفة والبصرة،لا يسبقك إليها ابن أبي طالب،فإنه لا شيء بعد هذين المصرين،وقد بايعت لطلحة بن عبيد اللّٰه من بعدك،فأظهرا الطلب بدم عثمان، وادعوا الناس إلى ذلك،ولیكن منكما الجد و التشمير أظفركما اللّه و خذل مناوئكما »(1) .

الآن،نريد استعراض لسان حال الناكثين وبني أمية والإمام علي (علیه السلام). وأعني

ب«لسان الحال»،قراءتهم وموقفهم الذي نفهمه من ثنايا كلامهم وسلوكهم والظروف المحيطة بهم،والطريقة التي كانوا يفكرون بها.

لسان حال الناكثين وبني أمية والإمام علي (علیه السلام)

•الناكثون

لسان حال الناكثين هو كالتالي:صحيح أننا حضنا الناس ضد عثمان، لكن للضغط عليه،لا لقتله...أردنا الضغط عليه ليتنحي عن الخلافة أو يعيد زمام الأمور لقريش بنحو ما،بعدما تحيز كلية لبني أمية،ولم نكن نقدر أن الأمر يصل إلى قتله.نعم،لم نكن نريد قتل عثمان،لكن حتى لو قتل،فلا بأس في ذلك،إن كان قتله هو الضريبة التي يتعين دفعها لعودة زمام الأمور لقريش. فعودة الشلطة لقريش-كان بالنسبة إلينا-أولی من بقاء عثمان حيا.

ثم بعد قتله،بایعنا عليا (علیه السلام)،وا نترقب منه أن حجم بني أمية ويعيد زمام الأمور القریش،من خلال تنصيبنا في مناصب عليا،لكنه لم يفعل.

صحيح أنه حجم بني أمية،لكنه في المقابل أضر بمصالح و امتیازات فريش الكبرى التي كانت تتمتع بها بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)على عهد الخليفة الأول والثاني....وهذا الوضع غير مقبول،لأنه سيكوث لمصلحة الثوار والأنصار والقحطانيين عموما على حساب قریش العدنانية.

ص: 203


1- ابن أبي الحديد،شرح نهج البلاغة،مج1،ج1،ص142-143

كان الخليفة الأول والثاني واجهة لقريش،ورفضنا بالأمس أن يكون عثمان واجهة البني أمية دون قريش،وكنا نتمنى اليوم أن يكون علي (علیه السلام)-كما كان الخليفة الأول والثاني-واجهة لقريش،لا أن يكون واجهة للمسلمين عموما، فيساوي بينهم في العطاء ويصادر امتیازات قريش ومكتسباتها التي حققتها في عهد الأول والثاني..

إذن الحل بتكاف قریش لمواجهة الإمام علي (علیه السلام).

•بنو أمية

لسان حال بني أمية هو التالي:قريش هي المتسببة في مقتل عثمان، لأنها لم تقبل سلطان بني أمية،وأرادت في المقابل أن تعيد اتجاه البوصلة لمصلحتها،فحرضت جماهير العراق ومصر،وجرأت الأنصار والقحطانيين،على عثمان وبني أمية،فأفسدت الأمر عليه،الأمر الذي أدى لقتله بطريقة بشعة.....والطريقة التي قتل فيها عثمان نموذجية،لكي نستفيد منها في استثارة العواطف وخلط الأوراق.

لكن الوضع الآن لا يسمح باتهام قریش،خصوصا أن من تبقى من وجهاء المهاجرين يريدون مواجهة الإمام علي (علیه السلام) لإعادة الشلطة لقريش، والخصم الحقيقي المشترك لقریش عموما وبني أمية بالخصوص هو علي (علیه السلام)،لأن بقاء الوضع على ما هو عليه يعني نهاية شلطان قريش وبني أمية على السواء،وبقاؤه بيد علي (علیه السلام) وبنيه من بني هاشم.

إذن لندعم مرحلية قريشا في صراعها ضد علي (علیه السلام)،ولننتظر نتيجة المعركة(كما فعل معاوية).بل ليدعم بعضنا هذه الحرب ويحارب في صف قريش في الظاهر،وليطعنها في الظهر(كما فعل مروان مع طلحة).

•الإمام علي (علیه السلام)

السان حال الإمام علي (علیه السلام) هو التالي:رغم أن قريشا سلبتني حقي بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) إلا أني لم أنكث بيعة أي خليفة من الخلفاء الثلاثة الأوائل. ومع أن الخليفة الثالث تورط في تجاوزات كبيرة،مع ذلك،كنت أحاول أن أقوم مسيرته لمصلحة الثوار،دون أن أحرضهم عليه،ودون أن أشجعه على التمادي في ظلمهم.بخلاف قريش التي

حاربت عثمان وحرضت عليه،لأنه سلبها شلطانها ووضعه بيد بني أمية.

وقريش بعد أن تورطت في دم عثمان، تريد الآن أن تتنصل من المسؤولية، تريد أن

ص: 204

تحملني وتحمل الثوار مسؤولية قتل عثمان(1)....هي في البداية بايعتني وكانت تترقب أن أعيد إليها سلطائها،لكن عندما وجدت أني أعدل في العطاء، ولا أسير في توزيع العطاء بسيرة الخليفة الثاني،ووجدت أني نصب الأنصار وبني هاشم ولاة على الأمصار دونها،قلبت لي ظهر المجن،ونكثت البيعة، وألبت الناس علئ.وليس بمقدور الخصوم الإتيان بدليل واحد على توطي في دم عثمان،أو ارتكابي أي عمل يستحق نكث البيعة.

إن كانوا غير مقتنعين بي كخليفة،إذن لم بایعوني أصلا وأصروا على بيعتي في الوقت الذي كنت أقول للناس:دعوني والتمشوا غيري؟والآن ما داموا بایعوني،ألا

تلزمهم تلك البيعة من الناحية الشرعية والأدبية والأخلاقية؟

لماذا لا تريد قريش أن تلتزم قواعد اللعبة التي اخترعت قواعدها وفصلتها على مقاسها؟لم تلتزم بالأمس مفاد غدیر خم!ولا تريد اليوم أن تلتزم أصول اللعبة التي هي أسست قواعدها....ألا وهي البيعة بعد اجتماع شورى أهل الحل والعقد؟

خروج الناكثين من الحجاز إلى العراق

اجتمع الناكثون بمكة،وهرب مروان بن الحكم-مستشار عثمان الأول-من المدينة والتحق بهم في مكة.وحاولت عائشة استمالة بعض أمهات المؤمنين للخروج معها،وأرادت حفصة الخروج فأتاها عبد اللّٰه بن عمر وطلب إليها أن تقعد فقعدت(2)،وحاولت عائشة استمالة أم سلمة إلا أنها لم تفلح، بل سمعت منها كلاما قاسية وصريحاً(3).

ثم لما عزمت عائشة على الخروج إلى البصرة،طلبوا لها بعيرة يحمل هودجها،فجاءهم یعلی بن أمية(وهو الداعم المالي لحركة الناكثين)ببعيره المسمى«عسكراً»(4)وسمعت عائشة في طريقها نباح كلاب،فقالت:ما يقال لهذا الماء الذي نحن به؟

ص: 205


1- يروي ابن عساكر في تاريخ دمشق عن يحيى بن عروة المرادي قال : سمعت علي بن أبي طالب قال : نبض رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)وأنا أرى أني أحق الناس بهذا الأمر، فاجتمع الناس على أبي بكر، فسمعوأطعت، ثم إن أبا بكر حضر فكنت أرى أن لا يعدلها عني، فولی عمر، فسمع وأطعت. ثم إن عمر أصيب، فظننت أنه لا يعدلها عني، فجعلها في ستة أنا أحدهم، فولاها عثمان، فسمعت وأطعت. ثم إن عثمان قتل، فجائني فبايعوني طائعين غير مكرهين، فواللّه ما وجد إلا السيف او الكفر بما أنزل اللّه على محمد (صلی اللّه علیه واله) (أنظر: ابن عساكر، تاریخ دمشق، ترجمة الإمام علي (علیه السلام) ، تحقيق محمد باقر المحمودي، ج 3، ص 101).
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مج 3، ج6، ص 138.
3- المصدر السابق، ص132 - 135.
4- المصدر السابق، ص138.

قالوا:الحوأب.

قالت:إنا لله وإنا إليه راجعون،ژوني ژوني،فإني سمع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)يقول وعنده نساؤه:«أيتكُنَّ ينبحها كلابُ الحوأب»!(وفي رواية:«إياك يا حميراء أن تكونيها»(1).

وعزمت على الرجوع،فأتاها(ابن أختها أسماء)عبد اللّٰه بن الزبير فقال:كذب من زعم أن هذا الماء الحوأب(2)،وجاء بخمسين من بني عامر فشهدواوحلفوا على صدق عبداللّٰه(3).

وعندما بلغ الإمام عليا (علیه السلام) خروج طلحة والزبير إلى البصرة لقتاله،قال:«قَدْ كُنْتُ وَمَا أُهَدَّدُ بالْحَرْبِ، وَلاَ أُرَهَّبُ بِالضَّرْبِ، وَأَنَا عَلَى مَا قَدْ وَعَدَني رَبِّي مِنَ النَّصْرِ.

وَاللّهِ مَا اسْتَعْجَلَ مُتَجَرِّداً(=كأنه سيف تجرد من غمده)لِلطَّلَبِ بِدَمِ عُثْمانَ إِلاَّ خَوْفاً مِنْ أَنْ يُطَالَبَ بِدَمِهِ، لاَنَّهُ مَظِنَّتُهُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْقَومِ أَحْرَصُ عَلَيْهِ مِنْهُ، فَأَرَادَ أَنْ يُغَالِطَ بِمَا أَجْلَبَ فِيهِ لِيَلْتَبِسَ الاَْمْرُ وَيَقَعَ الشَّكُّ.

وواللّٰه ما صنع في أمر عثمان واحدة من ثلاث:لئن كان ابن عفان ظالما-كما كان يزعم-لقد كان ينبغي له ان يوازر قاتليه او ينابذ(=يعارض ويقاتل) ناصريه ولئن كان مظلوما لقد كان ينبغي له أن يكون من المنهنهين عنه (=الزاجرين عن إتيانه)،والمعذرين فيه(=من يسوق مبررات مقنعة لأفعاله). ولئن كان في شك من الخصلتين،

ص: 206


1- عن رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) : «ایتكن تنبح عليها كلاب الحواب». أخرجه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، المكتب الإسلامي، ط4، بیروت، 1985، مج 1، ح 474، ص 767 - 777، وأكد الألباني في بحث مفصل صحة هذا الحديث، واستقصی مصادره. وأخرجه الحاكم هكذا : كيف بإحداكن إذ نبحتها كلاب الحواب»، أنظر : الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحیحین، ج3، ح4613، ص146 - 147. كما أخرج الحاكم عن أم سلمة قالت: ذكر النبي (صلی اللّه علیه واله) خروج بعض أمهات المؤمنين، فضحكت عائشة ، فقال : أنظري يا حميراء أن لا تكوني أنت، ثم التفت إلى علي فقال : إن وليت من أمرها شيئا فارفق بها»، أنظر : الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج3، ح 4610، ص 145 - 146. راجع أيضا بشأن طلب عائشة الرجوع عندما سمعت صوت كلاب الحواب، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج 3، ص475، أيضأ ص 485 -486.
2- راجع: الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص475، أيضأ ص 486.
3- أنساب الأشراف: 224. وكتب ابن أبي الحديد: «فلفق لها الزبير وطلحة خمسين أعرابيا ، جعلا لهم جعلا ، وشهدوا أن هذا الماء ليس بماء الحوأب، فكانت هذه أول شهادة زور في الإسلام، فسارت عائشة لوجهها»، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مج5، ج 9، ص 179.

لقد كان ینبغی له أن یعتزله و یركد جانبا(=عن القاتلين والناصرين)،و یدع النّاس معه فما فعل واحده من الثّلاث، و جاء بأمر لم یعرف بابه و لم تسلم معاذیره»(1) .

وعندما وصل طلحة والزبير إلى البصرة،واجههما أهل البصرة بكتبهما التحريضية التي كانوا قد كتبوها ضد عثمان،وكان من أولئك الذين واجهوهم عبد اللّٰه بن حكيم التميمي،وكان أهل البصرة يثيرون تساؤلا محرجة أمامهما:كنتما بالأمس تحرضانا ضد عثمان،واليوم جئتما إلينا للطلب بده؟!

وذكر بعض المؤرخين أن طلحة و الزبير كتبا للصحابي عثمان بن حنیف(والي الإمام علي (علیه السلام) على البصرة)أن أخل لنا دار الإمارة.ولما نزلا البصرة،قال عثمان:نعذر إليهما برجلين،فدعا عمران بن حصین-صاحب رسول اللّٰه-وأبا الأسود الدولي،فأرسلهما إليهما.ثم انتهى معهما-بعد وقوع مناوشات-إلى كتابة صلح على أن لعثمان بن حنیف دار الإمارة والرحبة والمسجد وبيت المال والمنبر،وأن لطلحة والزبير ومن معهما أن ينزلوا حيث شاءوا من البصرة،ولا يضار بعضهم بعضا في طريق ولا فرضة ولا سوق ولا شرعة ولا مرفق،حتى يقدم أمير المؤمنين علي (2) .

عند مسير الإمام علي (علیه السلام) من المدينة إلى البصرة،كان يستنهض-من خلال الرسل والكتب-أهل الكوفة لمواجهة الناكثين،ويشرح لهم بشكل مضغوط وموجز حقيقة ما جرى،لذا تجده لا يكتب لهم:«أما بعد فإنی أخبركم عن أمر عثمان، حتی یكون سمعه كعیانه، إن الناس طعنوا علیه، فكنت رجلا من المهاجرین أكثر استعتابه(=استرضاءه)و أقلّ عتابه،و كان طلحه و الزّبیر أهون سیرهما فیه الوجیف(=ضرب من سير الخيل والإبل سریع)،و أرفق حدائهما(الحداء: زجل الإبل وسوقها)العنیف،و كان من عائشه فیه فلته غضب فأتیح له قوم فقتلوه،و بایعنی النّاس غیر مستكرهین و لا مجبرین بل طائعین مخیّرین...»(3) .

تدهور مفاجئ في الموقف

ثم وقع تدهور دراماتيكي عندما قام طلحة والبير-بالاستعانة بمروان بن الحكم-بالهجوم في منتصف الليل على عثمان بن حنیف-والي الإمام علي (علیه السلام) على البصرة-

ص: 207


1- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(174)،ص249-250
2- الطبري، تاريخ الأمم والملوك،ج3،ص479-484،أيضا ابن ابی الحدید،شرح نهج البلاغة، مج5،ج9،ص180-185
3- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،رقم(1)،ص 363

في جماعة معهم،في ليلة مظلمة،سوداء مطيرة،فانتهوا إلى المسجد وقت صلاة الفجر، وقد سبقهم عثمان بن حنيف إليه، وأُقيمت الصلاة فتقدّم عثمان ليصلّي بهم فأخّره أصحاب طلحة والزبير وقدّموا الزبير، فجاءت السبابجة( وهم الشرط حرس بيت المال،) فأخّروا الزبير وقدّموا عثمان؛ فغلبهم أصحاب الزبير فقدّموا الزبير وأخّروا عثمان؛ فلم يزالوا كذلك حتّى كادت الشمس أن تطلع، وصاح بهم أهل المسجد: ألا تتّقون اللّه يا أصحاب محمّد، وقد طلعت الشمس فغلب الزبير فصلّى بالناس، فلمّا انصرف من صلاته صاح بأصحابه المستسلحين: أن خذوا عثمان بن حنيف(1) .

يقول ابن قتيبة:فقتلوا أربعين رجلا من الحرس،فخرج عثمان،فشد عليه مروان

فأسره،وقتل أصحابه،فأخذه مروان،فنتف لحيته ورأسه وحاجبه(2) .

وأرسلت عائشة إلى الزبير أن أقتل السبابجة فإنه قد بلغني ما صنعوا بك. يقول الرواي: فذبحهم و اللّه الزبیر كما یذبح الغنم ولی ذلك منهم عبد اللّه ابنه (لاحظ الأور السلبي لعبد اللّٰه بن الزبير)،و هم سبعون رجلا و بقیت منهم طائفة مستمسكین ببیت المال قالوا لا ندفعه إلیكم حتى یقدم أمیر المؤمنین فسار إلیهم الزبیر فی جیش لیلا فأوقع بهم و أخذ منهم خمسین أسیرا فقتلهم صبرا(3) .

قال أبو مخنف:حدثنا الصقعب بن زهير قال:كانت السبابجة من القتلى يومئذ أربعمائة رجل،قال:فكان غدر طلحة والزبير بعثمان بن حنيف أول غدر في الإسلام،وكان السبابجة أول قوم ضربت أعنائهم من المسلمين صبراً.

قال:وخيروا عثمان بن حنيف بين أن يقيم أو يلحق بعلي (علیه السلام)،وفي رواية أخرى

أنهم لم يتركوه إلا بعد أن أقسم باللّٰه إن قتلوه ليضع أخوه سهل-والي الإمام علي (علیه السلام) على المدينة-الشيف في بني أبيكم وأهليكم ورهطكم فلا يبقي أحدة منكم)(4) ،فلحق عثمان بن حنيف بعلئ (علیه السلام)،وقال له:فارق شيخا وجنتك أمرد،فقال علي (علیه السلام):إنا اللّٰه وإنا إليه راجعون،قالها ثلاثاً(5) .

ولما بلغ الضحابي حكيم بن جبلة ما صنع القوم بعثمان بن حنیف،خرج في ثمانمائة

ص: 208


1- ابن أبي الحديد،شرح نهج البلاغة،مج5،ج9،ص185
2- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة،ص89
3- ابن أبي الحديد،شرح نهج البلاغة،مج5،ج9، ص186
4- المصدر السابق،ص185
5- المصدر السابق،ص186

من عبد القيس مخالفة لهم ومنابذاً،فخرجوا إليه،وحملوا عائشة على جمل، ف ي ذلك اليوم يوم«الجمل الأصغر»،ويوم الإمام علي (علیه السلام) يوم«الجمل الأكبر».وتجال الفريقان بالشيوف،وكانت النتيجة أن استشهد حكیم بن جبلة وثلاثة أخوة له،بالإضافة إلى ثلاثمائة من عبد القيس(1)!

الإمام علي (علیه السلام) يخرج إلى العراق

لمّا سار علي (علیه السلام)إلى العراق، دخل على أمّ سلمة زوج النبي صلّى اللّه عليه وآله يودّعها فقالت: سر في حفظ اللّه وفي كنفه، فواللّه إنك لعلى الحق والحق معك، ولولا أني أكره أن أعصي اللّه ورسوله _ فإنه صلّى اللّه عليه وآله أن نقرّ في بيوتنا لسرت معك، ولكن واللّه لأرسلنّ معك من هو أفضل عندي وأعزّ علي من نفسي، ابني عمر(2).

وطلب عمار بن یاسر من الإمام علي (علیه السلام) أن يأتي بعض الصحابة،ممن اعتزل الحياة العامة،ليكلمهم ليخرجوا معه للقتال،فأذن (علیه السلام) له.فكلم عمار عبد اللّٰه بن عمر لكن دون جدوى،وكم سعد بن أبي وقاص فأظهر الكلام القبيح،وكلم محمد بن مسلمة ولم يفلح في إقناعه،فانصرف عمار إلى علي (علیه السلام) فقال له علي (علیه السلام):دع هؤلاء الرهط،أما ابن عمر فضعيف،وأما سعد فحسود،وذنبي إلى محمد بن مسلمة أني قتل أخاه يوم خيبر،مرحب اليهودي(3).

لاحظ أن اعتزال عبد اللّٰه بن عمر وسعد بن أبي وقاص كان يصب في مصلحة قریش.لأن طلحة بن عبيد اللّٰه والزبير بن العوام وعائشة بنت أبي بكر كانوا يمثلون من تبقى من فئة وجهاء المهاجرين القرشيين،وبالتالي كانوا رأس حربة قريش التي واجهت عليا (علیه السلام)....فسعد بن أبي وقاص(هو من الستة الذين رشحهم عمر للخلافة)وعبد اللّٰه بن عمر(هو ابن الخليفةالثاني،وكان اسمه مطروحة للخلافة أيضا،كما سنجد ذلك جليا في التحكيم)أيضا يمثلون قریشة.هذا فضلا عن معاوية بن أبي سفيان(الأموي

ص: 209


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مج5، ج 9، ص 186.
2- الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحیحین، ج 3، كتاب معرفة الصحابة ، ح 4611، ص 146. قال الحاكم: هذا الحديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه
3- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ص73. وفي السيرة الحلبية والمغازي للواقدي أن مرحب اليهودي قتل محمود بن مسلمة، فأراد محمد بن مسلمة أن يقتص لأخيه بأن يعذب مرحب بأن يتركه حيا بعد تقطيع أطرافه ليذوق ما أذاقه أخاه حتى يموت على هذا الحال، لكن عليا (علیه السلام) بادر لقتل مرحب. فربما هذا هو مقصود علي (علیه السلام) بالمشاعر السلبية التي يحملها محمد بن مسلمة تجاه علي (علیه السلام) .... واللّه أعلم.

القرشي)الذي كان قد أرسل من الشام رسالة تحريضية للزبير يعلن فيها تأييده له ولطلحة.

لذا نستطيع أن نقول إن قريشا في الجمل حاربت عليا (علیه السلام)،إما مباشرة(ومثلها في ذلك طلحة والژبير وعائشة ومروان)أو تحريضة(ومثلها في ذلك معاوية)أو اعتزالا عن القتال(ومثلها في ذلك سعد بن أبي وقاص وعبد اللّٰه بن عمر).

ولما أشير عليه (علیه السلام) بألا يتبع طلحة والزبير ولا يرصد لهما القتال،بین (علیه السلام) بأنه لا يريد أن يفسح لهما في المجال لخداع والغدر به، فقال:«واللّٰه لا أكو كالضبع:تنام على طول الدم(=صوت الحجر أو العصا تضرب في الأرض ضربة خفيفا)،حتى يصل طالبها،ويختلها راصدها،ولكني أضرب بالمقبل إلى الحق المدبر عنه،وبالسامع المطيع العاصي المريب أبدا،حتى يأتي علي يومي.فواللّٰه ما زلت مدفوعا عن حقي،مستأثرة علي،من قبض اللّٰه نبيه (صلی اللّه علیه واله)حتى يوم الناس هذا»(1) .

الآن،عندما وقع الغدر بالصحابي عثمان بن حنیف وطرد من البصرة،واستشهد الصحابي حكيم بن جبلة مع أصحابه في يوم الجمل الأصغر،كان الإمام علي (علیه السلام) في الطريق إلى العراق.عندئذ اضطر (علیه السلام) للاستعداد لقتالهم،وشرح الموقف لأصحابه بعد أن توجه إلى ربه قائلا:

«..اللّهم إني أستعديك علي قريش ومن أعانهم، فإنهم قطعوا رحمي، وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا علي منازعتي أمراً هو لي...فخرجوا يجرون حرمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله كما تجر الأمة عند شرائها، متوجهين بها إلى البصرة، فحبسا نساءهما في بيوتهما، وأبرزا حبيس رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لهما ولغيرهما في جيش ما منهم رجل إلا وقد أعطاني الطاعة وسمح لي بالبيعة طائعا غير مكره فقدموا على عاملي بها وخزان بيت مال المسلمين وغيرهم من أهلها. فقتلوا طائفة صبرا(=بعد الأسر)،وطائفة غدرا. فواللّه لو لم يصيبوا من المسلمين إلا رجلا واحدا معتمدين(=قاصدین)لقتله بلا جرم جره، لحل لي قتل ذلك الجيش كله،إذ حضروه فلم ينكروا ولم يدفعوا عنه بلسان ولا يد. دع ما أنهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدة التي دخلوا بها عليهم»(2) .

كانت الحسرة تملأ قلبه...لم تكون عاقبة طلحة والبير-وهما من السابقين إلى الإسلام-على هذا النحو؟لم التناع على السلطان؟وما قيمةالخلافة إن فقد المرء دينه

ص: 210


1- نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح،(6)،ص53
2- المصدر السابق،رقم (172)،ص246-247

الظفر بها؟لذا عندما وصل إلى ذي قار،وهي منطقة تقع بين البصرة والكوفة، ودخلعليه ابن عباس.يقول ابن عباس،سألني (علیه السلام) قائلا:ما قيمة هذه النعل؟ فقلت:لا قيمة لها.

فقال (علیه السلام):واللّٰه لهي أحب إلي من إمرتكم إلا أن أقيم حقأ أو أدفع باطلاً(1) .

المضحك المبكي،أن البصرة حينما صفت لطلحة والزبير،بعد طرد ابن حنيف،وقتل حكيم وأصحابه،اختلفا وتشاحا في الصلاة،وأراد كل منهما أن يؤم الناس،ولم يهدأ الخلاف بينهما إلا عندما تدخلت عائشة كوسيط،بأن جعلت ابن أختها عبد اللّٰه بن البير إماما على الناس(2) !(وفي رواية أنها اقترحت أن يصلي عبد اللّٰه بن الزبير ومحمد ابن طلحة بالناس،يوما هذا،ويوما ذاك).

لذا تجد عليا (علیه السلام) يقول وكان سريرة طلحة والزبير منكشفة أمام ناظريه كالشمس في رابعة النهار:«كلّ واحد منهما يرجو الأمر له، و يعطفه عليه دون صاحبه، لا يمتّان إلى اللّه بحبل، و لا يمدّان إليه بسبب. كلّ واحد منهما حامل ضبّ(=حقد) لصاحبه، و عمّا قليل يكشف قناعه به! و اللّه لئن أصابوا الّذي يريدون لينتزعنّ هذا نفس هذا، و ليأتينّ هذا على هذا...»(3) .

واستغل الناكثون صفو البصرة لهم،فقاموا بتشويه شمعة الإمام علي (علیه السلام) عند أهلها،حتى أقبل الأحنف بن قيس في جماعة من قومه إلى الإمام علي (علیه السلام) فقال:يا أمير المؤمنين،إن أهل البصرة يقولون بأنك إن ظفرت بهم غدة قتلت رجالهم،وسبيت

ريتهم ونساءهم.فقال له الإمام علي (علیه السلام):ليس مثلي من يخاف هذا منه، لأن هذا ما لا يحل إلا ممن تولى وكفر،وأهل البصرة قوم مسلمون،وسترى كيف يكون أمري وأمرهم(4) .

وعندما اقترب الإمام علي (علیه السلام) من البصرة،أرسل أهلها كليب الجرمي ليعلم منه حقيقة حاله مع أصحاب الجمل لتزول الشبهة من نفوسهم،فبين له (علیه السلام) من أمره معهم ما علم به أنه على الحق،ثم قال له (علیه السلام):بايع.فقال:إني رسول قوم ولا أحيث حدثا حتى أرجع إليهم.

ص: 211


1- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(33)،ص76
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة،مج1،ج1،ص99
3- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(148)،ص206
4- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص106

فقال (علیه السلام):أرأيت لو أن الذين بعثوك رائدة تبتغي لهم مساقط الغيث،فرجعت إليهم

وأخبرتهم عن الكلأ والماء،فخالفوا إلى المعاطش والمجاب،ما كنت صانعاً؟

قال:كنت تاركهم ومخالفهم إلى الكلأ والماء.

فقال (علیه السلام):فامد إذا يدك.

فقال الرجل:فواللّٰه ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجة علي،فبايعه (علیه السلام)(1) .

وروي أن الحارث بن ځوط أتاه فقال:أتراني أظن أصحاب الجمل كانوا على

ضلالة؟

فقال (علیه السلام):يا حارث،إنك نظرت تحت ولم تنظر فوقك،فجرت،إنك لم تعرف

الحق فتعرف من أتاه،ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه.

فقال الحارث:فإني أعتز مع سعيد بن مالك وعبد اللّٰه بن عمر،فقال (علیه السلام):إن

سعيدا وعبد اللّٰه بن عمر لم ينضرا الحق، ولم یخذلا الباطل(2) .

الخلاصة:بدأنا اليوم بسرد أحداث حرب الإمام علي (علیه السلام) الأولى بعد استلامه الخلافة،أعني حرب الجمل،وحاولنا الإجابة عن الشؤال:لم نكث الناكثون البيعة؟وبينا لسان حال كل من الناكثين وبني أمية والإمام علي (علیه السلام)،وبينا مجريات خروج الناكثين إلى العراق،وخروج الإمام علي (علیه السلام) على أثرهم،ثم التدهور المفاجئ في الموقف عندما قام الناكثون بالهجوم على عثمان بن حنیف والاستيلاء على بيت مال المسلمين والسيطرة على البصرة.

وسنری لاحقا أن هذه المعركة التي ستنتهي لمصلحة الإمام علي (علیه السلام) أدت إلى انكسار قریش،يمثلها في ذلك من تبقى من فئة وجهاء المهاجرين. كما أدت إلى ارتياح معاوية في الشام من شوكة قريش،ولم يبق له إلا أن يجتاز عقبة الإمام علي (علیه السلام) فإن اجتازها استتب الأمر له،وصارت الخلافة بيده،وأصبح بمقدوره أن يمهد الطريق لابنه يزيد،حتى يعتلي السلطة، ويرتكب فاجعة كربلاء

في الفصل القادم سنواصل استعراض مجريات حرب الجمل،وستبين المحاولات

التي قام بها الإمام علي (علیه السلام) لتفادي وقوع هذه الحرب.

ص: 212


1- نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح،(170)،ص244-245
2- المصدر السابق،(262)،ص 521

(11)حرب الجمل

في الفصل السابق تحدثنا عن إرهاصات حرب الجمل،وانتهينا إلى وصول الإمام علي (علیه السلام) إلى العراق،وبلوغه خبر غدر الناكثين بواليه على البصرة عثمان بن حنیف،وقتلهم ځراس بیت المال،واستيلائهم عليه،وسيطرتهم على البصرة.

الصلة بين الجمل وكربلاء

قد لا يبدو ثمة صلة مباشرة بين حرب الجمل و واقعة كربلاء،لكن الحقيقة أن واقعة كربلاء لم تكن لتقع لولا وصول بني أمية إلى السلطة،وبنو أمية لم يكونوا ليصلوا إلى السلطة لولا انكسار فئة وجهاء المهاجرين،وفئة وجهاء المهاجرين لم يكونوا لينكسروا بقوة لولا حرب الجمل.والإمام علي (علیه السلام) حاول بشتى الطرق تفادي هذه الحرب،ليس تفاديا لإراقة دماء المسلمين فحسب،بل ربما للإبقاء أيضا على توازن القوى.فبقدر ما تضعف فئة وجهاء المهاجرين سيخلو الجو لبني أمية ليكونوا هم الممثلين الجدد لقريش، والمدافعين عن مصالحها(1) .

في هذا الفصل نرید مواصلة استعراض أحداث الجمل،مع إبراز أهم الخطوات والمحاولات التي قام بها الإمام علي (علیه السلام) لتفادي وقوع هذه الحرب،سواء قبل وقوع الغدر بواليه عثمان،أو بعد ذلك وقبل وقوع المعركة.

كما سنستعرض بعد ذلك،أخلاق الإمام علي (علیه السلام) في التعامل مع الطرف المهزوم في المعركة، يكشف فيها عن أريحية خاصة وروحية عالية وتحرر واضح من عقلية التشي والانتقام.

ص: 213


1- وهناك جوانب ربط أخرى بين معركة الجمل وواقعة كربلاء،منها التأثير النفسي لواقعة الجمل في أهل البصرة،الذي رسخ المزاج العام الذي لم يكن لمصلحة علي (علیه السلام)،لذا تجد أن تفاعل أهل البصرة مع حركة الحسين (علیه السلام) كان محدوداً

محاولات الإمام علي (علیه السلام) لتفادي حرب الجمل

1.كتابه إلى طلحة والزبير:كتب الإمام علي (علیه السلام) لطلحة والزبير كتابا قال فيه:أما بعد،فقد علمتما-وإن كتمتما-أني لم أردالناس حتى أرادوني،ولم أبايعهم حتى بایعوني،وإنكما ممن أرادني وبايعني،وأن العامة لم تبايعني لسلطان غالب،ولا لعرض حاضر،فإن كنتما قد بایعتما طائعین،فارجعا وتوبا إلى اللّٰه من قريب،وإن كنتما بایعتماني كارهین،فقد جعلتما لي عليكما السبيل،بإظهار كما الطاعة،وإسرار گما المعصية.ولعمري ما كنتما بأحق المهاجرين بالقية والكتمان، وإن دفگما هذا الأمر من قبل أن تدخلا فيه،كان أوسع عليگما من خروجكما منه،بعد إقرارگما به.وقد زعمتما أني قتل عثمان،فبيني وبينكما من تخلف عني وعنكما من أهل المدينة،ثم يلزم كل امرئ بقدر ما احتمل.فارجعا أيها الشيخان عن رأيكما،فإن الآن أعظم أمركما العار،من قبل أن يتجمع العار والنار،والسلام(1) .

ولم يجب طلحة والزبير عليا (علیه السلام) عن كتابه بشيء،لكنهما بعثا إليه برسالة:إنك يا أبا الحسن،قد سرت مسيرا له ما بعده، ولست براجع وفي نفسك منه حاجة، ولست راضيا دون أن ندخل في طاعتك، ونحن لا ندخل في طاعتك أبدا، واقض ما أنت قاض والسلام (2) .

2.كتابه (علیه السلام) عائشة:ونقل ابن اعثم أن الإمام علي (علیه السلام)كتب لعائشة:أما بعد، فإنك قد خرجت من بيتك عاصية اللّٰه تعالى،ولرسوله محمد (صلی اللّه علیه واله)،تطلبين أمراً كان عن موضوعا،ثم تزعمين أنك تريدين الإصلاح بين المسلمين،فأخبريني ما للنساء وقود العساكر والإصلاح بين الناس؟وطلبت-كما زعمت-بدم عثمان، وعثمان رجل من بني أمية،وأنت امرأة من بني تيم بن مرة،ولعمري إن الذي عرضك للبلاء،وحملك على المعصية لأعظم ذنبا من قتلة عثمان.وما غضبت حتى أغضب،ولا هجت حتى هيجت،فاتقي اللّٰه يا عائشة،وارجعي إلى منزلك، واسبلي علي سترك،والسلام(3) .

ص: 214


1- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،كتاب54،ص445-446،أيضا مع فروق: ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص108-109.أنظر:تمام نهج البلاغة،تحقيق السيد صادق الموسوي،مؤسسة الإمام صاحب الزمان (علیه السلام) في مشهد،ط1،1418هج،طهران،كتاب رقم14،ص782-784 مع فروق
2- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص109.أنظر تمام نهج البلاغة،كتاب رقم 14،ص784مع فروق
3- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص109

3.طلبه من ابنه الحسن (علیه السلام) أن يخطب في أهل البصرة لتوضيح حقيقة الأمر:نقل؛ابن اعثم أن عبد اللّٰه بن الزبير خطب في أهل البصرة،فقال:أيها الناس إن علي بن أبي طالب هو الذي قتل الخليفة عثمان بن عفان،ثم إنه الآن قد جاءكم لیبتزكم أمركم،فاغضبوا لخليفتكم،وامنعوا حريمكم،وقاتلوا على أحسابكم.

وبلغ عليا (علیه السلام) ما تكلم به عبد اللّٰه بن الزبير،فدعا ابنه الحسن (علیه السلام)،وقال له: بلغني أن ابن الزبير قد خطب الناس،وذكر لهم أني أنا الذي قتل عثمان بن عفان،وزعم لهم أني أريد أن أبتز الناس أمورهم،وقد بلغني أنه شتمني، فقم يا بني فاخطب للناس خطبة موجزة،ولا تشتمن أحدا من الناس(1) .

4.رسالة شفوية أرسلها (علیه السلام)لعائشة عن طريق زید بن صوحان وعبد اللّٰه بن عباس:نقل ابن اعثم أن علياً (علیه السلام) دعا يزيد بن صوحان وعبد اللّٰه بن عباس فقال لهما:إمضيا إلى عائشة،فقولا لها:ألم يأمر اللّٰه تبارك وتعالى أن تقري في بيتي،فدعني وانخدعتي،واسفرت فنفرت؟فاتقي اللّٰه الذي إليه مرجع و معادك وتوبي إليه،فإنه يقبل التوبة من عباده،ولا تحمل قرابة طلحة،وحب عبد اللّٰه بن الربير على الأعمال التي تسعى بلي إلى النار.

فانطلقا إليها،وبلغاها رسالة علي (علیه السلام)،فقالت عائشة:ما أنا برادة عليكما شيئا،فإني أعلم أني لا طاقة لي بحجج علي بن أبي طالب،فرجعا إليه وأخبراه الخبر(2) .

5.رسالة شفوية أرسلها (علیه السلام)للزبير عن طريق عبد اللّٰه بن عباس:ينقل الشريف الرضي في نهج البلاغة،أن عليا (علیه السلام) لما أنفذ عبد اللّٰه بن عباس إلى البير يستفيئه إلى طاعته قبل حرب الجمل،قال له:لا تلقين طلحة،فإنك إن تلقه تجده عاقصة قرنه(=فاية ولاويا شعره، كناية عن التغطرس والتكبر)،يركب الصعب(=الدابة الجموح)ويقول:هو الذلول.ولكن ألق البير،فإنه ألين عريكة(=طبيعة وقا)،فقل له:يقول لك ابن خالك:عرفتني بالحجاز،وأنكرتني بالعراق،فما عدا مما بدا(=ما الذي صرفك عما كان بدا وظهر منك؟)(3) ؟!

وعندما فشلت المحاولات المتكررة قبل القتال، كان (علیه السلام) يقول والألم يعتصر قلبه:

ص: 215


1- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص110
2- المصدر السابق،ص112
3- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(31)،ص74

«واللّٰه ما أنكروا على منكراً،ولا جعلوا بينى و بينهم نصفا و انّهم ليطلبون حقّا تركوه و دما سفكوه و لئن كنت شركتهم فيه انّ لهم لنصيبهم منه و ان كانوا ولّوه دونى فما تبعته الاّ قبلهم...إن معي لبصيرتي،ما لبست وما لبس علي....فأقبلتم إلی إقبال العوذ(=جمع عائذة:النتاج من الظباء والإبل،أو كل أنثى)المطافيل(=جمع مطفل:ذات الطفل من الإنس والوحش)علی أولادها،تقولون:البیعة،البیعة.

قبضت كفی فبسطتموها،و نازعتكم فجاذبتموها،اللّٰهم إنهما(=طلحة والزبير)قطعانی و ظلمانی،و نكثا بیعتی،و ألّبا(=حرضا وجمعا) النّاس علیّ فاحلل ما عقدا،و لا تحكم لهما ما أبرما،و أرهما المساءه فیما أمّلا و عملا.و لقد استثبتهما(=طلبت منهما العودة إلى البيعة )قبل القتال، واستأنیت بهما أمام الوقاع،فغمطا(=جحدا)النعمة،وردا العافية»(1) .

6.تذكيره (علیه السلام) للزبير قبيل الحرب:اصطفت أصحاب الإمام علي (علیه السلام)،وقال لهم:لا ترموا بسهم،ولا تطعنوا بمح،ولا تضربوا بسيف.يقول اليعقوبي في تاريخه: عندما التقى الجيشان،أرسل إليهم علي (علیه السلام):ما تطلبون؟وماذا تريدون؟ قالوا:نطلب بدم عثمان،قال علي (علیه السلام):لعن اللّٰه قتلة عثمان.

وينقل ابن اعثم أن عليا (علیه السلام) وقف بين الصفين وعليه قميص ورداء،وعلى رأسه عمامة سوداء،وهو يومئذ على بغلة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)الشهباء،ثم نادى بأعلى صوته:این الزبير بن العوام،فليخرج إلي.

فقال الناس:يا أمير المؤمنين أتخرج إلى الزبير وأنت حاسر،وهو ممدج في

الحديد؟

فقال (علیه السلام):ليس علي منه بأس.فأمسكوا.

ثم نادى (علیه السلام) الثانية:أين الزبير بن العوام،فليخرج إلي.

فخرج إليه الزبير،ونظرت عائشة فقالت:وا ثكل أسماء.

فقيل لها:يا أم المؤمنين ليس على البير بأس،فإن عليا بلا سلاح.

ودنا الزبير من علي (علیه السلام)....فقال له علي (علیه السلام):يا أبا عبد اللّٰه،ما حملك على ما صنعت؟

فقال الزبير:حملني على ذلك الطلب بدم عثمان.

ص: 216


1- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،رقم(137)،ص194-195

فقال علي (علیه السلام):أنت وأصحابك قتلتموه(يعني قريش التي جاءت به هي التي حضت على قتله)،فيجب عليك أن تقتد من نفسك،ولكن أنشدك باللّٰه الذي لا إله إلا هو،أما تذكر يوما قال لك رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):يا زبير أتحب عليا؟فقلت:يا رسول اللّٰه،وما يمنعني من حبه،وهو ابن خالي؟!فقال لك:أما إنك ستخرج عليه يوما وأنت ظالم له(1) ؟

فقال الزبير:اللّٰهم بلى قد كان ذلك.

قال علي (علیه السلام):فأنشدك اللّٰه الذي أنزل الفرقان،أما تذكر يوم جاء رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) من عند بني عمرو بن عوف،وأنت معه،وهو آخذ بيدك،فاستقبله أنا،فسلم على،وضحك في وجهي،وضحك أنا إليه،فقلت أنت:لا يد ابن أبي طالب زهوه أبدا،فقال لك النبي (صلی اللّه علیه واله):مهلا يا زبير،فليس به زهو،ولتخرج عليه يوما وأنت ظالم له(2)؟

فقال الزبير:اللّٰهم بلی،ولكن أنسي،فأما إذ ذكرتني ذلك،فواللّٰه لأنصرف عنك،ولو ذكر هذا لما خرج عليك.

ثم رجع البير إلى عائشة،وهي واقفة في هودجها،فقالت:ما وراءك يا أبا عبد اللّٰه؟

فقال الزبير:ورائي،واللّٰه ما وقف موقفا قط،ولا شهد مشهدة من شرك ولا

إسلام إلا ولي فيه بصيرة،وإني اليوم لعلى شك من أمري،وما أكاد أبصر موضع قدمي.

فقالت عائشة:لا واللّٰه،ولكنك خفت سیوف ابن أبي طالب،أما إنها طوال حداد،

تحولها سواعد نجاد،ولئن خفتها لقد خافها الرجال من قبلك.

ثم أقبل عليه ابنه عبد اللّٰه،فقال:لا واللّٰه،ولكنك رأيت الموت الأحمر تحت رايات ابن أبي طالب.

فقال له الزبير:واللّٰه يا بني إنك لمشؤوم(3) ،قد عرفتك.فقال عبد اللّٰه:ما أنا بمشؤوم،ولكن فضحتنا في العرب فضيحة لا تغسل منها رؤوسنا أبدا(4).

ص: 217


1- في مجال تذكير علي علي الزبير بما قاله رسول اللّٰه وأنه سيقاتله وهو له ظالم،راجع: الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج3،ص519،ابن أبي الحديد،شرح نهج البلاغة، مج1،ج2،ص99
2- في مجال تذكير علي (علیه السلام) الزبير بما قاله رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)وأنه سيقاتله وهو له ظالم، راجع: الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص519، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مج 1، ج2، ص 99.
3- في المصدر«میشوم»
4- لاحظ الدور التحريضي الخطير الذي كان يلعبه عبد اللّه بن الزبير، فقد كان حلقة الربط بين خالته عائشة وأبيه الزبير وخاله طلحة (ليست خؤولة حقيقية)، خصوصا تاثيره في أبيه، حتى كان علي (علیه السلام) يقول: ما زال الزبير رجلا منا أهل البيت حتى نشا ابنه المشؤوم عبد اللّه (راجع، نهج البلاغة، :تحقیق صبحي الصالح، حكم أمير المؤمنین، (453)، ص 555. في المقابل، لاحظ تأثير طلحة في ابنه محمد (وامه حمنة بنت جحش اخت زینب بنت جحش زوج رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) ، فبعدما قتل أبصره الحسن (علیه السلام) قتيلا مكبوبة على وجهه، فرده على قفاه، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، هذا فرغ قریش واللّه . فقال علي : من هو یا بني؟ قال : محمد بن طلحة، قال (علیه السلام) : إنا لله وإنا إليه راجعون، أن كان ما علمنه لشابة صالحة، تنله بره بابو (راجع اسد الغابة، 4/ 322). لاحظ المفارقة : عبد اللّه بن الزبير يضل أباه، وطلحة يضل ابنه محمدا !!

فغضب البير من ذلك،ثم صاح بفرس،وحمل على أصحاب علي (علیه السلام) حملة منكرة،فقال علي (علیه السلام):أفرجوا له فإنه محرج،فأوسعوا له حتى شق الصفوف وخرج منها،ثم رجع فشقها ثانية،ولم يطعن أحدة ولم يضرب،ثم رجع إلى ابنه فقال:يا بني هذو حمله جبان؟!....

ثم خرج الزبير من عسكرهم نائبة مما كان منه..وصار إلى وادي الشباع(على مقربة من البصرة)،راه اب جرموز نائمة،فوثب إليه وضربه بسيفه،ثم أخذ سيقه واحت رأسه،وجاء بهما إلى علي (علیه السلام)،فأخذ علي (علیه السلام) سيف البير، فجعل قلبه وهو يقول:إنه السيفك طالما جلا الكروب عن وجه رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)... ثم أقبل على ابن جرموز وقال له:ويحك فإني سمعت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)يقول:بشر قاتل ابن صفية بالنار.فوثب عمرو بن جرموز من بين يدي على (علیه السلام) وهو يقول:لا واللّٰه ما ندري أثقال معكم أم عليكم(1)؟

7.تذكيره (علیه السلام)لأهل الجمل بكتاب اللّٰه وخبر الفتى الذي حمل المصحف إليهم:نقل المؤرخون أن الإمام علياً (علیه السلام) دعا بالمصحف فأخذه بيده ثم قال:أيها الناس من يأخذ هذا المصحف فيدعو هؤلاء القوم إلى ما فيه.

فوثب غلام من مجاشع،قال له مسلم،فقال:أنا أذه يا أمير المؤمنین.

ص: 218


1- ابن الأعثم، الفتوح، ج 1، ص116 - 117. وفي هذه القصة دروس وعبر، تقشعر منها الأبدان، منها - فيما يتعلق بالبير - أن تاريخ الإنسان الجهادي ليس ضمانة كافية لمستقبله، بل لا بد أن يظل الإنسان مراقبة دقيقة لمساره حتى لا ينحرف بالتدريج دون أن يدري، ويصل إلى نقطة لم يكن يتصور أن يصل إليها أبدا . ومنها أن أقرباء الإنسان قد يكونون هم الأعداء الحقيقيين له، فعدو الزبير الحقيقي لم يكن علياً (علیه السلام) ، وإنما كان ابنه عبد اللّه . ومنها - فيما يتعلق بابن جرموز - أن الاتباع الحقيقي للإمام يكون من خلال السير خلفه، والاقتداء به، لا تجاوزه والسير أمامه، من خلال التسرع باجتهادات خطيرة تؤدي بالإنسان إلى النار. فالانتمام بالإمام يعني أن لا يكف الإنسان عن مواصلة السير خلفه بوعي وبصيرة، ولا يعني إطلاق العنان للعواطف والحماسة الجوفاء والقيام بممارسات غير أخلاقية - كالغدر والخيانة - بدعوى دعم ومساندة القيادة .

فقال له علي (علیه السلام):يا فتى إن يدك اليمني تقطع فتأخذه باليسرى فتقطع،ثم ضرب عليه بالسيف حتى تقتل.

فقال الفتى:لا صبر لي على ذلك.

فنادى (علیه السلام) الثانية والمصحف في يده،فقام إليه ذلك الفتى،وقال:أنا آخذه يا أمير

المؤمنين،فهذا قليل في ذات اللّٰه.

ثم أخذ الفتى المصحف،وانطلق به إليهم،فقال:يا هؤلاء،هذا كتاب اللّٰه عزوجل بيننا وبينكم.فضرب رجل من أصحاب الجمل يده اليمنى فقطعها،فأخذ المصحف بشماله،فقطعت،فاحتضن المصحف بصدره،فضرب على صدره حتى يل،وأه تنظر إليه(1) .

عندئذ قال علي (علیه السلام):الآن حل قتالهم(2) .

مقتل طلحة على يد مروان

يقول ابن الأعثم:وجعل(طلحة)ينادي بأعلى صوته:عباد اللّٰه،الصبر الصبر،إن

بعد الصبر النصر والأجر.

فنظر إليه مروان بن الحكم،فقال الغلام له:ويلك يا غلام،واللّٰه إني لأعلم أنه ما

حرض على قتل عثمان يوم الدار أحد كتحريض طلحة،ولا قتله سواه،ولكن استرني(وأنت)حر.

فستره الغلام،ورمی مروان بسهم مسموم لطلحة بن عبيد اللّٰه،فأصابه به،فسقط طلحة لما به،وقد أغمي عليه،ثم أفاق....قال:يا سبحان اللّٰه،واللّٰه ما رأيت كاليوم قط،ولا دم قرشي أضيع،وما أظن هذا الشهم إلا سهما أرسله اللّٰه،وكان أمر اللّٰه قدرة مقدروا.

فلم يزل طلحة يقوث ذلك حتى فات ومات....ودخل من ذلك على أهل البصرة غم عظيم،وكذلك على عائشة لأنه ابن عمتها(3) .

عائشة تقود الجيش

وتولت عائشة قيادة الجيش بعد انسحاب الزبير وهلاك طلحة،وقد تفانی بنو ضبة والأزد وبنو ناجية في حمايتها.يقول ابن الأعثم:فاقتتل القوم قتالا شديدا لم يسمع

ص: 219


1- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص118
2- أنظر خبر الفتي حامل المصحف، الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج3،ص521-522
3- ابن الأعثم،الفتوح،ج1، ص124-125

بمثله،وصار الهودج الذي فيه عائشة كأنه القنفذ مما فيه من النبل والسهام، وجعلت بنو ضبة يأخذون بعر الجمل فيشمونه،ويقول بعضهم لبعض:ألا ترون إلى بعر جمل أنا كأنه المسك الأذفر(=شديد الرائحة).

وبارز عبد اللّٰه بن الزبير مالك الأشتر،واشتبكا اشتباكا عنيفا حتى كان عبد اللّٰه يصرخ:اقتلوني ومالكا.وكاد مالك أن يقتله ولكنه أفلت في اللحظة الأخيرة(وكان مالك بعد ذلك يقول:لولا أني كنت طاويا ثلاثة أيام لأرحت أمة محمد منه).

ورأى الإمام علي (علیه السلام) أن الحرب لا تنتهي ما دام الجمل موجودا،فصاح بأصحابه:اعقروا الجمل،فرغا الجمل رغاء شديدة.كان (علیه السلام) يرى في الجمل ما يشبه عجل بني إسرائيل،فأحرقه وذر رماده وهو يتلو قوله تعالى:« وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)».

نتائج ومضاعفات معركة الجمل

كان لهذه الحرب نتائج ومضاعفات خطيرة،من أهمها أنها أشاع والاختلاف بين قبائل العراق،فصارت قبائل ربيعة واليمن في البصرة،تتم أعمق البغض والكراهية لإخوانهم من ربيعة وقبائل اليمن في الكوفة،تطالبها بما أريق من دماء أبنائها.هذا الأمر سيرسخ وجود مزاج لأهل البصرة مختلف عن مزاج أهل الكوفة.

وتتحدث بعض المصادر التاريخية عن عشرة آلاف قتيل،نصفهم من هذا الطرف،ونصفهم من الطرف الآخر!!!كما أن هذه الحرب أسقطت هيبة الحكم، وجرأت آخرین على الخروج عليه،واستباحت حرمة العترة الطاهرة،وأعطت معاوية الفرصة لكي يظل مراقبا لنتيجة معركة،يصطرع فيها منافسوه على الخلافة.....وإن خرج معاوية على الحكم الآن،أو استباح هو وابنه يزيد حرمة العترة الطاهرة،فهناك من مارس ذلك قبله.

وبالنتيجة،قريش-بتحائف بطونها الضعيفة-خرجت من حلبة الصراع مهزومة، وبقي في الواجهة الإمام علي (علیه السلام) ممثلا لبني هاشم،ومعاوية ممثلا لبني أمية.وهذا ما سينعكس بدوره على واقعة كربلاء بدون شك.

ص: 220

أخلاق الإمام علي (علیه السلام) مع الجيش المهزوم

نستهدف من استعراض بعض أخلاقيات الإمام علي (علیه السلام)مع الجيش المهزوم في معركة الجمل-وكذا سنفعل في معركة صفين-أن يقارن القارئ بين الطريقة الإنسانية الرفيعة التي تعامل بها الإمام علي (علیه السلام) مع خصومه،والطريقة غير الأخلاقية التي تعاملت بها قريش وبنو أمية مع أهل البيت (علیهم السلام) في كربلاء.

نقل ابن قتيبة أن جمل عائشة بعد أن عرقب،انهزم الناس،وأسرت عائشة، وأير مروان بن الحكم،وعمرو بن عثمان(بن عفان)،وموسى بن طلحة(بن عبيد اللّٰه)،وعمرو ابن سعید بن العاص.فقال عمار لعلي (علیه السلام):يا أمير المؤمنين، أقتل هؤلاء الأسرى؟

فقال علي (علیه السلام):لا أقتل أسير أهل القبلة إذا رجع ونزع.

فدعا بموسى بن طلحة،فقال الناس:هذا أول قتيل يقتل،فلما أتي بو عليا

قال (علیه السلام):تبایع وتدخل فيما دخل فيه الناس؟

قال:نعم،فبايع وبايع الجميع وخلى سبيلهم.

وسأل الناس عليا (علیه السلام) ما كان عرض عليهم قبل ذلك فأعطاه،ثم أمر المنادي فنادى:لا يقتل مدبر،ولا يجهز على جريح، ولكم ما في عسكرهموعلى نسائهم العدة،وما كان لهم من مال في أهليهم فهو میراث على فرائض اللّٰه.

فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين،كيف تحل لنا أموالهم ولا تحل لنا نساؤهم ولا أبناؤهم؟

فقال:لا يحل ذلك لكم.

فلما أكثروا عليه في ذلك،قال:اقترعوا،هاتوا بسهامكم،ثم قال:أيكم ياخذ

أم عائشة في سهوه؟!

فقالوا:نستغفر اللّٰه.فقال:وأنا أستغفر اللّٰه(1) .

ثم إن عليا (علیه السلام)-على ما ينقل ابن الأعثم-دعا ببغلة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،فاستوی عليها،وأقبل إلى منزل عائشة،ثم استأذن ودخل،فإذا عائشة جالسة وحولها نسوة من نساء أهل البصرة وهي تبكي،وممن يبكي معها.ونظرت صفية بن الحارث الثقفية امرأة

ص: 221


1- ابن قتيبة،الإمامة والسياسة،ص97-98

عبد اللّٰه بن خلف الخزاعي إلى علي (علیه السلام)،فصاحت هي ومن كان معها من السوة،وقلن بأجمعه:یا قاتل الأحبة،يا مفرق الجمع،أيتم اللّٰه من بنيك،كما أيتمت ولد عبد اللّٰه ابن خلف.

فنظر إليها علي (علیه السلام) نعرفها فقال:أما إني لا ألومني أن تبغضيني،وقد قتل جبي في يوم بدر،وقتلت عملي يوم أحد، وقتلت زوجتي الآن،ولو كن قاتل الأحبة كما تقولين،لقتل من في هذه البيت، ومن في هذه الدار....

ثم أقبل على عائشة فجعل يوبخها...وتشير بعض المصادر إلى أن عائشة كانت ترغب في البقاء بالبصرة،إلا أن الإمام علي (علیه السلام) أصر على عودتها إلى المدينة-ربما حتى لا تهيج عليه أهل البصرة مرة أخرى،خصوصا مع وجود عدد كبير من الموتورین(1)

فيها-فدعا (علیه السلام) بنسوة من نساء أهل البصرة،فأمره أن يخرج مع عائشة إلى المدينة،فرحلت عائشة من البصرة في أولئك النسوة، وقد كان علي (علیه السلام) أوصاهن وأمره أن يتزين بزي الرجال،عليهم العمائم،فجعلت عائشة تقول في طريقها:فعل بي علي وفعل،ثم وجه رجالا يردوني إلى المدينة.

فسمعتها امرأه منهن فحرّكت بعیرها حتّی دنت منها ثمّ قالت: ویحكی یا عائشه، أما كفاك ما فعلت حتّی إنّك الآن تقولین فی أبی الحسن ما تقولین!

ثّم تقدّمت النسوه وسفرن عن وجوههن، فاسترجعت عائشه، واستغفرت... وصارت إلى منزلها نادمة على ما كان منها ...وكانت إذا ذكرت يوم الجمل تبكي لذلك بكاء شديدا،ثم تقول:ليتني لم أشهد ذلك المشهد،يا ليتني مث قبل هذا بعشرين سنة(2) .

وكانت عائشة-بعد ذلك-تقول:وددت أني كنت ثكلت عشرة مثل الحارث بن هشام وأني لم أسر مسيري مع ابن الزبير(3) .وتقول أيضا:«لولا أنا لم تغير شيئا إلا آلت الأمور إلى أشد مما كنا فيه»(4) .وتقصد بذلك:أنها حاولت تغيير الأمور في خلافة عثمان،فانتهى الأمر إلى مقتله واستيلاء الإمام علي (علیه السلام) على الخلافة،فقالت عندما علمت بذلك:ليت السماء أطبقت على الأرض»،ثم أرادت تغيير الأمور فحاربت عليا (علیه السلام)،فانتهى الأمر إلى مقتل ابن عمها طلحة، وابنه، وزوج أختها البير،وانكسار شوكة قريش.

ص: 222


1- الموتور:هو الذي قيل له قتيل فلم يدرك بدمه
2- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص131-134
3- الحاكم النيسابوري،المستدرك على الصحيحين،كتاب معرفة الصحابة،ج3،ح4609،ص145
4- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،ص208

مواقف بعد معركة الجمل

سرد بعض المواقف التي حدثت بعد معركة الجمل،قد يخرجنا عن هدفنا الرئيس-وهو دراسة خلفيات واقعة كربلاء-لكن أجد نفسي غير قادر على تجاهلها،لأهميتها في التعرف على شخصية الإمام علي (علیه السلام) وطريقة تفكيره وتعاطيه مع الأمور.

ولما أظفر اللّٰه تعالى عليا (علیه السلام) بأصحاب الجمل،قال له بعض أصحابه:ودد

أين أخي فلانة كان شاهدنا ليرى ما نصر اللّٰه به على أعدائك.

فقال له (علیه السلام):أهوى أخيك معنا؟

فقال:نعم

فقال (علیه السلام):فقد شهدنا،ولقد شهدنا في عسگرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء،سيرف(=يجود بهم من غير انتظار)بهم المان،ويقوى بهم الإيمان(1)

قال أبو الأسود الدؤلي:لما ظهر علي (علیه السلام) يوم الجمل،دخل بيت المالي بالبصرة في ناس من المهاجرين والأنصار،وأنا معهم،فلما رأى كثرة ما فيه،قال:غري غيري-مرارة-ثم نظر إلى المال،وصعد فيه بصره وصوب،وقال: أقسموه بین أصحابي خمسمائة،فقسم بينهم،فلا والذي بعث محمدا بالحق ما نقص درهما ولا زاد درهما،كأنه كان يعرف مبلقه ومقداره،وكان ستة آلاف ألف درهم(=6ملايين درهم)والناس اثنا عشر ألفا.

وقال حبة العرني:قشم علي (علیه السلام) بيت مال البصرة على أصحابه،خمسمائة خمسمائة،وأخذ خمسمائة درهم كواحد منهم،فجاءه إنسان لم يحضر الوقعة،فقال:يا أمير المؤمنین،كنت شاهدة معك بقلبي،وإن غاب عنك جسمي،فأعطني من الفيء شيئا،فدفع إليه الذي أخذه لنفسه،وهو خمسمائة درهم،ولم يصب من الفيء شيئا(2) .

و لما أخذ مروان بن الحكم أسيرة يوم الجمل،استشفع الحسن والحسين عليهما السلام إلى أمير المؤمنین (علیه السلام)،فكلما فيه،فخلى سبيله،فقالا له: يبايعك يا أمير المؤمنين؟

فقال (علیه السلام):أولم يبايعني بعد قتل عثمان؟لا حاجة لي في بيعته،إنها ك يهودية،

ص: 223


1- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(12)،ص55
2- ابن أبي الحديد،شرح نهج البلاغة،مج1،ج1،ص153

لو بايعني بكفير لغدر بسبيه(=الإست،وهما مما يحرص الإنسان على إخفائه،وكنی به عن الغدر الخفي).أما إن له إمرة،كلعقة الكلب أنفه،وهو أبو الأكبش الأربعة،وستلقى الأمة منه ومن ولي يوم أحمر

و لما مر (علیه السلام) بطلحة بن عبيد اللّٰه وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد وهما قتيلان يوم الجمل قال:لقد أصبح أبو محمد بهذا المكان غريبا،أما واللّٰه لقد كنت أكره أن تكون قریش قتلي تحت بطون الكواكب.أدرك وتري(=ثأري)من بني عبد مناف،وأفلتتني أعيان بني جمح.لقد أتلعوا(=مدوا)أعناقهم إلى أمر لم يكونوا أهله(=يعني الخلافة)فؤقصوا(=كسرت أعناقهم)دونه.

لما قدم عليه عبد اللّٰه بن زمعة-وهو من شيعته-يطلب منه مالا،فقال (علیه السلام) له: إن هذا المال ليس لي ولا لك،وإنما هو في للمسلمين،وجلب أسيانهم،فإن شركتهم في حربهم،كان لك مثل حظهم،وإلا فجناه أيديهم لا تكون لغير أفواههم.

•وعندما دخل عليه-بالبصرة-العلاء بن زياد الحارثي-وهو من أصحابه-يعوده، فلما رأى سعة داره قال (علیه السلام):«ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا،وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج؟وبلي إن شئت بلغت بها الآخرة:تقري فيها الضيف،وتصل فيها الرحم،وتطلع منها الحقوق مطالعها،فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة.

فقال له العلاء:يا أمير المؤمنين،أشكو إليك أخي عاصم بن زیاد.

قال (علیه السلام):وما له؟قال:لبس العباءة وتخلى عن الأنيا.

قال (علیه السلام):علي به.

فلما جاء قال (علیه السلام):يا غدي نفيه،لقد استهام بك الخبيث!أما رحمت أهلك وولدك؟ترى اللّٰه أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها؟أنت أهون على اللّٰه من ذلك.

ص: 224

قال:يا أمير المؤمنين،هذا أنت في خشونة ملك وممشوبة مأكلك؟

قال (علیه السلام):ويحك،إني لست كأنت،إن اللّٰه تعالی فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفۃ الناس كیلا يتبيغ بالفقير فقره»(1) .

بعد معركة الجمل،أمر الإمام علي (علیه السلام) ابن عباس على البصرة،ثم انتقل إلى الكوفة،ونزل الرحبة.

الخلاصة:بدأنا الكلام عن حرب الجمل،ورصدنا سلسلة من المحاولاتوالخطوات التي قام بها الإمام علي (علیه السلام) لتفادي وقوع هذه الحرب،لكنها لم تفلح، واستعرضنا بعض مجرياتها،كانسحاب البير بن العوام على أثر حوار دار بينه وبين الإمام علي (علیه السلام)،ومقتل طلحة بن عبيد اللّٰه على يد مروان بن الحكم، وملابسات عقر الجمل.كما تحدثنا عن نتائج ومضاعفات هذه الحرب،التي وإن انتهت بكسر شوكة قريش،المصلحة الإمام علي (علیه السلام) في العراق،ولمصلحة معاوية في الشام،إلا أن تأثيرها كان مدمرة في علاقات العراقيين فيما بينهم،وبالتحديد في علاقة أهل البصرة باهل الكوفة،وسيتبلور بالتدريج ميول أهل الكوفة وأهل البصرة؛وبالتحديد مبل أهل الكوفة العلي (علیه السلام)،وميل أهل البصرة لعثمان.

نكتفي بهذا القدر من سرد مواقف حرب الجمل، وننتقل إلى حرب صفين.

ص: 225


1- أي إن اللّٰه تعالى أوجب على القادة والزعماء أن يعيشوا عيشة أضعف الناس وأفقرهم،حتى لا يتهيج شعور الفقير بالفقر. نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(209)،ص324-325

(12)إرهاصات حرب صفين

تحدثنا عن معركة الجمل التي وقعت جنوبي البصرة،وقلنا إن الإمام عليا (علیه السلام) انتقل بعد المعركة إلى البصرة،ثم انتقل إلى الكوفة واستقر بها.نريد في هذا الفصل أن نتحدث عن إرهاصات معركة صفين.

لكن قبل ذلك لا بد أن نبدأ بدراسة وضع المجتمع الكوفي الذي انتقل الإمام علي (علیه السلام) إليه،لتتبين لنا طبيعة التناقضات التي وقعت بين أهلها أثناء حرب صفين،وبعدها.دراسة ذلك ستعينا أيضا على التعرف على طبيعةالمفارقات التي وقعت قبيل وأثناء وبعيد واقعة كربلاء.

المجتمع الكوفي

•اسم«الكوفة»

لم تكن الكوفة معروفة بهذا الاسم قبل تمصيرها،فلم يسكنها العرب ولا غيرهم،وإنما كان موضعها جزءا من الضفة الغربية للفرات الأوسط،إلى الشرق من مدينة الحيرة.هذا السهل الخصيب المحصور بين الفرات شرقا، والبادية الواسعة المطلة على مشارف الشام وعمان غربا،كان موضعاً لتبادل البضائع بين الفرس من جهة،وأصحاب الإبل البدو من جهة أخرى،وللاتصال بين الجماعات العربية المنتشرة في البادية وأهل القرى من الآراميين الذين سكنوا هذه المنطقة قديماً.

وقد انتشرت في هذا الشهل،قريباً من هذا الموضع،دیارات ودساكر صغيرة(1) ، منها كويفة بن عمرو،وهو رجل من الأزد،كان كسری برويز لما انهزم نزل به فقراه ابن عمرون،فلما رجع أبرويز إلى ملكه،اقطعه ذلك الموضع.وكويفة ابن عمرو هذه هي

ص: 226


1- دساكر:جمع دسكرة،بناء للأعاجم كالقصر حوله بيوت فيها الشراب والملاهي يكون للملوك

التي مر عليها سعد بن أبي وقاص،حين كان يبحث عن موضع لجنيه،بعدما كان المسلمون معه قد استولوا على المدائن.

في المقابل يقول البكري(في معجم ما استعجم):«إنما سميت الكوفة لأن سعداً لما افتتح القادسية،نزل المسلمون الأنبار،فآذاهم البق،فخرج وارتاد لهم موضع الكوفة،وقال:تكوفوا،أي اجتمعوا،والتكؤف:التجمع».

وقيل بأن العرب كانوا يسمون«الرملة الحمراء»كوفة،كما يشير إلى ذلك القاموس المحيط.

حالية،تبعد الكوفة170كم جنوبي بغداد،و10كم شمال شرقي النجف.

•نشأة الكوفة وطبيعتها

تم تخطيط الكوفة على يد سعد بن أبي وقاص(1) ،بعد تخطيط البصرة بسنتين أو ثلاث.

وكان العرب يسمون العراق«بلاد السواد»،لأن المقبل عليه من الغرب كان يرى من بعید سوادا كثيفاً،لا يصل إليه حتى يعلم أن ما كان يراه إن هو إلا صنوف متراصة من النخيل،قامت على ضفتي الفرات.

ووالكوفة تشرف على سهل واسع، فيه العشب وفيه األزهر والريّاحني يساعد على. منوّها أرض تخصبة، وأمطار غزيرة وجداول كثرية. تأيت باملاء من النهر إىل حيث الدساكر والديارات المبثوثة.طبيعة الكوفة هذه،شجعت الرهبان أن يبنوا دیاراتهم فيها،فلم تكن الديارات تبني إلا حيث يتوافر الماء، ويكثر النبات.من تلك الديارات،دیر الجماجم،وهو بظاهر الكوفة على طريق البر الذي يسلك إلى البصرة.

وقد استرعى جمال البقعة أنظار العرب المهاجرين إليها،وقد وقع اختيار سعد بن أبي وقاص عليها مسكنة لجنيه،لأنها تجمع بين طبيعة الحضر وطبيعة البدو،وتصلح أن تكون متحولا من الحياة البدوية الخالصة إلى الحياة الحضرية الناعمة،ولأنه لا يفصلها عن المدينة-قاعدة الخلافة-فاصل طبیعی كالبحار والأنهار.

ص: 227


1- دور سعد في فتح بلاد فارس،قد يفسر لنا لم كان استقرار ابنه عمر(قائد الجيش المحارب اللحسين (علیه السلام))في العراق؟ولم كان طموحه في ولاية الري،فكما أن عمرو بن العاص كان له تعلق خاص بمصر بعد دوره المميز في فتحها،كذلك عمر بن سعد كان له تعلق خاص بالعراق وبلاد فارس بعد دور أبيه المميز في فتحها

تركيبتها السكانية

كان أكثر الذين انتقلوا إلى الكوفة من عرب الجنوب،يعدون عشرين ألفا،اثنا عشر

ألفا منهم من اليمانيين(من قحطان)،وثمانية آلاف من المضربين(من عدنان)، كما تنص عليه رواية الشعبي في معجم البلدان،والفتوح للبلاذري.إن صح ذلك، فهذا يعني أن نسبة القحطانيين إلى المجموع الكلي لعرب الكوفة كانت80%،في حين أن نسبة العدنانيين كانت40%.

وصارت الكوفة قبلة أنظار العرب وزعمائهم وقادتهم،ففيها نزلت البيوتات العربية

الأربعة:آل زرارة الدارميون،وآل زيد الفزاريون،وآل ذي الجدين الشيبانيون،وآل قيس الزبيديون.

وفي الكوفة هبط سبعون رجلا من صحابة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،ممن شهدوا بدرة، وثلاث مئة من أصحاب الشجرة،كما ذكر ابن الفقيه في البلدان.وفي مقدمة من نزلها من الصحابة:عمار بن ياسر وعبد اللّٰه بن مسعود،وقد بعث بهما عمر، ليكون الأول أميرة،والثاني مؤذنة ووزيراً(1) .ولم تطل ولاية عمار على الكوفة إلا سنة وتسعة أشهر،قام عمر بعدها بعزله ونصب مكانه المغيرة بن شعبة.

ولعل السبب في أن كانت الكوفة متجه الأنظار،هو أن القيادة العامة لجيوش المسلمين كان مقرها الكوفة،وأنها كانت مركز الحركات العسكرية.وقد عرفت بمكانتها العسكرية حتى كانوا يسمونها«كوفة الجند».

وقيام هذه الجماعات الضخمة من المهاجرين بأمور الدفاع وتنظيم الحركات العسكرية،شغلهم عن شؤون الحياة الحضرية،وأطال عهد البداوة فيهم،وما يستتبع ذلك من بقاء العصبيات،والتمشك بالبطولة والتفاخر بالأنساب.

وبقاء العصبيات العربية في بيئة الكوفة يفسر لنا كثيرة من الحوادث التاريخية،

ص: 228


1- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج3،ص227.قد يقال:بأن هذا ينفض ما قلناه من أن عمر لم يول أحدا من القحطانيين لحساب العدنانيين.والجواب عن ذلك:أنا لم نقل ذلك،وإنما قلنا إن عمر لم يول أحدة من الأنصار،وعمار بن یاسر مثلا هو من المهاجرين.صحيح أن وجهاء المهاجرين من عدنان،والأنصار من قحطان،لكن بعض المهاجرين-ممن لا ينحدر من قريش-كان من قحطان،وعمار بن یاسر من أولئك.نعم،نحن قلنا إن معیار عمر في تفضيل العطاء كان على المدى الطويل المصلحة العدنانيين على حساب القحطانيين،ولمصلحة المهاجرين على حسابالأنصار،لكن عمر-ربما-لم يتعمد التحيز لأجل التحيز،وإنما أراد ترجيح السابقين في الإسلام والأقرب نسبة الرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،لكن تطبيق هذا المعيار كانت له عواقب كارثية،كما رأينا

والشغب المتواصل الذي عرفت به الكوفة،ويفسر لنا الاضطرابات وعدم الاستقرار في الحياة الكوفية.ويفسر لنا سخط عمر بن الخطاب عندما كان يقول:من عذیري من أهل الكوفة،إن استعمل عليهم القوي جروه،وإن وليث عليهم الضعيف حقروه(1) !

ما أن دبت الحياة في المصر الجديد حتى توافد الناس عليه من كل صوب، فأخذ المجتمع فيه يتعقد شيئا فشيئا،حتى أصبح في برهة زمنية محدودة من الأمصار الإسلامية الرئيسية.

وكان إلى جانب المجموعة العربية في هذا المصر،مجموعات أخرى احتاج إليها مجتمع الكوفة،أو احتاجت هي إلى الاستقرار والعمل فيه.فالعرب الأولون الذين سكنوا الكوفة كانوا هم الأداة العسكرية التي تمت بها الانتصارات،يتألف منهم عنصر الأشراف،ومنهم طبقة زعماء القبائل،طبقة رؤساء الجيش،وأصحاب الألوية،ومنهم طبقة الجند.

أما نواحي الحياة الأخرى التي يحتاج إليها هذا المجتمع،فأغلب الظن أنهاكانت تقوم بها عناصر أجنبية من العناصر المغلوبة،أو التي هاجرت إلى هذا المصر الجديد،لتقوم بقسطها في إنعاش الحياة الاقتصادية.

وكان قوام هذه المجموعات غير العربية:

1.عناصر فارسية:وهي المجموعة الكبرى بين هذه المجموعات،كان كثير منها يعيش في هذه المنطقة وما جاورها قبل تمصير الكوفة،وكان يشتغل في الزراعة واستغلال الأراضي الصالحة فيها.فلما تم الفتح على أيدي المسلمين،ومصرت الكوفة،وفد أربعة آلاف ممن كانوا يعملون في الجيش الفارسي،وقد شهدوا القادسية مع رسم،ورأوا ما آلت إليه الامبراطورية الفارسية بعد انهزام جيوشها،ومقتل قائدها رستم،فأرادوا الدخول في الإسلام،يحيون حياة المسلمين،ففاوضوا سعدة في ذلك،فاعطوا ما سألوا، وفرض لهم في العطاء.وكان لهم نقيب يقال له«دیلم»،فقيل«حمراء دیلم»، ثم أخذ عددهم يزداد ويكثر بالتدريج(2) .

2.عناصر سريانية:كانوا يسكنون في الجزيرة وفي الديارات المنبثة فيها،وكان نصاري الكوفة على طائفتين نساطرة،وهم الحضر،ويعاقبة،وهم البدو.وقد أقام هؤلاء في الكوفة،فدخل منهم من دخل في الإسلام،وبقي منهم من بقي في ذمته،فحفظ الإسلام دماءهم وأموالهم.

ص: 229


1- البلاذري،البلدان فتوحها وأحكامها،ص323
2- المصدر السابق،ص324

3.عناصر نبطية:واختلف الباحثون في الأصل الذي انحدر منه البط،فمنهم من قال إنهم آراميون،ومنهم من قال إنهم عرب كانوا يستخدمون الآرامية لغة كتابة.وهم الصابئة.

4.عناصر يهودية ونصرانية:وفدوا على الكوفة من نجران(اليمن)،وأقاموا في

محلة في الكوفة نسبت إليهم،وهي النجرانية.

وكان كثير من هؤلاء الأجانب صيارفة،وصاغة،ووراقين(ناسخي كتب)،وتمارين (يبيعون التمر)،وسواقين(يبيعون السويق:طعام يتخذ من مدقوق الحنطة والشعير)،

وقصارين(وهم محورو الثياب)،ورسامین...إلخ.

توالي الاضطرابات السياسية في الكوفة(بعد مقتل عثمان وحروب الإمام علي (علیه السلام) وشهادة الإمام الحسين (علیه السلام) وأصحابه وثورة المختار الثقفي وحركة مصعب بن الزبير وثورة زيد بن علي...إلخ)،دفع بالأجانب إلى الاتجاه نحو البصرة،لأنهم وجدوا فيها حياة مستقرة آمنة.

كثرة الأجانب في البصرة،واشتراك البصريين في الأعمال التجارية التي هياها لهم

مركز البصرة،ووقوعها في مفترق الطرق التجارية،تتلاقى عندها من الشمال والجنوب والشرق والغرب...كل ذلك جعل من سكان البصرة بالتدريج،سواء أكانوا عربا أم موالي،شعبة شبه موڅد،وجعل البصراً مجتمعاً مفتوحاً أكثر من مجتمع الكوفة.

والكوفة-مع ضعف الاتصال بين عناصرها العربية والأجنبية-صارت أكثر تحرجاً

من أهل البصرة في الأخذ بثقافات الأجانب،لكثرة من فيها من الصحابة و الفقهاء وأهل الدين.فصار أهل الكوفة أصحاب فقه وحدیث وقراءة، وأهل البصرة أصحاب علوم وفلسفات وكلام ورأي،ربما لأنهم أكثر اختلاطاً بالأجانب من أهل الكوفة،وأسرع إلى الأخذ من الثقافات الأجنبية،لتوافر مصادرها عندهم،وكثرة انتقالاتهم للكسب والتجارة.

هذه العوامل أحكمت اسباب الاختلاف والتنافس بين المصرين،فكان من نتائج هذا التنافس أنهم كانوا يتناظرون في مجالس الخلفاء،حيت تجتمع وفودهم في دواوينهم،وكان الخلفاء يستمتعون بهذا النوع من المناظرات،وربما ظاهروا فريقا على فريق،الأسباب تدعوهم إلى ذلك.

ما نريد التأكيد عليه الآن،وقبل أن نبدأ بسرد مجريات حرب صفين،أن عليا (علیه السلام) ما استعان بالكوفة في حرب الجمل،ثم حرب صفين،إلا أنها المورد البشري والمالي الأساسي الذي يمكن أن يمد أي قائد عسكري؛فهي مقر للعسكر المجربين في

ص: 230

الفتوحات،وفيها بيت مال غني بالإيرادات الآتية من أرض زراعية ثرية،وهي من ناحية ثالثة قريبة من البصرة،التي تشبهها من حيث غنى المورد البشري والمالي.لكن ما يرجح الكوفة على البصرة،هو أن المزاج العام فيها يميل لمصلحة الإمام علي (علیه السلام)،ولعل نسبة عدد القحطانيين في الكوفة إلى المجموع الكلي لعربها،أعلى من نسبة عددهم في البصرة إلىالمجموع الكلي لعربها.

لذا تجد أن الثوار الذين يريدون أن يحققوا آنذاك نجاحات حقيقية،يبدؤون من العراق،إما من البصرة أو الكوفه.بخلاف الحجاز الذي كان فقيرة بشرية ومالية. وهذه الثقطة كانت من مرجحات حركة الإمام الحسين (علیه السلام) إلى الكوفة دون غيرها.

الإمام علي (علیه السلام) في الكوفة

يروي ابن عساكر في تاريخ دمشق عن المدائني عبارة رائعة لرجل دخل على الإمام

علي (علیه السلام) عند وصوله إلى الكوفة.يقول المدائني:لما دخل علي بن أبي طالب (علیه السلام) الكوفة،دخل عليه رجل من حلفاء العرب،فقال:واللّٰه يا أمير المؤمنين،لقد زينت الخلافة وما زانتك،ورفعتها وما رفعت،وهي كانت أحوج إليك منك إليها(1) .

كان أهل العراق كثيراً ما يسألون الإمام علي (علیه السلام) عن موقفه من سلب الخلافة منه بعد رحيل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وكان غالبا ما يجيب إجابات مقتضبة، لحساسية الموضوع،فقد كان يدرك أن الجماهير إن كانت ساخطة على عثمان،فإنها ما زالت تنظر بقداسة خاضة إلى الخليفة الأول والثاني(2) .

وكان (علیه السلام) يؤكد في كل مناسبة عدم رغبته الخاصة في الخلافة،وأنه لولا قیام الحجة عليه بتوافر المناصرين من جند العراق،ولولا الميثاق الذي أخذه اللّٰه سبحانه على

ص: 231


1- ابن عساكر،تاریخ دمشق،ترجمة الإمام علي (علیه السلام)،تحقیق محمد باقر المحمودي،ج3،ص115
2- فمثلا سأل أهل الكوفة علياً (صلی اللّه علیه واله) أن ينصب لهم إمامة يصلي بهم نافلة شهر رمضان(=التراويح)،فزجرهم،وعرفهم أن ذلك خلال السنة،فتركوه واجتمعوا لأنفسهم،وقدموا بعضهم،فبعث إليهم ابنه الحسن (علیه السلام)،فدخل المسجد ومعه الدرة،فلما رأوهتبادروا الأبواب وصاحوا:وا عمراه(راجع:ابن أبي الحديد،شرح نهج البلاغة،مج4،ج12،ص178).وأيضا عن علي (علیه السلام):اند عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) متعمدين لخلافه،ناقضين لعهده،مغيرين السنته،ولو حمل الناس على تركها،وحولتها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) التفرق عني جندي،حتى أبقى وحدي،أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب اللّٰه عزوجل وسنة رسول اللّٰه...»(راجع:الكليني،روضة الكاني،ج8،ص63،حدیث21،أيضا8،ص59،حدیث 21)

العلماء بأن يقفوا مع المظلوم بوجه الظالم الذي يريد سلب المظوم حقه، لترك الأمر كله،الأولئك الذين يتنازعون على الدنيا الدنية.

لذا تجده في الخطبة المعروفة ب الشقشقية(والشقشقة شيء يخرجه البعير من فيه إذا هاج)،يقول (صلی اللّه علیه واله) بعد أن تحدث باقتضاب عما جرى بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):.....أما والذي فلق الحبة،وبرأ النسمة،لو لا حضور الحاضر و قیام الحجه بوجود الناصر و ما اخذ اللّه علی العلماء ان لا یقاروا علی كظه ظالم و لا سغب مظلوم لالقیت حبلها علی غاربها و لسقیت آخرها بكاس اولها و لا لفیتم دنیاكم هذه ازهد من عفطه عنز.!

قالوا:وقام إليه رجل من أهل السواد عند بلوغه إلى هذا الموضع من خطبته، فناوله كتابا(قيل أن فيه مسائل كان يريد الإجابة عنها)،فأقبل ينظر فيه(فلما فرغ من قراءته)قال له ابن عباس:يا أمير المؤمنين،لو اطردت من خطبتك من حيث أفضيت.

فقال (علیه السلام):هيهات يا ابن عباس،تلك شقشقة هدرت ثم قرت!

قال ابن عباس:فواللّٰه ما أسف على كلام قط كاسفي على هذا الكلام ألا يكون أمير

المؤمنين (علیه السلام) بلغ منه حيث أراده»(1) .

نعم،كان الإمام علي (علیه السلام) يتجنب الدخول في التفاصيل،لأن ثمة صورة نموذجية كانت قد رسمت للخليفة الأول والثاني في مقابل سورة سلبية رسمت للخليفة الثالث،ولم يكن يريد أن يدخل أهل العراق في جدل داخلي وتشویش ذهني حول المواضيع الخلافية،وإنما أراد لهم أن يجدوا في مواجهة التحديات الحالية،وبالخصوص فتنة بني أمية.

لذا عندما سأله رجل من بني أسد-وهو من أهل العراق-قاصدة معرفة تفاصيل

السقيفة ومجرياتها:كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به؟

يجيب (علیه السلام):«يا أخا بني أسد،إنك لقي الوضين(=الوضين:بطان يشد به الأحل على البعير كالحزام للشرج،فإذا قلق واضطرب اضطرب الحل فكثر تململ الجمل وقل ثبائه في سيرو)،ثريل(=طلق الكلام)في غير شد(=دون مراعاة الظروف والمناسبات)،ولك بعد مامه الصهر(=حماية قرابة المصاهرة)وحق المسألة،وقد استعلمت فاعلم:أما الاستبداد علينا بهذا المقام ونحث الأعلون نسبة،والأشدو برسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)نوطا(=تعلقة والتصاقة)،فإنها كانت ائر ش ت عليها نفوس قوم،وسخت عنها نفوسن آخرين،والحكم لله،والعود إليه القيامة....

ص: 232


1- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،خطبة(3)،ص50

وهلم الخطب في ابن أبي سفيان،فلقد أضحكني الدهر بعد إبكائه،ولا غرو واللّٰه،فيا له خطبا يستفرغ العجب،ويكثر الأود(=الاعوجاج)!حاول القوم إطفاء نور اللّٰه من مصباحه،وسد فؤارو من ينبوع،جحوا(=خلطوا) بيني وبينهم شربا وبيئاً(=يوجب شربه من الوباء)،فإن ترتفع عنا وعنهم مح البلوي،أحملهم من الحق على محضه،وإن تكن الأخرى،«فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)»(1) .

وعندما كان يرد على شبهات معاوية،ويحدد مسار حركته السياسية وحدود التسامح مع المعارضة،كان (علیه السلام) يقول:«أيها الناس،إن أحق الناس بهذا الأمر أقوالهم عليه،وأعلمهم بأمر اللّٰه فيه،فإن شغب شاغب استعيب(=طلب منه الرضا بالحق)،فإن أبي قوتل.ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتى يحضرها عامة الناس(=كما كان يطلب معاوية،الذي ادعى أن أهل الشام لم يستشاروا في بيعته)،فما إلى ذلك سبيل، ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها،ثم ليس للشاهد أن يرجع،ولا للغايب أن يختار.ألا وإني أقاتل رجلين:رجلا ادعي ما ليس له،وآخر منع الذي عليه.

أوصيكم عباد اللّٰه بتقوى اللّٰه فإنها خير ما تواصى العباد به،وخير عواقب الأمور عند اللّٰه،وقد فتح باب الحرب بينكم وبين أهل القبلة،ولا يحمل هذا العلم إلا أهل البصر والصبر والعلم بمواضع الحق...

ألا وإن هذه الدنيا التي أصبحتم تتمنونها وترغبون فيها،وأصبحت تغضبكم

وترضيكم،ليست بداركم،ولا منزلكم الذي ځلقثم له ولا الذي دعیتم إليه...ولا يخنن أحدكم خنين(=ضرب من البكاء يردد به الصوت من الأنف)الأمة على ما زوی(=قبض)عنه منها،واستتموا نعمة اللّٰه عليكم بالصبر على طاعة اللّٰه و المحافظة على ما استحفظكم من كتابه.ألا وإنه لا يضركم تضييع شيء من دنياكم بعد حفظكم قائمة دینكم.ألا وإنه لا ينفكم بعد تضييع دینكم شيء حافظثم عليه من أمر دنیاكم.أخذ اللّٰه بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق،وألهمنا وإياكم الصبر»(2) .

نعم،كانت قريش تريد أن يكون علي (علیه السلام) واجهة لها-كما كان الخليفة الأول والثاني-وكان ثوار أهل العراق يريدون أن يكون علي (علیه السلام) واجهة لهم-بعد معرفتهم بعدم إمكانية إيصال أحد منهم إلى سدة الخلافة-كانوا يريدونه لأنفسهم،وكان (علیه السلام) یریدهم اللّٰه تعالى:لم تكن بيعتكم إياي فلتة(كما جرى مع الخليفة الأول)،وليس أمري

ص: 233


1- سورة فاطر،الآية:8.نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(162)،ص231-232
2- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(173)،ص247-249

وأمركم واحدة(=لسنا على موجة واحدة)،إني إريدكم اللّٰه،وأنتم تریدونني لأنفسكم.أيها الناس أعينوني على أنفسكم،وأيم اللّٰه لأنصفن المظلوم من ظالمه،ولأقود الظالم بخزامته(=حلقة تجعل في أنف البعير ليسهل قياده) حتى أورده منهل الحق وإن كان كارها»(1) .

حرب صفين(37هج)

ذكر المؤرخون أن النعمان بن بشير بن سعد الخزرجي. تذكر أن بشير كان أول من آزر أبا بكر في القيفة وبادر إلى بيعته،وابنه النعمان هذا سيكافا بأن يكون والية لمعاوية على الكوفة إلى لحظة قدوم مسلم بن عقيل إليها)لما قدم على معاوية بكتاب نائلة زوجة عثمان،تذكر في دخول القوم عليه،وما صنع محمد بن أبي بكر من نتف لحيته،في كتاب قد رقت فيه وأبلغت،حتى إذا سمعه الامع بكي حتى يتصدع قلبه،وبقميص عثمان مخضبا بالدم ممزقاً،وبأصابعها مقطوعة،وعقدت شعر لحينه في زر القميص.......وضع معاوية القميص على المنبر وصعد وجمع الناس،ونشر عليهم القميص،وذكر ما صنعوا بعثمان، فبكى الناس وشهقوا،حتى كادت نفوسهم أن تزهق،ثم دعاهم إلى الطلب بدمه،فقام إليه أهل الشام فقالوا: هو ابن عمك،وأنت وليه،ونحن الطالبون معك بدمه(2) .

يقول الطبري:وبكوا سنة،وهو(=القميص)على المنبر،والأصابع معلقة فيه، وآلی الرجال من أهل الشام ألا يأتوا النساء،ولا يمسهم الماء للغسل إلا من احتلام،ولا يناموا على الفرش،حتى يقتلوا قتل عثمان،ومن عرض دونهم بشيء، أو تفنى أرواحهم.فمكثوا حول القميص سنة،والقميص يوضع كل يوم على المنبر(3) .

وجاء الحجاج بن خزيمة(وهو من المدافعين عن عثمان في المدينة)معاوية فقال له:یا معاوية إنك تقوى على علي (علیه السلام) بدون ما يقوى به عليك،لأن من معك لا يقولون إذا قلت،ولا يسألون إذا أمر،ولأن من مع علي (علیه السلام) يقولون إذا قال،ويسألون إذا أمر،فقليل ممن معك خير من كثير ممن معه(4) .

ص: 234


1- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(136)،ص194
2- ابن قتيبة،الإمامة والسياسة،ص99
3- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج3،ص561.أقول:ألا يذكرنا هذا بحال قريش بعد معركة بدر،ألم يقسموا بأخذالثار،وألا يقربوا النساء حتى ينتقموا من محمد (صلی اللّه علیه واله)وأصحابه؟!
4- ابن قتيبة،الإمامة والسياسة،ص102

ووصف الحجاج بن زيمة لأصحاب معاوية وأصحاب علي (علیه السلام)-كما سنرى-دقیق،فجماهير الشام مستسلمة تماما لمعاوية،في حين أن جماهير العراق كانت في حالة ثورية يصعب إلجامها والسيطرة عليها.

ومن المهم دائما أن نتذكر صفات الجماهير الملتقة حول الإمام علي (علیه السلام)، ويمكن أن نلخصها بما يلي:

1.جماهير مستضعفة مظلومة كان لها دور كبير في فتح فارس،لكن لم تأخذ حقها من العطاء.

2.محبة للإمام علي (علیه السلام).

3.جماهير لم تتلق تربية روحية وفكرية وعقائدية ولم تعرف الكثير من تفاصيل تاریخ

الإسلام...بعبارة موجزة:جماهير بسيطة وجاهلة.

4.جماهير تحترم الخليفة الأول والثاني،وتنقم على الخليفة الثالث،وعلى بني أمية عموما.

5.في حالة ثورية يصعب إلجامها.

6.النزعة القبلية راسخة في عقلهم،وطريقة توزيع الجند في الكوفة بعد الفتوح ساهمت في ترسيخ هذه النزعة

7.أصول الغالبية الكبرى منهم من قحطان(=اليمن).

الخلاصة:درسنا في هذا الفصل باقتضاب وضع المجتمع الكوفي(اسم الكوفة، نشأتها وطبيعتها،تركيبها الكاني)،وأشرنا إلى بعض الكلمات التي كان يتجنب الإمام علي (علیه السلام) فيها أن يدخل في تفاصيل خلافه مع الخليفة الأول والثاني، وأنه (علیه السلام) كان يريد للجماهير أن تركز على فتنة بني أمية.

دراستنا للمجتمع الكوفي،وتطور الأحداث حتى وقوع حرب صفين،والأحداث التي تلت هذه الحرب،أمر بالغ الأهمية لفهم واقعة كربلاء.فالحسين (علیه السلام) استهدف في مسيره من مكة الكوفة،استجابة لرسائل أهلها،ومن أسباب ذلان أهل الكوفة اللحسين (علیه السلام) التعقيدات النفسية والاجتماعية والسياسية التي جرت في صفين،وما بعد صفين،مرورا بشهادة الإمام علي (علیه السلام) وصلح الإمام الحسن (علیه السلام)،حتی موت معاوية...وهذا ما سندرسه في الفصول اللاحقة.

في الفصل المقبل سوف نستعرض محاولات الإمام علي (علیه السلام) لتجنب حرب صفين،وسيتضح من خلال ذلك بعض تفاصيل الأحداث وتطوراتها،إلى أن وقعت المواجهة المسلحة بين أهل العراق بقيادة الإمام علي (علیه السلام)،وأهل الشام بقيادة معاوية.

ص: 235

(13)محاولات لتفادي الحرب

تحدثنا في الفصل السابق عن وضع المجتمع الكوفي،الذي انتقل إليه الإمام (علیه السلام) بعد حرب الجمل،ونريد أن نسرد في هذا الفصل محاولات الإمام علي (علیه السلام) لتفادي حرب صفين،مع دس بعض التفاصيل،حتى تظل الأحداث متسلسلة.

محاولات الإمام علي (علیه السلام) لتفادي حرب صفين

يمكن أن تحصي في كتاب نهج البلاغة ستة عشر كتابة من الإمام علي (علیه السلام) لمعاوية

وثلاثة كتب منه (علیه السلام) لعمرو بن العاص،يستهدف أغلبها تفادي حرب صفين ويستهدف بعضها الآخر تنظيم تفاصيل قبول التحكيم بعد رفع المصاحف، وفيها عبارات كثيرة ذكر معاوية وعمرو باللّٰه سبحانه وتعالى وتحذرهما من الانسياق خلف شهوة الشلطان.وهذه الكتب هي جزء من سلسلة طويلة من خطوات قام بها الإمام علي (علیه السلام) لتفادي الحرب أو معالجة مضاعفاتها.

في النقاط التالية سوف تلاحق تلك الخطوات،وسيتبين من خلال تطور الأحداث كم كانت إراقة دم المسلمين أمرة مؤرقة للإمام علي (علیه السلام)؟وكم سلب منه ذلك طعم النوم؟

تقول بعض الأخبار إن الإمام عليا (علیه السلام) أقام بالكوفة شهورة يجري الكثب فيما بينه

وبين معاوية وعمرو بن العاص(1) .

1.كتابه (علیه السلام) الأول لمعاوية:تذكر التواريخ أنه جاء في كتاب الإمام علي (علیه السلام) الأول لمعاوية:«أما بعد،فإن بيعتي لزمتك وأنا بالمدينة وأنت بالشام،وذلك أنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان،فليس للشاهد أن يختار،ولا للغائب أن یرد...»(2) .

ص: 236


1- نصر بن مزاحم المنقري،وقعة صفين،تحقیق عبد السلام محمد هارون، دار الجيل،1990،بیروت،ص80
2- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،كتاب 6،ص366-367،نصر بن مزاحم،وقعة صفين،ص29

فلما ورد كتابه (علیه السلام) إلى معاوية فقرأه،رفع رأسه إلى الرسول وقال:أظنك ممن قتل عثمان بن عفان.

فقال الرسول الأنصاري:وأنا أظنك يا معاوية ممن استنصرك عثمان فلم ينضرة،

ولكن خذله وقعد عنه.

فغضب معاوية من ذلك،وقال:ارجع إذا إلى صاحبك بغير جواب،فإن رسولي في إثرك إن شاء اللّٰه...... .

ثم إن معاوية انتخب رجلا من بني عبس له لسان طلق،فكتب«بسم اللّٰه الرحمن الرحیم»،لا أقل ولا أكثر،ودفعها إلى العبسي وأرسله إلى علي (علیه السلام)،فخرج العبسي إلى الكوفة حتى دخل على علي (علیه السلام) وعنده وجوه المهاجرين والأنصار...فقيل له:هات ما عندك.

فقال العبسي:عندي واللّٰه من الخبر أني ترك بالشام ألفت شیخ خاضبين لحاهم بدموع أعينهم على قميص عثمان،وأنهم عاهدوا اللّٰه عزوجل أنهم لا يشيمون شيونهم في أغمادها أبدا حتى يقتلوا من قتل عثمان،یوصي به المیت الحي ويرثه الحئ عن الميت...

فقال علي (علیه السلام):ويحك يا أخا بني عبس فيريدون بذلك ماذا؟

فقال العبسي: يريدون واللّٰه خيط رقبتك.

فقال له علي (علیه السلام):تربت يداك وجذب فوك.

ثم وثب إليه رجل يقال له صلة بن زفر العبسي(وهو صاحب حذيفة بن اليمان)فقال اله:بئس الوافد أنت يا أخا بني عبس لأهل الشام،وبئس العون لمعاوية،أتخوف المهاجرين والأنصار ببكاء الرجال على قميص عثمان،فواللّٰه ما قميص عثمان بقميص يوف،ولا بكاؤهم عليه كبكاء يعقوب،ولئن بكوا عليه بالشام فقد خذلوه بالحجاز....

وهم الناس بالعبسي،وقاموا إليه بالسيوف.

فقال علي علي:دعوه فإنه رسول،ولكن خذوا منه الكتاب.

فأخذ الكتاب من يدير ودفع إلى علي (علیه السلام)،فلما فضه لم ير فيه شيئا أكثر من «بسم اللّٰه الرحمن الرحيم»،فعلم أن معاوية يحاربه،وأنه لم يجبه إلى شيء، فقال (علیه السلام):لا حول ولا قوة إلا باللّٰه العلي العظيم،حسبي اللّٰه ونعم الوكيل....

ثم إن العبسي رسول معاوية قام إلى علي (علیه السلام) فقال:يا أمير المؤمنين واللّٰه لقد

ص: 237

أقبلت وأنا أشد الناس عليك حنقة لما أخبرني عنك أهل الشام،وقد واللّٰه أبصر الآن ما فيه أهل الشام من الضلال،وما أنت عليه من الهدى،ولا واللّٰه ما كنت بالذي أفارقك أبدا،ولا أموت إلا تحت ركابك(1) .

2.الإمام على (علیه السلام)يكتب للمرة الثانية لمعاوية وسلسلة محاولات وسيطه المفاوض جرير البجلي التي استغرقت مهمته أربعة أشهر كاملة:ينقل ابن الأعثم أن الإمام عليا (علیه السلام) كتب لمعاوية للمرة الثانية،فكان مما ذكر في كتابه:«فقد علمت أن الشوری للمهاجرين والأنصار دون غيرهم،فإذا اجتمعوا على رجل فسموه إماما كان للّٰه عزوجل بزوجك رضا...ولعمري لئن نظرت بعقلك لعلمت اني من أبرأ الناس من دم عثمان ، وقد علمت أنك من أبناء الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة ،وقد وجهت إليك بجریر بن عبد اللّٰه البجلي،وهو من أهل الإيمان والهجرة،وأحب الأشياء إلي فيك العافية،إلا أن تتعرض للبلاء،فإن تعرضت قابلثك،واستعنت اللّٰه عليك،ولا قوة إلا باللّٰه العلي العظيم،والسلام»(2) .

ثم طوى الكتاب وختمه ودفعه إلى جرير...حتى دخل جرير على معاوية، فسلم فرد

عليه معاوية السلام،وقربه وأدناه،ثم قال:هات ما عندك یا جریر.

فقال جرير:واللّٰه إنه قد اجتمع لابن عمك علي بن أبي طالب أهل الحرمین(مكة والمدينة)،وأهل العراقين(البصرة والكوفة)،وأهل الحجاز وأهل اليمن،فلم يبق في يديك إلا هذو الحصون التي أنت عليها،ولو سال عليها سيل من أوديته لغرقها،وقد أقبل إليك أدعوك إلى ما يرشدك ويهديك إلى اتباع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب...

فأخذ معاوية الكتاب فقرأه حتى أتي على آخره،ثم أقبل على جرير فقال:يا أبا عمرو،أنظر في ذلك وتنتظر أنت أيضا،وأستطلع رأي أهل الشام(3) .

....فلما أصبح جرير أقبل إلى المسجلي الأعظم،فاجتمع اليه الناس،وحضر معاوية،فجعل جرير يعظهم ويدعوهم إلى بيعة علي (علیه السلام)....فلما سمع معاوية كلام جرير وثب....وقال:أيها الناس قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب،

ص: 238


1- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص142-145
2- في نهج البلاغة وكتاب ونعة صفين هذا الكتاب-مع بعض الفروق الطفيفة-هو استكمال للكتاب الأول.راجع:نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،كتاب6،ص367،نصر بن مزاحم، وقعة صفین،ص29-30
3- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص154-156

وخليفة أمير المؤمنين عثمان بن عفان،ولم أقم على خزاية قط،وقد قتل عثمان مظلومة،وأنا وليه،واللّٰه عزوجل يقول:« جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)»(1) وأنا أحب أن تعلموني بما أنفسكم من قتل عثمان.

فوثب إليه الناس من جنبات المسجد فقالوا:نحن لنا طالبون بدم عثمان(2) .

وبلغ ذلك عليا (علیه السلام)،فأراد أن يعجل بالمسير إلى الشام،فأشار إليه عامة الناس بالمقام بالكوفة،إلا هؤلاء الخمسة نفر:الأشتر النخعي،وعدي بن حاتم الطائي،وعمرو بن الحمق الخزاعي،وسعيد بن قيس الهمداني،وهانئ بن عروة المذحجي،فإنهم قاموا إلى علي (علیه السلام) فقالوا:يا أمير المؤمنين،إن هؤلاء الذين أشاروا عليك بالمقام،إنما يخافون حرب أهل الشام،وليس في حربهم شيء هو أخوف من الموت،ولسنا نريد إلا الموت،فسر بنا إليهم،وفقك اللّٰه لما تحب وترضى.

فأطرق علئ (علیه السلام) ساعة،ثم قال:إنه ليس يتهيأ لي المسير إليهم ورسولي عندهم،وقد وقت لرسولي وقتا لا يتأخر عنه إلا مخدوعا أو عاصية،فاسكنوا ولا تعجلوا(3) .

وفي نهج البلاغة أنه (صلی اللّه علیه واله)قال:إن استعدادي لحرب أهل الشام،وجرير عندهم،إغلاق للشام،وصرف لأهله عن خير إن أرادوه.ولكن وقت لجرير وقتا،لا يقيم بعده إلا مخدوعا أو عاصيا.والرأي عندي مع الأناة(=التثبت والتأني)فارودوا(=أرفقوا)،ولا أكره لكم الإعداد.

ولقد ضرب أنف هذا الأمر وعينه(=مثل عربي في الاستقصاء والتأمل والتفكير)،

وقلبث ظهره وبطئه،فلم أر لي فيه إلا القتال أو الكفر بما جاء محمد صلى اللّٰه عليه»(4) .

3.معاوية بماطل جريرة وعلي (علیه السلام) في انتظار رسوله جریر:يقول المؤرخون...وجعل جرير كلما استعجل معاوية واستحثه رد الجواب،يقول معاوية:ويحك أبا عمرو،لا تعجل،وأبلغني ريقي حتى أنظر في أمري،وأستطلع رأي أهل الشام،ثم إني أجيب صاحبك عن كتابه، وكرامته لك(5) .

ثم كتب معاوية إلى عمرو بن العاص،وعمرو يو مثير بفلسطين،أما بعد،فقد كان

ص: 239


1- سورة الإسراء،الآية:33
2- راجع،نصر بن مزاحم،وقعة صفين،ص31-32
3- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص157-159
4- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(43)،ص84
5- أنظر:نصر بن مزاحم،ونعة صفین،ص33

من أمر عثمان بن عفان ما علمت،وإن علي بن أبي طالب قد اجتمع إليه رافضة أهل الحجاز وأهل اليمن والبصرة والكوفة(1) ،وقد وجه إلينا رسوله جریر بن عبد اللّٰه،ولم أجبه إلى هذه الغاية بشيء،حبس نفسي عليك،فأقدم على بركة اللّٰه وعونه لأشاورك،وأستعين على أمري برأيك،والسلام»(2) .

فلما ورد كتاب معاوية على عمرو بن العاص،وقرأة،دعا ابنيه عبد اللّٰه ومحمدا،

فاستشارهما في ذلك،فقال عبد اللّٰه:....ليس ينبغي لك أن تكون حاشية معاوية على دنيا زائلة عن أهلها(رغم أن عبد اللّٰه بن عمرو كان معروفة بالاستقامة نسبية،لكنه سينساق مع أبيه ويصطف معه في صفين ليحارب عليا (علیه السلام)،كما فعل محمد بن طلحة مع أبيه في الجمل)...وقال ابنه محمد:أما أنا فأقول إنك شي قريش وصاحب أمرها....فالحق بجماعة من أهل الشام، فكن يدا من أيديها واطلب بدم عثمان بن عفان،فلست أقل من معاوية. فأطرق عمرو ساعة ثم قال:أما أنت يا عبد اللّٰه،فأشرت علئ بما هو خير لي في ديني،وأما أنت فأشرت علي بما هو خير في دنياي،وسأنظر في ذلك(3) .

وسار عمرو حتى قدم على معاوية فقربه وأدناه و رفع مجلسه.... وقال له معاوية:

هات فبايعني .

فقال عمرو:لا واللّٰه ما أعطيك من ديني شيئا أو آخذ منك مثله،فهات ما الذي

تعطيني؟

فقال معاوية:أعطيك رضاك.

قال عمرو:رضاي أرض مصر(وفي رواية:مصر طعمة، يعني حلاوة وقوفي معك).

فقال معاوية:إن مصر كالعراق(وفي رواية:يا أبا عبد اللّٰه،إني أكره أن تتحدث العرب عنك أنك إما دخلت في هذا الأمر لغرض الأنيا).

قال عمر:صدقت إنها لكذلك(=مصر كالعراق)،ولكنها تكون لي إذا كانت العراق لك(4) .

ص: 240


1- نرصد في هذه الرسالة استخدام معاوية مصطلح«الرافضة»-ربما لأول مرة في التاريخ-للإشارة إلى شيعة الإمام علي (علیه السلام)
2- ابن الأعثم، الفتوح،ج1،ص159
3- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص159-160. أنظر:نصر بن مزاحم،وقعة صفین،ص34،أيضاالطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج3،ص560
4- ابن اعثم،الفتوح،ج1،ص161-162

وتمت الصفقة،وكتب له كتابا، وكتب معاوية:«على أن لا ينقض شرط طاعة» (=طاعتك لي تكون مطلقة غير مشروطة)،وكتب عمرو«على أن لا تنقض طاعة شرطا»(=إعطاؤك مصر طعمة شرط مطلق واجب التنفيذ غير مقيد بطاعتي لك)،وكايد كل واحد منهما صاحبه(1) .

وفي الحقيقة،كان معاوية بن أبي سفيان بحاجة لإغراء عمرو بن العاص بمصر،لأن وقوف عمرو مع معاوية تضحية يقدمها الأول للأخير،لأن عمرو سهمی من قريش،التي حرضت بالأمس على عثمان لأنه تحول إلى واجهة بني أمية. فوقوف عمرو مع معاوية سيصب لمصلحة بني أمية،لا قریش،فلا بد أن يكون هناك عوض مناسب لذلك.

ومن ناحية ثانية،كان معاوية بحاجة لعمرو،لا لمشورته ودهائه فحسب،بل ليكون مفتاحا له لكسب قريش إلى صفه في معركته ضد الإمام علي (علیه السلام). فوقوف عمرو مع معاوية رسالة لقريش با عمرو رغم أنه ظلم من عثمان عندما عزله عن مصر،مع ذلك،ها هو يطالب بدم عثمان،ويقف بصف معاوية... إذن جبهة معاوية ليست جبهة بني أمية فحسب،بل جبهة قريش...هكذا كان معاوية يريد أن يوحي للقرشيين....لكن ما كان لهذه الحيلة أن تنطلي على القرشيين،أمثال عبد اللّٰه بن عمر وسعد بن أبي وقاص.

نعود إلى الموضوع، يقول المؤرخون:لما تمت الصفقة بين معاوية وعمرو، غضب مروان بن الحكم،ثم دخل على معاوية،فقال:مالي لا أشتري كما يشتري غيري؟فقال معاوية:إني إنما أبتاع الرجال لك،فسكت مروان(2) .

من الآن فصاعدا،وابتداء من شراء عمرو بن العاص،سوف نلاحظ أن معاوية سینشر ثقافة شراء المائر والأمم في أرجاء المجتمع الإسلامي،وهو أمر لم يكن مألوفة في السابق.

4.وكانت لمعاوية محاولات لاستمالة المعتزلين(وأبرزهم من قریش) وتحريضهم على قتال الإمام علي (علیه السلام):منها ما كتبه لابن عمر:«أما بعد،فإنه لم يكن أحد من قريش أحب إلي أن يجتمع عليه الأمة بعد قتل منك.ثم ذكر خذلك إياه(=خذلانك العثمان)وطعنك على أنصاره،فتغيرت لك.وقد هؤثر ذلك على خلاف على علي،ومحا عن بعض ما كان منك.فأنا-رحمك اللّٰه-على حق هذا الخليفة المظلوم،فإني لست أريد الإمارة عليك،ولكني أريدها لك،فإن أبيت كانت شوری بین المسلمين..».

ص: 241


1- نصر بن مزاحم،وقعة صفين،ص40
2- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص163، أنظر:نصر بن مزاحم،وقعة صفین،ص42

لاحظ أن معاوية یوزع الولاءات كما يشاء،فيقول لابن عمر:بائك وإن كنت غير موال لعثمان،لكن وقوفك ضد علي (علیه السلام)،سيجعلنا نتسامح معك،لنعتبرك موالية للخليفة المظلوم،وطريقك لإثبات الؤلاء هو أن تسير في طريق المطالبة بدمه!!

فأجابه ابن عمر:«أما بعد فإن الرأي الذي أطمعك في هو الذي صيرك إلى ما صيرك إليه. أني تركت عليا في المهاجرين والأنصار، وطلحة والزبير، وعائشة أم المؤمنين، واتبعتك (5). أما زعمك أني طعنت على علي فلعمري ما أنا كعلي في الإيمان والهجرة، ومكانه من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ونكايته في المشركين. ولكن حدث أمر لم يكن من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى فيه عهد، ففزعت فيه إلى الوقوف (1)، وقلت: إن كان هدى ففضل تركته، وإن كان ضلالة فشر نجوت منه. فأغن عنا نفسك»(1) .

ومن محاولات معاوية استمالة قريش،ما كتبه لسعد بن أبي وقاص:«أما بعد، فإن أحقّ الناس بنصرة عثمان أهل الشورى من قريش(=الشورى السداسية التي أسسها عمر)،الذين أثبتوا حقّه و اختاروه على غيره و قد نصره طلحة و الزبير(=وقاما بالمسؤولية على أتم وجه!)و هما شريكاك في الأمر و نظيراك في الإسلام و خفّت لذلك أمّ المؤمنين فلا تكرهن ما رضوا و لا تردّن ما قبلوا فإنّا نردها شورى بين المسلمين ».

فأجابه سعد:«أما بعد فإن عمر لم يدخل في الشورى إلا من يحل له الخلافة من قريش(=لم يدخل أمثالك من الطلقاء ممن اتفقت كلمة المهاجرين والأنصار على استبعادهم)،فلم يكن أحد منا أحق بها من صاحبه إلا باجتماعنا عليه(=أي المعيار في الاختيار اتفاق كلمة وجهاء المهاجرين من أعضاء الشورى السداسية)،غير أن عليا قد كان فيه ما فينا ولم يك فينا ما فيه. وهذا أمر(=منهج الشورى الشداسية)قد كرهنا أوله وكرهنا آخره. فأما طلحة والزبير فلو لزما بيوتهما كان خيرا لهما. واللّه يغفر لأم المؤمنين ما أتت»(2) .

ص: 242


1- أقول:بل حاول عمرو بن العاص معه أيضا لتحريضه لطلب الخلافة،لكن عبد اللّٰه بن عمر رد عليه:أن لك،أخرج من عندي،ثم لا تدخل علي،ويحك،إن دیني ليس بدیناركم ولا درهمكم،وإني أرجو أن أخرج من الدنيا ويدي بيضاء نقية(راجع:ابن سعد،الطبقات الكبری،4/ 164)،وكان يقول في مرضه الذي مات فيه:ما أجدني آسي على شيء من أمر الدنيا إلا أني لم أقاتل الفئة الباغية(راجع:ابن سعد،الطبقات الكبری،4/ 187).لاحظ أنه لم يندم على عدم مقاتلته أصحاب الجمل،لأنهم يمثلون قريشا،وإنما ندم على عدم مقاتلة الفئة الباغية،لأنهم في حقيقة الأمر بنو أمية،التي انقلبت على قريش
2- نصر بن مزاحم،وقعة صفين،ص71-75

وكذا كتب إلى محمد بن مسلمة محاولا استمالته وتحريضه(1) .

5.علي (علیه السلام)يحذر جريراً من فسح المجال لمعاوية لكسب الوقت للتهيؤ للحرب:يقول ابن الأعثم.... .وكان معاوية أتى جريرة في منزله فقال:إني قد رأيت رأيا(=لدي صفقة جديدة لعلي (علیه السلام)).

قال جرير:هاته.

قال:اكتب إلى صاحبك يجعل لي الشام ومصر جباية،فإذا حضرته الوفاة لم يجعل لأحد بعده بيعة في عنقی،وأسلم له هذا الأمر،وأكتب إليه بالخلافة(=يسلمني الشام ومصر على أن أبايعه بالخلافة بشرط أن لا ألتزم بالخليفة الذي يليه).

فقال جرير:اكثب ما أردت،وأكتب معك.

فكتب معاوية بذلك إلى علي (علیه السلام).

جواب الإمام علي (علیه السلام) عن هذه الصفقة كان موجها لجرير،قال فيه:أما بعد یا جرير،فإن معاوية إنما أراد بكتابه هذا أن لا يجعل لي في عنقه بيعة(=ليكون هو الخليفة بعدي)،وأن يختار من أمرو ما يحب(=يريد أن يكون-كما يقال-لاعبة حرة)،وإنما احتبسك عنده ليذوق أهل الشام،وقد علمت یا جرير أن المغيرة بن شعبة أشار علي وأنا بالمدينة أن أستعمل معاوية على الشام، فلم أفعل،ولم يكن اللّٰه تبارك وتعالى لیراني وأنا اتخذ المضلين عضدا،فانظر إن بايعك الرجل،وإلا فأقبل ولا تكن رخو الجنان(=ضعیف القلب)،والسلام(2) .

في هذه الأثناء،بعث محمد بن أبي بكر-بوصفه ابن الخليفة الأول-رسالة شديدة اللّٰهجة لمعاوية،ورد عليه معاوية برسالة أشد لهجة،كشف فيها عن «المسكوت عنه»،فكان مما كتب محمد لمعاوية:«من محملي بن أبي بكر إلى الغاوي معاوية بن صخر....

أنت اللعين ابن اللعين لم تزل أنت و أبوك تبغيان لدين اللّه الغوائل و تجتهدان على إطفاء نور اللّه و تجمعان على ذلك الجموع و تبذلان فيه المال و تحالفان في ذلك القبائل على هذا مات أبوك و على ذلك خلفته......فكيف-يا لك الويل-تعدل نفسك بعلي،وهو وارث رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)ووصيه وأبو ؤليه....

فرد عليه معاوية:«من معاوية بن أبي سفيان إلى الزاري على أبيه محمد بن أبي بكر....فقد كنا وأبوك معنا في حياة نبينا،نرى حق ابن أبي طالب لازما لنا،وفضله

ص: 243


1- راجع،نصر بن مزاحم،وقعة صفین،ص76-77
2- أنظر:نصر بن مزاحم،وقعة صفین،ص52

مبرزا علينا،فلما اختار اللّٰه لنبيه ما عنده،وأتم له ما وعده،وأظهر دعوته،وأفلج حجته،قبضه اللّٰه إليه،فكان أبوك وفاروقه أول من ابتزه وخالفه ،علی ذلك اتفقا واتسقا ، ثم دعواه إلی أنفسهم فأبطأ عنهما وتلكأ علیهما ، فهما به الهموم ، وأرادا به العظیم ، فبایع وسلم لهما ، لا یشركانه فی امرهما ، ولا یطلعانه علی سرهما ، حتی قبضا وانقضی أمرهما.

ثم أقاما بعدهما ثالثهما عثمان بن عفان. يهتدي بهديهما ويسير بسيرتهما. فعبته أنت وصاحبك(يعني الإمام علي (علیه السلام))،حتي طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي....

...أبو مهد مهاده(=هو الذي عبد هذا الطريق)،و بنی ملكه و شاده فإن یكن ما نحن فیه صوابا فأبوك أوله و إن یك جورا فأبوك أسسه و نحن شركاؤه فبهديد أخذنا، وبفعل اقتدينا، رأينا أبا فعل ما فعل، فاحتذينا مثاله، واقتدينا بفعاله، فعب أباك بما بدا لك، أو دع، والسلام على من أناب، ورجع عن غوایته وناب»(1) .

6.صبر الإمام علي (علیه السلام) على رسوله جرير يكاد ينقد ومعاوية يدخل شرحبيل في المعادلة:عندما شعر الإمام علي (علیه السلام) با معاوية يماطل جریرة،أرسل لجرير كتاباً آخر،كتب فيه:«أما بعد یا جرير،فإذا أتاك كتابي هذا،فاحمل معاوية على الفصل،و خذه بالأمر الجزم(أو الحزم)،ثمّ خیّره بین حرب مجلیه أو سلم مخزیه،فإن اختار الحرب فانبذ إلیه،و إن اختار السّلم فخذ بیعته و السّلام .»(2) .

فلما ورد الكتاب على جرير أخذه وأتى به إلى معاوية فأقرأه إياه ثم قال:

يا معاوية! أما إني قد تأنيتك إلى وقتي هذا، ولا واللّه ما أظن قلبك إلا مطبوعا!

وكذلك يطبع اللّه على كل قلب متكبر جبار، وإني لأراك قد وقفت على الحق والباطل وقوف رجل ينتظر شيئا في يد غيره، ولا أظنك مبايعا حتى لا تجد بدا...وهذا كتاب أمير المؤمنين وقد ورد علي، فإما أن تبايع حتى أعلم ذلك فأكتب إلى صاحبي ببيعتك، وإما أن تختار الحرب فأعمل على حسب ذلك.

فقال معاوية:نعموكرامة أبا عمرو! واللّه ما انتظاري إلا على رجل واحد وهو شرحبيل بن السمط بن الأسود بن جبلة الكندي، وذلك لأنه سيد من سادات أهل الشام ولا أحب أن أقطع أمرا دونه(3) .

ص: 244


1- ابن أبي الحديد،شرح نهج البلاغة،مج2،ج3،ص110-111،ايضا نصر بن مزاحم،وقعة صفین،ص118-121
2- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص164-165.الألفاظ مأخوذة من تمام نهج البلاغة،كتاب رقم30،ص809.راجع أيضا:نصر بن مزاحم،وقعة صفین،ص55
3- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص166

ثم دعا معاوية عمرو بن العاص فقال:أبا عبد اللّٰه هاني الآن ما ترى في علي بن أبيطالب؟

فقال عمرو: أرى فيه خيرا، إنه قد أتاك هذا خير أهل العراق جرير من عند خير الناس علي بن أبي طالب، ورد هذه البيعة خطر شديد وأمر عظيم، ورأس أهل الشام اليوم شرحبيل بن السمط الكندي وهو عدو لجرير، فأرسل إليه وعبی له رجالا من ثقاتك يشهدون أن عليا قتل عثمان، ولتكن المستشهدون أهل الرضا(=لهم مصداقية عند الناس)،فإنها كلمة جامعة، فإن علقت الشهادة بقلبه لا يخرجها شيء أبداً(1) .

فجمع معاوية رؤساء الشام ثم قال:أتدرون لماذا جمعتكم؟

قالوا:لا علم لنا بذلك.

فقال: إن شرحبيل بن السمط سيد من سادات قومه وهو عدو لجرير بن عبد اللّه البجلي، وقد عزمت أن أكتب إليه (= الی شرحبیل) ليصير إلي فإذا قدم علي أخبرته أن عليا قتل الخليفة عثمان بن عفان، فإن طلب مني شهادة كنتم أنتم الشهود لي على ذلك.

فقال القوم: كفئت يا معاوية! فوجه إليه.

فعندها كتب إليه معاوية وشرحبيل يومئذ بمدينة حمص.

ثم سار شرحبيل حتى دخل على معاوية،فقه معاوية و أدناه،ثم قال:يا أبا السمط إن جریر بن عبد اللّٰه قد أتي من الكوفة يدعو إلى بيعة علي بن أبي طالب عليه،ولسنا نشك في على:أنه خير فاضل لولا أنه قتل الخليفة عثمان بن عفان،وقد حبس نفسي عليك،لأنك رجل من سادات كندة،وأنا واحد منكم،أرضى بما ترضون،وأكره ما تكرهون،فهات ما عندك؟

فقال شرحبیل:إن سمع مقالتك،ولست أقضي على غائب،ولكن تؤرني الليلة حتى أصبح،وأسأل غيرك عن هذا الأمر،فإن شهد عندي رجل من سادات أهل الشام أن عليا (علیه السلام) قتل عثمان،صدقت وقاتل بين يديك أنا وجميع من أطاعني من قومي(2) .

ثم انصرف شرحبيل إلى رحله،فلما أصبح وجه إليه معاوية بالقوم الذينأعدهم له-في ترجمة شرحبيل في«أسد الغابة»أن من الشهود بسر بن أبي أرطاة ويزيد بن أسد جد خالد القسري وأبا الأعور السلمي وغيرهم-فشهدوا عنده أن عليا (علیه السلام) قتل عثمان.

فعندها أقبل شرحبيل حتى دخل على معاوية،فقال:يا هذا لقد شهد عندي العدول

ص: 245


1- ابن اعثم،الفتوح،ج1،ص167
2- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص169-170

أن عليا قتل الخليفة ظلمة،وواللّٰه لئن أنت بايعته لتخرجك من الشام،فاردير الأجل(يعني جریرة)إلى صاحبه(يعني الإمام عليا (علیه السلام))،فواللّٰه ما لصاحبه عندنا إلا السيف!

وهكذا صار شرحبيل أكثر حماسة من معاوية في المطالبة بدم عثمان!!والسبب يكمن في عمق عداوة شرحبيل لجرير...هذه العداوة وطفها معاوية بدهاء شديد في سبيل تحقيق أغراضه.

يقول ابن اعثم:وأقبل شرحبيل حتى دخل على جرير،فقال له:يا هذا،لقد جئت بأمر ملفق،أردت أن تلقينا في لهوات الأسد،وأردت أن تخلط الشام بالعراق،ولقد أطريت من ذكر صاحبك علي عند أهل الشام،ما ظنوا أنه على ما تقول،حتى صح عندنا أنه هو الذي قتل الخليفة عثمان بن عفان.

فضحك جریر ثم قال:أما قولك بأني جئت بأمر ملفق،فكيف يكون ملفقا وقد اجتمع عليه المهاجرون والأنصار،وقوتل علي طلحة والزبير.وأما قولك أني أردت أن أخلط الشام بالعراق،فإن خلطهما على الحق خير من تفريقهما على الباطل.وأما قولك إن صاحبي قتل عثمان بن عفان، فواللّه ما في يديك شيء من ذلك إلا القذف من مكان بعيد واللّه سائلك عن ذلك يوم القيامة!

ولكنك يا شرحبيل ملت إلى الدنيا كما مال غيرك، وشئ كان في نفسك علي ، وستعلم عن قريب أن العاقبة للمتقين.(1) .

7.جرير يعود إلى علي (علیه السلام)بعد أن أعطي معاوية فرصة إبرام صفقة مع عمرو وإضلال شرحبیل سید كندة:يقول ابن الأعثم.......ثم أرسل معاوية إلى جرير أن الحق بصاحبك(2) ، فأخبره بالذي سمعت من مقالة أهل الشام،فأمر جرير فقمت أثقاله ثم استوى على فرسو وسار حتى قدم على علي (علیه السلام) بعد عشرين ومائة ليلة (يعني استغرقت مهمة جرير التفاوضية أربعة أشهر كاملة).

فأخبر جرير عليا (علیه السلام) باخبار معاوية،وما سمع من أهل الشام،فقال الأشتر: واللّٰه يا أمير المؤمنين لو كنت أرسلتني إلى معاوية لكن خيرة لك من هذا الذي أرخى خناقه،وأقام حتى لم يدع بابا مفتوحا إلا أغلقه،ولا مغلقا إلا فتحه.

فقال جرير:أما واللّٰه لو كنت مكاني لقتلوك،لأني سمعتهم يقولون بأنك ممن قتل

عثمان....فلم لا تأتيهم الآن؟

ص: 246


1- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص170-171،أيضا راجع:نصر بن مزاحم،وقعة صفين،ص44-48
2- أيضا راجع:نصر بن مزاحم،وقعة صفين،ص56

فقال الأشتر:وكيف آتيهم وقد أفسدتهم...

وجرى بين الأشتر وجرير جدل طويل وكلام كثير كانت نتيجته أن لحق جرير بقرقسيا

(البصيرة حاليا في سوريا)واعتزل القوم.

ولما بلغ الإمام علياً (علیه السلام)ما اتهمه بنو أمية بالمشاركة في دم عثمان قال:«أولم ينه بني أمية علمها بي عن قرفي(=عيبي)،أو ما وزع الجهال سابقتي عن تهمتي!ولما وعظهم اللّٰه به أبلغ من لساني.أنا حجيج المارقين،وخصيم الناكثين المرتابين،على كتاب اللّٰه تعرض الأمثال،وبما في الصدور تجازي العباد».

8.سماح الإمام علي (علیه السلام) لسعيد بن قيس الهمداني أن يكتب لشرحبيل محذرة ومنها:يقول ابن الأعثم ... ثم أقبل معاوية على شرحبيل فقال:...أريد منك أن تكتب إلى مدائن الشام فتعلمهم بما كان من إجابتهم،فلعلهم أن يغضبوا للخليفة المظلوم، فقال شرحبيل:لا ولكن أسير إليهم بنفسي،فأحرضهم على ذلك!

ثم سار شرحبيل حتى دخل حمص،ثم نادى في أهلها فجمعهم...فأجابه أهل حمص بأجمعهم،وجعل شرحبيل لا يأتي مدينة من مدائن الشام إلا دعاهم إلى نصر معاوية،وحرضهم على قتال علي بن أبي طالب،حتى اجتمع إليه خلق كثير،فأقبل بهم إلى معاوية،فبايعوه على أنهم يقاتلون بين يديه، ويموتون تحت ركابه.....

وأقبل سعيد بن قيس الهمداني إلى علي (علیه السلام)،فقال:يا أمير المؤمنين،إن شرحبيل رجل عمي القلب،قد سار في مدائن الشام فاستنفرهم إلى حربنا، فإذن لي أن أكتب إليه كتابة فلعلي أشككه في ما هو فيه.

فقال علي (علیه السلام): أكتب ما أحييت.

فكان مما كتب سعيد لشرحبيل:«عبأ لك معاوية رجالا لا يعرفون الحلال ولا ينكرون الحرام فاختدعوك وشهدوا عندك أن عليا (علیه السلام)قتل عثمان .

ولو نظرت بعقلك لعلمت أن ذلك باطل وزور ولو ان علىا (علیه السلام) قتل عثمان لما بايعه المهاجرون والأنصار وهم واضعون أسيافهم على عواتقهم يقاتلون معه من خالفه من أهل البصرة .

ص: 247

وغيرهم.فلا تكن رأس الخطية ومفتاح البلية،فإني ما زل لك ناصحة وعليك مشوقة،والسلام....

فلما انتهى الكتاب إلى شرحبيل،أخذه فأتي به معاوية،فأقرأه إياه.

فقال معاوية:لا عليك،هو سيد في همدان،وأنت سيد في كندة،فأجبه على كتابه....

فكتب إليه شرحبيل،فكان مما كتب:«أما قولي بأن عليا (علیه السلام) قتل عثمان،فإني أحدث ذلك عن الثقات من أهل الرضی،ولا يقال للشاهير من أين قلت؟فأما المهاجرون والأنصار،فلهم ما في أيديهم من بيعة علي (علیه السلام)،ولنا ما في أيدينا من بيعة معاوية،والسلام»(1).

الخلاصة:لم يكد الإمام علي (علیه السلام) يفرغ من حرب الناكثين(طلحة والزبير وعائشة)حتى جعل يتأهب لحرب القاسطين(معاوية وعمرو بن العاص،ورأى (علیه السلام) أن يغادر البصرة إلى الكوفة ليجعلها عاصمة له ليستعد لحرب معاوية.

وأوفد الإمام علي (علیه السلام) إلى معاوية يدعوه للدخول فيما دخل فيه المسلمون من مبايعته، ورأى معاوية أنه لا يستطيع مواجهة الإمام علي (علیه السلام) إلا إذا انضم إليه الداهية عمرو بن العاص(السهمي)الذي كان واجدا ومحرضا على عثمان لأنه عزله عن مصر،فعرض عليه معاوية صفقة بأن يقف معه في حرب علي (علیه السلام) على أن تكون له ولاية مصر،فما أن وصل عمرو بن العاص إلى الشام حتى جعل يبكي أمام أهلها كما تبكي المرأة وهو يقول:واعثماناه أنعى الحياء والدين(كما ينقل الطبري في تاريخه)(2).

وكان جواب معاوية للإمام علي (علیه السلام) رفض الدخول في الطاعة،وتحميله (علیه السلام) مسؤولية دم عثمان،وطلب منه أن يدفع إليه قتلة عثمان،ويجعل الأمر شوری بین المسلمين.وألهب معاوية مشاعر أهل الشام عندما نشر قميص عثمان ملطخا بدمائه على المنبر،وملحقاً به أصابع زوجته نائلة،فصار الناس يضون بالبكاء والعويل،واستخدم الوعاظ والشخصيات العامة فجعلوا يهولون أمره، ويدعون الناس إلى الأخذ بثاره(3).

ص: 248


1- ابن الأعثم، الفتوح، ج 1، ص 173 - 176.
2- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج 3، ص 559.
3- كمثال على الشخصيات العامة شرحبيل بن المط، وعبيد اللّه بن عمر بن الخطاب، فقد تم الاستفادة من كونه ابن الخليفة الثاني استفادة كبيرة، ووظف معاوية خوف وهرب عبيد اللّه من (علیه السلام)بسبب قتله الهرمزان بعد اغتيال أبيه لمجرد اشتباه عبيد اللّه في تورط الهرمزان في اغتياله. للتفاصيل أنظر : نصر ابن مزاحم، وقعة صفين، ص 82 – 83.

لقد كانت أكثر الصعاب التي واجهها الإمام علي (علیه السلام) انشقاق معاوية، وتخلف الشام بأسره،عن الانضمام إلى بيعته.هذا التناقض،شق المجتمع الإسلامي في الدولة الإسلامية إلى شقين،ووجد في كل منهما جهاز سياسي وإداري لا يعترف بالآخر(1).فمعاوية لم يعص عليا (علیه السلام) لأنه غزل عن الولاية،وإنما كان ذلك في أكبر الظن جزءا من مخطط لمؤامرة طويلة الأمد للأموية على الإسلام(2).

في المقابل،قام الإمام علي (علیه السلام) بسلسلة من المحاولات لتفادي حرب صفين.وكان أبرژها وأطولها،محاولة جرير البجلي،التي استغرقت أربعة أشهر، لكنها لم تسفر عن شيء،بل فسخت في المجال لمعاوية للاستفادة من الوقت وعقد صفقة مع عمرو وإضلال شرحبيل،الذي قام بدوره بتحريض أهل الشام لحرب الإمام علي (علیه السلام).وتحدثنا عن محاولة معاوية لاستمالة قريش من خلال الكتابة لعبد اللّٰه بن عمر وسعد بن أبي وقاص،لكن حيلته لم تنطل عليهما.

في الفصل القادم سنواصل سرد محاولات الإمام علي (علیه السلام) لتفادي الحرب، وسنتحدث عن الرسائل الكتبية والشفوية والوفود الشخصية والجماعية التيكانت تتری

على معاوية من قبل الإمام علي (علیه السلام) ، وما جرى من أحداث قبيل حرب صفين.

ص: 249


1- محمد باقر الصدر، أئمة أهل البيت (علیهم السلام) ، ص 152 - 153.
2- المصدر السابق، ص 141.

(14)محاولات جديدة لتفادي الحرب

كنا نتحدث في الفصل السابق عن وساطة جرير البجلي،رسول الإمام علي (علیه السلام)المعاوية،وما أسفر عنها من فسح الوقت الكافي لمعاوية لإبرام صفقة مع عمرو بن العاص،والتخطيط لإضلال شرحبيل الكندي.

في هذا الفصل نريد مواصلة سرد محاولات الإمام علي (علیه السلام) لتفادي حرب صفين.فبعد عودة جرير،ومحاولة سعيد الهمداني غير الناجحة لتنبيه شرحبيل،استأنف الإمام علي علي مراسلاته مع معاوية،بعدما ورده من معاوية رسالة يصرح له فيها بأن ليس في نیت،ولا في نية أهل الشام، البيعة له،ما لم يتم الاقتصاص من قتلة عثمان، والعودة إلى الشوری!

1.خمس مراسلات جديدة بين الإمام علي (علیه السلام) ومعاوية قبل خروج الأخير إلى صفين:كتب ابن الأعثم أين معاوية كتب إلى الإمام علي (علیه السلام)....إنما أفسد عليك بيعتي خطيئتك في عثمان(=ما يدفعني لعدم مبايعتك ما تورطت فيه في أمر عثمان)،وإنما كان أهل الحجاز هم الحكام على الناس حين صار الحق فيهم، فلما تركوه صار أهل الشام هم الحكام على أهل الحجاز وغيرهم من الناس، ولعمري ما حجتك عليّ كحجتك على طلحة والزبير، ولا حجتك على أهل الشام كحجّتك على أهل البصرة! ولأن طلحة والزبير قد كانا بايعاك ولم أبايعك، وبايعك أهل البصرة ولم يبايعك أهل الشام، وأما فضلك في الإسلام وقرابتك من الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وموضعك من بني هاشم فلست أدفعه- والسلام»(1) .

يقول العقاد:«من رد معاوية هذا، تبدو النية الواضحة في فتح ابواب الخلاف واحدا بعد آخر.كلما اغلق باب منها بقي من ورائه باب مفتوح.فتسليم قتلة عثمان لا يكفي، لان عليا نفسه متهم بالاغراء والتخذيل.

وبراءة علي من هذه التهمة لا تكفي، لان المرجع

ص: 250


1- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص186-187

بعد ذلك الي الشوري والنظر في البيعة من جديد.وشوري الحجازيين والعراقيين لا تكفي، لان الحق قد خرج منهم الي اهل الشام، وهم الحكام علي الناس، لانهم يحكمون لمعاوية ولا يحكمون لغيره.ومن ثم بطلت الحجج والرسائل، كما تبطل كل حجة وكل رسالة، عندما يقال باللسان غير ما يجول في الصدور»(1) .

أما فيما يتعلق باتهامه (علیه السلام) بالتورط في التساهل مع قتلة عثمان،يقول العقاد: طالبوه بالقود (=القصاص)، ولم يبايعوه، مع ان القود لا يكون الا من ولي الامر المعترف له باقامة الحدود»(2) .فان كانوا ممن اعترف بشرعية ولايته، فعليهم ان يمهلوه حتي تستقر له الامور، ثم يسالوه القصاص.وان لم يعترفوا بشرعية ولايته، فلماذا يطالبونه بالقصاص اذن؟!

رد الإمام علي (علیه السلام) على معاوية كاتبا له:«زعمت أنه إما أفسد عليك بيعتي خطيئتي في عثمان، ولعمري ما كنت إلا رجلا من المهاجرين، أوردت كما أوردوا، وصدرت كما صدروا ، وما كان اللّه ليجمعهم على ضلال، ولا يضربهم بعمى. وأما ما زعمت أن أهل الشام هم الحكام على أهل الحجاز، فهات رجلين من قريش الشام يقبلان الشورى، أو تحل لهم الخلافة، فإن زعمت ذلك كذبك المهاجرون والأنصار، وإلا فأنا آتيك بهم من قريش الحجاز. وأما ما میزت بينك وبين طلحة والزبير، وبين أهل البصرة وأهل الشام، فالأمر في ذلك إلى واحد، لأن بيعة العامة لا يستثنى فيها النظر، ولا يستأنف فيها الخبر . وأما فضلي في الإسلام، وقرابتي من الرسول (صلی اللّه علیه واله) ، وموضعي من بني هاشم، فلو استطعت دفه لفعلت، والسلام»(3) .

فرد عليه معاوية بجرأة مثيرة:« أما بعد! فاتق اللّه يا علي ودع الحسد ولا تفسدن سابقة قدمك في الاسلام بشرة حديثك فإن الاعمال بخواتيمها، ولا تلحدن بباطل من حق من لا حق له، فإنك إن تفعل ذلك لن تضر إلا نفسك ولا تمحق إلا عملك ، ولعمري ما مضى لك من السوابق الحسنة لحقيقة أن تردعك عما قد اجترأت عليه من سفك الدماء وخلاف أهل الحق عن الحل والحرم، فاقرأ سورة الفلق وتعوذ باللّه من شر ما خلق ومن شر نفسك والحاسد إذا حسد....... والسلام»(4) .

ص: 251


1- عباس محمود العقاد،عبقرية الإمام علي،ص78
2- المصدر السابق،ص101
3- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص188.أنظر تمام نهج البلاغة، كتاب رقم58،ص843-846مع فوارق
4- ابن اعثم،الفتوح،ج1،ص189

ونلاحظ ابتداء من رسالة معاوية هذه أن مستوى الخطاب بين الإمام علي (علیه السلام) ومعاوية قد تغير،ولو كانت الرسائل شخصية وخاصة بينهما،لربما كان الإمام علي (علیه السلام) قد توقفت عن الجدل مع معاوية....لكن أظن بقوة أن تلك الرسائل كانت تتداول بين جماهير الطرفين،فكان كل واحد منهما كان يريد أن يوصل رسائل معينة،ليس لشخص الآخر،وإنما لجماهير الطرف الآخر.

وقد رد الإمام علي (علیه السلام) عليه كاتبا:«أما بعد،فقد أتتني منك موعظة موصلة (=ملفقة من كلام مختلف وصل بعضه ببعض،ينطوي على مفارقات،كالثوب المرقع)،ورسالة محبرة(=مزينة)نمقتها(=حسنت كتابتها)بضلالك،وأمضيتها بسوء رأيك....ولولا علمي بك،وما قد سبق من رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)؛فيك مما لا مرد له دون نفازه، إذا لوعظك.ولكن عظتي لا تنفع من حقت عليه كلمة العذاب،ولم يخف العقاب،ولم يرج لله وقاراً،ولم يخف منه حذاراً.وأما تحذيرك إياي أن يحبط عملي وسابقتي في الإسلام،فلعمري لو كنت الباغي عليك لكان لك أن تحذرني ذلك،ولكني وجد اللّٰه تعالى يقول:« فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ»(1) ....وأما شق عصا هذه الأمة،فأنا أحق أن أنها عنه....والسلام»(2) .فرد معاوية بنحو أكثر جرأة حيث كتب:«أما بعد، فإن الاين على قلبك،والغطاء على بصرك،والشرة على سيمتك،والغدر من سجيتك،فأبشر بالحرب،واصبر للضرب،فواللّٰه ليرجعن الأمر إلى ما قد علمت،«ِوَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)»(3) فهيهات هيهات يا علي،أخطأت المي،وهوى قلبك فيمن هوى...والسلام»(4) .

فرد عليه الإمام علي (علیه السلام) كاتبا:«أما بعد،فإنك قد رأيت مرور الدنيا وانقضاءها،وتصرمها وتصرفها بأهلها فيما مضى منها.وخير ما اكتسبت مما بقي من الدنيا ما أصاب العباد الصالحون الصادقون فيما مضى منها من التقوى....فكيف أنت صانع إذا تكشفت عنك جلابیب(=جمع جلباب،وهو الثوب فوق جميع الثياب)ما أنت فيه من دنیا قد تبهجت(=تحسنت)بزينتها،وخدعت بلذتها...دعتك فأجبتها،وقادتك فائبعتها،وأمرتك فأطعتها.....وقد دعوت إلى الحرب،فإن كنت صادقة فيما تسر،

ص: 252


1- سورة الحجرات،الآية:9
2- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص189-190.أنظر تمام نهج البلاغة،كتاب رقم58،ص843- 846مع فوار
3- سورة الأعراف،الآية:128
4- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص190

ويعينك عليه الأبتران أخو بني سهم وابن النابغة،فدع الناس جانبا وابرز لما دعوتني إليه من الحرب،والصبر على الضرب...فأنا علي بن أبي طالب،وأنا أبو الحسن والحسين،قاتل جدك عتبة،وأخيك حنظلة،وعمك شيبة،وخالك الوليد،شدخا(=كسرة في الرطب)يوم بدر،وما أنت منهم ببعيد،وذلك السیف معي،وبذلك ألقى عدوي...والسلام»(1).

نلاحظ في رسالة الإمام علي (علیه السلام) الأخيرة أن معركة بدر ما زالت حاضرة في الوجدان.معاوية من جانبه رد متهما عماراً وأصحابه بأنهم هم المحرضون لعلي لالي،فأنا وأنت يا علي (علیه السلام) قرشيان عدنانیان،فما بالك تقبل بأن تكون الصوت الناطق للأرذلين القحطانيين،هؤلاء يفترض أن يستخدموا كأدوات،لا أن تكون الصوت الناطق الهم،كتب معاوية:«أما بعد،فقد أبيت في الغي إلا تمادية لابن السوداء-عمار بن یاسر-وأصحابه،وقد علمت بأنه ما يدعوك إلى ذلك إلا مصرعك وحين الذي لابد لك منه،فإن كنت غير منتو فازدد غيا...وأنت راكب لأسوأ الأمور،ومعضوضل عن الحق بغير فكرية في الدين ولا روية،ثم تكوث العاقبه لغيرك،والسلام»(2).

فرد الإمام علي (علیه السلام):«أما بعد،فإنك من كافر ولدت،فقريب أشبه أباك وأجدادك،وعمك وأخاك وخالك،إذ حملهم الشك وتمني الأباطيل بالجحود على نبي اللّٰه عليه السلام،فضرعوا مصارعهم...وأنا صاحبهم في تلك المواطن، والفال لحدهم،والقاتل لصنادیدهم...وأنت خلقهم،فبئس الخلف يتبع الشلف،في نار جهنم،« لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)»(3).

فرد معاوية كاتباً:«أما بعد، فقد طال في الغي إدراجك،وعن الحرب إبطاؤك، وعن التفاق تقاغسك،وعن الوقوف جداتك،توید وعيد البطل المحامي،وتروغ روغان الثعلب المواري...»(4).

فرد عليه الإمام علي (علیه السلام) كاتباً:«أما بعد، فالعجب لما تتمنى وما يبلغني عنك، وما أعرفني بمنزلتك التي أنت إليها كائن، وليس إبطائي عنك إلا لوقت أنا به مصدق وأنت به مكذب، وكأني بك وأنت تعج في الحرب عجيج الجمال بأثقالها، وكأني بك

ص: 253


1- ابن الأعثم، الفتوح، ج 1، ص 190 - 191. أنظر تمام نهج البلاغة، كتاب رقم 50، ص 833 - 835. مع فوارق.
2- ابن الأعثم، الفتوح، ج 1، ص 191.
3- سورة البقرة، الآية: 258. ابن الأعثم، الفتوح، ج 1، ص 191.
4- ابن الأعثم، الفتوح، ج 1، ص 191.

وأنت تدعوني بابن آكلة الأكباد جزعا من النفاق المتتابع....»(1).

فقال عمرو بن العاص لمعاوية:ويحك يا معاوية،إلى كم تكاتب عليا،فواللّٰه لو اجتمع عليه كل كاتب بأرض الشام،لما قدروا على إجابته،فحسبك من مكاتبه،واعزم على محاربته أو مسالميه(2).

2.خروج الطرفين والاختلاف النوعي بين الجيشين:يقول بعض المؤرخين.... وسار معاوية بخيله ورجله حتى نزل بصفين(في سوريا جنوبي مدينة الرقة)، في ثلاثة وثمانين ألفا ، وذلك لأيام خلت من المحرم، فسبق إلى سهولة الأرض وسعة المرعى وقرب الفرات ، ثم انه بنى بنيانا له، وضرب القباب والخيام والفساطيط، وبنيت المعالف للخيل، واجتمعت إليه العساكر من أطراف البلاد فصار في عشرين ومائة ألف(3).. .

وكتب الإمام علي (علیه السلام) إلى عماله في الآفاق يأمرهم بالمسير إليه،وحث الناس على الجها معه،وعندما وضع رجله في الركاب دعا قائلا:«اللّٰهم إني أعود بك من وعثاء(=مشقة)السفر،وكآبة المنقلب(=الرجوع)،وسوء المنظر في الأهل والمال والولد.اللّٰهم أنت الصاحب في السفر،وأنت الخليفة في الأهل،ولا يجمعهما غيرك،لأن المستخلف لا يكون مستصحبة،والمستصحب لا يكو مستخلفا»(4).

ثم عسكر (علیه السلام) بالخيلة(5)،وفيها خطب قائلا:«....أما بعد،فقد بعث مقدمتي(=صدر جیشي)،وأمرهم بلزوم هذا الملطاط(=حافة الوادي وساحل البحر)حتى يأتيهم أمري،وقد رأيت أن أقطع هذه الطفة إلى شرذمة(=النفر القليلون)منكم،موطنين أكناف دجلة(=يجعلون جوانب دجلة وطنا)،فأنهضهم معكم إلى عدوكم،وأجعلهم من امداد القوة لكم»(6).ولم يبرح (علیه السلام) التخيلة حتى قدم عليه ابن عباس بأهل البصرة.

ونادي الإمام علي (علیه السلام) في الناس بالرحيل،فركل الناس،وكان تحركه (علیه السلام) من التخيلة لخمس مضين من شوال سنة36هج،وهم يومئذ تسعون ألفا، ثمانمائة رجل من

ص: 254


1- ابن الأعثم، الفتوح، ج 1، ص 192.
2- ابن الأعثم، الفتوح، ج 1، ص 192. أنظر الرسائل المتبادلة بين الطرفين قبل خروجهما : نصر بن مزاحم، وقعة صفین، ص 86 - 91.
3- ابن الأعثم، الفتوح، ج 1، ص 194.
4- نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح، (46)، ص 86.
5- من الآن فصاعدا سيتردد كثيرة اسم النخيلة»، وهي منطقة تقع قرب الكوفة، في الطريق منها إلى كربلاء، وكانت تعتبر منطقة لنجمع الجند والعساكر للانطلاق في أي مهمة عسكرية .
6- نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح، (48)، ص 87.

الأنصار،وتسعمائة ممن بايع تحت الشجرة(فيهم أكثر من ثمانين بدرياً)(1) .

من هؤلاء البدريين سبعة عشر من المهاجرين،وسبعون من الأنصار.

أقول:هذا يعني أن عدد الصحابة في جيش الإمام علي (علیه السلام) كان كبيرا جدا ...هذا من ناحية.ومن ناحية أخرى،إذا صممت هذه الأرقام،فهذا يعني أن نسبة المهاجرين البدريين إلى المجموع الكلي من الصحابة الذين كانوا في جيش الإمام علي (علیه السلام) هي%19.5،في حين أن نسبة الأنصار البدريين هي 80.5 %،وإذا تذكرنا أن كل الأنصار هم من قحطان،في حين أن أغلب المهاجرين من عدنان(فبعضهم من قحطان كعمار بن ياسر مثلا)،فعندئذ نعرف أن نسبة الصحابة البدريين من قحطان في جيش الإمام علي علي تتجاوز قطعة80.5.

في الطريق،مر الإمام علي (علیه السلام) وأصحابه على كربلاء:يروي أحمد بن حنبل في ممسني عن عبد اللّٰه بن نجي عن أبيه أنه سار مع علي (علیه السلام)،وكان صاحب مطهرته،فلما حاذی نینوى،وهو منطلق إلى صفين،فنادى علي (علیه السلام):إصبر أبا عبد اللّٰه،إصبر أبا عبد اللّٰه بشط الفرات!قلت:وماذا قال؟قال: دخلت على النبي (صلی اللّه علیه واله)ذات يوم وعيناه تفيضان،قلت:يا نبي اللّٰه أغضبك أحد؟ما شا عينيك تفيضان؟قال:بل قام من عندي جبریل قبل،فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات،قال فقال:هل لك أن أمك من تربته؟قال قلت:نعم،فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها،فلم أملك عيني أن فاضتا(2) .

ويقول هرثمة بن شليم:غزونا مع علي بن أبي طالب (علیه السلام) غزوة صفين،فلما نزلنا بكربلاء صلى بنا صلاة،فلما سئم،رفع إليه من تربتها فشمها،ثم قال: واها للي أيتها التربة،ليحشر منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب(3) .

فلما رجع هرثمة من غزوته إلى امرأته-وهي جرداء بنت سمير وكانت شيعة العلي (علیه السلام)-فقال لها زوجها هرثمة:ألا أعجب من صديق أبي الحسن؟لما نزلنا كربلاء رفع إليه من تربتها فشمها وقال:واها لك یا تربة،ليحشرن منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب.وما علمه بالغيب؟فقالت:دعنا منك أيها الرجل،فإن أمير المؤمنين لم يقل الاحقا.

فلما بعث عبيد اللّٰه بن زياد البعث الذي بعثه إلى الحسين بن علي (علیه السلام) وأصحابه،

ص: 255


1- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص201
2- مسند أحمد بن حنبل،مسند العشرة المبشرين بالجنة،ومن مسند علي بن أبي طالب
3- راجع قريبة منه،ابن أبي يبة،المصنف،8/633،رقم260

قال: كنت فيهم في الخيل التي بعث إليهم، فلما انتهيت إلى القوم وحسين وأصحابه عرفت المنزل الذي نزل بنا علي فيه، والبقعة التي رفع إليها من ترابها، والقول الذي قاله فكرهت مسيري فأقبلت على فرسي حتى وقفت على الحسين فسلمت عليه وحدثته بالذي سمعت من أبيه في هذا المنزل، فقال الحسين معنا أنت أو علينا؟ فقلت يا ابن رسول اللّه لا معك ولا عليك تركت أهلي وولدي أخاف عليهم من ابن زياد، فقال الحسين: فول هربا حتى لا ترى لنا مقتلا، فوالذي نفس محمد بيده لا يرى مقتلنا اليوم رجل ولا يعيننا إلا أدخله اللّه النار، قال: فأقبلت في الأرض هاربا حتى خفي علي مقتله.(1)

ويقول سعيد بن وهب:عندما تحرك علي (علیه السلام) إلى صفين،بعي مخنف بن سليم

إليه (علیه السلام)،فأتيته بكربلاء،فوجده يشير بيده ويقول:ها هنا،ها هنا.

فقال له رجل:وما ذلك يا أمير المؤمنين؟

قال:ثقل لآل محمد ينزل ها هنا، فويل لهم منهم وويل لكم منهم.

فقال له الرجل:ما معنى هذا الكلام يا أمير المؤمنين؟

قال (علیه السلام):ويل لهم منكم،تقتلونهم،و«ويل لكم منهم»،يدخلكم اللّٰه بقتلهم إلى النار.

وعن الحسن بن كثير عن أبيه أن عليا (علیه السلام) أتي كربلاء،فوقف بها،فقيل:يا أمير

المؤمنين، هذه كربلاء.

قال:ذا كرب وبلاء.

ثم أومأ بيده إلى مكان،فقال:ها هنا موضع رحالهم،ومناخ ركابهم.وأومأ بيده

إلى موضع آخر،فقال:ها هنا مهراق دمائهم(2) .

ومن المواقف المعبرة التي وقعت له في الطريق،أنه عندما وصل الإمام علي (علیه السلام)

إلى المدائن،دخل صور في الحائط، قال (علیه السلام):كانت هذه كنیسة؟

قالوا:نعم،كان يشرك فيها اللّٰه كثيراً.

قال (علیه السلام):وكان يذكر فيها اللّٰه كثيراً(3) .

ص: 256


1- نصر بن مزاحم،وقعة صفين ص140-141
2- المصدر السابق،ص141-142
3- الخطيب البغدادي،تاريخ بغداد،9/ 213

فلاحظ كيف ننظر نحن إلى الجانب السلبي من أديان الآخرين ومعابدهم، لكن الإمام علي (علیه السلام) كان ينظر إلى الجانب الإيجابي أيضا.

3.الإمام علي (علیه السلام) يطلب من حجر بن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي الكف من البراءة من أهل الشام ولعنهم:يقول ابن الأعثم....بعد أن خطب علي (علیه السلام) بأصحابه خطبة بليغة،وتناوب أصحابه على التعليق وإبداء الرغبة في مواجهة الأعداء،وثب الصحابي عبد اللّٰه بن بدیل بن ورقاء الخزاعي،وقدم تشخیصا دقيقا للحال،فقال:يا أمير المؤمنين،إن أهل الشام لو كانوا اللّٰه عزوجل يقاتلون،وإياه يريدون،لما خالفونا،ولكنهم إنما يقاتلوننا على دنياهم التي في أيديهم،وعلى إحن وترات،وعداوة يجدونها في صدورهم،ويضمرونها في أنفسهم.ثم قال:أيها الناس،وكيف يبايع معاوية عليا،وقد قتل أخاه وخاله وجده وعم جدو في يوم بدر؟!واللّٰه ما أظل أنهم يبايعون عليها أبدا،أو يقطع هاماتهم،ويكسو حواجبهم بعمير الحديد.

فعندها خرج حجر بن عدي وعمرو بن الحمق الزاعي،فجعلا يظهران البراءة من أهل الشام،واللعنة لهم،فأرسل إليهما علي (علیه السلام) أن لها عمايبلغني عنهما،فأقبلا إلى علي (علیه السلام)،وقالا:يا أمير المؤمنين ألسنا على الحق؟

قال:بلی.

قالا:فلم تمنعنا عن شتمهم ولعنهم؟

فقال (علیه السلام):لأني أكره لكم أن تكونوا سبابين،ولكن لو وصفتم أعمالهم،وذكرم أحوالهم،لكان ذلك أصوب في القول،وأبلغ في العذر،ولو قلتم:اللّٰهم احقن دماءنا ودماءهم،وأصلح ذات بيننا وبينهم،واهدهم من ضلالتهم،حتى يعرف الحق من جهله،ويرعوي عن الغي والعدواني من لهج به(1) .

فقالا:يا أمير المؤمنين،فإننا نقبل عظتك ونتأدب بأديك(2) .

في هذا الموقف درس أخلاقي بليغ،ينبغي أن نستفيد منه جميعا في سلوكنا مع الخصوم.

بعد ذلك يقول ابن الأعثم ونصر بن مزاحم أن عمرو بن الحوق قال لعلي (علیه السلام):إني واللّٰه يا أمير المؤمنين،ما أجبتك ولا بايعتك على قرابة بيني وبينك،ولا إرادة مال

ص: 257


1- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(206)،ص323
2- ابن الأعثم، الفتوح،ج1،ص200.نصر بن مزاحم،وقعة صفين،ص103-104.أنظر تمام نهج البلاغة،كلام له (علیه السلام) رقم127،دون ذكر الاسم حجر وعمرو،ص655-656.مع فوارق

تؤتينيه،ولا التماس سلطان یرفع ذكری به ولكن احببتك لخصال خمس: انك ابن عم رسول اللَّه صلّی اللَّه علیه وآله وسلّم واول من آمن به، وزوج سیده نساء الأمه فاطمه بنت محمّد صلّی اللَّه علیه وآله وسلّم وأبو الذریه التی بقیت فینا من رسول اللَّه صلّی اللَّه علیه وآله وسلّم واعظم رجل من المهاجرین سهماً فی الجهاد. فلو أنی كلفت نقل الجبال الرواسی ونزح البحور الطوامی حتی یأتی علی یومی فی أمر اقوّی به ولیّك واوهن به عدوك، ما رأیت انی قد أدیت فیه كل الذی یحق علی من حقك.

فقال علي غير:اللّهم نوّر قلبه بالتقی واهده الی صراط مستقیم، لیت أن فی جندی مائه مثلك. فقال حجر: إذاً واللَّه یا أمیرالمؤمنین صح جندك وقل فیهم من یُغّشك(1)

4.عودة مسلسل المراسلات مع معاوية بعد وصول الإمام علي (علیه السلام) إلى الرقة(2) (شمال صفین):يقول ابن الأعثم....سار علي (علیه السلام) حتى دخل الرقة، فوجد أهلها يومئذ عثمانية،وهواهم مع معاوية،فلما نظروا إلى خيل علي (علیه السلام) قد وافتهم،غلقوا باب المدينة،وتحصنوا فيها.

فنزل علي (علیه السلام) على شاطئ الفرات،ثم كتب إلى معاوية:«...أما بعد،ف_إن اللّه عب_ادا آمن_وا بالتنزيل،وعرفوا التأوي_ل ،وفقه_وا في الدين ، وب_ين االلّه فضلهم في القرآن الحكيم ، وأن_تم في ذلك الزم_ان أعداء رسول االلّه صلى اللّه عليه ، تك_ذبون بالكت_اب ، مجمعون عل_ى حرب المسلمين .......ثمّ انّ اولى النّاس بامر هذه الامّة قديما و حديثا اقربها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اعلمها بالكتاب و افقهها في الدّين و اوّلها اسلاما و افضلها جهادا....فاتقوا اللّٰه الذي إليه ترجعون.... الا و انّى ادعوكم الى كتاب اللّه عزوجل و سنّة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و حقن دماء هذه الامّة لن تزدادوا من اللّه الاّ بعدا فان قبلتم اصبتم رشدكم و اهتديتم لحظّكم و ان ابيتم الاّ الفرقة و شقّ عصا هذه الامّة لن تزدادوا من اللّه الاّ بعدا و لن يزداد الرّبّ عليكم الاّ سخطا و السّلام»(3) .

فرد عليه معاوية ردة فيه جرأة مثيرة كتب فيه: «أما بعد، فإن الحسد عشرة أجزاء، تسعة منها فيك، وواحد في سائر الناس، وذلك أنه لم تكن أمور هذه الأمة لأحد بعد

ص: 258


1- ابن مزاحم،وقعة صفين،ص103
2- مدينة الرقة تقع شمال وسط سوريا،على الضفة الشمالية لنهر الفرات،على بعد حوالي160كم شرق مدينة حلب
3- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص216-217.تمام نهج البلاغة،كتاب رقم48،ص826-828.والألفاظ لتمام النهج

النبي (صلی اللّه علیه واله)؛إلا وله قد حدت،عليه قد بغیت.حسدت، وعليه قد بغيت، عرفنا ذلك منك في نظرك الشزر، وقولك الهجر، وتنفّسك الصعداء، وإبطائك علي الخلفاء، تقاد إلي البيعة كما يقاد الجمل الشارد حتّي تبايع وأنت كاره، ثمّ إنّي لا أنسي فعلك بعثمان بن عفّان....»(1).

طبعا هنا يحاول معاوية فتح ملفات قديمة تتعلق بعلاقة الإمام علي (علیه السلام) مع الخليفة الأول والثاني،حتى يحدث بلبلة في صفوف جيش علي (علیه السلام).لكن ما كانت لتنطلي هذه المحاولات على الإمام علي (علیه السلام)،فكان رده (علیه السلام) يجمع بين الصدق وعدم التصريح بما يضر بحال جيشه.

كتب الإمام علي (علیه السلام):«أما بعد،....وذكرت حسدي على الخلفاء وإبطائي عنهم وبغيي عليهم.فأما الحسد والبغي عليهم،فمعاد اللّٰه أن أكون أسررته أو أعلنته؛بل أنا المحسود والمبغي عليه.(وإن يكن ذلك كذلك فليست الجناية عليك، فيكون العذر إليك).و أمّا الإبطاء عنهم و الكراهه لأمرهم،فإنّی لست أعتذر منه إلیك و لا إلی الناس؛و ذلك لأنّ اللّه جلّ ذكره لمّا قبض نبیّه محمّدا صلّی اللّه علیه و آله و سلم اختلف الناس،فقالت قریش:منّا الأمیر،و قالت الأنصار:منّا الأمیر؛فقالت قریش:

منّا محمّد صلّی اللّه علیه و آله و سلم،فنحن أحقّ بالأمر منكم؛فعرفت ذلك الأنصار فسلّمت لقریش الولایه و السلطان؛فإذا استحقّوها بمحمّد صلّی اللّه علیه و آله و سلم دون الأنصار،فإنّ أولی الناس بمحمّد صلّی اللّه علیه و آله و سلم أحقّ بها منهم،و إلاّ فإنّ الأنصار أعظم العرب فیها....(وقلت أني كن أقاد كما يقاد الجمل المخشوش(=الجمل الذي يجعل في أنفه خشبة لينقاد)حتى أبايع ولعمر اللّه لقد أردت أن تذم فمدحت ، وأن تفضح فافتضحت ، وما على المسلم من غضاضة(=نقص)في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكا في دينه أو مر تابا في يقينه ، وهذه حجتي عليك وعلي غيرك قصدها،ولكني أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها)(2).

وأما ما ذكرت من أمر عثمان،وقطيعتي چمي،وتأليبي الناس عليه،فإن عثمان عمل ما قد علمت من الحدث،فصنع الناس به ما قد رأيت من التغيير.وإنك لتعلم يا معاوية،أني قد كنت في عزلة عنه،يعني من ذلك ما وسع أصحاب محمد (صلی اللّه علیه واله)،إلا أن تتجنی فتجنى ما بدا لك(3)....

ص: 259


1- ابن الأعثم، الفتوح، ج 1، ص 217. تمام نهج البلاغة، كتاب رقم 49، ص 828 - 832. والألفاظ لتمام النهج.
2- نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح، (28)، ص 387 - 388. ما بين القوسين من نهج البلاغة ، ويبدو أن المؤرخين خلطوا خطبتين معا في واحدة، أو أنها كانت واحدة لكن جعلوها اثنتين .
3- ابن الأعثم، الفتوح، ج 1، ص 218.

فرد معاوية محاولا إحراج الإمام علي (علیه السلام) أمام أصحابه بكيل المديح للخليفة الأول والثاني،فضلا عن الثالث،وكانه صار هو الناطق الرسمي باسمهم والمحامي عنهم:«أما بعد! فإن اللّه تبارك وتعالى اصطفى محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم بعلمه، وجعله الأمين على وحيه، والرسول إلى خلقه، واجتبي له من المهاجرين وخيار المسلمين أعوانا ووزراء وأصحابا، أيده بهم، فكانوا عنده على قدر فضائلهم ومنازلهم في الإسلام، فكان أفضل أصحابه في إسلامه وأنصحهم لله ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم الخليفة من بعده، أبو بكر الصديق، وخليفة الخليفة عمر بن الخطاب، وثالث الخلفاء عثمان بن عفان، فأما الصديق والفاروق فما زلت لهما مبغضا عدوا حتى مضيا لسبيلهما محمودين.

ثم بغيت أشد البغي على ابن عمك عثمان بن عفان، فكان الواجب أن لا تفعل به ذلك لقرابته وصهره، فقطعت رحمه وقبحت محاسنه وألبت الناس عليه....وأقسم باللّه قسما صادقا أن لو قمت في أمره مقاما واحدا فنهنهت (=زجرت) نه الناس لما عدل بك أحد من الناس، ولكنك أحببت قتله، والدليل على ذلك تعظيمك لأقدار قتلته، فهم عضدك وأنصارك ويدك وبطانتك، ثم إنك تنتفي وتتبرأ من دمه، فإن كنت صادقا مكّنّا من قتلة عثمان حتى نقتلهم به ونحن أسرع الناس إجابة لك، فإن فعلت ذلك كان الأمر على ما تريد، وإلا فليس لك ولأصحابك عندي إلا السيف والسلام»(1) .

فرد عليه (علیه السلام) ردا مفحما كتب فيه:«أمّا بعد، فإنّه أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء اللّه فيه نبيّه محمّداً صلى اللّه عليه و آله و سلم لدينه وتأييده إيّاه بمن أيّده وما أنعم عليه في الوحي والهدي، فالحمد لله الّذي صدّق له الوعد.....حتّي ظهر أمر اللّه وهم كارهون، وكان أشدّ الناس عليه اسرته الأدني فالأدني من قومه إلا من عصم اللّه منهم، ولقد خبّأ لنا منك الدهر خبياً معجباً إذا طفقت(=أخذت)تخبرنا عن بلاء اللّه في نبيّه محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلم وفينا، فكأنّك في ذلك كجالب التمر إلي هجر(=مثل قدیم،وهجر هي البحرين أو مدينة بالبحرين كثيرة النخل).

ذكرت أنّ أفضل أصحابه خليفته الصدّيق وخليفة خليفته الفاروق، إنّ مكانهما في الإسلام لعظيم، وإنّ مصابهما لشديد في حبّهما اللّه وجزاهما بأحسن أعمالهما، وذكرت أنّ عثمان كان لهم في الخلافة ثالثاً، فذكرت لهؤلاء فضلاً ان هو تمّ اعتزلك ، وإن نقص لم يلحقك ثلمه.وما أنت والصديق..وما أنت والفاروق...وأمّا عثمان فإن كان محسناً فسيلقي ربّاً شكوراً يضاعف له الحسنات ويمحو عنه السيّئات،

ص: 260


1- ابن الأعثم ،الفتوح،ج1،ص219

وإن كان مسيئاً فسيلقي ربّاً غفوراً لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، ولكنّي لاُحبّ أن تخبرني يا ابن هند ما للطلقاء وأولاد الطلقاء والأحزاب و المفاضلة بين المهاجرين الأوّلين؟!

....وكنت تسألني عن قتلة عثمان،وليس لك أن تسأل ذلك،ولا إلى أن أدفعهم إليك،وإنما ذلك إلى ورثة عثمان وأولاده،وهم أولى بطلب دم أبيهم منك.فإن زعمت أنك أقوى على الطلب بدم عثمان،فادخل فيما دخل في المهاجرون والأنصار،وحاكم القوم إلي،أحملك وإياهم على كتاب اللّٰه عزوجل وسنة نبيه محمد (صلی اللّه علیه واله)....»(1) .

من ناحية أخرى،تحدث ابن الأعثم عن أن عليا (علیه السلام) عندما وصل إلى الرقة،نزل راهب هناك من صومعه،فقال لعلي (صلی اللّه علیه واله):إن عندنا كتابة نتوارثه عن آبائنا،كتبه أصحاب عیسی بن مریم،أعرضه عليك؟

قال (علیه السلام):نعم.

فقرأ الراهب ما تحدثت به كتب أصحاب عیسی (علیه السلام) من بعث نبي في الأميين،واختلاف أمته من بعده،حتى يمر رجل من أمته بشاطئ هذا الفرات،يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر،الدنيا أهون عليه من الرماد في يوم عصفت فيه الريح والموت أهون عليه من شرب الماء على الظمآن،وأن من أدرك ذلك العبد الصالح فلينصره،فإن القتل معه شهادة.

فبكى (علیه السلام) ثم قال:الحمد لله الذي لم أكن عنده منسيا،الحمد اللّٰه الذي ذكرني عنده في كتب الأبرار.

ومضى الراهب معه،فكان فيما ذكروا يتغدى مع علي (علیه السلام) ويتعشى،حتى أصيب

يوم صفين،وصلى عليه (علیه السلام) ودفته، وقال:هذا ما أهل البيت.واستغفر له مراراً(2) .

5.الإمام علي (علیه السلام) لم يجبر أهل الرقة على عقد الجسر على الفرات:يقول ابن الأعثم وغیره....ثم دعا علي (علیه السلام) أهل القة فقال:اعقدوا لي جسرة على هذا الفرات حتى أعثر عليه أنا وأصحابي إلى قتال معاوية.

ص: 261


1- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص219-221.تمام نهج البلاغة،كتاب رقم 49،ص 828-832.مع فوارق
2- نصر بن مزاحم،وقعة صفين،ص147-148،ابن أبي الحديد،شرح نهج البلاغة،مج2،ج3،ص 119.أقول:لكن لم أعثر في الأناجيل المتداولة على شيء من هذا القبيل،فإن كانت الرواية التاريخية هذه صحيحة،فربما خفي علينا بعض ما كان موجودة عند بعض الرهبان،وإلا قد تكون من اختلاق بعض الرواة

فأبوا ذلك.وعلم علي (علیه السلام) هوى أهل الرقة في معاوية،فتركهم ونادى في أصحابه:نمضي لكي نعبر على جسر منبج(1) .

فخرج الأشتر إلى أهل الرقة مغضبا،وقال:واللّٰه يا أهل الرقة لئن لم تعقدوا لأمير

المؤمنين جسرا لأجردن فيه السيف،ولأقتلن الرجال ولأحوين الأموال.

فلما سمع أهل الرقة ذلك،قال بعضهم لبعض:إن الأشتر واللّٰه يفي بما يقول.

ثم إنهم ركبوا خلف علي بن أبي طالب فردوه وقالوا: ارجع يا أمير المؤمنين! فإننا عاقدون لك جسرا.فرجع علي إلى الرقة، وعقدوا له جسرا على الفرات، ونادى في أصحابه أن اركبوا! فركب الناس وعبرت الأثقال كلها، وعبر الناس بأجمعهم، وعلي (علیه السلام) واقف في ألف فارس من أصحابه، ثم عبر آخر الناس(2) .

6.الإمام علي (علیه السلام)يوصي الأشتر بأن لا يبدأ القوم بالقتال ثم اشتعال معركة صفين:كتب ابن الأعثم:ونزل علي (علیه السلام) على شاطئ الفرات حذاء مدينة الرقة، وبلغ ذلك معاوية، فدعا بأبي الأعور السلمي، فضم إليه جيشا كثيفا من أهل الشام، ثم قال: سر بهذا الجيش نحو علي (علیه السلام)، فلعلك أن تواقعه وقعة قبل مصيره إلينا. قال: فسار أبو الأعور في جند من أهل الشام يريد عليا (علیه السلام)، وبلغ ذلك عليا (علیه السلام)، فدعا زياد بن النضر وشريح بن هانيء فضم إليهما جيشا وقدمهم بين يديه نحو أبي الأعور فساروا حتى إذا بلغوا إلى الموضع الذي فيه أهل الشام نظروا إلى جيش عظيم، فلم يقاتلوا وبعثوا إلى علي (علیه السلام)فأخبروه بذلك.

فدعا علي (علیه السلام) بالأشتر النخعي فقال: يا مالك! إن زياد بن النضر وشريح بن هانئ أرسلا إلي يعلماني أنهما لقيا أبا الأعور في جند من أهل الشام كثيف، وقد أخبرني الرسول أنه ترك القوم متوقفين فالنجاء النجاء إلى أصحابك! فإذا أتيت القوم فلا تبدأهم بقتال حتى يبدأوك، ثم ادعهم واعذر إليهم مرة بعد أخرى، فإن أجابوك، إلى ما تريد فالحمد لله على ذلك، وإن أبوا إلا القتال فاستعن باللّه عز وجل عليهم، فالقهم بحد وجد، وابعث إلي بخبرك، وما يكون منك ومن أمرك والسلام.(3) .

ص: 262


1- تقع منبج في الشمال الشرقي من حلب،وتبعد عنها 80 كم،وهي مدينة عريقة ازدهرت واندثرت أكثر من مرة.لها جذور حضارية وثقافية عميقة في التاريخ
2- ابن اعثم،الفتوح،ج1،ص226.نصر بن مزاحم،وقعة صفين،ص151-152.ابن ابي الحديد،شرح نهج البلاغة،مج2،ج3،ص122
3- ابن اعثم،الفتوح،ج1،ص228

كتب ابن الأعثم إن أبا الأعور عندما نظر إلى جند أهل العراق قد وافوا،صاح بأصحابه:احملوا على هؤلاء الكلاب،فحمل القوم بعضهم على بعض،فاقتتلوا قتالا شديدا(لاحظ أننا ما زلنا في شهر محرم الذي يحرم فيه القتال). واستمر القتال الضاري إلى الليل،فلما كان وجه السحر انهزم أبو الأعور في أصحابه،حتى صار إلى معاوية،فأخبره ما كان من أمره،فقال معاوية:فكيف رأيت حرب القوم؟فقال:يا معاوية لا تسأل عن شيء فإن الخطر عظيم(1) .

الخلاصة:كنا نواصل سرد أحداث معركة صفين،ومحاولات الإمام علي (علیه السلام) لتفاديها،واستعرضنا مراسلات جديدة بين الإمام علي (علیه السلام) ومعاوية،تضمنت حجج معاوية،فمعاوية حسب رأيه-وخلافا للناكثين-لم يكن في المدينة أصلا، ولم يبايع علیا (علیه السلام)،حتى نقول بوجوب وفائه بالبيعة.وعلى هذا فمعاوية- وغيره ممن لم يشهد البيعة-لم يلتزم بعقد البيعة،حتى تلزمه بما ألزم نفسه.مضافة إلى ذلك أن معاوية ائهم عليا (علیه السلام) بالتورط في دم عثمان، ومعاوية بوصفه ابن عم لعثمان،يعتبر نفسه ولي الأم.

وذكرنا في المقابل ردود الإمام علي (علیه السلام) على تلك الحجج،فمن بايع عليا (علیه السلام)،هم من بايع أبا بكر وعمر وعثمان،فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد،وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار،فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماما،كان اللّٰه رضي.موقفه (علیه السلام) واضح؛معيار شرعية الحاكم في الإسلام إن كان هو الصب الإلهي،فهذا

ينطبق عليه (علیه السلام) لحظة وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).وإن كان معیار شرعية الحاكم شورى أهل الحل والعقد،فهذا قد تحقق بعد مقتل عثمان.فعلي (علیه السلام)هو الحاكم الشرعي بكل المقاييس، ولا يحل لاي مسلم ان يتجاهل النصب الالهي - ان كان هو المعيار المعتمد – او اختيار اهل الحل والعقد - الذي جرت عليه سيرة المسلمين فعد وفاة الرسول (صلی اللّه علیه واله) - بدعوى انه لم يكن حاضرا لحظة الاختيار، لان الشورى ان كانت لاهل الحل والعقد، فمعاوية ليس منهم اصلا، حتى يقال انه تم تجاوز رايه.أما بالنسبة إلى مقتل عثمان،فهو أبرأ الناس من دمي.إذن فعلى أي أساس يستند معاوية في رفضه مبايعة علي (صلی اللّه علیه واله)؟!

ثم تحدثنا عن خروج الطرفين من العراق والشام باتجاه صفين،والاختلاف النوعي بين جند الجيشين،وتحدثنا عن مرور الإمام علي (علیه السلام)بكربلاء،وأنه (علیه السلام) عندما سمع بعض أصحابه يسب الخصوم من أهل الشام نهى عن ذلك.

ص: 263


1- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص228-230

في الفصل القادم سنواصل سرد أحداث معركة صفين،وسنبدأ من قطع معاوية الماء عن الإمام علي (علیه السلام) وجيشه،بحجة أن عثمان يل عطشانا! وهي الحجة ذاتها التي ستستخدم لمنع الماء عن الإمام الحسين (علیه السلام) وأصحابه وأهل بيته في كربلاء

ص: 264

(15)مناوشات ثم انطلاق حرب صفين

وصلنا في الفصل السابق إلى لحظة وصول الإمام علي (علیه السلام) إلى الرقة القريبة جدا من صفين،ثم عبوره الجسر مع جنده لصفين،وتحدثنا عن بداية المناوشات بين الجيشين،واستمرار المراسلات الحادة بين الإمام علي (علیه السلام) ومعاوية.

نريد في هذا الفصل مواصلة سرد أحداث صفين،نبدأ من حيث انتهينا، وبالتحديد

من لحظة منع معاوية الماء عن الإمام علي (علیه السلام) وجيشه.

لكن قبل ذلك،أريد أن أذكر موقفا ذا دلالة،يرويه أسماء بن حكیم الفزاري، حيث قال:كنا بصفين مع علي (علیه السلام)،تحت راية عمار بن یاسر،ارتفاع الضحي،وقد استظللنا برداء أحمر،إذ أقبل رجل يستقرئ الصف،حتى انتهى إلينا،فقال: ایكم عمار بن یاسر؟

فقال عمار:أنا عمار.

قال:أبو اليقظان؟

قال عمار:نعم.

قال:إن لي إليك حاجة، فأنطق بها سرا أو علانية؟

قال عمار:اختر لنفسك أيهما شئت.

قال:لا بل علانية.قال عمار:فانطق.

قال: إني خرجت من أهلي مستبصرا في الحق الذي نحن عليه لا أشك في ضلالة هؤلاء القوم وأنهم على الباطل، فلم أزل على ذلك مستبصرا حتى كان ليلتي هذه صباح يومنا هذا، فتقدم منادينا فشهد ألا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه ونادى بالصلاة، فنادى مناديهم بمثل ذلك، ثم أقيمت الصلاة فصلينا صلاة واحدة، ودعونا دعوة واحدة، وتلونا كتابا واحدا، ورسولنا واحد، فأدركني الشك في ليلتي هذه، فبت بليلة لا يعلمها إلا اللّه حتى أصبحت، فأتيت أمير المؤمنين فذكرت ذلك له فقال: هل لقيت عمار بن ياسر؟ قلت: لا. قال:فالقه فانظر ما يقول لك عمار؟فجتك لذلك.

ص: 265

فقال عمار:تعرف صاحب الراية السوداء المقابلة لي؟ فإنها راية عمرو بن العاص قاتلها مع رسول اللّه ثلاث مرات وهذه الرابعة. فما هي بخيرهن ولا أبرهن بل شرهن وأفجرهن.(يعني هذه الراية أكثر شرا وفجورا من رايتهم عندما كانوا مشركین صریحي الكفر،ربما لسببين:أولهما أنهم الآن يدعون الإسلام ويبطنون شيئا آخر،وثانيهما لأنها راية بني أمية خاصة دون قریش عامة).أشهدت بدرا وأحدا ويوم حنين،أو شهدها أب لك،فيخبرك عنها؟

قال:لا.

قال عمار:إن مراكزنا اليوم على مراكز رايات رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)يوم بدر ويوم احد ويوم حنين ، وإن رايات هؤلاء على مراكز رايات المشركين من الاحزاب.فهل ترى هذا المعسكر ومن فيه؟واللّه لوددت ان جميع من فيه ممن مع معاوية يريد قتالنا مفارقا للذي نحن عليه كانوا خلقا واحدا فقطعته وذبحته. واللّه لدماؤهم جميعا أحل من دم عصفور،أفتری دم عصفور حرام؟

قال:لا بل حلال.

قال عمار:فإنهم حلال كذلك،أتراني بين لك؟

قال:قد بينت لي.

قال:فأختر أي ذلك أحببت.

فانصرف الرجل،فدعاه عمار ثم قال(وكأنه يريد تهيئة الرجل لمضاعفات حرب صفین):أما إنهم سیضربونكم بأسیافهم حتى یرتاب المبطلون منكم فیقولوا لو لم یكونوا على حق ما أظهروا علینا و اللّه ما هم من الحق على ما یقذى عین ذباب و اللّه لو ضربونا بأسیافهم حتى یبلغونا سعفات هجر(نخيل البحرين،كناية عن الاضطرار للانسحاب في المعركة) لعلمنا أنا على حق وأنهم على باطل(1) .

تذكر هذه القصة،وأبقها حاضرة في ذهنك،ولاحظ استعانة الإمام علي (علیه السلام) بعمار البث الوعي في أوساط الجند ولثبيت قلوبهم وشد عزائمهم،لأنا سنستفيد من ذلك عندما نصل إلى تحليل أسباب التدهور المفاجئ لوضع جيش الإمام علي (علیه السلام).

1.معاوية يحول بين جيش الإمام علي (علیه السلام) والماء بذريعة مقتل عثمان عطشانة والإمام علي (علیه السلام) لا يرد بالمثل:يقول ابن اعثم وآخرون... .نزل علي (علیه السلام) في

ص: 266


1- ابن ابی الحدید،شرح نهج البلاغة،مج3،ج5،ص146-147

صفين بالعساكر والأثقال،وذلك في النصف من المحرم(37هج)،وأمر معاوية أصحابه،فنزلوا على شاطئ الفرات،وحالوا بين علي (علیه السلام) وأصحابه وبين الماء.وأرسل أصحاب علي (علیه السلام) بالعبيد والأحرار ليستقوا الماء من الفرات، فإذا هم بأبي الأعور،وقد صفت خيله على شاطئ الفرات،وحال بينهم وبين الماء.فرجع العبيد إلى مواليهم يخبرونهم بذلك،ووثب الناس إلى علي (علیه السلام) يخبروته بذلك.

فقام (علیه السلام) وقال:«قد استطعموكم القتال، فاقروا علی مذله، و تاخیر محله، او رورا السیوفكم من الدماء ترووا من الماء، فالموت فی حیاتكم مقهورین، و الحیاه فی موتكم قاهرین. الا و ان معاویه قاد لمه من الغواه، و عمس علیهم الخبر حتی جعلوا نحورهم اغراض المنیه»(1) .

ودعا علي (علیه السلام) صعصعة بن صوحان العبدي وقال له:انطلق إلى معاوية، وقل له إن خيلك قد حالت بيننا وبين الماء،ولو ا سبقناك لم نحل بينك وبينه،فإن شئت فخل عن الماء حتى نستوي فيه نحن وأنت،وإن شئت قاتلناك عليه، حتى يكون لمن غلب،وتركنا ما جئنا له من الحرب.

فأقبل صعصعة فقال:يا معاوية إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) يقول لك:إننا قد سرنا مسيرنا هذا وإني أكره قتالكم قبل الإعذار إليكم، فإنك قدمت خيلك فقاتلتنا من قبل أن نقاتلك وبدأتنا بالقتال ونحن من رأينا الكف حتى نعذر إليك ونحتج عليك، وهذه مرة أخرى قد فعلتموها، حلتم بين الناس والماء، وأيم اللّه لنشربن منه شئت أم أبيت! فامنن إن قدرت عليه من قبل إن نغلب فيكون الغالب هو الشارب.

فقال لعمرو بن العاص: ما ترى أبا عبد اللّه؟

فقال: أرى أن عليا لا يظمأ وفي يده أعنة الخيل وهو ينظر إلى الفرات دون أن يشرب منه، وإنما جاء لغير الماء فخل عن الماء حتى يشرب ونشرب.

قال: فقال الوليد بن عقبة(2): يا معاوية! إن هؤلاء قد منعوا عثمان بن عفان الماء أربعين يوما وحصروه، فامنعهم إياه حتى يموتوا عطشا واقتلهم قاتلهم اللّه أنى يؤفكون.....

ص: 267


1- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(51)،ص88
2- تذكر أنه هو الذي وصفه القرآن با «الفاسق، في الآية : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ...)، وهو الذي ولاه عثمان على الكوفة، وشهدوا عليه بشرب الخمر، وصلى بهم صلاة الفجر أربع ركعات.

يقول نصر بن مزاحم،وقال عبد اللّٰه بن سعد بن أبي سرح(1)-وهو أخو عثمان من الرضاعة-:امنعهم الماء إلى الليل،فإنهم إن لم يقدروا عليه رجعوا،وكان رجوعهم هزيمتهم،امنعهم الماء منعهم اللّٰه يوم القيامة.

فقال صعصعة بن صوحان:إنما يمنعه اللّٰه يوم القيامة الكفرة الفجرة شربة الخمر،ضربك وضرب هذا الفاسق-يعني الوليد بن عقبة-فتواثبوا إليه يشتمونه ويتهددونه،فقال معاوية:كفوا عن الرجل فإنه رسول(2) .

لاحظ أن منع الماء عن أهل البيت (علیهم السلام) وأصحابهم صار شة لبني أمية، وستظهر بشكل سافر في كربلاء،والذريعة جاهزة:منع الماء عن عثمان،وكأن من منع الماء عن عثمان هم أهل البيت (علیهم السلام)!!

يقول ابن الأعثم:ثم أخذ معاوية عمامته عن رأسه مغضبا وقال: لا سقى اللّه معاوية ولا أباه من حوض محمد إن شرب علي أو أصحابه من ماء الفرات أبدا إلا أن يغلبوا عليه!

فوثب رجل من الشام-يقال له المعري بن الأقبل بن الأهول-فقال:ويحك يا معاوية واللّٰه لو سبقك علي إلى الماء،فنزل عليه من قبلك إذا لما منعك منه أبدا......

ألا تعلم أن فيهم العبيد والإماء والضعيف ومن لا ذنب له؟ هذا واللّه أول البغي والفجور، واللّه لقد حملت من لا يريد قتالك على قتالك يمنعك هذا الماء، فإن شئت فاغضب وإن شئت فارض، فإني لا أدع القول بالحق ساءك أم سرك.

فأمر معاوية بقتل هذا الرجل، فوثب قوم من بني عمه فاستوهبوه منه فوهبه لهم، فلما كان الليل هرب إلى علي بن أبي طالب (علیه السلام)فصار معه .

وانصرف أصحاب علي (علیه السلام) من عند معاوية بالخيبة،فاغتم علي (علیه السلام) لما أصاب أصحابه من العطش.وتقدم الأشعث والأشتر فحرضا أهل العراق على القتال، فاقتتلوا مع أهل الشام قتالا شديدا،فقتل من أهل الشام جماعة،وغرق منهم في الفرات مثل ذلك،وولوا الأديار منهزمين،وصار الماء في يد علئ (علیه السلام) وأصحابه.

ثم أقبل عمرو بن العاص على معاوية فقال:ما تقول الآن إن من على الماء، كما منعته إياه.

ص: 268


1- تذكر أنه هو المرتد الذي أهدر رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) دمه يوم فتح مكة، ونزلت فيه الآية : «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ » ، ثم ولاه عثمان مصر .
2- نصر بن مزاحم،وقعة صفين،ص161.أنظر أيضا:الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج3،ص569

فقال معاويه:دع عنك هذا،ولكن ما ظنك يا هذا بعلي؟

فقال عمرو:ظني واللّٰه بعلي أنه لا يستحل ينك مثل الذي استحللت منه، لأنه إنما جاء بغير الماء،وقد كنت أشرت عليك في بدء الأمر أن لا تمنعهالماء فخالفتني...فقلدت نفسك عارا،يحدث به إلى آخر الأبد.

وأرسل علي (علیه السلام) إلى أصحابه أن خلوا بينهم وبين الماء،ولا تمنعوهم إياه. فكان أصحاب علي (علیه السلام) وأصحاب معاوية يردون الماء بالقرب والأسقية، يستسقون الخيل والإبل،ما يؤذي أحد منهم أحداً(1) .

وحاول معاوية خديعة أصحاب علي (علیه السلام) بأن رمى بسهم إلى عسكر الإمام علي (علیه السلام) فيه:«أما بعد،يا أهل العراق،فإن معاوية يريد أن يفجر عليكم الفرات فيغرقكم،فخذوا حذركم،والسلام».

فوقعت بلبلة في صفوف أصحاب الإمام علي (علیه السلام)،ورغم أنه (علیه السلام) حذرهم أنها

خدعة،إلا أنهم قرروا ترك أماكنهم،فتركوها،فما لبث أصحاب معاوية أن أخذوا تلك الأماكن الاستراتيجية المطلة على الفرات.عندها أدرك أصحاب علي (علیه السلام) خطأهم،فاستأذنوه للقتال لاستعادة تلك المواقع،فأذن لهم، فاسترجعوها،ووصلوا إلى الماء مرة أخرى.وعندما اقترح الأشعث منعهم الماء هذه المرة أجاب (علیه السلام):إن الخطب أعظم من منهم الماء،فلا تمنعوهم الماء ولا تكافوهم بصنيعهم(2) .

وهنا نطرح سؤالا:هل قدر بنو أمية للإمام علي (علیه السلام) وأهل بيته هذا الموقف عندما كان بإمكانهم منع الماء عنهم مرتين ومع ذلك لم يفعلوا؟!!أم سيفعلون مع الإمام الحسين (علیه السلام) وأصحابه ما لم يستطعيوا فعله مع الإمام علي (علیه السلام) وأصحابه؟! بابي من مات على شط الفرات عطشانا،وإنا لله وإنا إليه راجعون.

كان (علیه السلام) يقول في صفين لأصحابه،أمثال عمار ومالك وصعصعة وابن التيهان وحجر:«أنتم الأنصار على الحق،والإخوان في الدين،والجنن يوم البأس، والبطانة دون الناس،بكم أضرب المدبر،وأرجو طاعة المقبل،فأعينوني بمناصحة خلية من الغش،سليمة من الريب،فواللّٰه إني لأولى الناس بالناس»(3) .

ص: 269


1- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص231-240
2- ابن لأعثم،الفتوح،ج1، ص240-244.أنظر في مجال منع معاوية وجيشه الماء عن علي يا وجيشه،نصر بن مزاحم،وقعة صفین،ص160-186،أيضا:الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج3،ص566-569
3- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(118)،ص175

2.الإمام علي (علیه السلام) يرسل سعيد بن قيس الهمداني وبشر بن عمرو الأنصاري لدعوة

معاوية للطاعة والجماعة:يقول ابن الأعثم وغيره.....دعا علي (علیه السلام) سعيد بن قيس الهمداني وبشر بن عمرو الأنصاري،فقال لهما:انطلقا إلى معاوية، فادعواه إلى اللّٰه عزوجل وإلى الطاعة والجماعة،واحتجا عليه،وانظرا ما رأيه؟ وعلى ماذا قد عزم؟

فأقبلا حتى دخلا على معاوية،فتقدم بشر بن عمرو فقال:يا معاوية إن الدنيا غدارة غرارة،سفيهة جائرة،وعنك زائلة،وإنك راجع إلى اللّٰه عزوجل،فمحاسبك على عملك ومجازيك بما قدمت يداك.

فقطع معاوية عليه الكلام ثم قال:فهلا بهذا أوصيت صاحبك؟

فقال الأنصاري:يا سبحان العظيم،إن صاحبي ليس مثلك،إنه أحق بهذا الأمر

منك،للفضل في الدين والسابقة في الإسلام والقرابة من الرسول (صلی اللّه علیه واله).

فقال معاوية:فتقول ماذا؟

قال:أقول إني آمرك بتقوى اللّٰه وإجابة الحق والدخول فيما دخل فيه المهاجرون

والأنصار والتابعون،فإن ذلك أسلم لك في دنياك وآخرتك.

فقال معاوية:ويبطل دم ثمان؟لا واللّٰه لا كان ذلك أبدا،وما لما ولا لصاحبكما

عندي إلا السيف،فاخرجا عني(1) .

3.علي (علیه السلام) يرسل هذه المرة وفدا جماعيا للقاء معاوية:عندما عاد سعید الهمداني وبشر الأنصاري يخبراني عليا (علیه السلام) بما جرى معهما،دعا بشبث بن ربعي الرياحي،ويزيد بن قيس الأرحبي،وزياد بن خصفة التميمي،وعدي بن حاتم الطائي،فأرسلهم إلى معاوية وقال:اعذروا إليه وأنذروه قبل الإقدام على الحرب.

فجاء القوم حتى دخلوا على معاوية،وتقدم عدي بن حاتم فقال:يا معاوية، إننا قد أتيناك ندعوك إلى أمر يجمع اللّٰه بك كلمتنا،وتحقن به دماء المسلمين، وندعوك إلى أفضل الناس سابقة،وأحسنهم في الإسلام أثرا،وقد اجتمع الناس إليه،وأرشدهم اللّٰه تعالى بالذي رأوا،فاتق اللّٰه يا معاوية،وانته عما قد أزمعت عليه من قبل أن يصيبك اللّٰه وأصحابك بما اصاب به أنصار الجمل.

فقال معاوية:كأنك إنما جئت متهددا،كلا واللّٰه يا عدي،إني لابن صخر بن حرب،ما يقعقع لي بالشنان(جمع«شن»،قربة جافة تحرك لتخرج صوتا لإفزاع الإبل لحثها على

ص: 270


1- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص244-245

السير)،أما إنك من المجلبين على عثمان،وأنا أرجو أن تكون ممن يقتله اللّٰه.

وتحدث الآخرون أيضا،لكن من دون جدوى،فخرج القوم من عند معاوية،فصاروا

إلى علي (علیه السلام) فأخبروه بالذي كان بينهم وبين معاوية من الكلام(1) .

4.وفد معاوية يرفض الاستماع إلى الإمام علي (علیه السلام):يقول ابن الأعثم وغيره....وإذا بحبيب بن مسلمة الفهري وشرحبيل بن السمط ومعن بن يزيد قد أقبلوا، حتى دخلوا على علي (علیه السلام) فسلموا وجلسوا،ثم تكلم حبيب بن مسلمة فقال:أما بعد فإن عثمان بن عفان كان خليفة يعمل بكتاب اللّٰه عزوجل، وينتهي إلى أمر اللّٰه،فاستثقلم حياته،واستبطاتم وفاته،فعدوم عليه فقتلتموه،فادفع إلينا قتلة عثمان حتى نقتلهم به،فإن قلت:إنك لم تقتله، فاعتزل الناس واحتبس في منزلك،حتى يكون هذا الأمر شوری بين الناس يولون أمرهم من أجمع عليه رأيهم.....

وقال شرحبيل:أفتشهد أن عثمان قتل مظلومة؟

فقال له علي (علیه السلام):لا يخلو عثمان ظالما أو مظلوما.

قالا:فمن لم يشهد أن عثمان مظلوم فنحث براء منه.

ثم وثب القوم.

فقال علي (علیه السلام):فاسمعوا عني حتى أخبركم عن عثمان.

فقال حبيب بن مسلمة:لسنا نحب أن نسمع منك شيئا.

فقال علي (علیه السلام):«إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ»(2) .

فخرج القوم من عند علي (علیه السلام)،فأقبل علی (علیه السلام) اصحابه،فقال:لا يكن هؤلاء

أولى بالجد في ضلالتهم منكم في حقكم وطاعة ربكم(3).

5.الإمام علي (علیه السلام)ينبذ إليهم على سواء بعد انقضاء الشهر الحرام:يقول ابن الأعثم وغيره.....لما انقضى شهر المحرم وأهل هلال صفر،بعث علئ (علیه السلام) رجلا من أصحابه يقال له مرثد بن الحارث،حتى وقف قريبا من عسكر معاوية،ثم نادى بأعلى صوته عند غروب الشمس:يا أهل الشام،إن أمير المؤمنين علي يقول لكم:إنا قد كففنا

ص: 271


1- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص245-246
2- سورة النمل،الآيتان:80–81
3- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص246-247.ايضا:الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،ص3-5

عنكم في هذا الشهر الحرام فلم تكفوا عنا، وواللّه ما كففنا عنكم شكا في أمركم ولا جبنا عنكم، وإنما كففنا لخروج هذا الشهر المحرم لترجعوا إلى الحق، واحتججنا عليكم بكتاب اللّه عز وجل ، فلم تنتهوا عن الطغيان، والظلم والعدوان، والكذب والبهتان، ولم تجيبوا إلى حق ولا برهان، فإنا قد نبذنا الیكم «عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)»(1) .

فعلم أهل الشام أن عليا (علیه السلام)يحاربهم وأنه إنما كان ينتظر انسلاخ الشهر، ففزعوا إلى معاوية(2) .

6.وصايا الإمام علي (علیه السلام) الأخلاقية لمقاتليه:وبدأت معركة صفين-التي استمرت إلى ما يزيد على عشرة أيام-بنزول مقاتل من هذا الجانب في مقابل مقاتل من الجانب الآخر،فقتل مولى لعثمان يقال له أحمر،وحريث غلام معاوية(أقرب غلمانه إلى قلبه)،وعمرو بن الحصين(من أبرز فرسان الشام)، ثم خرج ذو الكلاع في ألف رجل من قبائل اليمن،فنادى علي (علیه السلام) بأعلى صوته:يا آل همدان.

فأجابوه:لبيك لبيك يا أمير المؤمنين.

فقال (علیه السلام):عليكم بهذه الخيل فإن معاوية قصدكم بها خاصة دون غيركم.

فاختطل القوم،واشتبك القتال ساعة،ثم حطمتهم خیل همدان فدفعتهم إلى حریم

معاوية،وقد قيل منهم مقتلة عظيمة،وجاء الليل فحجز بين الفريقين.

فجمع علي (علیه السلام) قبائل همدان بين يديه ثم أقبل عليهم فقال:أنتم درعي ورمحي وسناني وجئتي،واللّٰه لو كانت الجنه في يدي لأدخلكم إياها خاصة، يا معشر همدان....فلما كان من الغير زحف الناس بعضهم إلى بعض.

7.الإمام علي (علیه السلام) يعرض على معاوية المبارزة حقنا لدماء المسلمين:يقول ابن

الأعثم وغيره... .إن عليا (علیه السلام) نادي:ويحك يا معاوية هلم إلي فبارزني،ولا يقتل الناس فيما بيننا.

فقال عمرو:اغتنمه منتهزا،قد قتل ثلاثة أبطال من العرب،وإني أطمع أن يظفرك اللّه به

ص: 272


1- سورة الأنفال،الآية:58
2- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص248

فقال معاوية:ويحك يا عمرو،واللّٰه إن تريد إلا أن أقتل فتصيب الخلافة بعدي،

إذهب إليه فمثلي لا يخدع(1) .

يقول ابن الأعثم:عندما سمع معاوية كلام علي (علیه السلام) قال:واللّٰه لقد دعاني إلى

التزال حتى استحييت من قريش.

فقال له أخوه عتبة:إله عن كلام علي حتى كأنك لم تسمعه،فإنك تعلم أنه قد قتل غلامك حريثا،وفضح عمرو بن العاص،وليس أحد من العرب يقدم على مبارزة علي إلا وهو من نفس آیس،فإياك ومبارزته،فإنه واللّٰه لئن برزت إليه لا شممت رائحة الحياة بعدها أبدا.

وجعل أهل الشام ينهون معاوية عن مبارزة علي (علیه السلام)(2) .

الخلاصة:استعرضنا في هذا الفصل سلسلة من أحداث صفين؛فمعاوية بدأ

بالحؤول دون وصول الإمام علي (علیه السلام) وجيشه إلى الماء،وعندما وصل (علیه السلام) وجيشه إلى الماء بالقوة،فسح في المجال لمعاوية وجيشه للتزود منه، ولم يمنع عنهم الماء،وحينما خدع معاوية أصحاب علي (علیه السلام) واستعاد الماء، منع الماء مرة أخرى عن الإمام علي (علیه السلام) وأصحابه،وعندما استأذن أصحاب علي عليا (علیه السلام) باستعادة الماء بالقوة وأذن لهم،استعادوه،ومرة أخرى لم يمنع الإمام علي (علیه السلام) الماء عن الآخرين.

ثم وقفنا عند الوفود التي أرسلها الإمام علي (علیه السلام) لمعاوية لتفادي حرب صفين،الوفد الأول والثاني،ثم عرضنا لاستقبال الإمام علي (علیه السلام) لوفد معاوية الذي جاء فقط ليسمع إقرارة من الإمام علي (علیه السلام) بمظلومية عثمان،وأعرض عن سماع وجهة نظره (علیه السلام) في الأمر،ورأينا كيف أن الإمام علي (علیه السلام) كان يتهم بأنه يماطل في بدء بالحرب كراهية للموت،إلا أن الأمر انكشف عندما انتهى شهر محرم وأهل هلال صفر،وأعلن (علیه السلام)الشروع الرسمي في الحرب وأن تأخيرها كان احتراما للشهر الحرام.

في الفصل القادم،سنحاول مواصلة سرد وساطات وقف الحرب،ومجريات الحرب

الطاحنة،إلى لحظة رفع المصاحف لوقف الحرب بعد أن ضممت جیش معاوية.

ص: 273


1- ابن مزاحم،وقعة صفین،ص316
2- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص332

(16)جهود وساطة لوقف حرب صفين

تحدثنا في الفصل السابق عن محاولة معاوية-في صفين-منع الماء عن الإمام علي (علیه السلام) وجيشه،وموقف الإمام (علیه السلام) إزاء ذلك،كما تحدثنا عن الوفود التي أرسلها الإمام علي (علیه السلام) لمعاوية،ومضمون الرسائل الشفوية التي نقلوها إليه،في مقابل موقف الوفد الذي أرسله معاوية للإمام (علیه السلام)،كما تكلمنا عن سلسلة من المناوشات جرت بين الطرفين،ثم إعلان الإمام علي (علیه السلام) بدء الحرب العامة بعد انتهاء شهر محرم الحرام،ودعوته (علیه السلام) لمعاوية للمبارزة لحقن دماء المسلمين..

نواصل في هذا الفصل سرد أحداث حرب صفين،ونبدأ بالمحاولة التي قام بهابعض الضحابة للوساطة بين الطرفين.

1.على (علیه السلام) لم يرفض محاولة أبي هريرة(أو أبي أمامة الباهلي)وأبي الدرداء

لأخذ قتلة عثمان وتركهما ليريا بنفسهما حالة جيشه (علیه السلام)(1) :يقول ابن الأعثم....فلما كان من الغير أقبل أبو هريرة(وفي صفين لابن مزاحم:أبو أمامة الباهلي)وأبو الدرداء حتى دخلا على معاوية،فقالا له:يا معاوية علام تقاتل علیا (علیه السلام) وهو أحق بهذا الأمر منك لسابقته في الدين وفضيلته في الإسلام وهو رجل من المهاجرين السابقين،وأنت رجل طليق وكان أبوك من الأحزاب؟

فقال معاوية:إني لست أزعم أني أحق بهذا الأمر منه،وإني لأعلم أن عليا لكما وصفتما،ولكني أقاتله حتى يدفع إلى قتلة عثمان،فإذا فعل ذلك كنت أنا رجلا من المسلمين،أدخل فيما دخل فيه الناس.

فقالا:يا هذا،فإننا نكفيك هذا الأمر.

ثم أقبلا على علي بن أبي طالب (علیه السلام)، فسلما عليه،وقالا:يا أبا الحسن،لك

ص: 274


1- وتوجد محاولة شبيهة بهذه المحاولة،قام بها ابو مسلم الخولاني، أوردها الدينوري في كتابه الأخبار الطوال،تحقيق د.عمر فاروق الطباع،دار الأرقم بن أبي الأرقم،بیروت،ص152-153

فضلا لا يدفع وشرفا لا ينكر، وقد سرت مسير من لا يشبهك إلى رجل سفيه ومعه قوم سفهاء لا يبالون بما قالوا ولا بما قيل لهم، وقد زعم معاوية أن قتلة عثمان عندك وفي عسكرك، فادفعهم إليه، فإن فعلت ذلك وقاتلك معاوية بعد ذلك علمنا أنه ظالم متعد.

فقال علي (علیه السلام):إني لم أحضر عثمان في اليوم الذي قتل فيه،ولكن هل تعرفان من قتله؟

فقالا:بلغنا أن محمد بن أبي بكر فيمن دخل عليه،وعمار بن یاسر،وعدي بن

حاتم،وعمرو بن الحمق،وفلان وفلانة.

فقال علي (علیه السلام):فانطلقا إليهم فخذوهم.

فأقبل أبو هريرة وأبو الدرداء إلى هؤلاء القوم،فأخذوهم،وقالا لهم:أنتم ممن قتل عثمان،وقد أمرنا أمير المؤمنين بأخذكم!

فوقعت الضيحة في العسكر بهذا الخبر،فوثب من عسكر علي (علیه السلام) أكثر من عشرة

آلاف رجل في أيديهم السيوف،وهم يقولون:نحن كلنا قتلنا عثمان.

فبقي أبو هريرة وأبو الدرداء متحیرین....فخرجا من عسكر علي (علیه السلام) وهما

يقولان:هذا الأمر لا يتم أبداً(1) .

ويبدو أنهما يقصدان من ذلك،أن اعتقال المتهمين في قتل عثمان ليس أمرا عملية أبدا،لأن الواقع القلق في جيش الإمام علي (علیه السلام) لا يسمح بالقيام بخطوة من هذا القبيل.

2.الإمام علي (علیه السلام) يأذن لأبي نوح بالكلام مع ذي الكلاع الحميري ويحذره من التبكيت(=الجدل العقيم والتعنيف بالكلام):يقول ابن الأعثم.....فأصبح القوم،فدنا بعضهم من بعض،ومع علي بن أبي طالب (علیه السلام) يومئذ رجل من حمير كنی ب«أبي نوح»،وكان فؤها متكلمة،وكان له فضل وقدر وطاعة في الناس،فقال لعلی (علیه السلام):يا أمير المؤمنين أتأذن لي في كلام ذي الكلاع،فإنه رجل من قومي، وهو سيد عند أهل الشام،فلعلي أشككه في ما هو فيه؟

فقال له علي (علیه السلام)قال:يا أبا نوح،إ ر مثل ذي الكلاع شديد عند أهل الشام(=أي أخشى أن يكون لنقاشك الحامي معه مضاعفات سلبية عند أهل الشام)، فإن أحببت لقاءه فالقه بالجميل،وإياك والتبكيت.

ص: 275


1- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص284-286.أنظر:نصر بن مزاحم،وقعة صفين،ص 190

عندما بدأ الحوار بينهما، طلب ذو الكلاع أن يلتقي عمار بن یاسر مع عمرو بن العاص،لأنه كان قد سمع من عمرو-أيام عمر-حديثا في عمار بأن الفئة الباغية تقله...فقام الصباح الجميري إلى معاوية فقال له:إني أرى لك أن لا تأذن لذي الكلاع أن يلقى أبا نوح،فإنه قد طمع فيه،وأخاف أن يشه في ديني.فقال معاوية:إني قد نهيه فلم ينته عن ذلك....

والقصة في ذلك طويلة،لكن كان من أبرز نتائج لقاء عمار بن یاسر مع عمرو بن العاص والجدل الحامي الذي دار بينهما،هو إفحام عمار لعمرو،الأمر الذي أعقبه انسحاب الصین بن مالك والحارث بن عوف من عسكر معاوية،فصار أحدهما إلى حمص والآخر إلى مصر،وأظهرا التوبة والقسم على عدم مقاتلة علي (علیه السلام).

فدعا معاوية عمرو فقال:يا هذا إنك أفسدت أهل الشام علي،أكل ما سمعت من

رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)تقوله وترويه،ما أكثر ما سمعنا منه فلم نروه.

فقال عمرو:يا هذا واللّٰه لقد روي هذا الحديث وأنا لا اظن أن صفين تكون،

ولست أعلم الغيب(1) .

الطريف في الأمر أن عمرو كان يبرر حدیث رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في عمار لذي الكلاع بقوله:إنه سيرجع إلينا ويفارق أبا تراب.وذلك قبل أن يصاب عمار، فلما أصيب عمار في هذ اليوم أصيب ذو الكلاع أيضا،فكان عمرو يقول لمعاوية:واللّٰه ما أدري بقتل أيهما أنا أشد فرحا؟واللّٰه لو بقي ذو الكلاع حتى يقتل عمار لمال بعامة قومه إلى علي ولأفسد علينا أمرنا(2) .

3.الإمام علي (علیه السلام) يشتم في صفين لأنه لا يصلي!يقول ابن الأعثم......دنا

القوم في صفين بعضهم من بعض، ودعا علي (علیه السلام) بهاشم بن عتبة بن أبي وقاص(المرقال)(3) ،فأعطاه الراية،فأخذ هاشم الراية وتقدم،وكان هاشم أعور، وذلك أنه أصيب بعينه يوم اليرموك في جيش عمر بن الخطاب،فخرج إليه رجل من أصحاب معاوية،وجعل يشتم عليا (علیه السلام)،ويقول القبيح.

ص: 276


1- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص296-306
2- ابن مزاحم،وقعة صفین،ص
3- قارن موقف هاشم بن عتبة بن أبي وقاص(المرقال)المشرف بموقف عمه سعد الشلبي من الإمام علي (علیه السلام)،وبموقف ابن عمه عمر بن سعد من الإمام الحسين (علیه السلام) الذي بلغ أدنى درجات الانحطاط

فقال له هاشم:يا هذا إن هذا الكلام بعد الخصام،فائق اللّٰه،ولا تشم فإنك راجع

إلى ربك،وإنه مسائل عن هذا الموضع،وعن هذا الكلام.

فقال الشامي:وكيف لا أشتمكم ولا ألعنكم وقد بلغني عن صاحبكم أنه لا يصلي

وأنكم لا تصلون.

أقول:لاحظ إلى أي حد كان أهل الشام مضللين؟وإلى أي حد زودوا بمعلومات

مغلوطة؟!وإلى أي حد تم التلاعب بعقولهم؟!

فقال له هاشم: يا هذا الرجل! أما قولك إننا ما نصلي فواللّه ما فينا أحد يؤخر الصلاة عن وقتها طرفة عين، وأما قولك عن صاحبنا أنه لا يصلي فواللّه إنه لأول ذكر صلى من هذه الأمة بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وإنه لأفقه خلق اللّه في دين اللّه وأولادهم برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وليس معه أحد إلا وهو قارىء لكتاب اللّه عالم بحدود اللّه، ولا يغرنك هؤلاء الأشقياء المغرورون.

فقال الشامي: يا هذا! ما أظنك واللّه إلا وقد نصحتني في ديني، ولكن هل من توبة؟ قال: نعم، إن تبت تاب اللّه عليك فإنه هو الذي يقبل التوبة عن عبادة ويعفو عن السيئات»(1) .

فقنع الشامي فره،وركض فصار إلى علي (علیه السلام)،فكان معه(2) .

نعم لقد كانت الاتهامات التي يتلقاها الإمام علي (علیه السلام) من معاوية وأصحابه تترى،وكان بعضها غير قابل للتصديق لأي إنسان يعرف شيئا يسيرا عن تاريخ الإسلام.لكنها،مع ذلك،كانت تنطلي على أهل الشام.من تلك الاتهامات،ما كان يردده عمرو بن العاص من أن عليا (علیه السلام) امرؤ فيه دعابة وأنه تلعابة يعافيس ويمارس!

في رده على اتهامات عمرو،كان (علیه السلام) يقول:«عجبة لابن النابغة،يزعم لأهل الشام أن في دعابة(=كثير المزاح)واني امرؤ تلعابة(=كثير اللعب)،أعاني وأمارس(=أضارب الناس مزاحا وأغازل النساء)!لقد قال باطلا،ونطق آئما... .أما واللّه إني ليمنعني من اللعب ذكر الموت، وإنه ليمنعه من قول الحق نسيان الآخرة، وإنه لم يبايع معاوية حتى شرط له أن يؤتيه أتية(=عطية)،ويرضخ له على ترك الدين رضيخة(=يعطيه في المقابل شيئاً قليلاً)»(3) .

ص: 277


1- سورة الشورى،الآية:25
2- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص348-349. أنظر أيضأ نصة اتهام علي (علیه السلام) الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،ص30
3- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(84)،ص115

4.محاولات إيقاف الحرب بعد اختلال موازين القوى لمصلحة الإمام علي (علیه السلام):يقول ابن الأعثم... .أقبل معاوية على عمرو بن العاص فقال:يا أبا عبد اللّٰه قد أكلتنا واللّٰه هذه الحروب،ولا أرانا العراق إلا بهلالي الشام(1) .

حاول معاوية وعمرو الكتابة لابن عباس لخديعته واستمالته،لكن دون جدوى.

فكتب معاوية لعلي (علیه السلام):«أما بعد،فلو أنك علمت و علمنا أن هذه الحروب تبلغ منك و مناما بلغت ما كان جناها على بعضنا بعض، والآن فقد تتهيأ لنا أن نصلح ما بقي و ندع مامضى، و قد كنت سألتك الشام على أن لاتلزمني طاعة و لا تبعة فأبيت عليّ، و إنياليوم أسألك ما سألتك بالأمس، فقد و اللّهذهب الأخيار و الرجال و إنما نحن بنو عبدمناف و ليس لبعضنا على بعض فضل».

فرد الإمام علي (علیه السلام):«أما بعد:فقد جاءنی كتابك،تذكر فیه ان لو علمت و علمنا ان الحرب تبلغ بنا و بك ما بلغت لم یجنها بعضنا علی بعض،فانا و إیاك منها فی غایه لم تبلغها بعد.....وأما طلب إلى الشام،فإني لم أكن أعطيك اليوم ما منعك أمس.وأما قولك إن الحرب قد أكلت العرب إلا حشاشات أنفس بقيت،ألا فمن أكله الحق فإلى الجنة،ومن أكله الباطل فإلى النار.وأما استواؤنا في الحرب والرجال،فإنك لست بأمضى على الشك مي على اليقين، وليس أهل الشام بأحرص على الدنيا منأهل العراق على الآخرة. وأما قولك أننا بنو عبد مناف،وليس لبعضنا فضل على بعض،فكذلك نح، فلعمري إننا بنو أب واحد،ولكن ليس أمية كهاشم،ولا حرب كعبد المطلب،ولا أبو سفيان كأبي طالب،ولا المهاجر كالطليق،ولا المحق كالمبطل...وفي أيدينا بعد فضل النبوة التي أذللنا بها العزيز.....والسلام»(2) .

فلما وصل الكتاب إلى معاوية ندم على ما كتب به إلى علي (علیه السلام)،وشمت به عمرو ابن العاص(3) .

كتب الدينوري:«وكان أهل العراق وأهل الشام أيام صفين إذا انصرفوا من الحرب،يدخل كل فريق منهم في الفريق الآخر،فلا يعرض أحد لصاحبه،وكانوا يطلبون قتلاهم،فيخرجونهم من المعركة،يدفنونهم»(4) .

ص: 278


1- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص379
2- أنظر تمام نهج البلاغة،كتاب رقم60، ص852-853
3- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص385-386
4- الدينوري،الأخبار الطوال،ص167

وهذا يكشف عن حقيقة مهمة،لها دورها في تطور الأحداث،وهو أن ثمة تواصلا كان يحصل بين أفراد الجيشين؛فقد كانوا يتلاقون ويتحاورون ليلا،ويتبادلون المعلومات والتحليلات.

5.الرد اللطيف لعلي (علیه السلام) على عرض الشامي بأن يخلوا بينه وبين العراق ويخلي علي بينهم وبين الشام:يقول ابن الأعثم.....فخرج رجل من أهل الشام،حتى وقف بين الصفين ثم نادى بأعلى صوته:يا أبا الحسن،إلي أكلمك.

فخرج إلى على (علیه السلام) حتى اختلف عنقا فرسيهما،فقال له الشامي:يا أبا الحسن، إن لك فضلا وقدما في الإسلام،وهجرة وسابقة،وأخوة وقرابة من رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،فلا یساميك أحد ولا يدانيك،فهل لك في أمر أعرضه عليك،يكوث في حقن دماء هذه الأمة،وتأخير هذه الحروب،إلى أن ترى في ذلك رأيك؟

فقال علي (علیه السلام):وما ذاك؟

قال:أن ترجع إلى عراقك،ورجع إلى شانا،فتخلي بينك وبين العراق،وتخلي بيننا وبين الشام؟

فقال علي (علیه السلام):لقد علمت أنّك إنّما عرضت هذه نصيحة و شفقة و لكن قد أهمّني هذا الأمر و أسهرني، و ضربت أنفه و عينه، فلم أجد إلّا القتال أو الكفر بما أنزل اللّه عزّ و جلّ أو يرضى من أوليائه أن يعصى في الأرض و هم سكوت؟ مذعنون لا يأمرون بالمعروف و لا ينهون عن المنكر، فوجدت القتلا أهون عليّ من معالجة الأغلال في نار جهنّم.

فرجع الشامي وهو يقول:إنا لله وإنا إليه راجعون(1) .

لاحظ أن عليا (علیه السلام) الذي استنفد كل المحاولات لتفادي حرب صفين ... عندما وقعت هذه الحرب،وأوقعت على الطرفين خسائر فادحة،ومالت الكفة بصعوبة بالغة المصلحة جيش الإمام علي (علیه السلام)،يريد معاوية الآن وقف الحرب... . فإنه صار هو داعية سلام،وصار الإمام علي (علیه السلام) داعيةحرب!!

6.الإمام على (علیه السلام)يستقبل وفد معاوية المفاوض بعد تغير موازين المعركة المصلحته:بعد إراقة نهر من الدماء،أرسل معاوية وفدا رفيع المستوى لمفاوضة الإمام علي (علیه السلام)منهم:عمرو بن العاص،وعتبة بن أبي سفيان،وعبد الرحمن بن خالد بن

ص: 279


1- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص389

الوليد،وحبیب بن مسلمة،والضحاك بن قيس،وجماعة من عرب الشام، فأقبلوا حتى وقفوا قريبا من عسكر علي (علیه السلام)،ثم بعثوا إليه يسألونه أن يأذن لهم في كلامه.

فقال علي (علیه السلام):ما أمتعهم من ذلك.

فأقبلوا حتى دخلوا العسكر،ثم صاروا إلى علي (علیه السلام)،وهو في خيمته، فسلموا فرد؛عليهم السلام،ومجلسه يومئذ غاص بالمهاجرين والأنصار،فقال: تكلموا بما أحببتم....

فتكلم عمرو فكان مما قال:أيم اللّه إننا لنعلم أن عليا ومن معه من المهاجرين والأنصار قد كانت لهم سوابق قديمة عظيمة وفضل لا يجهل، وقد رأينا رأيا نسأل اللّه تعالى فيه التوفيق لما يحب ويرضى، ولعل اللّه تبارك وتعالى يحقن دماءنا ويصلح ذات البين.

ثم تكلم شرحبيل بن السمط فكان مما قال:أما بعد،یا معشر أهل العراق،فإن إن اللّه تبارك و تعالى قد جعل بيننا حقوقا عظاما من الأرحام الماسة والأنساب القربية والأصهار الشابكة، وقد علمنا يا أبا الحسن! أن لك سابقة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وصهرا وقرابة... وقد رأينا أن تنصرف عنا يا أبا الحسن أنت ومن معك، فنخلي بينكم وبين عراقكم وحجازكم وتخلونا بيننا وبين شامنا و نحقن دماء المسلمين...

فقال علي (علیه السلام):واللّه لقد نظرت في هذا الأمر فضربت ظهره و بطنه وأنفه وعينه حتى لقد منعني النوم، فما وجدته يسعني إلا قتالكم أو الكفر بما جاء به محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم، وأيم اللّه لوددت أنني فديت حقن دماء المسلمين بمهجتي، و لكن قولوا لصاحبكم هذا حتى يخرج إلى هذه الصحراء. ثم إني أدعو اللّه ويدعو هو أيضا أن يقتل المحق منا المبطل، ثم إني أبارزة فأينا قتل صاحبه ملتم معه بأجمعكم، فو اللّه لا يقاتل مع معاوية أحد إلا أكبه اللّه غدا في نار جهنم.

فالتفت الشامي إلى أصحابه فقال: ما يقعدكم؟ انهضوا! فواللّه ما عند هذا الرجل إلا السيف.

فوئب أهل الشام وهم يقولون:هلك العرب ورب محمد(1).

وأرسل عبيد اللّٰه بن عمر بن الخطاب(2) إلى الحسين بن علي (علیه السلام) أن لي إليك حاجة

ص: 280


1- ابن الأعثم، الفتوح، ج 1، ص 401 - 403
2- وسبب التحاق عبيد اللّه بن عمر بمعاوية أن أباه عندما قتل، شك وارتاب في أن الهرمزان اشترك مع ابي لؤلؤة في قتل أبيه ، فبادر إلى قتل الهرمزان، واحتارعثمان في دم الهرمزان، وقيل أنه عفا عن عبيد اللّه، وكان راي علي (علیه السلام) أن يقتل في مقابل الهرمزان، لذا هرب إلى معاوية خونة من قصاص علي (علیه السلام) . وطبعا معاوية استفاد من وجوده، فهو عدوي قرشي، وهو بحاجة إلى قرشيين من غير بني أمية، خصوصا إن كانذلك القرشي ابن الخليفة الثاني، حتى يؤكد في أذهان الناس الانطباع بأنه امتداد له.

فالقني.فلقيه الحسين (علیه السلام)،فقال له عبيد اللّٰه:إن أباك قد وتر قريشأ أولا وآخرا، وقد شنئه الناس،فهل لك في خلي؛وأن تتولى أن هذا الأمر؟!

فقال:كلا واللّٰه،لا يكوث ذلك.ثم قال:يا ابن الخطاب،واللّٰه لكأني أنظر إليك

مقتولا في يومك أو غيرك...

قال نصر:فواللّٰه ما كان إلا بياض ذلك اليوم حتى قيل عبيد اللّٰه(1).

وصارت حرب صفين أكثر حرارة وحماسة،لكن مع وقوع خسائر باهظة،وكان (علیه السلام) يوصي أصحابه قائلا:«وأي امرء منكم أحس من نفسه رباطة جأش عند اللقاء ورأي من أحد من إخوانه فشلا فليذب عن أخيه بفضل نجدته التي فضل بها عليه كما يذب عن نفسه فلو شاء اللّه لجعله مثله.إن الموت طالب حثيث لا يفوته المقيم ولا يعجزه الهارب، إن أكرم الموت القتل والذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون علي من ميتة على الفراش في غير طاعة اللّٰه»(2)!

وفي يوم من أيام صفین،صلى علي (علیه السلام)الغداه ثم زحف الیهم فلما ابصروه قد خرج استقبلوه بزحوفهم فاقتتلوا قتالا شدیدا ثم ان خیل أهل الشام حملت على خیل أهل العراق فاقتطعوا من أصحاب على علیه السلام الف رجل او أكثر فاحاطوا بهم و حالوا بینهم و بین أصحابه فلم یروهم فنادى على علیه السلام یومئذ ألا رجل یشرى نفسه لله و یبیع دنیاه باخرته؟

فاتاه رجل من جعف یقال له عبد العزیز بن الحارث على فرس أدهم كأنه غراب مقنعا فى الحدید لا یرى منه الا عیناه فقال یا أمیر المؤمنین مرنى بأمرك فو اللّه ما ترانى بشی ء الا صنعته.

فقال علي (علیه السلام)....أبا الحارث،شد اللّٰه كتك،احمل لي على أهل الشام، حتى تأتي أصحابك،فتقول لهم:أمير المؤمنين يقرأ عليكم السلام،ويقول لكم: هللوا وكبروا

ص: 281


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مج3 ، ج5، ص132.
2- نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح، (123)، ص 179 - 180. وفي الخطبة التي تليها (124) وصاياه (علیه السلام) للمقاتلين، وفيها ملاحظات بالغة القيمة والأهمية يستفيد منها المقاتلون على ما الأزمان.

من ناحيتكم،ونهلل نحن ونكبر من ها هنا،واحملوا من جانكم ونحمل من جانبنا على أهل الشام.

فضرب الجعفى فرسه حتى إذا قام على السنابك حمل على أهل الشام المحیطین باصحاب على علیه السلام فطاعنهم ساعه و قاتلهم فانفرجوا له حتى أتى أصحابه فلما رأوه استبشروا به و فرحوا و قالوا ما فعل أمیر المؤمنین؟ قال صالح یقرئكم السلام و یقول لكم هللوا و كبروا و هلل على و أصحابه من ذلك الجانب.

و حملوا على أهل الشام من ثم و حمل على (علیه السلام)من ههنا فى أصحابه فانفرج أهل الشام عنهم فخرجوا و ما اصیب منهم رجل واحد و لقد قتل من فرسان أهل الشام یومئذ زهاء سبع مأئه رجل.

شهادة عمار بن ياسر

ثم إن عمارة خرج إلى الناس فقال:اللّهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلته اللّهم إنك تعلم لو أني أعلم أن رضاك في أن أضع ظبة سيفي في بطني ثم انحنى عليها حتى تخرج من ظهري لفعلت وإني لا أعلم اليوم عملا أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين ولو أعلم عملا من عملا هو أرضى لك منه لفعلته(1) .

ومن المعلوم أن أهل المكر والدهاء لديهم قدرة فائقة على تزييف الحقائق وإظهار الحق بصورة الباطل،وهم في كثير من الأحيان رؤاد في مجال تحريف مسار الناس عن الصراط المستقيم إلا من عصم اللّٰه... .إليك حادثة شهادة عمار نموذجا.

روى البخاري في صحيحه(في كتاب الجهاد والسير)عن أحد الصحابة قوله:كنا (عند بناء المسجد النبوي في المدينة)ننقل لبن المسجد لبنة لبنة،وكان عمار(بن ياسر)ينقل للجنتيني لينتين،فمر به النبي (صلی اللّه علیه واله) ومسح عن رأسه الغبار وقال:«ويح عمار تقتله الفئة الباغية،عمار يدعوهم إلى اللّٰه ويدعونه إلى النار»(2) .

ص: 282


1- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،ص26
2- أنظر أيضا:ابن هشام،السيرة النبوية،ج2،121-122،والحاكم النيسابوري،المستدرك على الصحیحین،ج2،كتاب قتال أهل البغي،ح2653،ص187-188،ايضاج3،كتاب معرفة الصحابة،ذكر مناقب عمار بن یاسر،ح5659،ص476،ح5660،ص477

الحديث واضح لا لبس فيه،الفئة التي تقتل عمارة هي فئة باغية تدعوه إلى النار وهو

في قبالها يدعوها إلى اللّٰه سبحانه وتعالى.

عندما وقعت حرب صفين بين أهل العراق بقيادة الخليفة الشرعي بكل المقاييس الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) ومساندة عدد كبير من المهاجرين والأنصار من ناحية،وأهل الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان ومساندة عمرو بن العاص من ناحية أخرى....

كان الصحابي الجليل عمار بن ياسر الذي تجاوز التسعين من عمره الشريف،وبسبب انتشار حديث رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في حقه، بمثابة بوصلة(1).وكان عدد معتد به من أفراد الجيشين يراقب مصير عمار عن كثب،ليقطع الشك باليقين ويعرف ما إذا كان يسير في الاتجاه السليم أم لا، مصطفا مع الفئة الباغية أم لا(2).

عندما زحف الناس بعضهم إلى بعض،واقتتلوا بالشهام والبل والرماح والشيوف، نادي عمار:أيها الناس هل من رائح إلى الجنة؟فخرج معه خمس مئة رجل،فاستسقی

ص: 283


1- روى الحاكم عن خالد العرني قال : دخلت أنا وأبو سعيد الخدري على حذيفة، فقلنا : يا أبا عبد اللّه ، حدثنا ما سمعت من رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)في الفتنة؟ قال حذيفة : قال رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) : دوروا مع كتاب اللّه حيث ما دار . فقلنا : فإذا اختلف الناس فمع من نكون؟ فقال : انظروا الفئة التي فيها ابن سمية ، فالزموها، فإنه يدور مع كتاب اللّه. قال: قلت: ومن ابن سمية؟ قال: أوما تعرفه؟ قلت: بینه لي، قال : عمار بن یاسر ،سمعت رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) يقول لعمار: يا أبا اليقظان، لن تموت حتى تقتلك الفئة الباغية عن الطريق. راجع: الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحیحین، ج2، كتاب قتال أهل البغي، ح 2652، ص 187. قد يقال : لماذا لم يربط حذيفة بن اليمان الناس بعلي (علیه السلام)وربطهم بعمار؟ أقول: ربما وجد حذيفة أن ربط الناس بعمار أجدی من ربطهم بعلي (علیه السلام) ، لحساسية بعضهم منه، لكون على (علیه السلام) قرشيا عدنانيا، ولكون عمار قحطانية أقرب إلى أهل العراق من الناحية القبلية، وما دام عمار دائمة مع علي (علیه السلام) ، وما دام علي (علیه السلام) مع القرآن يدور حيث دار، فلا بأس بربطهم بعمار، خصوصا إذا كان الأمر مستندة إلى حديث رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) بأنه تقتله الفئة الباغية.
2- ما يثير الاستغراب هو متابعة عدد كبير من أفراد الجيشين لمصير عمار، حتى يتأكدوا من هوية الفئة الباغية، وبالتالي معرفة سلامة موقفهم من انحرافه ... ولا أدري لم لم يعتبروا عليا (علیه السلام) الخليفة الشرعي هو مؤشر البوصلة خصوصا مع قول رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) بحقه: من أطاعني فقد أطاع اللّه ومن عصاني فقد عصى اللّه ومن أطاع علية فقد أطاعني ومن عصى علية فقد عصاني، (الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج4، ح4617، ص148)، و«علي مع القرآن والقرآن مع علي لن يتفرقا حتی یردا علي الحوض» (الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحیحین، ج4، ح 4628 ، ص 152)، و«اللّهم أدر الحق معه حيث دار» (الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج4، ح4629، ص 152)، و«أنه لن يخرجكم من هدى ولن يدخلكم في ضلالة» (الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج4، ح 3642، ص158).

عمار،فأتاه غلام له بإداوة فيها لبن،فلما رآه كثر،وقال:سمعت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) يقول:

«آخر زادك من الدنيا لبن»،ثم جعل يقول:اليوم ألقى الأحبة محمدا وجزبه.

استشهد عمار،فاتضحت الرؤية تماما في جيش علي (علیه السلام)،وتؤكد بعض الأخبار،أن بعض صحابة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) نزلوا إلى ميدان المعركة بمجرد سماعهم خبر شهادة عمار.

في المقابل حصل ارتباك شديد في أوساط جيش معاوية،لأن بعض أفراد جيشه كان مستذكرة لقول رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وكان من المرجح أن ينتقل عدد منهم إلى معسكر علي (علیه السلام)،منهم-كما أشرنا-ذو الكلاع الذي قتل في وقت متزامن مع شهادة عمار،حتى قال عمرو بن العاص:واللّٰه يا معاوية ما أدري بقتل أيهما أنا أشد فرحا،واللّٰه لو بقي ذو الكلاع حتى يقتل عمار لمال بعامة قومه إلى علي،ولأفسد علينا جندنا.إذن بعد شهادة عمار كان جيش معاوية مهددا من الداخل...هنا حرك معاوية قدراته في المكر وفسر حديث رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)بنحو مغلوط حتى ينقذ الموقف.

يقول ابن الأعثم في«الفتوح»:قال عمرو بن العاص لمعاوية:قد قتل عمار.

فقال معاوية:قتل عمار ما كان ضاري(=ليس مضرا بي).

فقال:ألا تعلم أن النبي (صلی اللّه علیه واله)قال لعمار تقتلك الفئة الباغية»وأن«آخر زادك عس من لبن»..

فقال معاوية:إنما قتله من جاء به إلى الحرب!

فقال عبد اللّٰه بن عمرو:وكذلك حمزة بن عبد المطلب يوم أحد إنما قتله النبي (صلی اللّه علیه واله) ولم يقتله وحشي؟

فقال معاوية لعمرو:نځ عنا ابنك هذا الموسوس الذي لا يدري ما يقول(1)

وينقل ابن قتيبة الدينوري في«الإمامة والسياسة»أن معاوية التفت إلى أهل الشام

فقال:إنما نح الفئة الباغية التي تبغي دم عثمان!

هكذا استطاع معاوية بن أبي سفيان إقناع جيشه باين عليا (علیه السلام) هو الذي قتل عمارة وليس هو،لأن عليا (علیه السلام) هو من جاء به إلى صفين،وتناسى أن هذا المنطق يستلزم

ص: 284


1- التفاصيل ذاتها أو قريب منها رواها الحاكم في مستدركه،راجع:الحاكم النيسابوري،المستدرك على الصحیحین،ج3،كتاب معرفة الصحابة،ذكر مناقب عمار بن یاسر،ح5659،ص476،ح5660،ص477،ح2663،ص194.أنظر أيضا:الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،ص26-29

اتهام رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)بقتل حمزة لأنه هو من جاء به إلى أحد!!وإن كان بعضهم مصر على القول بأن معاوية يمثل الفئة الباغية،فهي باغية بالفعل،لكن تبغي الثأر لدم عثمان!وتناسي الآية:«فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ»(1)

نعم،عندما يعمل أهل المكر والدهاء قدراتهم على تزييف الحقائق وتشويه الوقائع وإظهار الحق بصورة الباطل ويقوم برسم صورة عن الحية وكأنه هو الجلاد،عندئذ يكون الناس بحاجة إلى بصيرة نافذة لتمييز الحق من المبطل... .یا ترى كم عدد السياسيين في العالم الذين يعملون تلك القدرات ويسيرون على خطى معاوية؟وماهي نسبة الجماهير التي تنطلي عليها المغالطات وتنساق خلف هذا النمط من السياسيين وتتورط في المهالك؟!

الخلاصة:تناولنا في هذا الفصل بعض أحداث صفين المهمة،كمحاولة أبي هريرة(أو أبي أمامة الباهلي)وأبي الدرداء اعتقال قتلة عثمان لوضع حد لحرب صفين المستورة،وإذن الإمام علي (علیه السلام)لأبي نوح أن يكلم نظيره الحميري، وشتم الإمام علي (علیه السلام) والاتهامات السخيفة التي كان يهم بها والتي كانت موضع تصديق من أهل الشام.

ثم تناولنا تطورات الأحداث عندما مالت الكفة في الحرب لمصلحة الإمام علي (علیه السلام)

،وكتابة معاوية لعلي (علیه السلام) يعرض عليه ما عرض عليه سابقا من أن يخلي له الشام في مقابل أن يبايعه،ثم الوفد الذي أرسله معاوية ليعرض العرض ذاته على الإمام علي (علیه السلام)،في المقابل كان (علیه السلام) يعرض على معاوية المباهلة ثم المبارزة ليحقن دماء المسلمين،وأخيرا تحدثنا عن قصة الجعفي،وشهادة عمار بن ياسر التي كانت حدثا مهما من أحداث معركة صفين.

في الفصل القادم سنتناول ليلة الهرير،وهي أخطر ليلة وقعت في صفین، بلغ فيه

الاصطكاك العسكري ذروته،وما أسفر عنه من رفع للمصاحف،وإيقافي للحرب.

ص: 285


1- سورة الحجرات،الآية:9

(17)ليلة الهرير وفتنة رفع المصاحف

تحدثنا في الفصل السابق عن بعض أحداث حرب صفين،ونريد في هذا الفصل أن نشرع في الحديث عن الليلة الحاسمة في تلك الحرب،التي تسمى«ليلة الهرير» ،وعن مجريات الوقف المفاجئ لتلك الحرب،الذي جاء على إثر رفع المصاحف.

يتحدث المؤرخون عن قتال طویل شديد الرواة في ليلة الهرير.دعونا نسترسل في

سرد تلك الأحداث،لنعرف تفاصيل تلك المعارك الضارية.

ليلة الهرير(1) ثم رفع المصاحف والإمام على (علیه السلام) يأذن للأشعث بالقدوم على

معاوية ويستجيب لضغوط عسكره حتى لا يحملهم على ما يكرهون.

يقول ابن الأعثم وغیره ... .وأصبح الناس،وطلعت الشمس،وذلك في الخميس،ودعا علي (علیه السلام) بدرع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)فلبسه،وبسيف رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) فتقلده،وبعمامۃ رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)فاعتجر بها،ثم دعا بفرس رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)فاستوی عليه، وجعل يقول:أيها الناس،من يبيع نفسه بربح هذا اليوم؟فإنه يوم له ما بعده من الأيام.......الا إنها إحن بدرية وضغائن أحدية،وأحقاد جاهلية،وثب بها معاوية حين الغفلة،ليذر بها ثارات بني عبد شمس« فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)»(2)

أقول:لاحظ ربط الإمام علي (علیه السلام) المباشر بين معركة بدر،التي جاءت معركة أحد

كتداع من تداعياتها،مع معركة صفين التي هو فيها الآن.

فقال المهاجرون والأنصار:يا أمير المؤمنين،إننا كنا تقاتل معك إلى الساعة على بصيرة ويقين أنك على الحق الواضح،والآن فقد ازددنا بصيرة ويقينا،إذ تل بين يديك عمار بن یاسر،فتقدم أمامنا،وها نحن من ورائك.

....ثم حمل علئ (علیه السلام)...حملة رجل واحد،فما بقي لأهل الشام صف إلا

ص: 286


1- أنظر خطبة علي (علیه السلام) ليلة الهرير في نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(66)،ص97
2- سورة الحجرات ، الآية :12

انقض وهمدت الناس،واحمرت حوافر الخيل بالدماء...وزالت الشمس،وذهب وقث الصلاة،والحرب قائمة على ساق،وصاح علي (علیه السلام) بالمهاجرين والأنصار: إن الفرار من الحرب في مثل هذا اليوم ارتداد عن الحق،ورغبة عن دين الإسلام....

فتقدم الصحابي الجليل أبو الهيثم بن التيهان(1) فقاتل حتى قتل.ثم تقدم الصحابي

الجليل خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين(2) فقاتل حتى قتل،تقدم خالد و خلدة ابنا أبي خالد الأنصاري فقاتلا حتى قتلا جميعا، واستشهد الصحابي عبد اللّٰه بن ورقاء الخزاعي مع أخيه عبد الرحمن.وكان قد قتل قبل ذلك الصحابي الجليل عمار بن یاسر،والصحابي الجليل هاشم بن عتبة بن أبي وقاص،المعروف به«المرقال».كما استشهد في ذلك اليوم ابنا الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان:صفوان وسعد،الذي كان قد أوصاهما قبيل موته بملازمة الإمام علي (علیه السلام).

وبكى الأشتر،فقال له علي (علیه السلام):ما يبكيك،لا أبكي اللّٰه عينيك؟

فقال:أبكي يا أمير المؤمنين،أبكي لأني أرى الناس يقتلون بين يديك،وأنا لا أرزق الشهادة فأفوژ بها.

فقال له على (علیه السلام):أبشر بالخير يا مالك...(3) .

وعندما رأى الإمام علي (علیه السلام) ابنه الحسن (علیه السلام) يتسع إلى الحرب قال:«أملكوا عني هذا اللام لا يهني،فإنني أنق بهذین-يعني الحسن والحسين (علیهما السلام)-على الموت إلئلا ينقطع بهما نسل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).

كل قبيلة تقاتل أختها

وفي محاولة من جيش معاوية لتحييد خثعم العراق،يقول نصر:إن عبد اللّٰه بن حنش الخثعمي،رأس خثعم الشام،أرسل إلى أبي كعب الخثعمي،رأس خثعم العراق:إن شئت توافقنا فلم نقتتل،فإن ظهر صاحبكم كنا معكم،وإن ظهر صاحبنا كم معنا،ولا يقتل بعضنا بعضا،فأبی أبو كعب ذلك.

ص: 287


1- الأوسي الأنصاري،شهد العقبة،وشهد المشاهد مع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)
2- الأوسي الأنصاري،قال له رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في حديث طويل:یا خزيمة بم تشهد ولم تكن معنا؟قال:يا رسول اللّٰه،أنا أصدقك بخبر السماء ولا أصدك بما تقول، فجعل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)يقول:شهادته شهادة رجلين.وقال الزهري:إن خزيمة بن ثابت رأي فيما يرى النائم كأنه يسجد على جبهة النبي (صلی اللّه علیه واله)،فأخبر النبي (صلی اللّه علیه واله)،فاضطجع (صلی اللّه علیه واله)له وقال:صدق رؤياك،فسجد على جبهته (صلی اللّه علیه واله)
3- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص412

عندما اشتد القتال بينهم،هجم رجل من خثعم الشام على أبي كعب،فطعنه فقتله،ثم انصرف يبكي ويقول:يرحمك اللّٰه أبا كعب،لقد قتلتك في طاعة قوم أنت أم بي رحما منهم،وأحب إلي منهم نفسا،ولكني واللّٰه لا أدري ما أقول؟ولا أرى الشيطان إلا قد فتنا، ولا أرى قريشا إلا وقد لعبت بنا(1)

وأرجو أن تركز أيها القارئ على كلمته:«ولا أرى قريشا إلا وقد لعبت بنا»،لأن هذا المنطق سيتفشى في جيش علي (علیه السلام)،وسيكون من الأسباب الرئيسية للضغط عليه القبول التحكيم.

يقول بعض المؤرخين:وقامت الفرسان في الركب،فاصطفقوا بالشيوف،وارتفع الوهج، وثار القتال،وتضعضعت الرايات،وغابت الشمس،و وذهبت مواقيت الصلاة حتى ما كان في الفريقين أحد يصلي ذلك اليوم ولا سجد لله سجدة، ولا كانت الصلاة إلا بالتكبير والإيماء نحو القبلة.قال: وهجم عليهم الليل واشتدت الحرب، وهذه ليلة الهرير، فجعل بعضهم يهر على بعض، ويعتنق بعضهم بعضا، ويكدم بعضهم بعضا.

وجعل المشايخ من أهل الشام ينادون في تلك الغمرات: يا قوم! اللّه اللّه في البقية! اللّه اللّه في الحرم والذرية! والناس يقتتلون ليلتهم تلك حتى أصبحوا، وقد قتل من القوم تلك الليلة ستة وثلاثون ألفا من جحاجحة العرب، و ليس فيهم أحد يكيع عن صاحبه. قال: فطلعت الشمس وتعالى النهار وذلك في يوم الجمعة والسيوف تأخذ هام الرجال.

معاوية يلجا إلى مشورة عمرو

فقال معاوية لعمرو:اللّٰه،ويحك أبا عبد اللّٰه،أين جيلك التي كنت أعرفها منك؟

فقال عمرو:تريد ماذا؟

قال:أريد أن تسكن هذه الحروب فقد أبيد أهل الشام....

فقال عمرو:إن أحببت ذلك،فمر بالمصاحف أن ترفع على رؤوس الرماح،ثم ادع إليها،فإنك إن فعلت ذلك لم يقاتل أحد أحدا،فهذه حيلتي ومكيدتي التي لم أزل أخرها لك،فعجل برفع المصاحف....(وفي تاريخ الطبري:فإن أبي بعضهم أن يقبلها،وجدت فيهم من يقول:بلى ينبغي أن نقبل،فتكون فرقة تقع بينهم، وإن قالوا:بلى نقبل ما فيها،رفعنا هذا القتال عنا وهذه الحرب إلى أجل أو إلى حين)(2) .

ص: 288


1- نصر بن مزاحم،وقعة صفین،ص257
2- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،ص34

كتب الدينوري:«قالوا: فربطت المصاحف، فأول ما ربط مصحف دمشق الأعظم، ربط على خمسة أرماح، يحملها خمسة رجال، ثم ربط سائر المصاحف، جميع ما كان معهم، وأقبلوا في الغلس(=بداية بزوغ الفجر)،نظر أهل العراق إلى أهل الشام قد أقبلوا، وأمامهم شبيه بالرايات، فلم يدروا ما هو، حتى أضاء الصبح، فنظروا، فإذا هي المصاحف(1)

ثم نادوا:يا معشر العرب،اللّٰه اللّٰه في نسائكم وبناتكم،فمن للوم والأتراك وأهل فارس غدا إذا فنيتم؟اللّٰه اللّٰه في دينكم.هذا كتاب اللّٰه بيننا وبينكم.

فقال علي (علیه السلام):اللّٰهم إنك تعلم أنهم ما الكتاب يريدون،فاحكم بيننا وبينهم إنك أنت الحكم الحق المبين(2).

هذه اللحظة،لحظة رفع المصاحف،هي اللحظة التي حدث بعدها تدهور دراماتيكي

في وضع جيش علي (علیه السلام) الداخلي

عندها وثب الأشعث بن قيس(3) إلى علي (علیه السلام) فقال:يا أمير المؤمنين،أجب القوم

ص: 289


1- الدينوري، الأخبار الطوال، ص 174.
2- نصر بن مزاحم، وقعة صفين، ص 478 - 479.
3- الأشعث بن قیس ارتد بعد وفاة رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)، وأسر وجي به إلى أبي بكر، فمن عليه بإطلاق سراحه، وزوجه أخته أم فروة، لكنه في آخر حياته، وهو على فراش الموت، عبر عن ندمه لأنه لم يضرب عنق الأشعث، لأنه - بحسب تعبيره - : الا يرى شيئا من الشر إلا أعان عليه. (انظر: تاریخ اليعقوبي، ج2، ص132، 137). وكان الأشعث عامة لعثمان علی آذربایجان، وكان عمرو بن عثمان قد تزوج ابنة الأشعث، ولما بويع الإمام علي (علیه السلام)كتب إليه رسالة قال له فيها: «وإن عملك ليس لك بطعمة ولكنه أمانة، وفي يديك مال من مال اللّه ،وأنت من ان اللّه عليه حتى تسلمه إلى ، فلما قرأه قال لبعض أصحابه : إنه قد أوحشني وهو آخذ بمال آذربایجان. وأراد الأشعث اللحوق بمعاوية فمنعه بعض أصحابه حتى قدم على الإمام علي (علیه السلام) وهو معزول عن الولاية، فصار في نفس الأشعث على الإمام علي (علیه السلام) بسبب عزله عن آذربایجان . وعندما كان الإمام علي (علیه السلام) يتكلم على منبر الكوفة، فمضى في بعض كلامه شيء اعترضه الأشعث بن قيس فيه ، فقال : يا أمير المؤمنين، هذه عليك لا لك. فخفض (علیه السلام) إليه بصره ثم قال : وما يدريك مما علي مما لي، عليك لعنة اللّه ولعنة اللاعنين، حائك ابن حائك، منافق اب كافر ، واللّه لقد أسرة الكفر مرة والإسلام أخرى، فما فداك من واحدة منهما مالك ولا حسبك. وإن امرأ دل على قومه بالسيف، وساق إليهم الحتف، لحري أن بمقته الأقرب، ولا بأمته الأبعد» (نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح، (19)، ص 61). وعن الصادق (علیه السلام) : إن الأشعث بن قيس شرك في دم أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وابنته جعدة ست الحسن (علیه السلام)، ومحمد ابنه شرك في دم الحسين (علیه السلام) . الكليني، روضة الكافي، ج8، 167. وينقل المفيد في الإرشاد أن حجر بن عدي كان بائتا في ليلة شهادة الإمام علي عليا في المسجد، فسمع الأشعث بن قيس يقول لابن ملجم : النجاء النجاء لحاجتك فقد فضحك الصبح، فأحس حجر بما أراد الأشعث فقال له: قتلته يا أعور؟! وخرج مبادرة ليمضي إلى أمير المؤمنین (علیه السلام) نسبقه ابن ملجم فضربه بالسيف.

إلى كتاب اللّٰه،وإلا واللّٰه لم يرم معك يماني بسهم،ولم يضرب معك بسيف، ولم يطعن معك برمح(1) .

أقول:لاحظ كلمة«يماني»،وتعني قحطانية،والقحطانيون هم العصب الرئيسفي جيش علي (علیه السلام).

فقال علي (علیه السلام):ويحك واللّٰه ما رفعوا لكم هذه المصاحف إلا خديعة ومكيدة.

فقال الأشعت:لا واللّٰه ما نأبى ذلك أبدا،فإن شئت فاذن لي أن آتي معاوية فأسأله

عن هذو المصاحف لماذا رفعت؟

فقال علي (علیه السلام):ذاك إليك....

ثم تقدم رجل من أهل الشام على فرسه وفي يدير مصحف قد فتحه،ثم وقفت بين الجمعين،وجعل يقرأ:«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ»(2) ....

يقول المؤرخون:وماج الناس في عسكر علي (علیه السلام).فقالت جماعة:قد أكلتنا هذه الحروب وقل الرجال.وقال قوم:قاتل اليوم على ما قائلنا أمس وإن لم يبق منا إلا القليل....

كان اقتراح عمرو بن العاص الحكيم،في وقت ملائم تماما لتفجير الصراع داخل جيش علي (علیه السلام)؛فالخسارة البشرية الفادحة التي ألحقتها الحرب بجيش علي-رغم أن خسائر جیش معاوية كانت أكثر-كانت عامة نفسية مهما لقبول التحكيم.وهكذا وجد في جيش علي (علیه السلام) فريقان:فريق يطلب إيقاف الحرب وتحكيم كتاب اللّٰه،تحت مبرر حقن دماء المسلمين،ويأتي على رأسهم مالك الأشتر.

الفريق الذي كان يطالب بايقاف الحرب، وتحكيم كتاب اللّه، كان فريقة ضاغطة ،

ويتوشع باستمرار، والفريق الآخر كان يقل أنصاره بالتدريج.

ص: 290


1- وكان الأشعث قد خطب قبل رفع المصاحف خطبة انطلقت عيون معاوية بها إليه،فقال معاوية: أصاب ورب الكعبة،لئن نحن التقينا غدا لتميل الروم على ذرارينا ونسائنا، وليميل أهل فارس على نساء أهل العراق وذراريهم،وإنما يبصر هذا ذوو الأحلام والنهى،اربطوا المصاحف على أطراف القنا.أنظر:نصر بن مزاحم،وقعة صفین،ص480-481
2- سورة آل عمران،الآية:23

قام الإمام علي (علیه السلام) إلى أصحابه قائلا:عباد اللّٰه،إني أحق من أجاب إلى كتاب اللّٰه ولكن معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط وحبيب بن مسلمة وابن أبي سرح،ليسوا بأصحاب ديني ولا قرآن،إني أعرف بهم منكم،صحبهم أطفالا،وصحبهم رجالا،فكانوا شر أطفال وشر رجال.إنها كلمة حق يراد بها باطل،إنهم واللّٰه ما رفعوها لأنهم يعرفونها ويعملون بها،ولكنها الخديعة والوهن والمكيدة،أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة،فقدبلغ الحق مقطعه،ولم يبق إلا أن يقطع دابر الذين ظلموا(1) .

ثم وثب إلى علي (علیه السلام) يومئذ ما يقرب من عشرين ألف مقئع بالحديد، شايلين شیوهم على عواتقهم،قد اسودت الدنيا حولهم من كثرة الغبار، ومعهم عصابة من القراء الذين صاروا بعد ذلك خوارج،فقال له رجل منهم:يا علي،أنت تعلم أننا إنما قتلنا عثمان بن عفان حين غلبنا وأبي علينا أن يعمل بما في كتاب اللّٰه أو يجيب إليه،أجب القوم إلى ما دعو إليه من كتاب اللّٰه، فقد أنصفوك،وإلا واللّٰه دفعنا إليهم برغمك أو قتلناك كما قتلنا عثمان بن عفان، واللّٰه لنفعلها بك إن لم تجب القوم إلى كتاب اللّٰه.

فنظر علي (علیه السلام) ساعة،ثم قال:«أيها الناس انه لم يزل أمري معكم على ما أحب حتى نهكتكم الحرب وقد واللّه اخذت منكم وتركت وهي لعدوكم أنهك.لقد كنت أمس أميرا فأصبحت اليوم مأمورا وكنت أمس ناهيا فأصبحت اليوم منهيا وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون»(2) .

قالوا:فابعث إذا إلى الأشتر،فادعه إليك فإنه ما يغير عن الحرب.وقد كان

الأشتر كقتله،أشرف على دخول عسكر معاوية.

فأرسل إليه علي (علیه السلام) رسولا أن ارجع،فقال الأشتر للسول:قل لأمير المؤمنين ليس هذا وقت ينبغي لك أن تزيلني فيو عن موقفي.

فارتفع الرهج وعلي الأصوات من ناحية الأشتر،فقال القوم:إنما سألنا أن ترد

الأشتر،ولم نسألك أن تأمره بالحرب.

فقال علي (علیه السلام):وكيف علمثم أتي أمرته بالحرب؟هل رأيتموني وأنا أسارُ الرسول؟

ألم ألمه وأنتم تسمعون؟

قالوا:فابعث إليه فليأتك وإلا واللّٰه اعتلناك.

ص: 291


1- نصر بن مزاحم،وقعة صفين،ص489.انظر أيضا:الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،ص34
2- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(208)،ص323-324

أقول:ومعنی اعتزال هؤلاء هو خروج وانسحاب آلاف المقاتلين من جيش علي (علیه السلام) وتفرق جيشه وتشهم في مواجهة معاوية وجيشه!

فقال علي (علیه السلام) لرجل من أصحابه:اذهب إليه فقل له ويحك أقبل فإن الفتنة قد وقعت.

فجاء الرسول بالرسالة من عنبر علي (علیه السلام) فقال الأشتر:لعل أمير المؤمنين إنما يدعوني لأجل هذه المصاحف التي رفعت؟

قال الرسول:نعم فارجع.

فقال الأشتر:أما واللّٰه لقد علمت حين رفعت أنها ستلقي خلافا وفرقة...ثم قال للرسول :و يحك أمهلني ساعة فإي تقارب من الفتح....

فقال الرسول:فارجع فإن القراء قد قالوا له:ابعث إلى الأشتر فیأتك وإلا قتلناك كماقتلنا عثمان.

فانصرف الأشتر مغضبا،فقال:ويحكم فأمهلوني ساعة فلقد أحسست بالفتح وأيقنت بالظفر.

قالوا:لا...إذا ندخل معك في خطيئتك فإنهم قد دعونا إلى كتاب اللّه عزوجل.

ثم أقبل على أولئك القراء فقال:يا أصحاب الجباه السود،كنا نظن أن صلاتكم زهادة في الدنيا وتشوقا إلى الآخرة،وأنا واللّٰه فلا أری فراركم إلا إلى الدنيا، فقبحا لكم وبعدا،كما بعد الظالمون.

فسبوه وسبهم،وضربوا بسياطهم وجه فرسه وضرب بسوطه وجوه دوابهم، وهموا به وهم بهم...وكادت الفتنة أن تقع بين القوم حتى سكنهم علي (علیه السلام) وقال:كفوا عنه مالكم وماله.

......فكان معاوية بعد ذلك يقول:واللّٰه لقد رجع عني الأشتر بوم رفع المصاحف وأنا أريد أن أسأله أن يأخذ لي الأمان من علي،وقد هممت ذلك اليوم بالهرب(1) .

كتب اليعقوبي:«فقال الأشعث: و اللّه لئن لم تجبهم انصرفت عنك. و مالت اليمانية مع الأشعث، فقال الأشعث: و اللّه لتجيبنهم إلى ما دعوا إليه، أو لندفعنك إليهم برمتك.

ص: 292


1- ابن اعثم،الفتوح،ج1،ص413-421.أنظر أيضا:نصر بن مزاحم،وقعة صفين، ص490-492

فتنازع الأشتر والأشعث في هذا كلاما عظيمة،حتى كاد أن يكون الحرب بينهم،وحتى خافت علي (علیه السلام) أن يفترق عنه أصحابه،فلما رأى ما هو فيه أجابهم إلى الحكومة»(1).

ما الذي جرى بالضبط؟

دعونا هنا نتوقف قليلا في سرد الأحداث،لنحلل ونتساءل ما الذي جرى وجعل الأحداث تتجه لوقف الحرب؟

لقد لعبت عدة عوامل دورا في وقف الحرب،وبروز حالة الشك في نبات الإمام علي (علیه السلام)،ثم تفكك جيشه (علیه السلام) بالتدريج.هذا الشك،وهذا التفكك،سيلقيان بظلالهما بقوة على وضع العراق الداخلي بعد ذلك،فهذا الشك ثم التفكك كان بداية لسلسلة من الأحداث المؤلمة والمرة،كظهور فئة الخوارج،ثم شهادة الإمام علي (علیه السلام)،وصلح الإمام الحسن (علیه السلام)،بل سيمتد تأثيرها إلى واقعة كربلاء أيضا...بل أستطيع أن أتجرأ وأقول:ما زال المسلمون يدفعون ثمن هذا الخطأ التاريخي حتى هذا اليوم...فما الذي جرى بالضبط؟ولماذا حصل هذا التدهور الدراماتيكي؟

إليك أبرز العوامل المؤدية إلى الشك في نبات الإمام علي (علیه السلام)،التي أدت بدورها

إلى الضغط عليه لإيقاف الحرب،ثم تفكك الجيش بالتدريج.

1.شهادة كبار الصحابة-ليلة الهرير أو قبيلها أو بعيدها-ممن كان له تأثير كبير في الرأي العام في أوساط جيش علي (علیه السلام)،كعمار بن یاسر وأبي الهيثم بن التيهان وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين وعبد اللّٰه بن بديل الخزاعي.شهادة هؤلاء-وأمثالهم-جعلت الرأي العام في جيش علي (علیه السلام) يخرج عن نطاق السيطرة.

فالصحابة الكبار أمثال هؤلاء كان لهم تأثير كبير في الرأي العام،وكان لهم دور مؤثر في تقوية العزائم،وتثبيت القلوب،وتوعية العقول،وكانت لديهم معرفة عميقة وقديمة بالإمام علي (علیه السلام) وتاريخه،وكانوا يتفاعلون بنحو عفوي وسريع مع متطلباته كخليفة شرعي وقائد عسكري،وكانت لديهم ثقة مطلقة به (علیه السلام) ...وقد رأينا أن بعض أفراد الجيش عندما كانت تجتاحه الشكوك،كان الإمام علي (علیه السلام) يوجهه نحو عمار مثلا.لكن عندما نالت هذه الطبقة من صحابة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) الشهادة،فقد الإمام علي (علیه السلام) كابحا مهما ومؤثرا في الجماهير.

ص: 293


1- ابن واضح،تاريخ اليعقوبي،ج2،ص189

لذا،عندما قام إليه رجل من أصحابه،فقال:نهيتنا عن الحكومة،ثم أمرتنا بها،فلم ندير أي الأمرين أرشد؟

حينها صفق الإمام علي (علیه السلام) إحدى يديه على الأخرى،وقال والحسرة تملأ قلبه:هذا جزاء من ترك العقدة:(=ما حصل عليه التعاقد)...أريد أن أدواي بكم وأنتم دائي،كناقش الشوكة بالشوكة،وهو يعلم أن ضلعها معها:اللّٰهم قد ملت أطباء هذا الاء الدوى(=المؤلم الشديد)،وكلت النزعة بأشطان الركي(=ضعفت القدرة على شد حبال البئر).(ثم يبدأ بإثارة مسألة فقدان فئة نوعية في صفين والشعور بافتقادهم والحاجة إلى وجودهم في مثل الظروف التي يمر بها سلام اللّٰه عليه)أين القوم الذين دعوا إلى الإسلام فقبلوه،وقرؤوا القرآن فاحكموه، وهيجوا إلى الجهاد فولهوا وله اللقاح(=الناقة)إلى أولادها...مُرْهُ الْعُيُونِ مِنَ الْبُكَاءِ، خُمْصُ الْبُطُونِ مِنَ الصِّيَامِ، ذُبُلُ الشِّفَاهِ مِنَ الدُّعَاءِ، صُفْرُ الْأَلْوَانِ مِنَ السَّهَرِ، عَلَى وُجُوهِهِمْ غَبَرَةُ الْخَاشِعِينَ، أُولَئِكَ إِخْوَانِي الذَّاهِبُونَ، فَحَقَّ لَنَا أَنْ نَظْمَأَ إِلَيْهِمْ وَ نَعَضَّ الْأَيْدِي عَلَى فِرَاقِهِمْ»(1) .

كان (علیه السلام) يقول بعد ذلك لمن تبقى من أهل الكوفة:«انظروا أهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم،واتبعوا أثرهم.....لقد رأيت أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم، فما أرى أحداً يشبههم منكم لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً، وقد باتوا سجّداً وقياماً يراوحون بين جباهِهِم وخدودهم ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم، كأن بين أعينهم رُكب المعزى من طول سجودهم، إذا ذكر اللّه هملت أعينهم حتى تبُلَّ جيوبهم، ومادوا كما يميد

الشجر يوم الريح العاصف، خوفاً من العقاب ورجاءً للثواب»(2) .

كان يفتقدهم بشدة،ويقول قبل أسبوع من شهادته (علیه السلام):«أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟ أين عمار ؟ وأين ابن التيهان؟ وأين ذو الشهادتين؟

وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنية، وأبرد برؤوسهم إلى الفجرة. ثم ضرب بيده على لحيته الشريفة الكريمة ویطیل البكاء، ثم یقول:أوه على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه ، وتدبروا الفرض فأقاموه، أحيوا السنة وأماتوا البدعة. دعوا للجهاد فأجابوا، ووثقوا بالقائد فاتبعوه (ثم نادى بأعلى صوته): الجهاد الجهاد عباد اللّه. ألا وإني معسكر في يومي هذا فمن أراد الرواح إلى اللّه فليخرج»(3) .

ص: 294


1- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،رقم(121)،ص177
2- المصدر السابق،(97)،ص143
3- المصدر السابق،رقم(182)،ص263-264

إذن العامل الأول لتدهور وضع جيش علي (علیه السلام) هو شهادة كبار الصحابة، ممن كان يعول عليهم في الشدائد وفي إرشاد الرأي العام.

2.حرب صفين لم تكن حربا كباقي الحروب التقليدية آنذاك،تستغرق ساعات أو يوما كاملا،وإنما حرب استنزاف، طالت كثيرا،أربعين يوما تقريبا،عشرة أيام منها على الأقل كانت شديدة الضراوة.

وكان بين الجيشين تكافؤ نسبي في القوة،ولم يكن حسم المعركة أمرا سهلا لأي طرف منهما.ولم تمل الكفة في الحرب لمصلحة جيش علي (علیه السلام) إلا بعد وقت طويل،حصل خلاله مضاعفات داخلية خطيرة،هيات الأجواء لوقوع البلبلة والتدهور اللاحق.

إذن العامل الثاني للتدهور طول أمد الحرب،نظرا للتكافؤ النسبي بين الجيشين من الناحية العسكرية .

3.الخسائر الفادحة التي لحقت بالطرفين أثرت في المعنويات كثيرة،خصوصا

عندما نتذكر أن الطرفين كانا يلتقيان ليلا وتدور بينهما أحاديث وحوارات وتبادل للقتلى.

فبعض التقديرات(1) تتحدث عن أن عدد القتلى من جيش علي (علیه السلام) فقط في صفين بلغ خمسة وعشرين ألفا. ورغم أن عدد القتلى في جیش معاوية كان أعلى من ذلك بكثير،إلا أننا لا نلحظ وقوع مضاعفات خطيرة في جيشه،كالتي وقعت في جيش علي (علیه السلام).وسنشير بعد قليل إلى الأسباب المحتملة لذلك.

وفي ذلك يقول الإمام علي (علیه السلام) في كتابه إلى أهل الأمصار يقص فيه ما جرى في صفين:«فقلنا:تعالوا نداو ما لا يدرك اليوم بإطفاء النائرة(=الفتنة المشتعلة)...فقالوا:بل نداويه بالمكابرة،فأبوا حتى جنت(=أقبلت) الحرب وركد (=استقرت)،ووقدت نیرانها وحمشت(=شبت)،فلما ضرستنا(=عضتنا أضراسها) وإياهم،ووضعت مخالبها فينا وفيهم،أجابوا عند ذلك إلى الذي دعوناهم إليه، فأجبناهم إلى ما دعوا،وسارعناهم إلى ما طلبوا»(2) .

إذن العامل الثالث للدهور هو الخسائر الفادحة التي كابدتها جميع الأطراف. 4.الدور الذي كان لعبه بعض المعتزلين أو المعوقين قبل الخروج إلى العراق أو قبل الوصول إلى صفین،كأبي موسى الأشعري.

ص: 295


1- نصر بن مزاحم، صفین،ص558
2- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(58)،ص448

فقد كان هناك أناس من الصحابة على قدر كبير من الورع والتقوى في نظر الناس،كان هؤلاء الناس...يوحون للجماهير بأن المعركة ليست صحيحة،وأن القاعد في المعركة خير من القائم،والقائم فيها خير من السائر والشارب، هذا الإيحاء من قبل أبي موسى الأشعري-مثلا-كان له قوة أكبر بكثير من الايحاء المقابل من قبل عمار بن یاسر،لأن إيحاء عمار بن یاسر يكلف الموت، يكلفك أن تتنازل عن حياتك،أما الايحاء من أبي موسى الأشعري فهو يكفيك بذل هذه الحياة يقول لك:حافظ على حياتك،ابتعد عن الأخطار،اذهب واجلس في بيتك ودع الإسلام مع أخطاره وأعدائه...

هذا الإنسان الاعتيادي البسيط الشاك يفضل إيحاء أبي موسى الأشعري وأمثاله على إيحاء عمار بن ياسر وأمثاله،لأنه يريد أن يحتفظ بحياته.فيتعمق الشك على أساس من إيحاء أمثال أبي موسى الأشعري وعبد اللّٰه بن عمر وسعد بن أبي وقاص.لقد كان ثمة صدى-لأولئك المعتزلين-يتردد كصوت داخلی به مسامع المقاتلين،ينطبق عليه قوله تعالى:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»(1) .

إذن العامل الرابع لتدهور الوضع،الذي ساعد على نمو الشك في نبات الإمام على (علیه السلام)،يكمن في قوة إيحاء أمثال أبي موسى الأشعري وعبداللّٰه بن عمر وسعد بن أبي وقاص،في قبال إيحاء أمثال عمار بن یاسر ومالك الأشتر. الايحاء الأول في الظاهر لا يكلت شيئا،والايحاء الثاني يكلف الإنسان حياته..

5.إن الخسائر الفادحة كانت بيد أبناء القبيلة نفسها،فخثعم العراق كانت تقاتل أختها خثعم الشام،وأزد العراق كانت تقاتل أختها أزد الشام.....وهكذا بقية القبائل،ومن الصعب تحمل أن تكون الخسائر على يد أبناء القبيلة نفسها.وإليك توضيح ذلك:

كان عدد من القبائل مقسمة إلى قسمين:قسم في العراق وقسم في الشام.هذا الوضع يعني أنه إذا تفجر الصراع بين الإمام علي (علیه السلام) ومعاوية، وقتل فرد من خثعم من جيش علي (علیه السلام) فردة من الأزد من جیش معاوية،فمن المحتمل جدا أن تثار الأزد من جيش علي (علیه السلام) من هذا الخثعمي.فأفضل طريق لتجنب الصراع الداخلي في جيش علي عليه هو أن تكفي كل قبيلة في جيشه أبناء عمومتها في جیش معاوية.لكن هذا

ص: 296


1- سورة آل عمران،الآية:156

يتطلب صبرا ونفساً رسالياً طويلا،وروحا تربت على التضحية والفداء في سبيل ربها ودينها وهدفها وقيادتها.

فإذن الإمام علي (علیه السلام) بين طريقين:إما أن يترك المعركة تسير بطبيعتها بين جيشه وجيش معاوية،دون أي إجراءات احترازية مسبقة،والنتيجة المباشرة لذلك هو أن يتفجر سريعا صراع داخلي في جيش علي (علیه السلام) بين القبائل. والخيار الثاني هو أن تكفيه كل قبيلة في جيشه أبناء عمومتها من جیش معاوية،وهذا يعني أن جيش علي (علیه السلام) لن يتحمل

حرب استنزاف،لأن حربا كهذه ستولد بالتدريج تملمة ورفضا،على أساس أن بعض

الأفراد يقتلون أبناء عمومتهم،يثكلون أمهاتهم ويرملون نساءهم وییتمون أبناءهم.

فاختار الإمام علي (علیه السلام) الطريق الثاني على أمل أن ينتهي من حرب معاوية قبل أن يصل جيشه إلى تلك اللحظة النفسية التي ستؤثر في موازين القوى ميدانيا،وقال للأزد«اكفوني الأزد»وقال لخثعم«اكفوني خثعم»،وأمر كل قبيلة من أهل العراق أن تكفيه اختها من أهل الشام،إلا أن تكون قبيلة ليس منها بالشام أحد فيصرفها إلى قبيلة أخرى تكون بالشام ليس منهم بالعراق واحد،مثل بجيلة لم يكن منها بالشام إلا عدد قليل فصرفهم إلى الخم(1) .

ووقع ما خشي الإمام علي (علیه السلام) وقوعه،لقد تعب جيشه من الحرب عندما رأى الخسائر الفادحة،وعندما وجد الجيش أن الضحايا هم من القحطانين،بدأ يشك في نبات الإمام علي (علیه السلام)،عندما وجد القحطاني نفسه يقتل أخاه القحطاني من جيش معاوية،وأن رأسي النزاع(عليا (علیه السلام) ومعاوية)من عدنان،وفي النهاية سواء كان النصر العلي (علیه السلام) أو لمعاوية فإن النصر لقريش، وقحطان هي الخاسر الأكبر.

هذا الشعور-الشعور بأن قريشا تلاعبت بالقحطانيين واستخدمتهم كأداة في صراعها الخاص-كان موجودة عند أجناد العراق والشام معا،لكن جيش علي (علیه السلام) كان أكثر قابلية على التفكك...لماذا؟

الجواب:لسببين على الأقل،السبب الأول يعود إلى طبيعة التربية التي تلقاها أهل الشام،وطبيعة المعلومات المغلوطة التي زودوا بها.

فأهل الشام منذ دخولهم الإسلام لم يعرفوا إلا معاوية،وأخاه يزيد من قبله. وكان معاوية قد صؤر لهم أنه كاتب الوحي وخال المؤمنين والناطق باسم الإسلام،ورباهم على الطاعة العمياء له،لذا نجده يقول لعمار في المدينة قبل مقتل عثمان:«إنَّ بالشَّام مئة ألف

ص: 297


1- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج3،ص9

فارس،كل يأخذ العطاء،مع مثلهم من أبنائهم وعبدانهم،لا يعرفون عليا ولا قرابته،ولا عمارا ولا سابقته،ولا الزبير ولا صحابته،ولا طلحة ولا هجرته،ولا يهابون ابن عوف ولا ماله،ولا يتقون سعدا ولا دعوته»(1) .

وتجد الحجاج بن زيمة يقول لمعاوية بعد مقتل عثمان:«يا معاوية إنك تقوى على علي (علیه السلام) بدون ما يقوى به عليك،لأن من معك لا يقولون إذا قلت،ولا يسألون إذا أمرت،ولأن من مع علي (علیه السلام) يقولون إذا قال،ويسألون إذا أمر،فقليل ممن معك خير من كثير ممن معه»(2) .

وكتب المسعودي أن رجلا من أهل الكوفة دخل على بعير له إلى دمشق،في حالة منصرفهم عن صفين،فتعلق به رجل من دمشق،فقال:هذه ناقتي،أخذت مني بصفين، فارتفع أمرهما إلى معاوية.وأقام الدمشقي خمسين رجلا بينة يشهدون أنها ناقته. فقضى معاوية على الكوفي،وأمره بتسليم البعير إليه.فقال الكوفي:أصلحك اللّٰه،إنه جمل وليس بناقة،فقال معاوية:هذا حكم قد مضى.ودس إلى الكوفي بعد تفرقهم فأحضره،وسأله عن ثمن بعيره،فدفع إليه ضعفه،وبره وأحسن إليه،وقال له:أبلغ علية أثي أقايله بمائة ألف،ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل(3) !!كتب العقاد معلقا:«إن كان في هذه القصص بعض المبالغة،فهي مبالغة الفكاهة الموكلة لتكبير الملامح ليراها من غفل عنها،وليس مبالغة الخلق والافتراء»(4) .

ومعاوية من ناحية ثانية كان قد ألهب حماسة أهل الشام عندما صؤر لهم أنهم يقومون بمهمة أخلاقية مقدسة تتمثل في نصرة الخليفة المظلوم،ورأينا استخدامه قميص عثمان والدماء الملطخة عليه وأصابع زوجته نائلة أيما استخدام.......إذن هذا هو السبب الأول التفكك جيش علي (علیه السلام) دون جیش معاوية...يكمن في طاعة أهل الشام العمياء لمعاوية.

السبب الثاني يعود إلى طبيعة توزيع الجند في العراق،الذي كان يختلف عن طبيعيه

في الشام.

ففي العراق،وبعد الفتوح مباشرة،عندما أراد سعد بن أبي وقاص تمصير الكوفة،

ص: 298


1- ابن قتنبة،الإمامة والسياسة،ص46
2- ابن قتيبة،الإمامة والسياسة،ص102
3- المسعودي،مروج الذهب،ج3،ص41.قال أهل اللغة:«الناقة»الأنثى من الإبل،و«الجمله الكبير من الإبل إذا بلغ أربع سنوات،«والإبل»،و«البعير»يشمل الجمل والناقة كالإنسان للرجل والمرأة.ويكتب المسعودي في الموضع نفسه:وقد بلغ من أمره(=أهل الشام)في طاعتهم له(=لمعاوية)أنه صلى بهم عند مسيرهم إلى صفين الجمعة في يوم الأربعاء!!
4- عباس محمود العقاد،عبقرية الإمام علي (علیه السلام)،ص49

قسمها وفقا لتركيب الجند القبلي،فصارت الأحياء تتوزع حسب التنوع القبلي،فتجد حية الخثعم،وحيا للأزد... . إلخ.بخلاف الشام،فبعد الفتوح مباشرة،تم توزيع الجند مناطقية، فصار يقال«جند الشام»،«جند الأردن»،«جنڈ حمص»....إلخ،الأمر الذي سمح بالتمازج القبلي.وكانت طبيعة توزيع الجند في العراق القائم على أساس قبلي،ترسخ العقلية القبلية،والعاطفة العشائرية،التي جاء الإسلام ليلجمها وينظم عنفوانها.في حين أن طبيعة الجند في الشام القائم على أساس مناطقي،كانت تساعد الجند على تجاوز العقلية القبلية،والعاطفة العشائرية،ليتجه الجميع نحو العقلية الحضرية،التي ترتبط بالمكان أكثر من ارتباطها بالعرق والعشيرة.

لذا نجد أن أحد زعماء الأزد خطب في قومه عندما كلفهم الإمام علي (علیه السلام) قتال إخوانهم في صفوف معاوية:«إن من الخطأ الجليل والبلاء العظيم أننا صرفنا إلى قوونا

و رفوا إلينا،واللّٰه ما هي إلا أيدينا نقطعها بأيدينا،وما هي إلا أجنحتنا نجدها بأسيافنا، فإن نحن لم نؤاسي جماعتنا ولم ناصح صاحبنا كرنا،وإن نحن فعلنا فينا أبحنا ونارنا أخمدنا»(1) .

وسنرى بعد ذلك،أن الحالة النفسية في جيش الإمام علي (علیه السلام) ستزداد سوءا بعد حرب النهروان-التي جاءت بعد صفين وظهور نتيجة التحكيم-لأن الخوارج هم من القحطانيين المنشقين عن جيش علي (علیه السلام)،فمن بقي من القحطانيين في جيش علي (علیه السلام) اضطر لقتال أخوانهم وأبناء عمومتهم الذين انشقوا عنهم بالأمس.

عندما نتحدث عن خسائر فادحة في جيش علي (علیه السلام) والخوارج،فنحن نتحدثعن

خسائر في صفوف القحطانيين بالدرجة الأولى،لأن أغلب جنود الطرفين من قحطان.

في المقابل كان الإمام علي (علیه السلام) يذكر جيشه بأن المسلمين ابتلوا بمثل هذا البلاء في صدر الإسلام،وأن هذا الذين لم يقف على رجليه إلا بعد تقديم هذا النوع من الضحيات، يقول (علیه السلام):«لقد كنا مع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا،ما يزيدنا ذلك إلا إيمانا وتسليمة...ولقد كان الرجل وا والآخر من عدونا يتصا ولاني تصاؤل الفحلين يتخالساني أنفسهما،أيهما يسقي صاحبه كأس المنون،فمرة لنا من عدونا،ومرة لعدؤنا منا... .ولعمري لو كنا نأتي ما أتيتم(=من الجزع وقلة الصبر والتأثر لقتل الأقارب)ما قام للدين عمود،ولا اخضر للإيمان عوده(2).

ص: 299


1- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج3،ص18
2- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،رقم(56)،ص91-92

نعم،فمما ساهم في تعميق الشك أيضا أنه كان هناك نزاع تقليدي بين بني أمية وبني هاشم،نزاع عاشه بنو أمية وبنو هاشم قبل الإسلام،والناس حينما أخذت تفتش عن نقطة ضعف في المعركة،بدأت الأذهان تثير الشكفي أن تكون المعركة بين علي (علیه السلام) ومعاوية نتيجة استمرارية لصراع تقليدي بين قبيلتين،بين بني أمية وبني هاشم.

وكنا قد نقلنا سابقا أن أبا كعب رئيس خثعم العراق لما قتل،لم يستطع قاتله أن يمنع نفسه من البكاء والانصراف وهو يقول:«رحمك اللّٰه،أبا كعب،لقد قتلتك في طاعة قوم أنت أمس

بي رحما منهم،وأحب إلى نفسا منهم،ولا أری قریشا إلا قد لعبت بنا»(1)

وقلنا إن الشعور با قریشة العدنانية تلاعبت بالقحطانيين،تفشى في أوساط جيش علي علي (علیه السلام).واللقاءات الدائمة والمستمرة بين جند الطرفين ربما لعبت دورة في انتقال عدوى هذا الشعور لجند علي (علیه السلام).

وتجلى هذا واضحا عندما رفض جنده (علیه السلام) مرشحه للتحكيم:عبداللّٰه بن عباس،

بذريعة أنه شي،واقترحوا بدلا منه أبا موسى الأشعري القحطاني(2) .

كان الإمام علي (علیه السلام) الذي خاض المعركة على رأس هذا المجتمع لتصفية الانحراف من الداخل وتصفية الانحراف من الخارج،يريد أن يوغي الجماهير ويفهمها بان المعركة ليست معركة زعامة شخصية،وليست معركة وجود خاص،وليست معركة قبيلته أو عشيرته أو أمجاده،وإنما هي معركة رسالة الماء،معركة الحفاظ على أمانة اللّٰه التي جاهد في سبيلها الأنبياء.

...هذا الإمام العظيم بدأ المعركة على أساس أن الجماهير بدأت تحس بهذه الأبعاد للمعركة وطبيعتها،ولكن بعد أن تعبت،وأرهقها خط الكفاح،وقدمت العلي (علیه السلام) وللإسلام كثيرا من التضحيات التي قد لا يمكن أن يقدمها كثير من المجتمعات،إلا أن النفس لم يكن طويلا،نفس هذه الجماهير احتبس،بينما الانحراف كان ذا نفس طويل.انقطع نفس هذه الجماهير عندما تعبت...وأخذت تشعر بائها طلقت الدنيا-طلقت الأبناء والأموال والثروات-في سبيل قضية لا تمس مصالحهم الشخصية.هذه الرغبةالنفسية-في أن يوقفوا الجهود ويريحوا أنفسهم-تخلق شكا ومبررات غير منطقية.وهذه المبررات غير المنطقية هي نتيجة الرغبة النفسية في أن يتبدل الحال،ويعود الوضع إلى ما كان عليه قبل أعباء هذا الخط وتحمل مسؤولياته.

ص: 300


1- نصر بن مزاحم،وقعة صفین،ص290
2- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،ص36

لا غرابة في أن يتعب أهل العراق وإن كانوا على حق،ويصمد أهل الشام وإن كانوا على باطل؛لأن الصبر في القتال كان دائما-مع القوى-شرطا قرآنيا ضروريا النزول المدد الغيبي وتحقق النصر.وما دام أهل العراق لم يصبروا وأخلوا بهذا الشرط،لم تعد شئة المدد الغيبي والنصر جارية في حقهم.

إذن هذا هو العامل الخامس والأهم لتدهور الوضع،وظهور حالة الشك في أوساط جيش علي (علیه السلام):التركيبة القبلية للجيشين،التي تنحدر من قحطان،والتي اضطرت المرء القتال أبناء عمومته،في حين أن عليا (علیه السلام) ومعاوية ينحدران من أصل قبلي آخر(=عدنان)،وهذا الأصل القبلي الآخر هم بالاستئثار-بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)-بالسلطة والمال.لقد ساد جيش علي (علیه السلام) شعور بانهم تحولوا في هذه الحرب إلى أداة بید قریش،وأن الحرب هذه لا تعنيهم،ولا تمس مصالحهم الشخصية.

6.حيلة عمرو بن العاص في رفع المصاحف،التي جاءت في وقت بالغ الحرج

الجيش علي (علیه السلام).

لكن ما كان لهذا العامل أن يفعل فعله وأن يؤثر لو كان أفراد جيش علي (علیه السلام) على درجة عالية من الوعي والقدرة على التحليل السياسي والعسكري.كان افتقاد عدد كبير من أفراد جيش علي (علیه السلام) للوعي هو سبب نجاح هذه الحيلة،وهذا سيؤدي إلى بروز ظاهرة الخوارج.

إذن هذا هو العامل السادس،حيلة من طرف،لا يواجهها وعي من طرف آخر.وهو

عامل مباشر وسريع التأثير،لأن العوامل الأخرى كانت قد تفاعلت في داخل جيش علي (علیه السلام) بقدر جعل رفع المصاحف بمثابة الجزء قبل الأخير للعلة التامة،كما يقول المناطقة.

7.الدور الذي لعبه بعض المنافقين في جيش علي (علیه السلام)،كالأشعث بن قيس،الذي كان يدور بين أفراد جيش علي (علیه السلام) ليقنعهم بضرورة وقف الحرب والاحتكام لكتاب اللّٰه سبحانه.

فقد لعب الأشعث بن قیس وأمثاله دورة في بث روح التخال في النفوس،وراح يضع في ذهن الجيش أن على علي (علیه السلام) وقف الحرب وقبول الحكيم،فكان هذا الدور بمثابة الجزء الأخير للعلة التامة،كما يقول المناطقة.

لاحظ مثلا قوله تعالى: «بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)» [آل عمران، 125]

ص: 301

بل واصل الأشعث لعب هذا الدور، المؤثر في تصدع جبهة علي (علیه السلام)،بعد صفين،عندما ظهر الخوارج،وكان الإمام علي (علیه السلام) يحاول مسايرتهم ومداراتهم،وفي المقابل كان الأشعث يقوم بإلهاب مشاعرهم بإشاعته أن عليا (علیه السلام) مؤيد لوقف الحرب وقبول التحكيم،في وقت بالغ الدقة والحرج.وأشاع مرة أخرى أن عليا (علیه السلام) أخطأ عندما لم يتسامح مع أهل النهروان ويتغاضي عنهم وهم قلة لا يشكلون خطرا عليه.لقد ساهم تحريض الأشعث وأمثاله في إحداث تصدع في صفوف جبهة علي (علیه السلام) وشحن نفوس أولئك الذين تربطهم بالقتلى أنساب وقرابات بالكراهية والعداء لعلي (علیه السلام)،بل ربما حمل بعضهم عليا (علیه السلام) المسؤولية وطالبه بالثأر.

وهذا عامل سابع وأخير لتصدع جيش علي (علیه السلام)،ولنمو الشك لدى الجماهير في

نباته (علیه السلام).

كل هذه العوامل،وعوامل أخرى أيضا،ساعدت على أن يكون هذا الإمام العظيم

مشكوكا فيه من قبل الجماهير،فكان الإمام علي (علیه السلام) يصعد المنبر ليدعو الناس إلى الجهاد فلا يتحرك أحد،كان يستثير هممهم وعزائمهم فلايستجيبون،لأنهم بدأوا يشكون، والشك في القائد هو أقسى ما يمنی به القائد المخلص(1) .

بدأوا بالتثاقل عن الجهاد،واختلاق الأعذار للتخلف عن القتال،وانتهى الأمر بهم إلى رفض الانصياع لأوامر القائد والتمرد.«انهج البلاغة»غني بالخطب الحاكية عن تلك الحالة المرة التي عاشها الإمام علي (علیه السلام) بعد حرب صفين إلى استشهاده.

الخلاصة:تحدثنا اليوم عن ليلة الهرير،ونیل كبار الصحابة للشهادة في صفین بین يدي الإمام علي (علیه السلام)،وأن الكنية في النهاية مالت لمصلحة جيش علي (علیه السلام)،إلا أن تفاعل عدة عوامل،جعل رفع المصاحف مؤثرة جدا في التدهور الدراماتيكي الذي حصل في جيش علي (علیه السلام).ثم شرحنا تلك العوامل التي أدت إلى سريان حالة الشك في نيات الإمام علي (علیه السلام) في أوساط جنده،ثم التفكك التدريجي لجيشه (علیه السلام).

في الفصل المقبل سنتحدث عن مجريات وقف الحرب،والتحكيم،واستفحال

ظاهرة الخوارج،التي انتهت إلى حرب النهروان.

ص: 302


1- راجع:محمد باقر الصدر،أئمة أهل البيت (علیهم السلام)،ص239-241

(18)الهدنة وترتيبات وقف حرب صفين

تكلمنا في الفصل الماضي عن ليلة الهرير،ورفع المصاحف،ثم اضطرار الإمام علي (علیه السلام) لإيقاف الحرب.واستعرضنا مجموعة من العوامل،ساهمت معا في إثارة الشكوك في نبات الإمام علي (علیه السلام)،ثم ساهمت في تفكك الجيش بالتدريج.

نريد في هذا الفصل مواصلة الكلام عن صفين،وسنبدأ من لحظة قبول الإمام علي (علیه السلام)وقف الحرب وتوقيع الهدنة.

بعيد وقف الحرب

بعد مناوشات واشتباكات قوية بدأت في النصف الأول من محرم،تحولت بعد ذلك إلى معارك ضارية وحرب شاملة في الأيام العشرة الأول من صفر،وقع الطرفان في النصف الثاني من صفر تقریبا وثيقة هدنة(1) .

تنص تلك الوثيقة على أن يتم اختيار حكمين،يحكمان بكتاب اللّٰه تعالى وسنة نبيه (صلی اللّه علیه واله)،على أن يمهل الحكمان ثمانية أشهر،من لحظة إقرار الوثيقة(النصف الثاني من صفر)إلى انسلاخ شهر رمضان.وتأځذ الوثيقة عليهما أن ينزلا عند حكم اللّٰه تعالی وكتابه،يحييا ما أحيا القرآن،ويميتا ما أمات القرآن،وأن يحكما بالحق لا بالهوى(2) .

عند كتابة وثيقة الهدنة،اختصم الطرفان في تسمية الإمام علي (علیه السلام) ب«إمرة المؤمنين»،حتى تضاربوا بالأيدي،فقبل الإمام علي (علیه السلام) محو اسمه من إمارة المؤمنين،محتجا بذلك بشئة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)عندما محا اسمه من الرسالة في صلح الحديبية فكما

ص: 303


1- الطبري ينقل أن كتاب الهدنة كتب في الثالث عشر من صفر سنة37.انظر:الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،ص40
2- لمعرفة نص الهدنة راجع،الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،ص38.أيضا:نصر بن مزاحم،وقعة صفين،ص504-506

أن محو رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)لاسمه من الرسالة لا يذهب برسالته،فكذلك محو اسم الإمام علي (علیه السلام) من إمرة المؤمنين لا يذهب بإمرته(1) .

وكان لكتابة صحيفة الهدنة،خصوصا مع ملاحظة التضحيات والخسائر المرة،تأثير سلبي مباشر في بعض أفراد جيش علي (علیه السلام)،بحيث فقد بعضهم توازنه،كتب ابن قتيبة الدينوري:«فلما كتب الكاتبان،أقبل رجل من بني يشكر،على فرس له أبلق،حتى وقف بين الصفين على الإمام علي (علیه السلام)،فقال:«يا علي،أكفر بعد إسلام؟!ونقض بعد توكيد؟! وردة بعد معرفة؟!أنا من صحيفتكما بريء،وممن أقر بها بريء،ثم حمل على أصحاب معاوية،فطعن منهم،حتى إذا عطش أتی عسكر علي (علیه السلام)،فاستسقى فشقي،ثم حمل على عسكر علي (علیه السلام)،فطعن فيهم،حتى إذا عطش أتی عسكر معاوية،فاستقى فسقی»(2) .

وخرج الأشعث بن قيس في الناس بذلك الكتاب يقرؤه على الناس،ويعرضه عليهم،ويمر به على صفوف أهل الشام وراياتهم،فرضوا بذلك.ثم مر به على صفوف أهل العراق وراياتهم يعرضه عليهم،فبدأت الأصوات تنطلق:لا حكم إلا اللّٰه،لا نرضى ولا تحكم الرجال في دين اللّٰه،أين قتلانا یا أشعث؟وفي هذه اللحظة بالذات بدأت فئة الخوارج بالظهور. وظن علي علي (علیه السلام) أنهم قليلون لا يعبأ بهم،فما راعه إلا نداء الناس من كل جهة وفي كل ناحية:لا حكم إلا للّٰه،الحكم لله يا علي لا لك،لا نرضى بأن يحكم الرجال في دين اللّٰه(3) .

واختار الإمام علي (علیه السلام) عبد اللّٰه بن عباس كما من طرفه،إلا أن أصحابه رفضوا ذلك،وضغطوا عليه للقبول بابي موسى الأشعري(4) ،فقال لهم علي (علیه السلام):إنكم قد عصيتموني في أول الأمر فلا تعصوني الآن،إني لا أرى أن أولي أبا موسى.

فقال الأشعث وزيد بن حصين الطائي ومسعر بن فدكي:لا نرضى إلا به فإن ما كان

یحذرنا وقعنا فيه.

ص: 304


1- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،ص37-38
2- ابن قتيبة الدينوري،الإمامة والسياسة،ص153
3- نصر بن مزاحم،وقعة صفین،ص512-513
4- هو عبد اللّٰه بن قيس بن سليم الأشعري،من أهل اليمن،قدم إلى المدينة أيام فتح خيبر،وكان والية العمر على البصرة،ثم أقره عثمان عليها ثم عزله واستعمل مكانه ابن عامر،فسار من البصرة إلى الكوفة،فلم يزل بها حتى أخرج أهل الكوفة سعيد بن العاص وطلبوا من عثمان أن يستعمله عليهم فاستعمله،فلم يزل على الكوفة حتى قتل عثمان،فعزله علي (علیه السلام) عنها

فقال (علیه السلام):فإنه ليس لي بثقة،قد فارقني،وخل الناس عني،ثم هرب مني حتى آمنته بعد أشهر،ولكن هذا ابن عباس نوليه ذلك.

قالوا:ما نبالي أنت كنت أم ابن عباس،لا نريد إلا رجلا هو منك ومن معاوية سواء،ليس إلى واحد منكما بأدنى منه إلى الآخر.

فقال (علیه السلام):فإني أجعل الأشتر(یعني إن لم تقبلوا وسيطة عدنانيا من طرفي،وهو ابن عباس،فهاكم وسيطأ قحطانية،وهو مالك الأشتر)

قال الأشعث:وهل سئر الأرض غير الأشتر(1)؟!

رفضوا ابن عباس،ورفضوا مالك الأشتر،فاضطر (علیه السلام) في النهاية للقبول بابي موسى،في حين اختار معاوية عمرو بن العاص.

كتب اليعقوبي في ذلك:«وقال علي (علیه السلام):أرى أن أوجه بعبد اللّٰه بن عباس،فقال الأشعث:إن معاوية و بعمرو بن العاص،ولا يحكم فينا مضریان(=عدنانیان)،ولكن توجه أبا موسى الأشعري(=القحطاني)،فإنه لم يدخل في شيء من الحرب،وقال علي (علیه السلام):إن أبا موسى عدو،وقد خل الناس عني بالكوفة،ونهاهم أن يخرجوا معي،قالوا:لا نرضى بغيره،فوجه علي (علیه السلام) أبا موسی(2).... .

نعم،لقد كان لابي موسى الاشعري تاريخ سيئ مع علي (عليه السلام) ; فقد كان له دور بارز في تثبيط الناس في الكوفة، عن نصرة علي يوم الجمل، بدعوى ان النائم في هذه الفتنة خير من اليقظان، والقاعد خير من القائم، والقائم خير من الساعي، والساعي خير من الراكب. فارسل اليه علي (عليه السلام) يومها رسالة، يؤنبه على هذا الموقف، ويحذره من الاقصاء ان استمر على تثبيط الناس، كتب الامام علي:«...إذا قدم رسولي عليك،فارفع ذيلك،واشدد مئزرك،واخرج من جحرك،واندب من معك،فإن حققت فانفذ،وإن تفشلت فابعد...اعقل عقلك،وأملك أمرك،وخذ نصيبك وحظك،فإن كرهت،فتح إلى غير رحب ولا نجاة..»(3).

نعود إلى صفين، يقول المؤرخون:ثم إن الناس دفنوا قتلاهم،وأمر علي (علیه السلام) من ينادي في الناس بالرحيل(4).

ص: 305


1- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص36.
2- ابن واضح، تاريخ اليعقوبي، ج2، ص189. أنظر أيضا : نصر بن مزاحم، وقعة صفین، ص 500، وفيها كلمة الأشعث: «لا واللّه لا يحكم فيها مضریان حتى تقوم الساعة»
3- نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح، رقم (63)، ص 453.
4- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص 43.

يقول عمارة بن ربيعة واصفا حال جند علي (علیه السلام):«خرجوا مع علي (علیه السلام) إلى صفين وهم متوادون أحباء،فرجعوا متباغضين أعداء، ما برحوا من عسكرهم بصفين حتى فشا فيهم التحكيم،ولقد أقبلوا يتدافعون الطريق كله،ويتشاتمون ويضطربون بالسياط،يقول الخوارج: يا أعداء اللّٰه أدهم في أمر اللّٰه عزوجل وحكمتم؟!وقال الآخرون:فارقتم إمامنا وفرقتم جماعتنا، فلما دخل علي (علیه السلام) الكوفة لم يدخلوا معه حتى أتوا حروراء على بعد فرسخ من الكوفة)»(1) .

ويقول المسعودي في مروج الذهب:«ولما وقع الحكيم،تباغض القوم جميعا،

وأقبل بعضهم يتبرأ من بعض:يتبرأ الأخ من أخيه،والاب من ابنه،وأمر علي (علیه السلام) بالرحيل، لعلمه باختلاف الكلمة،وتفاوت الرأي،وعدم النظام لأمورهم،وما لحقه من الخلاف منهم...وتضارب القوم بالمقارع ونعالي السيوف،وتسابوا،ولام كل فريق منهم الآخر في رأيه،وسار علي يؤم الكوفة،ولحق معاوية بدمشق من أرض الشام»(2) .

هذا المشهد المؤلم والمؤسف يساعدنا على فهم الفوضى التي سرت في أوساط

جيش علي (علیه السلام)،والتي تضاعفت بعد ظهور نتيجة التحكيم،كما سنرى بعد قليل.

مواقف بعد عودة الإمام علي (علیه السلام) من صفين

ثم مضى علي (علیه السلام) غير بعيد،فلقيه عبد اللّٰه بن وديعة الأنصاري(كانت له صحبة)،فدنا منه وسلم عليه وسایره،فقال (علیه السلام) له:ما سمعت الناس يقولون في أمرنا؟(لاحظ مرة أخرى اهتمام الإمام علي (علیه السلام) بمعرفة انعكاس مجريات صفين على المجتمع الكوفي).

قال:منهم المعجب به،ومنهم الكاره له،كما قال عزوجل:«ولا يزالون مختلفين إلا

من رحم ربك»(3) .

فقال (علیه السلام) له:فما قول ذوي الرأي فيه؟(أي أريد معرفة رأي عام التخب وأهل الحل والعقد في الكوفة).

قال:أما قولهم فيه،فيقولون:ان عليا كان له جمع عظيم ففرقه،وكان له حصن حصین فهدمه،فحتى متى يبني ما هدم؟وحتى متى يجمع ما فرق؟فلو أنه كان مضى بمن أطاعه-إذ عصاه من عصاه-فقاتل حتى يظفر أو يهلك إذا كان ذلك الحزم

ص: 306


1- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،ص45-46
2- المسعودی،مروج الذهب،ج2،ص391
3- سورة هود،الآيتان:118-119

فقال (علیه السلام):أنا هدمت أم هم هدموا؟!أنا فرقت أم هم فرقوا(1) ؟!(لاحظ كيف ينم

الكلام عن شعور عمیق بالمرارة).

نقل عبد الرحمن بن جندب عن أبيه:ثم مضينا حتى إذا جزنا بني عوف،اذا نحن

عن أيماننا بقبور سبعة أو ثمانية،فقال علي (علیه السلام):ما هذه القبور؟

قال قدامة بن العجلان الأزدي:يا أمير المؤمنين،إن خباب بن الأرت(2) توفي بعد مخرجك،فأوصى بأن يدفن في الظهر ،وكان الناس إنما يدفنون في دورهم وأفنيتهم،فدين بالظهر رحمة اللّه،ودفن الناس إلى جنبه.

فقال علي (علیه السلام):يرحم اللّٰه خباب بن الأرت،فلقد أسلم راغبة،وهاجر طائعا،

وقنع بالكفاف،ورضي عن اللّٰه،وعاش مجاهداً(3) .

•ثم إن علية (علیه السلام) أقبل حتى حاذى سكة الثوريين،فسمع بكاء،فقال (علیه السلام):ما هذه الأصوات؟

فقيل له:هذا البكاء على قتلی صفين.

فقال (علیه السلام):اما إني أشهد لمن قتل منهم صابرا محتسبا بالشهادة.

ثم مر (علیه السلام) بالفائشیین،فسمع الأصوات،فقال مثل ذلك،ثم مضى حتى مر بالشباميين فسمع رجة شديدة،فوقف،فخرج إليه حرب بن شرحبيل الشبامي،فقال (علیه السلام):أيغلبكم نساؤكم؟ألا تنهونهن عن هذا الرنين؟

فقال:يا أمير المؤمنين،لو كانت دارة أو دارين أو ثلاثا قدرنا على ذلك،ولكن قتل من هذا الحي ثمانون ومائة قتيل،فليس دار إلا وفيها بكاء،فأما نحن معاشر الرجال فإنا لا نبكي ولكن نفرح لهم،ألا نفرح لهم بالشهادة؟

قال (علیه السلام):رحم اللّٰه قتلاكم وموتاكم.

وأقبل يمشي(حرب البامي)معه وعلي (علیه السلام)ي راكب،فقال له (علیه السلام):ارجع.

ص: 307


1- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،ص44.أيضا نصر بن مزاحم،وقعة صفین،ص529-530
2- كان قينا يطبع السيوف،وكان رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) يألفه ويأتيه،فأخبرت مولاته بذلك، فكانت تأخذ الحديدة المحماة فتضعها على رأسه،فشكا ذلك إلى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،فقال (صلی اللّه علیه واله):اللّٰهم انصر خبابة، فاشتكت مولاته أم أنمار رأسها،فكانت تعوي مثل الكلاب،فقيل لها:اكتوي،فكان خباب يأخذ الحديدة المحماة فيكوي بها رأسها.شهد خباب بدرة واحدة والمشاهد كلها مع رسول (صلی اللّه علیه واله)
3- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،حكم أمير المؤمنين (علیه السلام)،(43)،ص476

ووقف ثم قال له:ارجع،فإ مشي مثلك مع مثلي فتنة للوالي ومذلة للمؤمن(1) .

ومع عودته (علیه السلام) من صفين،وعندما أشرف على القبور بظاهر الكوفة،نادی (علیه السلام):يا أهل الديار الموحشة،والمحال المقفرة(=الأماكن الخالية من السكان والنبات)،والقبور المظلمة،يا أهل الترية،يا أهل الغربة،يا أهل الوحدة،يا أهل الوحشة،أنتم لنا فرط(=متقدمون)سابق،ونح لكم تبع لاحق.أما الدور فقد سكنت،وأما الأزواج فقد نكحت، وأما الأموال فقد قسمت،هذا خبر ما عندنا،فما خبر ما عندكم؟

ثم التفت (علیه السلام) إلى أصحابه فقال:أما لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم إن«خير

الزاد التقوى»(2) .

وفي حديث يكشف عن حالة الاهتزاز العقدي والبلبلة الفكرية التي فرضت نفسها على شيعة علي (علیه السلام) بعد صفين،ينقل الرواة أن عليا (علیه السلام) كان جالسة بالكوفة،بعد منصرفه من صفين،إذ أقبل شيخ فجثا بين يديه،ثم قال له:يا أمير المؤمنين،أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام،أبقضاء من اللّٰه وقدر؟

فقال علي (علیه السلام):أجل يا شيخ،ما علوم تلعة،ولا هبطم بطن واد،إلا بقضاءمن اللّٰه عزوجل وقدره.

فقال له الشيخ:عند اللّٰه أحتسب عنائي يا أمير المؤمنین.

فقال له (علیه السلام):مه يا شيخ،فواللّٰه لقد عظم اللّٰه لكم الأجر في مسيركم وأنتم سائرون،وفي مقامكم وأنتم مقيمون،وفي منصرفكم وأنتم منصرفون،ولم تكونوا في شيء من حالاتم مكرهين،ولا إليه مضطرين.

فقال له الشيخ:وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين،ولا إليه مضطرين، وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا؟!

فقال له (علیه السلام):وتظن أنّه كان قضاء حتماً وقدراً لازماً؟ أنّه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهی والزجر من اللّه تعالى وسقط معنى الوعد والوعید فلم تكن لائمة للمذنب ولا محمدة للمحسن ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب تلك مقالة اخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وحزب الشیطان وقدریة هذه الاُمّة ومجوسها.إن اللّٰه تبارك وتعالى كلف تخييرا،ونهي تحذيرا،وأعطى على القليل كثيرا،ولم يعص مغلوبا،ولم يطع مكرها،

ص: 308


1- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،ص45.أيضا نصر بن مزاحم،وقعة صفين،ص531-532
2- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،الكلمات القصار،(130)،ص492

ولم يملك مفوضاً،ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا،ولم يبعث النبيين مبشرين ومنذرين عبثا،ذلك ظين الذين كفروا،فويل للذين كفروا من النار.

فأنشأ الشيخ يقول:

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته

يوم النجاة من الحمير غفرانا

أوضحت من أمرنا ما كان ملتبسا

جزاك ربك بالإحسان إحسانا(1)

التقاء الحكمين

لم يلتق أبو موسى الأشعري عمرو بن العاص،إلا بعد أن نبه الكثيرون أبا موسی وحذروه من مكر عمرو وحيله ودهائه،وأن الوقوع في أي فخ بنصبه عمرو سينعكس تأثيره المدمر على الخلافة كلها،وعلى العراق بأسره،على وضع الإسلام كله،وأن أي انكسار في هذا المجال،لن يجبر في المستقبل.يقول ابن الأعثم في هذا المجال:

بعث علي (علیه السلام) مع أبي موسى شريح بن هانئ،فلما صار في بعض الطريق،أقبل عليه شريح،فقال له:أبا موسى،إنك قد ثبت لأمر لا يجبر ضده،ولا تستقال عثرته،فاعلم أنك إن قلت شيئا لك أم عليك لزمك حق،وزال عنك باللّٰه،فاتق اللّٰه،وانظر كيف تكون،فإنك ويت بعمرو بن العاص،وهو رجل لا دين له،لأنه باع دينه بدنياه،فإياك أن يخدعك،فإنه خدا مكار(2) .

عندما وصلوا إلى دومة الجندل(المحطة التي اتفقوا أن يلتقي عندها الحكمان)،كان عمرو بن العاص قد سبقهم إليها،فقال أبو موسى لأصحابه:انصرفوا رحمكم اللّٰه،فإني لست أبقي غاية في النصيحة لهذه الأمة إن شاء اللّٰه تعالی.

فودعه الناس،وفيمن ودعه يومئذ الأحنف بن قيس،فقال له الأحنف:اعرف خطر هذا المسير،فإن له ما بعده،واعلم بأنك إن ضيعت العراق،فلا عراق فاق اللّٰه،فإنه يجتمع لك أمر الدنيا والآخرة،وانظر إذا لقيت عمرو بنالعاص،فلا تبتدره بالسلام،حتى يكون هو الذي يبدؤك....فقال أبو موسى:إني قد سمعت كلامك،وعرفت نصيحتك،فارجع راشدة يرحمك اللّٰه..(3) .

ص: 309


1- الكليني، أصول الكافي،ج1،ص155،ح1.أيضا راجع مع اختلاف في الألفاظ:نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،الكلمات القصار،(78)،ص481
2- أنظر أيضا:نصر بن مزاحم،وقعة صفين،ص534
3- أنظر أيضا نصر بن مزاحم،وقعة صفين،ص536-537

رغم كل هذه النصائح والتحذيرات،يقول ابن الأعثم:فأقبل أبو موسى،فلما رآه عمرو استقبله،فسلم عليه أبو موسى،ومد أبو موسى يده إلى عمرو فصاحه وحياه و ضمه إلى صدره،ثم قال:يا أخاه،طال عهدي بك،فقبح اللّٰه أمرا فرق بيننا.ثم أقعده عمرو على فراشه،وأقبل عليه يحدثه ساعة،ثم دعا عمرو بالطعام،فأكلا جميعا،وانصرف أبو موسى إلى رحله،ثم لم يزالا يجتمعان كل يوم،فيتحدثان وينصرفان،فأقاما على ذلك أياما كثيرة، حتى ارتاب الناس،وغهم ذلك....

وبلغ معاوية أ عمرا يريد الأمر لنفسي،فضاق لذلك ذرعة ولم يدر ما يصنع...وصاح الناس على أبي موسى وعمرو بن العاص،وقالوا:إنكما قد أبطأثما بهذا الأمر كثيرة،وإننا نخاف انقطاع المدة ولم تصنعا شيئا،فتعود الحرب إلى ما كانت.

عندها أقبل عمرو حتى دخل على أبي موسى،فقال له:...إن قال قائل بأن معاوية من اللقاء وكان أبوه من الأحزاب فقد صدق،وإن قال قال إ عليا أقر قتلة عثمان عنده،وقتل أنصاره يوم الجمل فقد صدق،ولكن هل لك أن تخلع صاحبك عليا،وأنا أخلع صاحبي معاوية،ونجعل هذا الأمر في يد عبد اللّٰه بن عمر بن الخطاب،فإنه رجل زاهد عابد،ولم يبط في هذه الحروب لسانا ولا يدا.

أقول:عمرو بن العاص يريد في الحقيقة أن يجعل الخلافة لبني أمية،وبالتحديد المعاوية، وهذا الأمر لا يرضى به أبو موسى.إذن لا بد من حيلة يحتال بها على أبي موسی، وهذا العرض-الذي قدمه عمرو بن العاص-ينسجم تماما مع التوجهات المسبقة لأبي موسى الأشعري،فأبو موسى كان يرغب في أن يعيد الخلافة لقريش المنكسرة التي كان يمثلها وجهاء المهاجرين،وعبد اللّٰه بن عمر،مثله،لم يتورط في الفتن،وهو يعتبر امتدادا لفئة وجهاء المهاجرين،وابن الخليفة الثاني،لذا أجابه:أحسنت رحمك اللّٰه،وجزاك بنصيحيك خيرة،فنعم ما رأيت.

قال عمرو:فمتى تحب أن يكون هذا الأمر؟

فقال أبو موسى:ذاك إليك،إن شئت الساعة،وإن شئت غدا،فإنه يوم اثنين،وهذا يوم مبارك.

وانصرف عمرو إلى رحله،فلما كان من الغد أقبل إلى أبي موسى...واجتمع الناس الاستماع الكلام....قال أبو موسى:ثم يا عمرو فاخلع صاحبك،فإننا على ما كنا عليه أمس.

فقال عمرو:سبحان اللّٰه،أقوم أنا من قبل،وقد قدمك،اللّٰه علي في الإيمان والهجرة؟!لا بل ثم أنت فتكلم بما أحبت،وأقوم أنا من بعدك.

ص: 310

فوثب أبو موسى قائما...فحمد اللّٰه وأثنى عليه،ثم قال:أيها الناس....وقد علمتم ما كان من الحروب التي لم تبق على بر ولا تقي ولا محق ولا مبطل، ألا وإني قد رأيت أن نخلع عليا ومعاوية ونجعل هذا الأمر في عبد اللّه بن عمر بن الخطاب(1)، فإنه رجل لم يبسط في هذه الحروب لسانا ولا يدا، ألا! وإني قد خلعت عليا من الخلافة كما خلعت خاتمي هذا من أصبعي والسلام.

وقام عمرو بن العاص فحمد اللّه وأثنى عليه وقال: أيها الناس هذاعبد اللّه بن قيس أبو موسى الأشعري، وافد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم. وعامل عمر بن الخطاب، وحكم أهل العراق وقد خلع صاحبه عليا من الخلافة كما زعم أنه خلع خاتمه من أصبعه، ألا! وإني قد أثبت معاوية في الخلافة كما أثبت خاتمي هذا في أصبعي ثم قعد.

فض أهل العراق وقالوا:هذه خديعة،ونحن لا نرضى بهذا.

فقال أبو موسى: عليك غضب اللّه، فو اللّه ما أنت إلا كما قال اللّه تعالى«كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ»(2)(وفي وقعة صفين لنصر بن مزاحم:فقال له عمرو:إما مثلك مثل« الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا»(3))(4)...وتشاتما جميعا،ودخل عمرومن ساعته إلى رحله ...وشممت أهل الشام بأهل العراق.

....وبلغ ذلك علیا (علیه السلام)،فقالأما أنا قد أخبرتكم الأمر قبل أن يكون، وقد جهدنا أن يكون الحكم غير أبي موسى، فأبيتم علي وجئتموني به مبرنسا وقلتم: قد رضينا به فاتبعت رأيكم، والآن فلا سبيل إلى حرب القوم إلى انقضاء المدة التي كانت بيننا وبينهم.... وصار أبو موسى الأشعري إلى مكة، فأقام بها حياء من علي بن أبي طالب(5).

هنا بدأت مرحلة جديدة من الصراع،فقد عتب الإمام علي (علیه السلام)-في خطبة له-على أصحابه قائلا:«الحمد لله،وإن أتي الدهر بالخطب الفادح،والحدث الجليل..أما

ص: 311


1- وفي وقعة صفين لنصر بن مزاحم أنه قال : ونستقبل هذا الأمر فيكون شوری بین المسلمين، فيولون أمورهم من أحبوا. ص545 - 546.
2- سورة الأعراف، الآية: 176.
3- سورة الجمعة، الآية: 5.
4- نصر بن مزاحم، وقعة صفین، ص 546 .
5- ابن اعثم، الفتوح، ج 1، ص 435 - 444.. أيضا نصر بن مزاحم، وقعة صفين، ص544 - 546. الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 49 - 52.

بعد، فإن معصية الناصح الشفيق العالم المجرب، تورث الحسرة، وتعقب الندامة، وقد أمرتكم في هذه الحكومة أمري، ونخلت لكم مخزون رأيي، لو كان يطاع لقصير أمر! فأبيتم علي إباء المخالفين الجفاة، والمنابذين العصاة، حتى ارتاب الناصح بنصحه، وضن الزند بقدحه»(1) .

بعد ذلك اعلن علي (عليه السلام) ان الحكمين تجاوزا الحق، وخلفا القرآن وراء ظهورهما، مع علمهما ان التحكيم كان مشروطا، بان يكون اساسه القرآن، لان الحرب توقفت بمبرر تحكيم كتاب اللّه. اذن هو غير ملتزم بنتيجة الحكمين، طالما لم يلتزما بالشرط، حيث قال: «اجمع راي ملئكم على ان اختاروا رجلين، فاخذنا عليهما ان يجتمعا عند القرآن، ولا يجاوزاه، وتكون السنتهما معه، وقلوبهما تبعه، فتاها عنه، وتركا الحق وهما يبصرانه، وكان الجور والاعوجاج رايهما، وقد سبق استثناؤنا عليهما في الحكم بالعدل، والعمل بالحق، سوء رايهما وجور حكمهما..»(2) .

عندئذ قرر الإمام علي (علیه السلام) استئناف القتال ضد معاوية،إلا أنه بعد توجهه إلى الكوفة، امتنعت الخوارج من الدخول إليها،وذهبوا إلى قرية حروراء، كما ذهب قسم منهم إلى معسكر الخيلة اعتراضا عليه (علیه السلام).

ما كان ينتظره الناس من الحكمين

عندما نحلل الوظيفة الرئيسية المترقبة من الحكمين،يبدو لنا أن الناس كانوا ينتظرون

ما يلي:

1)دراسة الأسباب التي أدت إلى مقتل الخليفة عثمان،وهل كان هناك مبرر لقتله أم لا؟

2)بيعة الناس في المدينة لعلي (علیه السلام) بعد مقتل عثمان،هل وقعت فعلا أم لا؟وإن وقعت فهل كانت عن جبر وإكراه أم لا؟

3)إذا كانت خلافة على (علیه السلام) الشرعية-بمنطق السقيفة والشوری-فهل كان موقف معاوية مبررا عندما رفض بيعة المهاجرين والأنصار وأخر بيعته إلى أن ياخذ بالثأر؟هل كان مبررا اشتراطه على علي (علیه السلام) دفع قتلة عثمان وكانه هو الخليفة الشرعي؟ألا يجسد هذا الموقف حالة الرفض والبغي على الخليفة المفترض الطاعة وقد أخبرنا القرآن بكم الباغي؟

ص: 312


1- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،رقم(35)،ص79-80
2- المصدر السابق،رقم (177)،ص256

4)إذا ثبت أن عثمان قتل مظلوما وأنه يجب الاقتصاص من قتله،فعندئذ يقع الكلام في أن وظيفة الاقتصاص والأخذ بالثار هل هي وظيفة الخليفة الشرعي علي (علیه السلام) أم وظيفة معاوية؟وولي الأم هل هم ؤلد عثمان أم معاوية؟

5)لنفترض أن الاقتصاص من قتلة عثمان هي وظيفة الخليفة الشرعي علي (علیه السلام)، فهل كان (علیه السلام) قادرا على تنفيذ حكم القصاص؟

6)إذا كان طلحة والزبير في نكث البيعة وإخراج زوج رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)من بيتها وطرد عثمان بن حنيف من البصرة وقتل الحرس...إذا كانا معذورين وإن كانا مخطئين،فلم لا يصح تبرير عمل قتلة عثمان بالخطأ في الاجتهاد،خصوصا إذا علمنا أن قادة الثوار المحاصرين لبيت عثمان كانوا من الصحابة؟!

7)على فرض وجوب الاقتصاص من قتلة عثمان،فهل للخليفة الشرعي صلاحية العفو عن القصاص وإبداله بالدية كما فعل عثمان في حق عبيد اللّٰه بن عمر حين قتل الهرمزان وجفينة بنت أبي لؤلؤة بلا ذنب(1) ؟

8)على فرض وجوب الاقتصاص من قتلة عثمان،وأن العفو عن القصاص ليس من صلاحيات الخليفة الشرعي،فلماذا لم يقترح جدول زمني معين أو مهلة محددة لكي يقوم علي (علیه السلام) بالاقتصاص من القتلة بعد أن يبايع معاوية الخليفة الشرعي؟

المضاعفات الخطيرة لظهور نتيجة التحكيم

فور الإعلان عن نتيجة التحكيم،التي بدت فيها الخديعة واضحة وجلية،برزت سلسلة

من المضاعفات الخطيرة،وصارت كل مشكلة تل سلسلة من المشكلات بنحو انشطاري. أولاً فيما يتعلق بمعاوية

فور وصول عمرو بن العاص من دومة الجندل،واطلاع معاوية على مجريات التحكيم، والمشهد الذي انتهت عنده عملية التحكيم،بدأ الأخير يتعامل مع الناس على أنه الخليفة الشرعي للمسلمين بموجب الحكيم،فالحكيم أعطى مبررة قوية لمعاوية، ليقول للناس:أنظروا،لقد احتكمنا إلى كتاب اللّٰه تعالى،وكانت النتيجة لمصلحتي،لكن الطرف الآخر لا يريد أن ينصاع للنتيجة،عندما وجد أن نتيجة الحكيم ليست في مصلحته قلب الطاولة ورفض تلك النتيجة.فعلى كتاب اللّٰه تعالى،أنا خليفة المسلمين الشرعي.

ص: 313


1- جعفر السبحاني،بحوث في الملل والنحل،لجنة إدارة الحوزة العلمية بقم المقدسة،ط1،1412هج،قم،ج5،ص98-99

أما ورقة المطالبة بدم عثمان والثأر له،فقد انتهى مفعولها،ولم تعد هناك حاجة لرفع تلك الورقة،لأن الغرض قد تحقق،وهو انتزاع الشرعية،ولو بنحو غير مشروع!!

لذا،بدأ معاوية سلسلة من الغارات،على العراق،والحجاز،واليمن،وأرسل جيشة لمصر لمواجهة محمد بن أبي بكر(والي علي (علیه السلام))،وصارت الكفة تميل يوما بعد يوم المصلحة معاوية على حساب الإمام علي (علیه السلام).

ثانية استفحال ظاهرة الخوارج

لاحظنا أن حالة الخروج و التمرد و العصيان بدأت في أرض صفين،فالكثيرون أرادوا من الإمام علي (علیه السلام) إيقاف المعركة وقبول التحكيم وإلا تركوا عليا (علیه السلام) بصفين وعادوا إلى العراق.رفض بعضهم الرضوخ لضغوط المطالبين بوقف الحرب،و أرادوا من الإمام علي (علیه السلام) أن يستمر في المعركة،مهما كانت النتائج،ولم يتحملوا ولم يتفهموا موقفه (علیه السلام) وحرصه على عدم تفكك الجيش عندما قرر إيقاف الحرب.بعضهم الآخر أعلن التمرد والعصيان عندما رأى مرونة الإمام علي (علیه السلام) لحظة كتابة وثيقة الهدنة،عندما سمح بمحو اسمه من إمارة المؤمنين.وتجلى التنازع والاختلاف بنحو واضح في طريق عودة الجند من صفين إلى العراق،عندما رفضت جماعة منهم دخول الكوفة،واستقروا في حروراء.

لكن مع ذلك،كان هناك حد أدني معقول من السيطرة،وكان هناك عدد كبير من الجند بقوا مع الإمام علي (علیه السلام) بانتظار نتيجة التحكيم.لكن بعد أن ظهرت النتيجة المرة، والطريقة التي خدع بها عمرو أبا موسی،صارت العراق في مهب الريح،وصارت خلافة الإمام علي (علیه السلام) في نظر الناس تحت السوال،بعد كل الضيحات التي قدمت في صفين، والماء الزاكيات التي أريقت فيها.

في هذه اللحظة،فقد الكثيرون توازنهم،وانضم الآلاف إلى الخوارج،و أراد الكثيرون الانضمام إليهم،إلا أنهم جبنوا عن ذلك،وآثروا السلامة.

كثير منهم أراد من الإمام علي (علیه السلام) أن يعود فورة لمواصلة حرب أهل الشام،لكن الإمام عليا (علیه السلام) بين لهم أنه ليس في وسعه استئناف حرب أهل الشام إلا بعد انقضاء مدة الهدنة...لكن عددا من الخوراج لم يقبل ذلك قط.

من بقي مع الإمام علي (علیه السلام) صار في حيرة من أمره،هل يبدأ بحل المشكلة الداخلية الطارئة(الخوارج)؟أم يعود إلى مواصلة حرب أهل الشام؟الإمام علي (علیه السلام) من جهته كان يعد العدة لمواصلة حرب أهل الشام، لكنه كان ينتظر القضاء الهدنة فقط،ولم

ص: 314

يكن راغباً في الانشغال بمعارك داخلية مع الخوارج.إلا أن ثمة تطورات خطيرة قام بها الخوارج،جعلت عليا (علیه السلام) يعيد ترتيب الأولويات،فوجد أن الأفضل إنهاء ظاهرة الخوارج، وحسم هذا الملف،قبل انقضاء مدة الهدنة،حتى إذا ما انقضت مدة الهدنة،انعطف و تفرغ لحرب أهل الشام....على هذا النحو كان يخطط الإمام علي (علیه السلام).

ثالثا الوضع الداخلي لجيش (علیه السلام)

أدت نتيجة التحكيم إلى حالة انهيار معنوي كبير،ويأس عميق لا حدود له بين أفراد الجيش.فلم تعد لديهم رغبة في القتال البتة،مهما كانت المبررات،وصار الإمام علي (علیه السلام) يعاني الأمرين في استنهاض الهمم للقتال.لقد شعروا أن المعضلة التي أوقعوا أنفسهم فيها غير قابلة للحل مطلقا،وأنهم كلما أرادوا علاج الموقف بطريقتهم الخاصة، ازداد الموقف تعقيدة والوضع دمارا.

فها هم قاتلوا أهل الشام قتالا ضارية،ولم تسفر المعركة-في نظرهم-إلا عن عدد كبير من القتلى،وها هم قبلوا الحكيم،فكانت النتيجة عكسية،عندما باع الحكم العراقي خليفة المسلمين الإمام عليا (علیه السلام) بوهم استبداله بعبد اللّٰه بن عمر،وقدم العراق المعاوية على طبق من ذهب،وفرط بدماء شهداء صفين.فمن يقاتلون؟هل يقاتلون أهل الشام الذين لم تسفر المواجهة معهم عن شيء؟أم يقاتلون الخوارج والمتمردين وهم أصدقاء الأمس وژفقاء الارب وأبناء العمومة(كلهم من قحطان)؟أم يقاتلون أبا موسی الأشعري الذي انسحب حياء إلى مكة بعد أن تسبب في خلط مدمر للأوراق؟أم يقاتلون علیا (علیه السلام) الذي ساقهم لحرب صفين،ثم استجاب لهم وقبل التحكيم،ثم استجاب لهم مرة أخرى عند اختيار الحكم؟

انتابت الجيش حالة من الحيرة والضياع والتخبط، وعدد مهم من خطب الإمام

علي (علیه السلام) في نهج البلاغة حاول علاج حالة التيه هذه.

الخلاصة:تحدثنا في هذا الفصل عن مضامین وثيقة الهدنة التي جاءت بعد حرب صفين الضارية،وملابسات اختيار الحكمين،وحال جند علي (علیه السلام) عند عودتهم،كما تحدثنا عن مجريات التحكيم،وما أسفرت عنه تلك العملية من نتائج،وما أدت إليه من مضاعفات خطيرة،جعلت الوضع يخرج عن السيطرة إلى حد كبير.

في الفصل القادم نريد أن نعرض لمعضلة الخوارج،ثم نتحدث بتفصيل أكبر عن

الوضع النفسي الذي انتاب جيش علي (علیه السلام) بحيث صاروا لا يستجيبون لندائه واستنهاض رغم كل المحاولات التي قام بها.

ص: 315

(19)الخوارج وحرب النهروان

تحدثنا في الفصل الماضي عن الهدنة،التي جاءت على خلفية رفع المصاحف وقبول الإمام علي (علیه السلام) وقف حرب صفين.وتحدثنا عن ملابساتاختيار الحكمين،وحال جند علي (علیه السلام) عند عودتهم.وسردنا بعض المواقف بعد عودة الإمام علي (علیه السلام) من صفين.كما تحدثنا عن مجريات التحكيم،وما أسفرت عنه تلك العملية من نتائج،وما أدت إليه من مضاعفات خطيرة،جعلت الوضع يخرج عن السيطرة إلى حد كبير.نريد في هذا الفصل أن نستعرض ظاهرة الخوارج بوصفها نموذجة واضحة يجد تلك المضاعفات الخطيرة لحرب صفين.

معضلة الخوارج

قلنا إن طرفي التحكيم اتفقا على كتابة اللح،وإيقاف الحرب إلى أن يحكم الكمان، وأخذت المواثيق على هذا الشلح،وأمه المسلمون الحكمين مدة محددة.حينها جاءت عصابة من ممراء العراق وقد سلوا سيوفهم واضعيها على عواتقهم وقالوا:يا أمير المؤمنين،ما ننتظر بهؤلاء القوم أن نمشي إليهم بسيوفنا حتى يحكم اللّٰه بيننا وبينهم بالحق.

فقال لهم علي (علیه السلام):قد جعلنا محكم القرآن بيننا وبينهم،ولا يحل قتالهم حتى ننظر

بم يحكم القرآن(1) .

وكان (علیه السلام) يرد عليهم قائلا:«إنا لم تتم الرجال،وإنما حكمنا القرآن،هذا القرآن هو خط مستور بين الفتين،لا ينطق بلسان،ولا بد له من ترجمان،وإنما ينطق عنه الرجال...وأما قولكم:لم جعلت بينك وبينهم أجلا في التحكيم؟فإما فعلت ذلك ليتبين الجاه،ويتثبت العالم،ولعل اللّٰه أن يصلح في هذه الهدنة أمر هذه الأمة،ولا

ص: 316


1- نصر بن مزاحم،وقعة صفين، ص497

تؤخذ بأكظامها(=مخرج أنفاسها)،فتعجل عن تبين الحق،وتنقاد لأول الغي»7(1) .

لكن لما ظهرت نتيجة التحكيم،تفاقم الأمر،وظهرت اتجاهات معارضة متعددة في

جيش علي (علیه السلام)،يجمعها النقاط التالية:

1)التظاهر ضد الإمام على (علیه السلام) تحت شعار«لا لحكم إلا لله»في المسجد وخارجه،خصوصا عند قيام الإمام علي (علیه السلام) بإلقاء المحطب.

2)تكفير الإمام علي (علیه السلام) وأصحابه اللص الذين ظلوا أوفياء له.

3)تأمين أهل الكتاب وإرهاب المسلمين وقتل الأبرياء.

وجاء عليا (علیه السلام) زرعة بن برج الطائي وحرقوص بن زهير-وهما من قادة الجمهور الثائر على عثمان-وقالا له:لا كم إلا لله.

فقال علي (علیه السلام):لا حكم إلا لله.

فقال له حرقوص:تب من خطيئتك،وارجع عن قضيتك،واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربنا.

فقال علي (علیه السلام):قد أردتكم على ذلك فعصيتموني،وقد كتبنا بيننا وبينهم كتابا،وشرطنا وأعطينا عهودنا ومواثيقنا،وقد قال اللّٰه جل:«وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ»(2) .

فقال حرقوص:ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه.

فقال علي (علیه السلام):ما هو ذنب،ولكنه عجز من الرأي،وضعفت من الفعل،وقد تقدم إليكم فيما كان منه،ونهيتكم عنه.

فقال زرعة: أما واللّٰه يا علي،لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب اللّٰه،قاتلتك بذلك أطلب وجه اللّٰه ورضوانه(3) .

عند تلك اللحظة باتت ظاهرة الخوارج معقدة،فهم الآن يطالبونه بالعودة لمواصلة القتال، ويرفضون التحكيم بعد أن كانوا قد فرضوه على الإمام علي (علیه السلام).بعضهم طالبه بذلك في صفين بعد إقرار كتاب الحكيم مباشرة،وبعضهم في طريق العودة وقبل أن تظهر نتيجة التحكيم،وكثير منهم طالبوه بذلك بعد ظهور نتيجة التحكيم لكن قبل أن تنقضي

ص: 317


1- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(125)،ص182
2- سورة النحل،الآية:91
3- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،ص52-53

المهلة التي التزم بها الإمام علي (علیه السلام) في هدني.قبل ظهور نتيجة التحكيم لم تكن بذور الشبهة تجد أرضية واسعة بين أفراد جيش علي (علیه السلام)،لكن بعد ظهور نتيجة التحكيم، وجدت الأرضية لنمو بذور تلك الشبهة.

وعندما قال له البرج بن مسهر الطائي-وكان من الخوارج-بحيث يسمعه:لا حكم إلا اللّٰه،رد الإمام علي (علیه السلام):«اسكت قبحك اللّٰه يا أثرم(=ساقط الثنية من الأسنان)،فواللّٰه لقد ظهر الحق فكنت فيه ضئيلا شخصك،خفيا صوتك،حتى إذا نعر(=صاح)الباطل جمت (=ظهرت)نجوم قرن الماعز(=على غفلة دون شرف ولا شجاعة ولا قدم)؟!»(1) .

وقال (علیه السلام) عندما سمع هذه الكلمة تتكرر على لسان الخوارج«لا لحكم إلا لله»:كلمة حق يراد بها باطل،نعم إنه لا ځكم إلا اللّٰه،ولكن هؤلاء يقولون:لا إمرة إلا اللّٰه، وإنه لا بد للناس من أمير،بر أو فاجر»(2) .

برید بذلك أن المغالطة التي وقعوا فيها تتمثل في أنهم خلطوا بين من له تطبيق التشريع،بمن له حق الشريع...فبالتأكيد لا يحق التشريع بالأصالة إلا اللّٰه تعالى وحده لا شريك له،أما على مستوى تطبيق الشريع،فميدانيا،لا يمكن أن يقوم بتطبيق التشريع إلا أمير،فإن كان برا،طبق التشريع بنحو سليم،وإن كان فاجرا،انحرفت عن تطبيق التشريع.ولكن في كل الأحوال لا بد للناس من أمير،ولو كان فاجرا،لأنه أهو من ضرر وقوع الهرج والمرج.

لقد قابل الإمام علي (علیه السلام) الخوارج في البدء باللين،وكان يرد على الشعارات التي كان يعلو صوتها أثناء خطبه بقوله:«أما إن لكم عندنا ثلاثا ما صحبتمونا:لا نمنعكم مساجد اللّٰه أن تذكروا فيها اسمه،ولا نمنعكم الفيئ ما دامت أيديكم مع أيدينا،ولا نقاتلكم حتى تبدؤنا»،ثم يرجع إلى مكانه الذي كان من خطبيه(3) .

التطاول اللفظي على الإمام علي (علیه السلام)

من مظاهر حالة الفلتان التي ظهرت عند ظهور نتيجة التحكيم،التطاول اللفظي والأدبي على الإمام علي (علیه السلام)...والتواريخ تسجل لنا سلسلة من تلك المواقف:

ص: 318


1- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(184)،ص268
2- المصدر السابق،(40)ص82
3- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،ص53

1)فعندما كان الإمام علي (علیه السلام) يتكلم على منبر الكوفة،فمضى في بعض كلامه شيء اعترضه الأشعث بن قيس فيه، فقال:يا أمير المؤمنين،هذه عليك لا لك.فخفض (علیه السلام) إليه بصره ثم قال:«ما يدريك ما علي مما لي،عليك لعنه اللّٰه ولعنه اللاعنين،حائك ابن حائك،منافق ابن كافر.واللّٰه لقد أسرك الكفر مرة والإسلام أخرى،فما فداك من واحدة منهما مالك ولا حسبك.وإن امرأ دل على قومه بالسيف،وساق إليهم الحتف،لحري أن يمقته الأقرب،ولا يامته الأبعد»(1) .

2)جاء الخريت بن راشد الناجي إلى الإمام علي (علیه السلام) وقد جرده من لقب أمير المؤمنين قائلا:يا علي، واللّٰه لا أطيع أمرك،ولا أصلي خلفك،وإني غدا مفارق لك...فناظره علي (علیه السلام) وحاول إقناعه دون جدوى... .ثم تطور أمر الخريت بعد ذلك وتعقد،إلى أن لحق بساحل بحر فارس،ولم تتم تصفية ملفه إلا عندما قام معقل بن قيس الرياحي بتعبئة الجنود وزحف نحوه مع أتباعه وهزمهم هزيمة منكرة،قتل فيها الخريت،وتفرق من بقي من أتباعه(ويقول المسعودي إن الخريت مع أصحابه ارتدوا إلى النصرانية).وسيأتي تفصيل ذلك عندما نتحدث عن مصقلة بن هبيرة الشيباني(في المحاضرة:21).

3)روي أن صاحباً لعلی (علیه السلام) يقال له همام بن عباد-وكان رجلا عابدة-قال يوما:يا أمير المؤمنین،صف لي المتقين حتى كأني أنظر إليهم.فتثاقل (علیه السلام) عن جوابه ثم قال:يا همام اتق اللّٰه وأحسن في:«إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)»(2) .لم يقع همام بهذا القول حتى عزم عليه،فخطب (علیه السلام) خطبة طويلة بليغة ومؤثرة وصف فيها المتقين... .فصعق همام رحمة اللّه صعقة كانت نفسه فيها.فقال علي (علیه السلام):أما واللّٰه لقد كنت أخافها عليه،ثم قال:هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها.فقال له قائل:فما بالك أنت يا أمير المؤمنين؟فقال (علیه السلام):ويحك إن لكل أجل وقتا لا يعدوه وسببا لا يتجاوزه، فمهلا،لا تعد لمثلها،فإنما نفث الشيطان على لسانك(3) .

4) روي أنه (علیه السلام) كان جالسا في أصحابه،فمرت بهم امرأة جميلة،فمقها القوم أبصارهم، فقال (علیه السلام):إن أبصار هذه الفحول طوام،وإن ذلك سبب هبابها،فإذا نظر

ص: 319


1- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(19)،ص61-62. وأشرنا فيما مضى أن الأشعث بن قيس ارتد بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في ناس من كندة،فحورب ضمن أهل الردة،وأخذ الأمان لسبعين من قومه ونسي أن يأخذ الأمان لنفسه،فجاؤوا به إلى أبي بكر،فعفا عنه وزوجه أخته أم فروة،ثم ندم ابو بكر ندمة شديدة،وتمنى وهو على فراش الموت،لو أنه لم يعف عنه،وضرب عنقه بالسيف
2- سورة النحل،الآية:128
3- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(193)،ص303-306

أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله،فإنما هي امرأة كامرأته.فقال له رجل من لخوارج :قاتله اللّٰه كابيرة ما أفقهه،فوثب القوم ليقتلوه،فقال (علیه السلام):رويدة،إنما هو سب سب،أو عفو عن ذنب(1).

5)كتب الطبري أن حكيم بن عبد الرحمن البكائي-كان يرى رأي الخوارج-أتی عليا ذات يوم وهو يخطب،فقال:«وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)»(2).فقال علی (علیه السلام):«فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)»(3).

لقد تنبأ رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)بظاهرة الخوارج،فعندما وقف (صلی اللّه علیه واله) يقسم غنائم خيبر،جاءه ذو الخويصرة (الذي صار من أبرز قادة الخوارج)،فقال له:ما عدلت من اليوم؟فقال عمر:ألا أقتله یا رسول اللّٰه؟فقال رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):إنه سیكو لهذا ولأصحابه نبا،وقال:تحقر صلاة أحدكم في جنب صلاتهم،وصوم أحدكم في جنب صيامهم،ولكن لا يجاوز إيمانهم تراقيهم،وقال: سيخرج من ضئضئ هذا الرجل قوم يمرقون من الذين كما يمرق السهم من الرمية(4).

وكانت آراء الخوارج تنحصر-في البدء-في ثلاثة أصول:تكفير مرتكب الكبيرة،إنكار مبدأ التحكيم،وتكفير عثمان وعلي (علیه السلام) ومعاوية وطلحة والزبير ومن سار على دربهم ورضي بأعمال عثمان وتحكيم علي (علیه السلام).

خوارج حروراء

بينا الإمام علي (علیه السلام) ينتظر انقضاء المدة بينه وبين معاوية ليرجع إلى حربه،تحرك 4آلاف من النساك وخرجوا من الكوفة وقالوا:لا حكم إلا اللّٰه، ثم انضم إليهم 8 آلاف،فصار القوم في اثني عشر ألفا، ونزلوا بحروراء(على بعد ميلين من الكوفة).وأعلنوا حالة التمرد والعصيان ورفضهم إمرة الإمام علي (علیه السلام).

ص: 320


1- نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح، (420)، ص 550 .
2- سورة الزمر، الآية: 65.
3- سورة الروم، الآية: 60. الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص54.
4- نقله أهل السير واصحاب الصحاح والمسانيد، ورواه البخاري في صحيحه، ج6، في تفسير سورة البراءة، تفسير قوله تعالى: « وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ » ، ص 67. أنظر : الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحیحین، ج2، ح 2644، ص 184، ح2645، ص 184، ح 2647، ص185، ح 2649، ص186، ح2650، ص186، ح 2659، ص 193.

وعندما أرسل الإمام علي (علیه السلام) رجلا من أصحابه،يعلم له علم أحوال قوم من جند الكوفة،قد همموا باللحاق بالخوارج،وكانوا على خوف منه (علیه السلام)،فلما عاد إليه الرجل قال له:أمنوا فقطنوا(=فأقاموا)؟أم جبنوا فظعنوا(=فرحلوا)؟

فقال الرجل:بل ظعنوا يا أمير المؤمنين.

فقال (علیه السلام):بعدة لهم كما بدت ثمود.أما لو أشرعت الأسئه إليهم،وصبت السيوف على هاماتهم. لقد ندموا على ما كان منهم. إن الشيطان اليوم قد استفلهم، وهو غدا متبرئ منهم ومتخل عنهم.فحسبهم بخروجهم من الهدى، وارتكاسهم في الضلال والعمى، وصدهم عن الحق، وجماحهم في التيه»(1) .

محاولات الإمام علي (علیه السلام) لتفادي حرب خوارج حروراء

1.إرسال ابن عباس كمناظر مع الخارجي عتاب الأعور الثعلبي:يقول ابن الأعثم.....دعا علي (علیه السلام) بعبد اللّٰه بن عباس،فأرسله إليهم وقال:يا ابن عباس امض إلى هؤلاء القوم،فانظر ما هم عليه،ولماذا اجتمعوا؟

فأقبل ابن عباس،حتى إذا أشرف عليهم،ونظروا إليه،ناداه بعضهم وقال:ويلك يا

ابن عباس،أكفرت بربك،كما كفر صاحب علي بن أبي طالب؟

فقال ابن عباس:إني لا أستطيع أن أكلمكم كلكم،ولكن أنظروا أيكم أعلم بما يأتي

ويذر فليخرج إلي حتى أكلمه.

فخرج إليه عتاب الأعور الثعلبي،ودار حوار طويل بينهما،ثم صاح الخوارج:هيهات يا ابن عباس،نحن لا نتولى عليا بعد هذا اليوم أبدا،فارجع إليه وقل له فليخرج إلينا بنفسه حتى نحتج عليه،ونسمع كلامه ويسمع من كلامنا،فلعلنا إن سمعنا منه شيئا نظرنا إما أن نرجع عما اجتمعنا عليه من حربه أو لا.

فخرج عبد اللّٰه بن عباس إلى علي (علیه السلام) نخبره بذلك(2) .

2.حضور الإمام علي (علیه السلام) الشخصي إلى حروراء في مائة رجل من أصحابه وحواره مع ابن الكواء مع عشرة من أصحابه:يقول ابن الأعثم... .فركب علي (علیه السلام) إلى القوم في مائة رجل من أصحابه حتى وافاهم بحروراء،فلما بلغ ذلك الخوارج ركب

ص: 321


1- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(181)،ص259-260
2- ابن الأعثم،الفتوح،ج1، ص477-480

عبد اللّٰه بن الكواء في مائة رجل من أصحابه حتى واقفه،فقال له علي (علیه السلام):يا ابن الكؤاء إن الكلام كثير،أبرز إلي من أصحابك حتى أكلمك.

قال ابن الكواء:وأنا آمن من سيفك؟

قال (علیه السلام):نعم وأنت آمن من سيفي.

فخرج ابن الكواء في عشرة من أصحابه،ودنوا من علي (علیه السلام)،وذهب ابن الكواء ليتكلم، فصاح به رجل من أصحاب علي (علیه السلام) وقال:اسكت حتى يتكلم من هو أحق بالكلام منك. فسكت ابن الكواء .

وتكلم علي بن أبي طالب (علیه السلام)،فذكر الحرب الذي كان بينه وبين معاوية، وذكر اليوم الذي رفعت فيه المصاحف، وكيف اتفقوا على الحكمين، ثم قال له علي (علیه السلام): ويحك يا بن الكواء!

ألم أقل لكم في ذلك اليوم الذي رفعت فيه المصاحف كيف أهل الشام يريدون أن يخدعوكم بها؟ ألم أقل لكم بأنهم قد عضهم السلاح وكاعوا(=جبنوا)عن الحرب، فذروني أناجزهم فأبيتم علي وقلتم: إن القوم قد دعونا إلى كتاب اللّه عز وجل فأجبهم إلى ذلك، وإلا لم نقاتل معك، وإلا دفعناك إليهم، فلما أجبتكم إلى ذلك وأردت أن أبعث ابن عمي عبد اللّه بن عباس ليكون لي حكما فإنه رجل لا يبتغي بشيء من عرض هذه الدنيا ولا يطمع أحد من الناس في خديعته، فأبى علي منكم من أبي وجئتموني بأبي موسى الأشعري وقلتم: قد رضينا بهذا، فأجبتكم إليه وأنا كاره، ولو أصبت أعوانا غيركم في ذلك الوقت لما أجبتكم، ثم إني اشترطت على الحكمين بحضرتكم أن يحكما بما أنزل اللّه من فاتحته إلى خاتمته أو السنة الجامعة، فإن هما لم يفعلا ذلك فلا طاعة لهما علي، أكان ذلك أم لم يكن؟

فقال ابن الكواء:صدقت، قد كان هذا بعينه، فلم لا ترجع إلى حرب القوم إذ قد علمت أن الحكمين لم يحكما بالحق وأن أحدهما خدع صاحبه؟

فقال علي (علیه السلام): إنه ليس إلى حرب القوم سبيل إلى انقضاء المدة التي ضربت بيني وبينهم.

قال ابن الكواء: فأنت مجمع على ذلك؟(ای عازم علی مواصلة حرب معاویة بعد انقضاء المدة)

قال (علیه السلام): وهل يسعني إلى ذلك، انظر يا بن الكواء اني أصبت أعوانا وأقعد عن حقي؟

فعندها امتطى ابن الكؤاء فره،وصار إلى علي (علیه السلام) مع العشرة الذين كانوا معه،

ص: 322

ورجعوا عن رأي الخوارج،وانصرفوا مع علي (علیه السلام)إلى الكوفة،وتفرق الباقون وهم يقولون:لا كم إلا اللّٰه،ولا طاعة لمن عصى اللّٰه(1) .

فقال لهم (علیه السلام):«أصابكم حاصب،ولا بقي منكم آثر،أبعد إيماني باللّٰه،وجهادي مع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) أشهد على نفسي بالكفر،«لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين»،فأوبوا شر مآب، وارجعوا على أثر الأعقاب.أما إنكم ستلقون بعدي ذلا شاملا،وسيفا قاطعا،وأثرة يتخذها الظالمون فيكم سنة»(2) .

حسم ملف خوارج النهروان

وقع التطور الدراماتيكي،والطلاق البائن بين الإمام علي (علیه السلام) والخوارج،عندما

انحاز الخوارج إلى النهروان مع12ألف مقاتل وقتلوا في طريقهم عبد اللّٰه بن خباب بن الأرت وبقروا بطن زوجته وهي حبلى متم وقتلوا ثلاث نسوة من طيئ(3) ... .عندها تحول الخوارج إلى ظاهرة إرهابية خطرة لا يمكن السكوت عنها،ولا التسامح معها،تبث الفوضى والذعر بين الناس،وتدفع باتجاه الهرج والمرج.

عندما جاءت عليا (علیه السلام) الأخبار عن الأفعال الشنيعة للخوارج الذين كانوا مجتمعين في النهروان،كان (علیه السلام) على أهبة الاستعداد للمسير إلى الشام،لمواصلة حرب معاوية. عندها أل أصحاب علي (علیه السلام) من كبار قادة جيشه على مناجزة هؤلاء ثم المسير إلى الشام، لأنه من غير المناسب أبدأ المسير إلى معاوية و وضعهم الداخلي على هذا الحال من انعدام الأمن،فقالوا له:يا أمير المؤمنین،علام تدع هؤلاء وراءنا يخلفوننا في أموالنا وعيالينا؟!سر بنا إلى القوم،فإذا فرغنا مما بيننا وبينهم،سرنا إلى عدونا من أهل الشام(4) .وبالفعل استجاب (علیه السلام) لهذه المشورة.

بدأ الإمام علي (علیه السلام)يخطب باصحابه ويعلن عن خروجه لحرب الخوارج،لكن استجابة قومه كادت أن تكون معدومة.فمواجهة معاوية بالنسبة إليهم أقرب إلى مزاجهم من مواجهة أصدقاء الأمس وأعداء اليوم.فخطب (علیه السلام) مرة أخرى وو أصحابه حتى

ص: 323


1- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص480-481.راجع أيضا:الحاكم النيسابوري،المستدرك على الصحیحین،ج2،كتاب قتال أهل البغي،ح2656،ص189-190،أيضا ح2657،ص190-192
2- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(58)،ص92-93
3- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،ص60-61
4- المصدر السابق،ج4،ص61

ذرفت عيناه،ثم نزل عن المنبر وهو يقول:صرت إلى قوم إن أمرهم خالفوني وإن ابعتهم تفقوا عني،جعل اللّٰه لي منهم فرجا عاجلا.

ثم وثب (علیه السلام) فدخل منزله مغمومة.

ودخل إليه جماعة من فرسان اصحابه،فقالوا:يا أمير المؤمنين لا يسؤك اللّٰه،ها

نحن بين يديك،فير بنا إلى أعداء اللّٰه-إذا شئت-لترى منا ما تحب.

ثم تقدم إليه رجل فقال:يا أمير المؤمنين،إن الناس قد ندموا على ما كان من تثبيطهم وقعودهم عن صرتك،على أن الحظ في ذلك لهم،فلو عاودتهم بالخطبة لعلهم كانوا يرتدعون،ويرجعون إلى محبيك.

فلما كان من غد خرج (علیه السلام) حتى دخل المسجد الأعظم،وهو غاص بأهله،فخطب

خطبته الثالثة،فأجابه4آلاف فخرج بهم إلى النهروان(1) .

علم النجوم(2) ومحاولة تخويف الإمام علي (علیه السلام) من حرب الخوارج

قال الإمام علي (علیه السلام) بعض أصحابه لمّا عزم على المسير إِلى الخوارج: يا أميرالمؤمنين إن سرت في هذا الوقت، خشيتُ ألاَّ تظفر بمرادك، من طريق علم النجوم(ربما أراد القائل تثبيطه (علیه السلام)عن الخروج وتخويفه بنتائج صفين أو أراد التهرب من الخروج معه).

فقال (علیه السلام):أتزعم أنك تهدى إلى الساعة التي من سار فيها صرف عنه السوء، وتخوف من الساعة التي من سار فيها حاق به الضر! فمن صدقك بهذا فقد كذب القرآن، واستغنى عن الاستعانة باللّه في نيل المحبوب ودفع المكروه. وتبتغي في قولك للعامل بأمرك أن يوليك الحمد دون ربه، لأنك - بزعمك - أنت هديته إلى الساعة التي نال فيها النفع، وأمن الضر!!

أيها الناس، إياكم وتعلم النجوم إلا ما يهتدى به في بر أو بحر، فإنها تدعو إلى الكهانة، المنجم كالكاهن، والكاهن كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار، سيروا على اسم اللّه(3)

محاولات الإمام علي (علیه السلام) تفادي حرب خوارج النهروان

1.الامام علی (علیه السلام) یبعث بغلامه الی الخوارج یعظهم دون جدوی : یقول علی

ص: 324


1- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص482-486
2- ما يسمی با اعلم النجوم،هو التنبؤ بالحوادث المستقبلية عن طريق مراقبة حركة النجوم والكواكب
3- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(79)،ص105

الأعثم....سار علي (علیه السلام) حتى نزل على فرسخين من النهروان، ثم دعا بغلامه فقال له: اركب إلى هؤلاء القوم وقل لهم عني: ما الذي حملكم على الخروج علي ألم أقصد في حكمكم؟ ألم أعدل في قسمكم؟ ألم أقسم فيكم فيئكم؟ ألم أرحم صغيركم؟ ألم أوقر كبيركم؟ ألم تعلموا أني لم أتخذكم خولا، ولم أجعل مالكم نفلا؟ وانظر ماذا يردون عليك! وإن شتموك فاحتمل، وإياك أن ترد على أحد منهم شيئا.

فأقبل غلام علي (علیه السلام) حتى أشرف على القوم بالنهروان، فقال لهم ما أمره به.

فقال له الخوارج:ارجع إلى صاحبك،فلسنا تجيبه إلى شيء يريده أبدا،وإنا نخات

أن يردنا بكلام الحسن كما رد إخواننا بحروراء(1)

2. الإمام علي (علیه السلام) يكتب إلى الخوارج كتاباً مطالباً تسليم قتلة ابن خباب وعبد اللّٰه

بن وهب الراسبي يجيب بالفض والاستعداد للحرب:بمجرد أن رجع غلام علي (علیه السلام) وأخبره بما سمع من القوم،كتب (علیه السلام) إليهم:«....وقد جعلتماني(الخطاب موجه العبد اللّٰه بن وهب وحرقوص بن زهير) في حالة من ضل وغوى وعن طريق الحق هوى، خرجتم علي مخالفين بعد أن بايعتموني طائعين غير مكرهين، فنقضتم عهودكم ونكثتم أيمانكم، ثم لم يكفكم ما أنتم فيه من العمى وشق العصا، حتى وثبتم على عبد اللّه بن خباب فقتلتموه وقتلتم أهله وولده غير ترة(=داهية)كانت منه إليكما،ولا دخل(=غدر)، وهو ابن صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولن يغني القعود عن الطلب بدمه، فادفعوا إلينا من قتله وقتل أهله وولده وشرك في دمائهم، ولا تقتلوا أنفسكم على عمى وجهل، فتكونوا حديثا لمن بعدكم، وباللّه أقسم قسما صادقا لئن لم تدفعوا إلينا قاتل صاحبنا عبد اللّه بن خباب لم أنصرف عنكم دون أن أقضي فيكم إربي - وباللّه أستعين وعليه أتوكل والسلام والرحمة من الواحد الخلاق على النبيين وعلى عباده الصالحين».ثم طوى الكتاب،وختمه...وأرسله(2) .

3.الإمام علي (علیه السلام) يرسل ابن عباس ثانية إلى النهروان قبيل الحرب لموعظتهم:وعندما وصل الجواب السلبي من الخوارج،وأنهم عازمون على حربه (علیه السلام)،عندها نادي الإمام علي (علیه السلام)أصحابه،وأمرهم بالمسير إلى النهروان،فرحل (علیه السلام) ورحل الناس

ص: 325


1- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص487
2- المصدر السابق،ج1،ص488-489

معه... .ثم عبا علی اصحابه ميمنة وميسرة وقلبة وجناحا،ثم دعا بعبد اللّٰه بن عباس، فقال له:تقدم إلى هؤلاء،واحتج عليهم،وانظر ماذا يقولون؟

فقال له ابن عباس:يا أمير المؤمنين أفألقي عني حلتي هذه،وألي درعي،فإني

أخاف القوم على نفسي؟

فقال (علیه السلام):إني لا أخافهم عليك،فتقدم فها أنا ذا من ورائك.

فتقدم عبد اللّٰه بن عباس،حتى واجه القوم،وسألهم:أيها الناس ما الذي نقمم علىأمير المؤمنين؟....

قالوا:نقمنا عليه أشياء كثيرة،لو كان حاضرة لكفرناه بهن.

فالتفت ابن عباس إلى علي (علیه السلام) فقال:يا أمير المؤمنين،إنك قد سمعت الكلام، فأنت أحق بالجواب(1) .

4.علي (علیه السلام) يخاطب أهل النهروان مباشرة ويرد على شبهاتهم:يقول ابن الأعثم...بعد محاولة ابن عباس،ودعوته لعلي (علیه السلام) للكلام معهم مباشرة،تقدم (علیه السلام) حتى واجه القوم،فسلم عليهم،فردوا (علیه السلام)،ثم قال:أيها الناس،أنا علي بن أبي طالب، فتكلموا بما نقمتم علي.(ألكم شهد معنا صفين؟

فقالوا:ما من شهد وما من لم يشهد.

قال (علیه السلام):فامتازوا فرقتين،فليكن من شهد صفين فرقة،ومن لم يشهدها فرقة حتى أكلم كلا منكم بكلامه.

ثم نادى الناس،فقال (علیه السلام):أمسكوا عن الكلام،وأنصتوا لقولي،وأقبلوا بأفئدتكم إلي،فمن نشدناه شهادة فليقل بعليه فيها....)(2) .

فقالوا:إن أول ما نقمنا به عليك،أنا قاتلنا يوم البصرة(حرب الجمل)بين يديك،

فلما أظفرك اللّٰه بهم،أبحتنا ما كان في عسكرهم،ومنعتنا النساء والذرية،فكيف تستحل ما كان في المعسكر ولا تستح النساء والذرية؟

فقال لهم علي (علیه السلام):يا هؤلاء إن أهل البصرة قاتلونا وبدأوا بقتالنا،فلما أظفرني اللّٰه بهم، قسمت بینكم سلب من قاتلكم،ومنعتكم النساء والذرية،لأن النساء لم يقاتلن،والذرية ولدوا على فطرة الإسلام،فمنعتم الذرية والنساء لأجل ذلك،وقد رأيت رسول

ص: 326


1- ابن الأعثم، الفتوح،ج1،ص496-497
2- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(122)،ص178

اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)من على أهل مكة يوم فتحها،فلم يسب نساءهم ولا ذريتهم،وإذا كان النبي من على المشركين،فلا تعجبوا مني إذا مننت على المسلمين،فلم اسب نساءهم ولاذريتهم.

فقالوا:فإنا نقمنا عليك غير هذا، نقمنا عليك يوم صفين في وقت الكتاب الذي كتبته بينك وبين معاوية أنك قلت لكاتبك: اكتب « هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان »، فأبي معاوية أن يقبل أنك أمير المؤمنين، فمحوت اسمك من الخلافة وقلت لكاتبك: اكتب « هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان »، فإن لم تكن أمير المؤمنين فأنت أمير الكافرين ونحن مؤمنون، ولا يجب أن تكون أميرا علينا.

فقال علي (علیه السلام):يا هؤلاء!إنكم قد تكلمتم فاسمعوا الجواب! أنا كنت كاتب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يوم الحديبية فقال لي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: اكتب« هذا ما اصطلح عليه محمد رسول اللّه وأهل مكة »، فقال أبو سفيان: إني لو علمت يا محمد أنك رسول اللّه لما قاتلتك، ولكن أكتب صحيفتك باسمك واسم أبيك، فأمرني النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، فمحوت الرسالة من الكتاب وكتبت « هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد اللّه وأهل مكة »، وإنما محوت اسمي من الخلافة كما محا النبي اسمه من الرسالة فكانت لي به أسوة.

قالوا: فإنا نقمنا عليك غير هذا، إنك قلت للحكمين: انظرا في كتاب اللّه، فإن كنت أفضل من معاوية فأثبتاني في الخلافة، وإن كان معاوية أفضل مني فأثبتاه في الخلافة ، فإن كنت شاكا في نفسك أن معاوية أفضل منك فنحن فيك أعظم شكا.

قال: فقال لهم (علیه السلام): إنما أردت بذلك النصفة لمعاوية، لأني لو قلت للحكمين: احكما لي وذرا معاوية، كان معاوية لا يرضى بذلك، وإنما كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال للنصارى لما قدموا عليه من نجران: تعالوا حتى نبتهل فنجعل لعنة اللّه عليكم، كانوا لا يرضون بذلك، ولكنه أنصفهم فقال:«فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ»(1) فأنصفهم من نفسه،وكذلك أنصف أنا معاوية،ولم

أعلم بما أراد عمرو بن العاص من خديعيه لصاحبي.

قالوا:فإنا نقمنا عليك غير هذا،إنك حكمت محكمة في حق هو لك.

فقال (علیه السلام):إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قد حكم سعد بن معاذ في بني قريظة ولو شاء لم يفعل، فحكم فيهم سعد بقتل النساء والرجال وسبي الذرية والأموال، وإنما أقمت حكما كما أقام النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لنفسه حكما، فهل عندكم شيء غير هذا تحتجون به علي؟

ص: 327


1- سورة آل عمران،الآية:61

فسكت القوم،وجعل بعضهم يقول لبعض:صدق فيما قال،ولقد دحض جميع ما

احتججنا عليه،ثم صاح القوم من كل ناحية وقالوا:التوبة التوبة يا أميرالمؤمنين(1) .

حرب النهروان(38هج)

وفي نهج البلاغة أن الإمام علي (علیه السلام) قال لهم:«...ألم تقولوا عند رفيهم المصاحف حيلة وغيلا ومكرا وخديعة:إخواننا وأهل دعوينا، استقالوا واستراحوا إلى كتاب اللّٰه سبحانه،فالرأي القبول منهم والتنفيس عنهم؟

فقل لكم:هذا أمر ظاهره إيمان وباطنه عدوان، وأوله رحمة وآخره ندامة فأقيموا على شأنكم والزموا طريقكم ولا تلتفتوا إلى ناعق نعق: إن أجيب أضل وإن ترك ذل؟

وقد كانت هذه الفعلة، وقد رأيتكم أعطيتموها. واللّه لئن أبيتها ما وجبت علي فريضتها، ولا حملني اللّه ذنبها! وواللّه إن جئتها إني للمحق الذي يتبع. وإن الكتاب لمعي. ما فارقته مذ صحبته:فلقد كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، وإن القتل ليدور على الآباء والأبناء والإخوان والقرابات. فما نزداد على كل مصيبة وشدة لا إيمانا ومضيا على الحق وصبرا على مضض الجراح. ولكنا إنما أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج، والشبهة والتأويل. فإذا طمعنا في خصلة يلم اللّه بها شعثنا ونتدانى بها إلى البقية فيما بيننا، رغبنا فيها وأمسكنا عما سواها»(2) .

لقد حذر الإمام علي (علیه السلام) الخوارج من خطورة التكفير قائلا لهم:«وإن أبيتم إلا أن تزعموا إني أخطأت وضللت،فلم تضللون عامة أمة محمد (صلی اللّه علیه واله) بضلالي،وتأخذونهم بخطئي، وتكفرونهم بذنوبي؟!سیوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء والسقم، وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب؟وقد علمتم أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) رجم الزاني المحصن ثم صلى عليه ثم ورثه أهله،وقتل القاتل وورث میرائه أهله.... .فأخذهم رسول اللّٰه بذنوبهم،وأقام حق اللّٰه فيهم،ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام،ولم يخرج أسماءهم من بين أهله....

وحدرهم (علیه السلام) من المصير الذي سيلاقونه إن هم أصوا على حربه،فقال لهم:«أنا نذير لكم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا النهر، وباهضام هذا الغائط،على غير بينة من

ص: 328


1- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص497-499
2- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(122)،ص178

ربكم، و لا سلطان مبين معكم قد طوّحت بكم الدّار و احتبلكم المقدار و قد كنت نهيتكم عن هذه الحكومة فأبيتم عليّ إباء المنابذين حتّى صرفت رأيي إلى هواكم و أنتم معاشر أخفّاء الهام سفهاء الأحلام و لم آت لا أبا لكم بجرا و لا أردت لكم ضرّا»(1).

فاستأمن إليه منهم ثمانية آلاف،وبقي على حربه أربعة آلاف.وأقبل الإمام علي (علیه السلام) إلى هؤلاء المستأمنين فقال:اعتزلوا عني في وقتكم هذا،وذروني والقوم(2).

فاعتزله هؤلاء،وعزم علي (علیه السلام) حرب من بقي من الخوارج.

وقيل للإمام علي (علیه السلام):إن القوم عبروا جسر النهروان.

فقال (علیه السلام):مصارعهم دون النطفة(=ماء النهر)،واللّٰه لا يفيث منهم عشرة،ولا يهلك منكم عشرة(3).

ووقعت الحرب، وكانت نتيجة المعركة لمصلحة الإمام علي (علیه السلام)،وخسائرها-كما أخبر (علیه السلام)تماما-اقل من عشرة ناجين من الخوارج،وأقل من عشرة قتلى من جيش علي (علیه السلام)(4).

لقد كانت حرب الإمام علي (علیه السلام) في النهروان طاحنة،قتل فيها رجال الفساد والضلال واستأصل شافتهم.لكن لم يكن الخوارج كلهم موجودين فيها،بل كانوا متفرقين في البصرة،ونقاط مختلفة من العراق،فقاموا بعد ذلك بانتفاضات ضد الإمام علي (علیه السلام) وعماله،لذا لما قيل للإمام علي (علیه السلام) بعد النهروان مباشرة:يا أمير المؤمنين،هلك القوم بأجمعهم.

قال (علیه السلام):كلا واللّٰه!إنهم نطت في أصلاب الرجال،وقرارات النساء،كلما نجم

منهم قرن قطع،حتى يكون آخرهم لصوص سلابين(5).

وبالفعل،استمرت ظاهرة الخوارج طويلا،حتى بعد شهادة الإمام علي (علیه السلام).التوا

ص: 329


1- نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح، (36)، ص 80.
2- ابن الأعثم، الفتوح، ج 1، ص 497 - 499.
3- نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح، (59)، ص 93.
4- روى الحاكم عن مالك بن الحارث يقول: شهد علية يوم النهروان، طلب المخدج فلم يقدر عليه، فجعل جبينه يعرق وأخذه الكرب، ثم إنه قدر عليه، فخر ساجدة فقال: واللّه ما كذب ولا كذبت . أنظر : الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج2، كتاب قتال أهل البغي، ح 2658، ص 192.
5- نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح، (60)، ص 93 .

في البدء حول الإمام الحسن (علیه السلام)،لكن عندما سرت إشاعة أن الإمام الحسن (علیه السلام) يريد أن يعقد صلحا مع معاوية،شعر الخوارج بالانكشاف وأن هذا الصلح سیشكل خطرة داهما على كيانهم ووجودهم.لأجل ذلك حاولوا قتل الإمام الحسن (علیه السلام) كما قتلوا أباه (علیه السلام)،ووضعوا سيوفهم على عواتقهم لمحاربة النظام الجديد المتمثل بمعاوية،كما حاربوا النظام القديم المتمثل بعلي (علیه السلام).فالخوارج كانوا ينظرون إلى الإمام علي (علیه السلام) ومعاوية بمنظار واحد بعد قضية التحكيم،وإن كان الإمام علي (علیه السلام) في نظرهم إمامة عادلا قبل التحكيم.

بل ستلقي ظاهرة الخوارج بظلالها على واقعة كربلاء أيضا.والمفاجاة الحقيقية هي أن بعض الشخصيات المعروفة التي حاربت مع الإمام علي (علیه السلام) في صفين، وأبلت فيها بلاء حسنا،صارت خوارج متذبذبين،يعيشون فوضى دينية وفكرية وأخلاقية...هؤلاء الخوارج سيتحولون بعد ذلك إلى قادة ميدانيين في صف عبيد اللّٰه بن زیاد،لقتل الإمام الحسين (علیه السلام) وأصحابه وأهل بيته.ومن أبرز تلك الأسماء: شبث بن ربعي،وشمر بن ذي الجوشن.فانظر وتأمل مع أي زمرة يقاتل الإنسان، ثم مع أي زمرة ينتهي به المطاف...«إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»(1) !!

على أي حال،بعد النهروان،أوصى الإمام علي (علیه السلام) بعدم الانشغال بالخوارج،لأن ثمة تحديات أخطر،وقد خطب (علیه السلام) في ذلك خطبة أكد فيها على أن قریشة ستندم لأنها لم تقف معه لمواجهة فتنة بني أمية،وقال:

أما بعد حملي اللّٰه والثناء عليه،أيها الناس،فإني فقأت(=قلعت)عين الفتنة،ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري بعد أن ماج(=امتد)غيهبها(=ظلمتها)،واشتد كلبها(=شرها وأذاها،والكلب مرض يصيب الكلاب،فكل من عضته أصيب به فجن ومات إن لم يبادر للدواء).فاسألوني قبل أن تفقدوني،فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة،ولا عن فئة تهدي مئة وتضل مئة إلا أنبأتكم بناعقها(=الداعي إليها)وقائدها وسائقها،ومناخ ركابها،ومحط رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلا،ومن يموت منهم موتة....إن الفتن إذا أقبلت شبهت(=اشتبه فيها الحق بالباطل)،وإذا أدبرت نبهت،نكر قبلات،يعرفن مدبرات... ألا وإن أخوف الفتن عندي عليكم فتنه بني أمية،فإنها فتنة عمياء مظلمة،عمت خطتها(=أمرها)،وخت بليتها،وأصاب البلاء من أبصر فيها،وأخطة البلاء من عمي عنها.وأيم اللّٰه لتجد بني أمية لكم أرباب

ص: 330


1- سورة العنكبوت،الآية:24

سوء بعدي، كالناب الضروس(=الناقة المسنة السيئة الخلق بعض حالبها).... .ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشية(=قبيحة المنظر مرعبة)،وقطعة جاهلية،ليس فيها منار هدى،ولا علم یری.نحن أهل البيت منها بمنجاة،ولسنا فيها بدعاة،ثم يفرجها اللّٰه عنكم كتفريج الأديم(=كسلخ الجلد)بمن يسومهم خسفة(=يوليهم ذلا) ويسوقهم عنفا...فعند ذلك تود قریش-بالدنيا وما فيها-لو يرونني مقاما واحدا،ولو قدر جزر جزور(=ناقة مجزورة)،لأقبل منهم ما أطلب اليوم بعضه فلا يعطونیه!»(1) .

وحتى بعد ضربة عبد الرحمن بن ملجم الخارجي،كان (علیه السلام) يقول:لا تقاتلوا الخوارج بعدي،فليس من طلب الحق فأخطأه(=الخوارج)،كمن طلب الباطل فأصابه(=معاوية وأصحابه)(2) .بمعنى أن انحراف الخوارج عن الحق لم يكن شيئا مدبرا من ذي قبل،وإنما سذاجة القوم وجهلهم جرهم إلى هذا المستنقع،فكانوا يطلبون الحق في أول الأمر،لكن أخطأوا في طلبه عندما دخلوا في حبائل الشيطان والنفس الأمارة بالسوء،بخلاف معاوية وأصحابه،فإنهم كانوا يطلبون الباطل ويركبون الغي عن تقصير وعلم وتعمد.

في هذه الأثناء،وبعد أن تجاوز الإمام علي (علیه السلام) عقبة الخوارج،معيدة بعضهم-من خلال الحوار العقلاني المباشر-إلى جادة الصواب،ومحاربة بعضهم الآخر بوصفهم ظاهرة اجتماعية خطرة،كان معاوية-بناء على نتيجة التحكيم-يتعاطى مع العالم الإسلامي على أنه الخليفة الشرعي.وعلى هذا الأساس بدأ بشئ سلسلة من الغارات على العواصم والمناطق المهمة بهدف بسط السيطرة وانتزاع البيعة من الناس،ولو كرها.

في الفصل المقبل سوف نتناول تلك الغارات بالشرح والتوضيح.

ص: 331


1- نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح،(93)،ص137-138
2- المصدر السابق،(61)،ص94

(20)غارات معاوية

تحدثنا في الفصل الماضي عن معركة النهروان،واضطرار الإمام علي (علیه السلام) للانعطاف إلى الجبهة الداخلية لمعالجة معضلة الخوارج.

انشغال الإمام علي (علیه السلام) في علاج معضلة الخوارج،فسح في المجال لمعاوية، لكي يقوم بشئ سلسلة من الغارات الدموية الخطيرة،استهدف منها بسط سيطرته على العالم الإسلامي،إما من خلال إيقاع الفوضى والاضطراب،وإما لانتزاع البيعة لنفسه من الناس ولو بالقوة.

نريد في هذا الفصل أن نستعرض تلك الخطوات والغارات التي قام بها معاوية، والتي وقعت بعد ظهور نتيجة التحكيم وقبل شهادة الإمام علي (علیه السلام)،واستمرت سنتين تقريبا من(38 هج)(1)إلى(40 هج)(2)،وسترون أين زمام المبادرة صار بيد معاوية، وتحول الموقف،فبدل أن يكون معاوية في موقع الدفاع والإمام علي (علیه السلام) في موقع الهجوم،صار الأمر بالعكس،معاوية وأهل الشام يهاجمون،والإمام علي (علیه السلام) وأهل العراق يدافعون.وسنقسم هذه المرحلة من حياة الإمام علي (علیه السلام) إلى ملفات:ملف مصر،ملف العراق،ملف الحجاز،ثم نعود مرة أخرى إلى ملف العراق، لنصل في نهاية المطاف إلى ملف اليمن.

أولا:ملف مصر

ملف مصر من الملفات المرة والمؤلمة جدا للإمام علي (علیه السلام)،فبادئ ذي بدء،وبعد

بیعته (علیه السلام) في المدينة،وقبل أن يخرج إلى العراق بعث إلى مصر قیس بن سعد بن عبادة(3).

ص: 332


1- زعم الواقدي والطبري أن اجتماع الحكمين كان في شعبان 38 هج. أنظر مثلا : الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 52.
2- وشهادة الإمام علي (علیه السلام) كانت في رمضان 40هج.
3- أشرنا أن قيسا كان له موقف في السقيفة مع عمر بن الخطاب، دافع عن أبيه، وستكون له مواقف في مصر وصفين، وسيكون له دور أيضا في خلافة الحسن (علیه السلام) القصيرة. في تولية فيس مصر، راجع:ابن هلال الثقفي، الغارات، تحقیق عبد الزهراء الخطيب، دار الأضواء، ط1، 1407هج - 1987م، بیروت، ص 127.

حاول قيس مهادنة أهل خربتا(1)،ذوي الميول العثمانية،الذين رفضوا مبايعة الإمام علي (علیه السلام) حتى يتم القصاص من قتلة عثمان.وحاول معاوية من جهته-بعد خروج الإمام علي (علیه السلام) إلى العراق-استمالة قيس،خوفا من أن يطوقه قيس من المغرب(مصر)،والإمام علي (علیه السلام) من المشرق(العراق)،لكن دون جدوى(2).فأشاع أن قيسا من أصحابه وشيعي بدليل التعامل الرفيق الذي يتعامل به مع أهل خربتا.

وبلغ ذلك عليا (علیه السلام).يقول بعض المؤرخين إنه (علیه السلام) ارتاب في موقف قيس،فأمره

أن يحسم أمر أهل خربتا،إلا أن قيسا لم ير المصلحة في ذلك،فأصر (علیه السلام)،فطلب قيس من الإمام علي (علیه السلام) أن يعفيه من منصبه إن كان مرتابة في أمري،فعزله، فخرج قيس من مصر إلى المدينة،وبقي بها،حتى انتهى الإمام علي (علیه السلام) من معركة الجمل، فذهب هو وسهل بن حنیف(والي علي (علیه السلام) على المدينة) والتحقا معا بعلي (علیه السلام) في صفين(3)

بعين الإمام علي (علیه السلام) محمد بن أبي بكر إلى مصر، واليا عليها من طرفه(4). عندما وصل محمد إلى مصر،بعث إلى أهل خربتا رسولا،فقتل أهلها الرسول،ثم خرجت الأمور في مصر عن سيطرة محمد بن أبي بكر.

كان الإمام علي (علیه السلام) يريد تولية هاشم بن عتبة المرقال على مصر(5)،لكن هاشمة استشهد في صفین،فاضطر (علیه السلام) لإرسال رسالة إلى مال الأشتر على عجل، يخبره بحال مصر،وأن محمدا شاب لا خبرة له في الأمور،وأن مصر بحاجة لحزم ومعالجة وضعها بحكمة وخبرة وروية،فاستجاب مالك لذلك،وأرسل (علیه السلام) عهدا لمالك في كيفية إدارة الأمور،وهذا العهد صار من الوثائق الخالدة في التاريخ(6).

عرف معاوية بأن مالكة في الطريق إلى مصر،فطلب من الجايستار(أو الأهقان)-وهو

ص: 333


1- تقع قرية خربتا بمركز كوم حمادة في محافظة البحيرة. هذه المحافظة تقع في شمال غربي القاهرة، ويمر فيها طريق القاهرة - الاسكندرية الزراعي والصحراوي .
2- بشان الرسائل المتبادلة بين معاوية وقيس، راجع: ابن هلال الثقفي، الغارات، ص 131 - 134.
3- راجع: ابن هلال الثقفي، الغارات، ص134 - 139.
4- أنظر كتابه (علیه السلام) إلى محمد بن أبي بكر في نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح، (27)، ص 383 .
5- انظر كلامه (علیه السلام) في نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح، (68)، ص 98.
6- أنظر نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح، (53)، ص 426. أيضا : الطبری، تاریخ الأمم والملوك ، ج4، ص 71.

في طريق مصر-أن يكفيه أمر مالك،فدس الجايستار السم بالعسل وقدمه لمالك، الذي شربه،فمات رحمه اللّٰه مسموما(1).وبقدر ما أثار موت مالك الأشتر الفرح و السرور في الشام،أثار الحزن والأسى في قلب الإمام علي (علیه السلام)(2).وقام معاوية في الشام خطيبا،فحمد اللّٰه وأثنى عليه،وقال:أما بعد،فإنه كانت لعلي بن أبي طالب يدان يمنيان،قطعت إحداهما يوم صفين،يعني عمار بن یاسر،وقطعت الأخرى اليوم،يعني الأشتر(3).

عندما استشهد مالك الأشتر،كان محمد بن أبي بكر ما زال في مصر(4)،فأرسل معاوية عمرو بن العاص لملاحقته في جيش جرار،وتخلى أصحاب محمد عنه، فأستفرد به جيش عمرو بن العاص،وبالتحديد معاوية بن حديج الكندي،وكان محمد عطشانا فطلب الماء،فرفض ابن حديج تزويده بقطرة ماء بذريعة أن عثمان مات عطشانة وأن محمدا من المتورطين في قتل عثمان.حاول عبد الرحمن بن أبي بكر أن يستنقذ أخاه محمدا لكنه لم يفلح(5)،بسبب إصرار ابن خديج على قتله، وكانت النتيجة أن استشهد،وبعد أن نال الشهادة،دخل أبن حديج جسده الشريف في جوف حمار ميت،وأحرق بالنار(6)

ص: 334


1- راجع: ابن هلال الثقفي، الغارات، ص 167 - 168.
2- كان (علیه السلام) يقول عندما جاءه نعي الأشتر : مالك، وما مالك! واللّه لو كان جب لكان فندة ( = المنفرد من الجبال )، ولو كان حجرا لكان صلدا، لا يرتقيه الحافر، ولا يوفي عليه الطائر . نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح، (443)، ص554.
3- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 71 - 72.
4- أنظر الرسالة التي كتبها الإمام علي (علیه السلام) المحمد يحدثه فيها عن مبررات عزله واستبداله بالأشتر ، يقول فيها : أما بعد، فقد بلغني موجدتك من تسريح الأشتر إلى عملك، وإني لم أفعل ذلك استبطاء لك في الجهد، ولا ازديادا لك في الجد، ولو نزع ما تحت يدك من سلطانك، لوليك ما هو ایسر عليك مؤونة، وأعجب إليك ولاية. إن الرجل الذي كنت وليته أمر مصر، كان رجلا لنا ناصح، وعلى عدونا شدیدا نائما، فرحمه اللّه ، فلقد استكمل أيامه، ولاني جمامه، ونحن عنه راضون....»، تحقیق صبحي الصالح، (34)، ص 407. وعندما استشهد محمد بن أبي بكر أقيمت الاحتفالات في الشام فرحا وسرورة، وكان الإمام علي (علیه السلام) يقول: إن لحزننا عليه على قدر سرورهم به، إلا أنهم نقصوا بغيضة، ونقصنا حبیبا، نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح، (325)، ص 532.
5- وهذا ربما من الشواهد على انكسار قریش وبروز قوة بني أمية، وإلا لكان لوساطة عبد الرحمن تأثير في استنقاذ محمد.
6- ابن هلال الثقفي، الغارات، ص 179 - 187، أيضا الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 78 - 79. كتب الطبري: فلما بلغ ذلك عائشة جزعت جزعا شديدة، وقنتت عليه في دبر الصلاة تدعو على معاوية وعمرو، ثم قبضت عيال محمد إليها، فكان القاسم بن محمد بن أبي بكر في عيالها . أقول: رغم أن عائشة لم تكن مؤيدة لتوجهات أخيها محمد بن أبي بكر الموالية لعلي (علیه السلام) ، لكن شهادته كانت اول شرخ وقع في العلاقة بين عائشة ومعاوية، وسيزداد الشر اتساعة ليتحول إلى ما يشبه قطيعة : عندما يضغط معاوية لتوريث الشلطة ليزيد، ويرفض عبد الرحمن بن أبي بكر - الذي كان إلى صف أخته عائشة في حرب الجمل - ذلك، لتدور بعد ذلك الشبهات حول معاوية في موت عبد الرحمن.

وبشهادة مالك الأشتر ومحمد بن أبي بكر خرجت مصر عن سيطرة الإمام علي (علیه السلام)

تماما،ودخلت تحت سيطرة معاوية.

وفي ذلك كتب الإمام علي (علیه السلام) لعبد اللّٰه بن عباس يخبره بما حدث وشاكيا له أصحابه:«أما بعد،فإن مصر قد افتتحت،ومحمّد بن أبي بكر رحمه اللّه قد استشهد فعند اللّه نحتسبه ولدا ناصحا و عاملا كادحا و سيفا قاطعا و ركنا دافعا و قد كنت حثثت النّاس على لحاقه و أمرتهم بغياثه قبل الوقعة و دعوتهم سرّا و جهرا و عودا و بدءا فمنهم الآتي كارها و منهم المعتلّ كاذبا و منهم القاعد خاذلا أسأل اللّه تعالى أن يجعل لي منهم فرجا عاجلا فواللّه لو لا طمعي عند لقائي عدوّي في الشّهادة و توطيني نفسي على المنيّة لأحببت ألاّ ألقى مع هؤلاء يوما واحدا و لا ألتقي بهم أبدا»(1).

ثانية ملف العراق

تشير بعض الأخبار إلى أن أولى غارات معاوية كانت بالعراق،بعد ظهور نتيجة

التحكيم. ووقعت غارة الضحاك بن قيس الفهري(2)،قبل مواجهة الإمام علي (علیه السلام) الخوارج النهروان.

وذلك أين معاوية لما بلغه أن عليا (علیه السلام)بعد تحكيم الحكمين في طريقه إلى الشام، هاله أمره،فخرج من دمشق معسكرا،ومكث مع أصحابه يجيلون الرأي يومين أو ثلاثة حتى قدمت عليهم عيونهم أن عليا (علیه السلام) اختلف عليه أصحابه، وفسد عليه جنده وأهل مصره،ففارقته منهم فرقة أنكرت أمر الحكومة،وتفرقوا أشد الفرقة، وأنه (علیه السلام)رجع عنكم إليهم،فكثر سرور الناس في الشام بانصرافه عنهم،وما ألقى اللّٰه من الخلاف بینهم(3).

فعند ذلك دعا معاوية الضحاك بن قيس،وقال له:سر حتى تمر بناحية الكوفة،وترتفع عنها ما استطعت،فمن وجدته من الأعراب في طاعة علي (علیه السلام) فأغر عليه،وإن

ص: 335


1- نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح، (35)، ص408،
2- من أبرز رجالات معاوية، وهو الذي سيصلي عليه عند موته بانتظار قدوم يزيد الذي كان خارج الشام، ثم يصطدم بمروان بن الحكم بعد موت يزيد، ويلقى الموت على يديه، لتنتقل الخلافة بعد ذلك إلى مروان ونسله . بشان غارة الضحاك ، راجع: الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 104.
3- ابن هلال الثقفي، الغارات، ص288 - 290.

وجدت له مسلحة(1) أو خيلا فأغر عليها،وإذا أصبحت في بلدة فأمس في أخرى،ولا

تقيمين لخيل بلغك أنها قد شرحت إليك لتلقاها فتقاتلها.

فسرحه فيما بين ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف،فأقبل الضحاك،فنهب الأموال،وقتل من لقي من الأعراب،ثم أقبل فلقي عمرو بن عميس الذهلي(ابن أخي الصحابي عبد اللّٰه ابن مسعود)فقتله عند القطقطانة(2) وقتل معه ناسا من أصحابه.

وخرج الإمام علي (علیه السلام)يستصرخ الناس،فخطب بهم قائلا:«أيها الناس، المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم كلامكم يوهي الصم الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم الأعداء.

تقولون في المجالس: كيت وكيت(=كناية عن الحديث)، فإذا جاء القتال قلتم: حيدي حياد!(=كلمة يقولها الهارب عند الفرار)،ما عزت دعوة من دعاكم، ولا استراح قلب من قاساكم، أعاليل بأضاليل(=تتعللون بأباطيل لا جدوى منها وباعذار واهية)، وسألتموني الطويل(=المطل أو المماطلة)،دفاع ذی الدين المطول(=كالمدین الذي يتأخر عن أداء دينه بلا عذر)،لا يمنع الضيم الذليل، ولا يدرك الحق إلا بالجد.أي دار بعد داركم تمنعون! ومع أي إمام بعدي تقاتلون! المغرور واللّه من غررتموه، ومن فاز بكم فقد فاز واللّه بالسهم الأخيب(=من سهام الميسر الذي لا حظ له)، ومن رمی بكم فقد رمی بافوق ناصل (=السهم الذي لا فوق ولا نصل له یطيش ولا يصيب الهدف)،أصبحت واللّه لا أصدق قولكم، ولا أطمع في نصركم، ولا أوعد العدو بكم.ما بالكم؟ ما دواؤكم؟ ما طبكم؟ القوم رجال أمثالكم.أقولا بغير علم! وغفلة من غير ورع! وطمعا في غير حق؟»(3).

فقام إليه حجر بن عدي الكندي،وتكلم بما تهلل به وجه علي (علیه السلام)،فقال له (علیه السلام):لا حرمك

اللّٰه الشهادة،فإني أعلم أنك من رجالها(4).وعقد (علیه السلام) لحجر على أربعة آلاف،ووجهه للقاء الضحاك،وكانت النتيجة أن فر الضحاك هاربا،بعد أن قتل من أصحابه بضعة عشر رجلا(5).

وقد شرح الإمام علي (علیه السلام) ذلك في رسالة جوابية لأخيه عقيل،كتب له فيها:

ص: 336


1- المسلحة: كل موضع مخافة، يقف فيه الجند بالسلاح، للمراقبة و المحافظة .
2- «القطقطانة»: موضع قرب الكوفة من جهة البرية بالطف . ياقوت الحموي. في طريق من يريد الشام من الكوفة، ثم يرتحل منها إلى عين التمر.
3- نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح، (29)، ص 72 - 73.
4- ابن الواضح، تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 196.
5- راجع حول غارة الضحاك : ابن هلال الثقفي، الغارات، ص292 - 294.

«فسرحت إليه جيشا كثيفا من المسلمين،فلما بلغه ذلك،شمير هارباً،ونكص نادما ، فلحقوه ببعض الطريق...فدع عنك قريشأ وتركاضهم في الظلال،وتجوالهم في الشقاق،وجماحهم في التيه،فإنهم قد أجمعوا على حربي،كإجماعهم على حرب رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)قبلي،فجزت قریشا عني الجوازي،فقد قطعوا رحمي،وسلبوني سلطان ابن أمي...»(1).

ووجه معاوية النعمان بن بشير(2)، فأغار على مالك ابن كعب الأرحبي، وكان عامل علي عليه السلام على مسلحة عين التمر(3)، فندب علي عليه السلام فقال:يا أهل الكوفة انتدبوا إلى أخيكم مالك بن كعب، فإن النعمان بن بشير قد نزل به في جمع ليس بكثير لعل اللّه أن يقطع من الظالمين طرفا.فأبطأوا ولم يخرجوا.

فصعد على (عليه السلام) المنبر فتكلم كلاما خفيا لا يسمع فظن الناس انه يدعو اللّه ثم رفع صوته فقال إما بعد يا أهل الكوفة أكلما اقبل منسر(4) من مناسر أهل الشام أغلق كل امرء بابه وانحجز في بيته انحجار الضب والضبع الذليل في وجاره أف لكم لقد لقيت منكم يوما أناجيكم ويوما أناديكم....منيت بمن لا يطيع إذا أمرت،ولا يجيب إذا دعوت، لا أبالكم!ما تنتظرون بنصركم ربكم؟أما دين يجمعكم؟ولا حمية تحمشكم؟أقوم فيكم مستصرخا،وأناديكم متغوثا،فلا تسمعون لي قوة،ولا تطيعون لي أمراً...»(5).

فلما دخل (علیه السلام) بيته،قام عدي بن حاتم فقال للناس:هذا واللّٰه الخذلان القبيح؟

ثم دخل عدي إليه فقال:يا أمير المؤمنین،معي ألف رجل من طي لا يعصونني،

وإن شئت أن أسير بهم سرت؟

ص: 337


1- نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح، (36)، ص 409 .
2- بشأن غارة النعمان بن بشیر، راجع: الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص102.
3- عين التمره : هي بلدة تقع في محافظة كربلاء في العراق وتبعد مسافة 40 كم غربي مدينة كربلاء. قال عنها ياقوت الحموي صاحب معجم البلدان: «بلدة قريبة من الأنبار غربي الكوفة، بقربها موضع يقال له اشفاثا»، منهما يجلب القسب والتمر إلى سائر البلاد، وهو بها كثير جدا، وهي على طرف البرية، وهي قديمة افتحها المسلمون في أيام أبي بكر على يد خالد بن الوليد في سنة 12 للهجرة.. توجد في عين التمر عيون الماء النقية الصالحة للشرب، وبها انواع نادرة من الأسماك الصغيرة والملونة. ينابيع المياه ما زالت تتدفق من باطن الأرض منذ آلاف السنين. وتعتبر منطقة عين التمر إحدى أهم وأجمل الواحات الصحراوية وفيها أنواع مختلفة من بساتين التمور . سكن هذه المنطقة بنو أسد الذين دفنوا الحسين (علیه السلام) ، ويقال إن منها حبیب بن مظاهر الأسديوالشاعر الكميت الأسدي .
4- المنسر: ما ينسر به الطائر الجارح الأشياء، وهو كالمنقار لغير الجارح، أيضا الجماعة من الخيل. والمنسر: جماعة اللصوص.
5- نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح، رقم (39)، ص 81 – 82.

فقال علي (علیه السلام):جزاك اللّٰه خيراً...فخرج عدي إلى النخيلة،وأغار على أدنى الشام(1).

ثالثا ملف الحجاز

وبعث معاوية عبد اللّٰه بن مسعدة الفزاري في جريدة خيل(2)،وأمره أن يقصد المدينة ومكة،فسار في ألف وسبعمائة،فلما أتى عليا (علیه السلام) الخبر،وجه المسيب بن نجبة الفزاري(الذي سينال الشهادة بعد واقعة كربلاء مع التوابين)،فقال له:يا مسيب، إنك ممن أثق بصلاح؟وبأي ونصيحه،فتوجه إلى هؤلاء القوم وأثر فيهم،وإن كانوا قومك لأن عبد اللّٰه بن مسعدة والمسيب كلاهما فزاريان،لاحظ أن عليا (علیه السلام) يريد من ذلك ما أراده في صفين،أعني أن تبقى المسألة داخل القبيلة الواحدة،بحيث لا تفتح ملفات وثارات جديدة بين القبائل).

فقال له المسيب:يا أمير المؤمنين،إن من سعادتي أن كنت من ثقاتك.

فخرج المسيب في ألفي رجل،فلقوا عبد اللّٰه بن مسعدة،وجرى قتال بينهما إلى أن انهزم ابن مسعدة،فتحصن بتيماء،وأحاط المسيب بالحصن،فناداه:يا مسيب، إنما نحن قومك،فليمسك الرحم، فخلي لابن مسعدة وأصحابه الطريق ونجا من الحصن! فلما جنهم الليل خرجوا من تحت ليلتهم حتي لحقوا بالشام، وصبح المسيب الحصن فلم يجد أحداً. فقال له اصحابه: داهنتَ واللّه يا مسيب في أمرهم، وغششت أمير المؤمنين، وقدم علي (علیه السلام) فقال له (علیه السلام): يا مسيب كنت من نصاحي ثم فعلت ما فعلت(3)!

ودعا معاوية برجل من سادات أهل الشام،يقال له يزيد بن شجرة الرهاوي(4)،فقال: يا يزيد إني أريد أن أوجه بك إلى مكة لتقيم للناس الحج بها،وتنفي عامل علي بن أبي طالب (علیه السلام)،وتأخذ لي هنالك البيعة بالشمع والطاعة والبراءة من علي (علیه السلام).

وضم معاوية إليه ثلاثة آلاف فارس.اقترب یزید بن شجرة مع أصحابه من مكة،

ص: 338


1- ابن الواضح، تاريخ اليعقوبي، ج2، ص195. حول غارة النعمان بن بشیر راجع: ابن هلال الثقفي ، الغارات، ص307 - 317.
2- أي خيل لا رجالة فيها. بشأن غارة عبد اللّه بن مسعدة الفزاري، راجع: الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 103 - 104.
3- ابن الواضح، تاريخ اليعقوبي، ج2،ص196 - 197.
4- بشأن توجه يزيد بن شجرة الرهاوي إلى مكة، راجع: الطبری، تاریخ الأمم والملوك، ج 4، ص 104-105.

وكان ثم بن العباس عليها من قبل الإمام علي (علیه السلام).وأرسل الإمام علي (علیه السلام) رسالة لقثم يقول له فيها:«أما بعد،فإن عيني-بالمغرب-كتب إلي يعلمني أنه وجه إلى الموسم أناس من أهل الشام العمي القلوب،الصم الأسماع الكمه الأبصار،الذين يلبسون الحق بالباطل،ويطيعون المخلوق في معصية الخالق...فأقم على ما في يديك قيام الحازم الصليب،والناصح اللبیب،التابع لسلطانه،المطيع لإمامه.وإياك وما يعتذر منه،ولا تكن عند النعماء بطرا،ولا عند البأساء فشلا،والسلام»(1).

لكن أصحاب ثم أخبروه بمجيئ يزيد بن شجرة وج نبضهم فرأى أن أهل مكة لن يقفوا معه(لأن هواهم قرشي أموي لا علوي)،فقرر ثم الخروج من مكة بانتظار المدد من الإمام علي (علیه السلام).

فبلغ ذلك عليا (علیه السلام)فقام (علیه السلام) في أصحابه يستنهضهم، فأرسل إليه بمعقل بن قیس،وانتدب له ألف وسبعمائة رجل من فرسان العرب، فخرج القوم من الكوفة في أول يوم من ذي الحجة،لكن عندما وصلوا بنحو سريع قرب مكة،كان موسم الحج قد انتهى بسلام بعدما طلب يزيد بن شجرة من ثم بن العباس اعتزال الصلاة والتراضي بشخص محايد.

رابعة ملف العراق مرة أخرى

بعد إطلاق سراح الأسرى كان يعتقد أن معاوية لن يغير بعد ذلك.لكن بعد شهر

تقريبا،وجه معاوية من جديد برجل من أصحاب الشام،يقال له شفیان بن عوف الغامدي(2)،في خيل عظيمة،وأمره بالمسير والغارة على أداني العراق،ومن ثم قتل من يقدر عليه من شيعة علي (علیه السلام).

فسارت خيل الشام حتى انتهت إلى هيت(3) ،وكان عامل علي (علیه السلام) علي عليها كمیل بن زياد النخعي،فلما بلغه أن خيل الشام قد تقاربت من هيت،خلف عليها رجلا من أصحابه في خمسين فارسا،وسار يريد خيل أهل الشام.

وكانت خطوة كمیل خطة عسكريا فادحا،لأن سفيان الغامدي بعد أن أغار على

ص: 339


1- نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح، (33)، ص 406 - 407.
2- بشان غارة سفيان بن عوف الغامدي، راجع: الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص103، أيضا ابن هلال الثقفي، الغارات، ص 320 - 325.
3- مدينة عراقية تقع على الضفة الغربية من نهر الفرات إلى الشمال من مدينة الرمادي بمسافة 70 كم، وتبعد عن بغداد مسافة 190 كم. تعد من أهم مدن التاريخ الإنساني القديم، كانت من مدن المناذرة، تكثر في مدينة هيت بساتين النخيل والفاكهة وهي ذات خیرات واسعة.

أطراف هيت، ولم يتبعه أحد،أغار على الأنبار،وقتل بها جماعة من أصحاب علي (علیه السلام)، منهم رجل يقال له حسان البكري،وأخذ من الأنبار ما أخذ،وولی منصرفا إلى الشام.

وبلغ ذلك عليا (علیه السلام)،فهم أن يسير إليه بنفسه،وبالفعل سار ماشيا حتى أتی النخيلة،فأدركه الناس،وقالوا:يا أمير المؤمنین نحن نكفيكهم.

فقال (علیه السلام):ما تكفونني أنفسكم،فكيف تكفونني غيركم؟إن كانت الرعايا قبلي لتشكو حيف رعاتها،وإنني اليوم لأشكو حيف رعيتي،كأنني المقود وهم القادة،أو الموزوع وهم الوزعة(1)... (2).

ثم قام (علیه السلام) مستصرخا الناس قائلا:«....ألا وإنِّي قد دعوتكم إلى جهاد عدوّكم ليلًا ونهاراً وسرّاً وجهراً، وقلت لكم: اغزوهم قبل أن يغزوكم، فوَ اللَّه ما غزي قوم قطّ في عقر دارهم إلّاذلّوا، فتواكلتم وتخاذلتم حتّى شُنّت عليكم الغارات في بلادكم [وملّكت عليكم الأوطان] وهذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار، فقتل بها أشرس بن حسّان، فأزال مسالحكم عن مواضعها، وقتل منكم رجالًا صالحين، وقد بلغني أنّ الرّجل من أعدائكم كان يدخل بيت المرأة المسلمة والمعاهدة، فينتزع خلخالها من ساقها، ورعثها من اذنها، فلا تمتنع منه، ثمّ انصرفوا وافرين لم يكلم منهم رجل كلماً، فلو أنّ امرءاً مسلماً مات من دون هذا أسفاً ما كان عندي ملوماً، بل كان عندي به جديراً، فيا عجباً، عجباً! واللَّه يميت القلب، ويجلب الهمّ، ويسعر الأحزان من اجتماع هؤلاء على باطلهم، وتفرّقكم عن حقِّكم، فقبحاً لكم وترحاً......فإذا أمرتكم بالسّير إليهم في الشّتاء، قلتم: هذه صبّارة القرّ؛ أمهلنا ينسلخ عنّا البرد فكلّ هذا فراراً من الحرّ والقرّ فإذا كنتم من الحرّ والبرد تفرّون فأنتم واللَّه من حرّ السّيوف أفرّ؛

یا أشباه الرجال ولا رجال،حلوم الأطفال،وعقول ربات الحجال(=النساء)،لوددت أني لم أركم،ولم أعرفكم(3)،معرفة واللّٰه جرت ندما، وأعقبت سدما(=الهم مع أسف أو غیظ).قاتلكم اللّٰه!لقد ملأتم قلبي قيحا وشحنتم صدري غيظة،وجرعتموني

ص: 340


1- الوزعة يعني الحاكم.
2- نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح، (261)، ص 520.
3- وكأنه يقول: ما الذي جاء بي إلى العراق، فالشخصية الكوفية آنذاك كانت تختلف عن الشخصية المدنية التي كانت تعرف عليا (علیه السلام) ويعرفها ... وكان عليا (علیه السلام) كان غريبة في تلك الأجواء

نغب(جمع نغبة أي جرعة)التهمام(=الهم)أنفاسا(=جرعة بعد جرعة)،وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان،حتى لقد قالت قریش:ان ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب.

لله أبوهم،وهل أحد منهم أشد لها مراسا(=ممارسة ومعاناة)،وأقدم فيها مقاما مني، لقد نهضث فيها وما بلغت العشرين،وهاأنذا قد ذرفت(=زدت) على الستين،ولكن لا رأي لمن لا يطاع»(1) .

ودعا بسعيد بن قيس الهمداني،فضم إليه خيط من فرسان الكوفة،وأمره أن يطلب القوم.فسار سعید مع أصحابه يطلب سفيان الغامدي،لكن هذا الأخير كان قد غادر العراق وتجاوز منطقة صفين .

وكتب الإمام علي (علیه السلام) في ذلك إلى كميل معاتبا:«...فقد صرت جسرا لمن أراد

الغارة من أعدائك على أوليائك،غير شديد المنكب،ولا مهيب الجانب،ولا ساد ثغرة ولا كاسر لعدو شوكة،ولا مغن عن أهل مصيره،ولا مجز عن أميره»(2) .

بعد ذلك بأيام وجه معاوية برجل من أهل الشام،في خيل،ووصل الخبر لكميل، فاستعد له،والتقت خيل العراق مع خيل أهل الشام،واقتتلوا قتالا شديدا،كانت الغلبة في ذلك القتال لكميل وأصحابه.فأرسل إليه الإمام علي (علیه السلام) رسالة. يشكره فيها على حسن بلائه،ويطلب منه أن لا يخطو بعد هذا الحرب عدو خطوة إلا بعد استئذانه(3) .

خامسا ملف اليمن

لما سمع شيعة عثمان في صنعاء اليمن بغارات معاوية على الجزيرة،خالفوا علیا (علیه السلام) وأظهروا البراءة منه،ومنعوا زكاة أموالهم،وكان عبيد اللّٰه بن العباس عليها من قبل الإمام علي (علیه السلام)،فأخبر عليا (علیه السلام)،فدعا (علیه السلام) بيزيد بن أنس الأرحبي،وقال له: ألا ترى إلى صنع قومك باليمن ومخالفتهم علي وعلى عاملي؟

فقال يزيد:واللّٰه يا أمير المؤمنين إن ظني بقومي لحسن طاعتك،وإن شئت سرت

إليهم بنفسي،وإن شئت كتبت إليهم،ونظرت ما يكون من جوابهم...

فقال علي (علیه السلام):أكتب إليهم.

ص: 341


1- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،خطبة(27)،ص69-70
2- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(61)،ص450-451
3- ابن الأعثم،الفتوح،ج1،ص446-454

فكتب إليهم (علیه السلام)،وقدم عليهم رسول علي (علیه السلام)،ونصحهم وذكرهم اللّٰه تعالی وحذرهم من إرسال یزید الأرحبي مع جيش.فقالوا:يا هذا إنا سمعنا كلامك،فاذهب إلى علي (علیه السلام) فليبعث إلينا من شاء،فإنا على بيعة أمير المؤمنين عثمان بن عفان.ثم كتبوا إلى معاوية:«أما بعد،فالعجل العجل،وجه إلينا من قبلك،لنبايعك،وإلا كتبنا إلى علي فاعتذرنا إليه مما كان منا».

يقول ابن الأعثم:عندها دعا معاوية بسر بن أبي أرطاة الفهري(1) ،وهو أحد فراعنة الشام،فعقد له وضم إليه أربعة آلاف رجل،ثم قال له:سر إلى اليمن سيرا عنيفا، حتى تأخذ بيعة الناس،فإنهم قد خالفوا عليا (علیه السلام)،وانظر أن تجعل طريقك على مكة والمدينة،فلا تنزل بلدة أهله في طاعة علي (علیه السلام) إلا بسط لسانك عليهم،حتى يظنوا أنك محيط بهم وأنه لا نجاة لهم منك،ثم اصفح عنهم وادعهم إلى البيعة،فمن أبي عليك فاستعمل الشيف،واقتل كل من نابذك حتى تدخل أرض اليمن.

فخرج بسر بن أبي أرطاة من دمشق يريد المدينة،فلما أحس أبو أيوب الأنصاري (وهو من قبل علي (علیه السلام))بخيل بسر أنها شارفت المدينة،خرج منها،وخرج أهل المدينة إلى بسر يستقبلونه خوفا منه على أنفسهم،فلما نظر إليهم صاح بهم ثم قال:شاهت الوجوه... وأمر بدور قوم من الأنصار فحرقت وهدمت، ثم دعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوه،حتى أن جابر بن عبد اللّٰه الأنصاري بايع تقية بعد أن نصحته أم سلمة بذلك.وبعد أن أخذ البيعة من أهل المدينة جمعهم ثم قال:يا أهل المدينة،إني قد صفحث عنكم،وما أنتم لذلك أهل،لأنه ما من قوم قتل إمامهم(=عثمان)بين أظهرهم فلم يدفعوا عنه بأهل أن يعفى عنهم...ثم استخلف عليهم أبا هريرة!

ثم سار من المدينة بريد مكة،وبها يومئذ ثم بن العباس(من قبل علي عليه السلام)،فلما أحس بخيل بسر أنها شارفت مكة،خرج منها،وخرج إليه أشرافها، فلما نظر إليهم انتهرهم وشتمهم...

ونظر بسر إلى غلامين من أحسن الغلمان هيئة وجمالا،وهما هاربان،فقال:علي بهما،فلما عرف أنهما ابنا عبيد اللّٰه بن عباس،قال:اللّٰه أكبر،أنتما ممن أتقرب بكما وبسفك دمائكما إلى اللّٰه تعالى،ثم أمر بهما فذبحا ذبحا،وبلغ ذلك أمهما فجزعت عليهما طويلا.

ص: 342


1- بشان غارة بسر بن أبي أرطاة،راجع:الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،ص106-107،أيضا ابن هلال الثقفي،الغارات،ص404-443

أقول:نذكر هذه النقطة،حتى نرى بعد ذلك،موقف عبيد اللّٰه بن عباس من الإمام الحسن (علیه السلام)،فرغم أن عبيد اللّٰه تلقى طعنة من معاوية عندما قتل بسر ابنیه،إلا أنه سيقبل بعد ذلك أن يقوم بدور الخائن للإمام الحسن (علیه السلام) وينضم إلى صفت معاوية!!.

وأقام بسر بمكة أيامة،ثم قال:يا أهل مكة،اعلموا أني قد صفح عنكم،بعد أن كان رأيي استئصالكم،فإياكم والخلاف،فواللّٰه لئن خالفتم لأقتلن الرجال منكم،ولأحوين الأموال،ولأخربن الديار،ولأفنين الصغار والكبار.

ثم سار يريد الطائف،فاستقبله المغيرة بن شعبة،فلم يؤذ أحدا من أهلها.ثم سار إلى نجران،وبها يومئذ رجل من أصحاب رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)؛يقال له عبدان،فسماه النبي (صلی اللّه علیه واله) عبد اللّٰه،وكان من شيعة علي (علیه السلام)،فقتله بسر،وقتل ابنة له يسمي مالكا،ثم جعل يتهدد أهل نجران ويقول:يا إخوان اليهود والنصارى،أما واللّٰه لئن بلغني عنكم أم أكرهه من ولايتكم علي بن أبي طالب،لأرجع عليكم بالخيل والرجل،ثم لأكثرن فيكم القتل،فانظروا لأنفیكم،فقد أعذر من أنذر.

ثم سار بسر إلى همدان،وبها قوم من أركب من شيعة علي (علیه السلام)،فقتلهم عن آخرهم.ثم سار إلى السراة،وبها يومئذ خلق من شيعة علي (علیه السلام) فقتلهم عن آخرهم.ثم سار بریڈ صنعاء،وبها يومئذ عبيد اللّٰه بن عباس(من قبل علي (علیه السلام))،فخرج منها عبيد اللّٰه،فجعل بسر يلتقط كل من كان بصنعاء من شيعة علي (علیه السلام) فيقتلهم حتى لم يبق منهم أحدا.وكذا فعل في حضرموت.

ولما تواترت على الإمام علي (علیه السلام) الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد، وقدم عليه عاملاه على اليمن،وهما عبيد اللّٰه بن عباس وسعيد بن نمران لما غلب عليهما بسر بن أرطاة،قام (علیه السلام) على المنبر ضجرا بتثاقل أصحابه عن الجهاد،ومخالفتهم له في الرأي،فقال (علیه السلام):ما هي إلا الكوفة،أقبضها وأبسطها،إن لم تكوني إلا أنت،تهب أعاصيرك،فقبحك اللّٰه....أنبئت بسرا قد اطلع اليمن،وإني واللّٰه لأظن أن هؤلاء القوم سیدالو منكم(1) باجتماعهم علی باطلهم و تفرقكم عن حقكم و بمعصیتكم امامكم فی الحق و طاعتهم امامهم فی الباطل و بأدائهم الامانه الی صاحبهم و خیانتكم و بصلاحهم فی بلادهم و فسادكم.فلو ائتمنت أحدكم على قعب(2) لخشيت أن يذهب بعلاقته(3) .

ص: 343


1- ستكون لهم الدولة والغلبة عليكم
2- القدح الضخم
3- ما يعلق منه من ليف أو نحوه

اللّهم إني قد مللتهم وملوني، وسئمتهم وسئموني، فأبدلني بهم خيرا منهم، وأبدلهم بي شرا مني، اللّهم مث قلوبهم كما يماث الملح في الماء،أما واللّٰه لوددت أن لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم....»ثم نزل (علیه السلام) من المنبر(1).

وكان يقول (علیه السلام):«أريد أن أداوي بكم وأنتم دائي،كناقش الشوكة بالشوكة،وهو يعلم أن ضلعها معها:(أي كالشوكة كلما أردت إخراجها ازدادت توغلا،وهو مثل يضرب للرجل الذي يخاصم الآخر ثم يستعين عليه بمن هو من قرابته أو أهل مشربه!).اللّٰهم قد ملت أطباء هذا الداء الدوی(2)،وكلت النزعة بأشطان الركي(3).أين القوم الذين دعوا إلى الاسلام فقبلوه، وقرأوا القرآن فأحكموه. وهيجوا إلى القتال فولهوا وله اللقاح(4) إلى أولادها...»(5).

وعندما لم يجبه أحد،قال (علیه السلام):أوليس من العجب أن معاوية يأمر فطاع،ويدعو فيجاب،وآمركم فتخالفون،وأدعوكم فلا تجيبون،ذهب واللّٰه أولو النهی والفضل والتقى،الذين كانوا يقولون فيصدقون،ويدعو فيجيبون،ويلقون عدوهم فيصبرون، وبقيت في حثالة قوم لا ينتفعون بموعظة،ولا يفكرون بعاقبة،لقد هممت أن أشځص عنكم،فلا أطلب كم ما اختلف الجديدان(=الليل والنهار)(6).

وثب إليه حارثة(أو جارية)بن قدامة العدي،فقال:يا أمير المؤمنین،مرني بأمرك،فإني لك حيث أحببت.

فقال علي (علیه السلام):لعمري أنت لها،فإنك ميمون النقيبة،مبارك الأثر،حسن النية،صادق العشيرة.

ثم ضم إليه علي (علیه السلام) ألفي فارس...فخرج حارثة من العراق يريد مكة،وبلغ ذلك بسر،فخرج عن بلاد اليمن...وقد قتل من الناس بأرض اليمن وغيرها نیفة عن ثلاثين ألف من شيعة علي (علیه السلام)(7).

الخلاصة:تكلمنا في هذا الفصل عن الخطوات والغارات التي قام بها معاوية بعد

ص: 344


1- نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح، (25)، ص66 - 67.
2- الدوي: المؤلم الشديد.
3- ضعفت القدرة على شد حبل البئر
4- اللقاح : الناقة.
5- نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح، رقم (121)، ص 177.
6- ابن اعثم، الفتوح، ج 1، ص 462 - 463.
7- المصدر السابق، ص 463 - 464.

ظهور نتيجة التحكيم،في مصر،في العراق،في الحجاز،وفي اليمن،ومعاناة الإمام علي (علیه السلام) الشديدة والمريرة في استنهاض أصحابه .هذه الظروف والملابسات ستساعدنا-إلى حد كبير-على فهم دوافع ومبررات صلح الإمام الحسن (علیه السلام) مع معاوية، وكيف آلت الشلطة إلى معاوية،الذي مهد بدوره الطريق لابنه يزيد.

وعلينا أن نتذكر أن معركة النهروان عندما وقعت كانت غارات معاوية في بداياتها. فغارة الضحاك بن قيس على العراق سبقت معركة النهروان،لكن بقية غارات معاوية-التي شنها على العواصم الأخرى-حدثت أثناء وبعد معركة النهروان.

ص: 345

(21)أزمات متلاحقة وشهادة الإمام علي (علیه السلام)

في الفصل الماضي تحدثنا عن غارات معاوية التي شنها على مصر والعراق والحجاز واليمن،بعد ظهور نتيجة التحكيم،كشواهد واضحة على حالة الفلتان الأمني.

في هذا الفصل نريد استعراض جوانب أخرى من حالة الاضطراب التي سادت أجواء العراق بعد معركة صفين وقبل شهادة الإمام علي (علیه السلام)،أي من38إلى40هج.نريد أن نتحدث عن شواهد لحالة الفلتان السياسي والمالي والعسكري، ونبين أن معالجة الانهيار القيمي كان على رأس أولويات الإمام علي (علیه السلام)،لأنه الأساس لكل حالات الفلتان المختلفة،وهو الأساس لمسلسل الخيانات وظاهرة الهروب إلى معاوية،وسيكون الأساس الشهادة الإمام الحسين (علیه السلام) وفاجعة كربلاء.كافح الإمام علي (علیه السلام) في قبال ذلك وجاهد وصبر،وأخبر الناس بما يستشرفه من مستقبل،وبما سيواجهونه من مصائب جراء هذا التخال.

سنتعرف في هذا الفصل على قصة الخريت وهروب مصقلة،كشاهد على حالة الفلتان السياسي،وطعنة من عبد اللّٰه بن عباس لعلي (علیه السلام)،كشاهد على حالة الفلتان المالي.ثم نعود لنتحدث عن تثاقل جيش علي (علیه السلام) إلى الأرض كلما دعاهم للقتال،كشاهد على حالة الفلتان العسكري.وأخيرا نتحدث عن استشراف الإمام علي (علیه السلام) المستقبل الأمة بعد هذه السلسلة المرة من الحوادث،ثم عن شهادته (علیه السلام).

ما ذكرناه في الفصل السابق،وما سنذكره في هذا الفصل،سيعيننا على فهم واستيعاب الظروف والملابسات التي أدت بالإمام الحسن (علیه السلام) إلى قبول عقد الصلح مع معاوية،وسيطرة معاوية الكاملة على مقاليد الحكم،والأجواء التي سمحت له بتوريث الشلطة لابنه يزيد.

أزمة خروج الخريت وهروب مصقلة

من الأزمات الخانقة والمرة،التي تعبر عن حالة الفلتان السياسي التي واجهها الإمام علي (علیه السلام)،ما يمكن أن نطلق عليه«أزمة الخريت»،وتداعياتها التي انتهت إلى«هروب

ص: 346

مصقلة»إلى معاوية.فما هي أزمة الخريت؟ومن هو مصقلة؟ولماذا هرب إلى معاوية؟

قصة خروج الخريت

كتب الطبري في تاريخه ضمن أحداث سنة 38هج(1) ،ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة نقلا عن كتاب«الغارات»لابن هلال الثقفي،واللفظ للأخير:لما بايع أهل البصرة عليا (علیه السلام) بعد الهزيمة(في حرب الجمل)،دخلوا في الطاعة غير بني ناجية،فإنهم عسكروا،فبعث إليهم علي (علیه السلام) رجلا من أصحابه في خيل ليقابلهم،فأتاهم فقال:ما بالكم عسكرم،وقد دخل الناس في الطاعة غيركم؟

فافترقوا ثلاث فرق.فرقة قالوا:انصاری فأسلمنا،ودخلنا فيما دخل الناس فيه

من الفتنة،ونحن نبایع كما بايع الناس.فأمرهم فاعتزلوا.

وفرقة قالوا:كنا نصاری فلم سلم،وخرجنا مع القوم الذين كانوا خرجوا...فأخرجونا كرهة،فخرجنا معهم،فهزموا،فنحن ندخل فيما دخل الناس فيه،ونعطيم الجزية كما أعطيناهم.فقال:اعتزلوا فاعتزلوا.

وفرقة قالوا:انصاری،فأسلمنا فلم يعجبنا الإسلام،فرجعنا إلى النصرانية،فنحن عطيكم الجزية كما أعطاكم النصارى.فقال لهم:توبوا وارجعوا إلى الإسلام،فأبوا،

فقتل مقاتلتهم،وشبي ذراريهم،وقدم بهم على علی (علیه السلام).

كان الخريت بن راشد الناجي،أحد بني ناجية،قد شهد مع علي (علیه السلام) صفين، فجاء إلى علئ (علیه السلام)بعد انقضاء صفين،وبعد تحكيم الحكمين في ثلاثين من أصحابه،يمشي بينهم حتى قام بين يدي؟فقال:لا واللّٰه لا أطيع أمرك،ولا أصلي خلفك،وإني غدا المفارق لك.

فقال له (علیه السلام):ثكلتك أمك،إذن تنقض عهد،وتعصي ربك،ولا تشير إلا نفسك،

أخبرني لم تفعل ذلك؟

قال:لأنك حكمت في الكتاب، و ضعفت عن الحق إذ جد الجد،وركنت إلى القوم

الذين ظلموا أنفسهم.فأنا عليك راد،وعليهم ناقم،ولكم جميعا مباین.

فقال له (علیه السلام):ويحك!هل أدارسك وأناظرك في السنن،وأفاتحك أمورا من الحق أنا أعلم بها منك.فعلك تعرف ما أنت الآن له منكر،وتبصر ما أنت الآن عنه عم وبه جاهل.

ص: 347


1- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،ص86-100

قال:فإني غاد عليك غدا.

قال (علیه السلام):اغد،ولا يستهوينك الشيطان،ولا ينقحمن بك رأي السوء،ولا يستخقنك الجهلاء الذين لا يعلمون،فواللّٰه إن استرشدتني واستنصحتني وقبلت مني الأهديتك سبيل الرشاد.

فخرج الخريت من عندو منصرفا إلى أهله.

.....(يقول الراوي عبد اللّٰه بن قعين عن مجريات اليوم التالي)قال (علیه السلام) لي:

دعه فإن قبل الحق ورجع،عرفنا له ذلك،وقبلناه منه.

فقلت:یا أمير المؤمنين فلم لا تأخذه الآن،فتستوثق منه؟

فقال (علیه السلام):إنا لو فعلنا ذلك بكل من يتهم من الناس ملأنا السجون منهم،ولا أراني يسعني الوثوب بالناس والحبس لهم وعقوبتهم حتى يظهروا لي الخلاف.

(يقول ابن قعين)فسكت عنه وتنحیت فجلست مع أصحابي هنيئة،فقال:أدن مني.(يقول ابن قعين)فدنوث،فقال (علیه السلام) لي مسرا:إذهب إلى منزل الرجل فاعلم ما فعل،فانه قل يوم لم يكن يأتيني فيه قبل هذه الساعة.

فأتيت إلى منزله،فإذا ليس في منزلي منهم ديار،فرث على أبواب دور أخرى،كان

فيها طائفة من أصحابه،فإذا ليس فيها داع ولا مجيب.

فأقبل إلى أمير المؤمنین (علیه السلام)،فقال لي حين رآني:أوطنوا فأقاموا؟أم جبنوا فظعنوا.

فقلت:لا بل ظعنوا.

فقال (علیه السلام):أبعدهم اللّٰه كما بعدت ثمود. أما واللّٰه لو قد أشرعت لهم الأسنة وصبت على هامهم السيوف،لقد ندموا،إن الشيطان قد استهواهم وأضلهم،وهو غدة متبرئ منهم،ومتخل عنهم.

ما حدث بعد ذلك هو أن قرظة بن كعب الأنصاري-أحد عماله (علیه السلام)-كتب إليه يخبره بأن الخريت وأصحابه تعرضوا لمسلم فقتلوه،وتعرضوا لرجل من أهل الذمة فخلوا عنه.فأرسل (علیه السلام) رسالة إلى زياد بن خصفة يخبره فيها بأن الخريت وأصحابه قتلوا رجلا من أهل السواد مسلما مصليا،فإذا أنت لحقت بهم،فارددهم إلي،فإن أبوا فناجزهم،واستعن باللّٰه عليهم،فإنهم قد فارقوا الحق،وسفكوا الدم الحرام،وأخافوا الشبيل.

وبالفعل خاض زياد بن خصفة معارك ضارية ضد الخريت وأصحابه،وفر الخريت،

ص: 348

وأرسل الإمام علي (علیه السلام) معقل بن قيس ليلحق به،فواصل الخريت فراره إلى سيف من أسياف البحر،فكتب (علیه السلام) إلى معقل بأن يتبع آثارهم،ولا يزال يطلبهم حتى يقتلهم أو ينفيهم من أرض الإسلام.واستطاع الخريت أن يستقطب من جديد عددا كبيرا من بني ناجية.وعثر عليهم معقل،وأخرج راية أمان فنصبها، وقال:من أتاها من الناس فهو آمن إلا الخريت وأصحابه الذين نابذوا أول مرة.

وفي نهاية المطاف كانت الغلبة لمعقل بن قيس؛فمن كان مسلما خلاه وأخذ بيعته وخلى سبيل عياله،ومن كان ارتد عن الإسلام عرض عليه الرجوع إلى الإسلام أو لقتل ، فأسلموا، فخلى سبيلهم وسبيل عيالاتهم،وعمد إلى النصارى وعیالاتهم فاحتملهم معه.وجاء بالخريت فضرب عنقه.

قصة هروب مصقلة

ثم أقبل معقل بن قيس بالأساری-وهم خمسمائة إنسان-حتى مر على مصقلة بن هبيرة الشيباني،وهو أحد عمال علي (علیه السلام)،فبكى إليه النساء والصبيان، وتصايح الرجال:يا أبا الفضل،یا حاول الثقل،یا مؤوي الضعيف،وفكاك العصاة،امنن علينا،فاشترنا واعتقنا.

فقال مصقلة:أقسم باللّٰه لأتصدقن عليهم،إن اللّٰه يجزي المتصدقين.

ثم إن مصقلة بعث برسول إلى معقل،وعرض على معقل ألف ألف درهم،فابی عليه،فلم يزل يراوده حتی باعه إياهم بخمسمائة ألف درهم،ودفع معقل الأساری لمصقلة،وقال معقل لمصقلة:عجل بالمالي إلى أمير المؤمنین (علیه السلام)... وأقبل معقل إلى أمير المؤمنين فأخبره بما كان من الأمر،فقال له (علیه السلام):أحسن وأصبت و وفقت.

وانتظر الإمام علي (علیه السلام) مصقلة أن يبعث بالمال ، فأبطأ به،فكتب (علیه السلام) يذكره بالأمر،وطلب منه إما أن يسلم المال أو يقدم عليه.فجاء مصقلة إلى الكوفة، وأدى إليه مائتي ألف درهم،وعجز عن الباقي....وانتهى به الأمر أن هرب ولحق بمعاوية!!

عندئذ قال (علیه السلام):«قبح اللّٰه مصقلة،فعل فعل الشادة،وفر فرار العبيد!فما أنطق مادحه حتى أسكته،ولا صدق واصفه حتی بكته(=قرعه وعنفه)،ولو أقام لأخذنا میسوره،وانتظرنا بماله وفوره»(1) .

ص: 349


1- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(44)،ص85

معاناة الإمام علي (علیه السلام) مع جيشه

بعدما أوضحنا حالة الفلتان السياسي،ننتقل الآن إلى شرح حالة الفلتان العسكري،الذي اتضح إلى حد كبير عندما تحدثنا عن غارات معاوية وحالة الفلتان الأمني.

حالة الفلتان العسكري واضحة تماما في خطب الإمام علي (علیه السلام) في نهج البلاغة،التي تحكي عن معاناته مع جيشه،واستنفاده كل السبل والطرق لتحفيز الجيش واستنفاره لهم لقتال معاوية...لكن دون جدوى.خذ على سبيل المثال هذا المقطع من الخطبة التالية.

يقول (علیه السلام):«أف لكم،لقد سئمت عتابكم،أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضأ؟... إذا دعوتهم إلى جهاد عدوكم دارت أعينكم(اضطربت من الجزع)كانكم من الموت في غمرة(=شدة)،ومن الذهول في سكرة.يرتج(=يغلق)علیكم حواري(=المخاطبة ومراجعة الكلام)فتعمهون(=تصابون بعمى البصيرة والحيرة)،وكأن قلوبكم مألوسة (=مخلوطة بمس الجنون)،فأنتم لا تعقلون.ما أنتم لي بثقة سجيس(=مهما تقلبت) الليالي،وما أنتم بركن يمان بكم(=على العدو بقوتكم)،ولا زوافر(=عشيرة وأنصار)يفتقر إليكم.ما أنتم إلا كابي ضل رعاتها،فكلما جمعت من جانب انتشرت من آخر.لبئس-لعمر اللّٰه-سعر(=موقدو)نار الحرب أنتم!تكادون ولا تكیدون،وتنتقص أطرافكم فلا تمتعضون(=نغضبون).لا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون.....»(1) . طعنة الصديق الأخيرة

يتحدث المؤرخون عن طعنة تلقاها الإمام علي (علیه السلام) من أقرب أصحابه وأهله، تتمل في عملية اختلاس كبيرة من بيت المال،ينسبها بعضهم إلى«عبد اللّٰه بن عباس»(2) .إذا غضضنا النظر عن هوية المختلس الذي وجه هذه الطعنة للإمام علي (علیه السلام)،يمكن القول ان هذه الحادثة تمثل شاهدا على حالة الفلتان المالي الذي واجهه الإمام علي (علیه السلام) في المرحلة الأخيرة في فترة حكمه. أجواء الفلتان المالي تبرز عادة عندما يلمس بعضهم حالة من الفلتان الأمني والسياسي، فينتهز الفرصة.

ينقل لنا نهج البلاغة رسالة مهمة وخطيرة كتبها الإمام علي (علیه السلام) لأحد عماله، يقول

ص: 350


1- نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح،(34)،ص78-79
2- بشأن هذه الحادثة المؤلمة،أنظر:الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،ص108-109

له فيها:«أما بعد فإني كنت أشركتك في أمانتي، وجعلتك شعاري وبطانتي، ولم يكن رجل من أهلي أوثق منك في نفسي لمواساتي وموازرتي (2)، وأداء الأمانة إلي. فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلب(=اشتد)،والعدو قد حرب (=استأسد)،وأمانة الناس قد حزيت(=هانت)،وهذه الأمة قد فنكت وشغرت(=خلت من الخير)،قلبت لابن عمك ظهر المجن(=الترس،وظهر الترس يبرز للخصم لا للصديق،كناية عن الانقلاب المفاجئ في الموقف)ففارقته من المفارقين،وخذلته مع الخاذلين،وخنته مع الخائنين،فلا ابن عم آسيت،ولا الأمانة أديت.

وكأنك لم تكن اللّه تريد بجهادك وكأنك لم تكن على بينة من ربك. وكأنك إنما كنت تكيد هذه الأمة عن دنياهم وتنوي غرتهم عن فيئهم. فلما أمكنتك الشدة في خيانة الأمة أسرعت الكرة، وعاجلت الوثبة، واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم المصونة لأراملهم وأيتامهم اختطاف الذئب الأزل(=الخفيف الوركين سريع الوثبة) دامية المعزی الكبيرة،فحملته إلى الحجاز رحيب الصدر بجملو،غير متأثم من أخذه،كأنك-لا أبا الغيرك-حدرت إلى أهلك تراثك من أبيك وأمك.

فسبحان اللّه! أما تؤمن بالمعاد؟ أو ما تخاف نقاش الحساب ؟ أيها المعدود كان عندنا من ذوي الألباب كيف تسيغ شرابا وطعاما وأنت تعلم أنك تأكل حراما وتشرب حراما؟ وتبتاع الإماء وتنكح النساء من مال اليتامى والمساكين والمؤمنين والمجاهدين الذين أفاء اللّه عليهم هذه الأموال وأحرز بهم هذه البلاد.

فاتق اللّه واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فإنك إن لم تفعل ثم أمكنني اللّه منك لأعذرن إلى اللّه فيك ولأضربنك بسيفي الذي ما ضربت به أحدا إلا دخل النار. وواللّه لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة ولا ظفرا مني بإرادة حتى آخذ الحق منهما وأزيح الباطل من مظلمتهما.

وأقسم باللّه رب العالمين ما يسرني أن ما أخذت من أموالهم حلال لي (2) أتركه ميراثا لمن بعدي. فضح رويدا(=كلمة تقال لمن يؤمر بالتؤدة والأناة)، فكأنك قد بلغت المدى ودفنت تحت الثرى وعرضت عليك أعمالك بالمحل الذي ينادي الظالم فيه بالحسرة، ويتمنى المضيع الرجعة«ولات حین مناص»(1) (2) !

يقول ابن أبي الحديد:«وقد اختلف الناس في المكتوب إليه هذا الكتاب،فقال

ص: 351


1- سورة ص،الآية:3
2- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(41)،ص412-414

الأكثرون:إنه عبد اللّٰه بن العباس رحمة اللّه،ورووا في ذلك روايات،واستدلوا عليه بألفاظ من ألفاظ الكتاب... .وقد روى أرباب هذا القول أن عبد اللّٰه بن عباس كتب إلى علي (علیه السلام) جوابا من هذا الكتاب،قالوا:وكان جوابه:

أما بعد،قد أتاني كتابك،تعظم على ما أصبت من بيت مال البصرة،ولعمري إن

حقي في بيت المال أكثر مما أخذث،والسلام.

قالوا:فكتب إليه (علیه السلام):

أما بعد فإن من العجب أن تزين لك نفسك أن لك في بيت مال المسلمين من الحق أكثر مما لرجل واحد من المسلمين فقد أفلحت إن كان تمنيك الباطل و ادعاؤك ما لا يكون ينجيك من المأثم و يحل لك المحرم إنك لأنت المهتدي السعيد إذا و قد بلغني أنك اتخذت مكة وطنا و ضربت بها عطنا تشتري بها مولدات مكة و المدينة و الطائف تختارهن على عينك و تعطي فيهن مال غيرك فارجع هداك اللّه إلى رشدك و تب إلى اللّه ربك و أخرج إلى المسلمين من أموالهم فعما قليل تفارق من ألفت و تترك ما جمعت و تغيب في صدع من الأرض غير موسد و لا ممهد قد فارقت الأحباب و سكنت التراب و واجهت الحساب غنيا عما خلفت فقيرا إلى ما قدمت و السلام .

قالوا:فكتب إليه ابن عباس:

أما بعد،فإنك قد أكثرت علي،وواللّٰه لأني ألقى اللّٰه قد احتويت على كنز الأرض

كلها،وذهبها وعقيانها ولجينها،أحب إلي من أن ألقاه بدم امرئ مسلم.والسلام.

وقال آخرون،وهم الأقلون:هذا لم يكن،ولا فارق عبد اللّٰه بن عباس عليا (علیه السلام) ولا باينه ولا خالفه،ولم يزل أميرة على البصرة إلى أن قتل علي (علیه السلام).....وهذا عندي هو الأمثل والأصوب.

وقد قال الراوندي:المكتوب إليه هذا الكتاب هو عبيد اللّٰه بن العباس لا عبد اللّٰه، وليس ذلك بصحيح،فإن عبيد اللّٰه كان عامل علي (علیه السلام) على اليمن...ولم ينقل عنه أنه أخذ مالا،ولا فارق طاعة.

وقد أشكل علي أمر هذا الكتاب،إن أنا كذبت النقل وقلت:هذا كلام موضوع على أمير المؤمنين علي،خالفت الرواة،فإنهم قد أطبقوا على رواية هذا الكلام عنه، وقد كر في أكثر كتب السير.وإن صرفته إلى عبد اللّٰه بن عباس،صني عنه ما أعلمه من ملازمته الطاعة أمير المؤمنين علي في حياته وبعد وفاته.وإن صرفه إلى غيره،لم أعلم إلى من

ص: 352

أصرفه من أهل أمير المؤمنین (علیه السلام)،والكلام یشعر بان الرجل المخاطب من أهلي وبني عمو،فأنا في هذا الموضع من المتوقفين(1) .

وقد روى الكشي هذه المراسلات،وفيها أن المقصود هو عبد اللّٰه بن عباس، وكذلك روى الكليني رواية ضعيفة السند عن الإمام الباقر (علیه السلام) تشير إلى عدم استقامة عبد اللّٰه بن عباس.

وقد علق السيد الخوئي-قدس سره-على ما رواه الكشي بقوله:«هذه الرواية وما قبلها من طرق العامة،وولاء ابن عباس لأمير المؤمنین وملازمته له (علیه السلام) هو السبب الوحيد في وضع هذه الأخبار الكاذبة،وتوجيه الهم والطعون عليه،حتى أن معاوية...كان يلعنه بعد الصلاة مع لعن عليا والحسنين وقيس بن سعد بن عبادة والأشتر!كما عن الطبري وغيره.وأقل ما يقال فيهم أنهم صحابة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)فكيف كان يلعنهم ويأمر بلعنهم»؟!

كما علق-قدس سره-على رواية الكليني بعد تضعيفه لها بأن آثار الوضع عليها ظاهرة...ثم انتهي قدس سره إلى النتيجة التالية:«والمتحصل مما ذكرنا أن عبد اللّٰه بن عباس كان جلیل القدر مدافعا عن أمير المؤمنين والحسنین علیهم السلام،كما ذكره العلامة وابن داود»(2) .

ومن المترددين في كون الكتاب موجها لعبد اللّٰه بن عباس العلامة المجلسي صاحب كتاب بحار الأنوار،لاستبعادهم أن يكون وصل الحال بعبد اللّٰه بن العباس إلى الوضع الذي يجعله مخاطبا بهذه العبارات.

في المقابل،المحقق میرزا حبیب اللّٰه الخوئي قال:« و مما يوجب الاسف المحرق هذا الكتاب المخاطب به احد خواصه من بني عشيرته و الاكثر علي انه عبداللّه بن عباس، فالظاهر انه لما كتب (علیه السلام) اليه كتابه بعد مقتل محمد بن ابي بكر، و قد مر آنفا ايس ابن عباس من ادامه حكومته العادله و علم ان الحكومه و علم ان الحكومه تقع في يد اعدائه و اعداء بني هاشم و اقل ما ينتقمون منهم منعهم عن حقوقهم و ايقاعهم في ضيق المعاش و ضنك العيش فادخر من بيت مال البصره مقادير يظهر من كتابه (علیه السلام) انها كثيره تسع لا بتياع العقار في مكه و المدينه و الطائف و ابتياع العبيد و نكاح الازواج. و قد اثر عمله هذا في قلبه الشريف حيث يتوجه الي تامين معاش عشرات الالوف من الارامل و الايتام قتل

ص: 353


1- ابن أبي الحديد،شرح نهج البلاغة،مج8،ج16،ص99-101
2- السيد الخوئي،معجم رجال الحدیث، منشورات مدينة العلم في قم المقدسة،ط3،1403هج-1983م،بیروت،ج10،ص236-239

ازواجهن و آباوهم في معارك جمل و صفين و لا كفيل لهن في معاشهن...»(1).

وابن میثم البحراني أكد على أن القول بأن الكتاب لم يكن موجها لعبد اللّٰه بن عباس،والقول بأن الكتاب موجه إلى عبيد اللّٰه بن عباس،لا مستند لهما.أما الأول فهو مجرد استبعاد أن يفعل ابن عباس ما نسب إليه،ومعلوم أن ابن عباس لم يكن معصوما،وعليا (علیه السلام) لم يكن ليراقب في الحق أحدة ولو كان أعز أولاده كما تمثل بالحسن والحسين (علیه السلام) في ذلك،فكيف بابن عمه...وأما الثاني فإن عبيد اللّٰه كان عاملا له (علیه السلام) باليمن ولم ينقل عنه مثل ذلك(2).

السيد صادق الموسوي-مؤلف كتاب تمام نهج البلاغة-ذكر أيضا بأن هذا الكتاب

موجه إلى عبد اللّٰه بن عباس)(3).

واللّٰه أعلم.

معالجة الانهيار التميمي

كان على رأس أولويات الإمام علي (علیه السلام) معالجة الانهيار القيمي الذي أصاب الأمة،فغدر طلحة والزبير بعثمان بن حنیف قبل معركة الجمل،وغدر معاوية وعمرو قبل وأثناء وبعد معركة صفين،ثم غدر أصحابه (علیه السلام) وأقرب الناس إليه،لم یكن خارجا عن سياق هذا الانهيار القيمي الذي استشرى في نهاية ځكم عثمان، وصار يمارس عمليا،وهو أمر لم تألفه حتى العادات العربية الأصيلة،عندما كانوا يلزمون أنفسهم ببعض القيود في الحروب،وفي العلاقات فيما بينهم.

وسیبلغ الانهيار القيمي ذروته في كربلاء،عندما يصيح الإمام الحسين (علیه السلام):إن لم يكن لكم دين،وكنتم لا تخافون المعاد،فكونوا أحرارة في دنياكم إن كنم با كما تزعمون.

لقد استشرت ظاهرة الغدر بشكل غير مسبوق،وفي ذلك يقول (علیه السلام):«أيها الناس،

إن الوفاء توأم الصدق(=يولد معه في حمل واحد)...ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كیسا(=فطنة وذكاء وشطارة)....قاتلهم اللّٰه،قد يرى الممول القلب(=

ص: 354


1- العلامة حبيب اللّه الخوئي، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، دار إحياء التراث العربي، ط1، 1424هج - 2003م، بیروت، ج 20، ص 70 - 71.
2- ابن میثمالبحراني، شرح نهج البلاغة، مكتبة نخراوي، ط1، 428 اهج - 2007م، المنامة، ج5، ص 867.
3- السيد صادق الموسوي، تمام نهج البلاغة، ج7، ص 71.

البصير بتحول الأمور وتقلبها)وجه الحيلة ودونها مانع من أمر اللّٰه ونهيه،فیدعها رأي عين بعد القدرة عليها،وينتهز فرصتها من لا خريجة(=من لا تحرز وتحرج من الإثم)له في الدين»(1).

عندها بدأ ينظر الناس إلى معاوية بوصفة أدهى من الإمام علي (علیه السلام)،لذا تجده (علیه السلام) يقول:«واللّٰه ما معاوية بأدهی متي،ولكنه يغدر ويفجر،ولولا كراهية الغدر لكن أدهى الناس.ولكن كل غدرة فجرة،وكل جرة كفرة،«ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة»واللّٰه ما أستغفل بالمكيدة،ولا أستغمر بالشديدة(=لا يستضعفني شديد القوة)»(2)

مسلسل الخيانات وظاهرة الهروب والالتحاق بمعاوية

وعندما بلغ الإمام علي (علیه السلام) أن المنذر بن الجارود العبدي قد خان في بعض ما ولاه من أعماله، كتب له يقول:«أما بعد،فإن صلاح أبيك غرني منك،وظننت أنك تبع هديه،وتستك سبيله...ولئن كان ما بلغني عنك حقا،لجمل أهلك وشسع نعليك خير منك،ومن كان بصفتك فليس بأهل أن يسد به ثغر،أو ينفذ به أمر،أو یعلى له قدر،أو يشرك في أمانة،أو يؤمن على جباية،فأقبل إلى حين يصل إليك كتابي هذا،إن شاء اللّٰه»(3).

أقول:بالمناسبة،المنذر بن الجارود العبدي سيكرر خيانته مع الإمام الحسين (علیه السلام)، عندما يرسل الإمام الحسين (علیه السلام) للمنذر رسالة خاصة-مع مولاه سليمان أبو(أو ابن)زین-بوصفه أحد رؤساء الأخماس في البصرة،فيقوم المنذر بإطلاع عبيد اللّٰه بن زياد-والي يزيد على البصرة آنذاك-على هذه الرسالة،وتسليم رسول الإمام الحسين (علیه السلام) له،وتكون النتيجة أن يقتل سليمان-مولى الحسين (علیه السلام)-صبرا وينال الشهادة،ليصبح أول شهيد في الحركة الحسينية،قبل أن يصل الإمام الحسين (علیه السلام) وأصحابه وأهل بيته إلى كربلاء

نعود إلى الإمام علي (علیه السلام).....

عندما اعتقد الناس أن الدنيا قد فتحت ذراعيها لمعاوية،فمن أراد الدنيا ومتاعها فعليه الالتحاق بركبه،كان الإمام علي (علیه السلام) يقول:«حتى يظن الظان أن الدنيا معقولة على بني أمية(=مقصورة عليهم،مسرة لهم،كأنهم شدوها بعقال كالئاقة)،تمنحهم

ص: 355


1- نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح، (41)، ص 83.
2- المصدر السابق، (200)، ص318.
3- المصدر السابق، (71)، ص 461 -462.

درها(=لبنها)،وتورهم صفوها،ولا يرفع عن هذه الأمة سوطها ولا سيقها،وكذب الظان لذلك.بل هي مجة(=شربة سرعان ما يرمي بها الإنسان) من لذيذ العيش، يتطعمونها برهة،ثم يلفظونها جملة».

وعندما بلغ الإمام علي (علیه السلام) أين رجالا من أنصاره في المدينة يتسللون إلى معاوية،كتب العامله سهل بن حنیف-الذي توفي قبل شهادته (علیه السلام)-يقول:«أما بعد، فقد بلغني أن رجالا ممن قبلك يتسللون إلى معاوية، فلا تأسف على ما يفوتك من عددهم، ويذهب عنك من مددهم، فكفى لهم غيا، ولك منهم شافيا فرارهم من الهدى والحق، وإيضاعهم إلى العمى والجهل، فإنما هم أهل دنيا مقبلون عليها، ومهطعون إليها، قد عرفوا العدل ورأوه، وسمعوه ووعوه، وعلموا أن الناس عندنا في الحق أسوة، فهربوا إلى الأثرة، فبعدا لهم وسحقا....».

وسنرى أن مسلسل الخيانات وظاهرة التسلل إلى معسكر معاوية ستستفحل بعد

شهادته (علیه السلام)،وتجعل الأوضاع بالغة التعقيد على الإمام الحسن (علیه السلام)..

معاناةالإمام علي (علیه السلام) واستشرافه المستقبل

على ضوء سلسلة الأحداث الأخيرة التي وقعت،والتي ظهرت كتداعيات لحرب صفين،بدأ الإمام علي (علیه السلام) في أيامه الأخيرة يستشرف مستقبل الأمة،ويخبر أصحابه بما ستؤول إليه الأمور.

كان (علیه السلام) يحذر من بني أمية وطغيانها،ويقول:«واللّه لا يزالون حتى لا يدعوا لله محرما إلا استحلوه، ولا عقدا إلا حلوه، وحتى لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا دخله ظلمهم وحتى يقوم الباكيان يبكيان: باك يبكي لدينه وباك يبكي لدنياه، وحتى تكون نصرة أحدكم من أحدهم كنصرة العبد من سيده...»

وفي السياق ذاته يقول (علیه السلام):«فعند ذلك لا يبقى بيت مدر ولا وبر(=كناية عن أهل الحضر والبادية)إلا وأدخله الظلمة ترحة(=حزنا)،وأولجوا فيه نقمة،فيومئذ لا يبقى لهم في السماء عاذر،ولا في الأرض ناصر.أصفيتم بالأمر غير أهله،وأوردتموه غير موردو،وسينتقم اللّٰه ممن ظلم،مأكلا بمأكل،ومشرب بمشرب،من مطاعم العلقم،

ص: 356

ومشارب الصبر(=عصارة شجرة مر)والمنير(=سم)،ولباس شعار الخوف،ودثار السيف(=يعني استباحة الدماء بالهوى)،وإنما هم مطايا الخطيئات وزوامل(=جمع زاملة وهي ما يحمل عليها الطعام من الإبل)الآثام.فأقسم ثم أقسم،لتنخمنها أمية من بعدي كما تلفظ النخامة،ثم لا تذوقها ولا تطعم بطعمها أبدا ما كر الجديدان(=الليل والنهار)»(1) .

وقال (علیه السلام) في موضع:«يأتي على الناس زمان لا يبقى فيهم من القرآن إلّا رسمه ، ومن الإسلام إلّا اسمه ، ومساجدهم يومئذٍ عامرة من البناء، خراب من الهدى ، سكّانها وعمّارها شرّ أهل الأرض ، منهم تخرج الفتنة وإليهم تأوي الخطيئة ، يردّون مَن شذّ عنها فيها. ويسوقون من تأخّر عنها إليها، يقول اللّه سبحانه : فبي حلفتُ ، لأبعثنّ على اُولئك فتنةً تترك الحليم فيها حَيران ، وقد فعل ، ونحن نستقيل اللّه عثرة الغفلة»(2) .

شهادة أمير المؤمنین (علیه السلام)(40هج)

بعدما انتهى الإمام علي (علیه السلام) من حرب النهروان،قال أصحابه:«يا أمير المؤمنين،نفدت نبالنا،وكلت سيوفنا،ونصلت أسيئة رماحنا،وعاد أكثرها قصدا، فارجع لى مصرنا (=الكوفة)،فلنستعد بأحسن عدتنا.....

فأقبل (علیه السلام) حتى نزل النخيلة،فأمر الناس أن يلزموا عسكرهم ويوطنوا على الجهاد أنفسهم وأن يقلوا زيارة نسائهم وأبنائهم حتى يسيروا إلى عدوهم، فأقاموا أياما ثم تسللوا من معسكرهم فدخلوا إلا رجالا من وجوه الناس قليلا، وترك العسكر خاليا،فلما رأي (علیه السلام)

ذلك دخل الكوفة،وانكسر عليه رأيه في المسير.

في أواخر حياته (علیه السلام)،عندما جمع الناس وحضهم على الجهاد،سكتوا مليا،فقال (علیه السلام):«ما بالكم؟لا شيدتم لرشد،ولا هديتم لقصد،أفي مثل هذا ينبغي لي أن أخرج؟»(3) .

وفي خطبة له (علیه السلام) يقول لهم:«اما والذي نفسي بيده ليظهرن هؤلاء القوم عليكم ليس لانهم اولي بالحق منكم و لكن لاسراعهم الي باطل صاحبهم و ابطائكم عن حقي.....صاحبكم يطيع اللّٰه وأنتم تعطونه،وصاحب أهل الشام يعصي اللّٰه وهم

ص: 357


1- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(158)،ص223-224
2- المصدر السابق،(369)،ص540
3- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،ص67

يطيعونه،لوددت واللّٰه أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم،فأخذ مني عشرة منكم،وأعطاني رجلا منهم...يا أشباه الإبل غاب عنها رعاتها،كلما جمعت من جانب تفرقت من آخر..»(1) .

هذا الظلم جعله في أواخر عمره يشعر بغربة شديدة،فبدأ يستذكر أصحابه الخلص،الذين بدأوا معه الطريق،وتساقطوا شهداء أثناء المسيرة،فقال قبل استشهاده بأسبوع تقريبا:«أيها الناس، إني قد بثثت لكم المواعظ التي وعظ بها الأنبياء أممهم، وأديت إليكم ما أدت الأوصياء إلى من بعدهم، وأدبتكم بسوطي فلم تستقيموا، وحدوتكم بالزواجر فلم تستوسقوا.

لله أنتم! أتتوقعون إماما غيري يطأ بكم الطريق، ويرشدكم السبيل؟؟...أين إخواني الذين ركبوا الطريق،ومضوا على الحق؟أين عمار؟وأين ابن التيهان؟وأين ذو الشهادتين؟وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنية،وأبرد برؤوسهم إلى الفجرة».

ثم ضرب بيده على لحيته الكريمة،فأطال البكاء،ثم قال:«أوه على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه،وتدبروا الفرض فأقاموه،أحيوا السنة،وأماتوا البدعة،دعوا للجهاد فأجابوا،ووثقوا بالقائد فاتبعوه».ثم نادى بأعلى صوته:«الجهاد الجهاد عباد اللّٰه،ألا وإني معسكر في يومي هذا،فمن أراد الرواح إلى اللّٰه فليخرج»(2) .

وخرج من خرج من الناس إلى معسكراتهم في النخيلة استعدادا للقتال ومنتظرين انسلاخ شهر رمضان المبارك من سنة أربعين لهجرة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وعقد اللحسين (علیه السلام) في عشرة آلاف،ولقيس بن سعد في عشرة آلاف،ولأبي أيوب الأنصاري في عشرة آلاف،ولغيرهم على أعداد أخر. وبقي الإمام علي (علیه السلام) في الكوفة ينتظر انسلاخ الشهر المبارك،فما دارت الجمعة حتى وقعت الفاجعة عندما ضرب أشقى الأولين والآخرين عليا (علیه السلام)

بالسيف على رأس الشريف في 19 من شهر رمضان.

قال (علیه السلام) في سحرة اليوم الذي ضرب فيه:«ملكتني عيني وأنا جالس،فسنح لي رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،فقلت:يا رسول اللّٰه،ماذا لقيت من أمتك من لأود (=لاعوجاج) واللدد (=الخصام)؟فقال:ادع عليهم،فقلت:أبدلني اللّٰه بهم خيرا منهم،وأبدلهم بي شرا لهم مني»(3) .

ص: 358


1- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،رقم(97)،ص141-142
2- المصدر السابق،رقم(182)،ص263-264
3- المصدر السابق،(70)،ص99

وعندما قام إليه في يوم ما رجل فقال:يا أمير المؤمنين،أخبرنا عن الفتنة،وهل سألت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) عنها؟

فأجاب (علیه السلام):«إنه لما أنزل اللّٰه سبحانه،قوله:««أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ»(1) ،علمت أن الفتنة لا تنزل بنا ورسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بين أظهرنا.

فقلت:يا رسول اللّٰه،ما هذه الفتنة التي أخبر اللّٰه تعالی بها؟

فقال:يا علي،إن أمتي سيفتنون من بعدي.

فقلت:يا رسول اللّٰه،أوليس قد قلت لي يوم أحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين،وحيزت عني الشهادة،فشق ذلك علي،فقلت لي:أبشر،فإن الشهادة من ورائك؟

فقال لي:إن ذلك لكذلك،فكيف صبرك إذن؟

فقل:یا رسول اللّٰه،ليس هذا من مواطني الصبر،ولكن من مواطني البشری والشكر.

وقال لي:یا علی ان القوم سیفتنون باموالهم و یمنون بدینهم علی ربهم و یتمنون رحمته و یأمنون سطوته و یستحلون حرامه بالشبهات الكاذبة و الاهواء الساهیة فیستحلون الخمر بالنبیذ و السحت بالهدیة و الربا بالبیع.

قلت: یا رسول اللَّه! بأی المنازل انزلهم عند ذلك؟ أ بمنزلة ردّةام بمنزلة فتنة؟

فقال: بمنزلة فتنة»(2) .

وروى الحاكم في مستدركه عن أنس بن مالك قال:«دخلت مع النبي (صلی اللّه علیه واله) علي بن أبي طالب يعوده وهو مريض،وعنده أبو بكر وعمررضی اللّه عنهما،فتحولا حتى جلس رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،فقال أحدهما لصاحبه:ما أراه إلا هالك(=أي سيموت من شدة المرض)، فقال رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):إنه لن يموت إلا مقتولا،ولن يموت حتى ملا غيظا»(3) .

وروى أيضا عن الإمام علي (علیه السلام):إن مما عهد لي النبي (صلی اللّه علیه واله)أن الأمة ستغير بي بعده(4) .

ص: 359


1- سورة العنكبوت،الآية:2
2- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(156)،ص220
3- الحاكم النيسابوري،المستدرك على الصحيحين،ج3،كتاب معرفة الصحابة،ح4673،ص170
4- المصدر السابق،ح4676،ص171

آخر كلمات الإمام علي (علیه السلام) بعد ضربة ابن ملجم

وعلى فراش الشهادة،قال (علیه السلام) وصاياه الأخيرة:«وصيتي لكم:أن لا تشركوا باللّٰه شيئا،ومحمد (صلی اللّه علیه واله)فلا تضيعوا سنته.أقيموا هذين العمودين، وأوقدوا هذين المصباحين،وخلاكم ذم.

أنا بالأمس صابكم،واليوم عبرة لكم،وغدا مفارقكم.إن أبق فأنا ولي دمي،وإن أفن فالفناء ميعادي،وإن أعف فالعفو لي ربة،وهو لكم حسنة،فاعفوا «أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ»(1) ؟!

واللّٰه ما فجاني من الموت وارد كرهته،ولا طالع أنكرته،وما كن إلا كقارب ورد،وطالب وجد،وما عند اللّٰه خير للأبرار»(2) .

وقال (علیه السلام):يا بني عبد المطلب،لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضأ،تقولون:

«قتل أمير المؤمنین»،ألا لا تقئ بي إلا قاتلي.انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه، فاضربوه ضربة بضربة،ولا تمثلوا بالرجل،فإني سمعت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)يقول:وإياكم والمثلة ولو بالكلب العقور»(3) .

خاتمة:الإمام علي (علیه السلام) مع قاتله

أختم هذا الفصل،ببعض ما ذكره المؤرخون حول طريقة تعاطي الإمام علي (علیه السلام) مع قاتله.تحدث ابن الأعثم في فتوحه عما جرى بعد أن ضرب عبد الرحمن بن ملجم المرادي عليا (علیه السلام) بالشيف على رأسه فكتب:«...حتى أقعدوه(أقعد المصلون عبد الرحمن بن ملجم)بين يدي علي،فقال له:أخا مراد،بئس الأمير كنت لك؟

قال:لا يا أمير المؤمنين.

قال:ويحك ما حملك على أن فعلت ما فعلت؟....

فسكت المرادي ولم يقل شيئا.

فقال علي (علیه السلام):«وكان أمر اللّٰه قدرا مقدوراً....»(4) .

ص: 360


1- سورة النور،الآية:22
2- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(23)،ص378-379
3- المصدر السابق،(47)،ص421-422
4- سورة الأحزاب،الآية:38

ثم أمر به علي (علیه السلام) إلى السجن،وقال:احبسوه فنعم العوث معنا كان لنا على عدونا.....

قال:فكان علي رضی اللّه عنه يتفقده،ويقول لمن في منزله:«أرسلتم إلى أسير كم

طعاما؟».

حتى أنه أوصى الحسن والحسين (علیهم السلام):«انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه، فاضربوه ضربة بضربة،ولا يمثل بالرجل،فإني سمعت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)يقول«إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور».

ننتهي من رحلتنا هذه إلى أن عليا (علیه السلام) لم يدخر جهدا في سبيل تفادي الحروب الثلاث التي خاضها(الجمل،صفین،النهروان).لم يترك (علیه السلام) وسيلة إلا استنفدها،ولم يترك بابا للسلم إلا طرقه:أرسل بكثافة الرسائل الكتبية، والرسائل الشفوية،والوفود،مذكرة الجميع بالحقائق وباللّٰه سبحانه وتعالى، ومحذرا من البغي والانسياق خلف الدنيا،كما حاول في كثير من الأحيان إعادة الخصوم إلى الحق بالحوار المباشر.نجح (علیه السلام) في محاولاته هذه بكسب أفراد وجماعات لصفه،أو نجح في تحييدهم على الأقل:ففي الجمل استطاع مثلا تحييد الزبير،وفي صفين استطاع أن يكسب أفرادا عندما كانت حجب التضليل ترتفع عن بصائرهم،وفي حروراء والنهروان استطاع إعادة ثمانية آلاف مقاتل إلى جادة الصواب،وهو ما تقدر نسبه بثلثي جيش الخوارج.....وهو نجاح-بحسب الإمكانات الإعلامية المتاحة آنذاك-منقطع النظير،بل مذهل أيضا.

النر الآن،كيف سيكون الحال مع الإمام الحسن (علیه السلام)؟وكم سیكوث العبء ثقيلا

عليه؟

ص: 361

(22)ظروف تولي الإمام الحسن (علیه السلام) الشلطة

نحن الآن على أعتاب مرحلة جديدة،هذه المرحلة-التي تبدأ مع صلح الإمام

الحسن (علیه السلام)-تختلف عن المراحل السابقة في نواح كثيرة.وستتضح أوجه الاختلاف عندما ندرس-على ضوء ما تقدم-الظروف والملابسات التي أدت بالإمام الحسن (علیه السلام) إلى عقد الصلح مع معاوية،ثم ندرس في فصول لاحقة السياسة العامة المعاوية في فترة حكوير،والأحداث المهمة والخطيرة التي جرت بعد صلح الإمام الحسن (علیه السلام) حتى موت معاوية،ولعل من أهمها محاولات معاوية الدؤوبة لتوريثالشلطة ليزيد.

تولي الإمام الحسن (علیه السلام) السلطة(40-41 هج)

تولى الإمام الحسن (علیه السلام) السلطة بعد شهادة الإمام علي (علیه السلام) لمدة قصيرة،تقدر بثمانية أشهر وعشرة أيام بين(40-41هج).حتى نعرف ما جرى خلال هذه المدة لا بد أن ندرس ظروف توليه (علیه السلام) السلطة.

سنتحدث في هذا الفصل عن ظروف تولي الإمام الحسن (علیه السلام) السلطة، والمحاولة التي قام بها (علیه السلام) لعلاج الشك الذي انتاب العراقيين في نیات القيادة، ونتساءل عن سبب عدم استعجال الإمام الحسن (علیه السلام) الحرب ضد معاوية،ثم ندرس أسباب تنامي الشك في نبات القيادة بعد شهادة الإمام علي (علیه السلام)، لننتهي إلى النتيجة التي انتهى إليها الإمام الحسن (علیه السلام)،والتي تتمثل بضرورة قبول الصلح كأفضل خيار في تلك الظروف.

لسان حال كل طرف

رأينا فيما مضى،أن متاعب الإمام علي (علیه السلام) الحقيقية مع أصحابه بدأت في حرب صفين.وما جرى بعد ذلك من أحداث،يمكن النظر إليها على أنها تداعيات لهذه الحرب.

كان لسان حال معاوية قبل الحكيم يقول لجيش علي (علیه السلام):تعالوا لنحتكم إلى

ص: 362

كتاب اللّٰه تعالى.وبعد الحكيم كان لسان حاله يقول:إن عليا قبل الدخول في لعبة،لكن انظروا،لما جاءت النتيجة لغير مصلحته،قلب الطاولة علي،لم يلتزم قواعد اللعبة،وقرر استئناف الحرب على.

قبل التحكيم،كان لسان حال الذين تمردوا من جيش علي (علیه السلام) وخرجوا عليه يقول:لتقبل العرض الذي قدمه معاوية.إنه يريدنا أن نحتكم لكتاب اللّٰه،وهل يمكن المسلم أن يرفض الاحتكام لكتاب اللّٰه؟!وبعد وقف الحرب،كان لسان حالهم:لقد خدعنا معاوية عندما رفع المصاحف وطالب بالاحتكام إلى كتاب اللّٰه،وانطلت علينا الحيلة حين قبلنا التحكيم،وها نحن الآن قد استوعبنا الدرس جيدا،وفهمنا اللعبة القذرة.إذن على علي (علیه السلام) أن يتوب إلى اللّٰه وينقض الهدنة،ويعود للحرب قبل أن تظهر نتائج الحكيم وقبل انقضاء المهلة،لأن الهدنة غير مشروعة أصلا.

كان الإمام علي (علیه السلام) يرد عليهم بلسان الحال:أنتم الذين ألجأتموني إلى قبول التحكيم،عندما مارستم علئ كل أنواع الضغوط لوقف الحرب،وكنت حينها أحذركم مرارا وتكرارا بأنها مجرد خدعة،لكنكم لم تصدقوني،إلى درجة أنكم هددتموني بالقتل إن لم أقبل وقف الحرب،فأوقف الحرب مكرهة.لكن الآن بعد أن قبلنا التحكيم،لا يمني العودة إلى ساحة المعركة من جديد-كما تريدون-إلا بعد أن تظهر نتائج التحكيم،لأن العودة إلى المعركة قبل ظهور نتائج التحكيم تكون نقضة للهدنة،وهو أمر لا يمكن أن أقوم به.

وعندما ظهرت نتائج التحكيم،كان لسان حالهم:على علي (علیه السلام) أن يتوب إلى اللّٰه تعالى لأنه قبل أصلا التحكيم،وإن لم يتب فهو-والعياذ باللّٰه-كافر تجب محاربته، تماما كما تجب محاربة معاوية،لأنهما في النهاية هما سبب المأساة!

وكان الإمام علي (علیه السلام) يرد عليهم:لقد وضعنا للحكمين ضوابط معينة،وصلاحيات محددة،أهمها الالتزام بكتاب اللّٰه سبحانه.ولأنهما تجاوزا تلك الضوابط والصلاحيات،ولم يلتزما قواعد اللعبة، فنتيجة التحكيم غير ملزمة أصلا.تعالوا لنعود الآن إلى حرب معاوية،لأننا أصبحنا في جل بعد أن تجاوز الحكمان صلاحياتهما، ولنهئ أنفسنا جيدا إلى حين انقضاء المهلة،ثم نستأنف حربنا ضد معاوية من جديد..

وكان جواب الخوارج:لا نعود للحرب معك حتى تتوب إلى اللّٰه تعالى.وكان رد الإمام علي (علیه السلام):أنا عندما قبلت وقف الحرب كنت مكرها،ولم أذنب حتى أتوب إلى اللّٰه تعالی.

وإذا أردنا تحليل الموقف النفسي لجيش علي (علیه السلام) من الداخل،يمكن القول إن

ص: 363

أسوأ لحظات حرب صفين كانت عندما بدأ جيش على (علیه السلام) يشك شكا واسع النطاق،بأن المعركة بين الإمام علي (علیه السلام) ومعاوية هي بالفعل معركة رسالية(1)

فالعراقيون-من أصحاب علي (علیه السلام)-قدموا من التضحیات شیئاً كثیراً بذلوا اموالهم ونفوسهم ودماءهم فی حروب ثلاثه، آلاف من العراقیین ماتوا وقتلوا، عشرات من الاطفال یتموا آلاف من النساء اصبحن ارامل، آلاف من البیوت والعوائل تهدمت، كثیر من المدن والقرى غارت علیها جیوش معاویه، كثیر من هذه المآسی والویلات حلَّت بهؤلاء المسلمین، نتیجه ماذا ولأجل ماذا(2)؟...حتى ينتهي الأمر لأحد القرشيين:علي أو معاويه...على هذا النحو صاروا يفكرون.

كان جيش علي (علیه السلام) في حال تفك،كلما حاول أن يجمعهم تفرقوا.وكلما حاول أن يوحد كلمتهم تشتتوا.وهو يعرف أن بإمكانه-بطريقة ما-أن يعيد للجيش وحدته،لكن الثمن الذي سيدفع لا يمكن لشخص مثل الإمام علي (علیه السلام) أن يدفعه..إنه الانحراف عن الجادة، والسير في الشبل الملتوبة.وبالتالي ظروف الجيش الذي تركه الإمام علي (علیه السلام) للحسن (علیه السلام) كانت بالغة التعقيد،والدقة ومحيرة لعلي (علیه السلام) نفسه.

ويمكن التعبير عن تلك الظروف بعبارة موجزة للإمام الحسن (علیه السلام) ذكرها لجيش في

المدائن حين خطبهم قائلا:

«...كنتم في مسیر كم(إلى صفین)دینكم أمام دنیائم،فأصبحتم اليوم دنیا كم أمام دینكم... .أصبحتم بين قتيلين:قتيل بصفين تبكون له،وقتيل بالنهروان تطلبون منا ثاره،والباكي خاذل،والباقي ثائر.الا وإن معاوية دعانا إلى أمر ليس فيه عز ولا نصفة،فإن أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه إلى اللّٰه عزوجل بظباء السيوف،وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضا.فناداه القوم من كل جانب:البقية البقية(3).

هذا النص،يؤكد أن جيش علي (علیه السلام) انقسم إلى قسمين،بال على ما جرى في صفين،وناقم على ما جرى في النهروان.القسم الأول الناقم في حال ثورة وتمرد ورفض وعدم انضباط وغير منصاع للأوامر،وربما متجاسر ومتطاول على مقام الإمام علي (علیه السلام)،ثم من بعده متجاسر ومتطاول على مقام الإمام الحسن (علیه السلام). هذا القسم

ص: 364


1- محمد باقر الصدر، أئمة أهل البيت (علیهم السلام) ، ص 159.
2- المصدر السابق ، ص 163 - 165.
3- ابن الأثير، اسد الغابة، ج 2، ص 13، أيضا ابن طاووس، الملاحم والفتن، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط5، 1398هج - 1978م، بیروت، ص 192، باختلاف يسير بين المصدرين .

يتساءل متعجبا:كيف يجرؤ على (علیه السلام) في النهروان على قتل أصحاب الأمس الذين قاتلوا معه في صفين؟كيف يجرؤ على قتل قراء القرآن ذوي الجباء الشود؟

ويتناسى هؤلاء أن عليا (علیه السلام) لم ينعطف إلى الجبهة الداخلية إلا بعد أن أخل هؤلاء الخوارج بالأمن،فخشي أن تخرج العراق من خلفه عن سيطرته،وهو يواجه معاوية في الشام.الكثير من هؤلاء ظلوا في جيش علي (علیه السلام)،خوفا من عواقب خروجهم عليه،لكن قلوبهم كانت متعاطفة مع الخوارج...وبعضهم سيتحولون إلى قتلة للحسين (علیه السلام).

القسم الثاني بال على ما جرى في صفين،وغارق في شكوكه في نبات الإمام علي (علیه السلام) ومن بعده الإمام الحسن (علیه السلام)،لم يفق بعد من هول الصدمة،صدمة خسائر صفين،ثم النهاية التي انتهت إليها،من تحكيم،ثم حيلة انطلت على أبي موسى الأشعري...هذا الباكي يتفهم موقف الإمام علي (علیه السلام) من الخوارج، لكن يشعر بخيبة الأمل واليأس وعدم جدوى مواصلة الجهاد ضد معاوية، وبالتالي فهو خاذل لعلي (علیه السلام) ومن بعده للحسن (علیه السلام).

وفات هؤلاء أن أخطر وأهم سلاح في الصراع العسكري هو المعنويات،فإن انهارت المعنويات انهار الجيش،وإن كانت المعنويات مرتفعة استطاع الجيش تحقيق الكثير من الفتوحات والمعجزات.وفاتهم أن أكبر خطأ ارتكب في صفين هو عدم الالتزام بأوامر القائد(وهو ذاته سبب خسارة المسلمين في معركة أحد)، وأنهم لو تداركوا هذا الخطأ،والتفوا من جديد حول الإمام علي (علیه السلام)،ومن بعده الإمام الحسن (علیه السلام)،فإنه كان بمقدورهم تحقيق انجازات وفتوحات كبيرة.....كثير من هؤلاء سيتحولون إلى أدوات بيد قتلة الإمام الحسين (علیه السلام)،يساقون إلى كربلاء كالقطيع الذي لا حول له ولا قوة ليشهد بأم عينيه أكبر فاجعة في تاريخ المسلمين.

محاولة الإمام الحسن علي معالجة الشك في أول خطبة له

يقول المدائني:لما توفي علي (علیه السلام) خرج عبد اللّٰه بن العباس(1) إلى الناس،فقال: إن أمير المؤمنين (علیه السلام) توفي،وقد ترك خلفة،فإن أحببتم خرج إليكم،وإن كرهم فلا أحد

ص: 365


1- يوجد هنا كلام في أن المقصود هل هو عبيد اللّٰه بن العباس أم عبد اللّٰه بن العباس؟إن كان المقصود هو عبيد اللّٰه بن العباس،فما يوجد في بعض المصادر يكون تصحيفة،وإن كان المقصود هو عبد اللّٰهابن العباس بالفعل،فقد يقال بأن الأخير كان في الحجاز إن صح الكلام بأنه اختلس من بيت المال في أواخر حياة علي (علیه السلام).على أي حال لو كان المقصود هو عبد اللّٰه بن العباس،فهذا يضعف احتمال صحة ما قيل بشأن عبد اللّٰه بن عباس واختلاسه من بيت المال وذهابه إلى الحجاز في هذه المرحلة

على أحد،فبكى الناس وقالوا:بل يخرج إلينا،فخرج الحسين (علیه السلام) فخطبهم(1) ....

أقول:لاحظ كيف يعرض عبد اللّٰه بن عباس الإمام الحسن (علیه السلام) على الجماهير: «وقد ترك(علي)خلفة،فإن أحببثم خرج إليكم،وإن كرهتم فلا أحد على أحد».هذا النحو من العرض يكشف كم استخفت الجماهير بمقام الإمام علي (علیه السلام) فكيف الحال بمقام الإمام الحسن (علیه السلام) في نظرهم؟

وروي عن أبي مخنف قوله:«خطب الحسن بن علي عليهما السلام خطب في صبيحة الليلة التي قبض فيها أمير المؤمنين علي عليه السلام فحمد اللّه وأثنى عليه وصلى على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ثم قال: لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون ولم يدركه الآخرون لقد كان يجاهد مع رسول اللّه فيقيه بنفسه وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يوجهه برايته فيكتنفه جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله، فلا يرجع حتى يفتح اللّه على يديه، ولقد توفي في الليلة التي عرج فيها بعيسى ابن مريم، وفيها قبض يوشع بن نون على نبينا وآله وعليه السلام، وما خلف صفراء ولا بيضاء(2) إلا سبعمأة درهم فضلت عن عطائه وأراد أن يبتاع بها خادما لأهله، ثم خنقه البكاء فبكى وبكى الناس معه.

الإمام الحسن (علیه السلام) يريد من عباراته السابقة أن يكشف النقاب للجماهير عن أن عليا (علیه السلام) كان مسددا من السماء،وهو أكبر بكثير من أن يشك في نياته،وأكبر بكثير من أن يخوض حربا لمصلحة شخصية.

وأراد بعد ذلك أن يقول لتلك الجماهير باني امتداد لهذه المسيرة،وأن الحرب التي ساخوضها هي أيضا حرب رسالية تتجاوز المصالح الشخصية.فقال (علیه السلام):«أنا ابن البشير،أنا ابن النذير،أنا ابن الداعي إلى اللّٰه بإذنه،أنا ابن السراج المنير،أنا من أهل بيت أذهب اللّٰه عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا،أنا من أهل بيت افترض اللّٰه بهم في كتابه فقال:«قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا»(3)

فالحسنه موتنا أهل البيت».

ثم جلس،فقام عبد اللّٰه بن عباس بين يديه فقال:معاشر الناس،هذا ابن نبيكم ووصي إمامكم فبايعوه.فاستجاب له الناس وقالوا:ما أحبه إلينا وأوجب حقه علينا!وتبادروا إلى البيعة له بالخلافة(4) .

ص: 366


1- ابن أبي الحديد،شرح نهج البلاغة،ج16،ص13
2- كناية عن الذهب والفضة
3- سورة الشورى،الآية:23
4- المفید،الارشاد،ج1،ص7-8

لاحظ أن عبد اللّٰه بن عباس يقترح على الجماهير مبايعة الإمام الحسن (علیه السلام)، ويضع اسم الإمام الحسن (علیه السلام) في أفواهها.أما الجماهير نفسها فلم تمانع،لا لأنها تؤمن بأن الإمام الحسن (علیه السلام) هو الوصي والإمام بعد علي (علیه السلام)،بل لأنها لم تجد شخصا يملا الفراغ نسبية غير الإمام الحسن (علیه السلام) في ظل تلك الظروف.

لماذا لم يستعجل الإمام الحسن (علیه السلام) الحرب ضد معاوية؟

هناك فرق بين اتهام الإمام الحسن (علیه السلام) بأنه كان يريد الصلح منذ البداية،وأنه رجل يكره الحرب ويحب السلم من ناحية،وأن نقول إن الإمام الحسن (علیه السلام) لم يستعجل الحرب ضد معاوية.قلنا-فيما سبق-إن اتهام الإمام الحسن (علیه السلام) بأنه رجل يكره الحرب ويحب السلم،لا يتنافى مع الايمان بعصمته فحسب،بل يتنافي أيضا مع الحقائق التاريخية.

صحيح أن الإمام الحسن (علیه السلام) لم يخرج فور مبايعته لقتال معاوية،بل تمهل قليلا، وتذكر الروايات أنه تمهل شهرا أو شهرين أو ثلاثة أو أربعة على اختلاف تقدير الروايات.هذا التمهل دعا عبد اللّٰه بن عباس للكتابة إلى الإمام الحسن (علیه السلام) يحثه على قتال معاوية(1).

ص: 367


1- يقول عبد اللّه بن عباس في رسالته للإمام الحسن (علیه السلام) : «أما بعد، فإن المسلمين ولوك أمرهم بعد علي (عليه السلام) فشمر للحرب وجاهد عدوّك وقارب أصحابك واشتر من الظنين دينه بما لا يثلم لك دنياه وولّ أهل البيوت والشرف تستصلح به عشائرهم حتى يكون الناس جماعة فان بعض ما يكره الناس ما لم يتعد الحق وكانت عواقبه تؤدي إلى ظهور العدل وعز الدين خير من كثير مما يحبه الناس إذا كانت عواقبه تدعوا الى ظهور الجور وذل المؤمنين وعز الفاجرين ؛ واقتد بما جاء عن أئمة العدل فقد جاء عنهم أنه لا يصلح الكذب إلا في حرب أو اصلاح بين الناس فان الحرب خدعة ولك فى ذلك سعة إذ كنت محاربا ما لم تبطل حقا ؛ واعلم أن عليا أباك إنما رغب الناس عنه الى معاوية أنه آسى بينهم فى الفيء وسوّى بينهم في العطاء فثقل عليهم واعلم أنك تحارب من حارب اللّه ورسوله فى ابتداء الإسلام حتى ظهر أمر اللّه فلما وحد الرب ومحق الشرك وعز الدين أظهروا الإيمان وقرئوا القرآن مستهزئين بآياته وقاموا الى الصلاة وهم كسالى وأدّوا الفرائض وهم لها كارهون فلما رأوا أنه لا يعز في الدين إلا الأتقياء الأبرار توسموا بسيما الصالحين ليظن المسلمون بهم خيرا فما زالوا بذلك حتى شركوهم فى أماناتهم وقالوا حسابهم على اللّه فان كانوا صادقين فإخواننا في الدين وإن كانوا كاذبين كانوا بما اقترفوا هم الأخسرين وقد منيت بأولئك وبأبنائهم وأشباههم واللّه ما زادهم طول العمر إلا غيا ولا زادهم ذلك لأهل الدين إلا مقتا فجاهدهم ولا ترض دنية ولا تقبل خسفا فان عليا أباك لم يجب الى الحكومة حتى غلب على أمره فأجاب وإنهم يعلمون أنه أولى بالأمر إن حكموا بالعدل فلما حكموا بالهوى رجع الى ما كان عليه حتى أتى عليه أجله ولا تخرجن من حق أنت أولى به حتى يحول الموت دون ذلك والسلام . ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مج8، ج16، ص 14.

لكن لماذا تمهل الإمام الحسن (علیه السلام) في الخروج ضد معاوية؟

يقول الشهيد السيد الصدر(قده)إن السبب يعود على الأرجح إلى رغبة الإمام الحسن (علیه السلام) في الاستفادة من الوقت لمعالجة شك جيشه في نیات القيادة. يقول الصدر:«أنا أقدر وأ أن الإمام الحسن (علیه السلام) حينما تسلم مسؤولية الحكم كان عازما أن لا يتسرع في خوض معركة مسلحة مع معاوية،كان يود أن تؤجل المعركة إلى أمي طويل،وذلك لكي يصفي أو لكي يحاول أن يصممي هذا الشك جدة،لكي يتفرغ إلى الظروف الداخلية وإلى المجتمع الذي يحكمه، ويحاول أن يخفف من حدة هذا الشك،ويقضي على منابعه،ويعالج بعض أسبابه وينعش من جديد نفسية الفرد المسلم في داخلهذا المجتمع،حتى إذا استطاع في نهاية الشوط أن يكسب درجة معقولة من الاقتناع بالأطروحة حينئذ يبدأ معركته المسلحة مع معاوية،وهذا هو الذي جعله لا يعلن عزمه على الحرب من اللحظة الأولى»(1) .

سوف تمركز في كلامنا الآن على أسباب تنامي الشك في نبات القيادة مع خلافة

الإمام الحسن (علیه السلام).

أسباب تنامي الشك بعد استشهاد الإمام علي (علیه السلام)

قلنا إن شك الجماهير في نبات الإمام علي (علیه السلام) بدأ في صفين، لكن هذا الشك تنامي أكثر فأكثر بعد شهادة علي (علیه السلام) وانتقال الخلافة إلى الإمام الحسن (علیه السلام).سأذكر الآن خمسة أسباب لتنامي الشك،وسأستعين بالتحليل الذي قدمه الشهيد السيد الصدر(قده)مع تقديم وتأخير،وإضافة شواهد تاريخية في بعض الأحيان.

السبب الأول:إن الإمام الحسن (علیه السلام) حينما تسلم مقاليد الحكم،كان هناك كيان سیاسی قائم يحكم في العالم الإسلامي.وهذا الكيان يتمثل في حكم الشام الذي كان يقوده معاوية.وهذا الكيان الذي يقوده معاوية اكتسب في نظر أهل الشام ثوب الخلافة بعد التحكيم عقب معركة صفين.ولهذا أخذ معاوية يعيش مع قاعدته كما يعيش الخليفة مع رعيته.

كان هناك كيانان سیاسیان حاكمان في العالم الإسلامي:أحدهما يقوده الإمام

ص: 368


1- محمد باقر الصدر،أئمة أهل البيت (علیهم السلام)،ص264

الحسن (علیه السلام)،والآخر يقوده معاوية.الإمام علي (علیه السلام) كان استمرارية لوجود سیاسي أسبق،وخلافة مشروعة أسبق زمنا من هذا الكيان السياسي القائم بالشام.لكن بعد أن خلا الميدان من الإمام علي (علیه السلام)،وجاء الإمام الحسن (علیه السلام) ليتسلم مقاليد الحكم،كان في الذهنية العامة والتصور العام عند الإنسان العادي المسلم،أن هناك كيانا يملأ الفراغ إلى حد ما،فلا بد من التفكير من جديد.

فشعر العراقيون بائهم بين خيارين:إما بناء كيان سياسي جديد بقيادة الإمام الحسن (علیه السلام)،وإما الالتحاق بالكيان القائم الذي يقوده معاوية.مثل هذا الشعور لم يكن موجودة في أيام الإمام علي (علیه السلام)،لأن الكيان السياسي القائم في الشام طرح في أيام الإمام علي (علیه السلام)،وكان هو الطارئ.لكن الآن،في ذهن الإنسان العادي،صار كیان الإمام الحسن (علیه السلام) كأنه هو الطارئ على الكيان السياسي القائم.

السبب الثاني:يتمثل في الاعتبارات الشخصية القائمة في الإمام علي (علیه السلام) والإمام الحسن (علیه السلام).فهما في منطق العصمة سواء،وفي منطق النص الإلهي سواء،لكنهما في نظر الجماهير وقتئذ لم يكونا سواء.

نحن نعلم أن الحكم الذي كان يمارسه الإمام علي (علیه السلام)،لم يكن قائمة على أساس نص إلهي أو العصمة،وإنما كان استمرارة لخط السقيفة.غاية الأمر أن هذه الجماهير التي أخطأت حظها في المرة الأولى،وفي المرة الثانية،وفي المرة الثالثة،أصابت حظها في المرة الرابعة.هذه التجربة التي تقوم على أساس مفهوم جماهيري-لا على أساس نظرية العصمة والص الإلهي-تدخل في تقييم الحاليم اعتبارات كثيرة كانت تعيشهاالجماهير عن الإمام علي (علیه السلام) ولا تعيش مثلها عن الإمام الحسن (علیه السلام):

سوابق الإمام علي (علیه السلام) وصحبه الطويلة لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،مواقفه البطولية العظيمة، وسلطته الوحية.لكن الإمام الحسن (علیه السلام) نظرا لصغر سنه،وعدم وجود تاریخ مماثل له من هذا القبيل،لم يكن (علیه السلام)يملك القدرة على إخضاع الفوس بالشكل الذي كان يتاح للإمام علي (علیه السلام).

مضافة إلى ذلك،أن البيعة التي حصل عليها الإمام علي (علیه السلام)،كانت أوضح شرعية في نظر الجماهير-التي تؤمن باتجاه السقيفة-من شرعية بيعة الإمام الحسن (علیه السلام)؛الأ بيعة علي (علیه السلام) تمت في المدينة وعلى يد الصحابة،ولم يختلف في ذلك إلا أناس قليلون جدة،وكان عدد كبير من الصحابة لا يزال موجودة على المسرح الاجتماعي والسياسي.

أقول:بعض أجزاء خطبة القاصعة تكشف لنا جانبا من الرصيد التاريخي للإمام

ص: 369

علي (علیه السلام)،الذي كان يذكر به الجماهير،في حين أن الإمام الحسن (علیه السلام) لم يكن يملك مثل هذا الرصيد في نظر تلك الجماهير.يقول (علیه السلام) في تلك الخطبة:

«أنا وضعت في الصغر بكلاكل العرب(=صدورهم،كناية عن الأكابر منهم)، وكسرت نواجم قرون(=القرون الظاهرة الرفيعة،كناية عن أشراف القبائل)ربيعة ومضر،ووقد علمتم موضعى من رسول اللّه _ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم _ بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة ، وضعنى فى حجره وأنا ولد يضمّنى إلى صدره ، ويكنفنى فى فراشه ، ويمسّنى جسده ، ويشمّنى عرفه(=رائحته الزكية). وكان يمضغ الشّىء ثمّ يلقمنيه ، وما وجد لى كذبة فى قول ، ولا خطلة(=تسرعا)فى فعل ، ولقد قرن اللّه به ، صلّى اللّه عليه وآله ، من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ، ليله ونهاره ، ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل(=ولد الناقة)أثر أمّه يرفع لى فى كلّ يوم من أخلاقه علما ، ويأمرنى بالاقتداء به ، ولقد كان يجاور فى كلّ سنة بحراء ، فأراه ولا يراه غيرى ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ فى الإسلام غير رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ، وخديجة ، وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحى والرّسالة ، وأشمّ ريح النّبوّة»(1) .

هذا الرصيد التاريخي لم يكن يملكه الإمام الحسن (علیه السلام) في ذهن أهل العراق.

والحقيقة أن اللغة التي استخدمها معاوية في رسائله للإمام الحسن (علیه السلام)، تكشف عن السببين السابقين لتنامي الشك في الإمام الحسن (علیه السلام). أعني كون كیان معاوية السياسي أسبق مقارنة بكيان الإمام الحسن، (علیه السلام) الطارئ وفقا للذهنية العامة،مضافا إلى عدم وجود رصيد تاریخي للحسن (علیه السلام) مقارنة بعلي (علیه السلام) في نظر تلك الجماهير،وبالتالي الحجج التي يسوقها معاوية الآن لتبرير مواجهته للحسن (علیه السلام)،تختلف عن الحجج التي ساقها لتبرير حربه ضد علي (علیه السلام)..

ففي رسالة الإمام الحسن (علیه السلام) الأولى لمعاوية،جد أن الإمام الحسن (علیه السلام) يدعو معاوية إلى مبايعته،بعد أن بايعه أهل العراق بوصفه امتدادا لأبيه الإمام علي (علیه السلام).ويتعرض في هذه الرسالة إلى الظلم الذي لحق بأهل البيتلا من قريش بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،ثم يشير إلى أن الخلفاء الأوائل إن كان لهم ثمة حجج يتمسكون بها،فإنك يا معاوية لا تملك ما يملكون من رصيد حتى تحتج بحججهم. جاء في الرسالة:

فإن اللّٰه تبارك وتعالى بعث محمدا (صلی اللّه علیه واله) رحمة للعالمين، فأظهر به الحق، وقمع به

ص: 370


1- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،ص300-301

أهل الشرك،وأعز به العرب عامة،وشرف من شاء منهم خاصة،فقال تبارك وتعالی:«وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ»(1) .

فلما قبضه اللّٰه عزوجل تنازعت العرب من بعده،فقالت الأنصار:ما أمير ومنكم أمير، فقالت قريش:نحن أولياؤه وعشيرته،فلا تنازعونا سلطانه،فعرفت العرب ذلك لقریش(وأ الحجة لهم في ذلك على من نازعهم أمر محمد (صلی اللّه علیه واله)).ثم جاحدتنا قریش ما عرفه العرب لهم(ثم حاججنا نحث قریشا بمثل ما حاججت به العرب،فلم تنصفنا قریش إنصاف العرب لها)،وهيهات ما أنصفتنا قریش،وقد كانوا ذوي فضيلة في الدين وسابقة في الإسلام(فامسكنا عن منازعتهم مخافة على الدين،أن يجد المنافقون والأحزاب بذلك مغمزا يثلمونه به،أو يكون لهم بذلك سبب لما أرادوا به من فساده)فرحمة اللّٰه عليهم.

فالآن فلا غرو أن منازعتك إيانا بغير حق في الدين معروف،ولا أثر في الإسلام محمود(وأنت ابئ أعدی قریش لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) ولكن اللّٰه خيبك وسترد فتعلم لمن عقبی الدار.تاللّٰه لتلقين عن قليل ربك، ثم ليجزينك بما قدمت يداك،وما اللّٰه بظلام للعبيد)،والموعد اللّٰه بيننا وبينك،ونحن نسأله أن لا يؤتنا في هذه الدنيا شيئا ينقصنا به في الآخرة.

....وبعد فإن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لما نزل به الموت،ولأني هذا الأمر من بعده.فائق اللّٰه يا معاوية،وانظر لأمة محمد (صلی اللّه علیه واله) ما تحقن به دماءهم وتصلح به أمورهم(وإنما حملني على الكتاب إليك الإعذار فيما بيني وبين اللّٰه سبحانه وتعالى في أمرك)،والسلام».

ثم دفع الإمام الحسن (علیه السلام) كتابه هذا إلى رجلين من أصحابه...ووهما إلى معاوية ليدعواه إلى البيعة،والشمع والطاعة.

أجاب معاوية على رسالة الإمام الحسن (علیه السلام)،معترضة على الهام كبار الصحابة بناتهم لأهل البيت (علیهم السلام)،مبينا أن الحجج التي يتمسك بها على أحقيته بالخلافة،تتمثل في كونه أكبر سنا،وأطول تجربة وأكثر دهاء من الحسن (علیه السلام)،مستثمرا بذلك نتائج عملية التحكيم التي أسفرت عن اتفاق الحكمين على خلع الإمام علي (علیه السلام) عن الخلافة.ويلاحظ هنا أن مسألة دم عثمان قد طويت تماما!!فهذا الشعار، وهذا القميص،كان قد استنفد أغراضه،ولم تعد ثمة حاجة لطرحه من جديد.

جاء في رسالة معاوية للحسن (علیه السلام):«أما بعد،فقد فهم كتابك،وما ذكرت به

ص: 371


1- سورة الزخرف،الآية:44

محمدا صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو خير الأولين والآخرين، فالفضل كله فيه صلى اللّه عليه وآله وسلم، وذكرت تنازع المسلمين الأمر من بعده، فصرحت منهم بأبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وأبي عبيدة الأمين، وطلحة، والزبير، منهم بأبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وأبي عبيدة الأمين، وطلحة، والزبير، وصلحاء المهاجرين، وكرهت ذلك لك أبا محمد، وذلك أن الأمة لما تنازعت الأمر من بعد نبيها محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم علمت أن قريشا أحقها بهذا الشأن لمكان نبيها منها، ثم رأت قريش والأنصار وذوو الفضل والدين من المسلمين أن يولوا هذا الأمر أعلمها باللّه، وأخشاها له، وأقدمها إسلاما، فاختاروا أبا بكر الصديق، ولو علموا مكان رجل هو أفضل من أبي بكر يقوم مقامه ويذب عن حوزة الإسلام كذبه لما عدلوا ذلك عنه.

فالحال بيني وبينك على ما كانوا عليه(كأنه يريد أن يقول:كما أن قريشا استأثرت بالخلافة وأقصتكم عنها،وأنتم قبلتم الأمر الواقع،فالحال الآن كذلك،فأنا امتداد القريش،فاقبل أنت الأمر الواقع).ولو علمت أنك أضبط لأمر الرعية،وأحوط على هذه الأمة وأحسن سياسة وأكيد للعدو وأقوى على جميع الأمور،لسم لك هذا الأمر من بعد أبيك،(لكني قد علمت أني أطول منك ولاية وأقدم منك لهذه الأمة تجربة، وأكثر منك سياسة،وأكبر منك سنا(1).فأنت أحق أن تجيبني إلى هذه المنزلة التي سألتني)،لأني قد علمت بأنك إنما تدعي ما تدعيه نحو أبيك، وقد علمت أن أباك سار إلينا فحاربنا، ثم صار من أمره إلى أن اختار رجلا واخترنا رجلا، ليحكما بما يصلح عليه أمر الأمة وتعود به الألفة والجماعة، وأخذنا على الحكمين بذلك عهد اللّه وميثاقه، وأخذا منا مثل ذلك على الرضا بما حكما، ثم أنهما اتفقا على خلع أبيك فخلعاه، فكيف تدعوني إلى أمر إنما تطلبه بحق أبيك وقد خرج أبوك منه؟ فانظر لنفسك أبا محمد ولدينك والسلام »(2).

السبب الثالث:تسلم الإمام الحسن (علیه السلام) مقاليد الحكم عقيب أبيه مباشرة، والجماهير البسيطة استوحت من ذلك أن القصة قصة بيت في مقابل بیت، هاشم في مقابل أمية،وليست قصة إسلام في مقابل جاهلية.

لذا نجد أن الذي منع عليا (علیه السلام) من الإعلان الرسمي والسياسي على مستوى الجماهير عن خليفته الإمام الحسن (علیه السلام) هو تفادي مثل هذا التصؤر.ولهذا أوصي بإمامة الحسن (علیه السلام) إلى الحواريين الذين يؤمنون بالنظرية الإسلامية الصحيحة للإمام،بوصفه الحجة من قبل اللّٰه من بعده،لا بوصفه حاكما ورئيسا للدولة.

ص: 372


1- كان عمر الحسن (علیه السلام) 37 سنة عندما بويع .
2- ابن اعثم، الفتوح، ج 2، ص 5- 6. الأصفهاني، مقاتل الطالبیین، تحقيق أحمد صقر، مؤسسة الأعلمی للمطبوعات، ط3، 1998م، بیروت، ص 64 - 67.

أقول:لاحظ على سبيل المثال،باب الإشارة والنص على الحسن بن علي (علیه السلام)، في أصول الكافي،تجد أن عليا (علیه السلام) أوصى للحسن (علیه السلام) وهو على فراش الموت وأشهد على وصيته الحسين (علیه السلام) ومحمد(ابن الحنفية)وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته،ودفع إلى الحسن (علیه السلام) به وسلاحه ولا تجد ما يدل على أثر عليا (علیه السلام) أعلن بشكل رسمي أن الإمام الحسن (علیه السلام) هو الوصي من بعده،لتفادي التصور المغلوط الذي قد ينسبق لأذهان الجماهير.

لكن مجيئ الإمام الحسن (علیه السلام) عقب أبيه مباشرة،كان في نظر الجماهير شاهدا جديدا على أن معركة صفين ما هي إلا حلقة من حلقات مسلسل الصراع بين بني هاشم وبني أمية.وسواء انتصر هذا أو ذاك،فكلاهما من قريش العدنانية،والجماهير في أعمها الأغلب من قحطان.

السبب الرابع:لم يكن الإمام الحسن (علیه السلام) قد تسرع للإعلان عن عزمه على الحرب مع معاوية والاشتباك المسلح معه. هذا الأمر استغله معاوية، وأشاع على أساسه أن الإمام الحسن (علیه السلام) يفكر في الصلح.وكانت لهذه الإشاعة مساهمة كبيرة جدا في توسيع نطاق الشك عند المسلمين،وترددهم في أن تكون القضية التي يحاربون من أجلها قضية يش فيها القائد نفسه(1) .

لقد أشرنا فيما مضى إلى أن الإمام الحسن (علیه السلام) لم يخرج فور مبايعته لقتال معاوية،والروايات تذكر أنه تمهل فترة تمتد من شهر إلى أربعة أشهر،على اختلاف تقدير الرواة والمؤرخین.

العامل الخامس:لحظة الفراغ.فالإمام علي (علیه السلام) ملا بمركزه السياسي التجربة؛كان كل إنسان في التجربة مشدودة بواقع حياته إلى الاعتراف بلطة الإمام وشرعيته وأحقيته.لكن عندما فقد الإمام في لحظة مفاجئة،من دون سابق أي تمهيد أو إعداد لهذا الخط، عاش المسلمون حينما انطفأت الشعلة-نتيجة اغتيال الإمام-لحظة فراغ سیاسي.حينما خلت الساحة من الإمام أخذ يحس المسلمون بائهم أصبحوا في مركز يدفعهم للتفكير من جديد في الطريق الذي لا بد أن يختاروه.... طریق معاوية أم طريق الحسن (علیه السلام)...في حين أن استمرارية الحاكم كانت تمنع من أن يشعروا بذلك.

ضرورة الصلح

لن أتحدث الآن عن مسلسل الخيانات الذي وقع في جيش الحسن (علیه السلام)، وتسلل

ص: 373


1- محمد باقر الصدر،أئمة أهل البيت (علیهم السلام)،ص257-261

بعض قادة جيشه إلى معاوية، ولن أتحدث عن استغلال معاوية للمال السياسي في شراء الأمم والضمائر،ولن أتحدث عن محاولات الاغتيال التي تعرض لها الإمام الحسن (علیه السلام) من أفراد محسوبين على جيشه.

سأترك ذلك كله إلى فصل لاحق.لكن أريد أن أؤكد على أن الإمام الحسن (علیه السلام) أحس أن بقاء التجربة الإسلامية العلوية أصبح شيئا متعذرا،وأن انسحابه من الميدان أصبح شيئا ضرورية لأجل الإسلام نفسه،وذلك لأن هذه التجربة مع هذا الشك لا يمكن أن تعيش،فلا بد أن يقضي على هذا الشك ثم تستأنف التجربة.

ولم يكن بالإمكان أن يقضي على هذا الشك المرير المستعصي إلا بأن ينسحب الإمام الحسن (علیه السلام) وخط الإمام علي (علیه السلام) من المعركة،حتى تنكشف أطروحة معاوية وأهداف معاوية.بعد هذا يرى المسلمون بأم أعينهم،هؤلاء الذين يعيشون الحس أكثر مما يعيشون العقل،يعيشون بعيونهم أكثر مما يعيشون بعقولهم، يرون بعيونهم أن المعركة التي كان يقودها الإمام علي (علیه السلام) مع معاوية هي معركة الإسلام مع الجاهلية،لا معركة شخص مع شخص،ولا مصلحة مع مصلحة،ولا عشيرة مع عشيرة.كان لا بد في منطق التجربة من أن يحارب هذا الشك ثم تستأنف التجربة.

ولم يكن بالإمكان، ولا بإمكان اليوم وليس بإمكان أي يوم،أن تنجح تجربة رسالية يقودها قائد يحمل بيده رسالة-هي أكبر من قدرات الأشخاص وأكبر من مصالحهم الخاصة-ما لم يكسب مسبقا الاقتناع بصحة هذه الرسالة وبأهدافها وبضرورتها.ولم يكن بإمكان التجربة السياسية وقتئذ،من خلال مواصلة وجودها في المعركة أن تكسب هذا الاقتناع.هذا الاقتناع الذي لم يستطع الإمام الحسن (علیه السلام) أن يكسبه أو أن يحول دون فقدانه بالتدريج،ولهذا كان من الضروري أن ينحسر ظل الإمام علي (علیه السلام) عن ميدان الحكم،لكي تنكشف أطروحة معاوية،وبعد ذلك يعرف المسلمون أن هذه الأطروحة التي جاهد في سبيلها الإمام علي (علیه السلام) هي أطروحة وجودهم وعقيدتهم ورسالتهم ومصالحهم الحقيقية غير المنظورة لهم،وعندئذ يكون بالإمكان استئناف العمل من جديد على أساس اقتناع مسبق(1) .

أقول:لذا نجد الإمام الحسن (علیه السلام) يلخص موقفه قائلا:«إني أرى الناس يقولون إن الحسن بن علي (علیه السلام) بايع معاوية طائعة غير مكره،وأيم اللّٰه ما فعلت حتى خذلنی اهل

ص: 374


1- محمد باقر الصدر،أئمة أهل البيت (علیهم السلام)،ص269-270

العراق،ولولا ذلك ما بايعته ولا طرفة عين»(1) .

الخلاصة أنا حللنا في هذا الفصل الوضع العام بعد شهادة الإمام علي (علیه السلام) وقبيل صلح الإمام الحسن (علیه السلام)،وهي الفترة التي امتدت ما بين40-41هج.فقد تولى الإمام الحسن (علیه السلام) الخلافة في ظروف بالغة التعقيد،ومع جماهير ملأها الشك وعدم الإيمان الكامل برسالة المعركة ضد معاوية،وبوضوح أهداف هذه المعركة،ولا تتجاوب دينيا وإسلامية مع هذه المعركة.فإذا أضفنا إلى هذا، الفارق بين شخصية الإمام علي (علیه السلام) وشخصية الإمام الحسن (علیه السلام)،لا الفارق بينهما في حساب اللّٰه سبحانه وتعالى،فإن كل واحد منهما إمام معصوم عند اللّٰه،وإنما الفارق بينهما بحسب الرصيد التاريخي في أذهان الناس أنفسهم،فإن الإمام عليا (علیه السلام) كان يملك رصيدا تاريخية في نفوس الناس لا يملك مثله الإمام الحسن (علیه السلام).إذا أضفنا هذا إلى ذاك،وأضفنا كون تولي الإمام الحسن (علیه السلام) للزعامة الدينية بعد الإمام علي (علیه السلام) قؤى أن تكون الشبهة قبلية،وأن المعركة هي معركة بين بیت وبيت،لا معركة شخص يمثل الرسالة مع شخص يمثل الجاهلية....إلى جانب أن المسلمين لم يكونوا مؤمنين وقتئذ بفكرة النص من قبل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)...ولم يكن تولي الإمام الحسن (علیه السلام) للزعامة بنظرهم كإمام منصوص عليه، بل كإمام على أساس من الخط العام للقيفة...وحينئذ رأوا بأن الإمامة انتقلت من أب لابنه،مما أكد طبيعة المعركة على أساس كونها معركة بيت مع بيت.كل هذا عقد الموقف،وجعل الشك يتصاعد في المقام،إلى درجة أن خوض معركة منتصرة مع هذا الشك أصبحت مستحيلة(2) .لن أتحدث عن التطورات الميدانية التي أدت إلى اتخاذ قرار الصلح،ولن أتحدث عن الصلح وبنوده،والوضع الجديد الذي نشأ جراء الصلح.أترك تفصيل ذلك إلى الفصول اللاحقة.

ص: 375


1- ابن طاووس،الملاحم والفتن،ص110
2- محمد باقر الصدر،أئمة أهل البيت (علیهم السلام)،ص241-242

(23)تطورات ميدانية أدت إلى الصلح

تحدثنا عن ظروف تولي الإمام الحسن (علیه السلام) الخلافة.نريد اليوم دراسة التطورات الميدانية التي أدت إلى صلح الإمام الحسن (علیه السلام).في البداية لا بد أن نتعرف على مكونات جيش الحسن (علیه السلام).ومن خلال معرفة هذه المكونات نستطيع أن نتصور تسلل تلك التطورات التي وقعت بشكل متسارع.

مكونات جيش الحسن (علیه السلام)

كتب أبو الفرج الأصفهاني:«وخرج الناس فعسكروا،ونشطوا للخروج،وخرج الحسين (علیه السلام)إلى العسكر،واستخلف على الكوفة المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب،وأمره باستحثا الناس وإشخاصهم إليه،فجعل يستحثهم ويستخرجهم حتى التأم العسكر»(1) .

يقول المفيد في كتابه«الإرشاد»،موضحا مكونات جيش الحسن (علیه السلام):«ثم خف معه أخلاط من الناس،بعضهم شيعة له ولأبيه عليهما السلام،وبعضهم محكمة(خوارج)يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة، وبعضهم أصحاب فتن وطمع في الغنائم،وبعضهم شكاك،وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون إلى دين»(2) .

إذا توقفنا قليلا لدراسة مكونات جيش الحسن (علیه السلام)،وهو انعكاس لمكونات

المجتمع الكوفي آنذاك،سنجده خليط من الطوائف التالية:

•الحزب الأموي:وأكبر المنتسبين إليه عمرو بن حریث المخزومي،وعمارة بن الولید بن عقبة بن أبي معيط،ومحجر بن عمرو،وعمر بن سعد بن أبي وقاص، وأبو بردة ابن أبي موسى الأشعري،وإسماعيل وإسحاق ابنا طلحة بن عبيد اللّٰه وأضرابهم.

ص: 376


1- أبو الفرج الأصفهاني،مقاتل الطالبيين،ص70
2- المفید،الارشاد،ج2،ص10

وفي هذا الحزب عناصر قوية من ذوي النفوذ والأتباع،كان لها أثرها فيما نكبت به قضية الإمام الحسن (علیه السلام) من دعاوات ومؤامرات وشقاق.

•الخوارج:وهم أعداء الإمام علي (علیه السلام) منذ حادثة التحكيم،كما هم أعداء معاوية.ومن أقطاب هؤلاء في الكوفة:شبث بن ربعي،وشمر بن ذي الجوشن .

وكان الخوارج أكثر أهل الكوفة لجاجة على الحرب،منذ يوم البيعة،وهم الذين شرطوا على الإمام الحسن (علیه السلام) عند بيعتهم له حرب الحالين الضالين-أهل الشام-فقبض الإمام الحسين (علیه السلام) يده عن بيعته على الشرط،وأرادها على السمع والطاعة وعلى أن يحاربوا من حارب ويسالموا من سالم».فأتوا الحسين (علیه السلام) أخاه،وقالوا له:

ابسط يدك نبايعك على ما بايعنا عليه أباك يوم بايعناه،وعلى حرب الحالين الضالين أهل الشام»،فقال الحسين (علیه السلام):«معاذ اللّٰه أن أبايعكم ما دام الحسين حياه».فانصرفوا إلى الحسن عل ولم يجدوا با من بيعته على شرطه(1) .

•الشاكون:طائفة من سكان الكوفة ومن رعاعها المهزومين،الذين لا نية لهم في خير ولا قدرة لهم على شر،ولكن وجودهم لنفسه كان شرا مستطيرة وعونا على الفساد وآلة مسخرة في أيدي المفسدين.يقول تعالى عن أمثال هذه الفئة:«لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا (47)»(=فسادة وشرة)وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ(=ولأفسدوا علاقاتكم وأوضاعكم الداخلية)يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ(=ضعفاء الإيمان والعقول يستمعون لهم ويتأثرون بهم)وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ»(2) .

•الحمراء:وهم عشرون ألفا من مسلحة الكوفة،ليسوا عربا،وإنما هم المهجنون من موال وعبيد،ولعل أكثرهم من أبناء السبايا الفارسيات اللائي أخذن في«عين التمر»و«جلولاء» من سنة12-17هج،فهم حملة الشلاح سنة41وسنة61في أزمات الحسن والحسين (علیه السلام)

في الكوفة،وهم شرطة زياد الذين فعلوا الأفاعيل بالشيعة سنة49هج وما بعدها.

•شيعة الحسن (علیه السلام):وهم الأكثر عددا في عاصمة الإمام علي (علیه السلام)،وفي هؤلاء جمهرة من بقايا المهاجرين والأنصار،لحقوا عليا (علیه السلام) إلى الكوفة،وكان لهم من صحبتهم رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)ما يفرض لهم المكانة الرفيعة في الناس.ومن أقطابهم: قیس ابن سعد بن عبادة لأنصاري (صحابي) ،وعدي بن حاتم الطائي(صحابي)،وحجر بن

ص: 377


1- ابن قتيبة،الإمامة والسياسة،ص183-184
2- سورة التوبة،الآية:47

عدي الكندي(صحابي قتله معاوية بعد صلح الحسن)،وعمرو بن الحمق الخزاعي (صحابي قتله معاوية بعد صلح الحسن)،وسعيد بن قيس الهمداني،وحبیب بن مظاهر الأسدي (استشهد في كربلاء)،والمسيب بن نجبة (استشهد في ثورة التوابين)...وآخرون من هذا الطراز(1).

دعونا الآن ننتقل لدراسة التطورات الميدانية،والأسباب المباشرة التي أدت بالإمام

الحسن (علیه السلام) إلى أن يتخذ قرارا بالصلح مع معاوية.

التطورات الميدانية التي أدت إلى ضلح الإمام الحسن (علیه السلام)

1.جواسيس معاوية على الكوفة والبصرة

من الخطوات التي قام بها معاوية بعد بيعة الناس الإمام الحسن (علیه السلام) إرساله الجواسيس.يقول المفيد في إرشاده:«لما بلغ معاوية بن أبي سفيان وفاةأمير المؤمنين (علیه السلام) وبيعة الناس الحسن (علیه السلام)،دس رجلا من حمير إلى الكوفة، ورجلا من بلقين(=بنو القين)إلى البصرة،ليكتبا إليه بالأخبار،ويفسدا على الحسن (علیه السلام) الأمور.فعرف ذلك الحسن (علیه السلام)،فأمر باستخراج الحميري من عند حجام بالكوفة،فأخرج فأمر بضرب قير، وكتب إلى البصرة،فاستخرج القيني من بني سليم،وضربت عنقه»(2).

وكتب الإمام الحسن (علیه السلام) إلى معاوية بهذا الشأن رسالة جاء فيها:

أما بعد،فإنك دست الرجال للاحتيال والاغتيال،وأرصدت العيون كانك تحب

اللقاء، وما أوشك ذلك،فتوقعه إن شاء اللّٰه.....:»(3).

لاحظ أن هذه الرسالة ترد على الادعاء القائل بأن الإمام الحسن (علیه السلام) كان يريد بالأساس الصلح مع معاوية،وأنه لم يكن عازما أصلا على مواصلة الحرب التي بدأت بين الإمام علي (علیه السلام) ومعاوية.

على أي حال، توقفت المراسلات بين معاوية والإمام الحسن (علیه السلام)،وخرج معاوية من الشام متوجها نحو العراق،واستنفر الإمام الحسن (علیه السلام) جيشه للقتال.

قيل أن خروج معاوية وقع بعد ثمانية عشر يوما من وفاة الإمام علي (علیه السلام)،لكن

ص: 378


1- راضي آل یاسین، صلح الحسن (علیه السلام) ، منشورات ناصر خسرو، ط4، 1399هج - 1979م، بیروت، ص 68 - 73.
2- المفيد، الارشاد، ج 2 ص 9.
3- المفيد، الارشاد، ج 2 ص 9. الأصفهاني، مقاتل الطالبيين ، ص 63.

روايات أخرى تتحدث عن خروج معاوية بعد شهر أو شهرين وحتى أربعة أشهر. وكتب معاوية إلى عماله على النواحي بنسخة واحدة:

من عبد اللّه معاوية أمير المؤمنين إلى فلان بن فلان ومن قبله من المسلمين. سلام عليكم، فإني أحمد إليكم اللّه الذي لا إله إلا هو. أما بعد، فالحمد لله الذي كفاكم مؤنة عدوكم وقتل خليفتكم، إن اللّه بلطفه وحسن صنعه أتاح لعلي بن أبي طالب رجلا من عباده فاغتاله فقتله، فترك أصحابه متفرقين مختلفين، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم، فأقبلوا إلي حين يأتيكم كتابي هذا بجهدكم وجندكم وحسن عدتكم، فقد أصبتم بحمد اللّه الثأر وبلغتم الأمل، وأهلك اللّه أهل البغي والعدوان، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته».

ويتضح من هذه الرسالة-إن صدق معاوية في المعلومات التي ذكرها-أن كتب

رؤساء القبائل في العراق،التي كانت تطلب منه الأمان،بدأت ترد إليه منهذه اللحظة.

2.الإمام الحسن (علیه السلام) يأمر بالخروج إلى النخيلة

على أي حال،بعد وصول هذه الرسالة إلى عمال معاوية في النواحي،«اجتمعت العساكر إلى معاوية،فسار بها قاصدا إلى العراق،وبلغ الحسن خبره ومسيره نحوه،وأنه قد بلغ جسر منبج(1)،تحرك عند ذلك،وبعث حجر بن عدي فأمر العمال والناس بالتهيؤ اللمسير،ونادي المنادي:الصلاة جامعة!

فأقبل الناس يثوبون ويجتمعون.قال الحسن (علیه السلام):إذا رضيت جماعة الناس فأعلمني.وجاءه سعيد بن قيس الهمداني،فقال له:اخرج.فخرج الحسين (علیه السلام)،وصعد المنبر،فحمد اللّٰه وأثنى عليه،ثم قال:أما بعد،فإن اللّٰه كتب الجهاد على خلقه،وسماه كرها،ثم قال لأهل الجهاد من المؤمنين:«وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ»(2)،فلستم أيها

ص: 379


1- تقع منبج في الشمال الشرقي من حلب و تبعد عنها 80 كم. تشتهر بسهولها الخصبة كما تشتهر باقنيتها الرومانية الشهيرة التي تدعى حاليا تترب و عددها 22 وقد جفت كلها اليوم، وكانت تروي حوالی 300 هكتار من الأراضي المنبسطة. وهي مدينة عريقة ازدهرت واندثرت أكثر من مرة وعادت..... لها جذور حضارية وثقافية عميقة في التاريخ و كانت محطة تجارية هامة على طريق نقل البضائع ما بين بلاد الرافدين و طرق وشواطئ البحر الأبيض المتوسط وفلسطين ومصر أيام الإمبراطورية الآشورية ، وخاصة في أيام ملوكها العظام نبوخذ نصر وشلمنصر، اللذين جعلا من منبج قاعدة عسكرية وتجارية النقل البضائع وخاصة خشب الأرز إلى بلاد آشور، وبقيت حتى أيام الرومان مركزة تجارية لتسويق البضائع إلى البادية وبلاد الرافدين، ومركزة عسكرية لحماية القوافل التجارية .
2- سورة الأنفال، الآية : 46.

الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون.بلغني أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير إليه،فتحرك لذلك.اخرجوا رحمه اللّٰه إلى معسكركم بالنخيلة حتى ننظر وتنظروا،ونرى وتروا.

قال(الراوي):وإنه في كلامه ليتخوف مخذلان الناس له،قال:فسكتوا فما تكلم

منهم أحد،ولا أجابه بحرف.

أقول:يكشف هذا الموقف بوضوح،أن جيش الحسن (علیه السلام) يعاني المشاكل ذاتها التي عاناها جيش علي (علیه السلام)،لأنه الجيش نفسه،فالعزائم فاترة،والقلوب يملؤها الشك.

يقول الراوي:فلما رأى ذلك عدي بن حاتم،قام فقال:أنا ابن حاتم!سبحان اللّٰه!ما أقبح هذا المقام!ألا تجيبون إمامكم وابن بنت نبيكم؟!أين طباء مضر؟أين المسلمون؟أين الخاضون من أهل المصر؟الذين ألسهم كالمخاريق في الأعين، فإذا جد الجد فراغون كالثعالب،أما تخافون مقت اللّٰه ولا عيبها وعارها؟

ثم استقبل(عدي بن حاتم) الحسن بوجهه،فقال:أصاب اللّٰه بك المراشد،وجنبك المكاره،ووفقك لما يحمد وده وصدره،قد سمعنا مقالتك،وانتهينا إلى أمرك، وسمعنا لك وأطعنا فيما قلت وما رأيت،وهذا وجهي إلى معسكري،فمن أحب أن يوافيني فليواف.

ثم مضى(عدي بن حاتم)لوجهه،فخرج من المسجد ودابته بالباب،فركبها ومضى إلى النخيلة،وأمر لامه أن يلحقه بما يصلحه،وكان عدي بن حاتم أول الناس عسكرا.

وقام قیس بن سعد بن عبادة الأنصاري ومعقل بن قيس الرياحي وزياد بن صعصعة التيمي،فأبوا الناس ولاموهم وحرضوهم،وكلموا الحسن (علیه السلام) بمثل كلام عدي بن حاتم في الإجابة والقبول.

فقال لهم الحسن (علیه السلام):صدقتم رحمه اللّٰه!ما زلت أعرفكم بصدق النية والوفاء

والقبول والمودة الصحيحة،فجزاكم اللّٰه خيرا.ثم نزل(1) .

3.تأمير عبيد اللّٰه بن العباس

سار الحسن (علیه السلام) في عسكر عظيم وعدة حسنة،حتى نزل دير عبد الرحمن، فأقام به ثلاث حتى اجتمع الناس.ثم دعا عبيد اللّٰه بن العباس بن عبد المطلب، فقال له:يا ابن

ص: 380


1- الأصفهاني،مقاتل الطالبین،ص69-70

عم،ني باعث إليك اثني عشر ألفا من فرسان العرب و قراء المصر الرجل منهم يزيد [1] الكتيبة فسر بهم و ألن لهم جانبك و ابسط لهم وجهك و افرش لهم جناحك و أدنهم من مجلسك فإنهم بقية ثقات 1أمير المؤمنين و سر بهم على شط الفرات حتى تقطع بهم الفرات ثم تصير إلى مسكن ثم امض حتى تستقبل بهم معاوية فإن أنت لقيته فاحبسه حتى آتيك فإني على أثرك وشيكا و ليكن خبرك عندي كل يوم و شاور هذين يعني قیس بن سعد بن عبادة)وسعيد بن قيس(الهمداني)-و إذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك فإن فعل فقاتله و إن أصبت فقيس بن سعد على الناس و إن أصيب قيس بن سعد فسعيد بن قيس على الناس(1) .

روى الطبري عن الزهري:وكان الحسين لا يرى القتال،ولكنه يريد أن يأخذ لنفسه ما استطاع من معاوية ثم يدخل في الجماعة،وعرف الحس أن قیس بن سعد لا يوافقه على رأيه،فنزعه وأمير عبد اللّٰه بن عباس(يبدو أن ثمة تصحيفة هنا والمقصود:عبيد اللّٰه ابن عباس)،فلما علم عبد اللّٰه(عبيد اللّٰه) بن عباس بالذي يريد الحسن (علیه السلام) أن يأخذه النفسه،كتب إلى معاوية يسأله الأمان ويشترط لنفسه الأموال التي أصابها،فشرط ذلك له معاوية(2) .

أقول:أختلف تماما مع هذا التحليل،أرى أنه يتعمد تصوير الإمام الحسن (علیه السلام) على أنه كان يريد أساسا الصلح بغض النظر عن الظروف والملابسات،وإلا فالهدف الذي أراده الإمام الحسن (علیه السلام)-وفقا لهذا التحليل-لا يتطلب تسيير جيوش،بل يكفي إرسال رسل يفاوضون معاوية.نعم،يبقى ثمة سؤال:لم أمر الإمام الحسن (علیه السلام) عبيد اللّٰه ابن عباس،ولم يؤمر قیسا؟

الجواب:الإمام الحسن (علیه السلام) كان مع أبيه (علیه السلام) في صفين وما بعد صفين،ولم بشكل مباشر عدم تماسك الجبهة الداخلية والحالة النفسية لأهل العراق، وربما كان (علیه السلام) يتوقع أن تحصل تطورات قد تضطره لعقد الصلح،وحينها قد لا يكون ثمة ضمان بأن يلتزم قیس بن سعد بوقف الحرب والانسحاب وقبول الصلح.وهناك شواهد سابقة ولاحقة على طريقة استجابة قيس للأوامر،منها موقفه من أمر الإمام علي (علیه السلام) بحسم ملف أهل خربتا في مصر،ومنها موقفه قبيل وأثناء وبعد صلح الحسن (علیه السلام).بل إن الطبري نفسه كتب:قيل إن أول من بايعه(=بایع الحسن (علیه السلام))قیس بن سعد،فقال له:

ص: 381


1- الأصفهاني،مقاتل الطالبيين،ص74
2- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،ص121

ابسط يدك أبايعك على كتاب اللّٰه عزوجل،وسنة نبيه (صلی اللّه علیه واله)،وقتال المحلين!فقال له الحسن رضي اللّٰه عنه:على كتاب اللّٰه،وسنة نبيه (صلی اللّه علیه واله)،فإن ذلك يأتي من وراء كل شرط، فبايعه وسكت،وبايعه الناس(1) .لكن الأمر الذي لم يكن في الحسبان قط،هو خيانة عبيد اللّٰه بن عباس،التي سنأتي إليها بعد قليل.

كتب الأصفهاني:وسار عبيد اللّٰه حتى انتهى إلى شينور،حتى خرج إلى شاهي،ثم لزم الفرات والفلوجة،حتى أتى مسكن.

سوف نعود إلى عبيد اللّٰه بن عباس وما جرى في مسكن،لكن في الفقرة التالية سنتوقف عند الإمام الحسن (علیه السلام) وما جرى في معسكره بعد خروجه من الكوفة.

4.اختبار الإمام الحسن (علیه السلام) لأصحابه وما قام به وفد معاوية

كتب الأصفهاني:«وأخذ الحسن على حمام عمر حتى أتی دیر كعب،ثم بكر، فنزل ساباط دون القنطرة،فلما أصبح نادي في الناس:الصلاة جامعة!فاجتمعوا، فصعد المنبر فخطبهم فقال:

الحمد لله كلما حمده حامد، وأشهد أن لا إله إلا اللّه كلما شهد له شاهد، وأشهد أن محمدًا رسول اللّه، أرسله بالحق، وائتمنه على الوحي، صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما بعد(أيها الناس،إنكم بایعتموني على أن تسالموا من سالمت،وتحاربوا من حاربت)(2) ، فواللّه إني لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد اللّه ومنه، وأنا أنصح خلقه لخلقه، وما أصبحت محتملا على مسلم ضغينة، ولا مريدًا له بسوء ولا غائلة، ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة، ألا وإني ناظر لكم خيرًا من نظركم لأنفسكم،فلا تخافوا أمري،ولا تردوا علي رأيي.غفر اللّٰه لي ولكم،وأرشدني وإياكم لما فيه المحبة والرضا(3) ..ثم نزل.

أقول:لاحظ أن خطاب الإمام الحسن (علیه السلام) فيه تصريخ واضح عن مشاعره وما يحمله قلبه من مودة ومحبة،وربما أراد بذلك مسح وتجاوز ما وقر في النفوس بسبب تداعيات حرب صفين والنهروان.لكن كيف،سيقرأ جيشه هذا الخطاب المليء بالمودة والرحمة؟

ص: 382


1- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،ص121
2- ابن اعثم،الفتوح،ج2 ص 7
3- الأصفهانی،مقاتل الطالبيين،ص71-72

يقول(الراوي):فنظر الناس بعضهم إلى بعض، وقالوا:ما ترونه برید بما قال؟قالوا: نظنه يريد أن يصالح معاوية،ويسلم الأمر إليه،كفر واللّٰه الرجل!

ثم شدوا على فسطاطه،فانتهبوه(1).

وفي رواية أخرى:فلما سمع الناس هذا الكلام من الحسن (علیه السلام) كأنه وقع بقلوبهم

أنه خالع نفسه من الخلافة،ومسلم الأمر لمعاوية،فغضبوا لذلك،ثم بادروا إليه من كل ناحية،فقطعوا عليه الكلام،وانتهبوا عامة أثقاله،وخرقوا ثيابه،وأخذوا مطرفا كان عليه،وأخذوا أيضا جارية كانت معه،وتفرق عنه عامة أصحابه(2).

وفي رواية ثالثة:فلما سمع أصحابه ذلك،نظر بعضهم إلى بعض،فقال من كان معه ممن يرى رأي الخوارج:كفر الحسن كما كفر أبوه من قبله(3)!

لكن قبل أن نتحدث عما جرى من تطاول على مقام الإمام الحسن (علیه السلام) بعد خطبته،ينقل لنا اليعقوبي صورة ثانية،تتحدث عن حادثة أخرى بوصفها هي السبب في انفلات الزمام في عسكر الحسن (علیه السلام) وتطاولهم عليه.يقول اليعقوبي في تاريخه:

«وجه معاوية إلى الحسن المغيرة بن شعبة،وعبد اللّٰه بن عامر بن كریز وعبد اللّٰه بن أم الحكم،وأتوه وهو بالمدائن نازل في مضاربه.ثم خرجوا من عنده وهم يقولون ويسمعون الناس:إن اللّٰه قد حقن بابن رسول اللّٰه الدماء،وسكن به الفتنة،وأجاب إلى الصلح. فاضطرب العسكر،ولم يشكك الناس في صدقهم،فوثبوا بالحسن فانتهبوا مضاربه وما فيها»(4).

وفي صورة ثالثة، يقول الطبري:«فبينا الحسين (علیه السلام) في المدائن،إذ نادى مناد في العسكر:ألا إن قیس بن سعد قتل فانفروا،فنفروا ونهبوا سرداق الحسن (علیه السلام) حتى نازعوه بساطا كان تحته...»(5)

وسواء كان التطاول على الإمام الحسن (علیه السلام) وقع بعد خطبته التي كانت ملأى بالمودة والرحمة،أو كان السبب هو الإشاعة التي أطلقها وفد معاوية بين أفراد جيش الحسن (علیه السلام)،أو كان السبب هو الإشاعة التي نشرت عن مقتل قيس بن سعد،فإن

ص: 383


1- الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص 72.
2- ابن الأعثم، الفتوح، ج 2، ص 7.
3- الدينوري، الأخبار الطوال، ص 200.
4- تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 215.
5- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 122.

المؤرخين يتفقون على أن هؤلاء الغوغاء«أخذوا مصلاه من تحته،ثم شد عليه عبد الرحمن بن عبداللّٰه بن جعال الأزدي،فنزع مطرقه(=رداء من خز)عن عاتقه، فبقي جالسا متقلدا سيفه بغير رداء،واختلف الناس فصارت طائفة معه، وأكثرهم عليه.

فقال (علیه السلام):اللّٰه أنت المستعان،فأمر بالرحيل)فدعا بفرسه،فركبه،وأحدق به طوائف من خاصته وشیعته،ومنعوا منه من أراده،ولاموه وضعفوه لما تكلم به.

فقال:ادعوا لي ربيعة وهمدان.فدعوا له،فأطافوا به،ودفعوا الناس عنه،ومعهم شوب (=خليط) من غيرهم.

فلما مر في مظلم ساباط،قام إليه رجل من بني أسد، ثم من بني نصر بن قعين يقال اله جراح بن سنان،وبيده معول(أومغول:سيف دقيق له قفا يكون غمده كالسوط)،فأخذ بلجام فرسه،وقال:اللّٰه أكبر!یا حسن أشرك أبوك،ثم أشركت أنت.وطعنه بالوعول(كادت أن تأتي عليه)(1) ،فوقعت على فخذير،فشقته حتى بلغت أربيته(=أصل الفخذ)،وسقط الحسن (علیه السلام) إلى الأرض بعد أن ضرب الذي طعنه بسيف كان بيدو،

واعتنقه،فخرا جميعا إلى الأرض.فوثب عبد اللّٰه بن الأخطل الطائي،ونزع المعول من ای جراح بن سنان،فخضخضة به،وأكب ظبيان بن عمارة عليه،فقطع أنفه،ثم أخذا له الآجر،فشدخا رأسه ووجهه حتى قتلوه.

(وأفاق الحسين (علیه السلام) من غشيته،فعصبوا جرحه وقد نزف وضف)وحمل الحسن (علیه السلام) على سرير إلى المدائن،وبها سعید بن مسعود الثقفي واليا عليها من قبله (عم المختار بن أبي عبيد)،وقد كان علي (علیه السلام) ولاه المدائن،فأقره الحسين (علیه السلام) عليها، فأقام عنده يعالج نفسه(2) .

أقول:ما جرى على الإمام الحسن (علیه السلام) من تطاول من أهل العراق،يمكن النظر إليه على أنه من إرهاصات كربلاء...فثقافة التطاول والعنف اللفظي التي بدأت في أواخر خلافة الإمام علي (علیه السلام)،والتي تطورت إلى التجرؤ على اغتياله،هي نفسها الثقافة التي جرأت هؤلاء على الإمام الحسن (علیه السلام)،وهي ذاتها التي سينطلق منها قتلة الإمام الحسين (علیه السلام) في كربلاء

5.ما ينسب إلى المختار:

ينقل الطبري أن المختار قال لعمه:هل لك في الغني والشرف؟قال:وما ذاك؟

ص: 384


1- ابن الأعثم،الفتوح،ج2،ص8
2- أنظر أيضا:ابن أبي الحديد،شرح نهج البلاغة، مج8،ج16،ص16

قال:توثق الحسن وتستأمن به إلى معاوية.فقال له سعد:عليك لعنة اللّٰه أثب على ابن بنت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) فأوثقه!بئس الرجل أنت(1).ونقل ما يقرب منه ابن الجوزي في التذكرة،وابن سعد في الطبقات(2).

أقول:كنت في البدء أميل إلى أن هذه الرواية مكذوبة على المختار،لكن الشيخ الصدوق روی في علل الشرائع أنه عندما جاءوا بالحسن (علیه السلام) وهو مطعون في فخذه إلى عم المختار،قال المختار لعمه:«تعال نأخذ الحسن وتسلمه إلى معاوية فيجعل العراق النا،فبدر بذلك الشيعة من قول المختار لعمه،فهموا بقتل المختار، فتلطف عمه لمساءلة الشيعة بالعفو عن المختار،ففعلوا»(3).

وينقل السيد المرتضى في كتاب«تنزيه الأنبياء»ما يقرب من ذلك،على ما نقله عنه المجلسي في بحار الأنوار(4).

6.خيانة عبيد اللّٰه بن عباس العظمی

دعونا الآن نترك معسكر الحسن (علیه السلام)،وننتقل إلى عبيد اللّٰه بن العباس الذي أرسلة الإمام الحسن (علیه السلام) مع جيش للتصدي لمعاوية.كتب الأصفهاني في مقاتل الطالبيين:

«ثم إن معاوية،وافي حتى نزل قرية يقال لها الحبوبية بمسكن،فأقبل عبيد اللّٰه بن العباس حتى نزل بإزائه.فلما كان من غير وجه معاوية بخيل إليه،فخرج إليهم عبيد اللّٰه فيمن معه،فضربهم حتى ردهم إلى معسكرهم.

فلما كان الليل أرسل معاوية على عبيد اللّٰه بن العباس أن الحسن قد راسلني في اللح، وهو مسلم الأمر إلي،فإن دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعا،وإلا دخلت وأنت تابع،ولك إن جئتني الآن أن أعطيك ألف ألف درهم،يعجل لك في هذا الوقت النصف،وإذا دخل الكوفة النصف الآخر.

فانسل عبيد اللّٰه إليه ليلا(عبيد اللّٰه هذا الذي قتل بسر بن أرطاة-الذي أرسله

معاوية-ولديه)،فدخل عسكر معاوية،فوفي له بما وعده.

وأصبح الناس ينتظرون عبيد اللّٰه أن يخرج فيصلي بهم، فلم يخرج حتى أصبحوا.

ص: 385


1- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص 122.
2- أنظر حواشي كتاب بحار الأنوار، ج 44، ص 28 - 29.
3- الصدوق، علل الشرایع، دار البلاغة، باب 160 ، ص 221.
4- المجلسي، بحار الأنوار، ج 44، ص 27 - 28.

فطلبوه فلم يجدوه،فصلی بهم قیس بن سعد بن عبادة،ثم خطبهم(1) فثبتهم،وذكر عبيد اللّٰه فنال منه،ثم أمرهم بالصبر والنهوض إلى العدو،فأجابوه بالطاعة وقالوا له:انهض بنا إلى عدونا على اسم اللّٰه،فنزل فنهض بهم.

وفي رواية اليعقوبي:أن عبيد اللّٰه صار إلى معاوية في ثمانية آلاف من أصحابه(2) .

هنا يثار التساؤل التالي:هل سار عبيد اللّٰه بمفرده ليلا إلى معسكر معاوية؟أم سار مع ثمانية آلاف من أصحابه؟

قولان:لكن الأرجح أنه سار بمفرده ليلا،وأدى انسلاله هذا،مضافة إلى ما وصل إليهم من أخبار طعن الإمام الحسن (علیه السلام) في فخذه،إلى انسلال ثمانية آلاف من أصحابه.

«وجعل قي ينتظر الحسن بن علي أن يقدم عليه،وهو لا يعلم ما الذي نزل به. (قال الرواي)فبينا هو كذلك،إذ وقع الخبر في العسكرين أن الحسن بن علي قد طين في فخذه،وأنه قد تفرق عنه أصحابه.

فاهتم قیس بن سعد أن يشغل الناس بالحرب لكي لا يذكروا هذا الخبر،فزحف القوم بعضهم إلى بعض،واختلطوا للقتال.فقيل من أصحاب معاوية جماعة،وجرح منهم بشر كثير،وكذلك من أصحاب قیس بن سعد،ثم تحاجزوا.

وأرسل معاوية إلى قيس،فقال:يا هذا على ماذا تقاتلنا،وتقتل نفسك وقد أتانا الخبر اليقين بأن صاحبك قد خلعه أصحابه،وقد طعن في فخذه أشفى منها على الهلاك،فيجب أن تكف عنا،ونف عنك إلى أن يأتي علم ذلك.

(قال الرواي)فأمسك قیس بن سعد عن القتال،ينتظر الخبر.قال(الرواي)وجعل أهل العراق يتوجهون إلى معاوية قبيلة بعد قبيلة،حتى خفت عسكره،فلما رأى ذلك كتب إلى الحسين بن علي،يخبره بما هو فيه(3) .

سنعود بعد قليل لشرح موقف الإمام الحسن (علیه السلام) بعد وصول كتاب قیس.

الآن، إذا أردنا أن نستخدم لغة الأرقام لمعرفة كيف اختلت موازين القوى العسكرية بشكل خطير لمصلحة معاوية،نقول:إن جيش الحسن (علیه السلام) في مسكن كان مكونة من12ألفا،في قبال جیش معاوية المكون من60ألف مقاتل، فتكون نسبة جيش

ص: 386


1- الأصفهاني،مقاتل الطالبيين،ص72-73
2- تاريخ اليعقوبي،ج2،ص 214
3- ابن الأعثم،الفتوح،ج2،ص8-9

الحسين (علیه السلام) الحسن علي إلى جيش معاوية ابتداء هي20%،أي الخمس.ثم فر من جيش الحسن (علیه السلام) 8آلاف،إذن نسبة الفرار هي الثلثان،فصار عدد المتبقين4آلاف في قبال

جیش معاوية المكون من60ألف مقاتل،فتصبح نسبة جيش الحسن (علیه السلام) إلى جيش معاوية بعد عمليات الفرار أقل من10%.

7.محاولة معاوية شراء قیس

يقول اليعقوبي في تاريخه:وجة معاوية إلى قیس بن سعد ألف ألف درهم على أن يصير معه أو ينصرف عنه،فأرسل إليه بالمال، وقال له:أتخذعني عن ديني(1)؟!

نعود لرواية الأصفهاني.يقول الراوي:«وخرج إليه بسر بن أرطاة في عشرين الفا، فصاحوا بهم(=صاح أهل الشام بأهل العراق):هذا أميركم(=عبيد اللّٰه) قد بايع،وهذا الحسن قد صالح،فعلام تقتلون أنفسكم؟!

فقال لهم قیس بن سعد:اختاروا إحدى اثنتين،إما القتال مع غير إمام،وإما أن تبايعوا بيعة ضلال،فقالوا:بل قاتل بلا إمام،فخرجوا فضربوا أهل الشام حتى روهم إلى مصائهم».

وكتب معاوية إلى قيس يدعوه ويمنيه،فكتب إليه قيس:لا واللّٰه لا تلقاني أبدا إلا

بيني وبينك الرمح،فكتب إليه معاوية(لما يئس منه):

«أما بعد فانك يهودي ابن يهودي(2) تشقي نفسك وتقتلها فيما ليس لك ، فان ظهر أحب الفريقين إليك نبذك وعدرك(3) ، وإن ظهر أبغضهما إليك نكل بك وقتلك (4)، وقد كان أبوك أو ترغير قوسه ، ورمى غير غرضه ،فاكثر الحز(5) ،و اخطا المفصل فخذله قومه(6) وأدركه يومه ، فمات بحوران طريدا غريبا والسلام».

فكتب إليه قیس بن سعد:

ص: 387


1- تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 214.
2- تعريض به لكونه من يثرب التي كان يسكنها اليهود.
3- إن انتصر الحسن (علیه السلام) القرشي نبذك وغدرك، لأن قریش نبذت وغدرت بالأنصار، خصوصا الخزرج.
4- إن انتصرت أنا (معاوية) فسوف أنكل بك وأقتلك على إصرارك على حربي، وثارا لقريش من الخزرج لما فعلت في بدر وغيرها.
5- عندما انبرى لقتال قريش في بدر وما بعدها.
6- عندما انقلب عليه الأوس ووجهاء المهاجرين في السفيفة وأوشكوا أن يقتلوه تحت أقدامهم.

«أما بعد، فإنما أنت وثن ابن وثن(1)! دخلت(2) في الإسلام كرها وأقمت فيه فرقا وخرجت منه طوعا، ولم يجعل اللّه لك فيه نصيبا، لم يقدم إسلامك ولم يحدث نفاقك، ولم تزل حربا لله ولرسوله وحزبا من أحزاب المشركين وعدوا لله ولنبيه وللمؤمنين من عباده. وذكرت أبي، فلعمري ما أوتر إلا قوسه ولا رمى إلا غرضه، فشغب عليه من لا يشق غباره ولا يبلغ كعبه(3)....وزعمت أني يهودي ابن يهودي،وقد علمت وعلم الناس أني وأبي أعداء الدين الذي خرجت منه(=الكفر)،وأنصار الدين الذي دخلت فيه وصرت اليه (=الإسلام ،والسلام».

فلما قرأ معاوية كتابة غاظه،وأراد إجابته.فقال له عمرو:مهلا،فإنك إن كاتبته أجاب بأشد من هذا،وإن تركته دخل فيما دخل فيه الناس،فأمسك عنه»(4).

يقول اليعقوبي في تاريخه:«وكان معاوية يس إلى عسكر الحسن (علیه السلام) من يتحدث أن قیس بن سعد قد صالح معاوية وصار معه،ويوجه إلى عسكر قيس من يتحدث أن الحسن (علیه السلام) قد صالح معاوية وأجابه»(5).

أقول:لنتأمل قليلا في حرب الشائعات،وندرس تأثير شائعات من هذا القبيل في أولئك الذين كانوا مع قيس في مسكن،وتأثيرها في أولئك الذين كانوا مع الإمام الحسن (علیه السلام) في المدائن....

أولئك الذين كانوا يحاربون مع قيس،عندما يجدون أن قائدهم الأساسي(عبيد اللّٰه ابن العباس)قد استسلم وسلم الأمر إلى معاوية،ويسمعون أن الإمام الحسن (علیه السلام) قد أصيب في فخذه وكاد أن يقتل...لا نلومهم إذا أخذوا احتمال تسليم الإمام الحسن (علیه السلام) الأمر إلى معاوية بجدية.

وأولئك الذين كانوا قد بقوا مع الإمام الحسن (علیه السلام)،عندما يرون بأم أعينهم تعرض الإمام الحسن (علیه السلام) لمحاولة اغتيال جدية كادت تودي بحياته،ويلمسون بنحو مباشر الفوضى العارمة التي تسود جيش الحسن (علیه السلام)،ويسمعون من ناحية أخرى أن عبيد اللّٰه

ص: 388


1- تعريض به لكونه ممن عبد الأصنام في مكة.
2- وفيه مدح للمسلمين من الأوس ووجهاء المهاجرين، كي يقطع الطريق أمام معاوية من الاصطياد في الماء العكر، كما يقولون.
3- وبالتالي لا تقارن نفسك بالسابقين إلى الإسلام من وجهاء المهاجرين والأوس وغيرهم.
4- الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص 73 - 74، أيضا : ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مج8، ج 16، ص 22 - 25.
5- تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 214.

ابن العباس قد ارتكب الخيانة العظمى واستسلم لمعاوية،وأن ثلثي الجيش قد انسل إلى معاوية،فلا نلومهم إذا أخذوا إشاعة استسلام قیس بن سعد بجدية... .. .

نعم،كانت حرب إشاعات،نمت سريعا،واشتعلت كالنار في الهشيم.ونجح

معاوية في توظيف الإشاعات وتحريكها وانتهاز الفرصة أيما نجاح.

إذا أضفنا إلى حرب الإشاعات عدم رغبة قسم كبير من جيش الحسن (علیه السلام) في القتال،والذكريات المؤلمة لحرب صفين،والوعود والأماني التي كان يعدهم بها معاوية،ودعوته لهم،نستطيع أن نفهم حالة التفكك السريع لجيش الحسن (علیه السلام) والفوضى التي ألمت به.

يقول تعالى:«يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا»(1)و«وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ»(2)

8.رسائل رؤساء القبائل إلى معاوية وتوالي الخيانات

وينقل الصدوق في علل الشرائع:«ودسن معاوية إلى عمرو بن حريث والأشعث بن قيس وحجار بن أبجر وشبث بن ربعي دسيسة(3)،وأثر كل واحد منهم بعين من عيونه،إنك إذا قتلت الحسن،فلك مائة ألف درهم،وجند من أجناد الشام،وبنت من بناتي.فبلغ الحسن (علیه السلام) ذلك،فاستلام(=لبس اللأمة)،ولب درعا وكفرها(=سترها)،وكان يحترز ولا يتقدم للصلاة بهم إلا كذلك.فرماه أحدهم في الصلاة بسهم،فلم يثبت فيه لما عليه من اللأمة»(4).

وقال المفيد في إرشاده:«وكتب جماعة من رؤساء القبائل إلى معاوية بالطاعة له في السر،واستحثوه على السير نحوهم،وضمنوا له تسليم الحسن (علیه السلام) عند دوهم من عسكره أو الفتك به،وبلغ الحسن (علیه السلام) ذلك.

وورد عليه كتاب قیس بن سعد(بشان انسلال عبيد اللّٰه بن العباس وتأثير وصول خبر طعنه في فخذه)فازدادت بصيرة الحسن (علیه السلام) بخذلان القوم له،وفساد نیات المحكمة فيه بما أظهروه له من السب والتكفير واستحلال دمه ونهب أمواله. ولم يبق معه من يأمن

ص: 389


1- سورة النساء، الآية : 120.
2- سورة إبراهيم، الآية: 22.
3- بعض هؤلاء سيصبح من قتلة الحسين (علیه السلام) بعد أن كانوا من أنصار علي (علیه السلام) فی صفین...هنا نرصد الانحراف الواضح في بداياته.
4- الصدوق، علل الشرایع، باب 160 ، ص 220 - 221.

غوائله إلا خاصة من شیعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين (علیه السلام)،وهم جماعة لا تقوم لأجناد الشام»(1).

وهكذا توالت الخيانات في جيش الإمام الحسن (علیه السلام)،ومن تلك الخيانات«أن الحسن (علیه السلام) بعث إلى معاوية قائدا من كندة في أربعة آلاف،فلما نزل الأنبار بعث إليه معاوية بخمسمائة ألف درهم،ووعده بولاية بعض كور الشام والجزيرة، فصار إليه في مائتين من خاصته.ثم بعث (علیه السلام) رجلا من مراد ففعل كالأول،بعدما حلف الأيمان التي لا تقوم لها الجبال أنه لا يفعل،وأخبرهم الحسن (علیه السلام) أنه سيفعل كصاحبه»(2).

انطلاقا من هذه المعطيات،وهذا التدهور الدراماتيكي، وهذا المسلسل الخطير من

الخيانات،اضطر الإمام الحسن (علیه السلام) أن يتجرع الشم ويقبل الصلح مع معاوية.

الخلاصة:تحدثنا في هذا الفصل عن أسباب ضلح الإمام الحسن (علیه السلام) مع معاوية،ويمكن إيجاز ذلك في الأسباب التالية:

1.ضعف أنصار الإمام الحسن (علیه السلام) وتخاذلهم وعدم انصياعهم لأوامره بعد تأثیر دسائس وإشاعات معاوية فيهم، وبهذا سوف لا تجدي المقاومة بل سوف تتحتم الانتكاسة أمام مكر معاوية، وعلى الإمام الحسن (علیه السلام) أن يحافظ على بقاء هذا الخط وتناميه في مجتمع يسوده مكر معاوية وخدائعه.

2.ويترتب على انتكاسة جيش الإمام الحسن (علیه السلام) استشهاده مع الخلص من أهل بيته وأصحابه،أو أسرهم وبقاؤهم أحياء في سجن معاوية،أو إطلاق سراحهم مع بقائهم في موقع الضعف بعد الامتنان عليهم بالحرية.وكل هذه السيناريوهات غير مقبولة. فالاستشهاد-مثلا-إذا لم يترتب عليه أثر مشروع عاجل أو آجل فلا مبرر له.

3.صيانة الثلة المؤمنة بحقانية أهل البيت (علیهم السلام)،وحفظهم من التصفية والإبادة الأموية الشاملة بعد إحراز بقاء الحقد الأموي لبني هاشم ومن يحذو حذوهم،كما أثبتته حوادث التاريخ الإسلامي الدامي(3).

ص: 390


1- المفيد، الارشاد، ج 2، ص 12 - 13.
2- محسن الأمين، أعيان الشيعة 4/ 22. أيضا أنظر: قطب الدين الراوندي ، الخرائج والجرائح، ج2، ص 575.
3- طبعا المؤمنون تعرضوا لتصفية رغم الصلح (كشهادة حجر بن عدي وعمرو بن الحمق ومیثم التمار... إلخ)، لكن لو لم يتم الشلح وحال جيش الحسن (علیه السلام) ما ذكرنا، لوقعت تصفية شاملة وملاحقات أشد وأقسى مما وقع، لاحظ أيضا أنه استشهد مع الإمام الحسين (علیه السلام) عشرون من أصحاب الإمام علي (علیه السلام) وهي نسبة عالية من أنصاره (علیه السلام) .

4.حقن دماء المسلمين حيث لا تجدي الحرب مع الفئة الباغية.

5.كشف واقع المخطط الأموي، وتحصين الأمة الإسلامية ضده،بعد أن مهدت الخلافة لسيطرة صبيان بني أمية على زمام قيادة الأمة المسلمة،والتلاعب بمصير الكيان الإسلامي.

6.ضرورة تهيئة الظروف الملائمة لمقارعة الكفر والفاق المستتر من موقع القوة(1) .

في الفصل التالي نريد أن نرى ما الذي قام به الإمام الحسن (علیه السلام) لتنفيذ القرار الذي انتهى إليه،وهو الصلح مع معاوية؟وما هي البنود التي حرص (علیه السلام) على أن تكون متضمنة في عقلي اللح؟وإلى أي حد التزم الطرف الآخر بنود هذا الصلح؟

ص: 391


1- المجمع العالمي لأهل البيت،أعلام الهداية،الإمام الحسن (علیه السلام)،ط1422،1هج،قم،ص158-159

(24)صلح الإمام الحسن علی وبنوده

بدأنا في الفصل السابق بسرد تسلسل الأحداث والتطورات الميدانية التي أدت إلى اتخاذ الإمام الحسن (علیه السلام) قرار الصلح مع معاوية،وقلنا بأن الإمام الحسن (علیه السلام) كان قد خرج من الكوفة مع جيشي لقتال معاوية،وأرسل قبل ذلك عبيد اللّٰه بن العباس مع جيش الصد وإيقاف معاوية عن التقدم نحو العراق...وتحدثنا عن خيانة عبيد اللّٰه بن العباس وانسلاله إلى معسكر معاوية،ثم انسلال عدد كبير من أفراد هذا الجيش إلى معاوية،وبقاء قیس بن سعد حائرة مع ما بقي من الجيش،خصوصا عندما وردت أنباء عن تعرض الإمام الحسن (علیه السلام) لمحاولة اغتيال وإصابته في فخذه وانتهاب رحله.

نريد في هذا الفصل استكمال سرد تلك الأحداث والتطورات،لنتحدث بعد ذلك عن بنود الصلح ومبرراتها،ودخول معاوية الكوفة وما جرى بعد دخوله إليها،ثم نختم بالمعترضين على الصلح من أصحاب الحسن (علیه السلام) وجواب الإمام الحسن (علیه السلام) عن تلك الاعتراضات.

الإمام الحسن (علیه السلام) يتجرع الشم بقبوله الصلح

من الخطوات التي قام بها معاوية،أنه كتب إلى الإمام الحسن (علیه السلام) وأطلعه على خيانات رؤساء القبائل،ورغبتهم في تسليمه له،ومعرفته بمحاولات الاغتيال التي تعرض الها،جاء في كتابه:

أما بعد،فإن اللّٰه عزوجل يفعل في عباده ما يشاء«لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ»(1) ،فاحذر أن تكون منیتك على يد رعاع الناس،وایئ من أن تجد فينا غميزة(=مطعن)،وإن أنت أعرضت عما أنت فيه وبايعتني وفيت لك بما وعدت،وأجزث لك ما شرطت... .ثم الخلافة لك من بعدي،فأنت أولى الناس بها، والسلام»(2) .

ص: 392


1- سورة الرعد،الآية:41
2- الأصفهاني،مقاتل الطالبيين،ص68

فأجابه الإمام الحسن (علیه السلام) برسالة جاء فيها:

«أما بعد،فقد وصل إلي كتابك،تذكر فيه ما ذكرت،فترك جوابك خشية البغي عليك،وباللّه أعود من ذلك،فاتبع الحق تعلم أني من أهله،وعلي إثم أن أقول فأكذب،والسلام».

بعد أن وصل إلى الحسن (علیه السلام) كتاب معاوية،ووردته أنباء مسلسل الخيانات في جيشه،في هذا السياق يروي الديلمي في أعلام الدين،وابن الأثير في أسد الغابة ما يقترب منه،أن الإمام الحسن (علیه السلام) خطب فحمد اللّٰه وأثنى عليه ثم قال:

أما واللّه ما ثنانا عن قتال أهل الشام ذلة ولا قلة. ولكن كنا نقاتلهم بالسلامة والصبر، فشيبت السلامة بالعداوة، والصبر بالجزع، وكنتم تتوجهون معنا ودينكم أمام دنياكم، وقد أصبحتم الآن ودنياكم أمام دينكم، فكنا لكم وكنتم لنا، وقد صرتم اليوم علينا، ثم أصبحتم تعدون قتيلين: قتيلا بصفين تبكون عليه، وقتيلا بالنهروان تطلبون بثاره فأما الباكي فخاذل، وأما الطالب فثائر.

وإن معاوية قد دعا إلى أمر ليس فيه عز ولا نصفة، فإن أردتم الحياة قبلناه منه، وأغضضنا على القذى، وإن أردتم الموت بذلناه في ذات اللّه وحاكمناه إلى اللّه ....

فنادى القوم بأجمعهم،بل البقية والحياة»(1).

ويروي الصدوق أن الإمام الحسن (علیه السلام) كان قد حذر أصحابه من عواقب هذه

التطورات،فقال في مناسبة:ویلكم واللّه ان معاویة لا یفی لأحد منكم بما ضمنه فی قتلی و أنی أظن انی ان وضعت یدی فی یده فأسالمه لم یتركنی ادین لدین جدی صلی اللّه علیه و آله و سلم و انی أقدر أن أعبد اللّه وحدی، و لكنی كأنی أنظر الی أبنائكم واقفین علی أبواب أبنائهم، یستسقونهم و یستطعمونهم، بما جعله اللّه لهم فلا یسقون و لا یطعمون فبعدا و سحقا لما كسبته أیدیكم،« وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)»(2). فجعلوا يعتذون بما لا عذر لهم فيه(3).

أيضا بعدما قرأ الإمام الحسن (علیه السلام) كتاب قیس بن سعد،وعلم بخيانة عبيد اللّٰه بن عباس،وتأثير خبر طعنه في فخذه في معنويات أتباعه،والإشاعات والحرب النفسية التي أطلقها معاوية،وانسلال قبيلة تلو الأخرى من جيش قيس،أرسل إلى وجهاء أصحابه،فدعاهم ثم قال:

ص: 393


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج 44، ص 21 - 22. أيضا ابن الأثير، اسد الغابة، ج2، ص15 - 16.
2- سورة الشعراء، الآية: 227.
3- الصدوق، علل الشرایع، باب 160 ، ص 221.

يا أهل العراق! ما أصنع بجماعتكم معي وهذا كتاب قيس بن سعد يخبرني بأن أهل الشرف منكم قد صاروا إلى معاوية، أما واللّه ما هذا بمنكر منكم لأنكم أنتم الذين أكرهتم أبي يوم صفين على الحكمين، فلما أمضى الحكومة وقبل منكم اختلفتم، ثم دعاكم إلى قتال معاوية ثانية فتوانيتم، ثم صار إلى ما صار إليه من كرامة اللّه إياه. ثم إنكم بايعتموني طائعين غير مكرهين، فأخذت بيعتكم وخرجت في وجهي هذا، واللّه يعلم ما نويت فيه، فكان منكم إلي ما كان، يا أهل العراق! فحسبي منكم لا تعزوني في ديني فإني مسلّم هذا الأمر إلى معاوية.

قال: فقال له أخوه الحسين: يا أخي! أعيذك باللّه من هذا! فقال الحسن:واللّه لأفعلن ولأسلمن هذا الأمر إلى معاوية(1).

يقول زید بن وهب الجهني أنه بعد أن جرح الإمام الحسن (علیه السلام) في المدائن، سألته عن الموقف الذي سيتخذه في هذه الظروف،فأجاب (علیه السلام):«أرى واللّه معاوية خيراً لي من هؤلا يزعمون انهم لي شيعة, ابتغوا قتلي وأخذوا مالي, واللّه لأني آخذ معاوية خيراً لي من هؤلاء يزعمون أنهم لي شيعة, ابتغوا قتلي وأخذوا مالي, واللّه لأن آخذ من معاوية ما أحقن به من دمي وآمن به في أهلي خيراً من أن يقتلوني فيضيع أهل بيتي و اهلی واللّه لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعونی إليه سلماً, فوواللّه لأن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسير، أو يمن علي فتكون سبة على بني هاشم إلى آخر الدهر،ومعاوية لا يزال یمن بها وعقبه على الحي منا والمیت...»(2).

نعم،اخذ الإمام الحسن (علیه السلام) قرار الصلح بعدما كان عازما على مواصلة الحرب مع معاوية،وذلك عندما رأى ردود أفعال جيشه عند اختبارهم،وعندما وجد أن جيشه بات مزيجا غير متجانس من أمويين وخوارج وشكاكين وحمراء.وتأكد خياره أكثر عندما خطب في ساباط وثارت الجماهير عندما فهمت أنه يريد الصلح،فقام بعضهم وشدوا على فسطاطه وانتهبوه حتى أخذوا مصلاه من تحته،ثم بعد ذلك قام بعضهم بطعن في فخذه طعنة كادت تودي بحياته،فضلا عن محاولة اغتياله بهم وهو في الصلاة،وعم بعضهم على اعتقاله وتسليمه إلى معاوية،وانتشرت الإشاعات في مسكن والمدائن،وانهارت المعنويات وتفشت حالة الفوضى العارمة. وصارت الصورة بالغة الوضوح بعد اطلاعه على رسائل رؤساء القبائل إلى معاوية. وكان الخبر خيانة عبيد اللّٰه بن العباس(وهو قائد جيشه في مسكن)وفرار ثمانية آلاف من جيشه،ثم خيانة الرجل الكندي،والرجل

ص: 394


1- ابن الأعثم، الفتوح، ج 2، ص 9.
2- الطبرسي، الاحتجاج: تحقيق إبراهيم بهادري ومحمد هادي به، انتشارات أسوة، ط1، 1413هج، قم ج 2 ص 10.

المرادي(وهي خيانات على مستوى القادة)،كان لذلك كله الأثر الأكبر في حسم خياره .

لكن كيف تمت عملية الصلح؟ما هي بنود الصلح؟وإن لم يكن ليفي معاوية بشيء منها،فما فائدة تأكيد الإمام الحسن (علیه السلام) على هذه البنود؟وماذا جرى بعد تسليم الأمر إلى معاوية؟ومن الذي اعترض على الصلح (علیه السلام) ولماذا اعترض من اعترض؟وما هي المبررات التي ساقها الإمام الحسن (علیه السلام) ليشرح موقفه؟

هذه الأسئلة وغيرها نحاول الإجابة عنها في الفقرات القادمة.

الإمام الحسن (علیه السلام) يقبل عرض معاوية بشروط

یروي الصدوق أن الإمام الحسن (علیه السلام) كتب إلى معاوية في الهدنة والصلح،وجاء في كتابه:

أما بعد فان خطبي انتهى إلى اليأس من حق احييه وباطل اميته ، وخطبك خطب من انتهى إلى مراده ، وإنني أعتزل هذا الامر ، واخليه لك ، وإن كان تخليتي إياه شرا لك في معادك ، ولي شروط أشترطها ، لا تبهظنك إن وفيت لي بها بعهد..... وستندم يا معاوية كما ندم غيرك ممن نهض في الباطل ، أو قعد عن الحق حين لم ينفع الندم ، والسلام»(1).

ويقول المفيد في الإرشاد:«وأنف(معاويةإليه بكتب أصحابه التي ضمنوا له فيها الفتك به وتسليمه إليه، واشترط له على نفسه في إجابته إلى صلحه شروطا كثيرة وعقد له عقودا كان في الوفاء بها مصالح شاملة، فلم يثق به الحسن عليه السلام وعلم احتياله بذلك واغتياله، غير أنه لم يجد بدا من إجابته إلى ما التمس (من ترك) الحرب وإنفاذ الهدنة، لما كان عليه أصحابه مما وصفناه من ضعف البصائر في حقه والفساد عليه والخلف منهم له، وما انطوى كثير منهم عليه في استحلال دمه وتسليمه إلى خصمه، وما كان في خذلان ابن عمه له ومصيره إلى عدوه، وميل الجمهور منهم إلى العاجلة وزهدهم في الآجلة»(2).

وكتب ابن الأعثم:«ثم دعا الحسن بن علي بعبد اللّٰه بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم،وهو ابن اخت معاوية،فقال له:صر إلى معاوية،فقل له عني: إنك إن أمنت الناس على أنفسهم وأموالهم وأولادهم ونسائهم بايعتك،وإن لم تؤمنهم لم أبايعك.

قال:فقدم عبد اللّٰه بن الحارث على معاوية فخبره بمقالة الحسن (علیه السلام)،فقال له

ص: 395


1- الصدوق، علل الشرایع، باب 160 ، ص 221.
2- المفيد، الارشاد، ج 2، ص 14.

معاوية:سل ما أحببت،فقال له:أمرني أن أشرط عليك شروطا،فقال معاوية:وما هذه الشروط؟فقال:إنه مسلم إليك هذا الأمر على أن له ولاية الأمر من بعدك، وله في كل سنة خمسة آلاف درهم من بيت المال،وله خراج دار أبجرد من أرض فارس،والناس كلهم آمنون بعضهم من بعض،فقال معاوية:قد فعل ذلك.

قال:فدعا معاوية بصحيفة بيضاء،فوضع عليها طينة وختمها بخاتمه،ثم قال:خذ هذه الطحيفة فانطلق بها إلى الحسن،وقل له فليكتب فيها ما شاء وأحب، ويشهد أصحابه على ذلك،وهذا خاتمي بإقراري»(1).

بنود الصلح ومبرراتها

إذا درسنا ما ذكره المؤرخون من بنود للصلح،نجد أن تلك البنود يمكن فرزها إلى خمسة بنود أساسية.تفاوتت المصادر التاريخية في صياغة كل بند من تلك البنود.ويبدو لي أن ثمة دوافع وراء هذا الاختلاف في الصياغة،كما سترى.

المادة الأولى:تسليم الأمر إلى معاوية على أن يعمل ب«كتاب اللّٰه وسئة رسوله»المدائني كما روى ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة(2) وتضيف بعض المصادر سيرة الخلفاء الصالحين»(الفتوح لابن الأعثم)(3)

ولنا على هذا البند ملاحظتان:

الملاحظة الأولى:أن هذا البند لا يتضمن إلزام الإمام الحسن (علیه السلام) بالبيعة لمعاوية،بل يكتفي بتسليم الأمر له...وبعبارة أخرى فسح الطريق لمعاوية لتولي السلطة دون إعاقة أو اعتراض من طرف الإمام الحسن (علیه السلام).

الملاحظة الثانية:أن اشتراط العمل بسيرة الخلفاء لا ينسجم مع منطق أهل البيت (علیهم السلام).فهذا الإمام علي (علیه السلام) قد عرضت عليه الخلافة بعد اغتيال عمر،واشترط عبد الرحمن بن عوف عليه العمل بسيرة الشيخين،فرفض (علیه السلام)،وكانت النتيجة أن انتهت الخلافة العثمان.وبالتالي لا يمكن القول بأن الإمام الحسن (علیه السلام) قد اشترط على معاوية ذلك.إلا إذا قلنا إنه اشترط عليه ذلك حتى ينكشف أمام الناس أن معاوية لن يخالف كتاب اللّٰه وسنة رسوله فحسب،بل سيخالف حتى سيرة الخلفاء.مع ذلك،هذا

ص: 396


1- ابن الأعثم، الفتوح، ج 2، ص 9 - 10.
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مج8، ج 6، ص 14.
3- ابن الأعثم، الفتوح، ج2، ص10.

احتمال ضعيف جدا،وهذه الإضافة هي على الأرجح من مؤرخين أو رواة ينتمون المدرسة عبد اللّٰه بن الزبير(قريش المنكسرة)،الذي كان يتبنى هذا الاتجاه، ليظل المسار العام لمصلحة قريش،لا لمصلحة بني أمية وحدها.

المادة الثانية:أن يكون الأمر للحسين من بعد(أسد الغابة لابن الأثير)(1)،تاریخ الخلفاء للسيوطي(2)،والإصابة للعسقلاني(3)،ودائرة معارف لوجدي(4)،وإن حدث به حدث فلأخيه الحسين(عمدة الطالب لابن المهنا)(5)،وليس لمعاوية أن يعهد به إلى أحد( المدائني كما يروي ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة)(6).وتضيف بعض المصادر إلى أنه ليس لمعاوية أن يعهد لأحد من بعده عهدا،أن يكون الأمر من بعدو شوری بین المسلمين»(الفتوح لابن الأعثم)(7).

وتعليقا على هذا البند هو التالي:من المسلم به أن الإمام الحسن (علیه السلام) اشترط على معاوية أن لا يعهد لأحد من بعده،وأن يكون الأمر من بعده للحسن (علیه السلام). لكن ما يقال من أنه (علیه السلام) اشترط أن يكون الأمر شوری بین المسلمين،هو على الأرجح إضافة من مؤرخين أو وراة ينتمون إلى مدرسة عبد اللّٰه بن الزبير(قريش المنكسرة)،الذي كان يتبی هذا الاتجاه،ليظل المسار العام لمصلحة قريش،لا لمصلحة بني أمية خاصة.وستوف هذه الإضافات المزعومة بعد موت معاوية، لإضفاء الشرعية على حركة عبد اللّٰه بن الزبير ضد يزيد،الذي-بعد شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) في كربلاء-دولة في الحجاز استمرت بضع سنوات.

المادة الثالثة:أن يترك ست أمير المؤمنين(8) والقنوت عليه في الصلاة وأن لا يذكر

ص: 397


1- ابن الأثير، اسد الغابة، ج2، ص13.
2- السيوطي، تاریخ الخلفاء، ص 226.
3- ابن حجر العسقلاني، الإصابة في تمييز الصحابة، ج 2، ص 12 - 13.
4- محمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، ج 3، ص 443.
5- ابن المهنا، عمدة الطالب في أنساب آل ابي طالب، ص52.
6- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغه، مج8، ج16، ص14.
7- ابن الأعثم، الفتوح، ج 2، ص 10.
8- يروي ابن عساكر في تاريخ دمشق عن علي بن الحسين (علیه السلام) قال: قال مروان بن الحكم: ما كان في القوم أحد أدفع عن صاحبنا من صاحبكم - يعني علية عن عثمان - قال: قلت له : فما لكم تشبونه على المنابر؟ قال: لا يستقيم الأمر إلا بذلك !! (أنظر : ابن عساكر، تاریخ دمشق، ترجمة الإمام علي (علیه السلام) ، تحقیق محمد باقر المحمودي، دار التعارف، بیروت، ج 3، ص 99).

عليا إلا بخير(مقاتل الطالبيين للأصفهاني(1)،وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد(2)، وقال آخرون إنه أجابه أنه لا يشتم عليا وهو يسمع،تاریخ الأمم والملوك للطبري(3)،وعلى أنه لا يبتغي للحسن (علیه السلام)ولأخيه الحسين (علیه السلام)،ولا لأحد من أهل بیت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)غائلة سرا ولا علانية،ولا يخيف أحدة منهم في أفق من الآفاق (الفتوح لابن الأعثم)(4).

ونستنتج من هذا البند أن شئة سب الإمام علي (علیه السلام) الخبيثة كانت قد بدأت قبل أن يستتب الأمر لمعاوية،واستمرت هذه السنة بعد صلح الإمام الحسن (علیه السلام) عقودا طويلة إلى أن استلم عمر بن عبد العزيز الخلافة،كما سنرى فيما بعد.

المادة الرابعة:أن يكون له(=للحسن)ما في بيت مالي بالكوفة وخراج دار أبجرد

(تاريخ الأمم والملوك للطبري)(5)،وفي الأخبار الطوال:أن يحول لأخيه الحسين في كل عام ألفي ألف،ويفضل بني هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس)(6)،وأن يقضي دیونه(تاریخ الخلفاء للشيوطي،ص226)(7)..

ويذكر الشيخ الصدوق(قده)تبريرة لهذا البند أن «الدار أبجرد خطب في شان الحسن (علیه السلام)،بخلافي جميع فارس».ويرى آخرون أن مبرر هذا البند أن دار أبجرد لم

تفتح غنوة،بل صالح أهلها على ما صرح البلاذري في فتوح البلدان.ولم يكن يريد الحسن (علیه السلام) أن يأكل وأصحابه من عطاء أراض مفتوحة عنوة)(8).

المادة الخامسة:أن لا يا أحدة من أهل العراق بإحنة،وأن يؤمن الأسود والأحمر ويحتمل ما يكون من هفواتهم(الأخبار الطواله)(9)على أن لا يطالب أحدا من أهل المدينة والحجاز والعراق بشيء مما كان أيام أبيه(تاریخ الخلفاء للشيوطي) (10)

ص: 398


1- الأصفهاني، مقاتل الطالبین، ص 75.
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مج8، ج16، ص26.
3- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص 122.
4- ابن الأعثم، الفتوح، ج 2، ص 10.
5- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 122.
6- أبو حنيفة الدينوري، الأخبار الطوال، ص202.
7- السيوطي، تاریخ الخلفاء، ص 226.
8- راجع : المجلسي، بحار الأنوار، ج 44، ص10.
9- أبو حنيفة الدينوري، الأخبار الطوال، ص202.
10- السيوطي، تاریخ الخلفاء، ص 226.

وعلى أن الناس آمنو حيث كانوا من أرض اللّٰه في شامهم وعراقهم وتهامهم و حجازهم وعلى أن أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم(الفتوح لابن الأعثم(1)،تاريخ الأمم والملوك للطبري)(2).

ويتضح من هذا البند حرص الإمام الحسن (علیه السلام) على محاصرة تداعيات الأحداث التي جرت في فتنة مقتل عثمان،والحروب التي تلت ذلك،حتى لا تنفلت الأمور أكثر من ذلك،وينفتح الباب أمام تصفية الحسابات القبلية،وتوريث الثارات...إذن هذا البند وضع لحماية الناس عموما،ولحماية شيعة علي (علیه السلام) على وجه الخصوص، من تلك التداعيات.

•هل بايع الإمام الحسن (علیه السلام) معاوية؟أم صالحه وسلم الأمر إليه؟

هذا سؤال أثاره بعض المحققين في التاريخ،وقالوا بأنا لا نجد دلية تاريخية حاسمة على أن الإمام الحسن علی بایع معاوية(وإن أشارت بعض المصادر إلى ذلك)،بل ما ثبت تاريخيا هو أن الإمام الحسن (علیه السلام) صالح معاوية على أن يسلم الأمر له.

وقد يستدل على أن المسألة لم تنطو على مبايعة ما ورد في بعض المصادر من أن الإمام الحسن (علیه السلام) اشترط على معاوية أن لا يسميه«أمير المؤمنين»،كما اشترط عليه أن لا يقيم عنده شهادة(3).

والحقيقة أن هناك فرقا كبيرا بين مبايعة معاوية كخليفة،وتسليم الأمر من خلال الانسحاب من الحياة السياسية العامة لمصلحة طرف معین.الحالة الأولى تنطوي على اعتراف بشرعية سلطة الحكم بنحو من الأنحاء،في حين أن الحالة الثانية تعني الاذعان الموازين القوى الجديدة،والتعاطي معهابمرونة وفق المصلحة العامة،دون الاعتراف بشرعية الطرف الآخر بأي نحو من الأنحاء.

وعلى هذا الأساس قد يقال إن هناك فرق بين موقف الإمام علي (علیه السلام) عندما بايع أبابكر،وموقف الإمام الحسن (علیه السلام) عندما سلم الأمر لمعاوية.

وحتى لو قلنا بأن الإمام الحسن (علیه السلام) طلب من أصحابه مبايعة معاوية،فهذا لا يعني أنه (علیه السلام)بايعه،لأن معاوية كان يكتفي من الإمام الحسن (علیه السلام) أن يسلم له الأمر علنا

ص: 399


1- ابن اعثم، الفتوح، ج2، ص10.
2- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 128.
3- راضي آل یاسین، صلح الحسن ، ص 272.

وبشكل صريح،لأن هذا القدر-بحساب معاوية-كان يعني في الأمن العام نحوا من المبايعة....وهذا القدر كان كافيا لمعاوية.

إذن عندما يفهم بعض المؤرخين والباحثين من سلوك الإمام الحسن (علیه السلام) أنه بایع معاوية،فنحن لا نلومهم على ذلك،لأن سلوكه (علیه السلام) قد يعطي هذا الانطباع. ومعاوية كان يكتفي بحصول هذا الانطباع وإن لم يبايع الإمام الحسن (علیه السلام) فعلا.

مفاوضات شاقة لأخذ البيعة من قيس

كتب ابن الأعثم:«وسار معاوية في جيشه حتى وافي الكوفة،فنزل بها في قصر

الإمارة،ثم أرسل إلى الحسين بن علي (علیه السلام) فدعاه،وقال:هلم أبا محمد إلى البيعة.

فأرسل إليه الحسن:أبايعك على أن الناس كلهم آمنون؟

فقال معاوية:الناس كلهم آمنون إلا قیس بن سعد،فإنه لا أمان له عندي!

فأرسل الحسن إليه:إني لست مبايعا أو تؤمن الناس جميعا،وإلا لم بايعك.

قال(الراوي)فأجابه معاوية إلى ذلك(1) .

وأحضر الناس لبيعته(بيعة معاوية)،وكان الرجل يحضر فيقول:واللّٰه يا معاوية إني

لأبايعك وإني لكارة لك.

فيقول(معاوية):بایع،فإين اللّٰه قد جعل في المكروو خيراً كثيراً»(2) .

قال الأصفهاني:ولما تم الصلح بين الحسن (علیه السلام) ومعاوية،أرسل إلى قیس بن سعد يدعوه إلى البيعة،فأتی به-وكان رجلا طويلا يركب الفرس المسرف ورجلاه تخطان في الأرض وما في وجهه طاقة شعر وكان يسمى خصي الأنصار-فلما أرادوا أن يدخلوه إليه،قال(قيس):إني حلفت ألا ألقاه إلا بيني وبيته الرمح أو السيف،فأمر معاوية برمح وسيف فوضعا بينه وبينه ليبر يمينه.

كتب الأصفهاني:لما صالح الحسين (علیه السلام) معاوية،اعتزل قيس بن سعد في أربعة آلافي فارس وأبى أن بایع.

فلما بايع الحسن (علیه السلام) أدخل قيس ليبايع،فأقبل على الحسن (علیه السلام)،فقال:أفي جل أنا من بيعتك؟

ص: 400


1- ابن الأعثم،الفتوح،ج2،ص11
2- تاريخ اليعقوبي،ج2،ص216

فقال (علیه السلام):نعم.

فألقي لقیس كرسي،وجلس معاوية على سريره،فقال له معاوية:أتبایع یا قیس؟

قال(قيس):نعم.

فوضع يده على فخذه،ولم يمدها إلى معاوية.فجثا معاوية على سريره، وأكب على

قيس حتى مسح يده على يده، وما رفع إليه في يده(1) .

«فقال له معاوية:يا قيس إني قد كنت أكره أن يجتمع الناس علئ وأنت حي.

فقال قيس:وأنا واللّٰه يا معاوية قد كنت أكره أن يصير هذا الأمر إليك وأنا حي»(2) .

معاوية يدل الكوفة ويكشف حقيقة نياته

كتب أبو الفرج الأصفهاني:وسار معاوية حتى نزل بالنخبلة،وجمع الناس بها فخطبهم قبل أن يدخل الكوفة خطبة طويلة لم ينقلها أحد من الرواة تامة...........

عن الشعبي قال:خطب معاوية حين بويع له فقال:ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا

وظهر أهل باطلها على أهل حقها.ثم انتبه فندم،قال:إلا هذه الأمة فإنهاوإنها....

عن أبي إسحاق قال:سمع معاوية بالخيلة يقول:ألا إن كل شيء أعطيه الحسن ابن علي تحت قدمي هاتين لا أفي به...... .

عن الأعمش،عن عمرو بن مرة،عن سعيد سويد،قال:صلى بنا معاوية بالنخيلة الجمعة في الصحن ثم خطبنا فقال. إني واللّه ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا إنكم لتفعلون ذلك. وانما قاتلتكم لاتأمر عليكم وقد اعطاني اللّه ذلك وانتم كارهون(3) .

وروى المدائني فقال:خطب معاوية أهل الكوفة فقال:يا أهل الكوفة،أتروني قاتلتم على الصلاة والزكاة والحج،وقد علمت أنكم تصلون و تزكون و تحجون و لكنني قاتلتكم لأتأمر عليكم و على رقابكم و قد آتاني اللّه ذلك و أنتم كارهون ألا إن كل مال أو دم أصيب في هذه الفتنة فمطلول و كل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين و لا يصلح

ص: 401


1- أبو الفرج الأصفهاني،مقاتل الطالبيين،ص79-80.أيضا ابن أبي الحديد،شرح نهج البلاغة،الج16،ص28-29
2- ابن الأعثم،الفتوح،ج2،ص12
3- أبو الفرج الأصفهانی،مقاتل الطالبيين،ص76-77.أيضا ابن أبي الحديد،شرح نهج البلاغة،مج8،ج16،ص27

الناس إلا ثلاث:إخراج العطاء عند محله،وإقفال الجنود لوقتها،وغزو العدو في دارو،فإنهم إن لم تغزوهم غزوكم(1).

«فغضب الناس من كلام معاوية،وضجوا وتكلموا،ثم شتموا معاوية،وهموا به في وقتهم ذلك،وكادت الفتنة أن تقع، وخشي معاوية على نفسه،فندم على ما تكلم به أشد الندم»(2).

أقول:من الواضح تماما من كلام معاوية،وردود أفعال الناس،أن معاوية لم يكن يعرف وضع أهل العراق حق المعرفة،ولم يكن قد أدرك حتى ذلك الوقت حدود الوضع المنفلت والمضطرب،وإلا لكان أكثر حذرة واحتياطا،ولما كان كشفت عن نباته بهذا القدر من الوضوح.

وروى المدائني قال:سأل معاوية الحسن بن علي بعد الصلح أن يخطب الناس، فامتنع،فناشده أن يفعل(3)،فوضع له كرسي،فجلس عليه،ثم قال(بعد أن حمد اللّٰه):أيها الناس،رب علي كان أعلم بعلي حين قبضه إليه،ولقد اختصة بفضل لم تعتادوا مثله،ولم تجدوا مثل سابقته.

فهيهات هيهات طالما قلبتم له الأمور حتى أعلاه اللّه عليكم و هو صاحبكم و عدوكم في و أخواتها جرعكم رنقا و سقاكم علقا و أذل رقابكم و أشرقكم بريقكم فلستم بملومين على بغضه و ايم اللّه لا ترى أمة محمد خفضا(4) ما كانت سادتهم و قادتهم في بني أمية و لقد وجه اللّه إليكم فتنة لن تصدروا عنها حتى تهلكوا لطاعتكم طواغيتكم و انضوائكم إلى شياطينكم فعند اللّه أحتسب ما مضى و ما ينتظر من سوء دعتكم و حيف حكمكم.

ثم قال:يا أهل الكوفة،لقد فارقكم بالأمس سهم من مرامي اللّٰه،صائب على أعداء اللّٰه،نكان على ممار قریش،لم يزل آخذا بحناجرها، جاما على أنفاسها،ليس بالملومة في أمر اللّٰه،ولا بالسروقة لما اللّٰه،ولا بالفروقة في حرب أعداء اللّٰه، أعطى الكتاب

ص: 402


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج16، ص 9.
2- ابن اعثم، الفتوح، ج2، ص 13.
3- وأظن أنه أصر عليه ليستخف به لأنه يعرف - كما يقال - أن في لسان الحسن (علیه السلام) ثقة كالفأفاة ، وكان سلمان الفارسي يقول: أتته من قبل عمه موسی بن عمران (علیه السلام) (راجع ابن أبي الحديد، ج16، ص 18).
4- خفض العيش : سهولة العيش، وهو الدعة وسعة العيش. والخفض أيضا هو التواضع.

خواتمه وعزائمه،دعاه فأجابه،وقاده فاتبعه،لا تأخذه في اللّٰه لومة لائم،فصلوات اللّٰه عليه ورحمته.ثم نزل.

فقال معاوية:أخطأ عجل أو كاد،وأصاب مثبت أو كاد،ماذا أردت من خطبة الحسن(1)؟!

كتب الأصفهاني:حدثنا فضل،قال حدثني يحيى بن معين،قال حدثنا أبو جعفر الأبار،عن إسماعيل بن عبد الرحمن وشريك بن أبي خالد،وقد روى عنه إسماعیل بن أبي خالد،عن حبيب بن أبي ثابت قال:لما بويع معاوية،خطب فذكر عليا (علیه السلام)،فنال منه،ونال من الحسن (علیه السلام)،فقام الحسين (علیه السلام) ليرد،فأخذ الحسن (علیه السلام) بيده فأجلسه.

ثم قام (علیه السلام) فقال:أيها الذاكر علية،أنا الحسين وأبي علي،وأنت معاوية وأبوك صخر،وأمي فاطمة وأمك هند،وجدي رسول اللّٰه وجدك حرب،وجدتي خديجة وجدتك قتيلة،فلعن اللّٰه أخملنا ذكرا،وألأمنا حسبا،وشرنا قدما،وأقدمنا كفرا ونفاقا.

فقال طوائف من أهل المسجد:آمین!

قال فضل:فقال يحيى بن معين:ونحن نقول آمین.

قال أبو عبيد:ونحين نقول آمین.

قال أبو الفرج:وأنا أقول:آمين(2).

المعترضون على الصلح من أصحاب الحسن (علیه السلام)

يقول المؤرخون:«وبعث معاوية عبد اللّٰه بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة إلى الحسن للصلح،فدعواه إليه،فزهداه في الأمر،وأعطياه ما شرط له معاوية... فأجاب(الحسن)إلى ذلك،وانصرف قیس بن سعد فيمن معه إلى الكوفة،وانصرف الحسين أيضا إليها،وأقبل معاوية قاصدة نحو الكوفة،واجتمع إلى الحسن (علیه السلام) وجوه الشيعة وأكابر أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) يلومونه،ويبكون إليه جزعا مما فعله.

قال أبو الفرج...حدثني...سفیان بن أبي ليلى(وفي خبر آخر أن القائل هو

سليمان بن صرد(3)،وفي خبر ثالث أن القائل هو أبو عامر سعيد بن النتل(4)قال: أتيت

ص: 403


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج16، ص 17.
2- أبو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص 78. أيضأ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مج8، ج16، ص 27.
3- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ص 185. (4) ابن كثیر، البداية والنهاية، 8/ 20.
4- ابن كثیر، البداية والنهاية، 8/ 20.

الحسن بن علي حين بايع معاوية،فوجدته بفناء دارو،وعنده رهظ،فقل:السلام عليك یا مذل المؤمنين!

قال:وعليك السلام یا سفيان.

ونزلت فعقلت راحلتي،ثم أتيته فجلست إليه،فقال (علیه السلام): كيف قلت یا سفیان؟

قلت:السلام عليك يا مذل المؤمنين!

فقال (علیه السلام):لم جرى هذا منك إلينا؟

قلت (علیه السلام):أنت واللّٰه بأبي وأمي،أذللت رقابنا حيث أعطيت هذا الطاغية البيعة، وسلمت الأمر إلى الأعين ابن آكلة الأكباد،ومعك مائة ألف لهم يموث دونك،فقد جمع اللّٰه عليك أمر الناس.

فقال (علیه السلام):يا سفيان،إنا أهل بيت إذا علمنا الحق تمسكنا به،وإني سمعت عليا يقول:سمعت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)يقول:«لا تذهب الليالي والأيام حتى يجتمع أمر هذه الأمة على رجل واسع السرم(1) ،ضخم البلعوم،يأكل ولا يشبع،لا ينظر اللّٰه إليه،ولا يموت حتى لا يكون له في السماء عاذر،ولا في الأرض ناصر»،وإنه لمعاوية،وإني عرفت أن اللّٰه بالغ أمره(2) .

وفي الرواية التي تقول إن قائل العبارة هو سليمان بن صرد،تذكر أن الإمام الحسن (علیه السلام) رد عليه أيضا«فليكن كل رجل منكم جلسا من أحلاس بيته(=ملازم بيته)ما دام معاوية حياً»(3) .

تقول الرواية:«ثم خرج شليمان بن صرد من عنده،فدخل على الحسين (علیه السلام)،فعرض عليه ما عرض على الحسن (علیه السلام)،وأخبره بما رد عليه الحسن (علیه السلام)،فقال الحسين (علیه السلام):ليكن كل رجل منكم جلسا من أحلاس بيته ما دام معاوية حيا، فإنها بيعة كنت واللّٰه لها كارها،فإن هلك معاوية نظرنا ونظرتم ورأينا ورأيتم»(4) .

أقول: موقف الإمام الحسين علي المنسجم مع موقف الإمام الحسن (علیه السلام)، يؤكد

ص: 404


1- السرم:طرف المعي المستقيم،ربما كناية عن كثرة أكله....كما يشهد لذلك بقية الكلام الذي ينقله الحسن (علیه السلام) عن الرسول (صلی اللّه علیه واله) كما في الرواية
2- ابن أبي الحديد،شرح نهج البلاغة،ج16،ص26
3- ابن قتيبة،الإمامة والسياسة،ص186
4- ابن قتيبة،الإمامة والسياسة،ص186

حقیقتين؛الأولى عدم وجود تعارض-مزعوم-بين موقفيهما،والثانية أن قرار العودة

المواجهة بني أمية كان من الوارد أن يتخذ،لكنه ينتظر اللحظة التاريخية المناسبة.

قال المدائني:قال المسيب بن نجبة للحسن (علیه السلام)(بعد أن سمع مقالة معاوية:قاتلتكم لأتأمر عليكم وعلى رقابكم،وقد آتاني اللّٰه ذلك وأنتم كارهون):ما ينقضي عجبي منك!بایعت معاوية ومعك أربعون ألفا،ولم تأخذ لنفك وثيقة وعقدا ظاهرا،أعطاك أمرا فيما بينك وبينه،ثم قال ما قد سمعت،واللّٰه ما أراد بها غيرك.

قال (علیه السلام):فما ترى؟

فقال:أرى أن ترجع إلى ما كنت عليه،فقد نقض ما كان بينه وبينك.

فقال (علیه السلام):با مسیب،إني لو أردت بما فعل الدنيا لم يكن معاوية بأصبر عند اللقاء، ولا أثبت عند الحرب مني،ولكني أردت صلاحكم،وكف بعضكم عن بعض،فارضوا بقدر اللّٰه وقضائه،حتى يستريح بر،أو يستراح من فاجر(1) .

قال المدائني:ودخل عبيدة بن عمرو الكندي على الحسن (علیه السلام)-وكان قد شرب

على وجهه ضربة وهو مع قیس بن سعد بن عبادة-فقال:ما الذي أرى بوجهك؟

قال:أصابني مع قيس.

فالتفت حجر بن عدي إلى الحسن،فقال:لوددت أنك كنت مث قبل هذا اليوم،ولم يكن ما كان،إنا رجعنا راغمين بما كرهنا،ورجعوا مسرورين بما أحبوا.

فتغير وجه الحسن (علیه السلام)،وغمز الحسين (علیه السلام) ځجرا،فسكت.

فقال الحسن (علیه السلام):يا حجر،ليس كل الناس يحب ما تحب ولا رأيه كرأيك،وما

فعلت إلا إبقاء عليك،واللّٰه كل يوم في شأن(2) .

أقول:لو صممت هذه الرواية لكان هذا الموقف من جر زلة عظيمة،وتطاولا كبيرة على مقام الإمام الحسن (علیه السلام)،لا يتوع صدوره من أمثاله.لكن عاقبته وشهادته-وسنتحدث عنها لاحقا-قد تكفر عن ذلك.

ويروي الصدوق في علل الشرائع عن سدير قال:قال أبو جعفر الباقر (علیه السلام):يا دیر، اذكر لنا أمرك الذي أنت عليه،فإن كان فيه إغراق كففناك عنه،وإن كان مقصرا أرشدناك.قال:فذهب أن أتكلم،فقال أبو جعفر (علیه السلام):أمسك حتى أكفيك،ان العلم

ص: 405


1- ابن أبي الحديد،شرح نهج البلاغة،ج16،ص9
2- المصدر السابق

الذي وضع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)عند علي (علیه السلام) من عرقه كان مؤمنة ومن جحده كان كافرة، ثم كان من بعدو الحسن (علیه السلام).

قلت:كيف يكون(الحسن (علیه السلام))بتلك المنزلة،وقد كان منه ما كان دفعها إلى معاوية؟

فقال:اسكت،فإنه أعلم بما صنع،لولا ما صنع لكان أمر عظيم(1) .أقول:مدلول هذه الرواية-إن صځت-يؤد على أن موقف الإمام الحسن (علیه السلام) ظل ملتبسة في نظر بعض شيعة علي (علیه السلام)،ويثير حيرتهم واستغرابهم،ولولا جهود الأئمة اللاحقين (علیهم السلام) لظل كذلك حتى هذا اليوم.عودة الإمام الحسن علي إلى المدينة

قال المدائني:فلما كان عام الصلح،أقام الحسين (علیه السلام) بالكوفة أيامة،ثم تجهز للشخوص إلى المدينة.فدخل عليه المسيب بن نجبة الفزاري وظبيان بن عمارة التيمي الودعاه،فقال الحسن (علیه السلام):الحمد لله الغالب على أمره،لو أجمع الخلق جميعا على ألا يكون ما هو كائن ما استطاعوا.

فقال أخوه الحسين (علیه السلام):لقد كنت كارها لما كان،طيب النفس على سبيل أبي، حتى عزم علي أخي،فأطعته،وكأنما يجر أنفي بالمواسي.

فقال المسيب:إنه واللّٰه ما يكبر علينا هذا الأمر إلا أن تضاموا وتتقصوا.فأما نحث، فإنهم سيطلبون مودتنا بكل ما قدروا عليه.

فقال الحسين (علیه السلام):يا مسيب،نح نعلم أنك تحبنا.

فقال الحسن (علیه السلام):سمعت أبي يقول:سمعت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)يقول:«من أحب قوما كان معهم».

فعرض له المسيب وظبيان بالجوع.

فقال:ليس إلى ذلك سبيل.

فلما كان من غير خرج (علیه السلام)،فلما صار بدیر هند،نظر إلى الكوفة،وقال:

لا عن قلى فارق دار معاشري

هم المانعون حوزتي وذماري

ص: 406


1- المجلسي،بحار الأنوار،ج44،ص1

ثم سار إلى المدينة(1) .

إذن خرج الإمام الحسن (علیه السلام) من الكوفة بعد أيام من الصلح.ثم استقر في المدينة عشر سنين،حتى استشهد متجرعة الشم الذي ده له معاوية بواسطة زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس،في7صفر سنة50هج،وكان عمره (علیه السلام)47سنة.

ينقل ابن أبي الحديد عن حده:استشهد (علیه السلام) في أيام متقاربة مع سعد بن أبي وقاص،وذلك بعد مضي من ولاية إمرة معاوية عشر سنين،وكانوا يروون أنه سقاهما السم(2) .

وسنعود إلى شهادة الإمام الحسن (علیه السلام)،بعد أن نسرد الوقائع المهمة التي حدثت في هذه السنين العشر،أو على الأصح السنين التسع من(41-50هج).

ص: 407


1- ابن أبي الحديد،شرح نهج البلاغة،ج16،ص10
2- المصدر السابق،ج16،ص29

(25)مقارنة بين موقفين

قبل المضي في دراسة مرحلة حكم معاوية،التي امتدت من(41-60هج)،نرید التوقف قليلا لتحلل ونقارن بين موقف الإمام الحسن (علیه السلام) الذي صالح معاوية، وموقف الإمام الحسين علي الذي سيقاتل یزید...لماذا تفاوت الموقفان؟

نستعرض في البداية التحليل الذي قدمه الشهيد السيد الصدر(قده)،ثم نستعرض بعد ذلك التحليل الذي قدمه الشهيد الشيخ المطهري(قده). وسيلاحظ القارئ أن أسلوب هذا الفصل يختلف قليلا عن بقية الفصول،لأنه يعتمد على التحليل أكثر من اعتماډو على سرد وقائع وخطب وحوارات.

تحليل الشهيد السيد الصدر(قده)

يرى الشهيد السيد الصدر(قده)أننا عندما ندرس ظروف الإمام الحسن (علیه السلام) فلا بد

أن نضع أمامنا ثلاثة اعتبارات أساسية:

أولاً هو الأمين على النظرية:أي على الصيغة الإسلامية الكاملة،بوصفها خطا فكريا وروحيا،یجب أن يعيش ويستقطب بالتدريج،ويمتد إلى أكبر قدرممكن من القلوب والنفوس والعقول.

ثانياً هو الأمين على التجربة(1) :أي على كيان سياسي جد تلك الصيغة الإسلامية الكاملة،هذا الكيان الحي أنشأه الإمام علي (علیه السلام) ليتزعمه الإمام الحسن (علیه السلام).

ثالثاً هو الأمين على كتلة الشيعة:التي وضع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)بذورها،ثم نماها الإمام علي (علیه السلام)،خصوصا في عهد خلافت،وأخذها الإمام الحسن (علیه السلام) ليتسلم زعامتها وقيادتها،وتشكل الطليعة الواعية القادرة على قيادة المسلمين ككل في مستقبل قريب أو بعيد.

ص: 408


1- ما أفهمه من مصطلح«التجربة»الذي يستخدمه الصدر(قده)هو التالي:محاولة تطبيق الصيغة الرسالية الإلهية-بكل أبعادها-على المجتمع البشري

هذه الاعتبارات الثلاثة كان الإمام الحسن (علیه السلام) يمثلها جميعا.فكان لا بد أن يأخذها في الحسبان عندما يدرس (علیه السلام) أفضل الطريقين:طريق التضحية والموت، أو طريق تجميد الحركة والخط إلى وقت ما.دون أن يدخل إلى جانب هذه الاعتبارات الثلاثة اعتبارة رابعة يطلق عليه عادة أي اسم من الأسماء العاطفية أو الخلقية التي لا ترتبط بمصالح الرسالة،من قبيل أن يقال:«إياء الضيم»،«عدم الاستعداد لمصافحة الأعداء»،«الشعور بالعزه».كل هذه الاعتبارات هي اعتبارات عاطفية،يجب أن لا تأخذ طريقها إلى قلبالإنسان الحق،الذي يريد دائما أن يرسم طريقه على أساس الاعتبارات الرسالية(1) .

لماذا لم يختر الإمام الحسن (علیه السلام) طريق الجهاد؟

يقول الشهيد السيد الصدر(قده):كان يمكن للإمام الحسن (علیه السلام) أن يواصل مهمته العسكرية حتى يخر صريعا في ميدان الجهاد،وكان يمكن أن يفسح في المجال لمعاوية لكي يعيش وجوده كحاكم بتجميد حركته وإيقاف العمل ضد معاوية.كان يمكن أن يتحقق بكل من هذين الأسلوبين،فلماذا لم يختر الإمام الحسن (علیه السلام) الطريق الأول؟

ويزداد هذا الشؤال جولانا في الأمن حينما يقارن موقف الإمام الحسن (علیه السلام) بموقف الإمام الحسين (علیه السلام)،حينما وقف بين الطريقين،فاختار أن يخر صريعا بدلا من أن يوقف العمل ولو مؤقتا.

الفرق الأساسي بين الموقفين

ثم يواصل الصدر تحليله قائلا:هناك فرق أساسي وكبير بين موقف الإمام

الحسن (علیه السلام) وموقف الإمام الحسين (علیه السلام)،بين الظروف الموضوعية للحسن (علیه السلام) والظروف الموضوعية للحسين (علیه السلام).وسوف يتبين هذا الفرق على مستوى الاعتبارات الثلاثة.

على مستوى الاعتبار الأول(=بوصفير أمينة على النظرية):الأمة في موقف الإمام الحسين (علیه السلام) لم تكن وقتن تعيش حالة الشك»،بل كانت تعيش«موت الإرادة».وفرق كبير بين هذا المرض وذاك المرض.

فهناك مرضان وجدا في الأمة:مرض الشك،وهو أن الأمة فقدت إيمانها و اعتقادها

ص: 409


1- محمد باقر الصدر،أئمة أهل البيت (علیهم السلام)،ص274-275

برسالة الأطروحة،وبدأ هذا الشك بالإمام علي (علیه السلام) في حرب صفين،واستمر مع الإمام الحسن (علیه السلام) بعد شهادة الإمام علي (علیه السلام).

وفي مثل هذا الحال،لو واصل الإمام الحسن (علیه السلام) الحرب حتى يخر صريعا،لن يحقق شيئا من المكاسب التي حققها الإمام الحسين (علیه السلام)،لأنه حينما يخر صريعا في الميدان والأمة تشك في دوافعه،تشك في صحة موقفه،تشك في إلهية أطروحته،سوف لن يفعل هذا الأمم الظاهر الذي شيب على أرض كربلاء ما فعله،سوف لن يحرك ضميرة في الأمة،سوف لن يغير شيئا من الأوضاع الحقيقية للأمة.

كان لعبد اللّٰه بن الزبير موقف في وجه جيش عبد الملك بن مروان،كان له موقت يعتبر بالمقاییس الشخصية-وبقطع النظر عن الرسالة-موقفة بطولية،حيث واصل الحرب إلى أن خر صريعا في الميدان...ولكن ما الذي تركه عبداللّٰه بن الزبير في ضمير الأمة؟ماذا حرك في نفوس المسلمين؟

هل كان هناك إنسان يتجاوب مع هذه الشجاعة؟هل استطاعت هذه الشجاعة أن تحرك ضمير الأمة الإسلامية؟أو تحرك شيئا من أوضاع المسلمين؟لا،لماذا؟ لأن هذا كان يقاتل من أجل نفسي؛لا للأمة.وكانت الأمة على أقل تقدير تشك وتحتمل أنه كان يقاتل من أجل نفيه.

بينما الإمام الحسين (علیه السلام) حينما اختار الطريق الأول،كانت الأمة قد تخلصت من مرض الشك،لأن أسطورة معاوية كانت قد تجلت بكل وضوح...لأن الجاهلية التي كان يمثلها معاوية قد أسفرت عن وجهها على المسرح السياسي والاجتماعي،وعلم الناس أن عليا (علیه السلام) كان يحارب جاهلية الأصنام والأوثان،ولم يكن يحارب مع معاويةصما قبلية أو شخصا معادية له بالذات...تخلصت هذه القواعد الشعبية من مرض الشك،لكنها منيت بمرض موت الإرادة.

أصبحت الأمة لا تملك إرادتها.نعم،هي تفهم أن عليا (علیه السلام) هو الطريق الواضح،

هو طريق الكفاح والجهاد،أن حكم الإمام علي (علیه السلام) هو المثل الأعلى الذي يجب على المسلمين أن يكافحوا في سبيل تحقيقه...كل هذا أصبح واضحا..

كانت الإرادة قد انطفات،كانت الشعلة قد ماتت،كانت الدريهمات الغيرة هي أكبر هم هذا الإنسان الغير.فكان لا بد من أن يحرك ضمير هذا الإنسان،لكي يسترجع إرادته.وأكبر وأروع تمثيل لفقدان الإرادة قول ذلك الرجل للإمام الحسين (علیه السلام): سيوفهم مع عدوك وقلوبهم معك.قمة فقدان الإرادة أن يكون الإنسان يحبك، لكنه يحمل السيف عليك،يعني أن قلبه لا يستطيع أن يمسك به...هذه قمة فقدان الإرادة.

ص: 410

ثم يقول الصدر(قده):الإمام الحسن (علیه السلام) بابتعاده عن ميدان الحكم،وفسح المجال للأطروحة الأخرى لكي تكشف عن وجهها الحقيقي،أرجع للأمة اقتناعها بموضوعية أطروحة الإمام علي (علیه السلام).

والإمام الحسين (علیه السلام) بمواصلة الطريق الأول حتى خر صريعا،أرجع إلى الأمة إرادتها.إن الإمام الحسين (علیه السلام) الذي توافرت له كل ممتع الحياة،هذا الرجل الذي كان من أغنى الناس مالا،وأكثرهم جاها،إذا خرج يتسابقالمسلمون لتقبيل يده، هذا الرجل الذي لم يمتد معاوية بظلمه إلى شخص الإمام الحسين (علیه السلام)،هذا الرجل الذي لم ينله سوظ واحد من الشياط التي نالت الناس،بالرغم من هذا خرج الإمام الحسين (علیه السلام) وبذل دمه في سبيل الآخرين،ومن هنا تحرك ضمير الأمة.

إذن هناك فرق موضوعي كبير بين الطرف الذي عاشه الإمام الحسن (علیه السلام)،والطرف

الذي سوف يعيشه الإمام الحسين (علیه السلام) بعد عشرين عاما.

على مستوى الاعتبار الثاني(=بوصفه أمينة على التجربة):كان لا بد للإمام

الحسن (علیه السلام) أن يدرس موفقه-على ضوء الاعتبار الثاني أيضا-ليختار أحد الطريقين.

أصبح واضحا مما سبق أن التجربة كان من المستحيل أن تبقى،لأن أي تجربة بأطروحة رسالية تعيش مستوى أكبر من مستوى مصالح هذا الفرد بالذات،لا يمكن أن تواصل وجودها إلا إذا كانت قد حظيت باقتناع كبير واسع النطاق من قواعد شعبية قادرة أن تحمل هذه التجربة،وأن تضحي بيها في سبيل هذه التجربة.أما حينما تفقد التجربة هذا الاقتناع،صبح مشلولة عن العمل،وغير قادرة على الدفاع عن ذاتها وعن نفسها؟لأنها بم تستهوي الناس؟هل تستهوي الناس بالمصالح الفردية؟أليس هذا خروجا عن

مضمونها الحقيقي.

نعم،كان بالإمكان أن يستهوي الإمام الحسن (علیه السلام) الناس عن طريق مصالحهم الخاصة،كان للإمام أن يدخل المداخل التي دخلها معاوية،أن يشتري ضمائر الناس،أن يكتب إلى رؤساء الشام كما كتب معاوية إلى رؤساء العراق،أن يخدع، أن يماطل،أن يكون توزيع الأموال على غير الأساس الإسلامي الصحيح. إلا أن هذا خروج عن المضمون الحقيقي للنظرية.وهنا اختلاف كبير آخر بين موقف الإمام الحسين (علیه السلام) عن موقف الإمام الحسن (علیه السلام):الإمام الحسين (علیه السلام) لم يكن قائدا لتجربة سياسية قائمة بالفعل،لم يكن رئيسة لدولة قائمة بالفعل، وإنما كان شخصا ولم يكن معه إلا ثلة من أصحابه.

أما الإمام الحسن (علیه السلام) فكان يمثل جبهة سياسية قائمة بالفعل،إلا أن هذه الجبهة

ص: 411

بالرغم من ضخامتها الظاهرية،بالرغم من تخوف معاوية منها،إلا أن هذه الضخامة الظاهرية لهذه التجربة-التي لا تزال ذكر معاوية بسيوف ليلة الهرير-كانت تعطي الحق للإمام الحسن (علیه السلام) أن يدخل مع معاوية في مفاوضات-من موقع قوة-لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب لهذه التجربة.

إذن كان هناك طريقان؛الأول:أن يواصل الإمام الحسن (علیه السلام) الجهاد فيقتل دون

قيد أو شرط،ومعنى أن يقتل يعني أن تنتهي التجربة دون أن يكون هناك أي أساس بإمكانية رجوعها بعد هذا،يعني أي أساس قانوني.والطريق الثاني:أن يدخل الإمام الحسن (علیه السلام)-عن طريق هذه الهيبة الظاهرية لهذه الجبهة-في حديث مع معاوية الاستيفاءما يمكن استيفاؤه من مكاسب لهذه التجربة.

وحينها اختار الإمام الحسن (علیه السلام) الطريق الثاني،وكان لا بد لكل من يعيش ظروف الإمام الحسن (علیه السلام) أن يختار الطريق الثاني إلا إذا أدخل الاعتبارات العاطفية في الحساب.

ويواصل الصدر(قده)قائلا:لقد اشترط الإمام الحسن (علیه السلام) لمعاوية على نفسه أن ينسحب من ميدان الحكم،ولم ينص هذا الشرط على نوع من البيعة والتبعية السياسية الصريحة في الروايات الصحيحة الواردة عنهم.فلا يوجد في الروايات الواردة عن الإمام الحسن (علیه السلام) أنه اشترط لمعاوية على نفسه البيعة والتبعية السياسية،بالمعنى الذي كان موجودة لعلي (علیه السلام) بالنسبة إلى أبي بكر وعمر وعثمان.وإنما كان هناك إيقاف للمعركة والقتال،وفي مقابل ذلك تعهدات اشترطها على معاوية.

أهم هذه التعهدات أن لا يوصي معاوية لأحد آخر من بعده.وفي رواية أخرى أن يوصي للإمام الحسن (علیه السلام).ولهذا كان الإمام الحسن (علیه السلام) يريد أن يبتعد عن الحكم لكي يكسب اقتناع المسلمين بصحة الأطروحة،ثم لكي يضع أساسة جديدة يمكن من خلاله أن ترجع الأطروحة مرة أخرى إلى الميدان السياسي.

على مستوى الاعتبار الثالث(=بوصفه زعيما للكتلة الشيعية):هذه الكتلة التي تمثل الجزء الواعي من الأمة،والتي كان من المفروض أن تكون طليعة الأمة على مر التاريخ...هذا الاعتبار الثالث لا بد أيضا من إدخاله في الحساب حينما يبرز أفضل الطريقين،أفضلية طريق الصلح،عن طريق الجهاد،في ظروف الإمام الحسن (علیه السلام).

كان الإمام الحسين (علیه السلام) مشاركة للإمام الحسن (علیه السلام) في هذا الاعتبار،لأن الإمام الحسين (علیه السلام) كان هو الأعيم الثالث لهذه الكتلة،كان هو الأمين على هذه الكتلة كما

ص: 412

كان الإمام الحسن (علیه السلام) أمينا على هذه الكتلة في مرحلته،إلا أن بينهما فرقة كبيرة؛وحاصل هذا الفرق أن الإمام الحسن (علیه السلام) كان يستقطب كل هذه الكتلة،كان يحارب وكانت هذه الكتلة ضمن إطار دولته،ولم يكن من المعقول أن يحارب رئيس دولة وأن يواصل الحرب إلا بأن تستنفد كل قواه وطاقاته،وكل رصيده الشعبي الموجود في هذه الدولة،وكل ما يملك من قواعد شعبية،حتى يخر صريعة.وكان معنى هذا أنه سوف لن يبقى هناك وجود إسلامي قادر على أنيسترجع ذلك الاقتناع الذي فقد.

حجر بن عدي وأمثاله،الذين عاشوا ضد معاوية وقتلوا بسيف معاوية،هم أول جزء من القواعد الشعبية التي ترسخ أو رجع إليهم الاقتناع،وعن طريق دمهم وإيمانهم واقتناعهم سرى هذا الاقتناع إلى الأكثرين.وسرى هذا الاقتناع عبر الأجيال، وسری إلينا.إذن كان لا بد من الحفاظ على قاعدة،يمكن على أساسها أن يرجع اقتناع الأمة بالأطروحة في يوم ما.

الإمام الحسين (علیه السلام) لم يكن يستقطب كل هذه الكتلة،الإمام الحسين (علیه السلام) لم يخر صريعا إلا بعد أن استنفدت كل قواه الصغيرة المتمثلة في تلك المجموعة الطاهرة حتى خر الأبطال صرعي، ثم خير الإمام الحسين (علیه السلام) صريعا.إن هذه الصفوة لم تكن تستوعب كل القواعد الشعبية الواعية،ولهذا عقيب شهادته بدأت ثورة التوابين،ثم بدأت الثورات الأخرى من قبل أناس كانوا يتزعمون عددا كبيرة من الشيعة الواعين والمؤمنين بأهداف الإمام الحسين (علیه السلام)(1) .

تحليل الشهيد الشيخ المطهري(قده)

الشهيد الشيخ المطهري(قده)من ناحيته،قدم لنا تحليلا مشابها ميز من خلاله بين الظروف التي عاشها الإمام الحسن (علیه السلام)،والظروف التي عاشها الإمام الحسين (علیه السلام)،والتي كانت في كل مرة تتطلب موقفا يختلف عن الموقف الآخر. في الشطور التالية سنوضح تحليل الشيخ المطهري(قده)،وسضيف بعض العناوين لمساعدة القارئ على التركيز على النقطة المحورية في كل فكرة من الأفكار التي طرحها.

1.الإمام الحسن (علیه السلام)ورث وضعة داخلية هشة في العراق مقارنة بالشام:عندما بويع الإمام الحسن (علیه السلام) بالخلافة،ورث نظام حكم،كان يجه من الناحية الداخلية إلى الانقسام والشعف،لأسباب تاريخية خاصة.وكان أفراد جيشه (علیه السلام) ضعيفي الولاء

ص: 413


1- محمد باقر الصدر،أئمة أهل البيت (علیهم السلام)،ص280-292

وقليلي الطاعة لقائدهم.بينما كان نظام معاوية في الشام يقوي،ويزداد تماسكا يوما بعد يوم،وجيشه تام الطاعة والولاء لقيادته.

2.حياة الإمام الحسن (علیه السلام) الشخصية كانت مهددة من الداخل:فإذا أصر الإمام الحسن (علیه السلام) على مواصلة القتال مع خصمه،فسوف تكون نظير مقاومة عثمان للثوار المعارضين،وليس نظير مقاومة الإمام الحسين (علیه السلام) ليزيد.فقد كان الإمام الحسين (علیه السلام) في وضع المعارض في مقابل حكومة موجودة.وعندما عرض الإمام الحسين (علیه السلام) نفسه للقتل،فإنه كان يعلم أن قتله سوف يكوث مشرفة من جهة،ذا أثر بالغ النفع للدين من جهة أخرى،لأنه نهض فيوجه حاكم جائر، أشاع الفساد في الدولة الإسلامية،حاول تقويض دعائم الإسلام.

ولكن أن يقتل الإمام الحسن (علیه السلام) وهو على مسند الخلافة،وعلى يدي المعارضة، فإن ذلك لن يكون مبعث افتخار شخصي له،ولن يكون ذا فائدة للإسلام.بل على العكس،سوف يكون لطمة تسيء إلى الإسلام أبلغ الإساءة

أقول:تذكر أن الإمام عليا (علیه السلام) كان يناشد عثمان،ويؤكد له أن قتله على يد معارضيه،وهو على مسند الخلافة،يعتبر كسرة لهيبة الدولة وفتحة لباب الفتن، قائلا له:

وإني أنشدك اللّٰه،ألا تكون إمام هذه الأمة المقتول،فإنه كان يقال:يقتل في هذه الأمة إمام يفت عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة،ويلبس أمورها عليها،ويبث الفتن فيها،فلا يبصرون الحق من الباطل،يموجون فيها موجة،ويمجون فيها مرجاً»(1) .

بل الإمام علي (علیه السلام) نفسه تعرض لضغط معارضيه يوم صفين،وصارت حيائه مهددة، عندما أجبره جيشه على وقف الحرب،فأوقفها،ولم يصر على موقفه،كما فعل عثمان.

3.قدرة الخوارج في العراق على لملمة صفوفها من جديد:إن احدى أعظمالمصائب التي برزت في الكوفة كانت ظاهرة الخوارج.وقد أرجع أمير المؤمنين (علیه السلام) ظهور هذه الطائفة من المسلمين إلى تلك الفتوحات الإسلامية المتلاحقة، التي لم تخضع الضوابط سليمة،ولم تواكبها استراتيجية التعليم والتربية،ونشر وتعميق الثقافة الإسلامية،مما أدى إلى ظهور فئة من المسلمين السطحيين الجهلة المغرورين،الذين يتوهمون أنهم مسلمون أكثر من غيرهم.

أقول:أشرنا فيما مضى،أنه على رغم الانجاز المهم الذي حققه الإمام علي (علیه السلام)

ص: 414


1- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،رقم(164)،ص234-235

في النهروان،في تحجيم الخوارج وتقليص وجودهم،لكن-كما تنبأ تماما-سرعان ما عادوا ولملموا صفوفهم،وشاع فكهم من جديد...وهناك عدة أسباب ساعدت على العودة الشريعة إلى الخوارج،نترك شرها إلى مقام آخر...لكن نكتفي بذكر بعضها.

أولا:كان هناك عدد معتد به من المتعاطفين مع فكر الخوارج في جيش علي (علیه السلام) لم يجرؤوا قط على الانضمام إليهم خوفا من سيف علي (علیه السلام).ثانيا:نصب الإمام علي (علیه السلام) راية أمان للخوارج قبل بدء معركة النهروان،حتى يقلل قدر الإمكان من الدماء المراقة...هذا دفع الآلاف منهم إلى اللجوء إلى هذه الراية، ربما خوفا من سيف علي (علیه السلام) وليس اقتناعة حجته (علیه السلام).

ثالثا:النجاح الذي حققوه في اغتيالهم للإمام علي (علیه السلام) أعاد لهم الثقة بأن بإمكانهم بعثرة الوضع في العراق كما يحلو لهم....وبالفعل ظهر تأثيهم جليا مع الإمام الحسن (علیه السلام)، عندما حاولوا اغتياله،ثم أصبحوا حجر عثرة ومعضلة حقيقية للحكم الأموي بعد صلح الإمام الحسن (علیه السلام).

4.نشوء عشوائي لعدة فرق وأحزاب في العراق لها أطماع ومصالح خاصة:مما هيا الأرضية المناسبة لمعاوية ليؤسس طابورة خامسة في جبهة الإمام الحسن (علیه السلام)،وذلك من خلال الجواسيس والعملاء المزودين بالأموال الطائلة لشراء الأمم والضمائر،وكذلك البث الشائعات المغرضة بهدف تدمير الروح المعنوية للناس.

5.لم يجبر الإمام الحسن (علیه السلام) علي البيعة بخلاف الإمام الحسين (علیه السلام):من العوامل التي زادت في إصرار الإمام الحسين (علیه السلام) على القيام هو إجباره على مبايعة یزید.لكن معاوية لم يطالب الإمام الحسن (علیه السلام) بالبيعة قط،ولم يكن في بنود الصلح ما يشير إلى شيء من ذلك.بل غاية ما كان يطلبه هو أن يتخلى الإمام الحسن (علیه السلام) عن الشلطة،ليفسح في المجال له لتوليها.

6.تخاذل أهل الكوفة الواضح مع الإمام الحسن (علیه السلام)وادعاؤهم الاستعداد للتصرة مع الإمام الحسين (علیه السلام):من العوامل التي دعت إلى قيام الإمام الحسين (علیه السلام) هو دعوة أهل الكوفة له،ومكاتبتهم الاستعداد لمبايعته والقتال معه.ولو لم يرئب الإمام الحسين (علیه السلام) أثرة على ذلك فمن المسلم أنه:

i.سیكو مدانة أمام التاريخ، وسوف يقول الناس:الإمام الحسين (علیه السلام) أضاع فرصة ثمينة بعد دعوة أهل الكوفة له،واستعدادهم لتصري.

ii.والأهم من ذلك أنه سيواجه من ناحية شرعية مسألة إتمام الحجة،لا مبرر قعود الإمام الشرعي هو انعدام وجود الناصر.

ص: 415

لكن في حالة الإمام الحسن (علیه السلام) نجد أن مسألة إتمام المحجة لم تكن متوافرة.بل على العكس،لقد أظهر أهل الكوفة عدم استعدادهم الفعلي للقتال، وكان الوضع الداخلي في الكوفة من التردي بحيث أن الإمام الحسن (علیه السلام) كان يحترز من كثير من أهل الكوفة،وعندما كان يخرج للصلاة في المسجد كان يرتدي تحت ملابسه درعة،لأن عناصر الخوارج وغملاء معاوية كانوا كثيرين،وكان احتمال تعرض للاغتيال من قبلهم كبيرة.وفعلا حدث فيإحدى المرات أن كان الإمام الحسن (علیه السلام) في حال الصلاة،فرماه أحدهم بهم كاد يقتله حتما لولا الدرع التي كان يرتديها.

أقول:إذن كانت حياة الإمام الحسن (علیه السلام)مهددة بالفعل من أنصاره،فأي حجة

ستتم على الإمام الحسن (علیه السلام) مع وجود أنصار من هذا القبيل؟!

7.أرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم تكن مهيأة مع إمامة الحسن (علیه السلام)،

لأن الناس لم يكونوا قد عرفوا حقيقة معاوية بعد،بخلاف عصر إمامة الحسين (علیه السلام) حيث عرف الناس حقيقة الحكم الأموي وحقيقة يزيد:فعامل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من العوامل الأصيلة في قيام الإمام الحسين (علیه السلام).وبغض النظر عن عدم استعداډير لبيعة يزيد، وبغض النظر عن دعوة أهل الكوفة للإمام الحسين (علیه السلام)،فإن مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،وحدها كانت سببا مستقلا بذاتير لنهضة الإمام الحسين (علیه السلام).فمن اليوم الأول لوصول معاوية إلى الخلافة،وعلى مدى عشرين عاما بقي فيها حاكمة على المسلمين،أخذ يعمل على خلاف الإسلام،ورأى المسلمون جوره وجبروته وعدوائه ونهبه لبيت مال المسلمين وإراقته للماء المحترمة،وفوق ذلك كله تعيين ابنه يزيد،شارب الخمر ولاعب القمار وملاعب القردة،وليا للعهد.كان هذا هو الوضع في حالة الإمام الحسين (علیه السلام).

أقول:مع ذلك لم يخرج الإمام الحسين (علیه السلام) على معاوية،لالتزامه بصلح أخيه الإمام الحسن (علیه السلام) من ناحية،ولأن مسألة توريث الشلطة لم تكن قد حدثت فعلا،وإنما كان معاوية يعمل على جعلها أمرا واقع.

يواصل المطهري قائلا:في حين نجد في عصر إمامة الحسن (علیه السلام)،كان الإمام الحسن (علیه السلام) يعرف ماهية معاوية،ولكن أقصى ما كان مطروحة آنذاك،هو أنه عندما يأتي معاوية وجماعته إلى الحكم،فإنهم سوف يفعلون كذاوكذا من المنكرات. وهذا الأمر يختلف بالطبع عن كونهم حكموا بالفعل،وارتكبوا تلك الأفعال المنكرة...فإلى ما قبل توقيع الصلح لم يكن المسلمون قد رأوا بأم أعينهم من معاوية وجماعيه أنواع

ص: 416

الظلم والجور والانحراف،فكيف يمكن إقناعهم بحقيقة الأمر؟وهكذا لم تكن أرضية القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهياة بعد،وهو ما يسمى اصطلاحا ب انعدام وجود تكليف فعلي».

والآن لو عرضت على التاريخ،أن معاوية بوضع آنذاك جاء إلى الإمام الحسن (علیه السلام)، وعرض عليه ذلك الصلح المشرف،وأرسل إليه ورقة مصالحة موقعة على بياض، وتعهد بتنفيذ شروطه كلها،ومن ناحية أخرى لم يطلب منه إعطاء البيعة،ولم يطالبه أن يخاطبه ب«أمير المؤمنين»فما يكون حكم التاريخ؟

لو لم يقبل الإمام الحسن (علیه السلام) في تلك الظروف عرض الشلح هذا،وبهذه الكيفية،لكان التاريخ يلومه بل يدينه.وكذلك فمن الناحية المنطقية والعقلية لا ينبغي للإنسان أن يستخدم لغة الحرب والدم في كل الظروف والأحوال،ولا يترك في قاموس مكانة للمسالمة و المهادنة...هذه فائدة.

وأما الفائدة الأخرى التي حصل عليها الإمام الحسن (علیه السلام)-والتي خطط لها بوعي ودقة-فهي كشف معاوية،وخط معاوية،بشكل صارخ أمام الأمة الإسلامية، وإثبات ريف كل ادعاءاتير،بل كشف الهوية الإجرامية والانحراف المتأصل في طبيعي.فقد كان الإمام الحسن (علیه السلام) يعرف طبيعة معاوية،واستعجاله للأمور واستعداده القبول أي شرط يملي عليه في مقابل حصوله الشريع على السلطة.ولذلك أملي الإمام الحسن (علیه السلام) شروطا يعلم يقينا أن معاوية لن يلتزم بتنفيذها.وفعلا ما إن استتب له الأمر،ودخل معاوية العراق منتصرة،حتى أعلن أن جميع الشروط التي اشترطها على نفسه قد وضعها تحت قدميه،وأثبت بذلك أنه لا يزيد عن كونه مجرد سیاسي غادر،لا عهد له ولا ميثاق،وليس عنده قيم يلتزم بها(1) .

أقول:قد يقال:إنه لم يقم الإمام علي (علیه السلام) بعقد هذا الصلح المشرف مع معاوية؟والجواب:أننا لو دققنا في ظروف الإمام علي (علیه السلام)،ومسلسل التدهور السريع والمستمر في جبهته،وعدم قدرة هذه الجبهة على مواجهة غارات معاوية المتتالية،لو ظل الإمام علي (علیه السلام) حيا ولم يستشهد،لكان (علیه السلام) قد عقد الصلح مع معاوية،كما فعل الإمام الحسن علي،بل كما فعل هو نفسه عندما اضطر لوقف حرب صفين وقبل التحكيم....وما استشهاده (علیه السلام) إلا مظهرا من مظاهر الفوضى والتدهور في جبهته.

ص: 417


1- مرتضی المطهري،جولة في سيرة الأئمة الأطهار،مؤسسة البعثة،ط1،1412هج-1991م،بیروت،ص55-65

والخلاصة أنه من خلال هذين التحليلين-تحليل الصدر والمطهري-نستطيع أن نستنبط فروقة جوهرية بين ظروف الإمام الحسن (علیه السلام) وظروف الإمام الحسين (علیه السلام)،فظروف الإمام الحسن (علیه السلام) اضطرته أن يصالح معاوية،وظروف الإمام الحسين (علیه السلام) اضطرته أن يقف ثائرة بوجه یزید.

في المحاضرة المقبلة سنبدأ بتسليط الضوء على فترة حكم معاوية التي امتدت إلى ما يقرب من عشرين سنة. هذه المرحلة المهمة والخطيرة من عمر الأمة، لم تأخذ حقها من التحليل والدراسة،بل نجد بعض كتب التاريخ تكتفي بذكر صفحات معدودة لهذين العقدين من الزمن... .معرفة أحداث هذه المرحلة، وتحليل التغير القيمي الذي طرأ على الأمة،سيساعدنا كثيرة على فهم أحداث كربلاء.

ص: 418

(26)معاوية وسياسته العامة

بعد أن عرفنا ظروف وملابسات صلح الإمام الحسن (علیه السلام)،والفروق الجوهرية مع ظروف وملابسات قيام الإمام الحسين (علیه السلام)،نريد في هذا الفصل أن ندرس الأحداث

التي تلت صلح الإمام الحسن (علیه السلام) والسياسة العامة لمعاوية في فترة ځكمه.

فترة لحكم معاوية امتدت من(41-60هج)،أي تسع عشرة سنة تقريبا،حصلت فيها

أحداث وتغيرات كثيرة وكبيرة.

معاوية(1) من الصلح إلى الوفاة(41-60هج)

خلال هذه الفترة،أحداث خطيرة وقعت،وقيم عديدة تغيرت،ونفوس كثيرة تبدلت وتیارات متنوعة ظهرت،ومدارس مختلفة برت،وسياسات جديدة حكمت،وثقافة جديدة انتشرت.

ويمكن أن أدعي أن أفكارة وسننا وبدعة كثيرة بدأت في تلك المرحلة، واستمرت

وترخت وتجذرت حتى يومنا هذا.فثمة برامج مدروسة،ومخطط مرسومة،سار عليها معاوية في كيو،ليحقق غايات

ص: 419


1- وكان عمر بن الخطاب هو الذي ولي معاوية على الشام، لذا تجد معاوية يرد على الوفد المسير من الكوفة وفيهم صعصعة والأشتر وكميل بن زیاد، عندما قال له صعصعة : فإنا نأمرك أن تعتزل عملك فإن في المسلمين من هو أحق به منك... رد عليهم: ليس في زماني أحد أقوى على ما أنا فيه مني، ولقد رأى ذلك عمر بن الخطاب، ولو كان غيري أقوى مني لم يكن لي عند عمر هوادة.... الطبري، ج 3، ص 366). وعند بدء فتنة قتل عثمان، عندما حاور عثمان عليا (علیه السلام) وقال له : هل تعلم أن عمر ولي معاوية خلافته كلها، فقد وليته ، فقال علي (علیه السلام) : أن اللّه هل تعلم أن معاوية كان أخوف من عمر من يرفا - غلام عمر - منه، قال (عثمان): نعم، قال علي (علیه السلام) : فإن معاوية يقتطع الأمور دوئك وأنت تعلمها فيقول للناس هذا أمر عثمان» فيبلك ولا غير على معاوية ... (الطبري، ج 3، ص 377).

معينة.نجح-بالمعنى السياسي للنجاح-في تحقيق كثير منها،وفشل في تحقيق بعضها الآخر.لنبدأ إذن بدراسة هذه المرحلة.

السياسة العامة لمعاوية

نسبيا، صفا الجو لمعاوية،بعد شهادة الإمام علي (علیه السلام) وتسليم الإمام الحسن (علیه السلام) الأمر إليه.غير أن البلاد الإسلامية في الجزيرة العربية كانت قد ضعضعتها غارات جيش معاوية عليها،وقلوب الناس تغلي عليه كالمرجل بما قتل من رجالها في صفين، وما بعد صفین،باسم الطلب بدم عثمان،فابع معاوية سياسة المداراة والمهادنة مع أعدائه في الخارج.

أما على الصعيد الداخلي،فقد بدأ معاوية يقطف الثمار المرة لظاهرة الخوارج،فقد خرج عليه فروة بن نوفل سنة41هج،قبل أن يبرح الإمام الحسن (علیه السلام) من الكوفة حتى تم في النهاية تصفية هذه الحركة(1) .ثم استطاع المغيرة بن شعبة-بدهائه وسيفه-ثم زیاد بن أبيه-بالحديد والنار-إخماد سلسلة ثورات الخوارج.

وإليك أبرز معالم السياسة العامة لمعاوية.

1)تجميد الثأر لدم عثمان

في داخل البلاد الإسلامية اتبع معاوية سياسة اللين لتثبيت أساس ملكه، ونسي بعد أن استولى على الملك دم عثمان والطلب بثاره.وهذا يكشف عن أن المطالبة بدم عثمان كانت شعارة قد استنفد وظيفته،واستهلك وصار شيئا من الماضي،بعد أن حقق معاوية غرضه منه،ووصل إلى السلطة.

قال ابن عبد ربه:قدم معاوية المدينة بعد عام الجماعة فدخل دار عثمان بن عفان، فصاحت عائشة بنت عثمان وبكت ونادت أباها، فقال معاوية: يا بنة أخي، إن الناس أعطونا طاعة وأعطيناهم أمانا، لا اللاعجة: يقال: هوى لاعج أي: محرق بكته: قرعه وعنفه ولامه أشد اللوم.وأظهرنا لهم حلما تحته غضب، وأظهروا لنا ذلا تحته حقد، ومع كل إنسان سيفه ویری موضع أصحابه، فإن نكثناهم نكثوا بنا، ولا ندري أعلينا تكون أم لنا؟ ولأن تكوني ابنة عم أمير المؤمنين خير من أن تكوني امرأة من عرض الناس(2) .

ص: 420


1- أنظر:الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،ص126
2- ابن عبد ربه الأندلسي،العقد الفرید،ج4،ص364

2)التضييق على شيعة الإمام علي (علیه السلام)

وكان أشد الناس بلاء يومذاك شيعة علي (علیه السلام) خاصة،فقد أمر معاوية ولاته بلعن علي (علیه السلام) على المنابر(وسنتحدث عن هذه النقطة بعد قليل بشيء من التفصيل).وكان لأهل الكوفة النصيب الأكبر من التضييق والضغوط،لكون هواهم مع الإمام علي علي،ولما فعلوه بمعاوية وأهل الشام في صفين.

يروي الطبري أن معاوية قال للمغيرة بن شعبة لما ولاه الكوفة سنة41هج:قد أردث إيصاء بأشياء كثيرة أنا تاركها اعتمادا على بصرك،ولس تارة إيصاء بخصلة؛لا تترك شتم علي وذمه،والترحم على عثمان والاستغفار له،والعيب لأصحاب علي والإقصاء لهم،والإطراء لشيعة عثمان والإدناء لهم(1) .

وسنرى في سنة45هج وما بعدها،ما فعل زياد بن أبيه،بشيعة علي (علیه السلام).

وفي رواية مهمة،يرويها ابن أبي الحديد،عن الإمام الباقر (علیه السلام)،يشرح لنا فيها ظروف وملابسات هذه الفترة الحالكة من التاريخ،يقول:

روي أن أبا جعفر محمد بن علي الباقر (علیه السلام)،قال لبعض أصحابه : يا فلان ، ما لقينا من ظلم قريش إيانا ، وتظاهرهم علينا ، وما لقي شيعتنا ومحبونا من الناس ، إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبض وقد أخر أنا أولى الناس بالناس ، فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه ، واحتجت على الأنصار بحقنا وحجتنا . ثم تداولتها قريش ، واحدٌ بعد واحد ، حتى رجعت إلينا ، فنكثت بيعتنا ، ونصبت الحرب لنا ، ولم يزل صاحب الأمر(=الإمام علي (علیه السلام))في صعود كؤود ، حتى قتل ، فبويع الحسن ابنه وعوهد ثم غدر به ، وأسلم ، ووثب عليه أهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه ، ونهبت عسكره ، وعولجت خلاليل أمهات أولاده ، فوادع معاوية وحقن دمه وذماء أهل بيته ، وهم قليل حق قليل . ثم بايع الحسين (علیه السلام) من أهل العراق عشرون ألفاً ، ثم غدروا به ، وخرجوا عليه ، وبيعته في أعناقهم وقتلوه.

ثمّ لم نزل _ أهلَ البيت _ نُستذل ونُستضام ، ونُقصى ونُمتهن ، ونُحرم ونُقتل ، ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا ، ووجد الكاذبون الجاحدون ، لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقربون به إلى أوليائهم ، وقضاة السوء وعمال السوء في كلّ بلدة،

ص: 421


1- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،ص188

فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة ، ورووا عنا ما لم نقله وما لم نفعله ، ليبغضونا إلى الناس ، وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن (علیه السلام) ، فقتلت شيعتنا بكل بلدة ، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة ، وكان من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله ، أو هدمت داره .

ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد ، إلى زمان عبيد اللّه بن زياد قاتل الحسين (علیه السلام) ، ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة ، وأخذهم بكل ظنة وتهمة ، حتى إن الرجل ليقال له : زنديق أو كافر ، أحب إليه من أن يقال : شيعة علي ، وحتى صار الرجل الذي يذكر بالخير - ولعله يكون ورعاً صدوقاً - يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة ، من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة ، ولم يخلق اللّه تعالى شيئاً منها ، ولا كانت ولا وقعت وهو يحسب أنها حق لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب ولا بقلة ورع»(1) .

وسنتحدث بتفصيل أكبر عن سيل الأحاديث المختلقة التي راجت آنذاك عندما نصل إلى عنوان«تحريف الشنة».

3)سب الإمام علي (علیه السلام) على المنابر

من أخبث السنن التي سنها معاوية كانت شئة سب الإمام علي (علیه السلام) على المنابر...ويبدو من بعض الأخبار أنه بدأ بهذه السنة في الشام قبل شهادة الإمام علي (علیه السلام)،بدلیل أن الإمام الحسن (علیه السلام) اشترط في أحد بنود الصلح وقف سب الإمام علي (علیه السلام)...لكن بعد الصلح،لم يكتف معاوية بعدم الوفاء بهذا الشرط، بل عمم سنة سب الإمام علي (علیه السلام) على الأمصار الإسلامية،فاعتاد څطباء المنابر سب الإمام علي (علیه السلام)،وصار هذا السب هو ختام كل خطبة.

يقول ابن أبي الحديد في شرحه لكلام أمير المؤمنين علي (علیه السلام):«أما إنه سيظهر (=سيغلب) عليكم بعدي رجل رجب(=واسع)البلعوم،مندحق(=بارز) البطن،يأكل ما يجد،ويطلب ما لا يجد،فاقتلوه،ولن تقتلوه.ألا إنه سيامركم بسبي والبراءة مني،فأما السب فشبوني،فإنه لي زكاة ولكم نجاة،وأما البراءة فلا تتبرعوا مني،فإني ولدت على الفطرة،وسبقت إلى الإيمان والهجرة».

يقول ابن أبي الحديد:إن معاوية أمر الناس بالعراق والشام وغيرهما بسب

ص: 422


1- ابن أبي الحديد المعتزلي،شرح نهج البلاغة،مج6،ج11،ص25

علي (علیه السلام)والبراءة منه.وخطب بذلك على منابر الإسلام،وصار ذلك شنة في أيام بنيأمية إلى أن قام عمر بن عبد العزيز رضی اللّه عنه فأزاله.

وذكر شيخنا الجاحظ أن معاوية كان يقول في آخر ځطبة الجمعة:«اللّٰهم العن أبا تراب،ألحد في دينك،وصد عن سبيلك،فالعنه لعنا وبيلا،وعذبه عذابا أليما». فكانت هذه الكلمات يسار بها على المنابر إلى خلافة عمر بن عبد العزيز.

وروى أبو عثمان أيضاً: أن قوماً من بني أمية قالوا لمعاوية: يا أمير المؤمنين إنّك قد بلغت ما أملت فلو كففت عن لعن هذا الرجل ! فقال: لا واللّه حتى يربو عليه الصغير ويهرم عليه الكبير ولا يذكر له ذاكر فضلاً(أقول:هذا الكلام يؤكد أن ما قام به معاوية كان خطة مدروسة لمحو اسم علي (علیه السلام) من وجدان الأجيال المسلمة).

وأمر المغيرة بن شعبة(1) -وهو يومئذ أمير الكوفة من قبل معاوية-حجر بن عدي أن يقوم في الناس،فيلعن عليا (علیه السلام)،فأبي ذلك،فتوده،فقال:أيها الناس،إن أميركم أمرني أن ألعن علية فالعنوه،فقال أهل الكوفة:لعنه اللّٰه،وأعاد الضمير إلى المغيرة بالئية والقصد.

وأراد زیاد(2) أن يعرض أهل الكوفة أجمعين على البراءة من علي (علیه السلام)،ولعنه،وأن يقتل كل من امتنع من ذلك،ويخرب منزله،فضربه اللّٰه ذلك اليوم بالطاعون،فمات - الا رحمة اللّه-بعد ثلاثة أيام،وذلك في خلافة معاوية.

فأما عمر بن عبد العزيز...فإنه قال:كنت غلاما أقرأ القرآن على بعض ولد عتبة بن مسعود،فمر بي يوما وأنا ألعب مع الصبيان،ونحن نلع علية،فكره ذلك ودخل المسجد،فترك الصبيان وجئ إليه لأدرس عليه وردي،فلما رآني قام فصلى وأطال في الصلاة-شبه المعرض عني-حتى أحسس منه بذلك،فلما انفتل من صلاته كلح في وجهي،فقلت له:ما بال الشيخ؟

فقال لي:يا بني،أن اللاع علية منذ اليوم؟قلت:نعم قال:فمتى علمت أن اللّٰه سخظ على أهل بدر بعد أن رضي عنهم؟!

فقلت:يا أبي،وهل كان على من أهل بدر؟!(لاحظ تأثير سياسة التجهيلوالتضليل

في الأجيال الجديدة من بني أمية،فضلا عن أهل الشام عامة).

ص: 423


1- وهو والي معاوية على الكوفة من سنة41أو42هج إلى سنة49هج(في حدود ثمان سنوات)
2- وهو والي معاوية على الكوفة من سنة49هج إلى سنة53هج(في حدود أربع سنوات)

فقال:ويحك!وهل كانت بدر كلها إلا له؟!

فقلت:لا أعود

فقال:اللّٰه إنك لا تعود؟

قلت:نعم

فلم العنه بعدها.ثم كنت أحضر تحت منبر المدينة و أبي يخطب يوم الجمعة و هو حينئذ أمير المدينة فكنت أسمع أبي يمر في خطبه تهدر شقاشقه حتى يأتي إلى لعن علي (علیه السلام) فيجمجم و يعرض له من الفهاهة و الحصر ما اللّه عالم به فكنت أعجب من ذلك فقلت له يوما يا أبت أنت أفصح الناس و أخطبهم فما بالي أراك أفصح خطيب يوم حفلك حتى إذا مررت بلعن هذا الرجل صرت ألكن عليا.

فقال يا بني إن من ترى تحت منبرنا من أهل الشام و غيرهم لو علموا من فضل هذا الرجل ما يعلمه أبوك لم يتبعنا منهم أحد فوقرت كلمته في صدري مع ما كان قاله لي معلمي أيام صغري فأعطيت اللّه عهدا لئن كان لي في هذا الأمر نصيب لأغيرنه فلما من اللّه علي بالخلافة أسقطت ذلك و جعلت مكانه «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)» و كتب به إلى الآفاق فصار سنة.

والحقيقة أن الأدلة والشواهد على أن معاوية سئ شئة ست الإمام علي (علیه السلام) كثيرة جدة. منها ما رواه مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة،باب فضائل علي (علیه السلام)،عن عامر بن سعد بن أبي وقاص،عن أبيه،قال:

أمرمعاوية بن أبي سفیان سعدا(بن أبي وقاص)قال(معاوية):منعك أن تسب أبا تراب؟

فقال(سعد):أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) فلن اسبه ، لئن تكون لي واحدة منهن أحب الي من حمر النعم :

1) سمعت رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) يقول له خلفه في بعض مغازيه فقال له علي : يا رسول اللّه خلفني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبوة بعدي.

ص: 424

2) وَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ لَأُعْطِيَنَّ اَلرَّايَةَ رَجُلاً يُحِبُّ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يُحِبُّهُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ قَالَ فَتَطَاوَلْنَا لَهَا فَقَالَ اُدْعُوا لِي عَلِيّاً عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَأُتِيَ بِهِ أَرْمَدَ اَلْعَيْنِ فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ وَ دَفَعَ اَلرَّايَةَ إِلَيْهِ فَفَتَحَ اَللَّهُ عَلَىه.

3)وَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ اَلْآيَةُ - فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ دَعَا رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ عَلِيّاً وَ فَاطِمَةَ وَ اَلْحَسَنَ وَ اَلْحُسَيْنَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ وَ قَالَ اَللَّهُمَّ هَؤُلاَءِ أَهْلُ.

كتب ابن عبد ربه الأندلسي:«لما مات الحسن بن علي (علیه السلام) حج معاوية، فدخل المدينة وأراد أن يلعن عليا (علیه السلام) على منبر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).فقيل له:إن ها هنا سعد بن أبي وقاص،ولا نراه يرضى بهذا،فابعث إليه وخذ رأيه.فأرسل إليه وذكر له ذلك.فقال:إن فعلت لأخرج من المسجد،ثم لا أعود إليه.فأمسك معاوية عن لعنه حتى مات سعد.فلما مات لعنه على المنبر،وكتب إلى عماله أن يلعنوه على المنابر،ففعلوا.فكتبت أم سلمة-زوج النبي (صلی اللّه علیه واله)-إلى معاوية:«إنكم تلعنون اللّٰه ورسوله على منابركم،وذلك أنكم تلعنون علي بن أبي طالب ومن أحبه،وأنا أشهد أن اللّٰه أحبه ورسوله،فلم يلتفت إلى كلامها»(1).

أقول:الشنة التي سنها معاوية(ممثل بني أمية)في سب الإمام علي (علیه السلام)، جرات بعد ذلك عبد اللّٰه بن الزبير(2)(ممثل قریش)على سبه والانتقاص منه.يقول ابن أبي الحديد:وكان عبد اللّه بن الزبير يبغض عليا (علیه السلام)و ينتقصه و ينال من عرضه.و روي عمر بن شبه و إبن الكلبي و الواقدي و غيرهم من رواة السير، أنه مكث أيام ادعائه الخلافة أربعين جمعة لا يصلي فيها علي النبي (صلی اللّه علیه واله) و قال: لا يمنعني من ذكره إلا أن تشمخ رجال بآنافها.و في رواية محمد بن حبيب و أبي عبيدة معمر بن المثني: أن له أهيل سوء ينغضون رؤوسهم(3) عند ذكره(4)..

4)تحريف الشنة

بعد سياسة حظر تدوین احادیث رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) التي سنها عمر،خوفا-كما برر موقفه-من التأثر بأهل الكتاب وأن يؤخذ بأقوال رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)ويترك القرآن(5)

ص: 425


1- ابن عبد ربه الأندلسي، العقد الفرید، ج4، ص366.
2- عندما أسس دولته في الحجاز مستفيدة من نقمة الناس على بني أمية بعد واقعة كربلاء.
3- أنغض رأسه : حركه كالمتعجب.
4- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، مج2، ج 4، ص 36 - .37.
5- راجع كتاب : منع تدوين الحديث : اسباب ونتائج، علي الشهرستاني، مؤسسة الإمام علي، قم، 1418هج

وبعدما حبس ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا مسعود الأنصاري قائلا لهم:لقد أكثرثم الحديث عن رسول اللّٰه(1).... .جاء معاوية ليتدل في تنقية الشنة المروية عن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)من كل ما يتعارض مع مصالحه و خططه.

فعن عبد اللّٰه بن عامر اليحصبي قال:سمع معاوية على المنبر يقول:(أيها الناس) إياكم وأحاديث رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)إلا حديثة كان يذكر على عهد عمر،فإن عمر كان يخيف الناس في اللّه عزوجل(2).

يقول الشهرستاني في كتابه«منع تدوين الحديث»:«وقد أدرك معاوية-وهو الداهية-ضرورة سد باب الحدیث،تقوية لاجتهادات الخليفة عمر بن الخطاب وقراراته،لكي يتمكن من تشييد بناء البديل.

المهم هو حدوث التخالف مع قول الإمام علي (علیه السلام)،ثم جمع الأمة على ما يريدونه، ومتى أرادوا النيل من أحد الطالبيين فإنهم يشيعون عنه أنه قدخرج عن إرادة الأمة،لأن فقهه يخالف فقه المسلمين،فانظروا إلى وضوئه فإنه مسح،وإلى صلاته فهو سبل،وإلى قراءته فهي جهرية،وإلى آخر هذه المصائد والكمائن.

إن إغلاق باب الحديث والتدوين من قبل الخليفة عمر بن الخطاب كان فرصة أمام معاوية لبناء البديل،كما أنه سعي لتقوية دور القاصين ومتزلفي الرواة،ليضعوا الأحاديث التي تخدم رأيه،وتقلل من مكانة خصمه،فكان مما يثبت أركان حكومته هو:التركيز على فضائل عثمان والشيخين(3).

وجاء في مناقب الإمام أبي حنيفة للمكي أنه:«لما دعي ليسأل عن مسألة فقهية من قبل أحد الأمويين،قال أبو حنيفة:فاسترجع نفسي لأني أقول فيها بقول علي (علیه السلام) وأدي اللّٰه به،فكيف أصنع؟قال:ثم عزمت أن أصدقه وأفتيه بالدين الذي أدين اللّٰه به،وذلك أن بني أمية كانوا لا يفتون بقول علي ولا يأخذون به-إلى أن يقول-وكان علي لا يذكر في ذلك العصر باسمه،والعلامة عنه بين المشايخ أن يقولوا:«قال الشيخ»،ومنعوا الناس أن يسموا أبناءهم باسمه، ويتعرض للبلاء من سمى ابنه عليا»(4).

أقول:وبالفعل، إن أجرينا استقراء لأسماء الرواة الذين ولدوا بعد استتباب الحكم

ص: 426


1- الذهبي، تذكرة الحفاظ، 1/ 7.
2- صحیح مسلم، كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة .
3- على الشهرستاني، منع تدوين الحديث، ص 274 - 275.
4- مناقب أبي حنيفة للمكي، ج 1، ص 171، نقلا عن : أسد حيدر، الإمام الصادق (علیه السلام)الأربعة، دار الكتاب العربي، ط2، 390 اهج - 1969م، بیروت، ص396.

المعاوية،وكان اسمه«عليا»،لوجدنا نزرة يسيرة منهم،إن وجدنا أصلا...واستمر الوضع على هذا النحو-ربما-حتى أواخر الدولة الأموية.فأكثر من كان يحمل اسم «علي»في تلك الحقبة التاريخية،كان قد ولد قبل ضلح الإمام الحسن (علیه السلام)،أو بعد انهيار الدولة الأموية.وهذه الملاحظة بحاجة إلى مزيد من الدراسة والتمحيص للتأكد من صحتها.

يقول ابن أبي الحديد المعتزلي:عن رجاء بن أبي سلمة قال:بلغني أن معاوية كان

يقول:عليكم من الحديث بما كان في عهد عمر،فإنه كان قد أخاف الناس في الحدي عن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).

وقد روى ابن عرفة المعروف ب نفطويه-وهو من أكابر المحدثين وأعلامهم-في تاريخه،فقال:«إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابةافتعلت في أيام بني أمية،تقربا إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم»(1) .

أقول:من الواضح أن ما قام به معاوية لم يكن ردة فعل عابرة،بل كان ضمن خطة

مدروسة،تنفذ على مراحل...والرواية التالية قد تؤكد وجهة النظر هذه.

فقد روى المدائني في كتاب«الأحداث»وقال:كتب معاوية نسخة واحدة إلى غمالو بعد عام الجماعة(لاحظ:هذه هي المرحلة الأولى من المحطة)أن«برنت الأمة ممن روی شيئا من فضل أبي تراب وأهل بيته»،فقامت الخطباء في كل كورة، وعلى كل منبر،يلعنون علية ويبرؤون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته،وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة.

وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق(لاحظ:هذه هي المرحلة الثانية من الخطة):«ألا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة».وكتب إليهم أن«انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته والذين يروون فضائل ومناقبه،فأدنوا مجالسهم،وقربوهم وأكرموهم،واكتبوا إلي بكل ما يروي كل رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته».ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه،لما كان يبعث إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع، ويفيضه في العرب منهم والموالي.فكثر ذلك في كل مصر،وتنافسوا في المنازل والدنيا،فليس يجيئ أحد مردود من الناس عامة من عمال معاوية،فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلا كتب اسمه وقربه وشتمه،فلبثوا بذلك حينا.

ثم كتب إلى عماله(لاحظ:هذه هي المرحلة الثالثة من المحطة):«إنالحديث في

ص: 427


1- ابن أبي الحديد المعتزلي،شرح نهج البلاغة،مج4،ج11،ص27

عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية،فإذا جاءكم كتابي هذا، فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين،ولا تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة، فإن هذا أحب إلي،وأقر العيني،وأدحض لحجة أبي تراب وشیعته،وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضليه.

فقرئت به على الناس،فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها،وجد الناس في رواية ما يجري في هذا المجرى،حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر،وألقي إلى معلمي الكتاتيب،فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع،حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن،وحتى علموه بناتهم ونساءهم، وخدمهم وحشمهم،فلبثوا بذلك ما شاء اللّٰه.ثم كتب إلى مالو نسخة واحدة إلى جميع البلدان(لاحظ:هذه هي المرحلة الرابعة من الخطة):«انظروا من قامت عليه البينة أنه يجب علية وأهل بيته،فامحوه من الديوان،وأسقطوا عطاءه ورزقه».

وشفع ذلك بنسخة أخرى(لاحظ:هذه هي المرحلة الخامسة من الخطة):«من اتهمتموه بموالاۃ القوم،فنكلوا به،واهموا داره».فلم يڅن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق،ولا سيما بالكوفة،حتى إن الرجل من شيعة علي (علیه السلام) ليأتيه من يثق به، فيدل بيته،فيلقي إليه سره،ويخاف من خادمه ومملوكه،ولا يحدثه حتى يأخذ عليه الأيمان المغلظة،ليكتم عليه.فظهر حدیث كثیر موضوع،وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة،وكان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراؤون والمستضعفونی الذين يظهرون الخشوع والشك،فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقربوا مجالسهم،ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان،فقبلوها ورووها،وهم يظنون أنها حق،ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها.

فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسين بن علي (علیه السلام)،فازداد البلاء والفتنة،فلم يبق أحد من هذا القبيل إلا وهو خائف على دوير،أو طرية في الأرض(1) .

وهنا يتضح أن المحدثين الذين جاؤوا بعد ذلك،وجمعوا الأحاديث،واعتبروا كتبهم

صحاحا،هم ضحية محطة مرسومة وطويلة من الضليل،مرت بها عدة أجيال.

ص: 428


1- ابن أبي الحديد المعتزلي،شرح نهج البلاغة،مج4،ج11،ص25-26

وقد سمى ابن أبي الحديد قرومة من الصحابة والتابعين ممن وضعهم معاوية لرواية الأخبار.فقال:ذكر شيخنا أبو جعفر الإسكافي أن معاوية وضع قومة من الصحابة وقومة من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علئ (علیه السلام) تقتضي الطعن فيه والبراءة منه؛وجعل الهم على ذلك جعلا يرغب في مثله،فاختلقوا ما أرضاه، منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة،ومن التابعين عروة بن الربير.

روى الزهري أن عروة بن الزبير حدثه قال:حدثتني عائشة قالت:كن عند رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،إذ أقبل العباس وعلي،فقال:يا عائشة،إن هذين يموتان على غير ملتي-أو قال:دیني!!

وأما عمرو بن العاص فروى عنه الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما مسندة متصلا بعمرو بن العاص،قال:سمعت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) يقول:إن آل أبي طالب ليسوا لي باولياء إنما ولي اللّٰه وصالح المؤمنين.

وأما أبو هريرة،فروى عنه الحديث الذي معناه أن عليا (علیه السلام) خطب ابنة أبي جهل في حياة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،فأسخطه،فخطب على المنبر،وقال:لا واللّٰه لا تجتمع ابنه ولي اللّٰه وابنه عدو اللّٰه أبي جهل!إن فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها،إن كان علي پریڈ ابنة أبي جهل فليفارق ابنتي،وليفعل ما يريد.

وقال:لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة،جاء إلى مسجد الكوفة، فلما رأى كثرة من استقبله من الناس،جثا على ركبتيه،ثم ضرب على صلعته مرارة،وقال:يا أهل العراق،أتزعمون أني أكذب على اللّٰه وعلى شلبي،وأحرق نفسي بالنار؟واللّٰه لقد سمع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)يقول:«إن لكل نبي حرمة،وإن حرمي بالمدينة،ما بين عير وثور،فمن أحدث فيها حدثا،فعليه لعنه اللّٰه والملائكة والناس أجمعين»،وأشهد باللّٰه أن عليا أحدث فيها.فلما بلغ معاوية قوله أجازه وأكرمه وولاه إمارة المدينة.

....وقد ذكر ابن قتيبة هذا كله في كتاب«المعارف»في ترجمة أبي هريرة(1) .

أيضا يروي ابن أبي الحديد،قال أبو جعفر:وقد ژوي أن معاوية بذل لمرة بن جندب مائة ألف درهم حتى يروي أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ»«وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ»(2) ،وأن الآية

ص: 429


1- ابن أبي الحديد المعتزلي،شرح نهج البلاغة،مج2،ج4،ص37-41
2- سورة البقرة،الآيتان:204-205

الثانية نزلت في ابن ملجم،وهي قوله تعالى«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ»(1)،فلم يقبل،فبذل له مائتي ألف درهم،فلم يقبل،فبذل له ثلاثمائة ألف،فلم يقبل،فبذل له أربعمائة ألف،فقبل،وروى ذلك.

قال:وصمم أن بني أمية منعوا من إظهار فضائل علي (علیه السلام)،وعاقبوا ذلك الراوي، حتى إن الرجل إذا روى عنه حديثة لا يتعلق بفضله بل بشرائع الذين لا يتجاسر على ذكراسمه،فيقول:«عن أبي زينب»(2).

واستمر معاوية في المضي في مخططه في فسح المجال لبعض المحدثين، وخنق أنفاس محدثین آخرين ليمارسوا الرواية الشفاهية طوال فترة حكوي، واستمر الأمر على هذا النحو حتى جاء هشام بن عبد الملك بن مروان سنة 105هج،وأمر بعض المحدثين بتدوين وكتابة الحديث،كالزهري(ت124هج)،الذي كان يقول:ئانكره كتابة العلم،حتى أكرهنا هؤلاء الأمراء،فرأينا أن لا نمنعه أحدة من المسلمين(3)،وأبي مليح الذي كان يقول:كنا لا نطمع أن نكتب عند الهري، حتى أكرة هشام الهري،فكتب لبنيه،فكتب الناس الحديث(4).

فكتب الحديث تحت إشراف شلطان بني أمية...وما أن جاء العصر العباسي، وأراد أصحاب الصحاح جمع الأحاديث وتدوينها في كتبهم،حتى اختلط الحق بالباطل،والصدق بالكذب،وكثر المدلسون والوضاعون،وصارت الصورة في غاية التشويش.

إذا أخذنا البخاري(ت256هج)(5)-أبو عبد اللّٰه محمد بن إسماعيل بن إبراهيم المغيرة بن بردز به)-مثالا على التشويش وعدم الثقة وحتى التحيز،سنجد أنه انفرد بتخريج78حديثة وروي عن رجال غير ثقات؛كإسماعيل بن عبد اللّٰه بن أويس بن مالك

ص: 430


1- سورة البقرة، الآية: 207.
2- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، مج2، ج 4، ص 43.
3- الطبقات الكبرى 2/ 389، البداية والنهاية 9/ 341. أنظر أيضا : صبحي الصالح، علوم الحديث ومصطلحه، دار العلم للملايين، ط 21، 1997م، بیروت، ص 46.
4- حلية الأولياء 3/ 363، البداية والنهاية 9/ 345 كما في الرواية التاريخية 107.
5- ولد البخاري في 194 هج، وعاصر الإمام الرضا والجواد (علیه السلام) - أي عصر المامون العباسي وعندماتوفي المأمون كان عمر البخاري 24 سنة - ثم عاصر الإمام الهادي (علیه السلام) - أي عصر المعتصم والواثق، وعاصر الإمام العسكري (علیه السلام) - أي عصر المتوكل الذي عرف بعدائه الشديد لأهل البيت (علیهم السلام) ، والمنتصر، والمستعين والمعتز الذي عرف بعدائه الشديد لأهل البيت (علیهم السلام) ، والمهتدي والمعتمد. إذن فترة إنتاج البخاري معاصرة لأمثال المتوكل والمعتز، وهي الفترة ذاتها التي كتبت فيها الصحاح الستة

(ت 226 هج)الذي قال يحيى بن معين عنه إنه مخلط كذاب،وتكلم فيه النسائي وعرف بوضع الحديث لأهل المدينة إذا اختلفوا فيما بينهم.وروي عن زياد بن عبد اللّٰه العامري(ت282هج)الذي نقل بشأنه الترمذي عن وكيع أنه على شرفه كان يكذب في الحديث.وروي عن الحسن بن مدرك الدوسي الطځان،الذي رماه أبو داود بالكذب.

كما روى البخاري عن مجموعة عرفت بالنصب والعداء للإمام علي (علیه السلام)؛كعمران

ابن حطان الذي مدح عبد الرحمن بن ملجم المراد بقوله:

با ضربه من تقي ما أراد بها

إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إني لأذكره يوما فأحسبه

أو في البرية عند اللّٰه میزانا

كما روي عن أبي الأحمر السائب بن فروخ(ت136هج)،وحریز بنعثمان الحمصي (ت163هج)الذي كان يقول:لا أحب علية قتل آبائي ويقول:لنا إمامنا(یعني معاوية)ولكم إمامكم(يعني علي عليه السلام)،وروي عن إسحاق بن سويد التميمي(ت131 هج)،وعبد اللّٰه بن سالم الأشعري(ت179هج)،وزياد بن علاقة أبو مالك الكوفي(ت129هج)،وغيرهم من النواصب والخوارج الذين أعلنوا العداء للإمام علي (علیه السلام) وتظاهروا بالتحامل عليه.

في مقابل ذلك،لم يرو البخاري عن كثير من علماء الأمة وأعلام الحديث،ومن هم أدري بحديث رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وأشد عناية فيه وإحاطة له،وفي طليعتهم الإمام جعفر الصادق (علیه السلام)(1) .

وإن كان معاوية قد نقى الأحاديث المروية عن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)مما يعارض مصالحه وخططه،خصوصا فيما يتعلق بالإمام علي علي وأهل بيته،فقد فتح باب الأحاديث الإسرائيلية(=المأخوذة من التوراة)على مصراعيه.وذلك من خلال السماح لأمثال الراهب النصراني تميم الداري،وكعب أحبار اليهود،وكانا قد أظهرا الإسلام بعد انتشاره،وتقربا إلى الخلفاء بعد رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،ففسحوا لهما وأمثالهما في المجال أن يبنوا الأحاديث الإسرائيلية بين المسلمين كما يشاؤون.

وقد عظم نفوذ هؤلاء في عهد معاوية،حيث اخذ بطانة من النصارى أمثال سرجون(Sir John)،وطبيبه ابن أثال،وشاعره الأخطل من نصاری عصره.ومن المعلوم أن هؤلاء عندما شكلوا البلاط الأموي لم يتركوا أفكارهم المسيحية وأعرافهم خلقهم،بل

ص: 431


1- أسد حيدر،الإمام الصادق والمذاهب الأربعة،ج1،ص78-82

حملوها معهم إلى البلاط.أضف إلى ذلك أن عاصمة معاوية الشام كانت قبل ذلك عاصمة النصارى الروم البيزنطيين،وكانت ذات حضارة عريقة(1)....

5)سياسة شراء الذمم

أغدق معاوية العطاء على الشخصيات العامة والرؤساء،فمالوا إليه.قال الطبري: إن الحات بن يزيد المجاشعي(وهو بالمناسبة من الصحابة!)وقد على معاوية في جماعة من الرؤساء،فأعطى كلا منهم مائة ألف،وأعطى الممات سبعين ألفا، فلما رجعوا،وكانوا ببعض الطريق،أخبر بعضهم بعضا بجائزتي،فرجع التات إلى معاوية يعاتبه،فقال له فيما قال:ما بالك خست بي دون القوم؟!

فقال معاوية:اشتري من القوم دينهم،ووكلئك إلى دينك ورأيك في عثمان.فقال الات:وأنا فاشتر مني دیني.

فأمر له بتمام جائزته(2)

وصانع معاوية الرجال ذوي الدهاء والخطر،فوئي المغيرة بن شعبة الكوفة،بعد أن كان قد أعطى مصر طعمة لعمرو بن العاص مدة حياته(3)،وبقي زياد بن أبیه شوكة إلى جنيه،فأقض أمره مضجع معاوية،فعالجه علاج امرئ حازم في دنياه،غير آبه لدينو حين استلحقه بنسبه،ووافق ذلك هوى في نفس زیاد،فرغب في ذلك أشد الرغبة بما نقل نسبه من ثقيف إلى قريش،ومن عبيد إلى أبي سفيان، فأصبح أخا لخليفة المسلمين بعد أن كان امرءة وضيع النسب خسیس الحسب(4). وسنتطرق إلى قضية استلحاق معاوية نسب زیاد ابن أبيه بأبي سفيان،قريباً.

ص: 432


1- مرتضى العسكري، معالم المدرستين، ج2، ص55 - 63.
2- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص180. نقل ابن الأثير ذلك أيضا في ترجمته في اسد الغابة ، وفي ترجمته في الإصابة في تمييز الصحابة .
3- وفي سنة 43هج - أي بعد صلح الحسن (علیه السلام) بسنتين - مات عمرو بن العاص بمصر، فكان والية من طرف معاوية عليها ما يزيد على العامين بقليل.
4- استلحق معاوية نسب زیاد بن سمية بابيه أبي سفيان في سنة 44هج بعد صلح الحسن (علیه السلام) بثلاث سنين، ثم ولاء البصرة سنة 45هج، ثم جمع له خراسان وسجستان والهند والبحرين وعمان، فكان بذلك توطئة لتولية ابنه عبيد اللّه بن زیاد. نخطب أهل البصرة فكان مما قاله : فكفوا عني أیدیكم وألسنتكم أكفف يدي وأذاي، لا يظهر من أحد منكم خلاف ما عليه عامتكم إلا ضربت عنقه ... وأيم اللّه إن لي فيكم لصرعى كثيرة فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي (الطبري، ج4، ص166 - 167). وفي سنة 50هج، بعد أن مات المغيرة بن شعبة والي معاوية على الكوفة بالطاعون، ضم معاوية الكوفة إلى زياد، فكان أول من جمع له الكوفة والبصرة (الطبري، ج4،ص174). وتوفي زیاد سنة 53هج، ثم قام معاوية بتولية عبيد اللّه بن زياد - لعنه اللّه - خراسان سنة 54هج، التي أقام بها سنتين، ثم ولاه معاوية البصرة سنة 55هج. وصار عبيد اللّه - كابيه - معروفة عند أهل العراق بالبطش، وقصته مع عروة بن أدية معروفة (الطبري، ج 4، ص 231 - 232)، مضافة إلى قتله عددا كبيرة من الخوارج سنة 58هج. وقام معاوية سنة 59هج بتولية عبد الرحمن بن زیاد بن سمية (اخر عبيد اللّه ) خراسان، وولي النعمان بن بشير الأنصاري الكوفة .

الخلاصة:يمكن القول بأن معاوية مارس ثقافة شراء الأمم والشمائر في عصر الإمام علي (علیه السلام) بنحو انتقائي كحالات فردية.لكن هذه الحالات الفردية شاعت وأصبحت ظاهرة مع بداية كم معاوية.وأخطر ما في الأمر أن هذه الظاهرة تحولت بالتدريج إلى ثقافة عامة مع نهاية حكم معاوية....

وبالتالي يمكن النظر إلى ثورة الإمام الحسین (علیه السلام) علی یزید،على أنها ثورةټيمية

ضد ثقافة الحكم الأموي،وبالتحديد ضد ثقافة معاوية،وخط معاوية.

6)مزيد من الإفراط في حياة البذخ

نعم،شری معاوية دهاة الرجال في عصره بالإمرة،والمال،والاستلحاق بالسب، وصانع الرؤساء،وداهن أعداءه،وبذل وافر المال،وتظاهر بالحلم والإغضاء عن خصومه أجمعين،حتى إذا اسق له الأمر،وتم له الملك،أظهر دخيل نفسه،وجعل الخلافة ملكا عضوضة.فأمر بأن يصطفي له الصفراء والبيضاء،فلا يقسم بين الناس ذهب ولا فضة،واستصفى لنفسه ما كان لكسرى وآل كسری من الوافي في أرض الكوفة وسواها،فبلغت جبايته خمسين ألف ألف درهم من أرض الكوفة وسواها.

وكتب إلى عبد الرحمن بن أبي بكرة بمثل ذلك في أرض البصرة،وأمرهم أن يحملوا

إليه هدايا التيروز والمهرجان،فكان يحمل إليه في الثيروز وغيره والمهرجان عشرة آلاف ألف.

وفعل معاوية بالشام والجزيرة واليمن مثل ما فعل بالعراق من استصفاء ما كان للملوك من الضياع،وتصييرها لنفيه خالصة،وأقطعها أهل بيته وخاصته،وكان أول من كانت له الوافي في جميع الدنيا،حتى بمكة والمدينة،فإنه كان فيهما شيء يحمل في كل سنة من أوساق(الوسق سون صاعة أو حمل بعير)التمر والجنطة،وأقطع فدكة مروان خاصة.

ثم شدد النكير على من ناوأه،ولما صار إلى المدينة أتاه جماعة من بني هاشم،

ص: 433

وكلموه في أمورهم،فقال:أما ترضون يا بني هاشم أن تقركم على دمائكم وقد قتلثم عثمان حتى تقولوا ما تقولون؟!فواللّٰه لأنثم أحل دما من كذا وكذا،وأعظم في القول.

فقال له ابن عباس:كل ما قلت لنا یا معاوية من شر بين دفتيك،أنت واللّٰه أولى بذلك منا،أنت قتلت عثمان،ثم قمت تغمص على الناس أنك تطلب بدو،فانكسر معاوية... ... ...

ثم كلمة الأنصار،فأغلظ لهم في القول،وقال لهم:ما فعلت نواضحكم؟(1)

قالوا:أفنيناها يوم بدر،لما قتلنا أخاك وجدك وخال،ولكنا نفعل ما أوصانا به

رسول اللّٰه.

قال:ما أوصاكم به؟قالوا:أوصانا بالصبر.قال:فاصبروا.ثم أدلج معاوية إلى الشام ولم يقض لهم حاجة(2) .

إلا دفن دفنة

ينقل المسعودي وابن أبي الحديد أن المطرف بن المغيرة قال:دخل مع أبي على معاوية،فكان أبي يأتيه،فيتحدث معه،ثم ينصرف إليه،فيذكر معاوية وعقله، ويعجب بما يرى منه.إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء،ورأيته مغتم فانتظرته ساعة،وظننت أنه لأمر حدث فينا.فقلت:ما لي أراك مغتما من الليلة؟

فقال لي:يا بني جئ من أكفر الناس وأخبثهم قلت:وما ذاك؟

قال:قل له وقد خلوث به:إنك قد بلغت سنة يا أمير المؤمنين،فلو أظهرت عدة وبسطت خيرة،فإنك قد كبرت،ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم،فواللّٰه ما عندهم اليوم شيء تخافه،وإثر ذلك مما بقي لك ذكره وثوابه؟ فقال:هيهات هيهات،أي ذكر أرجو بقاءه؟ملك أخو تيم،فعدل وفعل ما فعل،فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره،إلا أن يقول قائل:«أبو بكر»،ثم ملك أخو عدي، فاجتهد

ص: 434


1- يبدو أن المقصود:قدراتكم الدفاعية،لأن فلانا ينضح عن نفسه يعني يدفع عنها
2- راجع لنعرف مصادر ذلك كله:مرتضى العسكري،احادیث ام المومنین عائشة،ج1،ص346-348

وشمر عشر سنين،فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره،إلا أن يقول قائل:«عمر»، وإن أخا هاشم لصالح به كل يوم خمس مرات:«أشهد أن محمدا رسول اللّٰه»، فأي عمل يبقى وأي ذكر يدوم بعد هذا،لا أبا لك؟لا واللّٰه إلا دفنا دفنا.

نكتفي بهذا القدر من شرح سياسة معاوية العامة خلال فترة حكمة،وندرس في الفصل القادم أهم الحوادث التي وقعت خلال هذه الفترة.

ص: 435

(27)استلحاق زياد وتصفية المعارضين والمنافسين

بعد أن عرفنا السياسة العامة التي سار عليها معاوية خلال فترة ځكي،سنمر الآن مرورة سريعة على سنوات كيو،لنتعرف على أهم الحوادث التي جرت في فترة كيو،وسنتوقف عند الأحداث المهمة،لندرسها بشيء من التفصيل،وندرس شخصية المغيرة بن شعبة وزياد ابن أبيه،ثم نواصل سرد الأحداث بشكل سريع.

أهم الحوادث في فترة حكم معاوية(41-60هج)

•41ه:دخول معاوية الكوفة بعد صلحي مع الإمام الحسن (علیه السلام)،واستلامه زمام الخلافة.الإمام الحسن (علیه السلام) يخرج من الكوفة بعد أيام إلى المدينة.قيام الدولة الأموية والبدء بسلسلة طويلة وقاسية من الملاحقات لشيعة علي (علیه السلام).الإمام علي (علیه السلام) یسب على المنابر بإيعاز من معاوية،ونشر كم هائل من الأحاديث المكذوبة على رسول اللّه (علیه السلام).

•42هج:فيها ولی معاوية على المدينة مروان بن الحكم،وعلى الكوفة المغيرة ابن شعبة،ومن خلالهما أحكم قبضته على أهم مصرين....لكن من هو المغيرة بن شعبة؟

المغيرة بن شعبة

المغيرة بن شعبة الثقفي من دهاة العرب،حتى قال عنه بعض أصحابه:صحب المغيرة فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلا بمكر لخرج من أبوابها كلها.

وتذكر بعض المصادر أنه أسلم قبل الفتح،وشهد مع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) الحديبية،وبيعة الرضوان،واستعمله عمر على البحرين ثم عزله لأن أهلها اتهموه بالاختلاس من بیت المال،ثم ولاه البصرة لثلاث سنوات ثم عزله الشهادة بعضهم عليه-ومنهم صحابة كأبي بكرة أخي زیاد ابن أبيه من أمير-بالانی،فلما شهد ثلاثة منهم بذلك،وشعر الرابع

ص: 436

-وكان الشاهد الرابع المفترض هو زياد ابن أبيه-أن عمر لا يرغب بأن يشهد على المغيرة كما تذكر بعض المصادر،تراجع عن الشهادة،فأمر عمر بجلد الثلاثة بحد القذف، وبرا المغيرة وولاه الكوفة(1) .وفي ذلك يروى أن عمر بن الخطاب سأله:ما تقولون في تولية ضعيف مسلم أو قوي فاجر؟فقال له المغيرة:المسلم الضعيف إسلامه لك وضعه عليك وعلى رعيته،وأما القوي الفاجر ففجوه عليه وقوته لك ولرعيتك،فقال له عمر:فأنت هو،وأنا باعثك يا مغيرة إلى الكوفة.وظل واليا على الكوفة حتى اغتيال عمر،فاستمر في عهد عثمان حينا ثم عزله.

ولما آل الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان قيم عليه،فاستشاره معاوية في أن يوئي عمرو بن العاص على الكوفة وابنه عبد اللّٰه على مصر،فقال المغيرة:يا أمير المؤمنين تؤمر عمرو على الكوفة وابنه على مصر وتكون كالقاعد بين فكي الأسد؟!قال:ما ترى؟قال:أنا أكفيك الكوفة،فولي الكوفة لمعاوية إلى وفاته من 42-49هج(7سنوات وأشهر).

43ه:وفاة عمرو بن العاص بمصر.

44ه:معاوية يستلحق زیاد ابن أبيه بأبي سفيان.من هو زياد ابن أبيه؟وما هي

قصة استلحاق معاوية لزياد بأبي سفيان؟

زياد ابن أبيه

قال ابن الأثير في أسد الغابة:زیاد بن سمية،وهي أمه(وفي بعض المصادر أنها فارسية الأصل)،قيل هو زياد بن أبي سفيان بن صخر بن حرب بن أمية... .وهو المعروف بزیاد ابن أبيه،وبزياد بن سمية،وهو الذي استلحقه معاوية بن أبي سفيان،وكان يقال له قبل أن يستلحقه زياد بن عبيد الثقفي،وأه سمية جارية الحارث بن كلدة

(طبيب العرب)،وهو أخو أبي بكرة لأمه،يكنى أبا المغيرة،ولد عام الهجرة... وليست اله صحبة ولا رواية،وكان من دهاة العرب والفصحاء.اشترى أبا عبيدة(غلام رومي عند الحارث)بألف درهم فأعتقه....

قيم على عمر بن الخطاب بشيرة ببعض الفتوح(وفي مصادر أخرى أن عمر بعث زيادة في إصلاح فساد وقع في اليمن)،فأمره فخطب الناس فأحسن،فقال عمرو بن

ص: 437


1- راجع مثلا الحاكم النيسابوري،المستدرك على الصحیحین،ج3،ذكر مناقب المغيرة بن شعبة،ص549،ح5892

العاص:لو كان هذا الفتى قرشيا لساق العرب بعصاه!فقال أبو سفيان:واللّٰه إني لأعرف الذي وضعه في رحم أمي.فقال علي بن أبي طالب (علیه السلام):ومن هو يا أبا سفيان؟قال:أنا،قال علي (علیه السلام):مهلا لو سمعها عمر لكان سريعا إليك(وفي بعض المصادر أن زيادة عرف ما دار بينهما فكانت في نفسيه).

يقول میثم البحراني في شرح النهج:وكان(زیاد)كاتبا لمغيرة بن شعبة،ثم كتب

لأبي موسى الأشعري،ثم كتب لابن عامر،ثم كتب لابن عباس.

يقول ابن أبي الحديد في شرح النهج:وروى المدائني:لما كان زمن علي (علیه السلام) ولي زيادة فارس أو بعض أعمال فارس،فضبطها ضبطة صالحة،وجبی خراجها وحماها،وعرف ذلك معاوية،فكتب إليه...

نعود إلى ابن الأثير:كتب إليه معاوية يعرض له بذلك ويتهدده إن لم يطعة(1) (وفي بعض المصادر أنه كتب في أسفل الكتاب شعرة من جملته:

تنسي أباك وقد شالت نعامته

إذ يخطب الناس والوالي لهم عم)

فأرسل زیاد الكتاب إلى علي (علیه السلام)،وخطب الناس وقال:عجبت من ابن آكلة

الأكباد،وكهف النفاق،ورئيس الأحزاب،كتب إلي يتهددني....(2) .

ولما وقف علي (علیه السلام)على كتاب كتب إليه:«وقد عرفت أن معاوية كتب إليك يستزل لك،ويستول غربك،فاحذره،فإنما هو الشيطان:يأتي المرة من بين يديه ومن خلفي،وعن يمينه وعن شماله،يقتحم غفلته،ويستيب غته.وقد كان من أبي سفيان في زمن عمر بن الخطاب فلتة،من حديث النفس،ونزغة من نزغات الشيطان:لا يثبث بها نسب،ولا يستحق بها إرث،والمتعلق بها كالواغل المدفع، والنوط المذبذب».فلما قرأ زياد الكتاب،قال:شهد بها ورب الكعبة،ولم تزل في نفسي؛ حتی ادعاه معاوية(3) .

يقول ابن أبي الحديد: فلما ورد كتاب زیاد على معاوية غمه وأحزنه،وبعث إلى

المغيرة بن شعبة، فخلا به ...

وقال له:يا مغيرة،إن زيادة قد أقام بفارس يك كشیش الأفاعي،وهو رجل ثاقب الرأي،ماضي العزيمة،جؤال الفكر،مصيب إذا رمي،وقد خفت منه الآن ما كنت آمنه

ص: 438


1- ابن الأثير،اسد الغابة،ج2،ص217-218
2- أنظر:الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،ص131
3- نهج البلاغة،تحقیق صبحي الصالح،(44)،ص44،ص415-416

صاحبه(يعني علية (علیه السلام))حيا،وأخشی ممالأته حسنا (علیه السلام)(أي يوظفه ليقلب الطاولة على انطلاقا من فارس)،فكيف السبيل إليه،وما الحيلة في إصلاح رأيه؟

قال المغيرة:أنا له إن لم أمت،زیادة رجل يحب الشرف والذكر،وصعود المنابر،فلو لاطفته المسألة،وألنت له الكتاب،لكان لك أميل،وبك أوثق،فاكتب إليه وأنا الرسول(1) .

استلحاق زیاد ابن أبية بأبي سفيان

إليك تفصيل هذه الحادثة كما ينقلها المسعودي وابن الأثير وغيرهما.شمة-كما أشرنا-كانت جارية للحارث بن كلدة الطبيب الثقفي،وكانت من البغايا ذوات الرايات بالطائف،وتؤدي الضريبة إلى الحارث بن كلدة،وكانت تنزل في حارة البغايا خارجة عن الحضر،وكان الحارث قد زوجها من غلام ژومي له اسمه«عبيد»، ونزل أبو سفيان في أحلي أسفاره في الجاهلية إلى الطائف على خمار يقال له«أبو مريم السلولي»،فقال أبو سفيان لأبي مريم:قد اشتهي النساء فالتمس لي بغية.

فقال له أبو مريم:هل لك في شمية؟فقال أبو سفيان:هاتها على طول ثديها، وفر بطنها(=رائحة بطنها الشديدة).فأتاه بها،فوقع عليها،فعلقت بزياد،ثم وضعته في السنة الأولى من الهجرة.

وذكروا في سبب استلحاق معاوية زيادة بنسبه أن عليا (علیه السلام) لما ولي الخلافة، استعمل زيادة على فارس،فضبطها وحمى قلاعها،فساء معاوية ذلك،فكتب معاوية إلى زیاد يتهدده،ويتعرض له بولادة أبي سفيان.

ولما قتل علي (علیه السلام)،وصالح الحسن (علیه السلام) معاوية،خاف معاوية من زیاد،فأرسل إلى المغيرة وقال له:ذكرت زیادة واعتصامه بفارس،وهو داهية العرب ومعه الأموال،وقد تحصن بأرض فارس وقلاعها يدبر الأمور،فما يؤمنني أن يبايع لرجل من أهل هذا البيت،فإذا هو قد أعادها جذعة(=أن يعيد الأمر إلى نقطة البداية أو المربع الأول).

فذهب المغيرة بن شعبة إلى زياد،وقال له:إن هذا الأمر لا يتم إليه أحد يدة إلا

الحسين بن علي،وقد بايع لمعاوية،فذها لنفسك قبل التوطين.

قال زیاد:فأشر علي.

ص: 439


1- ابن أبي الحديد المعتزلي،شرح نهج البلاغة،ج16،ص107

قال المغيرة:أرى أن تنقل أصلك إلى أصله،وتصل حبلك بحبله،وتعير الناس أذنا

صماء(1) .

فقال زیاد:یا ابن شعبة،أأغرس عودة في غير منبته؟

ثم إن زيادة عزم على قبول الدعوى،وأخد برأي ابن شعبة،ثم وفد إلى معاوية، فأرسلت إليه جويرية بنت أبي سفيان عن أمر أخيها معاوية،فلما أتاها كشفت عن شعرها بين يديه،وقالت:أنت أخي،أخبرني بذلك أبو مریم.

ثم أخرج معاوية زيادة إلى المسجد،وجمع الناس،وحضر من يشهد لزياد،وكان

فيمن حضر أبو مريم السلولي،فقال له معاوية:بم تشهد يا أبا مریم؟

فقال أبو مريم:أنا أشهد أن أبا سفيان قدم علينا بالطائف،وأنا خمار في الجاهلية،

فقال:أبغني بغية،فقلت له:ليس عندي إلا جارية الحارث بن كلدة شمة،فقال: ائتني بها على قذرها وفرها.

فقال له زیاد:مهلا يا أبا مريم،إنما بعثت شاهدة،ولم تبعث شاتمة.

فقال أبو مريم:لو كنتم أعفيتموني لكان أحب إلي،وإنما شهد بما عاين ورأيت، واللّٰه لقد أخذ بكم درعها،وأغلق الباب عليهما،وقعدث دهشان،فلم ألبث أن خرج علي يمسح جبينه،فقلت:مه يا أبا سفيان؟فقال:ماأصبت مثلها يا أبا مریم،لولا استرخاء ثديها،وذفر من فيها(=فمها).

فقال زياد:أيها الناس،هذا الشاهد قد ذكر ما سمعتم،ولست أدري حق ذلك من

باطله،وإنما كان عبيد والدة مبرورة،أو وليا مشكورة،والشهود أعلم بما قالوا.

فقام يونس بن عبيد بن أسد بن علاج الثقفي-أخو صفية مولاة سمية-فقال:يا معاوية،قضى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) أن الولد للفراش،وللعاهر الحجر،وقضيت أنت أن الولد للعاهر،وأن الحجر للفراش،مخالفة لكتاب اللّٰه تعالى،وانصرافة عن شئتی رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،بشهادة أبي مريم على زنی أبي سفيان.

فقال معاوية:واللّٰه يا يونس،لتتهيئ أو لأطير بك طيرة بطيئة وقوعها.فقال يونس: وهل إلا إلى اللّٰه قال:نعم واستغفر اللّٰه.وقال عبد الرحمن بن الحكم:

ص: 440


1- راجع في ذلك،الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،ص135

أَلا أَبلِغ مُعاويَةَ بنَ حربٍ

مُغَلغَلَةً مِنَ الرَجُلِ اليَماني

أَتَغضَبُ أَن يُقالَ أَبوكَ عَفٌّ

وَتَرضَى أَن يُقالَ أَبوكَ زانِ

فَأَشهدُ أَنَّ رِحمَكَ مِن زيادٍ

كَرِحمِ الفيلِ مِن وَلَدِ الأَتانِ(1)

قال ابن الأثير:وكان استلحاقه أول ما تردت به أحكام الشريعة علانية،فإنرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) قضى بالولو للفراش وللعاهر الحجر.

وهكذا جرت مسألة الاستلحاق،وصار زیاد عامة لمعاوية على الكوفة بعد موت

المغيرة من49-53هج(4سنوات).

ومن الطرائف أن عائشة كتبت إلى زياد كتاباً،فلم تدر ما تكتب عنوانه؟إن كتبت زیاد بن عبيد أو ابن أبيه أغضبته،وإن كتبت زياد بن أبي سفيان أثمت،فكتبت: من أم المؤمنین إلى ابنها زیاد،فلما قرأه ضحك،وقال:لقد لقيت أم المؤمنين من هذا العنوان نصبا(2) !

وهنا نؤكد على الملاحظات التالية:

1.يهمنا دراسة شخصية زياد ابن أبيه لأنه هو أبو عبيد اللّٰه قال الإمام الحسين (علیه السلام)...وهو الذي قال بحقه:إن الدعي ابن الأعي قد ركز بين اثنتين...ونريد أن نعرف لماذا هو دعي؟

2.عبيد أبو زياد غلام رومي،وأنه سمية أمة فارسية للحارث بن كلدة الثقفي. لكن كانت لأبي سفيان فلتة من فلتات اللسان،تشبث بها معاوية،لتحقيق أغراض سياسية خاصة،وادعى أن زيادة أخوه من أبي سفيان.

3.يهمنا مرة أخرى دراسة شخصية زياد ابن أبیه والمغيرة بن شعبة لأ نهم أحداث العراق في هذه المرحلة الزمنية من التاريخ(فترة حكم معاوية)لا يمكن أن يتحقق دون دراسة هاتين الشخصيتين.

4.إن المغيرة بن شعبة كان مدينة لابن زياد في درء حد الزنى عنه عندما تراجع عن الشهادة عند عمر...وسيسدد المغيرة هذا الدين لابن زیاد عندما ينبه معاوية إلى فكرة استلحاقه.

5.كان ابن زیاد بملك قدرات خاصة،من القوة والحزم والفصاحة وحسن التدبير... . هذه الطاقات والكفاءات التي يملكها ابن زیاد لم يكن لها أنتخرج ونجد

ص: 441


1- الأتان في الحمارة.تجد هذه الأبيات ايضا في الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،ص235
2- ابن أبي الحديد المعتزلي،شرح نهج البلاغة،ج16،ص120

طريقاً لأن ابن زیاد لديه عقدة نفسية خطيرة،فهو يعيش أزمة هوية،لأنه غير معروف النسب،وإن صح نسبه فهو ينسب إلى غلام رومي...فبالرغم من فصاحت لكن أصوله غير عربية...وهو رجل يحب الشرف والوجاهة،ويكره ما هو فيه من تیه وضياع في السب،ويكره أن ينظر إليه على أنه من طبقة العبيد والموالي لا الأحرار.ومن كلام عمرو بن العاص ومن إشارات أخرى كان يعلم الإمام علي (علیه السلام) بأن هذه الطاقة لو

وقها ذوو الأهداف السيئة فقد تتحول إلى طاقة تدميرية خطيرة...

6.لذا عندما وجد الإمام علي (علیه السلام) أن عبد اللّٰه بن عباس اختاره ككاتب له، وحمله بعض المسؤوليات،ولم يجد مثلبة بارزة عليه،ولاتقانه الفارسية لكون أمه سمية فارسية،ولاه فارس أو بعض أعمال فارس،وكان-كما يظهر من نهج البلاغة-يتابعه بدقة وحزم شديدين،ويحذره من خيانة ما يليه من مال المسلمين(1) ،وكان الإمام علي (علیه السلام)-كما يظهر من الرسالة أعلاه-قلقة من إمكانية تسلل معاوية إلى قلبه،ومعرفة نقطة ضعفه.

7.إن المغيرة،وانطلاقا من المعروف الذي أسداه إليه ابن زیاد،وحرصا على مصلحة معاوية... .عرف معاوية بنقطة ضعف ابن زیاد،وأقنع ابن زیاد بفكرة استلحاق معاوية له بأبي سفيان.

•46ه:موت عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بعد انصرافه من بلاد الروم إلى حمص،من خلال دس الشم من قبل ابن أثال النصراني.وعبد الرحمن هو من أوائل المنافسين الذين شعر معاوية بخطورتهم وأراد تصفيتهم جسدية،لكونه منافسة حقيقية له ولابنه يزيد.وإليك تفصيل هذا الأمر.

تصفية المنافس الأول:عبد الرحمن بن خالد بن الوليد

قال ابن عبد البر في الاستیعاب:إن معاوية لما أراد البيعة ليزيد،خطب أهل الشام،وقال لهم:يا أهل الشام،قد كبرت سني،وقرب أجلي،وقد أردت أن أعقد لرجل يكون نظامة لكم،وإنما أنا رجل منكم،فأروني رأیكم،فأصفقوا واجتمعوا وقالوا:رضينا عبد الرحمن بن خالد(بن الوليد)(2) ،فشق ذلك على معاوية،وأسها في نفسي.

ص: 442


1- في كتاب(20)يقول (علیه السلام) له:وإني أقسم باللّٰه قسمة صادقة،لئن بلغني أنك څنت من في المسلمين شينة صغيرة أو كبيرة،لأشدن عليك شدة تدعك قليل الوفر،ثقيل الظهر،ضئيل الأمر،والسلام نهج البلاغة،صبحي الصالح،(20)،ص377.أنظر أيضا الكتاب الذي يليه
2- وكان أميرة على حمص في عهد عثمان بن عفان

عبد الرحمن بن خالد مرض،فأمر معاوية طبيبة عنده يهودية،وكان عنده مكينة أن يأتيه،فيسقيه شقية يقتله بها،فأتاه فسقاه،فانخرق بطنه فمات(1) !

•47ه:معاوية عن معاوية بن حديج(قاتل محمد بن أبي بكر)واليا على مصر.

•48ه:علاقة معاوية بمروان بن الحكم تشوبها الفتور،ومروان يتوقع العزلالموجدة كانت من معاوية عليه وارتجاعه منه فدك وقد كان وهبها له.

49ه:معاوية يعزل مروان بن الحكم عن المدينة بالفعل،وعن سعيد بن العاص كوال عليها.موت المغيرة بن شعبة بالطاعون في الكوفة بعد تحريضه معاوية على استخلاف أبنه یزید.معاوية يوشع كم زیاد بن أبيه فيضم إليه الكوفة بعد البصرة.معاوية يعزل معاوية بن حديج عن مصر وعقبة بن نافع عن أفريقية ويولي مسلم بن مخلد مصر والمغرب كلها.وفاة أبو موسى الأشعري.

50ه:معاوية يذهب للحج،والحسن (علیه السلام) يستشهد مسموماً على يد زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس بإيعاز من معاوية،ويدفن بالبقيع بعد احتكاك مع عائشة ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص ورفضهم لدفنقرب جده رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).معاوية يدعو أهل الشام إلى البيعة بولاية العهد من بعده لابنه يزيد،ويسجن زوجة عمرو بن الحمق الذي حمل رأسه إليه.وإليك تفاصيل أحداث هذه السنة.

نهاية المنافس الثاني وتصفية الثالث:سعد والإمام الحسن (علیه السلام). (50 هج)

وجد معاوية في حياة اثنين من كبار المسلمين عائقا لما يرومه من تولية ابنه العهد من بعده؛سعد بن أبي وقاص والإمام الحسن بن علي (علیه السلام).

روى أبو الفرج في مقاتل الطالبيين،وقال:«وأراد معاوية البيعة لابنه يزيد،فلم يكن شيء أثقل عليه من أمر الحسن بن علي،وسعد بن أبي وقاص،فد إليهما شما فماتا منه»(2) .

وسبب ثقل أمر سعد بن أبي وقاص والإمام الحسن (علیه السلام) عليه،أن سعد،كان هو الباقي الوحيد من أعضاء الشورى الشداسية الذين رشحهم عمر للخلافة من بعده،وبالتالي قد يتحول-مع تحريض ابنه عمر-إلى منافس لمعاوية ويزيد.أما الإمام الحسن (علیه السلام) فلما جاء في معاهدة الصلح بينهما،أن يكون الأمر للحسن قليلا من بعيره،وليس لمعاوية أن يعهد إلى أحد.اغتال معاوية الإمام الحسن (علیه السلام)-وسعدة على ما قيل

ص: 443


1- المضمون نفسه تجده أيضا في:الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،ص171
2- أبو الفرج الأصفهاني،مقاتل الطالبيين،ص80

-في سبيل بيعة يزيد،كما اغتال في سبيل ذلك عبد الرحمن بن خالد قبلهما، ومن المرجح أنه اغتال أيضا عبد الرحمن بن أبي بكر في هذا السبيل،كما ستبين لاحقا.

لم نجد من يشرح اغتيال معاوية لسعد،إلا ما ذكره الأصفهاني ورواه ابن أبي الحديد من دس الشم له.

أما الإمام الحسن (علیه السلام)،فقد روى المسعودي وقال:إن جعدة بنت الأشعث بن القيس الكندي سقته السم،وقد كان معاوية دس إليها،أن إن احتلت في قتل الحسن (علیه السلام)،وجهت إلي بمائة ألف درهم،وزوج يزيد،فكان ذلكالذي بعثها على سمير،فلما مات،وفي لها معاوية بالمال،وأرسل إليها،أنا حب حياة يزيد،ولولا ذلك لوفينا لك بتزويجه»!(1)

وكتب ابن أبي الحديد:«أرسل معاوية إلى(جعدة)بنت الأشعث بن قيس(2) -وهي تحت الحسن (علیه السلام)-فقال لها:إني مروج من يزيد ابني على أن تشمي الحسن. وبعث إليها بمائة ألف درهم.ففعلت،وسمت الحسن،فسوغها المال،ولم يزوجها منه،نخلف عليها رجل من آل طلحة،فاولدها،فكان إذا وقع بينهم وبين بطون قریش كلام عيروهم وقالوا:يا بني تميمة الأزواج».

وروي أيضاً عن عمران بن إسحاق قال:كنت مع الحسن والحسين عليهما السلام في الدار،فدخل الحسن المخرج ثم خرج،فقال:لقد شقي الشم مراراً، ما شقي مثل هذه المرة،لقد لفظ قطعة من كبدي،فجعل أقلبها بعود معي. فقال الحسين:ومن سقاك؟قال:وما تريد منه؟أتريد أن تقتله؟إن كان هو هو،فاللّٰه أشد نقمة منك،وإن لم يكن هو فما أحب أن يؤخذ بي بريء(3) .والنصوص على اغتيال معاوية للحسن (علیه السلام) بالشم متضافرة(4) .

ص: 444


1- المسعودي،مروج الذهب،ج3،ص6
2- عن الصادق (علیه السلام):إن الأشعث بن قيس شرك في دم أمير المؤمنين (علیه السلام)،وابنته جعدة سمت الحسن (علیه السلام)،ومحمد ابنه شرك في دم الحسين (علیه السلام).الكليني،روضة الكافي،ج8،167.وينقل المفيد في الإرشاد أن حجر بن عدي كان بانتا في تلك الليلة في المسجد،فسمع الأشعث بن قیس يقول لابن ملجم:النجاء النجاء لحاجتك فقد فضحك الصبح،فأحس حجر بما أراد الأشعث فقال له:قتلته یا اعور؟!وخرج مبادرة ليمضي إلى أمير المؤمنین (علیه السلام) فسبقه ابن ملجم فضربه بالسيف
3- ابن أبي الحدید،شرح نهج البلاغة،ج16،ص29.وما يقرب منه انظر:المسعودي،مروج الذهب،ج3،ص6
4- راجع طبقات ابن سعد،ومقاتل الطالبيين،ومستدرك الحاكم،وشرح ابن أبي الحديد،وتذكرة الخواص،والاستيعاب

وأخذ الإمام الحسي (علیه السلام) في تجهيز أخيه الإمام الحسن (علیه السلام)،وقد أعانه على ذلك عبد الرحمن بن جعفر وعلي بن عبد اللّٰه بن عباس وأخواه محمد بن الحنفية وأبو الفضل العباس،فغسله وكفنه وحنطة،وهو يذرف من الدموع مهما ساعدته الجفون،وبعد الفراغ من تجهيزه،أمر الإمام الحسين (علیه السلام) بحمل الجثمان إلى مسجلي رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)للصلاة عليه.

وكان تشييع الإمام الحسن (علیه السلام) تشييع مهيبة،لم تشهد نظيره عاصمة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،فقد بعث الهاشميون إلى العوالي والقرى المحيطة بيثرب من يعلمهم بموت الإمام الحسن (علیه السلام)،فنزحوا جميعا إلى يثرب ليفوزوا بتشييع الجثمان العظيم(1) ، وقد حدث ثعلبة ابن مالك عن كثرة المشيعين فقال:«شهد الحسن يوم مات، ودفن في البقيع،ولو طرحت في إبرة لما وقعت إلا على رأس إنسان»(2) .

وعندما أخرج نعشه (علیه السلام) يراد به قبر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)حسب وصيته،ذكر أبو الفرج أن يحيي بن الحسن روی فقال:سمعت علي بن طاهر بن زيد يقول:لما أرادوا دفنه ركبت عائشة بغة،واستنفرت بني أمية:مروان بن الحكم ومن كان هناك منهم ومن حشمهم،وقيل في ذلك:

فيوما على بغلي ويوما على جمل(3)

وتؤكد المصادر على أن الفتنة كادت أن تقع بين بني هاشم وبني أمية،خصوصا

عندما قال مروان:أدف عثمان في أقصى المدينة،ويدفئ الحسن مع النبي؟لا يكو ذلك أبدا وأنا أحمل السيف!

وأبي الإمام الحسين (علیه السلام) أن يدفنه إلا مع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،فقال له عبد اللّٰه بن جعفر:عزم عليك يا أبا عبد اللّٰه بحقي ألا تكلم بكلمة.فمضوا به إلى البقيع، وانصرف مروان(4) .

وفي تاريخ اليعقوبي:ركب مروان بن الحكم وسعيد بن العاص،فمنعا من ذلك، وركبت عائشة بغله شهباء،وقالت:بيتي ولا آذن فيه لأحد،فأتاها القاسم بن محمد بن

ص: 445


1- تاریخ ابن عساكر،8/ 228،نقلا عن اعلام الهداية:الإمام الحسن (علیه السلام)،ص190
2- الإصابة1/330،نقلا عن اعلام الهداية:الإمام الحسن (علیه السلام):190-191
3- أبو الفرج الأصفهاني،مقاتل الطالبيين،ص82
4- ابن ابی الحدید،شرح نهج البلاغة،ج16،ص29،أنظر أيضا:ابن عبد ربه الأندلسي،العقدالفرید،ج4،ص264

أبي بكر،فقال:يا عمة!ما غسلنا رؤوسنا من يوم الجمل الأحمر،أثريدين أن يقال يوم البغلة الشهباء؟فرجعت.واجتمع مع الحسين (علیه السلام) جماعة من الناس،فقالوا له:دعنا وآل مروان،فواللّٰه ما هم عندنا إلا كأكلة رأس،فقال:إن أخي أوصاني ألا أريق فيه محجمة دم،فدفن الحسين في البقيع(1) .

أقول:لاحظ في هذه الحادثة اجتماع قریش ضد بني هاشم.وعندما نتحدث عن قریش نقصد تیاریها:التيار الذي يمثل الامتداد الحقيقي للخليفة الأول والثاني ويدعي أنه امتداد للخليفة الثالث،وهو تیار تحالف بطون قريش الضعيفة(يعني قریش باستثناء بني أمية وبني هاشم)،وشخصية عائشة وعبد اللّٰه بن الزبير يمثلان هذا التيار.والتيار الذي يمثل الامتداد الحقيقي للخليفة الثالث ويدعي أنه امتداد للخليفة الأول والثاني،وهو تیار بني أمية،وشخصية معاوية ومروان بن الحكم يمثلان هذا التيار.

لكن هناك مصادر أخرى-كتاریخ الخلفاء للشيوطي وترجمة الإمام الحسن (علیه السلام) في أسد الغابة لابن الأثير وغيرهما-تؤكد أن عائشة لم يكن لديها أي مانع من دفن الإمام الحسن (علیه السلام)بجانب جده،وأن من منع ذلك هو مروان بن الحكم.

ويبدو لي أن تبرئة عائشة من ذلك،وتركيز الاتهام على مروان،منشؤه تفك التحالف والصراع الذي وقع بعد ذلك بين قریش(ممثلة بعائشة وعبد اللّٰه بن الربير)وبني أمية(ممثلة بمعاوية ومروان)،فصارت قريش حريصة على اتهام بني أمية بذلك،لتبرئة نفسها.

معاوية يبدأ بمطالبة الناس بمبايعة يزيد

بعد شهادة الإمام الحسن (علیه السلام)،بدأ معاوية يدعو الناس في الشام لمبايعةيزيد. يقول ابن قتيبة:«قالوا:لم يلبث معاوية بعد وفاة الحسن رحمة اللّه إلا يسيرة حتى بايع ليزيد بالشام،وكتب ببعته إلى الآفاق،وكان عامله على المدينة مروان بن الحكم،فكتب إليه يذكر الذي قضى اللّٰه به على لسانه من بيعة يزيد،ويأمره أن يجمع من قبله من قریش وغيرهم من أهل المدينة،ثم يبايعوا ليزيد»(2) .

وسنتحدث بالتفصيل عن هذه السلسلة من المطالبات والمحاولات التي أراد معاوية من خلالها تمهيد الأرض ليزيد ليتسلم زمام الخلافة.

ص: 446


1- ابن الواضح،تاريخ اليعقوبي،ج2،ص225
2- ابن قتيبة،الإمامة والسياسة، ص197

أهل الكوفة يتحركون من جديد

لما استشهد الإمام الحسن (علیه السلام)،تحركت الشيعة في العراق من جديد،وعقدوا الاجتماعات المتواصلة في الكوفة،وكتبوا إلى الإمام الحسين (علیه السلام)مزجوا فيه تقدیم العزاء بطلب التحرك لمواجهة معاوية.

جاء في كتابهم:«أما بعد،فقد بلغنا وفاة الحسن بن علي (علیه السلام)،فسلام عليه يوم ولد ويوم يموث ويوم يبعث حية،غفر اللّٰه ذنبه،وتقبل حسناته،وألحقه بنبيه محمد (صلی اللّه علیه واله)،وضاعف لك الأجر في المصاب فيه،وجبر لك المصيبة من بعده،فعند اللّٰه نحتسبه،وإنا لله وإنا إليه راجعون.

ما أعظم ما أصيبت به هذه الأمة عامة،أنت وهذه الشيعة خاصة...ونحن شيعتك،المصابة بمصيبتك،المحزونة بزيك،المسرورة بشرورك،السائرة بسيرتك، المنتظرة لأمرك،شرح اللّٰه صدرك،ورفع ذكرك،وأعظم أجرك،وغفر ذنبك،ورد عليك حقك،والسلام»(1) .

لما قرأ الإمام الحسين (علیه السلام) كتابهم،كتب إليهم:«إني لأرجو أن يكون رأي أخي في الموادعة،ورأيي في جهاد الظلمة شدة وسدادة،فالصقوا في الأرض واخفوا الشخص،والتمسوا الهدی ما دام اب هند حيا،فإن يحدث به حدث وأنا حي، يأتيكم رأيي إن شاء اللّٰه»(2) .

أقول:يتضح من ذلك أن الإمام الحسين (علیه السلام) إن كان قد بدأ يفكر جديا في مواجهة كم بني أمية،فهو ينتظر اللحظة التاريخية المناسبة،التي قد تكون بعد موت معاوية مباشرة،كما توحي رسالته (علیه السلام) لأهل الكوفة.إذن في هذه الرسالة نلمس من جديد،قرارا بالقيام،يتبلور بالتدريج،في ذهن الإمام الحسين (علیه السلام).

الشيعة في العراق-خصوصا أهل الكوفة-لم يتركوا المواصلة وإرسال الوفود والرسائل المتوالية إلى الإمام الحسين،وهو يجيبهم بالصبر والتريث وانتظار الفرج.

وكانت هذه الوفود والرسائل بين الإمام الحسين (علیه السلام) وشیعته في العراق مكشوفة أمام عيون معاوية،فرفعوا الأمر إليه،وممن كتب إلى معاوية في ذلك، مروان بن الحكم-عامله على المدينة-ومما جاء فيه:

ص: 447


1- تاريخ اليعقوبي2/203،واكتفى البلاذري في أنساب الأشراف بذكر الفقرات الأخيرة من الكتاب
2- المفيد،الإرشاد2/232،أيضا راجع:البلاذري،أنساب الأشراف3/152،ط بيروت

«أما بعد،فإن عمرو بن عثمان ذكر أن رجالا من أهل العراق ووجوه أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن علي،وأنه لا يؤمن وثوبه،وقد بحثت عن ذلك،فبلغني أنه لا پریڈ الخلافة يومه هذا،فاكثب إلي برأيك، والسلام»(1) .

وكتب مروان إلى معاوية بعد ذلك كتابة آخر،جاء فيه:أما بعد،فقد كثر اختلاف الناس إلى حسين،واللّٰه إني لأرى لكم منه يوما عصيبة».فأجابه معاوية عن كتابيه بكتاب جاء فيه:

«أما بعد،فقد بلغني كتابك،وفهم ما ذكرت فيه من أمير الحسين،فإياك أن تعرض اللحسين في شيء،واترك سينة ما تركك،فإنا لا نريد أن تعرض له بشيء،ما وفي بيعتنا،ولم ينازعنا شلطائنا،فاكمن عليه ما لم يبد لك صفحته،والسلام».

وهذه الرسائل تفيدنا كثيرة في تحليل حركة الإمام الحسين (علیه السلام) وقيامه.

حمل رأس عمرو بن الحمق الخزاعي وسجن أهله(50 هج)

يقول اليعقوبي في تاريخه:وكان حجر بن عدي الكندي،وعمرو بن الحوق الخزاعي وأصحابهما من شيعة علي بن أبي طالب،إذا سمعوا المغيرةوغيره من أصحاب معاوية،وهم يلعنون عليا على المنبر،يقومو فيدو اللعن عليهم،ويتكلمون في ذلك.

فلما قدم زياد الكوفة خطب خطبة مشهورة... .أرعد فيها وأبرق،وتوعد وتهدد... وكانت بينه وبين محجر بن عدي مودة،فوجه إليه فأحضره،ثم قال له:يا حجر،أرأيت ما كن عليه من المحبة والموالاة لعلي (علیه السلام)؟

قال(حجر):نعم.

قال(زیاد):فإن اللّٰه قد حول ذلك بغض وعداوة،أورأيت ما كنت عليه من البغضة

والعداوة لمعاوية؟

قال(حجر):نعم.

قال(زیاد):فإن اللّٰه قد حول ذلك محبة وموالاة،فلا أعلمك ما ذكرت عليا بخير،

ولا أمير المؤمنین معاوية بشر.

ثم بلغه أنهم يجتمعون،فيتكلمون ويدبرون عليه وعلى معاوية،ويذكرون مساويهما،

ص: 448


1- راجع:البلاذری،انساب الاشراف،ج3،ص152،ط بيروت،وفي آخر الكتاب افاكمن له كمون الثرى».وقريب منه راجع:الدينوري،الأخبار الطوال،ص207-208

ويحرضون الناس،فوجه صاحب الشرطة إليهم،فأخذ جماعة منهم فقتلوا،وهرب عمرو ابن الوق الخزاعي إلى الموصل وعده معه(1) .

لكن من هو عمرو بن الحمق الخزاعي؟أستعين هنا بما ذكره ابن الأثير في ترجمته في كتابه أسد الغابة:

هاجر(عمرو بن الحمق)إلى النبي (صلی اللّه علیه واله)؛بعد الحديبية،صحب النبي (صلی اللّه علیه واله)،وحفظ عنه أحاديث وسكن مصر وانتقل إلى الكوفة.سقى النبي (صلی اللّه علیه واله)فقال له:اللّٰهم معه بشبابه،فمرت عليه ثمانون سنة لا ترى في لحيته شعرة بيضاء.

وكان ممن سار إلى عثمان بن عفان،وهو أحد الأربعة الذين دخلوا عليه الدار فيما ذكروا.وصار بعد ذلك من شيعة علي (علیه السلام)،وشهد معه مشاهده كلها: الجمل وصفين والنهروان.وأعان حجر بن عدي،وكان من أصحابه،فخاف زیاد، فهرب من العراق إلى الموصل،واختفى في غار بالقرب منها.فأرسل معاوية إلى العامل بالموصل ليحول عمرو إليه.فأرسل العامل على الموصل ليائه من الغار الذي كان فيه فوجده ميتا كان قد نهشته حية،فمات(2) .

وكان العامل عبد الرحمن بن الحكم-وهو ابن أخت معاوية-ورووا أنه أول رأس

محمل في الإسلام رأس عمرو بن الحمق إلى معاوية.

وكان تحت عمرو بن الحبيق آمنة بنت الشريد،فحبها معاوية في سجن دمشق زمانا،حتى وجه إليها رأس عمرو بن الحمق،فألقي في حجرها،فارتاعت لذلك، ثم وضعته في حجرها،ووضعت كفها على جبيني،ثم لثمت فاه،ثم قالت: غیبتموه عتي طويلا ثم أهديتموه إلى قتيلا،فأهلا بها من هدية،غير قالية ولا مقلية.

الجدير بالذكر أن حمل رأس الصحابي عمرو بن الحمق سيفتح الباب ليزيد بن معاوية وعبيد اللّٰه بن زیاد،ليمارسا مع الإمام الحسين (علیه السلام) وأصحابه الدور نفسه الذي مارسه معاوية.واحتجاز وسجن زوجة عمرو بن الحمق سیفر لنا السبب المظنون لاصطحاب الإمام الحسين (علیه السلام) لنسائه.فالحسين (علیه السلام) لم يرد أن يستفيد يزيد من النساء،كما

ص: 449


1- تاريخ اليعقوبي،ج2،ص230
2- لكن الطبري كتب أن معاوية كتب إلى عامله على الموصل:إنه(أي عمرو بن الحمق)زعم أنه طعن عثمان بن عفان تسع طعنات بمشانص كانت معه،وإنا لا نريد أن نعتدي عليه،فاطعنه تسع طعنات،كما طعن عثمان.فأخرج فطعن تسع طعنات،فمات في الأولى منهن أو الثانية.راجع:الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،ص197

استفاد معاوية من زوجة عمرو،كورقة خطيرة للضغط عليه ليقدم تنازلات.فنساء أهل بيت النبوة (علیهم السلام) كان من الممكن أن يواجهن ما واجهت زوجة عمرو،لكن عندما يظلل مع الإمام الحسين (علیه السلام) وأصحابه،فهن في الواقع يبقين في حمايته (علیه السلام) ليوحماية أصحابه،حتى إذا ارتكب يزيد وعبيد اللّٰه ما ارتكبا،لم ينفعهما التلاعب بورقة النساء التحقيق مكاسب سياسية.

•51 همعاوية يقتل الصحابي الجليل حجر بن عدي الكندي وأصحابه صبرة بمرج

عذراء بالشام.وإليك تفصيل هذه الجريمة المروعة.

جريمة قتل الصحابي حجر بن عدي الكندي وأصحابه(51هج):

سأستعين على الأغلب بما ذكره ابن الأثير في ترجمي في أسد الغابة:

وهو المعروف بجر الخير.أسلم وهو صغير السن،ووفد مع أخيه هاني بن عدي على النبي (صلی اللّه علیه واله)،وكان من ضلاء الصحابة.وكان على كندة في حرب صفين،وعلى الميسرة في حرب النهروان،وشهد حرب الجمل أيضا مع علي (علیه السلام)،كان من أعيان أصحابه.

ولما ولي زياد العراق،وأظهر من الغلظة وسوء السيرة ما أظهر،حصبه(=ألقى حجر الحصى على زياد)في تأخير القلاة هو وأصحابه.فكتب فيه زیاد إلى معاوية، فأمره أن يبعث به وبأصحابه إليه(1) .

فبعث زیاد بحجر وأصحابه مع وائل بن حجر الحضرمي ومعه جماعة.فلما أشرف على مرج عذراء-وهي قرية عند دمشق-أمر معاوية بقتلهم،فشفع أصحابه في بعضهم فشفعهم،ثم قتل حجرة وبيئة معه،وأطلق سيئة.ولما أرادوا قتله صلى ركعتين،ثم قال:

ص: 450


1- كتب الطبري أن زياد صعد المنبر،واذكر عثمان وأصحابه فقرظهم،وذكر قتلته ولعنهم،فقام حجر،ففعل مثل الذي كان يفعل بالمغيرة....خطب زیاد يوما في الجمعة،فأطال الخطبة،وأخر الصلاة،فقال له حجر بن عدي:الصلاة،فمضى في خطبته،ثم قال:الصلاة،فمضى في خطبته،فلما خشي حجر فوت الصلاة،ضرب بيده إلى كف من الحصا،وثار إلى الصلاة،وثار الناس معه.فلما رأى ذلك زیاد نزل فصلي بالناس،فلما فرغ من صلاته كتب إلى معاوية في أمره،وكثر عليه،فكتب إليه معاوية أن شئه في الحديد ثم احمله إلی...ثم حمل إلى معاوية،فلما دخل عليه قال:السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة اللّٰه وبركاته،فقال له معاوية:أما واللّٰه لا أقيلك ولا أستقبلك،أخرجوه فاضربوا نقه ......راجع:الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،ص190.أقول:وكان زیاد قد أرسل مع كتابه إلى معاوية شهودة على حجر بانه يشتم الخليفة،من هؤلاء الشهود عمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن وشريح القاضي!!

لولا أن تتنوا بي غير الذي بي لأطلتها.وقال:لا تنزعوا عني حديدة ولا تغسلوا عني دما،فإني لاقي معاوية على الجادة.

ولما بلغ عائشة فعل زیاد بجر،بعثت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام إلى معاوية

تقول:اللّٰه اللّٰه في حجر وأصحابه.فوجده عبد الرحمن قد قتل.

فقال(عبد الرحمن رسول عائشة)لمعاوية:أين عزب عنك حلم أبي سفيان في حجر واصحابه،ألا حبستهم في الشجون وعرضتهم للطاعون؟!

فأجابه معاوية:حين غاب عني مثلك من قومي؟

فقال عبد الرحمن:واللّٰه لا تعد لك العرب لما بعدها ولا رأيا،قتلت قومة بيثبهم أساري من المسلمين.

قال معاوية:فما أصنع؟كتب إلي زياد فيهم،يشدد أمرهم،ويذكر أنهم سيفتقون فتقة لا يرقع.

ولما قدم معاوية المدينة،دخل على عائشة،فكان أول ما قالت له في قتل ځجر كلام طويل،فقال معاوية:دعيني وحجرة حتى نلتقي عند ربنا.

وقبر څجر مشهور بمرج عذراء-قرب دمشق-وكان مجاب الدعوة(1).

وكتب التاريخ تؤكد أن معاوية قتل-عن طريق زياد-عددا كبيرة من شيعة علي لا من أشباو حجر.فمن الأسماء الشيعية البارزة التي تورط معاوية في دمائها: الصحابي عمرو بن الحمق الخزاعي(وتحدثنا عن قضيه)،عبد اللّٰه بن يحيى الحضرمي وأصحابه(2)،رشيد الهجري(نسبة إلى بلاد الهجر:البحرين(3)،جويرية بن مسهر

ص: 451


1- ابن الأثير، أسد الغابة، ج1، ص 385 - 386، بتصرف يسير. وكان خذلان أهل الكوفة لجر مؤشرة إضافية على طبيعتهم، ويظهر ذلك جليا عندما واجههم زیاد بقوله: «يا أهل الكوفة، أتشجون بید، وتأسون بأخرى، أبدانكم معي، وأهواؤكم مع جر... هذا واللّه من دحسكم وغشكم، واللّه لتظهر لي براءتكم أو لأتينكم بقوم أقيم بهم اودكم ومعركم، فوثبوا إلى زياد فقالوا : معاذ اللّه سبحانه أن يكون لنا فيما ههنا رأي إلا طاعنك وطاعة أمير المؤمنين ...... (الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص 191). يقول أبو إسحاق : أدركت الناس وهم يقولون إن أول ذل دخل الكوفة موت الحسن بن علي وقتل حجر بن عدي ودعوة زیاد (الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص 208).
2- ذكر المجلسي في بحاره (10/ 102): أنهم تركواالكوفة بعد شهادة علي (علیه السلام)، وبنوا لهم صومعة خارج الكوفة يتعبدون فيها ، فلما علم معاوية بجزعهم وحزنهم على قتل علي (علیه السلام)، أمر بإحضارهم بين يديه، وأمر بقتلهم جهرة ..
3- من أصحاب علي (علیه السلام)المخلصين، قتله زیاد بأمر معاوية لتشيعه، وقطع لسانه وصلبه.

العبدي(1)،أوفي بن حصن(2)....

يد زياد ابن أبيه ملطخة بدماء كل هذه الأسماء. بالإضافة إلى ذلك،تم ترويع أسماء أخرى من شيعة علي (علیه السلام)،من أبرزها:عبد اللّٰه بن هاشم المرقال(قرشي،رأس الشيعة في البصرة)،الصحابي عدي بن حاتم الطائي،صعصعة بن صوحان،عبد اللّٰه بن خليفة الطائي. وعندما التقى معاوية الحسين (علیه السلام)،قال له:يا أبا عبد اللّٰه،علمت أنا قتلنا شيعة

أبيك،فحطناهم،وكناهم،وصلينا عليهم ولادفئا هم!(3)

فقال الحسين علي:حجرك،ورب الكعبة،لكئا واللّٰه إن قتلنا شيعتك ما كناهم ولا

حطناهم ولا صلينا عليهم ولا دفناهم.إدراك عائشة للتدهور المريع للأوضاع

وكانت عائشة تقول:«لولا أنا لم تغير شيئا إلا آلت الأمور إلى أشد مما ا فيه لغيرنا قتل حجر،أما واللّٰه إن كان لمسلمة ما علمته حاجة معتمراً»(4).

إن عائشة تقصد بقولها:«لولا أنا لم تغير شيئا إلا آلت الأمور إلى أشد مما ئا فيه»ما غيرت فيه على عثمان حتى قتل،قالت الأمور بها إلى أشد باستيلاء الإمام علي (علیه السلام) على الخلافة،حيث قالت:«ليت الشماء أطبقت على الأرض إن تم ذلك»،ثم أرادت تغييره،فحاربته،فخسرت ابن عمها طلحة،وابنه،وزوج أختها الزبير، وهي تخاف بعد هذا إن غيرت على معاوية أن يؤول الأمر إلى أشد مما هي فيه،فكظمت غيظها،وسكتت عنه.وعدم نجاحها في الشفاعة لحجر،بسبب تار وصول رسولها،وموت أخيها عبد الرحمن،ومحاولات معاوية توريث الشلطة ليزيد، سيكون من الأسباب الرئيسية التفكك تحالف قريش وبني أمية .

ص: 452


1- أمر معاوية فقطعت يده ورجله وصلب على جذع قصير .
2- طلبه زیاد فأبی مواجهته، واستعرض زیاد الناس فمر به فقال : من هذا ؟ فقيل له : أونی بن حصن، فقال زياد : أتتك بخائن رجلاه، وسأله : ما رأيك في عثمان ؟ قال : ختن رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) على ابنتيه، قال : فما تقول في معاوية ؟ قال : جواد حليم. وكان أوفي لبقة في لغته وأسلوبه فلم يجد عليه زیاد ملزمة . وعاد عليه فقال له: فما تقول في ؟ قال: بلغني أنك تلت بالبصرة : واللّه لأخذن البريء بالسقيم والمقبل بالمدبر، قال : قد قلت ذاك . قال : خبطتها خبط عشواء، فأمر به فقتل.
3- تاريخ اليعقوبي 2/ 231.
4- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص208.

في الفصل القادم نستعرض محاولات معاوية لتوريث الشلطة لابنه يزيد،وسنرى أن ثائرة قريش قد ثارت نتيجة هذه المحاولات،وأن الطلاق بين البطن القرشي القوي بني أمية-ويمهم معاوية-والقبيلة الأم قريش-ويمثلها عائشة وعبد اللّٰه بن الربير-صار بالتدريج بائنة بين الطرفين.

ص: 453

(28)محاولات معاوية توريث الشلطة ليزيد

في هذا الفصل سنتحدث عن الخطوات والمحاولات التي قام بها معاوية بعد شهادة الإمام الحسن (علیه السلام)،للتوطئة لابنه يزيد حتى يستلم الخلافة.وعلى هذا الأساس،تم تغيير نظام الخلافة والحكم إلى النظام الملكي الوراثي،وهو النظام الذي لم يقم به أي خليفة قبل معاوية، بل سنه هو واستمر من بعدو.

لكن قبل ذلك لنبدأ بالإشارة إلى المحاولة التي قام بها في حياة الإمام الحسن (علیه السلام).

المحاولة الأولى لمعاوية لتوريث السلطة

لما تم الأمر لمعاوية،أراد أن يجعله وراثة في عقبه،فأخذ يدبر الأمر لذلك.وتواطا

معاوية مع رؤساء الوفود الناصحين له،أن يخطبوا ويذكروا فضل یزید!

فلما اجتمعت عند معاوية وفود الأمصار،وفيهم الأحنف بن قیس،دعا معاوية الضحاك بن قيس الفهري،فقال له:إذا جلس على المنبر،وفرغ من بعض موعظتي وكلامي،فاستأذن للقيام،فإذا أذا لك،فاحم اللّٰه تعالىوانكر یزید،وقل فيه الذي يحق له من سن الثناء عليه!ثم ادهني إلى توليتها ثم دعا عبد الرحمن بن عثمان الثقفي،وعبيد اللّٰه بن مسعدة الفزاري،وثور بن معن الشمي،وعبد اللّٰه بن عصام الأشعري،فأمرهم أن يقوموا إذا فرغ الضاك، وأن يصدقوا قوله!

فقام هؤلاء النفر خطباء يشيدون بيزيد،إلى أن قام الأحنف بن قيس(ولم يكن من الممثلين الذين ربهم معاوية لهذا الموقف)،فقال الأحنف:أصلح اللّٰه الأمير،إن الناس قد أمسوا في منكر زمان قد سلف،ومعروف زمان مؤتنف،وقد حلبت الدهور وجربت الأمور،فاعرف من تسند إليه الأمر بعدك،ثم اعص من يامك،ولا يغرك من يشير عليك وينظر إليك،مع أن أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا، ولا يبايعون ليزيد ما دام الحسين (علیه السلام)حياً.

ص: 454

ثم أردف قائلا:وقد علمت أنك لم تفتح العراق عنوة، ولم تظهر عليه مقصا. ولكنك أعطيت الحسن بن علي من عهود اللّه ما قد علمت، ليكون له الامر من بعدك، فان تف، فأنت أهل الوفاء، وان تغدر تظلم. واللّه ان وراء الحسن (علیه السلام)خيولا جيادا وأذرعا شدادا وسيوفا حدادا، ان تدن له شبرا من غدر، تجد وراءه باعا من نصر. وانك تعلم من أهل العراق، ما أحبوك منذ أبغضوك ولا أبغضوا عليًّا وحسنًا (علیه السلام)منذ أحبوهما، وما نزل عليهم في ذلك خبر من السماء، وإن السيوف التي شهروها عليك مع علي (علیه السلام)يوم صفين لعلى عواتقهم، والقلوب التي أبغضوك بها، لبين جوانحهم....(1) .

هذه هي محاولة معاوية الأولى لتوريث الشلطة ليزيد في حياة الإمام الحسن (علیه السلام)،رغم العهود والأيمان والمواثيق،وهي كما ترى محاولة فاشلة لوجود صاحب العهد حيا،وتخويف الأحنف الضريح لمعاوية من القيام بأي خطوة في هذا الاتجاه.

قال ابن عبد ربه:«ولم يزل(معاوية)يروض الناس لبيع-أي بيعة يزيد-سبع سنین، پشاور،ويعطي الأقارب،وداني الأباعد»،وكان شأنه في ذلك شأنه في تشييد الملك لنفيه في بادئ أمره؛ففي كلتا الحالتين كان يغري بالإمرة والمال،وإن أعيته الحيلة لم يتردد في أي شيء حتى القتل والاغتيال.دور المغيرة بن شعبة في توريث الشلطة

قبل أن يتوفى المغيرة بن شعبة-والي معاوية على الكوفة-في سنة(49 هج)،

بدأت محاولة معاوية الثانية-والدؤوبة هذه المرة-لتوريث يزيد الشلطة.

قال ابن الأثير:وكان ابتداء بيعة يزيد وأوله من المغيرة بن شعبة،فإنمعاوية أراد أن يعزله عن الكوفة،ويستعمل عوضه سعيد بن العاص،فبله ذلك.

افسار إلى معاوية،وقال لأصحابه:إن لم أكسبكم ولاية وإمارة لا أفعل ذلك أبدأ.

ومضى حتى دخل على يزيد وقال له:قد ذهب أعيان أصحاب النبي (صلی اللّه علیه واله) وكبراء قریش وذوو أسنانهم،وإنما بقي أبناؤهم،وأنت من أفضلهم،وأحسنهم رأيا،وأعلمهم بالشنة والسياسة،ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة؟

قال يزيد:أوترى ذلك يتم؟

قال المغيرة:نعم.

ص: 455


1- راضي آل یاسین،صلح الحسن (علیه السلام)،ص305-307

فأخبر يزيد أباه،فاحضر المغيرة واستخبره،فقال المغيرة:قد رأيت ما كان من

سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان،وفي يزيد من خلفت ناعقد له،فإن حدث بك

حادث كان كھفة للناس،وخلفا منك،ولا سفك الدماء،ولا تكون فتنة.

قال معاوية:ومن لي بهذا؟

قال المغيرة:أكفيك أهل الكوفة،ويكفيك زياد أهل البصرة،وليس بعد هذين

المصرين أحد يخالفك.

قال معاوية:فارجع إلى عملك وتحدث مع من تثق إليه في ذلك،وترى ونرى(1) .

فرجع المغيرة إلى أصحابه،وقال:لقد وضعت رجل معاوية في غرز بعيد الغاية على أمة محمد،وفتق عليهم فتقا لا يرتق أبدا.

ثم رجع المغيرة إلى الكوفة،وأوفد مع ابنه موسی عشرة ممن يثق بهم من شيعة بني أمية،وأعطاهم ثلاثين ألف درهم،فقدموا عليه،وزينوا له بيعة يزيد. فقال معاوية:لا تعجلوا بذا،وكونوا على رأيكم.

ثم قال(معاوية)لموسى سرة:بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟قال موسی بن المغيرة:بثلاثين ألفا.

قال معاوية:لقد هان عليهم دينهم.

دور زیاد ابن أبيه في التمهيد لبيعة يزيد

وكتب معاوية إلى زياد وهو بالبصرة:إن المغيرة قد دعا أهل الكوفة إلى البيعة ليزيد بولاية العهد بعدي،وليس المغيرة بأحق بابن أخيك منك،فإذا وصل إليك كتابي،فادع الناس قبلك إلى مثل ما دعاهم إليه المغيرة،وذ عليهم البيعة ليزيد.

فلما قرأ زياد الكتاب،دعا برجل من أصحابه يثق بفضله وفهمه فقال:إنيأريد أتمنك على ما لم أئتمن عليه بطون الضحايف،إيټ معاوية،فقل له:يا أمير المؤمنین،إن كتابك ورد على بكذا،فما يقول الناس إذا دعوناهم إلى بيعة يزيد وهو يلعب بالكلاب والقرود،ويلب المصبغ ودي الشراب ويمشي على الفوف،وبحضرتهم الحسين بن علي (علیه السلام) وعبد اللّٰه بن عباس وعبد اللّٰه بن الربير وعبد اللّٰه بن عمر،ولكن تأمره أن يتخلق بأخلاق هؤلاء حولا وحولين،فعسينا أن ثموه على الناس.

ص: 456


1- راجع:الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،ص224

فلما صار الرسول إلى معاوية وأدي إليه الرسالة،قال:ويلي على ابن عبيد،واللّٰه لقد بلغني أن الحادي حدا له،أن الأمير بعدي زياد،واللّٰه لأنه إلى أمير شمة وأبيه عبيد.

وفي الطبري وابن الأثير بتفصيل أوفي،وفيه أن الرسول قال لزياد:لا تفسد على معاوية رأيه،ولاتبغض إليه ابنه،وألفي(أو ألقى)أنا يزيد فأخبره أن أمير المؤمنين كتب إليك يستشيرك في البيعة له،وأنك تتخوف خلاف الناس عليه،لهنات ينقمونها عليه،وأنك ترى له ترك ما ينقم عليه.وأن زيادة قبل ذلك.

فقدم الرسول على يزيد،فذكر ذلك له،فكف عن كثير مما كان يصنع،وكتب زیاد

معه إلى معاوية يشير بالتؤدة وأن لا يعجل،فقبل منه(1) .

أقول:وتوجد مؤشرات على أن موقف زیاد هذا سيدفع ثمنه ابنه عبيد اللّٰه،فبعد موت معاوية،لم یكن یزید پرید تولية عبيد اللّٰه بن زیاد على الكوفة،ولم يفعل ذلك إلا بعد إصرار سرجون-مستشار معاوية ويزيد-على ذلك،بعد ورود أنباء عن خروج الكوفة عن السيطرة إثر قدوم مسلم بن عقيل إليها.بل يفسر بعض الباحثين حماسة عبيد اللّٰه بن زیاد لتصفية حركة الإمام الحسين (علیه السلام)،بائها محاولة منه لترضية يزيد،بعدما وجد عليه بسبب موقف أبيه زیاد من استخلافه.

النكمل تسلل الأحداث،ومحاولات معاوية توريث یزید اللطة.

53ه:موت زیاد ابن أبيه بالكوفة بعد سنوات من ملاحقته وتصفيته لشيعة علی (علیه السلام).

وكان معاوية بالتدريج يزداد إصرارة على البيعة ليزيد،فقد أرسل إلى عبد اللّٰه بن عمر مائة ألف درهم،فقبلها،فلما ذكر البيعة ليزيد،قال ابن عمر:هذا ما أراد!إن ديني إذن علي الرخيص.

وعندما علم عبد الرحمن بن أبي بكر خبر بيعة الناس ليزيد،قال لمروان بن الحكم والي معاوية على المدينة:ما الخيار أردثما الأمير محمد،ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقلية،كلما مات هرقل قام هرقل(2) .

كتب ابن عبد ربه الأندلسي:«فلم يزل يروض الناس لبعتو سبع سنين،ويشاور،

ص: 457


1- يقول الطبري:وفيها(أي من أحداث سنة56هج)دعا معاوية الناس إلى بيعة ابنه يزيد وجعله وليالعهد(الطبري،ج4،ص224-225)،وفيها تفصیلات توطئة معاوية الأمر لابنه يزيد
2- ابن الأثير،الكامل في التاريخ3/506

ويعطي الأقارب ويداني الأباعد،حتى استوثق له من أكثر الناس»(1) .

54ه:معاوية يغري بين مروان وسعيد بن العاص،ويطلب من الأخير أن يهدم دار مروان،فلم يهدمها،فأعاد عليه بهدوها،فلم يفعل،فعزله،وئی مروان المدينة ثانية. معاوية يوئي عبيد اللّٰه بن زیاد خراسان بعد موت أبيه زیاد.

يهمنا هنا-ما دمنا ندرس خلفيات واقعة كربلاء-تولية معاوية عبيد اللّٰه بن زیاد،لأن معاوية هو أول من نشب بيد اللّٰه في مناصب عليا في الدولة،بعد استلحاق أبيه،وتوله أن يوليه.

ينقل الطبري أنه لما مات زیاد،وفد عبيد اللّٰه إلى معاوية،فقال له:من استخلف

أخي(زیاد)على عمله بالكوفة؟

قال(عبيد اللّٰه):عبد اللّٰه بن خالد بن أسيد.قال(معاوية):فمن استعمل على البصرة؟قال(عبيد اللّٰه):سمرة بن جندب الفزاري.فقال له معاوية:لو استعملك أبوك استعملتك!

فقال له عبيد اللّٰه:أن اللّٰه أن يقولها إلى أحد بعدك«لو ولآك أبوك(زیاد)(معاوية)لوليتك»(2)

وكتب التاريخ تنقل أن معاوية قام بتولية عبيد اللّٰه بن زیاد خراسان سنة54هج، فأقام بها سنتين،ثم ولاه معاوية البصرة سنة55هج.وصار عبيد اللّٰه-كأبيه-معروفة عند أهل العراق بالبطش،وقضه مع عروة بن أدية معروفة(3) .

•55هج:معاوية يولي عبيد اللّٰه بن زياد البصرة أيضا(بالإضافة إلى خراسان)،موت سعد بن أبي وقاص آخر شخصية من وجهاء المهاجرين،لكن ثمة روايات أن بين موت الإمام الحسن (علیه السلام) وموت سعد أيامة متقاربة،وذلك بعد مضي عشر سنين من إمرة معاوية،وكانوا يرون أنه قاهما السم(4) ،وعلى هذا يكون موت سعد في سنة(50هج).

ص: 458


1- ابن عبد ربه الأندلسي،العقد الفرید،ج4،ص368
2- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،ص220
3- الطبري،تاريخ الأمم والملوك،ج4،231-232
4- ابن أبي الحديد المعتزلي،شرح نهج البلاغة،ج16،ص29

•56ه:معاوية يعلن بشكل صريح عن مطالبه مبايعة يزيد وليا للعهد.ونتيجةلذلك سيعقد الإمام الحسين (علیه السلام) قريبا مؤتمرا في مني.

•57ه:ولادة الإمام محمد بن علي الباقر (علیه السلام).

•58ه:عبيد اللّٰه بن زیاد(في بصرة العراق إلى خراسان إيران)يشتد على الخوارج.

معاوية يعزل مروان ثانية عن المدينة،ويوئي مكانه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان.

أقول:وسيظل الوليد بن عتبة بن أبي سفيان والية على المدينة من طرف معاوية،إلى موته،ثم سيرسل يزيد إليه رسالة بخبره بموت معاوية،ويطلب منه أخذ البيعة له من الحسين (علیه السلام) وعبد اللّٰه بن البير أخذة شديدة.لكن طريقة تفكير الوليد بن عتبة أقرب إلى معاوية منها إلى يزيد،وبالتالي سيحاول أن لا يصطدم بالإمام الحسين (علیه السلام).هذا النحو من التعاطي لم يرق يزيد،فقام بعزله عن ولاية المدينة بعد خروج الإمام الحسين (علیه السلام) منها.

•59ه:وفاة أبي هريرة.معاوية ينفذ الكتب للمطالبة ببيعة يزيد إلى الأمصار.

معاوية يوئي النعمان بن بشير الكوفة.

أقول:النعمان بن بشير سيظل واليا من طرف معاوية على الكوفة إلى موته، لكن سيقوم يزيد بعزله عنها،ينب عبيد اللّٰه بن زیاد بدلا منه،بعدما وصلته أنباء عن وصول مسلم بن عقيل إليها،وأنها تكاد تخرج عن سيطرة النعمان.طريقة تفكير النعمان بن بشیر أقرب إلى معاوية منها إلى يزيد،لذا حاول أن لا يصطدم بالثوار ومسلم بن عقیل،لكن هذا النحو من التعاطي لم يرق يزيد فعزله.

•60ه:معاوية يأخذ على الوفد الذين وفدوا إليه مع عبيد اللّٰه بن زیاد من العراق

البيعة لابنه يزيد. ثم وفاة معاوية.وإليك تفصيل محاولات معاوية توريث الشلطة ليزيد. محاولات جديدة في المدن الكبرى(البصرة،الكوفة،الشام،المدينة،مكة)

يقول ابن الأعثم:ثم كتب معاوية إلى جميع نوابه فألقى إليهم هذا الخبر أنه يريد أن يأخذ البيعة لابنه يزيد قال: فكتب إليه مروان بن الحكم وسعيد بن العاص وعبد اللّه بن عامر يأمرونه أن يتأنى في أمر يزيد وأن لا يعجل حتى يطالع أهل المدينة وحج يزيد في تلك السنة(1) ،ففرق بمكة والمدينة أموالا كثيرة يشتري بها قلوب الناس، ثم إنه انصرف والناس عنه راضون.

ص: 459


1- ينقل الطبري من أحداث سنة51هج أنه حج بالناس في هذه السنة يزيد بن معاوية(الطبري،تاریخ الأمم والملوك،ج4،ص213)

قال: وشاع الخبر في الناس بأن معاوية يريد أن يأخذ البيعة ليزيد، وكان الناس في أمر يزيد على فرقتين من بين راض وساكت، أو قائل منكر. قال: فكان عقيبة الأسدي شاعر أهل البصرة ممن يكره بيعة يزيد ويبغضه، فأنشأ في ذلك يقول :

معاوي اننا بشر فأسجح

فلسنا بالجبال و لا الحديد

أكلتم أرضنا فجردتموها

فهل من قائم أو من حصيد

أتطمع في الخود اذا هلكنا

و ليس لنا و لا لك من خلود

فهبها أمة هلكت ضياعا

يزيد يسوسها و أبويزيد

دعوا حق الامارة و استقيموا

و تأميل الأراذل و العبيد

و أعطونا السوية لا تزركم

جنود مردفات بالجنود

فبلغ ذلك معاوية،فأرسل إليه بعشرة آلاف درهم لیكفت لسانه،فأنشأ عقبة يقول:

اذا المنبر الغربي حل مكانة

فان أميرالمؤمنين يزيد

علي الطائر الميمون و الجد صاعد

لكل أناس طائر و جدود

فلا زلت أعلي الناس كعبا و لم تزل

وفود يساميها اليك وفود

ألا ليت شعري ما يقول ابن عامر

لمروان أم ماذا يقول سعيد

بني خلفاء اللّه مهلا فانما

ينوء بها الرحمن حيث يريد

فأرسل إليه معاوية ببدرة(1) أخرى.

وبلغ ذلك عبد اللّٰه بن همام السولي،شاعر أهل الكوفة،وكان أيضا ممن يبغض

یزید،فأنشأ يقول شعرا:

فان باتوا برملة أو بهند

يبايعه أميرة مؤمنينا

و كل بنيك ترضاهم و ان

شئتم بعمهم المنتمينا

اذا ما مات كسري قام كسري

بعد ثلاثة متنا سفينا

يورثها أكابرهم بنيهم

كما ورث القمامسة القطينا(2)

فيا لهفي لو أن لنا أنوفا

و لكن لا نعود كما عنينا

ص: 460


1- البدرة:كيس فيه مقدار من المال يتعامل به،ويقدم في العطايا،ويختلف باختلاف العهود
2- القمامسة جمع«اقومس»،وهو الملك الشريف.ود القطين، هم الأتباع والحشم،وقد يقال أيضا اللبستان

إذا لضربئم حتى تعودوا

بمكة تطعمون بها السخينا(1)

مشينا الحنق حتي لو سقينا

دماء بني أمية ما روينا

ضعوا كلبا علي الأعناق منا

و سرحكم أصاغر ورثونا

هبونا لا نريدكم بسوء

و لا نعصيكم ما تأمرونا

فأولوا بالسداد فقد بقينا

لحلفكم عنادا مفترينا

بنيت ملككم فاذا أردتم

بنا الضلعاء قلتم محسنينا

لقد ضاعت رعيتكم و أنتم

تصيدون الأرانب غافلينا

فبلغ ذلك معاوية،فقال:ما ترك ابن همام شيئا،ذكر الحرم وعیرنا بالسخينة،ما له إلا أن يخرجنا من جنتنا!ثم وجه إليه معاوية ببدرة،فلما وصلت إليه،شكرها لمعاوية،ثم كتب إليه يقول شعرا:

أتاني كتاب اللّه و الدين قائم

و بالشام أن لا فيه حكم عدل

أريد أميرالمؤمنين فانه

علي كل أحوال الزمان له الفضل

فهاتيكم الأنصار يرجون فضله

و هلاك أعراب أضر بها المحل

و من بعدها كنا عباديد شردا

أقمت قناة الدين و اجتمع الشمل

فأي أناس أثقلتهم جناية

فما أنفك عن أعناقهم ذلك الثقل

أبوخالد أخلق به أن يصيبنا

بسجل من المعروف يتبعه سجل

هو اليوم ذو عهد، و فينا خليفة

اذا فارق الدنيا خليفتنا الكهل

ولم يزل معاوية يروض الناس على بيعة يزيد،ويعطي المقارب،ويداني المتباعد،

حتى مال إليه أكثر الناس،وأجابوه إلى ذلك.

ثم أرسل إلى عبد اللّه بن الزبير فدعاه ثم شاوره في أمر يزيد، فقال له:يا أمير المؤمنين! أنا أناجيك ولا أناديك ، وإن أخاك من صدقك، فانظر قبل أن تقدم، وفكر قبل أن تندم، فإن النظر قبل التقدم والتفكر قبل التندم.

فتبسم معاوية ضاحكا ثم قال : يا بن أخ! إنك تعلمت الشجاعة على رأس الكبر، إن دون ما شجعت به على أخيك يكفيك.

ثم أرسل إلى الأحنف بن قيس فدعاه (یبدو مرة اخری وكانت المرة الاولی فی حیاة

ص: 461


1- السخينة:طعام يتخذ من الدقيق،دون العصيدة في الرقة وفوق الحساء

الحسن (علیه السلام) كما مر)، ثم شاوره في أمر يزيد، فقال:يا أمير المؤمنين! إننا نخافكم إن صدقنا ونخاف اللّه إن كذبنا، ولكن عليك بغيري.قال: فأمسك عنه معاوية، وجعل يروض الناس في كل سنة وفي كل موسم يدعوهم إلى بيعة يزيد،فلم يزل على ذلك سبع سنین.

ودخلت سنة خمس وخمسين فكتب معاوية إلى أهل الأمصار أن يقدموا عليه، فقدم عليه قوم من أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل مكة والمدينة وأهل مصر والجزيرة ومن جميع البلاد، فاستشارهم معاوية في البيعة ليزيد، فقام إليه رجل من أهل المدينة يقال له محمد بن عمرو بن حرم فقال: يا معاوية! إن يزيد أهل لما تريد أن ترسمه له، وهو لعمري غني في المال، ووسيط في النسب، غير أن اللّه تعالى سائل كل راع عن رعيته فاتق اللّه يا معاوية وانظر من تولي أمر أمة محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم!.

فتنفس معاوية العداء،ثم قال:يا بن عمرو،أنت رجل ناصح،وإنما قلت برأيك،ولم يكن عليك إلا ذلك، غير أنه لم يبق من أولاد الصحابة إلا ابني وأبناؤهم،وابني أحب إلي من أبنائهم.فسكت الناس وانصرفوا يومهم.

فلما كان من الغد، بعث معاوية إلى الضحاك بن قيس(1) ، فدعاه وقال: إني قد عزمت على الكلام، وإذا غص المجلس بأهله ورأيتني ساكتا فكن أنت الذي تدعوني إلى أمر بيعة يزيد وحضني على بيعته.

ثم أرسل معاوية إلى وجوه الناس فأحضرهم بمجلسه، فلما اجتمعوا بدأ معاوية بالكلام فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم إنه عظم الإسلام وحرمته، ثم ذكر ما أمر اللّه به من طاعة ولاة الأمر، ثم ذكر يزيد وفضله في قريش وعلمه بالسياسة.

فعارضه الضحاك بن قيس وقال : يا أمير المؤمنين! إنه لا بد للناس من وال بعدك وولي عهدك، فإنه قد بلونا الجماعة والفرقة فوجدنا الجماعة والألفة أحقن للدماء، وآمن للسبل، وخيرا في العاجلة والآجلة، والأيام عوج رواجع، ولله في كل يوم أمر وشأن، ولا تدري ما يختلف به العصران وينقلب فيه الحدثان ويزيد ابن أمير المؤمنين في هديه وقصد سيرته من أفضلنا حلما وأكرمنا علما، فوله عهدك واجعله لنا علما بعدك، يكون مفزعا نلجأ إليه، وخليفة نعول عليه، تسكن به القلوب، ونأمن به الفتن. ثم سكت الضحاك.

ص: 462


1- من أبرز رجالات معاوية،من صغار الصحابة،شهد فتح دمشق،ووليها بعدما كان ولي الكوفة من قبل معاوية،دعا لعبد اللّٰه بن الزبير بعد موت يزيد،فقتله مروان بن الحكم سنة64هج واستولی الأخير على الدولة الأموية.(أنظر سير أعلام النبلاء للذهبي)

وقام عمرو بن سعيد الأشدق(1) وقال : أيها الناس!

واللّه أن يزيد لطويل الباع واسع الصدر رفيع الذكر، إن صرتم إلى عدله وسعكم وإن (6) لجأتم إلى جوده أغناكم، وهو خلف لأمير المؤمنين ولا خلف منه.

فقال له معاوية: اجلس أبا أمية فقد أوسعت وأحسنت.

فجلس عمرو بن سعید بن العاص.

وقام يزيد بن المقنع الكندي،فقال:أيها الناس،إن أمير المؤمنين هذا-وأشار بيده

إلى معاوية-فإن مات فخليفته هذا-وأشار إلى يزيد-فمن أبی فهذا-وأشار بيده إلى السيف-فقال له(معاوية):اجلس،فأنت سيد الخطباء.

ثم قام الحصين بن نمير السكوني(2)،فقال:يا معاوية،واللّٰه لئن لقيت اللّٰه ولم تبائع

ليزيد لتكون مضيعة للأمة!

فالتفت معاوية إلى الأحنف بن قيس،وقال:يا أبا بحر،ما يمنعك من الكلام؟

فقال (الأحنف):يا أمير المؤمنين،أنت أعلمنا بيزيد في ليل ونهاري،ومدخله

ص: 463


1- عرف الأشدق ببغضه الشديد لعلي (علیه السلام) وكثرة شتمه إياه، ولقب ب «الأشدق، لأنه - كما يقال - أصابه اعوجاج في حلقه لإغراقه في الشتم. عند خروج الحسين (علیه السلام) من مكة إلى العراق، كان والية على مكة ليزيد بن معاوية، وعندما وصل مروان بن الحكم إلى سدة الخلاقةوعده أن يلي الأمر من بعده، لكن غدر به وسلم الأمر لابنه عبد الملك، فثار على عبد الملك بن مروان، واستغل فرصة خروج عبد الملك إلى العراق لتصفية مصعب بن الزبير، فهجم على دمشق، فرجع عبد الملك وحاصره ستة عشر يوما حتى اصطلحا على ترك القتال وأن يكون الأشدق ولي العهد من بعد عبد الملك، لكن عبد الملك قتل الأشدق غدرة سنة 70 هج.
2- من قادة الأمويين، يعود نسبه إلى قبيلة كندة ، وكان مبغضأ لآل علي؛ ففي معركة صفين كان إلى جانب معاوية ، وفي عهد يزيد كان قائدا على قسم من الجيش، وفي واقعة مسلم بن عقیل سلطه ابن زیاد على دور أهل الكوفة، لياخذ مسلم وياتيه به، وهو الذي أخذ قيس بن مسهر رسول الحسين (علیه السلام) فبعث به إلى ابن زیاد فأمر به فقتل، وهو الذي نصب المنجنیق على جبل أبي قبيس ورمی به الكعبة لما تحضن منه ابن الزبير في المسجد الحرام (مروج الذهب 3: 71)، وقاتل سليمان بن صرد أثناء ثورة التوابين، وأبوه تمیم بن أسامة، وهو الذي سأل أمير المؤمنين (علیه السلام) عن شعر راسه بعد قوله (علیه السلام): اسلوني قبل أن تفقدوني، (سفينة البحار 1: 281). وفي عهد يزيد شارك في الهجوم الذي أمر يزيد بشه على المدينة المنورة ، مات في عام 68 هج متأثرة بجراح أصابه بها إبراهيم بن الأشتر في الواقعة التي جرت على ضفاف نهر الخازر، وجاء في بعض الأخبار أنه أخذ رأس حبیب بن مظاهر بعد مقتله وعلقه في رقبة فرسه ودار به في الكوفة مفتخر ، فكمن له فيما بعد القاسم بن حبيب وقتله ثارا لدم أبيه، وجاء في مصادر أخرى أنه قتل على يد أصحاب المختار الثقفي عام 66 هج قرب الموصل في وقت حركة المختار .

ومخرجه،وسره وعلانيته.فإن كنت تعلمه اللّٰه عزوجل ولهذه الأمة رضی،فلا تشاور فيه أحدة من الناس.وإن كنت تعلم اللّٰه غير ذلك،فلا تزود الدنيا وأنت ماض إلى الآخرة.فإن قلت،ما علينا أن نقول سمعنا وأطعنا.

فقال معاوية:أحسنت يا أبا بحر،جزاك اللّٰه عن السمع والطاعة خيراً.

فبايع الناس في ذلك الوقت ليزيد بن معاوية وانصرفوا إلى منازلهم.

تركيز الضغط على المدينة ومنافسي يزيد

فكتب معاوية إلى مروان بن الحكم،وهو عامله على المدينة،يأمره أن يدعو الناس إلى بيعة يزيد،ويخبره في كتابه أن أهل مصر والشام والعراق قد بايعوا. فأرسل مروان إلى وجوه أهل المدينة،فجمعهم في المسجد الأعظم،ثم صعد المنبر، فحمد اللّٰه وأثنى عليه،وذكر الطاعة وحض عليها،وذكر الفتنة وحر منها، ثم قال في بعض كلامه:

أيها الناس،إن أمير المؤمنين قد كبر بره،ورق جلده وعظمه،وخشي الفتنة من بعده،وقد أراه اللّٰه رايا حسنة،وقد أراد أن يختار لكم ولي عهد یكو من بعدو لكم مفزعة،يجمع اللّٰه به الألفة،ويحق به الدماء،وأراد أن يكون ذلك عن مشورة منكم وتراض،فماذا تقولون؟

فقال الناس من كل جانب:إنا لا نكره ذلك إذا كان اللّٰه فيه رضا.

فقال مروان:إنه قد اختار لكم الرضا الذي يسير فيكم بسيرة الخلفاء الراشدين

المهديين،وهو ابنه يزيد.

فسكت الناس،فتكلم عبد الرحمن بن أبي بكر(الصديق)،وقال:كذبت واللّٰه يا

مروان،وكذب من أمرك بهذا،واللّٰه ما يزيد برضا،ولكن يزيد وراءه هرقلية.

فقال مروان:أيها الناس إن هذا المتكلم هو الذي أنزل فيه:«وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا»(1) .

فغضب عبد الرحمن بن أبي بكر،ثم قال:يا ابن الزرقاء،افينا تتأول القرآن،وأنت

الظريد ابن الظريد.

ثم بادر إليه وأخذ برجله،ثم قال:انزل يا عدو اللّٰه عن هذا المنبر،فليس مثلك من

يتكلم بهذا على أعواده.

ص: 464


1- سورة الأحقاف،الآية:17.هذه القصة ذكرها البخاري في صحيحه في تفسير سورة الأحقاف،والسيوطي في تفسيره الدر المنثور في تفسير هذه الآية

وضجَّ بنو أمية في المسجد،وبلغ ذلك عائشة،فخرجت من منزلها ملتفة بملاءة لها،ومعها سوة من نساء قريش،حتى دخلت المسجد،فلما نظر إليها مروان، كائه فزع لذلك،ثم قال:نشدتك اللّٰه يا أم المؤمنين وإن قلت إلا حقا.

فقالت عائشة:لا قل إلا حقا،أشهد لقد لعن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) أباك ولعنك،وأنت القطرية ابن الطريد،أن تكلم أخي عبد الرحمن بما تكلمه.فسكت مروان،ولم يرد عليها شيئا،ورجعت عائشة إلى منزلها،وتفرق الناس.

وكتب مروان إلى معاوية يخبره بذلك،وبما كان من عبد الرحمن بن أبي بكر، فلما قرأ معاوية كتاب مروان،أقبل على جلسائه فقال:عبد الرحمن شيخ قد خرف،وقل عقله،ويجب أن نكف عنه،ونحتمل ما يكو منه،فليس هذا من رأيه، ولكن من رأي غيره.ثم تها معاوية يريد الحج(1) .

أقول:عندما يقول معاوية«ليس هذا من رأيه ولكن من رأي غيره»يشير-على الأرجح-إلى عبد اللّٰه بن الزبير،الذي عرف بقدرته الخاصة على التحريض،فهو بالأمس حوض قریشة،التي كانت تتمئل في طلحة والزبير وعائشة،ودفع بها لحرب الجمل...وها هو اليوم يحرض قریشة مرة أخرى،من خلال تحريضه عبد الرحمن بن أبي بكر وأخته عائشة.

الإمام الحسين (علیه السلام) يعقد مؤتمرا في مني

يروي الطبرسي في الاحتجاج أنه:«...لما كان قبل موت معاوية بسنتين،حج الحسين بن علي (علیه السلام) وعبد اللّٰه بن جعفر،وعبد اللّٰه بن عباس معه.وقد جمع الحسين بن علي (علیه السلام) بني هاشم،رجالهم ونساءهم،ومواليهم،وشيعتهم،من حج منهم ومن لم يحج،ومن الأنصار ممن يعرفونه،وأهل بيته،ثم لم يدع أحدة من أصحاب رسول اللّٰه،ومن أبنائهم والتابعين،ومن الأنصار المعروفين بالصلاح والشك إلا جمعهم،فاجتمع عليه بيني أكثر من ألف رجل،والحسين (علیه السلام) في شرايقه عامتهم التابعون وأبناء الصحابة،فقام الحسين (علیه السلام) فيهم خطيبة،نحمد اللّٰه وأثنى عليه،ثم قال:فإن الطاغية قد صنع بنا وبشيعتنا ما قد علمتم ورأيثم وشهدم وبلئم،وأني أريد أن أسألكم عن أشياء فإن صدقت فصوني،وإن كذبت فكوني،اسمعوا مقالتي،واكتموا قولي،ثم

ص: 465


1- ابن اعثم الكوفي،الفتوح،ص45-51.انظر أيضا ابن عبد ربهالأندلسي،العقد الفرید،ج4،ص368-371

ارجعوا إلى أمصاركم و قبائلكم من أمنتم و وثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون فإني أخاف أن يندرس هذا الحق و يذهب وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ فما ترك الحسين شيئا أنزل اللّه فيهم من القرآن إلا قاله و فسره و لا شيئا قاله الرسول ص في أبيه و أمه و أهل بيته إلا رواه و كل ذلك يقول الصحابة اللّهم نعم قد سمعناه و شهدناه و يقول التابعون اللّهم قد حدثناه من نصدقه و نأتمنه حتى لم يترك شيئا إلا قاله ثم قال أنشدكم باللّه إلا رجعتم و حدثتم به من تثقون به ثم نزل و تفرق الناس عن ذلك»(1) .

ولنا على هذا المؤتمر ملاحظات:

1.التصعيد الخطير الذي مارسه معاوية،بمحاولاته المتكررة توريث الشلطة ليزيد، كان لا بد أن يواجه بتصعيد من الحسين (علیه السلام).وعلى هذا الأساس،يمكن النظر إلى هذا المؤتمر على أنه الخطوة الأولى فعلا باتجاه الثورة على النظام الأموي.

2.أن الحسين (علیه السلام) كان حريصا على أن يحضر في هذا المؤتمر كل من تبقى من الصحابة وأبناء الصحابة،خصوصا الأنصار،وحتى التابعين،ليذكرهم بمكانة أهل البيت (علیهم السلام) ودورهم،بوصفهم المرجعية الحقيقية،والضمانة من الانحراف، والثقلالموازي للقرآن الكريم،وفقا لحديث الثقلين.هذه الحقيقة كادت أن تندرس بفعل الخطط المنظمة والمدروسة التي مارسها معاوية ما يقرب من عقدين من الأمن، حتى نشات أجيال لا تعرف شيئا عن أهل البيت (علیهم السلام).

3.أين الحسين (علیه السلام) اختار زمانة حاسة،ومكانة حاسة.حيث اختار الحج،وهي اللحظة التي يجتمع فيها المسلمون لأداء هذه الفريضة من أرجاء مختلفة من العالم الإسلامي.واختار منی،بوصفه المكان يرجم فيه الحجاج-نحو رمزي-العقبة الغری والوسطى والكبرى.وهو المكان الذي كان يتحين فيه جده رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) الفرصة لدعوة الناس إلى الإسلام،عندما رفضت قریش دعوته،والتقى فيه قبل الهجرة ببعض الأوس والخزرج وبايعوه البيعتين.وهو المكان الذي أعلن فيه أبوه الإمام علي (علیه السلام) البراءة من المشركين بعد فتح مكة.في هذا الزمان والمكان، حيث يتحرج كل حاج عن الكذب بعد أن وقف بعرفة وأفاض إلى مزدلفة،وقف الحسين (علیه السلام) يناشد الناس إن صدقت فصدقوني وإن كذبت فكذبوني»!

4.أن الحسين (علیه السلام) بعد أن انتهى من سرد كل ما يتعلق بفضائل أهل البيت (علیهم السلام)،

ص: 466


1- الطبرسي،الاحتجاج،ج2،ص86-88

وأنعش ذاكرة الناس بما نسوه بفعل الفاصل الأمني الطويل،وبفعل الترهيب السياسي من نشر هذه الفضائل...ناشد الناس أن يبدأوا-رغم قسوة الظروف السياسية وخطورة الأوضاع الأمنية وما قد يترتب على ذلك من أخطار-بنشر هذه الفضائل على أوسع نطاق ممكن،كإجراء مضاد لخطط معاوية لمحو ذكر أهل البيت (علیهم السلام)،وإماتة وحيهم.

مراسلات بين معاوية والإمام الحسين (علیه السلام)

وكتب معاوية كتبا-تراوح بين الترغيب والترهيب-إلى عبد اللّٰه بن عباس وإلى عبد اللّٰه بن البير وإلى عبد اللّٰه بن جعفر وإلى الحسين بن علي (علیه السلام)،يدعوهم إلى البيعة ليزيد!(1)

وكان كتابه إلى الإمام الحسين (علیه السلام) ما لفظه:

«أما بعد،فقد انتهت إلي منك أمور،لم أكن أظنك بها،رغبة بك عنها،وإن أحق الناس بالوفاء من كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزل اللّٰه بها،فلا تنازع إلى قطيعتك،وائق اللّٰه!ولا تردين هذه الأمة في فتنة...وانظر لنفسك ودينك وأمة محمد،«وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ»(2)

فكتب إليه الإمام الحسين (علیه السلام) بما يلي:

«أما بعد ، فقد جاءني كتابك تذكر فيه أنه انتهت إليك عني أمور ، لم تكن تظنني بها ، رغبة بي عنها ، وإن الحسنات لا يهدي لها ، ولا يسدد إليها إلا اللّه تعالى ، وأما ما ذكرت أنه رقي إليك عني ، فإنما رقاه الملاقون ، المشاؤون بالنميمة ، المفرقون بين الجمع ، وكذب الغاوون المارقون ، ما أردت حربا ولا خلافا ، وإني لأخشى لله في ترك ذلك ، منك ومن حزب القاسطين المحلين،حزب الظلم وأعوان الشيطان الرجيم.

ألست قاتل حجر ، وأصحابه العابدين المخبتين ، الذين كانوا يستفظعون البدع ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، فقتلتهم ظلما وعدوانا ، من بعدما أعطيتهم المواثيق الغليظة ، والعهود المؤكدة ، جراءة على اللّه واستخفافا بعهده .

أو لست بقاتل عمرو بن الحمق ، الذي أخلقت وأبلت وجهه العبادة ، فقتلته من بعدما أعطيته من العهود ما لو فهمته العصم(3) لنزلت من شعفه(4) الجبال.

ص: 467


1- راجع ابن قتيبة،الإمامة والسياسة،ص200-202
2- سورة الروم، الآية: 60.
3- العصم:جمع أعصم،وهو الظبي في ذراعيه أو في إحداهما بياض وسائره أسود أو احمر
4- الشعفة(بالتحريك)رأس الجبل

أو لست المدعي زيادا في الإسلام ، فزعمت أنه ابن أبي سفيان ، وقد قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أن الولد للفراش وللعاهر الحجر ، ثم سلطته على أهل الإسلام ، يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، ويصلبهم على جذوع النخل .

سبحان اللّه يا معاوية ! لكأنك لست من هذه الأمة ، وليسوا منك .

أو لست قاتل الحضرمي الذي كتب إليك فيه زياد أنه على دين علي كرم اللّه وجهه ، ودين علي هو دين ابن عمه صلى اللّه عليه وسلم ، الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه ، ولولا ذلك كان أفضل شرفك وشرف آبائك تجشم الرحلتين : رحلة الشتاء والصيف ، فوضعها اللّه عنكم بنا ، منة عليكم .

وقلت فيما قلت : لا ترد هذه الأمة في فتنة ، وإني لا أعلم لها فتنة أعظم من إمارتك عليها .

وقلت فيما قلت : انظر لنفسك ولدينك ولأمة محمد ، وإني واللّه ما أعرف أفضل من جهادك(=قتالك)،فإن أفعل،فإنه قربة إلى ربي،وإن لم أفعل،فأستغفر اللّٰه لنبي،وأسأله التوفيق لما يحب ويرضى.

وقلت فيما قلت : متى تكدني أكدك ، فكدني يا معاوية فيما بدا لك ، فلعمري لقديما يكاد الصالحون ، وإني لأرجو أن لا تضر إلا نفسك ، ولا تمحق إلا عملك ، فكدني ما بدا لك . واتق اللّه يا معاوية ، واعلم أن لله كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها . واعلم أن اللّه ليس بناس لك قتلك بالظنة ، وأخذك بالتهمة ، وإمارتك صبيا يشرب الشراب ، ويلعب بالكلاب ، ما أراك إلا وقد أوبقت نفسك ، وأهلكت دينك ، وأضعت الرعية والسلام»(1) .

الخلاصة:تناولنا اليوم محاولة معاوية الأولى-في حياة الإمام الحسن (علیه السلام) التوريث یزید السلطة،ودور المغيرة بن شعبة وزياد ابن أبيه في عملية توريث الشلطة اليزيد،وتنصيب معاوية لعبيد اللّٰه بن زياد-الذي سيصدر أوامره لارتكاب فاجعة كربلاء-في مناصب عليا في الدولة،وتنصيب الوليد بن عتبة على المدينة والنعمان بن البشير على الكوفة اللذين سينایا بنفسيهما عن الاصطدام بالإمام الحسين (علیه السلام) وثورته.كما تناولنا محاولات معاوية الجديدة في المدن والأمصار الكبرى، ثم تركيزه الضغط على المدينة-وبالتحديد على منافسي يزيد-وأخيرة المؤتمر المهم الذي عقده الإمام الحسين (علیه السلام) في

ص: 468


1- ابن قتيبة،الإمامة والسياسة،ص202-204

مني،ومراسلات معاوية والإمام الحسين (علیه السلام)،والتي كشفت الإمام الحسين (علیه السلام) فيها عن الجرائم التي ارتكبها معاوية بحق بعض الصحابة والصالحين.

عندما رأى معاوية أن محاولاته-رغم أنها هيات الأجواء في الأمصار الكبرى لكنها -لم تجعل وجود یزید كولي للعهد حقيقة راسخة،خصوصا في المدينة ومكة،

لأنها لم تحظ بتأیید وموافقة منافسي يزيد من الشخصيات القرشية والهاشمية الكبيرة،وأن ولاته في الحجاز لم يحققوا انجازا في هذا المجال،اضطرللزول إلى الميدان،والأهاب بنفيه إلى المدينة ومكة لتنفيذ الخطوات الأخيرة من هذا المخطط.

في الفصل القادم سنتناول هذه النقطة بالتفصيل.

ص: 469

(29)نزول معاوية الميداني

معاوية سيحث من جديد ولاته في الحجاز ويأممهم بممارسة ضغوط على الناس المبايعة يزيد،لكن الناس-في المدينة ومكة-لن يستجيبوا لتلك الشغوط طالما أن الشخصيات القرشية والهاشمية لم تقبل ذلك.

أعني بالشخصيات القرشية،أبناء وجهاء المهاجرين،الذين يمثلون امتدادا لفئة وجهاء المهاجرين،وبطون قريش الضعيفة.وهم بالتحديد عبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد اللّٰه بن عمر،وعبد اللّٰه بن الزبير.وأعني بالشخصيات الهاشمية الإمام الحسين (علیه السلام)-الذي يمثل رأس بني هاشم-بالإضافة إلى عبد اللّٰه بن عباس ومحمد بن الحنفية وعبد اللّٰه بن جعفر وأمثالهم.

عندما يفشل ولاة معاوية في الحجاز في تحقيق هذا الانجاز،يضطر معاوية للذهاب بنفيه إلى المدينة ومكة أكثر من مرة،ليمارس-هذه المرة بنفسو-كل ألوان الغوط على تلك الشخصيات،ترهيبة وترغيبة وحيلة.في هذا الفصل الأخير من رحلتنا الطويلة،سنتناول ذلك،وستنتهي هذه الرحلة بموت معاوية بعد عودته من الحجاز.

قدوم معاوية إلى المدينة

كتب ابن قتيبة:وذكروا أنه لما جاوب القوم (الشخصيات القرشية والهاشمية)معاوية بما جاوبوه من الخلافي لأمره، والكراهية لبيعه ليزيد،كتب إلى سعيد بن العاص يأمره أن يأخذ أهل المدينة بالبيعة ليزيد،أخذا بغلظة وشدة،ولا يدع أحدا من المهاجرين والأنصار وأبنائهم حتى يبايعوا،وأمره أن لا يحرك هؤلاء النفر ولا يهيجهم.

فلما قدم عليه كتاب معاوية أخذهم بالبيعة أعنف ما يكون من الأخذ وأغلظه، فلم يبايع أحد منهم،فكتب إلى معاوية:«إنه لم يبايعني أحد، وإنما الناس تبع لهؤلاء النفر،فلو بایعوك بايع الناس جميعا،ولم يتخلف عنك أحد»(1) .

ص: 470


1- ابن قتيبة الدينوري،الإمامة والسياسة،ص204

فطلعت أثقال معاوية،ورحل إلى المدينة،فلما تقارب منها،خرج الناس يتلقونه، وفيمن خرج إليه عبد الرحمن بن أبي بكر وعبد اللّٰه بن عمر وعبد اللّٰه بن الربير والحسين بن علي (علیه السلام)،فلما نظر إليهم،قطب في وجوههم،ثم قال:ما أعزفني(1) سفهكم وطيشكم.

فقال له الحسین (علیه السلام):مهلا يا معاوية،فلسنا لهذه المقالة بأهل.

فقال:بلى واللّٰه،وأشد من هذا القول وأغلظ،فإنكم تريدون أمرة،واللّٰه يابیما تریدون.

فلما دخل إلى المدينة فنزلها، وأقبل إليه الناس مسلمين، وجعل كل من دخل إليه مسلما شكى إليه هؤلاء الأربعة، ثم جاءوا ليدخلوا عليه فلم يأذن لهم، فتركوه ومضوا إلى مكة(وستأتي رواية تاريخية أخرى تتحدث عن حوار بينهم وبين معاوية في المدينة قبل خروجهم منها).

وخرج معاوية من منزله إلى المسجد الأعظم فصعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم ذكر ابنه يزيد في خطبته وقال: من أحق بالخلافة من ابني يزيد في فضله وهديه ومذهبه وموضعه من قريش! واللّه إني لأرى قوة ما يعيبونه، وما ظنهم بمقلعين ولا منتهين حتى يصيبهم مني بوائق تخيب أصولهم فليرفع أولئك على ضلعهم من قبل أن تصيبهم مني فاقرة لا يقومون لها، فقد أنذرت إن نفع الإنذار وبينت إن نفع البيان، قال: ثم جعل يتمثل بهذه ويقول:

قد كنت حذرتك آل المصطلق

وقلت يا عامر ذرني وانطلق

إنك إن كلفتني ما لم أطق

ساءك ما سرك مني من خلق

دونك ما استقيته فأحسن وذق

ثم ذكر عبد الرحمن بن أبي بكر وعبد اللّه بن عمر وعبد اللّه بن الزبير والحسين (4) بن علي وقال: واللّه لئن لم يبايعوا ليزيد لأفعلن ولأفعلن. ثم نزل عن المنبر ودخل إلى منزله(2) ..

تفكك تحالف التيارين القرشيين: بطون قريش الضعيفة وبنو أمية

وبلغ ذلك عائشة،فأقبلت حتى دخلت مغضبة عليه،وقالت:يا معاوية ما كفاك انك

ص: 471


1- عزفت النفس عن الشيء:عافته وكرهته
2- ابن اعثم الكوفي،الفتوح،ج2،ص51-52

قتلت أخي محمد بن أبي بكر وأحرقته بالنار،حتى قدمت المدينة وأخذت بالوقيعة في أبناء الصحابة،وأنت من اللقاء الذين لا تحل لهم الخلافة،وكان أبوك من الأحزاب،خبرني ما كان يؤمن مئي أن أبعث إليك من يقلك بأخي محمد، وآخذ بثأري؟

فقال لها معاوية:يا أم المؤمنين،أما أخوي محمد فلم أقتله،ولم آمر بذلك،ولكنه كان ينط من جه علي:علي بن أبي طالب (علیه السلام)،فوجه إليهم معاوية بن حديج(1) وعمرو بن العاص فحارباه،فقتلاه،وفعلا به ما فعلا،ولم يك ذلك عن رأي،وأما قول تقتليني،فإني في بيتي أمان

فقالت عائشة:لعمري أنت في بيت أمان،ولكن بلغني عنك أنك تهددت أخي عبد الرحمن بن أبي بكر،وابن عمر،وابن أختي عبد اللّٰه بن الربير،والحسين بن فاطمة (علیها السلام)،وليس مثلك من يتهدد مثل هؤلاء

فقال معاوية:مهلا يا أم المؤمنين،فهم أعثر علئ من بصري،لكني أخذ البيعة الابني يزيد،وقد بايعه كائه المسلمين،أفتريني أنقض بيعة قد تبینت وتأكدت،وأن يخلع الناس عهودهم؟!

فقالت عائشة:إني لا أرى ذلك،ولكن عليك بالرفق والتأئي،وإنهم لا يخالفون، وانظر لا يبلغني عنك أنك أسأت إلى أحد منهم،فتلقي مي ما لا يب،واذكر المرجع إلى اللّٰه والمنقلب إليه.

فقال معاوية:أفعل ذلك يا أم المؤمنين،وأنت أهل أن يسمع منك وطاعي في كل ما تأمرين.

فانصرفت عائشة من منزلها(2).

أقول:من الطبيعي أن تدافع عائشة-وهي تمثل الروح القرشية-عن اثنين من المرشحين الأربعة على وجه الخصوص:أخيها عبد الرحمن،وابن أخيها عبد اللّٰه

ص: 472


1- وقد كاناه معاوية بأن ولاه بعد ذلك مصر بعد موت عمرو بن العاص وعزل ابنه عبداللّه ، ففي الطبري أن عبد الرحمن بن أبي بكر مر بمعاوية بن خديج فقال له: يا معاوية قد لعمري أخذت من معاوية جزاءك ، قتلت محمد بن أبي بكر لأن تلي مصر، فقد وليتها ، قال (معاوية بن خديج): ما قتلت محمد ابن أبي بكر إلا بما صنع بعثمان، فقال عبد الرحمن : فلو كنت إنما تطلب بدم عثمان لم تشرك معاوية فيما صنع، حيث صنع عمرو بن العاص بالأشعري ما صنع، فوثبت أول الناس فبايعته (الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص172)، ثم ما لبث أن عزل معاوية معاوية بن خديج سنة 50مج (الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 178).
2- ابن اعثم الكوفي، الفتوح، ج2، ص 51 - 53.

الزبير.أما عبد اللّٰه بن عمر فليس منافسة جدية لهما،لأسباب عدة،منها أنه لم يكن في وارد منافسة أحد على الخلافة،وأما الإمام الحسين (علیه السلام) فالاصطفافات الجديدة كانت تقتضي أن تجد نفسها مع الإمام الحسين (علیه السلام) في خندق واحد في مقابل معاوية الذي يريد أن تستأثر أمنية بالمحكم.

خلفيات علاقة معاوية بعائشة

كان معاوية خصمة لدودة للإمام علي (علیه السلام)،حاربه في حياتي،ولم ينس اللعن عليه بعد مماته،ووجدنا عائشة أيضا حارب عليا (علیه السلام)في حياته،وتسجد لله شكرا عندما يبلغها نبأ وفاته.

وإذا لاحظنا ما رواه اليعقوبي وأبو الفرج،نرى أن الخصومة قد امتدت بينها وبين بني هاشم،وجمعت بينها وبين بني أمية عامة،ومعاوية خاصة،إلى آماد بعيدة. لأنه عندما توفي الإمام الحسن (علیه السلام)،وأخرج نعشه يراد به قبر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) حسب وصيته،ركبت عائشة بغ،وقالت:بيتي ولا آذن فيه لأحد،فأتاها القاسم بن محمد بن أبي بكر،فقال:يا عمة!ما غسلنا رؤوسنا من يوم الجمل الأحمر، أثريدين أن يقال يوم البغلة الشهباء؟

هذه الخصومة المشتركة قربت في البدء بين عائشة ومعاوية،وجعلتها موضع رعاية

معاوية وولاته،واستمر هذا التحالف إلى شهادة الإمام الحسن (علیه السلام).

أخرج أبو نعيم عن عبد الرحمن بن القاسم قال:أهدى معاوية لعائشة ثيابا وورقة وأشياء توضع في اسطوانتها...وعن عروة:أن معاوية بعث إلى عائشة بمائة ألف... ...... وأخرج ابن كثير عن عطاء قال:بعث معاوية إلى عائشة وهي بمكة بطوق قيمته مائة ألف فقبلته.وروى ابن كثير عن سعيد بن العزيز قال:قضى معاوية عن عائشة أم المؤمنين ثمانية عشر ألفدينار،وكان عليها من الدين الذي كانت تعطيه الناس.

وكذلك كان الأمراء من البيت الأموي أيضا،كانوا يبعثون إليها بالهدايا،كما فعل

عبد اللّٰه بن عامر والي البصرة،فإنه بعث إليها بنفقة وكسوة.

وكانت لعائشة كلمة نافذة...لكن عندما استقام الأمر لمعاوية بعد جهد كبير، وأراد أن يورث الخلافة العقبه من بعده،وعارضه الناس،وقلب لهم ظهر المجن، عطفت عائشة على معارضيه وأيدتهم،ففترت العلائق بينهما.

فتوريث الخلافة ليزيد بمثابة انقلاب من بني أمية على قريش،انقلاب على

ص: 473

عبد الرحمن،وابن أختها عبداللّٰه بن الربير،وحتی عبد اللّٰه بن عمر،فضلا عن الإمام الحسين (علیه السلام)،فثلاثة من منافسي يزيد من طرفها،اثنان منهم من قرابتها،وواحد محسوب على خطها السياسي.

وأولى بوادر فتور العلاقة بينهما كانت في أمر وساطتها ل جر.قال أبو الفرج:إن عائشة بنت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام إلى معاوية في محجر وأصحابه، فقدم عليه وقد قتلهم(إلى قوله)،وكانت عائشة تقول:لولا أنا لم تغير شيئا إلا آلت الأمور إلى أشد مما ئا فيه لغيرنا قتل ځجر،أما واللّٰه إن كان المسلمة ما علمه حاجة معتمرة.

ومما قالت في قتل ځجر:أما واللّٰه لو علم معاوية أ عند أهل الكوفة منعة ما اجترأ على أن يأخذ حجرة وأصحابه من بينهم حتى يقتلهم بالشام،لكن ابن آكلة الأكباد علم أنه قد ذهب الناس....

أقول:إننا نعلم أن محمد بن أبي بكر كان قد قتل سنة37هج،ومحجر بعد50هج، فلماذا سكتت عائشة كل هذه السنوات الطوال عن مطالبة معاوية بدم أخيها حتى إذا قتل حجر وجاء معاوية ليوطي لخلافة يزيد ذكرته؟!

نرى أن السبب في أنها كانت قد أوفدت عبد الرحمن بن الحارث من المدينة إلى الشام تشفع في محجر،وانتشر خبر ذلك في البلاد،وفيما الناس مع أم المؤمنين واثقون من نجاح مسعاها،وإذا بالوفد يرجع خائبة،ولم يسبق لها مثل ذلك، فعظم عليها،وغضبت على معاوية،وجابهته بقوارص الكلام،وذكرته بدم أخيها المهدور بعد زهاء خمس عشرة سنة،فلان لها معاوية،وذكرها بما بينهما، وبسوابق في قضاء حوائجها،غير أن ذلك لم يخفف من سورة غضبها،وبقيت حانقة عليه خاتمة،وعلى بني أمية عامة،لأن الخلاف بينهما كان قد است شقته، بعد مخالفة عبد الرحمن-شقيق أم المؤمنين-لبيعة يزيد،وموته الفجائي إثر هذه المخالفة!

فقد روى ابن عبد البر في الاستیعاب:قعد معاوية على المنبر يدعو إلى بيعة يزيد، فكلمه الحسين بن علي (علیه السلام)،وابن الزبير،وعبد الرحمن بن أبي بكر،فكان كلام ابن أبي بكر:أهرقلية؟!إذا مات كسری كان كسری مكانه،لا نفعل واللّٰه أبدا. وبعث إليه معاوية بمائة ألف درهم بعد أن أبي البيعة ليزيد،فردها عليه عبد الرحمن،وأبی أن یادها،وقال:أبيع ديني بدنياي؟!فخرج إلى مكة،فمات بها قبل أن تتم البيعة ليزيد ابن معاوية.وذكر ابن عبد البر بعده وقال:إن عبد الرحمن مات فجاءة بموضع يقال له«الحبش»

ص: 474

(=جبل بأسفل مكة،مات عنده عبد الرحمن،فحمل على رقاب الرجال على مكة) على نحو عشرة أميال من مكة فدفن بها،ويقال:إنه توفي في نومة نامها،ولما اصل خبر موته بأخته عائشة أم المؤمنین،ظعنت من المدينة حاجه حتى وقفت على قبره،فبكت عليه وتملت ببيتين.

وفي المستدرك أن عبد الرحمن رقد في مقيل قاله،فذهبوا يوقظونه فوجدوهقد مات،فدخل نفس عائشة تهمة أن يكون ضيع به شر،وجل عليه،فدفن وهو حي. دب الخلاف بين عائشة وبني أمية من جديد،ووقع الشر،وخسرت عائشة في هذه المعركة شقيقها عبد الرحمن،حيث مات ميتة مجهولة في طريقه إلى مكة،كما مات الأشتر في طريقه إلى مصر.مات عبد الرحمن بن أبي بكر كما مات من قبله عبد الرحمن ابن خالد،وسعد بن أبي وقاص،والحسن بن علي (علیه السلام)،مات هؤلاء جميعا ليفسحوا في المجال لأخذ البيعة ليزيد.

وقع الشر بين عائشة وبني أمية من جديد،وفقدت أم المؤمنين شقيقها في هذه المرة، وليس لها من الأنصار ما تستطيع أن تقيمها حربا عوانة على بني أمية، بعد أن فقدت طلحة والربير،ومحمد بن طلحة وعبد الرحمن بن أبي بكر إلى آخرين،فتمثلت بشعر لبيد:

ذهب الذين يعاش في أكنافهم

وبقيت في خلف كجلد الأجرب

لا ينفعون ولا يرجى خيرهم

ويعاب قائلهم وإن لم یشغب

تقدم السن بأم المؤمنين،فلا تستطيع الركوب وقطع المفاوز لإشعال نار الحرب على آل أمية بالشيف،فأعلنت عليهم حرب الدعاية،وبدأت بمروان أمير المدينة الغشوم،فجابهته بما ورد عن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في أبيه،من لعنه اباه،وهو في صلبه.

ونرى أنها لم تكتف بذكر الحديث في ذم بني أمية فحسب،وإنما أخذت تحدث في هذه المرحلة بما سمعته عن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،في فضل علي (علیه السلام) وفاطمة (علیها السلام) وأمها خديجة،نكاية وإرغامة لبني أمية عامة،ولمعاوية خاصة،فإنه لم يكن أشد على معاوية من نشر فضائل علي (علیه السلام) وفاطمة (علیها السلام)،وخاصة لمكان الإمام الحسين علي بين المسلمين،فقد كان يومذاك المرشح الأول للخلافة.إذن ما ورد من الحديث الزر اليسير عن أم المؤمنين في فضل علي (علیه السلام)وفاطمة (علیها السلام) وأمها خديجة صدر على الأرجح في هذه المرحلة،بعدماانفك التحالف بين بطون قريش الضعيفة وبني أمية،وساءت العلاقة بين عائشة ومعاوية في أواخر حياتهما.

ص: 475

ومن المظنون أن أغلب ما روي عنها من الدم على موقفها يوم الجمل كان بدؤه من هذا الوقت،ثم بقيت على ذلك إلى آخر أيامها،حيث توفيت سنة ثمان وخمسين،وكان عمرها ثلاثة وستين سنة وأشهراً(1) .

التنورة من جديد

إذا أردنا رسم الصورة من جديد،نقول:معاوية يحاول أن يوطى ليزيد ليستلم الحكم،بشتى الطرق،وينجم عن ذلك بروز أزمة كبيرة بين بني أمية(بطن قریش القوي)،وقريش(القبيلة الأم ببطونها الأخرى).

فإن لم يكن من الواضح في عصر وجهاء المهاجرين،أعني في عصر الخليفة الأول والثاني،أن بني أمية قد اخذوا من قريش عامة ووجهاء المهاجرين خاضة جسرة لكي يصلوا من خلالهم إلى مآربهم الخطيرة،فإنه ابتداء من الصف الثاني من عصر الخليفة الثالث،بدأت معالم الخطة تتكشف لمن يملك قدرة على تحليل الوضع السياسي...ثم انشغل الناس بعد مقتل الخليفة الثالث بادعاءات الأخذ بالثأر لمقتل الخليفة المظلوم...

ولم تنكشف الأمور بشكل جلي لا لبس فيه،ولم تدرك قريش خطورة الانقلاب السياسي الذي قام به بنو أمية،إلا عندما أعلن معاوية نيته أخذ البيعة لابنه يزيد. هنا ثارت ثائرة قريش،ورأت أن هذا انقلاب عليها وعلى منطقالسقيفة،كما ثارت ثائرة الإمام الحسين (علیه السلام) الذي رأى أن هذا انقلاب ليس على منطق الوصية والحق الإلهي فحسب،بل انقلاب حتى على منطق القيفة الذي قبله أهل البيت (علیهم السلام) على غضاضة،حفاظا على بيضة الإسلام.

هنا رأت قريش أنها باتت في خندق واحد مع الإمام الحسين (علیه السلام)،ورأي الإمام الحسين (علیه السلام) نفسه أنه في خندق واحد مع قريش....في قبال بني أمية.وهذا بالتحديد ما قرب-نسبية-من وجهات نظر عبد الرحمن بن أبي بكر،وعبد اللّٰه بن عمر، وعبد اللّٰه ابن الربير،من وجهة نظر الإمام الحسين (علیه السلام).

لكن عندما ننتقل إلى دراسة واقعة كربلاء نفسها،سنجد أن هذا التقارب بين الإمام الحسين (علیه السلام)وقريش كان عابرة...بدليل أن عبد الرحمن بن أبي بكر إن كان قد مات قبل معاوية،فإن عبد اللّٰه بن عمر سيحاول أن يثني الإمام الحسين (علیه السلام) عن الخروج على

ص: 476


1- مرتضى العسكري،ام المومنین عائشة،ج1،ص359-371

یزید،أما عبد اللّٰه بن البير فقد حاول أن يحرضه على الخروج إلى الكوفة،حتى يخلو له الجو في مكة.

الآن،نريد مواصلة التعرف على محاولات معاوية الميدانية الأخرى للتوطئة ليزيد.

ما سمعه معاوية في المدينةقال الدينوري(ملخصا):ثم جلس معاوية صبيحة اليوم الثاني،وأجلس تابه،بحيث يسمعون ما يأمر به،وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من الناس وإن قرب،ثم أرسل إلى الحسين بن علي (علیه السلام) وعبد اللّٰه بن عباس، فسبق ابن عباس،فاجلسه عن يساره،وشاغله بالحديث حتى أقبل الحسين (علیه السلام) ودخل،فأجلسه عن يمينه،وسأله عن حال بني الحسن وأسنانهم،فأخبره.

ثم خطب معاوية خطبة،أثنى فيها على اللّٰه ورسوله،وذكر الشيخين وعثمان،ثم ذكر أمر يزيد،وأنه يحاول ببیعتسد خلل الرعية،ذكر علمه بالقرآن والشنة، واتصاقه بالجلم،وأنه يفوما سياسة ومناظرة،وإن كانا أكبر منه سنا(1) ،وأفضل قرابة،واستشهد بتولية رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل على أبي بكر وعمر وأكابر الصحابة،ثم طلب منهما إجابته.

فتها ابن عباس للكلام،فقال له الحسين (علیه السلام):على رسلك،فأنا المراد،ونصيبي

في التهمة أوفر.

وقام الحسين (علیه السلام)،فحمد اللّٰه تعالى وصلی علی رسول اللّٰه وآله وقال:أما بعد،یا معاوية،فلن يؤدي القائل،وإن أطنب،صفة الرسول (صلی اللّه علیه واله)من جميع جزءا،وقد فهم ما لبست به الخلف بعد رسول اللّٰه من إيجاز الضفة(يعني إعراضك عن ذكر علي (علیه السلام) بعد الرسول صلى اللّٰه عليه وآله)،والتنكب عن استبلاغ النعت.

وهيهات هيهات یا معاوية،فضح الصب فحمة الأجا،وبهرت الشمس أنوار الشرج، ولقد فضلت حتى أفرط،واستأثرت حتى أجحفت،ومنعت حتى بخلت،وجرت حتى جاوزت.ما بذلت لذي حق من اسم حقه من نصيب،حتى أخذ الشيطان حظه الأوفر،ونصيبه الأكمل.

وفهمت ما ذكرته عن يزيد من احتمال وسياسيير أمة محمد،تريد أن توهم الناس في

ص: 477


1- سبق لمعاوية أن احتج على الحسن (علیه السلام) دونه،فما لهذه الباء لا تجر هنا؟

یزید،كانك تصف محجوباً أو تنع غائباً،أو خبر عما كأنك احتويته بعلم خاص،وقد دل يزيد من نفسي على موقع رأيه،فذ ليزيد فيما أخذ فيه من استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش،والحمام السبق لأترابهن،والقينان ذوات المعازف،وضروب الملاهي،تجده باصراً!

ودع عنك ما حاول،فما أغناك أن تلقى اللّٰه بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه،فواللّٰه ما برحت تقدح باطلا في جور،وحنقة في ظلم،حتى ملئت الأسقية، وما بينك وبين الموت إلا غمضة،فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود،ولات حين مناص.

....وذكرت قيادة الرجل(يعني عمرو بن العاص)بعهد رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وما صار ذلك لعمرو يومئذ،حتى أنف القوم إمرته،وكرهوا تقديمه،وعثروا عليه أفعاله،فقال رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):لا جرم معشر المهاجرين،لا يعمل عليكم بعد اليوم.فكيف يحتج بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكير الأحوال وأولاها بالمجتمع عليه من الواب؟ أم كيف صحبت بصاحب تابع؟وحولك من لا يؤمن في صحبته،ولا يعتمد في دينه وقرابته،تتخطاهم إلى مسرف مفتون،تريد أن تلبس الناس شبهة،يسعد بها الباقي في دنياه(يعني يزيد)،وتشقى بهافي آخرتك.إهذا لهو الخسران المبين، وأستغفر اللّٰه لي ولكم.

فنظر معاوية إلى ابن عباس،فقال:ما هذا يا ابن عباس؟!ولما عندك أدهى وأمرا

فقال ابن عباس:لعمر اللّٰه،إنه لذرية الرسول،وأحد أصحاب الكساء،وفي البيت المطهر فاله عما تريد،فإن لك في الناس مقنعة،حتى يحم اللّٰه بأمره،وهو خير الحاكمين(1) .

معاوية في مكة

كتب ابن الأعثم:ثم رحل معاوية إلى مكة،ورحل معه كائه أصحابه،وعامة أهل المدينة،وفيهم عبد اللّٰه بن عباس،حتى إذا قترب من مكة خرج إليه أهلها، فتلقوه كما فعل أهل المدينة،وفيهم الحسين بن علي (علیه السلام)،وعبد الرحمن بن أبي بكر،وابن عمر،وابن الريبر،فلما نظر إليهم(يبدو بعد تحذير عائشة له)قال: مرحباً وأهلاً.ثم نظر إلى

ص: 478


1- ابن قتيبة الدينوري،الإمامة والسياسة،ص207-210.ثم خرج معاوية إلى مكة،كما يحدثنا ابن الأثير وغيره من المؤرخين،قال:وسبقه إلى مكة الحسين بن علي،وعبد اللّٰه بن الزبير،وابن عمر،وعبد الرحمن بن أبي بكر(الذي مات على ما يبدو في الطريق إليها أو بعد وصوله إليها وخروج معاوية منها)

الحسين (علیه السلام)فقال:مرحبا بابي عبد اللّٰه،مرحبة بسيد شباب أهل الجنة.ثم نظر إلى عبد الرحمن بن أبي بكر فقال:مرحبا بشیخ قریش وابن صديقها.ثم نظر إلى(ابن)عمر وقال:مرحبا يا ابن صاحب رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) مرحبا بابن الفاروق.ثم نظر إلى ابن الزبير فقال:مرحبا بابن حواري رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وابن عمته.

ثم قال معاوية:علي يا غلام بأربعة من الظهر(=الأواب)،فأتي بها فركبوا،وساروا وسار معهم معاوية،وجعل يحدثهم ويضاحكهم،حتى دخل مكة،ثم بعث إلى كل واحد منهم بصلة سنية،وفضل عليهم الحسين بن علي (علیه السلام) بكسوة حسنة، فلم يقبلها الحسي (علیه السلام) منه(1) .

وأقام معاوية بمكة لا يذكر شيئا من أمر يزيد، ثم أرسل إلى الحسين (علیه السلام) فدعاه، فلما جاءه ودخل إليه قرب مجلسه ثم قال: أبا عبد اللّه! اعلم أني ما تركت بلدا إلا وقد بعثت إلى أهله فأخذت عليهم البيعة ليزيد، وإنما أخرت المدينة لأني قلت هم أصله وقومه وعشيرته ومن لا أخافهم عليه، ثم إني بعثت إلى المدينة بعد ذلك فأبى بيعته من لا أعلم أحدا هو أشد بها منهم، ولو علمت أن لأمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم خير من ولدي يزيد لما

بایعت له.

فقال له الحسین (علیه السلام):مهلا يا معاوية،لا تقل هكذا،فإنك قد تركت من هو خير

منه أما وأبا ونفسة.

فقال معاوية:كأنك تريد بذلك نفسك أبا عبد اللّٰه؟فقال الحسين (علیه السلام):فإن أرد نفسي فكان ماذا؟فقال معاوية:إذن أخبرك أبا عبد اللّٰه،أما أمك فخير من أم يزيد، وأما أبوك فله سابقة وفضل وقرابة من الرسول (صلی اللّه علیه واله) ليست لغيره من الناس،غير أنه قد حاكم أبوه أباك،فقضى اللّٰه على أبيك،وأما أنت وهو،فهو واللّٰه خير الأمة محمد (صلی اللّه علیه واله) منك.

فقال الحسين:من خير لأمة محمد؟یزید الخمور الجور؟فقال معاوية:مهلا أبا عبد اللّٰه،فإنك لو ذكرت عنده لما ذكر منك إلا حسنا.فقال الحسين:إن علم مني ما أعلمه منه أنا،فليقل في ما أقوله فيه.فقال له معاوية:أبا عبد اللّٰه انصرف إلى أهلك راشدة،وائق اللّٰه في نفسك،واحذر

ص: 479


1- حاول بعض المؤرخين تصوير الإمامين الحسن والحسين (علیهما السلام) على أنهما كانا ممن يتردد إلى الشام ليأخذا من معاوية الهدايا.لكن ورد عن الإمام موسى الكاظم (علیه السلام):إن الحسن والحسين كانا لا يقبلان جوائز معاوية بن أبي سفيان.راجع،حياة الحسن2/ 303-304

أهل الشام أن يسمعوا منك ما قد سمعه،فإنهم أعداؤك وأعداء أبيك.وانصرف الحسي (علیه السلام)إلى منزله.

وأرسل معاوية إلى عبد الرحمن بن أبي بكر فأقبل،فلما دخل وهم معاوية أن يتكلم،سبقه عبد الرحمن بالكلام وقال:واللّٰه يا معاوية لعل و أنا قد وقلنا إلى اللّٰه في أمر ابنك يزيد حتى تفعل ما تريد،وإنا واللّٰه لا نفعل ذلك أبدا،أولترد الأمر شوری بین المسلمين.

فقال معاوية:أما واللّٰه إني لعارف بك وبسفهك،ولقد هممت أن أفعل كذا وكذا،أو

كما قال.

فقال له عبد الرحمن:إذن واللّٰه يا معاوية يدرك اللّٰه به في الدنيا،ويدخر لك العقوبة في الآخرة.

فقال معاوية:اللّٰهم اكفني أمر هذا الشيخ،يا هذا التي اللّٰه في نفسك أن يسمعك أهل الشام.

فقال عبد الرحمن:أما نحن فقد ائقینا اللّٰه،فرنا في منازلنا،ولا تدعنا إلى بيعة يزيد الخمور،ويزيد الفهود،ويزيد القرود.ثم وثب عبد الرحمن بن أبي بكر مغضبة،فصار إلى منزله.

وأرسل معاوية إلى عبد اللّه بن عمر بن الخطاب فدعاه وقال: يا عبد اللّه! عهدي بك وأنت تكره الفرقة وتقول: ما أحب أن أبيت ليلة وليس علي أمير، وإني أحذرك أن تشق العصا أو أن تسعى في الأرض الفساد، وإن الناس قد استوسقوا وبايعوا ابني يزيد غيركم أيتها الرهط. فقال له عبد اللّه : يا معاوية! أما من كان من قبلك أئمة ولهم أبناء وليس ابنك بأفضل من أبنائهم غير أنهم اختاروا لأنفسهم الخيار حيث أنهم علموه، وقد حذرتني الشقاق ولم أكن شاقا لأحد غير أني سمعتك تذكر بيعة قد سبقت وعهدا قد أكد وليس لك عندي خلاف، فإذا اجتمع الناس على ابنك يزيد لم أخالف، وإن تفرقوا فإني متوقف حتى يجتمعوا على رجل فأكون كواحد من المسلمين. فقال له معاوية: نعم ما قلت يا ابن عمر، قم واحذر أهل الشام.

ثم دعا ابن الزبير، فلما دخل ونظر إليه معاوية تبسم ثم قال: رواغ، كلما سد عليه جحر خرج من آخر، يا ابن الزبير! إنك قد عهدت إلى هؤلاء الثلاثة فنفخت في مناخيرهم وحملتهم على غير رأيهم(أي أنت المحرض لهم على عدم البيعة ليزيد)وذلك أن الناس قد استوسقوا في هذه البيعة غيركم أيها النفر، فاتق اللّه يا ابن الزبير! ولا تكن مشاقا قاطعا.

ص: 480

فقال عبد اللّٰه بن الزبير:واللّٰه ما في شقاق یا معاوية،فلا تبن فيناأساسا لنفسك، والزم ما كان عليه السلف الصالح من أخيار المسلمين، ولا يكن الأمر إلا بشورى بينهم، فإن الإسلام يرد على موارده، فإن أبيت ذلك وقد مللت هذا الأمر فاعتزل وهات ابنك حتى نبايعه، واعلم يا معاوية أن خلافة اللّه في أرضه وخلقه وخلافة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في أمته عظيمة، وأن اللّه تبارك وتعالى عنهما مسائلك، والذي يحاجك في القيامة غدا رسوله صلّى اللّه عليه وسلم فانظر لنفسك يا معاوية قبل أن ينظر لها سواك. فقال معاوية: يا هذا ! أمسك عليك لسانك واحذر أهل الشام، فإذا خلوت بي فقل ما أحببت فإني محتمل لك.

قال: فانصرف عبد اللّه بن الزبير إلى منزله، وأقام معاوية في مكة أياما، ثم أمر لقريش بجوائز ولم يأمر لبني هاشم بشيء، فكلمه ابن عباس في ذلك وقال:

إنك قد أعطيت بطون قريش الأموال ولم تعط بني هاشم فلم ذلك يا معاوية؟ فقال معاوية: لأن صاحبكم الحسين بن علي أبي عليّ أن يبايع يزيد، فقال ابن عباس:

إنه قد أبى غير الحسين فأعطيته فقال معاوية: صدقت يا ابن العباس! ولستم عندي كغيركم، فقال ابن عباس: واللّه لئن لم تفعل وترض بني هاشم لألحقن بساحل من سواحل البحر ثم لأنطقن بما تعلم ولأتركن الناس عليك خوارج. قال: فتبسم معاوية وقال: بل يعطون ويكرمون ويزادون أبا محمد! قال: ثم أمر معاوية لبني هاشم بجوائز سنية، فكل قبل جائزته إلا الحسين بن عليّ، فإنه لم يقبل من ذلك شيئا.

المؤامرة الأخيرة قبل الخروج من مكة

حتى إذا أراد معاوية الخروج عن مكة،أمر بالمنبر فقترب من الكعبة،ثم أرسل إلى الحسين (علیه السلام)،وابن عمر،وابن أبي بكر،وابن الزبير،فأحضرهم إلى مجلسي، ثم أقبل عليهم فقال:إنكم قد علمتم نظري لكم،وصلتي أرحام،ويزيد أخوكم، وابن عمكم،وإني أرد أن قدموه باسم الخلافة،وتكونوا بعير ذلك أنثم الذين تأمرون وتنهون.

فقال له ابن الزبير:يا معاوية،إنا خيرك خصالا ثلاثا،فاختر منها أيته شئت،فهي لك صلاح.

قال معاوية:وما ذاك يا ابن الزبير؟قال:إن شئت فاصنع كما صنع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)إنه خرج من الدنيا ولم

ص: 481

يستخلف(1) ،ثم اختار الناس من بعده أبا بكر الصديق فجعلوه خليفة، فافعل أنت ذلك إلى أن يقضي اللّه فيك أمره فيختار الناس لأنفسهم كما اختاروا أبا بكر، فقال معاوية: إنه ليس فيكم اليوم مثل أبي بكر، وإني لا آمن عليكم الاختلاف. قال ابن الزبير: فاصنع كما صنع أبو بكر، إنه ترك ولده ورهطه الأدنين ممن كان للخلافة أهلا وعهد إلى رجل من قاصية قريش فجعلها في عمر بن الخطاب، فجنبها أنت أيضا ابنك واجعلها فيمن شئت من قريش ما خلا بني عبد شمس(=الأصل الذي ينحدر منه بنو أمية).وإن شئت فاصنع كما صنع عمر بن الخطاب، أن جعلها شورى في ستة نفر من الصحابة يختارون لأنفسهم رجلا وترك ولده وأهل بيته، وفيهم من لو وليها لكان لها أهلا.

فقال معاوية: فهل من شيء غير هذا يا بن الزبير؟

فقال: ما عندي لها رابعة.

فقال معاوية للثلاثة الباقية: ما تقولون أنتم؟

فقالوا: نحن على ما قال ابن الزبير(2) .

فقال معاوية:فإني أريد أن أرحل عن مكة،غير أني عزمت أن أتكلم على المنبر بكلام،والمبقي في ذلك الوقت إنما يبقي على نفسه من أهل الشام،وأنتم أعلم،وقد أعذر من أنذر.

فانصرف القوم إلى منازلهم،فلما كان من الغد،خرج معاوية،وأقبل حتى دخل المسجد(الحرام)،ثم صعد المنبر،فجلس عليه،ونودي له في الناس،فاجتمعوا إليه.وأقبل الحسين بن علي (علیه السلام)،وابن أبي بكر،وابن عمر،وابن البير،حتى جلسوا إلى المنبر،ومعاوية جالس،حتى علم أن الناس قد اجتمعوا،فوثب قائمة على قدميه،فحمد اللّٰه وأثنى عليه،ثم قال:

أيها الناس،إنا قد وجدنا أحاديث الناس ذات عوار(=تتضمن كلاما معيبة)، وإنهم قد زعموا أن الحسين بن علي وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد اللّه بن عمر

ص: 482


1- لاحظ أن هذا الادعاء كانت تكرره مدرسة عبد اللّٰه بن الزبير-لترسخ منطق السقيفة والخلافة في بطون قريش الضعيفة-لكن الأمر أنقلب عليهم الآن،وسيستخدمه معاوية ذريعة لاستخلاف یزید
2- وبالتالي لسان حال الإمام الحسين (علیه السلام):إن اضطرنا بالأمس إلى القبول بمنطق السقيفة حفاظا على بيضة الإسلام،فلن نقبل اليوم مطلقا منطق الحكم الملكي الوراثي الذي يصادر رأي الناس-بعدما ودر منطق النص الإلهي-لياتي بأمثال يزيد إلى أرفع واخطر مقام،خلافة المسلمين

و عبد اللّه بن الزبير لم يبايعوا يزيد، وهؤلاء الرهط الأربعة هم عندي سادة المسلمين وخيارهم، وقد دعوتهم إلى البيعة فوجدتهم إذا سامعين مطيعين، وقد سلموا وبايعوا وسمعوا وأجابوا وأطاعوا .

فضرب أهل الشام بأيديهم إلى سيوفهم فسلوها ثم قالوا: يا أمير المؤمنين! ما هذا الذي تعظمه من أمر هؤلاء الأربعة؟ ائذن لنا أن نضرب أعناقهم فإنا لا نرضى أن يبايعوا سرا ولكن يبايعوا جهرا حتى يسمع الناس أجمعین.

فقال معاوية: سبحان اللّه! ما أسرع الناس بالشر وما أحلى بقاءهم عندهم! اتقوا اللّه يا أهل الشام ولا تسرعوا إلى الفتنة، فإن القتل له مطالبة وقصاص.

(يقول الراوي)فبقي الحسين بن علي وابن أبي بكر وابن عمر وابن الزبير حيارى لا يدرون ما يقولون، يخافون إن يقولوا: لم نبايع، الموت الأحمر تجاه أعينهم في سيوف أهل الشام أو وقوع فتنة عظيمة فسكتوا ولم يقولوا شيئا ، ونزل معاوية عن المنبر، وتفرق الناس وهم يظنون أن هؤلاء الأربعة قد بايعوا. قال: وقربت رواحل معاوية فمضى في رفاقه وأصحابه إلى الشام.

وأقبل أهل مكة إلى هؤلاء الأربعة فقالوا لهم: يا هؤلاء! إنكم قد دعيتم إلى بيعة يزيد فلم تبايعوا وأبيتم ذلك، ثم دعيتم فرضيتم وبايعتم!

فقال الحسين (علیه السلام): لا واللّه ما بايعنا! ولكن معاوية خدعنا وكادنا ببعض ما كادكم به. ثم صعد المنبر وتكلم بكلام، وخشينا إن رددنا مقالته عليه أن تعود الفتنة جذعة(=إلى بدايتها)،ولا ندري إلى ماذا يؤول أمنا؟فهذه هي قصنا معه(1) .

أقول:أسجل تحفظي على بعض ما جاء في رواية ابن الأعثم،والتي بدأ بسردها عند عنوان«معاوية في مكة»،وأرى فيها ما يدل على أنها صدرت من راو ينتمي لمدرسة عبد اللّٰه بن الزبير.

وفي رواية أخرى لابن الأثير:لما كان آخر أيام معاوية في مكة،أحضر الأربعة، وقال لهم:إني أحببت أن أتقدم إليكم،إنه قد أعذر من أنذر،إني كن أخطب فيكم، فيقوم إلى القائم منگم فيك بني على رؤوس الناس،فأحمل ذلك وأصفح.وإني قائم

ص: 483


1- ابن اعثم الكوفي،الفتوح،مج2،ص54-59،انظر أيضا:ابن عبد ربه الأندلسي،العقد الفريد،ج4،ص371-372

بمقالة،فأقسم باللّٰه لئن رد علي أحدكم كلمة في مقامي هذا،لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها الشيف إلى رأسه،فلا يبقي رجل إلا على نفسه!

ثم دعا صاحب حرسه بحضرتهم فقال:أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلین، ومع كل واحد سيف،فإن ذهب رجل منهم يرد على كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفهما!ثم خرج وخرجوا معه،حتى أتى المنبر،فحمد اللّٰه وأثنى عليه، ثم قال:إن هؤلاء الرهط ساده المسلمين وخيارهم،لا يبتر أمر دونهم،ولا يقضى لا عن مشورتهم،وإنهم قد رضوا وبايعوا یزید! فبايعوا على اسم اللّٰه!فبايع الناس(1) .

معاوية يعود إلى الشام

ثم رحل معاوية،فلما صار بالأبواء(رب المدينة)مرض،حتى صار إلى الشام، فاشتد عليه مره،وكان في مرضه يرى أشياء لا تشره،حتى كان ليهذي هذیان المدنف......وينادي بأعلى صوته:مالي ومالك يا حجر بن عدي،مالي ومالك يا عمرو بن الوق،مالي ومالك يا ابن أبي طالب(2).

وكتب الطبري:قال ابن سيرين:فبلغنا أنه لما حضرته الوفاة(أي معاوية)،جعل يغرغر بالصوت ويقول:يومي منك يا حجر يوم طويل(3).

وروى أبو مخنف عن الصقعب بن زهير عن الحسن(البصري)قال:أربع خصال كئ

في معاوية،لو يكن فيه منه إلا واحدة لكانت موبقة.

1)انتزاؤه على هذه الأمة بالشفهاء حتى ابتها أمرها بغير مشورة منهم وفيهم بقایا الضحابة وذوو الفضيلة.

2)واستخلاه ابنه بعده كیرة خميرة يلب الحرير ويضرب بالطنابير.

3)وادعاؤه زيادة وقد قال رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):الولد للفراش وللعاهر الحجر.

4)وقتله حجرة،ويلا له من حجر وأصحاب حجر،مرتین(4)

ص: 484


1- راضي آل یاسین،صلح الحسن (علیه السلام)،ص312
2- ابن اعثم الكوفي، الفتوح، مج2، ص 60 - 61.
3- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 191.
4- المصدر السابق، ج 4،ص 208.

وقفة مع الشخصيات الأربع

اقترنت نقطة بدء حركة الإمام الحسين (علیه السلام) ضد خلافة يزيد بحركة عبد اللّٰه بن الزبير،فكلا الحركتين تبدآن في60هج،مع بعث الولید بن عتبة بن أبي سفيان والي المدينة إلى كل من:الحسين بن علي (علیه السلام) وعبد اللّٰه بن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر(1) وعبد اللّٰه بن عمر،يطلب منهم البيعة ليزيد،بناء على رسالة وردت من الأخير يطلب من ابن عتبة أن يأخذ هؤلاء الأربعة أخذا عنيفا ليس فيه رخصة،ومن أبي عليه منهم أن يضرب عنقه ويبعث إليه برأسه(2) .

أما عبد الرحمن فكان-كما عرفنا-قد مات بيل أو بعید خروج معاوية من مكة متجهة إلى الشام،وأما عبد اللّٰه بن عمر فقد آثر الاعتزال والتكيف مع الأمر الواقع،والتحدي الحقيقي الذي كان يواجه يزيد يتمثل في الإمام الحسین (علیه السلام)، ممثل بني هاشم،وعبد اللّٰه بن الزبير،ممثل بطون قريش الضعيفة.وإن اختلفت حركة عبد اللّٰه بن الزبير عن حركة الإمام الحسين (علیه السلام) في نقطة النهاية.فقد حققت حركة ابن الزبير ابتداء من63هج وبيل موت یزید(3) نجاحات تمئلت بتأسيس دولة،امتدت إلى كل أرجاء العالم الإسلامي آنذاك باستثناء الشام ومصر، واستمرت ما يقرب من عشر سنوات،قبل أن تنتكس بمحاصرة مكة وضرب الكعبة بالمنجنيق،ثم قتل عبد اللّٰه الزبير وصلبه منكوسة لمدة ثلاثة أيام في73هج.

المرشح الوحيد لخلافة معاوية،بناء على الصلح الذي عقد بين الإمام الحسن (علیه السلام)ومعاوية،فضلا عن النص الإلهي،كان هو الإمام الحسين (علیه السلام).لكن وفقا للمعايير الميدانية كان هناك أربعة مرشحين للخلافة،وهم الأربعة الذين رزترسالة يزيد على أخذ البيعة منهم،فعبد الرحمن هو ابن الخليفة الأول(وقد توفي قبيل استلام يزيد الشلطة كما تذكر بعض المصادر)،وعبد اللّٰه هو ابن الخليفة الثاني،والحسين (علیه السلام) هو ابن الخليفة الرابع،وعبد اللّٰه بن الربير هو ابن المرشح المنافس للخليفة الثالث والمتمرد على

ص: 485


1- عبد الرحمن بن أبي بكر كان قد توفي بطريقة مريبة،لكن يبدو أن يزيد لم يكن على علم بذلك،أو أنه من خطا المؤرخين،خصوصا أن بعض المصادر تشير إلى أن المطالب بأن يؤخذ بالبيعة أخذة شديدة هم ثلاثة فقط،وفي بعضها اثنان فقط،الإمام الحسين (علیه السلام) وابن الزبير
2- أحمد بن اعثم،الفتوح،مج2،ص75
3- نوفي يزيد بن معاوية في64هج

الخليفة الرابع.وأخذ البيعة ليزيد من هؤلاء يعني استقرار حكم بني أمية الوراثي بشكل تام،وذلك من خلال إمضاء منافسيه وقبولهم إياه.

وكان معاوية قد لفت انتباه يزيد إلى هؤلاء الأربعة في وصيته قائلا له:«واعلم يا بني أني أخاف عليك من هذي الأمة أن ينازع في هذا الأمر الذي قد رفع لك قواعده خصوصا أربعة نفر من قريش منهم:عبد الرحمن بن أبي بكر،وعبد اللّٰه بن عمر، وعبد اللّٰه بن البير،وشبيه أبيه الحسين بن علي»(1).

وكان معاوية-المعروف بدهائه السياسي-قد تنبأ بأن الذي سيمثل تهديدا حقيقيا الخلافة ابنه يزيد هما الأخيران.لأن عبد الرحمن بن أبي بكر وفقا لرأي معاوية«إذا صنع أصحابه شيئة صنع مثلهم،وإن لم يصنعوا أمسك،وهو رجل همه النساء،ولذة الدنيا»(2)لذا أوصى معاوية يزيد قائلا:«فذره یا بني وما يريد،ولا تأخذ عليه في شيء من أمره،فلقد علمت ما لأبيه من الفضل على هذه الأمة،وقد يرعی زمام الوالد في ولده».

وكذلك عبد اللّٰه بن عمر،لا يشكل تهديدا جديا ليزيد،لأنه وفقا لتشخيص معاوية رجل صدق قد توش من الناس وأنس إلى العبادة ورضي بالوحدة،فترك الدنيا وتخلى منها،فهو لا يأخذ منها شيئا،وإنما تجارته من هذه الدنيا كتجارة أبيه عمر بن الخطاب»(3).وينسجم هذا مع نصيحة عبد اللّٰه بن عمر للإمام الحسين (علیه السلام) بعد ذلك،عندما هم بالخروج من مكة،بأن بايع يزيد(4).إذن التهديد يأتي من الأخيرين،عبد اللّٰه بن الزبير والحسين بن علي (علیه السلام).

التدقق في عبارات معاوية التي تصف كلا منهما،يقول:«وأما عبد اللّٰه بن الزبير، فما أخوفني أنك تلقى منه عنتا،فإنه صاحب خلل في القول وزلل في الرأي وضعف في النظر،مفرط في الأمور مقصر في الحقوق،وإنه سيجثو لك كما يجثو الأسد في عرينه،ويراوغك رواع الثعلب،فإذا أمكنته من فرصة،لعب بك كيف شاء، فكن له يا بني كذلك،واجزه صاعة بصاع،واحذو حذو النعل،إلا أن يدخل لك في الصلح والبيعة والتوبة فأقمه على ما يريد.

ص: 486


1- أحمد بن اعثم، الفتوح، مج 2، ص 66. راجع أيضا: الطبري، تاريخالأمم والملوك، ج4، ص 238 - 239.
2- أسلم عبد الرحمن بن أبي بكر يوم فتح مكة، وشهد بدرة وأحدة مع كفار قريش، وشهد معركة الجمل إلى صف أخته عائشة، كان له شعر في الجاهلية والإسلام يتغل فيه بالنساء
3- أحمد بن اعثم، الفتوح، مج 2، ص 66.
4- المصدر السابق، مج 2، ص 50 - 60.

ثم ينتهي إلى الإمام الحسين (علیه السلام) فيقول:«وأما الحسين بن علي فاواه اواه يا يزيد ماذا أقول لك فيه ، فاحذر أن لا يتعرض لك ومد له حبلا طويلا وذره يضرب في الأرض حيث شاء ولا تؤذه ولكن أرعد له وأبرق ، وإياك والمكاشفة له في محاربة بسلّ سيف أو محاربة طعن رمح ، ثم أعطه ووقّره وبجّله ، فإن جاءك أحد من أهل بيته فوسع عليهم وأرضهم ، فإنّهم أهل بيت لا يرضيهم إلاّ الرضا ، ولا يسعهم إلاّ المنزلة الرفيعة وإياك يا بني أن تلقى اللّه بدمه فتكون من الهالكين »(1) .

وسواء صحت الرواية التاريخية التي تسرد وصية معاوية لابنه يزيد،أو لم تصح،فإن الأحداث اللاحقة ستؤكد أن التهديد الحقيقي الذي واجهه يزيد إيان كما كان محصورة في الإمام الحسين (علیه السلام) وعبد اللّٰه بن الزبير.وبعبارة أخرى من بني هاشم(ويمثلهم الإمام الحسين (علیه السلام))،وقريش ببطونها الضعيفة(القبيلة الأم العجوز التي يحاول عبد اللّٰه بن الزبير أن یرث أطلالها).

ص: 487


1- المصدر السابق،مج2،ص66-67

خاتمة

نستطيع أن نستخلص من هذه الرحلة الطويلة-الملأى بالمواقف المشرفة والبطولات من ناحية،والمواقف المؤلمة والمخزية من ناحية أخرى-أنا في كل مرحلة نجد طرفة ما يمثل قریشة؛ففي البدء كان الملا الذي يكيد رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في مكة يمثل قریشة،وعلى وجه الخصوص بنو أمية بطن قريش القوي.وبعد فتح مكة وانكسار شوكة هذا الملا،ووفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،صار وجهاء المهاجرين(بطون قريش الضعيفة)هم واجهة قريش.وأجمعت قريش على إقصاء بني هاشم والأنصار من مركز صنع القرار....جرى الأمر على هذا النحو في خلافة أبي بكر وعمر.

كان يترقب من عثمان أن يكون واجهة لقريش،كما كان الأول والثاني،لكنه آثر-في النصف الثاني من خلافته-أن يكون ممثلا لمصالح بني أمية خاصة... فانقسمت قریش على نفسها إلى قسمين:من تبقى من وجهاء المهاجرين(امتداد الخليفة الأول والثاني)،وبنو أمية(أنصار الخليفة الثالث).وبعد مقتل عثمان،حارب القسم الأول الإمام علية (علیه السلام) في الجمل،وحارب القسم الثاني الإمام عليا (علیه السلام) في معركة صفين.

إقريشا عدوة الإسلام ورسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)بالأمس،خرجت من الباب،ودخلت من النافذة مجددة.كانت قريش تدرك أنه ليس بمقدورها الدخول إلى الدائرة الضيقة القادرة على صنع القرار بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،لأن هذه الدائرة كانتمحصورة ببني هاشم من ناحية،ووجهاء المهاجرين من ناحية ثانية،والأنصار من ناحية ثالثة.

الواجهة الأقرب إليها، التي يمكن الدخول من خلالها إلى الدائرة الضيقة بالتدريج،هم وجهاء المهاجرين.فالإمام علي (علیه السلام) مستبعد،لأنه وتر قریشة بالأمس،وإن وصل إلى سدة الخلافة،من خلال إجماع المهاجرين والأنصار،فهذا يعني أن الخلافة لن تخرج من بني هاشم إلى قريش أبدا،إذن لا بد أن تتكاتف جميع بطون قریش لإقصاء بطن قريش القوي بني هاشم.والأنصار هم قحطانيون، غير جديرين بالخلافة،والعرب لا تدين إلا لرجل من قريش...والأنصار هم أعداء قريش،لأنهم وقروا الحماية لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وأيديهم ملطخة بدماء القرشيين بدر وأحد.....إذن لا يوجد متنفس لقريش

ص: 488

إلا وجهاء المهاجرين،فهم من قریش،وملفهم في نظرها-مقارنة بملف الإمام

علي غل والأنصار-أبيض نسبية.

على هذا الأساس،ستوفر قریش لوجهاء المهاجرين الدعم والمساندة والحماية الخلفية،وتقوي شوكتهم فيما لو أصر بنو هاشم والأنصار على منعهم من الوصول إلى ماربهم.في المقابل،وجهاء المهاجرين ظنوا أن بإمكانهم السيطرة على وضع قریش،وأن بني أمية لن يجرؤوا على الدخول إلى مركز صنع القرار، لأنهم من اللقاء الذين لا تحل لهم الخلافة.وظنواأيضا أن بإمكانهم أن يستقووا عند الحاجة ببني هاشم والأنصار التحجيم قوة قريش وبني أمية)فيما لو أرادت أن تنفلت من عقالها.فوجهاء المهاجرين،إذن،يستقرون بقريش لمواجهة بني هاشم والأنصار،ويستقوون ببني هاشم والأنصار الضبط قریش.

على ضوء ذلك،بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،باتت مصالح وجهاء المهاجرين مع قریش متبادلة،وجهاء المهاجرين أصبحوا هم واجهة قريش،التي ستدخل من خلالهم إلى الدائرة الضيقة،وقريش بدورها سؤمن الحماية الخلفية لوجهاء المهاجرين في قبال منافسيهم من بني هاشم والأنصار.

واستمرت المعادلة على هذا النحو،حتى حصل تحول تدريجي في خلافة عثمان،وانقلاب تدريجي،من بني أمية-بطن قريش القوي-على وجهاء المهاجرين وقريش عموما،وبدأت الأمور تخرج عن السيطرة.فأرادت قريش-ممثلة بوجهاء المهاجرين-أن تعيد الأمور إلى نصابها فشاركت في التحريض على عثمان الأموي.لكن النتيجة كانت الغير مصلحتها،حيث اتجه الثوار نحو الإمام علي (علیه السلام) وبايعوه.

وجدت قریش نفسها مضطرة تحت ضغط الجو العام لمبايعة الإمام علي (علیه السلام).بعد ذلك أرادت قريش-ببطونها الضعيفة-تعديل الميزان لمصلحتها،فنكتت بيعتها الإمام علي (علیه السلام)،وحاربته من خلال طلحة والزبير وابنيهما مع عائشة،وكانت نتيجة معركة الجمل انكسار قریش،فخلا الجو لمعاوية الأموي.

هنا مرة أخرى،وجد الإمام علي (علیه السلام) نفسه مدفوعة لحرب قریش-ممثلة هذه المرة بمعاوية وبني أمية بطن قريش القوي-في صفين،وانتهى الأمر إلى التحكيم ثم ظهور الخوارج،الذي ساعد على تماشك جیش معاوية،وزاد من تفك جيش علي،فورث الإمام الحسن (علیه السلام) تركة ثقيلة،ووضعة مهله واضطر للمملح مع معاوية.فاستتب الأمر لمعاوية(بنو أمية)،وكان الخاسر هم قریش عموما(بنو هاشم ومن تبقى من وجهاء المهاجرين وأبنائهم).

ص: 489

وكان الانقلاب السافر والحقيقي لمعاوي(بنو أمية)على قريش(الممثلة ببني هاشم ومن تبقى من وجهاء المهاجرين وأبنائهم)،بل انقلابه السافر على المسلمين عموما،عندما بدأ بالتمهيد لتوريث الشلطة ليزيد.هنا ثارت ثائرة قريش والأنصار،لأن أمر الخلافة بات محصورة بفرع محدود من قريش،وهم بنو أمية،اللقاء وأبناء اللقاء.

وصار الظرف مناسبة للإمام الحسين (علیه السلام) لكي يتحرك،وهو المرشح الأول للخلافة بعد معاوية،طبقا لطلح الإمام الحسن (علیه السلام)مع معاوية،فضلا عن النص الإلهي.

حاول معاوية إزاحة كل من يقف أمام وصول يزيد إلى الشلطة من قریش،ابتداء بتسميم عبد الرحمن بن خالد في الشام،مرورا بتسميم الإمام الحسن (علیه السلام) على ما هو ثابت تاريخية،وتسميم سعد بن أبي وقاص على ما قيل.

ولم يبق أمامه إلا أربعة..استطاع قبيل موته التخلص من أحدهم وهو عبد الرحمن ابن أبي بكر،وتحييد ثان،وهو عبد اللّٰه بن عمر،ولم يمهله الأجل للتخلص من اثنين،هما الحسين بن علي (علیه السلام)،المرشح الأول للخلافة،والعقبة الكأداء أمام يزيد،وعبد اللّٰه ابن الزبير،مرشح قريش الحريص على الوصول إلى السلطة.

المضحك المبكي في الأمر،أن الدماء التي أراقها الإمام على (علیه السلام)لكفار قريش في معركة بدر،سيقوم يزيد بالثار لها في كربلاء بسفك دم الإمام الحسين (علیه السلام) وأصحابه.والفتنة الكبرى التي أدت إلى مقتل عثمان عطشانة،موظف في كربلاء لقتل الإمام الحسین (علیه السلام) عطشانة مع أصحابه!

ص: 490

الملحق رقم(1)

قائمة بأسماء قتلى أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) في معركة بدر الكبرى

1-الوليد بن عتبة بن ربيعة(ذكره المفيد في إرشاده،وابن هشام في سيرته، والواقدي في مغازيه).

2-العاص بن سعید بن العاص(ذكره المفيد في إرشاده،وابن هشام في سيرته، والواقدي في مغازيه).

3-طعيمة بن عدي بن نوفل(ذكره المفيد في إرشاده،وابن هشام في سيرته). 4-نوفل بن خویلد بن أسد(ذكره المفيد في إرشاده، وابن هشام في سيرته، والواقدي في مغازيه).

5-زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد(ذكره المفيد في إرشاده،وقال ابن هشام في سيرته:اشترك

فيه حمزة وعلي بن أبي طالب وثابت،وقال الواقدي في مغازيه:عقيل بن الأسود بن المطلب،قتله حمزة وعلي،شركا في قتله،وحدثني أبو معشر قال قتله علي وحده).

6-الحارث بن زمعة(ذكره المفيد في إرشاده،قال الواقدي:الحارث بين ربيعة قتله علي بن أبي طالب)

7-النضر بن الحارث بن عبد الدار(ذكره المفيد في إرشاده،وابن هشام في سيرته،وقال الواقديفي مغازيه:قتله علي بن أبي طالب صبرة بالسيف بالأثيل بأمر النبي).

8-عمير بن عثمان بن عمرو بن كعب بن تیم(ذكره المفيد في إرشاده،ابن هشام في سيرته،والواقدي في مغازيه).

9-عثمان بن عبيد اللّٰه بن عمرو بن كعب بن تیم(ذكره المفيد في إرشاده).

10-مالك بن عبيد اللّٰه بن عمرو بن كعب بن تیم(ذكره المفيد في إرشاده).

11-مسعود بن أبي أمية بن المغيرة(ذكره المفيد في إرشاده،وابن هشام في سيرته).

12-قيس بن الفا كه بن المغيرة(ذكره المفيد في إرشاده،وقال ابن هشام في سيرته:قال ابن إسحاق:وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة،قتله علي بن أبيطالب). 13-حذيفة بن أبي حذيفة بن المغيرة(ذكره المفيد في إرشاده).

14-أبو قيس بن الوليد بن المغيرة(ذكره المفيد في إرشاده،والواقدي في مغازيه).

15-حنظلة بن أبي سفيان(ذكره المفيد في إرشاده،والواقدي في المغازي،وقال ابن هشام في سيرته:اشترك فيه حمزة وعلي وزيد بن حارثة).

16-عمرو بن مخزوم(ذكره المفيد في إرشاده).

ص: 491

17-أبو المنذر بن أبي رفاعة(ذكره المفيد في إرشاده).

18-منبه بنالحجاج السهمي(ذكره المفيد في إرشاده،وابن هشام في سيرته، قال الواقدي:قتله أبو اليسر،ويقال علي...وثبیه بن الحجاج،قتله علي بن أبي طالب).

19-العاص بن منبه(ذكره المفيد في إرشاده،والواقدي في مغازيه).

20-علقمة بن كلدة(ذكره المفيد في إرشاده).

21-أبو العاص بن قيس بن عدي(ذكره المفيد في إرشاده،وابن هشام في سيرته،قال الواقدي:قتله أبو دجانة،وحدثني أبو معشر عن أصحابه قالوا قتله علي بن أبي طالب،وحدثني حفص بن عمر ابن عبد اللّٰه بن جبير مولي علي (علیه السلام) بذلك).

22-معاوية بن المغيرة بن أبي العاص(ذكره المفيد في إرشاده).

23-لوذان بن ربيعة(ذكره المفيد في إرشاده).

24-عبد اللّٰه بن المنذر بن أبي رفاعة(ذكره المفيد في إرشاده،وابن هشام في سيرته،قال الواقدي في مغازيه:عبد اللّٰه بن أبي رفاعة،قتله علي بن أبي طالب).

25-مسعود بن أمية بن المغير(ذكره المفيد في إرشاده،قال الواقدي في مغازيه:ومن بني أمية بن المغيرة،مسعود بن أبي أمية،قتله علي بن ابي طالب).

26-حاجب بن السائب بن عویمر(ذكره المفيد في إرشاده،وابن هشام في سيرته،قال الواقدي:حاجز بن السائب بن عويمر بن عائذ،قتله علي بن أبي طالب).

27-أوس بن المغيرة بن لوذان(ذكره المفيد في إرشاده،قال ابن هشام في سيرته:أوس بن معير بن الوذان بن سعد بن جمح،قتله علي بن أبي طالب، قال الواقدي في مغازيه:أوس بن المعير بن الوذان،قتله عثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب،شركا فيه).

28-زید بن مليص-مولی عمیر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار(ذكره المفيد في إرشاده،والواقدي في مغازيه).

29-عاصم بن أبي عوف(ذكره المفيد في إرشاده).

30-سعيد بن وهب-حليف بني عامر(ذكره المفيد في إرشاده) .

31-معاوية بن عامر بن عبد القيس(ذكره المفيد في إرشاده،وابن هشام في سيرته).

32-عبد اللّٰه بن جميل بن هير بن الحارث بن اسد(ذكره المفيد في إرشاده).

33-السائب بن مالك(ذكره المفيد في إرشاده).

34-أبو الحكم بن الأخنس(ذكره المفيد في إرشاده).

35-هشام بن أبي أمية بن المغيرة(ذكره المفيد في إرشاده).

36-عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس(قال ابن هشام في سيرته:ويقال قتله علي بن أبي طالب).

ص: 492

37-عتبة بن ربيعة بن عبد شمس(قال ابن هشام في سيرته:اشترك فيه هو-أي عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب-وحمزة وعلي).

38-عامر بن عبد اللّٰه(ذكره ابن هشام في سيرته،والواقدي في مغازيه:قتله علي بن أبي طالب).

39-عقيل بن الأسود بن المطلب(قال ابن هشام في سيرته:قتله حمزة وعلي اشترك فيه).

40-حرملة بن عمرو قال ابن هشام في سيرته:قتله...ويقال بل علي بن أبي طالب،قال الواقدي:قتله علي،أصحابنا جميعا على ذلك).

41-شيبة بن ربيعة(قال الواقديفي مغازيه:قتله عبيدة بن الحارث،وذقف عليه حمزة وعلي).

42-زید بن تميم التميمي(قال الواقدي:قتله عمار بن یاسر...ويقال علي (علیه السلام)).

المصادر

-الواقدی،المغازي،تحقيق د.مارسدن جونس،مكتب الإعلام الإسلامي1414، 14هج،ج1،ص147-152.

-ابن هشام،السيرة النبوية،المكتبة العصرية،بیروت،2004،ج2،ص318-325.

-المفيد،الإرشاد،تحقيق مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث،یروت،ط1، 1995،ج1،ص70-72.

ص: 493

الملحق رقم(2)

قائمة بأسماء قتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) في معركة أحد.

1-طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزی بن عثمان بن عبد الدار بن قصي.وهو حامل لواء مشركي قریش،وكبش الكتيبة الذي رآه رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في رؤيا قبيل المعركة(ذكره المفيد في إرشاده.والواقدي في مغازيه،وابن هشام في سيرته)

2-أبو سعد بن طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزی بن عثمان بن عبد الدار(ذكره المفيد في إرشاده،:قال ابن هشام:أبو سعید بن طلحة...ويقال قتله علي بن أبي طالب).

3-كلدة بن طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزی بن عثمان بن عبد الدار(ذكره المفيد في إرشاده).

4-عبد اللّٰه بن حميد بن زهرة بن الحارث بن أسد بن عبد العزى(ذكره المفيد في إرشاده،وابن هشام و في سيرته).

5-أبو الحكم بن الأخنس بن شریق(ذكره المفيد في إرشاده،والواقدي في مغازيه،وابن هشام في سيرته).

6-الوليد بن أبي حذيفة بن المغيرة(ذكره المفيد في إرشاده).

7-أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة:(ذكره المفيد في إرشاده،والواقدي في مغازيه،قال ابن هشام فيسيرته:أبو أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة،قتله علي بن أبي طالب).

8-أرطاة بن عبد شرحبيل(ذكره المفيد في إرشاده،والواقدي في مغازيه،وقال ابن هشام في سيرته:...ويقال قتله علي بن أبي طالب).

9-هشام بن أمية(ذكره المفيد في إرشاده).

10-عمرو بن عبد اللّٰه الجمحي(ذكره المفيد في إرشاده).

11-بشر بن مالك(ذكره المفيد في إرشاده).

12-صواب مولى بني عبد الدار(ذكره المفيد في إرشاده).

13-شریح بن قارظ(ذكره ابن هشام في سيرته وقال:على قول).

ص: 494

المصادر

الواقدي،المغازي،تحقيق د. مارسدن جونس،مكتب الإعلام الإسلامي،414هج،ج1،ص307-309.

-ابن هشام،السيرة النبوية،المكتبة العصرية،بیروت،2004،ج3،ص119-120.

-المفید،الارشاد،تحقیق مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث،بیروت،ط1،1995، ج3ص90-91.

ص: 495

المؤلف في سطور

•و من مواليد دولة الكويت1967(387 نهج).

•بدأ في1986(406 1هج)بدارسة بعض مقدمات العلوم الدينية في الكويت،ثم

انتقل لمواصلة الدراسة إلى الحوزة العلمية في قم المقدسة في1987(407 1هج).

•أنهى مرحلة السطوح،وحصل على البكالوريوس في العلوم الدينية من المركز

العالمي للدراسات الإسلامية(جامعة المصطفى العالمية حاليا)في قم في 2002(1423هج).

•بموازاة تحصيله العلوم الدينية،شرع بالدراسة الأكاديمية،فحصل على الليسانس من جامعة بيروت العربية في الفلسفة وعلم النفس في1993 (1413هج).

•حصل على الماجستير من جامعة الكويت في فلسفة المنطق في1999 (1419هج).

•حصل على درجة الدكتوراه من جامعة سندرلاند بالمملكة المتحدة في فلسفة المنطق وعلم المعرفة في 2006 (427 1هج).

تناولت الأطروح:منطق الاحتمال عند السيد محمد باقر الصدر،مع مقارنة نظريته بالنظريات الغربية المعاصرة.

• إمام مسجد،ومدرس في المجال الأكاديمي والحوزوي.

ص: 496

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.