عنوان و نام پديدآور:خلفیات واقعه کربلاء و شهاده الامام الحسین بن علی علیه السلام [کتاب] : دراسه تاریخیه تحلیله.../مرتضی فرج.
مشخصات نشر:بیروت: موسسه الانتشار العربی، 2011م=1390.
مشخصات ظاهری:496 ص.
شماره کتابشناسی ملی:2876675
ص: 1
ص: 2
ص: 3
خلفيات واقعة كربلاء وشهادة الإمام الحسين بن علي (علیه السلام)
دراسة تاريخية تحليلة تستهدف التنقيب عن جذور واقعة كربلاء والظروف التي أدت لوصول يزيد إلى الشلطة
مرتضی فرج
الانتشار العربي
Arab Diffustion Company
ص: 4
الصورة
ص: 5
الصورة
ص: 6
الصورة
ص: 7
ص: 8
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ،والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيَّدِنا وحبيبِنا محمد (صلی اللّه علیه واله)،وعلى آله الطيَّبين الطاهرين،وصحبه المنتجبين.
الكتاب الذي بين يديك هو حصيلة سلسلة منُقَّحة وموثَّقة من محاضرات تم إلقاؤها خلال ثلاث دورات متتالية،ابتداء من محرم1429إلى1431هج.
هذه المحاضرات استهدفت الحفر والتنقيب عن جذور وخلفيات واقعة كربلاء، تمهيدا لدراسة أحداثها وتداعياتها.
ولا بد في البدء أن أقول بشكل واضح وصريح أني لم أستهدف في هذه المحاضرات جرح مشاعر أخواننا وأحبائنا أهل السُنة قط،خصوصاً عندما نرى أن الأعداء يحاولون دق اسفين الفرقة بين السُنة والشيعة،في هذه البرهة من الزمن،بعدما استنفدوا كل ما بوسعهم لمنع أي محاولة لقيام هذه الأمة من جديد.لا بد أن نستذكر أيضاً أنّ الإمام علي (علیه السلام) وضع يدَه بيدأبي بكر،عندما رأی«راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعونَ إلى محق دین محمد (صلی اللّه علیه واله)»(1) ،فالوحدة وحفظ جو الألفة ليسا مطلوبين فحسب، بل هما من أهم الواجبات.
والإمامُ جعفر الصادق (علیه السلام) أوصانا-في روايات متعددة-بضرورة التعايش مع أهل الشنة،فقد روى الصدوق في الفقيه عن زيد الشام عنه (علیه السلام) أنه قال:یا زید، خالقوا الناس بأخلاقهم،صلوا في مساجدهم،وعودوا مرضاهم،واشهدوا جناهم،وإن استطعتم أن تكونوا الأئمة والمؤذَّنين فافعلوا،فإنّكم إذا فعلتّم ذلك قالوا:هؤلاء الجعفرية،رحمَ اللّٰه جعفرة ما كانَ أحسنَ ما يؤدب أصحابَهُ،وإذا تركتم ذلك قالوا:هؤلاء الجعفريَّة،فعل اللّٰه بجعفر ما كان اسوا ما يؤدب أصحابَهُ.
ص: 9
إذن لماذا الحفر والتنقيب الآن عن جذور وخلفيات واقعة حدثت قبل قرون متمادية؟أليس هذا فتحاً ونكاً للجروح؟والجواب أنَّا في الحقيقة بأمس الحاجة لدراسة تاريخنا من
جديد.أولاً لأنَّ الإنسان لا يمكن أن ينفصل عن تاريخِهِ؛ومن ينفصل عن تاريخه بمثابة من يفقد ذاكرتَهُ...فهل يمكن لمن فقدَ ذاكرتَهُ أن يمارس حياتَهّ-في حاضره ومستقبله-على نحو سويّ؟وثانياَ حتى نستفيد ونتَّعظ ونتعلَّم من التاريخ،ونُراكم الخبرات،ولا تكرر أخطاء الماضي في حاضرنا ومستقبلنا.وثالثة حتى نقترب من حقيقة ما جرى قدر الإمكان،واقترابنا من الحقيقة سيدفعنا للوقوف مع طرف،وتحاشي الميل لطرف آخر...فالمرء سُيحاسُب في الآخرة على محبه وبُغضه،وسيُحشر مع من أحبَّ.
إذن نستهدف من هذه المحاضرات أن تعرفَ نحن،ويعرف أبناؤنا:تاريخَنا،ودينَا، ومذهبَنا،وأئمتَنا،وأن نعرِفَ لماذا استشهد الإمام الحسين بن علي (علیه السلام)؟ ولماذا سمحَ المسلمون ليزيد بأن يعتلي سدَّة الحكم؟ما الذي جرى قبل ذلك لنصل إلى-ما وصلنا إليه-يوم كربلاء؟
منهجنا في هذه المحاضرات هو«منهجٍ تاریخيٍ سرديٍ تحليلي».أعني بالمنهج»الطريقة المنظمة التي سار عليها البحث.وأعني به«تاريخ»أنَّ البحث يعتمد على تب التاريخ والسيرة والحديث كوثائق لانتزاع كل المعطيات(الشواهد والقرائن)لمعرفة جذور واقعة كربلاء.وأعني ب«سردي»أنَ البحث يضطرُّ في كثير من الأحيان للاسترسال بسرد وحكاية مجريات الأحداث حسب تسلسل وقوعها.وأعني به«تحليلي»أنَّ البحث يضطر بين فترة وأخرى للتوقف عن سرد وحكاية الأحداث من أجل تحليلها واستكشاف دلالاتها وأبعادها.هذا المنهج السَّردي التَّحليلي،قد یُری كمزيج من منهجين،المنهج الأول يُعبَّر عنه بالمنهج المتحرك عبر الزمنDiachronic،والمنهج الثاني يُعبَّر عنه بالمنهج المتزامنSynchronic.المنهج المُتحرَّك عبرَ الزمن هو المنهج الذي يدرس موضوع البحث من خلال متابعته وملاحقته حسب التَّسلسل اَّزمني لوقوع الأحداث.والمنهج المتزامن هو المنهج الذي يتوقف عند لحظة زمنية معينة ليدرس كل أبعاد ودلالات موضوع البحث ليفهم أعماق الأحداث وتشعب وترابط العلاقات فيما بينها .
إذا أردنا تشبيه ذلك بعلم البيولوجيا،نقول إنا تارة ندرس الكائن الحي من خلال دراسة سیر مراحل تطوره،فنتحدث-مثلاً-عن مرحلة انعقاد النطفة،فالمرحلة
ص: 10
الجنينية،ثم الطفولة،ثم الصبا،ثم المراهقة،فالشباب،ثم الكهولة،ثم الشَّيخوخة...وتارة أخرى نتوَّقف عند مرحلة معيَّنة من مراحل سیر تطوره لندرس ونحفر بعمق للتعرف على خصائص ومعالم هذه المرحلة،فنأخذ خلايا هذا الكائن ونضعها تحت المجهر(الميكروسكوب).
وإذا أردنا تشبیه دورنا في البحث بدور المحقق الجنائي،الذي يعمل كل ما بوسعه الاكتشاف المتورط الحقيقي-أو المتورطين الحقيقيين-في جريمة قتل، وافترضنا أنه توافر لديه مع مساعديه،تصوير لجانب مهم من تلك الجريمة من كاميرا رقمية مثبتة في مكان ما.هنا،عندما يجلس هذا المحقق مع مساعديه لمشاهدة هذا المقطع المصور...سيبدأ هوومساعدوه بمشاهدة المقطع المصور من البداية إلى النهاية،ليتابع ويلاحق تسلل الأحداث.لكن في بعض محطات المقطع المصور قد يشعر بضرورة إيقاف المقطع عند لقطة معينة، وتثبيت التنورة، لدراسة الموقع المكاني لبعض الشخصيات،أو ما يحملونه بأيديهم، أو ما يلبسون،أو لتأمل بعض تعابير الوجه، أو انتزاع رقم لوحة سيَّارة...إلخ.
من خلال هذه الأمثلة،يتَّضح لنا أنَّ دراسة موضوع البحث من خلال ملاحقة تسُلل الأحداث،يكشف عن أبعاد معينة.ودراسة موضوع البحث من خلال التوقف عند مرحلة معينة والحفر فيها بعمق يكشف عن أبعاد أخرى.ومن خلال المزج بين هذين المنهجين نتعرف أكثر على حقيقة موضوع البحث.
هذا ما حاولنا القيام به في هذا البحث.فالأصل في حركتنا هو سرد الأحداث حسب تسلل وقوعها،لكن عند لحظات تاريخية معينة قد نضطر للتوقف لدراسة أبعاد تلك الأحداث وتأمل دلالاتها.فتجد أنا بدأنا البحث من بيل بعثة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وسرنا قليلا ثم توقفنا عند معركة بدر لأهميتها في فهم واقعة كربلاء،ثم سرنا قليلا وتوقفنا عند فتح مكة لأهمية التغيرات التي وقعت في نسيج مجتمع المسلمين،ثم سرنا ببطء عند حجة الوداع مرورا بحادثة غدیر خم وانتهاء بحادثة السقيفة،لندرس بعمق أبعاد ودلالات مجريات أحداث تلك المرحلة.ثم واصلنا الشير وتوقفنا عند حادثة الفتوح الكبرى في خلافة عمر،ثم سرنا وتوقفنا عند التحولات المهمة والفساد الكبير الذي استشرى في خلافة عثمان، ودرسنا بعمق فتنة مقتله وموقف الإمام علي (علیه السلام) من ذلك.ثم سرنا إلى معركة الجمل،وتوفَّنا طويلا عند معركة صفين،لأن فهمها واستيعاب تداعياتها سيكون مفتاحا لمعرفة أسباب النكسات التالية المتمثلة بخروج الأمور عن سيطرة الإمام علي (علیه السلام)،ومعركة النهروان،وشهادته (علیه السلام)،وصلح الإمام الحسن (علیه السلام)،
ص: 11
واستتباب الأمر لمعاوية.وأخيراً توقَّفنا عند مرحلة ځُكم معاوية،لندرُس معالم سياسته والخطوات التي قام بها لتوريث السُّلطة ليزيد.إذن من خلال هذه الرحلة تجد أنا تارة نسير بطريقة سرد الأحداث حسب تسلل وقوعها تاريخياً، وتارة أخرى نتوقف عند بعض تلك الأحداث لندرسها بطريقة تحليلية عميقة.
هناك عدَّة فرضيات في تفسير تلك الحُقبة من تاريخِنا.وتفسير تلك الحقبة سينعكس-على الأرجح-على تفسير واقعة كربلاء وأهدافها وتحديد المتورطين في قتل الحسين (علیه السلام) وأصحابه،وأسر أهل بيته (علیهم السلام) وشوقهم من بلد إلى آخر.
الفرضية التقليدية لأهل الشنة في تفسير تلك الحقبة من التاريخ تتلخص في القول بان النفاق لم يظهر بين المسلمين إلا بعد هجرة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)إلى المدينة،وأن كفار قريش الذين أسلموا بيل ومع فتح مكة-وحاربوا رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) في بدر وأحد والأحزاب-حين إسلامهم،ويعدون من الصحابة العدول،وأن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) لم يوصي لأحد من بعيره،وأن جميع الصحابة عدول لا يحق لأحد التشكيك في نياتهم،وأنهم عندما يجتهدون قد يخطئون،لكنهم لا يتعمدون الخطا، وبالتالي إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطأوا فلهم أجر واحد،وأن مفاهيم الإسلام وتشريعاته ستنبط من الكتاب والشنة،وأن تفاسیر وآراء الصحابة،هي المرجعية لفهم الكتاب والسنة،وأن لأبي بكر وعمر خصوصية واحترام استثنائية،وكذلك لعثمان،وإن كانت تؤخذ عليه بعضالملاحظات في فترة كيو، وأن المتسبب الرئيس في فتنة مقتل عثمان هو عبد اللّٰه بن سبا ذو الأصول اليهودية الذي كان يحرض المسلمين عليه،وأن طلحة والزبير-ومعهما أم المؤمنين عائشة-أخطأ عندما نكثا بيعة الإمام علي (علیه السلام) لي،لكنه كان اجتهادة منهما على كل حال،وجميعهم مبشر بالجئة،وأن معاوية وعمرو بن العاص أخطأ حينما حاربة الإمام علي (علیه السلام)،لكنه كان اجتهادة منهما على كل حال،وأن معاوية صار الخليفة الشرعي للمسلمين بعد صلح الإمام الحسن (علیه السلام)،وأنه كان كاتبة أمينة للوحي،وأنه خال المؤمنين،ويجب احترامه لأنه من الصحابة، وأن العلاقة بين الصحابة وأهل بيت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)كانت على ما يرام،وكان يسودها الاحترام والتقدير المتبادل.
هذه الفرضية-رغم سعة انتشارها وقبول السواد الأعظم من المسلمين لها- تعجز عن تفسير أحداث وظواهر كثيرة في التاريخ،والتحولات الاجتماعية، والطبيعة الإنسانية.فأسباب النفاق قبل أن تكون اجتماعية،لها مناشئ ودوافع نفسية،وإن لم يظهر النفاق إلا
ص: 12
بعد هجرة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)إلى المدينة،إذن كيف فسر قوله تعالى في سورة العنكبوت:«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ»«وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ»(1) ،والعنكبوت سورة مكية أساسا؟أم أن هذا الادعاء جاء التبرئة وجهاء المهاجرين من ناحية، واللقاء من أهل مكة من ناحية أخرى،وكلهم من عدنان،لتحوم شبهات النفاق كلها على أهل المدينة من قحطان؟
وإن افترضنا أن كفار قريش الذين أسلموا قبيل ومع فتح مكة-وحاربوا رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)بالأمس-حن إسلامهم،فهل يمكن من الاحية النفسية أن يتغير الإنسان بين عشية وضحاها ويصبح من الصحابة العدول بعد أن كان قلبه مملوءة بالحقد والغل على رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،خصوصا إذا علمنا أنه لم يسلم إلا بعد أن تغيرت موازين القوى،ولم يسلم إلا ليحقن دمه،وأن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)كان يعطيه بعد إسلامه من سهم المؤلفة قلوبهم؟!كيف يعد هؤلاء من الصحابة العدول، ونضعهم في صف واحد مع السابقين إلى الإسلام من المهاجرين والأنصار وتعطيهم الدرجة نفسها من الحصانة والاحترام والتقدير؟!
وإن افترضنا أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) يوصي لأحد من بعده، فهل يعقل أن لا يشعر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بالمسؤولية،وضرورة ترتيب الأمر من بعده،ويترك المسلمين حیاری ... وفي المقابل يشعر أبو بكر وعمر بذلك،فيوصي الأول للثاني،ويشكل الثاني شوری شداسية تتكفل بتحديد الخليفة؟ وكيف فسر الأحاديث الاستثنائية الواردة في حق الإمام علي (علیه السلام) كحدي الدار والمنزلة؟بل كيف تفسر واقعة غدیر خم والعبارات التي قالها رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بحق الإمام علي (علیه السلام)؟
وإن افترضنا أن جميع الضحابة عدول لا يحق لأحد التشكيك في نياتهم،فلماذا يشك بعضهم في نبات البعض الآخر؟ولماذا يشتد الخلاف بينهم في السقيفة إلى أن كاد يصل إلى درجة لا تحمد عقباها؟ولماذا يمنعهم غمر في خلافيير من رواية الحديث إلا بضوابط مشددة؟ولماذا يمنعهم من الخروج من الحجاز إلا بإذن خاص منه؟ ولماذا كان يقيم الحد على بعضهم ويتشدد في محاسبة ولاته؟ ولماذا كان يضرب بعضهم بالدرة؟وفي أي خانة نضع أولئك الذين كانوا ينادون رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)من وراء الحجرات والذين يعبر عنهم القرآن با وأن «أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ»(2) ؟وفي أي خانة نضع فئة المنافقين-الذين
ص: 13
تحدث عنهم القرآن-ممن كان يظهر الإسلام ويبطن الكفر ولم يكن معروفة بالنفاق؟وفي أي خانة نضع فئة المرجفين وفئة مرضى القلوب الذين تحدث عنهم القرآن؟وفي أي خانة نضع من دخل في الإسلام منهم،ثم ارتد بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،ثم عاد ودخل الإسلام مرة أخرى بعد أن أسر في حروب الردة،كالأشعث بن قيس؟
وإن افترضنا أن مفاهيم الإسلام وتشريعاته ستنبط من الكتاب والشنة...فلماذا وقف مر عند احتضار رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وقال:حسبنا كتاب اللّٰه؟ألم يكن هذا ردة للشنة واكتفاء بالكتاب كمرجعية؟ولماذا لم يرو الحديث الذي يوصيبالكتاب والشنة إلا برواية ضعيفة مرسلة-يرويها الإمام مالك في الموطأ-في حين يروى الحديث الذي يوصي بالكتاب وأهل البيت (علیهم السلام) في روایات معتبرة متعددة؟ولماذا-رغم ذلك-ينتشر بين المسلمين الحديث المرسل ويتم تجاهل الحديث المعتبر؟
وإن افترضنا أن تفاسیر و آراء الصحابة،هي المرجعية لفهم الكتاب والشنة،فما هو موقفنا إن كان رأي غمر الاكتفاء بالكتاب؟وما هو موقفنا إن اختلف الصحابة فيما بينهم في مسائل مهمة وقضايا مصيرية؟لمن تكون المرجعية حينئذ؟وهل يمكن اعتبار تفسیر ورأي بعض اللقاء مرجعية لفهم الكتاب والشنة؟
وإن افترضنا أن لأبي بكر وعمر خصوصية واحترام استثنائية،فهل الملاحظات التي تؤخذ على عثمان عادية ويمكن التغاضي عنها؟وهل سار عثمان على سيرة الشيخين كما وعد عبد الرحمن بن عوف؟وهل يمكن التغاضي عن حمله بني أمية-من اللقاء والمطرودين من رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وممن نزلت في حقهم آیات صريحة -على رقاب السابقين من المهاجرين والأنصار؟عندما يتحدث أحد ولاته بلغة إنما الواد قطين القريش»، فهل يعتبر هذا أمرا عاديا ويمكن التغاضي عنه وفق منطق القرآن؟وعندما يصلي وال آخر من ولاته في المسلمين صلاة الفجر أربع ركعات وهو سكران،فهل يمكن المسلم أن يقبل ذلك؟وإن كانت الملاحظات التي تؤخذ على عثمان عادية ويمكن التغاضي عنها،إذن لماذا لم يتغاض عنها كبار الصحابة كابي ذر وعمار وعبد اللّٰه بن مسعود،بل لم يتغاض عنها أمثال طلحة والبير اللذين كانا يحرضان الثوار على عثمان؟
وإن افترضنا أن المتسبب الرئيس في فتنة مقتل عثمان هو عبد اللّٰه بن سبا ذو الأصول اليهودية الذي كان يحرض المسلمين عليه،فهل يمكن ليهودي تأر إسلامه أن يحرك كبار الضحابة من المهاجرين ضد عثمان؟وهل يمكن أن يحرك ثوارة من البصرة والكوفة ومصر دون أن يقف في وجهه أحد من عقلاء الأمة ويفشلوا مخططاته؟ألا تكفي تجاوزات
ص: 14
عثمان لتحريك ضمير أي مسلم آنذاك؟ألا يعتبر هذا الادعاء محاولة لتبرئة عثمان؟وبحثا عن طرف ما لتحميله مسؤولية الفتنة؟ولماذا لا نجد ذكرة لعبد اللّٰه بن سبا القحطاني إلا في روايات سيف بن عمر العدناني؟
وإن افترضنا أن طلحة والزبير-ومعهما أم المؤمنين عائشة-اجتهدا فأخطأ عندما نكلا بيعة الإمام علي (علیه السلام)،فهل يعقل أن يتورط صحابي في سفير دماء آلاف من المسلمين،ثم تبرر فعله بالاجتهاد،بل نقول:أخطأ والمجتهد المخطئ له أجر واحد؟وهل يمكن أن يكون طلحة والژبير من جهة والإمام علي (علیه السلام) من جهة أخرى جميعهم مبشرين بالجنة وهم في الحياة الدنيا وقفوا في جبهات متقابلة وشفكت جراء ذلك الدماء الغالية؟
ولو افترضنا أن معاوية وعمرو بن العاص أخطة حينما حاربا الإمام علي (علیه السلام)،وأنه كان اجتهادة منهما على كل حال،فكيف تبرر التسبب في قتلهما عشرا الضحابة في صفين كعمار بن یاسر وابن التيهان وذي الشهادتين وغيرهم؟وإن كان رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) أخبر-بالرواية الصحيحة-أعمارة تقتله الفئة الباغية،وكان القرآن يأمر بقتال الفئة الباغية حتى تفيئ إلى أمر اللّٰه،فهل يمكن بعد ذلك تبرير اجتهاد معاوية وعمرو؟
وإن افترضنا أن معاوية صار هو الخليفة-بحكم الأمر الواقع-فهل يمكنالنظر إليه على أنه خليفة شرعي لمجرد أنه وصل إلى الحكم بالعلبة وانتصر بالحيلة والدهاء؟وهل يتعين علينا التعامل معه باحترام ووضعه في مصاف السابقين من المهاجرين والأنصار وإعطاؤه الحصانة ذاتها التي يعطيها بعضهم للضحابة؟هل يمكن قبول ذلك وهو من اللقاء ورسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)مات وهو يعطيه من سهم المؤلفة قلوبهم؟وهل من المعقول إعطاؤه حصانة وهو الذي سئ شة سب الإمام علي (علیه السلام) على المنابر؟هل يمكن النظر إليه بنظرة تقديس وهو المتهم الرئيس ليس في قتل الصحابة في صفين فحسب،بل المهم الرئيس في قتل الصحابي الجليل حجر بن عدي،الذي اهتز العالم الإسلامي لشهادته،وجرت جراء ذلك مشادة كلامية بين أم المؤمنین عائشة ومعاوية؟وهل يمكن عده من الصحابة العدول وهو المتهم الرئيس في دس الشم لسبط رسول اللّٰه الإمام الحسن (علیه السلام)؟
وهل يمكن بعد ذلك كله افتراض أن العلاقة بين الصحابة وأهل بيت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)كانت على ما يرام،وكان يسودها الاحترام والتقدير المتبادل.نعم كان الإمام علي (علیه السلام) حريصة على التعامل بإيجابية وخلق حسن مع الخلفاء الثلاثة،بل مع المسلمين جميعا...لكن من غير المعقول أبدأ تصوير العلاقة بين أهل البيت (علیهم السلام) والصحابة على أنها كانت طبيعية جدة،مع علينا بالخلاف الحاد بين فاطمة (علیها السلام) وأبي بكر بشان فدك،والذي
ص: 15
انتهى بفاطمة (علیها السلام) إلى أن توصي بأن دفن سرة وتموت وهي واجدة،ومع علمنا بالخلاف الحاد بين الإمام علي (علیه السلام) وأبي بكر وعمر بشأن الخلافة، والاحتقان الشديد في العلاقة بين الإمام علي (علیه السلام) وعبد الرحمن بن عوف بسبب موقفه من الشوری الشداسية،ومع علينا بالنصائح شديدة اللّٰهجة التي كان يوجهها الإمام علي (علیه السلام) لعثمان بسبب افتتانه بالمشورات المتكررة لمروان بن الحكم،ومع علمنا بالحرب التي خاضها الإمام علي (علیه السلام) مع ابنيه الحسن والحسين (علیهما السلام) في مواجهة طلحة والزبير وأم المؤمنین عائشة،ثم الحرب التي خاضها الإمام علي (علیه السلام) مع ابنيه الحسن والحسين (علیهما السلام) في مواجهة معاوية وعمرو،ثم دس الشم للحسن (علیه السلام)،ومنع مشيعيه من دفنه إلى جوار جده (صلی اللّه علیه واله).....ألا يكفي ذلك كله لتفنيد التنورة الوردية التي يحاول بعضهم رسمها الطبيعة العلاقة بين أهل البيت (علیهم السلام) والصحابة؟هل يصح بعد ذلك كله أن نقول إن العلاقة بين الطرفين كانت على ما يرام؟
أقول:مهما حاولنا تكييف الفرضية التقليدية لتفسير التاريخ والأحداث،سنجدها في النهاية عاجزة عن القيام بهذه المهمة.وستقودنا إلى فهم قاصر ومرتبك لواقعة كربلاء إذن لا بد من هجرها والبحث عن فرضية بديلة.
في المقابل،تحاول الفرضية التي يسير على ضوئها هذا البحث،تفسير الأحداث وتلك الحقبة من التاريخ،من خلال الاكتفاء قدر الإمكان بالمعطيات التي تقدمها المصادر الشنية.كما تحاول أن تجد المبررات الموضوعية لمواقف كبار الصحابة المهاجرين،من خلال استكشاف الظروف الاجتماعية وإعمال الحدس بالحالات النفسية،وإثارة تساؤلات وترجيح احتمالات،على ضوء المعطيات والقرائن والشواهد المتوافرة،دون أن تغرق في سوء الظنوإصدار الأحكام القاسية على النيات....ولا أدري إلى أي حد كانت الفرضية موفقة في ذلك؟
إن الفرضية المقترحة-التي يتبناها هذا البحث-تنطلق من افتراض أن كبار وجهاء المهاجرين أخطأوا في حساباتهم خطأ فادحة،واخذوا موقفا يتسم بقصر النظر، ولا ينسجم مع منطق القرآن،عندما وقعوا في السقيفة تحت تأثير العقلية القبلية التي ترى أن العرب أفضل من غير العرب،وأن عدنان أفضل من قحطان، وأ قريش أفضل قبائل عدنان وبالتالي سمحوا لأنفسهم بأن يتكئوا على قريش لاعتلاء الشلطة وإقصاء الإمام علي (علیه السلام) والأنصار عنها،ولم يعيروا لغير بطون قریش اهتماما ولم يفسحوا لهم الطريق لتكون لهم كلمة في مسألة الخلافة.هذا من ناحية.ومن ناحية ثانية،عد استئثارهم بالشلطة، استأثروا بالمال أيضا،وبقي المال والشلطة بيدهم،حتى ظوا بالتدريج أن لهم
ص: 16
حقا خاصا ومكتسبات طبيعية،لا يحق لأحد منافستهم فيها.ومن ناحية ثالثة، اعتقدوا أن بإمكانهم إيقاء الوضع تحت السيطرة دون أن يعود بنو أمية إلى الواجهة،ولم يطرأ ببالهم أن بني أمية إذا اعتلوا الشلطة فسيخرجون وجهاء المهاجرين،وباقي بطون قریش،من الساحة،وسيستأثرون هم بالشلطة والمال.ومن ناحية رابعة تورط وجهاء المهاجرين في تجاهل أوامر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)، والاستخفاف بها،عندما ذهبوا إلى أن تشخيصهم للمصلحة بأن يقصوا عليا (علیه السلام) عن الخلافة هو الأجدر والأكثر واقعية.وتذهب هذه الفرضية إلى وجود مؤامرة مدروسة من بني أمية لاعتلاء الشلطةوأنهم وجدوا من وجهاء المهاجرين جسرة البلوغ موجهم، ووجدوا أن الفرصة قد حانت عندما وصل عثمان إلى الخلافة،فنفذوا انقلابهم الكبير،الذي أدى إلى فتنة مقتل عثمان،ثم الحروب المتتالية،وأخيرا استتباب الأمر لمعاوية،الذي انتهى إلى توريث يزيد الشلطة،ووقوع فاجعة كربلاء.
وتذهب هذه الفرضية إلى أن من أهم أسباب انكشاف الحقائق وظهور«المسكوت عنه»،وظهور فضائل أهل البيت (علیهم السلام) ومظلوميتهم،هو ما جرى من تداعيات جراء الانقلاب الذي نفذه بنو أمية.حيث انقسم المسلمون-من غير شيعة الإمام علي (علیه السلام)-إلى مدرستين متخاصمنين:مدرسة عبد اللّٰه بن الربير، ومدرسة معاوية بن أبي سفيان.المدرسة الأولى كان طموحها يتلخص في استعادة أمجاد ومكتسبات وجهاء المهاجرين،وإرجاع الشلطة إلى بطون قريش الضعيفة،وترسيخ منطق الشورى.والمدرسة الثانية كان طموحها يتلخص في إبقاء السلطة في يد بني أمية،وإقصاء جميع المسلمين من قرار تحديد هوية الخليفة،وجعل الخلافة ملكية وراثية، وتوريث الشلطة ليزيد.
لقد كانت الخصومة الكبيرة بين هاتين المدرستين من الأسباب الرئيسية المهمة التي جعلت فضائل الإمام علي (علیه السلام) تملا الخافقين،وتحول دون محو ذكر أهل البيت (علیهم السلام) من صفحات التاريخ ومن ذاكرة المسلمين.وجعلت أهل الشنة يتأرجحون بينهما، تارة يميلون إلى مدرسة عبد اللّٰه بن الزبير،وتارة أخرى يميلون إلى مدرسة معاوية بن أبي سفيان.وجعلت مصادرهم التاريخية والحديثية ملأى بالروايات والأحاديث المتعارضة،غير المثقة،والتي يك بعضها بعضا.ودفعت ببعض أنصار المدرسة الأولى إلى كشف بعض فضائل أهل البيت (علیهم السلام)،ومخازي بني أمية،ليس حبا بالإمام علي (علیه السلام) وبنيه،بلنكاية بمعاوية ومدرسته.
وكادت مدرسة عبد اللّٰه بن الزبير أن تنجح وتحقق انتصارا كبيرة،عندما حققت اختراقة واضحة،ووظفت فاجعة كربلاء لمصلحتها،وأسست دولة في الحجاز في وقت متزامن مع موت يزيد وتضعضع خلافة بني أمية في الشام،واستمرت هذه الخلافة الطارئة
ص: 17
بضع سنوات،ثم انتكت،وتقوضت الدولة،وكادت هذه المدرسة أن تندثر بعد قتل وصلب رائدها في بيت اللّٰه الحرام.
في المقابل،واصل أهل البيت (علیهم السلام) الطريق،رغم المعاناة والملاحقات والتصفيات التي جرت بحق أتباعهم، طول فترة حكم معاوية،حتى تؤج الإمام الحسين بن علي (علیه السلام) هذه المسيرة بحركته وثورته ونهضته في كربلاء .
لقد جرت مع مجيئ معاوية محاولات حثيثة وغير مسبوقة لتزوير التاريخ.ووقعت عمليات تزوير منظمة ومدروسة،لتجميل صورة الجاني وتحسين شمعة الجلاد، في مقابل تشويه صورة المجني عليه وتحميل الضحية المسؤولية.وكانت المحطة أن تنجح،وكاد الظلام أن يسود،وكادوا أن يطفئوا نور اللّٰه بأفواههم ويوفهم،لولا العناية الربانية،وتضحيات أهل البيت (علیهم السلام)،والصالحون من الصحابة والتابعين،والخصومة التي وقعت بين المدرستين.
هذه الفرضية التي تزودنا برؤية شاملة للأحداث،هي-كما أعتقد-الأرضية الصحيحة لتفسير أحداث واقعة كربلاء.
قد يوجه الاعتراض والنقد التالي:لقد كان البحث انتقائية في سرير الأحداث، يتشبث ببعض المعطيات والشواهد التي تخدم الفرضية التي يسير على ضوئها، ويتجاهل معطيات وشواهد تدعم الفرضية التقليدية اليمنية،ولا تنسجم مع الفرضية المقترحة.
والجواب:أن الانتقائية في التحقيق والتقصي والبحث التاريخي أمر لا مفر منه، خصوصا عندما نعلم بوجود أكثر من جهة كان من مصلحتها تزوير تلك الحقبة التاريخية المصلحتها،وبالتالي لا يمكن التعويل على بعض المعطيات والشواهد وأخذها بجدية.المهم أن لا يكون الانتقاء اعتباطية وذاتية،وإنما انتقاء يفرضه تسلل الأحداث وسياق المواقف،بحيث تشهد بعض الأحداث بصحة بعضها الآخر، ويساهم بعضها في تفسير البعض الآخر.لنجد في النهاية أن الفرضية المقترحة متماسكة وصلبة وقادرة على تفسير الأحداث تفسيرة مقنعة.
أسأل اللّٰه سبحانه وتعالى أن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبدا،وأن يجعلنا ممن يتعظ بأخطاء الآخرين،قبل أن يعظ الآخرون بأخطائه،وأن يحشرنا مع سيد شباب أهل الجنة سبط رسول اللّٰه له الإمام الحسين بن علي علي وأصحابه الذين بذلوا مجهم دونه.
مرتضی فرج شعبان/1431هج
ص: 18
موضوع هذه السلسلة من المحاضرات هو«خلفيات واقعة كربلاء»نستهدف منها معرفة خلفيات شهادة الإمام الحسين (علیه السلام)،والأحداث التي سبقت شهادته (علیه السلام)،والتي خلقت ظروف مؤاتية لوصول يزيد إلى الشلطة.
قبل كل شيء لا بد من الإشارة إلى نقطة مهمة؛وهي أن بعض الباحثين عندما يريدون إدانة حركة الإمام الحسين (علیه السلام)،كيلون المدح للإمام الحسن (علیه السلام)،ولصلحه (علیه السلام) از مع معاوية،ويتحدثون عن عام الجماعة،وعن طبيعة الإمام الحسن (علیه السلام) المسالمة.يريدون بذلك كله التعريض بالحسين (علیه السلام)،وأنه لا يحمل هذه الروح المسالمة،وأنه شق عصا المسلمين....لماذا؟لأنه (علیه السلام)-حسب زعمهم-لم يكيف نفسه مع خلافة يزيد،كما كيف الإمام الحسن (علیه السلام) نفسه مع خلافة معاوية،أو كما كيف عبد اللّٰه بن عمر نفسه مع خلافة يزيد عندما آثر الاعتزال والابتعاد عن العمل السياسي.فموقف الإمام الحسن (علیه السلام) هو الموقف النموذجي تجاه خلافة معاوية،وموقف عبد اللّٰه ابن عمر هو الموقف النموذجي تجاه خلافة يزيد!!
هذه القراءة لحركة الإمام الحسين (علیه السلام)،وقبل ذلك هذه القراءة لصلح الإمام الحسن (علیه السلام)،تعبر عن تشويه عقدي وتاريخي كبير.هذه القراءة تستبطنالاعتقاد أن الإمام الحسين (علیه السلام) كان أساسا يريد الثورة مهما كانت النتائج والعواقب، حتى لو كانت ثوره هدد بيضة الإسلام ووحدة المسلمين،وهذه القراءة تستبطن أيضا أن الإمام الحسن (علیه السلام) كان أساسا يريد الصلح،لأنه (علیه السلام) بطبعه شخصية مسالمة،حب وحدة المسلمين،وتكره العنف والحرب!
والحقيقة أن هذا التفسير ينافي الايمان بالعصمة من ناحية،وينافي الحقائق التاريخية من ناحية أخرى.
هذا التفسير ينافي الايمان بالعصمة،لأن الاعتقاد بأن الإمام الحسين (علیه السلام) بطبعه يجب القتال والمواجهة ويكره الملح والشلم،يعني ضمنا بأنه (علیه السلام)كان يريد حرب یزید حتى لو كانت المصلحة الإسلامية تقتضي اللح!وهذا الاعتقاد ينافي الايمان بالعصمة.
من الصحيح أن هناك بعض الفروق الفردية-الجسدية أو النفسية-ين الأنبياء
ص: 19
أنفسهم،أو بين الأئمة فيما بينهم،أو بين الأنبياء والأئمة (علیهم السلام)،لكن هذا لايعني أبدا أن تصل تلك الفروق إلى حد أن تؤثر في المملوك والقرار الذي تفرضه المصلحة الإسلامية العليا،بحيث تكون هي المحرك للسلوك العام للنبي أو الإمام وقرارات المصيرية.لو افترضنا جدلا أن الإمام الحسين (علیه السلام) ميال بطبعه إلى القتال والمواجهة،فهذا لا يمكن أن يصل إلى حد يؤثر في سلوكه ويجعله يتخذ قرار الحرب لو كانت المصلحة الإسلامية تقتضي السلم،لأنه لو وصل إلى حد التأثير في المملوك العام والقرارات المصيرية،فهذا سينافي عصمته،لأن عصمته تعني أن علمه يعصمه عن التورط في موقف يتعارض مع أوامر اللّٰه تعالى المنسجمة دائما مع مصلحة الإسلام العليا.
لا يجب تنزيه الإمام الحسين (علیه السلام) عن ذلك فحسب،بل لا بد من تنزيه أي إنسان رسالي-بالمعنى الحقيقي-عن ذلك.أي إنسان رسالي،جاهد نفسه جهادة حقيقية،يفترض به أن يتجاوز ميوله الذاتية،لأنه يحارب إن كانت المصلحة الإسلامية تقتضي الحرب،وإن كان ميالا بطبعه إلى الصلح والسلم.ويصالح إن كانت المصلحة الإسلامية تقتضي الصلح،وإن كان ميا بطبعه إلى الحرب والمواجهة.لماذا؟لأنا نفترض أن إرادة الإنسان الرسالي خاضعة لإرادة اللّٰه التشريعية،إرادته-حربة وطلحة-يفترض أن تكون تجليا للإرادة الإلهية،فليس بوسعي أن يتخذ موقفا أو ينتهي إلى قرار يكو منافية للإرادة الإلهية والمصلحة العليا.
بالإضافة إلى ذلك،فإ هذا التفسير المشؤه ينافي الحقائق التاريخية أيضا.إذا كان حب الإمام الحسين (علیه السلام) للمواجهة هو المحرك لسلوكير العام-كما يقول هؤلاء-فلماذا لم يتجاوز الإمام الحسين (علیه السلام) أخاه الإمام الحسن (علیه السلام) عندما صالح الإمام الحسن (علیه السلام) معاوية؟لماذا صبر على هذا الوضع عشر سنوات رغم-على ما تنقل بعض كتب التاريخ-تشجيع وتحريض بعض أصحاب الحسن (علیه السلام) للحسين (علیه السلام) لكي ينهض ويتحرك لمواجهة معاوية؟قد يقال:بأنه من غير اللائق أن يتجاوز الإمام الحسي (علیه السلام) أخاه الإمام الحسن (علیه السلام) في حياته.لكن هنا يأتي الشؤال الكبير:إذا كان حب الإمام الحسين (علیه السلام)للمواجهة والقتال ورغبته في خوض مغامرة خطرة هو المحرك لسلوك العام،فلم لم ينهض ويتحرك لمواجهة معاوية بعد وفاة الإمام الحسن (علیه السلام) مباشرة؟لماذا ظل صابرة منتظرة بعد وفاة الإمام الحسن (علیه السلام) إلى موت معاوية عشر سنوات أخرى؟
من الواضح أن هذا التفسير لا ينافي الايمان بالعصمة فحسب،بل ينافي الحقائق التاريخية أيضا.
ص: 20
الفهم هذه الحادثة التاريخية المهمة،لا بد من الجوع القهقرى إلى الحواد التاريخية التي وقعت قبل شهادة الإمام الحسين (علیه السلام).فالباحث في التاريخ، عندما يريد فهم حادثة تاريخية على نحو معمق،ينبغي له الرجوع إلى سلسلة الحواد السابقة على الحادثة المراد فهمها.
وهنا لدراسة واقعة كربلاء وشهادة الإمام الحسين (علیه السلام) لا بد من دراسة خلفيات تلك الواقعة،وهذا يتطلب منا العودة إلى الوراء لنعرف مجريات الأحداث التي سبقت واقعة كربلاء،وكيف انتهى وضع المسلمين إلى هذه الفاجعة بعد نصف قرن فقط من وفاة رسول اللّٰه محمد (صلی اللّه علیه واله)؟فقد توفي رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) في11هج، وحدثت واقعة كربلاء في61هج.وهذا يعني أن واقعة كربلاءحدثت بعد مرور خمسين سنة فقط على وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).إنه لأمر محير جدة،أن يحصل هذا القوط المدوي والتداعي السريع لهذه الأمة في برهة قصيرة بحساب تاريخ الأمم والشعوب.الشؤال الذي يطرح نفسه هو كيف تهیأت الأجواء لوقوع هذه الفاجعة...وكيف انحدر وضع المسلمين وتسائل إلى درجة أن يرتقي منصب الخلافة شخص مثل يزيد؟
الكلمة المفتاحية تكمن في«قریش»،فلا بد من التركيز على هذه الكلمة ووضعها تحت المجهر.
لكن هنا ثمة ملاحظة مهمة:قبيلة قريش،وما تتضمن من بطون كا بني أمية أو بني هاشم أو غيرها من البطون(1) ،كلمة متحركة في مدلولها مع الزمن؛فقریش مع بداية الإسلام تختلف عن قریش بعد معركة بدر،وقريش بعد معركة بدر تختلف عن قریش قبیل مقتل عثمان....إلخ،فهناك أناس يموتون أو يقتلون أو يشيخون ويفقدون القدرة على التأثير في الأحداث،وهناك أناس جدد يدخلون مسرح الحياة من هذه القبيلة أو تلك،من هذا البطن أو ذاك...فتارة يمثل قریش «الملا»الذي كان يجتمع في مكة لقمع دعوة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في بداياتها،وتارة أخرى يمثل قریش«وجهاء المهاجرين»و«الطلقاء»،وتارة ثالثة يمثلها«أبناء وجهاء المهاجرين»،وتارة رابعة يمثلها«بنو أمية»....وسوف أشير أثناء سرد الأحداث وتحليلها إلى هذا التغير(2) .
ص: 21
ينقل عدد من محب المقاتل-منهم الخوارزمي في مقتله-أن الإمام علي بن الحسين (علیه السلام) بعدما انتقل من كربلاء إلى الكوفة،ومن الكوفة إلى الشام،خرج ذات يوم، فجعل يمشي في سوق دمشق،فاستقبله المنهال بن عمرو الضبابي،فقال: كيف أمسيت يا بن رسول اللّٰه؟
فقال:أمسيث،واللّٰه كبني إسرائيل في آل فرعون،يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم،یا نهال،أمست العرب تفتخر على العجم بان محمداً (صلی اللّه علیه واله) عربي،أمست قریش نفتخر على سائر العرب بأن محمدا قرشي منها،وأمسينا آل بيت محمد ونحن منصوبون،مظلومون،مقهورون،مقتولون،مشردون،مطرودون،فإنا لله وإنا إليه راجعون،على ما أمسينا يا منهال(1)؟
إذا رجعنا إلى الوراء قليلا،نجد أن الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) يقول:«مالي ولقريش!واللّٰه لقد قاتلتهم كافرین(=يعني قبل الإسلام)،ولأقاتلنهم مفتونين (=يعني بعد استلامه الخلافة)،وإني لصاحبهم بالأمس،كما أنا صاحبهم اليوم(2)! واللّٰه ما تنقم منا قريش إلا أن اللّٰه اختارنا عليهم،فأدخلناهم في حزنا....»(3).
ويقول (علیه السلام) أيضا:«.. اللّٰهم إني أستعديل على قريش ومن أعائهم،فإنهم قطعوا رحمی،وصغروا عظیم منزلتي،وأجمعوا على منازعتي أمرا هولي»(4).
وإذا رجعنا إلى الوراء أكثر وأكثر، نعثر على حوار مهم بین ابن عباس وعمر بن الخطاب ينقله الطبري في تاريخه،هذا الحوار يسلط الضوء على نقطة مركزية في هذا البحث.
يقول عمر:يا ابن عباس أتدري ما منع قومهم منگم بعد محمد؟يقول ابن عباس:فكره أن أجيبه،فقلت:لم أكن أدري فأمير المؤمنين يدريني.
فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة،فتبجحوا(=تفخروا)على قومكم بجحة بجحة،فاختارت قريش لأنها فأصابت ووفقت(5).
ص: 22
يقول ابن عباس فقلت:يا أمير المؤمنين أتأذن لي في الكلام وتم عني الغضب (إن) تكلمت؟
فقال(عمر):تكلم يا ابن عباس.
فقلت:أما قولك يا أمير المؤمنين اختارت قریش لأنفيها فأصابت وؤفقته،فلو أن قریشة اختارت الأنفيها حيث اختار اللّٰه عزوجل لها لكان الصواب بيدها غیرمردود ولا محسود.وأما قولك:«ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ»(1) .فقال عمر: هیهات واللّٰه يا ابن عباس،قد كانت تبلغني عنك أشياء كن أكره أن أفرك عنها (=أبحث عنها)،فتزی منزلت مني....بلغني أنك تقول إنما صرفوها عنا حسدة وظلمة.
فقلت:أما قولك يا أمير المؤمنين«ظلمة»فقد تبين للجاهل والحليم،وأما قولك «حسداً»فإن إبليس حسد آدم فنح له المحسودون.
فقال عمر:هيهات أبت واللّٰه قلوبگم یا بني هاشم إلا حسدا ما يحول(=لا ينقضي)،وضغنا وغشة ما يزول.
فقلت:مهلا يا أمير المؤمنين لا ثب قلوب قوم أذهب اللّٰه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً بالحسد والغش،فإن قلب رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) من قلوب بني هاشم.
فقال عمر:إليك عني يا ابن عباس....إلخ(2) .
كما قلنا في البداية،فإين هذا الكتاب يستهدف القيام بعملية حفر تاريخي لمعرفة موقع قریش من الأحداث التي مرت على المسلمين،يبدأ من بعثة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وينتهي عند نهضة الإمام الحسين (علیه السلام).وعلى هذا الأساس،يمكن تقسيم الأسباب التي أدت إلى شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) إلى أسباب بعيدة،وأسباب قريبة.
هذه السلسلة من المحاضرات تتضمن29محاضرة. المحاضرة1- 7تتكفل بسرد
ص: 23
وتحليل الأسباب البعيدة لواقعة كربلاء.والمحاضرة8- 29تتكفل بسرد وتحليل الأسباب القريبة لواقعة كربلاء.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن الكشف عن كثير من الأحداث التي سنتناولها ليس أمرا جديدة،لكن الجديد هو ترتيب تلك الأحداث بتسلسل معين،وتحليلها من خلال تسليط الضوء على دور قریش في تحريك الأحداث،إلى أن نصل إلى لحظة استلام یزید الخلافة.
ص: 24
ص: 25
ص: 26
الأسباب التي أدت إلى شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) يمك تقسيمها إلى أسباب بعيدة، وأسباب قريبة.الأسباب البعيدة تمتد من بعثة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)إلى لحظة استلام عثمان للخلافة،يعني من(13ق.هج-35هج)،وهي تقدر ب48 سنة تقريبا.أما الأسباب القريبة فتمتد من خلافة عثمان إلى موت معاوية،يعني من(35هج-60هج)،وهي تقدر ب25سنة تقريبا،وتبدأ كتب مقاتل الحسین (علیه السلام)عادة بسرد الأحداث من لحظة موت معاوية.
نريد الآن أن نبدأ بسرد وتحليل الأسباب البعيدة لواقعة كربلاء وشهادة الإمام الحسين (علیه السلام).وستكون الكلمة المفتاحية التي نركز عليها هي«قریش».الآن: من أين جاءت قریش؟وما هو موقعها بالنسبة إلى باقي القبائل العربية؟
نبذة عن العرب
جرت العادة بين المؤرخين على تقسيم العرب إلى قسمين:العرب البائدة(مثل عاد قوم هود وثمود قوم صالح وطسم وجيريس)،والعرب الباقية(القحطانيون والعدنانيون).وبصرف النظر عن صحة هذا التقسيم،ما يهمنا هنا هو التركيز على العرب الباقية.
موطن القحطانيين الأصلي هو اليمن،لكنهم تفرقوا في الجزيرة قبيلانهيار سد مارب في سبا،ومنهم ملوك اليمن وقبائل سبا وحمير،كما أن منهم الأزد الذين تفرع منهم الأوس والخزرج(الذين سكنوا يثرب)،ولم يكن منهم أحد في مكة إلا خزاعة،ومنهم المناذرة(من لخم)الذين سكنوا عند حدود الدولة الفارسية، والغساسنة الذين سكنوا عند حدود الدولة الرومانية.
أما العدنانيون،فهم عرب الحجاز، وموطنهم الأصلي مكة.وعدنان هو من أبرز أبناء إسماعيل (علیه السلام)،وينحدر منه:ربيعة ومضر.ومن أشهر قبائل مضر:قریش(=فهر)،وينحدر من قریش:بنو عبد مناف،الذي منهم بنو هاشم، وبنو المطلب،وبنو عبد شمس(ومنه أمية)،وبنو نوفل.وقد انسجم بنو هاشم مع بني المطلب(حيث حوصروا معا في شعب أبي طالب ثلاث سنوات)،في مقابل بني عبد شمس مع بني نوفل.وهاشم هو
ص: 27
الجد الثاني لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وقريش هو الجد العاشر له (صلی اللّه علیه واله)،في حين أن عدنان هو الجد العشرون له (صلی اللّه علیه واله).
ذكرنا أن أمية ينحدر من عبد شمس،والزرقاء هي أم بني أمية.وقد صنع أمية في الجاهلية شيئا لم يصنعه أحد من العرب؛وفقا للمقريزي،قام أمية بتزويج ابن أبي عمرو من امرأته في حياته(1) .
ويتحدث المؤرخون عن تنافس هاشم وأمية على الزعامة،حيث خرج أمية ناقمة إلى الشام،وبقي هاشم منفردة بزعامة بني عبد مناف في مكة.فكان هذا أول انقسام بين الأمويين والهاشميين،هؤلاء يعتصمون بالشام وهؤلاء يعتصمون بالحجاز.ثم علا نجم أبي سفيان بن حرب بن أمية في الحجاز،فأصبحت له زعامة مرموقة إلى جانب الزعامة الهاشمية.
وما دمنا تحدثنا عن العدنانيين،عرب الحجاز الذين يسكنون مكة،فلا بد أن نتحدث عن مكة،ومكانتها بالنسبة إلى العرب عموما.
أهمية مكة بالنسبة إلى العرب
كان لمكة موقع مركزي في الجزيرة العربية وعند العرب،ففيها الكعبة المشرفة التي بناها إبراهيم (علیه السلام)،وإليها يحجون كل عام.ولذلك فإن الحج يمثل لمكة موردة اقتصادية هامة جدا.
من ناحية ثانية،تحتل مكة مكانة مرموقة،فهي أم القرى،كما يعبر عنها القرآن الكريم:«لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا»(2) .ومنها كانت تنطلق تجارة قريش المسماة «رحلة الشتاء والصيف»،التي تحدث عنها القرآن في سورة قريش(3) ،والتي كانت تدر على عدد كبير من أفراد قريش أرباحا طائلة،كأبي سفيان والوليد بن المغيرة وغيرهما،وكانت سببا للاحتكاك بحضارة الروم وما تبقى من حضارة اليمن، ومعرفة ثقافات جديدة.وبالتالي رحلة الشتاء والصيف كانت بالنسبة إلى مكة شريانة اقتصادية وثقافية بالغ الأهمية.
هكذا كان حال مكة وأهلها عند نشأة الإسلام،لكن ما موقف قریش من نشأة الإسلام؟وكيف تطور هذا الموقف مع انتشار الإسلام بوتيرة متسارعة؟
ص: 28
نشأة الإسلام وموقف قریش
عندما بث محمد (صلی اللّه علیه واله)رسولا من اللّٰه تعالى سنة(13ق.هج)،جاء يدعو الناس سيرا إلى التوحيد، واستمر ثلاث سنين(13-10 ق.هج)على هذا الحال،وكان هو (علیه السلام) وأصحابه في تلك الفترة يستخفون بقريش في صلاتهم وفي الدعوة إلى هذا الدين.وكان مشركو قریش كلما رأوهم في صلاتهم سخروا منهم ومن عبادتهم.وثمة قرائن تشير إلى أن قريشا لم تتخذ موقفا من الدعوة في مرحلتها الأولى،لأنها لم تكن على ما يبدو حاسة حيال تغییر دین بعض أفرادها.بل كانت تواجه هذا الدين الجديد بالتجاهل واللامبالاة مع شيء من الشخرية والتهكم.
ثم أر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) على رأس ثلاث سنين بالجهر بالدعوة إلى التوحيد ونبذ عبادة الأصنام، فقال سبحانه:«فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ»(1) ،وقال سبحانه:«وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ»(2) .
فتدهورت علاقة قريش برسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بعد أن أدركت قریش خطورة الدعوة للتوحيد على مصالحها،وكانت تتساءل باستهجان:«أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ»(3) ،وحاولت أن تحول دون انتشار الإسلام وامتداده المتعاظم بما تملك من أدوات ووسائل.
ينقل الواقدي عن ابن عباس أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)كان ينادي قريشأ عند الصفا:يا بني عبد المطلب!یا بني عبد مناف!يا بني زهرة!-ونادی قبائل قريش كلها-إن اللّٰه أمرني أن أنذركم،خير الدنيا والآخرة في قول الا إله إلا اللّٰه».فقام أبو لهب وقال:تبا لك،ألهذا جمعتنا؟فنزلت فيه سورة المسده.
إلا أن التوازن القبلي لم يكن يسمح لقريش بالاصطدام المباشر برسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)؛الدعم آل عبد المطلب له.من هنا بدأت بمحاولة إسكاته،فاقترحوا عليه أن يدع آلهتها،وهم يتركونه وإلهه.واقترحوا عليه أن يعبد آلهتهم سنة على أن يعبدوا إلهه سنة،فنزلت سورة الكافرون(4) .
ص: 29
لكن إذا لم تكن قریش قادرة-بسبب التوازن القبلي القائم آنذاك-على مواجهة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) مباشرة،إذن كيف أفرغت غضبها وحقدها؟
الضغط على العبيد والموالي
لم تفعل قريش في أول الأمر برسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) ما فعلت بالمستضعفين الذين اتبعوه،المكانة عمه أبي طالب وشرفه وجاهه فيهم،وقامت بصب جام غضبها وحقدها على العبيد والموالي الضعفاء كبلال،وخباب،وآل ياسر....إلخ.ثم انتقلت إلى ممارسة ضغوط شديدة على المسلمين عموما.
يروي ابن إسحاق عن عبد اللّٰه بن عباس أن مشركي قريش كانوا يضربون المسلم ويبيعونه ويعطشونه حتى كان لا يقدر على الجلوس من شدة الضرب، ليرتد عن دينه ويقول«آمن باللات والعزى»(1)،وكان بعض المسلمين يقول كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان فرارا من أذاهم،فقال تعالى:(... إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ...)(2).
ويقول المؤرخون وأصحاب السير إن مشركي قريش كانوا يخرجون عمار بن یاسر وأباه وأمه إلى الأبطح(=أرض مستوية بين مكة ومنى)إذا حميت الرمضاء،ويعذبونهم بحرها، فيمر بهم رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،فيقول:صبرة آل یاسر موعدكم الجنة)(3).ولما مات یاسر من بيئة التعذيب، أغلظت سمية القول لأبي جهل، فطعنها بحربة فماتت،وهي أول شهيدة في الإسلام.ثم أمعن مشركو قريش في تعذيب ابنه عمار،بالحر تارة،وبوضع الصخر على صدره تارة أخرى.
وعندما اعتنق بلال الحبشي الإسلام،راح يدعو له ويدافع عن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،فشد عليه مشركو قریش(4)،حتى أنهم طرحوه أرضا تحت لهيب الشمس الحارقة،وما اكتفوا بذلك حتى وضعوا صخرة كبيرة على صدره،وطلبوا منه أن يكفر باللّٰه ولكنه أبى أن يستجيب لطلبهم وبقي يردد:أحد أحد(5)،ثم قال:أقسم باللّٰه لو علم قوة أشد عليكم من هذا لقلته.
ص: 30
أما خباب بن الأرت فقد عذبته قريش عذابا شديدة،إذ كانوا يوثقون ظهره بالمضاء ثم بالضف(=الحجارة المحماة بالنار)،فلم يزده ذلك إلا تمشك بالإسلام وإخلاصة له.وقد هاجر مع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) وشهد معه مشاهده كلها(1).
ولم يقتصر تعذيب قريش على الرجال،بل تعداهم إلى النساء.فقد أسلمت لبينة جارية بني مؤمن(وهو حي بني عدي بن كعب)قبل إسلام عمر بن الخطاب،فكان عمر يمعن في تعذيبها حتى يمل،ثم يدعها ويقول:إني لم أتركك إلا ملالة(2).
وكان أبو جهل إذا سمع بإسلام رجل من ذوي الشرف أبه وقال:«تركت دین أبيك وهو خير منك،لنسفه حلمك، ولنقيل رأيك، ولنضع شرفك».وإن كان تاجرة قال
اله:«لنكسدن تجارتك ولنهلكن مالك»،وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به(3).
وقد ضعفت عزائم فئة قليلة بتأثير هذه المحنة،على حين ساعد هذا الاضطهاد على إذكاء الحماسة الدينية في نفوس فئة أخرى؛فقد برهن عبداللّٰه بن مسعود على جرأته حين قرأ القرآن في فناء الكعبة نفسها،فتعرض له قوم من قريش وجعلوا يضربونه في وجهه،لكنه استمر يتلو القرآن، ثم عاد إلى رفاقه وأظهر استعداده للجهر بالإسلام بمثل هذه الطريقة في اليوم التالي.ولكن أصحابه أقنعوه بالعدول عن ذلك قائلين:حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون(4).
ص: 31
وينقل لنا أبو ذر الغفاري قصة مشابهة،وأن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) عندما عرض عليه الإسلام، أسلم على الفور،يقول أبو ذر: فقال لي: (يا ابا ذر، اكتم هذا الامر، وارجع الى بلدك، فاذا بلغك ظهورنا فاقبل). فقلت: والذي بعثك بالحق، لاصرخن بها بين اظهرهم، فجاء الى المسجد وقريش فيه، فقال: يا معشر قريش، اني اشهد ان لا اله الا اللّٰه، واشهد ان محمدا عبده ورسوله.
فقالوا: قوموا الى هذا الصابئ، فقاموا فضربت لاموت، فادركني العباس فاكب علي ثم اقبل عليهم، فقال: ويلكم، تقتلون رجلا من غفار، ومتجركم وممركم على غفار، فاقلعوا عني، فلما ان اصبحت الغد رجعت، فقلت مثل ما قلت بالامس، فقالوا: قوموا الى هذا الصابئ، فصنع بي مثل ما صنع بالامس(1).
وأرجو من القارئ أن يتذكر اسم«أبي ذر الغفاري»(2)،الذي سيلعب دورا هامة عند خلافة عثمان بن عفان،وأن يتذكر أيضا اسم اعمار بن یاسر(3)،الذي سيلعب دورة هامة عند خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام)،وخصوصا في معركة صفين.
الضغط على أبي طالب
لما رأت قريش الجد من رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في الأعوة،وسكوت أبي طالب عنه
ص: 32
وعدم نهيه عن ذلك الذي يقول في آلهتهم وآبائهم،خشيت أن يعظم أمره،وبدأت بممارسة ضغوط على أبي طالب،فمشى رجال من أشرافها إليه،فقالوا:يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا،وعاب ديننا،وسقه أحلامنا،وضل آباءنا،فإما أن تكه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه،فإنك على مثل ما نحن عليه من خلاف فنكفیكه. فقال لهم أبو طالب قوة رفيقا،وردهم ردا جميلا، فانصرفوا عنه(1).
ومضى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)على ما هو عليه،يظهر دين اللّٰه ويدعو إليه،ثم شرى الأمر بينه وبينهم،حتى تباعد الرجال وتضاغنوا، وأكثرت قریش ذكر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بينها، فتوامروا فيه،وحض بعضهم بعضا عليه.
ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى،فقالوا:يا أبا طالب إن لك سئا وشرفة ومنزلة فينا،وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك،فلم تنهه عنا،وإنا واللّٰه لا نصبر على هذا،من شتم آبائنا،وتسفيه أحلامنا،وعيب آلهتنا،حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك،حتى يهلك أحد الفريقين. أو كما قالوا،ثم انصرفوا عنه .
فعظم على أبي طالب تحدي قومه وعداوتهم،ولم يطب نفسة بإسلام رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم ولا خذلانه.وبعث إلى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)فقال له:يا ابن أخي،إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا،فأبقي علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق.
يقول الرواي:فظن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) أن عمه يريد أن يخذله،وأنه ضعف عن نصرته والقيام معه،فقال:يا عم،واللّٰه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره اللّٰه أو أهلك فيه،ما تركته.ثم استعبر فبكى ثم قام.
فلما ذهب ناداه أبو طالب،فقال:أقبل يا ابن أخي،فأقبل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،فقال له: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فواللّٰه لا أسلمك لشيء أبدا(2) .
ترغیب رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)
وطرقت قریش بابا آخر،فبدأت بإطلاق سلسلة من العروض والصفقات المغربية وتقديم المال وعرض المنصب.قال ابن إسحاق-كما ينقل ابن هشام في السيرة النبوية-نزلت الآية:«قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ»(3) في رد العروض المالية للمشركين.
ص: 33
وروي عن الإمام محمد الباقر (علیه السلام) أن آيات من سورة الإسراء،وسورة الكافرون نزلت بشأن الاقتراحات التي كان قد عرضها الكافرون،قال تعال في سورة الإسراء:
«وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)»(1)
واقترح عتبة بن ربيعة(أبو هند وجد معاوية لأمو)-حین اجتمع وجهاء قريش أن يذهب إلى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) ليحدثه كي يك عن دعوته،نمشى إليه ورسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) جالس وحده في المسجد،فامتدح رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) ومكانته في قريش وقال له:يا ابن أخي إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر ماة جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا،وإن كنت تريد به شرفة سؤدناك علينا حتى لا نقطع أمرة دونك،وإن كنت تريد به مملكة ملكناك علينا،وإن كان هذا الذي يأتيك رنية تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه...
ولما أتم كلامه قال (صلی اللّه علیه واله):أقد فرغت يا أبا الوليد؟قال:نعم،قال (صلی اللّه علیه واله):فاسمع مني،ثم تلا قوله تعالى:«حم (1)تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ (5)»(2)واستمر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)يقرأ الآيات،فانبهر تبة وألقي يديه خلف ظهرو معتمدة عليها،ثم سجد رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)عند آية السجدة،ثم قال (صلی اللّه علیه واله):قد سمعت يا أبا الوليد،فأنت وذاك (3).
وقد حذر اللّٰه سبحانه وتعالى رسوله (صلی اللّه علیه واله) تحذيرة شديدة من تقديم أي تنازل، فقال:«قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)»(4)
ص: 34
إيذاء رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)
عندما لم ينفع الإيذاء غير المباشر لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،من خلال التعرض للعبيد والموالي،لم تؤت الضغوط على أبي طالب ثمارها،ولم تنل الصفقات والعروض المغرية أي قبول من رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،اتجهت قريش إلى إيذاء رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) إيذاء مباشرة.
من أبرز الأسماء التي مارست الإيذاء المباشر لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)عمه أبو لهب(هو من بني هاشم،وزوجته هي أم جميل أخت أبي سفيان وعمة معاوية)(1).وعتبة وشيبة ابنا ربيعة،وعقبة بن أبي معيط، وأبو سفيان بن حرب وابنه حنظلة، والحكم بن أبي العاص بن أمية....وهؤلاء جميعا من بني أمية.
وأبو جهل بن هشام وأخوة العاص وعمه الوليد بن المغيرة(أبو خالد بن الوليد) ...وهؤلاء من بني مخزوم.والعاص بن وائل وابنه عمرو بن العاص....وهؤلاء من بني سهم.وأمية بن خلف وأخوه أبي....وهؤلاء من بني جمح .
انطلق هؤلاء يمارسون ألوانا من الشخرية والاستهزاء؛كان أبو سفيان بهجو المسلمين بشعره،وكان الوليد بن المغيرة وأمية بن خلف من أولئك المستهزئين،ونقل المحدثون أن اللّٰه تعالى أنزل سورة الهمزة في وصف الوليد، وقيل في أمية(2).
التاريخ ينقل لنا أيضا حالات من الاضطهاد البدني،ومعظمها-إن لم تكن كلها-بعد وفاة أبي طالب.
فقد جاء أن عقبة بن أبي معيط تجاسر مرة على رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وألقى عليه عباءته وضغط عليه حتى كادت روحه أن تزهق، وجاء ذات يوم بسلی(3)شاة فألقاه على راسه(4).
وأن عقبة وأبا لهب كانا يلقيان العذرة والأوساخ على باب داره (صلی اللّه علیه واله).وكان (صلی اللّه علیه واله)يقول:
ص: 35
«كنت بین شر جارین،بين أبي لهب وعقبة بن أبي معيط،إن كانا ليأتيان بالفروث فيطرحانها على بابي».وأن أبا جهل كان يلقي فوقه القاذورات وهو في صلاته.
وكانت بين عقبة بن أبي معيط وأبي بن خلف صداقة وثيقة،وحين سمع أبي أن عقبة جالس عند رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) حنق،وقال له:لا أرضى منك إلا أن تأتيه،فتطأ قفاه وتبزق في وجهه،ففعل ذلكوقال اللّٰه تعالى فيه:«وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28)»(1)
ومن المستهزئين أيضا الحكم بن أبي العاص الذي كان يشم رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)ويسير خلقه ويقلد حركاته باستهزاء(2).
وأم جميل بنت حرب-زوجة أبي لهب-(وهي كما أشرنا من بني أمية، وبالتحديد أخت أبي سفيان، وعمة معاوية)كانت تلقي الأقذار والأشواك أمامدارو في غسق الليل لتؤذي رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) عند خروجه مبكراً.
والطريف أنهم كانوا يخوفونه (صلی اللّه علیه واله)باصنامهم أن تنزل عليه البلاء،فقال تعالى:
«أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ »(3).
وصم رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)بالجنون والكهانة وقول الشعر والسحر
الوصم عملية تستخدم عادة للحفاظ على الضبط الاجتماعي والمعايير السائدة،ويتم ذلك إما من خلال الضغط على الفرد أو الأفراد لإعادتهم إلى ما يعتبره المجتمع صوابا،أو لعزل تأثير الفرد أو الأفراد على باقي أفراد المجتمع، أو لتحقيق الهدفين معا.والوصم نظرية اجتماعية تدرس حاليا في علم الاجتماع(4).
لقد خشيت قريش أن يستميل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) الحجاج الذين كانوا يفدون إلى مكة في الحج،وتشاور القرشيون فيما بينهم للقضاء على الدعوة قبل انتشارها، وفكروا في إيجاد تفسير مقنع لظاهرة محمد (صلی اللّه علیه واله)،حتى يذوا من تأثير دعوته في الحجاج،فبدأوا بممارسة
ص: 36
عملية الوصم بصور مختلفة؛فقال بعضهم:نقول كاهن(باعتبار أنه يحدث عن أمور غيبية مستقبلية تتعلق بعالم ما بعد الموت)وقال آخرون:نقول مجنون(باعتبار أنه يحدث عن أمور لا يمكن تصديقها بالنسبة إليهم كالبعث وإحياء العظام وهي رميم)،وقالت جماعة ثالثة:نقول شاعر(باعتبار أن القرآن الذي جاء به ينطوي على بلاغة معجزة)،وقالت جماعة رابعة:نقول ساحر....واستقروا في النهاية على اتهامه بالسحر(1).
وفي ذلك قال تعالى:«كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54)»(2)و قال تعالی فی موضع اخر:«مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ »(3).
لكن لماذا اتهموه (صلی اللّه علیه واله)بالسحرلأن السحر له تأثير خارق في النفوس،ويفرق بين المرء وأبيه،وبين المرء وأخيه،وبين المرء وزوجه،وبين المرء وعشيرته!والإسلام يومئذ كان قد اخترق نفوسهم من الداخل،وتسرب إلى بيوتهم،وبدأت تظهر اصطفافات جديدة داخل القبيلة الواحدة،والبطن الواحد، والعشيرة الواحدة.
في المقابل،كان اللّٰه سبحانه يخفف عن رسوله (صلی اللّه علیه واله)،فيقول له:«وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)» (4)وسلاه سبحانه عن استهزاء قريش بقوله تعالى:«وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ»(5)
ومن الضروب الأخرى لعملية الوصم،تردید بعضهم كلمة«مذمم»(6) ولعلهم افتعلوها في مقابل اسم رسول اللّٰه«محمد» (صلی اللّه علیه واله).وترديد أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)و أبتر ليس له ابن،والمستهزئ بذلك هو العاص بن وائل،فأنزل اللّٰه تعالى سورة الكوثر،ووصفه فيها بالأبتر،حيث قال تعالى:«إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)» (7)
ص: 37
اضطرار المسلمين للهجرة إلى الحبشة
لما رأى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)ما أصاب أصحابه من البلاء، وتزايد الضغوط من(10-8ق.هج)،وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء،أشار على أصحابه بالخروج إلى أرض الحبشة،فهاجرت الدفعة الأولى سنة(8ق.هج)،وفروا بدينهم(1)،وكان فيها قرابة اثني عشر إلى سبعة عشر رجلا وامراة على اختلاف الأخبار،وكان قائدهم الصحابي الجليل عثمان بن مظعون.
وبعد عام إلى ثلاثة أعوام(7-5 ق.هج)هاجرت،وبنحو تدريجي،الدفعة الثانية،وكان فيها أكثر من ثمانين من المسلمين.وكان قائدهم في الحبشة آنذاك،الصحابي الجليل الشهيد جعفر بن أبي طالب(2).وإلى ذلك أشار اللّٰه تعالى في قوله:«وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)»(3).
قال ابن إسحاق:فلما رأت قريش أن أصحاب رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) قد أمنوا واطمانوا بأرض الحبشة،وأنهم قد أصابوا بها دارة وقرارا،ائتمروا بينهم أن يبعثوا فيهم منهم رجلين من قریش جلدين إلى النجاشي،فيردهم عليهم،ليفتنوهم في دينهم، ويخرجوهم من دارهم التي اطمأنوا بها وأمنوا فيها.فبعثوا عمرو بن العاص وعبد اللّٰه بن أبي ربيعة،وجمعوا لهما هدايا للنجاشي ولبطارقته،ثم بعثوهما إليه فيهم(4)(وتذكر بعض المصادر أن معاوية بن أبي سفيان والمغيرة بن شعبة كانا معهما).لكن عمرو بن العاص وعبد اللّٰه بن أبي ربيعة لم ينجحا في مهمتهما، ورجعا يجران أذيال الخيبة(5).
وأرجو من القارئ أن يتذكر اسم اعمرو بن العاص(6) جيداً،لأن عمرو سيلعب دورة مهمة بعد مقتل عثمان بن عفان،وبالتحديد في معركة صفين.
ص: 38
محاولة اغتيال رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)ومحاصرته في الشعب
ثم اجتمعت قريش في مكرها على قتل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) علانية،عندها أمر أبو طالب بني عبد المطلب أن يدخلوا رسول اللّٰه في شعبهم،ويمنعوه ممن أراد قتله.وكان ذلك على الأرجح بين سنة(6-5ق.هج)(1).
واجتمع بنو هاشم وبنو المطلب على ذلك مسلمهم وكافرهم،فمنهم من فعله حمية ومنهم من فعله إيمانا ويقينا.فلما عرفت قريش أن القوم منعوا رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) اجتمع المشركون من قریش،وائتمروا أن یكتبوا كتابأ يتعاقدون فيهعلى بني هاشم وبني المطلب،على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم،ولا يبيعوهم شيئا،ولا يبتاعوا منهم،فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة،ثم تعاقدوا وتواثقوا على ذلك،ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم(2).
فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين،واشتد عليهم البلاء والجهد حتى كان يسمع أصوات صبيانهم يصيحون من ألم الجوع من وراء الشعب،ولم يدعوا أحدا من الناس يدخل عليهم طعاما ولا شيئا مما يرفق بهم(3).ثم انفك الحصار(سنة4-3 ق.هج تقريبا)بكرامة خاصة لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) مذكورة في كتب السير والتواریخ(4).
وما وافت السنة العاشرة من البعثة(3ق.هج)حتى أصيب رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بوفاة عمه وحاميه أبي طالب،ثم ماتت زوجه خديجة بعد ذلك،وكان موتهما قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين.ولا نستبعد أن يكون لموتهما علاقة بالحصار ومضاعفاته،والوضع الصحي الخطر الذي عاشوا في أجوائه طوال هذه المدة.
وصار بقاء رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في مكة محفوفة بالمخاطر،وقدرة قريش على التعرض له كبيرة جدا،وتتابعت عليه بموتهما المصائب،فكانت هذه الفترة الواقعة بين موت أبي طالب وخديجة وحتى هجرته إلى يثرب،ربما،أصعب فترات حياته.لذا يقول ابن إسحاق:....فلما هلك أبو طالب،نالت قریش من رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)من الأذى ما لم تكن تطمع به
ص: 39
في حياة أبي طالب(1).وكان يقول (صلی اللّه علیه واله) ما يروي الحاكم في مستدركه:«ما زالت قریش كاعة(=تهابني وتجبن عن مواجهتي)حتى توفي أبو طالب»(2)وعلى ما يروي ابن هشام في سيرته:«ما نالت مني قريش شيئا أكرهه،حتى مات أبو طالب»(3).
محاولة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) في الطائف
بعد أن يئس رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)من استجابة قريش لدعوته،خرج إلى الطائف(3 ق.هج)لاستكشاف آفاق جديدة للدعوة،وكانت قبيلة ثقيف يومئذ سادتها وأشرافها،لكنه لم يلق منهم آذانا صاغية،بل قوبلت دعوته بالاستهزاء،وتفرق عنه وجهاء الطائف وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم،فأخذوا يبونه ويصيحون به ويرمونه بالحجارة،فلم يكن يرفع قدما ويضع أخرى إلا على الحجارة...فلجا إلى بستان وهو يناجي ربه:
اللّٰهم إليك أشكو ضعف قوتي،وقلة حيلتي،وهواني على الناس،يا أرحم الراحمين،أنت رب المستضعفين وأنت ربي،إلى من تكلني؟إلى بعيد يتجهمني(4)؟أم إلى عدو ملكته أمري(5)؟إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ولكن عافيئك هي أوسع الي.أعود بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك،أو يحل علي سخطك،لك العتبى حتى ترضى،ولا حول ولا قوة إلا بك»(6)
ابيعة العقبة الأولى والثانية ثم الهجرة
عاود رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) نشر الإسلام في مكة،لكنه ركز هذه المرة على موسم الحج، فكان يعرض نفسه على القبائل ويدعوهم إلى اللّٰه(7).ولم يرحب بدعوته سوى ثلة قليلة من خزرج يثرب جاءت للحج،فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)ودعوهم إلى الإسلام،حتى فشا فيهم،حتى إذا كان العام المقبل جاءت جماعة منهم
ص: 40
فبايعته في العقبة(2ق.هج)(1) ،فبعث (صلی اللّه علیه واله)معهم مصعب بن عمير يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين،ثم جاءت جماعة أخرى من الخزرج والأوس فبايعته في السنة التالية(1ق.هج)(2) ،بعدما سأله بعضهم قائلا:يارسول اللّٰه،إن بيننا وبين الرجال-يعني اليهود-حبالا،وإنا قاطعوها،فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك اللّٰه أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟فتبم رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)ثم قال:بل الدم الأم،والهدم الهدم،أنا منگم وأنتم مني،أحارب من حارم وأسالم من سالمم»(3) .وصارت الأجواء مهيأة وملائمة له في يثرب أكثر من مكة.وبدأ المسلمون بالهجرة من مكة إلى يثرب.
لاحظ هنا أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)القرشي العدناني يستعين بالخزرج والأوس القحطانيين،ووجهاء صحابة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) القرشيون العدنانيون يستعينون بالخزرج والأوس القحطانيين ويهاجرون إليهم،ليتخلصوا من اضطهاد و ظلم قریش العدنانية.
ذعر مشركو قریش من أنباء وصلتهم عن مبايعة بعض أهل يثرب لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)(4) ،وخروج المسلمين بالتدريج من مكة إلى يثرب(5) ،ورأوا أن طائفة من المسلمين قد نزلوا دارة وأصابوا منهم منعة،فحذروا خروج رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) إليهم،وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم(6) .من هنا عزموا على أن يتخذوا قرارة حازمة بشأن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).ولم يفكروا حتى ذلك الحين في قتله (صلی اللّه علیه واله)،إذ كانوا يرون أن ذلك قد يفجر خلافة داخل قريش.وكان همهم الأول هو أن يحولوا دون هجرة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) إلى يثرب ليقود المسلمين منها،وكانت الخيارات تدور بين إخراجه ونفيه من مكة أو سجنه.لكن وجدوا أن هذين الخيارين لن يحل المشكلة، فعقدوا العزم على قتل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)
ص: 41
يقول تعالى في ذلك:«وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ»(1).
وكانت خطة أبي جهل للحؤول دون تفجر نزاع داخل قریش،تقضي بأن يشترك جميع بطون قريش-حتى أبو لهب الهاشمي-في هذه المؤامرة،فلا يستطيع بنو هاشم مطالبة جميع بطون قریش بدم محمد (صلی اللّه علیه واله).
وأخبر الوحي رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)بالمؤامرة الخطيرة،وأمره بالخروج والهجرة فورا إلى يثرب،فطلب (صلی اللّه علیه واله) من ابن عمه علي بن أبي طالب (علیه السلام) المبيت في فراشه، فخاطر علي (علیه السلام) بحياته فداء لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) في موقف خلده التاريخ،ورأى علي (علیه السلام) نفسه للمرة الأولى وجها لوجه أمام قریش،ورأت قريش نفسها للمرة الأولى وجها لوجه أمام علي (علیه السلام)،ونجا رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بأعجوبة،ووصل بسلام إلى يثرب(2) .
ضيقت قريش على رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في مكة،فاحتضنه الأوس والخزرج في يثرب. وعندما وصل إلى يثرب توقف في قباء حتى يصل ابن عمه علي (علیه السلام) مع الفواطم.ثم دخل (صلی اللّه علیه واله) بعد وصول علي (علیه السلام) إلى يثرب،فأقام في بيت أبي أيوب الأنصاري،وبنی المسجد،وآخى بين المهاجرين(وأكثرهم من قریش العدنانية) والأنصا(من الأوس والخزرج القحطانيين)حتى يتجاوز المسلمون النظرة القبلية الضيقة ويحقق حالة التكافل الاجتماعي(3) .وعقد مع يهود المدينة معاهدة تظم العلاقة بين المسلمين واليهود.
الآن،إذا نظرنا إلى هذه المرحلة من تاريخ الإسلام،أعني الفترة المكية الواقعة من بعثة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)حتى هجرته إلى المدينة،ربما يتساءل القارئ باستغراب ودهشة:
ص: 42
لماذا تعاملت قريش مع الدعوة إلى التوحيد بقسوة بالغة رغم أن الذي جاء بتلك الدعوة هو رجل منها؟
أسباب مواجهة قريش لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)
عندما جاء رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) يدعو الناس إلى التوحيد،ثارت ثائرة قريش،لأسباب عدة،منها:
1.الزعامة القبلية والتنافس عليها:فقریش لم تستطع أن تفرق بين النبوة والسيادة،أو بين النبوة والملك،وحسبوا أن التسليم بدین محمد (صلی اللّه علیه واله)معناه التسليم بالزعامة له ولآله،وكانت هناك منافسة شديدة بين قبائل العرب على الرئاسة والشلطان،فلم ترد قريش أن تسلم زمامها لمحمد وآله،وأن تفقد بطونها المختلفة مكانتها وسيادتها.والشاهد على ذلك أنه عند فتح مكة،حينما مرت جحافل المسلمين أخذت أبو سفيان الدهشة حتى قال للعباس(عم النبي):واللّٰه يا أبا الفضل،لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيمة، فأجابه العباس:يا أبا سفيان إنها النبوة.وفي مورد آخر يتجلى هذا التصور عندما وضع رأس الإمام الحسين (علیه السلام) أمام يزيد حيث كان من ضمن ما أنشاه:
لعبت هاشم بالمللي فلا
خب جاء ولا وحي نزل
إذن السبب الأول لمواجهة قريش لدعوة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):التنافس على العامة بوصفها ملكا لا منصبة إلهية.
2.تحریم عبادة الأصنام وأثر ذلك في صناعة الأصنام وبيعها:كان بين العرب من يحترف نحت الأصنام،وكان هؤلاء يبيعون الأصنام للحجاج الذين كانوا كثيرا ما يشترونها للتبرك والذكرى.فلما جاء الإسلام وحرم عبادة الأصنام ونحتها وبيعها،وجد هؤلاء التجار في الإسلام حائلا بينهم وبينأرباحهم،وعامة يقضي على تجارة الأصنام ويصيبها بالكساد والبوار ولذلك سرعان ما قاوموا الإسلام وثاروا عليه.هذا فضلا عن إحساس سدنة الكعبة بأنهم سيفقدون ما كانوا يتمتعون به من ثروة ونفوذ بسبب خدمتهم للأصنام ورعايتهم لزائريها.كما ظن أهل مكة على العموم أن الكساد الاقتصادي سوف يطالهم جميعا،إذا ما بطلت عبادة الأصنام فيها،بسبب إعراض الحجيج عن مكة.
لذا تجد اللّٰه سبحانه وتعالى يطمئن المسلمين،بعد إعلان البراءة من المشركين وتحريم دخولهم المسجد الحرام بمكة،أنهم لن يواجهوا ضائقة مالية جاء القضاء على مظاهر الوثنية ويقول:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ
ص: 43
بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)»(1) .
إذن السبب الثاني لمواجهة قريش لدعوة رسول اللّٰه هو خوف قریش من تضرر مصالحها المالية والتجارية.
3.تقليد الآباء والسير على آثارهم:فتقليد الآباء واتباع سلوكهم كان شيئةراسخة لدى العرب،ولذلك كرهوا أن يخرجوا من دين آبائهم وأن يدخلوا ديناً جديداً.
وقد ذم القرآن هذا النمط من التفكير ذا شديدة،وحكي عن هؤلاء بصبغة الاستهجان:وقالوا بل غ ما ألفينا عليه،اباءنا أولو كان اباؤهم لا يتولون شيئا ولا بهدوت(2) ؟!ولا يمكن فصل هذا اللوك المذموم عن العقلية القبلية التي كانت بالغة الرسوخ في حياتهم،وسنرى ما يجدها في خلفيات واقعة كربلاء.
إذن السبب الثالث تقليد قريش الأعمى للآباء والأجداد والانسياق خلف ما يسمى با«العادات والتقاليد»وإن أدى ذلك إلى الهلاك الأخروي.
4.رفض مبدأ المساواة بين الحر والعبد،والحر والمولى،أو بين العرب وغير العرب،أو بين من ينحدر من قبيلة قوية ومن ينحدر من قبيلة ضعيفة:إن الرق كان منتشرة في الجزيرة انتشاره في كل بلاد العالم،وكان العبد رفيق العقل والقلب،فضلا عن الرق الجسماني، بمعنى أنه لم يكن له أن يتدین بغیر دین سیده،ولا يحب أو يكره إلا تبعة السيده. فلما جاء الإسلام،لم يعترف برق العقل أو القلب،فالرقيق حر في فهمه وتدينه وحبه وكراهيته،وأن رق الجسم غير مطلق،لأ للرقيق حقوقة لدى سيده في الطعام والكساء والزواج.بل تحدث الإسلام عن المساواة بين السادة والعبيد في مجالات متعددة،فلا فرق بين أبيض وأسود،إلا بالتقوى.وعندما دخل بعض العبيد في الإسلام، اعتبر سادة قريش أن هذا التصرف تمرد من العبيد،كما اعتبروا أن محمدا (صلی اللّه علیه واله) يحرض العبيد على سادتهم،ولم يطيقوا أن يوضعوا في مستوى واحد مع عبيدهم!
لذا تجد أن سبب نزول الآية:«وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)»
ص: 44
-على ما تنقل گئب أسباب النزول-أن ملأ من قریش مر على رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) وعنده صهيب وعمار وبلال وخاب ونحوهم من ضعفاء المسلمين،فقالوا:يا محمد،أرضيت بهؤلاء من قومك؟أهؤلاء الذين من اللّٰه عليهم من بيننا؟أنحن نكون تبعة لهؤلاء؟إنما آمن بك هؤلاء طمعا في المال والرفعة،اطردهم عنك، فلعلك إن طردتهم ابعناك.وينقل تفسير المنار والدر المنثور أن عمر بن الخطاب كان حاضرة واقترح على رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) أن يقبل عرض هؤلاء الملا ليتبين مدى صدق قولهم.
إذن السبب الرابع لمواجهة قريش لدعوة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)هو الاستكبار.
5.الفزع من الإيمان بالبعث:لم تستطع قريش أن تقبل هذا الدين الذي يتحدث عن عودة الإنسان إلى الحياة بعد الموت،ليحاسب بعدالة على ما ارتكبه،فصورة العدالة لا يرضاها الظالم،وصورة الحساب يفر منها المذنبون. يقول تعالى:«وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)»(1)،وكتب أسباب النزول تقول إن هذه الآية نزلت في أبي بن خلف أو العاص بن وائل،وهما من شخصيات قريش المشهورة.
إذن السبب الخامس هو خوف قریش من الاعتقاد بيوم الحساب وتمني عدم مجيئه بما قدمت أيديهم.
الخلاصة:تحدثنا فيما سبق عن موضوع البحث،وقلنا إنه يستهدف معرفة خلفيات واقعة كربلاء،وبدأنا الكلام عن الأسباب البعيدة لهذه الفاجعة،وذكرنا نبذة عن العرب،وانقسامهم إلى عدنانيين وقحطانيين،وأن قريشا تنحدر من عدنان،وأن الأوس والخزرج ينحدرون من قحطان،وقلنا إن الكلمة المفتاحية لفهم خلفيات واقعة كربلاء تكمن في
قریش»!فقریش كانت العائق الأكبر أمام رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،ولم تترك طريقة للقضاء على الإسلام إلا واستعانت بها:تعذيب جسدي،ضغط اجتماعي،حصار اقتصادي خانق،ملاحقة المسلمين إلى الحبشة وملاحقة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)إلى الطائف،ثم التصميم على قتل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).
.....لنر كيف ستتفاقم الأمور عندما يوجه لها المسلمون لطمة كبيرة في معركة بدر؟وكيف ولدت هذه المعركة عقدة في نفوس القرشيين تجاه رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،والإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام)؟
ص: 45
بدأنا الحديث عن خلفيات واقعة كربلاء،وقلنا إن الكلمة المفتاحية هي«قریش»،وتحدثنا عن مواجهة قریش لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) وأسباب ذلك،ونبدأ في هذا الفصل بالحديث عن أول مواجهة مسلحة بين قریش والمسلمين،لندرس الآثار العميقة التي تركتها تلك المواجهة على الأحداث اللاحقة.
معركة بدر(2هج)
في السنة الأولى والثانية للهجرة،بدأت اصطفافات جديدة بالتبلور.فبالأمس كانت مكونات يثرب تتمثل بالأوس والخزرج واليهود،وكان اليهود يستفيدون من تناقضات الأوس والخزرج.أما اليوم فصارت المدينة تتمثل بالأنصار(المسلمون من الأوس والخزرج)والمهاجرين من القرشيين الأحرار والموالي والعبيد)،في قبال اليهود ومنافقي المدينة من الأوس والخزرج واليهود الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر).
خلال هاتين السنتين،دخل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) على عائشة،وزوج ابن عمه الإمام علي (علیه السلام) بابنته فاطمة (علیها السلام)،وبدات سورة البقرة بالنزول،ودعوة يهود المدينة إلى الإسلام،مع رفض متكرر منهم،وتوترت علاقة المسلمين باليهود، وتغيرت قبلة المسلمين من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة،وفرضت سلسلة من التشريعات المهمة كالصوم وأحكام الحيض والطلاق والرضاعة والعدة والإنفاق وتحريم الربا صراحة والحث على اجتناب الخمر.ووصلت أنباء عن مصادرة أبي سفيان لممتلكات المهاجرين وبيوتهم.
وفي السنة الثانية للهجرة وقعت معركة بدر الكبرى(1) ،بين قریش والمسلمين من المهاجرين والأنصار.
ص: 46
انطلاق الشرارة
انطلقت الشرارة بعدما وصلت أنباء تفيد بأن أبا سفيان قد باع دور المسلمين في مكة، وقضى بثمنها بعض دیونه،ثم سمع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بأبي سفيان مقبلا من الشام بقافلة كبيرة،فيها أموال لقريش وتجارة من تجاراتهم،فندب المسلمين إليهم وقال:هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل اللّٰه ينفلموها. فانتدب الناس،فخف بعضهم وثقل بعضهم،وكان أبو سفيانيتحسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان،حتى عرف أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)قد استنفر أصحابه له ولقافلته،فأرسل أبو سفيان رجلا إلى مكة،وأمره أن يأتي قريشأ يستنفرهم(1).
فجاء الرجل يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيرو، قد جد بعيره،وحول رحله، وشق قمیضه وهو يقول:يا معشر قريش،اللطيمة اللطيمة(2)،أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه،لا أرى أن تدركوها....فتجهز الناس سراعا(3).
قال ابن إسحاق:وخرج رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في ليالي مضت من شهر رمضان في أصحابه...وأتاه الخبر عن قریش...فاستشار الناس،فقام بعض المهاجرين وأظهروا استعدادهم للضحية.ثم قال رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):أشيروا علي أيها الناس، وإنما يريد الأنصار..(4).
فقال له سعد بن معاذ:واللّٰه لكائك تريدنا یا رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)؟
قال (صلی اللّه علیه واله):اجل
ص: 47
قال سعد:فقد آمنا بك وصدقناك،وشهدنا أن ما جئت به هو الحق،وأعطينا على ذلك عهودنا ومواثيقنا،على السمع والطاعة،فامض یا رسول اللّٰه لما أردت، فنح معك،فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فضته لخضناه معك،ما تخلف ما رجل واحد(1)..
ثم عدل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) اللصفوف،وكان عدد المسلمين قليلا،فوقف رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)يناشد ربه ما وعده من النصر قائلا:«اللّٰهم إن تهلك هذه العصابة=الجماعة من الناس اليوم لا تعبد»(2).ثم أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل قریشة بها ثم قال:
شاهت الوجوه،ثم نفخهم بها،وأمر أصحابه،فقال:شدوا(3).
المدد الغيبي
فجاء المدة الغيبي من اللّٰه سبحانه بطريقة مذهلة،وهذا ما سجله القرآن في سورة آل عمران في قوله تعالى:«وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)»(4).
ويقول تعالى في سورة الأنفال: «إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا (44)»(5).
مشاققة قريش
ويتحدث القرآن عن مشاققة قريش لله ورسوله،وعن عقاب شديد سيواجهونه إن هم استمروا في السير على هذا الطريق،يقول تعالى في سورة الأنفال:«إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى
ص: 48
الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)»
ليهلك من هلك عن بينة
ثم يتحدث القرآن في السورة ذاتها عن أن معركة بدر كانت مقدرة من اللّٰه تعالی لتهلك قریش عن بينة ويحيا المؤمنون عن بینه یقول تعالی«وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»«إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)»(1)
حساب عددي للخسائر
في معركة بدر،كان هناك(1000)مقاتل من مشركي قريش في مقابل(313) أو (314)(3)مقاتلا من المسلمين....رغم ذلك،كانت نتيجة المعركة بمثابة زلزال شدید ومدمر لقريش:(72)قتيلا من رجالات قریش وساداتهم،و(70) أسيرة،في مقابل(14)شهيداً من المسلمين!!
تفجر الكراهية
هنا تفجرت كراهية قريش لبني هاشم،وبالتحديد تفجرت كراهيتهم لحمزة وعلي بن أبي طالب (علیه السلام)،بسبب ما قتلا وجرحا منهم في ذلك اليوم،وقبل ذلك تفجرت كراهيتهم لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) الذي تسبب-في نظرهم-في ذلك كله.فقد أراق بنو هاشم
ص: 49
ماء وجوه قریش أمام أهل مكة،وأمام باقي العرب،وتسببوا في حرج شديد لأبي سفيان الذي كان قد استنجد بقريش لحماية قافلته.
وتفجرت بدرجة أقل كراهية قریش للأنصار،وبالتحديد للخزرج،الذين شكلوا أكثر من ثلثي جیش الأنصار،وأبلوا في معركة بدر بلاء حسنا،ووفروا قبل ذلك الماری الرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وللمهاجرين.
وتحدثنا الروايات التاريخية عن بعض الجهود لمنع الحرب،ولكن هذه الجهود توقفت بسبب إصرار أبي جهل على الحرب.وسرعان ما برز من قريش ثلاثة يعدون من خيرة أبطالها،وهم في الوقت نفسه أساطين بيت واحد(من بني عبد شمس،وهو الأصل الذي ينحدر منه بنو أمية)،وهم:
1-عتبة بن ربيعة(أبو هند،جد معاوية لأمه).
2-الولید بن عتبة(أخو هند،خال معاوية).
3-وشيبة بن ربيعة(عم هند،عم معاوية لأمه).
خرج هؤلاء الأبطال من معسكر قریش واتجهوا إلى وسط الساحة التي تفصل بين الجيشين وصرخوا في معسكر المسلمين:من يبارز؟اختار رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في قبالهم:
1-عمه حمزة بن عبد المطلب(ليواجه عتبة)(1) .
2-وعلي بن أبي طالب (علیه السلام) (ليواجه الوليد بن عتبة)
3-وابن عمه عبيدة بن الحارث(فتار في القضاء على شيبة،فقتل الأخير بسيوف الثلاثة).
وقد قتل الإمام علي (علیه السلام) وحده أربعة من بني عبد شمس،واشترك في قتل خامس.
والأربعة الذين قتلهم الإمام علي (علیه السلام) هم:الوليد بن عتبة بن ربيعة (خال معاوية)،حنظلة بن أبي سفيان(أخو معاوية)،والعاص بن سعيد،وعامر بن عبد اللّٰه حلیف بني عبد شمس.كما اشترك في قتل شيبة بن ربيعة.
وقد أحصى الشيخ المفيد في كتابه الإرشاد اسماء خمسة وثلاثين نفرة ممن قتلهم
ص: 50
الإمام علي (علیه السلام) يوم بدر سوی من اشترك في قتله(1) ،وأحصى ابن هشام في كتابه السيرة النبوية والواقدي في كتابه المغازي أسماء واحد وعشرين نفرة ممن قتلهم الإمام علي (علیه السلام) يوم بدر أو اشترك في قتلهم من مجموع تسعة وأربعين أو خمسين نفرة أحصيت أسماؤهم(أنظر الملحق رقم1)(2) .
وبعملية حسابية بسيطة لنسبة من قتلهم الإمام علي (علیه السلام) أو اشترك في قتلهم إلى المجموع الكلي للقتلى الذين أحصيت أسماؤهم،سنجد أن الإمام علي (علیه السلام) قد قتل أو اشترك في قتل40%من قتلى مشركي قريش في بدر على أقل التقادير،وقد ترتفع هذه النسبة إلى ما يقرب من60%.
أي إن عليا (علیه السلام) كان أكبر من هد بنيان بيت بني عبد شمس في ذلك اليوم، ونستطيع أن نتصور حقدهم عليه إذا تذكرنا ما فعلوه بعمه وصنوه في سن البلاء في أحد،أعني حمزة بن عبد المطلب،الذي قتل بدوره عتبة بن ربيعة بن عبد شمس(أبو هند آكلة الأكباد وجد معاوية لأمه)(3) ،ويقول ابن هشام في سيرته إن علية (علیه السلام) قد اشترك في قتله أيضا.
كما قيل لبني أمية بعید معركة بدر عقبة بن أبيمعيط، الذي أمر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بقتلي بعدما أسر في بدر.وقتل في هذه المعركة لبني أمية شيبة بن ربيعة بن عبد شمس(عم هند،يعني عم أم معاوية).كما أسر عمرو بن أبي سفيان(أخو معاوية)،الذي أطلق سراحه فيما بعد.
نشأة عقدة نفسية عند أبي سفيان وهند
لما رجعت قريش إلى مكة، قام فيهم أبو سفيان(أبو معاوية وجد یزید)وقال: يا معشر قریش،لا تبكوا على قتلاكم،ولا تتح عليهم نائحة،ولا يبيهم شاعر، وأظهروا
ص: 51
الجلد والعزاء، فإنّكم إذا نحتم عليهم وبكيتموهم بالشعر أذهب ذلك غيظكم، فأكلّكم ذلك عن عداوة محمّد وأصحابهً مع أنّه إن بلغ محمّدا و أصحابه شمتوا بكم فیكون أعظم المصیبتین شماتتهم، و لعلّكم تدركون ثاركم فالدّهن و النساء علیّ حرام حتّی أغزو محمّدا...يقول المؤرخون:فمكثت قریش شهرة لا يبكيهم شاعر ولا تنوڅ عليهم نائحة!(1)
يقول الواقدي:فناحت قريش على قتلاها شهرة،ولم تبق دار بمكة إلا فيها نوح،وجر النساء شعر الرؤوس...قالوا:ومشى نساء قريش إلى هند بنت عتبة (أم معاوية وجدة يزيد)وقلت لها:ألا تبكين على أبي وأخي وعملي وأهل بيتك؟فقالت:أبكيهم فيبلغ ذلك محمدأ وأصحابه فيشمتوا بنا ونساء بني الخزرج(2) لا واللّٰه حتى أثار محمد وأصحابه،والده علي حرام أن دخل رأسي حتى نغزو محمداً....يقول المؤرخون:فمكثت على حالها لا تقرب الأهن وما قربت فراش أبي سفيان من يوم حلقت حتى كانت وقعة أحد(3).
يتضح مما سبق أن معركة بدر سیبت عقدة نفسية عند مشركي قريش عمومة،وعند بني أمية خصوصة، تجاه رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،والإمام علي (علیه السلام) وعمهما سید الشهداء حمزة (علیه السلام)(4) ،ويمكن أن نفهم كثيرة من الأحداث التالية على أنها ردود أفعال تجاه ما حدث، ومحاولات للثأر مما وقع يوم بدر.
أهم شخصيات بني أمية ودورها المعادي للإسلام
قبل أن نسترسل في سرد الأحداث التي وقعت بعد معركة بدر،سأتوقف قليلا لندرس باختصار أهم شخصيات بني أمية القرشية(5)،مستعينا في ذلكبما ينقله المقريزي في كتابه
ص: 52
الهام«النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم»،ثم نعود بعد ذلكلنربط معركة بدر بواقعة كربلاء.
1.أبو أحيحة سعيد بن العاص بن أمية:هلك على كفر باللّٰه في أول سنة من
الهجرة....وهو يحاد اللّٰه ورسوله.
أقول:لكن ثلاثة من أبنائه كانوا من الصالحين:خالد بن سعید بن العاص مع أخويه
أبان وعمرو(1).
2.عقبة بن أبي معيط: وكان أشد الناس عداوة لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،إلى أن قاتل يوم بدر،فأتي به إلى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وقد أسير،فأمر بضرب عقبه فجعل يقول:يا ويلتي علام أقتل(يا معشر قريش أأقتل)من بين هؤلاء؟فقال رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):لعداويك اللّٰه ولرسوله،فقال:يا محمد،منك أفضل،فاجعلني كرجل من هؤلاء من قومي وقومك،یا محمد من للصبية؟.....وضرب عنقه.....
3.الحكم بن أبي العاص بن أمية:وكان مؤذية لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بمكة،يشتمه ويسمعه ما يكره،فلما كان فتح مكة،أظهر الإسلام خوفا من القتل،فلم يحن إسلامه،وكان مغموص عليه في دينه(=مطعونة في دينه). ثم قدم المدينة فنزل على عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية،وكان يطال الأعراب والكفار بأخبار رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).وبينا رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)يمشي ذات يوم، مشى الحكم خلفه فجعل يختلج(=حرك)بأنفو ونمو كأنه يحاكي رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)، ويتفكك ويتمایل،فالتفت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)فرآه،فقال
ص: 53
له:كن كذلك،فما زال بقية عمره على ذلك.واطلع يوما على رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وهو في حجرة بعض نسائه،فخرج إليه بعنزة(=أطول من العصا وأقصر من الرمح)، فقال:من عذيري في هذا الوزغة،لو أدركه لفقاث عينه.......
ثم إن النبي (صلی اللّه علیه واله) لعنه وما ولد،وغيره عن المدينة،فلم يزل خارجة عنها بقية حياة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وخلافة أبي بكر وعمر،فلما استخلف عثمان،رده إلى المدينة وولده،فكان ذلك مما أنكره الناس على عثمان(1) ،وكان أعظم الناس شؤمة على عثمان،فإنهم جعلوا إدخاله المدينة بعد إطراير النبي إياه،وبعد امتناع أبي بكر وعمر من ذلك،من أكبر الحجج على عثمان....،ومات الحكم في خلافة عثمان،فضرب عثمان على قبرو فسطاطا(وكان الجاهليون إذا توفي رجل عزیز جلیل القدر يضربون فسطاطة أو قبة على قبره تعبيرا عن حزنهم وإظهارا لقدره)،وقد قالت عائشة لمروان بن الحكم:أشهد أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)لعن أباك وأنت في صلبه.
والحكم هذا يقال له طریڈ رسول اللّٰه ولعينه، وهو والد مروان بن الحكم الذي صارت الخلافة إليه بالغلبة!!وتوارئها بنوه من بعده،وكان مروان رجلا لا فقة له، ولا يعرف بالزهير،ولا برواية الآثار،ولا بصحبة (لأنه قضى شبابه في حياة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) في المنفى مع أبيه المطرود)،ولا بعد همة،وقد ولي البحرين لمعاوية،الذي أقطع فدك المروان فوهبها بدوره لبنيه.
أقول:«مروان بن الحكم»(2) ،لا بد أن نتذكر هذا الاسم جيدة،لأنه سيلعب دورة مهما في عهد عثمان وبعد مقتله.ففي عهد عثمان،سيصبح مروان أبرز مستشاري عثمان،وسيكون له دور كبير في النهاية المأسوية التي انتهى عثمان إليها،لقيامه بخطوات أدت إلى استفزاز الثوار المستفزين أصلا.ثم بعد مقتل عثمان سيهرب مروان من المدينة إلى مكة ويلتحق بالناكثين،ثم يشارك في حرب الجمل،ويرمي طلحة بسهم فيقتله(لأن طلحة
ص: 54
في نظره ممن حرض على عثمان)،ثم يلتحق بالقاسطين،ويشارك في حرب صفين،ويرسخ وجوده في الدولة الأموية.وسيلعب أيضا دورة مؤثرة في عهد معاوية،بل حتى بعد موت معاوية ويكفي أن نتذكر أن يزيد بن معاوية عندما طلب من ابن عمه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان-الوالي على المدينة-أن يأخذ البيعة من الإمام الحسين (صلی اللّه علیه واله) أخذا شديدة،كان مروان هو المحرض للوليد على إجبار الإمام الحسين (علیه السلام) على مبايعة يزيد أو قتله.وسيكون له دور أساسي في انتقال الحكم من العنابس(وبالتحديد:السفيانيين)إلى الأعياص(وبالتحديد:المروانيين)بعد موت یزید واضطراب الدولة الأموية.
4.عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن أمية:أحد من عادی اللّٰه ورسوله إلى أن تل ببدر كافرة،قتله حمزة بن عبد المطلب(رضي اللّٰه عنه).وتبة هذا هو أبو هند بنت عتبة التي الاكت كبد حمزة،ثم لفظتها،واخذت مما قطعت منه أساور وخلاخيل ومعضدین وخدمتين(=خلخال أو حلقة)وأعطت وحشية قاتل حمزة جلية كان عليها من فضة وجزع(=نوع من العقيق)وخواتيم ورقة كانت في أصابع رجليها،كل ذلك شماتة بحمزة
لأنه قتل أباها عتبة رأس الكفر يوم بدر.وقيل أن علياً (علیه السلام) لما فرغ من الولید بن عتبة مال مع عبيدة بن الحارث بن المطلب فقتلاه جميعا(1).
وهند هذه،أمر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)يوم فتح مكة بقتلها فأسلمت،ولما حضرت مع الساء لتبايع بيعة الإسلام،كان مما قال له رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):ولا تقتلن أولادك، فقالت:ربيناهم یا محمد صغارة وقتلتهم كبارة.وهي أم معاوية بن أبي سفيان الذي قاتل علي بن أبي طالب (علیه السلام)،وأخذ الخلافة من الحسن بن علي (علیه السلام)،واستلحق زیاد بن شمية من زنية،واستخلف على الأمة ابنه يزيد القرود،ويزيد الفجور.
5.الوليد بن عتبة بن ربيعة:وقيل ببدر كافرة،قتله علي بن أبي طالب (علیه السلام)،والوليد هذا هو خال معاوية.
6.شيبة بن ربيعة بن عبد شمس:عم هند،أم معاوية،وكان يجتمع مع قريش فيما
يكي رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) من الأذي،وقتله اللّٰه يوم بدر فيمن قتلوا من أعدائه.
ص: 55
7.أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية:قائد الأحزاب الذي قاتل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)يوم أحد،وقتل من خيار الصحابة سبعين،منهم أسد اللّٰه حمزة بن عبد المطلب.وقاتل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)
في يوم الخندق(1) .
طريقة إسلام أبي سفيان
يقول المقريزي:«ولم يزل يحادد اللّٰه ورسوله حتى سار رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) لفتح مكة،فأتي به العباس بن عبد المطلب رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وقد أردفه،وذلك أنه كان صديقه في الجاهلية،فلما دخل على رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)سأله أن يؤمنه.
فلما رآه رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)قال له:ويلك يا أبا سفيان،ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا اللّٰه تعالی؟
فقال:بأبي أنت وأمي،ما أوصلك وأحلمك وأكرمك،واللّٰه لقد ظننت أنه لو كان مع اللّٰه غيره لقد أغنى عني شيئا.
فقال (صلی اللّه علیه واله):يا أبا سفيان،ألم يأن لك أن تعلم أني رسول اللّٰه تعالی؟فقال:بأبي أنت،ما أوصلك وأحلمك وأكرمك،أما هذه ففي النفس منها شيء!
فقال له العباس:ويلك اشهد بشهادة الحق قبل أن تضرب عنقك،فشهد واستم.
فهذا حديث إسلامه كما ترى.
واختلف في سن إسلامي،فقيل أنه شهد حنينا مع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وكانت الأزلام معه يستقسم بها(الأزلام جمع زلم،وهو سهم لا ریش له كان يستخدم لمعرفة ما قسم للشخص،وقد حرم اللّٰه تعالى الاستقسام بها)،وكان كهفة للمنافقين،وأنه كان في الجاهلية زنديقاً.
وفي خبر عبد اللّٰه بن الزبير،أنه رآه يوم اليرموك،قال:«فكانت الروم إذا ظهرت (=أي مالت كفة المعركة لصالح الروم)قال أبو سفيان:إيه بني الأصفر،فإن كشفهم المسلمون(=أي مالت كفة المعركة لصالح المسلمين)قال أبو سفيان:وبنو الأصفر الملوك ملوك الروم لم يبق منهم مذكور،فحدث به ابن الزبير أباه،فلما فتح اللّٰه على المسلمين،فقال الزبير:قاتله اللّٰه يابي إلا نفاقة، أولسنا خيرة له من بني الأصفر»(2) .
ص: 56
موقف أبي سفيان لحظة وصول عثمان إلى الشلطة
وروي عن الحسن أن أبا سفيان دخل على عثمان حين صارت الخلافة إليه، فقال:قد صارت إليك بعد تیم وغدي،فأدرها كالكرة،وفي رواية،فتزفوها تزف الكرة(=تلقفوها)،واجعل أوتادها بني أمية،فإنما هو الملك،وما أدري ما جنة ولا نار،فصاح به عثمان:قم فعل اللّٰه بك وفعل.وأبو سفيان هذا هو أبو معاوية، ولم يزل بعد إسلامه يعد هو وابنه معاوية من المؤلفة قلوبهم(1) .
أقول:بهذه الكلمة التي قالها أبو سفيان،يكون أبو سفيان هو أول من أوحى لبني أمية بفكرة توارث الشلطة،وحصرها في بني أمية،وهي الفكرة التي حاول معاوية بعد ذلك فرضها على واقع المسلمين،من خلال توريث الشلطة-لأول مرة في تاريخ المسلمين-لابنه يزيد،وهو انقلاب بني أمية الكبير على قريش والمسلمين عموما،وهو ما سيؤدي بالنتيجة إلى حدوث واقعة كربلاء(2) .
8.معاوية بن المغيرة بن العاص بن أمية:وهو الذي جدع أنف حمزة،ومئل به فيمن مثل،فلما انهزم يوم أحد دخل على عثماني بن عفان ليجيره،وكان رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم
ص: 57
قد أمر بطلبه،فأخرج من دار عثمان،وأتي به رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)فوهبه لعثمان وأقسم (صلی اللّه علیه واله)لئن وجده بعد ثلاث بالمدينة وما حولها ليقتلن،فجهه عثمان،وسار في اليوم الرابع،فقال رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):إن معاوية أصبح قريبا لم ينفذ فاطلبوه واقتلوه،فأصابوه،فأخذه زید بن حارثة وعمار بن یاسر فقتلاه،وقيل بل قتله على (علیه السلام).
ومعاوية هذا أبو عائشة،أم عبد الملك بن مروان بن الحكم،الذي سيصبح خليفة على المسلمين،فعبد الملك بن مروان أعرق الناس في الكفر،لأن أحد أبويو هو الحكم بن أبي العاص،لعيث رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وطريده،والآخر معاوية بن المغيرة(1) .
9.حمالة الحطب أم جميل بنت حرب بن أمية:كانت تحمل الشوك فتطرحه على
طريق رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،ولم تزل على شفيرها حتى هلكت(2) .وهي كما أشرنا سابقا، أخت أبي سفيان،وعمة معاوية.
ثم يقول المقريزي بعد ذكر السيرة الذاتية لأبرز شخصيات بني أمية:«وما أحد من هؤلاء الذين تقدم ذكرهم إلا وقد بذل جهده في عداوة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وبالغ في أذى من اتبعه وآمن به ونالوا(يعني المسلمين منهم من الشتم وأنواع العذاب،حتى فرژوا منهم مهاجرين إلى بلاد الحبشة،ثم إلى المدينة،وأغلقت أبوابهم بمكة،فباع أبو سفيان بن حرب دورهم وقضى من ثمنها دينا عليه،وهموا بقتل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)غير مرة،وتناظروا في أمره ليخرجوه من مكة أو يقيدوه ويحبسوه حتى يهلك أو يندبوا لقتله من كل قبيلة رجلا حتى يتفرق دمه بين القبائل،وبالغ كل أحد منهم في ذلك بنفسه وماله وأهله وعشيرته،ونصب لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) الحبائل بكل طريق سرا وجهرة ليقتله....كل ذلك حسدة منهم لرسول اللّٰه وبغية،ويأبى اللّٰه إلا تأیید رسوله (صلی اللّه علیه واله) وإعلاء كلمته حتى صدق اللّٰه وعده،ونصر عبده،وأعز جنده،وهزم الأحزاب وحده،وظهر أمر اللّٰه وهم كارهون.........واللّٰه در القائل:
عبد شمس قد أضرمت لبني ها
شم حربا يشيب منها الوليد
فاب حرب للمصطفى واب هند
لعلي وللحسبني يزيد»(3)
ص: 58
بنو عبد شمس وبنو نوفل لا يستحقون الخمس
ثم يتحدث المقريزي عن إبعاد رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)بني أمية عنه،وإخراجهم من ذوي قرباه،ويروي عن صحيح البخاري وغيره أكثر من رواية،تؤكد أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) عندما أراد تقسيم الخمس،أعطى لبني المطلب وبني هاشم،ولم يقسم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل.
ويروى عنه (صلی اللّه علیه واله) قوله:إنا(بنو هاشم وبنو المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام، وإنما نحن وهم شيء واحد،وشبك بين أصابعه.وفي رواية أخرى:إنا وهم لم نزل في الجاهلية والإسلام شيئا واحدة،وكانوا معنا في الشعب(=شعب أبي طالب)كذا،وشبك بين أصابعه(1).
بين معركة بدر وواقعة كربلاء
هنا نستطيع أن نفهم العبارات وأبيات الشعر المنقولة عن یزید بن معاوية.يقول
المؤرخون وأصحاب المقاتل:عندما وصل موكب السبايا إلى الشام أنشا يزيد يقول:
لما بدت تلك المحمول واشرقت
تلك الرووس على شفا جيرون(2)
نعب (3)الغراب فقل:صح أو لا تصح
فقد قضي من الرسولي ديوني
ومن هنا حكم ابن الجوزي والقاضي أبو يعلى والتفتازاني والجلال الشيوطي بكفر
يزيد ولعنه.
وعندما وضع رأس الحسين (علیه السلام) الشريف أمام يزيد،جعل پنگت(=يضرب أو ينقر)ثغر(=أسنان)الحسين (علیه السلام) ويقول:يوم بيوم بدر.
وأنشد قول الحصين بن الحمام:
أبي قومنا أن ينصفونا فانصفت
قواضب في أيماننا نقط الأما
ص: 59
صبرنا وكان الصبر منا عزيمة
وأسيافنا فطعن كفا ومعصماً
نفلق هامة من رجال أعزة
علينا وهم كانوا أعق وأظلما
فقال يحيى(أو عبد الرحمن)بن الحكم بن أبي العاص(أخو مروان)وكان جالسا عنده:
لهام بجنب الطف أدنی قرابة
من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل(1)
سمية أمسى نسلها عدد الحصى
وليس لآل المصطفى اليوم من نسل
فضربه يزيد على صدره وقال:اسكت لا أم لك.
ويقول المؤرخون إن يزيد عندما كان ينكت ثنايا الحسين (علیه السلام) بقضيبه،تمثل بابیات
ابن الزبعری.... لكن من هو ابن الزبعری؟
هو عبد اللّٰه بن الزبعري بن قيس بن عدي بن سعيد بن سهم،شاعر قريش في الجاهلية،كان شديدة على المسلمين،أنشد قصيدة طويلة بعد معركة أحد-بعدما تشفت قریش نسبية مما جرى لها في بدر-ورد عليه حسان بن ثابت بقصيدة.ونقل القصيدتان ابن هشام في سيرته،جاء فيها:
یا غراب(2) البين أسمعت فقل
إنما ننطق شيئا قد فعل
كم قتلنا من كریم سید
ماجد الجدین مقدام بطل
ليت أشياخي ببدر شهدوا
جرع الخزرج من وقع الأسل(3)
وزاد یزید بن معاوية عليها:
الأهلوا واستهلوا فرحاً
ثم قالوا:بایزید لاتشل
لست من خندف(4)إن لم أنتقم
من بني أحمد ماكان فعل
ص: 60
لعبت هاشم بالملك فلا
خبر جاء ولا وحي نزل
قد أخذنا من علي ثأرنا
وقتلنا الفارس اللب البطل
وقتلنا القرم من ساداتهم
وعدلناه ببدر فاعتدل(1)
وابن اعثم في الفتوح والخوارزمي في مقتل الحسين (علیه السلام) وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق وابن أبي الحديد المعتزلي وابن عبد ربه في العقد الفريد...كلهم ذكروا تمثل يزيد الأبيات ابن الزبعری.
وردت عليه زینب في خطبتها فكان مما قالت:....ثم تقول غير متائم ولا مستعظم:
لأهلوا واستهلوا فرحاً
ثم قالوا یا یزید لاتشل
... أتهتف بأشياخك؟زعمت تناديهم،فلتردن وشیكا موردهم،ولتون أنك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت...
الخلاصة:تحدثنا عن معركة بدر،وكيف تفجرت كراهية قريش تجاه بني هاشم،وتجاه رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) وعلي (علیه السلام) وحمزة على وجه التحديد،وكيف نشأت عقدة نفسية عند قریش عموما،وأبي سفيان على وجه الخصوص،تجاه رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وعلي (علیه السلام) وحمزة،كما استعرضنا أهم شخصيات بني أمية ودورها المعادي للإسلام،ثم ربطنا أخيرة بين معركة بدر وواقعة كربلاء.
في الفصل القادم،سوف نتناول أحداث ما بعد معركة بدر،ومحاولة قريش تصفية
حسابها مع بني هاشم.
ص: 61
تحدثنا في الفصل السابق عن معركة بدر، وقلنا بان هذه المعركة كانت حاسمة في تاريخ المسلمين،وأنها ولدت عقدة داخل نفوس القرشيين عموما،وداخل نفوس بني أمية خصوصة،تجاه رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وتجاه علي (علیه السلام) وتجاه حمزة.وأن قريشا كانت تتحين الفرصة لتأخذ بثارها وتمسح العار الذي لحق بها،جراء مقتل أكثر من من ساداتها،وأسر (70)آخرين،في مقابل(14)شهيدا من المسلمين.
تهييج الناس على الإمام علي (علیه السلام)
معركة بدر التي أبلى فيها الإمام علي (علیه السلام) بلاء حسناً،وفعل مع عمير حمزة بقريش الأفاعيل،كان يفترض أن تبقى نقطة قوة له في سجله، ونقطةبيضاء ناصعة ومضيئة في سيرته،لكن بعضهم كان يحاول أن يحسن صورته الاجتماعية على حساب الإمام علي (علیه السلام)...كان يحاول أن يتقرب بعد فتح مكة إلى قريش على أساس أنه لم يفعل بهم ما فعل الإمام علي (علیه السلام) بهم،ولم يتورط في سفك دمائهم كما فعل الإمام علي (علیه السلام)،مستفيدة لتعزيز موقعه الاجتماعي من الحقد والغل المختزن في قلوب قریش تجاه الإمام علي (علیه السلام).
ينقل الشيخ المفيد،والواقدي وابن هشام بألفاظ قريبة،واللفظ للأول،أن عثمان بن عفان مر بسعيد بن العاص فقال:انطلق بنا إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب نتحدث عنده،فانطلقا،قال:فأما عثمان نصار إلى مجلسه الذي يشتهيه،وأما أنا فمل في ناحية القوم.
فنظر إلي عمر وقال:ما لی أراك كأن فی نفسك علیّ شیئا؟!أتظن أنی قتلت أباك؟!
و اللّه لوددت أنی كنت قاتله،و لو قتلته لم أعتذر من قتل كافر،لكنی مررت به یوم بدر،فرأیته یبحث للقتال كما یبحث الثور بقرنه،و إذا شدقاه(=الشدق جانب الفم مما تحت الخد)قد أزبدا كالوزغ،فلما رأیت ذلك هبته و زغت عنه.فقال:إلی أین یا ابن الخطاب؟! و صمد له علی فتناوله،فو اللّه ما رمت مكانی حتی قتله.
ص: 62
قال:وكان علي (علیه السلام) حاضراً في المجلس،فقال:اللّٰهم غفرة،ذهب الشرك بما فيه،ومحا الإسلام ما تقدم،فما لك تهيج الناس؟
فكف عمر
قال سعيد:أما إنه ما كان يشرني أن يكون قاتل ابي غير ابن عمه علي بن أبي طالب(1) .
وفي رواية يرويها الصدوق عن علي بن الحسن بن فضال،عن أبيه،عن أبي الحسن (علیه السلام)،قال:سألته عن أمير المؤمنین (علیه السلام)،كيف مال الناس عنه إلى غيره،وقد عرفوا فضله وسابقته ومكانه من رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)؟فقال (علیه السلام):إنما مالوا عنه إلى غيره-وقد عرفوا فضله-لأنه قد كان قتل من آبائهم وأجدادهم وإخوانهم وأعمامهم وأخوالهم وأقربائهم المحادين اللّٰه ولرسوله عددا كثيرة، وكان حقهم عليه لذلك في قلوبهم،فلم يحبوا أن يتولى عليهم،ولم يكن في قلوبهم على غيره مثل ذلك،لأنه لم يكن له في الجهاد بين يدي رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)مثل ما كان له،فلذلك عدلوا عنه ومالوا إلى سواه»(2) .
ما بعد بدر
على أي حال،سمى اللّٰه سبحانه وتعالى يوم بدر با«یوم الفرقان»،وبلغ من اعتزاز المسلمين بانتصارهم في بدر أن سموا كل من شهدها من المسلمين«بدرياً»،وكانوا يعتزون بهذه التسمية ويفخرون.وأجواء هذا الانتصار هيأت الظروف ليواجهوا بعد ذلك قسما من يهود المدينة(بنو قینقاع في2هج)،الذين شعروا بالقلق من تعاظم قوة المسلمين(3) .
معركة أحد(3هج)
في(3هج)اجتمع حول أبي سفيان بن حرب ثلاثة آلاف من قريش،فخرج بهم بریڈ
ص: 63
المدينة،لتدرك ثأرها لقتلى بدر،واصطحب معه القيان(جمع قينة=المغنية) ومعهم المعازف والخمر.فلما سمع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)بهم،استشار المسلمين بشان الخروج المواجهة قريش أو البقاء في المدينة والدفاع عنها،فأشار عبد اللّٰه بن أبي بن سلول بالبقاء فيها،وأل بعض الصحابة على الخروج لمواجهة قريش،فدخل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بيته ولبس الأمة الحرب،وخرج ومعه المسلمون.وفي الطريق انسحب عبد اللّٰهبن أبي مع ثلث جیش المسلمين،وواصل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) طریقه مع من بقي معه باتجاه جبل أحد(1) .
ووصل المشركون،وبدأت المعركة،وكان على رأس المشركين أبو سفيان، وعلى الخيل خالد بن الوليد،وكانت هند بنت عتبة في السوة اللاتي معها، أخذ بضرب الدفوف خلف الرجال،يحضنهم ويذگرنهم قتلى بدر.
ولما رأى المسلمون تقهقر المشركين،أهمل الرماة وصية رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) إياهم بالثبات في مواقعهم،وأخذوا يجمعون الغنائم،فانتهز خالد الفرصة،والتف على المسلمين،فاختل نظامهم.في هذه اللحظة تخاذل المسلمون واستولى اليأس على قلوب فريق منهم،باستثناء قلة قليلة،كالإمام علي (علیه السلام) وحمزة وأبي دجانة وسهل بن حنیف وعاصم بن ثابت،وفر الباقون من أرض المعركة(2) ، حتى فكر بعضهم في الارتداد عن
ص: 64
الاسلام فقال:ليت لنا رسولا إلى عبد اللّٰه بن أبي فيأخذ لنا أمانة من أبي سفيان(1) . ويصف القرآن هذا الحال في قوله تعالى:«وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ »(=تخمدون حتهم في بداية المعركة)حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ(=أمر الرسول في الثبات في المواقع)مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ(=ووكلكم إلى أنفسكم)لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)«إِذْ تُصْعِدُونَ(تبعدون في الأرض هاربين)ولا تلون(=تلتفتون)على أحد والرسوك يدعوكم في أخراكم(=يناديكم من ورائكم)فأثابكم غم بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم(=من الغنائم)ولا ما أصابكم(=من الجراحات و وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)»َلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ(=هل لنا من النصر الموعود نصیب بعد هذه الهزيمة؟)قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ(=من الشك) مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا (=لو كان لنا من النصر نصيب كما وعدنا ما قتل أصحابنا بهذا النحو!)قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)»«إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا(=من حب الدنيا وغيرها من الذنوب) وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)»(2) .
مع هروب عدد كبير من المسلمين من أرض المعركة،انتشر خبر مقتل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وكانت هذه الشائعة سببا لنجاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)من أيدي المشركين، لأن قریش ظنت أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)
قد قتل(3) ،وانتهى أمر الإسلام.وعندما ظهر لقريش أن الأمر ليس على ما يظون،وعلم المسلمون بأن قريش تستعد الحرب جديدة،وجدوا أن قسمة ثانية من يهود المدينة(بنو النضير)بات يضعضع الجبهة الداخلية عندما تأمروا لقتل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،فتم التخلص
من هذا القسم سنة(4هج).
ص: 65
لكن قبل أن نترك معركة أحد،أرى من المفيد الالتفات إلى النقاط التالية:
1-نتيجة معركة أحد وإن شفت نسبية الحقد والغضب المختزن في قلوب القرشيين،إلا أنها فتحت جروحة جديدة،ورشحت أحقادة تركزت هذه المرة على الإمام علي (علیه السلام).أولا:لكونه أبلى بلاء حسناً ولم يفر من أرض المعركة قط،وظل يواصل القتال حتى اللحظة الأخيرة.وثانيا:لأن النصيب الأكبر من قتلى كفار قريش في أحد كان على يد الإمام علي (علیه السلام)
أيضا،فإن كان عدد من قتل من قريش في أحد22قتيلا-كما ينقل ابن هشام في سيرته(1) -وقتلى الإمام علي (علیه السلام) وحده6،فهذا يعني أن علياً (علیه السلام) قتل وحده ما نسبته27%من مجموع قتلی قریش،وهي نسبة وإن لم تصل إلى
نسبة قتلى بدر،لكنها نسبة عالية على أي حال.وثالثا:لأن قتلى الإمام علي (علیه السلام) يعتبرون من أبطال قريش،ويكفي أن نعرف أن من بين قتلاه في أحد طلحة بن أبي طلحة،صاحب لواء المشركين،وكبش الكتيبة الذي رآه رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في رؤيا قبيل المعركة(راجع الملحق رقم2)
2-هذا الحقد المتراكم في قلوب القرشيين تجاه الإمام علي (علیه السلام)،ابتداء من مبيت لي على فراش رسول اللّٰه ليلة الهجرة والتسبب-في نظرهم-في نجاة رسول اللّٰه،مرورا بالصاعقة التي وقعت على رؤوسهم في معركة بدر،وانتهاء الآن بمجريات معركة أحد...كله سيلقي بظلاله على واقعة كربلاء،وكأن قريش كانت تنتظر لحظة تاريخية لكي صقي حسابها-وبشكل نهائي-مع الإمام علي (علیه السلام)،فكانت واقعة كربلاء
3-بعد معركة أحد،بدأت قريش بالتشقي شعرة من المسلمين،فكان منها تلك الأبيات
التي أنشدها عبد اللّٰه بن الزبعری بن قيس بن عدي بن سعيد بن سهم، والتي جاء فيها:
ليت أشياخي ببدر شهدوا
جرع الخزرج من وقع الأسل(2)).
وسنرى بعد كربلاء،أن يزيد تمثل الأبيات نفسها،ثم زاد عليها:
الأهلوا واستهلوا فرحا
ثم قالوا:یا یزید لاتشل(3)
وهذا شاهد إضافي على أن فاجعة كربلاء هي امتداد لمعركتي بدر وأحد.
ص: 66
4-ابتدعت قریش قبيل وبعید معركة أحد شئة جديدة لم تكن مألوفة،وهي التفكير الجاد في نبش القبور والتعرض للحرم،والتمثيل الفعلي باجساد القتلى.وكان لهند بنت عتبة(أم معاوية وجدة يزيد)النصيب الأكبر في هذه الشنة القبيحة،التي سوف تتكرر من جديد في كربلاء .
يذكر الواقدي في مغازيه:«وكانت قريش لما مرت بالأبواء(في طريقها إلى أحد)قالت:إنكم خرجتم بالعن معكم،ونحن نخاف على نسائنا،فتعالوا ننبش قبر أم محمد،فإن النساء عورة...واستشار أبو سفيان أهل الرأي من قريش فقالوا:لا تذكر من هذا شيئا،فلو فعلنا نبشت بنو بكر وخزاعة موتانا»(1) .
ويذكر ابن هشام في سيرته:«ووقعت هند بنت عتبة والنسوة اللاتي معها، يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،يجدعن الأذان والأنف،حتى اخذت هند من آذان الرجال وأنفهم خدمة وقلائد،وأعطت خدمها وقلائدها وقرطها وحشية،وبقرت كبد حمزة، فلاكتها،فلم تستطع أن تسيغها،فلفظتها(2) .
.......وجاء أبو سفيان،وضرب في شدة حمزة بن عبد المطلب بزج الرمح، وهو يقول:ق محقق(=یا عاق).ثم إن أبا سفيان حين أراد الانصراف،أشرف على الجبل،ثم صرخ بأعلى صوته:إن الحرب سجال،يوم بيوم بدر»(3) .
الواقدي في مغازيه:«وكانت هند أول من مئل بأصحاب النبي (صلی اللّه علیه واله)،وأمرت النساء بالمثل-جدع الأنوف والآذان-فلم تبق امرأة إلا عليها معضدان ومسكتان وخدمتان،ومثل بهم كلهم إلا حنظلة»(4) .
ويروي الواقدي ما فعلت هند بكبد حمزة فيقول:«فمضغتها ولفظتها...قطعت مذاكيره،وجدعت أنفه،وقطعت أذنيه،ثم جعلت مسكتين ومعضدین وخدمتين، حتى قدمت بذلك مكة،وقمت بكبيره معها»(5) .
ص: 67
هذه الصورة البشعة،ستتكرر عندما يأمر عبيد اللّٰه بن زياد(المنسوب إلى أبي سفيان)بأن ينتدب من يطأ بفرسه صدر الحسين (علیه السلام)،ويقطع رؤوس الشهداء،ويتعرض للحرم الحسين (علیه السلام).
ولادة الإمام الحسين (علیه السلام) (4هج)
في هذه السنة بالتحديد(4هج)ولد الإمام الحسين (علیه السلام)،وتواتر الحديث المروي عن الإمام علي (علیه السلام) وأم سلمة وزينب بنت جحش وعائشة وأم الفضل بنت الحارث وابن عباس وأنس بن مالك وأبي الطفيل ومعاذ بن جبل وأنس بن الحارث وجابر بن عبد اللّٰه الأنصاري-مع فروق طفيفة-بأن بعضهم دخل منفردة على رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)فرأى عينيه تفيضان،فسأله:يا نبي اللّٰه أغضبك أحد ما شان عينيك تفيضان؟قال:قام من عندي جبرئیل قبل فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات،فقال:هل لك إلى أن أم من تربته؟قلت:نعم،فمد يده فقبضقبضة من تراب فأعطانيها فلم أملك عيني أن فاضتا(1) .
وتواثر هذا الحديث يدل على أنه كان من الشائع عن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) أن الإمام
الحسين سيقتل شهيدة وأن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)لعن قاتليه.
المنافقون يهيجون الفتنة
وفي هذه المرحلة وقعت غزوة بني المصطلق(أو المريسيع)(2) ،وبرز جلية دور المنافقين-وبالتحديد عبد اللّٰه بن أبي بن سلول-في تأجيج الفتنة بين المهاجرين والأنصار،بعدما وقع نزاع بين رجل من الأنصار وآخر من المهاجرين، فنادى الأول:يا معشر الأنصار، ونادى الثاني:یا معشر المهاجرين.
فاستغل عبد اللّٰه بن أبي هذه الحادثة فورة،وحوض الأنصار على المهاجرين، قائلا:أوقد فعلوها؟نافرونا وكاثرونا في بلادنا،واللّٰه ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل:سمن
ص: 68
كلبك يأكلك.هذا ما فعلتم بأنفسكم،أحللتموهم بلادكم،وقاسمتوهم أموالكم، ووقتموهم بأنفسكم،وأبرزتم تحوركم للقتل،نارمل(محمد)نساءكم وأيتم صبيانكم.....أما واللّٰه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأع منها الأذل.(ونزلت سورة المنافقون لتسجل هذه الحادثة المهمة(1) .
لاحظ هنا أن هذا المنافق جعل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وكأنه زعيم المهاجرين،ليتزعم بدوره هو الأنصار!مستفيداً من التوجس الذي كان يراود الأنصار دائما من أن المهاجرين سينقلبون عليهم يوما ما،ولن يقدروا لهم تضحياتهم.فرغم وجود تناقض داخلي بين الأوس والخزرج،لكن ما يجمعهم أمام المهاجرين العدنانيين القرشيين،أنهم من قحطان (رغم أن المهاجرين ليسوا كلهم من قریش العدنانية).
معركة الأحزاب(5هج)
بعد أن اتضح لقريش أن جذور الإسلام ما زالت باقية،وعادت لتنمو من جديد، لم بات عام(5هج)إلا وكانت على أهبة الاستعداد لحرب جديدة،بالتنسيق هذه المرة مع غطفان وأعراب كنانة وتهامة،وبالتنسيق أيضا مع القسم الثالث من يهود المدينة(بنو قريظة)الذين نقضوا عهدهم مع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).فقاد أبو سفيان الحرب الثالثة على المسلمين التي شميت ب«معركة الأحزاب» (=أو الخندق)(2) ،وكان عدد جيشه يربو على عشرة آلاف مقاتل(3) ،وهو عدد هائل لم تشهده الجزيرة من قبل.
ونريد هنا التركيز على ضربة الإمام علي (علیه السلام) يوم الخندق لعمرو بن عبدودالعامري،الذي كان يعد بألف فارس،والذي كان قد جرح في بدر وحرم على نفسه الدهن حتى يثار من محمد (صلی اللّه علیه واله)وأصحابه....هذه الضربة زادت من عقدة قريش وحقدها على الإمام علي (علیه السلام)،وخصوصا عندما نتذكر مجريات التحدي، عندما قال للمسلمين:«هل من مبارز؟......إنكم تزعمون أن قتلاگم في الجنة وقتلانا في النار،أفما يحب أحدكم أن يقدم على الجنة أو يقدم عدوة له إلى النار؟،وكيف أن المسلمين أحجموا عن مبارزته باستثناء الإمام علي (علیه السلام) الذي تصدى له وقضى عليه. (4)
ص: 69
وانتهت المعركة دون أن تجني قريش شيئا،وذلك بعد أن طال أمد الحصار ونقصت المؤونة،وساءت الأحوال الجوية فاشتد الريح والبرد،وبدأت تصدر أوامر متناقضة من قادة الأحزاب،فدب الخلاف بينهم،وانفرط عقد التحالف.وأعطت هذه المعركة مبررة كافية للمسلمين لوضع حد لوجود بني قريظة في المدينة فأجلوهم عنها،وبذا خلت المدينة من اليهود،ولم يتبق إلافلول لهم في أطرافها،بالخصوص في خيبر.وما جاء عام(7هج)إلا وقد تخلص المسلمون من وجودهم أيضا في المناطق المحيطة بالمدينة.
يقول تعالى:«إِذْ جَاءُوكُمْ»(=الأحزاب وعلى رأسهم قريش)«مِنْ فَوْقِكُمْ»(=شمال المدينة،ربما إلى الشمال الغربي أقرب)«وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ» (=يهود بني قريظة جنوب المدينة،وربما إلى الجنوب الشرقي أقرب)«وَإِذْ زَاغَتِ» (=مالت)«الْأَبْصَارُ»(رعبا)وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ(فزعاً)وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (= بأن الإسلام سيمحق والجاهلية ستعود)،«هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)»
«وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)»(=كذباً وخداعاً بأن المسلمين سيفتحون مدائن كسرى وقيصر، ونحن لا نأمن أن نذهب إلى الخلاء)....«وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)»
«مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ »
4(كحمزة بن عبد المطلب)« وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ »(كعلي (علیه السلام))وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ....«وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا)(=لم يحققوا الحد الأدنى من النصر على الرسول والمؤمنین) وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ(=بالريح والملائكة وعلي (علیه السلام) عندما قتل عمرو بن عبدود) وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ(=عاونوا الأحزاب) مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)(=يعني بالتحديد يهود بني قريظة) مِنْ صَيَاصِيهِمْ(=حصونهم المنيعة)وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26)»(الأحزاب،10-26).
ص: 70
صلح الحديبية(6هج)
على أي حال،قبل أن يتخلص المسلمون من فلول اليهود في خيبر،كان رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)
قد عزم في عام(6هج)على العمرة،في ألف وأربعمائة من المسلمين،وقف القرشيون في طريقه على مقربة من مكة يمنعونه من دخولها،فأرسل (صلی اللّه علیه واله) عثمان بن عفان كوسيط بينه وبين قریش،فحجزت قريش عثمانة،وشاع بين المسلمين أنه قتل،عندئذ تأهب رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)للقتال،فبايعه المسلمون تحت الشجرة(بيعة الرضوان)،فارتاعت قریش،وأرسلت الوسطاء لمفاوضة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وانتهى الأمر بما يعرف ب«صلح الحديبية»(6هج)(1) .
فتح مكة(8هج)والطلقاء
كان هذا الصلح نصراً للمسلمين،حيث دخلت قبائل كثيرة في الجزيرة في الإسلام،وظل أهل مكة والطائف على حال الشرك،وأدركت قريش أ أمر الإسلام ظاهر لا محالة،لذلك أسرع عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وغيرهما،للدخول في الإسلام(2) .
وعندما نقضت قريش الصلح عام(8هج)(3) ،عقد رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)و العزم على دخول مكة في عشرة آلاف من المسلمين(4) ،ولما علمت قريش بذلك خرجت خاضعة،وكان في مقدمهم أبو سفيان،الذي أعلن إسلامه ووط في ذلك العباس(عم رسول اللّٰه)،فقال (صلی اللّه علیه واله) له:يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود اللّٰه فيراها.ومرت جنود اللّٰه والعباس يعرف الكتائب التي تمر وأبو سفيان أخذته الدهشة حتى قال:واللّٰه يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيمة،فأجابه العباس:يا أبا سفيان إنها النبوة(5) .
ص: 71
ودخل (صلی اللّه علیه واله)وخاطبهم قائلا:يا معشر قريش ما تظنون الي فاعل بكم؟قالوا:أخ
كریم وابن أخ كريم،قال (صلی اللّه علیه واله):اذهبوا فأنُتُم الطُلقاء(1) .
وبعث رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)فيما حول مكة الشرايا تدعو إلى اللّٰه عز وجل،ولم يأمرهم بقتال،وكان ممن بعث خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي،فوطئ بني جذيمة،فلما رآه القوم أخذوا السلاح،فقال خالد:ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا.فقال رجل منهم: ويلكم يا بني جذيمة إنه خالد واللّٰه!إنه خالد واللّٰه!ما بعد وضع السلاح إلا الإسار،وما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق...
وهذا ما وقع بالفعل،فبعدما وضع القوم الشلاح لقول خالد،گفوا ثم قتلهم بالسيف،فلما انتهى الخبر إلى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) رفع يديه إلى السماء ثم قال: اللّٰهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد.ثم دعا (علیه السلام) علیاً (علیه السلام)،فأرسله إلى من تبقى منهم،فودی(=أعطى الدية)لهم الدماء وما أصيب لهم من الأموال،حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلا وداه،بقيت معه بقية من المال،فقال لهم علي (علیه السلام) حين فرغ
ص: 72
منهم:هل بقي لكم بقية من دم أو مال لم يرد لكم.قالوا:لا،قال:فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال احتياطا لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) مما يعلم ولا تعلمون، ففعل(1) .
وهناك حادثة مهمة ذات دلالة،تحكي عن نظرة القرشيين العدنانيين الأحرار الذين
تأخر إسلامهم،إلى الموالي والمستضعفين القحطانيين من صحابة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).
تنقل مصادر متعددة-وبتفاوت في بعض التفاصيل-أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بعث خالد ابن الوليد على سرية،ومعه في السرية عمار بن ياسر،قال:فخرجوا حتى أتوا قريبة من القوم الذين يريدون أن يصبحوهم،نزلوا في بعض الليل،قال: وجاء القوم النذير،فهربوا حيث بلغوا،فأقام رجل منهم كان قد أسلم هو وأهل بيته،فأمر أهله فيحملوا،وقال:قفوا حتى آتيكم.ثم جاء حتى دخل على عمار، فقال:يا أبا اليقظان،إني قد أسلم وأهل بيتي،فهل ذلك نافعي إن أنا أقمت، فإن قومي قد هربوا حيث سمعوا بكم؟
فقال له عمار:فأقم فأنت آمن.
فانصرف الرجل هو وأهله.
فصبح خالد القوم،فوجدهم قد ذهبوا،فأخذ الرجل هو وأهله،فقال له عمار: أن
الا سبيل لك على الرجل قد أسلم.
قال(خالد):وما أنت وذاك،أتجير علئ وأنا الأمير؟
قال(عمار):نعم أجير عليك وأنت الأمير،إن الرجل قد آمن،ولو شاء لذهب كما
ذهب أصحابه،فأمره بالمقام الإسلامه.
فتنازعا في ذلك،حتى تشاتما.
فلما قدما المدينة،اجتمعا عند رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)(إلى أن قال)فتشاتما عند رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله).
فقال خالد:یا رسول اللّٰه أيشتمني هذا العبد عندك،أما واللّٰه لولاك ما شتمني.
في بعض المصادر أن عمارة لما رأى رسول اللّٰه لا ينصره ولی وعيناه تدمعان).
ص: 73
قال (صلی اللّه علیه واله):كف يا خالد عن عمار،فإين من يبغض عمارة يبغضه اللّٰه ع وجل،ومن
يلعن عماراً يلعنه اللّٰه عزوجل...(1) .
غزوة حنين(8 هج)وحساسية الأنصار
في العام نفسه،خرج رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) لمواجهة جموع هوازن(التي كانت منتشرة في نجد)وجموع ثقيف(التي كانت تسكن الطائف)في غزوة حنين،وانتصر المسلمون بعد أن كادوا يخسرون المعركة حينما أعجبتهم كثرتهم،يقول تعالى:«لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ »(2)،حيث قال أبو بكر:لا تغلب اليوم من قلة(3) ،وفر المسلمون قبل أن ينتصروا ولم يبق معه (صلی اللّه علیه واله) عدد محدود جدا!
ووقعت حوادث ذات دلالة عند توزيع الغنائم،حيث تدافعوا على رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) يلمحون عليه أن يقسم الغنائم حتى ألجأوه إلى شجرة وأخذوا رداءه،وبدأ رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)بإعطاء المؤلفة قلوبهم من الطلقاء،كأبي سفيان وابنه معاوية(4)، فثار بعضهم وطالبوه بأن يعدل في القسمة!وخشي الأنصار من أن ينساهم رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)من العطايا،بعد أن لقي قومه،وأن يستقر في مكة.
فطب رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) خواطر الأنصار وسألهم قائلا:يا معشر الأنصار،مقالة بلغتني عنكم،وجدة(=عتاب)وجدتموها علي في أنفسكم؟ألم آتكم ضلالا فهداكم اللّٰه؟ وعالة(=فقراء)فأغنام اللّٰه؟وأعداء فألف بين قلوبكم؟
قالوا:بلى،اللّٰه ورسوله أمن وأفضل.
ص: 74
فقال (صلی اللّه علیه واله)لهم:ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟قالوا:بماذا نجيبك يا رسول اللّٰه؟لله ولرسوله المن والفضل.
فقال (صلی اللّه علیه واله):أما واللّٰه لو لقلتم ،فلصدقتم ولصدقتم،أتيتنا مكذبا فصدقناك،ومخذولا فنصرناك،وطريدا فآويناك،وعائلا فآسيناك(=أعطيناك)،أوجدم یا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة(=بقلة خضراء ناعمة)من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا،ووكلتكم إلى إسلامكم؟ألا ترضون يا معشر الأنصار،أن يذهب الناس بالشاة والبعير،وترجعوا برسول اللّٰه إلى رحالكم؟فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكن امرءة من الأنصار،ولو سلك الناس شعبة وسلي الأنصار شعبا،لسلك شعب الأنصار.
اللّٰهم ارحم الأنصار،وأبناء الأنصار،وأبناء أبناء الأنصار.
قال:فبكى القوم حتى اخضلت لحاهم،وقالوا:رضينا برسول اللّٰه قسمة وحظا.
ونزلت سورة الفتح:«إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2)»،وسمي عام(9هج)بعام الوفود،لأن عددا كبيرا من القبائل العربية
أرسلوا إلى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وفودة تعلن إسلامها،ولم يأت عام(10هج)حتى كانت بلاد
العرب جميعة خاضعة له (صلی اللّه علیه واله).
مشكلة بنيوية خطيرة
المشكلة البنيوية الخطيرة التي واجهها الإسلام بعد فتح مكة والطائف،أن من دخل في الإسلام دخل-على الأغلب-لا عن قناعة وإيمان،بل لأن الإسلام كان قد أصبح أمرة واقعة.دخل الكثيرون في الإسلام حتى يحافظوا على دمائهم وأموالهم وأهليهم....ربما هذه كانت ضريبة مقبولة بالنسبة إلى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) في مقابل القضاء النهائي على الوثنية وعبادة الأصنام في الجزيرة العربية.
طبعا هذا لا يعني أن الإسلام جاء للقضاء على الوثنية وعبادة الأصنام فقط، بل أعني أن الانجاز العاجل هو القضاء على الوثنية وعبادة الأصنام وإبقاء الإسلام الظاهري المنزل بين يدي البشرية،والانجاز الآجل والمستمر عبر الأجيال،والذي سيعمل علي (علیه السلام)في حروبه والحسن (علیه السلام) في صلجه والحسين (علیه السلام)في شهادته،على ترسيخه والحفاظ
ص: 75
عليه، هو إبقاء الإسلام الحقيقي بتأويله الصحيح،نقية متاحة لكل من يريد التعرف على الدين الحق حتى قيام الساعة.
نعم لقد تم القضاء على عبادة الأصنام قضاء نهائية،لكن من دخل في الإسلام كان حديث عهد به،كان في باطنه راسخة في الكفر والجاهلية... فكانت زيادة في الكم على حساب الكيف(1) !
والنتيجة هي ازدياد تأثير المنافقين والطلقاء في الرأي العام في المجتمع الإسلامي،
لأنهم صاروا جزءا من هذا المجتمع.
وهذا ما بدا جليا عندما تجهر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)للخروج في غزوة تبوك(9هج)،فقد تحدث القرآن بالتفصيل في سورة التوبة عن تثاقل الكثيرين عن الجهاد،بسبب الذكريات المؤلمة التي واجهوها مع الروم في غزوة مؤتة،فبرر بعضهم تثاقله بعد المسافة وشدة الحر،وكان للمنافقين تأثير كبير في نشر الخوف والرعب بين المسلمين حتى لا يلتحقوا بجيش رسول اللّٰه،وفي ذلك يقول تعالى:«وَفِيكُمْ سَمَّعُونَ لَهُمْ»(2) (أي فيكم من يتأثر ويستمع إلى وسوسة المنافقين).
واضطر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) أن يستبقي الإمام علياً (علیه السلام) في المدينة،لكي يسيطر ليهاويضبطها،بعد أن كادت تخرج عن السيطرة بسبب قوة تأثير المنافقين والطلقاء(3) .
لحسن الحظ،كانت نتيجة المعركة أن تقهقر جيش الروم عندما وجد أمامه ثلاثين ألف مقاتل جاؤوا رغم الحر وبعد المسافة،فما كان من المنافقين إلا أن دبروا محاولة اغتيال لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في طريق عودي؛من تبوك.وعندما وصل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) إلى
ص: 76
المدينة قام بهدم مسجد ضرار وإحراقه،وأرسل (علیه السلام) علياً إلى مكة ليتلو البيان الإلهي بالبراءة من المشركين،والذي كان من بين بنودو أن لا يحج بعد هذا العام مشرك(1).
إعلان البراءة(9 هج)
روى الشيوطي في تفسيره الدر المنثور-وروى غيره من المفسرين والمؤرخین وأصحاب السير مع بعض الفروق-أنه لما نزلت الآيات الأولى من سورة التوبة(=براءة)،دفعها رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)إلى أبي بكر وأمره أن يخرج إلى مكة ويقرأها على الناس بمنی یوم النحر،فلما خرج أبو بكر نزل جبرئیل على رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،فقال:يا محمد لا يؤدي عنك إلا رجل منك.فبعث رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)علية (علیه السلام) في طلب أبي بكر،فلحقه بالروحاء،وأخذ منه الآيات، فرجع أبو بكر إلى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)فقال:يا رسول اللّٰه أنزل اللّٰه في شيئا؟فقال (صلی اللّه علیه واله):لا إن اللّٰه أمرني أن لا يؤدي عني إلا أنها أو رجل مني.فلما قدم علي (علیه السلام) مكة خطب الناس واختر سيفه وقال:لا يطوف بالبيت عريان ولا عريانة(2)،ولا يحجن بالبيت مشرك بعد هذا العام،ومن كانت له ممدة فهو إلى مدته،ومن لم یكن له مدة فمه أربعة أشهر تبدأ من يوم الإبلاغ في العاشر من ذي الحجة فمحرم وصفر وربيع الأول وعشرة أيام من ربيع الآخر(3).
إن إبلاغ الإمام علي (علیه السلام) براءة اللّٰه ورسوله من مشركي قريش وجزيرة العرب، وبسورة لا تبدأ ب«البسملة»،وبلغة شديدة اللّٰهجة،قرية الحزم والشدة،تعني أن عليا (علیه السلام)-صار في نظر قریش والعرب الناطق الرسمي باسم اللّٰه ورسوله (صلی اللّه علیه واله)،وحربة حقيقية،وطرفا رئيسيا في تطهير مكة من بقايا الوثنية والشرك.وأضيف هذا الموقف الجديد إلى مواقفه السابقة التي لم تنها قريش في بدر وأحد والأحزاب، وهو ما كان كفيلا بأن يجعل قريشا تغلي من الداخل كالمرجل،ولكن المشكلة بالنسبة إليها أنه ليس
ص: 77
في وسعها فعل شيء مع تغير موازين القوى لصالح رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)...وتصؤرلنا بعض آیات سورة التوبة حالة الاحتقان هذه،حيث يقول تعالى:
«فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ...«كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا »(=يراعوا أو يحفظوا فِيكُمْ إِلًّا(=قرابة أو حلفا)وَلَا ذِمَّةً(=عهدة أو حقا)يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ...«وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)»(1).
الجدير بالذكر أن في هذه المرحلة،أعني ما بعد إعلان البراءة من المشركين وقبل حجة الوداع،قدم الأشعث بن قيس مع وفد كندة على رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) ليعلنوا إسلامهم(2).كما بعث رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)علية (علیه السلام) إلى اليمن، وفي سفرو هذا دخل كعب الأحبار-كما يزعم-في الإسلام،إلا أنه لم يقدم على رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،بل بقي في اليمن حتى خلافة عمر بن الخطاب(3).
وأرجو من القارئ أن يتذكر هذين الاسمين:«الأشعث بن قیس»،الذي سيرتد بعد
وفاة رسول اللّٰه؟ويؤسر ثم يتم عليه أبو بكر ويزوجه أخته فروة ثم يندم على فراش الموت أنه لم يقتله،ثم سيصبح من الشخصيات المؤثرة جدا في جيش الإمام علي علي في صفين،وله دور أساسي في تحريض الجيش على وقف الحرب،وسيكون لابنته جعدة وابنه محمد-على الترتيب-دور أساسي في سم الحسن علي وشهادة الحسين غالي.و«كعب الأحبار»، الذي سيكون له دور كبير في نشر ما يعرف ب«الإسرائيليات»،أي الأخبار المأخوذة من التوراة،كما سيتهمه بعض الباحثين-من خلال قرائن معينة- بالتورط في قتل عمر بن الخطاب،مع المغيرة بن شعبة وأبي لؤلؤة..
ص: 78
حجة الوداع
في عام(10ج)خرج رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) قال في أكثر من مائة ألف من المسلمين لحجة
الوداع!وأقفل الإمام علي (صلی اللّه علیه واله) راجعة من اليمن،ليلتحق برسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في مكة(1)
وخطب (صلی اللّه علیه واله)في عرفة أو يوم النحر خطبة خالدة قال فيها:
أيها الناس اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي في موقفي هذا،أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلا بحقها.....أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه،ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم،فاحذروه علی دینكم...اللّٰهم اشهد، فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض،فإني قد ترك فیكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب اللّٰه وعترتي أهل بيتي(2)،ألا هل بلغت؟اللّٰهم اشهد».
ص: 79
وروى كثير من المحدثين والمؤرخين وأصحاب السير-بل تواتر بينهم-أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)خطب الناس يوم النحر، فقال:يا أيها الناس،أي يوم هذا؟قالو:هذا يوم حرام،قال:فأي بلد هذا؟قالوا:بلد حرام،قال:فأي شهر هذا؟قالوا:شهر حرام، قال:فإن دماءكم وأموالكم وأعراضگم عليكم حرام،كرمة يومكم هذا،في بلگم هذا،في شهركم هذا.(يقول الراوي)فأعادها مرارة،ثم رفع رأسه فقال:اللّٰهم هل بلغت؟اللّٰهم هل بلغت؟
يقول رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) ذلك،وهو يعلم بأن الحالة القبلية:حالة تعالي العرب على غير العرب،وتعالي عدنان على قحطان،وتعالی قریش على باقي العرب،حالة الاستهانة في إراقة الدماء والاستخفاف في استباحة الأموال هي حالة راسخة في حياة هذا المجتمع القبلي.ورأينا نموذجا من ذلك بعدفتح مكة،مع خالد بن الوليد وما فعل ببني جذيمة،لذا تجد رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) يركز في خطبة الوداع على محاربة هذه الحالات،ويؤكد على أن علاج بقايا الجاهلية،والضمان الحقيقي للاستقامة على الصراط المستقيم وعدم التيه والضياع يتلخص في التمشك بالقرآن وأهل البيت (علیهم السلام).لكن قسمة كبيرة ممن هم حديثو عهد بالإسلام عادوا-بعد التحاق رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)بالرفيق الأعلى-بالتدريج لتلك الممارسات،فاستباحوا أموال الناس،وسفكوا الدماء، واستضعفت قريش بني هاشم والأنصار وتركوا التمشك بالعترة الطاهرة.
يوم غدیرخم(1)
لما قضى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) مناسكه،وانصرف راجعة إلى المدينة،ومعه من كان من الجموع،وصل إلى غدیر خم من منطقة الجحفة،التي تتشب فيها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين،وذلك في يوم الثامن عشر من ذي الحجة، نزل إليه جبرئيل الأمين
ص: 80
عن اللّٰه تعالى بقوله:«يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ»،وأمره أن يقيم علياً (علیه السلام) علما للناس،ويبلغهم ما نزل فيه من الولاية وفرض الطاعة على كل أحد.
كان أوائل القوم قريبة من الجحفة،فأمر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)أن يرد من تقدم منهم، ويحبس من تأخر عنهم في ذلك المكان،ونهى عن ممرات(جمع«سمرة» ضرب من شجر اللح)خمس متقاربات دوحات(=جمع«دوحة»الشجرة العظيمة المتشعبة ذات الفروع الممتدة) عظام،أن لا ينزل تحته أحد،حتى إذا أخذ القوم منازلهم،فقم(=كنس)ما تحته،حتى إذا نودي بالصلاة صلاة الظهر،عمد إليه فصلي بالناس تحته،وكان يوما هاجرة(=شديد الحر)يضع الرجل بعض ردائه على رأسه وبعضه تحت قدميه من شدة الرمضاء،وظلل لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بثوب على شجرة مرة من الشمس،فلما انصرف؟من صلاته،قام خطيبة وسط القوم على أقتاب الإبل،وأسمع الجميع افعة عقيرته(=صوته)فقال:
الحمد لله، ونستعینه ونؤمن به ونتوكّل علیه ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا ومن سیّئات أعمالنا؛ الذی لا هادی لمن ضلّ ولا مُضلّ لمن هدی، وأشهد أن لا إله إلّا اللّه وأنّ محمداً عبده ورسوله.
أمّا بعد، أیّها الناس قد نبّأنی اللطیف الخبیر أنّه لم یُعمّر نبیٌّ إلّا مثل نصف عمر الذی قبله، وإنّی أُوشك أن أُدعی [فأُجیب]، وإنّی مسؤولٌ وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟
قالوا: نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجهدت، فجزاك اللّه خیراً.
قال: ألستم تشهدون أن لا إله إلّا اللّه، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وأنّ جنّته حقٌّ وناره حقٌّ وأنّ الموت حقٌّ وأنّ الساعه آتیهٌ لا ریبَ فیها، وأنّ اللّه یبعث مَن فی القبور؟
سورة المائدة ، الآية: 67. بشان نزول آية الإبلاغ في حادثة الغدیر، قال الواحدي : نزلت هذه الآية: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ » يوم غدیر خم في علي بن أبي طالب رضی اللّه عنه ، أنظر :
الواحدي، أسباب النزول، ص 107. وذكر ذلك الفخر الرازي في تفسيره الكبير، على أنه قول عاشر من أسباب نزول الآية، وذكر جلال الدين السيوطي في الدر المنثور : وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري : نزلت هذه الآية على رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله):«يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ » أن عليا مولى المؤمنين « وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ »، وذكر الشيخ محمد عبده في تفسيره المنار: روی ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري : أنها نزلت يوم غدیر خم في علي بن أبي طالب).
ص: 81
قالوا: بلی، نشهد بذلك.
قال: اللّهم اشهد.
ثُمّ قال: أیّها الناس ألا تسمعون؟ !
قالوا: نعم.
قال: فإنّی فرطٌ(=سابقكم) علی الحوض، وأنتم واردون عَلَیَّ الحوضَ، وإنّ عرضه (=عرض الحرض) ما بین صنعاء (=الیمن)وبُصری(=اطراف الشام)، فیه أقداحٌ عددَ النجوم من فضّهٍ، فانظروا كیف تُخلفونی فی الثِّقلین؟
فنادی منادٍ: وما الثِّقلان یا رسول اللّه؟
قال: الثِّقل الأكبر كتاب اللّه، طرفٌ بید اللّه عزَّ وجلَّ وطرفٌ بأیدیكم؛ فتمسّكوا به لا تضلّوا، والآخر الأصغر عترتی، وإنّ اللطیف الخبیر نبّأنی أنّهما لن یتفرّقا حتّی یردا عَلَیَّ الحوضَ، فسألتُ ذلك لهما ربّی، فلا تَقَدَّموهما فتهلكوا، ولا تُقَصِّروا عنهما فتهلكوا.
أذكّركم اللّه فی أهل بیتی، أذكّركم اللّه فی أهل بیتی، أذكّركم اللّه فی أهل بیتی(1).
ثُمّ أخذ بید علیٍّ فرفعها - حتّی رؤی بیاض آباطهما، وعرفه القوم أجمعون - فقال: أیّها الناس، مَن أولی الناس بالمؤمنین من أنفسهم؟
قالوا: اللّه ورسوله أعلم.
قال: إنّ اللّه مولای، وأنا مولی المؤمنین، وأنا أولی بهم من أنفسهم؛ فمن كنتُ مولاه فعلیٌّ مولاه - (یقولها ثلاث مرّاتٍ - وفی لفظ الإمام أحمد الحنابله: أربع مرّاتٍ)
اللّهم والِ من والاهُ، وعادِ من عاداهُ، وأحبَّ من أحبَّهُ وابغض من أبغضهُ وانصر من نصرهُ
ص: 82
واخذُل من خذلهُ وأدِر الحقَّ معه حیثُ دارَ. ألا فلیُبلّغ الشاهدُ الغائبَ.
ثُمّ لم یتفرّقوا حتّی نزل أمین وحی اللّه بقوله: « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا»(1)فقال رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله) : اللّه أكبر علی إكمال الدین وإتمام النعمه ورِضی الربّ برسالتی، والولایه لعلیٍّ من بعده.
ثُمّ طفق القوم یُهنّؤون أمیرالمؤمنین (صلی اللّه علیه واله)، وممّن هنّأه فی مقدّم الصحابه، الشیخان أبو بكر وعمر، كلٌّ یقول: بخٍّ بخٍّ لك یا بن أبی طالب، أصبحت وأمسیت مولای ومولی كلِّ مؤمنٍ ومؤمنهٍ(2).
وقال ابن عبّاس: وجبت واللّه فی أعناق القوم.
فقال حسّان: ائذن لی یا رسول اللّه أن أقول فی علیٍّ أبیاتاً تسمعهن.
ص: 83
فقال (صلی اللّه علیه واله):قل على بركة اللّٰه .
فسرد الأبيات التي مطلعها:
يناديهم يوم الغدير نبيّهم
بخمّ فأسمع بالرسول مناديا
فقال فمن مولاكم ووليّكم
فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا
إلهك مولانا وأنت نبيّنا
ولم تلق منّا في الولاية عاصيا
فقال له قم يا علي فإنّني
رضيتك من بعدي إماماً وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليّه
فكونوا له أنصار صدق مواليا
هناك دعا اللّهمّ وال وليّه
وكن للّذي عادا عليّاً معاديا
الخلاصة:تحدثنا عن استفادة بعضهم من الحقد المختزن بداخل قريش تجاه الإمام علي (علیه السلام) لترسيخ موقعه وتضعيف مكانة الإمام علي (علیه السلام)،ورأينا أن معركة أحد كان مخططاً لها أن تتكفل بتصفية حساب قریش مع المسلمين عموما، ومع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وعلي (علیه السلام) وحمزة على وجه الخصوص، إلا أنها لم تنجح إلا في تصفية حمزة فقط،وبالتالي لم تشف معركة أحد غليل قریش تماما.في هذه الأثناء ولد الحسين (علیه السلام) واستأنفت قریش حروبها، فحبت الأحزاب،لكن معركة الأحزاب لم تحقق شيئا إلا المزيد من الاذلال لقريش، عندما نجح الإمام علي (علیه السلام) في قتل عمرو بن عبدود،وعاد المشركون من المدينة يجرون أذيال الخيبة.تحدثنا أيضا عن محاولات منافقي المدينة تأجيج الخلاف بين المهاجرين(وأغلبهم من قریش العدنانية والأنصار (القحطانيين).كما تحدثنا عن صلح الحديبية،ثم فتح مكة،ونظرة القرشيين الأحرار للقحطانيين المستضعفين،وغزوة حنين،وحساسية الأنصار عند توزيع العطايا على المؤلفة قلوبهم،وظهور مشكلة بنيوية خطيرة في النسيج الاجتماعي للمسلمين،بسبب دخول عدد كبير في الإسلام،عندما صار الإسلام أمرة واقعة،لا عن قناعة.وتحدثنا عن انكشاف قوة تأثير المنافقين في معركة تبوك.وتحدثنا عن انتداب الإمام علي (علیه السلام) من السماء لإعلان البراءة من مشركي مكة،وحجة الوداع.وتوقفنا قليلا عند خطبة عرفة ويوم الحر، التي تستبطن في عباراتها الأمور التي كانت تقلق رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).وأخيرة انتهينا إلى يوم غدیر خم،وتنصيب الإمام علي (علیه السلام) إمامة وولية للمسلمين.
في الفصل القادم سوف أتوقف عند دلالة عبارة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):«من كن مولاه فعلي مولاه،كما سأتحدث عما جرى مع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وهو على فراش الموت، ونتحدث أيضا عن ملابسات وفاته.
ص: 84
تحدثنا في الفصل السابق عن مرحلة ما بعد معركة بدر،وردود أفعال قریش تجاه نتائج هذه المعركة كما تجلت في أحد من خال التمثيل بأجساد الشهداء،وهي الثقافة التي تم توريثها لحفيد أبي سفيان عبيد اللّٰه بن زياد-إن صح نسبه إليه-عندما طلب من عمر بن سعد أن يندب له من يوطى الخيل صدر الحسين (علیه السلام) وظهره. كما أن فرار المسلمين وتفكير بعضهم في الارتداد يعطينا صورة عن الأحداث القادمة«وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ»؟!(1)كما مرت علينا واقعة الأحزاب،ثم فتح مكة والطائف،وتغير التركيبة الشكانية-إن صمم التعبير-وبتعبير أدق تغير النسيج الاجتماعي للمسلمين عندما دخل الناس في دين اللّٰه أفواجا،بحيث أصبح أولئك الذين يحملون قيم الإسلام الأصيلة أقلية،في مقابل تعاظم تأثير المنافقين والذين في قلوبهم مرض والمرجفين والطلقاء في الرأي العام.لذا يأتي التهديد المباشر من اللّٰه تعالى لهذه الشرائح حتى يقفوا عند حدودهم، يقول تعالى:«لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60)مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)»(2).
هذا التأثير الكبير للمنافقين تجلی بشكل واضح قبل وفاة رسول اللّٰه بسنتين أو أقل،
وبالتحديد في غزوة تبوك،عندما عانی رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)معاناة شديدة،ليجيش ويحرض المسلمين على القتال.كما تجلی تعاظم تأثير المنافقين عندما تعرض رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)و وهو في طريق عودته من تبوك إلى محاولة اغتيال، وواجه عند وصوله إلى المدينة مشكلة مسجد ضرار.
لهذا كله،عندما انتهى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)من حجة الوداع،كان قلقة من مضاعفات
ص: 85
إعلان ولاية الإمام علي (علیه السلام)،ليس من قريش فحسب،بل من الناس العرب عموما،رغم أن قريش هي العنصر الرئيس المؤثر في مسار الأحداث....لكن اللّٰه سبحانه أمره عندما وصل إلى غدیر خم بإعلان ذلك،وأنه سبحانه سيتكفل بحمايته من الناس.وبالفعل هذا ما حدث،فالناس وقريش تحديدة- سایرت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في الظاهر،حتى تقوم هي بعد ذلك بتنفيذ ما ترتئيه.
أصل حدوث واقعة غدیر خم لا كلام فيه،ولم يشك فيه المنصفون من علماء أهل الشنة،إنما شككوا في دلالتها،مدعين بان كلمة«المولی»فيعبارة«من كنت مولاه فعلي مولاه»،تعني الحب والناصر.نريد في هذه العجالة تطبيق منهج حساب الاحتمالات
التأكيد حصول الواقعة الدالة على إمامة علي (علیه السلام).
قرائن و شواهد في تفسير«من كنت مولاه فعلي مولاه»
إذا أردنا تطبيق منهج حساب الاحتمالات على واقعة الغدير من حيث ثبوت أصل الواقعة،وتفسير دلالة عبارة«من كنت مولاه فعلي مولاه»،سنجد أن أصل ثبوت الواقعة وتواترها بالغ الوضوح:فقد أحصى المرحوم الأميني في كتابه الخالد الغديره في المجلد الأول منه،مائة وعشرة من أكابر الصحابة بأسمائهم رووا هذه الواقعة،كما أحصى أربعة وثمانين تابعية بأسمائهم رووا هذه الواقعة.
فإذا لاحظنا أن هذه الواقعة متوقعة ومنسجمة مع تاريخ الإمام علي (علیه السلام) منذ بدء
إسلامه،مرورا بواقعة الدار عندما نزلت آية:«وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ »(1)،وقوله (صلی اللّه علیه واله):« إن هذا أخي وصي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا»(2)،ومبيته في فراش رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)(3) ونزول آیة:«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ »(4)،وبطولاته المتكررة في بدر وأحد والأحزاب وضربته فيها التي تعدل عبادة الثقلين (5)
ص: 86
وقلعه باب خيبر(1)،وحديث المنزلة«أنت مني بمنزلة هارون من موسى»(2)،وحديث التقلين(3)،وسائر الوقائع الأخرى المنسجمة مع واقعة الغدير...وإذا لاحظنا أن من رواة هذه الواقعة صحابة لم يكونوا من شيعة الإمام علي (علیه السلام)،مضافة إلى أن احتمال تواطؤ مائة وعشرة من أكابر الصحابة على الكذب أمر غير وارد،فضلا عن انتشار هذا الخبر في ظل حكم بني أمية ممن كانوا يحاولون منع أمثال هذه الأخبار،ترهیبة وترغيبة....كل ذلك يؤكد أصل حدوث واقعة الغدير.
إذن ليس هناك شك في أصل حدوث الواقعة،ولم يشكك فيها عدد كبير من علماء
ص: 87
السنة،وإنما شككوا في دلالتها،زاعمين أن كلمة«المولی»في عبارة«من كنت مولاه فعلي مولاه»،تعني الحب والناصر.نريد في هذه العجالة تطبيق منهج حساب الاحتمالات مرة أخرى لتأكيد دلالة هذه العبارة على إمامة علي (علیه السلام).
التحديد اتجاه الدلالة،لا بد أن نستعين بالقرائن.يميز علماء أصول الفقه بين القرائن الحالية(=سياق الموقف)والقرائن المقالية(=سياق النص).وتنقسم القرائن المقالية بدورها إلى متصلة ومنفصلة(وقد لحق القرائن المنفصلة بالقرائن الحالية).
أهمية القرائن والشياق في تحديد مدلول النص
حتى تتضح الفكرة القائلة بأن مدلول الكلمة الواحدة-فضلا عن الجملةالواحدة-قد يتغير وفقا للظروف والملابسات التي استخليمت فيها هذه الكلمة أو الجملة.
خذ المثال التالي:
عندما أنادي ابني محمدة،وأقول«محمد»،فتارة أصيح بصوتي للنداء،عندما أكون
في بيتي أو أدخل بيتي وأريد منه شيئا،هنا المدلول:أريدك أن تأتي.
وتارة أخرى أصيح خوفة إذا ما أصابه مكروه،عندما لا أسمع جوابا من مكان لا أتوقع وجوده إلا فيه،هنا المدلول:هل أصابك مكروه؟
وتارة ثالثة أناديه تعجبا،عندما يتحدث بكلام لا يعقل،هنا المدلول:لا تتحدث
بكلام لا يعقل.
وتارة رابعة أناديه استنكارة،عندما أدخل غرفته وأجده يلهو ليلة الامتحان،أو إذا
قال شيئا يبعث على الاستنكار،هنا المدلول:كيف تقول ذلك؟أو كيف تفعل ذلك؟
لاحظ تعدد المدلول في لفظة«محمد»حسب سياق الموقف،فحتى نبرة الصوت قد
تؤثر في مدلول اللفظة الواحدة.
القرائن الحالية والمقالية الدالة على أن المقصود بلفظ«المولى»في عبارة «من كن
مولاه فعلي مولاه»هو ولاية الأمر على الأمة،وليس مجرد الحب والناصر(1) :
ص: 88
1.آیة:«يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ»
حيث روى الواحدي في أسباب النزول عن أبي سعيد الخدري،قال:نزلت هذه الآية يوم غدیر خم في علي بن أبي طالب.ويستفاد من الآية الكريمة أن الذي أمر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)بتبليغه كان ذا جهتين:
الأولى:أن الشيء الذي أوقفهم لتبليغهم إياه ذو أهمية كبرى على مسيرة الأمة،حيث لو لم يفعل لما بلغ رسالة اللّٰه،وبتعبير آخر:كان أمرة إن لم يؤده (صلی اللّه علیه واله)تبقى رسالته ناقصة غير مكتملة!
ومن الواضح أنه لا يراد بذلك أن كل أمر إلهي لا يبلغ لم تبلغ رسالة اللّٰه، فهذا الكلام من قبيل توضيح الواضح وغني عن البيان،وإنما ظاهر الآية هو أن القضية المشار إليها تحظى باهتمام خاص بوصفها خلاصة الرسالة والنبوة.
الثانية:إن وعد اللّٰه تعالى بأن يعصم رسوله من الناس يدل على أن تبلیغ ما أمر بتبليغه سيثير حفيظة شرائح واسعة ممن تظاهر بالإيمان وأسلم وقلبه مملوء بالحقد والغل،أو أحاط برسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) طمعا في الرئاسة من بعده.ولا معنی من معاني الولاية يتطلب صدور هذا الوعد من اللّٰه تعالى إلا ولاية الأمر من بعد رسوله (صلی اللّه علیه واله)،ومن هنا أعلن اللّٰه سبحانه دعمه ومساندته الخاصة لرسوله (صلی اللّه علیه واله)فقال:« وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ »،ثم أكد تعالى في نهاية الآية:« وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ».
مضافة إلى هذا وذاك،من الواضح أن هذه القضية لا تتعلق بالصلاة والصوم والحج وما شابه ذلك من تشريعات الإسلام؛لأنها من آيات سورة المائدة، وسورة المائدة هي آخر سورة نزلت على رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)-أو على أقل تقدير من أواخر السور التي نزلت-أي نزلت في أواخر عمر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) المبارك، بعدما انتهى (صلی اللّه علیه واله)من بيان كافة الأركان المهمة والتفاصيل التشريعية للإسلام(1)
2-يعقل أبدا أن يأمر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)-المعروف بحكمي-بإيقاف الألوف المؤلفة من الحجاج في الحراء في حر الظهيرة،ويهتم بإرجاع من تقدم منهم وإلحاق من تأځر، وينزلهم جميعا في العراء بلا كلا ولا ماء، ويأمرهم أن يصنعوا له منبرة من الأحجار وحدائج الإبل، لكي يعلن للمسلمين أن عليا (علیه السلام) محبهم وناصرهم،ثم يطلب منهم أن يبلغ الشاهد منهم الغائب!بل لا بد أن يكون للموضوع أهمية بالغة.
ص: 89
بعبارة أخرى:إن محبة الإمام علي (علیه السلام) لجميع المؤمنين لم يكن أمرا خافياً وسرياًومعقدة،بحيث يحتاج إلى هذا التأكيد والإيضاح،ويستدعي إيقاف ذلك الكب العظيم وسط الصحراء القاحلة والشمس الحارقة،وإلقاء خطبة عليهم، لأخذ الإقرارات من ذلك الجمع.فالقرآن يقول بصريح القول:«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ»(1)،ويقول:«وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ »(2).إذن،الأخوة الإسلامية ومودة المسلمين بعضهم لبعض من أكثر المسائل الإسلامية بداهة،فقد كانت موجودة منذ انطلاقة الإسلام، وطالما أكد عليها رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) مرارة،فضلا عن عدم الحاجة إلى بيانها بهذا الأسلوب الحاد،ولا يستدعي الأمر أن يشعر رسول اللّٰه؟بالخطر من البوح بها.
3.قبل إعلان رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) ولاية الإمام علي (علیه السلام)،أخبر أمته أنه راحل إلى ربه:«إني أوشك أن أدعى فأجيب،وإني مسؤول وأنتم مسؤولون،فماذا أنتم قائلون؟»وفي هذا الإعلان دلالة على أن ما سيقال بمثابة وصية.
4.قبل إعلان رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)ولاية الإمام علي (علیه السلام)،أوصى أمته بالكتاب والعترة، وأكد أنهما لن يفترقا،ثم قدم لهم علية (علیه السلام) معلنة«من كنت مولاه فعلي مولاه».وفي هذا السياق دلالة على تعريف من يجب على الأمة التمك به وبالقرآن
الصان عن الظلال.لاحظ بالخصوص عبارة:«تارك فيكم الثقلين»أو«فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين»،وأنهما«لن يفترقا».
5.من القرائن على أن الولاية في الحديث بمعني ولاية الأمر،أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)مهد لولاية الإمام علي (علیه السلام) بولاية اللّٰه تعالى،وقال:«اللّٰه مولاي»،ولا شكأنه لا ولاية الأحد عليه (صلی اللّه علیه واله)سوى اللّٰه تبارك وتعالى،ثم قال:«وأنا مولى كل مؤمن»،فأفاد أن تلك الولاية ثابتة له على المؤمنين،ثم قال:«من كنت مولاه فعلي مولاه»فأثبت تلك الولاية لعلي من بعدو،ومن الواضح أنها ليست إلا ولاية أمر المسلمين.
6.ومن القرائن أنه (صلی اللّه علیه واله) رفع الشبهة والشك وسد الطريق على من يريد تحریف ولاية الإمام علي (علیه السلام) التي أعلنها،حيث ذگرهم بقول اللّٰه تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأخذ منهم الإقرار بولايته وأولويته بهم،بقوله:«ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟قالوا:بلى»،ثم جعل تلك الولاية والأولوية لعلي (علیه السلام) بقوله«فمن كنت مولاه فعلي مولاه».بعبارة أخرى:فرع على سؤال «ألست أولی بكم من أنفسكم؟»قوله«فمن
ص: 90
كنت مولاه فعلي مولاه»،فلا يبقى أي شك في أن المراد من«المولى»هو ولاية الأمر على المسلمين.
بعبارة أخرى،إن سؤال رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):«ألست أولی بگم من أنهم»لا تتناسب أبدأ مع مجرد بيان مودة عادية،بل إنه يريد القول بأن تلك الأولوية والتصرف الذي لي تجاهكم وكوني إمامكم وقائدگم،كل ذلك ثابت لعلي (علیه السلام)،وأي تفسير لهذه العبارة غير ما قيل،بعيد عن سياق الموقف،خصوصا إذا ما أخذنا في الاعتبار جملة«من أنفسگم الواردة في«أنا أولی بكم من أنفسكم».
7.آية إكمال الدين وإتمام النعمة من القرائن على أن الولاية في حديث الغدير بمعنی ولاية الأمر:روى الخطيب البغدادي في تاريخه،عن أبي هريرة عن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)أنه قال:من صام يوم ثمان عشرة من ذي الحجة،تب له صيام ستین شهرة،وهو يوم غدیر خم،لما أخذ النبي (صلی اللّه علیه واله) بيد علي بن أبي طالب فقال:ألست أولى بالمؤمنين؟قالوا:بلی یا رسول اللّٰه،قال:من كنت مولاه فعلي مولاه،فقال عمر بن الخطاب:بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم،فأنزل اللّٰه:«اليوم أكملت لكم دینكم»(1) .
ولا يمكن تصور إكمال الدين وإتمام النعمة على المسلمين،إلا بتعيين شخص يين
الإسلام وينفذه بعد رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).
8.أيضا من القرائن الدالة على أن الولاية في حديث غدیر خم بمعني ولاية الأمر، فهم الحضور ثم تهنئتهم لعلي (علیه السلام):فالمسلمون عندما سمعوا خطبة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)فهموا من«المولى»الولي بعد رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،بدليل أنهم هنؤوا علية (علیه السلام) بذلك.فقد روى أحمد بن حنبل في مسنده،والخطيب في تاريخ بغداد، والرازي في تفسيره الكبير،واللفظ للأول:
عن البراء بن عازب قال:نا مع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في سفر،فنزلنا بغدیر خم،فودي فينا الصلاة جامعة،وكسح لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) تحت شجرتين،فصلي الظهر وأخذ بي علي رضي اللّٰه تعالی عنه فقال:ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟قالوا:بلى،قال:ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسي؟ قالوا: بلى،قال:فأخذ بيد علي فقال:من كنت مولاه فعلي مولاه،اللّٰهم وال من والاه،وعاير من عاداه.قال:فلقيه عمر بعد ذلك فقال له:هنيئا لك يا بن أبي طالب،أصبحت وأمسيت مولی كل مؤمن ومؤمنة(2) .
ص: 91
فهذه التهنئة من شخص مثل عمر،لا يمكن تفسيرها بمدح رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)علية (علیه السلام) بأمر مشترك بينه وبين غيرو.بل لا بد أن تفسر على أن عمر فهم أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)خص عليا (علیه السلام) بأمر خاص يستحق التهنئة،وليس هو إلا ولايته وزعامته على الأمة.
بعبارة أخرى:المودة العادية بين المؤمنين ليست لها مثل هذه المراسيم، وهذا لا
ينسجم إلا مع الولاية التي تقتضي الخلافة.
9.من القرائن أيضا على أن غدیر خم كان يوما استثنائية،فهم حسان بنثابت، الذي عبر عن فهمه شعراً:
يُنادِيْهِمْ يَوْمَ الْغَديرِ نَبيُّهُمْ
بِخُمٍّ وَاسْمِعْ بِالرَّسُولِ مُنادِيا
فَقالَ فَمَنْ مَوْلاكُمْ وَنَبيِّكُمْ؟
فَقالُوا وَلَمْ يَبْدُوا هُناكَ التَّعامِيا:
الهُكَ مَوْلانا وَانْتَ نَبِيُّنا
وَلَمْ تَلْقِ مِنّا فِي الْوَلايَةِ عاصِيا
فَقالَ لَهُ قُمْ يا عَلَيٌّ فَانَّني
رَضيتُكَ مِنْ بَعْدي اماماً وَهادِيا
فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَهذا وَلِيُّهُ
فَكُونُوا لَهُ اتْباعَ صِدْقٍ مُوالِيا
هُناكَ دَعا اللّهُمَّ وَالِ وَلِيَّهُ
وَكُنْ لِلَّذي عادا عَلِيّاً مُعادِيا
10.أيضا من القرائن على أن حدیث غدیر خم يدل على إمامة وزعامة علي (علیه السلام) ،ما فهمه ذاك من سأل بعذاب واقع:قال الشبلنجي في نور الأبصار،والإمام أبو إسحاق الثعالبي في تفسيره الكشف والبيان،والقرطبي في تفسيره:«أن سفيان بن عيينة-رحمه لله تعالی-سئل عن قوله تعالى:وسأل ایل ای واقع فيمن نزلت؟فقال للسائل:لقد سألتني مسألة لم يسألني عنها أحد قبلك، حدثني أبي عن جعفر بن محمد عن آبائه رضی اللّه عنه،أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)لما كان بغدیر خم نادي الناس،فاجتمعوا،فأخذ (صلی اللّه علیه واله) بيد على وقال:من كن مولاه فعلي مولاه، فشاع ذلك وطار في البلاد.وبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري(وفي بعض المصادر جابر بن النضر بن الحارث الذي قتل علي (علیه السلام) والده في معركة بدر بأمر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)بعد أن أخذ أسيرة)،فأتی رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) على ناقة،فأناخ راحلته، ونزل عنها،وقال:يا محمد!أمرتنا عزوجل بشهادة أن لا إله إلا اللّٰه، وأنك رسول اللّٰه فقبلنا منك،وأمرتنا أن تصلي خمسة فقبلنا منك،وأمرتنا بالزكاة فقبلنا،أمرتنا أن نصوم رمضان فقبلنا،وأمرتنا بالحج فقبلنا،ثم لم ترض بذلك حتى رفعت بضبعي ابن عمك تفضله علينا،فقلت:من كنت مولاه فعلي مولاه فهذا شيء منك أم من اللّٰه عزوجل؟فقال رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):والذي لا إله إلا هو، إن هذا من اللّٰه عزوجل
ص: 92
فولي الحارث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول:اللّٰهم إن كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارة من الماء او ائتنا بعذاب أليم،فما وصل راحلته حتى رماه اللّٰه عزوجل بحجر،سقط على هامته وخرج من دبره وقتله،وأنزل اللّٰه تعالى:«سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1)لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2)»(1)
(..لا شك أن أحاديث رسول اللّٰه (علیه السلام)في فضائل الإمام علي (صلی اللّه علیه واله) كانت قد بلغت المسلمين،والجديد الذي لم يكن يعرفه أمثال الحارث بن النعمان الفهري أو جابر بن النضر إنما هو ولاية الإمام علي (علیه السلام) على الأمة بعد رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)، فكان يصعب عليهم قبوله،ولذلك اعترضوا عليه.
11.ومن القرائن المهمة الدالة على أن المقصود ب«المولى»من له الولاية على الأمة، احتجاج الإمام علي (علیه السلام) في الكوفة بالغدير ومناشدة الناس: فقد احتج الإمام علي (علیه السلام)-بعد استلام الخلافة وانتقاله إلى الكوفة-بحديث الغدير،وناشد الصحابة بأن يقفوا ويقوا بأنهم شهدوا هذه الواقعة المهمة والمصيرية،وقد نقل ذلك عدد من كبار علماء الشنة) (2).
ونكتفي بما نقله ابن الأثير عن الأصبغ بن نباتة قال:نشد علي (علیه السلام) الناس في الحبة:من سمع النبي (صلی اللّه علیه واله) يوم غدیر خم ما قال إلا قام،ولا يقوم إلا من سمع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)يقول.فقام بضعة عشر رجلا،فيهم أبو أيوب الأنصاري، وأوعمرة بن عمرو ابن محسن وأبو زينب وسهل بن حنیف وخزيمة بن ثابت ........... فقالوا:نشهد أنا سمعنا رسول اللّٰه يقول:ألا إن اللّٰه عزوجل وليي،وأنا ولي المؤمنين،ألا فمن كنت مولاه فعلي مولاه،اللّٰهم وال من والاه،وعاد من عاداه،وأحب من أحبه،وأبغض من أبغضه،وأعن من أعانه(3)...وكتم قوم،فما خرجوا من الدنيا حتى عموا وأصابتهم آفة!منهم يزيد بن ديعة،وعبد الرحمن بن مدلج(4)،وفي مصادر أخرى،منهم جریر بن
ص: 93
عبد اللّٰه(1)،وزيد بن أرقم،والبراء بن عازب(2)،وأنس بن مالك(3)
وإن كان تاريخ المناشدة هو(35هج)،فهذا يعني أن المناشدة حدثت بعدواقعة غدير خم بما يربو على خمسة وعشرين عامة.وخلال هذه المدة كان كثير من الصحابة الحضور يوم الغدير قد قضوا نحبهم،وآخرون قتلوا في المغازي والفتوح،ومنهم من مات بطاعون الشام،وكثير منهم منتشر في البلاد.وكان عدد الصحابة في الكوفة قليلا مقارنة بعددهم في المدينة المنورة،ولم يكن فيها إلا شراذم منهم تبعوا الحق فهاجروا إلى الكوفة في العهد العلوي،وكانت قصة المناشدة من ولائد الاتفاق من غير أية سابقة لها حتى تقصدها القاصدون،فتكثر الشهود،وتتوافر الرواة.
وعندما نتحدث عن عفوية مناشدة الإمام علي (علیه السلام) يوم الحبة،فإنما نقصد أنه (علیه السلام) لم يرسل با قبل المناشدة للصحابة في المدينة،أو مكة،أو حتى البصرة،يخبرهم بأنه سيعقد اجتماعا يطلب فيه الشهادة بمجريات غدير خم....لم يقم (علیه السلام)-وفق ما تتوافر لدينا من معطيات-بشيء من هذا القبيل، وإنما اكتفى بالصحابة الموجودين فعلا بالكوفة.
نعم،لقد شهد في رحبة الكوفة بحديث الغدير ثلاثون صحابية،منهم اثنا عشر بدرية
من أصل313بدرية سماعة عن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) راجع في ذلك مسند الإمام أحمد بن حنبل(4).وأن يشهد هذا العدد،بعد الواقعة بأكثر من 25 سنة،مع وجود عدد محدود من الصحابة في الكوفة نسبة لمجموعهم الكلي،لهو شاهد إضافي على أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)ذكر ذلك في حشد كبير من الصحابة،وفي موقف مهیب ظل راسخة في ذاكرة هذا العدد من الصحابة.
ومن البديهي أن استشهاد الإمام علي (علیه السلام) بهذا الحديث،وطلبه شهادة الصحابة
ص: 94
الإثبات مقامه،قرينة واضحة على تعين مدلول كلمة«الولي»في ولاية أمر المسلمين.
زبدة الكلام:إن فتح مكة والطائف كان منعطفة كبيرة في تاريخ الإسلام،فقد دخل الناس في دين اللّٰه أفواجا،وبدأت قبائل الجزيرة تخضع للطة الإسلام، لكن الحالة الجاهلية والعصبيات القبلية كانت ما زالت على حالها،خصوصا عند أولئك الذين دخلوا في الإسلام عندما وجدوا أنه صار أمرا واقعة،فآمنوا بألسنتهم ليحقنوا بذلك دماءهم،فأدركوا ما أموا،لكن الأحقاد ما زالت في القلوب تغلي كالمرجل،لذا يقول دعبل الخزاعي في تائيته المشهورة:
إذا ذكروا قتلى ببدر و خیبر
ويوم حنيني أسبلوا العبرات
فكيف يحبون النبي ورهطه
وهم تركوا أحشاءنا وغرات
لقد لاينو في المقالي وأضمروا
قلوبة على الأحقاد منطويات
تذكر أن حادثة غدیر خم وقعت في(10هج)،وأن معركة بدر وقعت في(2هج)،وهذا يعني أنه لم تكد تمضي ثمان سنوات بعدما فعل الإمام علي (علیه السلام) بقريش الأفاعيل،إلا وجاء الأمر الإلهي بإعلانه إماما بعد رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)......قصر هذه المدة،ورسوخ الحالة الجاهلية في وجدان قریش،جعل قريش لا تتحمل علية الي كإمام وخليفة.
حاول رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)أن يرسخ قيمة جديدة،لخصها في خطبته في عرفة، وخشي كثيرة من مضاعفات إعلان ولاية علي (علیه السلام) لأنه يدرك تماما ما تنطوي عليه قلوب الكثيرين.لكن لسان حال أولئك يوم غدیر خم كان يقول لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):افعل ما بدا
ص: 95
لك،وقل ما تشاء بحق الإمام علي (علیه السلام)،لن نصطدم معك في ذلك،لكن لنا شأن آخر معه (علیه السلام) عندما تفارق الدنيا،ونحن منتظرون للحظة رحيلك لنبدأ بتنفيذ أجندتنا الخاصة!!
خطوتان إضافيتان قبيل الوفاة
لم يمض على حجة الوداع ثلاثة أشهر حتى مرض رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،فاتخذ قبيل شكاته أو أولها-والتي استدامت قبل وفاته أربعة عشر يوما تقريبا-خطوتين احترازیتین-على الأقل-ليسهل أمر وصول الإمام علي (علیه السلام) إلى سدة الخلافة،سيقوم وجهاء المهاجرين بإحباطها،عندما تصوروا أنهم هم نقطة الارتكاز والتوازن بعد وفاته (صلی اللّه علیه واله)
،وهم العملة الصعبة في أية عملية تسوية غير معلنة...فهم صاروا بعد فتح مكة والطائف،أكثر قوة ومنعة،لأنهم من ناحية كانوا من السابقين إلى الإسلام،ومن ناحية ثانية كانوا من قریش العدنانية (قبيلة رسول اللّٰه)،في مقابل الإمام علي (علیه السلام) الذي قتل صنادید قریش، وفي مقابل الأنصار القحطانيين.فما هما هاتان الخطوتان؟
الخطوة الأولى بعث أسامة بن زيد:وأسامة فتى لم يتجاوز العشرين من عمره،وهو ابن زید بن حارثة مولى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)...عقد له رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)الإمرة، وندبه أن يخرج بجمهور الأمة إلى حيث أصيب أبوه من بلاد الروم(في غزوة مؤتة)،واجتمع رأيه (صلی اللّه علیه واله) على إخراج جماعة من متقدمي المهاجرين والأنصار، مثل أبي بكر وعمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وأبي عبيدة الجراح وسعد بن أبي وقاص وأسيد بن
حضير وبشير بن سعد....وغيرهم(1)،حتى لا يبقى في المدينة عند وفاته (صلی اللّه علیه واله)من يختلف في الرئاسة،ويطمع في التقدم على الناس بالإمارة،ويستتب الأمر لمن استخلفه بعده،ولا ينازعه في حقه منازع.وجد (صلی اللّه علیه واله) في إخراجهم،فأمر أسامة بالبروز عن المدينة بمعسكره إلى الجرف(=موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام)،وح الناس على الخروج إليه والمسير معه،وحذرهم من الإبطاء عنه.
فبينا هو في ذلك،إذ عرضت له الشكاة التي توفي فيها،وغضب (صلی اللّه علیه واله)من تباطؤالقوم ولغطهم عندما أظهروا الطعن والاستخفاف بالقائد العام للجيش، وقالوا:أمر لاما
ص: 96
حدثا على جلة المهاجرين والأنصار(1).فصعد (صلی اللّه علیه واله)المنبر وقال:أيها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة؟ولئن طعنتم في تأميري أسامة،لقد طعم في تأمیري أباه من قبله،وأيم اللّٰه أنه كان لخليقة بالإمارة وإن ابنه من بعدي لخليق بها.ثم نزل ودخل بيته، وكرر وصيته:جهژوا جيش أسامة،نفذوا جيش أسامة،لعن اللّٰه من تخلف عن جيش أسامة(2).
رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،ربما،لم يرد إخلاء المدينة لعلي (علیه السلام) فحسب،بل أراد أيضا أن يعلم الناس أن الكفاءة العملية هي المعيار في الاختيار،لا التقدم في العمر،ولا الجانب القبلي،هو أساس الاختيار.
ولما أحس (صلی اللّه علیه واله) بالمرض الذي عراه،توجه إلى البقيع، وقال لمن تبعه:إنني قد أمر بالاستغفار لأهل البقيع.فانطلقوا معه حتى وقف بين أظهرهم،فقال (صلی اللّه علیه واله):
السلام عليكم يا أهل البقيع،ليه(=هنيئا لكم ما أصبحتم فيه،لو تعلمون ما انجام
اللّٰه منه،أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم،يتبع أولها آخرها»(3).
الخطوة الثانية طلبة الكتف والدواة:عندما اشتد مرض رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،واجتمع الصحابة في دارو،ولحق بهم من تخلف عن جيش أسامة،ولامهم رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) على تخلفهم واعتذروا باعذار واهية...استشرف رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)من هذه التحركات السياسية المقلقة ما ستؤول إليه الأمور،فقال لهم:ائتوني بكتاب (أو بالكتف والأواة واللوح)أكتب لكم كتابة لا تضلوا بعده،فقال عمر بن الخطاب:إن النبي غلبه الوجع(4) وعندكم القرآن،حسبنا كتاب اللّٰه.وهكذا وقع التنازع والاختلاف واللغط،ولا ينبغي(ولا يليق)عند نبي تناژع،وقالت السوة: ائتوا رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بحاجته،فقال عمر:اسگتن،فإنگن صوابه،إذا مرض عصر أعين، وإذا صح أخذت بعنقه،فقال رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):هئ خیز منكم.ثم قال:قوموا عني ولا ينبغي عندي التناع....وكان ابن عباس كلما ذكر هذه الحادثة التي عرفت برزية يوم الخميس يبكي ويقول:إن الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين كتاب رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)(5)
ص: 97
ويرى بعض الباحثين أن عمر كان على علم بما سيكتبه (صلی اللّه علیه واله)من النص على الإمام علي (علیه السلام)،لأنه قبل ثلاثة أشهر في حجة الوداع ثم في غدیر خم،تحدث عن ضرورة التمسك بأهل البيت (علیهم السلام) إلى جانب التمشك بالقرآن..... ويؤكد ذلك ما رواه مسلم في صحيحه:عن زید بن أرقم: قامَ رَسولُ اللّهِ صلی اللّه علیه و آله یَوما فینا خَطیبا بِماءٍ یُدعی خُمّا ؛ بَینَ مَكَّهَ وَالمَدینَهِ ، فَحَمِدَ اللّهَ وأثنی عَلَیهِ ووَعَظَ وذَكَّرَ ، ثُمَّ قالَ :
أمّا بَعدُ ، ألا أیُّهَا النّاسُ ! فَإِنَّما أنَا بَشَرٌ یوشِكَ أن یَأتِیَ رَسولُ رَبّی فَاُجیبَ .وأنَا تارِكٌ فیكُم ثَقَلَینِ:أوَّلُهُما كِتابُ اللّهِ فیهِ الهُدی وَالنّورُ ، فَخُذوا بِكِتابِ اللّهِ وَاستَمسِكوا بِهِ .
فَحَثَّ عَلی كِتابِ اللّهِ ورَغَّبَ فیهِ ، ثُمَّ قالَ :
وأهلُ بَیتی ، اذَكِّرُكُمُ اللّهَ فی أهلِ بَیتی ، اذَكِّرُكُمُ اللّهَ فی أهلِ بَیتی ، اذَكِّرُكُمُ اللّهَ فی أهلِ بَیتی(1).
ويؤكد ذلك أيضا ما رواه الترمذي في صحيحه:عن حبیب بن أبی ثابت، عن زید بن أرقم رضی اللّهم عنهما قالا: قال رسول اللّه صلّی اللّهم علیه وسلّم-: إنی تارك فیكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدی، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلی الأرض وعترتی أهل بیتی، ولن یتفرقا حتی یردا علیَّ الحوض، فانظروا كیف تخلفونی فیهما(2) )!!
والشاهد المؤيد لهذا التحليل،أن عمر قال:حسبنا كتاب اللّٰه،وهذا يعني أن عمر
كان يعلم أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) سوف يوصي بشيء آخر إلى جانب كتاب اللّٰه، كما ذكر في حجة الوداع وغدیر خم،فكان عمر قال:يكفينا واحد منهما وهو الكتاب ولا حاجة لنا بالآخر،وإلا فما معنى قوله حسبنا كتاب اللّٰه.
ولو افترضنا جدلا أن حديث الثقلين لم يتحدث عن كتاب اللّٰه وأهل بیت رسوله (صلی اللّه علیه واله)،وإنما يتحدث-كما جاء في رواية ضعيفة مرسلة-عن كتاب اللّٰه وسنة رسوله (صلی اللّه علیه واله)،ألا يعني موقف عمر هذا أنه هو أول من رفض الشنة النبوية واكتفى بكتاب اللّٰه؟
على أي حال،بعد حادثة رزية يوم الخميس،تذكر بعض المصادر الشيعية أن العباس
ص: 98
قال لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):إن يكن هذا الأمر فينا مستقرة بعدك فبشرنا،وإن كنت تعلم أنا تغلب عليه فأوص بنا،فقال (صلی اللّه علیه واله):أثم المستضعفون من بعدي،وأصمت،فنهض القوم وهم يبكون قد أيسوا من رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)(1).
والذي يؤكد أن طلب رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) للكتف والأواة مرتبط بمسألة الإمامة والخلافة من بعډو،ما فهمه عبد الرحمن بن أبي بكر من هذه الحادثة.فقد نقل ابن الأثير والحاكم النيسابوري عن عبد الرحمن بن أبي بكر أنه قال:قال رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) ائتوني بكتف ودواة أكتب لكم كتابة لا تضلون بعده،(يقول الراوي)،ثم ولى(عبد الرحمن)قفاه ثم أقبل علينا فقال:يأبى اللّٰه والمؤمنون إلا أبا بكر(2). والسؤال:إن لم يگن لرزية يوم الخميس علاقة بمسألة الإمامة والخلافة،إذن لم يربط عبد الرحمن ابن أبي بكر بين هذه الحادثة واختيار أبيه أبي بكر؟!
والحقيقة أن لعمر بن الخطاب دورة أساسيا في تثبيت الأمر لأبي بكر، ولولاهما استتب الأمر للخليفة الأول في«هو الذي شد بيعة أبي بكر،ووقم المخالفين فيها،فكسر سیف الزبير لما جرده،ودفع في صدر المقداد،ووطئ في السقيفة سعد بن عبادة،وقال:اقتلوه قتله اللّٰه(3)،وحطم أنف الخباب بن المنذر الذي قال يوم القيفة:أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرب،وتوعد من لجا إلى دار فاطمة (علیها السلام)من الهاشميين(4) وأخرجهم منها،ولولاه لم يثبت لأبي بكر أمر، ولا قامت له قائمة»(5)،وهو الذي قال لعلي (علیه السلام):إنك لست متروكة حتى ثبایع،وكان علي (علیه السلام) يتهم عمر بأنه لم يشد أزر أبي بكر إلا ليجعلها له من بعده،حيث قال له مرة:احلب حلبة لك شطه واشدد له اليوم أمره ليه عليك غدا(6)
ص: 99
لماذا لم ينص القرآن صراحة على إمامة علي (علیه السلام) ؟
ايثار عادة تساؤل حول سبب عدم نص القرآن على إمامة علي (علیه السلام) صراحة. فطالما أين الذين لا يكتمل،والنعمة لا تتم،والرسالة لا تبلغ،إلا بإعلان إمامة علي (علیه السلام)،إذن ألم يكن من الأجدر أن ينص القرآن صراحة على إمامة علي (علیه السلام)،ليقطع مادة الخلافي والنزاع بين المسلمين؟
الجواب:طالما أن اللّٰه سبحانه وتعالى يقول عن القرآن:«إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)»،فلا بد من توفير الشروط الضرورية لحمايته من الحريف والعبث.ولو ن
القرآن صراحة على إمامة علي (علیه السلام) بنحو صریح لا يقبل التأويل،لفتح المجال واسعة الكثيرين حتى يتلاعبوا به،وينكروا ويحذفوا كل الآيات التي تنص على ذلك،ولوقع
المحذور،وهو تحريف كتاب اللّٰه تعالی.
لذا عندما يقوم علماء الشيعة برة وتفنيد بعض الروايات الضعيفة المروية في كتبهم، التي تتحدث عن تحريف وقع في كتاب اللّٰه تعالى،يتعلق بذكر فضائل أهل البيت (علیهم السلام)،ويتمسك بها شخص يدعي وقوع الحريف،كالمحدث النوري صاحب كتاب«فصل الخطاب»،يتساءلون باستغراب،إن هذا لو صح،فما هو مبرر قلق رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)من الناس قبیل إعلان إمامة علي (علیه السلام) في غدیر خم؟ ولم طلب رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) أن يأتوه بكتف ودواة؟
لتوضيح هذه النقطة،خذ ما ذكره الإمام الخميني(قده)،لتأكيد صيانة القرآن من الحريف ورد مقولة المحدث النوري،يقول:«لو كان الأمر كماتوهم صاحب فصل الخطاب-الذي....أورد روایات ضعافا أعرض عنها الأصحاب،وتنوه عنها أولو الألباب من دماء أصحابن...هذا حال كتب الروايات غالبا كالمستدرك،ولا تسأل عن سائر به المشحونة بالقصص والحكايات الغريبة التي غالبها بالهزل أشبه منه بالجد...والعجب من معاصريه من أهل اليقظة كيف ذهلوا وغفلوا حتى وقع ما وقع مما بكت عليه السماوات،كادت تتدكدك على الأرض!!وبالجملة لو كان الأمر كما ذكره هو وأشباهه-من كون الكتاب الإلهي مشحونة بذكر أهل البيت وفضلهم،وذكر أمير المؤمنين وإثبات وصايته وإمامته،فلم لم يحتج بواحد من تلك الآيات النازلة والبراهين القاطعة من الكتاب الإلهي:أمير المؤمنين، وفاطمة،والحسن والحسين عليهم السلام،
ص: 100
وسائر الأصحاب الذین لا یزالون یحتجون علی خلافته، ولِمَ تشبّت سلام اللّه علیه بالأحادیث النبویة والقرآن بین أظهرهم؟ ولو كان القرآن مشحونا باسم أمیرالمؤمنین وأولاده المعصومین وفضائلهم وإثبات خلافتهم فبأیّ وجه خاف النبی فی حجّة الوداع آخر سنین عمره الشریف وأخیرة نزول الوحی الالهی عن تبلیغ آیة واحدة مربوطة بالتبلیغ، حتّی ورد: ﴿وَاللّهُ یَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ ولِمَ احتاج النبی الی دواة وقلم حین موته، للتصریح باسم علی علیه السلام ؟ فهل رأی أن لكلامه أثراً فوق أثر الوحی الالهی؟! وبالجملة:ففسادهذا القول الفظيع والرأي الشنيع أوضح من أن يخفى على ذي مسكة(1).
وهذا السبب هو ذاته الذي جعل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) يحجم عن كتابة وصيته،بعدما سمع كلمة«غلبه الوجع»أو«یهجر»،فقد ورد في طبقات ابن سعد،أنه قيل لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بعدما قال عمر ما قال:ألا نأتيك بما طلبت؟،فأجاب (صلی اللّه علیه واله):أو بعدما قال!!لأن أي وصية سيكتبها رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)سیتهم على الفور بأنه كتبها وهو في حال هذیان.حاشاه بأبي هو وأمي.
إذن توجد في القرآن-من خلال معرفة ملابسات أسباب النزول-إشارات كافية على إمامة على (علیه السلام).وحادثة غدیر خم،موقف كاف،لمن كان له قلب أو ألقى الشمع وهو شهيد.ناهيك عن الآيات القرآنية والمواقف المتعددة المؤيدة لإمامة علي (علیه السلام).......لكن إن رفض كبار وجهاء المهاجرين هذا كله،واكتفوا بكتاب اللّٰه كمرجعية دينية،واكتفوا بقریش كظهير ومرجعية اجتماعية.... فلسان حال رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) حينئذ سيكون:«رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي »(2) « أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ »(3)فعدم نص القرآن صراحة على إمامة علي (علیه السلام) إنما هو لصياني من الحريف وعدم تهيئة الأرضية لحدوث ذلك،واللّٰه أعلم.
الخلاصة:تعرفنا فيما مضى إلى تعاظم تأثیر قریش والمنافقين بعد فتح مكة، وتناولنا عبارة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):«من كنت مولاه فعلي مولاه»بالتحليل والتفسير، ورأينا أن القرائن والشواهد وسياق الموقف لها تصب لصالح تفسير العبارة على أنه إعلان بإمامة
ص: 101
علي (علیه السلام)، واستعرضنا الساعات الأخيرة الصعبة والمؤلمة جدا من حياة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وتجاهل أمره في بعث أسامة لأعذار واهية،وتجاهل أمره مرة أخرى لكتابة وصيته الأخيرة تحت مبرر أنه (صلی اللّه علیه واله)قد غلبه الوجع وأن كتاب اللّٰه كافي؟
الآن،عندما توفي رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وأراد الإمام علي (علیه السلام) غسله،استدعى الفضل ابن عباس،فأمره أن يناوله الماء لغسله (صلی اللّه علیه واله)،وتولى الإمام علي (علیه السلام) بنفسه غسله وتحنيطه وتكفينه،وصلى (علیه السلام)عليه (صلی اللّه علیه واله)،ثم بنو هاشم.ووقف (علیه السلام) على قبره (صلی اللّه علیه واله)؟ساعة دفنه يقول:إن الصبر الجميل إلا عنك،وإن الجزع لقبيح إلا عليك، وإن المصاب بك لجليل ،وإنه قبل
وبعد لجلل(1).
وتشير مصادر تاريخية متعددة إلى أنه لم يحضر أحد من وجهاء المهاجرين عند تجهیز رسول اللّٰه و للفن،لما جرى بينهم وبين الأنصار من التشاجر في أمر الخلافة في سقيفة بني ساعدة.
هذا كله،يوضح لنا الانقلاب الأول الذي قادته قريش،وحمل لواءه وجهاء المهاجرين،على بني هاشم والأنصار والأحداث التالية ستحمل في طياتها مفاجاة الوجهاء المهاجرين...ستحمل انقلابة ثانية،من بني أمية عليهم وعلى قريش،لتتهيأ الأرضية بالتدريج لاعتلاء يزيد الشلطة بعد موت معاوية.
في الفصل القادم نريد أن نستوعب بعمق الاصطفافات الجديدة،ولسان حال كل مجموعة من المجموعات،وكل تيار من التيارات،وتصوراتهم لمرحلة ما بعد رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،سواء صرحوا بذلك في حواراتهم،أو كان مفهومةضمنة من سياق الموقف.لسان حال قریش،لسان حال الأنصار،لسان حال وجهاء المهاجرين، وأخيرة لسان حال بني هاشم.
ص: 102
تحدثنا بالأمس عن ازدياد تأثير قریش والمنافقين بعد تغير النسيج الاجتماعي اللمسلمين بعد فتح مكة ومعركة حنين،ورأينا أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) كان قلقة من إبلاغ ولاية الإمام علي (علیه السلام)للناس(1) ،للحقد والغيظ اللذين كانا يملآن قلوب قریش والمنافقين،إلا أن اللّٰه سبحانه وتعالى طمأن رسوله (صلی اللّه علیه واله)؛بأنه سيعصمه من الناس،ورأينا موقف بعض وجهاء المهاجرين من بعث أسامة وطلب رسوله (صلی اللّه علیه واله)،الكتف والدواة،وقلنا با وجهاء المهاجرين والأنصار لحظة تغسيل الرسول (صلی اللّه علیه واله) وتكفينه كانوا منشغلين في السقيفة بالنزاع في أمر الخلافة.
نريد الآن استعراض لسان حال كل من:قریش والأنصار ووجهاء المهاجرين،
وأخيرة بني هاشم، من مسألة الخلافة.وأعني ب«لسان الحال»طريقة تفكير كل طرف آنذاك، ووجهة نظره،وقراءته للأحداث،والزاوية التي ينظر من خلالها إلى الأمور.
لسان حال قريش التي أسلمت بالأمس لسان حال قريش يقول:لا نقبل عليا (علیه السلام) لأنه وترنا،وقتل صناديدنا،ودماؤهم لم تجف بعد.فإن كانت وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) في سنة11هج،ووقوع معركة بدر في سنة2هج،فهذا يعني أنه لم يمر على معركة بدر إلا تسع سنوات.كما لا نقبل أيضا الأنصار القحطانيين قادة وأمراء علينا، ليس لأنهم قحطانيون فحسب،بل لأنهم هم تسببوا بكسر هيبة قريش عندما وقروا المأوى لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وقاتلوا معه ببسالة واحدوا رغم خلافاتهم على حربنا،وقتلوا منا من قتلوا......نحن نعلم أن الظروف الموضوعية لا
ص: 103
تتحمل أبدا أن يقفز أبو سفيان-أو أمثاله من طلقاء قريش-إلى الشلطة،لأن هذه الخطوة المستعجلة سود المسلمين بأسرهم ضدنا.
...الحل الوحيد المقبول بالنسبة إلينا هو أن يعتلي الشلطة أحد رموز المهاجرين
القرشيين من غير بني هاشم،فما دام من قریش،يعني من قبيلتنا،وبما أنه ليس عليا (علیه السلام) الذي وترنا،ولأنه ليس من الأنصار القحطانيين،فنحن نقبله كحل وسط،وكمرحلة انتقالية،وكم هو جميل أن يكون من بطون قريش الضعيفة، حتى يمكن الضغط عليه،وانتزاع ما يمكن انتزاعه منه،كقبيلة تيم(منهم أبو بكر وطلحة)أو عدي(منهم عمر)أو الحارث(منهم أبو عبيدة بن الجراح)او ژهرة (منهم سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف)...إلخ.
بعد ذلك لكل حادث حدیث،وستفرض موازين القوى الداخلية لقريش مستقبل العامة،فعلام الاستعجال،لنفتح في المجال للوجهاء من المهاجرين، وسنتدبر الأمر بعد ذلك،ونرى ما يحدث.لكن أهم خطوة الآن،أن لا يصل الإمام علي (علیه السلام) إلى الخلافة،لأن وصوله يعني بقاء الخلافة في بني هاشم(1) .
لسان حال الأنصار
لسان حال الأنصار يقول:بات من الواضح أن قريشا لن تقبل عليا (علیه السلام) كخليفة بعد رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وإن سایرت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في غدیر خم.والشاهد على ذلك التحركات المريبة لوجهاء المهاجرين القرشيين،فهم تباطؤوا في الالتحاق ببعث أسامة،وحالوا دون أن يكتب رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) وصيته الأخيرة وهو على فراش الموت.إذن فوجهاء المهاجرين،ومن خلفهم قریش،مصممون على انتزاع الخلافة من الإمام علي (علیه السلام)،فحتى لا يتزعم وجهاء المهاجرين،وينقلبوا علينا بعدما آويناهم وآثرناهم على
ص: 104
أنفسنا،ويقع ما كنا نخشاه دائمة،فلا بد إذن أن نستعجل في اختيار خليفة لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) لنتغدى بوجهاء المهاجرين قبل أن يتعشوا بنا.
نحن لا نقبل المهاجرين القرشيين،لأنهم قد يتحولون إلى أداة بيد قريش التي أسلمت بالأمس،عندها ستقوم قریش بتصفية حسابها معنا.لكن هل ستسمح تناقضاتنا الداخلية برص الفوف لاتخاذ هذه الخطوة الاستباقية؟
الخزرج للأوس:تفضلوا لدينا مرشح من الأنصار،وهو ما نحن الخزرج،وهو سعد بن عبادة.
الأوس للخزرج:لا نقبل مرشحكم تحت أي ظرف من الظروف،ولم لا يكون الخليفة ما نحن....وإن أصرم على مرشحكم،فنح ممرجح أن يصل إلى الخلافة أحد وجهاء المهاجرين،على أن يصل مرشحكم للخلافة.
لسان حال وجهاء المهاجرين
لسان حال وجهاء المهاجرين يقول،قريش لا تقبل عليا (علیه السلام)،ونحن لا نقبله أيضا وقريش لا تقبل الأنصار،ونحن أيضا لا نقبل أن تكون لهم العامة علينا،وطبعة المسلمون كلهم لن يقبلوا قريش التي أسلمت بعد الفتح،فلا يوجد حل إلا أن تختاروا واحدة مئا،فنحن الآن العملة الصعبة في أي عملية تسوية غير معلنة، ونحن وحدنا القادرون على إمساك العصا من الوسط لتحقيق حالة التوازن بين قریش من ناحية،وبني هاشم والأنصار من ناحية أخرى.
وستظل تحافظ على هذا التوازن وثقي تحت السيطرة،لأن وصول الإمام علي (علیه السلام) إلى الخلافة بعد رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) يعني أنها لن تخرج من يد بني هاشمأبدا، لأنهم هم أقرب الناس إليه،وبنو هاشم هم البطن القوي الأول في قريش. ووقوع الخلافة بيد الأنصار يعني انقلابا في الموازين القبلية بين العرب آنذاك، والعرب لن يقبلوا ذلك،ولن يستطيع الأنصار ضبط الوضع.نحن في المقابل، سنجهد ما استطعنا أن لا يصل بنو عبد شمس،خصوصا بنو أمية،لأنهم هم البطن القوي الثاني في قريش،ونحن أكثرنا من بطون قريش الضعيفة،وإن وصلت الخلافة إلى بني أمية فقد لا تخرج من يدهم أيضا.ولكن اللّٰه الحمد، الوضع لا يتحمل وصول بني أمية للشلطة،لأنهم حديثو عهد بالإسلام. وقريش لا تقبل عليا (علیه السلام)،وهو المرشح الأساس لبني هاشم.
فإذن،لتظل الخلافة تدور في بطون قريش الضعيفة،فرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)من قریش، ونحن وجهاء المهاجرين-وأكثرنا من بطون قريش الضعيفة-السابقون إلى الإسلام،
ص: 105
وهذه هي فرصتنا التاريخية التي لن تعوض،نستطيع من خلالها السيطرة على العرب من ناحية،ووضع حد لبطون قريش القوية(بنو هاشم وبنو أمية) من ناحية أخرى.وعلى الجميع أن يتفهم هذه الحقيقة،ولا يحول دون وصولنا إلى الشلطة،ويبخل علينا بهذه الفرصة التاريخية التي لن تتكرر.
لسان حال بني هاشم
لسان حال بني هاشم يقول:من الواضح أن قريشة حساسية تجاه علي (علیه السلام)، ولكن إن احد المهاجرون والأنصار معا،ووقفوا خلف علي (علیه السلام)، ونفذواتوجيهات رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) وأوامره،فلن يكون بمقدور قریش فعل شيء، أولا:لأنه قرشي،وثانيا:لأنهم هم حديثو عهد بالإسلام وبالأمس القريب عفا رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) عنهم وأطلقهم وألف قلوبهم،وثالثا:لأ رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) أعلن قبل ثلاثة أشهر فقط ولاية علي (علیه السلام) صراحة في غدیر خم،وقام المهاجرون والأنصار بتهنئته،وهو أسبق الناس إسلاما وأقربهم نسبة الرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).
فالأمر الذي يحسم القضية هو وحده كلمة المهاجرين والأنصار،ووقوفهم خلف علي (علیه السلام)،عندها ستقف قريش-ومن خلفها المنافقون-مكتوفة الأيدي، وستبقى عاجزة أمام علي (علیه السلام).
ولأن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) توفي توا،فوظيفتنا الأولى الآن،من الناحية الأخلاقية احتراما لمقام رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)العظيم،ونحن ذووه وقرابته،أن ننشغل بغسله وتكفينه ودفني،بعد ذلك يقوم علي (علیه السلام) بسد الفراغ بشكل طبيعي وسلس.إذن الأمر كله مرهون بوحدة كلمة المهاجرين والأنصار.
ننتقل لتدقق في دوافع الأنصار لعقد اجتماع السقيفة،ومجريات الأمور فيها:
دوافع الأنصار لعقد الاجتماع
بمجرد وصول أنباء عن احتضار رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)عقد الأنصار اجتماعا طارئة في سقيفة بني ساعدة لبحث مسألة الخلافة،وكان من المقرر أن يظل الاجتماع سرية،حتى وصول الأوس والخزرج إلى اتفاق نهائي بشأن الخليفة القادم.....لكن لماذا عقد الأنصار هذا الاجتماع الاستثنائي والعاجل؟
و لمس الأنصار تحركة سياسية من قبل المهاجرين-واجهة قريش آنذاك- المعارضين لاستلام الإمام علي (علیه السلام) الخلافة، فقد أجمعوا على صرف الخلافة
ص: 106
عنه (علیه السلام)،وظهرت منهم بوضوح بوادر التمد،عندما تباطؤوا في الالتحاق بسرية أسامة وطعنوا في إمارته،وعندما حالوا بين رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وما رامه من الكتابة. وأكبر الظن أن الأنصار وقفوا على حقير قريش وكراهيتهم لعلي (علیه السلام) من زمن بعيد، وأنهم لا يخضعون لكم،وقد حصد رؤوس أعلامهم.وقد أيقن الأنصار أنه سيصيبهم الجهد والعناء إن استولى المهاجرون على زمام الحكم،فلذلك بادروا إلى عقد اجتماعهم،والعمل على ترشيح أحدهم.
•استبان للأنصار فيما أخبر به رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)أن أهل بيته لن ينالوا الخلافة، وأهم المستضعفون بعده،فاحتاطت الأنصار لنفسها فبادرت لعقد الاجتماع للاستيلاء على الحكم،لئلا يسبقهم إليه المهاجرون من قريش.
و كان الأنصار العمود الفقري للقوات الإسلامية المسلحة،وقد أنزلوا ضربات قاصمة بالقرشيين،فأبادوا أعلامهم،وأشاعوا في بيوتهم الحزن والحداد في سبيل الإسلام،وقد علموا أن الأمر إذا استتب للقرشيين،فإنهم سيمعنون في إذلالهم طلبة بثأرهم،وكفاهم ما سمعوا من رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):ستلقون بعدي أثرة،فاصبروا حتى تلقوني على الحوض(1) ).
وقد صرح بهذه المخاوف الحباب بن المنذر في السقيفة عندما قال لأبي بكر وعمر وغيرهما من وجهاء المهاجرين:«لكنا نخاف أن يليها بعدكم من قتلنا أبناءهم وآباءهم وإخوانهم»(2) .
هذا التنبؤ تحقق بعد ذلك فعلا،عندما استولی بنو أمية على الحكم. وتحققت مخاوفهم حيث لقوا أثرة لفترة طويلة وبلغ الظلم الواقع عليهم ذروته عندما استباح یزید المدينة في واقعة الحرة.
عندما ندرس دوافع الأنصار،لا نريد أن تسيء الظن بهم،لئلا نخسر عددا وفيرة من الصحابة.لكن عملهم نفسه-سواء أكان بسوء نية أم لا-لايسعنا أن نحكم بصيه،
ص: 107
ولا يمكننا الموافقة عليه أبدا،فإن تشرعهم في عقد اجتماعهم لنصب خليفة منهم،مع وجودهم في غدیر خم،لا يخرج عن عدو خطيئة كبرى وتفریطأ في حقوق المسلمين بلا مبرر(1).
اجتماع القيفة قبل انكشاف أمره
لما اجتمع الأوس والخزرج في سقيفة بني ساعدة،انبری سعد بن عبادة-زعيم الخزرج-إلى افتتاح الاجتماع،كان مريضا فلم يتمكن من الجهر بصوته،وبلغ مقالته بعض أقربائه،وكانت تتضمن:
•الإشادة بنضال الأنصار وبسالتهم في نصرة الإسلام،وأن لهم الفضل الأكبر في نشره،فهم الذين حموا رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) أيام محنته،فهم أولى برسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم وأحق بمنصبه من غيره.
•التنديد بالبطون القرشية التي ناجزت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)الحرب،حتى اضطر إلى الهجرة إلى المدينة،وأن من آمن بو منهم لم يتمكن من حمايته والذب عنه، وبذلك فلا حق لهم في حكم الدولة التي ما قامت إلا على سواعد الأنصار وجهادهم(2).
وتجاهل سعد حق الإمام علي (علیه السلام) في الأمر،وموقفه هذا جر على الأمة الفتن والويلات وألقاها في شر عظيم. وقد لقي سعد جزاء عمله،فإنه لم يكد يستقر الحكم لأبي بكر حتى ضيق عليه،فاضطر إلى الهجرة من المدينة -مسقط رأسه-إلى الشام،أول خلافة عمر،فبعث عمر رجلا ليضطره إلى البيعة،فرفض سعد مبايعة عمر،فرمی رجل سعدة بالشام بسهم فقتله(3)، وتحدثوا أن الجين هي التي قتلته(4)!!
ص: 108
ولم تكن للأنصار إرادة صلبة،ولا عزم ثابت،ولا جبهة موحدة،فبين الأوس والخزرج دماء مطلولة،وصدوع بالغة لا يرجى رأبها،وكان آخر أيام حروبهم يوم بعاث،المشهور،وهو قبل الهجرة بس سنين،وهو سبب إسلامهم على ما قيل،إذ جاءت الأوس بعد يوم بعاث إلى مكة تستنجد قریشة على الخزرج(1)، فالتقوا رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وهداهم اللّٰه تعالى إلى الإسلام.
يقول المؤرخون إن الأنصار بعد كلام سعد ترادوا الكلام فيما بينهم،فتساءل بعضهم:فإن أبي المهاجرون من قریش،وقالوا نحن المهاجرون وأصحابه الأولون وعشيرته وأولياؤه،فعلام تنازعون هذا الأمر بعده؟فقالت طائفة منهم: فإنا نقول ما أمير ومنكم أمير(يعني تارة يكونالخليفة منځم،ثم بعد وفاته تنتقل الخلافة إلى شخص ما،وهكذا يتم تداول الشلطة بين المهاجرين والأنصار)،ولن نرضى بدون هذا أبدا.وثار سعد حينما رأى هذه الروح الانهزامية حتى قبل مواجهة قريش،وأنهم لن يقفوا معه وقفة صلبة لا تلين، فقال:هذا أو الوهن(2).
نتوقف عند هذه اللحظة،لنخرج من اجتماع السقيفة،لنرى موقفا غريبا لعمر بن الخطاب عندما شاع خبر وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وعلت الأصوات من بيته (صلی اللّه علیه واله) بالبكاء والحيب.
موقف لعمر
قبل وصول خبر اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة إلى عمر بن الخطاب،قام عمر بتجميد الأوضاع،وإيقاف أي عملية تؤدي إلى انتخاب خليفة لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،لأن أبا بكر لم يكن في المدينة عند وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وإنما كان في السنح(3))(=محل يبعد عن المدينة بميل)،فبعث خلفه من يأتي به إلا أنه خشي أن يطرح موضوع الخلافة
ص: 109
قبل مجيئه،فانطلق بحالة رهيبة،يجوب أزقة المدينة،ويه بيده سيفه،وينادي بصوت عال:إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول اللّٰه قد مات،وإنه واللّٰه ما مات،ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسی بن عمران،واللّٰه ليرجعن رسول اللّٰه فيقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أن رسول اللّٰه مات(1).
وذهل الناس،وعصفت بهم أمواج رهيبة من الحيرة،لا يدرون أيصدقون مزاعم عمر بحياة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وهي من أعز ما يأملون؟أم يصدقون الأخبار المتواترة وأصوات البكاء والنحيب الصادرة من بيت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وآيات القرآن التي تؤكد إمكانية موت رسول اللّٰه؟
وهنا توجد لدينا ملاحظات:
•إن إنكار عمر لموت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وأنه ذهب إلى ربه وأنه لا بد أن يرجع إلى الأرض،لم يكن على ما يبدو عن إيمان منه بحياة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وإنما هو تضييع للوقت،حتى يمهل أبا بكر للوصول إلى المدينة.والشاهد على ذلك:أن عمر بذاته وقف أمام رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في مرضي وصده عما رامه من الكتابة،وقال: حسبنا كتاب اللّٰه،ومن الطبيعي أنه ما قال ذلك إلا وهو يدرك أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)مشرف على الموت.
هذا من ناحية،من ناحية أخرى فإن القرآن أعلن أن كل إنسان لا بد أن يموت «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ »(2)،بل تحدث عن موت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)بالخصوص في قوله تعالى:
«إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)»(3)،وقال تعالى:«وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ»(4)،وهذه الآيات ممتلی ليلا ونهارة، فهل خفيت على مثل عمر؟
مضافة إلى ذلك أن سكون عمر المفاجئ بمجرد وصول أبي بكر وتصديقه بلا مناقشة المقالته حينما أعلن وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)(5)،يؤيد التحليل القائل با حركةعمر كان المقصود منها تقطيع أوصال الوقت.
•إن حكم عمر با رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)سوف يرجع إلى الأرض ويقطع أيدي رجال
ص: 110
وأرجلهم ممن أرجفوا بموته،لا يخلو من وهن،لأن تقطيع الأيدي والأرجل والحكم بالإعدام إنما يكون للذين يخرجون عن دين اللّٰه،أو يسعون في الأرض فسادة،وليس تناقل خبر موت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)موجب لذلك قطعة،بدليل أ شائعة موت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) سرت في أحرج موقف في معركة أحد،ومع ذلك لم يقم رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)بتقطيع أيدي وأرجل من تناقل خبر موته!
توجيه ابن أبي الحديد الموقف عمر
بعد أن نقل ابن أبي الحديد تفاصيل هذا الموقف لمحمر،تحدث عن التساؤلات المثارة حوله،وعرض إجابة قاضي القضاة في«المغني»،ورد السيدالمرتضى في«الشافي».ثم قام بتبرير موقف عمر على النحو الآتي:
و نحن نقول إن عمر كان أجل قدرا من أن یعتقد ما ظهر عنه فی هذه الواقعة،و لكنه لما علم أن رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) قد مات خاف من وقوع فتنة فی الإمامة و تقلب أقوام علیها إمّا من الأنصار أو غیرهم و خاف أیضا من حدوث ردة و رجوع عن الإسلام فإنه كان ضعیفا بعد لم یتمكن و خاف من ترات تشن و دماء تراق فإن أكثر العرب كان موتورا فی حیاة رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) لقتل من قتل أصحابه منهم و فی مثل ذلك الحال تنتهز الفرصة و تهتبل الغرة فاقتضت المصلحة عنده تسكین الناس بأن أظهر ما أظهره من كون رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) لم یمت و أوقع تلك الشبهة فی قلوبهم فكسر بها شرة كثیر منهم و ظنوها حقا فثناهم بذلك عن حادث یحدثونه تخیلا منهم أن رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) ما مات و إنّما غاب كما غاب موسی عن قومه و هكذا كان عمر یقول لهم إنّه قد غاب عنكم كما غاب موسی عن قومه و لیعودن فلیقطعن أیدی قوم أرجفوا بموته.
و مثل هذا الكلام یقع فی الوهم فیصد عن كثیر من العزم أ لا تری أن الملك إذا مات فی مدینة وقع فیها فی أكثر الأمر نهب و فساد و تحریق و كل من فی نفسه حقد علی آخر بلغ منه غرضه إمّا بقتل أو جرح أو نهب مال إلی أن تتمهد قاعدة الملك الذی یلی بعده فإذا كان فی المدینة وزیر حازم الرأی كتم موت الملك و سجن قوما ممن أرجف نداء بموته و أقام فیهم السیاسة و أشاع أن الملك حی و أن أوامره و كتبه نافذة و لا یزال یلزم ذلك الناموس إلی أن یمهد قاعدة الملك للوالی بعده و كذلك عمر أظهر ما أظهر حراسة للدین و الدولة إلی أن جاء أبو بكر و كان غائبا بالسنح و هو منزل بعید عن المدینة فلما اجتمع بأبی بكر قوی به جأشه و اشتد به أزره و عظم طاعة الناس
ص: 111
له و میلهم إلیه فسكت حینئذ عن تلك الدعوی التی كان ادعاها لأنّه قد أمن بحضور أبی بكر من خطب یحدث أو فساد یتجدد و كان أبو بكر محببا إلی الناس لا سیما المهاجرین (1).
مباغتة الأنصار في السقيفة
نعود إلى اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة....بينا هم مجتمعون بأسرهم(2) خرج عویم بن ساعدة الأوسي،ومعن بن عدي(3)،وانطلقا وأخبرا أبا بكر وعمر بذلك(4)،ففزعا وانطلقا مسرعين،ومعهما أبو عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة،وتبعهم جماعة آخرون من المهاجرين،فكبسوا على الأنصار في اجتماعهم،وأسقط ما بأيدي الأنصار وذهلوا وارتبكوا،وتغير لون سعد،وتخوف من خروج الأمر عنهم،لعلمه بضعف الأنصار وتصدع وحدتهم، فهو أحاط الاجتماع بكثير من الشرية،لكن الخبر تسرب إلى من يفترض أن لا يتسرب إليه الخبر.ومن كان يبغض الامارة لسعد وجد الفرصة قد حانت للانقضاض عليه.
وكاد عمر أن يبدأ بالتهجم على الحاضرين بانفعال،لكن أبا بكر أسكته،وبدأ هو
بالكلام،فكان مما قال:
خص اللّٰه المهاجرين الأولين من قومه،تصديقه والإيمان به،والمؤاساة لله والصبر معه،على شدة أذى قومهم لهم،وتكذيبهم إياهم،وكل الناس لهم مخالفت،زار عليهم،فلم يستوحشوا لقلة عددهم، وشنف الناس لهم،وإجماع قومهم عليهم،فهم أول من عبد
ص: 112
اللّٰه في الأرض،وآمن باللّٰه وبالرسول،وهم أولياؤه وعشيرته،وأحق الناس بهذا الأمر من بعده،ولا ينازعهم ذلك إلا ظالم.وأنتم يا معشر الأنصار،من لا ينكر فضلهم ولا سابقتهم العظيمة في الإسلام،رضيكم اللّٰه أنصارة لدينه ورسوله، وجعل إليكم هجرته،وفيكم جلة أزواجه وأصحابه،فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم،فنحن الأمراء،وأنتم الوزراء،لا تفتأتون بمشورة،ولا نقضي دونكم الأمور...هذا عمر،وهذا أبو عبيدة،فأيهما شئتم فبايعوا»(1) .
وكان أيضا مما قال:«ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قریش(=وجهاء
المهاجرين)،هم أوسط العرب نسبة وداراً»(2) .
ولنا هنا ملاحظات:
و إن أبا بكر لم يتحدث عن رزية وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،ولا عاهم بهذه الفاجعة،ولم يدعهم إلى القيام بتشييع جثمانه الطاهر،ليعقدوا بعد ذلك اجتماع عامة تحضره جميع طبقات المسلمين،لينتخبوا بإرادتهم وحريتهم من يرضونه خليفة لهم،لو فرضنا جدلا أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)لم يعهد لأحد من بعده.
•إن منطق هذا الخطاب هو طلب الإمرة والشلطان،فقد عرض على الأنصار صفقة،أن يتنازلوا لإخوانهم المهاجرين عن الخلافة،في مقابل أن يكونوا هم الوزراء.. لكن لما تم له الأمر،لم يمنح الأنصار مناصب عليا.
هذا الخطاب تجاهل تماما حق العترة الطاهرة،فالمنطق الذي استند إليه الأحقية المهاجرين من قريش بالخلافة هو أنهم أول الناس إسلامة،وأم الناس رجما برسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وهذا المعيار متوافر بشكل أتم في الإمام علي (علیه السلام)،فهو أول الناس إسلامة وأقرب الناس رجمة برسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،لذا تجد أميرالمؤمنين يقول في هذا المعنى شعراً:
فإن كنت بالشوری ملكت أمورهم
فكيف بهذا والمشيرون غیب
وإن كنت بالقربی حججت خصيمهم
فغيرك أولى بالنبي وأقرب(3)
ص: 113
وكانت هذه خطوة بارعة من أبي بكر،لأنه حد نفسه من المنافسة، وجد نفسه من
جميع الأطماع السياسية،وبذلك كسب نفوس الأنصار.
وعندما اعترض الخباب بن المنذر(الخزرجي)وقال:يا معشر الأنصار،املكوا
عليكم أمركم...(ثم عرض حلا وسطا)فإن أبي هؤلاء،فمنا أمير ومنهم أمير.
عندئذ انبرى عمر فاؤد مقالة أبي بكر،فقال:هيهات لا يجتمع اثنان في قرن، واللّٰه لا ترضى العرب أن يؤمروم ونبيها من غيركم،ولكن العرب لا تمتنعأن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي أمورهم منهم،ولنا بذلك على من أبي من العرب التحة الظاهرة والشلطان المبين،من ذا ينازعنا سلطان محمد وامارته؟ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة!(1)
ولنا هنا ملاحظات:
و عمر بكلامه هذا،ورفضه لاقتراح الباب،رفض القبول بالأنصار كشركاء في
أمر الخلافة.فهو لم يتجاهل موقع الإمام علي (علیه السلام) ومنطق الوصية فحسب، بل رفض أيضا منطق تداول الشلطة بين المهاجرين والأنصار،وأغلق الباب بوجه الأنصار تماما.وهذا الأمر لا يتعلق بهوية الخليفة المقبل فحسب،بل بهوية أي خليفة مقبل.فمبدأ تداول الشلطة مرفوض عند عمر،والشلطة-في نظره-يجب أن تكون بيد وجهاء المهاجرين فحسب،ولا يمكن القبول بخليفة من الأنصار ولو في المستقبل.وهذا واضح تماما من قوله«هیهات لا يجتمع اثنان في قرن»كجواب على اقتراح ما أمير ومنهم أمير».
•نفهم من كلام عمر أيضا أن قريشا،والعرب عموما،لا تقبل خلافة أحد من الأنصار،فالعدنانيون لا يقبلون خليفة قحطانية،خصوصا مع الأخذ في الاعتبار أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) قرشي عدناني.لكن العرب في المقابل،ستقبل أن يكون الخليفة من بطون قریش العدنانية.ولا يمكن أن تعترض العرب وقريش على وجهاء المهاجرين إذا كان الخليفة منهم،وبالتالي لمهاجرة قريش الحجة الظاهرة والشلطان المبين على العرب وقريش،وهل يجرؤ العرب،بل هل تجرؤ قریش،التي أسلمت بالأمس القريب،على الاعتراض بان يتولى أحد وجهاء المهاجرين الخلافة؟فهم أولياؤه وعشيرته،وهم أول من آمن به وهاجر معه.
ص: 114
جدل ينتهي بحسم الأمر لأبي بكر
وانبرى الحباب بن المنذر،فرد على عمر قائلا:يا معشر الأنصار املكوا عليكم أمركم،ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه،فيذهبوا بنصیبگم من هذا الأمر،فإن أبوا عليكم ما سألتموه فاجوهم عن هذه البلاد.وتولوا عليهم هذه الأمور، فانثم واللّٰه أحق بهذا الأمر منهم،فإنه بأسيافكم دان الناس لهذا الدين من دان ممن لم يكن يدين،أنا ذيلها المحكك(=من لي تجربة بالأمور)،وعذيقها المرجب(=العامة التي تعيد انحراف نمو النخلة لمسارها المستقيم)...... واللّٰه لو شئتم لتعيدها جذعة(=جديدة كما بدأ)،واللّٰه لا يرد أحد على ما أقول إلا حطمث أنه بالسيف...
قال عمر: إذا يقتلك اللّٰه.
قال الحباب:بل إياك يقتل.
وكثر اللغط،وارتفعت الأصوات.
فقال أبو عبيدة الجراح:يا معشر الأنصار إنكم كنتم أول من نصر وآزر،فلا تكونوا أول من بدل وغير.
فقام بشیر بن سعد الخزرجي(أبو النعمان بن بشير،قام ليتحدث بلسان المؤمن المتقي المتجرد من عصبياته القبلية متأثرة بمقالة أبي عبيدة متناسية حق الإمام علي عليه السلام)فقال:يا معشر الأنصار،انا واللّٰه لئن ئا أولي فضيلة في جهاد المشركين،وسابقة في هذا الدين، ما أردنا به إلا رضا ربنا وطاعة نبينا والكدح لأنهينا،فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك،ولا نبتغي به من الدنيا عرضة،فإن اللّٰه ولي النعمة علينا بذلك، ألا إن محمدا (صلی اللّه علیه واله)من قريش،وقومه أحق به وأولى،وأيم اللّٰه لا يراني اللّٰه أنازعهم هذا الأمر أبدا،فاتقوا اللّٰه ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم!
فقال أبو بكر:هذا عمر،وهذا أبو عبيدة،فأيهما شئتم فبايعوا.
فقالا:واللّٰه لا نتولى هذا الأمر عليك....
فلما ذهبا ليبايعاه،سبقهما إليه بشير بن سعد فبايعه،فناداه الخباب بن المنذر:یا
بشیر بن سعد عققت عقاق،أنفست على ابن عمك الإمارة؟
فقال:لا واللّٰه،ولكني كرهت أن أنازع قوما حقا جعله اللّٰه لهم!
ولما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعئد(الخزرجي)،وما تدعو إليه قريش،وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة،قال بعضهم لبعض-وفيهم أسيد بن حضير-:
ص: 115
واللّٰه لئن وليتها الخزرج عليكم مرة،لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة، ولاجعلوا لكم معهم فيها نصيبا أبدا،فقوموا فبايعوا أبا بكر.
فقاموا إليه فبايعوه،فانكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا أجمعوا له من
أمرهم،فأقبل الناس من كل جانب يبايعون أبا بكر،وكادوا يطاون سعد بن عبادة.
فقال أناس من أصحاب سعد:اتقوا سعدة لا تطاوه.
فقال عمر:اقتلوه،قتله اللّٰه(1) .
ثم قام عمر على رأس سعد بن عبادة فقال:لقد هممت أن أطأك حتى تندر غضوك(=تسقط أعضاؤك).فأخذ قيس بن سعد بلحية عمر فقال:واللّٰه لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي نيك واضحة(2) .
فقال أبو بكر:مهلا يا عمر،الرفق ها هنا أبلغ.فأعرض عنه عمر(3) .
ويروي الطبري في تاريخه أن أسلم أقبلت بجماعتها،حتى تضايق بهم الكك،
فبايعوا أبا بكر،فكان عمر يقول:ما هو إلا أن رأيت أسلم فأيقنت بالنصر(4)
وهذه العبارة توحي أن ما وقع كائه بمثابة انقلاب عسكري،وأن عمر كان ينتظر من خارج المدينة المدد البشري،وبالتحديد من قبيلة أستم.حتى جاءت،وضاقت بعددهم سگك المدينة،وبايعوا أبا بكر،صار هو الخليفة بحكم الأمر الواقع.
وروى أبو بكر الجوهري:أن عمر كان يومئذ-عني يوم بويع أبو بكر-محتجزة
يهرول بين يدي أبي بكر ويقول:ألا إن الناس قد بايعوا أبا بكره(5) .
قال الزبير بن بكار:فلما بويع أبو بكر،أقبلت الجماعة التي بايعته تڑه زفة إلى
مسجد رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،فلما كان آخر النهار،افترقوا إلى منازلهم(6) ...
ص: 116
بايع الناس أبا بكر،وأتوا به المسجد يبايعونه،فسمع العباس وعلي (علیه السلام) التكبير في
المسجد،ولم يفرغا من غسل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).
فقال علي (علیه السلام):ما هذا؟
وجاء البراء بن عازب فضرب الباب على بني هاشم وقال:يا معشر بني هاشم،بویع
أبو بكر.
فقال بعضهم لبعض:ما كان المسلمون يحدثون حدثا نغيب عنه ونحن أولىبمحمد.
فقال العباس:فعلوها ورب الكعبة(1).
تجهیز رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)
يروي ابن هشام في سيرته أن علي بن أبي طالب (علیه السلام)،والعباس بن عبد المطلب،والفضل بن عباس،وقثم بن عباس،وأسامة بن زيد،وشقران مولى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،هم الذين ولوا غسل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).(2)وكان الذي نزل في قبره (صلی اللّه علیه واله)علي بن أبي طالب (علیه السلام)،والفضل بن العباس وقثم بن العباس،وشقران مولى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)(3)
واتفقت الأخبار التاريخية على أن وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)كانت في منتصف نهار يوم الاثنين(4).وبويع أبو بكر يوم الاثنين في اليوم الذي قبض فيه رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)(5) .
واختلف في وقت دفنه (صلی اللّه علیه واله)؛فذهب الواقدي إلى أنه دفن يوم غد الثلاثاء في منتصف النهار حین زاغت الشمس(6) ،وذهب آخرون إلى أنه في ليلة الأربعاء وسط الليل(7) ،ويروي عن عائشة أنها قالت:ما علمنا بدفن الرسول حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل،ليلة الأربعاء(8) .وكلامها يؤكد أن الجو العام للصحابة كان منشغلا بامر الخلافة عن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وأنه لم يتفرغ لتغسيله وتكفينه (صلی اللّه علیه واله) إلا النفر الذين ذكرنا أسماءهم.
ص: 117
وهناك رواية للمفيد تشير إلى أن الخبر وصل إلى بني هاشم عندما كانوا قد فرغوا تو من دفن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).يقول المفيد:لما تم لأبي بكر ما تم،وبايعه الناس،جاء رجل إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) وهو يسوي قبر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بمسحاة في يده،فقال له:إن القوم بايعوا أبا بكر،ووقعت الخذلة في الأنصار لاختلافهم،وبدر اللقاء بالعقير للرجل خوفا من إدراككم الأمر،فوضع (علیه السلام) طرف المسحاة في الأرض ويده عليها وقال:
بسم اللّٰه الرحمن الرحيم،«الم (1)أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)»(1).
وتحدث الروايات التاريخية عن محاولة لأبي سفيان لإيقاع الفتنة،من خلال تحريض الإمام علي (علیه السلام) والعباس،وأن عليا (علیه السلام) زجره وقال له:إنك واللّٰه ما أردت بهذا إلا الفتنة،وإنك طال ما بغيت للإسلام شرة،لا حاجة لنا في نصيحتك(2).
بطبيعة الحال،كان الإمام علي (علیه السلام) ملتفتأ لذلك،ولم تنطل عليه حيلة أبي سفيان،لأن العلاقة بين أبي سفيان وأبي بكر كانت على ما يرام،وكان أبو بكر يدافع عن أبي سفيان،فقد روى مسلم في صحيحه أن أبا سفيان أتی علی سلمان وصهيب و بلال في نفر،فقالوا:واللّٰه ما أخذت سيوف اللّٰه من عنق عدو اللّٰه ماخذها.قال فقال أبو بكر:أتقولون هذا لشيخ قريش وسيرهم؟فأتى النبي (صلی اللّه علیه واله) فأخبره،فقال:يا أبا بكر لعلك أغضبتهم،لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك(3)........
وروى محمد بن إسحاق أن أبا بكر لما بویع،افتخرت تیم بن مرة(القبيلة التي ينتمي إليها أبو بكر)،قال:وكان عامة المهاجرين والأنصار لا يشكون أ علية هو صاحب الأمر بعد رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)(4).
وفي نهج البلاغة أن علية غلی سال بعد ذلك عن مجريات اجتماع السقيفة فقال:ما
قالت الأنصار؟
قالوا:قالت ما أمير ومنكم أمير.
ص: 118
قال (علیه السلام):فهلا احتجتم عليهم بأن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وصى بأن يحسن إلى محبيهم
ويتجاوز عن مسيئهم(1) ؟
قالوا:وما في هذا من الحجة عليهم؟
قال (علیه السلام):لو كانت الإمام فيهم لم تكن الوصية بهم(2) .
ثم قال (علیه السلام):فماذا قالت قریش؟
قالوا:احتجت بأنها شجرة الرسول (صلی اللّه علیه واله).
فقال (علیه السلام): احتجوا بالشجرة،وأضاعوا الثمرة(3).
ويروى أيضا أن الإمام علي (علیه السلام) قال بعد محاولة أبي سفيان مبايعته بالخلافة،بعد أن تمت البيعة لأبي بكر:«....فإن أقل يقولوا:حرص على الملك،وإن أسمحت يقولوا:جزء من الموت!هيهات بعد الأتيا والتي،واللّٰه لابن أبي طالب آن بالموت من الطفل بثدي أمه،بل اندمج على مكنون علم لو بحث به لاضطربثم اضطراب الأرشية في الوي البعيدة (=اضطراب الحبال المتدلية في الآبار العميقة»(4) .
وتتحدث بعض المصادر عن موجة ندم أصابت كثيرة من الأنصار على بيعة أبي بكر،
ولام بعضهم بعضا،وذكروا علي بن أبي طالب وهتفوا باسمه(5) ،ولكن ولات حين مندم.
التحضن بدار فاطمة (علیها السلام)
وغضب رجال من المهاجرين والأنصار من بيعة أبي بكر،ومالوا مع علي (علیه السلام)، فدخلوا بيت فاطمة (علیها السلام) ومعهم السلاح،فبلغ أبا بكر وعمر أن جماعة من المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا مع علي (علیه السلام) في منزل فاطمة (علیها السلام) بنت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)..
وذكر المؤرخون في عداد من تخلف عن بيعة أبي بكر وتحضن بدارفاطمة:العباس
ص: 119
ابن عبدالمطلب،سلمان الفارسي،أبو ذر الغفاري(1)،عمار بن یاسر(2)،المقداد بن الأسود(3)،البراء بن عازب(4)،أبي بن كعب(5)،خالد بن سعيد بن العاص بن أمية،وجماعة من بني هاشم،وجمع من المهاجرين والأنصار.فبعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطاب ليخرجهم من بيت فاطمة،وقال له:إن أبوا فقاتلهم. فأقبل(عمر)بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار،فلقيهم فاطمة فقالت: يا ابن الخطاب أنت لحرق دارنا؟قال:نعم،أو تدخلوا في ما دخلت فيه الأمة(6).
وقال بعد ذلك أبو بكر في مرض موته:إني لا آسي على شيء من الدنيا إلا على
ثلاث فعلتهن،وددت أني تركه....فأما الثلاثة التي فعلها فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شيء،وإن كانوا قد أغلقوه على الحرب(7).
وفي هذا يقول شاعر النيل حافظ إبراهيم في ديوانه:
ص: 120
وقوله لعلي قالها عمر
أكرم بسامعها أعظم بملقيها
حرقت دارك لا أبقى عليك بها
إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها
ما كان غير أبي حفص یفوه بها
أمام فارس عدنان وحاميها!
الضغط على الإمام علي (علیه السلام) لمبايعة أبي بكر
وقد روى ابن قتيبة الدينوري تفاصيل الضغط على الإمام علي (علیه السلام) واقتياده قسرا من بيته،حتى جيء به إلى أبي بكر،وتعنيف عمر له:إنك لست متروكة حتى تبایع(1)،وجوابه ای:احلب حلبة لك شطره واشدد له اليوم أمره ليرده عليك غدا(2)!
سلب فاطمة (علیها السلام) فدك
بمجرد استلام أبي بكر الخلافة،سلب فاطمة (علیها السلام) فدك(3).وقد روي عدد من المفسرین(كالسيوطي في الدر المنثور والثعلبي في كشف البيان)بالإضافة إلى علماء آخرين(كالذهبي في ميزان الاعتدال والمتقي الهندي في كنز العمال وابن كثير في تاريخه)أنه لما نزلت الآية: «وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ »(4)،دعا رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)
فاطمة فاعطاها فدكة،وتوفي رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وفدك بيد فاطمة (علیها السلام) ،فسلبها أبو بكر فدك بحجة ما رواه عن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله):«نحن معاشر الأنبياء لا نورث،ما تركنا صدقة».
ويبدو أن أبا بكر وعمر كانا يعلمان أن عائدات فدك تشكل خطرا على الخلافة الجديدة،لأنها ستتحول إلى مصدر مالي ضخم لأهل البيت (علیهم السلام) والمعارضة، وهذا أمر بالغ الخطورة بالنسبة إلى الشلطة الجديدة.إذن لا بد من تجريد أهل البيت (علیها السلام) من هذا المصدر المالي،بعد أن تم تجريدهم من السلطة.
ص: 121
والحقيقة أن فدكة لم تكن إرثا أصلا حتى يرد على فاطمة (علیها السلام) بهذا الحديث المنسوب إلى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،بل كانت فدك بيدها (علیها السلام) فعلا وتحت سيطرتها. وفي فقه القضاء،إذا ادعي شخص أن المال الذي بيد شخصآخر(ذي اليد) ملكه،ففي هذه الحالة،يكون الأول هو المدعي،والثاني هو المنكر،والقاضي يطلب من المدعي إقامة البينة لإثبات معاه.وفدك كانت بي فاطمة (علیها السلام) لسنين عديدة،وبالتالي هي ذات اليد،لذا قالت (علیها السلام):فدك نحلة لي،وقد وهبها رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)لها .ويدعي أبو بكر-لخليفة الجديد-با فدكة للمسلمين.حينئذ عليه أن يثبت ذلك بإقامة البينة،لا أن يطالبها هي بالبينة على أن رسول اللّٰه قد وهبها لها(1).
عندما انتزعت فدك من يد فاطمة (علیها السلام)،جاءت طالب بها بعنوان آخر. جاءت تطالب بها بعنوان إرثها من أبيها (صلی اللّه علیه واله).هنا رد عليها أبو بكر بالحديث المنسوب إلى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).لذا تقول الرواية عن عائشة:
إن فاطمة (علیها السلام) بنت النبي (صلی اللّه علیه واله)،أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميرائها من رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)، مما افاء اللّٰه عليه بالمدينة وفدك،وما بقي من خمس خیبر،فقال أبو بكر:إن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)قال:لا نورث ما تركنا صدقة إنما يأكل آل محمد (صلی اللّه علیه واله)في هذا المال، وإني واللّٰه لا أغير شيئا من صدقۃ رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،عن حالها التي كانت عليها في عهير رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) ولأعمل فيها بما عمل به رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،فأبي أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا،فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك،فلم تكتمه حتى توفيت....»(2) .
وقد ردت فاطمة (علیها السلام) على أبي بكر واستدلت على حقها بالقرآن،فالحديث المنسوبإلى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) مخالفت لصريح القرآن،حيث قال تعالى:«وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ»(3) ،
وقال على لسان زكريا (علیه السلام):رب«فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا»«يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا»(4) .
ص: 122
وإن قيل أن المقصود بالتوريث في هاتين الآيتين توريث العلم والحكمة،لا توريث المال،فكيف الحال بالآية:«يوصيكم اللّٰه في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين»(1) ،والأصل في الآية وغيرها العموم،والتخصيص يحتاج إلى دليل.
لذا يقول الإمام علي (علیه السلام) بالم:«بلی كانت في أيدينا فدك،من كل ما أظلته الماء،فشكت عليها نفوس قوم(=أبو بكر وعمر)،وسكت عليها نفوس آخرین (=فاطمة وعلي)،ونعم الحكم اللّٰه.وما أصنع بفدك وغير فدك،والف مظائها في غد إلى جدث...»(2) .
على أي حال،عندما ولي معاوية بن أبي سفيان الخلافة،أقطع مروان بن الحكم ثلث فدك،وأقطع عمرو بن عثمان بن عفان ثلثها،وأقطع یزید بن معاوية ثلثها،وذلك بعد وفاة الحسن بن علي (علیه السلام)!فلم يزالوا يتداولونها حتى خلصت كلها لمروان بن الحكم أيام خلافته،فوهبها لعبد العزيز ابنو،فوهبها عبد العزيز لابنه عمر بن عبد العزيز.
فلما ولي عمر بن عبد العزيز الأمر،رد فدك إلى ولد فاطمة،فلما ولي يزيد بن عاتكة
قبضها منهم،فصارت في أيدي بني مروان كما كانت يتداولونها.فلما ولي أبو العباس السفاح ردها إليهم،ثم قبضها أبو جعفر المنصور لخلافه مع بني الحسن (علیه السلام)،ثم ردها ابنه المهدي على ولد فاطمة،ثم قبضها موسی بن المهدي وهارون أخوه،فلم تزل في أيديهم حتى ولي المأمون وردها على ولد فاطمة(3) .
سلب بني هاشم حق الخمس
حتى يطمئن وجهاء المهاجرين من استتباب الأمر لهم،عمد أبو بكر إلى التضييق
المالي على بني هاشم،فأسقط حقهم من المس المفروض في القرآن.
فقد روى النسائي في نيو عن قيس بن مسلم،قال:سأل الحسن بن محمد عن قوله عزوجل:«وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ»قال:هذا مفاتيح كلام اللّٰه،الدنيا والآخرة اللّٰه،قال:اختلفوا في هذين الشهمین بعد وفاةرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) سهم الرسول وسهم ذي القربى،فقال قائل:سهم الرسول للخليفة من بعده، وقال قائل:سهم ذي القربي لقرابة الرسول (صلی اللّه علیه واله)،وقال قائل:سهم ذي القربي لقرابة الخليفة.
ص: 123
فاجتمع رأيهم على أن جعلوا هذين التهمين في الخيل والعدة في سبيل اللّٰه،فكانا في ذلك خلافة أبي بكر وعمر(1) .
لذا قال ابن أبي الحديد:«واعلم أن الناس يظنون أن نزاع فاطمة أبا بكر كان في أمرين:في الميراث والحلة، وقد وجد في الحديث أنها نازعت في أمر ثالث،وهو سهم ذوي القربى»(2) .
موقف الإمام علي (علیه السلام) من نتائج السقيفة
لا يشك الباحثون في أن عليا (علیه السلام) كان يرى نفسه أحق بخلافة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) من غيره،وأن ما أقعده عن المطالبة بحقه،عدم وجود عدد كاف من الأعوان والأنصار،لذا قال:«فنظرت فإذا ليس لي معين،إلا أهل بيتي،فضننث بهم عن الموت،وأغضي على القذى،وشرب على الشجي،وصبر على أخذ الكظم،وعلى أمر من طعم العلقم»(3) .
هذا ما تؤكده أيضا رواية عائشة التي رواها البخاري ومسلم في صحيحهما،تقول في تلك الرواية:«....فأبى أبوبكر أن يدفع إلى فاطمة منها(=من فدك) شيئا،فوجدت فاطمه علی أبی بكر فی ذلك،فهجرته فلم تكلمه حتی توفیت، و عاشت بعد النبی صلی اللّه علیه و سلم سته أشهر،فلما توفیت دفنها زوجها علی لیلا،و لم یؤذن بها أبا بكر و صلی علیها.
و كان لعلی من الناس وجه حیاه فاطمه،فلما توفیت استنكر علی وجوه الناس،فالتمس مصالحه أبی بكر و مبایعته،و لم یكن یبایع تلك الاشهر،فارسل الی أبی بكر أن ائتنا و لا یأتنا أحد معك،كراهیه لمحضر عمر...(فكان مما قال الإمام علي (علیه السلام) لأبي بكر)لكنك استبددت علينا بالأمر وكنا نرى لقرابتنا من رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)نصيبة......(ثم عندما أراد بيعة أبا بكر خطب (علیه السلام) خطبة قال فيها) لكئا نرى لنا في هذا الأمر نصيبا،فاستبد علينا،فوجدنا في أنفسينا...»(4) .
لكن ما سر التغير المفاجئ في موقف الإمام علي (علیه السلام)،من معارض ناقم جالس في
بيته ورافض لبيعة الخليفة الأول ستة أشهر،إلى معارض بنحو إيجابي وداعم؟
ص: 124
أم المؤمنين عائشة فنشرت ذلك بأن علياً (علیه السلام) استنكر وجوة الناس،وكأنه شعر بضغط اجتماعي ونوع من الغربة،فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته. ولكن الإمام
عليا (علیه السلام) يشرح لنا الدوافع الحقيقة لتغير موقفه.هذا الشرح نجده في كتاب له (علیه السلام)
الأهل مصر يقول فيه:
فلما مضى (علیه السلام)(يعني رسول اللّٰه)تنازع المسلمون الأمر من بعده،فواللّٰه ما كان يلقى في روعي،ولا يخطر ببالي،أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده (صلی اللّه علیه واله) عن أهل بيته،ولا أنهم منحوه عني من بعده(وهذا هو الانطباع العام السائد،فقد قلنا إن عامة المهاجرين والأنصار كانوا لایشكون أن عليا هو صاحب الأمر بعد رسول اللّٰه)(1) ،فما راعني إلا انثيال الناس على فلان(=أبي بكر)يبايعونه، فأمسك يدي حتى رأي راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام،يدعون إلى محق دین محمد (صلی اللّه علیه واله)فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله،أن أرى فيه ثلما أو هدما،تكون المصيبه به علي أعظم من فوت ولايتكم،التي هي متاع أيام قلائل،يزوث منها ما كان،كما يزول الشراب،أو كما يتقشع الشحاب،فنهض في تلك الأحداث حتى زاخ الباطل وزهق،واطمان الذي وتهنة»(2) .
وتكتمل الورة أكثر في خطبة الشقشقية التي يقول (علیه السلام) فيها:«فسدل دوئها (=دون الخلافة)ثوبا،وطويث عنها كشحا،وطفقت أرتئي(=بدأت أفكر مليا) بين أن أصول بید جذاء(=مقطوعة)،أو أصبر على طخية(=ظلمة) عمياء،يهرم فيها الكبير،ويشيب فيها الصغير،ويكد فيها مؤمن حتى يلقى ربه،فرأيت أن الصبر على هاتا أحجی ألزم وأجدر)،فصبرت وفي العيني قذي،وفي الحلق شجا،أرى ثرائي نهبا(3) .
وهذا يعني أن الإمام علي (علیه السلام) كان بين خيارين:الأول أن يظل متمسكا بموقفه المعارض،المؤكد على أحقيته في الخلافة السياسية،رغم فقدان الناصر،ويتجاهل ظاهرة الارتداد الخطيرة التي كانت تهدد وجود الإسلام، وتكون النتيجة:الضياع الشامل والتفريط في تضحيات رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،ودماء الشهداء وانهيار التجربة.الخيار الثاني أن يقف مع أبي بكر وينظر الإسلام وأهله لمواجهة المرتدين مع تحمل مرارة سلب الحق
ص: 125
وكان في العين قذى وفي الحلق شجا....بالتأكيد،اختار الإمام علي (علیه السلام) الخيار الثاني لأن مصيبة ضياع الإسلام بالنسبة إليه أو انثلامه أعظم من فوت الخلافة السياسية.
لكن لماذا انتظر الإمام علي (علیه السلام) وفاة فاطمة (علیها السلام) ليبايع أبا بكر؟الجواب:قد لا يكون هناك ربط مباشر بين مبايعته (علیه السلام) أبا بكر ووفاة فاطمة (علیها السلام)،ويبدو أن السبب الحقيقي هو استفحال ظاهرة الارتداد،وتوالي الأخبار عن ارتداد هذه القبيلة وتلك،وخروج الوضع عن سيطرة أبي بكر،هو الذي أدى إلى وصول الإمام علي (علیه السلام) إلى هذه القناعة.وقد تكون وفاة فاطمة (علیها السلام) محفزة إضافية لقيامه (علیه السلام) بهذه الخطوة،لأن مبايعته أبا بكر في حياة فاطمة (علیها السلام)،بعد غضبها من أبي بكر وعمر،بسبب اقتحام بيتها،وسلب حقها في فدك،فضلا عن سلب حقه (علیه السلام) في الخلافة،سوف يجرح مشاعرها إلى حد بعيد. على هذا الأساس،قد تكون وفاتها (علیه السلام) محفزة-وليس سببا-لاتخاذ الإمام علي (علیه السلام) هذه الخطوة الجريئة والشجاعة.
الخلاصة:شرحنا فيما مضى لسان حال كل من قريش والأنصار ووجهاء المهاجرين وبني هاشم،وذكرنا بأن الأنصار قرأوا الوضع السياسي،وبدا لهم واضحا أن قريشة عزمت على عدم تسليم الخلافة لعلي (علیه السلام)،فسارعت لعقد اجتماع سري في الشقيفة،ورسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)مسجي على فراش الموت، وأرادت الخزرج مبايعة سعد بن عبادة كخليفة،وأرادوا من الأوس الصرة،لكن سرعان ما انكشف أمر الاجتماع،فسارع أبو بكر وعمر وأبو عبيدة إلى السقيفة،واستطاع أبو بكر أن يستفيد من تناقضات الأنصار،واحتج بالسابقة إلى الإسلام والقرابة من رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،ولم ينكر على الأنصار فضلهم.ففاجأ أحد رجال الخزرج الجميع بمبايعة أبي بكر،ثم بادر رجال الأوس إلى مبايعته، وخرج الأنصار من مجال المنافسة،ولم يحضر أغلب المسلمين تغسيلوتكفين رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،لأنهم انشغلوا بأمر الخلافة،وكان الإمام علي (علیه السلام) منشغلا بتغسيل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وتكفينه ودفنه..ورأينا أن وجهاء المهاجرين كانوا قد اتكاوا على محجة أين العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش،فصارت قريش سندة لوجهاء المهاجرين،وظن وجهاء المهاجرين أن الأمر سيظل تحت سيطرتهم، وأنهم سيظلون يمثلون نقطة التوازن بين قریش من جهة والأنصار وبني هاشم من جهة أخرى.ووجدت قريش أن فرصتها الوحيدة للعودة إلى دائرة الشلطة تكمن في دعم وجهاء المهاجرين القرشيين،وإن كانوا من قبائل ضعيفة من قريش،كخطوة أولى،تتبعها خطوات نحو الشلطة،وقام عمر بمحاصرة دار فاطمة (علیها السلام) التي تحضن فيها المعارضون،وكشف دارها (علیها السلام)،وضغط
ص: 126
على الإمام علي (علیه السلام) للمبايعة،وسلب أبو بكر فاطمة فدك،وأسقط حق أهل البيت (علیهم السلام) في الخمس،حتى يتحتم وجهاء المهاجرين(وقریش من ورائها في القدرة المالية لبني هاشم.وانتهى الإمام علي (علیه السلام)-عندما استفحلت ظاهرة الارتداد-إلى ضرورة مبايعة أبي بكر ودعمه ومساندته،لمواجهة التحديات التي تهدد الإسلام في وجوده.
هذه الأحداث لها ربط مباشر بواقعة كربلاء،فتجاهل وصايا رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في عرفة بحق أهل البيت (علیهم السلام)،وتجاهل حادثة غدیر خم،ورفض الإتيان بكتف ودواة الرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).....ثم بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،سلب الإمام علي (علیه السلام) الخلافة،ثم التهديد بحرق بيت فاطمة (علیها السلام) ثم كشفه،والضغط على الإمام علي (علیه السلام) وإجباره على المبايعة،ثم سلب فاطمة (علیها السلام) فدك،ومنع ذوي القربي من حقهم من الخمس...سلسلة المواقف هذه،كسرت حواجز نفسية واجتماعية،وكانت دروسا اللقاء وأبناء الطلقاء تعلموا من خلالها كيفية التعامل مع أهل البيت (علیهم السلام).فأبو بكر وعمر-تعمدا أو لم ينعمدا-هما أول من كسرا هيبة أهل البيت (علیهم السلام) في نفوس المسلمين،تلك الهيبة التي نشات بفضل جهود رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وجهاد أهل البيت (علیهم السلام)-وتجرأ من جاء بعدهما ليتعامل معهم بطريقة مسيئة ومهينة..ثم شيئا فشيئا بطريقة مفجعة ومشينة.فتجرأ الظليق معاوية بن أبي سفيان على رفع الشيف بوجه الإمام علي (علیه السلام) الخليفة الشرعي،وتجرأ على دس السم للحسن (علیه السلام)،ثم تجرأ ابن الطليق یزید بن معاوية على سفك دم الحسين (علیه السلام) وشباب آل محمد،وقطع رؤوسهم ورفعها على أسئة الرماح،وجر أهل بيته سبايا من بلد إلى آخر.
سننتقل الآن لنتحدث عن عهد أبي بكر،وخطوات ترسيخ الوجود القرشي في المجتمع الإسلامي،ثم انتقال الخلافة إلى عمر، وعصر الفتوحات ومضاعفات هذا المنعطف المهم على النسيج الاجتماعي،ثم نتحدث عن اغتيال عمر والشورى الشداسية التي شكلها.
ص: 127
تحدثنا في الفصل السابق عن مجريات السقيفة،التي انتهت إلى وصول الخلافة إلى أبي بكر.والحقيقة أن أبا بكر لم تطل فترة خلافته إلا سنتان وأربعة أشهر،لكن وضع خلالها قواعد،بنى عليها عمر فيما بعد.في هذا الفصل سنتناول معالم خلافة الخليفة الأول،وما جرى في خلافة الخليفة الثاني من فتوح كبرى كان لها أثر كبير في وضع المسلمين.
أبو بكر(11-13هج)يرسخ وجود بني أمية
من الأمور اللافتة لنظر الباحث أن أبا بكر لم يعهد باي عمل أو منصب لأحد من بني هاشم،ولا الأنصار،وكان بعض ماله من بني أمية،منهم:
1)يزيد بن أبي سفيان:استعمله واليا على الشام(كما ينقل الطبري في تاريخه)(1) .
ويقول ابن الأثير في«أسد الغابة»في ترجمته إنه أسلم يوم فتح مكة(2) .
2)عتاب بن أسيد:عينه أبو بكر والية على مكة(كما ينقل الطبري في تاريخه)(3) .
ويقول ابن الأثير في ترجمته في«أسد الغابة»إنه أسلم يوم فتح مكة(4) .
وبدأ يعلو نجم الأمويين،وبدأوا باسترداد كيانهم بعد أن فقدوه في ظل الإسلام،ويبدو لي أن أبا بكر كان يتوقع أن تظل الأمور تحت السيطرة،ويظل وجهاء المهاجرين القرشيين هم واجهة قريش،لا أن ينقلب اللقاء عليهم، ويأتي معاوية بعد أخيه يزيد اليحكم الشام ويسيطر عليها،وينطلق منها للسيطرة على العالم الإسلامي بأسره.لذا يروي أحمد بن حنبل في مسنده عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ بَعَثَنِي إِلَى الشَّامِ يَا يَزِيدُ إِنَّ لَكَ قَرَابَةً عَسَيْتَ أَنْ تُؤْثِرَهُمْ بِالْإِمَارَةِ وَذَلِكَ أَكْبَرُ مَا أَخَافُ عَلَيْكَ
ص: 128
فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَحَدًا مُحَابَاةً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا حَتَّى يُدْخِلَهُ جَهَنَّمَ وَمَنْ أَعْطَى أَحَدًا حِمَى اللَّهِ فَقَدْ انْتَهَكَ فِي حِمَى اللَّهِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ أَوْ قَالَ تَبَرَّأَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ(1)
هل تم تطبيع العلاقة مع الطلقاء والمنافقين؟
للوهلة الأولى،قد يكون من الغريب إثارة هذا السؤال،لكن ثمة مؤشرين على وقوع ذلك،المؤشر الأول: إسقاط مر لسهم المؤلفة قلوبهم في خلافة أبي بكر،والمؤشر الثاني: إسقاط التكبيرة الخامسة في الصلاة على الميت.توضيح ذلك:
فيما يتعلق بالمؤشر الأول من المعلوم أن من أسهم الزكاة المنصوص عليها في القرآن سهم المؤلفة قلوبهم.ويراد من إعطاء هذا الشهم لهذه الشريحة،إما تحييدهم أو التخفيف من شرورهم في الصراع مع الكفر،أو كسبهم إلى صف المسلمين(2) .وكتب فقه الزكاة والسير،عندما تبحث في سهم المؤلفة قلوبهم،تؤكد على أن رسول اللّٰه؟أعطى أبا سفيان ومعاوية من غنائم حنين-بعد فتح مكة-لتألیف قلبيهما،كما أعطى غيرهما أيضا ممن هم على شاكلتهما(3) .
وإعطاء المال بعنوان تألیف قلب إنسان ما،يعني أن هذا الإنسان إما غیر مسلم أصلا،وإما مسلم ضعيف الإيمان ويراد استمالة قلبي.وهذا ينطوي على نوع من الهمة.....فهل إسقاط عمر لهذا الهم-في خلافة أبي بكر ورضاه-هو لرفع التهمة والحرج عن هذه الشريحة،ونحو من تطبيع العلاقة، تحت مبرر أن اللّٰه تعالى أع بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)الإسلام وأغناه أن يتالف عليه رجال؟كما يدعي بعض فقهاء أهل الشنة الذين تحدثوا عن سقوط هذا الشهم بموت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)!!
قال القرضاوي في فقه الزكاة:«وقال جمهور الحنفية:انتسخ سهمهم وذهب، ولم
يعطوا شيئا بعد النبي (صلی اللّه علیه واله)،ولا يعطى الآن لمثل حالهم.
قال في البدائع:وهو الصحيح،لإجماع الصحابة على ذلك،فإن أبا بكر وعمر رضی اللّه عنهما ما أعطيا المؤلفة قلوبهم شيئا من الصدقات،ولم ينكر أحد من الصحابة.فإنه روي
ص: 129
أنه لما قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جاؤوا إلى أبى بكر واستبدلوا الخط منه لسهامهم فبدل لهم الخط ثم جاؤوا إلى عمر رضي اللّه عنه وأخبروه بذلك فاخذ الخط من أيديهم ومزقه وقال إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يعطيكم ليؤلفكم على الاسلام فاما اليوم فقد أعز اللّه دينه فان ثبتم على الاسلام والا فليس بيننا وبينكم الا السيف فانصرفوا إلى أبى بكر فأخبروه بما صنع عمر رضي اللّه عنهما وقالوا أنت الخليفة أم هو فقال إن شاء اللّه هو ولم ينكر أبو بكر قوله وفعله وبلغ ذلك الصحابة فلم ينكروا فيكون اجماعا منهم على ذلك ولأنه ثبت باتفاق الأمة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم إنما كان يعطيهم ليتألفهم على الاسلام ولهذا سماهم اللّه المؤلفة قلوبهم والاسلام يومئذ في ضعف وأهله في قلة وأولئك كثير ذو قوة وعدد واليوم بحمد اللّه عز الاسلام وكثر أهله واشتدت دعائمه ورسخ بنيانه وصار أهل الشرك أذلاء....»(1) .
أقول:إذا تذكرنا أن خلافة أبي بكر لم تدم سوى سنتين وأربعة أشهر، واجهخلالها تحديات كبيرة وتهديدات خطيرة من أهل الردة،اضطرت علية (علیه السلام) لمبايعته، ولم يكن عصر الفتوح،فتح فارس والروم،قد بدأ بنحو واسع بعد.... فلا أدري ما الذي تغير؟
صحيح أن الإسلام،قبل صلح الحديبية و فتح مكة والطائف،كان في ضعف وأهله في قلة.لكن بعد ذلك تغيرت موازين القوى تماما،قد عين اللّٰه الإسلام، وكثر أهله واشتدت دعائمه،وصار أهل الشرك أذلاء.عند هذه اللحظة التاريخية أعطى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) أبا سفيان ومعاوية من سهم المؤلفة قلوبهم، ولم يمض على ذلك إلا ثلاث سنوات.فما هو التغير الفجائي الذي حدث بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وجعل الإسلام يكثر أهله ويشتد دعائمه ويرسخ بنيانه؟!
هذا الادعاء لو أطلقه عمر في خلافته،مع فتح فارس والروم،لكان له وجه. ولكن في خلافة أبي بكر،لم يتغير،من الناحية السياسية والاجتماعية،حال المسلمين تغيرة جوهرية،بل واجه تحديات،وكاد أن يمني بانتكاسة،بسبب أهل الرئة.وهذا يرجح القول بأن إسقاط سهم المؤلفة قلوبهم يخفي وراءه دوافع سياسية،وربما كان إسقاطه نحوا من التطبيع مع هذه الفئة من فار الأمس.
بالنسبة إلى المؤشر الثاني،المتعلق بعدد التكبيرات في الصلاة على الميت،قد يقال أيضا بأن إسقاط التكبيرة الخامسة كان يستهدف تطبيع العلاقة مع شريحة المنافقين.يقول ابن رشد القرطبي في كتابه«بداية المجتهد ونهاية المقتصد»:«اختلفوا في عدي الكبير في
ص: 130
الصدر الأول اختلافا كثيرة من ثلاث إلى سبع:أعني الصحابة رضی اللّه عنه.ولكن فقهاء الأمصار على أن التكبير في الجنازۃ أربع،إلا ابن ليلى وجابر بن زيد فإنهما كانا يقولان:إنها خمس.وسبب الاختلاف اختلاف الآثار في ذلك»(1) .
أما الإمامية فقد أجمعوا على أن التكبيرات في الصلاة على الميت المسلم خمس،فقد جاء في الكافي في خبر معتبر عن الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) أنه قال:كان رسول اللّٰه يكبر على قوم خمسا وعلى آخرين أربعة،فإذا كثر على رجل أربعة اهم،يعني بالنفاق(2) .
وهذه الرواية تدل على أن عدد تكبیرات رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)في صلاته على الميت كان
مؤشرا على حاله،من حيث كونه مؤمناً أو منافقا.
وفي رواية ثانية،عن الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) أنه قال:كان رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)إذا صلى على مي كبر وتشهد،ثم كبر ثم صلى على الانبياء ودعا،ثم كبر ودعا للمؤمنين،ثم كبر الرابعة ودعا للميت،ثم كبر وانصرف.فلما نهاه اللّٰه عزوجل عن الصلاة على المنافقين،كبر وتشهد،ثم كبر وصلي على النبيين صلى اللّٰه عليهم،ثم كبر ودعا للمؤمنين،ثم كبر الرابعة وانصرف،ولم يدع للميت(3) .
فالتكبيرة الخامسة دعاء للميت بالمغفرة،حيث يقال بعدها:«اللّٰهم اغفر لهذا
الميت،واللّٰه سبحانه أخبر رسوله (صلی اللّه علیه واله)بعدم جدوى الاستغفار للمنافقين،فقال في سورة المنافقون:«سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)»(4) .ثم أخبر بذلك مرة أخرى في سورة التوبة،التي نزلت بعد غزوة تبوك،قبيل وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،فقال:«اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)»(5)،ثم نها؛صراحة عن الدعاء والاستغفار لهم في صلاة الميت، كما نهاه عن الوقوف عند قبورهم،فقال:«وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)»(6)
ص: 131
لذا كان رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) يكتفي عند الصلاة على ميت منافق بأربع تكبيرات. فهل
أسقطت التكبيرة الخامسة حتى تختلط الأوراق ولا يتميز المنافق من المسلم بحق(1)
عهد أبي بكر لعمر
بعد مضي سنتين وأربعة أشهر من حكمه،ألمت بأبي بكر الأمراض،فبدا بسلسلة من الاستشارات لترتيب شؤون الخلافة،وكان من الواضح أن لديه موقفة مسبقة الاستخلاف عمر.وتفاوتت إجابة المستشارين،وتخوف بعضهم من غلظة وشدة عمر.وثمة مؤشرات كافية تدل على أن أبرز الأسماء المرشحة لديه بعد عمر،كانا عثمان بن عفان وأبا عبيدة ابن الجراح....وكان اسم الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) مستبعداً!
فقد قال أبو بكر عند موته:«إني لا آسي على شيء من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن وددت أني تركتهن،وثلاث تركته وددت أني فعلتهن...أما الثلاث اللاتي وددت أني تركتهن...وددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنث قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين-يريد عمر وأبا عبيدة(2) -فكان أحدهما أميراً وكنت وزيراً»(3) .
ولما نزلت بأبي بكر الوفاة دعا عبد الرحمن بن عوف،فقال:أخبرني عن عمر؟ فقال:یا خليفة رسول اللّٰه،هو واللّه أفضل من رأيك فيه من رجل ولكن فيه غلظة فقال أبو بكر ذلك لأنه يراني رقيقا (=حتى یحقق توازنا في سلطة الحكم،فطالما أني رقيق ولين يرى أن من واجبه أن يكون صلبة خشنة)ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيرة مما هو عليه(=من الغلظة).ويا أبا محمد قد رمقته فرأيتني إذا غضبت على الرجل في الشئ أراني الرضا عنه وإذا لنت له أراني الشدة عليه لا تذكر يا أبا محمد مما قلت لك شيئا قال نعم(4) .
ثم دعا عثمان بن عفان،فقال:يا أبا عبد اللّٰه،أخبرني عن عمر؟قال:أنت أخبر به،فقال أبو بكر:علي ذاك يا أبا عبد اللّٰه،قال:اللّٰهم علمي به أن سريرته خير من
ص: 132
علانيته،وأن ليس فينا مثله،قال أبو بكر:رحمك اللّٰه،رحمك اللّٰه،يا أبا عبد اللّٰه، لا تذكر مما ذكرت لك شيئا،قال:أفعل،فقال له أبو بكر:لو تركه ما عدوتك..(1) .
وقال لعثمان:اكتب«بسم اللّٰه الرحمن الرحيم،هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين.أما بعد،فإني قد استخلف عليكم عمر بن الخطاب، ولم آلكم خيرة منه».ثم أفاق أبو بكر فقال:إقرأ علي،فقرأ عليه،فكبر أبو بكر(2) .
وينقل ابن قتيبة الدينوري أن أبا بكر طلب من عثمان بن عفان أن يكتب للناس عهده
في عمر،وأقر أبو بكر الكتاب،فتناوله عمر،وانطلق يهرول إلى الجامع ليقرأه على الناس،فانبرى إليه رجل،وقد أنكر عليه ما هو فيه قائلا:ما في الكتاب يا أبا حفص؟
فاجاب عمر:لا أدري،ولكني أول من سمع وأطاع.
لكن يبدو أن الرجل لم يقتنع بالجواب،فقال:ولكني واللّٰه أدري ما فيه،أمرته عام أول،وأمرك العام(3) .
ويقول آخر، وفقا للطبري:رأيت عمر بن الخطاب وهو يجلس والناس معه، وبيده جريدة،وهو يقول:أيها الناس اسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)، إنه يقول إني لم آلكم صحة،قال ومعه مولى أبي بكر يقال له شدید،معه الصحيفة التي فيها استخلاف عمر(4) .
أقول:كم من الفرق بين موقف أبي حفص هذا،حيث يأمر الناس بالسمع والطاعة،وموقفه من كتابة وصية رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)عندما رفض الإتيان بكتف ودواة وقال:حسبنا كتاب اللّٰه؟!كيف يتهم رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)بغلبة الوجع والهجر،ولا يهم أبو بكر بذلك؟!
على أي حال،موقف مستشاري أبي بكر لم يجمع على عمر،فطلحة بن عبيد اللّٰه مثلا،هو من قبيلة أبي بكر،يبدو أنه كان يرغب أن لا تخرج الخلافة من تیم!ويرغب أن يكون له من الأمر شيء.لذا،دخل على أبي بكر بعد إعلان استخلاف عمر،فقال:استخلفت على الناس عمر،وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه،فكيف به إذا خلا بهم وأنت لاق ربك،فسائلك عن رعيتك؟
فقال أبو بكر وكان مضطجعة:أجلسوني،فاجلسوه،فقال لطلحة:أباللّٰه تفرقني،أو
ص: 133
أباللّٰه تخوفني؟إذا لقي اللّٰه ربي فسائلني،قلت استخلف على أهلك خير أهلك(1) .
فرد عليه طلحة:أعمر خير الناس يا خليفة رسول اللّٰه؟!
فاشتد غضبه،وقال:إي واللّٰه،هو خيرهم وأنت شهم.أما واللّٰه لو وليتك لجعلت أنفك في قفاك،ولرفعت نفسك فوق قدرها،حتى يكون اللّٰه هو الذي يضعها! أتيتني وقد دلك عينك،تريد أن تفتنني عن ديني،وزیلني عن رأيي؟!ثم لا أقام اللّٰه رجليك....فقام طلحة فخرج(2)
ودخل عبد الرحمن بن عوف على أبي بكر،في مرضي الذي توفي فيه، فأصابه
مهتمة،فقال له عبد الرحمن:أصبحت والحمد لله بارئة.
فقال أبو بكر:أتراه؟
قال:نعم
قال:إني ولي أمركم خيركم في نفسي،فكلكم ورم أنه من ذلك،يريد أن يكون
الأمر له دونه...وأنتم أول ضال بالناس عدا فتصدونهم عن الطريق يمينا وشمالا...
فقال(عبد الرحمن):خفض صوتك رحمك اللّٰه،فإن هذا يهية في أمرك إنما الناس في أمرك بين رجلين؛إما رجل رأى ما رأيت فهو معك،وإما رجل خالقك فهو مشير عليك،وصاحبك كما تحب،ولا نعلمك أردت إلا خيراً..(3) .
كيف كان الإمام علي (علیه السلام) يقرأ الوضع؟
قال الإمام علي (علیه السلام) في خطبة الشقشقية واصفة عملية انتقال الشلطة من الخليفة الأول إلى الثاني:«حتى مضى الأول لسبيله،فأدلى بها إلى فلان بعده،(ثم تمثل بقول الأعشى):
شتان مابومي على كورها
ويوم حبان أخي جابر(4) فيا عجبا،بينا هو يستقيلها في حياتة(5) ،إذ عقدها آخر بعد وفاتي،لشد ما تشطرا ضرعيها»(6) .
ص: 134
فشبه الخلافة والسلطة بالضرع الذي يحلب،وأن أبا بكر وعمر طالما تقاسما السلطة
بينهما.فهي وإن كانت بيد أبي بكر رسمية،لكن كانا يتقاسمانها فعلية.
حكومة عمر(13-23 هج)وعصر الفتوحات
من أهم الحوادث التاريخية التي وقعت بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،مسألة الفتوح
الكبری،فتح بلاد فارس والروم(1) .
كان للفتوح الكبرى تأثير كبير في بنية المجتمع الإسلامي(2) .فهم مسألة الفتوح وتأثيرها الاجتماعي والاقتصادي والقبلي والجيوسياسي على بنية المجتمع الإسلامي يساعدنا كثيرة على فهم حادثة مقتل عثمان،حرب الجمل،حرب صفين،حرب النهروان،صلح الإمام الحسن (علیه السلام)،وفاجعة استشهاد الإمام الحسين (علیه السلام)....وغيرها من الحوادث(3) .
في عهد عمر بن الخطاب،حصلت أثناء وبعيد الفتوح الكبرى،طفرة مالية استثنائية ومفاجئة،واستمرت هذه الطفرة في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان.كان الإيراد الذي يصل إلى بيت المال يصل إلى حد معين،لكن عندما بدأت سلسلة الفتوحات،وبدأت ترد الكنوز والأموال والفيء والخراج من بلاد فارس والروم،وبالتحديد من بلاد فارس،حصلت طفرة اقتصادية غير عادية في بيت المال.
ص: 135
احتار عمر بن الخطاب في طريقة توزيع هذه الأموال(1) ،فوضع معیارین لفضيل في توزيع العطاء:المعيار الأول السابقة إلى الإسلام،والمعيار الثاني القرابة من رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)(2) .
وعلى هذا الأساس كلما كان الإنسان أسبق من غيره إلى الإسلام،وأقرب إلى رسول (صلی اللّه علیه واله) ،استحق من العطاء أكثر مما يستحق غيره بقدر سابقته للإسلام وقرابته لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)(3).
هذان المعياران يبدوان-للوهلة الأولى-معقولين للغاية.فهناك في بيتالمال فائض مالي كبير،والمطلوب توزيع الثروة على المسلمين،فكيف ثوعها؟ الأسبق إلى الإسلام أليس هو أجدر من غيره؟الأقرب لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،أليس هو أولى من غيره؟
ص: 136
وقفة مع معیار عمر في الفضيل
هذا ما يبدو للوهلة الأولى،ولكن تطبيق هذين المعيارين في الفضيل،أدى إلى
نتائج كارثية على المجتمع الإسلامي،لأنه أوجد تفاوت طبقية خطيراً.
لنأخذ على سبيل المثال عمرو بن العاص ومالك الأشتر.مالك الأشتر-كما يرى بعضهم-لم يكن صحابية،وإنما كان تابعياً(1) ،ولا توجد له صلة قرابة مع رسول اللّٰه،لأن مالكا ليس من قریش،بل هو يمني قحطاني.في المقابل،عمرو بن العاص وإن تأخر إسلامه إلى قبيل فتح مكة،لكنهصحابي،يعني سبق مالك في الدخول إلى الإسلام بحكم الشن.بالإضافة إلى ذلك هو أقرب إلى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)قبلياً،لأنه عدناني من قريش .فإذا ما أردنا تطبيق معيار التفضيل في توزيع العطاء،سنجد أن نصيب عمرو بن العاص يزيد على نصيب مالك الأشتر،لأن له میزتين:السابقة إلى الإسلام،والقرابة من رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله). ويكفي أن تتوافر في الإنسان ميزة واحدة ليزيد عطاؤه على غيره،فكيف إذا توافرت فيه میزتان؟!
أكثر من ذلك،إذا أردنا تطبيق هذا المعيار على المهاجرين والأنصار ،يفترض أن العطاء الذي سيذهب إلى المهاجرين يزيد على العطاء الذي سيذهب إلى الأنصار،لأن أكثر المهاجرين هم من ناحية من قریش(2).وهم من ناحية ثانية، بحكم وجودهم في مكة،كانوا أسبق للدخول في الإسلام بالمقارنة بأكثر الأنصار(3).هذا التفضيل أدى إلى تفاوت طبقي بين المهاجرين والأنصار.فمثلا سعد بن أبي وقاص أو عبد الرحمن بن عوف هما من المهاجرين،وهما من قريش،في حين أن سعد بن عبادة أو أبا أيوب الأنصاري هما من الأنصار، وليسا من قريش(4) .
ص: 137
هذا فضلا عن تفضيل عمر للعرب على العجم،والضريح على المولى،الأمر الذي أدى إلى إيجاد حالة طبقية مريعة بين المسلمين(1) ،كما أدت إلى تصنيف الناس بحسب قبائلهم وأصولهم،فنشط النسابون لتدوين الأنساب وتصنيف القبائل بحسب أصولها،مما أدى إلى حنق الموالي على العرب.
في هذا المجال،يقول الأستاذ الشاوي:كان رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)قد ساوی بین المسلمين في العطاء،فلم يفضل أحدة منهم على أحد.وجرى أبو بكر على مبدأ التسوية هذا مدة حكمه.أما عمر،فإنه لما ولي الخلافة،فضل بعض الناس على بعض،ففل السابقين على غيرهم،وفضل المهاجرين من قريش على غيرهم من المهاجرين،وفضل المهاجرين كافة على الأنصار كافة،وفضل العرب على العجم،وفضل الصريح على المولى،وفرض لأهل اليمن في أربعمائة،ولمضر في ثلاثمائة،ولربيعة في مائتين،وفضل الأوس على الخزرج.
وقد كون هذا المبدأ سببة جديدة من أسباب الصراع القبلي بين ربيعة ومضر،وبين الأوس والخزرج،بما تفضل من تفضیل سائر مضر على سائر ربيعة،وتفضيل الأوس على الخزرج،ونظ أن هذا المبدأ قد أرسى أول أساس منأسس الصراع العنصري بين المسلمين العرب وغيرهم من المسلمين بما جرى عليه عمر من تفضيل العرب على العجم والضريح على المولى»(2) .
وبالنتيجة،استطاعت قريش أن تستأثر بالمال،كما استأثرت في القيفة بالكم، وصارت بيدها مقاليد الأمور،على حساب الأنصار وباقي المسلمين غير القرشيين.على مستوى الاستئثار بالكم،كانت ځجة عمر في السقيفة ضد الأنصار مبنية على أمرين:أن المهاجرين أول الناس إسلامة،وأنهم أقرب الناس إلى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وأمسهم به رجمة.والآن على مستوى الاستئثار بالمال، ځجه هي ذاتها،السابقة إلى الإسلام،والقرابة من رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)..
وعندما نتحدث عن قريش،فنحن نقصد كبار المهاجرين من الصحابة،كالخلفاء الثلاثة بالإضافة إلى عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبي عبيدة بن الجراح
ص: 138
وطلحة بن عبيد اللّٰه،بالتحالف والتنسيق مع القرشيين الذين تأخروا في الدخول إلى الإسلام إلى قبيل أو بعد فتح مكة،كأبي سفيان وابنه معاوية ومروان بن الحكم وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد.هؤلاء الذين تأخروا في الدخول إلى الإسلام،وإن لم تكن لهم ميزة السابقة التامة إلى الإسلام، لكن لهم سابقة نسبية إذا ما قورن وضعهم بالأجيال التالية من التابعين،كما أن لهم ميزة القرابة من رسول اللّٰه،بوصفهم قرشيين.
نشوء جيل جديد
ما وقع بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،هو دخول أناس جدد إلى الإسلام،ونشوء جيل جديد لم يعاصر رسول اللّٰه،شارك فعلية في الفتوح الكبرى،لكن لم يحظ بشيء معتد به من العطاء(1) .صحيح أن أبا بكر لم يستمر في الحكم طويلا(سنتان وأربعة أشهر تقريبا)،لكن كم عمر استمر عقدة من الزمن عشر سنوات وستة أشهر وبضعة أيام،وسوف نرى أن فترة حكم عثمان ستمتد إلى أكثر من عقد من الزمن(اثنتا عشرة سنة تقريبا).فهذه التحولات الخطيرة بدأت مع الفتوحات أيام عمر،واستمرت بنحو أخطر مع أيام عثمان،كما سنرى.
من ناحية أخرى،لم يتلق الجيل الجديد،تربية روحية وثقافية وفكرية وعقائدية.هذا الجيل ظل مهمة مدة خمس وعشرين سنة.هم مشغولون بالمعارك والفتوح،وكبار الصحابة مشغولون-كما سنری-بالتحول إلى حياة الترف والبذخ.وعندما ينشغل كبار الصحابة بجمع محطام الدنيا،ويهمل الجيل الجديد من التربية والتزكية الروحية،ستعود بالتدريج العصبيات القبلية، لتفرض نفسها لأنها أمور متأصلة في الشخصية العربية.
وهناك سبب آخر لعدم تلقي هذا الجيل تلك التربية،وهو الحصار الذي فرضه عمر على الصحابة،حيث لم يسمح لهم بمغادرة المدينة إلا بإذن خاص منه، ولفترة محددة.كتب الطبري:«كان عمر بن الخطاب قد حجر على أعلام قریش من المهاجرين الخروج في البلدان،إلا بإذن منه وأجل......فلما وليهم عثمان لم يأخذهم بالذي كان يأخذهم به عمر،فانساحوا في البلاد...فكان ذلك أول وهن دخل على الإسلام،وأؤل فتنة كانت في العامة،ليس إلا ذلك».ويروي أيضا:«لم يمت عمر رضي اللّٰه عنه حتى ملته قريش،وقد كان حصرهم بالمدينة،فامتنع عليهم،وقال:إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة
ص: 139
انتشاركم في البلاد،فإن كان الرجل ليستأذنه في الغزو،وهو ممن بس بالمدينة من المهاجرين،ولم يكن فعل ذلك بغيرهم من أهل مكة،فيقول:قد كان في غزوك مع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)ما يبلغك وهو خير لك من الغزو اليوم ألا ترى الدنيا ولا تراك.فلما ولي عثمان خلى عنهم فاضطربوا في البلاد،وانقطع إليهم الناس،فكان(عثمان)أحب إليهم من عمر»(1) .
وقد بردد.طه حسين ذلك بقوله:«لكه خاف عليهم الفتنة،وخاف منهم الفتنة،فأمهم في المدينة،لا يخرجون منها إلا بإذنه،وحبهم عن الأقطار المفتوحة،لا يذهبون إليها إلا بأمر منه.خاف أن يفتتن الناس بهم، وخاف عليهم أن يهم افتتان الناس بهم، وخاف على الدولة أعقاب هذا الافتتان....»(2) .
بالإضافة إلى ذلك، نلاحظ أن عمر لم يمنع بني هاشم والأنصار من تولي شيء من جهاز الحكم فحسب(3) ،بل أقر ولاة أبي بكر في مناصبهم،وولی یعلی بن منبه على صنعاء،والمغيرة بن شعبة على الكوفة(4) ،واستعمل عتبة بن أبي سفيان على كنانة(5)،ومنع حتى أمثال طلحة والزبير.وقد قيل له:«إنك استعملت يزيد بن أبي سفيان،وسعيد بن العاص،وفلانا وفلانا من المؤلفة قلوبهم من اللقاء وأبناء اللقاء،وتركت أن تستعمل علية والعباس والزبير وطلحة؟!فقال:أما على فأنه من ذلك،وأما هؤلاء الفر من قريش،فإني أخاف أن ينتشروا في البلاد فيكثروا فيها الفساد» (6).
هذا الإجراء لم يمنع الجيل الجديد من تلقي تربية معنوية على يد الصحابة فحسب،بل منع عددا كبيرة من الصحابة من التعرف على التحولات الخطيرة التي كانت تطرأ على العراق والشام ومتابعتها.
مراقبة شديدة للولاة لكن معاوية حالة استثنائية
كان عمر شديد المراقبة العماله وولاته،فكان لا يولي عايلا إلا أحصى عليه ماله،وإذا عزله أحصاه عليه حين العزل.يقول ابن أبي الحديد:«كان عمر إذا استعمل عاملاً
ص: 140
كتب عليه كتاباً،وأشهد علیه رهطاً من المسلمین أن لا یركب برذوناً(1)،ولا یأكل نقیاً ولا یلبس رقیقا ولا یغلق بابه دون حاجات المسلمین، ثم یقول: اللّهم اشهد.»(2) .
لكن الأمر لم يكن على هذا النحو مع معاوية.كان عمر هو الذي ولاه على الشام،
بعد وفاة أخيه يزيد،وكان يعامله معاملة خاصة،ربما لمبررات اختلقهامعاوية لعمر.
في ذلك ينقل الطبري أن عمر خرج إلى الشام،فرأي معاوية في موكب يتلقاه،وراح إليه في موكب،فقال له عمر:يا معاوية تروح في موكب وتغدو في مثلي،وبلغني أنك
صبح في منزلك وذوو الحاجات ببابك.
قال(معاوية): يا أمير المؤمنين،إن العدو بها قريب منا،ولهم عيوث وجواسيس،
فاردت يا أمير المؤمنين أن يروا للإسلام عزا.
فقال له عمر:إن هذا لكيد رجل اریب. أو خدعة رجلي أريب.
فقال معاوية:يا أمير المؤمنین،مرني بما شئت أصر إليه.
قال(عمر):ويحك،ما ناظر في أمر أعيب عليك فيو إلا تركتني ما أدري آم أم
أنهاك(3) ؟
وكان يقول-كما ينقل الطبري-مشيدة بمعاوية:تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما
وعندكم معاوية؟!
بل كان عمر يعين بعض نساء بني أمية،فقد أقرض هند بنت عتبة(أم معاوية) أربعة
آلاف من بيت المال تتجر فيها،على ما ينقل الطبري وابن أبي الحديده(4) .
على أي حال،لم تظهر آثار هذا التفاوت القبلي بسبب التمييز في توزيع الثروة إلا في آخر فترة حكم عمر بن الخطاب،حينما رأى الثراء الفاحش عند كثير من الصحابة،ولم تطب به نفسه،فراح يقول:«لو استقبل من الأمر ما استدبرت،لأخذ من الأغنياء فضول أموالهم فردها على الفقراء»(5) .
ص: 141
خلاصة القول أن مدة حكم أبي بكر كانت قصيرة،فهو إن استطاع القضاء على ظاهرة الارتداد بفضل تماشك الجبهة الداخلية وصبر الإمام علي (علیه السلام)،فهو في المقابل رخ وجود قریش(وبالتحديد بني أمية)من خلال تنصيبهم ولاة في بعض المناطق،ثم عهد بالخلافة إلى عمر،ولم يكن تنصيب أبي بكر لعمر مفاجأة لشئة التنسيق وقوة الارتباط بين الأول والثاني.ومع عمر بدأت الفتوحات التي جاءت معها الطفرة المالية التي ألقت بظلالها الخطيرة على النسيج الاجتماعي،خصوصا إذا لاحظنا التأثير التراكمي التطبيقمعيار عمر في التفضيل في العطاء،فقریش لم تعد تستأثر بالشلطة فقط، بل صارت تستأثر بالمال أيضا.
في الفصل القادم سنتناول عملية اغتيال عمر، والترتيبات التي قام بها على عجل
التحديد هوية الخليفة القادم.
ص: 142
تناولنا في الفصل السابق خلافة أبي بكر،وانتقال الشلطة إلى عمر من خلال استخلاف الأول للثاني.كما تحدثنا عن الفتوحات الكبرى وبعض تداعياتها،وطريقة توزيع عمر للعطاء،وتفضيله لذوي السابقة إلى الإسلام والقرابة من رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).في هذا الفصل سنتناول ظروف وملابسات اغتيال عمر،والشورى السداسية التي شكلها على عجل، ومجريات تلك الشورى،وما انتهت إليه من وصول الخلافة إلى عثمان بن عفان،الأمر الذي أدى إلى تفرد بني أمية بالسلطة.
اغتيال عمر
التحقيق في حادثة اغتيال عمر بن الخطاب،يثير في ذهن الباحث أسئلة محيرة.رغم أني لست من أنصار نظرية المؤامرة،التي تعزو كل حدث إلى مؤامرة ما،إلا أن النصوص التاريخية المتعلقة بحادثة اغتيال عمر،تدفعنا إلى عدم استبعاد فرضية وجود مؤامرة. على ضوء تلك النصوص،يمكن افتراض ثلاث فرضيات على الأقل لتفسير
حادثة الاغتيال.
1)الفرضية الأولى:أن أبا لؤلؤة هو وحده المسؤول عن قتل عمر،وأن قتله كان بسبب غضبه وانفعاله وعدم استجابة عمر لشكواه من ارتفاعالحراج الذي كان يدفعه المولاه المغيرة بن شعبة.
2)الفرضية الثانية:أن ثمة مؤامرة ديرها الفرس،وعلى رأسهم الهرمزان وأبو لؤلؤة اللذان كانا موجودين في المدينة،انتقاما من عمر والمسلمين لفتح فارس،وما جرى بعد فتح فارس من سبي للفرس.
3)الفرضية الثالثة:أن ثمة مؤامرة، دبرتها شبكة خفية لبني أمية وحلفائهم، براشها معاوية في الشام،وتشكل أعضاؤها من المغيرة بن شعبة الثقفي في الكوفة،وعبد اللّٰه بن
ص: 143
سعد بن أبي سرح(1) ،وعبد اللّٰه بن أبي ربيعة المخزومي(2) ،وعمرو بن العاص السهمي(3) وكعب الأحبار(4) في المدينة.والأداة التي استخيرمت لتنفيذ هذه المؤامرة هي أبو لؤلؤة،حيث استفادت هذه الشبكة من الحقد المختزن في قلبه،ووظفته باتجاه اغتيال عمر،لفتح الطريق أمام بني أمية للوصول إلى الشلطة.جاء المغيرة من الكوفة إلى المدينة للإشراف على التنفيذ.وقد يكون للهرمزان دور في التنسيق مع أبي لؤلؤة في تنفيذ عملية الاغتيال.
طبعا،لا بد من الاعتراف بصعوبة الوصول إلى قناعة أكيدة حول الفرضيات الثلاث،
وإن كانت الفرضية الثالثة أكثر ترجيحة من الأولى،والأولى أكثر ترجيحة من الثانية.
الآن،قبل أن أسرد ما يرجح الفرضية الثالثة،علينا أن نتذكر اسم«المغيرة بن شعبة»جيدة،فللمغيرة دور كبير سيلعبه في خلافة معاوية.فهو سيكون الوالي من قبل معاوية على الكوفة،وسيحكمها بالحديد والنار،ويذيق شيعةالإمام علي (علیه السلام) ألوانا من العذاب،وسيكون له دور مباشر في تحريض معاوية على توريث الشلطة ليزيد.
تبدأ قصة مقتل عمر من فتح فارس، وأسر الهرمزان-الذي كان من قادة الفرس-والمجيء به إلى عمر،الذي هدده وخيره بين الدخول في الإسلام أو القتل،فتشهد الهرمزان الشهادتين،فأنه عمر وفرض له ألفين وأنزله المدينة(5).
وكان عمر حريصا على أن لا يدخل الفرس المدينة،لأسباب أمنية كما سنرى.ودخول أبي لؤلؤة إلى المدينة كان حالة استثنائية بطلب وضغط من المغيرة على عمر.
ص: 144
كتب ابن أبي الحديد:كان عمر لا یأذن لصبی قد احتلم فی دخول المدینة حتى كتب المغیرة و هو على الكوفة یذكر له غلاما صنعا عنده و یستأذنه فی دخول المدینة و یقول إن عنده أعمالا كثیرة فیها منافع للناس إنه حداد نقاش نجار فأذن له أن یرسل به إلى المدینة و ضرب علیه المغیرة مائة درهم فی كل شهر فجاء إلى عمر یوما یشتكی إلیه الخراج فقال له عمر ما ذا تحسن من الأعمال فعد له الأعمال التی یحسن فقال له لیس خراجك بكثیر فی كنه عملك(1) .
وكتب الطبري:خرج عمر بن الخطاب یوماً یطوف فی السوق فلقیه أبو لؤلؤه غلام المغیره بن شعبه و كان نصرانیاً(2) ،فقال:یا أمیر المؤمنین أعدنی علی المغیره بن شعبه فإنّ علیّ خراجاً كثیراً،قال:و كم خراجك؟ قال:درهمان فی كلّ یوم،قال:و ایش صناعتك؟ قال:نجار،نقاش،حدّاد،قال:فما أری خراجك بكثیر علی ما تصنع من الأعمال قد بلغنی انّك تقول:لو أردتُ أن أعمل رحی تطحن بالریح لفعلتُ،قال:نعم،قال:فاعمل لی رحی،قال:لئن سلمت لأعملنّ لك رحی یتحدّث بها مَن بالمشرق و المغرب،ثمّ انصرف عنه،فقال عمر رضي اللّٰه تعالی عنه:لقد توعّدنی العبد آنفاً(3) .
أقول:لا أدري لم أصر المغيرة بن شعبة على إدخال أبي لؤلؤة إلى المدينة كحالة استثنائية رغم قلق عمر من دخول الفرس إليها؟وهل كان أبو لؤلؤة موظفة لتنفيذ عملية معينة في المدينة؟وهل كانت شكوى أبي لؤلؤة مسرحية مفتعلة للتمويه على المحرك الرئيس للاغتيال؟أم أنها شكوى حقيقية بسبب ارتفاع الحراج الذي يطلبه المغيرة من أبي لؤلؤة؟وعلى فرض أنها شكوى حقيقية،فهل كان رفع الخراج على أبي لؤلؤة متعمدة حتى يجد أبولؤلؤة لنفسه متنفسة وموضوعة يفرغ فيه حقده وغضبه؟خصوصا عندما نعرف أن مولاه المغيرة بن شعبة كان معروفة بأنه أبرز دهاة العرب.وعلى فرض أن شكوى أبي لؤلؤة حقيقية،فما تفسير وجود المغيرة بن شعبة في المدينة بدلا من الكوفة؟أم أن وجوده في المدينة كان مجرد صدفة؟ولم لم يوجه أبو لؤلؤة انتقامه من المتسبب المباشر في رفع الخراج،وهو المغيرة، خصوصا مع وجود الأخير في المدينة؟وهل لكعب الأحبار دور في اغتيال عمر؟ دعونا نكمل القصة.
ص: 145
كتب الطبري:فلمّا كان من الغد جاءه كعب الأحبار فقال له: یا أمیر المؤمنین! اعهد فإنّك میّت فی ثلثه أیّام؛ قال: و ما یدریك؟ قال: أجده فی كتاب اللّه عزّ و جلّ التّوراه؛ قال عمر: اللّه! انّك لتجد عمر بن الخطاب فی التوریه؟ ! قال: اللّهمّ لا و لكنّی أجد صفتك و حلیتك و أنّه قد فنی أجلك؛ قال: و عمر لا یحسّ وجعا و لا ألما؛ فلمّا كان من الغد جاءه كعب فقال: یا أمیر المؤمنین! ذهب یوم و بقی یومان؛ قال: ثمّ جاءه من غد الغد فقال: ذهب یومان و بقی یوم و لیله و هی لك إلی صبیحتها(1) .
وكتب ابن أبي الحديد:ويروى أن كعبأ كان يقول:نجد في كتبنا تموت شهيدة، فيقول:كيف لي بالشهادة وأنا في جزيرة العرب؟!(2)
قبل سرد تفاصيل عملية الاغتيال-كما رواها الطبري-لنقف قليلا عند دور كعب الأحبار المحتمل،ونثير بعض التساؤلات:
1)إن معرفة كعب الأحبار باليوم الذي سيقتل فيه عمر غيلة،يثير علامات استفهام
حول صلته بعملية الاغتيال.
2)إن كتاب التوراة متوافر الآن بيد الباحثين،فأين هي العبارات الموجودة في
التوراة الدالة على صفة عمر،ويوم أجله،وأنه سيموت شهيدا؟!
3)إثر إصرار كعب الأحبار على تذكير عمر يومية-بطريق العد التنازلي-بابامه الأخيرة،يوحي بأنه كان يترقب من عمر أن يستخلف شخص معينة.ومن المحتمل أن تلك الشبكة المفترضة كانت تتوقع من عمر أن يعهد مباشرة إلى عثمان،دون الحاجة للدخول في متاهة الشورى الشداسية،غير مأمونة العواقب.
4)إن شعور عمر بالحاجة لمعرفة إذا كان اسمه أو صفه وأجله مذكورينفي التوراة
مخالف لتعاليم رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).
فقد روى أحمد في مسنده:أن عمر بن الخطاب أتى النبي (صلی اللّه علیه واله)بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب،فقرأه النبي (صلی اللّه علیه واله)،فغضب،فقال:أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية،لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به،أو بباطل فتصدقوا به،والذي نفسي بيده لو أن موسى (صلی اللّه علیه واله) كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني(3) .
ص: 146
بل عمر نفسه منع عن كتابة حديث رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)لخشيته-كما يقال-من اختلاط حديثه (صلی اللّه علیه واله) بالقرآن،واختلاطهما بب أهل الكتاب.إذن لم لجأ إلى أمثال كعب الأحبار لمعرفة بعض التفاصيل المتعلقة بشخصه ومستقبله؟
فعن القاسم بن محمد بن أبي بكر:إن عمر بن الخطاب بلغه أنه ظهرت فی أیدی الناس كتب، فاستنكرها وكرهها، وقال: أیُّها الناس! إنّه قد بلغنی أنّه قد ظهرت فی أیدیكم كتب فأحبُّها إلی اللّه أعدلها وأقومها، فلا یُبقینَّ أحدٌ عنده كتاباً إلّا أتانی به، فأری فیه رأیی.
قال: فظنّوا أنّه یرید أن ینظر فیها ویقوّمها علی أمر لا یكون فیه اختلاف، فأتَوْه بكتبهم، فأحرقها بالنار!!
ثمّ قال: أُمنیة كأُمنیة أهل الكتاب(1) .وفی الطبقات الكبری:مثناة كمثناة(2) أهل الكتاب(3).
ويوجد نص تاريخي آخر له علاقة بالأمر،فقد كتب ابن أبي الحديد:
يروي عن ابن عباس أنه قال:تبرّم عمر بالخلافة في آخر ايّامه،و خاف العجز،و ضجر من سياسة الرعية.فكان لا يزال يدعو اللّه بأن يتوفاه.فقال لكعب الأحبار يوما و أنا عنده:إنّي قد أحببت أن أعهد إلى من يقوم بهذا الأمر،و أظنّ وفاتي قد دنت،فما تقول في علي؟أشر علي في رأيك،و اذكر لي ما تجدونه عندكم فإنكم تزعمون أنّ أمرنا هذا مسطور في كتبكم.
فقال(كعب الأحبار):أما من طريق الرأي فإنه لا يصلح؛إنه رجل متي الدين، لا يغضي على عورة،ولا يحلم عن زلة،ولا يعمل باجتهاد رأيه،وليس هذا من سياسة الرعية في شيء.وأما ما نجده في كتبنا،فنجده لا يلي الأمر ولا ولده،وإن وليه كان هرج شدید.
قال(عمر):كيف ذاك؟
قال:لأنه أراق الدماء،فحرمه اللّٰه الملك.إن داود لما أراد أن يبني حيطان بيت
المقدس أوحى اللّٰه إليه:إنك لا تبنيه،لأنك أرقت الدماء،وإنما يبنيه سليمان.
فقال عمر:أليس بحق أراقها؟قال كعب:داود بحق أراقها يا أمير المؤمنين.
ص: 147
قال(عمر):فإلى من يفضي الأمر تجدونه عندكم؟
قال(كعب الأحبار):نجده ينتقل بعد صاحب الشريعة والاثنين من أصحابه،إلى أعدائه الذين حاربهم وحاربوه،وحاربهم على الدين..
فاسترجع عمر مرارة،وقال:أتستمع يا ابن عباس؟!أما واللّٰه لقد سمع من رسول اللّٰه ما يشابه هذا،سمعته يقول:«ليصعد بنو أمية على منبري،ولقد أريتهم في منامي ينزون عليه نزو القردة»(1) .وفيهم أنزل«وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ»(2) .
وهذه الرواية إن صحت، تثير تساؤلات:
5)لم لجا عمر إلى كعب الأحبار-اليهودي الذي نسب إليه الإسرائيليات- ليستشيره في صلاحية الإمام علي (علیه السلام) لتولي الخلافة؟ما هو موقعه؟ وكيف ولماذا صار مستشارة لعمر؟
6)ان كتاب التوراة متوافر الآن بيد الباحثين،فأين هي العبارات الموجودة في التوراة الدالة على أن عليا (علیه السلام) لا يلي الأمر وإن وليه كان هرج شديد،وأنه لا يلي الأمور لأنه أراق الماء،فحرمه اللّٰه الملك؟!وأين هي العبارات الدالة على أن الأمر سيؤول لا محالة إلى أعداء رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) الذين حاربهم وحاربوه؟
7)ما هي مصلحة كعب الأحبار في أن يوحي لعمر بأن الخلافة ستؤول إلى أعداء
رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)؟وهل ثمة علاقة تربطه ببني أمية؟
نعود إلى الطبري الذي كتب:فلما كان الشبح،خرج عمر إلى الصلاة،وكان يوكل بالفوف رجالا،فإذا استوت جاء هو فكبر،قال:ودخل أبو لؤلؤة في الناس، وفي يدو خنجر له رأسان نصابه في وسطه،فضرب عمر ست ضربات،إحداه تحت سرتي،وهي التي قتلته..... ....فلما وجد عمر حر الشلاح سقط،وقال: أفي الناس عبد الرحمن بن عوف؟قالوا:نعم يا أمير المؤمنین،هو ذا،قال:تقدم فصل بالناس،قال:فصلی عبد الرحمن بن عوف،وعمر طريځ،ثم احتمل فادخل داره(3) .
وفي روايات أخرى أين أبا لؤلؤة طعن عمر ثلاثة طعنات،ثم انحاز إلى أهل المسجد،فطعن فيهم من يليه حتى طعن أحد عشر رجلا سوى عمر،ثم انتحر بخنجرو.
ص: 148
وأن عمر بعد أن أدخل داره وجراحاته تنزف،قال له الطبيب:اعهد يا أمير المؤمنین عهدك.وروى عبد اللّٰه بن عمر قال:كان أبى يكتب إلى أمراء الجيوش لا تجلبوا إلينا من العلوج أحدا جرت عليه المواسي(1) فلما طعنه أبو لؤلؤة قال من بي قالوا غلام المغيرة قال ألم أقل لكم لا تجلبوا إلينا من العلوج أحدا فغلبتموني(2).
وينقل المسعودي في مروج الذهب أن عبد اللّٰه بن عمر لما أيقن بدنو أجل أبيه طلب منه أن يعين أحدة للخلافة،فقال له:يا أبه،استخلف على أمة محمد (صلی اللّه علیه واله)،فإنه لو جاء راعي إبل أو غنمك،وترك إبله أو غنمه لا راعي لها،وقلت له:كيف تركت أمانتك ضائعة،كيف بأمير محمد (صلی اللّه علیه واله)فاستخلف فيهم.فأجابه:إن أستخلف عليهم،فقد استخلف أبو بكر وإن أتركهم فقد تركهم رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)(3) !
أقول:كان الوجع قد غلب على أبي حفص،فأنساه أن رسول اللّٰه لا يمكن أن يترك أمة محمد (صلی اللّه علیه واله) راع،وأنساه يوم غدیر خم،وقوله لعلي (علیه السلام) يومها:بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة!وإن كان قد نسي يوم غدیر خم،فلا ندري لم لم يستعرض اسم أحد من صفوة الصحابة من المهاجرين كعمار بن یاسر وأبي ذر،أو الأنصار كأبي أيوب الأنصاري وحذيفة بن اليمان(4) والبراء بن عازب وعبادة بن الصامت؟
ص: 149
تنقل المصادر عن عمر أنه كان يرغب في الإيصاء لأبي عبيدة بن الجراح(1). ففي مسند أحمد بن حنبل عن عمر أنه قال:إن أدركني أجلي وأبو عبيدة بن الجراح حي استخلفه،فإن سألني ربي:لم استخلفته؟قلت:سمعت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)يقول:إن لكل نبي أمينا وإن أميني أبو عبيدة بن الجراح.فإن أدركني أجلي -وقدتوفي أبو بيدة-استخلف
معاذ بن جبل(2)،(وفي بعض الأخبار لسالم مولى أبي حذيفة)(3)فإن سألني ربي :لم استخلفته؟قلت:سمعت رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)يقول:إن يحشر يوم القيامة بين يدي العلماء نبذة(4)،وقد ماتا في خلافته.
وعندما اقترح عليه أحدهم أن يستخلف ابنه عبداللّٰه،رفض رفضة شديدة، مبررة ذلك بعدم كفاءته لهذا المنصب.كتب الطبري:فقال له رجل:هل أدلك عليه،عبداللّٰه بن عمر،فقال:قاتلك اللّٰه،واللّٰه ما أردت اللّٰه بهذا،ويحك كيف أستخلف رجلا عجز عن طلاق امرأته(5).
والحقيقة أنه،إن كان بالإمكان أخذ ترشيح عمر لأبي عبيدة على محمل الجد -وهو بالمناسبة أمر مرجح جدا،فهو كان ثالث ثلاثة عندما دخل مع أبي بكر وعمر على
ص: 150
الأنصار في الشقيفة(1) -فمن الصعب أخذ ترشيح سالم مولى أبي حذيفة على محمل الجد،لأ سالمة لم يكن من العرب أصلا،والعقلية القبلية لا تسمح بخطوة من هذا القبيل أبدا.كما يصعب أخذ ترشيح معاذ بن جبل الخزرجي على محمل الجد أيضا،لأنه يعلم أن الأوس و قریش،لن تقبل ترشيحا من هذاالقبيل،كيف وقد حدث ما حدث مع سيير الخزرج سعد بن عبادة في التنقيفة؟!واحتج عمر نفسه في السقيفة بأن قريشا والعرب لن يقبلوا خليفة من غير وجهاء المهاجرين.
كتب الطبري:ثم احتمل(عمر)فأدخل داره،فدعا عبد الرحمن بن عوف،فقال:
إني أريد أن أعهد إليك.
فقال(عبد الرحمن):يا أمير المؤمنين نعم إن أشرت علئ قبل منك.
قال(عمر): وما تريد؟
قال(عبد الرحمن):أنشدك اللّٰه أتشير علي بذلك؟قال(عمر):اللّٰهم لا. قال(عبد الرحمن):واللّٰه لا أدخل فيه أبدا.
قال(عمر):فهب لي صمتا حتى أعهد إلى النفر الذين توفي رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وهو عنهم راض،ادع لي عليا وعثمان والبير وسعدة،وانتظروا أخاكم طلحة ثلاثا، فإن جاء وإلا فاقضوا أمركم....يا عبد اللّٰه بن عمر،إن اختلفت القوم،فكن مع الأكثر،وإن كانوا ثلاثة وثلاثة فائبع الحزب الذي فيه عبد الرحمن(2) .ويحممر عبد اللّٰه بن عمر مشيرة،ولا شيء له من الأمره(3) .
وأمر عمر بن الخطاب أبا طلحة الأنصاري أن يحبس هؤلاء الستة حتى ولوا أحدهم، فإن اتفق خمسة وأبي واحد فاضرب عنقه!وإن اتفق أربعة وأبي اثنان فاضرب أعناقهما!وإن افق ثلاثة وخالفت ثلاثة،فانظر الثلاثة التي فيها عبد الرحمن،فارجع إلى ما قد اتفق عليه،فإن أصرت الثلاثة الأخرى على خلافها فاضرب أعناقهما!وإن مضت ثلاثة أيام ولم يتفقوا على أمر،فاضرب أعناق الستة ودع المسلمين يختاروا لأنفسهم(4) !
ص: 151
الآن،أقوى المرشحين الستة هما الإمام علي (علیه السلام) وعثمان(1)،وعلى (علیه السلام) من بني هاشم،وعثمان من بني أمية.ويبدو لي أن عمر كان يحدس أن قدرة وجهاء المهاجرين على مسك زمام الأمور مهددة،واحتمال رجوع الأمر إلى بني هاشم أو بني أمية بات واردة جدة،فهو من ناحية لا يريد أن ينتهي الأمر إلى بني هاشم،كما لا يريد أن ينتهي الأمر إلى بني أمية،لذا كان يرغب في الإيصاء لأبي عبيدة أو سالم(أو معاذ)...لكن ما الحيلة؟هو الأن بين خيارين.
يبدو أن عمر مال لبني أمية،وممثلهم عثمان بن عفان،لسابقته في الإسلام من جهة ومقبوليته من قريش وبني أمية خاصة من جهة ثانية،ومن جهة ثالثة كان يأمل أن يكون أمر عثمان تحت السيطرة مع وجود عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص بين يديه(2).
وحين اجتمع عمر باعضاء الشورى،وجه إليهم انتقادات لاذعة(3)،يهمنا ما يتعلق بعثمان بالتحديد.ينقل ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة،أن عمر قال لعثمان:
هيها إليك،كائي بك قد قلدتك قريش هذا الأمر لبها إياك،فحملت بني أمية وبني أبي معبط على رقاب الناس،وآثرتهم بالفيء،فسارت إليك عصابة من وبان العرب،فذبحو على فراش ذبحا، واللّٰه لئن فعلوا(أي ولوك)لتفعلن(أي تحمل بني أمية وبني أبي معيط على رقاب الناس)،ولئن فعلت ليفعلن(أي يقتلوك على فراشك)»،ثم أخذ بناصيته فقال:فإذا كان ذلك فاذكر قولي فإنه كائن.وقال لهم:«إنكم إن تعاونم وتوازرثم وتناصحم أكلتموها وأولادكم،وإن تحاسدم وتقاعدم وتدابرم وتباغضم،غلبكم على هذا الأمر معاوية بن أبي سفيان»(4)!
ص: 152
إذن عمر كان يريد أن تبقى الخلافة بيد وجهاء المهاجرين،وإن وصلت الخلافة إلى عثمان،فهو من وجهاء المهاجرين،لكنه أيضا من بطن قريش القوي(بني أمية)...لذا نبههم بأنهم إن تعاونوا وتآزروا بقیت الخلافة فيهم،وإن تحاسدوا وتباغضوا فالأرجح أن تخرج الخلافة من يليهم،وتصل إلى معاوية بن أبي سفيان،مرشح بني أمية القوي،الذي ازداد قوة بعدما رسخ وجوده في الشام.
وكتب ابن أبي الحديد أيضا أن عمر بعد أن وجه انتقادات لاذعة لأعضاء الشوری،وصل الأذور إلى الإمام علي (علیه السلام)،فقال له:وأما أنت يا علي،فواللّٰه لو وزن إيمانك بإيمان أهل الأرض لرجحهم،فقام الإمام علي (علیه السلام) موئية يخرج، فقال عمر:واللّٰه إني الأعلم مكان رجل لو وليتموه أمرگم لحملهم على المحجة البيضاء،قالوا:من هو؟قال:
هذا الموتي من بينكم،قالوا:فما يمنعك من ذلك،قال:ليس إلى ذلك سبيل!
وفي خبر آخر،رواه البلاذري،أن عمر لما خرج أهل الشوری من عندو،قال:إن ولوها الأجلح(1) سلك بهم الطريق،فقال عبد اللّٰه بن عمر:فما يمنعك منه يا أمير المؤمنين؟قال:أكره أن أتحملها حيا وميتاً(2) !
مال الأمور صار واضحة للإمام علي (علیه السلام)
اجتمع أهل الشورى،وبدأوا بإجراء مباحثات لاختيار الخليفة المقبل.في هذا الشأن،يروي ابن عساكر في تاريخ دمشق روایات بطرق متعددة عن مناشدة الإمام علي (علیه السلام) لأصحاب الشورى،يسالهم:أنشدكم باللّٰه هل فيكم أحد صلى اللّٰه قبلي وصلی القبلتين؟هل فيكم أحد أخو رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) غيري؟أفيكم أحد قدم بين يدي نجوا صدقة غيري؟أفيكم أحد كان آخر عهده برسولاللّٰه (صلی اللّه علیه واله) حتی وضعه في حفرته غيري؟....إلى غيرها من التساؤلات، والقوم يجيبونه: اللّٰهم لا(3) .
ص: 153
لكن،التنورة صارت واضحة بالنسبة إلى الإمام علي (علیه السلام)،فقد عرف أن القوم
تظاهروا عليه مرة جديدة،وهذا ما نلمسه بوضوح في حواره مع عمير العباس.
فقد أخرج الطبري أن عليا (علیه السلام) ما أن خرج من عند عمر،حتى تلقاه عمه العباس
فبادره (علیه السلام) قائلا:يا عم لقد دلت عنا.
فقال العباس:من أعلمك بذلك؟
فقال (علیه السلام):قرن بي عثمان،وقال عمر كونوا مع الأكثر،فإن رضي رجلا رجلا(كما لو تنازل رجل لآخر،فيظل ثلاثة)،ورجلان رجلا(كما لو تنازل رجلان لآخر،فيظل اثنين)،فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف،فسعد(=ابن أبي وقاص) لا يخالف ابن عمير عبد الرحمن(لأنهما ابنا عمومة،فكلاهما من بني زهرة، مضافة إلى أن أم سعد بن أبي وقاص هي حمنة بنت أبي سفيان بن أمية، وهذا عامل إضافي لميل سعد إلى عثمان،خصوصا إذا تذكرنا أن عليا (علیه السلام) قتل الناديد من أخواله)،وعبد الرحمن صهر عثمان(لأ زوجة عبد الرحمن هي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط،وهي أخت عثمان من امه)لا يختلفون،فيوليها عبد الرحمن عثمان،أو يوليها عثمان عبد الرحمن،فلو كان الآخران(=طلحة والزبير)معي لم ينفعاني(1) (بل من المستبعد أن يكون طلحة معه طالما أنه تيمي،وعلي (علیه السلام) معارض لخلافة أبي بكر التيمي،مضافة إلى أنه قتل عمه عمير وأخويه عثمان ومالك،لكن حتى لو وقف طلحة مع الإمام علي (علیه السلام) ما نفعه ذلك،لأن عمر جعل الترجيح بيلي عبد الرحمن أساسا).
الأمر اللافت حقا،أنه أثناء حدوث المباحثات بين أهل الشوری،جاء عمروبن العاص والمغيرة بن شعبة،فجلسا بالباب،فحصهما سعد وأقامهما،وقال: تريدان أن تقولا حضرنا وكنا في أهل الشوری(2) ؟!
وإن صځت الفرضية الثالثة في مقتل عمر،التي تتحدث عن وجود مؤامرة،فلن يكون تفسير سعد بن أبي وقاص لجلوس عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة صحيحة،بل سیفر هذا الجلوس على أنه ترب ومتابعة دقيقة لعواقب المؤامرة التي حاكتها هذه الشبكة،وأن الأحداث هل تسير وفق الخطة المرسومة أم أن المؤامرة جاءت بعواقب غير مطلوبة؟
ص: 154
ما الذي حدث بالضبط؟
كان طلحة يعلم أنه مع وجود الإمام علي (علیه السلام) وعثمان،لا فرصة له للوصول إلى الشلطة،ولن يصل إليه الدور.وسعد كان يعلم أنه مع وجود منافسين أقوياء مثل الإمام علي (علیه السلام) وعثمان وعبد الرحمن،لن يصل إليه الأور.والبير يعلم بأنه مع وجود الإمام علي علي (علیه السلام)،لن يصل إليه الأور.لذا نجد أن طلحة يتنازل لصالح عثمان،وسعد يتنازلالصالح عبد الرحمن.ولما رأى الزبير ذلك تنازل بدوره لصالح الإمام علي (علیه السلام).
كتب الطبري:لقي علي (علیه السلام) سعدة،فقال:«وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا»(1)،أسألك برحم ابني هذا من رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وبرجم عمي حمزة منك(2)، أن لا تكون مع عبد الرحمن لعثمان ظهيرة علي،فإني أدلي بما لا يدلي به عثمان(3).
ماذا جرى بعد ذلك؟قام عبد الرحمن(الذي تنازل له سعد)بإخراج نفسه من حلبة المنافسة على أن يكون رأيه هو المرجح(4) بين الإمام علي (علیه السلام) وعثمان،فصارت النتيجة واضحة سلفا.
باختصار:تنازل طلحة العثمان،لا حبا له،بل بغضا لعلي (علیه السلام).وعندما رأى الزبير ذلك تنازل بدوره لعلي (علیه السلام)،ربما لحمية النسب.كما تنازل سعد لعبد الرحمن،لأنهما من بني زهرة.فانسحب عبد الرحمن على أن يكون بيده زمام الترجيح بين الإمام علي (علیه السلام) وعثمان.
يقول ابن أبي الحديد:أؤل ما عمل طلحة أنه أشهدهم على نفسه أنه وهب حقه من
ص: 155
الشورى لعثمان،(لماذا؟)وذلك لعلمه أن الناس لا یعدلون به علیا و عثمان و أن الخلافة لا تخلص له و هذان موجودان فأراد تقویة أمر عثمان و إضعاف جانب علی (علیه السلام) بهبة أمر لا انتفاع له به و لا تمكن له منه . فقال الزبیر فی معارضته و أنا أشهدكم على نفسی أنی قد وهبت حقی من الشورى لعلی و إنما فعل ذلك لأنه لما رأى علیا قد ضعف و انخزل بهبة طلحة حقه لعثمان دخلته حمیة النسب لأنه ابن عمة أمیر المؤمنین (علیه السلام) و هی صفیة بنت عبد المطلب و أبو طالب خاله(وهو ابن أخي خديجة بنت خویلد، يعني فاطمة (علیها السلام) ابنة عمته) و إنما مال طلحة إلى عثمان لانحرافه عن علی (علیه السلام) باعتبار أنه تیمی و ابن عم أبی بكر الصدیق و قد كان حصل فی نفوس بنی هاشم من بنی تیم حنق شدید لأجل الخلافة و كذلك صار فی صدور تیم على بنی هاشم و هذا أمر مركوز فی طبیعة البشر و خصوصا طینة العرب و طباعها و التجربة إلى الآن تحقق ذلك فبقی من الستة أربعة.
فقال سعد بن أبي وقاص:وأنا قد وهبت حقّی من الشوری لابن عمّی عبد الرحمن _ و ذلك لانّهما من بنی زهره، و لعلم سعد أنّ الأمر لا یتمّ له _ فلمّا لم یبق إلاّ الثلاثه، قال عبد الرحمن لعلیّ و عثمان : أیّكما یخرج نفسه من الخلافه، و یكون إلیه الإختیار فی الاثنین الباقیین ؟ فلم یتكلّم منهما أحد، فقال عبد الرحمن : أشهدكم أنّنی قد أخرجت نفسی من الخلافه، علی أن أختار أحدهما، فأمسكا.
فبدأ بعلیّ علیه السلام ، و قال له : أبایعك علی كتاب اللّه، و سنّه رسول اللّه، و سیره الشیخین : أبی بكر و عمر .
فقال (علیه السلام): بل علی كتاب اللّه و سنّه رسوله واجتهاد رأیی .
فعدل(عبد الرحمن) عنه إلى عثمان،فعرض ذلك عليه.
فقال(عثمان):نعم.
فعاد(عبد الرحمن)إلى علي لي،فأعاد قوله.
فعل ذلك عبد الرحمن ثلاثة،فلما رأى أن عليا غير راجع عما قاله،وأن عثمان ينوم
له بالإجابة،صفق على يد عثمان،وقال:السلام عليك يا أمير المؤمنين.
فيقال أن عليا (علیه السلام):قال له:واللّٰه ما فعلتها إلا لأنك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه(يعني عمر من أبي بكر)،دق اللّٰه بينكما عطر منشم(1) .قيل:ففد بعد ذلك
ص: 156
بين عثمان وعبد الرحمن،فلم يكلم أحدهما صاحبه حتى مات عبد الرحمن(1)، بل قيل أن عبد الرحمن أوصى أن لا يصلي علي عثمان بعد موته.
وكتب الطبري:فقال علي (علیه السلام):حبوته حبو دهر ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا فصبر جميل واللّه المستعان على ما تصفون واللّه ما وليت عثمان إلا ليرد الامر اليك واللّه كل يوم هو في شأن.
فقال عبدالرحمن يا علي لا تجعل على نفسك سبيلا فإني قد نظرت وشاورت الناس فإذا هم لا يعدلون بعثمان فخرج علي وهو يقول سيبلغ الكتاب أجله فقال المقداد يا عبدالرحمن أما واللّه لقد تركته من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون...ما رأيت مثل ما أوتى إلى أهل هذا البيت بعد نبيهم إني لاعجب من قريش أنهم تركوا رجلا ما أقول أن أحدا أعلم ولا أقضى منه بالعدل أما واللّه لو أجد عليه أعوانا؟!
فقال عبدالرحمن يا مقداد اتق اللّه فإني خائف عليك الفتنة(2).
وفي أنساب الأشراف أن عليا (علیه السلام)-بعد أن صفق عبد الرحمن على يد عثمان-كان قائما فقعد فقال له عبد الرحمن : بايع وإلّا ضربت عنقك ، ولم يكن مع أحد يومئذ سيف غيره فيقال : إنّ عليّا خرج مغضبا فلحقه أصحاب الشورى فقالوا : بايع وإلّا جاهدناك ، فأقبل معهم يمشي حتّى بايع عثمان(3)!
ومن كل هذا يظهر أن عمر كان قد جعل أمر الترجيح بيد عبد الرحمن،وهم يعلمون أن عليا (علیه السلام) يأبى أن يجعل العمل بسيرة الشيخين في عداد العمل بكتاب اللّٰه وشئة رسوله (صلی اللّه علیه واله)،وأن عثمان يوافق على ذلك،فيبايع عثمان بالخلافة،ويخالفهم الإمام علي (علیه السلام)فيعرض على السيف؟
والشاهد على ذلك ما رواه ابن سعد في طبقاته،في ترجمته لسعيد بن العاص(والذي سيقول في عهد عثمان:إنما السواد قطي لقريش!!)،ما خلاصه، أن سعید بن
ص: 157
العاص أتی عمر يستزيده في الأرض ليوسع داره،يقول سعيد:فزادني وخظ لي برجليو،فقلت:يا أمير المؤمنين زدني فإنه نبتت لي نابتة من ولد وأهل، فقال(عمر):حسبك واختبئ عندك،إنه سيلي الأمر من بعدي من يصل رحمك ويقضي حاجتك.قال(سعید):فمكثت خلافة عمر حتى استخلف عثمان وأخذها عن شوری ورضی،فوصلني وأحسن وقضى حاجتي وأشركني في أمانته!
تذكر أن سعيدة هذا هو الذي قال له عمر-كما أشرنا-:مالي أراك معرضة كأنك ترى أني قتل أباك؟ما أنا قتله ولكنه قتله علي بن أبي طالب(في بدر)، فاعترض الإمام علي (علیه السلام) على ذلك واعتبره تحريضا عليه.
لكن لماذا أصر الإمام علي (علیه السلام) على رفض عرض عبد الرحمن بأن يسير بسيرة
الخليفة الأول والثاني؟
قبل أن أجيب عن هذا السؤال لدي تعليق على الشرط نفسه.الشرط الذي ابتدعه عبد الرحمن لا أساس شرعية له على الإطلاق،لأن مصادر التشريع المعتمدة هي كتاب اللّٰه تعالى وسنة رسوله.والخليفة الأول والثاني إن كانا قد سارا على كتاب اللّٰه وسنة رسوله (صلی اللّه علیه واله)،فالمهم أن يسير الخليفة الثالث على منوالهما.وإن كانا قد خالفا كتاب اللّٰه وسنة رسوله (صلی اللّه علیه واله)،والخليفة الثالث مطالب بأن يسير على منوالهما المخالف لكتاب اللّٰه وسنة رسوله،فهذا تأسيس المصدر تشريعي جديد،ولبدعة بالغة الخطورة.إذن لا موضوعية لسيرة الشيخين على الإطلاق،وهي ليست مصدرة من مصادر الشریع.مضافة إلى ذلك،أن الشيخين لم يسيرا على سيرة واحدة...فهما قد اختلفا في ملفات كثيرة؛ منها طريقة توزيع العطاء،وطريقة التعاطي مع خالد بن الوليد،وسماح الأول بمتعة النساء والحج بخلاف الثاني....إلخ.
الآن إذا عدنا للإجابة عن السؤال،ومعرفة سبب إصرار الإمام علي (علیه السلام) على رفض عرض عبد الرحمن.نقول:إن الإمام علي (علیه السلام) رفض العرض لاعتبارات عدة.فهو أولا برید أن يقول إنه امتداد لرسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وليس امتدادا للأول والثاني. وثانية حتى يعطينا درسة بأن الإصرار على المبدأ أهم بكثير من القيام ببعض التكتيكات السياسية،فالغاية لا تبرر الوسيلة كما ذهب ميكافيلي.وثالثة حتى لا يعطي شيكا على بياض ويمضي على كل ما قام به الأول والثاني من أفعال وسلوك وأقوال.ورابعة-وربما هو الأهم-أن عبد الرحمن بعرض هذا كان يريد أن يقول لعلي (علیه السلام):هل تقبل أن تكون واجهة القریش وراعيا لمصالحها كما كان الأول والثاني؟وبطبيعة الحال،الإمام على (علیه السلام) يرفض تماما هذا.
ص: 158
الجدير بالذكر أن المغيرة بن شعبة جاء إلى عبد الرحمن وقال له:یا أبا محمد، قد اصبت إذ بایعت عثمان! و قال لعثمان: لو بایع عبد الرحمن غیرك ما رضینا، فقال عبد الرحمن: كذبت یا اعور، لو بایعت غیره لبایعته(1).
ويبدو لي أن المغيرة كان صادقا في كلامه،لأن عبد الرحمن لو بایع غير عثمان،الكان على الأرجح (علیه السلام)،والمغيرة لا يرضى بعلي (علیه السلام)،والسبب في ذلك إن لم يكن متعلقة بدوري المحتمل في مؤامرة اغتيال عمر،التي استهدفت وصول بني أمية إلى الشلطة،فعلى الأقل،لموقف الإمام علي (علیه السلام) من قضية اتهام الشهود المغيرة بالنی،التي انتهت إلى حد الشهود حد القذف(2)!
هنا أيضا إضافة مفيدة وذات دلالة،كتب الطبري وابن أبي الحديد،واللفظ للثاني:
لما أتى اليوم الثالث(لاجتماعات الشوری)جمعهم عبد الرحمن،واجتمع الناس كافة.
فقال عبد الرحمن:أيها الناس،أشيروا علي في هذين الرجلين(يعني الإمام علي
وعثمان).
فقال عمار بن ياسر:إن أردت ألا يختلف الناس،فبايع علية (علیه السلام).
فقال المقداد: صدق عمار وإن بايعت علية سمعنا وأطعنا.
فقال عبد اللّٰه بن سعد بن أبي سرح(أخو عثمان من الرضاعة(3)) لعبد الرحمن: إن
أردت ألا تختلف قریش،فبايع عثمان.
وقال عبد اللّٰه بن أبي ربيعة المخزومي(من بني مخزوم،يعني من قريش)(4): صدق
إن بایع عثمان سمعنا وأطعنا.
فشتم عمار ابن أبي سرح وقال له:متی كنت تنصح الإسلام؟!
فتكلم بنو هاشم وبنو أمية،وقام عمار فقال:إن اللّٰه أكرمكم بنبيه وأعم بدينه، فإلى
متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بیت نبیكم؟
ص: 159
فقال رجل من بني مخزوم:لقد عدوت طور با بن سمية،وما أنت وتأمير قریش الأنفيها!!!
فقال سعد بن أبي وقاص:يا عبد الرحمن أفرغ قبل أن يفتن الناس(1).
هذا الحوار لا يحتاج إلى تعليق،لأنه يضح منه جلية موقف قریش من الإمام علي (علیه السلام) وعثمان،وكيف أن قريشا كانت ترى أن الخلافة حق خالص لها، وليس من حق أمثال عمار بن یاسر(وهو المولى القحطاني)أن يدلي برأي!
هذا الأمر أئده ولصه الإمام علي (علیه السلام) نفسه،حيث قال:«إني لأعلم ما في أنفسهم،إن الناس ينظرون إلى قريش،وقریش تنظر في صلاح شأنها، فتقول:إن ولي الأمر بنو هاشم لم يخرج منهم أبدا،وما كان في غيرهم فهو متداول في بطون قریش»(2)!
يعني سيكون أمر الخلافة مرنة،وسيكون هناك تداول للشلطة بين بطونقریش ما دام الأمر خارج نطاق بني هاشم!!التابو(3)-والمحرم سياسية واجتماعية-هو أن تصل الخلافة إلى بني هاشم!!
هذا هو الجو العام،يسعى لإبقاء الخلافة في بطون قريش.أما جو الشبكة المفترضة،التي قد تكون وراء مؤامرة اغتيال عمر،فهي تسعى لجر الشلطة لمصلحة بني أمية خاصة،بطن قريش القوي....وقد تحقق مرادها عندما وصلت الشلطة إلى عثمان.
تساؤلات مشروعة
يبدو لنا أن نظام الشورى الشداسي الذي فرضه عمر بن الخطاب على واقع الأمة كان
بعيدة عن نظام الشورى.وإلا:
لماذا لم تشترك الأمة في الانتخاب؟
ولماذا ضمت الشورى الشداسية أغلبية من وجهاء المهاجرين القرشيين ممن لهم
مواقف سلبية من الإمام علي (علیه السلام)؟
ص: 160
ولماذا أقصي الأنصار عن المشاركة في صنع القرار؟
ولماذا لم تضم الشورى الشداسية أحدة من القحطانيين؟
وإن كان رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) مات وهو راض عن أعضاء الشورى فكيف ضرب أعناهم إن طالت مشاوراتهم أو اختلفوا؟وهل ثمة مسوغ شرعي لذلك؟وهل التلف عن الانتخاب مروق عن الإسلام؟
ألا يوجد من الصحابة من مات رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وهو عنه راض ممن هو جدير بالمشاركة في الشورى؟
ولماذا يجعل الترجيح بيد عبد الرحمن مع معرفة عمر میله لصهرو عثمان؟
وهل يصح أن يجعل أمر المسلمين ومصيرهم ومستقبلهم بيد شخص واحد يرجح من
يشاء؟
مضافة إلى أن هذه الشورى أوجدت التنافس بين أعضائها وصار كل واحد منهم يرى نفسه يدا للآخر،ونفخت فيه روح الطموح للخلافة،فصار بعضهم يحرض الناس على عثمان،وخرج بعضهم لحرب الإمام علي (علیه السلام) في الجمل؟
الإمام علي (علیه السلام) يشرح موقفه في خطبة الشقشقية
يقول الإمام علي (علیه السلام) في هذا الان:«فصبر على طول المدة(مدة خلافة عمر)،وشدة المحنة،حتى إذا مضى(عمر)لسبيله جعلها فى جماعة زعم انّي احدهم فيا للّه و للشّورى متى اعترض الرّيب فىّ مع الاوّل منهم، حتّى صرت اقرن الى هذه النّظائر! لكنّى اسففت اذ اسفّوا، و طرت اذ طاروا: فصغا رجل منهم لضغنه(=مال طلحة أو سعد القيرو)،ومال الآخر لصهره(=مال عبد الرحمن إلى عثمان أخي زوجته لأمه:ام كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط)،مع هن وهن(=مع تفاصيل مؤلمة يكفي أن تكتي عنها)»(1) .
أيضا في خطبة له يذكر فيها (علیه السلام) ما جرى له يوم الشوری بعد مقتل عمر:«وقد قال قائل(=سعد بن أبي وقاص على رواية):إنك على هذا الأمر يا ابن أبي طالب لحريص.
فقلت:بل أنتم واللّٰه لأحرص وأبعد،وأنا أخ وأقرب،وإنما طلبت حقا لي وأنتم
تحولون بيني وبيئه،وتضربو وجهي دونه.
فلما قرعته بالحجة في الملا الحاضرين هب كأنه بهت لا يدري ما يجيبني به!
ص: 161
اللّهم اني استعديك علي قريش و من اعانهم فانهم قطعوا رحمي و صغروا عظيم منزلتي و اجمعوا علي منازعتي امرا هو لي»(1) .
خلاصة القول أن قوة وجهاء المهاجرين،بدت في أواخر خلافة عمر،في طريقها للأفول.لذا عندما اغتيل عمر،في عملية مريبة قد تخفي وراءها مؤامرة محتملة،احتار عمر فيمن يخلفه.لكنه شگل شوری شداسية صممها بطريقة ضعف فيها احتمال وصول الإمام علي (علیه السلام) إلى الخلافة،فضلا عن الأنصار الذين لم يشركهم أصلا في الشوری.
تشكيل الشورى السداسية سيكون له تأثير خطير في نفوس أعضاء الشوری لأنهم بدأوا يشعرون لأول مرة أنهم منافسون حقيقيون لعلي (علیه السلام)،الأمر الذي دفع بعد ذلك بعضهم إلى نكث بيعة الإمام علي (علیه السلام) ومحاربته في الجمل.
قلنا إن وراء اغتيال عمر مؤامرة محتملة،والمتهمين فيها شبكة تعمل لمصلحة بني أمية.وإن لم تصح فرضية وجود شبكة وراء عملية الاغتيال،فدور بني أمية سيكون بالغ الوضوح في خلافة عثمان، وستشعر قریش-للمرة الأولى-بأن ثمة انقلابة حقيقية قد قام به بنو أمية على قريش.وهذا بالتأكيد سيمهد الطريق لمعاوية،ومن وراءه يزيد،ليرتكب من أجل إبقاء الشلطة بيد بني أمية،فاجعة كربلاء .
في الفصل الآتي سنتحدث عن حكم عثمان،وسنرى أن الخليفة الأول والثاني إن كانا هما واجهة قريش،فإن الخليفة الثالث صار واجهة بني أمية على الخصوص.كما سندرس التحولات الاقتصادية والاجتماعية والقيمية الخطيرة التي طرأت على المسلمين،بسبب استئثار بني أمية بالشلطة والمال،الأمر الذي أدى إلى ثورة انتهت بمقتل عثمان بطريقة مأسوية، ومبايعة الإمام علي (علیه السلام) أميرة للمؤمنين وخليفة على المسلمين.
ص: 162
ص: 163
ص: 164
بدأنا هذه السلسلة بتقسيم خلفيات واقعة كربلاء،والأحداث والأسباب التي أدت إلى شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) إلى أسباب بعيدة وأسباب قريبة.وقلنا إنا نقد با«الأسباب البعيدة»المرحلة التي تمتد من بعثة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) إلى استلام عثمان الخلافة،يعني من(13 ق.هج-35هج)،وتقدر ب48سنة تقريبا. ونقصد ب«الأسباب القريبة الشهادة الإمام الحسين (علیه السلام)،الأحداث التي تمتد من مرحلة خلافة عثمان حتى موت معاوية،يعني من(35هج-60هج)،وتقدر ب 25سنة تقريبا.وتبدأ كتب مقاتل الحسین (علیه السلام) عادة من لحظة موت معاوية.
بدأت الفتوحات الكبرى مع عمر،وجاءت معها طفرة مالية،ألقت بظلالها الخطيرة على النسيج الاجتماعي،خصوصا إذا لاحظنا التأثير التراكمي لتطبيق معيار عمر في الفضيل في العطاء،فقریش لم تعد تستأثر بالشلطة فقط،بل صارت تستأثر بالمال أيضا.
في المقابل بدت قوة وجهاء المهاجرين في طريقها للأفول،لذا عندما اغتيل عمر،احتار فيمن يخلفه.كان عمر يأمل لو كان أبو عبيدة حية ليستخلفه،فأبو عبيدة بن الجراح من أبرز وجهاء المهاجرين،وهو من بنيالحارث بن فهر،أي من بطون قريش الضعيفة،حالها كحال تيم رعدي،لكنه توفي في حياة عمر. وتحدث عمر عن أمله باستخلاف سالم مولى أبي حذيفة،وفي بعض الروايات معاذ بن جبل، لو كان أحدهما حية.وقلنا بأنا لا يمكن أن نأخذ هذين الاسمين على محمل الجد،لأن سالمة فارسي الأصل،ولأن العرب العدنانيين لا يقبلون قحطانية فضلا عن شخص غير عربي، وثانية هو من الموالي،هو مولى لأبي حذيفة...إذن وفقا للمعايير القبلية لا فرصة لسالم أصلا في الوصول إلى الخلافة.كما أن معاذ بن جبل،من الأنصار القحطانيين،بل هو من الخزرج الذين احتك بهم عمر بقوة في السقيفة،وكسر شوكة زعيمهم سعد بن عبادة، وقريش لا يمكن أن تقبل مثل معاذ،إذن لا يمكن تصديق إمكانية استخلاف معاذ، وإن كان عمر-لهذه الدرجة متعاطفة مع الأنصار-إذن لماذا لم يجعل لهم من الأمر شيئا في الشورى الشداسية التي شكلها فور إحساسه بدنو أجله؟
نعم،سارع عمر عقب طعنه إلى تشكيل شوری شداسية يتم اختيار الخليفة منها،ولو دققنا في أسماء أعضاء الشوری،لوجدنا أنهم كلهم من قریش العدنانية،وبالتحديد من
ص: 165
وجهاء المهاجرين،وأدرج من بني هاشم الإمام علي (علیه السلام)،حتى لا يكون تهميشه سافرة،وأفقد الأنصار-وبشكل سافر-من أي قدرة على التأثير في القرار،بدليل أنه لا يوجد من الأنصار حتى عضو واحد في تلك الشورى الشداسية.والخلاصة أن تركيبة الشوری تجعل الإنسان يكاد يجزم بأن نتيجتها ستكون لمصلحة عثمان أو عبد الرحمن.ويبدو أن عمر كان قلقة من أن تكون النتيجة لمصلحة بني أمية على المدى البعيد،لأنهم سیتسئلون،من خلال عثمان الأموي،إلى الشلطة،لكن يبدو أنه أقنع نفسه بأنه مع بقاء عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص حول عثمان،سيبقى الوضع تحت السيطرة......المهم أن لا يصل الإمام علي (علیه السلام) إلى الشلطة،لأنها عندئذ لن تخرج من بنيه.
نريد فيما يلي أن نتحدث عن حكم عثمان،وكيف ساد شعور لدى وجهاء المهاجرين-بل لدى الأنصار وأهل العراق ومصر-بأن القرار لم يعد بيد بطون قريش الضعيفة،بل الحكم والثروة معأ صارا بید بني أمية بطن قریش القوي، إلى درجة أن بعض أقرباء عثمان من بني أمية،ممن لا سابقة له في الإسلام،بل لا صحبة له مع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،كمروان بن الحكم مثلا،صار له تأثير في صنع القرار،أكثر من كبار الصحابة القرشيين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص،فضلا عن طلحة والزبير وعلي (علیه السلام).
ويمكن أن نلخص هذا التحول الخطير بعبارة مختصرة:أبو بكر وعمر كانا واجهة
قریش،لكن عثمان حدد نفسه بدائرة ضيقة،فصار واجهة لبني أمية فقط.
نريد أن ندرس هذا التحول الخطير،كما نريد أن ندرس التحولات الاقتصادية والاجتماعية والقيمة الخطيرة التي طرأت على المسلمين،بسبب استئثار بني أمية بالشلطة والمال،الأمر الذي أدى إلى ثورة انتهت بمقتل عثمان بطريقة مأساوية،ومبايعة الإمام علي (علیه السلام) خليفة على المسلمين.
ما أن استلم الإمام علي (علیه السلام) الخلافة،حتى اضطر لخوض ثلاث حروب طاحنة في أقل من خمس سنوات،حرب الجمل مع الناكثين،وحرب صفين مع القاسطين،وحرب النهروان مع المارقين،ثم استشهد (علیه السلام) ليترك حملا ثقيلا للإمام الحسن (علیه السلام)،الذي اضطر هو الآخر لعقد صلح مع معاوية.ندخل مع معاوية فصلا جديدة وطويلا من حياة المسلمين،امتد إلى عقدين،جرت خلاله ملاحقات وتصفيات لشيعة علي (علیه السلام).انتهى العقد الأول بشهادة الإمام الحسن (علیه السلام) مسمومة،وانشغل معاوية في العقد الثاني بمحاولات متعددة لتهيئة الأجواء لتوريث الشلطة لابنه يزيد،الذي سيرتكب أكبر فاجعة في التاريخ،فاجعة كربلاء.
ص: 166
من الآن فصاعدا سنشهد انقلابأ تدريجيا من بني أمية القرشية على قریش عموما(ووجهاء المهاجرين خصوصاً).وهذا أمر بالغ الخطورة،لأن عهد أبي بكر وعمر إن كان بمثابة انقلاب من وجهاء المهاجرين من بطون قريش الضعيفة على بني هاشم بطن قریش القوي،فإن عهد عثمان بمثابة انقلاب من بني أمية بطن قريش القوي على قريش بأسرها.والانقلاب الثاني أخطر من الأول بكثير، فالانقلاب الأول قام به المهاجرون القرشيون السابقون إلى الإسلام، والانقلاب الثاني قام به أولئك الذين حاربوا رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)بالأمس واضطروا لدخول الإسلام بسبب تغير موازين القوى.
تذكروا أننا ندرس خلفيات واقعة كربلاء،وكيف تسئل يزيد الأموي إلى الشلطة،وقلنا بأن قريش التي أسلمت بالأمس وجدت ضالتها في البداية بوجهاء المهاجرين،كأبي بكر وعمر،والآن ها هي أمية،التي أسلم أبرز رموزها بعد فتح مكة،تجد ضالتها في عثمان.
وقفة مع حكم عثمان(23-35هج)(1)
بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،خلال ربع قرن(25سنة)،وهو مجموع حكم أبي بكر وعمر وعثمان،نشأ جيل جديد،صفائه غريبة جدا:فهو لا يعرف تفاصيل الكثير من الحوادث التي وقعت في صدر الإسلام،ولا يميز بين الصحابة،حيث يتساوى في نظره علي بن أبي طالب (علیه السلام) وعبد الرحمن بن عوف والژبير بن العوام وطلحة بن عبيد اللّٰه،فكلهم من الصحابة،وكلهم-في نظر هذا الجيل-جديرون بالاحترام بالدرجة نفسها.غاية الأمر،أن عليا (علیه السلام) يمتاز عنهم بأمر بالغ الأهمية، وهو أنه عندما حدثت الطفرة المالية،بدأ كثير من الصحابة بكنز الأموال،وبناء القصور،والتحول نحو حياة الرفاهية
ص: 167
والترف،والتخلي عن حالة الزهد والبساطة، في حين أن عليا (علیه السلام) كان حريصا على التصدق أولا بأول بما يتوافر لديه من مال،لذا لم تتغير حياته،وحافظ على هدو وبساطة معیشت......هذا الأمر جعل علية (علیه السلام) أقرب إلى قلب هذا الجيل من بقية الصحابة،وصفه أنزه الصحابة مالية ومعيشية.طبعا بالإضافة إلى كونه أقرب من بقية الصحابة إلى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،فهو زوج ابنته فاطمة (علیها السلام)،وأبو سبطيه الحسن والحسين (علیهم السلام).
دعونا نتعرف بنحو مختصر على حياة الترف والبذخ التي تحول لها كبار وجهاء
الصحابة.
يقول المسعودي في مروج الذهب:بنی عثمان«داره في المدينة،وشيدها بالحجر والكلس،وجعل أبوابها من الشاج والعرعر واقتنى أموالا وچنانة وعيونا بالمدينة.وذكر عبد اللّٰه بن عتبة أن عثمان يوم قتل كان له عند خازنه من المال خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم،وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائة ألف دينار،وخلفت خية كثيرة وإبلا».
ويقول المسعودي أيضا:«وفي أيام عثمان اقتنى جماعة من الطحابةالضياع والدور:منهم البير بن العوام، بنی داره بالبصرة......وابتنى أيضا دورة بمصر والكوفة والإسكندرية...وبلغ مال الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار،وخلف الزبير ألف فرس،وألفت عبد وأمة»..
ويقول:«وكذلك طلحة بن عبيد اللّٰه التيمي:ابتنی داره بالكوفة...وكان غلته من العراق كل يوم ألف دينار وقيل أكثر من ذلك،وبناحية الشراة أكثر مما ذكرنا، وشيد داره بالمدينة وبناها بالأجر والجص والسج».
ويقول:«وكذلك عبد الرحمن بن عوف المري:ابتنی داره ووسّعها وكان علی مربطه مائه فرس، وله ألف بعیر، وعشره آلاف من الغنم، وبلغ بعد وفاته ثمن ماله أربعه وثمانین ألفاً».(وابن الأثير في ترجمته في أسد الغابة يقول: وخلف مالا كثيرة
قطع بالفؤوس حتی مجلت-يعني تقرحت-أيدي الرجال منه(1) .
ويضيف المسعودي:وابتنى سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق،فرفع مگها،ووع
فضاءها،وجعل أعلاها شرفات».ثم يقول:وقد ذكر سعيد بن المسيّب،أن زيد بن ثابت خلّف من الذهب و الفضة ما كان يكسر بالفئوس،غير ما خلف من الأموال
ص: 168
والضياع بقيمة مائة ألف دينار(1)».وزيد بن ثابت هذا وإن كان خزرجية من الأنصار،ولم يكن من وجهاء المهاجرين،لكنه كان خازنا لبيت المال عند عثمان، وكان ثمانية(أنظر ترجمته في أسد الغابة لابن الأثير).
نعود مرة أخرى،لوصف الجيل الجديد الذي نشأ بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)..
قلنا إن الإمام عليا (علیه السلام) كان في نظر هذا الجيل أنه من غيره،أبسط في حياته،وأزهد في عيشه،وأقرب إلى رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،من غيره،وهو في النهاية قرشي...هذا الأمر جعل الإمام علياً (علیه السلام) مرجحا في نظرهم على بقية الصحابة.وإذا قورن الإمام علي (علیه السلام) ببقية أفراد قریش،لن يجد هذا الجيل شخصا غير علي (علیه السلام) يجمع بين المواصفات المقبولة في المجتمع آنذاك، والمواصفات التي يريدونها هم.ولم يكن هذا الجيل ينظر إلى علي (علیه السلام) بوصفه إمامة معصومة واجب الطاعة.
استفحل التفاوت الطبقي-نتيجة تطبيق معيار عمر في التفضيل في العطاء-في فترة كم عثمان بن عفان،إلى حد لا يطاق،لمصلحة قريش عموما، وبني أمية على وجه الخصوص. واستأثرت قریش بالمحكم والمال إلى حد سمح لسعيد بن العاص(وهو والي عثمان على الكوفة)أن يقول:إنما هذا السواد(2)(=العراق)قطين(3) لقريش!!فقال له الأشتر-وهو مالك بن الحارث النخعی-:«أتجعل ما أفاء اللّٰه علينا بظلال سيوفنا ومراكز رمانا بستانا لك ولقومك؟»(4)!
وعلينا أن نتذكر هذه الكلمة على الدوام:«إنما الشواد قطين لقريش»،لأنها ألهبت مشاعر جماهير العراق،ولخصت الوضع الذي تردى إليه حال المسلمين،وكان لها أثر بالغ في تهييجهم-وغالبيتهم من قحطان ممن جند لفتح العراق-ضد قریش العدنانية،كما كان لها بالتأكيد أثر بالغ في الثورة ضد عثمان.
ص: 169
صوت المعترضین یرقع
على أي حال،يتحدث ابن قتيبة الدينوري عن وثيقة كتبها بعض صحابة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،رصدوا فيها التجاوزات،التي تورط فيها عثمان خلال كمير،ولعلها أول وثيقة اعتراضية مكتوبة في الإسلام.يقول ابن قتيبة:
اجتمع ناس من أصحاب النبي- عليه الصلاة والسلام-فكتبوا كتابا ذكروا فيه ما خالف فيه عثمان من سنة رسول اللّه وسنة صاحبيه، وما كان من هبته خمس أفريقية لمروان (1)-وفيه حق اللّه ورسوله، ومنهم ذوو القربى واليتامى والمساكين-، وما كان من تطاوله في البنيان، حتى عدوا سبع دور بناها بالمدينة: دارا لنائلة(2)، ودارا لعائشة (3)وغيرهما من أهله وبناته، وبنيان مروان (4)القصور بذي خشب (=موضع بالمدینة)، وعمارة الأموال بها من الخمس الواجب لله ولرسوله، وما كان من إفشائه العمل والولايات في أهله وبني عمه من بني أمية(5) أحداث وغلمة لا صحبة لهم من الرسول
ص: 170
ولا تجربة لهم بالأمور، وما كان من الوليد بن عقبة بالكوفة إذ صلى بهم الصبح وهو أمير عليها سكران أربع ركعات ثم قال لهم: إن شئتم أزيدكم صلاة زدتكم، وتعطيله إقامة الحد عليه، وتأخيره ذلك عنه(1)، وتركه المهاجرين والأنصار لا يستعملهم على شئ ولا يستشيرهم، واستغنى برأيه عن رأيهم(2)، وما كان من الحمى الذي حمى حول المدينة(3)، وما كان من إدراره القطائع والأرزاق والأعطيات على أقوام بالمدينة ليست لهم صحبة من النبي عليه الصلاة والسلام(4)، ثم لا يغزون ولا يذبون، وما كان من مجاوزته الخيزران إلى السوط، وأنه أول من ضرب بالسياط ظهور الناس، وإنما كان ضرب الخليفتين قبله بالدرة والخيزران»(5).
ويقول المسعودي:«وقدم على عثمان عمه الحكم بن أبي العاص وابنه مروان وغيرهما من بني أمية،والحكم هو طريد رسول اللّٰه و الذي غيره من المدينة ونفاه عن جواري.وكان عماله جماعة منهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط على الكوفة(بعد عزل سعد ابن أبي وقاص)،وهو ممن أخبر النبي،أنه من أهل النار(6)،وعبد اللّٰه بن سعد بن
ص: 171
أبی سرح علی مصر(1) و معاویه بن أبی سفیان علی الشام و عبد اللّه بن عامر علی البصره(2)، و صرف عن الكوفه الولید بن عقبه(بعد صلاته بالناس سكرانا)،وولاها سعید ابن العاص(3)(الذي قال:إنما هذا الواد قطين لقريش(4)».
والحقيقة أن العالم الإسلامي شهد في عهد عثمان تلاعبا غير مسبوق بالمال العام،حيث انتشرت الشللية والمحسوبيات، وعاد التميز القبلي بشكل سافر،وتم تعيين الشاق والمستهترین بمصالح الأمة في مناصب عليا،كما تم التسامح مع أولئك الذين عاملهم رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) بحزم وغلظة وأخبر أنهم من أصحاب النار.كما شهد العالم الإسلامي تفرداً بالرأي،وقسوة في التعامل مع الرعية،وانتشارة للبدع، وحياة مرفهة للحاكم وأقربائه،وتعطيا عن إقامة الحد...الخ.وأغلب هذه الأمور، لم يعهدها المسلمون في خلافة أبي بكر وعمر،كظواهر اجتماعية وسياسية واضحة.
حاول بعض الصحابه القیام بمساع اصلاحیه صادقه, قبل فوات الاوان, لكنها لم تجد نفعا, فتلك الوثیقه التی كتب فیها الصحابه تجاوزات عثمان, قدمها عمار بن یاسر الیه, فكانت النتیجه ان امر الاخیر بضربه, فضرب عمار, وشاركهم عثمان بالضرب - علی ما ینقل ابن قتیبه - الی ان فتقوا بطنه, فغشی علیه, وجروه حتی طرحوه علی باب الدار(5).
ولم يكن حظ عبد اللّٰه بن مسعود أفضل،حيث شرب حتی گیرت أضلاعه؛لأنه حاول الدفاع عن حرمة بيت مال المسلمين في العراق،ثم فرضت عليه الإقامة الجبرية في
ص: 172
يثرب،ومنع عنه عطاؤه،وأوصى عبد اللّٰه بن مسعود أن لا يصلي عليه عثمان(1).
وقام أبو ذر بالإنكار،حتى اضطر عثمان لنفيه إلى العراق،ثم إلى الشام، فاشتكی معاوية منه،فأعاده عثمان إلى المدينة.وعندما يئ عثمان من إسكاته،نفاه إلى الربذة(2)،فخف الإمام علي (علیه السلام) فاعترضهم مروان بن الحكم ليردّهم،فثار الإمام عليّ(عليه السّلام)فحمل علي مروان،و ضرب اذني دابته و صاح به:تنحّ نحّاك اللّه إلي النار (3)، و وقف الإمام عليّ(عليه السّلام)مودّعا أبا ذر فقال له:«يا أباذر!إنّك غضبت للّه فارج من غضبت له،إنّ القوم خافوك علي دنياهم،و خفتهم علي دينك،فاترك في أيديهم ما خافوك عليه، و اهرب بما خفتهم عليه،فما أحوجهم إلي ما منعتهم!و ما أغناك عمّا منعوك! و ستعلم من الرابح غدا...»(4).
وإن رصدنا التجاوزات التي تورط فيها عثمان في نقاط، فيمكن وضعها على النحو
التالي:
1.أرجع عمه الحكم بن أبي العاص،ابن عمير مروان،من المنفى الذي نفاه
رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)إليه(5).
2.وهب مروان بن الحكم مس أفريقية(كانت«أفريقية»تطلق على ما يشمل حاليا
تونس وشرق الجزائر وغرب ليبيا).
3.الإسراف والبذخ في المعيشة.
4.تولية أقربائه:عزل سعد بن أبي وقاص وتولية أخيه من أمه الفاسق الولید بن عقبة بن أبي معيطه(6) مكانه،ثم سعید بن العاص(على الكوفة)،وأخيه من الرضاعة عبداللّٰه بن
ص: 173
سعد بن أبي سرح(1)(على مصر)،وضم إلى معاوية إلى جانب الشام فلسطين وحمص.
5.المماطلة في إقامة الحد على أقربائي:كالمماطلة في إقامة حد شرب الخمر على
أخيه من أمه الفاسق الوليد بن عقبة بن أبي معيط.
6.تجاهل المهاجرين(خصوصا وجهاء الصحابة من قريش الذين كانت زمام الأمور بيدهم إلى الأمس القريب) والأنصار(المستضعفون أصلا بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله))في التولية والمشورة.
7.التلاعب ببیت المال من خلال إدراره القطائع والأرزاق والأعطيات.
8.ضرب الناس بالسياط عوضا عن الخيزران والدرة.
9.ضرب عمار بن یاسر وفتق بطني،وضرب عبد اللّٰه بن مسعود وكسر أضلاع، ونفي أبي ذر الغفاري إلى الربذة.
10.تحوله إلى أداة بيد مروان بن الحكم.
كانت التجاوزات تتراكم بهذا الاتجاه بالتدريج،وكان الحنق الشعبي يزداد بازدیاد تلك التجاوزات،وبات انقسام المجتمع الإسلامي إلى طبقتين عميقاً: أقلية غنية مرفهة
(قرشية)لا تخوض غمار الحروب والفتوحات،وإنما تكتفي بجني الثمار،في مقابل أكثرية فقيرة معدمة،جديدة العهد بالإسلام،تخوض المعارك،و ها أن غيرها يجني ثمار تضحياتها.
وقوع المحظور
كان طلحة بن عبيد اللّٰه والزبير بن العوام يقومان بتحريض الجماهير على عثمان(2)،
ص: 174
ثم بعد قتل،قاما بمبايعة الإمام علي (علیه السلام)،ثم نكثا البيعة،بعد أن فتح عمر شهيتهما للخلافة عندما أدرجهما في الشورى الشداسية،وتحالفت عائشة معهما....كل ذلك بغية استرجاع سلطة قريش التي سلبتها بنو أمية.حتى عمرو بن العاص الهمي كان من المحرضين للثوار بدهاء(1).
لكن كيف وقع المحظور وقتل عثمان؟
كان وفد الثوار من مصر بقيادة الصحابي عبد الرحمن بن عدیس البلوي(وهو من أصحاب بيعة الشجرة)،ومحمد بن أبي بكر(ولد عام حجة الوداع،لذا يمكن اعتباره من الصحابة أو التابعين وفقا لاختلاف تعريف كل منهما)(2).وكان وفد ثوار الكوفة بقيادة الضحابي عمرو بن الأهثم(3)،ومالك الأشتر،وزيد بن صوحان العبدي.وكان وفد ثوار البصرة بقيادة الصحابي حكيم بن جبلة(وعلينا أن نتذكر اسم هذا الصحابي لأنه سیستشهد على يد الناكثين في أطراف البصرة فيما يعرف ب«يوم الجمل الأصغر»).واستمر الحصار أربعين يوما على الأقل، استنجد عثمان خلالها بمعاوية(4)،لكن
ص: 175
الأخير أبطأ عن إجابته،وحبس جنده في أوائل الشام،وذهب بنفسه إلى المدينة ليطلع على تطورات الأحداث،وقال لعثمان:قدم لأعرف رأيك وأعود إليهم(إلى جنده)فأجيئك بهم!فرد عثمان:لا واللّٰه،ولكن أردت أن أقتل،فتقول أنا ولي الثأر،ارجع فجئني بالناس،فرجع معاوية،فلم يعد إليه حتى قتل(1).
وضغط الثوار على عثمان،حتى أخذوا منه العهد التالي:هذا كتاب من عبد اللّٰه عثمان أمير المؤمنين،لمن نقم عليه من المؤمنين والمسلمين،أن لكم أن أعمل فيكم بكتاب اللّٰه وسنة نبيه،يعطى المحروم،ويؤم الخائف،ويرد المنفي، ولا يجمر في البعوث(=لا يحبس الجند في الغور عن العود إلى أهلهم)،ويوفر الفيئ،وعلي بن أبي طالب ضمين للمؤمنين والمسلمين،على عثمان الوفاء بما في هذا الكتاب».وشهد فيه كل من الزبير وطلحة وسعد وابن عمر وغيرهم.
لكن عثمان وبتحريض مروان نقض هذا العهد،حيث دخل عليه مروان وقال له: تكلم وأعلم الناس أن أهل مصر قد رجعوا،وأن ما بلهم عن إمامهم كان باطلا ،فإنطبتك تسير في البلاد،قبل أن يتحلب الناس عليك من أمصارهم فيأتيك ما لا تستطيع دفعه».وامتنع عثمان في البدء عن إجابته،لكن ما زال مروان يحذره من مغبة ما صنع،إلى أن استجاب له،فصعد المنبر،وقال ما طلب منه مروان....فثار القوم،وعاد الوفد المصري غاضبة بعد أن تبين له الأمر.وخرج لهم مروان وخاطبهم:ما شأنكم؟...شاهت الوجوه،تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا،اخرجوا عنا....
ونقلت كلمات مروان للإمام علي (علیه السلام) فثار غاضبة وأسرع إلى عثمان،وأحاط الثوار
بدار عثمان فمنعوا عنه الماء والطعام(2)،وأرسل الإمام علي (علیه السلام) إليه قرب الماء،إلا إن بعض الثوار دخلوا عليه،ولم يخرجوا إلا وعثمان مضرجا بديه.وتداول الناس أسماء
ص: 176
قيل أنها ممن دخل على عثمان،كالصحابي عمرو بن الحمق الخزاعي، والصحابي عبد الرحمن بن غديس البلوي،والطحابي محمد بن أبي حذيفة(وهو من بني عبد شمس،ابن خال معاوية،رباه عثمان،ثم صار من أشد الناس عليه)،بالإضافة إلى محمد بن أبي بكر،وكنانة بن بشر،وعمير بن ضابئ،وسودان بن حمران.
ما نريد التأكيد عليه أن الإمام عليا (علیه السلام)،لم تكن له سيطرة حقيقية على الثوار،بل حتى بعض قادة الثوار لم تكن لهم سيطرة حقيقية على قواعدهم الشعبية،فالفوضى واللغط وخلط الأوراق كان هو سيد الموقف.
•موقف الإمام علي (علیه السلام) من فتنة مقتل عثمان
كان وضع الإمام علي (علیه السلام) دقيقة جدا،فمن ناحية كان قد أقسم عندما عزم القوم على بيعة عثمان،بعد أن أكد على أنه أحق الناس بالخلافة من غيره، قائلا:«واللّٰه الأسلمن ما سلمت أمور المسلمين،ولم يكن فيها جور إلا علي خاصة،التماسا لأجر ذلك وفضله،وزهدا فيما تنافستموه من خوفه وزبرجه»(1) ، وها هي أمور المسلمين لم تعد سالمة،وها هو الجور لم يعد واقعة عليه خاصة،فعليه إذن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،والوقوف أمام هذا الانحراف الكبير الذي بات يهدد وجود الأمة بأسرها.
لكن موقفه حرج من ناحية ثانية،لسببين:أولهما أنه (علیه السلام) وإن كان يرى نفسه أحق بالخلافة من غيره،إلا أن أي تحرك احتجاجي سيعطي ذريعة للملتفين حول عثمان،في اتهامه بالسعي نحو الشلطة،وأنه يعرقل المسيرة،ويضع العصا في العجلة،ويحرض على نكث البيعة.فالقرار لم يعد بيد عثمان،وإنما بید قرابته وأبناء عمومته،والأجواء مهياة تماما لفبركة الاتهامات الواهية. السبب الثاني-وهو الأهم-أن الحركة الشعبية الاحتجاجية،وإن كان قد وقع الظلم عليها،لكنها حركة غير ناضجة،جديدة العهد بالإسلام،هائجة،يصعب التحكم في مسارها،اختلط عليها الحق والباطل،واختلطت عليها المعايير. وهذه القطة سنتوقف عندها بعد قليل.
كانت الأنظار تتجه نحو الإمام علي (علیه السلام)،يريدون معرفة كيفية معالجته، لمعضلة
غير مسبوقة،ألمت بالإسلام والمسلمين.فماذا صنع الإمام علي (علیه السلام)؟
حاول الإمام علي (علیه السلام) أن يمسك العصا من الوسط ما أمكنه،فلعب دور الوسيط
ص: 177
أكثر من مرة،بين جماهير هائجة،فلت زمامها،ولم تد تستمع إلا لمن يريد أن يزيد تهييجها،أو على الأقل لمن يريد أن يتفهم معاناتها،وحاكم لم يعد قراره بيده، بسبب الشيخوخة وتسلط المحيطين به،وبالخصوص مروان بن الحكم.
لما اجتمع الناس إليه،وشكوا ما نقموه على عثمان،قام الإمام علي (علیه السلام) ودخل
على عثمان،وقال له:
«إن الناس ورائي،وقد استسفروني(=جعلوني سفيرة)بينك وبينهم، وواللّه ما أدري ما أقول لك، ما أعرف شيئا تجهله، ولا أدلك علي أمر لا تعرفه، إنك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلي شئ فنخبرك عنه، ولا خلونا بشئ فنبلغكه، وقد رأيت كما رأينا، وسمعت كما سمعنا، وصحبت رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) كما صحبنا، وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطاب بأولي بعمل الحق منك، وأنت أقرب إلي رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله)وشيجة رحم منهما، وقد نلت من صهره ما لم ينالا، فاللّه اللّه في نفسك، فإنك واللّه ما تبصر عن عمي، ولا تعلم من جهل....وأن شر الناس عند اللّه إمام جائر، ضل وضل به، فأمات سنة مأخوذة وأحيي بدعة متروكة، وأني سمعت رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله) يقول: يؤتي يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر فيلقي في نار جهنم فيدور فيها كما تدور الرحي، ثم يرتبط في قعرها، وإني أنشدك اللّه أن تكون إمام هذه الأمة المقتول فإنه كان يقال: يقتل في هذه الأمة إمام يفتح عليها القتل والقتال إلي يوم القيامة، ويلبس أمورها عليها، ويثبت الفتن فيها، فلا يبصرون الحق من الباطل، يموجون فيها موجا، ويمرحون فيها مرحا، فلا تكونن لمروان سيقة يسوقك حيث شاء بعد جلال السن وتقضي العمر ».
فقال له عثمان:كلم الناس في أن يؤجلوني،حتى أخرج إليهم من مظالمهم. فقال (صلی اللّه علیه واله):ما كان بالمدينة فلا أجل فيه،وما غاب،فأجله وصول أمرك إليه(1) .
لكن عثمان لم يتخذ اي اجراء، فعلي يؤكد للناس ان الامور في طريقها إلى الحل.
بل على العكس، كان كلما حاول ان يتخذا اجراء من هذا القبيل، اما ان يثنيه عن ذلك المقربين منه - وبالخصوص مروان – او يقومون بخطوات تزيد من نقمة الناس، وترسل اليهم اشارات خاطئة، تؤكد لهم ان الامور يائسة بالفعل، ولا امل في الاصلاح، وان قرارات عثمان لم تعد بيده، وانما بيد ابناء عمومته، الذين لا سابقة لهم في الاسلام.
لما اشتد الطعن على عثمان، بدا الناس يهتفون باسم علي للخلافة، فاستاذن
ص: 178
علي (عليه السلام) عثمان في بعض بواديه يتنحى إليها - حتى لا يتهم باستغلال الظرف لصالحه - فاذن له(1).
واشتد الطعن على عثمان بعد خروج علي، ارسل عثمان إلى علي (علیه السلام) يساله التوسط مرة اخرى.وتكررت الوساطات، ومن المعلوم ان الوساطات حينما تتكرر تفقد بريقها، ويفقد الوسيط تاثيره.
كان عثمان تارة يطلب من علي التوسط، وتارة اخرى يطلب منه الخروج من المدينة والا يتدخل، لذا نجده يجيب ابن عباس حينما جاءه برسالة من عثمان، وهو محاصر في بيته، يساله الخروج من المدينة:
«يا بن عباس، ما يرىد عثمان الا ان يجعلني جملا ناضحا بالغرب، اقبل وادبر! بعث إلى ان اخرج، ثم بعث إلى اقدم، ثم هو الآن يبعث إلى ان اخرج! واللّه لقد دفعت عنه حتى خشيت ان اكون آثما»(2).
والعبارة الاخيرة تهمنا للغاية: «واللّه لقد دفعت عنه حتى خشيت ان اكون آثما» ، لانها توضح تماما حقيقة المازق.
فمن ناحية هو يدافع عن الخليفة حتى لا تتورط الجماهير بهتك منصب الخلافة، وحتى لا ينفتح على الامة باب الفتن.
لكنه من ناحية ثانية يخشى من المبالغة في الدفاع عن الخليفة، الامر الذي قد يعد دفاعا عن امام جائر وركونا إلى ظالم، وخذلانا لامة مظلومة فبدل ان يكون ماجورا في وساطته، يصبح آثما.
وانصافا لعلي لابد ان نقول: لم يقف احد مدافعا عن عثمان كعلي (عليه السلام)، حتى اولئك الذين طالبوا بدمه بعد مقتله، حتى طلحة والزبير وعائشة، بل حتى مروان ومعاوية.لقد كان موقف الفريق الأول يتمثل في استثارة الجماهير وتهييجهم، فطلحة والزبير وعائشة(3)، كل واحد منهم، حرض الجماهير على عثمان. ومروان كان
ص: 179
يحرض عثمان على عدم التنازل للجماهير(1) ،ومعاوية تباطأ في نجدة عثمان ليقع الثوار في المحظور.
في الفصل القادم سوف نسلط الضوء على وضع المسلمين لحظة مقتل عثمان وتسلم الإمام علي (علیه السلام) الخلافة،كما سنتحدث عن التغيرات التي طرأت على فئة وجهاء المهاجرين،ثم حرب الجمل ومضاعفاتها،وتأثير ذلك في انكسار شوكة قريش لمصلحة بني أمية.
الخلاصة:عرفنا الآن أهم مكونات شخصية الجماهير الثائرة ثقافية وقبلية واقتصادية،وأن هؤلاء كانوا يمثلون جيلا جديدة لم يحظ بتربية ثقافية وروحية ومعنوية في حياة الخلفاء الثلاثة الذين سبقوا الإمام عليا (علیه السلام)،وأنهم كانوا يشعرون بالغبن،وأن قريشا قد ظلمتهم،وانتهكت كرامتهم،وسلبتهم حقوقهم، لأن المعيار الذي وضع عمر بن الخطاب في توزيع العطاء،جعل الثروة تتراكم في يد قریش العدنانية(من مكة)،على حساب باقي العرب من قحطان، كالأنصار من أهل المدينة،وأجناد العراق الذين كانوا وقود الفتوحات الكبرى. إذن الجماهير الثائرة في غالبيتهم من قحطان،والشلطة والمال بید قریش العدنانية....وفي طريقها لبني أمية. وعرفنا مدى استشراء الفساد الاداري والمالي-والأهم من ذلك الفساد القيمي والديني-في أواخر حياة عثمان نتيجة أخطاء
ص: 180
قاتلة ارتكبها هذا الأخير،الأمر الذي أدى إلى قتله،والتفاف الجماهير الغاضبة والثائرة حول الإمام علي (علیه السلام).
نعم،دراسة فتنة مقتل عثمان،بالغة الأهمية،لأن الصورة لن تتضح إلا إذا عرفنا بالضبط حقيقة موقف الإمام علي (علیه السلام) من تلك الفتنة.فأكثر الفتن اللاحقة، كان سببها ما قام به بنو أمية من خلط للأوراق،استطاعوا من خلالها التسلل إلى الشلطة،ابتداء من معاوية،مرورا بيزيد الذي ارتكب فاجعة كربلاء. وسنلمس بوضوح التوظيف المستمر المقتل عثمان ومنع الماء عنه،لقتل الإمام الحسين (علیه السلام) ومنع الماء عنه.لكن كيف استطاعوا خلط الأوراق؟وكيف استطاعوا إرباك الاحة؟سنحاول في الفصل القادم الإجابة عن هذا السؤال.
ص: 181
تحدثنا في الفصل الماضي عن فترة حكم عثمان،وكيف تطورت الأمور بشكل دراماتيكي إلى أن وقع ثوار العراق ومصر في المحظور،وقتلوا الخليفة الثالث عثمان بن عفان،بعد تحريض الصحابة للثوار،وتحدثنا عن موقف الإمام علي (علیه السلام) الحرج من تلك الفتنة.
نريد الآن أن تحلل وضع المسلمين لحظة مقتل عثمان واستلام الإمام علي (علیه السلام) للخلافة،ثم نتحدث بعد ذلك عن التحول الذي طرأ على فئة وجهاء المهاجرين،وكيف بدت هذه الفئة تتجه أكثر فأكثر إلى الأفول والضعف.
تحليل وضع المسلمين آنذاك:
1) مجد شحنة معنوية
يقول الشهيد السيد محمد باقر الصدر(قده):حينما طالع تاريخ الصحابة في صدر الإسلام،سوف تبهرنا أنواژهم في المجال الروحي والفكري والنفسي، في مجال الجهاد والتضحية.لقد قدمت هذه الأمة من التضحيات-في سبيل رسالتها-ما لم تقدم مثله أي أمة من أمم الأنبياء قبل رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،الإيثار والتآخي الذي شاع بين المهاجرين والأنصار،التسابق على الشهادة،لقد تفاعلوا وانصهروا،فرسموا أروع صور الضحية والفداء.
إلا أن هذه الحالات كانت على ما يبدو مجرد شحنة معنوية وطاقة حرارية، كانت تمتلكها الأمة من لقاء قائدها العظيم،ولم تكن قائمة على أساس متين من الوعي الحقيقي للرسالة العقائدية.نعم،كان رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)و يمارس عملية توعية الأمة-هذه العملية التي كانت مضغوطة-لكن ما أنجز في هذه العملية هو إعطاء الأمة شحنة معنوية وطاقة حرارية في الإيمان بدرجة كبيرة جدا، وكان يفترض أن ستكمل هذه العملية،بعد
ص: 182
وفاته (صلی اللّه علیه واله)و مباشرة،مع خلافة الإمام علي (علیه السلام)(1) .
هذه الامة التي عاشت مع اكمل قائد للبشرية، اكتسبت هذه الطاقة الهائلة من اشعاع الرسول (صلی اللّه علیه واله)، فصنعت البطولات والتضحيات التي يقل نظيرها في تاريخ الانسان.
هذه النماذج الرفيعة انما هي نتاج هذه الطاقة الحرارية التي جعلت الامة الاسلامية تعيش ايام الرسول (صلی اللّه علیه واله) محنة العقيدة والصبر، وتتحمل مسؤولية هذه العقيدة بعد وفاته (صلی اللّه علیه واله)، هذه هي طاقة حرارية وليست وعيا، لذا يجب ان نفرق بين الطاقة الحرارية و الوعي.
الوعي:عبارة عن الفهم الفؤال الإيجابية التي يتأل،ويستأصل جذور المفاهيم الجاهلية الشابقة استئصالا كاملا.اما الطاقة الحرارية:فهي عبارة عن توهج عاطفي
حاز،بشعور قد يبلغ في مظاهرو نفس ما يبلغه الوعي في ظواهره،فيتحير المراقب،بحيث يصعب عليه التمييز بين الأمة التي تحمل طاقة حرارية،وأمة تتمتع بذلك الوعي،إلا بعد التبصر.
إلا أن الفرق بين الأمة الواعية والأمة التي تحمل الطاقة الحرارية كبير، فإن الطاقة الحرارية بطبيعتها تتناقص بالتدريج بالإبتعاد عن مركز هذه الطاقة الحرارية.
والمركز الذي كان يمون الامة بهذه الطاقة الحرارية هو شخص رسول اللّه (ص) القائد. فكان طبيعياً ان تصبح طاقة الأمة بعده في تناقض مستمر، حال الشخص الذي يتزود من الطاقة الحرارية للشمس والنار، ثم يبتعد عنهما، فإن هذه الحالة تتنافص عنده بإستمرار.هكذا كان حال المسلمين بعد وفاة رسول اللّٰه،وتاريخ الإسلام يثبت أن الأمة الإسلامية كانت في حالة تناقص مستمر من هذه الطاقة الحرارية التي خلفها رسول اللّٰه في أمته حين وفاته.
وهناك فرق آخر،هو أن الوعي لا تهه الانفعالات،فهو يصمد أمامها،أما الطاقة الحرارية فتهها الانفعالات الطاقة الحرارية تبرز على سطح النفس البشرية، أما الوعي فهو ش غبش في أعماق هذه النفس.ففي حالة الانفعال،سواء أكان حزنا وألما،أم فرحة وانتصارة.في كلا الحالتين سوف يتفجر ما وراء الستار،ويبرز ما كان كامنة وراء هذه الطاقة الحرارية في الأمة المزودة بهذه الطاقة فقط. أما الأمة الواعية،فوعيها يتقوی على مر الزمن،كلما مر بها انفعال جدید،أكدت شخصيتها الواعية في مقابل هذا الانفعال،وصبغته بما يتطلبه وعيها من موقف(2) .
ص: 183
أقول:الشواهد على أن الأمة الإسلامية كانت تحمل مجرد شحنة معنوية وطاقة حرارية،ولم تكن تحمل وعيا مستنيراً مجتثاً الأصول الجاهلية فيها... شواهد كثيرة،ويكفي أن نتذكر بعض المواقف التي كان يرتد فيها المرء على الفور إلى القبيلة أو الفئة التي ينتمي إليها،فينادي:يا للمهاجرين،إن كان من المهاجرين،أو ينادي:يا للأنصار،إن كان من الأنصار.والحوادث التي وقعت للأمة بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وابتداء من خلافة عثمان على وجه الخصوص،تؤكد هذه المقولة.فمع ازدياد الفاصل الزمني عن وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،بدأت الصورة الإسلامية الناصعة تتغير،وبدأت ملامحها تتبدل،حيث اختلطت المعايير في أذهان عامة المسلمين،واختلط الحق بالباطل،وأصبح المعروف منكرة والمنكر معروفة،وفقدت الأمة زمام المبادرة،ولم تعد قادرة على التخطيط لمستقبلها.
وأكد لنا الإمام علي (علیه السلام) هذه الحقيقة عندما قال:«أيها الناس،إنا قد أصبحنا في دهر عنود،وزمن كنود،يعد فيه المحس مسيئة،ويزداد الظالم فيه ثوا،لا ننتفع بما علمنا،ولا نسأل عما جهلنا،ولا نتخوف قارعة حتى تحل بنا»(1) .
2)جيل جديد لم ينضج بعد
هناك نقطة أخرى لا بد أن نأخذها في الاعتبار في تحليل الواقع الإسلامي بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وهي أن ثمة جيلا جديدة بدأ يبرز على الساحة في عهد عثمان الطويل.هذا الجيل كثير منهم لم يوفق برؤية رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وصحبته،إما لصغر سنه،وإما لكونه الم يولد آنذاك بعد،فبات يعد من التابعين،وإما لدخوله في الإسلام بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وهؤلاء بمجموعهم أصبحوا يمثلون أكثرية الأمة.
هذا الجيل لم يعاصر الاسلام في بداياته، ولم يتعرف على الادوار التي لعبها رموز الجيل الطليعي، ولم يتشرف بالتزود حتى بالطاقة الحرارية من الرسول ( صلى اللّه عليه وآله) . كل ما عاصره، هو جيل الصحابة، يحكي له قصص ماض مجيد، ويفتخر بصحبته للرسول ( صلى اللّه عليه وآله)، لكن هذا الجيل - جيل الصحابة - كان يفقد بريقه ووهجه بالتدريج، بعدما تحلل من حياة الزهد، بعد فتح فارس والروم.
كان الجيل الجديد هو وقود الفتوحات الكبيرة، والجمهور المحتج على عثمان هو من
ص: 184
هذا الجل الجديد، الذي شارك في الفتوحات، وقدم التضحيات، لكن كان آخرون من الصحابة وابنائهم «ياخذون العطايا ولا يغزون في سبيل اللّه»(1) .
انه جمهور مظلوم، مضطهد، مستضعف لكن من ناحية اخرى، لم يتلق هذا الجيل تربية اسلامية سليمة، ولم يفتح عينيه على الصور الرائعة التي دشن من خلالها المسلمون عهدهم، ولم يتنفس هواء نقيا، وانما هو جيل تم اهماله لفترة طويلة من الزمن - تزید علی عقدين - وفتح عينيه على تطبيق معايير مزدوجة، وعلى مجتمع من الصحابة كل يدعي الفضيلة لنفسه، فاستوى لديه الصحابي المضحي، الذي كانت له سابقة استثنائية في الاسلام، بالصحابي الذي لم يسلم الا في وقت متاخر جدا، ممن شارك في حروب ضد الاسلام، ولم يدخل في الدين الا بعد ان قويت شوكته، واصبح امرا واقعا.
هذه الامة لم تترب على الائتمام بامام، يشبع حاجاتها الروحية والفكرية والنفسية، وانما وجدت امامها خليفة متحيزا لابناء عمومته، «يخضمون مال اللّه خضمة الابل نبتة الربيع »(2) -بحسب تعبير الإمام علي (علیه السلام)-فكانت النتيجة أن أصبح كل واحد إمام نفسه!
يقول الإمام علي (علیه السلام):«وما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلافي ججها في دينها!لا يقتون أثر نبي،ولا يقتدون بعمل وصي،ولا يؤمنون بغيب، ولا يعفون عن عيب،يعملون في الشبهات،ويسيرون في الشهوات،المعروف فيهم ما عرفوا،والمنكر عندهم ما أنكروا،مفزعهم في المعضلات أنفسهم، وتعويلهم في المهمات على آرائهم،كان كل امرئ منهم إمام نفسه،قد أخذ فيما بری بری ثقات،وأسباب محكمات»(3)
3)التشتت والاختلاف
الورة التي رسمناها للجيل الجديد،قد تنطبق على أكثر دیار الدولة الإسلامية،إلا أن الشام تختص بأمر إضافي.فبسبب ضعف الحكومة المركزية في عصر عثمان،استطاع معاوية في الشام أن ينشئ مظاهر ملكية مستقلة في الشام،لا تشبه الوضع السياسي في باقي الأقاليم،مما رشح نوعا من الانفصالية في الشام عن باقي أجزاء جسم الدولة الإسلامية.فالشام لم تعرف حاكمة مسلمة قبل معاوية بن أبي سفيان،وقبل أخيه يزيد،
ص: 185
وكانت قد أعطيت له صلاحيات استثنائية من قبل الخليفة الثاني،بدعوى أن هذا يمثل مظهر عزوجلال للإسلام في مقابل دولة القياصرة(1) .
الجيل الجديد في الشام لم يكن غير متلق لتربية إسلامية صحيحة فحسب، وإنما تلقى تربية مشوهة على يد معاوية.ولم يكن للإمام علي (علیه السلام)-ولا غيره من كبار الصحابة-أي رصيد أو قاعدة شعبية في ذلك الإقليم على الإطلاق، لأن هذا الإقليم عاش الإسلام من منظار آل أبي سفيان،ولم يسمع لعلي (علیه السلام)(2) .
أقول:سنرى بعض صور التربية المشوهة عندما نصل إلى حرب صفين.بل هذاالأمر يؤكده معاوية نفسه عندما قال لعمار بالمدينة:
إ بالشام مئة ألف فارس،ك يأخذ العطاء، مع مثلهم من أبنائهم وعبدانهم،لا يعرفون عليها ولا قرابته،ولا عمارة ولا سابقته،ولا الزبير ولا صحابته،ولا طلحة ولا هجرته،ولا يهابون ابن عوف ولا ماله،ولا يتقو سعدة ولا دعوته»(3) .
هذه العبارات عبر بصدق عن حال أهل الشام،وعلينا أن نتذگرها جيدة لنفهم الأحداث اللاحقة....لنفهم حرب صفين،وواقعة كربلاء،وما حدث بعد واقعة كربلاء عندما وصل أسارى أهل البيت (علیهم السلام) إلى الشام.
في مثل هذه الظروف،استلم الإمام علي (علیه السلام) الخلافة:فقدان عدد كبير من الصحابة لشحنتهم المعنوية وطاقتهم الحرارية،نشوء جيل جديد غير ناضج لم يتلق تربية روحية،وواقع مليئ بالتشتت والفوضى والاختلاف.
قبل أن نبدأ بسرد وتحليل الأحداث التي وقعت في عهد الإمام علي (علیه السلام)،نقف وقفة سريعة مع التحولات التي وقعت في تركيبة فئة وجهاء المهاجرين، التي كان بيدها زمام الأمور بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).ثم نأخذ فكرة عامة عن وضع الأمصار الكبرى آنذاك.
وجهاء المهاجرين...أين هم؟
إذا استقرأنا أسماء الشخصيات المهمة والمؤثرة في فئة وجهاء المهاجرين، نلاحظ ما
يلي:
ص: 186
أبو بكر:توفي
عمر:اغتيل-أبو
عبيدة بن الجراح:مات في الشام بالطاعون.
عثمان:قتل على يد ثوار العراق ومصر
عبد الرحمن بن عوف:مات غضبانا على عثمان موصية بأن لا يصلي عليه
سعد بن أبي وقاص:اعتزل العمل السياسي رغم إصرار ابنه عمر(1) على دخول حلبة المنافسة للوصول إلى الشلطة
طلحة بن عبيد اللّٰه والبير بن العوام:فتح عمر شهيتهما للخلافة عندما أدركهما
في الشورى السداسية.
ام المؤمنين عائشة:تدل على الخط لترجيح موقف طلحة والبير،وتشكل معهما تحالفة يمثل مصالح قریش.
نلاحظ من ذلك أن الأسماء الكبيرة-كأبي بكر وعمر وأبي عبيدة وعبد الرحمن
وسعد-لم يعد لها وجود اجتماعي.وهذا الحال فسح في المجال لاسمي طلحة و«البير»للتداول كاسمين مرشحين للخلافة كبديلين لعثمان.طبعا بالإضافة إلى الإمام علي (علیه السلام).
كما سنلاحظ بدء دخول أسماء الطبقة الثانية من أبناء وجهاء المهاجرين على الساحة،ممن لا يملكون ما يملك آباؤهم من رصيد تاريخي،ومن أبرزهم:عبد اللّٰه بن عمر»:الذي اعتزل العمل السياسي،لكن سيظل اسمه مطروحة للتداول،بل سيطره أبو موسى الأشعري بالفعل كبديل للإمام علي (علیه السلام) عند التحكيم، واعبد اللّٰه بن الزبير»:الذي سيكون له دور تحريضي أساسي في حرب الجمل ثم بعد ذلك في منافسة يزيد على الشلطة،بالإضافة إلى«محمد بن طلحة»:لكنه قيل مع والده في معركة الجمل،وعبد الرحمن بن أبي بكر»:لكن مشكلته أنه شهد بدرة وأحدة مع المحار،وتأخر فيدخولي الإسلام إلى صلح الحديبية.وشارك مع أخيه عائشة في معركة الجمل،ودفعت عائشة باسمو للخلافة عندما وجدت معاوية يرشح يزيد للخلافة،إلا أنه مات-كما سنرى- بیل موت معاوية بطريقة مريبة.
أما على مستوى بني هاشم فنلحظ بدء دخول اسم الإمام الحسن بن علي (علیه السلام)»
ص: 187
والإمام الحسين بن علي (علیه السلام)»بقوة على الساحة،كامتداد طبيعي لأبيهما الإمام علي (علیه السلام)،بل أيضا كامتداد لجدهما رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله).
الوضع في الأمصار الكبرى
من المفيد أيضا أن نتعرف على وضع الأمصار الكبرى عشية استلام الإمام علي (علیه السلام) الخلافة،وأهم الأمصار آنذاك في الحجاز:مكة والمدينة،وفي العراق:البصرة والكوفة،بالإضافة إلى الشام ومصر واليمن.
1.الوضع في المدينة ومكة:كانت تسود الحجاز حالة فوضى مع وجود ثوار العراق ومصر، خصوصا بعد مقتل عثمان،عندما تدفق الثوار والصحابة لمبايعة الإمام علي (علیه السلام)،وتخلف بعضهم عن ذلك،كعبد اللّٰه بن عمر وأسامة بن زيد وحسان بن ثابت ومحمد بن مسلمة.واقترح المغيرة بن شعبة وابن عباس إبقاء مال عثمان-أو معاوية على الأقل-برهة من الزمن إلى أن يستتب له الأمر، إلا أن الإمام عليا (علیه السلام) رفض هذا الاقتراح.وقام (علیه السلام) بترك الحجاز عند بلوغه خبر خروج طلحة والزبير إلى البصرة،وأمر على المدينة سهل بن حنیف،كما أمر على مكة ثم بن العباس.
والحجاز-بالمناسبة-فقيرة من حيث المال والجند،في مقابل غني العراق بالمال والجند.فالجند بعد قيامهم بفتح فارس،استقروا بالبصرة والكوفة،وكانت إيرادات بیت المال في هذين المصرين مرتفعة جدة.لذا عندما فگر طلحة والزبير في الانقلاب على الإمام علي (علیه السلام) خرجا إلى البصرة،وعندما أراد الإمام علي (علیه السلام) مواجهتهما خرج إلى العراق.
2.الوضع في البصرة والكوفة:ولي الإمام علي (علیه السلام) على البصرة عثمان بن حنيف،فبايع له الجمهور وقالت طائفة:لا ثبایع حتى نقل قتلة عثمان.وولي على الكوفة عمار بن شهاب،فصده طلحة بن خویلد غضبة لعثمان،فرجع إلى الإمام علي (علیه السلام)،ثم كتب أبو موسى الأشعري-الذي كان واليا على الكوفة من قبل عثمان-بمبايعة أهل الكوفة إلا القليل منهم.
3.الوضع في الشام:كان مستقرة تماما لمعاوية،لكنه (علیه السلام) رغم ذلك ولي عليها:
سهل بن حنيف الذي عاد بعد أن تلقته خيل معاوية،ثم أمره الإمام علي (علیه السلام) على المدينة كما أشرنا.
ولمعرفة وضع الشام علينا أن نتذكر كلمة معاوية:«إن بالشام مئة ألف فارس، كل يأخذ العطاء،مع مثلهم من أبنائهم وعبدانهم،لا يعرفون عليها ولا قرابته، ولا عمارة ولا
ص: 188
سابقته،ولا الزبير ولا صحابته،ولا طلحة ولا هجرته،ولا يهابون ابن عوف ولا ماله،لا يتقون سعدة ولا دعوته»(1) .
4.الوضع في مصر:كان عمرو بن العاص والية عليها ثم عزله عثمان،وبعد مقتله ولى الإمام علي (علیه السلام) على مصر قیس بن سعد بن عبادة،فبايع له الجمهور وقالت طائفة من أهل خربتا(2) :لا تبايع حتى نقتل قتلة عثمان.حاول معاوية استمالة قيس،لكن عندما فشل أشاع ميله له،وتذكر بعض الأخبارأن الإمام عليا لي بدأ يشك في وضع قيس.في المقابل تعاطى قيس مع أهل خربتا بطريقة عزت شكوك الإمام علي لي فيه،وعندما طلب الإمام علي (علیه السلام) من قيس محاربة أهل خربتا،لم يسعة الاستجابة لذلك،وطلب من الإمام علي (علیه السلام) عزله،فعزله(3) لي وعن مكانه محمد بن أبي بكر،ثم بعد ظهور نتيجة التحكيم خرجت الأمور في مصر عن السيطرة(4) ،فاضطر الإمام علي (علیه السلام) لعزل محمد وتعيين مالك الأشتر على مصر.وبعد شهادة مالك الأشتر ومحمد بن أبي بكر،خرجت مصر على سلطة الإمام علي (علیه السلام)،وصارت تحت سيطرة معاوية.
5.الوضع في اليمن:ولي الإمام علي (علیه السلام) على اليمن عبيد اللّٰه بن عباس،وظل الأمر مستقرة فيها إلى ما بعد حرب صفين وظهور نتيجة التحكيم وبدء غارات معاوية،وسيصل إليها بسر بن أرطاة بأوامر من معاوية،ليأخذ البيعة له من أهلها،والذي سيرتكب مجازر مروعة بحق شيعة علي (علیه السلام) أدمت قلب الإمام علي (علیه السلام) قبل أن يدمي أشقى الأولين والآخرين رأسه (علیه السلام).
ونلحظ في ذلك أن الوضع في الحجاز واليمن ومصر كان مستتبا تقريبا للإمام علي (علیه السلام)،بل حتى وضع العراق كان مستتبة له (علیه السلام) قبل وصول طلحة والبير إليها،بخلاف الشام التي كانت خارجة على السيطرة ابتداء.
كما نلحظ أن الإمام عليا (علیه السلام) قام بتولية الأنصار وبني هاشم،وهما الفئتان اللتان
ص: 189
حرمنا من المناصب العليا بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)...فهل بن حنيف الأنصاري على المدينة،وثم بن العباس على مكة،وعثمان بن حنيف الأنصاري على البصرة، وقيس بن سعد بن عبادة الأنصاري على مصر، وعبيد اللّٰه بن عباس على اليمن،ثم عبد اللّٰه بن عباس على البصرة بعد الجمل.
علي (علیه السلام)حاكماً:(35-40هج)(1)
قلنا فيما سبق إن الجمهور الهائج المحتج على عثمان،القادم من الكوفة ومصر،لم يكن يعرف الإمام علية (علیه السلام)حق المعرفة.لم يكن ينظر إليه إلا بوصفه ابن عم رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)،وأقرب الناس إليه.صحابي جليل،لم تلوثه الدنيا بزخارفها-كما لوثت كثيرة من الضحابة-كانوا ينظرون إليه على أنه بدیل ملائم لعثمان، متفهم لمشاعرهم،ومتحس لآلامهم ومظلوميتهم.لم يكن ينظر إليه على أنه المنصوب من قبل اللّٰه ورسول (صلی اللّه علیه واله)،بل ربما لم ينظر إليه حتی كمرشح منافس لأبي بكر وعمر(2).لقد كانت مشكلتهم مع عثمان،والمرة الملتفة حوله، ولم يكن همهم إلا إزاحة هذا الكابوس الذي جثم على صدورهم.
بمجرد أن انتهى الجمهور الهائج من تصفية عثمان،هجموا على دار الإمام
علي (علیه السلام) يطالبونه بقبول البيعة.ويصف الإمام علي (علیه السلام) هذا الموقف بقوله:
فتد اگوا(=تزاحموا)علي تداك الإبل الهيم(=العطاش)یوم ورودها(=شربها
ص: 190
الماء)،وقد أرسلها راعيها، ولعت مثانيها(=انفلت حبلها التي تعقل به)،حتى ظننت أنهم قاتلي،أو بعضهم قاتل بعض لدي»(1) .
إنه لموقف مخيفة حقا:جمهور هائج،يموج غضبا،يتطاير شررة،إلى درجة أن
علية (علیه السلام) ظن أن الشرر قد يطاله شخصية.ويصف الموقف في خطبة الشقشقية:
فما راعني إلا والناس-كعرف الضبع(=ما كثر على عنق الضبع من الشعر كناية عن كثرة الازدحام)-ينثالون(=يتابعون مزدحمين)علي من كل جانب،حتى لقد وطيء الحنان،وشق عطفاي،مجتمعين حولي كربيضة الغنم»(2) .
ماذا كان موقف الإمام علي (علیه السلام)؟لقد رفض البيعة،وقال لهم:
«دعوني و التمسوا غيري فإنا مستقبلون أمرا له وجوه و ألوان لا يقوم له القلوب و لا تثبت عليه العقول و إن الآفاق قد أغامت و الحجة قد تنكرت و اعلموا إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم و لم أصغ إلى قول القائل و عتب العاتب و إن تركتموني فأنا كأحدكم و لعلي أسمعكم و أطوعكم لمن وليتموه أمركم و أنا لكم وزيرا خير لكم مني أميرا»(3) .
لاحظ..أنه لا يؤكد على أن قبول البيعة-إن تم-فهو مشروط بأن يقرر ما يمليه عليه ضميره،وما يراه صواب،ولن يتأخر في اتخاذ القرارات المصيرية عند رأي هذا أو ذاك،لأن الوضع لم يعد يتحمل أي تأخير،ولن تكون تلك القرارات إلا بمثابة إنقاذ ما يمكن انقاه.فإن قبلتم الشرط فهو،وإلا اتركوني وسأكون أطوعكم لمن وليتموه أمركم.
وينقل ابن قتيبة أن عليا (علیه السلام) رفض بيعة الجماهير الغاضبة،على أساس أنهم ليسوا من أهل الحل والعقد،قائلا لهم:«ليس ذلك لكم،إنما هو لأهل الشورى وأهل بدر،فمن رضي به أهل الشورى وأهل بدر فهو الخليفة، فنجتمع وننظر في هذا الأمر»،فانصرفوا عنه،وكلم بعضهم بعضا،فقالوا:«يمضي قتل عثمان في الآفاق والبلاد فيسمعون بقتله،ولا يسمعون أنه بويع لأحد بعده، فيثور ك رجل منهم في ناحية،فلا نأمن أن يكون في ذلك الفساد، فارجعوا إلى علي،فلا تتركوه حتى يبايع»
وبعد إصرار شديد من الجماهير،وبعد أن اجتمع كبار الصحابة في المسجد،بایع
ص: 191
الناس الإمام علي (علیه السلام)،وكان أول من صعد المنبر طلحة(1)،فبايعه،وكانت أصابعه شلاء،فتطير منها علي ليلا،فقال:ما أخلقها أن تنكث،ثم بايعه البير وسعد، وأصحاب النبي- (صلی اللّه علیه واله)-جميعا(2)».
ما أريد التأكيد عليه هو المشروعية التامة لبيعة الإمام علي علي،التي لم تشبها أي شائبة،بل لعلها أكثر البيعات شعبية،حيث أجمع عليها الغالبية الساحقة من الصحابة وعامة الناس.
لقد كان الإمام علي غير واضحة صريحة وهو يستشرف المستقبل،مدركة للتحديات التي ستواجه أصحابه،فقد قال عندما بويع:«ألا وإن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث اللّٰه نبيه صلى اللّٰه عليه وآله،والذي بعثه بالحق، لبلبئين(=لتخلطن)بلبلة،ولغرب(=لثمژ كما يميز الأقيق عند الغربلة من نخالته) غربلة،ولشاطئ سوط القدر(=كما يجعل شيئان في قدر ثم يضربان بقوة ليختلطا)،حتى يعود أسفلم أعلاكم،وأعلام أسفلگم،وليسبق سابقون كانوا قصروا،ليقصر سباقون كانوا سبقوا.واللّٰه ما كتم وشمة(=كلمة)،ولا كذب كذبة ولقد تبث بهذا المقام وهذا اليوم»(3).
نعم،لقد أخبره رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) عن هذا المقام،فقد روى ابن عساكر في تاريخ دمشق،بطرق متعددة والحاكم في مستدركه،واللفظ للأول،عن أبي سعيد الخدري قال:خرج إلينا رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)وقد انقطع شسع نعله،فدفعها إلى علي (علیه السلام) يصلها،ثم جلس وجلسنا حوله دائما على رؤوسنا الطير،قال:إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتل على تنزيله،فقال أبو بكر:أنا هو يا رسول اللّٰه؟قال:لا،قال عمر:أنا هو یا رسول اللّٰه؟ قال:لا ولكنه خاصف النعل.قال:فأتينا علية (علیه السلام) بشره بذلك،فكأنه لم يرفع به رأسه،كأنه قد سمعه قبل(4).
ص: 192
نصيحة المغيرة بن شعبة للإمام علي (علیه السلام)
كتب المسعودي أن ابن عباس قال:قدم من مكة بعد مقتل عثمان بخمس ليال،فجئ عليا (علیه السلام) أدخل عليه،فقيل لي:عنده المغيرة بن شعبة،نجلس بالباب ساعة،فخرج المغيرة...ودخلت على علي (علیه السلام) وسلمت عليه...فقلت:أخبرني عن شأن المغيرة ولم خلا بك؟
قال (علیه السلام):جاءنی بعد مقتل عثمان بیومین فقال: أخلنی(=أريد أن أجلس معك في خلوة)،ففعلت فقال لي:إنّ النصح رخيص و أنت بقيّة النّاس و إنّي لك ناصح،و إنّي اشير عليك بردّ عمّال عثمان عامك هذا،فاكتب إليهم بإثباتهم على أعمالهم،فإذا بايعوك و اطمأنّ الأمر لك عزلت من أحببت و أقررت من أحببت.فقلت له:و اللّه لا اداهن في ديني و لا اعطي الدني في أمري.فقال:فإن كنت قد أبيت عليّ فانزع من شئت و اترك معاوية فإنّ لمعاوية جرأة،و هو في أهل الشام يسمع منه،و لك حجّة في إثباته كان عمر قد ولاّه الشام كلّها.فقلت له:لا و اللّه لا أستعمل معاوية يومين أبدا.فخرج من عندي على ما أشار به،ثمّ عاد اليوم فقال لي:إنّي أشرت عليك بما أشرت وأبيت عليّ،ثم فنظرت في الأمر فإذا أنت مصيب،لا ينبغي لك أن تأخذ أمرك بخدعة،و لا يكون في أمرك دلسة.
فقال ابن عباس:فقلت له:أمّا أوّل ما أشار به عليك فقد نصحك، و أمّا الآخر فغشّك،و أنا اشير عليك بأن تثبت معاوية،فإن بايع لك فعليّ أن أقلعه من منزله.
قال عليه السّلام:لا و اللّه لا اعطيه إلاّ السيف.
رفض الإمام علي (علیه السلام) النصيحة المغيرةوابن عباس جعل المحققين في التاريخ يختلفون في تقدير الموقف الصائب...فبينما ذهب بعضهم إلى صواب موقف المغيرة وابن عباس وصحة تقديرهما للأمور،ذهب آخرون إلى صواب موقف الإمام علي (علیه السلام) وتقديره للأمور.
كتب العقاد:«تلك آراء المشيرين من ذوي الحنكة،وذلك ما عمل به الإمام
وارتضاه......فأيهما على خطأ وأيهما على صواب؟
ص: 193
ﺳﺒﻴﻞ اﻟﻌﻠﻢ ﺑﺬﻟﻚ أن ﻧﻌﻠﻢ أوﻻ: ﻫﻞ ﻛﺎن اﻹﻣﺎم ﻣﺴﺘﻄیعاً أن ﻳﻘﺮ ﻣﻌﺎوﻳﺔ ﻋﻤﻠﻪ. ﺑﺎﻟﺸﺎم؟ وأن ﻧﻌﻠﻢ ﺑﻌﺪ ﻫﺬا: ﻫﻞ ﻛﺎن إﻗﺮاره أدﻧﻰ اﻟﺴﻼﻣﺔ واﻟﻮﻓﺎق ﻟﻮ أﻧﻪ اﺳﺘﻄﻴﻊ؟
وعندنا أن الإمام لم يكن مستطيع أن يقر معاوية في عمله لسبین:
اولهما انه اشار على عثمان بعزله اكثر من مرة ، وكان اقراره واقرار امثاله من الولاة المستغلين اهم المآخذ على حكومة عثمان،في رأي على وذوي الصلاح والاستقامة بين الصحابة ، نكثيرأ ما اعتذرعنان من اقرارمعاوية بأنه من ولاة ئمربن الخطاب...فكان علي لا يقبل هذا العذر،ولا يزال يقول له:«إنه كان أخوف لعمر بن الخطاب من غلامه يرفا...ولكنه بعد موت عمر لا يخاف».
فاذا اقره وقد ولي الخلافة ، فكيف يقع هذا الاقرار عند اشياعه ؟ الا يقولون انه طالب حكم لا يعنيه اذا وصل الى بغيته ما كان يقول وما سيقوله الناس ؟واذا هو اعرض عن رأيه الاول ، فهل في وسعه ان يعرض عن آراء الثائرين الذين بايعوه بالخلافة لتغيير الحال والخروج من حكم عثمان الى حكم جديد؟
....وندع هذا،ونزعم أن إقرار معاوية بحيلة من الحيل مستطاع...فهل هو على
هذا الزعم أسلم وأدني إلى الوفاق؟
كلا...على الأرجح،بل على الجحان الذي هو في حكم التحقيق..أن معاوية لم يعمل في الشام عمل وال يظل واليًا طول حياته، ويقنع بهذا النصيب ثم لا يتطاول إلى ما وراءه، ولكنه عمل فيها عمل صاحب الدولة التي يؤسسها، ويدعمها له ولأبنائه من بعده … فجمع الأقطاب من حوله، واشترى الأنصار بكل ثمن في يديه، وأحاط نفسه بالقوة والثروة، واستعد للبقاء الطويل، واغتنام الفرصة في حينها … فأي فرصة هو واجدها خير من مقتل عثمان والمطالبة بثأره؟
....وإذا كان هذا موقف عليٍّ ومعاوية عند مقتل عثمان، فماذا كان عليٌّ مستفيدًا من إقراره في عمله وتعريض نفسه لغضب أنصاره لقد كان معاوية أحرى أن يستفيد بهذا من علي؛ لأنه كان يغنم به حسن الشهادة له وتزكية له في الولاية، وكان يغنم به أن يفسد الأمر على عليٍّ بين أنصاره، فتعلو حجته من حيث تسقط حجة الإمام»(1) .
علي (علیه السلام) وإجراءاته العاجلة
باشر الإمام علي (علیه السلام) بإجراء تحقيق فوري في مقتل عثمان؛فقد جاء (علیه السلام) بنفسه
ص: 194
إلى نائلة امرأة عثمان،وسألها عما اذا كانت تعرف قتلة عثمان، فقالت له: لا ادري، دخل عليه رجال لا اعرفهم، الا ان اري وجوههم، وكان معهم محمد بن ابي بكر، فدعا علي (علیه السلام)محمدا، فساله عما ذكرت امراة عثمان، فقال محمد: صدقت، واللّه قد دخلت عليه، فذكر لي ابي، فقمت عنه، وانا تائب الي اللّه، واللّه ما قتلته، ولا امسكته، فقالت: صدق(1) .
نذكر هذا حتي يتضح ان عليا (علیه السلام)لم يتوان في البحث عن قتلة عثمان، لكن من الواضح ان من طبيعة حالات الهيجان الشعبي - خصوصا اذا كانت تعبر عن حالة من الانفجار العفوي - ان يقوم البعض بتصرفات لا واعية، فتجدهم بعد ان يتفرقون، كل يلقي المسؤولية علي غيره، ولا يعرف الجاني الحقيقي.لا نقول هذا لتبرير تصرف الجماهير الغاضبة، وانما نصف حالة نفسية تعيشها الجماهير الغاضبة عادة، حالة اشبه ما تكون بالغوغاء، الذين يصفهم الامام علي (علیه السلام): «هم الذين اذا اجتمعوا غلبوا، واذا تفرقوا لم يعرفوا»(2) .
مضافاً إلى ذلك أن هدير الجماهير لم يكن يسمح لعاقل أن يستعجل في مواجهته،وهم على ما هم عليه من الانفعالي والغضب،فكان لا بد أن تهدأالأمور قليلا حتى يتسنى للخليفة الجديد التعرف على القتلة،وإنزال القصاص العادل بهم.
إذن،الإمام علي ظل استعجل إجراء التحقيق،لكن لم يستعجل القصاص.وحينما طلب بعض الصحابة عليا بمعاقبة قتلة عثمان اجابهم قائلا: «يا اخوتاه، اني لست اجهل ما تعلمون، ولكن كيف لي بقوة والقوم المجلبون علي حد شوكتهم، يملكوننا ولا نملكهم! ها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، والتفت اليهم اعرابكم، وهم خلالكم يسومونكم ما شاؤوا، وهل ترون موضعا لقدرة علي شي ء تريدونه؟ ان هذا امر جاهلية،وإن لهؤلاء القوم مادة (=امتدادات في العراق ومصر)......فاصبروا حتى يهدأ الناس، وتقع القلوث مواقعها...)(3) .
كما قام الإمام علي (علیه السلام) بتطهير جهاز الدولة،وعزل ولاة عثمان الذين سروا مقدرات المسلمين لمصالحهم الخاصة،وعزل معاوية بن أبي سفيان، وأقصى الانتهازيين
ص: 195
وأبعد الطامعين،وأمم الأموال المختلسة من بيت المال،ووضع يده على القطائعالتي أقطعها عثمان لذوي رباه،وكان يقول:«واللّٰه لو وجده قد تزوج به النساء،ومم به الإماء لرده(1) ،وعمل على إعادة الهرم المقلوب،فساوي في توزيع العطاء،ولم يفضل لا مهاجرين على أنصار،ولا هاشمية على غير هاشمي،ولا عربية على أعجمي،ولا عدنانية على قحطاني،وتعامل مع ولايه بحزم ومراقبة دؤوبة مستمرة،وفزعت قریش وأصابها الأهول،وأيقنت أن مصالحها باتت مهددة.
وعندما غويب على التسوية في العطاء،كان لا يقول (علیه السلام):«أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن ولي عليه؟!واللّٰه ما أطوژ به(=لا أحوم حول ذلك،يعني لا آمر به ولا أقاربه)ما سمر سمير(=مدى الدهر)،وما أم نجم في السماء نجما (=طالما هناك قوانين فلكية تجبر نجمة على السير في مسار نجم آخر)!لو كان المال لي لسؤي بيتهم،فكيف وإما المال مال اللّٰه....»(2) .
موقف الإمام علي (علیه السلام) من الممتنعين عن بيعته
امتنع عدد محدود من الصحابة عن مبايعة الإمام علي (علیه السلام)،أو طلب إعفاءه من الخروج في أي حرب معه،فماذا كان موقف الإمام علي (علیه السلام) من أولئك الذين امتنعوا عن بيعته؟أو لم يرغبوا في السير معه في حروبه؟كيف تعامل معهم؟هل أجبرهم على البيعة؟هل حاربهم على رفضهم لبيعي؟أم تركهم وشأنهم؟
ينقل ابن الأعثم في الفتوح أن عمار بن یاسر أقبل إلى علي (علیه السلام) فقال:يا أمير المؤمنين،إن الناس قد بايعوك طائعين،غیر كارهین،فلو بعثت إلى أسامة بن زيد،وعبد اللّٰه بن عمر،ومحمد بن مسلمة،وحسان بن ثابت، وكعب بن مالك،ليدخلوا فيما دخل فيه الناس من المهاجرين والأنصار؟
فقال علي (علیه السلام):إنه لا حاجة لنا فيمن لا يرغب فينا.
فقال له الأشتر:يا أمير المؤمنين،إننا وإن لم يكن لنا في السابقة ما لهم،فإنهم ليسوا بشيء أولى من أمور المسلمين ما،وهذه بيعة عامة،الخارج منها طاعن علينا،فلا تدعهم أو يبايعوا،فإن الناس إنما هم باللسان،وغدة بالشنان.....
ص: 196
فقال (علیه السلام):يا مالك حتي ورأيي،فإني أعرف بالناس منك(1).إذن الصحابة الذين بايعوا الإمام عليا (علیه السلام)،بايعوه طائعين غير مكرهين،ومن امتنع منهم عن مبايعته لم يكرهه (علیه السلام) على ذلك،ولم يستجب (علیه السلام) لضغوط أصحابه المقربين الإجبار الممتنعين.
الخلاصة:حللنا في هذا الفصل وضع المسلمين لحظة مقتل عثمان واستلام الإمام علي (علیه السلام) الخلافة،وعرفنا أن ما كان يحمله أغلب الصحابة آنذاك لم يكن سوى شحنة أو طاقة تشبه الوعي في أعراضها،لكنها مجرد شحنة معنوية وطاقة حرارية،وعرفنا أن ثمة جيلا جديدة غير ناضج كان قد نشا،لم يحظ حتى بتلك الشحنة والطاقة،وأن وضع المسلمين كان يسوده التشتت والاختلاف.كما تناولنا أفول نجم فئة وجهاء المهاجرين،ودخولالطبقة الثانية منهم الاحة.وتناولنا الوضع في الأمصار الكبرى،ثم أخيرة تحدثنا عن حكم الإمام علي (علیه السلام) وملابسات بيعنه والإجراءات العاجلة التي اخذها،موقفه من الممتنعين عن بيعته.
وعرفنا أن عثمان بن عفان عندما قتل(2)،كانت أوضاع المسلمين تموج اضطراب.فما كاد الإمام علي (علیه السلام) يستلم زمام الشلطة،وتتحقق له بيعة عامة،حتى اضطر للدخول في ثلاث حروب طاحنة متتالية في أقل من خمس سنوات:حرب الجمل(3)،مع أولئك الذين بايعوه ثم نكثوا بيعته،بذريعة الطلب بدم عثمان،ويأتي على رأس الناكثين طلحة بن عبيد اللّٰه والبير بن العوام وساقوا معهم أم المؤمنين عائشة.ثم حرب صفين(4) في مقابل
ص: 197
معاوية بن أبي سفيان الذي سيطر على بلاد الشام ورفض مبايعة الإمام علي (علیه السلام) بذريعة الطلب بدم عثمان.وأخيرة حرب النهروان(1) ضد الخوارج الذين ضغطوا على الإمام علي (علیه السلام) لوقف حرب صفين وقبول الحكيم ثم كروه لقبول الحكيم وحاولوا الضغط عليه مرة أخرى لاستئنافي الحرب ضد معاوية قبل انتهاء أمد الهدنة.
لنبدأ أولا بحرب الجمل.
ص: 198
في الفصل السابق،تحدثنا عن ظروف وملابسات استلام الإمام علي (علیه السلام) الخلافة،وقلنا إنه اضطر لدخول ثلاث حروب طاحنة على التوالي في أقل من خمس سنوات.في هذا الفصل نريد أن نستعرض ملابسات وظروف حرب الجمل، وأسبابها،وبيان لسان حال كل من الناكثين(طلحة والزبير)،وبني أمية (كمعاوية ومروان)،بالإضافة إلى الإمام علي (علیه السلام)،إرهاصات هذه الحرب.
حرب الجمل(36هج)
شبت الفتنة بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان،عندما قام بعضهم بتحميل الإمام علي (علیه السلام) مسؤولية ما جرى،رغم الجهود الكبيرة التي بذلها (علیه السلام) لتفادي وقوع الفتنة ومقتل الخليفة.وبدأ الذين اهموه بذلك بتحريض الناس عليه (علیه السلام) والتمرد على خلافت ونكث بيعته،أملا في انتزاع الحكم منه،أو إلجائي إلى تقديم بعض التناژلات.ومما ساعد على استجابة بعضهم لهذا التحريض،اتباع الإمام علي (علیه السلام) سياسة صارمة في تولية الإمارات.
لم نكث الناكثون البيعة؟
بايع طلحة والزبير علياً (علیه السلام) بشكل واضح لا لبس فيه،إذن لم نكثا البيعة؟
جذور نكث البيعة تجدها في الشورى الشداسية التي أرسى دعائمها محمر،حتى أن معاوية بن أبي سفيان كان يصرح بأن الشورى الشداسية هي أشد منعطفات الانحراف أثرة في تشتيت أمر المسلمين،فقد نقل ابن عبد ربه في العقد الفريد»:
إن معاوية قال لابن حصين:أخبرني،ما الذي شئ أمر المسلمين،وفرق أهواءهم،
وخالف بينهم؟
قال:نعم،قتل الناس عثمان.قال معاوية:ما صنعت شيئة(أي لم تعط الإجابة الصحيحة والتحليل الدقيق).
ص: 199
قال:فمسير علي إليك وقتاله إياك.
قال معاوية:ما صنعت شيئا.
قال:فمسير طلحة والزبير وعائشة وقتال علئ إياهم.
قال معاوية:ما صنعت شيئا.قال:ما عندي غير هذا يا أمير المؤمنين.
قال معاوية:فأنا أخبرك،إنه لم يشتت بين المسلمين،ولا فرق أهواءهم،ولا خالف بينهم،إلا الشورى التي جعلها غمر إلى ستة نفر...فلم يكن رجل منهم إلا رجاها لنفسه،ورجاها القومي،وتطلعت إلى ذلك نفشه،ولو أن عمر استخلف عليهم كما استخلف أبو بكر ما كان في ذلك اختلاف(1) .
يعني لو أن عمر استخلف عثمان مباشرة،دون أن يدخل المسلمين في حيرة ودوامة الشورى الشداسية،لوصلت الخلافة بسلاسة إلى بني أمية، وانتقلت من عثمان إلى دون أي تعقيدات.لكن ما أطلق طموح طلحة والزبير للتطلع للخلافة،وفسح في المجال للأخذ والرد وعقد الأمور علينا،هي الشورى التي شغلها عمر قبيل وفاته.
والسبب المباشر لنكث الناكثين للبيعة تجده في نص ينقله ابن قتيبة،يقول فيه:«إن الزبير وطلحة أتيا عليا (علیه السلام) بعد فراغ البيعة،فقالا:هل تدري على ما بايعناك؟..بايعناك على أنا شريكا في الأمر
فقال علي (علیه السلام):لا ولكن ما شريكان في القول والاستقامة،والعون على العجز
والأود...
وكان الزبير لا يشك في ولاية العراق،وطلحة في اليمن،فلما استبان لهما أن
علية (علیه السلام) غير موئيهما شيئة،أظهرا الشكاة.
فتكلم الزبير في ملأ من قريش،قال:هذا جزاؤنا من علي،ثمنا له في أمرعثمانی حتى أثبتنا عليه الذنب،وسبينا له القتل،وهو جالس في بيته وفي الأمر فلما نال بنا ما أراد،جعل دوننا غيرنا.
فقال طلحة:ما اللوم إلا أنا كنا ثلاثة من أهل الشوری،كره أحدنا وبايعناه
وأعطيناه ما في أيدينا،ومتعنا ما في يده،فأصبحنا قد أخطأنا ما رجونا»(2) .
ص: 200
إذن،كان طلحة والزبير يأملان أن يستعملهما الإمام علي (علیه السلام)على اليمن والعراق،وأن یشاركاه في يمنع القرار،ويكون الإمام علي (علیه السلام)واجهة لهما وواجهة لقريش،وحينما تبين لهما أنه لن يفعل،نكثا البيعة.ولم يكتفيا بذلك،بل ألبا الناس عليه،وهاجرا بصحبة عائشة إلى البصرة،وحرضا أهلها على قتاله.
ويبدو أنهما بادئ الأمر لم ینكثا البيعة علنا،وإنما عتبا على الإمام علي (علیه السلام) لترك مشورتهما، والاستعانة في الامور بغيرهما، وكان جوابه لهم: «لقد نقمتما يسيرا، وارجاتما كثيرا، الا تخبراني اي شيء كان لكما فيه حق دفعتكما عنه؟ ام اي قسم استاثرت عليكما به؟ ام اي حق رفعه إلى احد من المسلمين ضعفت عنه، ام جهلته، ام اخطات بابه؟ واللّه ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية اربة، ولكنكم دعوتموني إليها، وحملتموني عليها،فلما افضت الي نظرت الي كتاب اللّه و ما وضع لنا و امرنا بالحكم به فاتبعته و ما استسن النبي، صلي اللّه عليه و آله، فاقتديته، فلم احتج في ذلك الي رايكما و لا راي غيركما و لا وقع حكم جهلته فاستشيركما و اخواني من المسلمين و لو كان ذلك لم ارغب عنكم و لاعن غيركما...فليس لكما واللّه عندي و لا لغيركما في هذا عتبي. اخذ اللّه بقلوبنا و قلوبكم الي الحق و الهمنا و اياكم الصبر.»(1) .
وعندما نصح ابن عباس عليا (علیه السلام)، في ان يستعملهما علي البصرة والكوفة، لاسترضائهما، اجابه (علیه السلام): «لولا ما ظهر لي في حرصهما علي الولاية، لكان لي فيهما راي »(2) .
لقد فكر طلحة والزبير بمبرر لخروجهما من المدينة، ليهيئا نفسيهما للخطوة التالية، فاتيا عليا (علیه السلام)فقالا: يا اميرالمؤمنين، ائذن لنا في العمرة، فان تقم الي انقضائها رجعنا اليك، وان تسر تبعناك، فنظر اليهما علي (علیه السلام)، وقال: نعم، واللّه ما العمرة تريدان، وانما تريدان ان تمضيا الي شانكما، فامضيا(3) .
بعد ذلك خرجا الي البصرة، يحرضان اهلها عليه، ويعدان العدة للحرب، تحت مبرر الطلب بدم عثمان، واعانتهما علي ذلك عائشة.وقد اشرنا من قبل الي انهما - بالاضافة الي عائشة - كانا من اشد الناس تحريضا علي قتل عثمان! !(4)
ص: 201
لقد كانت حجة الناكثين واهية، وعندما حاول الزبير - مثلا - تبرير بيعته للامام علي (علیه السلام)، بانه بايع بيده، ولم يبايع بقلبه! اجاب (علیه السلام): «يزعم انه قد بايع بيده، ولم يبايع بقلبه، فقد اقر بالبيعة، وادعي الوليجة، فليات عليها بامر يعرف، والا فليدخل فيما خرج منه»(1).
هذا فيما يتعلق بطلحة والزبير.
أما بالنسبة إلى أم المؤمنین عائشة،فيذكر اليعقوبي في تاريخ أن السبب في وقوفها مع الناكثين أن عليا (علیه السلام) نقضها مما كان يعطيها عمر بن الخطاب،وصيرها أسوة بغيرها من نساء رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)(2).وهذا يعني أن الإمام عليا (علیه السلام) بعد وصوله إلى الشلطة،حرم عائشة من المزايا التي كانت تتمع بها، تماماكما حرم قریش من تلك المزايا،فتضررت مصالحها.
هذا طبعا بالإضافة إلى مشاعر سلبية خاضة كانت تحملها تجاه الإمام علي (علیه السلام)،وفي ذلك يقول (علیه السلام):«و أمّا فلانه فأدركها رأی النّساء،و ضغن غلا فی صدرها كمرجل القین(=قدر الحداد)،و لو دعیت لتنال من غیری ما أتت إلیّ لم تفعل،و لها بعد حرمتها الأولی و الحساب علی اللّه تعالی»(3).
قرر الإمام علي (علیه السلام) أن يصبر على ناكثي بيعيه،ما دام لم يؤثر ذلك في وحدة المسلمين.وقد أكد ذلك بقوله:«إن هؤلاء قد تمالؤوا(=اتفقوا وتعاونوا على سخطة(=بغض وكراهة)إمارتي،وسأصبر ما لم أخف على جماعتكم، فإنهم إن تمموا على فيالة(=ضعف)هذا الرأي،انقطع نظام المسلمين،وإنما طلبوا هذه الدنيا حدا لمن أفاءها اللّٰه عليه،فأرادوا رد الأمور على أدبارها، ولكن علينا العمل بكتاب اللّٰه تعالى،وسيرة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)والقيام بحقه،والنعش(=الرفع)لسنته»(4).
ص: 202
معاوية يدل على الخط
من جانب آخر،تحدث بعض المؤرخين عن رسالة تحريضية أرسلها معاوية إلى الزبير
ابن العوام يقول فيها:
«عبد اللّٰه البير أمير المؤمنين!من معاوية بن أبي سفيان...سلام عليك،أما بعد فإني قد بایعت لك أهل الشام،فأجابوا واستوسقوا كما يستوسق الجلب، فدونك الكوفة والبصرة،لا يسبقك إليها ابن أبي طالب،فإنه لا شيء بعد هذين المصرين،وقد بايعت لطلحة بن عبيد اللّٰه من بعدك،فأظهرا الطلب بدم عثمان، وادعوا الناس إلى ذلك،ولیكن منكما الجد و التشمير أظفركما اللّه و خذل مناوئكما »(1) .
الآن،نريد استعراض لسان حال الناكثين وبني أمية والإمام علي (علیه السلام). وأعني
ب«لسان الحال»،قراءتهم وموقفهم الذي نفهمه من ثنايا كلامهم وسلوكهم والظروف المحيطة بهم،والطريقة التي كانوا يفكرون بها.
لسان حال الناكثين وبني أمية والإمام علي (علیه السلام)
•الناكثون
لسان حال الناكثين هو كالتالي:صحيح أننا حضنا الناس ضد عثمان، لكن للضغط عليه،لا لقتله...أردنا الضغط عليه ليتنحي عن الخلافة أو يعيد زمام الأمور لقريش بنحو ما،بعدما تحيز كلية لبني أمية،ولم نكن نقدر أن الأمر يصل إلى قتله.نعم،لم نكن نريد قتل عثمان،لكن حتى لو قتل،فلا بأس في ذلك،إن كان قتله هو الضريبة التي يتعين دفعها لعودة زمام الأمور لقريش. فعودة الشلطة لقريش-كان بالنسبة إلينا-أولی من بقاء عثمان حيا.
ثم بعد قتله،بایعنا عليا (علیه السلام)،وا نترقب منه أن حجم بني أمية ويعيد زمام الأمور القریش،من خلال تنصيبنا في مناصب عليا،لكنه لم يفعل.
صحيح أنه حجم بني أمية،لكنه في المقابل أضر بمصالح و امتیازات فريش الكبرى التي كانت تتمتع بها بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)على عهد الخليفة الأول والثاني....وهذا الوضع غير مقبول،لأنه سيكوث لمصلحة الثوار والأنصار والقحطانيين عموما على حساب قریش العدنانية.
ص: 203
كان الخليفة الأول والثاني واجهة لقريش،ورفضنا بالأمس أن يكون عثمان واجهة البني أمية دون قريش،وكنا نتمنى اليوم أن يكون علي (علیه السلام)-كما كان الخليفة الأول والثاني-واجهة لقريش،لا أن يكون واجهة للمسلمين عموما، فيساوي بينهم في العطاء ويصادر امتیازات قريش ومكتسباتها التي حققتها في عهد الأول والثاني..
إذن الحل بتكاف قریش لمواجهة الإمام علي (علیه السلام).
•بنو أمية
لسان حال بني أمية هو التالي:قريش هي المتسببة في مقتل عثمان، لأنها لم تقبل سلطان بني أمية،وأرادت في المقابل أن تعيد اتجاه البوصلة لمصلحتها،فحرضت جماهير العراق ومصر،وجرأت الأنصار والقحطانيين،على عثمان وبني أمية،فأفسدت الأمر عليه،الأمر الذي أدى لقتله بطريقة بشعة.....والطريقة التي قتل فيها عثمان نموذجية،لكي نستفيد منها في استثارة العواطف وخلط الأوراق.
لكن الوضع الآن لا يسمح باتهام قریش،خصوصا أن من تبقى من وجهاء المهاجرين يريدون مواجهة الإمام علي (علیه السلام) لإعادة الشلطة لقريش، والخصم الحقيقي المشترك لقریش عموما وبني أمية بالخصوص هو علي (علیه السلام)،لأن بقاء الوضع على ما هو عليه يعني نهاية شلطان قريش وبني أمية على السواء،وبقاؤه بيد علي (علیه السلام) وبنيه من بني هاشم.
إذن لندعم مرحلية قريشا في صراعها ضد علي (علیه السلام)،ولننتظر نتيجة المعركة(كما فعل معاوية).بل ليدعم بعضنا هذه الحرب ويحارب في صف قريش في الظاهر،وليطعنها في الظهر(كما فعل مروان مع طلحة).
•الإمام علي (علیه السلام)
السان حال الإمام علي (علیه السلام) هو التالي:رغم أن قريشا سلبتني حقي بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله) إلا أني لم أنكث بيعة أي خليفة من الخلفاء الثلاثة الأوائل. ومع أن الخليفة الثالث تورط في تجاوزات كبيرة،مع ذلك،كنت أحاول أن أقوم مسيرته لمصلحة الثوار،دون أن أحرضهم عليه،ودون أن أشجعه على التمادي في ظلمهم.بخلاف قريش التي
حاربت عثمان وحرضت عليه،لأنه سلبها شلطانها ووضعه بيد بني أمية.
وقريش بعد أن تورطت في دم عثمان، تريد الآن أن تتنصل من المسؤولية، تريد أن
ص: 204
تحملني وتحمل الثوار مسؤولية قتل عثمان(1)....هي في البداية بايعتني وكانت تترقب أن أعيد إليها سلطائها،لكن عندما وجدت أني أعدل في العطاء، ولا أسير في توزيع العطاء بسيرة الخليفة الثاني،ووجدت أني نصب الأنصار وبني هاشم ولاة على الأمصار دونها،قلبت لي ظهر المجن،ونكثت البيعة، وألبت الناس علئ.وليس بمقدور الخصوم الإتيان بدليل واحد على توطي في دم عثمان،أو ارتكابي أي عمل يستحق نكث البيعة.
إن كانوا غير مقتنعين بي كخليفة،إذن لم بایعوني أصلا وأصروا على بيعتي في الوقت الذي كنت أقول للناس:دعوني والتمشوا غيري؟والآن ما داموا بایعوني،ألا
تلزمهم تلك البيعة من الناحية الشرعية والأدبية والأخلاقية؟
لماذا لا تريد قريش أن تلتزم قواعد اللعبة التي اخترعت قواعدها وفصلتها على مقاسها؟لم تلتزم بالأمس مفاد غدیر خم!ولا تريد اليوم أن تلتزم أصول اللعبة التي هي أسست قواعدها....ألا وهي البيعة بعد اجتماع شورى أهل الحل والعقد؟
خروج الناكثين من الحجاز إلى العراق
اجتمع الناكثون بمكة،وهرب مروان بن الحكم-مستشار عثمان الأول-من المدينة والتحق بهم في مكة.وحاولت عائشة استمالة بعض أمهات المؤمنين للخروج معها،وأرادت حفصة الخروج فأتاها عبد اللّٰه بن عمر وطلب إليها أن تقعد فقعدت(2)،وحاولت عائشة استمالة أم سلمة إلا أنها لم تفلح، بل سمعت منها كلاما قاسية وصريحاً(3).
ثم لما عزمت عائشة على الخروج إلى البصرة،طلبوا لها بعيرة يحمل هودجها،فجاءهم یعلی بن أمية(وهو الداعم المالي لحركة الناكثين)ببعيره المسمى«عسكراً»(4)وسمعت عائشة في طريقها نباح كلاب،فقالت:ما يقال لهذا الماء الذي نحن به؟
ص: 205
قالوا:الحوأب.
قالت:إنا لله وإنا إليه راجعون،ژوني ژوني،فإني سمع رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه واله)يقول وعنده نساؤه:«أيتكُنَّ ينبحها كلابُ الحوأب»!(وفي رواية:«إياك يا حميراء أن تكونيها»(1).
وعزمت على الرجوع،فأتاها(ابن أختها أسماء)عبد اللّٰه بن الزبير فقال:كذب من زعم أن هذا الماء الحوأب(2)،وجاء بخمسين من بني عامر فشهدواوحلفوا على صدق عبداللّٰه(3).
وعندما بلغ الإمام عليا (علیه السلام) خروج طلحة والزبير إلى البصرة لقتاله،قال:«قَدْ كُنْتُ وَمَا أُهَدَّدُ بالْحَرْبِ، وَلاَ أُرَهَّبُ بِالضَّرْبِ، وَأَنَا عَلَى مَا قَدْ وَعَدَني رَبِّي مِنَ النَّصْرِ.
وَاللّهِ مَا اسْتَعْجَلَ مُتَجَرِّداً(=كأنه سيف تجرد من غمده)لِلطَّلَبِ بِدَمِ عُثْمانَ إِلاَّ خَوْفاً مِنْ أَنْ يُطَالَبَ بِدَمِهِ، لاَنَّهُ مَظِنَّتُهُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْقَومِ أَحْرَصُ عَلَيْهِ مِنْهُ، فَأَرَادَ أَنْ يُغَالِطَ بِمَا أَجْلَبَ فِيهِ لِيَلْتَبِسَ الاَْمْرُ وَيَقَعَ الشَّكُّ.
وواللّٰه ما صنع في أمر عثمان واحدة من ثلاث:لئن كان ابن عفان ظالما-كما كان يزعم-لقد كان ينبغي له ان يوازر قاتليه او ينابذ(=يعارض ويقاتل) ناصريه ولئن كان مظلوما لقد كان ينبغي له أن يكون من المنهنهين عنه (=الزاجرين عن إتيانه)،والمعذرين فيه(=من يسوق مبررات مقنعة لأفعاله). ولئن كان في شك من الخصلتين،
ص: 206
لقد كان ینبغی له أن یعتزله و یركد جانبا(=عن القاتلين والناصرين)،و یدع النّاس معه فما فعل واحده من الثّلاث، و جاء بأمر لم یعرف بابه و لم تسلم معاذیره»(1) .
وعندما وصل طلحة والزبير إلى البصرة،واجههما أهل البصرة بكتبهما التحريضية التي كانوا قد كتبوها ضد عثمان،وكان من أولئك الذين واجهوهم عبد اللّٰه بن حكيم التميمي،وكان أهل البصرة يثيرون تساؤلا محرجة أمامهما:كنتما بالأمس تحرضانا ضد عثمان،واليوم جئتما إلينا للطلب بده؟!
وذكر بعض المؤرخين أن طلحة و الزبير كتبا للصحابي عثمان بن حنیف(والي الإمام علي (علیه السلام) على البصرة)أن أخل لنا دار الإمارة.ولما نزلا البصرة،قال عثمان:نعذر إليهما برجلين،فدعا عمران بن حصین-صاحب رسول اللّٰه-وأبا الأسود الدولي،فأرسلهما إليهما.ثم انتهى معهما-بعد وقوع مناوشات-إلى كتابة صلح على أن لعثمان بن حنیف دار الإمارة والرحبة والمسجد وبيت المال والمنبر،وأن لطلحة والزبير ومن معهما أن ينزلوا حيث شاءوا من البصرة،ولا يضار بعضهم بعضا في طريق ولا فرضة ولا سوق ولا شرعة ولا مرفق،حتى يقدم أمير المؤمنين علي (2) .
عند مسير الإمام علي (علیه السلام) من المدينة إلى البصرة،كان يستنهض-من خلال الرسل والكتب-أهل الكوفة لمواجهة الناكثين،ويشرح لهم بشكل مضغوط وموجز حقيقة ما جرى،لذا تجده لا يكتب لهم:«أما بعد فإنی أخبركم عن أمر عثمان، حتی یكون سمعه كعیانه، إن الناس طعنوا علیه، فكنت رجلا من المهاجرین أكثر استعتابه(=استرضاءه)و أقلّ عتابه،و كان طلحه و الزّبیر أهون سیرهما فیه الوجیف(=ضرب من سير الخيل والإبل سریع)،و أرفق حدائهما(الحداء: زجل الإبل وسوقها)العنیف،و كان من عائشه فیه فلته غضب فأتیح له قوم فقتلوه،و بایعنی النّاس غیر مستكرهین و لا مجبرین بل طائعین مخیّرین...»(3) .
تدهور مفاجئ في الموقف
ثم وقع تدهور دراماتيكي عندما قام طلحة والبير-بالاستعانة بمروان بن الحكم-بالهجوم في منتصف الليل على عثمان بن حنیف-والي الإمام علي (علیه السلام) على البصرة-
ص: 207
في جماعة معهم،في ليلة مظلمة،سوداء مطيرة،فانتهوا إلى المسجد وقت صلاة الفجر، وقد سبقهم عثمان بن حنيف إليه، وأُقيمت الصلاة فتقدّم عثمان ليصلّي بهم فأخّره أصحاب طلحة والزبير وقدّموا الزبير، فجاءت السبابجة( وهم الشرط حرس بيت المال،) فأخّروا الزبير وقدّموا عثمان؛ فغلبهم أصحاب الزبير فقدّموا الزبير وأخّروا عثمان؛ فلم يزالوا كذلك حتّى كادت الشمس أن تطلع، وصاح بهم أهل المسجد: ألا تتّقون اللّه يا أصحاب محمّد، وقد طلعت الشمس فغلب الزبير فصلّى بالناس، فلمّا انصرف من صلاته صاح بأصحابه المستسلحين: أن خذوا عثمان بن حنيف(1) .
يقول ابن قتيبة:فقتلوا أربعين رجلا من الحرس،فخرج عثمان،فشد عليه مروان
فأسره،وقتل أصحابه،فأخذه مروان،فنتف لحيته ورأسه وحاجبه(2) .
وأرسلت عائشة إلى الزبير أن أقتل السبابجة فإنه قد بلغني ما صنعوا بك. يقول الرواي: فذبحهم و اللّه الزبیر كما یذبح الغنم ولی ذلك منهم عبد اللّه ابنه (لاحظ الأور السلبي لعبد اللّٰه بن الزبير)،و هم سبعون رجلا و بقیت منهم طائفة مستمسكین ببیت المال قالوا لا ندفعه إلیكم حتى یقدم أمیر المؤمنین فسار إلیهم الزبیر فی جیش لیلا فأوقع بهم و أخذ منهم خمسین أسیرا فقتلهم صبرا(3) .
قال أبو مخنف:حدثنا الصقعب بن زهير قال:كانت السبابجة من القتلى يومئذ أربعمائة رجل،قال:فكان غدر طلحة والزبير بعثمان بن حنيف أول غدر في الإسلام،وكان السبابجة أول قوم ضربت أعنائهم من المسلمين صبراً.
قال:وخيروا عثمان بن حنيف بين أن يقيم أو يلحق بعلي (علیه السلام)،وفي رواية أخرى
أنهم لم يتركوه إلا بعد أن أقسم باللّٰه إن قتلوه ليضع أخوه سهل-والي الإمام علي (علیه السلام) على المدينة-الشيف في بني أبيكم وأهليكم ورهطكم فلا يبقي أحدة منكم)(4) ،فلحق عثمان بن حنيف بعلئ (علیه السلام)،وقال له:فارق شيخا وجنتك أمرد،فقال علي (علیه السلام):إنا اللّٰه وإنا إليه راجعون،قالها ثلاثاً(5) .
ولما بلغ الضحابي حكيم بن جبلة ما صنع القوم بعثمان بن حنیف،خرج في ثمانمائة
ص: 208
من عبد القيس مخالفة لهم ومنابذاً،فخرجوا إليه،وحملوا عائشة على جمل، ف ي ذلك اليوم يوم«الجمل الأصغر»،ويوم الإمام علي (علیه السلام) يوم«الجمل الأكبر».وتجال الفريقان بالشيوف،وكانت النتيجة أن استشهد حكیم بن جبلة وثلاثة أخوة له،بالإضافة إلى ثلاثمائة من عبد القيس(1)!
الإمام علي (علیه السلام) يخرج إلى العراق
لمّا سار علي (علیه السلام)إلى العراق، دخل على أمّ سلمة زوج النبي صلّى اللّه عليه وآله يودّعها فقالت: سر في حفظ اللّه وفي كنفه، فواللّه إنك لعلى الحق والحق معك، ولولا أني أكره أن أعصي اللّه ورسوله _ فإنه صلّى اللّه عليه وآله أن نقرّ في بيوتنا لسرت معك، ولكن واللّه لأرسلنّ معك من هو أفضل عندي وأعزّ علي من نفسي، ابني عمر(2).
وطلب عمار بن یاسر من الإمام علي (علیه السلام) أن يأتي بعض الصحابة،ممن اعتزل الحياة العامة،ليكلمهم ليخرجوا معه للقتال،فأذن (علیه السلام) له.فكلم عمار عبد اللّٰه بن عمر لكن دون جدوى،وكم سعد بن أبي وقاص فأظهر الكلام القبيح،وكلم محمد بن مسلمة ولم يفلح في إقناعه،فانصرف عمار إلى علي (علیه السلام) فقال له علي (علیه السلام):دع هؤلاء الرهط،أما ابن عمر فضعيف،وأما سعد فحسود،وذنبي إلى محمد بن مسلمة أني قتل أخاه يوم خيبر،مرحب اليهودي(3).
لاحظ أن اعتزال عبد اللّٰه بن عمر وسعد بن أبي وقاص كان يصب في مصلحة قریش.لأن طلحة بن عبيد اللّٰه والزبير بن العوام وعائشة بنت أبي بكر كانوا يمثلون من تبقى من فئة وجهاء المهاجرين القرشيين،وبالتالي كانوا رأس حربة قريش التي واجهت عليا (علیه السلام)....فسعد بن أبي وقاص(هو من الستة الذين رشحهم عمر للخلافة)وعبد اللّٰه بن عمر(هو ابن الخليفةالثاني،وكان اسمه مطروحة للخلافة أيضا،كما سنجد ذلك جليا في التحكيم)أيضا يمثلون قریشة.هذا فضلا عن معاوية بن أبي سفيان(الأموي
ص: 209
القرشي)الذي كان قد أرسل من الشام رسالة تحريضية للزبير يعلن فيها تأييده له ولطلحة.
لذا نستطيع أن نقول إن قريشا في الجمل حاربت عليا (علیه السلام)،إما مباشرة(ومثلها في ذلك طلحة والژبير وعائشة ومروان)أو تحريضة(ومثلها في ذلك معاوية)أو اعتزالا عن القتال(ومثلها في ذلك سعد بن أبي وقاص وعبد اللّٰه بن عمر).
ولما أشير عليه (علیه السلام) بألا يتبع طلحة والزبير ولا يرصد لهما القتال،بین (علیه السلام) بأنه لا يريد أن يفسح لهما في المجال لخداع والغدر به، فقال:«واللّٰه لا أكو كالضبع:تنام على طول الدم(=صوت الحجر أو العصا تضرب في الأرض ضربة خفيفا)،حتى يصل طالبها،ويختلها راصدها،ولكني أضرب بالمقبل إلى الحق المدبر عنه،وبالسامع المطيع العاصي المريب أبدا،حتى يأتي علي يومي.فواللّٰه ما زلت مدفوعا عن حقي،مستأثرة علي،من قبض اللّٰه نبيه (صلی اللّه علیه واله)حتى يوم الناس هذا»(1) .
الآن،عندما وقع الغدر بالصحابي عثمان بن حنیف وطرد من البصرة،واستشهد الصحابي حكيم بن جبلة مع أصحابه في يوم الجمل الأصغر،كان الإمام علي (علیه السلام) في الطريق إلى العراق.عندئذ اضطر (علیه السلام) للاستعداد لقتالهم،وشرح الموقف لأصحابه بعد أن توجه إلى ربه قائلا:
«..اللّهم إني أستعديك علي قريش ومن أعانهم، فإنهم قطعوا رحمي، وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا علي منازعتي أمراً هو لي...فخرجوا يجرون حرمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله كما تجر الأمة عند شرائها، متوجهين بها إلى البصرة، فحبسا نساءهما في بيوتهما، وأبرزا حبيس رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لهما ولغيرهما في جيش ما منهم رجل إلا وقد أعطاني الطاعة وسمح لي بالبيعة طائعا غير مكره فقدموا على عاملي بها وخزان بيت مال المسلمين وغيرهم من أهلها. فقتلوا طائفة صبرا(=بعد الأسر)،وطائفة غدرا. فواللّه لو لم يصيبوا من المسلمين إلا رجلا واحدا معتمدين(=قاصدین)لقتله بلا جرم جره، لحل لي قتل ذلك الجيش كله،إذ حضروه فلم ينكروا ولم يدفعوا عنه بلسان ولا يد. دع ما أنهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدة التي دخلوا بها عليهم»(2) .
كانت الحسرة تملأ قلبه...لم تكون عاقبة طلحة والبير-وهما من السابقين إلى الإسلام-على هذا النحو؟لم التناع على السلطان؟وما قيمةالخلافة إن فقد المرء دينه
ص: 210
الظفر بها؟لذا عندما وصل إلى ذي قار،وهي منطقة تقع بين البصرة والكوفة، ودخلعليه ابن عباس.يقول ابن عباس،سألني (علیه السلام) قائلا:ما قيمة هذه النعل؟ فقلت:لا قيمة لها.
فقال (علیه السلام):واللّٰه لهي أحب إلي من إمرتكم إلا أن أقيم حقأ أو أدفع باطلاً(1) .
المضحك المبكي،أن البصرة حينما صفت لطلحة والزبير،بعد طرد ابن حنيف،وقتل حكيم وأصحابه،اختلفا وتشاحا في الصلاة،وأراد كل منهما أن يؤم الناس،ولم يهدأ الخلاف بينهما إلا عندما تدخلت عائشة كوسيط،بأن جعلت ابن أختها عبد اللّٰه بن البير إماما على الناس(2) !(وفي رواية أنها اقترحت أن يصلي عبد اللّٰه بن الزبير ومحمد ابن طلحة بالناس،يوما هذا،ويوما ذاك).
لذا تجد عليا (علیه السلام) يقول وكان سريرة طلحة والزبير منكشفة أمام ناظريه كالشمس في رابعة النهار:«كلّ واحد منهما يرجو الأمر له، و يعطفه عليه دون صاحبه، لا يمتّان إلى اللّه بحبل، و لا يمدّان إليه بسبب. كلّ واحد منهما حامل ضبّ(=حقد) لصاحبه، و عمّا قليل يكشف قناعه به! و اللّه لئن أصابوا الّذي يريدون لينتزعنّ هذا نفس هذا، و ليأتينّ هذا على هذا...»(3) .
واستغل الناكثون صفو البصرة لهم،فقاموا بتشويه شمعة الإمام علي (علیه السلام) عند أهلها،حتى أقبل الأحنف بن قيس في جماعة من قومه إلى الإمام علي (علیه السلام) فقال:يا أمير المؤمنين،إن أهل البصرة يقولون بأنك إن ظفرت بهم غدة قتلت رجالهم،وسبيت
ريتهم ونساءهم.فقال له الإمام علي (علیه السلام):ليس مثلي من يخاف هذا منه، لأن هذا ما لا يحل إلا ممن تولى وكفر،وأهل البصرة قوم مسلمون،وسترى كيف يكون أمري وأمرهم(4) .
وعندما اقترب الإمام علي (علیه السلام) من البصرة،أرسل أهلها كليب الجرمي ليعلم منه حقيقة حاله مع أصحاب الجمل لتزول الشبهة من نفوسهم،فبين له (علیه السلام) من أمره معهم ما علم به أنه على الحق،ثم قال له (علیه السلام):بايع.فقال:إني رسول قوم ولا أحيث حدثا حتى أرجع إليهم.
ص: 211
فقال (علیه السلام):أرأيت لو أن الذين بعثوك رائدة تبتغي لهم مساقط الغيث،فرجعت إليهم
وأخبرتهم عن الكلأ والماء،فخالفوا إلى المعاطش والمجاب،ما كنت صانعاً؟
قال:كنت تاركهم ومخالفهم إلى الكلأ والماء.
فقال (علیه السلام):فامد إذا يدك.
فقال الرجل:فواللّٰه ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجة علي،فبايعه (علیه السلام)(1) .
وروي أن الحارث بن ځوط أتاه فقال:أتراني أظن أصحاب الجمل كانوا على
ضلالة؟
فقال (علیه السلام):يا حارث،إنك نظرت تحت ولم تنظر فوقك،فجرت،إنك لم تعرف
الحق فتعرف من أتاه،ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه.
فقال الحارث:فإني أعتز مع سعيد بن مالك وعبد اللّٰه بن عمر،فقال (علیه السلام):إن
سعيدا وعبد اللّٰه بن عمر لم ينضرا الحق، ولم یخذلا الباطل(2) .
الخلاصة:بدأنا اليوم بسرد أحداث حرب الإمام علي (علیه السلام) الأولى بعد استلامه الخلافة،أعني حرب الجمل،وحاولنا الإجابة عن الشؤال:لم نكث الناكثون البيعة؟وبينا لسان حال كل من الناكثين وبني أمية والإمام علي (علیه السلام)،وبينا مجريات خروج الناكثين إلى العراق،وخروج الإمام علي (علیه السلام) على أثرهم،ثم التدهور المفاجئ في الموقف عندما قام الناكثون بالهجوم على عثمان بن حنیف والاستيلاء على بيت مال المسلمين والسيطرة على البصرة.
وسنری لاحقا أن هذه المعركة التي ستنتهي لمصلحة الإمام علي (علیه السلام) أدت إلى انكسار قریش،يمثلها في ذلك من تبقى من فئة وجهاء المهاجرين. كما أدت إلى ارتياح معاوية في الشام من شوكة قريش،ولم يبق له إلا أن يجتاز عقبة الإمام علي (علیه السلام) فإن اجتازها استتب الأمر له،وصارت الخلافة بيده،وأصبح بمقدوره أن يمهد الطريق لابنه يزيد،حتى يعتلي السلطة، ويرتكب فاجعة كربلاء
في الفصل القادم سنواصل استعراض مجريات حرب الجمل،وستبين المحاولات
التي قام بها الإمام علي (علیه السلام) لتفادي وقوع هذه الحرب.
ص: 212
في الفصل السابق تحدثنا عن إرهاصات حرب الجمل،وانتهينا إلى وصول الإمام علي (علیه السلام) إلى العراق،وبلوغه خبر غدر الناكثين بواليه على البصرة عثمان بن حنیف،وقتلهم ځراس بیت المال،واستيلائهم عليه،وسيطرتهم على البصرة.
الصلة بين الجمل وكربلاء
قد لا يبدو ثمة صلة مباشرة بين حرب الجمل و واقعة كربلاء،لكن الحقيقة أن واقعة كربلاء لم تكن لتقع لولا وصول بني أمية إلى السلطة،وبنو أمية لم يكونوا ليصلوا إلى السلطة لولا انكسار فئة وجهاء المهاجرين،وفئة وجهاء المهاجرين لم يكونوا لينكسروا بقوة لولا حرب الجمل.والإمام علي (علیه السلام) حاول بشتى الطرق تفادي هذه الحرب،ليس تفاديا لإراقة دماء المسلمين فحسب،بل ربما للإبقاء أيضا على توازن القوى.فبقدر ما تضعف فئة وجهاء المهاجرين سيخلو الجو لبني أمية ليكونوا هم الممثلين الجدد لقريش، والمدافعين عن مصالحها(1) .
في هذا الفصل نرید مواصلة استعراض أحداث الجمل،مع إبراز أهم الخطوات والمحاولات التي قام بها الإمام علي (علیه السلام) لتفادي وقوع هذه الحرب،سواء قبل وقوع الغدر بواليه عثمان،أو بعد ذلك وقبل وقوع المعركة.
كما سنستعرض بعد ذلك،أخلاق الإمام علي (علیه السلام) في التعامل مع الطرف المهزوم في المعركة، يكشف فيها عن أريحية خاصة وروحية عالية وتحرر واضح من عقلية التشي والانتقام.
ص: 213
محاولات الإمام علي (علیه السلام) لتفادي حرب الجمل
1.كتابه إلى طلحة والزبير:كتب الإمام علي (علیه السلام) لطلحة والزبير كتابا قال فيه:أما بعد،فقد علمتما-وإن كتمتما-أني لم أردالناس حتى أرادوني،ولم أبايعهم حتى بایعوني،وإنكما ممن أرادني وبايعني،وأن العامة لم تبايعني لسلطان غالب،ولا لعرض حاضر،فإن كنتما قد بایعتما طائعین،فارجعا وتوبا إلى اللّٰه من قريب،وإن كنتما بایعتماني كارهین،فقد جعلتما لي عليكما السبيل،بإظهار كما الطاعة،وإسرار گما المعصية.ولعمري ما كنتما بأحق المهاجرين بالقية والكتمان، وإن دفگما هذا الأمر من قبل أن تدخلا فيه،كان أوسع عليگما من خروجكما منه،بعد إقرارگما به.وقد زعمتما أني قتل عثمان،فبيني وبينكما من تخلف عني وعنكما من أهل المدينة،ثم يلزم كل امرئ بقدر ما احتمل.فارجعا أيها الشيخان عن رأيكما،فإن الآن أعظم أمركما العار،من قبل أن يتجمع العار والنار،والسلام(1) .
ولم يجب طلحة والزبير عليا (علیه السلام) عن كتابه بشيء،لكنهما بعثا إليه برسالة:إنك يا أبا الحسن،قد سرت مسيرا له ما بعده، ولست براجع وفي نفسك منه حاجة، ولست راضيا دون أن ندخل في طاعتك، ونحن لا ندخل في طاعتك أبدا، واقض ما أنت قاض والسلام (2) .
2.كتابه (علیه السلام) عائشة:ونقل ابن اعثم أن الإمام علي (علیه السلام)كتب لعائشة:أما بعد، فإنك قد خرجت من بيتك عاصية اللّٰه تعالى،ولرسوله محمد (صلی اللّه علیه واله)،تطلبين أمراً كان عن موضوعا،ثم تزعمين أنك تريدين الإصلاح بين المسلمين،فأخبريني ما للنساء وقود العساكر والإصلاح بين الناس؟وطلبت-كما زعمت-بدم عثمان، وعثمان رجل من بني أمية،وأنت امرأة من بني تيم بن مرة،ولعمري إن الذي عرضك للبلاء،وحملك على المعصية لأعظم ذنبا من قتلة عثمان.وما غضبت حتى أغضب،ولا هجت حتى هيجت،فاتقي اللّٰه يا عائشة،وارجعي إلى منزلك، واسبلي علي سترك،والسلام(3) .
ص: 214
3.طلبه من ابنه الحسن (علیه السلام) أن يخطب في أهل البصرة لتوضيح حقيقة الأمر:نقل؛ابن اعثم أن عبد اللّٰه بن الزبير خطب في أهل البصرة،فقال:أيها الناس إن علي بن أبي طالب هو الذي قتل الخليفة عثمان بن عفان،ثم إنه الآن قد جاءكم لیبتزكم أمركم،فاغضبوا لخليفتكم،وامنعوا حريمكم،وقاتلوا على أحسابكم.
وبلغ عليا (علیه السلام) ما تكلم به عبد اللّٰه بن الزبير،فدعا ابنه الحسن (علیه السلام)،وقال له: بلغني أن ابن الزبير قد خطب الناس،وذكر لهم أني أنا الذي قتل عثمان بن عفان،وزعم لهم أني أريد أن أبتز الناس أمورهم،وقد بلغني أنه شتمني، فقم يا بني فاخطب للناس خطبة موجزة،ولا تشتمن أحدا من الناس(1) .
4.رسالة شفوية أرسلها (علیه السلام)لعائشة عن طريق زید بن صوحان وعبد اللّٰه بن عباس:نقل ابن اعثم أن علياً (علیه السلام) دعا يزيد بن صوحان وعبد اللّٰه بن عباس فقال لهما:إمضيا إلى عائشة،فقولا لها:ألم يأمر اللّٰه تبارك وتعالى أن تقري في بيتي،فدعني وانخدعتي،واسفرت فنفرت؟فاتقي اللّٰه الذي إليه مرجع و معادك وتوبي إليه،فإنه يقبل التوبة من عباده،ولا تحمل قرابة طلحة،وحب عبد اللّٰه بن الربير على الأعمال التي تسعى بلي إلى النار.
فانطلقا إليها،وبلغاها رسالة علي (علیه السلام)،فقالت عائشة:ما أنا برادة عليكما شيئا،فإني أعلم أني لا طاقة لي بحجج علي بن أبي طالب،فرجعا إليه وأخبراه الخبر(2) .
5.رسالة شفوية أرسلها (علیه السلام)للزبير عن طريق عبد اللّٰه بن عباس:ينقل الشريف الرضي في نهج البلاغة،أن عليا (علیه السلام) لما أنفذ عبد اللّٰه بن عباس إلى البير يستفيئه إلى طاعته قبل حرب الجمل،قال له:لا تلقين طلحة،فإنك إن تلقه تجده عاقصة قرنه(=فاية ولاويا شعره، كناية عن التغطرس والتكبر)،يركب الصعب(=الدابة الجموح)ويقول:هو الذلول.ولكن ألق البير،فإنه ألين عريكة(=طبيعة وقا)،فقل له:يقول لك ابن خالك:عرفتني بالحجاز،وأنكرتني بالعراق،فما عدا مما بدا(=ما الذي صرفك عما كان بدا وظهر منك؟)