من نور القرآن

هویة الکتاب

اسم الكتاب: من نور القرآن

الكاتب: آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي

لسان: العربية

الناشر: دار الصادقين - النجف اشرف - العراق

الموضوع : التفسير

مشخصات : 5 ج

الطبعة : الرابعة

التاريخ : 1442ه- - 2021م

ص: 1

المجلد 1

اشارة

من نور القرآن

ص: 2

ص: 3

من نور القرآن

تفسير موضوعي حركي يقتبس من القرآن الكريم

ما يلقي ضوءاً على قضايا عقائدية أو أخلاقية

أو فكرية أو اجتماعية

سورة الفاتحة – سورة المائدة

ص: 4

بِسمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحمَنِ ٱلرَّحِيمِ

مقدمة وتعريف

اشارة

الحمد لله الذي خلق الإنسان علّمه البيان وصلّى الله على سيد خلقه المبعوث رحمة للعالمين محمد وآله الطيبين الطاهرين.

نور القرآن

وصف القرآن الكريم نفسه بأنه (نور) في آيات عديدة كقوله تعالى {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} (المائدة:15) وقوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا) (النساء:174) وقال تعالى (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا) (التغابن:8) وقال تعالى (مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا) (الشورى:52) وغيرها من الآيات.

وهكذا وُصِف في الأحاديث الشريفة كقول رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (القرآن هو النور المبين والذكر الحكيم والصراط المستقيم)(1).

ومن كلام لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في صفة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (حتى أكرمه الله عزوجل بالروح الأمين والنور المبين والكتاب المستبين)(2) وقال الامام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن هذا القرآن فيه مصابيح النور وشفاء الصدور، فليجلُ جالٍ

ص: 5


1- كنز العمال: 1/ 517 ح 2309
2- التوحيد: 72 ح 26 ، عيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 1/ 124 ح 15

بصره، فان التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور)(1).ومن دعاء الامام زين العابدين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عند ختم القرآن (وجعلته نوراً نهتدي من ظلم الضلالة والجهالة باتباعه... ونور هدى لا يُطفأ عن الشاهدين برهانه، وعلم نجاة لا يضِلُّ من أمَّ قصد سُنّته، ولا تنال أيدي الهلكات من تعلق بعروة عصمته)(2).

والنور هو الظاهر في نفسه المظهر لغيره بما يلقي على الأشياء من الضوء فيجعلها قابلة للإبصار، فالقرآن نور لأنه المصباح الذي يستضيئ به طالبو الكمال والسائرون على طريق الهداية والصلاح والسعادة في الدنيا والآخرة وهذه هي وظيفة القرآن والغرض من نزوله {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}(المائدة:15-16).

وقد تسأل بأن القرآن اذا كان بيِّناً في نفسه مبيِّناً لغيره فما الحاجة الى التفسير الذي يعني كشف معنى اللفظ واظهاره وبيان مراد المتكلم ومدلولات كلامه. ويُجاب بأن القرآن كما وصف بيِّن ظاهر لذا يستفيد منه كل من يقرأه بحسب مؤهلاته {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} (الرعد:17) وان الحاجة الى التفسير بلحاظ قصورنا عن ادراك معانيه لما ران على قلوبنا وعقولنا من رين الجهل والشك2.

ص: 6


1- نزهة الناظر: 73 ح 18، كشف الغمة: 2/ 199 بواسطة معرفة القرآن على ضوء الكتاب والسنة للريشهري: 1/ 52
2- الصحيفة السجادية: 157 الدعاء 42.

والسطحية في التفكير والنظر فالتفسير يزيل هذه الحجب ويقرّبنا الى القرآن الذي هو قريب منا الا اننا بعيدون عنه، مضافاً الى وجود تفاصيل لم تذكرها الآيات الكريمة فوظيفة الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بيانها {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} (الجمعة:2). وإنّ للقرآن بطوناً من التفسير والحقائق المكنونة في طياته لا يتيسّر معرفتها الا لأهلها وهم يبيّنون لغيرهم.

والقرآن من أعظم أسباب تحصيل النور فهو ثقل الله الأكبر استمد نوره من مرسله ومنزله وهو {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (النور:35) لا يضِل من تمسك به، والقرآن يجلي البصيرة ويكشف عنها فيتمكن الإنسان من النظر بها، ويفجّر في القلب والعقل نور الفرقان الذي يميّز للإنسان الحق من الباطل ويأخذ بيده على الصراط المستقيم.

فمن لم يتمسك بالقرآن ولم يأخذ بعروته الوثقى يسير كالأعمى على غير بصيرة {وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} (الإسراء:72) وسيتميز الفريقان يوم القيامة {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْ-رَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (الحديد:12) اما المعرضون عن القرآن فيتوسلون اليهم لعلهم يشفقون على حالهم ويمدّونهم ببعض النور الذي اكتسبوه، وينقذونهم من حالهم وهم يتخبّطون في الظلمات ويحيط بهم العذاب {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} ويأتيهم الجواب {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} (الحديد:13) لأن هذا

ص: 7

النور في الآخرة هو حصيلة التعلق بالقرآن والعمل به في الدنيا وكان عليكم اكتساب النور فيها لينير لكم في الآخرة. وهكذا فالقرآن نور في الحياة الدنيا وفي الآخرة وما بينهما في البرزخ والقبر حيث الوحدة والوحشة والضيق وروي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (عليك بتلاوة القرآن فأنه نور لك في الأرض، وذخرٌ لك في السماء)(1) ومن دعاء الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اللهم وما أجريت على ألسنتنا من نور البيان، وايضاح البرهان، فاجعله نوراً لنا في قبورنا ومبعثنا، ومحيانا ومماتنا، وعزّاً لنا لا ذلاً علينا، وامناً لنا من محذور الدنيا والآخرة)(2).

فهذا التفسير محاولة للاقتباس من نور القرآن ما نُحيي به قلوبنا ونطهر به نفوسنا وتستقيم به حياتنا وتنتظم به أمورنا ويفتح عقولنا على ما لم نكن نعلم مما به صلاحنا وفلاحنا {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْش-ِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} (الأنعام:122) {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف:157) وقال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (تعلموا القرآن فأنه أحسن الحديث، وتفقهوا فيه فأنه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره فأنه شفاء الصدور)(3).

وقد ذكرنا تفاصيل أوفى عن سببية القرآن لتحصيل النور، والعمى والضلالة10

ص: 8


1- ميزان الحكمة: 9/ 182
2- بحار الأنوار: 94/ 126 ح 19
3- نهج البلاغة: خطبة 110

بهجرانه والحاجة إلى نور القرآن في الدنيا والآخرة في تفسير عدة اقباس موجودة في مواضعها كقوله تعالى {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(الأعراف : 157) وقوله تعالى {وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} (الإسراء:72) وقوله تعالى {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم} (الحديد:12) وغيرها.

من ينظر بنور القرآن: -

فإنه سيرى عظمة الله سبحانه تتجلى في آياته وقوانينه وسننه وقدرته على كل شيء، فالأرض جمعياً قبضته والسموات مطويات بيمينه والعزة لله جميعاً والقوة والملك له وحده فهو الذي يرث الأرض ومن عليها وإليه مرجع العباد وهو أقرب إليهم من حبل الوريد ويحول بين المرء وقلبه ولا يملك شيء لشيء نفعا ولا ضراً إلا بإذنه، فعندئذ يتصاغر أمام حامل القرآن كل ما سوى الله تبارك وتعالى مهما عظم ظاهرا أو حاول أولياؤه وأتباعه تعظيمه والنفخ في صورته فإذا قدرة الله تلقف ما يأفكون فلا إرم ذات العماد ولا فرعون ذو الأوتاد ولا صاحب الكنوز التي تنوء مفاتيحه بالعصبة أولي القوة، أما حامل القرآن فقوته متصلة بالله فلا يخشى ما سواه {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}(العنكبوت:41)، و(من خاف الله أخاف الله منه كل شيء)(1).

ص: 9


1- من لا يحضره الفقيه: 4/ 410.

وعندئذ سترى أن هذه القوى الكبرى التي {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}(طه:66)، وقادرة على تحقيق كل ما تريد، وإذا بها تنهار وتذوب كما يذوب الملح في الماء بلا حرب ولا أي عدو ظاهر لكن الله ينبئك عن الذي يقف وراء فنائهم {فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ}(النحل:26-27).وسيرى وعد الله وطمأنينته للمؤمنين بأن العاقبة لهم ولكن بعد أن: {مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْ-رُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}(البقرة:214)، وأن لا بد من الفتنة والابتلاء ليمحص الله الذين آمنوا {ألم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (العنكبوت:1-3). وعندئذ يقر بال المؤمن مهما واجهته من صعوبة ومحنة لأنه من سنة الله في عباده فعليه أن يصدق في المواقف وسيجزي الله الصادقين ويهون الخطب عليه انه كله بعين الله سبحانه قال تعالى: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}(الطور: 48)، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (التوبة: 120).

ص: 10

وسيرى من علو الإيمان الذي يعمر قلبه والمعارف العليا التي يحملها إلى هذه البشرية التائهة التي تلهث وراء السراب تعيش لأغراض زائفة وتمني نفسها بأمانٍ باطلة يزينها لهم أولياء الشيطان من مال وجاه وشهوات يتنافسون عليها ويتقاتلون على شيء لا يبقى لهم بل يكون وبالاً عليهم. يصنعون لأنفسهم آلهة يصطلحون على عبادتها وطاعتها وتقديم الولاء لها فيقيمون لها الطقوس والاحتفالات والمهرجانات ويذبحون من أجلها القرابين ليس من الحيوانية فقط بل البشرية ويهدرون على أقدامها المليارات.وسيرى أنه ليس وحده حتى يشعر بالضعف أو الذلة أو الخضوع والاستسلام ولا أن ما يعانيه ويشاهده ويعيشه بدعاً من الحوادث ولا أن تجربته فريدة {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} (الأحقاف: 9)، فإذن قد سبقه على هذا الخط أنبياء عظام وأولياء كرام وحملة رسالات ومصلحون وعباد صالحون عانوا أكثر مما عانى وصبروا على اشد ما صبر عليه وواجهوا من مجتمعاتهم أعظم مما يواجه والصورة نفس الصورة قال تعالى{فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 26)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُ-رُّكُم مَّن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ} (المائدة: 105).

وسيرى تكريم الله لخلقه حين خاطبهم بنفسه ووجه إليهم كلامه مباشرة، الله العظيم خالق السموات والأرض ذو الأسماء الحسنى يرسل إليهم بنفسه رسالة ويعهد إليهم بعهده، أي تكريم أعظم من هذا وأي تفضيل فوق هذا {وَلَقَدْ

ص: 11

كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}(الإسراء: 70) فكيف يا ترى مشاعر الإنسان وهو يقرأ رسالة حبيبه بل الحبيب المطلق (إن القرآن عهد الله إلى خلقه فينبغي لكل مؤمن أن ينظر فيه)(1).وسيرى أن كل شيء في هذا الكون بقدر وحساب دقيق، قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}(القمر: 49)، {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ}(الحجر:21)، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ}(الأنبياء: 47)، وكل المخلوقات أفراداً ومجتمعات تجري وفق سنن ثابتة {سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}(النساء: 26)،{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَ-رُونَ}(الأنعام: 38) لا يستطيع أحد أن يخرج من هذا القانون الإلهي العظيم {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}(فاطر: 43)، فكيف يعبد الإنسان غيره تبارك وتعالى وهو لا يستطيع أن يخرج من قبضة سننه وقوانينه، فلا مجال للعب ولا العبث واللهو {رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ}(آل عمران: 191)، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ}(الذاريات: 56)،{لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ}(الأنبياء: 17) ولا مجال للصدفة العمياء التي طالما تشدق بها الملحدون وضحكوا بها على عقول الناس ردحا من السنين وأضلوهم بها فتعساً للتابع1.

ص: 12


1- الكافي: 2/ 609، باب في قراءته (قراءة القرآن)، ح1.

والمتبوع، فمن وراء خلق الإنسان هدف فلا بد ان يحيا من اجله ويكرس كل طاقاته لتحقيقه وهو رضا الله تبارك وتعالى.وسيجد في القرآن الوعد الإلهي بالإمداد والقوة الغيبية في كل موقف وشدة ومأزق ومعركة مع النفس الأمارة بالسوء أو الشيطان، وأن الله معه وكفى به ناصراً ما دام هو مع الله قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ، نُزُلا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ، وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت: 30 - 33) وآيات كثيرة تخبر عن إنزال السكينة في قلوب المؤمنين والإمداد بالملائكة المسومين وغيرها.

وسيجد في كنف القرآن الطمأنينة قال تعالى: {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد: 28)، وهدوء البال وشفاء الصدور والهدى والبركة وكل خير مما وصف القرآن به نفسه.

فإذا وجد حامل القرآن كل ذلك اشتدت عزيمته وقوي قلبه وصلحت نفسه وازدادت همته وظهرت حكمته وسيكون عندئذ مصدراً للعطاء ومنبعاً للخير لنفسه وللمجتمع كما هو شأن المصلحين العظام وعلى رأسهم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

مميزات هذا التفسير

إنه تفسير موضوعي, أي انه ينظر الى الآيات القرآنية من خلال

ص: 13

الموضوعات التي تتناولها والقضايا التي تعالجها، لذا فهو ينتخب من الآيات الكريمة بحسب الموضوع الذي تتناوله الآية والقضية التي تعالجها، وتؤخذ معها الآيات التي تشترك معها في الموضوع لتشكّل منظومة منسجمة مع بعضها, وتنتج رؤية متكاملة عن ذلك الموضوع، أو القضية التي تلقي الآية الكريمة ضوءاً عليها فالتفسير الموضوعي يختلف من هذه الجهة مع التفاسير التجزيئية المتعارفة التي تسير مع الآيات القرآنية بحسب ترتيب تدوينها في المصحف الشريف فتفسرها وتشرح المراد منها.وهو تفسير حركي لان الغرض منه هو تفعيل دور القرآن الكريم في الحياة, واخراجه من عزلته واعطائه حقّه في قيادة البشرية وإعادة الحيوية والحركية اليه, وإلهامه الحلول والمعالجات لكل مشاكلها، فإننا لا نقف عند تفسير ألفاظ الآية وشرح عباراتها ومفرداتها، وانما يتقدم نحو استلهام الدروس المستفادة منها.

أي انه يستفيد من القبس القرآني في معالجة قضية معينة عقائدية او أخلاقية او فكرية او اجتماعية او تاريخية، او غير ذلك ويطبق تفسير الآية على تلك القضية ليكون القرآن قائداً لنا في كل شوؤن حياتنا.

ولذا كان المعيار في اختيار الآيات هو أن تؤدي الى هذا الغرض, وتشترك فيه, وإن كانت ذات طبيعة عقائدية أو أخلاقية أو فكرية أو اجتماعية أو سياسية, وغير ذلك، فتبدأ عملية التفسير من تشخيص الداء والمشكلة التي يُراد معالجتها بالقرآن أو الجرعة العقائدية أو الأخلاقية أو الفكرية التي يراد اعطاؤها، أو النقص الذي يراد اكماله في ثقافة الأمة, او القضية التي نريد بيانها ونحو ذلك، ثم نهرع

ص: 14

الى القرآن الكريم, ونلجأ اليه, فنستنطقه, ونستثير علومه ومعارفه, لنلتمس منه الحل والعلاج {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} (الحديد:13). وقد تكون العملية بالعكس بأن ينقدح من الآية الكريمة نور يضيء طريقاً لصلاح الأمة وسعادتها, فنقتبس من ذلك النور ما يزيل بعض الظلمات التي تتخبط فيها البشرية؛ فنشرح الآية أولاً, ثم نطبقها على المطلوب, أو نُبيّن الدروس المُستفادة منها، وقد نكرّس الحديث لتطبيقات الآية, لوضوح معنى الآية في نفسها.

وبذلك نقّرب الامة للقرآن ونفتح اذهانهم عليه ونقّدم لهم صيغة تناسب ثقافتهم وطريقة تفكيرهم والأدوات المعرفية المتيسرة لهم وهي وظيفة العلماء في كل جيل وليس صحيحاً ان نبقى منغلقين على أساليب لا تستفيد منها الأجيال المعاصرة.

وبناءً على منهج التفسير الموضوعي يكون المصدر الرئيسي لتفسير الآيات الكريمة وفهم مدلولاتها هو القرآن نفسه, من خلال ضم الآيات التي تشترك في وحدة القضية الى بعضها, فتكتمل صورة المعنى بالبيان القرآني، فقد وصفه الله تعالى بقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (النحل:89), فيكون أول ما يبيّن نفسه، وسيكون المصدر الاخر لتفسير الآيات الكريمة وفهم المراد منها والاحاديث الشريفة، لأن وظيفة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) هي بيان المُراد من القرآن الكريم, ونشر علومه ومعارفه {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل:44). وسنجد حينئذٍ تناسقاً رائعا بين الآيات الكريمة والاحاديث الشريفة

ص: 15

تصديقاً لحديث الثقلين المشهور بأنهما (لن يفترقا حتى يردا الحوض)(1).وستجد الروايات الشريفة منسجمة مع الآيات الكريمة في منظومة واحدة لتؤدي الغرض المطلوب منها لذا لم نعمل على عزل الروايات في بحث روائي ملحق بالتفسير الآية كما في تفسير الميزان مثلاً.

ولأن (القبس)- لغة- هو المتناول من الشعلة والنار, بعود ونحوه -وليس كل النار- فإننا نعترف أن ما في هذا التفسير هو ما استطاعت عقولنا فهمه, وادراكه, بلطف الله تعالى, من نور القرآن اللامتناهي {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} (لقمان:27).

واتبعنا في هذا التفسير منهج القرآن, في جعل التوحيد وما يتفرع عنه من العقائد محور الحياة كلها، فحينما يتعرض لأحكام شرعيّة أو يتناول أحداث معركة أو يعالج مشكلة اقتصادية أو اجتماعية فإنه يربطها بالعقيدة ويرجع الأمور كلها الى الله تعالى، والذي لا يفقه هذا المنهج القرآني يراها غريبة عن السياق.

وعلى هذا المنهج سرنا في الأحاديث والخطب, فامتزجت فيها العقيدة والأخلاق بالسياسة والاقتصاد والادارة والاجتماع والفكر والثقافة.

ولطول مُخالطتي مع القرآن الكريم بفضل الله تعالى وكرمه فقد استفدت من طريقته في إصلاح الفرد والمجتمع, وقد لخصّتُها في بحث (شكوى52

ص: 16


1- بحار الأنوار : ج 23 /ص 152

القرآن)(1)، ولذا اتصفت هذه المحاضرات القرآنية بشيء من تلك المُميّزات.وكان للتفكير الاجتهادي, وطول الممارسة في الاستنباط الفقهي, المُعتمد أصلاً على النظر والتفكر في نصوص الكتاب والسنة, أثر بالغ في استكشاف مكنونات الآيات الكريمة, بالمقدار الذي تسعه أوعية عقولنا وقلوبنا المحدودة {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} (الرعد:17)، وربما فهمنا من الآية عدّة وجوه ومستويات غير ملتفت إليها {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (الجمعة:4).

ووفرت هذ القابلية إمكانية فهم عدة وجوه ومستويات للآية الكريمة كلها صالحة لتفسيرها تصديقا للحديث الشريف (إن للقرآن ظهرا وبطنا ولبطنه بطنا إلى سبعة أبطن)(2) وبهذا المعنى فسّرنا قوله تعالى {لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} (الكهف:109) أي معاني القرآن والا فأن الفاظه تنتهي حتماً لانها محدودة.

كما ان تجربة القيادة والمرجعية الدينية أعطت زخماً من التوجيهات الاجتماعية ومشاريع الوعي والإصلاح في التفسير ويظهر في بعض الاقتباسات نفس تربية القادة والمصلحين على المستوى العالمي وليس على صعيد بلد محدد بالاستفادة من سيرة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) واستعداداً لتأسيس دولة العدل الالهي والكرامة الإنسانية في جميع الأرض لاحظ مثلا قبس {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ1.

ص: 17


1- راجع: من نور القرآن, الجزء الثالث, ملحق قبس109.
2- التفسير الصافي : 1 / ص 31.

حَسَنَةٌ} في الجزء الرابع القبس119,ص76.ولان بعض هذه الاقباس عبارة عن خطب واحاديث اقتضتها بعض المناسبات فستجد المناسبة حاضرة في تطبيقات القبس ونحن سنبقي منها ما يكون مصداقاً للآية الكريمة ونحذف ما يتعلق بالمناسبة ذاتها، ونحيل القارئ الكريم الى موسوعة (خطاب المرحلة) ليجد فيه تلك التفاصيل وشرح الاحداث التي اشير اليها في القبس.

ولما كان التفسير موضوعياً فان جملة من الآيات ذات الموضوع الواحد تبحث تحت عنوان أحدها لذا يستطيع الباحث ان يجد آية او اكثر مبّينه تحت عنوان غيرها مما تتحد معها في الموضوع

ولأجل رفد خطباء المنبر الحسيني بالمعارف القرآنية الواعية باعتبارهم أوسع نافذة للتواصل مع الامة فقد حاولنا في كثير من الاقباس أن نربطها بقضية الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ونجعل تطبيقاتها من الفصول الرسالية لنهضة الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقد صدر كتاب بعنوان (المعارف القرآنية والمنبر الحسيني) ضمَّ أربعين قبساً يخدم هذا الغرض.

محمد اليعقوبي _ النجف الأشرف

شهر رمضان المبارك/1437ه-- حزيران/2016م

ص: 18

القبس /1 : سورة الفاتحة:1

اشارة

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (سورة الفاتحة:1)

أعظم آية في كتاب الله تعالى بحسب ما يأتي عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وتفتتح بها اعظم سور القرآن وافضلهن وقد جمعت فيها كل علوم ومعارف القرآن الكريم كما في الرواية الآتية عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وتمثل كل آية منها قاعدة كلية ومبدءاً اساسياً من المبادئ التي يستند اليها الإسلام، وروي في ذلك عن ابن عباس قوله (إن لكل شيء اساساً، واساس القرآن الفاتحة واساس الفاتحة (بسم الله الرحمن الرحيم)(1)

وقد روي في فضلها احاديث كثيرة منها ما رواه ابن عباس عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال (اذا قال المعلم للصبي: قل{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كتب الله براءة للصبي وبراءة لأبويه وبراءة للمعلم) وعن ابن مسعود قال (من أراد أن يُنجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فإنها تسعة عشر حرفاً، ليجعل الله كل حرف منها جنة من واحد منهم)(2).

ولا يبعد أن تكون البسملة وسورة الفاتحة التي تبتدئ بها أول الآيات القرآنية نزولاً كما انها الأولى تدويناً في المصحف الشريف ولنا على ذلك عدة شواهد:

ص: 19


1- مجمع البيان: 1/ 17 وحكيت عن ابن كثير في تفسيره: 1/ 9
2- مجمع البيان: 1/ 19 ، البرهان:1/ 82 ح 28 عن جامع الأخبار.

1- الإشارة إليها في أول سورة العلق التي يقول المشهور انها اول الآيات نزولاً وفيها أمر بأن يبدأ قراءته باسم الله تعالى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} (العلق:1) فالبسملة المشار إليها أسبق نزولاً وأنها كانت معروفة لدى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قبل آية العلق.

2- ان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان يتعبد ويصلي قبل البعثة ويقرأ القرآن من حين نزوله عليه بل ان نفس سورة العلق فيها إشارة الى صلاته {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} (العلق:9-10) ومن البعيد أنه كان يفعل ذلك من دون ان يفتتح عمله بالبسملة، وورد في الحديث المشهور (لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب)(1).

3- عدة روايات تدل على ذلك، كالذي رواه في مجمع البيان عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (سألت النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن ثواب القرآن، فأخبرني بثواب سورة سورة على نحو ما نزلت من السماء، فأوّل ما نزل عليه بمكة فاتحة الكتاب، ثم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}(2).

وفي تفسير القمي في قوله تعالى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} (العلق:1) قال (قال: اقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وفي أسباب النزول للواحدي النيسابوري عن ابن عباس أنه قال (أول ما نزل به جبرئيل على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: يا محمد استعذ ثم قل:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.05

ص: 20


1- عوالي اللئالي: 1/ 196، وسائل الشيعة: 6/ 37 ، صحيح البخاري: 1/ 192
2- معرفة القرآن في ضوء الكتاب والسنة للريشهري: 1/ 105

وما أخرجه الدارقطني عن ابن عمر (أن الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (كان جبرئيل اذا جاء بالوحي أول ما يلقي عليَّ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ})(1).وروى الشيخ الكليني بسنده عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (أول كل كتاب نزل من السماء {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ})(2) وروى البرقي في المحاسن بسنده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ما نزل كتاب من السماء الا أوّله (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)(3)، ومال الى هذا القول جملة من المفسرين، بل نسب الزمخشري إلى أكثرهم القول بأن سورة الفاتحة أول السور نزولاً(3).

وفي مقابلها روايات(4) كثيرة دلت على ان سورة العلق أول السور نزولاً، ويمكن الجمع بأن البسملة أو سورة الحمد اوحيت الى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أولاً على نحو الحديث القدسي كجزء من تأديب الله تعالى لنبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأن يفتتح كل أعماله بالبسملة ويبني حياته عليها ولا مانع من ان يكون ذلك قبل البعثة أصلاً، ففي دلائل النبوة للبيهقي (إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال لخديجة: إنيّ اذا خلوت وحدي سمعت نداءاً.. يا محمد قل {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 1 الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 2} حتى بلغ {وَلاَ الضَّالِّينَ}(5) والظاهر أن هذا قبل البعثة أبان عزلته في غار حراء.15

ص: 21


1- الدر المنثور: 1/ 7
2- و(3) وسائل الشيعة: 6/ 59 أبواب القراءة / باب 11 ح8 و12.
3- الكشاف:4/ 775
4- معرفة القرآن في ضوء الكتاب والسنة للريشهري: 1/ 102
5- معرفة القرآن في ضوء الكتاب والسنة للريشهري عن دلائل النبوة: 2/ 158، تفسير القرطبي:1/ 115

ثم نزلت سورة الحمد ثانياً بعد ذلك لتكون جزأً من القرآن النازل وليقرأها المسلمون في صلاتهم التي تأخر تشريعها عن بدء البعثة النبوية، ونزول سورة الفاتحة مرتين أحد معاني وصف سورة الحمد بالسبع المثاني. قال تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالقرآن الْعَظِيمَ} (الحجر:87)، وتدل هذه الآية على عظمة السورة بحيث افردها الله تعالى بالذكر في مقابل القرآن العظيم كله وفي هذا المعنى روى الامام الحسن العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (سمعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول (ان الله تعالى قال لي: يا محمد {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالقرآن الْعَظِيمَ} (الحجر:87) فافرد الامتنان عليَّ بفاتحة الكتاب وجعلها بإزاء القرآن العظيم وان فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز العرش) وفيها (الا فمن قرأها معتقداً لموالاة محمد وآله الطيبين منقاداً لأمرهما، مؤمناً بظاهرهما وباطنهما، أعطاه الله تعالى بكل حرف منها حسنة، كل واحدة منها أفضل له من الدنيا وما فيها من أصناف أموالها وخيراتها، ومن استمع إلى قارئ يقرأها كان له قدر ما للقارئ، فليستكثر أحدكم من هذا الخير المعرض لكم، فأنه غنيمة لا يذهبنّ أوانه، فيبقى في قلوبكم الحسرة)(1).

وروى الشيخ الكليني بسند صحيح عن محمد بن مسلم قال (سألت أبا عبدالله -- أي الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) -- عن السبع المثاني والقرآن العظيم أهي الفاتحة؟ قال: نعم، قلت: بسم الله الرحمن الرحيم من السبع؟ قال: نعم، وهي أفضلهن)(2). 2

ص: 22


1- عيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 1/ 360 ح 60، أمالي الصدوق: 148 ح 2 ، بحار الأنوار:92/ 227
2- وسائل الشيعة: 6/ 57 أبواب القراءة ، باب: 11 ح 2

ومن أسمائها (أم الكتاب) والأم لغة هي الأصل والجامع(1) فكأن السورة أصل القرآن وجامعةٌ لمقاصده ومحتوية على معارفه الإلهية.ولسورة الفاتحة آثار وبركات عظيمة بحسب ما ورد في الروايات(2) ومنها ما في تفسير العياشي (قال: قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لجابر بن عبدالله: يا جابر الا اعلمك أفضل سورة أنزلها الله في كتابه! قال: فقال جابر: بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله علمّنيها، فعلمه (الحمد لله) أم الكتاب، قال: ثم قال له: يا جابر: الا أخبرك عنها؟ قال: بلى بأبي أنت وأمي، فأخبرني، قال: هي شفاء من كل داء الا السأم -يعني الموت-)(3) وروي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (في فاتحة الكتاب شفاء من كل داء)(4) أي انها سبب لذلك والنتائج بيد الله تعالى كالأدوية.

وروي عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) اذا كسل أو اصابته عين أو صداع بسط يده فقرأ فاتحة الكتاب والمعوذتين ثم يمسح يده على وجهه، فيذهب ما كان يجده)(5) وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من نالته علة فليقرأ في جيبه الحمد لله سبع مرات فان ذهبت والا فليقرأ سبعين مرة وأنا ضامن له العافية)(6) وقريب منه ما في كتاب طب الأئمة(7) (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الا أنه أضاف اليه الاذان والإقامة.52

ص: 23


1- لسان العرب: 13/ 472
2- تجد جملة منها في تفسيري البرهان ونور الثقلين
3- عن تفسير العياشي: 1/ 20 ح 9 ، بحار الأنوار: 92/ 237 ح 33 ، مسند ابن حنبل: 6/ 187 ح 17608
4- سنن الدارمي: 2/ 902 ح 3247، شعب الايمان: 2/ 450 ح 2370 ، كنز العمال: 1/ 557 ح 2500
5- مكارم الاخلاق: 2/ 203 ح 2523
6- الامالي للطوسي: 284 ح 553 بحار النوار: 92/ 231 ح 13 الدعوات: 189 ح 525
7- طب الائمة: ابن سابور الزيات:52

ويصل عظيم تأثيرها إلى مستوى ما جاء في الرواية الصحيحة في الكافي عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (لو قرئت الحمد على ميت سبعين مرة فرُدَّت فيه الروح ما كان ذلك بعجب)(1).والبسملة عندنا نحن الامامية جزء من كل السور القرآنية الا سورة التوبة لعلة ذكرتها الروايات(2) فلا يصح افتتاح أي سورة الا بها وجزئيتها من كل سورة تعني ان للبسملة في كل سورة معنى غير ما في السورة الأخرى وان اشتركت لفظاً، وهي آية من سورة الفاتحة وبها بلغ عدد آياتها سبعاً.

وقد تكرّر الأمر بأن يبتدئ بالبسملة كقوله تعالى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق:1) وقوله تعالى {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا} (المزمل:8) وقوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (الأعلى:15).

فمن الغريب تعدد أقوال العامة في البسملة فنفى بعضهم ان تكون آية من أية سورة وقال غيرهم بأقوال أخرى حتى انهم اسقطوها من سورة الفاتحة وتركوا الجهر بقرائتها في الصلاة.ى.

ص: 24


1- الكافي: 2/ 623 ح 16 / الدعوات: 88 ح 522 ، مكارم الاخلاق: 2/ 183 ح 2482
2- روى ابن عباس قال: (سألت علي بن ابي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لِمَ لم تكتب في براءة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟ قال: لأنها أمان، وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان) المستدرك:2/ 330) ويرى قسم ان عدم البسملة لأنها استمرار لسورة الأنفال وإن كانت سورة مستقلة، وهنا التفاتة لاهل المعرفة بأن سورة التوبة التي نزلت في البراءة من المشركين وان لم تبدأ بالبسملة الا ان الله تعالى لرحمته بعباده لم يشأ حرمانهم من لطفه العام فبدأها بالباء التي جمعت فيها علوم البسملة التي جمعت فيها علوم الفاتحة التي اودع فيها علوم القرآن كما في الحديث الذي سنشرحه في الملحق ان شاء الله تعالى.

رغم انهم رووا في صحاحهم عن جمع من الصحابة ما يدل على انها آية من سورة الحمد وان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان يقرأها ويجهر بها وروى الثعلبي في تفسيره(1) عن أبي هريرة ان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) زجر رجلاً قرأ الفاتحة بدون البسملة.وعندنا استحباب الجهر(2) بالبسملة في جميع الصلوات وأنه من علامات المؤمن(3) وأخرج الطبراني والدار قطني والبيهقي في شعب الايمان عن عدد من الصحابة ان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان يجهر بالبسملة في صلواته)).(4)

وآية البسملة فيها تأديب بأن نفتتح كل كلامنا وأفعالنا باسم الله تعالى لأنه عزوجل {هُوَ الأَوَّلُ} (الحديد:3) ليكون العمل مباركاً ولا يكون كذلك ولا تكون التسمية صادقة الا اذا توفر عنصران بأنٍ يكون الأمر حقاً ويكون مخلصاً لله تعالى فالتسمية تدعوا الى هذين الأمرين، وكان أول أمر نزل على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هو ان يبدأ رسالته وتبليغه عن الله تعالى بالبسملة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق:1).

وهو أدب سار عليه الأنبياء الكرام (صلوات الله عليهم أجمعين) ومثاله قول النبي نوح (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) {وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} (هود:41) وبدأ 7

ص: 25


1- تفسير الثعلبي: 1/ 104
2- دلت عليه عدة روايات في وسائل الشيعة: 6/ 57 أبواب القراءة، باب 11
3- روى الشيخ الطوسي في (مصباح المجتهد:787) عن الامام الحسن العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (علامات المؤمن خمس: صلاة الاحدى والخمسين وزيارة الأربعين والتختم في اليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)
4- المستدرك للحاكم: 1/ 736، الدر المنثور للسيوطي:1/ 7

النبي سليمان رسالته بها {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (النمل:30). وقد جرت سيرة العقلاء على افتتاح كلامهم ومشاريعهم باسم عظيم في نظرهم أو اقترانه بمبدأ يخلّد الفعل والحدث، وقد نبّه القرآن الكريم إلى هذا الشأن قال تعالى {فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} (البقرة:200) والله تعالى هو مانح الخلود ومجمع صفات الكمال فأولى أن ترتبط كل الأمور به تبارك وتعالى.

واسم الله عظيم البركة قال تعالى {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} (الرحمن:78)، ومن الدلائل على عظمة البسملة ما رواه الشيخ الطوسي بسنده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والشيخ الصدوق بسنده عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وفي عدة روايات عنهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قالوا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أقرب الى اسم الله الأعظم من ناظر العين الى بياضها)(1) وفي ثواب الأعمال بسنده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اسم الله الأعظم مقطع في أم الكتاب)(2).

ورد في تفسير العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه عن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حدثني عن الله عزوجل أنه قال: كل أمر ذي بال لا يذكر بسم الله فيه فهو أبتر)(3) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إن العبد اذا أراد أن يقرأ أو يعمل عملاً17

ص: 26


1- التهذيب: 2/ 289 ح 1159 ، ثواب الأعمال: 104
2- ثواب الأعمال:104، البرهان:1/ 80
3- وسائل الشيعة: 7/ 170 ، كتاب الصلاة ، أبواب الذكر، باب 17

فيقول {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فأنه يبارك فيه)(1) وروى البرقي في المحاسن بسنده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اذا توضأ أحدكم ولم يسمِّ كان للشيطان في وضوئه شرك، وإن أكل أو شرب أو لبس وكل شيء صنعه ينبغي له أن يسمي عليه، فإن لم يفعل كان للشيطان فيه شرك)(2) وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (لا تدع {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وإن كان بعده شعر)(3) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ولربما ترك بعض شيعتنا في افتتاح أمره {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فيمتحنه الله عزوجل بمكروه لينبهه على شكر الله تبارك وتعالى عليه ويمحق عنه وصمة تقصيره عند تركه بسم الله)(4) ولما كانت الصلاة عمود الدين والقرآن ثقل الله الأكبر فهما أولى بهذا الافتتاح فكيف اسقطوا البسملة منها؟.

((ان البسملة تنتج عدة أثار معنوية:

منها : انها توجب تكامل النتيجة وصفائها وخلوصها

ومنها: انها تنفي عنها النقص والمحدودية والظلمانيه. فمثلاً عند الاكل تنفي بالبسملة اضرار الطعام المادية والروحية، وكذلك عند الابتداء بالسور8.

ص: 27


1- بحار الأنوار:89/ 242، تفسير الامام العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 25
2- وسائل الشيعة: 6/ 57 أبواب القراءة: الباب 11، 12،21
3- و(4) نور الثقلين:1/ 6-8.

بل الابتداء بكل عملٍ فإن كل عمل ينبغي ان يتكامل ويندفع سوءه ببسم الله الرحمن الرحيم.والمفروض ان الانسان ينبغي ان يكون على ذكر دائم لله تعالى، والله تعالى اعلم اننا نعجز عن ذلكن وهو استحباب الذكر في اول العمل وآخره، اما الذكر في اوله فالبسملة، واما الذكر في آخره فبالحمد وورد (اللهم صل على محمد وال محمد واختم لي بخير، فاذا كان بادئة العمل بالذكر ومنتهية به، فيكون بينها الفرد بمنزلة الذاكر)) (1)

تفسير الآية:

(بِسْمِ) أي بإسم وحذفت الألف للوصل وهي ليست أصلية ومتعلق الباء محذوف يقدّر من سياق الكلام فعندما يسمى على أي فعل يكون تقديره ذلك الفعل وتقديره هنا (ابتدى) وورد هذا المعنى في الرواية عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال الله عزوجل: قسّمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، اذا قال العبد: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله جل جلاله: بدأ عبدي باسمي وحقَّ علي أن أتمم له أموره وابارك له في أحواله)(2) إلى آخر الحديث.

ص: 28


1- منة المنان: 1/ 69 ط.البصائر
2- عيون أخبار الرضا: 2/ 269، نور الثقلين: 1/ 9 ح 9.

ويمكن ان تكون الباء للاستعانة بحسب قصد الفاعل، ويكون التقدير (استعين)، ويدل عليه ما رواه الشيخ الصدوق في كتاب التوحيد بسنده عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (فقولوا عند افتتاح كل أمر صغير وعظيم: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أي استعين على هذا الأمر بالله الذي لا تحق العبادة لغيره)(1)والاسم ما يعرف به ذات الشيء ويدل على المسمى وأصله سِمْوُ بدلالة قولهم في الجمع أسماء مثل قِنوْ اقناء وحِنوْ احناء وتصغيره سُمَيّ واصله من السمو وهو الذي به رفع ذكر المسمى فيعرف به(2) من السمو والرفعة لأن المسمى يعلو بالاسم ويرتفع ويخرج من الخفاء إلى الظهور فيحضر في ذهن السامع.

وقيل أنه من الوسم والسمة أي العلامة، قال في مجمع البيان: والأول أصح، وقال السيد الخوئي (قدس سره) ((وهو خطأ لأن جمع اسم أسماء، وتصغيره سمي، وعند النسبة اليه يقال: سموي واسمي، وعند التعدية يقال: سميت واسميت، ولو كان مأخوذاً من السمة لقيل في جمعه أوسام، وفي تصغيره وسيم، وفي النسبة إليه وسمي، وعند التعدية وسمّت وأوسمت))(3).

أقول: لوحظ في الجمع والتصغير والنسبة نفس لفظ (اسم) مستقلاً من دون لحاظ اشتقاقه كالذي يقال في اللقب فلا تكون شاهداً على أحد المعنيين، فالأول أقرب لكن الثاني ممكن وليس خطأ كما قال السيد الخوئي (قدس سره) ووردت فيه49

ص: 29


1- وسائل الشيعة: 5/ 328 أحكام المساكن، باب 19
2- المفردات للراغب: 428 مادة (سمو) ، مجمع البيان: 1/ 19
3- البيان في تفسير القرآن: 449

رواية عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (معنى قول القائل بسم الله أي أسِمُ نفسي بسمة من سمات الله عزوجل وهي العبادة، قال: فقلت له: ما السمة، قال العلامة))(1).((ويصح رجوع أحد المعنيين إلى الآخر في جامع قريب: وهو البروز والظهور، لأن الرفعة نحو علامة، والعلامة نحو رفعة لذيها، وهما يستلزمان البروز والظهور))(2).

(الله) لفظ الجلالة اسم علم للذات المقدسة فيستجمع كل الأسماء الحسنى التي هي صفات.

(الرَّحْمَنِ) من صيغ المبالغة لكن ليس من جهة الموصوف وهو الله تعالى إذ {لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} (النحل: 60) وإنما من جهة اللفظ، في نفسه أو بلحاظ عطائه تبارك وتعالى كقوله تعالى {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} (البقرة:212) وهي صفة مشتقة من الرحمة وهي ضد الغلظة والقسوة والشدّة، قال تعالى {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} (الفتح:29).

وقد عُرِّفت برقة القلب والشفقة والعطف والتأثر ونحو ذلك وهي بالدقة من لوازمها عند البشر ومقدماتها التي تؤدي إلى انبعاثها وهي بهذا المعنى لا يوصف بها الله سبحانه، وإنما تعرف رحمته بآثارها على خلقه بالأنعام والتفضل وسد10

ص: 30


1- نور الثقلين:1/ 12، ح 41 عن كتاب عيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)
2- مواهب الرحمن:1/ 10

الاحتياج، قال الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وإن رحمة الله ثوابه لخلقه) (فهو رحيم لا رحمة رقّة)(1) وفي نهج البلاغة (رحيم لا يوصف بالرقّة))).(2)وهي صفة فعل أي تتحقق بظهور آثارها ولم ترد متعلقة بشيء وهذا يدل على إطلاق الرحمة وإنها غير مختصة بشيء بل تسع كل شيء، قال تعالى {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) (يس:52) وقال تعالى {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ} (الملك:3).

(الرَّحِيمِ) صفة مشبهة تدل على الثبات والدوام وملازمتها للذات كالغريزة والسجية، وايرادها بعد وصف الرحمن للإشارة إلى أنّ صفة الرحمة راسخة في الذات لأن وصف الرحمن لا يدل عليها - بحسب اهل اللغة- وان دل على سعة الرحمة، فجمع الوصفين للدلالة على اجتماع الصفتين.

ولعل الابتداء بهذين الوصفين المشتقين من الرحمة دون اسمائه الحسنى لأنها أصل كل خير ولطف وعناية بالمخلوقين، وان أفعال الله تعالى وعلاقته بعباده مبنية على أساس الرحمة، حتى في عذابه وابتلائه فأنه رحمة بالعباد ليؤهلهم إلى درجات أفضل (يا من سبقت رحمته غضبه)(3) والرحمة علة انزال الكتب وبعث الرسل، قال تعالى {هَذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:203) وقال تعالى {وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}86

ص: 31


1- نور الثقلين: 1/ 14
2- نهج البلاغة:2/ 100
3- مفاتيح الجنان، دعاء الجوشن الكبير، الفقرة:20 ، بحار الأنور: 91/ 239، 386

(يونس:57) وقال تعالى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل:89) وقال تعالى {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (الإسراء:82) وقال تعالى {وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (النمل:77) وقال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107).والرحمن اسم خاص بالله تعالى، والرحيم عام فقد وصف النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) به {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة:128) ووصف به المؤمنون {رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} (الفتح:29).

ووردت روايات في الفرق بينهما ووجه الاتيان بهما بأن الرحمن اريد به سعة رحمته الفعلية لكل المخلوقات وكل البشر محسنهم ومسيئهم، وان الرحيم للدلالة على رحمته الخاصة بالمؤمنين او في الآخرة وروى في مجمع البيان عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (ان عيسى بن مريم قال: الرحمن رحمن الدنيا، والرحيم رحيم الآخرة)(1)، وفي رواية عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (والله إله كل شيء، الرحمن بجميع خلقه، والرحيم بالمؤمنين خاصة)(2) ووجه عموم الرحمن بجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم هو إنشاؤه إياهم وإخراج الجميع من العدم الى الوجود وخلقهم احياء قادرين، ورزقه إياهم، ووجه خصوص الرحيم بالمؤمنين هو ما فعله بهم في الدنيا من التوفيق وفي الآخرة من الجنة والاكرام وغفران الذنوب والآثام، وإلى هذا المعنى يؤول ما روي عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انه قال14

ص: 32


1- مجمع البيان: 1/ 54
2- توحيد الصدوق: 1/ 230، معاني الأخبار:1/ 3 ، الكافي:1/ 114

(الرحمن اسم خاص بصفة عامة، والرحيم اسم عام بصفة خاصة)(1)، فالرحمن اسم خاص بالله تعالى لكنه يسع الجميع في عطائه وبركاته، والرحيم اسم عام يطلق على الله تعالى وغيره، الا انه خاص يتعلق بالمؤمنين، وقيل في معناه ان الرحمة الرحمانية هي التي تمنح لجميع المخلوقات على حد سواء كإفاضة الوجود، اما الرحمة الرحيمية فهي التي تمنح للموجودات خصوصياتها، ((وتلك الخصوصيات غير المتناهية المجعولة منه تبارك وتعالى مورد الرحمة الرحيمية، فكما ان في الانسان نوعاً خاصاً منه وهو المؤمن مورد رحمته الرحيمية، وكذلك يكون في المَلَك والفَلَك والجماد والنبات ايضاً.وقد ذكرا في مفتتح القرآن العظيم للإعلام بأن القرآن من ابرز مظاهر رحمتيه تعالى، اما الرحمانية فلفرض وحيه وانزاله، واما الرحيمية فلانه تبارك وتعالى تجلى لعباده، فاظهر فيه المعارف الربوبية، وخلاصة الكتب السماوية، وزبدة حقائق التكوين والتشريع وربط به قلوب اوليائه))(2) لكن ما ورد في الدعاء إنه تعالى (رحمن الدنيا والآخرة ورحيمها)(3) قد ينافي بعض الفروق المتقدمة، كما ان قوله تعالى {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة: 128) لا تدل على الاختصاص بهم لان الجملة ليس لها مفهوم ينفي الرحمة عن غير المؤمنين.55

ص: 33


1- نور الثقلين: 1/ 15 ح 54
2- مواهب الرحمن: 1/ 20
3- نُقل عن الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاء عرفة أصول الكافي: 2/ 557 ح 6، وسائل الشيعة: 8/ 41 ح / 10057 وفي الصحيفة السجادية: (171) دعاؤه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في استكشاف الهموم، نور الثقلين: 1/ 15 ح 55 ، مستدرك الحاكم: 1/ 155

ان البسملة خلاصة سورة الفاتحة التي هي أم القرآن وأصله ومجمع معارفه وعلومه التي هي المبدأ والمعاد ومسيرة التكامل إلى الله تعالى، فالبسملة عنوان الدين كله والرمز الذي يحفظ المنهج الإلهي لذا أكّد المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) على ترديدها واستحضار معانيها في كل آنات الانسان وأفعاله فاذا أكل سمى واذا شرب سمّى واذا خرج سمى واذا رجع سمى واذا ذهب لقضاء حاجة سمى وهكذا في كل شيء لأنها علامة العبودية والطاعة لله تبارك وتعالى والإخلاص له وتعين المؤمن وتثبّته وتزيد من عزيمته على فعل الخير. وقد ادرك شياطين الجن وفسقة الإنس عظمة هذه الآية فكانت ثقيلة عليهم، ففي الرواية المعتبرة عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إن ابليس رنَّ رنيناً -- أي بكى بصياح -- لما بعث الله نبيه على حين فترة من الرسل وحين نزلت أم الكتاب)(1) وروى علي بن إبراهيم بسنده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (قال أبو عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أحق ما جهر به وهي الآية التي قال الله عزوجل {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القرآن وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} (الإسراء:46))(2).

ويظهر من الروايات أن الأمويين هم الذين أسّسوا لإزالة البسملة فقدّ ((أخرج الشافعي في الأم والدارقطني والحاكم وصححه والبيهقي عن معاوية أنه قدم المدينة فصلى بهم ولم يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فناداه المهاجرون29

ص: 34


1- تفسير القمي: 1/ 29
2- تفسير القمي: 1/ 29

والأنصار حين سلّم يا معاوية أسرقت صلاتك؟ أين {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فلما صلى بعد ذلك قرأها لأم القرآن وللسورة التي بعدها. وأخرج البيهقي عن الزهري: ان أول من أسرَّ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} عمرو بن سعيد بن العاص بالمدينة))(1).وقد عبَّر الأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) عن غضبهم لهذا الانحراف وأسفهم لتضييع الأمة هذه الكرامة في روايات عديدة كقول الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (سرقوا أكرم آية في كتاب الله:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}(2) وروي عن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما بلغه ان اناساً ينزعون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أنه قال (هي آية من كتاب الله أنساهم إياها الشيطان)(3) وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (مالهم قاتلهم الله عمدوا الى أعظم آية في كتاب الله فزعموا أنها بدعة اذا اظهروها وهي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ).

هذا هو محور الاختلاف بين المنهجين واساس الصراع بين الفريقين فنحن نريد أن نثبّت اسم الله تعالى في كل الوجود ويكون كل شي لله تبارك وتعالى {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (الأنفال: 39) وهم يريدون محوه وان يأخذ الناس حريتهم في اتباع الشهوات وما تزيّنه الشياطين والفسقة لهم {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا} (النساء:27).12

ص: 35


1- الفرقان في تفسير القرآن:1/ 80
2- تفسير العياشي:1/ 19 ح 4
3- تفسير العياشي:1/ 21 ح 12

ملحق: أمير المؤمنين: (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) نقطة الباء في البسملة ومعركة التأويل

وروى الشعراني : عن الإمام علي (عليه السلام) أنّه كان يقول : لو شئت لأوقرت لكم ثمانين بعيراً من معنى (الباء)(1)

وروى القندوزي الحنفي في (ينابيع المودّة) ما لفظه : وفي الدرّ المنظم: إعلم أنّ جميع أسرار الكتب السماوية في القرآن ، وجميع ما في القرآن في الفاتحة ، وجميع ما في الفاتحة في البسملة ، وجميع ما في البسملة في باء البسملة ، وجميع ما في باء البسملة في النقطة التي تحت الباء ، قال الإمام علي كرّم اللّه وجهه : أنا النقطة التي تحت الباء.)(2)

أقول : (في) تدل على الظرفية والاحتواء فالحديث يدّل على ان في الفاتحة جميع مافي القرآن وزيادة، وان البسملة فيها جميع مافي الفاتحة وزيادة وهكذا، ولا شك ان مثل هذه الاحاديث لا تدركه عقولنا القاصرة

واعتبر بعض المفسرين هذا الكلام غير معقول ونوعا من الغلو(3)

ونقدٍّم الان وجها لفهم الحديث بعيداً عن التأويلات الفلسفية والعرفانية ننطلق اليه مما ورد في أن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقاتل على التأويل كما قاتل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على التنزيل كما في الحديث الآتي، أي أن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قاتل

ص: 36


1- تفسير البصائر 1 : 24.
2- ينابيع المودة: 1/ 68
3- حكي عن تفسير المنار: 1/ 35

العرب حتى يذعنوا للرسالة ويؤمنوا بأصل التوحيد والنبوة وعلى صدق ما جاء به رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى دخلوا الإسلام طوعاً أو كرهاً.أما بعد وفاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقد بدأت معركة التأويل، وهي معركة ضد من أرادوا أن يحرّفوا الكلم من بعد مواضعه ويتكلموا في كتاب الله بغير سلطان أتاهم ويغيّروا السنن ويظهروا البدع، ويحرموا ما أحلّ الله ويحلّوا ما حرّم الله، ويبعدوا من قرّب الله ويقرّبوا من بعّد الله، ويولّوا أمور الأمة من يتّخذ مال الله دولاً وعباده خولاً ويحكم بغير ما أنزل الله تعالى وهم مع كل ذلك يدّعون الإسلام وينتسبون إليه.

وهذه المعركة كان يشير إليها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حياته ويعلن أن قائدها سيكون علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وهو حديث رواه العامة والخاصة عن طريق جمع غفير من الصحابة، ففي مستدرك الصحيحين، روى الحاكم بطريقين عن أبي سعيد قال (كنّا مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فانقطعت نعله، فتخلّف علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يخصفها فمشى قليلاً ثم قال: إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، فاستشرف لها القوم وفيهم أبو بكر وعمر، قال: أبو بكر: أنا هو؟ قال: لا، قال عمر: أنا هو؟ قال: لا، ولكن خاصف النعل يعني علياً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فأتيناه فبشرناه فلم يرفع به رأسه كأنه قد كان سمعه من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال الحاكم: هذا حديث صحح على شرط الشيخين)(1).1.

ص: 37


1- مستدرك الصحيحين: 3/ 122، كتاب معرفة الصحابة، مناقب علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وراجع لمعرفة مصادر الحديث في صحاح العامة وكتبهم: فضائل الخمسة من الصحاح الستة: 2/ 425- 431.

وقد نظمها الصحابي الجليل عمار بن ياسر (رضوان الله تعالى عليه) في شعره الذي كان يرتجز به في معركة صفين التي استشهد فيها، فكان من رجزه:

نحن ضربناكم على تنزيله *** فاليوم نضربكم على تأويله(1)

هذا الاستحقاق لأمير المؤمنين أعطى تفسيراً لقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انه نقطة الباء التي جمعت فيها علوم القرآن ومعارفه وحاصل التفسير أن الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة تكون قابلة للتأويل والتحريف والتلاعب والتزوير وافراغها من معانيها كما عبَّر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن القرآن بأنه (حمّال ذو وجوه) (2) الا أن يقوم العالم بالقرآن والعارف بأسراره ومعانيه بإيضاح الحقائق، ووضع النقاط على الحروف كما يقال لأن الحروف تتشابه في الهيئات كالباء والتاء والثاء والياء والنون، وإنما يميز بينها وضع النقطة على الحرف، فكما أن وضع النقطة هو الذي .. يعطي للحرف معناه، كذلك أمير المؤمنين هو الذي يبيّن حقائق التنزيل ويضع الأمور في نصابها ويرجع كل شيء إلى حقيقته وهو معنى التأويل.

ولولا ذلك الدور الذي قام به أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لكانت تفاصيل العقائد والأحكام مجملة ومبهمة مما يفسح المجال واسعاً لأن يقوم كل أحد بتأويلها حسب مشتهياته وأهوائه، وهذا حال من لم يرجع إلى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ليعرف تأويل المتشابهات {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء56

ص: 38


1- الوافي بالوفيات للصفدي: 22/ 233
2- بحار الانوار: 2/ 245 ح56

الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (آل عمران:7).إن معركة التأويل هي المعركة الأصعب التي تزلّ فيها الأقدام وتضلّ فيها العقول لأن الخصوم يلبسون نفس الثوب أي ثوب الدين ويدّعون لأنفسهم نفس الهالة من العناوين والألقاب المقدّسة، وكلٌ يدّعي وصلاً بصاحب الرسالة والمشروع، ويضفي على حركته المشروعية ويستدل على أحقيته من نفس المصادر، فهناك تختلط الأوراق وتعصف الفتن وتكثر الشبهات.

وهذا الذي حصل بعد وفاة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مباشرة حينما انقلبوا على الأعقاب وكان أثمن قربان يقدَّم في تلك المعركة هي فاطمة الزهراء (علیها السلام)، وعندما تولّى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الخلافة فنكث البيعة قوم لهم عناوين كبيرة وقريبو الصلة برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، ثم قسط آخرون ومرق فريق ثالث ووقف على الحياد فريق رابع، لكن الصفوة الذين وعوا رسالة الإسلام واتبعوا تعاليم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حقيقة كانوا ثابتين على الحق ولهم رؤية واضحة كعمار بن ياسر الذي كان يقاتل في صفين ويقول (والله لو هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق وأنّهم على الباطل)(1).

هذه المعركة التي مزقت بأحزانها وآلامها قلب أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وملأته قيحاً وجعلته يتمنى الموت ويجده حرياً وجديراً به.(2)67

ص: 39


1- الاستيعاب لابن عبد البر: 2/ 423 ترجمة عمار بن ياسر.
2- الكافي: 5/ 4 ح6، نهج البلاغة:1/ 67

إن معركة التأويل ليست مختصة بزمان أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، بل هي مفتوحة في كل زمان ومكان، روي عن أبي عبد الله الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين كما ينفي الكير(1) خبث الحديد)(2). وليس هذا فحسب بل انها تتعقد أكثر وتضيق حلقة البلاء وتشتد، فبعد أن كانت بين أئمة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) واتباعهم من جهة وبين الحكام المنحرفين والسائرين في ركابهم واتباعهم من العامة من جهة أخرى، تطوّرت لتكون داخل مدرسة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بين من واصلوا إتّباعَ الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) الاثني عشر واحداً بعد واحد وهم الإمامية وبين من انشق عنهم ليؤسس فرقاً عديدة، ثم ضاق البلاء واشتدّ الامتحان أكثر في الدائرة الأخيرة بين مستحق نيابة المعصوم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وبين من يتقمصها ويدعيها بغير حق، وفي كل دائرة كان يفشل جمع كبير ويسقط في الامتحان وهذا مصداق حديث الإمام الباقر (هيهات هيهات، لا يكون فرجنا حتى تغربلوا ثم تغربلوا ثم تغربلوا، يقولها ثلاثاً حتى يذهب الله تعالى الكدر ويبقى الصفو)(3).6.

ص: 40


1- وهو الزقّ الذي ينفخ فيه الحداد.
2- سفينة البحار 1/ 204.
3- كتاب الغيبة للشيخ الطوسي (قده): 206.

وحديث الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لإبراهيم بن هلال (أما والله يا أبا إسحاق، ما يكون ذلك – أي الفرج بظهور الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) –حتّى تُميّزوا وتُمحَّصوا، وحتى لا يبقى منكم إلاّ الأقل)(1).وظاهر الرواية أن الخطاب موجّه فيها إلى الشيعة.

ولأهمية هذه المعركة وخطورة آثارها وتداعياتها على الدين وعلى المجتمع فقد ورد التحذير الشديد من التقصير فيها، في كتاب المحاسن للبرقي بسنده عن أبي عبد الله الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (قال: قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إن العالم الكاتم علمه يبعث أنتن أهل القيامة ريحاً تلعنه كل دابة حتى دواب الأرض الصغار)(2).

وفيه روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (إذا ظهرت البدعة في أمتي فليظهر العالم علمه فإن لم يفعل فعليه لعنة الله)(3).

وفي التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إذا كتم العالم العلم أهله، وزهد الجاهل في تعلم ما لابد منه، وبخل الغني بمعروفه، وباع الفقير دينه بدنيا غيره جلّ البلاء وعظم العقاب)(4) وهذا الحديث يلخّص لنا باختصار أسباب ما نحن فيه من البلاء والمحنة.64

ص: 41


1- كتاب الغيبة للنعماني: 208، باب12، ح14.
2- المحاسن: 231 باب 17 ح 176، 177.
3- الكافي: 1 / 54 / 2.
4- سفينة البحار الشيخ علي النمازي: 9/ 64

إن سلاح هذه المعركة هي المعرفة بالله تبارك وتعالى وطاعة رسوله الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وإتّباع المراجع العالمين المخلصين والتفقه في الدين والبصيرة في الأمور، والحكمة في التصرف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان الحقائق وتجلية المواقف، وتصحيح المفاهيم الخاطئة، وإصلاح المناهج والسلوكيات المنحرفة.فهي إذن ليست وظيفة مراجع الدين والعلماء والحوزة العلمية فقط، وإنما يقع على كل فرد في المجتمع جزء من المسؤولية بحسب موقعه ومؤهلاته وما يتوفر لديه من أدوات المواجهة التي ذكرناها كما يظهر من رواية تفسير العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) المتقدّمة، فبعضهم بعلمه وآخر بماله وثالث بنفوذه ووجاهته، والجميع مطالبون بمشاركتهم في كل عمل وحركة لله تعالى فيها رضا وللأمة فيها صلاح، والله ولي التوفيق.

ص: 42

القبس /2: سورة البقرة:143

اشارة

{وَكَذَلِكَ جَعَلنَكُم أُمَّة وَسَطا}

موضوع القبس: الوسطية و الاعتدال في الإسلام

من المفاهيم التي اُختطفت وحُرِّفت عن معناها الحقيقي (الوسطية) والاعتدال حيث أصبحت تعني - وفق الثقافة المستوردة - التخلي عن التعاليم الدينية التي تراها القوى المستكبرة متشددة لأنها تضّر بمصالحها وتكشف خططها الخبيثة الماكرة وتوقظ الشعوب، حتى فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعتبرونها تشدّداً ومخالفة للحريات الشخصيّة بحسب زعمهم ونحو ذلك من الاصنام التي صنعوها وفرضوا على الناس عبادتها وتقديسها وقنّنوا لها القوانين وألبسوها ثياباً جذابة كالديموقراطية والحريات العامة وحقوق الانسان والدولة المدنية, ونحو ذلك, ليخدعوا بها الناس ويفرّغوا محتواهم العقائدي حتى يحوّلوهم إلى عبيد خانعين لهم منقادين لسياساتهم، مستفيدين من تطرف بعض الحركات والمجاميع المدعّية للإسلام والتي وصُفت بالإرهاب فحمّلوا هذه المفاهيم الأخلاقية والاجتماعية اوزار الصراعات السياسيّة.

وقد انخدع بهذا جملة من الإسلاميّين ورجال الدين, فاقتنعوا بأن الدولة المدنية لابد أن تكون بعيدة عن الدين، وعلى القيادة الدينية أن لا تتدخل في السياسة ولا تُمارس وظيفتها في ارشاد الأمة وتوجيهها نحو الصلاح.

ص: 43

والوسطيّة مفهوم قرآني, وليس من ابتداعاتهم حتّى نأخذ مفهومه وحدوده منهم.قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا} (البقرة:143) وقال تعالى في نفس المعنى {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} (الحج:78), فاستحقاقها لمقام الشهادة على الناس تفرع على اجتبائها لتكون الأمة الوسط أي خير الأمم وأفضلها، حيث قال اهل اللغة: الوسط من كل شيء (افضله واعدله)(1), وفي مجمع البيان (الوسط: العدل، وقيل الخير)(2).

ومنه يظهر الوجه في جعلهم شهداء على الناس لأنهم الأفضل من بين الأمم كما ان الأنبياء اصبحوا شهداء لأنهم الأفضل، فتتفرع الشهادة عن الأفضلية, كما تفرعت عن الاجتباء في آية سورة الحج المتقدمة.

والوسطية يمكن ان يكون لها أكثر من منشأ:

1- الوسطية بمعنى الأفضلية والخيرية ويتفرع عليها الوسطية في المرتبة بين النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعامة الناس فالأمة الوسط لها مقام الشهادة على الناس كافة ويكون الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عليهم شهيدا.6.

ص: 44


1- كتاب العين - الخليل الفراهيدي:7/ 279.
2- تفسير مجمع البيان - الشيخ الطبرسي: 1/ 416.

2- الوسطية بمعنى التوسّط في الاعتقاد والسلوك بين الافراط والتفريط, فليسوا هم غارقين في الماديات وملذات الجسد كاليهود والمشركين, ولا في الرهبانية التي تقفز على الواقع ولا تعترف بحاجات الجسد كالنصارى.

والجماعة التي تلتزم بالمعنى الثاني هي التي تستحق المرتبة المذكورة في المعنى الأول فلا منافاة بين المعنيين(1).

وعلى هذا فالأمة الوسط لا تشمل كل من ادعى الإسلام ظاهراً وإنما فئة خاصة من الأمة، وإنما اُضيف الوصف إلى كل الأمة لأنها ضمت هذه الفئة وأنها فيهم, كتفضيل بني إسرائيل على العالمين, بمعنى أن هذه الفضيلة فيهم ولا يلزم منه اتصاف كل واحد منهم بها.

روى العياشي في تفسيره عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (البقرة:143), فإن ظننت أن الله عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحدين، أفترى أن من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب الله شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الأمم الماضية، كلا لم يعن الله مثل هذا من خلقه، يعني الأمة التي وجبت لها دعوة إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) {كُنتُمْ خَيْرَ5.

ص: 45


1- ذكر هذا الاشكال السيد الطباطبائي (قدس سره) قال: (إن كون الأمة وسطاً إنما يصحّح كونها مرجعاً يرجع إليه الطرفان، وميزاناً يوزن به الجانبان لا كونها شاهدة تشهد على الطرفين فلا تناسب بين الوسطية بذاك المعنى والشهادة وهو ظاهر، إذ لا يترتب شهادة الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على الأمة على جعل الأمة وسطاً، كما يترتب الغاية على المغيى والغرض على ذيه) الميزان- السيد الطبطبائي:1/ 315.

أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران:110) وهم الأمة الوسطى وخير أمة أخرجت للناس)(1).ويقف على رأس هذه الأمة الشاهدة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ففي عدة مصادر ومنها الكافي بسنده عن بريد العجلي قال: (سألت أبا عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن قول الله عزوجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} (البقرة:143), فقال: نحن الأُمة الوسطى ونحن شهداء الله على خلقه وحججه في أرضه)(2).

وفي حديث آخر: (الينا يرجع الغالي وبنا يرجع المقصِّر)(3).

لأن الشهادة على شيءٍ تتطلب حضوراً عنده ومعاينة له فالشهادة على اعمال الناس لا تحصل الا للمعصومين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

ويمكن أن يتسع مفهوم الأُمة الوسط, لتشمل الدعاة إلى الله تبارك وتعالى, والعاملين الرساليين, الذين يجسدون تعاليم الإسلام في حياتهم.

اذا فهمنا الشهادة على الناس بمعنى الحجة وممارسة الرقابة والشهادة على إمكانية ان يكون الانسان مستقيماً ومتوازناً في حياته، وهم يؤدّون هذا الدور.

فيقال يوم القيامة لمن عصى وقصّر في فعل الطاعة واجتناب المعصية معتذراً4.

ص: 46


1- تفسير العياشي: 1/ 63 ح114.
2- الكافي- الكليني:2/ 146.
3- تفسير نور الثقلين- الشيخ الحويزي:1/ 134.

بصعوبة ذلك على الانسان المملوء بالشهوات والغرائز، فيقال له ألم يكن فلان صالحاً وهو انسان مثلك فيكونون شهداء على الناس بهذا المعنى.فالوسطية تعني فيما تعني التسليم لله تعالى والانقياد له والاستقامة على الدين والاعتدال في المسيرة والعدل في الحكم والإحسان الى الناس ونبذ كل انحراف وزيغ وضلال {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل:90).

وبهذا نفهم ورود الآية في سياق الحديث عن تحويل قبلة المسلمين في المدينة من بيت المقدس إلى مكة المكرمة، ففي الآية التي سبقتها {سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (البقرة:142), فكأن الأمر بالصلاة إلى بيت المقدس أولاً كان يستهدف سحق انانية العرب وعصبيتهم الجاهلية, وتحقيق معنى الطاعة والعبادة الخالصة لله تعالى وتحقيق معنى الأمة الوسط، فيما يصف الأُمم السابقة {وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} (البقرة:145).

ان الأمة الوسط هي الأمة المتوازنة، فهم أهل الرأي الوسط الذي يجمع حسنات الآراء الأُخرى ويتجنب سلبياتها، وهم أمة وسط لأنهم عادلون منصفون يعطون لكل ذي حق حقه، سواء على مستوى التعامل مع أنفسهم أو الآخرين أو في حقوق الله تعالى أو حقوق الناس، ففي الدر المنثور بسنده عن جمع من

ص: 47

الصحابة عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن {وسطاً} تعني (عدلاً)(1).وهم أهل الاعتدال والتوازن في قوانينهم فلا يحيفون على الفرد لحساب المجتمع - كالنظام الاشتراكي- ولا العكس كالرأسمالي, وهم متوازنون في علاقتهم فلا يذوبون في الآخرين ولا ينغلقون على أنفسهم وهكذا.

وشاء الله تعالى أن يجعلها وسطاً في حسابات التاريخ والجغرافية أيضاً.

فعلى الأول: هي وسط بين عصور الجاهلية والتخلف وعصور الرشد والنضج على كل الأصعدة العلمية والفكرية والأخلاقية والاجتماعية.

وعلى الثاني: تحل هذه الأمة وسط الأرض ومنها تمرّ خيرات الأرض وعطاء أهلها المادي والمعنوي من الشرق إلى الغرب, ومن الشمال إلى الجنوب وبالعكس.

ومن هنا يتبيّن ان لا وسطية الا في الإسلام الأصيل, وليس في الثقافات المستوردة من المستكبرين, فلا وسطية وهم يتبعون شهواتهم واهواءهم وما تمليه عليهم شياطينهم, قال تعالى: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً} (النساء:27), والميل خلاف الوسطية, فهم أبعد ما يكونون عنها.

ولكنهم يُريدون أن يبتزونا بهذا التحريف للمصطلحات لنتخلى عن هذه الجوهرة العظيمة _ أعني الإسلام_ ، بل الآية تؤكِّد ان المسلمين هُم الأُمة الوسط - أي النموذج الأمثل والأفضل- التي يجب ان ترجع إليها الأمم الأخرى وتتبعها,3.

ص: 48


1- الدر المنثور- جلال الدين السيوطي: 1/ 144- تفسير القرطبي- القرطبي: 2/ 153.

وليس العكس. فليثقوا بأنفسهم وبما عندهم، على ان لا يتكئوا على امجاد الماضي والتفاخر بمآثر الصالحين من دون عمل صالح يستحقون به هذا المقام.

دلالة الآية على وجود الامام المهدي (عج) وحياته:

ومن الآيات القرآنية التي يُستدل بها على وجود الامام المهدي الموعود (عج) واستمرار حياته قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (البقرة:143), وتوضيح الاستدلال يكون من خلال عدّة نقاط:

1- ان الآية الكريمة جعلت للأمة الوسط مقام الشهادة على الناس, أي يشهدون على أعمالهم عند الله تعالى.

2- ان الناس جميعاً من الأولين والآخرين مشمولون بهذه الشهادة, ولا يستثنى أحد من الشهادة على اعماله, لعدم الفرق بين واحد وآخر وشمول الجميع بقانون الثواب والعقاب.

فلابد أن يكون واحد من الأمة الوسط موجوداً في كل زمان وفي كل جيل, ليؤدي الشهادة على الناس، ولا يخلو زمان من شاهد على الاعمال, لأنه يعني وجود أمة من الناس لا يُشهد على أعمالهم.

3- الشهادة تتطلب حضوراً ومعاينة, ليشهد عن حس ووجدان وليس عن سماع أو إخبار من الآخرين أو تخمين أو ظن, وهو معنى الشهادة، ولا تتيّسر

ص: 49

القدرة على معاينة كل اعمال الناس والاطلاع عليها الا للمعصومين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), وهو مفاد قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (التوبة:105), فالأمة الوسط التي تشهد على اعمال الناس يوم القيامة هم الأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).وقد دلّت الروايات على ذلك, كالحديث الذي رواه الشيخ الكليني في الكافي بسنده عن بريد العجلي قال: (سألت أبا عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن قول الله عزوجل {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} (البقرة:143), فقال: نحن الأُمة الوسطى ونحن شهداء الله على خلقه وحججه في أرضه)(1).

فنتيجة هذه المقدمات وجود المعصوم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في كل زمان, ليشهد على أعمال الناس, وليس هو في زماننا الا الامام المهدي (عج) لعدم وجود غيره.2.

ص: 50


1- الكافي- الكليني:1/ 146/ح2.

القبس /3: سورة البقرة:152

{فَٱذكُرُونِي أَذكُركُم}

تشريف وتكريم من الخالق العظيم لعباده, بأن يقرن ذكره بذكرهم ويبادلهم الذكر, فيذكرهم اذا ذكروه, ومن دعاء للإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إلهِي أَنْتَ قُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً 41 وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الأحزاب:42), وَقُلْتَ, وَقَوْلُكَ الْحَقُّ: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} (البقرة:152), فَأَمَرْتَنا بِذِكْرِكَ، وَوَعَدْتَنا عَلَيْهِ أَنْ تَذْكُرَنا تَشْرِيفاً لَنا وَتَفْخِيمَاً وَإعْظامَاً، وَها نَحْنُ ذاكِرُوكَ كَما أَمَرْتَنا، فَأَنْجِزْ لَنا مَا وَعَدْتَنا يا ذاكِرَ الذَّاكِرِينَ، وَيا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ)(1).

بينما لا يطمع الانسان في ان يذكره إنسان ضعيف عاجز مثله, وهو يعشقه ويصفّق له ويلهج باسمه ويلهث وراءه ويدافع عنه, وربما يُضحي من اجله, والآخر لا يعرفه, ولا يقيم له وزناً, فشتّان بين المعبودين!

والمُراد بذكر الله تعالى عبده اذا ذكره, منحه العطاء الخاص, وترتيب الأثر المناسب, والا فان الله تعالى لا يغفل عن عباده, ولا يهملهم, وهم يتقلبون بنعمه دوماً {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} (الحديد:4).

ص: 51


1- بحار الانوار- المجلسي: 94/ 151/ ح21.

وهذا العطاء الخاص له اشكال عديدة, ويتناسب مع نوع الذكر, لأن ذكره لله تعالى يجعله مؤهلاً لنزول البركات والمنن والعطايا، ففي حديث نبوي شريف في تفسير الآية: (اذكروني يا معاشر العباد بطاعتي, اذكركم بمغفرتي)(1), والطاعة تشمل الواجب والمستحب، والمغفرة تشمل محو الذنوب المقترفة, أو عصمة العبد ووقايته من الوقوع في غيرها.أو يذكره الله تعالى بالرحمة اذا ذكر ربّه بالطاعة, قال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (آل عمران:132).

وفي حديث آخر عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (اذكروني بالطاعة والعبادة, اذكركم بالنعم والإحسان والراحة والرضوان)(2).

أو يذكر ربّه بالشكر, فيذكره بزيادة النعم {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} (إبراهيم:7).

او اذكروني بالدعاء لأذكركم بالإجابة {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر:60).

او اذكروني في الدنيا, لأذكركم في الآخرة.

او اذكروني في عالمكم الصغير, لأذكركم في العالم الكبير, ونحو ذلك مما ورد في الاحاديث الشريفة.3.

ص: 52


1- الدر المنثور- السيوطي: 1/ 148.
2- عدة الداعي- ابن فهد الحلي:238- بحار الأنوار - المجلسي: 90/ 163.

ففي الحديث النبوي الشريف قال الله تعالى: (انا عند ظن عبدي بي, وانا معه اذا ذكرني، فان ذكرني في نفسه, ذكرته في نفسي, وان ذكرني في ملأ, ذكرته في ملأ خير منهم, وإن تقرّب اليّ شبراً, تقربتُ إليه ذراعاً)(1).وفي الحديث الآخر عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (قال الله عز وجل ذكره: لا يذكرني أحد في نفسه, الا ذكرته في ملأ من ملائكتي, ولا يذكرني في ملأ, الا ذكرته في الرفيق الأعلى)(2).

ولذا يحظى ذكر الله تعالى بأهمية كبيرة, ومن الأسباب القوية لبلوغ الكمالات، وفي الحديث الشريف: (أحب الاعمال الى الله أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله)(3), أي يكون الانسان في ذكر مستمر, حتى اذا فاجأه الموت, كان لسانه رطباً بذكر الله تعالى.

وفي حديث آخر عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (ليس يتحسّر أهل الجنة الا على ساعة مرّت بهم لم يذكروا الله تعالى فيها)(4), وروي عنهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إن في الجنة قيعاناً(5)، فاذا4.

ص: 53


1- مستدرك الوسائل- الميرزا النوري: 5/ 298. واخرجه السيوطي في الدر المنثور عن أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي في شعب الايمان. الدر المنثور - جلال الدين السيوطي: 1/ 149.
2- الدر المنثور- جلال الدين السيوطي: 1/ 149- كنز العمال- المتقي الهندي: 1/ 432.
3- تفسير مجمع البيان- الطبرسي: 8/ 30- الجامع الصغير- جلال الدين السيوطي: 1/ 36.
4- كنز العمال- المتقي الهندي: 1/ 422.
5- القاع والقاعة والقيع: أرض واسعة سهلة مطمئنة مستوية حرة لا حزونة فيها ولا ارتفاع ولا انهباط، تنفرج عنها الجبال والآكام، ولا حصى فيها ولا حجارة ولا تنبت الشجر، وما حواليها أرفع منها وهو مصب المياه. لسان العرب - ابن منظور: 8/ 304.

أخذ الذاكر في الذكر أخذت الملائكة في غرس الأشجار فربما وقف بعض الملائكة فيقال له: لم وقفت؟ فيقول: إن صاحبي قد فتر، يعني عن الذكر)(1).وروى في عدة الداعي, ان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) خرج على أصحابه فقال: (ارتعوا في رياض الجنة، قالوا: يا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وما رياض الجنة، قال: مجالس الذكر اغدوا وروحوا واذكروا، ومن كان يحبُّ ان يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده، فان الله تعالى يُنزّل العبد حيث انزل العبد الله من نفسه، واعلموا أن خير أعمالكم وأزكاها وارفعها في درجاتكم وخير ما طلعت عليه الشمس ذكر الله سبحانه, فإنه أخبر عن نفسه فقال: انا جليس من ذكرني)(2).

وفيه ايضاً عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (قال سبحانه: اذا علمت أن الغالب على عبدي الاشتغال بي نقلت شهوته في مسألتي ومناجاتي، فاذا كان عبدي كذلك وأراد أن يسهو حلت بينه وبين ان يسهو، اولئك اوليائي حقا، أولئك الابطال حقاً، أولئك الذين اذا اردت أن أهلك اهل الأرض عقوبةً ذويتها عنهم من أجل أولئك الابطال)(3).

والأصل في الذكر حضور المعنى في القلب وتأثيره في الجوارح, وليس مجرد تحريك اللسان به, وإن كان هذا لا يخلو من ثمرة طيبة، لكن المطلوب حصول تلك المراتب, روى في كتاب المعاني عن ابي عبد الله الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (الا أحدثك بأشد ما فرض الله تعالى على خلقه؟ قلت: بلى، قال: انصاف2.

ص: 54


1- بحار الانوار- المجلسي: 93/ 63/ح42.
2- عدة الداعي- ابن فهد الحلي: 238- بحار الأنوار- المجلسي: 90/ 163.
3- بحار الأنوار- العلامة المجلسي: 90/ 162.

الناس من نفسك ومواساتك لأخيك, وذكر الله في كل موطن، اما اني لا أقول, سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله اكبر، وإن كان هذا من ذاك، ولكن ذكر الله في كل موطن, اذا هجمت(1) على طاعته او معصيته)(2).فتتخذ الموقف الذي يُرضي الله تعالى في كل تلك المواطن, وفي الحديث النبوي الشريف: (من اطاع الله فقد ذكر الله, وإن قلّت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن، ومن عصى الله فقد نسي الله, وان كثرت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن)(3).

وهذا يبين لنا بوضوح المقياس الذي يُعرف به الذكر والذاكر وعدم الاكتفاء بالحركات الخارجية.

وعلى هذا فالذكر له مصاديق واسعة تشمل كل الطاعات، ومنها طلب العلم والحضور في مجالس الوعظ والإرشاد وحلقات العلم.

هذا الرصيد الضخم الذي يكتسبه الانسان بالذكر, يمكن ان يُفرّط به ويُضيّعه, بسبب ارتكابه بعض الحماقات, غفلة او انسياقاً وراء اهواء النفس, ففي الحديث الشريف: (من قال سبحان الله غرس الله له بها شجره في الجنة, ومن قال الحمد لله غرس الله له بها شجره في الجنة, ومن قال لا اله الا الله غرس الله له بها شجره في الجنة, ومن قال الله اكبر غرس الله له بها شجره في الجنة. فقال: رجل9.

ص: 55


1- في بعض النسخ (هممت) والمناسب للطاعة كلمة (هممت) والمناسب للمعصية (هجمت). راجع هامش: الكافي - الشيخ الكليني: 2/ 145- بحار الأنوار- العلامة المجلسي: 72/ 35.
2- معاني الأخبار- الشيخ الصدوق: 1/ 193.
3- الدر المنثور- جلال الدين السيوطي: 1/ 149.

من قريش يا رسول الله إن شجرنا في الجنة لكثير. قال(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): نعم ولكن إياكم أن ترسلوا عليها نيراناً فتحرقوها, وذلك إن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (محمد:33))(1).وهذه النيران يمكن أن تكون الغِيبة أو الحسد أو الظلم أو انتقاص وإهانة الآخرين, أو التقصير في القيام بعمل إنساني, كان قادراً عليه.

وعلى الانسان ان يتجنّب كُل ما يُلهيه عن ذكر الله تعالى ويشغله عنه من أمور الدنيا واتباع الشهوات والاهواء, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (المنافقون:9).

وهو ما يبتغيه شياطين الانس والجن {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِر وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (المائدة:91), فيقع الانسان في الغفلة الموجبة للبعد عن الله تعالى والوقوع في المعاصي، روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله: (ليس في المعاصي أشدُّ من اتباع الشهوة فلا تُطيعوها فتشغلكم عن الله)(2), وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (كل ما الهى عن ذكر الله فهو من ابليس)(3).7.

ص: 56


1- بحار الأنوار- المجلسي: 93/ 168/ح3.
2- غرر الحكم:7520- مستدرك الوسائل- الميرزا النوري: 11/ 347.
3- ميزان الحكمة: 3/ 356, عن تنبيه الخواطر: 2/ 170- وفي لفظ أخر: (كلما ألهى عن ذكر الله فهو من الميسر). أمالي الطوسي:1/ 346- بحار الأنوار- المجلسي: 70/ 157.

وينبغي الالتفات إلى ان هذه الملازمة بين ذكر الله تعالى وذكر العبد قد تكون سلاحاً ذا حديّن, فتكون العقوبة على من يعصي الله تعالى وهو ملتفت وذاكر مضاعفة، ففي الدر المنثور عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (فمن ذكرني وهو مطيع فحقَّ عليّ أن اذكره بمغفرتي، ومن ذكرني وهو لي عاصٍ فحقَّ عليّ ان أذكره بمقت)(1).وفي نفس المصدر: (عن ابن عباس قال: أوحى الله إلى داود قُل للظلمة لا يذكروني, فإن حقاً عليَّ أذكر من ذكرني، وأن ذكري إيّاهم أن ألعنهم)(2).9.

ص: 57


1- الدر المنثور- جلال الدين السيوطي: 1/ 360.
2- الدر المنثور- جلال الدين السيوطي: 1/ 149.

القبس /4: سورة البقرة:177

اشارة

{لَّيسَ ٱلبِرَّ(1) أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُم قِبَلَ ٱلمَشرِقِ وَٱلمَغرِبِ وَلَكِنَّ ٱلبِرَّ}

موضوع القبس: افهم حقائق الأمور جيّداً (البر والعلم والعبادة أمثلة)

من ثمرات التدبر في القرآن الكريم تصحيح نظرتك للأمور وفهمك للحقائق، وهذه الآية تقوم بهذا الدور وتبيّن مفردة مُهمّة في الحياة أعني {الْبِرَّ} الذي يُعرّف بأنه: (الاتساع والزيادة في فعل الخير)(2), ولذا سميت الصحراء بالبرية لاتساعها.

وفي الحقيقة فأن الآية شرحت معنى الايمان المتكامل نظريّاً وعمليّاً, وإن عبّرت عنه بالبر، وفي كتاب الدر المنثور بسنده عن أبي ذر الغفاري (رضي الله عنه) أنه سأل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن الايمان فتلا عليه الآية فأعاد السؤال فتلاها

ص: 58


1- مثبّتة بالفتح في المصحف المتداول وهي قراءة حمزة وحفص عن عاصم وحكي في وجهها انه خبر ليس مقدم على إسمها، قال في مجمع البحرين: (وهو ضعيف بجعل الاسم جملة). وقرأها الأكثر بالضمّ على القاعدة مثل نافع وابن كثير وابي عمر و ابن عامر والكسائي وغيرهم وهو المروي عن ابن مسعود وابي. راجع معجم القراءات القرآنية: 1/ 137.
2- مجمع البحرين- الشيخ الطريحي: 1/ 184- تاج العروس- الزبيدي: 6/ 69.

ثانية وهكذا ثالثة(1).وقد ورد في الروايات أن الآية نزلت للتعريض بفعل أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين كانوا يسخرون من المسلمين عندما أمر الله تعالى نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بتحويل القبلة عند الصلاة من بيت المقدس إلى الكعبة المشّرفة, وأصبح للمسلمين هوية خاصة بعد أن كان أولئك يفتخرون عليهم وانهم تابعون لهم لأنهم يصلّون إلى قبلتهم وكان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يتوق الى ان تكون الصلاة الى الكعبة بعد الهجرة الى المدينة {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (البقرة:144), فأفقدهم تغيير القبلة هذا الادعاء, فأخذوا يشككون في صحة فعل المسلمين سابقاً أو لاحقاً.

وكانت هذه حلقة من سلسلة طويلة من المواجهة مع أعداء الإسلام، وقد نزلت عدة آيات للرد عليهم، منها قوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ المشرق والمغرب} (البقرة:142), ومنها الآية التي نحن بصددها.

فالآية تقول: أن البر ليس أمراً شكلياً وحركة جسدية تتمظهر بالتوجه إلى هذه الجهة أو تلك فقط وفقط حتى يُركّز عليها الخصوم ويعتبرونها المقياس لمعرفة الحق, بينما القلوب خاوية من الايمان الحقيقي، والنفوس مجرّدة من الورع والتقوى، ولكن البر له حقيقة وراء هذه الشكليات تتكون من منظومة9.

ص: 59


1- الدر المنثور- جلال الدين السيوطي: 1/ 169.

متكاملة من الاعتقادات والأخلاق والأفعال {وَلَ-كِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّ-رَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَ-ئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَ-ئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة:177).هكذا يجب ان نُقيّم عباداتنا وسائر أعمالنا على أساس حقائقها واغراضها وليس اشكالها وحركاتها البدنية التي لا تستحق شيئاً يُذكر, اذا خلت من المضمون، حتى لا يتملك العجب أحداً من العاملين أو الشعور بأنه قدَّم شيئاً يستحق عليه جزاءاً عظيماً.

ولنأخذ أمثلة من الواقع, كشخص يحيي الليل بالعبادة وهو لا يعلم بأن الحارس الليلي يجوب الشوارع على قدميه في ظل الظروف الجوية القاسية متحملاً المخاطر والتهديدات والمسؤولية الكبيرة ويتقاضى أجره عن الليلة عشرة الاف دينار أو أكثر بقليل أي عشر دولارات فكم يستحق التعب الجسدي لإحياء الليل بالعبادة، أو نقيس الامر على الاستئجار للعبادات, فأن أجرة صلاة يوم كامل دولاراً واحداً, او اكثر بقليل, وصوم اليوم الواحد عشرة الاف دينار, أي ثمانية دولارات, ونحن نريد بهذه الاعمال أن يدخلنا الله تعالى جنة عرضها السماوات والأرض.

فلابد أن نعرف حقيقة ما يُريده الله تعالى من هذه الاعمال وهي التقوى والورع, وان تحب الله تعالى وتؤثر رضا الله تعالى على ما سواه, وأن تحب خلق

ص: 60

الله تعالى وتحسن اليهم بما يتيسر وتتجنب ظلمهم مطلقاً، قال الله تعالى {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} (الحج:37), فالقيمة الحقيقية ليست للأشكال والمظاهر وانما هي مع الروح والمضمون.والملفت في الآية التي نحن بصددها أنها انتقلت من وصف {البِّر} - المصدر- إلى وصف {البَّر} - بالفتح - أو البارَّ وهو المتصف بهذه الصفات, لأن النظرية لا تُفهم الا من خلال تجسيدها عمليّاً وابرازها في سلوك الأسوة الحسنة، ولتشير إلى أن من اجتمعت فيه هذه العناصر يْكون البر صفة راسخة فيه حتى يصبح مجسداً للبِّر على ارض الواقع كما نقول: (علي عدل) أي ان العدل ملكة راسخة فيه حتى أصبح مثالاً ومصداقاً للعدل.

والصفات المذكورة واضحة ومحورها العبودية لله تبارك وتعالى وعدم التعلق بشيء سواه، وقد ذكر إنفاق المال مرتين {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} أي على حب المال وعلى حب الله تعالى، {وَآتَى الزَّكَاةَ} وكأنه للإشارة إلى قيامه بالانفاقين الواجب والمستحب، والخطاب وإن نزل للتعريض بأهل الكتاب الا أنه شامل للجميع كما هو ديدن القرآن الكريم.

فهذه هي صفات الأمة المؤمنة حقيقة التي هي خير أمة أخرجت للناس ولها مقام الشهادة على الأمم الأخرى {لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (البقرة:143), وليس بمجرد إدعاء الانتساب.

وفي الحديث الشريف عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (أما علامة الباِّر فعشرة: يحب

ص: 61

في الله، ويبغض في الله, ويصاحب في الله، ويفارق في الله، ويغضب في الله، ويرضى في الله، ويعمل لله، ويطلب إليه, ويخشع لله، خائفاً مخوفاً طاهراً مخلصاً مستحياً مراقباً، ويُحسِنُ في الله)(1).ومحل الشاهد هنا أن من الوظائف التي اداها القرآن الكريم وضع المعايير الصحيحة وتصحيح فهم الأمور وسار على ذلك النبي والائمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، روي عن أبي الحسن موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (دخل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) المسجد فإذا جماعة قد أطافوا برجل فقال: ما هذا؟ فقيل: علّامة فقال: وما العلّامة؟ فقالوا له: أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها، وأيام الجاهلية، والأشعار العربية، قال: فقال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): ذاك علم لا يضر من جهله، ولا ينفع من علمه، ثم قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): إنما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة، وما خلاهن فهو فضل)(2).

إذن فالعلم الذي يستحق أن يُسمى علماً هو ما كان فيه نفع للناس في دنياهم أو آخرتهم وتقوم به حياتهم بحيث لو تركه الناس يصيبهم ضرر بفواته، أما ما ليس كذلك كأنساب العرب ووقائعهم في الجاهلية فلا يستحق تضييع الوقت الثمين في تعلمه.

فلابد أن نراعي ذلك فيما نطالعه ونتعلمه عبر وسائل التثقيف المتنوعة التي لم تقتصر على الكتب والصحف والمجلات، بل تعدّتها إلى شبكة النت ومواقع2.

ص: 62


1- تحف العقول- ابن شعبة الحراني:21.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 1/ 32.

التواصل الاجتماعي.ومن ذلك ما رواه معلى بن خنيس قال: (سأل أبو عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن رجل وأنا عنده فقيل: أصابته الحاجة، قال: فما يصنع اليوم؟ قيل: في البيت يعبد ربه، قال: فمن أين قوته؟ قيل: من عند بعض اخوانه، فقال أبو عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): والله للذي يقوته أشد عبادة منه)(1).

فالرواية تصحح لنا فهمنا لعنوان مهم آخر وهي (العبادة) التي نظن أنها بكثرة الصلاة والصيام وكلما ازداد منها كان أعبد الناس واذا بمفهومها أوسع من ذلك.

فكل عمل يساهم في إعمار الحياة وإسعاد الناس وإصلاحهم وتوفير الحياة الكريمة لهم هو من أسمى اشكال العبادة.3.

ص: 63


1- وسائل الشيعة (آل البيت)- الحر العاملي: 12/ 14/ح3.

القبس /5: سورة البقرة:191

{وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}

تقرّر الآية الكريمة واحدة من الحقائق القرآنية الاستراتيجية –كما يقال- التي ترتّب أولويات الحياة الانسانية وتنظم العلاقة مع الآخرين، وورد هذا المعنى بتعبير اخر في آية لاحقة، قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} (البقرة: 217)

الفتن(1) في اللغة ادخال الذهب او الفضة في النار لتخليصه من الشوائب وتمييز الجيد من الرديء ومنه نقلت الى معنى تعريض الانسان الى الاختبار والابتلاء والتمحيص بالإغراءات او بالمكاره والآلام ليتميز المحسن من المسيء، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّ-رِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (الأنبياء:35) وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} (التغابن:15) باعتبار انها ادوات واسباب للاختبار والتمحيص، وقال تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} (العنكبوت:1-2) اي لا يُختبرون حتى يتميز الخبيث من الطيب، روي عن الامام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسيرها قوله: (يُفتنون كما يُفتن الذهب، ثم يخلَصون كما يُخلص الذهب) (2).

ص: 64


1- تاج العروس للزبيدي: 18/ 425
2- الكافي: 1/ 302 / ح4

هذا هو معنى الفتنة اذا نُسبت الى فعل الله تعالى فتكون من السنن الالهية الجارية في عباده، وقد وردت الفتنة بمعنى مذموم في آيات اخرى، ولدى الاستقراء تبين ان هذا المعنى يرد اذا نُسبت الفتنة الى العباد فيُراد بها التعريض لضغوط الاغراء او الاكراه طلبا لتحقيق النتيجة الشريرة والخبيثة من الابتلاء كما في الآيتين محل البحث وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ} (البروج:10) وقوله تعالى: {وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ} (المائدة:49) وقوله تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} (الاسراء:73) وذلك بتدبير الحيل والمكائد لك وممارسة الضغوط والاغراءات عليك لصرفك عما انت عليه من الحق.وعلى هذا يكون معنى الآية ان الفتنة بمعنى الاضلال والابعاد عن الدين وايقاع الفرد في الفساد والانحراف هو اشد وأكبر من ازهاق روحه، او قل ان القتل المعنوي للإنسان بسلب دينه الذي هو سبب نعيمه في الحياة الخالدة الدائمة، هو اشد خطرا وأكبر جرما من سلب حياته المادية وفنائه الجسدي، ولإقامة الشهادة على هذه الحقيقة كان القتل من أجل دفع الفتنة والضلال وحماية الدين والمجتمع منها أقدس مراتب القتل وافضلها.

ويترتب على هذا أنَّ من يفتن الناس عن دينهم باي شكل مما سنُشير اليه يجب دفعه بشتّى الوسائل كالذي يهدد حياة الناس بل الاول احرى وان لم يشهر سلاحا، ولعل هذا هو المسوِّغ الوحيد للقتال في الاسلام بحسب ما يفيده القرآن الكريم، وبقية الاسباب والمسوِّغات ترجع اليه، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى

ص: 65

الظَّالِمِينَ}(البقرة:193) وفي اية اخرى: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه}(الأنفال:39) وهذه نتيجة مهمة تُزيل الكثير من الشبهات حول انتشار الاسلام بالسيف ونحو ذلك، لكنها تحتاج الى تفصيل من البحث(1) في مناسبة اخرى ان شاء الله.وقد جاء هذا المقطع من الآية جوابا للمشركين الذين استغربوا من قتال المسلمين في الشهر الحرام او في الارض الحرام بانكم - أيها المشركون - ارتكبتم فيها ما هو اعظم من القتل والقتال بأفعالكم الوحشية المحمومة لإخراج الناس من دينهم واعادتهم الى الجاهلية، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}(البقرة:217).

وفي بعض الروايات ان الفتنة بمنزلة الكفر، ففي الحديث عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (وانما سُمّي الكفر فتنة لان الكفر يؤدي الى الهلاك كما تؤدي الفتنة الى الهلاك)(2)

ولا فرق في تحقق هذه الفتنة بين ان تكون بالتهديد والايذاء المباشر، او بإقامة البيئة الفاسدة الضاغطة التي من شأنها ان تضلّ الناس عن دينهم وتبعدهم عن الصراط الالهي القويم بتوفير اسباب الفساد المؤثرة والاغراء وادوات التلويث الفكري والعقائدي في مناهج التعليم والثقافة والمعرفة او سنّ القوانين التي تشرعن للرذيلة والظلم وتعيق نشر الفضيلة والصلاح.47

ص: 66


1- راجع كتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) من موسوعة فقه الخلاف: الجزء الثاني.
2- تفسير التبيان: 2 / 147

وبناءً على هذه الحقيقة القرآنية فان الذين ينشرون الفساد والرذيلة في المجتمع ويشككون الناس في عقائدهم الحقة ويدعونهم الى الالحاد والانحلال الخلقي ونبذ الدين تحت مسميات عديدة منها قديمة كالدين افيون الشعوب والمضي على ما كان عليه الاباء {أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ}(ص:6) او حديثة تحت عناوين متعددة معروفة لا يقلّون خطرا واجراما عن الجماعات الارهابية الذين ينشرون القتل والخراب في كل مكان، بل ان الجماعة الاولى اكثر اجراما من الثانية لان القتل المعنوي بحسب هذه الحقيقة القرآنية اعظم في الواقع من القتل المادي.وفي مقابل ذلك فان من يحيي وظيفة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ويقيم الدين في المجتمع امتثالا لقوله تعالى {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} (الشورى:13) وينصح الناس ويرشدهم ويقوّي عقائدهم، ويدفع عنهم الشبهات والاباطيل التي يبثها اعداء الله ليخرجوا الناس من الظلمات الى النور، ويهدونهم الى الحياة الباقية هم أعظم اجرا ومنزلة عند الله من المجاهدين المقاتلين الذين يضحّون بدمائهم من اجل حماية ارواح الناس وحفظ حياتهم المادية.

وفي ضوء هذه الحقيقة نفهم الحديث الشريف عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (اذا كان يوم القيامة جمع الله عز وجل الناس في صعيد واحد ووضعت الموازين، فيوزن دماء الشهداء مع مداد العلماء، فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء)(1) وليس المراد مطلق المداد والحبر على الورق ما لم يكن علماً ينتفع67

ص: 67


1- ميزان الحكمة / ج3 / ص 2067

الناس به ولا يكتفي صاحبه بحمله بل يعمل به وينشره بين الناس ويدعوهم اليه حتى يهتدوا به.وتوجد كلمة قيّمة للإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مستفادة من هذه الآية تحث على العمل الاجتماعي وتعطيه اعلى قيمة، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لرجل: (ايهما احبُّ اليك، رجلٌ يروم قتل مسكين قد ضعُف تنقذه من يده، او ناصبٌ يريد اضلال مسكين من ضعفاء شيعتنا تفتح عليه ما يمتنع به ويفحمه ويكسره بحجج الله تعالى) قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (بل انقاذ هذا المسكين المؤمن من يد هذا الناصب، ان الله تعالى يقول {مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعا} (المائدة:32) اي ومن احياها وارشدها من كفرٍ الى ايمان فكأنما احيا الناس جميعا من قِبلَ ان يقتلهم بسيوف الحديد)(1).

فهذا جواب والقاء المعلومة بصيغة السؤال (ايهما احبُّ اليك) اي ليكن هذا الامر احبُّ اليك من الآخر وانما عرضها (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بصيغة السؤال ليشترك المتلقي معه في صنع المعلومة والتفكير فيها والاستعداد اكثر لتقبّلها، والقاها بهذا التعبير الوجداني (أحبّ) لان القناعة العقلية بكون الفتنة عن الدين اشد من القتل حاصلة من الآيتين الكريمتين فالقناعة بهذه الحقيقة كاملة وانما انتقل الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الى مرحلة العمل بان يكون تعلقك بإنقاذ المجتمع من الجهل والشبهات والفتن وتعليمهم العقائد واحكام الدين والاخلاق الفاضلة اكثر من اهتمامك باي شيء اخر مهما كان مهماً كإنقاذ انسان مستضعف من القتل.31

ص: 68


1- بحار الانوار: 2 / 9 ح17 عن تفسير العسكري: 348 / ح 231

اما لماذا كانت الفتنة عن الدين اشد واكبر من القتل، فيمكن الاجابة عنه بوجوه:-1- ان الدين وعبادة الله تبارك وتعالى اقدس شيء في هذا الوجود وهو غاية خلق الانسان والهدف من وجوده، لذا يرخّص كل شيء من اجل الاحتفاظ بهذا الحق المقدس، فقد ضحى اكرم الخلق من الانبياء والمرسلين والائمة (صلوات الله عليهم اجمعين) ومن تبعهم من الصالحين بأرواحهم وأعزّ ما عندهم في سبيل اقامة الدين، واثمن تضحية ما نعيش ذكراها هذه الايام وهي تضحية الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

اذن فالعدوان على الدين ومنع الانسان من ممارسة حقه فيه هو اشد من اي اعتداء اخر سواء على الجسد بالقتل او غيره.

2- ان جهاد النفس الامارة بالسوء ومعركة السيطرة على غرائزها وشهواتها وانفعالاتها اشد وأكبر من جهاد العدو بالقتل والقتال حتى سمي الاول الجهاد الاكبر والثاني الجهاد الاصغر، فالخسارة في الجهاد الاول وهو الاكبر اشد وأخطر من الخسارة في الجهاد الثاني بالقتل.

3- ان الفتنة بلاء وامتحان دائم ومستمر ولا يمكن تجنبه فتحقيق الانتصار فيه عسير وشديد، اما القتل فهي حالة قليلة الحدوث ويمكن تجنب اسبابه فالأول اشد وأكبر من الثاني.

4- ان القتل ينهي حياة الانسان المادية في هذه الدنيا وهي زائلة وفانية ولو لم يقتل فانه يموت، بينما الفتنة تكون سببا لشقائه في الحياة الاخرة الدائمة، وانما

ص: 69

تكتسب الحياة الدنيا قيمتها بمقدار تحقيقها لنتائج طيبة في الاخرة، فإعدام الحياة الدائمة اشدُّ واكبر من اعدام الحياة الفانية.5- ان القاتل يزهق روحا واحدة، بينما المفتون عن دينه والمتجرد من خوف الله تعالى والمبادئ الانسانية والملوث عقائديا كالخوارج والتكفيريين يفتكون بالآلاف من البشر من دون ان يرفّ لاحدهم جفن كما عبَّر بعض الطواغيت المعاصرين.

6- ان القاتل ما كان ليقتل لولا انه تخلى عن مبادئه الدينية قبل ذلك فالسبب الاصلي للقتل هي الفتنة عن الدين والانسلاخ عنه، ولو التزم بما يأمره به دينه لتورّع عن القتل (اللهم اصلح لي ديني فانه عصمة امري)(1).

7- ان خطر الفتنة خفي لا يلتفت اليه المفتون غالبا لذا فانه لا يتخذ الاجراءات الاحترازية منه، بل قد يتجاوب معها لأنها توافق شهواته واهواءه، بينما خطر القتل بيّن واضح يخاف منه ويحترز منه.

8- ان الفتنة تعم بضررها مساحة واسعة ولا تقتصر على صاحبها فقط، قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (الانفال:25) بينما القتل يقع على المقصود خاصة.

9- ان فتنة الانسان لأخيه الانسان شرٌ كلها فهي مذمومة اما القتل فيمكن ان يكون سببا لحياة الامة ونجاتها وصلاحها كاستشهاد الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).ء.

ص: 70


1- الصحيفة السجادية، من دعاء الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في يوم الثلاثاء.

ومن مجموع هذه الوجوه يتبين معنى كون الفتنة اشد من القتل، وان دفعها لا يقِلّ وجوباً عن دفعه، لذلك نبهنا دائما ومعنا حكماء القوم الى ان القضاء على الارهاب يتطلب اولا تجفيف منابعه الفكرية التكفيرية، والا ما الفائدة من قتل افراد منهم مهما كثر عددهم مادامت البيئة والحاضنة التي تُفرِّخهم موجودة.فالإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو يمارس دوره في امامة الامة وهدايتها يرشدنا الى اهمية العمل الديني الاجتماعي والتحرك برسالة الاسلام في اوساط الامة ونشر تعاليم اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وصيانة عقيدة المجتمع واخلاقه من الشبهات والانحرافات.

وان هذا العمل هو من اهم الواجبات الدينية واعظم المسؤوليات الملقاة على عاتقنا خصوصا نحن الحوزة العلمية والمثقفين والكتاب والمفكرين والاعلاميين؛ لان انحراف العقيدة وتلوّث الغذاء الفكري الذي يتلقاه المجتمع خصوصا الشباب هو الذي يحوّله الى سرطان خبيث يسري في جسد الامة ويرى ان اقرب القربات الى الله تعالى قتل الابرياء وسبي وتهجير النساء والاطفال وتدمير المقدسات وتخريب الحياة كاللوثة التي اصابت عقول الخوارج فاستحلوا الحرمات وبقروا بطون الحوامل وقتلوا الاجنّة.

ويعلمنا الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ان تكون أدواتنا الحوار البنّاء المفعم بالحجج والادلة والدعوة الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ولا مكان للعنف والتكفير والغاء الاخر، ويدعونا الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الى اعتماد مبدأ (الوقاية خير من العلاج) وذلك بقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (ما يمتنع به) اي لا ننتظر وقوع الشبهة لنرفعها بل ان نسلّح

ص: 71

ابناءنا بالفكر والعلم ليكونوا محصنين من اختراق الشبهات لهم ولو وقعت لسبب او لآخر فيجب العمل على رفعها قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (تفتح عليه ما يمتنع به، ويفحمه ويكسره بحجج الله تعالى).وان تكون هذه الادلة رصينة وقوية وبنفس الوقت مفهومة وواضحة لتنفتح بها النفس وينشرح لها الذهن قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (تفتح عليه) فإنها ادعى للطمأنينة والاقناع كدليل القرآن على التوحيد {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}(الأنبياء:22) وقول امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (واعلم يا بني انه لو كان لربك شريك لأتتك رسله)(1) او ادلة كتاب (المراجعات) على الامامة او بحث (كيف خطط رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للإمامة من بعده).

ان فرص القيام بهذا الوظيفة الالهية العظيمة اليوم ونيل الدرجات الرفيعة عند الله تعالى اوسع واكثر تأثيرا من اي زمان مضى للتقدم الهائل في تكنولوجيا الاتصالات والتواصل، واصبح من في اقصى الشرق يسمع ويرى من في اقصى الغرب مباشرة، والكلمة تصل الى انحاء المعمورة والى كل الناس في آن واحد، وما علينا الا ان نشمِّر عن ساعد الجد ونوصل الليل بالنهار بالعمل على بناء انفسنا اولاً اخلاقيا وعقائديا وفكريا ثم ننطلق بهذه الرسالة الى المجتمع، لنتصف بقوله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً}(الأحزاب:39).ع)

ص: 72


1- نهج البلاغة: 31/ من وصيته لابنه الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)

ونلفت نظر الخطباء الاعزاء الذين يظهرون على شاشات التلفزيون او المثقفين الذين ينشرون على مواقع التواصل الاجتماعي الى ان يكون خطابهم عاما شاملا مؤثرا في كل التنوعات الانسانية وليس مقتصرا على الفئة او الشريحة التي ينتمي اليها او الموجودة أمامه، فاستحضر انك تخاطب الموجودين في المغرب او الجزائر ومصر او في اليمن والخليج او الهند وباكستان وروسيا واوربا وامريكا وغيرها من بقاع العالم.

ص: 73

القبس /6: سورة البقرة: 197

اشارة

{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}

موضوع القبس: الذنوب أصولها وكيفية الاحتراز منها وكفاراتها

موعظة:

قال الله تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (البقرة:197).

وقال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (عِبَادَ اللهِ، اللهَ اللهَ فِي أَعَزِّ الأَنْفُسِ عَلَيْكُم، وَأَحَبِّهَا إِلَيْكُمْ؛ فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَوْضَحَ لَكُمْ سَبِيلَ الْحَقِّ وَأَنَارَ طُرُقَهُ، فَشِقْوَةٌ لاَزِمَةٌ، أَوْ سَعَادَةٌ دَائِمَةٌ! فَتَزَوَّدُوا فِي أَيَّامِ الْفَنَاءِ(1) لِأَيَّامِ الْبَقَاءِ. قَدْ دُلِلْتُمْ عَلَى الزَّادِ، وَأُمِرْتُمْ بَالظَّعْنِ(2)، وَحُثِثْتُمْ عَلَى الْمَسِيرِ، فَإِنَّمَا أَنْتُمْ كَرَكْبٍ وُقُوفٍ، لاَ يَدْرُونَ مَتَى يُؤْمَرُونَ بَالسَّيْرِ، أَلاَ فَمَا يَصْنَعُ بِالدُّنْيَا مَنْ خُلِقَ لِلْآخِرَةِ! وَمَا يَصْنَعُ بِالْمَالِ مَنْ عَمَّا قَلِيلٍ يُسْلَبُهُ، وَتَبْقَى عَلَيْهِ تَبِعَتُهُ(3) وَحِسَابُهُ! عِبَادَ اللهِ، إِنَّهُ لَيْسَ لِمَا وَعَدَ اللهُ مِنَ الْخَيْرِ مَتْرَكٌ، وَلاَ فِيَما نَهَى عَنْهُ

ص: 74


1- أيام الفناء: يريد أيام الدنيا.
2- المراد «بالظّعن» المأمور به ها هنا السير إلى السعادة بالأعمال الصالحة.
3- تَبَعَتُهُ: ما يتعلق به من حق الغير فيه.

مِنَ الشَّرِّ مَرْغَبٌ. عِبَادَ اللهِ، احْذَرُوا يَوْماً تُفْحَصُ فِيهِ الْأَعْمَالُ، وَيَكْثُرُ فِيهِ الزِّلْزَالُ، وَتَشِيبُ فِيهِ الْأَطْفَالُ)(1).ومن خطبة له (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (أُوصِيكُمْ, عِبَادَ اللَّهِ, بِتَقْوَى اللَّهِ الَّتِي هِيَ الزَّادُ وبِهَا الْمَعَاذُ: زَادٌ مُبْلِغٌ ومَعَاذٌ مُنْجِحٌ,.... فَبَادِرُوا الْعَمَلَ, وخَافُوا بَغْتَةَ الأجَلِ, فَإِنَّهُ لا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الْعُمُرِ مَا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الرِّزْقِ, مَا فَاتَ الْيَوْمَ مِنَ الرِّزْقِ رُجِيَ غَداً زِيَادَتُهُ, ومَا فَاتَ أَمْسِ مِنَ الْعُمُرِ لَمْ يُرْجَ الْيَوْمَ رَجْعَتُهُ, الرَّجَاءُ مَعَ الْجَائِي, والْيَأْسُ مَعَ الْمَاضِي ف-{اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران:102))(2).

الغرض من التشريعات تحصيل التقوى:

وتصرّح الآيات القرآنية كقوله تعالى في آية الصوم {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة : 183) بأن الهدف من التشريعات هو تربية الإنسان لتحصيل ملكة التقوى وهي حالة تحصل في قلب الإنسان تحرّكه نحو كل ما يرضي الله تبارك وتعالى سواء كان واجباً أو مستحباً وتمنعه عن اقتحام كل ما يوجب سخط الله تبارك وتعالى أو تقلل من مرتبة القرب إليه سبحانه سواء كان محرماً أو مكروهاً أو مباحاً، ويكون الإنسان هو الرقيب على نفسه في كل تلك الحركات والسكنات حتى في خلواته حينما لا يطّلع عليه أحد فإنه يُرَوِّضُ نفسه بالتقوى، قال تعالى في التمييز بين الفريقين {فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى ،

ص: 75


1- نهج البلاغة- خطب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 2/ 51/خ157.
2- نهج البلاغة- خطب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 1/ 223/ خ114.

وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى، فَأَمَّا مَن طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فإن الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فإن الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعات: 34-41).فالمتقي هو من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى مطلق الهوى سواء كان محرّما أو مكروهاً أو مباحاً لا يليق بمقام ربّه. ولذا كانت التقوى خير الزاد ليوم المعاد {وَتَزَوَّدُواْ فإن خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (البقرة: 197) {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر:9) {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (النور:52).

وتكرر الحث على التقوى في آيات كثيرة في القرآن الكريم وربما تكررت في الآية الواحدة كالتي مرّت آنفاً، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (الحشر :18) {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فإن اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (آل عمران:76).

وإضافة إلى تلك الآثار الأخروية للتقوى فإن القرآن الكريم يلفت نظرنا إلى آثار مباركة عظيمة للتقوى في الدنيا والآخرة:

(منها) تكفير السيئات؛ قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (المائدة:65) {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} (الطلاق:5).

(ومنها) البركات المادية والمعنوية؛ قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَ-كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم

ص: 76

بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (الأعراف :96).(ومنها) إيجاد الفرج والمخرج والرزق بدون احتساب؛ قال تعالى: {مَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} (الطلاق:2-4).

(ومنها) إلهام العلم؛ قال تعالى: {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة:282).

(ومنها) قذف البصيرة ونور الفرقان في القلب؛ قال تعالى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (الأنفال:29).

وغيرها كثير مما لا يسعه المقام وتستحق إفرادها بكتاب مستقل.

معنى التقوى:

سُئل الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن معنى التقوى, وتفسيرها، فاختصر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الجواب بقوله: (لا يفقدك الله حيث امرك، ولا يراك حيث نهاك)(1).

فللتقوى ركنان:

الأول: ترك ما يكره الله تبارك وتعالى, ويسخطه، وهو أوسع من المحرمات, فيشمل المكروهات المؤثرة في تكامل الإنسان, وتقربه من الله تعالى.

الثاني: فعل ما يحبه الله تعالى, ويرضاه, وهو أعم من الواجبات, فيشمل

ص: 77


1- وسائل الشيعة (آل البيت)- الحر العاملي: 15/ 239.

المستحبات, الموجبة لرضا الله تبارك وتعالى, ومحبته.فمن أراد الكمال سار بهذين الطريقين معاً، ولا يغني أحدهما عن الآخر، فمن قام ببعض الطاعات لكنه لم يجتنب المعاصي, والعياذ بالله، فإنه يهدم ما بناه بتلك الطاعات, وسوف لا يقوم له بناء أبداً، روي عن المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) قولهم: (جدّوا واجتهدوا، وإن لم تعملوا فلا تعصوا، فإن من يبني ولا يهدم يرتفع بناؤه وإن كان يسيراً، وإن من يبني ويهدم يوشِك أن لا يرتفع بناؤه)(1).

ونفس المعنى يجري في الأمراض البدنية، فإن من اُبتلي بمرض مُعيّن –كالسكري أجاركم الله تعالى منه- فإن الطبيب يأمره بأخذ بعض العلاجات, وينهاه عن ارتكاب بعض الأفعال, أو تناول أطعمة تضره, بكميتها, أو نوعها، فإذا أراد الحفاظ على صحته فلا بد أن يأخذ بهما معاً.

ولو حاولنا ترجيح أحد الركنين على الآخر, أو قل بيان أيهما أهم, وأكثر تأثيراً في تحصيل التكامل.

فإن الجواب يكون لصالح الاجتناب عما يسخطه الله تبارك تعالى ويكرهه، وقد دلّت عليه بعض الأحاديث الشريفة كقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (اجتناب السيئات أولى من اكتساب الحسنات)(2)، ومنها ما ورد في خطبة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في آخر جمعة من شعبان, لاستقبال شهر رمضان، وسأله علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن أفضل7.

ص: 78


1- بحار الأنوار- العلامة المجلسي: 67/ 286/ح8.
2- ميزان الحكمة- الريشهري: 2/ 987.

الأعمال في هذا الشهر قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (الورع عن محارم الله عز وجل)(1).

معرفة الذنوب:

فمعرفة الذنوب - بمداها الواسع, ومراتبها الكثيرة بحسب مستويات الأشخاص- وتحصيل القدرة على اجتنابها – صغيرها وكبيرها- مما يهتم به الساعون إلى الكمال، لذا فقد شُغل حيز كبير من القرآن الكريم ببيان الذنوب, وآثارها في الدنيا, وعاقبتها في الآخرة, والتحذير منها, وبيان ما يكفّرها ويزيل آثارها، وقصص الأمم التي عكفت على المعاصي ولم تجتنبها, وما حلّ بها من العذاب بسبب ذلك، والحياة السعيدة لمن اجتنبها، ولو حاولنا جمعها لوجدنا أن القرآن الكريم كله يعالج هذه القضية, بشكل مباشر, أو غير مباشر.

لماذا يذنب العبد؟

لا يمكن التقليل من قوة ضغط الذنوب, والخطايا على الإنسان, حتى يندفع إلى ارتكابها, مع كثرة ما يعرف عن آثارها الوخيمة في الدنيا, وعاقبتها الفظيعة في الآخرة، يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (أَلاَ وَإِنَّ الْخَطَايَا خَيْلٌ شُمُسٌ(2), حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُها، وَخُلِعَتْ لُجُمُهَا(3), فَتَقَحَّمَتْ(4) بِهِمْ في النَّار)(5) فالخطايا كالخيول

ص: 79


1- الأمالي- الشيخ الصدوق: 155.
2- الشُمُسُ: جمع شَمُوس وهي من «شَمَسَ» كنصر أي منع ظهره أن يُرْكَبَ.
3- لُجُمُها: جمع لِجام، وهو عنان الدّابة الذي تُلجم به.
4- تقحمت بهم في النار: أردتهم فيها.
5- نهج البلاغة- خطب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 1/ 48.

العنيدة المتمردة على صاحبها ولا لجام لها ليمسك بها فتقتحم بصاحبها إلى المخاطر.وهنا يأتي السؤال: من أين جاءت هذه القوة للخطايا؟

أو قل: إذا كانت الذنوب بهذه الخطورة وهذا التأثير المدمر في حياة الإنسان فلماذا يرتكبها، وهذا بحث نفسي, واجتماعي, وقد يحتاج إلى إجراء استبيان، ولكن يمكن استفادة بعض مناشئ الذنوب مما ورد في الروايات الشريفة، ينفع الالتفات إليها في اجتنابها وتوقيها، عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (توقّي الصرعة خير من سؤال الرجعة)(1):

1-الجهل بمقام الربوبيّة, ووظائف العبودية: فإن من يعرف الله تعالى يتجنب المعاصي بمقدار تلك المعرفة, ويؤتيه الله تعالى فرقاناً, يميز به بين الحق والباطل, {إنْ تَتقوا اللهَ يَجعَل لَكُم فُرقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ} (الأنفال:29)، حتى إذا اكتملت عنده المعرفة, كالمعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ), أصبح عبداً خالصاً لله تعالى, ينفر بطبعه من المعصية, ويتقزز منها، فمن رأى الغيبة على حقيقتها, ووجدها أكلاً للحم أخيه ميتاً, هل يقدم عليها؟

ومن رأى الدنيا جيفة قد اجتمعت عليها الكلاب, هل يتنافس عليها؟ وهكذا.

2-الجهل بأمور الدين: فما دام الإنسان لم يتفقه في دينه, ولم يتعرف على7.

ص: 80


1- بحار الأنوار- المجلسي: 75/ 187.

ما يقربه إلى الله تعالى, ويجنبه سخطه, فإنه يتورط في المعاصي, من حيث يعلم أو لا يعلم، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (جهل المرء بعيوبه من أكبر ذنوبه)(1)؛ وكتطبيق لهذا المبدأ فقد ورد في التجارة قول الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من أراد التجارة فليتفقه في دينه, ليعلم بذلك ما يحلُّ له مما يحرم عليه، ومن لم يتفقه في دينه ثم اتجر, تورط في الشبهات)(2). والتحذير لا يختص بالتجارة, وإنما يعم كل شؤون الحياة؛ لأنها كلها مقنَّنة بأحكام في الشريعة، فالجهل بها يوقع في المعصية, كجهل ربِّ الأسرة, بأن كثيراً مما يفعله في البيت هو ظلم لزوجته, وأسرته، والظلم ذنب لا يُغفر حتى يرضى المظلوم.

3-وجود الدوافع وأصول الذنوب في النفس الإنسانية: المعبَّر عنها بالغرائز والشهوات, والتي خُلقت أصلاً لتؤدي أدواراً إيجابية في حياة الإنسان, ولتكمّل قواه الأخرى, كالعقلية, والجسدية, والقلبية، لكنها إذا خرجت عن حدّها إلى جانب الإفراط, أو التفريط, كانت سبباً للوقوع في المعاصي.

أشار إلى هذه القوى هشام بن الحكم, في ما نقل عنه, ابن أبي عمير في الاستدلال على عصمة الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن جميع الذنوب لها أربعة أوجه لا خامس لها: الحرص والحسد والغضب والشهوة، فهذه منتفية عنه) - أي4.

ص: 81


1- الإرشاد- الشيخ المفيد: 1/ 299.
2- المقنعة- الشيخ المفيد: 591.- وسائل الشيعة (آل البيت)- الحر العاملي: 17/ 382/ح4.

المعصوم- ثم بيّن ذلك فراجعه(1).4-ويعاضدها الشيطان: بالتزيين, والإغواء, والتطمين, والتهوين من الأمر, حتى يقارف الذنب, والمعصية, قال تعالى حاكياً عن إبليس: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ 39 إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (الحجر:40).

وفي دعاء للإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (فَلَوْلا أَنَّ الشَّيْطَانَ يَخْتَدِعُهُمْ عَنْ طَاعَتِكَ مَا عَصَاكَ عَاص، وَلَوْلا أَنَّهُ صَوَّرَ لَهُمُ البَاطِلَ فِي مِثَالِ الْحَقِّ مَا ضَلَّ عَنْ طَرِيْقِكَ ضَالٌّ)(2), وقد ورد التحذير من إغراء الشيطان, وإغوائه كثيراً في القرآن الكريم, والروايات الشريفة مما لا يخفى على أحد.

هذا التزيين الشيطاني, وهذه الموافقة لأهواء النفس, وشهواتها جعل للخطايا تأثيراً ساحراً يُسكر صاحبه حتى يتورط فيها، قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (احذروا سكر الخطيئة، فإن للخطيئة سكراً كسكر الشراب، بل هي أشدُّ سكراً منه، يقول الله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} (البقرة:18))(3).

5-الاغترار بالستر الإلهي على العاصين: وعدم فضح الإنسان بذنبه (فَلَوِ اطَّلَعَ اليَوْمَ عَلى ذَنْبِي غَيْرُكَ مافَعَلْتُهُ وَلَوْ خِفْتُ تَعْجِيلَ العُقُوبَةِ لاجْتَنَبْتُهُ لا لاَنَّكَ

ص: 82


1- بحار الأنوار- المجلسي: 25/ 192. عن كتب الشيخ الصدوق (قدس سره), معاني الأخبار, والعلل, والأمالي, والعيون.
2- الصحيفة السجادية الكاملة- الإمام زين العابدين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 184/الدعاء37.
3- بحار الأنوار- المجلسي: 74/ 102.- مكارم الأخلاق- الشيخ الطبرسي: 453.

أَهْوَنُ النَّاظِرِينَ إليّ وَأَخَفُّ المُطَّلِعِينَ بَلْ لاَنَّكَ يا رَبِّ خَيْرُ السَّاتِرِينَ وَأَحْكَمُ الحاكِمِينَ وَأَكْرَمُ الاَكْرَمِينَ، سَتَّارُ العُيُوبِ غَفَّارُ الذُّنُوبِ عَلامُ الغُيُوبِ تَسْتُرُ الذَّنْبَ بِكَرَمِكَ وَتُؤَخِّرُ العُقُوبَةَ بِحِلْمِكَ... وَالحَمْدُ للهِ الَّذِي يَحْلُمُ عَنِّي حَتَّى كَأَنِّي لاذَنْبَ لِي)(1).وذلك كله لسعة رحمة الله, وطول أناته على ذنوب عباده, رحمة بالعباد, وإعطاءهم مزيداً من الفرص للندم, والرجوع, والإقلاع عن الذنب، وحبّاً من الله لعباده, وشفقة عليهم، فيتمادى الإنسان ويغتر، ظاناً أن الفرصة مفتوحة على الدوام، ولا يعلم أنه قد يوصله تماديه واغتراره إلى حد هتك الستر, وانغلاق الباب, وسدّ الفرصة، قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَ-ئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً 17 وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَ-رَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَ-ئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} (النساء:18).

6-استصغار الذنب والاستخفاف به: لما ارتكز في الذهن من أن الذنوب الموعود بها النار هي الكبائر, أما غيرها فيمكن ارتكابها، وهذا التفكير بحد ذاته من الكبائر؛ لما فيه من الجرأة على الله تعالى, وعدم الاعتبار بعظمته, وعلو شأنه, وهو موجب لسخط الله, وسلب اللطف عن العبد, فتؤدي به هذه9.

ص: 83


1- من دعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), المعروف بدعاء أبي حمزة الثمالي. مصباح المتهجد- الشيخ الطوسي: 584.- مفاتيح الجنان- عباس القمي: 239.

الصغائر إلى الوقوع في الكبائر والعياذ بالله.لذا كثر التحذير من استصغار أي ذنب، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لا تستصغروا قليل الآثام, فإن الصغير يُحصى ويرجع إلى الكبير)(1)، وروي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال: (إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نزل بأرض قرعاء, فقال لأصحابه: ائتوا بحطب، فقالوا: يا رسول الله نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب، قال: فليأت كل إنسان بما قدر عليه، فجاؤوا به حتى رموا بين يديه بعضه على بعض، فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): هكذا تجتمع الذنوب، ثم قال: إياكم والمحقرات من الذنوب، فإن لكل شيء طالباً، ألا وإن طالبها يكتب ما قدموا وآثارهم وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين)(2)، وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (أعظم الذنوب عند الله سبحانه ذنب صغر عند صاحبه)(3), وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إن الله أخفى سخطه في معصيته، فلا تستصغروا شيئاً من معصيته، فربما وافق سخطه وأنت لا تعلم)(4).

7-الغفلة: فإن كثيراً من الذنوب - وبعضها من الكبائر- تُرتكب لا للجهل بها وإنما للغفلة, كالغيبة, التي يُعلم أنها من الكبائر, ووصفها الله عز وجل بأشنع الأوصاف, وهي إدام أهل النار، ومع ذلك فقد أصبحت الغيبة فاكهة المجالس, والمادة الرئيسية للأحاديث، فينبغي للمؤمن أن يتجنب الغفلة؛ بترك المقدمات الموجبة لها، وإذا عُرضت عليه فليخرج منها فور التفاته؛ بذكر الله تعالى، قال عز3.

ص: 84


1- الخصال- الشيخ الصدوق: 616/ح10.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 288/ح3.
3- جامع أحاديث الشيعة- السيد البروجردي: 13/ 334.
4- معاني الأخبار- الشيخ الصدوق: 113.

وجل: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف:201), وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (الغفلة ضلالة)(1), وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إياك والغفلة والاغترار بالمهلة، فإن الغفلة تفسد الأعمال)(2), ومن وصايا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأبي ذر: (همَّ بالحسنة وإن لم تعملها, لكيلا تُكتب من الغافلين)(3).8-سوء الخلق: عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (لكل ذنب توبة إلا سوء الخلق، فإن صاحبه كلما خرج من ذنب دخل في ذنب)(4).

9-الاختلاط الكثير مع الناس: ومجالسة البطّالين، والخوض في فضول الكلام، فهذه الأمور كلها مظنة الوقوع في الذنوب, والمحرمات؛ لذا ورد التحذير من حضور هذه المجالس, والمشاركة في اللغو الباطل, {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} (المدثر:45)، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (وَمُجَالَسَةَ أَهْلِ الْهَوَى مَنْسَاةٌ(5), لِلْإِيمَانِ وَمَحْضَرَةٌ لِلشَّيْطَانِ)(6)، وفي الحديث عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (إن أكثر الناس ذنوباً يوم القيامة أكثرهم كلاماً فيما لا يعينه)(7).1.

ص: 85


1- ميزان الحكمة- الريشهري: 3/ 2282.
2- عيون الحكم والمواعظ- علي بن محمد الليثي (من أعلام القرن السادس): 99.
3- الأمالي- الشيخ الطوسي: 536.- مكارم الأخلاق- الشيخ الطبرسي: 469.
4- مكارم الأخلاق- الشيخ الطبرسي: 434.- وسائل الشيعة (آل البيت)- العاملي: 16/ 28.
5- منسأة بفتح الميم والهمزة: أي تأخير وتأجيل.
6- نهج البلاغة- خطب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 1/ 150/الخطبة86.
7- كنز العمال- المتقي الهندي: 3/ 641.

وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إياك والهذر، فمن كثر كلامه كثرت آثامه)(1), وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (الْكَلاَمُ فِي وَثَاقِكَ(2), مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ، فَإذَا تَكَلَّمْتَ بِهِ صِرْتَ فِي وَثَاقِهِ، فَاخْزُنْ(3), لِسَانَكَ كَمَا تَخْزُنُ ذَهَبَكَ وَوَرِقَكَ(4), فَرُبَّ كَلِمَةٍ سَلَبَتْ نِعْمَةً وَجَلَبَتْ نِقْمَةً)(5).10-سوء فهم بعض ما ورد في الروايات الشريفة من الثواب على بعض الأفعال: كدخول الجنة بالبكاء على الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وإقامة شعائره وشفاعة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، فقد أعطى الله تعالى هذه الكرامات لأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ), رحمة بالعباد لكي تسدّ الخلل, والتقصير, والقصور مع حسن النية, والعزم على فعل الخير, والطاعة, وبذل الوسع في ذلك، وليس بأن تكون سبباً للتمادي, والجرأة, والعناد, واللجاجة، قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَ-ى} (الأنبياء:28) وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَ-اةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:156)، وكما عبّر الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن إعطاء هذه الدرجات أنه (بشرطها وشروطها)(6), في حديث سلسلة الذهب المعروف.5.

ص: 86


1- عيون الحكم والمواعظ- علي بن محمد الليثي (من أعلام القرن السادس): 97.
2- الوَثَاق - كَسَحَاب-: ما يُشَدّ به وويُرْبَط، أي: أنت مالك لكلامك قبل أن يصدر عنك، فإذا تكلّمْت به صرْتَ مملوكاً له.
3- خَزَنَ - كنَصر-: حَفِظ ومنع الغيرَ من الوصول إلى مخزونه.
4- الوَرِق - بفتح فكسر-: الفِضّة.
5- نهج البلاغة- خطب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 4/ 91/الحكمة378.
6- التوحيد- الشيخ الصدوق: 25.

وقد حذّر الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في وصيته عند وفاته, وقد جمع أقرباءه ومتعلقيه: (إن شفاعتنا لا تنال مستخفاً بالصلاة)(1), وقال الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لا تتهاون بصلاتك، فإن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال عند موته: ليس مني من استخف بصلاته)(2).

تلخيص بأسباب الذنوب:

وقد لخّص الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ذكر هذه الأسباب لمقارفة الذنوب بما ورد عنه, في الدعاء المعروف بدعاء أبي حمزة - الذي يُدعى به في أسحار شهر رمضان-، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إِلهِي، لَمْ أَعْصِكَ حِيْنَ عَصَيْتُكَ وَأَنا بِرُبُوبِيَّتِكَ جاحِدٌ، وَلا بِأَمْرِكَ مُسْتَخِفٌ، وَلا لِعُقُوبَتِكَ مُتَعَرِّضٌ، وَلا لِوَعِيدِكَ مُتَهاوِنٌ، لكِنْ خَطِيئَةٌ عَرَضَتْ، وَسَوَّلَتْ لِي نَفْسِي، وَغَلَبَنِي هَوَايَ، وَأَعانَنِي عَلَيْها شِقْوَتِي، وَغَرَّنِي سِتْرُكَ المُرْخَى عَلَيَّ... مالِي كُلَّما قُلْتُ قَدْ صَلُحَتْ سَرِيرَتِي وَقَرُبَ مِنْ مَجالِسِ التَّوّابِينَ مَجْلِسِي، عَرَضَتْ لِي بَلِيَّةٌ أَزالَتْ قَدْمِي وَحالَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ خِدْمَتِكَ؟

سَيِّدِي لَعَلَّكَ عَنْ بابِكَ طَرَدْتَنِي، وَعَنْ خِدْمَتِكَ نَحَّيْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي مُسْتَخِفا بِحَقَّكَ فَأَقْصَيْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأيْتَنِي مُعْرِضا عَنْكَ فَقَلَيْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ وَجَدْتَنِي فِي مَقامِ الكاذِبِينَ فَرَفَضْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي غَيْرَ شاكِرٍ لِنَعْمائِكَ فَحَرَمْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ فَقَدْتَنِي مِنْ مَجالِسِ العُلَماءِ فَخَذَلْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي فِي الغافِلِينَ فَمِنْ رَحْمَتِكَ آيَسْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي آلِفُ مَجالِسَ البَطَّالِينَ فَبَيْنِي وَبَيْنَهُمْ خَلَّيْتَنِي، أَوْ

ص: 87


1- من لا يحضره الفقيه- الشيخ الصدوق: 1/ 206.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 3/ 269/ح7.

لَعَلَّكَ لَمْ تُحِبَّ أَنْ تَسْمَعَ دُعائِي فَباعَدْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ بِجُرْمِي وَجَرِيرَتِي كافَيْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ بِقِلَّةِ حَيائِي مِنْكَ جازَيْتَنِي)(1).

كيف نحصّل القدرة على اجتناب الذنوب؟

إن اجتناب الذنوب يحتاج أولاً: إلى معرفة تفصيلية بها؛ لأن بعضها وإن كان معلوماً كالكبائر, إلا أن الكثير منها غير معلوم, وبعضها لا يلتفت إليها أحد, كعدم قضاء حوائج المؤمنين, والاهتمام بها، ففي رواية عن الإمام الصادق وولده الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من أتاه أخوه في حاجة يقدر على قضائها فلم يقضها له سُلّط عليه شجاعاً(2) ينهش إبهامه في قبره إلى يوم القيامة مغفوراً له أو معذباً)(3).

وهكذا غيرها – سيأتي في ملحق القبس(4) {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} (المجادلة :6) ان شاء الله تعالى- وذكرنا أمثلة عليها من دعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الاستغفار من كل نعمة لم يشكرها, أو ظُلم أحدٌ عنده فلم ينصره, وهكذا، ناهيك بالمحرمات المعروفة، وهذا يتطلب تفقهاً, واطلاعاً مستمراً على كتب السلف الصالح, والاستماع دائماً إلى المحاضرات الإرشادية, والوعظيّة.

ومما يُقلل فرصة ارتكاب الذنب زيادة المعرفة بالله تعالى, وتقوية العلاقة به تبارك وتعالى، كتذكر أنه محسن إلينا بما لا يُعد ولا يُحصى من النعم،

ص: 88


1- مصباح المتهجد- الشيخ الطوسي: 584.- مفاتيح الجنان- عباس القمي: 239.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 194.
3- الشجاع كغراب وكتاب: الحيّة.
4- في الجزء الخامس من التفسير ص46.

و{هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} (الرحمن:60) و{أَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (القصص:77), وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لو لم يتوعد الله على معصيته لكان يجب ألا يُعصى شكراً لنعمته)(1)، وعن الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حديث قال: (ولو لم يخوِّف الله الناس بجنة ولا نار لكان الواجب عليهم أن يطيعوه ولا يعصوه لتفضله عليهم وإحسانه إليهم وما بدأهم به من إنعامه الذي ما استحقوه)(2).أو الالتفات إلى أن الذنوب تمنع بعض عطاء الله تبارك وتعالى, ونحن محتاجون إليه، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لو لم يرغّب الله سبحانه في طاعته لوجب أن يطاع رجاء رحمته)(3).

أو تذّكر أنك بمحضر الله تبارك وتعالى, وتحت نظره, ولا تخفى عليه خافية في السماوات والأرض, {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (غافر:19) ، فمعصيته والحال هذه جرأة على جبار السماوات والأرض, وتحدٍ لعظمته، من وصايا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأبي ذر: (يا أبا ذر لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت)(4), ومن كلماته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (لا تنظروا إلى صغر الذنب ولكن انظروا إلى من اجترأتم)(5).8.

ص: 89


1- بحار الأنوار- المجلسي: 70/ 364.
2- الخصال- الشيخ الصدوق: 614.
3- ميزان الحكمة- الريشهري: 2/ 987.
4- الأمالي- الشيخ الطوسي:528.
5- بحار الأنوار- المجلسي: 74/ 168.

أو أن يلتفت إلى أن هذا الذنب قد يوجب هتك الستر؛ الذي ضربه الله تعالى عليه, فتفضحه الذنوب، أو أن ينال به سخط الله تعالى, وغضبه بحيث لا تنفعه توبة, ولا تدركه الألطاف الإلهية، فقد أخفى الله غضبه في معصيته، فلا يُعلم أي معصية توجب ذلك, فعلى العبد أن يتوقاها جميعاً، من دعاء الإمام أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (وَإِنْ خَذَلَنِي نَصْرُكَ عِنْدَ مُحارَبَةِ النَّفْسِ وَالشَّيْطانِ، فَقَدْ وَكَلَنِي خِذْلانُكَ إِلى حَيْثُ النَّصَبِ وَالْحِرْمانِ)(1). في الحديث عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (للمؤمن اثنان وسبعون ستراً فإذا أذنب ذنباً انهتك عنه ستر، فإن تاب رده الله إليه, وسبعةً معه, فإن أبى إلا قدما في المعاصي، تهتك عنه أستاره، فإن تاب ردها الله ومع كل ستر منها سبعة أستار، فإن أبى إلا قدما قدما في المعاصي، تهتكت أستاره وبقي بلا ستر، وأوحى الله عزوجل إلى الملائكة: أن استروا عبدي بأجنحتكم)(2).

وفي الكافي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (من هم بسيئة فلا يعملها فإنه ربما عمل العبد السيئة فيراه الرب تبارك وتعالى فيقول: وعزتي وجلالي لا أغفر لك بعد ذلك أبداً)(3).

ومما يُساعد على تجنب المعاصي أن يعلم بأن في ارتكاب الذنب إيذاءً, وإساءة لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), ولأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), ولفاطمة (علیها السلام) والأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).2.

ص: 90


1- مقطع من دعاء الصباح. مفاتيح الجنان- عباس القمي: 94.
2- مستدرك الوسائل- الميرزا النوري: 11/ 325.- بحار الأنوار- المجلسي: 73/ 63.
3- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 272.

ونحن نحبهم ولا نريد إيذاءهم, وهم مطّلعون على أعمال العباد، كما نطقت به الآية الكريمة: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (التوبة:105)، روى سماعة، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: سمعته يقول: (مالكم تسوؤن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)؟! فقال رجل: كيف نسوؤه؟ فقال: أما تعلمون أن أعمالكم تعرض عليه، فإذا رأى فيها معصية ساءه ذلك، فلا تسوؤا رسول الله وسروه)(1).ومن المعرفة الموجبة لتجنب المعاصي الالتفات إلى الهدف من وجودنا في هذه الدنيا, وما ينبغي أن نصرف أعمارنا فيه, مما يُوصل إلى الغاية، وحينئذٍ سوف لا يكون للإنسان مجال للعب, والعبث, واللهو, فضلاً عن ارتكاب المعاصي، عن الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إن العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب؟ وترك الدنيا من الفضل، وترك الذنوب من الفرض)(2).

آثار الذنوب في الدنيا والآخرة:

ومما يُحفّز على ترك الذنوب معرفة آثارها في الدنيا, والآخرة، ونتعرض هنا لبعض آثارها في الدنيا، أما في الآخرة ابتداءً من الموت وما بعده من أهوال البرزخ, والحساب ويوم القيامة, فإن في القرآن الكريم ما يكفي لبيان تلك العظائم, {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}

ص: 91


1- الكافي- الشيخ الكليني: 1/ 219.
2- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 387.- بحار الأنوار- المجلسي: 78/ 301/ح1.

(الحج:2), {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} (المزمل:17), {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَ-ئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:81), {قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (الأنعام:15), {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (النمل:90), وأهون ما يُذكر من تلكم الآثار الحجب عن النعيم مدة قد تطول كثيراً، في الكافي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): إن العبد ليُحبس على ذنب من ذنوبه مائة عام وإنه لينظر إلى أزواجه في الجنة يتنعمن)(1).إن معرفة هذه الآثار الوخيمة للذنوب توجب على كل عاقل اجتنابها، عن الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (عجبت لأقوام يحتمون الطعام مخافة الأذى كيف لا يحتمون الذنوب مخافة النار)(2), وعن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (عجبت لمن يحتمي من الطعام مخافة الداء كيف لا يحتمي من الذنوب مخافة النار)(3).

وقد حصلنا من الروايات على جملة من تلك الآثار:

1-قصر العمر وتعجيل الفناء: بحيث يظهر من أقوال المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) شيء عجيب, وهو: أن أكثر الناس لا يبلغون أعمارهم المقدرة بسبب الذنوب, مما يسمى بالأجل المخروم، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (موت الإنسان بالذنوب

ص: 92


1- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 272/ح19.
2- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 204.
3- من لا يحضره الفقيه- الشيخ الصدوق: 3/ 359.

أكثر من موته بالأجل، وحياته بالبر أكثر من حياته بالعمر)(1)، وقال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من يموت بالذنوب أكثر ممن يموت بالآجال، ومن يعيش بالإحسان أكثر ممن يعيش بالأعمار)(2)، وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (تجنبوا البوائق يُمَدُّ لكم في الأعمار)(3).ومن الذنوب التي اشتهر أنها تعجل الفناء قطيعة الرحم، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (ثلاثة من الذنوب تعجل عقوبتها ولا تؤخَّر إلى الآخرة، عقوق الوالدين، والبغي على الناس، وكفر الإحسان)(4).

2-إن الذنوب سبب للمصائب والآلام والنكبات التي يتعرض لها الفرد والمجتمع(5): في الكافي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (أما إنه ليس من عرق يُضرب ولا نكبة ولا صداع ولا مرض إلا بذنب، وذلك قول الله عز وجل في كتابه: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (الشورى:30), ثم قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (وما يعفو الله أكثر مما يؤاخذ به)(6)، وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال: (إن أحدكم ليكثر به الخوف من السلطان وما ذلك إلا9.

ص: 93


1- مكارم الأخلاق- الشيخ الطبرسي: 362.- كشف الغمة- الإربلي: 3/ 142.
2- الأمالي- الشيخ الطوسي: 305.
3- عيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- الشيخ الصدوق: 1/ 40.
4- الأمالي- الشيخ المفيد: 237.- الأمالي- الشيخ الطوسي: 14.
5- للمزيد من الاطلاع: راجع قائمة بالذنوب التي تغيّر النعم, والتي تنزل النقم. والتي تهتك العصم, والتي تعجل الفناء, والتي ترد الدعاء. بحار الأنوار: 73/ 375-376, عن معاني الأخبار للصدوق: 270-271.
6- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 269.

بالذنوب فتوقوها ما استطعتم ولا تمادوا فيها)(1). وقد تُستحدث لهم بلاءات لم يكن يعرفونها من قبل، في الكافي عن الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (كلما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعملون, أحدث الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون)(2).

3-إنها توجب اسوداد القلب وانغلاقه فلا يستجيب للهداية: عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (كان أبي يقول: ما من شيء أفسد من خطيئة، إن القلب ليواقع الخطيئة فلا تزال به حتى تغلب عليه فيصير أعلاه أسفله)(3), أي يصبح كالإناء المقلوب, فلا يحتفظ بشيء من الحق, والهدى, ولا تؤثر فيه الموعظة، وفيه عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء فإن تاب انمحت وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبداً)(4), وشاهده من كتاب الله قوله تعالى: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين:14).

4-نقص الرزق: عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن العبد ليذنب الذنب فيُزوى - أي يُقبض ويُصرف- عنه الرزق)(5), وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): إذا غضب الله عز وجل على أمة ولم يُنزل بها العذاب0.

ص: 94


1- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 275.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 272.
3- الأمالي- الشيخ الصدوق: 481.- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 268.
4- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 271.
5- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 270.

غلت أسعارها وقصرت أعمارها ولم تربح تجّارها ولم تُزك ثمارها ولم تغزر أنهارها وحبس عنها أمطارها وسُلِّط عليها شرارها)(1).5-الحرمان من الطاعات: خصوصاً المهمة منها, كصلاة الليل, أو النوم عن صلاة الصبح، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن الرجل يذنب الذنب فيُحرم من صلاة الليل, وإن العمل السيئ أسرع في صاحبه من السكين في اللحم)(2).

6-زوال النعم: قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد:11), في الكافي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن الله قضى قضاءً حتماً ألا ينعم على العبد بنعمة فيسلبها, حتى يحدث العبد ذنباً يستحق بذلك النقمة)(3), وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إن الله عز وجل بعث نبياً من أنبيائه إلى قومه وأوحى إليه, أن قل لقومك: إنه ليس من أهل قرية, ولا ناس, كانوا على طاعتي, فأصابهم فيها سراء, فتحولوا عما أحب إلى ما أكره, إلا تحولت لهم عما يحبون إلى ما يكرهون، وليس من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على معصيتي فأصابهم فيها ضراء, فتحولوا عما أكره إلى ما أحب إلا تحولت لهم عما يكرهون إلى ما يحبون)(4).

وضرب القرآن الكريم مثلاً في سبأ {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ4.

ص: 95


1- الخصال- الشيخ الصدوق: 360.- الكافي- الشيخ الكليني: 5/ 317.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 272.
3- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 273.
4- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 274.

عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ 15 فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ 16 ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ 17 وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ 18 فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ 19 وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ 20 وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ}(1) (سبأ:21).وقد ورد في الأحاديث الشريفة أن من الذنوب التي تغيِّر النعم وتعجَّل عقوبتها البغي على الناس.

7-عدم استجابة الدعاء والإبطاء في تحقيق ما يطلبه الداعي، قال الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إن العبد ليسأل الحاجة من حوائج الدنيا فيكون من شأن الله قضاؤها إلى أجل قريب, أو وقت بطيء, فيذنب العبد عند ذلك ذنباً, فيقول الله للملَكب.

ص: 96


1- بيان الشاهد: أنه كان لأهل سبأ بساتين, ورياض غنّاء؛ عن يمين بلادهم وشمالها, وطلب منهم ربّهم أن يشكروا نعمه, فأعرضوا, فأرسل عليهم سيلاً من المطر الشديد, والجرذ الذي نقب السد جزاءً لتمردهم، وجعل لهم على طول المسافة بينهم وبين الشام قرىً ليستريحوا, ويتزودوا لسفرهم, فكانوا يقيلون في قرية, ويبيتون في أخرى, حتى يصلوا آمنين من المخاوف, والمضار, فقال العصاة: باعد بين أسفارنا - أي أزل القرى واجعل المسافات شاسعة في الصحراء- ليصعب على غير التجار, والمتمولين, والمترفين, السفر والتجارة, ويحرموا الفقراء, ويتباهون عليهم باتخاذ المراكب.

الموكَّل بحاجته: لا تنجز له حاجته, واحرمه إياها, فإنه تعرَّض لسخطي واستوجب الحرمان مني)(1).8-نكد الحياة وشقاؤها وتعاستها: قال تعالى: {وَمَن أَعرَضَ عَنْ ذِكرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحشُ-رُهُ يَومَ القِيَامَةِ أعمَى} (طه:124), وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ 36 وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ 37 حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ 38 وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} (الزخرف:39), فمن يتعامى عن الحق, واتباعه, يخلّي الله تعالى بينه وبين شيطانه, يغويه ويصده سبيل الله, ويكون ملازماً له فيشقيه, ويتعبه, {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} (فصلت:25).

9-تشوّش الفكر, وانشغال الذهن, وسوء الحفظ, والحرمان من العلم النافع المقرِّب إلى الله تعالى: بسبب الصراع الذي يعيشه, ووخز الضمير, وخوف الفضيحة, والعقاب، والذلة الباطنية التي يحسّ بها، ولحرمانه من لطف الله تعالى، روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله: (اتقوا الذنوب فإنها ممحقة للخيرات، إن العبد ليذنب الذنب؛ فينسى به العلم الذي كان قد علمه)(2)، وهو ما عبّر عنه قول:4.

ص: 97


1- الاختصاص- الشيخ المفيد: 31.
2- بحار الأنوار- المجلسي: 73/ 377/ح14.

شكوتُ إلى وكيعٍ سوء حفظي***فأرشدني إلى ترك المعاصي

وأخبرني بأن العلم نورٌ***ونور الله لا يؤتى لعاصي(1)

10-ويعم أثر الذنوب حتى يتضرر به الآخرون: وربما المجتمع كله، قال تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} (الأنفال:25)، وروي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله: (الذنب شؤم على غير فاعله، إن عيَّره ابتلي، وإن اغتابه أثم، وإن رضي به شاركه)(2).8.

ص: 98


1- يُنسب هذا الشعر الى الإمام الشافعي. أنظر: تفسير الآلوسي- الآلوسي: 6/ 90.- موسوعة الرقائق والأدب - ياسر الحمداني:1/ 480.
2- الجامع الصغير- جلال الدين السيوطي: 1/ 668.

والخلاصة:

أنه إذا أراد الإنسان أن يوفقه الله للمزيد من طاعته فليترك الذنوب.

وإذا أراد أن يحيى حياة مطمئنة سعيدة صافي البال فليترك الذنوب.

وإذا أراد طول العمر بخير وعافية وسعة رزق فليترك الذنوب.

وإذا أراد أن تدوم عليه نعم الله وتقل عليه المصائب فليترك الذنوب.

وإذا أراد سلامة القلب واللحاق بالصالحين فليترك الذنوب.

ولذا كان يوم العيد الحقيقي, هو كل يوم لم تجترح فيه ما يكرهه الله تبارك وتعالى، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في بعض الأعياد: (إنما هو عيدٌ لمن قبِل الله صيامه وشكر قيامه، وكل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد)(1).

العواصم من الذنوب:

على رأس العواصم من الذنوب - وهو الأصل فيها- اللطف الإلهي, الذي به عصم الله تعالى أنبياءه, ورسله, والصالحين من عباده, قال تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْ-رِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (يوسف:24)، وقال تعالى: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} (الإسراء:74).

عن أبي حمزة عن أبي جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى داوود النبي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), أن ائت عبدي دانيال فقل له: إنك عصيتني فغفرت لك, وعصيتني فغفرت لك،

ص: 99


1- بحار الأنوار- المجلسي: 88/ 136.

وعصيتني فغفرت لك، فإن أنت عصيتني الرابعة لم أغفر لك، قال: فأتاه داوود (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال له: يا دانيال، إني رسول الله إليك, وهو يقول لك: إنك عصيتني فغفرت لك وعصيتني فغفرت لك، وعصيتني فغفرت لك، فإن أنت عصيتني الرابعة لم أغفر لك. فقال له دانيال: قد بلغت يا نبي الله. قال: فلما كان في السَحَر قام دانيال وناجى ربه, فقال: يا رب إن داوود نبيك أخبرني عنك: إني عصيتك فغفرت لي، وعصيتك فغفرت لي، وأخبرني عنك أني إن عصيتك الرابعة لم تغفر لي، فوعزتك لأعصينك ثم لأعصينك، ثم لأعصينك، إن لم تعصمني)(1). أي: يا رب إنك إن وكلتني إلى نفسي فإني لا أستطيع أن أعصمها من الذنوب, إلا أن تعصمني أنت برحمتك.

ومن العواصم الدعاء, والذكر, واليقظة كلما اعترته، قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (النحل:99)، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (أكثر الدعاء تسلم من سَورة الشيطان)(2)، وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (تحرّز من إبليس بالخوف الصادق)(3).

ومنها: تجنب الحضور, والتواجد في الأجواء المساعدة على المعصية, لقطع منافذ الشيطان, والنفس الأمارة بالسوء, بحيث يصبح ارتكاب المعصية متعذراً، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (ثلاث من حفظهن كان معصوماً من5.

ص: 100


1- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 435.
2- بحار الأنوار- المجلسي: 78/ 9/ح64.
3- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 285.

الشيطان الرجيم ومن كل بليةٍ: من لم يخلُ بامرأة ليس يملك منها شيئاً، ولم يدخل على سلطان، ولم يُعِن صاحب بدعة ببدعته)(1)؛ والإكثار من الوجود في المساجد ومجالس الصالحين فإنها تمنع من الوقوع في الذنب، قال علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من العصمة تعذر المعاصي)(2)، وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من اختلف إلى المساجد أصاب إحدى الثمان:... أو يترك ذنباً خشيةً أو حياءً)(3).ومنها: المراقبة, والمحاسبة الدقيقة والمستمرة للنفس، والأحاديث الآمرة بذلك كثيرة، روى الشيخ الطوسي (قدس سره) في كتاب الغيبة بسنده إلى أبي هاشم الجعفري قال: (سمعت أبا محمد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول: من الذنوب التي لا تغفر قول الرجل: ليتني لا أؤاخذ إلا بهذا، فقلت في نفسي: إن هذا لهو الدقيق ينبغي للرجل أن يتفقد من أمره, ومن نفسه كل شيء، فأقبل عليَّ أبو محمد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال: يا أبا هاشم صدقت, فالزم ما حدثت به نفسك, فإن الإشراك في الناس أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء, ومن دبيب الذر على المسح الأسود)(4).

ومنها: استعظام الذنب واستفضاع عاقبته، روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله: (إن الله تبارك وتعالى إذا أراد بعبدٍ خيراً جعل ذنوبه بين عينيه ممثلة, والإثم عليه ثقيلاً وبيلاً، وإذا أراد بعبدٍ شراً أنساه ذنوبه)(5), وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (إن المؤمن ليرى0.

ص: 101


1- بحار الأنوار- المجلسي: 71/ 197.
2- بحار الأنوار- المجلسي: 70/ 364.
3- ثواب الأعمال- الشيخ الصدوق: 27.- النهاية- الشيخ الطوسي: 108.
4- الغيبة- الشيخ الطوسي: 1/ 231.- مناقب آل أبي طالب- ابن شهر آشوب: 3/ 538.
5- مكارم الأخلاق- الشيخ الطبرسي: 460.

ذنبه كأنه تحت صخرة يخاف أن تقع عليه، والكافر يرى ذنبه كأنه ذباب مرَّ على أنفه)(1).ومنها: عدم الإعجاب بالنفس، وما يصدر منها من طاعات؛ لأن ذلك يوجب إيكال العبد إلى نفسه فيذنب, حتى يكون له واعظاً, ومؤدباً من نفسه، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن الله علم أن الذنب خير للمؤمن من العجب؛ ولولا ذلك ما ابتلي مؤمن بذنب أبداً)(2).

مُكفّرات الذنوب:

إن الله تعالى يعلم ضعف العبد عن مسك زمام نفسه الأمّارة بالسوء, ومقاومة غواية الشيطان, وتزيين الشهوات, ويعلم بجهل الإنسان بعواقب أفعاله، وهو أشفق على عباده وأرحم بهم من أنفسهم، وأكرم من أن يقابلهم على سيئاتهم بمثلها، قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} (فاطر:45)، قال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (وما يعفو الله أكثر مما يؤاخذ به)(3)، في تفسير قوله تعالى: {وَمَا أصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَت أيدِكُم وَيَعفُو عَن كَثِيرٍ} (الشورى:30).

فضاعف سبحانه وتعالى لهم الحسنات, وتمهل في تسجيل السيئات، في

ص: 102


1- الأمالي- الشيخ الطوسي: 527.
2- علل الشرائع- الشيخ الصدوق: 2/ 579.- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 313.
3- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 269.

الخصال عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إذا همّ العبد بحسنة كُتبت له حسنة، فإذا عملها كُتبت له عشر حسنات، وإذا همّ بسيئةٍ لم تُكتب عليه, فإذا عملها أُجّل تسع ساعات, فإن ندم عليها, واستغفر, وتاب, لم تُكتب عليه, وإن لم يندم, ولم يتب, كتبت عليه سيئة واحدة)(1)، وفي رواية أخرى: قال الله تبارك وتعالى: (جعلت لهم التوبة - أو قال<<بسطت لهم التوبة>>- حتى تبلغ النفس هذه, قال يا رب حسبي)(2), أي قال آدم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حسبي تلك الفضائل لذريتي مما كان للشيطان من التأثير عليهم. ثم لم يكتف سبحانه بكرمه, ورحمته, بذلك بل جعل لهم مكفرات لذنوبهم, حتى يخفف عنهم أوزارهم التي احتملوها على ظهورهم بسوء أفعالهم.

ويلاحظ على تلك المكفرات: أن بعضها اختيارية, وبعضها غير اختيارية.

فالاختيارية: أفعال ينبغي للإنسان أن يقوم بها ليكفّر بها عن سيئاته, وإن لم يفعل, ابتلي بغير الاختيارية: وهي أشق عليه، لذا ورد في بداية دعاء أبي حمزة الثمالي عن الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إِلهي لا تُؤَدِّبْني بِعُقُوبَتِكَ).

أما غير الاختيارية: - كالأمراض- فهي أمور تعرض للإنسان بسبب منه, أو من غيره, فيعتبرها الله تعالى بكرمه كفارة لذنوب من تعرض لها.

فعلى الإنسان أن يسعى بجد في طلب المغفرة والتكفير عن ذنوبه بالأسباب الاختيارية، وأن لا يجزع إذا حصل له ما يكفّر الذنوب، فإن بقاء ذنب واحد عليه9.

ص: 103


1- الخصال- الشيخ الصدوق: 418.
2- بحار الأنوار- المجلسي: 68/ 249.

إلى يوم القيامة كافٍ لفضيحته وإيلامه.لذا ورد في أدعية شهر رمضان الاستعاذة من انقضائه أو انقضاء الليلة التي هو فيها وقد بقي عليه ذنب أو تبعة يؤاخذه بها: (إِلْهِي وَأَعُوذُ بِوَجْهِكَ الكَرِيمِ, وَبِجَلالِكَ العَظِيمِ, أَنْ يَنْقَضِيَ أَيّامُ شَهْرِ رَمَضانَ, وَليالِيهِ, وَلَكَ قِبَلِي تَبِعَةٌ, أوْ ذَنْبٌ تُؤأَخِذُنِي بِهِ، أوْ خَطِيئَةٌ تُرِيدُ أَنْ تَقْتَصَّها مِنِّي لَمْ تَغْفِرْها لِي، سَيِّدِي سَيِّدِي سَيِّدِي)(1).

ومن وصايا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لابن مسعود: (يا ابن مسعود: لا تحقرن ذنباً ولا تصغّرنّه، واجتنب الكبائر، فإن العبد إذا نظر يوم القيامة إلى ذنوبه دمعت عيناه قيحاً, ودماً، يقول الله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} (آل عمران:30)، يا ابن مسعود: إذا قيل لك: اتق الله فلا تغضب، فإنه يقول: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} (البقرة:206))(2).

أما مُكفّرات الذنوب فهي:

1-التوبة والاستغفار بصدق: والتي تتضمن بحسب بيان أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لمعنى الاستغفار الندم على ما صدر منه, وعقد العزم بصدق على عدم العود, ورد المظالم إلى أهلها, وتدارك ما فاته من التقصير(3)، وحينئذٍ يكفّر الله

ص: 104


1- مفاتيح - الشيخ عباس: 304, من أدعية العشر الأواخر في شهر رمضان.
2- مكارم الأخلاق- الشيخ الطبرسي: 452.
3- أنظر: نهج البلاغة- خطب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 4/ 97.- مكارم الأخلاق- الطبرسي: 314.

سيئاته, وينسي الملائكة الحافظين ما كتبوا, وكل الشهود بما فيهم جوارحه, ويمحو عنه آثار تلك الذنوب والخطايا، ويكتب له بدل ذلك كله حسنات، قال تعالى: {إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} (الفرقان:70).2-القيام بالأعمال الصالحة والطاعات: قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّ-يِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (هود:114), {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} (الطلاق:5).

قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (إذا عملت سيئة فاعمل حسنة تمحها)(1)، وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (أُوصِيكُمْ بِتَقْوى اللَّه... وَ اِرْحَضُوا بِهَا ذُنُوبَكُمْ وَدَاوُوا بِهَا اَلْأَسْقَامَ)(2).

وورد هذا الأثر في أعمال كثيرة, كزيارة الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), وإحياء ليلة القدر, وصوم بعض الأيام المعينة, وبعض الصلوات المستحبة، وهي مذكورة في كتب السنن, والمستحبات، نذكر منها ما روي عن الإمام موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (ثلاث ليالي من زار فيها الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر: ليلة النصف من شعبان, والليلة الثالثة والعشرون من رمضان, وليلة العيد)(3), وورد في1.

ص: 105


1- الأمالي- الشيخ الطوسي: 186.
2- نهج البلاغة- خطب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 2/ 15.
3- بحار الأنوار- المجلسي: 98/ 101.

صوم ثلاث أيام الخميس والجمعة والسبت من الأشهر الحرم وهي (محرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة) أنها كفارة ذنوب تسعمائة عام(1), وهكذا.3-الصلاة في أوقاتها: عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (لو كان على باب أحدكم نهر فاغتسل منه كل يوم خمس مرات هل كان يبقى على جسده من الدرن شيء؟ إنما الصلاة مثل النهر الذي ينقي، كلما صلى صلاة كان كفارة لذنوبه إلا ذنب أخرجه من الإيمان مقيم عليه)(2).

وننبه دائماً إلى أن مثل هذه الأمور تلحظ مع شروطها كقول رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (لو صلّيتم حتى تكونوا كالأوتار، وصمتم حتى تكونوا كالحنايا لم يقبل الله منكم إلا بورع)(3)، وكقول الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من صلّى ركعتين يعلم ما يقول فيهما، انصرف وليس بينه وبين الله ذنب)(4).

4-الابتلاءات, والمصائب, والمصاعب, في الدنيا: قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (إن المؤمن إذا قارف الذنوب ابتلي بها بالفقر، فإن كان في ذلك كفارة لذنوبه وإلا ابتلي بالمرض، فإن كان في ذلك كفارة لذنوبه وإلا ابتلي بالخوف من السلطان يطلبه، فإن كان في ذلك كفارة لذنوبه وإلا ضيق عليه عند خروج نفسه، حتى يلقى الله حين يلقاه وما له من ذنب يدعيه عليه, فيأمر به إلى الجنة)(5).7.

ص: 106


1- أنظر: إقبال الأعمال- السيد ابن طاووس: 2/ 21.- الدر المنثور- السيوطي: 3/ 235.
2- بحار الأنوار- المجلسي: 79/ 236.
3- بحار الأنوار- المجلسي: 81/ 258.
4- ثواب الأعمال- الشيخ الصدوق: 44.- الكافي- الشيخ الكليني: 3/ 266.
5- بحار الأنوار- المجلسي: 64/ 237.

وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إذا أراد الله بعبد خيراً عجّل عقوبته في الدنيا، وإذا أراد بعبد سوءاً أمسك عليه ذنوبه حتى يوافي بها يوم القيامة)(1). 5-رعاية حرمة شهر رمضان: من دعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في وداع شهر رمضان (أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ مَا كَانَ أَمْحَاكَ لِلذُّنُوبِ، وَأَسْتَرَكَ لأَِنْوَاعِ الْعُيُوبِ... أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ كَمَا وَفَدْتَ عَلَيْنَا بِالْبَرَكَاتِ، وَغَسَلْتَ عَنَّا دَنَسَ الْخَطِيئاتِ) (2).

حتى روي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال: (سمّي شوال شوالاً لأنّ فيه شالت - أي ارتفعت وذهبت- ذنوب المؤمنين, فلم يبق فيه ذنب إلا غفره الله تعالى ببركة صيام شهر رمضان, فإن أجر كل أجير يعطى عند ختمه للعمل)(3).

6-الأمراض: قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (السقم يمحو الذنوب)(4)، وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (ساعات الأمراض يذهبن ساعات الخطايا)(5)، وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (حمى ليلة كفارة سنة)(6).

7-الأحزان والهموم: قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (إن العبد إذا كثرت ذنوبه ولم يجد ما يكفرها به، ابتلاه الله عز وجل بالحزن في الدنيا ليكفرها به...)(7)، وقال0.

ص: 107


1- الخصال- الشيخ الصدوق: 20.- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 445.
2- الصحيفة السجادية (ابطحي)- الإمام زين العابدين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 292.
3- إقبال الأعمال- السيد ابن طاووس: 2/ 14.
4- بحار الأنوار- المجلسي: 64/ 244.
5- الدر المنثور- جلال الدين السيوطي: 2/ 229.
6- مكارم الأخلاق- الشيخ الطبرسي: 358.
7- الأمالي- الشيخ الصدوق: 370.

(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (ساعات الهموم ساعات الكفارات، ولا يزال الهم بالمؤمن حتى يدعه وما له من ذنب)(1).8-إتيان المساجد: عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (عليكم بإتيان المساجد، فإنها بيوت الله في الأرض، ومن أتاها متطهراً طهره الله من ذنوبه, وكُتب من زوّاره، فأكثروا فيها من الصلاة والدعاء)(2).

9-العفو والصفح عن أخطاء الآخرين وتقصيراتهم: لأن هذه من أخلاق الله تبارك وتعالى وهو يجازي من اتصف بها بأكثر منها، قال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النور:22)، روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله: (من عفا عند المقدرة عفا الله عنه يوم العسرة)(3)، ولكن مع الالتفات إلى معنى العفو ومنه ما قاله أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (ما عفا عن الذنب من قرَّع به)(4). وفي دعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (اللّهُمَّ إِنَّكَ أَنْزَلْتَ فِي كِتابِكَ أَنْ نَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَنا وَقْدْ ظَلَمْنا أَنْفُسَنا، فَاعْفُ عَنّا فَإِنَّكَ أَوْلى بِذلِكَ مِنّا)(5).

10-اتباع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والاستنان بسنته الشريفة في الأفعال والأقوال: قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ4.

ص: 108


1- بحار الأنوار- المجلسي: 64/ 244.
2- الأمالي- الشيخ الصدوق: 440.
3- كنز العمال- المتقي الهندي: 3/ 373.
4- عيون الحكم والمواعظ- علي بن محمد الليثي: 477.
5- من دعاء أبي حمزة الثمالي. الصحيفة السجادية (ابطحي)- الإمام زين العابدين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 234.

لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران:31).11-إغاثة الملهوف: قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من كفارات الذنوب العظام: إغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب)(1).

12-كفارات خاصة: إن بعض الذنوب والتقصيرات لها كفارات خاصة، فقد روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله: (إن من الذنوب ذنوباً لا يكفّرها صلاة ولا صوم، قيل يا رسول الله، فما يكفرها؟ قال: الهموم في طلب المعيشة)(2).

وما ورد في القول المشهور عن الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لعلي بن يقطين: (كفارة عمل السلطان الإحسان إلى الإخوان)(3).

وما في قول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (من الذنوب ذنوب لا تغفر إلا بعرفات)(4).

ومن الكفّارات الخاصة ما ورد عند القيام من أي مجلس, أو انفضاض أي لقاء, أو اجتماع كان مشوباً بالغفلة عن الله تعالى, فيقول: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ 180 وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ 181 وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الصافات:182).

13-حسن الخُلُق: قال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إن حسن الخلق يذيب الخطيئة كما تذيب الشمس الجليد، وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل0.

ص: 109


1- بحار الأنوار- المجلسي: 72/ 21.
2- بحار الأنوار- المجلسي: 70/ 157.
3- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 410.
4- بحار الأنوار- العلامة المجلسي: 96/ 50.

العسل)(1).14-كثرة السجود: قال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (جاء رجل إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال: يا رسول الله كثرت ذنوبي وضعف عملي، فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): أكثر من السجود, فإنه يحط الذنوب كما تحط الريح ورق الشجر)(2).

15-الحج والعمرة: قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحجة المتقبلة ثوابها الجنة، ومن الذنوب ذنوب لا تغفر إلا بعرفات)(3)، وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَوَسَّلَ بِهِ اَلْمُتَوَسِّلُونَ إِلَى اَللَّهِ سُبْحَانَهُ... حَجُّ اَلْبَيْتِ وَاِعْتِمَارُهُ, فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ اَلْفَقْرَ, وَيَرْحَضَانِ اَلذَّنْبَ)(4).

16-افتتاح صحيفة العمل واختتامها بالخير: قال الإمام زين العابدين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إن الملك الموكل على العبد يكتب في صحيفة أعماله فأملوا بأولها وآخرها خيراً يغفر لكم ما بين ذلك)(5).

17-الصلاة على محمد وآله: قال الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من لم يقدر على ما يكفر به ذنوبه فليكثر من الصلاة على محمد وآله فإنها تهدم الذنوب هدماً)(6).

18-سكرات الموت: قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (الموت كفارة لذنوب1.

ص: 110


1- بحار الأنوار- العلامة المجلسي: 68/ 395.
2- الأمالي- الشيخ الصدوق: 589.
3- بحار الأنوار- المجلسي: 96/ 50.
4- نهج البلاغة- خطب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 1/ 215.
5- الأمالي- الشيخ المفيد: 2.
6- الأمالي- الشيخ الصدوق: 131.

المؤمنين)(1).19-الصدقة: قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (الصدقة تطفئ غضب الرب)(2)، وقال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إن صدقة الليل تطفئ غضب الرب، وتمحو الذنب العظيم)(3).9.

ص: 111


1- الأمالي- الشيخ المفيد: 283.
2- بحار الأنوار- المجلسي: 93/ 180.
3- الكافي- الشيخ الكليني: 4/ 9.

القبس /7: سورة البقرة:256

اشارة

{لَا إِكرَاهَ فِي ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشدُ مِنَ ٱلغَيِّ ۚ}

موضوع القبس: الرد على شبهة انتشار الإسلام بالسيف

{لَا} النافية للجنس والجملة يمكن ان تكون خبرية فيخبر الله تعالى ان ارادته لن تتعلق باكراه الناس على اعتقاد الحق قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس:99), وتنفي الآية وجود أي حكم اكراهي في الدين يُجبر عليه الانسان من غير رضاه، فاذا تعرّض الإنسان لحكم اكراهي فليعلم انه ليس من الدين، كحديث (لا ضرر ولا ضرار)(1), الذي ينفي وجود حكم ضرري في الشريعة.

ويمكن ان تكون العبارة انشائية فتدعوا الآية الى عدم اعتماد أسلوب الاكراه لجلب الاخرين الى الدين وتنهى عنه:

أولاً: لأنه قد تَبيّن الرشد والطريق الموصل الى الهداية والإيمان وأصبح متميّزاً عن الغي وطريق الضلال ويبقى الامر متروكا لاختيار الإنسان وارادته في سلوك اي منهما وليتحمل مسؤولية قراره ثواباً وعقاباً.

ثانياً: لان العقيدة امر عقلي وقلبي فلا يمكن فرضه بالقوة على الإنسان وانما

ص: 112


1- الكافي- الشيخ الكليني: 5/ 280.

يأتي عن قناعة به، والذي يتعرض للإكراه ويظهر ما يُريده المُكرِه فانه يرجع عنه مباشرة بعد زوال الاكراه، وانما يتصور الاكراه في الأفعال والاعمال الخارجية وقد يلجا اليه العقلاء لإقرار النظام الاجتماعي ولحماية الانسان من الضرر ونحو ذلك مما سياتي. والحقيقة ان المعنى الثاني مستند الى الأول لان حاصلهما: النهي عن اجبار شخص على الاعتقاد بالحق، لعدم إمكانية تحقيق هذه النتيجة بالإكراه, وانما بالإقناع ونستفيد من الآية عدة أمور:

1-ان الإسلام يحترم كرامة الانسان وحريته وحقه في اعتناق العقيدة التي يقتنع بها ويعتمد أسلوب الحجة والبرهان والبيان لتحصيل القناعة التامة لدى الاخر فحرية الاعتقاد أوضح علامة على انسانية الانسان فمن يسلب هذه الحرية انما يجرد الانسان من انسانيته.

ولأجل احترام هذه الحرية ومبدا الاختيار نفى ونهى عن الاكراه في الدين، والاختيار سنة إلهيّة جارية في خلقه ويتحمل الانسان مسؤولية اختياره {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال:42).

2-وقد كفل الإسلام مضافاً إلى ذلك حرية ممارسة الشعائر الدينية، وفي بعض الروايات (أن نصارى نجران لما وفدوا على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وكان سيدهم الاهتم والعاقب والسيد، وحضرت صلواتهم فأقبلوا يضربون بالناقوس وصلوا، فقال أصحاب رسول الله: يا رسول الله هذا في مسجدك؟ فقال: دعوهم،

ص: 113

فلما فرغوا دنوا من رسول الله فقالوا: إلى ما تدعوا؟ فقال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وأن عيسى عبد مخلوق يأكل ويشرب ويحدث قالوا: فمن أبوه؟) وكأنهم أرادوا أن يحرجوه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بهذا السؤال ليثبتوا أنه ابن الله (فنزل الوحي على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فقال: قل لهم: ما يقولون في آدم؟ أكان عبداً مخلوقاً يأكل ويشرب ويحدث وينكح؟ فسألهم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقالوا: نعم، فقال: فمن أبوه؟ فبقوا ساكتين، فأنزل الله: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم)(1). وكان أصحاب الديانات والملل المختلفة يعيشون في ظل دولة الإسلام ويمارسون شعائرهم بكل حرية، ومن ارقى مظاهر الإنسانية تعاطف امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مع بعض غير المسلمين الذين تعرضوا للسلب في احدى غارات معاوية على غرب العراق بحيث يشرف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على الموت ألماً وأسفاً قال: (وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ، وَالْأُخْرَى المُعَاهَدَةِ(2)، فيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا(3) وَقُلْبَهَا(4) وَقَلاَئِدَهَا، وَرِعَاثَهَا(5)، ما تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاَّ بِالْإِسْتِرْجَاعِ وَالْإِسْتِرْحَامِ(6)، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ(7)، مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ(8)، وَلاَ أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ،ح.

ص: 114


1- بحار الأنوار- المجلسي: 21/ 340.
2- المعاهَدَة: الذميّة.
3- الحِجْل - بالكسر وبالفتح وبكسرين -: الخلخال.
4- القُلُب - بضمتين -: جمع قُلْب - بالضم فسكون -: السوار المُصْمَت.
5- الرعاث - جمع رَعثة - وهو: ضرب من الخرز.
6- الاسترجاع: ترديد الصوت بالبكاء مع القول: إنّا لله وإنا اليه راجعون، والاسترحام: أن تناشده الرحمة.
7- وافرين: تامين على كثرتهم لم ينقص عددهم، ويروى (موفورين).
8- الكَلْم - بالفتح -: الجرح.

فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِن بَعْدِ هَذا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً)(1).3-ان الاكراه المنفي ليس فقط على مستوى استعمال القوة العنيفة بل ترفَّع الإسلام أيضاً عن كل الأساليب غير الشفافة والاكراه بالقوى الناعمة كممارسة الخداع والتضليل والتمويه والتجهيل والادعاءات الباطلة، واستخدام الوسائل والظواهر الخادعة والخارقة للعادة ظاهراً التي تقود المسحور بها الى التسليم، فهذه كلها أساليب مرفوضة لأنها تصادر العقل والادراك والوعي والتدبر.

فان قلتَ: أن هذا ليس إكراهاً لغة وعرقاً.

قلنا: يمكن أن يكون المعنى القرآني أوسع منهما أو نقول ان مناط الاكراه موجود فيها وهو مصادرة الوعي والبصيرة والتدبر.

4-تفريعاً على هذه النقطة, فان الآية الكريمة تدعو الناس الى ترك التقليد في العقائد واتباع طريق الحجة والبرهان، لان التقليد من غير تدبر وادراك ووعي هو شكل من اشكال الاكراه والمورد لا يقبله.

5-ان الآية خير رد على من يتهم الإسلام بالتوسع بالقوة العسكرية واجبار الاخرين على اعتناقه، فان من يترفع عما ذكرناه في النقطة الثالثة يكون من باب أولى رافضاً لأساليب القهر والتهديد بالقوة، وانما جاز القتال في بعض الموارد للدفاع عن النفس او لحماية المجتمع من الفتنة والضلال او لإزالة قبضة الطواغيت الذين يمنعون الناس من الاستماع الى الحق واتباعه ويصادرون حريتهم في5.

ص: 115


1- نهج البلاغة: 67, الخطبة 27- الكافي- الشيخ الكليني: 5/ 5.

الاعتقاد والممارسة ونحو ذلك من الدوافع التي ذكرناها في اكثر من موضع.6-مما تقدم يظهر ان موضوع هذه الآية مختلف عن موضوع آيات القتال لذا فما قيل من ان هذه الآية منسوخة بتلك الآيات غير صحيح, وإنَّ علة الحكم بعدم الاكراه في الدين وهو تبيّن الرشد من الغي موجودة ومستمرة ولا تتأثر بآية القتال.

7-إن هذا المبدأ دليل على عظمة الإسلام, وثقته بنفسه, وقدرته على اقناع البشرية, ولذا فهو لا يحتاج الى القوة, وهكذا كل أصحاب المشاريع الناجحة الرصينة, وانما يتوسل بالقوة الفاشلون من اصحاب الأيدولوجيات البشرية، غير القادرين على اقناع الناس بمشروعهم أو أنهم لا يمتلكون مشروعاً حضارياً أصلاً.

والمفارقة الغريبة ان الله تعالى خالق البشر ومدبرهم وولي أمورهم ينهى عن الاكراه في العقيدة لكن الطواغيت والمستكبرين وهم مخلوقون عاجزون فاشلون يعطون لأنفسهم الحق في اجبار الناس على متابعتهم وتنفيذ ما يُريدون.

8-والآية لا تنافي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, لان الغرض من هذه الفريضة هو إلزام المعتقد للحق بالعمل بما أعتقده صحيحاً وليس اجبار غير المعتقد للحق على اعتقاده، مضافا الى ان هذه الفريضة انما شُرّعت لحفظ النظام الاجتماعي العام من المفسدين والمنحرفين والمضلين, ولضمان تطبيق القوانين التي يدين بها الناس ومن واجب العقلاء فعل ذلك، وإلزام الناس بالنظام العام وعدم التجاوز على حقوق الآخرين.

9-يفهم البعض من الآية فهماً مغلوطاً فيتصور ان الآية تدل على ان

ص: 116

الإسلام لا يتدخل في عقيدة الانسان وسواءٌ عنده ان يؤمن او لا يؤمن، ويجيز لكل انسان ان يعتقد ما يشاء حتى عبادة الاصنام من دون أي يلحق به أي مسؤولية، وان الإسلام يقف على مسافة واحدة من الجميع. وهذا الفهم يناقض أساس الإسلام المبني على التوحيد ونبذ الشرك والكفر قال تعالى {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (آل عمران:19), وقال {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران:102), وهذ الفهم يشبه من يضع القوانين لحفظ مصالح العباد والبلاد ثم يقول لهم انتم احرار في الالتزام وعدم الالتزام بها.

فالصحيح ان الله تعالى لا يأذن بعقيدة غير التوحيد وان معنى الآية إعطاء الانسان حرية اختيار العقيدة على أن يتحمل مسؤولية قراره بعد اتضاح الحق والطريق الموصل اليه.

ص: 117

القبس /8: سورة البقرة:269

اشارة

{وَمَن يُؤتَ ٱلحِكمَةَ فَقَد أُوتِيَ خَيرا كَثِيرا ۗ}

موضوع القبس: بيان معنى الحكمة وحقيقتها

نحاول فهم معنى الآية الشريفة والاستفادة منها عمليّاً في حياتنا من خلال توضيح عدّة نقاط:

معنى الحكمة:

1-معنى الحكمة وحقيقتها:

الحكمة أخذت من (الحَكَمة) وهو لجام الدابة الذي يمنعها من التقّحم والاضطراب ويضبط حركتها(1).

فكذلك الحكمة لجام للنفس الامارة بالسوء والشهوات والنزوات والانفعالات وترشّد افعال الانسان بما يوافق العقل والفطرة.

وأصل الكلمة (حَكَم) بمعنى (مَنَع) ولكن ليس مطلق المنع وإنما ما كان لإصلاح وسمي الحكم حكماً لان الحاكم العادل يمنع الظلم وسمي العلم حكمة لأنه يمنع المتصف به من الجهل، لذا فهي تعني الاتقان والإحكام وإحسان العمل

ص: 118


1- لسان العرب ابن منظور: 12 / 144

وسميت الآيات محكمات لأنهن متقنات لا تقبل الاختراق.

الحكمة في القرآن واللغة:

فالحكمة - بحسب ظاهر القرآن الكريم واللغة لا ما شيّده الفلاسفة واضافوا فيه من عندياتهم - ما يضبط تفكير الانسان وإرادته وتوجهاته وسلوكه في الاتجاه الصحيح وتكون له بوصلة حياته، فتبدأ بالعلم النافع والمعرفة الحقة وتنتهي بالعمل بمقتضاهما والأخذ بهداهما ثم اتمامها بالثبات على ذلك.

وقد قيل في تعريف الحكمة اقوال عديدة تندرج ضمن هذا الاطار فقيل بأنها (إصابة الحق بالعلم والعقل), وانها (تحقيق العلم وإتقان العمل), أو (ما يمنع من الجهل والاصابة في القول), (وقال ابن دريد كل ما يؤدي الى مكرمة او يمنع من قبيح، وقد يطلق على العلوم الفائضة من جنابه تعالى على العبد بعد العمل بما يعلم)(1).

كل ما يوصل الى الأهداف السامية من الخلقة:

وكذلك فسرَّت الروايات الشريفة الحكمة الواردة في الآيات القرآنية بتفاسير عديدة, هي عبارة عن مصاديق وآليات لهذا الإطار العام, أي كل ماله دخل في الوصول الى الهدف، ففي الكافي والمحاسن للبرقي وتفسير العياشي, عن أبي عبد

ص: 119


1- أنظر: بحار الانوار- المجلسي: 1/ 215- لسان العرب- ابن منظور: 12/ 140.

الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في (قول الله عز وجل: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (البقرة:269), فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): طاعة الله ومعرفة الإمام)(1).وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (سمعته يقول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): معرفة الامام واجتناب الكبائر التي أوجب الله عليها النار)(2).

وفسرّها الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالمعرفة(3), وعن سليمان بن خالد قال: (سألت أبا عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن قول الله: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): ان الحكمة المعرفة والتفقه في الدين، فمن فقه منكم فهو حكيم، وما من أحد يموت من المؤمنين أحب إلى إبليس من فقيه)(4).

وفي الحديث النبوي الشريف (القرآن منار الحكمة)(5).

شرف الحكمة:

2-شرف الحكمة وفضلها:

وقد اكتسبت الحكمة أهمية كبرى في حياة الساعين الى الكمال والراغبين في رضوان الله عز وجل، لما ورد فيها من الفضل والشرف حيث وصفتها الآية

ص: 120


1- المحاسن- البرقي: 1/ 148.- الكافي- الشيخ الكليني: 1/ 185.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 284.
3- بحار الأنوار- المجلسي: 1/ 215.
4- تفسير العياشي- العياشي: 1/ 151.
5- تفسير نور الثقلين- الشيخ الحويزي: 1/ 287.

الكريمة بانها خير كثير، وجعل تحصيلها الغرض من بعث النبيين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} (آل عمران:81), وعن نبينا (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), قال تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة:164).وفي الحديث النبوي الشريف: (كلمة الحكمة يسمعها المؤمن خير من عبادة سنة)(1), وفي مواعظ عيسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن الحكمة نور كل قلب)(2), وعن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (كاد الحكيم أن يكون نبياً)(3)، وفي كتاب منية المريد للشهيد الاول (قدس سره) أنه مكتوب في التوراة قول الله تبارك وتعالى (عظّم الحكمة فأني لا أجعل الحكمة في قلب أحد إلا وأردت أن أغفر له فتعلمها ثم أعمل بها ثم ابذلها كي تنال بذلك كرامتي في الدنيا والآخرة)(4).

لانها كما وصفها الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الحكمة ضياء المعرفة وميزان التقوى وثمرة الصدق، وما انعم الله على عبد من عباده نعمة انعم واعظم وأرفع اجزل وابهى من الحكمة للقلب، قال الله عز وجل: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} (البقرة:269)، أي لا يعلم ما أودعت وهُيأت في الحكمة إلا من استخلصته لنفسي وخصصته بها، والحكمة هي النجاة وصفة الحكمة الثبات عند اوائل الامور والوقوف عند7.

ص: 121


1- بحار الأنوار- المجلسي: 74/ 172.- ميزان الحكمة- الريشهري: 2/ 431.
2- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 512.- ميزان الحكمة- الريشهري: 2/ 431.
3- كنز العمال- المتقي الهندي: 16 /117.- ميزان الحكمة- الريشهري: 2/ 431.
4- بحار الأنوار- المجلسي: 1/ 220/ح57.

عواقبها، وهو هادي خلق الله الى الله تعالى، قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لأن يهدي الله على يديك عبداً من عباد الله خير لك مما طلعت عليه الشمس من مشارقها الى مغاربها))(1).ولأهمية طلب الحكمة الموصلة الى الله تعالى التي فسرتها بعض الروايات بالتفقه بالدين لم يجد الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) عذراً لتارك طلبها، روى البرقي في المحاسن عن الامامين الصادقين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لو اتيت بشاب من شباب الشيعة لا يتفقه لأدّبته)(2), قال وكان أبو جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول: (تفقّهوا وإلا فأنتم اعراب)(3).

ضالة المؤمن:

3-الحكمة ضالة المؤمن:

ولذا اصبح طلب الحكمة والبحث عنها من صفات المؤمنين بغض النظر عن مصدرها انطلاقاً من كلمة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لا تنظر الى من قال وأنظر الى ما قال)(4)، وعنه أيضاً انه قال: (الحكمة ضالة المؤمن فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق)(5), وفي كلمة أخرى (فأطلبوها ولو عند المشرك تكونوا أحق بها وأهلها)(6).

ص: 122


1- مصباح الشريعة- المنسوب للإمام الصادق(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):198- بحار الأنوار- المجلسي:1/ 215.
2- المحاسن- البرقي: 1/ 228.- بحار الأنوار- المجلسي: 1/ 214.
3- المحاسن- البرقي: 1/ 228.- بحار الأنوار- المجلسي: 1/ 214.
4- كنز العمال- المتقي الهندي: 16/ 269- غرر الحكم: ح10189.
5- نهج البلاغة: 4/ 18/ خطب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).
6- الأمالي- الشيخ الطوسي: 625.- بحار الأنوار- المجلسي: 2/ 97.

وهذا الطلب للحكمة من اي مصدر كان له ما يبررّه، من مواعظ عيسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (لو وجدتم سراجاً يتوقد بالقطران في ليلة مظلمة لأستضأتم به ولم يمنعكم منه ريح نتِنه، كذلك ينبغي لكم ان تأخذوا الحكمة ممن وجدتموها معه ولا يمنعكم منه سوء رغبته فيها)(1). ووصف الحكمة بانها ضالة المؤمن يحمل عدّة معانٍ منها:

أ-ان صاحب الضالّة - وهو الحيوان الشارد التائه- كما لا يستقر له قرار حتى يجد ضالته، كذلك المؤمن عليه ان لا يتوقف عن السعي لطلب الحكمة، حتى يقتنصها من اي مصدر كان.

ب- إن الضالة ملك لصاحبها فيأخذها من دون منازع، وعلى كل من يجدها أن يعيدها الى صاحبها, وكذلك الحكمة فأن المؤمن أحق بها فلابد من إيصالها اليه، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (كلمة الحكمة ضالّة المؤمن فحيث وجدها فهو احق بها)(2).

ت- كما ان الضالة تبقى قلقة مضطربة عند من يلتقطها حتى تعود الى صاحبها وراعيها لأنسها به وبرعايته ورفيقاتها في الحضيرة، كذلك الحكمة لا تستقر عند غير صاحبها فيخرجها ليلتقطها المؤمن الذي هو صاحبها وبهذا المعنى وردت كلمات عديدة، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (خذ الحكمة أنّى كانت، فان الحكمة تكون في صدر المنافق فتلّجلجُ في صدره حتى تخرج فتسكن الى2.

ص: 123


1- بحار الأنوار- المجلسي: 75/ 307.- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 392.
2- كنز العمال- المتقي الهندي: 16/ 112.

صواحبها في صدر المؤمن)(1).

تحروا الحكمة:

المطلوب تحري الحكمة والموعظة واقتناصها من كل شيء حولك وتحويلها الى سلوك عملي (قيل للقمان:ممن تعلمت الحكمة؟ قال: من العميان: لأنهم لا يضعون أقدامهم في محل حتى يختبروه. وقيل للقمان ممن تعلمت الأدب؟ فقال: ممن لا ادب لهم فأجتنبت كل ما استهجنته منهم)(2).

وهذا وجه لفهم سبب ورود الفعل في الآية مبنيّاً للمجهول {وَمَن يُؤْتَ} {أُوتِيَ} رغم ان الواهب معروف وهو الله تعالى لكن في ذلك اشارة الى ان الحكمة امر مرغوب ومطلوب بغّض النظر عن مصدرها.

تقسيمات الحكمة:

4-تقسيمات الحكمة:

وفي ضوء ما تقدم ومن استقراء الآيات الكريمة والروايات الشريفة نتوصل الى ان الحكمة على ثلاثة اقسام(3)، وهي في الحقيقة ثلاث مراتب ومراحل ودرجات تفضي الواحدة الى الاخرى بفضل الله تبارك وتعالى.

ص: 124


1- نهج البلاغة: 4/ 18/ خطب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).
2- حکم لقمان- الريشهري: 8.
3- ذكر العلماء تقسيمات اخرى، وانما ذكرنا ما يرتبط بفكرة البحث.

الأولى: الحكمة العلمية:

وهي العلوم والمعارف التي اتى بها الانبياء والمرسلون والائمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لتكميل نفوس الناس وتشمل علوم العقائد والاخلاق والشريعة والمواعظ والامثال والسنن الالهية والآيات الكونية ونحو ذلك، وقد تضمّنها القرآن الكريم لذا وصف بالحكيم ووصفته آياته بقول الله تعالى {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} (الإسراء:39), وجعل ايصال هذه الحكمة وتعليمها هدف بعثه النبيين، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (آل عمران:164), ومثلها (الجمعة:2) و(البقرة:129-151).

الثانية: الحكمة العملية:

وهي الممارسة العملية المؤدية الى التكامل من خلال الالتزام وتطبيق تلك الحكمة العلمية، وسياتي في روايات كثيرة اطلاق الحكمة على جملة من هذه الممارسات.

الثالثة: الحكمة الحقيقيّة:

وهي حالة الانكشاف والنورانية التي يهبها الله تعالى لمن نجح في المرحلتين السابقتين وهو العلم والفقه الحقيقي المقصود في الآيات والروايات كقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (فاطر:28).

ونتيجته حصول المعرفة بحقائق الاشياء هبة من الله تعالى، ففي الآية محل

ص: 125

البحث {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ}, وقال في حق لقمان الحكيم {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} (لقمان:12).

كيفية الحصول على الحكمة:

5- مقدمات الحصول على الحكمة:

الآية صريحة بأن الحكمة فضل من الله يؤتيه من يشاء، وفي الحديث عن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لا حكمة الا بعصمة)(1)، اي من الله تعالى، ومع هذا فان لتحصيل الحكمة مقدّمات ومقومات فينبغي تحقيقها، وموانع تجب ازالتها.

اي ان لتحصيلها ركنين اشارت اليها الروايات الشريفة:

أ-ايجاد المقدمات مثل ما ورد عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (رأس الحكمة مخافة الله)(2).

وعن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (حفظ الدين ثمرة المعرفة ورأس الحكمة), وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (رأس الحكمة تجنب الخداع), وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (رأس الحكمة لزوم الحق وطاعة المحق)(3).

ب- ازالة الموانع مثل ما ورد عن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (اغلب الشهوة تكمل لك الحكمة)(4), وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (من زهد في الدنيا اثبت

ص: 126


1- العلم والحكمة في الكتاب والسنة- الريشهري: 94.
2- من لا يحضره الفقيه- الشيخ الصدوق: 4/ 376.
3- أنظر: ميزان الحكمة- الريشهري: 1/ 673.
4- ميزان الحكمة- الريشهري: 1/ 674.

الله الحكمة في قلبه وانطق بها لسانه)(1).وفي الحديث القدسي في المعراج: (يا احمد ان العبد اذا أجاع بطنه وحفظ لسانه(2) علمته الحكمة، وان كان كافرا تكون حكمته حجة عليه ووبالاً، وان كان مؤمناً تكون حكمته له نوراً وبرهاناً وشفاءاً ورحمةً، فيعلم مالم يكن يعلم ويبصر مالم يكن يبصر، فأوّل ما ابصّره عيوب نفسه حتى يشتغل عن عيوب غيره، وابصّره دقائق العلم حتى لا يدخل عليه الشيطان)(3).

وعن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (التخمة تفسد الحكمة، البطنة تحجب الفطنة) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لا تجتمع الشهوة والحكمة)(4).

وفي كلام منسوب لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من اخلص لله اربعين صباحا يأكل الحلال صائما نهاره وقائما ليله اجرى الله سبحانه ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه)(5).

وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الغضب ممحقة لقلب الحكيم، ومن لم يملك4.

ص: 127


1- بحار الأنوار- المجلسي: 2/ 33.
2- ليس فقط عن المحرمات بل عن فضول الكلام ايضا، روي في عدة مصادر: ان لقمان كان عبداً لداوود (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو يسرد الدرع فجعل يُفتله هكذا بيده، فجعل لقمان (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يتعجب ويريد ان يساله، وتمنعه حكمته ان يساله، فلما فرغ منها صبّها على نفسه وقال: نعم درع الحرب هذه، فقال لقمان: الصمت من الحكمة وقليل فاعله، كنت اردت ان اسالك فسكت حتى كفيتني) الدر المنثور- السيوطي: 6/ 513, ومصادر اخرى, ذكرها في الهامش مفردات الراغب:450.
3- بحار الأنوار- المجلسي: 74/ 29.
4- أنظر: ميزان الحكمة - الريشهري: 1/ 674.
5- حكم لقمان- الريشهري: 26, عن مسند زيد بن علي: 384.

غضبه لم يملك عقله)(1).وعن الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن الزرع ينبُتُ في السَّهل ولا ينبُتُ في الصَّفا، فكذلك الحكمة تعمرُ في قلب المتواضع، ولا تعمرُ في قلب المتكبّر الجبّار, لأن الله جعل التواضع آلة العقل)(2).

وعن عيسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إنه ليس على كل حال يصلح العسلُ في الزِّقاق(3)، وكذلك القلوب ليس على كل حال تعمر الحكمة فيها، إن الزِّقَّ ما لم ينخرِق أو يَقحَل- اي ييبس - أويَتْفَلْ - اي تكون فيه رائحة نتنة - فسوف يكون للعسل وعاء، وكذلك القلوب ما لم تخرِقها الشهوات ويدّنسها الطمع ويقسِها النعيم فسوف تكون أوعية للحكمة)(4).

وعن الإمام الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (الحكمة لا تنجعً في الطباع الفاسدة)(5).

وعن الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (غير منتفع بالحكمة عقل معلول بالغضب والشهوة), وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (غير منتفع بالعِظات قلب متعلِّق بالشهوات)(6).

آثار الحكمة:

6- من اثار الحكمة على السلوك:

وقد نبّهت الروايات الى عدد من السلوكيات التي تُعتبر من آثار وجود مرتبة

ص: 128


1- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 305.
2- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 396.
3- الزِّق وعاء من الجلد كالقربة يُتخذ لحفظ ونقل المائعات كالعسل والدبس ونحو ذلك.
4- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 504.
5- أعلام الدين في صفات المؤمنين- الديلمي: 311.- بحار الأنوار- المجلسي: 75/ 370.
6- أنظر: ميزان الحكمة- الريشهري: 1/ 675.

من مراتب الحكمة لدى الانسان، اي ان الحكمة لابد ان تظهر لها آثار على صاحبها، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لابد له من معاشرته، حتى يجعل الله له من ذلك مخرجاً)(1).وعن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (ليس الحكيم من لم يدارِ من لا يجدُ بداً من مداراته)(2), وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (ليس بعاقل من انزعج من قول الزور فيه، ولا بحكيم من رضّي بثناء الجاهل عليه)(3), وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الحكماء اشرف الناس انفساً، واكثرهم صبرا، واسرعهم عفوا واوسعهم اخلاقاً)(4).

لقمان الحكيم:

7- لقمان ينال الحكمة:

قال تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} (لقمان:12), فهو ممن وصل مرتبة الحكمة الحقيقية، روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله: (حقا اقول: لم يكن لقمان نبياً, ولكن كان عبداً كثير التفكر, حسن اليقين، احبَّ الله فاحبَّهُ, ومنّ عليه بالحكمة)(5).

ومن كلماته الحكمية التي رواها الائمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وهو يوصي ابنه: (يا بني ان الدنيا بحر عميق قد هلك فيه عالم كثير، فاجعل سفينتك فيها الايمان،

ص: 129


1- كنز العمال- المتقي الهندي: 9/ 27.
2- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 218.
3- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 208.
4- ميزان الحكمة- الريشهري: 1/ 670.
5- بحار الأنوار- المجلسي: 13/ 424.

واجعل شراعها التوكل، واجعل زادك فيها تقوى الله، فان نجوت فبرحمة الله ، وان هلكت فبذنوبك.يا بني: خفِ الله خوفا لو اتيت القيامة ببرّ الثقلين خفت ان يعذبَّك، وارجُ الله رجاءاً لو وافيتَ القيامة بأثم الثقلين رجوت ان يغفرك لك.

واعلم: انَّك ستسأل غداً اذا وقفت بين يدي الله عز وجل عن اربعة: شبابك فيما ابليته، وعمرك فيما افنيته، ومالك فيما اكتسبته وفيما انفقته، فتأهب لذلك واعدَّ له جوابا، ولا تأس على ما فاتك من الدنيا فان قليل الدنيا لا يدوم بقاؤه، وكثيرها لا يؤمن بلاؤه، فخذ حذركّ وجدَّ في امرك)(1).

ومثل هذه الكلمات لا يكفي ان نقراها او نسمعها ونمَّر عليها بل لابد من الاحتفاظ بها ومراجعتها باستمرار وتكفلت كتب بجمع هذه الحكم كموسوعة (ميزان الحكمة)(2).2.

ص: 130


1- تفسير القمي: 2/ 164.- الكافي- الكليني: 2/ 135.
2- ميزان الحكمة- الشيخ محمد الريشهري: 1/ 622.

التأسي بلقمان الحكيم:

8- هل يمكن ان تكون مثل لقمان الحكيم:

والجواب: نعم، لان ايتاء الحكمة فضل من الله تعالى مفتوح ومعروض لكل من يستحقه, ولذا حثّت الآية الكريمة على ان نكون من اهلها، وذلك اذا سرت على المنهاج المؤدي لتحصيلها كالذي وصفه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) آنفاً عن لقمان الحكيم, علماً وعملاً.

وقد ورد في عدّة روايات توصيف عدد من اصحاب اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) انهم مثل لقمان الحكيم, فقد روي عن الامام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في وصف سلمان الفارسي, قوله: (من لكم بمثل لقمان الحكيم، وذلك امرؤ منّا اهل البيت، ادرك العلم الاول وادرك العلم الاخر، وقرأ الكتاب الاول وقراء الكتاب الاخير بحر لاينزف)(1).

بل عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (سلمان خير من لقمان)(2), وورد مثل ذلك في ابي حمزة الثمالي ويونس بن عبد الرحمن فقد روى الفضل بن شاذان قال: سمعت الثقة يقول: سمعت الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول: (ابو حمزة الثمالي في زمانه كلقمان في زمانه، وذلك انه خدم اربعة منا: علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وبرهة من عصر موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، ويونس بن عبد الرحمن كذلك هو سلمان زمانه)(3).

هذه هي الحكمة التي فيها خير كثير، فاطلبوها طول عمركم ودوّنوا ما ترزقون منها في دفتر خاص لتستفيدوا منها دائما وتراجعوها وتتعظوا بها وتتخذوها

ص: 131


1- بحار الانوار: 10/ 123/ح2.- تاريخ مدينة دمشق- ابن عساكر: 21/ 422.
2- بحار الانوار: 22/ 331/ح42.
3- رجال الكشي: 302, ترجمة يونس بن عبد الرحمن.

برنامجاً لحياتكم.

التحلي بالحكمة لا بالعبادة فقط:

9- الحكمة اساس لتقييم الاشخاص:

صحيح ان التدين اساس تقييم الاشخاص فيُعطى قيمة اكبر كلما كان التزامه باحكام الشريعة ادّق واكثر, إلا ان الدين لا يقتصر على العبادات المعروفة، فاذا اردنا التعامل مع شخص كمصاحبته ومصادقته او تزويجه ومصاهرته، فانه لا يكفي ان يكون ملتزماً بالواجبات الدينية المعروفة كالصلاة والصوم وتجنب الكبائر كشرب الخمر والزنا, وان كان في هذا خير كثير، وانما نبحث ايضاً عن حكمته وتعقلّه, لان الحكمة عُبر عنها في الكثير من الاحاديث بالعقل.

وذلك يعني ان نختبر حسن تصرفه ومعاشرته وتعامله, وانه يضع الامور في مواضعها, ويتحلى بالحكمة والاخلاق الفاضلة، وقد وردت في ذلك احاديث شريفة، منها ما اشتهر عن اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) روايتهم لحديث جدهم المصطفى (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (اذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجّوه الا تفعلوا تكن فتنة في الارض وفساد كبير)(1). فلم يكتفِ الحديث بان يكون دينه مرضيّاً بل ان تكون له حكمة في تصرفاته.

ص: 132


1- الكافي- الشيخ الكليني: 5/ 347.

القبس /9: سورة آل عمران:19

{إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسلَمُ ۗ}

الدين كاصطلاح: هو منظومة العقائد والقواعد والأفكار التي يلتزم بها الانسان ويتعبّد بها, وما يتفرع عنها من سلوك، وكل انسان في هذه الدنيا لابد أن يكون له دين حتى أكثر الشعوب تخلفاً وهمجية.

وقد يكون هذا الدين الهيّاً وقد يكون ماديّاً من صنع البشر وابتداعهم، حتى الذين يسمون باللادينيّين فان لهم ما يعتقدون به من حريات منفلتة وإباحية وزواج مثليّين وقمع للقيم الدينيّة السامية.

والآية الكريمة تكشف عن هذه الحالة الطبيعية لدى الانسان وتأخذ هذه الحقيقة بنظر الاعتبار فلا تتحدث عن ضرورة ان يكون للإنسان دين، وانما تنتقل إلى السؤال الثاني مباشرة, وهو معرفة الدين الذي يجب ان يعتقده الانسان وتوجيه بوصلته إليه, وتنظيم حياته على أساسه، لان الله تعالى بفضله وإحسانه وشفقته لا يترك الانسان تائهاً أو يقضي عمره بالتجربة والخطأ ليصل إلى الصواب وإنما قرَّر له الحقيقة التي تقوده إلى السعادة والفلاح {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ}, ولسانها الحصر أي تنفي سلامة وصحة أي دين آخر وإن اتعب الناس أنفسهم في صياغته واحكامه.

ص: 133

والإسلام يعني الانقياد والتسليم لله تبارك وتعالى وهو عنوان عام, الا انه اختص بالدين الإسلامي الذي جاء به النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وختم به الديانات والنبوات, لانه اكملها وادقها في تحقيق معنى الإسلام الذي يغطي كل شؤون الحياة الفردية والاجتماعية ولم يستوعبها دين غير دين الاسلام {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} (المائدة:3), وهو يتضمن الايمان بصدق كل الأنبياء السابقين وصحة ما أتوا به {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة:136), الا أن التعبد والتدين لابد أن يكون وفق هذه الشريعة الخاتمة.وهذه الحقيقة يُذعن بها العقل وتؤمن بها الفطرة من دون الحاجة إلى دليل ولا يشكك فيها الا مكابر {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} (النمل:14), لان الله تعالى خالق هذا الانسان والعارف بخلجات نفسه ومكنونات ضميره وكل ما يصلح شأنه فمن الطبيعي التوجه إليه لمعرفة ما ينظم حياته ويكفل له سعادته وصلاحه.

وتضيف آية في نفس السورة سبباً آخر يدعو الانسان إلى اعتناق الإسلام دون أي دين او نظام غيره، قال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (آل عمران:83), فالكون كله منقاد لمشيئة الله تعالى وارادته ويسير وفق النظام الدقيق الذي وضعه الله تعالى له، والانسان ما هو الا ذرة ضئيلة في هذا الكون وخاضع لنظامه فهو يولد بشكله وتركيبته من دون ارادته, ويكبر ويهرم ويموت وتعمل أجهزة جسمه بلا إرادة

ص: 134

منه. فهذا الإسلام والانقياد التكويني لابد ان يقترن معه انقياد تشريعي لتنسجم حركته مع الكون كله {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ} (النساء:125), والا تعرض لكوارث وصعوبات.

وقد التفت العلم الحديث قريباً إلى هذه الحقيقة، فأذعن بأن الانسان اذا خرج عن السنن الكونيّة الطبيعيّة, فانه يُسبب لنفسه الدمار والهلاك, وكذا على صعيد المجتمعات والدول.

فالسؤال هنا: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ}, فيه استنكار واستهجان وتوبيخ لخروجه من هذا النظام الكوني المتناسق.

ويأتي الجواب: بعد آيتين ليسجل العاقبة الأليمة لهذا الخروج {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:85), فمن طلب ديناً غير الإسلام فهو خاسر, لانه أضاع هذه الثروة العظيمة التي منَّ الله تبارك وتعالى عليّه بها, واستبدل بها اوهاماً وضلالات, وافنى عمره الثمين في متع زائلة واتبع هواه وانانيته.

وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (فَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دَيْناً تَتَحَقَّقْ شِقْوَتُهُ وَتَنْفَصِمْ عُرْوَتُهُ وَتَعْظُمْ كَبْوَتُهُ(1), وَيَكُنْ مَآبُهُ(2), إِلَى الْحُزْنِ الطَّوِيلِع.

ص: 135


1- الكَبْوَة: السقطة.
2- الإِنابة: الرجوع.

وَالْعَذَابِ الْوَبِيلِ وَأَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكُّلَ الْإِنَابَةِ(1), إِلَيْهِ وَأَسْتَرْشِدُهُ السَّبِيلَ الْمُؤَدِّيَةَ إِلَى جَنَّتِهِ الْقَاصِدَةَ إِلَى مَحَلِّ رَغْبَتِهِ)(2), وقوله: (ايها الناس: دينكم دينكم تمسكوا به لا يزيننكم ولا يردنكم احد عنه فأن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره لان السيئة فيه تغفر والحسنة في غيره لا تقبل)(3).فلنلتفت إلى هذه الحقيقة مادمنا في هذه الدنيا وفرصة العمل مفتوحة امامنا ونتمسك بديننا ونجعله أهم شيء عندنا, والا فان هذه الحقيقة ستنكشف للغافلين يوم القيامة حيث لا ينفعهم الندم {وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:85), وحينئذٍ يعلم العلمانيون والملحدون واللادينيون من الفائز بالسعادة؟

ولابد ان نلتفت إلى ان الإسلام ليس مجرد نطق بالشهادتين ولا يكفي فيه أداء العبادات الشخصية الواجبة, فان الانقياد والطاعة لا تتحقق بذلك لوحده, وإنما بالتطبيق الشامل للشريعة والالتزام بالدين في شؤون الحياة كافة، فهذا هو الإسلام وليس المظاهر والشكليات أو النسخ المحرَّفة او النماذج المنعزلة في الزوايا والكهوف.

لان من اهم علامات الصدق في الدين التحرك به ونشره وادخال الناس فيه، وعن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله: (لا دين لمن لا يدين الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)(4)، ويذمّ أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) المتقاعسين الذين جعلوا دينهم تبعاً9.

ص: 136


1- أسْبَغَ: أي أحاط بجميع وجوه الترغيب.
2- نهج البلاغة: 161, ومن خطبة له (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في صفة النبي وأهل بيته وأتباع دينه وفيها يعظ بالتقوى.
3- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 464.
4- بحار الانوار: 100/ 86/ ح59.

لدنياهم قال: (وَصَارَ دِينُ أَحَدِكُمْ لُعْقَةً عَلَى لِسَانِهِ صَنِيعَ مَنْ قَدْ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ وَأَحْرَزَ رِضَى سَيِّدِهِ)(1). أي ان قلة اهتمامكم بدينكم يوحي وكأنكم أنجزتم ما عليكم تجاه خالقكم واحرزتم رضا الله تبارك وتعالى فلم تعودوا محتاجين إلى عمل والأمر ليس كذلك أكيداً، وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن جعلت دينك تبعاً لدنياك أهلكت دينك ودنياك وكنت في الآخرة من الخاسرين، إن جعلت دنياك تبعاً لدينك أحرزت دينك ودنياك وكنت في الآخرة من الفائزين)(2).

وقد اعطى القرآن الكريم القيمة العظمى للدين وقدّمه على كل شيء قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} (البقرة:191), {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} (البقرة:217), فإزهاق النفس والتضحية بها يهون في سبيل التمسك بالدين وعدم الفتنة عنه، وروي عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير قوله تعالى: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} (غافر:45) قوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (يعني مؤمن آل فرعون، والله لقد قطعوه إربا إربا, ولكن وقاه الله أن يفتنوه في دينه)(3).

وفي هذا وردت روايات المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (وإذا نزلت نازله فاجعلوا أنفسكم دون دينكم، واعلموا أن الهالك من هلك دينه8.

ص: 137


1- نهج البلاغة: الخطبة/113.
2- عيون الحكم والمواعظ- علي بن محمد الليثي: 161.- غرر الحكم: 3750،3751
3- تفسير القمي- القمي: 2/ 258.

والحريب من حُرِب دينه)(1).وقد ادرك من وفّقهم الله تعالى لمرضاته هذه الحقيقة فتمسكوا بدينهم وثبتوا عليه رغم الاغراءات التي عرضت عليهم، والعقوبات الصارمة التي هُددِّوا بها.

ويحكي القرآن الكريم قصص جملة منهم للتأسي بهم كاصحاب الأخدود الذين حفر لهم خندق واضرمت فيه النار وأُلقوا فيها ولم يعطوا للظالم ما يريد من تركهم لدينهم {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (البروج:8), وكسحرة فرعون الذين هدّدهم بقطع الايدي والارجل ثم القتل فأجابوه {فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا 72 إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا} (طه:73), وكامرأة فرعون التي لم ترضخ تحت تعذيب فرعون الوحشي وكان نظرها إلى الله تبارك وتعالى {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} (التحريم:11), وكأصحاب الكهف الذين لم تغرهم مكانتهم كاُمراء في الممالك الرومانية ولا أخافهم بطش القياصرة الرومان {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} (الكهف:14).

وبالمقابل فان الخاسرين الذين أغراهم الشيطان وغرّتهم الدنيا كثر أيضاً, كقاضي قضاة الدولة العباسية(2) - وهو أعلى مرجعية دينية في الدولة- الذي سعى3.

ص: 138


1- الكافي: 2/ 216/ح2.
2- قاضي بغداد محمد بن أحمد بن أبي داود، أبو الوليد الإيادي القاضي. تاريخ بغداد- الخطيب البغدادي: 1/ 313.

لدى المعتصم العباسي بقتل الامام الجواد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حسداً, لانه اخذ بحكم الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قطع يد السارق وهو يعلم ان في ذلك النار(1). وكحميد بن قحطبة الوالي والقائد العباسي في الرواية التالية التي تكشف عن جانب من وحشية بني العباس وحقدّهم على أهل بيت النبوة, وإصرار الطواغيت وشياطين الانس والجن على سلب الدين وعدم اكتفائهم بما دون ذلك.

ففي كتاب اخبار الرضا للشيخ الصدوق بسنده (عن عبيد الله البزاز النيسابوري - وكان مُسناً- قال: كان بيني وبين حميد بن قحطبة الطائي الطوسي معاملة، فرحلت إليه في بعض الأيام، فبلغه خبر قدومي فاستحضرني للوقت وعلي ثياب السفر لم أغيرها، وذلك في شهر رمضان وقت صلاة الظهر؛ فلما دخلت إليه رأيته في بيت يجري فيه الماء فسلمت عليه وجلست فاتي بطست وإبريق فغسل يديه، ثم أمرني فغسلت يدي وأُحضرت المائدة, وذهب عني أنّي صائم, وأنّي في شهر رمضان، ثم ذكرت فأمسكت يدي، فقال لي حميد: مالك لا تأكل؟ فقلت: أيّها الأمير هذا شهر رمضان، ولست بمريض ولا بي علة توجب الافطار، ولعل الأمير له عذر في ذلك أو علة توجب الافطار، فقال: ما بي علة توجب الافطار وإني لصحيح البدن، ثم دمعت عيناه وبكى؛ فقلت له بعد ما فرغ من طعامه: ما يبكيك أيها الأمير؟ فقال: أنفذ إليّ هارون(2) الرشيد وقت كونه بطوس في بعض الليل أن3.

ص: 139


1- راجع: تفسير العياشي- العياشي: 1:319.
2- لعله اشتباه, والصحيح أنه أبو جعفر المنصور, لأن وفاة أبو جعفر المنصوركانت سنة (152ه-), وحميد بن قحطبة مات سنة (159ه-), وهارون الرشيد تولى الخلافة سنة (170ه-). انظر: البداية والنهاية- ابن كثير: 10/ 130.- تاريخ الطبري- الطبري: 6/ 421.- الأعلام - خير الدين الزركلي: 2/ 283.

أجب، فلما دخلت عليه رأيت بين يديّه شمعة تتقد وسيفاً أخضر مسلولاً وبين يديّه خادم واقف فلما قمتُ بين يديّه رفع رأسه إلي فقال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت: بالنفس والمال، فأطرق ثم أذن لي في الانصراف؛ فلم ألبث في منزلي حتى عاد الرسول إلي وقال: أجب أمير المؤمنين، فقلت في نفسي: إنا لله أخاف أن يكون قد عزم على قتلي وإنه لما رآني استحيا مني فعدت إلى بين يديّه فرفع رأسه إلي فقال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت: بالنفس والمال والأهل والولد، فتبسم ضاحكا - لان الأمير علم ان ابن قحطبة فهم الرسالة وان المطلوب منه عرض سخي اكبر من هذا-، ثم أذن لي في الانصراف؛ فلما دخلت منزلي لم ألبث أن عاد الرسول إلي فقال: أجب أمير المؤمنين فحضرت بين يديّه وهو على حاله، فرفع رأسه إلي فقال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين فقلت: بالنفس والمال والأهل والولد والدين فضحك، ثم قال لي: خذ هذا السيف وامتثل ما يأمرك به هذا الخادم؛ قال: فتناول الخادم السيف وناولنيه وجاء بي إلى بيت بابه مغلق ففتحه فإذا فيه بئر في وسطه، وثلاثة بيوت أبوابها مغلقة ففتح باب بيت منها فإذا فيه عشرون نفساً عليهم الشعور والذوائب شيوخ وكهول وشبان مقيدون، فقال لي: إن أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء، وكانوا كلهم علوية من ولد علي وفاطمة (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فجعل يخرج إلي واحداً بعد واحد, فأضرب عنقه, حتى أتيتُ على آخرهم، ثم رمى بأجسادهم ورؤوسهم في تلك البئر؛ ثم فتح باب بيت آخر فإذا

ص: 140

فيه أيضاً عشرون نفساً من العلوية من ولد علي وفاطمة (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مقيدون فقال لي: إن أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء، فجعل يخرج إلي واحداً بعد واحد فأضرب عنقه, ويرمي به في تلك البئر، حتى أتيت على آخرهم, ثم فتح باب البيت الثالث, فإذا فيه مثلهم عشرون نفساً من ولد علي وفاطمة (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مقيدون عليهم الشعور والذوائب فقال لي: إن أمير المؤمنين يأمرك أن تقتل هؤلاء أيضاً فجعل يخرج إلي واحداً بعد واحد فأضرب عنقه فيرمي به في تلك البئر، حتى أتيت على تسعة عشر نفساً منهم، وبقي شيخ منهم عليه شعر فقال لي: تبا لك يا مشوم أي عذر لك يوم القيامة إذا قدمتَ على جدنا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وقد قتلتَ من أولاده ستين نفساً، قد ولدهم علي وفاطمة (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فارتعشتْ يدي وارتعدتْ فرائصي فنظر إلي الخادم مغضباً وزبرني، فأتيتُ على ذلك الشيخ أيضاً فقتلته, ورمى به في تلك البئر، فإذا كان فعليّ هذا وقد قتلتُ ستين نفساً من ولد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فما ينفعني صومي وصلاتي وأنا لا أشك أني مخلد في النار)(1).وتضمنت واقعة كربلاء مشاهد للفريقين:

فمن الأول: الحر الرياحي الذي كان يرتعد وهو يرى جيش ابن زياد عازماً على قتل الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأهل بيته, ولما سأله صاحبه عن السبب قال: (إني أخيِّر نفسي بين الجنة والنار ولا أختار على الجنة شيئاً)(2).

ومن الثاني: عمر بن سعد بن ابي وقاص وهو قرشي وذو رحم بالحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ويعرفه حق المعرفة, ولكن أنانيته وطمعه وولعه بولاية الري وجرجان دفعه إلى الاقدام على هذه الجريمة الشنيعة, فخسر الدنيا والآخرة, وكان يردد ليلة اتخاذ القرار:2.

ص: 141


1- عيون أخبار الرضا(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- الصدوق:1/ 108.- بحار الأنوار- المجلسي: 48 /178.
2- اللهوف في قتلى الطفوف- السيد ابن طاووس: 62.

أأترك ملك الري والري منيتي***ام أرجع مأثوماً بقتل حسين

حسين ابن عمي والحوادث جمة***لعمرك ملك الري قرة عينِ(1)3.

ص: 142


1- اللهوف في قتلى الطفوف- السيد ابن طاووس: 193.

القبس /10: سورة آل عمران:38

اشارة

{رَبِّ هَب لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّة طَيِّبَةً}

موضوع القبس: الحث على تكثير النسل

استحباب تكثير النسل:

قال الله تبارك وتعالى {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} (آل عمران: 38).

{هُنَالِكَ} مرتبطة بالآيات التي سبقتها عن الصديّقة مريم ونشأتها وتفّرغها لعبادة ربها {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (آل عمران: 37).

وعند ذلك هاجت في قلب النبي الكريم زكريا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) رغبة جامحة لتحصيل ولد صالح كريم ولم يكن ذلك ممكناً بالاسباب الطبيعية لانه كان قد بلغ من الكبر عتيا ووهن عظمه وضعفت قوته وأمراته عاقر فتوجه بالطلب الى الله تعالى لانقطاع الأسباب المرجوة الا منه تبارك وتعالى.

وتوجّه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بنداء {رَبِّ} أي اطلب منك بصفتك ربي الذي توليّت تربيتي والعناية به وإكرامي حتى انعمت عليَّ بمقام النبّوة فسأله ان يهبه ذرية طيبة.

ص: 143

{مِنْ لَدُنْكَ} أي بالرحمة اللدنية الخاصة الخارقة للعادة لانعدام الوسائل الطبيعية وكان واثقاً بقدرة الله تعالى مطمئناً الى رحمته فاستجاب له ربّه {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} (آل عمران:39).روى الشيخ الصدوق عن الريان بن شبيب قال: (دخلت على الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في أول يوم من المحرم فقال: يا ابن شبيب أصائم أنت؟ قلت:لا، فقال: ان هذا اليوم هو اليوم الذي دعا فيه زكريا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ربه عز وجل فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} فاستجاب الله له وأمر الملائكة فنادت زكريا {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّ-رُكَ بِيَحْيَى} فمن صام هذا اليوم ثم دعا الله عز وجل استجاب الله له كما استجاب الله لزكريا)(1)

ومما تفيده الآية الكريمة الحث على طلب الذرية الصالحة الطيبة والسعي لتحصيلها وعدم فقدان الامل بالله تبارك وتعالى، وهو امر فطري ينبع عن غريزة قوية للانجاب لان الولد امتداد لوجود الانسان وبقاء لذكره وحفظ لانجازاته التي حققها في حياته {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} (مريم: 5-6) مع مافيه من الانس والسعادة والبهجة، قال تعالى {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (الكهف: 46) فاذا انضمت هذه الدوافع الفطرية والغريزية الى68

ص: 144


1- عيون أخبار الرضا(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):ج2/ 268

حث الشريعة المقدسة على الزواج وتحصيل الولد وتكثير النسل وجعلته من المستحبات الاكيدة التي تدخل السرور على قلب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)،كانت مبررات كافية للدعوة الى تكثير النسل. وتوجد أحاديث كثيرة للحثّ عليه، كرواية الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): تزوّجوا فإنّي مكاثرٌ بكم الأمم غداً في القيامة حتّى أن السقط ليجئ محبنطئا(1), على باب الجنة فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: لا حتى يدخل أبواي الجنة قبلي)(2).

وروي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنّه قال: (ميراث الله من عبده المؤمن الولد الصالح يستغفر له)(3).

وروي عن بكر بن صالح قال: (كتبت إلى أبي الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): أني اجتنبت طلب الولد منذ خمس سنين وذلك أن أهلي كرهت ذلك وقالت: إنّه يشتد عليّ تربيتهم لقلّة الشئ فما ترى؟ فكتب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إليّ: اطلب "الولد" فإن الله عز وجل يرزقهم)(4).

وفي حديث عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن أولاد المسلمين موسومون3.

ص: 145


1- قال أبو عبيدة: المحبنطي - بغير همز - المتغضب المستبطئ للشئ، والمحبنطئ - بالهمز - العظيم البطن المنتفخ. قال: ومنه قيل لعظيم البطن: "حبنطأ" ويقال: السقط والسقط. وقال أبو عبيدة: يقال: سقط وسقط وسقط. معاني الأخبار- الشيخ الصدوق: 291.
2- من لا يحضره الفقيه - الشيخ الصدوق: 3/ 383.
3- من لا يحضره الفقيه- الشيخ الصدوق: 3/ 481.
4- الكافي- الشيخ الكليني: 6/ 3.

عند الله شافع ومشفع، فإذا بلغوا اثنتي عشرة سنة كانت لهم الحسنات، فإذا بلغوا الحلم كتبت عليهم السيئات)(1).وفي حديث عن الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اما علمت أن الولدان تحت العرش يستغفرون لآبائهم، يحضنهم ابراهيم وتربّيهم سارة في جبل من مسك وعنبر وزعفران)(2).

الوجه في تفسير كثرة الزوجات عند المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ):

ولعل هذا أحد الوجوه التي تُفسّر اقدام المعصومين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على تكثير الزوجات حتّى بلغت عند النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تسعاً(3), وعند أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ثمان(4)، وإنّما سُمّيت الزهراء (علیها السلام) بالكوثر لأنّ الله تعالى أكثر ذريّة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) منها، واستشهدت وهي في الثامنة عشرة من عمرها(5), ولها الحسن والحسين والعقيلة زينب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأسقطت المحسن.

فالإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) جرى على سنّة أجداده الطاهرين وهو أولى الناس بهم.

ويضاف إلى هذا الوجه العام وجه خاص وهو وجود عدة شواهد تشير إلى

ص: 146


1- الكافي- الشيخ الكليني: 6/ 3.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 5/ 334.- الطبقات الكبرى- ابن سعد: 3/ 19.
3- وقيل اكثر من ذلك. راجع: زوجات النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سعيد أيوب.- أزواج النبي وبناته- الشيخ نجاح الطائي.
4- وقيل اكثر من ذلك. راجع: الطبقات الكبرى- ابن سعد: 3/ 19.- موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الكتاب والسنة والتاريخ- الريشهري: 1/ 108.
5- تاج المواليد (المجموعة) الشيخ الطبرسي: 22.

خطة استراتيجية وضعها الأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وساروا عليها تستهدف تكثير نسل آل أبي طالب بعد واقعة كربلاء, ردّاً على سياسة الاستئصال والاجتثاث التي اتّبعها معهم أعداءهم تحت شعار (لا تبقوا لأهل هذا البيت من باقية) بحيث خلت بيوت بأكملها من الرجال كدور عقيل بن أبي طالب والعباس بن أمير المؤمنين وأخوته الذين استشهدوا جميعاً في كربلاء.سُئل الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن سبب حنوّه الزائد على آل عقيل فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إنّي اذكر يومهم مع أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فأرقّ لهم)(1), ولما قدّم له المختار أموالاً كثيرة بنى بها دور عقيل التي هدّمها الأمويّون(2).

منهجية الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تكثير النسل:

فكان للإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) خمسة عشر ولداً بين ذكر وأنثى(3), وتولّى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تربية الولد الوحيد الذي تركه عمّه العباس بن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), وهو عبيدالله, وزوّجه بنته خديجة وجمع له معها ثلاث حرائر من بنات الأشراف يقصد بذلك تنمية نسل عمّه العبّاس(4).

وكان الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقبل هدايا هارون العباسي ويقول: (والله لولا إني

ص: 147


1- كامل الزيارات- ابن قولويه: 107.
2- سيرة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)- الشيخ القرشي: 15/ 201.
3- الإرشاد- الشيخ المفيد: 2/ 155.
4- بطل العلقمي- للشيخ المظفّر: 3/ 369.

أرى من أزوّجه بها من عزّاب بني أبي طالب لئلاّ ينقطع نسله ما قبلتُها أبداً)(1).هذه شواهد على السياسة الممنهجة أو الإستراتجية التي خطط لها الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ليحبط مشروع الأعداء في إنهاء هذا البيت الطاهر وأثمرت خطوات الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن هذا العدد الهائل من السادة الأشراف, وفيهم الكثير من مراجع الدين والعلماء والقادة والمفكّرين والصلحاء وأعلام الأمّة.

مبررات تكثير النسل لشيعة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ):

إنّ شيعة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) مدعوّون لبذل الوسع في تكثير النسل لعدّة مبررات منها:

1-الأخذ بسنة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وتلبية رغبتهم التي نقلتها الأحاديث الشريفة المتقدمة.

2-إنّ فيها استجابة لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال:24).

وفي الذريّة حياة مستمرة للإنسان حتّى يوم القيامة قال الشيخ الصدوق في الفقيه: (روي أنّ من مات بلا خلف فكأنّ لم يكن بين الناس، ومن مات وله خلف فكأنّه لم يمت)(2).

3-الذرية مصدر لكثير من الطاعات للوالدين حتى بعد موتهم كحديث

ص: 148


1- وسائل الشيعة (آل البيت)- الحر العاملي: 17/ 216/ح11.
2- من لا يحضره الفقيه- الشيخ الصدوق: 3/ 481.

السقط الذي تقدم في الروايات الشريفة، وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في المرض يصيب الصبي، قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إنّه كفّارة لوالديه)(1)، ويلخص النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بعض هذه الطاعات بقوله (إنّ ولد أحدكم إذا مات أُجر فيه، وإن بقي بعده استغفر له بعد موته)(2), والحديث النبوي المشهور (إذا مات المرء انقطع عمله إلاّ من ثلاث)(3), أحدها ولد صالح يدعو ويستغفر له.وفي الحديث عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن الله ليرحم الرجل لشدة حبّه لولده)(4), وروى الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): مرّ عيسى بن مريم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بقبر يعذّب صاحبه، ثمّ مرّ به من قابل فإذا هو لا يُعذّب، فقال: يا ربّ مررت بهذا القبر عام أوّل وهو يعذّب، ومررت به العام فإذا هو ليس يُعذّب، فأوحى الله إليه أنه أدرك له ولد صالح فأصلح طريقاً، وآوى يتيماً فلهذا غفرت له بما عمل ابنه)(5).

4-إن اتباع أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) هم الجماعة الخيّرة الطيّبة التي اختارها الله تعالى لتحتضن ولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وتحافظ على الإسلام الأصيل فتكثيرهم اعزاز للدين والولاية وتثبيت لقيم الخير والإنسانية في هذه الأرض فالخير منهم مأمول والشر منهم مأمون، فهم كالشجرة الطيبة المثمرة التي تكون هي أولى5.

ص: 149


1- من لا يحضره الفقيه- الشيخ الصدوق: 3/ 482.
2- من لا يحضره الفقيه- الشيخ الصدوق: 3/ 483.
3- بحار الأنوار- المجلسي: 2/ 23- صحيح ابن حبان- ابن حبان: 7/ 286.
4- ثواب الأعمال- الشيخ الصدوق: 201.
5- وسائل الشيعة (آل البيت)- الحر العاملي: 21/ 359/ح5.

بالتكثير.5-إن في تكثير الشيعة نصرة للإمام الموعود (عج) وتقوية لأركانه وتمهيداً لظهوره المبارك، تطبيقاً لقوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال:60), وأعظم قوة نعدّها لنصرة الإمام (عج) هي هذا النسل المبارك, لأنّ الموارد البشرية هي أعظم الموارد التي تحرص الدول على تحصيلها فاستكثروا منه ما استطعتم.

6-إنّ الشيعة في المنطقة مستهدفون بحرب إبادة واجتثاث كما تشهد به الوقائع الجارية خصوصاً عندنا في العراق وقد فقدنا خلال العقود الأربعة الماضية أكثر من مليون ونصف المليون من الرجال الذين تزهو بهم الحياة في حروب عبثية وإعدامات ومقابر جماعية في عهد النظام المقبور ثمّ في المفخّ-خات والتفجيرات وأنواع آلات القتل والتدمير.

بأي عدد من الذرية يتحقق تكثير النسل؟

وفي ضوء المعطيات المتقدمة لا يسع اتباع أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) السائرين على نهجهم من الرجال والنساء إلاّ أن يبذلوا وسعهم في تحقيق هذه الغاية الشريفة والرغبة الأكيدة للمعصومين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، ومهما قيل من مبرّرات للإكتفاء بواحد أو اثنين من الأبناء فإنّها لا تصمد أمام هذه المعطيات، إلاّ أن يكون السبب خارجاً عن الإختيار, كما لو جرى القضاء الإلهي بذلك، قال تعالى: {وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً} (الشورى:50), أو حصلت موانع صحيّة قاهرة ونحوها.

ص: 150

والسؤال الآن: هو بأي عدد من الذرية يتحقّق معنى تكثير النسل؟ والجواب: إنّه يتحقق بأربعة على الأقل، لأنّ الزوجين إذا أنجبا اثنين -ذكوراً او اناثاً- فإنّهما لم يزيدا شيئاً فإن اثنين ولدا اثنين. ثمّ هما يحتاجان إلى واحد آخر لتعويض حالات النقص في المجتمع لأنّ كثيراً يموتون في عمر الطفولة أو الصبى أو الشباب قبل الزواج بالموت الطبيعي أو الحوادث كالتفجيرات وحوادث السير أو في الحروب ونحوها، أو يتزوّجون ولكن لا ينجبون أو ينجبون دون العدد، فيحصل نقص في المعدّل يسدّه انجاب الثالث، ويتحقق التكثير بالرابع، وكلما زاد على ذلك كان أفضل وأقرّ لعين رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

الغرب وتقليل النسل:

لقد حاولت حكومات الغرب إقناع الشعوب بتحديد النسل وتقليله لكنهم أصيبوا بكارثة حيث بدأ عدد السكّان ينخفض وارتفع عدد المسنين في المجتمع، والجدل الآن دائر عندهم عن كيفية معالجة هذه المشكلة.

واتّبعوا سياسة (التعقيم) في بلاد المسلمين قبل عقدين أو أكثر وفق آليات معيّنة كشفت عنها بعض الوثائق السريّة المسرّبة وحدّدوا مدداً معيّنة حتى يثمر مشروعهم الشيطاني.

وسارت على هذا المنهج بعض الدول الإسلامية - كالجمهورية الإسلامية

ص: 151

في إيران- حيث تبنّت الحكومة(1), في نهاية الثمانينات سياسة تقليل الإنجاب لمنع الانفجار السكّاني - كما قيل- الذي أعتبر السبب في ارتفاع نسبة البطالة وانخفاض مستويات التعليم ونوعية المعيشة - بحسب التقرير- حيث أن معدل النمو تجاوز الذروة بما يقدر ب- (3,2 %) بعد انتصار الثورة الإسلامية وتشجيع الإمام الخميني الراحل (قدس سره) على كثرة الإنجاب لبناء جيش ال-(20) مليون مسلم.لكن بعد عشرين عاماً أظهرت الإحصاءات أن معدل عدد الأطفال المولودين لكل امرأة يصل إلى (1,6) أي أقل من(2,1) الذي يُعتبر الحد الأدنى المطلوب في الدول الصناعية لتجنب الانخفاض في عدد السكان، لذا تحرّكت القيادات الإيرانية منذ العام الماضي للتشجيع على الإنجاب من جديد.

المباركة في تكثير النسل:

ونحن نعتقد أنّ تكثير النسل ليس السبب في تلك المشاكل التي أشار اليها التقرير, لأنّه عملية مباركة مثمرة تعود بالازدهار على الفرد والمجتمع، وأنّ أقوى الموارد التي تمتلكها الدول هي الموارد البشرية، خذ الصين مثلاً فإنّ سكّانها تجاوز المليار ومئتي مليون، واقتصادها في نمو مضطرد أقلق الدول الصناعية الكبرى.

والغريب أن الزوجين يبذلان كل ما عندهما من أجل تحصيل الولد، وقد يسافران إلى دول بعيدة لتحقيق ذلك، لكن من يرزقهما الله تعالى الولد يتوقفان عن إنجاب المزيد مراعاة لأوضاع معيّنة، كالوضع الاقتصادي والمعيشي، وقد

ص: 152


1- المعلومات من تقرير نُشر على المواقع الالكترونية بتاريخ: 22/ 4/ 2013م.

تقدم في الرواية عن الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عدم الإصغاء لمثل هذه المبرّرات، وقال تعالى: {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} (النور:32). والوارد في الروايات عكس ذلك, فإن الرجل يُرزق إذا تزوج وأنجب، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الرزق مع النساء والعيال)(1)، فتكثير الإنجاب أحد أسباب الرزق للفرد والازدهار للدولة، وتقليل الإنجاب لأجل تخفيف الأعباء الاقتصادية وغيرها تفكير خاطئ لدى الدولة والفرد على حد سواء.

منع الانجاب كقتل الإنسان:

إن المنع من الإنجاب سواء كان بالطرق الطبيعية أو بالعلاجات بلا مسوِّغ معقول ومقبول يتطابق بالنتيجة مع قتل الإنسان الموجود, فكلاهما يحرم الأمة من هذا الوجود الذي جعله الله تعالى خليفته في أرضه قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} (الإسراء:31), (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) (الأنعام:151).

إهمال تربية الأطفال قتل معنوي بحقهم:

ولا نغفل أيضاً عن قتل معنوي آخر من خلال إهمال تربية الأطفال تربية صالحة فيصبحوا أفراداً سيئين منحرفين وربما يتحولون إلى مجرمين ويجلبون الشر للمجتمع، ومن أمثلة القتل المعنوي أيضاً, الهجرة إلى الغرب وعموم بلاد الكفر وتعريض الأبناء لتلك الضغوط والمغريات والشهوات فيبتعدون عن الدين

ص: 153


1- الكافي- الشيخ الكليني: 5/ 330.

ويلتحقون بالمجتمعات الضالة فهذا كله قتل معنوي للإنسان على خلاف ما أراده الله تعالى ورسوله.

تعليمات الأئمة(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لتكثير النسل:

ولأجل تحقيق الإنجاب لمن ليس عنده ذرية ولتكثير النسل فقد علَّم الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) شيعتهم أعمالاً لعلّها تكون سبباً لرزقهم بالأولاد منها:

1-رفع الصوت بالآذان في المنزل، روى هشام بن ابراهيم صاحب الإمام الرضا(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أنه شكى إلى أبي الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سقمه, وأنه لا يولد له, فأمره أن يرفع صوته بالآذان في منزله، فقال: ففعلت، فأذهب الله عني سقمي وكثر ولدي)(1).

2-الاستغفار، ففي الكافي شكا الابرش الكليني إلى أبي جعفر- الباقر- (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه لا يولد له وقال له علمني شيئاً، فقال له: استغفر الله في كل يوم (أو) في كل ليلة مائة مرة, فإن الله عز وجل يقول: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً 10 يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً 11 وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} (نوح:12)(2), وفي رواية أخرى (فإن نسيته فاقضه).

3-الدعاء، سواء بالنصوص المذكورة في القرآن الكريم أو كتب الأدعية لطلب الولد كقوله تعالى: {رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} (آل عمران:38),

ص: 154


1- الكافي- الشيخ الكليني: 3/ 308.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 6/ 8.

وقوله تعالى: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} (الفرقان:74), وقوله تعالى: {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} (الأنبياء:89), أو تدعو بأي شيء يعبّر عمّا في قلبك.4-التوسّل بالمعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وتوجد حكايات موثوقة كثيرة لمؤمنين توسّلوا إلى الله تعالى بالزهراء (علیها السلام) أو بالحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أو بالإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فتحقّق مرادهم فيما طلبوا.

هذا درس نستفيده من حياة الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أحببنا بيانه, لأن فيه إدخالاً للسرور على النبي وآله الأطهار (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، ولأنه يدلّنا على تكليف مهم موجّهٍ إلينا فاعتبروا يا أولي الأبصار.

ص: 155

القبس /11: سورة آل عمران:103

اشارة

{وَٱعتَصِمُواْ بِحَبلِ ٱللَّهِ جَمِيعا}

موضوع القبس: أساس وحدة المسلمين

يتحدث المسلمون بجميع طوائفهم عن ضرورة الوحدة ونبذ الخلاف, ويعقدون المؤتمرات والندوات والحوارات تحت هذا العنوان, وتصرف الأموال الضخمة في هذا السبيل دون أن يتحقق تقدّم يذكر, وربما ازدادوا بعداً عن بعضهم، فأين الخلل ولماذا هذا العجز عن الوصول إلى الحل؟

يدلّنا القرآن الكريم على ما تتحقق به الوحدة بين المسلمين فانه يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران:103).

وقد وردت الروايات في تفسير الآية بأن حبل الله هو القرآن الكريم وولاية علي بن أبي طالب والأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من ذريته(1)، وتشهد نفس الآية على هذا التفسير، لأنها ذكرت أن العرب كانوا أعداء متباغضين فوحدّهم الله

ص: 156


1- أنظر: التفسير الأصفى- الفيض الكاشاني: 1/ 165- تفسير مجمع البيان- الشيخ الطبرسي: 2/ 356- بحار الأنوار- المجلسي: 36/ 19- تفسير الرازي- الرازي: 8/ 173.

تبارك وتعالى وجمع كلمتهم بنعمة الإسلام. وقد أشارت آية أخرى إلى أن تمام هذه النعمة ونظام عقدها ولاية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة:3).

وقد روى المفسرون من الطائفتين أنها نزلت بعد تنصيب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأخيه وابن عمه علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) خليفة وولياً وهادياً للأمة بعده يوم الغدير بعد حجة الوداع(1).

وإلى هذا أشارت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(علیها السلام) في خطبتها في مسجد أبيها(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (فجعل إمامتنا نظاماً للملة، وطاعتنا أماناً من الفرقة)(2).

وولاية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ليست قضية عاطفية تجاه شخصيته العظيمة, ولا عقيدة نظرية نؤمن بها, وإنما هي باب ينفتح منه ألف باب من الاعتقادات والأحكام والآداب, تكون برنامجاً كاملاً في المعتقد والسلوك على صعيد الفرد والأمة.

والأمة لم تقع فيما وقعت فيه من التخبّط والصراع والفتن المضلّة التي تسببت في إزهاق أرواح الأجيال بعد الأجيال من الأبرياء وخراب البلاد وانهيار الحضارة وعدم الاهتداء إلى الحق إلا بسبب عدم تمسكها بحبل الله المتين وصراطه4.

ص: 157


1- أنظر: تفسير العياشي- العياشي: 1/ 293- بحار الأنوار- المجلسي: 37/ 134- مناقب علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- ابن مردويه الأصفهاني: 232.
2- الاحتجاج - الشيخ الطبرسي: 1/ 134.

المستقيم وعروته الوثقى التي لا انفصام لها. وهذا ما دعا عبد الله بن العباس وغيره من الصحابة العارفين يتأوه إلى نهاية عمره مما حصل في رزية يوم الخميس التي سبقت وفاة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأيام(1)، ويقول عن مسألة (العول) أي النقص في فرائض الميراث التي قال بها من لم يأخذ العلم من نميره الصافي وفندّها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والأئمة من بعده (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وفيها يقول عبد الله بن العباس بعد أن اثبت بطلان القول بالعول في رواية طويلة, قال فيها: (وأيمُ الله لو قدَّم من قدَّم الله وآُخّر من آخّر الله ما عالت فريضة)(2), وهو يقصد بحسب الظاهر التقديم والتأخير في استحقاق الميراث, لكنه كان يُريد معنى أعمق من ذلك بأن الأمة لو قدّمت لولاية أمرها من قدّمه الله تبارك وتعالى واختاره لخلافة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لما نقصت فريضة أو عُطّلت سُنّة.

إن استحقاق أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) للخلافة بعد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان سابقاً على يوم الغدير، أما الاحتفال الذي أقامه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في غدير خم في طريق عودته إلى المدينة بعد حجة الوداع ودعا المسلمين إلى مبايعة علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالولاية والإمامة بعده (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تلبية لأمر الجليل تبارك وتعالى حيث انزل الآية الكريمة {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة:67).0.

ص: 158


1- أنظر: بحار الأنوار- المجلسي: 30/ 531 - المراجعات- السيد شرف الدين: 352.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 7/ 80.

أقول: أما هذا الاحتفال فكان كاشفاً عن هذا الاستحقاق وإعلاناً رسمياً للتنصيب، وقد كان الكثير من الصحابة الأجلاء (رضوان الله تعالى عليهم) يعلمون أحقية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وبولايته وعُرفوا بتشيعهم له في وقتٍ مبكر من حياة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).فالنقاش إذن في دلالة قول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يوم الغدير (من كنت مولاه فهذا علي مولاه)(1), أو المناقشة في نزول الآية في قضية الغدير لا يقدّم ولا يؤخر, وهي شبهة مقابل البديهة - كما يقول العلماء- لأن حق أمير المؤمنين في خلافة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يكتسبه من ذلك اليوم, بل استحقه بما يحمل من صفات تؤهله لهذا المقام الشريف, وقد أعلن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هذا الاستحقاق في مناسبات عديدة سبقت قضية الغدير بسنين وكان بعضها -كحديث الدار- في وقت مبكر من البعثة في مكة المكرمة وفي حياة أبيه أبي طالب (رضي الله عنه) حتى تهكم بعض مشركي قريش من أبي طالب وقال له أن محمداً يدعوك إلى طاعة ولدك الصغير عليّ. (2)

أيها الأحبة من كل طوائف المسلمين.

إنني أريد بهذا الكلام أن أقول: أن الوحدة بين المسلمين تتحقق بالعودة إلى كتاب الله تبارك وتعالى, وسنّته الشريفة الصحيحة بعد تنقيحها من التلاعب والتزوير والدس الذي قام به المنافقون، وحينئذ سيلتقي جميع المسلمين عند0.

ص: 159


1- الكافي- الشيخ الكليني: 1/ 420.
2- علل الشرائع- الشيخ الصدوق: 1/ 170.

الحقائق التي يعلمها الله تبارك وتعالى.والوصول إلى الحقيقة وكشفها للناس وظيفة العلماء الأجلاء، ولا نصل إلى الحقيقة إلا بتحرير العقول من التقليد والتعصب والتحجّر, وذلك بفتح باب الاجتهاد ودعوة العلماء الذين حصّلوا العلوم التي تؤهل لممارسة عملية استنباط الحكم الشرعي من مصادره الأصلية إلى عدم الوقوف على المذاهب المعروفة وتطبيق فتاوى أئمة المذاهب على الحالات التي تعرض عليهم, وإنما يرتقون بمداركهم إلى استنباط الحكم الشرعي من الكتاب والسنة، وسيجد علماء المسلمين جميعاً أنفسهم عند تلك القمة السامقة متفقين متوحدين ينهلون من معين واحد ولا يختلفون إلا بالمقدار الطبيعي الذي يحصل بين علماء أي حقل من حقول العلم والمعرفة.

وقد وجدتُ خلال بحثي الفقهي الاستدلالي أن كثيراً من الروايات التي يستند إليها الفقهاء السنة والشيعة في استنباط الحكم الشرعي متطابقة الألفاظ فضلاً عن المعاني، ويعود الفضل في ذلك إلى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والأئمة من بنيه الطاهرين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حيث بثوا عدداً ممن حملوا جملة من أحكامهم ومعارفهم, ولا يجد المسلمون من غير أتباع أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) حزازة في الأخذ عنهم, كعبد الله بن العباس, ونقل هؤلاء إلى عموم المسلمين علوم الشريعة من معدنها الصافي، وهذا نابع من رحمتهم وحبّهم للناس جميعاً حتى وإن أعرضت الأمة عن إعطائهم المكانة التي يستحقونها.

أرجو أن يساهم السادة الحضور, وكل من يسمع هذا النداء المخلص لتفعيل

ص: 160

هذه الدعوة المباركة في أروقة حواضر العلم صانها الله تبارك وتعالى في بلاد المسلمين.وأسأل الله تعالى أن يأخذ بأيديكم لما فيه الصلاح والإصلاح وأن يثبت لكم قدم صدق عند مليك مقتدر، إنه ولي النعم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته...

ص: 161

القبس /12: سورة آل عمران:104

اشارة

{وَلتَكُن مِّنكُم أُمَّةٞ يَدعُونَ إِلَى ٱلخَيرِ وَيَأمُرُونَ بِٱلمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ ٱلمُنكَرِ ۚ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ٱلمُفلِحُونَ}

موضوع القبس: وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر(1)قرآنياً/1

* موضوع القبس: وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر(1) قرآنياً/1

دلّت الآية الشريفة على الوجوب, الذي تفيده هيأة: {وَلْتَكُن}، وأكّده بجعل امتثال هذه الوظيفة سبيل الفلاح؛ إذ أن ذيل الآية ظاهر في الحصر.

مضافاً إلى وقوعها في سياق الأمر بالوحدة والاعتصام بحبل الله تعالى وعدم التفرّق، فقبلها قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} (آل عمران:103), وبعدها: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَ-ئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:105), فكأنَّ وضع الآية في السياق لإلفات نظر الأمة إلى ما تتحقق به وحدتهم وعزّتهم وقوة بنيانهم, من خلال الالتزام بأداء هذه الفريضة العظيمة.

إن قلتَ: إن استفادة الوجوب من الآية منافٍ لعموم الخير الشامل للواجب والمستحب فكيف تكون الدعوة إليه واجبة، فكذا الأمر بالمعروف والنهي عن

ص: 162


1- القبس يقع ضمن بحث استدلالي في وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من القرآن الكريم وقد تناول سماحته عدة آيات تدل على ذلك وقد فرقّناها بحسب ترتيب السور

المنكر؟قلتُ: هذه شبهة مقابل البديهة لإجماع المسلمين على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل إجماع العقلاء كافة فلا وجه للتشكيك فيه، ومع ذلك نقول في الجواب:

1-إن متعلق الوجوب هو أصل الوظيفة لا مصاديقها، أما المصاديق فلها حكمها، فالمطلوب في الآية أن تكون الأمة متصفة بهاتين الصفتين، أما التطبيق فيكون لكل مورد بحسبه من الوجوب أو الاستحباب, كما لو افترضنا وجوب قيام الأب بأمر ولده غير البالغ بالصلاة وهو فعل مستحب.

2-ولو تنزّلنا ونظرنا إلى المصاديق فإنه يمكن الجواب بتقريبين:

أ-تقييد (الخير) بما هو واجب, كالدعوة إلى الإسلام كما في جملة من التفاسير، وكذا يقيَّد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما هو واجب.

ب- أن يؤخذ (الخير) ووظيفة الأمر والنهي على عمومها وفيها الواجب والمستحب، وحينئذٍ يُقال أن هذا المقدار من اتصاف المصاديق بالوجوب كافٍ لوصف العنوان بالوجوب.

إن قلتَ: تقييد الوظيفتين بالواجب ليس أولى من حمل الطلب على الاستحباب.

قلتُ: يرد عليه ما قلناه من كفاية الوجوب في الجملة للقول بالوجوب، مضافاً إلى إجماع المسلمين على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ص: 163

والوجوب شامل للأمة كلها؛ لأن الظاهر كون (من) في {مِّنكُم} بيانيّة، فهي لبيان كون الطلب موجهاً لهذه الأمة أن تكون أمة تدعو إلى الخير وتأمر وتنهى لتكون هي الأمة المُفّلحة دون غيرها من الأمم، ومعنى شمول وجوبها للأمة, أن الأمة بما هي أمة مخاطبة بالوجوب على نحو المجموع وليس على نحو الاستغراق لكل فرد فرد.وتشهد له الآية التالية: {كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ لِلنَاسِ تَأمُرُونَ بِالمعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران:110), والمورد يكون نظير قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} (الحج:30), إذ ليس عندنا أوثان رجس وأوثان غير رجس، فالأوثان كلها رجس، لكن المراد منشأ اجتناب الأوثان لكونها رجساً، أو المراد بيان نوع الرجس المأمور باجتنابه هنا وأن موضوعه الأوثان، ونحو ذلك.

ويؤيد هذا - أي كون (من) بيانية والخطاب موجه إلى الأمة جميعاً- أمران:

1-الآيات العدّيدة التي وصفت عموم المؤمنين والمؤمنات بهذه الصفة, وليس بعضهم، وقد تقدم ذكر جملة منها في الصنف الثاني من الآيات.

2-ما رواه العياشي في تفسيره بسند غير تام عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في ذيل هذه الآية قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لأنه من لم يكن يدعو إلى الخيرات ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من المسلمين فليس من الأمة التي وصفها الله، لأنكم تزعمون أن جميع المسلمين من أمة محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقد بدت هذه الآية وقد وصفت أمة محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالدعاء إلى الخير و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن لم يوجد فيه الصفة التي وصفت بها فكيف يكون من الأمة وهو على خلاف ما

ص: 164

شرطه الله على الأمة ووصفها به)(1).((وقد نسب الشيخ الطوسي (قدس سره) إلى الزجاج أن المراد من (من) هنا هو تخصيص المخاطبين من بين سائر الأجناس، ورتب عليه الأمر والنهي فرض عين لا كفاية))(2).

ومعنى الآية: اجعلوا منكم - أي من أمتكم- يا أمة الإسلام أمة تتصف بأنها تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، كما تقول للشخص اجعل من ولدك ابناً صالحاً متفوقاً، أي اجعل ولدك هكذا، أو تخاطب الحوزة العلمية وتقول: اجعلوا منكم حوزة رسالية عاملة مخلصة.

وهذا ما نفهمه من كونها بيانيّة، أما صاحب الميزان فقد حكى هذا القول عن البعض، وقال: (الظاهر أن المراد بكون (من) بيانية كونها نشوئية ابتدائية)(3).

أقول: كقوله تعالى: {هُوَ الذِي خَلَقَكُم مِنْ تُرَابٍ} (غافر:67), أي أن نشوءكم من التراب، كقوله تعالى: {مِنهَا خَلَقنَاكُم وَفِيهَا نُعِيدُكُم} (طه:55).

وقال الأكثر بأنها تبعيضية, وبنى على ذلك كون الوجوب كفائيّاً، وذكروا لذلك وجوهاً يمكن تحصيلها من كلام السيد الطباطبائي قال (قدس سره) (والذي ينبغي أن يُقال: أن البحث في كون (من) تبعيضية أو بيانية لا يرجع إلى ثمرة محصلة،ي.

ص: 165


1- تفسير العياشي- العياشي: 1/ 195/ح217.
2- حكاه في فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن التبيان: 2/ 541 وفقه القرآن للراوندي: 1/ 356.
3- الميزان في تفسير القرآن: 4/ 427، الأعلمي.

فإن الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمور لو وجبت لكانت بحسب طبعها واجبات كفائية، إذ لا معنى للدعوة والأمر والنهي المذكورات بعد حصول الغرض، فلو فرضت الأمة بأجمعهم داعية إلى الخير آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر كان معناه أن فيهم من يقوم بهذه الوظائف، فالأمر قائم بالبعض على أي حال، والخطاب إن كان للبعض فهو ذاك، وإن كان للكل كان أيضاً باعتبار البعض، وبعبارة أخرى المسؤول بها الكل والمثاب بها البعض، ولذلك عقبه بقوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ}, فالظاهر أن (من) تبعيضية، وهو الظاهر من مثل هذا التركيب في لسان المحاورين ولا يصار إليه إلى غيره إلا بدليل)(1).أقول: بنى (قدس سره) استظهاره كون (من) تبعيضية على عدة وجوه:

1-إن طبيعة مثل هذه الوظائف أن تكون كفائية (فالأمر قائم بالبعض) حتى لو كان الخطاب للكل.

2-إن ظاهر هذه التراكيب ذلك ولا يصار إلى غيره إلا بدليل.

3-تعقيبه بقوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ}.

ويرد على الأول: بالتفريق بين مقام الخطاب ومقام الامتثال، وبحثنا في الأول, وهل أن الخطاب شامل للجميع أم لا؟ أما تحقق المطلوب بامتثال البعض فهذا من الثاني, وليس هو محل البحث، فالمطلوب من الأمة أن تكون كلها متصفة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان الغرض يتحقق بامتثال البعض، وحينئذٍي.

ص: 166


1- الميزان في تفسير القرآن: 4/ 427، الأعلمي.

يكون سقوط الفرض عند أداء البعض لانتفاء موضوعه، ولا يعني هذا عدم ثبوت الوجوب قبل هذا على البعض الآخر, فلا يستفاد منه الوجوب الكفائي.وفرض الوجوب على الجميع مع الاكتفاء بقيام البعض واضح المصلحة في هذه الفريضة المهمة، ليرى كل فرد أنه مسؤول عن امتثالها، بينما لو كان الوجوب موجهاً إلى البعض، فإنه سيكون سبباً للتقاعس عن أدائها, باعتبار أن الوجوب غير متعين به, فيؤدّي إلى تعطيل الفريضة, كما يشهد به الواقع والتجارب؛ وكما ضُيِّعت صلاة الجمعة المباركة بسبب القول بوجوبها التخييري وهكذا.

ويظهر من قوله (قدس سره): (المسؤول بها الكل) الاعتراف بذلك، وسنبحث مفصلاً في هذا الموضوع إن شاء الله تعالى.

وأما الثاني: فإنها دعوى, ولو سلّمناها, فإن في المقام قرائن متصلة ومنفصلة -كقوله تعالى: {كُنتُم خَيرَ أمَّةٍ}- على خلاف الظاهر المُدّعى.

أما الوجه الثالث: فتقريبه أنه يرى أن الحصر في قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ} إضافي، وبناءً على هذه القرينة فقد قرَّب بعض الأعلام (قدس سره) كون (من) تبعيضية بأن قوله تعالى: {هُمُ المُفلِحُونَ} (معناه أن أولئك كاملو الفلاح لوضوح أن الآتي بالواجب الكفائي أفضل من غيره، فقوله: {هُمُ} من قبيل {هُمُ العَدُوُّ} فليس معناه أن غيرهم ليس مفلحاً، بل معناه أكملية فلاح الآمر الناهي من فلاح غيره، كما أن معنى {هُمُ العَدُوُّ} أشدّيّة عداوة هؤلاء من عداوة غيرهم)(1).7.

ص: 167


1- الفقه- السيد محمد الشيرازي: 48/ 157.

أقول: يرد عليه:1-اعتبار الحصر إضافياً دعوى على خلاف الظاهر، والقياس ممنوع، فالحصر مطلق، وإن غير الآمر الناهي لا يكون مفلحاً بهذا العنوان، وإن كان على خير بدرجة من الدرجات.

2-لو تنزّلنا فإن هذا التفاضل والإضافة بلحاظ الامتثال، ونحن لا ننكره؛ لأن من المتفق عليه عدم حصول الامتثال من قبل الكل؛ لأن الموضوع ينتفي بامتثال البعض، فلا يبقى للوظيفة موضوع، لكن كلامنا ليس بلحاظ مقام الامتثال، وإنما في مقام التكليف وإلقاء العهدة وما ذكره المستشكل لا يتعرض له.

ويمكن الاستدلال على كون (من) تبعيضية برواية مسعدة بن صدقة(1) عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)(2).

نعم يمكن قبول التبعيضية في مقام الامتثال لأنه ليس من المتوقع كون المطلوب أن يكون كل فرد فرد داعياً إلى الخير آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر؛0.

ص: 168


1- قال: سمعته يقول: وسُئل عن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر أواجب هو على الأمة جميعاً؟ (فقال: لا، فقيل له: ولم؟ قال: إنما هو على القوي المُطاع العالم بالمعروف من المنكر، لا على الضعيف الذي لا يهتدي سبيلاً إلى أي من أي يقول من الحق إلى الباطل، والدليل على ذلك كتاب الله عز وجل قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} {آل عمران: 104}, فهذا خاص غير عام، وكما قال الله عز وجل: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} {الأعراف: 159} ولم يقل: على أمة موسى ولا على كل قومه، وهم يومئذ أمم مختلفة، والأمة واحد فصاعداً، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} {النحل:120} يقول: مطيعاً لله عز وجل، وليس على من يعلم ذلك في هذه الهدنة من حرج إذا كان لا قوة له ولا عدد ولا طاعة...). وسائل الشيعة (آل البيت)- الحر العاملي: 16/ 126/ح1.
2- راجع تفصيل مناقشتها في كتاب فقه الخلاف:8/ 200.

لوجود العصاة والجهلة بالحكم والموضوع والقاصرين والمقصّرين والعاجزين عن الامتثال ونحو ذلك، وهذا لا يضر بما استظهرناه من كون عهدة الوجوب ملقاة على الأمة كلها، لصدق اتصاف الأمة بهذا الوصف إذا تحقق الغرض بالبعض، كما تُوصف الأمم الغربية بأنها متقدمة تكنولوجياً, مع العلم بأن بعض أفرادها كذلك؛ لأن هذا البعض كافٍ في صدق العنوان وليس المطلوب أزيد, لوجود من هم في مهن لا ترتبط بهذا العنوان كالأعمال الخدمية.ويمكن الاستدلال بالآية على رد القول بالوجوب الكفائي من وجهين:

1-التعبير بالأمة وهي (كل جماعة يجمعهم أمرٌ ما, إما دينٌ واحد أو زمان واحد أو مكان واحد)(1), فهي جماعة كبيرة، وعلى القول بالوجوب الكفائي فإن الأمر يتأدى بواحدٍ أو قريب منه، لذا يعرّفون هذا الواجب بأنه إذا قام به شخص سقط عن الآخرين، فهذا نقض بالآية عليهم.

2-ولو تنزلنا وقلنا بالوجوب الكفائي على فئة معينة من المسلمين التي سمّيت بالأمة في الآية فإنه أخصّ من المدّعى الذي هو الوجوب الكفائي مطلقاً؛ لأن الظاهر من عمل مثل هذه الجماعة الخاصة القيام بالوظيفة بلحاظ المستوى الاجتماعي لأداء الفريضة, أي المعروف والمنكر, الذي يتحول إلى ظاهرة اجتماعية؛ لأن مثلهما يحتاج إلى جماعة متخصصة ولها مؤهلاتها وأدواتها، فتُكلَّف أمة أو جماعة بهذه الوظيفة على مستوى المجتمع كشرطة الخميس التي أسسها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، كالأمر الكفائي الصريح بنفر البعض للتفقه في8.

ص: 169


1- غريب القرآن- الأصفهاني:23_ مجمع البحرين- الشيخ الطريحي: 1/ 108.

الدين.أما أداء الفريضة على المستوى الفردي فلا دليل على كونه كفائياً؛ لأنه ولو بأدنى مراتبه ممكن للجميع، فهو واجب عيني على الجميع، وقد بحثناه مفصلاً في كتاب مستقل(1).9.

ص: 170


1- للوقوف على تفصيل الكلام حول وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر راجع: فقه الخلاف: ج8,ج9.

القبس /13: سورة آل عمران:110

اشارة

{كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِٱلمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ ٱلمُنكَرِ}

موضوع القبس: وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر قرآنياً/2

دلّت الآية على وجوب الوظيفة على الأمة حيث جعلتها أهم صفة تتميز بها، ولإبراز أهميتها فقد قُدّمت على الإيمان بالله تعالى.

و(كان) هنا تامة تفيد الوجود ولزوم الاتصاف وأن من شأنها ذلك فيكون المعنى وجدتم وفيكم شأنية أن تكونوا خير أمة، واستعمل الماضي لتأكيد الحصول والوقوع, وأنه مستمر إلى المستقبل، كلزوم الأسماء الحسنى للذات المقدسة في مثل قوله تعالى: {وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} (النساء:158).

ويمكن أن تكون بمعنى أنتم خير أمة أُخرجت للناس نظير قوله تعالى: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} (مريم:29), أي من هو في المهد.

وليست كان الناقصة التي تقبل انتفاء الصفة وانفكاكها عن الموصوف، ولو اعتبرناها ناقصة فمعناها سبْق ذلك في علم الله تعالى والتعبير عنه بالماضي لتأكيد تحققه.

أما استعمال لفظ (كان) بالماضي فلا يخلو من تكريم لهذه الأمة؛ لأنه أُخذ بنظر الاعتبار مقارنتها بكل الأمم السابقة, وأن ذلك ثابت وواقع لا محالة,

ص: 171

كوقوع أحداث الزمن الماضي.ثم أفادت الآية شرط هذه الخيرية بأنكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، فخيريتها على جميع الأمم مستمرة ما دامت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فالآية ظاهرة في الممارسة الفعلية لهذه الوظيفة والتحرك بها، وليس في شأنية الاتصاف أي أن خيريتها ليست من جهة أنها مأمورة بهذه الوظيفة، وأن من شأنها القيام بها، وأن هذه الوظيفة مشرّعة ومجعولة لها.

وهذا وجه أفضليتها على سائر الأمم؛ لأن هذه الوظيفة مجعولة في جميع الديانات السابقة كما تشير إليه جملة من الآيات الكريمة {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} (المائدة:63), {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} (المائدة:79) وغيرها، وكذا الأحاديث الشريفة كمخاطبة قوم شعيب وغيرها.

ولو لم تكن تلك الأمم مأمورة بها لما كان هناك وجه لأفضلية أمة الإسلام عليها، فخيّريّتُهم على سائر الأمم أنهم يواصلون التحرك بهذه الوظيفة الإلهية على مر الأجيال، وإن كان بمستويات متفاوتة من القوة والضعف، وبحسب كثرة العاملين وقلّتهم.

والوجوب هنا موجه إلى الأمة بما هي أمة على نحو ما قلّناه في الآية السابقة، ولا يضر باتصافها بهذا الوصف إذا تحقق الغرض بقيام البعض؛ لنفس البيان هناك.

نعم الخيّريّة على مستوى الأفراد تحصل بأداء هذه الوظيفة، ولو على نحو الشأنيّة, بمعنى أنه إذا كان صادقاً وجاداً في الامتثال، لكن الموضوع انتفى بقيام البعض، فلا يبعد شموله بالخيّريّة بلطف الله تعالى، وهو معنى موجود في

ص: 172

الأحاديث الشريفة بخصوص عدد من الموارد.والتعبير ب-{أُخْرِجَتْ}, فيه إشارة لطيفة لقيام اليدّ الإلهيّة بصنع هذه الأمة بهذه الأوصاف وإظهارها وتقديمها للبشرية لتكون خير أمة، والواقع يشهد أن ما تنعم به الأمم المتحضرة اليوم من رقي وازدهار وأخلاق إنسانية هو من بركات هذه الأمة المرحومة ووجودها, حتى في الأزمنة التي عاشت اندحاراً، فعلى الأمة أن تلتفت إلى قيمتها هذه لتقوم بمسؤولياتها وتتفهم دورها الريادي والقيادي من الأمم الأخرى.

حل التنافي بين الآيتين:

وفي ضوء ما استظهرناه من كون (من) بيانية يتضح التطابق بين هذه الآية وسابقتها، إلا أن الأكثر لما بنوا على كون (من) تبعيضية في الآية السابقة فقد أوردوا إشكاليّة عدم التوافق بينهما.

ونحن لا نرى الإشكال وارداً حتّى على هذا الاحتمال؛ لأن آية {وَلْتَكُنْ} ليس لها مفهوم ينفي خطاب آية {كُنْتُمْ}، ولا مانع من كون التكليف موجّهاً للأمة جميعاً، وتفهمه جماعة معيّنة على أنها مخاطبة أكثر من غيّرها لخصوصيّة فيها, كالحوزة العلميّة أو الوجهاء المتنفذين أو السلطات التنفيذية ونحوها، فيكون خطاب {وَلْتَكُنْ}, تذكيراً وتأكيداً للوجوب العام, وإشعاراً لهذه الجماعة بالوجوب الخاص عليها.

هذا على الفرض المشهوري من وجود إشكال في اجتماع وجوبين على موضوع واحد، وإلا فإننا لا نرى مانعاً من توجه خطاب بالوجوب لعموم الأمة،

ص: 173

وخطاب لجماعة خاصة بالوجوب؛ لتذكيرها بالمسؤولية الخاصة، وموارده في الفقه كثيرة.وعلى تقدير التنافي بين آية {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ}, وآية {كُنْتُمْ}، فقد بُذلت عدّة محاولات لرفع هذا الإشكال، وما قيل أو يمكن أن يقال منها:-

1-إن الآية {كُنْتُمْ}، بلحاظ توجه التكليف إلى مجموع الأمة، أما آية {وَلْتَكُنْ}, فهي بلحاظ الامتثال لما قُلناه: من أن من غير المتوقع تمكن الكل من الامتثال للأسباب التي ذكرناها؛ فتقوم به الأمة القادرة من دون أن يؤثر على توجه الخطاب بالوجوب إلى الجميع، وهكذا كل الواجبات كالصوم والحج والزكاة فإن الخطاب بها موجه إلى الجميع، لكن القادر على الامتثال جماعة من المسلمين فيصحّ توجيه التنفيذ وامتثال الواجب إلى الجماعة المعينة خاصة(1)، كأن يأمر خصوص المستطيعين للحج بتهيئة جواز السفر ولوازم الرحلة ونحو ذلك، ومن أمثلته قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (البقرة:183), مع أن غير المؤمنين مكتوب عليهم الصيام أيضاً, وإنّما خُوطب خصوص الذين آمنوا تشريفاً لهم, أو لأنهم الجماعة التي يُتوقع منها الامتثال.

2-إن آية {وَلْتَكُنْ}, ليست بصدد بيان أصل التشريع حتى تتنافى مع آية {كُنْتُمْ}، بل هي تُشير إلى تأكّد هذه الوظيفة على فئة خاصة, تكون مسؤوليتها عن أداء هذه الوظيفة ألزم من غيرها؛ لاجتماع الشروط فيها, ولتوفر).

ص: 174


1- هذا الوجه والذي يليه لخّصناه من كتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للشيخ حسين النوري الهمداني: 15-18).

أدوات التأثير لديها, كالمرجعية الدينية والحوزة العلمية. أو جماعة مُعيّنة تُخصَّص لأداء هذه الفريضة كشرطة الخميس، ولا مفهوم لها حتى تنافي الأُخرى نظير قوله تعالى: {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} (المائدة:63)، وعن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه فمن لم يفعل فعليه لعنة الله)(1), ومن المعلوم أن إظهار العلم يكون غالباً بصورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

3-ما قدّمناه في البحث من أن آية {وَلْتَكُنْ}, ناظرة إلى المعروف والمنكر الاجتماعيّين, أي التي تشكّل ظواهر عامّة, لأنه لا يتيسر لأي أحد ممارسة الأمر والنهي المؤثرين فيهما, إلا بانضمام الجهود الى بعضها، أما آية {كُنْتُمْ}، فهي بلحاظ الأعم من ذلك الشامل للفرديين وممارسته واجب عيّني على الجميع(2).

4-ما حُكي عن المراغي ومحمد عبده وغيرهما, من (أن الآية الأولى – أي آية {وَلْتَكُنْ}- خطاب موجّه للمؤمنين كافة، بأن ينتخبوا منهم أمة تقوم بهذه الفريضة، وذلك بأن يكون لكل فرد منهم إرادة وعمل في إيجادها ومراقبتها ونقدها وتصويب حركتها، وبهذه الطريقة تُساهم الأمة كلها في الأمر والنهي، ومعه يتم التوفيق بين هذه الآية وسائر آيات الأمر والنهي الظاهرة في نسبتها4.

ص: 175


1- الكافي- الشيخ الكليني: 1/ 54/ح2.
2- ذُكر هذا الوجه أيضاً في تفسير الأمثل- الشيرازي: 2/ 384.

لمجموع الأمة)(1).وفيه:

أ-إنه ينطلق من ظرف خاص وناظر إلى آلية محددة لأداء الفريضة, من خلال سلطة سياسيّة ونحوها, فهو يُعالج جزءاً من المشكلة.

ب- لازمه سقوط الوظيفة عن عموم الأمة بعد انتخاب هذه الجماعة وهو معنى غريب عن الخطاب الشرعي والفهم المتشرّعي، إذ المسؤولية مستمرة, لذا يأثم الجميع إذا لم يتحقق الامتثال.

5-ما نُقل عن الثعالبي وحاصله: (أن الآية الأولى هنا ناظرة إلى وظيفة الأمر والنهي العالميّة، أي قيام المسلمين بالوظيفة في حق عموم غير المسلمين، فيما سائر الآيات ناظرة إلى قيام المسلمين بالوظيفة - عامتهم وجماعة منهم- داخل المجتمع الإسلامي)(2).

أقول: يمكن أن نستشهد له بتقريبين:

أ-تضمن الآية الأولى للدعوة إلى الخير وهو الإسلام, وهي ثمرة الجهاد الذي يكون خارج المجتمع الإسلامي لدعوة الأمم الأخرى إلى الإسلام، وقد ورد معها ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتكون الفئة المُستهدفة بالخطابه.

ص: 176


1- فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 48، عن تفسير المراغي: 2/ 22، وتفسير المنار:4/ 36، ودراسات في ولاية الفقيه للشيخ المنتظري (قدس سره): 2/ 227.
2- فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 54، عن تفسير الثعالبي: 2/ 88، وقد وصف الناقل هذا الوجه بأنه لا دليل عليه.

هي نفسها, لوحدة السياق مثلاً, ونحوه.ب- ما تقدم في الوجه الثالث من أن آية {وَلْتَكُنْ}, ناظرة إلى المستوى الاجتماعي للفريضة، وما يوجد عند الأمم غير المسلمة أوضح مصاديق هذا المستوى، فتكون الآية ناظرة إليه.

6-إن آية {كُنْتُمْ}، تمثّل الحكم الطبيعي الأصلي الموجَّه للأمة، ولما علم الله تعالى أن الأمة لا تمتثل كُلها للأمر، تنزّل الخطاب ليُلزم جماعة على الأقل بذلك, فهو حكم ثانوي تنزليّ على فرض عدم تحقق الامتثال العام على نحو الترتّب، أو التخفيف كقوله تعالى: {الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} (الأنفال:66) فقُلِّلت النسبة من واحد إلى عشرة إلى واحد إلى اثنين.

7-إن آية {كُنْتُمْ}، هو المطلوب النهائي الذي يُراد أن تصل إليه الأمة, بأن تكون كلها آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، والوسيلة لتحقيقه هي آية {وَلْتَكُنْ}, بأن تؤدي كل جماعة ما عليها, فإذا امتثلت هذه الجماعة وتلك الجماعة فإن الأمة كلها ستكون ممتثلة في النهاية، نظير ما أجبنا به على إشكال التنافي بين آية {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن:16), وآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (آل عمران:102).

8-إن آية {وَلْتَكُنْ}, هي لاستثارة الهمة والتحفيز على السبق لامتثال هذه الفريضة، والخطاب موجه للجميع, فلا تنافي الآية الأخرى، نظير قوله تعالى على لسان عيسى بن مريم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): {مَنْ أَنصَارِي إلى اللَّهِ} (الصف:14),

ص: 177

فالخطاب موجه إلى الجميع، وكما يقول قائد الجيش: من يبايعني على الموت ويتقدم معي، وهكذا.9-أن تكون آية {وَلْتَكُنْ}, كناية عن تحقق الغرض بفعل البعض, وهم الأمة والجماعة, فتكون إشارة, لكون الواجب كفائيّاً، بمعنى كفاية قيام البعض بالامتثال, وسقوطه بذلك عن الآخرين، قال المحقق الأردبيلي (قدس سره) (إلا أن في الإيجاب على البعض إشعاراً بأن المقصود يحصل بفعل البعض، وأن العلم بأن الغير سيفعل الواجب الكفائي قبل فوت وقته كافٍ) وأضاف (قدس سره) بما لا يخلو من النظر، قال (قدس سره): ((بل الظن المذكور أيضاً فيجوز التأخير))(1).4.

ص: 178


1- مجمع الفائدة والبرهان- الأردبيلي: 7/ 534.

القبس /14: سورة آل عمران:133

اشارة

{وَسَارِعُواْ إِلَى مَغفِرَة مِّن رَّبِّكُم}

سارعوا تعني المبالغة والاشتداد في السرعة, أي ليس فقط أسرعوا وبادروا, وإنما تسابقوا في هذا الإسراع وهذه المبادرة، لذا ورد التعبير في آيات أخرى مشابهة لفظ {سَارِعُواْ} كقوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (الحديد:21), ولا يخفى ما في استعمال هذا التعبير من تحفيز على العمل لأن المنافسة والتسابق يفجّر الطاقات.

وهذه المسارعة والمسابقة لابد ان تستمر ما دمتم في الحياة الدنيا؛ لان الدنيا مزرعة الآخرة, وبها تكتسب الجنان او النيران والعياذ بالله, وكل لحظة من لحظاتها تمثل فرصة لاكتساب المزيد من الطاعة.

فالتواني والكسل وترك المسارعة يعني إضاعة هذه الفرصة, وفي الحديث الشريف: (إضاعة الفرصة غصّة)(1), لأنها تورث الحسرة والندامة والشعور بالغبن يوم التغابن، وإن عدم المبادرة الى الاستغفار يؤدي الى تراكم الذنوب وكثرة الرين على القلب, حتى يسوّد ويفقد قابلية العودة الى الطهارة والعياذ بالله، في

ص: 179


1- نهج البلاغة: الحكمة 118.

الحديث: (ان المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه منه، وان ازداد زادت، فذلك (الران) الذي ذكره الله تعالى في كتابه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(المطففين:14))(1).وان التأخير وعدم المبالاة بالاستغفار قد يوجب رفع الستر والغطاء عن المذنب فتفضحه ذنوبه برائحتها النتنة, التي لا تخفى على الاخرين لولا ستر الله تعالى، لكن العبد اذا تحوَّل الى قاذورة من الذنوب ورفع الله تعالى عنه الحجاب الساتر للعيوب والذنوب فانه يصبح مثيرا للتقزز والاشمئزاز, والحيوان قبل الإنسان يكتشف ذلك, وأصبح اليوم من الأدلة المهمة لاكتشاف الجرائم والمجرمين هو حاسة الشم لدى الحيوانات كالكلاب مثلاً, وفي الحديث الشريف عن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (تعطرّوا بالاستغفار لا تفضحكم روائح الذنوب)(2).

ولما كانت المغفرة من فعل الله تعالى {مِّن رَّبِّكُمْ}, ومن أسمائه الحسنى (الغفار) و(الغفور) و(غافر الذنب), فما معنى المسارعة اليها؟

انها المسارعة الى أسبابها وموجباتها كالذي قلناه(3) في شرح الحديث الشريف (ان لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرّضوا لها لعله أن يصيبكم نفحة منها فلا تشقُوُنَّ بعدهاأبداً)(4) وسنتعرض الى جملة من هذه الأسباب ان شاء الله تعالى.1.

ص: 180


1- تفسير نور الثقلين- الشيخ الحويزي: 5/ 531.
2- بحار الانوار- المجلسي: 93/ 278/ح7.
3- انظره في الملحق الآتي بعنوان: (تعرضوا لنفحات ربكم).
4- بحار الانوار: ج 68، ص 221.

والمغفرة لها حالات لابد ان تُطلب جميعاً, فلا يقتصر في طلب المغفرة لما مضى من ذنوبه التي الّم بها, بل يستغفر مما يأتي, بأن يعصمه الله تعالى منها, او ليكتبه ممن يُغفر له مقدّماً فيما لو اوقعته غفلته في ذنب في الأيام الآتية, لذا تضمنت الادعية طلب المغفرة لما تقدّم من الذنوب وما تأخّر وهو الاتي.وكذلك للمغفرة مراتب فلا يختص طلب المغفرة بالذنوب والمعاصي بالمعنى المعروف والتي فيها مخالفة للأحكام الشرعية, بل تُطلب ايضاً لما هو أدق من ذلك, كترك المستحبات او فعل المكروهات او ترك الأولى - كما لو خُيِّر بين طاعتين فلم يختر الأهم منهما- او من عروض خاطر المعصية، وقد لا يكون لهذا او لا لذاك وانما لطلب الرفعة في الدرجات, او الاستغفار من القصور الذاتي الذي تقتضيه الطبيعة البشرية في أداء وظائف العبودية لله تعالى او الاستغفار من الانشغال بما يتطلبه الوجود في هذه الدنيا وإداء المسؤوليات الاجتماعية التي كلفه الله تعالى, كالذي يصدر من المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وفي الحديث النبوي الشريف انه (ليغان(1) على قلبي، وإنّي لأستغفر الله في كلّ يوم سبعين مرّة)(2).

وفي الكافي عن زيد الشحام عن ابي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (كان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يتوب الى الله عز وجل في كل يوم سبعين مرة فقلت: أكان يقول استغفر الله واتوب اليه؟ قال: لا ولكن كان يقول: اتوب الى الله)(3).4.

ص: 181


1- الغين: لغة في الغيم، وغان على قلبي: غطاء. أنظر: الصحاح- الجوهري: 6 /2175- مجمع البحرين- الشيخ الطريحي: 3/ 348.
2- بحار الأنوار- المجلسي: 25/ 204.
3- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 438/ح4.

وقد تضمّن القرآن الكريم آيات كثيرة تحث على الاستغفار, وتذكر آثاره وبركاته, من استجلاب نعم, ودفع نقم, في الدنيا والآخرة, كقوله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} (هود:3), وقوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ} (هود:52), وفي الحديث الشريف عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (من كثرت همومه فعليه بالاستغفار)(1), وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (أدفعوا أبواب البلاء بالاستغفار)(2).فالاستغفار سبب لزيادة الرزق وتحصيل الذرية والتنعمّ في الحياة الدنيا والاخرة.

ولذا تجد القرآن الكريم يقرن في هذه الآية وغيرها - كآية سورة الحديد المتقدمة - بين المغفرة والجنة، فالاستغفار يؤدي الى الجنة ويزيل العوائق عن الفوز بها؛ لأن الجنة دار طهارة وسعادة ونقاء, فلا يمكن للإنسان ان يدخلها ويتنعم فيها وهو حامل للقذارات المعنوية وادران الذنوب والمعاصي, إلا بعد ان يتطهر منها بالعفو والمغفرة {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} (الأعراف:43).

والملفت للنظر وقوع هذه الآية وآيات تربوية أُخرى في سياق الحديث عن معركة أحد وملابساتها وتحقق النصر أولاً, ثم الهزيمة المُهينة ثانياً, {مِّن بَعْدِ مَا8.

ص: 182


1- الكافي- الشيخ الكليني: 8/ 93/ح65.
2- وسائل الشيعة (آل البيت)- الحر العاملي: 9/ 28.

أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ} (آل عمران:152), للتنبيه - كما هو ديّدن القرآن دائماً- على محوريّة العقيدة, والارتباط بالله تعالى في كل شؤون الحياة, وان الميدان الاوسع والاهم للعمل هو ميدان النفس، والخير يتحقق بقهر أهوائها والغلبة على شهواتها. فميدان النفس ساحة الجهاد الأكبر, وما سواها في الخارج هو الجهاد الأصغر، وان كل شيء يكتسب قيمته بمقدار ارتباطه بالله تعالى, سواءاً اكان نصراً عسكريّاً او انجازاً سياسيّاً او تقدماً اقتصاديّاً او رفاهاً اجتماعيّاً، فالهدف دائماً إعلاء كلمة الله تعالى, طلباً لرضا الله تعالى.

وينبغي الالتفات الى ان الاستغفار المنتج لهذه الاثار المباركة ليس مجرد تحريك اللسان به, وإنما له حقيقة بيّنها امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في نهج البلاغة: (وَقَالَ: (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لِقَائِلٍ قَالَ بِحَضْرَتِهِ أَسْتَغْفِرُ اَللَّهَ. ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ أَتَدْرِي مَا اَلاِسْتِغْفَارُ, إِنَّ اَلاِسْتِغْفَارَ دَرَجَةُ اَلْعِلِّيِّينَ, وَهُوَ اِسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعَانٍ: أَوَّلُهَا اَلنَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى. وَاَلثَّانِي اَلْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ اَلْعَوْدِ إِلَيْهِ أَبَداً. وَاَلثَّالِثُ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى اَلْمَخْلُوقِينَ حُقُوقَهُمْ حَتَّى تَلْقَى اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْكَ تَبِعَةٌ. وَاَلرَّابِعُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى كُلِّ فَرِيضَةٍ عَلَيْكَ ضَيَّعْتَهَا فَتُؤَدِّيَ حَقَّهَا. وَاَلْخَامِسُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى اَللَّحْمِ اَلَّذِي نَبَتَ عَلَى اَلسُّحْتِ فَتُذِيبَهُ بِالأَحْزَانِ حَتَّى تُلْصِقَ اَلْجِلْدَ بِالْعَظْمِ وَيَنْشَأَ بَيْنَهُمَا لَحْمٌ جَدِيدٌ. وَاَلسَّادِسُ أَنْ تُذِيقَ اَلْجِسْمَ أَلَمَ اَلطَّاعَةِ, كَمَا أَذَقْتَهُ حَلاَوَةَ اَلْمَعْصِيَةِ, فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اَللَّهَ)(1).5.

ص: 183


1- نهج البلاغة: 425.

اما الاسباب الموجبة للمغفرة فهي كثيرة منها:

1-الدعاء وطلب المغفرة، وقد ورد طلب المغفرة في ما لا يحصى من الادعية, وكرّست بعض الادعية للاستغفار وطلب التوبة؛ كما في الصحيفة السجادية، في الحديث عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (خير الدعاء الاستغفار)(1), وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (خير العبادة الاستغفار)(2), وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (الاستغفار في الصحيفة يتلالأ نوراً)(3), وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (من احبَّ أن تسرًّه صحيفتهُ فليكثر فيها من الاستغفار)(4).

2-الاستزادة من الطاعات والحسنات عموماً, قال الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (هود:114), خصوصاً الصلاة المفروضة في اوقاتها، في الحديث الشريف: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمساً ما تقول ذلك يُبقي من درنه. قالوا: لا يُبقي من درنه شيئاً قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله به الخطايا)(5).

3-ومن الطاعات المخصوصة ايضاً (الصدقة) ففي الحديث عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (صدقة السر تطفي غضب الرب تبارك وتعالى)(6), وعن أمير المؤمنين

ص: 184


1- بحار الأنوار- المجلسي: 9/ 284.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 517.
3- تاريخ مدينة دمشق- ابن عساكر: 22/ 177.
4- المعجم الأوسط- الطبراني: 1/ 256.
5- صحيح البخاري- البخاري: 1/ 134.
6- الكافي- الشيخ الكليني: 4/ 8.

(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الصدقة جُنة عظيمة وحجاب للمؤمن من النار)(1).4-ومنها ايضاً صلاة الليل وقد ورد فيها عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (ان العبد إذا تخلّى لسيده في جوف الليل المظلم وناجاه اثبت الله النور في قلبه... ثم يقول جلَّ جلاله لملائكته: يا ملائكتي: انظروا الى عبدي، فقد تخلّى بيّ في جوف اللّيل المظلم والبطالون لاهون، والغافلون نيام، اشهدوا أني قد غفرت له)(2).

5-الصوم خصوصاً شهر رمضان؛ فأنه شهر المغفرة والعتق من النار والفوز بالجنة, وافضل ميادين هذا السباق والمسارعة، وفي خطبة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في أخر جمعة من شعبان؛ التي رواها الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن أبائه(عَلَيْهِ السَّلاَمُ), عن أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ), عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (فأن الشقي من حُرِم غفران الله في هذا الشهر العظيم), وفيها (يا أيها الناس ان انفسكم مرهونة باعمالكم ففكّوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخففوا عنها بطول سجودكم)(3).

في الحديث عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (شهر رمضان, شهر فرض الله عليكم صيامه, فمن صامه, إيماناً واحتساباً, خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)(4), وفي رواية عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن لله تعالى ملائكة موكلين بالصائمين يستغفرون لهم في كل يوم من شهر رمضان إلى آخره، وينادون الصائمين كل ليلة عند إفطارهم: أبشروا عباد الله؛ فقد جعتم قليلاً وستشبعون كثيراً, بوركتم وبورك فيكم؛ حتى إذا2.

ص: 185


1- الخصال- الشيخ الصدوق: 635.
2- الأمالي- الشيخ الصدوق: 354/ح432.
3- الأمالي- الشيخ الصدوق: 154.- عيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- الشيخ الصدوق: 2/ 266.
4- تهذيب الأحكام- الشيخ الطوسي: 4/ 152.

كان آخر ليلة من شهر رمضان نادى: أبشروا عباد الله غفر لكم ذنوبكم وقبل توبتكم؛ فانظروا كيف تكونون فيما تستأنفون)(1).وفي الكافي عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (من لم يُغفر له في شهر رمضان لم يغفر له الى قابل الى أن يشهد عرفة)(2).

أما الصوم المستحب فقد ورد فيه عن الإمام الصادق عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): من صام يوماً تطوعاً أبتغاء ثواب الله وجبت له المغفرة)(3), وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (قال ابي: إن الرجل ليصوم يوماً تطوعاً يريد ما عند الله فيدخله الله به الجنة)(4).

6-الحج وخصوص الوقوف بعرفة، روى الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن ابيه الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (ما وقف بهذا الموقف أحد إلا غفر الله له) ثم قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (ألا انهم في مغفرتهم على ثلاث منازل)(5) الى آخر الحديث.

7-زيارة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ), وأولهم النبي الاكرم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وقد ورد في زيارته الشريفة: (اللَّهُمَّ إِنَّكَ قُلْتَ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (النساء:64), وَإِنِّي أَتَيْتُ مُسْتَغْفِراً تَآئِباً مِنْ ذُنُوبِي، إِنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكَ لِيَغْفِرَ لِي1.

ص: 186


1- الأمالي- الشيخ الصدوق: 108.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 4/ 66.
3- الأمالي- الشيخ الصدوق: 645.
4- الكافي- الشيخ الكليني: 4/ 63.
5- الكافي- الشيخ الكليني: 4/ 521.

ذُنُوبِي)(1).وهكذا سائر المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ), وخصوصاً زيارة الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، عن الإمام الصادق وولده موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (من زار قبر أبي عبد الله عارفاً بحقه, غفر له الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر)(2).

أقول: قد اختصرنا الكلام بما يناسب المقام(3), والا فالأسباب التي جعلها الله تعالى لعباده كرماً منه وفضلاً كثيرة, غير ما يعفو عنه ابتداءاً, بلا سبب؛ سوى ان من صفاته الكريمة الفضل والمن، قال الله تعالى: {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (الشورى:30).ج.

ص: 187


1- كامل الزيارات- ابن قولويه: 50.
2- كامل الزيارات- ابن قولويه: 264.- الأمالي- الشيخ الصدوق: 206/ح9.
3- اخترت ذكر شهر رمضان والحج وزيارة الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لتصلح المحاضرة مادة لتعميق معارف القرآن في المجالس الرمضانية والحسينية ولمرشدي قوافل الحجاج.

ملحق: تعرضوا لنفحات ربكم

النفحات الخاصة:

ورد حديث عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرّضوا لها, لعله أن يصيبكم نفحة منها, فلا تشقُّوُنَّ بعدها أبداً)(1), وفي حديث مماثل (اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفحات الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده, وسلوا الله أن يستر عوراتكم وأن يؤمن روعاتكم)(2).

والحديث يشير إلى نوع خاص من الألطاف الإلهية, وليست الألطاف العامة الشاملة لكل الناس، والدليل عليه وجهان:

1-التعبير بالنفحات، والنفحة: هي القطعة من الشيء أو هي الدفعة منه(3), وليس كله ولا معظمه، كما في قوله تعالى: {وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} (الأنبياء:46), وهذا القول منهم إذا كان رجوعاً وتوبة في وقت قبولها, فهو موقف حسن, وإلا فإن الأغلب يكون موقفهم التمادي والاستكبار، قال تعالى: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (هود:8).

ص: 188


1- المعجم الكبير- الطبراني: 19/ 234.- كنز العمال- المتقي الهندي: 7/ 769.
2- تاريخ مدينة دمشق- ابن عساكر: 24/ 123.- كنز العمال- المتقي الهندي: 7/ 769.
3- مجمع البحرين- الشيخ الطريحي: 4/ 341.

2-الأثر العظيم المترتب على التعرض لها, والتوفيق للشمول بها, بحيث أن من تناله تلك النفحات لا يحتاج إلى ابتلاء, ويحسم آمره في الصالحين والسعداء, بحيث لا يشقى بعدها أبداً.

ولتوضيحه بمثال نقول: أنه يصبح كالطالب؛ الذي يحرز درجات عالية في السعي السنوي؛ فيُعفى من الامتحانات النهائية, ولا يحتاج إلى اختبارات أخرى كأقرانه.

على أي حال؛ فالمراد من النفحات: ألطاف إلهيّة خاصة, بدلالة التعبير عنها بالنفحات؛ إذ أن الألطاف الإلهية العامة متواصلة على طول الدهر, ولولاها لما خُلق الإنسان والكون, ولا استمر وجودهما.

لنتعرض لكل سُبل الطاعة:

وفي ضوء هذا فقد حث رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على التعرض لتلك النفحات، ويكون ذلك بالتعرض لأسبابها, واقتناص فرصها, وهي غير معروفة بالتحديد؛ لأن الله تبارك وتعالى أخفى رضاه في طاعته, كما أخفى سخطه في معصيته.

لذا فحريٌّ بطالب الكمال والسعادة, أن يتعرض لكل ما يتيسر له من سبل الطاعة, وفرص الخير, عسى أن تكون إحداها سببا لنيل تلك الألطاف الخاصة، ولذا جاء في الحديث عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (تعرضوا لرحمة الله بما أمركم به من طاعته)(1).

ص: 189


1- تنبيه الخواطر ونزهة الناظر (مجموعة ورام): ص439.

وفي الكافي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إذا همّ أحدكم بخير فلا يؤخره, فإن العبد ربما صلى الصلاة أو صام اليوم فيقال له: اعمل ما شئت بعدها, فقد غفر الله لك)(1). وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إذا هممت بشيء من الخير فلا تؤخّره, فإن الله عز وجل ربما اطلع على العبد وهو على شيء من الطاعة فيقول: وعزّتي وجلالي لا أعذبك بعدها أبداً، وإذا هممت بسيئة فلا تعملها، فإنه ربما اطلع على العبد وهو على شيء من المعصية فيقول: وعزّتي وجلالي لا أغفر لك بعدها أبداً)(2), كالطالب الذي يفشل خلال السنة الدراسية فيُحرم من فرصة المشاركة في الامتحانات العامة؛ فكأن تقصيره ذلك أوجب نهايته مبكراً, ولم يسمح له باستمرار فرصة الامتحان, والسعي لنيل النجاح.

وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إذا أردت شيئاً من الخير فلا تؤخره، فإن العبد يصوم اليوم الحار يُريد ما عند الله فيُعتقهُ الله به من النار، ولا تستقلّ ما يُتَقرّبُ به إلى الله عز وجل ولو شقَّ تمرة)(3).

المسارعة الى الخير:

وهذه المسارعة إلى فعل الخير لها ما يبررها من أكثر من جهة:

1-إن الفرص تمرُّ مرَّ السحاب, وقد لا تتكرر؛ بل هي فعلاً لا تتكرر؛ لأن

ص: 190


1- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 142.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 143.
3- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 142.

الفرصة الثانية هي غير الأولى, وإضاعة الفرصة غصة, وإن عُمر الإنسان, هو رأس ماله في المتاجرة مع الله تبارك وتعالى, وكل ثانية من عمره, يمكن أن ترفعه درجة عند الله تبارك وتعالى.2-إن التأخير يُعطي فرصة للشيطان, والنفس الأمارة بالسوء للوسوسة والتثبيط وإضعاف الهمّة، عن أبي جعفر الباقر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من همَّ بشيء من الخير فليعجّله، فإن كل شيء فيه تأخير فإن للشيطان فيه نظرة)(1).

3-إن القلوب لها أحوال متغيرة, فتارة تكون في إقبال على الطاعة, وأخرى في إدبار, فإذا لم يستغل الحال الأول - أي حال إقبال القلب- فقد يقع في الثاني - أي حال إدبار القلب - فلا يجد في نفسه إقبالاً على الطاعة، سأل حمران بن أعين الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (أخبرك - أطال الله بقاءك لنا وأمتعنا بك- أنّا نأتيك, فما نخرج من عندك حتى ترقَّ قلوبنا وتسلوَ أنفسنا عن الدنيا, ويهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال، ثم نخرُجُ من عندك, فإذا صرنا مع الناس والتجار أحببنا الدنيا؟ فقال أبو جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): إنما هي القلوب مرة تصعُبُ ومرةً تسهُل)(2).

4-إن الطاعة مهما تبدوا شاقة فإنما هي جهد اللحظة التي أنت فيها، ومهما تبدو المعصية لذيذة فإنما هي لذة اللحظة التي هو فيها, وهذا ييّسر المضي على الطاعة, واجتناب المعصية, ففي موثقة سماعة عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (سمعته3.

ص: 191


1- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 143.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 423.

يقول: اصبروا على طاعة الله، وتصبّروا عن معصية الله, فإنما الدنيا ساعة, فما مضى فليس تجد له سروراً ولا حزناً, وما لم يأت فليس تعرفه, فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها، فكأنك قد اغتبطت)(1).

أشكال النفحات:

وسببية التعرض للنفحات للحصول عليها وشمولها أمر طبيعي، كما أن البائع الذي يتعرض للناس ببضاعته, فينوّعها ويتفنن في عرضها, ويحاكي أذواق الناس بها, يكون الإقبال عليه أكثر من التاجر الساكن الجامد الخامل، مع أن الله تبارك وتعالى قد تكفّل للجميع بالرزق، ولكن ألطافاً خاصة تعطى للمتعرض لها دون غيره.

ومع أن الطاعات كلها شكل من أشكال التعرض للنفحات الإلهية, إلا أن لبعض الموارد مزيد عناية ومظنّة لتلك النفحات، وبعض هذه الموارد: (مكانية) كالمساجد والعتبات المقدسة وفي حلقات العلم ومجالس الموعظة والإرشاد.

وبعضها (زمانية) كليلة الجمعة ويومها, والأشهر الشريفة: رجب, وشعبان, ورمضان.

وبعضها (حالية) كاجتماع المؤمنين, والدعاء للغير, وحال التوجّه والاضطرار وانكسار القلب, خصوصا إذا امتزج الحزن بالبكاء, وعند مجالسة العلماء, وبعد الصلوات المفروضة, وفي حال السجود.

ص: 192


1- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 459.

لطف الله تعالى للجميع:

ولا شك أن لطف الله تبارك وتعالى وكرمه متاح لكل أحد, كما في أدعية شهر رجب (يامَنْ يُعْطِي مَنْ سَأَلَهُ، يامَنْ يُعْطِي مَنْ لَمْ يَسأَلْهُ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ تَحَنُّناً مِنْهُ وَرَحْمَةً) و(بابُكَ مَفْتُوحٌ لِلرّاغِبينَ، وَخَيْرُكَ مَبْذُولٌ لِلطّالِبينَ، وَفَضْلُكَ مُباحٌ لِلسّائِلينَ، وَنَيْلُكَ مُتاحٌ لِلآمِلينَ، وَرِزْقُكَ مَبْسُوطٌ لِمَنْ عَصاكَ، وَحِلْمُكَ مُعْتَرِضٌ لِمَنْ ناواكَ)(1) لكن بعض النفحات تتطلب تعرضاً لها وصعوداً إليها.

أتذكر أنني عندما كنت أحضر بحث الأصول للسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في مباحث المشتق وكان يفسر آية {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (البقرة:124), فقال (قدس سره): (إن الآية عبّرت {لاَ يَنَالُ}, ولعل في ذلك إشارة إلى هذه المراتب وغيرها من مراتب الكمال إنما تنال بالتكامل والتصاعد في عالم الملكوت الأعلى, فكلما تكامل الفرد إلى درجة معينة, استحق فيضاً مناسباً لتلك الدرجة, ومنها الإمامة, فهم يصعدون إليها لا هي تنزل إليهم)(2).

فقلت له: - بعد الدرس- على هذا لا بد من أن يكون ذيل الآية (الظالمون) ليكون فاعلاً وساعياً لنيل العهد, وعهدي مفعول به, وليس العكس, كما في الآية، فأيّد الاعتراض لكنه - لإيمانه بصحة فكرته- عرض حلاً وسطاً, يجمع بين الفكرة والإشكال, وهو أن الألطاف تنزل من الله تعالى إلى مرتبة معينة ويصعد إليها الفرد

ص: 193


1- مفاتيح الجنان- عباس القمي: 229.
2- المشتق عند الأصوليين: 343.

إلى تلك المرتبة. انتهىوإذا تهيّب الفرد أو تردّد ولم يقتنص الفرصة ويبادر إليها فإنه سيحرم بركتها, ففي الحديث عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (قرنت الهيبة بالخيبة، والحياء بالحرمان، والفرصة تمر مر السحاب فانتهزوا فرص الخير)(1).

طلبات جامعة:

وليكن تعرّضك وطلبك مناسباً لكرم الله تعالى، وتوجد في بعض الأدعية طلبات جامعة لخصال الخير كله كما في أدعية رجب (أَعْطِنِي بِمَسْأَلَتي إِيّاكَ, جَميعَ خَيْرِ الدُّنْيا وَجَميعَ خَيْرِ الآخرة، وَاصْرِفْ عَنّي بِمَسْأَلَتي إِيّاكَ, جَميعَ شَرِّ الدُّنْيا وَشَرِّ الآخرة، فَاِنَّهُ غَيْرُ مَنْقُوص ما أعطيت، وَزِدْني مِنْ فَضْلِكَ يا كَريمُ)(2) وفي دعاء آخر (اَللّ-هُمَّ اِنّي اَسْاَلُكَ َاَنْ تُدْخِلَني في كُلِّ خَيْر اَدْخَلْتَ فيهِ مُحَمَّداً وَآلَ مُحَمَّد(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وَاَنْ تُخْرِجَني مِنْ كُلِّ سُوء اَخْرَجْتَ مِنْهُ مُحَمَّداً وَآلَ مُحَمَّد صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ)(3).

وعن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان نزل على رجل بالطائف قبل الاسلام فأكرمه, فلما أن بعث الله محمداً (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلى الناس قيل للرجل: أتدري من الذي أرسله الله عز وجل إلى الناس؟ قال: لا، قالوا له: هو محمد بن عبد الله يتيم أبي طالب, وهو الذي كان نزل بك بالطائف يوم كذا وكذا

ص: 194


1- نهج البلاغة - خطب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 4/ 6.
2- مفاتيح الجنان- عباس القمي: 170.
3- مفاتيح الجنان- عباس القمي: 285.

فأكرمته، قال: فقدم الرجل على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فسلم عليه وأسلم، ثم قال له: أتعرفني يا رسول الله؟ قال: ومن أنت؟ قال: أنا رب المنزل الذي نزلت به بالطائف في الجاهلية, يوم كذا وكذا فأكرمتك, فقال له رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): مرحباً بك سل حاجتك، فقال: أسألك مأتي شاة برعاتها، فأمر له رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بما سأل، ثم قال لأصحابه: ما كان على هذا الرجل أن يسألني سؤال عجوز بني إسرائيل لموسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بما سأل، فقالوا: وما سألت عجوز بني إسرائيل موسى؟ فقال: إن الله عز ذكره أوحى إلى موسى أن أحمل عظام يوسف من مصر قبل أن تخرج منها إلى الأرض المقدسة بالشام, فسأل موسى عن قبر يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فجاءه شيخ فقال: إن كان أحد يعرف قبره ففلانة، فأرسل موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إليها فلما جاءته قال:تعلمين موضع قبر يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)؟ قالت: نعم، قال: فدليني عليه ولك ما سألتِ: قالت: لا أدلك عليه إلا بحكمي، قال: فلك الجنة، قالت: لا إلا بحكمي عليك، فأوحى الله عز وجل إلى موسى لا يكبر عليك أن تجعل لها حكمها فقال: لها موسى فلك حكمك، قالت: فإن حكمي أن أكون معك في درجتك التي تكون فيها يوم القيامة في الجنة فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): ما كان على هذا لو سألني ما سألت عجوز بني إسرائيل)(1).وأنتم أيها الإخوة والأخوات بزيارتكم لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والمساجد المعظمة في الكوفة والسهلة, والانطلاق منها سيراً على الأقدام إلى كربلاء, لزيارة الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في النصف من رجب, التي تسمى (الغفيلة) لغفلة الناس عن ثوابها.5.

ص: 195


1- الكافي- الشيخ الكليني: 8/ 155.

وقطعكم هذه المسافة التي قطعتها عقيلة الهاشميين زينب بنت علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لإحياء ذكرى وفاتها، تكونون قد تعرضتم لكثير من نفحات الله تبارك وتعالى, وأتيتم بأسبابها في هذا الشهر الشريف. فأرجوا أن يشملكم الله تبارك وتعالى بألطافه ونفحاته الخاصة.

ويشرِك معكم كل من أحبَّ عملكم, وأيّده, وقدّم الخدمة لكم, فإن (من أحب قوما حشر معهم، ومن أحب عمل القوم أشرك في عملهم)(1).1.

ص: 196


1- بحار الأنوار- المجلسي: 65/ 131.

القبس /15: سورة آل عمران:144

اشارة

{أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}

موضوع القبس: إنقلاب الأتباع عند غياب القائد

قال الله تبارك وتعالى {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُ-رَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران:144).

تثير الآية الكريمة قضية مهمة وتؤشر مرضاً خطيراً يصيب اتباع الديانات والمشاريع الإلهية وهو ذوبانهم في شخصية القائد ذاته وليس في الرسالة التي حملها اليهم مما يؤدي إلى انهيارهم وانحرافهم وتشتتهم عند غيابه عنهم بموت أو قتل والآية الكريمة تؤسس لحقيقة يجب أن يعيها المؤمنون اتباع الرسالات الإلهية العظيمة في كل الأجيال وهي أن يكون ارتباطهم بالرسالة نفسها لأنها تمثل المبادئ التي أرادها المرسل تبارك وتعالى، والارتباط بالرسول وحامل الرسالة مهما عظمت مكانته لابد أن يكون على هذا الأساس وليس على أساس الشخصنة التي تؤدي الى الصنمية وعبادة الذات والذوبان فيها بمعزل عن المبدأ بحيث اذا مات أو قتل فكأنه ينتهي كل شيء.

ص: 197

وهذا من أخطر الأمراض التي تُصيب اتباع الرسالات والمشاريع الإلهية لأنه يؤدي إلى اندثار الرسالة وانحرافها وتفرق الاتباع عند موت القائد(1)، والصحيح أن يعتقدوا أن الرسالة باقية خالدة اما الرسول أو القائد عموماً فأنه معرَّض للموت أو القتل {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} (الزمر:30) وان الله تعالى يقيِّض لهذا الدين من يستمر بتبليغه وحفظه من التحريف والدّس وإقامته في حياة الأمة، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (يا أيها الناس: ان الله تبارك اسمه وعزّ جنده لم يقبض نبياً قط حتى يكون له في أمته من يهدي بهداه ويقصد سيرته ويدلّ على معالم سبيل الحق الذي فرض الله عباده، ثم قرأ {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ..})(2) .فالمؤمنون الصادقون هم الذين ذابوا في المبدأ -- وهو الدين -- واستوعبوه وجعلوه منهج حياتهم فلا تؤثر عليهم غيبة الرسول والقادة عموماً بل هم لا يرون انه قد غاب عنهم لأنه حاضر بينهم بالمبادئ التي أسسها لهم والمنهج الذي وضعه لهم فهم ينظرون إلى الرسالة {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} (إبراهيم: 24-25).

وهذه الآية دليل على صدقه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وان القرآن كتاب منزل من الله تعالى، لأن دعوته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لو كانت لمنفعة شخصية له لعمل على تكريس ذاته كما يفعل الطواغيت ((اذا متُّ ضمآناً فلا نزل القَطر)) بينما كان (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يعمل على تذويب ذاته في المبدأ والشواهد على ذلك من سيرته الشريفة كثيرة كقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لمن00

ص: 198


1- راجع قبس/92 {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} (مريم:59) من نور القرآن: 3/ 115
2- تفسير العياشي: 1/ 200

ارتعدت فرائصه لما نظر إليه وهو يكلّمه (هوِّن عليك.. فأني لست بملك.. إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد)(1) ، وقد حكى الله تعالى هذا الموقف عن جميع أنبيائه، قال تعالى {مَا كَانَ لِبَشَ-رٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} (آل عمران:79).والآية تحكي فصلاً من احداث معركة أُحد فأنه لما نودي في جيش المسلمين من بعض المشركين أو المتآمرين والمنافقين وذيول قريش بأن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قد قتل انهزموا ((فجعل الرجل يقول لمن لقيه: إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قد قتل، النجاء النجاء - أي انجوا بأنفسكم -))(2) ودخل اليأس على أكثر المسلمين والقوا سلاحهم وأيقنوا بأن كل شيء قد انتهى بحيث ((قال أهل المرض والارتياب والنفاق حين فرَّ الناس عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قد قتل محمد فالحقوا بدينكم الأول))(3) أي الشرك والجاهلية، وأخرج ابن جرير أيضاً ان بعضهم قال ((ليت لنا رسولاً إلى عبدالله بن ابي -- زعيم المنافقين في المدينة -- فيأخذ لنا أماناً من ابي سفيان، يا قوم ان محمداً قد قتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلونكم))(4) ومن كلامهم يظهر انهم من المهاجرين.55

ص: 199


1- سنن: ابن ماجة: 4/ 16 كتاب الاطعمة، باب القديد ح 3312 والطبراني في الأوسط: 2/ 64 رقم 1260 والحاكم في المستدرك: 3/ 50 رقم 4366 وصحّحوه
2- البرهان: 2/ 280 ح 1 عن تفسير القمي: 1/ 119
3- تفسير الطبري: 7/ 258
4- تفسير الطبري: 7/ 255

فالآية توبّخهم وتقول بأن محمداً (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ليس الا رسول مبلغ عن الله تعالى ما فيه هدايتكم وصلاحكم ولا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً {إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} (آل عمران:154) وقد مضى من قبله رسل كُثُر على ذات المنهج والدعوة إلى الله تعالى، وكلهم مضوا إلى ربّهم بعد أن ادّوا ما عليهم من دون أن تموت المبادئ التي حملوها إلى أممهم فلماذا -- والاستفهام هنا استنكاري -- هذا الانقلاب منكم والنكوص والرجوع عما أنتم عليه من الحق الى جاهليتكم الأولى والتخلي عن مواصلة اعتناق الرسالة والمضي على ما مضى عليه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بمجرد أن صيح بكم بموته أو قتله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهذا يعني ان رواسب الجاهلية ما زالت فيكم {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (الحجرات:14)، وأن ارتباطكم بالنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) شخصي لاجل الدنيا وليس مبدأياً، وتعلّل آية أخرى هزيمتهم من المعركة بأنها انعكاس لهزيمتهم الروحية {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} (آل عمران:155).وتضيف الآية: واعلموا إن انقلابكم هذا لن يضرّ الله تعالى ولن يؤثر على استمرار الرسالة وخلودها لأن الله تعالى يأتي بمن يواصل حملها وحمايتها والانطلاق بها كما يشهد لذلك ما حصل في كل حالات الانقلاب التي وقعت فيها الأمة وإنما يخسر المنقلبون على اعقابهم لأن الدين جاء لإسعادهم في الدنيا والآخرة فاذا تخلّوا عنه فان حياتهم ستكون نكدة وشقية {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} (إبراهيم: 8).

ص: 200

وقد ثبت في المعركة قلة من الافذاذ احاطوا برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقونه بأنفسهم يتقدمهم أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واستشهد أكثرهم رُوي عن ابن عباس (أن علياً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كان يقول في حياة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إن الله عزوجل يقول {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} والله لا ننقلب على أعقابنا بعد اذ هدانا الله، ولئن مات أو قتل لأقاتلنّ على ما قاتل عليه حتى أموت، والله إني لاخوه وابن عمه ووارثه فمن أحق به مني)(1) .وقد اعتبر الله تعالى ثباتهم على الرسالة والمبدأ شكراً فقال تعالى {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} لأن الشكر على النعمة هو استعمالها فيما يريده المنعم واستحضار ما يقتضيه حق الربوبية وان ثباتهم وتمسكهم شكر عملي على نعمة الايمان.

روى(2) ابان بن عثمان عن ابي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أنه أصاب علياً يوم أُحُد ستون جراحة وروى الشيخ المفيد في الاختصاص أنها ثمانون تدخل الفتائل من موضعّ وتخرج من موضع بحيث خاف المداوي من معالجته لأنه كلما عالج جزءاً انفتق جزء آخر من بدنه فدخل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والمسلمون يعودونه وهو قرحة واحدة فجعل النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يمسحه بيده ويقول: ان رجلاً لقي هذا في الله فقد أبلى وأعذر وكان القرح الذي يمسحه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يلتئم فقال علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): الحمد لله اذ لم أفرّ ولم أوليّ الدبر فشكر الله تعالى له ذلك في موضعين من القرآن وهو03

ص: 201


1- البرهان: 2/ 280 ح 4 عن آمالي الشيخ: 2/ 116، الرياض النضرة: 3/ 206 فوائد السمطين: 1/ 224
2- بحار الأنوار: 41 / 3 ، المناقب لابن شهرآشوب: 2/ 119، تفسير البرهان: 2/ 282 ح 2، نور الثقلين: 1/ 203

قوله تعالى {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران:144) ، {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} (آل عمران:145) .أقول: تصرّح الرواية بأن المقصود بالشاكرين هو أمير المؤمنين، ويمكن الاستدلال عليه بأن الثبات في المعركة كان شكراً حقيقة وقد ثبت مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) جمع مبارك من أصحابه، ولو أريد ذكر موقفهم لكان الأنسب في التعبير أن يكون (وسيجزّي الله الذين شكروا) في إشارة إلى فعل محدد وحالة معينة وبمقتضى المقابلة مع الفعل (انقَلَبْتُمْ).

أما وصف الشاكرين فلا ينطبق الا على أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لأنه يدل على ثبات الصفة عند الموصوف واستمرارها وهذا الوصف الثابت يلازم وصف المخلصين، لأنه اذا علمنا بأنه ما من شيء الا وهو نعمة من الله تعالى فقد ((بان ان الشكر المطلق هو ان لا يذكر العبد شيئاً -- وهو نعمة - الا وذكر الله معه ولا يمس شيئاً - وهو نعمة - الا ويطيع الله فيه - لأن الطاعة حقيقة الشكر فهو دائم الشكر والذكر- ، فقد تبيّن ان الشكر لا يتم الا مع الإخلاص لله سبحانه علماً وعملاً، فالشاكرون هم المخلصون لله، الذين لا مطمع للشيطان فيهم، ويظهر هذه الحقيقة مما حكاه الله تعالى عن ابليس، قال تعالى {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (ص:82-83) فلم يستثن من اغوائه أحداً الا المخلصين، وقال تعالى {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف:16-17) فقد بدّل المخلصين بالشاكرين، وليس

ص: 202

الا لأن الشاكرين هم المخلصون الذين لا مطمع للشيطان فيهم، لأن الشاكر متعلق بالله تعالى ولا مطمع له في سواه تبارك وتعالى وبذلك فقد سدَّ على الشيطان منافذ اغوائه وإضلاله فكان من المخلصين، واتحدّ الشاكر والمخلص في المصداق وان اختلفا في المفهوم. اما المنقلبون فهم الذين قال عنهم إبليس {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف: 17) ((وإن المقابلة بين الشاكر والمنقلب تشير إلى أن الثبات محصول الشكر وأن تثبيت كل فرد لموقعه الايماني يُعدُّ سبباً لارتقائه في درجات الشكر، ومن هنا يمكننا معرفة خطورة الشكر، وهذا الاهتمام هو الذي أدى الى التصريح بلفظ الجلالة في الآية بينما كان يمكن الاكتفاء باستعمال الضمير))(1) وكذا لم تذكر ماهية الجزاء للاشعار بعظمته وأنه يفوق التصور.روى ابن هشام في السيرة (انتهى أنس بن النضر- عم انس بن مالك وبه سمي - إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد القوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قتل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، قال: فماذا تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل)(2) .

والظاهر ان الانقلاب في الآية هو الرجوع عن الدين الى الكفر وليس مجرد الفرار من المعركة كما في آيات آخر كقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} (آل عمران:149) وقوله تعالى {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ30

ص: 203


1- تفسير تسنيم للجوادي الآملي: 15/ 654
2- السيرة النبوية لابن هشام: 3/ 30

عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} (الأنعام : 71) وقوله تعالى {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} (البقرة : 143)، وقد وصفت آية أخرى هذه الحالة بأنها كانت بسبب عدم استقرار الايمان في قلوبهم عودة إلى الجاهلية تعرضوا لها بسبب وفاة أو قتل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال تعالى {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} (آل عمران:154). هذا هو حال الكثير من الصحابة الذين كانوا مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يوم أحد، قال ابن هشام في بيان ما نزل من القرآن في معركة أحد بعد أن ذكر هذه الآية (({أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ) رجعتم عن دينكم كفاراً كما كنتم، وتركتم جهاد عدوكم ، وكتاب الله، وما خلف نبيّه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من دينه معكم وعندكم، وقد تبيّن لكم فيما جاءكم به أعني أنه ميت ومفارقكم {وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ} أي يرجع عن دينه {فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} أي ليس ينقص ذلك عز الله تعالى ولا ملكه ولا سلطانه ولا قدرته، {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} أي من اطاعه وعمل بأمره))(1) .

والآية وان نزلت في حادثة وقعت الا انها تتحدث عن حالة انقلابية مستقبلية أيضاً شارك فيها جمع ممن انقلب على عقبيه يوم أحُد ولم تستطع السنوات التالية من مصاحبة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من القضاء على ادران الجاهلية في قلوبهم، فكان ما وقع يوم أحُد تدريباً وإعداداً للمسلمين لكي يتحملوا تلك الصدمة الحقيقية ويتخذوا الموقف الحازم الذي أمرهم الله تعالى به، فيحذرهم من الانقلاب على51

ص: 204


1- السيرة النبوية لابن هشام: 3/ 51

الاعقاب عند موت أو قتل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والا فان المسلمين فرّوا من المعارك في مرات عديدة وان آياتٍ أخر ذكرت الفرار من دون هذه التعابير كقوله تعالى في هزيمتهم يوم حنين {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} (التوبة:25) .بل يخبرهم أَن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) اذا مات أو قتل فعلاً في الزمان الآتي فأنكم ستنقلبون على اعقابكم وترجعون عن طاعة ما أمر به ربكم، والفرق ان ما وقع يوم أحُد من بعضهم كان ارتداداً عن الدين كما صرحوا في كلماتهم اما انقلابهم عند موت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فعلاً فهو في الدين وليس عن الدين والكفر به كفر بالنعمة التي أنعم الله تعالى بها بإكمال الدين بالولاية لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، واستعمال صيغة الماضي {انقَلَبْتُمْ} لافادة التحقق القطعي كما في الحكاية عن أحداث يوم القيامة بصيغة الماضي، وقد حذرهم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من هذا الانقلاب في يوم الغدير حين أمر المسلمين ببيعته ولياً لأمورهم بعده، فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (معاشر الناس أنذركم اني رسول الله إليكم قد خلت من قبلي الرسل، {أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} ، الا وان علياً هو الموصوف بالصبر والشكر، ثم من بعده ولدي من صلبه)(1) .50

ص: 205


1- نور الثقلين: 1/ 253 ح 386 عن الاحتجاح: 1/ 150

وقال في الحديث المشهور لدى الفريقين (ستفترق أمتي بعدي ثلاث وسبعين فرقة)(1) .وقد وقع هذا الانقلاب باتفاقهم على اقصاء من نصبه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إماماً وخليفة من بعده، وأشار أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى هذا الرجوع على الاعقاب بقوله في خطبة الوسيلة (حتى إذا دعا الله عز وجل نبيه ورفعه اليه، لم يك ذلك بعده إلا كلمحة من خفقة، أو وميض من برقة، الى أن رجعوا على الأعقاب ، وانتكصوا على الأدبار، وطلبوا بالأوتار، وأظهروا الكتائب، وردموا الباب، وفلوا الديار، وغيروا آثار رسول الله، ورغبوا عن أحكامه، وبعدوا من أنواره، واستبدلوا بمستخلفه بديلا، اتخذوه وكانوا ظالمين، وزعموا أن من اختاروا من آل أبي قحافة أولى بمقام رسول الله ممن اختار رسول الله لمقامه، وأن مهاجر آل أبي قحافة خيرٌ من المهاجري الأنصاري الرباني ناموس هاشم بن عبد مناف)(2).

وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حديث طويل (وليس كل من أقرَّ أيضاً من أهل القبلة بالشهادتين كان مؤمناً، ان المنافقين كانوا يشهدون ان لا اله الا الله وان محمداً رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ويدفعون أهل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بما عهد به من دين الله وعزائمه وبراهين نبوته إلى وصيه، ويضمرون من الكراهية لذلك والنقض لما أبرمه منه عند امكان الأمر لهم فيه بما قد بيّنه الله لنبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بقوله {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ})(3) .03

ص: 206


1- بحار الأنوار: ج 28 / ص 4 عن الخصال: 585، كنز العمال للمتقي الهندي: 1/ 210، الدر المنثور:2/ 290، دلائل النبوة للبهيقي:6/ 288
2- نور الثقلين: 1/ 252 ح 384 عن روضة الكافي: 8/ 29، ضمن حديث 4
3- نور الثقلين:1/ 253 ح 388 عن الاحتجاج: 1/ 103

وطبّقت السيدة الصديقة فاطمة الزهراء (علیها السلام) الآية الكريمة على فعلهم فقالت في خطبتها لما سلبوها فدكاً وانتهكوا حرمة دارها (أتقولون مات محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فخطب جليل استوسع وهنه واستنهر فتقه وانفتق رتقه وأظلمت الأرض لغيبته وكسفت الشمس والقمر وانتثرت النجوم لمصيبته وأكدت الآمال وخشعت الجبال وأضيع الحريم وأزيلت الحرمة عند مماته فتلك والله النازلة الكبرى والمصيبة العظمى لا مثلها نازلة ولا بائقة عاجلة أعلن بها كتاب الله جل ثناؤه في أفنيتكم وفي ممساكم ومصبحكم يهتف في أفنيتكم هتافا وصراخا وتلاوة وإلحانا ولقبله ما حل بأنبياء الله ورسله حكم فصل وقضاء حتم : {وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ})(1).وقوله تعالى {فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) مطلق ينفي كل اشكال ومراتب الاضرار والتأثير، فهذا وعد من الله تعالى بأن كل اشكال الانقلابات لا تضرّ الله شيئاً لذا نرى ولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بقيت ثابتة وظل عَلمُهم خفاقاً رغم كل الظلم والاضطهاد والقتل والتعذيب الذي انزله الطغاة بهم وبشيعتهم {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف:128) {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الأنعام : 45).03

ص: 207


1- نور الثقلين: 1/ 253 ح 387 عن الاحتجاج : 1/ 103

ملحق: ماذا خسرت الأمة حينما ولّت أمرها من لا يستحق(1)

*ملحق: ماذا خسرت الأمة حينما ولّت أمرها من لا يستحق(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

الحمد لله الذي هدانا لهذا, وما كنّا لنهتدي؛ لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق؛ والحمد لله الذي جعلنا من الموفين بعهده, وميثاقه الذي واثقنا به, من ولاية ولاة أمره والقوّام بقسطه، ولم يجعلنا من الجاحدين المكذبين بيوم الدين، وصلى الله على رسوله والأئمة الميامين من آله وسلم تسليماً كثيراً.

رزية الخميس:

كانت وفاة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يوم الاثنين, الثامن والعشرين من صفر على ما هو المشهور(2)، فتكون رزية يوم الخميس كما سماه عبد الله بن عباس(3), يوم الرابع والعشرين من صفر - أي في مثل يوم أمس-، وكانت رزية حقاً؛ إذ انقطع في ذلك اليوم آخر أمل لتمسك الأمة بوصية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في الإمام والخليفة من بعده، وأعلنوا معارضتهم الصريحة والواضحة لهذا التعيين، لذلك قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)

ص: 208


1- محاضرة ألقاها سماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على حشد من فضلاء وطلبة الحوزة العلمية, يوم: 25/ صفر/1423ه-- المصادف: 8/آيار/2002م, في مسجد الرأس الشريف, مجاور الصحن الحيدري المطهر, بمناسبة ذكرى وفاة رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).
2- بحار الأنوار- المجلسي: 22/ 534.- تأريخ الطبري- الطبري: 2/ 197.- سيرة بن هشام- ابن هشام: 4/ اليوم الذي قبض الله تعالى فيه نبيه الأكرم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).
3- أنظر: بحار الأنوار- المجلسي: 30/ 531 - المراجعات- السيد شرف الدين: 352._ وتأريخ الطبري أيضاً المجلد الثاني السنة الحادية عشر.

لأهل بيته: (أنتم المستضعفون بعدي)(1)، وأوصى أمته بهم خيراً، ولو كان يعلم أن الأمر يؤول إليهم لما احتاج إلى الوصية بهم، وفي حديث للإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يُعبر فيه عن ألمه العميق من تضييع الأمة لبيعة يوم الغدير ولحق أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فيقول: (أحدكم يشهد له شاهدان بحق, فيأخذ بحقه، وإن جدي أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) شهد له يوم الغدير بحقه ستون ألفا, ولم يقدر على الأخذ بحقه)(2).

النزاع بين الخط الإلهي والخط البشري:

ولا أُريد أن أناقش أسباب هذا التضييع, وإهمال الأمة؛ لهذا الحق, الذي أخذه الله على كل المؤمنين، - فلهذه المناقشة محل آخر-، لكنني أعتقد أن أحد هذه الأسباب, والذي لا زال في ذهن الناس مما يقلّل من وعي خطورة هذا التضييع هو القصور في فهم النزاع، فقد فهموه على أنه نزاع بين شخصين، هما علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ومن نازعه الأمر.

فهم لا ينكرون فضل علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وسابقته, وجهاده, وعلمه, وقربه من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وشجاعته, وفناءه في الله؛ لكنهم يرون أن المُقابل أيضاً من السابقين إلى الإسلام, وثاني اثنين, إذ هما في الغار, وصهر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وبدريّ, وأحديّ.

بل حاولوا تلفيق بعض المناقب ليساووه بأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), أو يقتربوا منه

ص: 209


1- معاني الأخبار- الشيخ الصدوق: 79- الإرشاد- الشيخ المفيد: 1/ 184.
2- نهج الإيمان- بن جبر (من أعلام القرن السابع)- تحقيق السيد أحمد الحسيني: 577.

(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وإزاء هذه المقارنة, لم يجدوا المسألة مهمة بهذه الدرجة, ولا تستحق أن ينشق المسلمون إلى طائفتين عظيمتين، ولا جدوى في البحث فيها, فقد أكل عليها الدهر وشرب.ولو فهموها بصورتها الصحيحة, لغيروا عقيدتهم، ولما وجدوا أي تردد في قبول المذهب الحق؛ لأن الخلاف ليس بين شخصين - وإن كان بحد ذاته دليلاً كافياً لسمو علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على غيره كسموّ الثريا على الثرى- وإنما بين مبدأين وخطين كان علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) رمز الأول, ومنافسه رمز الثاني.

الخط الأول: مبدأ وخط رسمه الله تبارك وتعالى خالق السموات والأرض العالم بخفيات الأمور, وبواطن النفوس, وبما كان وسيكون، واختاره للأمة, لتصل إلى كمالها المنشود، وبلّغه رسوله الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في يوم الغدير.

يقف في أول الخط, علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، ومن بعده الحسنان(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سبطا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، ومن بعدهما الأئمة الطاهرون(عَلَيْهِ السَّلاَمُ), الذين أطبقت الأمة على نزاهتهم, وعلمهم, وتمثيلهم الكامل للشريعة الإلهية، ومن بعدهم العلماء العارفون, الأتقياء الصالحون, حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

الخط الثاني: خطٌّ يصنعه البشر, بأهوائهم, وأساليبهم الشيطانية, من قهر وإذلال, أو إغراء بالمال, أو ظلم وتعسف, أو تضليل وتمويه وادعاءات باطلة، وكان الآخر رأس هذا الخط, فقد اختارته قريش -كما يقول الخليفة الثاني- وليس الله الذي اختاره.

ويتتابع على هذا الخط, معاوية ابن أبي سفيان, الذي يقول: (إني والله ما

ص: 210

قاتلتكم لتصلوا, ولا لتصوموا, ولا لتحجوا, ولا لتزكوا, إنكم لتفعلون ذلك. وإنما قاتلتكم, لأتأمر عليكم, وقد أعطاني الله ذلك, وأنتم كارهون)(1). ومن بعده يزيد بن معاوية, شارب الخمر على منابر المسلمين, والذي أحرق الكعبة بالمنجنيق, وقتل ريحانة رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)(2).

ومن بعده الآخرون, الذين سفكوا الدماء وهتكوا الأعراض ونشروا الفساد وضلّوا وأضلّوا {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} (الأعراف:38).

مع الوعي في الطرح:

عندما تعرض المقارنة بهذا الشكل، ولو استوعبها الصحابة والأجيال جميعاً, بهذا الشكل, لما ترددوا في الإيمان بصحة الخط الأول, والتمسك به، على أنهم غير معذورين من أول الأمر، لأن القرآن صريح {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} (الأحزاب:36)، وقال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتعالى عَمَّا يُشْ-رِكُونَ} (القصص:68)، بل إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نفسه لم يكن له هذا الحق, حينما عرض عليه بنو عامر

ص: 211


1- مقاتل الطالبيين- أبو الفرج الأصفهاني: 45.
2- أن يزيد بن معاوية أول من سن الملاهي في الإسلام من الخلفاء, وآوى المغنين, وأظهر الفتك, وشرب الخمر. الأغاني- أبو فرج الأصفهاني: 17/ 301.- وللمزيد أنظر: تأريخ الطبري المجلد الثالث- سيرة الأئمة- هاشم معروف الحسني: 2. منتهى الآمال- عباس القمي: 1/الباب الخامس.- معالم المدرستين- مرتضى العسكري: 5/يزيد في أفعاله وأقواله.

أن يسلموا مقابل أن يجعل لهم الأمر من بعده، فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء)(1), وفي رواية أخرى(ان الله تعالى اختارني وأهل بيتي عن جميع الخلق, فانتجبنا, فجعلني الرسول, وجعل علي بن أبي طالب الوصي، ثم قال: ما كان لهم الخيرة, يعني ما جعلت للعباد ان يختاروا, ولكني اختار من أشاء, فأنا وأهل بيتي صفوة الله وخيرته من خلقه)(2).ومحل الشاهد, أني اعتقد, أن طرح الموضوع بهذا الشكل يكون أجدى وأوضح.

ماذا خسرت الأمة؟

ولكي نزيده وضوحاً نطرح سؤالاً، وهو: ماذا خسرت الأمة, بتضييعها وصية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في الخليفة من بعده؟؛ وماذا ترتب على هذا الإهمال من نتائج سلبية؟

وحينما أتناول هذا البحث, فإني لا أريد فقط أن أناقشها كقضية تأريخية، وإن كانت من الأهمية بمكان؛ لابتناء أصل من أصول الدين, وهو أصل الإمامة عليها.

ولكن الذي أريده, هو الاستفادة من هذا الدرس, واستخلاص العبرة؛ لأن الإمامة بالحمل الأولي, وإن كانت مختصة بالأسماء المعينة, إلا أنها بالحمل

ص: 212


1- السيرة النبوية- ابن هشام: 1/ 425, من طبعة مصطفى البابي. وفي طبعة المدني: 2/ 289.- تاريخ الطبري- الطبري: 2/ 35.- سير أعلام النبلاء- الذهبي: 1/ 35.
2- مناقب آل أبي طالب- ابن شهر آشوب: 1/ 220.

الشايع - أعني النيابة العامة عن الإمام, وولاية أمر المسلمين, المتمثلة بالمرجعية الشريفة الجامعة لشروط القيادة- مستمرة إلى أن يرث الأرض ومن عليها الإمام المنتظر(عج). فإذن يبقى باب هذه النتائج السلبية التي سنتعرض لها, بإذن الله تعالى, مفتوحاً لها كلها, أو بعضها, كلما ولت الأمة أمرها إلى من لا يستحق، فيكون من الضروري الالتفات إليها, فنعود إلى أصل السؤال:

وهو ماذا خسرت الأمة عندما ولّت أمرها غير صاحب الحق الشرعي؟

وماذا ترتّب على ذلك من نتائج سلبية؟

النتائج الوخيمة لتولي غير المؤهلين لإمامة الأمة

النتيجة الأولى: تصدي غير المؤهلين للإمامة:

فمن المعلوم أن أية رسالة, وأية آيديولوجية - بتعبير اليوم - لا بدَّ أن يكون حاملها مستوعباً لها بشكل كامل, فهماً وتطبيقاً، بحيث تكون هذه العقيدة, هي الموجهة له في كل سلوكه, وتصرفاته, وأفكاره, وعلاقاته, ولم يكن القوم كذلك، وإنما هم أناس عاديون, كبقية أفراد المجتمع، ويوجد كثير غيرهم ممن استوعب الرسالة وجسَّدها في حياته خيراً منهم.

وقد كانوا يعترضون على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حياته ويتمردون على أوامره(1), حتى آخر حياته؛ بتخلفهم عن جيش أسامة(2)، وعدم تلبية أمره (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)

ص: 213


1- أنظر: بحار الأنوار- المجلسي: 30/ 531 - المراجعات- السيد شرف الدين: 352.
2- السيرة النبوية لابن هشام: ج4/ أمر الرسول بإيفاد بعث أسامة.

حينما طلب قرطاساً في رزية يوم الخميس(1).وكانت الجاهلية تعيش في نفوسهم، حيث قضوا أكثر أعمارهم فيها، وقد كشف عن عدم أهليتهم, جهلهم, وتخبّطهم في الأمور، ويصف أمير المؤمنين إمرتهم المنحرفة في الخطبة الشقشقية: (فَيَا عَجَبا بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا(2), فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لآِخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا(3)! فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كُلاَمُهَا(4), وَيَخْشُنُ مَسُّهَا. وَيَكْثُرُ الْعِثَارُ(5), فِيهَا. وَالاعْتِذَارُ مِنْهَا. فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ(6), إِنْ أَشْنَقَ(7), لَهَا خَرَمَ. وَإِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ(8), فَمُنِيَ النَّاسُ لَعَمْرُ اللَّهِ بِخَبْطٍ(9), وَشِماسٍ(10), وَتَلَوُّنٍ وَاعْتِرَاضٍ(11))(12).

حتى قال الثاني: (كل الناس أفقه من عمر, حتى ربات الحجال)(13), بعد أن2.

ص: 214


1- أنظر: الطبقات الكبرى- ابن سعد: 2/ 242. بحار الأنوار- المجلسي: 30/ 531 - المراجعات- السيد شرف الدين: 352._ وتأريخ الطبري أيضاً ج12/ السنة الحادية عشر.
2- يَسْتَقِيلها: يطلب إعفاءه منها.
3- تشطرا ضرعيها: اقتسماه فأخذ كلّ منهما شطراً، والضرع للناقة كالثدي للمرأة.
4- كَلْمُها: جرحها، كأنه يقول: خشونتها تجرح جرحاً غليظاً.
5- العِثار: السقوط والكَبْوَةُ.
6- الصّعْبة من الابل: ما ليستْ بِذَلُول.
7- أشْنَقَ البعير وشنقه: كفه بزمامه حتى ألصق ذِفْرَاه (العظم الناتىء خلف الاذن) بقادمة الرحل.
8- تَقَحّمَ: رمى بنفسه في القحمة أي الهلكة.
9- خَبْط: سير على غير هدى.
10- الشِّماس - بالكسر -: إباء ظَهْرِ الفرسِ عن الركوب.
11- الاعتراض: السير على غير خط مستقيم، كأنه يسير عَرْضاً في حال سيره طولاً.
12- شرح نهج البلاغة- ابن أبي الحديد: 1/ 151.
13- شرح نهج البلاغة- ابن أبي الحديد: 1/ 182.

نهى عن زيادة المهر عن حد معين، فأجابته امرأة: أما سمعت قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} (النساء:20).وقد أشكلت عليهم الكثير من المسائل, حتى الاعتيادية منها(1), التي كانت تتكرر في حياة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كالصلاة على الجنائز، ولما سئل الثاني عن سبب قلة استفادتهم من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (ألهانا الصَّفْقُ بالأسواق)(2)، وكانوا يشككون حتى بنبوة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعصمته، فيقول له أحدهم وجهاً لوجه: (أنت الذي تزعم أنك رسول الله)(3)، أو يقولون عنه: (إن الرجل ليهجر)(4).

الإعداد النبوي للخليفة الحق:

في مقابل ذلك كان هناك شخص, يعدّه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), إعداداً خاصاً, لكي يتسلم هذا الموقع، ذاك هو علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فاستمع إليه يتحدث عن هذه التربية الخاصة: (وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بِالْقَرَابَةِ الْقَريبَةِ، وَالْمَنْزِلَةِ الْخَصيصَةِ، وَضَعَني في حِجْرِهِ وَأَنَا وَلَدٌ، يَضُمُّني إِلى صَدْرِهِ، وَيَكْنُفُني في فِرَاشِهِ، وَيُمِسُّني جَسَدَهُ، وَيُشِمُّني عَرْفَهُ, وَكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْ ءَ ثُمَّ يُلْقِمُنيه، وَمَا وَجَدَ لي كَذْبَةً في قَوْلٍ، وَلاَ خَطْلَةً في فِعْلٍ).. إلى أن قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):

ص: 215


1- أنساب الأشراف- البلاذري: 1/ 100.- الفتح الرباني- الإمام الشوكاني: 8/ 800.
2- كنز العمال- المتقي الهندي: 2/ 569.- إتحاف المهرة- ابن حجر العسقلاني: 12/ 322.
3- الأمالي- الشيخ الصدوق: 254.- مسند أبي يعلى- أبو يعلى الموصلي: 12/ 229.
4- الطبقات الكبرى- ابن سعد: 2/ 242.- صحيح البخاري- البخاري: 1/ 34/ح114.

(وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لي في كُلِّ يَوْمٍ عَلَماً مِنْ أَخْلاَقِهِ، وَيَأْمُرُني بِالاِقْتِدَاءِ بِهِ, وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ في كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ، فَأَرَاهُ وَلاَ يَرَاهُ غَيْري, وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلاَمِ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وَخَديجَةَ, وَأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسالَةِ، وَأَشُمُّ ريحَ النُّبُوَّةِ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّهَ الشَّيْطَانِ, حينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: هذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرى مَا أَرى، إِلاَّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ، وَلكِنَّكَ وَزيرٌ، وَإِنَّكَ لَعَلى خَيْرٍ)(1). وفي نهاية خطبة مماثلة أخرى يسأل(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مستنكراً: (فَمَنْ ذَا أَحَقُّ بِهِ مِنّي, حَيّاً وَمَيِّتاً؟)(2).

آثار خطيرة:

هكذا كان يتم تهيئة الإمامة البديلة، أما هؤلاء, فلم يتلقوا شيئاً من ذلك، لذا فقد أفرز تصدي هؤلاء غير المؤهلين عدة آثار خطيرة:

1-تشوّه صورة الإسلام نفسه؛ لأن كثيراً من الأمم والشعوب دخلت الإسلام بعد رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فهي لم تأخذه من مصدره، وإنما نقل لها عبر كلام وسلوك أصحابه، ولما كان هؤلاء غير مؤهلين لتمثيل الإسلام بصورته النقية الكاملة, ولم يعرف المسلمون الجدد غير هذه الصورة المعروضة أمامهم فَتَبنّوها على أنها الإسلام الحقيقي، وتزايد هذا البعد عن الإسلام بمرور الزمن، حتى

ص: 216


1- نهج البلاغة- الشيخ محمد عبده: 2/ 157.
2- نهج البلاغة- الشيخ محمد عبده: 2/ 171.

صرتَ ترى أقواماً لا تفقه من الإسلام شيئاً غير الاسم وبعض الشكليّات.2-تجرّي أعداء الإسلام خصوصاً اليهود عليه، وما كانوا يستطيعون أن يظهروا شيئاً منه في عهد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، لعدم وجود ثغرة يمكن أن يدخلوا منها، أما وقد تصدّى لهذا الموقع العظيم ناس غير مؤهلين لهذا الموقع، ويمكن التغلب عليهم وإحراجهم، فمن السهولة إذن هزّ ثقة المسلمين بدينهم, بتكرر الفشل من قادتهم.

وبالنتيجة تخليهم عن هذا الدين، فلم يكن من الغريب حصول هذه الهجمة العنيفة من الامتحانات العسيرة والمتنوعة, التي أحرج بها اليهود الخليفة الاول, والثاني, وتزعزعت ثقة المسلمين, وشعروا بالإحباط، وكادوا يرتدون لولا وجود أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالمرصاد، الذي كان يجيبهم على كل أسئلتهم ويردّ كيدهم إلى نحورهم(1).

3-انفتاح باب الطمع بهذا المنصب الشريف, لكلّ محبي الرئاسات, والجاه, واتباع الهوى، بعد أن أصبح نيله ليس بالاستحقاق, وفق معايير الرسالة، وإنما هو لمن غلب وقهر, ولو بالسيف، حتى أصبح مستساغاً أن يولي معاوية ابنه يزيد, المعروف بالفسق, والفجور, على رقاب المسلمين.

النتيجة الثانية: فتح باب الاجتهاد مقابل النص:

أي الحكم والتشريع بالآراء الشخصية, خلافاً للنص الإلهي الحكيم، وهو

ص: 217


1- أنساب الأشراف- البلاذري: 1/ 100.- الفتح الرباني- الإمام الشوكاني: 8/ 800.- الغدير- الاميني: 7/ 177.

يعني أن الإنسان يُنصّب نفسه مشرعاً, وإلهاً, يُطاع في مقابل ألوهيّة الله تبارك وتعالى, الذي هو وحده له حق التشريع والحاكمية، وهو ما رفضه الله تبارك وتعالى, رفضاً قاطعاً، وجعل كل حكم وتشريع ليس مستنداً إلى الشريعة المقدسة, جاهلية، فقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (المائدة:44)، وفي آية أخرى {الظَّالِمُونَ} (المائدة:45)، وفي ثالثة {الْفَاسِقُونَ} (المائدة:47).وكان من شروط الإيمان الكامل: التسليم, والإذعان, لحكم الله تعالى {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء:65)، لكن القوم فتحوا باب الاجتهاد واسعاً، ولم يكترثوا كثيراً للنص الشرعي لعدة أسباب:

1-جهلهم, وعدم اطلاعهم الكامل على أحكام الشريعة، فراحوا يستنبطون من أنفسهم, ما يسدّ نقصهم.

2-لأجل المحافظة على الأغراض, والمصالح التي أرادوها, فلا بد من تعطيل النصوص, التي تتعارض مع المنهج الذي اختطوه، وتبرير الأفعال المخالفة بصراحة لحكم الله تبارك وتعالى.

3-تغييب الممثل الحقيقي واللسان الناطق بالشريعة.

وقد عطل هذا الاجتهاد الكثير من التشريعات, التي كانت مصدر خير للأمة، ومنها الزواج المؤقت, الذي قال عنه أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لولا نهي فلان عن

ص: 218

المتعة, ما زنى إلا شقي)(1). وبالمقابل برّر هذا الاجتهاد أشنع المنكرات، فمثل مالك بن نويرة(2) الذي شهد له رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالجنة يُقتل، ويدخل خالد بزوجته في نفس الليلة، ويأتي جواب الخلافة ببرود: (تأوّل خالد فأخطأ)(3).

ويخرجون لقتال إمام زمانهم بكل المقاييس التي عندهم في معارك طاحنة في الجمل, وصفين(4)، وكله اجتهاد يؤجرون عليه وإن أخطأوا فلهم أجر واحد.

وقد تأصل هذا الاجتهاد فيما بعد, وتعمق، ووضعوا له أصولاً وقوانين، وأصبحت مذاهب في مقابل مذهب الحق.

النتيجة الثالثة: عرقلة تربية الأمة وتكاملها:

فقد شاءت الإرادة الإلهية, أن تنقذ البشرية بهذه الرسالة المباركة من حضيض الجاهلية النكدة, إلى سمو التوحيد, وطهارة الإيمان, وسعادة الدارين،

ص: 219


1- الكافي- الشيخ الكليني:5/ 448.
2- مالك بن نويرة, الحنفي, اليربوعي, من أرادف الملوك, ومن شجعان عصره, وفصحائهم, وكان من أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), ومن خُلّص أصحاب أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، انتظر بقومه بعد وفاة الرسولص إلى أن يتبين موقف أمير المؤمنينع فأرسل أبو بكر إليهم خالد بن الوليد فغدر بهم وقت الصلاة وأمر بقتل مالك حين رأى جمال امرأته. الكنى والألقاب- الشيخ عباس القمي: 1/ 42.
3- الطبقات الكبرى, متمم الصحابة, الطبقة الرابعة- ابن سعد:535.- أسد الغابة- ابن الأثير: 2/ 95.- البداية والنهاية- ابن كثير: 6/ 354.
4- الفصول المهمة في معرفة الأئمة- ابن الصباغ: 1/ 348.- تاريخ الطبري- الطبري: 3/ 543.- الكامل في التاريخ- ابن الأثير: 3/ 276.

وقد قُدر لهذه المسيرة أن تتكامل, لتنشأ أمة, متكاملة, على يد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), والأئمة المعصومين من آله، لكن إبعاد الأئمة(عَلَيْهِ السَّلاَمُ), عن موقع قيادة المجتمع, أدى إلى عرقلة هذه المسيرة, وبطئها, من عدة جهات:1-إن من العناصر المهمة في التربية, هو القدوة, والأسوة الحسنة, على تعبير القرآن؛ لأنه يُمثل التطبيق للأفكار التربوية، فإذا غاب القدوة, أو كان القدوة منحرفاً, فلا ينفع الكلام مهما كثر، ويبقى مجرد حبر على ورق.

والقوم لم يكونوا يمثلون قدوة حسنة، ولم يستطيعوا عكس صورة نقية للسلوك الإسلامي، بل إنه على مرور الأيام كان النموذج المعروض مناقضاً تماماً لتعاليم الإسلام، فكيف نتوقع منه أن يربي الأمة ويقودها نحو التكامل؟

ففي حين يقرأ المسلم في أخلاق الإسلام (وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى)(1), يجد في التعامل تفضيل العرب على غيرهم, الذين يسمونهم الموالي، ويعتبرونهم مواطنين من الدرجة الثانية، وبينما يقرأ في القرآن {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (الشورى:23), يجد الخلافة تُلاحق أهل بيت النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), تحت كل حجر ومدر, قتلاً, وتشريداً, وسجناً، وبينما يقرأ حرمة شرب الخمر في القرآن, يجد حاكم المسلمين يشربه على منابر المسلمين, ويتقيأه في محرابهم(2).

2-فرص الانحراف الكثيرة التي توفرت للناس في ظل الخلافة2.

ص: 220


1- مسند احمد- احمد بن حنبل: 5/ 411.- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 34.
2- صحيح مسلم - مسلم النيسابوري: 3/ 331/ح38.- الفتوح- ابن أعثم الكوفي: 5/ 12.

المنحرفة، والنفس بطبيعتها ميالة للشهوات, مع غياب الرادع الذي يحصّن الأمة من الانحراف, وهم الذين عناهم الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (آل عمران:104). وقد بدأت هذه النفوس الأمارة بالسوء تظهر في أيام الخلافة الأولى, في وقت مبكر، وبدأت الدنيا تنمو في قلوبهم، وأصبحت هذه الامتيازات, والمصالح, واقعاً ثابتاً, لا يرضون بتغييره، بحيث أن عبد الرحمن بن عوف, الذي جُعل حكماً في أمر تعيين الخليفة, من بين الستة أهل الشورى, يشترط على عليٍّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن يبايعه بشرط, أن يعمل بكتاب الله وسنة نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وسيرة الشيخين(1).

فما هي: سيرة الشيخين التي يضمّها عبد الرحمن إلى كتاب الله, وسنة رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)؟

إنها: هذه الامتيازات الطبقيّة, وهذه الدنيا المحضة, التي وفرتها لهم الخلافة الأولى، بحيث أن عبد الرحمن(2), هذا وأمثاله, كزيد بن ثابت(3) وغيرهم, تركوا من الذهب ما يُكسّر بالفؤوس - حسب ما ينقل التأريخ- ولم يكن أمير4.

ص: 221


1- بحار الأنوار- المجلسي: 31/ 399.
2- في الطبقات الكبرى: (إنّ عبد الرحمن بن عوف تُوفّي، وكان فيما ترك ذهبٌ؛ قُطّع بالفؤوس حتى مَجِلَت - أي ثخُن جلدُها وظهر فيها ما يشبه البَثَر من العمل بالأشياء الصلبة الخشنة- أيدي الرجال منه. وترك أربع نسوة، فأُخرجت امرأة من ثُمنها بثمانين ألفاً). الطبقات الكبرى- ابن سعد: 3/ 136.- أُسد الغابة- ابن الأثير: 3/ 480.- البداية والنهاية- ابن كثير: 7/ 164.
3- قال المسعودي: (خلف من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس, غير ما خلف من الأموال, والضياع, بقيمة مائة ألف دينار). مروج الذهب:1/ 434.- الغدير- الأميني: 8/ 284.

المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ), ليوافق على هذا الشرط, فيكون منه إمضاءً, واعترافاً, بهذه السيرة؛ لأن هذه السيرة, إن كانت موافقة للكتاب والسنة, فلا داعي لذكرها، وإن كانت مخالفة, فارمِ بها عرض الجدار، فما الوجه لضمِّها إلى أصلَي التشريع.3-الصورة المشوهة للشريعة, التي كانت معروضة للأمة, من خلال العلماء, والرواة, المتزلفين للخلفاء, والطامعين بما في أيديهم، فكيف نتوقع من شخص لم يشاهد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), ولم يطّلع على مواقف علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مباشرة, أن يوالي علياً, ويتبعه، وهو يسمع صحابيّاً يروي, أن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: إن الآية الشريفة: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ 204 وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} (البقرة:205) نزلت في عليّ بن أبي طالب(1).

فلا نتوقع من أغلب المسلمين في الأرض, إلا أن يحملوا هذه الصورة المشوهة للإسلام، لأنهم لم يسمعوا غيرها، ولم يشاهدوا غيرها، فكان طبيعياً أن يعتقدوا جازمين, أن هذا هو الإسلام.

ومن هنا اقتضت الحكمة الإلهية, أن تُغيّب الإمام الثاني عشر(عج) هذه3.

ص: 222


1- (أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مئة ألف درهم حتى يضع حديثا في أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ 204 وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} {البقرة:205}, إنها نزلت في عليّ بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), وأن الآية الثانية, نزلت في ابن ملجم، وهي قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} {البقرة:207}، فلم يقبل، فبذل له مئتيّ ألف درهم فلم يقبل، فبذل له ثلاثمئة ألف فلم يقبل، فبذل له أربعمئة ألف فقبل، وروى ذلك). شرح نهج البلاغة- ابن أبي الحديد: 4/ 73.

المدة الطويلة, إلى أن يأذن الله تعالى له بالظهور، كل ذلك لتستمر تربية الأمة مدة أطول، ولتمر بتجارب, وابتلاءات, وتمحيصات أكثر، حتى تصل إلى مستوى النضج, والكمال المطلوب, الذي يؤهلها لمواصلة مسيرة الكمال مع الإمام المهدي(عج)، بينما لو قُدّر لهذه الأمة أن تتربى في أحضان الأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ), لوصلت إلى درجة الكمال قبل هذا التأريخ بكثير.

النتيجة الرابعة: تمزق الأمة وتشتتها:

وتفرقها شيعاً, وأحزاباً, {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم:23)، وهذه نتيجة طبيعية, للابتعاد عن الإمامة الحقيقيّة؛ لأن سر تشريع الإمامة, هو تحصين الأمة, من التمزق, والانحراف، كما قالت الزهراء (علیها السلام) في خطبتها الشهيرة بعد وفاة أبيها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (وَجَعَلَ إمَامَتَنَا نِظَاماً للمِلَّةِ)(1), أي تنتظم بها أمورهم وتستقر، وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} (آل عمران:103) {ولا تَنَازَعوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال:46)، وحبل الله الممّدود من السماء إلى الأرض, هما الثقلان, كتاب الله, وعترة رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) - كما بينتُ في شكوى القرآن(2)- مضافاً إلى أن هذا الموقع, بعد أن خرج عن مستقره, وأُبعد عنه أهله, أصبح مطمعاً لكل حالم به.

وشهوة التسلط أقوى الشهوات، وفيها استجابة للأنانية, واستكبار النفس، فمن

ص: 223


1- بحار الأنوار- المجلسي: 6/ 315.
2- أنظر: محلق القبس/109 {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القرآن مَهْجُورًا} {الفرقان:30} من نور القرآن:3/ 284.

الطبيعي أيضاً, أن تكثر الصراعات حول هذا المنصب، وتداس في خضم هذا الصراع كل القيم والأخلاق.وتكفي وقفة تأمل, واستطلاع بسيط للتأريخ, لنقرأ بكل أسف, وألم يفتت القلوب, المآسي التي جرَّها التنازع على السلطان، والخسائر الفادحة في الأنفس, والأعراض, والأموال, التي هدرت في هذا الصراع، فمن الذي يتحمل هذه المسؤولية؟

ومن الذي فتح هذا الباب على المسلمين؟

وماذا يجني من يُحدث هذا الفتق في أمة الإسلام؟

وخير معبر عن هذه الآلام, وهذه الخسائر, أحد الأدعية الواردة في لعن, أعداء آل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والبراءة منهم, إلى أن يقول: (اللهُمَّ اِلْعَنْهُمْ بِعَدَدِ كُلِّ مُنْكَرٍ أَتَوْه, وَحَقٍّ أَخْفَوْه, وَمَنْبَرٍ عَلَوْهُ, ومُنافِقٍ وَلَّوْه, وَمُؤْمُنٍ أَرْجوه, وَوَلِيٍّ آذَوْه, وَطَريدٍ آوَوْه, وصادِقٍ طَرَدوه, وكافِرٍ نَصَروه, وَإِمامٍ قَهَروه, وفَرْضٍ غَيَّروه, وَأَثَرٍ أَنْكْروه, وَشَرٍّ آثَروه, وَدَمٍّ أَراقوه, وَخَبَرٍ بَدَّلوه, وَحُكْمٍ قَلَّبوه, وُكُفْرٍ أَبْدَعوه, وَكَذَبٍ دَلَّسوه, وَإِرْثٍ غَصَبوه, وَفَيْءٍ اقْتَطَعوه, وَسُحْتٍ أَكَلوه, وَخُمْسٍ اسْتَحَلُّوه, وَباطِلٍ أَسَّسوه, وَجوْرٍ بَسَطوه, وظُلْمٍ نَشَروه, وَوَعْدٍ أَخْلَفوه, وَعَهْدٍ نَقَضوه, وَحَلالٍ حَرَّموه, وَحَرامٍ حَلَّلُوه, وَنِفاقٍ أَسَرُّوه, وَغَدْرٍ أَضْمَروه, وَبَطْنٍ فَتَقوه, وَضِلْعٍ كَسَروه, وَصَكٍّ مَزَّقُوه, وَشَمْلٍ بَدَّدُوه, وَذَليلٍ أَعَزوه, وَعَزيزٍ أَذَلُّوه, وَحَقٍّ مَنَعوه, وإِمامٍ خالَفوه، اللهُمَّ الْعَنْهُما, بِكُلِّ آيَةٍ حَرَّفوها, وَفَريضَةٍ تَرَكوها, وَسُنَّةٍ غَيَّروها, وَأَحْكامٍ

ص: 224

عَطَّلوها, وَأَرْحامٍ قَطَعوها, وَشَهاداتٍ كَتَموها, وَوَصِيَّةٍ ضَيَّعوها)(1).ولو شئنا لذكرنا أمثلة, وشواهد, على كل فقرة، لكنها مما لا تخفى على المطلع على التأريخ، فأي قلب لا يذوب أسىً, على ما سببه ذلك التضييع للحق الصريح؟!.

النتيجة الخامسة: عزل الدين عن إدارة الحياة بكل أبعادها وتفاصيلها:

واقتصاره على الطقوس التعبدية, والشؤون الفردية فقط، فإن القوم وإن استطاعوا بالترغيب والترهيب أن يسلبوا السلطة الدنيوية من الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، إلا إنهم لا يستطيعون بأي حال من الأحوال أن يسلبوا مكانته من القلوب, وهيبته في النفوس، ورجوع الناس إليه في شؤونهم الدينية.

هذا الانفصال الذي عبر عنه هارون الرشيد - كما يسمونه- لولده المأمون حينما استغرب من تكريمه للإمام الكاظم(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بما لا نظير له، فقال: (هذا إمام الناس، وحجة الله على خلقه، وخليفته على عباده فقلت: يا أمير المؤمنين أو ليست هذه الصفات كلها لك وفيك؟! فقال: أنا إمام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق، والله يا بني إنه لأحق بمقام رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مني، ومن الخلق جميعاً، ووالله لو نازعتني هذا الامر, لاخذت الذي فيه عيّناك، فان الملك عقيم)(2).

ص: 225


1- بحار الأنوار- المجلسي: 82/ 260.- المصباح- الكفعمي: 552.
2- بحار الأنوار- العلامة المجلسي: 48/ 131.

والإمام وإن سكت عن المطالبة بحقه في السلطة الدنيوية, من أجل حفظ الإسلام, وكيان المسلمين، إلا أنه لا يمكنه بأي حال من الأحوال التنازل لهم عن الإمامة الدينية, أو الاعتراف بهم, وإمضاؤهم كممثلين لهذه السلطة، فإن في ذلك خيانة لله ولرسوله وللإسلام، على أن هذا الحق لا يتصور التنازل عنه، فإنه ليس امتيازاً أو موقعاً حتى يتخلى عنه، بل هو علم لدنّي بالمعارف الإلهية, وما يرتبط بصلاح العباد، وقدرة وقابلية على تلبية احتياجات الأمة. فكل من كان قادراً على ذلك ووجدت الأمة حاجتها, وآمالها, وطموحاتها عنده, أصبح إماماً، وهكذا كان علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), فما سمعنا انه احتاج إلى أحد في شيء، بل على العكس كانوا يرجعون إليه, في مسائلهم ومشاكلهم وقراراتهم، حتى اشتهر قول الثاني: (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن)(1)، ولذا استدل بعضهم على إمامة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) باحتياج الناس إليه واستغنائه عن الناس(2).

وهذا الفصل بين السلطتيّن ترسخ وتعمق, وانعكس على الدين نفسه، فأصبح مرتكزاً في الأذهان, أن إدارة شؤون الحياة ليس من شؤون الإمامة الدينية، وأن دورها يقتصر على العبادات وبعض الأحكام الشخصية، والتقوا بذلك مع نظرة7.

ص: 226


1- انساب الأشراف- البلاذري: 100.- مناقب آل أبي طالب- ابن شهر آشوب: 1/ 311.- الفتح الرباني- الإمام الشوكاني: 8/ 800.
2- نسب الاستدلال إلى الخليل الفراهيدي (رحمه الله). أنظر: الأعلام من الصحابة والتابعين- حسين الشاكري: 8/ 6. وقريب من ذلك ما رويَّ عن الحارث بن المغيرة قال: (قلت لأبي عبد الله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): بأي شيء يُعرف الإمام؟ قال بالسكينة والوقار،... وتعرفه بالحلال والحرام، وبحاجة الناس إليه، ولا يحتاج إلى أحد) كتاب الغيبة- النعماني: 1/ 247.

الجاهلية, ومع مقولة: (ما لقيصر لقيصر، وما لله لله)(1)، وهذا هو الشرك بعينه، فإن الملك كله لله وحده, والحكم كله لله وحده، وما من واقعة إلا ولله فيها حكم(2). أترى أن الشريعة التي لم تغفل عن تنظيم أبسط التصرفات الحياتية، كالتخلي, والنوم, والاكل, والجماع, ووضعت لها أحكاماً, وآداباً، فهل تغفل عن وضع أنظمة, وقوانين, تنظم حياة المجتمع من جميع الجهات؟ وهذه حقيقة دامغة لا تقبل الشك، إلا أنهم لا يذعنون لها لعدة أمور:

1-إن الشريعة لا تنسجم مع أهوائهم, وأنانيتهم, وحبهم للاستئثار بالفيء, وسائر الامتيازات, وتتعامل مع الجميع على حد سواء.

2-إن تحكيم الشريعة فيه إظهار لجهلهم, وقصورهم, وتقصيرهم، وهو ما تأباه نفوسهم الأمارة بالسوء.

3-إن ذلك أيضاً, يعني احتياجهم للإمامة الدينيّة، وبالتالي يعني تفوق أولئك عليهم, واستحقاقهم لهذا الموقع بدلاً عنهم.

النتيجة السادسة: حدوث الانفصال بين الأمة والخلافة:

لأن الأمر لم يعد في نظر المتصدين, أمر إصلاح, وهداية, وتكميل النفوس, ونيل رضا الله تبارك وتعالى, حتى تتعلق بهم الأمة, وتهفو إليهم القلوب، بل زعامة, وملك, ومصالح, واستئثار, واستعلاء، وقد عبر عنه القوم من أول يوم, وهم

ص: 227


1- نص (إنجيل برنابا)- سيف الله أحمد فاضل: 76.
2- أنظر: جامع أحاديث الشيعة- السيد البروجردي: 1/ 134.

بعد في السقيفة فكان لسانهم: إنما السلطان سلطان قريش فلا ينازعنا فيه أحد(1)، وكانت المسألة أوضح بالنسبة للأقوام الأخرى, التي دخلت الإسلام، وقد أشعروهم بأن الخلافة ملك للعرب، فإذا كانت ملكاً عضوضاً, وهم المستفيدون منها, فما الذي يشد سائر قطاعات الأمة إليهم؟ وما الذي يحثهم على الدفاع عنهم؟ وما هي العلقة التي تربطهم بهم؟

بل على العكس, سادت روح الكراهية, والحقد, والانتقام, كما حصل لأبي لؤلؤة الفارسي, غلام المغيرة بن شعبة, الذي سأم من كثرة التعيير لقومه الفرس, والاستهزاء بهم، فثار لعنصريته ولعصبيته الجاهلية(2).

بالمقابل كان هناك علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):

كان علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وبنوه(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قد ملكوا القلوب، فاستجاب الله تعالى بهم دعوة جدهم إبراهيم {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} (إبراهيم:37), والذي لم تستطع الخلافة بكل جبروتها, أن تنتزعه منهم، وقضية هشام بن عبد الملك, واضحة في أذهانكم, عندما عجز عن الوصول إلى الحجر؛ لازدحام الناس، فتنحى إلى زاوية في البيت الحرام، وما أن قدم الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حتى انفرج عنه الناس سماطين، فمشى بكل وقار وهيبة, حتى وصل إلى الحجر

ص: 228


1- أنظر: الكامل في التاريخ- ابن الأثير: 2/ 329.- خلاصة عبقات الأنوار- حامد النقوي: 3/ 300.
2- أنظر: البداية والنهاية- ابن كثير: 7/ 127.- تاريخ الطبري- الطبري: 3/ 221.

الأسود، وهشام ينظر(1).وكان أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) رغم تواضعه بين أصحابه, حتى كأنه أحدهم, إلا أن له هيبة, عظيمة, في نفوسهم, كما وصفه ضرار بن ضمرة لمعاوية(2).

وذاب أصحابهم في حبهم, قربة إلى الله تعالى, ووفاء لجدهم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وعرفاناً لحقهم عليهم، وتحملوا في سبيل ذلك ما تقشعر منه الأبدان، فهذا ميثم بن يحيى التمار تُقطع يداه, ورجلاه, ويُصلب على جذع نخلة، فيَطلب من الناس الاجتماع, حتى يحدثهم بفضائل أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فلم يمهله5.

ص: 229


1- (أن هشام بن عبد الملك حج في بعض السنين فطاف حول البيت وحاول أن يلمس الحجر الأسود فلم يجد لذلك سبيلاً من كثرة الزحام.. وفي ما هو ينظر إلى الناس إذ أقبل الإمام زين العابدين وكان من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم أرَجاً.. فانفرج له الناس عنه ووقفوا له إجلالاً وتعظيماً حتى إذا استلم الحجر وقبله والناس وُقّفٌ ينظرون إليه وكأنما على رؤوسهم الطير فلما مضى عنه عادوا إلى طوافهم، هذا وهشام بن عبد الملك ومن معه من أهل الشام يرون كل ذلك ونفس هشام يعبث فيها الحقد والحسد.، وفي هذه الحادثة قال: الفرزدق أبياته المشهورة والتي مطلعها: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته هذا ابن خيرِ عادِ اللهِ كلهمُ والبيتُ يعرفهُ والحِ-لُّ والحرمً هذا التقي النقي الطاهر العلمُ أنظر: اختيار معرفة الرجال– الطوسي:121.- الإختصاص- الشيخ المفيد:191. والإرشاد: 2/ 150.- المناقب- ابن شهرآشوب: 4/ 169.- الأغاني- أبو الفرج الأصفهاني: 15/ 217.
2- نقل الرواة عن ضرار بن ضمرة, أنه دخل على معاوية يوماً, (فقال له: يا ضرار صف لي علياً، فقال له: اعفني يا معاوية، فقال له: لا أعفيك، فقال له ضرار: أما إذا كان ولا بد من ذلك، فقد كان والله بعيد المدى شديد القوى… إلى أن قال: ونحن والله مع قربه منا ودنوه إلينا لا نكلمه هيبة له ولا نبتدئه لعظمه في نفوسنا...). بحار الأنوار- المجلسي: 33/ 275.

الفسقة, حتى قطعوا لسانه(1). وهذا حجر بن عدي, يُؤخذ مقيّداً إلى الشام, ويحفر له القبر, ويفرش له النطع, ويُؤمر بسب أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), وإلا فالقتل, ومعه ابنه، فيختار ولاية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، ويُقدّم ابنه, ليحتسبه عند الله تبارك وتعالى, ولئلا يعظم على الابن قتل أبيه فيتراجع، ثم قُدّم فقُتل صابراً محتسباً(2).

وهذا عمار بن ياسر(3), يقاتل في صفين على كبر سنه, ويقول: (والله لول:

ص: 230


1- إن عبيد الله بن زياد قال لميثم التمار بعد أن قبض عليه: تبرأ من علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فقال له: فإن أنا لم افعل؟ قال: إذن والله لأقتلك، قال: لقد أخبرني مولاي أنك ستقتلني مع تسعة أخر على باب عمرو بن حريث، قال ابن زياد: لنخالفنه كي يظهر كذبه، قال ميثم: كيف تخالفه، فوالله ما أخبر إلا عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), عن جبرئيل, عن الله تعالى، فكيف تخالف هؤلاء؟ ولقد عرفتُ الموضع الذي أصلب فيه وأين هو من الكوفة وأنا أول خلق الله أُلجم في الإسلام، فلما رُفع على الخشبة, اجتمع الناس حوله على باب عمرو بن حريث، قال عمرو: قد كان والله يقول: إني مجاورك، فأمر جاريته بكنس تحت خشبته ورشه وتجميره، فجعل ميثم يحدث بفضائل أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ), ومثالب بني أمية وما سيصيبهم من القتل والانقراض، فقيل لابن زياد قد فضحكم هذا العبد، فقال: ألجموه، فألجموه كي لا يتكلم, فجاءه في اليوم الثالث, لعين بيده حربتين, وهو يقول: أما والله لقد كنت ما علمتك إلا قوّاماً صوّاماً، ثم طعنه في خاصرته فأجافه- أي حصل جوف في خاصرته من الطعنة- ثم انبعث منخراه دماً في آخر النهار فخضب لحيته بالدماء واستشهد قبل قدوم الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى العراق بعشرة أيام. بحار الأنوار- المجلسي: 42/ 124.
2- حجر بن عدي الكندي الكوفي من أصحاب أمير المؤمنين ومن الإبدال كان أميراً على بني كنده من قبل أمير المؤمنينع في معركة صفين وكان أمير الجيش يوم النهروان، وقد استشهد حجر وجمع من أصحابه بسعاية زياد بن أبيه وبحكم معاوية بن أبي سفيان سنة إحدى وخمسين للهجرة.
3- عمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس بن الحصين بن الوذيم ابن ثعلبة بن عوف بن حارثة بن عامر الأكبر، يرجع نسبه الى يعرب بن قحطان، ويكنى أبا اليقظان: تقدم إسلامه ورسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بمكة، وهو معدود في السابقين الأولين من المهاجرين، وممن عُذب في الله بمكة. أسلم هو وأبوه وأمه سمية، وهي أول شهيدة في الإسلام، طعنها أبو جهل بحربة في قبلها فقتلها، ومر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهم يعذبون. فقال:

هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل)(1). وأصحاب الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) - وما أدراك ما أصحاب الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)-، الذين لم يُر لهم نظير في الولاء, والصدق, والإخلاص, والتضحية، يُقدم أحدهم على الموت, وهو مبتسم، فيقال له: ما عهدناك هازلاً قبل اليوم, قال: (والله لقد علم قومي اني ما أحببت الباطل شابا ولا كهلا ولكن والله اني لمستبشر بما نحن لاقون والله ان بيننا وبين الحور العين الا ان يميل هؤلاء علينا بأسيافهم، ولوددت انهم قد مالوا علينا بأسيافهم)(2).

النتيجة السابعة: تأخر ركب الحضارة الإنسانية:

بحيث احتجنا إلى أربعة عشر قرناً, لكي نصنع الطائرة, والكومبيوتر, ونغزو الفضاء، وكان يمكن لهذه الأمور, وغيرها مما لم يصل إليه العقل الإنساني إلى الآن, أن تتحقق قبل مدة طويلة؛ لأن اليد الإلهية واضحة التأثير في قيادة ركب الحضارة البشرية, بفضل ما بثه الأنبياء والأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من علوم، أو من خلال الإلهام والإيحاء، ولولا الرعاية الإلهية لما استطاع الإنسان أن يهتدي إلى أبسط

ص: 231


1- الاختصاص- الشيخ المفيد: 14.
2- وهو برير بن خضير الهمداني: كان زاهداً عابداً سيد القراء ومن أشراف الكوفة. أنظر: مقتل الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- أبو مخنف: 115.- أعيان الشيعة- السيد محسن الأمين: 3 /561.

الأمور، حتى دفن موتاه في التراب لا يعرفه، حتى بعث الله له غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه(1).وإن القرآن الكريم ليضم أسرار ومفاتيح العلوم كلها, فيه {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} (النحل:89)، فيشير إلى غزو الفضاء بالوسائل العلمية, {يَا مَعْشَ-رَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إلا بِسُلْطَانٍ} (الرحمن:33)، وهو سلطان العلم, والتكنولوجيا، كل هذه الأسرار, ومفاتيح العلوم, كانت عند أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)(2) علّمه إياه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (فحدثني بألف حديث يفتح كل حديث ألف حديث، حتى عرقت وعرق رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ))(3).

ولم يكن يحتاج إلى تطبيق معادلات, وقوانين احتمالية, أو يخوض تجارب طويلة حتى يصل الى الحقيقة، بل كانت الحقائق العلمية كلها حاضرة في ذهنه، يراها بالبصيرة, والوجدان رأي العين.9.

ص: 232


1- إشارة إلى قصة ابني آدم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), هابيل وقابيل، وذلك عندما قتل قابيل هابيل, قال تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ 30 فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} {المائدة:31}.
2- وإن شئت الاطلاع على ما كان يمكن أن يقدمه, علي وبنوه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ليقدموا ركب الحضارة الإنسانية, وليوفروا لها السعادة, والحياة الطيبة, فراجع عدة كتب ألفت في هذا المجال، أنظر: مثلاً بحوث في الملل والنحل- جعفر السبحاني: 6/ 525/ الفصل الثاني عشر (دور الشيعة في بناء الحضارة الإسلامية وازدهار العلوم).
3- الخصال- الشيخ الصدوق: 642.- بحار الأنوار- المجلسي: 26/ 29.

فحفر الكثير من الآبار, والعيون, وأوقفها للمسلمين في وقت كان الآخرون يعجزون عن التعرف على مواقع وجود الماء، فأين علم الجيولوجيا من هذه المعرفة الدقيقة, بطبقات الأرض, وما تحتها, من كنوز ومعادن. وكان يقول: (لو شئت لجعلت لكم من الماء نورا ونارا)(1), يقصد توليد الطاقة الكهربائية من شلالات الماء، وغيرها الكثير, في مختلف حقول العلم, والمعرفة.

ثم جاء أولاده (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من بعده, ليبثوا ما تسمح به الحال, من علوم الكيمياء, والرياضيات, والفلك, والفيزياء, والنبات, والحيوان, وغيرها.

فإن قلتَ: إذن ما الذي حبسهم عن إعطاء هذه العلوم التي يحملونها إلى البشرية، وهي مسألة لا تتعلق بتسلمهم موقع القيادة والإمامة وعدمها؟.

قلتُ: إن التقدم المادي مرتبط تماماً بالتكامل الروحي, من خلال البناء الصحيح للعقيدة، ولا بد أن يتقدّما معاً.

وإن الأول بدون الثاني يصبح وبالاً على البشرية ويقودها نحو الدمار، كالذي نشاهده اليوم ممن يسمون أنفسهم بالقوى العظمى, والدول الكبرى، ولما كانت البشرية قد تخلفت, وتدنت في الجانب الثاني, وهو العقائدي والأخلاقي, فلا يمكن إعطاؤها من الجانب الأول, إلا بالمقدار الذي لا يكون خطراً عليها، هكذا اقتضت الإرادة الإلهية أن يلهم الإنسان بعض الأفكار, التي طورت حضارة البشر, ودلته على اكتشافات, وحقائق علمية مهمة في أوقاتها المناسبة، وبالشكل الذي2.

ص: 233


1- موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- الريشهري: 10/ 302.

يحفظ توازن المجتمع الإنساني {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر:49)، ولو كانت مستحقة للمزيد بالتزامها بخط الخلافة الإلهية, لما بخل عليها الله تبارك وتعالى بالعطاء، فلا يغتر الإنسان ويظن أنه هو الذي يحقق ذلك، بل هو من إلهام الله تبارك وتعالى وإيحائه، وللعلماء والمكتشفين كلمات تدل على ذلك، ولو خليّ إلى نفسه لما عرف كيف يتخلص من موتاه بالدفن حتى علمه الغراب –كما ذكرنا-.

لماذا نحتفل بعيد الغدير؟

هذه بعض النتائج التي أفرزها عدم التزام الأمة بحديث الغدير، وإذا كانت الأمور تُعرف بأضدادها كما قالوا، فيمكن أن نعرف سمو المعاني والآثار التي نالها الملتزمون بولاية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فحق لهم أن يحتفلوا بهذا العيد الأغرّ, - أعظم عيد في الإسلام-، عن عبد الرحمن بن سالم، عن أبيه قال: سألت أبا عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), هل للمسلمين عيد, غير يوم الجمعة, والأضحى, والفطر؟ قال: نعم أعظمها حرمة, قلت، وأي عيد هو, جعلت فداك؟ قال: اليوم الذي نصب فيه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقال: <<من كنت مولاه فعلي مولاه>>)(1).

وفي حديث أبي نصر عن الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (يا بن أبي نصر, أينما كنت فاحضر يوم الغدير عند أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فان الله تبارك وتعالى يغفر لكل مؤمن ومؤمنة, ومسلم ومسلمة, ذنوب ستين سنة، ويعتق من النار ضعف ما أعتق في شهر رمضان, وليلة القدر, وليلة الفطر، والدرهم فيه بألف درهم لاخوانك

ص: 234


1- الكافي- الشيخ الكليني: 4/ 149.

العارفين، فأفضل على إخوانك في هذا اليوم, وسرَّ فيه كل مؤمن ومؤمنة، ثم قال:... والله لو عرف الناس فضل هذا اليوم بحقيقته لصافحتهم الملائكة في كل يوم عشر مرات)(1).

لنأخذ الدرس في فهم أشكال المرجعية الدينية:

ونحن كما تعودنا في مثل هذه الكلمات, لا نستهدف فقط تثبيت العقيدة وترسيخها والدفاع عنها، وإن كان هذا في نفسه نفيساً، إلا أنه مما لا يقل عنه أهمية أخذ الدروس, والعبر منه، وهنا تكمن روح العلم والمعرفة، فالعلم بلا عمل وبلا استفادة منه في الحياة, لا قيمة له.

ونحن إذا توسعنا في فهم هذا الموضوع, فسنطبق هذه التجربة على كل رسالة إصلاحيّة, تعمل على هداية الناس, وتكميل نفوسهم كالمرجعية الشريفة, وهي لها شكلان:

الأول: المرجعية الفردية, التي يُقتصر عملها على استنباط الحكم الشرعي, من دون العمل على تطبيقه, ودفع المجتمع إلى امتثاله، والأمر راجع إلى المكلف, إن شاء طبق أو لا، ولا تتدخل إلا في حدود الشؤون الفردية, وما يبرئ ذمم المكلفين, كأفراد، وهو عمل ليس بالهين، وقد قاموا بجهود مضنية, حفظت لنا فقه آل محمد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، لكن هذا الشكل خارج عن موضوعنا، لانحسار دورها عن الإمامة الاجتماعية أصلاً.

ص: 235


1- تهذيب الأحكام- الشيخ الطوسي: 6/ 25.

الثاني: المرجعية الاجتماعية, التي لا تكتفي بمستوى النظرية، - أي مجرد التقنين والتشريع-، وإنما تعمل على تهيئة كل الفرص, واتخاذ مختلف الأساليب؛ لإقناع الناس بتطبيق الشريعة في كل تفاصيل حياتهم، وإذا لم تنفع وسيلة جربت أخرى. وقد شبهت الأولى بالأمّ التي تهيئ الطعام لولدها المريض وتترك الباقي عليه، إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل، وقد لا يَعرف مصلحته فيموت جوعاً.

والثانية تشبه الأمّ التي لا تكتفي بإعداد الطعام، بل تُطيّبه وتعمل كل المرغبات, والمحفزات, لولدها كي يأكل, ويحفظ حياته, ويستعيد عافيته، ولا شك أن الثانية أرحم, وأرأف, وأكرم, وأصبر, من الأولى، أو قُل إنها أكثر اتصافاً بالأسماء الحسنى, التي ورد الحث على التخلّق بها.

المرجعية الحركية هي الأجدر:

وهذه المرجعية الثانية, هي الأكثر التصاقاً بالناس, وأعمق تأثيراً فيهم, والأكثر تعلقاً بهم، وهي الأجدر بتمثيل دور المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، فلا غرو أن تكون عرضة لطمع المتنافسين، فإذا تصدى لها غير المؤهل لها, وصنع (سقيفة) ثانية, لإبعاد مستحقيها، ترتبت كل أو بعض الآثار التي ذكرناها، ولا بدَّ أن نستفيد من تلك التجربة, لنكون واعين, وحذرين من تكرارها.

وقد ذكرنا في محاضرتين(1), بمناسبة عيد الغدير عام (1421ه-), الأشكال

ص: 236


1- يأتي في ملحق القبس/34 {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (المائدة:67), ص395, وقد طبع كمقدمة لكتاب أصل الشيعة وأصولها للشيخ كاشف الغطاء, أيضاً.

الثلاثة, التي خطط بها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للخليفة من بعده، وكيفية تأسي المرجعية به (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في هذا المجال، ومسؤولية الأمة في صيانة هذا الموقع الشريف, والتمسك بأهله. فيكون هذا البحث مكملاً له، ومما ذكرنا هناك, أن لهذا الموقع شروطاً, صنفتُها إلى ثابتة ومتحركة، والأولى, هي التي دأبت على ذكرها الرسائل العملية، أما المتحركة فتتغير تبعاً للظروف الموضوعية, التي تعيشها المرجعية.

ص: 237

القبس /16: سورة آل عمران:147

اشارة

{وَثَبِّت أَقدَامَنَا}

موضوع القبس: معنى الثبات

إن مفردة الثبات, والتثبيت من القضايا التي اهتم القرآن الكريم بمعالجتها؛ لأن الإنسان يتعرض في هذه الدنيا إلى ابتلاءات كثيرة, ومزالق خطيرة, لا ينجيه منها إلا طلب التثبيت من الله تعالى, والعمل على تحصيل ذلك.

لذا كان مطلب المؤمنين في ساحات المواجهة مع الشيطان, والنفس الأمّارة بالسوء, والأعداء من الناس, هو {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة:250), {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ، وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (آل عمران: 146-147).

وكانت صفة الثبات عند مزالّ الأقدام هي من الصفات البارزة في رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), التي وصفه بها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاء الصباح: (وَالثَّابِتِ الْقَدَمِ

ص: 238

عَلى زَحالِيفِها(1) فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ(2))(3)، وجسّد هذا الثبات في حياته الشريفة؛ حيث لم يجامل, ولم يداهن, ولم يضعف, ولم يقصّر، والشواهد على ذلك كثيرة.وتأسى به أهل بيته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), والصالحون من أتباعه، وكان ديدنهم الثبات, والمداومة, والصبر, والمصابرة حتى آخر نفس, ولا معنى ل-<<التقاعد>> في حياتهم، وبهذا أمرت الأحاديث الشريفة, بحيث جاء عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها)(4).

حاجتنا الى الثبات والاستقامة:

ونحن في هذا الزمان بأمسّ الحاجة إلى التثبيت, لكثرة الشبهات, وانتشار الضلال, والفساد, واجتماع الأعداء, وتفرّق الإخوان.

ولا يتحقق الفوز وحسن الخاتمة إلا بالثبات على الاستقامة، عن الإمام زين العابدين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (من ثبت على ولايتنا في غيبة قائمنا أعطاه الله أجر ألف شهيد، مثل شهداء بدر وأحد)(5), وعن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (والذي بعثني

ص: 239


1- الزحاليف: جمع زحلوفة وهو المكان شديد الزلق لانحداره وملسه. أنظر: لسان العرب- ابن منظور: 9/ 131.
2- الزمن الأول: بحسب الظاهر, هو زمن الخلق, والإشهاد, وأخذ العهد قال تعالى: {وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُرِهِم ذُرِّيَّتَهُم وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِم أَلَستُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أنْ تُقُولُوا يَومَ القِيَامَةِ إنّا كُنَّا عَن هذا غَافِلِينَ} {الأعراف:172}.
3- بحار الأنوار- المجلسي: 84/ 342.- مفاتيح الجنان- عباس القمي: 93.
4- الجامع الصغير- جلال الدين السيوطي: 1/ 409.
5- كمال الدين وتمام النعمة- الشيخ الصدوق: 1/ 3.

بالحق بشيراً، إن الثابتين على القول به في زمان غيبته لأعز من الكبريت الأحمر)(1). ولا يُنال ذلك إلا بالألطاف الإلهية الخاصة, والعمل الجاد لتحصيلها، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن الله عز وجل إن شاء ثبّتك فلا يجعل لإبليس عليك طريقاً)(2)، وفي الرواية عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (ستصيبكم شبهة فتبقون بلا علم يرى ولا إمام هدى، لا ينجو منها إلا من دعا بدعاء الغريق قلت: وكيف دعاء الغريق؟ قال: تقول: يا الله يا رحمن يا رحيم، يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)(3)، ومن أدعية القرآن الكريم {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} (آل عمران:8) وفي مجمع البيان: (قال: لما نزلت آية {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} (الإسراء:74), قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): <<اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عينٍ أبداً>>)(4).

فلا يجوز لنا أن نغترّ بمقدار الإيمان الذي نحن عليه, والالتزامات الظاهرية التي نؤديها, ما لم تقترن بالثبات على الإيمان, والاستقامة في موارد الامتحان, والابتلاء عندما تتعرض الأقدام للانزلاق؛ بسبب اتباع الهوى, والركون إلى الدنيا, والتفرّق عن الهادين إلى الحق.8.

ص: 240


1- كمال الدين وتمام النعمة- الشيخ الصدوق: 1/ 316.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 425.
3- إعلام الورى بأعلام الهدى- الشيخ الطبرسي: 2/ 238.
4- تفسير مجمع البيان- الشيخ الطبرسي: 6/ 278.

طريق الاستقامة:

وقد دلّتنا الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) على ما يثبّ-ت الإيمان في قلوبنا, ويدفعنا إلى العمل الصالح؛ وهو اتباع أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), والسير على نهجه, والتمسك بولايته، عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (ما ثَبَّتَ الله حبَّ علي في قلب مؤمن فزلَّت به قدم إلا ثبَّتَ الله قدماً يوم القيامة على الصراط)(1).

وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (أثبَتُكم على الصراط أشدُّكم حباً لأهل بيتي)(2)، وورد عن الإمامين الباقر والصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} (النساء:66), عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (ولو أن أهل الخلاف فعلوا ما يوعظون به في علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ))(3).

ولقد أمرنا الله تعالى بالثبات, والصمود على الدوام, ودعانا إلى تحصيل أسباب الثبات, والاستقامة على الإيمان؛ بطاعة الله تبارك وتعالى, وطاعة رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), والصبر, وترك التنازع, والخلاف المؤدي إلى الانهيار, والفشل, والإحباط, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ 45 وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال:46), {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} (النساء:66).

ص: 241


1- كنز العمال- المتقي الهندي: 11/ 621.- بحار الأنوار- المجلسي: 27/ 158/ح6.
2- ينابيع المودة- القندوزي: 2/ 70.
3- تفسير نور الثقلين- الشيخ الحويزي: 1/ 513.

كيف نحصّل الاستقامة؟

ومن الوسائل الوثيقة لتحصيل الثبات هي التقوى، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (وَإِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى(1), لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ الْخَوْفِ الْأَكْبَرِ, وَتَثْبُتَ عَلَى جَوَانِبِ الْمَزْلَقِ(2))(3).

والورع عن محارم الله تعالى، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقد سُئل عما يثبت الإيمان في العبد، قال: (الذي يثبته فيه الورع، والذي يخرجه منه الطمع)(4).

ولا يثبت الإيمان, ويؤتي ثماره؛ إلا بالعمل الصالح، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (الايمان لا يكون إلا بعمل, والعمل منه, ولا يثبت الايمان إلا بعمل)(5), وعن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (مرّ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) برجل يغرس غرساً في حائط له، فوقف له, وقال: ألا أدُلّك على غرس أثبت أصلاً, وأسرع إيناعاً, وأطيب ثمراً, وأبقى؟ قال: بلى فدُلَّني يا رسول الله، فقال: إذا أصبحت, وأمسيت, فقل: سبحان الله والحمدلله ولا إله إلا الله والله أكبر، فإن لك إن قلته بكل تسبيحة عشر شجرات في الجنة من أنواع الفاكهة, وهن من الباقيات الصالحات)(6).

ص: 242


1- أروضها: أذللها. والتقوى: امتثال أوامر اللَّه تعالى واجتناب ما نهى عنه.
2- المزلق: المراد به الصراط، و من زلّت قدمه فيه هوى الى النار، نعوذ باللَّه منها.
3- نهج البلاغة- خطب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 3/ 71, من كتاب له (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري, وهو عامله على البصرة, وقد بلغه أنه دُعيَّ إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها.
4- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 320.
5- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 38.
6- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 506.

وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من زهد في الدنيا، ولم يجزع من ذلها، ولم ينافس من عزها، هداه الله بغير هداية من مخلوق، وعلمه بغير تعليم، وأثبت الحكمة في صدره وأجراها على لسانه)(1), وفي الحديث (من زار الحسين في بقيعه ثبته الله على الصراط يوم تزل فيه الأقدام)(2).

التثبيت لطف ينطلق من النفس:

إن التثبيت على الإيمان والاستقامة لطفٌ يؤتيه الله من يشاء من عباده, {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} (الإسراء:74) {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْ-رَى لِلْمُسْلِمِينَ} {النحل:102}, {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} (الأنفال:11), {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} (الفرقان:32).

ولكنه مع ذلك ينطلق من داخل النفس المطمئنة؛ بالإيمان, والمحبة لله تبارك وتعالى, الذين ذكرهم في كتابه الكريم ووصفهم, بأنهم يقومون بأفعال الخير انطلاقاً من رغبتهم النفسية في التثبيت, والمداومة على الطاعة: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فإن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (البقرة:265).

ص: 243


1- بحار الأنوار- المجلسي: 75/ 63.
2- بحار الأنوار- المجلسي: 97/ 141.

فإذا صدق العبد مع ربّه, وسعى بالدعاء, والعمل للثبات على الإيمان والهدى, ثبّته الله تعالى, وآمنه, وأسعده, في الدنيا والآخرة, {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ} (إبراهيم:27)، وورد في تفسيرها عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إن الشيطان ليأتي الرجل من أوليائنا عند موته, عن يمينه, وعن شماله, ليضلّه عما هو عليه, فيأبى الله عز وجل له ذلك)(1).

دور الاستقامة:

وهذا الخير للأمة هو ما أرادته الصديقة فاطمة الزهراء (علیها السلام) في خطبتيها, فدعتهم إلى أن يأووا إلى الركن الشديد الثابت, - أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- وحذَرت من مخالفته: (وَيْحَهُمْ! أَنَّى زَعْزَعُوهَا عَنْ رَوَاسِي الرِّسَالَةِ، وَقَوَاعِدِ النُّبُوَّةِ وَالدَّلالَةِ، وَمَهْبِطِ الرُّوحِ الأَمِينِ، وَالطَّبِينِ(2) بِأُمُورِ الدُّنْيَا وَالدِّين، أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)(3), {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَ-كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (الأعراف:96), وقد حذّرتهم من عاقبة انقلابهم, وأنهم بذلك يؤسسون لواقع فاسد, وفتنة عظيمة, تحرق بشررها كل الأجيال اللاحقة: (أَمَا لَعَمْري لَقَدْ لَقِحَتْ

ص: 244


1- من لا يحضره الفقيه- الشيخ الصدوق: 1/ 134.
2- الطبين: الفطن الحاذق العالم بكل شيء.
3- الاحتجاج- الشيخ الطبرسي: 1/ 147.

فَنَظِرَةٌ رَيْثَمَا تُنْتَجُ(1), ثُمَّ احْتَلَبُوا طِلَاعَ الْقَعْبِ(2) دَماً عَبِيطاً, وَزُعَافاً مُمْقِراً، هُنَالِكَ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ, وَيَعْرِفُ التَّالُونَ غِبَّ مَا أَسَّسَ الْأَوَّلُونَ)(3).وأنتم: أيّها الفاطميون الموالون بإحيائكم للشعائر الفاطمية خصوصاً والدينية عموماً, ونصرتكم لله تعالى ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وإظهار المودة لأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ), تتمسكون بحبل وثيق من التثبيت الإلهي عند المزالق في الدنيا، وعلى الصراط في الآخرة، قال تعالى: {إِن تَنصُروا اللَّهَ يَنصُ-رْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد:7).

وأي نصرة لله تعالى أعظم من نصرة أوليائه, وإظهار حقّهم، وإنصافهم من ظالميهم، فنصرة الزهراء (علیها السلام), وإنصافها, من أعظم موارد الحديث الشريف عن رسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (من مشى مع مظلوم حتى يثبت له حقه، ثبّت الله تعالى قدميه يوم تزل الأقدام)(4).

وقد منّ الله تعالى عليكم, بسبب فاعل آخر للتثبيت, وهو انتظار فرج إمامنا المهدي المنتظر (عج), والأمل بإقامة الدولة الكريمة على يديّه، روى علي بن يقطين عن الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (قال لي أبو الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): الشيعة تُربّى بالأماني منذ مائتي سنة) وشرحها علي بن يقطين بقوله: (فلو قيل لنا: إن هذا الأمر3.

ص: 245


1- تنتج: أي تلد, والنتاج: هو الوضع, أو الولادة للبهائم. لسان العرب: مادة (نتج).
2- القُعْب: القدح الضخم، وقيل: قدح من خشب مقعّر، وقيل: هو قدح إلى الصغر. لسان العرب: مادة (قعب)، واللوحة التشبيهية التي رسمتها الزهراء (علیها السلام), بليغة للغاية, صورّت فيها الفتنة, وكأنها دابة ستولد بعد حين من لقاح الفتنة, ثم يكون جميع ما يجنونه, ويحتلبونه منها الدم العبيط.
3- الاحتجاج- الشيخ الطبرسي: 1/ 148.
4- كنز العمال- المتقي الهندي: 3/ 83.

لا يكون إلى مائتي سنة أو ثلاث مائة سنة لقست القلوب ولرجع عامة الناس عن الإسلام، ولكن قالوا: ما أسرعه, وما أقربه تألّفاً لقلوب الناس, وتقريباً للفرج))(1).ولكم أيها الثابتون على الحق في زمان الغيبة, وردت البشرى من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في كتب الشيعة والسنة قال: (سيأتي قومٌ من بعدكم، الرجل الواحد منهم له أجر خمسين منكم، قالوا: يا رسول الله نحن كنّا معك ببدر وأُحُد وحنين ونزل فينا القرآن! فقال: إنكم لو تُحمَّلون ما حُمِّلوا لم تصبروا صبرهم)(2).ا.

ص: 246


1- الكافي- الشيخ الكليني: 1/ 368.- الغيبة- الطوسي: 207.
2- الغيبة- الطوسي: 275.- الخرائج والجرائح- قطب الدين الراوندي: 3/ 1149.- بحار الأنوار- المجلسي/ 52/ 130.- وعن الطبراني الكبير: 10/ 225 وسنن أبي داود: 4/ 123 وابن ماجة: 2/ 1330 والترمذي: 5/ 257 وغيرها.

القبس /17: سورة آل عمران:153

اشارة

{فَأَثَبَكُم غَمَّا بِغَمّ}

موضوع القبس: كيف يكون الغم ثواباً

قال الله تبارك وتعالى: {فَأَثَابَكُمْ غَمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ 153 ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً} (آل عمران:154).

تقع الآية في اجواء ما جرى في معركة اُحد, وما تلاها من أحداث, حيث انتصر المسلمون في بداية المعركة, ثم وقعت بهم الهزيمة حينما عصوا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فيما أمرهم به, من الثبات في مواقعهم, وإرجاف بعض المنافقين, بأن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قد قتل, فالتّف عليهم خالد بن الوليد, ورجاله, واوقعوا بهم خسائر فادحة.

الغم في اللغة: يعني الستر, والتغطية(1), كما في الأحاديث الشريفة عن الهلال, (فإن غُمّ عليكم فأكملوا العدة)(2)- أي ستر عليكم ولم تروه-.

ص: 247


1- أنظر: لسان العرب- ابن منظور: 12/ 443.
2- صحيح البخاري – البخاري: 2/ 229.- الناصريات- الشريف المرتضى: 292.

ويطلق الغم: على الكرب, والحزن, والهم(1)؛ لأنه يستولي على القلب, ويُغطي على انشراحه وانبساطه.ومن هنا ينشأ السؤال, عن التعبير بقوله تعالى {فَأَثَابَكُمْ غَمَّاً}؛ لأن المرتكز في اذهاننا ان الثواب هو الجزاء الحسن, فكيف اثابهم الله تعالى بالغم؛ الذي هو الكرب والحزن، ولو تُرِك التعبير لنا لقلنا (أصابكم)، ويمكن عرض عدة وجوه للجواب؛ مع بيان المُراد من الغم الأول, والثاني:

1-ان (الثوب) لغة: يعني العود, والرجوع, كما في قولنا ثاب إلى رشده أي رجع إلى عقله وحكمته وسُمّي المنزل مثابة لأن الشخص يرجع اليه بعد أن يخرج منه الى العمل أو قضاء الحوائج أو أي شيء آخر، قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ} (البقرة:125)؛ أي محل لتحصيل الأجر يعود على الناس(2).

فالثواب لغة: هو مطلق الرجوع بالجزاء على العمل الذي يرجع على صاحبه خيراً أو شراً.

فما ارتكز في اذهاننا من كون الثواب مختص بالجزاء الحسن غير صحيح؛ لأن الثواب هو مطلق الجزاء على الفعل بما يناسبه, حسناً كان أو سيئاً, فالعقاب ثواب أيضاً, ولكن للفعل السيء، قال تعالى: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المطففين:36), وقال تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ} (المائدة:60).3.

ص: 248


1- أنظر: الفروق اللغوية- أبو هلال العسكري: 185.- تفسير الآلوسي- الآلوسي: 4/ 92.
2- أنظر: كتاب العين- الخليل الفراهيدي: 8/ 246.- لسان العرب- ابن منظور: 1/ 243.

فالآية - محل البحث- من هذا القبيل, وانهم يستحقون العقوبة بالغم, وغيره, لما اقترفوه من معصية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فيما أمر إليه من الثبات, وعدم ترك مواقعهم.وهذا الجواب يزيل السؤال, والاشكال من اصله، ونُريد الآن ان نتجاوزه, ونمضي مع فهم العرف, ونقول: ان استعمال الثواب في الجزاء الحسن أكثر, وهو المعروف في الاستعمال، حتى في هذه الآية, بدليل نتيجة الغم {لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ} وبدليل تفريعها عما قبلها {وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ} (آل عمران:152).

وحينئذٍ يُمكن فهم الآية على هذا المعنى من خلال عدة اشكال, نذكرها بنفس التسلسل:

2-إن الله أصابهم بهذا الغم كفارة لما أدخلوا على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من الغم بهزيمتهم وانفضاضهم عنه, وهو يناديهم ارجعوا إليَّ, أنا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وقد وُصفِت الحالة في الجزء السابق من الآية {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمَّاً بِغَمٍّ} (آل عمران:153).

فيكون الغم الأول: ما اصابهم هُم, والغم الثاني: ما انزلوه برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), فدفع الله تعالى عنهم العذاب العظيم المقدر لهم على فعلهم؛ الذي توّعد به الفارين من المواجهة قال تعالى: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}

ص: 249

(الأنفال:16), بأن اكتفى بما أصابهم من الغم, حيث ورد في الآية السابقة عليها {وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران:152)، فهذا الغم ثواب حسن؛ لأن الله تعالى دفع به عنهم عقوبة عظيمة.3-ان أصحاب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) اغتموا لما فقدوه من الظفر بالمشركين, وفوات الغنائم, بعد ان أحرزوا النصر على الأعداء, ولكنهم بعصيانهم لأوامر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تحوّل النصر إلى هزيمة, وهذا الغم لأجل الدنيا؛ وهو مذموم, فبدّل الله تعالى غمهم هذا بغمّ لاجل الآخرة, وتفويتهم طاعة الله ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وعصيانهم لأوامره.

فالغم الأول في الآية أخروي, والثاني دنيوي, فكان هذا الغم ثواباً؛ لأنه يُصلح شأنهم, ويصحّح مشاعرهم, وسلوكهم, ويجعل غمهم للآخرة وليس للدنيا, فهو ثواب, وجزاء حسن فعلاً.

ولعل هذا المعنى مناسب لتتمة النص {لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ}, وقد كان هذان الفريقان موجودين في جيش النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، قال تعالى: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} (آل عمران:152).

فهذا الغم, ابتلاء, وتمحيص من الله تعالى؛ ليميّز الفريقين، لذا جاء في بقية الآية في بيان حال الفئة التي نجحت في الامتحان, وكان الغم ثواباً لها {ثُمَّ أَنزَلَ

ص: 250

عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} (آل عمران:154).روي الترمذي والنسائي والحاكم بالإسناد عن ابي طلحة قال: (رفعت رأسي يوم اُحد وجعلت انظر وما منهم يومئذٍ أحد الا يميل تحت جحفته -وفي لفظ آخر عنه قال:- غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أُحد فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه)(1), فكان هذا النعاس نعمة لذيذة هنيئة على المؤمنين الذين رجعوا الى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), بعد أن علموا بأنه حي, فكانت سبباً لطمأنينتهم, وإزالة ما كان بهم من الخوف, والرعب من عودة المشركين اليهم لاستئصالهم, اما المنافقون فكانوا في قلق, وتوجس, ولم يستطيعوا النوم, فقاموا من حيث لا يشعرون بحراسة المؤمنين النائمين.

4-ان الغم الثاني: هو ما أصاب المسلمين في المعركة, بسبب ما لحقهم من القتل, والجرح، والغم الأول: هو ما أصاب المشركين بعد رجوعهم من أُحد, حيث تذكر الروايات, أنهم تلاموا على عدم إجهازهم على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وأصحابه, وتأديب أهل المدينة, فقرّروا الرجوع, فنزل الوحي من الله تعالى على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يأمره بالخروج لملاقاة المشركين بمن كان معه في اُحد فقط، فخرج المسلمون مع ما بهم من الجراح, والخوف, والاعياء, والانهيار النفسي, ووصلوا موضعاً يسمى حمراء الأسد, انتظاراً للمشركين, لكن الله تعالى القى3.

ص: 251


1- سنن الترمذي- الترمذي: 5/ 79.- السنن الكبرى- النسائي: 10/ 105.- فتح القدير- الشوكاني: 1/ 392.- تفسير ابن كثير-: 2/ 145.- تفسير الدر المنثور- السيوطي: 2/ 353.

الرعب في قلوب المشركين, فقرّروا الرجوع إلى مكة, فشكر الله تعالى هذا الموقف من المسلمين, وأثابهم غماً, ورعباً ادخله على المشركين مقابل ما دخلهم من الغم, والرعب في معركة أُحد.5- ان الغم الأول: هو ما اصابهم من الحزن, والكرب, والغم الثاني: ما اصابهم في المعركة من القتل, والجرح, وفقدان الأحبّة, فأراد الله تعالى أن يُسلّيهم عن الثاني, بالأول, شفقة عليهم, ورحمة بهم, ولما حصلت التسلية, أزال عنهم الغم, وابدلهم آمنةً نعاساً.

6-أراد الله تعالى أن يبين لهم ان الحياة متصرفة باهلها, ومتقلبة من حال الى حال, فلا يطمئنوا الى عافية, ورخاء, ولا يضجروا من شدة, وبلاء, فلا يوجد في الدنيا ثبات, واستقرار, قال تعالى: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران:140), فالنصر الذي حققه المسلمون في بدر ليس من الضروري أن يتكرر في كل المعارك، فيمكن ان يتحول الى هزيمة اذا لم يتمسكوا بأسباب الانتصار، قال تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ} (آل عمران:140), {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ} (النساء:104), فليستفد المؤمنون من التجارب, وليأخذوا العبر منها.

وعلى هذا, فالغم الأول: ما أصابهم يوم أحد، والغم الثاني: ما أصاب المشركين في بدر، وقد لُخِّصت التجربة, والعبرة من هذه الواقعة بتكملة الآية {لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ}, وفي آية أخرى {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} (الحديد:23).

ص: 252

7-إن الغم الأول: هو ما دخلهم من الحزن, والندم على هزيمتهم في المعركة, وتفويت النصر الذي انزله الله تعالى عليهم في بدايتها, بسبب عصيانهم لأوامر القيادة النبوية المباركة، والغم الثاني: هو ما أصابهم قبل ذلك؛ من الهلع, والرعب بسبب ما اشيع من مقتل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), فلما انكشف خلاف ذلك, ابدلهم الله تعالى غماً, وكرباً, وندماً, بدل حزنهم الأول على مقتل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فكان غمهم بما حل بهم, كالفرح بعد ان انكشف لهم ان غمّهم السابق بمقتل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان وهماً.

8- ما ورد في كلام اهل المعرفة, ومنهم سيدنا الأستاذ الشهيد(1) الصدر الثاني (قدس سره) من ان الله تعالى يحدث في قلب السائر في طريق الكمال كُربة عند وقوعه في المعصية, ولو كانت قلبية, - أي على المستوى الأخلاقي, وليس الشرعي- لتنبيهه, والفات نظره, واعادته الى الصواب, نظير ما يُعرف بوخز الضمير, أو تأنيب الضمير, قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف:201), فهذا الغم الذي أصابهم هو نعمة من الله تعالى لتكميل نفوسهم, وتطهير قلوبهم, ويكون معنى (غم بغم), أي غماً بعد غم.م.

ص: 253


1- قناديل العارفين: 290، طبعة مؤسسة الرافد: 2013م.

القبس /18: سورة آل عمران:159

اشارة

{فَبِمَا رَحمَة مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُم}

موضوع القبس: الرحمة بالمؤمنين

من ابرز الصفات الكريمة التي سجّلها القرآن الكريم للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): الرحمة بالمؤمنين, والشفقة عليهم, والرأفة بهم, كقوله تعالى {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة:128), وكان الغرض من بعثته الشريفة الرحمة بالعباد, قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107), وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ 156 الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} (الأعراف:157).

ومنها, الآية التي نحن بصددها, وهي قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران:159), وتستخلص منها عدة دروس:

دروس من الرحمة النبوية:

1-أهمية صفة الرحمة في القائد والمسؤول الذي يريد التأسي

ص: 254

بالقيادة النبوية المباركة؛ لأنها سر نجاح القادة, والمسؤولين في حركتهم نحو نفع الأمة, ورعايتها, وهي أساس كل احسان ومعروف تقدّمه للآخرين, وإن أساس التفاف الناس حول القائد هي الاخلاق, اما الفظ الغليظ فقد يضيّع حقه؛ لافتقاده هذه الصفة, لذا كانت من الوصايا المهمة التي وجهّها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الى مالك الاشتر لما ولاه مصر, قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، والْمَحَبَّةَ لَهُمْ، واللُّطْفَ بِهِمْ)(1), أي ان قلبك حتى لو كان غير ممتلئ بالرحمة التي هي ضرورية لنجاح عملك, فعليك أن تتكلفها, وتدرّب قلبك عليها, وتستثيرها في باطنك حتى تصبح ملكة راسخة, فان الصفات, والملكات الحسنة يمكن تحصيلها بالتهذيب, والتدريب.وهذه الصفة يحتاج الى استشعارها كل أحد؛ لأننا كلنا مسؤولون وإن كان بدرجات متفاوتة, ففي الحديث الشريف (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)(2), فرّب الاسرة مسؤول عن اسرته, ومدير الدائرة كذلك عن دائرته, ومثله المعلم عن طلبته, والوزير عن وزارته, والضابط عن جنوده, والمرأة عن بيتها واطفالها, وهكذا.

ولما سُئِل أحدهم من هو أحبُّ أبنائك اليك؟ لم يجب بأنه فلان, أو فلان,3.

ص: 255


1- نهج البلاغة- خطب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 3/ 84.
2- بحار الأنوار- المجلسي: 72/ 38.- صحيح البخاري- البخاري: 3/ 125.- صحيح ابن حبان- ابن حبان: 10/ 343.

وانما قال: الصغير حتى يكبر, والمريض حتى يشفى, والغائب حتى يعود(1), والجامع المشترك لهؤلاء هو حاجتهم الى الرحمة والشفقة أكثر من غيرهم.2-ان هذه الصفة, وسائر خصال الخير, والكمال, لا يمكن تحصيلها بالسعي, والعمل, وحده, بل لابد من توفيق إلهي, ولطف بالعبد, فوصفت الآية الرحمة أنها {مِنَ اللَّهِ}, عن الإمام الجواد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (المؤمن يحتاج الى توفيق من الله وواعظ من نفسّه وقبول ممن ينصحه)(2).

3-ان القائد هو محور وحدة الأمة؛ إذا كان رحيماً, ليناً, شفيقاً, وهو سبب تفرقها, وتشتتها, وانقضاضها؛ إذا كان فظاً, غليظ القلب, قاسياً لا يهتم بشؤون الرعية, ولا يتواضع لهم, ولا يتفقدهم.

ولأن أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ورثوا أخلاق النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وصفاته الكريمة, فقد كانوا محور اجتماع الأمة, ووحدتها, وهذا ما عبّرت عنه الصديقة الزهراء (علیها السلام) بقولها: (وَطاعَتَنا نِظاماً لِلْمِلَّةِ، وَإمامَتَنا أماناً مِنَ الْفُرْقَةِ)(3), فاذا وجدت امة متوحدة فاعلة, فاعلم ان رحمة الله شملتها, والعكس بالعكس, وقد نقل معروف بن فيروز الكرخي قوله: (إذا أراد الله بعبد خيرا فتح له باب العمل, وأغلق عنه باب الجدل,4.

ص: 256


1- أنظر: جامع المسانيد والسنن- ابن كثير: 6/ 743.- الإصابة في تمييز الصحابة- ابن حجر العسقلاني: 5/253.
2- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 457. وورد مثله عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ). أنظر: المحاسن- أحمد البرقي: 2/ 604.- وسائل الشيعة (آل البيت)- الحر العاملي: 12/ 25.
3- الاحتجاج- الشيخ الطبرسي: 1/ 134.

وإذا أراد الله بعبد شرا فتح له باب الجدل, وأغلق عنه باب العمل)(1).4-الاجراء التربوي والاصلاحي الذي مارسه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مع أصحابه, فان الآية جاءت في السياق القرآني الذي تحدّث عن ملابسات معركة أُحد(2), والهزيمة التي حلّت بالمسلمين بعد الانتصار الذي تحقق اول المعركة؛ نتيجة عصيان بعضهم لأوامر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), فأنهزم الجيش إلا أفراد قلائل ثبتوا حول رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وفي مقدمتهم أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

وتسببت الهزيمة في استشهاد سبعين من اجلاء الصحابة, بينهم عم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حمزة بن عبد المطلب, والمتوقع من القادة في مثل هذه المواقف انزال العقوبات الصارمة بحق المنهزمين, مضافاً الى العقاب الإلهي؛ لارتكابهم جريمة (الفرار من الزحف).

لكن الله تعالى وجّه نبيه الى اجراء عكس المتوقع, وهو قوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} (آل عمران:159), وليس هذا فحسب, بل اعادة الثقة بأنفسهم, وإشعارهم بدورهم الفاعل في حياة الأمة, والمشاركة في قراراتها المصيرية {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (آل عمران:159), وفي هذا درس مهم لأولياء الأمور على جميع الأصعدة, بان يعتمدوا أسلوب العفو, والصفح, وزرع الثقة في نفس المخطئ, وقلع شعوره بالنقص, والدونّية, لينقلب تماماً على خطأه, ويعود3.

ص: 257


1- اقتضاء العلم العمل- الخطيب البغدادي: 79.- حلية الأولياء- الأصبهاني: 8/ 361.
2- أنظر: تاريخ الطبري- الطبري: 2/ 187.- الكامل في التاريخ- ابن الأثير: 2/ 148.- شرح نهج البلاغة- ابن أبي الحديد: 14/ 213.

الى الوضع الصالح السوي.ولو تعاملنا بيننا بهذه الخصال النبوية الكريمة لشملتنا الرحمة, والالطاف الالهية, وحُلَّ الكثير من مشاكلنا بلطف الله تعالى.

ص: 258

القبس /19: سورة آل عمران:172

اشارة

{ٱلَّذِينَ ٱستَجَابُواْ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ مِن بَعدِ مَا أَصَابَهُمُ ٱلقَرحُ ۚ لِلَّذِينَ أَحسَنُواْ مِنهُم وَٱتَّقَواْ أَجرٌ عَظِيمٌ}

موضوع القبس: الاستمرار بالعمل الرسالي رغم الجراح

نزلت هذه الآيات من سورة آل عمران في واقعة حصلت في زمن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), - تُسمى حمراء الأسد-, بعد معركة أُحُد(1) بيوم, أو أكثر, وهي غزوة لا يعرف تفاصيلها إلاّ من ندر، وفيها درس ينطبق على الوفد الزائر, وعلى واقعنا المعاصر, وهو من دروس واقعة أُحُد وتداعياتها.

وقد تضمنت سورة آل عمران في القرآن الكريم دروساً, ومواقف, وعبر, من معركة (أُحُد) التي تآمر فيها بعض المسلمين المتواطئين مع قريش على أن يُشيعوا أن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قد قُتل؛ ليربكوا جيش المسلمين, ويفرقوهم، وعصى بعض المسلمين أوامر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وركنوا إلى الدنيا, فتحوّل النصر الذي تحقق على يد أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في بداية المعركة إلى هزيمة للمسلمين, باستشهاد سبعين رجلاً على رأسهم حمزة بن عبد المطلب (رضي الله عنه) عم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعاد

ص: 259


1- وقعت معركة أُحُد يوم: 15/شوال, من السنة الثالثة من الهجرة. أنظر: الطبقات الكبرى- ابن سعد: 2/ 48.-تفسير الطبري- الطبري: 6/ 242.

المشركون مُتجهين إلى مكة، لكنّهم تلاوموا في الطريق بأنّهم لم يقضوا على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), ولا سيطروا على المدينة؛ لاستئصال الدين الجديد, فقرروا العودة باتجاه المدينة.فنزل الوحي على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأخبره بعزم قريش, وأن تكليفه الخروج بمن معه لمواجهتهم, وإراءتهم أن ما حلّ بهم يوم أُحُد لم يُضعف عزيمتهم, ولم يُقلّل من قوّتهم, واشترط أن لا يخرج معه إلاّ من شهد أُحداً، وكانوا مثخنين بالجراح مفجوعين بأحبتهم ومهزومين معنوياً، فاستجابوا لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وخرجوا معه لملاقاة قريش - المزهوة بالانتصار- التي تفوقهم عدّةً وعدداً, وأعطى أبو سفيان أموالاً لبعض القوافل المتجهة إلى يثرب ليخوِّف المسلمين, ويرعبهم, وأنّ قريش قد جمعت لكم الجموع, لكنّهم أصرّوا على المضي مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وقالوا: {حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران:173).

روى زيد بن ثابت عن أبي السائب (ان رجلاً من أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من بني عبد الأشهل, قال: شهدتُ أُحُداً مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنا وأخ لي, فرجعنا جريحين, فلما أذن مؤذن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالخروج في طلب العدو قلت لأخي, - أو قال لي-: تفوتنا غزوة مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)؟ ووالله ما لنا من دابة نركبها, وما منّا الا جريح فخرجنا مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وكنت أيسر جراحاً منه, فكان إذا غُلِب حملتُه عقبة, ومشى عقبة, حتى إذا انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون, فخرج رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), حتى انتهى إلى حمراء الأسد - وهي من المدينة على ثمانية

ص: 260

أميال- فأقام بها ثلاثاً؛ الاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة)(1)؛ لأن أبا سفيان لما علم بخروج النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وأصحابه الموتورين في أُحُد, خشي أن يقابلهم, وهم قادمون للانتقام من قريش.مضافاً إلى شخصٍ - ممن أسلم حديثاً- لم يعرف أبو سفيان بإسلامه, توجّه إلى أبي سفيان وحذّره من ملاقاة المسلمين؛ لأنهم خرجوا عن بكرة أبيهم لينتقموا من قريش.

وتسمى هذه الغزوة (حمراء الأسد) باسم الموضع الذي مكث فيه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) منتظراً قدوم قريش.

الدروس المستفادة من هذه الواقعة:

وإنما ذكرتُ مُلخص الواقعة؛ لأن القليل ممن يعرفها، ولا شك أن معرفتها توفّر بيئة لفهم الآيات المتعلقة بها ليستطيع تدبّرها, وأخذ الدرس منها، قال تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ}, وهم من شاركوا في أُحُد وأصيبوا, لكنهم استجابوا لدعوة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وخرجوا معه {مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ}, وهو القتل, والجرح, والآلام في معركة اُحُد, {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}, فالقبول لا يكون إلا من الذين اتقوا, والذين هم محسنون, {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ - وهم المنافقون, وبعض المهاجرين؛ الذين يحتفظون بولائهم لقريش, مضافاً الى من بعثهم أبو سفيان لإرعاب أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)- إِنَّ

ص: 261


1- سيرة ابن هشام- ابن هشام: 2/ 101.- أسد الغابة- ابن الأثير: 5/ 349.- البداية والنهاية- ابن كثير: 5/455.

النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ - وهم قريش- فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران:173), وكان هذا دليل نجاحهم في الاختبار, وصحة إيمانهم {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} (آل عمران:174), وهو الأجر العظيم الذي ذُكر آنفاً, وانتصارهم على الخوف الذي زرعه فيهم الشيطان, وأولياؤه، وفي تحوِّل هزيمتهم إلى نصر, - حيث راحوا يُلاحقون قريشاً- وفي تحوّل نصر قريش إلى هزيمة, - حيث جبنوا عن لقاء النبي وأصحابه- وآثروا الرجوع إلى ديارهم {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ- إذ دفع الله تعالى عنهم قريش ولم يحصل قتال- وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (آل عمران:174).

لكي لا نشعر بالإحباط:

إنّنا في العراق نصاب يومياً بالجروح, والقروح, حتى إنه لم يبق مكان آمن من التفجيرات, والاستهدافات, فما أحوجنا إلى استلهام هذا الدرس, والاستفادة منه؛ بأن لا نشعر بالإحباط, واليأس مما يحلُّ بنا، بل نُلمّلم جراحنا, ونتقدم في العمل حتى نحصل على ما ذكرته الآية الشريفة, {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} (آل عمران:174).

فإن هذا هو ما نبحث عنه ونريده, وهو هدفنا، ولا نُريد شيئاً مما يُريده أهل الدنيا, حتى إذا فاتنا ينتهي كل شيء.

وإذا تخلينا عن أهدافا, وهويتنا, بسبب هذه الأعمال الوحشية, فقد أعطينا للعدو مراده.

ص: 262

فالرد الصحيح هو بالمضي في العمل الرسالي - الذي يرضي الله (عزَّوجلَّ)- ورفع الهمّة, والعزيمة في التواصي بالحق, والتواصي بالصبر.

بقيّة السيف أبقى عدداً:

وممن تجري فيهم الآية مصّلو جامع الرحمن في منطقة سبع البور شمال بغداد, حيث استهدفهم تفجير انتحاري مجرم(1), أثناء إقامة صلاة العشاءين, فَاستُشهد خمسة عشرَ مُصلِّياً, بينهم إمام المسجد, وأخواه وجرح خمسةٌ وعشرونَ مُصلِّياً, وقد استقبلت عدداً مِمَّن أُصيبوا في الحادث, وقد أشاروا في حديثهم إلى أنّ عدد المُصلّين ازداد بعد هذا الحادث المروِّع، كما ازداد عدد السيارات التي تتوجه أسبوعيّاً من المنطقة؛ لزيارة الإمامين العسكريين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ), ورفع الغربة عن روضتهما المطهرة في سامراء.

والمثال الآخر لهذه المواقف الربانية؛ ما حصل في حسينية حبيب بن مظاهر - القريبة من جامعة الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حي القاهرة ببغداد- وكان يرتادها جمع من طلبة الجامعة؛ لأداء صلاة الظهرين, ويطالعون دروسهم استعداداً للامتحانات، فامتدت يد الحقد, والحسد, والتكفير إلى هذه الفئة الصالحة, وفجّر انتحاري نفسه وسط الجمع ثم تلاه آخر(2)، وكانت حصيلة التفجيرين, واحد وثلاثون شهيداً, وسبعة وخمسون جريحاً، والذي حصل بعد الحادث زيادة

ص: 263


1- وقع الحادث يوم السبت: 12/شعبان/1434ه-- المصادف: 22/ 6/ 2013م. وقد أصدر سماحة المرجع (دام ظله) بياناً في ذلك، أنظره في خطاب المرحلة: 8/ 307.
2- وقع الحادث يوم الثلاثاء: 8/شعبان/1434ه-- المصادف: 18/ 6/ 2013م.

المصلين في الحسينية من الطلبة الجامعيين, وأبناء المنطقة, وتصدي أحد الفضلاء لإمامة الجماعة فيها.إن هاتين الجماعتين خير مثال لقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (بقية السيف أبقى عدداً وأكثر ولدا)(1), لأنها استجابت لله (سبحانه و تعالی), ولرسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), بعد أن أصابهم القرح, وقد وعد الله تعالى بأنهم يعودون بنعمة من الله (سبحانه و تعالی), وفضل, أسوة بأصحاب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الذين خرجوا معه إلى (حمراء الأسد).

وقائع القرآن دروس للتربية والهداية:

إن الوقائع التي يحكيها القرآن الكريم ليست حوادث تاريخية, وقصصاً تذكر للتسلية, والاطلاع, بل هي دروس حيّة, ورسالة هداية, وإصلاح, وثبات على صراط الحق لجميع الأجيال حتى يوم القيامة، ومنها هذه الآيات من سورة آل عمران, التي لم تكن مفهومة بهذا الشكل, قبل أن نتعرف على بيئتها, وظروفها، وعرفنا الآن إنها دعوة للثبات, والاستمرار في الاستجابة لله ولرسوله في بناء النفس, وإصلاح المجتمع, ورفع المعنويات غير متأثرين بالمصائب, والآلام.

ص: 264


1- نهج البلاغة- خطب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 4/ 19.

القبس /20: سورة آل عمران:191

اشارة

{ٱلَّذِينَ يَذكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَما وَقُعُودا وَعَلَى جُنُوبِهِم}

موضوع القبس: ذكر الله تعالى عند الطاعة والمعصية

كانت صلاة الليل واجبة على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) دون الأمة جميعاً, وهذه واحدة من خصوصياته وقد ورد في صحيحة معاوية بن وهب(1) عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في كيفية صلاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في الليل بأنه كان يفرّقها على أجزاء الليل؛ ليديم حالة الأنس بربّه, فيقوم في بعض الليل من نومه, ثم يصلي اربع ركعات ثم ينام ويستيقظ من جديد, ويصلي اربعاً أخرى, ثم ينام ويستيقظ؛ ليصلي الشفع, والوتر ونافلة الصبح, ثم يخرج لصلاة الفريضة, وقد ذكرنا تفصيل ذلك(2) في تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (الإسراء:79).

ومحل الشاهد انه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), كان كلما يستيقظ من نومه, كان يُقلّب بصره في السماء, ويتلو الآيات المباركات في آخر سورة آل عمران, {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ

ص: 265


1- تهذيب الأحكام- الشيخ الطوسي:2/ 334/ح233.
2- من نور القرآن: 3/ 55/ القبس86.

وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران:191-190), فأول صفة من صفات اولي الألباب لمن أراد أن يكون منهم, هو ذكر الله تعالى على كل حال؛ لأن الانسان لا يخلو حاله من كونه قائماً, أو قاعداً, أو على جنبه.إن ذكر الله تعالى على كل حال, واستحضار الرقابة الإلهية, والشعور بالمسؤولية امامه سبحانه, حالة مطلوبة, سواء كان الانسان في ظرف معصية, أو طاعة.

اما في ظرف المعصية: فالأمر واضح؛ لكي يخشى الله تعالى, ويستحي من نظره إليه فيجتنبها، فإن الغفلة عن الله تعالى سبب للوقوع في المعاصي, والتذكر صمام الأمان منها، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف:201).

مثلاً يكون في مجلس, فيتورط الحاضرون بغيبة مؤمن, فيتذكر نهي الله تعالى عن الغيبة, فيمتنع عن المشاركة معهم, وينهاهم عن ذلك, وقد يكون العلاج بمغادرة المجلس، أو شاب يتعرض لإغواء من الجنس الآخر, فيتذكر ان الله تعالى مطِّلع عليه, وإن الشاهد هو الحكم, فيكف عن الانسياق وراء شهوته, وهكذا.

وكان المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) دقيقين في مراقبتهم لأنفسهم, وإستحضار الرقابة الإلهية، روى إبراهيم بن علي، عن أبيه قال: (حججت مع علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فالتاثت - أي تباطأت- عليه الناقة في سيرها، فأشار إليها بالقضيب ثم قال: <<آه!

ص: 266

لولا القصاص>> ورد يده عنها)(1), وفي رواية (لو لا خوف القصاص لفعلتُ). واما في ظرف الطاعة, فان الانسان التّواق إلى الكمال اذا عرضت عليه فرصة الطاعة فأنه يذكر الله تعالى, وحثه على المسارعة إلى الخير, فيلبي دعوة الله تعالى, ويبادر إليها، قال تعالى: {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ} (البقرة:148), وقال تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (آل عمران:133), وفي الرواية عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من همَّ بشيء من الخير فليعجّله, فان كل شيء فيه تأخير فان للشيطان فيه نظرة)(2), وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (كان أبي يقول: اذا هممت بخير فبادر, فانك لا تدري ما يحدث)(3).

والتجربة شاهدة على ذلك, فقد يتعرض الانسان لموقف إنساني, كمساعدة محتاج, أو معالجة مريض, ويعزم على المساهمة بمبلغ مُعيّن -يفي بالحاجة- فاذا تأخر في إخراجه, فان الشيطان يوسوس له, بان هذا المبلغ كبير, وعليه ان يوفره لعياله, وانه لا يدع غيره يساهم في المساعدة, ونحو ذلك, حتى يثنيه عن عزمه, او يقلل مما قرّر سابقاً دفعه.

والأمر الآخر الذي عليه ان يتذكره عند الاقدام على الطاعة, هو اخلاص النية في العمل: فلا يُقدم عليه الا بعد أن يُنقي نيته من الرياء, وحب السمعة, ويختبر3.

ص: 267


1- الإرشاد- الشيخ المفيد: 2/ 144.- مناقب آل أبي طالب- ابن شهر آشوب: 3/ 294.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 143/ح9.
3- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 142/ح3.

نفسه, بانه لو لم يعلم احد بما فعل فهل سيتوقف عن العمل, أم يتساوى عنده علم الناس وعدم علمهم؛ لأن الله تعالى مُطلِّع على الحقائق وهذا كافٍ.وعليه أن يُطهر نفسه من العجب بنفسه, والتباهي بما فعل؛ لأنه يفسد العمل، وكذا عليه أن لا يحبط عمله بالمّن على من اسدى إليه المعروف وقال تعالى: {لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى} (البقرة:264).

وعليه أن يتثبت من فعله, بأنه برٌّ في موقعه, لكيلا يضيع معروفه, أو يؤدي إلى عكس النتيجة، روي عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله: (مع التثبت تكون السلامة)(1), وتجد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فرح كثيراً بدعاء سفانة بنت حاتم الطائي له (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), عندما عفى عنها, ثم أطلق جميع اسرى قبيلتها طيء حين قالت: (أصاب الله ببرك مواقعه)(2).0.

ص: 268


1- الخصال- الشيخ الصدوق:100.
2- أنظر: المستطرف- شهاب الدين الأبشيهي: 179.- شجرة طوبى- الشيخ محمد مهدي الحائري: 2/ 400.

القبس /21: سورة آل عمران:191

اشارة

{رَبَّنَا مَا خَلَقتَ هَذَا بَطِلا سُبحَنَكَ}

موضوع القبس: رفض العبثية في الحياة

درس بليغ من النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):

موضوع القبس: رفض العبثية في الحياة(1)

درس بليغ من النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):

نحن في جوار رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وفي ضيافته، ونحب أن نقف عند محطة من حياته الشريفة (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), ففي الرواية إنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان إذا استيقظ من نومه(2) في جوف الليل قلّب طرفه في السماء متأملاً, ويقرأ الآيات الكريمة العشر في أواخر سورة آل عمران, وهو يبكي {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ،رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ، رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا

ص: 269


1- كلمة ألقاها سماحة الشيخ (دام ظله) في المدينة المنورة, في موسم الحج: 1431ه- , وكان ذلك يوم الثلاثاء: 24/ذو القعدة ه-- الموافق: 2/ 11/ 2010م.
2- سنن أبي داود- ابن الأشعث السجستاني: 1/ 22/ح58.- الجامع الصحيح للسنن والمسانيد- صهيب عبد الجبار: 18/ 228.

بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ، رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (سورة آل عمران : 190-194)

خُلقنا للمعرفة:

{رَبَّنَا مَا خَلَقتَ هَذا بَاطِلاً سُبحَانَكَ} أيها الأحبة:

نحن لم نُخلق في هذه الدنيا عبثاً, وبلا غرض، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ، لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} (الأنبياء: 16 -17), فلا بد أن نلتفت إلى هذا الغرض الذي خلقنا من أجله, ليكون ماثلاً امامنا دوماً, ولنكرّس حياتنا من أجله، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56).

وورد في تفسير الآية, عن أبي عبد الله الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (خرج الحسين بن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على أصحابه فقال: أيها الناس إن الله جل ذكره ما خلق العباد إلا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه)(1), ومما ورد في دعاء الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم عرفة (إِلهِي عَلِمْتُ بِاخْتِلافِ الاثارِ, وَتَنَقُّلاتِ الأطْوارِ, أَنَّ مُرادَكَ مِنِّي أَنْ تَتَعَرَّفَ إِلَيَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى لا أَجْهَلَكَ فِي شَيْءٍ)(2).

ص: 270


1- علل الشرائع- الشيخ الصدوق: 1/ 9/ح1.
2- بحار الأنوار- المجلسي: 95/ 225.- مفاتيح الجنان- عباس القمي: 340.

فالغرض من وجودنا هو التعرف إلى الله تبارك وتعالى, وعبادته بحقيقة العبادة، بأن يكون الله تبارك وتعالى كقطب الرحى الذي ندور حوله, وإلى هذا المعنى يُشير الطواف بالكعبة، وأن يكون تبارك وتعالى محور حياتنا في كل حركاتنا, وكل سكناتنا, ومشاعرنا, وعواطفنا, ومواقفنا التي نتخذها في حياتنا.

المعرفة غير التصومع:

وهذا لا يعني أن نترهب, ونعتزل الدنيا في الصوامع والكهوف، بل بالعكس, فإن هذا الهدف يدفعك إلى أن تخوض الحياة بكل تفاصيلها, وتمارسها بشكل طبيعي؛ لتؤدي رسالتك, ولكن عليك أن توظف كل ممارساتك لهذا الهدف، لقد كان الأنبياء والأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ), عباداً مخلصين لله تبارك وتعالى, ومعصومين عن الالتفات إلى غيره, ومع ذلك فقد كانوا يمارسون حياتهم الطبيعية كأي إنسان، فلا منافاة.

فالعمل, والكسب يمكن أن يجعله الإنسان لاكتناز الأموال, وزيادة أرصدته في البنوك للمباهاة, والتفاخر, ولايخرج حقوقه الشرعية, فيكون وبالاً عليه، ويمكن أن يجعله للتعفف مما في أيدي الناس, وللإنفاق في وجوه البر والإحسان, ومساعدة المحتاجين, والحج, والزيارة, وتزويج المؤمنين, ودعم المؤسسات الخيرية, فينال رضا الله تبارك وتعالى, ويحقق الهدف.

والأكل مثلاً يمكن أن يجعله لحفظ البدن الذي هو واجب, وللتقوي على العبادة, ونحوها من الأهداف الصحيحة.

والزواج الذي فيه إشباع للشهوة, والغريزة يمكن وضعه في هذا السياق, بأن يجعل غرضه إقامة سنة الله تبارك وتعالى, وصيانة النفس, والزوجة من الحرام,

ص: 271

وإدخال السرور على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), وتكثير نسمات الموحّدين, وبناء أسرة صالحة, وإدخال السرور على امرأة مؤمنة, ونحوها من النيات المباركة. وهذا إنما يتحقق حينما يكون الإنسان دائم الذكر لربه, مستحضراً وجوده المقدس, والإنسان غير المعصوم لا يكون كذلك على الدوام, ولكن ليجعله هدفه الذي يسعى لتحقيقه، ولو أدركته غفلة, أو انساق وراء شهوة, فليعد فور تذكره إلى ربّه, قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (الأعراف:201).

أوثق العُرى:

نحن أتباع أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ), متمسكون بأوثق العُرى الموصلة لمعرفة الله تبارك وتعالى الدالة على عبادته, وأعظم الوسائل لنيل رضاه، والضامن الأكيد لسلامة المسير إلى الله تبارك وتعالى, والصائنة من الانحراف عن الصراط المستقيم، ففي تتمة رواية علل الشرائع المتقدمة (فقال له رجل: يا ابن رسول الله بأبي أنت وأمي فما معرفة الله؟ قال: معرفة أهل كل زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته)(1).

لأن من لا يعرف إمام زمانه, ولا يأخذ عنه فإنه لا يعرف الله حق معرفته، ومن يعتقد أن ربه يتركه بلا إمام يهديه فقد ضل سواء السبيل، وقد ورد في الدعاء, كما في رواية الكافي, عن أحمد بن هلال, عن زرارة بن أعين قال: (قال أبو عبد

ص: 272


1- علل الشرائع- الشيخ الصدوق: 1/ 9/ح1.

الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): ادع الله بهذا الدعاء: <<اللهمَّ عرَّفني نفسَك، فإنَّك إن لم تُعرِّفْني نفسَك لم أعرف نبيَّك، اللهمَّ عرِّفْني رسولَك، فإنَّك إنْ لم تُعرِّفْني رسولَك لم أعرفْ حجَّتَك، اللهمَّ عرِّفْني حجَّتَك، فإنَّك إنْ لم تُعرِّفْني حجَّتَك ضللتُ عن ديني>> قال أحمد بن الهلال: سمعت هذا الحديث منذ ست وخمسين سنة)(1).

وابتغواْ إلَيه الْوسيلة:

قد أمر الله تبارك وتعالى باتخاذ هذه الوسيلة لنيل رضاه, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} (المائدة:35), وهي ولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ), ومودّتهم, كما دلت عليه الروايات, ويمكن استفادة هذا المعنى من القرآن الكريم بالجمع بين الآيتين الكريمتين {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} (الفرقان:57) وقوله تعالى: {قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (الشورى:23), فالسبيل هي مودة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ), وقد أمرت آية سورة المائدة باتخاذه وسيلة.

كل مخلوق مُيسر لما خلق له:

ومن لطف الله تعالى بعباده, وحكمته في تدبير شؤونهم, وتغطية كل مساحات الحياة أنه نوّع الطاعات, والقربات الموصلة إليه, وأعطى لعباده إمكانيات, ومؤهلات مختلفة، فبعض أُعطي العلم النافع فهو يتقرب إلى الله بإرشاد

ص: 273


1- الكافي- الشيخ الكليني: 1/ 342.- مصباح المتهجد- الشيخ الطوسي: 411.- كتاب الغيبة- النعماني: 1/ 168.

الناس, وتعليمهم معالم دينهم, وهدايتهم، وآخر أُعطي المال ليتقرب إلى الله بإنفاقه في وجوه البر, والإحسان، وآخر أُعطي أخلاقاً كريمة يعاشر بها الناس, فيحبّه الله تبارك وتعالى.فهذا التنوع في القناعات, والاختلاف في أداء الأعمال الموصلة إلى الله تعالى رحمة بالعباد, كما في الحديث النبوي الشريف: (اختلاف أمتي رحمة)(1).

وهنا شقشقة أُريد أن أبوح بها؛ لأن مجتمعنا مبتلٍ بها في جميع البلدان, وليست خاصة ببلد - فقد بلغني أنها موجودة هنا في المملكة, وإيران, والبحرين, ولبنان, كما هي موجودة عندنا في العراق- وهي عدم التعاطي مع هذا التنوع بايجابية، بل بحساسية مفرطة, وسوء ظن تصل إلى حد التقاطع, وتبادل الاتهامات, والتسقيط, وربما التكفير في بعض الحالات والعياذ بالله، وهذه حالة مرفوضة, ولا مبرر لها من سيرة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ), وتعاليمهم وتُوقع أصحابها في الكبائر, مع ما فيها من حرمان للأمة من طاقات فاعلة, وحركات مؤثرة.

لقد شبّه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أمته بالسفينة التي تتحرك بحركة واحدة نحو ساحل الأمان, ولو شاء أحد أن ينفرد برأيه, ويخرج من حركة الأمة, ويقلع خشبته من السفينة؛ فإن الأمة تغرق, فلا بد من حركة تكاملية لعناصر المجتمع, يتمم بعضهم دور بعض, ويُشكّل كل واحد المساحة التي يستطيع التحرك فيها، وليست حركة تقاطعية عِدائية.

أجارنا الله تعالى وإياكم من مضلات الفتن...7.

ص: 274


1- معاني الأخبار- الشيخ الصدوق: 157.

القبس /22: سورة النساء:17

اشارة

{إِنَّمَا ٱلتَّوبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعمَلُونَ ٱلسُّوءَ بِجَهَلَة ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيب}

موضوع القبس: بادر الى التوبة فأنها تصعب بالتأخير

التورط بأموال الناس نموذجاً

قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَ-ئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ، وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَ-ئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} (النساء: 17 -18).

فالآية تبين ان قبول التوبة - اي قبول الله تعالى لعبده بعد ان يعود العبد الى ربه بالندم والاستغفار لان التوبة تعني الرجوع فالحركة متبادلة بين العبد وربهِّ {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ} (التوبة:118), قال تعالى {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} (المائدة:39)- حق فرضه الله تبارك وتعالى على نفسه للذين وقعوا في المعاصي, والذنوب, رحمةً بهم, وشفقةً عليهم, ولعلمه تعالى بضعفهم, وقصورهم, اذا تابوا وندموا من قريب, ولم يسوّفوا التوبة, ويؤجلوها, تمادياً في المعصية.

ص: 275

ولم يحدَّد سبحانه الوقت القريب لأنه ممتد ما دامت التوبة لها أثر إيجابي في حياة الانسان لكنها كلما كانت سريعة كانت أجدى في زوال اثر المعصية والعودة الى الاستقامة.روى الشيخ الصدوق في الفقيه بسنده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال في آخر خطبة خطبها (من تاب قبل موته بسنة تاب الله عليه، ثم قال: ان السنة لكثيرة، من تاب قبل موته بشهر تاب الله عليه، ثم قال: ان الشهر لكثير، ومن تاب قبل موته بجمعة تاب الله عليه، ثم قال: ان الجمعة لكثيرة، ومن تاب قبل موته بيوم تاب الله عليه، ثم قال: ان يوم لكثير، ومن تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه، ثم قال: ان الساعة لكثيرة، ومن تاب وقد بلغت نفسه هذه – وأهوى بيده الى حلقه – تاب الله عليه)(1)

ومثل الآية محل البحث آيات عديدة كقوله تعالى {وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنعام:54) ومثلها (النحل:119).

وهذا لا يعني غلق الباب على غيرهم فرحمة الله تسع الجميع، ففي أصول الكافي بسند صحيح عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (اذا بلغت النفس ها هنا - وأشار الى حلقه - لم يكن للعالم توبة، ثم قراء {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ}(2) لكن3.

ص: 276


1- الفقيه: 1/ 133 ح 351
2- الكافي: 1/ 37 ح3.

هذه الآية تذكر شرطي التوبة التي اوجب الله تعالى على نفسه قبولها وهما التوبة من قريب وان يكون صدور الذنب بجهالة. اما الذين لا يبادرون الى التوبة ويؤجلونها ثم يتوبون قبل ان يدركهم الموت فهؤلاء موكولون لأمر الله تعالى، قال سبحانه {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة:106) فهؤلاء صنف بين من تقبل توبتهم حتماً ومن لا تقبل وهو من لا يتوب حتى ينزل به الموت.والجهالة هنا - كما في الموارد القرآنية الأخرى - ليست مقابل العلم لان الجاهل بحرمة شيء قد يكون معذوراً ولأنها قد تطلق على العالم أيضاً وقد وصفت حال الأمم قبل الإسلام بالجاهلية مع ان فيهم من بلغ من العلوم والحضارة المادية مرتبة متّقدمة، وانما تعني الحماقة والسفاهة والنزق وعدم الحكمة في التصرف وعدم وضع الأمور في موضعها الصحيح والانسياق وراء الشهوات والنزوات بلا تعقل، روى العياشي في تفسير هذه الآية عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (يعني كل ذنبٍ عمله العبد وان كان به عالماً فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربه، وقد قال فيه تبارك وتعالى يحكي قول يوسف لاخوته {قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ} (يوسف:89). فنسبهم الى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله)(1) قال تعالى {أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (البقرة:67) وكأنه اعتبر عدم انتفاعه بعلمه كعدم العلم وقد قال الراغب في معاني الجهل (فعل الشيء بخلاف ما حقّه ان يفعل، سواء اعتقد فيه2.

ص: 277


1- تفسير العياشي: 1/ 228 ح 62.

اعتقادا صحيحا او فاسدا).وكأنه أريد بهذا القيد (بجهالة) إخراج مرتكب الذنوب عناداً وتمرداً واستكباراً على رب العزة والجلال وإنكاراً لقدرته تعالى.

وينبغي الالتفات الى ان هذا الوعد الإلهي الكريم لا يصح ان يكون سبباً لاغترار(1) الانسان واستخفافه بمقام ربه تعالى، وانما عليه ان يستعصم بالله تعالى ويطلب منه العون على تجنب الذنب اصلاً، روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (ترك الذنب اهون من طلب التوبة)(2) ولكن لو حصل الذنب فالمطلوب المبادرة الى التوبة وإصلاح الحال لكي يكون مشمولا بالآية الكريمة ولان الاستمرار على الخطأ والخطيئة يصعّب العودة ويعقّد الوضع وتكون النتيجة عدم التوفيق للتوبة. من وصايا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأبن مسعود (لا تقدِّم الذنب ولا تؤخر التوبة، لكن قدِّم التوبة وأخرّ الذنب)(3)، ومن كلام لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لاتكن ممن يرجو الآخرة بغير العمل، ويُرجئ التوبة بطول الامل... إن عرضت له شهوة أسلف المعصية - أي عجّلها - وسوّف التوبة)(4) وله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أيضاً (إن قارفت سيئة فتعّجل محوها بالتوبة)(5)

وأذكر لكم رواية تبيّن صعوبة التوبة بالتأخير وهي تتعلق بأحد الذنوب1.

ص: 278


1- راجع قبس/ 171, (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ), من نور القرآن: 5/ 201
2- بحار الانوار: 73/ 346 / ح 96.
3- مكارم الاخلاق ص 29، بحار الانوار: 77/ 104 ح 1.
4- بحار الانوار: 6/ 37 ح 60.
5- بحار الانوار: 77 / 208 ح 1.

الكبيرة التي كثر الابتلاء بها وهو الدخول في اعمال الظالمين والفاسدين وسرّاق المال العام طمعاً بالاستفادة من دنياهم، سواء كان هؤلاء الظلمة قادة سياسيين او رؤساء عشائر او تجار ورجال اعمال او زعماء جماعات القتل والخطف والابتزاز وقبض الرشاوي ونحو ذلك، وقد وردت الروايات الكثيرة الدالة على الحرمة المغلّظة للدخول في أعمالهم، منها عن ابي بصير قال (سألت ابا جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن أعمالهم - أي الولاة الظلمة - فقال لي: يا أبا محمد، لا ولا مدة قلم، ان أحدهم (أحدكم) لا يصيب من دنياهم شيئاً الا اصابوا من دينه مثله)(1).فالحذر الحذر من الدخول في شيء من ذلك ومن تورّط فعليه بالإسراع في الخروج منها والا فان الرجوع الى الحق سيكون صعباً، روى الشيخ الكليني بسنده عن حميد قال: (قلت لأبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): اني ولّيت عملاً - أي من اعمال الظالمين وولاياتهم - فهل لي من ذلك مخرج؟ فقال: ما أكثر من طلب المخرج من ذلك فعسر عليه، قلت: فما ترى؟ قال: ارى ان تتقي الله عز وجل ولا تعد)(2).

ولكي نعرف كيف يصعب الحل ويصبح ثقيلاً جداً على النفس الاستجابة اليه، نقرأ الرواية التالية من الكافي بسنده عن علي بن ابي حمزة قال (كان لي صديق من كتاب بني أمية فقال لي: استأذن لي على أبي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فاستأذنت له، فأذن له، فلما ان دخل سلم وجلس، ثم قال: جعلت فداك أني كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم مالاً كثيرا، وأغمضت في مطالبه - أي لم أدقّق في كون مصدره حلالاً أو حراماً - فقال أبو عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): لو لا ان بني أمية وجدوا5.

ص: 279


1- الوسائل:17/ 179 أبواب ما يكتسب به باب 42 ح 5.
2- الوسائل: 17/ 189 الباب 45 عسر التوبة ح 5.

لهم من يكتب ويجبي لهم الفيء ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم لما سلبونا حقنا، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئا الا ما وقع في أيديهم) وهكذا كل الطغاة والظالمين والفاسدين لولا انهم وجدوا من يمكّنهم ويسلطّهم بالقوة او بالانتخابات لما وجدوا مجالاً لممارسة الظلم والفساد لانهم لا يملكون القدرات الذاتية التي تمكنّهم من فعل شيء كشرذمة بني امية وسائر الطواغيت والظلمة (قال: فقال الفتى: جعلت فداك فهل لي مخرج منه؟ قال: ان قلت لك تفعل؟ قال: أفعل، قال له فأخرج من جميع ما كسبت في ديوانهم فمن عرفت منهم) أي من أصحاب الحقوق المالية (رددت عليه ماله، ومن لم تعرف تصدقت به، وانا أضمن لك على الله عز وجل الجنة، فاطرق الفتى طويلاً) لان المطلوب منه صعب عسير وقد تعوّد على وضع اجتماعي ومالي لا يستطيع الخروج منه الا ذو حظ عظيم وهذا معنى قولنا ان التوبة تصعب بالتأخير (ثم قال له: لقد فعلت جعلت فداك. قال أبن ابي حمزة: فرجع الفتى معنا الى الكوفة فما ترك شيئاً على وجه الأرض الا خرج منه حتى ثيابه التي كانت على بدنه قال: فقسمت له قسمة واشترينا له ثياباً وبعثنا اليه بنفقة، قال: فما اتى عليه الا أشهر قلائل حتى مرض) وربما كان مرضه لثقل الهم والشعور بالمسؤولية امام الله تعالى وضريبة الغفلة التي كان فيها قبل أن يستيقظ (فكنا نعوده، قال: فدخلت يوماً وهو في السوْق(1) قال: ففتح عينيه ثم قال لي: يا علي وفى لي والله صاحبك، قال: ثم مات فتولينا أمره، فخرجت حتى دخلت على أبي عبدالله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فلما نظر الي قال لي: يا علي وفينا واللهن.

ص: 280


1- أي حالة الاحتضار ونزع الروح فكأنها تُساق لتخرج من البدن.

لصاحبك، قال: فقلت صدقت جعلت فداك هكذا والله قال لي عند موته)(1).أقول: وهكذا في سائر الامور علينا المبادرة الى اصلاح الخطأ ومعالجة الخلل قبل ان يتسع ويتعذر إصلاحه، مثلاً يحصل خلاف وسوء تفاهم بين شخصين كالزوجين أو الاخوين أو بين جماعتين، فعليهم ان (يعبروا النهر ما دام ضيقاً) كما في المثل العامي اما اذا استمروا في الخلاف وتدخلت عناصر أخرى بالقيل والقال فان المشكلة تستعصي على الحل.

ومما يزّيد صعوبة التوبة ايضاً فيما لو تسبّب بتوريط الاخرين في الظلم والمعصية والضلالة كدعاة الفسق والفجور والالحاد والعزوف عن الدين وتشويه صورة الصالحين وتسقيطهم او دعوة الناس الى اتباعه بغير استحقاق ونحو ذلك لان من شروط التوبة حينئذ ان يصحّح ويعالج كل ما تسبب به ويلاحقه أينما كان. وهذا قد يستحيل تحقيقه وليس له الا لطف الله تعالى وكان عليه ان يتورع من اول الامر ولا يتورط بأمثال هذه المعاصي فيصبح ضالاً ومضلاً.1.

ص: 281


1- وسائل الشيعة: 17 / 199 ، أبواب ما يكتسب به، باب 47 ح 1.

القبس /23: سورة النساء:58

اشارة

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}

موضوع القبس: مصاديق أداء الأمانة

نبدأ حديثنا برواية في بركة أداء الأمانة والمنزلة العظيمة لمن يؤدي الأمانة، فقد روى الكليني (رضوان الله عليه) بسنده عن أبي كهمس (الهيثم بن عبد الله الشيباني) قال: (قلت لأبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): عبد الله بن أبي يعفور يقرؤك السلام، قال: وعليك وعليه السلام، إذا أتيت عبد الله فاقرأه السلام وقل له: إن جعفر بن محمد يقول لك: انظر ما بلغ به علي عند رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فالزمه، فإن علياً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إنما بلغ ما بلغ عند رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بصدق الحديث وأداء الأمانة)(1).

وحينئذٍ قد يقال بأن هاتين الخصلتين مما يتيسر الاتصاف بهما مع أن منزلة علي مما لا يبلغها أحد من بعده كما قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (ألا وأنكم لا تقدرون على ذلك) (2) لذا فإن الأمر يحتاج إلى شيء من الإيضاح والتفصيل، وسنتحدث هنا عن أداء الأمانة، حيث ينصرف الذهن إلى قضية وضع أموال الناس وممتلكاتهم عند بعضهم واستردادهم عند مطالبة أصحابها، فأداء الأمانة يعني رد الحقوق وإيصالها إلى أهلها.

ص: 282


1- وسائل الشيعة: كتاب الوديعة، باب 1، ح1.
2- نهج البلاغة: 676 من كتاب الى عثمان بن حنيف.

وبهذا المعنى يتساوى كثيرون مع علي بن أبي طالب، لكن الأمانة لها معنى أوسع من هذا بكثير وأداء الأمانة يقتضي مسؤوليات كبرى.

أمانة العهد والميثاق:

وأول أمانة وأعظمها هي تلك التي عرضها الله تبارك وتعالى على جميع المخلوقات فاعتذرت عن تحملها وحملها الإنسان قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (الأحزاب:72) وهي أمانة العهد والميثاق الذي أخذه الله تبارك وتعالى على عباده ليمنحهم بمقتضاه خلافة الله تعالى في الأرض بأن يكون الإنسان مخلوقاً عاقلاً رشيداً ويُسخَّر له الكون كله على أن يكون موحداً لله تبارك وتعالى ومن ثم تعريضه للجزاء والحساب ليثاب على إحسانه بجنة عرضها السماوات والأرض ويحاسب على سيئاته، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (الأعراف:172).

ويعيد الإنسان التأكيد على هذا الميثاق عندما يصافح الحجر الأسود فيقول: (اللهم أمانتي أديتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة).

تخلقوا بأخلاق الله:

تلك الخلافة التي تعني أن يكون الإنسان مظهراً للصفات الإلهية والأسماء الحسنى فيجعل الله تعالى المثل الأعلى الذي يبذل وسعه للاتصاف بصفاته {وَلِلَّهِ

ص: 283

الْمَثَلُ الأَعْلَى} (النحل: 60) وورد في الاثر (تخلقوا بأخلاق الله)(1) وهي لا تقتصر على الأسماء الحسنى كالرحيم والكريم والغفار والعليم، بل تشمل كل الصفات الإلهية التي نطق بها القرآن الكريم والأدعية الشريفة والروايات المأثورة كقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاء الافتتاح: (فلم أرَ مولىَ كريماً أصبرَ على عبدٍ لئيمٍ منك عليّ يا ربِّ إنك تدعوني فأولّي عنك، وتتحبب إليّ فأتبغّضُّ إليك، وتتودد إلي فلا أقبل منك، كأن لي التطول عليك، فلم يمنعك ذلك من الرحمة لي والإحسان إلي، والتفضل علي بجودك وكرمك)، فهذه صفة لله تبارك وتعالى علينا أن نسعى للتخلق بها وهكذا غيرها.وبأداء هذه الأمانة أوصى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من خطبة له: (ثُمَّ أَدَاءَ الْأَمَانَةِ فَقَدْ خَابَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا إِنَّهَا عُرِضَتْ عَلَى السَّمَاوَاتِ الْمَبْنِيَّةِ وَالْأَرَضِينَ الْمَدْحُوَّةِ وَالْجِبَالِ ذَاتِ الطُّولِ الْمَنْصُوبَةِ فَلَا أَطْوَلَ وَلَا أَعْرَضَ وَلَا أَعْلَى وَلَا أَعْظَمَ مِنْهَا وَلَوِ امْتَنَعَ شَيْ ءٌ بِطُولٍ أَوْ عَرْضٍ أَوْ قُوَّةٍ أَوْ عِزٍّ لَامْتَنَعْنَ وَلَكِنْ أَشْفَقْنَ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَعَقَلْنَ مَا جَهِلَ مَنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُنَّ وَهُوَ الْإِنْسَانُ {إنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً})(2).

وقد تمثلت في رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كل الصفات الحسنى المتاحة للمخلوقات فقد ورد في الحديث أن أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) حازوا اثنين وسبعين حرفاً من الاسم الأعظم ذي الثلاثة والسبعين حرفاً وبقي حرف واحد اختص تبارك وتعالى به لنفسه وكانوا مظهراً لكل الصفات الإلهية المتاحة لهم كمخلوقين، فأدى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هذه الأمانة خير أداء.).

ص: 284


1- بحار الانوار: 58/ 129
2- نهج البلاغة من الخطبة (199).

ويعني أداء هذه الأمانة الإيمان والالتزام بكل العقائد الحقة التي أشهد الله تبارك وتعالى عباده عليها {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (الأعراف:172) والأحكام الشرعية التي حدها لعباده والشهادة لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالرسالة والنبوة ولأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالولاية ولأهل بيته بالمودة والإتباع، ولذا ورد في الكافي تفسير الآية أن (الأمانة هي ولاية أمير المؤمنين)(1).

نفسك التي بين جنبيك:

ومن مصاديق الأمانة نفسك التي بين جنبيك، يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (عِبَادَ اللهِ، اللهَ اللهَ فِي أَعَزِّ الأَنْفُسِ عَلَيْكُم، وَأَحَبِّهَا إِلَيْكُمْ؛ فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَوْضَحَ لَكُمْ سَبِيلَ الْحَقِّ وَأَنَارَ طُرُقَهُ، فَشِقْوَةٌ لاَزِمَةٌ، أَوْ سَعَادَةٌ دَائِمَةٌ! فَتَزَوَّدُوا فِي أَيَّامِ الْفَنَاءِ لِأَيَّامِ الْبَقَاءِ. قَدْ دُلِلْتُمْ عَلَى الزَّادِ، وَأُمِرْتُمْ بَالظَّعْنِ، وَحُثِثْتُمْ عَلَى الْمَسِيرِ)(2) فهي أعز أمانة استودعك الله إياها أو ائتمنك عليها لتهذبها وتحميها من إتباع الهوى ونزغات الشيطان وأن لا تسلس القياد لها فتوردك موارد الهلكة فإن إعطاءها ما تريد –وهي الأمارة بالسوء- يقود إلى الهلاك. في دعاء الصباح لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (فبئس المطية التي امتطت نفسي من هواها، فواهاً لها لما سولت لها ظنونها ومناها).

وهي قد تبدو مفارقة أن تكون رعاية النفس والإحسان إليها بمنعها مما

ص: 285


1- شرح أصول الكافي :ج 7 / 52
2- نهج البلاغة الخطبة (157).

تشتهيه وكبح جماحها، وعدم إطلاق العنان لها في اللهو واللعب كالذين قضوا ساعات شهر رمضان المباركة –التي جعلها الله تبارك وتعالى ميداناً لأوليائه يتسابقون فيها إلى رضوانه- يقضونها بمتابعة المسلسلات الماجنة ولعبة المحيبس وأمثالها، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في المناجاة الشعبانية: (إلهي قد جُرتُ على نفسي في النظر لها، فلها الويل إن لم تغفر لها) ويقول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبُت على جوانب المزلق)(1)، وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (وأيمُ الله - يميناً أستثني فيها بمشيئة الله- لأرُوضَنَّ نفسي رياضةً تَهِشُّ معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً)(2) وفي ذلك يوصي الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) شيعته خصوصاً الذين يسوّفون التوبة والندم والاستغفار والذين يتلفون أنفسهم فيما يسمونه (جهاداً) أو (ثورة) أو (مقاومة) ونحوها دون الرجوع إلى البصير بأمور الشريعة وما يصلح الأمة، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له وانظروا لأنفسكم، فوالله إن الرجل لَيكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلاً هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها، والله لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرب بها، ثم كانت الأخرى باقية يعمل على ما قد استبان لها، ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة، فأنتم أحقّ أن تختاروا لأنفسكم، إن أتاكم آتٍ منّا فانظروا على أي شيء تخرجون) (فنحن نشهدكم أنا لسنا نرضى به وهو يعصينا اليوم وليس معه أحد،ع.

ص: 286


1- نهج البلاغة، قسم الرسائل، العدد: 45.
2- المصدر السابق، نفس الموضع.

وهو إذا كانت الرايات والألوية أجدر أن لا يسمع منا)(1).

الجسد من مصاديق الأمانة:

ومن مصاديق الأمانة: جسدك الذي ائتمنك الله تبارك وتعالى وصنعه لك بأحسن تقويم لتتخذه وسيلة للكمال والوصول إلى الغاية وأمرك بالاعتناء به وحفظه وتوظيفه لهذا الهدف السامي وهو طاعة الله تبارك وتعالى وعبادته فهو وسيلة وليس غاية، ومما ورد في مناجاة الخائفين للإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إلهي هل تسوّدُ وجوهاً خرَّتْ ساجدة لعظمتك، أو تُخرسُ ألسنةً نطقت بالثناء على مجدك وجلالتك، أو تطبع على قلوبٍ انطوت على محبتك، أو تُصِمُّ أسماعاً تلذذت بسماع ذكرك في إرادتك، أو تغلّ أكفاً رفعتها الآمال إليكَ رجاء رأفتك، أو تعاقب أبداناً عملت بطاعتك حتى نحلت في مجاهدتك، أو تعذب أرجلاً سعت في عبادتك).

فمن الخيانة توظيف الجسد في الحرام كاللواتي يتاجرن به أو الذين يستخدمون بعض جوارحهم في الحرام ومن الخيانة إيلام الجسد وإيذاؤه ولو بمثل التدخين الضار فضلاً عن المحرمات كشرب الخمر والزنا أو إيذاؤه تحت عناوين مبتدعة كبعض ما يأمر به أدعياء السلوك إلى الله تعالى والمعرفة ولو كان في ما يفعلونه خيراً لما توقف الأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) عن بيانه وهم كجدهم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) {بِالمُؤمِنِينَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة:128)، فلا يحبسون عنهم ما ينفعهم، ومن الإيذاء ما يفعله البعض باسم شعائر الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والتفجّع لمصابه وهي براءٌ

ص: 287


1- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 13، ح1.

منه {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (يونس: 59).ومن الخيانة إغراق الجسد في الراحة والترف والاعتناء بمتع الجسد وكمالياته بعيداً عن الهدف، لأنه وسيلة وليس غاية، فلا يعقل إمضاء الوقت المقرر للسفر بالاعتناء بواسطة النقل وترتيبها وتجميلها حتى ينتهي الوقت المقرر لبلوغ الغاية. وهكذا عمر الإنسان المخصص للسفر إلى الملكوت فلا يقضيه في إمتاع الجسد وراحته، حكي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (اريحوا اجسادكم بالتعب ولا تتعبوها بالراحة)، وكان (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لا يعطي لجسده إلا ما يقويه على طاعة الله تبارك وتعالى لذلك كان جسده قوياً متيناً قادراً على الانسجام مع ما يقتضيه مقام أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من الفناء في طاعة الله تبارك وتعالى والجهاد في سبيله حتى قال بعض المتخصصين عندما اطلع على نظام حياة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وغذائه: ((لولا ضربة ابن ملجم لكان من الممكن أن يعيش علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى آخر الدهر)) ويجيب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على من يستشكل عليه ويرى أن قوة الجسد في الترف والتنعم، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (وكأني بقائلكم يقول: إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشجعان، ألا وإن الشجرة البرّيّة أصلب عوداً والروائع الخضرة أرق جلوداً والنباتات البدوية أقوى وقوداً وأبطأ خموداً)(1)، ويقول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (فما خُلقتُ ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها، أو المرسلة شغلها تقمُّمها تكترش من أعلافها وتلهو عما يُراد بها، أو أترك سدى، أو أهملَ عابثاً، أو أجُرُّ حبل الضلالة أو أعتسف طريق المتاهة)(2).ع.

ص: 288


1- نهج البلاغة قسم الرسائل، العدد: 45.
2- نهج البلاغة، قسم الرسائل، نفس الموضع.

أداء الأمانة:

وإذا انتقلنا إلى أداء الأمانة للآخرين؛ فمن مصاديقها الزوجة فإنها أمانة عند زوجها كما ورد في الدعاء المأثور عند إدخال الزوجة على زوجها: (اللهم على كتابك تزوجتها، وفي أمانتك أخذتها، وبكلماتك استحللت فرجها) إلخ، ولم تأتِ إلى بيت الزوج إلا بعقد وصفه الله تبارك وتعالى بأنه ميثاق غليظ قال تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} (النساء:2) وهو وصف ميثاقه تبارك وتعالى مع الأنبياء والرسل {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} (الأحزاب:7) وواجبه تجاه هذه الأمانة إكرامها ومعاشرتها بالمعروف ففي الحديث: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهله)(1) (ما أكرمهن إلا كريم وما أهانهن إلا لئيم) فمن ظلم زوجته وقصّر في إكرامها فقد خان الأمانة.

وعيالك أمانة عندك تنفق عليهم وتهذبهم وتحسن تربيتهم وتوجيههم إلى الأخلاق الفاضلة وفعل الخير.

والزوج أمانة عند زوجته تحفظه في ماله ونفسها وتطيعه إذا أمرها.

والعلم أمانة تعمل به وتبذله لمن يستحقه فإن بذل العلم لأهله صدقة وفي قصص بني إسرائيل أن جليساً لموسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وعى علماً كثيراً عذّبه الله تبارك وتعالى بمسخه قرداً في عنقه سلسلة فسأل موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ربه عنه فأوحى إليه: (إني كنت حمّلته علماً فضيّعه وركن إلى غيره).

ص: 289


1- وسائل الشيعة - الحر العاملي/ج20 /ص 171

أمانة الموقع السياسي والاجتماعي:

والموقع السياسي والإداري والاجتماعي والعشائري هو أمانة يُسأل الإنسان عن أدائها والقيام بحقوقها وليس غنيمة يستأكل بها، وإن الله تبارك وتعالى مسائله عن حسن سيرته مع من ولاه عليهم، وهذا المعنى ركّز عليه أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لرسوخ معنى الغنيمة و (تقاسم الكعكة) - بمصطلح الحكام والسلطات- ففي كتابه إلى عامله على آذربيجان أشعث بن قيس يقول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (وإن عملك ليس لك بطعمةٍ ولكنه في عنقك أمانة، وأنت مسترعىً لمن فوقك. ليس لك أن تفتات في رعية، ولا تخاطرَ إلا بوثيقة، وفي يديك مالٌ من مال الله عز وجل، وأنت من خزانه حتى تسلمه إليّ، ولعلي ألا أكون شرّ ولاتك لك، والسلام)(1).

ويعلّم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مالك الأشتر أوصاف الذين يختارهم للولاية والإدارة والحكم: (ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً، ولا تولّهم محاباةً وأثَرة، فإنهم جِماعٌ من شعب الجور والخيانة، وتوخَّ منهم أهل التجربة والحياء)(2).

وكان يحاسب عماله أشدَّ المحاسبة إذا علم منهم تقصيراً أو خيانة، ولم ينقل التأريخ خيانة بعض عمال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلا من خلال كشفه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لهم، في حين أن الحكام الآخرين كانوا فاسدين لكنهم لم يحاسبهم من هو فوقهم، فقد كتب إلى زياد بن أبيه وهو خليفةُ عاملِه على البصرة وتوابعها كالأهواز وفارس وكرمان عبد الله بن عباس: (وإني أقسم بالله قسماً صادقاً، لئن بلغني أنك خُنتَ من فيء المسلمين شيئاً صغيراً أو كبيراً لأشدَّنَّ عليك شدةً تدعك

ص: 290


1- المصدر، العدد: 5.
2- المصدر، العدد 53.

قليل الوفر ثقيل الظهر ضئيل الأمر، والسلام)(1).وكتب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى المنذر بن الجارود العبدي، وقد خان في بعض ما ولاه من أعماله: (أما بعد، فإن صلاح أبيك غرني منك، وظننت أنك تتبع هديه وتسلك سبيله، فإذا أنت –فيما رُقِّيَ إليّ عنك - لا تَدَعُ لهواك انقياداً ولا تُبقي لآخرتك عتاداً، تعمر دنياك بخراب آخرتك، وتصل عشيرتك بقطيعة دينك، ولئن كان ما بلغني عنك حقاً، لَجَمَلُ أهلك وشسع نعلك خير منك، ومن كان بصفتك فليس بأهل أن يُسَدَّ به ثغر أو يُنفَذَ به أمر، أو يُعلى له قدر أو يُشركَ في أمانة، أو يؤمن على جباية، فأقبل إليَّ حين يصل إليك كتابي هذا، والسلام)(2).

معيار المؤمن:

أيها الأحبة: هذا بعض ما يمكن أن نفهمه من معنى الأمانة التي أُمرنا بأدائها، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء:58) والتي ورد في فضلها وأهميتها الكثير كقول الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لا تغترّوا بكثرة صلاتهم ولا بصيامهم فإن الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم حتى لو تركه استوحش، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة)(3).

الخيانة قبال الأمانة:

وبإزاء هذا المعنى الواسع للأمانة وأدائها يكون معنى الخيانة واسعاً فهي تشمل كل تفريط أو تقصير في أداء حق واجب على الإنسان، وهو ظاهر قوله

ص: 291


1- المصدر، العدد 20.
2- المصدر، العدد 71.
3- وسائل الشيعة: كتاب الوديعة، باب 1، ح2.

تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الأنفال:27) فعن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير الآية: (فخيانة الله والرسول معصيتهما، وأما خيانة الأمانة فكل إنسان مأمون على ما افترض الله عز وجل)(1).وقد وردت في الروايات أمثلة لخيانة الأمانة تتجاوز المعنى المتعارف كقول الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (أيما رجل من أصحابنا استعان به رجل من إخوانه في حاجة فلم يبالغ بكل جهده فقد خان الله ورسوله والمؤمنين)(2) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (الخائن من شغل نفسه بغير نفسه وكان يومه شراً من أمسه)(3).

وأعظم الخيانة خيانة الأمة في أي موقع ديني أو اجتماعي أو سياسي أو مالي أو إداري.

ومما كتب أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى بعض عماله بعد أن بيّن له ما يجب فعله قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (وإلا تفعل فإنك من أكثر الناس خصوماً يوم القيامة، وبؤسىً لمن خصمه عند الله: الفقراء والمساكين والسائلون والمدفوعون والغارمون وابن السبيل.

ومن استهان بالأمانة، ورتع في الخيانة ولم ينزه نفسه ودينه عنها؛ فقد أحل بنفسه الذل والخزي في الدنيا وهو في الآخرة أذلّ وأخزى، وإن أعظم الخيانة3.

ص: 292


1- تفسير نور الثقلين:2/ 144.
2- بحار الأنوار: 72/ 177.
3- غرر الحكم للآمدي، الحديث 2013.

خيانة الأمة، وأفظع الغش غش الأئمة، والسلام)(1).6.

ص: 293


1- نهج البلاغة، قسم الرسائل، العدد: 26.

القبس /24: سورة النساء:65

اشارة

{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِم حَرَجا مِّمَّا قَضَيتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسلِيما}

موضوع القبس: الإيمان لا يتحقق إلا بتحكيم شريعة الله تعالى

الفرق بين الحقيقة والدعوى:

إن الحقيقة تحتاج إلى دليل يبرزها ويؤكدها ويثبت وجودها، ومن دونه تكون الأشياء مجرد دعاوى، ويؤكد هذا الأمر الإمامُ الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في وصيته لهشام بن الحكم، قال (سلام الله عليه): (يا هشام لكل شيء دليل ودليل العاقل التفكر ودليل التفكر الصمت)(1) فلا بد أن لا نسلّم بالأمور والدعاوى حتى نتحقق من الدليل، ولا نسترخي للأوصاف التي ندّعيها لأنفسنا ونثبتها في هويتنا كالإسلام والتشيع وولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من دون أن نراقب أنفسنا ونتفقدها باستمرار ونمتحنها لنتلمس الدليل على صدق هذه الدعاوى.

هذه المقدمة تلقي الضوء على واقع مؤسف نعيشه نحن المسلمين وهو أننا ندعي عناوين كثيرة من دون تقديم الدليل على وجود حقائقها بل قد نقوم بالعكس من ذلك، فتخالف أقوالنا أفعالنا، لذا يعلمنا الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في

ص: 294


1- تحف العقول: 246.

الدعاء المروي عنه الاعتراف بهذا التقصير أمام الله تبارك وتعالى: (ومن كانت حقائقه دعاوى فكيف لا تكون دعاواه دعاوى)(1).

حقيقة الإيمان بالله تعالى:

وأهم تلك العناوين التي يجب أن نتأكد من وجود حقيقتها هو الإيمان بالله تبارك وتعالى لأنه أصل الدين وأساس الفوز والسعادة في الدنيا والآخرة، وتأكيداً لهذه الأهمية فقد كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) يلفتون نظر الناس إلى تفقد هذه الحقيقة فيسألون من يقولون: (نحن مؤمنون) ويقولون لهم: (فما حقيقة إيمانكم) أو يبدؤونهم بالبيان كقول الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لا يبلغ أحدكم حقيقة الإيمان حتى يكون فيه ثلاث خصال.. إلى آخر الحديث)(2).

أهم مظهر للتوحيد هو إقامة الأحكام الإلهية:

وقد بينت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة ما تكتمل به حقيقة الإيمان، قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} (النساء: 65)، فيقسم الله تبارك وتعالى على هذه الحقيقة {فَلا وَرَبِّكَ} ويحصر الإيمان بها {لا يُؤمِنُونَ حَتى يُحَكّمُوكَ} ويعطينا قاعدة مهمة من قواعد العقيدة في الإسلام، وهي أن أهم مظهر للتوحيد والإيمان بالله هو إقامة حكم الله تبارك وتعالى في الأرض، وتطبيق

ص: 295


1- مفاتيح الجنان، 315.
2- ميزان الحكمة: 1/ 286.

شريعته في شؤون الحياة والرجوع إليه في الحكم والالتزام بمنهجه في الحياة، وإن هاتين القضيتين متلازمتان، وإن جوهر الصراع بين الإيمان والكفر هو في من له حق الحاكمية والتشريع ورسم المنهج الذي تسير عليه البشرية، هل هو الله تعالى خالق الكون والعالم بما يصلحه ويسعده، أم الإنسان بقصوره وفقره وعجزه ومصالحه المتصارعة وأهوائه المتقلبة {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} (المؤمنون:71)؟.

الإيمان يكتمل بثلاثة عناصر:

لذا فإن الآية الكريمة تؤكد على أن الإيمان الحقيقي يكتمل بثلاثة عناصر:

1-الرجوع إلى شريعة الله تعالى التي بلّغها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ومن بعدهم العلماء العاملون المخلصون {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} أي يرجعون إليك في كل أمورهم ويأخذون الحكم منك ولا يحكمون غيرك وغير من نصبتهم من الحجج، وإن كل قانون يضعه البشر لم يؤخذ من الشريعة فإنه باطل وينافي أصل الإيمان بالله تعالى ولا يجوز لأحد أن يشرّع ويقنن خارج النصوص الشرعية.

2-أن يسلّموا بتلك الأحكام ويذعنوا إليها ويؤمنوا بها سواء أدركوا المصلحة فيها وعرفوا أسرار تشريعها أو لم يدركوا ذاك، وأن لا يشعروا بالحرج والضيق إذا عاب أحد عليهم هذه الأحكام أو انتقصها أو زعم أنها تخالف حقوق الإنسان وتنافي الحرية والعدالة والمساواة، أو أنها رجعية وتخلف ولا تواكب الزمان الحاضر، ونحو ذلك من التهم والاستفزازات.

ص: 296

3-أن يلتزموا بتلك الأحكام ويطبقوها في حياتهم من دون تبعيض وانتقائية للأحكام التي توافق رغباتهم وأهوائهم ومصالحهم، ويعرضون عنها إذا كانت لا تحقق مصالحهم الضيقة وتصطدم مع أهوائهم وشهواتهم، وإنَّ صدق الإيمان يظهر عندما يكون الحكم على خلاف الهوى والمصلحة ومع ذلك يسلِّم له ويطبقه ولا يجد في نفسه حرجاً منه.

روى الشيخ الكليني في الكافي بسند صحيح عن عبد الله بن يحيى الكاهلي قال: قال أبو عبد الله الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لو أن قوماً عبدوا الله وحده لا شريك له، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجوا، وصاموا شهر رمضان، ثم قالوا لشيء صنعه الله أو صنعه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): ألا صنع خلاف الذي صنع؟ أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين، ثم تلا هذه الآية: {فلا وربك لا يؤمنون..} ثم قال أبو عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): عليكم بالتسليم)(1).

ولقد أكد القرآن الكريم هذه الحقيقة في آيات كثيرة، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب: 36) وقال تعالى: {وَأَنَّ هَ-ذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} (الأنعام: 153)، وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ}(آل عمران:19)، وقال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:85) وغيرها.2.

ص: 297


1- الكافي: 1/ 321، ح2.

اهتمام الشريعة بتنظيم الأحوال الشخصية:

والروايات الشريفة حافلة أيضاً بهذه المعاني، وقد حظيت أحكام ما يعرف اليوم بالأحوال الشخصية باهتمام كبير من الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ولم يعذروا من يطبق القوانين الوضعية ولا يرجع إلى الأحكام الشرعية لأنها تنظم أموراً أساسية في حياة الأفراد كالزواج والطلاق والمواريث وأي خلل فيها يعني وقوع الناس في المحرمات في ذرياتهم وأموالهم، ولا مجال فيها للاعتذار بالتقية ونحوها لأنها قضايا شخصية لا تتعارض مع السلطات، وتحركوا بالوسائل المتاحة لهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ليقنعوا الأمة بها(1).

الانطلاقة من فروع الدين الى إقامة أصول الدين:

إن السيدة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) حينما قامت بأمر الله تعالى في وجه الانحراف والظلم وطالبت بحقها في فدك وحاججتهم بآيات المواريث إنما أرادت أن تنطلق من هذا الحكم المتعلق بالأحوال الشخصية إلى مطلب أوسع وأعظم وهو إقامة شريعة الله تعالى في الأرض وعلى رأسها اتباع الإمام الحق والقيادة الصالحة المصلحة، والقوم قد فهموها هكذا؛ لذا أرادوا قطع الطريق من

ص: 298


1- ويصل الاهتمام إلى درجة أن الإمام يسعى لإقامتها ولو بالقوة، في رواية صحيحة في الكافي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لا يستقيم الناس على الفرائض –أي المواريث- والطلاق إلا بالسيف) ومثلها عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ). وفي رواية أخرى عن أحدهم قال: (سألت أبا عبد الله الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن النساء هل يرثن من الرباع –أي الأراضي-؟ فقال: لا، ولكن يرثن قيمة البناء، قال: قلت: فإن الناس لا يرضون بذا؟ فقال: إذا وُلِّينا فلم يرضَ الناس بذلك ضربناهم بالسوط فإن لم يستقيموا ضربناهم بالسيف)(الروايات في الكافي: ج7، كتاب المواريث، باب 44).

أوله على مشروع السيدة الزهراء (يقول ابن أبي الحديد المعتزلي في أمر فدك: وسألت علي بن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد - وهو من علماء العامة- فقلت له: أكانت فاطمة (علیها السلام) صادقة؟ قال نعم. قلت: فلِمَ لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟ فتبسّم ثم قال: لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها لجاءت إليه غداً وادعت لزوجها الخلافة، وزحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشيء؛ لأنه يكون قد أسجل على نفسه أنها صادقة في ما تدعي كائناً ما كان من غير حاجة إلى بينة ولا شهود. قال ابن أبي الحديد: وهذا كلام صحيح)(1).

الخشية من انطلاقة القانون الجعفري:

وهذا ما يقوم به الأعداء على طول التأريخ منذ أن صدع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالدعوة الإسلامية المباركة فيعملون على إجهاض كل حركة لإيقاظ الناس وتفعيل دور الدين في حياة الأمة ويسعون لإبقاء الأغلال التي تكبّل الأمة ويحيطون الحركة بالتشويه والتسقيط والشبهات كما حصل في مواجهة القانون الجعفري لتبقى الغشاوة على عيون الناس وإلحاق الهزيمة بالإسلام، وهذا يفسّر اجتماع كل القوى في الداخل والخارج لمعارضة القانون وهو ما يزال مسودّة لم يعرض للنقاش أصلاً؛ لأنهم يخشون من آثاره المباركة اللاحقة على الأمة.

ص: 299


1- شرح نهج البلاغة: 16/ 284.

لا حكم غير الإسلام إلا الجاهلية:

لقد كانت الصديقة الطاهرة (علیها السلام) حازمة وصريحة في وعظهم وتحذيرهم بأنهم يعودون إلى جاهليتهم الأولى إذا خالفوا حكم الله تعالى، قالت (علیها السلام) في خطبتها: (وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا، أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون؟ أفلا تعلمون؟ بلى قد تجلى لكم كالشمس الضاحية أني ابنته)(1).

فتذكرهم (علیها السلام) بقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة:50) ويفسّرها الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بقوله: (الحكم حكمان حكم الله وحكم الجاهلية وقد قال الله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} واشهدوا على زيد بن ثابت لقد حكم في الفرائض –أي المواريث- بحكم الجاهلية)(2)، والكلام شامل لغير زيد ممن خالفوا حكم الله تعالى.

الأحكام الإلهية لا تقبل المساومة:

أيها الأحبة: إن تطبيق الأحكام الشرعية وتنظيم شؤون الحياة على أساسها قضية حدية فاصلة لا تقبل المساومة والمداهنة والتبعيض أو التأجيل بحجة أن الوقت غير مناسب أو أي عذر آخر، فلا تسويف لأمر الله تعالى فإما أن يُطبَّق حكم الله تعالى وإما أن يكون الحكم حكم أهل الجاهلية، روي عن الإمام

ص: 300


1- الاحتجاج: 1/ 131.
2- الكافي: 7/ 407.

الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله: (الحكم حكمان: حكم الله وحكم الجاهلية فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهلية)(1).

الإسلام يقود الحياة: شعار المرجعية الرسالية:

إن فهم هذا الصراع والنهوض بمسؤولية الدفاع عن الإسلام وإقناع البشرية به وبقدرته على قيادة الحياة –كما عبّر السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) حينما عنون أحد كتبه بذلك- هو سر انقسام المرجعية الدينية والحوزة العلمية إلى خطين وقيادتين متباينتين في المنهج والسلوك، أولهما عالم فاعل عامل لا يكتفي بتنميق الكلمات على الأوراق فقط بل يتحرك ويواصل الليل بالنهار ليعيد للإسلام هيبته وعزته وللمسلمين كرامتهم وحريتهم وثقتهم بأنفسهم ويدلّهم على معالم هويتهم المسلوبة من خلال ما يقدّم من نظريات وتشريعات ومنظومات فكرية ومعرفية تثبت أن دين الإسلام هو أصلح نظام للبشرية اليوم وغداً كما كان بالأمس، فألّف الشهيد الصدر الأول (قدس سره) اقتصادنا وفلسفتنا ومجتمعنا والأسس المنطقية للاستقراء والبنك اللاربوي وغيرها، مما أبهر عقول خصومه وأصدقائه على حد سواء؛ لذا لا نستغرب قيام الحكومة الروسية رمز النظام السياسي والاقتصادي الذي استهدفه في كتبه بنصب تمثال(2) للسيد الشهيد الصدر الأول العالم العربي المسلم الوحيد الذي يكرَّم بهذا الشكل في قلب عاصمة الاتحاد

ص: 301


1- التهذيب: 6/ 218، ح5، باب من إليه الحكم وأقسام القضاة والمفتين.
2- وُضع التمثال النصفي في جامعة موسكو الحكومية للعلاقات الدولية التابعة لوزارة الخارجية الروسية ورفع الستار عنه يوم الجمعة 28/ 2/ 2014 في احتفال حضره مثقفون وأكاديميون وسياسيون روس، ورؤساء عدد من البعثات الدبلوماسية.

السوفيتي سابقاً وفي أهم صروحها العلمية في موسكو باعتباره صاحب إنجازات إنسانية عظيمة، بينما تُعرض الحوزة النجفية عنه وعن آثاره والاحتفال به –ونحن نعيش ذكرى استشهاده الرابعة والثلاثين- وكأنه ليس مفخرتها وجوهرتها ووجهها الناصع.

من معاني نصرة السيدة الزهراء (علیها السلام):

إن من أهم أشكال النصرة للسيدة الزهراء (علیها السلام) وللمعصومين جميعاً لنكون صادقين في قولنا لهم عند زيارتهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (ونصرتي لكم معدة) هو السعي الدؤوب لهداية الناس وإرشادهم، والضغط المستمر لإقرار القوانين التي تنظم حياتهم وفق الشريعة الإلهية خصوصاً في الأحوال الشخصية كالزواج والطلاق والميراث والوصية والوقف لأنها لا تتنافى مع حق أحد ولا تسلب حرية أحد ولا تكره أحداً على خلاف ما يعتقد.

إن الله تبارك وتعالى حذّرنا بشدة من العمل بالقوانين الوضعية التي تتنافى وأحكام الدين، قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (المائدة:44 45 47).

ويؤكد الله تعالى على نبيه أن لا يتأثر بالمغريات والتهديدات والتسقيط الإعلامي ونحو ذلك من الضغوط لترك القوانين الإلهية، قال تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ

ص: 302

اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} (المائدة:49) ثم يبين الله تعالى أن أحسن الأحكام وأصلحها للبشر وأكثرها ملاءمة لطبيعة تكوينه الفردي والاجتماعي هي أحكام الله، قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة:50).فلنراجع واقعنا ولننظر هل مناهج التعليم المتبعة موافقة للشريعة؟ وهل العلاقات الاجتماعية القائمة بيننا منضبطة بتعاليم الإسلام؟ وهل السنائن العشائرية التي يحكمون بها مأخوذة من الشريعة؟ وهل وهل.. مما يطول ذِكره.

حرائر العراق ينتصرن للإسلام:

لقد سجّلت المؤمنات الرساليات من حرائر العراق المتأسّيات بالسيدة الزهراء (علیها السلام) والعقيلة زينب (علیها السلام) موقفاً مشهوداً في نصرة دين الله تعالى حين عقدن تجمعات حاشدة بالآلاف في مختلف المدن العراقية وبحضورهن وحضوركم في هذا المحفل الكريم للمطالبة بتصحيح مواد قانون الأحوال الشخصية وفق الأحكام الشرعية، ووجّهن صفعة شديدة لمن يريد إبقاء المجتمع العراقي المسلم المؤمن يعمل على وفق قوانين الجاهلية.

وأعادت هؤلاء النسوة للمرأة عموماً الثقة بنفسها وبقدرتها على إحداث التغيير والإصلاح وانتزاع الحقوق، تلك القدرة التي سُلبت منها عبر الأجيال نتيجة لعوامل عديدة، وساعدت نفس المرأة على استلابها باستكانتها واستسلامها وخضوعها للأعراف والتقاليد والثقافات التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، وتناست

ص: 303

المرأة أن من أهم ثمرات ونتائج القيام الفاطمي والزينبي هو إعادة الثقة للمرأة بنفسها وأنها قادرة على انتزاع الحقوق وإيقاظ الأمة وإعادة الأمور إلى نصابها، فقامت هذه النسوة بتذكير الأمة بهذه الثمرة المباركة للقيام الفاطمي الزينبي العظيم. وها هي الانتخابات البرلمانية مقبلة بإذن الله تعالى، وتشكل النساء نصف عدد الناخبين تقريباً فهن إذن الرقم الصعب القادر على قلب الطاولة على رؤوس كل دهاقنة السياسة وتجار الحروب وأصحاب الأجندات الظالمة الفاسدة من الداخل والخارج.

من بركات الانتصار للإحكام الإلهية:

لقد كان من بركات هذه اليقظة وهذا الحراك الفكري والاجتماعي وإثارة مكامن القوة والإنسانية في الشريعة الإسلامية التفات المسلمين إلى المطالبة بحقهم في تشريع القوانين الخاصة بهم وجاءت ثمرتها في بريطانيا قبل أيام حيث اعتمدت لأول مرة في محاكمها الشريعة الإسلامية في الإرث والوصية لتنظيم شؤون المسلمين فيها؛ وقد وجدت الحكومة البريطانية في إعطاء هذا الحق للمسلمين خطوة تساعد على شعور المسلمين بالمواطنة وعدم الإقصاء والتهميش، فأتاح الله تبارك وتعالى هذا القرار في عنفوان الجدل حول القانون الجعفري ليكون حجة دامغة على المهزومين والمنبهرين بالغرب وسائر المعترضين على إقرار القانون الجعفري.

أليس من الغريب أن يكون الإسلام بهذه الدرجة من التأثير في بلاد غير

ص: 304

المسلمين بينما يستضعفه أبناؤه في بلادهم ويشعرون بالهزيمة الداخلية ويخجلون من إعلان هويتهم والتحرك بمشروعهم!. فأحيوا أيها الأحبة - خصوصاً الشباب والمثقفين وطلبة الجامعات- في نفوسكم الشعور بالفخر والاعتزاز ورفعة الرأس وأنتم تنتمون إلى هذا الدين العظيم، وأحسِّوا بقيمة كلمة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إلهي كفى بي عزّاً أن أكون لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي ربّاً، إلهي أنت كما أحب فاجعلني كما تحب.

أيها الإخوة والأخوات المجتمعون على ولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ):

اعلموا أنكم بنصرتكم للسيدة الزهراء (علیها السلام) والقانون الجعفري ساهمتم في رفع جزء(1) من البلاء والتيه الذي كان ستقع فيه الأمة لو أجمعت على خذلان دين الله تعالى، قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود:117) وقال تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَ-كِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة:251) وقال تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (يونس:98).م.

ص: 305


1- كان هذا في الخطاب السنوي في ذكرى شهادة الصديقة فاطمة الزهراء (علیها السلام) يوم 3/جمادي الثانية/1435 الموافق 3/ 4/ 2014 في ساحة ثورة العشرين في النجف الاشرف وبعد شهرين أي في 10/ 6 اكتسح ارهابيو (داعش) ومن والاهم عدة محافظات عراقية ووصلوا على مشارف سامراء وكربلاء وبغداد وسقطت ثلث مساحة العراق بأيديهم قبل ان يتداعى المجاهدون المضحون لدحرهم.

نسأل الله تعالى أن يمدّ المؤمنين والمؤمنات بنصره ويزيد في توفيقهم ويكلل جهودهم بالنجاح ببركة إحيائكم لهذه الشعيرة المقدسة والله ولي التوفيق.

ص: 306

القبس /25: سورة النساء:69

اشارة

{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}

الدعاء بالمعية الإلهية

في مناسبات المعصومين (سلام الله عليهم) ومجالسهم وعند زيارتهم تنتابنا عدة مشاعر منها الشوق إلى رؤيتهم ومصاحبتهم ومرافقتهم، ونكرّر الطلب يومياً في صلواتنا {اهدِنَا الصِّ-رَاطَ المُستَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} (الفاتحة:6-7) وعلى رأسهم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ونعبّر عن ذلك بما ورد في الزيارة ونكررها (يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيما)، والمشهور في فهم العبارة تمني الكون معهم في زمانهم - كيوم الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في كربلاء- ومشاركتهم مواقفهم ونصرتهم حتى نفوز ونسعد بذلك باعتبار أن (كان) فعل ماضي ناقص كما هو معلوم.

ولكن للعبارة فهم آخر بأن تكون (كان) تامة أو الشأنية التي لا تفيد الاقتصار على الزمن الماضي بل تشمل الحاضر والمستقبل مثل ما ورد في ذكر الأسماء الحسنى {وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} (النساء:158) و{وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} (النساء:134) أي أن الله تعالى متصف بهذه الصفات في كل الأحوال، فحينما ندعو الله تعالى (يا ليتنا كنّا معكم) أي نكون معكم دائماً.

ص: 307

مصاحبة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في كل النشآت:

وهذا الطلب لا يختص بنا نحن الذين حُرمنا من لقاء المعصومين (سلام الله عليهم) بل يشاركنا فيه حتى الذين فازوا وسعدوا بمرافقة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وآله المعصومين ومصاحبتهم في زمانهم فيتمنون أن تستمر عليهم هذه النعمة في الآخرة ولا يفترقون عنهم (صلوات الله عليهم أجمعين) بسبب تباين الدرجات، وقد وردت روايات كثيرة في ذلك مذكورة في سبب نزول قوله تعالى {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَ-ئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَ-ئِكَ رَفِيقاً ، ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيماً} (النساء:69-70) فقد روى الفريقان(1) جاء رجل إلى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال: (يا رسول الله إِنَّكَ لأَحَبّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي وَإِنَّكَ لأَحَبّ إِلَيَّ مِنْ مِنْ وِلْدِي وَإِنِّي لأَكُون فِي البَيْتِ فَأَذْكُرَكَ فَمَا أَصْبِر حَتَّى آتِي فَأَنْظُرُ إِلَيْكَ، وَإِذَا ذَكَرْتُ مَوْتِي وَمَوْتكَ عَرَفْتُ أَنَّكَ إِذَا دَخَلْتَ الجَنَّةَ رُفِعْتَ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَإِنِّي إِذَا دَخَلْتُ الجَنَّةَ خَشِيتُ أَنْ لا أَرَاكَ؟ فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حَتَّ-ى نَزَلَ جِبْرِيلُ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بِهَذِهِ الآية).

وفي رواية أن رجلا أتى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال: يا رسول الله ! إني أحبك حتى إني أذكرك ، فلولا أني أجئ فأنظر أليك ظننت أن نفسي تخرج ، وأذكر أني إذا دخلت الجنة صرت دونك في المنزلة ، فيشقّ ذلك علىً وأحب أن أكون معك في

ص: 308


1- البرهان في تفسير القرآن: 3/ 98، الدر المنثور: 2/ 588 ومما ننصح بقرائته: الاطلاع على أسباب نزول الآيات الكريمة ففي ذلك فوائد جمة كالاطلاع على الحوادث التاريخية وسيرة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وكيفية معالجة القرآن الكريم للمشاكل السياسية والاجتماعية والأخلاقية وأخذ الدروس والعبر من ذلك كله.

الدرجة ، فلم يرد عليه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) شيئاً فأنزل الله عز وجل {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ} فدعاه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فتلاها عليه.وتذكر بعض الروايات أن السائل بكى وفي رواية أنه جاء إلى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) محزوناً فسأله النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): مالي أراك محزوناً، وفي رواية أنه فتى مما يدل على حماسة ووعي وشدة إيمان هذا الشاب.

دروس من الآية الكريمة:

فالآية:

1.تطمئن القلوب الوالهة المشتاقة إلى رؤية رسول الله وآله الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين) وتبشرهم بإمكان ذلك إذا تحقق الشرط وهو العمل بطاعة الله تعالى.

2.تبيّن أن النعمة في الجنان لا تكتمل إلا بمرافقة هذه الفئات الكريمة فقد ذكرت هذه النعمة أو قل الثمرة لطاعة الله تعالى بعد عدة ثمرات في الآيات السابقة {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً ، وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّ-ا أَجْراً عَظِيماً ، وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} (سورة النساء: 66-67-68) ثم جاءت الآية محل البحث فالجنة الحقيقية ليست بالحور العين ولحم الطير والأنهار والقصور وإنّما بهذه المرافقة الكريمة.

3.إنّ هذه الآيات ترتبط ارتباطاً وثيقاً بما ندعو به يومياً في صلواتنا فنقول عشر مرات يومياً على الأقل {اهدِنَ-ا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ، صِرَاطَ

ص: 309

الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} (الفاتحة:6-7) فإنها تدل على أن طاعة الله تعالى والأخذ بما يعظك به تحقق لك الهداية إلى الصراط المستقيم {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} (النساء:68) وتبين من هم الذين أنعم الله عليهم وكيف تتحقق الأمنية بمرافقتهم ومصاحبتهم.4.إنها تجيب عن السؤال الذي توجّه به الصحابة في الروايات المتقدمة وتحلّ هذه المشكلة وتدل على الوسيلة لتحقيق هذه الأمنية العظيمة، والوسيلة هي طاعة الله تبارك وتعالى، وقد دلّت على ذلك الروايات الشريفة، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (إنه لا يدرك ما عند الله إلاّ بطاعته)(1) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (طاعة الله مفتاح كل سداد وصلاح كل فساد)(2).

في معنى الطاعة في الآية الكريمة:

والملاحظ في الطاعة بحسب هذه الآية أمران:

أولهما: الاستمرارية والدوام والثبات وعلامته استعمال فعل المضارع (ومن يطع) وذلك بأن يتخذ طاعة الله تعالى ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) منهجاً في حياته ودليلاً لسلوكه فلا يقدّم ولا يؤخّر إلا وفق ما يرضي الله ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فيكون الطابع العام لسلوكه ومواقفه طاعة الله تعالى، ولو زلّت قدمه بسبب الغفلة أو الجهل أو ضعف النفس تذكّر المطلوب منه وعاد إلى خطّ الطاعة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ

ص: 310


1- وسائل الشيعة: 11/ 184 ح2.
2- غرر الحكم: 6012.

اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِ-رُونَ} (الأعراف:201).ثانيهما: إطلاق لفظ الطاعة فلا تختص بنماذج محددة منها، وإن ذكرت الروايات بعض هذه الطاعات، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الأسلمي، قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ عند النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، فَآتِيهِ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ ، فقال لي: سل. قلتُ: يا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أو غيرُ ذلك؟ قلتُ: هو ذاك، قال: فأعنّي على نفسك بكثرة السجود(1).

وفي رواية أخرى عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ذكر الطاعات الواجبة ثم قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (ما لم يعق والديه).

إلاّ أنّ ذكر هذه الطاعات المهمة من باب المثال أو بما يناسب السائل وإلا فإن الشرط المذكور في الآية {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (النور:52) مطلق، فلا تقتصر طاعة الله تعالى على العبادات المعروفة كالصلاة والصوم والطهارة والخمس ونحو ذلك وإن كانت منها وعلى رأسها، لكن هناك طاعات مهمة وثقيلة الميزان نغفل عنها أو نستثقلها كالإنصاف من نفسك وإن كان على خلاف هواك وكالسعي لقضاء حوائج الناس وإدخال السرور عليهم وأمثال ذلك، عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (ثلاث لا تطيقها هذه الأمة: المواساة للأخ في ماله، وإنصاف الناس من نفسه وذكر الله على كل حال)(2) فإن بهذه الأمور قوام الدين وصلاح1.

ص: 311


1- تفسير الدر المنثور- السيوطي: 2/ 182
2- بحار الأنوار: 75/ 27 ح11.

الأمة، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (نظام الدين خصلتان: إنصافك من نفسك ومواساة اخوانك)(1). أو مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي وصفتها الأحاديث الشريفة بأنها سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء وأسمى الفرائض وأشرفها.أو مثلاً العفاف للرجل والمرأة والتنزه عن الأمور الدنيّة، عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ما عبد الله بشيء أفضل من عفّة بطن وفرج)(2) وغيرها من الطاعات العظيمة كالتفقه في الدين ونشره بين الناس ورعاية الأيتام والمعوزين وتزويج المؤمنين ونحو ذلك.

الفئات المترافقة:

وقد بيّنت الآية الشريفة الفئات المترافقة وهم الأنبياء الذين يبلغون رسالات ربهم.

والصديقون الذين آمنوا بربهم وأطاعوه وأطاعوا رسله ظاهراً وباطناً وصدّقت أفعالهم أقوالهم.

والشهداء الذين حملوا الرسالة الإلهية ودعوا الناس إليها وسعوا لتطبيقها في حياة الأمة رغم العنت والمشقة حتى ضحّوا بأرواحهم واستشهدوا في سبيل الله تعالى، وكانوا شهداء على الأمة فأقاموا عليها الحجة البالغة.

والصالحون الذين بذلوا جهدهم في تطبيق التعاليم الإلهية في حياتهم وجعلوا الصلاح منهاجاً لحياتهم.

ص: 312


1- غرر الحكم: 9983.
2- الكافي: 2/ 79، ح1.

اسعوا لتكونوا من الصالحين:

فالإنسان الذي يريد أن يكون مع الأنبياء والأئمة الطاهرين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يستطيع ذلك بتوفيق الله وألطافه عندما يكون من الصالحين والعاملين المضحّين، روى أبو بصير قال أبوعبد الله الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (يا أبا محمد لقد ذكركم الله في كتابه فقال {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَ-ئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ} (النساء:69) فرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في هذا الموضع النبي، ونحن الصديقون والشهداء، وأنتم الصالحون، فتسموا بالصلاح كما سمّاكم الله)(1).

وذكر هذه المراتب بالتدريج يدل على أن الوصول للمرتبة العليا يتم باستيفاء المرتبة السابقة فإن لم يكن من الصالحين يسعى ليكون منهم وفق ما عرفناه آنفاً، والصالحون يسعون ليكونوا من الشهداء، وهم يطلبون سبيل الصديقين الذين يسيرون على هدى الأنبياء {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (يوسف:76).

وينبغي الالتفات إلى أن هذه المعي-ّة لا تعني المساواة في الدرجات والمقامات والقرب من الله تعالى والتنعم برضوانه، بل كل حسب استحقاقه {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} (الرعد:17)، وتؤكد الآية الثانية أن ذلك لا ينال إلا بفضل من الله تعالى وتوفيقه، وهو العالم بحقائق عباده واستحقاقاتهم، والإشارة إليه ب- (ذلك) للإشعار بأنه ليس سهل المنال، وانه مطلب عظيم يستحق بذل كل الجهد لتحصيله.

ص: 313


1- تفسير العياشي 1/ 256 ح190.

من آثار الصلاح هو المعيّة الإلهية:

ونريد الآن أن نتقدم خطوة أخرى ونقول أن الإنسان يمكن أن يحظى بهذه الرؤية المباركة هنا في الدنيا قبل الآخرة بحسب ما يظهر من بعض الروايات، فقد روى الكشي في رجاله بسنده عن اسماعيل بن سلام واسماعيل بن جميل قالا: بعث إلينا علي بن يقطين فقال: اشتريا راحلتين، وتجنبا الطريق - ودفع إلينا أموالاً وكتباً - حتى توصلا ما معكما من المال والكتب إلى أبي الحسن موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولا يعلم بكما أحد، قالا: فأتينا الكوفة فاشترينا راحلتين وتزوّدنا زاداً، وخرجنا نتجنب الطريق، حتى إذا صرنا ببطن الرمة شددنا راحلتنا، ووضعنا لها العلف، وقعدنا نأكل، فبينا نحن كذلك، إذ راكب قد أقبل ومعه شاكري، فلما قرب منَّا فإذا هو أبو الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فقمنا إليه وسلّمنا عليه، ودفعنا إليه الكتب وما كان معنا، فأخرج من كمّه كتباً فناولنا إيّاها، فقال: هذه جوابات كتبكم، فقلنا: إنّ زادنا قد فني، فلو أذنت لنا فدخلنا المدينة ، فزرنا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتزوّدنا زاداً فقال: هاتا ما معكما من الزّاد، فأخرجنا الزّاد إليه فقلّبه بيده فقال: هذا يبلّغكما إلى الكوفة، وأما رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقد رأيتماه، إني صليت معهم الفجر، وإنّي أريد ان أصلي معهم الظهر ، انصرفا في حفظ الله)(1)، ومحل الشاهد تأكيده (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لهما بأنهما قد رأيا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فعلاً وتحقق مرادهما وأمرهما بالرجوع إلى الكوفة.

والشاهد الآخر من حياة الإمام الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فقد روى الكليني في الكافي، في بصائر الدرجات بسنده عن صالح بن سعيد قال دخلت على أبي الحسن

ص: 314


1- معجم رجال الحديث: 13/ 249 عن رجال الكشي.

(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقلت: جعلت فداك، في كل الأمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك حتى أنزلوك هذا الخان الأشنع خان الصعاليك، فقال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (ههنا أنت يا ابن سعيد ؟ ثم أومأ بيده فقال: انظر، فنظرت فإذا بروضات آنقات، وروضات ناضرات، فيهن خيرات عطرات، وولدان كأنهن اللؤلؤ المكنون، وأطيار وظباء وأنهار تفور، فحار بصري والتمع، وحسرت عيني، فقال: حيث كنا فهذا لنا عتيد، ولسنا في خان الصعاليك)(1).بل الأمر أقرب من ذلك لأنّنا نحظى بوجود بقية الله الأعظم الإمام المهدي (عج) بين ظهرانينا وإن كنّا لا نعرفه شخصياً، ونخاطبه في دعاء الندبة (متى ترانا ونراك)، وتتحدث الشواهد التاريخية الكثيرة على إمكان ذلك لمن رضي عنه الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لخير وجده فيه، يُروى ان عابداً كان يتمنى لقاء إمام الزمان (عج) وبعد فترة من الرياضات الروحية والتعب والمشقة لم يصل الى شيء واخذ اليأس يدب الى قلبه ، وفي ليلة من الليالي بينما كان قائما يتعبد إذا بهاتف يناديه: (الوصول الى المولى يعني شد الرحال الى ديار الحبيب) فشدَّ الرحال من جديد واخذ يزيد من الصلاة والتعبد حتى انتهى الأمر به الى المكوث في المسجد أربعين يوما فأتاه نداء آخر يقول: (ان سيدك تجده في سوق الحدادين يجلس في باب رجل عجوز يصنع الأقفال) فذهب مسرعا فوجد الإمام (عجل الله تعالى فرجه) يشع نورا فارتعدت فرائص العابد إلا ان الإمام (عجل الله تعالى فرجه) طلب منه ان ينظر ما سيحصل ،فجاءت عجوز منحنية الظهر بيدها قفل عاطل وقالت للبائع أرجوك اشترِ هذا القفل بثلاثة دنانير فقال البائع: إن هذا القفل بثمانية5.

ص: 315


1- بحار الأنوار: 50/ 133 ح15.

دنانير وإذا أصلحته يصبح بعشرة فتصورت العجوز انه يسخر منها إلا انه بادر بإعطائها سبعة دنانير وقال لها: لاني أبيع واشتري أخذته بسبعة دنانير لأربح دينارا فذهبت العجوز مسرورة فالتفت الإمام (عجل الله تعالى فرجه) الى العابد وقال: (كونوا هكذا كهذا العجوز كي نأتيكم نحن بأنفسنا لا حاجة الى التعبد أربعين يوما ولا فائدة من الجفر والحروف فقط اصلحوا أعمالكم)(1).

درس عملي:

ونريد أن نخلص الآن إلى درس عملي وهو أنّك إنما تطلب قرب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأنه سبب مقرّب إلى الله تعالى وأنك تعيش بقربه سمواً روحياً متميزاً وهذا تأثير أكيد كالمغناطيس الذي يؤثر في الحديد ويجذبه من دون أن يلامسه، ولكن الله تعالى بكرمه ورحمته ولطفه بعباده لم يشأ حرمان عباده من هذه المؤثرات المباركة، حيث دلّت أن الحالة المعنوية المتألقة التي ترجوها من الكون في حضرة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والأئمة المعصومين (سلام الله عليهم أجمعين) يمكن أن تحققها بدرجة ما من خلال توفير بيئة الطاعة وتهيئة أسبابها كالحضور في المساجد والروضات المطهّرة واستثمار الأزمنة الشريفة ومجالس ذكر الله تعالى والمعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) والاستفادة من العلماء الذين يقربونك من الله تعالى، فهذه هي الجنة المعجّلة، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (الجلسة في الجامع خير لي من الجلسة في الجنة، لأن الجنة فيها رضا نفسي والجامع فيه رضا ربي)(2).

ص: 316


1- ثلاثة يشكون: 241.
2- وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أحكام المساجد، باب3، ح6.

القبس /26: سورة النساء:75

اشارة

{وَمَا لَكُم لَا تُقَتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلمُستَضعَفِينَ}

موضوع القبس: وجوب العمل لإنقاذ المجتمع من الظلم والجهل والتخلف والحرمان

قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَ-ذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً} (النساء:75).

في الآية استنكار واستهجان لحالة التقاعس والقعود عن أداء المسؤولية لدى البعض، وحث وتحريض واستنهاض المؤمنين للقتال في سبيل الله تعالى وتحرير المستضعفين رجالاً ونساءاً وصبياناً الذين يتحكم فيهم المستكبرون والطغاة المتفرعنون ويضغطون عليهم بمختلف الأساليب الوحشية ليتركوا دينهم الإسلامي، وهم ليسوا في أنفسهم ضعفاء وانما استضعفهم المستكبرون بأدوات الظلم والبطش التي يمتلكونها فسلبتهم القدرة على التغيير ولم يعودوا يمتلكون الا الدعاء من ربهم ان ينقذهم من هؤلاء الظلمة، وقد عبّر عن ذلك بألطف تعبير وانسبه للإخلاص فلم يقولوا يالقومنا أو ياللعرب أو وامعتصماه كما في بعض الحوادث، وإنما قالوا (رَبَّنَا) فهم يستغيثون بالله تعالى ويطلبون منه تعالى أن

ص: 317

ينجدهم بإخوانهم المؤمنين {وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً}.فيدعوهم الله تعالى إلى القتال في سبيله ويستغرب من تقاعس البعض ويتساءل مستنكراً {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ} وأنتم تطلبون احدى الحسنين النصر أو الشهادة وكلها في عين الله تعالى وفيها أجر عظيم، وقد أضاف اليها الجانب العاطفي بأن هؤلاء اخوانكم في الدين أو نظراؤكم في الإنسانية فكيف تسمحون ببقائهم تحت الظلم والقهر والتعذيب والحرمان وأنتم قادرون على تحريرهم واستعادة كرامتهم.

وقد رفع الله تعالى من شأن هؤلاء العاملين الرساليين بأن جعلهم هم الولي والنصير من قبله تبارك وتعالى لتحرير الناس الذين يستجيب بهم دعاء المؤمنين وفي ذلك تحفيز عظيم للنهوض والتحرك حتى يفوزوا بهذه المنزلة العظيمة.

والآية الكريمة ككثير من الآيات غيرها تكشف عن كون الجهاد هو عمل في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى وتحرير الانسان من الظلم والفساد والضلال وليس لجني مصالح اقتصادية أو توسيع نفوذ وهيمنة أو تصفية حسابات سياسية ونحو ذلك خلافاً للأمم المادية التي تدّعي التحضّر والتقدم فان حروبها جميعا للحصول على مصالح مادية ضيقة او الحفاظ عليها.

ويستفاد من الآية أهمية وجود النخبة الرسالية الصالحة المؤهلة لقيادة الأمة وتهّب لنجدتها وتحمل هم الامة جميعا والتي تعزّز اقتدارها بالقوى المعنوية والمادية لتحقيق الأهداف المرجوّه.

ص: 318

فالآية لا تختص بذوي المهاجرين من مكة إلى المدينة الذين بقوا في مكة وعانوا من اضطهاد قريش بل تشمل كل بلد يعاني فيه المجتمع من الاستضعاف العقائدي او الأخلاقي او الاقتصادي او السياسي او الفكري وقد أطلق القرآن الكريم عنواناً عاماً لهذه البلدان بقوله تعالى {هَ-ذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} (النساء:75).والآية وإن ذكرت القتال باعتباره الأسلوب المناسب يومئذ لردع مشركي مكة اللذين حشدوا الجيوش لمحاربة الإسلام وأهله، لكن الآية لا تختص بالقتال لان مورد النزول لا يخصص الآية، وانما تشمل قبل ذلك أي أسلوب من أساليب التي يستطيع بها المؤمنون انقاذ المستضعفين من مشاكلهم وحرمانهم واضطهادهم وتخلفهم، وآخر الدواء الكي كما قيل في المثل وهو القتال والمواجهة المسلحة، والا فالمطلوب هو العمل لاستعادة كرامة الإنسان وحريته وحقوقه، من خلال الدعوة إلى الله تعالى وتطبيق النظام الإلهي بالحكمة والموعظة الحسنة قال تعالى {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل:125).

ويمكن استفادة هذا التعميم بتقريبين:

1-ما ذكرناه آنفا من عدم خصوصية لذكر القتال فنجّرد الآية عن الخصوصية ونعمّم الخطاب الى كل أساليب الإنقاذ بحسب حالات الاستضعاف، وتدل على هذه المعنى روايات كثيرة إلى ان القتل يمكن ان يكون معنوياً ومادياً والحياة كذلك.

ص: 319

2-ان لفظ القتال لا يختص بالعمل المسلح فيمكن ان يشمل الخطاب والبيان والموقف والمقاطعة وحتى الصمت أحياناً لذا يصح ان يقال ان السيدة الزهراء (علیها السلام) وابنتها العقيلة زينب (علیها السلام) قاتلتا ايما قتال اقضّ مضاجع الظلمة ولكنه لم يكن بالسيف وانما بالكلمة والموقف والرفض والمقاطعة.

والمستضعفون عرفتهم آية أخرى قال تعالى{إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ، فَأُوْلَ-ئِكَ عَس-َى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} (النساء:98-99) فهم عاجزون فكرياً أو بدنياً أو اجتماعياً أو مالياً أو كبلّتهم ظروف خارجة عن القدرة على التغيير ، روى الشيخ الكليني في الكافي بسنده عن زرارة قال (سألت أبا جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن المستضعف فقال: هو الذي لا يستطيع حيلة يدفع بها عنه الكفر، ولا يهتدي بها إلى سبيل الايمان)(1) وروى الشيخ الصدوق بسنده عن عمر بن إسحاق قال: (سئل أبو عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): ما حدُّ المستضعف الذي ذكره الله عز وجل، قال: من لا يُحسن سورة من سور القرآن، وقد خلقه الله عز وجل خَلقة ما ينبغي له ان لا يحسن)(2).

فهؤلاء المستضعفون لهم حق على القادرين على إخراجهم من حالة الاستضعاف هذه بالأدوات المتاحة وأولها والشيء الرئيسي فيها إخراجهم من حالة الجهل والعمى الفكري الذي ضرب عليهم بطرق شتى كحرمانهم من7.

ص: 320


1- الكافي:2/ 297 ح 3.
2- معاني الأخبار: 202 ح 7.

أدوات المعرفة الصحيحة أو تقديس أفكار ورموز وسلوكيات موروثة وتجعل خطوط حمراء لا يجوز الاقتراب منها والتفكير فيها فضلاً عن مناقشتها وتقييمها.فكان واجباً على من يمتلك العلوم والثقافة الصحيحة أن يأخذ بأيديهم ويصحح أفكارهم ويبصرهم ويعلمهم ما ينفعهم وفي ذلك ثواب عظيم. ففي الاحتجاج وتفسير العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من كان من شيعتنا عالما بشريعتنا فأخرج ضعفاء شيعتنا من ظلمة جهلهم إلى نور العلم الذي حبوناه به جاء يوم القيامة وعلى رأسه تاج من نور يضيئ لأهل جميع العرصات، وعليه حلة لا يقوم لأقل سلك منها الدنيا بحذافيرها ، ثم ينادي مناد يا عباد الله هذا عالم من تلامذة بعض علماء آل محمد ألا فمن أخرجه في الدنيا من حيرة جهله فليتشبث بنوره ليخرجه من حيرة ظلمة هذه العرصات إلى نزه الجنان فيخرج كل من كان علمه في الدنيا خيرا أو فتح عن قلبه من الجهل قفلا، أو أوضح له عن شبهة)(1).

وفي نفس المصدر عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (علماء شيعتنا مرابطون بالثغر الذي يلي إبليس وعفاريته، يمنعونهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا، وعن أن يتسلط عليهم إبليس وشيعته النواصب، ألا فمن انتصب لذلك من شيعتنا كان أفضل ممن جاهد الروم والترك والخزر ألف ألف مرة لأنه يدفع عن أديان محبينا، وذلك يدفع عن أبدانهم)(2).8.

ص: 321


1- بحار الأنوار: 2/ 2 ح 2.
2- بحار الأنوار: 2/ 5 ح 8.

إن الله تعالى يريد من عباده الذين يمتلكون ما يساعدون به هؤلاء المستضعفين ان يعيدوا إليهم دينهم وكرامتهم وحريتهم وعزتهم، وما كان القيام الفاطمي ولا القيام الحسيني الا غضباً لله تعالى ولرسوله ولأداء هذه المسؤولية تجاه عباد الله تعالى كما ورد في زيارة الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وبَذَلَ مُهجَتَهُ فيكَ لِيَستَنقِذَ عِبادَكَ مِنَ الجَهالَةِ وحَيرَةِ الضَّلالَةِ)(1) وفي زيارة أخرى (وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فيكَ حَتَّى اسْتَنْقَذَ عِبادَكَ مِنَ الْجَهالَةِ وَحَيْرَةِ الضَّلالَةِ)(2).وهذا الغضب لله تعالى خصلة كريمة يحبها الله تعالى ويبغض من لا يتصف بها، في كتاب الكافي بسنده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إن الله عز وجل بعث ملكين إلى أهل مدينة ليقلباها على أهلها(3) فلما انتهيا إلى المدينة وجدا رجلا يدعو الله ويتضرع فقال: أحد الملكين لصاحبه: أما ترى هذا الداعي؟ فقال: قد رأيته ولكن أمضي لما أمر به ربي، فقال: لا ولكن لا أحدت شيئا حتى أراجع ربي فعاد إلى الله تبارك وتعالى فقال: يا رب إني انتهيت إلى المدينة فوجدت عبدك فلانا يدعوك ويتضرع إليك، فقال: امض لما أمرتك به فإن ذا رجل لم يتمعر(4) وجهه غيظا لي قط)(5).9)

ص: 322


1- مفاتيح الجنان، زيارة الاربعين
2- مفاتيح الجنان، زيارة العيدين
3- حيث كانت الأمم السابقة تعاقب بعقوبات جماعية كما يحكي القرآن الكريم عن عدة حالات منها واعفيت الامة الخاتمة من ذلك.
4- لم يتمّعر وجهه: أي لم يتغير الى الصفرة
5- الكافي: باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح 8، (الغضب لله تعالى شرط صدق الايمان: خطاب المرحلة ج 10 ص 339)

وفي الكافي والتهذيب عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (أوحى الله تعالى الى شعيب النبي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): اني معّذب من قومك مائة الف، أربعين الفاً من شرارهم وستين الفاً من خيارهم، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): يا رب هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ فأوحى الله عز وجل اليه: داهنو اهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي)(1).فنؤكد هنا من جديد الحاجة إلى استشعار هذه المسؤولية والقيام غضباً لله تعالى لإنقاذ عباد الله من الانحراف والفساد والانحلال والظلم والأخذ بأيديهم إلى حياة حرة كريمة عزيزة والخطاب موجه الى الجميع ولكل منكم دوره سواء كان من الحوزة العلمية أو الجامعيين وعموم الواعين بل الناس جميعاً، ولا تستغرب هذا فان أي مواطن يكون مسؤولاً عن اختيار الكفوء المخلص الشجاع في قول الحق الأمين على دين الناس وحقوقهم كالموقف الأخير في تصحيح قانون العنف الأسري الذي قُدِّم للبرلمان مؤخراً لإقراره وقد تضمن مواد تضاهي النمط الغربي في السلوك وتسلب حق الآباء في تربية ابنائهم على السلوك الصحيح وضبط تصرفاتهم بحجة الحرية الشخصية ونحو ذلك والجميع -- والاسلاميون منهم -- بين موافق أو ساكت، ويكون التكليف أأكد في الشرائح المستهدفة بالتخريب أكثر كالنساء والشباب.

وشهر رمضان المبارك الذي تقترب منّا أيامه فرصة ثمينة للقيام بهذه المسؤولية ونفض غبار التقصير والتقاعس.9)

ص: 323


1- الوسائل: 16/ 146 ح 1، (الغضب لله تعالى شرط صدق الايمان: خطاب المرحلة ج 10 ص 339)

ملحق: ما قدست أمة لم يؤخذ لضعيفها من قويّها بلا تردد

روى جابر قال: (رجعت الى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مهاجرة البحر) وهم المسلمون الذين أمرهم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالهجرة الى الحبشة تخلصاً من تعذيب قريش وملاحقتهم برئاسة جعفر بن أبي طالب ومكثوا هناك أكثر من عشر سنوات وعادوا في السنة السابعة من الهجرة الى المدينة (قال: (الا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟) قال فتية منهم: بلى يا رسول الله، بينا نحن جلوس، مرّت بنا عجوز من عجائز رهابينهم - أي رجال الدين المسيحيين - تحمل على رأسها قلّة من ماء، فمرّت بفتى منهم) وهو طائش ومغرور بشبابه وقوته قد أسكره الشباب والقدرة ونسي قدرة الله عليه، وبدل ان يشكر الله تعالى على هذه النعم فانه يستعملها في المعصية والظلم وهكذا يغتر الكثير بقوتهم وقدرتهم ويظهرونها على ضعاف الناس ومن لا حول لهم ولا قوة (فجعل احدى يديه بين كتفيها، ثم دفعها، فخرَّت على ركبتيها، فانكسرت قُلّتها، فلما ارتفعت، التفتت اليه فقالت: سوف تعلم يا غُدَر! - يوم القيامة - اذا وضع الله الكرسي وجمع الاولين والآخرين وتكلمت الايدي والارجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غداً) فتأثر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ورقّ لحال العجوز وهي ليست على دينه وغضب من فعل الشاب الظالم (قال: يقول رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (صَدَقَت صَدَقَت، كيف يُقدِّس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم)(1) .

والحديث مروي في كتبنا عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (ما قدست أمة

ص: 324


1- سنن ابن ماجة: 4/ 186، كتاب الفتن باب 20 ح 4010 ، 4011 ،4012.

لم يؤخذ لضعيفها من قويِّها غير متعتع)(1).فاذا أرادت الأمة أن تحيا كريمة عزيزة قوية مهابة فلابد ان تنتصف للمظلوم وتأخذ بحقه من الظالم، ولكي تصل الأمة الى هذا المستوى لابد ان تكون القوانين السائدة عادلة منصفة والجهة التي تشرّعها خبيرة تراعي المصالح العليا للعباد والبلاد وتعمل ضمن الشريعة الإلهية، وأن تكون السلطة التنفيذية مهنية مخلصة نزيهة كفوءة يكون همها وهدفها خدمة الانسان وسعادته وكرامته.

وأن تكون السلطة القضائية حافظة للحقوق العامة والخاصة لا تفرط فيها تحت ضغط التهديد او الترغيب او الميل او الهوى او المجاملة والمداهنة والصفقات المتبادلة ولا غير ذلك.

وان يكون الاعلام بصيراً دقيقاً متابعاً يرشّد العمل ويشخص الخلل ويثني على الاحسان، فكم من قضية إنسانية او مظلومية او فساد غضّ المسؤولون الطرف عنه وعقدوا الصفقات لتقاسم الكعكة لكن الاعلام لما فضحهم اضطروا لأنصاف المظلوم وتقويم الاعوجاج بمقدار ما.

وقبل هذا وذاك لابد ان تسود المجتمع ثقافة نصرة المظلوم والضرب على يد الظالم لتشكل هذه الثقافة حصانة من الانحراف ولان السلطات المذكورة نتاج هذا المجتمع وثقافتها وسلوكها منه، وأهم قنوات هذه الثقافة والمعرفة: الدين الذي هو منظومة من العقائد والأخلاق والاحكام والسنن التي تعصم الانسان من الوقوع في الخطأ والخطيئة والضلالة والانحراف والظلم.

ولا نقصد بالدين مجرد الشكليات الظاهرية بل حقيقته وجوهره الذي9.

ص: 325


1- وسائل الشيعة: 16 /120 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باب وجوبهما، ح9.

يظهر على شكل سلوك عفيف وقلب سليم ونظرة بصيرة وحكيمة، والا فان كثيراً من الموصوفين بالتدين الظاهري على مستوى المظاهر وإقامة الشعائر الدينية الا انه في سلوكه ابعد ما يكون عن الدين، سواء في علاقته مع أهله او في عشيرته او في وظيفته او في عمله او علاقاته وغير ذلك، ولا يكون محضره خيراً ولا يأمر بمعروف ولا ينهي عن منكر بل يجامل ويداهن على حساب الحق.روى صاحب كتاب المناقب انه (رجع علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الى داره في وقت القيظ - والصيف حار شديد الحر في الكوفة والامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) شيخ تجاوز الستين من العمر وقد أثقلته الهموم والمسؤولية - فإذا امرأة قائمة تقول: إن زوجي ظلمني وأخافني وتعدى علي وحلف ليضربني، فقال: يا أمة الله اصبري حتى يبرد النهار ثم اذهب معك إن شاء الله، فقالت: يشتد غضبه وحرده علي، فطأطأ رأسه - وكأنه يفكّر في إيجاد سعة ومخرج لنفسه - ثم رفعه وهو يقول: لا والله أو يؤخذ للمظلوم حقه غير متعتع - فلا مجال للصبر على الظلم الا بالسعي لإزالته - اين منزلك؟ فمضى الى بابه فوقف فقال: السلام عليكم، فخرج شاب) وهو لا يعرف علياً وتعجب من مثل هذا الشاب يسكن الكوفة ولا يعرف علياً ويعني ذلك انه لم يصلِ خلف علي ولا استمع الى شيء من خطبه ولا خرج تحت امرته للجهاد (فقال علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): يا عبدالله اتق الله فإنك قد أخفتها وأخرجتها) وبدل ان يقبل النصيحة ويشكر الناصح على سعيه في الإصلاح استكبر وطغى (فقال الفتى: وما أنت وذاك؟) فأنكر تدخل أمير المؤمنين وكأنه لا يعرف وظيفة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وقابله بالتهديد (والله لأحرقنها لكلامك) وتمادى في غيّه وزاد من تهديداته (فقال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو مغضب وقد استّل سيف (آمرك

ص: 326

بالمعروف وانهاك عن المنكر تستقبلني بالمنكر وتنكر المعروف؟ قال: فأقبل الناس من الطرق ويقولون: سلام عليكم يا أمير المؤمنين) وهنا عرف الشاب ان المتكلم هو أمير المؤمنين ورئيس الدولة فخاف من عقوبته (فسقط الرجل في يديه فقال: يا أمير المؤمنين أقلني - في - عثرتي، فوالله لأكونن لها أرضاً تطأني) ومثل هذا كثيرون يخافون من العقوبات الدنيوية المعّجلة ولا يتقون الله تعالى في أفعالهم ولا يخشونه (فأغمد علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سيفه) ثم توجّه الى المرأة وأمرها بحسن التصرف والصبر وعدم استفزاز الرجل (فقال: يا أمة الله ادخلي منزلك ولا تلجئي زوجك الى مثل هذا وشبهه.)(1)فتلاحظ ان امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) استحضر نفس كلمة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وكذا الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حديثه السابق. .

ص: 327


1- بحار الانوار: 41/ 57 ح7 عن مناقب آل أبي طالب: 2/ 106 فصل: السابقة بالتواضع .

القبس /27: سورة النساء:103

اشارة

{إِنَّ ٱلصَّلَوةَ كَانَت عَلَى ٱلمُؤمِنِينَ كِتَبا مَّوقُوتا}

موضوع القبس: الصلاة فرض ثابت

يؤكد هذا الجزء من الاية الكريمة أهمية الصلاة في الإسلام وانها فرض ثابت مكتوب على المسلمين وان لها أوقات معينة يجب الالتزام بها.

روى الشيخ الكليني في الكافي بسنده عن داود بن فرقد قال (قلت لابي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) :قوله تعالى {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} قال كتباً ثابتاً، وليس أن عجّلت قليلاً اة اخّرت قليلاً بالذي يضرّك مالم تضيّع تلك الإضاعة)(1).

ولاشك في مدخلية التوقيتات والالتزام بها في التربية المثمرة لان ترك العمل الى رغبة الشخص يؤدي الى إهماله وتضييعه كما هو واضح من سيرة الناس، كما ان عدم الالتزام بالوقت يضيّع بعضاً من ثمراتها وهو اجتماع المؤمنين على فعل موحد مما يعطي للصلاة هيبتها وتأثيرها الروحي.

وان فرض الصلاة في أوقات معينة لا يعني اهمال ذكر الله تعالى في بقية الأوقات بل يصّرح الجزء السابق من الاية بلزوم ذكر الله تعالى في كل وقت

ص: 328


1- الكافي/ 3/ 270، ح13

وعلى كل حال حتى والحرب قائمة {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ}

أهمية الصلاة:

إنّ للصلاة أهمية كبرى في الدين ودوراً مهماً في حياة الإنسان ومصيره، عن أبي جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (قال: قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): ما بين المسلم وبين أن يكفر إلاّ ترك الصلاة الفريضة متعمّداً أو يتهاون بها فلا يصلّيها)(1).

وروي عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله: (الصلاة عمود الدين ، مثلها كمثل عمود الفسطاط ، إذا ثبت العمود ثبت الأوتاد والأطناب، وإذا مال العمود وانكسر لم يثبت وتد ولا طنب)(2).

وعن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: قال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إنّ عمود الدين الصلاة ، وهي أوّل ما يُنظر فيه من عمل ابن آدم، فإن صحّت نُظر في عمله ، وإن لم تصحّ لم يُنظر في بقيّة عمله)(3).

لذا كان مقياس صلاح الإنسان عند أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) هو اهتمامه بصلاته، عن هارون بن خارجة قال: (ذكرت لأبي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) رجلا ً من أصحابنا فأحسنت عليه الثناء ، فقال لي: كيف صلاته؟)(4).

ص: 329


1- الوسائل ج4 ص 43.
2- الوسائل ج4 ص27.
3- الوسائل ج4 ص34-35.
4- الوسائل ج4 ص32.

روى أبي بصير قال: دخلت على أُمّ حميدة أُعزّيها بأبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فبكت وبكيت لبكائها، ثمّ قالت: يا أبا محمّد ، لو رأيت أبا عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عند الموت لرأيت عجباً، فتح عينيه ثمّ قال: (اجمعوا كلّ مَنْ بيني وبينه قرابة، قالت: فما تركنا أحداً إلاّ جمعناه، فنظر إليهم ثم قال: إن شفاعتنا لا تنال مستخفّاً بالصلاة)(1).ويظهر أن هذه وصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأهل بيته جميعاً، روي عن زرارة عن أبي جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (قال: لا تتهاون بصلاتك ، فإنّ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال عند موته: ليس منّي من استخفّ بصلاته ، ليس منّي من شرب مسكراً ، لا يرد عليّ الحوض لا والله)(2)، بل هي وصية كل الأنبياء (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أحبُّ الأعمال إلى الله عز وجل الصلاة، وهي آخر وصايا الأنبياء)(3).

فلا يغتر البعض بما يقال له أنّه إذا فعل كذا فقد وجبت له الجنة، أو دخل الجنة بغير حساب مما يكثر منه الخطباء على المنابر من دون ذكر قيوده وشروطه.

فضل الصلاة وثوابها:

وقد ورد في فضل المصلي وثواب الصلاة شيء كثير، عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إذا قام العبد المؤمن في صلاته نظر الله عزّ وجلّ إليه ، أو قال: أقبل الله عليه حتى ينصرف ، وأظلّته الرحمة ، من فوق رأسه

ص: 330


1- الوسائل ج4 ص26-27.
2- الوسائل ج4 ص23- 24.
3- من لا يحضره الفقيه: 1/ 210 ح638.

إلى أُفق السماء ، والملائكة تحفّه من حوله إلى أًفق السماء ، ووكّل الله به ملكاً قائماً على رأسه يقول له: أيّها المصلّي ، لو تعلم من ينظر إليك ومن تناجي ما التفتّ ولا زلت من موضعك أبداً)(1). وعن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنّه قال: للمصلّي ثلاث خصال: إذا هو قام في صلاته حفّت به الملائكة من قدميه إلى أعنان السماء ، ويتناثر البّر عليه من أعنان السماء إلى مفرق رأسه ، وملك موكّ-ل به ينادي: لو يعلم المصلّ-ي من يناجي ما انفتل)(2).وعن الإمام الباقر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (قال: قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): لو كان على باب دار أحدكم نهر فاغتسل في كلّ يوم منه خمس مرّات ، أكان يبقى في جسده من الدرن شيء؟ قلنا: لا ، قال: فإنّ مثل الصلاة كمثل النهر الجاري ، كلّما صلّى صلاة كفّرت ما بينهما من الذنوب)(3)، وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إذا قام الرجل إلى الصلاة أقبل ابليس ينظر إليه حسداً، لما يرى من رحمة الله التي تغشاه)(4).

الصلاة التامة:

إن الصلاة التي تكون لها هذه القيمة لابد أن تكون تامة في أجزائها وشرائطها التي يذكرها الفقهاء في رسائلهم العملية. عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (قال: بينا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) جالس في المسجد إذ دخل رجل فقام يصلّي ، فلم يتمّ ركوعه ولا سجوده ، فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): نقر كنقر الغراب ، لئن مات هذا وهكذا صلاته ليموتنّ

ص: 331


1- الوسائل ج4 ص32.
2- الوسائل ج4 ص33.
3- الوسائل ج4 ص12.
4- الخصال: 632 ح10.

على غير دين)(1).

المحافظة على أوقات الصلوات:

ومن المهم جداً لكي تؤدي الصلاة غرضها المنشود وتتحقق منها الآثار المباركة: المحافظة عليها في أوقاتها، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (قال: قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لا يزال الشيطان ذعراً من المؤمن ما حافظ على الصلوات الخمس لوقتهنّ فإذا ضيّعهنّ تجرّأ عليه فأدخله في العظائم)(2) وعن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) - في حديث-: (إنّ ملك الموت يدفع الشيطان عن المحافظ على الصلاة ، ويلقّنه شهادة أن لا إله إلا الله ، وأنّ محمّداً رسول الله ، في تلك الحالة العظيمة)(3)، وعن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (ما من عبد اهتم بمواقيت الصلاة ومواضع الشمس إلا ضمِنتُ له الرَوْحَ عند الموت، وانقطاع الهموم والأحزان، والنجاة من النار)(4).

من خطبة لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في نهج البلاغة انه قال في كلام يوصي أصحابه: (تعاهدوا أمر الصلاة ، وحافظوا عليها ، واستكثروا منها ، وتقرّبوا بها ، فإنّها كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً ، ألا تسمعون إلى جواب أهل النار حين سئلوا: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} ﴿المدثر: 42-43﴾ وإنّها لتحتّ الذنوب حتّ الورق، وتطلقها إطلاق الربق، وشبّهها رسول الله بالحمّة تكون على باب الرجل فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمس مرّات ،

ص: 332


1- الوسائل ج4 ص31-32.
2- الوسائل ج4 ص28.
3- الوسائل ج4 ص29.
4- بحار الأنوار: 83، 9ح 5.

فما عسى أن يبقى عليه من الدرن ، وقد عرف حقها رجال من المؤمنين ، الذين لا تشغلهم عنها زينة متاع ، ولا قرة عين من ولد ولا مال ، يقول الله سبحانه: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} (النور:37)، وكان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نصباً بالصلاة بعد التبشير له بالجنّ-ة ، لقول الله سبحانه {وَأْمُ-رْ أَهْلَ-كَ بِالصَّ-لَاةِ وَاصْطَب-ِرْ عَلَيْ-هَا} (طه: 132)) فكان يأمر بها أهله ويصبر عليها نفسه)(1).

علموا أولادكم الصلاة:

ولأجل أن تصبح الصلاة جزءاً أساسياً من حياة الإنسان لا يستطيع أن يحيا بدونها فقد أمر المعصومون بإلزام الصبيان بالصلاة من وقت مبكر كعمر (6-8) سنين بحسب استعداداته الذهنية وفهمه لما يقال له.

روى محمد بن مسلم: أنه سأل أحد الإمامين الباقر والصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (في الصبي ، متى يصلّي؟ فقال: إذا عقل الصلاة قلت: متى يعقل الصلاة وتجب عليه؟ قال: لستّ سنين)(2).

ويستغرب الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من الآباء والأمهات الذين لا يتابعون أداء أطفالهم للصلاة، روى أحدهم قال (سألت الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أو سئل وأنا أسمع، عن الرجل يجبر ولده وهو لا يصلّي اليوم واليومين؟ فقال: وكم أتى على الغلام؟ فقلت: ثماني سنين ، فقال: سبحان الله، يترك الصلاة؟! قال: قلت: يصيبه الوجع، قال:

ص: 333


1- الوسائل ج4 ص30- 31.
2- الوسائل ج4 ص18- 19.

يصلّي على نحو ما يقدر)(1).

الفرق بين الزاني وتارك الصلاة:

إن المتابع لحال المسلمين - خصوصاً في البلدان المترفة والتي تكون فيها فرص المغريات والشهوات كثيرة- يجد عند كثير منهم إهمال أمر صلاتهم، وعدم الالتزام بها في أوقاتها وهذه قضية حيوية وشيء خطير لابد من معالجته بالالتفات إلى ما ذكرناه من أهمية الصلاة والعقوبة الغليظة على من ضيّعها وأهملها، بحيث لا يُقاس به حتى مرتكب الكبائر كالزنا وشرب الخمر، ويعلّل الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ذلك بقوله (لأن الزاني وما أشبهه إنما يفعل ذلك لمكان الشهوة لأنها تغلبه، وتارك الصلاة لا يتركها إلاّ استخفافاً بها)(2).

حملة لتفعيل الصلاة في حياتنا:

إن من تكليفنا اليوم وفي كل يوم أن نطلق حملة شاملة لإعادة المسلمين إلى صلاتهم بالإقناع أو بالإلزام لمن كانت له سلطة وقيمومة، كالوالدين على أبنائهم، أو إدارات المدارس على الطلبة، وأن نقوم بتيسير السبل لذلك من خلال إنشاء المصليات داخل الجامعات والمدارس والمؤسسات الحكومية، وتفعيل دور المساجد ونحوها من الآليات لنكون ممن تناله شفاعة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والإمام جعفر الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

ص: 334


1- الوسائل ج4 ص20.
2- الوسائل: باب11، 2.

لذة الصلاة:

إن من استشعر العبودية لله تبارك وتعالى واعتزّ بها يجد في الصلاة لذة كبيرة، ولا يجد للحياة طعماً ولا معنى إذا خلت من الصلاة، ولا يكتفي بالصلوات المفروضة لأنه يجد الأوقات بينها كثيرة لا يتحملها بلا صلاة فيتنفل بما يسَّر الله تعالى له خصوصاً في الليل، فإن ما بين المغرب والفجر وقت طويل.

عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) – لما سُئل عن أفضل الأعمال وأحبها إلى الله – قال: (ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة، ألا ترى أنّ العبد الصالح عيسى بن مريم قال: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ} (مريم: 31))(1) وعن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (ليكن أكثر همك الصلاة، فإنها رأس الإسلام بعد الإقرار بالدين)(2).

ولما سأل أبو ذر الغفاري رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن الصلاة، قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (خير موضوع، فمن شاء أقلَّ ومن شاء أكثر)(3).

ولاشك أن الكلام عن الصلاة لا يستوعبه مجلس واحد، ولكننا أحببنا إثارة أصل الموضوع لأهميته ليكون فاتحة لعمل واسع بإذن الله تعالى، فلنحرص جميعاً على أن نكون ممن أحسن صلاته وأكثر منها وحافظ عليها في أوقاتها.

ص: 335


1- الكافي: 3/ 264، ح1.
2- بحار الأنوار: 77/ 127 ح33.
3- معاني الأخبار: 333 ح1.

القبس /28: سورة النساء:104

اشارة

{وَلَا تَهِنُواْ فِي ٱبتِغَاءِ ٱلقَومِ}

لكي نعالج العلل لا المعلولات فقط:

لا شكّ أنّ الابتلاءات التي تعصف بالعراق وأهله شديدة قلّما يتعرّض لمثلها شعب آخر، ولا تقتصر على الوضع الأمني الذي أصاب الناس بالخوف والقلق حيث لم تعد فيه مدينة آمنة، وإنّما يتعدّاه إلى الوضع الاقتصادي المزري بكثير من الناس، وكذا الجانب الخدمي والاجتماعي والسياسي البائس.

وهذه الأوضاع المزرية لها أسبابها طبعاً، والمصلح الحاذق -كالطبيب الماهر- يبحث عن علّة الداء فيعالجها، ولا يكتفي بمعالجة الأعراض المرضية ولسنا بصدد بيان هذه العلل، وإنما نريد أن نلفت النظر، إلى أن هذه البلاءات يمكن أن يكون تأثيرها على الأمة إيجابياً فتكون سبباً ومقدمة ليقظة الأمة ونهضتها وحركتها نحو ما يصلحها ويعيد إليها عزّتها وكرامتها، ويمكن أن يكون دورها سلبياً فتكون سلباً ليأس الأمة وفشلها وإحباطها ونومها وانهيارها، ومثال ذلك: أنّ من يكون متعباً بحاجة إلى النوم فإنّه يتثاءب، ومن يستيقظ من نومه يتثاءب، فالحالة واحدة وهي (التثاؤب) إلاّ أنّها قد تكون مقدّمة ومؤشراً للصحوة والاستيقاظ والنشاط والحيوية، وقد تكون علامة على الكسل والخمول والركود والنوم.

ص: 336

ولا شك أن المطلوب من الأمة الحيّة الواعية المتطلّعة إلى الارتقاء والازدهار، تجعل هذه الصعوبات والمحن والضغوط سبباً لتكاملها وتقدّمها ويقظتها واستشعارها لمسؤولياتها.

درس من معركة أحُد:

وهذا الدرس نستفيده من القرآن الكريم وهو يتناول تداعيات معركة أُحُد، قال تعالى: {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} (النساء:104) فالآية تدعو المؤمنين إلى عدم الضعف والاستكانة والانهزام أمام الضغوط والتحديات وأن لا يقصّروا في متابعة القوم والاستمرار في مواجهتهم في كل ساحات العمل والتحدّي سواء كانت عقائدية أو فكرية أو اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو عسكرية وغير ذلك، وتهيئة كل أسباب ومقوّمات هذه المواجهة، ولا يقعدكم ما يصيبكم من ألم القتل والجراح والخسائر والجهود، لأنّ الآخر يصيبه نفس ما يصيبكم ومع ذلك فإنّه لا ينسحب من المواجهة ويستمر في استهدافكم فلماذا تشعرون أنتم بالوهن والضعف والانسحاب، مع أنّ عندكم ميزة ليست عند أعدائكم وهي أنّكم ترجون ما عند الله تعالى من الرضوان ومجاورة أحبّائه وأوليائه (صلوات الله عليهم أجمعين) وهذا يشكّل حافزاً ودافعاً قويّاً يفتقده خصمكم.

من كان مع الله كان الله معه:

ولهذا جاءت الآية الأخرى لتطمئن المؤمنين وتقول لهم {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ

ص: 337

تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران:139) فالضعف والتخاذل والخوف والقلق غير مبرّر لأنّكم الأعلون دائماً بطاعتكم لله تبارك وتعالى ورجائكم لما عنده وموالاة أوليائه، فأنتم أعلون إن كنتم ترجون من الله تعالى رضوانه.وأنتم أيّها الأحبّة في الموصل وسهل نينوى قد كثر استهدافكم لأسباب سياسية واقتصادية وجغرافية وقومية وطائفية فكثر أعداؤكم وعظمت محنتكم، لكن لا يكن كل ذلك سبباً للتنصّل عن مسؤولياتكم التي يمكن أن نلفت النظر إلى عناوين بعضها:

1-وحدتكم لأنّ فيها قوّتكم وقدرتكم على تحصيل حقوقكم وتوجب احترام الآخرين بوجودكم، والالتفاف حول المخلصين من أبنائكم.

2-تأسيس المنظمات الخيرية لمساعدة العوائل المحتاجة والأرامل والأيتام وهم كثر خلّفتهم المحنة الشديدة والطويلة والشرسة وقد أعطيت الأذن للمؤمنين بأن يصرفوا حقوقهم الشرعية في هذا المورد.

3-تشجيع جملة من شبابكم الواعين المحبّين للعلم ليلتحقوا بالحوزة العلمية في النجف الأشرف ليكونوا حلقة الوصل مع المرجعية الرشيدة وليفقّهوكم في الدين ليعزّزوا عقيدتكم ويثبّتوا قلوبكم على الحق.

4-المواظبة على إقامة شعائر الدين من صلوات الجمعة والجماعة

وإحياء الشعائر الحسينية وإعمار المساجد، وجعلها منبراً للتوعية والتربية والتزوّد بالأخلاق والمعرفة.

ص: 338

لكي تستجيبوا لله ورسوله:

وأنتم بالتزامكم بهذه الخطوات العملية وأمثالها تتحقّق استجابتكم للآية المتقدمة (وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ) لأنّ عدم الوهن يتحقق من خلال الاستمرار بالنهوض بالواجبات التي أشرنا إلى عدد منها.

إنّ المتقاعس والمتخاذل سوف لا ينجو من البلاء وسيصيبه بشكل أو بآخر فتكون خسارته مضاعفة لأنّه سيذوق الألم وسيحرم من الأجر والثواب لأنّه لم يرابط لأداء مسؤولياته، فترون الإنفجارات لا تفرّق بين سنّي وشيعي أو عربي وشبكي أو صغير وكبير أو رجل وامرأة، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إنّك إن صبرت جرت عليك المقادير وأنت مأجور، وإن جزعت جرت عليك المقادير وأنت مأزور)(1) فالأقدار والبلاءات جارية على كل حال وأنت بموقفك –إيجاباً أو سلباً- محدِّد أثرها عليك؛ والمهم أن تكون دائماً ممن ترجو الله تبارك وتعالى وتحتسب عنده، واجعل هذا دائماً الفرق بينك وبين خصمك كما أشارت إليه الآية المتقدّمة ومحنتكم هذه تلزم الجميع بالوقوف إلى جانبكم ومد يد العون لكم ورفع الظلم والحيف عنكم، وتتأكّد أكثر على أبناء قوميتكم ومنطقتكم الذين تبوؤا المواقع المتنفّذة بأصواتكم ولا يجوز لهم الانشغال عن همومكم وآلامكم بمصالحهم الشخصية والفئوية.

ص: 339


1- منتخب ميزان الحكمة: 360 رقم 3455.

القبس /29: سورة النساء:114

اشارة

{لَّا خَيرَ فِي كَثِير مِّن نَّجوَىهُم}

موضوع القبس: مسؤولية الكلمة وأهمية تأثيرها

(النجوى) هو الحديث المتخفي، وتبيّن الاية الكريمة أن كثيراً من الكلام الذي يتهامس به الناس ويتداولونه في مجالسهم لاخير فيه لذا فانهم يتحدثون به خفية وتدعوهم الاية الى ان تكون احاديثهم مثمرة ومنتجه لذا استثنت الاية وقالت (الا من امر بصدقة او معروف او اصلاح بين الناسوبهذا المضمون وردت الاية الأخيرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (المجادلة:9) فالمشكلة ليست في اسرار الحديث واخفائه وانما في مضمونه ومؤداه والغرض منه، اذ من المعلوم ان بعض احاديث الخير والمعروف والإصلاح تجري سراً وفي الكتمان لمصلحة ما، كالاصلاح بين الزوجين، وكاحاديث الوعي الإسلامي في زمن الطواغيت ونحو ذلك.

فعلينا ان ندرك أهمية (الكلمة) فانها من أوسع القنوات الموصلة إلى رضا الله تبارك وتعالى فمن خلالها تكون النصيحة وبها تتم الموعظة وتجري الهداية ويتحقق الإصلاح وينتشر العلم والمعرفة وتُبنى الحضارة وتتقدم الإنسانية وتتكامل التربية فهي وعاء لهذه الطاعات العظيمة وغيرها.

ص: 340

ورد في الرواية انه سئل علي بن الحسين (عليهما السلام) عن الكلام والسكوت أيهما أفضل؟فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): لكل واحد منهما آفات، فإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت، قيل: كيف ذلك يا ابن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: لان الله عز وجل ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت، إنما بعثهم بالكلام، ولا استحقت الجنة بالسكوت، ولا استوجبت ولاية الله بالسكوت، ولا توقيت النار بالسكوت، إنما ذلك كله بالكلام، ما كنت لاعدل القمر بالشمس، إنك تصف فضل السكوت بالكلام ولست تصف فضل الكلام بالسكوت)(1) ففهم الإمام من حاله انه واقع في شبهة أن السكوت واعتزال الناس ومقاطعتهم أفضل لما بلغه من الأحاديث الشريفة التي تحثّ على السكوت وقلّة الكلام فبيّن له الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن الكلام إذا كان خالياً من السوء والفحشاء فهو أفضل بالتأكيد وقال له: وهل بُعثَ الأنبياء إلا بالكلام، قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أمر بِصَدَقَةٍ أو مَعْرُوفٍ أو إصلاح بَيْنَ النَّاسِ} (النساء:114) حتى عُدّت (الكلمة الطيبة صدقة)(2) في بعض الأحاديث.

وفي المقابل فإن الكلمة السيئة لها ضرر بليغ ومدمّر وإن كثيراً من الكبائر التي وعد الله بها النار مرتبطة بالكلمة كالغيبة والنميمة والبهتان والكذب والافتراء3.

ص: 341


1- بحار الانوار : ج 68 / ص 274/ ح3
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب احكام المساجد ، باب 27، ح3.

والسب والشتم والإيذاء وإشاعة الفاحشة وغيرها لذا ورد في الحديث (وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم)(1) وألّف العلماء والمربّون والأخلاقيون كتباً في (آفات اللسان).لذلك خصص المشرع الأقدس حصة كبيرة من تعاليمه لتهذيب هذه الكلمة وتوجيهها لتكون نافعة بنّ-اءة فرسم ملامح الكلمة الطيبة {كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بإذن رَبِّهَا} (إبراهيم:24-25) وحذر من ضرر الكلمة الخبيثة {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} (إبراهيم: 26) وحذر من مغبّة الكلمة الضارة.

فمثلاً اعتبر من يقول ولو شطر كلمة في المشرق فقُتل بها شخص في المغرب اعتبره قاتلاً، كما يفعل اليوم صناع ثقافة التكفير والقتل والظلم والعدوان فيطيعهم وينخدع بضلالاتهم شخص في المشرق أو المغرب ويقوم بعملية إجرامية يكون وزرها الأول على صانع هذه الثقافة.

ويوجد بهذا الصدد حديث شريف مهم ويشكّل ضربة قاضية لهؤلاء الذين يروّجون صناعة القتل والرعب لمجرد الاختلاف في الرأي أو تضرّر المصالح فقد روى الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن جده رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (أنه قال "يعذّب اللهُ اللسان بعذابٍ لا يعذّبُ به شيئاً من الجوارح فيقول: أي ربِّ عذّبتني بعذابٍ لم تعذّب به شيئاً، فيقال له: خرجت عنك كلمة فبلغت مشارق الأرض ومغاربها5.

ص: 342


1- الكافي: ج2 ص115.

فسفك بها الدم الحرام وعزّتي لأعَذّبنَّك بعذابٍ لا أعذّبُ به شيئاً من جوارحك)(1).فإذا استشعرنا هذه الأهمية فإن هذا الشعور سينظّم برامج التعامل مع الكلمة وسيراقبها ويتحكم بها، فإن الكلمة في وثاقك وتحت سيطرتك ما دمت لم تطلقْها فإذا أطلقتها فستكون أنت في وثاقها وتتحمل تبعتها ومسؤوليتها، وكم شخص ذهب ضحية الكلمة سواء في الدنيا أو في الآخرة كقاضي القضاة للمعتصم العباسي الذي وشى بالإمام الجواد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو يعلم أن ذلك سيخلّده في النار كما قال هو نفسه.

ونحن اليوم نشهد ثورة معلوماتية هائلة وتكنولوجيا اتصالات عظيمة لم تحلم بها البشرية من قبل، تفتح لنا الأبواب الواسعة لإيصال خطاب السلام والسعادة للبشرية، ولم يعد الطغاة قادرين على حبس الكلمة ومنع وصولها إلى الناس كما كانوا يفعلون عبر التأريخ ولسانهم واحد {مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى} (غافر: 29)، واضطر الإسلام لحمل السيف في وجوه هؤلاء الطغاة ليحرّر شعوبهم من عبادتهم ويترك لهم الخيار في اعتناق العقيدة التي يقتنعون بها تحت شعار {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة:256)و{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} (الأنفال:42) و{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف:29) و{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (الإنسان:3) وشجّع الحوار وثقافة الرأي الآخر {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} (البقرة: 111) {وَلا تُجَادِلُوا أهل الْكِتَابِ إِلا4.

ص: 343


1- وسائل الشيعة، مج8، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب4، ح4.

بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت:46) {ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125). كما أننا نعيش بفضل الله تبارك وتعالى فرصة عظيمة لإيصال الكلمة الطيبة إلى مسامع العالم التوّاق للسلام والسعادة والخير، بعد أن فشلت أمامه كل الأيديولوجيات وبعد أن فشل غير اتباع أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في عرض الإسلام بشكله الصحيح مما اوجب نفوراً وارتداداً لدى معتنقيه، فالعالم كله ينتظر منكم يا اتباع أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أن تعكسوا لهم الصورة النقية الناصعة للإسلام المملوءة بالرحمة وحب الخير والسلام والطمأنينة لكل البشر.

وقد مرّت علينا عقود من سنيّ الكبت وسلب الحرّيات والحجر على الكلام، وقد أزاله الله تعالى ليبلوَنا أنشكر ونؤدي حق هذه النعمة، أم نكفر والعياذ بالله ونسيء استخدام هذه الحرية.

فهذه عوامل ثلاثة:

1-وسائل الاتصالات المتطورة.

2-فشل الإيديولوجيات في تحقيق السعادة للبشرية وتوفير الأمن والسلام والطمأنينة لها.

3-توفر الحرية الكاملة لممارسة الدعوة إلى الله تبارك وتعالى والحق والهداية والصلاح.

تضاعف علينا مسؤولية استثمار (الكلمة) في أداء الرسالة التي ائتمنا الله تبارك

ص: 344

وتعالى وقبلنا حملها بعد أن اعتذرت السماوات والأرض وسائر المخلوقات عن حملها {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} {الأحزاب: 72}

ص: 345

القبس /30: سورة النساء:143

اشارة

{مُّذَبذَبِينَ بَينَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ ۚ}

موضوع القبس: التذبذب في المواقف

العلم وحده لا يكفي:

لا شكّ أن الحديث عن فضل العلم وطلبه، وفضل العلماء ودرجاتهم لا ينقضي، والأقلام التي تكتب عنه لا تجف ولن تجف إن شاء الله تعالى، لكنّ الحديث عن العلم وحده لا يكفي، لأنّ العلم وحده لا يكفي، ولا بد أن ينضم إليه الحديث عن العمل بهذا العلم، وإلاّ فإن الكثير ممن ضلوا وانحرفوا وأضلّوا لم تكن مشكلتهم في نقص العلم، بالعكس فقد كان لديهم علم كثير، وما استطاعوا أن يخلقوا فتنة في المجتمع، ويضلّوا أمة كثيرة من الناس إلاّ من جهة أنّ عندهم علماً فاستطاعوا التأثير في الناس، وبدون ذلك العلم لم يكن أحدٌ يعبأ بهم.

فالعلم قد يكون وبالاً على صاحبه، والأحاديث في ذلك كثيرة حتى جعلت أشد الناس حسرة يوم القيامة شخصاً حمل علماً ونقله إلى الآخرين فاستفادوا منه، لكنّه هو لم ينتفع منه ولم يعمل به.

نماذج من علماء السوء:

وقد ذكرنا في حديث سابق مثالاً على ذلك وهو علي بن أبي حمزة

ص: 346

البطائني الذي تزعّم انشقاقاً على الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وكان عنده علمٌ كثير ورواياته تملأ الكتب وشبّهه الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هو وأصحابه بالحمير ليذّكره بالآية الشريفة {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الجمعة:5).

ميادين العلم:

والعمل بالعلم له ميادين (أولها) النفس فيصلحها ويهذبها ويكاملها (ثمّ) المجتمع فينقل ما تعلمه وعمل به إلى الآخرين ليساعدهم على الصلاح والهداية، فإن زكاة العلم إنفاقه وبذله للآخرين، والعلم يزكو وينمو ويباركُ فيه بالإنفاق.

مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَ-ؤُلاء وَلاَ إِلَى هَ-ؤُلاء:

ومع وضوح هذه المقدّمة، إلاّ إننا نشهد اليوم أمثلة كثيرة على عدم العمل بالعلم وعدم تحويله إلى واقع نعيشه ونتمثله في حياتنا، في أوساط من يسمَونَ بالمتدينين فضلاً عن غيرهم، والمورد الذي أريد أن أذكره محاولة البعض منهم أن يخوض في الدنيا ويمعن في طلبها مع زعمه المحافظة على دينه وآخرته، وهو أعجز من تحقيق ذلك؛ لأن الآخرة والدنيا بهذا الشكل ضرّتان لا تجتمعان كما ورد في الأحاديث الشريفة، وكان يمكنه أن يجعل الدنيا مزرعة للآخرة، فإن الكمالات والجنان لا تنال إلاّ بهذه الدُنيا.

فتوجد فئة من الناس تحاول أن تنال الدنيا التي فتحت أبواب كثيرة لها

ص: 347

اليوم من الامتيازات والمصالح من خلال العمل مع جهة ما، لها نفوذها وتسلطها ومواقعها ومناصبها، مع الاعتراف بأنها لا توصل للآخرة بل تصد عنها، ويقول إنني ما زلت أرجع في الأمور الدينية إلى الجهة الفلانية التي يعتقد أنها مبرئة للذمة أمام الله تعالى، وكأنّه لا تنافي بين الأمرين، وأنّه يمكن أن يكون مع جهة في دينه، ومع جهة أخرى في دنياه، وهو بذلك يخدع نفسه {يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} (النساء:142) فهم ممن وصفهم الله تعالى {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَ-ؤُلاء وَلاَ إِلَى هَ-ؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} (النساء:143).فمثل هذا الشخص يسقط ولا يستطيع المقاومة حتى النهاية، فإذا أراد الخير لنفسه فليحزم أمره وليتخذ موقفاً حاسماً بأن يجعل الله تعالى نصب عينيه ويختار ما فيه سلامة دينه ويتّبع الجهة التي تبرأ ذمته وتوصله إلى الفلاح فيما يحب ويكره، فيأتمر بأمرها وينتهي بنهيها ويعمل ضمن إطارها.

كربلاء: نموذج لصراع الدنيا والآخرة:

وأمامنا مثالان من كربلاء وهُما يعبّران عن حالة التنازع هذه والنتيجة التي انتهوا إليها.

أحدهما: عمر بن سعد فقد حاول أن يتجنّب قتال الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ويبتعد عن هذه الجريمة العظمى بالتوجه إلى إحدى الولايات، لكنّه بقي محباً للدنيا مع ابن زياد وله طمعٌ في نيل ولاية الري وجرجان، حتى وصل إلى مفترق الطريق عندما كلّفه ابن زياد بقيادة الجيش الذي خرج لقتال الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وبات تلك الليلة في حيرة وترددٍ شديدين كما يظهر من أبياته الشعرية التي قالها:

ص: 348

أأترك ملك الري والري مُنيتي***أم ارجع مأثوماً بقتل حسينِ

وخرج إلى كربلاء على رأس الجيش ولكنّه ظلّ يتأمل أن يأخذ الدنيا بيد من دون أن يخسر الآخرة باليد الأخرى وبقي أياماً في كربلاء يجتمع مع الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في خيمة نصبت لهما ويتبادلان الأحاديث، والإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يبذل المحاولات لإقناعه بالعدول عن هذا الخسران المبين، حتى جاء الشمر بكتابٍ من ابن زياد يأمره بمناجزة الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الحرب أو ترك قيادة الجيش للشمر، وهنا سقط ابن سعد واختار الدنيا فخسر آخرته ودنياه ولم يستطع الجمع بينهما.

ثانيهما: الحرّ الرياحي الذي كان قائداً في الجيش الأموي وخرج على رأس ألف فارس لاعتراض الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الطريق بعد دخوله العراق والمجيء به إلى الكوفة، وحاول أيضاً أن يحتفظ بموقعه وامتيازاته من دون أن يتورّط في دم الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فنفّذ أوامر قيادته بمنع الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من الرجوع إلى الحجاز، إلاّ أنّه طلب منه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن يذهب باتجاه لا يمر بالكوفة فاختار (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) طريق كربلاء وظلّ الحر يسايره، وهو يتمنى العافية والسلامة وأن لا تنتهي الأمور إلى القتال ويبقى محتفظاً بامتيازاته، إلاّ أنه في النهاية وصل إلى ساعة الحسم يوم عاشوراء حينما وقع القتال، فعاش صراعاً قاسياً ومريراً جعله يرتعد ويرتجف بدرجة استغربها من حوله وظنوا أنّه جبنٌ من المواجهة، فقال له أحدهم: لو قيل من أشجع أهل الكوفة لما عدوناكَ فما هذا الخوف؟ قال: ويلك إنّي أخيّر نفسي بين الجنة والنار ولا أختار على الجنة شيئاً، وأدركه اللطف الإلهي واستنقذه من النار ونقله إلى حيث السعادة الأبدية، ولم يستطع أي أحد غيره أن يتخذ نفس الموقف لشدته وصعوبته.

ص: 349

ولو كان كل من هذين النموذجين قد ترك طلب الدنيا وتخلّى عن زينتها الزائفة ليضمن آخرته من أول الأمر لما وقع في هذا المأزق الكبير الذي لا ينجح فيها إلاّ من عصم الله تعالى.

كونوا من السابقين:

وهنا تبرز الفئة الثالثة التي حسمت أمرها من البداية واتبعت الحق ولم تؤثر عليه شيئاً كعلي بن الحسين الأكبر (صلوات الله عليهما) الذي يجيب أباه لما علم منه أنّهم سائرون إلى الموت قال: أو لسنا على الحق، إذن لا نبالي أوقعنا على الموت أم وقع الموت علينا.

فمثل هذا الفريق نجح من أول الأمر ولا يعاني ولا يجد صعوبة ولا تردداً ويمضي قدماً.

فعلينا –أيّها الأحبة- أن نحذر أنفسنا ثم الآخرين من الإقدام على ما يوجب زلل الأقدام ويقرّب من حافة الهاوية مغترين بالقدرة على النجاة في ساحة الحسم والامتحان، فإنّها مجازفة غير مأمونة العواقب حينما نضع رجلاً هنا ورجلاً هناك، والدنيا مليئة بالامتحانات والفتن.

وهذا ما حاوله من قبل أبو هريرة فينقل أنّه كان يصلّي مع علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ويأكل من موائد معاوية فإذا وقعت المعركة انحاز إلى الجبل، فقيل له في ذلك قال: الصلاة مع علي أتم والأكل مع معاوية أدسم والجبل أسلم، وحاول بحسب زعمه أن يحصل على الآخرة مع علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وعلى الدنيا مع معاوية، لكن هذا غير ممكن وما كان لمعاوية أن يدعه يتمتع بدنياه بلا ثمن وهو أن يبيع له دينه كعمرو

ص: 350

بن العاص والمغيرة بن شعبة.وعلينا أن نستفيد من علمنا لأنفسنا وللآخرين ونحسم أمرنا باتباع الحق وسوف يجمع الله تعالى لنا الدنيا والآخرة بفضله وكرمه.

ص: 351

القبس /31: سورة المائدة:28

اشارة

{لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقتُلَنِي مَا أَنَا۠ بِبَاسِط يَدِيَ إِلَيكَ لِأَقتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلعَلَمِينَ}

موضوع القبس: من مبادئ الإسلام في التعايش السلمي

أدب من آداب القرآن واخلاقه ونموذج راقي للسلام والتعايش الذي تنشده البشرية اليوم وكل يوم ذكره الله تعالى ضمن قصة ابني آدم هابيل وقابيل، قال الله تبارك وتعالى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة:27) والنبأ: الخبر ذو الفائدة العظيمة الذي يفيد العلم، وهو هنا يتعلق بواقعة حدثت لابني آدم في بداية وجود البشر على الأرض وفيها الكثير من المواعظ والعبر، والقربان ما يتقرَّب به إلى الله تعالى، ولم تذكر الآيات الكريمة كيفية حصول العلم بالقبول وعدمه، لكن الروايات دلتّ على ان علامة القبول ان تأكله النار.

وتفيد صحيحة ابي حمزة في الكافي عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ان آدم أمر قابيل وهابيل ان يقرّبا قرباناً وكان هابيل صاحب غنم وكان قابيل صاحب زرع فقرّب هابيل كبشاً وقرّب قابيل من زرعه ما لم يُنقَّ، وكان كبش هابيل من أفضل

ص: 352

غنمه وكان زرع قابيل غير نقي فتُقبّل قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل وكان القربان اذا قُبِل تأكله النار)(1).فالأمر بتقديم القربان كان من النبي آدم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كجزء من تربيتهما وتعويدهما على الطاعة والأعمال الصالحة، أو لمعرفة المستحق لوراثة ابيهما معنوياً وفي سؤال وُجِّه إلى الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ففيم قتل قابيل هابيل؟ فقال: في الوصية)(2).

ويظهر من بعض الآيات الشريفة ان هذه التي كانت علامة القبول هي ايضا علامة استحقاق تحمل الرسالة الإلهية، قال تعالى {الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (آل عمران:183).

فالآية الكريمة تشير الى ان السر في القبول وعدمه هو اخلاص النية لله تبارك وتعالى وتنقية العمل وإحسانه المعبّر عنه بالتقوى فذكرت الآية معياراً عاماً للقبول {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة:27) وذكره هابيل بأدب ولم يقل لأخيه انك لست من المتقين، وبدلاً من ان يذعن قابيل للحقيقة، ويسعى لإصلاح حاله ويعالج سبب عدم القبول ويعود إلى طاعة ربِّه فأنه حسد أخاه حسداً شديداً وأصدر قراره بقتل أخيه لكن أخاه الصالح هابيل المتأدِّب بآداب الله تعالى قابل3.

ص: 353


1- الكافي:8/ 113 ح 92.
2- تفسير العياشي: 312 ح 83.

أخاه بموقف إنساني نبيل كان كافياً لردع أخيه عن فكرته السيئة فرفض ان يتصرف نفس التصرف ولا يقدم على قتل أخيه وان كان أخوه عازماً على قتله، لأنه لا يفعل الا ما فيه رضا الله تبارك وتعالى ولا يستفزّه خطأ الآخر فيدفعه لارتكاب خطأ مماثل {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة:8). في بعض قصص الأنبياء انه اتي له بأسرى في نهاية معركة انتصر فيها فقال بعض أصحابه اقتلهم فامتنع النبي المنتصر فقيل له انهم يقتلون أسرانا فقابلهم بالمثل، قال: انهم ليسوا قدوة لنا، وقد سجّل القرآن الكريم زجره عن مثل هذا السلوك بقوله {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (النساء:140), وفي سيرة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه أخبر ان عبد الرحمن بن ملجم سيقتله فقيل له: لم لا تقتله قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لا يجوز القصاص قبل الجناية)(1).

وهذا المبدأ شاهد على سمو القانون الاسلامي وتفوقه على القوانين الوضعية التي تجيز ما يسمى بالضربة الاستباقية أي ضرب الخصم اذا علم أو ظنّ بانه يستهدفه او لردعه عن التفكير بذلك.

ويجب الالتفات الى ان هابيل انما امتنع عن خصوص مد يده لقتل أخيه ابتداءاً ولمجرد الضربة الاستباقية اما بسط يده في الدفاع عن نفسه فهذا حق مشروع له بل يجب عليه ان لا يمكّن خصمه من نفسه، لذلك فان قتل هابيل كان اغتيالاً، في تفسير العياشي بسنده عن ابي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (لما قرب ابن آدم79

ص: 354


1- بحار الأنوار: ج2 ص 279

القربان فتقبّل من أحدهما ولم يتقبّل من الآخر، قال: تُقبِّل من هابيل ولم يُتقبَّل من قابيل، دخله من ذلك حسد شديد وبغى على هابيل، ولم يزل يرصده ويتبع خلوته حتى ظفر به متنحياً من آدم فوثب عليه وقتله)(1).واستعمال القرآن الكريم لمفردة التطويع، يكشف عن ان هذا الفعل الشنيع ما كان مستساغاً في أول الأمر لأنه خلاف الفطرة وحكم العقل بقبح الظلم والعدوان، ولازالت البشرية في أول تكونّها ولم ينتشر الفساد في الأرض فاستمر الشيطان في تزيين القتل واستثارة الحسد في نفسه الأمارة بالسوء حتى انقاد لهواه مما يبيّن خطورة رذيلة الحسد وأمثاله من الدوافع الذاتية السيئة على سلوك الفرد بغضّ النظر عن تأثير البيئة الاجتماعية إذ لم يتشكل يومئذٍ مجتمع بعد، ونفّذ قابيل ما تأمره به نفسه {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (المائدة:30).

ولا يخفى ما في كلمة (فَطَوَّعَتْ) من دلالة على المحاولات المتكررة والضاغطة لدفعه إلى تنفيذ الجريمة ولو أغلق على نفسه باب التفكير فيها لما وصل إلى هذه النتيجة، وهذا هو الحال في فعل المعاصي خصوصاً الكبائر فأنه لا يفعلها بمجرد خطورها على ذهنه ولكن استجابته لعملية الدعوة المتكررة والتزيين تجعله يستسلم لفعلها ففي رواية الكافي المتقدمة (ان ابليس أتاه فقال له: يا قابيل قد تُقبِّل قربان هابيل ولم يُتقبَّل قربانك وإنك إن تركته يكون له عقب يفتخرون على عقبك ويقولون: نحن أبناء الذي تُقبِّل قربانه، فاقتله كي لا يكون له عقب77

ص: 355


1- تفسير العياشي: 1/ 306 ح 77

يفتخرون على عقبك فقتله). وهذه اللطيفة القرآنية نور آخر نقتبسه من الآية الكريمة حاصله: ان الايمان ليس مجرد عقيدة نظرية وإنما هو سلوك والتزام بما يريده الله تعالى وتحكيم شريعته في الحياة، حيث كشفت الاخبار أن إيمان قابيل كان نظرياً فقط.

{فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} لأنه خسر نفسه حيث أوردها النار بهذا الأثم العظيم وتحمل أثم أخيه(1)، وخسر أخاه الصالح المحبّ له الشفيق عليه، وخسر دنياه لأن حياته أصبحت منكّدة كئيبة {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} (المائدة:31)، وخسر كرامته وسمعته الاجتماعية.

والآية الكريمة تشخّص مشكلة خطيرة وبلاءاً عظيماً يتعرض له الصالحون والمصلحون عند ما يناصبهم العداء ويكيد لهم من لا يرونه عدواً لهم ويتورعون عن القيام بفعل يشبه ما يريد فعله الخصوم ونتيجة ذلك أن يتلقى العدوان بنفس صابرة مطمئنة ويدافع عن نفسه بما يتيسّر له.

وفي الحديث الشريف عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لا ينفك المؤمن من خصال اربع جارٍ يؤذيه وشيطان يغويه ومنافق يقفو أثره ومؤمن يحسده، ثم قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) اما انه أشدّهم عليه، قلت: كيف ذاك؟ قال: انه يقول فيه القول فيصدق عليه)(2).70

ص: 356


1- عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من قتل مؤمناً متعمداً اثبت لله عزوجل على قاتله جميع الذنوب وبرئ المقتول منها) (بحار الأنوار: 101/ 377 باب 36 ح 42)
2- الخصال: أبواب الأربعة، ح 70 ، ص 170

فالخصم إذن مؤمن لا تستطيع ان تؤذيه او تعتدي عليه لكنه يحسد ويبغي ويفتري ويشوِّه الصورة ويسقط السمعة والكرامة ولا تستطيع أن تقابله بالمثل.وقد ابتلي أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بهذا البلاء فقد بغى عليه وقاتله مسلمون مقربون إليه يحرص كل الحرص على اكرامهم، وكان (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يمنع أصحابه من أن يبدأوا خصومهم بالقتال، وإنما يقاتلون دفاعاً عن انفسهم.

ومن خطاب الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم عاشوراء لأهل الكوفة (سللتم علينا سيفاً لنا في ايمانكم، وحششتم -- أي اوقدتم -- علينا ناراً اقتدحناها على عدِّونا وعدوّكم فأصبحتم أولياء لأعدائكم على اوليائكم)(1) فهؤلاء الرجال والسلاح الذي بأيديهم هم لنا ويجب ان يكونوا من جند الإسلام لأنهم مسلمون بحسب الظاهر، لذا كان (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يمنع أصحابه من ان يبدأوهم بقتال ولم يقاتلوا الا دفاعاً عن انفسهم.

ومن قصيدة دعبل الخزاعي الشهيرة:

اذا وُتروا مدّوا إلى واتريهم***أكفّاً عن الأوتار منقبضات40

ص: 357


1- الملهوف: 155، الاحتجاج: 2/ 97، تحف العقول:240

القبس /32: سورة المائدة:54

اشارة

{يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُۥ}

موضوع القبس: الحب الإلهي

حببوا الله تعالى للناس:

ورد في حديث نبوي شريف أنه توجد فئة من الناس لهم مقام رفيع يوم القيامة يغبطهم عليه الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، وتشرأبُّ أعناق طالبي الكمال إزاء مثل هذه الأحاديث ويقبلون عليها بكلّهم، والحديث الشريف عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (إني لأعرف ناساً ما هم أنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء بمنزلتهم يوم القيامة: الذين يحبّون الله ويحببونه إلى خلقه يأمرونهم بطاعة الله فإذا أطاعوا الله أحبهم الله)(1).

فمن الغريب أنك تجد بعض الناس يتحمّس في الدعوة إلى محبة حزبه أو فريقه الرياضي الذي يشجعه، أو الشخص الذي يعجبه، ويغفل عن الدعوة إلى محبة خالقه الكريم ويزهد في هذه المنزلة الرفيعة وهي منزلة قد لا يبدو من الصعب وصول الإنسان إليها بلطف الله تبارك وتعالى وتوفيقه إذ ليس عليه إلا أن يحبّبَّ الله تعالى إلى مخلوقاته.

ص: 358


1- مجمع الزوائد للهيثمي: 1/ 126.

يأمر الله تعالى النخبة من عبادة ليكونوا من الدعاة إلى محبة الله تعالى، ففي حديث عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (أوحى الله تعالى إلى موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): أحببني وحببني إلى خلقي، قال موسى: يا رب إنك لتعلم أنه ليس أحدٌ أحبُّ إلي منك فكيف لي بقلوب العباد؟ فأوحى الله إليه: فذكّرهم نعمتي وآلائي فإنهم لا يذكرون مني إلا خيراً)(1)، وورد مثله(2) عن النبي داود (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

كيف تحبب الله تعالى؟

وهذا الحديث يبين طريقاً لتحبيب الله تعالى إلى خلقه بتذكيرهم بنعمه التي لا تُعدّ ولا تحصى، ولا تحتاج معرفتها إلى مؤونة كبيرة، وليقم الإنسان بمراجعة لنفسه وحاله ليعرف سعة النعم، فمثلاً إذا جلس على الطعام ورأى أنواع المواد الداخلة في إعداده، وكم بُذل عليها من جهود لتصل إليه بهذا الشكل، ولننظر في الخبز الذي هو طعام مشترك لكل الناس كيف تعب الزرّاع لإنتاج حبات القمح ثم طحنت وعُجنت وخبزت، وكل مرحلة من هذه المراحل يقوم عليها عمال ومكائن ولوازم أخرى كالوقود والماء وغيرها، فإذا تأمل الإنسان في هذه المنظومة الواسعة من النعم التي تشترك لتقدم له رغيف الخبز، أحبَّ الإنسان خالقه الذي هيّأ له كل هذه الأسباب وذلّل له كل الصعوبات، وإذا تأمل في الأنواع الأخرى من طعامه وشرابه فإنه سيعجز عن إدراكها فضلاً عن استقصائها. لذلك حكي عن البعض أنه كان يبكي حينما يقدَّم له الطعام لما يراه من أعظم

ص: 359


1- بحار الأنوار: 13/ 351.
2- بحار الأنوار: 14/ 38.

النعم.وهذا لا يعني اقتصار النعم على المطعم والمشرب، ومن ظن ذلك فهو جاهل، فإن لله تبارك وتعالى على عبده نعماً لا تحصى على رأسها الإيمان بالله تعالى وتوحيده ونعمة الإسلام وولاية النبي وأهل بيته الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) وقد تضمن دعاء الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم عرفه جملة من تلك النعم من قبل خروجنا إلى هذه الدنيا، ولو تعرّف الإنسان على عجائب بدنه لرأى عجباً. في أمالي الشيخ الطوسي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (من لم يعلم فضل الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قصر علمه ودنا عذابه)(1) فإذا علم الإنسان بعض ما أنعم عليه ربه –وهي لا تعد ولا تحصى- أحبه، لأن الإنسان مجبول فطرياً على حب من أحسن إليه، ولو أن شخصاً وفّر لآخر واحدة من نعم الله كالحياة بإنقاذه من غرق أو موت محقق أو وفّر له نعمة البصر أو السمع أو الطعام لأحبه وكان مديناً له طول حياته بذلك الإحسان. فكيف لا يحب الله تعالى الذي وفّر له كل هذه النعم.

عرّفوا الله تعالى بما هو أهله من الكمال:

ومن الوسائل الأخرى لتحبيب الله تعالى إلى خلقه بيان صفاته الحسنى وتعريفه إلى خلقه بما هو أهله من الكمال فإن الإنسان ينجذب فطرياً إلى الجمال والكمال، وذلك يتطلب معرفة فإنه لا حب إلا بمعرفة، فنحن لم نرَ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولا أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولا الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء والحسن

ص: 360


1- بحار الأنوار: 20/ 69.

والحسين والأئمة المعصومين والأنبياء والرسل (صلوات الله عليهم أجمعين) ولم نعايشهم ولكنهم وُصفوا لنا بمحاسن الأخلاق واطلعنا على سيرتهم الكريمة وسمو ذواتهم ومواقفهم النبيلة فأحببناهم، أما الجاهل بهم فإنه لا يعرفهم حتى يحبهم، وهكذا العلماء من السلف الصالح (قدس الله أرواحهم) فإن العامي الذي لا يعرف قيمة إنجازاتهم العظيمة يكون حبه هامشياً مجملاً، أما العلماء الذين وقفوا على مؤلفاتهم وسبروا أغوار علومهم وعلموا قوة ملكاتهم والجهود المضنية التي بذلوها فإنهم يحملون لهم كل الحب والإجلال والتعظيم.وهكذا إذا تعرّف الإنسان على الصفات الحسنى لخالقه أحبّه، فمثلاً إذا عرف سعة عفوه عن المذنبين وقرأ قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر:53) وقرأ بعض الروايات، وفي الحديث: أن رجلا قتل مائة رجل ظما، ثم سأل: هل من توبة؟ فدل على عالم، فسأله فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ولكن أخرج من القرية السوء إلى القرية الصالحة فاعبد الله فيها، فخرج تائبا فأدركه الموت في الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فبعث إليهم ملكا فقيل: قيسوا ما بين القريتين، فإلى أيتهما كان أقرب فاجعلوه من أهلها، فوجدوه أقرب إلى القرية الصاحلة بشبر، فجعلوه من أهلها)).(1)

أو عرف سعة رحمة الله تبارك وتعالى بعباده وأنه تعالى وزّع جزءاً من مائة جزء من رحمته على مخلوقاته فبها تتراحم، تصوروا أن رحمة الأمهات والآباء60

ص: 361


1- مستدرك الوسائل : ج 18 / 260

بأبنائهم لدى الإنسان والحيوان والمشاعر النبيلة التي تتدفق عند رؤية مبتلى أو عاجز أو ذوي عاهة، تشكّل هذه كلها جزء من مائة جزء من رحمة الله تعالى التي لا حدود لها، والقصص في رحمة الله تعالى وتدبيره لأمر خلقه ورعايتهم عجيبة.أو عرف كيف أن الله يستر على المذنبين والخاطئين ويحفظ كرامتهم ويصون سمعتهم بين الناس كقصة السيد بحر العلوم (قدس سره) الذي أمره الإمام المهدي (أرواحنا له الفداء) بأن يزور رجلاً عادياً من عامة الناس ويبشره بعلو منزلته لخصلة أحبّها الله تعالى فيه وهي أنه لما تزوج امرأة لم يجدها باكراً فطلبت منه الستر عليها وعدم فضحها فاستجاب لطلبها قربة إلى الله تعالى.

أقول: إذا تعرف الإنسان على مثل هذه الصفات لخالقه أحبه قطعاً.

التعرّف على سيرة الأنبياء والرسل والأوصياء:

ومما يحبّب الله تعالى إلى عباده التعرف على سيرة أنبيائه ورسله وأوصيائهم المنتجبين وسمو أخلاقهم وطهارة نفوسهم، فإن رباً يكون رسله وسفراؤه إلى خلقه مثل نبينا الأكرم محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ويكون أولياؤه مثل علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لجدير بأن يستأثر بحب عباده، لأنهم يعكسون صورة عن صفات ربهم. وكمثال على ذلك أن بعض الناس يحبون مرجعية ما ويقلدونها لأن وكيلها ومعتمدها عندهم حسن السيرة محبوب عندهم.

أحبوا الله تعالى ثم حببوه الى الآخرين:

ولا بد للإنسان قبل أن يحبب الله تعالى إلى خلقه أن ينطوي قلبه على حب

ص: 362

الله تعالى، ويظهر من الآيات الكريمة والروايات الشريفة أن هذا الحب علامة الإيمان، بل لا يؤثر عليه حب غيره، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة:24) وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} (البقرة: 165) وقال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة: 54).

متى يحصل الحب الإلهي؟

وروي أنه سئل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليك مما سواهما)(1) وفي حديث آخر (لا يؤمن العبد حتى أكون أحبَّ إليه من أهله وماله والناس أجمعين). ويحصل الحب لله تبارك وتعالى بعد تحقق مقدمتين، كلما قويتا قوي الحب وكمُل:

الأولى: تطهير القلب من حب الدنيا وتهيئته بتفريغه لحب الله تعالى، فإن القلوب أوعية لا تستوعب أمراً ما حتى تخليها من غيره، قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} (الأحزاب: 4) وقال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إن كنتم تحبون الله فأخرجوا من قلوبكم حب الدنيا) وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):

ص: 363


1- الحديث والذي يليه تجده في مجموعة ورّام (تنبيه الخواطر ونزهة النواظر): 1/ 223.

(إذا تخلى المؤمن من الدنيا سما ووجد حلاوة حب الله تعالى) ولذا وردت الوصية فيه عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (القلب حرم الله فلا تسكن حرم الله غير الله).وروي أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نظر إلى مصعب بن عمير مقبلاً وعليه إهاب كبش قد تنطق به فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (انظروا إلى هذا الرجل الذي قد نوّر الله قلبه، لقد رأيته بين أبويه يغذونه بأطيب الطعام والشراب فدعاه حب الله وحب رسوله إلى ما ترون)(1).

الثانية: المعرفة بالله تعالى، فإنه لا حب إلا بعد المعرفة، ولا يحب الإنسان شيئاً يجهله؛ ويكرر القرآن الكريم كثيراً الأمر بالتدبر والتأمل والتفكر في آيات الله للوصول إلى المعرفة، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت:53).

وتفاوت الناس في حبهم لله تبارك وتعالى بمقدار تفاوتهم في هاتين المقدمتين، وتبعاً لذلك تتفاوت درجاتهم عند الله تبارك وتعالى.

آثار حب الإنسان لله تعالى وعلاماته:

إذا كان الحب صادقاً فإن آثاره ستظهر على سلوك الإنسان وعلاقته بالآخرين، فهذه الآثار تكون علامات على صدق الحب، ومن دون تحققها يكون ادعاء الحب وهماً:

ص: 364


1- المحجة البيضاء، كتاب مقامات القلب: 114.

1-طاعة المحبوب والقيام بكل ما يقربه من محبوبه ويطبّق ما يكسبه رضاه ويجتنب ما يسخطه، ففي الحديث: (قال رجل للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): يا رسول الله علّمني شيئاً إذا أنا فعلته أحبني الله من السماء وأحبني الناس من الأرض، فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) له: ارغب فيما عند الله عز وجل يحبّك الله، وازهد فيما عند الناس يحبّك الناس)(1) قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (آل عمران:31)، قال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (ما أحب اللهَ عز وجل من عصاه، ثم تمثّل فقال:

تعصي الإله وأنت تُظهرُ حبّ-هُ***هذا لعمري في الفعال بديعُ

لو كان حبّ-ك صادقاً لأطعتَه***إن المحب لمن أحبَّ مطيعُ (2)

ولا يجتنب المحرمات فقط بل يترك المكروهات لأن الله تعالى لا يحبها.

2-إدامة ذكر الله تبارك وتعالى، فإن المحب لا يغفل عن ذكر حبيبه ومن أحب شيئاً أكثر ذكره بلسانه أو بقلبه وعقله وأحبّ ذكر الله تعالى، عن الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (علامة حب الله تعالى حب ذكر الله، وعلامة بغض الله تعالى بغض ذكر الله تعالى)(3)، ودوام ذكر الله تعالى حصن الإنسان من الوقوع فيما يسخط الله تعالى ويبعد منه ومفتاح الارتقاء في الكمالات وسبب لذكر الله تعالى إياه {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} (البقرة: 152).0.

ص: 365


1- بحار الأنوار: 70/ 5 عن ثواب الأعمال والخصال.
2- بحار الأنوار: 70/ 15 عن أمالي الصدوق.
3- ميزان الحكمة: 1/ 510.

3-إيثار محبة الله على ما يحبه العبد، فإذا خُيِّر بين أمرين اختار أرضاهما لله تبارك وتعالى وإن كان على خلاف هواه وما تشتهيه نفسه، لأن المحب يؤثر رضا محبوبه على رضا نفسه ففي البحار عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (دليل الحب، إيثار المحبوب على من سواه).

4-إنه سيحب كل من يرتبط بمحبوبه فيحب الأنبياء والرسل (صلوات الله عليهم أجمعين) لأنهم مبعوثون من الله تبارك وتعالى، ويحب الأئمة والأوصياء (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لأنهم منتجبون من الله تبارك وتعالى، ويحب القرآن لأنه رسالة ربه إلى عباده، عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للناس وهم مجتمعون عنده: أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمة وأحبوني لله عز وجل وأحبوا قرابتي لي)(1) ويحب العلماء والفقهاء لأنهم يهدونه إلى الله تبارك وتعالى، ويحب الشعائر والمشاعر المقدسة لأنها تذكّره بالله تعالى، ويحب المؤمنين لأنهم أهل طاعة الله تعالى، عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إذا أردت أن تعلم أن فيك خيراً فانظر إلى قلبك فإن كان يحب أهل طاعة الله عز وجل ويبغض أهل معصيته ففيك خير والله يحبك، وإن كان يبغض أهل طاعة الله ويحب أهل معصيته فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع من أحب).

5-وإذا أحبَّ العبدُ ربَّه نشطت الأعضاء للعبادة ولم يستثقلها واستزاد منها فلم يقتصر على الواجبات، بل يكثر من المستحبات لأنها محبوبه عند الله تعالى، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (كان فيما ناجى الله عز وجل به موسىق.

ص: 366


1- بحار الأنوار: 70/ 16 عن علل الشرائع والأمالي للصدوق.

بن عمران (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن قال: يا بن عمران كذب من زعم أنه يحبني فإذا جنه الليل نام، أليس كل محب يحب خلوة حبيبه، هذا أنا ذا يا بن عمران مطلع على أحبائي إذا جنّهم الليل حوّلت أبصارهم من قلوبهم ومثلت عقوبتي بين أعينهم، يخاطبوني عن المشاهدة، ويكلموني عن الحضور، يا بن عمران هب لي من قلبك الخشوع ومن بدنك الخضوع ومن عينيك الدموع في ظلم الليل وادعني فإنك تجدني قريباً مجيباً)(1).6-ومن علامات حب الله تعالى أن العبد لا يكره الموت قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (الجمعة:6) في الرد على زعمهم {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} (المائدة:18)، وكيف يكرهه وبه ينتقل الإنسان من سجن الدنيا إلى حظيرة القدس ولقاء ربه وأوليائه (وإذا علم أنه لا وصول إلى هذا اللقاء إلا بالارتحال عن الدنيا بالموت، فينبغي أن يكون محباً للموت غير فارٍ منه، فالمحب لا يثقل عليه السفر عن وطنه إلى مستقر محبوبه ليتنعم بمشاهدته. والموت مفتاح اللقاء وباب الدخول إلى المشاهدة قال النبي الأكرم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه))(2).

نعم قد يحب الإنسان البقاء في الدنيا للاستزادة من طاعة الله تبارك وتعالىب.

ص: 367


1- بحار الأنوار: 70/ 14 عن أمالي الصدوق.
2- المحجة البيضاء للفيض الكاشاني، كتاب مقامات القلب.

ونيل رضاه وهذا لا ينافي الحب ((وفي الخبر المشهور أن إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال لملك الموت إذ جاءه لقبض روحه: هل رأيت خليلاً يميت خليله؟ فأوحى الله تعالى إليه: هل رأيت محباً يكره لقاء حبيبه، فقال: يا ملك الموت الآن فاقبض))(1).7-ومن علامات حب الله تعالى وآثاره أنه يسعى للاتصاف بصفاته الحسنى، فالمحب يتمثل في حياته كل حركات وسكنات بل رغبات محبوبه، كما نجد من يحب عالماً أو بطلاً فيقلّده في ملبسه ومشيته ومطعمه وحركاته ونحوها، فالعبد إذا أحب ربه اتصف بصفاته الحسنى.

8-ومن علامات حبّ الله تعالى حبّ عباده ومخلوقاته والرحمة بهم والشفقة عليهم لأنهم من صنع ربه وإبداعه ولأنهم رعاياه فيسعى لإسعادهم وقضاء حوائجهم وتفريج كربهم ورفع الظلم عنهم. فالذي يقابل حاجة الناس ومعاناتهم بقسوة قلب وعدم اكتراث لا يحلّ في قلبه حبّ الله تعالى.

9-ومن علامات حب الله تعالى الرضا بقضائه والتسليم لأمره روي (إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مرّ بقومٍ فقال لهم: ما أنتم؟ فقالوا: مؤمنون. فقال: ما علامة إيمانكم؟ قالوا: نصبر على البلاء ونشكر عند الرخاء ونرضى بمواقع القضاء، فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): مؤمنون برب الكعبة)(2) وقال أيضاً: (إذا كان يوم القيامة أنبت الله لطائفة من أمتي أجنحة فيطيرون من قبورهم إلى الجنان يسرحون فيها ويتنعمون كيف شاؤوا فتقول لهم الملائكة: هل رأيتم حساباً؟ فيقولون: ما9.

ص: 368


1- مجموعة ورام: 1/ 223.
2- مجموعة ورام: 1/ 229.

رأينا حساباً، فيقولون: هل جزتم على الصراط؟ فيقولون: ما رأينا صراطاً، فيقولون لهم: هل رأيتم جهنم؟ فيقولون: ما رأينا شيئاً، فتقول الملائكة: من أمة من أنتم؟ فيقولون: من أمة محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فيقولون: نشدناكم الله حدثونا ما كانت أعمالكم في الدنيا فيقولون: خصلتان كانتا فينا فبلّغنا الله هذه المنزلة بفضله ورحمته، فيقولون: وما هما؟ فيقولون: كنا إذا خلونا نستحي أن نعصيه ونرضى باليسير مما قسم لنا، فتقول الملائكة: يحق لكم هذا)(1).10-وأن يكون الحب ممزوجاً بالخوف من الإعراض أو الإبعاد أو أن يستبدل به غيره، يروى أن الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إذا أحرم ولبى وقال: (لبيك اللهم لبيك) كانت ترتعد فرائصه ويقول: أخشى أن يجيبني الله تبارك وتعالى: لا لبيك). وقد يكون الخوف من التوقف وعدم التوفيق لمزيد القرب من الله تعالى فيكون من أهل الحديث: (من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان يومه شراً من أمسه فهو ملعون)(2).

جزاء من يحب الله تبارك وتعالى:

1-إذا أحب العبد ربه أحبه وقرّبه منه وأدخله جنته قال تعالى: {يُحِبَّهُم وَيُحِبُّونَهُ}، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من أحب أن يعلم ماله عند الله فلينظر ما لله عنده)(3) ويشرح الحديث الآخر كيفية معرفة ذلك عن أمير

ص: 369


1- مجموعة ورام: 1/ 230.
2- معاني الأخبار للصدوق: 242.
3- الحديث وما بعده في بحار الأنوار: 70/ 18 عن معاني الأخبار والخصال.

المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من أراد منكم أن يعلم كيف منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله منه عند الذنوب كذلك منزلته عند الله تبارك وتعالى)، وفي حديث آخر عن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (من أحب أن يعلم كيف منزلته عند الله فلينظر كيف منزلته عنده فإن كل من خيِّر له أمران أمر الدنيا وأمر الآخرة فاختار أمر الآخرة على الدنيا فذلك الذي يحب الله ومن اختار الدنيا فذلك الذي لا منزلة لله عنده)(1).وروي في أخبار داود (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (يا داود أبلغ أهل أرضي أني حبيب من أحبني، ما أحبني أحد أعلم ذلك يقيناً من قلبه إلا قبلته لنفسي وأحببته حباً لا يتقدمه أحد من خلقي، من طلبني بالحق وجدني ومن طلب غيري لم يجدني، فارفضوا يا أهل الأرض ما أنتم عليه من غرورها وهلموا إلى كرامتي ومصاحبتي ومجالستي ومؤانستي وآنسوني أؤانسكم وأسارع إلى محبتكم)(2).

2-وإذا أحب الله عبده: وفقه لطاعته وجنّبه معصيته، روي أن موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (يا رب أخبرني عن آية رضاك عن عبدك فأوحى الله تعالى إليه: إذا رأيتني أهيئ عبدي لطاعتي وأصرفه عن معصيتي فذلك آية رضاي)، وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إذا أحب الله عبداً ألهمه طاعته). وفي حديث آخر (إذا أحبّ الله عبداً جعل له واعظاً من نفسه وزاجراً من قلبه يأمره وينهاه).

3-وإذا أحب الله عبده: تولى أمره وتدبير شؤونه، ونصره على أعدائه، وأولهم6.

ص: 370


1- بحار الأنوار: 70/ 26.
2- الحديث والذي يليه في بحار الأنوار: 70/ 26.

نفسه التي بين جنبيه فلا يخذله ولا يكله إلى نفسه وشهواته، وفي الحديث عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (عن جبرئيل قال: قال الله تبارك وتعالى: وإن من عبادي المؤمنين لمن يريد الباب من العبادة فأكفّه عنه لئلا يدخله عجب فيفسده، وإن من عبادي المؤمنين لمن لم يصلح إيمانه إلا بالفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا بالغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك)(1) إلى آخر الحديث.4-وإذا أحب الله عبده: كان دليله وسدد خطاه وأنار بصيرته وما أحوجنا إلى دليل يسدّدنا ويميّز بين الحقّ والباطل ويبصّرنا بحقائق الأمور، في الحديث النبوي المتقدم: قال الله تبارك وتعالى: (وما يتقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يبتهل إليّ حتى أحبه، ومن أحببته كنت له سمعاً وبصراً ويداً وموئلاً إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته)(2).

5-وإذا أحبّ الله عبداً حشره مع من أحب، جاء إعرابي إلى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): ماذا أعددت لها؟ فقال: ما أعددت كثير صلاة ولا صيام إلا أنّي أحب الله ورسوله، فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): المرء مع من أحب. قال: فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بذلك)(3).3.

ص: 371


1- علل الشرائع: 12 الباب 9، ح7.
2- وفي المحاسن: (كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها) (بحار الأنوار: 70/ 22).
3- مجموعة ورام: 1/ 223.

ما يحببكم إلى الله تعالى:

من خلال استقراء الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة تحصل على قائمة طويلة بما يحببك إلى الله تعالى، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (البقرة: 222) وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (الصف:4).

ومن الأحاديث الشريفة(1) عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (ثلاثة يحبها الله سبحانه: القيام بحقه، والتواضع لخلقه والإحسان لعباده) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (ثلاثة يحبها الله: قلة الكلام، وقلة المنام، وقلة الطعام، ثلاثة يبغضها الله: كثرة الكلام، وكثرة المنام، وكثرة الطعام) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (يقول الله تعالى: إنّ أحبَّ العباد إلي المتحابون بحلالي المتعلقة قلوبهم بالمساجد المستغفرون بالأسحار، أولئك إذا أردت بأهل الأرض عقوبة ذكرتهم فصرفت العقوبة عنهم).

وعن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (أحب العباد إلى الله عز وجل رجل صدوق في حديثه محافظ على صلواته وما افترض الله عليه مع أدائه للأمانة) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (أحب المؤمنين إلى الله من نصب نفسه في طاعة الله ونصح لأمة نبيه وتفكّر في عيوبه وأبصر وعقل وعمل) وعن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (ما عبد الله بشيء أحب إلى الله عز وجل من إدخال السرور على المؤمن) وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (ألا وإن أحب المؤمنين إلى الله من أعان المؤمن الفقير من الفقر في دنياه ومعاشه ومن أعان ونفع ودفع المكروه عن المؤمنين)، وعن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن رسول الله

ص: 372


1- هذه الأحاديث نقلت من بحار الأنوار ومجموعة ورام.

(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (ما بني بناء في الإسلام أحب إلى الله عز وجل من التزويج)(1).

أوثق عُرى الإيمان:

أيها الأحبة:

إن الله تبارك وتعالى يحبُّكم لأنه خالقكم وصانعكم وأبدع في صنعكم وجعلكم في أحسن تقويم وكرّمكم وفضلكم على كثير ممن خلق وسخّر لكم ما في الأرض جميعاً ويباهي بكم ويتحدى بكم من اتخذوهم أرباباً من دونه وأنداداً له {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (لقمان:11) يروى أن أبا تمام الشاعر المشهور يقول إن كل بيت من شعري عندي كابني، أقول: هذا وهو بيت من الشعر مهما كان بديعاً، فما هو محل هذا الكائن العجيب عند خالقه ومبدعه.

أتحسب أنّك جرمٌ صغير***وفيك انطوى العالم الأكبر

فأحبوا الله تبارك وتعالى وحببوه إلى عباده وأحبوا عباد الله ومخلوقاته، واجعلوا دليلكم في من تحبون ومن تبغضون حب الله لهم وبغضه إياهم، في الكافي عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (مِن أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله وتعطي في الله وتمنع في الله)(2) وفي المحاسن عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع له فهو ممن كمل إيمانه).

ص: 373


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، باب استحبابه، ح4.
2- الحديث والذي يليه في بحار الأنوار: 69/ 238-239.

ملحق: الدين هو الحب، والحب هو الدين

الحب معنى شريف نبيل اودعه الله تبارك وتعالى في قلوب الناس ليجعل لحياتهم طعما جميلا ممتعا، فان الحياة بلا حب كصحراء جرداء قاحلة مخيفة، اما الحب فيحوّلها الى واحة خضراء مؤنسة، والحب يعطي للحياة معنى وجدوى لأنه يولّد عند الانسان املا وغرضا وهدفا يحيى ليحققه وهو الوصول الى محبوبه، سواء كان هذا المحبوب امرا معنوياً كالقرب من الله تعالى ورسوله الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والائمة الطاهرين (سلام الله عليهم)، او ماديا كالمال او الشهرة او السلطة او الاتصال بالجنس الاخر، ولولا هذا الامل لأصبحت الحياة بلا هدف ولا معنى مما يؤدي الى الشعور بالاحباط واليأس والموت، وقد قلت في بعض كلماتي ان من فوائد جعل رواتب للمتقاعدين والمسنين والعاجزين هو ايجاد هدف وغاية يحبونها ويعيشون على امل الحصول عليها وهو قبض الراتب فيملؤون حياتهم بِعدّ الايام والساعات لبلوغ ذلك الموعد.

فالحب اذا نعمة الهية عظيمة، وقد نسب الله تعالى وجوده في قلب الانسان اليه تبارك وتعالى كما في العلاقة الزوجية {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم:21) او بين الاخوة المتحابين في الله تعالى {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال : 63) بالحب تعمر الحياة لان الانسان اذا لم يحب شيئا فانه لا يتحمس لفعله والتحرك باتجاهه، اما اذا احبَّ فانه يضحي من اجل حبه ويذوب في محبوبه كالوالدين بالنسبة لأبنائهما، او القائد الرسالي بالنسبة الى شعبه،

ص: 374

وهكذا، لذا ليس غريباً أن نجد في الحديث الشريف عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الدين هو الحب، والحب هو الدين) (1) وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (هل الدين الا الحب؟ إن الله عز وجل يقول {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} (آل عمران:31) لأن الدين محرّك ودافع لكل عمل مثمر يجلب الخير والسعادة له وللآخرين، والحب هكذا أيضا فهما يلتقيان دائما.لكن المشكلة في تحريف هذا العنوان الشريف النبيل وإفراغه من محتواه بل تحويله الى عكس معناه ككثير من المصطلحات والعناوين التي تناولناها في كلمات عديدة كالحرية والاستعمار والسياسة، فاصبح الحب يعني العلاقات المشبوهة بين الجنسين واتباع الشهوات والنزوات بلا تعقل وروية وخارج اطارها الصحيح مما يولّد مشاكل اجتماعية وآثار نفسية تكون عاقبتها وخيمة وان بدت في اوّلها كأنها سعادة ومتعة، ويوجد من يغذّي هذا المعنى السيء للحب بين الشباب وخصوصا في الجامعات ويهيؤون البيئة المناسبة له، ويمجّدون من يقع فيه لاستدراج الآخرين وكسر الحواجز الاخلاقية والاجتماعية والنفسية والدينية، وتنتج دور السينما والتلفزيون والمسرح سيلا متواصلا من الافلام والمسلسلات لتحقيق هذا الغرض وتساندهم وسائل الاعلام المختلفة وهذا كله انحراف عن الفطرة السليمة وخروج عن الروابط الاجتماعية المتينة وتحطيم للأطر الصحيحة التي تنظم العلاقة بين الجنسين، وهذا تشويه لمعنى الحب ومصادرة له وتحويله الى معنى سيء، وهو ليس حبا اصلاً ولا يمكن تسميته بالحب بل هو اتباع98

ص: 375


1- راجع مصادر هذه الاحاديث في ميزان الحكمة:- 2/ 198

للنزوات والشهوات الحيوانية التي لا يمكن اعطاء عنوان الحب لها.ان الحب الانساني الحقيقي هو ما يتعلق بمن يستحق الحب وهو الله تبارك وتعالى، لان كل ما يوجب المحبة متحقق فيه سبحانه، فالله تعالى جميل ويعرف ذلك من لمساته الجميلة على الكون وما فيه من حولنا، والقلب يحب الجمال والله تعالى محسن الينا وقد تولاّنا بإحسانه ونعمه قبل ان نكون وبعد ان كنّا، والانسان مجبول على حب من احسن اليه، والله تعالى يحبنا ويشفق علينا حتى جعل من احبّ الاشياء اليه تعالى الاحسان الى المخلوقين، عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (الخلق عيال الله، فاحبّ الخلق الى الله من نفع عيال الله، وادخل على اهل بيت سروراً) (1)، ومقتضى المقابلة ان نبادله تعالى الحب وقد اثنى تعالى على قوم يبادلونه هذا الحب {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة: 54) وهكذا فان كل مقومات الحب متوفرة فيه تعالى.

ويتفرع عن حبّه تعالى حب من يرتبط به ومن امرنا بحبّه كرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والائمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) والاخوة المؤمنين عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (افضل الاعمال الحب في الله والبغض في الله تعالى).

وكذلك فان حب الابوين والزوجة والاولاد داخل في هذا الاطار وهو مبارك من الله تعالى ويثيب عليه لأنه مما ينسجم مع الفطرة، لكنه متى خالف ما يحبّه الله تعالى وخرج عن تعاليمه فهو مذموم ويجب رفضه ونبذه {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌح6

ص: 376


1- الكافي: 1/ 164 ح6

تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة:24).ولكي يكون الحب صادقا فلا بد ان تظهر اثاره على المحب من التملق للمحبوب والحرص على ارضائه والمسارعة الى تحقيق مراده فالحب لله تعالى لا بد ان يقترن بطاعته تبارك وتعالى وطاعة رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والابتعاد عن معصيته قال تعالى {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران31)

تعصي الاله وانت تزعم حبَّه***هذا لعمري في الفعال شنيع

لو كان حبّك صادقا لأطعته***ان المحب لمن احبَّ مطيعُ

ولا بد ان ي-ُبنى الحب على المعرفة ليكون راسخاً، لان المجهول لا يمكن أن تتعلق به المحبّة، ولو تعلّقت فلا تدوم، فعلينا أن نزداد معرفة بالله تعالى لنزداد حباً، ومن دون النظر بعين المعرفة والبصيرة فإننا لا ندرك معنى حب الله تعالى ولا نستطيع فهم حب عابس الشاكري للإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بذلك الشكل الذي اذهل الأعداء والأصدقاء على حدٍ سواء، يُحكى أن قيس المجنون بحبِّ ليلى قيل له أن ليلى ليست بذاك الجمال الذي يُصيب بالجنون وتهيم في الصحراء شوقاً الى لقائها، قال قيس: ذلك لأنكم نظرتم الى ليلى بعيونكم وليس بعيني، فإذا لم ننظر الى هذه الحقائق المعنوية بعين المعرفة والبصيرة فإننا لا ندركها.

نضع هذه الحقائق أمام من يريدون الاحتفال بعيد الحب ليصححوا نظرتهم للامور، وكجزء من عملية التصحيح يمكن اختيار يوم مناسب لهذه المعاني

ص: 377

ليكون عيداً للحب كالأول من ذي الحجة يوم أقدس علاقة حب شريفة في التاريخ وهو زواج أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) ومثلها علاقة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بام المؤمنين خديجة (علیها السلام) ونحو ذلك من المناسبات.

ص: 378

القبس /33: سورة المائدة:63

اشارة

{لَولَا يَنهَىهُمُ ٱلرَّبَّنِيُّونَ وَٱلأَحبَارُ عَن قَولِهِمُ ٱلإِثمَ وَأَكلِهِمُ ٱلسُّحتَ ۚ لَبِئسَ مَا كَانُواْ يَصنَعُونَ}

وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر قرآنياً/3

في الآية الكريمة توبيخ وتقريع للربانيين والأحبار لتركهم فريضة النهي عن المنكر، وكذا لتركهم الأمر بالمعروف المستفاد بالاقتران بين الفريضتين(1) وتصف تخليهم عن وظيفتهم ببئس الصنيع.

والربانيون نسبة إلى الرب سبحانه وتعالى، ويمكن أن يراد بهم ما نسميهم في عرفنا (المتدينين) وهم الذين يغلب عليهم الالتزام بالشريعة فنسبوا إلى صاحب الشريعة سواء كانوا من العلماء أو غيرهم، أو يراد بهم واجهة المؤسسة الدينية والقائمون بالوظائف الدينية كأئمة المساجد وخطباء المنابر والجمعة وسدنة العتبات المقدسة، أما الأحبار فهم العلماء وحملة العلم سواء كانوا صالحين أو فاسقين.

وذكر قول الإثم وأكل السحت من دون المنكرات لا يخصص الآية بها لعدم الخصوصية ولدلالة آيات أخرى على العموم كقوله تعالى: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} (المائدة:79)، وإنما ذكر قول الإثم وأكل السحت خاصة

ص: 379


1- بحث مفصلاً في البحوث التمهيدية في الجزء الأول من كتاب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

لأنهما المذكورات في الآية السابقة {وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (المائدة:62)، ولأنهما أصل المعاصي المتفشية في المجتمع. فقول الإثم يتضمن الغيبة والنميمة والكذب والافتراء والبهتان وإيذاء الآخرين والتضليل وترويج الشبهات وتحريف الكلم عن مواضعه والتغرير بالآخرين والتدليس عليهم وغيرها كثير.أما أكل السحت فيشمل موبقات كثيرة كالفوائد الربوية والرشوة في القضاء وسرقة أموال الشعب وأخذ الأثمان على إلقاء الأحكام بغير ما أنزل الله تعالى، وشرعنة عمل الظالمين، والتطفيف في الميزان وبيع المحرمات وأكل المال بالباطل والظلم ونحوها كثير.

فالآية تدعو إلى العمل بهذه الفريضة وتذم تاركها بأشد الذم، وهي عامة في دلالتها لكل المنتسبين إلى الشريعة، ولو قلنا بأن خطابها خاص لشريحة العلماء والمتدينين، فإن ذلك لا ينافي عموم الوجوب، وإنما خصَّت هؤلاء لأن الوجوب عليهم أأكد والامتثال متوقع منهم أكثر من غيرهم لمعرفتهم بعظمة هذه الفريضة وشدة وجوبها وسوء عاقبة تركها، كما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لنحملن ذنوب سفهائكم على علمائكم)(1).

ولا يرد هنا إشكال اجتماع وجوبين على موضوع واحد باعتبار الوجوب العام للفريضة الشامل للأحبار والربانيين، وهذا الوجوب الخاص المستفاد من الآية، لأن هذا الخطاب فيه مزيد تأكيد على هؤلاء الخاصة وتذكير بمسؤوليتهم المضاعفة3.

ص: 380


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب 7، ح3.

عن الفريضة، مضافاً إلى نقاشنا في أصل الكبرى فإننا لا نمنع منها كما تقدم(1).قال العلامة الطبرسي: ((فذمَّ هؤلاء - أي الربانيين والأحبار- بمثل اللفظة التي ذمَّ بها أولئك(2)، وفي هذه الآية دلالة على أن تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه وفيه وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر))(3).

قال في ظلال القرآن: ((إن سمة المجتمع الخيّر الفاضل الحي القوي المتماسك أن يسود فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. أن يوجد فيه من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ وأن يوجد فيه من يستمع إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وأن يكون عرف المجتمع من القوة بحيث لا يجرؤ المنحرفون فيه على التنكر لهذا الأمر والنهي، ولا على إيذاء الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر.

هكذا وصف الله الأمة فقال: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}(آل عمران: 110), ووصف بني إسرائيل فقال: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ}(الأحزاب: 79). فكان ذلك فيصلاً بين المجتمعين وبين الجماعتين.

أما هنا فينحى باللائمة على الربانيين والأحبار، الساكتين على المسارعة في الإثم والعدوان وأكل السحت؛ الذين لا يقومون بحق ما استحفظوا عليه من كتاب6.

ص: 381


1- انظر: أسمى الفرائض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، القسم الأول: ص92.
2- يقصد قوله تعالى: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} في هذه الآية وقوله تعالى: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} في الآية السابقة.
3- مجمع البيان: مج 2: 336.

الله))(1).أقول: ينبغي الالتفات إلى أن مطلوبية هذه الوظيفة من الربانيين وعلماء الدين لا تعني أن يتركوا كل أعمالهم ومسؤولياتهم وواجباتهم ويتفرغوا لأمر هذا ونهي ذاك ويترصدوا كل منكر لينهوا عنه ويراقبون أفعال الناس ويتجسسون عليهم ليأمروهم وينهوهم، فهذه سيرة غير عقلائية ولا متشرعية، وإنما عليهم أن يكونوا متصفين بهذه الصفة ويكون ديدنهم ذلك ويمتلكون حاسة الغضب لله تعالى إذا عُصي، ولا يترددون في الامتثال عند تنجّز التكليف.

((ثم إن قوله سبحانه: {يَفعَلُونَ} إما مجاز؛ لأن الترك ليس فعلاً –على قول المشهور-، وإما حقيقة، ويراد بالفعل الذي أوجب تركهم الأمر والنهي، وذلك عبارة عن تكالبهم على الدنيا وأخذهم الرشوة على سكوتهم والأول أقرب سياقاً والثاني أقرب والله العالم))(2).

أقول: ليس في التعبير مجاز، وإنما هو على نحو الحقيقة؛ لأن الترك يصدق عليه فعل إذا اقترن بالقصد، كالصوم الذي هو كفٌّ عن المفطرات مقترناً بنية القربة إلى الله تعالى. مضافاً إلى أن التقريب الذي ذكره للاستعمال على نحو الحقيقة مقبول، ومراد من الشارع المقدس، وهو الالتفات إلى علل الأفعال قبل نفس الأعمال والعلاج لا بد أن يتناول العلل، وقد نبّهنا على ذلك في خطابات متعددة.4.

ص: 382


1- في ظلال القرآن: مج 2/ 790.
2- الفقه: 48/ 164.

القبس /34: سورة المائدة:67

اشارة

{يَأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغ مَا أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}

يوم الغدير عيد الله الأعظم

كل آيات القرآن عظيمة وجليلة، وهذه الآية من أعظم الآيات القرآنية وأجلها قدراً لأنها أسست لمستقبل الإسلام بعد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وخلوده وحفظته وصانته من الانحراف والتشويه في أهم منعطف ومفصل تاريخي بوفاة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وغياب شخصه عن مسرح الحياة.

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} أمر متوجه إلى الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وخوطب بهذا العنوان بصفته حامل رسالة إلهية عظيمة مهيمنة على كل الأديان وقيّمة عليها وخالدة تنظم شؤون الحياة لكل البشرية مدى الأجيال، ولأنه رسول فأنه لا يملك الا تبليغ الرسالة كما يريد المُرسل {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} (النور:54).

{بَلِّغْ} أي أوصل الرسالة بوضوح وحسم وهو تعبير أقوى من (أبلغ) ولا يتحقق التبليغ الا بأمرين: كون البيان واضحاً معبراً عن المطلوب بدقة، وكونه معلناً صريحاً وحاسماً ومشهوراً للناس.

ص: 383

{مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} ولم يذكره صريحاً تعظيماً له وللإشارة إلى أنه منزّل إليك من الله تعالى وليس لك أي يد فيه حتى لا يتهم بمحاباة أو مصلحة شخصية وغير ذلك، ولأنه منزل إليك فليس لك خيار إلاّ تبليغه. وهذا الأمر المراد تبليغه لا يراد به كل ما انزل إليك -- كما قال بعض العامة -- لأن الجملة تصبح لغواً وتحصيل حاصل مع الجملة التالية وتصبح كالتالي ((وإن لم تبلّغ ما انزل اليك فما بلّغت ما انزل اليك)).

وليس هو قضية التوحيد أو النبوة أو البعث يوم القيامة ونحو ذلك من العقائد الحقة لأن هذه كلها بلّغها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) منذ بداية البعثة من دون تردد فلا تحتاج إلى التطمين التالي {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}.

وليس هذا الأمر من قبيل الأحكام الشرعية لأنها بُلّغت كلها تدريجياً بحسب نزول الآيات الآمرة بها.

وإنما هو أمر محدد أنزله الله تعالى إليك في آيات سابقة وبوحي متكرر في مناسبات متعددة لتبلّغه ولكنه لم يكن حاسماً قاطعاً كما يراد تبليغه الآن، وهو أمرٌ مهم وخطير بحيث أنه يعدل الرسالة كلها، وإن لم يبلّغه فكأنه لم يبلغ الرسالة كلها كما أفاد الجزء التالي من الآية.

{مِن رَّبِّكَ} اختار الرب دون الأسماء الحسنى وإضافه إليه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لإظهار مزيد من الرحمة والحنو على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأن هذا الأمر أنزله ربك الذي ربّاك وتكفل بك وحماك ونصرك وأعلى شأنك فلتطب نفسك وليطمئن قلبك.

ص: 384

{وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} جملة لم يرد مثلها في القرآن الكريم وتعزّز التأكيدات المتكررة على تبليغ هذا الأمر، وظاهرها التهديد الا ان هذا المعنى غير وارد لأن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لا يحتمل فيه عدم التبليغ حتى يذكر جزاؤه، وقد قال تعالى {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام:124) فالآية في حقيقتها تعبير عن أهمية القضية بحيث ان اهمالها يعني التفريط بكل الرسالة وكأنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يفعل شيئاً خلال مدة الدعوة التي تجاوزت عشرين عاماً. وكان يُشقّ على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تبليغ هذا الأمر لأنه كما يظهر من الآية يتعلق ب- ((حكم نازل، فيه شوب انتفاع للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) واختصاصه بمزية حيوية مطلوبة لغيره أيضاً يوجب تبليغه والعمل به حرمان الناس عنه، فكان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يخاف إظهاره فأمره الله بتبليغه وشدَّد فيه، ووعده العصمة من الناس وعدم هدايتهم في كيدهم إن كادوا فيه)).

{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ليس المقصود بالناس اليهود وأمثالهم لأنهم قد قضي عليهم قبل ذلك بسنين ولم تبق لهم باقية، ولا يراد بهم المشركون لأن شوكتهم كسرت بفتح مكة ودخلوا في الإسلام طوعاً أو كرهاً، وإنما المراد بهم جماعة من أصحاب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان يتوقع منهم التمرد والعصيان والانشقاق.

ولأن هذا الأمر يعرّضه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للاتهام بأنه يبتغي به مصلحة شخصية أو محاباة(1) وقد بلّغ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أحكاماً فيها ما يفسَّر على أنه مصلحة شخصية لهم.

ص: 385


1- روى الحسكاني في شواهد التنزيل (عن ابن عباس وجابر قالا: أمر الله محمداً (صلى الله عليه وآله) أن ينصب علياً للناس ليخبرهم بولايته، فتخوف رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يقولوا حابى ابن عمه، وأن يطعنوا في ذلك عليه، فأوحى الله إليه (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ) الخ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) بولايته يوم غدير الخم). وروى عن زياد بن المنذر عن أبي جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) إلى أن قال (إن جبرئيل هبط إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: ان الله يأمرك أن تدلَّ أمتك على وليّهم على مثل ما دللتهم عليه من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم وحجهم ليلزمهم الحجة من جميع ذلك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا ربِّ ان قومي قريبوا عهد بالجاهلية وفيهم تنافس وفخر، وما منهم رجل الا وقد وتره وليّهم، وإني أخاف -- أي من تكذيبهم -- فأنزل الله تعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ). (شواهد التنزيل: 1/ 191-192 وراجع تفسير الآية في أسباب النزول للواحدي ونزول القرآن لأبي نعيم.

كتزوجّه بأكثر من أربعة ولم يكن فيها حزازة ولا تردد لأنها لا تتعارض مع مصالحهم، لكن هذا الأمر المقصود بالآية من نوع خاص، لأنه يمسّ مصلحة مهمة لهم ويهدم طموحاً مُلحّاً ينتظرون تحقيقه وهو خطر عظيم قد يؤدي إلى إنهيار الكيان الإسلامي فأحبَّ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تأجيل تبليغه إلى وقت الضرورة لأنه يتعلق بما بعد وفاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ). وهذا التحليل العقلائي المستفاد من ظاهر الآية الكريمة وتسلسل فقراتها ينسجم مع ما ورد في مصادر العامة والخاصة من نزولها في التبليغ بولاية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الأمر بعد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقد نزلت فيه منذ بداية الدعوة الإسلامية آيات كثيرة كقوله تعالى {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء:214) فجمع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بني هاشم وأنذرهم ثم أخبرهم بأن علياً وزيره وخليفته. وتوالت الاخبارات حتى آية الولاية {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (المائدة:55) لكنها لم تصل إلى درجة التبليغ القاطع الحاسم وإقامة احتفال التنصيب الرسمي كما يقال،

ص: 386

خشية أن يتهموه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في ابن عمه. ولما علم الله تعالى أن أجله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قريب أمر بإنجاز الأمر فوراً وقد أشار (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلى ذلك فأنه قال قبل تبليغ الأمر (أيها الناس يوشك أن أقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي...).وهذه القضية المهمة التي جعل تبليغها يعادل تبليغ الرسالة كلها هي تعيين القيادة المعصومة التي تخلف النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتواصل حمل رسالة الإسلام وصيانتها ونشرها لتستمر في أداء دورها، أي نقل ارتباط الرسالة من الحامل الشخصي وهو النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلى الحامل النوعي لها الذي يتصف بصفات الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعلى رأسها العصمة والعلم وهو أمير المؤمنين ومن بعده الأئمة الطاهرون من بنيه (صلوات الله عليهم أجمعين) فان دوام الرسالة وحفظها يتحقق بوجود المؤهّل لحملها والا تموت الرسالة بموت حاملها كما حصل في شرائع الأنبياء السابقين حيث بقيت عرضة للتلاعب والتزوير وقد شرحنا ذلك في بحث مستقل(1).

وان مصدر قلقه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) علمه بأن قوماً من أصحابه كانوا يتطلّعون للسلطة من بعده وينتظرون موته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ليمسكوا بزمامها مدعومين بقطاع واسع ممن اسلموا كرهاً وانصياعاً للواقع أو طمعاً في أن يكون لهم شيء في دولة الرسول الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) خصوصاً من قريش، وهذا ما ورد على لسان عمر بن الخطاب في أكثر من محاورة مع ابن عباس وفي أحداها قال يا بن عباس! أتدري ما منع قومكم منه بعد محمد؟ فكرهتُ أن أجيبه، فقلت: إن لم أكن أدري فأمير المؤمنين يدريني،ه)

ص: 387


1- سيأتي بعنوان (كيف خطّط رسول الله (صلى الله عليه وآله) للخلافة من بعده)

فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتبجحوا على قومكم بجحاً بجحاً، فاختارت قريش لأنفسها ووفقت))(1) وهذا يعني ان قريشاً كانت تجتمع وتناقش كيفية الاستيلاء على السلطة بعد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وفق مصالحها هي وليس مصلحة الإسلام، وقد عزمت على انتزاع الأمر من علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ). وهذا ما كشف عنه أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واشتكى منه لاحقاً بقوله (اللهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم فإنهم قد قطعوا رحمي وأكفئوا إنائي وأجمعوا على منازعتي حقا كنت أولى به من غيري)(2).

وهؤلاء هم من كان يخشى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من فتنتهم وتقليبهم الأمور لو نصّب علياً خليفة من بعده، وكثير منهم ينظر إلى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على أنه ملك وزعيم نجح في بسط سلطانه كأبي سفيان في كلمته التي قالها عندما بويع لابن عمه عثمان بالخلافة (تلاقفوها يا بني أمية تلاقف الكرة بيد الصبيان فوالذي يحلف به أبو سفيان فلا جنة ولا نار ولا معاد)(3) وأكّد بها قوله السابق حينما رأس جيش رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على مشارف مكة وقد اضاؤوا النيران فقال للعباس بن عبدالمطلب (لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً)(4) فقال له العباس (ويلك انها النبوة).71

ص: 388


1- تاريخ الطبري: 1/ 30 ط. مصر الأولى في ذكر سيرة عمر من حوادث سنة 23 ه-
2- نهج البلاغة: 336 الخطبة 217
3- الجوهري: السقيفة 39 - 40، ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 2/ 44
4- بحار الأنوار: 21/ 104، مجمع البيان في تفسير القرآن:10/ 471

فلم يكن خوف رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على نفسه فقد صدع بالدعوة وحيداً ولم يثنه بطش قريش وقسوتها {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} (الأحزاب:39).فأمن الله تعالى نبيه من هذه المخاوف، وصدق وعده حينما انهال الجميع فوراً على بيعه أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إماماً وخليفة من بعد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وكان اول المبايعين أبا بكر وعمر وهما يقولان (هنيئاً لك يا ابن ابي طالب، أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة)(1) وفي رواية أخرى قال ابن الخطاب (بخٍ بخٍ لك يا ابن ابي طالب)(2) وظلّ يكرر الاعتراف بولاية علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في كل مناسبة(3) كما سيأتي ان شاء الله تعالى.

ولما تم الأمر استبشر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وملأه السرور واطمأن على خلود الإسلام والقرآن ومستقبل الرسالة لأن الله تعالى قيّض لها من يحفظها ويصونها ونزل قول الله تبارك وتعالى {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} (المائدة:3) لأن فئات كثيرة كانت تعوِّل على وفاة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للتخلص من الإسلام بعد أن فشلت كل خططهم ومؤامراتهم للقضاءة.

ص: 389


1- مسند أحمد: 4/ 281 وسنن ابن ماجة باب فضائل علي، والرياض النضرة: 2/ 169.
2- شواهد التنزيل: 1/ 157،158
3- أورد جملة منها في (الفرقان في تفسير القرآن: 9/ 43) منها ما أخرجه الطبراني وفي الفتوحات الإسلامية: 3/ 307: حكم علي مرة على اعرابي بحكم فلم يرضَ بحكمه فتلبّبه عمر بن الخطاب وقال له: ويلك إنه مولاك ومولى كل مؤمن ومؤمنة.

عليه، أما اليوم فقد دخل اليأس قلوبهم لأن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وإن ارتحل بشخصه إلى الرفيق الأعلى فأنه سيبقى محفوظاً بأخيه وصنوه علي بن أبي طالب (صلوات الله وسلامه عليه).ان هذا الذي أوردنا من التفسير الظاهر من الآية الكريمة ينطبق تماماً على القضية التي نزلت فيها ونقلها جمع كبير من الصحابة أحصي منهم (110) ذكرت أسماؤهم في المصادر(1) وألف جمع غفير من علماء الفريقين كتباً خاصة فيه فقد صنف مسعود بن ناصر السجستاني(2) كتاب (الدراية في حديث الولاية) من سبعة عشر جزءاً روى فيه الحديث عن 120 صحابياً(3) وألّف فيه ابن عقدة(4) الذي وثقه ارباب المذاهب وسمى كتابه ((الولاية ومن روى غدير خم)) ورواه من 105 طرق وألف الطبري(5) صاحب التفسير والتاريخ ((كتاب الولاية)) وروى الحديث4)

ص: 390


1- راجعها في بحار الأنوار:37/ 181-182 وذكرهم باسمائهم في (الفرقان في تفسير القرآن: 9 /25) وأضاف لهم التابعين وتابعيهم وفي سائر القرون وقد أوفى المرحوم العلامة الأميني البحث والاستقصاء وسجَّل كل هذه الاسماء و الوثائق في المجلد الأول من كتاب الغدير: 214-223 وبذل صاحب تفسير الفرقان جهداً وافياً في استقصاد مصادر التفسير والحديث والتاريخ (الفرقان في تفسير القرآن: 9/ 23)
2- محدّث، قال عنه بعض مؤرخيه ان فوائده من الأخبار لا تحصى توفي سنة 477 ه- (الاعلام للزركلي:8/ 117)
3- بحار الأنوار: 37/ 126
4- أحمد بن محمد، حافظ مكثر فقد كان يقول: احفظ مئة ألف حديث بأسانيدها توفي سنة 332 ه- (الاعلام:1/ 198)
5- محمد بن جرير: مؤرخ مفسر إمام مجتهد قلده بعض الناس عرض عليه القضاء وديوان المظالم فأبى، صاحب التاريخ المعروف ووصف بأنه أوثق المؤرخين ، له تفسير مطبوع بثلاثين جزءاً وكتب كثيرة أخرى توفي سنة 310 ه- (الاعلام:6/ 294)

من خمس وسبعين طريقاً(1).وننقل النص من مصادر العامة فقالوا ((لّما صدر رسول الله من حجّة الوداع نزلت عليه في اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة آية {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ...} فنزل غدير خمّ من الجحفة وكان يتشعب منها طريق المدينة ومصر والشام ووقف هناك حتّى لحقه من بعده وردّ من كان تقدّم ونهى أصحابه عن سمرات متفرقات بالبطحاء أن ينزلوا تحتهنّ، ثم بعث إليهن فقّمَّ ما تحتهن من الشوك ونادى بالصلاة جامعة وعمد إليهنّ وظلّل لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بثوب على شجرة سمرة من الشمس، فصلى الظهر بهجير ثمّ قام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه، وذكر ووعظ وقال ما شاء الله أن يقول، ثمّ قال: ((إنّي أوشك أن أُدعي فأجيب، وإنّي مسؤول وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟)) قالوا: نشهد أنّك بلّغت ونصحت فجزاك الله خيراً، قال: ((أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً عبده ورسوله وأنّ الجنّة حقّ وأنّ النار حقّ؟)) قالوا: بلى نشهد ذلك. قال: ((اللهمّ أشهد)) ثم قال: ((ألا تسمعون؟)) قالوا: نعم. قال: ((يا أيّها الناس إنّي فرط وأنتم واردون عليّ الحوض وإن عرضه ما بين بصرى إلى صنعاء فيه عدد النجوم قدحان من فضّة، وإنّي سائلكم عن الثقلين، فأنظروا كيف تخلفونني فيهما)). فنادى مناد: وما الثقلان يا رسول الله؟ قال: ((كتاب الله، طرف بيد الله وطرف بأيدكم، فأستمسكوا به، لا تضلّوا ولا تبدّلوا؛ وعترتي أهل بيتي، وقد نبّأني اللّطيف الخبير انّهما لن يتفرّقا حتّى يردا عليّ الحوض، سألت ذلك لهما ربّي، فلا تقدموهما83

ص: 391


1- بحار الأنوار:37/ 183

فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلّموهما فهم أعلم منكم)) ثم قال: ((ألستم تعلمون أنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟)) قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ((ألستم تعلمون -- أو تشهدون -- أنّي أولى بكلّ مؤمن من نفسه؟)) قالوا: بلى يا رسول الله. ثم أخذ بيد عليّ بن أبي طالب بضبعيه فرفعها حتّى نظر الناس إلى بياض إبطيهما، ثم قال ((أيها الناس! الله مولاي وأنا مولاكم؛ فمن كنت مولاه، فهذا عليّ مولاه. اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وأنصر من نصره، وأخذل من خذله، وأحبّ من أحبّه، وأبغض من أبغضه)). ثم قال ((اللهم اشهد)) ثم لم يتفرقا -- رسول الله وعليّ -- حتّى نزلت هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} (المائدة:3). فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): ((الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة، ورضا الربّ برسالتي والولاية لعلي))(1).وروى جمع من علماء العامة عن ابن مسعود أنه قال (كنا نقرأ على عهد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ -- أن علياً مولى المؤمنين -- وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ})(2).ة.

ص: 392


1- نقلناه بواسطة معالم المدرستين للمرحوم السيد مرتضى العسكري: 1/ 483-486 عن مجمع الزوائد للهيثمي: 9/ 105 و 163-165 وشواهد التنزيل للحسكاني: 1/ 192-193 ومسند أحمد: 4/ 281 وسنن ابن ماجة 1/ 43 ح 116 وغيرها.
2- الفرقان في تفسير القرآن: 9/ 19 عن الحافظ ابن مردوية/108، الدر المنثور: 3/ 298، الشوكاني في فتح القدير، الاربلي في كشف الغمة.

ومما اشكلوا به ان المولى لها عدة معانٍ في اللغة كالناصر والحبيب وغيرهما فلا تتعين بولي الأمر، وهو احتمال مدفوع بصريح الحديث النبوي الشريف لأنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بيَّن مراده من الولي، وتكذبه أيضاً ظروف الحادثة فهل أوقف النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تلك الجموع الحاشدة ليقول اني أحبّ علياً وأنه نصرني ونحو ذلك من الأمور الواضحة عند كل أحد.ان مما يؤسف له تحكم الاهواء والعصبيات في اذهان المفسرين الذين لم يستقوا علومهم من أهل بيت النبوة فشرّقوا وغرّبوا واوردوا وجوهاً في تفسير الآية وسبب نزولها مما لا يناسب أجواء نزول الآية وظروف الحدث، ولا يليق صدوره منهم وفيهم ذوو عقول كبيرة والمهم عندهم صرفها عن الحقيقة التي نزلت الآية لبيانها ورواها جمع كبير من الصحابة والتابعين مع انهم يكتفون في تفسير الآية برواية واحدة عن هذا الصحابي أو ذاك ولا نريد الاطالة في عرض هذه الوجوه ومناقشتها.

أقول: واذا كانوا إلى اليوم يرفضون سماع هذه الحقيقة والايمان بها مع تواتر روايتها والقطع بصدورها فكيف كانوا في لحظة الحدث مما يعطينا فكرة عن مخاوف رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من إبلاغ هذا الأمر.

وظل أمير المؤمنين وأهل بيته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وشيعته يؤكدون هذا الحق الثابت حتى لا يضيّعه المحرّفون، ومن أقواله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في ذلك (فوالله ما زلت مدفوعاً عن حقي، مستأثراً عليّ منذ قبض الله نبيه صلى الله عليه حتى يوم الناس هذا)(1). 6

ص: 393


1- نهج البلاغة: 49 الخطبة 6

وقال في الخطبة الشقشقية (أما والله لقد تقمصها فلان (ابن أبي قحافة) وانه ليعلم ان محلي منها محل القطب من الرحى)(1).وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري، ووالله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلا علي خاصة التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه)(2).

وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فوالله إني لأولى الناس بالناس، لم تكن بيعتكم إياي فلتة، وليس أمري وأمركم واحدا. إني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم)(3).

وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فلما مضى تنازع المسلمون الأمر من بعده، فوالله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن أهل بيته ولا أنهم منحوه عني من بعده، فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)! فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلما أو هدما، تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم، التي إنما هي متاع أيام قلائل)(4).

واعتبر الأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) يوم الغدير أعظم أعياد الإسلام لعظمة النعمة التي منّ الله تعالى بها فأكمل بها الدين ورضي الإسلام لنا ديناً، روى62

ص: 394


1- نهج البلاغة: 47 الخطبة 4
2- نهج البلاغة: 102 الخطبة 74
3- نهج البلاغة: 194 الخطبة 136
4- نهج البلاغة: 451 الخطبة 62

الكليني بسنده عن سالم قال (سألت أبا عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هل للمسلمين عيد غير يوم الجمعة والأضحى والفطر؟ قال: نعم أعظمها حرمة. قلت: وأي عيد هو جعلت فداك ؟ قال: اليوم الذي نصب فيه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه)(1) ومثلها عدة روايات في نفس الباب.وفي آمالي الشيخ الصدوق بإسناده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): يوم غدير خم أفضل أعياد أمتي وهو اليوم الذي أمرني الله تعالى ذكره فيه بنصب أخي علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) علماً لأمتي يهتدون به من بعدي وهو اليوم الذي أكمل الله فيه الدين وأتمّ على أمتي فيه النعمة ورضي لهم الإسلام دينا)(2).

وروى الشيخ في التهذيب عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (وهو عيد الله الأكبر)(3).

لذا يعبّر الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بأسف وحسرة عن تضييع الأمة لهذا الأمر الإلهي العظيم الذي يعدل الرسالة كلها، بقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (تعطى حقوق الناس بشهادة شاهدين وما اعطي أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حقه بشهادة عشرة الآف نفس يعني الغدير) ومثله عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ). 1

ص: 395


1- وسائل الشيعة: 10/ 440 أبواب الصوم المندوب، باب 14 ، ح 1
2- تفسير نور الثقلين:1/ 368 ح 29 من تفسير سورة المائدة
3- وسائل الشيعة: 8/ 89 أبواب الصلوات المندوبة باب 3 ح 1

وقد جعل الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) برنامجاً عبادياً مكثفاً في هذا اليوم شكراً لله تعالى على هذه النعمة وجعل عليها ثواباً عظيماً كالصوم والصلاة والدعاء والصدقة وتبادل التهاني مع المؤمنين، وزيارة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولو من بعد لمن يتعذر عليه زيارة مرقد الشريف عن قرب، روى إبن ابي نصر قال (كنّا عند الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والمجلس غاص بأهله فتذكروا يوم الغدير فأنكره بعض الناس(1) فقال الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): حدثني ابي عن أبيه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: ان يوم الغدير في السماء أشهر منه في الأرض) ثم قال (يا ابن ابي نصر، أينما كنت فاحضر يوم الغدير عند أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)) وبعد ان ذكر ثواب ذلك قال (والله لو عرف الناس فضل هذا اليوم بحقيقته لصافحتهم الملائكة في كل يوم عشر مرات)(2).ويمكن أن نفهم من الآية الكريمة أن على العاملين الرساليين ان لا يترددوا ولا يتلكأوا في نصرة مشروع الإسلام والتحرّك به مهما حاول الناس -- بكل ما يحويه اللفظ من استصغار في هذا الموضع -- وضع العراقيل وبث التهم والشبهات لأن الله تعالى يعصمه من هذه المكائد والخبث والشيطنة، وإنه تعالى ينصر من ينصره (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ) (الحج:40) وقد ورد هذا المعنى في خطبه لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال فيها (فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، واعلموا ان الأمر بالمعروف والنهي عن النكر لن يقرِّبا أجلاً ولن يقطعا رزقاً)(3). 7

ص: 396


1- الظاهر ان ذلك كان أيام ولايته العهد زمن المأمون فكان مجلسه الرسمي عاماً لكل الناس وليس للموالين فقط.
2- وسائل الشيعة: 14/ 389 أبواب المزار، باب 28 ح 1
3- وسائل الشيعة: 16/ 120 ، أبواب الأمر والنهي، باب 1 ح 7

ملحق: كيف خطط رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للخلافة من بعده (1)

الإمامة ضرورة عقلائية:

*ملحق: كيف خطط رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للخلافة من بعده (1)

إن الإمامة وولاية أمر الناس ضرورة اجتماعية لا يختلف فيها اثنان، وقد أطبق عليها جميع العقلاء، ولا يمكن لحياة المجتمع المتحضر ونظام معاشه أن يستقيم بدون إمام ورئيس يدير مع جهازه شؤون الأمة ويدبر أمورها. فوجود النظام الحاكم في المجتمع بمنزلة العقل في جسم الإنسان الذي يوجّه بوصلة الحياة، وبدونه تحصل الفوضى والتشتت والصراعات وتضييع مصالح العباد والبلاد.

ومن كلمات أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في ذلك: (لا بد للناس من أمير برّ أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ويبلغ الله فيها الأجل ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو وتأمن به السبُل ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح برّ أو يُستراح من فاجر)(2).

ص: 397


1- محاضرتان ألقاهما سماحة الشيخ محمد اليعقوبي على طلبة الحوزة العلمية في مسجد الرأس الشريف المجاور لمرقد أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، في النجف الأشرف بمناسبة عيد الغدير يومي (16، 17 ذي الحجة 1421ه- -12 ، 13/آذار/2001) وقد أضاف إليهما بعض الزيادات الضرورية. وقام أحد الفضلاء لاحقاً بتخريج النصوص من مصادرها.
2- نهج البلاغة: 1/ 87 الخطبة 40.

ضرورة الإمامة في الشرع:

والحكم في الشرع ضروري كذلك فقد أجمع علماء الإسلام على ضرورة وجود إمام، وإذا كان بينهم خلاف ففي التفاصيل ككيفية تعيين الإمام ومؤهلاته وصلاحياته لا في أصل احتياج الأمة، فأبناء العامة يقولون بالشورى(1)، أو أن الأمر لمن غلب حتى لو قهر الأمة بالسيف(2) وتقمّص إمامتها قهراً، ونحن - الإمامية- نقول أنها بالنص(3)، وأنها حق جعله الله تبارك وتعالى لمن اجتمعت فيه شروطها، سواء سمحت له الظروف بالقيام فعلاً بالأمر أو صودرت حريته ومُنِع من ممارسة دوره كاملاً، كما في الحديث الشريف: (الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا)(4) أي قاما بالأمر أو قعدا عنه لأي سبب من الأسباب.

وقد اهتم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بهذا الأمر بدقة، فكان (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لا يُخرج سرية إلا عليها أمير مهما قلّ أفرادها، بل في الحديث عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (الإمام الجائر خير من الفتنة)(5) و: إذا خرج اثنان للسفر فليؤمرا أحدهما(6)، وكان (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)

ص: 398


1- البخاري/باب رجم الحبلى 4/ 120 عن معالم المدرستين، المراجعات المراجعة 80.
2- الأحكام السلطانية ص7-11 لقاضي القضاة أبو يعلي الفراء الحنبلي - عن معالم المدرستين - أقوال مدرسة الخلفاء ص558.
3- أحصى الصافي الكلبايكاني في كتابه (منتخب الأثر) أكثر من خمسين رواية في هذا المجال، وقال بعد ذلك النصوص الواردة في ساداتنا الأئمة الاثنا عشر بلغت في الكثرة حداً لا يسعه مثل هذا الكتاب وكتب أصحابنا في الإمامة وغيرها مشحون بها واستقصاؤها صعب جداً (منتخب الأثر ص145 والرواية الأولى منتخب الأثر ص97 باب 8 فيما يدل على الأئمة الاثنا عشر بأسمائهم (نقلا عن مدخل إلى الإمامة).
4- البحار ج16 باب 11 ص 307.
5- شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني: 2/ 103.
6- كتاب المحجة ج4 آداب السفر عن أبو داود ج2 ص34 عن أبي هريرة عن النبي ص قوله (إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمروا أحدكم).

إذا خرج لغزوة لا يترك المدينة بدون خليفة له(1)، بل روي في حديث: (والٍ ظلومٌ غشوم خيرٌ من فتنة تدوم)(2)؛ لأنه به تحفظ الثغور وتقوم مصالح العباد، لذا تعامل الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بإيجابية مع السلطات الحاكمة في ما فيه مصالح العباد وحفظ النظام الاجتماعي ورقي الدولة الإسلامية وصيانة كرامتها، إلى درجة أنهم جوزّوا في بعض الظروف دفع الزكاة والخراج إلى السلطة وجعلوها مبرئة للذمة كأنها واصلة إليهم(3).

المصالح المهمّة من تعيين الخليفة:

في ضوء هذه الضرورة المجمع عليها عقلاً وشرعاً كان من مسؤوليات حامل الرسالة –أي رسالة- ووظائفه بل أهمها على الإطلاق تعيين الخليفة والإمام البديل لعدة مصالح مهمة:

1-ديمومة الرسالة واستمراريتها في أداء دورها، فإن أية رسالة مهما كانت تمتلك من نقاط قوة - كرسالة الإسلام - تموت بموت صاحبها، فإنه من المقطوع به ارتباط الرسالات والدعوات بحامليها القيّمين عليها المدافعين عنها المستوعبين لأسرارها، لذلك فإنها تنتهي بنهاية صاحبها إلا أن يواصل الطريق من هو جدير بحملها، وأنت ترى الرسالات السماوية - وهي أكمل الدعوات -

ص: 399


1- معالم المدرستين / ج1 / ذكر من استخلف الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على المدينة في غزواته.
2- ميزان الحكمة للريشهري: 3/ 2367 والغرر والدرر: ح 10109.
3- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب المستحقين، باب 20.

حُرِّفت وشُوِّهت بعد فترة يسيرة من غياب أصحابها(1).2-قطع الطريق أمام غير المؤهلين لهذا المنصب الإلهي، فإن الإمرة والزعامة خصوصاً الزعامة الدينية بما لها من قدسية وهيبة وجاه من أهم ما تنزع إليه النفس الأمّارة بالسوء، ففي الحديث: (آخر ما ينزع من قلوب الصديقين حب الجاه)(2) إذن سيكون المتربصون بها كثيرين والحالمون بها والساعون إلى تحصيلها أكثر. وقد اعترفوا أنه ما عانت الأمة من شيء كما عانت من مسألة الإمامة والخلافة وأن الويلات التي أصابتها والدماء التي سفكت ترجع في الأصل إلى هذا الأمر، وهذا واضح تأريخياً.

3-صيانة الأمة من التشتت وحمايتها من التمزق، فإن من شأن تعدد المتصدين لهذا المنصب أن تتعدد الأحزاب والفرق الموالية لهم، وكلٌّ يجرُّ النار إلى قرصه، فيتمزق أمر الأمة وتصبح طرائق قدداً، وها هي الأجيال بعد الأجيال تدفع ثمن التيه والضياع وآل أمرها إلى الانحلال، لذا قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}(آل عمران:103) {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}(الأنفال:46) وحبل الله الممدود إلى الخلق هما الثقلان كتاب الله وأهل بيت نبيه (صلوات الله عليهم أجمعين) كما دلت عليه النصوص الشريفة(3). وقدب.

ص: 400


1- كمثال على ذلك المسيحية بمجرد أن رفع عيسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أصبح الإنجيل الذي هو حاوي على كل ما يتعلق بالرسالة عدة أناجيل مزورة وموضوعة كإنجيل متي ويوحنا ولوقا ومرقس فلم يبق من الدين المسيحي إلا الاسم.
2- المحجة البيضاء ج6 / فصل حب الجاه ص107.
3- راجع كتاب (شكوى القرآن) وقد تقدم في هذا الكتاب.

أشارت الزهراء (سلام الله عليها) إلى هذه الفكرة المهمة في خطبتها فقالت: (وجعل إمامتنا نظاماً للملة)(1) أي بها تنتظم أمورهم وتستقر.4-إن حامل الرسالة لا يستطيع أن يستمر بمشروعه حتى النهاية ويقدم كل ما عنده قبل أن يطمئن إلى وجود البديل؛ لأنه قبل ذلك يخشى على مستقبل الرسالة، فإذا أحرز اجتماع الشروط في الشخص البديل استطاع أن يتقدم بلا تردد أو خوف على مستقبل الرسالة، هذا الخوف الذي أشار إليه نبي الله موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، لذا كان أول دعاء له: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} (طه: 29-32) وفي كلمات أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لَمْ يُوجِسْ مُوسَى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) خِيفَةً عَلَى نَفْسِهِ، بَلْ أَشْفَقَ مِنْ غَلَبَةِ الجُهَّالِ وَدُوَلِ الضَّلالِ)(2).

شرفية موقع الإمامة في الفكر الإسلامي:

هذه أمور يدركها كل عاقل، ويزداد الأمر وضوحاً كلما ازدادت أهمية الرسالة كدين الإسلام الذي جاء رحمة للعالمين وخالداً إلى يوم القيامة، فهو - أي الإسلام - بهذه السعة والشمول طولاً –على مدى الزمان- وعرضاً –لجميع البشر-، وكلما تعاظم منصب الشخص الراحل والغائب عن الساحة ازدادت المسؤولية والأخطار حول المنصب.

وأشرف موقع هو إمامة المسلمين وولاية أمورهم وخلافة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)

ص: 401


1- البحار ج6 باب 23 ص 315.
2- نهج البلاغة، خطبة 4 ص39.

التي قدّر لها أن تشمل شرق الأرض وغربها، كما بشر بذلك رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عندما كان يحفر مع المسلمين في الخندق وضرب على صخرتين فأضاءتا له(1) ولهم، وأكدها القرآن {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً}(الفتح:20) {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ}(الصف:13)، فكيف لا تتناوشه المطامع وتتجاذبه الأهواء.

(مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى):

أفمثل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يجهل هذه الأمور الواضحة، وهو المتصل بسبب إلى الله تبارك وتعالى، {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى}(النجم:3-4)، وهو القائل: (من مات ولم يوصِ مات ميتة جاهلية)(2) فهل يكون هو (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أول من يخرج عن ربقة الإسلام ويموت على الجاهلية {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}(الكهف:5)، أم يقال أن هذا الحديث وارد في الوصية بالمال ونحوه للورثة وغيرهم؟ فهل هذه الأمور أهم من الوصية بالأمة وحفظ كيانها من الضياع؟!.

أم يقال أنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فوجئ بأجله قبل أن يفكر بمستقبل الأمة وقبل أن يستعد للتخطيط للبديل مهما كان شكله وصيغته، وهو الذي نعى نفسه مراراً وصرح بقرب وفاته في حجة الوداع، وحينما قال: (إن جبرائيل كان يعارضني بالقرآن في

ص: 402


1- سيرة الأئمة الاثني عشر لهاشم معروف الحسني ج1 ص 290.
2- مناقب آل أبي طالب بن شهر آشوب ج1 ص 217.

السنة مرة، وعارضني في هذه السنة مرتين، وما ذلك إلا لدنو أجلي)(1).أم يقال أنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يكن حريصاً على الأمة ولا مهتماً بأمرها، فلتواجه قدرها بنفسها ولو آل أمرها إلى الفناء، ولتذهب أتعابه سدى {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً}(النحل:92)، وهذا لا يصدر من أبسط الناس؛ فالراعي لا يترك غنمه إذا خرج لحاجة أو سفر حتى يعين لها راعياً، ولم يفعلها الخلفاء من بعده، فالأول نص على الثاني، وهو يقول: إني أخشى أن ألقى الله وقد تركت أمة محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) دون أن أولي عليها أحداً(2)، وجعل الثاني الأمر شورى بين ستة من أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)(3)، وقد أرسلت إليه أم المؤمنين عائشة بعدما طُعِن: أن أوصِ من يخلفك، ولا تترك أمة محمد بعدك هملاً وبدون راعٍ.

خطر الاعتراض من الداخل الإسلامي:

فكيف برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أكمل العقلاء وسيد الحكماء، وهو يرى بعينه الأخطار المحدقة بالأمة من الداخل والخارج، ففي الداخل كان المنافقون والمرجفون في المدينة - على تعبير القرآن - والقائلون: {لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} (المنافقون:8) وقد ازدادت شوكتهم بعد الفتح حيث استسلم الكثير ممن يتربص بالإسلام وبنبيه السوء رضوخاً للأمر الواقع، ولم يسلموا ولم يقتنعوا بالإسلام و{قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ

ص: 403


1- صحيح البخاري باب عرض جبرائيل القرآن على النبي.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ص164 - 165 في شرحه للخطبة الشقشقية.
3- راجع معالم المدرستين ج1 ص544.

الأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}(الحجرات:14).وكانوا يعارضون تصرفات رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) علناً وينتقدونه ويشككون في صحة أفعاله، والشواهد على ذلك كثيرة كما في صلح الحديبية(1) حينما منعوا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من التوقيع على وثيقة الصلح، وعندما عارضوا الإحلال من الإحرام في متعة الحج(2)، وحينما منعوه من كتابة كتاب لا يضلون بعده أبداً في رزية يوم الخميس(3)، وحينما كانوا يصلّون نوافل رمضان جماعة في المسجد وقد نهاهم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن ذلك مراراً(4)، وحينما تخلفوا عن جيش أسامة رغم لعنهل.

ص: 404


1- راجع نظريات الخليفتين: ج1.
2- عن معالم المدرستين ج2: في رواية الصحابي البراء بن عازب بسنن بن ماجة ومسند أحمد ومجمع الزوائد قال: خرج رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأصحابه فأحرمنا بالحج فلما قدمنا مكة، قال: (اجعلوا حجّكم عمرة) فقال الناس: يا رسول الله قد أحرمنا بالحج فكيف نجعلها عمرة؟ قال: (انظروا ما أمركم به فافعلوه) فردوا عليه القول، فغضب فانطلق ثم دخل على عائشة غضبان فرأت الغضب في وجهه، فقالت: من أغضبك أغضبه الله ، قال: (ما لي لا أغضب وأنا آمر أمراً فلا أُتبع).
3- رزية يوم الخميس: ما أخرجه البخاري بسنده عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس، قال: لما حضر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هلم اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، فقال عمر: إن النبي قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت فاختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم النبي كتاباً لا تضلوا بعده ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي قال لهم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تحوموا عني، فكان بن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. (وقد تم التصرف في الحديث إذ نقلوا المعنى فقط لان اللفظ الثابت هو أن النبي يهجر ولكنهم حرفوه تهذيباً للعبارة ودفاعاً عن عمر. (المراجعات: المراجعة 86).
4- الوسائل: كتاب الصلاة باب عدم جواز الجماعة في صلاة النوافل في شهر رمضان، الحديث الأول.

(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للمتخلفين عنه(1).مضافاً إلى أن الانتشار السريع للإسلام وقصر فترته بالنسبة لعظمة الوظيفة التي جاء من أجلها، وهي نقل أمة كاملة من حضيض الجاهلية وظلماتها إلى نور الإسلام وسعادته أدّى إلى وجود قاعدة عريضة في المجتمع لم تصل إلى درجة كافية من فهم الرسالة واستيعابها والتفاعل مع تفاصيلها، وهم معرضون للانهيار والهزيمة مع أول امتحان يواجههم في حالة غيابه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وقد أخبره بذلك القرآن الكريم: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}(آل عمران:144) وهو ما وقع فعلاً حين ارتدت الجزيرة ولم يبق على الإسلام إلا تلك الثلة القليلة في المدينة المنورة التي عركتها التجارب وصلّبت عودها الامتحانات المتتالية مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)(2).

نموذج من الانحراف الإسلامي:

وقد أشارت أم المؤمنين عائشة إلى هذا الانحراف الذي حصل في مسيرة المسلمين عندما كانت تحرّض على الثورة ضد الخليفة الثالث عثمان، يروي الطبري(3): كانت السيدة عائشة من أشد الناس على عثمان، حتى أنها أخرجت ثوباً من ثياب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فنصبته في منزلها، وكانت تقول للداخلين إليها: هذا

ص: 405


1- راجع في استقصاء هذه الموارد كتاب (النص والاجتهاد) للسيد شرف الدين.
2- وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى ذلك في سورة المائدة آية 54: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
3- تأريخ الطبري 3/ 477 وقد نقلناه عن كتاب (بنور فاطمة اهتديت)/190.

ثوب رسول الله لم يبلَ وقد أبلى عثمان سنته، وقالوا إنها كانت أول من سمّى عثمان نعثلاً (اسم أحد اليهود بالمدينة) وكانت تقول: (اقتلوا نعثلا ! قتل الله نعثلاً) هذا ولم يمرّ على وفاة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أكثر من عقدين من الزمان.

حملات اليهود بعد وفاة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):

وكان في الداخل اليهود الذين لا ينسون لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وللإسلام القضاء عليهم وتهجيرهم من ديارهم وقتل رجالهم وسبي نساءهم وزوال دولتهم ونفوذهم في المدينة، لذلك كانت هجمة التشكيكات التي بثّوها في الأمة بعد وفاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وأسئلتهم المتنوعة الكثيرة التي كانت تعجز خليفة المسلمين وأصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فأصيب المسلمون بالإحباط والضعف والهزيمة أمامهم، وكانت حملة منظمة وليست اعتباطية ظهرت فجأة بعد غياب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وإقصاء الخليفة الحق الذي كان لهم بالمرصاد رغم إبعاده عن القيادة الدنيوية، لكنه كان يرى مصلحة الدين وإعلاء كلمة التوحيد فوق كل شيء، حتى اشتهرت كلمة الخليفة الثاني: (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن)(1) وما علمنا أنه احتاج إلى أحد سواه(2).

ص: 406


1- أخرجه سبط بن الجوزي ، أسد الغابة 4/ 22 ، الإصابة القسم 1/ 270 ، تهذيب التهذيب 7/ 327، عن نظريات الخليفتين لنجاح الطائي.
2- جعل الخليل بن أحمد الفراهيدي ذلك دليلاً على إمامته حينما سئل ما الدليل على إمامة أمير المؤمنين وخلافته لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: احتياج الكل إليه وعدم احتياجه للكل.

العدو الخارجي والكيد بالإسلام:

ومن الخارج كان هناك المتربصون بالإسلام شراً الذين أعيتهم الحيل في القضاء عليه، حيث بدأوا بتعذيب أصحابه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقتلهم، ثم حاصروه ومن معه في شعب أبي طالب اقتصادياً واجتماعياً، ثم تآمروا على قتله فهاجر إلى المدينة(1) وبات علي في فراشه(2) ثم جهزوا الجيوش لقتاله واستئصال أمره فلم يفلحوا في القضاء عليه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)(3)، ولم يبق أمامهم إلا نهاية حياته لتموت دعوته بموته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، بل حاول بعضهم فعلاً اغتياله أكثر من مرة كمحاولة رؤساء بني عامر، والمحاولة التي جرت أثناء مسيره إلى تبوك حيث حاول بعض المتآمرين تنفير ناقته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ليلقوه من السفح وتتقطع أوصاله، وقد أعلم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الصحابيَّ حذيفة بن اليمان بأسمائهم حتى سمي صاحب سر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وكان الخليفة الثاني لا يصلي على أحد حتى يصلي حذيفة ليعلم أنه ليس من المنافقين(4).

وفي الخارج كانت أيضاً الدولتان الرومية والفارسية اللتان بدأتا تفكران جدياً في أمره (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بعد أن غطى نوره الجزيرة كلها من اليمن جنوباً إلى تخوم الشام والعراق شمالاً، بل إنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بدأ التحرش بالدولة الرومية في معركة مؤتة(5)

ص: 407


1- حياة محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نهاية الفصل السادس والفصل السابع لمحمد حسين هيكل.
2- حياة محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الفصل العاشر لمحمد حسين هيكل.
3- حياة محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الفصل الثالث عشر لمحمد حسين هيكل.
4- راجع (المحلى) لابن حزم الأندلسي، (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد عن (نظريات الخليفتين: محاولة اغتيال النبي).
5- معركة مؤتة: كانت في سنة ثمان من الهجرة.

وغزوة تبوك، وأرسل الرسائل إليهم يدعوهم إلى الإسلام بلهجة الواثق بالنصر والمستعلي عليهم (أسلم تسلم).

التحديات الجسيمة أمام النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):

كل هذه المصاعب والتحديات التي تواجه الأمة بعد وفاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كانت نصب عينه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو صاحب القلب الرحيم الذي نذر حياته لله تبارك وتعالى ولإصلاح الإنسانية وإنقاذها من الظلمات إلى النور، وقد وصفه القرآن الكريم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}(التوبة:128)، فكيف يترك أمر الأمة سدى؟! {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}(يونس:35) و{فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}(فاطر:3) فهذا الاحتمال –أي ترك الأمة سدىً من دون إرشادها إلى من يتولى أمرها- مرفوض قطعاً.

بقي احتمالان آخران تبنّت كل واحدٍ منهما طائفة من المسلمين.

عقيدة العامة في الإمامة:

الأول: - وهو الذي التزم به العامة- إيكال الأمر إلى الأمة نفسها فهي تختار من تشاء، وهو مرفوض أيضاً لعدة وجوه:

1-قصور الأمة عن تحمل مثل هذه المسؤولية، وقد عجزت عن أقل من هذا الأمر عندما واجهت التحديات بعد وفاة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، حتى بعد أن نالت تربية إضافية خلال عقود من السنين.

ص: 408

ففي خلافة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عندما بدأ أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يتقاتلون بينهم لم يعرفوا حكم هذه الحالة، عن الشافعي: أخذ المسلمون السيرة في قتال المشركين من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأخذوا السيرة في قتال البغاة من علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)(1). وبعد ذلك بعقود مرّت الدولة الإسلامية بأزمة مع الدولة الرومية، عندما أرادت أن تسكّ عملة فيها شتم نبي الإسلام وتتداول في بلاد المسلمين، فأنقذ الموقف الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)(2)، وهكذا ظلّت الأمة عاجزة عن حل مشكلاتها لولا وجود الأئمة(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)(3)، حتى اكتملت التربية بعد (260) عاماً بوفاة الإمام الحسن العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فدخلت الأمة مرحلة (وسطية) بين الوجود الفعلي للإمام والغيبة التامة، فكانت الغيبة الصغرى التي استمرت (70) عاماً لتبدأ الغيبة الكبرى بعد أن رسم الأئمة(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كل المعالم الرئيسية والخطوط العامة لمسيرة الأمة، وقبل هذه المراحل المتتابعة من التربية كانت الأمة عاجزة.

وكان هذا العجز واضحاً في الصدر الأول للإسلام لقرب عهدهم بالجاهلية الهمجية وقلة فترة الرسالة وانشغالهم عن استيعاب تفاصيلها، كما عبّر الخليفة الثاني حينما سئل عن قلة استفادته من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (ألهانا الصفقه.

ص: 409


1- كشف الغمة :1/ص 124، شرح نهج البلاغة: 9/ 230.
2- رواه الدميري في حياة الحيوان عن المحاسن والمساوئ للبيهيقي ورواه بهذا المضمون عن شذرات العقود للمقريزي عن سيرة الأئمة الاثني عشر/القسم الثاني/الإمام الخامس محمد الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لهاشم معروف الحسني.
3- الغيبة الصغرى والكبرى للسيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر قدس سره.

بالأسواق)(1)، ويقول بعضهم: كنّا نغتنم فرصة مجيء الإعرابي يسأل من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لنتعلم أحكام ديننا. فمع عجزهم عن هذه الأمور الجزئية، كيف يوكل إليهم أمر الإمامة التي بها قوام الأمة.2-لو كان لهذا الأمر وجود لبيّن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تفاصيله إلى الأمة، فيوضح صيغة الاختيار، ومن الذين لهم هذا الحق، وما هي شروط المرشحين للإمامة وضوابط الاختيار، ومن هو الحاكم فيها عند الاختلاف، وهكذا. ونحن نعلم أن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يغفل عن أبسط تفاصيل الشريعة، كآداب المائدة وأحكام التخلي، فكيف يغفل عن مسألة الإمامة وهي أصل الشريعة وأساسها ؟!.

3-عدم التزام نفس الخلفاء الذين أعقبوه بمبدأ الاختيار، فالأول نص على الثاني(2)، والثاني جعله بين ستة من المهاجرين، فهل تراهم أول مخالفين لسنة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)(3)، بل إن الخليفة الثاني يقر ويعترف (أن بيعة أبي بكر فلتة (أو فتنة) وقى الله شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه كائناً من كان)(4).).

ص: 410


1- صحيح مسلم 2 ص234 في كتاب الآداب، صحيح البخاري 3 ص837، مسند أحمد 3 ص19، سنن الدارمي 2 ص274، سنن ابن داود 2 ص320، مشكل الآثار ج1 ص499. (عن كتاب الغدير ج6 ص158).
2- شرح النهج لابن أبي الحديد / ج1 شرح الخطبة الشقشقية.
3- شرح النهج لابن أبي الحديد / ج1 شرح الخطبة الشقشقية، سيرة الأئمة ج1، وسيأتي في الهوامش القادمة مزيد من التفصيل.
4- شرح النهج ج2 ص23، المراجعات / المراجعة 80، مسند أحمد 1/ 55، البخاري 4/ 111، تأريخ الطبري 2/ 446. (عن نظريات الخليفتين).

4-إن هذا المنصب العظيم له مؤهلاته الدقيقة التي لا يعلمها إلا المطلع على الأسرار ومن لا تخفى عليه خافية في السماوات ولا في الأرض، وأولها العصمة؛ لاشمئزاز الناس من الأخذ ممن يتورط في الذنوب، وكما يظهر من الآية الشريفة {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(البقرة:124)، إنها مرتبة فوق النبوة والرسالة ولا يبلغها الرسول إلا بعد اجتيازه لامتحانات عسيرة، وقد ورد في تفسيرها أن الله اتخذ إبراهيم عبداً خالص العبودية، أي معصوماً قبل أن يتخذه نبياً، واتخذه نبياً قبل أن يتخذه رسولاً، واتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً، ثم ابتلاه ربه بكلمات فأتمهن، ونجح في تلك الاختبارات فاستحق التكريم الإلهي {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً}(1).

وأنت لو استقرأت الآيات الشريفة وجدتها تنسب الإمامة إلى الجعل الإلهي، كالآية المتقدمة وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ}(الأنبياء:73)، وقوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}(القصص:5)، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة:24)، لذا قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}(القصص:68) {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراًة.

ص: 411


1- سورة البقرة: 124، راجع تفسير الميزان وأصول الكافي/كتاب الحجة.

أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}(الأحزاب:36).5-إن كون الإمامة بالتعيين والنص الإلهي مرتكز في أذهان المسلمين عامة حتى عند من لم يعتقدوا به ظاهراً، لكن كلماتهم وأفعالهم تبرز ذلك، والشاهد على ذلك ما ورد في روايات عديدة أن الناس كانوا يرددون قوله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}(الأنعام:124) عند ما يطلع أحدهم عن كثب على سيرة أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ومواقفهم النبيلة السامية، فكأنه مرتكز في أذهانهم جميعاً أن حمل الرسالة أمر مجعول من قبل الله تبارك وتعالى، وليس لأحد أن يتدخل فيه.

6-إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نفسه لم يعط لنفسه الحق في تنصيب من يلي الأمة، وإنما أوكل الأمر إلى الاختيار الإلهي، ففي سيرة ابن هشام(1) لما دعا الرسول بني عامر للإسلام، وقد جاءوا في موسم الحج إلى مكة قال رئيسهم: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (الأمر لله يضعه حيث يشاء). إذا كان الأمر كذلك فكيف يُدعى إيكاله إلى الأمة.

عقيدة مدرسة أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في الإمامة:

الثاني: ولم يبق إلا الاحتمال الآخر، وقد تبنته مدرسة أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، وأرسى قواعده رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) واستوعبه الصفوة من أصحابه ودافعوا عنه

ص: 412


1- السيرة النبوية 2/ 424.

وصرحوا به رغم الوعيد والتهديد ومضوا عليه شهوداً وشهداء.وهذا موافق لسنة الله التي جرت في أنبيائه ورسله حيث كان لهم جميعاً أوصياء(1)، فلماذا لا يكون لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وصي {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ}(الأحقاف:9) {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}(فاطر:43)، وقد أُلفت كتب عديدة في هذا المجال بعنوان (إثبات الوصية) وأشهرها للمسعودي(2)، وهذا المسلك يقتضي تهيئة الشخص البديل وإعداده ليكون مؤهلاً لمواصلة وظائف ومسؤوليات الإمام والخلافة والقيادة النائبة بشكل تام وكامل وفاعل.

وهذا الاحتمال يبدو منسجماً مع النتائج التي تمخضت عن التحليل السابق وفي ضوء القابليات والمؤهلات التي اجتمعت في أمير المؤمنين(3) الذي قيل في كثرة فضائله: (لقد أخفى أولياؤه فضائله خوفاً، وأخفاها أعداؤه حسداً وحقداً،م.

ص: 413


1- وقد سلسل المسعودي في كتاب (إثبات الوصية) اتصال الحجج وأوصياء الأنبياء من لدن آدم حتى خاتم النبيين -صلوات الله عليهم أجمعين- وأوصياءه. عن معالم المدرستين ج1 ص283.
2- المسعودي هو: أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي ينتهي نسبه إلى الصحابي عبد الله بن مسعود توفي سنة 346ه-، وفي ترجمته بطبقات الشافعية 2/ 307 قيل كان معتزلي العقيدة، وأشار إلى هذا الكتاب الكتبي في فوات الوفيات 2/ 45، وياقوت الحموي في معجم الأدباء 13/ 94 وقالا: له كتاب البيان في أسماء الأئمة، وفي الميزان لابن حجر 4/ 224: له كتاب تعيين الخليفة، سماه في الذريعة وغيرها: إثبات الوصية. (معالم المدرستين ج2).
3- وأنا إلى هنا أتكلم بشكل موضوعي ووفق الظروف المنظورة بعيداً عن النصوص وأقيم سلوك رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كمؤسس أمة ومنشئ مجتمع مدني جديد وقائد ناجح حكيم.

وظهر ما بين ذلك ما ملأ الخافقين)(1)، وعن أحمد بن حنبل: (ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من الفضائل ما جاء لعلي بن أبي طالب)(2). وكان تميزه واضحاً عن بقية أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بكل صفات الكمال، وكان التفاف الواعين المخلصين من أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حوله معروفاً في حياة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبعد وفاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، كسلمان(3)، وأبي ذر(4)، والمقداد(5)، وعمار(6)، وعزّز ذلك الرعاية الخاصة والإعداد المركز الذي كان يحيطه به (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) منذ نعومة أظفاره والتي وصفها أمير المؤمنين نفسه بقوله: (وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللهِ -ص- بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، وَالْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ:ه.

ص: 414


1- سيرة الأئمة الاثني عشر ج1 علي وبيت المال ص319 … القول للحسن البصري في جواب من سأله عما يحدّث الناس عنه.
2- مستدرك الحاكم 3/ 107 بحسب كتاب (بنور فاطمة اهتديت) /136.
3- سلمان الفارسي أو المحمدي: كان أكثر أصحاب الإمام أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) علماً وحكمة، وكان والياً على المدائن في زمن الخليفة عمر بن الخطاب، توفي في المدائن التي كان والياً عليها في آخر خلافة عثمان سنة خمس وثلاثين وقيل أول سنة ست وثلاثين وغسله ودفنه أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).
4- أبو ذر: جندب بن جنادة: تقدم إسلامه وتأخرت هجرته، فشهد ما بعد بدر من غزوات رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، توفي منفياً بالربذة سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة.
5- المقداد بن الأسود الكندي: قال الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (إن الله عز وجل أمرني بحب أربعة من أصحابي واخبرني أنه يحبهم، فقيل: من هم ؟ فقال: علي والمقداد وسلمان وأبو ذر).. توفي سنة 33 هجرية. (الاستيعاب بهامش الإصابة 3/ 451، والإصابة 3/ 433 -434 عن معالم المدرستين ج1).
6- أبو اليقظان عمار بن ياسر: أسلم هو وأبوه وأمه وأسلم قديماً بعد بضعة وثلاثين رجلاً، وكان المشركون يخرجون عماراً وأباه وأمه إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء يعذبونهم فمر بهم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)، فمات ياسر في العذاب وطعنت أمه بحربة أبي جهل، شهد عمار المشاهد كلها مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقتل بصفين مع علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقد جاوز التسعين من عمره.

وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إلى صَدْرِهِ، وَيَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ، وَيُمِسُّنِي جَسَدَهُ، وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ. وَكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ، وَمَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ، وَلاَ خَطْلَةً فِي فِعْلٍ. وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ -ص - مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلاَئِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، وَمَحَاسِنَ أَخْلاَقِ الْعَالَمِ، لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لي فِي كُلِّ يَوْمٍ عَلَماً مِنْ أخْلاقِهِ، وَيَأْمُرُني بِالْإِقْتِدَاءِ بِهِ. وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَة بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ, وَلاَ يَرَاهُ غَيْرِي، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإسلام غَيْرَ رَسُولِ اللهِ -ص - وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ. وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْه ِ-ص- فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: (هذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَى مَا أَرَى، إِلاَّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيّ، وَلكِنَّكَ وَزِيرٌ، وَإِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ))(1).وهكذا هو منه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى فارقت روحه الدنيا، يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (وَلَقَدْ عَلِمَ الْمُسْتَحْفَظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) - أَنِّي لَمْ أَرُدَّ عَلَى اللهِ وَلاَ عَلَى رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ. وَلَقَدْ وَاسَيْتُهُ بِنَفْسِي فِي الْمَوَاطِنِ الَّتي تَنْكُصُ فِيهَا الْأَبْطَالُ وَتَتَأَخَّرُ الْأَقْدَامُ، نَجْدَةً أَكْرَمَنِي اللهُ بِهَا. وَلَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللهِ - (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) - وَإِنَّ رَأْسَهُ لَعَلَى صَدْرِي. وَلَقَدْ سَالَتْ نَفْسُهُ فِي كَفِّي، فَأَمْرَرْتُهَا عَلَىُ وَجْهِي. وَلَقَدْ وُلِّيتُ غُسْلَه - (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) - وَالْمَلاَئِكُةُ أَعْوَانِي، فَضَجَّتِ الدَّارُ والأَفْنِيَةُ: مَلاٌَ يُهْبِطُ، وَمَلاٌَ يَعْرُجُ، وَمَا فَارَقَتْ سَمْعِي هَيْنَمَةٌ(2) مِنْهُمْ، يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى وَارَيْنَاهُ فِي ضَرِيحِهِ.ي.

ص: 415


1- نهج البلاغة بشرح الشيخ محمد عبده، ج2 ص157.
2- الهينمة: الصوت الخفي.

فَمَنْ ذَا أَحَقُّ بِهِ مِنِّي حَيّاً وَمَيِّتاً؟)(1).

الدور العلوي في الحفاظ على الدين:

ولقد أدى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) دوره بنجاح بعد وفاة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وحفظ الإسلام من الضياع، وكان وجوده والأئمة من بنيه بحق أماناً للأمة من الانحراف، بحيث يستغيث الخليفة الثاني ويتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن(2)، فكانت خلافة أمير المؤمنين لمقام رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وإمامة الخلق من بعده نتيجة طبيعية ومنطقية لتسلسل التفكير أعلاه لا يسع أي منصف أن يحيد عنها، ولم يكن النص الذي سنشير إليه - وهو حديث الغدير - هو الذي جعل من علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إماماً وخليفة بعد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى يناقشوا في دلالته والمراد منه، لا لشيء إلا لتصحيح الواقع الذي حصل بأي ثمن كان وبأية طريقة، ولو بإنكار وجود الشمس في رابعة النهار. فعليع هو الإمام بما حمله من صفات الكمال قبل النص وإنما جاء النص للإشارة إليه ولتعريفه ولقطع العذر وإتمام الحجة على المخالفين ولحسم الموقف ووضع النقاط على الحروف - كما يقولون -.

التخطيط للخلافة:

ولعظمة هذه المسألة وأهميتها فقد كان التخطيط والتمهيد لها يؤرق عين رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ويقضّ مضجعه، فإنه يخشى ردود الفعل من هذه الأمة وهو خوف محمود كخوف موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الذي ذكره القرآن وأشرنا إليه، ليس

ص: 416


1- نهج البلاغة بشرح الشيخ محمد عبده، ج2 ص171-172.
2- أشار إلى كلمته المشهورة (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن).

شخصياً وإنما على مستقبل الأمة التي هي جديدة عهد بالإسلام وما زالت رواسب الجاهلية لم تنمحِ من ذاكرتها، ومازال التعصب يتحكم فيها(1)، فكيف يستطيع أن يضمن ولاءها لهذا القرار الهام الذي يصعب على النفوس الحالمة بالخلافة والقلوب المملوءة حسداً وحقداً على علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن تنصاع إليه، كذاك الفهري الذي ما إن سمع بحديث الغدير وتنصيب علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) خليفة بعد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومبايعة المسلمين له حتى جاء إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فقال له: هذا الأمر منك أم من الله؟ فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): إنه من الله. فقال: إن كان هذا من الله فأمطر علينا حجارة من السماء أو أئتنا بعذاب أليم. فما خرج منه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى نزلت عليه صاعقة من السماء. وقد ورد أنه سبب نزول قوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ، لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} (المعارج: 1-2)(2).

ص: 417


1- لاحظ كشاهد على ذلك كيف أن بشير بن سعد وأسيد بن حضير بادرا إلى بيعة أبي بكر خشية أن يفوز بها سعد بن عبادة. عن كتاب النص والاجتهاد المورد الأول يوم السقيفة ص80.. واجتماع أكثر الأنصار في السقيفة يرشحون سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، لكن ابن عمه بشير بن سعد بن ثعلبه الخزرجي وأسيد بن خضير سيد الأوس كانا ينافسانه في السيادة، فحسداه على هذا الترشيح وخافا أن يتم له الأمر فأضمرا له الحبكة مجمعين على صرف الأمر عنه بكل ما لديهما من وسيلة وصافقهما على ذلك وعويم بن ساعدة الأوسي، ومعن بن عدي حليف الأنصار.. وكان مع ذلك ذوي بغض وشحناء لسعد بن أبي عبادة…
2- روى الثعلبي الذي هو من قدوة مفسري المخالفين في شأن نزولها -انظر هامش ج8 تفسير الرازي لأبي مسعود ص292 والسيرة الحلبية ج3 ص302 ونور الأبصار ص69- أنه لما كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بغدير خم نادى الناس فاجتمعوا فأخذ بيد علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال من كنت مولاه فعلي مولاه فشاع ذلك وطار في البلاد فبلغ الحارث بن النعمان الفهري فأتى... النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو في ملأ من أصحابه، فقال: يا محمد أمرتنا من الله أن نشهد أن لا اله إلا الله وانك رسول الله ففعلناه وأمرتنا أن نصلي خمساً فقبلنا وأمرتنا أن نصوم شهر رمضان فقبلناه وأمرتنا أن نحج البيت فقبلناه ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك وفضلته علينا وقلت من كنت مولاه فعلي مولاه وهذا شيء منك أم من الله، فقال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): والذي لا اله إلا هو من الله، فولى الحارث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء واتنا بعذاب اليم، فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله وانزل الله تعالى {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ، لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ، مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} (حق اليقين في معرفة أصول الدين ج1 / الآية الثالثة الدالة على أن الإمام بعد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هو علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

الإعلان العظيم تكلل في يوم الغدير:

وبالمقابل كان (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لا يستطيع السكوت عن إنفاذ هذا الأمر وهو يرى نهايته تقترب، والأعداء يتربصون بدينه الدوائر، فكيف يهدأ له بال ويقرّ له قرار قبل أن تنعقد البيعة لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

حتى أذن الله تبارك وتعالى له بالتبليغ، بل أمره به وطمأنه من مخاوفه هذه بأنه سيعصمه من الناس، وبين أهمية هذا الأمر بأنه وحده في كفة وباقي الرسالة كلها في كفة، فقال عز من قال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}(المائدة:67).

فليس غريباً أن تدرج هذه الآية المباركة وآية الولاية التي سبقتها {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}(المائدة:55) في سورة المائدة التي يستشف المتأمل فيها أن غرضها تأسيس المجتمع المسلم، وبيان مميزاته الرئيسية ومقوماته وأسس كيانه، وعرض نقاط الفرق بين المجتمع الذي يقوم على أساس الإسلام والمجتمع الذي ليس كذلك كائناً ما كان وإن سمى نفسه مسلماً، فإنه في مفهوم القرآن (مجتمع جاهلي)، فالبينونة بين المجتمعين كاملة في الأحكام (كآيات أوفوا بالعقود

ص: 418

وحرمة الكلب والخنزير وغيرها) وفي من له حق الولاية (فقد تكررت كثيراً آيات ولاية المؤمنين والبراءة من الكافرين)، وفي الشريعة التي تنظم الحياة {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ، وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، هُمُ الظَّالِمُونَ، هُمُ الْفَاسِقُونَ}(المائدة: 44-4-47-50) وتمامها وعقد نظامها آية التبليغ وآية الولاية.

أعظم الأعياد في الإسلام:

ثم جعل يوم الحسم هذا أعظم عيد في الإسلام، ففيه كمل الدين وتمت النعمة بعقد البيعة والولاية لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وامتنَّ الله تبارك وتعالى على عباده بذلك فقال عز من قائل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً}(المائدة:3).

وجلس رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يتقبل التهاني بهذا الإنجاز العظيم ويقول لأصحابه: هنئوني هنئوني بابن عمي أمير المؤمنين. وأفرد له خباءً ليسلموا عليه ويبايعوا علياً خليفة من بعده وأميراً للمؤمنين، واستأذنه شاعره حسان بن ثابت أن يقول شعراً في المناسبة، فأذن له فأنشأ:

يناديهمُ يوم الغدير نبيهم***بخمٍّ فأسمع بالرسول مناديا

وفيها يقول:

فقال له: قم يا عليُّ فإنني***رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

وأول من سلم عليه الشيخان وهما يقولان له: بخٍ بخٍ لك يابن أبي طالب،

ص: 419

أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة(1).وقد نظم هذه الحقيقة التأريخية الدامغة أجيال من الشعراء جيلاً بعد جيل(2)، ومنهم عمرو بن العاص الخصم الألدَّ لعلي بن أبي طالب في قصيدته الجلجلية التي بعثها إلى معاوية يذكّره ببعض الحقائق التي تناساها، ومما جاء فيها(3):

وكم قد سمعنا من المصطفى***وصايا مخصصةً في علي

فأنحلَ-ه إمرة المؤمنين***من الله مستخلف المنحل

وقال: فمن كنت مولىً له***فهذا له اليوم نعم الولي

فبخبخَ شيخُ-ك لما رأى***عُرى عقد حيدر لم تُحلل

فقال: وليكم فاحفظوه***فمدخله فيكم مدخلي

وقد جاء هذا البيان - خطبة الغدير - منه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) متوّجاً لبيانات سابقة لا تقل عنه وضوحاً: (إن علياً مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)(4)، وإن:).

ص: 420


1- أخرج الإمام الواحدي في تفسير (يا أيها الرسول بلغ …) من طريقين معتبرين عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية يوم غدير خم بعلي بن أبي طالب، فلما بلغ الرسالة بنصه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالإمام وعهد إليه بالخلافة أنزل الله عز وجل {اليوم أكملت لكم …} وأول من هنأ علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في يوم الغدير هما: أبو بكر وعمر بقولهما: أمسيت يا بن أبي طالب مولى كل مؤمن ومؤمنة. (أخرجه الدار قطني - الفصل الخامس من الباب الأول من صواعق بن حجر ص26 وأحمد نحو هذا القول عن عمر من حديث البراء بن عازب ص281 ج4 من مسنده). (المراجعات 54 وما بعدها).
2- راجع الموسوعة الفريدة (الغدير) للشيخ الأميني قدس سره.
3- (راجع كتاب الغدير في ترجمة عمرو بن العاص).
4- حديث المنزلة: عن الإمام أحمد في الجزء الأول من مسنده في آخر صفحة 330 والإمام النسائي في خصائصه العلوية ص6 والحاكم في ج3 من صحيحه المستدرك ص123 والذهبي في تلخيصه معترفاً بصحته عن عمرو بن ميمون (المراجعات: 26).

(علي مع الحق والحق مع علي)(1) وإنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأهل بيته كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك(2)، وأنهم والقرآن صنوان لا يفترقان، وثقلان ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي أبدا(3).. وغيرها كثير.

لماذا كان يوم الغدير أعظم عيد في الإسلام؟

إن عظمة هذا اليوم لها مناشئ عديدة فهو:

1-يوم الطمأنينة على بقاء الرسالة واستمراريتها بعد أن انتقل ارتباطها من شخص رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فيمكن أن تموت بموته، إلى نوع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، أي إلى كل من تتجمع فيه صفات وشروط الإمامة فلم يعد وجودها منوطاً بشخصه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

2-وهو يوم الانتصار النهائي على مكائد الأعداء الذين لم يبق في جعبتهم من سلاح إلا موت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لتنتهي دعوته ففقدوا هذا الأمل الشيطاني بتنصيب أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) خليفة.

3-وهو يوم حماية الأمة من التشتت ومن الضياع بتعيين الحبل الذي إن اعتصموا به بقي ريحهم وكيانهم وانتشر أمرهم وعلت كلمتهم.

4-وهو يوم صيانتها من الانحراف بعد أن نصب لهم العلم والمحور الذي

ص: 421


1- البحار ج10 باب 26 ص432.
2- الوسائل: كتاب القضاء، صفات القاضي، باب5، حديث10.
3- الإمام أحمد والترمذي بعدة طرق تجدها في المراجعات: المراجعة 80.

يلتفون حوله.5-وهو يوم أمان الأرض ومن عليها من الفناء، لما ورد في الحديث: (إن الأرض لا تخلو من حجة ظاهر أو مستور، ولولاه لساخت الأرض بأهلها)(1).

6-وهو يوم الهداية إلى الدين ووضوح الحق بمعرفة الحجة كما في الدعاء: (اللهم عرفني نفسك، فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف رسولك، اللهم عرفني نبيك، فإنك إن لم تعرفني نبيك لم أعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك، فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني)(2).

7-وهو يوم الإمامة التي هي أس الإسلام وسنامه، فهو لا يقل أهمية عن يوم البعثة النبوية الذي انبثق فيه نور الإسلام.

التشيع يزداد وضوحاً بيوم الغدير:

لأجل هذا كله كان يوم الغدير أعظم عيد في الإسلام كما نطقت به الروايات الشريفة، وفي ذلك اليوم تبلورت فكرة (التشيع) ونضجت ثمارها وأينعت بعد أن كان قد زرع بذورها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في مناسبات عديدة، ابتداءً من يوم الدار وإنذار عشيرته الأقربين في أوائل البعثة الشريفة(3).

ص: 422


1- البحار ج36، باب41، ص315.
2- مفاتيح الجنان: الفصل السادس ، دعاء زمن الغيبة.
3- حياة محمد: الفصل الخامس، ص142، لمحمد حسين هيكل، المراجعات: مراجعة 20 قال فيها حين أنزل الله تعالى على الرسول الأكرم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} فدعاهم إلى دار عمه أبي طالب وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيد رجلاً أو ينقصونه، وفيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب، والحديث في ذلك من صحاح السنة المأثورة، وفي آخره قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم

ولهج رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بهذا الاسم المحبب له ولأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين) في مناسبات عديدة، أنقل بعضها من كتب العامة ليكون الخطاب أبلغ في الحجة:1-في الدر المنثور للسيوطي ج8/ص589: روى بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: كنّا عند النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فأقبل علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فقال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة)، فنزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}(البينة:7).

2-ابن حجر في الصواعق المحرقة : (1) عن ابن عباس قال: لما أنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}، قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (هم أنت وشيعتك تأتون يوم القيامة راضين مرضيين ويأتي عدوك غضاباً مقمحين).

3-كنوز الحقائق للمناوي الشافعي(2) قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (علي وشيعته هم الفائزون يوم القيامة)، وروى احمد عن أمّ سلمة قالت: كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)3)

ص: 423


1- الباب (11) الفصل الأول: الآية الحادية عشرة
2- كنوز الحقائق للمناوي (ص83)

عندي في ليلتي فغدت عليه فاطمة وعلي فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): يا علي أبشر فإنّك وأصحابك وشيعتك في الجنّة. (1)

أشكال التخطيط النبوي لتعيين الخليفة:

لقد كان تخطيط رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لهذا الأمر أي تعيين الخليفة والامتداد له على ثلاثة أشكال:

الأول: النص المباشر والواضح عليه، وعدم ترك الأمر مجملاً تتقاذفه التأويلات والتفسيرات، وقد تقدم فيما مضى فكرة عنه، وأنصح بقراءة كتاب (المراجعات) للسيد شرف الدين للاطلاع على المزيد من الأدلة والنصوص ببيان قوي وحجة دامغة، مما لو دخلت فيه سأخرج عن الاتجاه العام الذي رسمته لهذا البحث.

الثاني: الإشادة بالأشخاص المخلصين الواعين الذين يعلم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) منهم أنهم ثابتون على الخط وواعون للهدف وراسخون في المبدأ، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقولون كلمة الحق مهما كان الثمن، كسلمان والمقداد وأبي ذر وعمار وذي الشهادتين وبلال الحبشي وأم ايمن وأم سلمة، فكان (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يردد: (سلمان منّا أهل البيت)(2) (إن الجنة لتشتاق إلى أربعة: سلمان والمقداد وأبي ذر وعمار)(3) (ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء ذا لهجة أصدق

ص: 424


1- فضائل الصحابة: 2/ 654
2- البحار ج1، باب8، ص123.
3- وسائل الشيعة: ج22 خاتمة الكتاب، باب10، ص324.

من أبي ذر)(1) (مُلئ عمار إيماناً من قرنه إلى أخمص قدميه)(2) و(أم أيمن امرأة من أهل الجنة)(3) و(بلال من أهل الجنة)(4) وقال لأم سلمة: (لستِ من أهل البيت، لكنك على خير)(5).فكانت هذه الأوسمة تخطيطاً منه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للمستقبل إذا انقلبت الأمة على الأعقاب وتاهت بها السبل في بحر الظلمات، فسيكون هؤلاء أعمدة نور تضيء لطلاب الحقيقة الدرب، وتدلّهم على شاطئ الإيمان وقد أدّوا دورهم وقالوا كلمة الحق فثبتوها في لوح التأريخ(6) لو كان هناك من يسمع، بينما لم نسمع منه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كلمة واحدة في أولئك الذين انحرفوا عن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وخذلوه، رغم أن منهم من كان له مواقف مشهورة كالزبير بن العوام.

الثالث: وضع ضوابط يُعرف بها المستحقون لهذا الأمر وتمييزهم عمّن هم ليسوا أهلاً له، والذين يستخدمون أساليب لم يقم عليها دليل شرعي من أجل تثبيت استحقاقهم، أو تشويه صورة أهل الحق وإزالتهم عن موقعهم، كما كانوا يقولون: (إن قريش نظرت فاختارت، وإنها أبت أن تجتمع النبوة والخلافة في بنيي.

ص: 425


1- الوسائل ج10، باب2، ص23، سنن ابن ماجه المقدمة باب11، وسنن الترمذي كتاب المناقب، مناقب أبي ذر، ومسند أحمد، وطبقات ابن سعد. (عن معالم المدرستين).
2- الوسائل: ج19، باب6، ص35.
3- البحار: ج17، باب4، ص378.
4- البحار: ج22، باب37، ص142.
5- أخرجه الطبراني في الدر المنثور، وروي عن طريق الخاصة.
6- راجع كتاب الاحتجاج للطبرسي.

هاشم)(1) و(إن فلان - وهو الأول - أسنّ من عليّ)(2) و(إن علياً فيه دعابة)(3)، والله تبارك وتعالى يخاطبهم {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(النساء:65)، ويقول تعالى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(الحشر:7)، وقال تعالى {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}(القصص:68) {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَ-ى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}(الأحزاب:36) فما قيمة رأي أحد واختياره كائناً من كان بعد قضاء الله تبارك وتعالى واختياره {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ}(البقرة:90).

الضوابط والمعايير لتولّي الخلافة:

فبهذه المعايير والضوابط التي سنذكرها إن شاء الله تعالى تستطيع الأمة أن تفرز هؤلاء المتطفلين مهما مارسوا من أساليب الخداع والتضليل، المتقمصين لأمرها بغير حق:

(فمنها) قوله تعالى: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(البقرة: 124)، والعهد هو

ص: 426


1- ابن أبي الحديد: ص107 من المجلد الثالث في شرح النهج، ابن الأثير: ص24 ج3 من كامله. (عن المراجعات: مراجعة 84). سيرة الأئمة: ج1 ص332 هاشم معروف الحسني.
2- الغدير: ج2 ص128.
3- شرح النهج: ج1 لابن أبي الحديد عن شيخه أبو عثمان في كتابه السفيانية، سيرة الأئمة: ج1 ص338.

الإمامة؛ لأنها جاءت جواباً على سؤال إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعد جعله إماماً، قال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي}، وقد فُسّرت في الروايات الشريفة بمن سجد لصنم يوماً ما(1)، فإن من فعل ذلك سفيه، ولا يكون السفيه إمام التقي كما في الحديث(2)، ويشهد له قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}(لقمان:13). (ومنها) قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا}(الحديد:10).

(ومنها) قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (لا يلي أمر هذه الأمة طليق).

(ومنها) قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (فاطمة بضعة مني، يرضى الله لرضاها، ويغضب لغضبها)(3).

وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (يا عمار تقتلك الفئة الباغية)(4).

(ومنها) حشدُهُ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) المعادين لخط الإمامة، وفيهم شيوخ قريش في جيش أسامة ذي السبعة عشر ربيعاً، ولعنه من تخلف عن جيش أسامة، وأمر1.

ص: 427


1- روى الفقيه ابن المغازي الشافعي مسنداً عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): انتهت الدعوة إلي وإلى علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولم يسجد أحدنا لصنم فاتخذني نبياً واتخذ علي وصياً. (حق اليقين في معرفة أصول الدين - الحادي عشر من الآيات الدالة على إمامة علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).
2- الكافي: كتاب الحجة، حديث 438، المجلد الثاني.
3- الإمامة والسياسة لابن قتيبة: 1/ 14، أعلام النساء: 3/ 314. (عن نظريات الخليفتين ج1).
4- الكافي: 5/ 11.

بإنفاذه فوراً(1)، وكان ذلك منه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لإخلاء الساحة من الذين لا ينصاعون لإمامة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

تطبيق الضوابط على المتصدين للخلافة بغير حق:

وبملاحظة هذه المعايير والضوابط تكتشف كيف خطط رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لحصر الأمر بعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فبعض المتصدين ممن أغضب فاطمة (علیها السلام) وماتت وهي واجدة عليهم، كما أشهدتهم (صلوات الله عليها) على ذلك، فنالوا بذلك غضب الله تبارك وتعالى، وهل يلي أمر الأمة أحد من المغضوب عليهم، ثم هم من الظالمين الذين سجدوا للأصنام ردحاً طويلاً من الزمن، فلا ينالهم عهد الله تعالى، فكيف يكون أحدهم إماماً لمن كرم الله وجهه عن ذلك -كما يعترفون- وهم أيضاً ممن تخلفوا عن جيش أسامة فينالهم حكمه.

وبعضهم لم يقاتلوا لا قبل الفتح ولا بعده، وهزائمهم في الحروب معروفة، ومنهم من ولّى منهزماً في معركة أحد لا يلوي على شيء ثلاثة أيام، حتى بلغ تخوم الشام، فقيل له: إن الأمر لا يستحق ذلك وقد عاد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سالماً إلى المدينة.

ومعاوية ومروان ممن أسلموا بل استسلموا بعد الفتح، فلا يستوون مع من آمن

ص: 428


1- الشهرستاني في المقدمة الرابعة من كتاب الملل والنحل. (المراجعات: مراجعة 90، النص والاجتهاد - سرية جيش أسامة).

وأنفق من قبل الفتح وقاتل، وهم من الطلقاء(1) فلا يحق لهم ولاية أمر الأمة. وهم من البغاة، لأنهم قتلوا عماراً في صفين، فكيف يلي أمر الأمة باغٍ أثيم(2).فلو كانت الأمة واعية لتلمست طريقها بوضوح، حيث لم يترك لها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عذراً، فهل كان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عاطفياً وبدافع الحب لابنته حين قال هذا الكلام، وهل سمعت بأحد غيور يرتقي المنبر ويثني على مزايا ابنته ؟! لا طبعاً خصوصاً في مثل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الذي يصفه القرآن {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى}(النجم:3-4). وإنما المسألة أبعد من ذلك، إنه يريد أن ينصب لهم ميزاناً يعرفون به الحق والباطل لو اختلطا عليهم، وإن كان الأمر واضحاً لكن قلبه الكبير ورحمته ورأفته بالأمة أبت إلا أن يوالي الحجج على هذه الأمة وينصب لها العلامات تلو العلامات حتى وهو على فراش المرض في رزية الخميس كما يسميها ابن عباس(3). ولأنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان يعلم أن أساليب التضليل كثيرة ووسائل الضغط قوية وشرسة، فالنص - وهو الشكل الأول من التخطيط - يُؤوَّل ويُحرَّف، وهذه الثلة المخلصة - وهو الشكل الثاني - يُضيَّق عليها وتحبس أنفاسها، فأبو ذر ينفى إلى الربذة حتى يموت غريباً(4)، وعمار وعبد الله بن9.

ص: 429


1- مستدرك نهج البلاغة: الباب الثاني، كتاب أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى معاوية وقوله: (…واعلم يا معاوية أنك من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة ولا تعقد معهم الإمامة…).
2- البحار: ج36، باب41، ص327، النص والاجتهاد: المورد 95 حرب معاوية لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).
3- المراجعات: المراجعة 86.
4- الوسائل: ج22 باب 12 ص395، معالم المدرستين ج1 ص459.

مسعود(1) يداس بطنه وتوجأُ عنقه، وأم أيمن امرأة أعجمية لا تقبل لها شهادة(2)، والحسن والحسين طفلان صغيران(3)، وعليّ يجر النار إلى قرصه فلا تقبل له ولا لولديه شهادة(4)، والزهراء (علیها السلام) تتجرع الآلام غصة بعد غصة حتى لحقت بأبيها بعد أيام وهكذا …، لذا كان الشكل الثالث من التخطيط ضرورياً ليكون شاهد عدل مدى الأجيال، تملأ أفواه مزوري الحقائق بالتراب.ولعلك تعجب مع وضوح هذا التخطيط وقوة الحجج المتوالية التي لم تنقطع حتى وفاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وإذا بالأمر يزول عن مستقره ويتقمص الخلافة غير علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وهو يعلم أن محل ابن أبي طالب منها محل القطب من الرحى، ينحدر عنه السيل، ولا يرقى إليه الطير(5).

وانه لعجيب فعلاً، ولو لم يكن حقيقة ثابتة أجمع عليها المؤرخون لما صدّقنا به، وقد أوجدت في عين أمير المؤمنين قذى، وفي الحلق شجى، وفي القلوب جمرة لا تطفأ إلى يوم القيامة حتى ينتصف المظلوم من الظالم، ونعم الحكم اللهة.

ص: 430


1- ابن مسعود: أسلم قديماً وأجهر قديماً في مكة فضربوه حتى أدموه وهاجر إلى الحبشة والمدينة، شهد بدراً وما بعدها، وقطع عثمان عطاءه سنتين لإنكاره على الوليد ما ارتكبه زمان ولايته على الكوفة ومات سنة اثنتين وثلاثين. (أسد الغابة: 3/ 256-260، مستدرك الحاكم: 3/ 315،320 وراجع أحاديث عائشة 62-65) (عن معالم المدرستين ج2)، وحول مقتله راجع للتفصيل سيرة الأئمة ج1 ص370 وكذلك ضرب عمار بن ياسر.
2- بحار الأنوار: ج28، باب4، ص302، سيرة الأئمة: القسم الأول ص118 لهاشم معروف الحسني.
3- سيرة الأئمة: القسم الأول ص119.
4- سيرة الأئمة: القسم الأول، ص118.
5- من كلمات لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الخطبة الشقشقية في نهج البلاغة.

والخصم محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)(1)، يقول الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بهذا الصدد: (إن حقوق الناس تثبت بشهادة شخصين، وقد أنكر حق جدي أمير المؤمنين وعليه سبعون ألف شاهد كانوا مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في غدير خم)(2).

المرجعية الدينية ومسؤوليات التخطيط لإعداد البديل:

وعلى أية حال، فليست هذه الحالة فريدة في التأريخ، بل هي تتكرر كلما تكررت ظروفها الموضوعية، وما دامت النفس الأمارة بالسوء الميالة لاتباع الهوى وإشباع الشهوات والنزوع إلى التسلط وحب الجاه، وقد عشنا مثلها فإلى الله المشتكى(3).

والذي أريده من هذا البيان ليس فقط ترسيخ هذه العقيدة والدفاع عنها وإن كان هذا مطلباً مهما، لكني بالإضافة إليه أقول: إن العلماء وعلى رأسهم المرجعية الشريفة هم ورثة الأنبياء(4)، ليس فقط في الحقوق والامتيازات، وإنما في الوظائف والمسؤوليات والواجبات، خصوصاً وقد أمرنا بالتأسي برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}(الأحزاب:21).

ص: 431


1- من خطبة الزهراء التي احتجت بها على الصحابة في مسجد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ). (المصنف). راجع شرح النهج لابن ابي الحديد: ج16 ص210.
2- بحار الأنوار: ج37 باب52 ص158.
3- يشير (دام ظله) بذلك إلى ما حصل من حركات (انقلابية) على وصية السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) رغم النصوص والإشارات المتكررة.
4- الكافي: 1/ 32.

ومن تمام التأسي والوراثة إعداد البديل بغض النظر عن كونه واحداً أو أكثر، وتربيته وتأهيله لهذا المنصب الإلهي الشريف، وأي تقصير فيه غير مغتفر لا عند الله سبحانه ولا عند رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولا أوليائه العظام ولا عند المجتمع، وبعد أن يطمئن إلى إكمال إعداد البديل علمياً وفكرياً وأخلاقياً وعقائدياً - وهي المقومات الأربعة لشخصية العالم الديني، بل كل مسلم واعٍ مخلص- يجب أن يشير إليه صريحاً، وهذا هو الشكل الأول من التخطيط.وأما الشكل الثاني فيؤدى بالإشادة بمجموعة من الفضلاء الورعين المخلصين من أهل الخبرة الذين يطمئن إلى استقامتهم على الطريقة وإنصافهم الحق ونزاهتهم في بيانه وبصيرتهم في الأمور، حتى يرشدوا المجتمع بإخلاص وبلا لبس وإجمال وغموض إلى المرجع البديل.

وأما الشكل الثالث ففيه صنفان من الضوابط والمعايير والشروط، فمنها شروط ثابتة، وهي الاجتهاد والعدالة وغيرها من المذكورات في الرسائل العملية، ومنها شروط متحركة بحسب الزمان والمكان والظروف الموضوعية التي تعيشها المرجعية الشريفة، وهذه يجب طرحها بحسب الحاجة وفي وقتها المناسب. وهذا الكلام كله على نحو الإشارة والإجمال، وللتفصيل محله المناسب.

مسؤولية الأمّة في البحث عن المرجع البديل:

هذا بالنسبة لتكليف المرجعية، وفي مقابله توجد مسؤولية على الأمة يجب أن تعيها وتؤديها، وهي سؤال المرجع عن البديل، فإذا عينه كان من واجبهم الالتفاف

ص: 432

حوله والإشادة به ودلالة المجتمع عليه، وقد تكاملت هذه التربية عند أصحاب الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، فكانوا يسألونهم: (مَنْ الحجة بعدك)(1) و(إلى من المفزع إذا حدث حادث)(2) وهكذا، وإذا ذهب إمام فلم يكونوا يصدّقون كل من يدعي الإمامة، بل يجرون له الامتحانات التي لا ينجح فيها أي إمام(3)، كامتحانهم لجعفر أخي الإمام العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الذي ادعى الإمامة بعد أخيه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).ة.

ص: 433


1- أصول الكافي: كتاب الحجة باب الإشارة والنص على الأئمة.
2- نفس المصدر.
3- راجع كتاب أصول الكافي/كتاب الحجة.

القبس /35: سورة المائدة:79

اشارة

{كَانُواْ لَا يَتَنَاهَونَ عَن مُّنكَر فَعَلُوهُ ۚ لَبِئسَ مَا كَانُواْ يَفعَلُونَ}(1)

وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر قرآنياً/4

وهذه الآية صريحة في ذم كل التاركين لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا اختصت الآية السابقة وهي (المائدة:63) بالربانيين والأحبار.

في الدر المنثور بعدة أسانيد عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (إن بني إسرائيل لما عملوا الخطيئة نهاهم علماؤهم تعزيراً، ثم جالسوهم وآكلوهم وشاربوهم كأن لم يعملوا بالأمس خطيئة، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان نبي من الأنبياء، ثم قرأ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهن عن المنكر، ولتأطرنهم على الحق أطراً، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، وليلعننكم كما لعنهم)(2).

وإلى هنا نكتفي بتقريب الاستدلال بهذه الآيات الكريمة.

ص: 434


1- عرض مجمل لهذه الآية جاء في درس البحث الخارج الفقهي لسماحته.
2- الدر المنثور: مج 3/ 124.

القبس /36: سورة المائدة:105

اشارة

{يَأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيكُم أَنفُسَكُم}

موضوع القبس: دفع إشكال التعارض بين ما دل على وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر مع آية {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ}

ويحسن الآن التعرض إلى ما قيل من الإشكال بوجود التنافي ظاهراً بين هذه الآيات التي توجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُ-رُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إلى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (المائدة:105).

وتقريب الإشكال أن آية {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} تضع عن المؤمنين وظيفة الدعوة إلى الله تبارك وتعالى و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتكتفي منهم بالالتفات إلى إصلاح أنفسهم، ويكون معنى {لا يَضُ-رُّكُم} أي لا تبعة عليكم ولا مسؤولية شرعية؛ لسقوط التكليف عنكم.

ويظهر أن البعض اتخذ من هذه الآية ذريعة لترك هذه الفريضة منذ صدر الإسلام، ففي الدر المنثور بأسناد عديدة ((صعد أبو بكر منبر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنكم لتتلون آية من كتاب الله وتعدّونها رخصة، والله ما أنزل الله في كتابه أشدّ منها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ

ص: 435

أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَ-لَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} والله لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنَّ عن المنكر أو ليعمنّكم الله منه بعقاب))(1).أقول: آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تأبى أن تكون هذه الآية حاكمة عليها على نحو النسخ والإلغاء كما يصوّر الإشكال، خصوصاً بعد جعل هذه الوظيفة سمة الأمة الإسلامية التي تتميز بها عن كل الأمم في قوله تعالى: {كنتم خير أمة}، وعليه فلا يحتمل سقوط فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بآية {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ}، مضافاً إلى أن فهم آية {عليكم أنفسكم} على أنه ترك وظيفتي الدعوة والأمر والنهي قابل للمناقشة فيزول الإشكال من أصله.

وهذا ما سيتضح من خلال الوجوه التي نذكرها لمعالجة الإشكال، ومنها:-

1-إن آية {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} تأتي بعد امتثال فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالمعنى الذي تقدم(2) في تفسير قوله تعالى: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ} (التحريم:6) وفي هذا المعنى رواية أوردها في الدر المنثور بطرق عديدة عن أبي أمية الشعباني قال: ((أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أية آية؟ قال: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألتُ عنها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا9.

ص: 436


1- الدر المنثور: مج 3/ 215.
2- وكذلك انظر: أسمى الفرائض، القسم الأول: ص79.

رأيت شحّاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر، الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً، يعملون مثل عملكم)))(1).

وأخرج عن حذيفة وغيره في هذه الآية قال: ((إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر)).2-معنى {عليكم أنفسكم} أي أنتم مسؤولون عن صلاح أنفسكم والتزامها بأوامر الله تعالى ونواهيه ومنها فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير، وحينئذٍ لا تتحملون مسؤولية من ضل ممن هم مرتبطون بكم كآبائكم وأزواجكم ونحوهم، فتكون بمعنى قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الإسراء:15) وقوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ} (البقرة: 134)، خصوصاً وأن المخاطبين يومئذٍ كان آباؤهم وبعض أقربائهم على الشرك، ويؤيد هذا المعنى ورود لفظ {إذا اهتديتم} هنا وفي الآية السابقة عليها {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170).

ويمكن أن يستفاد هذا المعنى مما رواه في الدر المنثور بسنده عن ابن عباس في تفسير الآية قال: ((إذا ما أطاعني العبد فيما أمرته من الحلال والحرام، فلا يضرُّه من ضلَّ بعده إذا عمل بما أمرته به))(2)، وعنه أيضاً قال إن مراد الآية:9.

ص: 437


1- الدر المنثور، مج3، 215، وأوردها مختصرةً في تفسير البرهان: 3/ 298 عن مصباح الشريعة: 18.
2- الدر المنثور: مج 3، 219.

((أطيعوا أمري واحفظوا وصيتي)) واختاره العلامة الطبرسي في المجمع(1).3-إن آية {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} خاصة بدعوة الكفار إلى الإسلام فترخّص في تركها وترك الجهاد، وربما يستدل له باستعمال لفظ الهداية والضلال في الآية مما يناسب كون الخطاب بلحاظ دعوة الكفار، روى في الدر المنثور بسنده عن أبي عامر الأشعري ((إنه كان فيهم شيء فاحتبس على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ثم أتاه فقال: ما حبسك؟ قال: يا رسول الله قرأت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} قال: فقال له النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): أين ذهبتم؟ إنما هي: لا يضركم من ضلّ من الكفار إذا اهتديتم)(2).

أقول: هذا المعنى لا يمكن قبوله في فريضة الجهاد والدعوة إلى الله تبارك وتعالى كما لم يُقبّل في فريضة الأمر والنهي؛ لأن الدعوة إلى الخير من مقومات هوية هذه الأمة وعناصرها الأساسية كما تقدم في تقريب قوله تعالى: {ولتكن منكم}.

4-أن الآية خاصة بظرف التقية وحصول الضرر من ممارسة الفريضة

فتكون دليلاً على اشتراط عدم الضرر من الامتثال.

في الدر المنثور بطرقه عن ابن مسعود في قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ}5.

ص: 438


1- مجمع البيان: مج2: 392.
2- الدر المنثور: مج3، 215.

قال: ((مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر ما لم يكن من دون ذلك السوط والسيف، فإذا كان ذلك كذلك فعليكم أنفسكم)(1) وروى مثله عن ابن عباس.أقول: لا يدل ظاهر الآية ولا سياقها على الاختصاص بظرف التقية.

5-أن يقال: إن هذه الآية تدل على الرخصة، فتُحمل آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الظاهرة في الوجوب على الاستحباب كما هو مقتضى الصناعة.

وهو وجه يجري على القواعد المعمول بها لو كنّا نحن والآيات الشريفة، وعلى فرض ظهور الآية في هذه الرخصة، وروى في الدر المنثور عن الحسن أنه تلا هذه الآية فقال: ((يا لها من سعة ما أوسعها، ويا لها من ثقة ما أوثقها))(2).

أقول: بغضّ النظر عن صحة الوجه فنّياً، إلا أن فهم الرخصة بعيد لبعد الأثر المترتب عليها وهو قوله تعالى: {لا يضرّكم} إذ من المعلوم تضرر المجتمع بوجود الفساد والانحراف فيه، وأن عدم الردع عن المنكر يؤدي إلى انتشاره وفتكه في كيان المجتمع حتى يقضي عليه، قال تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} (الأنفال: 25).

مضافاً إلى أن نتيجة هذا الوجه مما لا يمكن قبولها لإجماع المسلمين على وجوب الفريضة في الجملة.

6-إن آية {عليكم أنفسكم} تدعو المؤمنين إلى الثبات على الحق8.

ص: 439


1- الدر المنثور، مج3، 216، 219.
2- الدر المنثور، مج3، 218.

والاستقامة، وأن يلزموا ما هم عليه، ولا يتأثروا بما عليه أهل الضلال من النعم المادية والترف فيدعوهم ذلك إلى ترك ما هم عليه، فتقول لهم الآية: إن ما عندهم هو الخير فالزموه –الذي هو معنى عليكم- ولا يغرنكم ما فاتكم مما عند أهل الضلال فتضلوا مثلهم، فتضروا أنفسكم بالتأثر بهم، ولا تخافوا من أن يكون لزوم طريقتكم المثلى سبباً لفوات النعم عليكم ونحوها.فيكون هذا المعنى قريباً من قوله تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (طه: 131)، وقوله تعالى: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} (آل عمران: 196-197)، وقوله تعالى: {وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} (القصص:57)، وهو ما يريد الله تعالى حماية عباده منه في قوله تعالى: {وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ، وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} (الزخرف: 33).

7-ما يقرب من قول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لا أصلحكم بفساد نفسي) ويكون معنى الآية: التفتوا أولاً إلى إصلاح أنفسكم ولا تنشغلوا بالعمل على إصلاح المجتمع وتضيّعوا أنفسكم، فإذا لزم الانهماك بالعمل الاجتماعي تضييع أنفسكم فتركه أولى والالتفات إلى تهذيب النفس وتكميلها.

وهذه مشكلة كبيرة أفرزها واقع العمل الإسلامي الاجتماعي والحركي،

ص: 440

والمتصدين له على أوسع مستوياته لكنهم عندما يتعرضون لامتحانات التقوى والاستقامة ينهارون، وقد شخّصت هذه المشكلة في جملة من خطاباتي.وتدل عليه فيما نحن رواية علي بن إبراهيم في تفسيره الآية عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (أصلحوا أنفسكم فلا تتبعوا عورات الناس ولا تذكرونهم، فإنه لا يضركم ضلالتهم إذا كنتم أنتم صالحين)(1).

وقد نبّه القرآن الكريم إلى هذه النكتة في آيات عديدة كقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً، وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} {الكهف: 6-7)، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاءُ اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} (الرعد:31).

أقول: والخلاصة أن على المؤمن أن يراقب الله تعالى في حركته ولا يشغله شيء عن إصلاح نفسه ويوظف كل عمل لهذا الغرض، ومن تلك الأعمال الدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يكلف نفسه أكثر من ذلك، فإن النتائج بيد الله تعالى وهو مدبّر الأمور ومسبب الأسبا.

وهذا الوجه اختاره السيد الطباطبائي في الميزان (قدس سره): ((إن الآية لا تنافي آيات الدعوة وآيات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فإن الآية إنما تنهى8.

ص: 441


1- البرهان في تفسير القرآن: 3/ 298 عن تفسير القمي: 1/ 188.

المؤمنين عن الاشتغال بضلال الناس عن اهتداء أنفسهم وإهلاك أنفسهم في سبيل إنقاذ غيرهم وإنجائه. على أن الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من شؤون اشتغال المؤمن بنفسه وسلوكه سبيل ربه، وكيف يمكن أن تنافى الآية آيات الدعوة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أو تنسخها ؟ وقد عدهما الله سبحانه من مشخصات هذا الدين وأسسه التي بنى عليها كما قال تعالى: {قُلْ هَ-ذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) وقال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} (آل عمران: 110).

فعلى المؤمن أن يدعو إلى الله على بصيرة وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر على سبيل أداء الفريضة الإلهية وليس عليه أن يجيش ويهلك نفسه حزنا أو يبالغ في الجد في تأثير ذلك في نفوس أهل الضلال فذلك موضوع عنه))(1).

8-ما يشبه الوجه الخامس بتطبيقه على المجتمع وذلك بأن نفهم من {أنفسكم} العموم المجموعي لا الاستغراقي؛ لأن المؤمنين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، فيكون المعنى: عليكم أن تلتفتوا إلى صلاح وإصلاح مجتمعكم من خلال إصلاح أنفسكم، وحينئذٍ يكون قوله تعالى: {لا يضرّكم} إما من باب التطمين من قبل الله تعالى بأنهم لا يضرّهم الضالون، بمعنى أن ضلالهم لا يسري ولا يصل إليكم ما دمتم عاملين على3.

ص: 442


1- الميزان في تفسير القرآن: 6/ 163.

إصلاح بعضكم بعضاً، فتكون من آيات الحث على فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو تكون بمعنى أنهم ليس عليهم تضييع وظيفتهم أمام مجتمعهم من أجل أن يلتفتوا إلى إصلاح حال الآخرين.وهذا المعنى أورده في مجمع البيان وقال: ((إن هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الله تعالى خاطب بها المؤمنين فقال: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} يعني عليكم أهل دينكم –كما قال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}- لا يضركم من ضل من الكفار، وهذا قول ابن عباس في رواية عطا عنه، قال: يريد يعظ بعضكم بعضاً وينهى بعضكم بعضاً ويعلّم بعضكم بعضاً ما يقرّبه إلى الله ويبعده عن الشيطان ولا يضركم من ضل من المشركين والمنافقين وأهل الكتاب))(1).

وأيضاً احتمله السيد الطباطبائي، قال (قدس سره): ((وتسع الآية أن تحمل على الخطاب الاجتماعي بأن يكون المخاطب بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} مجتمع المؤمنين فيكون المراد بقوله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} هو إصلاح المؤمنين مجتمعهم الإسلامي باتخاذ صفة الاهتداء بالهداية الإلهية بأن يحتفظوا على معارفهم الدينية والأعمال الصالحة والشعائر الإسلامية العامة كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103} وقد تقدم في تفسيره أن المراد بهذا الاعتصام الاجتماعي الأخذ بالكتاب والسنة.

ويكون قوله: {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} يراد به أنهم في أمن2.

ص: 443


1- مجمع البيان: مج2/ 392.

من أضرار المجتمعات الضالة غير الإسلامية فليس من الواجب على المسلمين أن يبالغوا الجد في انتشار الإسلام بين الطوائف غير المسلمة أزيد من الدعوة المتعارفة كما تقدم.وهنا معنى آخر لقوله: {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} من جهة أن المنفى في الآية هو الإضرار المنسوب إلى نفس الضالين دون شيء معين من صفاتهم أو أعمالهم فتفيد الإطلاق، ويكون المعنى نفى أن يكون الكفار ضارين للمجتمع الإسلامي بتبديله مجتمعاً غير إسلامي بقوة قهرية فتكون الآية مسوقة سوق قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} (المائدة: 3) ، وقوله: {لَنْ يَضُ-رُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ} (آل عمران: 111).))(1).

9-ما ذكرناه في بعض كتبنا(2) من أن التكاليف على قسمين: الفردية والاجتماعية، ونعني بالأولى تلك التي توجَّه إلى الفرد بما هو فرد من دون ارتباطها بتكليف الآخرين، كالصلوات اليومية التي يجب على الفرد القيام بها سواء امتثل الآخرون أم لا، أما الثانية فهي التي يُخاطب بها الفرد بما هو جزء من المجتمع، وهذا الفرق ناشئ من كون امتثال الأولى يؤتي ثماره سواء أدى الآخرون أم لا بعكس الثانية.

فآية {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} بلحاظ الأولى أما وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي من الثانية، فموضوعهما مختلف.

ص: 444


1- الميزان في تفسير القرآن: 6/ 167- 168.
2- خطاب المرحلة: 1/ 291-292.

الصورة

ص: 445

الفهرس الإجمالي

الصورة

ص: 446

الصورة

ص: 447

الصورة

ص: 448

الصورة

ص: 449

الصورة

ص: 450

الصورة

ص: 451

المجلد 2

هوية الكتاب

اسم الكتاب: من نور القرآن

تأليف : سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

الموضوع : التفسير

مشخصات : 5 ج

الطبعة : الرابعة

التاريخ : 1442ه- - 2021م

ص: 1

اشارة

من نور القرآن

ص: 2

ص: 3

من نور القرآن

تفسير موضوعي حركي يقتبس من القرآن الكريم ما يلقي ضوءاً على قضايا عقائدية أو أخلاقية

أو فكرية أو اجتماعية

سورة الانعام - سورة الحجر

ص: 4

القبس/37: سورة الأنعام:94

اشارة

{وَلَقَد جِئتُمُونَا فُرَدَى كَمَا خَلَقنَكُم أَوَّلَ مَرَّة}

موضوع القبس:محورية التوحيد

سورة الأنعام:من السور المكية وهي سورة جليلة غنية بالمعارف الالهية الموصلة الى الحقيقة التي خلقنا من أجلها {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56) وفُسرّت العبادة بالمعرفة.

فتتحدث السورة عن محورية التوحيد وتذكر الادلة عليه وتحتج على المشركين وتبطل عقائدهم وتشرح حقائق المبدأ والمعاد. وقد وردت في فضلها أحاديث كثيرة(1)، منها ما رواه الشيخ الكليني (قدس سره) في الكافي بسنده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إن سورة الأنعام نزلت جملة، شيّعها سبعون الف ملَك حتى انزلت على محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فعظِّموها وبجِّلوها، فان اسم الله عز وجل فيها في سبعين موضعاً، ولو يعلم الناس ما في قراءتها ما تركوها).

وفي كتاب المصباح للكفعمي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(من قرأها من أولِّها الى قوله (تكسبون) – نهاية الآية الثالثة – وكّلَ الله به اربعين الف ملَك، يكتبون له مثل عبادتهم الى يوم القيامة) وغيرها من الأحاديث الكثيرة في آثار السورة المعنوية والمادية في سعة الرزق وشفاء الامراض والنجاة من النار.

ص: 5


1- راجع البرهان في تفسير القرآن :3/ 310.

(وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا):

{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا} تأكيد بعد تأكيد باللام (وقد) واستعمال الفعل الماضي لبيان حقيقة يفترض أنها مستقبلية إلا ان الحديث عنها بالماضي لتأكيد حصولها وكأنها أمر واقع مفروغ منه (جِئْتُمُونَا) أي عدتم الينا بعد أن أخذتم فرصتكم في العمل والحياة بحرية في الدنيا وكلنا عائدون الى الله تعالى {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} (العلق:8) {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّ-ا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} (البقرة:156)، والخطاب من الله تبارك وتعالى الى عباده مباشرة عند الموت حيث ينتقل الانسان من عالم التكليف الى عالم الجزاء او عند البعث يوم القيامة وقد يكون الخطاب من الملائكة الى الناس عند قبض أرواحهم مؤدين عن الله تعالى.

(فُرَادَى):

{فُرَادَى} أي وحداناً مجردين عن كل شيء مما كان لكم في الدنيا فلم تصحبوا معكم القوة البدنية ولا المال ولا الاولاد ولا الشهادات ولا العناوين ولا المناصب ولا الجند والاعوان والسلاح وكل أسباب القوة مما كنتم تتباهون وتتبجحون به في الدنيا فلم يبق منها شيء يصحبكم الى ما بعد الموت.

(كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ):

{كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} كما كنتم فرادى مجردين من كل شيء حينما خلقناكم في بطون امهاتكم مع فرق انكم حينما خُلقتم كان لكم أبوان يتولان رعايتكما أما في الاخرة فتواجهون مصيركم وحياتكم بمفردكم.

ص: 6

(وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ):

{وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ} خلفتم وراء ظهوركم ما خولناكم التصرف به في الدنيا مما ذكرنا آنفاً حيث كنتم تتوهمون أنكم تملكون شيئاً وفي الحقيقة فأنكم لا تملكون شيئاً وإنما الملك الحقيقي لله تبارك وتعالى وقد خولّكم وأوكل اليكم التصرف في بعض ما أعطاكم في الدنيا من اموال وغيرها وقد رسم منهجاً وصلاحيات للعمل وفق هذا التخويل فمنكم من التزم بحدود التخويل ومنكم من خالف وبدرجات متفاوتة للفريقين وبالموت انتهى هذا التخويل فعادت الأمانة الى اهلها ولم تأخذوا معكم إلا اعمالكم الصالحة او السيئة ولم يبق لكم إلا كيفية تصرفكم في ما خولكم الله تعالى. فإن كان صالحاً أنتفعتم به نفعاً حقيقياً، وإن كان التصرف سيئاً بقيت تبعاته وآثامه وانتقلت الأموال والعقارات وغيرها الى الورثة فينطبق عليهم ما ورد في الدعاء (إلهِي ذَهَبَتْ أَيامُ لَذَّاتِي وَبَقِيَتْ مَآثِمِي وَتَبِعاتِي)(1). اما المؤمنون المطيعون فينطبق عليهم (ذهب العناء وثبت الاجر بفضل الله تعالى).

ولاحظ هنا المقابلة بين هذه الآية وقوله تعالى {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ} (البقرة:110) فعبَّر عن الاعمال الصالحة وحسن التصرف بما خولّه الله تعالى بالتقديم لأنه يقدّمه امامه ويتزود به ليوم الحساب {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (البقرة:197) فهو يعّمر به آخرته التي يتحول اليها، فهؤلاء لا يأتون فرادى، قال تعالى {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ

ص: 7


1- ملحق الباقيات الصالحات في كتاب مفاتيح الجنان وهو دعاء شريف يدعى به في صلاة الوتر .

وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء:88-89) أما من أساء التصرف فيما خوّله الله فقد وصفه بأنه تركه وخلفّه وراء ظهره لأنه بعثره في دار الدنيا ولم يستفد منه في الآخرة وإنما سبب له العقاب والعذاب فهذه الآية خطاب للفاسقين والكفار والمنافقين.

(وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ):

{وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ} كانت لكم في الدنيا زعامات وقيادات وآلهة صنعتها أوهامكم واهواءكم وتعصباتكم وخدعوكم بها تطيعونها وتضحّون من أجلها من دون أن تفكروا في كونها مع الحق أو غير ذلك وهل في اتباعكم لها رضا الله سبحانه أم لا، لكنها اليوم ليست معكم {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء} وهي لا تستحق أن تطاع او تتّبع لأنها مزيفة صنعها الاعلام او المال او المكر والخداع أو سدنة المعابد المستفيدون منها فقد كنتم تظنون انها ستشفع لكم وتنصركم وتنجيكم ولكن خابت ظنونكم.

(لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ):

{لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} فانقطعت تلك العلائق والمودة والالفة والاواصر القوية بينكم وظهر عجزكم عن نصرة بعضكم البعض وانفرط العقد الاجتماعي الذي بينكم لأنه ليس مبنياً على أساس صحيح ورجعتم الينا وحداناً.

(وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ):

{وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ضاعت أحلامكم وأمانيكم وعقائدكم

ص: 8

الفاسدة وتبّين أن الاسباب التي كنتم تتوسلون بها وتعتمدون عليها وتظنون أنها تدبر أموركم وتقضي حوائجكم سراب وخيال سواء كانت آلهة وأصنام من الحجارة والخشب أو رموز بشرية من زعامات دينية أو سياسية أو اجتماعية أو فكرية أو أهواء اتخذتموها الهة تطيعونها وتعبدوها من دون الرجوع الى حكم الله تعالى وشريعته, وضيّعتم أنفسكم وصارت عاقبتكم الخسران وظهر أمامكم ان الحق هو ما أخبركم الله تعالى به.

استيقظوا من الغفلة:

هذه الصورة التي تعرضها الآية لمشهد من مشاهد الآخرة اريد منها إيقاظ الانسان من غفلته حتى يحسب الامور بدقة {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} (الحشر:18) قبل ان تصحو على هذه الحقيقة {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (ق:22) وكان عليك قبل الان في الحياة الدنيا ان يكون بصرك حديداً وتدرك هذه الحقائق لتتدارك نفسك وتصلح حالك، اما انكشاف الحقيقة بعد الموت فانه بعد فوات الاوان على النفس ولا ينفعها الندم والحسرة.

ففي الآية موعظة وإرشاد الى اختيار القيادة الحقة التي توصلك الى الله تعالى وتدعوك الى التمسك بمنهج النبي محمد وآله الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) والى صرف الجهود في إكتساب ما ينفع يوم القيامة ويحقّق الفوز والفلاح وعدم تضييع العمر في تحصيل الأمور التي لا قيمة لها في الآخرة {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} (الفرقان:23) .

ص: 9

ايها الشباب أنكم في بداية طريق المسؤولية وتحّمل التكاليف الإلهية فالتفتوا الى هذه الحقيقة وابنوا مستقبلكم على أسس صحيحة .

ص: 10

القبس/38: سورة الأنعام:141

اشارة

{وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَومَ حَصَادِهِ ۖ}

موضوع القبس:بركات دفع الزكاة

شكر المنعم:

نعم الله تعالى على الناس كثيرة لا تعدُ ولا تحصى ومنها انه تبارك وتعالى يخرج لهم من الأرض أنواع النباتات لتكون غذاءاً لهم ولأنعامهم مضافاً الى الفوائد الأخرى كتحسين البيئة وجمالية الطبيعة وغير ذلك.

إنّ هذه النعم تلزمنا شكر الخالق المنعم الذي شمل برحمته كلّ مخلوقاته حتى من لم يعرفه ومن لم يطلب منه بل حتى على من عصاه وناواه، وبالشكر تدوم النعم(1) كما ورد في الحديث الشريف، قال تعالى {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} (إبراهيم:7) فهذه وسيلة من يريد استزادة النعم والخيرات.

فضل الزكاة وأهميتها:

ومن تمام شكر النعمة أداء حقوقها، التي فرضها الله تعالى على ما انعم عليهم تطهيراً لنفوسهم وتنمية لأموالهم، ولفظ الزكاة يحمل هذين المعنيين (التطهير) و(النماء) والزكاة تحقق هذين الهدفين

وقد أشير الى وجوبها في قوله تعالى {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}

ص: 11


1- ميزان الحكمة- الريشهري: 4/ 3313

(الأنعام:141) وقوله تعالى {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (الذاريات:19) وذكر علة فرض الله تعالى الزكاة في قوله تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} (التوبة:103) وفي الرواية عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لما نزلت آية الزكاة خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا.. في شهر رمضان، فأمر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مناديه فنادى في الناس:إن الله تبارك وتعالى قد فرض عليكم الزكاة كما فرض عليكم الصلاة)(1) وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ولو أنّ الناس أدوا حقوقهم لكانوا عايشين بخير) وعن الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (حصّنوا أموالكم بالزكاة) وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إنّ الله عزّ وجل فرض للفقراء في أموال الأغنياء فريضة لا يحمدون إلاّ بأدائها وهي الزكاة)(2) وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إنّما وضعت الزكاة اختباراً للأغنياء ومعونة للفقراء ولو أنّ الناس أدّوا زكاة أموالهم ما بقي مسلم فقيراً محتاجا ولاستغنى بما فرض الله له، وإنّ الناس ما افتقروا ولا احتاجوا وجاعوا ولا عروا إلاّ بذنوب الأغنياء، وحقيقٌ على الله تبارك وتعالى أن يمنع رحمته ممّن منعه حقّ الله في ماله، وأقسم بالذي خلق الخلق وبسط الرزق أنّه ما ضاع مال في بر ولا بحر إلاّ بترك الزكاة)(3) وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إِنَّ الزَّكَاةَ جُعِلَتْ مَعَ الصَّلَاةِ قُرْبَاناً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَمَنْ أَعْطَاهَا طَيِّبَ النَّفْسِ بِهَا فَإِنَّهَا تُجْعَلُ لَهُ كَفَّارَةً وَمِنَ النَّارِ حِجَازاً وَوِقَايَةً فَلَا يُتْبِعَنَّهَا أَحَدٌ نَفْسَهُ وَلَا يُكْثِرَنَّ عَلَيْهَا لَهَفَهُ فَإِنَّ مَنْ أَعْطَاهَا47

ص: 12


1- الروايات المذكورة من وسائل الشيعة، كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 1، 2، 3.
2- الكافي - الكليني :3 / 498
3- ميزان الحكمة - الريشهري :2 / 1147

غَيْرَ طَيِّبِ النَّفْسِ بِهَا يَرْجُو بِهَا مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا فَهُوَ جَاهِلٌ بِالسُّنَّةِ مَغْبُونُ الْأَجْرِ ضَالُّ الْعَمَلِ طَوِيلُ النَّدَمِ)(1).وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (إذا أراد الله بعبد خيراً بعث إليه ملكاً من خزّان الجنّة فيمسح صدره ويسخّي نفسه بالزكاة)(2).

ومن وصية لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(الله الله في الزكاة فإنّها تطفئ غضب ربّكم)(3).

وفي الحديث الشريف قال (شابٌ سخي مرهق في الذنوب أحبّ إلى الله عز وجل من شيخ عابد بخيل)(4) ويشرح حديث آخر معنى السخي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (من أدّى ما افترض الله عليه فهو أسخى الناس) (5) وفي حديث عن أبي جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إنّ الله تبارك وتعالى قرن الزكاة بالصلاة فقال {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} (البقرة:43) فمن أقام الصلاة ولم يُؤت الزكاة فكأنّه لم يقم الصلاة)(6).

وقد ذكر الفقهاء الأصول المالية التي تجب فيها الزكاة وشروط وجوبها ومقدارها فتجب على الغلات الأربع:الحنطة والشعير والتمر والزبيب، وعلى الانعام الثلاث:الابل والبقر والغنم، وعلى النقدين:الذهب والفضة المسكوكين كعملة63

ص: 13


1- نهج البلاغة: 199/الخطب/الزكاة
2- بحار الأنوار - المجلسي : 93 / 19
3- بحار الأنوار - المجلسي : 93 / 27
4- بحار الأنوار - المجلسي : 70 / 307
5- من لا يحضره الفقيه - الصدوق :2 / 62
6- شرح أصول الكافي - المازندراني :8 / 63

متداولة، ويوجد خلاف في وجوب الزكاة على غير هذه كالأموال التجارية والعملة الورقية ونحو ذلك، وكمثال على ذلك، قالوا:تجب الزكاة في الغلات الزراعية ضمن شروط معيّنة ذكرها الفقهاء (قدس الله أرواحهم) في الرسائل العملية، ومنها بلوغ النصاب وهو (847) كيلوغرام فإذا كان الحاصل أقل من ذلك فلا زكاة عليه، فإذا بلغت الغلّة مقدار النصاب وجبت فيه الزكاة ومقدارها (10%) من الحاصل إذا كانت المزروعات تسقى بشكل طبيعي من دون آلة سيحاً بالمطر أو بفيضان النهر ونحوها، وتكون الزكاة بنسبة 5% إذا كان السقي بالآلات.

الآثار المباركة للزكاة:

ومن الأحاديث الشريفة المتقدمة نستطيع تلمس عدة آثار مباركة لإخراج الزكاة:

1-إنّها من أعظم القربات إلى الله تعالى وانها مقرونة بالصلاة.

2-توجب المحبة الإلهية للعبد وشموله بالرحمة العظيمة.

3-إنّها تُطفئ غضب الرب، وتوجب كفّارة الذنوب وإنها حجاب ووقاية من النار.

4-إنّها اختبار يعطي فرصة للعبد لكي ينجح فيه فيستحق الجائزة، فبدون خوض الامتحان لا يرتقي الإنسان إلى مرحلة أعلى وأكمل، وإنّ امتحان إخراج شيء من المال صعبٌ على الإنسان لكنّه منتج ومثمر، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(ما بلى الله عز وجل العباد بشيء أشد من إخراج الدرهم(1).

ص: 14


1- الخصال- الشيخ الصدوق: 8/ح27.

5-انها سبب لزيادة النعم ودوامها.

6-تحصّن المال من التلف والخسارة، وإنّ من يبخل بالزكاة يخسر أكثر منها من المال بتلف أو سرقة أو خسارة فيخسر الدنيا والآخرة.

7-تقضي على الفقر وتنمي الاقتصاد وتزدهر بها أحوال الناس، لأنّ الناس إذا كانوا فقراء فإنّهم لا يمتلكون قدرة على الشراء فيصاب السوق بالكساد، فإذا توفّر لديهم المال تحرّك السوق وعاد بالنفع على نفس دافعي الزكاة وسائر الحقوق الشرعية وهذه الحقيقة يعرفها دافعوا الضرائب في الدول الصناعية والبنوك العالمية المموّلة.

وهذا الكلام يجري في إخراج سائر الحقوق الشرعية كالخمس وردّ المظالم لوضوح انطباق الأحاديث الشريفة عليها.

التحذير الشديد من عدم دفع الحقوق الشرعية:

وإذا لم تكفِ هذه الروايات والآثار المباركة على إخراج الزكاة لتحفيز الناس وتحريكهم نحو إخراجها فلنقرأ في مقابل ذلك ما ورد من تحذير شديد من مغبة التخلّف عن دفع الحقوق الشرعية ففي الحديث عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ما من عبدٍ منع من زكاة ماله شيئاً إلاّ جعل الله ذلك يوم القيامة ثعباناً من نار مطوّقاً في عنقه ينهش من لحمه حتّى يفرغ من الحساب، وهو قول الله عز وجل {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (آل عمران:180) يعني ما بخلوا به من الزكاة)(1).

ص: 15


1- الكافي- الشيخ الكليني: 3/ 504/ح10

وقد طرد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) جماعة من المسجد وحرمهم من الصلاة معه لأنّهم لم يؤدّوا حقوق أموالهم، عن أبي جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (بينما رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في المسجد إذ قال:قم يا فلان قم يا فلان، قم يا فلان، حتّى أخرج خمسة نفر، فقال:أخرجوا من مسجدنا لا تصلوا فيه وأنتم لا تزكّون)(1).وفي حديث عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من منع قيراطاً من الزكاة فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً)(2) وفي حديثٍ عنه قال (من منع قيراطاً من الزكاة فليس مؤمن ولا مسلم)(3) وهو قول الله عز وجل {... رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (المؤمنون:99-100).

لتساعدوا الناس:

أيها الأحبة أمام هذه الأحاديث الموجبة للزكاة والمبيّنة لآثارها المباركة، والعاقبة المظلمة لتاركها لا يسع الإنسان إلاّ المبادرة لإخراجها بالنسبة التي ذكرناها، وليس من الضرورة إيصالها إلى المرجعية الدينية فيجوز لصاحبها توزيعها على الفقراء المحتاجين أو المساهمة بها في المشاريع الخيرية والتي تخدم الصالح العام، كبناء مركز صحّي أو قنطرة لعبور الناس أو مدرسة أو محطّة تصفية المياه ونحوها مع الالتفات إلى أن الهاشمي الذي ينتسب إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لا

ص: 16


1- الكافي- الشيخ الكليني: 3/ 504/ح10
2- المحاسن- البرقي: 1/ 87/ح28/ح29
3- المحاسن- البرقي: 1/ 87/ح28/ح29

يجوز له أخذ الزكاة من غير الهاشمي، ويجوز العكس.فما يمنع أحدكم من مساعدة أقربائه ومعارفه المحتاجين من الزكاة فيدخل السرور عليهم ويقضي حوائجهم وبنفس الوقت يؤدي هذه الفريضة العظيمة التي بها نماء لأموالكم وتحصين لها ونيل لرضا الله تبارك وتعالى.

إنّ الذي دفعنا إلى توجيه هذا الحديث إرشادكم إلى هذه الطاعة العظيمة المقرّبة إلى الله تبارك وتعالى ولما رأيناه من غفلة الغالبية العظمى من الناس عن هذه الفريضة ومن واجبنا إرشادهم ونصحهم وهدايتهم والله الموفّق.

ص: 17

القبس/39: سورة الأعراف:16

{لَأَقعُدَنَّ لَهُم صِرَطَكَ ٱلمُستَقِيمَ}

هذا واحد من التهديدات التي أطلقها إبليس في جداله مع ربّ العزة والجلال كردّ فعل على طرده من الجنة ومن صفوف الطائعين المرضيين عند الله تبارك وتعالى بسبب استكباره وتمرده عن السجود لآدم الذي كان يمثل النوع الإنساني المستخلف في الأرض، فعزم على الانتقام من الإنسان حسدا له ولأنه كان موضوع الابتلاء والامتحان الذي فشل فيه حيث تصرّح الآية أن السبب الذي برّر به غوايته لبني آدم وسوقهم إلى الضلال أن الأمر بالسجود لهم كان سبب طرده من رحمة الله تعالى {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} والباء سببية.

وعلى اثر ذلك اطلق سلسلة من التهديدات والعمليات الانتقامية إلى يوم الوقت المعلوم، ومنها ما ذكرته الآية الشريفة، بأن يترصد لهم ويلاحقهم ويمكر بهم حتى يغويهم ويضلّهم كما غوى هو وضل بسوء اختياره، ويسلب منهم نعمة الاستقامة على صراط الله تعالى.

وزيادة في المكر والتلبيس فإنه يقعد لهم على الصراط المستقيم حتى لا يتوقعوا منه الشر والسوء، وقد عبّر بلفظ (القعود) المتضمن ثني بعض أجزاء الجسم للدلالة على قصد الاعوجاج المنافي للاستقامة، لذا أخبرنا الله تعالى بهذه الحقيقة وهذا التهديد الخطير لنكون حذرين يقظين لمكائد هذا العدو المبين،

ص: 18

وعلّمنا الله عز وجل أن ندعوا يومياً في صلاتنا {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ونطلب الهداية إلى الصراط المستقيم لنتذكر دائماً العدو الذي يريد خروجنا عنه، وأن نتوسل إلى الله تبارك وتعالى طالبين المعونة على مواجهته والانتصار عليه. وتدل الآية على أن الإنسان لو خُلّي وطبيعته التي فطر عليها فإنه خُلق ليسير على الصراط المستقيم الموصل إلى الله تبارك وتعالى {صراطك} ولكن الشيطان يقعد للناس على هذا الطريق ويتربص بهم ليحرفهم عن هذا الصراط المستقيم ويقطع عليهم طريق الطاعة ويوجههم إلى الطرق المنحرفة الأخرى، وهذا المعنى ورد في الحديث الشريف (كل إنسان يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه أو ينصّرانه)(1).

والصيغة المؤكدة المستعملة في التهديد تدل على الإصرار على الفعل والاستمرار فيه واستعمال الشيطان كل أدواته في التزيين والغواية والتضليل والتمويه والشبهات ونحو ذلك، والإطباق على الإنسان من جميع جهاته، وهو ما أشارت إليه الآية التالية:{ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف:17).

ولعل أقرب مشهد ومسرح لهذا القعود هو ما يحصل اثناء الصلاة، فان اللعين يستخدم كل وسائله لسلب هذه المعراجية فيشتت ذهن المصلي في جميع94

ص: 19


1- رواه في البحار ج3 ص 281 عن غوالي اللئالي، وحمل قوله تعالى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (الروم :30) على دين الله واورده السيد المرتضى في اول الجزء الرابع من اماليه مرسلاً عن ابي هريرة عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وسنن البهيقي وأبو يعلى في مسنده والطبراني في الكبير والسيوطي في الجامع الصغير :2/ 94

الاتجاهات وتتوالى عليه الخواطر والصوارف حتى ينتهي من صلاته وهو غير ملتفت لشيء منها.والتعبير هنا بالجهات الحسية الأربعة كناية عن الاتجاهات المعنوية التي يتحرك نحوها الانسان (عدا الأعلى والاسفل من الجهات الست)، لأن الصراط المستقيم الموصل إلى الله تعالى لا يمكن أن يكون حسّياً فكذا القعود عليه أمر معنوي فيمكن أن يكون معنى (من بين أيديهم) مستقبلهم وأيامهم القادمة والزمن الآتي فيخوّفهم من الفقر والحاجة إذا أرادوا الإنفاق ومن الموت والقتل إذا نووا الجهاد، أو يعظّم لهم المشقة والعناء إذا همّوا بالحج والعمرة والزيارة ويزين لهم الحياة الدنيا ويمنيّهم بما تحبّ نفوسهم ونحو ذلك، قال تعالى:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ} (آل عمران:175) وقال تعالى {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} (البقرة:286) وقال تعالى {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} (النساء:120).

أو أن المراد بما بين أيديهم الآخرة فينسيهم ذكر الموت وأهواله وما بعده ويشككهم في الآخرة والنشور ونحو ذلك {إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} (الإنسان:27).

ويكون معنى {من خلفهم} أي ما خلّفوه في زمانهم الماضي فينسيهم المعاصي ويسوّف الاستغفار والتوبة ويهوّن عليهم ما ارتكبوه من المظالم. أو يخوفه على ما يترك خلفه من أموال وأولاد وأهل وموقع اجتماعي ليقعده عن الإقدام على الطاعة ويبخلّه عن العطاء، أو يجعل من الماضي وسيرة الآباء والتقاليد

ص: 20

الموروثة صنماً يعبده ويتبعه فيصده عن الهداية والصلاح.ومعنى (عن أيمانهم) أي من جهة دينهم، لأن اليمين من اليُمن والخير والقوة والسعادة، فيدخل في دينهم ما ليس منه ويغلّفه بالقداسة ويجعله هو الدين وإلا فالسقوط في الجحيم، أو يغريهم باتباع قيادات دينية تضلّهم وتقودهم إلى السعير، أو يدخلهم في صراعات وربما حروب تزهق فيها الأرواح وتهتك فيها الأعراض وتخرَّب الديار باسم الدين ونصرة الدين، أو يزيِّن لهم قتل الآخرين معنوياً بالتسقيط والافتراء والتشويه والتضليل تحت عنوان نصرة الحق وأهله وهكذا.

أما (عن شمائلهم) فالشمال عكس اليمين فيراد به تزيين المعاصي وتهييج الشهوات لدفعهم إلى ارتكاب الفحشاء أو المنكر واتباع الأهواء.

وبهذا الشكل من التصرّف في عواطف الإنسان وميوله وأهوائه وآماله وإثارة نزواته الشهوية والغضبية للتأثير على تفكيره وقراره وإلقاء الأوهام الباطلة عليه ومن ثم توجيه إرادته نحو الأفعال القبيحة وليس له سلطة أكثر من هذا {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} (إبراهيم:22)، وهكذا يصوّر لنا القرآن الكريم إحاطة الشيطان بابن آدم وغلقه لمنافذ الوعي والبصيرة وإيقاعه في الغفلة وحرصه على غوايته ويخبر الإنسان بذلك ليكون حذراً على الدوام وملتفتاً وواعياً.

وبهذا التفسير أورد الطبرسي رواية في مجمع البيان عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (في معنى الآية (من بين أيديهم) أهوّن عليهم أمر الآخرة (ومن خلفهم) أأمرهم بجمع الأموال ومنعها عن الحقوق لتبقى لورثتهم (وعن أيمانهم) أفسد عليهم أمر

ص: 21

دينهم بتزيين الضلالة وتحسين الشبهة (وعن شمائلهم) بتحبيب اللذات إليهم وتغليب الشهوات على عقولهم)(1). وفي تفسير علي بن إبراهيم في معنى الآية (أما (بين أيديهم) فهو من قبل الآخرة، لأُخْبِرَنَّهم أنه لا جنة ولا نار ولا نشور، وأما (خلفهم) يقول:من قبل دنياهم آمرهم بجمع الأموال وآمرهم أن لا يصلوا في أموالهم رحماً، ولا يعطوا منه حقاً، وآمرهم أن يقللوا على ذرياتهم وأخوفهم عليهم الضيعة، وأما (عن أيمانهم) يقول:من قبل دينهم، فإن كانوا على ضلالة زينتها لهم، وإن كانوا على هدى جهدت عليهم حتى أخرجهم منه، وأما (عن شمائلهم) يقول:من قبل اللذات والشهوات، يقول الله (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ))(2).

ثم يذكر النتيجة التي يريد إيصال بني آدم إليها ويتوقعها {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} بل كافرين بها أو مقصرين في أداء حقوقها، وقال:(أكثرهم) ولم يقل:(جميعهم) لأنه يعلم أنه لا قدرة له على المخلصين الذين عرفوا نعمة الله تعالى وفرّغوا أنفسهم لشكرها فلا نصيب لغير الله تعالى عندهم {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (ص:82-83) {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَ-ذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَ-ى يَ-وْمِ الْقِيَامَ-ةِ لأَحْتَنِكَ-نَّ ذُرِّيَّتَ-هُ إَلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء:62).

وبالجمع بين الآيات الدالة على أن كمال نعمة الدين وتمامها بولاية أهل4.

ص: 22


1- تفسير البرهان:4/ 60 عن مجمع البيان:4/ 623.
2- تفسير القمي:1/ 224.

البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} (المائدة:3) وما ورد في تفسير قوله تعالى:{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى:11) وان الشكر انما يكون على نعمة، وأفادت الآية محل البحث ان الناجين من مكائد الشيطان هم الشاكرون وما دلّ على أن الشكر الحقيقي هو بالثبات على اتباع أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وعدم الانقلاب عليهم كالذي حصل بعد وفاة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حين وصف عدم الانقلاب بالشكر {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران:144) نستنتج أن أرقى مصاديق الاستقامة على الصراط المستقيم والثبات عليه هو التمسك بولاية اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) واتباعهم في الاقوال والافعال لان ذلك حقيقة الشكر وخلاصته وان المعصومين من أهل بيت النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هم الدالون على الصراط المستقيم والحافظون له والذابون عنه، وقد دلّت على هذا المعنى روايات عديدة في كتب الفريقين كالمروي عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(آل محمد الصراط الذي دلّ الله عليه) وقول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(أنت الطريق الواضح والصراط المستقيم) و (لا يجوز أحد الصراط إلا بولاء علي)(1).لذا كان أشد ما يحرص عليه اللعين هو التخلص من اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فكان يغري السلطات بقتلهم وايذائهم ومحاصرتهم وإبعاد الناس عن أهل البيت

ص: 23


1- راجع مصادر هذه الأحاديث في تفسير الفرقان:10/ 343.

(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) واتباع منهجهم والأخذ بتعاليمهم، ففي الكافي والمحاسن للبرقي بسند صحيح عن زرارة قال:(قلتُ لأبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):قوله تعالى:{لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} فقال أبو جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):يا زرارة، إنما صمد لك ولأصحابك فأما الآخرون فقد فرغ منهم)(1) واللعين يكون أشد الخلق فرحاً حينما يقصى قانون أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) عن الحياة وتهمل أحكامهم وتنبذ أخلاقهم وسيرتهم.ولإبليس أعوان من شياطين الجن يقومون بنفس دوره ويساعدونه على تنفيذ ما يريد {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} (الأعراف:27) {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} (الكهف:50).

ولكن اللعين لا يكتفي بالغواية عن طريق التزيين النفسي الباطني لأنه يعلم أن الحسّيات أكثر تأثيراً على الإنسان فيحوّل بعض الناس إلى شياطين من الأنس بأدائهم نفس وظيفته فيتربصون بالناس ليقطعوا عليهم طريق الهداية والصلاح بشتى الوسائل الماكرة والمخادعة فبعضهم عن طريق الجنس وإثارة الشهوات وما أكثر القنوات ومواقع التواصل والصحف والمجلات التي تعمل بهذا الاتجاه، وبعض آخر عن طريق إثارة العصبيات الجاهلية والخلافات لجرّ الناس الى القتال والعنف والموت العبثي، وبعض عن طريق الفكر والثقافة الإلحادية المنحرفة، وبعض عن طريق الظلم والتسلط والقهر..، والقائمة تطول، فهؤلاء كلهم قطّاع8.

ص: 24


1- الكافي:8/ 145، المحاسن:171/ 138.

طرق الخير والسعادة والفلاح، وكلهم أدوات بيد إبليس ينفّذ بهم مآربه، ومن خطبة لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(اتخذهم إبليس مطايا ضلال، وجنداً يصول بهم على الناس، وتراجمة ينطق على ألسنتهم، استراقاً لعقولكم، ودخولاً في عيونكم، ونفثاً في أسماعكم، فجعلكم مرمى نبله، وموطئ قدمه، ومأخذ يده)(1).وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(اتخذوا الشيطان لأمرهم ملاكاً، واتخذهم له أشراكاً، فباض وفرّخ في صدورهم، ودبّ ودرج في جحورهم، فنظر بأعينهم، ونطق بألسنتهم، فركب بهم الزلل، وزيّن لهم الخطل، فعل من شركه الشيطان في سلطانه، ونطق بالباطل على لسانه)(2).

ومن نماذج شياطين الانس ما ورد في قوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في معاوية في كتاب أرسله إلى زياد بن أبيه وقد بلغه أن معاوية قد كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه (فاحذره فإنما هو الشيطان يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ليقتحم غفلته ويستلب غرته)(3).

ولعل أخفى قطّاع الطرق من يتحدثون باسم الدين ويتزيون بلباس أهل الدين ويحملون علوم الدين وهم يطلبون الدنيا الدنية بذلك وقد وصفتهم الاحاديث الشريفة صريحا بانهم قطّاع طرق الهداية والصلاح روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله:(أشرار علماء أمتنا المضلّون عنا، القاطعون للطرق إلينا)(4) وعن الإمام7.

ص: 25


1- نهج البلاغة، الخطبة 190.
2- نهج البلاغة:الخطبة 7.
3- نهج البلاغة، ج3، الرسالة 44، ص 69، قال الشريف الرضي:ومن كتاب له (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى زياد بن أبيه وقد بلغه أن معاوية كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه.
4- الاحتجاج:2/ 513، 337.

الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(أوحى الله تعالى إلى داوود (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):قل لعبادي:لا يجعلوا بيني وبينهم عالماً مفتوناً بالدنيا، فيصدّهم عن ذكري وعن طريق محبتي ومناجاتي، أولئك قطاع الطريق من عبادي، إنّ أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة محبتي ومناجاتي من قلوبهم)(1).ومن امثلتهم ابن ابي دؤاد قاضي قضاة الدولة العباسية في زمن المعتصم أي مفتي الدولة الذي اغرى المعتصم بقتل الامام الجواد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حسداً وغيظا عندما اخذ المعتصم بقول الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في موضع قطع يد السارق وترك اقوال فقهاء العامة في حادثة معروفة(2) .

ومن ذلك قول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(قصم ظهري عالم متهتك وجاهل متنسّك، فالجاهل يغشّ الناس بتنسّكه، والعالم ينفّرهم بتهتكه) وفي تكملة حديث مثله (فاتقوا الفاسق من العلماء والجاهل من المتعبدين، أولئك فتنة كل مفتون)(3).8.

ص: 26


1- تحف العقول:397.
2- أنظر: تفسير العياشي: 1/ 319
3- ميزان الحكمة:6/ 188.

القبس/40: سورة الأعراف:43

اشارة

{ألحَمدُ لِلَّهِ ألذِي هَدَىنَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهتَدِيَ لَولَا أَن هَدَىنَا ٱللَّهُ ۖ}

وبابك مفتوح للسائلين:

نعم الله تعالى على الانسان كثيرة لا تعد ولا تحصى قلما يلتفت اليها سواء كانت مادية او معنوية، ومن تلك النعم المعنوية إمكانية الاتصال بالله تعالى متى شئت فلا يغلق بابه على عباده مطلقاً، فان شئت أن تصلي قمت وتوضأت ودخلت في الصلاة، وكذلك إن شئت ان تصوم او تدعو او تسجد او تقرأ القرآن او تزور الائمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وغير ذلك ولا تحتاج في ذلك الى أي واسطة، هذه النعمة يذكرّنا بها الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الدعاء المعروف بدعاء ابي حمزة في ليالي شهر رمضان (الْحَمْدُ للهِ الَّذي اُناديهِ كُلَّما شِئْتُ لِحاجَتي، وَاَخْلُو بِهِ حَيْثُ شِئْتُ، لِسِرِّي بِغَيْرِ شَفيع فَيَقْضى لي حاجَتي)(1).

وفي نفس الدعاء يقول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اَلْحَمْدُ للهِ الَّذي اَدْعوُهُ فَيُجيبُني وَاِنْ كُنْت بَطيئاً حينَ يَدْعوُني، وَاَلْحَمْدُ للهِ الَّذي اَسْأَلُهُ فَيُعْطيني وَاِنْ كُنْتُ بَخيلاً حينَ يَسْتَقْرِضُني .. اَلْحَمْدُ للهِ الَّذي لا اَدْعُو غَيْرَهُ وَلَوْ دَعَوْتُ غَيْرَهُ لَمْ يَسْتَجِبْ لي دُعائي)(2).

هذه واحدة من صفات ربنا ومولانا وهكذا نحن بالمقابل، فنعم الرب ربنا

ص: 27


1- مفاتيح الجنان :219.
2- نفس المصدر.

ونسأله تعالى ان لا نكون بئس العبيد نحن.وقد تكرر هذا المعنى في كلمات الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، روى الاصمعي انه كان يطوف بالبيت الحرام فرأى شاباً متعلقاً بأستار الكعبة في جوف الليل وهو يدعو وكان من دعائه (نَامَتِ الْعُيُونُ، وَ غَارَتِ النُّجُومُ، وَ أَنْتَ الْمَلِكُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، غَلَّقَتِ الْمُلُوكُ أَبْوَابَهَا، وَ أَقَامَتْ عَلَيْهَا حُرَّاسَهَا، وَ بَابُكَ مَفْتُوحٌ لِلسَّائِلِينَ)(1).

كيف نعرف عظمة نعمة مناجاة الله تعالى؟

وإذا كانت الأمور تعرف بأضدادها فلكي تعرف عظمة هذه النعمة تصور لو انكم كنتم جماعة واتيتم للصلاة في المسجد فقيل للآخرين أدخلوا وقيل لك أنت ممنوع من الدخول، وأنت لست أهلاً للصلاة والدعاء والمناجاة، كم تكون حسرتك وفضيحتك وحياؤك، هذه الحالة التي يعبر عنها الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعائه (مالِي كُلَّما قُلْتُ قَدْ صَلُحَتْ سَرِيرَتِي وَقَرُبَ مِنْ مَجالِسِ التَّوّابِينَ مَجْلِسِي عَرَضَتْ لِي بَلِيَّةٌ أَزالَتْ قَدْمِي وَحالَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ خِدْمَتِكَ، سَيِّدِي لَعَلَّكَ عَنْ بابِكَ طَرَدْتَنِي وَعَنْ خِدْمَتِكَ نَحَّيْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي مُسْتَخِفا بِحَقَّكَ فَأَقْصَيْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأيْتَنِي مُعْرِضا عَنْكَ فَقَلَيْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ وَجَدْتَنِي فِي مَقامِ الكاذِبِينَ فَرَفَضْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي غَيْرَ شاكِرٍ لِنَعْمائِكَ فَحَرَمْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ فَقَدْتَنِي مِنْ مَجالِسِ العُلَماءِ فَخَذَلْتَنِي او ....)(2).

وكان الائمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) يعلّمون امتهم الخشية من حصول هذه الحالة لهم، روى الشيخ الصدوق بسنده عن مالك ابن انس امام المذهب المالكي قوله في

ص: 28


1- بحار الانوار :96/ 197 ح 11.
2- الصحيفة السجادية (ابطحي) / 222

الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ((وكان من عظماء العبّاد واكابر الزهّاد الذي يخشون الله عز وجل، ولقد حججت معه سنة فلما استوت به راحلته عند الاحرام كان كلما همّ بالتلبية انقطع الصوت في حلقه وكاد ان يخرَّ من راحلته فقلت:قل يا ابن رسول الله ولابد لك من ان تقول فقال:يا ابن ابي عامر كيف اجسر ان اقول لبيك اللهم لبيك واخشى ان يقول عز وجل لي لا لبيك ولا سعديك)) (1).هذه النعمة العظيمة يحسدنا عليها أبليس لأنه يعرف عظمتها وتشتد حسرته كلما رأى الطائعين لله تعالى لذلك يبذل كل وسعه لغواية بني آدم وسلب هذه النعمة منهم، روي عن أبي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(أحبّ الأعمال إلى الله عزّ وجلّ الصلاة، وهي آخر وصايا الأنبياء، فما أحسن الرجل يغتسل أو يتوضّأ فيسبغ الوضوء ثم يتنحّى حيث لا يراه أنيس فيشرف الله عليه وهو راكع أو ساجد، إنّ العبد إذا سجد فأطال السجود نادى إبليس:يا ويله، أطاعوا وعصيت، وسجدوا وأبيت)(2).

نماذج من عدم التوفيق لطاعة الله تعالى:

وهكذا كثير من الخلق غير موفقين لطاعة الله تبارك وتعالى حتى اليسير منها ويجدون كأن قيوداً وأغلالاً تُكبّلهم عن الطاعة، كبعض سادة قريش الذين كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يدعوهم الى النطق بالشهادتين ويقول لهم قولوا كلمة خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان فيقولون:(لو كلفّتنا بنقل الجبال عن موقعها فأنه أهون علينا من هذه الكلمات).

ص: 29


1- بحار الانوار :47/ 16 عن الخصال وعلل الشرائع وروضة الكافي.
2- وسائل الشيعة: 4/ 39.

وامثلة هؤلاء كثيرون كامرأة سافرة اثقل شيء عليها ان ترتدي الحجاب بينما الفاطميات الزينبيات يحرصن على تمام الحجاب والعفاف، او شخص لا يصلي يكون اثقل شيء عليه تذكيره بالصلاة او شخص متمّول يكره كل من يطلب منه اخراج حقوقه الشرعية بينما يبادر المؤمنون الموفقون الى دفع ما بذمتهم فورا ويزيدون.فأعرفوا هذه النعمة واشكروا الله تعالى الذي وفقكم لهذه الطاعات ولولا لطفه تبارك وتعالى لحرمنا منها كغيرنا، وهذا هو دعاء المؤمنين الفائزين يوم القيامة {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَ-ذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الأعراف:43).

ولاية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):

وخذ مثالاً اخر ما يعرض اليوم على الشاشات الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي وتقنيات المعلومات من الحجج البالغة والبراهين الواضحة على إمامة وولاية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأهل بيت النبي(صلى الله عليهم أجمعين) التي هي تمام نعمة الاسلام وكمال الدين ويتقين بصدقها كثيرون لكنه لا يتمكن من الايمان والاذعان ويحس بثقل الاقرار بالولاية على قلبه ويقول بعضهم لا أقولها حتى لو دخلت جهنم، بينما أنتم الموالون تكون هذه الشهادة عندكم أحلى من العسل وأمرأ من اللبن.

روى الكليني بسنده عن ابي بصير عن أبي عبد الله الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير هذه الآية قال:(إذا كان يوم القيامة دُعي بالنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبأمير المؤمنين

ص: 30

والأئمة من ولده فينصبون للناس، فإذا رأتهم شيعتهم (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا ان هدانا الله) يعني:هدانا الله في ولاية أمير المؤمنين والأئمة من ولده (عَلَيْهِ السَّلاَمُ))(1).وفي الاحتجاج للطبرسي في خطبة الغدير:(مَعاشِرَ النّاسِ .. سَلِّمُوا عَلى عَلِيٍّ بِإمْرَةِ الْمُؤْمِنينَ .. وَقُولُوا:الْحَمْدُ للهِ الَّذي هَدانا لِهذا وَما كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللهُ)(2).

ولم تكن هذه الهداية ممنوحة اعتباطاً لعبد وحرم منها اخر فأن ذلك كله ينافي عدالته ورحمته ولطفه، ولا هي بالاجبار والاكراه وإلا لبطل الثواب والعقاب ولما تقدم المحسن على المسئ وإنما هي بالاختيار والارادة لكن الله تعالى بلطفه يسّر أسباب الطاعة لعبده وآتاهُ الوسائل والأدوات التي تمكنه منها وزينها له وما على العبد إلا أن يختارها ويسعى اليها {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ، فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (الحجرات:7-8).1.

ص: 31


1- الكافي : 1/ 346 ح33.
2- الفرقان : 11/ 34 عن نور الثقلين :2/ 31.

القبس/41: سورة الأعراف:96

اشارة

{وَلَو أَنَّ أَهلَ ٱلقُرَى ءَامَنُواْ وَٱتَّقَواْ لَفَتَحنَا عَلَيهِم بَرَكَت}

موضوع القبس:الحل والعلاج في العودة إلى الله تبارك وتعالى

علة البلاء:

*موضوع القبس:الحل والعلاج في العودة إلى الله تبارك وتعالى(1)

من الحقائق التي بينها الله تبارك وتعالى من خلال القرآن الكريم لتثبيتها في قلوب وعقول المؤمنين أن ما يصيبهم من بلاء وعنت وضيق وشدة فإنما هي نتيجة أعمالهم السيئة {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير} (الشورى:30) {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}(النحل:34) {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}(النساء:79)، ويلفت أنظار المسلمين من أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهم في قمة المواجهة العسكرية مع مشركي قريش في معركة أحد أن هزيمتهم كانت بسبب عدم تهذيب أنفسهم فهذا هو السبب الحقيقي وليس الأسباب المادية {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} (آل عمران:155).

ص: 32


1- من النصائح والمواعظ التي كان يوجهها سماحة الشيخ (دام ظله) إلى الأمة من خلال أئمة الجمعة خلال فترة المواجهات المسلحة عام 2004.

الله تعالى يعلمنا طريق الحل:

وفي نفس الوقت يعلمنا الحل وسبيل النجاة من هذه المعاناة.

انه بالعودة إلى الله تبارك وتعالى والتضرع إليه والتوسل إليه تبارك وتعالى وتصفية القلوب مما فيها من غلٍّ وضغائن ورذائل كالحسد والعجب والكراهية والأنانية {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون ، أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ ، أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ ، أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ، أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} (الأعراف:96-100).

والمراد بالبأس هنا ليس الاستئصال كما كان يحصل للأمم السابقة على الإسلام، فإن مثل هذا العذاب قد رُفع عن هذه الأمة ببركة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، ولكن الأمة بقيت معرضة - بسوء تصرفها- لألوان أخرى من العذاب:نقص الثمرات، ووقوع الفتن والحروب بينهم فيذيق بعضهم بأس بعض، تداعي الأمم الأخرى عليهم لاستعبادهم، وهذه البلاءات كلها قد نزلت بالأمة والعياذ بالله. وقال تعالى {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}(الطلاق:2-3)، ويخاطب الأمم التي تتخبط في جهلها وغفلتها وبعدها عن الطريق الحقيقي {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} (سبأ:46) أي أن تلتفتوا إلى أنفسكم فتعودوا إلى الله تبارك وتعالى أفراداً وجماعات وتجأرون إلى الله بالدعاء والاستغاثة.

ص: 33

وهذا لا يعني أن هذا القيام لله تبارك وتعالى واللجوء إليه مختص بحال الاضطرار، إذ المطلوب أن يكون الإنسان في كل حالاته ذاكراً لله تعالى مستجيراً به طالباً منه التوفيق والتثبيت على الإيمان والزيادة من عمل الخير والتأييد، بل إنه سبحانه يعرض مستغرباً مثل هذا النموذج الذي لا يعرف الله إلا في أوقات الضيق والشدة كانقطاع السبل في البحر الهائج {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُون} (العنكبوت:65)، ولا يقصد الشرك الظاهري أي عبادة الأصنام ونحوها لأنه خلاف دعوتهم لله مخلصين، وإنما يريد الشرك الخفي أي الإعراض عن الله والالتجاء إلى الأسباب من دونه. ويضرب لنا مثلاً في قوم يونس فإنهم قد أحيطوا بعذاب، وظن نبيهم أنهم قد أُخذوا ولم تبق فرصة لنجاتهم، فغادر المدينة إلا أنهم عادوا إلى الله وخرجوا جميعاً مستغيثين بالله أن يرفع عنهم البلاء، فاستجاب الله تبارك وتعالى لهم ونجاهم {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (يونس:98).

وابتغوا إليه الوسيلة:

ولا يتم هذا الاتصال بالله تبارك وتعالى وينتج ثمراته إلا بولاية أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) والتوسل بهم إلى الله تبارك وتعالى وإدامة ذكرهم وإقامة شعائرهم والاستغاثة بالإمام القائم بالأمر (عج)، قال تعالى {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فإن

ص: 34

لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (طه:124) وقد ورد في الروايات(1) أن الذكر هي ولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فمن لم يتمسك بهم يكن في عيشة ضيقة تعيسة خالية من الإمدادات الروحية.وقد ورد عن الإمام الهادي في حق دعاء (يا من تُحَلُّ به عُقَدُ المكاره)(2) وهو من أدعية الصحيفة السجادية: (إن آل محمد (صلى الله عليهم أجمعين) يدعون بهذه الكلمات عند إشراف البلاء وظهور الأعداء وخوف الفقر وضيق الصدر وغيرها).

هكذا علمنا الله تبارك وتعالى وهكذا أدبنا أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فأين نحن من ذلك التأديب الذي يراد منه نفعنا وسعادتنا ؟

الانفعال والارتجالية:

أنا لا أنكر تقدم المستوى الإيماني لدى هذا الجيل بفضل الله تبارك وتعالى بشكل أذهل الأعداء وأصاب خططهم بالخيبة والخسران، إلا أنه مع الأسف في كثير من حالاته عبارة عن وهج عاطفي وحرارة متدفقة غير مقترن بوعي عميق وتربية راسخة للقلب والنفس، مما يجعل هذه الاندفاعة في مهب الريح - والعياذ بالله - إذا لم نتداركها بما يصلحها.

وإلا بماذا تفسر انتشار الافتراء والبهتان والتسقيط والتشويه بين المؤمنين بل أصبح شغل الكثير من أهل الغفلة هو ذم العلماء والمراجع والقدح فيهم وانتقادهم، ولا أدري من أين نال هؤلاء القيمومة على الآخرين ليعطوا لهم الحق

ص: 35


1- الكافي :1/ 361ح 92، تفسير البرهان:6/ 257
2- الصحيفة السجادية (أبطحي): 67/ دعاء:24

في تقييم أعمال المراجع والمفكرين ؟! ألم يسمعوا الحديث الشريف عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(المؤمن أعظم حرمة من الكعبة)(1)، فالاعتداء على سمعة المؤمن وكرامته وتشويه صورته اشد من الاعتداء على الكعبة، أو على العتبات الطاهرة للأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) - رغم أنها من الجرائم الشنيعة- فهل التفت المؤمنون إلى هذه الكبائر التي تورطوا فيها، وعميت بصائرهم عن رؤيتها حتى تنشر صحائف أعمالهم أمام الحكم العدل {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (قّ:22).

هل غضبنا لله تعالى أم لأنفسنا؟

وهل غضبوا لانتهاك حرمات المؤمنين أم على العكس إنهم خاضوا في هذه الكبائر وشربوا كأسها حتى الثمالة، حتى أن بعض أئمة الجمعات استغلوا هذا الموقع الإلهي الذي يعبر عنه الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اللهم إن هذا مقام أوليائك وخلفائك)(2) استغلوه للمهاترات الكلامية وتصفية الحسابات الشخصية ولانتقاد العلماء.

التربية الى نصف الطريق:

عن هذا النقص في تربية المشتغلين بالعمل الاجتماعي الإسلامي والأسف من عدم اكتمال التربية قال الشهيد السيد محمد باقر الصدر رائد الحركة الإسلامية

ص: 36


1- بحار الأنوار :ج 64 /ص71/ح35
2- الصحيفة السجادية (أبطحي): 351/ دعاء:150.

في العراق(1)، ((إننا استطعنا أن نربي الآخرين إلى نصف الطريق)) وعلق عليه الشهيد السيد محمد الصدر (قده): ((ولم يقل إلى نهايته لأنه لو كان الأمر كذلك لما حصل أي شيء من تلك النتائج. ولو كان أولئك المتدينون قد أصلحوا أنفسهم قبل إصلاح الآخرين، وما رسوا المقدمات المنتجة لصفاء النفس ونور القلب وعمق الإخلاص وقوة الإرادة وعفة الضمير لما عانوا ما عانوا، بل ولعلهم لم يحتاجوا في الحكمة الإلهية إلى كل هذا البلاء الذي وقع عليهم، وإنما كانوا مع شديد الأسف مصداقاً لقوله تعالى {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} (محمد:38) ولم يكونوا مصداقاً لقوله تعالى {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج:41)، وليس ذلك إلا لان الأفراد التامين من جميع الجهات والأوصاف الجامعين للشرائط عددهم قليل، وأقل من الحاجة بكثير)).

المعركة الكبرى:

أيها الإخوة والأخوات زادهم الله بصيرة:

إننا مطالبون بمحاربة الشياطين في أنفسنا الأمارة بالسوء قبل كل شيء، ومهما تعاظمت شياطين الجن والأنس فإنها دون هذا العدو الأكبر الذي وصفه

ص: 37


1- من بحث بعنوان (التربية الدينية) كتبه السيد الشهيد الصدر الثاني أيام إقامته الجبرية في الثمانينات وهو مخطوط محفوظ عندي، ونشر ضمن سلسلة (ما لم ينشر من تراث السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره)).

الحديث الشريف (أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك)(1)، بل إن كل شياطين الإنس هي ثمرة هذا الشيطان ولو أصلحنا ما في نفوسنا لم يبق شيء من تلك الشياطين، لذا سمى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) جهاد النفس بالجهاد الأكبر(2) ومعناه أن العدو في هذا الجهاد هو العدو الأكبر. وجهاد الأعداء الآخرين مهما تفرعنوا بالأصغر.

النصر الحقيقي:

إن نصرنا الحقيقي حينما نستطيع سحق أهوائنا وأنانياتنا ونزيل الغل والحقد والكراهية وحب الدنيا بكل أشكالها (وأخطرها حب الرئاسة والتسلط وتصفيق الجماهير) والحسد والرياء والعجب والتكبر والعنجهية والاستعلاء وغيرها من الرذائل، ونملأ قلوبنا بالحب والرحمة والشفقة والعفو والصفح والتآلف والمودة والصبر وكظم الغيظ وغيرها من الفضائل.

هذه هي وصايا أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وهذه تربيتهم، حتى حينما كان يظن شيعتهم أن الفرصة قد حانت وان الثمرة قد آن قطافها، كانوا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) دائماً يذهبون في الاتجاه الآخر غير الذي يفكر به الآخرون مهما قربوا من الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وهو اتجاه محاسبة النفس ومراقبتها وعرضها على الميزان الذي نصبه أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، وأقرأ كشواهد على ذلك(3) أقوال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لمن عرضوا عليه النصرة وتسليم مفاتيح السلطة بعد القضاء على الأمويين، ونصائح الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) للذين خرجوا لاستقباله على طول الطريق من المدينة المنورة إلى مرو.

ص: 38


1- مستدرك سفينة البحار- النمازي: 10/ 114
2- وسائل الشيعة: 15/ 161/ح1
3- راجع كتاب دور الأئمة في الحياة الإسلامية

ابتعادنا عن أدب السلف الصالح:

إننا ضيعنا حتى الحد الأدنى من ذكر الله تعالى وهو الالتجاء إليه عند الاضطرار، فها هو البلاء يحيق بنا والأعداء يتربصون بنا ولا أجد المؤمنين يعقدون مجالس الدعاء والتوجه إلى الله تعالى والاستغاثة بالمعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) والتوسل إلى صاحب الأمر (عج) كي يتولانا برعايته مع عدم الإخلال بالواجبات الأخرى طبعاً، يروي لنا سلفنا انه إذا مر بهم بلاء اجتمعوا في المساجد والحسينيات للدعاء ولذكر مصائب أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وزيارتهم، وكان طلبة العلم في النجف يتوجهون مشياً على الأقدام إلى مسجد السهلة مستغيثين بالإمام المهدي (عج) أو كربلاء لزيارة الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أو أي مسجد جامع لأبناء المدينة فيرفع الله عنهم البلاء، كما فعل بقوم يونس، بل ما حصل لنفس النبي يونس (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فانه لما نادى {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنبياء:87) جاءه الغوث والخلاص {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} (الأنبياء:88) وقال تعالى {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (الصافات:143 - 144).

لذا يبين الإمام المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) امتعاضه من شيعته لأجل هذه الغفلة عن الله تعالى وعن أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في كثير من اللقاءات معه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ومنها قصة السيد الرشتي المذكورة في مفاتيح الجنان لما ضلَّ الطريق في ظروف صعبة قال له موبخاً لماذا تتركون زيارة عاشوراء والنافلة وزيارة الجامعة الكبيرة(1).

هذا هو الحل وهذا هو طريق النجاة أن نقوم لله تعالى مثنى وفرادى متآلفين

ص: 39


1- تفصيل الكلام في كتاب (شكوى الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)).

ومتحابين أنقياء القلوب أصفياء النفوس ونعمل بوصايا المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ونتأدب بأدبهم ونترك التعصب والتشنج والتطرف والأنانية وحب الدنيا.{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصلاح مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود:88).

والحمد لله رب العالمين

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 40

القبس/42: سورة الأعراف:156

اشارة

{وَٱكتُب لَنَا فِي هَذِهِ ٱلدُّنيَا حَسَنَة وَفِي ٱلأخِرَةِ إِنَّا هُدنَا إِلَيكَ ۚ}

موضوع القبس:التوسل بالأعمال الصالحة لاستجابة الدعاء

قصّة في تأثير العمل الصالح:

هذا من تمام كلام النبي الكريم موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الذي ورد في الاية السابقة .

والهود لغة:الرجوع برفق ومنه التهويدة وهو مشي الدبيب وصار الهود في التعارف التوبة، قال تعالى {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} أي تبنا، قال الراغب وهو الدعاء(1) وطلب من الله تعالى ان يكتب لهم أي يثبت لهم في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة، وهو الدعاء الذي ذكره الله تعالى في آية أخرى {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} (البقرة:201).

ويمكن ان نفهّم من الدعاء المذكور انه يجعل توبتهم ورجوعهم الى ربهم - باعتباره عملا صالحاً يحبّه الله تبارك وتعالى - سبباّ ووسيلة لنيل هذا الجزاء منه تبارك وتعالى، وهذا هو الدرس الذي نريد ان نقتبسه من هذا الجزء من الاية الكريمة، ان من وسائل استجابة الدعاء الى الله تبارك وتعالى بعمل صالح مخلص يحبه الله تعالى وفقه الله تعالى اليه {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ

ص: 41


1- مفردات غريب القرآن- الأصفهاني:546

حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (الطلاق:2 -3) .روت عدة مصادر من الشيعة والسنة عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) انه قال (بينما ثلاثة رهط يتماشون أخذهم المطر فآووا إلى غار في جبل، فبينما هم فيه انحطت صخرة فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض:انظروا أفضل أعمال عملتموها فسلوه بها - وفي مصدر آخر: تذكرون احسن اعمالكم فادعوا الله عز وجل بها وفي مصدر ثالث: انظروا اعمالا عملتموها صالحة لله - لعله يفرج عنكم .

قال أحدهم:اللهم إنه كان لي والدان كبيران وكانت لي امرأة وأولاد صغار فكنت أرعى عليهم، فإذا أرحت عليهم غنمي بدأت بوالدي فسقيتهما، فلم آت حتى نام أبواي فطيبت الاناء ثم حلبت، ثم قمت بحلابي عند رأس أبوي والصبية ينضاعون عند رجلي، أكره أن أبدأ بهم قبل أبوي، وأكره أن أوقظهما من نومهما، فلم أزل كذلك حتى أضاء الفجر اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فرجة نرى منها السماء، ففرج لهم فرجة فرأوا منها السماء.

وقال الآخر:اللهم إنه كانت لي بنت عم فأحببتها حبا كانت أعز الناس إلي، فسألتها نفسها، فقالت: لا حتى تأتيني بمائة دينار، فسعيت حتى جمعت مائة دينار فأتيتها بها، فلما كنت بين رجليها قالت:اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فيها فرجة، ففرج الله لهم فيها فرجة.

وقال الثالث: اللهم إني كنت استأجرت أجيرا بفرق ذرة، فلما قضى عمله عرضت عليه فأبى أن يأخذها ورغب عنه، فلم أزل أعتمل به حتى جمعت منه بقرا ورعاتها، فجاءني وقال: اتق الله وأعطني حقي ولا تظلمني، فقلت له:اذهب إلى

ص: 42

تلك البقر ورعاتها فخذها فذهب واستاقها، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا مابقي منها ففرج الله عنهم فخرجوا يتماشون)(1).

الدروس والعبر:

أقول:يمكن استخلاص عدة دروس وعبر من هذه الحكاية:

1-إن هذه الحادثة وأمثالها تولّد الاطمئنان القلبي العملي بجملة من الاعتقادات التي نؤمن بها نظرياً لكننا عملياً لا نذعن بها ولا نتوجه اليها، والإيمان النظري لا يكفي ليكون محرّكاً عملياً حتى يطمئن القلب بها وذلك عندما تقع عملياً من باب {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}.

فهذه الواقعة ترسّخ عدة عقائد:

(منها) عقيدة ان الله على كل شيء قدير فكم واحد منا يقع في مثل المأزق وهو مطمئن الى ان الله تعالى قادر على أن يزيل هذه الصخرة بمجرد تعلق إرادته بذلك (كن فيكون) أما عامة الناس فانهم يعتقدون باستحالة ذلك لاحتياج الأمر الى أجهزة وآليات لرفع الصخرة وعمال من أين نأتي بهم وهكذا، لكن الحقيقة إن ارادة الله تعالى إذا تعلقت بإزالتها استجابة لدعاء هؤلاء فأنها تزول، ولا نستكثر ذلك على الخالق المقتدر فنحن البشر المخلوقون الضعفاء إذا تعلقت إرادتنا بأن نقفز يرتفع الجسد الذي قد يزيد وزنه عن 100 كغم مباشرة من دون أي مؤثر خارجي سوى الارادة، فلماذا لا يتحقق كل ما تتعلق به ارادة الله تعالى وبيده كل

ص: 43


1- بحار الانوار :14/ 421 عن آمالي الشيخ الطوسي :408، ورواها الطبراني في كتاب الدعاء الحديث 178 بسنده عن علي ابن ابي طالب(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واخرجه البخاري في باب (التوسل بالأعمال الصالحة عند الدعاء).

شيء وكل شيء خاضع له {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(يس:82).و(منها) عقيدة إن مع العسر يسرا وهذا ما حصل لهم بالصبر والدعاء والتوسل.

و(منها) إن {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} وقد جعل الله تعالى لهم مخرجاً بتقواهم.

و(منها) ان الله عند حسن ظن عبده إذا أحسن الظن، روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال (وَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لَا يَحْسُنُ ظَنُّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ بِاللَّهِ إِلَّا كَانَ اللَّهُ عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، لِأَنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ بِيَدِهِ الْخَيْرَاتُ يَسْتَحْيِي أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ الْمُؤْمِنُ قَدْ أَحْسَنَ بِهِ الظَّنَّ ثُمَّ يُخْلِفَ ظَنَّهُ وَ رَجَاءَهُ، فَأَحْسِنُوا بِاللَّهِ الظَّنَّ وَ ارْغَبُوا إِلَيْهِ)(1)، فالرواية تدعونا الى حسن الظن دائماً ورجاء الخير من الله تبارك وتعالى وسيحقق الله تعالى ذلك لعباده.

2-حسن أدب هؤلاء الثلاثة مع ربهم وصحة عبوديتهم ومعرفتهم بالله تبارك وتعالى، إذ أنهم مضافاً إلى ما حملوه من المعرفة بالله تبارك وتعالى التي ذكرناها في النقطة الأولى لم يقدّموا بين يدي ربهم أي عمل يمنّون به على الله تبارك وتعالى ولا طالبوا باستحقاق لهم عند ربهم ولم يزكّوا أنفسهم وأعمالهم {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} (النساء:49) وغاية ما قالوا (اللَّهُمَّ إنَّك إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ)، ومن معرفتهم التفاتهم4.

ص: 44


1- بحار الأنوار:70/ 366 ح14.

الى هذه الوسيلة للفرج والوصول الى المراد.3-إن من أسباب استجابة الدعاء التوسل إلى الله تبارك وتعالى والتقرب اليه بعمل صالح قد أحسنه وأخلص النية فيه من دون اتكال على العمل أو العجب به أو الجزم بصلاحه واستحقاقه للعطاء فإن هذه كلها محبطات للعمل ومن دون اقتراح على الله تبارك وتعالى ولكن من باب التقرب إلى الله تعالى بشيء يحبّه.

فالأول توسّل الى الله تعالى بالإحسان الى والديه والآية تقول {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (البقرة:195) خصوصاً مع الوصية المؤكدة بالوالدين {وبالوالدين إحساناً}.

والثاني توسل الى الله تعالى بعمل المتقين الورعين والآية تقول {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (التوبة:4).

والثالث طهر نفسه من مظالم العباد وحقوقهم عنده وتاب الى الله تعالى توبة صادقة، والله تعالى يقول {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (البقرة:222).

من أراد نفع الدنيا ليخلص عمله:

وهذا أحد تطبيقات قول الصديقة الزهراء (س) (من أصعد إلى الله خالص عبادته أهبط الله عز وجل له أفضل مصلحته)(1) فمن رغب أن يختار الله تعالى له أفضل الخيارات وأصلحها له وأكثرها نفعاً في الدنيا والآخرة فليبالغ في إخلاص عمله من الشوائب.

ص: 45


1- ميزان الحكمة :ج 2 /ص 882

وقد جرّبت ذلك في حياتي فإن بعض الذي أعرف لهم أعمالاً صالحة أحسنوا فيها للآخرين وقعوا في شدة أو بلاء أو حاجة فسألت الله تبارك وتعالى بما أعرف عنهم من تلك الأعمال ففرّج الله تعالى عنهم وقضى حوائجهم ببركة إحسانهم.إن اتخاذ هذه المقدمة كوسيلة لاستجابة الدعاء من الآداب القرآنية كقوله تعالى {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَ-ذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَ-ا إِلَيْكَ} (الأعراف:156) والله تعالى يحب التوابين فجعلوا الرجوع الى الله تعالى والتوبة اليه مقدمة للدعاء.

ومنها الآيتان 193-53 من سورة آل عمران {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَار} (آل عمران:193) {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (آل عمران:53).

وورد هذا المعنى في الأدعية المباركة مثل (اللهم إنّي أطعتك في أحب الأشياء اليك وهو التوحيد ولم أعصك في ابغض الاشياء اليك وهو الشرك فاغفر لي ما بينهما)(1) وهنا تصريح بالتوسل بأحب شيء الى الله تبارك وتعالى.

والخلاصة أن علينا أن نحسن في اعمالنا ونخلصها الى الله تبارك وتعالى لنحظى بحبّه وقبوله وتكون سبباً لاستجابة الدعاء إن شاء الله تعالى.61

ص: 46


1- المصباح- الكفعمي: 291,- مفاتيح الجنان: 161

القبس/43: سورة الأعراف:156

اشارة

{وَرَحمَتِي وَسِعَت كُلَّ شَيء ۚ}

موضوع القبس:موجبات الرحمة الإلهية

سعة الرحمة الإلهية:

ورد في الدعاء الشريف (اللهم إني أسألك موجبات رحمتك)(1) وطلب الرحمة أمر طبيعي لأنه لا نجاة ولا توفيق إلا برحمة الله تعالى، عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (لن يدخل الجنة أحد إلا برحمة الله، قالوا:ولا أنت؟ قال:ولا أنا إلا أن يتغمدني)(2).

فما هي موجبات الرحمة الإلهية؟ وهل تحتاج الرحمة الإلهية إلى موجبات وأسباب وقد وسعت كل شيء؟

في الحديث الشريف عن الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (لا يهلك مؤمن بين ثلاث خصال:شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وشفاعة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وسعة رحمة الله عز وجل)(3).

(وقيل له (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوماً أن الحسن البصري قال:ليس العجب ممن هلك كيف هلك، وإنما العجب ممن نجا كيف نجا، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):أنا أقول ليس العجب ممن

ص: 47


1- البحار:ج83 ص63.
2- كنز العمال- المتقي الهندي:4/ 254/ح10407
3- بحار الأنوار:78/ 159.

نجا كيف نجا، وإنما العجب ممن هلك كيف هلك مع سعة رحمة الله)(1).وتصديق هذا في كتاب الله تعالى فإن السؤال يوم القيامة لا يكون عن الناجين كيف نجوا، وإنما {عَنِ الْمُجْرِمِينَ ، مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} (المدثر:41-42).

وقد أشارت عدة آيات كريمة إلى سعة رحمة الله تبارك وتعالى، قال عز من قائل {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَ-اةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:156).

وقال تعالى {ربَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} (غافر:7).

مثال في الرحمة الإلهية:

ويقرّب لنا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سعة رحمة الله تعالى بقوله (إنّ لله تعالى مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخّر الله تعالى تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة)(2) فتصوروا سعة رحمة الله تعالى التي كتبها على نفسه وألزم تبارك وتعالى نفسه بها، قال تعالى {قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (الأنعام:12) وقال تعالى {وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن

ص: 48


1- المصدر:78/ 153.
2- كنز العمال:ج4 ص249، ح10382.

عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنعام:54) بل إن الله تعالى إنما خلق الخلق ليرحمهم بأن يجعلهم أمة واحدة متفقة على التوحيد، قال تعالى {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ، إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود 118-119).

الرحمة العامة والخاصة:

ولكن - اعلموا أيها الأحبة- أن لله تبارك وتعالى رحمة عامة لكل مخلوقاته وهي التي أشير إليها في موارد كثيرة كما في أدعية رجب (يا من يعطي من سأله، يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنناً منه ورحمة)(1)، وفي دعاء آخر (ورزقك مبسوط لمن عصاك، وحلمك معترض لمن ناواك، عادتك الإحسان إلى المسيئين وسبيلك الإبقاء على المعتدين)(2) فجميع خلقه حتى الذين يبارزونه بالمعصية والإنكار يرفلون بنعمه التي لا تعد ولا تحصى.

وهناك رحمة خاصة يمنُّ بها على عباده المؤمنين الذين عرفوه ودلّهم عليه بفضله وكرمه وهداهم إلى طاعته فراحوا يتحروّن رضاه، وهي التي أشير إليها في الحديث النبوي الشريف (اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرّضوا لنفحات الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (تعرّضوا لرحمة الله بما أمركم به من طاعته)(3) والتعرض لها يعني التعرض لأسبابها وموجباتها،

ص: 49


1- إقبال الأعمال:ج3 ص211.
2- السابق:ص210.
3- تنبيه الخواطر :ج2 ص120.

كما في الدعاء (اللهم إني أسألك موجبات رحمتك) (1).

تعرضوا لرحمة الله تعالى:

وقد ورد في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة ذكر الكثير من هذه الموجبات للرحمة الإلهية، فنحن لا يمكن أن نعرفها ونهتدي إليها إلا أن يهدينا الله تبارك وتعالى {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَ-ذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ} (الأعراف:43).

وبعض هذه الأسباب لا يكون الإنسان مسؤولاً عن توفيرها وإنما جعلها الله بكرمه وفضله وليس على العاقل الكيِّس إلا استثمارها والتعرض لها كالأضرحة المقدسة للمعصومين (سلام الله عليهم) وقد حبانا الله تعالى نحن العراقيين بالعديد من أبواب الرحمة هذه، ومنها عموم المساجد، ومنها صلاة الجمعة والجماعة وحلقات العلم والمذاكرة، وعموم التجمعات الإيمانية، والأزمنة الشريفة كليلة الجمعة ويومها، ومنها هذا الشهر الشريف:شهر رجب الذي لقب في الأحاديث الشريفة بالأصّب لأن الرحمة تُصبّ فيه صبّاً.

ما تستدر به الرحمة الإلهية:

ومن أسباب الرحمة الإلهية ما يوفرها الإنسان بفضل الله تبارك وتعالى، وقد وجدت من أهل تلك الموجبات الاتصاف بالرحمة بحيث تكون محركة لأفعاله ومنبعاً لمشاعره وتبنى عليها علاقاته مع الآخرين من خلال الرحمة بهم والشفقة عليهم والرفق بهم ومداراتهم والتفاعل مع قضاياهم وحوائجهم عن أمير

ص: 50


1- البحار:ج83 ص63.

المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(أبلغ ما تُستّدر به الرحمة أن تضمر لجميع الناس الرحمة)(1)، لأن الرحمة من صفات الله تبارك وتعالى، وقد وصف الله عباده الذين رضي عنهم بأنهم {رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} (الفتح:29) {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} (البلد:17) {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} (الحديد:27) وقال تعالى {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} (الأعراف:56).وفي الأحاديث الشريفة عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (من لا يرحم لا يُرحم)(2) (إنما يرحم الله من عباده الرحماء)(3) (من رحم ولو ذبيحة عصفور رحمه الله)(4) (الراحمون يرحمهم الرحمن يوم القيامة، أرحم من في الأرض يرحمك من في السماء)(5) (قال رجل للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):أحب أن يرحمني ربّي قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):ارحم نفسك وارحم خلق الله يرحمك الله)(6).

والرحمة بالآخرين تبدأ من رحمة نفسه بأن يجنبّها ما يضرّها في الدنيا ككثير من الحماقات والأفعال اللاعقلائية كالتدخين وصرف الأموال الطائلة في اللهو والعبث، وما يضرّها في الآخرة كارتكاب المعاصي والعياذ بالله وصرف العمر في التفاهات وعدم التفقه في أمور الدين والمعرفة الضرورية.8.

ص: 51


1- ميزان الحكمة:ج2 /ص1050.
2- الوسائل:ج4 /ص197.
3- البحار:ج79 /ص91.
4- كنز العمال:ج6 /ص263.
5- البحار:ج74 /ص167.
6- كنز العمال:ج16 /ص128.

ثم تتوسع الرحمة إلى من يليه في بيته كوالديه، قال تعالى {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} (الإسراء 23-24).ثم الرحمة بالزوجة والزوج بالنسبة للمرأة، قال تعالى ممتناً على عباده {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم:21) وورد في الحديث الشريف (اتقوا الله في الضعيفين اليتيم والمرأة)(1) ثم الرحمة بالأقرباء وقد اشتق لهم اسم من الرحمة فيقال لهم الأرحام والأوامر في صلة الرحم كثيرة والنواهي عن قطعه شديدة.

ثم الرحمة بالآخرين خصوصاً إذا كانوا من ذوي الحاجة والمرضى والفقراء والمبتلين ببلاء ما، وهكذا حتى يمتلئ قلبه رحمة وشفقة على كل الموجودات، ومنبع هذه الرحمات كلها تقوى الله تبارك وتعالى وحب الله تبارك وتعالى، فالتقوى تردعه عن ظلم الآخرين والإساءة إليهم والتقصير في أداء حقوقهم وحب الله يترشح منه حب الخير لجميع الخلق حتى أعدائه بأن يسأل الله تعالى لهم الصلاح والهدى لأن الجميع عيال الله تبارك وتعالى، وخلقه فيحبهم حباً لخالقهم وربّهم ومدبر شؤونهم (وقد ورد في الحديث: (الخلق عيال الله تعالى فأحب الخلق إلى الله من نفع عيال الله, أو أدخل على أهل بيت سروراً...)(2) وفي حديث73

ص: 52


1- البحار:ج76 /ص268.
2- بحار الأنوار- المجلسي: 71/ 316/ح73

آخر عن الإمام الكاظم عن مثل هذا الشخص أنه معنا في درجتنا.

كالوالد الرحيم:

وكلما ازدادت ساحة مسؤولية الفرد، ازداد مقدار الرحمة الواجب توفرها، سواء كانت المسؤولية دينية - كالمرجعية الدينية ومعتمديها- أو سياسية - ككبار مسؤولي الدولة- أو اجتماعية - كزعماء العشائر أو وجهاء المجتمع- أو إدارية - كمدير الدائرة أو المدرسة- أو تعليمية- كالمدرس مع طلبته- في كتاب الخصال بسنده عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن أبيه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إن الإمامة لا تصلح إلا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن المحارم، وحلم يملك به غضبه، وحسن الخلافة على من وُلّيَ حتى يكون له كالوالد الرحيم)(1) والحديث مطلق يشمل أي إمامة ورئاسة وزعامة مما ذكرنا.

من موجبات الرحمة:

وللرحمة الإلهية موجبات أخرى، وهي كثيرة نذكر منها شيئاً مختصراً لإلفات نظركم.

منها:طاعة الله ورسوله قال تعالى {وَأَطِيعُ-واْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (آل عمران:132) وقال تعالى {وَأَقِيمُوا الصَّ-لاةَ وَآتُ-وا الزَّكَ-اةَ وَأَطِيعُ-وا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (النور:56) وقال تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} (النساء:175).

ص: 53


1- الكافي:ج1 /ص407.

ومنها:الصبر على المصائب قال تعالى {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّ-ا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ، أُولَ-ئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَ-ئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة:156-157).ومنها:الاستغفار قال تعالى {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (النمل:46).

ومنها:الإصلاح بين الإخوة المتخاصمين، قال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(الحجرات:10).

ومنها:ما ورد في الأحاديث الكثيرة من قولهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) رحم الله امرءاً كذا وكذا، كقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(رحم الله امرءاً أحيا حقاً وأمات باطلاً، وأدحض الجور وأقام العدل)(1) وقوله (رحم الله امرءاً علم أن نفسه خطاه إلى أجله فبادر عمله وقصّر أمله)(2).

ومنها:ما عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)أنه قال (سبعة يُظلهم الله عز وجل في ظله يوم لا ظلّ إلا ظلُّه:إمام عادل، وشابٌ نشأ في عبادة الله عز وجل، ورجل قلبه متعلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان كانا في طاعة الله عز وجل فاجتمعا على ذلك وتفرّقا، ورجل ذكر الله عز وجل خالياً ففاضت عيناه من خشية الله عز وجل، ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال، فقال:إني أخاف الله عز وجل، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى52

ص: 54


1- الواسطي :ص261
2- ميزان الحكمة :ج 2 /ص 1052

لا تعلم شماله ما يتصدق بيمينه)(1).نسأل الله تعالى أن يتغمدنا برحمته في الدنيا والآخرة وأن يوفقنا لموجبات رحمته إنه لطيف بعباده.42

ص: 55


1- الخصال للصدوق:2/ 342

القبس/44: سورة الأعراف:157

{ويَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}

يبيّن هذا المقطع من الآية مظهراً من مظاهر الرحمة الالهية وصفة من صفات النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وغرضاً من إرساله بهذه الشريعة السمحاء {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج:78) و(الإصر) الشد الوثيق لذا توصف علاقة الأرحام بالآصرة واستُعْمِلَ المصطلح في الكيمياء فيُقال (الآصرة الأيونية والآصرة التساهمية) ويُطلق على العهد والميثاق بالإصْر لأنه يشدّ صاحبه الى الالتزام به قال تعالى:{أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} (آل عمران:81) ولما كان الشد الوثيق يشكّل عبئاً ثقيلاً ومشقةً على صاحبه اُطلِق الإصر على الحِملِ الشاق وما يحبس الشيء ويمنعه بالقوة، فالإصر هنا في الآية ما يثبّط الناس عن فعل الخيرات ويمنع من تحصيلهم الثواب.

و(الأغلال) بمعنى القيود كما هو واضح، والمقصود بها هنا الأغلال المعنوية والعملية التي يشق عليهم تحملها والالتزام بها, وتعيق سعيهم لنيل السعادة والفلاح.

فيكون معنى الآية ان الهدف من الشريعة الالهية التي جاء بها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هو رفع وإزالة هذه الآصار والأغلال عن الناس ليعيشوا السماحة واليسر في حياتهم وليكونوا أحراراً في دنياهم غير مُكبلّين بالقيود التي تعيق حركتهم نحو الكمال والسعادة والفلاح ببركة إرسال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الى هذه الامة المرحومة .

ص: 56

ويمكن ان نفهم عدة أشكال لهذه الأعباء والأغلال والمعوّقات التي بُعث النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالشريعة الاسلامية لرفعها ووضعها عن الأمة:1-أنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ألغى من حياتهم التشريعات الشاقة التي كتبت على الامم السابقة عقوبة لهم أو أنهم ابتدعوها من عندهم كاشتراط قتل النفس لصحة التوبة {فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} (البقرة:54) أو قطع الاعضاء التي تقع في الخطيئة أو قرض موضع النجاسة من البدن والثوب أو صوم الوصال ونحو ذلك، هذه التي جمعها قوله تعالى:{رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} (البقرة:286) او الرهبنة والانعزال {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} (الحديد:27).

2-أنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حررهم من كل القيود والأغلال العقائدية والفكرية والنفسية والاجتماعية التي تصيب بصيرته بالغشاوة وتضرب على عقله بالقيود فيعمى عن رؤية الحق وتُكبّل إرادة الناس وتعيق حركة الاصلاح لأننا بعد ان عرفنا معنى الإصر والأغلال وأنها ما يمنع الناس عن الترقي والكمال فإذا هي تشمل كل ما يعيق هذه الحركة سواء كانت قيوداً للفكر أو السلوك أو الاعتقاد أو التعامل مع الآخرين وغير ذلك، فمن الأغلال العقائدية:الشرك والكفر والإلحاد والوثنية، ومن الاغلال الفكرية:الجهل والغفلة والتخلف والخرافة، ومن الأغلال الاجتماعية:الطبقية والتمييز والاستكبار والاستضعاف والاستعباد والفقر والظلم والحرمان والموروثات والتقاليد البالية التي تكون حجر عثرة في طريق الاصلاح، ومن الأغلال النفسية الحقد والكراهية والغرور والأنانية والتعصب سواء كان لأشخاص أو عشائر أو فِرَقْ أو أحزاب أو قوميات أو طوائف أو حتى مرجعيات

ص: 57

دينية, لأنها هذه كلها وغيرها مما يصدّ عن الحق ويضع غشاوة على بصيرته ويفسد فطرته ويعيق حركة التكامل ويمنع الانسان من اختيار الطريق الصحيح بحرية وارادة وموضوعية، وكيف يستطيع من كُبِّل بواحد أو أكثر من هذه القيود أن يصل الى الحق ويتعرف عليه فضلاً عن التوفيق للعمل به لذا ورد في الدعاء (اللهم أرني الحق حقا حتى أتبعه)(1) .3-إن المراد بالآصار والأغلال:الصعوبات والبلاءات التي تُصيب الانسان، فوضعها عن المسلمين يُراد منه أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بيّن لهم الوسيلة التي تحميهم وتجنبُهم من هذه البلاءات والكوارث التي تصيب الناس عندما ينغمسون في المعاصي ويتمردون على السنن الإلهية {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (الشورى:30) فمن الرحمة الالهية التي جاء بها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للبشرية أنه علمهم كيف يخلصون أنفسهم ومجتمعاتهم من هذه البلاءات {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (يونس98).

وقد اعترف الغرب اليوم بعد عجزه عن إيقاف تمدد الأمراض الفتاكة كالإيدز وامثاله والصراعات التي تهلك الحرث والنسل بان العلاج الناجح الوحيد هو بالعودة الى الإيمان بالله والقيم الروحية والمبادئ الانسانية.

ومضافا الى ما تقدم من الوجوه ومستويات الفهم فأننا نستطيع ان نستخلص عدة دلالات من هذه الفقرة القرآنية:0.

ص: 58


1- إعانة الطالبين- البكري الدمياطي: 1/ 215، وفي بحار الأنوار- المجلسي: 83/ 120.

أولاً:ان الشريعة الالهية توفر الحرية الحقيقية للإنسان لأنها تحرره من كل القيود والاغلال التي تكبّله، فهي تخل-ّصه أولاً من عبودية نفسه الأمارة بالسوء التي تدعوه الى طاعة الشهوات والاهواء والانفعالات وهي لا عقل لها فتوقعه في المهالك وهذه نتيجة حتمية لا تحتاج الى دليل لأن الواقع المزري للبعيدين عن القانون الالهي شاهد على ذلك، وتخل-ّصه ثانياً من عبودية غيره من بني جنسه من البشر كالحكام المستبدين والطواغيت وسدنة المعابد وأدعياء العناوين المقدسة المتاجرين بالدين من أجل الدنيا وحيازة المغانم والمصالح لذواتهم على حساب الناس، وتحرّره من القلق والأوهام والضيق والاضطراب وكل الضغوط {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد:28).فالحرية بمعناها الانساني النبيل تحققها الشريعة الالهية الحقّة أما الابتعاد عنها فيؤدي الى الشقاء والهلاك والالم في الدنيا قبل الاخرة، وليست الحرية بمعنى الانفلات والتمرد على السنن الإلهية الحاكمة في الكون والانسان.

ثانياً:أن هذه الشريعة المباركة دليل على صدق النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في دعواه بأنه مُرسل من الله تبارك وتعالى لهداية البشر وإصلاحهم، لأنه حارب كل تلك الأغلال والآصار وسعى بكل جهده لتخليص الناس منها فدعا الناس الى توحيد الخالق العظيم ونبذ كل الالهة المصطنعة ووضع لهم قوانين العدالة والمساواة بين الناس جميعاً أمام القانون وحارب الطبقية والتمييز ونشر الأخلاق والفضيلة ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي والظلم، وحثَّ على العلم والمعرفة بشكل مذهل.

ولو كان مدعياً بغير حق ويبتغي بدعواه الوصول الى السلطة والنفوذ وحيازة الدنيا لأستعبدَ الناس واستأثرَ بخيراتهم ولأبقاهم على قيود الجهل والغفلة

ص: 59

والتخلف ليسيطر عليهم ويتمكن من مقدراتهم كما يفعل كل الطغاة والمستبدين.وهذا معيار ينفع في تمييز القيادات الحقة في كل المجالات واولها القيادات الدينية التي يفترض انها تمثل نيابة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، لأن القرآن الكريم ومنه هذه الآية عامُ شاملٌ لكل البشر وخالدٌ الى قيام يوم الساعة ولا يمكن تحجيم دوره بفترة نزوله.

ثالثاً:ان الآية فيها وعد وترغيب وتطمين للمؤمنين بأنهم إذا امنوا بالنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأتبعوا تعاليمه واستقاموا على دينه فان الله تعالى سيرفع عنهم الكثير من الصعوبات والمكاره والبلاءات, وسيضع عنهم هذه الأغلال والاصار, وسيرحمهم.

رابعاً:إن هذه الفقرة من الآية الكريمة تعرّفنا على جانب مشرق من سيرة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وثمرات شريعته المباركة إذ لولا كونه رحيماً شفيقاً ودوداً له أخلاق عظيمة لما استطاع تأدية هذا الدور المبارك في رحمة العباد، وبهذه المعرفة نزداد حباً لأن المعرفة تولد الحب، وهل يمكن أن يحب الانسان شيئاً يجهله ولا يعرف عنه شيئا، والحب يحرّك نحو اتباع المحبوب وهو رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

خامساً:إن الآية والمعرفة التي استخلصناها منها تحمّل-ُنا مسؤولية إعانة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في تحقيق أهدافه المذكورة وهي وضع الآصار والأغلال عن الامة وتحريرها من قيودها من خلال تفعيل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمساعدة الناس على إزالة هذه الآصار والأغلال, والشاهد على ذلك أن نفس هذه الآية تضمّنت دعوة مباشرة لاتباعه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ليعينوه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على رسالته الخالدة فيقع اجرهم على الله تبارك وتعالى وعلى رسوله الكريم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال تعالى في ذيل هذه الآية {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ

ص: 60

مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف:157) وهذه الآية وسائر آيات القرآن الكريم ليست خاصة بأصحابه الذين كانوا معه، بل تشمل كل المؤمنين به (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الى نهاية الدنيا، وهم جميعا مطالبون بهذه النصرة والمؤازرة والإعانة، وتختم الآية بقول حازم وهو أن هؤلاء الذين يجمعون هذه الأوصاف هم المفلحون لا غيرهم لأنها ظاهرة في الحصر. أعاننا الله تعالى وجميع المؤمنين على أن نكون بهذه الصفات بلطفه وكرمه.

ص: 61

القبس/45: سورة الأعراف:157

اشارة

{وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِي أُنزِلَ مَعَهُۥ}

موضوع القبس:القرآن نور

القرآن نور:

لقد وصف القرآن الكريم نفسه بأوصاف كثيرة(1) منها انه (نور) قال تعالى {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (المائدة:15), وقال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} (النساء 174), وقال تعالى {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف:157), {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الشورى:52).

وقد ورد في الاحاديث الشريفة مثل ذلك, عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (إن هذا القرآن حبل الله والنور المبين) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (عليك بتلاوة القرآن, فانه نور لك في الارض وذخر لك في السماء) وقال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في القرآن (واستشفوا بنوره فانه شفاء الصدور)(2) ومن دعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عند ختم

ص: 62


1- ملحق شكوى القرآن, من نور القرآن: 3/ 284
2- تجد هذه الروايات ومصادرها في ميزان الحكمة :9/ 177-184.

القرآن (وجعلته نوراً نهتدي من ظلم الضلالة والجهالة باتباعه)(1).

القرآن ينير طريق الهداية:

ويُعرَّف النور في معاجم اللغة بانه (ما كان ظاهراً بنفسه ومُظِهر للأشياء الأخرى)(2) فإن العين لا ترى ولا تكتشف ما حولها إلا إذا سقط عليها الضوء وانتقل الى العين, وهذا هو دور القرآن الكريم فإنه ينير طريق الهداية والايمان والصلاح والسعادة {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} (الأنعام:122), فمن اهتدى بنوره كان من المفلحين كما في سورة الاعراف المتقدمة, لأن فيه مصابيح النور, عن الامام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إن هذا القرآن فيه مصابيح النور)(3).

وهذا وصف طبيعي للقرآن لأنه يتضمن بيان كل ما يقرّب الى الله تعالى من الطاعات التي هي كالمصابيح التي توّلد النور, قال تعالى {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الإسراء:9) وأشرف تلك المصابيح واشدها ضياءاً رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال تعالى {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (الأحزاب:46).

نور الولاية:

وولاية امير المؤمنين وأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) واتباعهم نور, ورد في تفسير قوله تعالى {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} (الأعراف:157) في الكافي عن ابي عبد

ص: 63


1- الصحيفة السجادية:115.
2- لسان العرب- ابن منظور: 5/ 240
3- بحار الأنوار- المجلسي: 75/ 112

الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(النور في هذا الموضع امير المؤمنين والائمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)(1) ومثله في تفسير علي ابن ابراهيم والعياشي عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مثله.وفي موضع اخر عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (فالذين امنوا به) يعني بالامام (وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون، يعني الذين اجتنبوا الجبت والطاغوت أن يعبدوها، والجبت والطاغوت فلان وفلان وفلان، والعبادة طاعة الناس لهم)(2) قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إِنَّمَا مَثَلِي بَيْنَكُمْ كَمَثَلِ اَلسِّرَاجِ فِي اَلظُّلْمَةِ يَسْتَضِي ءُ بِهِ مَنْ وَلَجَهَا) (3).

نور التقوى:

والتقوى نور قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الحديد 28).

وبصورة عامة فان الدين والرسالة السماوية بما تضمنت من عقائد واحكام واخلاق هي مصدر النور، قال تعالى {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (الصف:8) وعن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (الدين نور)(4).

ص: 64


1- الكافي :1/ 150/ ح2.
2- الكافي :1/ 355/ ح83.
3- نهج البلاغة: 127/خطبة187,- ميزان الحكمة- الريشهري: 10/ 339
4- غرر الحكم :213.

أنوار العبادات والطاعات:

وقد ورد في روايات ذكر بعض تلك المصابيح كأداء الصلاة المفروضة خصوصاً في أوقات فضيلتها، عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(الصلاة نور)(1), ومناسك الحج نور قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (إذا رميت الجمار كان لك نوراً يوم القيامة)(2)، وكل عمل فيه اعزاز الدين ونصره نور، قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (من رمى بسهمٍ في سبيل الله فبلغ أخطاء أو أصاب كان سهمه ذلك, كعدل رقبة من ولد إسماعيل. ومن خرجت به شيبة في سبيل الله, كان له نوراً يوم القيامة)(3)، ومن اجتنب ظلم الآخرين بكل أشكال الظلم والتجاوز والتعدي أعطاه الله نوراً، قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (لا تظلم أحداً تُحشر يوم القيامة في النور)(4)، وصلاة الليل وسائر الطاعات والعبادات عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ما تركت صلاة الليل منذ سمعت قول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):صلاة الليل نور)(5)، ومما يوجب النور تجديد الطهور في غير أوقات الصلاة، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(الوضوء على الوضوء نورٌ على نور)(6)، واستنقاذ حقوق الاخرين نور عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (من شهد شهادة ليحيي بها حق امرئ مسلم اتى يوم القيامة ولوجهه نور مدًّ النضر يعرفه الخلق باسمه ونسبه)(7) ومما يوجب

ص: 65


1- مستدرك الوسائل- المحدث النوري: 3/ 92
2- ميزان الحكمة- الريشهري: 4/ 3390
3- عوالي اللئالي- الشيخ الأحسائي: 1/ 84/ح10
4- ميزان الحكمة- الريشهري: 2/ 1772
5- بحار الأنوار- العلامة المجلسي: 41/ 17
6- وسائل الشيعة:1/ 265 /ح8.
7- الأمالي- الشيخ الصدوق: 570/ح4

النور الشيب في طاعة الله تعالى، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(ما رأيت شيئاً أسرع إلى شيء من الشيب إلى المؤمن، وإنّه وقارٌ للمؤمن في الدنيا، ونورٌ ساطعٌ يوم القيامة)(1) وهكذا.

الحذر من وادي الذنوب وقطّاع الطريق المعنوي:

إن الانسان في هذه الدنيا لابد ان يكون له منهج يسير عليه وغاية يسعى لتحقيقها، وإنما يحصد النتائج بحسب نوع المنهج وراسمه والمخطط له، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضئ بنور علمه)(2) ولأن في القرآن مصابيح النور، ولا يستطيع الانسان أن يتقدم إلا بضياء ينير له الدرب وإلاّ كان كمن يسافر في الصحراء في ليلة مظلمة بلا دليل فيكون معرضاً لعدة أخطار:حيوانات مفترسة تمزّقه، أو لصوص وقطّاع طرق يقتلونه ويسلبونه، أو آبار وأودية يهوي فيها، أو يضل الطريق ويتيه وينفد ما عنده من ماء وطعام، وهذه هي الأخطار التي يواجهها من لا نور معه في حياته المعنوية فتفترسه الذئاب البشرية وقطّاع الطرق ليسرقوا دينه وإنسانيته فيهوي في وادي الذنوب السحيق ويحرم من الزاد ليوم المعاد وهو التقوى.

عليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع:

وقد دل الله تعالى على النور الذي يهدي به الانسان في حياته ويميز به الصواب في سائر اموره وما احوج الانسان الى مثله لينقذه من التخبط والضياع

ص: 66


1- أمالي الطوسي:699، ح1492.
2- نهج البلاغة: 70/ كتاب45

والمزالق، وذلك بالتقوى قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الحديد:28)، وما الذي يهدي الى التقوى ويحصلها انه القران الكريم قال تعالى {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة:2)، لذا أُمرنا باتخاذ القرآن إماماً وقائداً وهادياً، فمن اراد أن يكون له فرقان في الدنيا يميز به بين الحق والباطل وينير بصيرته ويأخذ بيده على الصراط المستقيم فليجعل القرآن إماماً له وقائداً يقتبس من نور مصابيحه قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (فاذا التبست الامور عليكم كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن, فإنه شافع مشفع, وماحل مصدَّق, ومن جعله أمامه قاده الى الجنة, ومن جعله خلفه قاده الى النار)(1) وإنما يجعله أمامه باتباعه والعمل بما فيه والاستضاءة بنوره, ويجعله خلفه باستدباره والاعراض عما فيه وعدم الاعتناء بأوامره ونواهيه.وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (علَيكُم بالقرآنِ، فاتَّخِذُوهُ إماماً وقائداً)(2) وقال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في صفة القرآن (ونوراً ليس معه ظلمة).

تجلي الأنوار الإلهية:

وقد يتجلى هذا النور الباطني المعنوي الذي يهدي البصائر من خلال نورٍ ظاهري تكتشفه الحواس وتهتدي به، سئل الامام زين العابدين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مابال المتهجدين بالليل من احسن الناس وجها؟ قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لانهم خلوا بالله فكساهم

ص: 67


1- راجع المصادر في ميزان الحكمة :7/ 237-240.
2- ميزان الحكمة - الريشهري:3 / 2518

الله من نوره)(1).وروى صاحب مفاتيح الجنان عن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حادثة مباغتة جيش المشركين لسرية المسلمين في الليل وهم نيام فلم يتبيّن المسلمون الامر حتى يعرفوا ما يفعلون وكاد العدو يستأصلهم واذا بأضواء تسطع من افواه اربعة منهم كانوا يحيون الليل بالعبادة وتلاوة القرآن تضيئُ معسكر المسلمين فتمدهم بالقوة والشجاعة وواجهوا المشركين وقتلوهم فلما رجعوا قصوا على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ما وقع. قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (ان هذه الانوار قد كانت لما عمله اخوانكم هؤلاء من اعمال في غرّة شعبان)(2).

تنوّروا بالقرآن ليكون معيناً لكم يوم فقركم:

هذا النور الذي تقتبسه في الدنيا ستكون أحوج شيء اليه في حياة ما بعد الدنيا إلى القيامة ففي القبر حيث الوحشة والظلمة سينير القرآن لأهله، من دعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ونوّر به قبل البعث سُدَفَ قبورنا، ونجّنا به من كلّ كرب يوم القيامة وشدائد أهوال الطامة)(3)، وما أحوجنا إلى النور في يوم القيامة ليضيء لك طريق النجاة ونتوقى مزالق الهلكة, قال تعالى في وصف أحوال يوم القيامة {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ

ص: 68


1- علل الشرائع :366 / ح1.
2- مفاتيح الجنان:296 اعمال اليوم الاول من شعبان.
3- الصحيفة السجادية الكاملة: 206

ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} (الحديد12-13), وورد عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في تفسير الآية قال (ثم يقول - يعني الرب تبارك وتعالى - ارفعوا رؤوسكم, فيرفعون رؤوسهم فيعطيهم نورهم على قدر أعمالهم, فمنهم من يُعطى نوره مثل الجبل العظيم يسعى بين يديه, ومنهم من يُعطى نوره اصغر من ذلك, ومنهم من يُعطى نوره مثل النخلة بيده, ومنهم من يُعطى أصغر من ذلك ,حتى يكون آخرهم رجلاً يُعطى نوره على إبهام قدميه يضيئ مرة ويُطفأ مرة)(1).فليهيئ الإنسان في هذه الدنيا أكثر ما يستطيع من مصابيح النور(2) ليوم القيامة بما يكتسبه من الطاعات ويجتنبه من المعاصي، إلهي هَبْ لي كَمالَ الْانْقِطاعِ إلَيكَ وَ أَنِرْ أَبْصارَ قُلُوبِنا بِضياءِ نَظَرِها إِلَيكَ حَتّى تَخْرِقَ أَبْصارُ الْقُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ إلى مَعْدِنِ الْعَظَمَةِ وَ تَصيرَ أرْواحُنا مُعَلَّقَةً بعِزِّ قُدْسكَ(3).).

ص: 69


1- الدر المنثور- السيوطي: 6/ 256
2- راجع قبس/95 {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (طه:124), من نور القرآن: 3/ 139
3- مفاتيح الجنان:296 من المناجاة الشعبانية لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

القبس/46: سورة الأعراف:164 165

اشارة

{وَإِذ قَالَت أُمَّة مِّنهُم لِمَ تَعِظُونَ قَومًا ٱللَّهُ مُهلِكُهُم أَو مُعَذِّبُهُم عَذَابا شَدِيدا ۖ قَالُواْ مَعذِرَةً إِلَى رَبِّكُم وَلَعَلَّهُم يَتَّقُونَ164 فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}

موضوع القبس/ وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر قرآنيا:5

تقريب الاستدلال ينطلق من الروايات الشريفة، ففي الخصال بسنده عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير الآية قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(كانوا ثلاثة أصناف:صنف ائتمروا وأمروا فنجوا، وصنف ائتمروا ولم يأمروا فمُسخوا ذرّاً، وصنف لم يأتمروا ولم يأمروا فهلكوا)(1).

أقول:تقريب دلالة الاية على وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر واضح لأن الآية صرّحت بنجاة الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر فقط ووصفت الصنفين الآخرين بالظالمين واستحقاقهم العقاب، ولو لم تكن هذه الوظيفة واجبة لما استحق الصنف الثاني القاعد عن أداء الفريضة الذين ائتمروا ولم يأمروا العذاب.

ويظهر من الآية أن هذا الصنف التارك لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هم الذين قالوا{لم تعظون قوماً} لأنهم بحسب الظاهر غير الواعظ

ص: 70


1- الخصال:100، ح54.

وغير المنهي فيتعين بهم، ويظهر أنهم محسوبون على المتدينين الملتزمين بالشريعة وربما يظهر من كلامهم أنهم كارهون لفعل المنكر، مبررين سكوتهم بأنه لم يكن عن معصية لوجوب هذه الفريضة وإنما ليأسهم من صلاح العصاة، وإن كان سكوتهم عن ردع المعتدين لا ينمّ عن وجود غضب لله تبارك وتعالى.قال السيد الطباطبائي (قدس سره):((وفي الآية دلالة على أن الناجين كانوا هم الناهين عن السوء فقط، وقد أخذ الله الباقين، وهم الذين يعدون في السبت والذين قالوا:(لم تعظون) إلخ وفيه دلالة على أن اللائمين كانوا مشاركين للعادين في ظلمهم وفسقهم حيث تركوا عظتهم ولم يهجروهم.

وفي الآية دلالة على سنة إلهية عامة، وهي أن عدم ردع الظالمين عن ظلمهم بمنع، وعظة إن لم يمكن المنع أو هجره إن لم تمكن العظة أو بطل تأثيرها، مشاركة معهم في ظلمهم، وأن الأخذ الإلهي الشديد كما يرصد الظالمين كذلك يرصد مشاركيهم في ظلمهم))(1).

أقول:ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى في سورة العصر:{إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر ، إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} فلا يكفي لخروج الإنسان من حالة الخسر أن يكون صالحاً في نفسه بالإيمان والعمل الصالح، بل لا بد أن يكون إنساناً مصلحاً للمجتمع وفاعلاً في عملية التغيير بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر.

((وفي قولهم (إلى ربكم) حيث أضافوا الرب إلى اللائمين ولم يقولوا إلى ربّنا إشارة إلى أن التكليف بالعظة ليس مختصاً بنا بل أنتم أيضاً مثلنا يجب عليكم1.

ص: 71


1- الميزان في تفسير القرآن:8/ 301.

أن تعظوهم لأن ربكم لمكان ربوبيته يجب أن يُعتذر إليه، ويبذل الجهد في فراغ الذمة من تكاليفه والوظائف التي أحالها إلى عباده، وأنتم مربوبون له كما نحن مربوبون فعليكم من التكاليف ما هو علينا))(1).أقول:هذه التفاتة لطيفة، وهي لا تناسب وصفه للأمة اللائمة بأنهم ((كانوا أهل تقوى يجتنبون مخالفة الأمر إلا أنهم تركوا نهيهم عن المنكر فخالطوهم وعاشروهم ولو كان هؤلاء اللائمون من المتعدين الفاسقين لوعظهم أولئك الملومون، ولم يجتنبوهم بمثل قولهم (معذرة))).

أقول:يكفي قولهم:(ربكم) لوعظهم وتذكيرهم بحقوق الربوبية عليهم.

وهنا يثار إشكال على استعمال لفظ: (نَسُوا) له تقريبان:-

1-إن هؤلاء لم يكونوا ناسين بل كانوا ذاكرين وملتفتين إلى مغبة العمل.

2-إذا كانوا ناسين فإن الناسي معذور ويقبح عقابه، فلماذا أخذوا بعذاب بئيس.

ونكتفي في الجواب بما قاله السيد الطباطبائي (قدس سره): ((وقوله تعالى:(فلما نسوا ما ذكّروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء) المراد بنسيانهم ما ذكروا انقطاع تأثير الذكر في نفوسهم وإن كانوا ذاكرين لنفس التذكر حقيقة فإنما الأخذ الإلهي مسبب عن الاستهانة بأمره والإعراض عن ذكره، بل حقيقة النسيان بحسب الطبع مانع عن فعلية التكليف وحلول العقوبة.

فالإنسان يطوف عليه طائف من توفيق الله يذكره بتكاليف هامة إلهية ثم إن استقام وثبت، وإن ترك الاستقامة ولم يزجره زاجر باطني ولا ردعه رادع نفساني1.

ص: 72


1- النص وما بعده في الميزان في تفسير القرآن:8/ 300-301.

عدا حدود الله بالمعصية غير أنه في بادئ أمره يتألم تألماً باطنياً ويتحرج تحرجا قلبياً من ذلك ثم إذا عاد إليها ثانياً من غير توبة زادت صورة المعصية في نفسه تمكناً، وضعف أثر التذكير وهان أمره، وكلما عاد إليها وتكررت منه المخالفة زادت تلك قوة وهذه ضعفاً حتى يزول أثر التذكير من أصله، ساوى وجوده عدمه فلحق بالنسيان في عدم التأثير، وهو المراد بقوله:(فلما نسوا ما ذكروا) أي زال أثره كأنه منسي زائل، الصورة عن النفس)).أقول:تقدمت الإشارة إلى هذا المعنى في فصل (تاريخ الفريضة) في الجزء الأول من كتاب اسمى الفرائض(1)، حينما طبقنا تدرّج ترك هذه الفريضة الذي ورد في الحديث النبوي الشريف (كيف بكم) على صعيد داخل النفس.

في تفسير الإمام العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من حديث (وذلك أن طائفة منهم وعظوهم وزجروهم، ومن الله خوفوهم، ومن انتقامه وشديد بأسه حذّروهم، فأجابوهم عن وعظهم:{لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ} بذنوبهم هلاك الاصطلام {أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} فأجابوا القائلين لهم هذا:{مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ} إذ كُلِّفنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فنحن ننهى عن المنكر ليعلم ربُّنا مخالفتنا لهم وكراهتنا لفعلهم، قالوا:{وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ونعظهم أيضاً لعلهم تنجع فيهم المواعظ، فيتقوا هذه الموبقة، ويحذروا عقوبتها)(2).9.

ص: 73


1- فقه الخلاف: 8/ 11
2- تفسير البرهان للسيد هاشم البحراني:4/ 129.

وروى في الدر المنثور بسنده عن عكرمة قال:(جئت ابن عباس يوماً وهو يبكي، وإذا المصحف في حجره، فقلتُ:ما يبكيك يا ابن عباس؟ قال:هؤلاء الورقات، وإذا في سورة الأعراف) ثم ذكر هذه الآيات وفسّرها إلى أن قال:(فأرى الذين نهوا قد نجوا ولا أرى الآخرين ذكروا، ونحن نرى أشياء ننكرها ولا نقول فيها)(1).والآية تنفع في البحث عن الشرط الذي ذكروه للوجوب وهو التأثير في المقابل أي المأمور المنهي، كما أن في الآية رداً على القول بالوجوب الكفائي، لأن النهي قد تحقق بموعظة البعض فلماذا أُخذ البعض الآخر -وهم الساكتون - بعذاب بئيس؟ فالوجوب إذن لا يسقط بقيام البعض حتى ينتفي الموضوع.9.

ص: 74


1- الدر المنثور:3/ 589.

القبس/47 : سورة الأعراف:201

اشارة

{إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُم طَئِف مِّنَ ٱلشَّيطَنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}

موضوع القبس:مواعظ ودروس

يمكن فهم الآية من خلال استخلاص عدد من المواعظ والدروس التربوية منها:

1-إن الإنسان مهما ارتقت درجته في العبادة والطاعة معرض للزلل بغواية الشيطان التي تبتدئ بأفكار ووساوس وتسويلات يلقيها الشيطان في قلب الانسان وعقله سمّتها الآية بطائف من الشيطان ثم يتحول الى قناعات ورغبات فالآية وصفتهم ببلوغ درجة المتقين والشيطان لم يتركهم، ولا ينجو من مكائد الشيطان الا المعصومون (سلام الله عليهم)، وهذا ما توعد به ابليس منذ خُلق البشر {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (ص:82-83) فكلنا بجميع درجاتنا وعلى اختلاف أحوالنا وأعمارنا شباباً وشيباً رجالا ونساءاً معرضون لهذا الابتلاء وإلقاء الوساوس وطواف الشيطان على القلب والعقل، لكن قد تختلف هذه الوساوس والاثارات بين البشر فالشباب لهم بلاءهم ورغباتهم وإثاراتهم والحوزة لها اختبارها والأثرياء والفقراء لكل منهم امتحانهم والذي في الغرب والذي في البيئة المسلمة واساتذة الجامعات والسياسيون وهكذا كل فرد يحس بهذا الضغط والتزيين باتجاه ما يحاول الشيطان أن ينفذ من خلاله، فعلى

ص: 75

الجميع الحذر والمراقبة والوعي والتفقّه حتى يغلقوا على الشيطان منافذه.2-إن الدرع الحصينة التي يلتجئ اليها الإنسان للوقاية من كيد الشيطان وإغرائه هي التقوى لأن الآية ذكرت أن المتقين هم الذين لا يفلح الشيطان في استغفالهم وأنهم سرعان ما يتذكرون إذا حام الشيطان حول قلوبهم، وتعود اليهم بصيرتهم فوراً عند تذكرهم، وقد يكون المتقي متذكراً يقظاً دائماً فلا يكون للشيطان عليه سبيلاً، وقد قالوا في علمي الفقه والاصول أن تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية أي أن حصول التذكر وعودة البصيرة واليقظة والمراقبة متعلق ومرتبط بوجود ملكة التقوى، فحالة التذكر معلولة لوجود ملكة التقوى عند العبد فكلما كان اكثر تقوى كان اكثر تذكراً لان وجود مَلَكَة التقوى سبب للانتباه من الغفلة رزقاً خالصا من الله تبارك وتعالى وجزاءً لتقواه {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} (الطلاق:2) والرزق يشمل المعنويات بالتأكيد، فاذا تذكر الانسان واستبصر خنس الشيطان وخسئ، واذا غفل الانسان عاد الشيطان الى وسوسته وتزيينه فوُصِفَ ب- (الوسواس الخنّاس) فالشياطين كالفيروسات والجراثيم الملوثة للبيئة والموجودة حول كل إنسان لكنها لا تصيب الا من كانت مناعته ومقاومته التي هي التقوى ضعيفة ولو بدرجة من الدرجات.

3-إن طريقة عمل الشيطان بأن يطوف ويدور حول قلب الإنسان وعقله ويوسوس له ويحاول تزيين المعصية ليحرّك شهواته وغرائزه باتجاهها، ويحاول اغراءه بها، قال تعالى {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ} (الأنعام:112) عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(الشيطان موكّل به - أي

ص: 76

العبد- يزيّن له المعصية ليركبها ويمنّيه التوبة ليسوّفها)(1) هاتان العمليتان قبل فعل الانسان وبعده هما كل سلطة الشيطان على الناس، فالاعتقادات السائدة لدى الجهلة والعوام بتلبس الجن وأمثالها وبالشكل الذي يصورونه تافهة وباطلة، وأن الله تعالى كرّم الإنسان وفضّله على خلقه فلا يجعل لغيره سبيلاً عليه بهذا النحو وغيره، فالشيطان لا يملك هيمنة على الإنسان أكثر من ذلك والإنسان هو الذي يختار سلوكه وطريقته في الحياة بإرادته {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} (الإنسان:3) لذا يرد الشيطان على الإنسان يوم القيامة بما حكاه الله تعالى عنه {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم} (إبراهيم:22) وقال تعالى {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُ-لِّ شَ-يْءٍ حَفِيظٌ} (سبأ:21).ومن الواضح أن سلاح الشيطان هو استغفال الإنسان وغلق منافذ التفكير والوعي والحكمة ووضع الحُجُب دون بصيرته وقدرته على التمييز بين الحق وبين الباطل لذا كان العلاج وسلاح الرد عليه هو التذكر والانتباه والفطنة والحذر وإزالة الحُجُبِ والأغلال والمراقبة المستمرة {تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِ-رُونَ} (الأعراف:201) كالسارق فانه لا يستطيع سرقة الإنسان المنتبه المتحذّر وإنما يسرق الغافل الساهي والشيطان يريد سرقة دين الإنسان واستقامته.

وينبغي الالتفات الى أن فسح المجال للشيطان لكي يطوف ويحوم حول4.

ص: 77


1- نهج البلاغة:64.

القلب والاسترسال مع وسوسته والافكار التي يُلقيها وعدم قطع الطريق عليه نقص في كمال الإنسان وإن لم يفعل المعصية ففي الآية الكريمة {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (المجادلة:10) وفي الحديث (لولا أن الشياطين يحوّمون على قلب ابن ادم لنظروا إلى الملكوت)(1)، فعلى كل فرد أن لا يستصغر شأن بعض الأفكار غير الرحمانية التي تراوده كالتعلّق بالجنس الآخر أو الاعتداء على المال العام أو الكيد لشخص يحسده والانتقاص منه وتسقيطه ونحو ذلك، وعليه أن يقطعها ويستغفر منها {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات:12) والا كانت بداية للسقوط في الخطأ والخطيئة والعياذ بالله.4-لم تذكر الآية متعلق التذكّر أي ماذا يتَذَكَّرون والتذكر هو التفطن لأمور مغفول عنها سابقاً وتساعده في الوصول الى النتيجة فقالت {تَذَكَّرُوا} وأطلقت ولعله ليشمل كل ما يعينك على هذه المواجهة ولكن الآية التي سبقتها نبّهت الى ما يجب تذكره واستحضاره والتسلح به، قال تعالى {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأعراف:200) فالآية محل البحث تبّين وسيلة الوصول الى العلاج الذي ذكرته الآية السابقة عليها. وأكدّته اية لاحقة {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} (الأعراف:205).

ونستطيع أن نعرف تفصيل الامور التي يتذكرها ليكون مبصراً من سورة9.

ص: 78


1- بحار الانوار، المجلسي، ج70 ص59.

يوسف فقد تعرّض (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لموقف رهيب فماذا كان سلاحه في تلك المواجهة؟ وماذا كان برهان ربه الذي لولاه لهَمَّ بها؟ {قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (يوسف:23) إنها عناصر ثلاث. فيستحضر الله تعالى أولاً ويستعيذ به ويطلب منه العصمة والمعونة وهذا ما ذكرته الآية السابقة هنا.

ويتذكر ثانياً أن له رباً هو الله تبارك وتعالى يملك أمره ويتولى تربيته ويكفيه المؤونة ويرزقه من حيث لا يحتسب وهو الذي ينصره ويثبت قدمه عند المزالق ويفرج عنه وأنه قد أغدق عليه النعم الكثيرة فعليه أن يلتزم بمنهج ربه ولا يفارقه شكراً لنعمائه وليس مقابلة النعمة بالعصيان {هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} (الرحمن:60).

ويتذكر ثالثاً العاقبة السيئة لمن يتبع الشيطان ويظلم نفسه بفعل المعصية {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (يوسف:23).

عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في معنى ذكر الله على كل حال قال:(يذكر الله عند المعصية يهم بها فيحول ذكر الله بينه وبين تلك المعصية، وهو قول الله عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}(1).

ولنضرب مثالاً من واقعنا المعاش وهي الظاهرة التي غزت شبابنا والهوس الذي اصاب كثيرين منهم هذه الأيام لدفعهم باتجاه التغرّب أو التعرّب2.

ص: 79


1- معاني الاخبار:20/ 192.

بعد الهجرة سعياً وراء ما يسمونه بتحسين وضعهم المعاشي والحياة المادية المترفة، هذا القرار غير الحكيم يبتدئ من طائف شياطين الإنس والجن الذين يصوّرون للشاب هذه الرحلة وكأنها الى الفردوس المنتظر وييسِّرون له أمرها ويرسمون له الأحلام الوردية ويسوّدون صورة واقعه المعاش فهنا إنْ تذكّر أن في هذا الفعل ضياع دينه واسرته والتفريط بأهله واخوانه وبلده ابصر طريقه واتخذ القرار الصحيح بالبقاء ولو كلّفه بعض الصعوبات فإن تحملها في جنب الله سعادة، وإن مضى في غفلته سقط في هذا الفخ الذي نصبه من لا يؤتمنون على العاقبة الحسنة في الدنيا ولا في الاخرة، وقد ابتلع البحر الأبيض مئات الالاف من اللاجئين في هذه السنة والتي سبقتها، هذه الظاهرة مليئة بالغرائب، فإن الدولة التي يتجمع فيها الإرهابيون من شتى أنحاء العالم لينتقلوا منها الى سوريا والعراق، هي نفسها التي امتلأت بشبكات التهريب لتنقل الفارّين من جحيم الإرهاب الى اوربا.والدول الاوربية التي ترفض إعطاء الإقامة لمن قصدها باحترام عن الطريق الرسمي والسفر بسمة الدخول ترحب بهم كلاجئين عبر طرق الموت والمعاناة وابتزاز المهرّبين، إنها مفارقة حمقاء.

5-يمكن فهم هذه الآية تربوياً وعملياً باتجاهين متعاكسين (احدهما) أن من يكون متقياً يحظى بلطف من الله تعالى بالتذكر عندما يحوم الشيطان حول قلبه فتنفتح بصيرته ويرى الحق فينجو من مكائد ابليس (ثانيهما) أن من أراد أن يكون من المتقين فعليه أن يكون متذكراً يقضاً مراقباً لينجيه الله تعالى من اغواء الشيطان وبذلك تحصل عنده ملكة التقوى. وهذان الاتجاهان متلازمان وكل منهما يؤدي الى الاخر أي أن كل درجة من أحدهما تؤدي الى أعلى منها من الآخر والعكس

ص: 80

كذلك حتى يرتقي في درجات الكمال بإذن الله تعالى.6-إن الإنسان المتقي الصالح محبوب عند الله {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (التوبة:4) وإتباع الشيطان عمل مبغوض عند الله تعالى، فحينما يقع هؤلاء الذين اتقوا في طائف الشيطان فإن عملهم مبغوض لكنهم محبوبون في ذاتهم.

هذه النتيجة نخرج منها بدرس عملي وهو أنه يجب علينا أن نميّز بين حب وبغض الشخص وحب وبغض عمله فقد نرفض عمل شخص لأنه غير صالح ولا يسري ذلك الى الشخص ذاته بل يبقى محبوباً لأنه متقي صالح فاعل للخير، وهذا معنى الحديث (إن الله قد يحب العبد ويبغض عمله)(1) وهذا الأدب الرفيع لا يلتزم به الا من ندر، حيث أن السائد في المجتمع أنه يكره الشخص وينبذه ويسقطه ويسحق كرامته لأجل عمل شيء أو موقف خاطئ صدر منه.ي.

ص: 81


1- أنظرها في الملحق التالي.

ملحق:إن الله قد يحب العبد ويبغض عمله

ان المتقين محبوبون عند الله تبارك وتعالى {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (التوبة:4) كما ان التأثر بمس الشيطان فعل يبغضه الله تبارك وتعالى فالاية في القبس الانف تكشف انه يمكن ان يصدر من الفئة التي يحبها الله تبارك وتعالى فعل يبغضه الله تعالى وقد ورد هذا المعنى في ما روي عن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ان الله يحب العبد ويبغض عمله) وهو حديث له مداليل نفسية واجتماعية مهمة.

فقد روى لنا أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حديثاً عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يعطينا فيه قاعدة من قواعد السلوك الاجتماعي والتعامل مع الآخرين، ويعالج لنا مشكلة تمزّق المجتمع وتغذي البغضاء بين أبنائه.

فمن خطبة له (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (واعلم أنّ لكل ظاهرٍ باطناً على مثاله، فمن طاب ظاهره طاب باطنه، وما خبث ظاهره خبث باطنه، وقد قال الرسول الصادق (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ((إنّ الله يحبّ العبد ويبغض عمله، ويحبّ العمل ويبغض بدنه)).

واعلم أنّ لكل عملٍ نباتاً، وكل نبات لا غنى به عن الماء، والمياه مختلة، فما طاب سقيُه، طاب غرسُه وحلَت ثمرته، وما خبث سقيُه، خبث غرسُه وأمّرت ثمرته)(1).

وورد هذا الحديث في رواية أوردها الشيخ الطوسي (قدس سره) عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وفيها قوله (أما علمت أنّ الله يحبّ العبد ويبغض عمله، ويبغض العبد

ص: 82


1- نهج البلاغة، الخطبة (154) في فضائل أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، أوّلها (وناظر قلب اللبيب).

ويحب عمله)(1).أقول:يلاحظ فرق بين النصين في الفقرة الثانية وهو الشخص المبغوض، إذ وصفه نص نهج البلاغة بالبدن ونص الأمالي بالعبد، وبرأيي القاصر فإن نص الشريف الرضي في نهج البلاغة هو الأصح، والوجه في ذلك يظهر من خلال الالتفات إلى أمور:

إنّ رواية نهج البلاغة وصفت الشخص المبغوض بالبدن ولم تصفه بالعبد فهو كسائر الأبدان والأجساد المادية الخالية من الصفة الإنسانية الحقيقية وهي العبودية لله تعالى {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (الفرقان:44) فهو لا يستحق أن يوصف بالعبودية التي هي أسمى صفة للإنسان، وبها كرّم الله تعالى نبيه المصطفى (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حين أمر بذكره في تشهّد وتسليم الصلاة بالعبودية ثمّ الرسالة (وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله) أمّا نصّ الأمالي فقد وصف الشخص المبغوض بالعبد وهو لا يستحقه.

إن نص نهج البلاغة استعمل لطيب الباطن والظاهر (مَنْ) وهي تستعمل للعاقل بينما استعمل (ما) للمبغوض وهي تُستعمل لغير العاقل فيناسبه لفظ البدن غير العاقل لا العبد الذي يحمل تمام العقل.

إن نص نهج البلاغة قدّم المحبوب بالذكر في كلا الفقرتين (حب العبد وحب العمل) وهو الأليق، بينما قدّم النص الثاني الشخص وإن كان مبغوضاً.

وعلى أي حال فإن معنى كلامه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) باختصار:

إن ما يصدر من الإنسان من تصرفات وأفعال ومواقف إنما يعكس حقيقةي.

ص: 83


1- أمالي الطوسي:616، الجزء الرابع عشر في أخبار إبراهيم الأحمري.

هذا الشخص وباطنه وذاته، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في كلمة أخرى (ما أضمر أحدٌ شيئاً إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه) (1) وكما قيل في المثل المعروف (وكل إناء بالذي فيه ينضح).وقد أعطى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في ذيل كلامه مثالاً لهذه المعادلة ووسيلة الوصول إلى الباطن الطيب، فإن العمل كالنبات فيه طيب حلو وفيه خبيث مر، فإذا كان الماء الذي يسقي الزرع والأرض طيباً كان الزرع طيباً حلواً، وإلاّ كان مراً خبيثاً، وهكذا النفوس إذا سُقيت من معينٍ نقي للمعرفة والعلم والأخلاق كانت صالحة طيبة، وإلاّ فستكون خبيثة.

وبالعودة إلى الحديث النبوي الشريف، فإنه تستفاد منه قاعدة لتمييز الإنسان الصالح من الفاسد، لأنّ الأول لا يترشح منه إلاّ فعل الخير بعكس الثاني، فيُقيّم الإنسان وتعرف حقيقته من خلال الحكم على أفعاله.

لكن - وكما قيل- فإنّ لكل قاعدة شواذاً، فإنّ الإنسان الصالح - عدا المعصوم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- قد يصدر منه فعل سيء يبغضه الله تعالى إما لغفلة، أو لضعف في المناعة والعصمة والإرادة، أو لغلبة الهوى والشهوة وتزيين الشيطان أو لسوء تقدير، أو لتأثّر بأقران سيئين، أو لضعف أمام تهديدات وإغراءات ونحوها من أسباب السقوط في المعاصي.

وإن الشخص الفاسد قد يقوم بفعل محبوب لله تعالى كمساعدة محتاج أو رعاية يتيم أو قضاء حاجة إنسان آخر ونحوها، لتأثره بجو إنساني وعاطفي عام، أو لبقية حياة في ضميره أو بتأثير إنسان صالح يحبّه وهكذا.6.

ص: 84


1- نهج البلاغة، قصار الكلمات، رقم 36.

وبهذا نحلُّ الإشكال الذي قيل على سياق الحديث، وحاصله:إنّ الحديث النبوي الشريف ينافي الفقرة السابقة عليه وهو ينقض المطابقة بين الظاهر والباطن التي ذكرها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):وملخص الجواب:إنّ هذا الإشكال مبني على كون الحديث النبوي شاهداً على ما أورده من القاعدة، فيُجاب الإشكال بأنّ الحديث ذكر للإشارة إلى الاستثناء من القاعدة، وليس استدلالاً على نفس القاعدة.وقيل في توجيهه شيء آخر ذكره العلاّمة السيّد حبيب الله الخوئي شارح نهج البلاغة، قال (قدس سره):((وإنما الإشكال في ارتباط هذا الكلام لسابقه و في استشهاد الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) به مع أنّه لا مناسبة بينهما ظاهرا، و ليس للاستشهاد به وجه ظاهر، بل منافاته لما مرّ أظهر من المناسبة كما هو غير خفيّ، إذ لازم محبّة اللَّه للعبد كون العبد طيّبا، و لازم بغضه لعمله كون العمل خبيثا فلم يكن الظّاهر موافقا للباطن، فينافي قوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):فما خبث ظاهره خبث باطنه.

وكذلك مقتضى بغض اللَّه سبحانه لبدن الكافر كونه خبيثا، و حبّه لعمله كون عمله طيّبا ففيه أيضا مخالفة الظّاهر للباطن، فينافي قوله:فما طاب ظاهره طاب باطنه.

والذي سنح لي في وجه الارتباط و حلّ الإشكال بعد التّروي و صرف الهمّة إلى حلّه أيّاما و الاستمداد من جدّي أمير المؤمنين عليه و آله سلام اللَّه ربّ العالمين هو أنّه لمّا ذكر أنّ ما هو طيّب الظّاهر طيّب الباطن و ما هو خبيث الظّاهر خبيث الباطن، عقّبه بهذا الحديث النّبوي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تنبيها و إيقاظا للسّامعين بأنّ العبد قد يكون نفسه محبوبا و عمله مبغوضا، و قد يكون بالعكس كما أفصح عنه

ص: 85

الرّسول الصّادق المصدّق.فاللاّزم له إذا كان محبوب الذّات للَّه سبحانه و مبغوض العمل أن يجدَّ في تحبيب عمله إليه تعالى حتّى يوافق نفسه عمله في المحبوبيّة، و إذا كان محبوب العمل مبغوض البدن أي الذّات أن يجدّ في تحبيب ذاته إليه كي يوافق عمله نفسه.

والغرض بذلك الحثّ على تطبيق الظّاهر للباطن في الأوّل و تطبيق الباطن للظّاهر في الثّاني في المحبوبيّة حتى يكونا طيّبين، و يفاز إلى النّعيم الدّائم و الفوز الأبدي، و لا يعكس حتّى يكونا خبيثين مبغوضين له تعالى، فيقع في العذاب الأليم و الخزي العظيم، و قد زلّت في هذا المقام أقدام الشّراح و المحشّين)(1).

أقول:هذا المعنى صحيح في نفسه، وإن كان يحتاج إلى مقدمات لاستظهاره من الحديث الشريف وحل الإشكال به.

ونذكر هنا وجوهاً أخرى بحسب فهمنا القاصر لسبب إيراد أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هذا الحديث في ذيل كلامه المذكور وهي كالنتائج والثمرات المستفادة من هذا الحديث الشريف، ومنها:

1-أراد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن يمنع من اعتماد الشخص على هذه القاعدة فيعتقد أنّه ما دام مؤمناً فإنه لا يصدر منه إلاّ الفعل الحسن فيأخذه العجب ويغفل عن مراقبة نفسه ولا يحسب لاحتمال ضعف النفس وغواية الشيطان، فنبهه الإمام إلى إمكان الوقوع في الفعل المبغوض مهما كانت درجة إيمانه - عدا المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)- فلا يركن إلى نفسه.8.

ص: 86


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة:9/ 248.

وكذا زرع الأمل في نفوس السيئين بأنّهم مهما كانت درجة انحطاطهم فإنّه يمكن أن يصدر منهم الفعل الحسن فلا يقنطوا ولا ييأسوا من رحمة الله تعالى ولطفه وعليهم أن يسعوا للقيام بالفعل الحسن وإن كانوا فاسقين، قال تعالى {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} (الزمر:53).2-إن هذا التطابق بين الظاهر والباطن لابد أن يتحقق ويكون تاماً لأنّه غير قابل للتفكيك لأن الظاهر صورة للباطن، كالمطابقة بين الصورة في المرآة وصاحبها، حيث لا يتصور عدم المطابقة بينهما، فإذا حصل شيء على خلاف هذه القاعدة، فإنه يُعالج بما يعيد فاعله إلى هذه القاعدة.

فالمؤمن إذا صدر منه فعل مبغوض إلى الله تعالى فتح له باب التوبة والاستغفار وطلب العفو حتى يمحو ذلك الخطأ ويعود إلى المسار الصحيح، وقد يحتاج الأمر إلى أن يُبتلى ويعاقب بمرض أو مصيبة أو همٍّ أو خسارة وغيرها مما ذُكر في كفارات الذنوب، قال تعالى:{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (الشورى:30).

والكافر الذي ليس له في الآخرة من خلاق، إذا صدر منه فعل يحبّه الله تعالى أعطى جزاءه في الدنيا مما يحبّه ويرغب فيه ويعمل من أجله لكي لا يبقى له استحقاق عند الله تعالى ويعود التطابق بين الظاهر والباطن.

لأنّ الحب والبغض بالنسبة إلى الله تعالى ليس بالمعنى المعروف عندنا نحن البشر لتنزهه سبحانه عن ذلك، وإنما يعني آثارهما من الثواب والعقاب وهذا معنى صحيح أكّدته روايات كثيرة.

3-إن ذكر الحديث النبوي الشريف للمنع من الحكم على شخص ما بأنّه

ص: 87

صالح أو غيره، ومحبوب عند الله تعالى أو مبغوض من فعل واحد أو فعلين بالاستناد إلى هذه القاعدة، بأن يقال:إنّه لو كان صالحاً لما صدر منه الفعل السيء، ولو كان مبغوضاً عند الله لما صدر منه الفعل المحبوب، فأتى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالحديث النبوي ليفيد أنّه قد يصدر منه الفعل السيئ وهو محبوب عند الله تعالى، وقد يقوم بالفعل المحبوب وهو مبغوض عند الله تعالى.نعم يمكن الحكم عليه إذا تحوّلت أفعاله إلى سيرة مستمرة وغالبة عليه، فإنها تكشف عن ملكة راسخة بهذا الاتجاه أو ذاك، وهذا ما ذكره الفقهاء في معنى العدالة من انها ملكة نفسية راسخة تُثمر استقامة على جادة الشريعة.

4-إنّ العبد مهما تظاهر على خلاف باطنه فإنه سيعود إليه وتنكشف حقيقته وتتحقق المطابقة بين الظاهر والباطن، فقد يصدر من الشخص السيئ فعل حسن بتصنع ورياء وخداع، ويصدر من الإنسان الصالح فعل سيء، لكن كل واحد منهما لابد أن يعود في النهاية والخاتمة إلى ما يطابق باطنه مهما طال الزمن، قال تعالى {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} (الإسراء:84).

والتاريخ حافل بأسماء أشخاص كانت حياتهم مملوءة بالمعاصي والابتعاد عن الله تعالى لكنّهم خُتم لهم بالخير لأنّ أصلهم ومعدنهم كان كذلك كالحر الرياحي مثلاً، ويوجد أمثلة كثيرة للعكس من ذلك كإبليس اللعين الذي كان مع الملائكة وعبد الله تعالى ستة آلاف سنة ثمّ خُتم له بالشقاء، وهذا لا ينافي الاختيار لأنّ كلاً منهما باختياره فعل ما يوجب له تلك الخاتمة.

5-إنّه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إنما ذكر الحديث لمعالجة مشكلة موجودة في المجتمع تحكم العلاقات بين الناس ومنشأها عدم التفكيك بين تقييم الشخص وتقييم فعله

ص: 88

أي تطبيق الملازمة المذكورة في كلام الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من دون الالتفات إلى الاستثناء، والمشكلة هي إن أحدنا إذا اختلف مع شخص آخر أو لم يرتضِ فعلاً من أفعاله فإنه يرفضه جملة وتفصيلا ويعاديه ويشنّع عليه.فالمشكلة التي نعاني منها وتمزّق وحدة المجتمع هي التوسع من رفض الفعل إلى رفض نفس الفاعل، وبدل الاعتراض على الفعل نفسه كحاله يتحوّل إلى رفض الشخص كلياً وتسقيطه وتفسيقه وإلغائه ولو كان إنساناً مؤمناً ملتزماً بالخط العام للشريعة، وفي هذا خروج عن القواعد الشرعية وتجاوز للحدود {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (الطلاق:1) {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة:229).

وبالمقابل فإذا أحسن له شخص بفعل ما فإنّه يتحوّل عنده إلى إنسان محبوب وإن كان معروفاً بابتعاده عن الشريعة، فالإمام يدعو إلى التفكيك بين ذات الشخص وفعله وعرض كل منهما على ميزان التقييم بمعزل عن الآخر، فإذا كانت ذاته وباطنه صالحة فلا يجوز لك تسقيطه في المجتمع لموقف استنكرته منه، أو أخطأ فيه فإنّ المؤمن قد يقع في الخطأ والخطيئة ثم يتوب ويصلح شأنه ويعود قال الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف:201) فلا يجوز انتهاك حرمة المؤمن لفعل سيء صدر منه.

هذه مشكلة مهمة نعاني منها يعالجها الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالالتفات إلى هذا الحديث الشريف، فلتكن عندنا رويّة وحكمة في تعاملنا مع الآخرين، ولا نتورط أمام الله تعالى في تسقيط الآخرين ورفضهم والتشهير بهم لموقف اختلفنا فيه معهم وهذا الدرس الذي أردت بيانه واستفادته من الحديث النبوي الشريف.

ص: 89

وقد شهدنا في شهري محرم وصفر الحاليين تسقيطاً وتشهيراً من البعض لأنهم لم يوافقونا على بعض المواقف التي اتخذناها ونعتقد أن فيها رضا الله تعالى وصلاح الأمة، وقد أصبحت هذه الحالة السيئة منتشرة بكل أسف والمفروض بمن يعمل وفق تعاليم المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أن يفكّك بين الفعل وذات فاعله حتى لو اعتقد أن ما صدر منه كان سيئاً. ولا تفوتني الإشارة إلى أنَّ المعروف والمتداول إن الظاهر انعكاس للباطن، وإن الباطن هو الأصل والظاهر مظهر له وكاشف عنه، لكن لا يبعد أن يستظهر العكس من الخطبة الشريفة لقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (واعلم أن لكل ظاهرٍ باطناً على مثاله) أي أن الباطن يتشكل وفق الأفعال التي تصدر من العبد، فإن الشخص صاحب الباطن السيء يستطيع أن يتكلّف القيام بأفعال صالحة وهذا يغيّر باطنه تدريجياً إلى الصلاح وإن كان ليس كذلك قبل ذلك، وبالعكس فقد يكون له باطن صالح لكن قام بأفعال سيئة من دون أن يتوب ويستغفر ويندم فيفسد باطنه.

وهذا معنى صحيح وموافق للروايات التي مضمونها: إذا أذنب العبد صارت في قلبه نكتة سوداء(1)، فإذا لم يتب وأذنب ثانياً صارت في قلبه نكتة ثانية وهكذا حتى يسوّد القلب ويموت فلا يرجى منه الخير والعياذ بالله تعالى.ح2

ص: 90


1- أنظر: أصول الكافي- الشيخ الكليني: 1/ 166/ح2

القبس/48 : سورة الأنفال:36

اشارة

{فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيهِم حَسرَة}

موضوع القبس:من لا يقدّم ما عليه في طاعة الله تعالى يعطي

أكثر منه في معصيته

وردت الآية في سورة الانفال ضمن سياق الحديث عن معركة بدر وملابساتها ونتائجها، وتشير الى حماقة وجهل وسوء عاقبة مشركي قريش الذين كفروا وتمردوا واستكبروا عن الايمان بالله تعالى وطاعته ورفضوا تكاليفها لكنهم أصروا على عبادة الاصنام وأنفقوا اموالاً ضخمةً لتجهيز المقاتلين(1) للقضاء على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأصحابه المؤمنين وانهاء دعوته المباركة.

فالأموال التي بخلوا بها ولم ينفقوها في طاعة الله تعالى لم ينتفعوا بها فقد انفقوها في الصد عن سبيل الله تعالى سواءاً بالحرب على المؤمنين او بمنع إقامة شريعة الله تعالى او بإبعاد الناس عن الدين ونحو ذلك من اشكال الصد عن سبيل الله تعالى فكانت عليهم حَسْرَةً في الدنيا لأنهم صرفوها في مضرتهم وجلب العار لهم او تركوها لذريتهم ولم تنفعهم إذ غُلبوا وهزموا ثم الحسرة الأكبر والعاقبة الأفظع في الاخرة حيث يساقون الى جهنم بكل إهانة وتعذيب.

وظاهر الاية ان كونهم كافرين يدفعهم الى هذا الفعل وكما قالوا ان تعليق

ص: 91


1- في تفسير البرهان:4/ 164:(وما بقي من عظماء قريش إلا اخرجوا مالاً وحملوا ووقروا).

الحكم على الوصف يشعر بالعلية، فان كفرهم هذا سبب وعلة تدعوهم الى هذا الظلم والفسق ويؤدي بهم الى جهنم التي هي حصاد افعالهم {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} والحشر لغةً (إخراج الجماعة عن مقرهم وإزعاجهم الى الحرب ونحوها ولا يقال الحشر إلا في الجماعة)(1) كما عن الراغب في المفردات.فتجمّعهم في الدنيا ضد الحق وأهله وخروجهم حاشرين لمحاربة الله ورسوله تجسّم بخروجهم حاشرين الى جهنم افعالهم يوم القيامة.

فالآية تكشف عن حقيقة مهمة في حياتنا لو التفتنا اليها بعمق ووعي لأثّرت في توجيه الناس نحو الصلاح وخلاصتها ان من يمتنع عن بذل ما يتطلبه الايمان وطاعة الله تعالى فأنه سيضطر الى ان يعطي أزيد من ذلك راغماً في معصية الله تعالى فتجتمع عليه الحسرة والعقوبة لكن هذه الحسرة لا قيمة لها ولا ثمرة فيها لأنها جاءت في غير وقت العمل والتدارك.

هذه الحقيقة القرآنية لا تختص بالكافرين، فقد يبخل المتدين الذي يصلي ويصوم لكنه لا يدفع الحقوق الشرعية فيبتلى بصرف ماله في أمور عبثية أو لهوية او كمالية او ربما محرمة فتكون الحسرة عليه مضاعفة لتقصيره في إداء الواجب عليه من جهة ولإنفاق المال في ما يوجب له حسرة وعقوبة بالنار من جهة أخرى عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:ما من رجل يمنع درهماً في حقه إلا أنفق اثنين في غير حقه، وما من رجل يمنع حقاً في ماله إلا طوّقه الله به حية من نار يوم19

ص: 92


1- مفردات غريب القرآن- الأصفهانى: 119

القيامة)(1)، وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من منع حقاً لله عز وجل أنفق في باطل مثليه)(2).او انه يتركه لورثته فيكون سبباً لحسرته على نحو اخر، روي عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير قوله عز وجل {كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ} (البقرة:167)، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(هو الرجل يدع ماله لا ينفقه في طاعة الله عز وجل بخلاً ثم يموت فيدعه لمن يعمل فيه بطاعة الله أو بمعصية الله، فإن عمل فيه بطاعة الله رآه في ميزان غيره فرآه حسرةً وقد كان المال له، وإن كان عمل به في معصية الله قوّاه بذلك المال حتى عمل به في معصية الله عز وجل)(3).

وقد وصف أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مثل هذا الرجل بقوله:(إن أعظم الحسرات يوم القيامة حسرة رجل جمع مالاً بمعصية الله فمات فورثه رجل دخل به الجنة)(4).

ويُفهم من بعض الروايات ان ما يتعرض له المال احياناً من سرقة او تلف انما هو بسبب عدم اخراج الزكاة والخمس ونحوهما من الحقوق الشرعية، وورد عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (قد يبتلي الله المؤمن بالبلية في بدنه او ماله او أهله، ثم تلى هذه الآية {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَ-ن كَثِيرٍ} (الشورى:30)(5).76

ص: 93


1- وسائل الشيعة:كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 6 ح1.
2- نفس الباب، ح2.
3- وسائل الشيعة:كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه، باب 5 ح5.
4- نهج البلاغة، باب الحكيم، رقم 429.
5- تفسير القمي: 2/ 276

كما لا تختص هذه الحقيقة بالأموال وانما تتعداها الى ما تتطلبه طاعة الله تعالى من أصغر شيء كالتكاسل عن أداء عمل عبادي معين او حضور في مجلس ذكر أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) او السعي لقضاء حاجة مؤمن فانه يبتلى بإمضاء ذلك الوقت والجهد في غير طاعة الله تعالى في أمور عبثية ومُضيعة للوقت او ما هو أسوء من ذلك فتجتمع عليه الحسرة في الدنيا لإضاعته فرصة الهداية واكتساب الجنان المتاحة لهم والندامة والعقوبة في الأخرة، وهكذا في كل أمر راجح شرعاً او عقلاً، خذ مثلاً بعض الأمهات يتثاقلن عن ارضاع اولادهن الصغار تكاسلاً او حفاظا على رشاقتها ونحو ذلك وتعطيه حليبا صناعيا فيبتلى الطفل بآثار سلبية كالمغص ونحو ذلك ما تتمنى معه الام لو ارضعت طفلها وارتاحت من هذا البلاء.وتمتد تطبيقات هذه الحقيقة الى كل المستويات فعلى صعيد الزعامات والقيادات المتبعة رأينا كثيراً من الناس يتبعون قيادات ما انزل الله بها من سلطان وربما تصل الى مستوى اتباع يزيد والمقبور صدام وأمثالهما من أجل فتات دنيا زائلة وتترك طاعة الله ورسوله والحجج المعتبرة والنتيجة خسران الدنيا والأخرة قال تعالى {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ، إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ، وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (البقرة:165-167) فالآية تقول:ليت هؤلاء الذين ظلموا انفسهم ولم يتبعوا الحق وظلموا الحق نفسه إذ خذلوه ولم ينصروه يرون عاقبتهم السيئة والمؤلمة حين يجتمع الاتباع مع القادة الظالمين يوم القيامة حيث يتبرأ هؤلاء القادة من اتباعهم

ص: 94

وتنقطع بينهم الاواصر والعلاقات ولا يجدون عندهم نفعاً ولا يدفعون عن انفسهم عذاب جهنم وكل عذاب فضلاً عن اتباعهم فيكتشف الاتباع عجز قادتهم وزعاماتهم وضلالهم وستصيبهم حسرةٌ بسبب اتباعهم وطاعتهم لقادة مزيفين وسيتأكدون من حقانية ما كان يقوله الله تعالى ورسوله {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً} ولم يكن لهم إلا تمني العودة الى دار الدنيا للعمل بما اكتشفوه من الحقيقة {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا} (البقرة:167) لكنه تمني باطل لا يتحقق لانهم أعطوا الفرصة الكافية في الدنيا وقد كانت هذه الحقيقة ماثلة امامهم بما اخبر به الله تعالى ورسله لكنهم حجبوا بصائرهم عن رؤيتها بغفلتهم وجهلهم واتباع شهواتهم وتضليل شياطين الانس والجن، ومع ذلك فهم غير صادقين في تمنيهم هذا {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} (الأنعام:28). هذا على صعيد الزعامات والقيادات الباطلة وأتباعهم من غير المؤمنين لكن هذه الحقيقة لها مستويات داخل المتدينين ايضاً، فقد يفضل الشخص الرجوع الى الجهة التي تحافظ على راحته ومصالحه وتداهنه او لأنها تعطيه ما يشتهيه ويوافق هواه ويدغدغ عواطفه، او لأنها لا تكلفه جهداً أو حركةً، ويترك القيادة الحقة التي تذكره بالله تعالى وتعمل على إعلاء كلمة الله تعالى وصلاح الأمة والارتقاء بها لأنها تتطلب جهاداً للنفس وحركة وعزيمة، ونتيجةُ اختياره هذا نسيان ربه شيئاً فشيئاً وميله الى الدنيا والانشغالات التافهة ونقصان وعيه ودينه حتى يتحول الى شكليات وطقوس فارغة من المحتوى فتكون حسرة عليهم لانهم لم يستثمروا فرصاً كانت ستكسبهم درجات عالية في الجنة.

وترتقي تطبيقات الآية حتى تصل الى مستوى بذل النفس فأن الأمة لما

ص: 95

تخاذلت عن نصرة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وتقاعست عن نصرة الامام الحسن(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أُبتليت بإمارة معاوية الذي جاء الى الكوفة بعد صلح الامام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فخطب في أهلها الذين قاتلوه في صفين وأُزهقت أرواح عشرات الألاف من الفريقين فقال في كلامه (والله اني ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا، ولا لتحجوا ولا لتزكوا، انكم لتفعلون ذلك، وانما قاتلتكم لأتأمر عليكم، وقد اعطاني الله ذلك وانتم له كارهون)(1).ولما لم تفي الأمة للإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بوعود النصرة وبخلت بالنفوس عليه وانقلبت لتقاتله فكتب عليها الذلة والخنوع وتسلط الأشرار من أمثال يزيد وابن زياد والحجاج وغيرهم من الطواغيت فقتلوا من خيرة ابناءها ما زاد على الثمن الذي كانوا سيدفعونه لو نصروا الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وازالوا حكم الطواغيت وتنعموا بعدالة حجة الله تعالى ودولته الكريمة، وقد حذرهم الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من هذه النتيجة وألقى الحجة عليهم في خطابه يوم عاشوراء وكان مما قاله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فأصبحتم إلباً لأعدائكم على اوليائكم بغير عدلٍ أفشوه فيكم ولا أملٍ أصبح لكم فيهم، أهؤلاء تعضدون وعنا تتخاذلون؟ ويلكم! أتطلبوني بدم أحد منكم قتلته، أو بمال استملكته، أو بقصاص من جراحات استهلكته)(2).

وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اما والله لا تلبثون بعدها الا كريثما يركب الفرس حتى يدور بكم دور الرحى ويقلق بكم قلق المحور)(3) اذن لما امتنعوا عن القيام بواجب5.

ص: 96


1- حياة الامام الحسن 2 / 254.
2- تاريخ الطبري:5 / 425، ينابيع المودّة للقندوزي:3 / 64.
3- الصحيح من مقتل سيد الشهداء واصحابه :656، 664، 665.

النصرة للإمام الحق لم يحصلوا على ما أرادوا من الدعة والراحة وسرعان ما دفعوا الثمن الذي حذرهم منه غالياً.وقال زهير بن القين في خطبته (فأنكم لا تدركون منهما - يزيد وابن زياد - الا بسوء عمر سلطانهما كله ليسملان اعينكم ويقطعان ايديكم وارجلكم، ويمثّلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل ويقّتلان اماثلكم وقراءكم أمثال حجر ابن عدي واصحابه وهاني ابن عروة واشباهه).

لاحظ كيف تحول بخلهم بالتضحية الواجبة في سبيل الله الى نصرة للأشرار وسقوط مريع في تلك الجريمة البشعة والعاقبة المرعبة.

وخذ مثالا نعيشه اليوم وهو التصدي البطولي للمجاهدين والمتطوعين لصد الهجمة الهمجية للدواعش والإرهابيين الذين أعلنوا بصراحة انهم قادمون لنقض العتبات المقدسة في النجف وكربلاء واحتلالها وغرّهم سقوط الموصل وتكريت في يومين بأيديهم، فنهض المؤمنون الغيارى في وجوههم واسترجعوا منهم ما اغتصبوه وطهرّوا الأرض من رجس وجودهم وكلّفنا ذلك شهداء كرام وجرحى اعزاء لكن الثمن سيكون اضعافه لو تقاعسنا ولم نقم بهذا الواجب.

والآية أيضا بصيغة المضارع الذي يعني استمرارية الحالة أي ان الذين كفروا وأعداء الإسلام من الطواغيت والقوى المستكبرة وذيولهم واتباعهم ومنفذي خططهم سيستمرون في انفاق أموالهم للصد عن سبيل الله بكل الأساليب التي اشرنا الها اختصارا، وشواهده كثيرة في زماننا لكن النتيجة تكون واحدة دائما وقطعية وهي الخسارة والحسرة ونشاهد هزيمتهم باستمرار بأذن الله تعالى .

كما ان هذه الحقيقة التي استفدناها من الآية جارية مدى الزمان فلا يقصّر احد في القيام باي عمل راجح شرعاً او عقلاً وليس فقط فعل الواجبات وترك

ص: 97

المعاصي، بل المستحبات أيضا وكل عمل انساني، لأنه ان قصّرَ خسر هذه الفرصة للكمال والسمو والفلاح وسوف لا يحصل على النتيجة التي أرادها بل يقع في عكس ما كان يريدهُ، هذه النتيجة اخبر عنها الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بقوله:(مَنْ حاوَلَ أَمْراً بِمَعْصِيَةِ اللهِ تَعالى كانَ أَفْوَتَ لِما يَرْجُو، وَأَسْرَعَ لمجيء ما يَحْذَرُ)(1).وبالعكس فأن من يجاهد نفسه ويتخلى عن مشتهياتها وما تمنيه به من السعادة والراحة الموهومة فان الله تعالى يعّوضه عن صبره ومجاهدته بما يُقرّ عينه حقيقةً وليس زيفاً كالذي ورد في النظر الى المحرمات، روي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو يحدث عن ربه (النظرةُّ سهم مسموم من سهام أبليس، من تركها من مخافتي أبدلته ايماناً يجدُ حلاوته في قلبه)(2) فلاحظ التعبير بالابدال الذي يعني الحقيقة التي ذكرناها .

{إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق:37)، {وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ} (الحاقة:12).4.

ص: 98


1- الكافي 2 :373 ح 3 ، تحف العقول :177 ، بحار الأنوار 78 :120 ح 19 وفيهما اسرع لما يحذر و 73 :392 ح 3 ، معادن الحكمة 2 :45 ح 101 ، وسائل الشيعة 11 :421 ح 3 .
2- ميزان الحكمة:9/ 4.

القبس/49: سورة الأنفال:41

اشارة

{وَٱعلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمتُم مِّن شَيء فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُۥ}

موضوع القبس:إخراج الحقوق الشرعية:الوجوب والإشكالات

*موضوع القبس:إخراج الحقوق الشرعية:الوجوب والإشكالات (1)

الآية ظاهرة بل صريحة في وجوب إخراج الخمس من الغنائم، وقد ذكرت العناوين التي يصرف فيها الخمس وهي ستة، لله ولرسوله والذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وقد دلت روايات مفصّلة عن الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن الاسهم الثلاثة الأولى تكون لولي الأمر يصرفها في مصالح المسلمين وتقوية الإسلام ونشره، اما الثلاثة الأخرى فهي للمحتاجين من ذرية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولذلك سمي النصف الأول (حق الامام) وسمي الثاني (حق السادة) عوضا لهم عن الزكاة التي لا تحل لهم من سائر الناس فأباح الشارع المقدس لهم من الخمس (ما يستغنون به في سنتهم، فإن فضل عنهم شيء فهو للوالي وأن عجز او

ص: 99


1- محاضرة ألقيت على حشد كبير من فضلاء وطلبة الحوزة العلمية غصَّ بهم مسجد الرأس الشريف المجاور لمرقد أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في مناسبة دينية بعد ذكرى ولادة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في 13/رجب/1423 ه- الموافق 20/ 9/ 2002 م، وكانت هذه المحاضرات والحشود الحاضرة ترعب النظام الصدامي المقبور (راجع تأريخ تلك الفترة في مقدمة المجلد الأول من موسوعة خطاب المرحلة وكتاب (جهاد واجتهاد).

نقص عن استغنائهم كان على الوالي أن ينفق من عنده بقدر ما يستغنون به، وإنما صار عليه ان يمونهم لان له ما فضل له ما فضل عنه)(1) والآية وأن وقعت في سياق ما حصل في معركة بدر من خلاف على الغنائم إلا أن من المعلوم أن الآيات القرآنية لا تُقّيد بمورد النزول والا أصبح كتابا للماضي وليس خالدا لكل الاجيال، لذا فالاية عامة شاملة.

و(الُغنم) في الأصل ((إصابة الغَنَم والظفر به ثم استعمل في كل مظفور به من جهة العدى وغيرهم)) كما في مفردات الراغب(2)، فيجب الخمس في كل غنيمة يظفر بها الانسان سواء في الحرب وغيرها ولا وجه لتخصيص الوجوب بغنائم الحرب، وقد وردت عشرات الروايات التي تذكر موارد وجوب الخمس وشروطه ونحو ذلك مما ذكر في الرسائل العملية للفقهاء ويكفي ان نذكر رواية واحدة معتبرة، في الكافي بسنده عن سماعة قال (سالت أبا الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن الخمس فقال:في كل ما افاد الناس من قليل او كثير)(3) وقد بحثنا مفصلا ادلة وجوب الخمس ومستحقيه في موسوعة فقه الخلاف(4)، وسيأتي شيء من ذلك ان شاء الله تعالى.

والنور الذي نريد اقتباسه من الاية هو شكوى الائمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من عزوف الناس عن دفع ما بذمتهم من حقوق شرعية الى مستحقيها، وما يصيبلى

ص: 100


1- الكافي:1/ 453، ح4
2- مفردات غريب القرآن- الأصفهاني:366
3- الكافي:1/ 457 ، ح11
4- فقه الخلاف: 3/ 9، ط. الأولى

الامة من عاقبة سيئة في الدنيا والاخرة اذا امتنعوا عن ذلك وكيف تقنع الناس بامتثال الواجب الشرعي.ومن تلك الشكاوى ما جاء في الرسالة الثانية التي وجّهها الإمام المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى الشيخ المفيد (رحمه الله)، والمؤرخة غرة شوّال سنة اثني عشر وأربعمائة(1)، أي قبل أكثر من ألف عام:(ونحن نعهد إليك أيها الولي المخلص المجاهد فينا الظالمين(2)، أيّدك الله بنصره الذي أيّدَ به السلف من أوليائك الصالحين إنه من اتقى ربَّه من إخوانك في الدين وأخرج مما عليه إلى مستحقيه كان آمناً من الفتنة المبطلة ومحنها المظلمة المضلّة، ومن بخل منهم بما أعاده الله من نعمته على من أمره بصلته فإنه يكون خاسراً بذلك لأولاه وآخرته، ولو أن أشياعنا وفّقهم الله لطاعته على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخّر عنهم اليُمن بلقائنا، ولتعجّلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا مما نكرهه ولا نؤثره منهم، والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل).

أسباب حرمان البشرية من لقاء الحجة :

فالإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يبينُ في هذا المقطع من الرسالة الشريفة أسباب حرمان

ص: 101


1- تجدها في كتاب الاحتجاج للطبرسي:2/ 324 . والذي يظهر من تأريخ التوقيع الثاني أنه وصل إلى الشيخ قبل وفاته بثمانية أشهر تقريباً حيث كانت وفاته في يوم الجمعة لثلاث خلون من شهر رمضان المبارك سنة 413ه- وعمره الشريف 75سنة أو 77 سنة وقبره اليوم في الرواق الكاظمي. وجاء في طرائف المقالات الجزء الثاني عن الشيخ يحيى ابن بطريق الحلي (إن الإمام الحجة (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كتب إلى الشيخ المفيد (رحمه الله) ثلاث كتب في كل سنة كتاباً).
2- لم يجاهد بسيف بل دفع الكثير من الشبهات عن مذهب أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).

البشرية وخصوصاً شيعته من طلعته المباركة وألطاف لقائه السنية، ويخصُ شيعته بالتأسف لأنهم مستحقون للفوز بلقائه بما يحملون من ولاء ونصرةٍ واعتقاد راسخ بهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، إلا إنه يمنعهم من ذلك بعض الموانع، أما غيرهم فهم غير مستحقين أصلاً للتشرف بلقائه، وقد جعل من أهم تلك الأسباب امتناعهم عن أداء الحقوق الشرعية التي فرضها الله تبارك وتعالى في أموالهم وإيصالها إلى مستحقيها. الأمور المترتبة على عدم دفع الحقوق :

وقد رتب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على ذلك أمرين :

1-تأخير ظهوره (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وبما يعني استمرار معاناة البشرية من الظلم والاضطهاد والتعسف والانحراف والضلال وكثرة مستحقي النار من البشر.

2-عدم الأمان من الفتن المضلة، لأن رايات ضلال عديدة تخرج قبل ظهور القائم (عج) وتخلط الأوراق على الناس، فيتيهون ولا يستطيعون التمييز بين راية الحق وراية الباطل، وقد عبّر أحد أصحاب الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) عن مخاوفه من مثل تلك الفتنة، وسأل عن كيفية النجاة والإصابة في التمييز بين هذه الدعوات المختلطة، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(والله إن أمرنا لأبين(1)من الشمس)(2)، ومن مقومات هذاار

ص: 102


1- أصول الكافي- الشيخ الكليني: 1/ 336/ح3
2- إلا إن هذه الأضاليل تمرر على الذين لم يعدوا أنفسهم الإعداد المطلوب لتحمل أمر الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان)، أما المؤمن المخلص لله تعالى فسيكون أمر الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) له أوضح من الشمس، وشواهد ذلك في واقعنا المعاصر كثيرة فكم ممن لهم مكانة علمية مرموقة تخفى عليهم أوضح الواضحات وتمرر عليهم الأباطيل، وكم من البسطاء ذوي القلوب النقية تعرف الحقيقة وتهتدي لها بيسر والمعيار

الوضوح - بحسب ما أفادته الرسالة الشريفة - أداء الحقوق الشرعية.

كيف يبخل الناس على الله بما رزقهم؟

كما تشير الرسالة ضمناً إلى أن كل ما بأيدي الناس من أموال إنما هو شيء رزقهم الله تعالى إياه، ولو شاء منعهم، فكيف يبخلون عليه تبارك وتعالى بطاعته وتنفيذ أمره في إنفاق البعض اليسير مما رزقهم(1) لقضاء حوائج المحتاجين الذين ابتلاهم الله بالمنع والفقر كما ابتلى هؤلاء بالعطاء والغنى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (هود:7).

لماذا نركز حديثنا على الخمس :

وتندرج تحت عنوان الحقوق الشرعية مصاديق عديدة كالزكاة والخمس والكفارات والنذور وردود المظالم، أما الإنفاق المستحب فمجالاته واسعة جداً، ونحن نركّز في حديثنا هذا عن الخمس لأمرين:

1-إنه من أهم الفرائض المالية، ويشكل اليوم عنصراً مهماً لحفظ التوازن الاقتصادي في المجتمع بعد أن قلّ دور الزكاة عمّا كانت عليه في صدر الإسلام بسبب تغيّر نمط الحياة الاقتصادية، فبعد أن كانت عُمدَة واردات الناس مستندة

ص: 103


1- قال تعالى {قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} (إبراهيم:31) و {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(البقرة:254) و{لَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ} (البقرة:3).

إلى الزراعة وتربية الحيوانات التي هي موارد وجوب الزكاة أصبحت اليوم مستندة إلى التجارة والصناعة والحرف مما يخرجها - بحسب المشهور- عن دائرة وجوب الزكاة، فيشملها الخمس، فيكون تشريعه إلى جنب تشريع الزكاة دليلاً على خلود هذه الرسالة وصلاحيتها لتنظيم حياة البشرية إلى النهاية حيث خطط الشارع المقدس لكل تغيرات الحياة.2-توالي هجمات التشكيك في وجوب الخمس وصدّ الناس عن أداء هذه الفريضة بأساليب مختلفة تأتي الإشارة إليها بإذن الله تعالى.

مانع الخمس يستحق النار :

والخمس فريضة واجبة كوجوب الصلاة والصوم والزكاة والحج في الموارد التي ذكرها الفقهاء (قده) استناداً إلى القرآن الكريم وسنة النبي العظيم (صلى الله تعالى عليه وعلى وآله الطاهرين) الذين هم عدلُ الكتاب(1)، فمن أخلَّ بشيء منها فقد ارتكب كبيرة يستحق عليها {ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ}(التحريم:6)، {يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}(الحج:2)، وقد عدّت بعض الروايات الشريفة بصراحة حبس الحقوق الشرعية من غير عسر من الكبائر، وقرنها الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)(2) إلى الزنا وشرب الخمر واللواط والفرار من الزحف وأكل مال اليتيم والربا، وكذا في حديث عن

ص: 104


1- ملحق شكوى القرآن, من نور القرآن: 3/ 284
2- وسائل الشيعة:كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ، باب 46 ح 33.

الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)(1).

ما هو الدليل على وجوب الخمس؟

وقد نصّ القرآن على وجوب الخمس بقوله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}(الأنفال:41)، ويراد بالغنيمة مطلق ما يستفيده الإنسان، ولا تختص بغنائم الحرب، قاله الراغب(2)، وأكدته موثقة سماعة، قال سألت أبا الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن الخمس، فقال:(في كل ما أفاد الناس من قليل أو كثير)(3)، وغيرها.

وقد أجمع علماء الفريقين على أن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان يعمل بها، فيخصّ قرباه من بني هاشم بالخمس حتى وفاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، ثم منعه القوم على مستحقيه من آل الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وجعلوهم كغيرهم (راجع الكشاف في تفسير هذه الآية ومسند أحمد وغيرها من الصحاح)(4).

وقد عبّر الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) عن لوعتهم لهذه المخالفة الصريحة للكتاب والسنة، فعن أبي جعفر الأحول قال:قال أبو عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ما تقول قريش في

ص: 105


1- نفس المصدر ح36 .
2- المفردات في غريب القرآن مادة (غنم) . حيث يقول:(والغنم بالضم فالسكون، إصابته والظفر به، ثم استعمل في كل مظفور به من جهة العدى وغيرهم ومن ذلك يظهر، أن المقصود بالغنيمة في اللغة، هو كل ما يكسبه الإنسان ويربحه من أي طريق كان. بمشقة أو غير مشقة، في حرب أو في سلم، من دون تقييد).
3- وسائل الشيعة:كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس ، باب 8 ح6 .
4- النص والاجتهاد للسيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي، ص 50 .

الخمس؟ قال:قلت:تزعم إنه لها؟ قال:ما أنصفونا والله، لو كان مباهلة لتباهُلنّ بنا، ولئن كان مبارزة لتبارُزن بنا، ثم يكون هم وعلي سواء)(1).

هل يُسقط الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) حقهم بسبب الظروف؟

نعم، قد يُسقط الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) حقّهم في فترةٍ ما بسبب الظروف التي يمرّون بها، كما في رواية يونس بن يعقوب قال:(كنت عند أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فدخل عليه رجل من القماطين فقال:جعلت فداك، تقع في أيدينا الأموال والأرباح وتجارات نعلم أن حقّك فيها ثابت، وإنا عن ذلك مقصرون؟ فقال أبو عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):ما أنصفناكم إن كلفناكم ذلك اليوم)(2)، فالسائل كان يعلم بثبوت حق الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في ماله، لكن الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أكّد له أنه قد أسقطه عنه اليوم لا مطلقاً.

لكن بعد ثلاثة أجيال يجد الإمام الجواد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فرصة مناسبة لبيان بعض تشريعات الخمس، فكتب إلى بعض أصحابه:(إن الذي أوجبتُ في سنتي هذه وهذه سنة عشرين ومائتين لمعنى من المعاني، أكره تفسير المعنى كله خوفاً من الانتشار، وسأفسّر لك بعضه إن شاء الله:إن مواليَّ أسأل الله صلاحهم أو بعضهم قصّروا فيما يجب عليهم، فعلمتُ ذلك، فأحببتُ أن أطهرهم وأزكّيهم بما فعلت من أمر الخمس في عامي هذا، قال الله تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ

ص: 106


1- كتاب الخمس ، أبواب قسمة الخمس ، باب 1 ح14 / 15 .
2- وسائل الشيعة:كتاب الخمس، أبواب الأنفال وما يختص بالإمام، باب4، ح6.

الرَّحِيمُ، وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ، وَسَتُرَدُّونَ إلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(التوبة:103-105) إلى أن قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(فأما الغنائم والفوائد فهي واجبةٌ عليهم في كل عام، قال الله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ…}(1). ويأمر شيعته في نهاية الكتاب بإيصال الحقوق إلى وكلائه. وحرّموا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) التصرف قبل دفع الحقوق الشرعية، فعن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(لا يحلّ لأحد أن يشتري من الخمس شيئاً حتى يصل إلينا حقّنا)(2).وكتب رجل من تجار فارس من موالي الإمام أبي الحسن الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يسأله الإذن في الخمس، فكان مما قال في جوابه:إن (الخمس عوننا على ديننا وعلى عيالنا وعلى موالينا، فلا تزووه عنا ولا تحرموا أنفسكم دعانا ما قدرتم عليه، فإن إخراجه مفتاح رزقكم وتمحيص ذنوبكم وما تمهّدون لأنفسكم ليوم فاقتكم، والمسلم من يفي الله بما عهد إليه)(3)، وسألهُ جماعة أن يجعلهم في حلٍّ من الخمس، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ما أمحل هذا! تمحضونا المودة بألسنتكم وتزوون عنا حقاً جعله الله لنا وجعلنا له وهو الخمس، لا نجعل لا نجعل لا نجعل لأحد منكم في حل)(4)، وفي مكاتبة الإمام صاحب العصر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى سفيره محمد بن عثمان العمري (رحمه الله):(لعنة الله والملائكة والناس أجمعين على من استحلّ من مالنا .

ص: 107


1- وسائل الشيعة:كتاب الخمس ، أبواب ما يجب فيه الخمس ، باب 8 ، ح5 .
2- أبواب ما يجب فيه الخمس ، باب 1 ح4 .
3- وسائل الشيعة:كتاب الخمس، أبواب الأنفال وما يختص بالإمام، باب 3 ح2 .
4- نفس الباب، ح7 .

درهماً)(1).

الوعيد بحق مانع الزكاة يشمل الخمس أيضاً :

جميع ما ورد من التهديد والوعيد لتارك الزكاة ينطبق على تارك الخمس بوجهين:

1-إن كليهما فريضتان ماليتان، والغرض منهما واحد، بل إن أمر الخمس أخطر لتعلق حق أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وذرياتهم فيه بعد أن حُرّمت عليهم الزكاة، قال الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إن الله لا إله إلا هو لما حرّم علينا الصدقة أبدل لنا الخمس، فالصدقة علينا حرام، والخمس لنا فريضة)(2)، وإنما صار الاهتمام بالزكاة في صدر الإسلام لما قلناه من أنّ طبيعة الحياة الاقتصادية يومئذٍ كانت مورداً لوجوب الزكاة.

2-إن كثيراً من موارد ذكر الزكاة أريد بها معناها الأعم، أي مطلق الإنفاق الواجب في سبيل الله تعالى، أي عموم الحقوق الشرعية لا خصوص الزكاة المصطلحة(3)، كما قد يعبّر عن الزكاة الواجبة بالصدقة(4) في مثل قوله تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها...}(التوبة:60)،

ص: 108


1- نفس الباب ح7 .
2- وسائل الشيعة:كتاب الزكاة ، أبواب المستحقين للزكاة ، باب 29 ح7.
3- كما انه قد يعبر عن الصدقة بالزكاة كما عبر الله تعالى عن تصدق أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بخاتمه بقوله:{إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ} (المائدة:55) .
4- قال تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (التوبة:103) .

ومما جاء في مانع الزكاة الشاملة لمانع الخمس بالتقريب المتقدم ما ورد عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(ما من عبدٍ منع من زكاة ماله شيئاً إلا جعل الله ذلك يوم القيامة ثعباناً من نار مطوّقاً في عنقه ينهش من لحمه حتى يفرغ من الحساب، وهو قول الله عز وجل:{سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ} (آل عمران:180) (يعني ما بخلوا به من الزكاة)(1).ويتخذ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إجراءً في حق مانعي الزكاة بإخراجهم من المسجد، كما ورد عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:بينما رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في المسجد إذ قال:قم يا فلان، قم يا فلان، حتى أخرج خمسة نفر، فقال:(اخرجوا من مسجدنا لا تصلّوا فيه وأنتم لا تزكّون)(2)، وعن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من منع قيراطاً من الزكاة فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً)(3)، وفي وصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(يا علي، كفر بالله العظيم من هذه الأمة عشرة، وعدَّ منهم مانع الزكاة، ثم قال:يا علي، ثمانية لا يقبل الله منهم الصلاة، وعدَّ منهم مانع الزكاة، ثم قال:يا علي، من منع قيراطاً من زكاة ماله فليس بمؤمن ولا بمسلم ولا كرامة، يا علي، تارك الزكاة يسأل الله الرجعة إلى الدنيا، وذلك قوله عز وجل:{حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ(4)} (المؤمنون:99)(5). .

ص: 109


1- وسائل الشيعة:كتاب الزكاة ، أبواب ما تجب فيه الزكاة ، باب 3 ح3 .
2- نفس الباب ح7 .
3- وسائل الشيعة:كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة ، باب 4 ح5 .
4- وتفهم ذلك من خلال قوله تعالى {وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} (المنافقون:10) إذا تمعنت جيداً في هذه الآية الكريمة تدرك ما للصدقة من أهمية بالغة فأول شيء يأتي على ذهن العبد بعد الموت هو (الصدقة).
5- وسائل الشيعة:كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة ، باب 4 ح7 .

لعدم دفع الخمس آثارٌ وضعية :

وتكون المشكلة أعظم عندما نعلم إن لعدم دفع الخمس آثاراً وضعية وشرعية ذكرها الفقهاء (قدّس الله أرواحهم)، فإن اللقمة غير المُخمّسة تكون حراماً فتترك آثاراً سيئة في الذرية التي تتكون منها، والملبس غير المخمس لا يكون مباحاً فلا تصح الصلاة فيه، والماء إذا لم يكن مباحاً فالوضوء به باطل، وبذلك تتراكم هذه الذنوب والمشاكل على مانع الحقوق الشرعية.

علاج مشكلة عدم دفع الناس للخمس :

ولما كان العلم بالشيء والاقتناع به هي الركيزة الأساسية للاندفاع نحو العمل والتطبيق، وطالما قلنا(1):إن علاج أي مشكلة يجب أن يتوجه أصلاً إلى علل المشكلة وأسبابها ومناشئها، لا معلولاتها وآثارها الظاهرية ونتائجها، فإنه عمل غير حكيم(2).

ص: 110


1- ملحق شكوى القرآن, من نور القرآن: 3/ 282
2- بعض مناهج علم الأخلاق تركز على جانب المعلولات ولا تعالج العلة أو السبب لهذه الرذائل فمثلاً عندما يتكلم عن رذيلة من الرذائل فإنه يتناولها من جميع الجهات من حيث معنى الرذيلة وذمها في الأخبار وعلاجها إلا أنه لا يتطرق إلى بيان مناشئ هذه الرذيلة في النفس الإنسانية والنوازع التي تؤدي إلى ظهورها وكيفية إزالة هذه العلل والأسباب واجتناب المرض من أصله (فقد تجد أن سبب الغيبة مثلاً إما الحسد أو الأنانية أو الاستعلاء وكذلك تجد أن الغفلة وراء جميع المعاصي وهكذا) لذا ينبغي عدم الاكتفاء بمعالجة الأعراض الظاهرية للمرض كما أشير إليه بوضوح في كتاب (شكوى القرآن).

فالعلاج يكون على مستويين :

المستوى الأول:عام، بمعنى كيف نحفّز الناس على طاعة الله تبارك وتعالى عموماً وليس في الخمس فقط، ونثير فيهم الاستجابة لداعي الله تبارك وتعالى؟ {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ} (الأنفال:2)، {يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ، وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَْرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (الأحقاف:31-32)، وقد فصّلنا القول في ذلك في فصل (ما هي الدروس المستفادة من طريقة القرآن في إصلاح البشرية) من كتاب (شكوى القرآن)، وفي محاضرات (فلنرجع إلى الله)(1).

وقلنا هناك:إن من الفروق بين الشريعة الإلهية والقوانين الوضعية أن الشرائع الإلهية تربي الإنسان من الداخل أولاً وتبني ذاته، لذا يندفع إلى التطبيق بلا رقابة من الخارج ولا يحتاج إلى أي ضغط للطاعة والامتثال، بينما القوانين الوضعية تحتاج إلى فرض عقوبات وأجهزة مراقبة وردع، ومع ذلك يحاول الشخص بكل وسيلة التحايل والالتفاف عليها، خذ مثلاً الخمس، فإن المؤمن هو وحده يحاسب نفسه ويخرج ما عليه من حقوق ويأتي بكل سرور ليسلمها إلى الحوزة الشريفة أو يصرفها في مواردها، بينما يتهرب بكل الوسائل من الضرائب التي يفرضها عليه القانون، فهذا هو فرق أساسي بين الإسلام والحضارة المادية.

ص: 111


1- راجع: ملحق قبس/105{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا} (النور:31), من نور القرآن: 3/ 218

المحفزات التي تدفع المكلف نحو التطبيق :

وألخصُ لكم بعض هذه المحفزات التي يستثيرها الدين ليدفع المكلف نحو الاستجابة، مع تطبيقها على ما نحن فيه، وقد قسمتها هناك إلى ثلاث محاور نفسية وعقلية وقلبية باعتبارها مداخل الإنسان المتعددة ومنها:

1-إن نعم الله علينا كثيرة {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها} (النحل:18)، سواء في أبداننا أو حياتنا والطبيعة التي من حولنا عموماً، ومن شأن كل عاقل أن يرد الجميل بالجميل {هَلْ جَزاءُ الإِْحْسانِ إِلاَّ الإْحْسانُ} (الرحمن:60)، {وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (القصص:77)، ولما كان الله غنياً عن عباده فيكون رد الجميل إليه بطاعته واستعمال نعمه فيما يرضيه تبارك وتعالى، ومن غير الإنصاف والمروءة أن نعصيه بالنعم التي منّ بها علينا ونبخل عليه بحقه، عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(أن الله تعالى يبعث يوم القيامة ناساً من قبورهم مشدودة أيديهم إلى أعناقهم لا يستطيعون أن يتناولوا بها قيد أنملة، معهم ملائكة يعيّرونهم تعييراً شديداً يقولون:هؤلاء الذين منعوا خيراً من خير كثير، هؤلاء الذين أعطاهم الله فمنعوا حق الله في أموالهم)(1).

إن كل واحدٍ منا يحب أن تزيد النعم عليه وهي بيد الله سبحانه المنعم الحقيقي، وقد وعدنا سبحانه {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ}(إبراهيم:7)، وفي الحديث:(بالشكر تدوم النعم) (2)، ومن أشكال شكر النعمة أن تؤدي حق الله فيها ليزيدها الله تبارك وتعالى، وقال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حديث:(واستنزلوا

ص: 112


1- وسائل الشيعة:كتاب الزكاة ، أبواب ما تجب فيه الزكاة ، باب 6، ح4 .
2- مستدرك الوسائل- الميرزا النوري: 12/ 370

الرزق بالصدقة)(1)، وعموماً فإن طاعة الله تبارك وتعالى سبب لإفاضة البركات:{وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالأْرْضِ} (الأعراف:96).2-إنه إذا أخبرنا إنسانٌ ثقة بأن حيواناً مفترساً في هذه الجهة فإننا نهرب بلا تردد في الاتجاه المعاكس ونحذر منه ونتخذ الإجراءات الواقية من الوقوع في الخطر، فإذا أكّد هذا الخبر ثقة آخر ازداد استعدادنا لذلك وكنّا أكثر حزماً، وقد أخبرنا مائة وأربعة وعشرون ألف نبي ومثلهم من الأوصياء والعلماء وكلهم ثقاة أنه سيكون هناك يوم قيامة، يثاب فيه المطيع على طاعته، ويعاقب العاصي على عصيانه بنارٍ وقودها الناس والحجارة، أفلا يوجب هذا البيان المؤكد الحذر والابتعاد عن كل ما يورّطنا في هذه النار المتأججة ولو احتمالاً؟ وقد وصفها الله تعالى بمشاهد مرعبة، وأخبرنا أنّ معصية الله سبحانه توقعنا فيها، وأن طاعته تورثنا جنةً عرضها السماوات والأرض فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (السجدة:17).

3-أن نسأل أنفسنا سؤالاً:ماذا يخسر الإنسان لو أطاع الله سبحانه واستقام على الشريعة؟ إنه لا يخسر شيئاً، بل على العكس فإنه يعيش ويتمتع بالحياة كما يفعل البعيد عن الله سبحانه، وفوق ذلك له المكاسب الدنيوية والأخروية التي يحققها له الإيمان بالله سبحانه والسير على شريعته، قال تعالى:{وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ} (النساء:104)، وقال تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ1.

ص: 113


1- وسائل الشيعة:كتاب الزكاة ، أبواب الصدقة ، باب 3 ح1.

لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآْياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأعراف:32)، وقد اتبع هذا الأسلوب الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حيث قال لأحدهم:(يا هذا إن كان ما تقول أنت - بأنه لا جنة ولا نار ولا حساب - حقاً فنحن وأنتم سواء، فإننا نأكل كما تأكلون وننكح كما تنكحون، وإن كان الأمر كما نقول - وهو كما نقول - هلكتم ونجونا)(1)، وهو أسلوب لا يستطيع أن يرفضه أي عاقل، وقد جرّب الكثير ممن بدأوا بإخراج الخمس من أموالهم أن ثروتهم ازدادت، حتى أن بعضاً من غير الملتزمين بطاعة الله يخمّسون من أجل زيادة الثروة، فأين الخسارة إذن؟!.4- أن نلتفت إلى أنّ الله تعالى مطّلع علينا ولا تخفى عليه خافية في السماوات والأرض، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد، وقد جعل على كل واحدٍ منا ملائكة يحصون الأعمال في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، وجعل الشهود على ذلك من أعضائنا التي نمارس بها حياتنا:{حَتَّى إِذا ما جاؤُوها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ، وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ، وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ ، وَذلِكُمْ5.

ص: 114


1- قال تعالى:{إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} (النساء:104)، أصول الكافي- الشيخ الكليني: 1/ 78 وقد تقدم القبس في المجلد الأول ص335.

ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ ، فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} (فصلت:20-24)، فإذا التفتنا إلى هذه الحقائق فسنكون دقيقين في تصرفاتنا وسنحسب ألف حساب قبل أن نورط أنفسنا في المعصية ومخالفة الشريعة، ومنها حبس الحقوق الشرعية وعدم إخراجها من المال.5-إن الإنسان الذي يمتنع عن إعطاء شيء من نفسه أو ماله لطاعة الله تعالى فإنه سيدفع أكثر منها في معصية الله وهو راغم، وستكون عليه حسرة يوم القيامة:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَ-رُونَ} (الأنفال:36).

وأنقل لكم الحديث التالي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو حجة دامغة في وجه كل من يمتنع عن أداء الحقوق الشرعية، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قول الله عز وجل:{كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَس-َراتٍ عَلَيْهِمْ} (البقرة:167)، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (هو الرجل يدع ماله لا ينفقه في طاعة الله عز وجل بخلاً - وقد عرفت البخيل قبل قليل - ثم يموت فيدعه لمن يعمل فيه بطاعة الله أو بمعصية الله، فإن عمل فيه بطاعة الله رآه في ميزان غيره فرآه حسرةً وقد كان المال له، وإن كان عمل به في معصية الله قوّاه بذلك المال حتى عمل به في معصية الله عز وجل)(1).

وقد وصف أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مثل هذا الرجل بقوله:(إن أعظم .

ص: 115


1- وسائل الشيعة:كتاب الزكاة ، أبواب ما تجب فيه ، باب 5 ح5 .

الحسرات يوم القيامة حسرة رجل جمع مالاً بمعصية الله فمات فورثه رجل دخل به الجنة)(1)، وهذا الحديث كافٍ {إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق:37)، {وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ} (الحاقة:12)، عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (ما من رجل يمنع درهماً في حقه إلا أنفق اثنين في غير حقه، وما من رجل يمنع حقاً في ماله إلا طوّقه الله به حية من نار يوم القيامة)(2)، وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من منع حقاً لله عز وجل أنفق في باطل مثليه)(3).6-إن من يطيع الله سبحانه ويتجنب معصيته يعيش لذة الانتصار على أعدى أعدائه، وهي نفسه التي بين جنبيه الأمارة بالسوء، وكلّما كانت شهوة النفس واندفاعها للفعل قوياً كلما كان الترك أشد لذة، وكلما كانت رغبة النفس في الترك قوية كان الفعل أكثر لذة، مثلاً تعرض أمامك امرأة متبرجة قد أظهرت مفاتنها أو طالبة جامعية أو زميلة في دائرة تبرعت بإنشاء علاقة عاطفية غير مشروعة معك فتنتصر أنت على نفسك الطموحة إلى ذلك فتعيش لذة الانتصار بشكل لا يوصف، وهو ما أشار إليه الحديث:(النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن تركها لله تعالى أبدله الله نوراً وإيماناً يجد حلاوته في قلبه)(4)، والمال من أقوى ما تتعلق به النفس، قال تعالى:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} (آل عمران:14)، وقال4.

ص: 116


1- نهج البلاغة، باب الحكم، رقم 429 .
2- وسائل الشيعة:كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 6 ح1 .
3- نفس الباب ، ح2 .
4- ميزان الحكمة:9/ 4.

تعالى:{الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا} (الكهف:46)، وقال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ما بلى الله عز وجل العباد بشيء أشد عليهم من إخراج الدرهم)(1)، لذا كانت لذة الانتصار على هذا العدو عظيمة تستحق أن يبذل المال بإزائها بلطف الله تعالى، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):إذا أراد الله بعبد خيراً بعث إليه ملكاً من خزّان الجنة فيمسح صدره ويسخى نفسه بالزكاة)(2).المستوى الثاني:خاص، وذلك بدراسة وتحليل الأسباب التي تؤدي بالناس إلى الامتناع عن دفع الحقوق الشرعية ومن ثمّ وضع العلاج لها.

أسباب عدم دفع الناس الخمس :

ومن تلك الأسباب ما يلي:

1-الجهل بوجوب الخمس، فبعضهم لا يعلم بوجوبه أصلاً، وبعضهم يظن وجوبه على خصوص الموسرين، وقد رسّخت هذا الجهل الأجيال المتعاقبة من المسلمين بإعراضهم عن امتثال هذه الوظيفة وترفّع العلماء عن المطالبة بها خشية سوء الظن بهم(3).

2-حملات التشكيك التي يمارسها أعداء الدين والمذهب ويروّج لها المرتزقة والجهلة السذّج بكل القنوات المتاحة، كالكتب والنشرات والصحفب.

ص: 117


1- وسائل الشيعة:كتاب الزكاة ، أبواب ما تجب فيه ، باب 2 ح14 .
2- المصدر السابق، نفس الباب ح16.
3- أضف إلى عدم وضوح لغة الرسائل العملية بحيث يصعب على المكلف فهم ما يجب عليه وما لا يجب.

والمجلات وغيرها، فتارة يقولون بعدم وجوبه أصلاً وإنه لم يذكر في القرآن وإنه خاص بغنائم الحرب(1)، أو إنه خاص بزمان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وهم قبل غيرهم يعلمون زيف هذه الدعاوى، لكنهم يبتغون بذلك تقويض إحدى الركائز المهمة للدين والمذهب.3-سوء تصرف بعض الوسطاء والوكلاء في نقل الحقوق الشرعية، مما يقلّل من الثقة بالدفع إليهم، إما لتوسّعهم في أمور المعيشة وترفهم، أو لعدم إيصالها إلى المرجعية المقصودة، أو لعدم نزاهتهم.

4-النفس الأمّارة بالسوء التي تشحّ بإنفاق المال ومطلق عمل الخير، فالكثير من الناس يؤدي الفرائض التي لا تكلفه مالاً، أما التي تحتاج إلى بذل المال فيتردد فيها.

5-الغفلة عن موارد صرف هذا الحق الشرعي، ولو عَلم أنها تصرف في قضاء حوائج المؤمنين وتزويج شبابهم لتحصينهم من الحرام ومعالجة مرضاهم وشؤون الحوزة العلمية الشريفة وحفظ كيانها ومدارسها الدينية التي أنجبت عبر التاريخ آلاف العلماء والمفكرين والكتّاب والخطباء الذين ساهموا في نشر الوعيم.

ص: 118


1- إن الذهاب إلى قصر وجوب إخراج الخمس، على خصوص غنائم دار الحرب، لا ينسجم مع خلود الإسلام وبقائه من ناحية عملية، واستمرار الدولة الإسلامية زمن قيامها، في تحمل الأعباء الضخمة، التي تترتب عليها تجاه الأمة وذلك من وجوه عدة أهمها: أ. إن الحروب قد أغلقت أكثر أبوابها وانحصرت، وانحسر ظلها، فانحسر بذلك ما قد يترتب عليها، في حال انتصار المسلمين من غنائم. ب. إن نتائج هذه الحروب، ليست مضمونة إلى جانب المسلمين في كثير من الأحيان. بل بالعكس فقد تكون نتائجها في غير صالحهم، فتكون الغنائم من نصيب أعداء الإسلام.

الديني وحفظ المذهب الشريف والإسلام العظيم طيلة ألف وأربعمائة عام وكأنَّ الدين نزل اليوم، ولو علم الإنسان ذلك لأدّى ما عليه من حقوق بكل سرور، إن كان غيوراً على دينه ومجتمعه ومخلصاً في التزامه.6-قلة الثقة بما عند الله، مما يجعله متمسكاً بما عنده من متاع زائل(1).

هذه بعض الأسباب مما خطر في ذهني القاصر.

علاج عدم دفع الناس الخمس :

وإذا عرفت السبب أمكن التفكير في علاجه من خلال نقاط:

1-تصدي الحوزة الشريفة لبيان الأدلة الكافية على وجوب هذه الفريضة العظيمة، وشمولها لكل ما يستفيده المرء من مكسب، فيجعل له يوماً في السنة يحاسب فيه نفسه، فيستثني مؤونته الشخصية من مسكن وملبس ومأكل وأثاث لائق بشأنه وواسطة نقل، ثم يخمّس الزائد إن وجد، وتوجد تفاصيله في الرسائل العملية للفقهاء(2).

2-الرد على الشبهات والشكوك التي يُلقيها المضلّون في أذهان البسطاء والسذج، وإلفات الناس إلى المقصود الأساسي لهؤلاء والذي يموّهون عليه بهذه الشبهات.

3-أن ينتصر المسلم على نفسه الأمَارة بالسوء، فإن اتباع الهوى والانسياق

ص: 119


1- قال تعالى:{أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} (البقر:61)و{قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَ مَصِيراً}(الفرقان:15)و{وَلَلآْخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأْولى}(الضحى:4).
2- التي ينبغي تبسيطها للمكلفين ليسهل فهمها ومعرفة التكليف الشرعي.

وراء النفس من المرديات، فإنها أعدى أعدائك بميلها لاتباع الشهوات وتمردها على الطاعة، فالمؤمن الشجاع من ملك زمام نفسه ليقودها إلى ما فيه النجاة ويستعين على قهر نفسه بما ذكرناه آنفاً من المحفزات.4-الالتفات إلى موارد صرف الخمس التي ذكرناها قبل قليل وتسليمه إلى الثقات الذين يضعون الحقوق في مواضعها، وإطلاع المكلف بنفسه أو مباشرته الصرف على المحتاجين بإذن الحوزة الشريفة، وسيرى نفسه مسروراً بمساهمته في هذه المصارف الجليلة التي وعد الله تعالى من ينفق ماله فيها الأجر الجزيل، والله يضاعف لمن يشاء.

5-أن يعلم المكلف أنّ كل ما عنده هو مما رزقه الله تبارك وتعالى، والله غني عن العالمين، وإنما يريد بفرض هذه الواجبات المالية ليبتلي المؤمنين منه بلاءً حسناً، فيثيب المحسن ويعاقب المسيء، وليطّهرهم ويزكيهم ويحررَّهم من أسر الشهوات والأهواء، حتى يخلصوا الانقياد والطاعة له تبارك وتعالى، قال عز من قائل:{خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (التوبة:103)، قال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إني لآخذ من أحدكم الدرهم وإني لمن أكثر أهل المدينة مالاً، ما أريد بذلك إلا أن تطهروا)(1)، وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إنما وضعت الزكاة اختباراً للأغنياء ومعونة للفقراء، ولو أنَّ الناس أدّوا زكاة أموالهم ما بقي مسلم فقيراً محتاجاً، ولاستغنى بما فرض الله له)(2). .

ص: 120


1- وسائل الشيعة:كتاب الخمس ، أبواب ما يجب فيه الخمس باب 1 ، ح3 .
2- كتاب الزكاة ، أبواب ما تجب فيه ، باب 1 ح6 .

ومما يحسن الالتفات إليه أن من العوامل المهمة التي حفظت توازن مجتمعنا رغم الحصار(1) والضيق الذي يمر به منذ أكثر من عشر سنين هو ما يصرف على المحتاجين من مليارات الدنانير من الحقوق الشرعية.6-أن تتحلى الحوزة الشريفة والوكلاء والوسطاء بالورع والتقوى والثقة والأمانة وحسن مواساة الناس في الملبس والمأكل ومستوى المعيشة، خصوصاً في زمان العوز والفاقة كالذي نعيش فيه ويتأسوا بأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الذي رقَّع مدرعته حتى استحيى من راقعها، فقيل له في ذلك وهو رئيس دولة مترامية الأطراف، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(لكي لا يتبيَّغ بالفقير فقره)(2) أي تضغط عليه الحاجة ولا يجد من يواسيه فيتمرد ويخرج عن طاعة الله تبارك وتعالى.

أن يحسن العبد الظن بالله تبارك وتعالى، فقد وعده أن يخلف عليه، قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(من أيقن بالخلف سخت نفسه بالنفقة) (3)، وقال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من أيقن بالخَلَف جادَ بالعطيّة)(4)، وقال الله عز وجل:{وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ9.

ص: 121


1- فرض مجلس الأمن الدولي منذ غزو صدام المقبور للكويت عام 1990 قرارات ظالمة على العراق وشعبه ومنها الحصار الذي شمل حتى الغذاء والدواء، وتضرر الشعب العراقي بما لا يوصف ودفع ثمناً باهظاً واضطر لفعل كل شيء من أجل توفير لقمة العيش وإنهاء الاقتصاد، وارتفعت نسبة التضخم إلى أرقام فلكية حتى أصبح الدولار مساوياً ل- 3000 دينار عراقي بعد أن كان الدينار يُصرَّف بأكثر من ثلاثة دولارات، وبقيت رواتب موظفي الدولة عند 4-5 دولارات شهرياً، ولولا بقية من دين وأخلاق لأكل الناس بعضهم بعضاً.
2- نهج البلاغة ، باب الحكم رقم 138
3- الكافي- الشيخ الكليني: 4/ 43/ح3
4- وسائل الشيعة:كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه، باب 2، ح9.

شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (سبأ:39)، وقال الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من يضمن لي أربعة بأربعة أبيات في الجنة:انفق ولا تخف فقراً، وأنصف الناس من نفسك، وأفشِ السلام في العالم، واترك المراء وإن كنت محقاً)(1).

الآثار الإيجابية المترتبة على دفع الحقوق :

ويضاف إلى كل ذلك ما ذكر من آثار إيجابية في الدنيا والآخرة تترتب على الإنفاق ودفع الحقوق الشرعية ومن نتائج سلبية تترتب على الترك، وأي أجر ذكر للتصدق فهو شامل بالأولوية لدافع الخمس والزكاة، لأن التقرب إلى الله بالفرائض أكثر بما لا يقاس من التقرب بالنوافل والمستحبات، وفي الحديث:(لا قربة للنوافل إذا أضرت بالفرائض)(2)،كما إننا ذكرنا أن الصدقة بمعناها العام تشمل الزكاة والخمس وكل إنفاق في سبيل الله.

ومن هذه الآثار الإيجابية قوله تعالى{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة:261)، قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (داووا مرضاكم بالصدقة وحصّنوا أموالكم بالزكاة)(3)، وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ما تلف مال في بر ولا بحر إلا بمنع الزكاة)(4)، وقال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إن الشحيح من منع

ص: 122


1- المصدر السابق، نفس الباب، ح8 .
2- نهج البلاغة تحت الرقم 39 من قسم الحكم.
3- المصدر السابق، باب 1 ح14 .
4- المصدر السابق، باب 3 ح9 من أبواب ما تجب فيه الزكاة .

حق الله وأنفق في غير حق الله)(1) وتمّمها بحديث آخر (حرام على الجنة أن يدخلها شحيح)(2) وعن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبدٍ أبداً)(3). وشكى شخص إلى الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إنه يرى أحلاماً مفزعة في المنام فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إنك لا تؤدي الزكاة قال بلى أؤديها قال إذن لا تضعها في محلها)(4)، وقال الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(استنزلوا الرزق بالصدقة)(5) وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(داووا مرضاكم بالصدقة وما على أحدكم أن يتصدق بقوت يومه، إن ملك الموت يدفع إليه الصك بقبض روح العبد فيتصدق فيقال له:رد عليه الصك)(6). وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(الصدقة باليد تقي ميتة السوء وتدفع سبعين نوعاً من أنواع البلاء)(7)، وعن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(إن الله ليربّي لأحدكم الصدقة كما يربّي أحدكم ولده حتى يلقاه يوم القيامة وهو مثل أُحد)(8)، وقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(صدقة السر تطفئ غضب الرب)(9) وعن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(البر وصدقة السر ينفيان الفقرح1

ص: 123


1- وسائل الشيعة:كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه ، باب 5 ح12 .
2- المصدر السابق، نفس الباب ح1 .
3- المصدر السابق، نفس الباب ح15 .
4- وسائل الشيعة:كتاب الزكاة، أبواب المستحقين للزكاة باب 4 ح1 ، 6 .
5- وسائل الشيعة:كتاب الزكاة ، أبواب الصدقة ، باب 3 ح1.
6- المصدر السابق، نفس الباب ، ح2 .
7- المصدر السابق، باب 5 ح1 .
8- وسائل الشيعة:كتاب الزكاة، أبواب الصدقة ، باب 7 ، ح8 .
9- المصدر السابق، أبواب الصدقة باب 13 ح1

ويزيدان في العمر ويدفعان سبعين ميتة سوء)(1).

كيف نفهم فلسفة هذه الأحاديث ؟

ويمكن فهم فلسفة هذه الأحاديث من ناحية اقتصادية واجتماعية ونفسية فحينما يقول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (استنزلوا الرزق بالصدقة) لأن انتشار الفقر يؤدي إلى ضعف القدرة الشرائية وتوقف عجلة الاقتصاد، فبدفع الحقوق الشرعية تتولد قدرة شرائية عند الناس فتتحرك عجلة الاقتصاد وتنمو الثروة.

وحينما يقول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(حصّنوا أموالكم بالزكاة) لأن الحاجة تدفع إلى السرقة وارتكاب الجرائم وابتزاز الأموال، فإذا قضينا على الفقر بدفع الحقوق الشرعية فسنسدّ بابا عظيماً للجريمة.

وحينما يقول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(داووا مرضاكم بالصدقة) لأن الأمراض والعقد النفسية والاضطراب وفقدان السعادة هي من أهم أسباب الأمراض، ومنشأها الرذائل النفسية كالطمع والحسد والاستئثار وحب الدنيا والحقد والجشع والكبر، فإذا طهّر نفسه منها فإنه سيعيش في صحة وسلامة وسيكسب الاطمئنان النفسي الذي هو علاج مهم للأمراض.

ويجوز للمكلف أن يستأذن بصرف حقوقه مباشرة إلى المحتاجين لما في ذلك من إيجابيات كثيرة لأنه أحرص على وضع حقوقه في موضعها، ولما ورد من الثواب في تسليم المال إلى الفقير يداً بيد وأن يقّبل المعطي يده بعد العطاء لما ورد من إنها تقع في يد الله تبارك وتعالى قبل أن تقع في يد الفقير وهو قوله تعالى

ص: 124


1- المصدر السابق، أبواب الصدقة ، باب 13 ح9 .

{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (التوبة:104)، وفيه روايات عديدة(1) ولاستحباب مواساة المؤمنين وقضاء حوائجهم وإدخال السرور عليهم وإغاثة ملهوفهم(2) عن محمد بن عجلان قال:كنت عند أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فدخل رجل فسلّم فسأله كيف من خلفت من إخوانك، قال:(فأحسن الثناء وزكى وأطرأ فقال له:كيف عيادة أغنيائهم على فقرائهم فقال:قليلة، قال:فكيف مشاهدة أغنيائهم لفقرائهم؟ قال:قليلة، قال فكيف صلة أغنيائهم لفقرائهم في ذات أيديهم؟ قال:إنك لتذكر أخلاقاً قلّما هي فيمن عندنا، قال:فقال:فكيف يزعم هؤلاء أنهم شيعة)(3) وعن سعيد بن الحسن قال:قال أبو جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):أيجيئ أحدكم إلى أخيه فيدخل يده في كيسه فيأخذ حاجته فلا يدفعه؟ فقلت:ما أعرف ذلك فينا، فقال أبو جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):فلا شيء إذن)(4).

دور الحوزة في توعية المجتمع :

وتقع على الحوزة الشريفة مسؤولية عظيمة بأن تكون أهدافهم سامية، وهو نيل رضا الله سبحانه والقربى منه والزلفى لديه والعمل بكل ما يقرب الناس إلى الطاعة ويبعدهم عن المعصية، وأن يكونوا قدوةً حسنة للناس بأخلاقهم وأعمالهم وإن لم يتحدثوا بألسنتهم تطبيقاً للحديث الشريف (كونوا لنا دعاة صامتين)(4) وفي

ص: 125


1- وسائل الشيعة:كتاب الزكاة، أبواب الصدقة ، باب 29 .
2- راجع محاضرة 13 رجب 1423 بعنوان (صفات المسلم في منظار أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)).
3- و (4) وسائل الشيعة:كتاب الزكاة، أبواب الصدقة ، باب 27 ، ح3 ، ح5.
4- مستدرك الوسائل- المحدث النوري: 8/ 310/ح3

حديث آخر (كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً)(1)، فهم ورثة الأنبياء وأولى من يتأسى برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الذي يتأوه ويتضرع إلى الله سبحانه من أي تقصير محتمل في أدائه للمسؤولية ويقول (أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها أو المرسلة شغلها تقمهما)(2). ويأمر أصحابه بمراقبة أفعاله ومحاسبته على تصرفاته وإن كان على رأس دولة واسعة ويقول لهم ما مضمونه (إن خرجت منكم بغير هذه القطيفة التي جئتكم بها من المدينة فأنا خائن) (3)،وهكذا مضى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) طاهراً نقياً فإذا أردنا الفوز بلقائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وصحبته فلا بد من التأسي به ولا تخدعنا العناوين البرّاقة والمواقع الاجتماعية الزاهية فإنها دنيا زائلة لا تسوى عند أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) شسع نعلٍ بالٍ، ولا نكون شيعته حقاً إلا إذا شاركنا الناس في معاناتهم وبذلنا الوسع في قضاء حوائجهم وتفهّم مشاكلهم خصوصاً في هذا الظرف العصيب.

ولنتذكر دائماً أن هذه المواقع التي نحن فيها أمانة في أعناقنا، فهل أديناها إلى أهلها وهو الإمام المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولا يعتبر أحدٌ أن هذه الأموال غنيمة فاز من).

ص: 126


1- الأمالي- الشيخ الصدوق: 484
2- بحار الانوار:341 /40 باب ح98/ زهده وتقواه وورعه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).
3- عن هارون بن عنترة عن أبيه قال: دخلت على علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)بالخورنق وعليه قطيفة وهو يرعد من البرد, فقلت: يا أمير المؤمنين إن الله قد جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال نصيباً وأنت تفعل بنفسك هذا, فقال: أي والله لا أرزا من أموالكم شيئاً وهذه القطيفة التي أخرجتها من بيتي أو قال من المدينة), (تاريخ دمشق- ابن عساكر: 42/ 481, البداية والنهاية- ابن كثير: 8/ 4).

استكثر منها بل هي مسؤولية يجب الخروج من عهدتها {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ}(الصافات:24)، وحينئذٍ يكون في حلالها حساب وفي حرامها عقاب وفي الشبهات عتاب فأي هذه النتائج الثلاث تتحملها في ذلك اليوم العصيب يوم القيامة، وأي تقصير في أداء هذه الأمانة يكون خيانة لله والله لا يحب الخائنين قال تعالى {هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَْنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (المائدة:119)، وماذا يضرّنا لو كنّا صادقين في أقوالنا وأفعالنا وتخلينا عن كل ما لا يليق بنا حتى من المباحات التي ليس فيها حرمة شرعية إلا إن فيها منقصة أخلاقية.نسأل الله جلّت آلاؤه العصمة والتسديد في القول والعمل وأن يعيننا على طاعته ويجنبنا معصيته إنه ولي النعم.

ص: 127

القبس/50: سورة الأنفال:41

اشارة

{يَومَ ٱلفُرقَانِ}

موضوع القبس:يوم بدر كان فرقاناً بين الحق والباطل

وصف الله تبارك وتعالى يوم بدر بالفرقان في قوله تعالى:{وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} (الأنفال:41)، لأن النصر الذي منّ الله به تبارك وتعالى على عباده المؤمنين في معركة بدر كان فيصلاً فرّق بين الحق والباطل:الحق المتمثل بعقيدة الإسلام والانقياد لله تبارك وتعالى فيما يأمر وينهى وإقامة نظام الحياة على أساس شريعته المباركة، والباطل المتمثل بعبادة الأهواء وطاعة الطواغيت والانسياق وراء الشهوات واتخاذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله تبارك وتعالى. فأعزّ الله تبارك وتعالى الحق وجنده ونصرهم وأخزى الباطل وجنده وخذلهم.

ليس ذلك فحسب وإنما كان يوم بدر فرقاناً في تاريخ الإسلام والمسلمين فانتقلوا من مرحلة الخوف والاستضعاف والتشتت إلى مرحلة القوة والعزّة والمنعة والدولة وانطلق المسلمون بعدها ليبنوا حضارة البشرية كلها.

وكان فرقاناً ميّز أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بين من حمل الإيمان في قلبه واطمأنت به جوانحه وثبتت عليه جوارحه فصدقوا ما عاهدوا الله عليه، وبين من كان الإيمان عنده لقلقة لسان وطقوس سطحية يؤديها فإذا محّصوا بالبلاء قل

ص: 128

الديانون.وكان فرقاناً بين فهمين للعوامل الحقيقية للنصر فبعد أن كان الاعتقاد بان الفوز حليف الكثرة العددية والقوى المادية المتنوعة حتى قال قائلهم {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَ-ؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فإن اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال:49)، أصبح معيار النصر هو الإيمان والصبر والثبات على الحق فتهاوى جبروت قريش وعددها وعدتها بين إقدام المسلمين المعدمين إلا من النزر اليسير قال تعالى:{وَلَقَدْ نَصَ-رَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} (آل عمران:123).

هكذا كان يوم بدر يوم فرقان على جميع الصُعُد في معركة العقيدة، معركة تنزيل القران أي على مستوى الإيمان به والتصديق بما انزل الله تبارك وتعالى على نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وكان الرسول الأكرم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هو قائد هذه المعركة.

معركة التأويل:

ثم كانت حاجة لمعركة أخرى تلتها على مستوى السلوك والتطبيق لهذه التعاليم هي معركة التأويل أي الالتزام بحقيقة ما انُزِل على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعدم تحريفه عن حدوده والتصرف في الشريعة تبعاً للأهواء والمصالح والاستحسانات، وكان قائد هذه المعركة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إذ قال فيه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (وإنه المقاتل على التأويل إذا تركت سنتي ونُبِذت، وحُرِّف كتاب الله، وتكلم في الدين من ليس له ذلك، فيقاتلهم علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على إحياء دين الله عز وجل) (1)

ص: 129


1- الإرشاد للمفيد:1/ 124.

وروي عن أبي جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه ذكر الذين حاربهم علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال:(أما إنهم أعظم جرماً ممن حارب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، قيل له:وكيف ذلك يا ابن رسول الله؟ قال:أولئك كانوا جاهلية وهؤلاء قرأوا القرآن، وعرفوا أهل الفضل فأتوا ما أتوا بعد البصيرة) (1) ولما سأل علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فقال:يا رسول الله على ما أقاتل القوم؟ قال:على الإحداث في الدين)(2).فلم تكن هذه المعركة تنّفك عن تلك بل أن علياً لو لم يقاتل على التأويل لما بقي التنزيل ولحُرّف الدين وانتهى كل شيء كما كانت نتيجة الديانات السابقة لان كلمات التنزيل تبقى مجملة وعرضة للتلاعب والتحريف إذا لم توضع النقاط على الحروف فكان عليٌّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تلك النقطة التي تحركت على حروف كلمات التنزيل فأوضحت معانيها وثبتت حدودها وصانتها من عبث وتحريف أهل الأهواء والمصالح، لذا قال أمير المؤمنين في حرب صفين (والله ما وجدت من القتال بُداً أو الكفر بما أنزل على محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ))(3).

وكان في حرب التأويل يوم فرقان كيوم بدر ذلك هو يوم الزهراء (س) حيث وقفت (س) في مسجد أبيها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وأصحابه منصتون وهي تثبّت الحق وتعيده إلى نصابه بحجج بالغة وتدفع عنه التأويل والالتفاف على النصوص المباركة.8.

ص: 130


1- مناقب آل أبي طالب:3/ 19.
2- الأمالي- الشيخ الطوسي: 501/ح5
3- مناقب آل أبي طالب:3/ 18.

يوم الدفاع عن الإمامة:

كان يوم الزهراء فرقاناً أوضح معالم وصفات الإمام الحقّ وميّزته عن المتقمص لها ومن كلماتها سلام الله عليها (وما الذي نقموا من أبي الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)؟! نقموا والله نكير سيفه، وقله مبالاته لحتفه، وشدة وطأته، ونكال وقعته، وتنمّره (أي غضبه) في ذات الله، والله لو ما لوا عن المحجة اللائحة، وزالوا عن قبول الحجة الواضحة لردّهم إليها، وحملهم عليها، ولسار بهم سيراً سُجُحا (أي سهلاً) لا يكلم حشاشه، ولا يكِلُّ سائره، ولا يملّ راكبه، ولأوردهم منهلاً نميرا، صافياً، روياً، تطفح ضفتاه ولا يترنّق جانباه ولأصدرهم بطاناً، ونصح لهم سراً وإعلاناً، ولم يكن يتحلى من الدنيا بطائل، ولا يحظى منها بنائل، غير ريّ الناهل، وشبعة الكافل، ولبان لهم:الزاهد من الراغب والصادق من الكاذب {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَ-كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (الأعراف:96). {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ} (الزمر:51))(1).

الزهراء (س) الفرقان الحقيقي:

وكان يوم الزهراء (س) فرقاناً لتمييز المنقلبين على الرسالة من الثابتين عليها الشاكرين من أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ

ص: 131


1- البحار:ج43 ص159.

عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران:144). ومن ذلك اليوم تميّز في تاريخ الإسلام خطان الأول مستقيم {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ} (هود:112)، يمثل نقاوة الإسلام وأصالته، وخط انحرف عن جادة الصواب، وكلما طال الزمن ازداد الانحراف والابتعاد عن الخط الأصيل حتى صار خلفاء المسلمين كما يسمّونهم يشربون الخمر على منابرهم هذا ولا زال أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أحياء.

وكانت فاطمة فرقاناً يميّز الحق عن الباطل إذ قال فيها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (فاطمة يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها) (1)،فما رضيت عنه فاطمة فهو حق وما غضبت عليه فهو باطل لأنها معصومة وممن عرفت الله تبارك وتعالى فعرفت ما يرضيه وما يسخطه وما يصدر منها إلا ما يوافق رضا الله تبارك وتعالى.

وما أحوجنا اليوم إلى هذا الفرقان ليميّز لنا الحق من الباطل، والهدى من الضلال في كل عقيدة أو دعوة أو فكرة.

وما أحوجنا إلى هذا الفرقان ليفرّق لنا بين الصحيح والخطأ في آرائنا وتصوراتنا.

وما أحوجنا إلى هذا الفرقان ليميز لنا السلوك والتصرف الذي يرضي الله تبارك وتعالى من الذي يسخطه حيث اختلطت الأوراق وكثر المدّعون واشتبهت الأمور.03

ص: 132


1- الاحتجاج- الطبرسي: 2/ 103

اجعلوا الزهراء (س) نصب أعينكم:

فاجعلوا الزهراء (س) نصب أعينكم فيما يصدر منكم من فعل أو قول أو موقف أو فكرة تعتقدونها في عقولكم أو ضميمة تضمرونها في قلوبكم، واسألوا أنفسكم عن كل ذلك فحينما لا تلتزم المرأة بحجابها أو لا يؤدي الشاب الصلاة لربه أو لا يدفع التاجر خمس أمواله، أو يقصّر المسؤولون في خدمة شعبهم أو يقوم أحد بتصرف من دون الرجوع إلى المرجعية الرشيدة، فاجعلوا الزهراء (س) حكما عليكم في خلواتكم هل ترضى بذلك أم تسخط فإن رضاها رضا الله تبارك وتعالى وسخطها سخط الله تبارك وتعالى.

التقوى فرقان القلب:

وإذا سألتم كيف ندرك ذلك؟ وكيف ينبلج نور الفرقان هذا في قلوبنا حتى نستطيع به هذا التمييز، فإن الله تبارك وتعالى يجيبكم من قبل أن تسألوه تفضّلا منه وكرما، قال تبارك وتعالى:{يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (الأنفال:29)، إنها تقوى الله تبارك وتعالى التي تفجّر ينابيع المعرفة في القلب، لأن التقوى تزيل تأثير الهوى الذي يصدّ عن الحق ويحجب القلب عن رؤيته بما يجعل من الحجب فتعمى القلوب التي في الصدور، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إن أخوف ما أخاف على أمتي الهوى وطول الأمل، أما الهوى فانه يصدُّ عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة، وهذه الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وهذه الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فإن استطعتم أن تكونوا من أبناء الآخرة

ص: 133

ولا تكونوا من أبناء الدنيا فافعلوا، فإنكم اليوم في دار عمل ولا حساب وانتم غداً في دار حساب ولا عمل)(1).إن القلب ما لم يعمر بالتقوى وينفض عنه غبار الهوى وأغلال الشهوات لا يمكن أن يهتدي إلى الحق ولو أقمت له ألف دليل {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} (البقرة:145)، لأن الدليل مهما كان مفحماً ومسكتاً فانه لا يكون مؤثراً إذا لم تسكن إليه النفس ويطمئن به القلب.

إن من لا يمتلك هذا الفرقان يتخبط ويسير على غير هدى ويضلّ نفسه والآخرين ولا يميّز بين ما يضرُّه وما ينفعه ولا بين العدو وغيره كالثور المستعمل في حلبات مصارعة الثيران يجعل همّه في نطح قطعة القماش الحمراء غافلاً عن عدوّه المصارع الذي يطعنه بالخناجر حتى يصيب مقتله.8.

ص: 134


1- الكافي:ج8 ص58.

القبس/51 : سورة الأنفال:45

اشارة

{وَٱذكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرا لَّعَلَّكُم تُفلِحُونَ}

أهم قضايانا:أن نستحضر الله تعالى في وجداننا

من أهم الأهداف التي نسعى إليها والقضايا التي يجب أن نهتم بها ونكرس لها اوقاتنا هي كيف نجعل الله تعالى حاضراً في وجداننا وتنبض به قلوبنا ونصدِّق فعلاً أنه شاهد علينا ولا نغيب عن نظره سبحانه وهي الحالة التي أوصى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أبا ذر (رضوان الله تعالى عليه) بالوصول إليها (يا أبا ذر اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)(1).

أما أن نؤمن به تعالى نظرياً وفي عقولنا واذهاننا فهذا وحده لا يكفي، لذلك تجد نبي الله تعالى إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يطلب هذا الاطمئنان القلبي من الله تعالى رغم إيمانه العقلي التام {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ-ي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَ-كِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (البقرة:260).

والشاهد على عدم كفاية الايمان العقلي وحده انك تجد الكثيرين ممن يحملون هذا المستوى من الاعتقاد لكنه لا ينعكس على سلوكهم وتعاملاتهم واخلاقهم فهم يتبعون أهوائهم وعصبياتهم وتحزّباتهم ويطيعون سادتهم وكبراءهم بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.

ص: 135


1- مكارم الأخلاق- الطبرسي: 459

ينقل عن أحد مراجع الدين وهو من أهل المعرفة (قدس الله نفسه) أنه سأل الحاضرين لديه:هل حقاً توجد جنة ونار وحساب؟ فقالوا له:مثلك من يسأل هذا السؤال وقد تعلمنا العقائد الحقة منك؟ فبيّن وجه السؤال وحاصله أنني لا أرى لهذا الاعتقاد أثراً في حياة الناس حتى بدا كأنه وهم وليس حقيقة وهذا وجه قول الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ما خلق الله عز وجل يقيناً لا شك فيه اشبه بشك لا يقين فيه من الموت)(1) لأن الجميع متيقنون من ملاقاة الموت عاجلاً أو آجلاً لكن لا أحد يظهر على عمله الاستعداد لهذا الآتي الا القليل.ولذا تجد الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة تركز على الاكثار من ذكر الله تعالى والمواظبة عليه وعدم الغفلة عنه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} (الأحزاب:41) وليس المطلوب منه مجرد تحريك اللسان وانما استشعار كوننا بمحضر من الله تبارك وتعالى وانه شاهد علينا وناظر الينا في جميع احوالنا من السر والعلن وأنه وحده تعالى المؤثر في الخلق ولا تعمل الأسباب الاخرى الا بإذنه، وما يترتب على هذا الحضور من آثار المراقبة وإحسان العمل واجتناب المعاصي والذنوب والتوكل عليه وحده والطلب منه وتعلق الآمال به بفضل الله تعالى وكرمه.

إن ذكر الله تعالى يمكن أن يكون من خلال إثارة جوانب عديدة بحسب اسمائه الحسنى فيمكن ان تتناوله من جهة عظمة الله تعالى ببيان عظمة خلقه أو تناوله من جهة حكمة الله تعالى ببيان لطيف صنعه أو تناوله من جهة كرم الله14

ص: 136


1- من لا يحضره الفقيه:1/ 596 ، الخصال:14

تعالى ورحمته ببيان سعتهما أو تناوله من جهة حلمه ومغفرته وعفوه وهكذا، بلحاظ سائر الأسماء الحسنى، وهذا التنوع يكون بلحاظ استحقاق الشخص ومحط اهتمامه والباب الذي تدخل منه إلى قلبه، فقد يكون عالماً مادياً تريد هدايته أو شاباً مذنباً أو جاهلاً ساذجاً، أو مغتراً بالدنيا وغير ذلك من الحالات، فلكل واحد منهم ما يناسبه من الخطاب.ولعل الاجدى والأكثر تأثيراً في هذا المجال تحبيب الله تعالى إلى القلوب وقد ذكرت الروايات لمن يعمل على ذلك أجراً عظيماً فقد روي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (إني لأعرف ناساً ما هم انبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء بمنزلتهم يوم القيامة:الذين يحبّون الله ويحببّونه إلى خلقه، يأمرونهم بطاعة الله فاذا أطاعوا الله أحبهم الله) (1) .

وقد ذكرنا في قبس سابق (2) عدة أساليب لتحبيب الله تعالى إلى خلقه منها تذكيرهم بنعمه تبارك وتعالى، روي عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال (أوحى الله تعالى إلى موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أحبَّني وحببّني إلى خلقي، قال موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يا رب إنك لتعلم أنه ليس أحدٌ أحبَّ إليَّ منك فكيف لي بقلوب العباد؟ فأوحى الله إليه:فذّكرهم نعمتي وآلائي فأنهم لا يذكرون مني الا خيرا) (3).

لقد كان المرجع الشهيد السيد محمد الصدر (قدس الله نفسه الزكية) مهتماً بهذه القضية ايَّما اهتمام وعندما أقام صلاة الجمعة المباركة انتقد صريحاً الطريقة38

ص: 137


1- مجمع الزوائد للهيثمي:1 / 126
2- راجع: قبس/32 {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة:54), من نور القرآن: 1/ 356.
3- بحار الأنوار:13/ 351، 14/ 38

السائدة لدى الخطباء والمتحدثين من الابتداء بسطر واحد فقط يضم الحمدلله تعالى والصلاة على النبي وآله ثم الدخول في سائر المواضيع الدينية، وكان يعتقد بلزوم تخصيص حصة كافية لذلك فكان يبتدئ بمقطع من الادعية الشريفة التي تعمّق هذا الايمان في قلوبنا ووجداننا.ومن يتأمل في رسائله المنشورة في كتاب (قناديل العارفين) يجد هذا المعنى حاضراً والتأكيد على الذكر القلبي أكثر من اللساني، وذكر صوراً للذكر القلبي منها (التفكير في شأن الفرد أمام خالقه من القصور والجهل والذنب والتقصير وحسن الظن به تبارك وتعالى وكونه محل لطفه ونعمه سبحانه ونحو ذلك) (1) .

أيها الأحبة:إن احياء هذا التفاعل الوجداني والعملي مع الله تبارك وتعالى هو أهم قضية في حياتنا وهو مفتاح السعادة والخير وبه صلاح الأمة ونجاتها مضافاً إلى ما ورد في الرواية السابقة من المنزلة العظيمة فلا تقصروا فيه وهي مسؤولية الجميع خصوصاً الخطباء والمبلغَّين والكتّاب والمثقفين والمتحدثين، ولا ثمرة في أي عملية إصلاحية مالم تستند على هذا الأساس الوثيق. اعاننا الله تعالى على طاعته ووفقنا لما يحب ويرضى إنه ولي النعم.67

ص: 138


1- قناديل العارفين:167

القبس/52: سورة الأنفال:46

اشارة

{وَلَا تَنَزَعُواْ فَتَفشَلُواْ}

موضوع القبس:التنازع يؤدي الى الفشل

درس في الالفة والاخوّة من البعثة النبوية المباركة:

الآية تنهى المؤمنين عن التنازع والتخاصم فيما بينهم وتحذرهم، بأن عاقبة هذا التنازع هو الفشل والضعف والانهزام لأنهم سينشغلون بهذا الصراع الداخلي عن الاستعداد لمواجهة الأعداء وسينهك قواهم وسيفقدهم الثقة بأنفسهم ويحطّم شخصياتهم ويذهب بحرمتهم وكرامتهم لأن كلاً من الطرفين المتنازعين يريد أن يتغلب على الآخر بأي ثمن فيبذل طاقته في تسقيط الآخر والبحث عن عيوبه ونقائصه وإظهارها للأخرين لكي يثبت أحقيته وغلبته، فيسقط الجميع بهذا الانتقاص المتبادل ويفشلون.

في معنى ذهاب ريحهم:

ويؤدي الفشل الى ذهاب ريحهم أي عزّتهم وقوتهم وغلبتهم وتسير الامور على غير ما يريدون، وفي التعبير عن القوة بالريح رمزية وكناية دقيقة عن هذا المعنى لأن الريح هي التي ترفع الأشرعة وتعطي القدرة لاندفاع السفن في البحار فإذا توقفت الريح فإن السفن تعجز عن الحركة ولم يتحقق الوصول الى الهدف المطلوب، كذلك فإن الريح تجعل الأعلام والألوية ترفرف مرتفعة في

ص: 139

ساحة الحرب فتشعر بالقوة فإذا ذهبت الريح انتكست الأعلام وخارت القوى.

حقائق قرآنية تؤسس للنظام الحضاري:

هذه واحدة من الحقائق القرآنية التي تؤسس لنظرية سياسية واجتماعية لأنها تشخص سبب أنهيار الدول وتفكك المجتمعات والشواهد التاريخية كثيرة في كل العصور ولعل أوضحها هزيمة المسلمين في الاندلس وانحسار دولة الإسلام عن تلك الأرض الاوربية بعد سلطة دامت حوالي ثمانمائة عام حينما انقسم المسلمون تبعاً للامراء وملوك الطوائف وتنازعوا وأصبح بعضهم يتآمر على بعض ويستقوي بالأعداء على اخوته.

ولا يختص الفشل وذهاب الريح والقوة بالجانب المادي وما يتعلق بالدنيا، بل تذهب القوة المعنوية أي روح الايمان وطمأنة القلب أيضاً, فتخسر الامة ريحها ورُوحها ورَوْحها لان التنازع يوقع صاحبه في الكبائر من اجل تحقيق الغلبة فيتورط في الغيبة والكذب والبهتان والافتراء والتجسس على خصمه ليضعفه وهذه كلها من الكبائر الموبقة، ويبرّر لنفسه المداهنة والسكوت عن الباطل عند من يريد الاستقواء به على خصمه وينشغل تفكيره بالمجادلات والمنازعات عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وهو من فعل الشيطان بهم وهكذا يذهب في منزلق خطير نحو الهاوية.

وهذه الامور مجرّبة ومعروفة في كل المنازعات مهما صغرت دائرتها او اتسعت كالخلاف بين الزوجين أو بين العائلة الواحدة على الميراث مثلا او النزاع بين عشيرتين أو حزبين سياسيين أو بين جماعتين أو بين مقلدي المرجعيات الدينية المتعددة، او بين طائفتين وغير ذلك، وهكذا يستهلك المجتمع الواحد قوته

ص: 140

وامكانياته في هذه النزاعات ويفسح المجال واسعا لخصمه ليستحوذ على حقوقه التي فرّط فيها .روى الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (من لاحى – اي خاصم ونازع – الرجال سقطت مروءته وذهبت كرامته، ثم قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يزل جبرائيل ينهاني عن ملاحات الرجال كما ينهاني عن شرب الخمر وعبادة الاوثان)(1)، وروي عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله:(لا يستكمل عبد حقيقة الايمان حتى يدع المراء وان كان محقا)(2) و عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (من ترك المراء وهو محق بُني له بيت في اعلى الجنة، ومن ترك المراء وهو مبطل بُني له بيت في رَبَض الجنة)(3) - اي ما حولها خارج عنها – وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (اياك والمراء فانه يحبط عملك، واياك والجدال فانه يوبقك، واياك وكثرة الخصومات فانها تبعدك عن الله)(4) وعن الامام الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (المراء يفسد الصداقة القديمة ويحلل العقدة الوثيقة -كالعلقة الزوجية او القرابة-، وأقل ما فيه أن تكون فيه المغالبة، والمغالبة اُسً اسباب القطيعة)(5).

الحل الإسلامي لمشكلة النزاع:

وبالعودة الى الآية الكريمة فإنها تعطي الحل لحسم النزاع وانهائه وهما

ص: 141


1- امالي الطوسي :512 المجلس 18 الحديث 1119.
2- ميزان الحكمة :8/ 117.
3- نفس المصدر.
4- نفس المصدر.
5- ميزان الحكمة :8/ 117.

أمران كفيلان بازالة اسباب النزاع ومنعه من أصله، وبتركهما يحصل التنازع وهما:1-التحاكم الى علماء الشريعة في كل اختلاف والتسليم والاذعان لحكمها سواء كان لمصلحته أو على خلافها، ولذا ابتدأت الآية بالأمر بطاعة الله تعالى ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وطاعة القيادة الحقة التي جعلها الله تعالى حجة على عباده، قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} (النساء:59) فالالتزام بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والرجوع الى القيادة الحقة هما الضمان من وقوع التنازع او الانجرار اليه بسبب الاختلافات فالآية تشير الى سبيل تحقيق وحدة المسلمين ومنع تشرذمهم وهو ما عبرت عنه الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (س) بقولها (وطاعتنا نظاما للملة، وإمامتنا أمانا من الفرقة)(1).

وبتعبير آخر إن الخلاف بين الناس يمكن أن يحصل بسبب اختلاف الفهم أو النوايا او بسبب تدخل الاخرين والعوامل الخارجية ونحو ذلك، وهو بهذا المقدار يبقى ضمن الاطار الطبيعي مادام المختلفون عازمين على أن يعودوا الى حكم الشريعة وحاكمها والقيادة الشرعية الرسالية ليفصل بينهم وعليهم التسليم له وان يكون مبتغاهم دائما معرفة الحق واتباعه، فالتنازع المذموم انما يقع من نقطة الابتعاد عن حكم الشريعة وأوامر القيادة الرسالية الحقّة والتشكيك فيها والتمرد عليها، ومن نقطة اتباع الاهواء والانانيات والتعصب بحيث يجعل هواه وارادته هيي.

ص: 142


1- بحار الأنوار :ج 29 /223، نقلا عن الاحتجاج للطبرسي.

المتبعة والحاكمة في الاختلاف وحينئذ يقترن به الشيطان ويسوّل له ان الرضوخ للحق هو هزيمة واهانة واذلال بينما الصحيح هو ان الحق احق ان يتبع وطالبه هو الغالب دائما.2-الالتزام بالصبر لأن الاحتكام الى الشرع والعمل بالتوجيهات الشرعية على خلاف هوى النفس يحتاج الى مجاهدة ومصابرة فيامرنا الله تعالى بالصبر ويعدنا باحسن الجزاء وهو{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} معهم مطلقاً أي في كل الأحوال وفي الدنيا والاخرة، وكفى بهذه المعية حافزاً ودافعاً للصبر على القيام بما يريده الله تبارك وتعالى.

الفشل والانهزام:

والآية صريحة بان التنازع يؤدي الى الفشل، لكن المستفاد من غير موضع عكس ذلك أي أن الفشل هو سبب التنازع، قال تعالى فيما يتعلق بواقعة اُحُد {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} (آل عمران:152) وقال تعالى في معركة بدر {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْر} (الأنفال:43) فالعلاقة بين الفشل والتنازع جدلية تلازمية حيث يؤدي كل منهما الى الاخر بمرتبة من المراتب، وقد اتضحت صورة اداء التنازع الى الفشل.

اما ان الفشل يؤدّي الى التنازع فواضح ايضاً لسببين على الاقل:

1-ان التنازع لم يحصل الا عندما استسلم لهواه واطماعه وفشل في مجاهدة نفسه والالتزام بما يريده الله تبارك وتعالى كالذي حصل في معركة اُحُد حينما اتبعوا أهواءهم وعصوا وصايا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتركوا مواقعهم لكي

ص: 143

يشاركوا إخوانهم في جمع الغنائم {مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّون} فحصل الفشل ثم التنازع كما في آية سورة آل عمران المتقدمة.2-إن الفاشل لا يريد أن يعترف بفشله ولا يحمل نفسه المسؤولية حتى يعالج الاسباب وانما يلتجأ الى التنازع ليغطي فشله بالتخاصم والتنازع مع الآخرين واظهار انهم فاشلون، اي انه بدل ان يرتقي الى مستوى الناجحين يعمل الى انزال الناجحين الى مستواه الفاشل، وأتذكر هنا مثالاً طريفاً من الواقع فحينما كَّنا صبياناً وكان بعض أصدقائنا يلعبون كرة القدم فإذا فاز فريقهم عادوا فرحين مستبشرين، وإن خسروا رجعوا يتلاومون ويُحمّل بعضهم الآخر مسؤولية الخسارة ويبحث كل واحد عن خطا وتقصير الآخرين، فأدى الفشل هنا الى التنازع اما عند الفوز فلا نزاع بينهم.

نموذج معاصر للفشل من أثر التنازع:

وهكذا في كل المجالات واسوء مثال لهذه الحال السياسيون المتصدرون للمشهد فانهم بسبب فشلهم الذريع في اداء مسؤلياتهم امام الشعب وانشغالهم بمصالحهم الشخصية وسرقة قوت الشعب فانهم يغّطون على فشلهم بالمخاصمات والجدل العقيم وتبادل الاتهامات من دون ان يحلّوا اي مشكلة، ويؤدي بهم هذا التنازع الى فشل جديد وهكذا.

فالأزمة في العراق اليوم ليست ازمة مالية كما يعلنون لان مدخولات العراق الحالية تناهز 50 مليار دولار أو أكثر وهي كافية لمثل سكان العراق، ولا أن سببها وجود الاجندات الخارجية ولا غيرها وان كان لكل منها شيء من التأثير، وانما سبب خراب العراق وانهيار الدولة حتى اصبحت نهباً للعابثين والطامعين

ص: 144

والحاقدين هو فشل المتصدين وسوء ادارتهم وتنازعهم فيما بينهم على تحقيق مآربهم الشخصية والفئوية، فغطّوا فشلهم بالتنازع وادّى تنازعهم الى الفشل. ولدى التأمل فان قوله تعالى {فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} يكشف بالعلاقة العكسية ومن بعض الوجوه عن أن المجتمع والبلد الذي يعاني من التنازع وذهاب القوة والمنعة تحكمه قيادات فاشلة لا تستحق منح الثقة بها.

إن من أعظم النعم التي منّ الله تعالى بها على الامة بالبعثة النبوية الشريفة هو التاليف بين القلوب ونبذ الخلافات والنزاعات قال تعالى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران:103)، وقال تعالى {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِين وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال:62 -63).

فلنستذكر هذه النعمة العظيمة ولنحرص عليها كما أمرنا الله تبارك وتعالى، ولنتعاهد في هذا اليوم المبارك على عدم الوقوع في التنازع والتقاطع والتخاصم قدر الامكان بفضل الله تبارك وتعالى.

ص: 145

القبس/53: سورة الأنفال:60

اشارة

{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱستَطَعتُم مِّن قُوَّة}

موضوع القبس:إعداد القوة في السيرة النبوية المباركة

{وَأَعِدُّواْ} صيغة أمر وإلزام مثل {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} وغيرها، والإعداد للشيء تهيئة المقدمات واللوازم التي يتطلبها تحقيق ذلك الشيء، كإعداد السلّم للصعود والماء للغسل وإعداد لوازم السفر قبل الشروع فيه وهكذا.

{لَهُم} مجملة فلم يحدّد الذين يتم الاعداد والاستعداد لهم بغض النظر عن إعادة الضمير لسياق الآيات السابقة لإمكان النظر الى الآية مستقلاً، و بذلك ترك الأمر مفتوحاً لكل من بينت الآيات الكريمة والاحاديث الشريفة انه عدو تلزم مواجهته والاستعداد له سواء كان عدواً مادياً محسوساً كالمجرمين و الطواغيت والمفسدين وكالقوى الظالمة المعتدية أو غير محسوس لكنه يدرك بالوجدان والبصيرة كالشيطان والنفس الأمارة بالسوء.

والعدو الاول قد يكون معروفاً معلوماً معلناً بعداوته وقد يكون متخفياً كما في بقية الآية {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ} مثل المنافقين المتظاهرين بلباس الدين، وقد لا يكون عدواً فعلياً الآن ولكنه سيكون كذلك لاحقاً لان الاختلاف في الافكار والايدولوجيات والطبائع وتعارض المصالح سنة جارية بين بني البشر فيؤدي ذلك الى الصراع والتنازع إلا ما رحم ربي، فالأمر في

ص: 146

الآية واسع و شامل إذ يجب أن يكون الاستعداد تاماً بلحاظ كل هذه الاحتمالات.{مَّا اسْتَطَعْتُم} أي بكل ما تستطيعون من الإعداد وكل ما تسمح به قدراتكم وقد يكون شيء الآن فوق طاقتكم لكنكم إذا عملتم بكل ما تستطيعون الآن فستصبح لكم القدرة حينئذٍ على إعداد ما لم تكن تستطيعونه اليوم، نظير ما ورد في تحصيل التقوى قال تعالى {اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (آل عمران:102) وهو أمر متعذر على الناس فجاء قوله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن:16) ليبين وسيلة الوصول الى تلك النتيجة فالآية الأولى استراتيجية تبين الهدف الذي يراد الوصول اليه والثانية تكتيكية في المصطلح تبين كيفية الوصول إلى ذلك الهدف عبر مراحل، فإذا عملت الآن بما تستطيع من التقوى رزقك الله تعالى درجة أعلى منها وصرت تستطيعها بعد إن لم تكن، فإذا عملت بها وهبك الله تعالى أعلى منها حتى تصل الى نتيجة (حق تقاته).

{مِّن قُوَّةٍ} من بيانية وأطلقت كلمة {قُوَّةٍ} لتشمل كل أشكال ومصاديق القوى فهي لا تختص بالقوة العسكرية بل تشمل القوة الاقتصادية والسياسية والبشرية والعلمية والإعلامية والاجتماعية والتنظيمية وتشمل أيضاً ما يسمى بالقوى الناعمة التي تناولناها في عدة احاديث، حتى ان بعض الروايات جعلت من مصاديق القوة صبغ اللحية بالسواد لإظهار الشباب و الفتوة امام الاعداء فيحصل لديهم الخوف و الرعب ففي الكافي ان الحسين بن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أختضب بالسواد فسألوه عن ذلك فقال (أمر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في غزاة غزاها أن يختضبوا بالسواد

ص: 147

ليقووا به على المشركين)(1).وعلى رأس هذه القوى، القوة المعنوية والروحية التي هي أصل القوى كالإيمان و الصبر و المجاهدة و التوكل و الدعاء و التوسل و {خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (البقرة197) و أنما كانت أصل القوى لأن بها مواجهة أصل الاعداء النفس الامارة بالسوء و الشيطان (اعدى اعدائك نفسك التي بين جنبيك)(2) {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} (الإسراء53) حتى سّمى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هذه المواجهة بالجهاد الأكبر(3) .

كما إن كل من هذه القوى لها مصاديق تتناسب مع كل زمان فالقوة العسكرية في زمان نزول الآية كان يراد بها السيف والقوس والرمح ونحو ذلك، لذلك وردت عدة روايات تطبق القوة في الآية على رمي السهام و ركوب الخيل، واليوم تشمل الطائرات المقاتلة والسفن الحربية والصواريخ العابرة وتأسيس الأكاديميات العسكرية التي تخرج القادة و مراكز تدريب الجنود وغير ذلك.

والخطاب واضح في الآية انه يطالب الامة بأن تقوم هي بإعداد القوة و ليس بأن تستوردها من الغير و تدّعي إنها تمتلك القوة، أما إذا لم يعدّوا هذه القوى و لم يجهزوا انفسهم بها ولم يتمتعوا بالاكتفاء الذاتي فأنهم سيبقون تابعين لمن).

ص: 148


1- الكافي:6/ 481 ح4.
2- المجلسي- محمد باقر- بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة- ج67 ص36.
3- عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بعث سرية فلما رجعوا قال:مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، فقيل:يا رسول الله ما الجهاد الأكبر؟ قال:جهاد النفس. الكافي :وجوب جهاد النفس، وقد وردت بسند اخر عن امير المؤمنين علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

يزودهم بها و تمهّد الطريق لاستعبادهم. و ستكون قراراتهم مرتهنة لأولئك الذين يستضعفونهم ويملون عليهم ارادتهم، فمن الغريب ماعليه الدول المعروفة بالاسلامية من اعتمادها في تحصيل قوتها وقدراتها العسكرية على الدول المعادية لهم.واختيار هذه التعابير المطلقة القابلة للانطباق على كل زمان مظهر من مظاهر الاعجاز القرآني و قدرته على مخاطبة كل الأجيال حيث ينسجم مع آليات عصر النزول ويفهمه أهله وبنفس الوقت ينسجم مع معطيات القرن الواحد والعشرين والمستقبل ليكون شاهداً على خلود القرآن وملائمته لكل زمان ومكان.

ومن الواضح ان هذا الأمر بالإعداد عام بجميع الاتجاهات ،فهو عام بلحاظ الافراد لانه موجه لجميع الناس لأن المشكلة التي يراد معالجتها بهذا الأعداد - و هي مواجهة عدو الله وعدوكم - يعاني منها كل الناس، و الثمرات المرجوّة منه تكون في مصلحتهم جميعاَ، و الأمر عام أيضاً بلحاظ الأزمان ومصاديق القوة فأهل كل زمان مطالبون بإعداد كل ما يستطيعون من أشكال القوة التي تناسب زمانهم و أوضاعهم مما أشرنا اليها لتحقيق العدالة في الأرض وإقامة دولة الانسان التي تحفظ فيها حقوق كل الناس بصفتهم الانسانية وليس حكومة الاهواء والشهوات والنزوات المليئة بالظلم والفساد الذي يعمّ كل الناس وهذه كلها اهداف انسانية يسعى كل الناس لتحصيلها، لذا كان الخطاب عاماً للجميع كما ان البدن إذا داهمه عدو استعد بتمامه لمواجهته كما في الحديث الشريف (مَثَلُ المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى

ص: 149

له سائر الأعضاء بالسهر والحمى)(1). والغرض من إعداد القوة ليس العدوان على الناس ونهب ثرواتهم واستعبادهم كما يفعل الغرب اليوم و سائر القوى الطاغوتية المتفرعنة عبر التاريخ ولا للظلم ولا الفساد ولا البغي و الاستعلاء في الأرض وإنما {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ} لإخافة أعداء الله والإنسانية الذين يعتدون على كرامة الانسان ومقدساته ويحرمونه من حقوقه ويمنعون الناس من اعتناق العقيدة الحقة بحرية، وهذه الاخافة لردعهم عن التفكير بالعدوان على الناس الآمنين وإنتهاك حرماتهم، فهو إعداد دفاعي وإحترازي:لأن كثيراً من الناس المتجبرين والطواغيت لا يردعهم عن ظلمهم وطغيانهم إلا إعداد القوة التي تخيفهم وترعبهم، وبنفس الوقت تشعر هذه القوة الاتباع بالأمن وحرية ممارسة إقامة النظام الإسلامي في حياتهم وشعائرهم الدينية، وتفتح الطريق واسعاً لمن يريد أن يتعرف على هذا الدين او يعتنقه من دون أن يمنعه أحد، وبنفس الوقت هو إعداد حركي فهذه القوة تُعدُّ لتحرير الإنسان لإنها ترفع العوائق عن حركة نشر الإسلام وإيصاله الى كل الناس، فهذه كلها من ثمرات قوة ومنعة وعزة المجتمع الإسلامي.

ومن هذا يظهر ما في التعبير {وَأَعِدُّواْ لَهُم} من لمسة وجدانية عاطفية رقيقة مليئة بالرحمة فهذا الاعداد {لَهُم} أي لمصلحة الأعداء وليس {عليهم} كما في الآية {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (آل عمران:133) تقول أعددت لك كذا فهذا فضل وإحسان تقدّمه للآخر، فهذا الاعداد للقوى هو لمصلحة الأعداء لأنه0.

ص: 150


1- بحار الأنوار:ج58، ص150.

يردعهم عن المضي في تنفيذ النوايا والمشاريع السيئة التي يريدونها فهو يحميهم من أنفسهم الأمارة بالسوء و من كيد الشيطان الرجيم الذي يريد ان يزيدهم ذنوباً الى ذنوبهم و يغرقهم في دركات الجحيم.

اعداد القوة في السيرة النبوية المباركة:

ولنأخذ تطبيقات لهذه الآية من سيرة النبي الأكرم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولو باختصار بحسب ما يناسب الوقت.

فأول إعداد كان لشخصية القائد وصناعته على نحو يفي بمتطلبات أداء الرسالة العظيمة الخالدة وليكون مؤثراً في الاتباع والاعداء على حد سواء والشواهد كثيرة في حياته الشريفة، وهذا الاعداد تولاه الله تبارك وتعالى (ادبني ربي فاحسن تأديبي)(1) (إن الله أدب نبيه ثم فوض اليه أمر الخلق)(2) وهو (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أولى بخطاب {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} (طه:41) {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (طه:39)

والاعداد الثاني للمال اللازم للتحرك بالرسالة ورعاية الاتباع وكفالتهم مع عوائلهم بكافة احتياجاتهم ومواجهة مؤامرات الاعداد وحصارهم و مقاطعتهم وهذا ما قامت به أم المؤمنين خديجة (س) زوج النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فصرفت كل أموالها العظيمة في سبيل الله.

والاعداد الثالث للسند القوي الذي يحميه ويأوي اليه إذا تكالب الأعداء {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} (هود:80) وتكفل به عمه أبو طالب رضوان الله

ص: 151


1- بحار الأنوار:ج 16، ص 210.
2- الكافي:1/ 266، ح4.

تعالى عليه.و الإعداد الإلهي الآخر كان بإيجاد الذراع القوي الشجاع و الجندي المتفاني في طاعة ربه تعالى ونبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) و الذبّ عنه و إرعاب الأعداء و منعهم من الوصول اليه و هو أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، قال الشاعر :

فلولا أبو طالب و ابنه لما مثل الدين شخصاً فقاما.

فهذا كله كان قبل إعلان الرسالة، ثم ركزّ بعد إعلانها على إعداد الاتباع عقائدياً بحيث يذوبوا في عقيدة التوحيد والرسالة النبوية المباركة ويندكوا فيها واستمر هذا الاعداد طيلة عمر الدعوة الإسلامية في مكة التي استمرت ثلاث عشرة سنة وكان غذاء هذا الاعداد القران المكي أي السور والآيات القرآنية التي نزلت في مكة وسياقاتها شاهدة على ذلك.

ثم تحرك النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لإعداد الوطن و الحاضنة لهذه الدعوة الجديدة لان البقاء طويلاً في ضمن المجتمع المعادي يؤدي الى ذوبان العقيدة في النفوس وتشتت الاتباع واستضعافهم خصوصاً بعد رحيل القائد العظيم، و لما يأس من تحقيق ذلك في مكة توجّه إلى الطائف اولاً ولم تفلح المحاولة ثم قيض الله تعالى له اهل يثرب فآمنوا به وبايعوه على النصرة بالنفس و المال و الولد في العقبة الأولى و الثانية حتى هاجر (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) اليها واقام مجتمعه الايماني هناك وأصبحت المدينة المنورة وطن الدعوة الجديدة وعاصمتها وحضنها ومنطلق حركتها.

وتلاه اعداد المجتمع لحمل الرسالة وتأسيس امة قوية متحدة فآخى بين المهاجرين اولاً ثم اخى بين المهاجرين والانصار وقضى على أسباب النزاع التي كانت داخل مجتمع يثرب بين الاوس والخزرج {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}

ص: 152

(آل عمران:103).ومن ثم الاعداد السياسي للدولة الجديدة من خلال عقد المعاهدات والاتفاقات التي تكسب بعض الجهات الى جانبه او تحّيدهم على الأقل ولو لفترة لتجنب فتح عدة جبهات عليه في آن واحد، وهو في بداية تأسيس دولته المباركة.

ورافق ذلك الاعداد العسكري والتعبئة الميدانية (والمعروف ان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بلغه ان سلاحاً جديداً مؤثراً صنع في اليمن أيام معركة حنين، فأرسل النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) جماعة الى اليمن لشرائه فوراً)(1) .

وكان ذلك كله مقترناً بالتربية الروحية من خلال الآيات القرآنية التي كانت تنزل تباعاً بحسب الحكمة الالهية و استعداد الأمة ليكون أجدى و أقوى تأثيراً {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} (الفرقان:32).

ان بعض المبهورين بالغرب والذين يريدون الانفلات واتباع الشهوات يقرنون بين الدين والتخلف او يعدّون الالتزام بالدين سبباً للتأخر ويقولون ان اوربا ما تقدمت الا حين انسلخت عن الدين، وهذا نابع من الجهل فان المسلمين لم ينهزموا و لم يتخلفوا وتستعبدهم الأمم الأخرى الا حينما تركوا اسلامهم وتخلوا عن العمل بتعاليمه ومنها هذه الآية الشريفة ولو عملوا بهذه الآية الكريمة لسادوا العالم كما قدّر لهم وكما وعد الله تعالى بذلك وسيتحقق على يد الامام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه).4.

ص: 153


1- تفسير الأمثل :4/ 104.

ملحق:قوى الشباب غنيمة للفرد والأمة

نِعمُ الله تعالى على الإنسان كثيرة، ومنها نعمة الفتوة والشباب بما تعني من حيوية ونشاط، وصحة وعافية، وقوة إرادة وسعة طموح وعواطف جياشة وغرائز متدفقة وحماس واندفاع وصفاء ونقاء وأريحية وذهن وقّاد، وغيرها من القوى وهذه القوى مشمولة بأمر الله تعالى {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال:60) والقوة المطلوب إعدادها تكون ملائمة للعدو المقصود، فهذه القوى مما يُعدُّ لمواجهة النفس الأمّارة بالسوء (أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك) (1) والشيطان، قال تعالى {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (يوسف:5).

إن الصفات والخصائص التي ذكرناها للشباب توفّر فرصة واسعة للتكامل مع ما فيه من مضاعفة الأجر والثواب والمحبة الإلهية التي اختص بها الشباب، ففي الحديث الشريف عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (ما من شاب يدع لله الدنيا ولهوها واهرم شبابه في طاعة الله إلا أعطاه الله أجر اثنين وسبعين صدّيقاً)(2).

فهذه المرحلة من العمر من أعظم النعم على الإنسان واهم الفرص التي تتاح له لذا وردت الوصية باغتنامها، فمن وصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأبي ذر (يا أبا ذر:اغتنم خمساً قبل خمس:شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل

ص: 154


1- بحار الأنوار- المجلسي:67/ 36
2- الأمالي- الشيخ الطوسي: 535

سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)(1) ومن الملاحظ أن هذه الخمسة كلها متوفرة عند الشباب غالباً فهو قوي البدن صحيح معافى، وغني لأنه مكفول المعيشة في أسرته، وعنده فراغ من المسؤولية، لكن هذه الفرص تقل بمرور الزمان فتزداد مسؤوليته ومشاغله ومشاكله ومعوّقات التكامل وتضعف قواه.لكن أكثر الشباب لا يلتفتون إلى هذه الغنيمة ولا يستثمرونها، ويضيعون هذه النعم في أمور تافهة وربما محرّمة، ولا يعطون هذه الثروة العظيمة حقها وقدرِها، فتارة يعبّرون عن فتوتهم وشبابهم بالتمرد على المجتمع أو الانخراط في جماعات العنف أو الخروج عن النظام العام، أو يوظّفون طاقاتهم المتدفقة في فعاليات جنونية وهو ما أشار إليه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في بعض خطبه قال:(الشباب شعبة من الجنون)(2) أو يعتنقون بعض الدعوات الضالة فينساقون وراء أصحابها من دون روّية أو تدبّر في محتواها أو عواقبها.

وهذا كله له أسبابه فمنها ما يعود إلى أولياء الأمور وقادة الأمة والبلاد إذ لا يوجد لهم اهتمام بهذه الشريحة المهمة والواسعة ولا يضعون برامج لتوجيههم وإرشادهم والاستفادة منهم في العمل المثمر.

ومنها ما يعود إلى الشاب نفسه، حينما يستسلم لهواه وعواطفه وشهواته وغروره واعتداده بنفسه ونشوته بما فيه من صحة وفراغ وتوفر لمتطلبات5.

ص: 155


1- بحار الأنوار:77/ 77.
2- بحار الأنوار:77/ 135.

الحياة، قال الشاعر:

إن الفراغ والشباب والجدة***مفسدة للمرء أي مفسدة(1)

ومن كلمات أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أصناف السكر أربعة:سكر الشباب وسكر المال وسكر النوم وسكر الملك)(2) فللشباب نشوة وغرور وطيش يطغى على العقل ويسكر صاحبه فيرتكب الحماقات وينساق وراء الشهوات، والى أن يصحو من هذا السكر، فيكون قد فقد الكثير وتورط في أمور يصعب تلافيها، وقد يقسو قلبه فلا يكون قابلاً للإحياء بالموعظة والنصيحة، ولذا يجب على الشباب العودة وبسرعة إلى طريق الهداية ليقللّوا من الخسائر وليحظوا بالمحبة الإلهية ففي الحديث النبوي الشريف (إن الله يحب الشاب التائب)(3)، قال تعالى:{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} (الكهف:13).

لقد أحاط الأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) هذه الشريحة من الأمة بتوصيات كثيرة، لاجتذابهم واحتضانهم وخلق الأجواء والمشاريع المناسبة ليعبروا عن وجودهم وأهميتهم ويستفرغوا طاقاتهم، فأوصوا بمشاورتهم والاستئناس بآرائهم وإشراكهم في القرار بما يعرف اليوم ب-(برلمان الشباب) كفكرة بغض النظر عن تطبيقها، فمن وصية لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إذا احتجت إلى المشورة في أمر قد طرأ عليك09

ص: 156


1- الكنى والالقاب- عباس القمي : 1/ 122
2- غرر الحكم:237.
3- كنز العمال- المتقي الهندي: 4/ 209

فاستبدهِ ببداية الشبان فإنهم أحدُّ أذهاناً وأسرع حدساً، ثم ردّه بعد ذلك إلى رأي الكهول والشيوخ ليستعقبوه، ويحسنوا الاختيار له فإن تجربتهم أكثر)(1).يسأل الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أحد أصحابه الأجلاّء الذين لهم منزلة رفيعة وهو أبو جعفر الأحول الملقب ب-(مؤمن الطاق) وكان المخالفون يسمونه (شيطان الطاق) لقوة حججه وأدلتهُ ونشاطهُ في نشر تعاليم أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فسأله الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)(أتيت البصرة؟ قال:نعم، قال:كيف رأيت مسارعة الناس في هذا الأمر ودخولهم فيه، فقال:والله إنهم لقليل، وقد فعلوا وان ذلك لقليل، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):عليك بالأحداث فإنهم أسرع إلى الخير)(2).

إننا نتألم حينما نرى الكثير من شبابنا يسقطون وينحرفون ويلتقطون مظاهر الفساد والانحلال(3) من حثالات الغرب المنبوذين في بلادهم قبل بلادنا، أو ينخرطون في جماعات ضالة(4) فاسدة من دون الالتفات إلى أجندات أصحابها والأهداف التي يريدون تحقيقها، وقد تكلفهم حياتهم فيخسر نفسه وتخسره الأمة وهو في عنفوان العطاء و التألق.

أيها الأحبة:إن لكم دوراً مهماً في استنقاذ زملائكم وأقرانكم وتوجيههم).

ص: 157


1- غرر الحكم:219.
2- بحار الأنوار:23/ 236 عن كتاب قرب الإسناد.
3- إشارة إلى دخول بعض الشباب في جماعة (الإيمو).
4- إشارة إلى جماعات أدعياء المهدوية والبابية ونحوها من دعاوى الارتباط بالإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف).

وهدايتهم إلى السلوك العفيف النظيف، فأنتم تصلون إلى ساحات للعمل لا نصل إليها نحن، ومشتركاتكم مع الشباب من أقرانكم أكثر، ولغة التفاهم بينكم أوضح فاستثمروها في كسبهم ولا تضيّعوا هذه الفرصة الثمينة بلطف الله تبارك وتعالى.

ص: 158

القبس/54: سورة التوبة:18

اشارة

{إِنَّمَا يَعمُرُ مَسَجِدَ ٱللَّهِ مَن ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱليَومِ ٱلأخِرِ}

موضوع القبس: مسؤولية المؤمنين عن إعمار المساجد

قال الله تبارك وتعالى {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (التوبة:18).

المساجد هي محالّ عبادة الله تعالى، وأُخذ اسمها من السجود لأنه أوضح اشكال العبودية، وتسمى بيوت الله وهذه الإضافة والنسبة للتشريف، روي عن أبي بصير قال (سألت أبا عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن العلة في تعظيم المساجد فقال: إنما أمر بتعظيم المساجد لأنها بيوت الله في الأرض)(1) وقال الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)أيضاً (عليكم بإتيان المساجد، فإنها بيوت الله في الأرض، ومن أتاها متطهراً طهره الله من ذنوبه، وكتب من زواره فأكثروا فيها من الصلاة والدعاء، وصلوا من المساجد في بقاع مختلفة، فان كل بقعة تشهد للمصلي عليها يوم القيامة)(2).

و(إِنَّمَا) تفيد الحصر كما هو معروف فكأن عمارة المساجد مختصة بقوم تتوفر فيهم شروط خمسة: الايمان بالله تعالى وبالآخرة وإقامة الصلاة وايتاء الزكاة وأن

ص: 159


1- الحديثان في بحار الأنوار: 84 / 6
2- بحار الأنوار: 83/ 384

لا يخشى أحداً غير الله تعالى، فكأن الاعتقاد والايمان لا يكفي ما لم يقترن بالعمل الصالح والإخلاص لله تعالى والحرص على إقامة منهجه الإلهي، وأن لا يطيع ولا يعبد الا الله تعالى فكأن في الآية كناية عن ذلك لأن الداعي الى العبادة والطاعة هو الخوف من العقاب، حتى الرجاء وطلب الكرم والرحمة هو في الحقيقة خوف من انقطاعها وفواتها.والجملة يمكن أن تكون خبرية بمعنى أن من طبيعة المؤمن المتصف بهذه الخصال أن يعمر مساجد الله، وان المساجد لا يعمرها الا مثل هؤلاء، وهو معنى صحيح إذ كيف يتصور إعمار المساجد التي هي بيوت الله ممن لم يؤمن بالله تعالى ولا يدين له بالطاعة، كما في الحديث النبوي الشريف (عمّار بيوت الله هم أهل الله) وقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (من ألف المسجد ألفه الله)(1)، وتدلُّ بالملازمة على المعنى المقابل وهو أن من يوفَّق لإعمار المساجد فان هذا العمل يكشف عن أن عمّارها ممن تحققت فيهم هذه الصفات.

ويمكن أن تفيد الجملة الانشاء فتتضمن تكليفاً بأن لا تقبلوا من أي أحد إعمار المساجد والمساهمة فيها الا من كان بهذه الأوصاف إذ ليس لمن لا يتصف بهذه الصفات حق في ذلك {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ} (التوبة:17) فلا تجاملوا أصحاب الأموال غير المشروعة وتداهنوهم من أجل تشييد المسجد، فليس لأصحاب الأيادي غير النزيهة التشرف بمثل هذا العمل المبارك {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}16

ص: 160


1- الدر المنثور: 3/ 216

(الحج:26)، وقد كان بعض المسلمين يرغبون بأن يستمر المشركون في زيارة البيت الحرام بعد نزول الوحي بمنعهم {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (التوبة:28) لما في مجيئهم من مصالح اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية فوبّختهم هذه الآية والتي سبقتها {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} (التوبة:17) فلا خير يرجى من مساهمتهم في بناء المسجد أو تجمّعهم فيه وكذا كل الناس غير المؤمنين.والشواهد على ذلك من تاريخ الإسلام كثيرة اذ لما تدّخلت الحكومات غير الصالحة في شؤون المساجد وأشرفت عليها وعيّنت مرتزقتها، أو أصبح بناء المساجد وسيلة لتباهي أصحاب الثروات غير المشروعة وتفاخرهم أو لإضفاء شرعية لأعمالهم، فقد المسجد روحه وفشل في تحقيق أغراضه.

والإعمار هو إدامة الحياة والوجود، ومنه سمي عمر الانسان لأنه يعني عمران حياة البدن بوجود الروح فيه، وإعمار المساجد:

قد يكون مادياً بتشييدها وترميمها وإصلاح الخراب فيها وهو الظاهر بمقتضى المقابلة من قوله تعالى في الآية التالية {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (التوبة:19).

وقد يكون معنوياً بإدامة الحضور فيه للعبادة والطاعة وإقامة الشعائر الخالصة لله تعالى فيها، والآية الكريمة تعطي أهمية للثاني، بدليل نفيه في الآية السابقة عن المشركين وسائر غير المؤمنين {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ

ص: 161

شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ} (التوبة:17) فلا تصدق عليهم عمارة المسجد الذي هو بيت الله تعالى وهم يعبدون فيها الأصنام ويتخذونها أرباباً من دون الله تعالى فهي شهادة فعليه منهم بالكفر، ويستفاد من هذا القيد عدم المانع من دخول غير المسلم الى المسجد اذا كان لأجل الاهتداء وطلب الحقيقة لأنه ليس شاهداً على نفسه بالكفر، حيث كان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يستقبل في مسجده الشريف اتباع الديانات الأخرى لكي يستمعوا الوحي ويتعرفوا على الرسالة الإسلامية.وهذه العمارة المعنوية هي التي تُبرِزُ حقيقة المسجد وتؤدي رسالته الإلهية المفعمة بالخير والصلاح والرحمة والسعادة، والتي هدفها بناء الانسان الصالح والمجتمع الصالح، أما بناء الجدران والسقوف وزخرفتها فإنها لا قيمة لها إذا خلت من هذه الحقيقة حيث يتحول المسجد الى مكان للنزهة واللهو والعبث ويصير متحفاً يرتاده السوّاح كما حصل فعلاً.

ولذا اشترطت الآية في إعمار المساجد الشروط الخمسة لأنها المحركات نحو هذه الغايات النبيلة. وهذه العمارة المعنوية هي ما عبَّر عنها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو يرتجز حينما كان يشارك رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والصحابة في بناء أول مسجد في الإسلام عندما هاجر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الى المدينة:

لا يستوي من يعمر المساجدا***يظلُّ فيها راكعاً وساجدا

ومن يُرى عن الغبار حائدا***يُعرِضُ عنه جاحداً معاندا

ص: 162

واستشهد بها عمار بن ياسر عند حفر الخندق معرّضاً ببعض الصحابة(1).

والخراب المعنوي هو ما يشكو منه المسجد يوم القيامة ومن عدم اهتمام الناس به، فقد روى جابر عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال (يجيء يوم القيامة ثلاثة يشكون: المصحف، والمسجد، والعترة، يقول المصحف: يا ربّ، حرّفوني وَمزّقوني، ويقول المسجد: يا رب، عطّلوني وضيّعوني، وتقول العترة: يا ربّ، قتلونا وطردونا وشردونا، فأجثو للركبتين في الخصومة فيقول الله عزّ وجلّ لي: أنا أولى بذلك منك)(2).

وروى الشيخ الكليني والصدوق عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انه قال (ثلاثة يشكون إلى الله عزّ وجلّ: مسجد خراب لا يصلي فيه أهله، وعالم بين جهّال، ومصحف معلّق قد وقع عليه الغبار لا يقرأ فيه) . (3) وهذه الروايات شاهدة بمقتضى المقابلة على ان المراد من الاعمار في الآية الشريفة هو المعنوي.

ثم تقول الآية {فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (التوبة:18) ويمكن ان نذكر عدة وجوه لاستعمال (عسى) التي تفيد الاحتمال ظاهراً بدل الجزم بكونهم من المهتدين، منها:

1- لأن احتمالات الاستقامة والانحراف تبقى مفتوحة وان قام بفعل المهتدين الآن، فعلى العامل المخلص أن يبقى دائماً في يقظة وحذر ولا يتكل على عمله 1

ص: 163


1- بحار الأنوار: 19/ 124، 20 /243، عن تفسير القمي: 2/ 97 ومناقب ابن شهراشوب: 1/ 236 والديوان المنسوب الى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) : 36
2- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ): ج5 / ص 202 / ح 2
3- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ): ج5 / ص 201 / ح 1

ولا يترك منفذاً للعجب أو الرياء الى قلبه فان النفس الامارة بالسوء متربصة بصاحبها ويمكن ان توقع به في أية لحظة فتزل قدمه عن الطريق المستقيم. 2- ان حصول الاهتداء في فعلٍ ما - وهو هنا إعمار المسجد - مرة أو مرات من الانسان لا يلزم منه أن يصبح من (المهتدين) الا بعد ان يتحول الاهتداء الى صفة ذاتية راسخة من خلال التكرار والاعتياد والتحول الى ملكة.

3- ويحتمل أن يكون وجهه التعريض بالمشركين وأمثالهم بأن من يرجى أن يكون من المهتدين هم أهل هذه الصفات من عمّار المساجد وليس أنتم، ولا ينفعكم مجرد بنيان المسجد وإعمار ما خرب منه ففي هذا حث لهم على أن يكونوا مؤمنين مخلصين ليصبحوا من المهتدين.

إن رسالة المسجد في الإسلام عظيمة كما كان في عهد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فهو مظهر عزة الإسلام وقوة المسلمين، وهو مجمع المؤمنين ومحل احتشاد الأخوة في العقيدة، وعمارته ونشاطه علامة يقظة المسلمين، وفيه يتعلم الناس أمور دينهم ويناقشون قضاياهم المصيرية، ومنه تصدر القرارات المهمة، وتنطلق حركة الوعي والإرشاد والإصلاح وقوافل الخير والمعروف والدفاع عن الإسلام، وبوجوده تغلق منافذ المنكر والفساد والشر، وبه تتحقق مصالح اجتماعية وأخلاقية واقتصادية وسياسية وفكرية جمّة لا يسع المجال لشرحها، فهو جماع الخير ومركز كل حركة إسلامية فاعلة.

ص: 164

ولا مجال في المسجد للعابثين والمنافقين، روى ورّام في كتابه قال (قال: يأتي في آخر الزمان قوم يأتون المساجد، فيقعدون حلقاً، ذكرهم الدنيا وحب الدنيا، لا تجالسوهم فليس لله فيهم حاجة)(1) .وروى الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (الجلوس في المسجد لانتظار الصلاة عبادة ما لم يُحدِث، قبل: يا رسول الله وما الحدث؟ قال: الاغتياب)(2).

لذا حث القادة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) على كلتا العمارتين المادية والمعنوية:

ففي العمارة المادية روى الشيخ الكليني بسند صحيح عن ابي عبيدة الحذاء قال (سمعت أبا عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول: من بنى مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنّة. قال أبو عبيدة: فمرّ بي أبو عبد الله في طريق مكّة وقد سوّيت بأحجار مسجداً، فقلت له: جعلت فداك، نرجو أن يكون هذا من ذاك؟ قال: نعم)(3).

وروى البرقي في المحاسن أن أبا الصباح سأل الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (ما تقول في هذه المساجد التي بنتها الحاج في طريق مكّة؟ فقال: بخّ بخّ، تيك أفضل المساجد، من بنى مسجداً كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنّة)(4).

وورد في العمارة المعنوية:

قول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله عزّ وجلّ، ورجل قلبه متعلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود 6

ص: 165


1- وسائل الشيعة / ط. آل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) : ج 5/ ص 214 / ح 4
2- بحار الأنوار: 83/ 384
3- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) : ج5 / ص 203 / باب 8 / ح 1
4- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ): ج5 / ص 203 / باب 8 / ح 6

إليه، ورجلان كانا في طاعة الله عزّ وجلّ فاجتمعا على ذلك وتفرّقا، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال فقال: إنّي أخاف الله، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما يتصدّق بيمينه) .(1)وروى الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن جده رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله: (من كان القرآن حديثه والمسجد بيته بنى الله له بيتاً في الجنة) (2) وروى الامام الباقر قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لجبرائيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): يا جبرائيل أي البقاع أحبّ الى الله عزوجل ؟ قال: المساجد، وأحبُّ أهلها إلى الله أوَّلهم دخولاً وآخرهم خروجاً منها)(3).

وقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (من مشى إلى مسجد من مساجد الله فله بكلّ خطوة خطاها حتى يرجع إلى منزله عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيّئات، ورفع له عشر درجات)(4).

وقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)في آثار التردد على المساجد (من اختلف إلى المسجد أصاب إحدى الثمان: أخاً مستفاداً في الله، أو علماً مستطرفاً، أو آية محكمة، أو يسمع كلمة تدلّه على هدى، أو رحمة منتظرة، أو كلمة تردّه عن ردى، أو يترك ذنباً خشية أو حياءً)(5).

وروى الديلمي في الارشاد عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)قوله: (الجلسة في الجامع خير لي من الجلسة في الجنّة، لأنّ الجنّة فيها رضى نفسي والجامع فيه رضى ربّي)(6) . 6

ص: 166


1- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) : ج5 / ص 199 / ح 4
2- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) : ج5 / ص 198/ ح 2
3- الكافي : 3 / 489 ، ح 14 باب النوادر
4- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) : ج5 / ص 201 / ح 3
5- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) : ج5 / ص 197 / ح 1
6- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) : ج5 / ص 199 / ح 6

وقول الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لا يرجع صاحب المسجد بأقلّ من إحدى ثلاث خصال : إما دعاء يدعو به يدخله الله به الجنّة ، وإمّا دعاء يدعو به فيصرف الله به عنه بلاء الدنيا، وإمّا أخ يستفيده في الله)(1).وقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من مشى إلى المسجد لم يضع رجلاً على رطب ولا يابس إلاّ سبّحت له الأرض إلى الأرضين السابعة)(2).

وقال الشيخ الصدوق في ثواب الأعمال وفي علل الشرائع (روي أنّ في التوراة مكتوباً: إنّ بيوتي في الأرض المساجد، فطوبى لعبد تطهّر في بيته ثمّ زارني في بيتي، ألا إنّ على المزور كرامة الزائر، ألا بشّر المشائين في الظلمات إلى المساجد بالنور الساطع يوم القيامة)(3) .

وقد كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يهددان بالعقوبة من يتخلف عن حضور الصلاة في المساجد لغير عذر فقد روي بسند صحيح عن عبدالله بن سنان عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (سمعته يقول: إن أُناساً كانوا على عهد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أبطأوا عن الصلاة في المسجد، فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): ليوشك قوم يدعون الصلاة في المسجد أن نأمر بحطب فيوضع على أبوابهم فتوقد عليهم نار فتحرق عليهم بيوتهم)(4).

أيها الأحبة: 2

ص: 167


1- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) : ج5 / ص 193 / ح 2
2- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) : ج5 / ص 200 / ح 1
3- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) : ج5 / ص 244 / باب 39 / ح 1
4- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) : ج5 / ص 194 / ح 2

هذا بعض ما ورد في عظمة المساجد وبركتها على الفرد والمجتمع، وقد لمسنا ذلك على أرض الواقع، فكلما كانت المساجد عامرة وفاعلة كان المجتمع في خير لذا فنحن مطالبون اليوم ب- (صحوة) و (يقظة) وقيام استجابة لقوله تعالى {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} (سبأ:46) فننفض عنا ركام هذه الغفلة والتقصير في حق المساجد بل في حق أنفسنا إذ لم نستثمر هذه الفرصة العظيمة للطاعة التي أتاحها الله تبارك وتعالى حتى لا نكون ممن يشكوهم المسجد كما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (ثلاثة يشكون إلى الله عز وجل: مسجد خراب لا يصلي فيه أهله، وعالم بين جهال، ومصحف معلق قد وقع عليه الغبار لا يقرأ فيه)(1).وعلينا ان نستفيد من زخم المسجد وقوته وآثاره المباركة في المواجهة الحضارية التي يخوضها الإسلام مع اعدائه داخل بلاد المسلمين وخارجها لمحق الإسلام.

إن الفرصة متاحة اليوم لنشر المساجد ومحالّ العبادة وإقامة الشعائر الدينية في كل مكان ولو بأبسط اشكالها، كغرفة كبيرة تتخذ حرماً للصلاة مع مغاسل للوضوء، من دون الحاجة الى أبنية ضخمة، نعجز عن تفير أموالها، والمهم تأسيسها على التقوى {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (التوبة:108).1.

ص: 168


1- وسائل الشيعة:كتاب الصلاة، أبواب حكام المساجد، باب 5، ح1.

أهمية الإعمار المعنوي:والأهم من الإعمار المادي هو الإعمار المعنوي الذي تشكو منه المساجد في الحديث المتقدم، وإعمارها يكون بإقامة الصلوات فيها والذكر والدعاء وبيان الأحكام الشرعية والأخلاق الفاضلة وتهذيب النفوس ومجالس الوعظ والإرشاد وذكر فضائل أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ومظلوميتهم والشعائر الدينية، وجعلها خالصة لله تعالى {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (الجن:18) وعدم تشويش المؤمنين بالدعوات الشخصية والفئوية وتجنيبها ما ينافي قدسيتها من المحرمات واللغو واللهو وأعمال الدنيا، وفي ذلك ورد عن أبي ذر (رضوان الله عليه) عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(يا أبا ذر الكلمة الطيبة صدقة وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة، يا أبا ذر من أجاب داعي الله وأحسن عمارة مساجد الله كان ثوابه من الله الجنة، فقلت: كيف يعمر مساجد الله؟ قال: لا ترفع الأصوات فيها ولا يُخاض فيها بالباطل ولا يشترى فيها ولا يباع واترك اللغو ما دمت فيها، فإن لم تفعل فلا تلومن يوم القيامة إلا نفسك)(1).

ومن وصايا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأبي ذر (رضوان الله عليه): (يا أبا ذر: كل جلوس في المسجد لغو إلا ثلاثة: قراءة مصلٍّ أو ذكر ذاكر الله تعالى أو سائل عن علم)(2).

من بركات إعمار المسجد:

إن من بركات إعمار المساجد وإحيائها دفع البلاء عن الأمة وما أحوجنا0.

ص: 169


1- المصدر، باب 27، ح3.
2- بحار الأنوار:83/ 370.

إليه ونحن نسأل الله تعالى ان يكشف عنا هذا الوباء، روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال:(إن الله تبارك وتعالى ليريد عذاب أهل الأرض جميعاً حتى لا يحاشي منهم أحداً إذا عملوا بالمعاصي واجترحوا السيئات، فإذا نظر إلى الشيّب ناقلي أقدامهم إلى الصلوات، والوُلدان يتعلمون القرآن رحمهم الله فأخّر ذلك عنهم)(1) ومن وصايا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأبي ذر:(يا أبا ذر: يقول الله تعالى: إن أحب العباد إليّ المتحابون بجلالي المتعلقة قلوبهم بالمساجد المستغفرون بالأسحار، أولئك إذا أردت بأهل الأرض عقوبة ذكرتهم فصرفت العقوبة عنهم)(2).فسارعوا أيها المؤمنون {إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (آل عمران:133).

إن أولى من يخاطب بوجوب التحرك لإعمار المساجد هم فضلاء الحوزة العلمية لأنهم بهم ينعقد نظام هذه الحركة المباركة وإمام المسجد هو القائد الديني والاجتماعي في منطقته، وقد عرضت في خطاب سابق (3) عدة خطوات لإعمار المساجد وتفعيل دورها في حياة الأمة نعيد التذكير بها مع إضافة خطوات أخرى منها:

1 - إشغال كل مسجد مهما كان بسيطاً ونائياً بإمام يقيم فيه الشعائر، وإذا خلت منطقة أو ناحية من مسجد فيمكن اتخاذ غرفة كبيرة في أحد البيوت مما يعرف بالمضيف أو الديوانية أو غرفة الاستقبال ويُتخذ لها باب خارجي يفتح5)

ص: 170


1- وسائل الشيعة:كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساجد، باب 3، ح3.
2- بحار الأنوار:83/ 370.
3- راجع كتاب (شكوى المسجد) و (خطاب المرحلة: 1/ 425-445)

للمصلين في أوقات الصلوات ولإقامة الشعائر الدينية وتجهيزها بمكبر صوت لرفع الآذان، ولا أعتقد أنّ هذا يكلّف شيئاً يذكر في قبال ما أعدّ الله لفاعله من الخيرات والبركات.2 - الحرص على إقامة صلاة الجماعة في المسجد فإنها مفتاح البركات ولا تختص بالفرائض اليومية بل تشمل الصلاة في العيدين وعند حصول الخسوف والكسوف، ولقد ثبت بالتجربة أنّ المسجد الذي تقام فيه صلاة الجماعة يكون أكثر فاعلية واجتذاباً للناس من المسجد الخالي منها، وهم على حق في ذلك من أكثر من جهة:

أ - الثواب العظيم الذي أعدّ للمصلي جماعة بحيث إذا بلغ عدد المصلين عشرة فلا يحصي ثواب الجماعة إلا الله تبارك وتعالى.

ب - إنّ وجود إمام الجماعة يلزم منه تحقيق فوائد كثيرة كإجابة الاستفتاءات وقضاء الحوائج الاقتصادية والاجتماعية وإلقاء المحاضرات في الوعظ والإرشاد وتبليغ الأحكام.

3 - اختيار إمام الجماعة المخلص لله تبارك وتعالى الحريص على المصالح الاجتماعية أكثر من مصلحة نفسه، وأن يكون ذا فضيلة علمية ليستطيع تلبية احتياجات المجتمع الفكرية والفقهية والثقافية.

4- ان ينظم حلقات دراسية يتعلم فيها الناس أمورهم الدينية من عقائد واخلاق ومسائل الحرام والحلال خصوصاً المسائل الابتلائية وان يحث الشباب الواعين المثقفين الفطنين على الالتحاق بالحوزة العلمية في النجف الاشرف لينهلوا من معينها ويعودوا الى مجتمعهم مبلغين دُعاة الى الله تبارك وتعالى وأقل ما يجزيه

ص: 171

من النشاط هو إلقاء محاضرة في الأسبوع مرة تطبيقاً لرواية الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن جده رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (أفٍّ لرجل لا يفرّغ نفسه في كلّ جمعة(1) - أي أسبوع – لأمر دينه فيتعاهدوه ويسأل عن دينه)(2)، ولما كانت فرصة القراءة والتفقه ليست متاحة لكلّ أحد لأسباب شتى فعلى إمام المسجد توفير هذه الفرصة للمجتمع، وبذلك فهو يعينهم على امتثال أمر الإمام، فإن دوره في المجتمع، يتمثل بتقريب الناس إلى طاعة الله تبارك وتعالى بتكثير فرصها وفتح المزيد من أبوابها، وتقليل فرص المعصية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.5 - إحياء الشعائر الدينية ومناسبات أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) جميعاً، وعدم الاكتفاء بشهر رمضان وشهر محرم، وأؤكد هنا على ضرورة إقامة المجالس في المساجد(3) لعدّة أمور، فهي أبعد عن الرياء والعجب ويكون الحضور فيها خالصاً لله لا مجاملة لأحد، وفيها إعطاء أهمية للمسجد في حياة الناس، ولاقترانها بصلاة الجماعة عادة، ولأنها اعظم أجراً لما ذكرنا من أنّ الجلوس في المسجد عبادة.

6 - إقامة المسابقات الدينية والثقافية خصوصاً في شهر رمضان وليالي وأيام الجمع، وتعيين الجوائز للفائزين، وهذا يحقق أكثر من ثمرة:ء.

ص: 172


1- كان سماحة الشيخ يلقي خطبة أسبوعية بعد صلاة الظهر يوم الجمعة في جامع حي الكرامة في النجف حيث كان يؤم الجماعة.
2- أصول الكافي: 1 / باب سؤال العالم وتذاكره ح 5
3- كان سماحة الشيخ يعقد مأتماً أسبوعياً بعد صلاتي المغرب والعشاء جماعة في جامع الكرامة مساء الأربعاء، وفي ذكرى شهادة المعصومين (عليهم السلام) والعشرة الأولى من محرم الحرام ويجلب لذلك عدداً من الخطباء.

أ - حثّ المؤمنين على قراءة الكتب والازدياد من العلم والمعرفة ليكونوا بمستوى المسابقات.

ب - حثّهم على الحضور في المساجد لما في جو المسابقات من متعة وفائدة وتسلية.

7 - وضع لوحة إعلانات يسجل فيها كلّ يوم شيء جديد، كحديث شريف له ثمرة اجتماعية أو أخلاقية أو عقائدية، أو تدوّن فيها بعض الأحكام الابتلائية، أو استفتاءات مستحدثة، أو خبر نافع عن الحوزة، أو عن إصدار جديد، أو إلفات النظر إلى حالة اجتماعية منحرفة، أو معاملة باطلة تجري في السوق وتصحيح ذلك وفق الضوابط الشرعية، وأي شيء آخر يشدّ الناس إليها ويجعلهم في تفاعل مستمر مع المسجد.

8 - إنشاء حلقات تعليم القرآن الكريم قراءةً وتفسيراً وعقد المحافل القرآنية لشد الناس الى ثقل الله الأكبر.

9 - تأسيس مكتبة ولو بسيطة في كلّ مسجد تضم مجموعة من الكتب الدينية والثقافية التي يحسُن بالمسلم الإطلاع عليها.

10- أن يبذل إمام المسجد وسعه في قضاء حوائج الناس فيزوِّج هذا الشاب المتعفف ويساعد ذلك المحتاج ويُوجِد فرصة عمل لهذا العاطل وهكذا، مع مشاركتهم في مناسباتهم الاجتماعية وأفراحهم وأحزانهم حتى يكون للجميع كالأب والأخ الشفيق الرحيم وبذلك ينجذب الناس إلى المسجد ويجدون فيه المنقذ والمأوى والكهف الحصين.

ص: 173

11- أن يتشكل في المسجد موكب لإحياء الشعائر والمناسبات الدينية ولجان ومجاميع لإدارة مختلف النشاطات المطلوبة بحسب رغبات العاملين ومؤهلاتهم، فمجموعة للأعمال الخيرية والإنسانية ومساعدة العوائل، وأخرى للعلاقات الاجتماعية ولجنة للعمل الثقافي تتولى إصدار النشرات الجدارية والورقية وتوزيعها، ولجنة لرعاية الشباب وأخرى لتنظيم السفرات الدينية أو الترفيهية وهكذا.

12- ولا تقتصر هذه الحركة الفاعلة على الرجال، فللنساء نصيبهن بل الحظ الأوفر لهن لأن المجتمع النسوي أحوج إلى الرعاية بسبب طول الإهمال والحرمان وشدة المعاناة وضغط العوائق الاجتماعية وبعض رواسب التعصب والجهل والأنانية، فتُخصَّص حسينيات أو دور للعمل النسوي وتتصدى له المبلغات الرساليات، وقد توفرت المئات منهن بفضل الله تبارك وتعالى، فالساحة مهيأة لأداء هذه الرسالة الإلهية.

إن في هذه الحركة المباركة استجابة لدعوة الله تعالى ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (الأنفال : 24).

وأنت ترى إنّ المسؤولية متبادلة بين الحوزة الدينية والمجتمع فإن بعضهم يكمل بعضاً، فالحوزة ترشد المجتمع وتوجهه إلى طريق الصلاح، والمجتمع يطبّق ويمتثل ويمارس دور الشاهد على الحوزة ليقيّمها هل أدّت دورها كما ينبغي.

وتتعاظم الفرصة والمسؤولية مع إطلالة شهر رمضان المبارك وإقبال الناس على الطاعة والحضور في المساجد، وفقنا الله تعالى وإياكم لما يحب ويرضى.

ص: 174

القبس/55 : سورة التوبة:32

اشارة

{يُرِيدُونَ أَن يُطفُِٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفوَهِهِم وَيَأبَى ٱللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُۥ وَلَو كَرِهَ ٱلكَفِرُونَ}

موضوع القبس:لتكن لنا مشاركة في تحقيق الهدف الإلهي العظيم

*موضوع القبس:لتكن لنا مشاركة في تحقيق الهدف الإلهي العظيم (1)

تشير الآية إلى المحاولات اليائسة والبائسة التي يقوم بها أعداء الإسلام من داخل المجتمع المسلم ومن خارجه ((كفارّ ومنافقين ومشركين)) للقضاء على الإسلام، ويسخر القرآن الكريم من تفاهتها ويصوّر محاولاتهم كمن يريد أن يطفئ نور الشمس الوهاج بنفخة هواء من فمه، فهل يستطيعون ذلك؟ والمثال يضرب لتقريب الفكرة وإلا فان نور الله تعالى الواصل إلينا من خلال القرآن والإسلام أعظم لأن {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (النور:35).

(ويأبى الله) تعالى أي يرفض ويمتنع بشكل حتمي عن قبول أي خيار آخر غير تحقيق غرضه وقد عزم على أن يتم نوره وينزل نصره النهائي على المؤمنين وتهيمن شريعته على كل القوانين والأنظمة التي صنعها الناس وهو ما نطقت به

ص: 175


1- من حديث سماحة المرجع الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من المبلّغين وفضلاء الحوزة العلمية قبل انطلاقهم للتبليغ بين الملايين من زوار الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في ذكرى اربعينيته يوم الاثنين 8/صفر/1441 الموافق 7/ 10/ 2019م.

الآية التالية {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (التوبة:33) وبشرت به آية أخرى أيضاً في قوله تعالى {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} (الفتح:28).ولا يخفى ما في الآية من كناية عن (ظلامية) أعداء الإسلام وجهلهم وتخلفهم وهمجيتهم حيث يسعون لإطفاء النور واغراق البشرية في الظلام، وهل يسعى عاقل لإطفاء النور الذي فيه حياة البشر وصلاحهم وسعادتهم، فمن يسعى للقضاء على الإسلام يكون هذا تقييمه.

إن الآية الكريمة لما تسخر من محاولات الأعداء وتصفها بالعبثية وعدم الجدوى فهذا لا يعني أن جهود وامكانيات الاعداء تافهة أو ضعيفة في نفسها أي من الناحية المادية {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} (إبراهيم:46) لأنهم يجندون كل ما عندهم من عدد وعدة قاهرة سواء على صعيد المال أو السلاح أو الاعلام أو التقنيات الحديثة أو أدوات الاغراء والافساد والاضلال والترغيب والترهيب.

وإنما هي كذلك عندما تُواجَه بالايمان وقوة العقيدة والقلوب الثابتة التي ربط الله تعالى عليها وبتفعيل سائر إمكانيات الأمة وطاقاتها البشرية والمادية، وحينئذ يتحقق النصر النهائي لدين الحق الذي وعدت به الآية التالية {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْ-رِكُونَ} (التوبة:33).

ص: 176

وتشير آية أخرى مشابهة إلى ان الأعداء لا يكتفون بالحرب الخشنة الظاهرة وإنما يستخدمون الحرب الناعمة أيضاً من خلال تحريف تعاليم الدين وتعطيل أحكامه وتمييعه، وتحويله إلى شكليات طقوسية كأي تقاليد شعبية خالية من المضمون ولا تحقق الغرض الذي يريده الله تبارك وتعالى، قال سبحانه {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (الصف:8-9) وإنما فسرناهما بهذا المعنى بقرينة الآية التي سبقتهما {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الصف:7) وبدلالة كلمة {أَفْوَاهِهِمْ} التي تعني ان محاولاتهم تكون بنشر الكلام الباطل مسموعاً أو مكتوباً. وفي ذلك رواية عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من حديث طويل في الاحتجاج على أحد الزناديق في آيات متشابهة إلى أن قال عن معنى هذه الآية (انهم أثبتوا في الكتاب ما لم يقله الله على الخليقة فأعمى الله قلوبهم حتى تركوا فيه ما دلَّ على ما أحدثوه فيه وحرفوا منه)(1) وفيها أيضاً (وجعل أهل الكتاب القّيمين به، والعالمين بظاهره وباطنه، من شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين باذن ربها، أي:يظهر مثل هذا العلم لمحتمليه - أي القادرين على0.

ص: 177


1- الاحتجاج:1/ 371 ، تفسير الصافي:3/ 400.

تحملّه- في الوقت بعد الوقت، وجعل أعداءها أهل الشجرة الملعونة الذين حاولوا إطفاء نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره)(1).فهذا التفسير ليس منافياً للأول بل يعبّر كل منها عن شكل من اشكال إطفاء النور أي الصراع والمواجهة.

ومن اشكالها استهداف قادة الإسلام العظيم - الذين هم مظاهر النور الإلهي - بالتسقيط والحصار والتطويق وعزلهم عن الأمة في السجون وملاحقة أتباعهم وتنتهي بقتلهم، روى الشيخ الصدوق في الاكمال عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقد ذكر شق فرعون بطون الحوامل في طلب موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (كذلك بنو امية وبنو عباس لما ان وقفوا على أن زوال ملك الأمراء والجبابرة منهم على يد القائم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ناصبونا العداوة ووضعوا سيوفهم في قتل أهل بيت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وإبادة نسله طمعاً منهم في الوصول إلى قتل القائم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فأبى الله أن يكشف أمره لواحد من الظلمة الا أن يتم نوره ولو كره المشركون)(2).

وروى الحميري في قرب الاسناد بسنده عن البزنطي عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إن الناس قد جهدوا على إطفاء نور الله، حين قبض الله تبارك وتعالى رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وأبى الله إلا أن يتم نوره. وقد جهد علي بن أبي حمزة - من زعماء الانشقاق على الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واختلاس أمواله - على إطفاء نور الله حين مضى أبو الحسن الأول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) - أي حين وفاة الامام الكاظم - فأبى الله إلا0.

ص: 178


1- الاحتجاج:1/ 376 ، تفسير الصافي:3/ 400.
2- إكمال الدين وإتمام النعمة:354 ، باب 33 ما روى عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ، ح 50.

ان يتم نوره، وقد هداكم الله لأمر جهله الناس، فاحمدوا الله على ما من عليكم به)(1).وتوجد التفاته لطيفة للفرق بين التعبير {يُطْفِؤُواْ} في سورة التوبة و {لِيُطْفِؤُوا} في سورة الصف، قال الراغب ((والفرق بين الموضعين أن في قوله {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ} يقصدون إطفاء نور الله، وفي قوله {لِيُطْفِؤُوا} يقصدون أمراً يتوصلون به إلى إطفاء نور الله)(2) فالتعبير الأول يشير إلى التفسير الأول لآية التوبة وهي المواجهة المباشرة والوصول إلى ما يريدون بلا واسطة، والتعبير الثاني يشير إلى اتخاذ الوسائل والأدوات والمقدمات للوصول الى الإطفاء وهو التفسير الثاني في آية الصف فالقرآن الكريم يؤكد حقيقة خيبتهم وفشلهم في مساعيهم سواء واجهوا مباشرة أو اتخذوا لذلك مقدمات وأسباباً.

ان الأعداء لا يكلّون ولا يملّون بل يستمرون في محاولاتهم ولذا استعملت صيغة المضارع في (يريدون) فاراداتهم لهذه النتيجة مستمرة، قال تعالى {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ} (البقرة:217) عملاً بأوامر شيطانهم الكبير إبليس الذي يردّد {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} (الأعراف:16) {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف:17).5.

ص: 179


1- نقله المجلسي في بحاره 49:262 / 5.
2- المفردات للراغب:مادة (طفأ) وقال في الهامش:راجع درة التنزيل للاسكافي:195.

مما يوجب علينا لزاماً ان نستمر بالعمل لإعلاء كلمة الله تعالى ولنشر تعاليم الدين وحث الناس على العمل بالشريعة وتعريفهم بسيرة اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لنحدث التوازن مع محاولات الأعداء بل نتفوق عليهم إن شاء الله تعالى.ولنعلم ان هذا الهدف الإلهي العظيم إنما يتحقق على ايدي العاملين الرساليين المخلصين {هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} (الأنفال:62).

فلنحرص أشد الحرص على أن تكون لنا بصمة في تحقيق الهدف الذي ذكرته الآية فان المسيرة ماضية نحو التمام ولا تتوقف على وجود أحد، ومن يتخلف فإنما يحرم نفسه من هذا الفوز العظيم، وساحة العمل واسعة تتسع للجميع، ولكلٍ دوره المناسب له، فوظيفتكم – كفضلاء وطلبة علوم الدينية – الدعوة الى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة والإرشاد وتهذيب النفوس وتعليم احكام الدين ونشر سيرة اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) والامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

إن دوام القضية الحسينية واتساعها وتحولّها إلى قضية إنسانية عالمية من أوضح تجليّات هذه الآية المباركة حيث جهد الكثير من الطواغيت عبر التاريخ الماضي والحاضر لإطفاء هذا النور الإلهي العظيم لكنهم فشلوا وذهبوا إلى مزابل التاريخ وبقيت رسالة الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تخاطب الأجيال جميعاً وتزداد قوةً وتأثيراً بفضل الله تبارك وتعالى، وهذا أوضح مثال على ان الله يتم نوره ولو كره الكافرون والمنافقون، فلا نتقاعس أولا ولا ننبهر بقوة الباطل ثانياً.

ص: 180

القبس/56: سورة التوبة:49

اشارة

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا}

موضوع القبس: فتنة توظيف العناوين الدينية لأهواء شخصية

معنى الآية باختصار:أن من المنافقين من يقول لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أئذن لي في ترك الجهاد والتخلف عن جيش المسلمين الذاهب مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لقتال الروم في تبوك ويبرّر ذلك بأن تكليفه بالجهاد يوقعه في المعصية ومخالفة الأمر الشرعي ويسبب له الفتنة عن الدين فيجيبه الله تعالى بأنه بسلوكه المخادع هذا قد وقع في الفتنة عن الدين وارتكب معصية كبيرة.

والآية الكريمة تكشف عن حالة منافقة يسقط فيها بعض افراد المجتمع المسلم الذين يتبعون أهواءهم ويكون همُّهم إرضاءَ أنانياتهم فإنهم حينما يريدون التنصل من مسؤولياتهم الاجتماعية وعدم أدائهم لواجباتهم تجاه دينهم وأمتهم أو يريدون تحقيق مكاسب شخصية فأنهم يسوّقون أعذاراً بعناوين دينية متظاهرين بالورع والخوف على الدين لإقناع الآخرين ومحاولة خداعهم {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (البقرة:9).

وكشاهد على ذلك نذكر الحادثة التي نزلت فيها الآية الكريمة بحسب ما ذكره أرباب الحديث والسير والتأريخ وذلك أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لما بلغه اجتماع الروم في بلاد الشام لغزو المدينة والقضاء على الإسلام قرّر الذهاب لهم

ص: 181

لمواجهتهم في عقر دارهم فاستنفر المسلمين وحثّهم على الجهاد فاستجاب له عدد كبير من أهل المدينة وقبائل العرب التي دخلت الإسلام رغم العسرة التي كان المسلمون فيها وقعد قوم من المنافقين وغيرهم (ولقي رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الجد بن قيس - وهو من وجوه بني سلمة من بطون الخزرج وكان من المنافقين - فقال له:يا أبا وهب الا تنفر معنا في هذه الغزاة لعلك ان تحتفد - أي تستخدم - من بنات الأصفر - وهم الروم - ؟ فقال:يا رسول الله إن قومي ليعلمون أنه ليس فيهم أحد أشد عجباً بالنساء مني، وأخاف إن خرجت معك أن لا أصبر إذا رأيت بنات الأصفر فلا تفتنِّي وائذن لي أن أقيم(1)، وقال لجماعة من قومه:لا تخرجوا في الحر، فقال ابنه:تردّ على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتقول ما تقول؟ ثم تقول لقومك لا تنفروا في الحر؟ والله لينزلنّ الله في هذا قرآناً يقرؤه الناس إلى يوم القيمة، فأنزل الله على رسوله في ذلك: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} ثم قال الجد بن قيس أيطمع محمد أن حرب الروم مثل حرب غيرهم؟ لا يرجع من هؤلاء أحد أبداً)(2) . فادعى هذا الشخص أنه يخاف على دينه لو أمره رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالجهاد من فتنة النساء الروميات أو من فتنة الانتصار ومكاسبه عموماً أو من ويلات الحرب فيضعف أمامها أو أنه يخشى ترك أهله وأمواله فيطلب من النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الإذن له بترك الجهاد حتى لا يقع في المخالفة، ولكنه بتخاذله ونفاقه وقع في الفتنة التي زعم أنه يريد تجنبها.يم

ص: 182


1- وفي رواية ابن إسحاق ((فاعرض عنه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقال:قد أذنت لك)
2- تفسير نور الثقلين:2/ 632 ح 169 عن تفسير علي بن ابراهيم

وتضمنت آية أخرى ما ظاهره العتاب لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على إعطائه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الإذن بالتخلف عن الجهاد، لكنها قدّمت أولاً الدعاء له بالعفو قال تعالى {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} (التوبة:43) ولو جعلهم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على المحك ولم يأذن لهم، حتى يفتضحوا وينكشف عزمهم على المخالفة وتقاعسهم عن أداء الواجب حتى لو أمرهم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالخروج ولكيلا يجعلوا الإذن غطاء لشرعنة ارتكابهم هذه المعصية الكبيرة، قال تعالى{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} (التوبة:46)، وروى علي بن إبراهيم في تفسيره عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسيرها (تعرف أهل العذر والذين جلسوا بغير عذر) (1). فأريد من هذا الخطاب الموجّه إلى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تنبيه الأمة إلى أن هذه الأعذار لا تنطلي على الله تعالى ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لكن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لكرم أخلاقه ستر عليه ورأى عدم الفائدة في خروجه بل إن وجوده وأمثاله ضارٌّ بجيش المجاهدين{لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} (التوبة:47)، فترك الله تعالى نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ليتصرف وفق ما تقتضيه أخلاقه الكريمة ثم أنزل ما يفضح أولئك المنافقين فتحقق بالنص الإلهي ما لم يتحقق لو لم يسبقه التصرف النبوي.9.

ص: 183


1- تفسير القمي: 269.

ولخطورة هذه الفتنة فقد أخرّ الله تبارك وتعالى التنبيه عليها لما بعد ظروف المعركة، ولولا حكمة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لاستطاع هذا المنافق أن ينشر فتنته في المجتمع لأنه غلّفها بإطار ديني تنخدع به فئة من الناس {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}، نعم هناك معذورون عن الجهاد ذكرتهم الآيات الكريمة وليس هؤلاء المتخاذلون منهم.وفي مقابل هؤلاء المتخاذلين كان المؤمنون الصادقون سبّاقين لطاعة الله تعالى ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من دون تردد ومناقشة {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} (التوبة:44).

هذه الحالة المنحرفة للهروب من المسؤولية وتبرير مخالفة أوامر الله تعالى وتسخير الواجهات الدينية لتحصيل المصالح الشخصية موجودة على كل المستويات، وأخطرها على الإطلاق ما حصل بعد رحيل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حيث برّر الانقلابيون مخالفتهم لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في وصيته بأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بأنهم خافوا الفتنة إن أمرّوا علياً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولم يتصدوا هم للسلطة وخلافة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقالوا تارة ((ان قريشاً كرهت ان تجتمع فيكم - أي بني هاشم - النبوة والخلافة، فتجحفون على الناس))(1) وقالوا ((فاختارت قريش لأنفسها فأصابتمر

ص: 184


1- المراجعات للسيد شرف الدين:350 وقد نقله عن شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد:3/ 107 والكامل لابن الاثير:3/ 24 في أحوال عمر

ووفقت))(1)، وكأنّ الآية الكريمة تفضح نوايا الانقلابيين وما عزموا عليه قبل وقوع الحدث بسنتين تقريباً وقد كشف الله تبارك وتعالى محاولاتهم العديدة في إخفاء الحق لكن الله تبارك وتعالى أظهره وأتمه في يوم الغدير، قال تعالى {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ}(التوبة:48) فجاء الحق وظهر أمر الله في يوم الغدير وهم كارهون معاندون {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} (التوبة:45).أيها الأحبّة الكرام

لقد ذكّرتهم السيدة فاطمة الزهراء (س) بهذه الآية الكريمة فقالت (س):(فلما اختار الله لنبيّه دار أنبيائه ومأوى أصفيائه ظهر فيكم حسكة النفاق) الى أن قالت (س) (زعمتم خوف الفتنة {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ} فهيهات منكم وكيف بكم وأنى تؤفكون وكتاب الله بين أظهركم؟ أموره ظاهرة وأحكامه زاهرة وأعلامه باهرة وزواجره لائحة وأوامره واضحة وقد خلفتموه وراء ظهوركم، أرَغبة عنه تريدون أم بغيره تحكمون {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ})(2) .

ثم بيّنت (س) لهم خطورة الفتنة التي أحدثوها فقالت (ويحهم أنى زحزحوها عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة والدلالة ومهبط الروح الأمين31

ص: 185


1- تاريخ الطبري:3/ 289
2- الاحتجاج للطبرسي :1/ 131

والطبين(1) بأمور الدنيا والدين {أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ}(2) فتبيّن السيدة الزهراء (س) لهم أنهم بفعلهم هذا سقطوا في قعر الفتنة وإن ادعَّوا أنهم يريدون وقاية الأمة منها ففضحت زيف دعاواهم ونواياهم الحقيقية وعظم جنايتهم على حاضر الأمة ومستقبلها حيث جّر هذا الانقلاب الويلات والكوارث على الأمة من تحريف الدين وسفك الدماء وهدر الأموال وتسلط الأشرار وتشريد الصالحين وضياع القيم والمبادئ الإنسانية وغير ذلك(3).وقد اعترف قادة الانقلاب بأن ما جرى في السقيفة كان فتنة تمزّق الأمة وتؤدي الى انحرافها عن طريق الصلاح والكمال لكنهم ادّعوا أنها مرّت بسلام قال عمر في كلمته المشهورة التي تناقلها المؤرخون وكتاب السير(4) (ان بيعة أبي بكر كانت فلته وقى الله شرها فمن دعاكم إلى مثلها فاقتلوه)(5) وقال ابن الأثير في معنى الحديث ((أراد بالفلتة الفجأة، ومثل هذه البيعة جديرة بأن تكون مهيّجة48

ص: 186


1- الطبين:الفطن الحاذق العالم بالاشياء
2- الاحتجاج للطبرسي:1/ 138
3- راجع تفصيل ذلك في موسوعة (خطاب المرحلة:1/ 217) خطاب بعنوان (ماذا خسرت الأمة حينما ولّت أمرها من لا يستحق) وفي تفسير (من نور القرآن:1/ 208) في ذيل قوله تعالى {أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (آل عمران:144).
4- مثل تاريخ اليعقوبي وشرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد والامامة والسياسة لابن قتيبة والصواعق المحرقة لابن حجر والملل والنحل للشهرستاني.
5- بحار الأنوار:30/ 448

للشر والفتنة فعصم الله من ذلك ووقى، والفلتة:كل شيء فُعل من غير رويَّة وإنما بُودِر بها خوف انتشار الأمر))(1). وقد زرعوا هذه الفكرة في اذهان الناس لتضييع الحقيقة مما دعا الأئمة الى بيانها، روى الشيخ الكليني في روضة الكافي بسنده عن ابي المقدام قال قلت لأبي جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):ان العامة يزعمون ان بيعة ابي بكر حيث اجتمع الناس كانت رضا لله عز ذكره، وما كان الله ليفتن أمة محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من بعده، فقال أبو جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أوما يقرأون كتاب الله، أوليس الله يقول:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران:144)(2).

وأي فتنة أعظم من تصدي غير المؤهلين لقيادة الأمة والتسلط على رقاب الناس في ذلك الزمان وفي كل زمان سواء بالخداع والمكر أو بالتضليل الإعلامي أو بالانقلابات العسكرية أو عبر الانتخابات المزورة أو باستخدام المال السياسي المسروق من قوت الشعب فينتشر الفساد والانحلال وتسرق ثروات الشعب وتهدر كرامته وتسفك الدماء المحرّمة وتشيع الفوضى ويختل النظام والأمن وتضيع العدالة الاجتماعية ويؤول أمر البلاد الى الخراب.

إن هذه الفئة المتخاذلة والمتقاعسة عن أداء واجباتها هي نفسها التي كانت تواجه أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عندما كان يستنهضهم لجهاد الباغين بالأعذار الواهية من الحر والبرد ففضحهم أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وكشف عن حقيقة نفاقهم بقوله5.

ص: 187


1- النهاية في غريب الحديث والأثر:3/ 467 مادة (فلت)
2- نور الثقلين:1/ 164 ح 1015.

{فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ الْحَرِّ قُلْتُمْ هَذِه حَمَارَّةُ الْقَيْظِ أَمْهِلْنَا يُسَبَّخْ عَنَّا الْحَرُّ وإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ قُلْتُمْ هَذِه صَبَارَّةُ الْقُرِّ أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا الْبَرْدُ كُلُّ هَذَا فِرَاراً مِنَ الْحَرِّ والْقُرِّ فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ الْحَرِّ والْقُرِّ تَفِرُّونَ فَأَنْتُمْ واللَّه مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ}(1) .إن فتنة هذه التبريرات تكون أخطر حينما تُغلّف بدعوة دينية كما في دعوى هؤلاء المنافقين الذين ذكرتهم الآية فأنهم يريدون التفريق بين الرسول والرسالة فيعصون الرسول ويزعمون أن ذلك من حرصهم على الالتزام بالرسالة كادعائهم الخوف من الفتنة عن الدين أو دعوى أصحاب السقيفة خوفهم على الناس من الارتداد ومن تمزق المجتمع، وكأنهم أعلم من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فيما ينبغي فعله وكأنهم يتهمونه في عدم إرادة صلاح الأمة، أو أنهم أعلم من الله تعالى بمصالح العباد وأحرص منه سبحانه على الدين وأحكامه قال الله تعالى مستنكراً ذلك منهم{قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الحجرات:16) ويذكرهم الله تعالى بأن نواياهم الحقيقية لا تخفى على الله تعالى وانه سبحانه يميز بين الحقائق والادعاءات {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} (البقرة:220) .

وختمت السيدة الزهراء (س) تحذيرها بالعاقبة التي ذكرتها الآية الكريمة {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ} فهم محاطون بالنار من جميع الجهات ولا يستطيعون التخلص منها، والتعبير باسم الفاعل (لمحيطة) الذي يدل على فعلية70

ص: 188


1- نهج البلاغة:نهج البلاغة:1/ 70

الاتصاف يعني انهم الآن واقعون حقيقةً في نار جهنم التي أججّوها بمعاصيهم(1) الا انهم لغفلتهم لا يشعرون بها ككثير من الحقائق التي هم غافلون عنها {لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (ق:22). ويمكن أن يكون معناها إن الكافرين صائرون حقيقة إلى هذه النتيجة فالتعبير باسم الفاعل يفيد الوقوع الأكيد لهذه النتيجة الآن أو في المستقبل.

أو إن إحاطتها بهم بلحاظ الأسباب والمقدمات أي انهم الآن محاطون بأسباب الوقوع في جهنم وهي الذنوب {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:81)، وقد أحاطت بهم ذنوبهم على مستوى النيات والأفعال.

إن هذه الحالة التي تحذّر منها الآية الكريمة لا تختص بواجب الجهاد بل سائر المسؤوليات الشرعية حيث تجد الذين في إيمانهم نقص وفي قلوبهم شك يقدمون أعذاراً واهية لا تخفى على من يستمع إليها وربما سوّقوها بعناوين دينية .

ص: 189


1- وفي الحديث إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان قاعداً مع أصحابه فسمعوا هدّة عظيمة فارتاعوا فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أتعرفون ما هذه الهدّة، قالوا:الله ورسوله أعلم، قال:حجر ألقي من أعلى جهنم منذ سبعين سنة وصل الآن الى قعرها وسقوطه فيها هذه الهدة فما فرغ من كلامه الا والصراخ في دار منافق من المنافقين قد مات وكان عمره سبعين سنة فكبّر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعلم الحاضرون أن الحجر هو ذلك المنافق الذي كان يهوي في جهنم مدة عمره فلما مات استقر في قعرها (حكاه السيد عبدالله الجزائري في كتاب (التحفة السنية:17) عن كتاب اليقين للفيض الكاشاني:2/ 1002، أقول:أصل الحديث رواه مسلم في صحيحه ص 1007 رقم 2844 .

وقد يكون صاحبها ممن له اطلاع على الفقه فيغلفها بمصطلحات دينية لتمريرها لكن أعذارهم ونواياهم الحقيقة لا تخفى على الله تعالى ولا على الواعي الفطن، أعاذنا الله تعالى وإياكم من الفتنة.

ص: 190

القبس/57: سورة التوبة:98

اشارة

{وَمِنَ ٱلأَعرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغرَما}

موضوع القبس:العطاء في سبيل الله تعالى غنيمة وليس خسارة

تبيّن الآية الكريمة صفة من صفات المنافقين من أعراب وغيرهم وهي انهم يعدّون ما ينفقون من أموال ليحافظوا على وجودهم في المجتمع الإسلامي مغرماً أي تلفاً وخسارةً وتضييعاً للأموال لأنهم لم يعطوها عن إيمان وعقيدة ونية مخلصة لله تعالى حتى يبتغوا بها الأجر والعوض، وإنما انفقوها رياءاً أو سمعة أو ليتظاهروا بأنهم ملتزمون بالدين وهم يستبطنون التمرد على الله تعالى وعدم الاعتراف بشريعته فلا يستفيدون مما انفقوا شيئا فينتابهم الأسى لما فقدوا من أموال بلا فائدة من وجهة نظرهم.

ولو كانوا صادقين في ايمانهم لاعتبروا ما ينفقون في سبيل الله تعالى ونصرة نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ونشر دينه والمساهمة في المشاريع الخيرية ومساعدة المحتاجين (مغنماً) لأنه سيعود عليهم بالخير الكثير في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلأنه سينمي المال ويزيده وإنما سميت الزكاة بهذا لأنها سبب لنمو المال وزيادته وكذا الصدقة فإنها تستنزل الرزق وتدفع البلاء.

وأما في الآخرة فان الله تعالى يضاعف الأجر لمن أنفق في سبيله أضعافاً مضاعفة حتى قال تعالى {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ

ص: 191

أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ} (البقرة:261) فالإنسان الواعي ذو البصيرة يجد ما ينفق في سبيل الله غنيمة ورزقاً لا يمكن تفويته فيسعى اليه ويحرص عليه، سواء تعلق الانفاق بالمال أو الجهد أو الوقت أو التفكير والاهتمام أو الكلمة الطيبة وغيرها ويرتقي ليكون الانفاق بالنفس والولد.فيرى المنافقون - وربما بعض ضعاف الايمان - ان من يصرف المال لبناء مسجد أو تزويج شاب مؤمن أو إقامة مشروع خيري، قد أضاع ماله الذي جمعه بجهود مضنية، ويرى ان من يقتل في سبيل الله وحماية المقدسات مغررّاً به قد خسر دنياه وهكذا.

ولأن المنافقين يعتبرون كل هذا الانفاق مغرماً وخسارة وعملاً عبثياً لا فائدة منه فهم يثبّطون العاملين ويثنونهم عن عزمهم على فعل الخير والمعروف ويطلبون منهم ان يوفروا مالهم ووقتهم وجهدهم لشؤونهم الشخصية وعدم تضيعها في المشاريع العامة المثمرة، فعلى المؤمنين الواعين الذين يعرفون جيداً ان هذا العمل والانفاق مغنم وخير وبركة ان لا يتأثروا بأراجيف المنافقين.

واذا استوعب الانسان هذه الحقيقة فانه سيتجاوز الكثير من المصائب والمصاعب وسيندفع نحو عمل الخير، خذ مثلاً ما جاء فيمن فقد جنيناً سقط من بطن أمه قبل اكتمال نموه عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حيث نقل قول جده رسول

ص: 192

الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (إن السقط يجيء محبنطئاً على باب الجنة فيقال له:أدخل الجنة، فيقول:لا، حتى يدخل أبواي الجنة قبلي)(1).لاحظوا كيف تحول المغرم إلى مغنم والألم إلى أمل بفضل الله تعالى وان من مرّت به مثل هذه المصيبة قد انفتحت امامه فرصة عظيمة لطاعة الله تعالى والفوز برضوانه ذلك بأن هذا الجنين الذي مات سيكون شفيعه يوم القيامة ولا يدخل الجنة الا ويدخل أبويه معه، فأي غنيمة أعظم من هذه؟ فتهون عليه المصيبة ويرضى بقضاء الله تعالى.

وهكذا من يجمع الأموال بعرق جبينه ثم يضعها في مشروع خيري فأنه لا يرى نفسه قد خسر شيئاً وانه أضاع ماله بل قدمّه ثمناً لغنيمة عظيمة.

أقول:هذا لاطمأن أحبّتي من المواكب والجمعيات الخيرية وسائر المؤسسات الدينية والإنسانية والاجتماعية المباركة الذين يواصلون الليل والنهار في خدمة الناس وعمل المعروف وإقامة شعائر الدين ان لا يثبطهم كلام الكسالى والمرائين وفاقدي البصيرة ومسلوبي التوفيق.

وقد حكى لنا التاريخ مواقف لعظماء عرفوا قيمة هذه الغنيمة مثل عبدالله بن عمرو الأنصاري والد جابر بن عبدالله الأنصاري فأنه بعد ان فاضت روحه الطاهرة شهيداً في معركة أحد مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تلقته الملائكة وسأله الله تبارك وتعالى عن ماذا يريد وماذا يطلب؟

فقال:أريد ان ارجع الى الدنيا لأقاتل وأُقتل شهيداً مرة أخرى لما رأى من الكرامة التي تمنح للشهيد(2).ر.

ص: 193


1- وسائل الشيعة:20 / 14 أبواب مقدمات النكاح ، باب 1 ح 2
2- روى طَلْحَة بن خِرَاش الأَنصاري قال:سمعت جابر بن عبد اللّه قال:نظر إِلي رسول الله ص)) فقال:"ما لي أَراك منكسرًا مُهْتَمًّا"؟ قلت:يا رسول الله، قتل أَبي وترك دينًا وعيالًا. فقال:"أَلا أَخبرك؟ ما كلم الله أَحدًا قَطّ إِلا من وراءِ حجاب، وإِنه كلم أَباك كِفَاحًا، فقال:يا عبدي، سلني أُعطك. قال:أَسأَلك أَن تردني إِلى الدنيا فأُقتل فيك ثانية! قال:إِنه قد سبق مني أَنهم لا يردون إِليها ولا يرجعون. قال:يا رب، أَبلغ مَنْ ورائي"، فأَنزل الله تعالى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ}... (آل عمران/ 169) أخرجه الترمذي في التفسير تفسير سورة آل عمران:8 / 360 - 361 وصححه الحاكم في المستدرك:3 / 203 وزاد السيوطي نسبته للطبراني وابن خزيمة وابن مردويه والبيهقي في الدلائل " الدر المنثور:2 / 371" وأخرجه الواحدي بسنده في أسباب النزول ص (162). وقال الألباني في تخريج السنة:إسناده حسن رجاله صدوقون على ضعف في موسى بن إبراهيم بن كثير.

وهكذا كان أصحاب الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقفون بين يديه ويسلّمون عليه ويتمنى أحدهم أن يقتل ثم يحيى ثم يقتل سبعين مرة دفاعاً عن الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولا يرى في ذلك مغرماً وتلفاً بل مغنماً وربحاً كقول زهير بن القين ((والله لوددتُ لو أني قُتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى اقتل كذا الف قتلة، وان الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك))(1) ومثله قال سعيد بن عبدالله الحنفي.ومثله ما ورد في خطاب العقيلة زينب (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) للطاغية ابن زياد لما قال لها متشفياً (كَيْفَ رَأَيْتِ صُنْعَ اللَّهِ بِأَخِيكِ وَ أَهْلِ بَيْتِكِ؟8.

ص: 194


1- تاريخ الطبري:5/ 418 ، الكامل في التاريخ 2/ 559 ، الارشاد:2/ 91 وغيرها من المصادر التي ذكرها ريشهري في كتاب الصحيح من مقتل سيد الشهداء:628.

فَقَالَتْ:مَا رَأَيْتُ إِلَّا جَمِيلًا، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ فَبَرَزُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وَسَيَجْمَعُ اللَّهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ فَتُحَاجُّ وَتُخَاصَمُ، فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلْجُ يَوْمَئِذٍ)(1).وهذه الحقيقة القرآنية ثابتة بالاتجاه الآخر إذ قد يعدُّ أهل الدنيا والمغترّون بها والغافلون عن الآخرة أن بعض ما يعتبرونه مغنماً هو مغرم ووبال عليهم لأنهم لم يتورعوا في تحصيله ولا وضعوه في موضعه ولا أدوا فيه حقوق الله تعالى.

وعبّرت العقيلة زينب (س) بوضوح عن هذه الحقيقة في خطابها الذي هزّ عرش يزيد الطاغية بقولها (ولئن اتّخَذْتَنا مَغْنَماً، لَتجِدَنّا وشيكاً مَغْرماً، حين لا تجدُ إلاّ ما قدَّمْتَ وما ربُّكَ بظَلاّمٍ للعبيد)(2). 5

ص: 195


1- راجع المصادر في الصحيح من مقتل سيد الشهداء:1052 ح1523
2- الاحتجاج:2/ 123 ، بحار الأنوار:45 / 2157 ح 5

القبس/58: سورة التوبة:108

اشارة

{فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}

موضوع القبس: الفوائد النفسية والاجتماعية في التردد على المساجد

{فِيهِ} أي في المسجد إشارة الى ما تقدم من الآية الكريمة {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ}.

فالمسجد الذي يُشيَّد على أساس التقوى والاخلاص هو الذي يستحق ان تقوم فيه للصلاة والذكر وسائر الطاعات، لا المسجد الذي يؤسس رياءاً وسمعة أو نفاقاً أو ضراراً وتفريقاً بين المسلمين أو نحو ذلك، لأن مسجد التقوى يضم أناساً يحبون أن يتطهروا بحضورهم في المساجد أي يتنزهوا عن الرذائل والنقائص والعيوب، فتراهم يتسابقون لنيل الكمالات الروحية وتهذيب نفوسهم وتنقية قلوبهم، وقد وصفت آية أخرى جانباً من تطهرهم في قوله تعالى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ، رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (النور:36-37).

وهذا التطهر المعنوي شامل في أول درجاته للتطهر المادي من الخبث لذا وردت بعض الروايات التي تفسِّر التطهّر بغسل موضع الغائط بالماء، ثم التطهر المعنوي

ص: 196

من الحدث بالوضوء، ويظهر من الآية أن وجود هؤلاء المتطهرين في المسجد المؤسَّس على التقوى بيان لصفة من صفات هذا المسجد، أو إنه علة وكأنَّه هو السبب الذي جعله أحق ان تقوم فيه للصلاة. وهؤلاء المهتمون بالتطهير يحبّهم الله تعالى، وهي الحقيقة التي أكدها قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (البقرة:222) فلا يريدون من حضورهم في المساجد رياءاً ولا سمعة ولا لخداع الناس أو التسلط عليهم والتعالي باسم الفضيلة.

وهذا العنوان الجميل {الْمُتَطَهِّرِينَ} يلخص كل ما يتصف به هؤلاء من معاني النقاء والسمو والعفاف والنبل والخير والمعروف، والواقع يشهد على ذلك فان المسلمين هم الأمة الوحيدة التي تعتني بالطهارة المفصَّلة من الخبائث، ونظافة البدن والثوب من اعيان النجاسات، وكثرت فيها أحكام الشريعة حتى كان كتاب الطهارة من أضخم الكتب الفقهية، وقد عرفهم به اعداؤهم أيضاً حينما أرادوا أن يلخصّوا توصيف سلوكهم العفيف وتحليهم بالفضائل واجتنابهم الفحشاء والمنكر والبغي والظلم والخبائث قالوا عنهم {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} (النمل:56) ولكن ماذا كان ردّهم العاجز {أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} (الأعراف:82) وقد تكرر الحدث في القرن الماضي عندما انفصل المسلمون عن الهندوس في الهند وأسسوا دولة جديدة اسمها باكستان وهي تعني دولة الانقياء والمتطهرين.

ص: 197

والتطهير سبب لتلقي الكمالات والمعارف الإلهية، قال تعالى {فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ، لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (الواقعة:78-79) أي أن حقائق القرآن الكريم ومعارفه التي فيها تبيان كل شيء في كتاب مكنون في لوح محفوظ لا يصل اليه ولا يطّلع عليه الا المطهَّرون، ومن هم المطهَّرون؟ انهم النبي وأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين)، لأنهم بلغوا الغاية في الطهارة والعصمة قال تعالى {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (الأحزاب:33) أما غيرهم فينالون من حقائق الكمال والمعرفة بقدر درجاتهم من الطهارة المعنوية، قال تعالى {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} (الرعد:17).وتطهير القلب من الاغلال، والنفس من الادران هو غرض التشريعات الإلهية قال تعالى {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (الأحزاب:53) وقال تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (التوبة:103) وقال تعالى {وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} (المائدة:6) وقال تعالى {ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة:232) وقال تعالى {فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ} (المجادلة:12).

هذا بيان مختصر لمعنى الآية، وما نريد أن نقتبسه من نورها أنها تبيّن عنوانين رئيسيين للثمرات الحاصلة من التردد على المساجد والتجمعات الإيمانية وهما:

1- نيل الكمالات الروحية بتطهير القلب وتهذيب النفس وتنزيههما عن الرذائل الخلقية والنقائص والعيوب.

ص: 198

2- اعلان الانتماء الى الجماعة الصالحة المؤمنة وهم المتطهرون.

ويتضمن كل من العنوانين عدة ثمرات جمعها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بقوله (من اختلف إلى المسجد أصاب إحدى الثمان: أخاً مستفاداً في الله، أو علماً مستطرفاً، أو آية محكمة، أو يسمع كلمة تدلّه على هدى، أو رحمة منتظرة، أو كلمة تردّه عن ردى، أو يترك ذنباً خشية أو حياءً)(1)، أي يحصل على احداهن على الأقل والا فان المتوقع تحصيلها جميعاً بفضل الله تعالى، ونقل الشيخ الصدوق أيضاً حديثاً آخر بلفظ مقارب عن الحسن بن علي (عليهما السلام) عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

ويمكن توضيح هذه الثمرات ضمن نقاط:

1- نيل الثواب والقرب من الله تعالى والسمو الروحي: باعتبار أنّ هذا العمل فيه طاعة لله تبارك وتعالى وذكر له {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(الرعد:28)، فيوفّر فرصة للعبد المؤمن في التقرب إلى الله سبحانه والرقي في مدارج الكمال، وتفيد الأحاديث الشريفة ان مجرد الحضور في المسجد يحقِّق هذه الثمرة، فاذا صلّى فيه تضاعف، فاذا كانت الصلاة في جماعة تضاعف أكثر، وقد ذكرنا جملة من هذه الأحاديث في قبس {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} (التوبة:18) ومنها قول رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (من مشى الى مسجد من مساجد الله فله بكل خطوة خطاها حتى يرجع الى منزله عشر حسنات ومحى عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات)(2)، وعن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (من أقام في 3

ص: 199


1- كتاب الخصال للشيخ الصدوق: ج2 / ص409
2- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) : ج5 / ص 201 / ح 3

مسجد بعد صلاته انتظاراً للصلاة فهو ضيف الله، وحقّ على الله أن يُكرم ضيفه)(1).وكلٌ منّا يحس بوجدانه حالة السكينة والطمأنينة وسمو الروح وهو يدخل هذه المشاهد المشرفة، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (الجلسة في الجامع خير لي من الجلسة في الجنّة، لأنّ الجنّة فيها رضى نفسي، والجامع فيه رضى ربي)(2).

2- الجهة التربوية: فإن المسجد أحد المراكز التي يتلقى الإنسان فيه تربيته كالبيت والمدرسة، بل إنّ ما يناله الفرد من التربية في المسجد أهم وأكمل باعتباره متمحضاً في الخير، ولا يتصور فيه الانحراف والزيغ كالذي يمكن في البيت أو المدرسة، وإنّ الكثير من المؤمنين لم يحصل على تربيتهم فيهما لخلوهما من الصلاح، وإنمّا نالوا تربيتهم في المسجد، ومهما تراجع دور البيت والمدرسة في تنشئة الجيل نشأة صالحة فإن المسجد باقٍ يؤدي وظيفته، كما أنّ هناك بعض الجرعات الإيمانية الواعية تعجز عن إعطائها الأسر الاعتيادية لأبنائها فيضطلع بها المسجد الذي ما زال يركّز في نفوس مرتاديه حب الله وعدم الانخداع بأمور الدنيا ونبذ العادات السيئة كالكلام الفاحش والتنابز بالألقاب والمزاح المهين، والتغلب على الأمراض النفسية كالبخل والحرص والغرور والغضب والتكبر والعجب والرياء وحب النفس، والتحلي بالأخلاق الفاضلة كالإيثار والصبر والحلم والشجاعة والكرم والعطف واللين والتسامح والتواضع وحب الخير للآخرين، وبهذا تكتمل شخصية الفرد المؤمن وينعكس ذلك 6

ص: 200


1- بحار الأنوار: 85/ 351
2- 3- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) : ج5 / ص 199 / ح 6

واضحاً منه على علاقاته الاجتماعية وعلى أسرته، بل نراه يرجع إلى أسرته التي لم تعطه ما أعطاه المسجد فيفيض عليها مما رزقه الله من فيوضاته في المسجد، والشواهد على ذلك كثيرة في مجتمعنا(1).3- الجهة العلمية والثقافية: فإن المسجد سيفتح لمرتاديه فرصاً عديدة للاستزادة من العلم النافع والثقافة المفيدة من خلال الدروس والمحاضرات الفقهية والأخلاقية والعلمية التي تعقد في المسجد، أو الاستفادة من إصدارات ونشرات العلماء والمفكرين التي تصل إلى المسجد، أو إجابة الأسئلة المختلفة التي تصل إلى أمام المسجد، أو استعارة الكتب الموجود فيه، أو من خلال اللقاءات والحوارات التي تدور مع المثقفين والواعين من مرتادي المسجد.

4- الجانب الانتمائي والارتباطي: فإن الإنسان بطبعه يميل إلى الانتماء للجماعة ولا يجد لنفسه قيمة الا عندما يكون جزءاً من جماعة. ولا يستطيع أن يعيش وحده، فلا يحس بوجوده الكامل إلا من خلال انتمائه للجماعة، فترى أحدهم يفتخر بانتمائه الى القومية أو البلد أو العشيرة لأنه يحسّ بأن انتماءه هو هويته، وآخر ينتمي إلى جماعة الرياضيين وتؤسَّس روابط لمشجعّي أندية الكرة، وآخر ينتمي إلى رواد الفن واللهو، وآخرون إلى الاتجاهات السياسية والفكرية وغيرها، وأيّ انتماء أفضل من ذلك الذي يحقّقه له وجوده في المسجد فيشعر بأنهّ عضو في الجماعة المؤمنة الصالحة هذا الكيان المقدس الذي رأسه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأركانه أمير المؤمنين والأئمة الطاهرون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)ي.

ص: 201


1- فكثير من الشباب هم الذين أثرّوا في آبائهم وأمهاتهم وذويهم بسبب المسجد فأصبحت العملية معكوسة فالمسجد هو الذي يربي.

من ولده، وأفراده المتبعون لسيرتهم من الراضين المرضيين الفائزين، والجميع تحت ظل ورعاية وولاية الله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ}(محمد:11)، وكفى بذلك خسراناً للذين لهم أولياء من دون الله تبارك وتعالى.5- الاحساس بقوة وعزة الإسلام ووحدة صف المسلمين، وتوحي بهذا صلاة الجماعة والجمعة والعيدين والشعائر الاجتماعية الأخرى التي هي من أبرز مظاهر قوة الإسلام والمسلمين، وتدل على اهتمام الإسلام وتشريعاته بنظام الكيان الموحد والروح الجماعية.

6- تقوية الأواصر الأخوية الإيمانية بين الأفراد من خلال تعرّف بعضهم على بعض، وإليه أشار في حديث الثمانية: (أخاً مستفاداً في الله) والتواصل والتزاور بينهم، والتكافل الاجتماعي بين المسلمين من خلال المساعدة في قضاء حوائجهم، وحل مشاكلهم، والتفكير في المشاريع الخيرية ذات المصلحة العامة كبناء وترميم المدارس والجمعيات التعاونية ومؤسسات الرعاية الاجتماعية خصوصاً الأرامل والأيتام، وقد يكون المسجد وسيلة للتعارف المؤدي الى التزويج أو الى إيجاد فرص عمل باعتبار أن الأمان الحضور فيه شاهد على تحقق صفة الأمانة والوثاقة.

7- حصول الاستقرار والسكون في نفس الإنسان المؤمن عند لقائه بإخوانه في المسجد، ويدلّ عليه قول الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إنّ المؤمن ليسكن إلى المؤمن كما يسكن الظمآن إلى الماء البارد)(1).47

ص: 202


1- الكافي ج 2 : 247

8- تحقق الفرصة الواسعة لممارسة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي هي أسمي الفرائض وأشرفها كما وصفها الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) اذ المتوقع أن يضمّ المسجد من يعينه على ذلك ويشخّص له التصرف السليم، وإليها أشار حديث الثمانية: (أو كلمة تردُّه عن ردى أو يسمع كلمة تدلّه على هدى)(1).

9- يعتبر المسجد المشخّص الأول لما موجود في المجتمع من سلبيات لأنه ملتقى كلّ الطبقات، وإليه ترد جميع أنواع السلبيات والمشاكل، وبذلك فالتوجيهات بخصوص هذه المشاكل تصدر منه، والمجتمع يكون ميدان تطبيق ما يأمر به المسجد.

10- اطلاع المسلمين على القضايا والأحداث الآنية التي تهمهم ومواكبتها خاصة تلك التي تهدد كيان الإسلام ووحدته، لذا فالمسجد يربّي المجتمع على الاهتمام بأمور المسلمين، وقد ورد في الحديث: (من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم)(2).

11- يمثل المسجد مظهراً لوحدة المسلمين وتذويب خلافاتهم، ويوجّه دعوة للتقريب بينهم، لأن القلوب تتوحد فيه على ذكر إله واحد، وتتوجه نحو قبلة واحدة، وتتلو كتاباً واحداً في صفوف متراصة لا يفرّق بينهم اختلاف توجهاتّهم ما دامت كلها تستقي من منابع الرسالة، وخير موضع تتجسد فيه هذه الحقيقة المسجد الحرام في مكة المكرمة حيث يدرك المسلمون إنهّم وإن تفرقت أقطارهم واختلفت أنسابهم وألسنتهم وألوانهم، تجمعهم جامعة الدين6

ص: 203


1- أمالي الصدوق: 318 / 16.
2- بحار الأنوار: ج 75/ ص66

والعقيدة، وأنهّ إذا جدَّ الجد وجب أن يضحي كلّ فريق منهم بمصالحه الخاصة في سبيل المصلحة المشتركة.12- يمثل المسجد جهة إعلامية مرعبة لأعداء الإسلام، وذلك لأنهّ المبرز لنقاط القوة في الدين الإسلامي، والتي تميزه عن باقي الأديان والاعتقادات والأيديولوجيات، وهو بذلك ليساهم بشكل فعال في تحسين سمعة الدين الإسلامي، وترغيب أفراد باقي الأديان للدخول فيه، وقد اعتنق كثيرون الإسلام لمّا شاهدوا مساجد المسلمين وشعائرهم ومشاعرهم(1).

13- المسجد وسيلة مهمة لتقليل الفوارق الطبقية الاجتماعية والاقتصادية بين أفراد المجتمع، ولعل أوضح مصداق من المساجد في تطبيق هذه الفائدة هو المسجد الحرام وذلك أثناء شعائر الحج حيث اللباس الواحد والحركة الواحدة.

والخلاصة ان الإسلام بقوته وعزته وأحكامه وتشريعاته ووحدة أبنائه وقدرته على إصلاح الناس وإسعادهم يتجسد في المسجد الفاعل المبني على التقوى، وإن المسجد ليس فقط محل عبادة بل هو مقر قيادة ومدرسة للتربية والوعي ومنطلق لأعمال الخير والمعروف وحصن من الضلال والانحراف والفساد وعلينا ان نلتفت ان محور تحصيل هذه الثمرات وتحقيقها هو إمام المسجد مما يرفع سقف طموحنا بأن لا نكون من رّواد المساجد فقط بل أئمة فيها لنحصل على مجموع الفوائد التي يحصل عليها جماعة المسجد بفضل الله تعالى وكرمه، وهذام.

ص: 204


1- تقرأ قصصاً كثيرة عن الذين اعتنقوا الإسلام كما في كتاب (لماذا اخترنا الإسلام؟) للسيد محمد رضا الرضوي، وهناك الكثيرون ممن دخل الإسلام تأثراً بمشاعر المسلمين داخل مساجدهم.

نداء للحوزة العلمية أن تأخذ دورها في تفعيل هذه التجمعات المباركة، وللشباب المثقف الواعي الرسالي أن يلتحق بالحوزة العلمية ليؤهل نفسه لنيل هذا الشرف العظيم وهو من استجابة الدعاء للدولة الكريمة في زمان الغيبة (وتجعلنا فيها من الدعاة الى طاعتك والقادة الى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة). هذه الثمرات وغيرها(1) تجعل الحياة في المساجد ألذّ وأحبّ حالة يعيشها الانسان ويصوَّرها لنا الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بما رواه حفيده الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) استقبله مولى له في ليلة باردة وعليه جبة خزّ ومطرف خزّ وعمامة خزّ - وهي ألبسة غالية جداً - وهو متغلف بالغالية - وهو أرقى أنواع العطر - ، فقال له: جُعِلتُ فداك في مثل هذه الساعة على هذه الهيئة إلى أين؟ قال: إلى مسجد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أخطب الحور العين إلى الله عزّ وجلّ)(2).17

ص: 205


1- راجع المزيد من التفاصيل في كتاب (شكوى المسجد) ضمن كتاب (ثلاثة يشكون)
2- الكافى ج 6 ص 517

القبس/59: سورة التوبة:109

اشارة

{أَفَمَن أَسَّسَ بُنيَنَهُۥ عَلَى تَقوَى مِنَ ٱللَّهِ وَرِضوَنٍ}

موضوع القبس:تأسيس بناء الإنسان على التقوى

بنيان التقوى ورضوان الله تعالى:

تُبيّن الآية قاعدة اخرى من قواعد السلوك المعنوي والبناء الصالح للإنسان والمجتمع، وقد عُرضت بشكل استفهام لطلب المقارنة والتمييز بين بنيانين، لكنه ليس استفهاماً حقيقياً لاستحالته في حق الله تعالى ولوضوح الجواب، بل هو استفهام استنكاري لتوبيخ الجهلة وأهل الغفلة والمتعصبين والمنافقين الذين لا يميزون بينهما، وهو استفهام تقريري لترسيخ الاسس المتينة للبنيان الصحيح.

وجاءت الآية بعد المقارنة السابقة عليها {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِ-داً ضِ-رَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ، لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (التوبة 107-108).

ولا شك أن المسجد الحق الذي تقوم فيه هو الثاني لأن حقيقة المسجدية متوفرة فيه وأهداف المسجد متحققة منه ولأن فيه رجالاً يسعون للتطهّر والكمال وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ بعكس الأول الذي ظاهره المسجدية وشعاره ديني الا أن

ص: 206

كل أهدافه هي حرب على الدين وأهله.وهنا يأتي الاستفهام الاستنكاري والتقريري الذي بدأنا به فأن البنيان المثمر الراسخ الرصين هو ما اُسس على ركيزتين:التقوى ورضوان الله تعالى، فالأساس الاول التقوى المأخوذة من الاتقاء والاجتناب والاحتماء تعني تجنب كل شيء سيء وخبيث سواء على مستوى النيّات أو الأعمال فلا رياء ولا سمعة ولا حب الجاه والدنيا ولا مصادر غير مشروعة للمال وأساليب ماكرة في العمل، والأساس الثاني هو الرضوان الذي يعني اشتراك كل العناصر الإيجابية من نظافة الأيدي وسلامة النيات والصدق في العمل وابتغاء الخير والإحسان.

ويقابله بنيانٌ فاشلٌ في مهب الريح وبالٌ على أصحابه يشبهه القران الكريم بمن بنى على (شفا) أي حافة (جرف) وهي حافة النهر أو البئر التي جرف الماء ما تحتها فهو (هارٍ) أي متصدع مشرف على السقوط والانهيار في أي لحظة لأنها حافة منخورة متآكلة فيسقط في هذا الوادي المرعب العميق.

ولا يختلف اثنان في أّن البنيان الأول هو الثابت الجيد الذي يطلبه العقلاء فعليهم أن يتوجهوا الى مثله، ويتجنبوا الثاني.

مسجد ضرار:

والآيات وإن نزلت في حالة قائمة في زمن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهما مسجد ضرار(1) الذي بناه جمع من المنافقين في قضية معروفة للأهداف المذكورة في الآية:107 المتقدمة وقد أمر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بإحراقه، وفي مقابله مسجد قبا أو مسجد

ص: 207


1- حكى بعض المطّلعين ان موقع مسجد ضرار الى اليوم لا يتقبل الاعمار والبناء ويقول من هناك انه كلما عُمِّرَ احترق وتهدّم والله العالم.

النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الذي أُسس على التقوى الا أنها - كما هو شأن سائر الآيات القرآنية- عامة شاملة لكل بنيان لذا قلنا انها تؤسس لقاعدة عامة من قواعد السلوك، روى في مصباح الشريعة عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تأويل الآية قوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وكل عبادة مؤسسة على غير التقوى فهي هباء منثور)(1).

ركائز النجاح القرآني:

وفي ضوء هذا المعنى الواسع للآية الكريمة تكون النتيجة أن كل حالة أو مؤسسة أو مشروع فردي أو جماعي يراد له أن يكون صالحاً ومثمراً ومتيناً ويدوم عمله لا بد أن يشتمل على ركنين:

1-أن يكون الغرض الذي اسس من أجله والهدف الذي يصبو الى تحقيقه نبيلاً سامياً والنية التي تدفعه اليه حسنة مستندة الى تقوى الله تبارك وتعالى وطلب رضوانه {أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ}.

2-أن يكون القائمون على هذا البنيان والمدبرون لأمره والعاملون فيه مؤمنين مخلصين يحبون الخير والتطهر والكمال ويسعون اليه (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ).

وإلا فان البناء ينهار ولا يحقق شيئاً بل يكون وبالاً على أصحابه في الدنيا والاخرة وإن رفع شعارات وأسماء دينية لخداع الناس وسوقهم لتحقيق المصالح الشخصية فلا يصح أن يكون الانسان مغفلاً وينخدع بالعناوين الفارغة من المحتوى الصحيح.

ص: 208


1- نور الثقلين:2/ 268.

المنهج الإصلاحي في القرآن الكريم:

وينبغي ملاحظة نقطة مهمة في المسيرة الإصلاحية للشريعة المقدسة وهي أنها تقدّم البديل الصالح حينما تهدم الحالة الفاسدة (لاَ تَقُمْ فِيهِ – اي مسجد ضرار- والبديل أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ - وهو المسجد المؤسس على التقوى) وهو منهج رباني اعتمدته الشريعة منذ أول كلمة نطق بها الرسول الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (لا اله الا الله) فهي في الوقت الذي تبطل الآلهة المزيفة المصطنعة تُقيم عبادة التوحيد لله تبارك وتعالى، فلنتعلم اننا حينما نريد هدم حالة معينة فاسدة اجتماعية او ثقافية او عقائدية علينا ان نؤسس ونبني البديل الصالح، فحينما نريد معالجة الفساد الاخلاقي والانحراف الجنسي علينا ان نيسّر امور الزواج ونساعد عليه وهكذا.

بناء مستقبل الشباب:

أيها الأحبة من الشباب وطلبة الجامعات(1) الذين وفدتم الى النجف الأشرف لتعزية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) باستشهاد زوجه بضعة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

استحضروا هذا المعنى وأنتم تتلون هذه الآية الشريفة واجعلوها نبراساً وبوصلةً لحياتكم لأنكم بصدد وضع حجر الأساس لعدد من مشاريع البناء:

المشروع الاول:بناء النفس والذات والمستقبل المعنوي والعلاقة مع الله تعالى التي هي أساس الحياة الآخرة الباقية لأن الفتى الذي يبلغ سن الرشد ويلتحق بالبالغين هو في بداية حياة جديدة يُشرّف فيها بالتكاليف الالهية وتنفتح امامه

ص: 209


1- الكلمة التي وجهّ-ها سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) الى آلاف الطلبة الجامعيين من مختلف الجامعات العراقية ضمن فعاليات اقيمت لهم على قاعة النجف الكبرى بمناسبة ذكرى استشهاد الصديقة الطاهرة الزهراء (س) مساء يوم الاثنين 2/جمادى الاخرة/1436 المصادف 23/ 3/ 2015.

فرص التكامل والقرب الالهي عليه ان يلتفت الى بناء حياته على تقوى من الله ورضوان، ويكون كما أراد الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعائه (وَاجْعَلْ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، والوفاة رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ) (1) ،لذلك أعطت الأحاديث الشريفة قيمة كبيرة لمن ينشأ من أول أمره ويؤسس بنيان نفسه على طاعة الله تعالى، عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (سبعة في ظلّ عرش الله عز وجل يوم لا ظل الا ظله:إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل...)(2) وفي حديث آخر عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (فضل الشاب العابد الذي تعبّد في صباه على الشيخ الذي تعبّد بعدما كبرت سنُّه كفضل المرسلين على سائر الناس)(3) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (إن أحب الخلائق الى الله عز وجل شاب حدث السن في صورة حسنة جعل شبابه وجماله لله وفي طاعته، ذلك الذي يباهي به الرحمن ملائكته، يقول:هذا عبدي حقا)(4).المشروع الثاني:إن الطالب الجامعي الذي يُنهي دراسته ويتوجه الى العمل والكسب عليه أن يفهم أنه يبني مستقبله ويحدد بوصلة حياته القادمة فلا بد أن يحدد اختياره لنوع الوظيفة والعمل ويضع برنامج عمله وفق هذه الاسس المتينة للبناء.

المشروع الثالث:إنكم مقبلون على الزواج إن شاء الله تعالى بعد المشروع الثاني والزواج وُصفَ في بعض الأحاديث الشريفة أنه بنيان، عن أبي جعفر

ص: 210


1- مفاتيج الجنان: 52/ دُعاء يوم الثلاثاء.
2- الخصال:343 ح8.
3- كنز العمال:43059.
4- كنز العمال:43103.

(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(مَا بُنِيَ بِنَاءٌ فِي الإسْلامِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عزّ وجلّ مِنَ التَّزْوِيجِ)(1) فالذي يريد أن يبني حياة زوجية سعيدة صالحة مثمرة عليه أن يبنيها من أول خطوة عندما يبحث عن الزوجة أن يجعل أساس اختياره التقوى ورضوان الله تعالى في صفات الزوجة ومعدنها وفي نيته من مشروع الزواج، وليس البحث عن الامور الدنيوية الزائلة، وهو ما نطقت به الأحاديث الشريفة، كقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (عليك بذات الدين)(2)، والمرأة يوجه لها نفس الخطاب قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه)(3).المشروع الرابع:ما بعد الزواج وهو إنجاب ذرية طيبة صالحة تكون عاقبتهم الى خير عليه وذلك بأن يؤسس بنيانهم ويلتفت الى تربيتهم من أول أيامهم على الخير وطاعة الله تعالى والأخلاق الفاضلة وتجنب الرذائل فإن بناءه سيكون رصيناً ثابتاً مستقيماً حتى ورد عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (من تعلم في شبابه كان بمنزلة الرسم في الحجر)(4) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (العلم من الصغر كالنقش على الحجر)(5) أما إذا لم يكن أساسه كذلك وحصل اعوجاج فيحتاج الى مشقة كبيرة لإصلاحه وقد يتعذر ذلك كما هو واضح.

فليلتفت أحبتنا الشباب وأولياء امور الفتيان والصغار الى هذا المعنى.

وهكذا تتوسع الحالة الى الذي يتصدى لقيادة دينية أو سياسية في مساحة3.

ص: 211


1- وسائل الشيعة:كتاب النكاح، ابواب مقدماته وآدابه، باب 1 ح 4.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 5/ 332
3- بحار الأنوار:ج103 ص372 ح3.
4- بحار الانوار:1/ 222 ح 6.
5- بحار الانوار:1/ 224 ح 13.

صغيرة أو مساحة واسعة ويريد أن يبني مجتمعاً صالحاً فانه لا بد أن يكون أساس بنيانه تقوى الله تعالى وطلب رضوانه، روي في الحديث الشريف (صنفان من امتي ان صلحا صلحت وان فسدا فسدت:العلماء والامراء)(1).

فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ:

وهنا علاقة تكاملية متبادلة بين البنيان والباني فكما أن حال الباني المعنوي المستند الى التقوى ورضوان الله تعالى مؤثر في صلاح البنيان واستقامته وديمومته، كذلك فإن البنيان الصالح المبارك –كالمشاهد المقدسة- مؤثر في صفاء نفوس رواده وسمو حالتهم المعنوية (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ)، كما أن البناء المستند الى الرياء والنفاق وخبث الباطن يؤثر في نفوس وقلوب مرتاديه، فلا بد للإنسان أن يلتفت الى الركن الثاني فيختار صحبة الصالحين ولا يكتفي بالركن الأول، وحينئذٍ يحظى بمحبة الله تبارك وتعالى {وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}.

إحباط المشاريع الهدّامة:

وعلى أي حال فهذه قضية خطيرة أثارها القرآن الكريم لا نستطيع بهذه العجالة بيان كل تفاصيلها، بحيث أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يأمر بعض أصحابه أن يحرقوا مسجد الضرار لإحباط هذا المشروع المنافق الخطير الذي يمزّق وحدة المجتمع المسلم مع أنه في ظاهره مشروع ديني، وهذا الكلام له بيان أخر.

ص: 212


1- الخصال:ص 36-37 ح 12.

دور الأسرة المسلمة في البناء الاجتماعي الصالح:

لكن ما اريد أن اقوله أننا في كل تفاصيل حياتنا في عملية بناء ابتداء من بناء أنفسنا الى اسرتنا الى مؤسساتنا الى مجتمعنا الى البشرية كلها فلا بد من الالتفات الى الاسس الرصينة التي تقوِّم هذا البناء وتحسّنه ليؤدي أهدافه بشكل تام.

وكما هو واضح فإن في كل الحالات المتقدمة وأنواع البنيان المذكور فان المرأة هي المدير التنفيذي -كما يُقال- لتلك المشاريع وهي المهندس المباشر لتنفيذ مراحل البناء واستقامته وانما سُمّيت اماً لأنها الاصل في هذا الوجود، ولذا ورد عن السيدة الزهراء (س) قولها:(الزم رجلها - أي الام- فان الجنة تحت اقدامها)(1).

أما الرجل فهو المهندس المصمم لتلك المراحل والمخطّط لها والمقوِّم لمسيرتها.

وقد كانت السيدة الزهراء (س) أكمل مثال للنجاح في بناء كل هذه المشاريع، فعلى صعيد الذات هي من الخمسة أهل الكساء أكمل الخلق وقد خُلِقَ الوجود لأجلهم:فاطمة وأبوها وبعلُها وبنوها (صلوات الله عليهم أجمعين) وهي محور هؤلاء الخمسة.

وعلى صعيد الاسرة فاسرتها أسعد وأطيب وأطهر اسرة هي وأمير المؤمنين وفي ظل رعاية أبيها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

وعلى صعيد الذرية فهي أصل الذرية الطيّبة الطاهرة المعصومة ومنها ذرية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وعلى صعيد العطاء المثمر المبارك سمّاها الله تعالى (الكوثر)

ص: 213


1- موسوعة المصطفى والعترة للشاكري:4/ 365.

وجعلها هبة الله تبارك وتعالى لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (الكوثر1) والكوثر تعني الخير الكثير.هذه الحقيقة القرآنية تكشف عن أهمية نشر فروع الحوزة العلمية في المحافظات المختلفة للرجال والنساء وتكتسب شرفها وأهميتها من وظيفتها في بناء الانسان والمجتمع على أساس التقوى ورضوان الله تعالى من خلال نشر المعارف القرآنية والأحكام الشرعية والأخلاق الفاضلة فابنوا مشروعكم على هذه الاسس الرصينة من أول يوم الى آخره وارفدوه دائماً بالنخبة الصالحة الطيبة من الشباب ليكون لكم صدقة جارية بكل كلمة تدل على هدى أو تردّ عن ضلالة.

وأدعوكم الى التنويع في آليات عملكم وعدم التوقف عند طريقة معينة على طول المدة لان من طبيعة الانسان والحياة التغيير والتجديد.

ص: 214

القبس/60: سورة التوبة:119

اشارة

{يَأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّدِقِينَ}

لكي نفهم الآية الكريمة، ونعرض انفسنا عليها ونتحقق من نسبة التزام الامة بها، مع ما يتضمن ذلك من دروس جليلة نلفت النظر الى عدة امور:

1-اول ما يلاحظ في الآية استعمال اداة النداء {يَا أَيُّهَا} وجعل المنادى هم المتصفون بصفة الايمان مع ان الجميع مخاطبون(1) بهذا الامر، وذلك لعدة نكات:

(منها) تشريف المؤمنين بتوجيه الخطاب اليهم دون غيرهم من المأمورين.

(ومنها) لألفات عناية المؤمنين واثارة انتباههم الى ما يكمل به ايمانهم.

(ومنها) اشعارهم بمسؤوليتهم الخاصة كمؤمنين عن هذا الذي دعوا اليه أي انكم بصفتكم مؤمنين يجب ان تكونوا كذلك، ولو كانت الجملة بلا اداة نداء ومنادى واقتصر على بيان الامر المطلوب {اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} لما حصلت هذه العناية ولا الالتفات الى المسؤولية او كانت بدرجة اقل، كما انك

ص: 215


1- جميع الناس مخاطبون حتى غير المسلمين لانهم مكلّفون بالفروع –أي الأحكام الشرعية الواجبة والمحرمة- كتكليفهم بالأصول –أي الاعتقاد بالتوحيد والنبوة والمعاد، وورد التصريح بالعموم لمثل هذا الخطاب في ايات مماثلة كقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}(البقرة:183).

حين تخاطب الشباب بتوجيه ما تبتدئ كلامك ب- (يا أيها الشباب) لالفات نظرهم الى ان هذا الخطاب موجه لهم بما هم شباب، او تقول ايها العراقيون عند طرح قضية وطنية تهمهم، او يا طلبة الحوزة العلمية.والخلاصة ان الآية تفيد انكم اذا كنتم تريدون ان تكونوا مؤمنين حقا فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين ولها دلالة بالاتجاه المعاكس أي انكم اذا اتقيتم الله ووجدتم انفسكم في صف الصادقين فأنكم مؤمنون حقا، وإلا ينطبق عليكم قوله تعالى {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (الحجرات14)، فالآية هنا تنفي بعض مراتب الايمان الصادقة حقيقة، وهناك آيات اخرى تثبته بلحاظ المراتب الأدنى كقوله تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف106).

وبتعبير اخر:ان حقيقة الايمان التي تكون سبب فوز الانسان وسعادته لها ثلاثة ابعاد او انها لا تكتمل الا باجتماع ثلاثة عناصر:

أ-الايمان بالله وبأنبيائه ورسالاته واليوم الاخر والاوصياء وسائر العقائد الحقّة، وهذا بُعدٌ اعتقادي قلبي.

ب-تقوى الله والالتزام بما يريده الله تعالى وتجنب ما يسخطه تعالى وهذا بُعد عملي سلوكي.

ت-ان تكون مع الصادقين بالمعنى الذي سنذكره ان شاء الله تعالى وهذا بعد اجتماعي في العلاقة مع القيادة.

2-ان الامر بالكون مع الصادقين مطلق ولم يحدد بناحية او مورد معين، هذا له دلالات عديدة على مستوى الالزام والاثبات وعلى مستوى المنع والنفي.

ص: 216

اما على مستوى الاثبات فان الآمر بالكون مع الصادقين يعني الاعتقاد بهم والاخذ عنهم واتباعهم والتسليم لهم والسير على نهجهم ويعني ايضا حمل رسالتهم والتحرك بها في كل اتجاه ونصرتهم ومعونتهم في الشدة والرخاء والعافية والبلاء، ويعني ايضا الرجوع اليهم في كل تفاصيل الحياة من غير فرق بين العقيدة والشريعة او السلوك، ولا بين احكام العبادات والمعاملات وسواء كانت في الاحوال الشخصية او السياسية او الاقتصاد والاجتماع وغيره.واما على مستوى النفي فان الكون مع الصادقين يعني عدم الانسياق وراء الشهوات والاهواء وعدم اتباع أي داعٍ لم يأمر به الصادقون، ويعني رفض الشعور بالإحباط واليأس التوجه نحو العزلة والانزواء والانسحاب من العمل الرسالي المثمر كردّ فعل لحصول بعض الحالات، ويعني الكون مع الصادقين رفض الوقوف على الحياد والكون بمسافة واحدة من الجميع، وهذا كله يحتاج الى جهد وجهاد كبيرين وثبات على الصراط وصبر ومصابرة ومرابطة ولذا سبقه الامر بالتقوى لانها تعين على ذلك كله.

3-حينما يوصف الخبر بالصدق فهذا يعني مطابقته للواقع، كما لو اخبرت عن زيد انه قائم وهو قائم فعلا فان الخبر صادق، اما وصف الانسان بانه صادق فهذا يعني مطابقة ظاهره لباطنه واقواله لأفعاله وموافقتها جميعاً للحق، لاحظ قوله تعالى {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (المنافقون:1) فكلمتهم حق وصدق لكنهم لم يكونوا صادقين لان باطنهم لم يكن كظاهرهم وفعلهم ليس كقولهم، لذا ثبت الله تعالى صدق الكلمة ووصفهم بالكاذبين، ولو وصفوا بالكاذبين من دون تثبيت

ص: 217

هذه الحقيقة لكان وصفهم بالكذب يشمل ما شهدوا به وهو خلاف الواقع.والمؤمنون ليسوا كلهم صادقين في ايمانهم، ولهم درجات متفاوته في ذلك لذا مدح الله تعالى قوما من المؤمنين لانهم صدقوا وثبتوا على الصدق قال تعالى:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} (الأحزاب23).

والمستفاد من القران الكريم ان انطباق عنوان الصادقين له درجات متفاوتة بحسب درجة كمال عناصره من الايمان بالله ورسله وكتبه والجهاد في سبيل الله بالأموال والانفس والصبر في المواطن وفعل المعروف وتجنب المنكر ونحو ذلك كقوله تعالى {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحشر8).

وقال تعالى {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَ-كِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَ-ئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَ-ئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة:177).

ووصف مرتبة اعلى من الصادقين بقوله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات:15).

ص: 218

هذا ولكن العنوان اذا اطلق فانه ينطبق على المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لانهم من ينطبق عليهم التعريف اعلاه بقول مطلق أي على الدوام من دون استثناء او اختراق، وتشهد نفس الآية على أن المراد بالصادقين المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بدلالة اكثر من قرينة:أ-لأنها أمرت بالكون معهم مطلقاً ولا يتعلق مثل هذا الأمر إلا بالمعصوم، لأن غير المعصوم معرض للخطأ فكيف يأمرنا الله تعالى بالكون معه مطلقاً.

ب-ان الآية امرت اولا بالتقوى ثم بالكون مع الصادقين، فلو كان المراد بالصادقين ما هو اوسع من المعصومين لكان الامر بالكون من الصادقين وليس معهم، او قل ان امر المتقين بان يكونوا مع الصادقين يكشف عن سمو مرتبة الصادقين على المتقين، ولا يصّح ذلك الا في المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).

وقد أذعن جملة من أعلام السنة لهذه الحقيقة لكن بعضهم أوّلها بما لا وجه(1) له لذا وردت روايات كثيرة من طرق الفريقين تبين ان المراد بالصادقين هم امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأولاده المعصومون(عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، ففي الكافي وبصائر الدرجات للصفار بسندهما عن بريد بن معاوية العجلي قال:(سألت ابا عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن قول الله عز وجل {اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} قال:ايانا عنى)(2).ح1

ص: 219


1- قال الفخر الراي في تفسيره ان المعصوم هو جميع الامة لا انه فرد واحد فتكون الاية دليلا على حجية اجماع المؤمنين وعدم خطا مجموع الامة (التفسير الكبير:16/ 220) وردَّه واضح لان المقصود من الصادقين لو كان مجموع الامة فان الامة مكونة من الناس المخاطبين بالكون مع الصادقين وستكون النتيجة وحدة التابع والمتبوع. مضافا الى ما ذكرناه في هذه النقطة من سمو مرتبة الصادقين.
2- أصول الكافي- الكليني: 1/ 208/ح1,- بصائر الدرجات- الصفار: 51/ح1

وفي الكافي ايضاً بسنده عن ابن ابي نصر عن ابي الحسن الرضا(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (سألته عن قول الله عز وجل – قال: (الصادقون هم الأئمة الصديقون بطاعته)(1) وفي كتاب سليم بن قيس – في حديث المناشدة- قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فأنشدتكم الله جل أسمه، أتعلمون ان الله انزل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} فقال سلمان:يا رسول الله:أعامة هي أم خاصة؟ فقال:أما المؤمنون فعامة لان جماعة المؤمنين أُمروا بذلك، واما الصادقون فخاصة في علي والاوصياء من بعده الى يوم القيامة)؟ قالوا اللهم نعم)(2).وروى في المناقب عن بعض التفاسير(3) العامة بسنده عن ابن عمر قال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ} قال:أمر الله تعالى الصحابة أن يخافوا الله، ثم قال {وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} يعني مع محمد وأهل بيته).

وعن مصدر آخر لهم في قوله تعالى قال:هو علي بن ابي طالب خاصة وعن مصدر آخر قال (محمد وآله)(4).

4-ان الآية مطلقة من حيث الزمان فهي تأمر المؤمنين في جميع الأزمنة الى نهاية الدنيا أن يكونوا مع الصادقين الذين هم المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وهذا يعني لزوم وجود المعصوم في كل زمان، وهذا دليل على صحة عقيدة الشيعة الامامية5.

ص: 220


1- أصول الكافي- الكليني: 1/ 208/ح2
2- كتاب سليم بن قيس الهلالي: 298
3- وتوجد مصادر اخرى من كتب العامة في كون المراد من الصادقين خصوص اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ذكرها في تفسير الفرقان:13/ 221.
4- راجع مصادرها في تفسير البرهان :4/ 345.

في الأئمة الاثني عشر وبقاء قائمهم الى آخر الزمان، وبدون هذه العقيدة سيبقى الزمان بلا صادق فكيف يمتثل المؤمنون لواجب الكون مع الصادقين.وقد اعترف بهذه الحقيقة بعض أعلام السنة كالفخر الرازي قال في تفسيره (انه تعالى أمر المؤمنين بالكون مع الصادقين ومتى وجب الكون مع الصادقين فلابد من وجود الصادقين في كل وقت) (1).

5-إن ورود الامر بالكون مع الصادقين عقيب الامر بالتقوى التي هي خير الزاد ليوم المعاد {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (البقرة:197) ولا ينجو الانسان الا بالتقوى {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس10-11) {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعات41-42) فالتعاقب بين هذين الامرين لأجل هداية المؤمنين والمتقين الى أن طريق التقوى شائك وصعب وكثير المنزلقات والابتلاءات والمصاعب ولا يمكن سلوكه بنجاح الا بالكون مع الصادقين واتباعهم والتمسك بهم.

كما انه يلفت نظر المتقين الى ان المتوقع منكم كمتقين ان تكونوا مع الصادقين فلا تقوى من دون الكون معهم، كما ان الكون معهم بالمعنى الدقيق الذي ذكرناه يكشف عن انك من المتقين.

أغلب الأمة لم تكن من الصادقين:

وبعد ان اتضحت هذه الأمور يمكننا القول بأسف ان المخاطبين بالآية لم يعملوا بها ولم يكونوا مع الصادقين بل اصطّف قسم مع اعدائهم وتقاعس قسم

ص: 221


1- التفسير الكبير: 16/ 220.

اخر وتركوهم وحدهم منذ رحيل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، ونقرأ هذه الحقيقة في دعاء الندبة (لَمْ يُمْتَثَلْ اَمْرُ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فِي الْهادينَ بَعْدَ الْهادينَ، وَالاُْمَّةُ مُصِرَّةٌ عَلى مَقْتِهِ مُجْتَمِعَةٌ عَلى قَطيعَةِ رَحِمِهِ وَاِقْصاءِ وُلْدِهِ اِلّا الْقَليلَ مِمَّنْ وَفى لِرِعايَةِ الْحَقِّ فيهِمْ، فَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ، وَسُبِيَ مَنْ سُبِيَ وَاُقْصِيَ مَنْ اُقْصِيَ)(1).لذا تكررت شكوى المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من قلة العدد وخذلان الناصر فمن كلمة السيدة الزهراء (س) مع أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما رجعت من المسجد مهضومة مظلومة:(حتى حبسني قيلة نصرها والمهاجرة وصلها، وغضّت الجماعة دوني طرفها فلا دافع ولا مانع، خرجت كاظمة وعدت راغمة، شكواي الى ربي وعدواي الى ربي، اللهم انك أشدّ منهم قوة وحولا، وأشد بأساً وتنكيلا)(2).

وهكذا كلمات أمير المؤمنين المملوءة بالألم والاسى كقوله في الخطبة الشقشقية (وَطَفِقْتُ أَرْتَئِى بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَد جَذّاءَ – أي مقطوعة لعدم وجود الناصر- أَوْ أَصْبِرَ عَلى طَخْيَة عَمْياءَ - وهي الظلمة- فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلى هاتا أَحْجى، فَصَبْرَتُ وَ فِي الْعَيْنِ قَذىً وَ فِي الْحَلْقِ شَجًا -وهو ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه-)(3).

وقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) متظلما (فنظرت فاذا ليس لي معين الا اهل بيتي، فظننت - أي بخلت- بهم عن الموت، واغضيت على القذى وشربت على الشجا، وصبرت على3.

ص: 222


1- مفاتيح الجنان :608.
2- الاحتجاج :1/ 137.
3- نهج البلاغة:48 الخطبة 3.

اخذ الكظم وعلى امرَّ من العلقم وآلم للقلب من وخز الشفار)(1).ومثلها كلمات الامامين الحسن والحسين والأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) التي تعبّر عن الوحدة وخلان الناصر، وفي ذلك روى عنبسة قال سمعت ابا عبد اللّه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول:اشكو الى اللّه وحدتي وتقلقلي من اهل المدينة حتى تقدموا وأراكم وأُسرُّ بكم، فليت(2) هذا الطاغية اذن لي فاتخذت قصراً فسكنته واسكنتكم معي، واضمن له ان لا يجيء من ناحيتنا مكروه ابداً)(3).

فتصوروا الى أي درجة وحدة الامام ووحشته وغربته بين اهل المدينة بحيث ان الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كان ينتظر قدوم وفد من مواليه من الكوفة او خراسان او أي مدينة اخرى ليؤنسوا وحشته ويرفعوا غربته ووحدته.

وفي ختام الحديث يمكن تلخيص عدة دروس من الآية :

1-لا يكتمل الايمان الا بالتقوى واتباع المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).

2-لا حياد ولا وقوف على مسافة واحدة من الجميع بل يجب ان نكون مع الصادقين عقيدة وسلوكا ونصرة، ويلزم من هذا معرفة الصادقين اولا.

3-ان في الآية دلالة على وجود الامام صاحب العصر والزمان وعصمته.7.

ص: 223


1- نهج البلاغة:68 الخطبة 26، ص 336 الخطبة 217.
2- هذا موقف سياسي مهم على القادة الاسلاميين ان يستفيدوا منه لرسم علاقتهم مع السلطات الطاغوتية ، وقد فصلناه في كتاب (فقه المشاركة في السلطة).
3- بحار الانوار :47/ 185 ح31 عن رجال الكشي :361 رقم 677.

ملحق:كن في الصف الذي فيه علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)

للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أحاديث كثيرة في فضل أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ومنزلته وخصاله الكريمة، وفي وجوب اتباعه والأخذ منه(1)، ومن تلك التوجيهات النبوية الشريفة:أنّه إذا افترقت الأمة واختلفت وتعدّدت فيها الاصطفافات والتخندقات والتيارات والاتجاهات فكونوا في الصف الذي فيه علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بلا نقاش ولا تأمّل، ولا تبحثوا عن الدليل والحجة فإنّ نفس وجود علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) دليل على كونك في الموضع الصحيح الذي فيه رضا الله تعالى ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(عليٌ مع الحق والحق مع علي، يدور معه حيث دار)(2)، وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(اذا اختلفتم في شيء فكونوا مع علي بن أبي طالب)(3).

وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مخاطباً عمار بن ياسر (يا عمار تقتلك الفئة الباغية، وانت إذ ذاك مع الحق والحق معك، يا عمار بن ياسر:إن رأيتَ علياً قد سلك وادياً وسلك الناس وادياً غيره فاسلك مع علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فإنّه لن يدليك في ردى ولن يخرج من هدى)(4).

وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(يابن عباس:سوف يأخذ الناس يميناً وشمالاً، فإذا كان كذلك فاتبع علياً وحزبه فإنّه مع الحق والحقّ معه، ولا يفترقان حتى يردا عليّ

ص: 224


1- راجع موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في عشر مجلدات بإشراف الشيخ الريشهري.
2- الفصول المختارة:135، 97.
3- المناقب لابن شهراشوب:2/ 30.
4- تاريخ بغداد:13/ 187 الرقم 7165.

الحوض)(1).فالنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يحذر الأمة من اتباع الوسائل غير الدقيقة لمعرفة الحق كالانخداع بالعناوين الكبيرة والرموز التي صنعت لها هالة اجتماعية كما حصل في معركة الجمل حين انخدع كثيرون بفلانٍ وفلانٍ وفلانة بحجة قربهم من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وجاء تعليق أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لإيقاظ هؤلاء الغافلين حيث قال له أحدهم:(أتراني أظن أصحاب الجمل كانوا على ضلالة) فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(يا حارث انك نظرت تحتك ولم تنظر فوقك فحرت، إنّك لم تعرف الحق فتعرف من أتاه، ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه)(2).

كان أبان بن تغلب من اجلاّء أصحاب الأئمة السجاد والباقر والصادق (صلوات الله عليهم أجمعين) وكان الأئمة يعطونه مكانة خاصة، كان الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول له:(يا أبان اجلس في مسجد المدينة وافت الناس، فإنّي أحبّ أن يُرى في شيعتي مثلك)(3)، روى بعضهم قال:(كنّا في مجلس أبان بن تغلب فجاءه شاب فقال:يا أبا سعيد كم شهدَ مع علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من أصحاب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:فقال له أبان:كأنك تريد أن تعرف فضل علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بمن تبعه من أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:فقال الرجل:هو ذاك، فقال:والله ما عرفنا فضلهم إلاّ باتباعهم علياً)(4) فنبهه إلى هذا المقياس المقلوب في معرفة الحق ولم يكن3.

ص: 225


1- كفاية الأثر:18.
2- نهج البلاغة:قصار الكلمات رقم:262.
3- رجال النجاشي:10.
4- معجم رجال الحديث:1/ 133.

مراد السائل لينطلي على مثل أبان فإنّ الحق حق ولا يضره قلة أتباعه، أو كثرة خصومه وعناوينهم الاجتماعية.وقسم آخر من الناس يجعل بعض الاعتبارات مقياساً لكون الحق معه كجريان الأمور على ما يريد {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِ-رَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} (الحج:11) أو يجعل الانتصار في المعركة دليلاً على كونه محقّاً فإذا خسر الجولة شكّك وتردّد وتمرّد وكان بعض من يُقاتل مع أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في صفين على هذا النحو، فكان عمار بن ياسر يقاتل وهو يقول:(قاتلت تحت هذه الراية مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأهل بيته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ثلاثاً، وهذه الرابعة، والله لو ضربونا حتى يبلغ بنا السعفات من هجر - في جنوب الجزيرة العربية- لعلمنا أنّا مع الحق وأنهم على الباطل)(1).

فهذا نموذج للراسخين في إيمانهم والواثقين بقيادتهم الذين لا تزلزلهم الأراجيف والارهاصات وقد أثنى عليهم أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعد استشهادهم في صفين فيقف على المنبر ويقبض على شيبته الكريمة وهو يبكي ويقول (أين اخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟ أين عمار أين ابن التيهان وأين ذو الشهادتين، وأين نظراؤهم من اخوانهم الذين تعاقدوا على المنية وابرد برؤوسهم إلى الفجرة، أوِّه على اخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه وتدبروا الفرض فأقاموه، أحيوا السنة وأماتوا البدعة دعوا للجهاد فأجابوا ووثقوا بالقائد فاتبعوه)(2).2.

ص: 226


1- الخصال:باب الخمسة، في بعث النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بخمسة أسياف، ح18.
2- نهج البلاغة:خطبة 182.

وهذا المقياس الصحيح للحق – وهو الكون في صف علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- جاري في كل زمان إذا تعددت الانشقاقات والاصطفافات والمواقف والجهات فإنه إذا كان مخلصاً وطالباً للحقيقة فإنّ الله تعالى سيبصره بالصف الذي يكون فيه علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من كان مقصده الحق أدركه ولو كان كثير اللبس)(1).قال أبان وهو يعرّف اتباع الحق في كل جيل الذين يقفون في الصف الذي فيه علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (يا أبا البلاد:تدري ما الشيعة؟ الشيعة الذين اذا اختلف الناس عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أخذوا بقول علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وإذا اختلف الناس عن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أخذوا بقول جعفر بن محمد)(2).

وفي هذا جواب على من يريد أن يخلط الأوراق ويلبس على الناس ويقول لا فرق بين السنة والشيعة فكلاهما ينتهي سند أحاديثه إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، والجواب أنّ الفرق في أن تعرف عمّن تأخذ اذا اختلف الناس، فإذا اختلف الناس بعد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أخذوا بقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وإذا اختلف الناس بعد الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أخذوا بقول السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واذا اختلفوا بعد الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أخذوا بقول الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وبذلك تُعزل الفرق الكثيرة التي انشقت في كل مفترقات الزمان ومراحل التأريخ.

فلنطبق هذا الشعار (كن في الصف الذي فيه علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)) في كل حياتنا ونجعله البوصلة التي تحدد مساراتنا، وسوف يهدينا الله تعالى إلى12

ص: 227


1- غرر الحكم/9024.
2- رجال النجاشي - النجاشي - ص 12

الموقف الصحيح، مثلاً عندما أقام السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) صلاة الجمعة وافترق الناس، منهم من التحق به وشهد هذه الشعيرة المباركة واستضاء بنورها، ومنهم من عارضها وخذل عنها ووصفها بما يشينها كالفتنة والبدعة وحينئذ يسأل المتردد نفسه:أترى لو كان عليٌ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) موجوداً فأين يكون صفّه لأكون فيه؟ وستجد الجواب حاضراً بلا تردد أنه لا يمكن أن يكون في صف ّ المعادين لإقامة هذه الفريضة المباركة التي وردت مئات الروايات في فضلها ووجوب اقامتها والحضور فيها وبركاتها على الدين والأمة.وأنقل لكم هذه الحادثة، فعندما أقام السيد الشهيد الصدر (قدس سره) صلاة الجمعة وعيّن المساجد التي تُقام فيها، كان أحدها من المساجد المهمة التي فيها حضور لافت كمّاً وكيفاً وفي منطقة حسّاسة من محافظة مهمة، يروي إمام المسجد الراتب وهو من أسرة دينية معروفة ويتبع المرجعية الأخرى، أنّ سلطات الأمن علمت بالقرار فأبلغته رفضها لإقامة الجمعة في هذا المكان، فوسّطني لإقناع السيد الشهيد (قدس سره) بتغيير المكان ولم ينجح، وفي صباح يوم الجمعة طلب منه مدير الأمن الحضور في المسجد لإعطاء شرعية لتصرفاتهم وحضر المدير وضباطه وجلاوزته، وكان الشباب الرساليون والمؤمنون المضحون يتقاطرون على المسجد وبأيديهم المصاحف وسجادات الصلاة ليفرشوها ويتلون القرآن انتظاراً لوقت الصلاة، ويزداد العدد كل ما مضى الوقت ومدير الأمن يتصل بالقيادة ويبلغها بالحاجة الى مزيد من قوات الأمن لأن الموقف سيخرج عن السيطرة وهكذا مر الوقت على هذا الإمام وهو يحدث نفسه:يا لسوء عاقبتي بعد العمر الطويل في إمامة الصلاة والخطابة والعمل الديني أقف في صف الذئاب المفترسة

ص: 228

من أزلام صدام في مواجهة هذه الجموع المؤمنة الصالحة، وقد رحم الله تعالى تأنيب ضميره بهذا المقدار وانفضّ الجمعان بلا مواجهة ونُقلت الصلاة إلى موضع آخر، ومحل الشاهد أنه ليس صعباً أن تعرف الصف الذي فيه علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لتكون فيه.والشاهد الآخر عندما قُدّم القانون الجعفري إلى الحكومة لمناقشته وعرضه على البرلمان، حصل اصطفافان، فريق يسعى لإقامة شريعة الله تعالى في الأرض ويحمي الناس من الوقوع في المحرمات ويدلهم على الهدى والصلاح، وفريق رفع شعار اجهاض القانون الجعفري ضمّ دعاة الانحلال الأخلاقي والمعادين للدين مدعومين من قبل قوى الكفر العالمي وهذا ليس غريباً والمواجهة معهم طبيعية، لكن الغريب أن يكون بعض من يسمّى بمراجع دين ومعمّمين ينتمون إلى الحوزة العلمية هم أوّل من أوقد نار الاعتراض وأجّجها وشجع اولئك على رفع أصواتهم بالاعتراض، فعلى هؤلاء أن يراجعوا أنفسهم ويمتحنوها بأنّ علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في أيّ صف؟ أليس في صف قانون ولده جعفر الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الذين هو قانونه وهل رسالة علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) غير رسالة الله تعالى ورسالة النبي الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى:13) {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ} (الحج:41).

وهكذا تستمر المواقف التي تختلف فيها الأمة، فعندما وجّهت النساء المؤمنات العفيفات بأن لا يخرجن لزيارة الأربعين من المدن البعيدة كالبصرة والناصرية والعمارة إلى كربلاء مشياً ويقطعن الصحارى والقفار ويقضين أياماً بلا

ص: 229

ترتيب للأوضاع التي تؤمن مسيرتهن ويحصل ما يحصل مما لا يرضى به الله ورسوله وأيّدها الواعون الغيورون والتزمت بها غالب النساء لأن التوجيه عبّر عمّا كان يتلجلج في صدور المؤمنين إلاّ أنهم يتخوفون من اعلانه لاتهامهم بمعادات الشعائر الحسينية، وهنا رفع المتاجرون بالدين عقيرتهم ضد هذا التوجيه ومارسوا أنواع التسقيط والتشويه والافتراء وخلط الأمور لإثارة الجهلة والبسطاء من عوام الناس وتحريضهم على لعن من يريد الاصلاح لثنيهم عن عزيمتهم مستخدمين هذا الارهاب الفكري والاجتماعي.وهنا يأتي دور البوصلة لتوجه المسار الصحيح، فإنّ علياً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لو كان موجوداً فإنه لا يرسل ابنته العقيلة زينب لتسير وحدها في الصحراء لا يعرف عند من تبيت وماذا يجري لها بل إنّ هؤلاء المعترضين أنفسهم يروون أنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كان إذا أرادت العقيلة زينب زيارة جدها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمها الزهراء (س) خرج أبوها أمامها وأخواها الحسنان حولها (وبيته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ملاصق للمسجد ولا يقطعون مسافة)(1) وأطفأ قناديل المسجد وأخرج من فيه لئلاّ يرى أحدٌ شخصها، فلماذا يقف هؤلاء في غير صف أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

إن من لم يكن في صف علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فريقان:

أولهما:الواقف على الحياد بمسافة واحدة من الحق والباطل، متظاهراً بالاحتياط والتقدّس والحذر من الوقوع في الفتنة {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} (التوبة:49) كالذين لم يبايعوا أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)

ص: 230


1- زينب الكبري- الشيخ جعفر النقدي: 22

لأغراض شتى مثل سعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد وعبد الله بن عمر وسعيد بن مالك وحسّان بن ثابت وهؤلاء قال فيهم أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إن سعيداً وعبد الله بن عمر لم ينصرا الحق ولم يخذلا الباطل)(1).فقد سولت لهم أنفسهم وغرّهم الشيطان بأنهم يحسنون صنعا، حينما يقفون محايدين بين الحق والباطل لكنهم ارتكبوا كبيرتين وتركوا فريضتين عظيمتين:نصرة الحق ومواجهة الباطل، فنصروا الباطل مرتين.

ثانيهما:الصف الذي يقف في مواجهة علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهؤلاء طبع الله على قلوبهم ومنهم من يفخر بذلك ومنهم عبد الله بن الزبير الذي يقول:من مثلي وقد وقفت في الصف بأزاء علي بن أبي طالب)(2) هذا وهو يعلم منزلة أمير المؤمنين وقد سمع من أبيه الزبير وخالته عائشة ما لا يحصى في ذلك لكن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول:(ما زال الزبير منّا أهل البيت حتى أدرك فرخه ونهاه عن رأيه)(3). نسأل الله تعالى أن يجعلنا دائماً في الصف الذي فيه أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ويدلنا عليه بلطفه وحسن توفيقه كما وعدنا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من كان مقصده الحق أدركه ولو كان كثير اللبس).ل.

ص: 231


1- نهج البلاغة: قصار الكلمات رقم 262.
2- بحار الأنوار:41/ 143 عن شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، قال:انتبه معاوية يوماً فرأى عبد الله بن الزبير جالساً تحت رجليه على سريره فقال له عبد الله يداعبه:يا أمير المؤمنين لو شئت أن أفتك بك لفعلت. فقال:لقد شجعت بعدنا يا أبا بكر، قال:وما الذي تنكره من شجاعتي وقد وقفت في الصف أزاء علي بن أبي طالب. قال:لا جرم أنه قتلك وأباك بيسرى يديه وبقيت اليمنى فارغة يطلب من يقتله بها.
3- الخصال، أبواب الثلاثة، ح199 في بيان ثلاث خصال في السفرجل.

القبس/61: سورة التوبة:122

اشارة

{وَمَا كَانَ ٱلمُؤمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّة ۚ فَلَولَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرقَة مِّنهُم طَائِفَة لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ}

موضوع القبس:وجوب التحاق النخب بالحوزات العلمية

الآية تدعو نخباً من الأمة لكي ينفروا لطلب العلم والتفقه في الدين ثم التحرك بهذا العلم والفقه إلى سائر الناس ليرشدوهم ويعلموهم ويأخذوا بأيديهم إلى ما فيه صلاحهم، ففي الآية تكليفان الأول لعموم الأمة، والثاني للنخبة الذين التحقوا بمعاهد العلم والحوزات الدينية ليؤدوا الرسالة التي تحملوها، والتقصير متحقق بكلا الاتجاهين، وسنتحدث هنا عن التكليف الأول وهو حث الأمة على التفقه في الدين، لأن الثاني نوجهه إلى الحوزة العلمية.

وإنما قلت للنخب من الأمة لأنه ليس الكل مؤهلين لهذه الوظيفة الإلهية وهذا التشريف المبارك، كالآية الأخرى في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى:{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} (آل عمران:104) ثم شرحت الرواية صفات هذه الجماعة المكلفة بهذه الوظيفة(1).

ص: 232


1- راجع وسائل الشيعة:كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب2.

إن هذا الحث الإلهي {فَلَوْلاَ نَفَرَ} مصداق لقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال:24) والتفقه في الدين هو الذي يحيي العقول ويطهر القلوب ويهذب النفوس ويسمو بالروح، فلا يسع الأمة إلا الاستجابة لهذه الدعوة.

عدد النافرين الى الحوزات:

وتحدد الآية النسبة المعقولة لعدد النافرين إلى الحوزات العلمية للتفقه في الدين بطائفة من كل فرقة والطائفة في اللغة أقلها ثلاثة، ومعدل الفرقة ثلاثة آلاف، فالنسبة المعقولة هي واحد من كل ألف، وأن لا يقتصر الانضمام إلى الحوزة العلمية على فئة أو شريحة أو مدينة أو أسرة بل المطلوب أن تنفر طائفة من كل فرقة من المسلمين سواء أكانت الفرقة عشيرة أو أهل مدينة أو ريف أو حي سكني ونحوها.

وما زالت الأمة بعيدة كل البعد عن تحقيق الاستجابة لهذه الدعوة على صعيد شعبنا في العراق فكيف إذا لاحظنا مسؤوليتها عن حركة الإسلام في العالم كله لأن النجف الأشرف والعراق عاصمة الإسلام ومنطلق الدعوة العالمية لدولة الحق والعدل.

ألسنا جميعاً ندعوا بما علمنا به الإمام المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في زمان الغيبة أن ندعوا:(اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة) وفيه (وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك)(1) فكيف نكون من طالبي هذه الدولة الكريمة

ص: 233


1- انظر مفاتيح الجنان، دعاء الافتتاح من أعمال شهر رمضان المبارك.

والممهدين لها والدعاة إلى طاعة الله تعالى والقادة إلى سبيله من دون التفقه في الدين وتحصيل العلوم الدينية الشريفة؟وتتحدث الآية عن تكليف موجه للنخب من الأمة ليتفقهوا في الدين وهو غير تكليف عموم الأمة بمعرفة أساسيات دينها، حيث تحفل كتب الحديث بالروايات التي تلزم الناس بالتفقه في الدين، والحد الأدنى منه الذي لا يعذر فيه أحد هو التفقه في العقائد والأحكام الابتلائية كأحكام الطهارة والصلاة والصوم والخمس ونحوها، والأحكام المختصة بالعمل الذي يعمل فيه كالتاجر في تجارته، والمعلم في مدرسته والطبيب في مستشفاه والسياسي عند ممارسة عمله المليء بالمزالق والمرديات وهكذا.

حث أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) على التفقه:

في الكافي بسنده عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(عليكم بالتفقه في دين الله ولا تكونوا أعراباً فإن من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة، ولم يزكِّ له عملاً)(1).

وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لوددت أن أصحابي ضُربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا)(2).

وروي أنه (قال له رجل:جُعلتُ فداك رجل عرف هذا الأمر –إمامتهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- لزم بيته ولم يتعرف إلى أحدٍ من إخوانه، قال:فقال:كيف يتفقه هذا في

ص: 234


1- الكافي:ج1 ص31.
2- الكافي:ج1 ص31.

دينه؟)(1).وسُئل الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (هل يسع الناس ترك المسألة عما يحتاجون إليه؟ فقال:لا)(2).

وروى الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن جده رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):أُفٍّ لرجل لا يُفرِّغ نفسه في كل جمعة لأمر دينه فيتعاهده ويسأل عن دينه)(3).وعن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(تذاكر العلم دراسةٌ والدراسة صلاةٌ حسنةٌ).

وورد في لزوم تفقه التاجر في أعمال السوق قول الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من أراد التجارة فليتفقه في دينه ليعلم بذلك ما يحل له مما يحرم عليه، ومن لم يتفقه في دينه ثم اتجر تورط في الشبهات)(4) وبحسب مناسبة الحكم والموضوع يُعلم أن الوجوب متوجه لكل شخص لكي يتفقه في عمله.

مستويات التفقه:

فهذا هو النحو من التفقه الذي يشمل بوجوبه كل الناس وله مستويان، عام:أي في المسائل الابتلائية التي يشترك فيها كل الناس كالطهارة والصلاة والصوم والخمس، وخاص:أي بخصوص مسؤولياته كعمله أو إدارة أسرته

ص: 235


1- المصدر السابق.
2- انظر الكافي:ج1، كتاب فضل العلم، باب 1.
3- هذا الحديث والذي يليه في أصول الكافي، ج1، كتاب فضل العلم، باب سؤال العام وتذاكره، ح5، 9.
4- وسائل الشيعة:كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، باب 1، ح4.

كالعلاقة مع الوالدين أو الزوجة أو الأبناء وتربيتهم وهكذا.ومن نعم الله تعالى على أهل هذا الزمان وجود منافذ كثيرة لهذه المعرفة كالمحاضرات الدينية في المساجد وخطب الجمعة والمجالس الحسينية والكتب والنشرات وما تعرضه الفضائيات الدينية من برامج نافعة.

أما النحو الآخر من التفقه وهو الالتحاق بالحوزات العلمية لتحصيل علوم أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في العقائد والأخلاق وأحكام الشريعة ثم إيصالها إلى عموم الناس لهدايتهم فهو تكليف نخب من الأمة.

وقد ذكرنا أن العدد الذي يريده الله تبارك وتعالى لم يتحقق بعد ولا زالت الحاجة على أشدها لالتحاق النخب المخلصة الواعية المثقفة العارفة بأمور زمانها بالحوزة العلمية، حتى لو قلنا أنه وجوب كفائي كما قيل فإنه لا يسقط حتى يتحقق الواجب وإلا يأثم الجميع وقد اتضح أن العدد لم يتحقق، فهل نفر من المحافظة التي سكانها مليونان ألفان لطلب العلم؟ إذن لا زالت المسافة بعيدة لنخرج من عهدة هذا التكليف.

ولقد اتخذنا هنا عدة خطوات لتوسيع هذه الفرصة أمام الجميع فنشرنا فروع جامعة الصدر الدينية في لمحافظات حتى تجاوزت عشرين فرعاً، فمن لم يتيسر له الإقامة في النجف للدراسة نقلنا حوزة النجف إليه ووفرنا المتطلبات التي تُيَسِّر الدرس والتحصيل، مع تشجيع المؤهلين لمواصلة الدراسة في النجف الأشرف، كما تتوفر الأقراص المدمجة التي تضم دروس أساتذة متخصصين لجميع مراحل الدراسة ولكل مفرداتها، وهذا أسلوب آخر ميسّر لتحصيل العلوم الدينية والارتقاء فيها.

ص: 236

اللطف خاص:

وينبغي الالتفات إلى أن سلوك هذا الطريق لا يتيسر لكل أحد إلا بلطف خاص من الله تعالى، وليس كل أحد يوفق إليه ويوفق فيه، فألحّوا في الدعاء والطلب من الله تعالى وأصلحوا أنفسكم وأخلصوا نياتكم كي يختاركم الله تعالى لحمل هذه الأمانة الإلهية العظيمة، لما ورد من الفضل العظيم والدرجة الرفيعة لحملة العلم، وأنقل لكم رواية واحدة تغنيكم عن الباقي وهي كافية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

ففي رواية صحيحة عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً به، وإنه يستغفر لطالب العلم مَنْ في السماء ومن في الأرض حتى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورّثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر)(1).

منزلة بكير بن أعين:

وأنقل لكم رواية في منزلة أحد حملة علوم أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ورواة أحاديثهم لتكونوا كلكم مثله وفي منزلته ولا يكلفكم ذلك شيئاً كما كلفهم في ذلك الزمان، ففي رواية صحيحة أن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما بلغه وفاة بكير بن أعين قال:(أما والله لقد أنزله الله بين رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما) وعن عبيد بن زرارة بن أعين قال:(كنت عند أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فذكر بكير بن

ص: 237


1- أصول الكافي:ج1، كتاب فضل العلم، باب ثواب العالم والمتعلم.

أعين فقال:رحم الله بكيراً، وقد فعل، فنظرت إليه وكنت يومئذٍ حديث السن، فقال:إني أقول إن شاء الله)(1).

التفقه في كل الدين:

إن مسؤوليتنا لا تقف عند حدود تلقّي العلوم المتعارفة في الحوزة العلمية والتي تختص بالأحكام الشرعية وما يرتبط بها، مع أن المطلوب في الآية الشريفة هو التفقه في الدين كل الدين(2) كالعقائد وتفسير القرآن والمعرفة بالله تعالى وتهذيب النفس بالأخلاق الفاضلة وسيرة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وكل ما يتصل بالدين من علوم ومعارف وما نحتاجه في حركة الإسلام العالمية ونشره وإقناع البشرية به والدفاع عنه ورد الشبهات ومواجهة الفتن والحوار مع الأديان والحضارات والأيديولوجيات الأخرى، وهذا باب واسع ينكشف منه بوضوح الجهل والتقصير اللذان يكتنفان الأمة بكل طبقاتها.

إن أيسر شيء اليوم وأبخس الأشياء ثمناً هو الكتاب ووسائل التثقيف والتعلم والاطلاع متيسرة وبتقنيات عالية، فلا عذر لأي أحد في عدم التفقه في الدين، في حين كان أحدهم في الأزمنة السابقة يدفع حياته ثمناً للحصول على كتاب ديني وكانوا يتبعون مختلف أساليب التمويه والتستر للوصول إلى المعلومة.

ص: 238


1- الروايتان أوردهما الكشي في رجاله ونقلهما السيد الخوئي (قدس سره) في معجم رجال الحديث:3/ 353.
2- شرحنا معنى مفردة (الفقه) بحسب المصطلح القرآني في تفسير الآية الكريمة. راجع: قبس/109 {إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (الفرقان:30), من نور القرآن: 3/ 276

أهمية العلم والعلماء في الإسلام:

إن للمسلمين أن يفخروا بأن دينهم سبق المجتمع البشري بقرون في الاهتمام بالعلم والعلماء وتفضيلهم ولزوم طلب العلم وإلزام العلماء بتعليم الأمة وإرشادها مما يعرف اليوم بالتعليم الإلزامي ومكافحة الأمية.

إن وظائف المرجعية والحوزة العلمية المرتبطة بالمرجعية ليست علمية فقط بل هي مسؤولة عن قيادة الأمة والدفاع عن كيانها وهويتها وتحقيق مصالحها وحل مشاكلها ورفع الحيف والظلم عنها مضافاً إلى الدور العالمي في إعلاء كلمة الله تبارك وتعالى ونشر الإسلام وتعاليم أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وهذا يتطلب قاعدة واسعة من العاملين الرساليين المخلصين، ولذا قلنا بعدم الاستغناء بوسائل تحصيل العلوم الدينية عن الالتحاق بالحوزات العلمية.

وهذا كله يكشف عن فظاعة التقصير في تطبيق هذه الآية الشريفة ويدعونا إلى يقظة وحركة نحو رفد الحوزات العلمية بالكفاءات المخلصة الواعية ونشر الكتاب الديني وتحبيب مطالعته إلى الناس والله الموفق.

فهذه الاية وكل آية لم تعمل بها الامة تشكو الى الله تعالى ويشكو النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من أمته يوم القيامة لهجرهم كتاب الله تعالى، قال تعالى:{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} (الفرقان:30)، وورد مثله في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ثلاثة يشكون إلى الله عز وجل:مسجد خراب لا يصلي فيه أهله، وعالم بين جهال، ومصحف معلّق قد وقع عليه غبارٌ لا يُقرأ فيه)(1)، والهجران الذي يشكو منه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ليس فقط من ترك قراءته

ص: 239


1- الخصال:1/ 142 باب الثلاثة، ح163.

وتلاوته، بل الأخطر من ذلك هو هجران العمل به، قال الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو يذكر أنواع قرّاء القرآن:(ورجل قرأ القرآن فحفظ حروفه وضيّع حدوده وأقامه إقامة القدح(1)، فلا كثّر الله هؤلاء من حملة القرآن)(2).وليس فقط القرآن ككل يشكو بل تشكو كل آية من آياته التي لم يُعمل بمضمونها، فتشكو آية {قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (الشورى:23) من الذين تتبعوا عترة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تحت كل حجر ومدر قتلاً وسجناً وتعذيباً وتشريداً أو أقصوهم عن مقامهم الذي يستحقونه.

وتشكو آية {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (المائدة:67) من الذين انقلبوا على الأعقاب ولم يعملوا بوصية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في الأئمة من بعده.

وتشكو آية {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}2.

ص: 240


1- القِدْح هو السهم، وكان العرب يستقسمون بالأزلام باستعمال القِداح، وقال الطريحي في المجمع (كأنه الذي يستقسم ويلعب به –يعني القرآن في الحديث أعلاه- كما يستقسم بالقداح، والله العالم) ولعل استعمال الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) للتشبيه من باب أن السهم يوضع بالمقلوب في جفير السهام. وربما يكون اللفظ (القَدَح) وهو الإناء الكبير قال الطريحي:(وفي حديث النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ))) (لا تجعلوني كقَدَح الراكب) يعني لا تؤخروني في الذكر، لأن الراكب يعلق قدحه في آخر رحله عند فراغه من رحاله ويجعله خلفه) مجمع البحرين:3/ 462، وجميع المعاني المحتملة مقبولة في وصف شأن الناس مع القرآن.
2- الوسائل:ج6 ص182.

(البقرة:179) من الذين عطلوا هذا الحكم ولم يوقّعوا على إعدام الإرهابيين القتلة رغم ثبوت الجرائم الفظيعة عليهم بحجة معاهدات حقوق الإنسان ونحوها. وهكذا بقية الآيات الشريفة.

ص: 241

القبس/62: سورة يونس:58

اشارة

{قُل بِفَضلِ ٱللَّهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَليَفرَحُواْ}

موضوع القبس:موجبات الفرح الحقيقي

حالة الفرح لدى الإنسان:

يحصل الإنسان في هذه الدنيا على الكثير من النعم التي يفرح بها، ويحقق الكثير من الانجازات والأعمال المفرحة كالتاجر يربح بصفقته ربحاً غير متوقع، أو المعدلات العالية التي حققتموها في الامتحانات العامة للسادس العلمي خصوصاً إذا كانت الدرجات أكثر مما كان يظن وفق تقييمه لأجوبته.

وهذا الفرح حالة وجدانية طبيعية لا يمكن الغاؤها والاعتراض عليها، وإنما يحتاج إلى وضعه في مساره الصحيح المثمر، وفي ضوء هذا نفهم ما ورد في قوله تعالى {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} (القصص:76) والمشكلة ليست في نفس الفرح والحل في قوله تعالى بعد ذلك {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص:77) فالفرح بالمال والموقع الوظيفي والجاه والنفوذ لا يكون لذات هذه الأمور لأنها زائلة ولذتها وقتية وهي لوحدها غير قادرة على تحقيق السعادة للإنسان، والشاهد على ذلك كثرة الانتحار وشيوع الأمراض النفسية والعصبية والتفكك الأسري والعنصرية والتمايز الطبقي وأمثالها من الأمراض الاجتماعية التي تؤدي إلى نشوء مافيات العنف والقتل في الدول

ص: 242

الأكثر ترفاً ورفاهية، وقد كثر ما تنقله وسائل الاعلام عن مثل هذه الحوادث في الولايات المتحدة بحيث تعجز قوات الامن عن قمع الاضطرابات وإيقاف المواجهات وتضطر السلطات الى اعلان حالة الطوارئ.

ما يوجب الفرح الحقيقي:

فالآية تدلنا على ما يوجب الفرح الحقيقي بهذه النعم من خلال توظيفها واستثمارها في الوصول إلى الهدف الحقيقي وهو نيل رضا الله تعالى من خلال الالتزام بطاعته تبارك وتعالى فإنها توفِّر السعادة الحقيقية للإنسان {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (يونس:58)، من كلام لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(فإن المرء ليفرح بالشيء الذي لم يكن ليفوته، ويحزن على الشيء الذي لم يكن ليصيبه، فلا يكن أفضلُ ما نلتَ في نفسك من دنياك بلوغ لذةٍ أو شفاءَ غيظ، ولكن اطفاء باطل أو إحياء حق، وليكن سرورك بما قدّمت، وأسفك على ما خلّفت، وهمّك فيما بعد الموت)(1).

الفرح للنعم المعنوية:

والذي ينبغي أن يوجب الفرح أكثر هو التوفيق للنعم المعنوية والاهتداء إليها كنعمة القرآن الكريم الذي وصفت آثاره الآية السابقة عليها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (يونس:58) فهذه النعم الإلهية (الموعظة، شفاء الصدور، الهدى، الرحمة) هي التي تستحق ان يفرح بها الإنسان فرحاً يحركه للحصول عليها

ص: 243


1- نهج البلاغة، الكتاب:66.

والاستزادة منها، وهي آثار مترتبة يوفرها القرآن الكريم للإنسان فأول أثر للقرآن هو أن يطرق باب النفوس الغافلة المتعلّقة بالدنيا وزخارفها اللاهثة وراء الماديات، والقلوب المملوءة بالرذائل فيعظها ويوقظها من الغفلة والجهل فيحركهم نحو الطريق الصحيح.فإذا لزموا هذا الطريق أخذ القرآن في تهذيب نفوسهم وتطهير قلوبهم بمدة قد تطول وقد تقتصر بحسب استعداد الشخص وهمته وقوة عزيمته حتى يطهره منها ويشفيه من عللها وهذه هي المرتبة الثانية.

وحينئذٍ تكون قلوبهم صافية ونفوسهم صالحة متهيئة لتلقي الأخلاق الفاضلة والمعارف الحقة والأعمال الصالحة التي يرتقون بها في درجات الكمال، وهذا هو الهدى في المرتبة الثالثة.

وبذلك يستحقون منازل الرحمة ودار الكرامة عند ربهم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

لذا ورد في الدر المنثور(1) في تفسير الآية عن ابن عباس (قل بفضل الله) القرآن (وبرحمته) حين جعلهم من أهل القرآن، وفي حديث مروي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يبيّن فيه آثار القرآن التي تستحق أن يفرح الإنسان بها ويعمل لتحصيلها، قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (إن اردتم عيش السعداء وموت الشهداء والنجاة يوم الحسرة والظل يوم الحرور والهدى يوم الضلالة، فادرسوا القرآن فإنه كلام الرحمن وحرز من الشيطان ورجحان في الميزان)(2) ويصف الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنسه وفرحه

ص: 244


1- الدر المنثور- السيوطي: 3/ 308
2- بحار الأنوار:89/ 19.

بالقرآن بقوله (لو مات من بين المشرق والمغرب لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي)(1) فهذه هي النعم الحقيقية التي تستحق الفرح بها.

نعمة الإسلام واتباع النبي وأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ):

والنعمة الأخرى التي يستحق الفرح بها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الذي هدانا الله تعالى به للإسلام وعلّمنا القرآن وأرسله إلينا رحمة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107)، ونعمة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الذي ثبت به الإسلام وحافظ على إصالته ونقاوته وحفظ مسيرة المسلمين من الانحراف والتزييف.

لذلك كثرت الروايات في كتب المسلمين(2) عامة أن المراد بفضل الله في الآية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبرحمته علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، ومن بعد أمير المؤمنين الأئمة الطاهرون (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ومن بعدهم العلماء العاملون المخلصون المتفانون في اعلاء كلمة الله تعالى وهداية الناس وخدمتهم، فإذا كان النظر إلى وجه العالم عبادة، وزيارته كمن زار رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ونحو ذلك مما دلت عليه الروايات الشريفة(3) ألا يكون مثل هؤلاء العلماء نعمة تستحق الفرح بوجودهم وأخذهم لموقعهم الذي يستحقونه؟ فالتفوا حولهم واستفيدوا منهم وخذوا بتوجيهاتهم.

فضله تعالى غير رحمته:

وظاهر الآية أن فضل الله له معنى غير رحمته لارتباط كل منهما بباء السببية،

ص: 245


1- أصول الكافي:كتاب فضل القرآن، ح 13.
2- أنظر: البرهان في تفسير القرآن: 5/ 376
3- من لا يحضره الفقيه- الصدوق: 2/ 206,- مستدرك الوسائل- المحدث النوري: 9/ 152

وقد ذكر المفسرون وجوهاً لإعطاء معنيين مختلفين للفضل والرحمة منها:1-((أن يكون المراد بالفضل ما يبسطه الله من عطائه على عامة خلقه، وبالرحمة خصوص ما يفيضه على المؤمنين فإن رحمة السعادة الدينية إذا انضمت إلى النعمة العامة من حياة ورزق وسائر البركات العامة كان المجموع منهما أحق بالفرح والسرور وأحرى بالانبساط والابتهاج))(1) ويؤيده تقييد الرحمة بالمؤمنين في هذه الآية وغيرها.

2-إن المراد(2) بالفضل الإلهي النعم الظاهرية أو قل المادية وقد ورد بهذا المعنى في عدة آيات كقوله تعالى {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} (النحل:14) وقوله تعالى {وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة:10)، والرحمة إشارة إلى النعم الباطنية أو المعنوية.

3-إن الفضل الإلهي بداية النعمة ويساعد عليه المعنى اللغوي للفضل وهو بذل النعمة وهبتها، والمراد بالرحمة دوام النعمة، وهذا يناسب ما ذكرناه من تفسير فضل الله برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ورحمته بعلي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لأن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان السبب في هدايتنا إلى نعمة الإسلام والإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سبب بقائه واستمراره وكما قيل أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) علة محدثة وموجدة، وأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) علة مبقية.

أن يكون الفضل إشارة إلى نعم الجنة، والرحمة إشارة إلى العفو عن الذنب وغفرانه.9.

ص: 246


1- الميزان في تفسير القرآن:10/ 77.
2- حكى هذا الوجه وما بعده في تفسير الأمثل:5/ 499.

القبس/63: سورة يونس:61

اشارة

{وَمَا يَعزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثقَالِ ذَرَّة}

موضوع القبس:لنستشعر الرقابة الإلهية

موضوع القبس:لنستشعر الرقابة الإلهية (1)

غالباً ما يدفع الشعور بالمراقبة من قبل الغير بالإنسان إلى سلوك معين مختلف عن سلوكه لو لم يكن يشعر بكونه مراقباً، وهذا أمر واضح وله عدة أمثلة وتطبيقات في الواقع، فالإنسان يفعل في السر أموراً يخشى ويخجل من فعلها في العلن، ولو علم حينها أنه مراقب لما فعلها بكل تأكيد، فسائق السيارة مثلاً حين يواجه إشارة المرور في طريقه ولا يجد أثراً لشرطي المرور فإنه يتجاوز الإشارة الحمراء دون تردد، لكنه لو كان يعلم بأن هناك كاميرات خفية تقوم برصده وأن هناك من يراقبه لما أقدم على تجاوز حدوده في الشارع، وهكذا كثير من أفعال الإنسان التي يقوم بها في السر وهو في غفلة عمن يراقبه فيها.

وأوضح مصاديق ذلك وأشدها غفلة وخسارة هي عدم الشعور بكون الله

ص: 247


1- يوم الاثنين 2/ذو الحجة الموافق 8/ 11/ 2010 زار وفد من إحدى حملات الحجاج في الكرادة الشرقية في بغداد مقر بعثة سماحة الشيخ (دام ظله) في مدينة مكة المكرمة، وألقى مرشد الحملة كلمة بهذه المناسبة وطلب من سماحة الشيخ كلمة إرشادية فاستجاب (دام ظله) لطلبهم وألقى هذه الكلمة فيهم، وتجد كلمات أخرى لسماحة الشيخ تحدث بها في رحلة الحج المباركة موزعة في هذا الكتاب بحسب موضع القبس من السورة القرانية.

تعالى رقيباً عليه، فتجد الإنسان قد يؤمن نظرياً بأن الله تبارك وتعالى يراه {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ} (يونس:61) لكن من حيث التطبيق لا تجد هذا الاعتقاد منعكساً على أفعاله، وهو علامة على أن إيمانه لم يكن واقعياً، وإلا لو كان كذلك لظهر أثر واقعية الإيمان في فعله.وقد أشارت بعض نصوص الأدعية الشريفة إلى هذه المفارقة، فمن ذلك قول الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم عرفة:(يا من سترني من الآباء والأمهات أن يزجروني، ومن العشائر والإخوان أن يعيروني، ومن السلاطين أن يعاقبوني، ولو اطلعوا يا مولاي على ما اطلعت عليه مني إذن ما أنظروني، ولرفضوني وقطعوني)(1)، وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فيه (عميت عين لا تراك عليها رقيبا، وخسرت صفقة عبد لم يجعل لها من حبّك نصيبا)

ومنه قول الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاء أبي حمزة:(فلو اطلع اليوم على ذنبي أحد غيري ما فعلته، ولو خفت تعجيل العقوبة لاجتنبته، لا لأنك أهون الناظرين إلي وأخف المطلعين عليّ، بل لأنك يا رب خير الساترين وأحكم الحاكمين، وأكرم الأكرمين، ستار العيوب، غفار الذنوب، علام الغيوب، تستر الذنب بكرمك، وتؤخر العقوبة بحلمك، فلك الحمد على حلمك بعد علمك، وعلى عفوك بعد قدرتك)(2).24

ص: 248


1- مفاتيح الجنان:ص311
2- السابق:ص224

من مصاديق الغفلة:

ومن مصاديق ذلك أيضاً الغفلة عن الموت مع الاعتقاد به يقيناً، حتى قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ما رأيت يقيناً أشبه بشك من الموت)(1)، فنحن نؤمن بأن الموت حق، وأنه لا بد أن يختطفنا في أية لحظة من لحظات العمر، ولكن كم واحد منا يؤمن بذلك عملياً، بمعنى أنه استعد له وتهيأ وأدى ما عليه واجتنب كل ما حرم الله عز وجل، والحال أنك تجد العكس من ذلك، فالكثير منا يعمل وكأنه سيظل خالداً في هذه الدنيا.

الغفلة عن إمام الزمان (عج):

ومن مصاديق الغفلة والتصرف بخلاف وجود المراقبة ما ذكرته الرواية الشريفة:(والله إن صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كل سنة يرى الناس ويعرفهم ويرونه ولا يعرفونه)(2) وهي رواية موجودة وصحيحة، إذن نحن بمرأى من الإمام (عج)، فمن يستشعر الخجل والحياء من فعل أمر أمام الناس علناً في حين يفعله في السر، مثل هذا الإنسان كيف به إذا اعتقد أن إمامه يراه دائماً، بالتأكيد إن ذلك سيدفعه إلى أن يكون أكثر مراقبة لنفسه في تعاملاته وتصرفاته، وبطبيعة الحال إن مثل هذه الأحاديث حين يمر بها الإنسان ويستشعر كل هذه الكاميرات التي تراقبه فإنه لن يتعامل مع الآخرين وكأنه في مغالبة على الدنيا، وسعي إلى الحصول على الغنائم والمكاسب الدنيوية، بل يستشعر مسؤوليته أكثر، ويحاسب نفسه أكثر، لأننا لن نُترَك سدىً وليس الأمر منتهياً، صحيح أن حلم الله تبارك وتعالى طويل لكنه

ص: 249


1- بحار الأنوار:75/ 246.
2- الغيبة:9/ 18.

يؤجلهم إلى يوم {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (الكهف:49).نسأل الله تبارك وتعالى أن يعيننا على طاعته وأن ينقذنا من الغفلة وأن نكون ذاكرين لله تبارك وتعالى ولإمامنا (عج) الشريف، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

ص: 250

القبس/64: سورة هود:7

اشارة

{لِيَبلُوَكُم أَيُّكُم أَحسَنُ عَمَلا ۗ}

موضوع القبس:تمام حسن العمل بإتقانه والمداومة عليه

العمل وحده لا يكفي:

*موضوع القبس:تمام حسن العمل بإتقانه والمداومة عليه (1)

أن الأعمال التي يتقرّب بها إلى الله تعالى لها مدى واسع يستوعب الخلق كلهم، وهنا نقول أن القيام بالعمل الصالح وحده لا يكفي بل يوجد ما يتمّمه ويعطيه قيمته وهو أهم من العمل نفسه لأنه بدونه يبقى عملاً فارغاً وشكلياً لا قيمة له، كما ورد في بعض الروايات إن من الصلاة لما يقبل نصفها وثلثها وربعها وخمسها إلى العشر، وإن منها لما يلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها(2)، وإنه (كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والظمأ، وكم من قارئ للقرآن والقرآن يلعنه)(3) وما ورد في الحج أن أحد أصحاب الأئمة أعجب بكثرة الحجيج وارتفاع أصواتهم بالتلبية والتكبير والحمد لله تعالى فقال له الإمام

ص: 251


1- الخطبة الثانية لصلاة الجمعة التي أقامها سماحة الشيخ المرجع في مكة المكرمة في يوم الجمعة 27/ذو القعدة/1431 ه- الموافق 5/ 11/ 2010 م.
2- البحار:84 / 260 / 59.
3- نهج البلاغة:4/ من حكمه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الحكمة رقم (145) وفيه (وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر والعناء، حبذا نوم الأكياس وإفطارهم).

(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):ما أكثر الضجيج وأقل الحجيج.(1)فالعمل وحده لا يكفي لنيل رضا الله تبارك وتعالى والفوز عنده، بل قد يكون وبالاً على صاحبه كما ورد في دعاء الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في يوم عرفة (إلهي كم طاعة بنيتها، وحالة شيدتها هدم اعتمادي عليها عدلك بل أقالني منها فضلك)(2) فقد كنت أتصور أن ميزاني ثقيل بالأعمال الصالحة التي قدّمتها وعوّلت عليها لكنها لما عُرضت على الموازين القسط ليوم القيامة وإذا بها لا قيمة لها، بل صرت أهرب وأتبرأ منها وأطلب الإقالة والعفو عنها.

لنضرب لكم مثالاً:

وقد تستغرب ذلك لكنني أقرّبُ القضية بمثال:فلو أن ملكاً دعا شخصاً حقيراً للقائه وضيافته فلبى الدعوة وكان الملك مقبلاً عليه وهيأ له كل أسباب التكريم والجوائز الثمينة لكن المدعو كان مُعرضاً عنه ولا يلتفت إليه ومتشاغلاً بأمور أخرى، ألا تعد هذه إساءة في الأدب مع الملك ويعاقب عليها؟ فالصلاة دعوة للقاء الله تبارك وتعالى ومناجاة معه فإذا كان المصلي مشغولاً عن ربه وشارد الذهن عن صلاته فهو كهذا الشخص مع حقارة قدره أمام ملك الملوك فماذا سيكون جزاؤه؟ فهذا هو حال صلاتنا التي هي أهم العبادات وعمود الدين فكيف نرجوا الثواب عليها؟ إلا بلطف الله تعالى وكرمه وفضله وصفحه.

ص: 252


1- بحار الأنوار :ج 46 / ص 261
2- بحارالانوار:ج95 ص225.

اقتران العمل بتحسينه:

فلا بد أن يقترن العمل بأمرين لينتج الغرض المطلوب وهما:

الأول:تحسين العمل، قال تعالى {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (الملك:2) فليس المهم كثرة العمل وإنما حسنه، وقد حثّت آياتٌ كثيرة على حُسن العمل وإن القبول بحسب الإحسان في العمل. قال تعالى {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (الأعراف:56) {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} (الكهف:30).

كيف يمكن تحسن العمل؟

وإحسان العمل يتحقق بجملة أمور:

منها:إخلاص النية لله تبارك وتعالى والإتيان بالعمل لنيل رضاه وليس لأي هدف آخر، فهذا الحج قد يأتي به شخص للمباهاة أو للرياء وليقال له (حاج فلان) أو للسياحة والاطلاع على تلك المشاهد المقدسة وغيرها من النوايا غير المخلصة، فهذا لا يكون عملاً مقرباً إلى الله تعالى وإن كان الحاج لا يحرم الأجر مطلقاً مهما كانت نيته لكن قد يكون أجره في الدنيا كما ورد في بعض الروايات.

ومنها:إتقان الأحكام الشرعية للعمل وحفظ حدوده، فللحج أحكام وتفاصيل لابد من معرفتها وأداء العمل بشروطه لأن الإخلال بها إخلال بالعمل نفسه وقد يقع باطلاً، لذا لابد من اختيار المرشدين العارفين الورعين والآخذ منهم ومتابعتهم وسؤالهم عن دقائق الأمور، فالعمل التام لا بد أن يقترن بالعلم والإخلاص، ورد في الحديث الشريف (الناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون،

ص: 253

والمخلصون على خطرٍ عظيم)(1).ومنها:الالتفات إلى أسرار العمل ومعانيه وحقائقه، فإن وراء هذه الأعمال الجوارحية حقائق هي المطلوبة من العمل وليس هذه الحركات الشكلية، كالأمثال التي تُضرب وتراد منها الحقيقة التي صورت على شكل هذا المثل، وكالرؤيا الصادقة في المنام التي لها حقيقة تؤول إليها الرؤيا وترجع إليها لذا سميت تأويل الأحلام فمثلاً ملك مصر رأى في المنام سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وآخر يابسات وكانت حقيقة هذه الرؤيا ما فسرها به يوسف الصديق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

فيحسن التعرف إلى الأسرار المعنوية لمناسك الحج والأغراض المقصودة من حركاته وأفعاله وهي على مستويات وتحتاج إلى بحث مفصّل كالذي ورد في رواية الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مع الشبلي(2).

المداومة على العمل:

الثاني:المداومة على العمل وحفظه ومواصلته، ولا نعني بهذا الأمر تكرار الحج لأن هذا غير متيسّر إلا نادراً فللمداومة أنحاء عديدة ربما نتعرض لشرحها في خطبة مستقلة بإذن الله تعالى(3).

لكننا نريد الإشارة هنا إلى أن الإنسان قد يوفّق في مثل هذه المواسم الروحية الخالصة إلى أعمال إضافية لم يكن معتاداً عليها فيؤديها بسبب ارتفاع

ص: 254


1- جامع السعادات:1/ 220.
2- راجعها في رسالة مناسك الحج لسماحة الشيخ، صفحة 244 الطبعة الثالثة.
3- تجد الخطبة في كتاب خطاب المرحلة ج5 ص406، بعنوان:كيفية إدامة حالة الطاعة كالحج.

الهمة للطاعة والأجواء المشجّعة ومصاحبة المؤمنين الصالحين والتعلم منهم كصلاة الليل أو تلاوة القرآن (الذي يستحب ختمه في رحلة الحج) أو صلاة جعفر الطيار التي كان السلف الصالح يهتم بها ويواظب عليها، أو الصلاة في أوقاتها ومنها صلاة الصبح وصلاة الجماعة والاستماع إلى التوجيهات الدينية وغيرها، فالمطلوب منه أن يستمر على هذا التقدم ويحافظ على هذا الانتصار الذي حققه على النفس الأمّارة بالسوء فيواظب على هذه الأعمال التي وُفّق إليها وذاق حلاوة أدائها.وهكذا ينبغي للمؤمن أن يحافظ على كل المكاسب التي يحققها في جهاده مع نفسه مما يُوفّق له في الأزمنة الشريفة -كشهر رمضان- أو الأمكنة الشريفة أو المواسم المباركة كالحج.

لاحظوا ما ورد في من حفظ سورة من القرآن الكريم أو آية ثم نسيها وهي عدة روايات معتبرة منها صحيحة أبي بصير قال:قال أبو عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من نسي سورة من القرآن الكريم مثلت له في صورة حسنة ودرجة رفيعة في الجنة فإذا رآها قال:ما أنتِ فما أحسنك ليتك لي؟ فتقول:أما تعرفني أنا سورة كذا وكذا ولو لم تنسني رفعتك إلى هذا)(1).

ومن المداومة على العمل إدامة آثاره كالانتهاء عن الفحشاء والمنكر بالنسبة للصلاة قال تعالى {إنَّ الصَلاةَ تَنهَى عَنِ الفَحشَاءِ وَالمُنكَرِ} (العنكبوت:45) فيجعل المؤمن صلاته نصب عينيه ويتذكرها دائماً لتردعه عن الهم بأي معصية أو منكر، فهذه مداومة على الصلاة، وقد وعد الله تعالى بأن).

ص: 255


1- أصول الكافي:كتاب فضل القرآن، باب (من حفظ القرآن ثم نسيه).

(الحاج لا يزال عليه نورالحج ما لم يلمّ بذنب)(1).4.

ص: 256


1- وسائل الشيعة:كتاب الحج، أبواب وجوب الحج وشرائطه، باب 38، ح14.

القبس/65: سورة هود:61

اشارة

{هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلأَرضِ وَٱستَعمَرَكُم فِيهَا}

موضوع القبس:الإسلام وإعمار الحياة

في معنى الاستعمار:

هذه الفقرة من الآية تبيّن واحدة من قواعد الرؤية القرآنية لدور الانسان في الحياة وعلاقته بما حوله، فتكون أساسا ومنطلقا لسلوكه وبرنامجه في الحياة.

(استعمر) على صيغة استفعل والمعروف في معناها انها طلب الفعل كقولك (استخرج) أي طلب الإخراج، ويمكن ان يكون لها عدّة معانٍ اخرى، فتأتي بمعنى الفعل الثلاثي المجرد نحو (استقرَّ) أي قرّ، وغير ذلك. فيكون معنى الآية أن الله تعالى خلقكم من الأرض واستعمركم فيها أي طلب منكم اعمارها وفوّض اليكم أمر إصلاحها والانتفاع بها، أو أنه تعالى عمّركم فيها أي جعل لكم أعماراً مديدة فيها لأن إعمار الأرض يحتاج الى عمر مديد، ولو كانت الأعمار قصاراً لما استطعنا إنجاز شيء، ويمكن أن يكون (استعمركم) بمعنى أنه تعالى اعطاكم قدرات وجعلكم بوضع تقدرون فيه على الإعمار.

والعمارة نقيض الخراب، وهي تعني جعل الشيء واستعماله على النحو الذي ينتفع به ويحقق الغرض منه، وهي لكل شيء بما يناسبه من ذلك، ((فالعمارة تحويل الأرض الى حال تصلح بها أن يُنتفع من فوائدها المترقّبة منها كعمارة الدّار

ص: 257

للسُكنى والمسجد للعبادة والزرع للحرث والحديقة لاجتناء فاكهتها والتنزه فيها، والإستعمار هو طلب العمارة بان يطلب من الإنسان أن يجعل الأرض عامرة تصلح لأن ينتفع بما يطلب من فوائدها)(1).

إعمار الأرض:

ولان الغرض من وجودنا على هذه الارض إعمارها فان وظيفة كل فرد هو اعمار واصلاح ما يقع في دائرة مسؤوليته، فربّ الاسرة يعمر اسرته ومدير المدرسة يعمر طلابه، والقائد يعمر اتباعه ومريديه وهكذا القائد السياسي، لذا جعل امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من الوظائف المهمة للحاكم عمارة الأرض، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في عهده الذي كتبه لمالك الأشتر لم-ّا ولاّه مصر:(وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك الاّ بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارةٍ أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقمْ أمرُه الاّ قليلاً)، وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ولا يثقُلن عليك شيءٌ خفّفت به المؤونة عنهم فإنه

ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك)(2).

ملاحظات وتفسيرات:

ويمكن ملاحظة عدة امور في الآية:

1-إن الله تعالى يذكِّر عباده بنعمه العظيمة عليهم وذلك لأنه خلقهم من نفس هذه الأرض مباشرة -كخلقه لآدم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- أو انه خلق الانسان من نفس

ص: 258


1- الميزان:12/ 298.
2- نهج البلاغة:الخطبة 291.

عناصر الأرض ومكوناتها وغذائها ومع ذلك فانه أعطاهم هذا التكريم العظيم وفضّلهم على مخلوقاته ومكّنهم من هذه الأرض ليعمروها واستخلفهم عليها كجنس بشري أو كأفراد باعتبار أنهم يخلفون من سبقهم في التملّك والاستيلاء والاعمار.2-وفي الآية بيان لحقيقة اعتقادية وزجرٌ وتوبيخٌ وردع للذين تركوا عبادة الله تعالى وأطاعوا أهواءهم وزيّن لهم الشياطين عبادة آلهة وهمية من دون الله تعالى، فيلفت نظرهم الى أن فعلهم مثيرٌ للسخرية حين مكّنهم الله تعالى من الأرض واستعمرهم فيها والآية تفيد الحصر ب-(هو)أي أنه تعالى وحده الذي أنشاءكم وهيأكم لأن تنتفعوا بهذه الأرض بما ينفعكم في حياتكم وتحتاجون اليه ولا تحتاجون الى غيره تعالى، لكن المؤسف أن هؤلاء البشر يتسافلون ويجعلون مما صنعت ايديهم آلهة يعبدونها، ويعتبرونها اربابا تدّبر شؤونهم من الرزق والحياة والضر والنفع باعتبار انهم لا يناقشون حقيقة ان الله تعالى هو الخالق {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (لقمان:25) لكنهم يعتقدون انه سبحانه فوّض تدبير شؤون الكون الى اولئك الارباب الوهميين، فالآية تدعوهم الى ان يثوبوا لرشدهم لان تلك الارباب لو كانت مدبرة لشؤونكم لكان لها دور في تهيئة مستلزمات الحياة في الارض والسماء والهواء والشمس وكل شيء، وانتم تعترفون بانها لا يد لها في ذلك كله لذا جاء بعد هذه الفقرة من الآية مباشرة الأمر بالاستغفار والتوبة من هذه الاوهام والخيالات الفاسدة.

3-إن الله تعالى فوّض أمر إعمار الأرض الى الانسان وهيّأ له الوسائل والظروف التي تعينه على ذلك وطلب أن يفكّر ويبحث ويسعى وينتج، وبدون

ص: 259

ذلك لا يحصل إعمار ولا يستفيد من منابع الرفاه والسعادة الموجودة في هذه الأرض ويكون من الخاسرين، فلا اتكالية ولا تقاعس ولا كسل وإنما لابد من العمل والله تعالى يبارك فيه ويؤتي ثماره بلطفه.4-بما أن الإنسان مأمور بان يتخلّق بأخلاق الله تعالى(1) كما في الحديث الشريف وفي الآية الكريمة {وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ} (النحل:60) ونحن مأمورون بأن نُقيم الدين والسنن الإلهية وهذا يوجب علينا أن نعطي الفرصة الكاملة لكل فرد أو مؤسسة أو مجتمع ونهيئ الأسباب والإمكانيات لكي يعمّروا الأرض بالحياة وينتفعوا من الخيرات المتاحة لهم على كلِّ الأصعدة سواء على الصعيد العلمي او الإقتصادي او السياسي أو الديني أو الإجتماعي وغير ذلك، بالتصويت لهم اذا توقفت المسالة على الانتخاب، او بوضع الرجل المناسب في المكان المناسب بالتعيين او بتقديم الدعم المادي والمعنوي لأي مشروع مثمرٍ او فكرة مفيدة او مؤسسة نافعة ونحو ذلك.

5-إن الإستعمار مصطلح قرآني مثمر وإيجابي ويُغني الحياة بالخير، لكن الدول المستكبرة اختطفته وحوّلته الى معنى معاكس يتضمن القتل والتدمير والخراب والاستحواذ على ثروات الشعوب وتجويعهم والاستيلاء على زمام الامور في بلدانهم، ككثير من المصطلحات التي شوهوها كالحرية التي تعني الانعتاق من اغلال الاهواء والشهوات والتعصّب والعبودية الخالصة لله تعالى فأصبحت تعني عندهم الانفلات من كل الضوابط الاخلاقية أو السياسة التي تعني رعاية مصالح البلاد والعباد وصلاح امورهم ونصف أئمتنا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بها كما ورد في29

ص: 260


1- ورد عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تخلَّقوا بأخلاق الله. بحار الأنوار:ج 61، ب 42، ص 129

الزيارة (يا ساسة العباد) وهكذا، لكنهم وظّفوها لمآربهم الخبيثة المعادية للإنسانية.ولابد من الإلتفات الى الجوانب المعنوية للإعمار لأن الله تعالى أنشأ لنا هذه الأبدان لتكون وسيلة لتكامل النفس والعقل وسمو الرّوح، فالبدن هو أرض النفس الذي أنشأه الله تعالى لإعمارها بطاعة الله تعالى وعلى هذا فان إعمار الأرض لابد أن يكون مقترنا بنية التقرب الى الله تعالى لأن الإعمار الحقيقي هو ملئ القلب بحب الله تعالى وذكره وتحلية النفس بالفضائل وتهذيبها من الرذائل والأغلال والآصار، فالأمر بالإعمار إنما يُراد منه تهيئة أسباب الطاعة والتمكين منها. أذ كلّما كانت الأسباب المساعدة على الطاعة متوفرة كان إقبال النفس عليها أكثر فعوالم الإنسان مترابطة، كما قيل في المثل المشهور:(العقل السليم في الجسم السليم). وكما ان الارض مستودع لكثير من الخيرات وعلى الانسان ان يستصلحها ويستعمرها ليستخرجها، فكذلك طاقات الانسان لا حدود لها لو احسن تفجيرها، وتشهد وقائع كثيرة بذلك كقلع امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لباب خيبر التي عجز اربعون شخصا عن حملها(1)،وخذ مثالا قريبا من مسيرة الموالين لأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) حين يقطعون مسافة اكثر من 500 كيلومترا مشيا في ظروف جوية قاسية وتهديدات ارهابية جديّة من دون اصطحاب طعام او فراش، فحبّهم للحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وولاؤهم للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) واله فجّر طاقات يجدونها مستحيلة التحقق في غير هذا الحافز، وكسير بعض الاخوة 2000 كيلومترا من الامامين الكاظمين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الى مشهد الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في ارض مجهولة لهم وظروف جوية صعبة ويمرّون بمناطق فيها وحوش مفترسة. 79

ص: 261


1- بحار الأنوار- المجلسي: 41/ 279

6-إن الله تعالى خلقنا من الأرض، فالأرض سابقة بوجودها علينا، وقد سخّرها الله تبارك وتعالى لنفعنا {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأرض جَمِيعاً} (البقرة:29) فنِعمُ الله تعالى سابقةٌ على وجودنا وهو جلّت آلآؤه المبتدئ بالفضل وبالنعم، والدرس الذي نستفيده هو أن نبادر نحن بالعطاء للأخرين قبل أن نتوقع منهم تقديم شيء من الخير.

7-ما دام معنى اعمار الارض يتحقق بجعلها على نحو مثمر ينتفع به، كما تقدم في التعريف فإذن هو يشمل كل نواحي الحياة لكلٍ بحسبه، فهناك الإعمار السياسي والإقتصادي والإجتماعي والزراعي والعلمي وغير ذلك، لأنها كلها تساهم في تحقيق هذا المعنى فكأن الإعمار مرادفٌ للإصلاح أو هو نتيجته.

الإصلاح الحسيني في كل اتجاهات الحياة:

لذلك فإن شريعة الاسلام وهي خاتمة الشرائع الالهية واكملها لم تكتف بالإعمار والاصلاح الديني وانما عمّت بقوانينها واحكامها كل شؤون الحياة وقضايا الناس، وقد عبَّر الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وارث الانبياء وحامل رسالاتهم كلها عن هذا المشروع الإعماري الشامل وأشار في كلماته الشريفة الى كل هذه المجالات.

ففي مجال الاعمار والاصلاح الديني قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)(وإنِّي لم أخرج أشِراً ولا بَطِراً، ولا مُفسِداً ولا ظَالِماً، وإنَّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمَّة جَدِّي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) . أريدُ أنْ آمُرَ بالمعروفِ وأنْهَى عنِ المنكر، وأسيرُ بِسيرَةِ جَدِّي، وأبي علي بن أبي

ص: 262

طَالِب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ))(1).وفي مجال الاعمار القانوني قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه، فإنّ السنة قد اُميتت والبدعة قد اُحييت، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد). (2) أي ان هؤلاء الطغاة عطّلوا العمل بالدستور والقانون فالامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يدعوهم الى العودة الى العمل بالدستور - وهو القرآن- والقوانين المبيّنة له - وهي السنة الشريفة-.

وفي مجال الاعمار السياسي وبيان صفات المستحقين للإمامة والقيادة وولاية امور الأمة قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فلعمري ما الإمام الا العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحق والحابس نفسه على ذات لله)(3).

كل الخراب نتيجة لتولي قادة الزور على مقدرات الشعوب:

واعتبر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سبب الخراب والفساد الاقتصادي والاجتماعي والاخلاقي والديني وضياع الحقوق والعدالة يرجع الى ولاية القادة غير الشرعيين لأمور الناس قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعد ان حمّله كل افراد الامة مسؤولية التغيير:(مَن رأى سُلطاناً جائِراً مُستحلاً لحرم الله، أو تاركاً لعهد الله، ومُخالِفاً لسنّةِ رسولِ الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فََعَمِلَ في عبادِ الله بالإثمِ والعدوانِ، ثم لم يُغيّرْ عليهِ بقولٍ ولا فعلٍ، كان حَقّاً على الله أن يُدخِله مَدخلَه) قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تحليله (وقد عَلمتُم أنَّ هؤلاء لَزِموا طاعةَ الشيطانِ وتَولَوا عن طاعةِ الرحمنِ، وأظهرُوا الفسادَ وعطلّوا الحدودَ واستأثَروا بالفيء،

ص: 263


1- موسوعة كلمات الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ص 354.
2- موسوعة كلمات الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ص 383.
3- موسوعة كلمات الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ص 379.

وأحَلّوا حرامَ اللَّهِ وحَرَّموا حلالَهُ، وأنا أحقُّ من غيري بهذا الأمر لقرابتي من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ))(1).وفي رواية اخرى (وأنا أولى من قام بنصرة دين الله وإعزاز شرعه والجهاد في سبيله، لتكون كلمة الله هي العليا)(2).

وهذا بعينه هو مشروع الامام المهدي المنتظر(عج) وقد ادخره الله تعالى لإقامة الحق والعدل وارساء قواعد الدولة الكريمة العامرة بالخيرات والبركات والعزة والكرامة، كما ورد في دعاء الافتتاح لليالي شهر رمضان المبارك (اَللّ-هُمَّ إِنّا نَرْغَبُ اِلَيْكَ في دَوْلَة كَريمَة)(3)، ولا تكون الدولة كريمة الا اذا سادها الاعمار والاصلاح في جميع المجالات.

ما الذي استفدناه من النهضة الحسينية؟

اقول:ونحن ننهي الموسم الحسيني لشهري محرم وصفر لا بدَّ ان نقف ونراجع ونحلل مقدار استفادتنا من اقامة الشعائر الحسينية، كما امرنا الائمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في كل طاعة، كالصلاة حينما جعل الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مقياسا لقبولها والانتفاع بها وهو مقدار نهيها عن الفحشاء والمنكر.

فدرجة استفادتنا من النهضة الحسينية المباركة يحددها مقدار نجاحنا في انجاز الرسالة الحسينية المباركة وتحقيق الاعمار في نواحي الحياة الانسانيةالكريمة.

ص: 264


1- موسوعة كلمات الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ص 457.
2- موسوعة كلمات الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ص 408.
3- مفاتيح الجنان:232

وهي نفس الدرجة التي نستحقها في اختبار التمهيد للظهور المبارك للإمام المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لان الرسالة واحدة والغرض واحد، فلنراجع انفسنا ونقّيم افعالنا بدقة ولا نكون من الغافلين المخدوعين ببعض الشكليات والعناوين المزوّقة والطقوس المتخلّفة لنقنع انفسنا باننا قد احيينا شعائر الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهي لا تزيد الا بعدا عن الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واهدافه المباركة لأنها تساهم في تجهيل الناس وتسطيح عقولهم وهو مخالف لما اراده الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كما ورد في زيارته المخصوصة انه (بذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة)(1) والله المستعان.13

ص: 265


1- تهذيب الأحكام- الشيخ الطوسي: 6/ 113

القبس/66: سورة هود:88

اشارة

{إِن أُرِيدُ إِلَّا ٱلإِصلَحَ}

موضوع القبس:الإصلاح رسالة الأنبياء

الإصلاح رسالة الأنبياء جميعاً:

الآية الكريمة تلخص رسالات الأنبياء، على لسان نبي الله شُعيب(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قوله تعالى {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود:88)، هذه هي رسالة الأنبياء جميعاً (الإصلاح) وان تنوعت آليات عملهم واختلفت شرائعهم من حيث الاجمال والتفصيل، لكن ما أجمله النبي السابق فصّله النبي اللاحق، وما فصّله النبي اللاحق يرجع في أصوله إلى ما أجمله السابق (صلوات الله عليهم أجمعين).

واختتمت هذه الرسالات برسالة الإسلام التي بلّغها النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وواصلها من بعده أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (المائدة:67) يقول أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ((اللهم انك تعلم أنه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنردّ المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن

ص: 266

المظلومون من عبادك وتقام المعطّلة من حدودك))(1).والحسين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وارث الأنبياء جميعاً بحسب ما نطقت به الزيارة المشهورة المروية عن الأئمة(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والمعروفة بزيارة (وارث)(2) وعنده اجتمعت رسالات الأنبياء جميعاً {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} (الأحزاب:39).

خرجت لطلب الإصلاح:

فهدف الأنبياء والأئمة (صلوات اللهم عليهم) هو (الإصلاح) ولما كان الإمام الحسين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قد ورثهم جميعاً فمن الطبيعي أن تكون رسالته(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ومشروعه هو (الإصلاح) وقد عبّر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن ذلك صريحاً في خطاباته التي عرّف من خلالها بأهداف خروجه المبارك، وسجّله في وصيته التي دوّنها وختمها وأودعها عند أخيه محمد بن الحنفية، ومما جاء فيها (إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب(عَلَيْهِ السَّلاَمُ))(3).

ومن خطبته على الحر الرياحي وأصحابه لمّا وصل (البيضة) قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ((ألا وأنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من

ص: 267


1- نهج البلاغة الخطبة 131.
2- مفاتيح الجنان:502
3- بحار الأنوار:44/ 329.

غيّر))(1).ويظهر من كلمة أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وولده الإمام الحسين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) التواصل والتطابق في الهدف، وإنّ الاصلاح الذي سعى إليه المعصومون(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وتحمّلوا مسؤوليتهم وبذلوا وسعهم لتحقيقه هو مشروع متكامل لا يختص بالأمور الدينية (أي الوعظ والإرشاد وتعليم أحكام الدين وإن كان هذا هو الأساس) بل يشمل نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية، فيقضي على الفساد المالي والإداري ومنع الاستئثار بالأموال العامة وحرمان الشعب من حقوقهم، وإقامة النظام العادل الذي ينصف الناس جميعاً وينتزع حق المظلوم من ظالمه، ويطبّق الحدود والقوانين.

تمام الصلاح بإصلاح القيادة الدينية والسياسية:

وإنّما يتم الصلاح ويكمل ويبلغ غايته عندما تصلح قيادتاه الدينية والسياسية، وتفسد الأمة إذا فسدت مؤسسته الحاكمة ولم تقم القيادة الدينية بواجباتها ومسؤولياتها، روي عن الإمام الباقر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنّه قال:قال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):((صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل:يا رسول الله ومن هما؟ قال:الفقهاء والأمراء))(2).

ومن دون مباشرة هذا المدى الواسع من الإصلاح تبقى حركته محدودة ومحجّمة وربما تذوب تدريجياً، تصوروا لو أن دعوة النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلى الإسلام بقيت في حدود مكة وتحت قبضة وبطش طواغيت قريش فإن المؤمنين بها

ص: 268


1- تاريخ الطبري:4/ 605، الكامل في التأريخ:3/ 280.
2- الخصال:36 باب الاثنين.

سوف لا يزيدون عن العشرات الذي آمنوا فقتل بعضهم وهُجِّر البعض الآخر إلى الحبشة وحوصر النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومن معه في شعب أبي طالب(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لكنّ النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان يسعى لتوسيع دعوته وعرض نفسه على قبائل العرب حتى بايعه نفر من الأوس والخزرج في بيعة العقبة الأولى(1) وأخذ منهم المواثيق على الطاعة والنصرة في بيعة العقبة الثانية وأرسل معهم الشهيد مصعب بن عمير لتعليمهم الدين ثم هاجر(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأسس دولته المباركة لينشر الإسلام العظيم إلى كل الدنيا.

لا مكان للإنزواء في النهضة الحسينية:

أما ما دأبت عليه مرجعيات كثيرة على مدى قرون ومقلّدوهم من الإنزواء والانكماش والسلبية والعزوف عن العمل بالآليات الممكنة لإيجاد بيئة مشجّعة على الدين والصلاح فإنه تقصير غير مبرَّر وله عواقب وخيمة فلابد من استثمار كل فرصة لإيجاد هذه البيئة بل صنع الفرصة لها وليس انتظارها لاستثمارها.

لذا لم يجد الإمام الحسين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لنفسه عذراً في القعود عن تصحيح وضع السلطة الحاكمة ومعالجة انحرافاتها بكل ما أتاه الله، فجاد بنفسه الشريفة وبأهل بيته وأصحابه، وعَرَّض حُرَمَ رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للسبي بيد الأعداء من بلدٍ إلى بلد، وكان يمكنه الاكتفاء بموقعه الديني وامتيازاته التي يحظى بها في المجتمع ويكتفي بالحد الأدنى من العمل، لكنّه(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو سبط رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وريحانته ووارثه، أصرَّ على اللحاق بركب جده المصطفى(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في خطبته على الحرّ وجيشه(2) ((أيّها الناس، إنّ رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):قال:من رأى سلطاناً

ص: 269


1- أنظر: السيرة النبوية - ابن هشام: 2/ 311,- بحار الأنوار- المجلسي: 19/ 23, تاريخ الطبري: 2/ 96
2- بحار الأنوار- المجلسي: 44/ 381

جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعلٍ ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله)).وهذا بابٌ ينفتح منه ألفُ باب للحديث عن علاقة العلماء بالسلطة ودورهم في العملية السياسية وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وموقع الأمة من كل ذلك وغيره مما لا يسع الحديث لبيان تفاصيله الآن(1).

صلاح النفس قبل الإصلاح، وكيفية اصلاح النفس:

ولابد لمن يتصدى لهذه المسؤولية أن يبدأ بإصلاح نفسه ويجعل من نفسه فرداً صالحاً قال تعالى {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد:11)، وقد دلّنا أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على آليات الإصلاح في ميدان النفس وعناصر النجاح في هذه العملية فهي تحتاج أولاً وقبل كل شيء إلى توفيق من الله تعالى، قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (التوفيق قائد الصلاح).(2)

ثمّ إلى تقوى من العبد، قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(التقوى مفتاح الصلاح).

وإلى مداومة على ذكر الله تعالى، قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):((أصل صلاح القلب اشتغاله بذكر الله))، وقال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):((مداومة الذكر قوت الأرواح ومفتاح الصلاح)).

وتحتاج إلى مجاهدة للنفس لضمان الاستمرار على العناصر المتقدمة

ص: 270


1- حُرر هذا البحث في كتاب (فقه المشاركة في السلطة) والمجلد الثاني من كتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
2- الحديث وما بعده في غرر الحكم وصفحاتها على الترتيب 25، 41، 160، 661، 469، ثمّ 162، 79، 449، 471، 170، 310، 365.

والمحافظة عليها، قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ((في مجاهدة النفس كمال الصلاح)).

خطوات عملية للصلاح:

وهناك خطوات عملية تساعد على إصلاح الباطن، منها:

1-مصاحبة المؤمنين الأخيار الصلحاء، قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):((أكثرُ الصلاح والصواب في صحبة أولي النهى والألباب)).

2-مداراة الناس والرفق بهم واللطف معهم، قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):((الرفق لقاح الصلاح وعنوان النجاح، وقال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عوّد نفسك السماح وتجنّب الإلحاح يلزمك الصلاح)).

3-تجنب معاشرة أهل الدنيا والغفلة عن الله تبارك وتعالى، قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ((في اعتزال أبناء الدنيا جِماع الصلاح)).

4-عدم الاكثار من المباحات ككثرة الطعام والشراب والنوم ونحوها قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):((إذا ملئ لبطن من المباح عمي القلب عن الصلاح)).

5-تجنّب الصفات المذمومة كالكذب وإيذاء الناس، قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):((أبعد الناس عن الصلاح الكذوب وذو الوجه الوقّاح)).

6-محاسبة النفس وتدارك ما فاته من تقصير وخلل وردّ المظالم إلى أهلها وقضاء ما فات، قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):((حسن الاستدراك عنوان الصلاح)).

السعي الحثيث لتحقيق الأهداف الحسينية:

هذه هي رسالة الإمام الحسين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وارث الأنبياء، فمن أحبَّ نصرته في كل زمان ومكان واللحاق بأصحابه فليمضي على ما مضى عليه(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وليدخل

ص: 271

السرور على قلبه الشريف بالسعي الحثيث لتحقيق الهدف من رسالته، على هذا النحو من الوعي وهذه المعرفة.لكن مع الالتفات إلى ما نبهنا عليه مراراً من الدعوة إلى هذا المستوى من فهم النهضة الحسينية، لا يعني إلغاء الأنماط الأخرى من التعاطي معها كالشعائر التي يؤديها عامة الناس ما دامت منضبطة بالحدود الشرعية.

لأن لكل فئة مستواها من التربية والسير في طريق الكمال، ولا يحق لأحد أن يسقط الآخر.

ص: 272

القبس/67: سورة هود:108

اشارة

{وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي ٱلجَنَّةِ خَلِدِينَ فِيهَا}

موضوع القبس:حقيقة السعادة

أهمية السعادة:

السعادة:حلم كل الناس والهدف الذي تسعى إليه البشرية، ولذلك كان كل اهتمام الأنبياء والرسل والفلاسفة والمفكرين والعلماء هو الوصول إلى ما تتحقق به السعادة.

وقد اختلفوا في معناها وعناصر تحققها انطلاقا من المعتقدات والنضريات التي يؤمنون بها فمن لا يرى شيئا وراء المادة اعتقد ان السعادة تتحقق بتلبية الغرائز وحاجات الجسد والاندفاع وراء الشهوات وحياة المتعة واللهو واللعب، وعلى عكسه تماماً يوجد من يقول ان السعادة بحرمان الجسد من كل غرائزه بل وإيلامه للانطلاق الى الروح .

لكن الإسلام بوسطيته واعتداله يرى هؤلاء قد وقعوا في الافراط والتفريط لذا فان السعادة التي يتحدثون عنها ناقصة او وهمية ويقدّم نظريته وفهمه للسعادة.

علامة السعادة:

إنها الحياة السعيدة في رحاب الله تبارك وتعالى التي تشغله عن كل شيء {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد:28) فاطمئنان القلب الذي هو علامة السعادة

ص: 273

يتحقق بأن تجعل الله تعالى محور حركاتك وسكناتك وهدفك الذي تسعى إليه، ولا تنال تلك السعادة إلا بالتقوى، لذا يعلمنا الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أن نطلبها في الدعاء كما طلبوها لأنفسهم، من دعاء الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم عرفة:(اللهم اجعلني أخشاك كأني أراك، وأسعدني بتقواك)(1).فالسعادة الحقيقية هي الفوز بالجنة وهي ثمرة التقوى والعمل بما يرضي الله تبارك وتعالى ويقرب منه، قال تعالى:{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (هود:108).

متى تحصل الشقاوة؟

وتحيط الشقاوة بالإنسان - والعياذ بالله- حينما يعصي الله تبارك وتعالى ويبتعد عنه قال تعالى:{وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ، حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} (الزخرف:36-38). فتصوروا أي حياة شقية تكون للشخص الذي يلازمه فيها شيطان يكون قريناً له يخلّي الله بينه وبينه ليرديه في الضلالات والمهالك وفي حياة تعيسة ضيقة يصفها قوله تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فإن لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (طه:124) ولذا تكون النتيجة يوم القيامة قوله تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ، خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ

ص: 274


1- مفاتيح الجنان:332

وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (هود:106-107).

السعادة والشقاوة تنبعان من النفس:

أيها الأحبة..

إن السعادة والشقاوة تنبعان من داخل الإنسان، وهي من حالات عالمه المعنوي ووصف لباطنه، فالسعيد من كان كذلك في باطنه، والشقي من كان كذلك في داخله، فلا تتحقق إلا بأمور من جنسها أي معنوية، وليس بأمور مادية كالمال والجنس وترف الدنيا، فكم من شخص لا تتوفر له أسباب السعادة المادية الدنيوية بفقر أصابه أو مرض ابتلي به أو مصيبة نزلت به لكنك تراه سعيداً متفائلاً مبتسماً، وآخر يعيش في ترف وتتوفر له كل أسباب المتعة والعيش الرغيد لكنه عبوس كئيب وقد ينتهي به الأمر إلى الانتحار، وهذه النشرات والإحصائيات تطلعنا باستمرار على أن أكثر حالات الانتحار موجودة في أكثر الدول رفاهية.

الفوز الحقيقي:

انظروا إلى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يسقط مضرجاً بدمائه في محراب مسجد الكوفة وهو يقول:(فُزتُ وربّ الكعبة)(1)، والإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول وهو يرى جمع الأعداء كالسيل وقد يبلغوا عشرات الآلاف وهو وأصحابه لا يتجاوزون المائة يقول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ليرغب المؤمن في لقاء الله، وإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً)(2).

والإمام موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يشكر الله تعالى وهو في قعر السجون

ص: 275


1- مناقب آل أبي طالب- ابن شهرآشوب: 3/ 95
2- بحار الأنوار:44/ 192.

وظلمات المطامير ويقول (اللّهم إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنّي كُنْتُ أَسْاَلكَ أَنْ تُفَرِّغَني لعبادتِكَ، اللهُمَّ وقَدْ فَعَلْتَ فلك الحمدُ)(1).روى صالح بن سعيد قال:(دخلت على أبي الحسن الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم وروده سامراء فقلت له:جُعلتُ فداك في كل الأمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك حتى أنزلوك هذا المكان الأشنع خان الصعاليك.

فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):ها هنا أنت يا ابن سعيد، ثم أومأ بيده فإذا أنا بروضات أنيقات وأنهار جاريات وجنات فيها خيرات عطرات وولدان كأنهن اللؤلؤ المكنون، فحار بصري وكثر عجبي، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لي:حيثُ كنّا فهذا لنا، يا ابن سعيد لسنا في خان الصعاليك)(2).

الدنيا للعبور والسعادة من المساعدة:

ولا يعني كلامنا هذا تقليلاً من أهمية توفير متطلبات الحياة الهنيئة السعيدة، فإن لها دوراً في تحقيق تلك السعادة إذا أُخذ منها بالمقدار المناسب للحاجة ووُظّفت لتحقيق الهدف، فإنها خير معين لها بفضل الله تبارك وتعالى.

وإنما اشتق اسم السعادة أصلاً من المساعدة وهي المعاونة على ما تتحقق به السعادة الحقيقية التي سميت سعادة لما فيها من معاونة الألطاف الإلهية للإنسان حتى وُفق إلى الخير والجنة ورضا الله تبارك وتعالى، ولذا نجد في الروايات الشريفة المأثورة عن المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) إرشادات إلى ما تتحقق به السعادة الأخروية وما يستعان به على تحقيقها من أمور الدنيا.

ص: 276


1- الإرشاد- الشيخ المفيد: 2/ 240
2- بحار الأنوار:50/ 202 رواها الشيخ المفيد والكليني (رضوان الله عليهما).

مخاطبة عوالم الإنسان:

وهذا الانسجام مع الفطرة والتوازن في مخاطبة كل عوالم الإنسان، وتلبيته كل احتياجاته الروحية والنفسية والعقلية والجسدية هي من مختصات شريعة الله تبارك وتعالى الخالق العظيم والبصير بما يصلح حال الإنسان ويسعده، بينما تاهت النظريات البشرية في تفسير السعادة وبيان ما تتحقق به لأن تحقيق السعادة حلم كل البشر ولم تنته بهم تلك النظريات إلا إلى الشقاء والقلق والخوف والكآبة والصراعات والشرور والآثام، بين أصحاب النظريات المادية الذين حددوا السعادة بالمتعة وتلبية الغرائز واحتياجات الجسد إلى حد الإفراط -كما في الغرب- من دون التفات إلى حاجة الروح إلى الكمال، ونزوع النفس إلى التحلي بالأخلاق الفاضلة، وبين أصحاب النظريات الفلسفية والروحية الذين جعلوا السعادة في تحقق الكمالات النفسية ولو على حساب التفريط في احتياجات الجسد، بل يجعل بعض أهل الرياضات الروحية تعذيب الجسد وإيلامه سبباً لنيل تلك الكمالات وتحقيق السعادة.

السعادة بالتوازن بين الإفراط والتفريط:

ويتغافلون بذلك عن حقيقة أن من تمام السعادة تحقيق التوازن في متطلبات كل جوانب الإنسان. وهذا ما وجدناه في شريعة الإسلام دين الفطرة {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (الروم:30) ففي الوقت الذي تؤكد فيه على الجوانب المعنوية والكمالات الروحية حين تجعل التقوى وتهذيب النفس أساس السعادة والفلاح {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}

ص: 277

(الشمس:9-10) وقال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(وإن السعداء بالدنيا غداً هم الهاربون منها اليوم)(1). فإنها تدعو إلى الأخذ بأسباب الحياة التي توفر الطمأنينة والراحة والسكون للنفس فنرى الحث الأكيد على العمل والكسب بالتجارة أو الزراعة أو غيرهما وتجعل العمل لطلب الرزق الحلال من أفضل القربات إلى الله تعالى ففي الحديث النبوي الشريف (طلب الحلال فريضة على كل مسلم ومسلمة)(2) وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(من أكل من كد يده كان يوم القيامة في عداد الأنبياء ويأخذ ثواب الأنبياء)(3) وفي الحديث (الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله)(4) وفي حديث آخر (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم الفسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم الساعة حتى يغرسها فليغرسها)(5) وفي حديث نبوي شريف (ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً، فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة، إلا كانت له به صدقة)(6).

وتجعل تلبية الحاجة الجنسية من طرقها المحللة - أي الزواج - من آيات الله تبارك وتعالى وسننه التي يُتقرب إليه تبارك وتعالى بإقامتها، وإن الإعراض عنه خروج عن هذه السنة قال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ60

ص: 278


1- نهج البلاغة، خطبة رقم (223) قالها عند تلاوته {يَا أَيُّهَا الإنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ}.
2- بحار الأنوار:103/ 9، ح35.
3- بحار الأنوار- المجلسي: 100/ 10
4- الكافي- الشيخ الكليني: 5/ 88/ح1
5- كنز العمال- المتقي الهندي: 3/ 892
6- مستدرك الوسائل- الحدث النوري: 13/ 460

أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم:21) وقال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني)(1) ويقول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(شرار أمتي العزاب)(2).ونرى رفض الرهبنة والانعزال وحرمان النفس والجسد من بعض ما تشتهيه بالمعروف وبما أحل الله تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأعراف:31-32).

هذا التوازن والنهي عن الإفراط والتفريط معاً لتحقيق السعادة يظهر جلياً مما ورد في نهج البلاغة أن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) دخل على العلاء بن زياد الحارثي وهو من أصحابه يعوده، فلما رأى سعة داره قال:(ما كنتَ تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا؟ أما أنت إليها في الآخرة كنت أحوج! وبلى، إن شئتَ بلغت بها الآخرة:تقري فيها الضيف، وتصل فيها الرحم، وتطلع منها الحقوق مطالعها، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة.

فقال له العلاء:يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زياد، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):وما له؟ قال:لبس العباءة وتخلى عن الدنيا، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):عليَّ به، فلما جاء قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):يا عُدَيَّ نفسه، لقد استهام بك الخبيث أما رحمت أهلك وولدك؟21

ص: 279


1- جامع أحاديث الشيعة- السيد البروجردي: 20/ 7
2- بحار الأنوار- المجلسي: 100/ 221

أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك. قال:يا أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):ويحك إني لست كأنت، إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس لكيلا يتبيغ بالفقير فقره)(1).

كيف نحقق السعادة؟

ونذكر هنا مجموعة من الروايات الشريفة التي أرشدتنا إلى ما تتحقق به السعادة في الآخرة وما يعين عليها من أمور الدنيا:

1-عن جعفر بن محمد عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال:(حقيقة السعادة أن يختم الرجل عمله بالسعادة وحقيقة الشقاء أن يختم المرء عمله بالشقاء)(2)، فإن الإنسان لا تكتمل سعادته إلا عندما يختم عمله بخير فإننا نرى كثيرين يعملون عمل السعداء لكنهم في منعطف من حياتهم ينقلبون ويغويهم الشيطان ويلتحقون بالأشقياء وقد يحصل العكس أحياناً كما في قضية الحر الرياحي حتى قال فيه الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(أنت حرّ في الدنيا وسعيد في الآخرة)(3) فلا تتحقق السعادة إلا بالمداومة على الخير والثبات عليه.

2-قال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من سعادة المرء خفة لحيته)(4) أي قلة أتباعه ورعيته سواء كان على صعيد العائلة أو السلطة أو الزعامة الدينية أو

ص: 280


1- نهج البلاغة، خطبة رقم (209).
2- بحار الأنوار:5/ 154 عن الخصال:5 ب1 ح14.
3- ينابيع المودة- القندوزي: 3/ 76
4- بحار الأنوار:73/ 113.

الاجتماعية، لأن التابع يتمسك بلحية المتبوع - كما يقال في العرف- وقد يتحمل المتبوع مسؤولية تكثير أتباعه بتكبير لحيته الظاهرية فيتبعه من يراعي تلك المقاييس.وفي (معاني الأخبار) للشيخ الصدوق (رضوان الله عليه) قراءة أخرى للحديث (خفة عارضيه)(1) أي خفة لحييه وعارضيه بذكر الله تعالى وعدم غفلته عن ربّه.

3-عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(ثلاثة من السعادة:الزوجة المؤاتية، والولد البار، والرجل يرزق معيشة يغدو على إصلاحها ويروح على عياله)(2).

وعن الإمام موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه عن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(من سعادة المرء المسلم الزوجة الصالحة والمسكن الواسع والمركب الهنيء والولد الصالح)(3).

فالزوجة الصالحة المطيعة المتوددة، والمسكن اللائق بشأن الإنسان، والأولاد البارّون الصالحون، ووسيلة التنقل المناسبة التي تغنيه عن الطلب من الناس وغيرها من الحاجات الأساسية في الحياة يؤدي توفّرها إلى الحياة السعيدة المعينة على طاعة الله تعالى ونيل السعادة الحقيقية.

على أن لا تتحول هذه الأمور إلى هدف وشاغل عن الله تعالى بل يجعلها الإنسان وسائل مساعدة ومعينة على الوصول إليه تبارك وتعالى قال عز من4.

ص: 281


1- معاني الأخبار- الشيخ الصدوق: 183
2- بحار الأنوار:103/ 6 عن أمالي الشيخ الطوسي.
3- بحار الأنوار:104/ 98، ح64.

قائل:{رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ} (النور:37) فالمشكلة ليست في وجود تجارة أو مال وإنما في تحولها إلى مانع عن الوصول إليه تبارك وتعالى، وقال:{إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} (التغابن:14).وفي كتاب غرر الحكم عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(السعيد من استهان بالمفقود) (1)، لأن الحزن على ما فات موجب للشقاء والنكد والسعيد من صبر وتسلّى عنه واحتسبه عند الله تعالى.

وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(في لزوم الحق تكون السعادة) لأن معرفة الحق واتباعه هو أساس السعادة الحقيقية الموجبة للفوز.

وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من حاسب نفسه سعد) لأنه بالمحاسبة يستطيع تصحيح الأخطاء وتلافي النقص ورد المظالم إلى أهلها ويقرّر حياة أفضل وكل ذلك يوجب السعادة.

وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (خلوّ الصدر من الغل والحسد من سعادة العبد) فإن أشقى الناس من امتلأ قلبه حقداً وحسداً وغلاً وخيانة وحياته تكون معذبة ويعيش مهموماً.

وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(السخاء إحدى السعادتين).

وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(سعادة المرء - في- القناعة والرضا) فإذا قنع استقر ورضي ولم يحزن على فوات شيء أو يقلق حرصاً على تحصيل شيء.دي

ص: 282


1- الحديث وما بعده في غرر الحكم للآمدي

وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(سعادة الرجل في إحراز دينه والعمل لآخرته) لأن العمل بما يرضي الله تعالى والسير على هدى أوليائه يحقق السعادة الأبدية. وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إذا اقترن العزم بالحزم كملت السعادة)(1).

وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(أمَارة السعادة إخلاص العمل) لأن عمله إن لم يكن بنية مخلصة لم يكن مقبولاً ولم يحقق السعادة المطلوبة، فعلامة سعادته كون عمله مخلصاً لله تبارك وتعالى.

في كتاب مكارم الأخلاق (من سعادة المرء دابة يركبها في حوائجه ويقضي عليها حوائج إخوانه)(2)، لأنه بها يستغني عن الحاجة للآخرين ويتمكن من قضاء حوائج الناس التي هي من أعظم القربات.

4-عن الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(من سعادة المرء المسلم أن يكون متجره في بلاده ويكون خلطاؤه صالحين ويكون له وُلدٌ يستعين بهم)(3). فمن كان متجره في بلاده كفاه الله مؤونة الغربة والبعد عن الأهل والوطن ومخاطر الأسفار، ومن كان شركاؤه وأقرانه في العمل صالحين تجنب المشاكل والخصومات والخوض في الباطل، ومن كان له ولد يعينه خفّت أعباء الحياة عليه وسعد برؤيتهم.

5- (من سعادة المرء أن يطول عمره، ويرزقه الله الإنابة إلى دار الخلود)(4).

(ليس كل من يحب أن يصنع المعروف إلى الناس يصنعه، وليس كل من6.

ص: 283


1- الحديث والذي يليه تجده في ميزان الحكمة- الريشهري: 2/ 1306-1305
2- مكارم الأخلاق:138.
3- بحار الأنوار:103/ 7 ح 27 عن الخصال:1/ 159 باب الثلاثة.
4- بحار الأنوار:6/ 46.

يرغب فيه يقدر عليه ولا كل من يقدر عليه يؤذن له فيه، فإذا اجتمعت الرغبة والقدرة والإذن فهناك تمت السعادة للطالب والمطلوب إليه)(1) فهكذا تجتمع الأسباب لتحقق السعادة:الإرادة من الإنسان وتيسير الأسباب والوسائل الطبيعية لإنجاز العمل وتوفيق الله سبحانه.6-(ولو أن أشياعنا - وفقهم الله لطاعته - على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم، لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا، ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا مما نكرهه)(2) فالإلفة بين المؤمنين وتواددهم وتراحمهم سبب قوي لسعادتهم ونزول الرحمة عليهم.

كيف نحذر من الشقاوة؟

ونذكر بعض الروايات الواردة في الشقاوة لتعرف الأمور بأضدادها:

قال رجل للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):اعدلْ، فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(لقد شقيتَ (شقيتُ) إن لم أعدل)(3).

وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(أشقى الناس الملوك)(4) بعكس ما يتصور أغلب الناس فيحسدونهم على ما هم عليه فإذا انكشف لهم الواقع تبرأوا منه كما في قصة قارون التي حكاها الله تبارك وتعالى:{وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ

ص: 284


1- مكارم الأخلاق- الطبرسي: 136
2- الاحتجاج:ج2، رسالة الناحية المقدسة إلى الشيخ المفيد.
3- رواه البخاري:3138.
4- بحار الأنوار:75/ 340.

يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (القصص:82).وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(أربع خصال من الشقاء:جمود العين وقساوة القلب وبعد الأمل وحب البقاء)(1).

سئل أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):أي الخلق أشقى؟ قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من باع دينه بدنيا غيره)(2).

عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إن الشقي من حُرم ما أوتي من العقل والتجربة)(3).

ومن كلماته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في غرر الحكم(4):(من علامات الشقاء غش الصديق) (من الشقاء فساد النية) (من الشقاء أن يصون المرء دنياه بدينه).

حاصل إشكال ورد:

وننبه هنا إلى شبهة يثيرها الغارقون في المعاصي العاجزون عن التغلب على أهوائهم فيصوّرون لأنفسهم أنه مكتوب عليهم الشقاء ولا يمكن تغييره، وقد دعمت هذا الاتجاه الفكري جهات سياسية منذ عصر صدر الإسلام لتمنع الأمة من الحركة نحو الإصلاح وتغيير الواقع الفاسد وإزالة الظلم، وينقل القرآن الكريم عنهم قولهم:{قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} (المؤمنون:106)

ص: 285


1- بحار الأنوار:73/ 164.
2- بحار الأنوار:75/ 301.
3- شرح نهج البلاغة:18/ 74.
4- غرر الحكم- الآمدي: 674-822-677

لكن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فسر الآية بقوله:(بأعمالهم شقوا)(1). فالإنسان باختياره عمل ما يوجب شقاءه، وقد جرى القضاء الإلهي - أي مجموعة القوانين والسنن الإلهية- بأن من يعصي ويعرض عن الله تعالى يشقى، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاء كميل:(إلهي ومولاي أجريتَ عليَّ حكماً اتبعتُ فيه هوى نفسي ولم أحترس فيه من تزيين عدوي فغرّني بما أهوى وأسعده على ذلك القضاء)(2) فالعبد باختياره اتبع الشيطان وساعد على غوايته السنة الإلهية بإيكاله إلى نفسه وسلب التوفيق منه.

وفي احتجاج الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على الزنادقة لما سألوه:(فما السعادة وما الشقاوة؟ قال:السعادة سبب خير تمسّك به السعيد فيجره إلى النجاة، والشقاوة سبب خذلان تمسك به الشقي فجرّه إلى الهلكة، وكلٌّ بعلم الله تعالى)(3) فالله تبارك وتعالى قضى تلك الأسباب، والإنسان بإرادته تمسك بهذا أو ذاك منها، وروى البخاري عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله:(أما أهل السعادة فييسّرون لعمل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل الشقاوة)(4) ولذا فُسرت السعادة بما يناسب أصلها المأخوذ منه وهي المساعدة فقيل أن السعادة والسعد:(معاونة الأمور الإلهية للإنسان على نيل الخير ويضادّه الشقاوة وأعظم السعادات الجنة)(5).).

ص: 286


1- بحار الأنوار:5/ 157.
2- مفاتيح الجنان: 117
3- بحار الأنوار:10/ 184.
4- صحيح البخاري: 2/ 99
5- المفردات للراغب:مادة (سعد).

تلخيص السعادة الحقيقية:أيها الأحبة..

نستطيع تلخيص أسباب السعادة الحقيقية بالإيمان بالله تعالى وتقواه والالتزام بطاعته وطاعة رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأهل بيته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بإخلاص ونشاط وعزيمة لا تلين، وتطهير القلب من أمراض الحسد والحقد والبغضاء والبخل والحرص والخوف والقلق وتنقية العقل، من الشبهات والشكوك والظنون والتهم والأوهام والوساوس (فإن الشكوك والظنون لواقح الفتن ومكدرة لصفو المنائح والمنن)(1) وتهذيب النفس من الأهواء المنحرفة وضبط الغرائز على وفق ما يصلح حال الإنسان في دنياه وآخرته وتجنب الإفراط والتفريط.

والزواج بالمرأة الصالحة الودودة الجميلة وطلب الأولاد وتربيتهم ليكونوا صالحين، والسعي لطلب الرزق الحلال الذي يسدّ احتياجاته ويغنيه عما في أيدي الناس ويوفّر له فرص الطاعة والقرب من الله تبارك وتعالى.

وقد وجدت في الأحاديث الشريفة أن أكثر ما يوجب السعادة بعد التقوى محبة الآخرين ومواددتهم وبذل الوسع في إسعادهم وقضاء حوائجهم وإدخال السرور عليهم ابتداءً من الوالدين والزوجة والأولاد إلى الجيران والأرحام ثم عامة الناس.

وإن أكثر ما يوجب الشقاء بعد الإعراض عن الله تعالى هو الحزن والقلق، الحزن على ما فات من عزيز أو مال أو شهوة أو شيء حريص عليه، والقلق مما يأتي كالتاجر يخاف أن يخسر والمرأة تقلق أن يفوتها قطار الزواج أو يتزوج

ص: 287


1- الصحيفة السجادية (ابطحي): 411

عليها زوجها امرأة ثانية. فينكد عيشهم باحتمالات لم تقع، والحل في تجنب هذه الحالات، وإيكال الأمر إلى الله تبارك وتعالى والأخذ بالأسباب المتيسرة قال تعالى في علاج هذه الحالة:{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (الحديد:22).ولم تحصل هذه الحالات إلا بسبب الحرص والفخر والاختيال بما في اليد.

ص: 288

القبس/68: سورة يوسف:24

اشارة

{كَذَلِكَ لِنَصرِفَ عَنهُ ٱلسُّوءَ وَٱلفَحشَاءَ ۚ}

موضوع القبس:درس من عفاف النبي يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)

قصة النبي الكريم يوسف الصدّيق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) معروفة لديكم بما تناوله القرآن الكريم ومنها قوله تعالى {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (يوسف:24) تعقيباً على إنقاذه من مكائد زوجة عزيز مصر، والفحشاء يُراد بها جريمة الزنا، أما (السوء فقيل أن المراد به الهم بالمعصية والعزم عليها قبل فعلها)(1).

وجاء هذا الصرف استجابة لدعائه الذي ذُكِرَ في موضوع آخر {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ، فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (يوسف:33-34).

(لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء):

والتعبير الاعتيادي عن هذه الحالة أن يقال {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} لأن ظروف المعصية والجريمة كانت موجودة وليست مصروفة ولكن الله تعالى صرفه عن هذه المعصية وعصمه من الوقوع فيها، وهذه العصمة من التسديدات

ص: 289


1- التبيان- الشيخ الطوسي: 6/ 123

الالهية والنعم العظيمة. لكن القرآن الكريم وصف حالاً أسمى من هذه فقال تعالى {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} أي صرفنا عنه أجواء المعصية ومقدماتها وموجباتها فكأنه لم يتعرض لظروف معصية أصلاً حتى يجتنبها، لأنه يعيش في عالم آخر وفي أجواء اخرى غير عالم المعصية هذا الذي يرى في الظاهر وإنما وصفناها بأنها حالة أسمى لأنها ليست فيها تعرض للمعصية أصلاً ولا فيها تكلّف اجتنابها وصرفه عنها حيث لا يجد الانسان فيها شيئاً سيئاً حتى يجتنبه.

في تفسير ما همّ به يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هو الميل الغريزي، وردّه:

وهذا الالغاء التام للتأثر بالحدث كأنه ليس ممكناً وغير قابل للتصور خصوصاً في مثل الحالة التي تعرض لها النبي يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لك} (يوسف:23) ولذا لم يجد بعض المفسرين ممن يعتقد بعصمة النبي يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ضيراً من تفسير الهم بقوله تعالى {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} (يوسف:24) بالميل النفسي الغريزي الطبيعي(1) لمن يتعرض لمثل هذه المواقف أي أن غريزته

ص: 290


1- حكى هذا الرأي عن كثيرين كالسيد المرتضى في (تنزيه الانبياء/78) قال "وأما همّه فما طبع عليه الرجال من شهوة النساء" وتبعه على ذلك الشيخ الطوسي (قدس سره) فإنه ذكر للهم عدّة معاني منها العزم ومنها الإخطار ومنها الشهوة وميل الطباع" ثم قال "وإذا احتمل الهم هذه الوجوه نفينا عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) العزم على القبيح وأجزنا باقي الوجوه لأن كل واحد منها يليق بحاله (التبيان 6/ 121)" وقال مثله ابن إدريس في (منتخب التبيان:2/ 22-23) وقال الطبرسي في (مجمع البيان:ج5-6/ 354):"ثالثها أن معنى قوله (همّ بها) اشتهاها ومال طبعه الى ما دعته اليه" ثم قال "وقد يجوز أن تسمى الشهوة هماً على سبيل

اشتهت وانجذبت باعتبار أن الأنبياء بشر(1) لهم غرائزهم وشهواتهم وميولهم فتنجذب نفسياً طبيعياً ولا إرادياً الى مثيرات الغريزة كانجذاب الجائع الى الطعام تلقائياً، ولكنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حبس نفسه وامتنع ولم يرتقِ ميله النفسي الى مستوى العزم والتوجه الى الفعل فضلاً عن القيام بالفعل نفسه لما رآه من برهان ربه كما في).

ص: 291


1- قال تعالى {قل إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إلي} (الكهف110) {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} (إبراهيم:11).

الآية الشريفة، وتفسير الهّم بهذا المقدار لاينافي العصمة.لكن هذا التفسير غير صحيح، لوجوه:

1-لأن الهم لا يطلق على مجرد الميل النفسي الطبيعي بل على قصد الفعل والعزم عليه وقد يشترط فيه ظهور هذا العزم من خلال الإتيان بشيء مما يكشف عنه كمن يهمّ بالضرب فيتوجه الى الطرف الآخر ويتأهب للفعل وهذه كلها لا يمكن نسبتها الى النبي الكريم يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كما اقروا في كلماتهم السابقة قال في الميزان (الهم هو القصد الى الفعل مع مقارنته لبعض الأعمال الكاشفة عن ذلك من حركة الى الفعل المراد أو شروع في بعض مقدماته كمن يريد ضرب رجل فيقوم اليه وأما مجرد ميل الطبع ومنازعة القوة الشهوانية فليس يسمى هماً البتة والهم بمعناه اللغوي مذموم لا ينبغي صدوره من نبي كريم، والطبع وإن كان غير مذموم لخروجه عن تحت التكليف لكنه لا يسمى هماً)(1)، فلا بد ان تكون المعاني التي ذكروها للهم هنا من باب التجوّز كما اعترف الطبرسي في مجمع البيان لتنزيه النبي يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عما لا يليق بساحة عصمته.

وبتعبير آخر ان تفسير الهم بالميل الطبيعي وهو معنى مغاير لما فسرّوا به همها خلاف الظاهر ولا يصار اليه الا بدليل.

2-إن الهم -بأي معنى من المعاني - لم يصدر من النبي يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أصلاً حتى نجتهد في تفسيره بما يناسب عصمة الانبياء، لانه رأى برهان ربّه فلم يهمّ لكن جواب لولا تقدم عليها فيوجد تقديم وتأخير في الآية، نظير قوله تعالى {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} (القصص:10) .36

ص: 292


1- تفسير الميزان- الطباطبائي: 11/ 136

وقد أشكل علماء النحو على هذا الوجه لأنهم يمنعون من تقدم جزاء لولا عليها قياساً على إن الشرطية لانها من ادوات الشرط، وهذا الالتزام المتزمت بقواعد النحو التي استنبطوها اوقعهم في هذا التقصير مضافا الى تشبث البعض في الروايات المكذوبة من اسرائيليات وغيرها، لكن القران الكريم حاكم على قواعد اللغة العربية لانه مصدرها ومرشدها وليس العكس، خصوصا وانه قد وردت رواية عن الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تفسّر الآية بهذا المعنى رواها الشيخ الصدوق في العيون وفيها (فقال له المأمون:يا بن رسول الله اليس من قولك:ان الانبياء معصومون، قال:بلى، قال:فاخبرني عن قول الله تعالى {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} فقال الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):لقد همّت به ولولا ان رأى برهان ربه لهمَّ بها لكنه كان معصوماً، والمعصوم لا يهمّ بذنب ولا يأتيه)(1).أقول:والشاهد على ان الهم الثاني لم يحصل(2) وانه جواب لولا:

أ-الاتيان بالهمين منفصلين ليكون الثاني وحده جواب لولا، ولو حصل الهم من يوسف لما احتاج الى التفصيل بينهما، ونكتة تقديم الجزاء هي ما قلناه من تصوير الحالة بان مقتضي الهم تام ومكتمل لولا لطف الله تعالى مع ما في التعبير من حلاوة البيان لمجاورة الهمّين.

ب-ان (هّم بها) اذا لم تكن جواب لولا بقيت بلا جواب، واذا قيل ان الجواب مقدّر يكشف عنه ما تقدّم قلنا ان التقدير خلاف الاصل وان تقدير).

ص: 293


1- عيون اخبار الرضا:باب مجلس آخر للرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عند المأمون في عصمة الانبياء.
2- وقد اعترفت زوجة العزيز بأن الهم حصل منها وحدّها {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ} (يوسف:32).

الجواب هكذا يؤدي الى تناقض لان(هّم بها) السابقة تثبت الهم وتقديرها في جواب لولا ينفيه. لذا فمحاولة السيد الطباطبائي (قدس سره) وغيره المحافظة على معنى نفي الهم عن الصديق يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مع المحافظة على هذه القاعدة النحوية بأن يُقال أن جواب لولا متأخر عنها لكنه محذوف لدلالة قوله السابق (وهمَ بها) عليها فتكون الفقرة السابقة (وهمّ بها) ((ليس جزاء لها بل هو مقسم(1) به بالعطف على مدخول لام القسم في الجملة السابقة اعني قوله {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} وهو في معنى الجزاء استغنى به عن ذكر الجزاء فهو كقولنا ((والله لأضربنه إن يضربني، والمعنى:والله إن يضربني أضربه))، فلولا ما رآه من البرهان لكان الواقع هو الهم والاقتراب دون الارتكاب والاقتراف))(2). محل نظر، مضافا الى ان فيه إقراراً بحصول الهم من يوسف بأي معنى كان والمفروض نفيه. 3-وينسجم ما ذكرناه من فهم الآية على انها تقديم وتأخير مع ما قدمناه من تفسير الآية فإنه حتى الميل النفسي بالمقدار الطبيعي الغريزي لم يحصل لا لنقص بايولوجي أو سايكولوجي أو فسيولوجي في جسمه وإنما لأمرين على الأقل:

أ-لأنه كان والهاً بربه مستغرقاً بحبه ولم يكن يرى غيره تبارك وتعالى لا المرأة أمامه ولا غيرها فذوبان النبي يوسف في عشق ربه وفناءه فيه لا يقارن بانجذاب النسوة الى جمال يوسف حتى ذهلن عن السكين وقطع ايديهن، فيوسف اولى بالذهول عن المرأة وغيرها بحيث أنساه ولهه ((الاسباب كلها حتى أنساهه.

ص: 294


1- باعتبار أن اللام للقسم فالمعنى أقسم لقد همت به لقضاء وطرها.
2- الميزان في تفسير القران:11/ 131 وقد نقل في 11/ 138 هذا المعنى عن الزمخشري في كشافه.

نفسه فلم يقل:إني أعوذ منك بالله أو ما يؤدي معناه، إنما قال (مَعَاذَ اللّهِ) وكم من الفرق بين قوله هذا وبين قول مريم للروح لما تمثل لها بشراً سوياً {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً} (مريم:18)(1).وقد ((استغرق في حب ربه واخلص وصفى ذلك نفسه فلم يترك لشيء في قلبه محلاً غير حبيبه فهو في خلوة مع ربه وحضرة منه يشاهد فيها جماله وجلاله وقد طارت الاسباب الكونية على مالها من ظاهر التأثير من نظره))(2).

ب-إن الغرائز والشهوات يستثيرها تزيين الشيطان - وهذه هي وظيفته- وعندما تُسلَبْ قدرة الشيطان على التزيين فإن هذه الشهوات تفقد سبباً رئيسياً لإثارتها مع وجودها في النفس الانسانية، وقد اعترف الشيطان بأنه لا سبيل له على المخلصين وليست له القدرة على إغوائهم فقد حكى الله تبارك وتعالى قوله {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (ص:82-83) وقد قال الله تعالى في الآية محل البحث عن النبي يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (يوسف:24) فهو من مأمن من تزيين ابليس وشياطينه، ولا تتحرك غريزته وشهوته نحو الحرام لعدم وجود التزيين.

مضافا الى وجود الصوارف عنها – وهو برهان ربه - كما ان الجائع لا يشتهي الطعام عند وجود صوارف كالخوف والقلق والانشغال بمن يحب ونحو ذلك، فالغرائز فيها مقتضي التحرك نحو ما يلبي شهوتها الا أن ذلك مشروط5.

ص: 295


1- الميزان في تفسير القران. 11/ 126.
2- الميزان في تفسير القران:11/ 125.

بوجود المقتضي وهو التزيين وبعدم وجود الصارف وكلا الشرطين مفقودان هنا.

في كيفية الحصانة من ضغط الشهوات والمغريات:

أما كيفية حصول هذه الحصانة من ضغط الشهوات والمغريات وتحرره من أسرها والسقوط في هاويتها وعدم تأثره بمثيراتها أصلاً فبالالتفات الى امور صرّح بها الصديق يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) {قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (يوسف23)، وقد كانت مكتملة عنده لأنه نبي معصوم ولذا ورد في الحديث الشريف (إن برهان ربه كانت النبوّة)(1).

أ-والاستعاذة به واللجوء الى حصنه المنيع فالإنسان بمفرده عاجز عن تجاوز الامتحانات السهلة فضلاً عن الصعبة لكنه يستمد التسديد والمعونة والعصمة من الله تالى (لا حول ولا قوة الا بالله). وفي دعاء الصباح لامير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وَاِنْ خَذَلَني نَصْرُكَ عِنْدَ مُحارَبَةِ النَّفْسِ وَالشَّيْطانِ فَقَدْ وَكَلَني خِذْلانُكَ اِلى حَيْثُ النَّصَبُ وَالْحِرْمانُ) (2).

ب-يقينه أنه مربوب أي مملوك مدبر من قبل الله سبحانه لا يملك لنفسه شيئا الا ما يريده ربه منه (فلم يقل:لا أفعل ما تأمرونني به ولم يقل:لا أرتكب كذا، ولم يقل:أعوذ بالله منك وما شابه ذلك حذرا من دعوى الحول والقوة واشفاقا من وسمة الشرك والجهالة)(3).

ص: 296


1- بحار الانوار:12/ 335.
2- مفاتيح الجنان: 112
3- الميزان:11/ 127.

ت-الالتفات الى نعم الله العظيمة التي لا تُعد ولا تُحصى ورعايته وتربيته الرحيمة المستمرة {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} (يوسف:23) منذ أن ولد وعاش في كنف أبيه النبي يعقوب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وجعله من ذرية إبراهيم وإسحاق ونجاته من كيد إخوته الباغين الحاسدين ومن الجب ونقله الى مصر وتمكينه في بيت عزيز مصر وآتاه الله العلم والحكمة وغيرها مما لا يُعد ولا يُحصى ((فكان (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مملوء الحس مستغرق النفس في مشاهدة الطاف ربه الخفية يرى نفسه تحت ولاية الله محبوراً بصنائعه الجميلة لا يرد الا على خير، ولا يواجه الا جميلا))(1).ث-استحضار سوء عاقبة مرتكب المعصية في الدنيا والآخرة {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}، وفي هذا الفعل ظلم لربه وظلم لنفسه وظلم لعزيز مصر الذي اكرمه.

في معنى برهان ربّه:

فهذه الامور التي كانت حاضرة في وجدان النبي يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وجلية في قلبه الطاهر هي برهان ربه الذي أشرق في نفسه بكل وضوح وجلاء - والبرهان من َبرِه يَبرَه إذا ابيضّ دون مخالطة أي كدورة فأطلق على كل دليل محكم قوي يدل بوضوح على المطلوب- فلم تتطلع نفسه الى المعصية ولم تمل اليها فضلاً عن الوقوع بها {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} فلولا أنه كان واجداً لبرهان ربه لصدر منه الهمّ بالمعصية والميل اليها باعتبار الظروف القاهرة في تلك الحال، فهنا تقدم جواب لولا على شرطها لنكتة مجاورة التعبير بالهم او للإشارة الى ان ظروف الوقوع في المعصية قد اكتملت بقوة، وتقديرها لولا انه

ص: 297


1- الميزان:11/ 123.

رأى برهان ربه لهم بها، ولكنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كان يعتقد أنه في محضر ربه في أعلى درجات اليقين فلم يهمّ أصلاً، وقد تقدمت الرواية عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في هذا المعنى. فمع هذا الحضور الجليّ اليقيني الذي عبّر عن مثله امير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بقوله (ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله قبله وبعده ومعه وفيه)(1) كيف يتصور هم يوسف بأي معنى للهم حتى النزوع الغريزي الطبيعي لأنه يحتاج الى ظروف طبيعية ليتوجه ولعدم وجود موانع وصوارف.

هل يصل غير المعصوم الى الحصانة اليوسفية؟

والسؤال هل يتمكن غير المعصوم من الوصول الى هذه الدرجة من الحصانة والعناية الالهية التي احاطت النبي يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، والجواب:نعم بالتأكيد من خلال الالتفات الى الامور المتقدمة، قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِ-رُونَ} (الأعراف:201) فالان عرفنا ما معنى (تذكروا) اي التفتوا الى هذه الامور التي ذكرها الله تعالى ليوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهذا هو مضمون البرهان الذي راه من ربه، قال تعالى مبيناً انفتاح الفرصة للجميع {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (النحل:99). فالمؤمن المخلص يتذكر ربَّه المنعم عليه دائماً ويعيش في حضرته المتعالية ويعلم العاقبة السيئة لمن يبتعد عنه تبارك وتعالى، وحينئذٍ يدركه هذا البرهان ويعينه عند التعرّض للامتحانات وانما يتحصل ذلك البرهان بالازدياد بالطاعات التي تنفعه في

ص: 298


1- تفسير مواهب الواهب 2:36. وكذا في كتاب علم اليقين:1/ 49.

لحظات الامتحان الصعبة، كمن يدّخر المال ليوم فقره وفاقته، قال تعالى {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} (الأنفال:29).والتجربة شاهدة على ذلك حيث يحكي البعض عن تعرضه لمثل هذه الاغراءات والمكائد لكنه لا يجد في نفسه أي حركة في اتجاهها أو أي (همّ) لفعلها لا لنقص في قواه البدنية والشهوية وإنما لأن الشيطان كان مغلولاً عنه فلم يزيّن له المعصية، والنفس وحدها من دون تزيين لا تتوجه نحو الفعل.

ولكي اوضح مدخلية التزيين اشير الى حالة معروفة لدى الكثيرين، مثلاً رجل عنده زوجة ولا يشعر بإثارة نحوها وقد يكون في بداية زواجه منها، لكنه يقع في هوى امرأة أجنبية اخرى وهو يعترف بأن زوجته قد تكون أجمل والطف وأرق مشاعر ومتحببة ومتوددة اليه ونحو ذلك، فلماذا هذا التناقض في الميول؟ والجواب انه تزيين الشيطان للثانية دون الاولى لأنه يريد أن يوقع الانسان في المعصية ويخرّب بيت الزوجية المبارك الذي ما بُني بناء في الاسلام مثله.

ولا بد أن نشير الى أن هذا الالتفات الاعتقادي القلبي وحده لا يكفي ما لم يقترن بالعمل قال تعالى مبينا علة استحقاق يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لهذه المراتب السامية {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (يوسف:22) وقال تعالى على نحو القاعدة العامة، ولا تختص بالمعصومين {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (النحل:128).

ص: 299

القبس/69: سورة يوسف:108

اشارة

{قُل هَذِهِ سَبِيلِي أَدعُواْ إِلَى ٱللَّهِ ۚ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي ۖ}

موضوع القبس:البصيرة بوصلة السلوك الإنساني

تبّين الآية واحدة من وظائف الأنبياء والرسل والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) ومن تبعهم وحمل رسالتهم من العلماء العاملين الرساليين، وهي الدعوة الى الله تبارك وتعالى قولاً وفعلاً وعرض المشروع الإلهي على الناس واقناعهم به وهدايتهم.

وتبّين الآية ايضاً واحدة من مميزات هؤلاء القادة وخصائصهم التي تميزّهم عن غيرهم من الزعامات وتُعرِّف الأمة كيف يفرزون قياداتهم الحقة عن طلاب الدنيا ولو بأسم الدين.

وهذه الخصوصية هي الصراحة والشفافية مع الأمة (هَ-ذِهِ سَبِيلِي) وامتلاك الرؤية الثاقبة والنظر الدقيق ووضوح الأهداف وآليات العمل لديه المعبّر عنها في الآية ب- (البصيرة) وهي البوصلة التي ترسم المسار الصحيح للإنسان في كل حركاته وسكناته، وهذه البصيرة من الله تعالى والى الله تعالى، وما دام على بصيرة من ربّه فلا تخبّط في مسيرته ولا تناقض في أهدافه ولا تحرّكه الشهوات والانفعالات ولا تؤثر عليه هتافات الناس ولا تزويق المتزلفين ولا تخدعه المكائد والحيل وهذا لا يُدرك إلا بلطف الله تعالى.

ص: 300

والبصر والبصيرة أصلهما واحد وهي النظر والرؤية المدركة المنتجة للعلم والمعرفة وليست كل رؤية ونظر قال تعالى {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} (الأعراف :198) فهم كالحيوانات لها عيون تنظر بها لكنها لا تفيدها علماً ولا معرفة، عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (ليس الاعمى من يعمى بصره، إنما الاعمى من تعمى بصيرته)(1).وكم من حالة او موقف ينظر اليه كثيرون لكن القليل ممن ينظر اليه بفكر واعتبار وتأمل {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} (الأعراف:179) وإن كانت مفتوحة وينظرون بها الى الأشياء، وإنما يستفيد مما حوله في الحياة من كان له بصرٌ وبصيرة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ} (آل عمران:13) وليس لكل من لديه عين ينظر بها، وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (بالاستبصار يحصُلُ الاعتبار)(2).

والفرق بين البصر والبصيرة ان الأول بالعين والثانية بالقلب والعقل فقوله تعالى (عَلَى بَصِيرَةٍ) أي على حجة بينةٍ واضحةٍ من ربي {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَ-ذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:203).

واضافة (وَمَنِ اتَّبَعَنِي) اليه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تشريف لهم بالحاق دعوتهم بدعوته المباركة، وأعلى مراتب البصيرة التامة ما عند المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لذا فأنهم القدر1.

ص: 301


1- كنز العمال:1220.
2- غرر الحكم/4351.

المتيقن من قوله تعالى {وَمَنِ اتَّبَعَنِي} وفي أصول الكافي بسنده عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير هذه الآية قال:(ذاك رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والاوصياء (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من بعدهما)(1).فهؤلاء القمم من أهل البصائر هم من يجب اتباعهم والأخذ عنهم {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (يونس:35).

ثم تتفاوت مراتب البصيرة عند اتباعهم (صلوات الله عليهم أجمعين) في حمل الرسالة المباركة والدعوة الى الله تعالى بحسب درجة تقواهم وقربهم من الله تعالى وبحسب نقاوة فطرتهم وسلامة عقولهم وتفكيرهم وطهارة نفوسهم وقلوبهم {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} (القيامة:14)، فهذه باختصار المقتضيات الذاتية أي من نفس الانسان لتحصيل البصيرة وتهيئة الانسان نفسه لها وهي (التقوى، طاعة الله تعالى، نقاء الفطرة، سلامة العقل والفكر، طهارة النفس والقلب).

وخير وسيلة لتحصيل البصيرة التدبر في القرآن الكريم ومعرفة آياته، وقد وصف الله تعالى كتابه الكريم بهذا، قال تعالى {قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} (الأنعام:104) وقال تعالى {هَ-ذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:203) وقال تعالى {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ} (الجاثية:20) وقال تعالى {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}8.

ص: 302


1- البرهان في تفسير القرآن:5/ 178.

(القصص:43)،وروي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (بالهدى يكثُرُ الاستبصار)(1).ومن أهم وسائل تنوير البصيرة مراقبة النفس وإصلاح عيوبها وأخطائها، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (أبصر الناس من أبصر عيوبه وأقلع عن ذنوبه)(2)، وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ألا وإنّ أبصر الأبصار ما نفذ في الخير في طرفُه، ألا إنّ أسمع الأسماع ما وعى التّذكير و قَبِلَه)(3).

ومن موجبات البصيرة الاستفادة من المواعظ والعبر وتذكّر أيام الله تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (القصص:43).

لذا لا نستغرب ممن فقد هذه الأدوات لتحصيل البصيرة وتنويرها أن يضلَّ بنفس القرآن الكريم الذي هو زادُ المستبصرين، ويستعمل القرآن نفسه لإضلال الناس وصرفهم عن اهل البصيرة، روي في الدر المنثور في تفسير قوله تعالى {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ} (الأعراف:202) بسنده عن عمر بن الخطاب قال:كنا عند رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مجتمعين وأنا أعرف الحزن في وجهه فقال:إنا لله وإنا إليه راجعون! قلت:يا رسول الله! إنا لله وإنا إليه راجعون، ماذا قال ربنا؟ قال:أتاني جبريل آنفاً فقال:إنا لله وإنا إليه راجعون، قلت:أجل، إنا لله وإنا5.

ص: 303


1- غرر الحكم:4816.
2- غرر الحكم:3061.
3- نهج البلاغة:الخطبة/105.

إليه راجعون، فمم ذاك يا جبريل؟ قال:إن أمتك مفتنة بعدك بقليل من الدهر غير كثير، فقلت:فتنة كفر أو فتنة ضلالة؟ قال:كل ذلك سيكون، قلت:ومن أين يأتيهم ذلك وأنا تارك فيهم كتاب الله؟ قال:بكتاب الله يضلون، وأول ذلك من قبل قرائهم وأمرائهم، يمنع الأمراء الناس حقوقهم فلا يعطونها فيقتتلون ويتبع القراء أهواء الأمراء فيمدون في الغي ثم لا يقصرون، قلت:يا جبريل؟ فبم سلم من سلم منهم؟ قال:بالكف والصبر، إن أعطوا الذي لهم أخذوه وإن منعوه تركوه)(1).لقد عانى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من فقدان البصيرة لدى أكثر الناس {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف:103) وابتلي أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بحرب أناس يحوطون بالجمل ويتبركون بخروجه ويشمونه ويقولون ما أطيب ريح روث جمل أمّنا أم المؤمنين، وابتلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بقتال اناس في صفين لا يفرقّون بين الناقة والجمل ويصدّقون كل شيء يقال لهم وان علياً لا يصلي، ومثل هؤلاء الاقوام من فاقدي البصيرة موجودون في كل زمان ومكان يُبتلى بهم القادة المصلحون ويكونون عقبة كؤود في طريقهم.

ولذا كان الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) يشكون من ندرة أهل البصيرة في اتباعهم، ففي الحديث المعروف لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مع كميل (يَا كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ إِنَّ هَذِهِ اَلْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا) الى أن قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن ههنا3.

ص: 304


1- الدر المنثور للسيوطي:3/ 633.

لعلماً جماً - وأشار إلى صدره - لم أصب له خزنة(1) بلى أصيب لقنا غير مأمون، مستعملا آلة الدين في طلب الدنيا، يستظهر بحجج الله على أوليائه وبنعم الله على معاصيه أو منقادا لحملة الحق لا بصيرة له في أحنائه، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، اللهم لا ذا ولا ذاك، أو منهوما باللذة سلس القياد للشهوة، أو مغرما بالجمع والادخار ليسا من رعاة الدين ولا من ذوي البصائر واليقين)(2).إن أوضح ما يمّيز الاتباع الحقيقيين للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وآله الكرام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنهم على بصيرة من امرهم ومنهم أبو الفضل العباس بن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فمما خاطبه به الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في زيارة وارث المعروفة قوله (وأنك مضيت على بصيرة من امرك مقتدياً بالصالحين ومتبعاً للنبيين)(3) وهكذا كان أصحاب ابي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) المستشهدين بين يديه يشهد بذلك العدو قبل الصديق، فقد روى أصحاب التواريخ والمقاتل انه لما كثرت المبارزة بين أصحاب الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وجيش يزيد وكان النصر لأصحاب ابي عبد الله، صاح عمرو بن الحجاج الزبيدي (يا حمقى أتدرون من تقاتلون؟ فرسان المصر وأهل البصائر وقوماً مستميتين لا يبرزَّن لهم منكم أحدٌ، والله لو لم ترموهم إلا بالحجارة1.

ص: 305


1- من هنا يصنّف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنواع الناس الى أربعة أصناف غير جديرين بحمل علمه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).
2- نهج البلاغة (من كلامه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لكميل بن زياد).
3- مفاتيح الجنان: 511.

لقتلتموهم)(1).وهكذا إذا كنّا صادقين في موالاتنا للإمام الحسين (عليه اللام) ونصرتنا له (ونصرتي لكم معدّة)(2) (يا ليتنا كنا معكم)(3) وصادقين في انتظار امامنا المهدي الموعود (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والمشاركة في بناء دولته المباركة فعلينا أن نستزيد من البصيرة في علاقتنا مع ربنا، وهذا ما ورد في أدعية الغيبة وتعجيل الظهور، وفي احدها (وارزقنا مرافقة اوليائك ووليك الهادي المهدي الى الهدى وتحت لوائه وفي زمرته شهداء صادقين على بصيرة من دينك إنك على كل شيء قدير)(4).

فقدان البصيرة سمة المجتمع غير الإيماني:

يستفاد من القرآن الكريم أن من سمات المجتمع البعيد عن التربية الإيمانية هو فقدان البصيرة والقدرة على تمييز الحق من الباطل، وانقلاب موازين النظر عنده في الأمور كلها.

ولنأخذ مثالاً على ذلك حيث نجد المجتمع الجاهلي البعيد عن النظرة الإلهية يعيش لدنياه ويراها غاية أمله فيصارع من أجل الاستزادة منها {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} (الجاثية:24).

لكن المجتمع الرباني يعتقد بوجود الآخرة ويعمل لها لأنها الحياة الباقية،

ص: 306


1- مقتل الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) للخوارزمي:2/ 15.
2- مفاتيح الجنان: 544-501
3- مفاتيح الجنان: 544-501
4- البحار :98/ 302 عن اقبال الاعمال والبلد الأمين والتهذيب.

ويرى الحياة الدنيا مزرعة، قال تعالى {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت:64).والمورد الآخر اغترارهم بما عندهم من قوة وإمكانيات ماديّة هائلة فيظنون أنهم الرب الأعلى المدبّر لأمور الناس {وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} (الشعراء:44).

أما المنطق الرباني فيؤكد حقيقة {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (المنافقون:8) و {إَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً} (البقرة:165) ويصف أولئك المغرورين بأنّهم {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت:41).

التحذير من فقدان البصيرة:

وقد حذّر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أمته من الرجوع إلى هذه الحالة بعد أن أنقذهم الله تعالى بالإسلام، ووقوعهم مرة ثانية في فتنة فقدان البصيرة وإنقلاب موازين النظر في الأمور واعتبرها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الحالة الأشد خطورة من وقوع المنكر والفساد نفسه، ففي الحديث عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):كيف بكم إذا فسدت نساءكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟ فقيل له:ويكون ذلك يا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)؟ فقال:نعم وشرُّ من ذلك كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ فقيل له يا رسول الله ويكون ذلك؟ قال:نعم وشرُّ

ص: 307

من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً).(1)

تصحيح المفاهيم المقلوبة:

وقد وقعت الأمة في هذه الفتنة بعد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبلغت ذروتها في عهد يزيد بن معاوية، ولهذا كان من الأدوار المهمّة التي أدّتها ربيبة القرآن والنبوّة والإمامة العقيلة زينب (س) هي إعادة الأمة إلى وعيها وبصريتها، وتصحيح موازين النظر عندها، ولنأخذ مثالاً على ذلك جانباً من خطابها، فقد كان يزيد وابن زياد وأزلامهم يعتقدون أنّهم هم المنتصرون فأخذتهم سكرة الغلبة ونشوتها كما وصفتهم العقيلة زينب (فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة والأمور متّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا)(2).

وتصبح مشكلة المفاهيم المقلوبة أخطر حينما تُستغل لخداع الناس وتُجعل دليلاً على شرعية حكم أولئك الطواغيت وسلطتهم، وهذا ما نبّهت إليه العقيلة زينب (صلوات الله عليها) (أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نُساق كما تُساق الإماء أنّ بنا على الله هوناً وبك عليه كرامة!! وأنّ ذلك لعظيم خطرك عنده، فمهلاً مهلاً، أنسيت قول الله عز وجل {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (آل عمران:178))(3).

ص: 308


1- وسائل الشيعة، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب1 ح12.
2- الاحتجاج:ج2 ص123، والبحار:ج45 ص157.
3- الاحتجاج:ج2 ص123، والبحار:ج45 ص157.

السيدة زينب (س) تبين من هو المنتصر الحقيقي:

فهي (سلام الله عليها) لم تكتفِ بالإدلاء بحقيقة أنّ هذا ملكنا وسلطاننا خاصة ونحن أحقّ بالأمر من هذا الظالم المدّعي، ولكن فضحت هذه الأساليب لخداع الناس وأيقظتهم بأنّ هؤلاء المتسلّطين ليسوا هم أصحاب الحق، ولا يزال إلى اليوم من يموّه على الناس ويكتسب شرعيته من كثرة الأتباع وشهرة العنوان وإغداق الأموال لفرض الأمر الواقع وإقناعهم بأنّ سلطته شرعية وإبعاد الحق عن أهله.

فتواجه العقيلة زينب الطاغية يزيد بالحقيقة الدامغة وبيان المنتصر الحقيقي (فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحونَّ ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترخص عنك عارها. وهل رأيُك إلاّ فند، وجمعك إلاّ بدد، يوم ينادي المنادي:ألا لعنة الله على الظالمين فالحمد لله الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة)(1).

ووقفت نفس الموقف في الكوفة أمام الطاغية عبيد الله بن زياد حينما قال شامتاً:(الحمدُ لله الذي فضحكم وقتلكم وأبطل أحدوثتكم).

فتصدت له بشجاعة وبلاغة أخذتهما من أبيها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قائلة:(الحمدُ لله الذي أكرمنا بنبيّه، وطهّرنا من الرجس تطهيرا، إنما يُفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا يا بن مرجانة).

وحاول أن يغطي فشله وهزيمته بمزيد من الشماتة قائلاً:(كيف رأيتِ صنع الله بأخيكِ) فأجابت (سلام الله عليها):(ما رأيتُ إلاّ جميلاً، هؤلاء قومٌ كتب الله

ص: 309


1- انظر:الاحتجاج:ج2 ص123، والبحار:ج45 ص157.

عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاجَّ وتخاصم، فانظر لمن الفلح يومئذٍ، ثكلتك أمّك يا بن مرجانة) (1).هكذا أعادت العقيلة زينب الأمور إلى نصابها وبيّنت من هو المنتصر الحقيقي وهزمت هؤلاء الطواغيت وجيوشهم الجرّارة التي غلبت بالسيف لكنّها هُزِمت بالبيان والحجة الدامغة فقلبت أفراحهم أحزاناً.

علينا أن نستفيد من الدرس الزينبي:

وعلينا نحن أن نستفيد من هذا الدرس الزينبي ونُصحِّح جملة من المفاهيم والرؤى والنظريات التي أُريد بها خداع الناس وتسييرهم بالاتجاه الذي يريده أصحاب تلك الأجندات الهدّامة، ولنأخذ على ذلك مثالاً من عالم المرأة ممّا حاولوا به خداعها ودفعوها إلى ما يريدون من الانحلال والفساد ومزاحمة الرجال وترك وظيفتها الأساسية في بناء الأسرة الصالحة وتنشئة الجيل الصالح وهو شعار (المساواة).

أبواق المساواة بين الرجل والمرأة:

فهل المساواة مطلب عقلائي؟ وتعبير آخر هل إن المساواة حق دائماً؟ والجواب هو النفي، نعم إذا كان المطلوب مساواة الرجل والمرأة بالاستحقاق والجزاء فهذا حق وقد كفله الشارع المقدّس {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} (آل عمران:195) {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات:13) سواء كان ذكراً أو أنثى.

ص: 310


1- المصدر السابق.

فلسفة التمايز بين الرجل والمرأة:

أما إذا أرادوا بالمساواة مماثلة المرأة للرجل في الوظائف والأعمال التي يؤديانها فهذا مطلبٌ غير عقلائي، بل فيه ظلمٌ للمرأة، لأن طبيعة خلقها وفسيولوجيتها وسايكولوجيتها تنسجم مع وظائف غير ما كُلّف به الرجل، فالمساواة هنا من الظلم وليس من العدالة، ومثله كمثل الطبيب الذي يعطي نوعاً واحداً من الدواء إلى مرضى متنوعين، وكالمدرّس الذي يعطي درجة واحدة لكل طلبته في الامتحان مع تفاوت إجاباتهم، وهذا هو الظلم بعينه والمطلوب تحقيق العدالة وهي قد تقتضي المساواة وقد لا تقتضي المساواة بحسب الموارد وهذا ما كفلته الشريعة المقدسة، فلو أعطينا للولد ميراثاً بقدر البنت لكان ظلماً، لأن الرجل هو الذي يصرف على المرأة ويكفل لها كل احتياجاتها فهي تشاركه في حصته، ولا يشاركها في حصتها فكيف يتساويان في الاستحقاق.

فهذه المراعاة لتكوين كل من الرجل والمرأة وطبيعة وظائفهما مما تقتضيه الفطرة، وجرت عليه سيرة العقلاء، ويشهد به الواقع وخذ نماذج عشوائية من تركيبة مجتمعات الغرب المدعيّة للتحضّر وانظر هذه المراعاة، كتشكيلة الحكومة أو عدد الطيارين أو عدد قادة الوحدات العسكرية وقيادات الجيش وانظر نسبة النساء إلى الرجال ستجدها ضئيلة فأين المساواة التي يريدون تسويقها إلينا؟

مصطلح سن اليأس:

وبهذه المناسبة نشير إلى مصطلح متداول يخصّ المرأة وهو ((سنّ اليأس)) الذي يراد به عمر الخمسين للمرأة وتُسمى المرأة باليائس، وهو قد يكون له منشأ صحيح حيث يحصل فيه اليأس من الإنجاب لانقطاع الدورة الشهرية، إلاّ أنّ هذا

ص: 311

العنوان اُخذ على إطلاقه وكأنّه سن اليأس من الحياة، مما ولّد شعوراً عندها بالإحباط وفقدان الأمل وأنّها أصبحت لا قيمة لها وانتهى دورها في الحياة وأحيلت على التقاعد كما يُقال، فتعتريها أعراض نفسية وعصبية قد تفاقم المشكلة عليها، وهذه الأعراض ليس لها أصلٌ فسيولوجي أو عضوي كما يشهد به الأطباء، أي أن بلوغ المرأة هذا العمر لا يصاحبه أي تغيير في جسمها يقتضي هذه الأعراض، وإنما هي نتائج صنعتها المرأة بنفسها بسبب ذلك الشعور الذي غذاهُ المصطلح البائس.فالأليق أن يُسمى هذا العمر للمرأة (سن الكمال والنضج وتمام الرشد) لاكتمال تجربة المرأة في الحياة بعد أن تكون قد ربّت جيلاً كاملاً وتعلّمت الكثير، وهو سن التفرغ لنفسها ولآخرتها ولزوجها بعد أن انتهت من وظائف الحمل والإنجاب والتربية، وشبّ أبناؤها وبناتها فهم يعينونها على قضاء حوائجها فهذا العمر فرصة مثمرة لكي يجتمع الزوجان من جديد على حياة زوجية يتفرغان لبعضهما ويلتفتان لآخرتهما وينشغلان لما يقرّبهما إلى الله تعالى من الطاعات والقربات مما لم تكن مشاغلهما السابقة تسمح لهما بها، كالسفر لأداء الحج والعمرة وزيارة المعصومين (صلوات الله عليهم) والصلاة المستحبة والصوم وقضاء ما فات ومطالعة الكتب، والمساهمة في الأعمال الخيرية والتبليغ الديني والوعظ والإرشاد وغيرها من فرص الكمال.

ص: 312

القبس/70: سورة الرعد:11

اشارة

{لَهُۥ مُعَقِّبَت مِّن بَينِ يَدَيهِ وَمِن خَلفِهِ يَحفَظُونَهُۥ مِن أَمرِ ٱللَّهِ ۗ} (1)

موضوع القبس:الملائكة الحارسة

معنى التعقيب:

التعقيب هو ان يأتي شيء بعد شيء ويتلوه كتعقيب الصلاة بالدعاء والذكر بعدها مباشرة، وأُستعير للولد وولد الولد فسُمّوا اعقاباً لانهم يتلون ابائهم ويخلفونهم، قال تعالى {لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} (الرعد:41) اي لا يوجد من يملك حق المراجعة والنظر في حكم الله تعالى وفعله ومعارضته والغائه، وهي جملة خبرية تنبئي عن هذه الحقيقة، وبنفس الوقت تفيد انشاء النهي عن الخوض في البحث عن علة التشريعات والجدوى منها وحكمتها اذا لم يرد بها بيان شرعي كالنهي عن الخوض في القدر والذات الالهية.

والاعتقاب:ان يتعاقب شيء بعد آخر كإعتقاب الليل والنهار، فالمعقبات(2)

ص: 313


1- كلمة القاها سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) يوم الجمعة 15/ذح/1435 الموافق 10/ 10/ 2014 تزامناً مع احتفال المسيحيين الكاثوليك بعيد الملائكة الحارسة.
2- هذا ما اردنا بيانه من وجوه تفسير الآية، ويمكن أن يكون معناها ان هذه الملائكة تتعقب الانسان وتحفظ عليه كل شيء حتى لحظات العيون وخطرات الظنون، فيكون الضمير في (له) يرجع للإنسان ويكون قوله تعالى (مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) متعلقاً بالمعقبات وليس ب-(يحفظونه) بل تكون كلمة (يحفظونه) كالبيان التوضيحي وإلا فان كلمة معقبات كافية للدلالة على هذا المعنى، وهذا المعنى لعله انسب

في الآية ملائكة تتعاقب على العبد حافظة له، وهي جمع مفرده معقبّة، ومعناها الجماعة التي تتعاقب او انها صيغة مبالغة من معقِّ-ب كالعلاّمة او البحّاثة او الرحّالة.

الرحمة الغيبية:

فالآية تبين لنا حقيقة غائبة عنا ولا نستطيع ان ندركها بأبصارنا وحواسنا لأنها من عالم الغيب، وتُعدُّ من نعم الله تعالى على عباده التي لم يُلتفت اليها، وهي ان له تعالى عند كل احد ملائكة تتعاقب عليه في جميع اوقاته لتحفظه بأمر الله تعالى من امر الله الذي قضى بجريان السنن والقوانين التي تحكم عالم الموجودات أن تؤثر فيه، كما ان الله تعالى يغلّب رحمته بأمره تبارك وتعالى على عدله الذي هو من امره تعالى (يامن سبقت رحمته غضبه)(1).

ومن هذا القبيل ما روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انه كان جالساً الى جدار آيل للسقوط ثم قام عنه لئلا يسقط عليه فقيل له:يا امير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):أتفِرٌّ من

ص: 314


1- مفاتيح الجنان: 134.

قضاء الله ؟ قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أفر من قضاء الله إلى قدره عز وجل)(1).

في جريان القضاء والقدر:

اي ان الله تعالى قضى ووضع قوانين كلية تسيِّر هذا الكون كاقتضاء السقوط من شاهق الى الارض تكسّر العظام والموت، او اقتضاء الغرق في الماء انقطاع النفس والموت، الا ان يتخذ التدابير المانعة من ذلك، او يمتنع اصلاً من المضي في هذه الافعال، فالقوانين المؤثرة هي قضاء الله تعالى، اما قدره فهو تحقيق اسباب جريان هذه القوانين والانسان هو الذي يختار هذا الطريق او ذاك وعندئذٍ يقّدر الله تعالى له ما يشاء بحسب المقدمات التي يختارها بنفسه.

يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ:

وفي رواية عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يفسّر فيها قوله تعالى يحفظونه من امر الله قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (بأمر الله، من ان يقع في رَكيّ- وهي البئر – او يقع عليه حائط او يصيبه شيء حتى اذا جاء القدر خلّوا بينه وبينه، يدفعونه الى المقادير، وهما مَلَكان يحفظانه باليل، وملكان بالنهار يتعاقبانه) ومثله(2) حديث عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وفي نهج البلاغة عن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ان مع كل انسان ملكين يحفظانه فاذا جاء القدر خلّيا بينه وبينه).

هذه الحقيقة يستطيع ان يدركها الفطن الواعي ببصيرته ووجدانه عندما يلتفت الى احتمالات الخطر والضرر المحيطة به من لدن تكوّنه حملاً في بطن امه وبعد ولادته ونموّه طفلا صغيراً وفي كل مراحل حياته، فلو فكر في حصول خلل

ص: 315


1- توحيد الصدوق ص369.
2- راجعها في تفسير البرهان :5/ 194.

ما في تركيب جسمه ووظائف اعضائه او عندما يركب الطائرة او السيارة او يمارس عملاً معيناً ثم يتصور ما يمكن ان يحصل له فانه يصاب بالذهول والرعب وانهيار الاعصاب لكن الله تعالى سخّر الملائكة المتعاقبة لتدفع عنه كل تلك الاحتمالات ويستمر في حياته ويعمّر طويلاً، بل قد يتعرض فعلا لحوادث خطيرة ثم يخرج منها سالما معافى.

الحفظ المعنوي:

وينبغي الالتفات ايضاً الى الحفظ المعنوي – اذا صحّ التعبير – وذلك من خلال تأثير الملائكة الحافظة في الدعوة الى فعل الطاعة وتزيينها وترغيب الانسان فيها، وتجنيب المعصية وتكرهيهها للإنسان وهو ما يسمى بالتوفيق واللطف الذي يجريه الله تعالى على ايدي ملائكته، وقد يكون الامر اكثر من ذلك بان تهيئ له موضوع الطاعة كأن تجعله يلتقي بشخص محتاج ليساعده او تأتي به الى مكان ليستمع موعظة مفيدة تنفعه او يذهب باتجاه معيّن ثم يحس بداخله ما يدعوه الى تغيير مساره فيجد نفسه انه قد ازداد حسنة او اجتنب سيئة، وبالمقابل تجنبّه موارد المعصية وتحول بينه وبينها او تُوجِد موانع لارتكابها، حتى لو ارتكبها فان تلك الملائكة تمنع حصول تداعيات وآثار سلبية لها عليه.

في الحديث عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(للمؤمن اثنان وسبعون سترا فاذا اذنب ذنباً انهتك عنه ستر، فان تاب ردّه الله اليه وسبعة معه، وان ابى الا قُدما قُدما في المعاصي تهتك استاره، فان تاب ردّها الله اليه ومع كل ستر منها سبعة، فان ابى الا قدما قدما في المعاصي تهتك استاره، ويبقى بلا ستر واوحى الله تعالى الى

ص: 316

ملائكته ان استروا عبدي بأجنحتكم)(1).فهذه الملائكة موّكله من قبل الله تعالى بحفظ الانسان من جريان القوانين الطبيعية التي اودعها الله تعالى في الكون على خلاف مصلحته وخيرِه رحمة وفضلا من الله تعالى فالإنسان أعجز من ان يواجه وحده كل تقلبات الكون وأحداثه وحوادثه والعوامل المؤثرة فيه وهي كلها من أمر الله تعالى.

درسان مستفادان من الآية:

ونستطيع الان ان نستخلص من الآية درسين مهمين في حياة الانسان:

1-تطمينه من قبل الله تبارك وتعالى بأن مع كل انسان من يحفظه ويرعاه ويدفع عنه كل ما لا يلائم صلاحه، فلا داعي الى القلق والمخاوف والهواجس المرعبة مما يحصل في المستقبل القريب او البعيد، هذا القلق الذي تعاني منه الشعوب في الغرب رغم توفر اسباب الترف والحياة المنعّمة وتؤدي ببعضهم الى الانتحار ليتخلص بزعمه من هذا الرعب والخوف ولو التفت الى هذه الحقيقة القرآنية لاطمأن بوجود رب شفيق رحيم ودود يرعاه ويخصص ملائكة لحفظه ورعايته.

2-في الآية تكريم عظيم للإنسان من خالقه بأن يجعله اداة تنفيذ عملية الاصلاح وتحقيق السعادة التي يريدها الله تعالى لخلقه، وتدعوه الى أن يتحمل بنفسه مسؤولية التغيير ولا يترك الأمر للعوامل الخارجية لكي تتصرف في البشر وتنتهي الى نتائج خارجة عن اختياره، لان الله تعالى كلّف الملائكة بأن تمنع من

ص: 317


1- بحار الانوار :73/ 63.

هذه التأثيرات.

دوام حفظ الملائكة بالأعمال الصالحة:

فللإنسان باعتباره عاقلا مختاراً دور في هذه العملية فيستطيع ادامة عمل هذه الملائكة الحفظة بان يلح في الدعاء مثلا او يتصدق فيدفع البلاء او ينشئ المؤسسات النافعة أو ينشر العلوم المثمرة والأخلاق الفاضلة أو يقوم بأعمال صالحة فيكّفر عن سيئاته التي تجلب له السوء، وقد يعرقل عمل هذه الملائكة الحفظة ويجعلها ترفع يدها عنه كما لو قطع رحمه فتسبب في تقصير عمره، او ارتكب من الذنوب ما ينزل النقم او تسلب النعم او تحبس الدعاء ونحو ذلك، او ترك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فتسبّب في تسلط الاشرار، بحسب ما افادته الآيات الشريفة.

لذلك جاء في تكملة الآية {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد:11) فالمعقبات الحفظة ليس عملهم مطلقاً غير مشروط ولا محدود بل هو مطلق لكل الناس الى مقدار معين ثم يكون مشروطاً باختيار الانسان حتى لا يتساوى المحسن والمسيء، وحتى تظهر آثار من أحسن عملاً، وعاقبة من اساء عملاً على كيانهما ووجودهما، في مجمع البيان عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير الآية قال (انهم ملائكة يحفظونه من المهالك حتى ينتهوا به الى المقادير فّيخلون بينه وبين

ص: 318

المقادير)(1)وفي هذه الحقائق ردّ على من قال بحتمية التاريخ أو الجبر ونحو ذلك من النظريات السالبة لدور الانسان في التغيير.

عيد الملائكة الحارسة لدى الكاثوليك:

مما يجدر ذكره ان المسيحيين الكاثوليك يحتفلون يوم 2:10 بعيد الملائكة الحارسة ونقلت المواقع الالكترونية عن بابا الفاتيكان فرانسيس قوله في قداسه اليومي في الكنيسة الصغيرة الملحقة بمقر اقامته في الفاتيكان (ان هناك ملائكة حارسة، وإن العقيدة الخاصة بالملائكة ليست من صنع الخيال بل هي واقع، وبحسب تقليد الكنيسة فنحن جميعاً لدينا ملاك معنا يحمينا ويساعدنا على فهم الاشياء) وأضاف (ان لا أحد يقطع رحلة الحياة بمفرده ويجب الا يعتقد أحد أنه وحيد) وتساءل موضحاً هذه الحقيقة (كم من المرات سمعنا:عليَّ أن افعل هذا وعليَّ ألا أفعل ذاك فانه ليس صائباً وكن حذراً، نسمع ذلك في احيان كثيرة, إنه صوت ملاكنا الذي يرافقنا).

وأشار الى مدخلية اختيار الانسان في هذه الحقيقة بقوله (ان إحتمالات اتخاذ قرارات خاطئة تكون اقل بين الاشخاص الذين يستمعون الى نصائحها) لذلك أقترحَ على المشككين أن يسألوا أنفسهم (كيف هي علاقتي مع ملاكي الحارس؟ هل استمع اليه؟ هل اقول له صباح الخير ؟ هل أطلب منه ان يحرسني اثناء نومي) واسئلته هذه طبعاً تنطلق من المستوى الذي يراه للعلاقة مع ربّ-ه أو مع الملائكة.

ص: 319


1- مجمع البيان- الطبرسي: 6/ 19

واعتقد انه بذلك يرّد بشكل غير مباشر على الذين يبلغ بهم الجزع في الحوادث المؤلمة الى حد إنكار وجود هذه الملائكة الحافظة او انكار وجود الله عز وجل أصلاً، ومثال الاول سلفه البابا بنديكتوس السادس عشر الذي أصر عام 2012 على نفي وجود ملائكة تنشد خلال ميلاد السيد المسيح - بحسب تعبيره -.ومثال الثاني كبير اساقفة كانتربري جاستن ويلبي الذي يتزعم 80 مليون شخص ينتمون الى المذهب الانجليكي المسيحي في العالم فقد كشف في لقاء(1) مع الصحافية لوسي تيغ للبي بي سي (انه يشك احياناً بوجود الله ويتساءل لماذا لم يتدخل العلي القدير لمنع الظلم) وروى ما خطر بباله حين كان يركض ذات صباح مع كلبه مؤخراً وقال (قبل ايام كنت ابتهل اثناء الركض وانتهى بي المآل الى مخاطبة الرب:أنظر ! إن هذا كله أمر حسن ولكن ألم يحن الوقت لأن تفعل شيئاً إذا كنت موجوداً؟) لكنه استدرك واعترف بعجزه وقال:(نحن لا نستطيع أن نفسر كل المسائل في العالم، لا نستطيع أن نفسر ما يتعلق بالمعاناة، لا نستطيع أن نفسر كثيراً من الاشياء) وحين سئل عما يفعله في مواجهة تحديات الحياة أدعى (انه يدعو المسيح ان يساعده وهو يلتقطني)، وأظن ان شكوكه هذه ناشئة من القلق والرعب الذي يسوّد الغرب بعد أن قويت شوكة الارهاب وانخرط فيه الالاف من مواطنيهم ممّا يشكل تهديداً خطيراً لبلدانهم.

الحل القرآني:

أقول:لقد حل القرآن الكريم كل هذه الاشكالات وأجاب عن التساؤلات

ص: 320


1- نشر اللقاء على المواقع الإلكترونية في شهر 9/ 2014.

لان الملائكة الحافظة موجودة وتؤدي عملها للجميع إلا ان الانسان بسوء اختياره يوقف مساعدتها له في مرحلة معينة بمعاصيه وذنوبه فيجّر على نفسه البلاء، رغم كثرة ما يغفر الله تعالى من الذنوب. قال تعالى {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (الشورى:30)، إلا ان سُنة الامتحان لابد أن تمضي فيكافأ المُحسن على احسانه والمسيء على أساءته وإلا ستكون المساواة بينهما عين الظلم، ولنأخذ امثلة من واقعهم، مثلاً تجري منافسات على كأس العالم فتفوز دول وتخسر اخرى فيحزن جمهورها ويبكي وقد ينتحر بعض المتعصبين، فهل يصح ان نقول ان من الظلم السكوت عن هذه الالام وعلينا ان نعطي كأس البطولة لجميع الدول حتى لا يتألم احد.

ونفس الشيء يحصل لطلبة الجامعات والمدارس ولا يوجد عاقل يطالب بمساواة الجميع واعطائهم كلهم درجات النجاح لكي لا يتألم احد، وهذا ما خفي على اسقف كانتربري والتفت اليه بابا الفاتيكان وطلب من الناس اتباع نصائح الملائكة الحارسة.

ص: 321

القبس/71: سورة الرعد:11

اشارة

{إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِم ۗ}

موضوع القبس:التغيير يبدأ من داخل الانسان والمجتمع

يؤصِّل هذا المقطع من الآية الكريمة لقاعدة أساسية في التغيير على صعيد الفرد والمجتمع، بأنه يبدأ من داخل النفس ومن داخل المجتمع ولا يكفي فيه وجود العوامل الخارجية، والتغيير مطلق سواء كان ايجابياً نحو الأفضل أو تغييراً سلبياً نحو الأسوأ، فلا يصلح حال الأمة ويتحسن الا اذا حافظت على سلامة مسيرتها ونواياها وعالجت نقائصها ونقاط ضعفها وتردّيها ولا تنتظر التغيير من الخارج فانه حتى لو حصل فانه لا يحقق النتائج المرجّوة اذا لم يقترن بالتغيير الداخلي(1).

وهكذا على صعيد الفرد فانه ما لم يمتلك الإرادة والعزيمة والمقدمات الصالحة فان ألف واعظ ومرشد ومصلح لا ينفعه في شيء.

هذا في اتجاه التكامل والرقي، وكذا في اتجاه الانحطاط والتسافل فانه لا يحلّ به الشقاء وتزول عنه النعم التي كان يرفل بها من الصحة والأمان والغنى والسعادة وغير ذلك الا بعد ان يضعف هو من الداخل وتتغير أهدافه ونواياه

ص: 322


1- نشر اللقاء على المواقع الإلكترونية في شهر 9/ 2014.

وافكاره، قال تعالى {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَ-كِن كَذَّبُواْ} (الأعراف:96).وهناك آية أخرى أشارت إلى جانب التغيير نحو الشقاء والتعاسة وزوال النعم فقط، قال تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال:53) هذا مع ملاحظة ان الله تعالى {يَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (المائدة:15) ولا يؤاخذ الناس بكل ما كسبوا كما هو واضح من ختام الآية المباركة.

في الحديث القدسي الذي يروى عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (يقول الله وعزتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي ما من أهل قرية ولا أهل بيت ولا رجل ببادية كانوا على ما كرهته من معصيتي ثم تحوّلوا إلى ما أحببت من طاعتي الا تحولّت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبّون من رحمتي، وما من أهل بيت ولا قرية ولا رجل ببادية كانوا على ما احببت من طاعتي ثم تحولّوا منها إلى ما كرهت من معصيتي الا تحولت لهم عمّا يحبون من رحمتي إلى ما يكرهون من غضبي) (1).

ان الآية تقرّر أيضا مبدءاً إنسانياً مهماً وهو احترام إرادة الانسان وحريته في تقرير مصيره وجعله محور التغيير مهما كانت العوامل الخارجية مؤثرة فاذا اساء الاختيار - كما لو لم يمنح صوته لمن يستحق في الانتخابات - فلا يلوم الا نفسه لان النتيجة المؤلمة التي وصل اليها كانت مقدماتها بيده وله القدرة على تغيير48

ص: 323


1- الدر المنثور:4/ 48

النتائج والتأثير فيها، ولم يقع شيء اعتباطاً أو مصادفة ونحو ذلك فلا يحاول الفرد أو الأمة ان تبرّر تعاستها وشقاءها بعوامل خارجية وسوء الحظ وتغفل عن دورها فيه.وحينما ندعوا الله تبارك وتعالى (اللهم غيّر سوء حالنا بحسن حالك) (1) فلابد ان نلتفت إلى هذه الحقيقة فان الالطاف الإلهية الخاصة لها أسباب أُمِر الناس بالسعي لتحصيلها (إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا له) (2).

وقد ورد في بعض الاحاديث الشريفة ان ثلاثة لا يستجاب دعائهم لان الله سبحانه وتعالى جعل المخرج بأيديهم فلم يستفيدوا منه، فقد ورد عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الثلاثة الذين يرد دعائهم عليهم قال (رجل رزقه الله عز وجل مالاً فأنفقه في وجوهه ثم قال:يا رب ارزقني فيقول الله عز وجل اولم ارزقك، ورجل دعى على امرأته وهو ظالم لها فيقال له:ألم اجعل امرها بيدك، ورجل جلس في بيته وترك الطلب ثم يقول:يا رب ارزقني فيقول الله عز وجل ألم أجعل لك السبيل إلى الطلب للرزق) (3) وقلت في حديث سابق (4) ان الحديث يمكن ان يشمل حالات اخرى كثيرة كمطالبة الشعب بتخليصهم من السياسة الجائرة لبعض الحكام وهم من مكنوّهم من رقابهم في الانتخابات وكانت عندهم فرصة تغيرهمين

ص: 324


1- من الادعية اليومية في شهر رمضان المبارك
2- كنز العمال:21324 ، 21325.
3- الخصال للصدوق:123، باب الثلاثة، ح208.
4- خطاب المرحلة:ج5 ص 391 ، رقم الخطاب 198 ، بعنوان الشعب غير معذور إذا لم يختر الكفوئين المخلصين

لو احسنوا الاختيار.وان اقوى عاملين مؤثرين في إحداث عملية التغيير في الفرد والمجتمع هما القيادات الدينية والسياسية كما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل:يا رسول الله، ومن هما؟ قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):الفقهاء والأمراء)(1).

وقد شرحنا في مناسبة سابقة كيفية هذا التأثير وتقّدم تأثير القيادة الدينية على السياسية (2)، والواقع والتجربة يثبتان ذلك، وعلينا نحن الحوزة العلمية بكافة تشكيلاتها - علماء وفضلاء وخطباء وأئمة جماعة وجمعات - ان نشكر الله تعالى على التوفيق للكون بهذا الموقع الذي بيده فرص واسعة للدعوة إلى الله تعالى وإصلاح الناس، علينا ان نعي مسؤولياتنا وخطورة دورنا ونسعى للقيام به على أحسنه بإذن الله تعالى.ة)

ص: 325


1- الخصال:32، باب الاثنين:ح 12
2- راجع مقدمة كتاب (المعالم المستقبلية للحوزة العلمية)

ملحق:كيفية تغيير الواقع الفاسد

لا بدّ من السعي:

من الأدعية المستحبة في كل يوم من شهر رمضان الدعاء الذي اوله (اللهم أدخل على أهل القبور السرور) ويتضمن عدة فقرات جليلة، أحببت التوقف عند أحدها وهي (اللهم أصلح كل فاسد من أمور المسلمين)(1)، ومن الواضح أن إصلاح الفساد لا يتحقق بمجرد ترديد هذه الكلمات وان كان في نفس قراءة الادعية ثواب وان الدعاء مخّ العبادة كما في بعض الاحاديث، لكن بعض المطالب تحتاج الى سعي كمن يريد الرزق الحلال لا يكفيه أن يردد:(اللهم ارزقني) بل عليه أن يسعى في مناكبها ويبتغي من فضل الله تعالى، ومن يريد الذرية الصالحة عليه أن يتخذ زوجة صالحة، وهكذا، الا اذا شاء الله شيئا بدون ذلك كولادة عيسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من غير أب.

كيف نصلح أحوال المسلمين؟

فإصلاح الفساد في أحوال المسلمين وهكذا فقرات الأدعية لا بد لكل منها من سعي يناسبها {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} (الإسراء:19)، فكيف نصلح أحوال المسلمين الفاسدة التي لا تسرّ الصديق ويشفق لها العدو، ولم تبق حرمة إلا انتهكت، وماذا علينا أن نفعل لتحقيق هذا الغرض؟.

يجيب عن ذلك رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حديث رواه عنه الشيخ الصدوق في الخصال يحدد فيه سبب فساد أحوال المسلمين وصلاحهم، قال فيه:(صنفان من

ص: 326


1- مفاتيح الجنان: 229.

أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل:يا رسول الله، ومن هما؟ قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):الفقهاء والأمراء)(1).

عندما نعالج الفساد من رأسه:

فالصلاح والفساد في أمور المسلمين يرجع إلى طريقة أداء هذين الصنفين وصفاتهم الذاتية، فنفس الجهة التي يأتي منها الفساد يأتي منها الصلاح، لذا قيل:(لا ينتشر الهدى إلا من حيث انتشر الضلال) أي علينا أن نشخّص الجهة المسؤولة عن الفساد فتبدأ عملية الصلاح من هذه الجهة، فمثلاً التكفير وما تتبعه من القتل الوحشي والتدمير الشامل بدأ من فتاوى علماء التكفير فإذا أرادوا محاربة الجماعات الإرهابية التكفيرية حقيقة فعليهم أن يبدأوا بهؤلاء المشرّعين لفتاوى التكفير فيصلحون عقولهم ويطهرون قلوبهم من اغلال التعصب والحقد والانانية ويعيدوا تقييم تأريخهم والاشخاص الذين يقدسونهم ممن أسسوا لهذه الثقافة، وستتغير الأمور عندما يلتفتون الى القيادة الصالحة الحقّة التي ربّت الامة على رفض التكفير، روي عن الامام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انه سئل عن الذين خرجوا على إمامته الحقّة وقاتلوه:(أمشركون هم ؟ قال:من الشرك فرّوا، فقالوا:أفمنافقون ؟ قال:إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً قيل:فما هم يا أمير ألمؤمنين ؟ قال:إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم ببغيهم علينا)(2) مشيراً الى الآية الكريمة {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} (الحجرات:9).

ص: 327


1- الخصال للشيخ الصدوق:باب الاثنين، ح12.
2- البداية والنهاية :7/ 300.

كما أن هذه الكلمة (لا ينتشر الهدى الا من حيث انتشر الضلال) يمكن فهمها على أساس الأدوات أي أن نفس الأداة التي سببت الفساد كالتلفزيون أو القوانين الظالمة المخالفة للشريعة أو مناهج التعليم علينا أن نصلحها لتساهم في صلاح الامة.

لا بدّ في الإصلاح من علاج البيئة المنتجة للفساد:

ويمكن ان نفهم هذه الكلمة على اساس الحالات والاوضاع التي انتجت الفساد فنعالجها كالفقر أو الجهل أو التخلف أو العصبية، أو الاستبداد السياسي أو الانهيار الاقتصادي أو عدم الامن والاستقرار فاذا اريد نشر الهدى والصلاح فلا بد من اصلاح هذه الاوضاع والبيئة المنتجة، قال تعالى{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ، الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} (قريش:3-4).

ومحل الشاهد أن صلاح الأمة يكون بصلاح هذين الصنفين كما أن فسادها بفسادهما.

معنى فساد العلماء:

أما الصنف الأول فقد بيّنَتْ الروايات أن فساد العلماء لا يتمظهر بشرب الخمر وممارسة الزنا ونحو ذلك فانهم لا يفعلون ذلك حفاظاً على مكانتهم الاجتماعية وإنما بحبهم الدنيا والتملق لأهلها والصراع على الجاه والزعامة ومجاملة اهل الباطل وكتمان الحق والبغي والحسد والتكبر والتعالي وتغليب انانياتهم والتخلي عن مسؤولياتهم في اقامة الدين والامر بالمعروف والنهي عن المنكر {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ

ص: 328

لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} (المائدة:63) وعدم الانفتاح على الناس والاستماع الى همومهم وقضاء حوائجهم ومساعدتهم وانصافهم فيما لهم وما عليهم، روى الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله من حديث (اعرفوا.. اولي الامر بالأمر بالمعروف والعدل الاحسان)(1) فاذا تخلى العلماء عن مسؤولياتهم اصبحت الامة خاوية روحياً وميته معنوياً وفاقدة البصيرة والرشد يتلاعب بها الاشرار، وتوجد شواهد كثيرة من التاريخ لفساد تسبّب فيه العلماء، فالإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قتل بفتوى وعاظ السلاطين الذين أفتوا بجواز محاربة الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لانه خرج على ولي الامر(2)، والامام الجواد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قتل بتحريض من قاضي قضاة الدولة العباسية ابن ابي داوود(3) للمعتصم بعد اخذه برأي الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قطع يد السارق.

معنى فساد الأمراء:

أما الصنف الثاني، فمما لا يحتاج إلى بيان دور الزعامات السياسية في فساد البلاد من خلال الاستئثار بالمال العام واعتبار ما يقع تحت يده غنيمة، وهدره

ص: 329


1- اصول الكافي:كتاب التوحيد:51 باب انه لا يُعرف الا به، توحيد الصدوق:286.
2- وقد غلط القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في هذا فقال في كتابه الذي سماه بالعواصم والقواصم ما معناه. إن الحسين قتل بشرع جده وهو غلط حملته عليه الغفلة عن اشتراط الإمام العادل ومن أعدل من الحسين في زمانه في إمامته وعدالته في قتال أهل الآراء أنظر: تاريخ ابن خلدون: 1/ 217.
3- قاضي بغداد محمد بن احمد بن ابي داوود أبو الوليد الايادي القاضي(تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: 1 /313.

في امور عبثية ومشاريع وهمية وتغليب المصالح الشخصية على المصالح العامة وسوء التخطيط والإدارة بالاعتماد على ناس غير مؤهلين وانشغال البلاد والعباد بصراعاتهم السياسية، وإن كل الكوارث التي حلت بالبلاد هي نتيجة هذه الصراعات على المغانم والامتيازات حتى وإن ألبست بعناوين دينية أحياناً.وهؤلاء الحكام لم يصلوا إلى مواقعهم إلا بدعم وتأييد جمع من الناس سواء من خلال الإدلاء بأصواتهم لهم في الانتخابات أو بنصرتهم وتمكينهم من السلطة في الانقلابات العسكرية وإدامة حكمهم وسلطتهم، او بأي نحو وصلوا به الى السلطة ولو تخلّى الناس عنهم والتفوا حول الصالحين الأكفاء لما وصل حال المسلمين إلى هذه الدرجة التعيسة، روي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(لولا أن بني أمية وجدوا لهم من يكتب ويجبي لهم الفيء ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم لما سلبونا حقنا، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلا ما وقع في أيديهم)(1).

الذنوب التي تسبب تسلط الأشرار:

فهذه هي المسؤولية المباشرة المنظورة التي يتحملها الناس إزاء هذا السبب من الصلاح والفساد، لكن الروايات دلّت على ان بعض الذنوب والتقصيرات هي العلل الحقيقية لتسلّط الأشرار والفاسدين والظالمين، فنبّهنا المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لها حتى نمنع أصل تسلّطهم وتسلّمهم الحكم، ولا نصل إلى مرحلة تمكنهم من الحكم والسلطة ثم نفكّر في كيفية إصلاح الحال، أي أن الإصلاح يكون على

ص: 330


1- وسائل الشيعة:كتاب التجارة/ ابواب ما يتكسب به/ باب 47، ح1.

طريقة (الوقاية خير من العلاج)، وازالة الاسباب من أصلها ومن تلك الذنوب والتقصيرات المسبّبة لتسلط الاشرار والفاسدين:-1-ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد روي في الكافي والتهذيب عن الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهنَّ عن المنكر، أو ليستعملن عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم)(1).

وروى الشيخ المفيد في المقنعة والطوسي في التهذيب(2) عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر والتقوى، فإذا لم يفعلوا ذلك انتزعت منهم البركات وسلط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء).

2-عدم الاستفادة من توجيهات العلماء العاملين:روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال:(سيأتي زمان على الناس يفرّون من العلماء كما يفرّ الغنم من الذئب، فإذا كان ذلك ابتلاهم الله بثلاثة أشياء:الأول يرفع البركة من أموالهم والثاني سلّ-ط الله عليهم سلطاناً جائراً والثالث يخرجون من الدنيا بلا إيمان)(3).

3-إفراغ الدين من مضمونه الحقيقي والاكتفاء بالشكليات الظاهرية منه، وتخلّي علماء الدين والربانيين عن مسؤولياتهم الحقيقية وهذا شكل من اشكال فساد العلماء الذي يؤدي الى فساد الأمة، في حديث عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(سيأتي على أمتي زمان لا يعرفون العلماء إلا بثوب حسن ولا يعرفون القرآن إلا بصوت2.

ص: 331


1- وسائل الشيعة:أبواب الأمر والنهي، باب 1، ح4، 18.
2- المقنعة- الشيخ المفيد: 808,- تهذيب الأحكام- الشيخ الطوسي: 6/ 181
3- بحار الأنوار:22/ 454 عن جامع الأخبار:125-126، ف 22.

حسن، ولا يعبدون الله إلا في شهر رمضان، فإذا كان كذلك سلّط الله عليهم سلطاناً لا علم له ولا حكم له ولا رحم له)(1).إذن فتردي أخلاق الامة وضعف همتها وانحدار مستوى الوعي لديها سبب لتصدي هذين الصنفين الفاسدين، وفسادهما يؤدي الى مزيد من الفساد في احوال الامة .

لذا اشتهرت الكلمة المعروفة (كما تكونون يولى عليكم)(2)، فصلاح احوال المسلمين يبدأ من اصلاح انفسهم وتمسكهم بدينهم وزيادة وعيهم في اختيار قياداتهم الدينية والسياسية وحينئذٍ تنصلح امورهم وتتغيرا احوالهم نحو الافضل بأذن الله تعالى.2.

ص: 332


1- بحار الأنوار:22/ 454 عن جامع الأخبار:125-126، ف 88.
2- كنز العمال- المتقي الهندي: 6/ 89/ح14972.

القبس/72: سورة الرعد:21

اشارة

{وَيَخَافُونَ سُوءَ ٱلحِسَابِ}

موضوع القبس:لا يدّقق بعضكم في محاسبة البعض الاخر

لا يمكن أن يتصور أمثالنا - ونحن حبيسو الدنيا المادية- حقيقة سوء الحساب وحالاته وأوصافه إلا بمقدار ما تتحمله أفهامنا من كلام الله تعالى والمعصومين (سلام الله عليهم)، وقد أعد سوء الحساب حقيقة للذين أعرضوا عن ربهم ولم يلتزموا بالمنهج الربّاني، قال تعالى:{لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَ-ئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} (الرعد:18) ويعرف بعض الوان هذا الحساب من آيةٍ مماثلة، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (المائدة:36)، وقد روى الطبرسي في مجمع البيان في معنى سوء الحساب عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(هو أن لا يقبل منهم حسنة ولا يغفر لهم سيئة)(1) لأن هؤلاء حبطت أعمالهم.

ص: 333


1- مجمع البيان:6/ 442، تفسير البرهان:5/ 205.

ما المراد من سوء الحساب الذي يخافه المؤمنون؟

لكن هذا المعنى لسوء الحساب قد لا يتلاءم مع سياق الآية التي نحن بصددها لأنها تصف قوماً على مستوى عالٍ من الإيمان، قال تعالى:{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ، الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ، وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} (الرعد:19-21).

فما المراد بسوء الحساب الذي يخافه هؤلاء وهم بهذه الدرجة من الإيمان، يشرح لنا الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وجهاً للمراد، فقد روي بسند معتبر عن حماد بن عثمان في تفسير قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} (الرعد:21) قال:(دخل رجل على أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فشكا إليه رجلاً من أصحابه، فلم يلبث أن جاء المشكو، فقال له أبو عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):ما لفلان يشكوك؟ فقال له:يشكوني أني استقضيت(1) منه حقي، قال:فجلس أبو عبد الله مغضباً، ثم قال:كأنك إذا استقضيت حقك لم تسئ؟! أرأيت ما حكى الله عز وجل في كتابه:{يَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} أترى أنهم خافوا الله أن يجور عليهم أو يظلمهم؟ لا والله ما خافوا إلا الاستقضاء، فسمّاه الله عز وجل:{سُوءَ الحِسَابِ} فمن استقصى فقد أساء)(2).

ص: 334


1- أي طلبت منه أن يقضي حقي، وفي معاني الأخبار وتفسير القمي (استقصيت) أي بلغ بالمسألة النهاية في طلبها، وهو الأقرب لمضمون الرواية.
2- الكافي:5/ 100، ح1، تفسير القمي:1/ 363، ومعاني الأخبار:246، وتفسير البرهان:5/ 201، وفي المعاني:(ولكنهم خافوا الاستقصاء والمداقّة) أي الحساب بدقة.

التدقيق في التعامل:

أقول:يظهر من الرواية أن سوء الحساب الذي يخافونه هو التدقيق في التعامل بمقتضى العدالة والمقابلة بالمثل فيحتسب الحسنات والسيئات كما هي، ففي تفسير العياشي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في سوء الحساب قال:(أن تحسب عليهم السيئات وتحسب لهم الحسنات وهو الاستقصاء)(1)، ولذا ورد في الأدعية أن الله تعالى إذا عاملنا بعدله هلكنا (ومن عدلك مهربي)(2) (ولا تعاملني بعدلك بل بفضلك)(3)، وفي الدعاء عند الصعود على الصفا والمروة عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(اللّهم لا تفعل بي ما أنا أهله، فإنك إن تفعل بي ما أنا أهله تعذبني ولن تظلمني، أصبحت أتقي عدلك، ولا أخاف جورك فيا من هو عدلٌ لا يجور ارحمني)(4).

الدرس العملي:

والدرس العملي الذي نستفيده هنا أننا كما نسال الله تعالى أن لا يدقّق معنا في الحساب وأن يعاملنا بفضله وكرمه ونخاف من المداقّة في الحساب، علينا أن نتأدب بهذا الأدب الإلهي في تعاملاتنا فإن سوء الحساب يعني المطالبة باستيفاء الحق كاملاً غير منقوص من دون مراعاة لما يحسن فعله بلحاظ حالة الطرف

ص: 335


1- تفسير العياشي: 2/ 210
2- مفاتيح الجنان: 336, ضمن دعاء عرفة
3- موسوعة العقائد الإسلامية- الريشهري: 5/ 112
4- وسائل الشيعة:13/ 478 باب 4:استحباب الصعود على الصفا حتى يرى البيت، ح 3.

الآخر وظروفه وإمكانياته،، لذا سُمّيَ أخذ الحق في بعض(1) الحالات عدواناً عندما يكون الأليق هو التسامح والعفو والتكرّم، والعدوان هو التجاوز والقيام بما ينافي الفعل الذي يناسب صدوره منه على ذلك الحال قال تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (البقرة:194)، فكأن المرجو والفعل اللائق بناءاً على هذا التفسير هو تعامله بالعفو والصفح كما أمر تعالى، فكان ما يخالفه عدواناً أي تجاوزا للمتوقع منه وإن كان محقاً. وهو أحد وجوه تفسير قوله تعالى:{وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (الشورى:40) فسمّى الرد على السيئة بمثلها سيئة، مع أن مقتضى العدالة المقابلة بالمثل.

وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى

وقد حثّنا الله تبارك وتعالى على أن نتعامل بيننا -كإخوة مؤمنين- بهذا الأسلوب، قال تعالى:{وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (البقرة:237)، أي لا تنسوا معاملة الاخرين بالتفضل والتسامح في كل المعاملات والعلاقات ففي الحديث الشريف عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(رحم الله عبداً سَمِحاً إذا باع، سَمِحاً إذا اشترى، سَمِحاً أذا قضى، سَمِحاً أذا اقتضى)(2) ولما كان الجزاء يوم القيامة منسجماً مع سلوك الإنسان وعمله

ص: 336


1- وليس مطلقاً لان العقوبة والرد بالمثل والحزم مطلوب احيانا للردع والاستقامة والاصلاح.
2- بحار الانوار:103/ 95 ح 17 ، كنز العمال:9453، ميزان الحكمة:1 / 493.

في الدنيا، فإن كان متسامحاً في تعامله مع الناس حوسب باليسر والكرم، وإلا شدد عليه مقاصة له لأنه التزم بهذه الطريقة من التعامل في الدنيا، قال تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ، وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} (الانشقاق:7-9) وفي مقابلهم أصحاب الشمال {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً} (الطلاق:8).

من اللطائف أن الله تعالى لم يسم نفسه بالعادل:

والملفت أن الله تعالى لم يصف نفسه في القران الكريم بأنه عادل ولم يرد هذا الاسم في الأسماء الحسنى على كثرتها لأن كرمه ورحمته وفضله سبقت عدله، فهو تعالى لا يؤاخذ بالمثل ولا يعاملنا بهذا المعنى من العدل، نعم وصف تعالى نفسه بما يلزم من العدل وهو إنصاف المخلوقين وعدم بخسهم اشيائهم وعدم الجور في الحكم عليهم وهو حسنٌ دائماً {وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت:46) فالعدل المقصود هو عدم الجور والظلم وأن من حقه تعالى الجزاء بالمثل إنْ أراد.

ولذا أردف الله تعالى الإحسان بالعدل حينما لخّص جوهر الرسالات السماوية وما يريده الله تبارك وتعالى, قال سبحانه:{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} (النحل:90) لأن العدل قد يكون منافياً لمقتضى الإنصاف والإحسان فيكون غير محبوب بل قد يكون ظلما في بعض المراتب ولو أخلاقيا، وقد بحثتُ ذلك مفصلاً في مسالة توريث أولاد الاولاد مع وجود الاولاد(1).

ص: 337


1- راجع المجلد الحادي عشر من موسوعة فقه الخلاف.

إن قلتَ قلتُ:

إن قلت:كيف يكون العدل ظلماً وهل هذا الا من اجتماع الضدين.

قلت:ليس هذا من اجتماع الضدين لأن ما يقابل العدل لغةً ليس هو الظلم بل الجور وهو الحيف في الحكم، فيمكن اجتماع العدل مع الظلم بمرتبة من المراتب ولو أخلاقياً، أي أن الحكم يكون عادلاً، الا أنه لا يكون منصفاً أو إنه خالٍ من الإحسان بلحاظ طرف آخر، كما في الروايات الواردة في تفسير قوله تعالى:{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ، فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} (الأنبياء:78-79).

فقد حكم داوود بالغنم ضماناً لصاحب الزرع(1) لأن صاحبها لم يحبسها ليلاً وهذا ما جرت به شرائع الأنبياء السابقين أما سليمان (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقد حكم بالضمان لكن بنحو آخر وهو أن يدفع الضامن غنمه إلى صاحب الزرع ليستفيد من لبنها وصوفها ويغرم هو صلاح الأرض حتى تعود إلى ما كانت عليه فيعيد كلٌ منهما إلى الآخر ماله، وهنا حافظ سليمان (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على مقتضى العدل لكن من دون إضرار بالضامن خصوصاً وأنه ليس معتدياً وإنما كان مقصّراً.

لكي نستوعب الدرس في حياتنا:

ولو استوعبنا هذا الدرس الأخلاقي وطبقناه في حياتنا لاستطعنا تجنب الكثير من المشاكل في المجتمع التي منشأها التدقيق في محاسبة الآخرين على

ص: 338


1- بحار الأنوار- المجلسي: 14/ 131

كل صغيرة وكبيرة ومطالبة كل طرف باستقصاء حقه من الآخر من دون مراعاة لحاله وظروفه، وأمثلة ذلك من الواقع كثيرة، كما يحصل بين الورثة حينما يطالب البعض مثلاً بحصته من الدار التي يسكنها الورثة الآخرون وهو يعلم أنهم لا يتمكنون من إعطائه وأن بيع الدار فيه مشقّة عليهم ولكنه يصرّ على طلبه.أو الزوج يحاسب زوجته على كل تقصير أو غفلة والزوجة تراقب زوجها وتسأله عن كل تصرفاته ويحاول كل منهما أن يفرض إرادته ورأيه على الآخر فيتخاصمان وتذهب المودّة بينهما وقد يخرب بيتهما بسبب إصرار كل منهما على انتزاع ما يتصور أنها حقوقه دون مراعاة لظروف الآخر.

أو دائن يلحّ على المدين بالتسديد وهو في حرج وصعوبة وقد يضطر لبيع داره أو حاجاته الشخصية فهذا من سوء الحساب ومخالف لسيرة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وأصحابهم البررة كمحمد بن أبي عمير وهو من أجلاء أصحاب الإمام الكاظم والرضا والجواد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقد ألّف عشرات الكتب وكان عالماً عاملاً مخلصاً، وعرض عليه هارون العباسي منصب القضاء فرفضه فأمر الطاغية بحبسه وتعذيبه فقضى سبعة عشر عاماً في السجن لاقى فيها صنوف التعذيب والوحشية، وكان قبل أن يسجن تاجراً ثرياً وخرج من السجن في عوز شديد وقد أنهكته الأمراض، وكان أحد زبائنه مديناً له بعشرة آلاف درهم فرأى من الوفاء أن يرد إليه دينه ولكنه لا يملك هذا المقدار فباع داره وجاء بالمبلغ إلى ابن أبي عمير، فسأله ابن أبي عمير عن كيفية تدبيره هذا المبلغ الكبير هل وهبه له أحد أو ورثه من قريب له؟ فأجاب الرجل بالنفي وأنه باع داره ليقضي بثمنها دينه فرفض ابن أبي عمير قبضها وقال:((حدثني ذريح المحاربي عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه

ص: 339

قال:(لا يُخرَج الرجل من مسقط رأسه بالدين)(1)، ارفعها فلا حاجة لي فيها، والله إني محتاج في وقتي هذا إلى درهم، وما يدخل ملكي منها درهم))(2).

سوء الحساب له مراتب:

ومما تقدم يظهر أن سوء الحساب له مراتب فبعضه حقيقي في أدنى مراتبه كالذي أُعد للمعرضين عن الله تعالى، وبعضه نسبي بلحاظ درجات الكمال، فإن البعض يرى أن مجرد إيقافهم للحساب، أو لمجرد معاتبتهم على شيء أنه من سوء الحساب.

روى في مجمع البيان حديثاً فيه (من نوقش في الحساب عُذِّب)(3) بغضّ النظر عن أي عقوبة فبمجرد مناقشة الشخص وتعريضه للحساب والمساءلة تعذيب وفي مصباح الشريعة قال الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(لو لم يكن للحساب مهولة إلا حياء العرض على الله وفضيحة هتك الستر على المخفيات لحقَّ للمرء أن لا يهبط من رؤوس الجبال ولا يأوي إلى عمران ولا يأكل ولا يشرب ولا ينام إلا عن اضطرار متصل بالتلف) (4).

ولذا فإن أهل المعرفة لا يركنون إلى طاعة ويرون أن حسابهم سيئ لو عاملهم الله تعالى بعدله وحاسبهم كما هم أهله وليس بما هو أهله من الفضل

ص: 340


1- أي لا يجوز إجبار المدين على بيع دار سكنه من اجل تسديد الدين.
2- بحار الأنوار:49/ 273، تأريخ الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، عن علل الشرائع:باب 313، ح2.
3- مجمع البيان- الشيخ الطبرسي: 6/ 31
4- بحار الأنوار- المجلسي: 6/ 265

والكرم والرحمة (فاني لم آتك ثقةً بعملٍ صالحٍ عملته)(1)، ويعدّون طاعتهم سيئات يطلبون الإقالة منها بلحاظ ما يليق برب العزة والجلال، تأمّل في ما ورد في دعاء الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم عرفة (إلهي كم من طاعة بنيتها وحالة شيّدتها هدم اعتمادي عليها عدلك بل أقالني منها فضلك)(2). فهذه المراتب كلها يخافونها ويعدون هذا الحساب سيئاً بالنسبة لهم وهم يطمحون إلى أن يكونوا من الذين لا يرون حساباً أصلاً ويدخلهم الله تعالى في رضوانه بغير حساب، كعدة اصناف ورد في حقهم ذلك (منهم) الصابرون، قال تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر:10).

(ومنهم) الذين يحبون الله تبارك وتعالى ويحبِّبونه الى خلقه ويرضون بقضائه روي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال:(اني لأعرف ناساً ما هم أنبياء ولا شهداء يغبطهم الانبياء والشهداء بمنزلتهم يوم القيامة:الذين يُحبّون الله ويحببونه الى خلقه يأمرونهم بطاعة الله فإذا أطاعوا الله أحبهم الله)(3) وروي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال:(إذا كان يوم القيامة أنبت الله لطائفة من أمتي أجنحة فيطيرون من قبورهم إلى الجنان يسرحون فيها ويتنعمون كيف شاؤوا فتقول لهم الملائكة:هل رأيتم حساباً؟ فيقولون:ما رأينا حساباً، فيقولون:هل جزتم على الصراط؟ فيقولون:ما رأينا صراطاً، فيقولون لهم:هل رأيتم جهنم؟ فيقولون:ما رأينا شيئاً، فتقول الملائكة:من أمة من أنتم؟ فيقولون:من أمة محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فيقولون:نشدناكم الله حدثونا ما كانت5.

ص: 341


1- مصابيح الجنان:619 من ادعية ليلة الجمعة وليلة عرفة وأوله (اللهم من تهيأ وتعبأ......).
2- مفاتيح الجنان:315.
3- مجمع الزوائد للهيثمي :1 /126 وللتفصيل اكثر راجع خطاب المرحلة :6/ 151 - 165.

أعمالكم في الدنيا فيقولون:خصلتان كانتا فينا فبلّغنا الله هذه المنزلة بفضله ورحمته، فيقولون:وما هما؟ فيقولون:كنا إذا خلونا نستحي أن نعصيه ونرضى باليسير مما قسم لنا، فتقول الملائكة:يحق لكم هذا)(1).(ومنهم) الشهداء فأن الله تعالى يُسقط كل حق له وفي الحديث عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(كل ذنب يكفّره القتل في سبيل الله عز وجل إلا الدَيْن لا كفارة له إلا أداؤه، أو يقضي صاحبه أو يعفو الذي له الحق)(2)، فأن الدَين من حقوق الناس ولابد من ادائه اليهم او استرضائهم، قد روي أن الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لم يأذن بالقتال معه لمن كان عليه دين إلا ان يوصي بقضائه(3).05

ص: 342


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر، المعروف بمجموعة ورّام:1/ 230.
2- الكافي:5/ 94، ح6.
3- موسوعة كلمات الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 505

القبس/73: سورة إبراهيم:5

{وَذَكِّرهُم بِأَيَّىمِ ٱللَّهِ ۚ}

يبّين هذا المقطع من الآية احدى وظائف الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) والقادة الدينيين ومن سار على نهجهم وهو تذكير الناس بأيام الله تعالى.

الايام كلها لله كما ان كل شيء في الوجود لله تعالى {لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} (البقرة:255) {وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (النحل:52) {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} (الأعراف:54) لكن الله تعالى يعلم ان الانسان يغفل وينهمك في تفاصيل حياته فينشغل عن مراجعة علاقته بربه فيحتاج الى محطات زمانية او مكانية أو فعلية تجدّد هذه العلاقة وتعطيها زخماً وحيوية جديدة فجعل اياماً وأمكنة ومشاعر وشعائر لتحقيق المزيد من القرب لربه والالتفات الى قضيته الكبرى، والله تعالى لم يغب عن عباده وعن خلقه لكنهم هم الذين يغفلون عنه (متى غبتَ حتى تحتاج الى دليل يدلُ عليك)(1).

وهذه سيرة تعلّمها العالم المتحضر فجعل أياماً لقضاياه المهمة فيوم للأم ويوم للمرآة وآخر للعامل والبيئة ونحو ذلك لتجديد الاهتمام بهذه القضايا وإجراء مراجعة لطبيعة العلاقة معها وإلا فأن الاهتمام بهذه القضايا مطلوب على الدوام.

ص: 343


1- بحار الأنوار- المجلسي: 64/ 142,- مفاتيح الجنان: 336, ضمن دعاء عرفة

والسؤال ما هي الخصوصية في هذه الايام حتى أصبحت أيام الله؟ والجواب:لأنَّ هذه الايام شهدت بعض تجليات الله تعالى لخلقه بصفاته الحسنى.ففي يوم ميلاد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبعثته تجلت رحمة الله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107) {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} (يونس:58) وفي يوم الغدير تجلت حكمة الله تعالى وشفقته على عباده.

وفي يوم عاشوراء تجلت عظمة الله تعالى حينما تستعظم ما قدمه الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لله تعالى، وتجلّى حلم الله تعالى إذ لم ينزل نقمته وبأسه على الأشرار، ويتجلى ما يمنّ به على عبادّه المصطفين من التوحيد الخالص والفناء في محبة الله تعالى.

وفي يوم فتح مكة وعندما يظهر الحجة القائم (عج) يتجلى نصر الله وفتحه على عباده المؤمنين، ويتحقق وعد الله تعالى {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور:55).

وفي اي يوم يتحقق فيه إنجاز للبشرية يسعدها ويرّفه حياتها ويخلّصها من معاناتها من الفقر او المرض او الخوف وغيرها تتجلى قدرة الله تعالى إذ زوّد البشرية بهذا العقل المبدع وما يتفق عنه من علوم حتى ألف مجموعة من

ص: 344

علماءالغرب كتاب (الله يتجلى في عصر العلم)(1).وحينما أغرق فرعون وجنوده وأهلكت عاد وثمود وصدام تجلت عدالة الله تعالى وإنتقامه، وإذا مات إنسان تجلّت صفة (القّهار) كما في الدعاء (فَيا مَنْ تَوَحَّدَ بِالْعِزِّ وَالْبَقاءِ، وَقَهَرَ عِبادَهُ بِالْمَوْتِ وَالْفَناءِ)(2) وتجلّت صفة (الباقي) لله تعالى (فان أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون)(3) بحسب المروي عن الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فالاحتفال بهذه الأيام واستذكار ما جرى فيها إنما هو امتثال لهذه الآية الشريفة وتجديد لذكر الله تعالى.

وقد تعدّدت الروايات في تفسير هذه الآية بمعاني متعددة إشارة الى هذه المناشيء المتعددة لتسمية الأيام بأيام الله تعالى فقد روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (أيام الله نعماؤه وبلاؤه وهي مَثُلاتُه(4)سبحانه)(5) وروي عن ابي جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (أيام الله عز وجل ثلاثة:يوم يقوم القائم، ويوم الكرّة – أي الرجعة – ويوم القيامة)(6) وعن ابي عبد الله الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ذكرّهم بنعم الله سبحانه في08

ص: 345


1- كتاب: <لله يتجلى في عصر العلم> لمجموعة من كبار العلماء الأمريكيين في تخصصات علمية مختلفة في علوم الكون والحياة من كيمياء وفيزياء وتشريح وأحياء، تذكر كلها أنواعا من الأدلة العلمية على وجود الله.
2- مفاتيح الجنان: 95, آخر دعاء الصباح
3- الإرشاد- الشيخ المفيد: 2/ 94
4- من قوله تعالى {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ} (الرعد :6) أي النقمات التي تجعل من تنزل به مثالاً يرتدع به الآخرون.
5- الأمالي- الشيخ الطوسي: 491.
6- الخصال- الشيخ الصدوق: 108

سائر أيامه)(1).اقول:بقية الآية ونهايتها تشعر بهذا المعنى قال تعالى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (إبراهيم:5)، فالصبر على البلاء والشكر على النعماء.

وقد يضيف الله تعالى بعض الأيام الى نفسه ليزيد فيها من عطائه الخاص على عباده فيدعوهم الى ذكره ودعائه ليذكرهم برحمته وكرمه وعفوه ومغفرته {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} (البقرة:152) كيوم عرفة وشهر رمضان ومنها هذه الايام التي أطلّت علينا مع حلول شهر رجب المرجو لكل خير كما في الدعاء المستحب فيه يومياً (يا من أرجوه لكل خير وآمن سخطه عند كل شهر)(2)، فقد شرّف الله تعالى هذه الايام وبارك فيها من الطافه ودعاهم الى التعرض لنفحاته (إن لله في دهركم نفحات الا فتعرضوا لها)(3)، أي تعرضوا لأسبابها من الأزمنة والامكنة والاحوال المختلفة لأن نفس النفحات من الغيب الإلهي ولا يعلمها العباد فكيف يتعرضون لها؟

فكل أيام هذه الأشهر الثلاثة (رجب وشعبان ورمضان) شريفة ومباركة وسنّ لها الأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أعمالاً مستحبة كثيرة، وتتلألأ خلالها أيام اشد نوراً وعطاءاً ومنها اليوم الاول من رجب وليلته، في الحديث الشريف عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن ابائه عن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (كان يعجبه أن يفرغ نفسه أربع ليالٍ في السنة، وهي أول ليلة من رجب وليلة النصف من شعبان وليلة الفطر وليلة88

ص: 346


1- تفسير البرهان :5/ 233.
2- مفاتيح الجنان: 186
3- أنظر ملحق القبس/14, {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} (آل عمران:133) من نور القرآن: 1/ 188

النحر)(1).وفي الختام نقول ان الآية الكريمة تدعو جميع المؤمنين الرساليين أن يتأسوا بالأنبياء العظام والأئمة الكرام (صلوات الله عليهم أجمعين) فيذكرّون الناس بأيام الله تعالى، تلك الايام التي تربطهم بالله تعالى وتزيد معرفتهم به وتوثق علاقتهم بربهم.ب.

ص: 347


1- مفاتيح الجنان:176 أعمال الليلة الاولى من رجب.

القبس/74: سورة إبراهيم:28

اشارة

{ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعمَتَ ٱللَّهِ كُفرا}

يرجون وعده ويخشون عذابه:

من آداب تلاوة القرآن الكريم أن نقف عند كل آية عذاب وتحذير وتخويف وتهديد لنتوقع استحقاقنا لها، وأن نقف عند كل آية وعد وترغيب وتكريم ونعيم لنرجو أن نكون مشمولين بها، ولا نتصور أننا في مأمن ومنأى من آيات التخويف والتهديد، ورد في وصف سيرة الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إنه كان (يكثر بالليل في فراشه من تلاوة القرآن فإذا مرّ بآية فيها ذكر جنة أو نار بكى وسأل الله الجنة وتعوّذ من النار)(1) وروي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في صفة الذين يتلونه حق تلاوته قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ويرجون وعده ويخشون عذابه)(2) ولنأخذ ذلك مثلاً قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} (إبراهيم:28).

كم من مُنعَم عليه وهو لا يعلم

يتصور أكثر الناس أن النعمة هي المال والحياة المرفّهة، وهذا لا شك

ص: 348


1- عيون أخبار الرضا:2/ 182 ح5.
2- تنبيه الخواطر:2/ 236.

مصداق مهم للنعمة لكن مصاديقها أوسع من ذلك بكثير مما لا يلتفت إليه أغلب الناس، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (الصحة والفراغ نعمتان مكفورتان) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (نِعمتان مكفورتان:الأمن والعافية) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (نعمتان مفتون فيهما كثير من الناس:الفراغ والصحة).(1)وكل نعمة من هذه النعم تتحلل إلى ما لا يعد ولا يحصى من النعم، قال تعالى {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} (النحل:18) وقد شرحنا في بعض خطبنا السابقة أمثلة على ذلك، ولكن الإنسان يغفل عنها غالباً، عن الإمام الصادق(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (كم من مُنعَم عليه وهو لا يعلم) ولا يحسّ بقيمتها إلا إذا فقدها لا سامح الله، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(من كان في النعمة جهل قدر البليّة) وعن الإمام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (تجهل النعم ما أقامت، فإذا ولّت عُرفت)، وإن كان في غنى عن الوصول إلى هذه المرحلة، إذ يكفي تذكرها والالتفات إليها أو تخيّل أضدادها لمعرفة قيمتها، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إنما يُعرف قدر النعم بمقاساة ضدّها).

نعمة الإيمان بالله ورسوله وولاية أهل البيت ع:

ولابد أن نلتفت إلى أن الأهم من النعم المادية المذكورة النعم المعنوية، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إن من النعم سعة المال، وأفضل من سعة المال صحة البدن، وأفضل من صحة البدن تقوى القلب) وعن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (لا نعمة كالعافية، ولا عافية كمساعدة التوفيق).

ص: 349


1- تجد مصادر هذه الروايات في:ميزان الحكمة:9/ 72.

ومن النعم المعنوية اجتماع الكلمة على الإيمان بالله تعالى وبرسوله وولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) كما ورد في تفسير قوله تعالى {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} (آل عمران:103) قالت الصدّيقة الزهراء (س) في خطبتها(1)(فأنقذكم الله بأبي محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)) وروى العياشي في تفسيره قال:كان أبو عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إذا ذكر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(بأبي وأمّي ونفسي وقومي وعترتي عجبٌ للعرب كيف لا تحملنا على رؤوسها والله يقول في كتابه (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) فبرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والله أنقذوا)(2) ما ورد عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في تفسير قوله تعالى {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (لقمان:20) (أما ما ظهر فالإسلام وما سوّى الله من خلقك، وما أفاض عليك من الرزق، وأما ما بطن فستر مساوئ عملك ولم يفضحك به)(3)، وعن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (النعمة الظاهرة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وما جاء به النبي من معرفة الله عز وجل وتوحيده، وأما النعمة الباطنة ولايتنا أهل البيت وعقدُ مودتنا) وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ما أنعم الله على عبد أجلّ من أن لا يكون في قلبه مع الله عز وجل غيره) (4) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن من النعمة تعذّر المعاصي) (5)، وعن الإمام49

ص: 350


1- الإحتجاج- الطبرسي: 1/ 100
2- تفسير العياشي:1/ 218 ح126.
3- ميزان الحكمة- الريشهري: 4/ 3309.
4- بحار الأنوار- المجلسي: 67/ 198
5- عيون الحكم والمواعظ- الليثي: 149

الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (النعمة الظاهرة الإمام الظاهر، والباطنة الإمام الغائب) (1).

كيفية الحفاظ على النعمة:

وبعد الاطلاع على سعة النعمة وتنوعها وأهميتها ينفتح السؤال عن كيفية الحفاظ عليها وإدامتها لأنها معرضة للزوال - والعياذ بالله - فلابد من الحذر، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (أحسنوا مجاورة النعم، لا تملّوها ولا تنفرّوها، فإنها قلما نفرت من قوم فعادت إليهم) (2) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (أحسنوا صحبة النعم قبل فراقها، فإنها تزول وتشهد على صاحبها بما عمل فيها)(3).

شكر النعمة:

والذي يوجب بقاء النعمة ودوامها ويمنع من نفورها شكر النعمة، والذي يوجب نفور النعمة وزوالها كفر النعمة، وهما معنيان متضادان يعرف معنى كل منهما بعكس معنى الآخر عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أحسن الناس حالا في النعم من استدام حاضرها بالشكر وارتجع فائتها بالصبر) (4) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر) (5) وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لا تدوم النعم إلاّ بثلاث:معرفة بما يلزم لله سبحانه فيها، وأداء شكرها، والتعب

ص: 351


1- كمال الدين وتمام النعمة- الشيخ الصدوق: 1/ 396
2- مستدرك الوسائل- المحدث النوري: 12/ 369
3- علل الشرائع- الشيخ الصدوق: 2/ 464
4- ميزان الحكمة- الريشهري: 4/ 3313
5- وسائل الشيعة (آل البيت): 16/ 328

فيها) (1) وعن الإمام الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (القوا النعم بحسن مجاورتها والتمسوا الزيادة فيها بالشكر عليها)(2).

أشكال الشكر والكفر بالنعم:

إن كفر النعمة وما يقابله من شكرها له معانٍ وأشكال عديدة:

1-عدم استعمالها في طاعة الله تعالى كما مرّ في الأحاديث الشريفة التي وصفت الفراغ والصحة والأمن بأنّها نعم مكفورة لأنّها لم تُستثمر في طاعة الله تعالى، والأسوأ أن تستخدم في معاصيه، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(أقل ما يلزمكم لله ألاّ تستعينوا بنعمه على معاصيه)(3) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (استتموا نِعم الله عليكم بالصبر على طاعته، والمجانبة لمعصيته)(4).

وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن أردت أن يُختم بخير عملك حتى تُقبض وأنت في أفضل الأعمال فعظّم لله حقّه أن لا تبذل نعماءه في معاصيه)(5).

2-عدم أداء حقوق النعمة كمن لا يؤدي ما بذمته من الحقوق الشرعية أو يهمل أداء فريضة الحج وهو مستطيع أو لا يصوم شهر رمضان وهو قادر وهكذا، وفي ذلك قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اضرب بطرفك حيث شئت من الناس، فهل تبصر إلاّ فقيراً يكابد فقراً، أو غنيّاً بدّل نعمة الله كفراً، أو بخيلاً اتّخذ البخل بحقّ

ص: 352


1- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 318
2- بحار الأنوار- المجلسي: 75/ 370
3- نهج البلاغة: 4/ 78
4- مستدرك الوسائل- المحدث النوري: 12/ 369
5- بحار الأنوار- المجلسي: 70/ 351

الله وفرا)(1) ومحل الشاهد تطبيق الإمام الآية بالنص على من لم يؤدي حقوق الله تعالى في أمواله، وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(يا أيّها الناس:إنّ لله في كلّ نعمة حقّاً، فمن أدّاهُ زاده، ومن قصّر عنه خاطر بزوال النعمة وتعجّل العقوبة، فليراكم الله من النعمة وجلين كما يراكم من الذنوب فرقين)(2) ويشرحها الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بقوله:(إنّ صاحب النعمة على خطر، إنه يجب عليه حقوق الله فيها، واللهِ إنّه لتكون عليَّ النعم من الله عزّ وجل فما أزال منها على وجل- وحرّك يده - حتّى أخرج من الحقوق التي تجب لله عليّ فيها)(3).فكلّ نعمة تستوجب حقّاً، الوالدان نعمة ولهم حقوق، والمرجعية المخلصة العاملة نعمة ولها حقوق، والجاه والموقع نعمة وعلى صاحبه حقوق، عن الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(استعمال العدل والإحسان مؤذن بدوام النعم)(4)، وهكذا.

ومن كفر النعمة التقصير باستعمال ما أنعم الله تعالى عليه في خدمة الناس وقضاء حوائجهم وإدخال السرور عليهم، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (إن لله عباداً اختصهم بالنعم يُقرّها فيهم ما بذلوها للناس فإذا منعوها حوّلها منهم إلى غيرهم)(5) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من كثرت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس إليه، فمن قام لله فيها بما يجب فيها عرّضها للدوام والبقاء، ومن لم يقم فيها بما يجب72

ص: 353


1- نهج البلاغة:الخطبة 129 في ذكر المكاييل والموازين.
2- بحار الأنوار- المجلسي: 75/ 43
3- بحار الأنوار- المجلسي: 49/ 105
4- عيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- الصدوق: 1/ 26
5- عوالي اللئالي- الأحسائي: 1/ 372

عرّضها للزوال والفناء)(1).فالذي يمكّنه الله تعالى في الأرض ويضع تحت تصرفه موارد الدولة والشعب وهو يسخّرها لمصالحه الشخصية والحزبية فهو ممن بدّل نعمة الله كفراً، والذي يستعمل الوسائل العلمية الحديثة التي أنعم الله تعالى بها على عباده في غير مرضاة الله فهو ممن بدّل نعمة الله كفرا وهكذا.

3-عدم التحديث بها ونشرها قال تعالى {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى:11) روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (إنّ الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده)(2) وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إذا أنعم الله على عبده بنعمة فظهرت عليه سُمّي حبيب الله محدثاً بنعمة الله، وإذا أنعم الله على عبدٍ بنعمة فلم تظهر عليه سُمي بغيض الله مكذّباً بنعمة الله) فاعتباره مكذّباً بنعمة الله مبغوضاً عند الله تعالى لأنّه لم يحدّث بنعمة الله ولم يظهرها، وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إنّي لأكره للرجل أن يكون عليه نعمة من الله فلا يظهرها).

كمال النعمة وتمامها:

وإنّ أعظم النعم على الإطلاق الإسلام كما دلّت عليه الروايات الشريفة عن الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قوله تعالى {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى:11) قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أمره أن يحدّث بما أنعم الله به عليه في دينه)، وتمام هذه النعمة التي كمُل بها الإسلام نعمة ولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بدلالة النصوص القرآنية ومنها

ص: 354


1- ميزان الحكمة – الريشهري:4/ 3313
2- الحديث وما بعده تجدها في ميزان الحكمة- الريشهري: 4/ 3313-3316-3317-3318

الآية الشريفة التي نزلت في واقعة الغدير وتنصيب أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إماماً وهادياً للأمة وخليفة لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فنزل قوله تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} (المائدة:3) وما ورد في تفسير قوله تعالى {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} (التكاثر:8) من حديث الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مع أبي حنيفة قال:(نحنُ - أهل البيت- النعيم الذي أنعم الله بنا على العباد وبنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين وبنا ألّف الله بين قلوبهم وجعلهم اخواناً بعد أن كانوا أعداءاً وبنا هداهم الله إلى الإسلام وهي النعمة التي لا تنقطع، والله سائلهم عن حقّ النعيم الذي أنعم الله به عليهم وهو النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعترته)(1) فأهل البيت ليسوا نعمة فقط بل نعمة باقية ثابتة مقيمة فتكون كثيرة مباركة لذا وصفهم بالنعيم.ومن مجموع هذه المقدمات نصل إلى نتيجة:أن أوضح مصاديق تبديل نعمة الله كفراً هم الذين لم يؤمنوا بالإسلام وأشركوا بالله تعالى وأنكروا نبوة الرسول محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

الإعراض عن ولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ):

وممن تنطبق عليهم الآية كلّ من أعرض عن ولاية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولم يلتزم بوصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فضلاً عمّن ظلم أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ونصب لهم العداوة والبغضاء فهو ممن بدّل نعمة الله كفراً.

وهذه النتيجة مذكورة نصّاً في القرآن الكريم بلفظ الانقلاب الذي هو معنى

ص: 355


1- راجع الروايات في تفسير البرهان:10/ 230.

آخر لتبديل النعمة كفراً قال تعالى {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران:144) فالألفاظ المستعملة نفسها وهي الانقلاب المرادف للتبديل والشكر المقابل للكفر.ووردت في ذلك روايات عديدة ففي الكافي بسنده عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(ما بال أقوام غيّروا سنّة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعدلوا عن وصيّه لا يتخوّفون أن ينزل بهم العذاب) ثمّ تلا هذه الآية {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ، جهنّم يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} (إبراهيم:28-29) ثمّ قال (نحن النعمة التي أنعم الله بها على عباده، وبنا يفوز من فاز)(1).

وعلينا أن نتذكر أن من كفر النعمة عدم إظهارها والتحديث بها وعدم القيام بحقوقها كما دلّت عليه الروايات المتقدّمة، فمن قصّر في إظهار نعمة ولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ولم يتحرّك لإقناع الناس بها بأيّ وسيلة خصوصاً مع توسّع وسائل تبادل المعلومات ونقلها، أو لم يحفظ حرمة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في سلوكه وصفاته فهو ممّن لم يشكر هذه النعمة وربّما انطبقت عليه الآية بمعنى من المعاني.

فليتفقّه كلّ شيعة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في دينهم وليطلعوا على سيرة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ومناقبهم وفضائلهم ومحاسن كلامهم ليوصلوها إلى البشرية جمعاء إذا أردنا أن نكون من الشاكرين على هذه النعمة، وحتى نكون صادقين مع الله1.

ص: 356


1- الكافي:1/ 169 ح1.

تعالى ومع أنفسنا حينما نتبادل التهاني والتبريكات في مثل هذه الأيام ونحمد الله تعالى على التشرّف بولاية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ومباهلة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ونزول سورة هل أتى والتصدّق بالخاتم وغيرها من المناقب الكثيرة.وعلينا أن نُحيي أمر أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) خصوصاً الشعائر الفاطمية والحسينية شكراً لله تعالى على نعمة مودّتهم وولايتهم وقد كثرت الروايات عنهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنّهم هم النعمة التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم وبهم يفوز من فاز، وقد مرّ في الأحاديث الشريفة أن شكر النعمة يتحقق بإظهارها والتحدّث بها.

ص: 357

القبس/75: سورة إبراهيم:36

اشارة

{فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُۥ مِنِّي ۖ}

موضوع القبس:شرف الانتماء ومسؤوليته

الآية الكريمة تبيّن على لسان النبي إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) المقياس الحقيقي للانتساب إلى النبي أو الامام أو القائد ورئيس الجماعة بشكل عام وانه يتحقق بالطاعة والاتباع في الأقوال والأفعال وليس بادعاء الانتساب أو اللحمة النسبية، لذلك يردّ الله تبارك وتعالى في آية أخرى على اليهود والنصارى الذين ادعوا انهم السائرون على دين إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والحافظون له، وثبت حقيقة الانتساب، قال تعالى {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَ-ذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران:68) بعد أن نفى في الآية السابقة دعواهم {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (آل عمران:67).

والآية الكريمة تفيد حقيقتين:

فهي من جهة:تمنح الملتزمين بنهج النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وآله الكرام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وساماً تكريمياً من أعلى الدرجات بأن تجعلهم منهم (صلوات الله عليهم أجمعين) وتدلّ على الطريق الذي يوصلك الى أن تكون من أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وكفى بذلك شرفاً وكرامة، وقد صرح المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لبعض أصحابهم بنيل هذا الوسام

ص: 358

مثل سلمان الفارسي (رضوان الله تعالى عليه) حيث قال الإمام أبو جعفر الباقر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): لا تقولوا سلمان الفارسي، ولكنْ قولوا سلمان المحمّدي، ذلك رجلٌ منّا أهل البيت)(1) و قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (وإنما صار سلمان من العلماء لأنه امرؤ منا أهل البيت فلذلك نسبه إلينا)(2).وروى ربعي بن عبدالله، قال (حدثني غاسل الفضيل بن يسار، قال:اني لأغسل الفضيل بن يسار وأن يده لتسبقني إلى عورته، فخبرت بذلك أبا عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال لي:رحم الله الفضيل بن يسار، وهو منا أهل البيت)(3).

وروى عمر بن يزيد قال (قال لي أبو عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):يا بن يزيد أنت والله منا أهل البيت، قلت له:جعلت فداك من آل محمد؟ قال:أي والله من أنفسهم، قلت:من أنفسهم؟ قال:أي والله من أنفسهم يا عمر، أما تقرأ كتاب الله عزوجل {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَ-ذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ})(4) .

وروى يونس بن يعقوب قال (كنت بالمدينة فاستقبل جعفر بن محمد عليهما السلام في بعض أزقتها، قال، فقال:اذهب يا يونس فان بالباب رجلاً منا أهل البيت. قال:فجئت إلى الباب فإذا عيسى بن عبدالله القمي جالس، قال:فقلت له من أنت؟ فقال له:أنا رجل من أهل قم، قال:فلم يكن بأسرع من أن أقبل أبو عبدالله23

ص: 359


1- اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي 12
2- بحار الأنوار:2/ 462 ح 25 باب 26
3- اختيار معرفة الرجال:ج2 ص473
4- رجال الكشي:2/ 623

(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، قال:فدخل على الحمار الدار، ثم التفت إلينا فقال:أدخلا. ثم قال:يا يونس بن يعقوب أحسبك أنكرت قولي لك أن عيسى بن عبدالله منا أهل البيت! قال قلت: أي والله جعلت فداك لأن عيسى بن عبدالله رجل من أهل قم، فقال يا يونس عيسى بن عبدالله هو منا حي وهو منا ميت)(1) .وروى يونس مثل هذا القول عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في عيسى بن عبدالله القمي.

وروى الشيخ المفيد في كتاب الاختصاص عن أبي حمزة قال (دخل سعد بن عبد الملك وكان أبو جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يسميه سعد الخير وهو من ولد عبد العزيز بن مروان على أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فبينا ينشج كما تنشج النساء قال:فقال له أبو جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):ما يبكيك يا سعد؟ قال وكيف لا أبكي وأنا من الشجرة الملعونة في القرآن، فقال له:لست منهم أنت أموي منا أهل البيت أما سمعت قول الله عز وجل يحكي عن إبراهيم:(فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي)(2).

وترقى هذه المنزلة إلى ما ورد في بكير بن أعين أخي زرارة من (أن أبا عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما بلغه وفاة بكير بن أعين قال:اما والله لقد انزله الله بين رسوله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما)(3).

ومن جهة أخرى:تبيّن شرط هذا الانتماء، وإن هذه الأوسمة ليست تشريفاً مجرداً من دون استحقاق وتحمّل للمسؤولية التي يوجبها الانتماء والانتساب إلى71

ص: 360


1- رجال الكشي:2/ 624
2- الاختصاص- الشيخ المفيد: 85
3- رجال الكشي:1/ 456 رقم الترجمة71

الجهة أية جهة، فلإسلامك حق عليك ولولايتك لأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) حقوق ولارتباطك بمرجعية معينة استحقاقات وكذا لانتسابك لبلد معين كالعراق أو لمدينة معينة كالنجف الأشرف أو لأسرة معينة وهكذا تكون لكل جهة تنتسب إليها مسؤولية الانتماء.روى في مجمع البيان عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (إن أولى الناس بالأنبياء اعملهم بما جاؤوا به) ثم تلا آية آل عمران المتقدمة وقال:(إن ولي محمد من اطاع الله وإن بعدت لحمته وإن عدو محمد من عصى الله وإن قربت قرابته)(1).

وروى في الدر المنثور عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (يا معشر قريش أن أولى الناس بالنبي المتقون فكونوا أنتم بسبيل ذلك فانظروا لا يلقاني الناس يحملون الاعمال وتلقوني بالدنيا تحملونها فاصدُّ عنكم بوجهي) ثم تلا الآية(2) .

وروي عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (من اتقى منكم وأصلح فهو منا أهل البيت، قيل له:منكم يا بن رسول الله؟ قال:نعم، منا، أما سمعت قول الله عزوجل:{وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} وقول إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي}(3).

اذن فالفرصة مفتوحة أمام الجميع ليكونوا من أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وليس فقط من أصحابهم أو مريديهم وذلك ما نطقت به الآية الشريفة فإنها ظاهرة في كلا62

ص: 361


1- نور الثقلين:1/ 353 عن المجمع
2- الدر المنثور:2/ 43
3- دعائم الإسلام:ج1 ص 62

المعنيين:امتياز المتبع والمطيع للأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) بأن يكون منهم وبنفس الوقت تتضمن معنى اشتراط الاتباع والطاعة.إن الارتباط النسبي بالنبي والأئمة المعصومين وكذا الانتماء إلى قومية معينة أو جنس أو لغة أو لون خارج عن اختيار الانسان فلا يمكن ان يكون سبباً للتفاضل بين الناس ومثل هذه الدعوات لتفوق بعض البشر على بعض عصبية جاهلية، وإنما المقياس الحقيقي للانتماء هو الطاعة والاتباع، ولذا يؤدّب الله تعالى نساء النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن لا يتخذن هذا العنوان سبباً للتفاخر وإن تميزهنّ الحقيقي بالعمل الصالح {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً} (سورة الأحزاب:مقاطع من الآيات:29-32).

وكان الرد من الله تعالى حازماً في ابن النبي نوح لما عصى أباه، قال تعالى {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} (هود:46).

وقد بيَّن المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في احاديث مفصَّلة صفات المنتسب لهذه الجماعة المباركة وحرصوا على بيان مسؤوليات الانتماء لهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وجمع الأصحاب هذه الروايات في كتبهم ومنها (صفات الشيعة) للشيخ الصدوق ومن تلك الروايات ما ورد عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدى الأمانة وحسن خلقه مع الناس، قيل هذا جعفري،

ص: 362

فيسرّني ذلك ويدخل عليّ منه السرور، وقيل هذا أدب جعفر، وإذا كان على غير ذلك دخل علي بلاؤه وعاره، وقيل هذا أدب جعفر)(1) .وروى زيد الشحام عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (يا زيد خالقوا الناس بأخلاقهم صلّوا في مساجدهم وعودوا مرضاهم واشهدوا جنائزهم - هذا مع العامة من غير الموالين ونحن نرى اليوم من يقاطع المسجد اذا كان إمام الجماعة يقلّد مرجعاً آخر -، وان استطعتم ان تكونوا الأئمة والمؤذنين فافعلوا، فانكم اذا فعلتم ذلك قالوا:هؤلاء الجعفرية، رحم الله جعفراً، ما كان أحسن ما يؤدب أصحابه، واذا تركتم ذلك قالوا:هؤلاء الجعفرية، فعل الله بجعفر، ما كان اسوأ ما يؤدب أصحابه)(2) .

وكانوا يحثون اصحابهم والمنتمين اليهم أن يكونوا بمستوى المسؤولية ولا يرى الناس منهم الا خيرا ليكونوا صورة مشرقة عن أئمتهم ومنها وصيتهم العامة (معاشر الشيعة، كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حسناً، احفظوا ألسنتكم وكفّوها عن الفضول وقبيح القول)(3) .

وفي رواية معتبرة عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (مالكم تسؤون رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ؟ فقال له رجل كيف نسوؤه؟ فقال:أما تعلمون أن أعمالكم تعرض عليه، فإذا رأى معصية ساءه ذلك، فلا تسوؤا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وسَرّوه)(4) . 3

ص: 363


1- الكافي:ج2 / ص 636
2- وسائل الشيعة:8/ 430 كتاب الصلاة ، أبواب الصلاة الجماعة ، باب 75 ح1
3- امالي الصدوق:484
4- الكافي :1/ 171 ح 3

فالانتماء والهوية ليست امراً بيدك فقط حتى تفعل ما تشاء من دون مراعاة لاستحقاقاتها بل لها طرف آخر يطالب بتحمّل مسؤولية هذه الهوية وهذا الانتماء لأن أي شيء حسن أو سيء والعياذ بالله يرجع على من تنتسب إليه.ويُحسن أن نشير باختصار إلى موقف لمن يشعر بمسؤولية الانتماء، فقد حكي ان شخصاً عثر على مال نفيس في السوق فاحتفظ به وراح يسأل عن صاحبه ليعيده إليه فقيل له ان صاحبه يهودي وليس عليك أن ترجعه له وانت احوج إليه، فقال:هل تريدون ان يشعر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالخجل يوم القيامة بسببي؟ قيل وكيف ذاك؟ قال لأن نبي صاحب المال وهو موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سيقول لنبينا محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ان رجلاً من امتك أخذ مال رجل من امتي بدون رضاه؟

ص: 364

القبس/76: سورة إبراهيم:42

اشارة

{وَلَا تَحسَبَنَّ ٱللَّهَ غَفِلًا عَمَّا يَعمَلُ ٱلظَّلِمُونَ ۚ}

موضوع القبس:عاقبة الظلم

الظلم هو تجاوز الحد والحق وعدم وضع الشيئ في موضعه وقد يقع الظلم بين الانسان وربّه بالمعصية فانها تجاوز على حقوق الربوبية وحدود العبودية واشدّه الكفر والشرك {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان:13)، والثاني بين الانسان واخية الانسان عندما يتجاوز حدوده ويعتدي على حقوق الاخرين المادية والمعنوية {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} (الشورى:42)، والثالث بينه وبين نفسه {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} (فاطر:32) والأخير موجود في الاولين فانه اول ما يظلم يظلم نفسه حينما يتجاوز الحدود مع ربّه او يعتدي على حقوق الناس ويجّر بذلك على نفسه العاقبة السيئة {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (البقرة:57).

فالآية محل البحث تحذّر من كل اشكال الظلم خصوصاً ظلم الناس لانه (الذنب الذي لا يغفر)(1)، كما في بعض الاحاديث الشريفة الا انه يغفره من وقع عليه الظلم اما الآخران فيمكن ان يُغفرا بالتوبة الصادقة، وتؤكد للناس حقيقة ان

ص: 365


1- الكافي، ج 2، ص 443.

الله تعالى لا يغفل عن هذه المظالم ويسجلّها صغيرة كانت او كبيرة ويحاسب عليها {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} (الفجر:14) فليتقي الانسان ربّه وليراقب نفسه ويدّقق في اعماله. روى الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال لما حضر علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الوفاة ضمّني إلى صدره ثم قال (يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة وبما ذكر أن أباه أوصاه به قال:يا بنيّ إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلاّ الله)(1) وقد روي الحديث عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فعن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (يقول الله عز وجل:اشتد غضبي على من ظلم من لا يجد ناصراً غيري)(2)، أي ظلم من لا يمتلك القوّة والنفوذ لاسترداد حقّه إمّا لضعفه كالمرأة واليتيم والمستضعف أو لغيبته وعدم علمه أو لترفعه عن ردّ الإساءة بمثلها.

وتكتسب هذه الوصية أهمية كبيرة من جهة كونها الوصية الأخيرة في الحياة وعادة ما تتضمن مثل هذه الوصية أهم ما يريد أن يقوله الموصي، ومن جهة تواتر الوصية بها من معصوم الى معصوم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) , وهم أبعد ما يكونون عن الظلم مطلقاً ,وهو ما دلت عليه الآية الشريفة {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (البقرة:124) فبلوغهم مقام الإمامة يعني انهم منزهون عن الظلم، وإنما أريد من التأكيد على هذه الوصية ترسيخها في ذهن الأمة حتى تصبح لهم شعاراً في حياتهم.ر.

ص: 366


1- الكافي:2/ 331 ح5.
2- ميزان الحكمة:5/ 304 عن عدة مصادر.

تجنب الظلم الأخلاقي: من أخلاق أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) :

وكانوا (صلوات الله عليهم أجمعين) ينزهون أنفسهم عن الظلم بكل أشكاله ومستوياته حتى إذا لم يصل الى مستوى المخالفة الشرعية لكنه لا يليق بأخلاقهم العظيمة , روى الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن أبيه السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (إني حججتُ على ناقتي هذه عشرين حجة لم أقرعها بسوط)(1).

هذا هو ديدن الأئمة في الترفع عن الظلم مهما كان ضئيلاً وفي أي مستوى من مستوياته، يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (والله لأَن أبيتَ على حسكَ السعدان مسهّداً، أو أُجرَّ في الأغلال مصفّدا أحبُّ إليَّ من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيء من الحطام، وكيف أظلمُ أحداً لنفس يُسرِعُ إلى البلى قُفوُلُها، ويطول في الثرى حُلولُها)(2) وذكر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حادثته مع أخيه عقيل عندما أحمى له حديدة، ثم قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (والله لو أعطيتُ الأقاليمَ السبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي الله في نملةٍ أسلبها جُلبَ شعيرة ما فعلته)(3).

وكان الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يترفع عن الانتقام ومقابلة من ظلمه بالمثل لأنه يرى المقابلة بالمثل ومعاقبة المسيء سيئة وان الأليق بخصاله الكريمة العفو والصفح والإحسان إلى المسيء، تأدباً بقوله تعالى {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} (المؤمنون:96) وقوله تعالى {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت:34) وقوله تعالى

ص: 367


1- المحاسن للبرقي:2/ 635.
2- - (3) نهج البلاغة:الخطبة 221. بيان:الحسك:الشوك، والسعدان نبت ترعاه الإبل له شوك، والمسهَّد:السهران، والمصفّد:المقيَّد، والقفول:الرجوع، وجِلب الشعيرة:غطاؤها.

{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النور:22) فالذي يرجو عفو الله تعالى وإحسانه وفضله وكرمه لابد أن يتعامل مع الناس على هذا الأساس.روي:إن مولى لعلي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)يتولى عمارة ضيعة له، فجاء ليطلعها فأصاب فيها فسادا وتضييعا كثيرا غاضه من ذلك ما رآه وغمه، فقرع المولى بسوط كان في يده، وندم على ذلك، فلما انصرف إلى منزله أرسل في طلب المولى، فأتاه فوجده كاشفاً عن ظهره والسوط بين يديه، فظن أنه يريد عقوبته , فاشتد خوفه.

فأخذ علي بن الحسين السوط ومد يده إليه وقال:يا هذا قد كان مني إليك ما لم يتقدم مني مثله، وكانت هفوة وزلة فدونك السوط واقتص مني.

فقال:يا مولاي، و الله لقد ظننت أنك تريد عقوبتي، و أنا مستحق للعقوبة، فكيف أقتص منك؟!

قال:(ويحك اقتص).

فقال:معاذ الله، أنت في حل و سعة، فكرر ذلك عليه مرارا، والمولى كل ذلك يتعاظم قوله ويجلله، فلما لم يره يقتص، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) له:أما إذا أبيت فالضيعة صدقة عليك، وأعطاه إياها)(1).

وفي رواية الطبقات الكبرى لابن سعد، ان عبد الله بن علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (لما عزل الوليد بن عبد الملك هشام بن إسماعيل عن ولاية المدينة9.

ص: 368


1- بحار الأنوار:ج46 ص99.

وأوقفه الوليد إلى الناس ليقتصوا منه، وكان يسيء إلى أبي، جمعنا أبي علي بن الحسين وقال:إن هذا الرجل قد عزل وقد أوقفه الوليد للناس فلا يتعرض له أحد بسوء، فقلت يا أبت، والله إن أثره عندنا لسيء وما كنا نطلب إلا مثل هذا اليوم. قال:يا بني نكله إلى الله، فوالله ما تعرض أحد بسوء من آل الحسين حتى تصرم أمره)(1).وروي في ذلك عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (أوحى الله إلى نبي من أنبيائه .. إذا ظُلمتَ بمظلمةٍ فارض بانتصاري لك فإن انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك)(2).

وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (لا يكبرّن عليك ظلم من ظلمك فانه يسعى في مضرّته ونفعك وليس جزاء من سرَّك أن تسوءَه)(3) .

التغاضي هو بلحاظ المظالم الشخصية لا الحقوق العامة:

ولابد أن نلتفت إلى أن هذا التغاضي وعدم الرد فيما يتعلق بالمظالم الشخصية، أما إذا كان الظلم يتعلق بالحقوق العامة خصوصاً إذا انتهكت محارم الله تعالى فالنهي عنه واجب والسكوت قبيح، روى في كنز العمال عن عائشة قالت: (ما رأيت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) منتصراً من ظلامة ظلمها قطّ إلا أن يُنتهك من محارم الله شيء، فإذا انتُهك من محارم الله شيء كان أشدَّهم في ذلك)(4).

ص: 369


1- موسوعة المصطفى العترة 7/ 64 عن عدة مصادر ذكرها.
2- بحار الأنوار:75/ 321 ح50.
3- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 82
4- ميزان الحكمة:5/ 308 عن كنز العمال:18716.

في ذم الظلم:

والأحاديث الواردة في ذم الظلم والتحذير منه كثيرة فعن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (إياكم والظلم، فإن الظلم عند الله هو الظلمات يوم القيامة) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال(لا تظلم أحداً، تُحشر يوم القيامة في النور)(1)، وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الظلم في الدنيا بوار وفي الآخرة دمار)، وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إياك والظلم فإنه أكبر المعاصي)، وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ألا وإنّ الظلمَ ثلاثةٌ:فَظلمٌ لا يُغفرُ، وظُلمٌ لا يُتركُ، وظُلمٌ مغفورٌ لا يُطلَبُ، فأمّا الظُّلمُ الذي لا يُغفرُ فالشِّركُ بالله... وأمّا الظُلمُ الذي يُغفرُ فَظلمُ العبدِ نفسهُ عندَ بعضِ الهّناتِ، وأمّا الظُلمُ الذي لا يُتركُ فظلمُ العِبادِ بَعضِهِم بعضاً)(2).

عاقبة الظلم:

وروي عن النبي في بيان عاقبة الظالم قال:(إنّه ليأتي العبدُ يومَ القيامةِ وقد سرّته حسناتُهُ، فيجيء الرجلُ فيقول:يا ربّ ظلمني هذا، فيؤخذ من حسناتِهِ فيجعل في حسناتِ الذي سأله، فما يزال كذلك حتّى ما يبقى له حسنةٌ، فإذا جاء من يسأله نظر إلى سيئاته فجعلت مع سيئات الرجل، فلا يزال يستوفى منه حتى يدخل النار)(3). وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من ظلم قُصِم عمره) ,وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (بالظلم تزول النعم).

ص: 370


1- هذه المجموعة من الروايات وغيرها في ميزان الحكمة:7/ 299 وما بعدها.
2- ميزان الحكمة ج7 ص303.
3- ميزان الحكمة ج7 ص299.

مديات الظلم:

ويتضح من الروايات التي ذكرنا جملة منها إن مديات الظلم واسعة لا ينجو منها أحد الاّ من عصم الله تبارك وتعالى ,لان الظلم هو عدم الوفاء بتمام الحق ,وأول حق لا نستطيع الوفاء به ونقصّر فيه حق الله تعالى في طاعته وعبادته مخلصين له الدين {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان:13).

ومن الظلم ظلم النفس باتّباع هواها وعدم مسك زمامها فتوقعه في المعاصي وتتمرد على الطاعات وهو مفتاح الظلم للآخرين ,عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من ظلم نفسه كان لغيره أظلم) فيقع في ظلم الأهل وعموم الناس سواء في تعامله معهم أو خلال تقصيره في المسؤوليات المناطة به كالطبيب الذي لا يلتزم بشرف مهنته في المستشفى ليراجعوه في العيادة الخاصة، أو المدرِّس الذي يقصّر في المدرسة حتى يلتحقوا بدروسه الخصوصية والموظف الذي لا يعمل بمهنية ونزاهة، والأم التي تقصّر في تربية أولادها وحفظ بيتها وشرف زوجها، أو السياسي في الحكومة والبرلمان الذي لا يبذل كل جهده في خدمة الشعب الذي ائتمنه على هذه المواقع والأمثلة تطول , فهذا كله ظلم.

حتى إن الظلم يمكن أن يقع في أمور بسيطة لا نتصورها كالتحكيم بين كتابتين أو رسمين أيهما أجمل إذا لم يكن منصفاً في حكمه كما ورد في الرواية عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ألقى صبيان الكتّاب ألواحهم بين يديه ليُخيِّر بينهم، فقال:أما إنها حكومة والجور فيها كالجور في الحكم)(1).

ص: 371


1- وسائل الشيعة، كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب بقية الحدود، باب8 ح2.

سبيل التخلص من الظلم:

ولا سبيل إلى التخلّص منها جميعاً إلاّ بالطلب من الله تعالى أن يرضي الخصماء عنه ويتولى ذلك بنفسه لأنه ولي الخلق جميعاً، ورد عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاء يوم الاثنين (وَأَسْأَلُكَ فى مَظالِمِ عِبادِكَ عِنْدي، فَاَيَّما عَبْد مِنْ عَبيدِكَ اَوْ اَمَة مِنْ اِمائِكَ كانَتْ لَهُ قِبَلي مَظْلِمَةٌ ظَلَمْتُها اِيّاهُ، في نَفْسِهِ اَوْ في عِرْضِهِ اَوْ في مالِهِ، اَوْ في اَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، اَوْ غيبَةٌ اغْتَبْتُهُ بِها، اَوْ تَحامُلٌ عَلَيْهِ بِمَيْلٍ اَوْ هَوىً، اَوْ اَنَفَة اَوْ حَمِيَّة اَوْ رِياء اَوْ عَصَبِيَّة. غائِباً كانَ اَوْ شاهِداً، وَحَيّاً كانَ اَوْ مَيِّتاً، فَقَصُرَتْ يَدى وَضاقَ وُسْعى عَنْ رَدِّها اِلَيْهِ وَاْلتَحَلُّلِ مِنْهُ، فَأَسْأَلُكَ يا مَنْ يَمْلِكُ الْحاجاتِ، وَهِىَ مُسْتَجيبَةٌ لِمَشِيَّتِهِ وَمُسْرِعَةٌ اِلى اِرادَتِهِ اَنْ تُصَلِيَّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَاَنْ تُرْضِيَهُ عَنّي بِما شِئْتْ، وَتَهَبَ لي مِنْ عِنْدِكَ رَحْمَةً، اِنَّهُ لا تَنْقُصُكَ الْمَغْفِرَةُ وَلا تَضُرُّكَ الْمَوْهِبَةُ، يا اَرْحَمَ الرّاحِمينَ).(1)

ومن دعا ء له (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)(اللهم اني اعتذر اليك من مظلومٍ ظلم بحضرتي فلم أنصره)(2) .

ومن دعائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)(اللهم فكما كرهت إلي أن أظلم، فقني من أن أظلم)(3).

ص: 372


1- الصحيفة السجادية: دعاء يوم الاثنين.
2- الصحيفة السجادية: الدعاء38 .
3- الصحيفة السجادية: دعاؤه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إذا اعتدي عليه أو رأى من الظالمين ما لا يحب) ص 95.

القبس/77: سورة الحجر:93

اشارة

{فَوَرَبِّكَ لَنَسَٔلَنَّهُم أَجمَعِينَ 92 عَمَّا كَانُواْ يَعمَلُونَ}

موضوع القبس:تنمية الشعور بالمسؤولية

يقسم الله تبارك وتعالى لرسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ويختار للقسم أسماً ذا مغزى من اسمائه وهو (الرب) الذي تولى تربيته ورعايته والعناية به على اتم وجه وهي العناية التي لمسها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في كل حياته واستشعر رفقها وحنانها وحبّها، فالقسم بهذا الاسم يكون أدعى للاذعان والتسليم بهذه الحقيقة.

وهو سبحانه لا يحتاج الى قسم لتصديق كلامه {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً} (النساء:122) وإنما يقسم تعالى لتأكيد القضية، وجلب المزيد من الاهتمام بها وإيقاظ المخاطبين من غفلتهم عن جدية هذا الأمر وواقعيته، وزاد في التأكيد باستعمال اللام ونون التوكيد.

{لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ} فكل البشر سيقفون للسؤال والحساب أمام الله تعالى بلا استثناء {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} (الصافات:24) وهو تبارك وتعالى لا يسأل للاستفهام وطلب التعرف لأنه تعالى {قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} (الطلاق:12) {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (يونس:61) {وَسِعَ كُلَّ

ص: 373

شَيْءٍ عِلْماً} (طه:98) وإنما السؤال للإقرار والتبكيت وإلزام المسؤول نفسه وكشفه (عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ).وهذا بذاته فيه الكثير مما يسمى ب-(وخز الضمير) والشعور بالخجل لظهور ما كان يخفيه الانسان من القبائح والتقصيرات {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} (الطارق:9) وكان عليه أن يلتفت حينما كان في الحياة الدنيا الى هذه الحقيقة ويعمل على أساسها بحذر وانتباه لا أن يضيّع نفسه بسبب الغفلة وإتباع الاهواء والشهوات {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ} (فصلت:22).

وفي قوله تعالى {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} عموم لكل ما عمل الإنسان، فالسؤال سيكون شاملاً لكل تفاصيل الحياة التي ستكون حاضرة وماثلة {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الجاثية:29) {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً} (الكهف:49) {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً} (آل عمران:30) وسيكون الجزاء – مثوبة وعقوبة – بحسب العمل {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} (الزلزلة:7-8).

والسؤال والاستفهام ما دام إقرارياً تبكيتياً فأنه قد لا يكون بتوجيه الكلام الى المسؤول كما هو المتعارف بل باستنطاق جوارحه واعضائه الشاهدة على أفعاله والحاضرة فيها {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النور:24).

وهذا الفهم يقدّم وجهاً لحل الاشكال بين الآية التي نحن فيها وقوله تعالى

ص: 374

{فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ} (الرحمن:39) وهنا السؤال متحقق لكن بالاستنطاق المذكور ولا يحتاج الى أن يسأل الانس والجان لفظياً عن أعمالهم لأنها ستكون حاضرة مع شهودها {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (يس:65) {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} (الرحمن:41).أمام هذه الحقائق {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} (فاطر:5) يكون حرياً بنا أن نستشعر هذه المسؤولية وان تكون حية في وجداننا وحاضرة في أذهاننا عند كل قول أو فعل وفي أي حال من أحوال النفس، فهذا الشعور بالمسؤولية هو أول ثمرة واستجابة لهذه الآية الكريمة تلبية لنداء الرب الكريم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال:24)، والآية تؤسس لحقل مهم من حقول علم التنمية البشرية الذي يحظى باهتمام واسع اليوم وهو الشعور بالمسؤولية.

وفي الخطوة التالية علينا أن نعي هذه المسؤولية ونتعرف على تفاصيلها ومجالاتها، لأن المعرفة أساس كل شيء، وإنما اخرج الانسان الى هذه الدنيا ليحَّصل هذه المعرفة ففي تفسير قوله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56) نقل عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن الامام الحسين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (خرج الحسين بن علي ع على أصحابه فقال:أيها الناس ان الله جل ذكره ما خلق العباد إلا ليعرفوه فإذا عرفوه عبدوه فإذا عبدوه استغنوا

ص: 375

بعبادته عن عبادة من سواه)(1) ولذا اكتسب العقل أعلى قيمة بين العبادات في الحديث (مَا عُبِدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنَ الْعَقْلِ)(2).والمسؤوليات الملقاة على عاتقنا في هذه الدنيا واسعة ومتشعبة وباتجاهات عديدة، سئل الامام علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (كيف أصبحت يا ابن رسول الله ؟ قال أصبحت مطلوباً بثمان خصال:الله تعالى يطلبني بالفرائض، والنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالسنة، والعيال بالقوت، والنفس بالشهوة، والشيطان بالمعصية، والحافظان بصدق العمل، وملك الموت بالروح، والقبر بالجسد، فأنا بين هذه الخصال مطلوب)(3) فالحديث يحمل معاني الاشفاق والقلق والعطف على من يعيش هذه التجاذبات وعليه ان يؤدي هذه الاستحقاقات التي لا يعرف صعوبة النجاح فيها والخروج من عهدتها بالشكل الكامل الا مثل الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فما حال الناس الغافلين والمقصرين؟!

وهذه الاستحقاقات الثمانية تمثل الحد المشترك بين الناس والمسؤولية الشخصية لكل أحد، وتوجد بإزائها المسؤوليات العامة التي تضاف الى الانسان بحسب الموقع الذي يشغله والعنوان الذي يكتسبه فهي تختلف من شخص لآخر، فمثلاً حضراتكم أساتذة في(4) الجامعات يتربى على أيديكم في كل سنة المئاتوث

ص: 376


1- علل الشرائع للشيخ الصدوق :باب 9 علة خلق الخلق .
2- وسائل الشيعة ج15 ص187 ح 20239.
3- بحار الأنوار:37/ 15.
4- تحدّث سماحة المرجع الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) بهذا القبس في ملتقى أساتذة الجامعات العراقية مساء يوم الخميس 16 شوال1437 الموافق 21-7-2016 وقد استضاف مركز عين للبحوث

من الطلبة الشباب فعليكم مسؤولية علمية في تزويدهم بكل ما ينفعهم من العلوم والمعارف ليكونوا متقنين للعلم الذي تخصصّوا فيه وهذه المسؤولية تلزمكم بتقييمهم بدقة وعدم بخس حق أحد او تفضيل أحد على آخر بغير حق، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ألقى صبيان الكتاب ألواحهم بين يديه ليخير بينهم، فقال: أما أنها حكومة والجور فيها كالجور في الحكم، أبلغوا معلمكم إن ضربكم فوق ثلاث ضربات في الأدب أقتص منه (1).وعليكم مسؤولية أخلاقية وفكرية وثقافية في توعية هذا الجيل وهم خام في مقتبل العمر وفي مرحلة تكوين شخصيتهم ورسم ملامح رؤيتهم للحياة، وليس عندهم في عائلتهم او بيئتهم التي جاؤوا منها ما يساعدهم على ذلك، وانتم لكم من الهيبة والرمزية والتأثير على الطلبة اكثر من أي شخص مؤثر اخر، فعليكم ترشيدهم وتوجيههم وتصحيح سلوكياتهم وعقائدهم وتحصينهم من التيارات الوافدة تحت عناوين مختلفة وهي جميعاً تهدف الى تجريد الشباب من هويتهم الاصيلة، فلابد من اعطائهم الجرعات المضادة لهذه الأوبئة والامراض الفتاكة.

فالمسؤولية اذن شاقة ومعقدة وقد تقولون إن هذا صعب أن يفي الإنسان بكل هذه الالتزامات مع الاستحقاقات الثمانية التي وردت في حديث الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأنا أشاطركم هذا الشعور، لكن هذه الصعوبة تذوب بالإخلاص لله تبارك وتعالى وبالتسامي عن الأنانية الشخصية والفئوية وبالهمة العالية والتفانيح2

ص: 377


1- وسائل الشيعة (آل البيت): 28/ 372/ح2

في العمل، واعلموا أن الألطاف الإلهية والنفحات المعنوية تختصر لكم الطريق وتطوي المسافة وتقرب البعيد وتذلل العسير قال تعالى {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً}. {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} (الطلاق:2-4-5).وهكذا فقد تكفل الله تعالى بتيسير سبل طاعته والمعونة عليها كما في الآيات والروايات الكثيرة ومنها قوله تعالى {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} (الحجرات:7) قال تعالى {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (الذاريات:22) وقال تعالى {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} (الإسراء:31).

وتوجد رواية تهديكم إلى الكثير من الحلول لمشاكلكم وتفتح لكم آفاق المخرج من التعقيدات التي تواجهكم، خصوصاً في الساحة العراقية التي غاصت في وحلها أرجل الكبار والصغار، فقد روي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(ما من عبد أحبنا وزاد في حبنا وأخلص في معرفتنا وسئل مسألة إلا ونفثنا في روعه جوابا لتلك المسألة)(1).

فلا يكفي إذن ان يتبوأ الانسان موقعاً مهماً بل عليه أن يفي باستحقاقه ويؤدي التزاماته أمام الله تعالى، استمع الى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يتحدث عن هذه المسؤولية حينما رجعت اليه الأمة بعد إعراض (أ أقنع من نفسي بأن يقال أميرج2

ص: 378


1- شرح الخطبة التطنجية لكاظم الحسيني الرشتي ج2

المؤمنين و لا أشاركهم في مكاره الدّهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش)(1).وإذا عجز الإنسان عن القيام بالمسؤوليات الملقاة على عاتقه في موقع معين – خصوصاً على مستوى الزعامة الدينية والسياسية - فليتجنب الموقع وليترك الفرصة لغيره، فإن حركة البشرية نحو التكامل لا تتوقف لموت أحد أو انسحابه من العمل ولا حاجة إلى أن يتمادى في جهله وظلمه لنفسه فيتقمص موقعاً ليس من أهله ويكفيه ما قال فيه خالقه:{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (الأحزاب:72).

وقد يشعر الإنسان بالرضا عن نفسه أحياناً وبكونه ناجحاً في عمله ومؤدياً لواجباته عكس ما ينظر إليه الآخرون فلا يفهم سبب اعتراض الآخرين أو توبيخهم، وما ذلك - في بعض وجوهه - إلا لفقدانه القدرة على قياس درجة النجاح وضياع المعايير الصحيحة للتقييم عنده لأنه غافل عن ما يجب عليه الوفاء به من استحقاقات، ولو التفت إليها لعرف حجم تقصيره ولكنه ينظر إلى جهةٍ واحدة ويرى نفسه ناجحاً فيها ويعمم النتيجة.

أيها الإخوة والأخوات:

إن الله تعالى خلقكم في زمان يغبطكم عليه أهل الأجيال الأخرى كما نغبط نحن جيل الصحابة الذين عاشوا مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبنوا بقيادته الحكيمة

ص: 379


1- نهج البلاغة ص 146، من كتاب له (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري.

صرح الإسلام العظيم، فكان لهم بكل من اهتدى بنور الإسلام صدقة جارية توجب لهم المزيد من الأجر.ونغبط أصحاب الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لأنهم صنعوا مستقبل الأمة إلى نهاية التاريخ وأرجعوا مسيرة الأمة إلى اتجاهها الصحيح وصانوها من الانحراف والتزييف فلهم على كل مسلم فضل ومنّة بموقف وقفوه عدة ساعات من النهار.

فعلينا أن نلتفت الى ان الله تعالى خلقنا في هذا المفصل التاريخي العظيم الذي قُدِّر له أن يرسم المستقبل ليس للعراق فقط بل للمنطقة وللعالم، ولا تؤثر عليه المعاناة والمصائب والفجائع التي يدبرها لنا اعداؤنا، فعلينا أن نحسن الأداء {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (الملك:2) وأن نؤدي وظائفنا المطلوبة على أكمل وجه في هذا اليوم الذي له ما وراءه كما كانت تقول العرب وأن نشكر الله تعالى على هذه الفرصة الثمينة ونحسن استثمارها.

ومن قبل نشكر الله تعالى انه خلقنا في زمان الإسلام والهدى، هذه النعمة التي سجّلها الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاءه يوم عرفة (لم تخرجني لرأفتك بي ولطفك لي وإحسانك إليّ في دولة أئمة الكفر الذين نقضوا عهدك وكذّبوا رسلك لكنك أخرجتني للذي سبق لي من الهدى الذي له يسرتني وفيه أنشأتني)(1).

تصوّروا لو أن الله تعالى خلق أحدنا في زمان الجاهلية فما هي فرصة الهداية في ذلك المجتمع الذي كان يعكف على عبادة الأصنام والزنا وشرب الخمر وقتل النفس المحترمة، بحيث أن جعفر بن أبي طالب يشار إليه بامتياز عن المجتمع المكي بانه ممن حرّم على نفسه الخمر في الجاهلية لندرة هذه الحالة، ويوصف29

ص: 380


1- مفاتيح الجنان: 329

الإمام علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بأنه (كرم الله وجهه) لأنه لم يسجد لصنمٍ في الجاهلية(1) ومن هذه الأمثلة النادرة تعلموا حال الآخرين(2).أقول:ما فرصة هداية الإنسان في مثل ذلك المجتمع وكم واحدٍ يمكن أن يكون مثل سلمان الفارسي الذي(3) ولد بأرض الفرس فلما بلغ عرف ضلال قومه فراح يجوب البلدان بحثاً عن الحقيقة في بلاد الفرس والروم وارض العرب حتى اهتدى إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

فهذه النعمة التي نرفل بها تضاف إلى نعمة عظيمة أن الله تبارك وتعالى اختارنا بلطفه وعطائه الابتدائي من بين الأجيال لنكون من هذا الجيل الذي كلّفه برسم معالم المستقبل، كما اختار من قبل أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأصحاب الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت:46)، {قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} (الأنعام:104).55

ص: 381


1- الأمالي- الشيخ الطوسي: 379
2- أنظر: علل الشرائع- الشيخ الصدوق: 2/ 558
3- بحار الأنوار- المجلسي: 22/ 355

القبس/78: سورة الحجر:93

اشارة

{فَٱصدَع بِمَا تُؤمَرُ}

موضوع القبس:إعلان الهوية

التماهي في الذوبان:

من مظاهر تقصيرنا الذي تحوّل إلى مشكلة تعيق تقدّم العمل الإسلامي الرسالي هو عدم إبراز هويتنا اما ضعفاً أو مجاملة أو مداهنة أو خوفاً على بعض المصالح والامتيازات أو لأي سبب آخر، ونقصد بهويتنا كل الانتماءات التي تشكل عناصر هذه الهوية، فنحن مسلمون ننتمي للإسلام، ونحن من الموالين لأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، ونحن نتبع المرجعية الفلانية ونقلدها.

فعلى صعيد الهوية الإسلامية نجد أن بعض المسلمين - في بعض المجتمعات المتمدنة كما يزعمون- قد يترك الصلاة بين زملائه في العمل أو في الجامعة حتى لا يعرف انه مسلم، أو المرأة تضعف عن لبس الحجاب العفيف لأنها لا تستطيع أن تواجه تعليقات الآخرين، أو يجلس شخص على مائدة الشراب أو يسمع الغناء حتى لا يقال عنه انه (معقّد) أو (متخلّف)، أو يجاري الآخرين في لبسه ومظهره الخارجي واندماجه معهم في سلوكهم المنحرف حتى يقال عنه أنه متمدن متحضر مثلهم.

وعلى صعيد الهوية الشيعية نجد من يترك المشاركة في إحياء الشعائر

ص: 382

الحسينية المهذبة المسنونة شرعاً، أو يعرض عن قضية فاطمة الزهراء (س) وما جرى بعد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، أو يخفي شهادته لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالولاية، أو السجود على التربة ونحوها.والذي يقلّد المرجعية المعيّنة لا يصرّح بذلك ويحاول التمويه والابتعاد عن انتسابه إليها ونحوها من الأمثلة على التخلي عن الهوية وما تقتضيه انتماءاته لتلك الهوية من التزامات.

الضعف في إبراز الهوية:

إن هذا الضعف عن ابراز الهوية لا يضرّ فقط في دينه وآخرته ويسقطه من عين الآخرين لاتهامه بالنفاق، بل انه يضرّ بكل المشروع الذي ينتمي إليه لأنه يؤدي إلى تمييع الهوية وتضييعها، ولأنه إذا لم يعلن انتماءه ويبيّن نقاط القوة فيه ودواعي تبنّيه له، فكيف سيدعو الآخرين إليه ويقنعهم به؟، وكيف سيتقدم المشروع الرسالي؟ ولو أن السلف الصالح لم يقم بواجبه تجاه هويته ويبيّنوها بوضوح ويدافعوا عنها بالحجج الدامغة لما وصلت إلينا بهذه القوة والثبات والمناعة مضمّخة بدماء الشهداء ومداد العلماء.

التعايش مع الآخر لا يعني التنازل عن المبادئ:

فإنّ الوحدة والتقارب والتعايش مع الطوائف الإسلامية أو مع الديانات الأخرى، أو مع الشرائح المتنوّعة لا تستلزم التنازل عن المبادئ والمعتقدات التي ثبتت صحتها، فليعمل كلٌ بما ثبت عنده صحته بالحجة والبرهان، وإذا كان غير متثبّت من معتقداته وانتماءاته فيجب عليه إعادة النظر فيها ومراجعتها وطلب

ص: 383

الدليل عليها، وليس اخفاؤها والمجاملة فيها.

الآية الكريمة تصر على تحمل مسؤولية الانتماء:

لقد كان من أوائل الأوامر التي وجّهها الله تبارك وتعالى إلى رسوله الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في بداية الدعوة الإسلامية قوله تعالى {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ، إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} (الحجر:94-95) والصدع هو إحداث الشق في الاجسام الصلبة كالحديد والشق واستعير لفصل الأمور وقطعها فصدع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بدعوته في مواجهة طواغيت قريش وسدنة الأصنام التي بلغ تعدادها (360) صنماً حوّلوها إلى كيانات لمصالحهم وامتيازاتهم الواسعة، ولم يكن مع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلاّ أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وخديجة بنت خويلد، وأصرّ على تحمل المسؤولية حتى فتح الله تعالى على يديه، ولا نطيل بالشواهد من سيرة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وفاطمة الزهراء (س) والأئمة الطاهرين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

وعلى هذا النهج سار الصلحاء من اتباع أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، فيقف أبو ذر الغفاري (رضوان الله تعالى عليه) في عقر ديار معاوية ويقول:سمعت حبيبي رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) باذنيّ هاتين وإلاّ صُمَّتا يقول، ثم يذكر فضائل علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وانظر إلى موقف الصحابة الاثني عشر الذين احاطوا بمنبر الأول حينما تقمص الخلافة بعد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وادلوا بشهاداتهم وحججهم وقد ذكرها الطبرسي في كتاب الاحتجاج(1).

ص: 384


1- الإحتجاج- الطبرسي: 1/ 70

لنتحدث عمّا يجب فعله لا ما فعلوه بنا:

روينا لكم في حديث سابق اننا في موسم الحج عام 1424 وجّهنا إلى أن نرفع أصواتنا بشكل جماعي اثناء الطواف حول الكعبة بدعاء الفرج (اللهم كن لوليك الحجة ابن الحسن.......)(1) ليلتفت المسلمون القادمون من حوالي (180) دولة في العالم إلى إمامهم الحق ويسألوا عنه ويتعرفوا عليه ويهتدوا إلى نوره، وكنّا على ثقة بأنه سيتجاوب معنا الموالون، وهذا ما حصل وكان له وقع واثر ولم يستطع المناوؤن منعه واستمرت هذه السُنّة إلى اليوم ونسأل الله تعالى أن تبقى وتستمر وتتسع حتى يأذن الله لوليه بالظهور المبارك.

إننا كثيراً ما نتحدث عن مؤامرات الأعداء واستهدافنا وانهم يفعلون كذا وكذا، ولا نتحدث إلا القليل عمّا يجب أن نفعله نحن في مواجهتهم والقيام بمسؤولياتنا، ومنها هذا التكليف بالاصحار والاعلان عن عناصر الهوية.

ويجب الالتفات إلى أن يكون ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة كما أمر الله تبارك وتعالى، وأوصى نبيّه الكليم وأخاه هارون وهما يتوجهان إلى فرعون لدعوته إلى التوحيد {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه:43-44).

ص: 385


1- مفاتيح الجنان: 290

القبس/79: سورة الحجر:97

اشارة

{وَلَقَد نَعلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدرُكَ بِمَا يَقُولُونَ}

موضوع القبس:القرآن الكريم يخفف آلام العاملين الرساليين

من السنن الجارية في الأمم عبر التاريخ تعرّض المصلحين والعاملين الرساليين وعلى رأسهم الأنبياء والرسل والأئمة المعصومون (صلوات الله عليهم أجمعين) إلى الإيذاء المادي والمعنوي من قبل المتسلطين والطواغيت وأصحاب النفوذ (الذين يسميهم القران بالملأ) وأتباعهم من الجهلة والمنتفعين والغوغاء {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} (فصلت:43) {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كثيراً} (آل عمران:186)، مما يسبب لهم الماً وحزناً لتضيق به صدورهم ويبدي الله تبارك وتعالى على لسان أوليائه الحسرة والألم والتفجّع لهذا الموقف السلبي {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} (يس:30)، فيخبر الله تعالى نبيه في هذه الاية بانه تعالى يعلم ما يحّل به ويجري عليه {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (الطور:48) ورعايتنا مستمرة ودائمة ويعلمه الاجراء الذي يتخذه لتحصيل الطمأنينة وتخفيف هذه الألام، قال تعالى {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ 98 وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر:98-99)

ص: 386

ويحكي القران الكريم فصولاً عديدة من هذه المواجهة تضمنت أقسى ألوان البطش والقسوة والانحطاط من قبل المعسكر الآخر وأسمى ألوان الصبر والمصابرة والجهاد والرحمة والشفقة من أولياء الله وعباده الصالحين، ورغم أن الإيذاء المادي المشتمل على القتل والتشريد والتعذيب الجسدي والسجن والتجويع وغيرها كان قاسيا إلا أن ما يؤلم الصالحين أكثر هو الإيذاء المعنوي بالإعراض عن الاستماع إلى الحق وإتباعه وخلط الأوراق على الناس بالافتراء والكذب وقتل الشخصية بالتسقيط والتشويه لان الثاني هو الذي يحول دون نجاح مشروعهم الرسالي ويضع الحواجز بينهم _أي المصلحين_ وبين الناس فيؤلمهم ابتعاد الناس وعدم اهتدائهم إلى الحق وتنعّمهم بالرحمة التي جاؤوهم بها من ربهم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107)، أما الأول فإنه يؤدي إلى التعاطف معهم والالتفات إليهم واعتناق مبادئهم ولو بعد حين للشعور بمظلوميته. ومما يزيد في شدة وطأة الإيذاء المعنوي أن أتباع نفس الرسل والمصلحين يساهمون فيه عن علم وعمد أو عن جهل وغرور وأنانية بسوء تصرفهم وبعصيانهم وعدم الالتزام بتعاليم قادتهم وبضعفهم وتشتتهم والخلافات بينهم ونحوها، بينما لا يتوقع صدور النوع الأول من الأتباع والموالين.

وكان الإيذاء المعنوي أشد على قلب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الذي وصفه الله تبارك وتعالى {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة:128)، لذا كان ربّه الكريم الرحيم يسلّي قلبه ويخفف عن آلامه ويطيّب خاطره {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} (النحل:127)، {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا

ص: 387

يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر:97-99).بل إن سوراً كاملة نزلت لهذا الغرض كسورتي القصص ويوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فالأولى تصف حالة الاستضعاف التي كان عليها قوم موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حيث كان فرعون يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم وفي ذلك البلاء العظيم ولد موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فكان من لطف الله به وتدبيره له أن يأخذه فرعون الطاغية نفسه ويرعاه حتى أصبح رجلاً رافضاً لما عليه فرعون وقومه ثم غادر مصر خوفاً من القتل حتى ورد ماء مدين وتزوج هناك ثم عاد نبياً رسولاً كليماً لله تبارك وتعالى بمعجزة عظيمة يدعو فرعون إلى عبادة الله تبارك وتعالى واستطاع أن يهدي بمعاجزه سحرة فرعون وآمن به من آمن حتى عبّأ له فرعون من الجيوش ما لا قبل لموسى والمؤمنين بهم ففلق الله تبارك وتعالى لموسى البحر وأنجاه ومن معه وأغرق فرعون وجنوده لينتصر موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ويقيم الحق والعدل وقد عبّر الله تبارك وتعالى عن هذا التدبير بتعبير رقيق {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (طه:39)، أي لتُصنع هذه القيادة الفذة برعاية وتدبير مباشرين من الله تبارك وتعالى، وفي نهايتها تصل السورة إلى الهدف وهو تطييب قلب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والتخفيف عن آلامه التي اشتدت في السنين الأخيرة من وجوده المبارك في مكة حيث حوصر ثلاث سنين في الشعب حتى فقد ناصريه خديجة وأبا طالب ثم أُمِر بالهجرة ومغادرة مكة التي تعلق بها قلبه فوعده الله تبارك وتعالى بأنه عائدٌ إليها {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} (القصص:85)، وما مرت إلا ثمان سنوات - وهي ليست كثيرة في عمر الزمن- حتى تحقق الوعد الإلهي

ص: 388

بفتح مكة.وتتحدث سورة يوسف عن ذلك الغلام الصغير الذي حسده أخوته فالقوه في الجب ليهلك ولم يكن هناك أمل بنجاته لكن التدبير الإلهي أتاه بقافلة لتستقي فخرج مع الدلو وباعوه في مصر إلى عزيزها الذي رباه واعتنى به ثم قرّبه لما وجد عنده علماً وحكمة وتدبيراً وأمانة وصار بيد النبي الكريم مقاليد أمور الولاية بعد وفاة عزيزها وجاء نفس أخوته الذين كادوا له معترفين بجريمتهم طالبين العفو والصفح فتعامل معهم بسمو الأخلاق.

هكذا يلطف الله تعالى بعباده وهكذا يصنع أولياءه ويدبّر شؤونهم، وهكذا يخيب كيد الباغين والحاسدين والمنافقين والكافرين {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ} (فاطر:43).

إن ما يمرّ بنا اليوم من بلاء وما مرّ بنا أيام صدام وغيره من الطواغيت لا يستحق أن يذكر في جنب ما أصاب أولياء الله الصالحين في الأمم السالفة حيث ورد في الروايات أنهم نشروا بالمناشير وقرضوا بالمقاريض وحفرت لهم أخاديد النار والقوا فيها فقضوا حرقاً (سورة البروج) والمتوقع من المتهالكين على السلطة وحب الدنيا أن يفعلوا ما هو أسوا لولا لطف الله تبارك وتعالى، فخير ما يسليكم ويطمئن قلوبكم وينوّر بصائركم ويثبت أقدامكم هو القران الكريم فاتخذوه قائداً وهادياً. وقد عشت مثل هذه التجربة مع القرآن ولا زلت أعيش لذة الأيام التي قضيتها في كنفه في ثمانينات القرن الماضي حينما كنت حبيساً في الدار لا ادري في أي لحظة يقبض عليَّ الطغاة ويعدمونني الحياة.

وإن مما يخفّف الآلام والمصاعب ويدفعنا إلى بذل المزيد من الجهود هو

ص: 389

أن نلتفت إلى النعمة التي منحنا الله تبارك وتعالى إياها في هذا الزمن حيث تتوفر أعظم فرصة لبناء المستقبل الزاهر لامتنا وننفض غبار السبات الذي أصابها منذ أكثر من ألف عام، ونمهّد لدولة الحق والعدل ببناء أنفسنا ومجتمعنا ومؤسساتنا على أسس الإخلاص والتقوى والعمل الصالح بعيداً عن المتصارعين على الدنيا الفانية الزائلة. لقد كان أصحاب الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يتسابقون إلى الموت فرحين مسرورين لان الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كشف لهم عن بصائرهم فرأوا منازلهم في الجنة أي رأوا نتائج تضحياتهم والمستقبل العظيم لما يقومون به فصغُر في أعينهم ما يلاقون من ألم الجراح وهذا التفسير منسجم مع ما نعتقده من تجسّم الأعمال.وإذا كانت تلك التضحيات لإبقاء الحياة وجذوة الضمير والايمان في جسد الأمة فإن تضحيات اليوم ستؤدي إلى بعثها من جديد وحركتها نحو بناء دولة الحق والعدل.

ص: 390

الصورة

ص: 391

الفهرس الإجمالي

الصورة

ص: 392

الصورة

ص: 393

الصورة

ص: 394

الصورة

ص: 395

الصورة

ص: 396

الصورة

ص: 397

المجلد 3

هوية الكتاب

اسم الكتاب: من نور القرآن

تأليف : سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

الموضوع : التفسير

مشخصات : 5 ج

الطبعة : الرابعة

التاريخ : 1442ه- - 2021م

ص: 1

اشارة

من نور القرآن

ص: 2

ص: 3

من نور القرآن

تفسير موضوعي حركي يقتبس من القرآن الكريم ما يلقي ضوءاً على قضايا عقائدية أو أخلاقية أو فكرية أو اجتماعية

سماحة المرجع الدینی الشیخ محمد الیعقوبی

الجزء الثالث

سورة النحل - سورة الفرقان

دار الصادقين

ص: 4

القبس /80: سورة النحل:16

اشارة

{وَعَلَمَت ۚ وَبِٱلنَّجمِ هُم يَهتَدُونَ}

موضوع القبس:أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) نجوم أهل الأرض

فسرّت روايات كثيرة النجوم الواردة في عدة آيات كريمة بأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لعدة وجوه مشتركة سنشير اليها ان شاء الله تعالى، وقد استعمل القرآن الكريم التشبيه لإيصال حقائق كثيرة تعرّف فضل أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ووظائفهم ودورهم في حياة البشرية فكانوا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تأويل هذه الآيات الكريمة وهذا شأن القرآن الكريم في كثير من الحقائق التي لم يبيّنها في التنزيل لمصلحةٍ ما خصوصاً ما يتعلق بأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لكن الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أفادوا تأويلها {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (العنكبوت:43) {تِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر:21).

وقد بيّن القرآن الكريم اهتمامه بالنجوم وما يرتبط بها من وظائف وحركة متقنة ومواقع دقيقة، قال تعالى {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} (الواقعة:75-76) ونشير هنا استطراداً إلى نكتة القسم بالمواقع دون نفس النجوم ولعلها لأمرين على الأقل:

1-بيان دقة توزيع هذه النجوم في مواقعها والانسجام التام في حركتها

ص: 5

فتكون من آيات الخالق، ولعلمنا بهذه الدقة والانسجام فإننا نبني على قوانينها الكونية المنضبطة ونستطيع معرفة أمور وحوادث قبل وقوعها بسنين، ولو كانت مبعثرة وعشوائية لما أمكن الاعتماد عليها قال تعالى {وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} (الإسراء:12) فهذه الدقة في المواقع والحركة جُعِلَت في كل شيء ليتعلمها الانسان ويستفيد منها في حياته.2-لتصحيح عقائد الناس خصوصاً وأنهم قريبو عهدٍ بالجاهلية حيث كانوا يعتقدون بأن للنجوم أرواحاً وانها تتحرك بإرادتها وبقى هذا الاعتقاد إلى وقت قريب(1) وكانوا أيضاً يعتقدون بتأثيرها المستقل وجلبها للخير والشر ويحلفون بها فعدل الى الحلف بمواقعها ليعرفوا أنها مخلوقات مدبّرة ومسيّرة من قبل الخالق العظيم.

وهذا المعنى وارد في الروايات ففي حديث عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إن مواقع النجوم رجومها للشياطين، فكان المشركون يقسمون بها فقال سبحانه (فلا أقسم بها))(2) وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (كان أهل الجاهلية يحلفون بها فقال الله عزوجل:فلا أقسم...).

والمستفاد من استقراء الآيات الكريمة:ان للنجوم عدة وظائف وهي جارية ببعدها المعنوي في أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).

ص: 6


1- حيث استطاع يوهانس كبلر (1571 – 1630) وصف حركتها بمعادلة رياضية ثم علل إسحاق نيوتن (1642 – 1727) حركتها بمحصلة قوى الاستمرارية والجاذبية.
2- مجمع البيان: 9/ 287

1 – الهداية، قال تعالى {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (النحل:16) وقال تعالى {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأنعام:97) حيث كان الناس يتخذونها دليلاً لمعرفة الطرق في اسفارهم خصوصاً في البحار والمحيطات حيث لا توجد أي علامة غيرها قبل اختراع الآلات واستفادوا منها لتحديد الاتجاهات كالكعبة وبعض الأوقات فمن دون علامات في البر(1) ، ونجوم في الجو لا يهتدون الى الطريق الموصل للغرض.

وكان الجاهليون يستهدون بها لمعرفة حظوظهم ومستقبلهم ويتفاءلون بها ولذا كانوا يطلبون الخير والبركة منها، ولعل هذا يفسّر الحركة التمويهية التي قام بها إبراهيم في قوله تعالى {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ، فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ، فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} (الصافات:88-90) فكأنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) طلب منهم أن يكتشفوا من النجوم التي يعتقدون بها ما يشير إلى سقمه، وما كان سقيماً في جسده ولكنه كان مرتاداً طالباً للحقيقة وهي معرفة الله تبارك وتعالى.

وهذه الوظيفة -- وهي الهداية -- هي من أهم وظائف أئمة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فقد اختارهم الله تعالى ليكونوا هداة إليه وادلاء على طاعته يأخذون بأيدي الناس من ظُلمات الجهل والتعصب والضلال واتباع الشهوات والفتن إلى نور الهداية والسعادة والفلاح، قال تعالى {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ

ص: 7


1- كاختلاف التضاريس الأرضية من جبال وسهول وأنهار لذا كانوا يتيهون في الصحراء لعدم وجود علامات مميزة

الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} (الأنبياء:73) فهم يهدون بأمر الله تعالى كالنجوم التي وصفها الله تعالى بأنها {مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} (الأعراف:54)، ورد في تفسير قوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ} (الأنعام:97) عن علي ابن إبراهيم ان (النجوم:آل محمد(عَلَيْهِ السَّلاَمُ))(1) ووردت عدة روايات بهذا المعنى في تفسير قول الله عز وجل:{وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} منها عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) النجم، والعلامات هم الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بهم يهتدون)(2) .وهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أولى بالهداية لأنهم آيات الله العظمى التي تمشي على الأرض بين الناس اما النجوم فهي بعيدة عنهم ولا يعرفون تفاصيلها.

فمن سار على هداهم نجا ومن تنكب عنهم هلك:وقد اشتهر عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (الا مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف هنها هلك) (3) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وخلف فينا راية الحق، من تقدمها مرق، ومن تخلّف عنها زهق، ومن لزمها لحق)(4).

وهذا ما أكدته السيدة فاطمة الزهراء (س) في خطبتها (أما والله لو تركوا الحق على أهله واتبعوا عترة نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لما اختلف في الله أثنان ولورثها سلف

ص: 8


1- تفسير القمي:1/ 211
2- الكافي: ج 1 / 160 ح 1 وتجد مجموعة الروايات في البرهان: 5/ 328
3- فضائل الصحابة: أحمد بن حنبل: 2/ 785
4- نهج البلاغة: خطب الامام علي، ج 1 / ص 193

عن سلف وخلف بعد خلف حتى يقوم قائمنا التاسع من ولد الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولكن قدّموا من أخره الله وأخروا من قدّمه الله)(1) .ومن رسالة الامام المهدي (عج) إلى شيعته (او ما رأيتم كيف جعل الله لكم معاقل تأوون اليها، واعلاماً تهتدون بها من لدن آدم كلما غاب علم بدا علم، واذا أفل نجم طلع نجم)(2) .

2 – الزينة قال تعالى {وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (فصلت:12) {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} (الصافات:6) والزينة ما يحسِّن الانسان ويجمّل هيئته الظاهرية {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (الأعراف:31) والزينة تشمل الأمور الظاهرية والباطنية روى جابر الانصاري عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (زيّنوا مجالسكم بذكر علي بن أبي طالب)(3) عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (كنت انا وعلي نوراً بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق الله آدم بأربعة عشر الف عام، فلما خلق الله آدم قسّم ذلك النور جزأين ركّبا في آدم فجزء أنا وجزء علي بن أبي طالب، فنور الحق معنا نازل حيثما نزلنا)(4) .

روى الكليني (قال أبو عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):إن الله خلقنا فأحسن صورنا وجعلنا عينه في عباده ولسانه الناطق في خلقه ويده المبسوطة على عباده، بالرأفة والرحمة

ص: 9


1- موسوعة المصطفى والعترة للشاكري: 4 / 362 عن عوالم المعارف:11/ 228
2- الاحتجاج: 2/ 272.
3- بشارة الإسلام، أبو جعفر الطبري: 2/ 104
4- تذكرة خواص الأمة:46

ووجهه الذي يؤتى منه وبابه الذي يدل عليه وخزانه في سمائه وأرضه، بنا أثمرت الأشجار وأينعت الثمار، وجرت الأنهار وبنا ينزل غيث السماء وينبت عشب الأرض وبعبادتنا عبد الله ولولا نحن ما عبد الله)(1) .3 - الحماية والأمان:قال تعالى {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ، وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} (الحجر:16-17) روي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (النجوم أمان لأهل السماء، اذا ذهبت النجوم ذهب أهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض فاذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض)(2).

وقد اكتشف العلم الحديث الكثير من هذه الوظائف للنجوم من حيث حفظ التوازن في الكون وصدّ الشهب الثاقبة ومعرفة موقع واتجاه الحركة في الكون ونحو ذلك.

واخرج الحاكم عن ابن عباس، قال:قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق -- فلو لم يستهدوا بالنجوم فأنهم يتيهون في البحار ويغرقون --، وأهل بيتي أمان لامتي من الاختلاف فاذا خالفها قبيله من العرب اختلفوا فصاروا حزب ابليس)(3).

وقد روي عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين كما ينفي

ص: 10


1- الكافي: 1 / 144
2- امالي ابن الشيخ: 241.
3- المستدرك على الصحيحين: 3/ 162

الكير خبث الحديد) (1) وروى البرقي في المحاسن (فانظروا علمكم هذا عمن تأخذونه، فان فينا أهل البيت في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)(2).عن معاوية بن وهب قال (سمعت أبا عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (ان لله عند كل بدعة تكون بعدي ويُكاد بها الايمان ولياً من أهل بيتي موكلاً به يذبّ عنه، ينطق بالهام من الله ويعلن الحق وينوره ويرد كيد الكائدين ويعبر عن الضعف فاعتبروا يا اولي الابصار وتوكلوا على الله)(3).

ونستشعر هذا الأمان من خلال ولايتنا لأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ووجود امام معصوم يتابع شؤوننا (نحن وإن كنّا ناوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي أراناه الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين، فإنا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يعزب عنّا شي ء من أخباركم، ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون. إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولو لا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء)(4) .

ويمكن أن نأخذ تصوراً عن هذا الدور المهم للأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من

ص: 11


1- وسائل الشيعة (آل البيت): 27/ 150/ح43
2- بحار الأنوار: 2/ 92
3- الكافي:1/ 54
4- الاحتجاج للشيخ الطبرسي: ج 2، ص 323

خلال التجربة والمعايشة للدور المبارك الذي تؤديه المرجعية الرشيدة في حفظ كيان الأمة وحمايتها وتحصينها من الانحراف والضلال والمؤامرات الخبيثة التي تحاك لها، وخذ العراق مثلاً فان الفتن التي تعرّض لها والمكائد الخبيثة والمشاريع الشيطانية التي أغرقته في بحور من الدماء والفساد والشبهات والصراعات الا أنه بقي صامداً محافظاً على مبادئه بدرجة كبيرة بينما تنهار الدول والحكومات بأقل من ذلك بكثير.ومن مجموع هذه الوظائف العظيمة للنجوم فانه لا يمكن الاستغناء عن وجودها لذا فان أئمة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لا يمكن التخلف والاعراض عنهم او اتباع غيرهم بدلاً عنهم، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لا يقاس بآل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من هذه الأمة أحد ولا يُسَّوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا)(1). لكن بعض المنحرفين عن أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وضعوا حديثاً لخلط الأمور وتضييع الحقيقة على الناس وافتروا على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) وهم يعلمون باليقين أن كثيراً من هؤلاء الأصحاب ارتكبوا الجرائم والموبقات الكبيرة وبدّلوا دين الله تعالى وحرّفوا أحكامه وقتلوا أولياء الله تعالى فكيف يُهتدى بهم.

نعم وجدت في بعض مصادرنا ان الحديث مروي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لكنهّ فسَّر الاصحاب بأهل بيته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فقد روى الشيخ الصدوق (رحمه الله) بسند معتبر عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:قال رسول

ص: 12


1- نهج البلاغة: خطب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ج 1 - ص 30.

الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):ما وجدتم في كتاب الله عز وجل فالعمل لكم به لا عذر لكم في تركه، وما لم يكن في كتاب الله عز وجل وكانت فيه سنة مني فلا عذر لكم في ترك سنتي، وما لم يكن فيه سنة مني فما قال أصحابي فقولوا به، فإنما مثل أصحابي فيكم كمثل النجوم بأيها اخذ اهتدي، وبأي أقاويل أصحابي أخذتم اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة. فقيل:يا رسول الله ومن أصحابك؟ قال:أهل بيتي(1).نسأل الله تعالى أن يهدينا بنورهم ويزينَّنا بولايتهم ويحصنَّنا بأمانهم في الدنيا والآخرة.

ص: 13


1- معاني الاخبار ص156-157.

القبس /81: سورة النحل:98

{فَإِذَا قَرَأتَ ٱلقُرءَانَ فَٱستَعِذ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيطَنِ ٱلرَّجِيمِ}

شرحنا في القبس(1) المعنون بالاية {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (فصلت:36) وجه الحاجة المستمرة إلى الاستعاذة بالله تعالى من الشيطان الرجيم وشرحنا معنى الاستعاذة وانها ليست مجرد تحريك لسان وإنما هي حالة معنوية يعيشها الانسان.

وكان الأمر بالاستعاذة عاماً لكن الملفت ان الله تعالى خصَّ مورداً واحداً بالذكر طلب فيه الاستعاذة وهو عند قراءة القرآن ولا سيما في الصلاة التي هي معراج المؤمن، قال تعالى {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} واختيار وصف الرجيم له لزيادة التنفير منه وللتذكير بتمرده وعصيانه على الخالق العظيم مما اوجب رجمه وطرده.

وقوله تعالى {فَإِذَا قَرَأْتَ} يشير الى حالة الابتداء بالقراءة وان كان بصيغة الماضي كما لو قلت اذا اردت الذهاب الى كذا فخذ معك كذا، ويمكن ان يراد به بعد الانتهاء من القراءة كما هو ظاهر صيغة الماضي، وكون الامر بالاستعاذة جواب الشرط فتحقيق معنى الاستعاذة مطلوب قبل وبعد واثناء تلاوة القرآن وكان

ص: 14


1- راجع: قبس/134, من نور القرآن: 4/ 267

العبارة (لما تقرأ القران استعذ بالله من الشيطان الرجيم) اما قبلها فلازالة المعوّقات عن التدبر في الآيات والاستفادة منها وخلق البيئة النقية لتلقي المعارف القرآنية وتوجيه كل المشاعر الى الله تعالى ، واما اثناءها فلمنع الشيطان من التشويش وخلط الأفكار والايحاء بمعاني مخالفة لمراد المنزل العظيم كالذين قال تعالى فيهم {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (التوبة:125).واما بعد القراءة فللمحافظة على ما حصل عليه من بركات القران الكريم علما وعملا.

في مصباح الشريعة عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(من قرأ القرآن ولم يخضع لله، ولم يرق قلبه، ولا يكتسي حزنا ووجلا في سره، فقد استهان بعظيم شأن الله تعالى، وخسر خسرانا مبينا، فقارئ القرآن يحتاج إلى ثلاثة أشياء:قلب خاشع، وبدن فارغ، وموضع خال، فإذا خشع لله قلبه فر منه الشيطان الرجيم)(1).

فشرط الاستفادة من القرآن الكريم وفهم معانيه تنقية نفس الانسان بالتقوى وتطهير القلب، في الحديث الشريف (لولا ان الشياطين يحومون حول قلوب بني ادم لنظروا الى ملكوت السماوات)(2).

ص: 15


1- بحار الأنوار- المجلسي: 82/ 43/ح30.
2- بحار الانوار: 56/ 163.

القبس /82: سورة الإسراء: 11

اشارة

{وَكَانَ ٱلإِنسَنُ عَجُولا}

موضوع القبس:في العجلة الندامة الا في فعل الخير

قد يتوصل الانسان إلى معرفة عميقة بأجزاء جسمه ووظائفها والامراض العارضة لها وكيفية علاجها، لكن لا أحد يستطيع أن يصف الانسان في هواجسه وميوله وغرائزه ومكنونات ضميره أفضل من خالقه العظيم، وقد كشف القرآن الكريم عن جملة من هذه الاوصاف، قال تعالى {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً} (المعارج:19) {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (الأحزاب:72) {إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (إبراهيم:34) {وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} (الكهف:54) {إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ} (الحج:66) {إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} (العاديات:6) {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف:103) {وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} (الأعراف:79) {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} {المؤمنون:70) وغيرها مما تستحق أن يفرد لها بحث مستقل إلى ان تصل ذروة الشكوى من الانسان والدعاء عليه في قوله تعالى {قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} (عبس:17) وكانت نتيجة ذلك {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (العصر:2).

والمقصود ليس الانسان بذاته وحقيقته وأصل خلقته لأنه صٌمِّم {فِي أَحْسَنِ

ص: 16

تَقْوِيمٍ} {التين:4) ليكون خليفة الله في أرضه وأسجد له ملائكته {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (الإسراء:70) وعنده القابلية لأن يكون أعلى درجة من الملائكة اذا أخلص العبودية لله تعالى، وفي الحديث عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ما خلق الله عز وجل خلقاً أكرم على الله عز وجل من المؤمن لأن الملائكة خدّام المؤمنين)(1). وعلّل ذلك الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عندما سأله عبدالله بن سنان:الملائكة أفضل أم بنو آدم؟ فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (قال أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):إن الله ركّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركّب في بني آدم كلتيهما، فمن غلب عقلُهُ شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شر من البهائم) (2) .وانما المقصود الانسان بواقعه الخارجي وسلوكه العملي الذي اختاره بنفسه لأنه لم يحافظ على فطرته ولم يلتزم بما خُطِّط له واتبع هواه وغرّته الدنيا وزين له الشيطان عمله وفي الحديث (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه ويمجسانه) (3) ، ولو ناله التوفيق الإلهي وحصلت له التربية الصالحة لما انحدر إلى تلك الصفات، ولذا استثنت الآيات الكريمة ولم تشمل كل انسان {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً ، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ، إِلَّا الْمُصَلِّينَ ، الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} (المعارج:19-23) {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ،

ص: 17


1- الكافي: 2/ 33 ح 2
2- بحار الأنوار: 60/ 299 ح 5
3- بحار الاَنوار ج 3 ص 22

إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (العصر:2-3).ومن هذا نعرف أنه لا يوجد تنافي بين هاتين النظرتين القرآنيتين ومن تلك الغرائز والميول:العجلة وعدم التأني في اتخاذ القرار والموقف فيتخبط ويوقع نفسه في الضرر {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} (الأنبياء:37) حتى إنه بسبب استعجاله يدعو ويطلب الشر لنفسه كطلبه الخير حين يندفع لتحقيق مطامعه من دون أن يفرِّق بين الوسائل المشروعة وغير المشروعة للوصول إلى أهدافه. {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً} (الإسراء:11) فكونه عجولاً بطبعه علة لدعائه بالشر كما يدعو بالخير والظاهر أن (كان) هنا شأنية أي ان من شأنه ذلك أو (كان) التامة بمعنى وُجِد وخلق وفي طبعه العجلة، وتكون (عجولا) حالاً وليس خبر كان بناءاً على كونها ناقصة.

والدعاء هنا بمعنى الطلب وهو أوسع من كونه باللسان أو بالسعي والعمل فدعاؤه بالخير والشر أي طلبه لهما وسعيه اليهما كمن يطلب الرزق تارة بلسانه وأخرى بسعيه وجهده، قال تعالى {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الرحمن:29) وليس كلهم يسألون باللسان فالإنسان لطبعه العجول يطلب الشر أو يسعى اليه بالعمل كطلبه الخير {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} (الحج:47) {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} (الرعد:6) {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} (النمل:46).

ص: 18

وقد أورد القرآن الكريم نماذج من هؤلاء كقوله عن أحدهم - قيل إنه النضر بن الحارث(1) - {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَ-ذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأنفال:32) وقد استجاب الله تعالى دعائه وتمكّن منه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقتله ولذا ورد التوجيه من الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اعرف طريق نجاتك وهلاكك كي لا تدعو الله بشيء عسى فيه هلاكك وانت تظن أن فيه نجاتك)(2) .

دوافع العجلة:

وإنما يعجل الانسان لاتباعه هواه فيستعجل تحصيل اللذة والمتعة وما يوافق هواه أو لسذاجته وحسن ظنه المفرط أو لجهله بحقائق الأمور وعواقبها فيتوهم الأمور بالعكس فيرى الخير شراً والشر خيراً وتنقلب الموازين في نظره فيصبح عنده المعروف منكراً والمنكر معروفاً، فيصير ذلك حجاباً عن الحقيقة والمعرفة ومانعاً من التكامل.

الاستعجال محمود ومذموم:

والاستعجال قد يكون محموداً أو مذموماً فالمحمود ما كان في فعل الخير إذ تستحب المبادرة إليه ، قال تعالى {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (آل عمران:133) وقال تعالى

ص: 19


1- بحار الأنوار- المجلسي: 37/ 162
2- نور الثقلين: 3/ 141 عن مصباح الشريعة

{وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} (آل عمران:114) {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ} (البقرة:148) وروي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (التؤدة في كل شيء خير الا في عمل الآخرة) (1) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (التؤدة ممدوحة في كل شيء الا في فرص الخير)(2) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (اذا عرض شيء من أمر الآخرة فابدأ به، واذا عرض شيء من أمر الدنيا فتأنَّه حتى تصيب رشدك فيه)(3)، وإنما طلب التعجيل إلى فعل الخير لأن التثاقل والتباطؤ فيه يعطي فرصة للشيطان وللنفس الامارة بالسوء لثني الشخص عن المضي فيه كما في الحديث الشريف عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من همَّ بشيء من الخير فليعجّله فان كل شيء فيه تأخير فإن للشيطان فيه نظرة)(3) وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (اذا همَّ أحدكم بخيرٍ أو صلةٍ فإن عن يمينه وشماله شيطانين، فليبادر لا يكفّاه عن ذلك)(4).واما الاستعجال المذموم ففي اقتحام الأمور من دون حساب عواقبها والسير وراء المطامع والشهوات بمجرد خطورها في ذهنه وتراءي مصلحة ما فيها من دون تروّي وملاحظة النتائج والاثار وحينئذٍ يصطدم بالنتيجة وتحلّ به الندامة، اما اذا درس الموضوع بشكل جيد وعرف وجه الصلاح فيه. فحينئذٍ ينفذّ ما انعقد عليه عزمه، قال تعالى {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ} (آل عمران:159).

ص: 20


1- كنز العمال: 5674
2- غرر الحكم: 1937 (3 الامالي للطوسي: 7 ح 8
3- أصول الكافي، ج 2 كتاب الايمان والكفر، باب: تعجيل فعل الخير.
4- أصول الكافي، ج 2 كتاب الايمان والكفر، باب: تعجيل فعل الخير.

فعلى الانسان ان يصبر ويتأنى في نيل مقاصده واغراضه ويتحقق من كونها مشروعة وان الوسائل التي يريد بها تحقيق غرضه مشروعة أيضاً ونقية وعفيفة، روي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله:(انما اهلك الناس العجلة ولو ان الناس تثبتوا لم يهلك أحد)(1) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (ان الاناة من الله والعجلة من الشيطان)(2) وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (مع التثبت تكون السلامة، ومع العجلة تكون الندامة)(3) . وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (التأني في الفعل يؤمن الخطل، التروي في القول يؤمن الزلل)(4) .وبذلك يتّضح ان الاناة والتثبت من جنود الرحمن والعقل وان العجلة والتسرع من جنود الشيطان والجهل.

روي أن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) دخل المسجد وقال لرجل (امسك علي بغلتي -- أي احفظها وما عليها من السرقة والضياع إلى ان ينهي الامام عبادته لكن الرجل المؤتمن طمعت نفسه -- فخلع لجامها وذهب به فخرج علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعد ما قضى صلاته وبيده درهمان ليدفعهما إليه مكافأة له، فوجد البغلة عطلى -- أي خالية من السرج فقد سرقه الرجل طمعاً بثمنه --، فدفع إلى غلامه الدرهمين ليشتري به لجاماً، فصادف الغلام اللجام المسروق في السوق قد باعه الرجل بدرهمين، فأخذه بالدرهمين وعاد إلى مولاه.

ص: 21


1- المحاسن: 1/ 340 ح 697
2- نفس المصدر السابق، ح 698، كنز العمال: 5674
3- الخصال: 100، ح 52
4- غرر الحكم: 1310

فقال علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):إن العبد ليحرم نفسه الرزق الحلال بترك الصبر ولا يزداد على ما قدر له) (1) . فعجلته لتحصيل المال أدّت به إلى هذه النتيجة السيئة ولنا كلمة مستقلة اعطينا فيها امثلة من الواقع على هذه النتيجة.ومن صور الاستعجال المذموم قيام البعض بالتشهير بالآخرين وذمهم وتسقيطهم ونشر غسيلهم بمجرد وصول خبر إليه بذلك من دون أن يتحقق من صدق الخبر أو يعطي الفرصة للآخر لكي يبيّن الحقيقة ويعطي العذر، في الحديث المروي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (يا عبد الله لا تعجل في عيب أحدٍ بذنبه، فلعله مغفور له، ولا تأمن على نفسك صغير معصيةٍ فلعلك معذب عليه) (2) .

ومن كتابه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى مالك الاشتر لما ولّاه مصر (لا تعجّلن إلى تصديق ساعٍ فان الساعي غاش وإن تشبّه بالناصحين) (3) .

وهذه العجلة المركوزة في طبع الانسان هي التي تعمي بصيرته وتسلب عقله فتدفعه إلى التشبت بالدنيا والتمسك بها لأنه يجد فيها لذة عاجلة ويعزف عن متطلبات الآخرة لأنها مؤجلّة {إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} (الإنسان:27).

وقال تعالى {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ

ص: 22


1- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 2 - الصفحة 1076، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 3 / 160.
2- نهج البلاغة: الخطبة 140
3- نهج البلاغة: الكتاب 53

جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً} (الإسراء:18).ومن اسوأ النماذج على هؤلاء عمر بن سعد فانه عندما كلّفه ابن زياد بقيادة الجيش الخارج الى حرب الامام الحسين وبات ليلته يفكّر ويتأمل في ما عرض عليه من ولاية الري وجرجان ان قتل الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وفيها نار جهنم وانشأ ابياتاً منها:

أأترك ملك الري والري منيتي***ام ارجع مأثوماً بقتل حسين(1)

وأختار في النهاية الدنيا العاجلة الفانية معللاً ذلك بقوله (وما عاقل باع الوجود بدين) لكنه لم يكن عاقلاً في اختياره بل كان أحمقاً ومتوهماً.

ص: 23


1- اللهوف في قتلى الطفوف- ابن طاووس: 193

القبس /83: سورة الإسراء:19

اشارة

{وَمَن أَرَادَ ٱلأخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعيَهَا}

الأمور بخواتيمها:

مما يوجب حذر المؤمن في هذه الحياة الدنيا ويجعله في توجّس ويدفعه إلى مزيد من الاعتصام بالله تعالى، هو أن لا يختم له بخير، وإن كان عمله بحسب الظاهر صالحاً الآن إلاّ أنه لا تعرف خاتمته والأمور بخواتيمها، روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (لا يزال المؤمن خائفاً من سوء العاقبة لا يتيقن الوصول إلى رضوان الله حتى يكون وقت نزع روحه وظهور ملك الموت له)(1).

وقد ينجح الإنسان في امتحانات عديدة لكنه يسقط في أحدها سقوطاً نهائياً والعياذ بالله، عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(أن العبد ليعمل عمل أهل الجنة فيما يرى الناس وإنه لمن أهل النار، وإنه ليعمل عمل أهل النار فيما يرى الناس وإنه لمن أهل الجنة وإنما الأعمال بالخواتيم)(2) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(الأمور بتمامها والأعمال بخواتيمها)(3).

ص: 24


1- بحار الأنوار: 71/ 366 ح13.
2- كنز العمال ح950.
3- ميزان الحكمة- الريشهري: 1/ 724

قصة أحمد بن هلال العبرتائي:

وهذه الحقيقة لها شواهد قرآنية تاريخية كثيرة، ولنذكر مثالاً (حوزوياً) وهو أحمد بن هلال العبرتائي من كبار العلماء والرواة فقد قال عنه الشيخ الطوسي (روى أكثر أصول أصحابنا) ناهز التسعين من العمر (180-267)، حجّ (54) حجة، عشرون منها ماشياً على قدميه، قال عنه الكشي (وقد كان رواة أصحابنا بالعراق لقوه، وكتبوا منه) وقال العلامة (قد) أنه سمع منه (جل أصحاب الحديث واعتمدوه فيها).

وكان من أصحاب الإمامين الهادي والعسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلاّ أنّه مرّ بامتحان بعد استشهاد الإمام العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ففشل فيه وغلبه هواه وحسده وحبّه للرئاسة والزعامة فورد التحذير أولاً من الإمام المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من الانخداع بظاهره فقد كتب الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى نوابه (قوّامه) بالعراق في ابتداء أمره (احذروا الصوفي المتصنّع) ثم جاء لعنه من الإمام المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فقد ورد في كتاب الغيبة في ذكر المذمومين الذين ادّعوا البابية (قال أبو علي بن همام:كان أحمد بن هلال من أصحاب أبي محمد(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فأجمعت الشيعة على وكالة محمد بن عثمان (رضي الله عنه) بنص الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حياته، ولما مضى الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، قالت الشيعة الجماعة له:ألا تقبل أمر أبي جعفر محمد بن عثمان، وترجع إليه، وقد نصّ عليه الإمام المفترض الطاعة؟ فقال لهم لم أسمعه ينصّ عليه بالوكالة، وليس أنكر أباه، يعني عثمان بن سعيد، فأمّا أن أقطع أنّ أبا جعفر وكيل صاحب الزمان فلا أجسر عليه، فقالوا:قد سمعهُ غيرك، فقال:أنتم وما سمعتم، ووقف على أبي جعفر، فلعنوه وتبرئوا منه، ثم ظهر التوقيع على يد أبي القاسم حسين بن روح، بلعنه، وبالبراءة

ص: 25

منه في جملة من لُعن).ولم يتحمل كثير من الأصحاب هذا الخبر في حق ابن هلال لما ذكرنا من منزلته عندهم وأنكروا ما ورد في مذمّته (فحملوا القاسم بن العلاء على أن يُراجع في أمره فخرج إليه توقيع طويل جاء فيه (ونحن نبرأ إلى الله تعالى من ابن هلال لا (رحمه الله) وممن لا يبرأ منه، فأعلم الإسحاقي وأهل بلده مما أعلمناك من حال هذا الفاجر، وجميع من كان سألك ويسألك عنه)(1).

أهمية حسن الخاتمة:

فهذا وأمثاله كثير ممن كان له ظاهر تمتد إليه الأعناق، لكن قدمه زلّت ولم يتب ولم يصلح خطأه وأصرّ عليه فكان من الملعونين لذا ورد في الحديث النبوي الشريف (لا عليكم أن تُعجبوا بأحدٍ حتى تنظروا بما يُختمُ له، فإنّ العاملَ يعمل زماناً من عمره أو بُرهة من دهره بعملٍ صالحٍ لو مات عليه دخل الجنة، ثمّ يتحوّل فيعمل عملاً سيئاً)(2) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(إنّ الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة، ثمّ يختم له بعمل أهل النار)(3).

ولأهميّة حسن الخاتمة فقد أشير إليها كثيراً في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، وتكرّر طلبها في الأدعية المباركة، وأجاب القرآن الكريم باختصار عن

ص: 26


1- هذه النصوص نقلها من مصادرها: السيد الخوئي (قدس سره) في معجم رجال الحديث: 2/ 367- 370.
2- منتخب ميزان الحكمة: 206 عن كنز العمّال: 545، 589.
3- السابق.

كيفية ضمان الفوز بحسن الخاتمة في قوله تعالى {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (القصص:83) وبتفصيل أكثر قال تعالى {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} (الإسراء:19).

متطلبات الفوز بالآخرة:

فالفوز بالآخرة يتطلب بحسب الآية الشريفة:

1-إرادة جديّة وقصد حقيقي لنيل رضوان الله تبارك وتعالى وليس مجرد لقلقة لسان كما وصفهم الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الناس عبيد الدُنيا، والدين لعقٌ على ألسنتهم يحيطونه ما درّت معائشهم، فإذا مُحصّوا بالبلاء قلّ الديانون)(1)، وأن تكون إرادته مبنية على قصد الوصول إلى الهدف الحقيقي وهو رضا الله تبارك وتعالى وليس طاعة لغيره أو لأي هدفٍ آخر سواه.

2-السعي الجاد الدؤوب بما يصلح الآخرة ويضمن الفوز فيها، فقوله تعالى (وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا) يتضمن عدة خصائص لهذا السعي منها كونه حثيثاً ودؤوباً فقد قيل في معنى السعي أنّه ((المشي السريع ويستعمل للجد في الأمر)، (وأكثر ما يُستعمل السعي في الأفعال المحمودة)) ولتأكيد ذلك فقد أضافت الآية السعي إلى الآخرة أي أن يكون السعي مناسباً للآخرة بكل ما يعني ذلك، لتختصر كل ما تطلبه الآخرة من نوع السعي ومقداره وخصوصياته، قال السيّد صاحب الميزان ((والمعنى وسعى وجدّ للآخرة السعي الذي يختص بها ويُستفاد منه أنّ

ص: 27


1- ميزان الحكمة- الريشهري: 2/ 907

سعيه لها يجب أن يكون سعياً يليق بها ويحقّ لها كأن يكون يبذل كمال الجهدِ في حسن العملِ وأخذه من عقلِ قطعي أو حجة شرعية))(1).3-أن يقترن ذلك بالإيمان بالله تعالى وبرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأنّه شرط القبول ونيل الجزاء لأنّ باب الله الذي لا يُؤتى إلاّ منه {وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} (البقرة:189) وأن يتعزز الإيمان بالمعرفة بالله تعالى وإخلاص النية له سبحانه، وهذا الإيمان والمعرفة لابد أن تكون لها حقيقة، فيعتقد أن هذا كله لطفٌ من الله تعالى وأنّه لا يستقل بشيء عن ربّه، وأن يكون خائفاً مشفقاً إذا نظر إلى العمل من زاويته الشخصية، فإذا قُبل عمله بفضل الله ورحمته وهذا ما أكدته الآية اللاحقة {كُلاًّ نُّمِدُّ هَ-ؤُلاء وَهَ-ؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً} (الإسراء:20) ونحو ذلك من المعاني.

ما يؤمنك من سوء العاقبة:

وقد بيّنت الروايات الشريفة بعض مظاهر هذه المعرفة وهذه الأعمال الصالحة:عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إذا أردت أن يؤمنك الله سوء العاقبة فاعلم أن ما تأتيه من خير فبفضل الله وتوفيقه، وما تأتيه من سوء فبإمهال الله وإنظاره إياك وحلمه وعفوه عنك).(2) ومن كلام الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لبعض الناس (إن أردت أن يُختم بخير عملك حتّى تُقبض وأنت في أفضل الأعمال فعظّم لله حقّه أن تبذل نعمائه في معاصيه، وأن تغتر بحلمه عنك، وأكرم كلّ من وجدته يذكر منّا أو

ص: 28


1- الميزان في تفسير القرآن: 13/ 65.
2- بحار الأنوار: 70/ 392 ح60.

ينتحل مودّتنا).(1) عن الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إنّ خواتيم أعمالكم قضاء حوائج اخوانكم والإحسان إليهم ما قدرتم وإلاّ لم يُقبل منكم عمل، حنّوا على اخوانكم وارحموهم تُلحقوا بنا)(2).فمثل هؤلاء يكون سعيهم مشكوراً، وقد أطلق لفظ الشكر ليكون لا حدود له لأنّ صفات الله تبارك وتعالى لا حدود لها، ومن أسمائه الشكور.

لا بد أن يقترن الدعاء بالسعي:

وشدّدت الآية على أن الجزاء لا يتخلف عن السعي بل يكون نتيجة حتمية له، بعكس من يطلبون الدُنيا الذين ذكرتهم الآية السابقة على هذه، قال تعالى {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً} (الإسراء:18) فلا يتحقق له ما يريد بل ما يريده الله تبارك وتعالى، وليس لكل أحدٍ بل لمن يشاء الله تعالى أن يعطيه.

وبهذا المعنى الذي شرحناه لسعي الآخرة لابد أن نفهم معنى انتظار الإمام صاحب الأمر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والدعاء بقيام دولته المباركة، فلابد أن يقترن بالسعي الخاص به والمناسب له، فتقيّد أحاديث ثواب الانتظار والمنتظرين بأن يُسعى له سعيه.

وهكذا كل قضية في حياتنا يُراد تحقيقها فلابد أن يسعى لها سعيها المناسب لها كمن يريد أن يصبح طبيباً أو مهندساً فلابد أن يبذل الجهد المطلوب كماً

ص: 29


1- عيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 2/ 4 ح8 .
2- بحار الأنوار، 75/ 379.

ونوعاً ويسير وفق الآليات التي توصله إلى هدفه، ولا ينال كل ذلك إلاّ بلطف الله تعالى وتوفيقه ومدده.

ص: 30

القبس /84: سورة الإسراء:23

اشارة

{وَبِٱلوَلِدَينِ إِحسَنًا ۚ}

موضوع القبس:بر الوالدين

الآيات الكريمة والروايات الشريفة الواردة في وجوب بر الوالدين والاحسان اليهما وحرمة عقوقهما كثيرة جدا قال تعالى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (الإسراء:23) {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}(لقمان:14-15) {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} (الأحقاف:15) {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (البقرة:83) .

اما الروايات فكثيرة جدا نذكر منها:

ما روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لما سُئل عن حق الوالدين على ولدهما قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) باختصار (هما جنتك ونارك) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (رضى الله في رضا الوالد وسخط الله في سخط الوالد) وعن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(برُّ الوالدين اكبر فريضة)(1).

هذا معنى واضح ومعروف ولا يحتاج الى بيان وتفصيل وكل الذي علينا هو

ص: 31


1- راجع هذه الروايات وكثير غيرها في ميزان الحكمة . 9/ 567.

التنفيذ والالتزام بكل حب ومودة ورحمة وصبر وسعة الصدر.

أبوا هذه الأمّة:

اما ما اريد ان اشير اليه فهو مصداق آخر للوالدين تنطبق عليهما هذه الآيات والروايات بل هي فيهما آكد وأشد، وتبينهُ الرواية التالية، روى الشيخ الصدوق بسنده عن انس ابن مالك قال:(كنت عند علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الشهر الذي أصيب فيه وهو شهر رمضان فدعا ابنه الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ثم قال:يا أبا محمد اعل المنبر فاحمد الله كثيرا، وأثن عليه، واذكر جدك رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأحسن الذكر، وقل:لعن الله ولدا عق أبويه، لعن الله ولدا عق أبويه، لعن الله ولدا عق أبويه، لعن الله عبدا أبق من مواليه، لعن الله غنما ضلت عن الراعي(1) وانزل. فلما فرغ من خطبته ونزل اجتمع الناس إليه فقالوا:يا ابن أمير المؤمنين وابن بنت رسول الله نبئنا {الجواب} فقال:الجواب على أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فقال أمير المؤمنين:إني كنت مع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في صلاة صلاها فضرب بيده اليمنى إلى يدي اليمنى فاجتذبها فضمها إلى صدره ضما شديدا ثم قال لي:يا علي، قلت:لبيك يا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، قال:أنا وأنت أبوا هذه الأمة، فلعن الله من عقنا، قل:آمين، قلت:آمين. ثم قال:أنا وأنت موليا هذه الأمة فلعن الله من أبق عنا، قل:آمين، قلت:آمين، ثم قال:أنا وأنت راعيا هذه الأمة فلعن الله من ضل عنا، قل:آمين، قال أمير المؤمنين

ص: 32


1- في رواية اخرى ان الفقرة الثالثة (لعن الله من ظلم أجيره) وذكر (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في معناها (الا واني وانت اجيرا هذه الامة فمن ظلمنا أجرتنا فلعنة الله عليه)، أنظر: مستدرك سفينة البحار- الشيخ النمازي: 9/ 264

(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):وسمعت قائلين يقولان معي:" آمين " فقلت:يا رسول الله ومن القائلان معي " آمين "؟ قال:جبرئيل وميكائيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ))(1).وورد في تفسير فرات بن ابراهيم بسنده عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير قوله تعالى {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (لقمان:14) قال (رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعلي ابن ابي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)) .

وفي تفسير القمي في قوله تعالى {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} قال:(فالوالدان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وامير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ))، وورد عن جابر عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير قوله تعالى {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} (البلد:3) انه امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وما ولد من الائمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وورد في تفسير قوله تعالى {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} (الأحقاف:15) هما رسول الله وعلي بن ابي طالب (صلوات الله عليهما).

ويشرح في تفسير العسكري معنى ابوتهما (صلوات الله عليهما) قال (ولقد قال الله تعالى {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) افضل والديكم واحقهما بشكركم محمد وعلي، وقال علي ابن ابي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سمعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول انا وعلي بن ابي طالب ابوا هذه الامة، ولحقُّنا عليهم اعظم من حق والديهم فانا ننقذهم ان اطاعونا من النار الى دار القرار ونلحقهم من

ص: 33


1- معاني الأخبار - الشيخ الصدوق: 118/ح1.

العبودية بخيار الأحرار)(1).

في معنى الأب:

قال الراغب في المفردات (الاب):الوالد ويُسّمى كل من كان سببا في ايجاد شيء او صلاحه او ظهوره اباً ولذلك يسمى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ابا المؤمنين، قال الله تعالى{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}(الأحزاب:6) روي انه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال لعلي (انا وانت ابوا هذه الامة)(2).

حياتان ووجودان:

فالإنسان له حياتان ووجودان:الاولى:حياة ووجود بدني مادي في هذه الحياة الدنيا به يأكل ويشرب ويتحرك ويتزوج مما يشارك فيه الحيوانات وينتهي بالموت، واصله من الوالدين النسبيين الاب والام مما اوجب لهما الحقوق المعروفة للوالدين.

الثانية:حياة ووجود معنوي به يتكامل ويسمو ويرتقي وهو الموجب للفوز في الحياة الابدية وقوامه الايمان بالله تعالى وبما جاءت به رسُلُه، وهذه هي الحياة الحقيقية للانسان {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} (العنكبوت:64)، وقد وصف الله تعالى في آيات كثيرة من القران الكريم الايمان بالحياة والكفر بالموت {وَلَا

ص: 34


1- هذه الروايات في بحار الانوار : 36/ 6-9 في باب عنوان (ان الوالدين رسول الله وامير المؤمنين (صلوات الله عليهما) وتوجد روايات اخرى في باب بعنوان (تأويل الوالدين والولد والارحام وذوي القربى بهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)) في بحار الانوار :23/ 257.
2- المفردات للراغب، مادة (اب).

تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} (آل عمران:169) وضرب امثلة عديدة للمؤمن والكافر بالأرض الميتة فأحييناها بماء الايمان والمعارف الالهية.

الابوة المعنوية:

والنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وامير المؤمنين علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هما اصل هذه الحياة المعنوية ووجودنا فيها ولولاهما لكنّا امواتاً {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} (الأعراف:43) فهما ابوا هذه الامة في حياتها المعنوية ولانها الحياة الاهم والاسمى كان حقهما (صلوات الله عليهما) اكبر من الوالدين النسبيين.

ولعل مما يدل عليه من القران الكريم لرفع الاستغراب قوله تعالى {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} (الزخرف:22) فقد حُمِل على العلماء (اي علماءنا الذين ربونا بالعلم بدلالة قوله تعالى {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} (الأحزاب:67) وقيل في قوله تعالى {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} انه عنى الاب الذي ولده والمعلم الذي علمه)(1).

بل يمكن القول انهما ابوا هذه الامة حتى بالمعنى الاول، لانهما العلة الغائية للموجودات خلق الكون لأجلهم وبهم يرزقون وبهم تستمر الحياة

((ولولاهم لساخت الارض باهلها)) وبهم يسبب الله الاسباب.

ص: 35


1- المفردات للراغب، مادة (اب).

لنكن أبناء بارّين:

والى الان نكون قد عرفنا جانبا من الحديث الذي له اتجاهان لان الابوّة من المعاني المتضايفة كما يعبر اهل المنطق والاصول اي النسبية ذات الاتجاهين، فلا تتحقق الابوّة الا بالبنوّة، لذا علينا ان نلتفت الى هذا التشريف العظيم الذي منَّ الله تعالى به علينا اذ جعلنا ابناءاً لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعلي بن ابي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الذي يعرف قيمته مثل الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حين يقول (ولايتي لعلي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أحب إلي من ولادتي منه، لأن ولايتي لعلي بن أبي طالب فرض، وولادتي منه فضل)(1).

لنقرأ الآيات برؤية جديدة:

وحينئذٍ نقرأ الآيات الكريمة بهذه الرؤية الجديدة {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} وتقدم ان حقهما (صلوات الله عليهما) اعظم من حق الوالدين الذي عرفنا عظمته، عن الامام الحسن السبط (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (محمد وعلي ابوا هذه الامة فطوبى لمن كان بحقهما عارفا ولهما في كل احواله مطيعا يجعله الله من افضل سكان جنانه ويسعده بكراماته ورضوانه) وعن الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من عرف حق ابويه الافضلين محمد وعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واطاعهما حق الطاعة قيل له تبحبح في اي الجنان شئت)(2).

ص: 36


1- البحار: ج 39: ص 299.
2- بحار الانوار : 36/ 10 عن تفسير العسكري :330.

في خصائص البنوة:

وعلينا ان نكون ابناءا بارين مطيعين، نقل في المناقب عن القاضي ابي بكر احمد ابن كامل قوله (يعني ان حق علي على كل مسلم ان لا يعصيه ابدا)(1).

واذا لم تتحقق شروط البنوة فان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وامير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يتبرءان منه وينفيان انتسابه اليهما، وتصور العار الذي يلحق من يتبرأ منه ابواه وينفيان نسبته اليهما، عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(اما يكره احدكم ان ينفى عن ابيه وامه الذين ولداه قالوا بلى، قال فليجتهد ان لا ينفى عن ابيه وامه الذين هما ابواه افضل من ابوي نفسه)(2).

حُكي ان ذئباً نزى على انثى غزال فحملت منه وولدت مولودا اختلف فيه هل هو ذئب ام غزال ليُطبَّق الحكم الشرعي على كل منهما، وتقول الحكاية ان القاضي حكم بان يقدم امامه نوعان من الطعام احدهما من الرياحين والمسك والاخر من الجيف ولحوم الميتة، فان تناول الاول فهو غزال وان تناول الثاني فهو ذئب(3).

ومحل الشاهد ان بنوّة الانسان لأحد تعرف من خلال المنهج الذي يسير عليه ويرتضيه لنفسه فان كان صالحا كان ابنا لرسول الله وامير المؤمنين (صلوت الله عليهما) وان كان فاسدا منحرفا فهو ابن لمعاوية ويزيد ونظرائهما.

ص: 37


1- بحار الانوار 36/ 11 عن مناقب آل ابي طالب : 3/ 126.
2- بحار الانوار : 36/ 10 عن تفسير العسكري :330.
3- (غضوا ابصاركم ترون العجائب): 89 عن كتاب سلسلة اصول الدين للمرحوم دستغيب: 2/ 109.

في الحديث الشريف عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(فإن الرجل منكم اذا ورع في دينه وصدق الحديث وادّى الأمانة وحسُن خلقه مع الناس قيل هذا جعفري، فيسرُّني ذلك ويدخل عليَّ منه السرور، وقيل هذا أدب جعفر ، واذا كان على غير ذلك دخل عليَّ بلاؤه وعاره، وقيل هذا أدب جعفر)(1).فالإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ينسبك فعلاً اليه والى ابائه الطاهرين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وتحمل لقبه اذا تحليت بهذه الصفات.

وفي القرآن الكريم قول ابراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} (إبراهيم:36) فمن سار على نهجه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واتبعه كان منه وليس فقط ينتسب اليه وبهذا استحق سلمان الفارسي هذا اللقب في الحديث النبوي المشهور (سلمان منا اهل البيت)(2) وبالعكس فان الانتساب البدني لا قيمة له اذا لم يكن مقترناً بالطاعة والاتباع، كما حكى القرآن الكريم في ابن النبي نوح (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} (هود:46).

نسأل الله تعالى ان يجعلنا اهلاً للتشرف بالبنّوة لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وامير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأن نؤدي حقوق هذا الانتساب بفضله وكرمه.

ص: 38


1- وسائل الشيعة : كتاب الحج، ابواب احكام العشرة، باب 1 ح2.
2- رواه الحاكم في المستدرك (3/ 598) ، والطبراني (6/ 261).

القبس /85: سورة الإسراء:36

اشارة

{وَلَا تَقفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ ۚ}

موضوع القبس:لا تعتنق عقيدة او فكرة ولا تقل او تفعل فعلاً الا عن علم ويقين

قال الله تبارك وتعالى:{وَلَا تَقفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ ۚ إِنَّ ٱلسَّمعَ وَٱلبَصَرَ وَٱلفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنهُ مَسُٔولا} (الإسراء:36)

ولا تقف:أي لا تتبع، من القفو وهو الاتباع كقولك اقتفيت أثره، والفرق ان الاتباع يطلق على كل افراده سواء كان اختياريا او باكراه، اما الاقتفاء فيختص بالاتباع الاختياري، فالآية تؤسس قاعدة رصينة في التلقّي والأخذ من قنوات ومصادر المعلومات الخارجية والداخلية وهي الاذن والعين والتأملات الذهنية فلابد أن يكون ذلك مستنداً الى العلم الذي يشمل المعلومات المتيقنة المأخوذة عن حس ومشاهدة، أو عن مصادر معتبرة عند العقلاء التي لا يُعبأ باحتمال الخطأ فيها كإخبار الثقة او التواتر.

وهذه القاعدة القرآنية يجب تفعيلها في كل نواحي الحياة، فلا يرتب أثراً على ما يسمعه او يجده مكتوباً أو ينقدح في ذهنه الا اذا وجد دليلاً علمياً عليه سواء كان في الاعتقاد او السلوك او العلاقات مع الآخرين ولا ينشر شيئاً الا بعد ان يتأكد من مصداقيته وجواز نشره، في الحديث عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ان

ص: 39

من حقيقة الايمان ان لا يجوز منطقك علمك)(1) وفي حديث عن الامام موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ليس لك ان تتكلم بما شئت، لان الله عز وجل يقول:{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}(2), وفي الحديث النبوي (ايّما رجل اشاع على رجل مسلم بكلمة وهو منها برئ كان حقا على الله ان يذيبه يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاد ما قال)(3)، فمن لا يأخذ بهذه القاعدة يعرّض نفسه للمسؤولية، ويكون اول شاهد عليه حواسه {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}.مثلاً شخص يدّعي عنواناً معيناً كالسفاره عن الامام المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) او الوكالة والنيابة عنه لا يجوز تصديقه لانها دعوى غير مستندة الى العلم، او شخص يتبنى مشروعاً معيناً كإصلاح الأوضاع العامة وتغيير أحوال الناس نحو الاحسن لا يجوز تصديقه واتباعه حتى يتحقق من مصداقيته، او ما ينشر على مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من اتهامات لهذا وذاك بالفساد والصفقات المشبوهة لا يجوز تصديقه وترويجه الا بعد التحقق من صدقه او ما تتداوله الناس من أخبار عن هذا وذاك أنه فعل كذا وقال كذا لا يجوز تبنّيه وترتيب الأثر عليه لان مثل هذه المصادر لا يوثق بها وقد تصل الحالة الى الاقتتال والقتل لمجرد انه قيل له ان هذا الرجل او تلك المرأة فعلا كذا وكذا قبل أن يتبيّن حقيقة الأمر وقد يكون المخبر مبغضاً او حاسداً او له غرض شخصي فيعمل على القاء الفتنه بهذه الاخبار وقد يكون متوهماً او مشتبهاً كما وقع في الكثير من الحالات.

ص: 40


1- وسائل الشيعة: 18/ 16،17.
2- علل الشرائع- الشيخ الصدوق: 2/ 605/ح80
3- الدر المنثور : 4/ 182 اخرجه الحاكم وصحّحه عن ابي ذر عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

والشرع المقدس يرى الصدق في هذه الأمور قبيحاً فكيف بالكذب لان فيها تدميراً للعلاقات الاجتماعية وتخريباً للأُسر، في الحديث النبوي الشريف (ثلاث يقبح فيهن الصدق:النميمة وإخبارك الرجل عن أهله بما يكرهه وتكذيبك الرجل عن الخبر)(1) وفي حديث اخر عن الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من روى على أخيه المؤمن رواية يبتغي بها شينه وهدّم مروته اخرجه الله تعالى من ولايته الى ولاية الشيطان ثم لا يقبله الشيطان)(2) بغض النظر عن كونه صادقاً او كاذباً فيما روى ، وبالمقابل مدح الله تعالى قوماً فقال تعالى {فَبَشِّرْ عِبَادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (الزمر:17-18) فلا يكتفي احدهم بصدق الخبر حتى يّرتب عليه الأثر أو ينقله للغير، لان الصدق قد يكون ضاراً، بل يتثبت من حسن القول مضافاً الى صدقه.وهذه القاعدة القرآنية مما تدعو له الفطرة السليمة أيضاً فانها تتحرى دائما الوصول الى الواقع والحقيقة فلا تعطي قيمة للمظنون او المشكوك، ويحاول العقلاء أن يصلوا الى الحقيقة وتحصيل العلم بأنفسهم إن أمكن والا فيرجعون الى من له العلم بذلك كمراجعة المريض للطبيب، أو رجوع عامة الناس الى المجتهد العارف بتحصيل الاحكام الشرعية وهكذا، ولا يعذرون من يتبنى عقيدة او قولاً او فعلاً من دون ذلك، وقد لبّى الله تعالى حاجة هذه الفطرة لدى الانسان فاعطاه السمع والبصر والعقل لتكون له أدوات يصل بها الى الحقيقة، وسيسأل الانسان عن

ص: 41


1- ميزان الحكمة: 5/ 44.
2- الكافي 2/ 358.

كيفية توظيفه واستعماله هذه الأدوات فهل ان ما اصغى له بسمعه كان من مصدره الموثوق، وهل ان ما نسبه الى عينه حينما يقول رأيت كان قد رآه فعلاً وواضحاً لديها فعلاً؟ وهل ان ما فكّر فيه ورتبّه بذهنه كان مستنداً الى معلومات ومقدمات صحيحة؟ وهذه الحواس ستشهد عليه وتجيب بصدق {حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (فصلت:20) فعلى الانسان ان يحذر ويتجنب اتباع ما ليس له به علم والا فانه لا يكون معذورا.والمطلوب دائماً هو التثبت من المعلومة قبل البناء عليها، ومن صدق الدعوى قبل التسليم بها، ولو بنى المجتمع حياته على هذه القاعدة القرآنية لأغلق أبواب الكثير من المفاسد والاضرار والخرافات والانحرافات وبهذا المنهج نحافظ على العلاقات الاجتماعية وسمعة الأشخاص وكرامتهم ومنع حصول حالة الإحباط واليأس لدى العاملين بسبب ما يشيعه الحاسدون، وبذلك نستطيع تقويم عقائد وأفكار المجتمع من الانحراف والضلال.

فعلى مستوى الاعتقاد:لم يقدّم الملحدون دليلاً علمياً على نفي وجود الخالق تبارك وتعالى وغاية ما يدّعون انه لم يثبت عندهم وجوده سبحانه فكيف يريدون بجهلهم هذا نفي الأدلة القاطعة التي يقيمها المؤمنون بالله تعالى.

والذين ينكرون المعاد ليس عندهم دليل وانما هو مجرد استبعاد وقصور اذهانهم عن تصور الحالة بينما المؤمن عنده الحجج الدامغة على هذه الحقيقة، وكذلك الذين ينكرون الوحي والنبوة، قال تعالى {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} (يونس:36).

ص: 42

وهكذا اذن المطلوب التثبت وتحصيل العلم في كل شؤون الحياة فلا يجوز تصديق خبر بناءاً على الاشاعات أو الاقدام على فعل لمجرد ان الناس فعلته مما سمّوه بالسلوك الجمعي وجعلوا له مثلاً يستشهدون به وهو (حشر مع الناس عيد) كزيارة بعض القبور او القيام ببعض الاعمال التي لم يثبت أصلها، او اتباع شخص لمجرد ادعاءات ما لم يتحقق من توفر الشروط المطلوبة. فهذه كلها مخالفة لهذه القاعدة القرآنية، وقد روي في كتب العامة عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (بئس مطية الرجل:زعموا)(1) وقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (اياكم والظن فان الظن اكذب الكذب)(2) وفي حديث آخر (إن افرى الفرى ان يُريَ الرجل عينيه ما لم تريا)(3).

وفي حواراتنا لابد ان نستند في مواقفنا الى الحجة والبرهان لا الظنون والقياسات ولا في احكامنا على الآخرين بالظن والتهمة والاشتباه والاحتمال، لذا لا يبني القاضي على كلام المدعّي في قضية معنية وإنما يطالبه بالبينة ويسمح للمدعى عليه بالدفاع عن نفسه وهكذا.

وبذلك يكون الإسلام قد سبق الحضارات المعاصرة في تأسيس منهج التثبت العلمي الشامل لكل شيء، حتى العلوم التجريبية والطبيعية حيث لا مكان للافتراضات الوهمية والاحتمالات غير الممحصة والاحكام الساذجة، ويجعل ذلك مسؤولية شرعية وأمانة يُسئل عنها وهذه الرقابة الداخلية مما تميز المنهج

ص: 43


1- سنن ابي داوود: ص256.
2- وسائل الشيعة: 18/ 38.
3- صحيح البخاري: 3/ 1565/ح7043, ط. مؤسسة المختار.

الإلهي عن المادي، ويستشعرها المؤمن حتى لو خلى عن أي رقيب حتى على مستوى المشاعر والخلجات القلبية، فلا يقول كلمة بلسانه ولا ينقل حادثة عن أحد ، ولا يحكم بعقله حكماً ولا يعقد أمراً الا وقد استند فيه الى المعلومة الصحيحة. فلنتعاون جميعاً لنشر هذه الثقافة القرآنية والمنهج القرآني الكفيل بتحقيق السعادة والصلاح ولتجنب التداعيات الاجتماعية الخطيرة، والا فان الثقة ستنعدم بالجميع ويختلط الصالح والفاسد وتضيع الحقيقة ونفقد كل أمل بالصلاح والإصلاح.

ص: 44

القبس /86: سورة الإسراء:70

اشارة

{وَلَقَد كَرَّمنَا بَنِي ءَادَمَ}

موضوع القبس:الكرامة المطلقة للإنسان

الكرامة الحقيقية:

تأكيد بعد تأكيد:باللام و(قد) وصيغة التفعيل(1) لهذه الحقيقة الإلهية وهي الكرامة المطلقة للإنسان التي تعتبر من أهم الأصول التي تستند إليها القوانين والتشريعات، هذا التكريم الذي أعلنه الله تعالى لكل الخلائق في الحفل الذي أقيم عند بدء الخلقة الإنسانية للتعريف بخليفة الله تعالى في الأرض حيث أمر الله تعالى ملائكته بالسجود لآدم، قد حسد إبليسُ الإنسان على هذا التكريم الإلهي، قال تعالى حكاية عن إبليس:{قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَ-ذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء:62) أراد اللعين سلب تلك الكرامة منهم بصدهم عن سبيل الحق، فالكرامة الحقيقية هي الوعي بالحق وهو

ص: 45


1- ثم أردفها بقوله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}، قال السيد الطباطبائي: (وهذا أيضاً أحد مظاهر التكريم فمثل الإنسان في هذا التكريم الإلهي مثل من يدعى إلى الضيافة وهي تكريم ثم يرسل إليه مركوباً يركبه للحضور لها، وهو تكريم ثم يقدم له أنواع الأغذية والأطعمة الطيبة اللذيذة وهو تكريم) (الميزان في تفسير القرآن: 15/ 154).

الطريق الذي يسلك به الإنسان إلى الله تعالى.

الكرامة تتفاوت بحسب التقوى:

وتتفاوت درجات الكرامة عند الله تعالى بحسب درجة التقوى التي يتحلى بها الانسان قال تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات:13) وإن الإنسان يزداد كرامة عند الله تعالى حتى يفوق مقامه الملائكة، ففي الحديث عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(ما شيء أكرم على الله من ابن آدم)(1)، وفي الرواية عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(ما خلق الله عز وجل خلقاً أكرم على الله عز وجل من المؤمن، لأن الملائكة خدام المؤمنين)(2).

وتشرح رواية عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تعليل ذلك في ما نقله عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إن الله عز وجل ركّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركب في بني آدم كلتيهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شر من البهائم)(3).

من مظاهر التكريم الإلهي:

لقد تجلى هذا التكريم في كل أبعاد الإنسان، فجعل جسده {فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين:4) وفي الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (صورة

ص: 46


1- ميزان الحكمة: 1/ 333.
2- ميزان الحكمة: 1/ 333.
3- علل الشرائع- الشيخ الصدوق: 1/ 4

الآدميين وهي أكرم الصور على الله)(1).وزوده بالعقل وأدوات العلم والمعرفة ليبني الحياة ويعمّرها ويطوّرها وينمّيها بينما المخلوقات الأخرى في دورة حياة ثابتة وسلوك واحد من لدن خلقها إلى قيام يوم الساعة.

وجعل ما في الأرض في خدمة الإنسان {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ} (الجاثية:13) وعلّمه كيف يتمتع بالطيبات ويتفنن في صنعها والاستفادة منها.

ومن مظاهر تكريم الإنسان إعطاؤه حرية الاختيار والإرادة والقابلية على التكامل والسمو والارتقاء ثم بعث إليه الأنبياء والرسل وأنزل معهم الشرائع الإلهية ليدلّوه على طريق السعادة والفلاح وليستطيع التمييز بين الخير والشر والهدى والضلال، ولتحفظ كرامة الإنسان وحقوقه.

تكريم الإنسان معيار سلامة المناهج والأديان:

ان أوضح دليل على صحة وسلامة المنهج المتبع – أيً منهج حتى الاديان– هو سعيه لتحقيق كرامة الانسان وحفظ حقوقه بحيث يجد الانسان انسانيته فيه، اما مناهج التكفير والعنف والاستغلال والاستعباد والاستئثار بثروات الشعوب وقهرها فهي خارجة عن الدين وان تسمّت باسمه وادّعت الدفاع عنه، لان الاديان السماوية شُرّعت لحفظ انسانية الانسان وكرامته وسعادته.

روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(يقول الله تعالى:لم أخلقك لأربح

ص: 47


1- نور الثقلين: 3/ 387، ح 308 عن تفسير القمي.

عليك، إنما خلقتك لتربح علي، فاتخذني بدلاً من كل شيء، فإني ناصر لك من كل شيء)(1).

ما الذي أراده القرآن الكريم من حقيقة التكريم؟

إن بيان القرآن لهذه الحقيقة يستهدف:

1-تأسيس هذه القاعدة الأساسية التي تبنى عليها كل القوانين والأنظمة والتشريعات حتى الدين نفسه وهي كرامة الإنسان التي هي فوق كل شيء وأي قانون أو تشريع يتعارض مع هذا الأصل أو يتنافى مع حقوق الإنسان التي وهبها الله تعالى لبني آدم يجب أن يُلغى أو يُعدَّل.

2-إلفات نظر الإنسان إلى عظمة مكانته عند الله تعالى وما حباه الله من نعم ليحترم نفسه ويحافظ على طهارتها ونقائها ولا يبيعها بثمن بخس، في الحديث الشريف:من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهوته(2).

فالتفات الإنسان إلى هذه الحقيقة يعطيه الثقة بنفسه ويعينه على الثبات والاستقامة، وهذه من الوسائل المهمة في التربية الصالحة.

3-لا تخلو الآية من عتاب للإنسان على تمرده وعصيانه على ربه الذي أكرمه بأفضل ما يكون الإكرام وأغدق عليه من النعم حتى صار الإنسان يقيِّم ربَّه على أساس ما يعطيه من نعم مادية {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} (الفجر:15-16).

ص: 48


1- ميزان الحكمة: 1/ 334.
2- نهج البلاغة: ج4، ح449.

ليس للإنسان أن يتنازل عن كرامته:

وهذه الكرامة للإنسان هبة من الله تعالى وإن الإنسان قد يحافظ عليها ويعطيها حقها، وقد يستخف بها ويتنازل عنها قال تعالى:{وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} (الحج:18) لذا على الإنسان أن يحفظ كرامة نفسه وأن يحفظ كرامة الآخرين بنفس الدرجة، فليس له أن يتنازل عن كرامته أو أن يذل نفسه أو أن يتخلى عن حقوق الإنسانية، في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إن الله تبارك وتعالى فوَّض إلى المؤمن كل شيء إلا إذلال نفسه) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه) فقيل له:وكيف يذل نفسه؟ قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(يتعرض لما لا يطيق) وفي رواية أخرى (يدخل فيما يُعتذر منه)(1).

ويوصينا الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) دائماً بحفظ كرامتنا وعزتنا والترفع عن فعل ما ينافيهما وإن بدا محبباً إلى النفس وموافقاً للشهوات، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(أكرم نفسك عن كل دنية وإن ساقتك إلى رغبة، فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً، ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً)(2).

لكي تكون الحياة كريمة:

إن كرامة الإنسان تتوفر بتمتعه بحقوقه في الحياة من الحرية والأمن والاستقرار والرفاء وسائر مستلزمات الحياة الكريمة، لكنها تكتمل بأمرين:

1-الالتزام بالدين، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إن الله قد أكرمكم بدينه

ص: 49


1- ميزان الحكمة: 3/ 364.
2- تحف العقول: 77.

وخلقكم لعبادته، فانصبوا أنفسكم في أداء حقه)(1)، وروي عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(كل عز لا يؤيده دين مذلّة).2-طاعة الإمامة الحقة والقيادة المنصوبة من الله تعالى بالحجة الشرعية، فقد جاء في الآية التالية لآية التكريم هذه قوله تعالى:{يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَ-ئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} (الإسراء:71) وهذا شاهد على ارتباط كرامة الإنسان وانسانيته باتباع الإمامة الحقة(2).

وقد وصف الله تعالى عباده المكرمين بقوله:{بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (الأنبياء:26-27) فهذه هي صفاتهم:متنزهون عن اتباع الشهوات التي تذل الإنسان وتهينه، دائبون في طاعة الله تعالى فاستحقوا منه المقام الرفيع {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} (يس:26-27).

ص: 50


1- ميزان الحكمة: 1/ 334.
2- روى الكليني بسنده عن علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن ابيه الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انه اجاب رجلا سأله فقال : (أما قولك: أخبرني عن الناس، فنحن الناس ولذلك قال الله تعالى ذكره في كتابه: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) فرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الذي أفاض بالناس. وأما قولك: أشباه الناس، فهم شيعتنا وهم موالينا وهم منا (وهم اشباهنا ل خ) ولذلك قال إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (فمن تبعني فإنه مني) ، وأما قولك: النسناس، فهم السواد الاعظم واشار بيده إلى جماعة الناس ثم قال:(إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) الكافي : ج8، ص244، ح339.

معنى الاعتداء على الآخرين:

إن اعتداء الإنسان على كرامة أخيه الإنسان وسلبه حقوقه تبدأ من حين تخلي الإنسان عن كرامته الشخصية واتباعه لشهواته ورضاه بعبودية نفسه الأمّارة بالسوء أو طاعة غيره من العبيد، عن الإمام الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(من هانت عليه نفسه فلا تأمن شرّه)(1) وعن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(أذلّ الناس من أهان الناس)(2).

دولة الإنسان ودولة القانون:

إن كرامة الناس كل الناس لا تتحقق إلا في دولة الإنسان وذلك عندما يسود القانون الكريم على يد القائد الكريم وحينما تقام الدولة الكريمة التي تحفظ للجميع حقوقهم وتقوم على أساس المبادئ الإنسانية العليا، فدولة الإنسان أسمى وأرقى من دولة القانون؛ عندما لا يكون القانون صالحا وانما يشرّعه الناس لرعاية مصالحهم الضيقة ووفق رؤيتهم المحدودة والقاصرة ، ولا يكون صالحا الا اذا حفظ كرامة الانسان، لذا كان من الدعاء الذي علّمه الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لشيعته:(اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة)(3)، أما الدولة التي لا تقوم على أسس الكرامة الإنسانية فإنها تؤول إلى تسلط الأشرار والفاسدين واستعباد الناس ومصادرة حرياتهم والاستئثار بأموالهم وحرمانهم من مظاهر الحياة الكريمة.

ص: 51


1- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 483
2- معاني الأخبار- الشيخ الصدوق: 196
3- مفاتيح الجنان: 235

الزهراء (س) تضحي من أجل دولة الإنسان النبوية:

أيها المؤمنون الموالون:

لقد كان موقف السيدة الزهراء (س) نوعياً بكل معنى الكلمة وفي مرحلة استثنائية من حياة الأمة التي قُدّر لها أن تقود البشرية جميعاً، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران:110)، تلك المرحلة التي شكّلت فيصلاً بين خط الكرامة الإنسانية التي وهبها الله تعالى للبشر، وخط الذلة والهوان والفساد والانحراف الذي يزداد انحطاطاً كلما مرّ الزمن.

فوقفت السيدة الزهراء (س) موقفها العظيم في ذلك الجو الرهيب لتحفظ كرامة الإنسان والأمة التي جاء بها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من الله تعالى، لكن الفترة التي قضاها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في أمته لم تكن كافية لتطهير مجموع الأمة من رواسب الجاهلية وأغلالها وعصبياتها، وإن الأصنام المنصوبة في الكعبة وإن حُطّمت يوم الفتح، إلا أن الأصنام المصنوعة في النفس الأمارة بالسوء من التعصب والجهل والانانية كانت موجودة ومحرّكة لسلوكيات الكثيرين، فكان القيام الفاطمي معزّزاً بعناصر التأثير والصدمة(1) التي أحدثتها السيدة الزهراء (س) مكمِ-لاً لرسالة الإصلاح والتطهير التي أداها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من أجل تحرير الإنسان وتكريمه.

ومن أهم معالم الحياة الإنسانية الكريمة التي دافعت عنها الزهراء (س)

ص: 52


1- كهيئة خروجها من المسجد وانينها وبكائها وفصاحتها في الخطاب وحججها البالغة (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

استمرار دولة الإنسان الكريمة التي أسسها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وضَمِن ديمومتها بالقيادة الربانية التي اختارها الله تعالى المتمثلة بأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ومما قالت (سلام الله عليها) في وصف الحياة الإنسانية الكريمة في ظل هذه القيادة الإلهية وما تنعم به الأمة من بركات فيما لو انصاعوا للحق ووّلوا امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ولسار بهم سيراً سُجحاً –أي سهلاً- لا يكلم حشاشه ولا يكل سائره، ولا يمل راكبه، ولأوردهم منهلاً نميراً صافياً، روياً، تطفح ضفّتاه، ولا يترنق - أي يتكدر- جانباه ولأصدرهم بطاناً –أي شبعانين- ونصح لهم سراً وإعلاناً، ولم يكن يتحلى من الدنيا بطائل ولا يحظى منها بنائل غير ري الناهل وشبعة الكافل)(1) أي لا يبقي لنفسه شيئاً دون الأمة كالأب الرحيم الكافل للعائلة فانه يكتفي بالقوت ويعطي ما عنده لعائلته.وبالمقابل حذرتهم من تداعيات الابتعاد عن منهج الكرامة الإلهية ومما قالت (س):(وأبشروا بسيف صارم وسطوة معتدٍ غاشم، وبهرج شامل، واستبداد من الظالمين، يدع فيئكم زهيداً، وجمعكم حصيداً، فيا حسرة لكم! وأنى بكم وقد عميت عليكم! {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} (هود:28)) فهذه هي نتائج عدم إقامة الدولة الكريمة:فتن وصراعات وهدر للأموال وفوضى عارمة واستبداد الحكام وفقدان للأمن والاستقرار والنظام.

ص: 53


1- الاحتجاج: 1/ 139.

كلامهم صدق:

أيها الأحبة:

لاحظوا المصداقية الكاملة لكلام السيدة الزهراء (س) فيما نعيشه اليوم وفي كل يوم، وهكذا يجب أن نتدبر في كلماتها (س) ونستفيد منها في معالجة مشاكلنا ووضع البرامج الصحيحة لحياتنا، أما الاقتصار على ذكر مظلومية الزهراء (س) دون التعرض لبيان أهداف حركتها فإنه تقصير في حقها وفي فهم رسالتها المقدسة، فقد كانت (سلام الله عليها) مكمّلة لدور أبيها وبعلها (صلوات الله عليهما) في مشروع بناء دولة الإنسان التي تكون فيها القيمة العليا للإنسان وتُراعى حقوقه في كل القوانين والأنظمة والدساتير، ولا مجال فيها للاستبداد والاستئثار والتخلف والجهل، وتتحقق نصرتنا للسيدة الزهراء (س) بمقدار مساهمتنا في إنجاح مشروعها العظيم.

وإننا إذ نعيش هذه المرحلة الاستثنائية في حياة البشرية وهذه الانطلاقة المباركة للعقيدة التي آمنا بها بعد قرون طويلة من القهر والاضطهاد والحصار يكون المطلوب من السائرين على نهج الزهراء (س) القيام بالعمل النوعي الذي أرست دعائمه، وعلينا أن نصنع لأنفسنا هذا الدور كالأفذاذ في كل جيل، وليس ننتظر أن يصنعه غيرنا ثم يكلّفنا به، ولا يُنال ذلك الا بتوفيق الله الكريم.

ص: 54

القبس /87: سورة الإسراء:79

اشارة

{وَمِنَ ٱلَّيلِ فَتَهَجَّد بِهِ نَافِلَة لَّكَ عَسَى أَن يَبعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاما مَّحمُودا}

موضوع القبس:صلاة الليل وسيلة الإعداد لتحمل المسؤوليات الكبيرة ونيل المقامات الرفيعة

{وَمِنَ اللَّيْلِ} يمكن أن تكون (من) بيانية باعتبار أن النهار من شأنه النشاط والحركة فلا يحتاج العمل فيه إلى بيان، اما الليل فهو للنوم والسكون فالعمل فيه يحتاج إلى توجيه، ويمكن أن تكون تبعيضية أي بعض الليل، والتبعيض يمكن أن يستفاد من الباء، وقد حدّدت آيات المزمِّل هذا البعض، قال تعالى {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ، نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً}(المزمِّل:2-4).

{فَتَهَجَّدْ} الهجود هو النوم ومعنى تهجّد أي قاوم النوم وتكلَّف اليقظة كالتمريض الذي يعني معالجة المرض.

{نَافِلَةً لَّكَ} تكليفاً زائداً خاصاً بك يا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حيث ان قيام الليل واجب عليه خاصة {عَسَى} ترجّى وأمل بأن يبلغ به المقام المحمود مقام الرسالة العظمى والولاية الكبرى وإظهار دينه على الدين كله والشفاعة الواسعة المقبولة وتفضيله على الخلق أجمعين، ولا داعي للاقتصار على أحدها في تفسير المقام المحمود.

ص: 55

واستعمال صيغة الترجي وليس صيغة الجزم والقطع مع ان إرادة الله تعالى اذا تعلقت بأمر فإنما {أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس:82) لعل ذلك لإحداث المزيد من الرغبة والعزم، كالذي ورد في تفسير قوله تعالى {فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه:44) لحث النبي موسى وأخيه هارون (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على بذل الوسع في دعوة فرعون إلى الايمان والتوحيد، والله تعالى يعلم أن فرعون لا يتذكر ولا يخشى.وقد بيّنت آيات سورة المزمِّل المتقدمة ان قيام الليل يهيئ لإداء الأدوار الكبيرة وتحمّل المسؤوليات العظيمة، وتتمتها {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ، إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} {المزمل:5-6) سنوحي اليك قولاً يحمل مسؤولية عظيمة وفيه معاني عميقة وثقيل في آثاره ونتائجه وثقيل في ما يسببه لمن يصدع به من مصاعب ومشاق {فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (الأعراف:2) فلكي تتحمل هذه الاثقال استعن بناشئة الليل أي العبادة التي تنشئها في الليل لأنها أصعب مراساً وأشد على النفس وأثبت لها وأصدق في الأداء وادعى لحضور القلب لانقطاع الشواغل، في الرواية عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (يعني بقوله: وَأَقْوَمُ قِيلاً:قيام الرجل عن فراشه يريد به الله عزوجل ولا يريد به غيره)(1) لذا فإنها تكون أحسن انتاجاً وتحقيقاً للغرض وهذه حقيقة ثابتة فان العظماء الذين بلغوا ما بلغوا من مقامات كانت علامتهم المميزة مواظبتهم على قيام الليل، فاذا كنتم من الساعين لنيل تلك المقامات --

ص: 56


1- وسائل الشيعة: 5 /269 أبواب بقية الصلوات المندوبة، باب 39 ح 5.

وحريٌّ بكل عاقل أن يكون كذلك -- فأعدوا أنفسكم بهذه الرياضة المعنوية لتساعدكم على نيل الخصال الكريمة.لذا تضمنت الوصايا التي قدمّها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو يُعِّده لخلافته العظمى تركيزاً على صلاة الليل، عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (كان في وصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن قال:يا علي أوصيك في نفسك بخصال فاحفظها ثم قال:اللهم أعنه.... -- إلى ان قال -- وعليك بصلاة الليل، وعليك بصلاة الليل، وعليك بصلاة الليل)(1) .

ومن سننه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه كان يفرّق صلاة الليل على اجزائه ليكون في جميع وقته مستأنساً بلقاء ربه ففي التهذيب بسند صحيح عن معاوية بن وهب قال (سمعت أبا عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول:وذكر صلاة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:كان يؤتى بطهور فيخمر عند رأسه ويوضع سواكه تحت فراشه ثم ينام ما شاء الله، فإذا استيقظ جلس، ثم قلب بصره في السماء ثم تلا الآيات من آل عمران " إن في خلق السماوات والأرض "(2) الآيات، ثم يستن ويتطهر، ثم يقوم إلى المسجد فيركع أربع ركعات على قدر قراءة ركوعه وسجوده على قدر ركوعه، يركع حتى يقال:متى يرفع رأسه ويسجد حتى يقال:متى يرفع رأسه، ثم يعود إلى فراشه فينام ما شاء الله، ثم يستيقظ فيجلس فيتلو الآيات من آل عمران، ويقلب بصره في السماء ثم يستن ويتطهر ويقوم إلى المسجد ويصلي الأربع ركعات كما ركع قبل

ص: 57


1- رواها في وسائل الشيعة عن المشايخ الثقات في اصولهم في عدة مواضع منها في كتاب الصلاة، أبواب بقية الصلوات المندوبة، باب 39 ح 1.
2- الآية 190 من السورة وما بعدها.

ذلك، ثم يعود إلى فراشه فينام ما شاء الله ثم يستيقظ ويجلس ويتلو الآيات من آل عمران ويقلب بصره في السماء، ثم يستن ويتطهر ويقوم إلى المسجد فيوتر ويصلي الركعتين، ثم يخرج إلى الصلاة)(1) ورواه الكليني في الكافي بسند صحيح عن الحلبي عن ابي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وفيه (ثم قال:لقد كان لكم في رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أسوة حسنة، قلت:متى كان يقوم؟ قال:بعد ثلث الليل)(2) وفيه قال:في حديث آخر:(بعد نصف الليل)(3).وقد اختصر الحديث المروي عن الامام الحسن العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هذه الأهمية بقوله (الوصول إلى الله تعالى سفر لا يدرك الا بامتطاء الليل)(4) أي ان الاعمال الصالحة الموصلة إلى الله تعالى لابد ان تُتوِّج بصلاة الليل لتوصل إلى الهدف.

وهذا الحديث له دلالات عديدة منها أن الوصول إلى الله تعالى ممكن ولكنه يحتاج إلى حركة وسلوك وقطع مسافة بما يتطلب ذلك من جهد وجهاد، وأنّه يحتاج إلى مركب ليقطع به الطريق وهي صلاة الليل، وأن يترك كل شيء مما يتعلق به قلبه وراءه كالمسافر الذي يهجر وطنه وداره وأهله وولده وماله

ص: 58


1- وسائل الشيعة: 3/ 195 ح 1، التهذيب: 2/ 334 ح 1377
2- وهذا مما يُستدل به على أن وقت صلاة الليل يبدأ قبل منتصف الليل بعد مضي ثلثه، ومما يدلّ على ذلك آيات سورة المزمَّل الماضية فان فيها (نصفه، أو زد عليه) والزيادة على النصف تعني القيام قبل منتصف الليل.
3- وسائل الشيعة: 3/ 196 ح 2، الكافي: 3/ 445 ح 13
4- بحار الأنوار: 78/ 379، مسند الامام العسكري:379، الأنوار البهية للمحدث القمي:161.

ومنصبه وجاهه وعلاقاته وسائر تعلقاته.ويفيد الحديث أيضاً ان الصلوات المفروضة قد لا يكفي اتخاذها وسيلة لقطع هذا السفر ولابد من امتطاء صلاة الليل معها ليتحقق الوصول إلى الهدف بإذن الله تعالى وإن الصلاة بشكل عام هي أداة هذا العروج إلى الله تعالى ولعل هذه المعاني منشأ الكلمة المشهورة على ألسنة العلماء (الصلاة معراج المؤمن)(1) فهذه كلها معانٍ يمكن استفادتها بوضوح من الحديث الشريف.

ومن تشبيه صلاة الليل وعموم الطاعات بالسفر إلى الله تعالى نعرف انها تتعرض لنفس ما يتعرض له المسافر من مخاطر:كالتيه والمزالق والوحوش المفترسة وقطاع الطرق وفقدان الزاد، وهذه المخاطر بوجودها المناسب موجودة لمن يريد السفر إلى الله تبارك وتعالى، فقطاع الطرق هم المتلبسون بالدين الذين يضللون الناس بشبهاتهم، وفقدان الزاد بضياع العمر من دون تقديم عمل صالح (آه من قلة الزاد وطول الطريق وبعد السفر)(2) والوحوش المفترسة هم الذين

ص: 59


1- قال الشيخ محمد الريشهري في كتاب: الصلاة في الكتاب والسنة - الصفحة 15: لا يخفى أن عبارة " الصلاة معراج المؤمن " مع كثرة تداولها على الألسن بحيث صارت من أشهر الكلمات في وصف الصلاة، لم نجد لها مصدرا مسندا إلى (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أو الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، وهذا بعد أن استقصينا كلمات أصحاب الكتب في شتى العلوم ووجدناها في أكثر من ثلاثين موضعا من عباراتهم، علما أن كتب السنة كلها وكتب الشيعة جلها إلا ما دون في القرون الأخيرة - كروضة المتقين وبحار الأنوار للمجلسيين أعلى الله مقامهما والرواشح السماوية للمحقق الداماد قدس سره - خالية منها، فالظاهر أنها ليست برواية بل من عبارات علمائنا المتأخرين رضوان الله تعالى عليهم.
2- نهج البلاغة - خطب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ج 4 - الصفحة 17

يزينون الدنيا والشهوات ويوقعون الانسان في المعاصي ليطفئوا في قلبه نور الايمان، ويتحقق التيه بعدم أخذ العلم والمعروفة من أصله ومعدنه، قال أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فان العامل بغير علم كالسائر على غير طريق، فلا يزيده بعده عن الطريق الا بعداً من حاجته)(1) .هذا كله من ناحية الارتقاء في سلم الكمال، اما من ناحية الثواب فقد ورد في صلاة الليل فضل عظيم ففي الرواية عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير قوله تعالى {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة:17) قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ما من عمل حسن يعمله العبد وله ثواب في القرآن الا صلاة الليل، فان الله تعالى لم يبين ثوابها لعظيم خطرها عنده، فقال:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ، فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة:16 17)(2).

وفي حديث قدسي (ان العبد ليقوم في الليل فيميل به النعاس يميناً وشمالاً وقد وقع ذقنه على صدره فيأمر الله تعالى أبواب السماء فتفتح ثم يقول للملائكة:انظروا إلى عبدي ما يصيبه في التقرب إليَّ بما لم افترض عليه راجياً مني لثلاث خصال:ذنباً أغفره له، أو توبة أجدّدها له، أو رزقاً أزيده فيه، اشهدوا

ص: 60


1- بحار الأنوار: 1/ 209 ح 11 عن نهج البلاغة.
2- بحار الأنوار: 87/ 140

ملائكتي أني قد جمعتهن له)(1).وروى الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لجبرئيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):عظني:فقال:يا محمد عش ما شئت فانك ميت، وأحبب ما شئت فانك مفارقه، واعمل ما شئت فانك ملاقيه، واعلم أن شرف المؤمن صلاته بالليل، وعزّه كفّه عن اعراض الناس)(2).

وتوجد روايات كثيرة في الآثار الدينية والدنيوية المباركة التي تترتب على أداء صلاة الليل بفضل الله تعالى وكرمه.

ولأن صلاة الليل بهذه المنزلة العظيمة فانها لا تنال الا بتوفيق خاص ويحرم منها من ليس أهلاً لها، في الرواية (جاء رجل إلى أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):إني قد حرمت الصلاة بالليل فقال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنت رجل قيدّتك ذنوبك)(3).

وفي الحديث عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إني لأمقُتُ الرجل قد قرأ القرن ثم يستيقظ من الليل فلا يقوم، حتى اذا كان الصبح قام يبادر بالصلاة)(4).

هذا الحب لله تعالى وامتطاء الليل للوصول إليه سبحانه هو الذي أراده الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حينما طلب من ابن سعد تأجيل المعركة من عصر يوم التاسع إلى صبيحة يوم عاشوراء، فقد روي ان عمر بن سعد زحف بجيشه نحو معسكر الامام

ص: 61


1- وسائل الشيعة: 5/ 272
2- وسائل الشيعة: 5/ 269
3- وسائل الشيعة: 5/ 279
4- بحار الأنوار:83/ 127 ح 79

الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عصر يوم التاسع فأرسل أخاه العباس (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ليستعلم خبرهم فقصدهم في عشرين فارساً فيهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر فقال لهم العباس (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ما بدا لكم، وما تريدون؟ قالوا:جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو ننازلكم! قال:فلا تعجلوا حتى ارجع إلى أبي عبدالله فاعرض عليه ما ذكرتم) ثم أتى إلى الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بما عرض عليه عمر بن سعد قال (ارجع اليهم:فان استطعت أن تؤخرهم إلى غدوة وتدفعهم عند العشية، لعلنا نصلي لربنا الليلة، وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أني قد كنت أحب الصلاة له وتلاوة كتابه، وكثرة الدعاء والاستغفار) فبات الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تلك الليلة راكعاً ساجداً باكياً مستغفراً متضرعاً، وبات أصحابه ولهم دوي كدويّ النحل)(1). جزاهم الله تعالى عن الإسلام وأهله خير جزاء المحسنين.

ص: 62


1- تاريخ الطبري: 5/ 416، الكامل في التاريخ: 2/ 558، البداية والنهاية: 8/ 176 الارشاد: 2/ 89، مناقب ابن شهراشوب: 4/ 98 مقتل الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) للخوارزمي: 1/ 251 وغيرها.

القبس /88: سورة الكهف:13

اشارة

{إِنَّهُم فِتيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِم}

موضوع القبس:الفتّوة زينة الانسان

تعرف المعاجم اللغوية الفتوة بانها مرحلة عمرية للإنسان فالفتى هو الشاب الطري الحدث وتطلق على غير الانسان كالفتي من الابل، لكن المحققين في أصول المفردات يرون ان الشباب غير كافٍ وحده لإطلاق عنوان الفتوة مالم تجتمع فيه خصال الكمال لذا قيل (ليس الفتى بمعنى الشاب والحدث إنما هو بمعنى الكامل الجزل من الرجال)(1) مع شيء من الطراوة والجدة لذا فإن الشاب اعم من الفتى.

وتوسع المعنى -- وهو الأمر البالغ التّام -- من الأشياء الخارجية كالفتى من الانسان والحيوان إلى المعنوية، فاشتقت الفتوى إذ ان الإفتاء هو النظر التام البالغ الذي يبيّن المشكل من الأمور ويقوّي الحق فيها لذا فالنظر أعم من الفتوى، ولا تختص بالأحكام الشرعية، قال تعالى {قُضِ-يَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} (يوسف:41) وقال تعالى {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ} (يوسف:46) وقال تعالى {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} (النمل:32).

ص: 63


1- التهذيب: 14/ 327 بواسطة كتاب التحقيق في كلمات القرآن للمصطفوي:9/ 28

وعلى هذا فليس كل شاب فتى ما لم يكن تاماً بالغاً ومدبراً عاقلاً، وقد توسّع هذا المعنى في القرآن الكريم وروايات المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لكل من اتصف بهذه الخصال الكريمة وان لم يكن في عمر الشباب قال تعالى : {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} (الأنبياء:60) وقال تعالى {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} (الكهف:60)، ووصف النساء العفيفات - وإن كن مملوكات - بالفتيات للتبجيل والتوقير، قال تعالى {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} (النور:33) وقال تعالى {فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} (النساء:25).وبهذا اللحاظ أطلق القرآن الكريم على أصحاب الكهف وصف الفتية وهم لم يكونوا شباباً، ففي رواية الكافي عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انه قال (لرجل عنده:ما الفتى عندكم؟ فقال له:الشاب، فقال:لا، الفتى المؤمن، إن أصحاب الكهف كانوا شيوخاً فسماهم الله عز وجل فتية بإيمانهم)(1) .

ورويت بطريق آخر عن سليمان بن جعفر الهمداني عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال فيها (أما علمت أن أصحاب الكهف كانوا كهولاً فسمّاهم الله فتية بإيمانهم، يا سليمان من آمن بالله واتقى فهو الفتى)(2) .

وقد أظهر أصحاب الكهف من الفتوة ما أبهر العقول واستحق الثناء من الله تبارك وتعالى فقد آمنوا بالله تعالى ووحّدوه ونبذوا ما كان عليه قومهم من الشرك

ص: 64


1- الكافي: 8/ 395 ح 595
2- تفسير العياشي: 2/ 32 ح 11 ، تفسير البرهان: 6/ 118

والوثنية وعبادة الطاغوت وهو امبراطور الرومان ولم ترعبهم قوته وبطشه وقسوته ولم يخلدوا إلى الدنيا التي تزيّنت لهم وكانوا فيها مترفين ومن علية القوم، لكنهم آثروا ما عند الله تعالى ووقفوا بشجاعة في وجه الطاغوت وعرّفوه بحقيقته التافهة واعانهم الله تعالى بالتأييد والثبات وقوة القلب ورسوخ الايمان {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ، وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} (الكهف:13-4) وهؤلاء الفتية نعم الأسوة لنا، ولم يكونوا من الأنبياء ولا من المعصومين حتى يقال اننا لا نستطيع بلوغ درجتهم وتكرار نسختهم.وقد اعطى المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) قيمة كبيرة للفتوة، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ما تزيّن الانسان بزينةٍ أجمل من الفتوة)(1) وبيّنوا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عدة خصال كريمة يتضمنها معنى الفتوة كبذل المعروف للناس وكف الأذى عنهم واجتناب القبائح ونحو ذلك فعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (بعد المرء عن الدنيّة فتّوة)(2) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (الفتوة نائل -- أي عطاء -- مبذول، وأذى مكفوف)(3) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (نظام الفتوة -- أي تمامها وكمالها -- احتمال عثرات الاخوان وحسن تعهد الجيران)(4) .

ص: 65


1- غرر الحكم/9659
2- غرر الحكم: 4425
3- غرر الحكم: 2170
4- غرر الحكم: 9999

وقد تجلّت الفتوة بأكمل خصالها في رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، روى الشيخ الصدوق بسنده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن أبيه عن جده (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ان اعرابياً أتى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فخرج اليه في ثوب مزيًّن ، فقال:يا محمد لقد خرجت اليَّ كأنك فتى، فقال: (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نعم يا اعرابي أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتى، فقال:يا محمد أما الفتى فنعم، وكيف ابن الفتى وأخو الفتى، فقال:اما سمعت الله عز وجل يقول {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} فانا ابن إبراهيم، واما أخو الفتى فان منادياً نادى في السماء يوم أحد:لا سيف الا ذوالفقار ولا فتى الا علي، فعلي أخي وأنا أخوه)(1) .وصحّح الأئمة أيضاً المعاني المنحرفة لهذه الصفة النبيلة حيث اطلقت على المكر والخداع و(البلطجة) في مصطلح اليوم، روي ان أصحاب الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تذاكروا عنده الفتّوة (فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):وما الفتوة؟ لعلكم تظنّون أنها بالفسوق والفجور! كلاّ، إنما الفتّوة طعام موضوع، ونأئل مبذول، وبشر مقبول، وعفافُ معروف، واذى مكفوف، واما تلك فشطارة وفسق)(2) أي دهاء وخبث.

ولعله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يشير إلى الظاهرة الاجتماعية التي انتشرت يومئذٍ بمن يسمّونهم (الشطّار والعيّارين) وكانوا يؤذون الناس ويستهزئون بهم ويسلبونهم أموالهم وممتلكاتهم بعنوان الشطارة وهكذا في كل زمان يوجد من يُلبس الأفعال والمظاهر السيئة عناوين جميلة لتسويقها داخل المجتمع.

ص: 66


1- معاني الاخبار:119
2- أمالي الصدوق:443، المجلس82، الحديث 3، أمالي الطوسي، معاني الأخبار: 119، بحار الأنوار:79/ 300 ح 9.

وحكى في مجمع البحرين أن هذا الكلام منه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (رد على ما كان يزعمه سفيان الثوري وغيره من فقهاء العامة من أن التوبة بعد التفتي والصبوة ابلغ وأحسن في باب التزّهد، من الزهادة والكف عن المعصية رأساً في بدء الأمر)(1) وهذه من شطحاتهم المنكرة.وقد التصقت الفتوة بالشباب لأن عندهم الأهلية للتحلي بمعانيها الكريمة فأنهم يتصفون بطراوة الفطرة وطهارة النفس وبالشجاعة والقوة والاقدام والتضحية والنخوة والحيوية والمسارعة إلى الخير، حيث يقوم شبابنا اليوم بخدمات إنسانية وفعاليات ميدانية وتعبوية تجسّد معنى الفتوّة .

فلإحياء هذه الصفة الكريمة وبيان معانيها السامية وترسيخها في الفرد والمجتمع وتنقيتها من سوء الاستعمال وتشجيع الفعاليات الميدانية والتعبوية التي يطلق عليها احياناً عنوان (الكشافة) ولبيان سيرة فتيان الإسلام ندعو الى تعيين يوم للفتوة، وقد اخترت له يوم الخامس عشر من شوال لأنه ذكرى معركة أحد وإعلان السماء أن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هو فتى الإسلام بلا منازع يوم نادى منادي السماء (لا فتى الا علي).

فأدعوكم إلى إقامة هذه الفعالية وضعوا برامج لاكتساب المجتمع خصوصاً الشباب هذه الخصلة الكريمة لنساهم في ارتقاء الأمة وازدهار البلد، وليقم العلماء والكتّاب والمفكّرون بالتعريف بتفاصيلها والله معكم وهو ناصركم إن شاء الله.

ص: 67


1- مجمع البحرين: المجلد الأول: 201 مادة فتا

القبس /89 : سورة الكهف:16

اشارة

{فَأوُۥاْ إِلَى ٱلكَهفِ}

موضوع القبس:اللجوء إلى الكهف المعنوي

قال الله تبارك وتعالى:{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً} (الكهف:16).

تقع الآية الشريفة في سياق قصة أصحاب الكهف التي حكاها القرآن الكريم في سورة باسم الكهف، وقد كان الإيواء إلى الكهف واتخاذه مأوى وسكناً بعيداً عن قومهم ليمارسوا شعائر الله تعالى هو القرار الذي ألهمه الله تعالى الفتية أصحاب الكهف الذين ربط الله تعالى على قلوبهم وزادهم هدى، فاتفقوا عليه بعد أن دعوا قومهم إلى الإيمان والتوحيد ونبذ الشركاء والآلهة التي يعبدونها من دون الله تعالى سواء كانت هذه الآلهة حجرية أو بشرية وهم أباطرة الرومان، لكن دعوتهم لم تؤثر في المجتمع الوثني يومئذٍ، وانكشف أمرهم للسلطة فلاحقتهم للقضاء عليهم وعلى دعوتهم، فرأوا أن القرار الذي يجب اتخاذه هو الفرار من قومهم واعتزالهم والابتعاد عنهم ونبذ ما يعبدون من دون الله تعالى واللجوء إلى كهف يقع في جبل خارج المدينة ليحافظوا على أنفسهم وعلى

ص: 68

عقيدتهم وأخلاقهم، وكلّفهم هذا الإيواء التنازل عن مواقعهم في السلطة والحياة المترفة التي كانوا عليها ومفارقة الأهل والأحبة والأوطان، وافترشوا التراب في كهف ناءٍ مظلم موحش مخيف، لكنهم كانوا يرون في ذلك الكهف الضَيّق الحياة الرحيبة الهنيئة لأن رحمة الله تظلله ويملأه رضوان الله تعالى، أما الحياة المترفة في ظل السلطة البعيدة عن الله تعالى فإنها نكدة ضيٌّقة وكأنهم يكررون بذلك ما قاله الصديق يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حين رفض الاستجابة لإغراءات امرأة العزيز مفضلاً حياة السجن الخشنة:{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ} (يوسف:33)، وهذا سمو روحي لا يدركه إلا من أحبّ الله تعالى من أعماقه وتعلق به مخلصاً.فهذا الإجراء قبل أن يكون مادياً – ان صح التعبير- لحفظ حياتهم وأنفسهم من القتل، فإنه إجراء معنوي لحفظ عقيدتهم وطهارة قلوبهم ونفوسهم من التلوث ببيئة الكفر والشرك والنفاق وما تحويه من فتن وضلالات وانحراف وفساد، قال تعالى:{وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} (الأنفال:25)، وقد كان خوفهم وقلقهم على دينهم أكثر من خوفهم على أرواحهم وقد حكى القرآن الكريم تصريحهم بذلك قال تعالى: {إِنَّهُمْ} أي قومهم الوثنيون {إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} (الكهف:20).

ولعل الفتية أصحاب الكهف كان نظرهم إلى الاعتزال المعنوي أكثر من المادي، وهذا واضح من النتيجة التي توخّوها فإنهم لم يقولوا نلجأ إلى الكهف لنأمن على أنفسنا ونحفظ حياتنا من القتل - وان كان هذا حقا مشروعاً لهم -

ص: 69

وإنما قالوا:{فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً} فقدموا الهدف المعنوي وهو تحصيل الرحمة الإلهية الخاصة التي كانوا يطلبونها من الله تعالى ويصفونها في دعائهم باللدنية، ويسألونه تعالى أن يمنَّ بها عليهم {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةًوَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} (الكهف:10)، ثم إيجاد حل ينفعهم ويرفق بهم ويجعل لهم فرجاً ومخرجاً من المأزق الشديد الذي هم فيه، ويخلصّهم من الأعداء المتربصين بهم.والمرفق هو ما يرتفق به أي ينتفع، ولا يخفى ما في لفظ {يَنْشُرْ} من الإشارة إلى أن الرحمة الإلهية بكل درجاتها موجودة (لا بخل في ساحته) إلا أنها مطويّة وتُستحق بشروط، فنشرت عليهم حين أووا إلى الكهف، فلم يعد الكهف ضيّقاً خشناً بل أصبح واسعاً رفيقاً ليّناً برحمة الله تعالى، وهذه قيمة عظيمة للإيمان يُحرَم منها الماديون والملحدون. وقد كان الفتية على ثقة مطلقة بأن الله تعالى سيعتني بأمرهم وسيلطف بهم بحيث ذكروا النتيجة مسلّمة {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته} ولم يقولوا عسى ولعل، وهذا ما حصل فعلاً وأبقى الله تعالى ذكرهم خالداً بخلود كتاب الله تعالى لهداية الناس، وهذه سُنّة إلهية أمر الله تعالى بها كما في سورة الكافرون وغيرها، حاصلها إنَّ شرط نزول الرحمة والنصر الإلهيين يتحقق بمباينة أهل المعاصي واجتنابهم، وقد أدركها أصحاب الكهف بلطف الله وعنايته.

ومن لطائف القرآن الكريم أنه لا يذكر الحوادث ويسرد القصص بشكل

ص: 70

يجعل آياته مختصة بالواقعة التي نزلت فيها، وإنما يصوغها بنحو مثمر مبارك ينتفع بها الخلق جميعاً إلى قيام يوم الساعة ولو توقفنا عند خصوصيات كل حادثة يحكيها القران الكريم، فأنها ستكون حكاية عن كيفية خاصة بأهل الكهف.فالآية الكريمة تعطينا درساً في الرجوع إلى الله تبارك وتعالى دائماً واللجوء الى كهفه الحصين في الأزمات والشدائد وعند اختلاط الأمور وانتشار الفتن ليشملهم برحمته الخاصة ويهيئ لهم من أمرهم رشداً، وتبيّن بأن الوسيلة إلى النجاة من بيئة النفاق والفساد والضلال والظلم والانحطاط هو باعتزالها معنوياً وتجنب التأثر بها، وليس من الضروري الانعزال(1) عنها والانزواء في البيت أو أي مكان آخر لوجود ضرورة لممارسة الحياة الطبيعية من حيث طلب الرزق وسدّ الاحتياجات المتنوعة والاهم من ذلك التفقه(2) في الدين وممارسة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الجاهل وارشاد الضال والدعوة الى الله تتبارك وتعالى ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) واهل بيته (صلوات الله عليهم اجمعين) وكلها تقتضي الاختلاط بالناس والتعامل معهم، فالمهم إذن هو الاعتزال المعنوي، وهكذا كان أصحاب الكهف فقد روى الشيخ الكليني (قده) في الكافي بسنده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(ما بلغت تقية أحد تقية أصحاب الكهف إن كانوا

ص: 71


1- راجع خطاب المرحلة (سلامة الدين في اعتزال الناس) في موسوعة خطاب المرحلة:8/ 289 ونظائرها من الخطابات.
2- كما روى الكليني بسند معتبر انّ رجلا قال للإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) : جعلت فداك رجل عرف هذا الأمر لزم بيته ولم يتعرّف إلى احد من اخوانه، قال : فقال: كيف يتفقّه هذا في دينه : الكافي ج 1 / ح9.

ليشهدون الأعياد ويشدون الزنانير(1) فأعطاهم الله أجرهم مرتين)(2).وقد دلّتنا الأحاديث الشريفة والأدعية المباركة على مصاديق الكهف المعنوي الذي نلجأ إليه والعروة الوثقى التي نتمسك بها عند اشتداد الفتن والأزمات وانتشار الفساد والضلال والانحراف والنفاق.

أولها:الإيمان بالله تعالى وتوحيده بإخلاص، ففي الآية الكريمة:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا} (البقرة:256)، وفي الحديث القدسي (لا إله إلا الله حصني فمن دخله أمِن من عذابي)(3)، ومن وصية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لولده الحسن (وألجئ نفسك في الأمور كلها إلى إلهك فإنك تلجئها إلى كهف حريز ومانع عزيز)(4)، وفي الدعاء الشريف:(يا كهفي حين تعييني المذاهب)(5) و(يا كهف من لا كهف له)(6).

وثانيها:كهف الإسلام والانقياد لأوامر الله ونواهيه والعمل الصالح، قال تعالى:{وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى

ص: 72


1- جمع زنار وهو ما يشده النصارى والمجوس على اوساطهم، شعاراً لهم يعرفون به.
2- الكافي 2: 173 /ح8، تفسير العياشي : 2/ 323 ح9.
3- عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق: 1/ 144، ح2، باب 37 : ما حدث به الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في مربعة نيسابور وهو يريد قصد المأمون.
4- نهج البلاغة: 3/ 39، بشرح محمد عبده.
5- الكافي للكليني: 3/ 325، ح 17، باب: الركوع وما يقال فيه من التسبيح والدعاء فيه وإذا رفع الرأس منه.
6- بحار الأنوار: 84/ 257، عن مصباح المتهجد والبلد الأمين وغيرهما.

اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (لقمان:22).وثالثها:القرآن الكريم وولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) كما في حديث الثقلين المشهور:(إني قد تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي ما إن تمسكتم بهما:كتاب الله وعترتي أهل بيتي)(1) وما رواه أبو الصلت عن أبي الحسن الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(يقول الله عز وجل ولاية علي بن أبي طالب حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي)(2)، وعن أبي جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في صفة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) قال:(وهم الرحمة الموصولة والكهف الحصين للمؤمنين)(3).

حكى السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في إحدى رسائله التي جمعتها وطبعتها في كتاب قناديل العارفين قال:((إنني يوماً فتحت القرآن الكريم لأجد فيه منزلتي أمام الله سبحانه أو قل -بالتعبير الدنيوي- (رأي) الله فيّ فخرجت هذه الآية من سورة الكهف:{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً}. إن كل هذه الآية مفهومة لي بحسب حالي يومئذٍ إلا قصة (الكهف) الذي يكون من المطلوب أن آوي إليه، أي كهف هذا؟ وذهبت إلى الحرم العلوي على ساكنها السلام عسى أن ينفتح لي هناك عن هذا المعنى، وبدأت بزيارة (أمين الله) حتى وصلت إلى قوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(اللهم فاجعل نفسي مطمئنة بقدرك، راضية بقضائك.. إلى قوله:يا كريم) وقد حصل لي في تلك اللحظة (حدس) قوي بأن الكهف الذي

ص: 73


1- الكافي: 2/ 415، ح 1، باب: أدنى ما يكون به العبد مؤمناً أو كافراً أو ضالاً.
2- عيون أخبار الرضا: 2/ 146، باب 38.
3- بحار الأنوار: 26/ 255 عن تفسير فرات بن إبراهيم.

يجب أن أدخله هو هذا، أي أن تصبح نفسي على هذه الأوصاف وتجانب ما سواها، وقد عرضت ذلك على (مولاي) - يقصد به استاذه (قدس سره) في السير والسلوك الى الله تعالى - فأقرّه وقال بصحته))(1).وهؤلاء هم من وصفهم الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في مناجاة العارفين بقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فهم الى اوكار الأفكار يأوون)(2) أي انهم يأوون الى كهف المعرفة بالله تعالى.

أيها الاحبّة يا أنصار السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء (س).

هذا اللجوء إلى الكهف المعنوي لتحصيل الرحمة الإلهية الخاصة وحل الأزمات والنجاة من الفتن والضلالات هو ما أرادته الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (س) من الأمة ودعتهم إليه حينما قالت لهم في خطبتها: (فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك، وطاعتنا نظاماً للملة، وإمامتنا أماناً من الفرقة)(3).

وقالت في اللجوء إلى ولاية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (وتالله لو مالوا عن المحجّة اللايحة، وزالوا عن قبول الحجة الواضحة، لردّهم إليها، وحملهم عليها ولسار بهم سيراً سُجُحاً لا يكلم حشاشه ولا يكل سائره ولا يمل راكبه، ولأوردهم منهلاً نميراً، صافياً، روياً، تطفح ضفتاه ولا يترنق جانباه ولأصدرهم بطاناً، ونصح لهم سراً وإعلاناً، ولم يكن يتحلى من الدنيا بطائل، ولا يحظى منها بنائل، غير ري

ص: 74


1- قناديل العارفين: 188، ط. مؤسسة الرافد.
2- الصحيفة السجادية : 275 مناجاة العارفين.
3- الاحتجاج للطبرسي: 1/ 128.

الناهل، وشبعة الكافل)(1).وكثرت وصايا أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في وصف أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بأنهم (الكهف الحصين) الذي يجب على الأمة اللجوء إليه:

1- ففي الصلوات الشعبانية للإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(اللهم صلّ على محمد وآل محمد الكهف الحصين وغياث المضطر المسكين وملجأ الهاربين وعصمة المعتصمين)(2).

2- وفي زيارة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (السلام عليك أيها الكهف الحصين)(3).

وأوصوا (سلام الله عليهم) من بعدهم بالإيواء إلى كهف العلماء العاملين المخلصين، روى في كتاب الاحتجاج عن الإمام الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(لولا مَن يبقى بعد غيبة قائمنا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من العلماء الداعين إليه، والدالّين عليه والذابّين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شِباك إبليس ومردته ومن فخاخ النواصب لما بقي أحد إلا ارتد عن دين الله ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة، كما يمسك صاحب السفينة سكّانها أولئك هم الأفضلون عند الله عز وجل)(4) وهم موجودون في كل جيل بحسب إخبار الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال

ص: 75


1- المصدر السابق: 139.
2- بحار الأنوار: 84/ 67.
3- بحار الأنوار: 97/ 324.
4- بحار الأنوار: 2/ 6، ح12 عن الاحتجاج: 18، وتفسير العسكري: 344، ح225.

المبطلين وتأويل الجاهلين)(1), وعن الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال في حديث (لأن المؤمنين الفقهاء حصون المسلمين كحصن سور المدينة لها)(2).والمجاهدون المدافعون عن مقدسات المسلمين وحرماتهم وأوطانهم هم حصون الإسلام، فقد خاطبت السيدة الزهراء (س) الأنصارَ بقولها:(معشر البقية وأعضاد الملة وحصون الإسلام)(3).

وورد في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في وصيته للأشتر حين ولاه حكم مصر:(فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلا بهم)(4).

والمسجد كهف معنوي عظيم على من يأوي إليه ويتردد عليه، روى الامام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن جده رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) انه قال (من أدمن الاختلاف الى المساجد أصاب أحدى الثمان:أخاً مستفاداً في الله عزوجل أو علماً مستطرفاً أو كلمة تدلّه على هدى أو أخرى تصرفه عن الردى أو رحمة منتظرة أو ترك الذنب حياءاً أو خشيةً)(5).

والإخوة في الإيمان يلجأ إليهم المؤمن، ورد عن الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(اعلم يرحمك الله أن حق الإخوان واجب فرض لازم) إلى أن قال:(وهم

ص: 76


1- بصائر الدرجات: 1/ 30، ب 6، ح7.
2- الكافي: 1/ 38، كتاب فضل العلم، باب فقد العلماء، ح3، ورواه في قرب الإسناد.
3- بحار الأنوار: 29/ 243.
4- نهج البلاغة: 3/ 90.
5- الخصال للشيخ الصدوق: 207 أبواب الثمانية.

حصونكم التي تلجأون إليها في الشدائد في الدنيا والآخرة، لا تماطوهم (أي لا تفخروا عليهم ويحتمل أن يكون لا تمايطوهم أي لا تباعدوهم:هامش البحار) ولا تخالفوهم ولا تغتابوهم ولا تدعوا نصرتهم ولا معاونتهم، وابذلوا النفوس والأموال دونهم، والإقبال على الله عز وجل بالدعاء لهم، ومواساتهم ومساواتهم في كل ما يجوز فيه المساواة والمواساة ونصرتهم ظالمين ومظلومين بالدفع عنهم)(1).كما بيّن الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) مصاديق أخرى للكهف المعنوي لحثّ الأمة على التمسّك بها والإيواء إليها كالورع؛ ففي خطبة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ولا معقل أحرز من الورع)(2), والمعقل هو الحصن، فالورع أمنع الحصون وأحرزها من وساوس الشيطان وأهواء النفس.

وكذلك الأعمال الصالحة والأخلاق الحسنة حصون للإيمان تحفظه من سراق شياطين الإنس والجن، وكل ما تجمعه كلمة (التقوى) من أفعال وتروك.

ومنها الدعاء كما في قول الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(الدعاء كهف الإجابة كما أن السحاب كهف المطر)(3)، ومنها الموعظة عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(الموعظة كهف لمن وعاها)(4).

ومنها عقول وقلوب المؤمنين التي تحفظ علوم ومعارف أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)

ص: 77


1- بحار الأنوار: 71/ 226.
2- الكافي: 8/ 19 وهي من كلامه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الذي خطب الناس به في المدينة بعد سبعة أيام من وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله).
3- الكافي: 2/ 471.
4- الكافي: 8/ 23. من لا يحضره الفقيه: 4/ 39.

وتكتم أسرارها إلا عن أهلها والتلطف في نشر أمرهم قال الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في وصيته لشيعته:(اقرَأ موالينا السلام، وأعْلِمْهم أن يجعلوا حديثنا في حصون حصينة وصدور فقيهة وأحلام رزينة، والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ما الشاتم لنا عِرضاً والناصب لنا حرباً أشدّ مؤونة من المُذيع علينا حديثنا عند من لا يحتمله)(1).احبّتي:

ما احوجنا اليوم وفي كل يوم خصوصاً ونحن نعيش في أعتى ازمنة الظلم والضلال والاستبداد والقهر والحرمان ان نأوي الى كهف الله تعالى الحصين وولاية النبي وآله الاطهار (صلى الله عليهم اجمعين) والسير خلف العلماء العاملين المخلصين ونبذ الفرقة واتباع الاهواء والانانيات وعدم الانسياق بالسلوك الجمعي وراء الدعوات المنكرة والمجهولة وغير المستندة الى الأسس الرصينة التي وضعها لنا أئمة اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لكي ينشر الله تعالى علينا من لدنه رحمة ويهيئ لنا من امرنا رشدا ويهدينا الى حل الازمات وفك العقد وإصلاح ما فسد من الأمور انه نعم المولى ونعم النصير.

ص: 78


1- الاختصاص للشيخ المفيد: 258، ونقله في البحار: 1/ 89.

القبس /90: سورة الكهف:109

اشارة

{لَنَفِدَ ٱلبَحرُ قَبلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَتُ رَبِّي}

موضوع القبس:معاني القرآن لا تنتهي

قال تعالى {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} (الكهف:109) (المداد) هو الحبر الذي يُمَّد القلم بقابلية الاستمرار على الكتابة و (النفاد) هو الفناء والانتهاء، فمعنى الآية أن البحر لو تحوّل الى مداد وصنعت أشجار الأرض كلها أقلاماً لكتابة كلمات الرب فأن البحر سيفنى قبل ان تنتهي كلمات الرب حتى لو أمددنا هذا البحر ببحر آخر.

والظاهر ان (البحر) و(المثل) هنا أُريد به اسم الجنس وليس الوحدة فالمثال شامل لكل البحار والمحيطات بقرينة قوله تعالى {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (لقمان:27) والسبعة هنا رمز للكثرة وهذا مثال لسعة كلمات الله تعالى إذ ان محبرة صغيرة سعة 50 ميللتر تكفي لكتابة آلاف الكلمات، فكيف لو تحولّت كل البحار والمحيطات التي تغطي ثلاثة ارباع سطح الكرة الأرضية وبعمق يصل أحياناً عدة كيلومترات الى حبر، واشجار الأرض الى أقلام، إنه تصوير رهيب لسعة كلمات الله تبارك وتعالى، مع ان العدد ذكر هنا لتصوير الكثرة بحسب

ص: 79

فهم البشر وليس للتحديد.ولم تتعرض الآيتان لذكر الكاتب او المكتوب عليه لاطلاق الخيال في تصوره وانه حتى لو كان الكاتب الجن والانس أجمعين وكانت الواح الكتاب كل ما يمكن أن يكون كذلك.

وقد يقال ان الآية الثانية لا تصلح للقرينية، لأن الاولى ذكرت كلمات الرب والثانية كلمات الله، والربوبية صفة فعل يمكن ان تكون محدودة بمحدودية المربوب وإن كانت لا تحصى بينما صفات الله تعالى اوسع من صفة الربوبية لانها تشمل صفاته الذاتية والفعلية فهذا وجه زيادة الابحر، ونجيب بأن هذا التفريق لا يضرّ لان صفات الله عين ذاته، ولان عدم النفاد أمر حق بغضّ النظر عن القرينة.

وقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} تعليل لعدم نفاد الكلمات، فأنه كما لا يغلب في ذاته كذلك لا يغلب في كلماته وحكيم لا يفوّض التدبير الى غيره.

ومن لطائف هذه الآية ورود الشجرة بصيغة المفرد والاقلام بصيغة الجمع وفيه إشارة لكثرة الأقلام المتخذة من شجرة واحدة.

والتعبير بالبحر الدال على الجنس ليشمل كل البحار والمحيطات وانه ذكر إمداد البحار بسبعة أخرى لان الحبر يستهلك اثناء الكتابة ولم يذكر امداداً للأشجار في صنع الأقلام لأنها لا تستهلك بالكتابة.

وهنا قد يثار سؤال بأننا لو حسبنا رياضياً عدد الكلمات التي يمكن كتابتها بهذه الابحر والاقلام لوجدناها تفوق عدد احتمالات ما يمكن انتاجه من ترتيب الحروف المعروفة في اللغة حتى لو لم يوضع بإزائها معنى، فكيف نفهم الآية.

ونذكر في الجواب أكثر من وجه:

ص: 80

الأول:ان الكلمة هي كل ما دّل على معنى وبيّن مراداً سواء كانت مكتوبة أو موجوداً خارجياً أو حادثة واقعة أو حقيقة علمية فكلمات الله هي كل ما دل على الله تبارك وتعالى، ولذا فهي لا تنتهي، كما قيل:وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد(1)

فكلمات الله تعالى هي كل احكامه وقضاياه وسننه وآياته وليس فقط الكلمات المكتوبة، قال تعالى {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ} (يونس:64) وقال تعالى {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} (البقرة:124) وقال تعالى {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ} (الأنعام:115) وقال تعالى {وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا} (التوبة:40) وغيرها بالعشرات.

وإذا كان جانب من آياته لا تُعد ولا تحصى (وهي نعمه) قال تعالى {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} (إبراهيم:34) مع انها في نفسها قابلة للعد والاحصاء لأنها محدودة فمن الأولى أن لا تعدّ آيات الله وكلماته، لان نفس اتخاذ الأشجار أقلاماً والبحر مداداً وكتابة الكلمات هي كلمات جديدة وآيات حادثة، فهي سلسلة فوق حد الاحصاء والعد فضلاً عن النفاد كما في الرواية عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حديث (قلت:قوله عز وجل {لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي} قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):قد أخبرك ان كلام الله عز وجل ليس له آخر

ص: 81


1- بيت من الشعر منسوب الى أبي العتاهية, أنظر: البداية والنهاية- ابن كثير: 14/ 77, ط. هجر

ولا غاية لا ينقطع أبداً)(1) وإن كان ظاهر قوله تعالى {قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} انها قابلة للنفاد.وقد استعمل لفظ الكلمة بهذا المعنى في الموجودات العظيمة التي لها أوضح دلالة على الله تعالى كقوله عز وجل {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيس-َى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ} (النساء:171).

ووردت روايات عن الكافي ومعاني الاخبار وعلل الشرائع وغيرها في تفسير قوله تعالى {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} (البقرة:37) أنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين (صلوات الله عليهم))(2) فهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من أتم كلمات الله تعالى الدالة عليه تبارك وتعالى.

الثاني:ان هذه الكلمات بوجودها اللفظي يمكن ان تنتهي، لكن معانيها والعلوم والمعارف المودعة فيها – حيث اللفظ كالوعاء للمعنى – لا تنتهي فتكون الآية تعبيراً عن سعة علم الله تعالى - بتقدير المضاف - وتدل على ان معاني كلمات الله تعالى لا تنتهي، ولعل الحادثة في سبب نزول الآية تدل على هذا المعنى، فقد روى علي بن إبراهيم في تفسيره (أن اليهود سألوا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن الروح، فقال (الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) قالوا نحن خاصة قال بل الناس عامة قالوا فكيف يجتمع هذان يا محمد تزعم إنك لم تؤت من العلم إلا قليلا وقد أوتيت القرآن وأوتينا التوراة وقد قرأت (ومن يؤت

ص: 82


1- تفسير البرهان: 6/ 183 ح1.
2- تفسير البرهان: 1/ 153.

الحكمة) وهي التوراة (فقد أوتي خيرا كثيرا) فأنزل الله تعالى {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} يقول:علم الله أكثر من ذلك، وما أوتيتم كثير فيكم قليل عند الله)(1).وتماشياً مع هذا الجواب نقول ان الكلمات المكتوبة في القرآن محدودة ومعدودة لكن المعاني المودعة فيها لا تنفد، فقد أودع الله تعالى هذه المعاني اللامتناهية في كتابه الكريم، ففي أصول الكافي عن الامام الصادق عن ابائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حديث قال عن القرآن (ظاهره انيق وباطنه عميق، له نجوم وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه)(2).

تصوروا أن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في علمه الذي هو باب(3) مدينة علم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) علمه(4) ألف باب من العلم ينفتح له من كل باب ألف باب من العلم، وانه لو كُشِفَ له الغطاء ما ازداد يقينا(5) وغير ذلك

ص: 83


1- تفسير البرهان: 7/ 293 ح2 الآية 27 من سورة لقمان.
2- أصول الكافي: ج2 / كتاب فضل القرآن، باب 1 ح 2.
3- اللئالئ المصنوعة: ج 1، ص 329. ورواه الحاكم في المستدرك (ج 3، ص 126).
4- قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (علمني رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ألف باب من العلم وتشعب لي من كل باب ألف باب) تفسير الرازي 8 : 21، عند تفسير قوله {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} (آل عمران:33) ورواه ابن عساكر في تاريخه كما في ترجمة الإمام علي منه 2 : 485 / 1012 ، والجويني في فرائد السمطين 1 101/ 70 ، والمتقي في كنز العمال 13 : 114 / 36372 ، والحافظ المغربي في فتح الملك العلي: 488.
5- قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً) كشف الغمة: ج1 ص170 في وصف زهده (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الدنيا..

قيل له:(هل عندكم شيء من الوحي؟ قال:لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يعطي الله عبداً فهماً في كتابه)(1)وعن إبراهيم بن العباس قال:(ما رأيت الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سئل عن شيء قط إلا علمه ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان الأول الى وقته وعصره وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كل شيء فيجيب فيه، وكان كلامه كله وجوابه وتمثله انتزاعات من القرآن)(2).

أقول:فالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة لأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) غنية بالمعاني وعميقة الفهم، وهي متجدّدة ومفتوحة لا تنتهي، وكل جيل من العلماء يأتي يبين شيئاً يسيراً منها وما يخفى عليه أكثر بكثير، ويأتي الجيل الآخر ويغترف منها شيئاً وهكذا من دون أن تنتهي تلك المعاني.

وقد يستغرب البعض كيف يكون لكلام مؤلف من هذه الحروف الثمانية والعشرين في اللغة العربية التي نتداولها يمكن أن تكون لها هذه السعة من المعاني، وهذا الاستغراب منشأه القصور والتقصير في معرفة معاني القرآن الكريم وعدم الالتفات إلى من أودعها في هذه القوالب اللفظية وقدرته وعظمته وعلمه.

واضرب لكم مثالاً قد يعرفه طلبة الحوزة العلمية أكثر من غيرهم وهي ما يعرف بقاعدة الاستصحاب التي هي من أهم الأبحاث المعمّقة في علم الأصول وكتبت فيها مجلدات ولا زال البحث فيها مستمراً والتفريعات تتكثر، واصلها

ص: 84


1- تفسير الصافي: 1/ 39 .
2- بحار الانوار: 49/ 90 ح3 عن أمالي الصدوق:758 مجلس 94 ح 1023 وعيون اخبار الرضا: 2/ 108

حديث من ثلاث كلمات للمعصوم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لا تنقض اليقين بالشك) (1)، أي إذا كنت على يقين من حالة معينة ككونك على طهارة أو أن زيداً حيّ، فتبني على هذا اليقين بالطهارة وحياة زيد وترتّب آثاره حتى لو حصل لك شك فيها ولا تنقض حالة اليقين إلا بيقين مثله، هذه الكلمات أصبحت محوراً لإبحاث معمّقة تملأ مجلدات ولازال البحث فيها مفتوحاً، فإذا كانت ثلاث كلمات في علم ظاهري تفتح هذه الآفاق الواسعة للبحث، فماذا سينفتح من علوم ومعارف إلهية من كلمات القرآن الكريم وانى للبشر استيعابها وبلوغ كنهها؟لذلك تجد العلماء لا يتوقفون عن التدبر في آيات القرآن الكريم واكتشاف ما يهتدون إليه من معانيها وإيداعها في التفاسير، ومع ذلك لا زالت حقائقه كثيرة خافية على العلماء فضلاً عن غيرهم، وحكي عن السيد الطباطبائي (قده) صاحب تفسير الميزان قوله اننا نحتاج في كل سنتين إلى تفسير، وقد أنهى (قده) تفسيره في عشرين عاماً فهذا يعني أن محاولات التفسير لابد أن تكون متعدّدة ومتواصلة في الجيل الواحد فضلاً عن الأجيال المتتالية.

إننا نشهد في هذا العصر نهضة قرآنية محمودة ونسأل الله تعالى ان يوسّعها ويزيدها، لكنها غالباً تقتصر على التجويد وتحسين الصوت ومخارج الحروف والنغمات ونحوها، وهذا شيء جيدٌ في نفسه لأن حلية القرآن الصوت الحسن، ونشجّع عليه لانه يحّبب القرآن الى النفوس ويحصل انس به لكن الاقتصار عليه والوقوف عنده من دون الانطلاق إلى فهم معاني القرآن الكريم واكتشاف أسراره ومعرفة حدوده يكون خطوة ناقصة نحو الكمال المنشود، بل لابد أن يدفع الانس

ص: 85


1- وسائل الشيعة (آل البيت): 1/ 245/ح1

بالقرآن والتلذذ باستماعه الى حب التعرف على معارفه واسراره ومكنوناته ولتحقيق ذلك ينبغي نشر المؤسسات والمدارس والمراكز القرآنية لتقود هذه النهضة المباركة بأذن الله تعالى.روى السيد الحكيم (قدس سره) في كتابه حقائق الأصول حادثة تحكي جانباً مما يلطف به الله تعالى بعض عباده من سعة الفهم لمعاني القرآن الكريم، قال (قدس سره) تحت عنوان (فائدة) ألحقها ببحث استعمال اللفظ في أكثر من معنى (حدَّث بعض الاعاظم دام تأييده – أنه حضر يوماً منزل الآخوند (ملا فتح علي(1) (قدس سره) مع جماعة من الاعيان منهم السيد إسماعيل الصدر (قدس سره) والحاج الميرزا حسين نوري صاحب المستدرك (قدس سره) والسيد حسن الصدر (قدس سره) فتلا الآخوند (قدس سره) قوله تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ} (الحجرات:7) ثم شرع في تفسير قوله تعالى فيها:حبب اليكم الايمان من الآية وبعد بيان طويل فسرها بمعنى لما سمعوه منه استوضحوه واستغربوا من عدم انتقالهم اليه قبل بيانه لهم، فحضروا

ص: 86


1- الظاهر بملاحظة القرائن انه الشيخ المولى علي محمد النجف آبادي من اعاظم العلماء له ترجمة في كتاب (نقباء البشر: 16/ 1622)، لازم المجدد السيد الشيرازي في النجف وسامراء واختص لاحقاً بالمعقول والحكمة الإلهية وصفه الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء – وهو من تلاميذه – بانه (اعلى من حضرت عليه في الحكمة والعرفان العارف الإلهي الذي كان من اكابر أساتذة الحكمة والعرفان وكان درسه في الاسفار ولكنه يتفّجر بينابيع الحكمة) (عقود حياتي:59) توفي سنة 1332 وصلى عليه السيد أحمد الكربلائي أستاذ السيد علي القاضي (رحمه الله)

عنده في اليوم الثاني ففسرها بمعنى آخر غير الأول فاستوضحوه أيضا وتعجبوا من عدم انتقالهم اليه قبل بيانه، ثم حضروا عنده في اليوم الثالث فكان مثل ما كان في اليومين الأولين ولم يزالوا على هذه الحال كلما حضروا عنده يوما ذكر لهم معنى الى ما يقرب من ثلاثين يوماً فذكر لهم ما يقرب من ثلاثين معنى وكلما سمعوا منه معنى استوضحوه، وقد نقل الثقات لهذا المفسر كرامات قدس الله روحه)(1) .أقول:هذا غير مستغرب من أمثاله (قدس سره) فانه كان من العارفين وأهل الصفاء والطهارة وإن من ثمرات سلوك طريق تهذيب النفس وتطهير القلب فهم معاني متعددة لآيات القرآن الكريم والروايات الشريفة كما افاد استاذنا الشهيد السيد محمد الصدر (قدس سره) في احدى رسائله التي نشرتها في كتاب (قناديل العارفين).

ص: 87


1- حقائق الأصول: 1/ 95-96.

القبس /91: سورة مريم:16

اشارة

{وَٱذكُر فِي ٱلكِتَبِ مَريَمَ}

موضوع القبس:مريم الصدّيقة الطاهرة برؤية قرآنية

أمر متوجّه من الله تعالى إلى رسوله الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ان يذكر مريم ونبأها في القرآن الذي هو كلامه تبارك وتعالى، وهي المرأة الوحيدة التي ذُكرت باسمها صريحاً في القرآن تكريماً لها وتشريفاً ولتبقى هذه الآيات الكريمات وثيقة تثبت طهارتها وعفّتها وسمّو مقامها وبرائتها مما اتهمها به قومها من بني إسرائيل.

إنها مريم ابنة عمران من فضليات النساء عبر التاريخ ففي الحديث الشريف الذي رواه الشيخ الصدوق بسنده عن ابن عباس عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(أفضل نساء أهل الجنة أربع خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون)(1).

وهذا مع تفاضلهن فيما بيّنهن أيضاً، فقد روى في الدر المنثور عن فاطمة الزهراء (س) أنها قالت (قال لي رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنت سيدة نساء أهل الجنة لا مريم البتول)(2).

ص: 88


1- الخصال: 151، أبواب الأربعة ح 22، 23
2- الدر المنثور: 2/ 23

وقد ضربها الله تعالى هي وامرأة فرعون مثلاً سامياً للذين آمنوا جميعاً من الرجال والنساء على طول الأجيال البشرية ليتأسوا بها ويعتبروا بسيرتها قال تعالى:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ} (التحريم:11) ثم قال تعالى {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} (التحريم:12) فكان عندها الاستعداد لتلقي الفيض الإلهي وأن ينفخ الله تعالى فيها من روحه جزاء لعفّتها وإحصانها في أعلى مراتبه بقرينة فاء التفريع (فنفخنا)، وجعلها تعالى وعاءاً لحمل وانجاب واحد من أعظم الأنبياء والرسل ومن اولي العزم عيسى ابن مريم (صلوات الله وسلامه عليه).طهرها الله تعالى ونقاها من كل سوء واصطفاها على نساء العالمين أي انتخبها من نساء العالمين لتكون الأصفى والأنقى من كل نقص وشين قال تعالى {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ ، يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} (آل عمران:42-43) ويذّكر النبي الكريم عيسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بهذه النعمة عليه وعلى والدته {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} (المائدة:110).

هكذا هي مريم عظيمة المنزلة جليلة القدر سامية المكانة عند الله تعالى في جميع الآيات القرآنية التي وردت فيها وقد ذكرت باسمها الصريح في (34)

ص: 89

موضعاً منتشرة في 12 سورة من سور القرآن وبغير الصريح في غيرها، بينما ورد ذكرها في خمسة(1) مواضع من الانجيل بصور تحطّ من كرامتها وقدسيتها.واذا أردنا ان نستقرئ الآيات الكريمة لنكتشف العوامل التي صنعت هذه الشخصية الفذة في ضوء الكلمة المختصرة التي قالها الامام الجواد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (المؤمن يحتاج الى توفيق من الله، وواعظ من نفسه، وقبول ممن ينصحه)(2) فسنجد ما يلي:

1- الأسرة الكريمة والمنبت الطاهر قال تعالى {وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} (آل عمران:37) كما في قوله تعالى {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} (الأعراف:58) فالأصل الطيب يساعد على صناعة الانسان الطيب بإذن الله تعالى، وهذا ما شهد به الجميع بقولهم {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} (مريم:28) وكان ابوها عمران صالحاً معلماً لمعارف التوحيد في المعبد وفي رواية ابي بصير عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انه (كان نبياً مرسلاً إلى قومه)(3) لذا لما نُذرِت ابنته مريم للمعبد وكان قد توفي وهي حمل تنافس بعض انبياء بني إسرائيل الموجودين يومئذٍ وأحبار المعبد على كفالتها {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} (آل عمران:45).

ص: 90


1- الفرقان في تفسير القرآن: 18/ 205.
2- تحف العقول: 336.
3- بحار الأنوار: 14/ 202 ح 14

وكانت أمها صالحة ومن اسرة كريمة واختها زوجة نبي الله زكريا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وكانت عارفة مخلصة لله تعالى وهذا واضح من تسمية ابنتها مريم التي قيل أنها تعني العابدة وقيل انها ((لغة سريانية تعني الغالبة المرتفعة، ولعلَّها لأنها غلبت شهوتها وأحصنت فرجها رغم جمالها وكثرة الراغبين إليها، وارتفعت عما افتروا عليها وعن اقرانها من نساء العالمين))(1) وارتفعت عن كل رجس ودنس ونقص.وتظهر معرفتها بالله تعالى من خلال ادعيتها ونذرها {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (آل عمران:35) والتقبّل ليس كالقبول بل هو تمام القبول وأحسنه قال تعالى {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة:27).

وفي الرواية (إن الله تعالى أوحى إلى عمران:أني واهب لك ذكراً مباركاً يبرئ الأكمة والأبرص ويحي الموتى بإذني وجاعله رسولاً إلى بني إسرائيل فحدّث امرأته حنّة بذلك وهي أم مريم فلما حملت به كان حملها عند نفسها غلاماً ذكراً)(2) فنذرته لخدمة الدين والمسجد والتفرغ لعبادة الله تعالى ((ومالم يحرّر الانسان نفسه من القيود فإنه لن يكون قادراً على خدمة الدين، فالشيء الذي لم يتحرّر من قيود الملكية كلها لن يكون متصفاً بقيد (الوقف)))(3).

ص: 91


1- الفرقان في تفسير القرآن: 18/ 205.
2- رواية عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في نور الثقلين: 1/ 334 عن الكافي.
3- تفسير تسنيم للشيخ الجوادي الآملي:14/ 125 .

{فَلَمَّا وَضَعَتْهَا} ورأتها انثى خلاف ما كانت ترجو وكانت خدمة المعبد وظيفة مقتصرة على الذكور وممنوعة على الاناث {قَالَتْ} بحسرة وأسف {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى} فالأنثى لا يتسنى لها التحرر لخدمة المعبد واثير هنا إشكال بأن مقتضى الاستعمال اللغوي أن يقال (وليست الأنثى كالذكر) أي ان ما وضعت -- وهي انثى -- ليست كما كنت أرجو لخدمة المعبد بأن يكون المولود ذكراً فالتشبيه معكوس، ولهذا قال أكثر المفسرين ان هذا من كلام أم مريم ليمكن الاشكال عليه وساعدهم على ذلك ظهور السياق في كونه من مقولة قولها وأجابوا على الاشكال بعدة أجوبة ككون المراد أصل المقايسة وليس التفضيل وفي رواية حريز عن أحدهما (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وليس الذكر كالأنثى في الخدمة)(1).لكن صاحب الميزان والكشاف قالا انه من مقول قول الله تبارك وتعالى ولا ضير في نسبته اليه تعالى وحاصل جواب الميزان بأن الحكمة الإلهية شاءت أن يجري الأمر على هذا بأن تكون المولودة انثى وهي مريم ثم تلد مريم الذكر الموعود وهو عيسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بتلك الآيات الباهرات التي رافقت الحمل والولادة {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:91) وسيتبيّن لكم أنّ الذكر الذي كنتم ترجونه ليس كالأنثى التي قدرها الله تعالى ولو كان المولود لأم مريم ذكراً بالمباشرة وإن كان بمواصفات عيسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فان ولادته سوف لا تقترن بتلك المعجزات والحجج البيّنة، وعلى هذا يكون قوله تعالى {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى}

ص: 92


1- تفسير العياشي:1/ 170 - بحار الأنوار:5/ 319.

من مقول قول الله تعالى كالفقرة قبلها وليس حكاية لقول أم مريم(1) الذي هو أظهر من السياق وتؤيده الروايات(2)، لكن الوجه الأول أفضل لدفع الاشكال.ويمكن أن نقدّم معنى آخر بناء على كون الفقرة من مقول قول الله تعالى حاصلهُ إن ما كنت ترجين من الذكر بأن يكون محرراً خادماً للمعبد لا يصل الى مقام هذه الأنثى والمعجزات والآيات التي ستجري لها فتكون اللام هنا عهدية.

وبذلك يرتفع الاشكال اللغوي ولا نحتاج الى ما قيل من أجوبة كقول بعض المفسّرين بأن ذهول أم مريم والمفاجأة الحزينة التي واجهتها جعلتها لا تعي ما تقول.

ونستمر مع أم مريم وقولها {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (آل عمران:36) لتكون مخلصة لك ليس للشيطان مطمع في إضلالها أو اغوائها، لتكون اسماً مطابقاً للمسمى، وشملت بدعائها ذرية مريم لأنها علمت أن الولد المبارك الموعود منها بعد ان توفي زوجها ووفت بنذرها وغالبت كل عواطف الأمومة وبعثت ابنتها الوحيدة إلى المعبد خالصة لله تعالى متفرغة لعبادته وهي المفجوعة تواً بوفاة زوجها عمران(3).

{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} (آل عمران:37) واستجاب الله تعالى دعاء الأم فتقبّل الله تعالى مريم محرّرة خالصة له تعالى وهو

ص: 93


1- استفدنا الوجه من كلام السيد الطباطبائي (قده) في الميزان في تفسير القرآن: 3/ 199
2- تفسير القمي: 1/ 109.
3- الظاهر وفاة عمران خلال حمل زوجته لأنه من البعيد أن تستقل بالنذر مع وجود زوجها، ولعدم ورود أي ذكر له في احداث الولادة وما بعدها من الكفالة والنذر للمعبد.

معنى اصطفائها واعطاها وذريتها الكمال والنقاء والحصانة من وساوس الشيطان فتحققت لمريم صفتا الاصطفاء والطهارة اللتان بشرتها الملائكة بهما {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ} (آل عمران:42) وهكذا الأعمال الصالحة المخلصة تحظى بالجزاء الحسن.2- المربّي الناصح المخلص العارف وقد حظيت مريم برعاية مباشرة وباهتمام خاص من نبي الله زكريا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واحاطها الله تعالى بعناية عظيمة وربّاها تربية حسنة وأفاض عليها ألطافاً من عالم الغيب وأغدق أرزاقاً مادية ومعنوية وجعل قرعة كفالتها تحطّ عند زكريا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) {وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} (آل عمران:37) فهذا الرزق المطلق مادياً ومعنوياً كان من ثمرات العمل المخلص ومن مظاهر الانبات الحسن.

3- توفر البيئة المناسبة والمساعدة على الصلاح فقد قالت أم مريم {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} (آل عمران:35) و (المحرر للمسجد يدخله ثم لا يخرج منه أبدا)(1) فيتحرر من أي مسؤوليات عائلية أو اجتماعية تجاه والديه وغيره، ومما تتطلبه معاشرة الناس من مساوئ وأذى، وقد تفرغت مريم للعبادة في محرابها وهو المكان المخصوص للعبادة في المسجد أو البيت وسمي(2) بذلك لأنه موضع محاربة الشيطان والهوى ويكون الانسان فيه حريباً أي سليباً من اشغال الدنيا

ص: 94


1- في حديث عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) رواه في الكافي: 3/ 105 ح 4
2- مفردات غريب القرآن- الأصفهانى: 112

وتوزع الخاطر ويكون في صدر المسجد والبيت وانزوت في مكان لا يعبأ به ولا يلفت الأنظار بقرينة التعبير القرآني {فَانتَبَذَتْ} والنبذ هو القاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به، ولم تكتفِ بذلك بل ضربت دونهم حجاباً، واعتزلت الناس المنهمكين في الدنيا واتباع الشهوات والمخدوعين بوساوس الشيطان الماكرة وإن رفعوا شعارات الدين أحياناً وكانوا من سدنة المعبد {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ، فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} (مريم:16-17).4- الوازع الداخلي والإرادة الجدية لفعل الخير وسلوك طريق الصلاح والعزم الراسخ على الالتزام به مهما تعاظمت الضغوط النفسية والاجتماعية ومهما تزينت الاغراءات. وقد التزمت مريم الصدّيقة بدقة تعاليم الأنبياء في التوحيد والعمل الصالح والسلوك العفيف حتى أثنى عليها تعالى {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} (التحريم:12) وأشاد بصفات خاصة منها وهي العفاف ونقاء النفس وطهارة القلب والتعلق الخالص بالله تعالى {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} (المائدة:75).

فاستحقت التكريم الإلهي بالاصطفاء والتفضيل والتطهير من كل الارجاس الظاهرية والباطنية قال تعالى {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ ، يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} (آل عمران:42-43).

ص: 95

وكرمّها أيضاً بحمل الرسول العظيم عيسى {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (آل عمران:45) بمعجزة لم تتكرر عبر التاريخ البشري {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} (النساء:171) {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} (مريم:17) وكان رد فعلها المباشر وقد فاجأها بشر سوي جميل في عزلتها وهي العفيفة الطاهرة الالتجاء الى الله تعالى والاستعاذة به مع تمام حسن الظن به أنه لا يدعها لأنه (الرحمن) وتذكير المتمثل بتقوى الرحمن التي هي صفة لا يمكن لأحد أن يرفضها عن نفسه {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا} (مريم:18) ولولا كمال معرفتها ونفوذ بصيرتها ونقاء سريرتها وطهارة قلبها لما كانت أهلاً لتمثل روح الله تعالى لها {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا} (التحريم:12) فألقى الله تعالى في رحمها بواسطة الروح الأمين ما تخلّقت منه نطفة النبي الكريم عيسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ((وهذا يكشف عن كمال الاستعداد الذاتي ووجود السنخية التامة بينها وبين الروح اللاهوتي حتى تتمكن من مقابلته وقبوله وحمله والتسليم لديه والعمل بالوظائف الخاصة))(1) لتكون معجزة(2) إلهية للوالدة والمولود لم تتكرر نسختها

ص: 96


1- التحقيق في كلمات القرآن الكريم للمصطفوي:11/ 96.
2- لا تخلو الآية من إشارة الى إمكان قيام غير الحيامن بدور التلقيح للبيضة والمهم في تكوّن الجنين وجود بيضة الأنثى، وبعض المصادر الطبية ما يشير الى وجود تجارب في هذا المجال.

في جميع الأجيال {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:91) {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} {المؤمنون:50).فبشرها الله تعالى بالمولود المبارك {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} (مريم:19) {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (آل عمران:45) وكان وقع هذه البشارة عظيماً على نفسها لكن الأمر خطير إذ كيف تحمل المرأة من دون مقاربة الرجل ومريم لم يمسَّها رجل بالحلال ولا بالحرام {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} (مريم:20) فاستشعرت عظمة الابتلاء لأن قومها سوف يتهمونها في اعزّ شيء عندها:شرفها وعفافها وطهارتها مع صعوبة ظروف الحمل والولادة حيث كانت وحيدة في مكانٍ نائي كالصحراء ليس فيه ماء ولا طعام والمرأة تحتاج حين الولادة إلى رعاية خاصة وحضور القابلة وغير ذلك {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ، فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} (مريم:22-23) فهو جذع مقطوع يابس لا ثمرة فيه وتحت وطأة هذه الظروف القاهرة التي لا يطيقها إنسان {قَالَتْ

ص: 97

يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا}(1) (مريم:23) قالت ذلك مع كمال التسليم لأمر الله تعالى وهذا أحد شواهد ما كانت عليه من مقام التصديق بكلمات ربها نظير ما ورد في ابراهيم {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} (البقرة:124) وطمأنها الله تعالى وربط على قلبها {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا} (مريم:21).وأراها معجزة لتطمئن نفسها فنبعت عين ماء عند قدميها {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} (مريم:24) والسري هو جدول الماء لتشرب منه، وناداها أيضاً {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} (مريم:25) الجَذع تعني القطع فالجِذع هو المقطوع وفيه إشارة الى كونه يابساً لا ثمرة فيه فلما هزّته تساقط منه رطب طري طيب(2)، ضرب لها بهذا الجذع الذي أثمر بعد أن كان ميتاً مثلاً لحالتها فهي امرأة لا زوج لها ولا تفعل الفاحشة فمثلها يستحيل عليها الحمل لكن الله تعالى هزّها بنفخة الروح فحملت بالثمرة المباركة روح الله وكلمته عيسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فتحققت لها البشرى واكتملت بما يسَّر لها من الطعام والشراب {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا} (مريم:26) وكان حملها (بعيسى بالليل

ص: 98


1- الفرقان في تفسير القرآن: 18/ 206
2- تكررت مثل هذه المعجزة للأئمة الطاهرين كالإمام الحسن والامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (راجع روايات في تفسير نور الثقلين:3/ 331 ح 55)

ووضعته بالغداة وكان حملها تسع ساعات من النهار جعل الله لها الشهور ساعات) وفي روايات أخرى ذكرت غير هذه المدة.(ففقدوها في المحراب فخرجوا في طلبها)(1), ولما جاءتهم بالوليد المبارك حدث ما هو متوقع من لئام الناس {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} (النساء:156) {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} (مريم:27) واتهموها بممارسة الفاحشة وهنا تدخلت القدرة الربانية لتنطق الوليد المبارك بكلمات ادهشت الحسّاد والمعاندين وأخزتهم ونصرت العفيفة الطاهرة.

فنحن - المسلمين- نقدّس مريم ونعظمها لهذه المنزلة التي بيّنها الله تعالى في كتابه الكريم، ونرتبط - نحن اتباع أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)- بولدها روح الله وكلمته عيسى (صلوات الله وسلامه عليه) بأن لنا أملاً كبيراً فيه لأنه سيظهر مع المخلِّص العظيم الامام المهدي الموعود (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لينقذا البشرية من الضياع والضلال والشرور والآثام.

ص: 99


1- البرهان في تفسير القرآن: 6/ 194 ح 1 عن تفسير علي بن إبراهيم.

ملحق:مقارنة بين الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) والسيدة مريم إبنت عمران

لنا - اتباع أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)- علاقة وجدانية خاصة بالصدّيقة الطاهرة مريم بنت عمران لأنها شابهت السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء (س) في الكثير من الصفات مع حفظ التقدم للسيدة الزهراء (س) في تلك الصفات.

فقد اقتبست من أنوار سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (س) فكانت تتلألأ نوراً في محرابها وفي الرواية عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وكانت أجمل النساء، فكانت تصلي ويضيء المحراب لنورها)(1).

وكانت مريم محدّثة -- وهو من أسماء السيدة فاطمة الزهراء (س) -- تحدّثها الملائكة كما أخبر به الله تعالى {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ} (آل عمران:42) {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} (مريم:17) وروي عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال (انما سميت فاطمة (س) محدثة لان الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما تنادى مريم بنت عمران، فتقول يا فاطمة ان الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين يا فاطمة اقنتى لربك واسجدى واركعى مع الراكعين، فتحدثهم ويحدثونها، فقالت لهم ذات ليلة:أليست المفضلة على نساء العالمين مريم بنت

ص: 100


1- البرهان في تفسير القرآن: 2/ 33, عن تفسير العياشي:1/ 193.

عمران؟ فقالوا:ان مريم كانت سيدة نساء عالمها، وان الله عزوجل جعلك سيدة نساء عالمك وعالمها، وسيدة نساء الاولين والآخرين)(1).وفي صفة التطهير فقد قال تعالى في مريم (وطهّرك) وأنزل في أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) آية التطهير {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (الأحزاب:33).

وفي الاصطفاء والسيادة فقد جعل مريم سيدة نساء العالمين وكانت فاطمة (س) كذلك والفرق ما ذكرته الرواية عن المفضل بن عمر قال (قلت لأبي عبدالله -- الصادق -- (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أخبرني عن قول رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في فاطمة أنها سيدة نساء العالمين أهي سيدة نساء عالمها؟ قال:ذاك لمريم كانت سيدة نساء عالمها وفاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين)(2)، واذا تمسكت باطلاق قوله تعالى (على نساء العالمين) فلا تختص بزمانها كما في الميزان قلنا نعم لكنه اصطفاء خاص بآيات محددة كالتي رافقت حملها وولادتها بينما اصطفاء فاطمة الزهراء (س) مطلق وهو وجه الفرق بين الاصطفاء المتعدي ب (على) كما في مريم والاصطفاء المطلق و ((ان الاصطفاء المتعدي ب (على) يفيد معنى التقدم، وانه غير الاصطفاء المطلق الذي يفيد معنى التسليم، وعلى هذا فاصطفاؤها على نساء العالمين تقديم لها عليهن))، فتقديم مريم كان من بعض الجهات ((حيث لم

ص: 101


1- علل الشرائع:1/ 216 - تفسير نور الثقلين 1/ 337.
2- البرهان في تفسير القرآن: 2/ 216 ح 7 عن معاني الأخبار للصدوق: 107 ح 1

تشمل مما تختص بها من بين النساء الا على شأنها العجيب في ولادة المسيح (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن هذا هو وجه اصطفائها وتقديمها على النساء من العالمين))(1).وفي إنجاب المعصومين الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين) فقد اعاذهم الله تعالى من الشيطان الرجيم، ففي حديث لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حدث تزويجه بفاطمة (س) ودعاء النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لهما وقال (قم بسم الله وقل:على بركة الله، وما شاء الله، لا قوة الا بالله، توكّلت على الله -- ثم جاءني حين اقعدني عندها ثم قال:اللهم إنهما أحبّ خلقك إليَّ فأحبهما، وبارك في ذريتهما واجعل عليهما منك حافظاً، وإني اعيذهما وذريتهما بك من الشيطان الرجيم)(2).

وفي الرزق الذي يأتيها في المحراب من عند الله تعالى ففي رواية عن الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان في طعام وجده النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأصحابه في دار فاطمة ولم يكونوا يعرفوه من قبل إلى ان قال (وقام النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى دخل على فاطمة (س) وقال (وأنى لك هذا يا فاطمة؟) فردّت عليه ونحن نسمع قولهما فقالت (هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) فخرج النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مستعبراً وهو يقول (الحمد لله الذي لم يمتني حتى رأيت لأبنتي ما رأى زكريا لمريم كان اذا دخل عليها المحراب وجد عندها رزقا فيقول: {يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} (3).

ص: 102


1- الميزان في تفسير القرآن:3/ 218
2- أمالي الشيخ الطوسي: 40، تفسير نور الثقلين:1/ 333
3- البرهان في تفسير القرآن:2/ 216 ح 8 عن آمالي الشيخ الطوسي:2/ 227

ويعجبني نقل هذه الأبيات في المقارنة بين بعض حالات الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والصدّيقة مريم:إن قِيلَ حَوّا قُلتَ فاطمُ فَخرُها *** أوقيلَ مريمُ قلتُ فاطمُ أفضلُ

أفهلْ لمريم والدٌ كمحمدٍ *** أم هَلْ لمريمَ مثلُ فاطمَ أشبلُ

كلٌ لها عندَ الولادةِ حالةٌ *** فيها عقولُ بني البصائرِ تذهَلُ

هذي لنخلتِها التَجَتْ فَتَساقَطَتْ *** رُطَبَاً جَنياً فهي منه تأكُلُ

ولدت بعيسى وهي غيرُ مروعةٍ *** أنَّى وحارسُها السّري الأبسلُ

وإلى الجدارِ وصفحةِ البابِ التَجت *** بنتُ النَّ-بي فأسقَطَتْ ما تَحمِلُ

سَقَطت وأسقَطَتِ الجنينَ وحولَها *** من كلِّ ذي حسبٍ لئيمٍ جَ-حفلُ

هذا يعنفها وذاكَ يدُعُّها *** ويردها هذا وهذا يركُلُ

وأمامَها أسدُ الأسودِ يقودُهُ *** بالحبل قنفذ هل كهذا معضَلُ

ولسوفَ تأتي في القيامةِ فاطمٌ *** تشكوا إلى ربِّ السماءِ وتعولُ

ولتَ-رفَعَ-نَّ جنينَها وحنينَ-ها *** بشكايةٍ منها السماءُ تَتَزلزَلُ(1)

ص: 103


1- ديوان الشيخ محسن أبو الحب الكبير: 128.

القبس /92 : سورة مريم:48

اشارة

{وَأَعتَزِلُكُم وَمَا تَدعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ}

موضوع القبس:المعنى الصحيح للاعتزال

دين الاجتماع:

الإسلام دين الاجتماع والتواصل ومظاهر ذلك كثيرة كالحج وصلاة الجماعة والجمعة ومنها تشريع العيد ففي دعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في وداع شهر رمضان عن يوم الفطر (الذي جعلته... لأهل ملتك مجمعاً ومحتشدا)(1) وفي الرواية عن الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إنما جُعل يوم الفطر العيدَ ليكون للمسلمين مجتمعاً يجتمعون فيه ويبرزون لله عز وجل فيمجدونه على ما منَّ عليهم، فيكون يومَ عيدٍ ويوم اجتماع)(2)، وهو دين إعمار الحياة المثمرة وبناء الأمة الصالحة الوسط الشاهدة على الناس جميعاً.

مضافاً إلى أن وظائف كثيرة لا يمكن القيام بها إلا بالتواصل مع الناس كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتكافل الاجتماعي وتعليم أحكام الدين.

وورد النهي عن الترهّب وترك إعمار الحياة كقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(ليس في

ص: 104


1- الصحيفة السجادية (ابطحي): 299
2- من لا يحضره الفقيه: 1/ 522، ح 1485.

أمتي رهبانية)(1)، ويشرح (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) معناها لعثمان بن مضعون عندما أراد الترهب:(إن ترهّب أمتي الجلوس في المساجد انتظاراً للصلاة)(2) فيعطي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) للرهبانية معنى اجتماعياً واسعاً خلافاً للمعروف عنها .ويخاطب أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) العلاء بن زياد الحارثي لما اعتزل الحياة وترهب:(يا عُدَيَّ – تصغير عدو- نفسه:أترى أن الله أحلّ لك الدنيا وهو يكره أن تأخذ منها؟)(3).

الحث على العزلة:

في مقابل ذلك توجد روايات كثيرة حثّت على الانفراد والعزلة عن الناس وذكرت فضل العزلة والآثار المباركة فيها كقول رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(العزلة عبادة) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(في الانفراد لعبادة الله كنوز الأرباح) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ملازمة الخلوة دأب الصلحاء) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(الوصلة بالله في الانقطاع عن الناس)(4) وعن الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(يأتي على الناس زمان تكون العافية فيه عشرة أجزاء، تسعة منها في اعتزال الناس وواحدة في الصمت)(5).

ص: 105


1- بحار الأنوار: 70/ 115 عن الخصال للصدوق: 1/ 138.
2- بحار الأنوار- المجلسي: 80/ 381
3- نهج البلاغة:
4- راجع مصادرها في ميزان الحكمة: 6/ 17.
5- سفينة البحار: 6/ 233 عن كمال الدين.

إشكال وردّ:

وهنا قد يثار إشكال منشأه وجود التنافي بين التوجيه بالعزلة والمنحى الاجتماعي لدين الإسلام؟

ويجاب هذا الإشكال بأكثر من مستوى:

الأول:أن نضع هذه الأحاديث في موضعها الصحيح ولا نأخذها على إطلاقها، ونتعرف على المخاطبين بها وحالاتهم، ومن تلك الحالات التي خاطبتها هذه الأحاديث المحبِّبة للعزلة:-

1-وهي أوضحها:عندما يكون الاختلاط بالناس سبباً للوقوع في المعاصي فإن المجالس لا تخلو غالباً من المحرمات بل الكبائر، وعلى رأسها الغيبة التي جعلها الناس فاكهة المجالس، وهي من الموبقات التي توجب إحباط العمل وذهاب الدين، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(الغيبة أسرعُ في دين الرجل المسلم من الأَكْلَة في جوفه) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(إن الرجل ليؤتى كتابه منشوراً فيقول:يا ربِّ، فأين حسناتُ كذا وكذا عملتُها ليست في صحيفتي؟ فيقول:محيت باغتيابك الناس)(1) ووصفتها بعض الروايات بالنار التي يرسلها على مغروساته – وهي الأعمال الصالحة - فيحرقها.

وينبغي الالتفات إلى أن المجالس لا تختص باللقاءات المباشرة بل تشمل اليوم ما يحصل من حوارات ولقاءات عبر مواقع التواصل الاجتماعي وتؤدي أحياناً إلى أمور محرمة كأحاديث الحب والغرام مع الجنس الآخر من دون مسوِّغ شرعي، وبعضهم يستفتي عن جواز تبادل هذه الأحاديث بين امرأة متزوجة

ص: 106


1- ميزان الحكمة: 6/ 506.

ورجال أجانب من دون علم الزوج ويسأل هل هذا جائز؟ فتصوروا الانحدار والتسافل!.فهذه الموبقات وأمثالها من نتائج الاختلاط غير المنضبط، لذا كان في العزلة الحفاظ على الدين وعلى ما حصل عليه من الطاعات. عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(العزلة سلامة) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لا سلامة لمن أكثر مخالطة الناس) (سلامة الدين في اعتزال الناس) (من اعتزل سَلِم ورعُه) (مداومة الوحدة أسلم من خلطة الناس)(1)، ولذا قيل إن ((في العزلة صيانة الجوارح وفراغ القلب وسلامة العيش وكسر سلاح الشيطان والمجانبة من كل سوء وراحة الوقت، وما من نبي ولا وصي إلا واختار العزلة في زمانه إما في ابتدائه وإما في انتهائه))(2).

2-عندما يكون الاختلاط مع الناس والحضور في مجالسهم مسبباً لتشوش الفكر بالأحاديث الفارغة المضيِّعة للوقت وتسمى مجالس البطّالين، وقلنا أنها تشمل ما يعرَف اليوم بالحوار عبر الإنترنت والرسائل القصيرة ومكالمات الهواتف المحمولة، وأغلب لقاءات الناس ومجالسهم ومحادثاتهم من هذا القبيل، فكل ما يدور فيها هذر من الكلام وعبث ولهو باطل كأحاديث الألعاب الرياضية أو الشؤون العائلية الخاصة بالناس الآخرين.

فإذا تشوش الفكر بهذه الأحاديث فإنه لا يكون مؤهلاً للإقبال على الله تبارك وتعالى والأنس بذكره، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(من انفرد عن الناس

ص: 107


1- ميزان الحكمة: 6/ 18.
2- سفينة البحار: 6/ 233.

أنس بالله سبحانه)(1) (الانفراد راحة المتعبدين) وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(لو ذُقتَ حلاوة الوحدة لاستوحشت من نفسك) ومن حِكم لقمان:(إن طول الوحدة أفهم للفكرة، وطول الفكرة دليل على طريق الجنة).لذا كان اعتياد هذه المجالس سبباً للحرمان من القرب الإلهي كما في دعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في ليالي شهر رمضان:(أو لعلك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني أو لعلك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني، أو لعلك رأيتني آلف مجالس البطالين فبيني وبينهم خلّيتني) (2)، وفي وصية الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لهشام بن الحكم:(الصبر على الوحدة علامة قوة العقل، فمن عقل عن الله اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها، ورغب فيما عند الله، وكان الله أنيسه في الوحشة، وصاحبه في الوحدة، وغناه في العيلة، ومُعِزَّه من غير عشيرة) (3).3-عندما لا يكون الفرد قادراً على أداء حق الاختلاط مع الناس ومراقبة ما يجري فيها ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فمثل هذا يكون الأفضل له تجنب الاختلاط إلا بما هو ضروري حتى لا يكون من الساكتين على الباطل والراضين بالظلم، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إن قدرت أن لا تخرج من بيتك فافعل، فإن عليك في خروجك أن لا تغتاب ولا تكذب ولا تحسُد ولا ترائي ولا تتصنع ولا تداهن)(4) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(أقلُّ ما يجد العبد في الوحدة الراحة من مداراة

ص: 108


1- راجع مصادر هذه الأحاديث في ميزان الحكمة- الريشهري: 3/ 1964
2- مفاتيح الجنان: 245
3- بحار الأنوار- المجلسي: 75/ 301
4- بحار الأنوار- المجلسي: 75/ 225

الناس)(1).الثاني:أن نفهم من معنى العزلة غير المعنى المتعارف وهو الانكفاء على الذات وترك الاختلاط بالناس فلا يرد الإشكال أصلاً، وإنما يراد باعتزال الناس مباينتهم في السلوك والأفعال المخالفة للشريعة، فلا مانع من أن يعيش المؤمن وسط المجتمع بكل فئاته بشرط أن يكون متميزاً بعقيدته وأخلاقه وسلوكه وتقييمه للأمور عن أهل المعاصي ولا يتأثر بشيء من انحرافاتهم أو يداهن أو يجامل أو يتنازل عن شيء، وبثباته ومبدئيته سوف يكون موقفه قوياً مؤثراً في الآخرين وهادياً ومصلحاً لهم.

وهذه المباينة في العقيدة والسلوك مع أهل الباطل جعلها الله تعالى في القرآن الكريم علامة فارقة لسلوك الأنبياء (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مع مخالفيهم والمتمردين عليهم، قال تعالى:{بِسمِ اللهِ الرَحمَنِ الرَحِيمِ، قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} (الكافرون:1-3) وقال تعالى:{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً، فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاً جَعَلْنَا نَبِيّاً} (مريم:48-49).

لكي لا ينحرف الدين وتضيع معالمه:

إن الاختلاط وعدم التمايز في الرؤية والتوجهات والسلوك بين المؤمن وغيره خطير جداً لأنه يؤدي لتشويه صورة الدين وتمييعه وتضييع هويته وانحراف

ص: 109


1- بحار الأنوار- المجلسي: 75/ 254

أحكامه حتى يصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً والأخطر من ذلك أنه يعطي مشروعية للانحراف والفساد بعد أن اختلط الحق بالباطل ولم يبق مائزٌ بينهما.خذ مثلاً سلوك السياسيين فهل تجد فرقاً بين من يرفع شعاراً إسلامياً ويعتبر حزبه إسلامياً وبين الآخرين؟ فإذا لم تجد فرقاً من حيث الفساد والاستئثار بأموال الشعب والأنانية وعدم الاكتراث بحال الشعب وعدم الاهتمام بإعمار البلد وازدهاره، فماذا سيبقى في يدك من أدوات لإقناع المجتمع بمشروع الإسلام ونظامه في سياسة الأمة وإدارة شؤون البلاد؟.

وهكذا على صعيد السلوك الشخصي إذا كان (المتدين) يكذب ويخلف الوعد ويغشّ ويعتدي على حقوق الآخرين ويفتري عليهم ويكيد لهم فكيف سيحب الناس التدين والالتزام بالشريعة؟.

وللعلم فإن أهل الباطل يحاولون جاهدين لاستدراج أهل الحق حتى يكونوا مثلهم، كما لو وُجد موظف نزيه مثابر في عمله يخدم الناس بإخلاص فإنهم يقومون بكل وسائل الضغط والترغيب والترهيب ليتخلى عن مبدأيته ويصبح مثلهم، ليعطوا المبررات لأنفسهم ويتخلصوا من محاسبة الضمير وليصبغوا أفعالهم بالشرعية، فالعزلة والاعتزال الذي حثت عليه الآيات الكريمة والروايات الشريفة يعني إبقاء الخط الفاصل بين المنهجين والسلوكين والرؤيتين.

الثالث:أن يكون الاعتزال بمعنى الانقطاع عما سوى الله تعالى وعدم التمسك بأي سبب من المخلوقات، عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لا يكون العبد عابداً لله حق عبادته حتى ينقطع عن الخلق كلهم إليه فحينئذٍ يقول:هذا

ص: 110

خالص لي، فيقبله بكرمه)(1).فذِكرُ الله تعالى والتمسك بالنبي وآله الكرام (صلوات الله عليهم وسلامه) وولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) هو الكهف الذي نكون فيه دائماً ونأوي إليه باستمرار وان كنّا في أوساطهم ، قال تعالى:{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً} (الكهف:16).

مع السيد الشهيد الصدر الثاني:

روى لي السيد الشهيد الثاني (قدس سره) هذه القصة ويبدو أنها حصلت له بعد معاناة اعتقاله عام 1974 قال:((إنني يوماً فتحت القرآن الكريم لأجد فيه منزلتي أمام الله سبحانه أو قل – بالتعبير الدنيوي- (رأي) الله فيَّ، فخرجت هذه الآية من سورة الكهف:{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً}، إن كل هذه الآية مفهومة لي بحسب حالي يومئذٍ إلا قصة (الكهف) الذي يكون من المطلوب أن آوي إليه، أي كهفٍ هذا؟ وذهبت إلى الحرم العلوي (على ساكنها السلام) عسى أن ينفتح لي هناك عن هذا المعنى، وبدأت بزيارة (أمين الله) حتى وصلت إلى قوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(اللهم فاجعل نفسي مطمئنة بقدرك راضية بقضائك.. إلى قوله:يا كريم) وقد حصل لي في تلك اللحظة (حدس) قوي بأن الكهف الذي يجب أن أدخله هو هذا، أي أن تصبح نفسي على هذه الأوصاف وتجانب ما سواها، وقد

ص: 111


1- بحار الأنوار: 70/ 112 عن عدة الداعي: 233.

عرضت ذلك على (مولاي) فأقرّه وقال بصحته))(1).وفي ضوء ما تقدم يندفع الإشكال وأن المعاشرة مع الآخرين أفضل من العزلة إذا كانت مثمرة ونافعة ويؤدي فيها الفرد وظائفه ولا تستدرجه المجاملات إلى الوقوع في المعاصي؛ لأن الاختلاط مع الآخرين يوفر فرصاً عظيمة للطاعة كقضاء حوائج الناس وإدخال السرور عليهم وهدايتهم وإرشادهم و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحو ذلك.

الحل الوسط:

روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله:(المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على اذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على اذاهم) وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لرجل أراد الجبل ليتعبد فيه:(لصبرُ أحدكم ساعة على ما يكره في بعض مواطن الإسلام خير من عبادته أربعين سنة)(2)، وعليه أن يكون يقظاً ملتفتاً حتى لا يتسبب اختلاطه مع الناس بالوقوع في المعاصي أو تشويش فكره بفضول الكلام، وأن يلتزم بمبادئه والأفعال الموافقة للشريعة ويعتزل سلوكياً الآخرين ويحذر من مناهجهم ورؤيتهم.

أما من لا يملك الشجاعة والمعرفة والقدرة على أداء وظائفه مع الآخرين فالحل المناسب له تقليل اختلاطه بالناس والاقتصار على مقدار الضرورة وأن يحرص على مجالسة ومحادثة من يقرّبه إلى الله تعالى، روى الإمام الصادق

ص: 112


1- قناديل العارفين: 153.
2- نقلها عن مصادرها في ميزان الحكمة: 6/ 19.

(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(قالت الحواريون لعيسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):يا روح الله، مَن نجالس؟ قال:من يذكّركم الله رؤيته ويزيد في علمكم منطقه ويرغّبكم في الآخرة عمله)(1)وفيه إشارة إلى أن من لم تستفد منه هذه الأمور فلا تضيّع وقتك(2)وعمرك الثمين بمجالسته أو محادثته عبر الإنترنت وأجهزة الاتصال ومصاحبته، فكيف بمن تكون مجالسته سبباً لعكس هذه الصفات كما هو حال أغلب الناس مع الأسف؟ لذا ورد في بعض الأحاديث:(فرَّ من الناس فرارك من الأسد)(3).إن المؤمن له أنس بربّه لا يستوحش معه ولا يحتاج إلى غيره إلا بمقدار الضرورة، وينفر من مخالطة الناس أزيد من ذلك ومجاملتهم ومداهنتهم، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(ما من مؤمن إلا وقد جعل الله له من إيمانه أنساً يسكن إليه حتى لو كان على قلّة جبل لم يستوحش)(4) وروي عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(خالط الناس تخبرهم ومتى تخبرهم تَقْلِهم – من القلى أي البغض والاجتناب-).

فترجيح الاختلاط او العزلة وتحديد مقدارهما يدور مدار ما يقرب-ّك الى

ص: 113


1- سفينة البحار: 6/ 235.
2- عن الإمام الباقر، عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في وصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (يا علي من لم ينتفع بدينه ولا دنياه فلا خير لك في مجالسته..) مكارم الأخلاق، وصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).
3- في مصباح الشريعة: روي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال: (قال عيسى بن مريم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): اخزن لسانك لعمارة قلبك، وليسعك بيتك وفرّ من الرياء وفضول معاشك، وابك على خطيئتك، وفرّ من الناس فرارك من الأسد والأفعى، فإنهم كانوا دواء فصاروا اليوم داء، ثم الق الله متى شئت) نقلاً عن بحار الأنوار: 67/ 110.
4- الحديث وما بعده في بحار الأنوار: 70/ 111 عن عدة الداعي: 232.

الله تبارك وتعالى ويجنّبك معصيته ولا يحرمك من طاعته .وعلى أي حال فإن الاعتزال فترة محددة أمر مفيد، فقد كان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يعتزل الناس في غار حراء في مكة، أما في المدينة فقد كان يطوي فراشه ويشد مئزره للعبادة في العشرة الأواخر من شهر رمضان(1).

ولأجل تحقيق هذا النقاء وتصفية الباطن لله تعالى شُرّع الاعتكاف في المساجد، وقد وردت الأحاديث في فضله وآثاره المباركة.

ونثني هنا على المبادرة التي يقوم بها جمع كبير من الشباب وطلبة الجامعات منذ عدة سنوات بإقامة العشر الأواخر من شهر رمضان إلى جوار أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ويُنظَّم لهم برنامج عبادي وتثقيفي مفيد بفضل الله تبارك وتعالى.

ص: 114


1- مستدرك الوسائل- المحدث النوري: 7/ 470

القبس /93: سورة مريم:59

اشارة

{فَخَلَفَ مِن بَعدِهِم خَلفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَوةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَتِ ۖ}

موضوع القبس:إنحراف الامة بعد رحيل قائدها

قال الله تبارك وتعالى {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} (مريم:59) أي جاء من بعد {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} (مريم:58) أجيال غير صالحين لذا قرأت (خَلْفٌ) بالسكون اما الذريات الصالحة فتقرأ بالتحريك (خَلَفَ) كما عن المشهور.

وذكرت الآية صفتين لهم وعلامتين لانحرافهم عن خط اسلافهم الصالحين بينهما ارتباط وثيق وهما (إضاعة الصلاة) و (اتباع الشهوات) وقد ترجعان الى واحدة أي ان كلاً منهما تؤدي الى الأخرى، فقد يكون الأصل في الانحراف إضاعة الصلاة، اما الثانية وهي اتباع الشهوات فهي نتيجة للاولى لان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر فاذا اضاعوها فقدوا المناعة التي تحصّنهم فوقعوا فريسة تزيين الشيطان واغرائه وسقطوا في اتباع الشهوات عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(لا يزال الشيطان يرعبُ من بني آدم ما حافظ على الصلوات الخمس، فاذا ضيعّهن

ص: 115

تجرأ عليه واوقعه في العظائم)(1) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(الصلاة حصن من سطوات الشيطان) فذكر تضييع الصلاة دون غيرها من الواجبات لأنها عمود الدين وعنوان صحيفة المؤمن والعاصمة للإنسان من الانجرار نحو التسافل.لذا ورد في الحديث الشريف عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(ما بين المسلم وبين الكافر الا ان يترك الصلاة الفريضة متعمداً أو يتهاون بها فلا يصليها) لانه بترك الصلاة يبقى مكشوفاً للاعداء - وهم شياطين الجن والانس والشهوات واهواء النفس - لا يملك ما يحميه منهم فيبدأ سلوكه بالانحدار ولا يقف السقوط الى حد معين حتى يستقر في قعر جهنم، وهذا مجّرب وله أمثلة كثيرة في الواقع لا تخفى عليكم لأشخاص تركوا الصلاة اولاً ثم انحدروا وأوغلوا في الموبقات.

وعلى العكس من الانحدار فان الترقي في درجات الكمال يبدأ من هذه الصلاة وعن طريق هذه الصلاة بحسب مراتب أدائها، ففي الحديث النبوي الشريف قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(إن الصلاة قربان المؤمن)وفي تعبير اخر (الصلاة معراج المؤمن) وفي آخر (الصلاة قربان كل تقي) و(إضاعة الصلاة) لها مراتب عديدة، اوضحها تركها من اصلها وهي المرتبة التي جعلتها الاحاديث الشريفة المتقدمة قرينة لبعض مراتب الكفر.

وتليها حالة عدم الالتزام بتأديتها في اوقاتها المخصّصة لإدائها أي عدم الاكتراث بفواتها، وفي مجمع البيان عن أبي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير الآية قال:(اضاعوها بتأخيرها عن مواقيتها من غير ان تركوها اصلاً). وروي عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)

ص: 116


1- راجع مصادر الاحاديث المذكورة هنا في ميزان الحكمة:5/ 107 وما بعدها.

قوله في الصلاة:(واذا لم يصلِّها لوقتها ولم يحافظ عليها رجعت سوداء مظلمة تقول:ضيّعتني ضيّعك الله)وفي الكافي بسنده عن داود بن فرقد قال:(قلت لأبي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله تعالى:{إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} (النساء:103) قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(كتاباً ثابتاً وليس أن عجلت قليلاً أو أُخّرت قليلاً بالذي يضُّرك ما لم تضّيع تلك الاضاعة فان الله عز وجّل يقول لقوم {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} (مريم:59).

وتليها حالة اتيانه بالصلاة لكن ليس على وجهها الصحيح من حيث اجزائها وشرائطها واقوالها وافعالها فلا يتم له ركوع أو سجود أو طهور أو قراءة واشباه ذلك من الصلاة التي وصفها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)بأنها نقر كنقر الغراب(1) ، وقال البعض بأن الآية تنطبق على أهل هذه المرتبة اكثر من المرتبتين السابقتين لان معنى ضياع الشيء تلفه وخرابه أو افتقاده بسبب سوء تدبير الذي بيده ذلك الشيء فوضعه في غير موضعه، فالإضاعة لا تصدُق الا مع التفريط بالشيء بعد وجوده اما من لا يوجد عنده الشيء اصلاً فقد لا تصدق عليه الاضاعة، فهذا الخلْف المُضِّيع للصلاة ورث الصلاة من اسلافه الصالحين الا انه فرّط فيها وضّيعها ولم يعتنِ بها وغيَّر فيها واستهان بها فلم يحسنوا الخلافة فيها كما سيأتي ان شاء الله في رواية البخاري، ولا أرى مانعاً من دخول جميع المراتب المتقدمة في عنوان إضاعة الصلاة فأن من تركها اصلاً يصدق عليه التضييع لأنه اعطي هذه الصلاة لكنه لم يؤّدِها.

ص: 117


1- الكافي- الشيخ الكليني: 3/ 268/ح6

وتوجد مرتبة أخرى لإضاعة الصلاة تخفى الا عن أهل المعرفة وهي إضاعة حقيقتها وجوهرها وثمرتها وهي المعراجية الى الله تبارك وتعالى والنهي عن الفحشاء والمنكر فهو يؤدي الصلاة في اوقاتها ويدقق في الاتيان بأجزائها وشرائطها الا انه لا يتكامل بها ولا ترتقي احواله وعلاقاته بربه بها. عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(لا صلاة لمن لم يطع الصلاة، وطاعة الصلاة ان تنهى عن الفحشاء والمنكر) وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(اعلم ان الصلاة حجزة الله في الأرض، فمن أحَّب أن يعلم ما ادرك من نفع صلاته، فلينظر:فان كانت حجزته عن الفواحش والمنكر فانما ادرك من نفعها بقدر ما احتجز).وقد يؤدي الإنسان خلال عمره آلاف الصلوات(1) من دون ان تحصل له حالة الارتقاء والسمو في درجات المعرفة والكمال، روى الشيخ الصدوق بسنده عن حّماد بن عيسى - ويعلم اهل الاختصاص أن حّماد من ثقات الرواة عن الصادق والكاظم والرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) - قال:(قال لي أبوعبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوماً تُحسن أن تصلّي يا حّماد؟ قال:قلت:يا سيدي أنا أحفظ كتاب حريز في الصلاة، قال: فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لا عليك قم فصلِّ قال فقمت بين يديه متوجهاً الى القبلة فاستفتحت الصلاة وركعت وسجدت فقال:يا حّماد لا تحسن ان تصلّي؟! ما أقبح بالرجل أن تأتي عليه ستون سنة او سبعون سنة فما يقيم صلاة واحدة بحدودها تامة؟!)(2) ثم قام الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وصلى أمامه الصلاة القربانية الخاشعة فالتوبيخ لم يصدر لترك

ص: 118


1- الصلوات المفروضة في اليوم والليلة خمسة غير المستحبات ففي السنة 1800 وفي عشر سنوات ثمانية عشر الف صلاة
2- من لا يحضره الفقيه: ج1/ح915/باب وصف الصلاة

الصلاة أو عدم الالتزام بها وإنما لعدم الوصول الى حقيقتها، ولعدم تحقق الاستفادة التامة من ثمرتها.والصفة الثانية للخلَّف غير الصالح (اتباع الشهوات) وهو له صور عديدة بحسب عمر الانسان وعمله وموقعه الاجتماعي والسياسي والديني وغير ذلك من المؤثرات، فالشباب يغريهم اللهو واللعب والمتعة الجنسية وهوس المودة في الملبس والمظهر الخارجي وتقليد الأجانب ولربما الانخراط في جماعات العنف والقتل والابتزاز والاختطاف.

والسياسيون تسكرهم السلطة والنفوذ والاستيلاء على المال العام وكثرة المؤيدين وتسليط الاعلام. والنساء يستهويهنَّ التجمل وإظهار الزينة حتى لغير من أحلّ الله تعالى ونصب الفخوخ للرجال. والتجار في السوق يلهثون وراء الأموال باي طريقة حصلت ولو كانت عن طريق الغش والظلم والبخس والتطفيف وغير ذلك كثير من اشكال اتباع الشهوات.

وتذكر الآية الكريمة العاقبة الوخيمة لإضاعة الصلاة واتباع الشهوات {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} والغي مقابل الرشد الذي هو إصابة الحق قال الله تعالى{قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (البقرة:256) كالضلال في مقابل الهدى الذي يعني الوصول الى الغاية المقصودة ، فهؤلاء سوف يلاقون الغي، وقد اطلق لفظ الغي أي سواء في الحياة الدنيا وحين الموت وما بعده وفي الآخرة، ففي الدنيا يقعون في الجهل والضلال ويفقدون البصيرة والرشد والحكمة وفي الآخرة يلقون جزاء ذلك {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} {الفرقان:68) لأنهم اوقعوا انفسهم في الغي والضلال فيلاقون جزاءه {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (النمل:90).

ص: 119

لكن لا ينبغي لمن اغراه الشيطان وغلبته اهواؤه وشهواته أن ييأس من روح الله تعالى ورحمته والرجوع اليه لذا جاءت الآية التالية مباشرة لتزرع هذا الأمل {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئاً} (مريم:60).والآية تبين بوضوح ظاهرة اجتماعية وسلوكاً عاماً يحصل عند غياب كل القادة العظام من الأنبياء والرسل (صلوات الله عليهم أجمعين) أو قادة الثورات الإصلاحية وهو الانقلاب على التعاليم الإلهية ووصايا الأنبياء والرسل والرجوع الى حالة الانحطاط من خلال إضاعة حقيقة الصلاة واتباع الشهوات والانخداع بالدنيا.

فلم يكن ما حصل بعد رحيل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من انقلاب بدعاً من السلوك وانما هي نسخة متكررة من الأمم السابقة، تلك الحالة التي يبدي الله تعالى آسفه عليها {يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} (يس30) وكأن هذه الآية المكية وامثالها تنبه الامة الى هذا الخطر المترقب لئلا يقعوا فيه، وليس لهم عذر في ذلك لان النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حذرهم منه في مناسبات عديدة كقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):فيما رواه عنه الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير قوله تعالى {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ} {الانشقاق:19) قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (لتركبن سنة من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقُذَّة بالقُذَّة ولا تخطئون طريقهم قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قالوا:اليهود والنصارى تعني يا رسول الله؟ قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):فمن أعني؟ لتنقض عرى

ص: 120

الإسلام عروة عروة، فيكون أول ما تنقضون من دينكم الامامة واخره الصلاة)(1).روى البخاري في صحيحه عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(أنا فرطكم على الحوض ليُرفعنَّ إليَّ رجالٌ منكم حتى إذا أهويتُ لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول:أي ربِّ أصحابي، يقول:لا تدري ما أحدثوا بعدك) (2)

وفي نفس المصدر بسنده عن الزهري قال:(دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلت:ما يبكيك؟ فقال:لا أعرف شيئاً مما أدركتُ إلا هذه الصلاة وهذه الصلاة قد ضُيِّعت)

ويبدو ان هذه الظاهرة متكررة في جميع الأجيال وعند كل انعطافة تاريخية ومفترق طريق يحصل عند غياب أصحاب الرسالات والمشاريع الإلهية، او عند اقبال الدنيا وتوسع خيراتها كما حصل للمسلمين الأوائل عند نجاح الفتوحات الإسلامية وهزيمة الامبراطوريتين الفارسية والرومية، أو ما حصل لساسة العراق الجدد بعد عام 2003، فكم من القادة العظام يتعبون ويضحون وقد يستشهدون ثم ترثهم وتخلفهم جماعات تدعي الانتساب اليهم وترث الامتيازات عنهم لكنها تضيّع مشروعهم العظيم، قال تعالى في موضع آخر {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}

ص: 121


1- تفسير القمي:2/ 412.
2- صحيح البخاري: 9/ 46/ح 7049,_1/ 112/ح530, ط. دار طوق النجاة

(الأعراف:169) امام هذه الحقيقة التي يكشف عنها القرآن الكريم ويؤكد تكرارها عبر الأجيال لا يحقّ للمؤمنين الرساليين ان يكتفوا بتحريك السنتهم بقول انا لله وانا اليه راجعون أو لا حول و لا قوة الا بالله العلي العظيم ونحو ذلك بل لابد من العمل بما تقتضيه هذه الكلمات المباركة والتحرك لحث الناس على إقامة الصلاة ووعي حقيقتها والاستفادة من آثارها المباركة في الدنيا والآخرة وتعليمهم احكامها التفصيلية ومقدماتها وسننها وآدابها وغير ذلك وتحذّر الناس في جميع مستوياتهم وعلى اختلاف مواقعهم من الانخداع بالدنيا والاغترار بمظاهرها البرّاقة الخادعة واتباع الشهوات والتأثر باهل المعاصي.

ولكي تحقق الحركة أفضل النتائج ينبغي ان تقوم بهذه المسؤولية مؤسسة وجماعة تأخذ على عاتقها احداث هذه النهضة المباركة بأذن الله تعالى قال تعالى {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} (آل عمران104) وهذه دعوة صريحة لإقامة مثل هذه المؤسسات و الجماعات لكل باب من أبواب الخير ولكل مورد من موارد الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فلاقامة الصلاة مؤسسة ولايتاء الزكاة مؤسسة ولتشجيع الزواج وتكثير النسل مؤسسة ولاصلاح ذات البين ورفض الطلاق مؤسسة وللعفاف مؤسسة وللتشجيع على القراءة ونشر الكتاب مؤسسة وللشعائر الدينية مؤسسة وغير ذلك كثير {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} {النحل:128).

ص: 122

القبس /94: سورة مريم:34

اشارة

{فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا}

موضوع القبس: لا تهولنّكم قوة الباطل فإنها إلى فناء

يشعر المؤمنون والعاملون الرساليّون بالإحباط واليأس أحياناً عندما يرون الباطل يتسلط ويتفرعن، والفساد ينتشر، وتصبح للظالمين دولة تملك المال والاعلام والسلطة وكل أدوات الحرب الناعمة والخشنة، ولا تتورع عن استخدام أي وسيلة حتى القذرة منها لتحقيق أهدافها، وحينئذٍ ينكمش المؤمنون وينزوون ويتخلون عن واجبهم في الدعوة الى الله (تبارك وتعالى) وهداية الناس وإرشادهم وإصلاحهم.

فتأتي هذه الآية الكريمة وآيات كثيرة غيرها لتحليل هذه الظاهرة وعلاجها لتقول : إنّ هذا الشعور ناشئ من العجلة، فكأن المؤمنين يستعجلون النصر وتحقق النتائج التي يسعون من أجلها، ويريدون أن ينزل الله تعالى العقوبة على كل ظالم بمجرد صدور الظلم منه فلما تتأخر عليهم يشعرون بالإحباط والضيق، وهذا خلاف سنة الله تعالى الجارية في خلقه {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} (فاطر:45) فتنهى الآية الكريمة عن الانبهار بدولة الباطل والشعور بالإحباط لعدم نزول العذاب {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} لعدم وجود

ص: 123

المسوغ للعجلة ، ففي دعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وإنما يعجل من يخاف الفوت وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف)(1) والمفروض أننا مؤمنون نعتقد جازمين بأنّ الله تعالى لا يفوته شيء وهو قوي ومقتدر قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} (إبراهيم:42) وقال تعالى: {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} (مريم:94-95) فإمهالهم وبال عليهم، قال الله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (آل عمران:178) وستقودهم شياطينهم إلى الهلاك فلماذا العجلة.ويتضمن الجزء الثاني من الآية تعليل عدم صحة الاستعجال بقوله تعالى {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} فإن الله تعالى بهذا الإمهال يريد أن يقيم الحجة البالغة عليهم ويدعهم يستوفون مدّتهم كاملة ، وهم في كل لحظة تمرّ عليهم في الدنيا ومع كل نفس يلتقطونه يزدادون إثماً واستحقاقاً للعقاب، والله تعالى يعدُّ عليهم هذه الأنفاس حتى تنتهي، إذ المعدود ينقصه العدّ وتتأكل به، ففي التعبير كناية عن انتهاء أعمارهم ورجوعهم الى الله تبارك وتعالى، وكأن الله تعالى يملك في خزائنه لكل منهم عدد أنفاسه المكونة لعمره ويطلقها لهم واحداً بعد واحد حتى تنتهي، روى الشيخ الكليني بسنده عن عبد الأعلى قال: (قلت لأبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): قول الله عز وجل: " إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا " قال: فما هو عندك؟ قلت: عدد

ص: 124


1- الدعاء الثامن والاربعون من الصحيفة السجادية في يوم الجمعة والأضحى .

الأيام، قال: إن الآباء والأمهات يحصون ذلك، قال: لا ولكنه عدد الأنفاس)(1) فتصوروا أنّ آثامهم بقدر أنفاسهم فضلاً عما لو لوثوها بجرائمهم ومعاصيهم، فإن عدَّ الأنفاس في الحقيقة هو عدَّ للأعمال المثبتة في صحيفة الحياة حتى تتم الصورة التي يؤول اليها في آخرته ((فكما أن مكث الجنين في الرحم مدة يتم بها خلقة جسمه كذلك مكث الانسان في الدنيا لأن يتم بها خلقة نفسه وأن يعدَّ الله ما قدّر له من العطية ويستقصيه))(2) لذا لا يصح استعجال الجزاء ثواباً وعقاباً لأن في استيفاء المدة اكتمالاً لحسنات المحسن فيثاب عليها، ولسيئات المسيء فيعاقب عليها. ولذا جاءت هذه الآية الكريمة متفرعة بقرينة الفاء على الآية التي قبلها {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} (مريم:83) أي تهزهم وتدفعهم بقوة وازعاج نحو الشر والفساد وتحرضهم على اتباع الباطل فتزيدهم ضلالاً إلى ضلالهم، وليس ذلك من باب الإكراه حتى تسقط المسؤولية عنهم، وإنما لأنهم هم من مكّنوا هذه الشياطين من أنفسهم وأطاعوهم وانقادوا لهم قال تعالى: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} (النحل:100)، روى علي بن ابراهيم في تفسير هاتين الآيتين قال: (لما طغوا فيها وفي فتنتها ، وفي طاعتهم ، مدّ لهم في طغيانهم وضلالهم ، وأرسل عليهم شياطين الإنس والجن {تؤزهم أزا} أي تنخسهم نخسا وتحضّهم على طاعتهم وعبادتهم فقال الله: "فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ

ص: 125


1- الكافي: ج3 / ص 259 / ح 33 .
2- الميزان في تفسير القرآن: 14/ 108

إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا " أي في طغيانهم وفتنهم وكفرهم)(1).والخطاب في الآية وإن كان موجهاً إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الا انه في الحقيقة لنا من باب (إياك أعني واسمعي يا جارة) والا فان هذه الحقيقة ماثلة امام القادة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) على نحو اليقين، وكشاهد على ذلك نذكر ما كتبه الامام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من سجنه إلى هارون العباسي وقال فيه: (إنه لن ينقضي عنّي يوم من البلاء إلّا انقضى عنك معه يوم من الرخاء حتّى نفضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون)(2).

هذا ما نفهمه من الآية الكريمة على المستوى الحركي ونتيجته النهي عن التبرّم وضيق الصدر والتقاعس والانزواء عندما يطول الزمن بالظلم وتتمكن دولة الباطل، وان على العاملين الرساليين الاستمرار في أداء واجباتهم ولا تكن نظرتهم ضيقة محدودة تقتصر على مساحة صغيرة من الزمن بل لينظروا الى الأفق البعيد.

ويمكن أن نفهم منها على الصعيد المعنوي والأخلاقي بأن الإنسان يجب أن يكون متيقظاً ملتفتاً عارفاً بقيمة وقته لأنه ليس مغفولاً عنه، فإن الله سبحانه يحصي عليه أعماله ويعدّ عليه أنفاسه التي وصفها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بقوله: (نفسُ المرء خطاه إلى أجله)(3) فكلّما أمدّه الله سبحانه وتعالى بنفس فكأنما قربّه إلى أجله حتى إذا استنفدها وانتهت مدته جاءه الأجل وعُرِض للحساب أمام الله تعالى،

ص: 126


1- تفسير القمي ج2 / ص55 ، البرهان ج6 / ص216 / ح 8 .
2- كشف الغمة ج 3 /ص 3.
3- نهج البلاغة / قصار الكلمات / رقم 74 .

وكما يعدّ الله تعالى للإنسان أنفاسه فإنه يحُصي عليه أعماله فلا يغتر الإنسان العاصي الغافل عن الله تعالى بإمهال الله تعالى له.روى علي بن إبراهيم في تفسير الآية قال: (نزلت في مانعي الخمس والزكاة والمعروف، يبعث الله عليهم سلطاناً أو شيطاناً، فينفق ما يجب عليه من الزكاة والخمس في غير طاعة الله(1) ويعذبه الله على ذلك)(2).

فاذا علم الانسان أن كل شيء محسوب حتى أنفاسه فانه سيكون متيقظاً حاضر الذهن مراقباً لنفسه فيما يقول ويفعل.

ولا تخلو الآية من إشارة الى قُصر عمر الانسان مهما طال لأنه عبارة عن عدد من الأنفاس مهما كثُرت فأنها تنقص بالعدّ، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (كُلُّ مَعْدُودٍ مُنْقَضٍ وكُلُّ مُتَوَقَّعٍ آتٍ)(3) لذا ورد في الحديث عن الإمام زين العابدين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (أكبر ما يكون الانسان يوم يولد، وأصغر ما يكون يوم يموت)(4).

فلابدّ أن يتدارك الانسان عمره ويراجع نفسه ويعيد ترتيب ملفاته كما يقال، وسيجد الله تعالى قريباً اليه رحيماً به ويساعده على تغيير كل حياته نحو الأفضل، روى الشيخ الصدوق بسنده عن الامام الصادق عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (من أحسن فيما بقي من عمره، لم يؤاخذ بما مضى من ذنبه، ومن

ص: 127


1- شرحنا هذه الفكرة في قبس الآية {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} راجع: من نور القرآن ج2 ص 91
2- تفسير القمي : ج2/ ص53 ، البرهان ج6/ ص216 / ح 9 .
3- نهج البلاغة- خطب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- ج 1- الصفحة 197
4- من لا يحضره الفقيه ج1/ ص194

أساء فيما بقي من عمره أخذ بالأول والآخر)(1)، وهي فرصة عظيمة يوفرّها الله تعالى لعباده رحمةً بهم.ويشير أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الى القيمة العظيمة لهذا الانقلاب والانعطاف في حياة الانسان في أي لحظة تحصل من حياته ويصفها بأنها (لا قيمة لها) أي لا يمكن تقييمها لعظمتها، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (بقيةُ عمر المرء لا قيمة لها: يُدرِكُ بها ما قد فات ويُحيي بها ما مات)(2) .

والغريب أن نجد بعض الناس يقضون هذه البقية الثمينة من أعمارهم بعد تقاعدهم عن العمل في المقاهي وعلى أرصفة الطرق باللهو والعبث والأحاديث الفارغة بل المحرمة فيخسرون هذه الفرصة الثمينة وفي الوقت الضائع بل القاتل.

ونحن اليوم في آخر جمعة من شعبان وهو من أعظم المناسبات لإجراء هذه المراجعة لاستقبال شهر رمضان بقلوب نقية ونفوس مقبلة على الطاعة، روى أبو الصلت الهروي قال: (دخلت على الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في آخر جمعة من شعبان، فقال لي: يا أبا الصلت، إن شعبان قد مضى أكثره، وهذه آخر جمعة فيه، فتدارك فيما بقي تقصيرك فيما مضى منه، وعليك بالإقبال على ما يعنيك، وأكثر من الدعاء والاستغفار، وتلاوة القرآن، وتب إلى الله من ذنوبك، ليقبل شهر الله إليك وأنت مخلص لله عز وجل، ولا تدعنَّ أمانة في عنقك إلا أديتها، ولا في قلبك حقداً على مؤمن إلا نزعته، ولا ذنباً أنت مرتكبه إلا أقلعت عنه واتق الله وتوكّل عليه في سرّ

ص: 128


1- أمالي الصدوق :111
2- بحار الانوار: 6/ 138 / ح46

أمرك وعلانيتك (ومن يتوكل على الله فهو حسبه ان الله بالغ أمره، قد جعل الله لكل شيء قدراً، وأكثر من أن تقول فيما بقي من هذا الشهر " اللهم ان لم تكن قد غفرت لنا في ما مضى من شعبان فاغفر لنا فيما بقي منه)(1)، ونحن ندعو بما علمنا الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

ص: 129


1- مفاتيح الجنان: 171 أعمال ما بقي من شعبان.

القبس /95: سورة طه:41

اشارة

{وَٱصطَنَعتُكَ لِنَفسِي}

موضوع القبس:الصناعة الإلهية للإنسان

أهمية الطفولة:

من المعلوم أن فترة الطفولة لدى الإنسان هي أطول من كل الكائنات الحية، وما ذلك إلا لينال التربية الكاملة والكافية التي تؤهله لممارسة دوره كخليفة لله تعالى في أرضه وليستطيع بناء كل قواه البدنية والعقلية والفكرية والنفسية حتى يتمكن من تلقي التشريف الإلهي ويبلغ سن التكليف الذي يتأخر عن السنة التاسعة عند الإناث وأكثر من ذلك عند الذكور.

ولاشك أنه كلما تتوفر للإنسان عوامل أقوى لتربيته وبنائه فإن فرصته لبلوغ الكمال والرقي أفضل وأوسع، وكلّما كان الدور المناط بالشخص والمسؤولية التي سيضطلع بها أهم وأوسع، كان نوع المربي المطلوب متصفاً بكمالات أرقى.

التربية الإلهية:

ولما كان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أكمل البشر وأفضلهم ومعداً لأداء أعظم الرسالات الإلهية، فلم يكن هناك من هو جدير بتربيته وتأديبه، لذا تكفل الله

ص: 130

تبارك وتعالى بذلك، قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(أدبني ربي فاحسن تأديبي)(1) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (أنا أديب الله وعلي أديبي)(2).وفي نهج البلاغة يصف أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هذه الصناعة بقوله (ولقد قرن الله به (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره)(3).

وأرّقَ تعبير وألطفه وأعظمه لهذه الفكرة هو ما ورد في القرآن الكريم في حق نبي الله تعالى وكليمه موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ، قال تعالى:{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (طه:39) وقال تعالى:{وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْس-ِي} (طه:41)،حينما يحظى الإنسان بلحظة من العناية الإلهية والألطاف الإلهية فإنها تغنيه وتكفيه، فكيف بمن يُصنع كله بعين الله تعالى ورعايته ولطفه، وليس هذا فقط بل يصطعنه لنفسه خالصاً مخلصاً ليحمل رسالته الكريمة إلى البشرية فليس له نظرٌ إلى ما سوى الله تبارك وتعالى، ولا يطمع فيه أحد من شياطين الجن والإنس، والصنع كما في المفردات (إجادة الفعل) أما الاصطناع فإنه (المبالغة في إصلاح الشيء)(4).

نتيجة الاصطفاء الإلهي:

وكانت النتيجة أن يكون موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مخلصاً لله تبارك وتعالى نبياً رسولاً

ص: 131


1- البحار: ج68 ص382.
2- ميزان الحكمة: 1/ 80.
3- نهج البلاغة، الخطبة، 192 المسماة بالقاصعة.
4- المفردات: ص286.

من أولي العزم {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً} (مريم:51)، هكذا تتدخل الألطاف الإلهية في صناعة الأفذاذ المؤهلين للأدوار العظيمة، والمستحقين للمقامات السامية، ومنهم أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، فقد أراد الله تعالى أن يكونوا معصومين مطهرين مخلصين له تبارك وتعالى، قال تعالى {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب:33) وإذا أراد الله شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، ولا رادّ لقضائه.هل تساءل أحد كيف يمكن أن توجد مثل خديجة بنت خويلد التي لُقِّبت بالسيدة الطاهرة في ذلك المجتمع الجاهلي المملوء بالجرائم والموبقات والمفاسد التي لم يسلَم منها إلا الأندرون كجد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأبويه وعمه وابن عمه؟ وهل يوجد تفسير لذلك إلا الصناعة الإلهية لتلك القدّيسة الطاهرة؟.

وهكذا يجد من يراجع سير العظماء ان يداً من وراء الغيب تتولى أمرهم وتصنعهم بحب وشفقة واتقان لتعدّهم للدور الكبير الذي يراد لهم.

كيف ننال الاصطفاء الإلهي؟

والذي يهمّنا من ناحية عملية هو هل يمكن أن نحظى بهذه الألطاف الإلهية ونكون ممن يصنعهم الله تعالى على عينه ويصطنعهم لنفسه بدرجة من الدرجات؟ ومن الواضح اننا نتحدث هنا عن التربية الإلهية الخاصة، لأن العامة شاملة للجميع، فهو تبارك وتعالى (ربّ العالمين) و{مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} (هود:56).

والجواب واضح بإمكان ذلك إذ أن الله تبارك وتعالى لا بخل في ساحته

ص: 132

–كما قيل- ولا يحتجب عن خلقه، إلا أن تحجبهم الذنوب دونه –كما في الدعاء-(1).والسؤال الأهم في كيفية تحصيل ذلك، ويمكن ان نستفيد معنيين من نفس الآيات الشريفة.

الأول:من نفس الآية الأولى {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (طه:39) فالطريق أن تحبّ الله تعالى ويحببك الله تعالى، وقد شرحنا علامات هذا الحب المتبادل وطريقة تحصيله في قبس مفصّل(2)، وورد في كلمات الحكماء (إن الله إذا أحبّ عبداً تفقّده كما يتفقّد الصديق صديقه)(3).

الثاني:من الآية الثانية {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى، وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} (طه:40-41) فعندما يكون الإنسان ذا همّة عالية وطموح كبير للعمل في إعلاء كلمة الله تعالى ونشر علوم أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) واصلاح النفس والمجتمع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الله يستخلصه لنفسه وسيصلح شأنه ويتولاه بنفسه ويعينه على هذه الرسالة ويؤهله لأدائها.

ما يوجب الصناعة الإلهية:

ويستفاد من الروايات الشريفة ما يوجب تلك الألطاف الإلهية.

(منها) صحيحة أبان بن تغلب عن أبي جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) –في حديث-

ص: 133


1- أنظر: مصباح المتهجد- الشيخ الطوسي: 162_815
2- أنظر: القبس/32 {يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُۥ} (سورة المائدة:54), من نور القرآن: 1/ 356
3- مفردات الراغب ص321.

(إن الله جلّ جلاله قال:ما يتقرب إلي عبدٌ من عبادي بشيء أحبُّ إليّ مما افترضت عليه، وإنه ليتقرب إليّ بالنافلة حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته)(1).(منها) ما في الحديث القدسي (أيما عبد اطلعتُ على قلبه فرايت الغالب عليه التمسك بذكري تولّيتُ سياسته وكنت جليسه ومحادثه وأنيسه)(2).

وفي البحار عن إرشاد الديلمي وغيره (فمن عمل برضائي ألزمه ثلاث خصال:أعرفه شكراً لا يخالطه الجهل، وذكراً لا يخالطه النسيان، ومحبة لا يؤثر على محبتي محبة المخلوقين.

فإذا أحبّني أحببته، وأفتح عين قلبه إلى جلالي، ولا أخفي عليه خاصّة خلقي، وأناجيه في ظلم الليل ونور النهار حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين ومجالسته معهم، وأسمعه كلامي وكلام ملائكتي، وأعرّفه السر الذي سترته عن خلقي، والبسه الحياء حتى يستحي منه الخلق كلهم، ويمشي على الأرض مغفوراً له، وأجعل قلبه واعياً وبصيراً، ولا أخفي عليه شيئاً من جنة ولا نار، وأعرّفه ما يمرُّ على الناس في القيامة من الهول والشدّة، وما أحاسب به الأغنياء والفقراء والجهّال والعلماء، وأنوّمه في قبره، وأنزل عليه منكراً ونكيراً حتى يسألاه، ولا يرى غم الموت وظلمه القبر واللحد وهول المطّلع، ثم أنصب له ميزانه وأنشر ديوانه، ثم أضع كتابه في يمينه فيقرؤه منشوراً ثم لا أجعل بيني وبينه ترجماناً، فهذه صفات

ص: 134


1- وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب اعداد الفرائض ونوافلها، باب17، ح6.
2- البحار: ج90 ص162، الكافي: ج2 ص352 ح8.

المحبين)(1).

الدعاء يوصل الى الصناعة الإلهية:

ولا شك أن الدعاء وطلب معالي الأمور يوشك أن يوصل إلى ذلك فليجتهد العبد في الطلب والدعاء، من دعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في طلب مكارم الأخلاق(2) (واصلحني بكرمك وداوني بصنعك) وورد في دعائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الذي أوله (يا من تحلّ به عقد المكاره)(3) (وأذقني حلاوة الصنع فيما سألتُ) ومن دعائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في طلب العفو (اجعلني... وخلّصته بتوفيقك من ورطات المجرمين، فأصبح طليق عفوك من أسار سخطك، وعتيق صنعك من وثاق عدلك)(4).

خصوصاً أنتم معاشر الشباب ما دمتم في مقتبل العمر وبداية الطريق لصناعة مستقبلكم المعنوي والمادي، فاسألوا الله تعالى أن يختاركم لأعظم الأدوار وأرقى المسؤوليات وأن يصنعكم بيده سبحانه لأدائها، وواظبوا على طلب ذلك بإخلاص ولسوف يعطيكم ربكم ذلك كما حكى سبحانه عن عباد الرحمن أن من دعائهم {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} {الفرقان:74).

ص: 135


1- البحار: ج74 ص29.
2- مفاتيح الجنان: ص105.
3- السابق: ص148.
4- الصحيفة السجادية، من دعائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في طلب العفو والرحمة: ص170.

القبس /96: سورة طه:114

اشارة

{وَقُل رَّبِّ زِدنِي عِلما}

أدب طلب العلم:

قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(أدبني ربي فاحسن تأديبي)(1) ومما أدّب الله تعالى به نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله تعالى {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه:114) وقد اخذ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بهذا الادب وسائر الآداب الربانية فكان يطلب الزيادة في العلم باستمرار ويدعو (اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علما والحمد لله على كل حال)(2) حتى روي عنه قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(اذا أتى عليَّ يوم لا أزداد فيه علماً يقربني الى الله فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم)(3).

التأسي بطلب العلم:

وإذا كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في مقامه السامي يطلب الزيادة باستمرار فنحن اولى، مضافاً الى أننا مأمورون بالتأسي بالنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهذا الادب الشريف منه, فالازدياد مطلوب في كل زمان وفي كل مكان حيث يوجد علم نافع, ويبقى

ص: 136


1- الكافي : 1/ 266 ح4.
2- الدر المنثور : 4/ 309.
3- ميزان الحكمة :6/ 145 عن كنز العمال 28687.

الانسان طالب علم وإن حاز على أعلى الالقاب العلمية ولا معنى للتخرج وإنهاء الدراسة أو التعطيل إلا بالتحول من مجال الى مجال انفع منه، وإلاّ حُرمنا من البركة التي أشار إليها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حديثه المتقدّم؟.

في قوله تعالى:وَقُلْ رَبِّ

وأوّل ما يستوقفنا في هذا الأدب الإلهي استعمال لفظ الرب في الدعاء من دون الأسماء الحسنى الأخرى، ولفظ الربوبية الدال على التربية والاعتناء بإنشاء الشيء وصناعته ورعاية صلاحه حالاً بعد حال إلى أن يبلغ تمامه، لإلفات نظر الداعي إلى هذه العلاقة الحميمة والعناية الخاصة التي يوليها الله تعالى لعبده، ولاستدرار الرحمة والشفقة الإلهية الخاصة.

في معنى أن الآية لسانها الدعاء:

والدعاء الذي ورد في الآية الكريمة، وكلّ دعاء ليس مجرد كلمات تُحرَّك بها اللسان وانما يعبِّر عن أهداف وطموحات وغايات يريد الانسان ان يصل اليها ويحققها بلطف الله تعالى وتوفيقه فعليه ان يهيئ المقدمات ويتخّذ الاسباب الموصلة الى الغاية، فعندما يطلب الانسان الزيادة المستمرة في العلم عليه ان يسعى لتحصيل هذا العلم من مصادره من خلال المطالعة والاستماع الى كل معلومة نافعة ومن خلال التلقي ممن عنده هذا العلم والاستفادة منه كما هو شأن الجامعات والمعاهد والمدارس والحوزات العلمية وامثالها.

لا تغفلوا عن العلم الغيبي:

وهذه هي المصادر البشرية للزيادة من العلم أي العلم المكتسب من

ص: 137

الآخرين، ونغفل عن المصادر الغيبية أو الالهية للازدياد من العلم وهي مصادر أوسع وأنقى وأثبت وأعمق وأكثر تأثيراً والذي سنسمع وصف النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) له بأنه لا جهل معه, كمن يريد ان يسقي أرضه الزراعية فتارةً يفتح لها قناة تأتيه بالماء من النهر مع ما يَحمل في طريقها من الأوساخ والأوبئة، وأخرى يفجر من الارض ينبوعاً صافياً نقياً، فكذلك القنوات التي تغذّي العقل والقلب بماء العلم والمعرفة فإنها تارة تؤخذ من الآخرين، وتارة تتفجّر من باطن الانسان، وقد فُسِّر قوله تعالى {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} (عبس:24) بالعلم ممن يأخذه لأن العلم غذاء الروح، ففي الكافي عن زيد الشحّام عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قول الله عز وجل:{فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} {عبس:24) قلت:ما طعامه، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):علمه الذي يأخذه عمّن يأخذه)(1).

مصادر العلم الغيبي:

ومن هذه المصادر:

1-التقوى:قال تعالى {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} (البقرة:282) فالتعليم الالهي يتعقب التقوى وهو العلم اللدني الذي ورد في قوله تعالى {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} (الكهف:65) وعن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (لو خفتم الله حق خيفته لعُلّمتم العلم الذي لا جهل معه)(2) وهو العلم اللّدني.

ص: 138


1- الكافي: 1/ 39/ح8..
2- ميزان الحكمة : 6/ 203 عن كنز العمال 5881.

قال الشاعر:

شكوتُ الى وكيع سوء حفظي *** فأرشدني الى ترك المعاصي

وعلّله بأن العلم نورٌ *** ونور الله لا يؤتى لعاصي(1)

وكلما أزداد الانسان تقوى وابتعاداً عما يُسخط الله تعالى وعملاً بما يرضيه كان أكثر انفتاحاً على الاسباب الالهية وكانت مرآته أصفى وأنقى فتنعكس فيها حقائق العلوم حتى تبلغ الذروة عند المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (قال:ما من ليلة جمعة إلا ولأولياء الله فيها سرور قلت:كيف ذلك؟ جعلت فداك قال:إذا كان ليلة الجمعة وافى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) العرش ووافى الائمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ووافيت معهم فما أرجع إلا بعلم مستفاد ولولا ذلك لنفد ما عندي)(2) وسُئل الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إنا نسئلك احياناً فتسرع في الجواب وأحياناً تطرق ثم تجيبنا ؟ قال:نعم انه ينكت في أذاننا وقلوبنا فاذا نكت نطقنا وإذا امسك عنا أمسكنا)(3) وهذا المصدر هو الذي يفسر الظاهرة الغريبة التي بدأت مع الامام الجواد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وولده الإمام الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بقيامهما بأعباء الامامة وقيادة الأمة ومناظرة العلماء في مختلف الفنون وهما صبيان في الثامنة من العمر وعجز الاخرون عن تفسيرها

ص: 139


1- يُنسب هذا الشعر الى الشافعي. أنظر: تفسير الآلوسي: 6/ 90.- موسوعة الرقائق والأدب- ياسر الحمداني:1/ 480
2- اصول الكافي : ج1 كتاب الحجة، باب في أن الائمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) يزدادون في ليلة الجمعة، ح3.
3- الفرقان في تفسير القرآن :19/ 91 عن بصائر الدرجات.

لعدم إيمانهم بالعقائد الحقة.2-من خلال العمل به، فان العمل بما تعلم وتطبيقه ينتج علما جديدا عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (من تعلّم فعمل علّمه الله ما لم يعلم)(1) فهذه إذن زيادة في العلم حصل عليها من خلال العمل بما علم، وعن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ما زكا العلم بمثل العمل به)(2) وعن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من عمل بما يعلم علّمهُ الله ما لا يعلم)(3) وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (العمل مقرون الى العمل، فمن علم عمل، ومن عمل علم)(4).

وهكذا تستمر جدلية التأثير والترابط بين العلم والعمل، زيادة ونقصاً، فمن عمل بالعلم ازداد،ومن لم يعمل بعلمه يفقده، عن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(مَنْ عَلِمَ عَمِلَ وَالْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلاَّ ارْتَحَلَ)(5).

وهذه الحقيقة جارية في كل المجالات فمن اكتسب معلومة اخلاقية وعمل بها سيوفق الى درجة أعلى، ومن استفاد نظرية علمية اكاديمية ثم اجرى تجارب ومحاولات عليها فانه سيتوصل الى نتائج ومعلومات جديدة، حتى على مستوى الطالب الذي يطالع دروسه فانه عندما يلخصّ ويستذكر ويخطّط ويرسم او يحلّ المسائل الرياضية بيده يحصل على معلومات لا يحصل عليها من يكتفي بمطالعة

ص: 140


1- ميزان الحكمة: 6/ 202 عن كنز العمال ح 28661.
2- غرر الحكم: 9569.
3- اعلام الدين: 301.
4- منية المريد : 181.
5- نهج البلاغة: 366.

الكتاب .3- ومن خلال إنفاقه اي نشره وتعليمه من لا يعلمه بأيّ وسيلة للنشر التي اتّسعت اليوم وأصبح بإمكان الشخص أن يخاطب الآخرين في العالم كله، من وصية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لكميل بن زياد وهو يقارن بين المال والعلم قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وَالْمَالُ تُنقِصُهُ النَّفَقَةُ، وَالْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الْإِنْفَاقِ)(1) والتجارب اثبتت ايضا صحة هذا المسلك فأن من يتصدى للتدريس وتعليم الاخرين وينشر ما عنده من العلم فانه يشعر بزيادة في العلم لم يحصّلها من احد، عن الامام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (علّم الناس، وتعلّم علم غيرك، فتكون قد اتقنت علمك، وعَلِمْتَ ما لم تعلمْ)(2) هذا غير الثواب الكثير لمن علّم الناس شيئا ينتفعون به ولو كان حديثاً شريفاً أو مسألة شرعية أو عملاً صالحاً أو... وقد وردت في ذلك روايات كثيرة نكتفي بواحدة منها عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (يجيء الرجل يوم القيامة وله من الحسنات كالسحاب الركام أو كالجبال الرواسي، فيقول:يا ربِّ أنّى لي هذا ولم أعملها ؟ فيقول:هذا علمك الذي علّمته الناس، يُعمل به من بعدك)(3).

وقد جُمع هذان المصدران للمعرفة في الحديث الشريف عن الإمام

الصادق عن ابيه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(جاء رجل إلى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال:يا رسول الله ما العلم؟ قال:الانصات، قال:ثم مه؟ قال:الاستماع له،

ص: 141


1- نهج البلاغة: 147.
2- كشف الغمة : ح2/ 197.
3- بحار الانوار: 2/ 18 ح44.

قال:ثم مه؟ قال:الحفظ له، قال:ثم مه؟ قال:العمل به، قال:ثم مه؟ قال:ثم نشره)(1).فهذه هي مراحل تحصيل العلم وازدياده:الإنصات للمعلومة والإصغاء اليها ووعيها ثم حفظها واستيعابها ثم العمل على طبقها وتحويلها الى الواقع ثم نشرها وتعليمها للآخرين.

في معنى قوله تعالى:(زِدْنِي):

ويظهر من كلمة {زِدْنِي} وتعقب هذه الفقرة لقوله تعالى {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} (طه:114) إن الحصول على هذا العلم تدريجي فكلما وصل الى مرتبة وحفظها وعمل بها أُعطيت له مرتبة جديدة فاذا حفظها وعمل بها أستحق الاعلى وهكذا {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (يوسف:76), وهذه نتيجة صحيحة إذ ان العلم لا يهجم دفعة واحدة من غير توفر القدرة على تحمله، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من زاد علمه على عقله كان وبالاً عليه), وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (كل علم لا يؤيده عقل مظلّةٌ)(2).

في معنى قوله تعالى:(علماً):

هذا بالنسبة لزيادة العلم، اما كلمة (علم) فنلاحظ فيها انها مطلقة فالزيادة مطلوبة في كل علم ولا تختص بالعلوم الشرعية، نعم لابد من تقييدها بالعلم النافع في الدنيا او الاخرة اي فيه صلاح الناس كما ورد في الدعاء النبوي

ص: 142


1- الفرقان : 19 / 91 عن الخصال.
2- غرر الحكم : 8601 , 6869.

المتقدم وعن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (خير العلوم ما اصلحك)(1) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(خَيرُ الْعِلْمِ ما أَصْلَحْتَ بِه رَشادَكَ وَ شَرُّهُ ما أَفْسَدْتَ بِه مَعادَكَ) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(رب علم أدّى الى مضلّتك)(2).لذلك نجد في حياة الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انه كما كان يدرّس العلوم والمعارف الدينية فانه كان يدرّس العلوم الطبيعية فتخرج على يديه جابر بن حيان في الكيمياء وله كتاب في الفسلجة يشرح فيه تشريح جسم الانسان ووظائف الاعضاء باسم توحيد المفضّل وتوجد روايات في الحساب والفلك وغيرهما.

ولأن العمر قصير لا يتيسر معه الاحاطة بكل العلوم فضلاً عن العمل بها لذا لابد من الاقتصار على الافضل والاحسن والاكثر صلاحاً عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (العلم أكثر من ان يُحصى، فخذ من كل شيء أحسنه)(3) وفي حديث عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (خذوا من كل علم أحسنه، فان النحل يأكل من كل زهرة أزينه، فيتولد منه جوهران نفيسان:احدهما فيه شفاء للناس، والاخر يستضاء به)(4).

وأنفس العلوم وأشرفها وأهمّها المعارف الدينية من العقائد والأخلاق والأحكام لأنها اكثر التصاقا بعلاقة الانسان بربّه ودينه وما يضمن له السعادة في دنياه واخرته، من وصية الامام علي لولده الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ورأيت ... ان ابتدأك

ص: 143


1- غرر الحكم : 4963/ 5023.
2- غرر الحكم : 5352.
3- ميزان الحكمة : 6/ 199 عن كنز الفوائد 2/ 31.
4- غرر الحكم : 5082-نهج البلاغة.

بتعليم كتاب الله عز وجل وتأويله، وشرائع الاسلام واحكامه، وحلاله وحرامه، لا اجاوز ذلك بك الى غيره)(1).

الدعوة الى أن تكونوا من حملة العلم:

في الكافي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (عليكم بالتفقّه في الدين، ولا تكونوا اعراباً فإنه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة ولم يزكِّ له عملاً) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (لوددت أن أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقّهوا)(2).

فإذا نال قسطاً وافراً من العلم بالمقدار الذي يستطيع به إرشاد الناس وهدايتهم كان من أهل الحديث الشريف عن الامام الجواد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من تكفّل بأيتام آل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) المنقطعين عن امامهم المتحيرين في جهلهم الأُسراء في أيدي شياطينهم وفي أيدي النواصب من أعدائنا فأستنقذهم منهم وأخرجهم من حيرتهم وقهر الشياطين برد وساوسهم وقهر الناصبين بحجج ربهم ودليل أئمتهم ليُفضَّلون عند الله تعالى على العباد بأفضل المواقع بأكثر من فضل السماء على الأرض والعرش والكرسي والحجب على السماء،وفضلهم على هذا العابد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء)(3).

هذا الخير الذي لا يضاهيه خير في هذه الدنيا طالما دعانا الله تعالى اليه في كتابه،

ص: 144


1- جواهر البحار: ج74/ كتاب الروضة / باب وصية أمير المؤمنين إلى الحسن بن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وإلى محمد بن الحنفية عن نهج البلاغة.
2- أصول الكافي/ ج1، كتاب فضل العلم، باب 1 ح7، 8.
3- بحار الانوار : 2/ 6 عن الاحتجاج وتفسير العسكري ع.

وحثّنا عليه الأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، وتبعاً لذلك فقد طالبنا كل ذوي العقول النيرة والهمة العالية والشعور بالمسؤولية أن يرتبوا أوضاعهم ويهيئوا المقدمات للالتحاق بالحوزات العلمية الدينية ويحظون بهذه المقامات العالية.وينبغي هنا الالتفات إلى حقيقة وهي أنه كلما أزداد اهتمام الله تعالى في كتابه والمعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بشيء فهذا يعني أن مدخليتهُ في التكامل والقرب من الله تعالى أقوى، والاهتمام بتحصيل العلوم والمعارف الدينية بلغت الذروة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأحاديث الائمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بحيث تجاوزت المئات في كل منهما، فلابد أن نفهم ونستوعب هذه الرسالة من الله تعالى ورسوله وأهل بيته الكرام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

ص: 145

القبس /97: سورة طه:124

اشارة

{وَنَحشُرُهُۥ يَومَ ٱلقِيَمَةِ أَعمَى}

موضوع القبس:الاعمى من لم يبصر طريق الهداية

عميت عين لا تراك:

من دعاء الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم عرفة وهو يناجي ربه بكل تذلّل وخضوع (عميت(1) عينٌ لا تراك عليها رقيباً وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيبا) وهاتان الفقرتان فضلاً عن بقية فقرات الدعاء تزوّدنا بقواعد في السلوك المعنوي إلى الله تبارك وتعالى، وتدلّنا على الجناحين اللذين نطير بهما في سماء الكمال ومعرفة الله تعالى وبلوغ رضوانه وهما المراقبة والحب، مراقبة الله تعالى في كل الأفعال والأقوال والمواقف، واحتواء القلب على محبة الله تعالى حتى يكون هذا الحب هو البوصلة الموجّهة لكل الحركات والسكنات، وبالحب والمراقبة تتحقق التقوى التي هي خير الزاد ليوم المعاد {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (البقرة:197).

فالشخص الذي يفعل ما يحلو له من دون إحساس وجداني بأن الله تعالى

ص: 146


1- العبارة تحتمل أن تكون إخباراً عن العين والصفقة بأنّهما تعمى وتخسر وقد تكون إنشاءاً بمعنى الطلب من الله تعالى أن يعمي العين ويخسر الصفقة وكلاهما وارد.

مطّلع عليه وأنه بمحضر رب العزة والجلال دائماً {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (غافر:19) {إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء} (آل عمران:5) {وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء} (إبراهيم:38) مثل هذا الشخص لا يبصر الحقيقة وهو أعمى البصيرة وإن كانت له عينان تبصران:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَ-ئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف:179) {وَنَحْشُ-رُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} (الإسراء:97).{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً ، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} (طه:124-126).

عقوبة الإعراض عن ذكر الله تعالى:

فمن يعرض عن ذكر الله تعالى ويهمل وظائف العبودية لربه تحصل له عقوبتان:

الأولى:المعيشة الضيقة النكدة المليئة بالقلق والخوف وعذاب الضمير ويزداد هذا الضيق قسوة عليه عند الموت وما بعده في القبر والبرزخ.

الثانية:يُحشر يوم القيامة أعمى لا يرى طريق السعادة والنجاة ورضوان الله

ص: 147

تعالى وإن كان يرى العذاب والألم والأهوال أي أنّ عماهُ ليس مطلقاً وإنّما عن خصوص ما ينجيه ويوصله إلى السعادة والفلاح أمّا العذاب والألم والمصير المشؤوم فإنّه يراه {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (ق:22) {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ} (الفرقان:22) {وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ} (يونس:54) (سبأ:33) {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ} (الشورى:44) {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ} (البقرة:166) لأنه كان هكذا في دار الدنيا، كان معرضاً عن الهداية والرشد ولا يرى طريق السعادة لكنّه كان يبصر الشهوات والهوى والدنيا فتجلّت حقيقته في الآخرة كما اختار هو في الدنيا {وَمَن كَانَ فِي هَ-ذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} (الإسراء:72) وبهذا نردّ على إشكال بعض متحذلقة الكلام بوجود تناقض في القرآن الكريم بين آيات الإبصار والرؤية وآيات العمى. ولأنّ هذا الشخص نسي ذكر ربه وأعرض عن آياته وأهملها فكان جزاؤه يوم القيامة أن يُنسى بمعنى يهمل ولا يلتفت إلى استغاثته وندائه واستصراخه كما يقول أحدنا لمن أهمله ولم يلتفت إليه إنك نسيتني، فقد جوزي إذن بنفس فعله {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} (الشورى:40) روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (ليس الأعمى من يعمى بصره، إنما الأعمى من تعمى بصيرته)(1) والثاني أشد من الأول روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (فقد البصر أهون من فقدان

ص: 148


1- كنز العمال: 1220.

البصيرة)(1).

هل أنت من أهل البصيرة؟

وتدلّنا الروايات على بعض علامات أهل البصيرة، كالمروي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أبصر الناس من أبصر عيوبه وأقلع عن ذنوبه)(2) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ألا إن أبصر الأبصار ما نفذ في الخير طرفُه)(3).

ومن موجبات النور في الدنيا والآخرة بحسب ما أفادت الروايات الشريفة:

1-تقوى الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الحديد:28).

2-الصلاة، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (الصلاة نور)(4).

3-تلاوة القرآن، عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (عليك بتلاوة القرآن، فإنه نور لك في الأرض، وذخرٌ لك في السماء) وعن الإمام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن هذا القرآن فيه مصابيح النور).

4-صلاة الليل، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(ما تركتُ صلاة الليل منذ سمعت قول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):صلاة الليل نور).

ص: 149


1- غرر الحكم: 6536.
2- غرر الحكم: 3061.
3- نهج البلاغة: الخطبة 105.
4- مصادر الروايات المذكورة في هذه النقاط في ميزان الحكمة: 9/ 177 وما بعدها.

5-ترك فضول الكلام وهو مادة أكثر أحاديث الناس في مجالسهم، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(أكثر صمتك يتوفر فكرك، ويستنر قلبك ويسلم من يديك).

6-تجنب ظلم الآخرين، والآخرون المقصودون بالظلم يمكن أن يكونوا الوالدين أو الزوجة أو الأولاد أو الجيران لتضييع حقوقهم أو عموم الناس عند عدم مراعاة الحق والعدل والإنصاف معهم، روي أن رجلاً قال لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):أحبُّ أن أحشرَ يوم القيامة في النور، قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(لا تظلم أحداً تُحشر يوم القيامة في النور).

7-أن تشهد بالحق للآخرين وتنصفهم، على أي مستوى من المستويات كما لو أريد منك الشهادة لأحد بالصلاح وحسن السيرة لتزويجه أو بحق مالي له أو أي حق اعتباري آخر عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (من شهد شهادة حق ليحيي بها حق امرئٍ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه نورٌ مدَّ البصر يعرفه الخلائق باسمه ونسبه).

8-الدعاء، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفه:لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، اللهم اجعل في سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي قلبي نوراً، اللهم اشرح لي صدري ويسّر لي أمري وأعوذ بك من وسواس الصدور وتشتت الأمور).

ص: 150

موجبات العمى:

أما ما يوجب العمى يوم القيامة هو كل إعراض وصدود عن شرع الله وحكمه وعدم العمل بكتاب الله وسنة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في كل شؤون الحياة مما أصبح مألوفاً اليوم في الأسواق ومعاملاتنا التجارية وفي السنائن العشائرية وفي العلاقات الاجتماعية وفي السياسة والحكم وإدارة مؤسسات الدولة وغيرها كثير.

ولكل شريحة في المجتمع امتحانها وابتلاؤها بآيات الله التي يلزم العمل بها فلرجل الدين والطبيب والمدرّس والمهندس والكاسب والزوجة والابن والوالدين وغيرها من العناوين له الآيات والأحاديث التي تخاطبه وتنطبق عليه قوله تعالى {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا} (طه:126) حيث بلغه تكليفه والمطلوب منه، عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(ومن قرأ القرآن ولم يعمل به حشره الله يوم القيامة أعمى فيقول:{رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً}(1).

وقد علّمنا هذا الحديث وكلمة الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) السابقة المدى الواسع لمن يمكن أن تشملهم الآية وأنّه لا أحد –حتى الملتزمين بأداء العبادات الدينية- بمنأى عن حشرهم عمياً إذا لم يكونوا مراقبين لله تعالى متّقين عاملين بشكل تفصيلي بآيات الله تعالى.

وهذا يفسّر لنا لماذا يطلب الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) منّا أن نشعر بأنّنا مشمولون بكل آية فيها تخويف وإنذار وتهديد وأنّها ليست مقتصرة على الكافرين والمشركين والمنافقين، ففي وصف سيرة الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنّه كان ((يكثر بالليل في فراشه من تلاوة القرآن فإذا مرّ بآية فيها ذكر جنة أو نار بكى وسأل الله الجنة وتعوّذَ من

ص: 151


1- ثواب الأعمال: 337 ح1.

النار))(1) وروي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله في صفة الذين يتلون حقّ تلاوته (ويرجون وعده ويخشون عذابه)(2) ونعود الآن إلى ذكر بعض الروايات التي شخّصت بعض موارد هذا الإهمال للأوامر الإلهية الموجب للعمى ومنها:1-عدم التمسّك بولاية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ، عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قول الله عز وجل {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} (طه:124) قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):يعني ولاية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وعن قوله تعالى {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}(طه:124) قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(يعني أعمى البصر في القيامة أعمى القلب في الدنيا عن ولاية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وهو متحيّر يوم القيامة يقول {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً ، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا} (طه:125-126) قال:الآيات الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) {فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} (طه:126) يعني تركتها، وكذلك اليوم تترك في النار كما تركت الأئمة فلم تطع أمرهم ولم تسمع قولهم)(3).

2-ترك الحج وهو مستطيع عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من مات وهو صحيح موسر ولم يحج فهو ممن قال الله عز وجل {وَنَحْشُ-رُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (طه:124)، قال أبو بصير:قلت:سبحان الله:أعمى قال:نعم إن الله عز وجل أعماه عن طريق الحق)(4).

ص: 152


1- عيون أخبار الرضا: 2/ 182 ح5.
2- تنبيه الخواطر: 2/ 236.
3- الكافي: 1/ 361 ح92.
4- الكافي: 4/ 269 ح6.

القبس /98: سورة الأنبياء:90

اشارة

{إِنَّهُم كَانُواْ يُسَرِعُونَ فِي ٱلخَيرَتِ}

موضوع القبس:المسارعة الى الخير

واجعل الحياة زيادة لي في كل خير:

الأدعية الشريفة مدرسة ننهل منها المعارف الحقيقية والدروس التي تنظم حياتنا وتصلح نفوسنا، وليست هي فقط نصوصاً مباركة نقرأها لطلب الثواب الجزيل المرصود لها وإن كان هذا بحد ذاته غرضاً نبيلاً يستحق التعب.

وقد استمعنا الآن بعد صلاة الظهرين دعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الخاص بهذا اليوم الثلاثاء، وكل فقرة منه هي مدرسة كقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (واجعل الحياة زيادة لي في كل خير) (1) ولكي يستجاب هذا الدعاء لابد من عمل الفرد وقبول واستجابة من الله تعالى، ولا يكفي مجرد تحريك اللسان بالكلمات، كمن يدعو بالرزق مثلاً من دون سعي لطلبه، أو يطلب الولد الصالح وهو لا يسعى لاختيار الزوجة الصالحة وهكذا، وإن كان الله تعالى يُنعم على العباد تفضّلاً وابتداءاً من غير استحقاق.

من استوى يوماه:

فيعلمنا الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الدعاء أن نجعل بتوفيق الله تعالى وكرمه ورحمته

ص: 153


1- مفاتيح الجنان: 52

حياتنا كلها خيراً وعطاءاً ونفعاً للنفس وللأهل وللآخرين، وفي زيادة مستمرة من التزود والخير من دون توقف الذي يعني هدر رأس المال الذي منحنا إياه وهو العمر وسائر النعم الإلهية من دون استثمار، فضلاً عن الرجوع إلى الوراء والخسارة باجتراح السيئات والعياذ بالله، ويبيّن الحديث الشريف هذه الحالات الثلاث (عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه خيرهما فهو مغبوط ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون، ومن لم ير الزيادة في نفسه فهو إلى النقصان. ومن كان إلى النقصان فالموت خير له من الحياة)(1). وهذا الطلب أدب قرآني أدّب الله تعالى به نبيه الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال تعالى {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طه:114) والعلم المراد هو العلم النافع الذي يقترن مع العمل الصالح وفعل الخير وإلاّ فإنه لا قيمة له.

معنى الخير:

والخير الذي يدعو بالزيادة منه هو كل عمل صالح فلا يقتصر على العبادات المعروفة كالصلاة والصوم وقراءة القرآن وزيارة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وإن كانت هذه من أصول الخير، بل له معنى واسع فالبرّ بالوالدين والإحسان إليهم من أعظم الخير، ومساعدة الآخرين كذلك، والجلوس مع العائلة والتلطّف معهم والتودّد إليهم ومتابعة شؤونهم من الخير، وكسب الرزق الحلال من الخير ففيه التوسعة على الأهل والتصدق في سبيل الله وإغناء النفس عما في أيدي الناس وإخراج الخمس من الفائض عن المؤونة في نهاية السنة وهذا كله من الخير، والزواج خير

ص: 154


1- معاني الاخبار: ص 342 باب معنى المغبون.

والإنجاب خير بل من أعظم الخير، ذهابك إلى المسجد والمشاركة في صلاة الجماعة والجمعة وحضورك في الشعائر والفعاليات خير، تفقّهك في الدين وتعلّمك مسائل الحلال والحرام لتصحيح سلوكك خير، اجتماعك هذا مع إخوانك وتبادلكم الأحاديث النافعة في دنياكم وآخرتكم خير يحبّه الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ويترحم على فاعله، روي أن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال للفضيل بن يسار (يا فضيل؛ أتجلسون وتتحدثون؟ قال:نعم جُعلت فداك، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):إني أحبّ تلك المجالس، فأحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم الله من أحيا أمرنا)(1).

كيف نحوّل الحياة كلها الى خير؟

وهكذا تستطيع أن تحوّل حياتك كلها إلى مصنع لإنتاج عمل الخير قال تعالى {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} (المؤمنون:61) وقال تعالى {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} (المائدة:48) حتى الأفعال الاعتيادية كتناول الطعام يكون خيراً لأن فيه حفظ الصحة والتقوّي على طاعة الله والقيام بأعمال الخير، والنوم المقتصد يكون خيراً لأن فيه راحة واستجماماً وتجديد النشاط للاستمرار في الاستزادة من الخير بل يكون النوم شكلاً من أشكال العبادة بحسب ما أفاد الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (من تطهّر ثم أوى إلى فراشه بات وفراشه كمسجده)(2)، قد يقول البعض إننا لا نستطيع أن نكون بهذه الفاعلية دائماً لأن غير المعصوم تعتريه الغفلة والنسيان والضعف فيحصل تراجع ولا يمكن أن يكون دائماً في حالة زيادة من الخير، وهذا التساؤل موجود، لكن الله تعالى عالج هذا

ص: 155


1- بحار الأنوار: 44/ 278، 282.
2- وسائل الشيعة: 1/ 265 باب9 ح1.

القصور الذاتي بأكثر من علاج:1-أن ينوي الإنسان فعل الخير ويعزم عليه كلما تيسّر له، فهذه النية بحد ذاتها خير، وان الله تعالى بكرمه يعطي لصاحب النية الصادقة والعزم الأكيد ما يعطي للعامل كما في الحديث النبوي الشريف (نية المؤمن خير من عمله)(1) وإيجاد هذه النية وهذه الإرادة ليس صعباً على الإنسان فيحصّل بها ما يفوته من الأعمال.

2-إن الله تعالى تكفّل للإنسان الذي يستيقظ من غفلته ويعود إلى العمل الصالح وفعل الخير عند تذكره والالتفات إليه، أن يمحو كل ذلك التقصير والقصور ويثبّت بدلاً عنه حصيلة هذا الالتفات، قال تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّ-يِّئَاتِ} (هود:114) وقال تعالى {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} (الفرقان:70) أي ليس فقط يمحو السيئات بل يبدلها إلى حسنات في صحيفة الأعمال، ومن معاني هذا التبديل أن يجعل حياته ما قبل التغيير بمثل حياته بعد التغيير، فلو كان تاركاً لصلاة الليل أو لا يلتزم بأداء الصلاة في أوقاتها ثم قام بذلك فإنه يجعل حياته السابقة على هذه الصورة الجديدة، كالمدرّس الشفيق الرحيم الذي يقول لطلابه سأعيد لكم الامتحان فإذا جئتم بدرجات أفضل فإنني سأعتبر درجاتكم السيئة في الامتحان السابق على طبق هذه الدرجات الجيدة الجديدة، ولا شك أن الله أشفق على عباده وارحم به وهو أرحم الراحمين، وهو تعالى الذي جعل هذه الرحمة في قلوب عباده فكيف لا يكتبها على نفسه؟ فما على الإنسان إلا أن ينتبه من غفلته ويعود إلى منهج الزيادة من الخير.

ص: 156


1- الكافي: 2/ 84.

القبس /99: سورة الأنبياء:94

اشارة

{فَلَا كُفرَانَ لِسَعيِهِ}

موضوع القبس:النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مكفور النعمة

قال الله تبارك وتعالى {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} (الأنبياء:94) وتفسير الآية باختصار ان كل عمل يقوم به الانسان فيه رضا لله تعالى ونفع للخلق فإن الله تعالى يكتب ذلك العمل ويثبته لصاحبه بما لا نُحيط من أشكال الكتابة وأنواع الشهود لشكره عليه لأن الكفران هنا بمعنى الجحود والانكار وعدم الشكر، وأصل الكفر في اللغة سُتر الشيء، وكفر النعمة وكفرانها سترها بترك شكرها، فكفران السعي تغطيته وإهماله وعدم المجازاة عليه، ويقابله شكر العمل لذا عبّر تعالى عن نفس هذه الحقيقة في آية اخرى بقوله تعالى {وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} (الإنسان:22)، وقد ورد الشكر – كفعل وسلوك – مقابل الكفر في آيات عديدة كقوله تعالى {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم:7) وقال تعالى {لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (النمل:40).

ومعنى شكر العمل إثابة صاحبه عليه بالجزاء المناسب {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ

ص: 157

مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} (الكهف:30)، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} (الزلزلة:7) لكن هذه الآية وغيرها كالآية 112 من سورة طه الآتية تفيد أن قبول الاعمال مشروط بالإيمان بالله تعالى وسائر العقائد الحقة.وقد أطلقت الآية {مِنَ الصَّالِحَاتِ} لكي لا يقللّ الانسان من شأن أي طاعة فكل عمل صالح مهما ظن الانسان أنه لا قيمة له فأن الله تعالى سوف لا يكفره أي لا يهمله قال تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (التوبة:120) فليس من الضروري القيام بأعمال كبيرة حتى يكون مرضياً عند الله تعالى.

وما دام العمل مسجلاً عند الله تعالى ويُشكر عليه فلا يهمه (أولاً) إن كان له تأثير في المجتمع أو لا يكون لأن هذا شيء بيد الله وقد يأتي تأثيره بعد زمن أو ينضّم الى عمل غيره فيصنع التأثير، ولا يهمه (ثانياً) إن أطلع عليه أحد وعرف انه الفاعل أو لم يطلع لأن المهم انه بعين الله تعالى ومكتوب عنده تبارك وتعالى.

فاستحضار هذه المعاني يدفع الانسان الى العمل ويرفع الهمّة ويزيد من النشاط ويطرد الكسل والشعور بالإحباط.

فهذا تفسير مختصر للآية ككل أما غرضي هنا فهو الوقوف عند هذه الفقرة {فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} إذ المفروض ان إثابة المحسن على إحسانه وعدم اهمال العمل الصالح بلا مكافأة قضية فطرية ومن الضروريات {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا

ص: 158

الْإِحْسَانُ} (الرحمن:60) فلا تحتاج القضية الى بيان فلماذا يذكره الله تعالى؟والذي يزيد السؤال إلحاحاً ذكر هذه الحقيقة مراراً في القرآن الكريم بنفس التعبير – أي عدم الكفران – كقوله تعالى {وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ} (آل عمران:115) أو بتعبير أخر كقوله تعالى {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْماً وَلَا هَضْماً} (طه:112) أو التعبير بما يقابله وهو الشكر كقوله تعالى {وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} {الإنسان:22) وقوله تعالى {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} (الإسراء:19) {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة:62).

يمكن القول أن الغرض هو لبيان وتقرير بعض تفاصيل عقيدة الايمان بالمعاد واليوم الآخر والحساب ومجازاة الاحسان والإساءة وهذا ظاهر من كثير من الآيات، والذي أُريد أن أضيفه أن الغرض هو لتطمين المحسنين وعاملي الصالحات مما يرونه من الحالة المؤسفة الغالبة لدى البشر وهي التنكر للمنعم وكفران النعمة على عكس ما هو المطلوب منهم الى حد احتاج عدم كفران الاحسان والعمل الصالح الى بيان وتبديد مخاوف حيث أصبح المعروف منكرا والمنكر معروفاً.

وأول مكفور النعمة هو الله تبارك وتعالى قال سبحانه {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف:17) وقال تعالى {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً} (الإسراء:89) وقال تعالى {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (سبأ:13) حتى اصبح

ص: 159

كفران النعمة صفة ملازمة لسلوك البشر إلا من عصم الله قال تعالى {فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ} (الشورى:48) والكفور هو المبالغ في كفران النعمة، وقد أكدّ الله تعالى هذه الحقيقة في آية أخرى باستعمال {إِنَّ} وإدخال اللام قال تعالى {إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ} (الزخرف:15) مما أوجب حالة التأسف والاستغراب قال تعالى {قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} (عبس:17) على خلاف الادب النبوي المبارك، روى السيد ابن طاووس في الاقبال كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول - إذا أكل بعض اللقمة قبل تمامها - (اللهمَّ لك الحمد أطعمت وأسقيت وروَّيت، فلك الحمد غير مكفور ولا مودّع ولا مستغنىً عنك)(1).ولرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أسوة بربه في كونه مكفور النعمة ومجحودها وهو أعظم النعم الإلهية على المخلوقات وقد قرن الله تعالى إنعامه بإنعام نبّيه تعظيماً له وتكريماً قال تعالى {إِلاَّ أَنْ أغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ} (التوبة:74) وقال تعالى {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} (الأحزاب:37) ولأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أسوة برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وكذلك اتباعهم من المؤمنين، روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(كان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مكفرا لا يشكر معروفه، ولقد كان معروفه على القرشي والعربي والعجمي، ومن كان أعظم معروفا من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على هذا الخلق وكذلك نحن أهل البيت مكفرون لا يشكر معروفنا وكذلك خيار المؤمنين لا يشكر معروفهم)(2) وهي حقيقة مرة تكشف عن بعض صور

ص: 160


1- إقبال الأعمال للسيد ابن طاووس الحسني: 116 س 24، وروي في كتب العامة مثله.
2- بحار الانوار: 75 / 42 ح3 عن علل الشرائع: 560 باب 353 ح2.

الانحطاط في الاخلاق والسلوك البشري.ومظاهر كفر البشر نعمة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عديدة:-

(فمنهم) من لم يؤمن برسالته أصلاً وهم أكثرُ الناس قال تعالى {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف:103).

(ومنهم) من آمن ظاهراً بالرسالة إلا انه بعيد كل البعد عن مضمونها كالفاسقين والمنافقين ووصلت الجرأة بهم الى أن يقولوا له في وجهه الكريم وهو في اللحظات الأخيرة من حياته (ان الرجل ليهجر).

(ومنهم) من تنكر له في عترته ونصب لهم العداء حسداً وظلماً فأرتكبوا أعظم الكبائر حتى قتلوا أهل بيته وذريته وهم يشهدون ظاهراً لله تعالى بالتوحيد والى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالرسالة.

(ومنهم) ظاهره التدين والالتزام بالعبادات الفردية إلا انه يُقصي شريعة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن الحياة ويمنع من تطبيقها ويدعو الى تحكيم القوانين الوضعية بعنوان (الحكومة المدنية) وهل توجد مدنية وحضارة حقيقية بغير الإسلام والقرآن والسيرة النبوية المباركة.

(ومنهم) من يريد التخلي عن سنته الشريفة التي هي بيان كتاب الله تعالى تحت عنوان الحداثة والتجديد وإعادة قراءة النصوص الشرعية بما يناسب الثقافة المعاصرة وتمادى بعضهم فأسقط قدسية كلام المعصوم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ونحو ذلك.

وبالأمس القريب حينما نجح بعض الإخوة في إقرار قانون بمنع تجارة الخمور وبيعها لم نجد مدافعاً عنه من الإسلاميين ومرجعياتهم إلا النادر فيبخلون على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى بهذه النصرة الضئيلة، أليس هذا من كفر النعمة؟!

ص: 161

وهكذا تجد صدق ما وصف به أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من أنه مكفر لا يُشكر معروفه حتى من المنتسبين اليه، فعلينا ان ننتبه لأنفسنا ونكون من الشاكرين لنعمة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأهل بيته الطاهرين (صلى الله عليهم اجمعين) بشكرهم والثناء عليهم والصلاة عليهم ونشر ذكرهم المبارك والدعوة اليهم وإتباع أقوالهم وأفعالهم.ان خطورة هذا السلوك – كفران النعمة – لا يقتصر على العقوبة الوخيمة لصاحبه وقد أشرنا الى جانب من هذا الحديث في تفسير قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ}(1) (إبراهيم:28-29) حتى ورد في الحديث الشريف عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(أربعة أسرع شيء عقوبة رجل أحسنت اليه ويكافيك بالإحسان اليه إساءة)(2).

بل يكون له أثر اجتماعي وهو ما يعبر عنه بقطع سبيل المعروف، روي عن الامام الصادق قال:(لعن الله قاطعي سبيل المعروف، قيل:وما قاطعو سبيل المعروف؟ قال:الرجل يصنع إليه المعروف فيكفره فيمتنع صاحبه من أن يصنع ذلك إلى غيره)(3).

وإن كان المفروض بالإنسان أن لا يمنعه عدم شكر إحسانه على تقديم

ص: 162


1- راجع: القبس/73, {الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً} (إبراهيم:28), من نور القرآن: 2/ 331
2- بحار الانوار: 75/ 42 عن الخصال 1/ 230 باب الأربعة ح 71.
3- وسائل الشيعة ج 16, باب 8 من أبواب فعل المعروف حديث 1.

المزيد من عمل الخير طلباً لرضا الله تعالى وقد طمأنته الأحاديث الشريفة على حسن جزائه عند الله تعالى، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(أفضل الناس عند الله منزلة وأقربهم من الله وسيلة المحسن يكفّر احسانه)(1) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(يد الله فوق رؤوس المكفّرين ترفرف بالرحمة)(2) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لاَ يُزَهِّدَنَّكَ فِي الْمَعْرُوفِ مَنْ لاَ يَشْكُرُهُ لَكَ، فَقَدْ يَشْكُرُكَ عَلَيْهِ مَنْ لاَ يَسْتَمْتِعُ بِشَيْء مِنْهُ، وَقَدْ تُدْرِكُ مِنْ شُكْرِ الشَّاكِرِ أَكْثَرَ مِمَّا أَضَاعَ الْكَافِرُ،{وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}) (3).وقد فسّرت بعض الأحاديث معنى ان المؤمن مكفَّر النعمة، فقد روى الشيخ الصدوق في علل الشرائع عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(الْمُؤْمِنُ مُكَفَّرٌ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْرُوفَهُ يَصْعَدُ إِلَى الله عز وجل فَلا يُنْشَرُ فِي النَّاسِ، وَالْكَافِرُ مَشْهور وذلك ان معروفه للناس ينتشر في الناس ولا يصعد الى السماء)(4) .

أقول: مُكَفَّر على وزن مُعظَّم وهو مجحود النعمة مع إحسانه، وذلك إما لأنه يصنعه لدى الفقراء والضعفاء المحتاجين وهؤلاء ليس لهم جاه اجتماعي وكلام مسموع حتى ينتشر ذكره بينما الكافر والمنافق يجعل معروفه في المشاهير والمتصدرين ووسائل الاعلام (والملأ) بحسب التعبير القرآني فيروجون لمن أحسن إليهم.

(أو) لأن المؤمن يصنع معروفه خفية من دون رياء أو شهرة فلا يُعرف،

ص: 163


1- بحار الانوار: 75/ 44 عن نوادر الراوندي:9.
2- علل الشرائع: 2/ 56 الباب 353 ح2.
3- نهج البلاغة: الحكمة 204.
4- بحار الانوار: 76/ 260 عن علل الشرائع: 2/ 560 باب 353 ح1.

والكافر يصنعه علانية لان غاية ما يطلب هو الرياء والسمعة بين الناس فتتحقق له.(أو) ان الله تعالى يريد حماية المؤمن من الرياء وحبط العمل فلا ينشره وتكفر نعمته ليزيد من ثوابه في الآخرة بينما المنافق والكافر لا خلاق لهما في الآخرة فيأخذون جزاءهم في الدنيا.

وذكر ابن الأثير معنى آخر لقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (المؤمن مكفَّر) قال:(أي مرزأ في نفسه وماله لتكفر خطاياه)(1) وهو معنى صحيح في نفسه ودلت عليه روايات اخرى إلا انه لا يناسب أحاديث المقام وربما أورده ابن الأثير لأنه لم ينظر في بقية الحديث.

ص: 164


1- النهاية: 4/ 189.

القبس /100: سورة الحج:5

اشارة

{وَتَرَى ٱلأَرضَ هَامِدَة فَإِذَا أَنزَلنَا عَلَيهَا ٱلمَاءَ ٱهتَزَّت وَرَبَت}

موضوع القبس:إنبعاث الحياة المعنوية

قال الله تبارك وتعالى:{وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (الحج:5)

صورة طبيعية محسوسة للإنسان تكرّر ذكرها في القرآن الكريم، وهي واحدة من الآيات الإلهية الدالة على قدرة الله تعالى ككثير من الآيات الأخرى التي لا تعدّ ولا تحصى، ولكن عامة الناس يغفلون عنها ولا تمثّل لهم شيئاً ملفتاً للنظر او ابداعاً يحفزهم على التأمل والتفكير بسبب طول الفتهم معها وتكرّرها عليهم في حياتهم، والشيء اذا أصبح مألوفاً فقد بريق اعجازه وابهاره لدى عامة الناس الا من اعطاه الله البصيرة والفهم.

وهذه واحدة من تلك الآيات حيث ترى الأرض قاحلة جرداء لا حياة على ظاهرها فينزل الله تعالى عليها الماء فتتحرك فيها الحياة وتنبت انواعاً من الأشجار والنباتات المختلفة في الاشكال والاثمار والفوائد، فمن الذي وهبها الحياة وهيأها لهذا العطاء غير الله تعالى.

ومثلها قوله تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْ-رِجُ

بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِ-رُونَ} (السجدة:27)

ص: 165

والجرز:الأرض التي لا نبات فيها من الأصل(1)، وغيرها من الآيات التي سنذكر بعضها وهي تركز على هذا المشهد لانه محسوس ومدرك بالوجدان ولا يصعب على المتلقي فهمه، وينتقل ذهنه بسهولة الى الغرض من التذكير بهذه الآية الإلهية لأخذ الدروس والعبر، كما تضرب الأمثال لتوضيح مقصود المتكلم، قال تعالى {وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (إبراهيم:25) وقال تعالى {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (العنكبوت:43) وقال تعالى {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر:21).وسيق هذا المشهد الطبيعي مثالاً لإيصال اكثر من معنى ظاهري وباطني.

الأول:معنى ظاهري مصرّح به في الآيات القرآنية وهو جواب الكفار والملحدين والمنكرين للمعاد الذين يرفضون الايمان ببعث الانسان من قبره وتعرضه للحساب على اعماله ويعتبرون ذلك مستحيلاً، وقد حكى القران الكريم جملة من تشكيكاتهم، قال تعالى {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (يس:78-79) وقال تعالى {وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً ، أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} (مريم:66-67)

ويصورون للعامة ان ما يذكره الأنبياء أوهام وخرافات فيحرضون الغوغاء ضدّهم قال تعالى حاكياً مقالتهم {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ، إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا

ص: 166


1- أنظر: تاج العروس- الزبيدي: 8/ 23

نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ، إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} (المؤمنون:35- 38) .بمثل هذا الصخب والتضليل واجهوا دعوات الأنبياء (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فيأتي الله تعالى بهذا المثال لتقريب الجواب والقاء الحجة عليهم ضمن عدة حجج لاثبات المعاد ولم تقتصر على هذه في حوار عقائدي طويل استغرق آيات كثيرة خصوصاً في القرآن المكي، قال تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (فصلت:39).

وقال تعالى {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} (فاطر:9)

وقال تعالى {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الروم:50)

وقال تعالى {فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الأعراف:57)

وفحوى هذه الحجة:انه اذا جاز احياء الأرض الميته بإخراج النبات منها بعد سقيها الماء، جاز احياء الأجساد الميتة بقدرة الله تعالى، لان حكم الامثال في ما يجوز وما لا يجوز واحد فكما الأرض الميتة توضع فيها النواة او البذرة التي فيها حقيقة النبات وشفرته الحياتية، وتسقى بماء انزله الله تعالى من السماء، كذلك الابدان الميتة المتأكلة يرسل اليها حقيقة الحياة المتمثلة بالروح ويسقيها بماء

ص: 167

الرحمة واللطف والعدالة ليعيد اليها الحياة.وفي كلتا الحالتين فان البدن مادة مضافة لأصل الحقيقة ومهما بليت وتلا شت فأنه يمكن تجميعها وإعادة تشكيلها، كما لو بردت قطعة من الحديد وتحولّت الى ذرات متناثرة فانه من السهل تجميعها من جديد بواسطة قطعة مغناطيس فلماذا يستكثرون ذلك على الخالق العظيم، لهذا كان الرد في بعض الآيات بسيطاً وواضحاً ومخجلاً للمنكر كقوله تعالى فيما نقلناه من سورة يس آنفا (وَنَس-ِيَ خَلْقَهُ) فهو لم يكن الا كروموسومات في حيمن وبيضة الوالدين واكتسب مادة من غيره ليصبح هذا المخلوق العظيم.

ويلاحظ أن نسبة الحياة الى الأرض مجازاً والا فانها تنسب الى النبات حقيقة كقولنا جرى الميزاب ونعني الماء النازل منه بعلاقة الحالّ والمحل.

على ان احياء الأموات وبعثهم من القبور اقوى ملاكاً واشد حاجة لإقامة العدل ومكافأة المحسن ومعاقبة المسيء وإنصاف المظلوم من الظالم وإعادة الحقوق الى أهلها، اما تزيين الأرض بأنواع النباتات فانه فضل وكرم وإحسان من الله تعالى.

الثاني:معنى خفي يلتفت اليه أهل المعرفة وهو ضرب المثال للنفس الامارة بالسوء التي غلبت عليها الذنوب، وللقلب الذي أماتته الشهوات وران عليه صدأ الغفلة والمعاصي {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين:14) فانها كالإرض الميتة القاحلة الجرداء ومن كلام لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ومن قلّ

ص: 168

ورعه مات قلبه)(1) وفي دعاء للإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وأمات قلبي عظيم جنايتي)(2) ، فاذا سقاها الله تعالى بنور المعرفة والبصيرة وامطر عليها ماء الرحمة واللطف انبعثت فيها حياة الايمان وانجذبت الى عالم المعنى واستيقظت من غفلتها {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} فتدفقت منها الآثار الصالحة على الجوارح وشملت بركاتها الآخرين.ورمزية الأرض للنفس والماء للمعرفة تشبيه معروف لدى أهل المعنى، ولذا حملنا في بعض خطاباتنا(3) مضمون الخبر الشريف عن عصر الظهور بأن (الأرض تخرج كنوزها وانها ليست من الذهب أو الفضة)(4) على هذا المعنى أي ان النفوس تطهر وتزكو حتى تبرز معادنها العلوية الأصيلة.

وهذه الرمزية لها شواهدها في القران الكريم كقوله تعالى {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} (عبس:24) حيث فسّرتها الروايات بالعلم والمعرفة ممن

ص: 169


1- نهج البلاغة: من قصار الكلمات، رقم 349.
2- مناجاة التائبين, مفاتيح الجنان: 166
3- خطاب المرحلة: 7/ 290 بعنوان (كونوا من الكنوز التي يكشف عنها الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).
4- بحار الانوار ج52/ح 83/ ص 344 (قال الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): إذا قام القائم حكم بالعدل وارتفع في أيامه الجور ، وأمنت به السبل ، وأخرجت الارض بركاتها ، ورد كل حق إلى أهله ، ولم يبق أهل دين حتى يظهروا الاسلام ، ويعترفوا بالايمان ، أما سمعت الله سبحانه يقول : {أَفَغَيرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبغُونَ وَلَهُۥ أَسلَمَ مَن فِي ٱلسَّمَوَتِ وَٱلأَرضِ طَوعا وَكَرها وَإِلَيهِ يُرجَعُون} (آل عمران:83) وحكم بين الناس بحكم داود ، وحكم محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فحينئذ تظهر الارض كنوزها وتبدي بركاتها ، ولا يجد الرجل منكم يومئذ موضعا لصدقته ولا لبره ، لشمول الغنى جميع المؤمنين).

يأخذها(1) وهكذا بقية الآيات.وهذا المعنى واضح الانطباق على المثل المذكور فعندما تقرأ قصة توبة بشر الحافي على يد الامام موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تستحضر هذه الصورة القرآنية بوضوح حيث تجد قلب بشر ونفسه كأرض قاحلة خالية من الحياة المعنوية لانها مهملة متروكة فعبثت بها العاديات فانغمس صاحبها في المعاصي والملاهي والفجور، ولكن الغارس الماهر عرف انها أرض صالحة للزراعة وانبعاث الحياة فيها، فلما وضع البذرة الطيبة فيها بقوله(لو كان سيدكِ عبداً لاستحيا من مولاه) وسقاها بألطافه المعنوية دبّت الحياة في تلك الأرض الهامدة وانقلب بشر اللاهي العابث العاكف على المعاصي المغتّر بالدنيا الميّت معنوياً الى بشر ((العارف الزاهد))(2) في هذه الدنيا الزائفة.

وعلى العكس من هذا فان قلب البعض يكون {كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} (البقرة:74) فلا ينبت فيها زرع، بحيث ان نفس الآيات المباركات تنزل على الأول فيّزداد ايماناً وتسليماً وتنزل على الثاني فيزداد عتّواً واستكباراً {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً} (الإسراء:82).

وضرب الله تعالى لهذين بنفس مثال الارض فوصف الاول {كَمَثَلِ جَنَّةٍ

ص: 170


1- راجع الروايات في تفسير البرهان: 10/ 107.
2- الكنى والالقاب للشيخ عباس القمي:2/ 166 ونقل عن روضات الجنان سبب توفيقه للتوبة وعن العلامة (قده) في منهاج الكرامة قصة توبته على يد الامام موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)

بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (البقرة:265) اما الثاني {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (البقرة:264) والصفوان:الحجر الاملس، والوابل:المطر عظيم القطر، والطل:المطر صغير القطر، والجنة:البستان، والربوة:المكان المرتفع يكون شجره انضر وثمره اكثر. هذه الانبعاثة للحياة المعنوية هي وظيفتنا في عصر الانتظار والترقب بأن نجعل أنفسنا ارضاً صالحة للحياة عندما تتلقى النبتة الطيبة وينزل الله تعالى عليها ماء الرحمة، فاذا تحققت فانها الفرج الحقيقي وانفتاح القلب والنفس على الامام المهدي الموعود صلوات الله وسلامه عليه، فكما ان الأرض لها ربيع تهتز فيه وتربو كذلك القلوب، من كلام لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وتعلموا القرآن فأنه أحسن الحديث، وتفقّهوا فيه فأنه ربيع القلوب)(1) ومن كلام له (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وانما ذلك -- أي الموت والحياة -- بمنزلة الحكمة التي هي حياة للقلب الميت وبصر للعين العمياء)(2).

وبين أيدينا شهر رمضان وهو من أعظم المناسبات لإحياء القلوب وإزالة ما ران عليها بسبب الغفلة والمعاصي وهو الربيع الذي تزدهر فيه الحياة لكل الاعمال الصالحة، وقد منَّ الله تعالى به على عباده ليتعرضوا فيه الى موجبات رحمته ونفحاته القدسية.

ص: 171


1- نهج البلاغة، خطبة 110
2- نهج البلاغة، خطبة 133

وللكلام تفصيل في أسباب موت القلوب وحياتها نسأل الله تعالى التوفيق لبيانها.

ص: 172

القبس /101: سورة الحج:11

اشارة

{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعبُدُ ٱللَّهَ عَلَى حَرف ۖ}

موضوع القبس:عدم الثبات على الحق

قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (الحج:11).

تصف الآية صنفاً من الناس موجودا في كل زمان ، ظاهره متديّن يتكلّم بالدين ويمارس المظاهر الدينية لقوله تعالى في وصف هذا الصنف انه {يَعْبُدُ اللَّهَ} لكن تدينه قلق غير مستند إلى قاعدة متينة وانما هو كالواقف على حافة الهاوية ويمكن ان يسقط فيها في أي لحظة لأنه ينظر الى الدين من زاوية واحدة ويتعامل معه بمقياس واحد هو مقياس مصالحه والفوائد التي يجنيها من هذا الدين،{أفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاه} {الجاثية:23) وإن لم ينتفع منه تركه وتخلى عنه الى غيره حيث يظن وجود المصلحة والمنفعة.

{فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ} فإن حصل على نفع دنيوي من مال أو جاه أو منصب أو أي امتيازات يسعى اليها الناس في الدنيا رضي بهذا الدين واستمر عليه وهو في الحقيقة اطمئنان ورضا بمصالحه، {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} أي تعرض لصعوبات

ص: 173

الابتلاء والامتحان {انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} بأن يرجع الى حرفه الذي يعبد الله تعالى عليه والوجه الذي كان ينظر من خلاله الى طاعة الله تعالى ويترك هذا الدين وينبذه ويرفضه، ولم يقل تعالى (وإن أصابه شر) لأن ما أصابه قد يكون خيراً إما في العاجل أو الآجل من الدنيا أو الآخرة، ولكنه لنظرته الضيقة الى الامور ولأنانيته وعدم امتلاكه البصيرة والرؤية الصحيحة للامور اعتبر ما حصل شراً فانقلب على وجهه، وكأنه هو الذي يعرِّض الدين للاختبار، فإن جلب له المنفعة كان صدقاً وحقاً والا فلا.مثلاً انضم الى جماعة المتدينين للحصول على منصب أو مال أو وجاهة اجتماعية فلمّا لم يحصل عليها رفض الدين ، ولعل حرمانه من هذه الامور خير له، لانه لا ينجح في امتحانها، لكن مدى تفكيره محدود فكانت نتيجته {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}، لأنه حُرِمَ من الدنيا التي كان يسعى للحصول عليها فتنة من الله تعالى له وبقلقه واضطرابه وانفعاله وعدم استقرار حاله، وخسر الآخرة بتركه لسبب السعادة والفلاح وهو الدين.

وهذا الوصف لحاله في الدنيا سيتجسد على أرض الواقع والحقيقة في الاخرة حيث تبلى السرائر وتنكشف البواطن على حقيقتها وأشارت الروايات الى ذلك حين وصفت الصراط(1) بأنه أدق من الشعرة وأحدّ من السيف وإن من الناس من يعبره الى الجنة كالبرق الخاطف وآخر ركضاً وآخر زحفاً بحسب استحقاقاتهم وآخر يتمايل عليه ولا يستقر ثم يهوي منه في نار جهنم لان الصراط

ص: 174


1- أنظر: ميزان الحكمة- الريشهري: 2/ 1610

ممدود عليها، فهذا الصنف الاخير هو من كان في الدنيا قلقاً في تدينه غير مستقر.وينقلب عن الدين إذا اصيب بابتلاء وهذا معنى سقوطه في جهنم.

روى في الدر المنثور عن أبي سعيد قال (أسلم رجل من اليهود فذهب ببصره وماله وولده فتشاءم بالاسلام فأتى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال:أقلني. فقال:إن الإسلام لا يقال، فقال:لم اصب في ديني هذا خيرا، ذهب بصري ومالي ومات ولدي، فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يا يهودي الاسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والذهب والفضة، ونزلت الآية)(1).

وقد وردت عدة روايات معتبرة في تفسير الآية في الكافي وغيره منها ما رواه زرارة عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(سألته عن قول الله عز وجل {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} قال:هم قوم وحدّوا الله وخلعوا عبادة من يُعْبَدْ من دون الله فخرجوا من الشرك، ولم يعرفوا أن محمداً (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) رسول الله فهم يعبدون الله على شكٍّ في محمدٍ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وما جاء به(2)، فأتوا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقالوا:ننظر فإن

ص: 175


1- الدر المنثور: 4/ 346.
2- وكان بعض هؤلاء من الصحابة المعدودين قريبين للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لكنهم كانوا يشككون في تصرفاته ويعترضون ويتمردون كما تنقل كتب الفريقين وفي آخر حياته قالوا (إن الرجل ليهجر) وهؤلاء كانوا مستعدين للانقلاب عن الدين والرجوع الى جاهليتهم كما أخبر عنهم الله تعالى {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (آل عمران : 144) فرأى امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ان الصبر على المظالم التي لحقت به أحجى وقد سجل ذلك كله في خطبه المأثورة. أنظر: صحيح البخاري: 6/ 9/ح4432, ط.

كثرت أموالنا وعوفينا في أنفسنا وأولادنا علمنا أنه صادق وأنه رسول الله، وإن كان غير ذلك نظرنا، قال الله عز وجل {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} يعني عافية في الدنيا {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} يعني بلاءً في نفسه وماله {انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} انقلب على شكّهِ الى الشرك {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ،يدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنفَعُهُ} قال:ينقلب مشركاً، يدعو غير الله ويعبد غيره، فمنهم من يعرف ويدخل الإيمان قلبه فيؤمن ويصدّق، ويزول عن منزلته من الشك الى الإيمان، ومنهم من يثبت على شكّه ومنهم من ينقلب الى الشرك)(1).فهؤلاء يقفون على الحافة - والحرف هو حد الشيء وحافته ومنتهاه دون أصله وحقيقته كما يقال حرف الجبل أي منتهاه وليس كل حد وجانب حرفاً حتى تكون له قابلية ربط الشيء بغيره كالحرف الهجائي فانه الحد الذي تنتهي اليه الكلمة ولا معنى له في نفسه لكنه يربط بين ما له معنى، ومنه التحريف أي الخروج عن المعنى الوسط المعتدل المعروف الى حافته المشتبهة – متزلزلين غير ثابتين لم يتمكن الدين من قلوبهم ونفوسهم، يسقطون في أول اختبار وامتحان فينقلبون على وجوههم.

وقد شخص الإمام الحسين (عليه السلام) هذه الظاهرة في حياة المجتمع

ص: 176


1- تفسير البرهان: 6/ 310 عن الكافي: 2/ 303 ح 1 ، 2.

فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(النّاسَ عَبِيدُ الدُّنْيا وَالدِّينُ لَعِقٌ عَلى ألسِنَتهم، يَحُوطُونَهُ ما دَرَّت مَعائِشُهُم، فَإذا مُحِّصُوا بِالبَلاءِ قَلَّ الدَّيّانُونَ). وهذه الظاهرة الاجتماعية في حياة الناس لا تختص بالكافرين أو المنافقين كما ربما يتصور، بل تشمل الذين يتظاهرون بالشكليات الدينية لكنهم في أخلاقهم وتعاملاتهم وسلوكهم وصفاتهم النفسية أبعد ما يكونون عن الدين، لقوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ} فهم يمارسون الطقوس الدينية لكنهم لا يعملون بحقيقتها، ولا أُريد أن استغرق ببيان النماذج لوضوحها لدى الناس خصوصاً من السياسيين الذين يتسترون بالعناوين الدينية، لكن همهم الاول والاخير دنياهم واهوائهم ومصالحهم وتراهم يُداهنون ويتنازلون عن المبادئ الدينية الثابتة إذا أضرت بمصالحهم، ومن أمثلة هؤلاء من يقلد مرجعاً دينياً والمفروض أنه قلده بحجة شرعية، فاذا اصطدم هذا التقليد مع مصلحة له أو وجد منفعة دنيوية أفضل عند غيره عدل اليه ولا يسال عن الحجة الشرعية في ذلك.

هذا سلوك غريب لأن المفروض أن تكون العقيدة هي الأصل وهي المسطرة الثابتة التي تقاس صحة الامور وبطلانها على أساسها فما وافقها - وإن اقترن بالمصاعب والبلاءات- فهو حق والا فهو باطل وإن جلب بعض المنافع الدنيوية، وليس العكس كما عليه هؤلاء من الاضطراب والتشتت، فهذا خلل كبير في الايمان الذي يدعيه هؤلاء وانحطاط في فهم الدين ولوازمه، لأن المؤمن الحقيقي لا يأخذ على إيمانه جزاءً دنيويا لأن دينه ليس سلعة قابلة للبيع والشراء وجلب المنافع، وإنما يبتغي بإيمانه والتزامه رضى الله تبارك وتعالى، ويعتبر التزامه بالدين توفيقاً من الله تعالى ولطفاً منه تبارك وتعالى ونعمة لا تجازى ويعجز عن

ص: 177

شكرها وبالدقة يرى الملتزم بالدين حقاً ان نفس استمراره وثباته على الدين وما يترشح عنه من اطمئنان وسعادة وسمو هو أفضل جزاء يعطيه الله تعالى له على التزامه بالدين.والأغرب من ذلك في سلوك هذا الصنف من الناس أنه حينما يتخلى عن

المبادئ الدينية والمنهج الالهي الذي لا يوجد أفضل منه فما هو البديل الذي يلتزم به {يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} (الحج:12-13) هذا هو الضلال المبين أن يتخذ من المخلوقات التي لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً سواء كانت أصناماً حجريةً أو بشريةً أو أهواء نفسية أو مصالح أو أعراف وتقاليد يتخذ منها المولى والعشير والقائد الذي يتبعه {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} الغارق في الضلال والبعيد عن العودة الى الطريق الصحيح.

ويروي التاريخ شواهد كثيرة لمثل هؤلاء كعبيد الله بن الحر الجعفي(1) الذي كان مواليا لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولما طلب الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) منه النصرة وهو في طريقه الى الكوفة امتنع وأهدى له سيفه وفرسه فرفضهما الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ثم ندم على خذلانه وصار قائداً في جيش المختار الثقفي ثم انشق عنه والتحق بمصعب بن الزبير وقاتل معه المختارَ حتى انتصروا ثم تمرد عليه بجمع من الجيش وغادر الكوفة.

ومثل شبث بن ربعي الذي كان في جيش أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في صفين

ص: 178


1- الإرشاد- الشيخ المفيد: 2/ 81

ثم سقط في فتنة الخوارج، وبعدها كان ممن كاتب الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) طالباً منه المجيء الى الكوفة لكنه انخدع بمناصب الولاة والتحق بجيش بن زياد لقتال الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وكان قائداً للمقاتلين المشاة (الرجّالة) يوم عاشوراء وقد ذكره الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) باسمه في احتجاجه على الجيش المعادي حين نادى:(يا شبث بن ربعي، ويا حجار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا لي أن أينعت الثمار واخضرّ الجناب، وإنما تقدم على جند لك مجندة)(1). ومما جرى من الحوارات يوم عاشوراء لما خطب الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واحتج عليهم بالكثير مما قاله رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ورواه أصحابه قاطعه الشمر قائلا عن نفسه:هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما تقول.

فقال له حبيب بن مظاهر:والله اني أراك تعبد الله على سبعين حرفاً وأنا أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول قد طبع الله على قلبك(2).

ولما كانت الامور تعرف بأضدادها، فمن ضد هذا الوصف وهذه الصورة نتعرف على ما يجب أن تكون عليه قيمة الدين في حياة الانسان فهو مستقر في قلبه ووجدانه، سعيد به ثابت عليه، يلجأ اليه في كل اموره، ويجعله قائداً له في حياته يستهدي به ويزن به الامور، فيفرّق به بين حقها وباطلها، وهذا الثبات والاستقرار في العقيدة تجسّد في أصحاب الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأهل بيته بحيث يفرحون ويستبشرون حينما يُعْلِمَهُمْ الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالقتل.

ص: 179


1- الارشاد- المفيد: فصل: خروج مسلم ابن عقيل (رحمه الله) بالكوفة يوم الثلاثاء.
2- مقتل الحسين- السيد المقرم: 279.

القبس /102: سورة الحج:29

اشارة

{ثُمَّ ليَقضُواْ تَفَثَهُم}

موضوع القبس:الولاية ثمرة الحج

قال أهل اللغة(1):إن التَفَث هو الدرن والأوساخ وقضاء التفث هو إزالتها من البدن في إشارة إلى حال الحجاج بسبب حركتهم الطويلة في المشاعر المقدسة والقيود التي فرضها الإحرام فاذا انتهوا من أداء مناسكهم أحلوا من احرامهم وازالوا ما علق بأبدانهم وقصّوا أظفارهم وازالوا شعورهم ونحو ذلك، ولعلهم أخذوا هذا المعنى من الروايات مع أنها قد تكون بصدد بيان بعض التطبيقات أو أي نحو آخر.

وقيل:أنها ليست كلمة عربية وأن أصلها عبراني بمعنى الإمساك والقبض وحينئذ يكون المراد بالتفث القيود التي تفرض على المحرم وهي التي نسميها (تروك الاحرام) وقضاؤها هو إتمامها على وجهها وإكمالها إلى حين الخروج منها، قال تعالى:{فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ} (البقرة:200) أي أتممتموها, وكذا في قوله:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ}(الجمعة:10) وقوله:{وَقُضِيَ الأَمْرُ} (البقرة:210) {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ} (القصص:29) وغير ذلك.

ص: 180


1- مفردات غريب القرآن- الأصفهاني: 73,- لسان العرب- ابن منظور: 2/ 120

ويمكن قبول كلا الاتجاهين من التفسير بأن يقال:ان في الآية كناية لأنها ذكرت اللازم -- وهو إزالة الاظفار والشعر والادهان والتعطر -- وهي تريد الملزوم وهو اكمال المناسك المطلوبة للإحلال من الاحرام وإباحة هذه الأفعال لهم، بأن يتمّوا ما ابتدأوا به من مناسك الحج ويحلوا من إحرامهم الذي التزموا به واوجبوه على أنفسهم ابتداءاً من الاحرام قبل الخروج إلى عرفة وما يتضمنه من تروك كثيرة تلبية لقوله تعالى {الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (البقرة:197) فالتَفَث يراد به الفعل المصدري أي إتمام الالتزام بما يقتضيه الاحرام وإنهاؤه على النحو المطلوب أو اسم المصدر بمعنى التحلل من الاحرام وإزالة ما عَلُق بهم بسببه خلال مدة المناسك. وقد اشارت الروايات إلى كلا المعنيين ، ففي صحيحة البزنطي في قرب الاسناد والكافي قال (سألت الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن الآية قال:تقليم الأظفار وطرح الوسخ عنك والخروج من الاحرام)(1) ومثلها عدة روايات، وبين التعبير عن عقد الاحرام بترك الرفث وعن الاحلال منه بقضاء التفث انسجام جميل وبلاغة رائعة.

فاذا أدى الحاج مناسك منى يوم العاشر من ذي الحجة فرمى جمرة العقبة الكبرى وذبح وحلق فقد أحلّ من احرامه وابيحت له سائر تروك الاحرام الا الطيب والنساء ويحلّ الأول بأداء طواف الحج والثاني بطواف النساء لذا عطفت الآية على قضاء التفث {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} (الحج:29) أي ليؤدوا ما ألتزموا به من

ص: 181


1- الكافي : 4/ 503/ح12.

تروك الاحكام ومناسك الحج {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (الحج:29) وهما طوافا الحج والنساء.هذا هو المعنى الظاهري الذي خُوطِب به جميع الناس ، وهناك معنى باطني للخواص من أهل المعرفة، ففي صحيحة ذريح المحاربي عن أبي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في هذه الآية قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (التفث لقاء الامام)(1) وفي معاني الأخبار روى عبد الله بن سنان عن ذريح المحاربي قال (قلت لأبي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):إن الله أمرني في كتابه فأحب أن اعمله، قال:وما ذاك؟ قلت:قول الله تعالى {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} (الحج:29) قال:{لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} لقاء الامام و {لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} تلك المناسك) قال عبدالله بن سنان فأتيت أبا عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقلت جعلت فداك قول الله عزوجل {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):أخذ الشارب وقص الأظافر، وما أشبه ذلك، قال:قلت:جُعِلت فداك فان ذَريحاً المحاربي حدثني عنك، أنك قلت {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} تلك المناسك؟ فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):صدق ذريح، وصدقتَ إن للقرآن ظاهراً وباطناً، ومن يحتمل ما يحتمل ذريح)(2).

وهذا التفسير منطبق تماماً مع علل الحج والمنافع المطلوبة منه والتي اشارت اليه الآية السابقة {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (الحج:28) والمنافع المعنوية أولى من المادية وهي التي تتحقق بلقاء امام الأمة وقائد حركتها المباركة والاستفادة منه في تلك الأجواء الروحية النقية البعيدة عن عواصم السلطة والسياسة الماكرة

ص: 182


1- من لا يحضره الفقيه: 2/ 290/ح1432.
2- معاني الأخبار: 340/ح10.

الخبيثة لينقوا أنفسهم من الادران والأمراض المعنوية ويستعدون لحياة جديدة نقية من رواسب الماضي كما وعدت به الأحاديث الشريفة.وفي رواية عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يبيّن فيها فوائد الحج والحكمة من تشريعه وجعل منها هذا اللقاء بالإمام للتفقه في الدين ونقل تعاليمه إلى الناس في اقطار الأرض، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إنما أمروا بالحج لعلة الوفادة إلى الله عزوجل وطلب الزيادة والخروج من كل ما اقترف العبد تائباً مما مضى مستأنفاً لما يستقبل) إلى ان قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (مع ما فيه من التفقه ونقل اخبار الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) إلى كل صُقع وناحية كما قال الله عزوجل {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة:122))(1).

لذا يعبّر الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن ألمه من عدم التفات أكثر الناس إلى هذه الحقيقة فقد روى في الكافي بسنده عن أبي عبيدة الحذّاء قال (سمعت أبا جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ورأى الناس بمكة وما يعملون - قال فقال:فعال كفعال الجاهلية أما والله ما أمروا بهذا وما أمروا إلا أن يقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم فيمروا بنا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرتهم)(2).

فالحج لا يكتمل معناه ويتحقق الغرض منه الا عندما يقترن بإظهار ولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) واستحضار معانيها والقيام بتكاليفنا تجاه المعصومين كالدعاء

ص: 183


1- وسائل الشيعة: 11/ 12.
2- الكافي: 1/ 323/ح2.

لهم ونشر مناقبهم وفضائلهم واهداء الأعمال لهم والدعوة إلى اتباعهم وغير ذلك، روي عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انه قال (تمام الحج لقاء الامام)(1).وينبغي للحاج أن يستحضر ولايته للمعصومين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في جميع مناسك الحج فيتذكر بالإحرام التجرد عن كل ما يعيق طاعة الامام والتواصل معه والعمل بأوامره، وبالوقوف الامتثال بين يدي الامام وبالسعي الحركة نحو الامام وبالذبح التضحية في سبيل نصرة الامام وإنجاح مشروعه الإلهي وبالرمي رفض كل الطواغيت والسلطات التي تنصب نفسها أئمة وقادة للناس بغير حق، فالإمامة نظام ومحور الطاعات الأخرى.

روى في الكافي بعدة طرق عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (بني الإسلام على خمس:على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية ولم ينادِ بشيء كما نودي بالولاية فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه - يعني الولاية-)(2).

وفي صحيحة زرارة أضاف (قلت:وأي شيء من ذلك أفضل؟ فقال:الولاية أفضل لأنها مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهن) وقال فيه (ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن الطاعة للإمام بعد معرفته) فالاسرار المعنوية للحج وسائر العبادات لا تدرك الا في ظل ولاية المعصوم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كما ان تحرير الانسان ونيل كرامته وحفظ استقامته لا تكون الا على يد الامام المعصوم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وبقيادته المباركة ومن بعده نوابّه بالحق.

ص: 184


1- وسائل الشيعة: 10/ 255/ أبواب المزار – باب2/ح12.
2- الكافي: 2/ 18- باب دعائم الإسلام/ح1-3-5.

إن قيمة الحج التي يكتسبها الانسان لا تتحقق كاملة بالحركة البدنية بين المشاعر المقدسة وإنما هي منوطة بمقدار معرفته للإمام وإتباعه له فقد تزيد وقد تنقص إلى حد الصفر، وعن مثل هؤلاء المفلسين يقول الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أترى هؤلاء الذين يلبّون، والله لأصواتهم أبغض إلى الله من أصوات الحمير)(1).ويعلل الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ذلك في صحيحة(2) الفضيل حينما نظر الى الناس يطوفون حول الكعبة قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (هكذا كانوا يطوفون في الجاهلية إنما أمروا أن يطوفوا بها ثم ينفروا ألينا فيعلمونا ولايتهم ومودتهم ويعرضوا علينا نصرتهم) ثم قرأ هذه الآية {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} (إبراهيم:37) وفي تفسير العياشي عند هذه الآية عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ينبغي للناس أن يحجوا هذا البيت ويعظموه لتعظيم الله إياه وأن يلقونا حيث كنّا نحن الادلاء على الله)(3).

وهذا الحج الشكلي الخالي من الغرض الحقيقي هو ما حصدوه من ابتعادهم عن الامام الحق، عن الفضيل عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية، ولا يعذر الناس حتى يعرفوا إمامهم)(4).

وان مكة تشرفت باحتضانها للمعصوم لذا أقسم بها مقيدة بوجوده {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ، وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} (البلد:1-2) ومن لطف الله تعالى بعباده حضور المعصوم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بنفسه في موسم الحج كل عام لتبقى الشعائر

ص: 185


1- وسائل الشيعة: 9 /57.
2- الكافي: 1/ 322/ح1.
3- تفسير العياشي: 2/ 333/ح39.
4- بحار الأنوار: ج23/ 89.

محتفظة بقيمتها المعنوية وليحظى الحجاج ببركات وجوده روي عن عبيد بن زرارة قال:سمعت أبا عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول:(يفقد الناس إمامهم فيشهدو الموسم فيراهم ولا يرونه)(1) وفي كتاب اكمال الدين بسنده عن السفير الثاني محمد بن عثمان العمري قال (سمعته يقول:والله إن صاحب هذا الأمر يحضر الموسم كل سنة فيرى الناس ويعرفهم، ويرونه ولا يعرفونه)(2).ولهذا يقف الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) امام الطاغية يزيد ويعلنها صريحة واضحة (أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا)(3).

أيّ انا صاحب هذه المشاهد المشرفة والوريث الحقيق لها والمولود الطبيعي للقائمين عليها من لدن إبراهيم الخليل إلى النبي الأكرم محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فأنا أولى بولاية أمور الأمة وسياسة شؤون العباد والبلاد.

ص: 186


1- كمال الدين وتمام النعمة- الشيخ الصدوق: 1/ 379/ح49
2- وسائل الشيعة: 11/ 135- أبواب وجوب الحج وشرائطه، باب46/ح8-9.
3- بحار الأنوار: 45/ 138.

القبس /103: سورة الحج:32

اشارة

{ذَلِكَ ۖ وَمَن يُعَظِّم شَعَئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى ٱلقُلُوبِ}

موضوع القبس:احياء الشعائر الدينية

نحاول فهم الآية ودلالتها وما نستفيده من دروس من خلال نقاط:

1- (شعائر) جمع (شعيرة) وقال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة(1):يُقال للواحدة (شَعارة) وهو أحسن من (شعيرة) وهي العلامة الدالة التي تُدرك ولكن بلطف ودقة، فشعائر الله كل ما دلّ على الله تعالى وكان علماً لطاعته والاشعار:الاعلام من طريق الحس، و(المشاعر) المعالم جمع (مشعر) وهي المواضع التي اشعرت بعلامات.

وتتضمن معنى الدقة واللطافة لذا سمي (الشَعَر) لدقته(2)، والشعور دقة الادراك، والشاعر لأنه يشعر بفطنته بما لا يفطن له غيره.

فهذه المناسك والشعائر والمشاعر رموز تعبّر عن التوجه الى الله تعالى وطاعته وتوصل الى التقوى التي هي الغاية من الشعائر فهذه الشعائر وسائر الاعمال لها قوالب شكلية وإنما تكتسب أهميتها من تحصيل حقائقها، لذا جعل تعظيم

ص: 187


1- معجم مقاييس اللغة- ابن فارس: 3/ 194
2- والشعار: هو الثوب الرقيق الذي يلي الجسد ويلامس الشعر ويقال في لغة العرب للقريب الملاصق للمودّة (أنت الشعار دون الدثار) أي اللباس الملاصق وليس الخارجي.

الشعائر من حركة القلوب وتكاملها وليست مقتصرة على حركات الجسد وأعضاء الجسم، فلينتبه الى هذه الحقيقة من يريد تعظيم الشعائر بصدق فالمنافقون والفاسقون قد يؤدون الشعائر الشكلية كما كانوا في زمان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يحضرون الصلاة في المسجد ويخرجون في الغزوات لكنها لا قيمة لها لأنها خالية من التقوى.وقد أمرنا الله تعالى باحترامها وتقديسها وحفظ حدودها، قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ} (المائدة:2) أي لا تنتقصوها ولا تنتهكوا حرمتها ولا تضيعوها، وما دام تعظيم الشعائر من تقوى القلوب، فأن من لم يعظم شعائر الله فانه من اهل القلوب القاسية التي لم تذق حلاوة التقوى.

2-وقد ورد تعظيم الشعائر مطلقاً في الآية ولم يُحدَّد بشكل معين فتشمل التعظيم بالمشاركة فيها والدعوة اليها والتعريف بحقيقتها أو المساهمة بالمال او التشجيع والدفاع عنها ضد من يشوهها ويخذَل الناس عن المشاركة فيها وينتقصها ونحو ذلك.

والتعظيم ليس له صيغة خاصة وانما هو لكل شعيرة بحسبها فقد يكون بالاهتمام بها واعطائها الأولوية في حياة الانسان، {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}

ص: 188

(التوبة:24)، وقد يكون بانتقاء افضل افرادها كما في قوله تعالى {لن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران:92).3-ولأن الشعيرة ما يدرك بدقة ولطافة فأن حقائق هذه الشعائر ومعانيها تخفى على غير الفطن الواعي الذي يهديه الله بلطفه فالحج الذي كله شعائر ومشاعر قال تعالى {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ} (الحج:36) وقال تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ} (البقرة:185) والآية محل البحث وردت في سياق مناسك الحج وقال تعالى {فإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} (البقرة:198).

تعرّض للتشكيك والاستهزاء والسخرية وكان بعض الزنادقة الملحدين يحضر موسم الحج(1) ويقول:الى متى تطوفون بهذه الأحجار لأنهم لم يدركوا المعاني الروحية فيها وحقائق هذه الأفعال التي تدعو الى التوحيد الخالص ونبذ الشركاء، وأنى لأحد أن يدركها إلا ان يكون من أصحاب القلوب التقية العارفة بحقائق هذه الأفعال، وهكذا الشعائر الحسينية تتعرض للتشكيك والانتقاص والازدراء لنفس السبب وغيره.

4-الضمير في قوله تعالى (فأنها) يمكن أن يعود الى الشعائر نفسها فأنها من التقوى، ويمكن أن يعود الى التعظيم وقد جمع ليكون مناسباً للشعائر

أي فأن هذه التعظيمات من تقوى القلوب.

5-ومن أهم الشعائر التي أمرنا بتعظيمها الاحكام الشرعية والقوانين الإلهية

ص: 189


1- أنظر: أصول الكافي- الشيخ الكليني: 1/ 74/ح2

في كل شؤون الحياة ومفاصل المجتمع فان الالتزام بهذه القوانين واقامتها بين الناس ودعوتهم اليها والدفاع عنها هو من تعظيم شعائر الله الذي هو من تقوى القلوب، وان من يقف في طريق إقرار هذه القوانين وأخذ الدين دوره في حياة الانسان والمجتمع تحت خديعة (الدولة المدنية) وامثالها هو ناقص الورع والتقوى.6-وتعظيم الشعائر الإلهية واجب على الجميع بالمقدار الذي يتحقق فيه المطلوب، الى درجة انه إذا تقاعس الجميع وجب على ولي الامر إجبارهم عليه ففي رواية صحيحة عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (لو أن الناس تركوا الحج لكان على الوالي ان يجبرهم على ذلك وعلى المقام عنده، ولو تركوا زيارة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لكان على الوالي ان يجبرهم على ذلك وعلى المقام عنده، فإن لم يكن لهم أموال انفق عليهم من بيت مال المسلمين)(1).

ومن زيارة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نتوسع الى زيارة الائمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وتعظيم مشاهدهم المشرّفة لانها سبب لتحصيل الألطاف

الإلهيّة مما لا يمكن تحصيله في أي موضع آخر.

وانقل لكم هذه الرواية التي تدل على مدى اهتمام الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بالشعائر والمشاعر الإلهية، وموضوع الرواية الحرم الحسيني المطهر ففي كتاب الكافي لثقة الإسلام الشيخ الكليني عن أبي هاشم الجعفري – وهو من أصحاب الائمة المخلصين ومن ذرية جعفر الطيار – قال:بعث أليَّ أبو الحسن الامام الهادي

ص: 190


1- وسائل الشيعة، كتاب الحج، أبواب وجوبه وشرائطه، باب 5ح2.

(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في مرضه فما زال يقول ابعثوا الى الحير- أي الحائر الحسيني – فقلت له:جعلت فداك أنا اذهب الى الحير فقال:أنظروا في ذاك – أي تدبروا الأمر جيداً واختاروا رجلاً مناسباً لأن المتوكل العباسي كان ينزل أشد العقوبات بزائري قبر الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- ، قال أبو هاشم فذكرت ذلك لعلي بن بلال فقال:ما كان يصنع في الحير وهو الحير – أي ان الامام الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هو الامام المعصوم الحجة من الله تعالى فما حاجته الى التوسل بقبر جده الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) - ، فقدمت العسكر- أي سامراء والامام فيها – فدخلت عليه فقال لي أجلس حين أردت القيام فلما رأيته أنس بي ذكرت له قول علي بن بلال فقال لي ألا قلت له – ان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان يطوف بالبيت ويقبّل الحجر، وحرمة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والمؤمن أعظم من حرمة البيت وأمرهُ الله عز وجل أن يقف بعرفة، وإنما هي مواطن يحب الله أن يذكر (وفي رواية: يتعبد) فيها فأنا أحبُ أن يُدعى لي حيث يحب الله أن يُدعى فيها)(1).ومن هذا الوجوب نستنتج انه علينا ان نراقب واقعنا بدقة فإذا وجدنا فريضة وشعيرة الهية معّطلة او تقاعس المجتمع في أدائها كصلاة الجمعة او الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، او إقامة القوانين الإلهية فعلينا المبادرة لإحيائها، وكذا اذا وجدنا احد المشاعر المقدسة مهجوراً فعلينا اعماره بالزيارة والدعاء والذكر كالتقصير الذي حصل في زيارة الامامين العسكريين بعد التفجير الاجرامي والفتنة الطائفية عام 2006 او الشعائر الفاطمية التي نهضتم لإحيائها منذ عام 2006-1427 وكذا الشعائر الزينبية التي وفقتم للمشاركة فيها.

ص: 191


1- بحار الانوار: 50/ 225 عن الكافي: 4/ 567-568 ح3.

7-ورد في الرواية أعلاه أن (حرمة المؤمن أعظم من حرمة البيت) فأذن من تعظيم الشعائر احترام المؤمنين وإكرامهم والتواضع لهم وقضاء حوائجهم خصوصاً إذا كانت له مزية اضافية ككونه احد الوالدين او من الارحام او الجيران او من وأهل العلم والفضل ونحو ذلك فلا تغفلوا عن هذا المعنى، ولا تخسروا هذه الفضيلة وتتنازعون بينكم من اجل المال او كلمة قيلت او أي سبب آخر للنزاع والتباغض والتباعد.

8-ان الشعائر أضيفت الى الله تعالى (شعائر الله)، فالشعائر والمشاعر لا تكون مقدسة وموصلة الى تقوى القلوب الا اذا كانت بحجة شرعية من الله تعالى وتقع ضمن الاطار الإلهي العام الذي رسمه المعصومون (سلام الله عليهم)، اما بعض الطقوس المبتدعة فقد تكون جائزة اذا لم تحرم بعنوان ثانوي كالأضرار بالبدن او تشويه سمعة المذهب، لكنها ليست مقدسة ولا راجحة لانها ليست من الله تعالى.

وكذا ظاهرة انتشار الكثير من القبور المنسوبة الى أولاد وبنات الائمة الطاهرين من دون وجود دليل يثبت صحة هذه النسبة فهي وهمية لا مستند لها وقد توضع اساطير وقصص خرافية او تحكى منامات لبعض العجائز كدليل على قدسية هذه القبور، وهي في الحقيقة ليست مشاعر مقدسة ولا يجوز زيارتها لأنها ليست من شعائر الله تعالى.

ص: 192

ملحق:إلى المشكّكين بجدوى الزيارات المليونية

يشكّك البعض بجدوى حضور الملايين في الزيارات، كعاشوراء والأربعينية ويناقش في صرف الأموال الطائلة لخدمة الزوار وتوفير احتياجاتهم، وينطلق بعض هؤلاء من التأثر بالأجندات الغربية التي لا تفقه الآثار المعنوية لهذه الحركة المباركة على الفرد والمجتمع.

فيجب أن نكون نحن على ثقة عالية بشريعتنا وشعائرنا التي باركها الشارع المقدّس، فنجيب على هؤلاء بمستويين من الجواب، يُسمى الأول في مصطلح الحوزة العلمية بالجواب النقضي، أي الرد على الإشكال بإشكال مثله من واقعهم وممارساتهم، ويُسمّى الثاني الجواب الحلّي بتقديم الدليل على جدوى هذه الشعائر وبيان الآثار المباركة التي تثمرها.

والجواب على المستوى الأول هو بما يصدر منهم هذه الأيام بمناسبة الاحتفالات برأس السنة، حيث تسود العالم الغربي وغيره احتفالات صاخبة ومهرجانات والعاب نارية وسفرات من غرب الأرض إلى شرقها وشراء هدايا (عمانوئيل) وأمثالها(1) من الممارسات التي تصرف فيها مليارات الدولارات بلا معنى عقلائي يمكن الاقتناع به إلا تسويلات الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء من

ص: 193


1- من تلك المراسيم في فرنسا احراق السيارات حيث أحرقت 1193 سيارة ليلة 1/ 1/ 2013 بحسب وزير الداخلية الفرنسي مانويل فالز وقال: إن العدد قريب من عدد السيارات التي أحرقت في سنوات سابقة حيث تحوّل إحراق السيارات ليلة رأس السنة إلى عادة لدى الفرنسيين منذ بضع سنوات وأحرقت ليلة 1/ 1/ 2010 (1147) سيارة ولم تُعلن إحصائيات 2011، 2012 حيث تحفظ وزراء اليمين في حينها عن إعلان الأرقام.

المتع واللذات الوقتية الكاذبة، وكان الأجدر بهم صرف هذه المليارات على جياع أفريقيا وتنمية اقتصاديات الدول الفقيرة وإنشاء المشاريع المفيدة في الدول التي يتباكون على فقرها وابتلائها بالأمراض الفتاكة والحروب والمشاكل الاجتماعية.هذا غير ما يصرف من مليارات أخرى على غيرها من الفعاليات غير العقلائية كالدورات الأولمبية وبطولات كأس العالم مما يثقل ميزانيات الدول بمبالغ طائلة، وبين أيدينا اليونان التي اشترطت عليها الولايات المتحدة أموراً عند تنظيمها الدورة الأولمبية عام 2004 ولم تستطع واردات السياحة سدّها فغرقت في ديون باهضة شارفت بسببها على الإفلاس.

فالأولى بهؤلاء المنتقدين أن يعترضوا على هذه الممارسات والفعاليات التي لا فائدة فيها إلا متعة ولذة –كما يزعمون- وهي وقتية بمقدار لحظتها ووهمية ويبقى الفرد يعاني بعدها من مشاكل نفسية واقتصادية أيضاً لأن أغلب أفرادهم يقترض ليقوم بتلك السفرات أو شراء الهدايا ونحوها. فهؤلاء المعترضون ينطبق عليهم المثل المعروف بأنه يرى القذّة في عين الغير ولا يرى الجمل في عينه.

أما على صعيد المستوى الثاني من الجواب فقد تضمّنت خطاباتنا السابقة ذكر العديد من تلك الآثار المباركة، نشير إليها باختصار، وتُراجَع التفاصيل في مواضعها.(1)

1-إن التوجّه سيراً على الأقدام من مسافات بعيدة مع ما يرافقه من العناء والمشقّة فيه تعبير عن عميق المودّة والولاء للإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) التزاماً بقوله تعالى {قُل

ص: 194


1- راجع خطاب المرحلة: 4/ 14، 227- 238 وفي مواضع أخرى من الكتاب.

لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (الشورى:23).2-إنّ فيه إظهاراً لعظمة الإمام المقصود بما عظّمه الله تعالى، كما سار الإمامان الحسن والحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ماشيين إلى مكة المكرمة تعظيماً لبيت الله الحرام.

3-إنّ فيها إدخالاً للسرور على قلب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأهل بيته المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ومواساة لهم على عظيم مصابهم، وفيه إحياء لأمرهم والتزام بما وجهوا إلهيا (أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا) (1).

4-الثواب العظيم الذي رصد لمن يقصد زيارة الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ماشياً وقد وردت في ذلك روايات عديدة منها عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من أتى قبر الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ماشياً كتب الله له بكل خطوة ألف حسنة ومحا عنه ألف سيئة ورفع له ألف درجة).(2)

5-إنها وسيلة هداية للآخرين، فقد اهتدى بشعائر الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى الحق كثيرون وعادوا إلى الصلاح والرشد في حين عجزت كل الوسائل عن إصلاحهم، وهذه من بركات الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فإنه (مصباح هدى وسفينة نجاة)(3).

6-إنها توحّد الأمة بكل طوائفها وقومياتها وتوجهاتها الاجتماعية والسياسية

ص: 195


1- عيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- الشيخ الصدوق: 2/ 275/ح69,- الكافي- الشيخ الكليني: 8/ 80/ح37
2- راجع الروايات في وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب المزار وما يناسبه، باب 41.
3- عيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- الشيخ الصدوق: 2/ 62/ح29

ومختلف انتماءاتها الجغرافية والعشائرية، وهذا واضح حيث يذوب الجميع في حب الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وبعضهم لبعض مما يستحيل تحقيقه في غير هذا الهدف قال تعالى {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَ-كِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} (الأنفال:63).7-إنّ المسيرات السلمية وسيلة حضارية تتبعها كل الأمم المتحضرة لإلفات النظر إلى قضاياها والمطالبة بحقوقها ودفع الآخرين للسؤال والفحص عن المشروع المحرِّك لها، وهذا ما تحقق إذ صار العالم كله يتساءل اليوم عن الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) والشيعة، والسؤال مفتاح الوصول إلى الحقيقة.

8-إنها تحبط محاولات الأعداء المتنوعين التي تستهدف الشعب العراقي الأبي وهذا البلد الكريم، لإفساده وإخضاعه وإرعابه وتدجينه وسلخه من هويته الإسلامية الأصيلة، فقد حاول الإرهابيون بكل وسائل القتل والتدمير والجريمة إخافته، وحاول الاحتلال تدجينه وتحويله إلى جزء من مشروع الشرق الأوسط الكبير بل رأس الحربة فيه، وحاولت تقنيات الإغراء والغواية والتضليل إفساده وإبعاده عن إسلامه الأصيل ففشل الجميع، ببركة هذه المسيرات المليونية.

9-إنها ممارسة تعبوية تحافظ على جاهزية الأمة وحضورها في الميدان على الدوام وبدونها يصاب الشعب بالخمول والكسل والاسترخاء فيكون مكشوفاً وهدفاً سهلاً لكل استهداف.

10-إنها تقوّي الإرادة والتحمل وتوطين النفس على الصعاب مما يعجز عن

ص: 196

تحقيقه أي ممارسة أخرى وتشكّل بذلك فقرة مهمة من عملية الاستعداد لنصرة الإمام الموعود (عجل الله تعالى فرجه) والمشاركة الفاعلة في التمهيد لدولته المباركة ونصرته.11-إن أجواء الزيارة والمشاعر الروحية فيها تعطي للنفس زاداً معنوياً وحصانة وغذاءاً روحياً يبقى تأثيره ولذته إلى أمد بحسب استحقاق كل شخص واستعداده، وكما يقال بحسب سعة إنائه ووعائه فإنه يغترف من هذه الألطاف الإلهية {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} (الرعد:17).

12-بهذه الحركة المليونية يبرز الشعب العراقي انتماءه للإسلام ولمذهب أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ويبرز هويته في عملية إحصاء سكّاني صادق ودقيق لا يقبل الخطأ والتزوير وليردّ بذلك على بعض الجهات التي تحاول القفز على الواقع وتدّعي خلافه.

وقد وردت الإشارة إلى جملة من هذه الآثار المباركة في دعاء الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لزوار أبي عبد الله الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الرواية المعتبرة عن معاوية بن وهب البجلي وفيها (اغفر لي ولإخواني ولزوّار قبر أبيَ الحسين بن علي صلوات الله عليهما الذين أنفقوا أموالهم واشخصوا أبدانهم رغبة في برِّنا ورجاءاً لما عندك في وصلتنا، وسروراً أدخلوه على نبيك محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وإجابة منهم لأمرنا، وغيظاً أدخلوه على عدوِّنا، أرادوا بذلك رضوانك، فكافئهم عنّا بالرضوان)(1) إلى آخر الدعاء.

ص: 197


1- مفاتيح الجنان: 484 فضل زيارة الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

القبس /104: سورة الحج:40

اشارة

{وَلَولَا دَفعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعضَهُم بِبَعض}

موضوع القبس:سنة التدافع

من السنن الإلهية:

قال تعالى:{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة:251).

وقال تعالى:{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج:40).

تكشف هاتان الآيتان عن سنة إلهية عظيمة وفريضة واجبة على المسلمين وهي سنة التدافع أي دفع الكفر بالإيمان، والشر بالخير، والفساد بالصلاح، والباطل بالحق، والمنكر بالمعروف، وتظهر عظمة هذه السنّة من اندراج فريضتين عظيمتين تحت عنوانها وهما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مضافاً الى الطاعات الاخرى كالدعوة الى الخير والنصيحة والارشاد والموعظة.

ص: 198

من وحي القرآن:

وهنا نلتفت إلى عدة أمور نستوحيها من الآيتين الكريمتين:

1-جعل هذه السنة الإلهية من منن الله تعالى وأفضاله على العالمين في الآية الاولى، رغم أن هذا التدافع يقتضي حصول تضحيات بالأرواح والأموال ومفارقة الأهل والأوطان وبذل الجهود الكبيرة لأنها حرب مستمرة ضارية، وتفسير ذلك بوجوه يأتي احدها ونذكر هنا وجهاً ذكرت الآية حاصله انه لولا هذا الدفع لامتلأت الأرض بالشر والفساد والظلم والكفر ولم تستقم فيها حياة إنسانية كريمة، ولأزيلت كل مظاهر الخير والصلاح التي أشير إليها في الآية الثانية بأسماء دور العبادة والذكر في الديانات التوحيدية.

2-مادام هذا التدافع سنة إلهية فهي ثابتة وحتمية {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب:62) {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} {فاطر:43) ولا يمكن التخلص من هذه المواجهة بالهروب من الواقع أو الانزواء أو غض الطرف ودفن الرأس في التراب، لأن النتيجة حينئذ ما ذكرته الآية الشريفة.

وإن هذه المواجهة مستمرة ولا تقتصر على زمان ومكان محدودين، لأنّها مرتبطة بوجود الناس على هذه الأرض وانقسامهم إلى فريق في الجنة وفريق في السعير.

3-يظهر من الآيتين أن الغرض من التدافع ومنه الجهاد بل العمل الإسلامي عموماً هو تثبيت كلمة التوحيد وحفظ شعائره ومشاعره، وإخراج الناس من عبادة العبيد وتحريرهم ليكونوا عباداً لله تبارك وتعالى ولم يُشرّع القتال والتدافع بأي نحو كان -ومنه التدافع والتنافس السياسي- طلبا لدنٌيا أو مال

ص: 199

أو توسيع سلطة ونفوذ أو أي مغانم أخرى غير رضا الله تبارك وتعالى وإعلاء كلمته خلافاً لأهداف غير الربانيين فإنها لتلك الأهداف الدنيوية وهذا يجيب عن الإشكالات عن تشريع الجهاد في شريعة الإسلام.ما قلناه آنفاً يدعونا إلى تصحيح مقاييس النصر والربح والنجاح في ثقافتنا:

ظنّوا بأن قتلَ الحسينَ يزيدُهم كذبوا فقد قتلَ الحسينُ يزيدا(1)

وان نرتب أولوياتنا بشكل صحيح ونعرف بماذا نضحي ومن اجل ماذا نضحي بعد معرفة الأهم والمهم، إذ يظهر من الآية أنّ الهدف الأسمى هو إعلاء ذكر الله تعالى وإقامة شريعته ويهون دون ذلك القتل والقتال والتدافع بكل أشكاله وبذل كل شيء، وليس العكس بأنّ يُجعل الدين وسيلة لكسب الدنيا.

4-وان الدفع يعني عدم إمكانية اجتماع الطرفين المتدافعين معاً كالمعروف والمنكر أو الحق والباطل بل إن كلاً منهما يسعى لإزالة الآخر واجتثاثه، فلا مجال للمداهنة ولا لأنصاف الحلول لتصادم الأحكام والتشريعات الإلهية مع القوانين الوضعية التي تخضع للأهواء والنزوات، لأنّهم لا يرضون إلاّ بمحو الدين وإلغاء هوية أهله التي عبّرت عنها الآيتان بالهدم، وقال تعالى عنهم {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} (البقرة:120)

5-إن الله تعالى قادر على إعزاز دينه ونصرهِ بقدرته اللامحدودة

ص: 200


1- ديوان الوائلي للشيخ أحمد الوائلي (رحمه الله): 111

فيقول للشيء كن فيكون ويقطع دابر الفساد والكفر والشر، إلا انه تعالى أبى الا ان تسير الأمور وفق أسبابها الطبيعية {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَ-رَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} (محمد:4)، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (المائدة:48)، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} (الأنفال:42)، فجعل تعالى دفع الأشرار بعمل الأخيار وحركتهم المباركة مع تأييد الله تعالى وإمداده {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} (الأنفال:62)، {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (الحج:38) {وَلَيَنْصُ-رَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُ-رُهُ} (الحج:40) ، فلابد إذن وفق هذه السنة الإلهية من عمل دؤوب متواصل.وحذّرت الآيتان من التقاعس عن العمل والمرابطة في مواجهة قوى الشر والانحراف والفساد لان النتيجة تسلّط الطواغيت والفسقة وخلوّ الساحة لهم وهو ينطبق على الحديث النبوي الشريف (لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر، أو ليستعملنّ عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم)(1) ويقوم هؤلاء الأشرار باستعباد الناس ومحو كل شعائر الدين ومشاعره وشعاراته، ورمزها ومجمعها الذي اشارت اليه الآية الشريفة المساجد فيعملون على هدمها وتخريبها.

6-إن هدم المساجد لا يقتصر على المعنى المادي أي إزالتها من وجه الأرض إذ قد يكون التخريب معنوياً - وهذا هو الأخطر- وذلك بحرمان الناس من بركاتها وتعطيل دورها الذي ذكرته الآية الشريفة بأنّه يُذكر فيها الله كثيراً وتُتلى فيها آياته ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، والمساجد

ص: 201


1- وسائل الشيعة: 16/ 118 ح11.

هي مراكز تجمع المسلمين وتعارفهم وتحشيد قواهم ونشر الوعي بينهم وتهذيب أخلاقهم وتعليمهم الدين. وهذا التخريب المعنوي هو ما يلجأ إليه الطواغيت والمنافقون المتستّرون بالدين فهم يعمّرون المساجد مادياً إلاّ أنّهم يفرغونها من محتواها وتأثيرها في حياة الأمة كالذي شهدناه ايام الرئيس المقبور صدام وامثاله.

وقد يكون تأثير مساجد المنافقين معادياً للدين القويم {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}(التوبة:107) وهذا شاهد على ما قلناه من كون التخريب المعنوي اخطر.

7-وبناءاً على ما قلناه من ان التخريب المعنوي هو الاخطر وانه قد يكون من المتسترين بالدين من نفس المسلمين فان سنة التدافع تجري داخل المجتمع المسلم ايضاً وليس فقط مع الاعداء الخارجيين وتكون حينئذٍ مع من يحرّف الدين ويداهن فيه ويعرقل مسيرته ويحارب المصلحين ويقف حجر عثرة في طريق الإصلاح مكتفياً بشكليات الدين ومظاهره الخارجية، كالذين واجههم أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعد وفاة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وكانوا من العناوين الكبيرة في المجتمع المسلم، خصوصاً بعد الالتفات إلى الوصف الذي أعطته الآية للمساجد، والذي لاينطبق على اولئك المتسترين بالدين .

8-لا بدّ ان يلاحظ في آليات التدافع مناسبتها لما يستعمله العدو، لأنّه إذا لم يكن مناسباً ومكافئاً للعدو فلا يعتبر دفعاً ولا تدافعاً، فإذا كان عمل

ص: 202

العدو وهدمه فكرياً فلابد من دحضه بفكر مثله وان كان إفساده أخلاقياً فلابد من مواجهته بحملة مثلها، وهكذا إن كان سياسياً أو إعلامياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو عسكرياً ونحو ذلك فانه يقابل بمثله.9-إن الله تبارك وتعالى لطيف بعباده ولا يتركهم سدى فريسةً بأيدي شياطين الانس والجن بل يقيّض من عباده من ينهض بهذا الحمل الثقيل لذا نسب تعالى الدفع إليه فهو الذي يدفع الناس بالناس، وهذا المعنى من قبيل ما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال:(يحمل هذا الدين في كل قرن عُدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين)(1) واذا تقاعس قوم عن اداء واجباتهم فان الله تعالى يوفّق غيرهم لهذه الطاعة قال تعالى {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد:38).

10-الوعد الإلهي لعباده العاملين المخلصين بالنصر وتأكيد ذلك بعدة مؤكدات في الآية، كاللام ونون التوكيد في قوله تعالى {وَلَيَنْصُرَنَّ}، نعم قد يتأخر النصر لحكمة إلهية كحماية المؤمنين من العجب او لتعريضهم لمزيد من البلاء لإنضاجهم وتأهيلهم، أو لكي يستشعروا أهمية وقيمة النصر، وقد يحقق الله تعالى النصر للمؤمنين لكن على نحو لا يفهمه الناس لاختلال القيم والمقاييس عندهم، وعلى اي حال فان هذا النصر مشروط بإخلاصهم لله تعالى وصدقهم في

ص: 203


1- رجال الكشي: 2، وروى البرقي في المحاسن مثله وفيه (فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) (بحار الأنوار: 2/ 92 عن بصائر الدرجات 30/ 1 :، باب 6، ح 7.

ما عاهدوا الله عليه، فقد وضحت الآية التالية للآية الثانية التي فيها الوعد بالنصر من ينصرهم الله تعالى بقوله سبحانه {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}(الحج:41).11-ورد في الروايات معنى آخر للدفع يناسب قوله تعالى {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة:251) لأنّ فيه منّة من الله تعالى، ففي رواية عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قَالَ:(إن الله يدفع بمن يصلي من شيعتنا عمن لا يصلي من شيعتنا، ولو اجتمعوا على ترك الصلاة لهلكوا، وإن الله ليدفع بمن يصوم منهم عمن لا يصوم من شيعتنا، ولو اجتمعوا على ترك الصيام لهلكوا، وإن الله يدفع بمن يزكي من شيعتنا عمن لا يزكي، ولو اجتمعوا على ترك الزكاة لهلكوا، وإن الله يدفع بمن يحج من شيعتنا عمن لا يحج منهم، ولو اجتمعوا على ترك الحج لهلكوا وهو قول الله تعالى{وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ})(1).

12-إنّ الدفع وإن كان في المصطلح يعني مقاومة الشيء بعد وقوعه، إلا أن معناه هنا أوسع فيشمل ما يعرف بالرفع أي منع وقوع الفساد والظلم والانحراف أصلاً، بل أن العمل على النحو الثاني هو الذي يجب أن نفكر فيه ونضع خططنا له على طريقة الحكمة القائلة (الوقاية خير من العلاج) فتهيئة أسباب الصلاح والبيئة المساعدة لانتشاره وإقناع الناس به مقدَّم على انتظار وقوع المنكر

ص: 204


1- البرهان : 2/ 145 نقلا عن تفسير العيّاشي1. 446/ 135.

ثم التفكير في كيفية إزالته ومعالجته.وهذا مبدأ مهم سار عليه قادة الإسلام العظيم فمن قصار كلمات امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ازجر المسيء بثواب المحسن)(1) وروي عن الامام الحسن المجتبى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (السداد دفع المنكر بالمعروف)(2) فالأولى أن تكافئ المحسن وتشجّع العامل الصالح لتحفّز غيره على الإحسان وإتقان العمل ولا يبقى مجال ليفكّر بالعمل السيء وتعريض نفسه للعقوبة.

13-ولابد ان نلتفت الى ساحة اخرى للتدافع وهو الذي سماه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الجهاد الاكبر وهي ساحة النفس التي يتصارع فيها جنود الرحمن مع جنود الشيطان لتحسم المعركة بانتصار ارادة الخير او ارادة الشر، والاولى مؤيدة بالألطاف الالهية والبصيرة والعقل والمعرفة والعزم والحكمة، والثانية مزودة بالشهوات و الاهواء والميول النفسية.

روي في الكافي انه كان عند الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) جماعة من مواليه فجرى ذكر العقل و الجهل، فقال الامام:(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اعرفوا العقل وجنده والجهل وجنده تهتدوا) قال الراوي جعلت فداك لا نعرف الا ما عرفتنا، فذكر الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ان الله تعالى اعطى لكل منهما خمسة وسبعين جنداً وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الخير وهو وزير العقل وجعل ضدّه الشر وهو وزير الجهل، والايمان وضده الكفر)(3) الى اخر الحديث.

ص: 205


1- نهج البلاغة، ح4، قصار الكلمات رقم 177 عن روض الاخيار/ 41.
2- مستدرك الوسائل: 438:12: ح:14562حلية الاولياء لابي نعيم: حديث 1462.
3- اصول الكافي : كِتَابُ الْعَقْلِ وَالْجَهْلِ ج1/ح14.

الدعوة النبوية وسنّة التدافع الخارجي:

لقد جسد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في رسالته الإسلامية هذه السنّة –أي سنّة التدافع- بأوضح مصاديقها وبأشكال متنوّعة فكانت دعوته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من أول أمره تستند إلى عقيدتين متلازمتين هما إثبات الإلوهية لله تعالى ونفيها عمّا سواه، وكان شعار دعوته المباركة (قولوا لا إله إلا الله تُفلحوا)(1) فلم يقتصر على القضية الأولى -أي إثبات الإلوهية لله تعالى- ما لم تنضم إليها الثانية وهي رفض الوهية غيره لتكتمل عقيدة التوحيد، وإلاّ فإنّ المشركين كانوا يقولون بوجود الله تعالى وخالقيته ورازقيته {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (العنكبوت:61) {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (العنكبوت:63) وغيرها. فالمشركون لم يعترضوا على هذا المقدار وكان بين ظهرانيهم أحناف موحّدون وأتباع الديانات السماوية لكنّهم أعلنوا العداء بضراوة والحرب على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأنّه دفع عقيدتهم وألغاها.

وقد بدأ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) التدافع بالجهر برفض تلك العقيدة الباطلة وقداستها المزيّفة التي صنعها المنتفعون بها وتلاه الإجراء الآخر وهو مباينة أهلها {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} (الكافرون:1-3)، ثمّ بالاستدلال على بطلانها وردّ دعاؤهم والإجابة على إشكالاتهم.

ص: 206


1- بحار الأنوار- المجلسي: 18/ 202

وهكذا تدرّجت وتنوّعت آليات التدافع والمواجهة حتّى أُذن له (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالقتال بعد أن مكّنه الله تعالى من زمام الأمور في المدينة المنّورة {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (الحج:39) حتى فتح الله تعالى عليه الفتوح المبينة وعمّت رسالته المباركة شرقها وغربها.

التدافع الداخلي:

هذا على صعيد التدافع الخارجي أما على مستوى التدافع الداخلي فإجراءاته مع المنافقين معلومة وهدمه وإحراقه لمسجدهم الذي اتّخذوه ضراراً وتفريقاً بين المؤمنين في الرواية الموجودة في سبب نزول الآية المذكورة.

وسار على نهجه سبطه الشهيد الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فأقام بخروجه المبارك هذه السنة الإلهية إذ انه لم يتقاعس ولم يذعن ولم يستسلم لبطش بني أمية وطغيانهم، ونهض بمسؤوليته وقام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ليدفع المنكر والباطل، ولولا قيامه المبارك لنقض بنو أمية الإسلام عروة عروة ولتحقق المحذور الذي اشارت اليه آيتا التدافع حتى لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ومن القران إلا رسمه، وقد قطعوا شوطاً واسعاً في هذا المجال لولا ان الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قلب الأمور عليهم وأعاد للإسلام وجوده ومضمونه ونقاءه وحيويته:

إن كان دين محمدٍ لم يستقم *** إلا بقتليَ يا سيوفُ خذيني(1)

وقد حقق الله له (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وعده بالنصر فها هو ذكره المبارك يملأ الخافقين ويهدي الناس إلى الحق ويحفظ دين الإسلام عزيزاً كريماً والمسلمين مرفوعي

ص: 207


1- بيت من قصيدة للشاعرالكبير الشيخ محسن أبو الحب <ت1305ه->

الرأس، وأصبحت قضية الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من أعظم الحوادث التاريخية على الإطلاق وأعظمها انتشاراً، وها هي المسيرة المليونية في زيارة الأربعين شاهد على الكرامة والعزة والحرية والرفعة.ايها الاحبة:

إنّ من أفضل أشكال التأسي برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبالإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إحياء هذا القانون الإلهي العظيم في كل ساحاته سواء داخل كيان المجتمع المسلم أو خارجه وبالآليات المناسبة لكل مواجهة، ولا يسعنا القعود عن هذه الوظيفة المباركة وإلاّ ضاع الدين واضمحل كيان الإسلام كما نبّأت به الآية الشريفة، ومن تخلف عن هذه المواجهة لم يبلغ الفتح، كما قال الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في رسالته(1)، قال تعالى:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد:38).

ص: 208


1- بحار الأنوار- المجلسي: 44/ 330

القبس /105: سورة المؤمنون:96

{ٱدفَع بِٱلَّتِي هِيَ أَحسَنُ ٱلسَّيِّئَةَ ۚ}

من أخلاق الإسلام التي حثّت عليها الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة العفو والصفح عمّن اساء اليك وظلمك وجرح مشاعرك وأن تقابل هذه السيئة بالحسنة، وقد بلغت الآيات بالعشرات والأحاديث بالمئات، ومنها قوله تعالى {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصلت:34-35) وقال تعالى {وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} (الرعد:22) وقال تعالى {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} {المؤمنون:96).

وتصرح الآية الأولى أن من ثمرات هذا الخلق الكريم راحة النفس وصفاء البال وانتشار المودة والمحبة بين الناس بحيث نستطيع تحويل العدو إلى صديق حميم بهذه الاخلاق.

وقد جعلته الآية الثانية علامة مميزة لأولي الالباب الذين لهم مقام محمود عند الله تعالى.

ولما ابتعد المجتمع الإسلامي عن هذه الاخلاق رجع امره الى التشتت والتنازع والفرقة والاختلاف إلى حد الاقتتال وازهاق الأرواح، فان هذه النزاعات

ص: 209

كان يمكن نزع فتيلها والقضاء عليها من أول الأمر بالعفو عن الإساءة ومقابلة السيئة بالحسنة.إن هذه الاخلاق الإسلامية هي أساس ما يعرف اليوم بعلم التنمية البشرية وعلم الانثروبولوجي وفن العلاقات الإنسانية.

وفي الحقيقة فأن عنوان مقابلة السيئة بالحسنة له مظاهر عديدة في العلاقات الاجتماعية، ويتحلل إلى اشكال عديدة من السلوك الإنساني، ففي كتاب الكافي بسند صحيح عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في خطبته الا أخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة، العفو عمن ظلمك وتصل من قطعك والإحسان إلى من اساء اليك وإعطاء من حرمك)(1).

فهذه الأنماط الأربعة من السلوك كلها داخلة تحت هذا العنوان، وفي الكافي أيضاً بسند صحيح عن أبي حمزة الثمالي عن علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (سمعته يقول اذا كان يوم القيامة جمع الله تبارك وتعالى الأولين والآخرين في صعيد واحد ثم ينادي منادٍ أين أهل الفضل قال فيقوم عنق -- أي جماعة -- من الناس فتلقاهم الملائكة فيقولون وما كان فضلكم فيقولون كنّا نصل من قطعنا ونعطي من حرمنا ونعفو عمن ظلمنا قال:فيقال لهم:صدقتم ادخلوا الجنة)(2).

تصوروا أي منزلة رفيعة يحظى بها أهل هذا الخلق الكريم حيث ينادون من بين مليارات البشر من الأولين والآخرين ثم يكرمّون امام الملأ العام الواسع بما يسرّهم وفي ذلك اعلان عن أهمية هذا الخُلق.

ص: 210


1- أصول الكافي: 2/ 107 باب العفو ح 1
2- أصول الكافي: 2/ 107 باب العفو ح 2

قد تقول ان الآخر لا يفهم هذه الاخلاق ولا يتجاوب معها مما يدفعني إلى مقاطعته، لكن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يحمِّل المظلوم مسؤولية القطيعة كما يحمّلها الظالم في تأكيد عجيب على هذه الاخلاق، روي عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ما من مؤمنين اهتجرا فوق ثلاث -- أي ثلاثة أيام -- الا وبرئت منهما في الثالثة فيقل له:يا بن رسول الله، هذا حال الظالم فما بال المظلوم؟ فقالّ:ما بال المظلوم لا يصير إلى الظالم فيقول:انا الظالم حتى يصطلحا)(1).إن حمل النفس على هذه الاخلاق يتطلب شجاعة ومجاهدة للنفس عظيمة وهذا مما لا ريب فيه لذا سُمي (الجهاد الأكبر) ولكنه مع العزم والتوكل على الله تعالى والوعي بعواقب الأمور ييسّر الأمر، ومن الأمور التي تستحضرها لتقوّي عزيمتك ما رواه الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (قال عيسى بن مريم ليحيى بن زكريا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) اذا قيل فيك ما فيك فاعلم أنه ذنب ذكرته فاستغفر الله منه وإن قيل فيك ما ليس فيك فاعلم انه حسنة كتبت لك لم تتعب فيها)(2). لأن الأمر لا يخلو من أحدى الحالتين وفي كلتيهما يكون الخير لك.

وان كان المفروض بنا كمسلمين أن نسلِّم لما يريده الله تعالى فوراً بلا كلام وعدم الاحتياج إلى مزيد من الكلام لتحصيل القناعة بما يريده الله تعالى.

ويتأكد هذا الخُلق بين الاقرباء والارحام، عن عبدالله بن سنان قال (قلت لأبي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):إن لي ابن عم أصله فيقطعني، حتى هممت لقطيعته إياي أن

ص: 211


1- بحار الأنوار:75/ 188 ح 10.
2- أمالي الصدوق:414، المجلسي 77 ح 8 .

اقطعه قال:إنك اذا وصلته وقطعك وصلكما الله جميعاً وإن قطعته وقطعك قطعكما الله جميعاً)(1).وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقد جاءه رجل يشكو اقاربه فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اكظم غيضك وافعل، فقال:انهم يفعلون ويفعلون، فقال:أتريد أن تكون مثلهم فلا ينظر الله اليك)(2).

وتبيّن الرواية التالية النكال والعقوبة القاسية التي تحلّ بمن يقابل الحسنة بالسيئة من ذوي الارحام فقد روى الكشي(3) في رجاله بسنده عن علي بن جعفر بن محمد أن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) شاء ان يستأذن عمه ابا الحسن موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الخروج إلى العراق قال:فأذن له، فقام محمد بن إسماعيل فقال:يا عم أحب أن توصيني، فقال:اوصيك أن تتقي الله في دمي -- أي لا تنقل إلى هارون العباسي كلاماً عني يؤدي إلى قتلي -- فقال:لعن الله من يسعى في دمك، ثم قال:يا عم أوصني، فقال:اوصيك أن تتقي الله في دمي، قال:ثم ناوله أبو الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) صرة فيها مائة وخمسون دينارا، فقبضها محمد، ثم ناوله أخرى فيها مئة وخمسون ديناراً فقبضها، ثم أعطاه أخرى فيها مئة وخمسون ديناراً فقبضها، ثم أمر له بألف وخمسمائة درهم كانت عنده; فقلت له في ذلك:ولاستكثرته، فقال:هذا ليكون أوكد لحجتي عليه إذا قطعني ووصلته، ثم ذكر انه سعى بعمه الى الرشيد وانه يدعي الخلافة ويجيء له الخراج، فامر له بمئة

ص: 212


1- الوسائل: 15 / 247 عن أصول الكافي.
2- الوسائل 8/ 393 عن أصول الكافي/469 .
3- اختيار معرفة الرجال- الشيخ الطوسي: 2/ 540

الف درهم ومات في تلك الليلة.فاذا أردنا صفاء البال وراحة النفس والسعادة وبناء المجتمع المتماسك المتحد المتحابب في الدنيا وضمان الفوز بالدرجات الرفيعة في الاخرة فلنلتزم بهذه الاخلاق الكريمة.

ص: 213

القبس /106: سورة النور:22

اشارة

{وَليَعفُواْ وَليَصفَحُواْ ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغفِرَ ٱللَّهُ لَكُم ۚ}

موضوع القبس:درس من حياة الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)

في هذه الليلة الأخيرة من شهر رمضان المبارك نأخذ درساً من فعالية كان يقيمها الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في مثل هذه الليلة, وفيها تطبيق وتجسيد لآية في القران الكريم, والأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) كجدهم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان خلقهم القرآن، والآية قوله تعالى {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (النور:22).

لنتعلم تحصيل المغفرة:

فالآية تعلمنا اسلوباً لتحصيل المغفرة الالهية والعفو والصفح، وإن كان الله تعالى متصفاً في ذاته بأنه غفور رحيم ويبتدئ عباده بمغفرته ورحمته وإن لم يكن منهم استحقاق، لكنه تعالى يزيدهم من فضله فيعلمهم أنهم إن أحبوا أن يغفر الله لهم وكل إنسان يحب ذلك إذ ما من عاقل مستعد لملاقاة الله تعالى بعمله من دون فضل الله تعالى وكرمه فعليهم أن يتعاملوا بينهم بالعفو والصفح ويتجاوز بعضهم عن بعض ليحتجوا بذلك على الله تعالى احتجاج انس ومودة وشفقة واستعطاف.

وهذه المعاني عبر عنها الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاء ابي حمزة (اللّهُمَّ إِنَّكَ

ص: 214

أَنْزَلْتَ فِي كِتابِكَ أَنْ نَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَنا وَقْدْ ظَلَمْنا أَنْفُسَنا فَاعْفُ عَنّا فَإِنَّكَ أَوْلى بِذلِكَ مِنّا وَأَمَرْتَنا أَنْ لانَرُدَّ سائِلاً عَنْ أَبْوابِنا وَقَدْ جِئْتُكَ سائِلاً فَلا تَرُدَّنِي إِلاّ بِقَضاء حاجَتِي)(1).

في العفو والصفح:

وقد جسّد الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هذه الآية في فعالية كان يجريها في آخر ليلة من كل شهر رمضان، فقد روى السيد أبن طاووس في كتاب الاقبال بإسناده الى الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مضمونها باختصار ان الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كان يشتري العبيد والاماء خلال السنة ويؤدبهم ويفقهّم وكان لا يضرب عبداً ولا امة وإذا أذنب احد منهم كتب ذنبه في صحيفة وتاريخها ولم يعاقبه. حتى إذا كانت آخر ليلة من شهر رمضان، دعاهم وجمعهم حوله، ثم أظهر الكتاب ثم قال:يا فلان فعلتَ كذا وكذا ولم أودبّك اتذكر ذلك؟ فيقول:بلى يا ابن رسول الله، حتى ياتي على آخرهم ويقرّرهم جميعاً.

ثم يقوم وسطهم ويقول لهم:أرفعوا أصواتكم وقولوا:يا علي بن الحسين إن ربَّك قد آحصى عليك كل ما عملت، كما آحصيت علينا ما عملنا، ولديه كتاب ينطق عليك بالحق، لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا احصاها، وتجد كل ما عملت لديه حاضراً كما وجدنا كل ما عملنا لديك حاضراً، فأعفُ وأصفح كما ترجو من المليك أن يعفو عنك، فأعفُ عنا تجده عفّوا، وبك رحيماً، ولك غفوراً، ولا يظلم ربك أحداً، كما لديك كتاب ينطّق بالحق علينا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة مما

ص: 215


1- مفاتيح الجنان :349 من دعاء ابي حمزة الثمالي.

اتيناها إلا أحصاها.وهوّ ينادي بذلك على نفسه ويلقنّهم، وهم ينادون معه وهو واقف بينهم يبكي وينوح ويدعو بمضمون ما نقلناه من دعاء ابي حمزة، ثم يقبل عليهم ويقول:قد عفوت عنكم فهل عفوتم عني ومما كان مني اليكم، فيقولون:قد عفونا عنك يا سيدنا وما اسأت.

فيقول لهم:قولوا اللهم أعفُ عن علي بن الحسين كما عفا عنا فأعتقهُ من النار كما أعتق رقابنا من الرق فيقولون ذلك، فيقول اللهم آمين رب العالمين اذهبوا فقد عفوتُ عنكم وأعتقت رقابكم رجاءه للعفو عني وعتق رقبتي فيعتقهم.

فإذا كان يوم الفطر منحهم جوائز تصونهم وتغنيهم عما في أيدي الناس، وما من سنة إلا وكان يعتق فيها في آخر ليلة من شهر رمضان ما بين العشرين نفساً الى أقل أو أكثر)(1).

دروس من العفو والصفح:

أقول في الرواية دروس عديدة:

(منها) تواضع ائمة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وسمو اخلاقهم وترّفعهم عن الانتقام والرد على الاساءة مضافاً الى اننا تعرفنا من خلالها على احدى الوسائل التي نشر الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) علوم اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ومناقبهم وأخلاقهم ومظلوميتهم لأن هؤلاء العبيد كانوا ينتشرون في الامصار وينقلون ما شاهدوه من سيرة الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) .

ص: 216


1- المراقبات للملكي التبريزي :199-200.

هذه كلها اشارات مختصرة، والمهم هنا تطبيق الآية الكريمة على هذا الفعل، فقد كان الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يستطيع أن يقوم بهذا العمل سراً بينه وبين ربه فيعفوا عمن أساء اليه ويطلب من الله تعالى العفو إلا ان الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كان يجري العمل علناً ليوصل هذا الدرس الى الآخرين ولُينقل عبر الاجيال مضافاً الى أن (العمل بالقلب كما انه عبادة له فإجراء ما فيه على الجوارح ايضاً عبادة للجوارح فعند الاتيان بالجوارح تتحقق العبادة بها ايضاً، وانها تؤثر في القلب تأثيراً خاصاً ورقة لا يؤثره مجرد الامر القلبي ويصير سبباً لعمل آخر مؤثر ايضاً فيمتد الفيض الدائم، لان للجوارح ايضاً حظاً من نور العمل فيؤثر عملها في القلب نوراً زائدا على نور عمله)(1).هذا الادب هو ما يريده الله تعالى ورسوله والائمة الاطهار (صلوات الله عليهم اجمعين) منّا، اذ لا شيء يستحق التباغض والتقاطع بين المؤمنين وخصوصا اذا كانوا ذوي رحم، وليس من المعقول اننا نرجو رضا الله تبارك وتعالى ومجاورة اولياءه في الجنان ونحن نقطع الرحم وآصرة الايمان لأجل كلمة سيئة قالها او تقصير صدر منه او تجاوز على بعض حقوقه، او تنازع بينهم على مال.

سياق الآية الكريمة:

والملفت للنظر ان الآية التي ورد فيها الامر بالعفو والصفح جاءت في سياق جريمة كبرى ارتكبها البعض في حق رسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) اذ اتهموا زوجته مارية

ص: 217


1- المراقبات للملكي التبريزي:202.

القبطية بالفاحشة وانها ولدت ابراهيم من خدين(1) لها لا من زوجها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهي الحادثة المعروفة بحديث الافك، فرغم عظم الجريمة وعظم من وقعت عليه وهو اكرم خلق الله وخاتم الأنبياء، ورئيس الدولة، وقد اشارة الآيات الى ذلك {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النور:19) وقال تعالى عنها {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النور:23) ومع ذلك فقد جاء معها الامر بالعفو والصفح في الآية محل البحث، فكيف لا نعفو ولا نصفح نحن عن توافه الامور التي نتعرض لها في حياتنا.

ص: 218


1- أنظر: بحار الأنوار- المجلسي: 22/ 155/ح12

القبس /107: سورة النو ر:31

اشارة

{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}

دعوة موجّهة إلى جميع المؤمنين ليتوبوا إلى الله تعالى، وهي موجّهة إلى غيرهم من باب أولى، فالجميع مطالبون بالتوبة أي الرجوع إلى الله سبحانه لأن التوبة تعني الرجوع عن الذنب والعودة إلى الصراط الذي أمر الله تعالى به.

والاستجابة المطلوبة لهذه الدعوة لها مستويات متعددة بحسب مستويات الأشخاص أنفسهم وشكل الذنوب التي تصدر منهم فيتوب الله تعالى على العبد فيرجع على عبده بالتوفيق والجذب والدعوة للطريق الصحيح فان استجاب العبد وتاب بمستوى معين، تاب الله عليه ورجع عليه برحمة أخص ونقله الى مستوى أعلى وهكذا تكون العلاقة التكاملية درجة بدرجة وخطوة بخطوة حتى يتحقق الفلاح قال تعالى {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (التوبة:118).

وتذكر آية أخرى هذه العلاقة العاطفية بين الله تعالى وعباده وتبيّن ان هذا الحرص من الله تعالى على عودة العباد اليه ناشئ من المودّة والرحمة قال تعالى {وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} (هود:90).

ص: 219

وقد تكررت هذه الدعوة للمؤمنين في اكثر من آية من القرآن الكريم كقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (التحريم:8). وقد حثّ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) اتباعه على الاستجابة للدعوة مبادراً اليها بنفسه الشريفة تطبيقها على نفسه الشريفة، فقد روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (إنه ليغان على قلبي وإني لاستغفر الله في كل يوم سبعين مرة)(1) وروي في كل يوم مئة مرة(2) وفي الدر المنثور عن البخاري ومسلم والبيهقي عن ابي رافع قال (سمعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول:أيها الناس توبوا إلى الله جميعاً فإني أتوب إليه كل يوم مائة مرة)(3) .

ص: 220


1- جامع أحاديث الشيعة: 15/ 497 عن لب اللباب للراوندي: 1/ 397 ودرر اللئالي لابن ابي جمهور
2- شرحنا في خطاب سابق معنى استغفار رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والمعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) (راجع موسوعة خطاب المرحلة: ج7/ص233)
3- الدر المنثور:5/ 44

والتوبة ليست فقط من ذنوب حاصلة في أي مستوى كانت بل تحسن التوبة مما يمكن أن يحصل لولا لطف الله وعنايته وصرفه عن العبد {كَذَلِكَ لِنَصْ-رِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء} (يوسف:24).وهذا المعنى ليس غريباً فإن تقديم سبب التوبة والاستغفار على الذنب نفسه وارد في الروايات كجزاء لبعض الاعمال الصالحة(1) فكما ان الاعمال الصالحة تكفّر الذنوب اللاحقة كذلك التوبة والاستغفار من الذنوب اللاحقة والمحتملة .

وترقى درجات التوبة لتصل الى مستوى التوبة للحفاظ على درجة العصمة وتكاملها والبقاء في القمة وهو أحد وجوه استغفار المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) التي ذكرناها في خطاب سابق.

وتتحقق التوبة الصادقة عندما تكون صادرة عن الشعور بقبح الفعل لما فيه من الجرأة على الله تعالى الخالق المنعم ومقترنة بالعزم على عدم العود إلى مثلها وتدارك ما فات مما يمكن تداركه كقضاء الصلاة والصيام الفائتين وإرجاع حقوق الناس التي غصبها وهكذا، وقد وصفت التوبة الصادقة في الآية المتقدمة بالنصوح للدلالة على المبالغة في النصح لنفسه أي صدق التائب مع نفسه وهذه التوبة النصوح كفيلة بمحو السيئات والنجاة من العذاب ودخول الجنة برحمة الله تعالى.

ص: 221


1- ورد عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال من زار قبر الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ليلة في ثلاث ليالي غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر ليلة الفطر وليلة الاضحى وليلة النصف من شعبان) (وسائل الشيعة: 14/ 475، ابواب المزار، باب54 ح1.

والله تعالى يعلم أن العبد مهما صدق في توبته فأنه معرّض للوقوع مرة أخرى في الذنب بأحد مستوياته لذا دعاه إلى التوبة النصوح مرة أخرى.روى الشيخ الكليني في الكافي بسند صحيح عن ابي بصير قال:قلت لأبي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا}؟ قال:هو الذنب الذي لا يعود فيه أبداً) فقلت:وأيُّنا لم يعد، فقال:يا ابا محمد إن الله يحب من عباده المفَّتن التواب)(1).

ومثلها رواية محمد بن الفضيل في نفس الباب.

ومقام التوبة من المقامات المحمودة عند الله تعالى قال عزّ من قائل {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (البقرة:222) وأضاف الله تعالى وصف التوابين إلى ذوي الدرجات الرفيعة عنده تبارك وتعالى {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشّ-ِرِ الْمُؤْمِنِينَ} (التوبة:112) وللمعصومين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهم سادة الخلق ادعية طويلة في طلب التوبة.

فالمؤمنون جميعاً مدعوون للتوبة كغيرهم لأن عندهم ذنوباً أيضاً وإن كانت لا تشابه ذنوب الكفار والفسقة وفي هذا تحذير للمؤمنين وموعظة حتى لا يغتّر مؤمن بعمله أو يعجب به أو يجعل لنفسه منزلة أفضل من الآخرين وقد تتطلب إعادة العبد الى ربه شيئاً من الابتلاء والأذى رحمة بالعبد وشفقة عليه ليضطرّ إلى اليقظة والعودة إلى الله تعالى، قال سبحانه {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ

ص: 222


1- الكافي: 2/ 314، ح 4

الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (السجدة:21) وقد ورد في ادعية ليالي شهر رمضان (إِلهي لا تُؤَدِّبْني بِعُقُوبَتِكَ)(1) أي لا تجعلني بحال احتاج الى عقوبة وابتلاء لكي اعود الى الطريق الصحيح بل اعود بلطفك وعنايتك.وتوجد مضافاً إلى ذلك ذنوب لا يلتفت إليها عادةً أشرنا إليها في خطاب مفصَّل منشور تضمّن شاهداً على ذلك(2) من وحي دعاء للإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) اللهم اني اعتذر اليك من مظلوم ظلم، بحضرتي فلم انصره، ومن معروف اسدي اليَّ فلم اشكره، ومن مسيء اعتذر اليَّ فلم أعذره)(3).

هذا اذا نظرنا بلحاظ المسؤولية الشخصية، اما اذا نظرنا بلحاظ المسؤولية الاجتماعية فسنجد ذنوباً جديدة نتحملها بسبب عدم بذلنا الوسع في إصلاح المجتمع وتخليصه من المعاصي المنتشرة فيه جهلاً أو تهاوناً أو تمرداً أو لأي سبب آخر وهذا كله تقصير في اداء أعظم وظيفة في الاسلام وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(4).

ولعل هذا أحد وجوه ورود هذه الدعوة في نهاية الآيات الآمرة بالحجاب والناهية عن التبرج من سورة النور مع أنه ليس جميع نساء المؤمنين متبرجات لكنهم جميعاً مسؤولون عن وجود هذه المعصية في المجتمع إن لم يكونوا مبتلين

ص: 223


1- مفاتيح الجنان: 240
2- خطاب المرحلة: ج 7 / ص102
3- الصحيفة السجادية (ابطحي): 187
4- راجع كتابنا عن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في فقه الخلاف الجزء الثامن.

فعلاً بدرجة من درجات هذه المعاصي الاجتماعية فانتشار الخلاعة والمجون يصيبهم بالنظرة المحرمة والإثارة غير المشروعة ونحو ذلك والعياذ بالله.ونحن بين يدي شهر رمضان الذي هو من أعظم أسباب التوبة والاستغفار فإنه شهر المغفرة والعتق من النار ومما ورد في خطبة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) التي استقبل بها شهر رمضان في آخر جمعة من شعبان قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ أَنفُسَكُم مَرهُونَةٌ بِأَعمَالِكُم، فَفُكُّوهَا بِاستِغفَارِكُم، وَظُهُورَكُم ثَقِيلَةٌ مِن أَوزَارِكُم، فَخَفِّفُوا عَنهَا بِطُولِ سُجُودِكُم)(1).

ص: 224


1- مفاتيح الجنان /ص172.

ملحق:تحريك الدوافع نحو التوبة والرجوع الى الله تبارك وتعالى

ملحق:تحريك الدوافع نحو التوبة والرجوع الى الله تبارك وتعالى(1)

في مجتمعنا (المسلم) مشاهد عديدة تستوقفنا وتجعلنا نطيل التأمل فرجل مسلم اشتعل رأسه شيباً يسمع المؤذن ينادي (حي على الصلاة) وهو يجلس في المقهى ويلعب الدومينو ويخوض في أحاديث الباطل وكأن النداء ليس موجهاً إليه.

وآخر اذا جنّ عليه الليل عاد الى داره ثملاً قد سلبت الخمر عقله.

أو امرأة مسلمة تمشي بين الرجال سافرة قد كشفت عن شعرها وبعض اجزاء جسدها.

أو شابٌ مسلمٌ تارك للصلاة غارق في اللهو واللعب يتخذ من فنّان فاسق قدوة له يقلّده في أفعاله وأقواله ويحمل على ملابسه علامات الكفار وصور الفساق أو تراه مفطراً في نهار شهر رمضان.

أو ناس مؤمنون يخوضون في الغيبة وانتقاص الناس وتسقيطهم والافتراء عليهم والايقاع بهم.

وآخر يغض النظر عن معاملاته ويحاول ان يجد الف طريقه لتبرير الربح غير المشروع.

ص: 225


1- سلسلة محاضرات أخلاقية توعوية كتبت لالقاءها بمناسبة حلول شهر رمضان/ 1422 ولم يتسنَّ ذلك، لكن سماحة الشيخ القى مختصرها في خطبة صلاة الظهرين يوم عيد الأضحى المبارك /1422 الموافق 23/ 2/ 2002 في جامع الخاقاني في حي الغدير بالنجف الاشرف وكان ازلام النظام الصدامي البائد يراقبون حركة سماحة الشيخ ويحسبون عليه أنفاسه حتى منعوه من صلاة الجماعة والقاء الخطب.

أو طالب وطالبة جامعية وهما ينشأن علاقه (حب) خارج الصيغ الشرعية ويجلسان معاً بعيداً عن أعين النظار في اجتماع غير شريف يكون ثالثهما الشيطان. أو ثريّ ينفق المبالغ الضخمة لأمور تافهة لمجرد الجري على الاتيكيت الرائج بين اقرانه أو للرياء والمباهاة واذا طلبت منه اخراج حق الله سبحانه المتعلق بماله أو مساعدة شاب فقير يريد ان يحصّن نفسه بالزواج أو ارامل وايتام لا معيل لهم اعرض وناء بجانبه وربما نهر السائل واهانه.

وقد تجد عشيرتين تتقاتلان من اجل امور تافهة فتذهب الضحايا وتتلف الأموال.

أو دولتين مسلمتين تتصارعان فتزهق الأرواح ويهلك الحرث والنسل من اجل ما يسمونه بالمصالح أو غيرها من الدعاوي الوهمية وهم يعلمون ان الارض لم تنفد خيراتها بل هي تكفى لهم ولأضعافهم وانهم ليحرقون الحبوب واللحوم من اجل الحفاظ على سعر السوق.

أو تجمعات قد اغواها الشيطان فجمعها على الحرام في مسرح أو ملهى أو غيرها من مراتع الشيطان.

أو الآفاً وملايين من الناس قد اضاعت أموالها وأوقاتها وقد حبست انفاسها وفقدت وعيها من اجل كرة جلديه تافهة تدخل في هذا المرمى أو ذاك وتقوم الدنيا ولا تقعد اذا تغلب احدهما على الآخر ولا اعرف ماذا قدموا بذلك من خير للبشرية.

ص: 226

المعاصي القلبية:-

هذا على المستوى الظاهري واما على المستوى (المعنوي) فان المعاصي أيضاً لها مصاديق واسعة لان من كانت طاعته ظاهرية اي كان مستواه ظاهرياً ورضى ان يحاسب حساباً ظاهرياً فمعاصيه كذلك اي يؤاخذ على المعاصي بالمعنى الشرعي فقط روى الشيخ الكليني في الكافي عن زرارة عن الإمامين الباقر أو الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن الله تبارك وتعالى جعل لآدم في ذريته من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة ومن هم بحسنة وعملها كتبت له بها عشرا ومن هم بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه (سيئة) ومن هم بها وعملها كتبت عليه سيئة)(1) .

ومن كانت طاعاته قلبية باعتباره ممن التفت إلى تطهير القلب وتصفية الباطن فمعاصيه قلبية فيحاسب على الخواطر والنوازل القلبية ويستغفر لذنوب لا يحاسب عليها أهل الظاهر، مثلاً ورد في الحديث النبوي الشريف:(ثلاث لم يسلم منها أحد:الطيرة والحسد والظن، قيل وما نصنع، قال:اذا تطيرت فامض واذا حسدت فلا تبغ، واذا ظننت فلا تحقق)(2) .

فاذا مرّت هذه الخواطر على القلب والتزم بما ذكره (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فلا شيء عليه على المستوى الظاهري لكن المشتغل بتنقية القلب يعتبر نفسه في معصية قلبية

ص: 227


1- الكافي: ج2/ص428
2- تحف العقول: 50، الطبعة الثانية 1404 تعليق علي أكبر الغفاري وفي المتن ذكر الجزء الثاني من الحديث فقط، وفي كنز العمال: (ثلاثة لازمات لأمتي: سوء الظن والحسد والطيرة، فاذا ظننت فلا تحقق، واذا حسدت فاستغفر الله، واذا تطيرت فامض) (ج16 ص20 رقم الحديث 43788)

لمجرد وجود هذه الخواطر في قلبه اذ يفهم ان قلبه لم يطهر تماماً أو قل انه ليس من أصحاب (القلب السليم) بدليل عدم خلّوه من هذه الخواطر، هذا القلب الذي لا ينجو غداً الا أهله قال تعالى {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ، إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}(الشعراء:88-89) ويمدح خليله ابراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بانه من اهل هذا القلب، قال تعالى {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ، إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الصافات:83-84).وتصفيةُ القلب من هذه الاغلال قد لا يكون الا في يوم القيامة ويكون من نعم الله سبحانه على عباده الفائزين {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} (الأعراف:43) {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ ، وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ، لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (الحجر:45-48) ومن هذه الاغلال ان يمتعضّ قلبك عند مدّح أحد تحسده أو تفرح عندما ينتقص رغم عدم مشاركتك في الكلام.

وانما أصبح زواله اي الغل نعمة لأنه ينكد الحياة ويمنع من افراغ القلب لله سبحانه (لم يسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن)(1) والسعادة الحقيقية لا تتحقق الا في هذه المرتبة.

عندما أرى أو أسمع أو أقع - الا ان تتداركني رحمة ربي - في هذه المظاهر وغيرها من اشكال السلوك المنحرف في هذه البشرية التائهة الضالّة أتأمل طويلاً

ص: 228


1- بحار الأنوار: ج55، ص39

ويملأ التفكير أعماقي وأتساءل:الا يعلم هؤلاء ان هذه افعال محرمة لا يرضاها الله سبحانه؟ أو انها مبعدة عنه تبارك وتعالى وموجبة لتقليل الدرجات يوم القيامة؟ فان علموا ذلك فما الذي يجرئهم على معصية الله سبحانه؟ الا يعلم هؤلاء أن امامنا عقبة كؤودا هي الموت وما بعد الموت أعظم وأدهى! وعلى تعبير الامام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عندما وقف على جنازة تلحد في قبرها قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بزفره وكلّه تحقير لهذه الدنيا (ان شيئاً هذا آخره - وهي الدنيا - لحقيق ان يزهد في أوله، وان شيئاً هذا أوله - وهي الآخرة - لحقيق ان يخاف من آخره)(1) .وأتسّاءل اليس هؤلاء مسلمين ويؤمنون بالله - ولو نظرياً - ويؤمنون بالآخرة والمعاد والحساب؟ فلماذا لا ينعكس هذا الايمان على تصرفاتهم؟ فأين الخلل؟

ان كل هذا يكشف عن ان المشكلة ليست على مستوى النظرية اي اقامة الدليل على كل ذلك فان الكتب حافله بما يقنع من له ادنى مسكة عقل، ولم يقصّر علماءنا ومفكرونا في حشد كل ما يمكن ان يقرّب الايمان ويقنع به وانما المشكلة على مستوى التطبيق.

وعلمت عندئذٍ اننا لم نعد - كما كنّا في الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي - بحاجه الى اثبات وجود الله سبحانه فهذه حقيقة لم يبق من يشكك فيها أو قل ان أولياء الشيطان لم يعودوا يفتنون المؤمنين من هذه الجهة(2)

ص: 229


1- ميزان الحكمة، ج2، ص1171
2- لاحظ ان تاريخ البحث قبل سقوط صدام المقبور عام 2003 حيث لم تكن دعوات علنية للإلحاد وإنما حصلت بعد السقوط عندما دخلت المنظمات والمؤسسات الدولية المختلفة، وتيسّرت للناس وسائل التواصل الاجتماعي.

وما عادت مهمتنا اثبات هذه الحقيقة بل ان اعداء الله جاءوا بخطه جديدة تقتضي المحافظة على الشكل الظاهري والقالب الخارجي للدين ونخره من الداخل وتمييع العقيدة في النفوس وافراغها من محتواها وإماتة الوازع الديني بحيث لا يبقى له ادنى تأثير في سلوك المسلم؟؟ فنحن بحاجة إذن إلى زرع وإيقاظ الاحساس بوجوده تبارك وتعالى والتعامل معه على انه موجود فعلاً وليس ايماناً نظرياً فقط وتذكرت الحديث عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ما خلق الله عز وجل يقينا لاشك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت)(1) فانه يقين مئة بالمئة على مستوى النظرية لكنك لا تجد من يؤمن به عملياً بمعنى انه يستعد له الاستعداد الكامل وكأنه كتب على غيره.

فترى الانسان اذا عزم على سفر قد لا يطول شهراً يُعدُّ كل ما يحتاجه أو يحتمل انه يحتاج اليه ويهيئ جميع أموره حتى الحقير منها فلماذا لا يستعد بنفس الاستعداد لسفر الآخرة ويحضرّ زاد هذا السفر الذي بيّنه القرآن الكريم {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (البقرة:197) وقال الامام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وحصّل زادك قبل حلول أجلك) خصوصاً وإنا نعلم ان الحكم - وهو الله تبارك وتعالى - بصير لا تخفى عليه خافيه في السماوات والأرض وهو أقرب الينا من حبل الوريد وشهوده كُثر ومنهم هذه اعضائنا التي نعصيه بها {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (يس:65).

ص: 230


1- الفقيه: 1 / 194 / 596

أعود الى التساؤل اذن كيف نحمل الناس على الالتزام بالشريعة الإلهية وكيف ندفعهم الى التطبيق؟ ولا يُفهم من كلمه (نحمل) و(ندفع) القصر والإجبار والإكراه فهذا اسلوب مرفوض ولا ثمرة فيه وقد قال تعالى {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة:256) فهذا من خيانة التعبير فأننا نريد ان نتعرف على الاسلوب الذي يحبّب الايمان والاسلام الى الانسان ويزيّنه له بحيث ينجذب اليه، تلقائياً ويجده الطريق الوحيد الذي يكفل له سعادته في الدنيا والآخرة ويكرّه اليه الفسوق والعصيان بالضبط عكس ما يفعله الشيطان اللعين {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ، فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (الحجرات:7-8).فوجدت ان ذلك يمكن تحقيقه على ثلاثة مستويات تمثّل عوالم الانسان الثلاثة:

المستوى الاول:النفس

فقد يجد الانسان في الإسلام والإيمان تحقيق نزعاته النفسية وارضاء للقوى والشهوات الغريزية الكامنة فيه فيؤمن لأن الايمان يحقّق له المال أو الجاه أو اي شيء آخر ولا يُفهم من هذا أنه يشمل التوسل بالأمور المحرمة كما لو اردنا ردعه عن الزنا فنجوّز له اللمس او النظرة للأجنبية فان الغاية لا تبرر الوسيلة في نظر الإسلام مهما كانت الغاية سامية لكن مثلاً نريد أن نحث رئيس عشيرة على تطبيق شريعة الإسلام في السنينة العشائرية فلا حاجة إلى الغاء رئاسته ونظام عشيرته بل نبقيه في موقعه ونعطيه الصلاحيات التأديبية التي يحتاجها باعتبار ان الإسلام قد

ص: 231

وضع تعزيرات على التصرفات المحرمة وترك تحديدها بيد الحاكم الشرعي أو من ينيبه فيحصل رئيس العشيرة على السند الشرعي بتخويل الفقيه الجامع للشرائط.أو نريد ترغيب شاب في الحضور في المساجد واداء الصلاة جماعة في أوقاتها فنقول له:ان هذا يعطيك فرصة للتعرف على وجوه المجتمع فاذا عرفوك وثقوا بك فيمكن ان يوجدوا لك عملاً تجارياً معهم أو يتكفلون زواجك إن كان لا يستطيع ذلك .

وهذا الاتجاه وان كان بعيداً عن ذوق الإسلام في التكامل الا انه امضاه وارتضاه لأنه يعلم ان الخطوة الأولى وان لم تكن لله تبارك وتعالى لكن المهم ان يلتفت إلى الإسلام ويعيش في احضانه ويستنشق عبيره وشذاه فان ذلك كافٍ لان يتخلّى عن اهدافه الدنيوية تلك ويصلحها إلى اهداف ربّانية مخلصه وهكذا كانت هداية رجال اصبحوا من عظماء الإسلام فقد روي ان حمزه بن عبد المطلب سيد الشهداء أسلم حينما أدركته العصبية لعشيرته وهو يرى قريش تؤذي ابن أخيه وتصبّ جام غضبها عليه وليس له ناصر الا الله سبحانه فادركه العرق الهاشمي وانتصر لابن أخيه وأعلن إسلامه ارغاماً لقريش فكانت تلك فاتحه الخير له وللإسلام(1) .

ص: 232


1- روي عن الامام زين العابدين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال (لم يدخل الجنة حمية غير حمية حمزة بن عبدالمطلب وذلك حين أسلم غضباً للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حديث السِلّا الذي ألقي على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (بحار الأنوار:18/ 211، 73/ 285). والسلا هو ما يرافق جنين الحيوان حين ولادته كالجلد الرقيق الذي يحيط به وان ابا جهل وضع سلا جزور على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو يصلي.

ويندرج في هذا المستوى تخصيص جزء من الزكاة للمؤلفة وهم الذين لم يستقر الايمان في قلوبهم فيأتلفهم بالمال ليحسن اسلامهم وهكذا فعل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حينما وزّع غنائم حنين على مشركي قريش بالأمس وطلقائه اليوم بعد فتح مكة ولم يعطِ الانصار شيئاً فظنّوا ان ذلك لموجدة في قلبه عليهم فجمعهم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقال:ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعباً، لسلكت شعب الأنصار. اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار. وأبناء أبناء الأنصار. قال:فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا:رضينا برسول الله قسماً وحظا. ثم انصرف رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتفرقوا)(1) .وورد هذا الاتجاه في طلب العلم فقد روى عنهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنهم قالوا (تعلموا العلم ولو لغير الله فإنه سيصير لله)(2) اذ بعد ان يمس العلم شغاف القلب ويتنور بالمعرفة فانه سيعود الى الله تبارك وتعالى والمهم هي البداية.

بل ان هذا الاتجاه مقبول ومشروع على مستوى الآخرة فترى القرآن الكريم يطمع المؤمنين بحور عين وولدان مخلدين ولحم طير مما يشتهون وانهار من عسل مصفى وخمر لذة للشاربين في جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها

ص: 233


1- صحيح البخاري: ج3 /ص69،70،71
2- شرح نهج البلاغة ج20 -- ابن أبي الحديد، ص267/ ح98

وفوق ذلك ما تشتهيه الأنفس وتلذ العيون بل ما لا عين رأت ولا اذن سمعت وهي عبادة التجار على تقسيم أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهي دون عبادة الأحرار(1).وقد نقل لي بعض المتقدمين(2) في درجات السلوك الصالح انه سأل استاذه اننا كيف نجاهد أنفسنا ونمنعها من لذاتها من اجل أنفسنا ولذاتها في الآخرة طبعاً فقال:هكذا أدبنا المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).

وتوجد أجوبه أخرى (منها) ان هذه زائله وتلك باقية - وفيه - انه لا يغير من الاشكال شيء (ومنها) ان جنة هؤلاء ليست من قبيل هذه النعم وانما لذات معنوية.

ومما ينبغي ملاحظته هنا انه لا ضير من ان يكون لحم الطير وحور العين حتى لأصحاب اللذات المعنوية والمقامات العالية كما انهم في هذه الدنيا في جنتهم الحقيقية ومع ذلك فهم يأكلون ويشربون وينكحون غاية الأمر ان أفعالهم هذه ليست مطلوبة في نفسها ولا للتلذذ بها وإنما لقضاء حاجة الجسم فتكون الاستفادة منها موظفة لخدمة الهدف وتكون جزءاً من التكامل لا عائقاً عنه وإنما الذي نجلّهم عنه ان يكون هدفهم هذه الجنة وسد الحاجات ودفع ألم الحاجة كما يقولون جزء من السعادة وأحد مقوماتها.

ص: 234


1- أنظر: بحار الأنوار- المجلسي: 41/ 14
2- هو السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في بعض رسائله الاخلاقية الى سماحة الشيخ ولم يذكر الاسم مراعاة للظروف آنذاك وقد نشرت الرسائل لاحقاً في كتاب قناديل العارفين.

المستوى الثاني:

العقلبأن نقيم الأدلة والبراهين والحجج المقنعة على صحة المعتقدات وطريقة الشرع ووجوب الالتزام بالشريعة الإلهية فاذا كان الإنسان منصفاً فلا يجد محيصاً عن الإيمان بنتائج تلك البراهين، اما المجادل والمكابر ومن اتبع هواه فلا ينفع معه دليل ولا برهان {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} (البقرة:145) اي هدفك وغايتك {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ ، لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ}(الحجر14-15) ولقد أُلّفت كتب كثيرة بهذا الاتجاه بحيث لم تترك عذراً {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (الأنعام:149) وفتح علم خاص لهذا المجال وهو علم الكلام أو العقائد.

وقد وردت أحاديث(1) كثيرة في فضل العلماء الذين يتصدون لنفي الشبهات عن العقائد الحق وحماية الناس من الضلال والانحراف وان أفضل المجاهدين والمرابطين في سبيل الله هم العلماء المرابطون على ثغور ابليس يردّون عن عباد الله اباطيله وضلالاته وان أشد من يتيم الأبوين يتيم انقطع عن أبيه المعنوي وهو إمامه الذي يتكفل برعايته وتربيته في حياته المعنوية فهو أولى بالرعاية والعطف والحنان وأعظم اجراً عند الله تبارك وتعالى.

ص: 235


1- راجعها في بحار الأنوار: 2/ 1-15

وان من مسؤوليات العالم المخلص ان يظهر علمه عند الفتن وانتشار الشبهات حتى يظهر الحق ويزهق الباطل ان الباطل كان زهوقا ليوهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة.

المستوى الثالث:القلب

واعني به تلك اللوحة الربانية البيضاء الناصعة التي ان صفت ونقت مما يكدّرها وتعب صاحبها على جلائها كانت مرآة صافية تعكس الحقائق عن اللوح المحفوظ من دون كسب وتحصيل فيجد صاحبها كله حاضراً عنده ومنقوشاً في باطنه، والقلب هو ساحة الصراع بين جند الشيطان وقوى النفس الامّارة بالسوء وشهواتها واهوائها ودواعي السوء فيها وبين جند العقل وأدلته وبراهينه ومعارفه {وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} (يوسف:24) فان تغلّب العقل كان منيراً بنور معرفة الله سبحانه وتعالى وبألطافه طافية وفي فيوضاته، ففي الحديث القدسي (لم يسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن)(1) .

وتجلّت فيه صفات الكمال وغُلَّت النفس الأمّارة بالسوء وكانت ميولها وشهواتها مهذبة ومؤدبة بأدب الله تبارك وتعالى لا تحيد عنه وزمامها بيد الشرع الحنيف.

وإن غلب جند الشيطان - والعياذ بالله - كان مظلماً ومأوى للشياطين ويُغلُّ العقل ويُسخّر لخدمة الشهوات كما تراه في أولياء الشيطان واتباعه الذين ما فتئت عقولهم تتفتق عن المزيد من الحيل الشيطانية لتحقيق شهواتهم ومطامعهم.

ص: 236


1- بحار الأنوار: ج55، ص39.

وعندما تأمّلت في تجارب المصلحين وسبرت اغوار التأريخ لأجد اي هذه المسؤوليات أعمق تأثيراً وأعظم انتاجاً، ودققت النظر أكثر في أعظم نقلة عاشتها البشرية وهي التي حصلت في صدر الإسلام على يد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حيث سمت البشرية من حضيض الجاهلية إلى قمة الإسلام الرفيعة وفي فترة قياسية هي قصيرة جداً في عمر الزمان.ولمعرفه عظمه هذه النقلة تستطيع ان تقارن بين حال الأمة قبل الإسلام وحالها بعده فكانوا قبل الإسلام يرتكبون جريمة وأد البنات - اي يدفنونهن في التراب وهن احياء خوف العار - ويغير بعضهم على بعض فيقتل ويسلب وينتهك الأعراض، والقوي يأكل الضعيف قد تفشّت فيهم الفواحش من الزنا وشرب الخمر وهم عاكفون على عبادة حجارة لا تضر ولا تنفع، فكيف أصبحوا بفضل الله ورحمته؟ اصبحوا متآخين متحابّين يؤثرون غيرهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة حتى لو كان لأحدهم رغيف من الخبز أعطى نصفه لأخيه واكتفى بالنصف الآخر، واذكر مثالاً واحداً كشاهد على عظمة تلك النقلة فقد روى العدوي انه سمع جريحاً في معركة القادسية يطلب الماء فجاءه ليسقيه فسمع آخر يطلب الماء فقال الجريح اسق أخي أولاً فلما اتاه سمع ثالثاً يطلب الماء فقال اسق أخي فلما أتاه وجده قد مات فرجع إلى الثاني فوجده قد مات وكذا الأول، مثل هذا المستوى الرفيع خلقه الإسلام في تلك الأمة، ولا أريد ان أدخل في تفاصيل هذه التجربة العظيمة فأنها تستحق أفراد كتاب(1) مستقل لها لبيان الدروس المستفادة من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في هذا المجال تطبيقاً للآية الشريفة {لَقَدْ كَانَ

ص: 237


1- أنجز هذا الكتاب لاحقاً وطبع بعنوان (الأسوة الحسنة) .

لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب:21) عسى الله ان يوفقنا لإنجازه، والذي اريد ان أقوله هنا ما قيل من ان اواخر هذه الأمة لا تصلح الا بما صلح به اوائلها، وقد صلحت اوائل هذه الأمة بهذا العلاج الشافي:القرآن الكريم(1) كما وصف نفسه انه هدى ورحمة وشفاء لما في الصدور وببركة المعالج وهو رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وجهوده الجبارة وصبره المضني ومهمتنا في إصلاح المجتمع اسهل بالتأكيد لأننا نتعامل مع ناس مسلمين أولاً مهما كان درجه ابتعادهم عن الله سبحانه ومتحضرين ومثقفين ثانياً ونأتي على خلفيه تربية طويلة قام بها الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من بعد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومن بعدهم العلماء الأبرار المخلصون عبر هذه القرون الطويلة وعندما نريد ان نستفيد من تجربة القرآن نجد أنه قد كرّس نفسه طيلة مدة النبوة في مكة (وهي ثلاث عشرة سنة أي الجزء الأكبر من زمان النبوة) لإحياء القلوب والعقول وتطهير النفوس ولم يبلّغ الاحكام الشرعية الا بعد ان وصلت الأمة إلى درجة من السمو الروحي والنضج العقلي والايمان الراسخ وحينئذٍ حمّلهم الاحكام فاستجابوا لها وامتثلوها بلا أدنى تردد فكان ذلك المجتمع المثالي الذي لم تشهد له البشرية مثيلاً فلا انحراف ولا جناية ولا مشكلة الا ما ندر جداً مما لا يكاد يذكر فنحن -- كحوزة شريفة -- محتاجون إلى هذا الاحياء اكثر من حاجتنا الى تبليغ الأحكام، وان إيصال الأحكام الفقهية -- مهما كان مهماً -- الا أنه وحده لا يكفي بل لابد معه

ص: 238


1- تناول سماحته هذه النقلة العظيمة في حياة الأمة في كتابه (شكوى القرآن) وفي (الأسوة الحسنة).

من احياء القلب والضمير والعقل والا فأن الأحكام الفقهية المثبتة في الرسائل العملية لا تكون فاعلة ومؤثرة ومحركة الا اذا امتزجت بما يحيي القلب ويوقظ العقل ويحرّك الضمير.وأنت اذا سبرت آيات القرآن الكريم فستجد انه حرّك المسارات الثلاثة المتقدمة واستفاد منها ووظّفها في عملية الهداية والإصلاح.

فعلى الصعيد الأول وهو المستوى النفسي تجده يربط بين الايمان وتوافر النعم {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ} (الأعراف:96) {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً} (الجن:16) {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ، يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} (نوح:10-12) ويربط بالمقابل بين العصيان ونزول النقم {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (الشورى:30) {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (يونس:98) {وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (الأعراف:96) هذا في الدنيا واما في الآخرة فمن الواضح الذي لا يحتاج إلى بيان لكثرته وتواتره ما أعدّ الله تعالى للمطيعين من النعم ما لا عين رأت, ولا اذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر)(1) وما اعدّ للكافرين من

ص: 239


1- بحار الأنوار- المجلسي: 8/ 92

الوان العذاب ومن يتصفح القرآن خصوصاً في قسمه المكي يطّلع على الصور المشرقة السعيدة لحياة المؤمنين والحياة النكدة المعذبة الشقيّة للكافرين.وعلى المستوى الثاني فقد ضمّ القرآن استدلالات وبراهين واحتجاجات كثيرة على مختلف العقائد والمعارف الإلهية كقوله تعالى في اثبات التوحيد {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء:22) وقوله {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} (لقمان:11) وأكّد على ضرورة الحوار {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} (آل عمران:64) وإقامة البرهان وعدم جواز التقليد من غير دليل {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة:111)، {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي} (هود:88)، {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (يونس:59) .

واما على المستوى الثالث وهو الأهم والأعمق تأثيراً والأشد رسوخاً لأن الإيمان اذا كان عن دليل عقلي محض فيمكن ان تزيله مغالطة عقلية لا يفهم الشخص وجه الشبهة فيها اما اذا كان عن طريق القلب واستقر فيه فلا يزيله شيء، من هنا قال ابراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (البقرة:260)، من هنا كان أفضل مدخل لصنع شخص مليء بالإيمان من رأسه إلى أخمص قدميه هو قلبه فترى القرآن تارة يثير في القلب مشاعر الحب لله سبحانه بما يبين من أوصاف الكمال فهو الرحيم بعباده أكثر من الأم الحنون بولدها وهو الساتر عليهم والحليم عنهم والرازق لهم وهو الهادي والمنعم والكريم والعليم والقوي والقادر وغيرها من الاسماء الحسنى واذا

ص: 240

احبّ الانسان شيئاً اندفع إلى طاعته وتلبية رغباته من دون ان ينتظر مكافئة او أجر فالأب يسعى بكل ما عنده لإدخال السرور على أولاده واسعادهم وكذا الأم وقد يضحيان بحياتهما من اجلهم لا لمطمع عندهم ولا للخوف منهم سوى الحب لهم. وتارة أخرى يثير مشاعر الرهبة والخوف بما يصف من مشاهد يوم القيامة ويحكي من أحوال ما بعد الموت.

محفزات للتشجيع على التوبة:-

فكيف نستفيد من هذه التجربة القرآنية، وكيف نستثمر هذه الاتجاهات الثلاثة لهداية الناس وجذبهم الى طاعه الله سبحانه وكيف ننزع من عقول الناس وقلوبهم بان الالتزام بالشريعة تقييد للحريات وانها تكليف وعبئ ثقيل نبدله الى سعادة وسرور بهذا التشريف الإلهي العظيم، نحاول هنا - بإذن الله تعالى- اثارة عدة محفّزات تندرج ضمن هذه الاتجاهات الثلاثة وهو ما اتبعه الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فإنما كانوا يعظون الناس ويهدونهم بطرق شتى فواحد من جهة النفس كذاك الناصبي الذي اغدق عليه الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) العطاء فتحوّل الى موالي وهو يقول (الله اعلم حيث يجعل رسالته)(1) وآخر من جهة الدليل والبرهان ككثير من اليهود والزنادقة(2) وآخر من جهة القلب بإثارة العلاقة الوجدانية مع الله تعالى والتذكير بالموت وحساب الآخرة كأسلوب الامام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مع بشر الحافي في القصة المعروفة(3).

ص: 241


1- أنظر: مقاتل الطالبيين- الأصفهاني: 332
2- أنظر: الاحتجاج- الطبرسي: 1/ 312
3- تقدمت ص163

ومن ذلك ما روي ان رجلاً قال للامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(يابن رسول الله دلني على الله ما هو فقد كثر عليَّ المجادلون وحيروني، فقال له:ياعبد الله هل ركبت سفينة قط، قال:نعم، قال فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك، ولا سباحة تغنيك؟ قال:نعم، قال:فهل تعلق قلبك هنالك أن شيئا من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك؟ قال:نعم، قال الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):فذلك الشيء هو الله القادر على الانجاء حيث لا منجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث(1). وهو ما يسمى بالوجدان وهذا ناشئ من اختلاف المؤثرات على الناس فمن الضروري ان تتعدد الأساليب والمصلح الذكي المسدّد هو الذي يعرف أفضل باب يدخل منها وعندئذ سيجدون أكثر من مبرر للحرص على طاعة الله سبحانه والتعلّق بها والتضحية من اجلها والشعور بالسرور والسعادة لدى الالتزام بالشريعة.

الاول:

ان التكاليف الشرعية ليست طوقاً في عنق الإنسان ثقيلاً يريد ان يتحرر منه بل هو تشريف له، واضرب لك مثالاً معاشاً فلو ان الملك أراد أمراً معيناً كافتتاح مشروع فأناب إنساناً بدلاً عنه كم سيكون هذا الإنسان محظوظاً ان ينال شرف النيابة عن الملك ويتحدث باسمه فكذلك الانسان اختاره الله سبحان ليكون خليفته في هذه الأرض {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة:30) والله ملك الملوك وربهم وخالقهم فكم تكون عظمة النعمة ان يستخلف أحداً ويسخر له كل ما في الارض {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} (البقرة:29) وينقل عن

ص: 242


1- بحار الأنوار: ج 3 / ص 41.

شخص عارف انه احتفل يوم بلوغه سن التكليف الشرعي لأنه يوم تشريفه بأعظم النعم.الثاني:

ان الشريعة الإلهية إنما وضعها الله سبحانه لتنظيم حياة البشر وهدايتهم إلى ما فيه صلاحهم لأنه خالقهم وهو العارف بما يصلحه فان اي جهاز يعطل نرجع الى الشركة المصنّعة للجهاز تعرف عيبه وطريقة إصلاحه والله هو خالق الإنسان وصانعه فهو العارف بمناشئ انحرافه وطرق علاجها ومن القبيح والمستهجن ان نرجع إلى نفس الإنسان التائه الضال ليرسم لنا طريق الصلاح وقد جرّبت البشرية كل النظم الوضعية فزادتها سوءاً على سوء وظلماً على ظلم ومازالت تتجرع ويلات تلك النظم البشرية، والنتيجة ان الالتزام بالتعاليم الإلهية هو الطريق الوحيد الذي يضمن للبشرية سعادتها واستقرارها وطمأنينتها وانت ترى بعينك وتحس سعادة المؤمن واستقراره الروحي حتى وان مرّت به الوان المصائب وانواع المصاعب في مقابل الكافر الفاسق وصراعه النفسي وانحرافاته نتيجة الخواء الروحي الذي يعيشه فتجد حياته نكدة معذبة وهو في ذروة الرخاء المادي وربما آل به الأمر إلى الإنتحار مما لا تجده في المجتمعات المؤمنة {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} (طه:124). وهؤلاء الذين يريدون اسقاط الدين والغائه من الحياة باسم الحرية الذي هو مصطلح شفاف وتهفو له النفوس، اسألهم ماذا تعنون بالحرية هل الانفلات واللانظام وعدم الخضوع لأية ضوابط وكل واحد يفعل ما يشاء ويحلو له؟ سيقولون لا طبعاً لان هذا معناه الهمجية والفوضى ولا يقوم اي تجمع بشري الا على نظام وقانون ينظم حياة البشر ويقنّن العلاقات

ص: 243

بينهم ويحدد الحقوق والواجبات ويرصد المخالفات ويجعل لها العقوبات وبدونه لا تستقيم حياة البشر قلنا:عندئذٍ فأي قانون أفضل يضعه الله سبحانه خالق البشر والعارف بما يصلحهم والمطّلع على سرائرهم ذو القدرات اللامتناهية والكمالات غير المحدودة من العلم والقدرة والرحمة والحكمة والعدل والغنى وغيرها ام يضع القانون بشر قاصر يقول اليوم شيئاً ويتراجع عنه غداً ويلغي اليوم ما قرره بالأمس وهو بين هذا وذاك لا يعرف نفسه فضلاً عن ان يعرف غيره. الثالث:

ان من شأن كل عاقل ان يرد الجميل بالجميل ويجازي الاحسان بمثله {هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} (الرحمن:66) {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (القصص:77)، ونعم الله تعالى علينا كثيرة سواء على صعيد ابداننا التي هي عبارة عن معامل ومصانع كثيرة تعمل بدقة واتقان وابسط مراجعة لكتاب (الطب محراب الإيمان) تنبئك عن هذا مما يوقف شعر رأسك أو على صعيد الحياة حولنا من كون متناسق وأرض طيبة معطاء ونعم لا تعد ولا تحصى {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} (النحل:18) وجزاء هذا الإحسان إحسان مثله ولما كان الله غنياً عن عباده ولا يمكن ان يصل إليه نفع من أحد فردُّ الإحسان بالنسبة إليه طاعته ومن اشكال شكر النعم ان تطيع المنعم بها اما عصيانه مع نعمه الوفيرة فهذا مما لا يرتضيه عاقل.

ص: 244

الرابع:ان كل واحدٍ منا يحب ان تزيد النعم عليه وهي بيد الله سبحانه المنعم الحقيقي وقد وعدنا سبحانه {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} (إبراهيم:7) وفي الحديث (بالشكر تدوم النعم) فعلى من يرجو إفاضة النعم وزيادتها وكل إنسان مجبول على حب الاستزادة من المال والبنين والجاه والصحة وغيرها من نعم الله سبحانه فعليه أن يطيع الله سبحانه ويشكره ليزيده الله سبحانه من النعم {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ} (الأعراف:96).

الخامس:

أنه اذا أخبرنا إنسان ثقة بأن حيواناً مفترساً في هذه الجهة فأننا سنهرب بالاتجاه المعاكس ونحذر منه ونتخذ الاجراءات الواقية من الوقوع في الخطر، فاذا أكد هذا الخبر ثقة آخر ازدادت استعداداتنا لذلك وكنّا أكثر حزماً، وقد أخبرنا مئة وعشرون الف نبي انه سيكون يوم القيامة ويثاب فيه المطيع على طاعته ويعاقب العاصي على معصيته بنارٍ وقودها الناس والحجارة افلا يوجب هذا الحذر والابتعاد عن كل ما يورطنا في هذه النار المتأججة وقد وضعها القرآن الكريم بمشاهد مرعبة وأخبرنا أن معصية الله سبحانه توقعنا فيها وان طاعته تورثنا جنة عرضها السماوات والأرض فيها ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر(1) {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم} (السجدة:17).

ص: 245


1- بحار الأنوار- المجلسي: 8/ 92

السادس:علينا ان نتذكر ان وراءنا عقبة كؤوداً وشدائد وأهوال أوّلها وأيسرها الموت الذي وُصف بأن نشراً بالمناشير وقرضاً بالمقاريض أهون من سكرة من سكرات الموت هذه الأهوال التي يستغيث منها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أكمل الخلق فيقول في نزعه الأخير (حبيبي جبرئيل عند الشدائد لا تخذلني)(1) ويقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) نفس رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في تلك الحال (وعليكم السلام يا رسل ربي)، وقال:{لِمِثْلِ هذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} (سورة الصافات:61)(2) ويبكي الامام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في لحظاته الأخيرة فيُسأل عن سبب بكائه فيقول:(أبكي لفراق الأحبة وهول المطّلع)(3) هكذا يعرف الموت من كشف له الواقع اما نحن ففي غفلة عنه حتى نراه {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}(ق:19) ولكن ليس من شأن المؤمن الواعي ان لا يلتفت إلى الشر والخطر حتى يقع فيه وقد نبّهنا إليه الراسخون في العلم:محمد وآل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ووصفوه بأبلغ وصف (خصوصاً في نهج البلاغة) لا يقدر عليه حتى من عاشه ورآه ودخل فيه، هذا ما ينتظرنا فماذا أعددنا له؟! معصية الخالق تبارك وتعالى والاعراض عنه والتمرد على شريعته التي هو غني عنها وانما هي لخيرنا وسعادتنا.

ص: 246


1- بحار الأنوار: ج 22 / ص510
2- وفاة الإمام أمير المؤمنين.
3- أمالي الصدوق ص133 ، العيون ص168.

وعلى الانسان البعيد عن الله سبحانه ان يعي حقيقة ان الموت لا يعرف صغيراً ولا كبيراً .فكم من صحيح عاش من غير علة *** وكم من عليل عاش حيناً من الدهر

وكم من فتى يمسي ويصبح غافلاً *** وقد تُسجت اكفانه وهو لا يدري(1)

إن حالنا في هذه الدنيا يمكن تصويره بشخص مدلّى في حبل داخل بئر عميق وفي قعر البئر تنين عظيم فاتح فاه ينتظر سقوط هذا الشخص ليلتهمه وتوجد فأرتان تقرضان بالحبل من أعلاه ولا يدري هذا الشخص متى يتم قرض الحبل فيقع فريسة لهذا التنين وهو في هذا الجو المرعب بدلاً من ان يعدّ العدة لتدارك هذا الخطر والاستعداد لمواجهته {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (البقرة:197) أقبل على عسل مخلوط بالتراب على جدران البئر يلعق به ويزاحم الحشرات والديدان المتهالكة عليه، هذا هو حالنا فالتنين هو الموت والحبل هو العمر والفأرتان هما الليل والنهار اللذان يُبليان كل جديد والعسل هذه الملذات الدنيوية المليئة بالمنغصات وهي لذة ساعة لكنها تورث حسرة دائمة.

السابع:

اننا خلقنا لهدف واحد وهو إعمار الحياة بما يرضي الله سبحانه والتكامل في طريق الوصول وقد اعطينا رأس المال الذي نتجر به ونكسب ونجني منه ثمار هذا الطريق ونحن في معاملاتنا الدنيوية عندما نتجر برأس مال فأننا نستقصي التجارة

ص: 247


1- ديوان الامام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 78

التي تدر أكثر ارباحاً ولا نفرّط في شيء من رأس مالنا وتأخذنا الحسرة والندامة لو فرّطنا في فرصة كان يمكننا ان نحصل على ربح أكثر وهذه الصورة نفسها نعيشها نحن بوجودنا في الحياة الدنيا فرأس مالنا هو العمر والهدف من التجارة نيل رضا الله سبحانه وقد منَّ الله سبحانه علينا بنعم كثيرة فكلما استثمرناها في تحقيق الهدف كانت تجارتنا أكثر ربحاً وكلّما قصّرنا فسنعضُّ على أصابع الندم {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ -- والظالم كل من فعل معصية -- عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا ، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا ، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولا} (الفرقان:27-29) نندم على كل لحظة مرّت علينا لم نوظّفها فيما يرضي الله سبحانه فضلاً عن هدرها في معصيته -- والعياذ بالله -- ومن اسماء يوم القيامة أنه يوم التغابن راجع سورة التغابن وفيها قوله تعالى {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} (التغابن:9) وقد ورد ان الجميع يشعرون بالغبن حتى المؤمنون لأنهم ينظرون إلى المراتب الأعلى منهم وكانوا يستطيعون الحصول عليها لو استغلّوا وقتهم بالشكل الصحيح فيتأسفون على إضاعة الفرصة ومن هنا جاء في وصية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأبي ذر (ره) (يا أبا ذر اغتنم خمساً قبل خمس..) (1) وفي الأخبار ان عمر الانسان بكل لحظاته يعرض عليه على شكل خزائن تفتح له الواحدة تلو الأخرى فما كان منها مستثمراً في طاعة الله سبحانه وجد في تلك الخزينة روحاً وريحان وان كانت معصية والعياذ بها هبّت عليه منها نار محرقة وان لم تكن لا من هذه ولا هذه بأن قضاها في المباحات الخالية من نية

ص: 248


1- بحار الأنوار- المجلسي: 74/ 75

القربة كالنوم والطعام والنكاح فسيراها فارغة فيندم على ما أضاع من عمره ويجب ان نلتفت إلى ان هذه المباحات أيضاً يمكن أن تكون طاعات يتقرب بها إلى الله سبحانه فيما لو صبّت في الهدف فينام ليريح بدنه ويجدّد نشاطه لعمل جديد ويأكل ليتقوى على طاعة الله سبحانه وينكح النساء ليحصن نفسه وزوجته من الحرام وليزيد عدد النسمات التي توحّد الله تبارك وتعالى على هذه الأرض ويفرّغ همه لطاعة الله سبحانه وهكذا إلى ما شاء الله من النيّات الصالحة المقرّبة إلى الله سبحانه وبهذا المضمون ورد حديث رواه الصحابي الجليل ابو ذر الغفاري عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في وجوه الصدقات الى أن قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (وفي بُضع أحدكم صدقة) قالوا يا رسول الله:أياتي احدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟، قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(ارأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر فكذلك اذا وضعها في الحلال كان له أجر) (1).خبر على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال (لأبي ذر - ضمن وصية جامعة له -:ولك في جماعك زوجتك أجرٌ.. قال أبو ذر:كيف يكون لي أجرٌ في شهوتي؟.. فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):أرأيت لو كان لك ولد، فأدرك ورجوت خيره، فمات، أكنت تحتسبه؟ قلت:نعم، فقال:فأنت خلقته؟، قال:بل الله خلقه، قال:أفأنت هديته؟، قال:بل الله هداه، قال:فأنت ترزقه؟، قال:بل الله كان يرزقه، قال:كذلك فَضعَهُ في حلاله، وجنبه حرامه، فإن شاء الله احياه، وإن شاء أماته، ولك أجر) (2).

ص: 249


1- صحيح مسلم 330 كتاب الزكاة، باب 16، ح(1006):.
2- شعب الإيمان- البيهقي: 7/ 514

أفبعد هذا كله يلهو الانسان ويلعب أو يضيع وقته في الأمور التافهة فضلاً عن ان يجرّ على نفسه الويلات بما يجترح من السيئات {رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} (النور:37).الثامن:

انه لابد للإنسان من اله يعبد فأن لم يكن الله سبحانه هو اله المعبود فسيقع في عبادة الإلهة الأخرى وكفى بذلك ضلالاً وخسراناً مبيناً {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ، مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} (الصافات:22-23) فما هي هذه الإلهة التي يطيعها الإنسان البعيد عن الله سبحانه لأن معنى العبادة هو الطاعة والانصياع لذا ورد في تحف العقول عن الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من أصغى إلى ناطق فقد عبده)(1) فالذي يطيع نفسه الأمارة بالسوء ويلبي شهواتها فقد اطاعها وعبدها قال تعالى {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} {الجاثية:23) ومن الإلهة الأخرى {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (يس:60) {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة:31)، {مَا نَعْبُدُهُمْ - الأصنام - إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر:39)، {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا

ص: 250


1- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 456

السَّبِيلا} (الأحزاب:33)، {إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ} (الأعراف:173) فأي عاقل يرضى بأن يخرج من حصن ولاية الله العظيم وطاعته إلى ولاية هذه التوافه التي لا تملك لنفسها فضلاً عن غيرها ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياءاً ولا نشورا وفي مقابلهم من أخلص الطاعة لله سبحانه {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ، وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ، قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ، قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي ، فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ، لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ، وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّ-رْ عِبَادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ، أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ ، لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} (الزمر:11-20) استمع الى الله سبحانه يحكي لك الحوار الذي سيدور بين العاصي لله سبحانه وآلهته التي اطاعها من دونه تبارك وتعالى والتي أهمها النفس الأمارة بالسوء التي وصفها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاء الصباح (فَبِئْسَ الْمَطِيَّةُ الَّتي امْتَطَتْ نَفْسي مِنْ هَواها فَواهاً لَها لِما سَوَّلَتْ لَها

ص: 251

ظُنُونُها وَمُناها، وَتَبّاً لَها لِجُرْاَتِها عَلى سَيِّدِها وَمَوْلاها) (1) وفي دعاء آخر (وَتَجْعَلُنِي عِنْدَكَ أَهْوَنَ هالِك) (2){وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ، وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ ، مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ ، فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ، وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ، قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ، تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ، إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ ، فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ، وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ، فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} {الشعراء:90-103) وهم كاذبون في هذه الدعوى قال تعالى {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} (الأنعام:28).

هذا الاعتزاز والسمو بعبادة الله سبحانه ونبذ ما سواه هو ما عبّر عنه أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إلهي كفى بي عزاً أن أكون لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي رباً، إلهي أنت لي كما أحب فوفقني لما تحب)(3) .

والمفارقة الصارخة التي تجعل هؤلاء العصاة يدسّون رؤوسهم في التراب ان تكاليف عبادة ما سوى الله سبحانه هي أضعاف تكاليف عبادة الله سبحانه بغض

ص: 252


1- مفاتيح الجنان: 94
2- مفاتيح الجنان: 167
3- بحار الأنوار: ج 91/ ص 94

النظر عن العاقبة(1) في الآخرة فالمرأة المحجبة لا تحتاج إلى أزيد من غطاء لرأسها وازار لجسمها بينما السافرة تحتاج ان تشتري انواع البدلات والثياب لأن (الاتيكيت) لا يرضى لها ان تثبت على لباس واحد وان تصفف شعرها على أحدث الموديلات وان تضع انواع المساحيق والعطور وأدوات التجميل وغيرها من المستلزمات لهذا العرف الشيطاني من حقائب وأحذية والآت الزينة والغرب الكافر حينما جرّ مجتمعنا الإسلامي إلى هذا الوضع المنحدر لم ينظر إلى هزيمة ديننا واخلاقنا ونظامنا الاجتماعي المتماسك بل استهدف أيضاً إلى الجانب الاقتصادي حيث أصبحت بلادنا سوقاً رائجة لتصريف منتجاته الشيطانية. هذا مثال على الصعيد الفردي ومثال آخر على الصعيد الاجتماعي مثل الأمة قد تحتاج إلى تقديم عدد معين من الضحايا والقرابين لنيل حريتها وكرامتها وشرفها لكن تخضع وتستكين للذل وتقاعس عن اداء الواجب فتدفع أضعاف ذلك العدد وهي على ما هي عليه من الهوان والضِعة فالإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عندما طلب من الأمة ان تقول كلمة الحق في وجه يزيد وتقف في وجه انحرافاته ولو كلّفها بعض التضحيات ولمّا أخلدت إلى الأرض وتعلّقت بالدنيا وتشبثت بها وبخلت على الله تعالى بالقرابين اذاقها الذل والهوان عن محمد بن عرفة قال سمعت أبا الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول:لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم)(2) ودفعوا في وقعة

ص: 253


1- لبيان تفصيل هذه الفكرة راجع موسوعة خطاب المرحلة: 10/ 73, والقبس/48, {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} (الأنفال : 36), من نور القران: 2/ 91
2- تهذيب الأحكام- الشيخ الطوسي: 6/ 176/ح1

واحدة هي واقعة الحرة:عشرة الاف انسان. وهذه سنة الله سبحانه جارية في الأمم جميعاً. فهؤلاء البعيدون عن الله سبحانه انما يلهثون وراء سراب {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (النور:39).

التاسع:

نقول له:ماذا يخسر الانسان لو اطاع الله سبحانه؟! لا يخسر شيئاً بل هو يعيش ويتمتع بالحياة كما يفعل البعيد عن الله سبحانه وفوق ذلك له المكاسب الدنيوية والأخروية التي يحققها له الايمان بالله سبحانه والسير على شريعته، قال تعالى {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (الأعراف:32) وفي آية أخرى {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} (النساء:104).

وقد اتبع هذا الاسلوب الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حين قال لابن ابي العوجاء:- وهو من زعماء الملحدين-:في موسم الحج وكان يسخر من الطواف حول الكعبة (إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء وهو على ما يقولون يعني أهل الطواف فقد سلموا وعطبتم، وإن يكن الأمر على ما تقولون وليس كما تقولون فقد استويتم وهم) (1). وهو اسلوب لا يستطيع ان يرفضه اي عاقل.

ص: 254


1- بحار الأنوار: ج 3 / 43 عن كتاب التوحيد للصدوق:125 باب 9 ح4.

العاشر:أنه لو خُيّرتَ بأنك هل تريد أن تدخل في تجارة تعطي فيها ديناراً فيردّ عليك بسبعمائة دينار والله يضاعف لمن يشاء فتصلي خمس صلوات في اليوم وتصوم شهراً في السنة وتحج مرة في العمر إن استطعت وتجتنب الخمر والخنزير والزنا والسرقة لمدة سبعين سنة مقابل ان يدخلك الله جنة عرضها السماوات والأرض تجد فيها كل ما تشتهي حاضراً عندك من دون عناء ولا منغصات خالداً فيها وان تلك الحياة الدنيا لا تشكّل الا جزءاً يسيراً يوم من الحياة الخالدة {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (الحج:22) فأي عاقل لا يرضى بهذه المعاوضة فيعطي التراب ويأخذ الذهب؟ كلّنا عُرض علينا هذا الأمر فوافقنا عليه وأخذ الله سبحانه منّا العهود والمواثيق على الالتزام بهذا العهد فلما خرجنا إلى الدنيا نسيناه {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ، أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} (الأعراف:172-173).

الحادي عشر:

ان حقيقة يجب أن نصدّق بها ونعيشها في وجداننا وهي ان الله تعالى معنا أينما كنّا من حيث الزمان أو المكان وفي مختلف أحوالنا {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (الحديد:4) وانه كما وصف تعالى {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} {ق:50) ويعلم كل شيئاً عنّا {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي

ص: 255

الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} (الأنعام:3)، {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء} (آل عمران:5). وامام هذه الحقيقة الدامغة لا يسعنا الا ان نلتزم بآداب العبودية بين يدي الخالق العظيم في جميع أحوالنا، ومن وصايا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأبي ذر (رضوان الله تعالى عليه) (أعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فأنه يراك)(1) .

الثاني عشر:

إن كل ما عندنا من مال وجاه وبنين وصحة واستقرار وسائر النعم الأخرى التي لا تعد ولا تحصى {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} {النحل:18) هي مما أفاضه الله تعالى على عبده {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} {النحل:53).

واي عاقل يرى أن من غير الانصاف أن تقابل هذه النعم بالمعاصي والتمرد بل بالشكر والعمل بطاعة الله تعالى، واذا أصرَّ العبد على المعاصي فليرجع هذه النعم إلى خالقه وليعص الله بأدوات من صنعه إن قدر على ذلك، لكنه سوف لا يملك شيئاً يعصي به الله تعالى لأن كل ما عنده من الله تعالى وهو لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً فكيف يعصيه إذن وبهذا المعنى ورد الحديث القدسي (من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي ولم يشكر على نعمائي فليعبد رباً سوائي، وليخرج من أرضي وسمائي)(2) .

ص: 256


1- بحار الأنوار: ج 74/ ص 74
2- شرح أصول الكافي: ج 1 / ص 219

القبس /108: سورة النو ر:33

اشارة

{وَليَستَعفِفِ ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا}

موضوع القبس:العفّة رأس كل خير

(العفّة) ملكة وصفة نفسية كسائر الملكات النفسية مثل الشجاعة والكرم والحلم والرحمة:تحصّن صاحبها من الإنقياد للشهوة وإتباع الهوى والوقوع في القبيح، من وصية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لمحمد ابن أبي بكر لما ولاه مصر (اعلم ان افضل العفّة الورع في دين الله والعمل بطاعته) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(العفاف يصون النفس وينزهَّها عن الدنايا)(1)، فالعفّة كالتقوى من هذه الناحية ويمكن ان يكون الفرق بينهما ان العفّة صفة ذات والتقوى صفة فعل والمتعفّف من تحلى بتلك الملكة عن طريق الترويض ومجاهدة النفس، والاستعفاف طلب العفّة.

واذا اطلق لفظ (العفّة) فان الذهن العرفي ينصرف الى حفظ النفس من السقوط في اتباع الشهوة الجنسية بغير ما أحلّ الله تعالى ومخالفة احكامه في هذا المجال سواء على مستوى المظهر الخارجي كسفور المرأة او ميوعتها او عدم غض النظر الى غير ما أحلّ الله تعالى او العلاقات الجنسية غير المشروعة او أي انحراف في توظيف الحاجة الجنسية وإثارتها ونحو ذلك فهذا كله ينافي العفاف،

ص: 257


1- الروايات المذكورة أوردها في ميزان الحكمة: 6/ 72 عن مصادرها

وقد جاء الامر الإلهي صريحاً بتنزيه النفس في هذا المجال قال تعالى {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} (النور:33) والخطاب موجّه الى كلا الجنسين فأمروا بالتعفف وحفظ النفس من الحرام بالتزويج إن كانوا قادرين عليه ومؤهلين له، وإن لم تكن عندهم القدرة على التزويج فليتعففوا بالصبر والانشغال بالطاعات والاعمال المفيدة المثمرة والابتعاد عن المثيرات الجنسية وبمساعدة التذكر والالتفات الى ان الإنسان في محضر الله تبارك وتعالى وتحت نظره وفي رقابة الملائكة {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق:18)، ومفتاح هذه الحصانة عملياً يتحقق بغض البصر {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ، وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} (النور:30-31).وهذا الامر الشرعي لغض البصر ليس مختصاً بشريعة الإسلام وإنما هو موجود في الشرائع السماوية الاخرى، ففي أنجيل (متى:5:27-29) (قد سمعتم انه قيل للقدماء لا تزن، واما أنا أقول لكم إن كل من ينظر الى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه، فان كانت عينك اليمنى تعثرك فأقلعها وألقها عنك، لانه خير لك أن يهلك احد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم)(1)

وقد بلغ التأديب الشرعي حداً دقيقاً في مجال العفاف لكلا الجنسين كقوله تعالى {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} (النور:31) ويكره

ص: 258


1- نقله عنه في تفسير الفرقان:20/ 238.

للرجل ان يقعد في مكان قامت عنه المرأة حتى تذهب حرارة بدنها عنه، عن أبي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):إذا جلست المرأة مجلساً فقامت عنه، فلا يجلس في مجلسها رجل حتى يبرد)(1).فالآية الكريمة تدعو الرجال والنساء الذين لم يتيّسر لهم تلبية شهواتهم الجنسية بالزواج الى التعفف وحفظ النفس من الوقوع في الحرام الى ان يغنيهم الله من فضله ويهيئ لهم أسباب الزواج السعيد المبارك، وروى في صحيح البخاري عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله:(يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فانه اغضّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطيع فعليه بالصوم فانه له وجاء)(2).

هذا على صعيد تفسير الآية الكريمة والمعنى المتبادر من العفاف، لكننا ذكرنا في اول الحديث ان العفّة جارية في كل انحاء السلوك ولا تقتصر على ما يتعلق بالشهوة الجنسية والعلاقة مع الجنس الاخر، وقد ورد لفظ العفاف بهذا المعنى في القرآن الكريم وبغيره أيضاً، فعلى صعيد التعفف من أي انحراف في توظيف الحاجة الجنسية قال الله تبارك وتعالى {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} (النور:33) وقال تعالى {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (النور:60) بحفظ نفوسهن عمّا تشتهي من التبرجّ والظهور للأجنبي وإبداء الزينة.

وعلى صعيد عفّة اليد من التجاوز على أموال الاخرين بغير حق قال تعالى

ص: 259


1- الوسائل ، ج 20 كتاب النكاح ، أبواب مقدمات النكاح ، ب 145 ح 1 .
2- صحيح البخاري: 7/3/ح 5066, ط. دار طوق النجاة

{وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} (النساء:6) وعلى صعيد عفّة النفس واستغنائها عن الطلب من الناس قال تعالى {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} (البقرة:273) وفي عفّة اللسان ورد قوله تعالى {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ} (النساء:148) وفي عفّة البطن ورد قوله تعالى {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} (عبس:24) وقوله تعالى {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (الأنعام:121) وجمعت آية أخرى كل معاني العفاف، قال تعالى {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}(الأعراف:82) أي يتعففون وينزهون أنفسهم عن فعل القبيح في كل شؤون حياتهم.وهكذا تنوعت الأحاديث الشريفة أيضاً فورد في عفّة البطن عن أكل الحرام بسبب حرمة نفس الطعام والشراب كالخمر ولحم الخنزير واللحوم غير المذبوحة بطريقة شرعية او الأطعمة المتنجسة او بسبب حرمة المكسب او حرمة المال، قول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(اذا أراد الله بعبد خيراً أعفّ بطنه وفرجه) (1) وعن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ما عُبد الله بشيء أفضل من عفّة بطنّ وفرج).

و ورد في عفّة المعاملة مع الناس قولاً وفعلاً قول رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (من طالب حقاً فليطلبه في عفاف) أي بوسائل مشروعة ولأغراض صحيحة.

ويبلغ العفاف اسمى مراتبه في عفّة القلب وطهارته من كل الرذائل الخُلقية كالحقد والحسد والانانية والعصبية والرياء والعجب وغيرها ويتسامى اكثر فلا يسكن فيه غير محبة الله تبارك وتعالى {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ، إِلَّا مَنْ

ص: 260


1- الحديث وما بعده تجدها في ميزان الحكمة للريشهري: 3/ 2006-2007-2008, وغيرها

أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء:88 - 89) وسلامة القلب تعني طهارته وتعفّفه عن التعلق بما سوى الله تعالى، لما سُئِل الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عمّا يسمونه بالعشق بين الجنسين قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(قلوبٌ خلت من ذكر الله فاذاقها الله حب غيره)(1)وعلى هذا يكون من الطبيعي ما ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(العفّة رأس كل خير) لان حصول ملكة العفّة في النفس تجعل الإنسان صالحاً مؤهلاً لاستقبال الالطاف والتوفيقات الإلهية كما ورد في القرآن الكريم في حق مريم (س) {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:91) والفاء هنا للتفريع فعفتها واحصانها كان سبباً لنيل هذه الكرامة، وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (اذا أراد الله بعبد خيراً أعفّ بطنه وفرجه)(2).

وتحصل ملكة العفاف بعلاجين:نظري وعملي:

اما النظري فمن خلال الالتفات الى أهمية العفّة في استقامة الانسان وعظيم بركاتها في الدنيا والآخرة، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (أفضل العبادة العفاف) وورد عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في فضل من له القدرة على ارتكاب ما ينافي العفاف سواء في العلاقة مع الجنس الاخر أو أكل الحرام أو الظلم أو النيل من الآخرين بلسانه ونحو ذلك لكنه يمنع نفسه عن ذلك تعففاً قال (ما المجاهد الشهيد في سبيل الله بأعظم اجراً ممن قدر فعفَّ، لكاد العفيف ان يكون ملكاً من الملائكة) وعنه

ص: 261


1- أمالي الصدوق: 765ح1029.
2- الحديث وما بعده تجدها في ميزان الحكمة للريشهري: 3/ 2006-2007-2008, وغيرها

(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من عفَّ خفَّ وزره وعظم عند الله قدره) وجعل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حديث آخر من ثمراتها قلة الاحزان.ومن العلاج النظري:ان يلتفت الإنسان الى قدر نفسه وعظيم ثمنها

وحينئذ لا يرضى لها بغير العفاف والترفع عن اتباع الاهواء والشهوات والخوض في الأمور الدنية، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ينبغي لمن عرف نفسه ان يلزم القناعة والعفَّة) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(من عقل عفَّ).

اما العلاج العملي:فنعني به ترويض النفس ومجاهدتها وتدريبها على القناعة بالقليل من الحلال اذا وجد، او الصبر اذا لم يحصل على القليل، ولذا يوصي أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من يريد التأسي به بقوله (الا وانكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد) وفي حديث مروي عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (أصل العفاف القناعة) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من قنعت نفسه اعانته على النزاهة والعفاف).

وهذا واضح من أصل اشتقاق الكلمة لغوياً فقد قيل انها من (العُفّة) وهي بقية اللبن في الضرع فكأن الضرع يعف بها عن الخروج ويحفظها فيه او ان هذه البقية من اللبن تعف عن ميل اللبن الى الخروج وتُسمى (العُفافة) ايضاً فيقال عففت فلاناً أي سقيته العُفافة وهو (الاقتصار على تناول الشيء القليل الجاري مجرى العُفافة، والعُفّة:أي البقية من الشيء)(1).

والحياء و العفّة توأمان، فالحياء ينتج العفّة، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (سبب العفّة الحياء)(2) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (على قدر الحياء تكون العفّة) وفي رسالة

ص: 262


1- مفردات القرآن للراغب الاصفهاني، مادة (عف)
2- هذه الاحاديث عن الحياء نقلها عن مصادرها في ميزان الحكمة : 2/ 509

الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الى شيعته التي امرهم بمدارستها والنظر فيها يومياً (عليكم بالحياء، والتنزه عما تنّزه عنه الصالحون قبلكم).اننا اليوم احوج ما يكون الى إشاعة ثقافة العفّة في جميع المجالات حيث تعاني المجتمعات من الانحراف الأخلاقي والاجتماعي والفكري والفساد المالي والإداري والكل يتحدث عن النزاهة والمبادئ العليا والاخلاق الكريمة وحقوق الانسان ولا نجدها على الواقع بينما يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(النزاهة آية العفّة).

وتحقيق العفاف مسؤولية اجتماعية تضامنية يشترك فيها الجميع، فالشاب الذي يريد ان يتعفف ويحصِّن نفسه بالزواج ولا يجد الى ذلك سبيلاً يتحمل مسؤولية تزويجه القادرون على ذلك، وعفّة اليد تتطلب مؤسسات فاعلة تثقف المجتمع بحرمة التجاوز على المال العام وتكافح الفساد، وعفّة البطن تدعو الى مراقبة السوق وأنواع الكسب الموجودة لمنع الكسب الحرام وهكذا بقية المجالات.

وفي يوم العفاف الذي اختير له ذكرى ميلاد سيدة العفاف العقيلة زينب الكبرى (س) نقف إجلالاً ونقدّم اسمى تحيات الاكبار والتعظيم للسيدات العفيفات على مر التاريخ وقدواتهن المباركات السيدة مريم ابنة عمران وآمنة بنت وهب أم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وخديجة بنت خويلد أم المؤمنين التي كانت تُسّمى (الطاهرة) في الجاهلية التي عم فيها الفساد، وفاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) التي كانت عابدة موّحدة في الجاهلية الوثنية وفاطمة الزهراء (س) سيدة نساء العالمين وزينب بنت أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عقيلة آل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) اللواتي يفتخر الامام المعصوم زين العابدين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالانتساب لهن ويقف

ص: 263

فى مجلس الطاغية يزيد ويقول (أنا ابن نقيات الجيوب، أنا ابن عديمات العيوب)(1)، ومن سار على نهجهن من النساء المؤمنات.ونستذكر في هذه المناسبة المؤمنات العفيفات اللواتي مضين الى ربهّن شهيدات صابرات صامدات في سجون الانظمة الطاغوتية الجائرة قديماً وحديثاً ولم يتنازلن عن شرف المبادئ السامية رغم التعذيب الوحشي فطوبى لهن وحسن مآب، واشكر الاخوة الذين وفِّقوا لإحياء ذكراهن واستعادة كلماتهن والتذكير بمواقفهن ضمن فعاليات هذا اليوم الشريف.

ص: 264


1- الاحتجاج- الطبرسي: 2/ 39, وبعض المصادر ترويها عن الإمام الحسن في مجلس معاوية كما في (مناقب آل أبي طالب- ابن شهر آشوب: 3/ 178

القبس /109: سورة النو ر:36

اشارة

{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرفَعَ وَيُذكَرَ فِيهَا ٱسمُهُۥ}

موضوع القبس:مقامات القرآن الكريم وصنوه أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ)

التلازم بين القرآن واهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ):

نشير اولاً باختصار إلى الاقتران والتلازم في المقامات بين القرآن الكريم وأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، هذا التلازم الّذي أفاده حديث الثقلين الذي أجمع الفريقان(1) على صحّته وصدوره عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، ففي مسند أحمد بن حنبل(2) بسنده عن زيد بن ثابت قال:قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (إنّي تارك فيكم خليفتين كتاب الله حبل مدود ما بين السماء والأرض- أو ما بين السماء إلى الأرض- وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض) ورووه عن جمع غفير من الصحابة.

لا يرتاب مسلم في معنى أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ):

وقد بيّن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالقول وبالفعل المقصود من أهل البيت في مواطنٍ كثيرة وهُم علي وفاطمة والحسن والحسين (صلوات الله عليهم أجمعين)، ففي مستدرك الصحيحين روى بسنده عن أمّ سلمة أنّها قالت:في بيتي نزلت هذه الآية

ص: 265


1- لمعرفة مصادره من كتب العامّة راجع (فضائل الخمسة من الصحاح الستّة: 2/ 52).
2- مسند أحمد: 5/ 181/ح21068

{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب:33) قالت:فأرسل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلى علي وفاطمة والحسن والحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال:(اللهمّ هؤلاء أهل بيتي) قالت أمّ سلمة:يا رسول الله ما أنا من أهل البيت؟ قال:إنّك إلى خير. وهؤلاء أهل بيتي اللهمّ أهل بيتي أحق).(1)ولا حاجة بعد هذا للدخول في مناقشات لغوية في معنى أهل البيت ومن هو المشمول بها بعد أن حدّد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بنفسه المراد بهذا العنوان.

الزهراء (س) عِدل القرآن الكريم:

فالسيّدة فاطمة الزهراء من أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) الذين هم –بموجب حديث الثقلين- صنو القرآن وعدل القرآن ولا يفترقان حتّى يردا الحوض يوم القيامة، ومن هذا الاقتران والملازمة نستنتج خصائص كثيرة ومقامات رفيعة لأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وللصدّيقة الطاهرة (س) ولأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لتضاف إلى الأدّلة على إمامته وتقدّمه على الخلق أجمعين بعد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) منها:

1-مقام العصمة، لأنّ القرآن {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت:42) وكذلك السيدة الزهراء (س) معصومة بغضّ النظر عن الأدلة الأخرى على عصمتها كآية التطهير وغيرها.

2-مقام العلم والإحاطة بكل شيء ممّا علمهم الله تبارك وتعالى فقد وصف الله تعالى كتابه الكريم بقوله {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ}

ص: 266


1- راجع مصادر الحديث في المصدر السابق: 1/ 269.

{النحل:89) وقال تعالى {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (الأنعام:38) فالسيدة الزهراء (س) لها هذا المقام من العلم والإحاطة بمعرفة كلّ شيء وهو فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده، قال تعالى {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء} (البقرة:255).3-والقرآن له مقام الإمامة والقيادة والحجة ولزوم الطاعة على الخلق أجمعين {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر:7) وقال تعالى {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم:3-4) وللقرآن مقام الإمامة، قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(عليكم بالقرآن فاتخذوه إماماً وقائداً) (1) فكذلك السيّدة الزهراء (س) لها مقام الإمامة والقيادة ولزوم الطاعة على الخلق أجمعين، لذا روي عن الإمام العسكري قوله (نحن حجج الله على خلقه وجدّتنا فاطمة حجّة الله علينا).(2)

4-والقرآن هو الحق والحقّ معه {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ} (الجاثية:29) {فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} (الذاريات:23) وهكذا السيّدة الزهراء (س) فإنّ الحقّ يدور معها حيث دارت.

ص: 267


1- كنز العمال- المتقي الهندي: 1/ 515
2- خطاب المرحلة: 7/ 52.

5-وللقرآن القيمومة(1) العليا المطلقة على الخلق قال تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا، قَيِّماً} (الكهف:1-2) كما أنّ القيّم على الأسرة أو المجتمع له الولاية عليهم يقودهم ويدلّهم على ما يصلحهم ويسعدهم، فكذلك الزهراء (س) لها القيمومة على الناس ومنهجها هو المنهج القيّم والمستعلي على المناهج كلّها، وقد علّلت الآية علّة القيمومة بأنّ لا عِوَجَ له.

6-والقرآن مبارك {وَهَ-ذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} (الأنعام:92) {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} (ص:29) فهو كثير البركة والخير والعطاء ومبارك في آثاره على النفس والمجتمع لأنّه مصدر الهداية والإرشاد والسعادة والحياة المطمئنة للبشرية ومصدر العلوم كلّها، وهكذا الزهراء (س) كثيرة البركة وعطائها لا ينفد، حتّى أنّ الله تعالى سمّاها الكوثر الذي يعني الخير الكثير.

7-والقرآن عصمة للأمة من التفرّق والتشتّت والضياع {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (آل عمران:103) والقرآن وأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) هم الحبل الممدود الذي يعصم الأمّة، وفي هذا قالت السيّدة الزهراء

ص: 268


1- شرحنا معاني هذه الصفات للقرآن في فصل (القرآن يصف نفسه) في ملحق القبس/109, {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (الفرقان:30) , من نور القرآن, ص303 من هذا الجزء

(س) (وجعل إمامتنا نظاماً للملّة وأماناً من الفرقة)(1).8-والقرآن عزيز يصعب مناله في كتابٍ مكنون لا يمسّه إلاّ المطهّرون، وعزيز لأنّه قاهرٌ غالب على من خاصمه، وهو عزيز يندر وجود مثله، وعزيز لأنّه يمتنع عن النيل بسوء، وعزيز لأنّه مطلوب وكلّ مفقودٍ مطلوب، وهكذا السيّدة الزهراء (س) عزيزة بكل هذه المعاني.

9-والقرآن موعظة وشفاء وهدى ورحمة للعالمين كما وصف نفسه وهكذا السيّدة الزهراء (س).

10-وللقرآن مقام الشفاعة كما وصفه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (فعليكم بالقرآن فإنّه شافعٌ مشفّع).(2)

وللزهراء (س) الشفاعة يوم القيامة حتّى ورد في الرواية أنها (س) تلتقط مواليها ومحبّيها يوم المحشر كما يلتقط الطير الحبّ الجيّد من الحبّ الرديء(3).

11-والقرآن مخاصم لمن هجره وأعرض عنه ولم يعمل به وحجّته غالبة ومصدّقة من دون بيّنة أو دليل كما وصفه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأنّه (ما حل مصدّق) (4) أي مخاصِم مصدّق فيما يقول وهكذا السيّدة الزهراء (س) ستخاصم من ظلمها وأنكر حقّها وجحد ولايتها، وهي مصدّقة في دعواها.

ص: 269


1- الاحتجاج- الطبرسي: 1/ 134
2- ميزان الحكمة: 7/ 238 وكذا الأحاديث التالية في نفس المصدر.
3- بحار الأنوار- المجلسي: 8/ 52
4- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 598/ح2

12-والقرآن خالد محفوظ إلى يوم القيامة {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر:9) وهكذا الحجج من أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) باقون ببقاء القرآن وهذا دليل على وجود الإمام المنتظر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وذكر فاطمة وأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) باقٍ إلى يوم القيامة ونورهم باقٍ مهما حاول الحاسدون والمنافقون والمبغضون إطفاءه والقضاء عليه وإزالته {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (الصف:8).

13-وفي التمسّك بالقرآن النجاة من الفتن، عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(إنّها دار بلاء وابتلاء وانقطاع وفناء، فإذا التبست عليكم الأمور كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، من جعله أمامه قاده إلى الجنّة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار)، فالتمسك بهدى الزهراء (س) ينجي من الفتن ويقود إلى الهداية.

14-والقرآن يصف نفسه {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ، وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} (الطارق:13- 14) وهكذا كلمات فاطمة (س) كلّها فاصلة ليس فيها هزل لا محصّل من ورائه أو هزيلة خالية من المعاني، وكان يومها يوم الفرقان.

15-والقرآن أنيس، يقول الإمام زين العابدين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(لو مات من بين المشرق والمغرب لما استوحشتُ بعد أن يكون القرآن معي)(1) وهكذا ذكر السيّدة الزهراء وأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فإنّه أنيس للمحبّين والموالين وبلسم لنفوسهم المتعبة).

16-والقرآن لا يبلى ولا يُملُّ بكثرة التكرار، قال امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لا

ص: 270


1- الكافي: 2/ 602.

تُخلقهُ كثرةُ الرّد وولوجُ السمع)(1) وهكذا ذكر الزهراء (س) كلما يتكرّر يزدادُ اقبالاً وبهجة حتى لو استمر طيلة أيام السنة وعلى مدى السنين.17-ولمن حمل القرآن وتعلّمه وعلّمه أجر عظيم، روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله:(حملة القرآن هم المحفوفون برحمة الله، الملبوسون بنور الله عزّ وجل) فلمن أحيا ذكر الزهراء (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ونشر فضائلها ومناقبها ومظلوميتها مثل هذا الأجر العظيم.

18-وإنّ على حامل القرآن أن يتّصف بالخير، روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (إنّ أحقّ الناس بالتخشّع في السرّ والعلانية لحامل القرآن، وإنّ أحقّ الناس في السر والعلانية بالصلاة والصوم لحامل القرآن) فعلى الموالين للسيّدة الزهراء (س) ان يكونوا على مثل هذه الخصال الكريمة.

19-وللقرآن ارتباط وثيق بليلة القدر وكان نزوله فيها {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر:1) {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} (الدخان:3) وللسيّدة الزهراء (س) ارتباط وثيق بليلة القدر؛ ورد في الحديث عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فمن عرف فاطمة (س) حقّ معرفتها فقد أدرك ليلة القدر)(2)، وقد شرحنا في بعض أحاديثنا وجوهاً لهذا الحديث.

20-ومن آداب تلاوة القرآن أن يُقرأ بالحزن، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (اقرأوا القرآن بالحزن فإنّه نزل بالحزن)، وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (اقرأوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا)، ومن وصف أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) للمتّقين (أمّا الليل فصافون

ص: 271


1- الأحاديث تجدها في ميزان الحكمة: 7/ 238
2- راجع مصادره في الموسوعة الكبرى عن فاطمة الزهراء (س): 18/ 438.

أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن يرتّلونها ترتيلا يحزّنون به أنفسهم ويستثيرون به دواء دائهم) فكذلك السيّدة الزهراء (س) لا تُذكر إلاّ ويفيض القلب حزناً لذكراها، فضلاً عمّا لو ذُكرت مظلوميتها. روي أن رجلاً دخل على الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقد وُلدت له بنت فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ما سمّيتها؟ قال:فاطمة فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (آه آه آه ثم وضع يده على جبهته – إلى أن قال- أما إذا سمّيتها فاطمة –فلا تسبّها ولا تلعنها ولا تضربها).(1)

وهذه الخصائص التي ذكرناها للزهراء (س) ثابتة للأئمة الأطهار (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لكونهم من أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وإنّما خصصنا السيّدة الزهراء (س) بالذكر لأنّها صاحبة المناسبة.

إن ما قمنا به من بيان هذه المقامات لأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فيه دعوة لإتباع هؤلاء السادة الهداة تلبية لدعوة الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (قال الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):رحم الله عبدا أحيا أمرنا، فقيل له:وكيف يُحيي أمركم ؟.. قال:يتعلّم علومنا ويعلّمها الناس، فإنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا)(2).

ص: 272


1- وسائل الشيعة كتاب النكاح، أبواب أحكام الأولاد، باب 87.
2- جواهر البحار، الجزء الثاني، كتاب العلم، عن كتاب: معاني الأخبار.

القبس /110: سورة النور:55

اشارة

{وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُم وَعَمِلُواْ ٱلصَّلِحَتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي ٱلأَرضِ}

موضوع القبس:الوعد الإلهي بالاستخلاف والتمكين

قال الله تبارك وتعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور:55).

يتعرّض المؤمنون في حياتهم إلى ضغوط عديدة من قبل أعدائهم وخصومهم في الفكر والعقيدة، وهذه الضغوط قد تكون على نحو الاستهداف بالقتل والتشريد والسجن والإرهاب، وقد تكون على نحو صناعة المشاكل الاجتماعية والانحرافات الأخلاقية والشبهات العقائدية، وقد تكون على نحو التجويع والحصار الاقتصادي وحرمان الإنسان من حقه في حياة حرة كريمة، وغير ذلك.

ولا يتوقف الخصوم والأعداء عن هذه الممارسات التي تأخذ أشكالاً متعددة قوية عنيفة تارة وناعمة خفية تارة أخرى؛ حتى يهيمنوا على المؤمنين ويتسلّطوا عليهم ويجرّدوهم من عقيدتهم وأخلاقهم ويحبطوا مشروعهم الإصلاحي ويذوّبوا هويّتهم على طريقة العولمة التي يتحدثون اليوم عنها، قال

ص: 273

تعالى:{وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ} (البقرة:217) وقال تعالى:{وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (البقرة:120) وهم ينطلقون في ذلك من أنانيتهم واستكبارهم وحبهم للدنيا واتباعهم للشهوات وحسداً للمؤمنين على طهارتهم وسموّهم عن الرذائل والموبقات، قال تعالى:{وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} (البقرة:109).ويساعد على نجاح خطط هؤلاء الأعداء الخارجيين من داخل المجتمع المسلم حمقى ومنافقون وجهلة وطلاب الدنيا وعُبّاد الشهوات.

وفي ظل هذه الضغوط يعيش المؤمنون حالة من الضيق والقلق والخوف واليأس من نجاح مشروع الهداية والإصلاح فيأتي هذا الوعد الإلهي المذكور في الآية ليطمْئنهم ويعيد إليهم الثقة بالنفس ويزرع في قلوبهم التفاؤل والأمل حتى يثبتوا على إيمانهم ويستمروا في أداء رسالتهم، ولا شك أن هذا الوعد حق لا يمكن أن يتخلف {وَعْدَ اللّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً} (النساء:122) {لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} {الروم:6) {إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (آل عمران:9) (الرعد:21).

نعم قد تطول المدة حتى يتحقق هذا الوعد الإلهي ولو في بعض مراتبه؛ لأن بناء المجتمع الصالح يحتاج إلى جهود مضنية وعمل دؤب مع صبر ومصابرة ومرابطة وإلى زمن لتتحقق شروطه وظروفه ومقوماته، فعلى المؤمنين أن يستمروا

ص: 274

بعملهم والقيام بمسؤولياتهم وليس عليهم توقيت النتائج أو استعجال حصولها.والوعد الذي تشير إليه هذه الآية التي نزلت في المدينة ذكرته آيات سبق نزولها في مكة(1) كالذي تضمنه قوله تعالى:{وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} (القصص:5-6) وقد كان المسلمون يومئذٍ قلة معدمين تلاحقهم قريش فتعذبهم وتحاصرهم وتصادر أموالهم وتقتلهم {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الأنفال:26)، فوعد الله تعالى المؤمنين بالأمور التي ذكرتها الآية:

1-الاستخلاف في الأرض بأن تكون بأيدي المؤمنين الصالحين العاملين الإمكانيات المادية والمعنوية التي يستطيعون بها إعمار الأرض وتوفير الحياة الكريمة للبشرية جمعاء.

2-تمكين الدين الذي ارتضاه تعالى لهم وهو الإسلام والانقياد لله تعالى:{وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} (المائدة:3) ويتحقق تمكين الدين بثباته واستقراره في القلوب والنفوس وعندما تكون له القيمومة والسيادة على الأنظمة والقوانين والدساتير التي وضعها البشر بقصورهم وتقصيرهم.

ص: 275


1- كقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء: 105) وقوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ، وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (الصافات: 171-173).

3-الحرية في الإيمان بالعقائد الحقة وممارسة العبادة الخالصة لله تعالى ونبذ الشركاء جميعاً سواء كانوا أصناماً حجرية أو بشرية أو طواغيت أو أهواء أو عصبيات أو تقاليد، ويقترن ذلك بالأمن من الخوف وزوال الضغط والإرهاب عنهم وتأثير الشبهات والضلالات عليهم.

هذا في الدنيا أما في الآخرة فينبئك الله بتحقق وعده {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (الزمر:74).

لكن الوعد الإلهي بتحقيق هذه الأمور لا يتم بمجرد ادعاء الإيمان أو الاكتفاء بممارسة العبادات والشعائر الظاهرية من دون أن يتحول إلى حركة فاعلة دائبة تنطلق من منهج متكامل للحياة فيجعل المرجعية للدين الحق في كل شؤون الحياة وتفاصيلها وفي كل عوالم الإنسان وسلوكه حتى في مشاعره وعواطفه وميوله فيجعل الله تعالى نصب عينيه ويجعل هدفه الوحيد تحقيق مرضاة الله تعالى وتجنب معصيته وغضبه سبحانه، لذا ذكرت الآية {منكم} أي ليس كلكم وإنما بعضكم الذي توفّرت فيه هذه الصفات.

أما من ينتسب إلى الإسلام وربما الانتماء لأهل بيت النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وربما يقيم الصلوات ويشارك في إحياء الشعائر الدينية لكنه يظلم الناس ويتجاوز على حقوقهم ولا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر ولا يطبق أحكام الله تعالى في القضايا والوقائع فإنه ليس مشمولاً بهذا الوعد الإلهي لأن الخطاب موجّه إلى الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر {قَالَتِ الْأَعْرَابُ

ص: 276

آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (الحجرات:4).روي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه كان جالساً مع أصحابه فجاء خبر إلى أحدهم بأن امرأته قد ولدت فتغيّر وجه الرجل فسأله النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):عما أصابه، فقال:خرجتُ والمرأة في حالة مخاض وولادة وأخبرت الآن أنها ولدت أنثى، فسأله النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):كم سنة مضت عليك في الإسلام، قال:سبع عشرة سنة، فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):كل هذه المدة ولم يدخل الإيمان قلبك(1).

فهذا الرجل رغم أنه من السابقين إلى الإسلام والمهاجرين الذين تحملوا الأخطار والمشاق، إلا أن هذه المشاعر القلبية منه سلبته حقيقة الإيمان وإن كان مؤمناً بحسب الظاهر.

أيها الأحبة:

إن هذا الاستخلاف والتمكين ليس من الضروري أن يكون مقترناً بالوصول إلى السلطة والحكم(2)، وإن كانت السلطة والحكم من العناصر المساعدة على الوصول إلى الهدف الأسمى أي تكون وسيلة وليست غاية وهي من مصاديق القوة التي أمر الله تعالى بإعدادها {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}(الأنفال:60).

ص: 277


1- الحادثة مروية في المصادر مثل وسائل الشيعة: 15/ 101 ح2 لكن ذيلها لم نعثر عليه في حدود البحث الذي أجريناه.
2- بل قد تكون السلطة وبالاً على أصحابها عندما ينظرون اليها على انها غنيمة يحوزونها بجشع واستئثار.

فالملحوظ في تحقق الوعد الإلهي هو حصول النتائج التي ذكرتها الآية الكريمة، فبالرغم من أن السيدة الزهراء (س) والأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) كانوا في مظلومية دائمة ومستمرة وإقصاء كامل إلا أنهم كانوا القدر المتيقن من المقصودين بآية الوعد الإلهي، وقد أكد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هذه الحقيقة بصراحة ووضوح حينما جمع أهل بيته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قبيل وفاته وقال لهم:(أنتم المستضعفون بعدي)(1) وهي تعني فيما تعنيه أنتم المقصودون بالوعد الإلهي للمستضعفين بالاستخلاف والتمكين ووراثة الأرض ولو على يد حفيدهم المهدي الموعود (عجل الله فرجه الشريف) وقال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في بعض كلماته:(ونحن على موعود من الله تعالى حيث قال عز اسمه {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ}(2). لقد كانت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (س) على ثقة تامة بهذا الوعد الإلهي رغم أنها بحسب الظاهر كانت امرأة مستضعفة ومسلوبة الحقوق وزوجها مكبّل وقد فقدت الناصر والمعين وهي تواجه خصماً بيده السلطة مدججاً بالسلاح ومحفوفاً بالأعوان المتأهبين لفعل كل شيء بلا رادع لكنها تخاطبهم بكل شجاعة وثبات وثقة بالنفس واطمئنان بالنتائج بقولها (س):(وأبشروا بسيف صارم يدع

ص: 278


1- معاني الأخبار- الشيخ الصدوق: 79
2- نهج البلاغة، من كلمته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لعمر بن الخطاب لما استشاره في الخروج إلى العراق لقتال الفرس.

فيئكم زهيداً وجمعكم حصيداً، فيا حسرة لكم! وأنّى بكم وقد عميت عليكم! {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ}(1) (هود:28).إنها ليست لغة الأسير المستضعف بل لغة الواثق بالنصر والذي يرى هزيمة خصمه عين اليقين، فتحذّرهم من سوء العاقبة والمصير.

وقد ورثت ابنتها العقيلة زينب (س) هذه الثقة بالوعد الإلهي فقالت مخاطبة يزيد الطاغية المتفرعن المغرور بالنصر الذي توهّمه:(فكِد كيدك واسعَ سعيك وناصب جهدك، فوالله لا تمحونَّ ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحَضُ عنك عارها، وهل رأيك إلا فند، وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي {أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} (هود:18)(2).

أيها الإخوة والأخوات:

إننا نتلمّس اليوم بوضوح جملة من علامات تحقق هذا الوعد الإلهي بإظهار الدين الذي ارتضاه على كل الأنظمة الوضعية المصطنعة وتمكين المؤمنين الصالحين من أخذ دورهم في إعمار الأرض بما ينفع البشرية كلها ويعبّد لها طريق الهداية والصلاح، ومن تلك العلامات:

1- وصول صوت أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) إلى جميع الشعوب حتى تتعرف على المبادئ الإنسانية السامية التي يريدون إقامتها مما ولّد مقبولية واسعة لهذه المدرسة المباركة لدى الشعوب وإقبالاً متزايداً على الانتماء لها.

ص: 279


1- الاحتجاج للطبرسي: 1/ 140.
2- راجع مصادر الخطبة في كتاب الصحيح من مقتل سيد الشهداء وأصحابه: 1125.

2- تصاعد مستوى الشجاعة والتضحية في سبيل الله وحماية المقدسات وامتلاك المبادرة والإقدام والشعور بالمسؤولية لدى المستضعفين، وقد تجلّى كل ذلك في العمليات التي تخوضها قواتنا المسلّحة بكل صنوفها وأبطال الحشد الشعبي وقوافل الدعم اللوجستي خصوصاً في معارك الموصل الأخيرة حيث اعترف قادة جيش أقوى دولة في العصر الحديث بأن هذه المعركة تصعب على أي جيش في العالم مع ما رافقها من النبل وسمو الأخلاق والتضحية من أجل الإنسان أي إنسان بغضّ النظر عن دينه وطائفته وقوميته.

3- تنامي حالة الوعي واليقظة لدى الأمة وإدراك تحديات المرحلة ومتطلباتها وهذه الحالة وإن كانت في بداياتها إلا أنها تبشّر بخير بإذن الله تعالى.

4- ظهور علامات الضعف والضمور والتفكك عند الدول المستكبرة وازدياد مشاكلها التي تعجز عن حلّها فتحاول التخلص منها بتصديرها إلى الخارج.

أيها المؤمنون:

لكي نساهم في تحقق هذا الوعد الإلهي واكتماله بظهور منقذ البشرية بقية الله في أرضه وحجته على خلقه إمامنا المهدي الموعود (أرواحنا له الفداء) فعلينا أن نبذل قصارى جهودنا في إدامة وتعزيز هذه العلامات المذكورة، وقد ذكرت آية كريمة أخرى صفات وأعمال الذين يُمكَّنُ لهم في الأرض، قال تعالى:{الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج:41).

وعلينا أيضاً أن نتجنب كل ما يعرقل هذه الحركة المباركة نحو التكامل

ص: 280

من عصيان وتمزق وتشتت وصراعات وخوض في الباطل واتباع للشهوات والأهواء وأن نعي مؤامرات الأعداء ونحذر منها وهي كثيرة وخطيرة ومعقدة لكنها لا تخفى على القيادة الرشيدة وأهل البصائر، تبدأ من نشر مظاهر الفسق والفساد وتجريد المسلمين من عناصر هويتهم العقائدية والأخلاقية، وتنتهي بانقلاب القيم والأفكار حتى يستحي المسلم من إعلان هويته والدعوة إلى مشروعه ويتباهى بتبعيته وذوبانه في المشروع المعادي(1). وهذا مما حذّر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أمته منه في الحديث المشهور (كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟ فقيل له:ويكون هذا يا رسول الله؟ فقال:نعم، وشرٌّ من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ فقيل له:يا رسول الله، ويكون ذلك؟ قال:نعم، وشرٌ من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر

ص: 281


1- وننقل هنا نموذجاً مما يريدون فعله أنقله من قراءة وترجمة أحد الإخوة المغتربين لكتاب (محو العراق: خطة متكاملة لاقتلاع عراق وزرع آخر) ووصفه الكاتب بأنه تطبيق لكتاب سابق بعنوان (فهم الشر: دروس من البوسنة) من خلال مصطلح (إبادة الشر) جاء فيه (هدم كل قيم التضامن وعلاقات الجوار والأحياء السكنية وبناء نظام الحواجز المادية والنفسية والدينية وسيطرة الارتياب والخوف من الآخر، والأخطر انقلاب المقاييس حيث يصبح المتشاطر ذكياً، والنبيل العفيف غبياً لأنه لا يشارك في الوليمة العامة والنهب، ويصبح اللص سوياً والشريف منحرفاً وغيرها من التناقضات التي تقلب منظومة القيم الأخلاقية والسياسية السوية لصالح نقيضها من خلال خطة منسقة لأعمال مختلفة تهدف إلى تدمير الأسس الأساسية للمجتمع).

معروفاً)(1).إن هذه التحديات الهائلة تضاعف علينا المسؤولية، فليستمد المؤمنون من هذا الوعد الإلهي العزيمة والهمّة والقدرة غير المحدودة على مواصلة العمل الرسالي حتى تحقيقه بإذن الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد:7) {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً، وَنَرَاهُ قَرِيباً} {المعارج:6-7).

ص: 282


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 1، ح12.

القبس /111: سورة الفرقان:30

اشارة

{وَقَالَ ٱلرَّسُولُ يَرَبِّ إِنَّ قَومِي ٱتَّخَذُواْ هَذَا ٱلقُرءَانَ مَهجُورا}

الحذر من هجر القرآن

تقع الآية ضمن سلسلة من الآيات التي تعرض صوراً من حالات الندم والأسف التي تنتاب الظالمين يوم القيامة بحيث يعضّ أحدهم على كلتا يديه وليس على اصبع واحدة جزاء تفريطهم وتمردهم على ما أمرهم الله تعالى به نتيجة لاتباعهم اهواءهم وعصبيتهم وقرناء سوء غشوّهم {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا ، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا ، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولا} {الفرقان:27-29) ومما يزيدهم ندماً وحسرة ورعباً من مصيرهم ان الرسول الذي بعثه الله تعالى رحمة بهم ومنقذاً وهادياً لهم سيكون خصمهم والحجة عليهم وهو الذي يرفع الشكوى ضدّهم فتقول الآية التالية {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} لأن القرآن هو الأصل في السبيل الموصل الى الله تبارك وتعالى الذي يندمون على عدم اتخاذه، فالإعراض عنه إعراض عن الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأهل بيته الطاهرين، فلما هجروه وابتعدوا عنه وقعوا في هذا المصير المشؤوم.

ص: 283

و (قَوْمِي) هنا وإن انصرفت إلى قريش قوم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عند نزول الآية في مكة وتكون الآية حينئذٍ إخباراً عن دعاء وشكوى ناجى بها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ربَّه بعد ان رأى صدود واعراض قومه من قريش والله تعالى يعلم بهذا الواقع ويعلم ان رسوله لم يدّخر جهداً في ابلاغ الرسالة.الا انها عامة لجميع الناس كما هو شأن القرآن لأن الجميع مخاطبون بهذا القرآن ومأمورون باتباعه فتكون الآية إخباراً عن شكوى يرفعها الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في محكمة العدل الإلهي يوم القيامة والتعبير بالماضي بعناية تحقق الوقوع كما في الكثير من الآيات التي تحكي مشاهد القيامة في القرآن بصيغة الماضي، فتنضمّ شكواه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الى شكوى القرآن نفسه بحسب ما ورد في الرواية الشريفة عن جابر عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (يجئ يوم القيامة ثلاثة يشكون إلى الله عز وجل:المصحف، والمسجد، والعترة. يقول المصحف:يا رب حرقوني ومزقوني، ويقول المسجد:يا رب عطلوني وضيعوني، وتقول العترة:يا رب قتلونا وطردونا وشردونا فأجثوا للركبتين للخصومة، فيقول الله جل جلاله لي:أنا أولى بذلك)(1) .

وروى عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (أنا أول وافد على العزيز الجبار يوم القيامة وكتابه وأهل بيتي ثم أمتي ثم اسألهم ما فعلتم بكتاب الله وأهل بيتي)(2) .

وهجران الشيء تعني مفارقته بنحو من الانحاء، ولا شك ان هجر القرآن يصدق على مراتب عديدة تقابل مراتب القرب من القرآن، فأوطأ درك للهجران هم من صمّوا آذانهم عن سماعه خشية ان يدخل قلوبهم فأغلقوها دونه تعصباً وعناداً

ص: 284


1- الخصال للصدوق: 132 أبواب الثلاثة، الحديث 232
2- الكافي: 2/ 600

واستكبروا عن الايمان به {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} (الإسراء:46) {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} (نوح:7) وانكروا كونه وحياً الهياً {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} (الفرقان:4) وغاية ما قالوا أنه كلام منمق جميل صنعه محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهي الشبهة التي يرددها إلى اليوم بعض المعاندين أو إنه أملي اليه {يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (النحل:103) .ومن مراتب هجر القرآن ما عليه المنافقون الذين أسلموا للقرآن ظاهراً لكنهم خالفوه في واقعهم وحياتهم العملية فبنو أمية وبنو العباس مسلمون ظاهراً ويؤمنون بالقرآن وما فيه وفيه قول الله تعالى {قُل لّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (الشورى:23) الا إنهم أمعنوا في قتل أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وسجنهم واضطهادهم، ويقرأون آية تحريم الخمر ويشربونها علناً وسراً وأمثال ذلك.

ومن صور الهجران ما عليه أغلب المجتمعات الإسلامية اليوم حيث يستمدون أفكارهم وثقافتهم وأنظمتهم وقوانينهم وسلوكهم من مصادر غير ربانية ويعرضون عن تعاليم القرآن الكريم التي هي دستور حياتهم ومنهج سعادتهم وكمالهم ففقدوا رشدهم وضلّت مسيرتهم.

ومن مراتب هجران القرآن الاهتمام بمخارج حروفه وتلحين الصوت فيه ومعرفة قواعد قراءاته وأنواعها من دون التدبر بمعانيه والاستفادة من مضامينه ولطائفه

ص: 285

وهؤلاء قال فيهم الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (حفظوا حروفه وضيّعوا حدوده)(1) .ومنها اتخاذ الآيات القرآنية مسرحاً للصراعات العلمية البحتة والجدل والمراء في مختلف العلوم لإثبات آرائهم ومواقفهم والتعصب لها وتفوقهم على الخصوم مبتعدين عن الهدف الذي أنزل من أجله وهو هداية الناس وهذا الجدل يقسي القلب ويصدّ عن ذكر الله تعالى ومعرفته والاهتداء إليه.

ولا زالت الحوزات العلمية ومعاهد العلوم -- وهي المعين الذي ينهل الناس منه دينهم -- بعيدة عن الحياة في كنف القرآن الكريم، ولا يحظى هذا السبيل الأعظم الموصل إلى الله تعالى باهتمامهم، وينهي طالب العلم دراسته دون أن يحظى بدرس في القرآن الكريم، وربما يرى الكثيرون في التصدي لتفسير القرآن الكريم وشرح معانيه والاستفادة من لطائفه ودقائقه منقصة بعالم الفقه والأصول مما يشكّل ضغطاً نفسياً واجتماعياً عليه حتى يتركه.

فلابد ان نتدارك أمرنا ونبادر الى اتخاذ السبيل مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لئلا نكون ممن يشكوهم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومن الظالمين الذين يعضّون على أيديهم ويقول واحدهم {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا} والقرآن هو السبيل الأعظم والثقل الأكبر روى في مجمع البيان عن رسوله الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (أفضل العبادة قراءة القرآن) (2) وروي عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (حملة القرآن عرفاء أهل الجنة)(3) .

روى الشيخ الكليني بسنده عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (فإذا التبست عليكم الفتن

ص: 286


1- الكافي: 2/ 598
2- مجمع البيان- الطبرسي: 1/ 44
3- الكافي: 2/ 443 ح 11، الخصال: 28 ح 100، معاني الأخبار:323

كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع وماحل مصدق ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار وهو الدليل يدل على خير سبيل وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل)(1) وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (القرآن هدى من الضلالة وتبيان من العمى واستقالة من العثرة ونور من الظلمة وضياء من الاحداث وعصمة من الهلكة ورشد من الغواية وبيان من الفتن وبلاغ من الدنيا إلى الآخرة وفيه كمال دينكم وما عدل أحد عن القرآن إلا إلى النار)(2) .ومن خلال الرجوع إلى أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في فهم مراداته فأنهم الثقل الآخر وهما متلازمان لا يفترقان بنص الحديث المشهور المتواتر لدى الفريقين (إني تارك فيكم أمرين إن أخذتم بهما لن تضلوا:كتاب الله عز وجل وأهل بيتي عترتي، أيها الناس اسمعوا وقد بلغت، إنكم ستردون علي الحوض فأسألكم عما فعلتم في الثقلين والثقلان:كتاب الله جل ذكره وأهل بيتي، فلا تسبقوهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم)(3) فما تمسّك بأحدهما من لم يتمسك بالآخر، وقد اضيع القرآن عندما اقصي أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) عن مراتبهم التي وضعهم الله تعالى فيها ومما ورد في زيارة الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وأصبح كتاب الله بفقدك مهجورا)(4)، روى الشيخ الكليني في روضة الكافي خطبة لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) المعروفة بخطبة الوسيلة إلى ان قال (فأنا الذكر الذي عنه ضل والسبيل الذي عنه

ص: 287


1- الكافي: 2/ 598
2- الكافي: 2/ 600
3- الكافي: 1/ 294
4- مفاتيح الجنان: ص 552/ الزيارة المخصوصة ليوم عرفة.

مال والايمان الذي به كفر والقرآن الذي إياه هجر والدين الذي به كذب والصراط الذي عنه نكب)(1) .وكان كل علم أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من القرآن كما روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو باب مدينة علم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وروى إبراهيم بن العباس قال (ما رأيت الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سئل عن شيء قط الا علمه، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان الأول إلى وقته وعصره، وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كل شيء فيجيب فيه وكان كلامه كلّه وجوابه وتمثّله انتزاعات من القرآن)(2) إن من الطبيعي ان يوجد أعداء للقرآن يهجرونه ويصدّون عنه ويحاربون حملته ويضعون العراقيل في طريق هدايته للبشر جميعاً ففي الآية التالية التي فيها تسلية لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتخفيف عن آلامه {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ} {الفرقان:31) لكن الله تعالى شاء ألاّ يهجر القرآن فأوجب قراءته في الصلوات الخمس المفروضة يومياً، روى الفضل بن شاذان في علله عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فان قال:فلم أمروا بالقراءة في الصلاة قيل:لئلا يكون القرآن مهجورا مضيعاً وليكون محفوظاً فلا يضمحل ولا يجهل)(3) فلا خوف على القرآن لأن الله تكفل بحفظه، والمهم ان نكون نحن في معسكر القرآن ومن حملته والدعاة إليه ومنفذي أحكامه.

ص: 288


1- روضة الكافي: 8/ 28.
2- عيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) : 2/ 180 ح 4.
3- عيون اخبار الرضا: ج1/ ص 113.

وقد ذكرتُ في سلسلة محاضرات (شكوى القرآن) وغيرها عدة آليات وخطوات عملية لتفعيل دور القرآن الكريم في حياة الفرد والأمة يمكن الرجوع اليها والاستفادة منها.فلابد ان نلتزم يومياً بتلاوة القرآن في أوقات الصلاة أو غيرها ففي صحيحة حريز عن ابي عبدالله الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (القرآن عهد الله إلى خلقه فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده، وان يقرأ منه في كل يوم خمسين آية)(1) والأولى ان يختم القرآن في الشهر مرة، فقد روي عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (لا يعجبني أن تقرأه في أقل من شهر)(2) وعلى الشباب أن يكونوا حريصين على ذلك، روى الشيخ الكليني بسنده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن اختلط القرآن بلحمه ودمه، وجعله الله مع السفرة الكرام البررة، وكان القرآن حجيزاً عنه يوم القيامة)(3) إلى آخر الحديث.

وعلى الصعيد الاجتماعي اذكر فعالية واحدة الآن وذلك بأن يلتزم أئمة المساجد بأن يقرأوا مع المصلين صفحتين من القرآن الكريم بعد الانتهاء من صلاة الجماعة يومياً ثم يشرح لهم باختصار موضوعاً ورد ذكره في الصفحتين كأهمية الصلاة أو بر الوالدين أو حرمة الغيبة أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو ولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وتوجد كتب مفيدة في هذا المجال كتفسير المعين فأنه يضع في حاشية كل صفحة من القرآن تفسيراً لمفرداتها ويشرح باختصار في أسفل

ص: 289


1- الكافي: 2/ 441 ، ح4
2- الكافي: 2/ 451 ح 1
3- الكافي: 2 441 ، ح4

الصفحة عنواناً ورد فيها وبذلك يحصل كل فرد على ثقافة قرآنية واسعة خلال مدة قصيرة بلطف الله تعالى وحسن توفيقه.

ص: 290

ملحق:شكوى القرآن

الافتتاح:

ملحق:شكوى القرآن(1)

اعتاد الناس افتتاح الندوات والمؤتمرات واللقاءات وبرامج الإذاعة والتلفزيون بتلاوة آيات من الذكر الحكيم تبركاً بها وتعظيماً لها وقد جرى على ذلك حتى غير المسلمين مما يدلُّ على هيبة هذا الكتاب الكريم حتى في قلوب أعدائه، فما أحرانا نحن طلبة الحوزة الشريفة أن نفتتح دروسنا بالقرآن الكريم وينبغي أن يكون افتتاحاً واعياً متفاعلاً مع روح القرآن ومضامينه ومعانيه وليس افتتاحا شكليا وكأنه مجرد نشيد وترنيمه أو عوذة وتميمة.

القرآن يشكو:

وقد اخترت أن أبدأ من الحديث الشريف المروي في الكافي والخصال عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(ثلاثة يشكون إلى الله عز وجل مسجد خراب لا يصلي فيه أهله وعالم بين جهّال ومصحف معلّق قد وقع عليه الغبار لا يُقرأ فيه)(2) وأوضح مصاديق العالم هم أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وخصوصاً الإمام الفعلي القائم

ص: 291


1- سلسلة محاضرات ألقاها سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الوارف) بمناسبة حلول العام الدراسي الجديد على طلبة الحوزة العلمية الشريفة في النجف الأشرف بدأت بتأريخ السبت 19/محرم /1422ه- الموافق 14/ 4/ 2001م. وصدرت في حينها بكتاب مستقل عنوانه (شكوى القرآن) لقي رواجاً كبيراً ولا يزال يعاد طبعه.
2- الكافي: كتاب فضل القرآن، باب قراءة القرآن في المصحف، ح3. الخصال: 1/ 142 أبواب الثلاثة.

بالأمر (أرواحنا له الفداء) فالثلاثة الذين يشكون هم القرآن والعترة والمسجد ويدل عليه ما ورد في حديث آخر عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(يجيء يوم القيامة ثلاثة يشكون:المصحف والمسجد والعترة يقول المصحف يا ربّ حرّفوني ومزقّوني، ويقول المسجد:يا رب عطلّوني وضيعّوني وتقول العترة يا رب قتلونا وطردونا وشردونا، فأجثو للركبتين في الخصومة فيقول الله عز وجل لي:أنا أولى بذلك منك)(1).

ونستفيد من هذا الحديث أكثر من أمر:

الأول:إن أسس بناء الأمة المسلمة ومقومات كيان المجتمع المسلم هي هذه الأركان الثلاثة، لذا تم التركيز عليها، والحديث على هذا يكون بمعنى

حديث الثقلين المشهور:(إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً وقد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض يوم القيامة)(2). والثقلان هما اثنان من هذه الثلاثة، أما الثالث وهو المسجد فهو المحل الذي يمارس الثقلان من خلاله دورهما في المجتمع ويرتبطان في أجوائه المقدسة بالأمة.

الثاني:الإشعار بأن الأمة ستعرض عن هذه الثلاثة وستخلفها وراء ظهورها لذلك أخبر (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن الشكوى كحقيقة واقعة وهو (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يحذر الأمة

ص: 292


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساجد، باب 5، حديث2.
2- روي في كتب العامة والخاصة، وللمزيد راجع كتاب (المراجعات) للسيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي.

من هذا التضييع ويبالغ في العقوبة عليه حتى كأنَّ الله تبارك وتعالى هو الخصم المطالب بحقها وهو الحكم العدل.وما دامت هذه الثلاثة هي أسس كيان المسلمين فتضييعها يعني زوال هذا الكيان وفناءَه لذا كان لزاماً علينا أن نفرد كل واحد منها ببحث خاص لبيان أثره في حياة الأمة وعظيم خسارتها بالإعراض عنه، وأساليب تفعيل دوره في حياة المسلمين.

وأرى من واجبي أن أنصب نفسي (مدعياً عاماً) كما يعبرون اليوم لأرفع هذه الشكاوى الثلاث وأبدأ برفع شكوى ثقل الله الأكبر:القرآن الكريم وهو الحبل الممدود من الله تبارك وتعالى إلى عباده، هذه الشكوى التي يرفعها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يوم القيامة:{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (الفرقان:30) وحذّر المسلمين من هذا الخطر حين عرض عليهم سبب انحراف الأمم السابقة وهو ترك ما أنزل الله إليهم، قال تعالى:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ}(المائدة:8). فمن تمسك به فقد سلك الطريق الموصل إلى الله ومن أعرض عنه هلك وهوى.

ومنشأ هذه الشكوى إعراض مجتمعنا المسلم حتى الملتزمين(1) منهم عن تلاوة القرآن والاهتمام به وتدبر آياته فضلاً عن إعطائه دور الريادة والإمامة في

ص: 293


1- استقرأت عدداً من العينات العشوائية وكانوا من الطلبة المتقدّمين للقبول في الحوزة الشريفة لاستبيان علاقتهم بالقرآن والمفروض أنهم يمثلون درجة من الوعي والإيمان الذي

الحياة ليكون هو النبراس والدليل الذي يهتدي به المهتدون في جميع تفاصيل الحياة، حتى عاد منسياً عندهم ولا يذكرونه إلا قليلا في شهر رمضان المبارك، ونحن نحث على زيادة الاهتمام بالقرآن في هذا الشهر المبارك للعلاقة الحميمة بينهما، حتى ورد في الحديث:(إن لكل شيء ربيعاً وربيع القرآن شهر رمضان)(1) لكن هذا لا يعني إهماله أو قلة التعرض له في غيره من الشهور.

البعد عن القرآن سبب انحطاط المسلمين:

إن اختيار الحديث عن هذه الشكوى لم يأت اعتباطاً وليس هو من الترف الفكري بل هو ناشئ عن بصيرة نافذة ونظر ثاقب في تحليل واقع المسلمين وما تردت إليه أوضاعهم حتى صاروا يهدون مقتلهم على طبق من ذهب إلى أعدائهم الذين هم إبليس والنفس الأمارة بالسوء وصنيعتها الغرب الكافر الذي جهد على أن يفصل بين المسلمين وعنوان عزهم وشرفهم وكرامتهم وهو القرآن وها هو غريب بينهم، لذا ثارت في قلبي شجون.

إن أسباب انحطاط الأمة وما آلت إليه من ضعف وانحلال هو إعراضها وعدم تمسكها بحبل الله تبارك وتعالى الذي أمرهم بالاعتصام به فقال عز من

ص: 294


1- معاني الأخبار: الشيخ الصدوق، ص228.

قائل:{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}(آل عمران:103)، وقد بين رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هذا الحبل فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(وإني مخلف فيكم الثقلين:الثقل الأكبر القرآن والثقل الأصغر عترتي أهل بيتي هما حبل الله ممدود بينكم وبين الله عز وجل ما إن تمسكتم به لم تضلوا، سبب منه بيد الله وسبب بأيديكم . . . الحديث)(1).

ما تمسك بالقرآن مَن أعرض عن العترة الطاهرة:

ولكن الأمة تركت كتاب الله وابتعدت عنه منذ أن أقصت العترة الطاهرة عن مكانها الذي اختارهم الله سبحانه له لعدم إمكان الفصل بينهما معرضين عن

قوله تعالى:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}(القصص:68).

ومن خطل القول وتسويلات الشيطان ونزغات النفس الأمارة بالسوء أن يقول قائل (حسبنا كتاب الله)(2) التي لا يزال يكررها وينفثها الشيطان على لسان من يريد أن يقوض بناء الإسلام من أسسه بما فيها القرآن الذي يدعي أنه حسبه لأنه يعلم أن القرآن إنما يكتسب فاعليته ويؤدي دوره بالقائم به الواعي لأحكامه ومفاهيمه وهم العترة.

وهذه الفتنة –الفصل بين القرآن والناطق به - قديمة وممن ابتلي بها أمير المؤمنين حينما أجبر على التحكيم وعلى أن يجعل القرآن حكماً، قال

ص: 295


1- بحار الأنوار: 92/ 102.
2- البداية والنهاية- ابن كثير: 5/ 247

(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(هذا القرآن إنما هو خط مستور بين الدفتين لا ينطق بلسان ولا بد له من ترجمان وإنما ينطق عنه الرجال)(1) فالكتاب والعترة صنوان لا يفترقان ولا يمكن التمسك بأحدهما دون الآخر فإن أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) هم باب الله الذي لا يؤتى إلا منه وقد أمرنا بإتيان البيوت من أبوابها.فما يزعمه غيرنا من اهتمامه بالقرآن أكثر منا باطل جزماً، نعم، اهتموا بمخارج حروفه وتحسين الصوت إلى حد الغناء بقراءته وضبط قواعد التجويد التي وضعوها هم وبعضها مخالف للحكم الشرعي، وهذه كلها اهتمامات قشرية والمهم هو استيعاب المحتوى والمضمون والعمل به فإن اللفظ هو قشر والمعنى هو اللب والمتكلم لا يلحظ اللفظ بنفسه بل يتخذه وعاءً للمعنى وآلة لإيصاله إلى المخاطب والمعنى هو المراد الحقيقي للمتكلم.

وقد وردت أحاديث كثيرة في ذم المتشدقين بألفاظ القرآن وحروفه المضيعين لمعاني القرآن وحدوده ففي الحديث المشهور (كم من قارئ للقرآن والقرآن يلعنه)(2) وهو خصمه لأنه غير عامل بما فيه وفي حديث عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قرّاء القرآن ثلاثة:رجل قرأ القرآن فاتخذه بضاعة واستدر به الملوك واستطال به على الناس فذاك من أهل النار، ورجل قرأ القرآن فحفظ حروفه وضيع حدوده فذاك من أهل النار، ورجل قرأ القرآن فوضع دواء القرآن على داء قلبه فأسهر به ليله وأظمأ به نهاره وقام به في مساجده وتجافى به عن فراشه فبأولئك يدفع الله العزيز الجبار البلاء، وبأولئك يديل الله من الأعداء-أي ينصرهم

ص: 296


1- نهج البلاغة: الخطبة 125.
2- مستدرك الوسائل: كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، باب7، حديث 7.

على الأعداء- وبأولئك ينزل الله الغيث من السماء فوالله هؤلاء قراء القرآن أعز من الكبريت الأحمر)(1). وفي حديث عن الإمام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(وإن أحق الناس بالقرآن من عمل به وإن لم يحفظه وأبعدهم منه من لم يعمل به وإن كان يقرأه)(2).

لكي يفرغوا مضمون القرآن:

فيبدو من هذا أن خطّة الفصل بين الكتاب والعترة وبالتالي تفريغ الكتاب من محتواه ومضمونه والتشجيع على الاهتمام بألفاظه فقط قديمة، وقد نبه إليها المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فأي اهتمام بالقرآن وهو يقرأ قوله تعالى:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} (القصص:68) ثم يعرضون عمن اختارهم الله تبارك وتعالى ويقدمون غيرهم وقد جعل الله تعالى هذا الأمر كله في كفة ورسالة الإسلام كلها في كفة أخرى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}(المائدة:67).

وأي اتباع للقرآن الذي يقول برفيع صوته {قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}(الشورى:23) وهم ينصبون العداء لأهل بيت النبوة ويتتبعونهم تحت كل حجر ومدر ولو كان لهم أدنى فهم لكتاب الله لضموا هذه الآية إلى قوله تعالى {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً}(الفرقان:57) ليحصلوا على حقيقة أن أهل البيت هم السبيل الذي أمر الله

ص: 297


1- الخصال: 142.
2- إرشاد القلوب: 79.

تعالى باتباعه بقوله {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(الأنعام:153) وبه فسر الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الآية فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(نحن السبيل فمن أبى هذه السبل فقد كفر)(1).

كلمة حق يراد بها باطل:

ولا أقول أن كلمة (حسبنا كتاب الله) والأبواق التابعة لها التي ترددها إلى الآن وتطلب الدليل من القرآن فقط على أي شيء يقال لهم هي كلمة حق يراد بها باطل بل هي كلمة باطل يراد بها باطل وهؤلاء إنما يريدون بذلك هدم أسس الإسلام لأن الاكتفاء بالقرآن –كما يزعمون - يعني استغناءهم حتى عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو يعني الجهل بكل تفصيلات الشريعة، فإن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والأئمة المعصومين من آله هم القائمون على أمر الكتاب والمبينون لأحكامه.

وهذه العلوم كلها بين يديك هل تستطيع أن تكون طبيباً أو مهندساً من دون أخذه على يد المتخصصين العارفين بأسراره وفك رموزه؟ فكيف بالقرآن الذي هو:{تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ}(النحل:89) و {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}(الأنعام:38) وفيه صلاح البشرية جميعاً ولكل الأزمنة {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}(الصافات:154) وقد نبه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلى هذا الخطر بقوله:(لا

ص: 298


1- بحار الأنوار: 24/ 13، باب: أنهم ع السبيل والصراط وهم وشيعتهم.

ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول:لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)(1).

التخطيط لقتل الإسلام:

ولكن أعداء الله سبحانه وأتباع الشيطان علموا أن القرآن هو حصن هذه الأمة الحامي لها من الزيغ والانحراف، وأن أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) هم بيانه وترجمانه والعارفون بحقائقه وحبل الوصل بينه وبين الأمة فخططوا لإبعادهم عن الأمة فبقيت الأمة بلا راع والحصن بلا حام، وأصبحت فريسة سهلة بيد الأعداء والمتربصين بها السوء، وها أنت تراها تتزعزع لأبسط شبهة وتسقط في أول فتنة وتنهار بأول اختبار ((وهذه أعظم ثلمة انثلم بها علم القرآن وطريق التفكر والتفكير الذي يندب إليه، ومن الشاهد على هذا الإعراض قلة الأحاديث المنقولة عنهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فإنك إذا تأملت ما عليه علم الحديث في عهد الخلفاء من المكانة والكرامة وما كان عليه الناس من الولع والحرص الشديد على أخذه ثم أحصيت ما نقل في ذلك عن علي والحسن والحسين وخاصة ما نقل من ذلك في تفسير القرآن لرأيت عجباً:أما الصحابة فلم ينقلوا عن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) شيئا يذكر وأما التابعون فلا يبلغ ما نقلوه عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) -إن أُحصي - مائة رواية في تمام القرآن، وأما الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فلعل المنقول عنه لا يبلغ عشراً، وأما الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فلم ينقل عنه شيء يذكر، وقد أنهى بعضهم الروايات الواردة في التفسير إلى سبعة عشر

ص: 299


1- الميزان في تفسير القرآن: ج3 في البحث الروائي للآيات 28-32 من سورة آل عمران، نقله عن أحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجة وابن حبّان وغيرهم من رواة العامة.

ألف (ذكره السيوطي في الإتقان) حديث من طريق الجمهور وحده، وهذه النسبة موجودة في روايات الفقه أيضاً))(1).

الخسارة الجسيمة:

فماذا كانت خسارة القرآن بإبعاد أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) عن ممارسة دورهم الذي اختارهم الله تبارك وتعالى له:

1-غياب الكثير من العلوم الحقيقية التي لا يفهمها من الكتاب إلا هم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

2-تراجع القرآن عن ممارسة دوره في إصلاح النفس والمجتمع لأنه والعترة صنوان لا يفترقان ولا يستطيع أن يكون فاعلاً في حياة الأمة إلا بأيديهم.

3-وقوع القرآن فريسة بأيدي المتلاعبين وأصحاب الأهواء والأغراض الشخصية بل والأعداء أيضاً، فترى كلاً منهم يجد دليلاً على معتقده في كتاب الله حتى الخوارج كانوا يستدلون بالقرآن كما حصل بعد التحكيم بينهم وبين ابن عباس فنهاه علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن الاحتجاج بالقرآن لأنه (حمّال ذو وجوه)(2) وراحت معانيه الحقيقية ضحية التأويلات التي حذر القرآن من اتباعها:{فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ}، لكن الجواب واضح وأعطاه القرآن مقدماً:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ

ص: 300


1- الميزان في تفسير القرآن: ج5/ بحث تأريخي في ذيل الآيات 15-19 من سورة المائدة.
2- بحار الأنوار: 2/ 245.

إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (آل عمران:7)، وأوضح مصاديق الراسخين في العلم هم أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).4-تشتت الأمة وضياعها وتمزيقها لأن عصمتها ومحور تجمعها القرآن وأهل البيت بحسب تفسير رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لقوله تعالى:{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}(آل عمران:103)، فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):إنهم الكتاب والعترة، وقد عبرت الزهراء (س) عن هذه العصمة في خطبتها في مسجد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(وجعل إمامتنا نظاما للملة)(1) أي بها تنتظم أمورهم وتستقر، فكانت نتيجة ابتعادهم عن أهل البيت فناءهم بيد المتسلطين وعبدة الأهواء الذين استغلوا نفس هذا القرآن ليهلكوا الحرث والنسل وكان من (وعاظ السلاطين) والسائرين في ركابهم من يبرر لهم هذه الأفعال المنكرة، كقوله تعالى:{أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء:59)، فجعلوا أولئك الكفرة الفسقة أولياء لأمور المسلمين.

الوصية بحفظ القرآن

فلا تغرنكم دعوى هؤلاء بأنهم ملتزمون بالقرآن أكثر منا(2) واحفظوا القرآن لأنه أهل للحفظ والعمل به وكونوا كما أوصاكم أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قبيل

ص: 301


1- كشف الغمة: 2/ 110.
2- وقد أكدت على هذه النقطة لانخداع كثير من السذج بهذه الدعوى وراحوا يصدقونهم بعدم الإيمان بشيء إلا إذا وجد دليل عليه من القرآن وإسقاط الاستدلال بالسنة من الحساب.

استشهاده:(الله الله بالقرآن لا يسبقكم إلى العمل به غيركم)(1)، وفي وصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأمير المؤمنين في العمل بأربعين حديثاً قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(وأن تكثر من قراءة القرآن وتعمل بما فيه)(2).

القرآن طريق الوصول إلى المعرفة:

فمن أراد الله سبحانه وطلب الوصول إليه لأن أول الدين معرفته تبارك وتعالى فعليه بالقرآن (لقد تجلى الله لخلقه في كلامه، ولكن لا يبصرون)(3)، كما هو مروي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ومن أراد إصلاح نفسه وتهذيبها وتخليصها من أمراضها فعليه بالقرآن، ومن أراد إصلاح مجتمعه وإقامة أمره على السلام والسعادة والطمأنينة فعليه بالقرآن فإنه الدليل لكل هدى والمرشد لكل خير وصلاح.

ومن العجب أنك حين يعطل جهاز تذهب إلى الجهة المصنّعة له لكي تصلحه فإن صانع الشيء خبير به، وإذا مرضت –لا سمح الله - فتذهب إلى الطبيب المختص لكي يعالج المرض، ثم عندما تريد أن تصلح النفس الإنسانية ذات الأسرار الغامضة الخافية عن صاحبها فضلاً عن غيره، أو أن تضع نظاماً يكفل للبشرية سعادتها وإصلاحها تلتمس العلاج عند نفس البشر الناقصين العاجزين

ص: 302


1- بحار الأنوار: 42/ 256.
2- الخصال: أبواب الأربعين، حديث 19.
3- عوالي اللآلي: 4/ 116.

القاصرين. ولا تذهب إلى صانع هذا الإنسان وخالقه ومصوره والعارف بالنفس البشرية.وقد صدَّقت ذلك –أي فاعلية القرآن في إصلاح النفس والمجتمع- التجربة العظيمة لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فإن مقارنة بسيطة بين مجتمع ما قبل الإسلام وما بعده والنقلة الضخمة التي حصلت للأمة من أناس همج جهلة متشتتين قد تفشت بينهم الرذائل يتفاخرون بالمنكرات والقبائح إلى أمة متحضرة كريمة الأخلاق ذات نظام لم ولن تعرف البشرية البعيدة عن الله سبحانه مثله وبفترة قصيرة وكل ذلك ببركة هذا الكتاب الكريم وحامله العظيم.

حاجتنا إلى إعادة القرآن إلى الحياة:

فنحن إذن بحاجة إلى إعادة فاعلية القرآن في حياة المسلمين وإخراجه من عزلته بحيث اقتصر وجوده على المآتم التي تعقد للموتى والعوذ والأحراز .

وقد ورد في بعض الكلمات (إن آخر هذه الأمة لا ينصلح إلا بما صلح به أولها)، وقد صلح أولها بالقرآن فإذا أرادت الأمة أن تستعيد عافيتها وتعود إلى رشدها فعليها بالقرآن، عن المقداد (رضوان الله عليه) عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال في حديث:(فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع وماحل مصدق ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار وهو الدليل يدل على خير سبيل)(1)، وقال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في بعض خطبه:(واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش والهادي الذي لا يضل،

ص: 303


1- الكافي: 2/ 299.

والمحدث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان:زيادة في هدى ونقصان من عمى، واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة ولا لأحد قبل القرآن من غنى فاستشفعوه من أدوائكم واستعينوا به على لأواءكم فإن فيه شفاءً من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق والغي والضلال فاسألوا الله عز وجل به وتوجهوا إليه بحبه ولا تسألوا به خلقه إنه ما توجه العباد إلى الله بمثله، واعلموا أنه شافع مشفع وماحل ومصدق وأنه من شفع له القرآن يوم القيامة صدق عليه فإنه ينادي مناد يوم القيامة:(ألا إن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله غير حرثة القرآن)، فكونوا من حرثته وأتباعه واستدلوه على ربكمواستنصحوه على أنفسكم واتهموا عليه آراءكم واستغشّوا فيه أهواءكم)(1).

اهتمام النبي وأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين) بالقرآن:

ولقد بلغ اهتمام أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بالقرآن أقصاه حتى قال الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(لو مات من بين المشرق والمغرب لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي)(2).

لقد أُمر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بتلاوة القرآن:{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} (المزمل:4) وأمره تبارك وتعالى بالاستعداد لتحمله بالالتزام بنافلة الليل فقال تعالى:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً، إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ

ص: 304


1- نهج البلاغة، شرح محمد عبده: 1 / 347 . الخطبة (177) وأولها: (انتفعوا ببيان الله واتعظوا بمواعظ الله).
2- الكافي: 2/ 602.

قِيلاً} {المزمل:5-6) ولم يكتف رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بتلاوته بل كان يطلب من عبد الله بن مسعود أن يقرأ القرآن عليه فيعتذر إليه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعبد الله بن مسعود اقرأ عليَّ قال:اقرأ عليك وعليك اُنزل قال:إني أحب ان أسمعه من غيري قال:فقرأ عليه من أول سورة النساء إلى قوله:{كَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} (النساء:41) فبكى)(1) يريد بذلك أن يمتع جميع جوارحه بالقرآن عينه وأذنه وقلبه ولسانه وهو يعلم أن لكل جارحة طريقتها في اكتساب المعرفة فأراد - وهو أكمل الخلق - أن تتكامل لديه كل أسبابها، وقد قيل:أن من فقد حساً - أي أحد حواسه الخمس - فقد فَقَد علماً، فيريد أن يستفيد من معارف القرآن عن طريق جميع جوارحه، لذا ورد استحباب أن يقرأ القرآن بصوت مسموع. هذا غير ما ورد في فضل وثواب الإنصات إلى القرآن والنظر في المصحف وإن كان يحفظ ما يقرأ حتى لو كان في الصلاة، مما سيأتي إن شاء الله تعالى في مجموعة الأحاديث الشريفة.وكان (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يتفاعل مع القرآن، قرأ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سورة الرحمن على المسلمين وهم منصتون له فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):لقد قرأتها على الجن فكانوا أحسن استماعاً منكم، قالوا وكيف يا رسول الله؟ قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):كانوا كلما قرأت:{فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} يقولون هم:لا بشيء من آلائك ربنا نكذّب(2)، وإذا قرأ قوله تعالى:{أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى} يقول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):بلى سبحانك

ص: 305


1- صحيح مسلم: 2/ 196
2- بحار الأنوار- المجلسي: 60/ 117

اللهم، لأنه كان يسمع من الله تبارك وتعالى مباشرة من خلال السطور. وسيأتي أن الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كان يقرأ وكأنه يخاطب إنساناً(1)، قرأ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سورة الزمر على شاب نقي القلب طاهر السريرة فلما وصل إلى قوله تعالى:{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً}(الزمر:71) وقوله تعالى:{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً}(الزمر:73) شهق ذلك الشاب شهقة كانت فيها نفسه، وقرأ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سورة هل أتى على الإنسان حين من الدهر وقد أنزلت عليه وعنده رجل أسود فلما بلغ صفة الجنان زفر زفرة(2) فخرجت نفسه فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):أخرج نفس صاحبكم الشوق إلى الجنة، فهؤلاء ممن وصفتهم الآية الشريفة:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}(البقرة:121).

دواعي الاهتمام بالقرآن:

وقد ظهر مما سبق أكثر من محفز للاهتمام بالقرآن الكريم ألخصها مع نقاط جديدة غير ما سمعته إن شاء الله تعالى في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة:

1-إنه العلاج الناجح والكامل لأمراض البشر النفسية والاجتماعية والروحية بل والجسدية أيضاً، كما سيأتي في بعض الأحاديث الشريفة.

ص: 306


1- وسائل الشيعة (آل البيت): 6/ 208/ح3
2- الدر المنثور- السيوطي: 6/ 297

2-عدم استغناء طالب الكمال والسعادة الأبدية - وهو الهدف الأسمى وغاية الغايات - في الدنيا والآخرة عنه والاهتداء بهديه والأخذ بسبيله، ويزداد سمو الإنسان وتكامله كلما ازدادت استفادته من القرآن.

3-إن في الاهتمام به تأسياً برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبأهل بيته الكرام وقد أمرنا بذلك في قوله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}(الأحزاب:21).

4-إن القرآن هو رسالة الحبيب المطلق والإنسان لا يمل من إعادة قراءة رسالة حبيبه وملء النظر منها والتدبر في معانيها والله تبارك وتعالى هو المحبوب الحقيقي لاجتماع أسباب المحبة فيه، فإن الحب إما أن يكون لكمال المحبوب وحسنه وقد اجتمعت صفات الكمال والأسماء الحسنى فيه تبارك وتعالى، أو يكون لأجل صدور الفضل والإحسان منه، والله هو المنعم المتفضل المنان ابتداءً من غير استحقاق وحتى للعاصين من عباده {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا}(النحل:18)، وهكذا .وبهذا المعنى ورد في الحديث عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(القرآن عهد الله إلى خلقه فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده وان يقرأ منه كل يوم خمسين آية)(1).

5-الثواب العظيم والأجر الجزيل الذي لا حدود له الذي يعطي لقارئ القرآن والمتدبر في آياته مما سنقرأه إن شاء الله تعالى في الأحاديث الشريفة.

ص: 307


1- الكافي: 2/ 609.

6-إن القرآن لما كان كتاباً حياً خالداً لكل زمان ومكان فإن المواقف التي عالجها والمشاكل التي واجهها لا تختص بزمان دون زمان، فيستفاد من القرآن إذن الحلول الدائمية المستمرة للمواقف المتجددة، وسنعرض الكثير منها في طي البحث كفكرة المقارنة بين الجاهليتين الأولى والحديثة، وفي هذا المعنى ما ورد عن الحارث الأعور قال:(دخلت المسجد فإذا أناس يخوضون في أحاديث فدخلت على علي فقلت:ألا ترى أن أناساً يخوضون في الأحاديث في المسجد؟ فقال:قد فعلوها؟ قلت:نعم، قال:أما إني قد سمعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول:ستكون فتن، قلت:وما المخرج منها؟ قال:كتاب الله، كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم. هو الفصل ليس بالهزل، هو الذي من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، فهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم..)(1).

7-تعلّم المعارف والعلوم وأسرارها المودَعة فيه، بحيث أن مثل أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الذي يصف علمه عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن بأنه:ما علمي وعلم جميع أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في علم علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلا كقطرة في بحر، أقول مثل علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في علمه (قيل له:هل عندكم شيء من الوحي؟ قال:لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يعطي الله عبداً فهماً في كتابه)(2).

ص: 308


1- سنن الدارمي:2/ 435، كتاب فضائل القرآن، ومثله في كتب الخاصة.
2- ذكره في الميزان عن بعض المصادر:ج3، في تفسير الآيات 7-9 من آل عمران.

ففي هذا الكتاب من العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة والتشريعات الحكيمة ونكات البلاغة وحسن البيان ما يلبي كل حاجة، وفيه أسرار الخلق وعجائب المخلوقات داخل جسم الإنسان وفي الكون والطبيعة، وفيه ما لم تتوصل إليه عقول المكتشفين. ولا يعني هذا أن القرآن كتاب فيزياء أو كيمياء أو فلك أو طب حتى تنعكس عليه أخطاؤها ونقائصها، وإنما هو كتاب هداية وإصلاح يوظف كل الأدوات لتحقيق غرضه، وهذه العلوم كلها تصب في هذا الهدف ويأخذ منها مقدار ما يحقق غرضه.8-براءة الذمة من شكوى القرآن إذا هجر، كما في الحديث الشريف المتقدم (ثلاثة يشكون . . .) وشكوى القرآن لا ترد عند الله تبارك وتعالى، كما في الحديث الشريف في وصفه أنه:(ماحِلٌ مصدَّق) أي أنه خصم مصدَق ويعطى الحق له ويدعم هذه الدعوى شكوى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) المذكورة في القرآن:{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} (الفرقان:30).

9-الفوز بشفاعة القرآن، فقد وصفه الحديث بأنه:(شافع مشفّع) وفي صفه شفاعته يقول الحديث:(وكان القرآن حجيزاً عنه - أي حاجزاً وساتراً عن قارئ القرآن - يوم القيامة، يقول:يا رب إن كل عامل أصاب أجر عمله غير عاملي فبلّغ به أكرم عطائك، قال:فيكسوه الله العزيز الجبار حلتين من حلل الجنة ويوضع على رأسه تاج الكرامة ثم يقال له:هل أرضيناك فيه؟ فيقول القرآن:يا رب قد كنت أرغب له فيما هو أفضل من هذين قال:فيُعطى الأمن بيمينه والخلد بيساره ثم

ص: 309

يدخل الجنة فيقال له:اقرأ آية فاصعد درجة ثم يقال له هل بلغنا به وأرضيناك؟ فيقول:نعم)(1).وغير هذه الفوائد كثير، وأنت ترى أن بعضها لا يختص بالمسلمين، لذا تجد إقبال المفكرين والعلماء والقادة على الأخذ من هذا القرآن وإن لم يكونوا مسلمين.

وإلى هنا يكون ما ذكرت من المحفزات كافياً لأن يثير الإنسان ويحركه ويدفعه نحو احتضان هذا الكتاب الكريم المعطاء والاهتمام به حتى يخالط لحمه ودمه، وإني هنا ألُزم(2) كل من يرى لي حقاً عليه سواء كان أخلاقياً أو شرعياً أن يختم القرآن على الأقل في السنة مرتين. وهذا مقدار يسير جداً إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن شهر رمضان وحده يمكن أن يُقرأ فيه نصف هذا المقدار أو أكثر.

وأهم مما ذكرت من المحفزات ما ورد في الأحاديث الشريفة التي اخترت لك منها مجموعة تتجاوز الأربعين حديثاً جرياً على سنة السلف الصالح الذين ألفّوا الكثير من كتب (الأربعون حديثاً) في شتى حقول المعرفة عسى أن يكونوا وأكون معهم من أهل هذا الحديث الشريف، قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(من حفظ عني من أمتي أربعين حديثاً في أمر دينه يريد به وجه الله عز وجل والدار الآخرة بعثه الله يوم القيامة فقيها عالماً)(3).

ص: 310


1- الكافي: 2/ 604.
2- شكّل هذا الإلزام حافزاً قوياً لدى الكثيرين للعمل به، جزاهم الله خير جزاء المحسنين.
3- الخصال: 2/ 542 باب (الأربعون).

القرآن يصف نفسه:

ولكن الأهم من ذلك أن أتلو عليكم بعض الآيات التي وصف بها القرآن

الكريم نفسه لنتعرف عليه، فإنه أعرف بذلك وهو كلام خير القائلين. ومن هذه الآيات تعرف جلالة قدر هذا الكتاب وعظمة آثاره وبركاته:

1-{هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} (آل عمران:138).

2-{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} (النساء:105).

3-{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِينًا، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} (النساء:174-175).

4-{قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (المائدة:15-16).

5-{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} (المائدة:66).

6-{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} (المائدة:68).

7-{مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء} (الأنعام:38).

8-{وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ َ} (الأنعام:92).

ص: 311

9-{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأعراف:204).

10-{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (يونس:57).

11-{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} (الإسراء:9).

12-{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الزمر:23).

13-{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت:41 - 42).

14-{اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانٌَ} {الشورى:17).

15-{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} {الزخرف:4).

16-{وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} {الزخرف:36).

17-{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} {الزخرف:43-44).

18-{هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ} {الجاثية:20).

ص: 312

19-{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد:24).

20-{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} {ق:1).

21-{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (القمر:40).

22-{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ، لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} (الواقعة:77-79).

23-{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد:16).

24-{لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} {الحشر:21).

25-{وَرَتِّ-لِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} {المزمل:4-5).

26-{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} {البروج:21 - 22).

27-{إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ، وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} {الطارق:13 - 14).

28-{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا، قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} (الكهف:1 - 2).

29-{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} {النحل:89).

ص: 313

30-{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فإن لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُ-رُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (طه:124).

هذا بعض ما يتصف به القرآن من صفات وآثار حسنة فهو كتاب مبارك عزيز كريم مجيد وهو بيان وهدى وموعظة ورحمة وشفاء وذكر ونور نزل بالحق ليحكم بين الناس ويدخل المؤمنين في رحمة الله وفضله ويهديهم صراطاً مستقيماً وهو عليّ حكيم وبصائر للناس وقول ثقيل وفصل وما هو بالهزل، لذا فهو - أي حقائقه التي جُعِلت هذه الألفاظ وعاءاً لها وهي كالأمثلة لتقريب تلك الحقائق والمعاني العميقة إلى الأذهان - في كتاب مكنون ولوح محفوظ لا يمسه ولا يصل إلى فهم حقائقه الواقعية بشكل كامل إلا المطهرون من الذنوب والمعاصي والآثام وانجلت مرآة قلوبهم عن كل دنس فصارت تعكس بشكل كامل صفحة اللوح المحفوظ، أما غيرهم فليسوا جديرين بحمله إلا بمقدار ما أوتوا من الكمال{أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} (الرعد:124).

أمِرَ الناس بتدبرّه وترتيله والتمسك به والإنصات له ولو كان من غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً، فإن أقاموه وتمسكوا به أكلوا من فوق رؤوسهم ومن تحت أرجلهم وخشعت قلوبهم ولانت، وكانوا أهلاً للفيوضات الإلهية وإن أعرضوا عنه أصبحوا في عيشة ضنكى واعتورتهم الشياطين حتى تصبح قرناء لهم وقست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة فإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يهبط من خشية الله وهذه القلوب البعيدة عن القرآن وذكر الله

ص: 314

سبحانه صمّ جامدة لا تجري فيها ولا قطرة من أنهار المعرفة {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر:21).

شرح لبعض أوصاف القرآن:

ولكن هذا الشرح الإجمالي لصفات القرآن غير كافي، لذا أرى من الضروري تقديم شرح أكثر تفصيلاً لبعض هذه الصفات مما لها آثار اجتماعية أو أخلاقية تاركاً البعض الآخر إلى التفاسير المطولة في موارد الآيات التي ذكرتها، وإنما اذكر هذه الأوصاف ليس فقط للتعرف على القرآن بل للتعرف على أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لأنهم عدل الكتاب وهما صنوان لا يفترقان فإذا كان القرآن ينطق بالحق فإنهم مع الحق والحق معهم وهو لا يأتيه الباطل وهم معصومون وإذا كان الكتاب قيّماً ومهيمناً، فلهم (صلوات الله عليهم أجمعين) قيمومة وسلطنة على الناس وهم أئمتهم وقادتهم وأولى بهم من أنفسهم، وهكذا:

مبارك:

أي كثير البركة وهو كذلك من عدة جهات فهو مبارك في محل صدوره لأنه نازل من الله تبارك وتعالى المتفضل المنان مفيض النعم التي لا حصر لها ولا عد، ومبارك في محل نزوله وهو قلب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الرحيم الكريم الذي أُُرسل رحمة للعالمين، ومبارك في آثاره ففيه الهداية والخير والسعادة في الدنيا والآخرة وفيه نظام حياة البشرية وقوامها وحفظ كيانها وفيه السلام والطمأنينة، ومبارك في حجمه فهو كتاب واحد إلا أن جميع أرباب العلوم والمعرفة يغترفون منه وهو معين لا ينضب فتجد الأصولي والفقيه والنحوي والأديب والمفكر

ص: 315

والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والطبيب والمشرّع والحاكم يأخذون منه ويستدلون بآياته ومع ذلك يبقى خالداً معطاءً وهذا دليل نزوله من الله فإن هذا كله مما لا يمكن لكتب عديدة أن تضمه وتحويه، وهو مبارك بعدد الذين اهتدوا على يديه وتنورت قلوبهم وعقولهم ببركته.

عزيز:

أي يصعب مناله فإنه في كتاب مكنون وحقائقه العليا محفوظة في اللوح المحفوظ وما هذه الكلمات إلا أمثال لتقريب تلك المعاني إلى أذهان البشر المستأنسة بالماديات والتي لا تسمو لتنال تلك الحقائق، نعم، يمسها ويصل إليها ويعيها المطهرون الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً وهم آل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقد سمعتَ أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول:إننا لا نملك علماً أكثر من فهم لهذا الكتاب، وهو عزيز بمعنى يندر وجود مثله وهو كذلك لأنه كلام من ليس كمثله شيء، وهو عزيز أي ممتنع عن أن ينال بسوء، فيكون بمعنى الآية الشريفة:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر:9)، وهو عزيز بمعنى أنه قاهر وغالب ومتسلط لأنه كلمة الله وكلمة الله هي العليا فهو يعلو ولا يعلى عليه وموقعه دائماً التسلط والحاكمية على العباد والتصرف في شؤونهم، وهو عزيز بمعنى مطلوب كما قيل كل موجود مملول وكل مفقود مطلوب، وهذا الكتاب مطلوب لكل من أراد الوصول إلى الله تبارك وتعالى.

ص: 316

مجيد:

قال الراغب في المفردات:المجد:السعة في الكرم والجلال وأصله في قولهم (مَجدَتْ الإبل) إذا حصلت في مرعى كثير واسع فوصف القرآن بالمجيد لكثرة ما يتضمن من المكارم الدنيوية والأخروية وعلى هذا وصفه بالكريم بقوله تعالى:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} (الواقعة:77).

لسعة فيضه وكثرة جوده،وقد أشرنا في شرح صفة (مبارك) إلى هذه الآثار الواسعة.

قيَّماً:

من القيمومة، فهذا الكتاب قيّم على العباد ليسوقهم ويقودهم ويدلّهم على ما يصلحهم ويهيئ لهم كل أسباب السعادة في الدنيا والآخرة كما يفعل القيّم على الأسرة أو على المجتمع، ومنهج القرآن قيّم على جميع المناهج الأخرى سواء على مستوى العقائد أو التشريعات وهو مقدم عليها وقائد لها وهي تابعة وخاضعة ومحكومة له، فالقيمومة العليا في هذه الحياة للقرآن إن أرادت البشرية خيرها وسعادتها لا ما فعلته بالابتعاد عن منهج القرآن وتحكيم عقول البشر القاصرة الخاضعة غالبا لمنطق الأهواء والمصالح وقد مهدت الآية لهذه القيمومة بأن وصفته أنه لاعوج فيه ولا نقص ولا خلل ولا قصور، فقال تعالى:{وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} (الكهف:1). فمن شروط القيمومة على البشر من يريد تكميل غيره أن يكون كاملاً في نفسه فإن فاقد الشيء لا يعطيه كما قالوا، ومن ضرورة القيمومة على البشر أن يتصدى لها من لا نقص فيه ولا خلل ولا قصور ولم يتحقق ذلك إلا في هذا الكتاب الكريم وعدله الثقل الأصغر أهل بيت النبوة وكل ما سواهم لاحقّ

ص: 317

له في إمامة المجتمع والقيمومة عليه، وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة أوجبت تقديم الكتاب والعترة.{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فإن لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} (طه:124)، أي ضيّقة وهذه صفة كل من يعرض عن ذكر الله تبارك وتعالى ويكون مقطوع الصلة به سبحانه ويعيش بعيداً عن القرآن الكريم فإنه يكون في ضيق وتعاسة وألم لأنه انسلخ من رحمة الله الواسعة ووقع فريسة الأهواء والمطامع والشهوات التي لا تقف عند حد فهو في رعب خشية الموت فيخسر الدنيا التي هي همه وما له في الآخرة من نصيب، ويعيش الحرص على ما في يده خشية الفوت، ويعيش التعب لأنه يلهث وراء سراب، فما يحقق شيئا يظن أن فيه سعادته حتى يكتشف أنه متوهم فيسعى إلى غيره، فمثلاً يظن أن سعادته في المال حتى جمع المليارات فما تحققت سعادته، فيظن أنها في الدور الفارهة فيبني منها ما لا عين رأت فلا تحقق سعادته، فيظن أنها في النساء فيستمتع بما شاء منهن ثم يجد نفسه قد وصل إلى طريق مسدود فينطبق عليه قوله تعالى:{فَلَمَّآ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي}، والقمر كناية عن المال فظن أنه ربه وكافل سعادته {فَلَمَّا أَفَلَ} وفشل في تحقيقها له {قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ}، {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً}، وهي كناية عن أمور دنيوية أخرى {قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ} وهذا الذي يحقق لي السعادة وطمأنينة القلب لأنه {هَذَآ أَكْبَرُ}.

وأهم وأعظم تأثيراً {فَلَمَّا أَفَلَ} وفشل هذا الرب الجديد في تحقيق السعادة {قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} وهؤلاء الأرباب الناقصين الذين لا يملكون لأنفسهم فضلاً عن غيرهم ضراً ولا نفعاً، وعندئذ إن كان مخلصاً في البحث عن

ص: 318

الحقيقة كتبت له الهداية وقال مقالة المؤمنين:{قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام:76-79)، وإن لم يكن كذلك كتبت عليه الشقاوة وكان جوابه:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إذا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ واللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (النور:39).وهكذا يبقى في شقاء ونكد وضيق بين مطرقة الموت الذي يمكن أن يختطفه في أية لحظة، وسندان الحرص والطمع {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} (البقرة:96)، وأنت ترى أن أكثر حالات الانتحار هي في الدول المرفهة اقتصادياً والتي تعيش التخمة ومنشأه هذا النكد والفتك الذي يعيشه بسبب الخواء الروحي.

{قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (المائدة:15-16)، فهو نور لأنه يشرق أولاً في قلب المؤمن فيطهّره من أدران المعاصي وكدورات الذنوب ويجلي صفحته ليكون مستعداً لتجليات الحق فيه وهو نور للأمة وللمجتمع يرشدها إلى النظام الذي يكفل سعادتها.

ومن لطيف التعبير القرآني أنه جعل لفظ النور مفرداً والظلمات جمعاً لأن طريق الحق واحد لا يتعدد وإن تعددت سبله ومصاديقه . قال تعالى:{اهدِنَا

ص: 319

الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ}(الفاتحة:6)، بينما الظلمات عديدة والآلهة التي تصد عن الله تبارك وتعالى كثيرة.ومن آثار القرآن وبركاته أنه يهدي من اتبع رضوان الله تعالى سبل السلام وأول سلام ينعم به هو سلام النفس وطمأنينة القلب وصفاء الذهن {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(الرعد:28)، ثم السلام داخل العائلة والأسرة التي تقوم على أساس الإسلام وتعاليم القرآن {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}{الروم:21)، ثم السلام بين أفراد المجتمع عندما تسودهم آداب الإسلام {فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً}(آل عمران:103)،{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}{الفتح:29)،{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}(الحشر:9).

قول ثقيل:

والثقل للمعنى الذي يحمله القول أو اللفظ هو ثقيل على النفس لأنه يمسك بزمام شهواتها فلا يطلق لها العنان وإنما يهذبها ويقومها ويقودها، وهو ثقيل على العقل لما يتضمنه من أسرار ودقائق يصعب تحملها على العقول الجبارة وثقيل على الروح لما فيه من تكاليف شاقة وتربية مكثفة وإليه أشار (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) شيبتني هود والواقعة لأن فيها فاستقم كما أمرت وهو (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يعرف ثقل هذا الأمر.

ص: 320

ومنشأ ثقله صدوره من الله العظيم، لذا تنقل كتب السير حالته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عند نزول الوحي عليه وقد وصف القرآن ثقله بقوله:{لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(الحشر:21).وهو ثقيل لما يصيب حامله والساعي إلى إقامته في المجتمع من محن وبلايا وصعوبات. قال تعالى:{المص، كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}(الأعراف:1-2) لذلك أمر (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بقيام الليل والتعلق بالله تبارك وتعالى وتعميق الصلة به استعداداً لتلقي هذا القول الثقيل والمسؤولية العظيمة وقد وعده تعالى بتحصيل هذه النتائج، قال تعالى:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُوداً}(الإسراء:79).

موعظة وشفاء وهدى ورحمة:

واًختصر هنا ما ذكره السيد الطباطبائي (قدس سره) في تفسير الآية(1):

قال الراغب في المفردات:الوعظ:زجر مقترن بتخويف. وقال الخليل. هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب وشفاء الصدور كناية عن ذهاب ما فيها من الصفات الروحية الخبيثة التي تجلب إلى الإنسان الشقاء وتنغص عيشته السعيدة

ص: 321


1- الميزان: ج10/في تفسير الآيات من 57-70 من سورة يونس، والمقصود في المتن الآية 57 وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} .

وتحرمه خير الدنيا والآخرة، وإنما عبر بالصدور لان الناس لما وجدوا القلب في الصدر وهم يرون الإنسان إنما يدرك ما يدرك بقلبه وبه يعقل الأمور ويحب ويبغض ويريد ويكره ويشتاق ويرجو ويتمنى عدّوا الصدر خزانة لما في القلب من أسراره والصفات الروحية التي في باطن الإنسان من فضائل ورذائل.أقول:وتدل الأحاديث على أن القرآن شفاء حتى من الأمراض البدنية بل في بعضها أن سورة الفاتحة لو قرأت سبعين مرة على ميت فقام حياً لم يكن ذلك عجباً.

والرحمة تأثر خاص في القلب على مشاهدة ضر أو نقص في الغير يبعث الراحم إلى جبر كسره وإتمام نقصه، وإذا نسبت إلى الله سبحانه كان بمعنى النتيجة دون أصل التأثر لتنزهه تعالى عن ذلك فينطبق على مطلق عطيته تعالى وإفاضته الوجود على خلقه.

أقول:هذا أحد الوجوه في شرح هذه الأسماء المباركة التي لا يمكن فهم نسبتها إلى الله تبارك وتعالى كما تنسب إلى المخلوقين.

وإذا أخذت هذه النعوت الأربعة التي عدّها الله سبحانه للقرآن في هذه الآية - أعني انه موعظة وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة -، وقيس بعضها إلى بعض ثم اعتبرت مع القرآن كانت الآية بياناً جامعاً لعامة أثره الطيب الجميل وعمله الزاكي الطاهر الذي يرسمه في نفوس المؤمنين منذ أول ما يقرع أسماعهم إلى آخر ما يتمكن من نفوسهم ويستقر في قلوبهم.

ص: 322

فإنه يدركهم أول ما يدركهم وقد غشيتهم الغفلة وأحاطت بهم لجة الحيرة فأظلمت باطنهم بظلمات الشك والريب وأمرضت قلوبهم بأدواء الرذائل وكل صفة أو حالة رديئة خبيثة فيعظهم(1) موعظة حسنة ينبههم بها من رقدة الغفلة،ويزجرهم عما بهم من سوء السريرة والأعمال السيئة ويبعثهم نحو الخير والسعادة.

ثم يأخذ في تطهير سرهم عن خبائث الصفات ولا يزال يزيل آفات العقول وأمراض القلوب واحداً بعد الآخر حتى يأتي على آخرها.

ثم يدلهم على المعارف الحقة والأخلاق الكريمة والأعمال الصالحة دلالة بلطف يرفعهم درجة بعد درجة وتقريبهم منزلة فمنزلة حتى يستقروا في مستقر المقربين، ويفوزوا فوز المخلصين.

ثم يلبسهم لباس الرحمة وينزلهم دار الكرامة ويقعدهم على أريكة السعادة حتى يلحقهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ويدخلهم في زمرة عباده المقربين في أعلى عليين.

فالقرآن واعظ شافٍ لما في الصدور هاد إلى مستقيم الصراط مفيض للرحمة بإذن الله سبحانه، وإنما يعظ بما فيه ويشفي الصدور ويهدي ويبسط

ص: 323


1- وأنت ترى ذلك في السور المكية التي نزلت أولاً كالمدثر والمزمل فإنها ذات إيقاعات سريعة تستعمل حروفاً قوية فيكون تأثيرها بما يشبه الصعقة الكهربائية التي تستعمل لإيقاظ الغافل كما أن مضامينها يتركز على التذكير بالآخرة والموت وأهوال القيامة وعاقبة المكذبين وبيان سنن الله تعالى في الأمم ونحوها من الصعقات.

الرحمة بنفسه لا بأمر آخر فإنه السبب الموصل بين الله وبين خلقه فهو موعظة وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين.

الحياة في كنف القرآن:

وقد جرّبتُ الحياة في كنف القرآن ومنَّ الله تعالى عليَّ أن عشت في رعايته منذ ريعان الشباب وكنت أختمه في السنة عشر مرات أو أكثر في بعض السنين حتى خالط لحمي ودمي وفكري ولساني وقلبي وكنت مع تلاوتي له اقرأ في البداية تفسيراً مختصراً وهو تفسير شبّر ثم بدأت أطالع بإمعان في التفاسير المفصّلة كالميزان ومجمع البيان وبعض التفاسير الحركية، فكان لها ولغيرها مما كنت أطالع الفضل في تكوين شخصيتي العلمية والفكرية في وقت مبكر من حياتي –بداية العشرينات من عمري- حتى أكملت بعضها ولخصت رؤوس أفكارها حتى أرجع إليهما باستمرار فتنقدح في ذهني تلك الأفكار وفي روحي وقلبي تلك اللحظات السعيدة.

ما الذي وجدته في رحاب القرآن؟

فماذا وجدت في رحاب القرآن؟ وماذا سيجد من يعيش في رعاية القرآن؟

سيرى عظمة الله سبحانه تتجلى في آياته وقوانينه وسننه وقدرته على كل شيء، فالأرض جمعياً قبضته والسموات مطويات بيمينه والعزة لله جميعاً والقوة والملك له وحده فهو الذي يرث الأرض ومن عليها وإليه مرجع العباد وهو أقرب إليهم من حبل الوريد ويحول بين المرء وقلبه ولا يملك شيء لشيء نفعا ولا ضراً إلا بإذنه، فعندئذ يتصاغر أمام حامل القرآن كل ما سوى الله تبارك وتعالى مهما

ص: 324

عظم ظاهرا أو حاول أولياؤه وأتباعه تعظيمه والنفخ في صورته فإذا قدرة الله تلقف ما يأفكون فلا إرم ذات العماد ولا فرعون ذو الأوتاد ولا صاحب الكنوز التي تنوء مفاتيحه بالعصبة أولي القوة، أما حامل القرآن فقوته متصلة بالله فلا يخشى ما سواه {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت:41)، و(من خاف الله أخاف الله منه كل شيء)(1).وعندئذ سترى أن هذه القوى الكبرى التي {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}(طه:66)، وقادرة على تحقيق كل ما تريد، وإذا بها تنهار وتذوب كما يذوب الملح في الماء بلا حرب ولا أي عدو ظاهر لكن الله ينبئك عن الذي يقف وراء فنائهم {فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ}(النحل:26-27).

وسيرى وعد الله وطمأنينته للمؤمنين بأن العاقبة لهم ولكن بعد أن:{مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}(البقرة:214)، وأن لا بد من الفتنة والابتلاء ليمحص الله الذين آمنوا {ألم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}

ص: 325


1- من لا يحضره الفقيه: 4/ 410.

(العنكبوت:1-3). وعندئذ يقر بال المؤمن مهما واجهته من صعوبة ومحنة لأنه من سنة الله في عباده فعليه أن يصدق في المواقف وسيجزي الله الصادقين ويهون الخطب عليه انه كله بعين الله سبحانك قال تعالى:{فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}(الطور:48)،{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (التوبة:120).وسيرى من علو الإيمان الذي يعمر قلبه والمعارف العليا التي يحملها إلى هذه البشرية التائهة التي تلهث وراء السراب تعيش لأغراض زائفة وتمني نفسها بأمانٍ باطلة يزينها لهم أولياء الشيطان من مال وجاه وشهوات يتنافسون عليها ويتقاتلون على شيء لا يبقى لهم بل يكون وبالاً عليهم. يصنعون لأنفسهم آلهة يصطلحون على عبادتها وطاعتها وتقديم الولاء لها فيقيمون لها الطقوس والاحتفالات والمهرجانات ويذبحون من أجلها القرابين ليس من الحيوانية فقط بل البشرية ويهدرون على أقدامها المليارات.

وسيرى أنه ليس وحده حتى يشعر بالضعف أو الذلة أو الخضوع والاستسلام ولا أن ما يعانيه ويشاهده ويعيشه بدعاً من الحوادث ولا أن تجربته فريدة {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُّبِينٌ}(الأحقاف:9)، فإذن قد سبقه على هذا الخط أنبياء عظام وأولياء كرام وحملة رسالات ومصلحون وعباد صالحون عانوا أكثر مما عانى وصبروا على اشد ما صبر عليه وواجهوا من مجتمعاتهم أعظم مما

ص: 326

يواجه والصورة نفس الصورة قال تعالى:{فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}(الحديد:26)،{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ}(المائدة:105).وسيرى تكريم الله لخلقه حين خاطبهم بنفسه ووجه إليهم كلامه مباشرة، الله العظيم خالق السموات والأرض ذو الأسماء الحسنى يرسل إليهم بنفسه رسالة ويعهد إليهم بعهده، أي تكريم أعظم من هذا وأي تفضيل فوق هذا {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}(الإسراء:70) فكيف يا ترى مشاعر الإنسان وهو يقرأ رسالة حبيبه بل الحبيب المطلق (إن القرآن عهد الله إلى خلقه فينبغي لكل مؤمن أن ينظر فيه)(1).

وسيرى أن كل شيء في هذا الكون بقدر وحساب دقيق، قال تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}(القمر:49)، {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} (الحجر:21)، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ}(الأنبياء:47)، وكل المخلوقات أفراداً ومجتمعات تجري وفق سنن ثابتة {سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}(النساء:26)، {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}(الأنعام:38) لا يستطيع أحد أن يخرج من هذا القانون الإلهي العظيم {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ

ص: 327


1- الكافي: 2/ 609، باب في قراءته (قراءة القرآن)، ح1.

اللَّهِ تَحْوِيلاً}{فاطر:43)، فكيف يعبد الإنسان غيره تبارك وتعالى وهو لا يستطيع أن يخرج من قبضة سننه وقوانينه، فلا مجال للعب ولا العبث واللهو {رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَِ}(آل عمران:191)، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56)، {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ}(الأنبياء:17) ولا مجال للصدفة العمياء التي طالما تشدق بها الملحدون وضحكوا بها على عقول الناس ردحا من السنين وأضلوهم بها فتعساً للتابع والمتبوع، فمن وراء خلق الإنسان هدف فلا بد ان يحيا من اجله ويكرس كل طاقاته لتحقيقه وهو رضا الله تبارك وتعالى.وسيجد في القرآن الوعد الإلهي بالإمداد والقوة الغيبية في كل موقف وشدة ومأزق ومعركة مع النفس الأمارة بالسوء أو الشيطان، وأن الله معه وكفى به ناصراً ما دام هو مع الله قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ، نُزُلا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ، وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}(فصلت:30 - 33) وآيات كثيرة تخبر عن إنزال السكينة في قلوب المؤمنين والإمداد بالملائكة المسومين وغيرها.

وسيجد في كنف القرآن الطمأنينة قال تعالى:{أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(الرعد:28)، وهدوء البال وشفاء الصدور والهدى والبركة وكل خير مما وصف القرآن به نفسه.

ص: 328

فإذا وجد حامل القرآن كل ذلك اشتدت عزيمته وقوي قلبه وصلحت نفسه وازدادت همته وظهرت حكمته وسيكون عندئذ مصدراً للعطاء ومنبعاً للخير لنفسه وللمجتمع كما هو شأن المصلحين العظام وعلى رأسهم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) .

ضرورة العودة إلى القرآن:

أفبعد كل هذا نحتاج إلى ذكر المزيد من المحفزات للعودة إلى القرآن والحياة في كنفه وهل بقى من لا يعي فداحة الخسارة التي حلت بنا بسبب ابتعادنا عن القرآن. إذن فلنرجع جميعاً إلى القرآن تائبين نادمين ملتمسين إياه أن يعود إلى إمامتنا وهدايتنا إلى الله تبارك وتعالى وعلينا أن نفكر في سبيل إلى إخراج هذا الكتاب الكريم من عزلته التي فرضناها نحن عليه وتفعيل دوره في الحياة المجتمع.

وقد تقول:إن مثل هذا حاصل من خلال ما نشاهده من كثرة حلقات تعليم القرآن وحفظه وتجويده وبيان قواعده ورسمه .

وأقول:مع احترامي لهذا كله إلا أن هذا اهتمام بالقشور والمهم هو اللب فإن اللفظ وعاء لإيصال المعنى وقشر لحفظ المعنى الذي هو اللب وآلة لنقل المعنى إلى الذهن فهل يكفي الاهتمام بالقشر وترك اللب؟ فالمطلوب هو إعادة القرآن بروحه ومضامينه ومعانيه وأفكاره ومفاهيمه، ولا شك أن الخطوة الأولى منه هي الاهتمام بتلاوته ومعرفة معاني ألفاظه وتطبيق القواعد العربية على مخارج حروفه.

ص: 329

مسؤولية الحوزة في إعادة القرآن:

وأعتقد أن أول شريحة في المجتمع تقع عليها المسؤولية هي الحوزة الشريفة بطلبتها وفضلائها وخطبائها وعلمائها لأن صلاح المجتمع من صلاح الحوزة وفساده بفسادها والعياذ بالله، فقد جاء في الحديث الشريف عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل يا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومن هم؟ قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):الفقهاء والأمراء)(1).

وقد قلت في بعض كتبي(2) أنه من المؤسف حقاً غياب القرآن عن مناهج الدراسة الحوزوية، فقد نظمت بشكل لا يحتاج فيه الطالب إلى التعمق في القرآن الكريم من أول تحصيله إلى نهايته ولا يمر به إلا لماماً عند الاستدلال على قاعدة نحوية أو مبحث أصولي أو مسألة فقهية، فأصبح مسرحاً للتدقيقات العقلية ولم يتخذ غذاءً للقلب والروح ودواءً للنفس، وربما يبلغ الحوزوي مرتبة عالية في الفقه والأصول وهو لم يحيَ حياة القرآن ولم يخُض تجربة التفاعل مع القرآن واستيعابه كرسالة إصلاح، وقد تمر الأيام والأسابيع ولا تجد طالب العلم يمسك المصحف الشريف ليتلو آياته ويتدبر فيها لعدم وجود صلة روحية عميقة بينه وبين القرآن، ولو وجد فيه زاده وغذاءه الذي يغنيه عن غيره لما استطاع تركه، وهذه مصيبة عظيمة للحوزة والمجتمع، وربما لا يحسن بعضهم قراءته مضبوطةً بالشكل.

ص: 330


1- الخصال: أبواب الاثنين، حديث 12.
2- وصايا ونصائح إلى الخطباء وطلبة الحوزة الشريفة (وهذا منشور في المجلد الأول من موسوعة خطاب المرحلة).

ولما كانت رسالة الحوزة الشريفة التي تصدت لحملها هي إصلاح المجتمع وتقريبه إلى الله تبارك وتعالى فإن أول مهمة لهم هي فهم القرآن والسعي إلى تطبيقه فإن الأمة لا تكون بخير إلا إذا تمسكت بقرآنها واهتدت بهديه واستضاءت بنوره كما هو نص حديث الثقلين المشهور:(إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً)(1).

جاهلية اليوم:

إن البشرية تعيش اليوم جاهلية جديدة - وإن تسمى بعضهم بالإسلام - بحسب المفهوم الذي يعطيه القرآن للجاهلية، إذ أنه لا يعتبرها فترة زمنية انتهت بطلوع شمس الإسلام بل هي حالة اجتماعية تتردى إليها الأمة وينتكس إليها المجتمع كلما أعرض عن شريعة الله سبحانه {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة:50)، وقد نبه القرآن الكريم إلى حصولها حينما قال:{وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} (الأحزاب:33) وكأنه إشعار بوجود جاهلية ثانية وهي هذه التي تعيش البشرية اليوم شؤمها وتعاستها وشقاءها.

بل جمعت جاهلية اليوم مساوئ الجاهليات القديمة كلها فالقوي يأكل الضعيف، واللواط يسن بقانون رسمي يجيزه ويرتضي الزواج بين الذكرين، والزنا يفوح برائحته الكريهة وهمجيته الحيوانية وأمراضه الفتاكة كالأيدز ونحوه في كل أرجاء العالم، والبخس في الميزان منتشر بجميع أشكاله ليس على مستوى

ص: 331


1- تقدم ذكره.

الأفراد فقط بل على مستوى الدول فلا يوجد إنصاف في العلاقات بين المجتمعات البشرية وهو ما يسمى بالمصطلح (الكيل بمكيالين)، واتخاذ الأحبار والرهبان وسائر رؤوس الضلال من شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً أرباباً من دون الله يحرّمون ما أحل ويحلون ما حرم، والآلهة التي تعبد من دون الله سبحانه قد تعددت ولم تعد مقتصرة على الحجرية منها فقط، بل ما زالت الذهنيات الشيطانية تتفتق عن المزيد وشياطين الأنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ويصدون عن صراط الله المستقيم {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف:16-17)،{وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً}(الأعراف:86)، وما أكثر هؤلاء الذين يصدون عن سبيل الله من آمن ويبغونها عوجا عن الفطرة السليمة من فاسقات نصبن فخوخ الفتنة والإغراء، إلى بورصات اقتصادية يسيل لها اللعاب، إلى فنانين لا عمل لهم إلا تدمير الأخلاق والقيم الاجتماعية وغيرها.كل هذه من صفات وعلامات جاهلية اليوم وفي كل زمان ومكان، وهذا المفهوم من المفاهيم القرآنية التي يجب استيعابها وفهمها.

مقارنة بين الجاهلية الأولى والجاهلية اليوم:

ولمزيد من البيان نعقد مقارنة بين عقائد وممارسات الجاهلية الأولى والجاهلية التي نعيشها اليوم، وأريد بهذا البيان عدة أهداف:

ص: 332

1-تنقيح المفاهيم والمصطلحات القرآنية واستنباط معانيها التي يريدها القرآن وإزالة الغبار المتراكم عليها نتيجة الغفلة عن القرآن، وإعمال العقول فيه من دون الرجوع إليه.

2-استيعاب الحاجة إلى القرآن إذا فهمنا أن البشرية عادت إلى

جاهليتها الأولى فهي بحاجة إلى أن يعود القرآن ليمارس دوره من جديد في الأخذ بيدها نحو الإسلام الحقيقي.

3-تعزيز فكرة الإمام المهدي (أرواحنا له الفداء) وإقامة الدليل العلمي عليها إذ أن البشرية لما عادت إلى جاهليتها الأولى فإن القرآن وحده لا يكفي لممارسة دوره في إنقاذها بل لابد له من حامل يجسده على أرض الواقع كما رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وإن لم يكن نبياً لانقطاع النبوة به (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولا تجتمع هذه الأوصاف إلاّ في الحجة بن الحسن (أرواحنا له الفداء)، وها هي إرهاصات ظهوره تتحقق ويقترب يومه الموعود(1). وتفصيل الكلام في بحث خاص(2) به (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) .

صفات ومميزات المجتمع الجاهلي بحسب المفهوم القرآني:

وأول صفة من صفات الجاهلية هي عبادة الناس لغير الله تبارك وتعالى والعبادة بمعنى الطاعة والولاء كما ورد عنهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير قوله

ص: 333


1- لذا ورد في الخبر أنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يأتي بإسلام جديد وقرآن جديد وهي لا تعني دلالتها المطابقية لأنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لا يخرج عن دائرة إسلام وقرآن جده (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وإنما يراد به أنه ينفض الغبار عن القرآن ويزيل عنه ركام السنين ويعيده إلى الحياة من جديد.
2- صدر الكتاب يومئذ بعنوان (شكوى الإمام ع) وجمع مع هذا الكتاب و(شكوى المسجد) في كتاب عنوانه (ثلاثة يشكون).

تعالى:{اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة:31) قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم ما أجابوهم، ولكن أحلوا لهم حراما، وحرموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون)(1) هذه العبادة كانت في ذلك المجتمع الجاهلي لغير الله تبارك وتعالى لذا جاء في أول سورة من سور القرآن المطالبة بعدم طاعة ما سوى الله {كَلا لا تُطِعْهُ} (العلق:19)، فكانت الطاعة لآلهة متعددة يومئذ:{مَا نَعْبُدُهُمْ - أي الأصنام - إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}(الزمر:3)، {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ} (آل عمران:64)، {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} (الأحزاب:67)، {فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} (هود:97)،{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً}(مريم:59)، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ

ص: 334


1- الكافي: 1/ 53، باب (التقليد) حديث 1. وهذا المصطلح القرآني المهم (العبادة) يحتاج إلى إشباع لعدم وضوحه في أذهان المجتمع فيظنون أن العبادة هي الصلاة أو السجود وليست هي الطاعة لذا لا يجدون قدحاً في دينهم أن يصلوا ويصوموا لله لكن معاملاتهم وسلوكياتهم في الحياة تكون بغير ما أنزل الله وهو معنى خطير يجب إزالة الشبهة عنه لذا ورد عن الإمام الجواد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله: (من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان هذا الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق ينطق عن لسان إبليس . . .) (تحف العقول: صفحة 336).

نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}(البقرة:170)، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ، كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاهُ فإنه يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}(الحج:3-4)،{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ}{الفتح:26).

هذه بعض آلهة الجاهلية الأولى التي كانت تعبد من دون الله تبارك وتعالى وهي (الأصنام، العلماء غير المخلصين، الفراعنة، هوى النفس الأمّارة بالسوء وشهواتها، إبليس، العصبية، العادات والتقاليد الموروثة عن السلف) وأصلها اتباع الهوى {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}(القصص:50).

فهل اختلف حال الناس اليوم؟ ولا أريد بالناس هذه الأمم التي تسمي أنفسها متحضرة فإنها غارقة في مستنقع الجاهلية من قرنها إلى أخمص قدميها، ولكن هلم بنا إلى الخطب الأفضع إلى الذين يسمون أنفسهم مسلمين وهم يسيرون في ركاب أولئك الكفار وينغمسون في طاعة الشهوات والهوى وما يصدرون إليه من آلهة جديدة كالرياضة والفن وبعض النظريات والقوانين المنحرفة، وما زالت طاعة السادة والكبراء كرئيس العشيرة والوجهاء تمتثل من دون رعاية للشرع المقدس فيحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله تبارك وتعالى، وما زالت الأعراف والتقاليد وسنن الآباء والأجداد تطاع أكثر من شريعة الله سبحانه بحيث يرضى المجتمع بمعصية الله ولا يرضى بالخروج عن هذه

ص: 335

الأعراف والتقاليد، ولسان حالهم يقول:(النار ولا العار) خلافا للإسلام الذي مثله الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في كربلاء بقوله:

الموت أولى من ركوب العار *** والعار أولى من دخول النار(1)

وهذا واضح في السنينة العشائرية وغيرها، وهذه المرأة المسكينة تطيع المودة ودور الأزياء وما يقتضيه الأتيكت وما يصدره الغرب من ملابس وأدوات زينة وكماليات حتى لو كانت مخالفة للشريعة فهل. بقى من العبادة والطاعة والولاء شيء؟ هذا على مستوى الشرك الجلي، والقرآن يخبرنا أن هذه الآلهة كلها ستتبرأ من عبادها يوم القيامة ولا ينفع الندم حينئذ:{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ، إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ، وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}(البقرة:165-166).

ص: 336


1- بحار الأنوار- المجلسي: 44/ 192 وهذا المصطلح القرآني المهم (العبادة) يحتاج إلى إشباع لعدم وضوحه في أذهان المجتمع فيظنون أن العبادة هي الصلاة أو السجود وليست هي الطاعة لذا لا يجدون قدحاً في دينهم أن يصلوا ويصوموا لله لكن معاملاتهم وسلوكياتهم في الحياة تكون بغير ما أنزل الله وهو معنى خطير يجب إزالة الشبهة عنه لذا ورد عن الإمام الجواد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله: (من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان هذا الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق ينطق عن لسان إبليس . . .) (تحف العقول: صفحة 336).

ويصف هذه الآلهة التي يعبدها البشر بتقديم الولاء والطاعة لهم من دون الله تبارك وتعالى قال تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}(العنكبوت:41)، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَ-رَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}(النور:39).وهذا بحث جدير بالاهتمام لأنه يلفت نظر الناس إلى انحراف عقائدهم وأنهم بعيدون عن التوحيد الخالص وأن طاعتهم لله تبارك وتعالى اقل بكثير من طاعتهم لهذه الأصنام المتعددة. وليكن البحث بعنوان (أصنام الجاهلية الحديثة) التي يزيدها خطورة خفاؤها وعدم الالتفات إليها حتى للمؤمنين فضلاً عن غيرهم.

أما على مستوى الشرك الخفي فالمصيبة أعظم، وقلما تجد عملاً مخلصاً وإن ظن صاحبه ذلك، فلماذا يكتب اسمه على لوحة كبيرة عندما يشيد مسجداً لو كان عمله لله ولماذا يمنّ بعطائه ويتحدث به لو كان مخلصاً؟

والصفة الثانية من صفات الجاهلية هي أن الشريعة التي تنظم أمورهم وتنظر في خصوماتهم بعيدة عن شريعة الله سبحانه {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} (المائدة:50)، وعن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(الحكم حكمان حكم الله وحكم الجاهلية فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهلية)(1). فكل حكم بغير ما أنزل الله هو حكم جاهلية على تعبير القرآن، ونحن نرى أن أكثر أفراد مجتمعنا

ص: 337


1- الكافي: ج7 ص407.

منضوون تحت عشائر تحكمها سُنن عشائرية ما أنزل الله بها من سلطان وضعها ناس جهلة بعيدون عن الله تبارك وتعالى، وهذا كمثال ويمكن أن تضرب بطرفك في شرائح اجتماعية أخرى لترى مصداق ذلك، وها أنت ترى أن دول العالم المختلفة تتحكم فيها قوانين وتشريعات و(آيديولوجيات) من صنع البشر الناقص الذي لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا يرى أبعد من أرنبة أنفه، فتراه كل يوم يغير مادة ويضيف فقرة ويلغي أخرى ويكتشف خطأ غيرها فيرتق ما فتق، وهكذا وقد وصف الحديث الشريف كل مخالفة للشريعة وتقصير في تطبيقها جاهلية نحوقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من مات ولم يوص مات ميتة جاهلية)(1).

ففرعون الذي يقول:{مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى}(غافر:29)، ليس حالة خاصة فردية بل هي متكررة دائماً عند الكثيرين ممن ينصبون أنفسهم مشرعين من دون الله تبارك وتعالى.

ومن سمات الجاهلية انحراف عقائدها وإليها أُشير بقوله تعالى:{يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}(آل عمران:154)، فقد كانوا يعتقدون مثلاً أنه مهما ارتكب الإنسان من موبقات فإنه ينجو من العقاب إذا قرب إلى الآلهة قرباناً، ومجتمعنا بفعل ما رسخه خطباء المنبر الحسيني في أذهانهم يعتقدون أنه مهما فعل من منكرات وكبائر فإن دمعة واحدة على الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تكفيه لدخول الجنة، انطلاقاً من الحديث الشريف:(من بكى على الحسين ولو مقدار جناح بعوضة

ص: 338


1- الرسائل العشرة: الشيخ الطوسي، صفحة 317.

وجبت له الجنة)(1)، واستدلوا بقول الشاعر:

فإنَّ النار ليس تمس جسماً *** عليه غبار زوار الحسينِ(2)

ونحن لا ننكر كرامة الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على الله تبارك وتعالى فهو يستحق هذا التكريم وأزيد:لكن هذا على نحو المقتضي وجزء العلة لدخول الجنة ولا بد من تمامه من جزء العلة الأخرى من الشروط وعدم الموانع وأول الشروط طاعة الله تعالى في أوامره ونواهيه وهذا القرآن صريح:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى}(الأنبياء:28)، وفي حديث الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(لن تنال شفاعتنا مستخفاً بالصلاة)(3)، ومنافٍ للآية الشريفة:{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}(الزلزلة:7-8)، إلا أن يتدارك عمله بالتوبة الصادقة.

وهذا الانحراف في الاعتقاد له أثره الخطير في ابتعاد الناس عن الدين وقلة وعيهم بعد أن خدروا بهذه العقيدة البعيدة عن القرآن وركونهم إليها فتركوا العمل بالقرآن.

ومن معالم الجاهلية السفور والتبرج وإظهار المفاتن والتهتك وشيوع الفاحشة، قال تعالى:{وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى}(الأحزاب:33)، والمجتمع اليوم قد فاق تلك الأمم بفسقه وفجوره وتفننه في الغواية والإضلال

ص: 339


1- كامل الزيارات: صفحة 201.
2- الغدير- الشيخ الأميني: 6/ 13
3- بحار الأنوار: 76 / 136.

وإيقاع البشر في الفاحشة وتسخر كل إمكانياتها المتطورة لترويجها، وكما كانت الجاهلية تبتكر الأساليب وتضع قوانين لإشباع غريزتها الجنسية بطرق شيطانية، فمثلا سنّت قريش قراراً يقتضي حرمة طواف الطائف بالبيت بثيابه لأنه قد عصى الله بها وارتكب المآثم فيها فلا بد أن يطوف بملابس من آهل مكة أو جديدة أو يطوف عارياً.وأولياء الشيطان اليوم سنّوا أساليب لإشاعة الفاحشة غير ملاهي الفسق والفجور باسم الرياضة مثلاً التي لا تقل تهتكاً عما يجري في تلك الملاهي بل الملاهي أرحم لأنها في الخفاء ويستهجنها الجميع ويستحيي صاحبها أن يلصق به عارها، أما هذه فتمارس علناً ويفتخر بها صاحبها ويبارك عمله الجميع. أترى أي ألعوبة أصبح هؤلاء بيد الشيطان يتصرف بهم كيف يشاء. وهكذا العناوين والأسماء الأخرى كملكة الجمال أو باسم عرض الأزياء أو باسم الفن وكلها استهتار ومجون وفسق وفجور ولكن بغطاء مقبول لدى المجتمع لا ينجو منه إلا من عصم الله، والهدف واحد هو أن تعيش البشرية همجية الحيوان وفوضى الجنس ونار الشهوة المستعرة التي لا تبقي ولا تذر.

ومن سمات الجاهلية فساد التصورات وانحراف الرؤية للحياة فمثلاً كان بعض الجاهليين يرفضون تزويج بناتهم من غيرهم لأنهم يرون أنفسهم فوق الآخرين وهم ما يسمون ب-(الحُمُس)، وفي جاهلية اليوم توجد شرائح كثيرة كذلك ولعل أوضح مصاديقها بعض السادة المنتسبين لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فإنهم لا يزوجون نساءَهم إلا لسيد مثلهم وقد تعنس بناتهم ويفوتهنّ الزواج ويحرمنَ من ممارسة حق مشروع لهنّ في التنعم بتكوين أسرة وليعشنَ سعادة الأمومة. كل ذلك

ص: 340

بسبب هذا التصور الخاطئ الجاهلي فأين هذه التصورات من مبادئ القرآن:{خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء}(النساء:1)، ومن تعاليم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه)(1)، وإذا كان لهم شرف بانتسابهم لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فإن شرف رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بانتسابه للإسلام ولطاعة الله تعالى، وليس لأنه محمد بن عبد الله قال تعالى:{لَئِنْ أَشرَكتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الزمر:65)، {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ، لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}{الحاقة:44 - 47)، ويقول هو (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(ولو عصيت لهويتُ)(2) فما قيمة هؤلاء الذين يتاجرون باسمه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهم يخالفون شريعته؟ومن معالمها اختلاف القيم والموازين التي يتفاضل بها البشر من إلهية حقيقية إلى شيطانية وهمية، فالقرآن يصرح:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(الحجرات:13)،{قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}(يونس:58) بينما الجاهلية تتفاضل بالمال والجاه وكثرة الولد{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}(التكاثر:1-2)، {وَقَالُوا نَحْنُ أكثر أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}(سبأ:35)، وهذه الأمور من الوضوح بحيث لا أحتاج إلى ذكر أمثلة، والآيتان التاليتان توضحان هذه المقارنة الصارخة

ص: 341


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح: أبواب مقدمات النكاح وآدابه، باب 28، حديث1.
2- بحار الأنوار: 22 / 467.

بين المقاييس:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ، قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}(آل عمران:14 - 15). ويقول تعالى:{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} (سبأ:37).ومن الخصائص المشتركة للجاهليتين انتشار الرذائل الخلقية وأوضحها شرب الخمر والتطفيف في الميزان والغش والكذب واللواط قال تعالى:{وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ}(العنكبوت:29)،{وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ} (الأعراف:85)،{وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إذا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِ-رُونَ}(المطففين:1-3)، بل يستهزئون من الإنسان النظيف {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}(الأعراف:82)، بحيث أن جعفر بن أبي طالب سجل اسمه في التأريخ على أنه ممن حرَّم على نفسه الخمر والزنا في الجاهلية(1)، ومن رذائل أخلاقهم أن القوي يأكل الضعيف وانعدام الأخلاق والمثل الإنسانية فضلاً عن الإلهية والمهم هو المنافع الشخصية. وها هي حضارة اليوم تسحق شعوباً

ص: 342


1- أنظر: علل الشرائع- الشيخ الصدوق: 2/ 558

بكاملها وتهلك الحرث والنسل من أجل ما يسمونه (المصالح) التي هي فوق كل شيء عندهم، أما الهدف الحقيقي وهو رضا الله تبارك وتعالى والفوز في الآخرة فهذا تخلف ورجعية، قال تعالى:{وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران:154)، فهذه غايتهم وهذا هو هدفهم الذي يعيشون من اجله هل لنا من الأمر من شيء.ومن أهم خصائص الجاهلية بل هي السبب في تحققها ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذا الذي حذر منه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟ فقيل له:ويكون ذلك يا رسول الله؟ فقال:نعم، وشر من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ فقيل له يا رسول الله ويكون ذلك؟ فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):وشر من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً)(1).

وهذا ما وصلت إليه المجتمعات اليوم والتقصير أول ما يبدأ من علماء الدين أو الربانيين على تعبير القرآن وتخاذلهم وتقاعسهم عن أداء وظيفتهم، وأوضح مصداق للربانيين هم انتم يا طلبة وفضلاء الحوزة الشريفة. قال تعالى:{وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ، لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ

ص: 343


1- الكافي: 5/ 59، باب: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} (المائدة:62 - 63)،{كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ، تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ}(المائدة:79-80).وهذه خصيصة أخرى من خصائص المجتمع البعيد عن الإسلام وهي موالاة ومداهنة الفاسقين والذين كفروا، وعن هذا التقصير يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(أما بعد فإنه إنما هلك من كان قبلكم حيثما عملوا من المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار عن ذلك، وأنهم لما تمادوا في المعاصي نزلت بهم العقوبات فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لن يقربا أجلاً ولن يقطعا رزقاً)(1).

وبدون القيام بهذه الفريضة لا تبقى للمؤمنين قيمة لا عند الله ولا عند

رسوله بل ولا حتى عند أعدائهم، لذلك كان هناك موحدون بين قريش وهم الأحناف الذين نبذوا عبادة الأصنام وتفرغوا لعبادة الله سبحانه، لكن لم تكن لهم قيمة عند المشركين ولم يأبهوا بوجودهم لأنهم تركوا هذه الفريضة العظيمة.

بينما جعل القيام بهذه الوظيفة من صفات المجتمع المسلم بحق:{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}(آل عمران:110)،{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُ-رُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا

ص: 344


1- نهج البلاغة: الخطبة (27).

عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج:40 - 41)،{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} (آل عمران:104)،{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(التوبة:71)، وغيرهم كثير ولسنا هنا بصدد الاستقصاء فإن هذا البحث مبني على الإشارات فقط ومجرد فتح الباب للتفكير في هذه القضايا وكل باب ينفتح منه ألف باب بلطف الله تبارك وتعالى وسعة رحمته.ومن معالم الجاهلية سيطرة الخرافات والأساطير، فمثلاً كانت العرب تتشاءم من صوت الغراب والبوم، والغرب اليوم يتشاءم بلا معنى من رقم (13) وانتشر يومئذ العرّافون والكهنة وراجت سوقهم، واليوم نرى إقبال الناس على قارئي الكف والرمل والأبراج والطريحة وأصحاب النور والمطوعات ونظائرها مما ينطلي على الجهلة والسذج.

ومن سمات الجاهلية الصد عن القرآن وعزل الناس عنه بشتى الطرق فقد كان النضر بن الحارث وهو ممن ذهب إلى بلاد فارس وتعلم من أخبار ملوكهم يتعقب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فإذا قام (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من مجلس جلس إليهم النضر وتحدث لهم بتلك القصص والأخبار ثم يقول:بالله أيّنا أحسن حديثاً قصصاً أنا أو محمد؟(1) وكانوا يصفون القرآن بأنه أساطير الأولين أو أحاديث اكتتبها فهي

ص: 345


1- أنظر: تفسير ابن كثير: 2/ 316

تملى عليه بكرة وأصيلاً أو حديث يفترى، أو يصفقون بصوت عال عند تلاوته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للقرآن ليحولوا دون سماعه، ويصف القرآن موقفهم هذا بقوله:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}(فصلت:26)، وقال تعالى:{وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ}(القمر:2)، وها هي جاهلية اليوم تصف القرآن نفس الأوصاف بأنه من كلام محمد وقد أنشأه وفق البيئة التي عاشها، وانه يمثل نبوغاً إنسانياً وليس وحياً إلهياً، وحاولوا التأليف في متناقضات القرآن ولكنهم لما عجزوا واكتسحهم القرآن وفرض وجوده عليهم عمدوا - بما أوتوا من خبث ومكر وخداع - إلى تفريغه من مضمونه وعزله عملياً عن واقع الحياة وحوّلوه إلى ما يشبه الأناشيد والأغاني التي يترنم بها المطربون ويعبر الجالسون عن طربهم بصيحات (الله الله يا شيخ) وحوّلوه إلى تعويذات يُعلقَّها على صدورهم أو في بيوتهم لا أزيد من ذلك. وهذا الأسلوب كما ترى أخطر من أسلوب النضر بن الحارث وأمثاله وأشد مكراً وأفتك أثراً.ومن التصرفات البارزة التي يتصف بها الجاهليون:هي الجمود على التقاليد الموروثة عن السلف والتزمت في الالتزام بها وعدم الخروج عنها وإن قام الدليل والحجة على خلافها، وهذا التصرف نتيجة التحجر وعدم السلامة في التفكير وتحكيم العاطفة باعتبار أن الشيء الذي تتوالى عليه أجيال من الآباء والأجداد يكتسب قداسة يصعب اختراقها. وقد كرر القرآن هذا المعنى كثيراً بحيث نستطيع أن نفهم منه أن هذه كانت من المحن التي اشترك فيها جميع

ص: 346

الأنبياء. قال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (البقرة:170)،{إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ، فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} (الصافات:69 - 70)، {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (الأعراف:70)، {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ، وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ، قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} (الزخرف:22-24)، فالآيتان الأخيرتان تدلان على أن هذه المحنة الكبيرة تواجه كل من يريد أن يحرر مجتمعه ويسعى لإصلاحه، لقوله تعالى:{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِك}(الزخرف:22-24)، وليست مختصة بالأنبياء وحدهم.وجاهلية اليوم لا تختلف عن الجاهلية الأولى في ذلك، والشواهد عليها كثيرة وقد عانت مجتمعاتنا كثيراً من هذه (النزعة الاستصحابية) على تعبير أحد المفكرين الحوزويين(1).

ص: 347


1- والمقصود به هو السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) ولم يكن سماحة الشيخ يصرّح به جهاراً حيث ألقيت هذه المحاضرات أيام البطش الصدامي ما قبل سنة 2003 حيث كان التصريح والتلميح تهمة كافية لإعدام صاحبها، إلا أن سماحة الشيخ كان يخلل أفكاره ببعض طروحاته ونظرياته (رحمه الله) ويتمثل له ويعيش أفكاره ويشير اليه بطريق خفي في الوقت الذي

ومن علامات الجاهلية عدم معرفة الإمام الحقيقي (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية)(1) ولا يراد بالمعرفة معرفة الاسم فقط بل معرفة المسؤولية الكاملة والتكليف التام تجاه الإمام والقيام بها حق القيام وهذا التقصير واضح منا تجاه صاحب العصر (أروحنا له الفداء) وقد وصف الدعاء المأثور هذه الجاهلية (اللهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيك اللهم عرفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك اللهم عرّفني حجّتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني)(2) والضلال عن الدين هو عين الجاهلية.وهذا ما يحتاج إلى بحث كامل عن لزوم وجود الإمام والحجة في كل زمان وتكليفنا في زمان الغيبة ومسؤوليتنا تجاه الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والإجابة عن الكثير من التساؤلات والمشاكل الفكرية التي تحاط بها قضية الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مما هو غائب عن ذهن المؤمنين به فضلاً عن غير المؤمنين به أصلاً، بينما هم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (باب الله الذي لا يؤتى إلا منه)(3) فكيف يهتدي إلى الله سبحانه من لا يعرف بابه

ص: 348


1- كمال الدين وتمام النعمة: 409.
2- الكافي: 1/ 337.
3- الكافي: 1/ 196.

فماذا بعد الله إلا الضلال المبين.ومن سماتها الخضوع للماديات وعدم الاعتراف بما وراء المادة وإنكار الغيب قال تعالى:{وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (الأنعام:29)، {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ}(الجاثية:24)، فيأتي القرآن ليؤسس لهم أهدافاً سامية يعيشون من أجلها {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56)، {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} (هود:61)، {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (يونس:14)، فالإنسان ما خلق فقط لهذه الدنيا حتى يكرس همه لها بل جعل في الأرض خليفة ليستعمرها ويجعلها حرثاً لآخرته وخالقه يحصى عليه أعماله لينظر كيف يعمل، ويأتي التوبيخ الإلهي لمثل هذا الإنسان الغارق في الماديات {أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدىً، أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى، ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى، أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى}(القيامة:36-40)، بلى سبحانك اللهم أنت قادر على ذلك وعلى كل شيء، نعم، لكن هذا لا يمنع من أن يأخذ نصيبه من الدنيا من دون أن يجعله هدفا وغاية وإنما يوظفه لخدمة الهدف الحقيقي وهو رضا الله تبارك وتعالى:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ

ص: 349

الْمُفْسِدِينَ}(القصص:77)، فليس النقص والخلل في حيازة الدنيا لذا قيل:(الدنيا مزرعة الآخرة)(1) وفي حديث آخر:(الدنيا متجر أولياء الله)(2) ففيها يتاجرون مع الله تجارة لن تبور.ومن سمات الجاهلية التشتت والتفرق والتمزق، قال تعالى:{وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}(الروم:31-32)، وكل ذلك بسبب تضييعهم للمحور الواحد الذي يجب أن يجتمعوا حوله وهو توحيد الله تبارك وتعالى، وجعلت الكعبة المشرفة رمزاً له، لكن المجتمع البعيد عن الله يتمزق دولاً وبلداناً أولاً، حتى وصل عدد دول العالم اليوم أزيد من (180) دولة ويتمزق أجناساً ويتفرق قوميات حتى داخل البلد الواحد ويتمزق فكرياً فهذا شيوعي وهذا رأسمالي وهم أبناء بلد واحد وقومية واحدة ودين واحد ويتمزقون آيديولوجيا حتى داخل الدين الواحد بل داخل المذهب الواحد وكل طائفة تنقسم على نفسها فرقاً وهكذا:{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}(المؤمنون:53)، وقد نبه القرآن إلى أن هذا التفرق هو إحدى عقوبات الابتعاد عن المنهج الإلهي:قال تعالى:{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} (الأنعام:65)، وجاء الإسلام ليوحدهم بهذا القرآن قال تعالى:{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ

ص: 350


1- عوالي اللآلي: 1 / 267.
2- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 15/ 203.

تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(آل عمران:103)، {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فإن حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال:62-63).ومن سمات الجاهلية الواضحة الرعب من الموت ومن كل ما يوحي به أو يشير إليه وذلك لأنهم خسروا الآخرة وجعلوا غاية همهم إشباع شهواتهم وأطماعهم {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ، وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} (البقرة:94-96)، {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}(الجمعة:6-7)،{فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}(الأحزاب:19)، لكن القرآن يقرر لهم حقيقة دامغة لا مفر منها {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فإنه مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الجمعة:8)،{قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن

ص: 351

فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلاً} (الأحزاب:16)،{أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} (النساء:78)، {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} (215)، فالخوف من الموت لا يكون إلا بالاستعداد له بالإيمان والعمل الصالح وإعمار الآخرة بما يرضي الله تبارك وتعالى ويقرب منه.واشعر أنني إلى هنا قد قدّمت إشارة كافية وفتحت باب التفكير بمقدار كافٍ في هذا الاتجاه لأن أهم خطوة في معالجة أمراضنا الاجتماعية هي تشخيص الداء بدقة ومن ثم وصف العلاج المناسب.

واتضح لدينا الآن من خلال هذه النقاط العديدة تحقق عنوان الجاهلية في البشرية اليوم وعلمنا أن لطف الله بعباده دائم ولا يختص بقوم دون قوم، فجاهلية الأمس ليست أولى من جاهلية اليوم ولا خصوصية لها حتى ينزل إليها تبارك وتعالى قرآناً ويبعث إليهم رسولاً، ويترك جاهلية اليوم سدىً، فما أحوجها إلى مصلح وهو الحجة بن الحسن (أرواحنا له الفداء) وما أحوجنا إلى القرآن لينقذنا من حضيض الجاهلية إلى قمة الإسلام.

القرآن علاج لأمراضنا الاجتماعية:

فلنكرّس جهدنا في الاستفادة من قابلية القرآن وقدرته على علاج أمراض البشرية والارتقاء بها في سلم الكمال، فإن القرآن خالد وحي ومعطاء إلى يوم القيامة ومن خلوده قدرته على تشخيص الداء وتقديم الدواء لكل مجتمع وكل زمان ومكان وما علينا إلا أن نستثير كوامن القرآن ونلتمس منه دواء دائنا

ص: 352

وأمراضنا الاجتماعية والفردية. فإذا أصيبت الأمة بالتمزق والتشتت فدواءهم قوله تعالى:{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}(آل عمران:103)، بعد معرفة أن حبل الله هما القرآن وأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بحسب الحديث الشريف.

وإذا أصيبت الأمة بالجبن والخور فعلاجهم قوله تعالى:{أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} (النساء:78)،{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فإنه مُلاقِيكُمْ}(الجمعة:8).

وإذا مر المجتمع ببلايا ومصاعب ومحن فشفاؤهم في قوله تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}(البقرة:214).

وإذا شعروا بالإحباط واليأس فعلاجهم قوله تعالى:{وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (يوسف:87)، {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} (الحجر:56)، {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ}(غافر:51).

وإذا ألقينا مسؤولية الانحراف والظلم على غيرنا أو على الزمن فلنقرأ قوله تعالى:{وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ}(النساء:79) {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(الرعد:11)، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ

ص: 353

يَظْلِمُونَ}(آل عمران:117).وإذا انصاع الناس وراء الكثرة الكاثرة ولسان حالهم (حشر مع الناس عيد) بلا تعقل وروية وبصيرة، أجابهم القرآن:{وَمَا أكثر النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف:103)،{وَإِن تُطِعْ أكثر مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}(الأنعام:116) {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف:106).

ومن الأمراض الاجتماعية التي عالجها القرآن (الإشاعة)(1) وهو داء فتاك يفرق المجتمع ويزلزل كيانه ويبلبل، أفكاره فقال فيها وفي علاجها:{وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} (النساء:83)، وغيرها الكثير مما يعالج عللنا المزمنة.

دروس مستفادة من طريقة القرآن في إصلاح المجتمع:

وهنا ينبغي الإشارة إلى بعض الدروس المستفادة من طريقة القرآن في إصلاح المجتمع وهدايته:

1-الالتفات إلى جانب العلل أكثر من المعلولات عند معالجة حالة معينة وهو شيء مهم وضروري، فعندما يراجع المريض طبيبا ويشرح له الأعراض التي يعاني منها فإن أهم ما يقوم به الطبيب تشخيص العلة وتعيين العلاج

ص: 354


1- صدر لاحقاً كتيب عن هذا الموضوع ضمن سلسلة (نحو مجتمع نظيف).

لها، أما الاكتفاء بمعالجة الأعراض المرضية كوجع الرأس وألم البطن أو ارتفاع درجة الحرارة من دون أن يشخص العلة فهذا من خطل التفكير، فمثلا إن من يريد أن يعالج ظاهرة التبرّج، أو ميوعة الشباب وتقليدهم للغرب، أو امتناع الناس عن دفع الخمس أو أداء الصلاة، أو ارتكابهم للفواحش كشرب الخمر واللواط، أو قل:عموم ابتعاد الناس عن تطبيق شريعة الله وتعمدهم مخالفتها لا يكتفي بأن يقول لهم هذا واجب فافعلوه وهذا حرام فاتركوه لأنهم مسلمون ويعرفون ذلك، فلا بد من تشخيص العلة لضعف الوازع الديني عندهم الذي هو الدافع للتطبيق ومن ثم علاجه، وضعف الوازع الديني إنما منشأه ضعف الجانب الأخلاقي والعقائدي لدى المجتمع، لذا ركز القرآن في مكة - أي في أوائل نزوله - على هذين الجانبين. بما طرح من عقائد ودافع عنها بالأدلة المختلفة ورد الإشكالات الموجهة إليها، وغالبا ما كان يثير كوامن فطرتهم لأنه دليل وجداني مرتكز في باطن كل إنسان ولا يستطيع أحد إنكاره والتنصل منه، واهتم بعرض مشاهد يوم القيامة وسنن الله في الأمم السالفة وعرض الكثير من مواقف العظة والعبرة حتى أيقظ عقولهم وطهر قلوبهم وعندئذ كلفهم بالأحكام فاستجابوا لها طواعية، ونحن نعلم ان فترة التربية في مكة كانت أكثر منها في المدينة ومن هذا يعلم الاهتمام المتزايد بجانب العلل أكثر من المعلولات.2-ومن هنا ينفتح الكلام عن الدرس الثاني المستفاد من طريقة القرآن في إصلاح النفس والمجتمع وهي ضرورة بناء الجانب الأخلاقي والعقائدي لشخصية المسلم، وقد اعتمد القرآن في هذا البناء على عدة أساليب ذكرتها في دروس (فلنرجع إلى الله) وقلنا هناك:أنه سلك طريق العوالم الثلاثة التي

ص: 355

يعيشها الإنسان (العقل، القلب، الروح) فمثلاً يربط بين منع السماء بركاتها والأرض خيراتها وتسلط الأشرار وعدم استجابة الدعاء فيجعل علتها ابتعاد الناس عن شريعة الله وترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن أراد أن يتخلص من هذه النتائج السيئة فليؤدّ هذه الفريضة. ففي الحديث:(إذا تركتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نزعت عنكم البركات ونزلت عليكم البليّات وسلطت عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم)(1).وكان على رأس هذه الأساليب ما أشرنا إليه من عرض مشاهد وأهوال الموت وما بعده ويوم القيامة وحوار الكافرين والفاسقين في النار ومع شياطينهم والتذكير بسنن الله تبارك وتعالى في المعرضين عن طاعته. قال تعالى:{دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} (محمد:10)،{فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (آل عمران:11)، وتعداد نعمه على العباد التي لا تعد ولا تحصى مع إقرارهم بحقيقة فطرية:{هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} (الرحمن:60)، ثم بيان السعادة التي تعمر قلب الإنسان وحياته ومجتمعه لو طبق شريعة الله. قال تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ}(الأعراف:96).

إن العقيدة والأخلاق هما اللذان يرسمان الهدف الذي يعيشه الإنسان وبالتالي فهما يُحدّدان معالم مسيرته، فمثلاً إذا أريد التبرع لمشروع خيري أو مساعدة محتاج فأيهما الذي يبادر إلى المشاركة:المؤمن الذي يبتغي رضا الله

ص: 356


1- تهذيب الأحكام: 6 / 176.

سبحانه ويرجو العوض منه أم البعيد عن الدين الذي غاية همّه الاستزادة من الدنيا والذين هم {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} (الممتحنة:13)، فالأول أسرع للمشاركة. فهذا مثال على اثر العقيدة والأخلاق في دفع الإنسان إلى التطبيق، فالمؤمن هدفه الله تبارك وتعالى، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، وإنما انحدرت الأمة وضلت لأنها أضاعت الهدف الذي تعيش من أجله فتفرقت بهم السبل. قال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام:153).فما علينا إلا ملء هذا الفراغ في عقول وقلوب المجتمع حتى تصح مسيرته وتنتظم حياته وفق ما أراد الله تبارك وتعالى، وان نأخذ بطريقة القرآن في إحياء القلوب وترقيقها وتهذيب النفوس وتغذيتها بالعقائد الحقة التي هي منشأ الأخلاق الفاضلة. قال تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد:16).

وهذا باب ينبغي للمفكرين والمربين الولوج فيه وهو أسلوب القرآن في الموعظة وإحياء القلوب وجميع الآيات الشريفة فيه التي لو تأملها العاقل لأعاد النظر في منهج حياته، كقوله تعالى في سورة الدخان:{كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ، وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ، كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ، فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا

ص: 357

مُنظَرِينَ} (الدخان:25-29).وإني أنصح بقراءة كتاب (القلب السليم)(1) الذي يتألف من جزئين أولهما في العقائد والآخر في الأخلاق وهما صادران من قلب مخلص طاهر.

3-التدريجية في الهداية والإصلاح والأخذ بأيدي الناس برفق ومثالهم الرئيسي على ذلك:التدريج في تحريم شرب الخمر - باعتباره عادة راسخة في المجتمع وقد أشربت في قلوبهم وعقولهم - فتدرج في المنع على مراحل، أوّلها:(يسأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِ-رِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (البقرة:219)، فقال بعضهم لا نشربها لأنها إثم وقد حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم، وقال بعضهم نشربها بمقدار المنافع فيها، ثم نزل قوله تعالى:{لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} (النساء:43)، فامتنع بعضهم وقالوا لا نتناول شيئا منافياً للصلاة، ثم نزلت آية المائدة التي أفادت المنع المؤكد الجازم:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِ-رُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} (المائدة:90).

ونفس نزول القرآن نجوماً أي مبعضاً على مدى (23) سنة إنما يهدف - فيما يهدف إليه - المعالجات الآنيّة آخذاً بنظر الاعتبار الزمان والمكان والظروف الموضوعية وتباين مستوى الناس واستعدادهم للتلقي والتطبيق.

ص: 358


1- للمرحوم الشهيد السيد عبد الحسين دستغيب ولم يكن سماحة الشيخ يستطيع التصريح بالاسماء لأنه يعرّضه لعقوبة النظام الصدامي، وكانت هذه الكتب تدخل الى العراق سراً ثم تستنسخ خفية وتوزّع كذلك.

ويمكن أن يكون التدرج بعدة أشكال فعندما يراد معالجة ظاهرة اجتماعية متأصلة - كالسنينة العشائرية مثلاً - فنبدأ أولاً بإثارة الإشكالات حول مدى صحتها وجدواها والتشكيك فيها ثم طرح البدائل والخيارات الأخرى المقابلة لها فإذا زرع في النفوس هذا التشكيك وبدأ الالتفات إلى البديل الأفضل فستنشأ القناعة بإبدالها، وعندئذ يمكن التصدي لنقضها، أما محاولة نقضها مباشرة ومن دون هذه التهيئة فإنه يعني الفشل الذريع، وما دامت راسخة ومتأصلة وقد جبل الإنسان على احترام ما هو مألوف وموروث عنده والتعبد به فسيكون هؤلاء المتعبدون كلهم ضد اية محاولة لتغيير هذه الظاهرة الاجتماعية.فعندما بُعث الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالنبوة لم يتعرض للأصنام مباشرة بل كان يعبد الله تعالى هو (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)(1) وخديجة (س) بمرأى ومسمع من قريش من دون أن تتعرض له بسوء، لكنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فتح الباب للعديد من التساؤلات:ماذا يفعل هؤلاء الثلاثة ولمن يعبدون ولماذا تركوا طريقة قومهم وما هذه الشجاعة والإيمان الراسخ في قلوبهم الذي يجعلهم يقفون بكل اطمئنان مقابل الجميع . . . هذه التساؤلات أدت إلى إسلام جماعة - راجع قصة عبد الله بن مسعود في كتب السيرة(2) - ولم تعارضه قريش لأنه لم يستفزها ولم يُثر حفيظتها فيما لو تعرض للأصنام مباشرة.

4-الاهتمام وإلفات نظر الأمة إلى المرتكزات الأساسية لكيان الأمة الذي لا يحفظ إلا بها خصوصاً تلك التي يعلم إعراض الأمة عنها وإهمالها

ص: 359


1- أنظر: بحار الأنوار- المجلسي: 38/ 256)
2- أنظر: أسد الغابة- ابن الأثير: 3/ 256

لأمرها من بعده (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فشدد عليها كثيراً، مثلا، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإمامة والولاية للمؤمنين ومشاققة الكافرين ومودة ذوي القربى والاعتصام بالقرآن والعترة والمواظبة على المساجد والجماعات والجمعات، وما أن غاب شخصه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى أهملت الأمة هذه الأسس الرصينة لحفظ كيانها فبدأ العد السريع للانحراف فأي عودة للصلاح والإصلاح لابد لتحقيقها من إعادة دور هذه الأمور في حياة الأمة إلى بحوث مستقلة بإذن الله تعالى.5-التسلية وتطييب الخاطر والتخفيف عن المصاعب والأتعاب التي تواجه الشخص الذي يسعى إلى إصلاح المجتمع وهدايته أو ما سميناه بحامل القرآن كرسالة إصلاح، قال تعالى:{المص، كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}(الأعراف:1-2)، و{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ} (هود:12)،{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ، إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} {النحل:127-128)،{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذىً كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فإن ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (آل عمران:186)، وأرقّ تعبير وألطفه قوله تعالى:{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (الطور:48)، عين الرعاية واللطف والرحمة والحراسة والتوجيه والبصيرة وغيرها.

وتجد سوراً كاملة نزلت لهذا الغرض كسورة يوسف التي تحس إنها نزلت

ص: 360

في الفترة العصبية التي عاشها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في مكة قبل الهجرة حيث فقد الناصر بموت أبي طالب وخديجة (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ويأس عمليا من إسلام قريش وحاول ان يجد مأوى آخر غير مكة كالطائف فلم يفلح فضاقت الدنيا بالمؤمنين، وفي ذلك الحين نزلت عليهم سورة يوسف تقص عليهم كيف تآمر الأخوة على أخيهم الصغير ورموه في الجب وهو يعني الموت بحسب الأسباب الطبيعة، لكن الله تعالى يرسل قافلة تستنقذه ويباع إلى بيت ملك مصر ثم يقع في محنة امرأة العزيز وباقي النساء فيسجن سنين لكن الله تعالى ينقذه من السجن ويعلمه تأويل الأحاديث، فنال ببركة ذلك موقع أمين خزائن مصر، ثم أصبح ملكا عليها بعد أن ملك قلوب الناس بأخلاقه وحسن تدبيره. وهنا يأتي أولئك الإخوة المتآمرون ذليلين بين يديه فيعفو عنهم بنفسه الكبيرة وقلبه الرحيم ويقول لهم:{لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (يوسف:92)، ويجمع الله شمله مع أبيه وأخيه. واستعار رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نفس الكلمة حين فعلت قريش نفس الفعل حتى نصره الله عليهم ومكنه من رقابهم في عقر دارهم مكة فأعاد عليهم كلمة أخيه الكريم يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(لا تثريب عليكم اليوم اذهبوا فانتم الطلقاء) بعد أن استنطقهم:ما تروني فاعلاً بكم، قالوا (أخ كريم وابن عم كريم)(1)، وهذا إقرار منهم بسمو ذاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) .6-الحث على طلب العلم والتعلم والتفقه بكل ما يقرب إلى الله سبحانه ويزيد من المعرفة به، وقيل أن في القرآن أكثر من خمسمائة آية تحث على العلم

ص: 361


1- تفسير نور الثقلين: 2 / 460.

والتفكر وتثني على العلماء وتذمّ الجهل والجهلاء وتصف عاقبتهم، حتى جعل القرآن صفة الفقه والعلم والمعرفة بالله تبارك وتعالى سببا لمضاعفة قوة المؤمنين على أعدائهم عشرة أضعاف بحسب التعليل المستفاد من ذيل الآية الشريفة، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} (الأنفال:65) بينما جعل الصبر الذي هو من الأسباب المهمة للنصر بمثابة زيادة القوة ضعفاً واحداً فقط:قال تعالى:{الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فإن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}(الأنفال:66).

من فقه المواجهة مع الكفار والطواغيت:

وهذا الفقه شامل لكل نواحي الحياة، فماذا ضخ القرآن من أفكار تندرج في ما يمكن تسميته فقه المواجهة مع الكفار؟ قال تعالى:{وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيماً} (النساء:104)، فلماذا الفرار من لقائهم ما دامت الأضرار تحل بالطرفين؟ والفرق أنكم ترجون ما عند الله في الآخرة فلا خسارة، بينما هم لا يرجون ما عند الله شيئاً إلا العذاب الأليم.

وقوله تعالى:{وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ

ص: 362

حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} (الحشر:2). وقوله تعالى:{مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (التوبة:120-121) فلماذا التقاعس والتقصير في تقديم ما تقتضيه طاعة الله تبارك وتعالى من جهد ومال ولماذا سوء الظن بالله تعالى هذا الذي يعتري الناس حين يطلب منهم دفع ما بذمتهم من حقوق شرعية كالخمس الزكاة ونحوهما؟

ومنها قوله تعالى:{ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ} (يونس:103).

ومنها هذه الآيات المباركة من سورة محمد، وإذا استطعت أن تنتقل بروحك وفكرك وقلبك إلى تلك الفترة الزمنية السعيدة من حياة البشرية وتتصور أنك ضمن الجماعة المؤمنة المحيطة برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) التي واكبته من الزمان الصعب أول الرسالة عندما كانوا قلة مستضعفين تسومهم قريش سوء العذاب حتى هذه الفترة التي دب فيها العجز واليأس لدى المشركين بعد وقعة الأحزاب حيث أصبح زمام المبادرة بيد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتوالت انتصاراتهم من فتح الحديبية

ص: 363

إلى فتح خيبر وفتح مكة والطائف ثم اليمن والجزيرة كلها، فتصور انك هناك وينزل عليك هذا الخطاب القرآني العظيم ومن لدن ربك ومدبر أمورك وخالق السموات والأرض يتحدث إليك مباشرة ليقول لك:{بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ، ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ، فإذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إذا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ، سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ، أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ(1)، إِنَّ اللَّهَ

ص: 364


1- وهذه الآية تمثل الإطار العام لهذه المقابلة المؤمنين لهم مولى يرعاهم ويتولى تربيتهم وسعادتهم وصلاحهم وهو الله تبارك وتعالى بينما الكفار لا مولى لهم وإنما مولاهم الشيطان الضعيف الذي يفر عند المواجهة ويخذلهم {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (سورة الأنفال: 48).

يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ، وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ، أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ} (محمد:1-14)،{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور:55).وهو أثناء ذلك يحذر من محاولات المنافقين الذين يخذلون المؤمنين عن مواجهة الأعداء ويسخرون من ضعف إمكانياتهم متغافلين عن سر قوة المؤمنين وهي اتصالهم بالله تبارك وتعالى، فاسمعه سبحانه يقول:{إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فإن اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(الأنفال:49).

وتندرج في هذا السياق - أعني فقه المواجهة مع الكفار - كل الوعود الإلهية بالنصر والغلبة ووراثة الأرض، وأن العاقبة لهم، وأن الله معهم، وتنزل الملائكة عليهم بالسكينة من ربهم، ورفع الخوف والحزن عنهم، وعقد صفقة الشراء معهم فيشتري منهم أنفسهم وأموالهم والثمن الجنة، وكذا مضاعفة القرض

ص: 365

لله تبارك وتعالى والإنفاق في سبيله. ولا يسع هذا المختصر كل التفاصيل.والحقيقة الكبرى التي يثبتها القرآن الكريم بهذا الصدد أن النصر والهزيمة أمام العدو الخارجي - الكفار - إنما هي فرع النصر والهزيمة مع العدو داخل النفس الأمارة بالسوء وهو الشيطان، فتراه عندما يعد المؤمنين بخلافة الأرض ووراثتها ومن عليها فإنه يجعل الخطوة الأولى في ذلك إصلاح الذات وتطبيق المنهج الإلهي على النفس أولا، قال تعالى:{وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ}(القصص:5-6)، فأولاً جعلهم أئمة وهو يعني تطهير ذواتهم وتنزيهها، ويؤكد أن لا قيمة للنصر على الكفار إذا لم يكن مقترناً بالنصر على الشيطان وإخلاص العمل لله سبحانه لأن العمل أن لم يكن ابتغاء مرضاة الله فهم والكفار على حد سواء وكلاهما أهل دنيا وما لهما في الآخرة من نصيب.

فمثلاً في خضم هزيمة المسلمين في معركة أحد والخسارة الأليمة التي حلت بهم يخاطبهم سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ}(آل عمران:155) فهزيمتهم وإدبارهم كان بسبب ما اكتسبوا من السيئات، وبالمقابل يقول تعالى:{إِن تَنصُ-رُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ}(محمد:7)، ونصر الله يكون بطاعته تبارك وتعالى وإلا فإنه غني عن العالمين، والآية المتقدمة {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ}، ومن هنا خاطب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سرية مجاهدين عادت من القتال:(مرحبا بكم، قضيتم الجهاد

ص: 366

الأصغر وبقي عليكم الجهاد الأكبر. قيل:وما هو يا رسول الله؟ قال:جهاد النفس)(1).

الكيان الصهيوني من الأعراض المرضية فعالجوا أصل المرض:

فعندما يهتم المسلمون اليوم بأمر الدولة الصهيونية اللقيطة ويسعونَ إلى إزالتها، عليهم أن يلتفتوا إلى أن هذه الدولة ما هي إلا أحد الأعراض المرضية التي تظهر على جسد الأمة الإسلامية نتيجة وجود مرض كامن فيها هو الأصل والعلة لهذه الأعراض، والمرض هو ابتعاد المسلمين عن المنهج الإِلهي في حياتهم فلا ينبغي لهم الاهتمام بالأعراض المرضية والغفلة عن علة هذه الأعراض، ويكون مثلهم كما يجري في ساحة مصارعة الثيران - على تشبيه احد المفكرين(2) - فالثور الهائج يركز كل همه وعدائه وغضبه وقوته على الخرقة الحمراء ويغفل عن المصارع الحامل لها، فراح هذا المصارع يغرز في عنقه الخناجر التي تصيب مقتله وهو غافل عنه حتى يموت ويفنى. فلا يكون حالنا كحال ذلك الثور؟! وأنت ترى أن الأمة تقترب من النصر على أعدائها كلما اقتربت من النصر على أنفسها وبمقدار ما تعود وترجع إلى الله تبارك وتعالى.

فائدة تكرار القصص في القرآن:

7-تكرار واستمرار جرعات العلاج وعدم الاكتفاء بعرض العلاج لمرة واحدة عند التصدي لتصحيح حالة منحرفة أو سد نقص أو علاج

ص: 367


1- الكافي: 5/ 12 ، باب: وجوه الجهاد.
2- وهو: الشيخ جودة سعيد.

خلل موجود في فكر الأمة أو عقيدتها أو سلوكها، فمثلاً تجد قصص بعض الأنبياء قد تكررت أكثر من عشر مرات وكل طرح له ذوقه وأثره ودوره في تحقيق الغرض ويترك انطباعا غير الذي يتركه الآخر وان كان الجميع بنفس المضمون.فعندما نريد أن تتناول قضية تبرّج المرأة أمام الرجل وخلاعتها ونصب نفسها شيطاناً يصد عن ذكر الله تعالى وطاعته لتجسيد قول إبليس عملياً:{لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف:16-17)، وهذه الفاسقات يستعملنَ شتى الأساليب لغواية الرجال وإيقاعهم في المعصية من السفور المتبرج في الشارع إلى الحركات المتميعة في الجامعات إلى إبداء مفاتن الجسد إلى الرياضة إلى المشاهد الخليعة في الفن.

فعندما نريد أن نتصدى لمواجهة هذا الداء الفتاك في المجتمع فيمكن معالجته في كتاب عن الظواهر الاجتماعية المنحرفة وكتاب عن قضايا المرأة وكتاب عن اثر الرياضة والفن في تدمير أخلاقيات المجتمع وكتاب عن مشاكل طلبة الجامعات وهمومهم وتطلعاتهم وكتاب بنفس المضامين عن الشباب وكتاب عن فقه العائلة ويتضمن الروابط الأسرية والاجتماعية وفق تعاليم الشريعة وهكذا لان هذه المشكلة الخطيرة تدخل في جميع هذه المحاور، وتناولها في كل المحاور يعطيها صورة ونمطا غير الذي يعطى عند عرضها في محور آخر، ولا اقل من ازدياد عدد الشرائح التي تخاطبها هذه الكتب وبالنتيجة تكون الصورة متكاملة

ص: 368

عندما تُتناول من جميع الاتجاهات(1).8-سلوك مختلف الطرق لهداية الإنسان ولما كان له عوالم ثلاثة هي النفس والعقل والقلب فتجده قد سخرها جميعا ووظفها لاستمالة البشر إلى طاعة الله تبارك وتعالى وقد شرحت ذلك بشيء من التفصيل في دروس (فلنرجع إلى القرآن).

وتجده كثيراً ما يستنطق الفطرة ويستثيرها وقد وصف علة إنزال القرآن في بعض الأحاديث أنه:(ليستثير كوامن فطرتهم) فإن الوجدان أوضح دليل وأصدقه لا يناقش فيه أحد، فاستمع إليه تعالى وهو يخاطب الفطرة في إثبات الصانع:{أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ، أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ}،{أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ، أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}،{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ}،{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ}(الواقعة:58-72)، أو يقول تعالى وهو في مقام عتاب الإنسان العاصي:{هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} (الرحمن:60)، وأنت ترفل في نعم الله تبارك وتعالى:{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} (إبراهيم:34).

ص: 369


1- تم إصدار كتيبات ونشرات تغطي كل هذه المحاور المذكورة بفضل الله تبارك وتعالى، وكانت تنتشر بسرعة وبكميات كبيرة مما أدّى الى رعب النظام وارتباكه وسعى بمكره وخدعه لمعرفة من يتولّى الطبع والنشر واعتقل بعضهم.

كيف السبيل إلى إعادة تفعيل دور القرآن؟

وأعود الآن إلى التساؤل الذي طرحناه وهو كيف السبيل إلى إعادة القرآن إلى الحياة والاستفادة منه، ويتحمل مسؤولية ذلك طرفان:المجتمع والحوزة الشريفة التي هي عنوان ورمز وعي الأمة وفكرها ومستواها الديني فقد قلنا إن أهم وظيفة تقوم بها الحوزة في المجتمع هي طرح مفاهيم القرآن ورؤاه وتصوراته وأخلاقه وعقائده - التي أشرنا إلى بعضها - إلى المجتمع بالفهم الصحيح النقي كما يريده القرآن وبالشكل المناسب ليكون دوره فاعلا في حياة الأمة ويكون ذلك بعدة قنوات كالمنبر الحسيني والمحاضرات والندوات وخطب الجمعة والجماعة والكتب والمجلات والنشرات ونحوها.

ولكن قبل ذلك يجب إعادة القرآن إلى مناهج الدراسة الحوزوية ويتم ذلك على مستويين:

الأول:الدراسات الأولية أي مستوى المقدمات والسطوح الابتدائية فيعطون المناهج التالية(1):

1-حفظ وتلاوة القرآن الكريم وضبطه بالشكل وفق قواعد اللغة العربية وإتقان قواعد تجويده ضمن الإطار الشرعي.

2-تفسير إجمالي للألفاظ ولو على نحو شرح المفردات كما في تفسير شبر ونحوه، ليأخذ الطالب أفكاراً عامة عن معاني القرآن.

3-دراسة علوم القرآن، وأفضل كتاب في ذلك (البيان) أو مقدمة كتاب

ص: 370


1- أدخل سماحة الشيخ هذه المفردات كلها في برامج الدراسة في جامعة الصدر الدينية التي يشرف عليها.

آلاء الرحمن المطبوعة في أول تفسير شبر.4-إقامة المسابقات في العلوم المختلفة عن القرآن وتخصيص جوائز للفائزين والمتفوقين.

الثاني:الدراسات العالية ويكون على شكل عدة خطوات:

1-فتح باب التخصص في الدراسات القرآنية، وأفضل وقت له هو بعد إكمال السطوح العالية حيث يعد الطالب المتخصص منهجاً خاصاً به ويمكن أن يسُتفاد من بعض الكتب الموجودة بعد أن يجرى اختبار معين لاكتشاف أهلية الطالب الذي يريد التخصص في هذا المجال ويفرغ لهذه الدراسة مع توفير المصادر ذات الصلة ليكون مدرساً أو مفسراً أو باحثاً قرآنياً.

2-دراسة تفسير القرآن بشكل معمق أما كل القرآن أو آيات ومقاطع منتقاة منه تخدم هدفا معينا، ويمكن ان يتخذ احد التفاسير متناً يتولى المدرس شرحه والتعليق عليه وإضافة ما يمكن إضافته من المعلومات النافعة المستفادة من التفاسير والمصادر الأخرى، وفي رأيي القاصر إن من المصادر المفضلة هما الميزان وفي ظلال القرآن لأن لكل منهما اتجاهاً خاصاً في التفسير غير الآخر يعلمه من نهل من معارفهما.

3-وضع مناهج للدروس في مفاهيم القرآن وتصوراته ونظرياته وأطروحاته وفلسفته في الكون والحياة بعد أن يكون الطالب قد أخذ تفسيراً اجمالياً لألفاظ القرآن في دراسته السابقة، وتحصل هذه الأمور بدراسة آيات القرآن دراسة موضوعية وليس بالطريقة التجزيئية المتعارفة وإن كانت هذه الطريقة هي الأساس لتلك، وقد قارنت بين المنهجين في كتابي المخطوط (مدخل

ص: 371

إلى تفسير القرآن) الذي يعد هذا البحث مقدمة له.ويركز على المواضيع العلمية أي التي لها واقع معاش سواء على صعيد

العقائد أو الأخلاق أو الفكر، فتتناول مثلاً:التقوى، الصبر، الفقه، التوحيد، الإمامة، الولاية، الشيطان، المعاد، المجتمع المسلم مقومات بنائه وعوامل انهياره، الرجاء والأمل، الموعظة والعبرة، سنن الله في الأمم والمجتمعات، وهكذا، وعندئذ ستتغير الكثير من أفكارنا لأن المعاني المتداولة الآن للألفاظ القرآنية لا تنطبق بالضبط على الفهم القرآني لها بحسب استقراء موردها في القرآن بسبب ما تراكم من غبار التأويلات والتفسير بالرأي وتحكيم الأهواء والتعصبات وحملات المغرضين وغيرها.

الفقه والفقيه في المصطلح القرآني:

وقد عرضنا قبل قليل مفهوم الجاهلية في المصطلح القرآني وصفات وخصائص المجتمع الجاهلي والبدائل الإلهية التي يقدمها القرآن وهكذا كنموذج لمفهوم اجتماعي.

وأقدم الآن الفهم القرآني للفظ حوزوي وهو (الفقه) كمثال آخر، فالفقه يتداول عندنا على انه العلم بالأحكام الشرعية رغم أنه في المصطلح القرآني بمعنى المعرفة بالله تبارك وتعالى ولا ملازمة بينهما كما هو واضح بل النسبة بينهما العموم من وجه.

ففي الآية الشريفة:{فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إذا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة:122) ونحن نعلم

ص: 372

ان الحذر والتقوى لا ينشآن من المعرفة بالأحكام الشرعية بل للحذر مناشئه الروحية والنفسية والعقلية وبعد حصول التقوى والمعرفة في القلب يندفع إلى تعلم الأحكام الشرعية وتطبيقها وتستطيع أن تجرب ذلك بنفسك فاقرأ كتب الفقه وتعمق فيها من أولها إلى آخرها هل تراها غذت قلبك بشيء أو زادت فيه الحذر والتقوى؟ وكم رأينا فقيها بالمعنى الاصطلاحي وهو مكب على الدنيا وبعيد كل البعد عن الله تبارك وتعالى. والقرآن يقص علينا خبر مثل هذا الفقيه:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الأعراف:175-176).

ومن الشواهد على أن معنى الفقه هو المعرفة بالله تعالى جعل محله القلب في الآيات الشريفة وهو محل المعرفة الحقيقية بالله تعالى، بينما الأحكام الشرعية محلها العقل، قال تعالى:{رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} (التوبة:87)، وقال تعالى:{لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} (الأعراف:179).

لذا جعلت الآية هذا الفقه أي المعرفة الراسخة بالله والمبدأ والمعاد سببا لمضاعفة القوة عشرة اضعاف. قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم

ص: 373

مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} (الأنفال:65).ويؤكد هذا المعنى ما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(ألا أخبركم بالفقيه حقاً؟ من لم يقنط الناس من رحمة الله ولم يؤمنهم من عذاب الله ولم يؤيسهم من روح الله، ولم يرخص في معاصي الله ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره، ألا لا خير في علم ليس فيه تفهم، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفقه)(1) هذا في كتاب الوسائل. وللحديث بقية في مصدر آخر(2) كالتالي:(فإنه إذا كان يوم القيامة نادى مناد:يا أيها الناس إن أقربكم من الله تعالى مجلساً أشدكم له خوفاً، وإن أحبكم إلى الله أحسنكم عملاً، وإن أعظمكم عند الله نصيباً أعظمكم فيما عنده رغبة، ثم يقول عز وجل:لا أجمع لكم اليوم خزي الدنيا وخزي الآخرة، فيأمر لهم بكراسي فيجلسون عليها، وأقبل عليهم الجبار بوجهه وهو راض عنهم وقد أحسن ثوابهم).

فترى أن صفات الفقيه كل ما يقرب إلى الله تبارك وتعالى، وفي حديث عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(كانت الفقهاء والحكماء إذا كاتب بعضهم بعضاً كتبوا ثلاثاً ليس معهن رابعة:من كانت الآخرة همته كفاه الله همه من الدنيا، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح فيما بينه وبين الله عز وجل أصلح الله فيما بينه وبين الناس)(3).

وفي حديث عن أبي الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من علامات الفقه الحلم والعلم

ص: 374


1- بحار الأنوار: 2/ 49، باب: صفات العلماء وأصنافهم، حديث 8.
2- مدينة البلاغة: صفحة 98، عن كتاب الجعفريات.
3- الخصال: صفحة 129 باب الثلاثة.

والصمت، إن الصمت باب من أبواب الحكمة وإن الصمت يكسب المحبة وإنه دليل على كل خير)(1).

ويمكن استفادة هذا المعنى بالجمع بين حديثين ففي الخصال عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي:الأمراء والفقهاء)(2) وفي الوسائل عن الأمالي. بدل العلماء القراء فإذا ضممنا إليه الحديث الآتي في صفة القراء نحصل على المعنى المذكور.

فبين الفقيه بالمصطلح القرآني والفقيه بالمعنى الحوزوي عموم من وجه إذ قد يكون فقيها بالمعنى القرآني وهو ليس كذلك بالمعنى الحوزوي إذ يوجد الكثير من أولياء الله العارفين ولهم الكرامات المشهودة مع أنهم لم يبلغوا درجة عالية في العلوم الحوزوية وقد يكون العكس فتجد شخصاً امتلأ ذهنه بالنظريات والأفكار الأصولية والعقلية والمسائل الفقهية بحيث تجده ملماً حتى بدقائق المسائل لكن قلبه غير معمور بذكر الله تعالى ولو سألته عن أبسط مسألة في تهذيب النفس والسلوك الصالح إلى الله تبارك وتعالى وتصفية الباطن وتطهير القلب لبقي متحيراً، فمثل هذا ليس فقيها بالمعنى القرآني، والكامل هو من جمع المعنيين كما هو شأن علمائنا المقدسين الذين بلغوا مقاماً عالياً في الفقه والأصول وشامخا في العرفان، وهم المقصودون في الحديث الشريف:(الفقهاء أمناء الرسل)(3)، وبمثل هذا المنظار القرآني يجب أن نفهم الأحاديث الشريفة لئلا

ص: 375


1- الاختصاص: 232.
2- مستدرك سفينة البحار- الشيخ النمازي: 6/ 383
3- بحار الأنوار: 2/ 36 حديث 38.

تضيع علينا معانيها السامية.

مسؤولية الحوزة عن تفعيل دور القرآن:

وإني هنا أذكر حديثاً واحداً فقط يبين مسؤولية الحوزة الشريفة عن توعية المجتمع وهدايته وإصلاحه فقد روي أن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (خطب فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر طوائف من المسلمين فأثنى عليهم، ثم قال:ما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتفطنون؟ والذي نفسي بيده ليعلمن جيرانهم أو ليتفقهن أو ليتفطنن أو لأعاجلهم بالعقوبة في دار الدنيا، ثم نزل ودخل بيته، فقال أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):من يعني بها الكلام؟ قالوا:ما نعلم يعني بهذا الكلام إلا الأشعريين فقهاء علماء ولهم جيران جفاة جهلة.

فاجتمع جماعة من الأشعريين فدخلوا على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقالوا:ذكرت طوائف من المسلمين بخير وذكرتنا بشر فما بالنا؟ فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لتعلمن جيرانكم ولتفقهنم ولتأمرنهم ولتنهنّهم أو لأعاجلنكم بالعقوبة في دار الدنيا، فقالوا:يا رسول الله فأمهلنا سنة ففي سنة ما نعلمهم ويتعلمون فأمهلهم سنة ثم قرأ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ، كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}(1).

هذه هي بعض المقترحات التي أقدمها بين يدي الحوزة الشريفة في هذا المجال والوظيفة المشتركة للجميع هي المواظبة على تلاوة القرآن

ص: 376


1- الميزان في تفسير القرآن: 6 / 84 في تفسير الآية، عن كتاب الدر المنثور.

والاستفادة منه آناء الليل وأطراف النهار وستعرف الكثير عن هذا من خلال الأحاديث الشريفة الآتية.وهذه الوظيفة للحوزة لا تخصهم وإنما خاطبناهم بها لوجوبها عليهم أكثر من غيرهم، وإلا فالمجتمع كله مسؤول عن اتباع هذه الخطوات بحسب ما يناسب كل فرد، فذوو المعرفة القليلة يبدأون بقراءة التفاسير المبسطة كتفسير شبر.

وإني أنصح كل مسلم - وهو ما جربته أنا - أن يبدأ حياته مع القرآن بأن يتلوه في مصحف وعلى هامش كل صفحة تفسيرها مختصراً كتفسير شبّر؛ ليتسنى له فهم مفردات الآيات خلال تلاوتها، ويستمر على هذا الحال عدة ختمات إلى أن يمتلك معرفة إجمالية بالقرآن، ثم يعود إلى نسخة المصحف يتلو فيها مع تطوير قابليته بقراءة كتب التفسير المتقدمة كالميزان وفي ظلال القرآن ويقرأ الكتب التي شرحت مفاهيم القرآن أو تناولت القرآن بحسب الموضوعات، حيث يتخذ احدها عنوانا للبحث ثم يستقرئ القرآن فتجتمع كل الآيات المتعلقة بذلك العنوان ثم يستنتج من المجموع تصور القرآن ونظريته - وأنا هنا استعير هذه المصطلحات الفكرية لأجل استئناس الأذهان بها مع بعض التحفظات - لهذا الموضوع الذي يفترض فيه أن يعالج مشكلة واقعية يعيشها المجتمع سواء كانت عقائدية أو أخلاقية أو فكرية أو غيرها.

وقد يكون من الأفضل متابعة ذلك مع بعض فضلاء الحوزة الشريفة ليوجهوهم ويجيبوا عن تساؤلاتهم ويرشدوهم لما ينفعهم فإن المجتمع والحوزة احدهما يكمل الآخر، فالحوزة توجه المجتمع والمجتمع يضغط على الحوزة لتكون بمستوى المسؤولية وبمستوى حاجة الأمة وطموحاتها ومواكبة للزمان

ص: 377

الذي تعيشه وعندئذ ستنفرز العناصر الكفوءة من الحوزة عن غيرها وستعرف الأمة من هو الأصلح لها.إن القرآن لا يفهم حق فهمه إلا عندما يحمله الإنسان كرسالة يصلح بها نفسه والذين من حوله ويواجه بها الخطأ والانحراف الذي يضرب بأطنابه على البشرية، عندئذ يعيش في مثل الأجواء التي نزل فيها وعندئذ تنفتح له أسراره، ولا تكفي قراءته لمجرد التبرك وإن كان في ذلك فضل لا ينكر.

ومن الضروري أن تتناول إحدى الدراسات القرآن بحسب تأريخ نزول آياته وإن كان الإلمام بذلك تفصيلاً أمراً متعسَّراً لعدم وجود دليل قطعي عليه إلا أنه يمكن اقتناص بعض موارده ويستفاد من هذا البحث فوائد كثيرة في مجال معرفة خطوات القرآن في إصلاح المجتمع باعتباره نزل تدريجياً بحسب الوقائع والحوادث.

إن هذا التنزيل المتدرج للقرآن بدلاً من النزول دفعة واحدة له وقعه المباشر وتأثيره الفعال في الحالات التي عالجها، قال تعالى:{وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} (الإسراء:106)، وما دام هو كتاب تربية وهداية وإحياء فلا بد أن يكون تدريجياً وبلطف فيصف العلاج المناسب في الوقت المناسب وبالجرعة المناسبة لا أقل ولا أكثر ولا قبل الموعد ولا بعده، وهكذا أخذ القرآن بيد هذه الأمة برفق لتجد نفسها بعد عقدين من الزمان في قمة السمو والكمال والرفعة والعزة والمنعة.

ص: 378

بعض الآداب والمستحبات المتعلقة بتلاوة القرآن:

وأود هنا أن أذكر بعض الآداب والسنن والمستحبات المتعلقة بقراءة القرآن والمستفادة من الروايات الشريفة:

1-يستحب ختم القرآن في الشهر مرة، وأن لا تزيد عن أربعة أشهر أي يختمه في السنة ثلاث مرات غير الزيادات التي ينبغي إضافتها في شهر رمضان المبارك.

2-أن تكون قراءته على نحو الختمة أي يبدأ من أول القرآن إلى آخره، وليس قراءة سور متفرقة اشتهر فضلها بين الناس مهما كانت أهميتها، ليمر على القرآن كله وينال كل بركاته وهو المعبر عنه في الحديث الشريف الآتي:(الحالِّ المرتحل)(1).

3-أن يصادف الختم يوم الجمعة وأن يقرأ عند ختم القرآن الدعاء المختص به وهو موجود في الصحيفة السجادية.

4-عندما يختم القرآن لا يقف عند نهايته بل يصله مباشرة بافتتاح ختمه جديدة ولو بأن يبدأ بسورة الفاتحة وأول خمس آيات من سورة البقرة.

5-أن يكون على طهارة وفي مصلاه مستقبلاًً القبلة.

6-ورد في تفسير قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ} (آل عمران:200)، إن من المرابطين من يثبت على مصلاه ينتظر حلول وقت الفريضة، فلتحصيل فضل المرابطين يستغل المؤمن هذه الحالة وهي فترة انتظار وقت الصلاة لتلاوة القرآن ويكون الأجر أعظم لو كان ذلك في المسجد

ص: 379


1- الكافي: 2 / 605.

منتظراً صلاة الجماعة.7-وورد استحباب النوم على طهارة وقراءة القرآن قبل أن يأوي المؤمن إلى فراشه وفي حديث إنه:(من أحدث ولم يتوضأ فقد جفاني ومن توضأ ولم يصل ركعتين فقد جفاني ومن صلى ركعتين ولم يدعني فقد جفاني ومن دعاني ولم أجبه فقد جفوته ولست بربٍ جاف)(1)، وإذا أضيف لها الاستحباب المؤكد لصلاة الليل، واستحباب التخلي قبل النوم، واستحباب السواك، خرجنا من ضم المجموع بوُردٍ مهم وهو أن المؤمن قبل أن يأوي إلى فراشه يتخلى وينظف أسنانه ثم يتوضأ ويصلي صلاة الليل، إما كلها أو بعضها، ويؤد البعض الآخر إلى ما قبل طلوع الفجر ثم يقرأ مقداراً من القرآن الكريم ويدعو الله سبحانه له وللمؤمنين فإنه سيجمع كل هذه المستحبات. أما الإنسان الذي يسهر الليل على البرامج والأفلام الفاسدة التي تتعب أعصابه وترهقه فيعيش في معاناة ونكد.

8-أن تكون تلاوته للقرآن خصوصاً للمبتدئين في تفسير شبر الذي يتضمن أكثر من فائدة ففيه نسخة من المصحف الشريف وفيه تفسير إجمالي لمعاني القرآن، وهو ما قلناه أنه ضمن مناهج الدراسات الأولية للقرآن، وفيه مقدمة في علوم القرآن وهو درس آخر، وفيه ملحق بفهرس الألفاظ القرآنية بحيث أن أي آية تريد معرفة موضعها تستخرج من هذا الدليل وموضع أي كلمة منها، وفيه القراءات المتعددة للكلمة الواحدة إن وجدت في هامشه، وفيه ترتيب نزول السور ففي عنوان كل سورة يقول أنها نزلت بعد كذا سورة،كل هذه الفوائد

ص: 380


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، باب 11، حديث2.

في هذا الكتاب الجليل.9-أن يبدأ بإهداء الختمة الأولى لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ثم الثانية لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهكذا لجميع المعصومين الأربعة عشر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فقد وردت فيه رواية شريفة وهم أكرم الخلق فسيردون الهدية بما يليق بكرمهم يوم القيامة.

10-رفع الصوت بالقرآن عند التلاوة، وان يكون حزينا وان يتدبر معانيه ولا يكن همّ أحدكم نهاية السورة، كما في الحديث.

11-استحباب القراءة في المصحف حتى لو كان حافظاً لما يقرأ، ويستحب أن يكون لكل فرد من أفراد العائلة نسخة من المصحف الشريف خاصة به يضع فيه علامة.

12-الإنصات إلى القرآن وتدبر ما يسمع في أية فرصة تسنح للاستماع.

أسأل الله تعالى أن يحيينا حياة القرآن وينيلنا شفاعته ويجعلنا ممن يهتدي بهداه ويستضيء بنور علمه إنه ولي النعم وهو اللطيف بعباده ومن لطفه بنا أن هدانا إلى دينه القويم وأتحفنا بكتابه الكريم ونبيه العظيم وأهل بيته الميامين الغرر. الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا نهتدي لولا أن هدانا الله.

ص: 381

الأربعون حديثاً في فضل القرآن وآثاره وآداب تلاوته:

وسأكتفي هنا بذكر نصوص الأحاديث مع جعل عنوان مناسب لمضمونها، وتصنف الأحاديث بحسب المضامين، أما شرحها وبيان ما فيها من نكات فيمكن أن يكون له محل آخر، وسوف لا أتحدد بالعدد أربعين لأن الأخبار التي حثت على حفظ أربعين حديثاً لا نفهم منها أنها بشرط لا عن الزيادة فالزيادة خير إذن.

1-ضرورة تعلّمه:

عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتى يتعلم القرآن أو أن يكون في تعليمه)(1).

وعن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(لا يعذب الله قلباً وعى القرآن)(2).

وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(خياركم من تعلم القرآن وعلمه)(3).

وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(حملة القرآن في الدنيا عرفاء أهل الجنة يوم القيامة)(4).

وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(القرآن غنىً لا غنى دونه ولا فقر بعده)(5).

وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(إذا قال المعلم للصبي:بسم الله الرحمن الرحيم فقال الصبي بسم الله الرحمن الرحيم كتب الله براءة للصبي وبراءة لأبويه وبراءة للمعلم)(6).

وعن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام

ص: 382


1- و(2) و(3) و(4) و(5) و(6) وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن ولو في غير الصلاة، باب1، الأحاديث 4، 5، 6، 15، 11، 16 بحسب الترتيب.

البررة)(1).

2-تعلم القرآن أعظم نعمة:

عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال:(من قرأ القرآن فظن أن أحداً أعطي أفضل مما أعطي فقد حقّر ما عظّم الله، وعظّم ما حقّر الله)(2).

3-القرآن شافع مشفَّع وخصم مصدق:

عن الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال في حديث:(إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفّع وماحِلٌ مصدق، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان تحصيل - إلى أن قال- لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه، مصابيح الهدى ومنار الحكمة)(3).

4-صفة قارئي القرآن:

عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال:(ينبغي لمن قرأ القرآن إذا مرّ بآية من القرآن فيها مسألة أو تخويف أن يسأل عند ذلك خير ما يرجو ويسأله العافية من النار ومن العذاب)(4).

وعن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(إني لأعجب كيف لا أشيب إذا قرأت القرآن)(5)، ومن خطبة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في وصف المتقين قال:(أما الليل فصافون أقدامهم تالين لأجزاء الكتاب يرتلونه ترتيلاً، يحزّنون به أنفسهم ويستثيرون به

ص: 383


1- المصدر السابق، باب 5، حديث 1.
2- المصدر، باب2، حديث3.
3- المصدر، باب 3، الأحاديث 3، 2، 6 بحسب الترتيب.
4- المصدر، باب 3، الأحاديث 3، 2، 6 بحسب الترتيب.
5- المصدر، باب 3، الأحاديث 3، 2، 6 بحسب الترتيب.

تهيج أحزانهم، بكاء على ذنوبهم، ووجع كلوم جراحهم، وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وأبصارهم فاقشعرت منها جلودهم ووجلت قلوبهم فظنوا أن صهيل جهنم وزفيرها وشهيقها في أصول آذانهم، وإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً وتطلعت أنفسهم إليها شوقاً، وطنوا أنها نصب أعينهم)(1).

5-وجوب إكرام حملة القرآن وحرمة الاستخفاف بهم:

عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(إن آهل القرآن في أعلى درجة من الآدميين ما خلا النبيين والمرسلين فلا تستضعفوا أهل القرآن حقوقهم، فإن لهم من الله العزيز الجبار لمكاناً)(2).

6-ثواب من يصعب عليه تعلم القرآن وحفظه:

عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(من شُدّد عليه القرآن كان له أجران ومن يسر عليه كان مع الأولين)(3).

وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إن الذي يعالج القرآن ويحفظه بمشقة منه وقلة حفظ له أجران)(4).

7-وجوب قراءة البسملة قبل السورة:

عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إذا أمّ الرجل القوم جاء شيطان إلى الشيطان الذي هو

ص: 384


1- المصدر، نفس الباب، حديث 6.
2- المصدر، باب 4، حديث 1.
3- المصدر، باب 5، ح3.
4- المصدر، حديث2.

قرين الإمام فيقول:هل ذكر الله يعني هل قرأ بسم الله الرحمن الرحيم فإن قال نعم هرب وإن قال لا ركب عنق الإمام ودلى رجليه في صدره فلم يزل الشيطان أمام القوم حتى يفرغوا من صلاتهم)(1).

8-استحباب قراءة القرآن عند زيارة القبور:

في (من لا يحضره الفقيه) عن الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ما عبد مؤمن زار قبر مؤمن فقرأ عنده إنا أنزلناه في ليلة القدر سبع مرا ت إلا غفر الله له ولصاحب القبر)(2).

وفي رواية أخرى:(أمن من الفزع الأكبر) وفي معناه روايات عديدة.

وفي أخرى استحباب إضافة سورة الفاتحة والمعوذتين والتوحيد وآية الكرسي كل منها ثلاث مرات، وورد في ثوابها:(إن الله يبعث إليه ملكاً يعبد الله عند قبره ويكتب له وللميت ثواب ما يعمل ذلك الملك فإذا بعثه الله من قبره لم يمر على هول إلا صرفه الله عنه بذلك الملك الموكل حتى يدخله الله به الجنة)(3).

9-فضل تعلم القرآن في الشباب وآثاره:

عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن اختلط القرآن بلحمه ودمه، وجعله الله من السفرة الكرام البررة، وكان القرآن عنه حجيزاً يوم القيامة، يقول:يا رب إن كل عامل قد أصاب أجر عمله غير عاملي، فبلغ به أكرم عطائك، قال:فيكسوه الله العزيز الجبار حلتين من حلل الجنة ويوضع على رأسه

ص: 385


1- بحار الأنوار: 82/20.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب صلاة الجنائز، باب 57، حديث 5.
3- جامع أحاديث الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب زيارة القبور، باب 2 وفيه عشرة أحاديث.

تاج الكرامة، ثم يقال له:هل أرضيناك فيه؟ فيقول القرآن:يا رب قد كنت أرغب له فيما هو أفضل من هذا، قال:فيعطى الأمن بيمينه والخلد بيساره ثم يدخل الجنة فيقال له اقرأ آية فاصعد درجة، ثم يقال له:هل بلغنا به وأرضيناك؟ فيقول:نعم)(1).

10-ضرورة تعليم الأولاد القرآن:

عن الرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حديث إلى أن قال:(ويكسى أبواه - أي حامل القرآن - حلتين إن كانا مؤمنين ثم يقال لهما هذا لما علّمتماه القرآن)(2)({306)) وفي حديث عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إن الله ليهمّ بعذاب أهل الأرض جمعياً حتى لا يحاشي منهم أحد إذا عملوا بالمعاصي واجترحوا السيئات، فإذا نظر إلى الشيّب ناقلي أقدامهم إلى الصلوات والولدان يتعلمون القرآن رحمهم فأخّ-رَ ذلك عنهم)(3).

11-أقسام قرّاء القرآن وصفة القارئ الحق:

عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قرّاء القرآن ثلاثة:رجل قرأ القرآن فاتخذه بضاعة واستدر به الملوك واستطال به على الناس، ورجل قرأ القرآن فحفظ حروفه وضيع حدوده(4) وأقامه إقامة القدح، فلا كثّر الله هؤلاء من حملة القرآن، ورجل قرأ القرآن فوضع دواء القرآن على داء قلبه فأسهر به ليله واظمأ به نهاره وقام به في مساجده وتجافى به عنه فراشه، فبأولئك يدفع الله البلاء وبأولئك يديل الله من

ص: 386


1- الكافي: 2/ 604.
2- نهج السعادة: 7 / 223.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساجد، باب 3، حديث3.
4- وهم هؤلاء الذين يدققون في قواعد التجويد التي وضعوها وغفلوا عن معاني ما يقرأون.

الأعداء وبأولئك ينزّل الله الغيث من السماء، فوالله لهؤلاء في قراء القرآن اعز من الكبريت الأحمر)(1).وعن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(يا حامل القرآن تواضع به يرفعك الله، ولا تعزز به فيُذلك الله، يا حامل القرآن تزيّن به لله يزينك الله به، ولا تزين به للناس فيشينك الله به)(2).

12-فهم القرآن مرتبة قريبة من النبوة:

عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من حديث قال:(من ختم القرآن فإنما أدرجت النبوة بين جنبيه ولكنه لا يوحى إليه)(3).

13-الطريق الأكمل لقراءة القرآن أن تبدأ من أوله إلى آخره وليس بأن تقرأ سوراً متفرقة:

عن الزهري قال:(قلت لعلي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):أي الأعمال أفضل؟ قال:(الحالّ المرتحل) قلت وما الحالّ المرتحل، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):فتح القرآن وختمه، كلما جاء بأوله ارتحل في آخره)(4) وفي النهاية سئل:أي الأعمال أفضل فقال:الحال المرتحل، فقيل:وما ذلك، قال:الخاتم المفتح هو الذي يختم القرآن بتلاوته ثم يفتتح التلاوة من أوله؛ شبّهه بالمسافر يبلغ بالمنزل فيحل فيه ثم يفتتح السير أي يبدأه وكذلك قراءة أهل مكة إذا ختموا القرآن بالتلاوة ابتدأوا وقرأوا

ص: 387


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن ولو في غير الصلاة، باب 8، حديث 3،1.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن ولو في غير الصلاة، باب 8، حديث 3،1.
3- المصدر السابق، باب 11، حديث 18.
4- المصدر السابق، باب 11، حديث 2.

الفاتحة وخمس آيات من أول سورة البقرة إلى قوله:{هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ويقفون ويسمون فاعل ذلك الحال المرتحل أي أنه ختم القرآن وابتدأ بأوله ولم يفصل بينهما بزمان.وفي هذا المعنى حديث عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(قيل يا ابن رسول الله أي الرجال خير قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):الحال المرتحل، قيل يا ابن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):وما الحال المرتحل؟ قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):الفاتح الخاتم الذي يقرأ القرآن ويختمه فله عند الله دعوة مستجابة)(1).

14-الوصية بكثرة قراءة القرآن:

وفي وصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(وعليك بتلاوة القرآن على كل حال)(2).

15-ثواب قراءة القرآن:

عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حديث قال:(عليكم بتلاوة القرآن فإن درجات الجنة على عدد آيات القرآن، فإذا كان يوم القيامة يقال لقارئ القرآن:اقرأ وأرق فكلما قرأ آية يرقى درجة)(3).

وعن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(من قرأ عشر آيات في ليلة لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ خمسين آية كتب من الذاكرين، ومن قرأ مائة

ص: 388


1- المصدر، حديث 8.
2- المصدر، باب 11، حديث 1.
3- المصدر، حديث 10.

آية كتب من القانتين، ومن قرأ مائتي آية كُتب من الخاشعين، ومن قرأ ثلاثمائة آية كتب من الفائزين، ومن قرأ خمسمائة آية كتب من المجتهدين، ومن قرأ ألف آية كتب له قنطار والقنطار خمسة عشر ألف (خمسون ألف) مثقال من ذهب، المثقال أربعة وعشرون قيراطاً أصغرها مثل جبل أحد وأكبرها ما بين السماء والأرض)(1).

16-ضرورة المحافظة على ما تعلم من القرآن ولا يتركه بحيث يؤدي الى نسيانه:

عن يعقوب الأحمر قال:(قلت لأبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إن عليّ ديناً كثيراً وقد دخلني ما كاد القرآن يتفلت مني، فقال أبو عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):القرآن القرآن إن الآية من القرآن والسورة لتجيء يوم القيامة حتى تصعد ألف درجة - يعني في الجنة - فتقول:لو حفظتني لبلغت بك هاهنا)(2).

أقول:مرّ عليك أن الحفظ المعنوي بمعنى مراعاة حدوده ومعانيه والالتزام بأوامره ونواهيه.

17-استحباب التلاوة على وضوء:

عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(سألته أقرأ المصحف ثم يأخذني البول فأقوم فأبول وأستنجي وأغسل يدي وأعود إلى المصحف فأقرأ فيه؟ قال:لا حتى تتوضأ للصلاة)(3).

ص: 389


1- المصدر، باب 17، حديث 2.
2- المصدر، باب 12، حديث3.
3- المصدر، باب 13، حديث1.

وعنهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(لقارئ القرآن بكل حرف يقرأ في الصلاة قائماً مائة حسنة وقاعداً خمسون حسنة ومتطهراً في غير صلاة خمسة وعشرون حسنة وغير متطهر عشر حسنات، أما إني لا أقول: {المر ۚ} ، بل بالألف عشر وباللام عشر وبالميم عشر وبالراء عشر)(1).

18-استحباب الاستعاذة عند القراءة:

عن الحلبي عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(سألته عن التعوذ من الشيطان عند كل سورة يفتتحها، قال:نعم، فتعوذ بالله من الشيطان الرجيم)(2).

وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(والاستعاذة هي ما قد أمر الله به عباده عند قراءتهم القرآن بقوله:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} ومن تأدب بأدب الله أدّاه إلى الفلاح الدائم)(3).

19- القرآن عهد الله فكم ينبغي للمسلم أن يقرأ منه يومياً:

عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(القرآن عهد الله إلى خلقه فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده وأن يقرأ منه في كل يوم خمسين آية)(4).

أقول:وبحساب بسيط تستنتج أن اقل ما ينبغي للمؤمن أن يختم القرآن في السنة ثلاث مرات لأن عدد آيات القران أكثر من ستة آلاف فيختمه على هذا المعدل في (120) يوماً أي أربعة أشهر هذا بغض النظر عن مضاعفة الجهد في

ص: 390


1- المصدر، حديث 3.
2- المصدر، باب 14، حديث2.
3- المصدر، حديث 1.
4- المصدر، باب 15، حديث1.

شهر رمضان .

20-آيات القرآن خزائن فاستفد منها جميعاً:

عن علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(آيات القرآن خزائن فكلما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما فيها)(1).

21-استحباب قراءة القرآن في البيوت:

عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:قال أمير المؤمنين:(البيت الذي يقرأ فيه القرآن ويذكر الله عز وجل فيه تكثر بركته وتحضره الملائكة وتهجره الشياطين، ويضيء لأهل السماء كما تضيء الكواكب لأهل الأرض، وإن البيت الذي لا يُقرأ فيه القرآن ولا يذكر الله عز وجل فيه تقل بركته وتهجره الملائكة وتحضره الشياطين)(2).

22-الكسب وطلب الرزق لا يمنع من المواظبة على قراءة القرآن:

عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(ما يمنع التاجر منكم المشغول في سوقه إذا رجع إلى منزله أن لا ينام حتى يقرأ سورة من القرآن فيكتب له مكان كل آية يقرأها عشر حسنات وتمحي عنه عشر سيئات)(3).

23-استحباب القراءة في المصحف حتى لو كان حافظاً لما يقرأ:

عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(من قرأ القرآن في المصحف متع ببصره

ص: 391


1- المصدر، حديث 2.
2- المصدر، باب 16، حديث 2.
3- المصدر، باب 11، حديث 6.

وخفف عن والديه وإن كانا كافرين)(1).وعن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(ليس شيء أشد على الشيطان من القراءة في المصحف نظراً)(2).

وفي حديث آخر:(النظر إلى المصحف من غير قراءة عبادة)(3).

أقول:وهذه اقل وظيفة يقوم بها من لا يحسن القراءة وإلا فعليه الاستماع.

وعن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قلت له:جعلت فداك إني أحفظ القرآن على ظهر قلبي فاقرأه على ظهر قلبي أفضل أو أنظر في المصحف، قال فقال لي:بل اقرأه وانظر في المصحف فهو أفضل، أما علمت أن النظر في المصحف عبادة)(4).

24-استحباب اقتناء نسخة من المصحف في البيت:

عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إنه ليعجبني أن يكون في البيت مصحف يطرد الله عز وجل به الشياطين)(5).

25-استحباب ترتيله وكراهة العجلة فيه:

عن عبد الله بن سليمان قال:سألت أبا عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن قول الله عز وجل:{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} قال:(قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):بيّنه تبياناً ولا تهذّه

ص: 392


1- المصدر، باب 19، حديث 1.
2- المصدر، حديث 2.
3- المصدر، حديث 6.
4- المصدر، باب 19، حديث 4.
5- المصدر، باب 20، حديث1.

هذّ الشعر ولا تنثره نثر الرمل ولكن اقرعوا به قلوبكم القاسية، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة)(1).وفي تفسير قوله تعالى:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ}(البقرة:121) روي عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال:(حق تلاوته هو الوقوف عند ذكر الجنة والنار، يسأل في الأولى ويستعيذ من الأخرى)(2).

وفي حديث عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إن القرآن لا يُقرأ هذرمة ولكن يرتل ترتيلاً وإذا مررت بآية فيها ذكر الجنة فقف عندها وسل الله الجنة وإذا

مررت بآية فيها ذكر النار فقف عندها وتعوذ بالله من النار)(3).

26-استحباب قراءته بالحزن كأنه يخاطب إنساناً وحرمة ما يفعل الصوفية من الغشية والصعقة:

عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إن القرآن نزل بالحزن فاقرأه بالحزن)(4).

وعن حفص قال:(ما رأيت أحداً أشد خوفاً على نفسه من موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولا أرجى للناس منه وكانت قراءته حزناً فإذا قرأ كأنما يخاطب إنساناً)(5).

وعن جابر عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قلت إن قوماً إذا ذكروا شيئاً من القرآن أو حدّثوا به صعق أحدهم حتى يرى أن أحدهم لو قطعت يداه أو رجلاه

ص: 393


1- المصدر، باب 21، حديث 1.
2- المصدر، باب 27، ح7.
3- المصدر، حديث 3.
4- المصدر، باب 22، ح1.
5- المصدر، حديث 3.

لم يشعر بذلك، فقال:سبحان الله ذلك من الشيطان، ما بهذا نعتوا إنما هو اللين والرقة والدمعة والوجل)(1).

27-استحباب رفع الصوت بالقرآن:

عن معاوية بن عمار قال:(قلت لأبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):الرجل لا يرى أنه صنع شيئاً في الدعاء وفي القراءة حتى يرفع صوته، فقال:لا بأس، إنَّ علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن وكان يرفع صوته حتى يسمعه أهل الدار وإن أبا جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان إذا قام من الليل وقرأ رفع صوته فيمر به مار الطريق من الساقين وغيرهم فيقومون فيستمعون إلى قراءته)(2).

28-حرمة التغني بالقرآن:

عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):اقرأوا القرآن بألحان العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكبائر فإنه سيجيء من بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانية لا يجوز تراقيهم قلوبهم مقلوبة وقلوب من يعجبه شأنهم)(3).

29-وجوب الإنصات لقراءة القرآن أخلاقياً واستحبابه شرعياً إلا في الصلاة:

ص: 394


1- المصدر، باب 25، حديث1.
2- المصدر، باب 23، حديث 2.
3- باب 24، حديث 1.

عن عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قلت له الرجل يقرأ القرآن أيجب على من سمعه الإنصات له والاستماع؟ قال:نعم إذا قرأ عندك القرآن وجب عليك الإنصات والاستماع)(1).وفي حديث زرارة عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(وإذا قرأ القرآن في الفريضة خلف الإمام فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون)(2).

30-استحباب ختم القرآن في كل شهر مرة:

عن محمد بن عبد الله قال:قلت لأبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):اقرأ القرآن في ليلة؟

فقال:(لا يعجبني أن تقرأه في أقل من شهر)(3).

31-استحباب إهداء ثواب القراءة إلى المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لكي يضاعف الأجر:

عن علي بن المغيرة عن أبي الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(قلت فإذا كان في يوم الفطر جعلتُ لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ختمة(4) ولعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أخرى ولفاطمة (س) أخرى ثم الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) حتى انتهيت إليك فصيرت لك واحدة منذ صرت في الحال، فأي شيء لي بذلك؟ قال:لك بذلك أن تكون معهم يوم القيامة، قلت:الله أكبر فلي بذلك؟ قال:نعم ثلاث مرات)(5).

ص: 395


1- المصدر، باب 26، حديث 4.
2- المصدر، حديث 5.
3- المصدر، باب 27، حديث1.
4- مما قرأه في شهر رمضان.
5- المصدر، باب 28، حديث1.

32-استحباب البكاء أو التباكي عند سماع القرآن:

عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إن رسول الله أتى شباباً من الأنصار فقال:إني أريد أقرأ عليكم فمن بكى فله الجنة فقرأ آخر سورة الزمر {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً} إلى آخر السورة فبكى القوم جميعاً إلا شاباً فقال:يا رسول الله قد تباكيت فما قطرت عيني فقال:إني معيد عليكم فمن تباكى فله الجنة فأعاد عليهم فبكى القوم وتباكى الفتى فدخلوا الجنة جميعاً)(1).

33-العلم كله في القرآن:

روي عن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قيل له:(هل عندكم شيء من الوحي؟ قال:لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يعطي الله عبداً فهماً في كتابه)(2).

وعن إبراهيم بن العباس قال:(ما رأيت الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سئل عن شيء قط إلا علمه ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان الأول إلى وقته وعصره وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كل شيء فيجيب فيه، وكان كلامه كله وجوابه وتمثله انتزاعات من القرآن)(3).

وفي نهج البلاغة:(ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق ولكن أخبركم عنه:ألا إنه فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ودواء دائكم ونظم بينكم)(4).

ص: 396


1- المصدر، باب 29، حديث1.
2- تفسير الصافي: 1/ 39 وتقدم الطريق إلى مصادره من طريق العامة.
3- المصدر، باب 27، حديث 6.
4- الخطبة 158 من الجزء الأول.

34-القرآن شفاء من كل داء:

عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لو قرأت الحمد على ميت سبعين مرة ثم ردت فيه الروح ما كان ذلك عجباً)(1).

35-القرآن فيه جلاء القلوب:

عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(إن هذه القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد وإن جلاءها قراءة القرآن)(2).

36-الإكثار من قراءته في شهر رمضان:

عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لكل شيء ربيع وربيع القرآن شهر رمضان)(3).

وعن علي بن حمزة قال:(دخلت علي أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال له أبو بصير:جعلت فداك أقرأ القرآن في شهر رمضان في ليلة؟ فقال:لا، ففي ليلتين؟ فقال:لا، فقال:ففي ثلاث؟ فقال:ها وأشار بيده ثم قال:يا أبا محمد إن لرمضان حقاً وحرمة لا يشبهه شيء من الشهور)(4).

وفي خطبة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في آخر جمعة من شعبان قال:(ومن تلا فيه - أي شهر رمضان - آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور)(5).

ص: 397


1- الكافي: 2/ 624.
2- إرشاد القلوب: صفحة 78.
3- ثواب الأعمال : 129/ 1، باب ثواب قراءة القرآن.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن في غير الصلاة، باب 27، ح3.
5- عيون أخبار الرضا: صفحة 162.

37-تلاوة القرآن حق تلاوته:

في تفسير قوله تعالى:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ}(البقرة:121) قال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(يرتلون آياته ويتفقهون به ويعملون بأحكامه ويرجون وعده، ويخافون وعيده ويعتبرون بقصصه، ويأتمرون بأوامره وينتهون بنواهيه، ما هو والله حفظ آياته ودرس حروفه وتلاوة سوره ودرس أعشاره وأخماسه. حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده وإنما هو تدبر آياته والعمل بأحكامه قال تعالى:{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}(1).

38-القرآن لا يشبع منه العلماء:

عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال من حديث في وصف القرآن:(هو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا يشبع منه العلماء ولا تلتبس منه الألسن ولا يخلق من الرد ولا تنقضي عجائبه من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم)(2).

39-القرآن في نهج البلاغة:

(وتعلموا القرآن فإنه أحسن الحديث وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور وأحسنوا تلاوته فإنه أنفع القصص وإن العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله بل الحجة عليه أعظم

ص: 398


1- الميزان في تفسير القرآن: 1 / 260، عن إرشاد القلوب للديلمي.
2- سنن الدارمي:2/ 435، كتاب فضائل القرآن، ومثله في كتب الخاصة.

والحسرة له ألزم وهو عند الله ألوم)(1).

40-دعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عند ختم القرآن:

اللهم إنك أعنتني على ختم كتابك الذي أنزلته نوراً وجعلته مهيمناً على كل كتاب أنزلته وفضلته على كل حديث قصصته وفرقاناً فرقت بين حلالك وحرامك وقرآناً أعربت به عن شرايع أحكامك وكتاباً فصّلته لعبادك تفصيلاً ووحياً أنزلته على نبيك محمد صلواتك عليه وآله تنزيلاً وجعلته نوراً نهتدي من ظلم الضلالة والجهالة باتباعه وشفاء لمن أنصت بفهم التصديق إلى استماعه وميزان قسط لا يحيف عن الحق لسانه، ونور هدى لا يطفأ عن الشاهدين برهانه وعلم نجاة لا يضل من أمَّ قصد سنته، ولا تنال أيدي الهلكات من تعلق بعروة عصمته، اللهم فإذا أفدتنا المعونة على تلاوته، وسهلت حواسي ألسنتنا بحسن عبارته، فاجعلنا ممن يرعاه حق رعايته، ويدين لك باعتقاد التسليم لمحكم آياته، ويفزع إلى الإقرار بمتشابهه وموضحات بيّناته، اللهم إنك أنزلته على نبيك محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مجملاً، وألهمته علم عجائبه مكملاً وورثتنا علمه مفسراً وفضلتنا على من جهل علمه، وقويتنا عليه لترفعنا فوق من لم يطق حمله، اللهم فكما جعلت قلوبنا له حملة وعرفتنا برحمتك شرفه وفضله، فصل على محمد الخطيب به، وعلى آله الخزّان له، واجعلنا ممن يعترف بأنه من عندك، حتى لا يعارضنا الشك في تصديقه، ولا يختلجنا الزيغ عن قصد طريقه، اللهم صلّ على محمد وآله واجعلنا ممن يعتصم بحبله، ويأوي من المتشابهات إلى حرز معقله، ويسكن في ظل جناحه، ويهتدي بضوء صباحه، ويقتدي بتبلج أسفاره، ويستصبح بمصباحه ولا يلتمس الهدى في غيره، اللهم وكما نصبت به محمداً عَلَماً للدلالة عليك وأنهجت

ص: 399


1- نهج البلاغة: الجزء الأول، الخطبة 110.

بآله سُبل الرضا إليك، فصلّ على محمد وآله، واجعل القرآن وسيلة لنا إلى اشرف منازل الكرامة، وسُلّماً نعرج فيه إلى محل السلامة وسبباً نجزي به النجاة في عرصة القيامة، وذريعة نقدم بها على نعيم دار المقامة، اللهم صل على محمد وآله، واحطط بالقرآن عنا ثقل الأوزار، وهب لنا حسن شمائل الإبرار، واقف بنا آثار الذين قاموا لك به آناء الليل وأطراف النهار، حتى تطهرنا من كل دنس بتطهيره، وتقفوا بنا آثار الذين استضاؤوا بنوره، ولم يلْههم الأمل عن العمل فيقطعهم بخدع غروره، اللهم صل على محمد وآله، واجعل القرآن لنا في ظلم الليالي مؤنساً، ومن نزعات الشيطان وخطرات الوساوس حارساً، ولأقدامنا عن نقلها إلى المعاصي حابساً، ولألسنتنا عن الخوض في الباطل من غير ما آفة مخرساً، ولجوارحنا عن اقتراف الآثام زاجراً، ولما طوت الغفلة عنا من تصفح الاعتبار ناشراً، حتى توصل إلى قلوبنا فهم عجائبه، وزواجرَ أمثاله التي ضعفت الجبال الرواسي على صلابتها عن احتماله، اللهم صل على محمد وآله وأدم بالقرآن صلاح ظاهرنا، واحجب به خطرات الوساوس عن صحة ضمائرنا واغسل به درن قلوبنا، وعلائق أوزارنا، واجمع به منتشر أمورنا وارو به في موقف العرض عليك ظمأ هواجرنا، واكسنا به حلل الأمان يوم الفزع الأكبر في نشورنا، اللهم صل على محمد وآله، واجبر بالقرآن خلتنا من عدم الإملاق، وسق به ألينا رغد العيش خصب سعة الأرزاق وجنبنا به الضرائب المذمومة، ومداني الأخلاق، واعصمنا به من هوة الكفر ودواعي النفاق، حتى يكون لنا في القيامة إلى رضوانك وجنانك قائداً، ولنا في الدنيا عن سخطك وتعدي حدودك ذائداً، ولما عندك بتحليل حلاله وتحريم حرامه شاهداً، اللهم صل على محمد وآله، وهوّن بالقرآن عند الموت على أنفسنا كرب السياق وجهد الأنين، وترادف الحشارج، إذا بلغت النفوس التراقي{وَقِيلَ

ص: 400

مَنْ رَاقٍ}، وتجلّى ملك الموت لقبضها من حجب الغيوب ورماها عن قوس المنايا بأسهم وحشة الفراق، وداف لها من دعاف مرارة الموت كأساً مسمومة المذاق، ودنا منا إلى الآخرة رحيل وانطلاق، وصارت الأعمال قلائد في الأعناق، وكانت القبور هي المأوى إلى ميقات يوم التلاق، اللهم صل على محمد وآله، وبارك لنا في حلول دار البلى، وطول المقامة بين أطباق الثرى، واجعل القبور بعد فراق الدنيا خير منازلنا، وافسح لنا برحمتك في ضيق ملاحدنا، ولا تفضحنا في حاضر القيامة بموبقات آثامنا، وارحم بالقرآن في موقف العرض عليك ذلّ مقامنا، وثبت به عند اضطراب جسر جهنم يوم المجاز عليها زلل أقدامنا، ونجنا به من كل كرب يوم القيامة، وشدائد أهوال يوم الطامة وبيّض وجوهنا يوم تسود وجوه الظلمة في يوم الحسرة والندامة، واجعل لنا في صدور المؤمنين وداً، ولا تجعل الحياة علينا نكداً، اللهم صل على محمد عبدك ورسولك، كما بلغ رسالتك، وصدع بأمرك ونصح لعبادك اللهم اجعل نبينا صلواتك عليه وعلى آله يوم القيامة أقرب النبيين منك مجلساً، وأمكنهم منك شفاعة، وأجلّهم عندك قدراً، وأوجههم عندك جاهاً، اللهم صل على محمد وآل محمد، وشرّف بنيانه، وعظم برهانه، وثقل ميزانه، وتقبل شفاعته وقرب وسيلته، وبيض وجهه وأتم نوره وارفع درجته، وأحينا على سنته وتوفّنا على ملته، وخذ بنا منهاجه، واسلك بنا سبيله، واجعلنا من أهل طاعته، واحشرنا في زمرته، وأوردنا حوضه، واسقنا بكأسه، وصل اللهم على محمد وآله صلاة تبلغه بها أفضل ما يأمل من خيرك وفضلك وكرامتك إنك ذو رحمة واسعة وفضل كريم، اللهم اجزه بما بلّغ من رسالاتك وأدّى من آياتك، ونصح لعبادتك، وجاهد في سبيلك، أفضل ما جزيت أحداً من ملائكتك المقربين، وأنبيائك

ص: 401

المرسلين المصطفين، والسلام عليه وعلى آله الطاهرين ورحمة الله وبركاته(1).

ص: 402


1- الصحيفة السجادية: دعاؤه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عند ختم القرآن.

القبس /112: سورة الفرقان:44

اشارة

{إِن هُم إِلَّا كَٱلأَنعَمِ بَل هُم أَضَلُّ سَبِيلًا}

تطبيق:إباحة زواج المثليين نموذجا

عظمة تشريعات الإسلام:

نشر محرر شؤون الصحة لاحدى القنوات الفضائية(1) على صفحتها تقريراً جاء فيه ((مع التقدم في العمر يصبح الحيوان المنوي أكثر عرضة للأخطاء الوراثية بشكل يزيد من خطر الاصابة بالتوحّد والانفصام وغيرها من الأمراض)) ونقل ذلك عن كيفن سميث الاستاذ بجامعة ابرتاي في دندي في المملكة المتحدة وقال:((إن الزيادة الطفيفة في خطر الاصابة بالأمراض له تأثير كبير على مستوى الامة بكاملها وأنه يجب أن يثير الأمر قلقنا على نطاق المجتمع، فالتأثير حقيقي وواضح ويجب أخذ سن الابوّة بشكل أكثر جدية، وتأثيره على الجيل القادم من الأطفال)).

عندما اطلعتُ على هذا الخبر إنقدحت في ذهني عدة امور:

1-عظمة تشريعات الإسلام والأسرار الكامنة فيها إذ يكشف هذا الخبر عن جانب من الحكمة في الحث على الزواج المبكر لتحصيل إنجاب سليم قوي مضافاً الى المصالح الاخرى كتحصين النفس والاستقرار ورفع مستوى الوعي

ص: 403


1- قناة بي بي سي بتاريخ: 25/ 6/ 2015 – 8 رمضان/1436.

بالمسؤولية وتحصيل المُعين على الدنيا والاخرة ونحو ذلك، ورد عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):ما بُنِيَ في الإسلام بناء أحبُّ الى الله عز وجل من التزويج)(1) فالمساهمة في بناء الزوجية أحبّ الى الله تعالى من سائر مشاريع البناء الاخرى حتى المساجد، لأنه مشروع دائم العطاء والتوسّع جيلاً بعد جيل حتى يأتي عصر الظهور وإذا بك تقدَم الآلاف لنصرة الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ببركة ذلك الزواج. فلا يقصّر أحد في تشجيع مشاريع الزواج وتيسير امورها والإنفاق عليها من الحقوق الشرعية وغيرها.2-حماقة الغرب وضحالة تفكيره بالرغم مما يظهر من جبروت علمي وتكنولوجي، فماذا طرح من حل ليتجنب هذا الاحتمال في ضعف الانجاب وإصابته بالأمراض إذا تأخر الزواج بدل أن يستجيب لنداء الفطرة والدين ويدعو الى الزواج والإنجاب المبكرين، نقل التقرير عن عالم الأحياء المذكور ((إن الشباب في سن 18 يجب أن يجمّدوا حيواناتهم المنوية ويستخدموها لاحقاً، لتجنب مخاطر الإنجاب في الكبر)) وقال:((إن بنوك الحيوانات المنوية يجب أن تكون متوفرة))، والغريب أن ينشر هذا المقترح في دورية اسمها "الأخلاق الطبية".

وخير تعليق على هذا المقترح ما نقله التقرير عن ألن باسي استاذ أمراض الذكورة في جامعة شيفيلد بقوله ((هذه واحدة من أسخف الاقتراحات التي سمعتها منذ وقت طويل)) ووجه استخفافه:

ص: 404


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، ابواب مقدماته، باب 1 ح 4.

أ-((لأن الحيوانات المنوية لمعظم الرجال لا تتجمد بشكل جيد وهو أحد أسباب قلة المتبرعين بالحيوانات المنوية، لذا فمن يجمد حيواناته المنوية في سن ال- 18 ويعود ليستخدمها لاحقاً سيتطلب من زوجته الخضوع لعملية تلقيح صناعي أو أكثر)).

ب-الكلفة الاقتصادية حيث قدرت اجرة حفظ الحيوانات المنوية ب- 150 – 200 جنيه استرليني في العام.

ت-ما نقله عن الاستاذ آدم بالين رئيس الجمعية البريطانية للخصوبة من أن خصوبة الحيوانات المنوية أقل من الجديدة مما يعني الاعتماد على التلقيح الصناعي، أي أنه يجعل من الإنجاب عملية اصطناعية مما يعطي إحساساً كاذبا بالأمان إذ أن التكنولوجيا لا تضمن إنجاب طفل.

3-وتذكرت منقبة لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فيها سبْقٌ علميٌ له (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو باب مدينة علم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والمنقبة ترتبط بهذا الاكتشاف العلمي فقد روى الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (أتى عمر بامرأة تزوجها شيخ، فلما أن واقعها مات على بطنها، فجاءت بولد فادّعى بنوه أنها فجرت، وتشاهدوا عليها، فأمر بها عمر أن تُرجم، فمر بها علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقالت:يا بن عم رسول الله إن لي حجة. قال:هاتي حجتك، فدفعت إليه كتابا فقرأه، فقال:هذه المرأة تعلمكم بيوم تزوجها، ويوم واقعها، وكيف كان جماعه لها، ردوا المرأة. فلما أن كان من الغد دعا بصبيان أتراب ودعا بالصبي معهم، فقال لهم:العبوا حتى إذا ألهاهم اللعب قال لهم:اجلسوا، حتى إذا تمكنوا صاح بهم، فقام الصبيان وقام الغلام فاتكأ على راحتيه، فدعا به علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وورّثه من أبيه وجلد إخوته المفترين حداً حداً. فقال

ص: 405

له عمر:كيف صنعت؟ قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):عرفت ضعف الشيخ في اتكاء الغلام على راحتيه)(1).

وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ:

هذا هو الإسلام في سمو تشريعاته وعظمةِ أئمتهِ وقادتهِ ويدرك أعداؤه ذلك ويدركون النعمة العظيمة التي يتنّعم بها المسلمون ويعلمون تفاهتهم وحماقتهم وجاهليتهم وان حاولوا تلميع صورتهم بالنفخ والتهريج للتقدم التقني فلذلك ما انفكوا عن الكيد للإسلام والمسلمين وشن الحروب عليهم ليسلبوهم هذه النعمة العظيمة قال تعالى:{وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ} (البقرة 217) تارة بالحروب العسكرية واخرى بالتشويه والتسقيط والاستهزاء والخداع واخرى بنشر الفساد والانحراف واخرى بصنع نماذج منفّرة مقزّزة تسمّى بالإسلام مثل داعش والقاعدة ليستحي المسلمون من التحدث بالإسلام كل ذلك للضغط على المسلمين حتى يتخلوا عن نعمة الإسلام العظيمة حسداً لكم، والحسد تمنّي زوال نعمة من مستحق لها، وربما من كان مع سعي في إزالتها وقال تعالى {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم} (البقرة 109) وقال تعالى {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ} (النساء 54) والفضل هو الإسلام والقرآن والنبي

ص: 406


1- الكافي : 7 / 424 / 7 ، تهذيب الأحكام : 6 / 306 / 850 كلاهما عن أبي الصباح الكناني ، من لا يحضره الفقيه : 3 / 24 / 3254 عن الأصبغ بن نباتة ، المناقب لابن شهر آشوب : 2 / 369 كلاهما من دون إسناد إلى المعصوم.

واله المعصومون(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وبركاتهم الكثيرة.

الانحطاط العظيم:

وربما سمعتم بآخر مظاهر انحطاطهم وهو إصدار المحكمة العليا في الولايات المتحدة حكماً يوم الجمعة 26/ 6/ 2015م يقضي بمنح الحق للمثليين جنسياً في كافة الولايات المتحدة، وهو الحكم الذي وصفه رئيسهم اوباما بأنه انتصارٌ لأمريكا وانتصارٌ للحب. وتدّعي امريكا انها القوة العظمى في العالم وان باستطاعتها الهيمنة عليه وقيادته ويوجد عدد كبير من المنبهرين بالقوة الامريكية المقتفين لآثارها، لذا احتفل الملايين في عدة دول بهذا الانتصار.

أرأيتهم كيف يتبجحون بما تستنكف حتى الحيوانات الهمجية عن فعله وممارسته ناهيك عن منافاته للفطرة الإنسانية والغريزة المودعة؛ فهبطوا الى ما دون البهيمية وعادوا الى الجاهلية الرعناء {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (النمل 55) فكانوا مصداقاً لقوله تعالى {إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (الفرقان 44) متذرّعين بالحرية وهي حقٌ مقدّس منحه الله تعالى لعباده لكنها لا تعني الفوضى العارمة في اتباع الشهوات والخروج عن القوانين العقلائية. فشوّهوا بسلوكهم الشائن هذا العنوان الجميل، وهل من الحرية أن يُترك المصاب بمرض فتاك معدي يتحرك في المجتمع كيف يشاء ويلوّث الآخرين ويصيبهم بمرضه، أم يُحْجَرْ عليه ويُعالج حتى يشفى، علماً أن الأمراض الأخلاقية والاجتماعية أشد فتكاً من الأمراض الجسدية.

إن هذا القرار عارٌ على من أصدره ومن رضي به ومن أيده بسكوته عن

ص: 407

استنكاره، وإننا لنشعر بالحياء والخجل أمام خالقنا العظيم ونحن نرى جملة من المحسوبين علينا نحن البشر يتجرأون على حدوده بهذا الانتهاك الفظيع، ونسبّح ربنا وننزهه عما يفعل الظالمون.فتمسكوا بإسلامكم أيها الأحبة وحافظوا على التزامكم وارفعوا رؤوسكم شامخين واشكروا الله تعالى على ما هداكم اليه.

ص: 408

القبس /113: سورة الفرقان:70

{فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَئَِّاتِهِم حَسَنَت ۗ}

قال الله تبارك وتعالى:{إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} (الفرقان:70).

يحظى التائب بصدق الذي يصحّح إيمانه ويقلع عن الذنوب ويعود إلى الاستقامة ويقوم بالأعمال الصالحة بعدة امتيازات وحوافز تشجّع العصاة والمنحرفين على التوبة والرجوع الى الله تعالى والسير على الطريق الصحيح، وتزيد من محبة العبد لله تعالى وتعميق الأمل بكرمه وهو بحد ذاته مانع قوي عن الوقوع في المعاصي، منها:

1- المحبة الإلهية، قال تعالى:{إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (البقرة:222) وفي الحديث الشريف (من أحبّه الله لم يعذّبه)(1).

2- دعاء الملائكة وحملة العرش لهم ولذويهم، قال تعالى:{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ، رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ

ص: 409


1- الكافي:2/ 315/ح5.

آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (غافر:7-9).3- التبديل الذي ذكرته الآية محل البحث أي إلغاء السيئات وتسجيل الحسنات عوضاً عنها كنتيجة تفرعت - بدلالة الفاء- عن توبتهم وصلاحهم وصدق إيمانهم.

وظاهرة تبديل السيئات إلى حسنات موجودة بالاتجاه المعاكس أيضاً أي تبديل الحسنات إلى سيئات وهو المعروف بحبط الأعمال، قال تعالى:{وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} (الحجرات:2), وقال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} (محمد:9) وغيرها كثير.

وفي الحديث النبوي الشريف:(أتدرون من المفلس:إن المفلس من امتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فان فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)(1).

ص: 410


1- كنز العمال: 4/ 127 ح 10327

أن الظاهر من الآية - كما افاد بعض المفسرين- ان هؤلاء ((كما بدلوا سيئاتهم حسنات كذلك يبدّل الله سيئاتهم حسنات، فسيئة اشراكهم بحسنة التوحيد، وقتلهم النفس بحسنة قتال المشركين، وزناهم بحسنة حل النكاح))(1).وذكر تبعاً للسيد الطباطبائي (قدس سره) شاهداً على ذلك من نفس الآية, لأنها تقول:{يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}, ((لا بحسنات فسيئاتهم هي التي تتبدل بحسنات مكانها كما بيّنا، لا أن الله يكتب بدل سيئاتهم السابقة حسنات وهم لم يعملوها)).

ويمكن مناقشة هذا الوجه:بأنه يمكن به تصحيح الأفعال الوجودية كالأمثلة المذكورة اما العدمية كترك الصلاة أو الصوم فكيف تصبح أفعالاً حسنة لاحقاً.

وأن التبديل بهذا الشكل حصل منهم, فأنهم تركوا الشرك, وتابوا واعتنقوا التوحيد, وهم الذين تركوا قتل النفس المحترمة, وتوجهوا الى قتال المشركين, وهم الذين تركوا الزنا, وتوجهوا الى الاحصان والعفاف. وهكذا فاين التبديل من الله تعالى.

ويجيب (قدس سره) عن الاشكال بقوله ((ولماذا (يبدّل الله) وصاحب السيئة هو الذي بدَّل؟ لأن الله هو الذي يقبل توبته، وهو الذي يقرّ في قلبه التوحيد، وهو الذي يوفقه لحسنات على غرار التوحيد)).

أقول:هذا خلاف الظاهر, لذا فإن هذا التفسير يبقى محتاجاً الى إيضاح, فأنه يصعب قبوله لأول وهلة, لما قيل من ان الفعل لا ينقلب عمّا وقع عليه ونحو ذلك, فكيف يحصل هذا التبديل في الفعل؟

ص: 411


1- الفرقان في تفسير القرآن: 21/ 53

وقد قرّب السيد الطباطبائي (قدس سره) تفسيراً للآية يدفع هذا الاشكال بما ملخصه:(ان أفعال الانسان اذا لوحظت كحركات خاصة - اي بلحاظ ذات الفعل الخارجي الصادر من فاعله- فانها مشتركة بين السيئة والحسنة ولا تتميز فيها الحسنة عن السيئة, كحركة الجماع المشتركة بين الزنا والنكاح, وكأكل المال المشترك بين الغصب أو باذن صاحبه, وانما يتصف بكونه حسنة أو سيئة بلحاظ موافقته أمر الله تعالى ومخالفته, وهو الذي يُسجَّل على العبد ويحاسب عليه, أما ذات الأفعال فانها لا تتصف بالحسنة أو السيئة, وهي مجموعة حركات فانية ومنقضية, وآثارها هي التي تتصف بهاتين الصفتين، وهذه الآثار السيئة التي يتبعها العقاب - اعني السيئات- لازمة للإنسان حتى يُؤخذ بها يوم تبلى السرائر.وصدور هذه المخالفة لأمر الله تعالى نابعة من شقاوة وخبث في ذات الفاعل, فاذا تبدلت الى ذات سعيدة وطيبة وتطهرت بالتوبة، امكن ان تتبدل آثارها اللازمة التي كانت سيئات قبل ذلك, فتناسب الاثار للذات بمغفرة من الله ورحمة, وكان الله غفوراً رحيماً)(1).

وبتعبير آخر:ان الذي يتبدل ليس نفس الأفعال التي صدرت وانقضت, وإنما آثارها السيئة التي انطبعت في نفس الانسان وباطنه، فاذا تاب وآمن وعمل صالحاً يزيل الله تعالى تلك الآثار السيئة من باطنه ويطبعه بآثار طيبة خيّرة, فالتبديل يحصل في آثار الأفعال وليس في ذواتها.

ص: 412


1- الميزان في تفسير القرآن: 15/ 241.

ولكي أقرِّب الفكرة بمثال فقهي:فانه يشبه ما يحصل من تحوِّل الفعل المحرم إلى محلل بالإجازة اللاحقة، كمن أخذ مال غيره بغير رضاه, فأنه فعل محرّم, ولكن صاحب المال اذا أجاز الفعل لاحقاً صحّ وانتفت الحرمة, وهكذا.لكن هذا التفسير يواجه عدة إشكالات:

1- ان مما تسالم عليه المتشرعة ان نفس الأفعال توصف بالحسنة والسيئة، لأن اتصاف الفعل بهذه الصفة أو تلك لا يلحظ فيه ذات الفعل المجرد عن موافقته لأمر الله تعالى ونهيه, لذا فالزنا غير النكاح بهذا اللحاظ.

2- ان الآية صريحة بأن السيئة هي التي تتبدل إلى الحسنة وليس آثارها الباطنية من شقاوة وخبث الى سعادة وطيبة, وقد صرّح (قدس سره) بذلك أيضاً, إذ قال:أي ((أن كل سيئة منهم نفسها تتبدل حسنة))(1).

3- أنه يدلّ على أن هذه الذات الإنسانية بعد أن تحوّلت إلى ذات طيبة فأن الآثار التي ستصدر منها تكون طيبة بعد هذا التغيّر، والآية صريحة بأن الأفعال السابقة على تغيّره تتبدل.

لذا فإن هذا التفسير بقي مثيراً للاستفهام لكثيرين, إذ كيف يمكن أن يبدل الفعل الذي وقع حراماً كترك الصلاة والصوم والزنا وشرب الخمر وظلم الآخرين وغير ذلك الى حسنات، لذا ذكروا وجوهاً أخرى يستفاد بعضها من الروايات الشريفة، ومنها:

1- ان التبديل يحدثه الله تعالى في سلوك العبد التائب بتوفيق الله تعالى، فمن كان مشركاً وتاب يوفقه الله تعالى للتوحيد وإخلاص العمل لله تبارك وتعالى،

ص: 413


1- الميزان في تفسير القرآن: 15/ 241.

ومن زنا يوفقه الله تعالى للسلوك العفيف الطاهر ويحصّنه بالزواج، ومن كان ظالماً للناس يوفقه لخدمتهم وقضاء حوائجهم وإدخال السرور عليهم، وإن هذه السيئات السابقة ستكون مائلة في ضميره مما شعره بالندم والأسف فيدفعه إلى مزيد من عمل الحسنات لمحوها وتغطيتها وإزالة تأثيرها, وقد وردت أحاديث كثيرة في الحث على استذكار الذنوب, لاجل هذا الغرض.2- ان التبديل يحصل يوم القيامة بأن يضع الله تعالى للعبد التائب في كتابه بدل سيئاته حسنات ولا يكتفي بمحو السيئات ومغفرة الذنوب، وهذا ليس بعيداً عن كرم الله تعالى وفضله وسعة رحمته, وهو معنى قريب لما في آية أخرى قال تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّ-يِّئَاتِ} (هود:114), وفي رواية البرقي في المحاسن بسنده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(يؤتى بالمؤمن المذنب يوم القيامة حتى يوقف بين يدي الله عزوجل، فيكون هو الذي يلي حسابه، فيوقفه على سيئاته، شيئاً فشيئاً، فيقول:عملتَ كذا وكذا في يوم كذا في ساعة كذا، فيقول:أعرف يا ربِّ – قال:(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- حتى يوقفه على سيئاته كلها، كل ذلك يقول:أعرف، فيقول:سترتُها عليك في الدنيا، واغفرها لك اليوم، أبدلوها لعبدي حسنات – قال:(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- فترفع صحيفته للناس, (وفي رواية محمد بن مسلم عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال الله عزوجل:للكتبة بدّلوها حسنات وأظهروها للناس)، فيقولون:سبحان الله، أما كانت لهذا العبد ولا سيئة واحدة، فهو قول الله عزوجل:{فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}(1).

ص: 414


1- المحاسن: 170/ح136.

وروى مثلها الشيخ في الامالي, وكتاب الحسين بن سعيد في الزهد, عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), وفيها ان سبب تولي الله تعالى حساب المؤمن بنفسه لكي (لا يطلع على ذلك ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً), (ولا يطلع على حسابه أحداً من الناس)(1). وفي ذيل مثل هذه الرواية عن ابي ذر, عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(ورأيت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ضحك حتى بدت نواجذه ثم تلى:{فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ)(2).

3- إن هذا التبديل بلحاظ آثار الذنوب على نفس الانسان وباطنه وما يحصل بسببها من الخبث والظلمانية وسوء السريرة والميل الى الشهوات ونفور من الطاعات, فيبدل الله تعالى باطن التائب إلى نقاء وصفاء وميل إلى الطاعة وتُقزّز من المعصية ونحو ذلك.

4- ويمكن ان اُضيف وجهاً آخر مبنياً على الحديث (وإنما الأعمال بخواتيهما)(3), فالإنسان العاصي لو مات من دون توبة فانه ستكون عاقبته سيئة, فاذا تاب وندم والتزم بالأعمال الصالحة فانه سيسجَّل ضمن الصالحين الطائعين, ويجازى على أساس هذه الحالة الجديدة التي انتقل اليها, ليس فقط من حين التغيير وإنما في كل حياته.

ص: 415


1- الزهد: 91/ح245.- امالي الشيخ الطوسي: 1/ 70.
2- تفسير نور الثقلين: 4/ 33- البرهان: 7/ 120/ح13, عن صحيح مسلم.
3- بحار الأنوار: 9/ 330.

فاذا كان تاركاً للصلاة ثم تاب والتزم بها في اوقاتها وفي المسجد مثلاً, فانه يُكتب في كل حياته حتى ما قبل التغيير على هذه الحالة الجديدة، واذا كان زانياً ثم تاب وتزوج وحصَّن نفسه, كُتب في جميع حياته عفيفاً محصناً وممن عمل بهذه السنة الشريفة، وهكذا.فالتبديل يكون بلحاظ ما سُجِّل على العبد من صفة افعاله، فالفعل الذي كان موصوفاً بانه سيئة يُزال ويُكفّر, ويُكتب بدلاً عنه الفعل الحسن الجديد.

وهو لا يخرج عن ظاهر الآية من تبديل نفس السيئات حسنات، وان تذييل قوله تعالى {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} يدل على ذلك, لأنه جعل التبديل من آثار المغفرة.

ولتقريب الفكرة نورد مثالاً من حياتنا, وهو ما يحصل في الامتحانات المدرسيّة فقد يحصل الطلبة على نتائج مترديّة في امتحانٍ ما, فيقول:لهم الأستاذ, انه سيُعيد الامتحان, فمن جاء بدرجة ناجحة كتبها له, والغى السابقة, تشجيعاً لهم, فيحسب لهم الدرجة العالية وكأنها درجة الامتحانين, ولا يُخرج المُعدّل لهما.

وهذا ليس كثيراً على كرم رب العالمين, ولا الأساتذة في المدارس أوسع منه تعالى فضلاً ورحمة بالعباد.

وينبغي الإشارة الى ان الروايات ذكرت مُوجبات هذا التبديل:

ص: 416

ومنها:ما في روضة الواعظين عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(ما جلس قوم يذكرون الله (عزوجل) الا نادى بهم منادٍ من السماء قوموا فقد بدّل الله سيئاتكم حسنات, وغفر لكم جميعاً)(1).ومنها:ما روي عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قيل يا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):هلك فلان، يعمل من الذنوب كيت وكيت، فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):بل قد نجا ولا يختم الله تعالى عمله إلا بالحسنى، وسيمحو الله عنه السيئات، ويبدلها له حسنات, إنه كان مرة يمر في طريق عرض له مؤمن قد انكشف عورته وهو لا يشعر فسترها عليه ولم يخبره بها مخافة أن يخجل، ثم إن ذلك المؤمن عرفه في مهواه فقال له:أجزل الله لك الثواب، وأكرم لك المآب، ولا ناقشك الحساب فاستجاب الله له فيه، فهذا العبد لا يُختم له إلا بخير بدعاء ذلك المؤمن، فاتصل قول رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بهذا الرجل فتاب وأناب, وأقبل إلى طاعة الله عزوجل, فلم يأت عليه سبعة أيام, حتى اُغير على سرح المدينة فوجه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في أثرهم جماعة, ذلك الرجل أحدهم, فاستشهد فيهم)(2).

وقد دلّت على ان الايمان والعمل الصالح الموجبين لتبديل السيئات حسنات هما المتضمنان لولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) والالتزام بهديهم وسنتهم, ففي رواية الكافي بسنده عن الحلبي عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:إن ربي وعدني في شيعة علي خصلة، قيل:يا رسول الله وما هي؟ قال:المغفرة

ص: 417


1- روضة الواعظين- الفتال النيسابوري: 391.
2- بحار الأنوار- المجلسي: 5/ 155.

لمن آمن منهم، وإن الله لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة، ولهم تبدل السيئات حسنات)(1).وروى الشيخ ابن قولويه في كامل الزيارات, بسنده عن صفوان الجمال, عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), رواية في فضل زوار الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), إلى ان قال:(فاذا ارادت الحفظة أن تكتب على زائر الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سيئة، قالت الملائكة للحفظة:كُفيّ فتكف فاذا عمل حسنة، قالت لها:اكتبي، أولئك الذين يُبدل الله سيئاتهم حسنات)(2).

وروى الشيخ في اماليه, بسنده عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):حبُّنا أهل البيت يُكفرّ الذنوب, ويُضاعف الحسنات, وان الله ليحتمل عن محبينا أهل البيت ما عليهم من مظالم العباد، الا ما كان منهم فيها إصرار وظلم للمؤمنين:فيقول للسيئات كوني حسنات)(3).

وهذا الحديث يقيّد الأحاديث المطلقة, كالذي رواه الشيخ المفيد في الاختصاص بسنده, عن أصبغ بن نباتة، أن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:له في حديث (يا أصبغ، إن وليّنا لو لقي الله وعليه من الذنوب مثل زبد البحر ومثل عدد الرمل، لغفرها الله له إن شاء الله تعالى) (4).

ص: 418


1- الكافي: 1/ 368/ح15.
2- كامل الزيارات: 330/ح5.
3- الامالي: 1/ 166.
4- البرهان في تفسير القرآن: 7/ 119, عن الاختصاص: 65.

الصورة

ص: 419

الفهرس الإجمالي

الصورة

ص: 420

الصورة

ص: 421

الصورة

ص: 422

الصورة

ص: 423

الصورة

ص: 424

الصورة

ص: 425

المجلد 4

هوية الكتاب

اسم الكتاب: من نور القرآن

تأليف : سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

الموضوع : التفسير

مشخصات : 5 ج

الطبعة : الرابعة

التاريخ : 1442ه- - 2021م

ص: 1

اشارة

من نور القرآن

ص: 2

ص: 3

من نور القرآن

تفسير موضوعي حركي يقتبس من القرآن الكريم

ما يلقي ضوءاً على قضايا عقائدية أو أخلاقية

أو فكرية أو اجتماعية

سماحة المرجع الدینی الشیخ محمد الیعقوبی

الجزء الرابع

سورة النمل – سورة الحجرات

دار الصادقين

ص: 4

القبس /114: سورة النمل:62

(أَمَّن يُجِيبُ ٱلمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكشِفُ ٱلسُّوءَ وَيَجعَلُكُم خُلَفَاءَ ٱلأَرضِ ۗ أَءِلَٰه مَّعَ ٱللَّهِ ۚ قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ)

المضطر من به ضُرّ ويعني سوء الحال وهو ما دلّت عليه نفس الآية {وَيَكْشِفُ السُّوءَ}, والضرّ مقابل النفع كما أن الضرّاء مقابل السراء والنعماء، وقد يكون الضر مادياً كفقدان المال ونقص البدن بفقدان عضو فيه، أو معنوياً كنقص الإيمان أو العلم أو الأخلاق أو المكانة الاجتماعية. ومن جهة أخرى فإن الضر قد يمسّ الفرد كالأمثلة التي ذكرناها وقد يمس المجتمع كالحروب والأوبئة وفقدان الأمن وتسلّط الأشرار وانهيار الدولة والفوضى والخوف وتخريب الاقتصاد والبطالة وعدم العدالة الاجتماعية ونحو ذلك الذي قد يكون بسبب خارجي كالقهر والإكراه والتهديد أو الإغراء وقد يكون بسبب داخلي كالجوع المؤدي إلى الهلاك، قال تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المائدة:3) {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (البقرة:173)، فهذه كلها أشكال للضرّ.

فالآية الكريمة تسأل عمَّن يجيب المضطر المنقطع إذا دعاه وطلب منه غير الله تعالى، وهي تقع ضمن سلسلة من الاستفهامات الاستنكارية والإقرارية، وهي تخاطب مراتب عديدة وواسعة ابتداءً من المنكرين لوجود الله تبارك وتعالى إلى

ص: 5

المتخذين أنداداً وشركاء له سبحانه ويزعمون أن بيدهم تدبير الخلق إلى الذين يؤمنون بالله تعالى ويشهدون له بالوحدانية إلا أنهم معرضون عنه عاصون له متمردون عليه في غفلة لا يستحضرون وجوده تبارك وتعالى، فتستنطق الآية فطرة كل هؤلاء وتلفت نظرهم إلى هذه الحقيقة التي مهما أنكرها الإنسان بلسانه أو غفل عنها في حياته فإن وجوده وفقره واحتياجه الذاتيين ينطقان بها فالآية تقرّرهم بهذه الحقيقة كمقدمة للإيمان بالله تعالى وأنه وحده مدبّر الأمور، وبنفس الوقت تستنكر كفرهم وشركهم وتمردهم وهم بهذه الحاجة الحقيقية إلى الله تعالى، قال سبحانه:{وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (يونس :12)، وقال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً} (الإسراء:67) {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} (الروم :33) {فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر :49) وقال تعالى:{وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (النحل :53) وقد تكرر هذا المعنى كثيراً في القرآن الكريم.فالإنسان يدرك بفطرته عند وقوعه في الضرّ والبلاء الخانق وتقطّع الأسباب عنه أن قوة غيبية حكيمة رؤوفة حاضرة عنده ومطّلعة على حاله، وهي قادرة على

ص: 6

أن تمدّ يد الرحمة إليه وتنقذه ولا يعجزها شيء وتجيبه إذا طلب منها التدخل لإنقاذه ولا تنتظر من أحد جزاءً ولا شكوراً، هذه الحالة التي يعيشها المسجون في الزنزانة الانفرادية المظلمة تحت التعذيب القاسي لجلاوزة الطواغيت(1)، أو مَن تحطمت به السفينة التي يركبها وهو في عرض البحر أو من تتعرض الطائرة التي يركبها في أعالي الجوّ إلى عطل يسقطها، أو مَن يعاني من آلام الأمراض الفتاكة وهو يقترب من الموت ونحو ذلك من صور الاضطرار التي أشار إليها دعاء الجوشن الصغير(2).).

ص: 7


1- قال المرحوم علي شريعتي في بعض مذكراته: (فعندما ضيّقوا عليّ الخناق وجعلوني وحيداً فريداً، وجعلوا دنياي لا تتعدى عدّة أشبار في عدة أشبار مظلمة وضيقة، وقطعوني عن العالم والعالمين، بعيداً عن الأحياء، وفرّت من خيالي الأسماء والذكريات، كنت أشعر حتى في غياهب الخلوة، وفي الغيبة المطلقة، حيث لم يكن شيء ولم يبق ثمة شيء، كنت أشعر وكأنّي أملك شيئاً، وأن هناك وجوداً ما حتى في تلك الأجواء الغيبية المجرّدة، شعرت في تلك الظروف الخالية من الناصر والمعين، بأن هناك عيناً ترعاني، وتحرسني وأنني أُرى ويُشعَر بي، وأن هناك وجوداً له حضور في خلوتي، وهناك من يسدّ عليَّ خلّتي، وأن هناك ناصراً يبصرني وأنا في تلك الأجواء من غياهب النسيان، ويحقن في شراييني الاستذكار والوجود والحياة والنور، حتى أنني أحياناً أسلّم عليه، وأخجل منه، وأغض طرفي عنه، وأنتبه إلى أعمالي وسلوكي وحركاتي وأفكاري، وأتحبب إليه أحياناً وأنا وحيد في ذلك القبر، يسرّني رضاه عني، فأتباهى وأُسَرُّ، وأشبع أنانيّتي، فأشمخ وأمتلئ زهواً وقوّة وأغدو واضحاً وصالحاً) (أطروحة حياة: 211 عن الأعمال الكاملة لشريعتي: 1/ 269).
2- مفاتيح الجنان: 106. بحار الأنوار: 48، 219. عيون أخبار الرضا: 1/ 87، ح13، الباب 7: جلّ من أخبار موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

فالآية الكريمة تثير هذا الشعور العاطفي الوجداني لتقرّب الإنسان إلى الهداية والصلاح، وهو الأسلوب الذي اعتمده المعصومون (سلام الله عليهم) لإثارة الفطرة السليمة التي تدعو إلى الإيمان بالله تعالى والالتجاء إليه وحده، روي أن رجلاً قال للإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(يا ابن رسول الله، دلّني على اللّه ما هو فقد أكثر علىّ المجادلون وحيّروني، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):يا عبد اللّه، هل ركبت سفينة قطّ؟ قال:بلى، قال:فهل كُسِرت بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟ قال:بلى، قال:فهل تعلّق قلبك هناك أنّ شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك؟ قال:بلى، قال الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):فذلك الشيء هو اللّه القادر على الإنجاء حين لامنجي و على الإغاثة حيث لا مغيث)(1).وروى في الدر المنثور أن رجلاً سأل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):إلى مَ ندعو؟ قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (ادعُ إلى الله وحده الذي إن نزل بك ضرّ فدعوته كشف عنك، والذي إن ضللت بأرض قفر فدعوته رد عليك، والذي إن أصابك سنة فدعوته أنزل لك)(2).

والإنسان المنصف حينما يقرأ هذه الآية الكريمة يشعر بالخجل حقيقة أمام الله تعالى من الجحود والانحطاط الذي وصل إليه البشر بحيث يتوسل الله تبارك وتعالى بهذه الحقائق الواضحة ويثير هذه المشاعر الوجدانية لكي يهديه إلى الإيمان به تعالى هذه الحقيقة التي بيّنها القرآن الكريم في أكثر من آية قبل أن2.

ص: 8


1- بحار الأنوار: 3/ 41، ح 16 عن تفسير العسكري: 21، معاني الأخبار: 4 باب 5، ح5.
2- تفسير ابن كثير: 3/ 382.

يسأل عنها، قال تعالى:{وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} (الأنعام:17) (يونس:107).لذا لا نستغرب من أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إذا ارتعد عجباً واستنكاراً من جحود الناس وتمرّدهم حين سماعه هذه الآية والآيات التي معها {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} (النمل:60) والتي بعدها وكلها تنتهي بالسؤال {أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ}، روى ابن شهرآشوب عن أنس بن مالك قال:((لما نزلت الآيات الخمس في طس:{أَمَّنْ جَعَلَ الأرضَ قَرَاراً} انتفض عليّ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انتفاض العصفور، فقال له رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):ما لك يا علي؟ قال:عجبت -يا رسول الله- من كفرهم وحِلم الله تعالى عنهم. فمسحه رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بيده ثم قال:أبشِر فإنه لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق، ولولا أنت لم يُعرف حزب الله))(1)، وسيأتي بيان الوجه في الإجابة بهذه البشرى.

وإنما ذكرت الآية {المُضطَرَّ} لأن الإنسان ينقطع في حال الاضطرار وتقطّع كل الأسباب والوسائل إلا الله تبارك وتعالى فتساعده هذه الحالة على تحقيق شرط إجابة الدعاء وهو التوجه الخالص الصادق إلى مَن بيده مقاليد الأمور فحينئذٍ يتطابق لسان مقاله بالدعاء مع حاله المتوجه فطرياً إلى الله تعالى، أي يتطابق الطلب التكويني بالفطرة مع الطلب التشريعي وهو التوجه بالدعاء حتى تتحقق الإجابة بإذن الله تعالى.5.

ص: 9


1- البرهان في تفسير القرآن: 7/ 172، ح 61 عن مناقب ابن شهرآشوب: 2/ 125.

فاستجابة الدعاء وكشف الضر والسوء يتطلب عدة أمور:1- الانقطاع إلى الله تعالى والتوجه بصدق إليه سبحانه، وتساعد حالة الاضطرار على تحقيق هذه الحالة.

2- صدور الدعاء والطلب {إذَا دَعَاهُ} ليستجاب له، وأن يكون الطلب متوجهاً إلى الله تعالى دون سواه {دَعاهُ}، ولكن هذا لا يلزم منه أن الله تعالى لا يعطي إلا بطلب فنعمه ابتداء وإحسانه تفضّل (يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنناً منه ورحمة)(1) فالجملة (إذَا دَعَاهُ) تبيّن المقتضي لا العلة التامة، ويمكن أن لا تكون شرطية لها مفهوم أصلاً وإنما هي مسوقة لبيان تحقق الموضوع على تعبير الأصوليين.

3- أن يكون الطلب لجلب الخير ودفع الضر والسوء {وَيَكشِفُ السُوءَ} أي لما فيه مصلحة العبد، فلو دعا على خلاف مصلحته فإنه لا يستجاب له.

فالتفصيل المذكور في هذه الآية يبيّن ما أجملته الآيات الأخرى من شروط الإجابة كقوله تعالى:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر:60) وقوله تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (البقرة:186).

إن الاضطرار حالة تقرّب المسافات في طريق التكامل وتؤهل العبد لمقامات عليا إن أحسن اغتنام هذه الفرصة، فالوقوع في الضرّ والبلاء وإن كان فيه مشقة على النفس وشعور بالضيق، إلا أن حالة الاضطرار الناتجة عنه نعمة على العبد، تعيده إلى الله تبارك وتعالى وتنقذه من الغفلة التي يقع فيها بسبب انهماكه86

ص: 10


1- مفاتيح الجنان: 186

في الأمور الدنيوية وهذا وجه لفهم ما ورد في حديث عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(الاضطرار عين الدين)(1)، لأن الإنسان يصل بالاضطرار إلى الحقيقة.ولو كان الإنسان ذا بصيرة لعلم أنه في كل آنٍ من آناته ومع كل نفس هو في حالة اضطرار، لفقره الذاتي واحتياجه في كل شيء ولكنه لاعتياده على النعم فهو يغفل عن هذه الحقيقة ولا يلتفت إليها إلا إذا وقع في الضر {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ} (يونس :12).

ومما ذكرناه من أن بعض الضرّ والسوء اجتماعي يحيق بالأمة كلها يُعرف أحد وجوه المناسبة بين هذا الجزء من الآية وما يليه من قوله تعالى:{وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ} فإنه تبارك وتعالى لا يخلّصكم فقط من الضرّ الاجتماعي كتسلّط الأشرار وفقدان الأمن والعدالة الاجتماعية وانتشار الفوضى والظلم والفساد والخوف وانعدام فرص الحياة الحرة الكريمة، وإنما يجعلكم أنتم -الثلة الصالحة- خلفاء الأرض وحكّامها ووارثيها كما خلّص بني إسرائيل من طغيان فرعون وأورثهم أرضهم وديارهم.

وهذا الاستخلاف خاص يضاف إلى الاستخلاف العام وهو أصل جعل الإنسان خليفة الله في أرضه {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة:30) وتسخير كل ما في الأرض من موارد وإمكانيات تحت تصرّف الإنسان وفي خدمته).

ص: 11


1- جامع السعادات: 3/ 293، وأورده (الفرقان في تفسير القرآن: 21/ 274 عن تفسير بيان السعادة: 3/ 177).

{وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الجاثية:13) فكيف يغفل الإنسان عن ربِّه الذي أغدق عليه كل تلك النعم. ولذا يتساءل في نهاية الآية بتعجّب واستنكار من الغفلة عن الله تعالى الذي أفاض كل هذه النعم، قال تعالى:{أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} (النمل:62).ولعل هذا الوجه لارتباط السياق أقرب من غيره(1) لظهور الآية في الاستخلاف الخاص الذي وعد به تبارك وتعالى، قال سبحانه:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَل.

ص: 12


1- كالذي ذكره السيد الطباطبائي (قدس سره) في الميزان، قال: (الذي يعطيه السياق أن يكون المراد بالخلافة الخلافة الأرضية التي جعلها الله للإنسان يتصرف بها في الأرض وما فيها من الخليقة كيف يشاء كما قال تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30). وذلك أن تصرفاته التي تصرف بها في الأرض وما فيها بخلافته أمور مرتبطة بحياته متعلقة بمعاشه فالسوء الذي يوقعه موقع الاضطرار ويسأل الله كشفه لا محالة شيء من الأشياء التي تمنعه التصرف أو بعض التصرف فيها وتغلق عليه باب الحياة والبقاء وما يتعلق بذلك أو بعض أبوابها ففي كشف السوء عنه تتميم لخلافته. ويتضح هذا المعنى مزيد اتضاح لو حمل الدعاء والمسألة في قوله: (إذا دعاه) على الأعم من الدعاء اللساني كما هو الظاهر من قوله تعالى: ({وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} (إبراهيم:34)، وقوله: ({يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الرحمن: 29)، إذ يكون على هذا جميع ما أوتي الإنسان ورزقه من التصرفات من مصاديق كشف السوء عن المضطر المحتاج إثر دعائه فجعله خليفة يتبع إجابة دعائه وكشف السوء الذي اضطره عنه) (الميزان في تفسير القرآن: 15/ 385). وملخّص ما ذكره (قدس سره): أن كشف الضرّ والسوء فيه معالجة لنقصه واستعادة لقواه التي تمكّنه من ممارسة وظيفة الخلافة في الأرض ويكون زوالها بمثابة إزالة الموانع عن ممارسة الإنسان وظيفته في خلافة الأرض وهو معنى خلاف ظاهر الجعل.

آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور :55).ومما يقرّب هذا الوجه أنه أكثر انطباقاً على قضية الإمام المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الذي فُسِّرت به الآية كما سيأتي.

مضافاً إلى ما سنذكره من وجه انتفاضة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حين سماعه قوله تعالى:{وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ} فهذه قرائن ثلاث تقرّب ما ذكرناه.

إن خلافة الله تعالى في الأرض التي وعد عباد الله الصالحون الواعون الرساليون بالتمهيد لها وممارستها وحمل لواء التوحيد مهمة عظيمة ومسؤولية شاقة يستشعرها أهلها روى الشيخان المفيد في أماليه والشيخ الطوسي عنه في أماليه بالسند عن عمران بن الحصين قال:((كنت أنا وعمر بن الخطاب جالسين عند النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعلي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) جالس إلى جنبه إذ قرأ رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ} لما نزلت الآيات الخمس في طس: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا} انتفض عليّ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انتفاض العصفور، فقال له رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):ما لك يا علي؟

ص: 13

قال:عجبت -يا رسول الله- من كفرهم وحِلم الله تعالى عنهم. فمسحه رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بيده ثم قال:أبشِر فإنه لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق))(1).وعن بريدة قال:((قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى جنبه {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ}، قال:فانتفض علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انتفاضة العصفور، فقال له النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):لِمَ تجزع، يا علي؟ فقال:كيف لا نجزع وأنت تقول {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ}؟ قال:لا تجزع، فوالله لا يبغضُك مؤمن ولا يحبك كافر))(2).

وقيل في وجه هذا الجواب أنه لطمأنة الإمام أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأنه سيقوم بمسؤولية الخلافة على أحسن وجه ((حيث ضمنت عدله في الحكم لحد (لا يبغضك مؤمن ولا يحبّك منافق) فإن الحكم غير العادل يبغضه المؤمن ويحبّه المنافق))(3).

فانتفاضة الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من جهتين:حين سمع قوله تعالى{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ} لإصرارهم على الكفر والعصيان مع طول حلمه تعالى، وحين سمع قوله تعالى:{وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ} لثقل مسؤولية هذه الخلافة.ش.

ص: 14


1- البرهان في تفسير القرآن: 7/ 173، ح4 عن أمالي المفيد: 307، ح5 وأمالي الطوسي: 1/ 75.
2- المصدر نفسه، ح5 عن تأويل الآيات: 1/ 401، ح3.
3- الفرقان في تفسير القرآن: 21/ 279، الهامش.

لذا كان الإمام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) المصداق الأكمل للآية الكريمة بحسب الروايات الشريفة الآتية، وفي دعاء الندبة (أين المضطر الذي يجاب إذا دعى)(1) وذلك لأنه:1-من (التامّين في معرفة الله)(2) فهو مستحضر لحقيقة الاضطرار والانقطاع إلى الله تعالى دائماً وليس في أوقات الضيق والشدة فقط.

2-ولأنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واقع في أوسع ضرّ وألم وأذى بسبب ما يطّلع عليه من عصيان وتمرّد الناس وانحرافهم عن الحق والهدى حتى من المحسوبين عليه، ولانتشار الظلم والفساد في البر والبحر، ولتألمه لما تعانيه البشرية عموماً وأتباعه ومواليه خصوصاً من الظلم والعدوان والحرمان.

3-ولأنه بقية الله وخليفته في أرضه الذي وعده الله بالاستخلاف والتمكين في الأرض ليقيم دولة الحق والعدل، ويقضي على الظلم والفساد والجور.

روي عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال في حديث:(والله لكأني أنظر إليه وقد أسند ظهره إلى الحجر، فينشد الله حقه، ثم يقول:يا أيها الناس:مَن يحاجّني في الله، فأنا أولى الناس بالله، أيها الناس:من يحاجّني في آدم فأنا أولى الناس بآدم، أيها الناس من يحاجّني في نوح فأنا أولى الناس بنوح، أيها الناس:من يحاجّني في إبراهيم فأنا أولى الناس بإبراهيم، أيها الناس من يحاجّني في موسى فأنا أولى الناس بموسى، أيها الناس من يحاجّني بعيسى فأنا أولى الناس بعيسى، أيها الناس من يحاجّني بمحمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فأنا أولى الناس بمحمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، أيها الناس منة.

ص: 15


1- مفاتيح الجنان: 536.
2- من الزيارة الجامعة الكبيرة.

يحاجني بكتاب الله فأنا أولى الناس بكتاب الله. ثم ينتهي إلى المقام فيصلّي عنده ركعتين). ثم قال أبو جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):وهو المضطر الذي يقول الله فيه:{أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ} فيه نزلت وله)(1).وروي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(إن القائم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إذا خرج دخل المسجد الحرام فيستقبل القبلة ويجعل ظهره إلى المقام، ثم يصلي ركعتين، ثم يقوم فيقول:يا أيها الناس، أنا أولى الناس بآدم، يا أيها الناس، أنا أولى الناس بإبراهيم، يا أيها الناس، أنا أولى الناس بإسماعيل، يا أيها الناس، أنا أولى الناس بمحمد(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، ثم يرفع يديه إلى السماء ويدعو ويتضرع حتى يقع على وجهه، وهو قوله عز وجل:{أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}(2).

وإذا عشنا بصدق معنى الاضطرار لظهور الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وإقامة دولته المباركة ودعونا بتعجيل ظهور الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فإن الآية المباركة ستجري حتماً {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} (الروم :4).

إن كلمات المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وأدعيتهم تفوح بعطر الاضطرار والانقطاع إلى الله تبارك وتعالى عن المخلوقين ومن ذلك ما روي من دعاء النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في يوم بدر حينما واجه المشركين الذين يفوقونه أضعافاً بالعدد والعدة ودعى به4.

ص: 16


1- كتاب الغيبة للنعماني: 181/ح30.
2- تفسير البرهان: 7/ 173-174.

الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في يوم عاشوراء (اللَهُمَّ أَنْتَ ثِقَتِي فِي كُلِّ كَرْبٍ، وَأَنْتَ رَجَائِي فِي كُلِّ شِدَّةٍ، وَأَنْتَ لِي فِي كُلِّ أَمْرٍ نَزَلَ بِ-ي ثِقَةٌ وَعُدَّةٌ. كَمْ مِنْ هَمٍّ يَضْعُفُ فِيهِ الْفُؤَادُ، وَتَقِلُّ فِيهِ الْحِيلَةُ، وَيَخْذُلُ فِيهِ الصَّدِيقُ، وَيَشْمَتُ فِيهِ الْعَدُوُّ، أَنْزَلْتُهُ بِكَ، وَشَكَوْتُهُ إلَيْكَ، رَغْبَةً مِنِّي إلَيْكَ عَمَّنْ سِوَاكَ، فَفَرَّجْتَهُ عَنِّي، وَكَشَفْتَهُ، وَكَفَيْتَهُ. فَأَنْتَ وَلِي ُّ كُلِّ نِعْمَةٍ، وَصَاحِبُ كُلِّ حَسَنَةٍ، وَمُنْتَهَي كُلِّ رَغْبَةً)(1).ودعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (يا من تحَلّ به عقد المكاره)(2) الذي كان يدعو به أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، روى السيد ابن طاووس في مهج الدعوات أن اليسع بن حمزة القمي كتب إلى الإمام الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يشكو إليه ما حلّ به من وزير الخليفة العباسي وما يتخوفه من القتل، فكتب إليه:لا روعٌ عليك ولا بأس فادعُ بهذا الدعاء يخلّصك قريباً ويجعل لك فرجاً، فإن آل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين) يدعون به عند نزول البلاء وظهور الأعداء وعند تخوّف الفقر وضيق الصدر، فدعى به في صدر النهار فما مضى شطره حتى أطلِقَ وأُكرِم(3).71

ص: 17


1- بحار الأنوار: 45/ 4 - ورواه الكليني في الكافي: 2/ 579، باختلاف يسير في الألفاظ.
2- مفاتيح الجنان: 162
3- مهج الدعوات- ابن طاووس:271

ودعاء الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو يعاني أشد أنواع العذاب النفسي والجسدي في الطامورة(1) الظلماء حيث لا يتميز الليل من النهار في حبس هارون العباسي وهو يناجي ربّه (يا سيدي نجني من حبس هارون، وخلصني من يده، يا مخلص الشجر من بين رمل وطين وماء، ويا مخلص اللبن من بين فرث ودم، ويا مخلص الولد من بين مشيمة ورحم، ويا مخلص النار من بين الحديد والحجر، ويا مخلص الروح من بين الأحشاء والأمعاء، خلصني من يدي هارون)(2).ومن نداءات الاستغاثة عند الاضطرار التي لا يُخذل الداعي بها (يا غياث المستغيثين أغثني)، حكى المرحوم الشيخ أحمد الوائلي حادثة في تأثير هذا النداء، أن ملكاً أصبح في يوم حزيناً كئيباً ضيّق الصدر ولم يعرف سبباً لذلك فحاول مساعدوه ومستشاروه أن يفعلوا كل ما يستطيعون لتعديل مزاجه وإدخال السرور عليه وإزالة الغم عنه فلم يفلحوا، فأمرهم أن يعدّوا السفن ليخرج في نزهة بَحرية لعل وضعه يتحسّن، فهيأوا له ما يحتاج وانطلقوا في رحلة في عرض البحر، فسمع نداء استغاثة من إنسان فأمر رجاله بالنزول إلى البحر والبحث عنه حتى وجدوه وأنقذوه، وجاؤوا به إلى الملك فسأله عن حاله وقال:كنّا في سفينة فاضطرب البحر وانكسرت وغرق الركاب إلا أنا كنت أستغيث بالله تعالى وأصيح:(يا غياث المستغيثين أغثني) حتى جئتم فأنقذتموني.3.

ص: 18


1- كان بعض السجون التي حُبس (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فيها على هذا الحال كما ورد في زيارته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والصلاة عليه التي أوردها السيد ابن طاووس في مصباح الزائر (اللهم صلِّ ... والمعذَّب في قعر السجون وظُلَمِ المطامير) (بحار الأنوار:99/ 17).
2- بحار الأنوار: 48/ 219 عن عيون أخبار الرضا: 1/ 193.

القبس /115: سورة القصص:5

اشارة

(وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱستُضعِفُواْ فِي ٱلأَرضِ)

موضوع القبس:المستضعفون وخلافة الأرض

أنتم المستضعفون بعدي:

لما عقد المنقلبون على الاعقاب المجتمعون في سقيفة بني ساعدة والنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مسجَّى لم يدفن بعد عزمهم على نبذ كتاب الله تعالى وراء ظهورهم ومخالفة وصية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في الخليفة من بعده وإقصاء أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن مقامه، وواجهوا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بذلك الكلام القاسي الذي فيه إعلان الحرب على الله تعالى ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في رزية يوم الخميس عندما أراد أن يؤكد الوصية ويكتب لهم كتاباً لن يضلّوا بعده أبداً، وقال قائلهم (إن الرجل ليهجُر)، جمع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أهل بيته خاصة ونظر اليهم وبكى وقال لهم (أنتم المستضعفون بعدي)(1).

الأحداث المحزنة:

وظاهر الحديث وبقرينة الظروف التي صدر فيها أنه إخبار بأمرٍ محزن

ص: 19


1- تفصيل الواقعة في بحار الأنوار: 22/ 469 عن كتاب (إعلام الورى بأعلام الهدى: 140-143. والإرشاد: 96-100. وأورد الحديث الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا: 2/ 72/ باب31 ح303.

ومؤلم بأن زعماء الإنقلاب سيظلمونهم ويعتدون عليهم بألوان الإيذاء، ولا يتورعون عن قتلهم وفعل اي شيء يتطلّبه مشروعهم، وفي الحديث إشارة إلى أن فعل القوم بأهل بيت النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سيشابه فعل فرعون ببني إسرائيل حينما استضعفهم كما في قوله تعالى {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (القصص:4) وهكذا فعل القوم بآل بيت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقد كان شعارهم الذي صرّحوا به في يوم عاشوراء بعد أن كان مخفياً (لا تبقوا لأهل هذا البيت من باقية)(1).روى في تفسير القمي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لقي المنهال بن عمرو علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال له:كيف أصبحت يابن رسول الله، فقال:ويحك أما آن لك أن تعلم كيف أصبحت، أصبحنا في قومنا مثل بني إسرائيل في آل فرعون يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا)(2).

واستشهد أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بقول هارون أخي موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي} (الأعراف:150) عندما أجبروه على بيعة أبي بكر فقال:إن أنا لم أفعل فمه؟ قالوا إذاً والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك، قال:إذاً تقتلون عبد الله وأخا رسوله فالتفت إلى قبر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وخاطبه بقول هارون0.

ص: 20


1- أضواء على ثورة الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- السيد الصدر: 167, نقله عن مقتل الخوارزمي: 2/ 38
2- تفسير القمي: 2/ 110.

لأخيه موسى في الآية الشريفة(1).

الأمل بوراثة المستضعفين:

ولما كانت الآيات القرانية لا تختص بزمان دون زمان وإنما تعالج حالات وظواهر وتبيّن سنناً قابلة للتكرار في كل زمان إذا توفرت أسبابها وظروفها، فإن الآية التي تليها وهي قوله تعالى {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} (القصص:5-6) تعطي للحديث معنىً آخر ملؤه التفاؤل والأمل وفيه وعد بالنصر والتمكين في الأرض ووراثتها ومن عليها واستعادة الحق لأهله وجعل الأئمة والقادة منهم لأن الإرادة الإلهية تعلقت بذلك (ونريد) فلا تتخلف {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} (الروم:6)، فوصف النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أهل بيته بالمستضعفين فيه إشارة الى انطباق الآية عليهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولعلهم مقصودون أكثر من موسى وهارون (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالوعد الإلهي لورود كلمة (منهم) فيها وليس (منه) أو (منهما) فيما لو كان المقصود موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أو هو وأخاه هارون، بل أن لفظ الحديث يفيد حصر الوصف بهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كما لا يخفى على المتأمل في الحديث، ويجعلهم أيضاً المقصودين بالآية الشريفة.

هذه سنة الهية ثابتة، في عباده المستضعفين واعدائه المستكبرين قال تعالى {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ

ص: 21


1- الدرر السنية: الفصل الثاني عشر.

يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} (الأعراف:137).وكان الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) يصرِّحون بهذا المعنى في عدة روايات ليطمئنوا شيعتهم ويزرعوا الأمل فيهم ويدفعوهم الى العمل المثمر وليردعوا أعداءهم عن الظلم، ففي معاني الأخبار للصدوق بسنده عن المفضّل قال سمعت أبا عبد الله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول (إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نظر إلى علي والحسن والحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فبكى، وقال:أنتم المستضعفون بعدي)(1) قال المفضّل فقلت له:وما معنى ذلك يا ابن رسول الله قال معناه:أنكم الأئمة بعدي إن الله عز وجل يقول {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} فهذه الآية جارية فينا إلى يوم القيامة)(2).

وفي مجمع البيان.. صحت الرواية عن أمير المؤمنين علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال (والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لتعطفنّ الدنيا علينا بعد شماسها –أي امتناعها- عطف الضروس(3) على ولدها، ثم تلى الآية.

وفي كتاب الغيبة للطوسي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير الآية قال (هم آل محمد يبعث الله مهديهم بعد جهدهم فيعزَّهم ويذل عدوهم)(4).0.

ص: 22


1- بحار الأنوار: 22/ 469 عن كتاب (إعلام الورى بأعلام الهدى: 140-143. والإرشاد: 96-100. وأورد الحديث الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا: 2/ 72/ باب31 ح303.
2- معاني الأخبار: 79 باب31 ح1.
3- وهي الناقة سيئة الخلق تعض حالبها فإذا كانت كذلك حامت عن ولدها، وقيل الضروس الناقة يموت ولدها أو يذبح فيحشى جلده فتدنو منه وتعطف عليه.
4- نور الثقلين: 4/ 110.

والآية جارية بعد الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)في شيعتهم، روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (من أراد أن يسأل عن أمرنا وأمر القوم- اي خصومهم - فإنا وأشياعَنا يوم خلق الله السماوات والأرض على سنة موسى وأشياعه، وإن عدونا وأشياعه يوم خلق الله السماوات والأرض على سنة فرعون وأشياعه فنزلت فينا هذه الآيات)(1).وقال سيد العابدين علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(والذي بعث محمداً بالحق بشيراً ونذيراً، ان الأبرار منا أهل البيت وشيعتهم بمنزلة موسى وشيعته، وان عدونا وأشياعهم بمنزلة فرعون وأشياعه) (2).

فالخصم قد تكون له جولة يغلب فيها وتكون بيده السلطة ويحكم قبضته على أولياء الله تعالى، ويستضعفهم وقد تطول مدة فرعنته ولكن الدولة والنصر والغلبة يكون في النهاية لأهل الحق الذين استضعفوا ويذهب ما سواه جفاءاً كالزبد.

لماذا سمّوا بالمستضعفين؟

وإنما سموا مستضعفين لأن أعدائهم يتوهمون فيهم الضعف بعد أن يسلبوهم كل أسباب القوة الظاهرية من السلطة والمال والنفوذ ويحاصروهم ويطوقوهم فيستكبرون عليهم ويظلمونهم، وهم ليسوا ضعفاء في ذاتهم بل انهم يملكون اسباب القوة، لكن لهم دين وورع وأخلاق وخوف الله تعالى يجعلهم

ص: 23


1- بحار الانوار: 24/ 170 ح8
2- مجمع البيان: 4/ 375.

يقدمون المصالح العليا للدين والمجتمع على المصالح الشخصية، ويمنعهم عن اتباع أساليب المكر والخداع لتحقيق مآربهم، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ولكن الله سبحانه جعل رسله أولي قوة في عزائمهم، وضعفةً فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعةٍ تملأ القلوب والعيون غنى، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذىً)(1).وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال في الثناء على أحد أصحابه المخلصين (كان لي فيما مضى أخ في الله وكان ضعيفاً مستضعفاً، فإن جاء الجدّ فهو ليث غاب، وصلّ واد)(2).

مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ:

لقد أرادت السيدة الزهراء (س) بمواقفها الرسالية أن تهدي الامة الى المنهج الذي يوصلهم الى نيل هذا المنّ الإلهي ليتخذ منهم قادة العالم ويمكنهم في الأرض ويجعلهم الوارثين باتباعهم علياً والأئمة من بعده والسير على هداهم، قالت (سلام الله عليها) في بعض كلماتها (أما والله لو تركوا الحق على أهله واتبعوا عترة نبيّه لما اختلف في الله اثنان ولورثها سلف عن سلف وخلف بعد خلف حتى يقوم قائمنا التاسع من ولد الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، ولكن قدموا من أخره الله، وأخروا من قدمه الله، حتى إذا الحدوا المبعوث وأودعوه الجدث المجدوث إختاروا بشهوتهم وعملوا بآرائهم، تباً لهم أولم يسمعوا الله يقول {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا

ص: 24


1- نهج البلاغة، الخطبة 192.
2- نهج البلاغة، الحكمة 289.

يُشْ-رِكُونَ}(القصص:68) بل سمعوا ولكنهم كما قال الله سبحانه {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}(الحج:46) هيهات بسطوا في الدنيا آمالهم، ونسوا آجالهم فتعساً لهم وأضل أعمالهم، أعوذ بك ياربّ من الحور بعد الكور)(1).

البركة في التوحّد خلف القيادة الصالحة:

فالصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (س) تدلّ الأمّة على ان وراثتهم الارض وتمكينهم فيها حتى تكون يدهم العليا وغيرها من البركات تتحقق بوحدتهم خلف قيادتهم الحقة وطاعتهم لها والتجرد عن الأهواء والتعصبات والانفعالات والتحزّبات والانانيات، وبذلك يحبطون خطط المستكبرين في استضعاف الناس من خلال تمزيق وحدتهم وجعلهم جماعات وأحزاباً ويضرب بعضهم بعضاً، قال تعالى {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} (القصص:4) اي فرقاً مختلفة فيفقدون قوتهم في صراعاتهم الداخلية ويسهل استضعافهم لانهم لم يقيموا الدين في حياتهم وتخاذلوا على تطبيقه وتركوا فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} (الروم:32) {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} (الأنعام:65) .

حركة الأمة نحو وراثة الأرض:

وتبين السيدة الزهراء(س)، ان حركة الامة نحو وراثة الارض والتمكين

ص: 25


1- موسوعة المصطفى والعترة للشاكري: 4/ 363 عن عوالم المعارف: 11/ 228، الجدث: القبر، والمجدوث: المحفور، والحور بعد الكور أي النقصان بعد الزيادة.

فيها لا بد ان يقف على راسها القائد الجامع للشروط قالت (س) في خطبتها على نساء المهاجرين والأنصار وهي تذكر بركات اتباعهم أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ولأوردهم منهلاً -وهو محل ورود الماء- نميراً –الماء العذب السائغ النامي للجسد- صافياً روياً -كثير- فضفاضاً -واسعاً- تطفح ضفتاه، ولا يترنّق –لا يتكدر- جانباه، ولأصدرهم بطاناً –أي أرجعهم مرتوين مملوئين- ونصح لهم سراً وإعلاناً {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَ-كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (الأعراف96) {وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ} (الزمر:51))(1).

للتمكين في الأرض درجات:

ولا بد ان نعلم ان التمكين في الارض ووراثتها له درجات متفاوتة لا يقتصر على تسلم السلطة والحكم فهذه وسيلة لا غاية وان التمكين الحقيقي هو ظهور وانتشار مشروعهم الالهي واقتناع الناس به فهذا هو المهم لان غرض الرسالات السماوية اصلاح الناس وهدايتهم وارشادهم الى السعادة والفلاح قال تعالى {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْ-رِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(النور:55).

ص: 26


1- المصدر السابق:4/ 324.

في تفسير العياشي عن أبي الصباح الكناني قال:(نظر أبو جعفر الى أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال:هذا والله من الذين قال الله {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} فالامام الصادق(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كان من اهل هذه الاية ولم يكن جزءا من السلطة لكنه(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) استطاع بحكمته وتسديد الله تعالى له بسط مشروعه المبارك.

التركيز نحو السنن الإلهية بشروطها:

هذا ولكن علينا أن نأخذ قضية تمكين المستضعفين من أهل الحق كسائر القضايا بحدودها وشروطها ونضعها في موضعها الصحيح من منظومة المعارف والقوانين الإسلامية والسنن الإلهية لأنها من مقتضيات العدل والرحمة الآلهية، أما مجرد تعرضهم للإستضعاف وألوان العذاب لا يجعل صاحبها موعوداً بالنصر والتمكين.

فقد وصُفِت مجاميع اخرى بالاستضعاف لكنها أُنذرت وحُذِّرت لتقصيرهم وتكاسلهم وظلمهم أنفسهم ولانهم رضوا بحياة الخنوع والذل والاستضعاف والاستكانة، وربما داهنوا اهل الباطل ومضوا معه، قال تعالى {إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَ-ئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً} (النساء:97).

وَوُبِّخَ مستضعفون آخرون لأنهم كانوا قاصرين ولم يبحثوا عن طريق المعرفة بالله تعالى والفقه في الدين والقيادة الحقة، قال تعالى {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ

ص: 27

مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَ-ئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً}(النساء:98-99).

خصائص المستضعفين:

أما الذين وُعدوا بالنصر والتمكين ووراثة الأرض فلهم خصائص وخصال توفرت فيهم لأن الظلم والعذاب والأضطهاد الذي تعرضوا له لم يدفعهم الى التنازل عن مبادئهم وأخلاقهم والتزامهم بالحق، بل حافظوا على وجودهم وعقيدتهم واخلاقهم والالتزام باتباع قيادتهم وما زادهم الاستضعاف الا هدى وصلاحاً ونضجاً.

وقد وردت أوصاف الذين يُمَكّنون في الأرض في عدة آيات منها قوله تعالى {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (الحج:41)، بعد قوله تعالى في وعدهم بالنصر {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (الحج:39).

فتمكينهم في الأرض تكون له بركات وآثار تكشف عن صدق نياتهم وإخلاصهم في أهدافهم وثباتهم على الاستقامة التي أمرهم الله تعالى بها وعدم انخداعهم بالدنيا البرّاقة التي تتزيّن لهم إذا مُكّن لهم في الأرض وهذه الخصائص هي:

1-{أَقَامُوا الصَّلاةَ} فهم لا يكتفون بأداء الصلوات المفروضة عليهم كتكليف شخصي، وإنما يبذلون جهدهم لحث الناس جميعاً على الالتزام بها

ص: 28

والمواظبة عليها وجعل الصلاة وجوداً اجتماعياً مؤثراً في حياة الناس ورادعاً لهم عن الفحشاء والمنكر ويشعر الجميع بمسؤوليتهم عن إقامته والمحافظة عليه، وأوضح مصداق لهذا الوجود صلاة الجمعة التي لا تؤدّى إلا جماعة وبحضور امة كبيرة من الناس مما يجعل لها كياناً مؤثراً في حياتهم، وهذا ما جرّبه المجتمع العراقي عندما أقيمت فيه صلاة الجمعة المباركة.2-{وَآتَوُا الزَّكَاةَ} بأن أخرجوا ما في ذممهم من حقوق شرعية وأقنعوا الآخرين بفعل ذلك وحثّوهم عليه وساعدوهم في إيصال هذه الأموال إلى مستحقّيها وانشئوا بها المشاريع الاقتصادية التي تؤدي إلى رفاه الناس وتوفير فرص العمل المناسبة والحياة الكريمة لهم.

3-{وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ} فلم يتركوا أهل المنكر يفعلون ما يشاؤون بل وعظوهم وزجروهم واتخذوا الإجراءات الكفيلة بردعهم حتّى لو اقتضى الأمر معاقبتهم، ولم يجاملوا أو يداهنوا كما يفعل الكثير من المتصدين اليوم تحت عناوين مخادعة كالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني وفصل الدين عن الدولة والحداثة والعصرنة والتقدم ونحوها من الخدع والأباطيل.

وأمروا بالمعروف وهو كل أمر مستحسن شرعاً وعقلاً وأقرّهُ العرف، ونشروه بين الناس وعرّفوهم به وأيقظوهم من غفلتهم وأرشدوهم إلى ما يصلح دنياهم وآخرتهم وعلموهم أحكام الدين وفضائل أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ومناقبهم وسيرتهم العطرة، واقنعوهم باتباع القيادة الحقّة.

هؤلاء هم من ينصرهم الله تعالى ويعزّهم ويؤيدهم ويمكن لهم في الأرض.

ص: 29

كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ:

إن كثيراً ممن مكنهم الله تعالى ليبتليهم وينظر في سيرتهم تنكّ-روا لتلك الشروط والصفات المطلوبة فانحرفوا وأفسدوا، فأوعدهم الله بعذابه {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} (محمد:22-23).

كالذي نشهده اليوم من تخلّي الكثيرين ممن وصل إلى السلطة عن أهدافهم وشعاراتهم والخصائص التي أشرنا إليها، حتّى آل الأمر إلى هذا الواقع التعيس الذي يعاني منه الكثيرون، وهذا كفر عظيم بالنعمة.

لكن بوادر النهضة والانبعاث تفجرّت من جديد هذه الايام وكانت الهجمة الوحشية لخوارج العصر ومن يقف وراءهم الضارة النافعة التي وحّدت الامة وابرزت مكامن قوتها فتحققت الانتصارات التي اذهلت القريب والبعيد.

ونأمل ان تكون هذه النهضة خطوة حقيقية على طريق اقامة دولة الحق والعدل:{وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}(الإسراء:81).

ص: 30

القبس /116: سورة العنكبوت:2

اشارة

{أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}

موضوع القبس: الفتن تصقل شخصية المؤمن وتفجّر طاقاته

تكشف الآية عن احدى السنن الإلهية الجارية في عباده، وهي سنة الابتلاء بالفتن لتمييز الصادق الثابت على الحق من المنافق والكاذب والضعيف الذي يعدل عن الحق الى الباطل بمجرد مروره بصعوبات ومضايقات تكلّفه التضحية بشيء من ماله أو جهده أو منزلته الاجتماعية.

وكأن غرض سورة العنكبوت بيان تفاصيل هذه السنة الإلهية وضغوط الفتن التي يتعرض لها المؤمنون، وتستعرض باختصار نماذج من جهود ومعاناة الأنبياء الكرام، نوح وإبراهيم ولوط وشعيب (صلوات الله عليهم أجمعين) في مواجهة الصعوبات والفتن من أقوامهم عاد وثمود وقارون وفرعون وهامان، ثم يبيّن هوان هؤلاء الطواغيت الذين فتنوا الناس عن دين التوحيد وأنهم أخذوا بذنوبهم بألوان متعددة من العذاب {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} (العنكبوت:40) ويصف جبروتهم بأنه أوهن من بيت العنكبوت، وبعد أن يذكر بعض اشكال الفتن واسبابها فإنه وفي نهاية السورة يطمئن المؤمنين بأن ما يصيبهم في مواجهة الفتن سبب لتكاملهم ورفعة درجاتهم فليصبروا وليثبتوا {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت:69).

ص: 31

و {حَسِبَ} بمعنى (ظنّ) فالآية تستنكر بصيغة الاستفهام ظَنَّ بعض الناس بأن مجرد التلفظ بالشهادتين يجعله في مصاف المؤمنين المستحقين للفوز برضوان الله تعالى، وهذا ظن خاطئ إذ لابد من اقتران الأقوال بالأفعال، والثبات على طريق الاستقامة فكراً وسلوكاً، وعدم الابتعاد عنه اتباعاً لشهوة أو انسياقاً وراء غضب أو طاعة لزعامة منحرفة.وقيل في معنى الآية ان بعض الناس يظنون أنهم بمجرد قولهم آمنّا لابد أن يحظوا بالامتيازات وترفع عنهم التكاليف وتكون لهم كرامة تعفيهم من المسؤولية قال تعالى {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (الحجرات:17) وهذا الظن موجود عند بعض الناس الذين يعتقدون بأن لهم شأنية خاصة تميزهم عن باقي الناس لابد من مراعاتها فاذا طبّقت عليهم قواعد العدالة الاجتماعية فتِنوا وزلّت أقدامهم وانحرفوا كالذي حصل لبعض العناوين الكبيرة من الصحابة عندما تولّى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الخلافة وأرجع الجميع الى ميزان العدالة الاجتماعية فقاتلوه على هذه الامتيازات، والمعنى الأول على أي حال هو الأكثر انسجاماً مع سياق الآيات.

وفي معنى الفتنة قال الراغب ((أصل الفتن: إدخال الذهب النار لتظهر جودته من ردائته، واستعمل في ادخال الانسان النار، قال تعالى {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} (الذاريات:13)))(1).72

ص: 32


1- الراغب الأصفهانى : 372

وقال بعض المحققين(1) ان الفَتْن يعني إحداث الانقلاب والاضطراب والاختلال، وهو معنى قريب، وقد عبَّر أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن هذا المعنى الدقيق للفتنة بقوله (وَ اَلَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً وَ لَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً وَ لَتُسَاطُنَّ سَوْطَ اَلْقِدْرِ(2) حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلاَكُمْ وَ أَعْلاَكُمْ أَسْفَلَكُمْ وَ لَيَسْبِقَنَّ سَابِقُونَ كَانُوا قَصَّرُوا وَ لَيُقَصِّرَنَّ سَبَّاقُونَ كَانُوا سَبَقُوا)(3)، وهي تعابير صريحة في معنى الاختلال والاضطراب كالغليان، وحينئذٍ يكون اطلاق لفظ الفتن على الادخال في النار - كما عن الأكثر - باعتباره أحد موجبات حصول هذه الحالة، كما يطلق أحياناً على النتائج والمآلات كقوله تعالى {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} (الذاريات:14) أي عذابكم باعتباره نتيجة فتنة الضلال، وكقوله تعالى {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} (التوبة:49) أي العذاب باعتبار الفتنة السبب الموجب له.وبهذه المناسبات واللحاظات يستعمل لفظ الفتنة في الامتحان والابتلاء والاختبار رغم انها ليست متطابقة في معانيها الدقية وإنما أطلقت باعتبارها أسباباً أو مظاهراً للفتنة أو نتائج لها فالفتنة ابتلاء وامتحان، والابتلاء والامتحان سبب للفتنة وهكذا، فلذا يطلق بعضها على بعض.

وللفتنة مصاديق يتحقق بها معناها كالأموال والأولاد {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} (الأنفال:28) {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} (التغابن:15) والزوجة قد تكون فتنة {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا16

ص: 33


1- التحقيق في كلمات القرآن للمصطفوي: 9/ 23
2- أي تكونون كالأشياء المتعددة التي توضع في القدر ثم تُضرب باليد لتختلط
3- نهج البلاغة: الخطبة 16

لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} (التغابن:14) في وصف النبي الكريم عيسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ولم تكن عنده زوجة تفتنه)(1) كما ان للفتنة اسباباً ومناشئ نفسية واجتماعية مثل الكفر والجهل والحماقة والتطرّف والشهوات والتعصب والغضب والعجلة والاختلاف والفرقة والتحزب، فإنها كلِّها فتن تسبب اضطراباً واختلالاً في جريان الأمور وتحولاً نحو الخير أو الشر {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الأنبياء:35)، فلابد أن يتثبت الإنسان من موقفه وموطئ قدمه، وإلا زلّ وهوى.وتفيد الآية بأن الناس غيرُ متروكين لأنه لابد من تعرضهم للفتن، ومرورهم باختبارات وابتلاءات لتظهر معادنهم ولتميز حقائقهم {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (الأنفال:37) فان ادعاء العناوين الكبيرة كالمؤمن والمجاهد والمتقي والمصلح أمر سهل الا ان الإثبات والثبات أمر صعب لقوة التحديات التي تواجهه، وهو يحمل رسالة التوحيد وخلافة الله تعالى في الأرض، ويتحمل مسؤولية إصلاح الواقع الفاسد وهداية الناس الى الحق ونبذ ما سوى الله تعالى من الآلهة التي تطاع من دون الله ابتداءاً من النفس الأمّارة بالسوء إلى الأمور الأخرى التي يتعلق بها الناس ويطيعونها ونحو ذلك من لوازم تحمل الأمانة الإلهية، فهي سباحة ضد التيار الجارف كما يقولون خصوصاً مع عناد ومقاومة الملأ وهم أهل النفوذ والمصالح المتحكمون في المجتمع، فيحتاج الى صبر وجهد وشجاعة حتى يصل الى بر الأمان.38

ص: 34


1- بحار النوار: ج 14/ ص 238

وهو ما يفشل فيه الكثير من الناس فأنهم يسقطون في أدنى امتحان قال تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}(الحج:11) وقال تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} (العنكبوت:10).لذا كان من الحكمة الإلهية مرور الإنسان بهذه الفتن لتصقل شخصيته المعنوية ويتكامل إيمانه ويثبت ويستقر فان الطاقات تتفجّر عند الشدائد وتنضج القابليات وتصقل المواهب ويدرك المؤمن عظمة الرسالة التي تحملها فلا يفرّط فيها مهما كان الثمن لأنه دفع ثمناً غالياً في سبيلها فالتعرض للفتن يراد به مصلحته، روي عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (ليس شيء فيه قبض أو بسط مما أمر الله به أو نهى عنه إلا وفيه من الله عزوجل ابتلاء وقضاء)(1)، روى في الكافي بسنده عن معمر بن خلاد قال: (سمعت أبا الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول {الم ، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} ثم قال لي: ما الفتنة؟ قلت: جعلت فداك الفتنة في الدين، فقال: يفتنون كما يفتن الذهب، ثم قال يخلصون كما يخلص الذهب)(2)، وروى الكليني عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله في خطبة له: (ولكن الله عزوجل يختبر عبيده بأنواع الشدائد، ويتعبدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره،48

ص: 35


1- التوحيد: 354 ح 3
2- أصول الكافي: 1/ 370 ، نور الثقلين: 4/ 148

إخراجاً للتكبر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلل في نفوسهم، وليجعل ذلك أبواباً فتحاً إلى فضله، وأسباباً ذللاً إلى عفوه وفتنته)(1) ثم قرأ الآية.وقد تكون الفتنة شديدة والامتحان صعباً فاذا وجد الشخص نفسه ضعيفاً عاجزاً عن مواجهة الفتنة وتحمّل تكاليفها، ولم يستطيع المحافظة على إيمانه والتزامه بالدين في هذه البقعة لشدة البلاء فيها فليهاجر الى غيرها حيث يستطيع أن يحافظ على دينه ولو متستراً قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} (النساء:97)، ولا يجوز له أن يضعف أو يستسلم ويترك دينه ويتنازل عن عقيدته الحقّة فان الدين أهم شيء في حياة الانسان قال تعالى {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}(2) (البقرة:191) وقال تعالى {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} (البقرة:217)، روى في الدر المنثور في قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} (العنكبوت:10) قال ((ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون فاذا أوذوا وأصابهم بلاء من المشركين رجعوا الى الكفر والشرك مخافة من يؤذيهم وجعلوا أذى الناس في الدنيا كعذاب الله))(3).53

ص: 36


1- الكافي: 4/ 200، ح2، تفسير البرهان: 7/ 232 ح 1
2- راجع القبس الذي يفسّر الآية في الجزء الأول.
3- الدر المنثور: ج6 / ص 453

وتؤكد الآية التالية بأن هذه السنة الإلهية غير مختصة بهذه الأمة بل هي شاملة لجميع البشر المكلفين المشمولين بقانون الثواب والعقاب {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} وما دامت الأمم الأخرى كلها قد تعرضت للفتن ابتلاءاً واختباراً فما الذي يعفي هذه الأمة منها؟، وقد تعرَّض المؤمنون في تلك الأمم لأشكال من فتن الشهوات والمغريات والترف والرخاء {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} (الروم:9)، كما تعرضوا لألوان قاسية من العذاب، قال في جوامع الجامع: في الحديث قد كان من قبلكم يؤخذ فيوضع المنشار على رأسه فيفرق فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه)(1) ومنه ما يحكيه القرآن الكريم في سورة البروج عن المؤمنين الذين حفرت لهم خنادق واشعلت فيها النيران وألقوا فيها أو يتخلوا عن عقيدة التوحيد قال تعالى {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ، وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (البروج:4-8).وتشتد الفتنة حينما يطول البلاء بالمؤمنين وتكثر الصعوبات عليهم ولا يرون في الأفق فرجاً قريباً حتى تذهب ببعضهم الظنون الى عدم صدق وعد الله تعالى بالنصر والفرج قال تعالى : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ14

ص: 37


1- من نور الثقلين: 4/ 472 ح 14

وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيب} (البقرة:214)، وقال تعالى {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (يوسف:110).وفي التذكير بذلك تثبيت لقلوب المؤمنين وتقوية لعزمهم، وتشجيع لهم بأنه مهما اشتدت معاناتهم أو الضغوط عليهم وأحاط بهم الفساد والضلال والانحلال لابد أن يثبتوا على الايمان ولا يتأثروا بالبيئة الملوثة التي تحيط بهم، وسيأتيهم الفرج بحسب ما تقتضيه الحكمة الإلهية لا بما نشتهيه نحن.

وبنفس الوقت عليهم أن لا ينبهروا بما يتنعم به الكفار والمنحرفون والعاصون من سلطة ومال وشعبية واسعة وهالة إعلامية وأمجاد مصطنعة، ويرون أنفسهم لا يعبأ بهم أحد فيعترضوا على ما هم فيه ويتمنوا أن يكونوا مثل أولئك المترفين ويغفلون عن حقيقة ان في هذا ابتلاءاً وفتنةً لهم {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (طه:131) وعلى المؤمنين ان لا يستعجلوا زوال الفتنة وفناء صاحبها، روى في علل الشرائع بسنده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إياكم وجدال كل مفتون فإن كل مفتون ملقن حجته إلى انقضاء مدته فاذا انقضت مدته أحرقته فتنته بالنار)(1).

وقد تكون فتنة الشخص بأن تتواتر عليه النعم ويعيش في رخاء فتتحرك شهواته وتميل نفسه الى الدعة والراحة والاستكانة والتخلي عن التزاماته الدينية كمنته

ص: 38


1- علل الشرائع: 599 باب 385 ح 51 قال في بحار الأنوار: 2/ 131 أي يلقنه الشيطان حجته

يترك أداء حقوقه الشرعية اذا توسعت أمواله ويترك الصلاة لأنها تتعارض مع ذروة حركة السوق وهكذا يتخلى عنها واحدة واحدة، وقد تزيد عليه هذه النعم رغم عصيانه وانحرافه فيظن انه على خير وانه مستحق للنعم {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِين} (آل عمران:178) لذا ورد التحذير من فتنة الرخاء أكثر من الضراء ففي الحديث النبوي الشريف (لأنا لفتنة السّراء أخوف عليكم من فتنة الضراء، إنكم ابتليتم بفتنة الضراء فصبرتم، وإن الدنيا حلوة خضرة)(1).وقد تبيَّن ان أنواع الفتن عديدة فبعضها ما ذكرناه من تعرض المؤمن للأذى والقسوة والأساليب الوحشية ولا يجد ما يساعده على انقاذ نفسه، وهي ليست الأشد رغم عنفها، بل أشد منها ما تقدم من فتنة الرخاء ورؤية العاصين لله تعالى متنعمين.

والفتن قد تكون شخصية تتعلق بالنفس والمال والولد كالذي رواه في المجمع (ان معنى يفتنون يبتلون في أنفسهم وأموالهم) وهو المروي عن أبي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

وقد تكون عامة وهي التي تشمل قاعدة واسعة من الناس كما لو كانت عقائدية أو اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو فكرية يوقع بعض الناس بعضهم فيها، قال تعالى {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} (الفرقان:20).74

ص: 39


1- ميزان الحكمة: 7/ 26 عن الترغيب والترهيب: 4/ 184 ح 74

فعلى الإنسان المؤمن - في أي موقع كان - أن يراقب أقواله وأفعاله وسلوكه ويكون حذراً متيقظاً حتى يكون سبباً لإصلاح الآخرين وهدايتهم واستقامتهم وليس العكس كمن يكون ظاهره التدين والصلاح فيقوم بأفعال منكرة يأباها الشرع المقدس كسرقة المال العام فيُخدع به غيره ويظنون أن ما يفعله صحيح وجائز، فكان الصالحون يسألون الله تعالى أن لا يكونوا سبباً لفتنة الآخرين، قال تعالى حكاية عنهم {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الممتحنة:5).وكان الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) دقيقين في بيان كل ما يكون سبباً للفتنة ويحذرّون منه وينبّهون عليه، روي أن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كان يمشي راكباً وكان أحد أصحابه يمشي معه راجلاً فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ارجع فان مشي مثلك مع مثلي فتنة للوالي ومذلة للمؤمن)(1) ويصل التحذير الى مستوى مدحك لشخص بكلمات تجعله يفقد الاتزان والحكمة وينخدع بها فتكون انت القائل سبب افتتانه قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ربَّ مفتون بحسن القول فيه)(2).

وقد وصف الله تعالى أي شخص يقف عائقاً في طريق إقامة دين الله تعالى وتطبيق أحكامه وتشريعاته، أو يعطّل سننه، فضلاً عمن يكون داعياً الى الضلال والانحراف ومروجاً له بأنه فتنة، قال تعالى في اتخاذ أولياء غير المؤمنين {وَالَّذِينَ62

ص: 40


1- نهج البلاغة ، الحكمة 322
2- نهج البلاغة ، الحكمة 462

كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} (الأنفال:73).أو كالذين يضعون شروطاً للتزويج ليست شرعية ولا عقلائية كعدم تزويج العلوية من غير العلويين وإن كانوا أكفاء ونحو ذلك من الشروط والموانع، ففي الحديث الشريف عن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (اذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوّه، قلت: يا رسول الله، وإن كان دنَّياً في نسبه؟ قال: اذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوّه، إلّا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)(1) والتجربة والواقع يشهدان بذلك.

وتوعّد بالعقاب الشديد من يكون سبباً لفتنة الآخرين قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} (البروج:10) وقال تعالى محذراً {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور:63).

وإن صانعي الفتن ومثيريها فئات عديدة تبدأ من داخل الأسرة كالضغط الذي يتعرض له من أرحامه وذويه - خصوصاً الوالدين - باسم الشفقة والحب والالحاح عليه بأن لا يكون سبباً لإيذائهم فيدعونه الى التخلي عن إيمانه ولوازمه في القول والعمل، وقد عاش الشباب المؤمن هذه الحالة بقوة ابان الثمانينات من القرن الماضي حيث بلغ بطش النظام الصدامي البائد ذروته، وتحكي الآية الثامنة من السورة أن الفتنة قد يكون مصدرها الوالدين من خلال التأثير السيئ المؤدي 6

ص: 41


1- وسائل الشيعة : 20 / 78 ح 6

الى الرجوع عن الايمان {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} (العنكبوت:8). وقد يكون الوالدان سبباً للفتنة بسوء تربيتهما، مثلاً يطرق شخص باب الدار فيقول الأب لولده قل له ان والدي غير موجود فيتعلم ابنه الكذب وهكذا.وتتحدث الآية الثانية عشرة عن مكر أهل الضلال والانحراف وخداعهم حتى يفتنوا المؤمنين ويعيدوهم الى صفوفهم {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (العنكبوت:12)، وهذا الأسلوب يتبعه البعض حتى اليوم فيقول أحدهم للآخر أفطر شهر رمضان وذنبك برقبتي أو يقول له خذ المال - وهو محرم - أو تقول المرأة لزميلتها ألقي الحجاب وبرقبتي وهكذا.

ويستمر أصحاب الفتن والضلالات والفساد والانحراف في الضغط على المؤمنين بوسائل الاغراء أو التهديد حتى يكسبوهم الى صفوفهم ويحرفوهم عن طريق الاستقامة، قال تعالى {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} (الإسراء:73).

وأخطر الفتن ما تأتي بسبب اتباع الزعامات الباطلة المنحرفة، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الا فالحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم... فأنهم قواعد أساس العصبية ودعائم اركان الفتنة)(1).92

ص: 42


1- نهج البلاغة: الخطبة /192

ويحلّل أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أسباب الوقوع في الفتن والفشل في اجتيازها، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وَ إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ مِنْ أَهْوَاءٍ تُتَّبَعُ وَ أَحْكَامٍ تُبْتَدَعُ يُخَالَفُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ يَتَوَلَّى فِيهَا رِجَالٌ رِجَالًا أَلَا إِنَّ الْحَقَّ لَوْ خَلَصَ لَمْ يَكُنِ اخْتِلَافٌ وَ لَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ لَمْ يَخْفَ عَلَى ذِي حِجًى لَكِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَيُجَلَّلَانِ مَعاً فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَ نَجَا الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنَى)(1).وهذا ما حصل في الفتنة العظمى بعد وفاة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حيث كان الانقلاب الذي أخبر به القرآن الكريم باباً لكل الشرور والآثام، روي عن الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن أبيه أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انه قال (لما نزلت {الم ، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} قال: قلت: يا رسول الله ما هذه الفتنة؟ قال: يا علي انك مبتلى بك، وانك مخاصم فأعِدَّ للخصومة)(2).

ولابد ان نلتفت الى ان الفتن تزداد والبلاء يشتد كلما اتسعت مسؤولية الفرد والمجتمع وارتقى في تكامله، ففي الحديث النبوي الشريف (أشد الناس بلاءاً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء)(3) لكي يتناسب العمل مع الجزاء ولكي يتحقق42

ص: 43


1- الكافي: 8/ 58 ح 21
2- تفسير البرهان: 7/ 232 ح 4
3- الترمذي 3289 وصححه الألباني 1/ 142

الاستعداد لتحمّل المسؤوليات الكبيرة، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (كلما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل)(1).لذا فعلينا توقّع المزيد منها كلما اقتربنا من عصر الظهور المبارك روي عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (لا يكون ما تمدوّن إليه اعناقكم حتى تميزوا وتمحصّوا ولا يبقى منكم الا القليل)(2) ثم قرا الآية الكريمة.

وهذا ما ينبّه اليه الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في أدعية زمان الغيبة ومنها دعاء الافتتاح حيث يعلمنا الاستغاثة بالله تعالى من فتن هذا الزمن، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اللّهُمَّ إِنَّا نَشْكُو إِلَيْكَ فَقْدَ نَبِيِّنا صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَغَيْبَةَ وَلِيِّنا، وَكَثْرَةَ عَدُوِّنا، وَقِلَّةَ عَدَدِنا، وَشِدَّةَ الْفِتَنِ بِنا، وَتَظاهُرَ الزَّمانِ عَلَيْنا)(3).

وسيكون العراقيون أشد الناس ابتلاءً وامتحاناً بألوان الفتن الشديدة الشخصية والعامة، لأن الامام الموعود (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سيقيم دولته في ربوعهم ويتخذ من بلدهم عاصمة لهم ينطلق منها لإقامة دولته العالمية المباركة(4).

لذا علينا ان نتمسك بالمنجيات من الفتن وهم العلماء العاملون المخلصون فأنهم ورثة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) حقاً، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (أيها الناس: شقّوا أمواج الفتن بسُفن النجاة)(5)، مع الالتزام بالتقوى والتفقه في الدين قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (ستكون فتن يصبح الرجل فيه مؤمناً ويمسي كافراً، الا من أحياه الله تعالى 5

ص: 44


1- نور الثقلين: 4/ 470 ح 13
2- نور الثقلين: 4/ 470 ح 12
3- مفاتيح الجنان: أدعية ليالي شهر رمضان
4- راجع بيان أسباب ما يمر به العراقيون من بلاء شديد في موسوعة خطاب المرحلة: 5/ 6-17.
5- نهج البلاغة: الخطبة / 5

بالعلم)(1) وقال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اعلموا انه من يتقِ الله يجعل له مخرجاً من الفتن، ونوراً من الظلم)(2).نسأل الله تعالى ان يثبّتنا على الهدى والاستقامة ويجنّبنا مضلّات الفتن وان يختار لنا الخير في أمورنا كلها إنه ولي النعم.83

ص: 45


1- كنز العمال: ح 30883
2- نهج البلاغة: الخطبة/183

ملحق: شُ-ق-ّوا أمواج الفتن بسفن النجاة

ملحق: شُ-ق-ّوا أمواج الفتن بسفن النجاة(1)

قال الله تبارك وتعالى في بداية سورة العنكبوت {أحَسِبَ الناسُ أنْ يُترَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنّا الذِينَ مِنْ قَبلِهِمْ فلَ-يعلَم-َنَّ اللهُ الذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} (العنكبوت: 2-3). فسُنة الامتحان والابتلاء والاختبار جارية في عباد الله لتظهر استحقاقاتهم وهو مقتضى العدالة وبدونها لا يمكن تكريم محسنٍ ولا معاقبة مسيء ويكون من الظلم تقديم أحد على أحد كتقييم الطلبة في المدارس والجامعات.

وتتفاوت الامتحانات شدةً وضعفاً بحسب استعداد الشخص وقابليته ليستحق النتائج بجدارة، وقد مرّت الأمم السابقة ببلاءات عسيرة كانت فيها قلوب الصفوة من المؤمنين تتزلزل فضلاً عن عامة الناس، قال تعالى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (البقرة:214) وليس من الضروري أن يكون هذا النصر القريب هو بانفتاح الدنيا عليه وتنعّمه بالخيرات وتسلّمه لمواقع السلطة؛ لأن النصر الحقيقي والأكبر هو على النفس الأمارة بالسوء والتحرر من الانصياع لأهوائها ومطامعها والنصر على غواية الشيطان وعدم الاستجابة لإغراءاته، فهذا هو الميدان الأول

ص: 46


1- هذه خلاصات لبعض الأفكار التي وردت في أحاديث سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) مع تجمعات الوفود التي زارته من عدة مدن عراقية من بينها الديوانية وناحية الإمام في الحلة وناحية الفجر في الناصرية وناحية العزيزية في الكوت يومي 29-30 ج1 1426 المصادف 6-7/ 7/ 2005.

للنصر والهزيمة وعليه يتفرع النصر والهزيمة في الميدان الخارجي، وما هذه المظالم التي تحصل بين البشر إلا نتيجة الهزيمة في ذلك الصراع، كما أن البشرية لا تنعم بالسلام والخير والسعادة إلا إذا انتصرت على أهوائها ونزعاتها وملكت زمامها وضبطتها بميزان العدل والحكمة.إذن فهذه البلاءات والفتن التي تمر بها امتنا اليوم ليست حالة فريدة ولا شاذة، بل هو امتداد طبيعي لتلك السنة الإلهية العادلة، ولم يغفل التخطيط الإلهي للبشرية هذه الحالة بل وضع لهم معالم طريق النجاة من الفتن بالتمسك بحبل الله الممدود لإنقاذ البشر من التخبط والانحراف والضلال والضياع والتمزق.

ويتمثل حبل الإنقاذ هذا بكتاب الله وعترة نبيّه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الذين ينقلون بأمانة وتفصيل سنة جدّهم الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حيث قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) "إني تاركٌ فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً.

ونبّه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أمته في بعض خطبه بأن الفتن جاءتكم كقطع الليل المظلم وحذرهم من الوقوع فيها كما قال الله تعالى من قبل {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أو قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران:144)، وأرشد الأمة إلى أن نجاتها تكون باتباع قادتها الحقيقيين فهم سفن النجاة (شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة)، فهي ليست فتنة واحدة وإنما فتن كثيرة وهي كالأمواج متلاحقة لا تنتهي واحدة حتى تلحقها أخرى ولا تتخلص من واحدة حتى تأتي أكبر منها كما هي طبيعة الأمواج.

وقد أدى الأئمة دورهم في هداية الأمة وصيانة عقيدتها وأخلاقها من

ص: 47

الانحراف، ودافعوا عن دولة الإسلام وضحوا في سبيل الله والمستضعفين من الناس وأرشدوهم إلى ما يصلح حالهم.وبعد انتهاء عصر القيادة الظاهرة للأئمة جاء دور العلماء المجتهدين الجامعين لصفات وخصائص هذا الموقع الشريف، ليكونوا سفن النجاة بأمر من الأئمة حيث وصفوا العلماء بأنهم (أمناء الرسل وحصون الإسلام) فهم الأمناء على مسؤوليات الرسل، والأولى باستحقاقاتهم وجعلوا قولهم حجة على الناس جميعاً (هؤلاء حجتي عليكم وأنا حجة الله والرادّ عليهم كالراد علينا)(1).

وقد ورد تسمية مثل هؤلاء الفقهاء الأمناء سفن نجاة في الرواية التالية، فقد كان زرارة بن أعين من أعظم الفقهاء الذين رباهم الإمامان الباقر والصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأوسع الأوعية لحمل علمهما، ومع ذلك فقد صدرت من الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كلمات ذم في حق زرارة لم يفهم فلسفتها الكثيرون، وقد شرح الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ذلك بما روي عن عبد الله بن زرارة قال: قال لي أبو عبد الله الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): اقرأ مني على والدك السلام وقل له: إني إنما أعيبك دفاعاً مني عنك فإن الناس والعدو يسارعون إلى كل من قربناه وحمدنا مكانه لإدخال الأذى في من نحبُّ-ُه ونقرّب-ُه ويرمونه لمحبتنا له وقربه ودنوه منا، ويرون إدخال الأذى عليه وقتله، ويحمدون كلَّ من عبناه نحن فإنما أعيبك لأنك رجلٌ اشتهرت بنا وبميلك إلينا وأنت في ذلك مذموم عند الناس غير محمود الأثر بمودّتك لنا ولميلك إلينا، فأحببت أن أعيبك ليحمدوا أمرك في الدين بعيبك ونقصك ويكون بذلك منا دافع42

ص: 48


1- عوائدُ الأيّامِ : 442

شرهم عنك. يقول الله عز وجل {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} (الكهف:79) هذا التنزيل من عند الله صالحة لا والله ما عابها إلا لكي تسلم من الملك، ولا تعطب على يديه ولقد كانت صالحة ليس للعيب فيها مساغ والحمد لله، فافهم المثل يرحمك الله، فإنك والله أحبُّ الناس إليَّ وأحب أصحاب أبي حياً وميتاً. فإنك أفضل سفن ذلك البحر القمقام الزاخر، وإن من ورائك ملكاً ظلوماً غصوباً يرقب عبور كل سفينةٍ صالحة ترد من بحر الهدى ليأخذها غصباً ثم يغصبها وأهلها ورحمة الله عليك حياً ورحمته ورضوانه عليك ميتاً)(1).فإذا تاهت الأمة واضطربت وتخبطت وتمزقت فبسبب تخلّفها عن تعاليم قيادتها الرشيدة، وإلا فإن التخطيط الإلهي لم يغفل معالم طريق النجاة وقد تحصّل أن على الأمة مرحلتين من التكاليف أمام قيادتها:

الأولى: الفحص عن القائد الذي تجتمع فيه الصفات والخصائص التي اشترطها المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من الاجتهاد، والعدالة، والترفّع عن الدنيا والأنانية والاستئثار، وأن يستشعر حب الناس جميعاً والشفقة عليهم، وأن يكون واعياً ومحيطاً بقضايا الأمة وبصيراً بما يكتنفها، وقادراً على تشخيص العلل ووضع الحلول والعلاجات المناسبة لها، وقد أشرنا إلى ذلك في كلمات سابقة أكثر تفصيلاً، فإذا وجدت الأمة مثل هذا الشخص عليها أن تبقى مراقبة له لئلا يزلَّ وينحرف والعياذ بالله.

الثانية: وهي الطاعة والتسليم والنصيحة وبذل النصرة وعدم التقصير.

وهذا هو ما نقصده بالتقليد الواعي أي عدم الارتباط بالأشخاص7.

ص: 49


1- معجم رجال الحديث: 7/ 227.

وتقديسهم وإنما الذوبان في المبدأ ونرتبط بالشخص بمقدار تجسيده لتلك المبادئ مهما كان أصله وانتماؤه، ولا نقصد بالتقليد الواعي ما أسميه بالانتقائية أي الالتزام بما يعجبه من أوامر قيادته ومخالفة ما لا يعجبه، فهذا عين الانحراف والضياع وإذا كان عنده شيء يريد أن يقدّمه فإن أعظم هدية هي النصيحة، أما أن يجعل نفسه قيّماً على مواقف المرجعية فيحكم على بعضها بالصحة وعلى بعضها الآخر بالبطلان فهذا من خطل التفكير؛ لأن أي فرد لا يملك قدرة المرجع على استنباط الحكم من مصادر الشريعة وهي الكتاب والسنة، وتجتمع لدى المرجع خبرات عديدة ومستشارون متنوعون وعيون ترصد جميع مساحة العمل أما هذا الفرد وذاك فهو محدود من هذه الجهات.فالشذوذ عن خط المرجعية هو الخطأ الأكبر حتى لو تصورنا أن موقف المرجعية كان غير صائب لعدم ادّعاء العصمة، وعلى هذا ربّانا الأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، فلا يجوز لأي فرد من الأمة أن يحكّم مزاجه وأهواءه ويخضع لإسقاطاته النفسية.

فالمسؤوليات والحقوق والواجبات متبادلة بين القيادة والأمة، ويوجد تلازم بينها ولا تأخذ إلا بمقدار ما تعطي ونرفض أن تركّز القيادة على جانب الامتيازات فتتحدث عن وجوب الطاعة والانقياد وتترك جانب الواجبات والاستحقاقات والعطاء للأمة مما تقدم ذكره، فإن هذا عين التطفيف في المعايير الذي قال عنه تعالى {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} (المطففين: 1-3)، فإن هذه الحالة غير مختصة بميزان البيع والشراء بل تشمل كل التعاملات، فالأب الذي لا يقوم بواجباته تجاه

ص: 50

أسرته ويطالبهم باستحقاقات الأبوّة هو من المطففين، والمسؤول الذي يتنعم بامتيازات موقعه ولا يقدم الخدمات المطلوبة منه للمجتمع هو من المطففين، والدول التي تتعامل بمكيالين في علاقاتها مع الدول الأخرى هي من المطففين.

ص: 51

القبس /117: سورة العنكبوت:45

اشارة

(إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنهَىٰ عَنِ ٱلفَحشَاءِ وَٱلمُنكَرِ ۗ)

شكوى الشباب:

كثيراً ما ألتقي بوفود الشباب وطلبة الجامعات وأستمع إلى أسئلتهم وهمومهم ومشاكلهم، والسؤال الأكثر تردداً هو:كيف نستطيع مقاومة المغريات والشهوات وأساليب الإفساد وهم يعيشون في بيئة مليئة باسباب الفتنة والإغراء متزامنة مع فورة الشباب وعنفوان القوى وهيجان العواطف.

وفي الحقيقة فإنّ المشكلة لا تختص بالشباب، فإنّه مادام الإنسان في هذه الدنيا فهو مبتلى بالإغراءات والشهوات والفتن ويخوض (جهاداً أكبر) لمواجهتها كما سمّاه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في الحديث المشهور(1)، ويعزّز قوة هذه الضغوط الميل العارم للنفس الأمّارة بالسوء نحو الاستجابة لها، مع تزيين الشيطان لها (إلهي إليك أشكو نفساً بالسوء أمّارة وإلى الخطيئة مبادرة وبمعاصيك مولعة) (إلهي أشكو إليك عدواً يضلني وشيطاناً يغويني.. يعاضد لي الهوى ويزيّن لي حب الدنيا)(2).

الصلاة وسيلة للتحصين:

والإنسان في هذه المواجهة يحتاج إلى معونة ومناعة وتحصين كالتطعيم

ص: 52


1- معاني الأخبار:ص160
2- من مناجاة الشاكين للإمام السجاد(عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

الصحي ضد الأوبئة والأمراض الجسدية، وهذه المعونة يحتاجها الإنسان قبل التعرض للامتحان وأثناءه وبعده، فما هي الوسيلة لتحصيل هذه المعونة والتطعيم والتحصين؟ والجواب بكلمة واحدة إنّها (الصلاة)، ومن دلائل عظمة الصلاة إنها هي هذه الوسيلة التي توفر الحصانة والمناعة في جميع تلك المراحل المترتّبة في الفضل والسمو، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(عباد الله، إن أفضل ما توسل به المتوسلون إلى الله جل ذكره:الإيمان بالله وبرسله وما جاءت به من عند الله،... وإقامة الصلاة فإنها الملة)(1).

الحماية من المعاصي:

ولبيان ذلك نقول أما قبل الامتحان فيحتاج الإنسان إلى اللطف الإلهي والعناية الإلهية لتحميه من الابتلاء بالمعاصي أصلاً، أو حمايته منها عند عروضها عليه حيث يبصّره الله تعالى بحقائق تلك المعاصي المنفرّة الموجبة للاشمئزاز والتقزّز وليس الاقبال والرغبة، وهذا ما توفره الصلاة، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(الصلاة تستنزل الرحمة)(2) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ما دمت في الصلاة فإنك تقرع باب الملك الجبار ومن يُكثِر قرع باب الملك يُفتَح له)(3) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إذا قام الرجل إلى الصلاة أقبل إبليس ينظر إليه حسدا، لما يرى من رحمة الله التي

ص: 53


1- نهج البلاغة: الخطبة: 110.
2- الأحاديث المذكورة هنا نقلها عن مصادرها في جامع أحاديث الشيعة: 4/ 29 وما بعدها، وفي ميزان الحكمة: 5/ 107- 135.
3- المصدر السابق.

تغشاه)(1)، وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(لو يعلم المصلي ما يغشاه من جلال الله ما سره أن يرفع رأسه من سجوده)(2).ومن تغشته رحمة الله وأحاط به جلاله فهو في أمن وأمان وحصن وثيق من الوقوع في شراك إبليس، وعن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(إنّ الصلاة قربان المؤمن) وكلما اقترب الإنسان من ربّه ابتعد عن الشيطان وموجبات الوقوع في المعصية، وإذا وُفِّق الإنسان إلى هذه المرحلة فهي الأكمل والأسمى والأعظم عند الله تعالى حينما لا يجد في نفسه أي ميل للمعصية ولا رغبة له فيها، وبالتالي فهو لا يجد أي مشكلة في اجتنابها.

الثمرة الأبرز لإقامة الصلاة:

وفي المرحلة الثانية أي عند الابتلاء بما يوجب المعصية وحينما يكون بين خيارين أحدهما كبح جماحِ النفس والفوز بطاعة الله، وثانيهما الانسياق وراء الشهوة والوقوع في المعصية، وهنا يأتي دور الصلاة في زيادة مناعته وتحصينه من الوقوع في المعصية بل أن الثمرة الأبرز لإقامة الصلاة هي هذه، قال تعالى {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} (العنكبوت:45)، وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(اعلم أن الصلاة حُجزةُ الله في الأرض، فمن أحبّ أن يعلمَ ما أدركَ من نفعِ صلاته، فلينظر:فإن كانت حَجَزَتهُ عن الفواحش والمنكر فإنما أدرك من نفعها بقدرِ ما احتجزَ).

ص: 54


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.

وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الصلاة حصن من سطوات الشيطان)، وروي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (لا يزال الشيطان ذعراً من المؤمن هائباً له ما حافظ على الصلوات الخمس، فإذا ضيّعهن اجترأ عليه)، وهذه المرحلة وإن كانت أقل درجة من سابقتها لأن الإنسان يجتنب المعصية بمعاناة ومشقّة وجهاد، إلاّ انها مرحلة عظيمة أيضاً.

الصلاة حبل النجاة:

أما في المرحلة الثالثة:وهي ما بعد الفعل ونفترض أن العبد لم يستفد من بركات صلاته مما أدى إلى سقوطه في الخطأ لسبب أو لآخر فإن الصلاة هي التي تمدّ حبل النجاة لإنقاذه على نحوين:

أولهما:إعادته إلى الحالة الصحيحة وتطعيمه من جديد ضد الانحراف والمعصية وزيادة مناعته بجرعة أكبر، روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال - في رجلٍ يُصلّي معه ويرتكبُ الفواحش-:(إنّ صلاته تنهاهُ يوماً ما، فلم يلبث أن تابَ)، وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال -- في رجل يُصلّي بالنهار ويسرقُ بالليل-:(إنّ صلاته لتردعهُ).

ثانيهما:إنها تكفّر الإثم الذي ارتكبه وتبيّض صفحته التي اسودّت بفعل المعصية وتمنحه فرصة التكامل من جديد، روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنّه أخذ غصناً من شجرة كانوا في ظلّها فنفضه فتساقط ورقهُ ثم فسّر لأصحابه ما صنع فقال:(إن العبد المسلم إذا قام إلى الصلاة تحاتّت عنه خطاياه كما تحاتَت ورقُ هذه الشجرة).

وروي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (سمعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول

ص: 55

أرجى آية في كتاب الله {أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ} (هود:114)، وقال يا علي والذي بعثني بالحق بشيرا ونذيرا إن أحدكم ليقوم من وضوئه فتساقط عن جوارحه الذنوب فإذا استقبل الله بوجهه وقلبه لم ينفتل وعليه من ذنوبه شيء كما ولدته أمه فإن أصاب شيئا بين الصلاتين كان له مثل ذلك حتى عد الصلوات الخمس ثم قال يا علي إنما منزلة الصلوات الخمس لأمتي كنهر جار على باب أحدكم فما يظن أحدكم لو كان في جسده درن ثم اغتسل في ذلك النهر خمس مرات أكان يبقى في جسده درن فكذلك والله الصلوات الخمس لأمتي).

موقع الصلاة في الدين:

لهذا كله احتلت الصلاة موقعاً مهماً من الدين، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(مثلُ الصلاةِ مثلُ عمودِ الفُسطاط، إذا ثبتَ العمودُ نفعت الأطناب والأوتاد والغشاءُ، وإذا انكسرَ العمودُ لم ينفع طُنبٌ ولا وتدٌ ولا غشاء).

ولهذا كانت الصلاة مقياس دين الإنسان والتزامه بما فرض الله تعالى عليه، روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(لكل شيء وجهٌ، ووجهُ دينكم الصلاة)، وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(أولُ ما ينظر في عمل العبد في يوم القيامة في صلاته، فإن قبلت نُظر في غيرها، وإن لم تُقبل لم ينظر في عمله بشيء)، وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(الصلاة ميزانٌ، فمن وفّى استوفى).

ولذا كثرت الوصايا بها، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(ليكن أكثر همِّكَ الصلاة، فإنها رأس الإسلام بعد الإقرار بالدين)، ومما جاء في وصية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لأولاده قبيل وفاته (الله الله في الصلاة فإنها عمود دينكم)، وعن الإمام

ص: 56

الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(أحب الأعمال إلى الله عز وجل الصلاة، وهي آخرُ وصايا الأنبياء)، وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن طاعة الله خدمته في الأرض فليس شيء من خدمته يعدل الصلاة).

التشديد على تارك الصلاة:

فليس غريباً التشديد في قضية ترك الصلاة، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (ما بين المسلم وبين الكافر إلاّ أن يتركَ الصلاة الفريضة متعمداً، أو يتهاون بها فلا يصلّيها)، وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(الصلاة عِمادُ الدين، فمن ترك صلاته متعمّداً فقد هدم دينه، ومن ترك أوقاتها يدخل الويل، والويلُ وادٍ في جهنّم كما قال الله تعالى {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} وعنه:(من ترك الصلاة لا يرجو ثوابها ولا يخافُ عِقابها، فلا أُبالي أن يموتَ يهودياً أو نصرانياً أو مجوسيّاً).

كيفية الصلاة التي تؤدي دورها الكامل في حياة الإنسان؟

ولكي تأخذ الصلاة دورها الكامل في حياة الإنسان لابد أن يؤتى بها بحدودها وشروطها.

(ومنها) الإتيان بها في أول وقتها، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(لكل صلاة وقتان:أوّلٌ وآخرٌ، فأول الوقت أفضلُه، وليس لأحدٍ أن يتّخذ آخر الوقتين وقتاً إلا من علّةٍ، وإنما جُعِل آخر الوقت للمريض والمعتل ولمن له عذرٌ، وأولُ الوقت رضوان الله، وآخرُ الوقت عفو الله). وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(فضل الوقت الأول على الآخر كفضل الآخرة على الدنيا)، وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(لفضل الوقت الأول على الآخر خيرٌ للمؤمن من ماله وولده).

ص: 57

وروى الشيخ الصدوق في الفقيه بسنده عن حماد بن عيسى:قال لي أبو عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوماً:(تُحسِنُ أن تُصلّيَ يا حمّاد؟... قُم فصلِّ، قال:فقمتُ بين يديه متوجّهاً إلى القبلة فاستفتحتُ الصلاة وركعتُ وسجدتُ، فقالَ:يا حمّاد، لا تُحسن أن تصلّي؟! ما أقبح بالرجل ان تأتي عليه ستون سنة أو سبعون سنة فما يقيم صلاة واحدة بحدودها تامّة)؟!(ومن) شروط تأثيرها الورع عن محارم الله تعالى، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(لو صلّيتم حتّى تكونوا كالأوتارِ، وصُمتم حتى تكونوا كالحنايا، لم يقبلِ الله منكم إلاّ بورعٍ).

موانع تأثير الصلاة في حياة الإنسان:

(ومن) أبرز الموانع من قبولها وتأثيرها:

1-عقوق الوالدين، عن الإمام الصادق(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من نظر إلى أبويه نظر ماقتٍ وهما ظالمان له، لم يقبل الله له صلاة).

2-الغيبة، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(من اغتاب مسلماً أو مسلمة لم يقبل الله تعالى صلاته ولا صيامه أربعين يوماً وليلة، إلاّ أن يغفر له صاحبه).

نصيحة وتوصية:

نصيحة وتوصية:(1)

فاهتموا بصلاتكم أيها الأحبّة وحافظوا على أول وقتها وواظبوا على أدائها

ص: 58


1- تحدّث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) بهذه الكلمة من خلال شاشة قناة النعيم إلى الآلاف من طلبة الجامعات والمعاهد العراقية المشاركين في فعاليات ومواكب الوعي الفاطمي مساء السبت 2/ج2/ 1434 الموافق 13/ 4/ 2013.

جماعة في المسجد مهما تيسر لكم لتزدادوا نوراً على نور واستزيدوا منها فوق الفرائض اليومية، روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) انه قال لأبي ذر لما سأله عن الصلاة (خير موضوع، فمن شاء أقلّ ومن شاء أكثر) وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما سئل عن أفضل الأعمال بعد المعرفة قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ما من شيء بعد المعرفة يعدل هذه الصلاة)، وعن الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(صلوات النوافل قُربات كل مؤمن).خصوصاً صلاة الليل ولو بأقل عدد من الركعات، قال تعالى {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} (الإسراء:79).

السيدة الزهراء (س) تبيّن سر تشريع الصلاة وفضلها:

لقد لخّصَتْ الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء (س) هذه الأهمية للصلاة ودورها في تهذيب الإنسان وتكامله بقولها في خطبتها (فجعل الله... الصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر) فالصلاة تنزّه الإنسان وتطهّره من التكبر والعتوّ والتمرّد والإستكبار والفرعنة التي هي أساس الوقوع في المعاصي وإتّباع الشيطان والابتعاد عن الله تعالى ولشدّة اهتمامها (سلام الله عليها) بالصلاة سألت أباها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (يا أبتاه ما لمن تهاون بصلاته من الرجال والنساء؟ قال:يا فاطمة:من تهاون بصلاته من الرجال والنساء ابتلاه الله بخمسة عشر خصلة، ستّ منها في دار الدنيا، وثلاث عند موته، وثلاث في قبره، وثلاث في القيامة إذا خرج من قبره) ثم عدّدها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فراجع المصدر(1).

ص: 59


1- مستدرك وسائل الشيعة: 3/ 23.

القبس /118: سورة الروم:54

اشارة

(ثُمَّ جَعَلَ مِن ۢ بَعدِ ضَعف قُوَّة)

لكي نتفكر في خلق الله وصنعه:

سورة الروم غنية بالآيات التي تدعوا الناس الى التفكر بآيات الله والتدبر فيها للارتقاء بمعرفة الله تعالى ومنها قوله تعالى {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} (الروم:54).

(خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ):

والآية تشير الى المراحل التكوينية التي يمر بها الانسان، {خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ} يبدا من ضعف النطفة وهو الماء المهين الذي يتكون منه ويلقح البويضة فتكون علقة تتغذى من جدار رحم الام ثم تتكاثر وتزداد وتتحول العلقة الى مضغة وهي قطعة لحمية صغيرة ثم يخلق الله تعالى العظام ويتكامل نموه، وهو في كل مرحلة من المراحل كائن ضعيف لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ويأتيه رزقه من امه وينمو جسمه بلا ارادة منه.

ثم يولد ويخرج الى الدنيا وهو لا يزال ضعيفاً لا يقدر على شيء فقيّ-ض الله تعالى له والدين شفيقين رحيمين محبين له يتوليان رعايته وتربيته ويجلبان له الخير ويدفعان عنه الضرر وخلال ذلك يتقلب في هذه الحالات من الضعف.

ص: 60

(ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً):

{ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} حينما تكتمل قواه الجسدية – البلوغ – والعقلية – بالرشد وحسن التصرف – وعلمية – بالتجربة والتعلم – ثم تضاف له قوى اخرى، مثلا – المالية – عندما يبدأ بالكسب والعمل -، والاجتماعية – حينما يصبح في موقع او يكون له عنوان اجتماعي او جاه معروف به – والثقافية – بما تزود من علوم ومعارف – وهكذا تجتمع عنده اسباب القوة التي عبّر عنها الله تعالى في مواضع عديدة ببلوغ الاشّد {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} (الأحقاف:15) {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} (يوسف:22).

(ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً):

{ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} حيث يؤول امره الى الضعف فيظهر عليه وهن الكهولة والشيخوخة وربما يبتلى بالأمراض ولم يعد بتلك القوة حينما كان يركض ويقفز بخفة ونشاط فاصبح يتوكأ حينما يقوم، وتضعف ايضا قواه الذهنية فيفقد قوة الحافظة التى كانت في شبابه حينما كان يحفظ القصيدة الطويلة عن ظهر قلب ويطالع كتبه الدراسية ويجيب عن كل سؤال يوجه اليه، اما اليوم فلا يقدر على شيء من ذلك بل لم يعد يحتفظ بالمعلومات التي كانت عنده، وربما يصاب البعض بالخرف وفقدان الذاكرة او ما يعرف بالزهايمر، فيعود امره من جديد الى الضعف ولكن هذا الضعف اشد من ضعف الطفولة لذا قرن معه (وشيبة) للإشارة الى هذا الفرق فقد كان ضعف الطفولة متجها نحو الصعود والتكامل وخيره مقبل وكان معه والدان يداريانه، اما ضعف الشيبة ففي طريق النزول ومزيد من الضعف وفقدان القوى وليس عنده مثل رحمة الوالدين

ص: 61

وشفقتهما قال تعالى {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ} (يس:68).وقال تعالى في اشارة لهذا النزول {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} (الحج:5) فاذا كان عنده علم لكنه لما امتد به العمر طويلا فقد تلك المعلومات.

الدروس المستفادة من الآية الكريمة:

بعد هذا الشرح الموجز للآية نستخلص عدة رسائل موجهة من خلالها:

الاولى:قدرة الله تبارك وتعالى الذي خلق الانسان عبر هذه المراحل التكوينية، وعلمه تعالى الذي اتقن الصنع بهذه الكيفية البديعة من دون ان يشاركه أحد (يخلق ما يشاء)، ولذا ختمت الآية بقوله تعالى {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}، وهكذا كل الآيات تنتهي بالأسماء الحسنى المناسبة لمضمون الآية، ويحكى ان احدهم قرأ اية (والسارق والسارقة) الى ان ختمها بقوله تعالى (والله غفور رحيم) فانكر احد الحاضرين ان تكون نهاية الآية هكذا وطلب من القارئ اعادة قراءتها في المصحف فاذا هي (عزيز حكيم) فقال هذا صحيح لان الامر بقطع اليد يناسبه هذه الاوصاف وليس الغفور الرحيم الذي يناسب العفو والصفح لا القطع(1).

الثانية:رسالة موعظة الى الناس ان لا يغتروا بما عندهم ولا يطغوا لمجرد حصولهم على شيء من اسباب القوة {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} (العلق:6-7) فيظلمون ويعتدون ويظنون انهم قادرون على فعل كل ما

ص: 62


1- أنظر: التحرير والتنوير- ابن عاشور: 2/ 281

يحلوا لهم، فهذه القوة لم تكن موجودة ثم وجدت وهي بعد ذلك تضمحل وتصير الى الضعف، والانسان عاجز عن تغيير هذا الانتقال في المراحل، والاحتفاظ بقوته وشبابه مدى الدهر {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (الأحزاب:62).وهذه الرسالة ليست موجهة الى الافراد فقط بل الى الامم والدول ايضاً التي تغتر بقوتها وجبروتها فتتفرعن وتملأ الارض ظلماً وعدوانا وهي كالإنسان بدأت من ضعف ثم قويت ثم يؤول امرها الى الضعف والانهيار كما هو شأن كل الممالك والامبراطوريات عبر التاريخ فيسمون اوربا اليوم القارة العجوز بعد ان كانت في عنفوان القوة وتبسط سيطرتها من الشرق الاقصى الى الامريكيتين في الغرب الاقصى وهكذا كل الزعامات التي تغتر بكثرة الاتباع كرؤساء العشائر او بقوة المنصب لدى بعض الكيانات السياسية فيطغى ويطلب الدنيا من غير طرقها المشروعة، فعليه أن يأخذ الموعظة من تقلب أحواله ليعرف ان هذه القوة التي عنده ستزول فلا يغتر بها ويطغى ويظلم.

الثالثة:رسالة تطمين لمن في حالة الضر والمعاناة ورسالة تحذير لمن في حالة الرفاه والدعة وبحبوحة العيش بأنه لا يدوم حال على ما هو عليه كما قيل في المثل (دوام الحال من المحال) فمن كان يمر ببلاء وصعوبات وشدة وتظلم الدنيا في عينيه عليه ان لا ييأس ويشعر بالإحباط لان الفرح وزوال البلاء متوقع في كل لحظة، والدنيا متقلبة بأهلها حالاً بعد حال {إِنَّ مَعَ الْعُسْ-رِ يُسْ-راً} (الشرح:6) فليتمسك بالأمل ولينتظر الفرج وسيأتي ذلك اليوم وتصبح معاناته في خبر كان كما يقال.

ص: 63

وقد يجمع الله الشتيتين بعدما *** يظنان كل الظن ان لا تلاقيا(1)

لنحذر زوال النعمة:

ومن كان في سعة من الحياة ودعة من العيش عليه ان يحذر تبدّل هذه النعمة او زوالها في أي لحظة فيفقد المال او الصحة او المنصب او الجاه او الاتباع أو أي شيء آخر فعليه أن يحذر الدنيا ولا يسكن اليها وإن أقبلت عليه فكم من شخص كان هكذا ثم ادبرت عنه ولربما لأسباب مجهولة أو خارجة عن إرادته ولا يستطيع تفاديها.

كانت الدولة العباسية في أوج زهوها وانتشارها من حدود الصين شرقاً الى غرب افريقيا وكان هارون على رأس هذه الدولة مملوءً بالزهو والاستعلاء، لكنه في ريعان الشباب واقصى زهو السلطة مرض(2)واشرف على الموت فأمر بحفر قبره وكان يقف عليه ويقرأ الآيات الكريمة {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ} (الحاقة:28-29).هذه الرسائل ضمنّها الامام الحسين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاء عرفة وفيه قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اِلهى اِنَّ اخْتِلافَ تَدْبيرِكَ، وَسُرْعَةَ طَوآءِ مَقاديرِكَ، مَنَعا عِبادَكَ الْعارِفينَ بِكَ عَنْ السُّكُونِ اِلى عَطآء، وَالْيأْسِ مِنْكَ فى بَلاء)(3).

هذا الاختلاف في الاحوال بتدبيرك فساعة في عنى واخرى في فقر

ص: 64


1- بيت من الشعر يُنسب الى أبو سعد الكاتب النيرماني, أنظر: الوافي بالوفيات للصفدي: 21/ 299
2- أنظر: البداية والنهاية- ابن كثير: 10/ 231
3- مفاتيح الجنان:311.

وساعة في عافية واخرى في مرض، وساعة في قوة وأخرى في ضعف وساعة في ليل واخرى في نهار، وساعة في صيف وأخرى في شتاء، وهكذا غيرها، فهذا التبدل والتغيّر الذي يجري بسرعة منع المؤمن الذي له بصيرة في الامور ومعرفة بالله تعالى من أن يطمئن الى حال حسنة ويسترخي لها، ولا ان يصيبه اليأس إذا مرّ بحال سيئة. وفي الحديث (الليل والنهار يبلّيان كل جديد)(1) وما اسرعهما.

التفتوا الى هذه الحقائق:

وبالالتفات الى هذه الحقائق تزداد المعرفة عند الانسان، والمعرفة هي اساس التفاضل عند الله تبارك وتعالى، ودعاء الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم عرفة غنيٌ بهذه المعارف الالهية، ومنه قوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بما يرتبط بحديثنا (آلهي عَلِمْتُ بِاِخْتِلافِ الاْثارِ، وَتَنقُّلاتِ الاْطْوارِ، اَنَّ مُرادَكَ مِنّى اَنْ تَتَعَرَّفَ اِلَىَّ في كُلِّ شَيء، حَتّى لا اَجْهَلَكَ في شَيء)(2) فاختلاف الاثار أي آيات الله في خلقه من ليل ونهار وشتاء وصيف وغير ذلك، ومن تنقلات الاطوار بين شباب وشيخوخة وعافية ومرض وغنى وفقر يُراد منه ان يتعرف الانسان على صفات ربه الحسنى حتى يتأدب بأدب العبودية قال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56) وفسرها الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في بعض ما روي عنه أي (ليعرفون)(3)، قال الشاعر:

ص: 65


1- أصول الكافي- الكليني: 2/ 598/ح2
2- مفاتيح الجنان:311.
3- أنظر: ميزان الحكمة- الريشهري: 1/ 223

وفي كل شيء له اية *** تدل على انه واحد(1)

فالإنسان يقف عاجزاً أمام هذه الحركة الكونية ولا يملك إلا ان يكون جزءاً من هذا التدبير فيتيقن ان وراء هذه الحركة مدّبر حكيم، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال :(عرفت الله بفسخ العزائم، وحل العقود، ونقض الهمم)(2).

وانما على الانسان ان يغتنم حال القوة التي يكون فيها ويستثمرها في طاعة الله تعالى قبل فوات الفرصة فان إضاعة الفرصة غصة – كما قيل – والملفت ان الآية اطلقت كلمة قوة ولم تحددّها لتبقى مفتوحة على كل الصور الممكنة لها، فالصحة قوة والشباب قوة والمال قوة والجاه قوة والعلم قوة والمنصب قوة وكثرة الاتباع قوة وهكذا.

وقد جمع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في وصيته لابي ذر (رضوان الله تعالى عليه) عدة مصاديق وحالات للقوة وأمرهُ باغتنامها قبل زوالها كلها او بعضها وتحولها الى نقيضها قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فيما روي عنه :(يَا أَبَا ذَرٍّ :اغْتَنِمْ خَمْساً قَبْلَ خَمْسٍ :شَبَابَكَ :قَبْلَ هَرَمِكَ وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سُقْمِكَ وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغُلِكَ وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ)(3).

والوصية كما يظهر موجهة بشكل اساسي الى الشباب(4) الذين وصفتهم).

ص: 66


1- البيت منسوب الى أبي العتاهية, أنظر: الأغاني- أبي الفرج الأصفهاني: 4/ 39,- تاج العروس- الزبيدي: 19/ 61, وبعض نسبه الى لبيد بن ربيعة, أنظر: ديوان لبيد: 232
2- نهج البلاغة قصار الكلمات رقم 250.
3- مكارم الاخلاق 626.
4- راجع شرحها في الملحق التالي بعنوان (اغتنم شبابك).

الآية في حال قوةٍ وأن كانت الوصية عامة للجميع ويمكن القول ان الحديث ليس في مقام حصر حالات القوة ومظاهرها بهذه الخمسة فيمكن ان يشمل الحديث كل عناصر القوة الاخرى فيمكن ان نقول (واغتنم علمك قبل جهلك) لان العلم قوة ونور وربما يؤول أمره الى الضياع كما في الآية المتقدمة {لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً} (النحل:70) فعليه ان يستثمر علمه من خلال العمل به لإصلاح نفسه ومجتمعه أولاً ونشره بين الناس ثانياً لان زكاة العلم انفاقه، وبتنميته وزيادته ثالثاً {رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طه:114) لذلك تجد العلماء يعمرون طويلاً ويبقون الى آخر عمرهم يدرسّون ويؤلفون ويبحثون ويقدّمون أحدث الابداعات العلمية.وهذه الحقيقة أكدها الاطباء وقالوا أن العلاج من الإصابة بالخرف والزهايمر بالشيخوخة يكون بمواصلة المطالعة والقراءة.

ص: 67

ملحق:اغتنم شبابك

اغتنم خمساً:

وصيةُ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للصحابي الجليل أبي ذر الغفاري رسالة عظيمة للأجيال ينبغي مراجعتها والاستفادة منها باستمرار، ومنها قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(يا أبا ذر.. اغتنم خمساً قبل خمسٍ:شبابك قبل هرمك، وصحّتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)(1).

وهذه الوصية موجّهة بشكل رئيسي الى الشباب للتصريح بهم في أول فقرة، ولأنهم الأكثر توفّراً على هذه النعم الخمس، فهم شباب أصحّاء وقواهم البدنية متكاملة لم يضعفها مرور الزمن، وهم فارغون غالباً من المسؤولية غير مشغولين بهموم الحياة، وهم أغنياء لانهم غالباً مكفيو المؤونة بآبائهم وليسوا معيلين لكثيرين.

ليلتفت الشباب الى عناصر قوتهم:

فليلتفت الشباب الى ما حباهم الله تعالى من النعم ليستثمروها في اتجاهها الصحيح أي في طاعة الله تعالى وإعمار الحياة بكل خير ونفع لهم وللمجتمع عامة، وعدم هدر الطاقات وصرفها في اللغو والعبث فضلاً عن الاستخدامات السيئة والاجرامية والعياذ بالله، فكما يردّد الشاب أنني اريد أن أبني مستقبلي وأكوِّن نفسي، ويقصد النواحي المادية كحياة معيشية مرفّهة وزوجة وأطفال ومصدر رزق ونحو ذلك، وهو حقٌّ ومطلوب وحثَّ عليه الشارع المقدس، إلا أنه

ص: 68


1- مكارم الاخلاق للطبرسي: 626.

عليه أن يفكّر ببناء مستقبله المعنوي والإيماني أيضاً ليضمن السعادة والفوز في الآخرة كما في الدنيا، وأن البناء في مرحلة الشباب يكون أرسخ وأقوى.

عناصر القوة في الشباب:

إن الاهتمام بالشباب ليس اعتباطاً وإنما لوحظ فيه وجود عناصر النجاح والتكامل في الشباب أكثر من غيره وهي:

1-قوة الإرادة وتنفيذ ما يعزم عليه، ونجد كثيراً من الشباب يقوم بالمغامرات المهلكة ويرتكب الحماقات الجنونية لا لشيء إلا لأنه اقتنع بأمر وهو عازم على تنفيذه، وهو مستعد للتمرد والخروج على كل القوانين والأعراف، فيجب توظيف هذه الإرادة القوية فيما هو نافع ومثمر.

2-النقاء وسلامة الفطرة لأنهم قريبو عهد ببراءة الطفولة والخروج الى هذه الدنيا بصفحة بيضاء، وقلوبهم طاهرة كالمرآة الصافية لم تتكدّر بالاستعمال فيكون تلقيها للتربية والاصلاح والمعارف الحقة سريعاً وثابتاً، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إنما قلب الحدث كالأرض الخالية، ما القي فيها من شيء قبلته)(1) وفي كتاب الكافي بسنده عن اسماعيل بن عبد الخالق:(سمعت أبا عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول لأبي جعفر الأحول وأنا أسمع:أتيت البصرة؟ فقال:نعم، قال:كيف رأيت مسارعة الناس لهذا الأمر ودخولهم فيه؟ قال:والله إنهم لقليل، ولقد فعلوا وإن ذلك لقليل، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):عليك بالأحداث فإنهم أسرع الى كل خير)(2)، أما أذا امتد العمر فإن

ص: 69


1- تحف العقول: 70.
2- الكافي: 8/ 93 ح 66.

الأخطاء والمعاصي ستلوّث عقولهم وقلوبهم كما في دعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ويلي كلما طال عمري كثرت معاصيِّ)(1) ومن الصعب حينئذ جلاؤها وتنقيتها وإعادتها الى نفس الصفاء والفطرة السليمة.3-سلامة القوى البدنية والعقلية {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} (غافر:67) مما يساعده على فعل ما تتطلبه رسالته في الحياة وتلقي العلوم النافعة، وهذه القوى تضعف بمرور الزمن {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} (الروم:54)، ويصل الى مرحلة من العمر لا يتمكن فيها من أداء الواجبات فتراه لا يقدر على الصوم ويصلي من جلوس ويعجز عن أداء مناسك الحج والذهاب لزيارة الائمة الطاهرين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولا يتمكن من قراءة القرآن وأمثال ذلك {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ} (يس:68).

معنى أن نغتنم الشباب:

فاغتنام الشباب يعني الاستفادة من هذه العناصر مجتمعة لبناء حياة مؤمنة مطمئنة تسعى لنيل رضا الله تبارك وتعالى وتجنب سخطه. في الحديث عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(ان احب الخلائق الى الله عز وجل شاب حَدَث السن في صورة حسنة جعل شبابه وجماله لله وفي طاعته، ذلك الذي يباهي به الرحمن ملائكته، يقول

ص: 70


1- مفاتيح الجنان:481.

هذا عبدي حقاً)(1)، وفي حديث آخر عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (سبعة في ظل عرش الله عز وجل يوم لا ظل الا ظله:إمامٌ عادل، وشابٌ نشأ في عبادة الله عز وجل)(2)، وهذا يستلزم اهتماماً متزايداً بمطالعة الكتب والتثقف والازدياد من المعارف والعلوم التي تبني شخصية الانسان وتقوّم تفكيره وتحصّنه من الانحراف والضلال والفساد والشبهة، وستستفيدون كثيراً من المطالعة.

نصيحتي بأن تجعلوا لكم دفتر ملاحظات:

وقد نصحت مراراً بأن تتخذوا دفتر ملاحظات تسجلون فيه هذه الأحاديث الأخلاقية لأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وكلمات الحكماء التي تفهمون منها درساً مفيداً في حياتكم، وأن تتعبوا أنفسكم في مطالعة الكتب النافعة وتحصيل المعارف الدينية والأخلاقية والتوعوية، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لستُ أُحِبُّ أن أرى الشاب منكم إلا غادياً في حالين:إما عالماً او متعلماً، فإن لم يفعل فرّط، فان فرّط ضيّع، وإن ضيّع أثم، وإن أثم سكن النار والذي بعث محمدا (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ))(3).

وربما ستؤثر فيكم كلمة صغيرة تقلب حياتكم نحو الأفضل، كما حصل لبشر الحافي الذي يفتخر به المتصوّفة، فقد كان صاحب خمر ولهو وعبث مع أصدقاء السوء، وذات يوم بينما كانت جاريته تلقي القمامة ونفايات الطعام خارج الدار، مرَّ الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فرأى داراً فارهةً تصدر منها أصوات الغناء والمجون والفسق فسأل الجارية عن صاحب الدار، فقالت:لسيدي ومولاي بشر،

ص: 71


1- كنز العمال: 43103.
2- الخصال: 343 ح8.
3- الأمالي للطوسي:303 / ح604.

فقال الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):هل سيدك حرٌّ أم عبدٌ؟ فاستغربت الجارية من السؤال لوضوح أن سيدها حر فأجابت:بل سيدي حر، فقال الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):صدقتِ لو كان عبداً لاستحيا من مولاه، ولما عادت الجارية سألها سيدها بشر عن سبب تأخيرها فحكت له ما جرى فقال اذكري له أوصافه، فوصفت الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لسيدها، وهنا صحا بشر من سكره، وقال ذاك سيدي ومولاي موسى بن جعفر وفهم معنى الرسالة، بأن بشراً لو استشعر معنى العبودية لربه وخالقه الذي أغدق عليه نعماً لا تعد ولا تحصى لاستحيا منه ولم تصدر منه هذه المعاصي والقبائح، وسرعان ما خرج يبحث عن الإمام حتى وجده ووقع على يديه ورجليه يقبّلهما ويستغفر الله تعالى ويتوب على يديه وكانت توبته صادقة وارتقى في درجات الكمال ببركة كلمة صادقة من العبد الصالح، وما اكثر هذه الكلمات في بطون الكتب فاستخرجوها واستفيدوا منها.إن من أضاع شبابه في اللهو والعبث سوف يندم ويندب حظه السيء. عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(شيئان لا يعرف فضلهما الا من فقدهما:الشباب والعافية)(1) كما قال الشاعر:

ألا ليتَ الشبابَ يعودُ يوماً *** لاخبره بما فعلَ المشيبُ(2)

أما من اغتنم شبابه واستثمره في العمل الصالح والسلوك النظيف فانه لا يندم على انقضائه بل يفرح عند تذكره بلطف الله تعالى وعنايته به، روي أن ابراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما أصبح فرأى في لحيته شيباً شعرةً بيضاء، قال:(الحمد لله رب العالمين46

ص: 72


1- غرر الحكم: 5764.
2- البيت منسوب الى أبي العتاهية, أنظر: ديوان أبي العتاهية: 46

الذي بلّغني هذا المبلغ ولم أعصِ الله طرفة عين)(1).

عليكم أن تبنوا أنفسكم ثم تنطلقوا الى المجتمع:

إن عليكم أن تبنوا أنفسكم ثم تنطلقوا الى مجتمعكم فتبذلون وسعكم في توعيته وإصلاحه والمطالبة بحقوقه وأن توفّروا له القيادة الصالحة التي تؤسس له الحياة الكريمة كما أرادها الله تعالى لعباده، ولا تتقاعسوا أو تشعروا بالإحباط أو تنزووا أو تعتزلوا مجتمعكم، فإنكم تضرّون بذلك أنفسكم، وتحرمون أُمتكم من هذه الطاقات الخلاّقة التي عندكم، فأنتم محركو الامة وباعثو الحياة فيها.

إن الامم التي تقل نسبة الشباب فيها تقل قابليتها على النمو والازدهار كما هو حال اوربا اليوم حتى صارت تسمى (القارة العجوز) وقد جنت على نفسها بذلك لحماقتها واتباعها لشهواتها حيث العلاقات الجنسية غير المشروعة كبديل عن الزواج والتشجيع على قلة الانجاب وإباحة الاجهاض والشذوذ الجنسي للمثليين، ونحو ذلك، ومن الحلول التي ابتدعتها تشجيع هجرة ولجوء الشباب من الدول الاخرى خصوصا الاسلامية التي تتمتع بنسبة عالية من الشباب لتعوّض نقص الأيدي العاملة فيها.

ص: 73


1- علل الشرايع: 104 ح 2.

القبس /119: سورة لقمان:10

اشارة

{خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيرِ عَمَد تَرَونَهَا ۖ}(1)

سَقْفاً مَّحْفُوظاً:

ذكرت الآية عدداً من النعم الالهية ومعجزات الخلق قال تعالى {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} (لقمان:10).

خلقَ الله السماوات بكل تفاصيلها الهائلة الممتدة بغير حدود كالسقف للأرض الضئيلة التي نسبتها اليها كالعدم وهذه حقائق فلكية يعرفها حتى غير المختصين ممن له اطلاع على عجائب الكون. قال تعالى:{وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} (الأنبياء:32)، ومحفوظاً يمكن ان يكون معناها حافظاً اذ قد ياتي اسم المفعول بمعنى اسم الفاعل كقوله تعالى{حِجَاباً مَّسْتُوراً} اي ساتراً، وقد ثبت علميا ان غلاف الجو الغازي المحيط بالارض يقيها من اخطار الشهب والنيازك الساقطة عليها من جهاتها المختلفة.

ص: 74


1- كلمة مرتبطة بالقبس التالي من قوله تعالى{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ}.

والسقوف تحتاج الى اعمدة لتستند عليها لكن السماوات لم تستند الى اعمدة مرئية كالأعمدة المتعارفة وانما ثبتت واستمرت في وجودها واداء وظائفها, وفق مستندات غير مرئية، في رواية حسين بن خالد عن الامام الرضا(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انه قال:(سبحان الله! اليس الله يقول (بغير عمد ترونها) قلت:بلى، قال:ثَمَّ عمد ولكن لا ترونها)(1) وهي قوانين نظّم الله تعالى بها حركة الكون كقانون الجاذبية والكثافة والسرعة والكتلة ونحو ذلك، فهذه حقيقة علمية اشارت اليها الآية.

من عجائب خلق الكون:

وجعل تعالى على الارض جبالا راسيات تشبيهاً بالمرساة التي تثبّت السفينة في البحر وتحافظ على توازنها وتقودها الى الاستقرار على الساحل، وكذلك الجبال تحافظ على توازن الارض واستقرار حركتها وحفظها من الميلان والاضطراب، ولولاها لكانت الارض كالأرجوحة او كالبالون المنفوخ عندما يندفع الهواء منه بقوة فتتقاذفه الغازات من موضع الى اخر بلا استقرار وكذلك يحصل للأرض بسبب الغازات الهائلة في باطنها، او كانت الارض كالمياه التي تتعرض للمد والجزر باستمرار بفعل تأثيرات جاذبية القمر، فكانت الجبال سبباً لجعل {الاَرْضَ مِهَاداً} (النبأ :6) لأنها تعمل كسلسلة مترابطة الجذور مثل حديد التسليح للكونكريت، وهذه حقيقة علمية ثانية.

في معنى:وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ

{وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ} ونشر على الارض وفي المياه التي تغطي

ص: 75


1- تفسير البرهان: 2/ 278.

سطحها هذا التنوع الهائل من المخلوقات التي تدَبّ فيها بحركة دائبة، ففيها من احادية الخلية الى الانسان ذي التركيب المعقّد مما يعطي جمالية وتوازناً وتلبية للأذواق، وليُظهر الله تعالى قدرته وعلمه وحكمته، وليقيم الحجة على من يتصور عجز الخالق عن ايجاد شكل من الاشكال او نوع من الانواع(1)، وكنّا نقرأ في علم الحيوان ان عدد انواع الطيور فقط (900) الف نوع بحسب ما توصّلوا اليه آنذاك. فهذا التنوع معجزة من معجزات الخالق وحقيقة علمية يذكرها ولكل من هذه الانواع خصائصه وتركيبه الذي يناسب دوره في هذه الحياة، لتدحض ما زعمه دارون في نظريته (اصل الانواع)(2)، اذ ليست هذه الانواع مراحل متدرجة مرّت بها المخلوقات وارتقت فيه من نوع لآخر حتى وصلت الى ارقاها وهو الانسان، بل هي مخلوقة بهذا التنوع وبقيت على هذا التنوع ولم ينقلب احدها الى آخر.7.

ص: 76


1- في علل الشرائع: 1 /14 بسنده عن الامام الرضا(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقد سُئِل: لِمَ خلق الله سبحانه وتعالى الخلق على انواع شتى ولم يخلقهم نوعا واحدا، قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لئلا يقع في الاوهام انه عاجز ولا يقع صورة في وهم ملحد الا وقد خلق الله عز وجل عليها خلقا لئلا يقول قائل: هل يقدر الله عز وجل على ان يخلق صورة كذا وكذا، لانه لا يقول له من ذلك شيئا الا وهو موجود في خلقه تبارك وتعالى فيعلم بالنظر الى انواع خلقه انه على كل شيء قدير).
2- اختصر عالم الاحياء المجهرية المشهور البروفيسور (ميشيل دانتون) في كتابه (التطور: نظرية في مازق) رده على نظرية دارون في قوله (في عالم الجزئيات والاحياء المجهرية لا يوجد هناك كائن حي يعّد جدا لكائن اخر، ولا يوجد هناك كائن اكثر بدائية، او اكثر تطورا من كائن اخر) باعتبار كل كائن (ميسر لما خُلقَ له) بحار الانوار - ج5 ص157.

معنى:وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً

{وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} تعمر به الحياة {وَجَعَلْنَا مِ-نَ الْمَ-اء كُ-لَّ شَ-يْءٍ} (الأنبياء:30) وهيأ تعالى السماء والارض والمياه والرياح والحرارة وكل ما له دخل بنزول المطر بكيفيات تنظّم هذه النعمة وتديمها وهذه القوانين لا تدع اي عاقل يحتمل ان القضية عشوائية ووجدت صدفة(1) وهذه حقيقة علمية رابعة في الآية.

{فأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} (لقمان/10) وهذه الزوجية في النباتات وحاجتها الى التلقيح كالإنسان والحيوان بالطرق المختلفة المعروفة حقيقة علمية اخرى، ووُصِف النبات بانه كريمٌ لعطائه الواضح فهو غذاء الحيوان والانسان على كثرة افرادهما، ولأن الله تعالى نسبه اليه فنال التكريم بهذه النسبة، ولإظهار كمال العناية بهذه القضية انتقل بالضمير في هذا المقطع من الغائب الى المتكلم.

الخلق والتدبير والقيمومة:

ولعل هذه العناية الاضافية لأن هذه العجيبة – انزال المطر وانبات الارض- امتزج فيها الخلق مع التدبير والقيمومة التي هي من شؤون الربوبية وهي محل خلاف المشركين الذين لا ينكرون الخالقية لله تعالى وحده ولا يدّعون لآلهتهم ذلك {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (لقمان:25)، وانما يزعمون ان الهتهم تدبّر الكون وان الخالق اوكل اليها شؤون التصرف في

ص: 77


1- يأتي ما يتعلق بهذا الموضوع في القبس/163, {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ} (الملك :30), من نور القرآن: 5/ 139

المخلوقات {أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار} (يوسف:39) فيحتج عليهم بان تلك الالهة لو كان لها تدبير لكان عليها ان تخلق ادوات ووسائل هذا التدبير كإنزال الماء من السماء وانبات الارض، واذا عجزوا عن الخلق فهم عاجزون عن التدبير، فلا مدبّر ولا ربّ ولا خالق ولا اله الا الله تبارك وتعالى.فهذه حقائق علمية عديدة ومعجزات هائلة في الخلق جمعتها اية واحدة فكان مجيئ اية {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} تلقائيا وطبيعيا بعد الآية المذكورة.

ص: 78

القبس /120: سورة لقمان:11

اشارة

(هَٰذَا خَلقُ ٱللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ ۚ)

معنى الخلق:

{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} اي هذه مخلوقات الله تعالى ف- (خلق) اسم مصدر بمعنى المفعول، في تفسير القمي {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} اي مخلوق الله، لان الخلق هو الفعل، والفعل لا يُرى وانما اشار الى المخلوق، والى السماء والارض والجبال وجميع الحيوانات فأقام الفعل مقام المفعول(1).

ماذا وجد من فقدك:

{فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} من الآلهة والشركاء التي يدّعونها، وهذه الدعوة تتضمن عدة معانٍ:

1-تحدي المشركين والملحدين والكفار ليقدّموا ما صنعته الهتهم التي يعبدونها من دون الله، فاذا عجزوا - وهم عاجزون قطعاً حتى عن استنقاذ ما يسلبهم الذباب منه وهم يعلمون بعجزهم- فليذعنوا بألوهية الله تبارك وتعالى وليثوبوا الى رشدهم وليحترموا عقولهم، فالآية فيها تحدي وتعجيز وانتزاع للإقرار منهم.

ص: 79


1- تفسير البرهان: 7 / 278.

2-اظهار حب الله لخلقه وتكريمه تعالى اياهم واحترامه لهم باعتبارهم صنعا جميلا له تبارك وتعالى حتى انه سبحانه يتباهى بهم امام الاخرين فيقول {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} كما ان الصنّاع المبدعين يتباهون بما صنعوا امام اهل المهنة والزبائن.

3-تذكير عباده بنعمته العظيمة ومعجزاته في خلقه التي يغفلون عنها لطول الفتهم لها واعتيادهم عليها ولجهلهم او أي شيء اخر فتراهم يقفون مبهورين امام جهاز يصنعه الانسان ويتقن صنعه لكنهم يمرّون معرضين على هذا الخلق العجيب.

4-الفات نظرهم الى تجليات صفاته الحسنى في صنعه من القدرة والعلم والحكمة والعظمة والإنعام ونحو ذلك ليزدادوا معرفة بربهم {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الافَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت:53).

الذين ظلموا أنفسهم:

وهنا يأتي الحكم النهائي الذي يصدره كل عاقل منصف على من لم

يُذعن بهذه الحقائق وليتوجه الى خالقه الحقيقي {بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (لقمان:11) الذين ظلموا انفسهم بعدم اتباع الحق {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان:13) رغم كل هذه الحجج الدامغة {فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} (الأنعام:149)، فعبدوا وخضعوا لآلهةٍ من دون الله تعالى سواء كانت مادية صنعوها من الحجر او الخشب او التمر او اعتبارية صنعوها من شهواتهم وحماقاتهم او صنعها الاخرون من جبابرة وطواغيت او اسواق مالية او الفن او الرياضة ونحو

ص: 80

ذلك من الرموز التي تعبد وتُطاع من دون الله تعالى، فمن اضّل من هؤلاء، ومن هو احمق واجهل منهم {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف:179).

العلم والإيمان جناحا المعرفة:

بعد هذا العرض المختصر لما نفهمه من الآية الكريمة نقول انكم – معاشر الأطباء(1) والمتخصصين في العلوم الطبية والعلاجية- اقدر الناس على فهم المعاني التي ذكرتُها لهذه الآية من الانبهار والتحدي بخلق الله تعالى والفات النظر الى عظيم نعم الله تعالى لأنكم وقفتم على التفاصيل المذهلة في جسم الانسان وفي كل ذرة من ذراته، ومما ينسب الى امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:

أتحسب انك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبرٌ(2)

ويكون ايمانكم وتدينكم حينئذٍ ذا قيمة اكبر لأنه عن معرفة ووعي وبرهان.

قرأت كتاباً في فسلجة جسم الانسان صدر في اوائل سبعينيات القرن الماضي أبّان المواجهة بين الايمان والالحاد وكان عنوانه (الطب محراب الايمان) وهي اطروحة دكتوراه في هذا الاختصاص وذُهلتُ من عجائب خلق الانسان

ص: 81


1- تحدث سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) بهذه الكلمات مع حشد من اطباء الاختصاص واساتذة في كلية الطب والصيدلة من عدة مدن عراقية يوم السبت 14/محرم الحرام/1436 المصادف 8/ 11/ 2014.
2- جواهر المطالب في مناقب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- ابن الدمشقي: 2/ 136,- أعيان الشيعة- السيد الأمين: 1/ 552

وبنفس الوقت اصابني الرعب لان اي اختلال في موازين هذه القوى والهرمونات او اداء اعضاء لوظائفها – وهي عبارة عن مصانع معقدة ضخمة- فانه يؤدي الى كارثة صحية تجعل الحياة بائسة لولا لطف الله تبارك وتعالى.فهنيئا لكم هذه النعمة العظيمة اذ بعد تحصيلكم لهذا العلم الشريف وُفِّقتم لممارسته هذه المهنة النبيلة ذات الوزن الكبير في ميزان الاعمال الصالحة لان فيها انقاذ حياة الناس والتخفيف من آلامهم وادخال السرور عليهم وتفريج الكروب عنهم وهي من اعظم القربات الى الله تعالى وثوابها عند الله عظيم في الدنيا والاخرة مع اخلاص النية والعمل لما عند الله تبارك وتعالى.

تجارة مربحة:

هذا ولكن الامام الحسين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يدلّنا على تجارة اربح من تجارتكم العظيمة هذه، وتستطيعون الجمع بينهما من خلال حديثه الآتي، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لرجل:(ايهما احبُّ اليك، رجل يروم قتل مسكين قد ضعُف تنقذه من يده، او ناصب يريد اضلال مسكين من ضعفاء شيعتنا تفتح عليه ما يمتنع به ويفحمه ويكسره بحجج الله تعالى) قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(بل انقاذ هذا المسكين المؤمن من يد هذا الناصب، ان الله تعالى يقول َ{مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعا} (المائدة:32) اي ومن احياها وارشدها من كفرٍ الى ايمان فكأنما احيا الناس جميعا من قِبلَ ان يقتلهم بسيوف الحديد)(1).

فهذه المعرفة وهذا الايمان الذي اكتسبتموه من مشاهدة وبرهان مع

ص: 82


1- بحار الانوار: 2 / 9 ح17 عن تفسير العسكري: 348 / ح 231.

ماتضيفون اليه من معارف دينية واخلاقية وفكرية تستطيعون نقلها للآخرين فتجعلون منها وسيلة للهداية والاصلاح وتحصين اخوانكم من الانحراف فتسيرون بذلك على خُطى الانبياء والمرسلين والائمة (صلوات الله عليهم اجمعين).ان مجتمعنا خصوصا جيل الشباب يتعرضون لهجمات متنوعة من الداخل والخارج مليئة بالشبهات والفتن والضلالات لإبعادهم عن الدين القويم والصراط المستقيم فلابد من ان تتعبوا انفسكم وتتسلحوا بالعلم والمعرفة ونشرها لتحصين شبابنا من الانحراف الفكري والاخلاقي.

تأتيني رسائل عديدة من الشباب عبر الايميل يتحدثون فيها عمّا يتعرضون له اثناء ايفادهم خارج العراق من مؤثرات وغسيل دماغ بأساليب علمية ينبهر بها المتلقي فيتبع اجنداتهم، وهم مخادعون يعطونه نصف الحقيقة، ويوهمونهُ انها تنفي وجود الخالق او تؤدي الى عدم الحاجة الى الدين ونحو ذلك ولو اعطوا الحقيقة كاملة لوجدوها لا تنافي الدين على اقل تقدير وربما ستجدها مؤيدة للثوابت الدينية بل ان تعاليم الدين سبقت العلم الى الكثير من الحقائق التي اكتشفها لاحقاً وقد رأينا كيف صوّروا نظرية اصل الانواع او الانفجار العظيم او علم الداينتكس على انها تنفي وجود الخالق مع انها على العكس تماماً ولكن تحتاج الى اخذ المعلومة كاملة.

ص: 83

القبس /121: سورة لقمان:17

اشارة

(وَأمُر بِٱلمَعرُوفِ وَٱنهَ عَنِ ٱلمُنكَرِ وَٱصبِر عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ)

موضوع القبس: وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر قرآنيا:6

وصف الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حديث مروي عنه فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأنها (أسمى(1) الفرائض وأشرفها) وجاء فيه:(إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:سبيل الأنبياء، ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة، بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتَحِلُّ المكاسب، وتُرَدُّ المظالم، وتُعمر الأرض، ويُنتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر)(2).

وروي في فضل هذه الفريضة وشرفها عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(وما أعمال البرِّ كلها، والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا كنفثة في بحر لجّيّ)(3).

هذه هي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في شرفها وأهميتها،

ص: 84


1- هذا في رواية الكافي، وفي التهذيب: (أتم الفرائض).
2- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 1، ح6.
3- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 1، ح18.

وعظيم بركاتها وآثارها على الفرد والمجتمع، وإن واحداً من هذه الآثار كفيل بأن يجعلها في الصف الأول من الفرائض فكيف بمجموعها، لذا كانت أعظم من مجموع أعمال البرّ والجهاد في سبيل الله كما في كلمة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وأن نسبة مجموع تلك الأعمال إلى هذه الفريضة كالنفثة –وهي ما يمازج النفس من الريق عند النفخ- بالنسبة إلى البحر العميق الواسع.ويكفي هذه الفريضة شرفاً أن تكون هدف الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من نهضته ودفع دمه الشريف ودماء أهل بيته وسبي عقائل النبوة ثمناً لإحياء هذه الفريضة، كما عبّر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) صريحاً بقوله:(وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، أريد أن أأمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب) (1)، وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ألا ترون أن الحق لا يُعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقّاً)(2).

وأشار الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى ذلك بتعبير آخر في الزيارة المخصوصة بيوم الأربعين فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة)(3) وهي من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ومن الطبيعي أن تحظى الفريضة بهذه الأهمية والمكانة العظيمة عند الشارع المقدس، لأن كل أمة – والأمة:هي الجماعة التي يجمعها أمر تشترك به ويكون محور اجتماعها ومحط أنظارها- لا يكتب لها البقاء والاستمرار إلا إذا حصّنت17

ص: 85


1- بحار الأنوار- العلامة المجلسي: 44/ 329
2- اللهوف في قتلى الطفوف- ابن طاووس:48
3- تهذيب الأحكام- الشيخ الطوسي:6/ 113/ح17

نفسها بالتدابير اللازمة من الداخل والخارج ضد الأعداء الذين يريدون القضاء عليها، بتفكيكها وتمزيقها وإضعافها من الداخل، أو باستئصالها والقضاء عليها من الخارج.وهذا هو شأن الدول أيضاً، لذا تتضمن المؤسسات الحاكمة في الدول المتحضرة وزارتين عُدّتا سياديتين لارتباط سيادة الدولة وحفظ وجودها بهما، وهما وزارة الداخلية لحفظ الأمن الداخلي وحماية النظام العام، ووزارة الدفاع لحماية حدودها وسيادتها من الاعتداءات الخارجية.

ويمكن تصور نفس الشيء في الأفراد، فقد زوّدهم الله تعالى بقوة لحماية سلامتهم من الداخل وهي المناعة التي توفرها كريات الدم البيض وسائر الاحتياطات الأخرى لوقايته من الأمراض والجراثيم والفايروسات التي تهاجم أجهزة بدنه، وزوّده بالسلاح الذي يدافع به عن نفسه من الاعتداء الخارجي، قال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحديد:25).

وقد أراد الله تعالى لهذه الأمة الإسلامية أن تكون خير أمة أخرجت للناس بنص الآية الشريفة، وأن تكون أمة خاتم الأنبياء ووارثة الأمم السابقة والمستخلفة في الأرض {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (القصص:5).

فلا بد من اتخاذ التدابير اللازمة لحفظ كيانها من الداخل وحمايته من

ص: 86

عوامل النخر والانهيار كالنفاق والجهل والتخلف والخرافات والفساد والرياء والشبهات والفتن والضلالات، فكانت وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.وشرّع في عرضها وظيفة أخرى لحماية كيان الأمة المسلمة ودولتها من الخارج ولنشر دعوة الإسلام إلى الأمم الأخرى وإزالة كل العوائق التي يضعها الطواغيت والمستكبرون في طريق تعرّف الأمم الأخرى على الإسلام ليختار كل واحد منهم عقيدته بحرّية {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} (الأنفال:42) فكانت فريضة الجهاد.

فوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة (سيادية) بالمصطلح السياسي المتداول، لقيام وجود الأمة وديمومتها وحفظ رسالة الإسلام من التحريف والتشويه والدس والتأويل بغير ما أنزل الله تعالى بهذه الفريضة، ولولا قيام من انتجبهم الله تعالى بها لما بقي من الإسلام إلا اسمه ومن القرآن رسمه، كالذي حلّ بالديانات السابقة على الإسلام، ففي الحديث الشريف المروي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):ويحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين، وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين، كما ينفي الكير خبث الحديد)(1).

ولكن القائمين بهذه الفريضة قليل، والجهد المطلوب لمكافحة الانحراف والفساد والتزوير كبير جداً، لذا انحرفت سيرة المسلمين ومسيرتهم منذ اللحظة الأولى بعد رحيل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلى الرفيق الأعلى.د.

ص: 87


1- سفينة البحار: 1/ 204 عن رجال الكشي، والكير: الزق الذي ينفخ فيه في الحداد.

وهذا ما حذّر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أمته من الوقوع فيه، وحذّر من التداعيات التي تحصل عقب ترك هذه الفريضة العظيمة، من ضياع القيم وانقلاب المنكر معروفاً والمعروف منكراً، فلا يستطيع أحد حينئذٍ أن يصلح ويغير لأن ما يأمر به من المعروف سيبدو منكراً لأن الناس يرونه معروفاً، وهو ما ابتلي به المصلحون على مرّ الدهور، وهذا أحد وجوه فهم الحديث الشريف عن الإمام المهدي (عج) أنه يأتي بدين جديد وقرآن جديد، لرسوخ الحالة المزيفة المقابلة للحق.وقد ورد تحذيره (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هذا في حديث مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟ فقيل له:ويكون هذا يا رسول الله؟ فقال:نعم، وشرٌّ من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ فقيل له:يا رسول الله، ويكون ذلك؟ قال:نعم، وشرٌ من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً)(1).

وهذه المراحل من الانحطاط كما ينتكس إليها المجتمع كذلك يرتكس فيها الفرد، فإنه في بداية الأمر له فطرة وضمير يعرف به الحق والباطل والحسن والقبيح فيرتاح إذا فعل الأول ويؤنّبه ضميره إذا فعل الثاني. لكنه بتزيينٍ من الشيطان وضغطٍ من النفس الأمارة بالسوء وعوامل أخرى يخالف هذا الضمير الداخلي من دون أن يصلح ما صدر منه ويعود إلى رشده، بل ينتقل إلى المرحلة الثانية عندما تأخذه العزة بالإثم ويكابر ويغالط فيحاول إقناع نفسه بما فعل أو2.

ص: 88


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 1، ح12.

تبريره أو الهروب منه بارتكاب مزيد من الخطأ ومقارفة الخطيئة كمن يهرب من جريمته بشرب المسكر أو بجريمة أخرى ليتناسى جريمته الأولى. ثم تأتي المرحلة الثالثة عندما يسودّ قلبه ويموت ضميره ويُطبع على قلبه ويتحول إلى شيطان فيرى المعروف منكراً والمنكر معروفاً.وعلى أي حال فقد حصل هذا الانقلاب في المفاهيم والقيم في وقت مبكر في صدر الإسلام وبلغ ذروته في عهد يزيد رغم حداثة العهد بنبي الإسلام (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، ولا زال جملة من الصحابة وبعض أزواج النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على قيد الحياة، فقام الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لإحياء هذه الفريضة كما في النصوص التي قدمنا ذكرها.

ويبدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أسفه للحال الذي وصلت إليه الأمة بسبب تضييعها لهذه الفريضة، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما طلب منه والي المدينة البيعة ليزيد:(إنا لله وإنا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام إذا ابتليت الأمة براعٍ مثل يزيد)(1).

وهي النتيجة التي حذّرهم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من الوقوع فيها، ففي الكافي والتهذيب وعقاب الأعمال بالإسناد عن الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إذا أمتية.

ص: 89


1- موسوعة كلمات الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 346، عن مقتل الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) للخوارزمي: 184، والفتوح: 5/ 17. ويلاحظ أن الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لم يذكر يزيد باسم أبيه في جميع كلماته؛ لأن أم يزيد حملت به وهي خارج بيت الزوجية عندما حصلت قطيعة وهجران بينها وبين معاوية وذهبت إلى أهلها مدة طويلة.

تواكلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من الله)(1).وروى الشيخ الطوسي (قدس سره) في التهذيب عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال:(لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البرّ، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسُلّط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء)(2).

ومما يؤسف له أن هذا التهاون في أداء الفريضة على الصعيد العملي تحول تدريجياً في أذهان جملة من الفقهاء إلى عدم الاهتمام بشأن هذه الفريضة في الآثار الفقهية المباركة – سواء كانت متوناً فقهية، أو كتباً استدلالية- إما لحرص العلماء الأعلام على تناول المسائل الابتلائية أو خشية من بعض الممارسات التي حصلت بسبب سوء التطبيق بحيث اتخذ عنوان هذه الفريضة لتحقيق مكاسب شخصية، أو تنفيذ مخططات للسلطة عندما كانت تتبنى ذلك، هذا من جانب ومن جانبٍ الكتب الاستدلالية، فلعل عدم التعرض لعدم وجود مطالب معمقة فيها تستحق جعلها موضوعات للأبحاث الاستدلالية، ففيهم من لم يتعرض لهذه الفريضة أصلاً(3)، ومنهم من تعرض لها باقتضاب – كالديلمي في المراسم- أوة.

ص: 90


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 1، ح4.
2- نهج البلاغة: ج4، باب الحكم والمواعظ، رقم 373.
3- أما المتون فكالمقنع للصدوق والانتصار والناصريات للسيد المرتضى والمبسوط للشيخ الطوسي وجواهر الفقه للقاضي، والغنية لابن زهرة. وأما الاستدلالية فكالمحقق البحراني في الحدائق والسيد العاملي في مفتاح الكرامة.

ضمن كتاب الجهاد كالكليني في الكافي والشيخ (قدس سره) في التهذيب حيث جعله الباب الأخير من كتاب الجهاد ذي الثمانين باباً، كما خلت رسائل عملية كثيرة من هذا الكتاب.وهذه المعطيات تلزمنا ببذل جهد إضافي لإحياء هذه الفريضة العظيمة علماً –من خلال إشباعها بالبحث وإثارة تفاصيلها-، وعملاً –بتفعيلها في حياة الأمة وضبط حركتها بقواعد الشريعة- والله ولي التوفيق وهو المستعان.

إن عملية الإصلاح التي هي رسالة الأنبياء والأئمة (سلام الله عليهم أجمعين) {إنْ أُريدُ إلا الإصْلاحَ مَا استَطَعْتُ وَمَا تَوفِيقِيَ إلا بِاللهِ} (هود:88) إنما تتحرك وتُنفَّذ على أرض الواقع من خلال هذه الفريضة المباركة والدعوة إلى الخير، فإحياء هذه الفريضة يعني مواصلة تأدية رسالة الرسل والأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) في كل ميادين الإصلاح(1) السياسي والاجتماعي والفكري والأخلاقي والتشريعي والاقتصادي.

فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القرآن الكريم:

وقد اهتم القرآن الكريم بهذه الفريضة أيّما اهتمام، وأوصل اهتمامه بها إلى العباد بأنحاء مختلفة:

(الأول) الأمر المباشر بها والعاقبة السيئة لتاركها، وأن سبب النجاة هو القيام بهذه الفريضة، أما من تركها ومن فعل عكسها فيشملهم العذاب.

كقوله تعالى:{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران :104)

ص: 91


1- راجع القبس/65 {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ} (هود:88), من نور القرآن: 2/ 249.

وقوله تعالى:{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (آل عمران :110).وقوله تعالى على لسان لقمان:{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (لقمان:17).

وقوله تعالى:{لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} (المائدة :63).

وقوله تعالى:{فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} (هود :116).

وقوله تعالى:{وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} (الأعراف :164- 165).

وقوله تعالى:{كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} (المائدة :79).

وقوله تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف:199).

ص: 92

(الثاني) إيراد هذه الوظيفة كصفة بارزة للربانيين والمؤمنين والدعوة للتأسي بهم:كقوله تعالى:{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل :90).

وقوله تعالى:{الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج :41).

وقوله تعالى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ} (الأعراف:157).

وقوله تعالى:{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} (التوبة:67).

وقوله تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَ-ئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة :71).

وقوله تعالى:{الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (التوبة :112).

أقول:فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صفات المؤمنين، ولازمه أن تاركها يخرج من دائرة الإيمان ولو بمرتبة من المراتب.

(الثالث) سوق هذه الوظيفة كغرض للتكاليف المهمة، وأن تركها هو همّ

ص: 93

الشيطان:كقوله تعالى:{إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} (العنكبوت:45).

وقوله تعالى:{وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} (النور:21).

(الرابع) الأوامر العامة والمطلقة التي تنطبق على هذه الوظيفة أو فُسِّرت بها:

كقوله تعالى(1):{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُ-مْ نَ-اراً وَقُودُهَ-ا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم :6).

ففي الكافي وتفسير القمي بإسنادهما عن أبي بصير قال:(سألت أبا عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن قول الله عز وجل:{قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} قلت:كيف أقيهم؟ قال:تأمرهم بما أمر الله، وتنهاهم عما نهى الله، فإن أطاعوك كنت قد وقيتهم، وإن عصوك كنت قد قضيت ما عليك)(2).

وفي الكافي عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لما نزلت هذه الآية جلس رجلٌ يبكي وقال:أنا عجزتُ عن نفسي وكُلِّفت أهلي! فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك، وتنهاهم عما تنهى عنه نفسك).

ويجري هذا العنوان على آيات كثيرة كقوله تعالى في سورة العصر:{إِلا7.

ص: 94


1- تناولناها بشكل مفصّل في القبس/159 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} (التحريم:6), من نور القرآن: 5/ 89.
2- الكافي: 5/ 62، ح1، 2. تفسير القمي: 2/ 377.

الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (العصر:3).أقول:لعلها من أهم الآيات(1) في بيان عظمة هذه الفريضة حيث أقسم الله تعالى بأن الإنسان في خُسر ولا يكفي للنجاة من هذا الخسران الإيمان والعمل الصالح وحدهما، بل لا بد أن ينضمّ معهما التواصي بالحق والتواصي بالصبر وهو شكل من أشكال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فالآية تفيد أن صلاح الإنسان في نفسه بالإيمان والعمل الصالح لا يكفي ولا بد أن يبذل وسعه في إصلاح الآخرين بشكل مكثف ومتواصل المعبّر عنه بالتواصي.

وقوله تعالى:{وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَ-كِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة:251).

وقوله تعالى:{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج:40).

والدفع يتحقق بفريضتي الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والآيتان تحذّران من مغبّة ترك الفريضة لأن عاقبته امتلاء الأرض بالفساد واضمحلال الدين وكيان المسلمين(2).91

ص: 95


1- تناولناها بشكل مفصّل في القبس/181 {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (العصر:3), من نور القرآن: 5/ 302.
2- راجع القبس/102 {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} (الحج:40), من نور القرآن: 3/ 191

وقوله تعالى:{وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة:2).أقول:أوضح مصاديق الآية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} (النساء:135).

وقوله تعالى:{وَاصبِر عَلَى مَا أَصَابَكَ} (لقمان:17)، في مجمع البيان عن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(اصبر على ما أصابك من المشقة والأذى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)(1).7.

ص: 96


1- البرهان: 7/ 287.

القبس /122: سورة الأحزاب:21

اشارة

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}

موضوع القبس:دعوة الى التأسي برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)

الاسوة بمعنى القدوة الذي يُتبَّع في الأقوال والأفعال والصفات الشخصية، فالأسوة لك هو من لك به اقتداء والأسوة من الاتسّاء كالقدوة من الاقتداء فهو اسم وضع موضع المصدر على وزنُ فعله كاللُقمة والأُكلة حيث تقال لما يُفعل به فالأسوة ما يؤتسى به وأصلها (أسو) بمعنى المداواة والإصلاح لذا يوصف الطبيب بأنه (آسي)، ويصلح به من الأفعال والصفات.

والآية وإن كانت بصيغة الأخبار الا انها تتضمن الدعوة والالزام بالتأسي برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في أقواله وأفعاله وغاياته وأهدافه وصفاته وملكاته لأن الانسان لابد له من أسوة وقدوة ليتعلم منه ويأخذ عنه، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه)(1) فعليه أن يتحقق من كون الأسوة حسنة صالحة ليتبعها قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)(إن أئمتكم وفدكم إلى الله، فانظروا من توفدون في دينكم وصلاتكم)(2).

ص: 97


1- نهج البلاغة: الخطبة 45 من كتابه الى عثمان بن حنيف
2- ميزان الحكمة :ج 1 / ص 124 عن البحار: 23 / 30 / 46.

وتضيف الآية بأنه لا يستجيب لهذه الدعوة ولا ينتفع بها الا من وثق بالله تعالى وما عنده من الثواب الجزيل وخاف الآخرة وحرص على جلب الخير والسعادة والكمال والفوز في الآخرة لنفسه {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب :21).ومن الطبيعي أن يختار الله تعالى لنا رسوله الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ليكون الأسوة الحسنة لنا لأنه أكمل الخلق وأرقى نماذج الإنسانية وقد اجتمعت فيه كل صفات الكمال، وكيف لا يكون كذلك وقد تولى الله تعالى صنعه وتربيته وتأديبه بحسب الحديث الشريف (أدبني ربي فأحسن تأديبي)(1)، ومن بعده الائمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من اهل بيته، قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (من سره أن يحيى حياتي، ويموت مماتي ويسكن جنة عدن التي غرسها الله فليوال عليا من بعدي، وليوال وليه، وليقتد بالأئمة من بعدي، فإنهم عترتي خلقوا من طينتي، رزقوا فهما وعلما)(2)، وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال في بيان منزلة الائمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) (هم أبواب العلم في امتي، من تبعهم نجا من النار، ومن اقتدى بهم هدي الى صراط مستقيم، لم يهب الله عز وجل محبتهم لعبد الا ادخله الجنة)(3).

وبذلك يكون اتخاذ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أسوة حسنة طريقاً لتطبيق الآية {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} (النحل :60) فقد صنعه الله تعالى ليكون وسيلة تحقيق هذا42

ص: 98


1- بحار الأنوار: 16/ 210، 68/ 382 ، 108 / 222
2- بحار الأنوار:ج 23 / ص 139/ ح85
3- ميزان الحكمة: 1/ 116 / عن امالي الصدوق: 74/ 42

الغرض فهو كتاب الله الناطق، وروي عن احدى أزواجه انها سئلت عن أوصافه فاختصرت الجواب قائلة (كان خلقه القرآن)(1)فالتأسي به (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) اتباع للقران الكريم، قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)(الا واني تارك فيكم الثقلين:احدهما كتاب الله عز وجل، هو الحبل الى الله، ومن تبعه كان على هدى، ومن تركه كان على الضلالة) فاصل ما يُتأسى به القران الكريم وسنة رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فهما صنوان لا يفترقان(2).

وكما ان القرآن شفاء وهدى ورحمة ونور وبيان وذكر ومبارك وحكيم ونحو ذلك مما ذكره القران الكريم فان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كذلك، وان القرآن وصف نفسه بأن فيه {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (النحل :89) و {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (الأنعام :38) فكذلك رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سفر واسع يجد فيه التواقون الى الكمال وطالبو السعادة والفلاح والنجاة كل ما يريدون.

أن التأسي يعني جعل حياة الأسوة الحسنة معياراً وميزاناً لسلوك المتأسي وصفاته ويجعلها فرقاناً في حياته يميزّ به بين ما يصح فعله وما لا يصح، ويسعى المتأسي الى ان يكون مثالاً ونسخة من الاسوة.

وصّور امير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) اكمل صور التأسي برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وقد كنت أتبعَهُ إتباع الفصيل أثر أمّه، يرفع لي في كل يوم من اخلاقه عَلَما، ويأمرني بالاقتداء به)(3)2.

ص: 99


1- شرح نهج البلاغة لابن ابي حديد: 6/ 340
2- ميزان الحكمة: 1/ 115 عن صحيح مسلم: 4/ 1874/ ح2408
3- نهج البلاغة:الخطبة القاصعة رقم 192.

إن تقديم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كأسوة حسنة يتطلب دراسة سيرته المباركة وتحليلها وعدم الاكتفاء بالسرد التاريخي والروائي لتشخيص جوانب التأسي سواء على صعيد حياته الشخصية وملكاته وصفاته الذاتية أو على صعيد منهجه في سياسة الأمة ورعاية شؤونها وقد قمتُ بمحاولة في هذا المجال وطبعت في كتاب (الأسوة الحسنة).وبالعودة إلى الآية الكريمة محل البحث نقول انها وقعت في سياق الحديث عن معركة الأحزاب وما رافقها من أهوال وكوارث ومخاوف حتى قال تعالى {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} (الأحزاب :10 – 11) لكن اقتحام النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بنفسه الشريفة ميدان العمل فيضرب بالمعول هنا ليحفر الخندق، ويحمل التراب هناك، ويشارك المجاهدين في اهازيجهم واشعارهم الحماسية، رفع من الروح المعنوية لهم وسكب عليهم الطمأنينة حتى أنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان أحياناً يلاطفهم ويرطب الأجواء فهو (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أسوة في شجاعته(1) وثباته وتواضعه وصدقه وتسليمه وعمله الدؤوب وحسن تخطيطه وتفانيه في سبيل الحق وغير ذلك مما افرزته سيرته المباركة والصبر على ذلك كله، روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (ولأن الصبر على ولاة الأمر مفروض لقول الله عز و جل لنبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ){فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ .

ص: 100


1- روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (كنّا اذا احمّر البأس ولقي القومُ القومَ اتقينا برسول الله ص)) فما يكون أحد أقرب الى العدو منه) (بحار الأنوار: 16/ 232) .

الرُّسُلِ} (الأحقاف :35) وإيجابه مثل ذلك على أوليائه وأهل طاعته بقول {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(1) .ولا يصح حصر مفاد الآية في تلك الأحداث بل هي دعوة عامة (لكم) أي لجميع البشرية أن تتأسى بالنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) اقتدوا بهدي نبيّكم فإنه افضل الهدي، واستنوا بسنته فإنها اهدى السنن)(2)، و(كان) هنا ليست كان الناقصة التي تعني ثبوت الوصف في زمان وارتفاعه في زمان آخر، بل هي كان التامة التي تفيد الثبات لأنه من شأنه ذلك وقد سبقتها (اللام) و (قد) لتفيد التحقق والتأكيد.

قال امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فتأسَّ بنبيك الأطيب الأطهر، (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فإن فيه أسوة لمن تأسى وعزاء لمن تعزى. وأحب العباد إلى الله المتأسي بنبيه، والمقتص لأثره.

قضم الدنيا قضما، ولم يعرها طرفا. أهضم أهل الدنيا كشحا، وأخمصهم من الدنيا بطنا، عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها، وعلم أن الله تعالى أبغض شيئا فأبغضه، وحقر شيئا فحقره، وصغر شيئا فصغره.

ولو لم يكن فينا إلا حبنا ما أبغض الله ورسوله، وتعظيمنا ما صغر الله ورسوله لكفى به شقاقا لله تعالى ومحادة عن أمر الله تعالى)(3)60

ص: 101


1- نور الثقلين: 4/ 535 ح 38.
2- نهج البلاغة: خطبة 110
3- نهج البلاغة: خطبة 160

وروى في مجمع البيان إن ثعلبة بن حاطب وكان رجلاً من الأنصار قال للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (ادع الله أن يرزقني مالاً، فقال:يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، اما لك في رسول الله أسوة حسنة، والذي نفسي بيده لو أردتُ أن تسير الجبال معي ذهباً وفضة لسارت)(1)، فلم يتأسَّ بنبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وآل أمره إلى الخسران وروي أنه المقصود بقوله تعالى {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} (التوبة :75)ولا شك في عدم قدرة أحد على الوصول إلى منزلة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لكننا مطالبون ببذل الوسع في تحقيق الحالة قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن اعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد)(2) وكلما حالة التأسي ارتقت منزلة المتأسي، قال تعالى {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} (إبراهيم :36) وقال تعالى {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} (آل عمران :68)

إن التأسي به (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لا يقتصر على حياته الشخصية فنستفيد منها في حياتنا كأفراد بل على القادة أن يتاسوا به كأعظم قائد ومصلح عرفته البشرية واستطاع تأسيس خير أمة أخرجت للناس، وإن في سلوكه مع أصحابه في معركة الأحزاب درساً لكل المصلحين والقادة والزعماء والمسؤولين، وهكذا على الآباء أن يتأسوا به كأب والأزواج كزوج والأصدقاء كصديق والمربيّن كمربي والسائرين الى الكمال كأفضل خلق الله تعالى، فهو (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) طبيب آسي حقاً كما وصفه أميريف

ص: 102


1- مجمع البيان: 5/ 52، نور الثقلين: 4/ 535 ح 39
2- نهج البلاغة: 3/ 70 رقم 45 من كتابه الى عثمان بن حنيف

المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّه قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَه - وأَحْمَى مَوَاسِمَه يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْه - مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ وآذَانٍ صُمٍّ - وأَلْسِنَةٍ بُكْمٍ - مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِه مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ - ومَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ)(1) .لقد ورد لفظ الأسوة الحسنة في القرآن الكريم في موضع آخر، قال تعالى {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا} (الممتحنة :4) وقال تعالى بعدها {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} (الممتحنة:6) لكنها دعوة للتأسي بموقف محدد ذكرته الآية، اما الأسوة المحمدية فهي مطلقة في كل شيء، ولذا استدل بعضهم بالآية على عصمة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأن الله تعالى لا يدعو الى التأسي والاقتداء بأحد في كل شيء الا اذا كان معصوماً من الخطأ والزلل، وتدل بالتبع على عصمة أئمة اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) امر باتباعهم والاقتداء بهم كما في الاحاديث المتقدمة.

ولا يخفى ما في الآية من تعريض بكثير من المسلمين الذين كانوا جزءاً من المجتمع الإسلامي الملتصق برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الا أنهم لم يحسنوا التأسّي برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وخالفوه عن علم وعمد والشواهد كثيرة من سيرة الصحابة في حياته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبعدها كصلاة التراويح التي أقاموها رغم نهي النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن صلاة الجماعة في المستحبات(2)، وتحريم المتعة رغم إقرارهم بترخيص النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فيها(3)، والفرار من المعارك وترك النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) محاطاً بالأعداء(4)، والانقلاب علىة.

ص: 103


1- نهج البلاغة: 207/ خطبة رقم: 108
2- أنظر: صحيح البخاري: 7/ 99.
3- أنظر: بحار الأنوار- المجلسي: 30/ 637- 53/ 28.
4- أنظر: مسند أحمد- أحمد بن حنبل: 9/ 282, ط. الرسالة.

الاعقاب في حياته وعند وفاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، واقصاء أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من بعده رغم أخذه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) البيعة منهم على ولايته بعده(1) وظلم أهل بيته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وغيرها.ان وجود الأسوة الحسنة على الأرض من أعظم وسائل الاقناع برسالة الإسلام، وان كثيراً من الناس دخلوا الإسلام من دون ان يقرأوا أو يسمعوا عنه شيئاً لكنهم رأوا سيرة الأسوة الحسنة وهو النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من أهل بيته فاقتنعوا بأحقية ما يدعون إليه.

وان تأثير رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في أصحابه مما شهد به اعداؤه حتى تملكهم الرعب وملأهم يأساً واحباطاً، ولنأخذ شاهداً على ذلك قول زعيم ثقيف عروة بن مسعود الثقفي لما أرسلته قريش ليستطلع خبر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عندما نزل الحديبية هل يريد زيارة البيت الحرام أم قتالهم، روى ابن هشام قال (فقام من عند رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقد رأى ما يصنع به أصحابه، لا يتوضأ الا ابتدروا وضوءه، ولا يبصق الا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شيء الا أخذوه، فرجع الى قريش فقال:يا معشر قريش:اني قد جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه، واني والله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء أبداً، فروا رأيكم)(2).

وهذا يبرز أهمية وجود الأسوة الحسنة في حياة الأمة، لعدم إمكان التفكيك بين الرسالة وحاملها وقد عبرّ أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن هذه الملازمة بقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)يل

ص: 104


1- أنظر: الكافي- الشيخ الكليني: 8/ 344.
2- السيرة النبوية لابن هشام: 3/ 201 طط دار الجيل

(اني والله ما أحثكم على طاعة الا وأسيقكم إليها ولا أنهاكم عن معصية الا واتناهى قبلكم عنها)(1) فعلى من يتصدى لشأن من شوؤن الناس يجعله في مقام الاسوة والقدوة ان يؤهل نفسه أولا لهذا المقام، روي عن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من نصب نفسه للناس إماما فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه)(2)ولذا قالوا:ان الواعظ إذا لم يكن متعظاً فلا يؤثر في القلوب ولا يهذب النفوس، ومن وصايا الامام الحسن العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لشيعته (اتقوا الله وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً، جرّوا إلينا كل مودة وادفعوا عنا كل قبيح)(3) ولا يجرّون المودّة إلى أئمتهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الا عندما يعكسون صورة الأسوة الحسنة في حياتهم وقد بيّن الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ذلك في نفس الوصية فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فان الرجل منكم اذا ورع في دينه وصدق في حديثه وأدى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل:هذا شيعي فيسرّني ذلك).

وفي ضوء هذه الملازمة نفهم خطورة وجود القدوة السيئة والمنحرفة، قال امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ولا يجنح بكم الغي فتضلوا عن سبيل الله باتباع أولئك الذين ضلوا وأضلوا)(4) قال الله تعالى {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا43

ص: 105


1- نهج البلاغة: 250 الخطبة 175
2- بحار الأنوار :ج 2 /ص 56/ ح33
3- تحف العقول: 361 ط. مؤسسة الأعلمي
4- بحار الأنوار:ج 94 / ص 116، مصباح المجتهد: 756/ 843

فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا،رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} (الأحزاب :67- 68)خصوصاً التي تحمل عنوان الاسلام وتدّعي العمل به كالمجاميع الإرهابية واجندات التعصب والتكفير والعنصرية فان خطرها عظيم على الإسلام وينفر الناس من الشريعة الإلهية السمحاء، وقد اتخذ اعداء الإسلام هذا الاسلوب لمحاربة الاسلام ومحاصرته من خلال صناعة مثل هذه النسخ الضالة المنحرفة، وخلق ما يعرف بالإسلام فوبيا أي الخوف من الإسلام، من كتاب امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الى معاوية (لبئس الخلف خلف يتبع سلفاً هوى في نار جهنم)(1).

ان الأسوة الحسنة قد لا يحتاج إلى الكلام مع الناس ليصلحهم ويهديهم وإنما يؤثر فيهم بسلوكه وأخلاقه وقد حثّ الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) على ذلك بقولهم (كونوا لنا دعاة صامتين)(2) و(كونوا لنا دعاة بأفعالكم لا بأقوالكم) وهكذا أثر أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في الأمة بحيث تكفي دقائق من اللقاء بهم أو الاطلاع على سيرتهم والاستماع إلى حديثهم لانقلاب العدو الحاقد إلى صديق حميم وهو يقول {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام :124) تصديقا لقوله تعالى {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت :34) والشواهد على ذلك كثيرة ومعروفة نذكر منها واحداً من حياة الامام الحسن العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فقد روى الشيخ المفيد في الارشاد وصاحب اعلام الورى، انه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قد سجن عند القائد10

ص: 106


1- نهج البلاغة: كتاب 17
2- مستدرك الوسائل: 1/ 116 ، 8/ 310

التركي (علي بن اوتامش وكان شديد العداوة لآل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) غليظاً على آل ابي طالب وقيل له افعل به وافعل -- أي شدّد عليه وعامله بقسوة -- قال فما اقام الا يوماً واحداً حتى وضع خدَّه له وكان لا يرفع بصره إليه اجلالاً واعظاماً وخرج من عنده وهو أحسن الناس بصيرة وأحسنهم قولاً فيه)(1) وقد عاتب العباسيون القائد التركي المتنفذ في الدولة صالح بن وصيف لعدم التضييق على الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال لهم صالح (ما أصنع به وقد وكلّت رجلين شر من قدرت عليه فقد صاروا من العبادة والصلاة إلى أمر عظيم، ثم أمر بإحضار الموكلين فقال لهما:ويحكما ما شأنكما في أمر هذا الرجل فقالا له:ما نقول في رجل يصوم نهاره ويقوم ليله كله لا يتكلم ولا يتشاغل بغير العبادة فاذا نظر الينا ارتعدت فرائصنا وداخلنا مالا نملكه من أنفسنا)(2).ان التأسي برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حياته الشخصية والاجتماعية كفيل بإحداث نقلة إصلاحية عظيمة في حياة الأمة كالتي أحدثها هو (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حين صنع من القبائل العربية المتخلّفة الجاهلة المتناحرة المنحطّة خلقياً أمة واحدة متماسكة حضارية قادت ما لا يقل عن نصف العالم المعروف آنذاك، وصنع من افراد المسلمين افذاذاً نادرين.

إن استيعاب السيرة الحسنة للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتمثّلها في حياتنا ليس فقط مسؤولية فردية لتحصيل القرب من الله تبارك وتعالى ونيل الكمالات وانما هي51

ص: 107


1- بحار الأنوار: 50/ 307 ح 4 عن الارشاد للمفيد: 2/ 329 – 330 وإعلام الورى:2/ 150
2- بحار الأنوار: 50/ 308 ح 5 عن الارشاد للمفيد: 2/ 334 وإعلام الورى:2/ 150- 151

مسؤولية اجتماعية على الأمة أن تتحرك باتجاهها في ضوء التحديات الكثيرة التي تواجهنا ومنها:1 - تسافل العالم الى مستوى من الجاهلية انحطّ كثيراً عن الجاهليات السابقة(1) وهو يلزمنا بانبعاث رسالي جديد في موازاتها.

2 - اننا مسؤولون عن التمهيد للدولة الكريمة المنتظرة وتعجيل الظهور الميمون، ومن متطلّباته اقناع البشرية بالإسلام المحمدي الأصيل وهو المشروع الذي ينهض به الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأفضل وسيلة لتحصيل هذه القناعة هو تجسيد الأسوة الحسنة في حياتنا، وقد ورد عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (فان الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا)(2) وقد علّمنا الامام الحجة المنتظر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاء الافتتاح أن نقول (اَللّ-هُمَّ اِنّا نَرْغَبُ اِلَيْكَ في دَوْلَة كَريمَة تُعِزُّ بِهَا الاْسْلامَ وَاَهْلَهُ، وَتُذِلُّ بِهَا النِّفاقَ وَاَهْلَهُ، وَتَجْعَلُنا فيها مِنَ الدُّعاةِ اِلى طاعَتِكَ، وَالْقادَةِ اِلى سَبيلِكَ، وَتَرْزُقُنا بِها كَرامَةَ الدُّنْيا وَالاْخِرَةِ)(3) وهذه مرتبة عظيمة لا تنال الا بالتأسي برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأهل بيته الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين).

3 - إن المسلمين اليوم ضائعون ممزقون متخلفون قد استمرؤا التبعية والعبودية لاعدائهم ومن يكيد لهم فهذا متخندق مع الغرب وذاك مع الشرق حتى تحالفوا مع اعدائهم ضد اخوانهم وأحد الأسباب المهمة في بلوغهم هذااح

ص: 108


1- راجع المقارنة بين الجاهليتين في ملحق (شكوى القران), من نور القرآن: 3/ 283
2- عيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):1/ 307 ، معاني الاخبار:180
3- مفاتيح الجنان: دعاء الافتتاح

الانحطاط فقدان الأسوة الحسنة فلابد من إيجادها ليعودوا إلى حياة العزة والكرامة والانعتاق من العبودية الا لله تبارك وتعالى.

ص: 109

ملحق (1):كراهة عدم الاتيان بسنن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولو مرة واحدة في العمر

روي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إني لأكره للرجل أن يموت وقد بقيت خلة من خلال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يأت بها)(1).

وجعل الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سنن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وسيرته ميزاناً يعرف بها الإنسان درجة صلاحه، فقد روى الشيخ الصدوق بسنده عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إنّ الله خصّ رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بمكارم الأخلاق فامتحنوا أنفسكم، فإن كانت فيكم فاحمدوا وارغبوا إليه في الزيادة منها).(2)

وهذا يدعونا إلى البحث والتحري عن سنن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى نتمكن من التأسي بها، ونحن لا نتوقع التمكن من الإتيان بها جميعاً، لكن علينا أن نسعى إلى تحقيق أكبر مقدار نستطيعه ونحافظ عليه وعندئذٍ يوفّقنا الله تعالى لا زيد من ذلك فنلتزم به ونحافظ عليه فنوفّق للمزيد وهكذا بالتدريج.

وسنن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومكارم أخلاقه تفوق حد الحصر، وما بين أيدينا هو ما نقل لنا منه عبر الروايات أما مقاماته وخصاله وملكاته فلا يعرفها إلا الله تبارك وتعالى.

ونحاول في هذه العجالة أن نقف عند بعض هذه السنن وأول مصدر لسننه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وآدابه التي أدّبه بها ربّه هو القرآن الكريم، وقد سجّل لنا جملة منها كقوله

ص: 110


1- بحار الأنوار: 16/ 254 عن مكارم الأخلاق للطبرسي: 39.
2- وسائل الشيعة كتاب جهاد النفس أبواب جهاد النفس باب4 ح1.

تعالى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(آل عمران:159)وقوله {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف:199)

وقوله {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (النمل:91)

وقوله {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} (الروم:60)

وقوله {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً} (الكهف:23)

وقوله {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} (الإسراء:79)

وقوله {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (العنكبوت:45).

ومن الروايات الجامعة لمكارم أخلاقه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وسننه:وصيته لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) التي رويت في الكتب المعتبرة عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) :يا علي اوصيك في نفسك بخصال فاحفظها ثم قال :اللهم اعنه، اما الاولى فالصدق لا يخرجن من فيك كذبة ابدا، والثانية الورع لا تجترأنّ على خيانة ابدا، والثالثة الخوف من الله كأنك تراه، والرابعة كثرة البكاء من خشية الله عزّ وجلّ يبني لك بكل دمعة بيت في الجنة، والخامسة بذل مالك ودمك دون

ص: 111

دينك، والسادسة الاخذ بسنتي في صلاتي وصيامي وصدقتي، اما الصلاة فالخمسون ركعة، واما الصوم فثلاثة ايام في كل شهر خميس في اوله، وأربعاء في وسطه، وخميس في آخره، واما الصدقة فجهدك حتى يقال :اسرفت ولم تسرف، وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الليل، وعليك بصلاة الزوال، وعليك بقراءة القرآن على كل حال، وعليك برفع يديك في الصلاة، وتقليبهما، عليك بالسواك عند كل صلاة، عليك بمحاسن الاخلاق فاركبها، عليك بمساوئ الاخلاق فاجتنبها، فإن لم تفعل فلا تلومن الا نفسك)(1).وقد تضمنت هذه الوصية عدّة محاور من سنته الشريفة منها على صعيد الصفات القلبية -كالورع والخوف من الله تعالى- ومنها على صعيد الخصال النفسية – كالصدق- ومنها على صعيد الأعمال الخارجية كالصوم والصلاة والصدقة.

ويعلمنا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن العمل بهذه السنن والأخذ بها لا يتحقق إلاّ بألطافٍ إلهية خاصة، لذلك فإنّه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يدعو لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اللهمّ أعنه).

وقد علمنا الأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أن ندعو نحن أيضاً بهذا الدعاء كالذي ورد في الدعاء اليومي لشهر شعبان (اللهم فأعنّا على الاستنان بسنته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فيه)(2).

كان (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يجتهد في العبادة فقيل له (يا رسول الله غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخّر وأنت تجهد هذا الاجتهاد؟ فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):أفلا أكون عبداً08

ص: 112


1- وسائل الشيعة كتاب الجهاد أبواب جهاد النفس، باب 4 ح1.
2- مفاتيح الجنان: 208

شكورا)(1)، وصفة العبودية لله تعالى وحده والتحرّر من طاعة غيره هي مصدر كل الكمالات الأخرى لذلك اختارها الله لتكون الصفة التي يسلّم عليه بها يومياً في صلواتنا (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله).وأذكر لكم عملاً عبادياً بسيطاً لو واظبتم عليه تكونون ممن أخذ بسنة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وجدّه إبراهيم الخليل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حيث أمرنا بالتأسي به أيضاً قال تعالى {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} (الممتحنة :4) وهي صلاة ركعتين يوم الجمعة بين الظهر والعصر، تقرأ في كلٍ منهما بالحمد مرة والتوحيد سبع مرات فإذا فرغت منها تقول (اللهمّ اجعلني من أهل الجنة التي حشوها البركة وعمّارها الملائكة مع نبينا محمد ص وأبينا إبراهيم ع)، روي عن الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ):أنّ من صلاّها لم تضره بليّة ولم تصبه فتنة إلى الجمعة الأخرى، وجمع الله بينه وبين محمدٍ وبين إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).(2)

ومن سنن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) التي أكّد عليها وذمّ تركها الزواج وحبذا أن يكون مبكّراً روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(تزوّجوا فإنّ التزويج سنة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فإنّه كان يقول:من كان يحبّ أن يتّبع سنتي فإنّ من سنّتي التزويج، واطلبوا الولد فإنّي مكاثر بكم الأمم).(3)

ومن سننه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) منع نقل أي كلام عن الآخرين يؤدي إلى إيجاد حزازة في الصدر على الإخوان لذلك روى عن ابن مسعود عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنّه قال (لا يبلغني6.

ص: 113


1- وسائل الشيعة كتاب الجهاد أبواب جهاد النفس، باب 4 ح2.
2- مفاتيح الجنان: 90 أعمال يوم الجمعة فقرة 26.
3- وسائل الشيعة، كتاب النكاح، أبواب مقدماته، باب1 ح6.

أحدٌ منكم عن أصحابي شيئا فإنّي أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر).(1)وكانت أبغض خصلة له (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الكذب فقد رُوي عن أمّ المؤمنين عائشة قولها (كان أبغض الخلق إليه الكذب) وقالت:(كانت (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إذا اطّلع على أحدٍ من أهل بيته كذبَ كذبةً لم يزل معرضاً عنه حتى يحدث توبة).(2)

وكان يحبّ صفة الرحمة للناس والشفقة عليهم والعفو عن إساءاتهم وقضاء حوائجهم. قال تعالى {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة:128).

وكان (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول (أيّها الناس إنّما أنا رحمة مهداة).(3)

وسُئلَ الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بِمَ ساد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الخَلق، فأجابَ بما مضمونه:بخصلتين العفو عمن ظلمه وأنّه لا يرد سائلاً.

تصوروا لو أنّ هذه الصفات (الصدق، الرحمة، العفو إلى المسيء، العمل على تحقيق مصالح الناس وإسعادهم) توفّرت في قادة البلاد هل تصل الحال إلى ما نحنُ عليه الآن من التمزّق والتناحر والصراع الطائفي والعرقي والفساد والعبث بأموال الشعب، فإذا أردنا الحل فإنّه يبدأ من الالتفات إلى هذه المبادئ السامية والأخلاق الكريمة حتى تتحوّل إلى خلق ثقافة عامة مبنيّة عليها، والعمل الجاد لترسيخها والله تعالى وليّ التوفيق.

ومن سُننه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ما روته السيدة الزهراء (صلوات الله عليها) قالت:(دخل عليَّ2.

ص: 114


1- بحار الأنوار: 16/ 231 عن مكارم الأخلاق: 17.
2- ميزان الحكمة: 8/ 571 عن كنز العمال: ح18379 و 18381.
3- ميزان الحكمة: 8/ 542 عن الطبقات الكبرى: 1/ 192.

رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقد افترشتُ فِراشي للنوم، فقالَ لي يا فاطمة:لا تَنامي إلاّ وقد عملتِ أربعة:ختمتِ القرآن، وجعلتِ الأنبياء شُفعائكِ، وأرضيتِ المؤمنين عن نفسكِ، وحججتِ واعتمرتِ، قال هذا وأخذَ في الصلاة، فصبرتُ حتّى أتمّ صلاته، قلت:يا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، أمرتَ بأربعة لا أقدر عليها في هذا الحال، فتبسّم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وقال:إذا قرأتِ (قُل هو الله أحد) ثلاث مرات فكأنكِ ختمتِ القرآن، وإذا صلّيتِ عليَّ وعلى الأنبياء قبلي كُنّا شُفعائكِ يوم القيامة، وإذا استغفرتِ للمؤمنين رضوا كلّهم عنكِ، وإذا قُلتِ:سُبحانَ الله، والحمدُ لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر فقد حججتِ واعتمرتِ)(1).ومن مستحبات ما قبل النوم تسبيح الزهراء (س) والنوم على طهور وقراءة سورة التكاثر للوقاية من فتنة القبر كما رويَ عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)(2).25

ص: 115


1- صحيفة الزهراء (س)- الشيخ جواد القيومي: 164
2- أنظر: الكافي- الشيخ الكليني: 3/ 468,- بحار الأنوار- المجلسي: 82/ 335,- ثواب الأعمال- الصدوق125

ملحق(2):حاجتنا الى الاسوة الحسنة

ملحق(2):حاجتنا الى الاسوة الحسنة(1)

أن أي رسالة إصلاحية ومنها رسالة الإسلام، لابد لها لكي تنجح في بناء أمة من شكلين من المقومات سميناهما الذاتية والموضوعية، وقلنا إن الذاتية منهما لها دعامتان:

الأولى:ما يرجع إلى ذات الرسالة، أعني شريعة الإسلام التي توفرت فيها كلّ عناصر الكمال من الاستيعاب لكلّ شيء، كما قوله تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (الأنعام:38)، ومن خطابها للجميع في قوله تعالى:{هُدىً لِلْعَالَمِينَ} (آل عمران:96)، ومن خلودها قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(حتى يردا عليّ الحوض يوم القيامة)(2)، ومن صيانتها من الانحراف والتغيير، قوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر:9) وغيرها مما لا يحتاج إلى بيان، لأنها صنعة الله تبارك وتعالى الذي له الأسماء الحسنى.

الثانية:ما يرجع إلى ذات الرسول وهو النبي محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو أكمل الخلق، ربًته يد الرعاية الإلهية، لعدم وجود من هو أكمل منه حتى يُربيه ويأخذ بيده في

ص: 116


1- محاضرة القيت على حشد من فضلاء الحوزة العلمية وطلبتها في مسجد الرأس الشريف يوم 16/ربيع الأول/ 1423 المصادف 28/ 5/ 2002 في ذكرى المولد النبوي الشريف، ونشرت في موسوعة خطاب المرحلة:1/ 290 ثم تلتها محاضرة أخرى في تلك الفترة واعيد تسجيلها كمحاضرات لقناة الانوار الفضائية سنة 1426/ 2005 وقد طبعت في كتاب (الاسوة الحسنة)
2- تاريخ بغداد- الخطيب البغدادي: 14/ 322,- بحار الأنوار- المجلسي: 38/ 29

مدارج الكمال، وعن ذلك قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(أدبني ربي فأحسن تأديبي)(1).ولا تكون الرسالة فاعلة ومؤثرة وتؤدي دورها في حياة الأمة إذا لم يكن حاملها مستوعباً لها قد أُشرب بها وتمثلها في حياته وجسدَها في سلوكه وواقعه، حتى عاد صورة خارجية لها وعادت صورة نظرية له، لذا لما سُئِلت إحدى أمهات المؤمنين عن سيرة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأخلاقه قالت باختصار:(كان خلُقه القرآن)(2).

ولعدم إمكان التفكيك بين النظرية - ولا أقصد بالنظرية ما يراد منها في المصطلح أعني المعلومة القابلة للصحة والخطأ، وإنما أعني مجموع ما احتوت عليه الرسالة من أصول وفروع وأخلاق التي أسسها القرآن الكريم - والتطبيق، أي بين الرسالة وسلوك القائمين عليها، صار الناس لا يقتنعون بأي رسالة مهما كانت ترفع من مبادئ ومثل وأخلاق عالية ونبيلة إذا كان حاملوها والقائمون عليها أول من يخالفها.

وهذا أحد أسباب انحطاط المسلمين وتشوه صورة الإسلام، فكيف يقتنع الناس بحرمة شرب الخمر إذا كان حاكم المسلمين أو ولاته يشربونها على منابر المسلمين؟ وكيف يقتنعون بحرمة الغناء أو السفور أو ممارسة الفاحشة إذا كان الخليفة يعقد الليالي الحمراء لإقامتها؟

ونحن - الحوزة العلمية وكل مؤمن رسالي - حملة رسالة إصلاحية كيف نستطيع أن نردع الناس عن الغيبة وإهانة المؤمن إذا كنا نلوكها بألسنتنا؟ وكيف0.

ص: 117


1- كنز العمال: 11 / 406.
2- شرح نهج البلاغة لإبن ابي الحديد ج 6 ص 340.

نمنعهم من مشاهدة الأفلام والمسلسلات إذا كان هذا الجهاز اللعين في بيوتنا؟ وكيف نأمرهم بالصلاة في أوقاتها إذا كنا ننام عن صلاة الصبح؟ وكيف نحثهم على صلاة الليل ونحن لا نؤديها؟ أو نحثهم على إفشاء السلام ونحن لا نرد التحية بمثلها؟ فضلاً عما هو أحسن منها، وكيف نقنعهم بترك التدخين ونحن نزاوله ونصرف الأموال في سبيله بدلاً من أن ننفقها في قضاء حوائج المؤمنين وما أكثرهم اليوم.هذا الترابط الوثيق بين الرسالة وسلوك حاملها عبّر عنه أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ما أمرتكم بطاعة إلاّ كنت أول من يؤديها، ولا نهيتكم عن معصية إلاّ كنت أول من يجتنبها)(1)، ولذا قالوا:إنّ الواعظ إذا لم يكن متعظاً لم يؤثر في القلوب ولم يهذب في النفوس.

لا قيمة للعلم إذا لم يقترن بالعمل:

ومن هنا أكدت أحاديث المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) على ضرورة اقتران العلم بالعمل، وأنهّ لا قيمة للعلم إذا لم يقترن بالعمل، فعن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قول الله عز وجل:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر:28) قال:(يعني بالعلماء من صدَق فعله قوله، ومن لم يصدق فعله قوله فليس بعالم)(2)، وعن سليم بن قيس الهلالي قال:سمعت أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يحدَث عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال في كلام له:(العلماء رجلان:رجل عالم آخذ بعلمه فهذا ناجٍ، وعالم تارك2.

ص: 118


1- تفسير كنز الدقائق: 2 / 194.
2- الكافي: 1 / 36، ح2.

لعلمه فهذا هالك، وإن أهل النار ليتأذون من ريح العالم التارك لعلمه، وإن أشد أهل النار ندامة وحسرة رجل دعا عبداً إلى الله فاستجاب له وقبل منه فأطاع الله فأدخله الله الجنة، وأدخل الداعي النار بتركه علمه واتباعه الهوى وطول الأمل، أما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة)(1)، وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(العلم مقرون إلى العمل، فمن علم عمل ومن عمل علم، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلاّ أرتحل عنه)(2)، وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(أيها الناس إذا علمتم فاعملوا بما علمتم لعلكم تهتدون، إن العالم العامل بغيره كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق عن جهله، بل قد رأيت أن الحجة عليه أعظم والحسرة أدوم على هذا العالم المنسلخ من علمه منها على هذا الجاهل المتحير في جهله، وكلاهما حاير باير)(3)، وعن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قول الله عز وجل:{فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ}(الشعراء:94) قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(هم قوم وصفوا عدلاً بألسنتهم ثم خالفوه إلى غيره)(4).هذه الوشيجة بين النظرية والتطبيق أو قل بين الرسالة وسلوك حاملها نخرج منها بعدة نتائج:4.

ص: 119


1- الكافي: 1 / 44، ح1.
2- الكافي: ح2.
3- الكافي: ح6.
4- الكافي: 1 / 47، ح4.

1 - إن الشريعة كلما كانت أكمل فحاملها يكون أكمل، ولما كانت شريعة الإسلام أكمل الشرائع الإلهية فيكون رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أكمل الخلق وأشرفهم.

2 - إن شريعة الإسلام خالدة ودائمة، فيكون وجود المعصوم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) دائمياً ومستمراً، وهو ما نعتقد به ودلت عليه الأحاديث الشريفة التي مضمونها:(لا تخلو الأرض من حجة قائم مشهور أو خفي مستور)(1)، وما جاء في حديث الثقلين:(إنيّ تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً:كتاب الله، وعترتي أهل بيتي)(2).

3 - إن الاعتداء على حامل الرسالة وممثليها من أنبياء أو أئمة إنما هو اعتداء على الشريعة نفسها، وبالعكس فإن أي اعتداء على الشريعة بتحريفها أو تمييعها أو مخالفتها إنما هو اعتداء على حامل الرسالة نفسه، لذا ورد في تفسير قوله تعالى:{وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ} (البقرة:61) أي بتحريف تعاليمهم ومخالفتها وتشويهها، فليعلم هؤلاء الذين يعصون الله تبارك وتعالى بترك الصلاة أو الخمس أو السفور أو التبرج أو ترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو يشيعون الفاحشة في المجتمع المسلم بنشر الصور الخلاعية وفتح محلات الفسق والفجور إنما يقتلون بها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمير المؤمنين والأئمة الطاهرين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).ح9

ص: 120


1- الأمالي- الشيخ الصدوق: 253
2- وسائل الشيعة (آل البيت): 27/ 33/ح9

4 - إن الإسلام إنما يتقدم وينتشر وتحصل القناعة به بتقدم أبنائه - خصوصاً العلماء والحوزة الشريفة والمؤمنين الرساليين - وتكاملهم وحسن تجسيدهم له، فحينما يقول الحديث:(العلماء أمناء الرسل، وحصون الإسلام)(1) إنما يشير إلى هذه المسؤولية المزدوجة (أعني المسؤولية النظرية أو قل العلمية، ببيان محاسن الإسلام وعظمة تشريعاته وتكاملها وقدرتها على قيادة البشرية نحو السعادة والصلاح، والمسؤولية العملية بتمثيل الإسلام في سلوكهم وتفاصيل حياتهم) فهاتان مسؤوليتان لا تنفكان عن بعضهما.

وقد وعدت الأحاديث الشريفة بأنّ الله تعالى يقيّض لهذا الدين في كلّ زمان من يمثله هذا التمثيل، ليكون حصناً حقيقياً للإسلام، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)(2) فكونوا من هذا الخلف، فإنها فرصة متاحة لأي أحد يعمل بجد واجتهاد لتأهيل نفسه لهذا الموقع، والله تعالى لا يبخل بإعطاء المستحق حقه وهو القائل:{وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} (الأعراف:85).

أهمية الأسوة الحسنة:

لأجل هذه النقاط ركز القرآن الكريم على أهمية الأسوة الحسنة في تربية البشر وهدايتهم وإصلاحهم، قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب:21) فقد يؤثر الأسوة الحسنة في حياة الناس أكثر مما تؤثر فيهم كتب كثيرة، وأكدته

ص: 121


1- ميزان الحكمة- الريشهري: 3/ 2101
2- الكافي: 1 / 32، ح2.

الأحاديث الشريفة كما في قوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(كونوا لنا دعاة صامتين... كونوا لنا دعاة بأفعالكم لا بأقوالكم)(1).وبمقدار ذلك تكون خطورة القدوة السيئة(2) والعياذ بالله، لذا ورد التهديد الكبير للعلماء إذا نكبوا عن الصواب وفارقوا الطريقة المثلى، لأن هذا يؤدي إلى إعراض الناس عن الشريعة، فعن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إذا رأيتم العالم محباً لدنياه فاتهموه على دينكم، فإن كلّ محب لشيء يحوط ما أحب، وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):أوحى الله إلى داود (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):لا تجعل بيني وبينك عالماً مفتوناً بالدنيا، فيصدك عن طريق محبتي، فإن أولئك قطاع طريق عبادي المريدين، إن أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي عن قلوبهم)(3)، وعن حفص بن غياث عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(يا حفص، يُغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد)(4)، وعنه إنّه قال:قال أبو عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):قال عيسى بن مريم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ويل لعلماء السوء كيف تلظى عليهم النار)(5) وقد اشتهرت كلمة بعضهم:(إذا فسد العالِم فسد العالَم).

إننا اليوم أحوج ما نكون إلى عرض صورة الأسوة الحسنة في حياتنا، فنحن مسؤولون أكثر من أي وقت مضى عن دراسة حياة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وسيرته2.

ص: 122


1- مستدرك الوسائل: 1 / 116.
2- كالمطرب والممثل والرياضي.
3- الكافي: 1 / 46، ح4.
4- الكافي: 1 / 47، ح1.
5- الكافي: ح2.

دراسة تحليلية، لكي نتمثلها في حياتنا وتكون نبراساً لنا، ليس فقط في حياته الشخصية الخاصة لكونه أكمل المخلوقات وأشرفها وأحقها بالإقتداء في حياته العامة، بل لكونه أعظم مصلح اجتماعي عرفته البشرية، ولكونه مؤسس خير أمة أخرجت للناس من العدم، ولكون قيادته المباركة وفرت للبشرية أسعد عصر من عصورها، هذه الأبعاد المتعددة في شخصيته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) جعلته أولى الناس بالتأسي والاقتداء لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وأراد السعادة لنفسه ولأمته.وقد ذكرت في بعض المناسبات وجهاً لمعنى الكلمة العامية:(إن سفرة الحسين واسعة)، ويمكن أن يراد بها عدة معانٍ بحسب ما أراد بها قائلوها، لكنني أفهم لها معنى واقعياً غير ما ذكروه، وهو أن حياة الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سِفرٌ مبارك يتسع كل ما يريده الطامحون إلى الكمال التواقون إلى السعادة الفارون من الحضيض، وجدُّه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أولى بهذه السعة منه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فلنأخذ من هذا السِفر المبارك ما يعيننا على مسؤولياتنا التي قلنا إنها أضخم من إي يوم مضى من أكثر من جهة:

مسؤوليتنا اليوم أضخم من الماضي:

1-إننا نواجه جاهلية عاتية تضرب بإطنابها أرجاء الأرض في أفكارها واعتقاداتها وفي سلوكياتها وأهوائها ونزعاتها(1)، بل إن جاهلية اليوم جمعت كل مساوئ جاهليات الأمس القريب والبعيد، وقد عقدت فصلاً طويلاً في كتاب (شكوى

ص: 123


1- من فاسقات نصبن فخاخ الفتنة والإغراء، إلى بورصات اقتصادية يسيل لها اللعاب، إلى فنانين لا عمل لهم إلا تدمير الأخلاق والقيم الاجتماعية، إلى قوانين وضعية تبيح اللواط وتجيز الزواج بين الذكور، إلى الزنا الذي يفوح برائحته الكريهة وأمراضه الفتاكة كالإيدز.

القرآن) لبيان مفهوم الجاهلية بحسب ما يستفاد من القرآن، وذكرت خمس عشرة نقطة التقاء بين الجاهليتين(1) وخرجنا بنتيجة أن الجاهلية ليست فترة زمنية ومرحلة تأريخية انتهت بظهور الإسلام، وإنما هي نمط من أنماط الحياة تتردى إليه البشرية وتسقط فيه كلما ابتعدت عن شريعة الله تبارك وتعالى.فما أحوجنا إلى أن نستلهم من سيرته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كيفية مواجهة هذه الجاهلية بحيث استطاع أن ينقلهم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في مدة ضئيلة من عمر الزمن هي ثلاثة وعشرون عاماً، من حضيض الجاهلية إلى قمة الإسلام السامقة(2)، وقد ذكرت في نفس الكتاب عدة دروس مستفادة من هذه التجربة(3).

2 - إننا نقترب بسرعة من يوم الظهور المبارك لبقية الله الأعظم، ومن شروطه وصول البشرية إلى قناعة كاملة بالإسلام، وقد قلنا قبل قليل:إن القناعة بالإسلام كنظام ورؤية للحياة لا تنفك عن القناعة بسلوك حامليه ومعتنقيه، فكلما كان التطبيق أكثر صدقاً كان أسرع في حصول هذه القناعة، وقد وردت التطمينات بأن الإسلام لا يحتاج إلى جهد كبير من أبنائه لتحصل قناعة الآخرين به، لأنه يغلب العقول ويفتح القلوب بلا عناء كثير، بخلاف المبادئ الأرضية التي لا تستطيع أن تُحَصّل هذه النتيجة بكل أساليب الإغراء أو البطش والتهديد، وقد ورد عن الإمامم.

ص: 124


1- تجدها في بحث (شكوى القرآن)، الملحق بقبس الاية {يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (الفرقان:30) في المجلد الثالث من هذا التفسير
2- فحاشا لله تعالى أن يترك جاهلية اليوم سدى ولا يبعث لها مصلحاً معصوماً هو الحجة ابن الحسن المهدي أرواحنا لمقدمه الفداء.
3- تجدها في كتاب (شكوى القرآن): وقد تقدم.

الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا)(1)، و(كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً)(2).والتأريخ شاهد على ذلك، فإن المغول - وهم أكثر الشعوب وحشية- ما لبثوا أن دخلوا الإسلام بعد أن اكتسحوا بلاده قتلاً ونهباً وتدميراً، وها هو ذا الغرب ينتابه القلق من إقبال أبنائه على الإسلام، فتقول إحصائية في بريطانيا:إن عشرين ألف امرأة بريطانية اعتنقت الإسلام إحداهن أستاذة جامعية أعلنت إسلامها في كلمة ألقتها في تجمع في حدائق هايد بارك الشهيرة في قلب لندن، وسوف ترى عن قريب كيف أن الإسلام يفتح قلوب أعدائه إلاّ من ضرب عليها إبليس بالأغلال كالصهاينة.

ألسنا ندعو الله تبارك وتعالى أن ينتصر بنا لدينه وأن يجعلنا من أنصار وليه الأعظم؟ بل نقرأ في دعاء الافتتاح أن نكون من الدعاة إلى طاعته تبارك وتعالى والقادة إلى سبيله في دولته الكريمة؟ فها هي الخطوة الأولى والمهمة التي رسمها القرآن الكريم في قوله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب:21) وشرحها أمير المؤمنين نفس رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بقولة (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد)(3).

الحرب التي يعيشها الإسلام اليوم:0.

ص: 125


1- بحار الأنوار: 2/ 30.
2- بحار الأنوار:65/ 261.
3- نهج البلاغة: 3 / 70.

3- إننا نعيش حرباً شعواء على الإسلام بأشكال مختلفة، أحدها الحرب العسكرية التي يسمونها الحرب ضد الإرهاب، وقد اتحدوا جميعاً وتناسوا خلافاتهم وكل عداوات الأمس ليكونوا يداً واحدةً في هذه الحرب، وقد أعلنت الأخبار اليوم (28/ 5/ 2002) - وأنا أكتب هذه السطور - أنهم وضعوا المسمار الأخير في نعش الحرب الباردة بالاشتراك في اتخاذ القرار بين روسيا وحلف شمال الأطلسي.

وهذا الشكل من الحرب واضح وملتفت إليه، لكن الأخطر منه هو الحرب الخفية بتشويه صورة الإسلام وتمييع أحكامه وإفراغه من مضامينه والاكتفاء بالشكليات، فيسوّقوا لنا أنه لا مانع من أن تتحجب المرأة ولكن على الطريقة الأمريكية أو الفرنسية، ولا بأس بأن يلتزم الشاب بالصلاة والصوم مادام غربياً في أفكاره وولائه ومظهره، وأن يكون اهتمام الناس منصباً على الازدياد من المظاهر الدنيوية فلا يستقر في دار حتى يطمح إلى أحسن منها، وسرعان ما يبدل سيارته إلى أحدث موديل أو أثاثه، أو يتفاخر بكثرة أمواله، هذا غير ضياعه في المتع المتنوعة من رياضة وفن، فلا يلبث أن يمل من متعة حتى يأتوه بغيرها، ليبقى في هذه الدوامة والدائرة المفرغة، ولا يلتفت إلى أهدافه الحقيقية رغم أن القرآن صريح وواضح:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة:24).

ومحل الشاهد إننا لو درسنا أسباب هذا الضياع لوجدنا أن أهمها غياب القدوة الحسنة التي تبهر العقول وتدخل القلوب وتقنعهم بالاتباع والتأسي وتلغي كل ما

ص: 126

سواها، وقد دأب الإنسان على المتابعة والمشاكلة للشخصيات التي ينبهر بها حتى في الأشياء التي لا علاقة لها بسبب انبهاره، فمثلاً هو يعجب به كبطل أفلام أو رياضي إلا أنه يقلده في ملبسه وحركاته ومظهره، بل حتى أفكاره ومعتقداته أحياناً، فإذا غابت عن حياته الأسوة والقدوة الحسنة، فإنه سينجذب إلى الأسوة السيئة من رياضي أو فنان أو بطل فلم وهمي ونحوه. علينا ألاَّ نتبوّأ موقعاً إلا بجدارة:

لذا تجد من أهم العوامل التي جذبت الناس إلى الإسلام الانبهار والذوبان في شخصية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، التي ظلت مؤثرة في نفوس أصحابه حتى بعد وفاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بل إلى اليوم، فإن الكثير ممن اعتنقوا الإسلام إنما اعتنقوه إعجاباً بسيرة رجاله، كرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمير المؤمنين والصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء والحسن والحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

وهذا - أي تأثير شخصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في نفوس أصحابه - مما شهد به الأعداء وجعل الرعب يتملكهم ويملؤهم الشعور بالإحباط واليأس من المواجهة، وعندما خرج وفد من قريش لاستطلاع أخبار النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأصحابه فوجدهم محدقين به يتبركون بتراب أقدامه، ولا يدعون ماء وضوئه يسقط إلى الأرض بل يتقاسمون قطراته.

وقد اقتضت المشيئة الإلهية أن لا يتبوأ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هذا المقام الرفيع إلاّ بعد أن ملك القلوب وخطف الألباب بأخلاقه وحسن سيرته، حتى سمّوه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في الجاهلية بالصادق الأمين، وما وجدوا له خطلة في قول ولا زلة في فعل، وألقى عليهم الحجة بذلك حين أعلن (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) دعوته قائلاً:(لو قلت لكم أن وراء هذه

ص: 127

الأكمة جيش جاءوا للإغارة عليكم أتصدقونني؟ قالوا بأجمعهم:نعم، لأنك الصادق الأمين، قال:فإني رسول الله إليكم ونذير لكم من بين يدي عذاب أليم، قولوا:لا إله إلا الله تفلحوا)(1).وهذا درس يمكن أن نستفيده من سيرة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) غير ما ستأتي الإشارة إليه أن لا نتبوأ موقعاً اجتماعياً إلاّ حينما نكون أهلاً له، بحيث تتوفر القناعة الكاملة لدى الأمة باستحقاق هذا الموقع.

وحياته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حافلة بالكثير مما يتأسى به، وكيف لا يكون كذلك وهو صنو القرآن الذي هو {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} (النحل:89) و{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (الأنعام:38) وهو (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كذلك، والقرآن شفاء وهدى ورحمة ونور وبيان وذكر ومبارك وحكيم وهو (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كذلك، وقد أشبعنا البحث عن هذه الملازمة في كتاب (شكوى القرآن).

ما هي الأمور التي يمكن أن نتأسى بها؟

ولكي نختصر الوقت ونخفف عنكم المؤونة نلفت أنظاركم إلى بعض ما يمكن أن نتأسى به من حياته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ويعيننا على أداء مسؤولياتنا، وسنجعله على شكل نقاط، وهي عبارة عن سلسلة محاضرات بعنوان (الأسوة الحسنة في بناء الذات وإصلاح المجتمع)(2) لكني أختصرها لكم بذكر عناوينها وقد ذكرت).

ص: 128


1- صحيح البخاري: 6/ 29
2- طبعت لاحقاً في كتاب بعنوان (الأسوة الحسنة للقادة والمصلحين).

بعضها في مناسبات متعددة، لكن تذكرها ضروري، فإن الذكرى تنفع المؤمنين ومنها:1 - المعرفة بالله تعالى والإخلاص له، فما من كلمة يقولها أو فعل يفعله أو ترك يتركه إلا لله تبارك وتعالى، ولو خيَر بين أمرين اختار أرضاهما لله، وكان على ذكر دائم لله دلَّ عليه ما روي من مكارم أخلاقه، حيث تجد له في كل حالٍ ذكراً، فللأكل دعاء، وللنوم دعاء، وللتخلي دعاء، وللوضوء دعاء، وللسفر دعاء، فكانت حياته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كلها عبادة وفناء تام في الله سبحانه، وإذا اقتضت طبيعته البشرية وجسده المادي أن يعطيه حقه من النوم والأكل ونحوهما مما يراه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) غفلة عن الله تبارك وتعالى وتقصيراً في وظائف العبودية، فكان يستغفر الله سبحانه من ذلك حتى نزل الوعد من قبل المولى تبارك وتعالى:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} (الفتح:1-2) وإن كان الاعتقاد أنهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إذا ناموا نامت أعينهم فقط، أما قلوبهم فهي واعية متصلة ببارئها، كما هو المنقول عنهم(1)(عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

وقد ربًى أصحابه المخلصين على هذه العبودية الكاملة، فيوصي أبا ذر (رضي الله عنه):(يا أبا ذر، اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)(2)، ويقول له ما معناه:يا أبا ذر إنك تستطيع أن تجعل كل حياتك طاعة لله تبارك وتعالى حتى أكثر الأمور ارتباطاً بشهوات النفس كإتيانك امرأتك، فقال أبو ذر (رضي الله عنه):وكيف يا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)؟ -فبينها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) له-:أليس في هذا العمل إدخال74

ص: 129


1- أنظر: ميزان الحكمة- الريشهري: 4/ 3020
2- بحار الأنوار- المجلسي: 74/ 74

السرور على أهلك وتحصين نفسك وزوجتك من الحرام وزيادة عدد النسمات الموحدة لله، وكل تلك النيات وغيرها طاعات وقربات إلى الله تعالى)(1).ولمعرفته بحقيقة العبودية لله سبحانه كان كثير العبادة لا يفتر عنها(2)، وقد قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(قرة عيني الصلاة)(3) لأنها معراجه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقربانه واتصاله بالحبيب، يصلي حتى تتورم قدماه فيقف على واحدة ويرفع الأخرى لتستريح قليلاً فأشفق الله عليه بقوله:{طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} (طه:1-2).

الإعراض عن الدنيا المحللة:

2 - الإعراض عن الدنيا وعدم الاغترار بها، وطبعاً نقصد بالدنيا المحللة منها لا المحرمة، لأن اجتناب المحرمات من أول شروط العصمة المتحققة فيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والاهتمام بالأعمال الصالحة، يوصي قيس بن عاصم المنقري:(يا قيس، إن مع العز ذلاً، وإن مع الحياة موتاً، وإن مع الدنيا آخرة، وإن لكلّ شيء حسيباً وعلى كل شيء رقيباً، وإن لكل حسنة ثواباً، ولكلّ سيئة عقاباً، وإن لكلّ أجل كتاباً، وإنه يا قيس لا بدَّ لك من قرين يدفن معك وهو حي وتدفن معه وأنت ميت، فإن كان كريماً أكرمك وإن كان لئيماً أسلمك، لا يحشر إلاّ معك ولا تحشر إلاّ معه، ولا18

ص: 130


1- شعب الإيمان- البيهقي: 7/ 514
2- واعلم أن باب الله تعالى مفتوح للجميع حيث لا بخل في ساحته تعالى ولكن الأمر يحتاج شيئاً من الالتفات والهمة والمواظبة على العبادة وخصوصاً قراءة القرآن وأدعية المعصومين ((عَلَيْهِ السَّلاَمُ)) فإنها تؤثر تأثيراً نورانياً في النفس وإن لم تقرأ بخشوع.
3- الخصال- الشيخ الصدوق: 165/ح218

تُسأل إلاّ عنه، ولا تبعث إلاّ معه، فلا تجعله إلاّ صالحاً، فإنه إن كان صالحاً لم تأنس إلا به، وإن كان فاحشاً لا تستوحش إلاّ عنه، وهو عملك)(1).نزل جبرائيل الأمين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يوماً وقال له:(إنّ العلي الأعلى يُقرؤك السلام ويخصك بالتحية والإكرام وهو يقول لك أن لو شئت صيرت لك تهامة ذهباً وفضةً وأنت على ما أنت عليه من المقام الرفيع عند الله تبارك وتعالى، فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):حبيبي جبرائيل ثم ماذا؟ قال:الموت، قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):إذن دعني أجوع يوماً وأشبع يوماً، أما اليوم الذي أجوع فيه فأسأل ربي وأصبر، وأما اليوم الذي أشبع فيه فأشكر ربي)(2)، فما الذي يضرنا لو قللنا إقبالنا على الدنيا واكتفينا منها بالضروري لنكون من المخفين الذين يقال لهم جوزوا، لا المثقلين الذين يقال لهم حطوا.

3 - قوة الإرادة والثبات على الحق، فلا يحيد عنه مهما كانت المغريات أو الضغوط، وهو (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) القائل لعمه أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما جاءته قريش وعرضت عليه عروضاً مقابل تخليه عن الدعوة إلى الله، إن شاء ملكاً ملّكناه أو مالاً جمعنا له أو امرأة زوجناه أجمل نسائنا، قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أموت دونه)(3).74

ص: 131


1- الخصال: ص114.
2- بحار الأنوار: 42 / 276.
3- تاريخ الطبري: 2/ 67,- السيرة النبوية- ابن كثير: 1/ 474

ويقول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن إيمان المؤمن بأنه (أقوى من الجبل. قيل:وكيف يا رسول الله؟ قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):لأن الجبل يُستقل منه بالمعاول ولا يُستقل من إيمان المؤمن شيء)(1)، لم يثنه الأذى الجسدي ولا المعنوي عن مواصلة رسالته، فقد وصفوه بأسوء الصفات:ساحر، كذاب، مجنون، واتهموه بأشنع التهم حتى لم يسلم من الطعن في شرفه كما في حديث الإفك الذي تقصه سورة النور.4 - الاهتمام بأمور المسلمين وهو (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) القائل:(من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، ومن سمع منادياً ينادي بالمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم)(2)، أين نحن من هذا الشعور بالمسؤولية وتذويب الأنانية لمصلحة الأمة، وهل يسوغ لنا أن نهتم بأنفسنا ونعتني بمصالحنا الخاصة ونترك حبل المجتمع على غاربه ولا تتحرك مشاعرنا لما يُعانيه فنعمل على مساعدته بما نستطيع، حتى إنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان يسعى بمشاريع الزواج والتوسط والشفاعة لانجاز هذا الامر، فيبعث جويبر إلى الدلفاء أشرف نساء قومها بني بياضه من الأنصار لتزوجه بوساطته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

5 - الاهتمام بالقرآن الكريم شغفاً به، لأنه رسالة الحبيب وهل تُمَل رسالة الحبيب؟ وامتثالاً لأمره تبارك وتعالى:{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً، أوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} (المزمل:1-5).ح3

ص: 132


1- الكافي- الشيخ الكليني: 5/ 63/ح1
2- وسائل الشيعة (آل البيت): 16/ 337/ح3

وكان (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يطلب من ابن مسعود أن يتلو القرآن عليه، فيقول ابن مسعود:اقرأه عليك وقد نزل عليك، فيقول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(أحب أن أسمعه منك)، يريد أن يمتع جميع جوارحه بكلام الله تعالى، فيقرأ ابن مسعود وعين رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تفيض من الدمع(1).وكان (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لا ينام حتى يقرأ سور المسبّحات، أي التي تبدأ بكلمات التسبيح، ويوصي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بتلاوة القرآن وتدبر معانيه والعمل به، ويبين الثواب العظيم لذلك، وقد بينا بعضاً منه في كتاب (شكوى القرآن).

وإنك لتشعر أنّ أي مصلح اجتماعي أو قائد عظيم لا يكون ناجحاً إلا إذا عاش في ظل القرآن وتربى في أحضانه وتفاعل مع آياته.

6 - التواضع(2) بحيث كان الأعرابي يدخل إلى المسجد فيقول:أيكم محمد؟(3) لأنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يتميز عن أصحابه بمجلس أو ملبس أو أي شيء آخر، يواسي في حياته أدناهم، وهو يفعل ذلك أدباً مع الله تعالى واستشعارا للحقارة في حضرة الربوبية.86

ص: 133


1- أنظر: صحيح مسلم: 2/ 196
2- روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في كتاب غرر الحكم هذه الروايات: 1 - لو رخص الله سبحانه في الكبر لأحد من الخلق لرخص فيه لأنبيائه لكنه كره إليهم التكبر ورضي لهم التواضع. 2 - ثلاث يوجبن المحبة حسن الخلق حسن الرفق و لتواضع. 3 - أشرف الخلائق التواضع الحلم ولين الجانب.
3- سنن أبي داود: 1/ 261/ح486

7 - عدم الاستماع إلى النميمة ونقل الكلام السيئ عن أصحابه خصوصاً من المتزلفين وضعيفي النفوس، فكان إذا أراد أحد أصحابه أن ينقل كلاماً سيئاً عن أحد منعه، وقال له (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(أحب أن أمضي عنكم وأنا سليم الصدر)(1).

8 - عدم اتخاذ بطانة وحاشية غير مخلصة لله تعالى، أو تفكر في الانتفاع من مواقعها وجني مكاسب شخصية ولو على حساب الدين والأمة كما في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} (آل عمران:118).

9 - الالتزام بالأخلاق الفاضلة، وقد امتدحه الله تبارك وتعالى عليها قائلاً:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4) وفي وصيته لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(عليك بمحاسن الأخلاق فاركبها، عليك بمساوئ الأخلاق فاجتنبها، فإن لم تفعل فلا تلومنًّ إلا نفسك)(2)، وقد جعلها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) محور رسالته قائلاً:(إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)(3)، وهذه النقطة وحدها تستوعب مجلدات من الكلام والمصادر حافلة بالشواهد التفصيلية(4).ال

ص: 134


1- بحار الأنوار: 16/ 231, عن مكارم الأخلاق: 17
2- الكافي- الشيخ الكليني: 8/ 79/ح33
3- بحار الأنوار- المجلسي: 68/ 382
4- جاء في كتاب أخلاق أهل البيت ((عَلَيْهِ السَّلاَمُ)) تعريف حسن الخلق: هو حالة نفسية تبعث على حسن معاشرة الناس ومجاملتهم بالبشاشة وطيب القول، وكما عرّفه الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حينما سئل عن حده فقال: (تلين جناحك وتطيب كلامك وتلقى أخاك ببشر حسن). وقال

10 - التركيز على أداء وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتحذير الشديد من التقاعس عن أدائها، فقد قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟ فقيل له:ويكون ذلك يا رسول الله؟ قال:نعم وشر من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ فقيل له:يا رسول الله ويكون ذلك؟ قال:نعم وشر من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً)(1) وهذه المراحل الثلاث كلها وصلتها الأمة كما هو واضح، وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(إنّ الله عز وجل ليبغض المؤمن الضعيف الذي لا دين له، فقيل:وما المؤمن الضعيف الذي لا دين له، قال:الذي لا ينهى عن المنكر)(2)، وكان (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول:(إذا أمتي تواكلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من الله)(3)، فاحذروا أيها الأخوة من التواكل والتخاذل والتقاعس عن أداء هذه الوظيفة الإلهية العظيمة.

11 - الاهتمام بنشر العلم والمعرفة في جميع الحقول، وكان يوصي أمته قائلاً:(اطلبوا العلم ولو في الصين)(4) باعتبارها أبعد نقطة مقصودة يومئذ، وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:سمعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول:(طلب العلم فريضة على كل20

ص: 135


1- الكافي:5/ 59.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 5/ 59/ح14
3- الكافي- الشيخ الكليني: 5/ 59/ح13
4- وسائل الشيعة (آل البيت): 27/ 27/ح20

مسلم، فاطلبوا العلم من مظانه واقتبسوه من أهله، فإن تعلمه لله حسنة، وطلبه عبادة، والمذاكرة فيه تسبيح، والعمل به جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة إلى الله تعالى لأنهّ معالم الحلال والحرام، ومنار سبيل الجنة، والمؤنس في الوحشة، والصاحب في الغربة والوحدة، والمحدث في الخلوة والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والتزين عند الأخِلاّء، يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة، تُقتبس آثارهم ويهتدي بأفعالهم، وينتهى إلى رأيهم وترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم، وفي صلاتها تبارك عليهم...)(1) إلى آخر الحديث، وفي معركة بدر جعل مما يفدي الأسير نفسه أن يعلم عشرة من المسلمين. فأين أدعياء الحضارة اليوم من هذا التفكير الواعي في ذلك الزمان البعيد؟12 - احتضان الشباب ورعايتهم فقد أوصى (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(أوصيكم بالشباب خيراً فأنهم أرق أفئدة)(2)، لأنّ قلوبهم ما زالت نقية وقريبة العهد بالفطرة، ولم تتكدر بالذنوب فتحرم من نور المعرفة، فلا عجب أن يكون أسبق الناس إلى اتباعه هم الشباب، وفي رواية عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يسأل أحد أصحابه:كيف حال دعوتكم في الكوفة؟ فأخبره بأنها تواجه صعوبات كثيرة وقلّة استجابة، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ما معناه:(عليكم بالأحداث، فإن قلب الحدث كالأرض الطيبة)(3)، وقد بسطت الكلام نسبياً عن ذلك في محاضرات (الحوزة ومشاكل الشباب).70

ص: 136


1- الأمالي- الشيخ الطوسي: 487/38
2- جواهر الحكمة- الريشهري: 20
3- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 70

13 - محاربة العادات الاجتماعية السيّئة والقضاء عليها، فمثلاً كانت قريش لا تزوج نساءها لغيرها، فزوج ضباعة بنت عمه الزبير بن عبد المطلب وهي من أشرف بيوتات قريش إلى المقداد بن الأسود، وزوج زينب ابنة عمته من متبناه زيد بن حارثة، ثم تزوجها بعده، وقد كان العرب لا يتزوجون زوجات متبنيهم، ويوصي بالبنات ويقول:إنهن حسنات، ويبين عظمة ابنته الزهراء وشرفها في قوم كانوا يئدون البنات ويعتبرونهن عاراً، بل إن الله سمّى ابنته الكوثر وجعل نسله منها، والأبتر هو من عيّره بعدم الولد(1).

14 - الحث على الحضور في المساجد وصلاة الجماعة والشعائر الدينية، فعن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(اشترط رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على جيران المسجد شهود الصلاة)(2)، وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(لينتهين أقوام لا يشهدون الصلاة أو لآمرن مؤذناً يؤذن ثم يقيم ثم أأمر رجلاً من أهل بيتي وهو علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فليحرقن على أقوام بيوتهم بحزم الحطب، لأنهم لا يأتون الصلاة)(3).

ويحذر الأمة من أن يشكوهم المسجد والقرآن والعترة يوم القيامة، فعن جابر قال:سمعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول:(يجيء يوم القيامة ثلاث يشكون لله عز وجل:المصحف، والمسجد، والعترة، يقول المصحف:يا رب حرفوني ومزقوني،73

ص: 137


1- للوقوف على مصادر هذه الاحداث أنظر: الكافي- الشيخ الكليني: 5/ 344/ح1و2,- المستدرك على الصحيحين- الحاكم: 4/ 24,- تهذيب التهذيب- ابن حجر العسقلاني: 12/ 420,- ميزان الحكمة الريشهري: 4/ 3672,- تفسير القرطبي: 20/ 222
2- ثواب الأعمال- الشيخ الصدوق: 232
3- الأمالي- الشيخ الصدوق: 573

ويقول المسجد:يا رب عطلوني وضيعوني، وتقول العترة:يا رب قتلونا وطردونا وشردونا، فاجثوا للركبتين للخصومة، فيقول الله جل جلاله لي:أنا أولى بذلك)(1).وقد حررنا شكويين(2) منها بعنوان (شكوى المسجد) و(شكوى القرآن)، ويصل الاهتمام إلى درجة أنّ رجلاً أعمى يأتيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فيقول له:أنا ضرير البصر وربما أسمع النداء ولا أجد من يقودني إلى الجماعة والصلاة معك، فقال له النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(شُد من منزلك إلى المسجد حبلاً واحضر الجماعة)(3).

15 - التشديد على الوحدة بين المسلمين وعدم إعطاء أية فرصة لإيقاع الفرقة بينهم، قال تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (آل عمران:103) وفسر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حبل الله الذي بالاعتصام به تحفظ وحدة المسلمين فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(وإني تارك - مخلّف - فيكم الثقلين:الثقل الأكبر القران والثقل الأصغر عترتي أهل بيتي، هما حبل الله ممدود بينكم وبين الله عز وجل ما إن تمسكتم به لم تضلوا، سبب منه بيد الله وسبب بأيديكم)(4).

وذات يوم عمل بعض اليهود على الوقيعة بين الأوس والخزرج، وذكرهم بعداواتهم في الجاهلية ومن قتل من أشرافهم، حتى ثارت عصبيتهم فتواعدوا القتال كما كانوا يفعلون فى الجاهلية، فبلغ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ذلك، فخرج مسرعاً48

ص: 138


1- الخصال- الشيخ الصدوق: 175
2- ثم حررت الثالثة بعنوان: (شكوى الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)).
3- تهذيب الأحكام- الشيخ الطوسي: 3/ 266/ح73
4- كتاب الغيبة- النعماني: 1/ 48

يجر رداءه حتى وافى القوم قبل أن يقع السيف بينهم، فوعظهم وذكرهم، فتابوا وعادوا إلى رشدهم(1). فاحفظوا وحدتكم أيها الأحبة ولا تعطوا فرصة للأعداء ليوقعوا بينكم فلا يوجد شيء يستحق الاختلاف بيننا.16 - الإكثار من ذكر الموت(2)، وكان (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يسميه هادم اللذات، ويقول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد، قيل:وما جلاؤها يا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)؟ قال:ذكر الموت وتلاوة القرآن)(3)، وكان يقول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(إنّي ما أطبقت79

ص: 139


1- تفسير القرطبي: 4/ 155
2- إتماماً للفائدة نورد هذه الرواية من كتاب مصباح الشريعة ص171: قَالَ الصَّادِقُ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (ذِكْرُ الْمَوْتِ يُمِيتُ الشَّهَوَاتِ فِي النَّفْسِ وَيَقْطَعُ مَنَابِتَ الْغَفْلَةِ وَيُقَوِّي النَّفْسَ بِمَوَاعِدِ اللَّهِ وَيُرِقُّ الطَّبْعَ وَيَكْسِرُ أَعْلامَ الْهَوَى وَيُطْفِئُ نَارَ الْحِرْصِ وَيُحَقِّرُ الدُّنْيَا وهُوَ مَعْنَى مَا قَالَ النَّبِيُّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فِكْرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ وَذَلِكَ عِنْدَ مَا يَحُلُّ أَطْنَابَ خِيَامِ الدُّنْيَا وَيَشُدُّهَا فِي الآخرة وَلا تَسْكُنْ بِزَوَالِ الرَّحْمَة عِنْدَ ذِكْرِ الْمَوْتِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَمَنْ لا يَعْتَبِرْ بِالْمَوْتِ وَ قِلَّةِ حِيلَتِهِ وَكَثْرَةِ عَجْزِهِ وَطُولِ مُقَامِهِ فِي الْقَبْرِ وَتَحَيُّرِهِ فِي الْقِيَامَةِ فَلا خَيْرَ فِيهِ قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) اذْكُرُوا هَادِمَ اللَّذَّاتِ قِيلَ وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ الْمَوْتُ فَمَا ذَكَرَهُ عَبْدٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي سَعَةٍ إِلا ضَاقَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَلا فِي شِدَّةٍ إِلا اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ وَالْمَوْتُ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الآخِرَةِ وَآخِرُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الدُّنْيَا فَطُوبَى لِمَنْ أُكْرِمَ عِنْدَ النُّزُولِ بِأَوَّلِهَا وَطُوبَى لِمَنْ أُحْسِنَ مُشَايَعَتُهُ فِي آخِرِهَا وَالْمَوْتُ أَقْرَبُ الأشْيَاءِ مِنْ بَنِي آدَمَ وَهُوَ يَعُدُّهُ أَبْعَدَ فَمَا أَجْرَأَ الإنسان عَلَى نَفْسِهِ وَمَا أَضْعَفَهُ مِنْ خَلْقٍ وَفِي الْمَوْتِ نَجَاةُ الْمُخْلِصِينَ وَهَلاكُ الْمُجْرِمِينَ وَلِذَلِكَ اشْتَاقَ مَنِ اشْتَاقَ الْمَوْتَ وَكَرِهَ مَنْ كَرِهَ قَالَ النَّبِيُّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءهُ).
3- عوالي اللئالي- ابن أبي جمهور: 1/ 279

عينيَّ إلاّ وظننت إنّي لا أفتحهما، ولا فتحتهما إلاّ وظننت إني لا أطبقهما)(1)، ولذكر الموت فوائد عديدة:العظة والاعتبار وتحقير الدنيا وعدم الإكتراث بها، ترقيق القلوب، استباق الخيرات، والإكثار من الأعمال الصالحة، وغيرها.17 - الاهتمام بالمرأة من حيث تثقيفها وتعليمها وإعطاؤها حقوقها وهو بذلك يرد على الأفكار والمعتقدات الجاهلية التي تمتهنها وتجعلها سلعة بيد الرجل يقضي بها حاجته ثم يرميها في سلة المهملات، فبيّن تعالى أن المرأة كالرجل في المسؤولية وتحمل التكليف في قوله تعالى:{أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} (آل عمران:195).

وربّى (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ابنته الزهراء (س) لتكون سيدة نساء العالمين، وكان يبيّن لها تفاصيل رسالته العظيمة كما كانت هي تلتقط أخبار أبيها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أولاً بأول من خلال ولديها الحسنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وكان (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يستقبل النساء ويجيبهن عن أسئلتهن وقد صدرت منه كلمات ثناء وإطراء على عدد منهن كأم سلمة وأم أيمن وأسماء بنت عميس وهند أخت عبد الله والد جابر الأنصاري وغيرهن، وبذلك أعطاهن دورهن الكامل في الحياة بشكل لم تعطيه لهن أي شريعة أو نظام، حتى المتشدقين بحقوق المرأة اليوم وهم يريدونها بذلك أن تكون وسيلة لإشباع شهواتهم وغرائزهم ويمتهنون بذلك كرامتها.

اللهم أحينا حياة محمد وآل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمتنا مماتهم، رب أدخلني في كل خير أدخلت فيه محمداً وآل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأخرجني من كل سوء أخرجت41

ص: 140


1- جامع الأحاديث- السيوطي: 6/ 33/ح4641

منه محمد وآل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 141

القبس /123: سورة الأحزاب:22

اشارة

(وَلَمَّا رَءَا ٱلمُؤمِنُونَ ٱلأَحزَابَ قَالُواْ هَٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ)

موضوع القبس:التحديات التي يواجهها العراق المعاصر

هذه الآية من سورة الأحزاب تصف لنا جانباً من ثبات وشموخ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأصحابه الآخذين بسنته المباركة، حيث يصف الله تعالى أعداء الإسلام وإحاطتهم بالمدينة وحصار أهلها للانقضاض عليهم والرعب والهلع الذي أصاب المسلمين، قال تعالى:{إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} (الاحزاب:10-11) هكذا تحزّب عشرة الاف مقاتل من المشركين واحلافهم من اليهود وعشائر العرب وحاصروا المسلمين في المدينة متوعدين اياهم بالقتل والتدمير فماذا كان موقف المؤمنين إزاء هذه الأجواء التي تنخلع لها القلوب، قال تعالى:{لَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} (الأحزاب:22) ومن ملاحظة السياق والمضمون يظهر أن المراد بما وعدهم الله بقوله تعالى في سورة البقرة – وهي من أوائل السور نزولاً في المدينة {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى

ص: 142

يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْ-رُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْ-رَ اللّهِ قَرِيبٌ} (البقرة:214) فتلاحظ أن آية الأحزاب أكدت تحقق ما وعدت به آية سورة البقرة من اشتداد البلاء حتى يُزلزل المؤمنون ويفقدون الأمل بنزول النصر، لكن الله تعالى يطمئنهم ويبشرهم بأن نصر الله قريب.وهذا ما حصل فقد تبدّلت بعد واقعة الأحزاب موازين القوى وتحولت لصالح المسلمين، فوقع صلح الحديبية بعد عام أي في السنة السادسة وهو ما وصفه الله تعالى بالفتح المبين وفي السابعة أدى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عمرة القضاء ثم فتح مكة في الثامنة وانتهت سطوة المشركين ونفوذهم.

إن هذا الدرس من سورة الأحزاب لا يختص بالنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأصحابه الذين كانوا معه فالقران خالد مستمر بإداء دوره الى يوم القيامة فيشمل كل حالة مماثلة، اذ قال الله تعالى {مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} (البقرة:214) اي انها سنة جارية في كل القادة والأمم جميعاً.

لنكن بمستوى تحديات عصرنا تشخيصاً وعلاجاً:

ولذا يجد الواعي أن من السمات البارزة في مسيرة كل الائمة الطاهرين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ومنهم الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وهم قادة الإسلام الذين وهبهم الله تعالى للبشرية هو مواكبتهم لتحديات عصرهم، ولا أقول أنهم كانوا بمستوى تحديات عصرهم بل فوق ذلك لأنهم محيطون بعصرهم وما سبقه وما لحقه، ولكن الذي نريد أن نفهمه نحن هو أن نكون بمستوى تحديات عصرنا تشخيصاً وعلاجاً.

ص: 143

تحديات العراق المعاصر:

ويمكن أن ننظم استطلاعاً للرأي العام واستبياناً لتصور الناس عن هذه التحديات والمشاكل التي يواجهها العراق المعاصر ونعني به عراق ما بعد احتلال عام 2003، وسيكون هذا الاستطلاع مصدراً مفيداً للتعرف عليها لأنه سيجمع رؤى متعددة ومن زوايا مختلفة للامور، وإن كان الكثير منها ملتفتاً اليه وواضحاً.

تحدي الاحتلال وتخريبه للمنظومة الثقافية والأخلاقية:

وما دمنا شخّصنا الموضوع بأنه عراق ما بعد الاحتلال، إذن فالاحتلال هو أول هذه التحديات وقد قلنا في عدة خطابات منذ الأيام الاولى للاحتلال أنه لا يقتصر على الاحتلال العسكري لأن مجيء القوات المحتلة ومكثها انما هو أداة ووسيلة لفرض واقع جديد له عدة أبعاد منها الهيمنة على القرار السياسي ودمج العراق في نظامهم العالمي الجديد، وتبعية الاقتصاد لنظامهم الحر كما يصفون والاستحواذ على خيراته، والافساد الأخلاقي وتبديل الثقافة والتقاليد التي يبنى عليها سلوك الفرد والمجتمع، والانسلاخ من القيم والمبادئ، وتصل حتى التغيير الديمغرافي لأجل مصالح معينة وبقيت هذه الأخطار تنخر في جسد العراق وشعبه حتى بعد رحيل القوات العسكرية للمحتلين.

تحدي الإرهاب:

وجاء مع هذه التحديات التي جلبها الاحتلال الإرهاب الذي اتخذ من مقاومة الاحتلال غطاءاً لخداع المغفلين حتى يلتحقوا به وينفذوا جرائمه، ووفر هذان التحديان بيئة مناسبة لانخراط الكثير من الشباب في جماعات العنف التي

ص: 144

تمارس القتل والخطف والابتزاز والسرقة والاعتداء على الممتلكات العامة.

فساد المتسلطين:

ورغم خطورة هذه التحديات الا أن الأخطر منها –كما وصفت في الخطاب الفاطمي عام 1429(1) هو فساد المتسلطين الماسكين بمفاصل الدولة واستئثارهم بالمال العام وسرقته تحت عناوين وهمية وتهريبه الى خارج العراق وقد تفننوا بهذا بشكل لا نظير له في التاريخ ولا في الجغرافيا كما يقولون .

ورافق هذه المسارات تدمير ممنهج لمؤسسات الدولة المدنية والعسكرية لإضعافها وجعلها عاجزة عن القيام بمسؤولياتها في حفظ النظام وحماية المواطنين وحقوقهم والنهوض بالبلاد والقيام بالمشاريع التنموية ومحاسبة المفسدين، ليغطوا بذلك على فشلهم وفسادهم وشغلوا الناس بنزاعاتهم وصراعاتهم ونشر غسيلهم التي لا يُرجى منها أي خير سوى لي بعضهم ذراع بعض وابتزازه وقضم كمية أكبر من كعكة العراق كما يصفونها، فكان هذا الفساد هو المموّن للإرهاب والعامل المساعد على انتشاره وتجذّره، وأسوأ ما خلّفه الاحتلال وجاء به سياسيو العصر الجديد.

التحدي الخطير في تبعية أغلب السياسيين لأجندات أجنبية:

وكان التحدي الخطير الآخر تبعية أغلب الطبقة الحاكمة لأجندات أجنبية ينفذونها على حساب العراق ومصالح أهله أما لأنه يعتقد أن هذه الدولة تحميه

ص: 145


1- راجع خطاب المرحلة 161 (اعداء الشعب ثلاثة: الاحتلال، الارهاب، فساد الحكومة) المجلد 6 من كتاب خطاب المرحلة. ص 139.

وتمكِّنه وتدعمه أو لأن الكثير منهم كانوا في خارج العراق ويعتاشون على مساعدات تلك الدول ويحمل بعضهم جنسية تلك الدول أو جواز سفرها ولازالت عائلته مستقرة فيها فهو يدين بالولاء لها وهمُّه تسخير ما يستطيع من موارد العراق لمصلحة تلك الدول حتى وهو في أعلى المواقع في قيادة البلاد.

حينما نتكلم نحن ويسكت الاخرون:

وقد نبهنا الى هذه الأخطاء والاخطار قبل عشر سنوات وطالبنا بإصلاحها وقدمنا الخطط الكفيلة بذلك إلا أنني كنت الوحيد الذي أتكلم أما الآخرون - من الزعامات الدينية والسياسية - فكانوا سكارى بمغانم السلطة والدنيا التي حصلوا عليها بعد الاحتلال واجتمعوا على معاداتي وتسقيطي وإقصائي لأنهم لا يريدون ارتفاع صوت من يوقظ الناس من جهلهم وغفلتهم.

ونبهنا أيضاً من أول يوم الى الغزو الاخلاقي لإفساد المجتمع من خلال إغراقه بالتقنيات الحديثة لوسائل التواصل الاجتماعي والانترنت وإباحة كل شيء من دون فلترة أو تشفير وهو مالا تجده حتى دول الغرب المتحللة التي تتخذ الاجراءات لتحصينهم من بعض ما يعرض من الانتاج المدمّر لكل القيم أما العراق فمستباح لكل شيء، واوردنا في عدة خطابات عشرات المضّار لإباحة هذه الوسائل.

تجهيل العقول وتسطيحها:

ومن مشكلات العراق المعاصر عملية التجهيل والتضليل وتسطيح العقول للناس لأن الجاهل يسهل قياده حيث يشاؤون مما أدى الى نقص معرفي وثقافي

ص: 146

عام وصل حد التخلف أحياناً ومن المؤسف ممارسة القيادات لذلك حتى بعض الزعامات الدينية ومحاربة من يوقظ الناس وينبهها الى حقوقها ومصالحها وتسقيطه وافتراء الشبهات عليه لخوفهم من يقظة الناس ووعيهم وبصيرتهم في الامور، وأصبح الكتاب وأدوات المعرفة الاخرى آخر ما يثير اهتمام الناس وشغفهم رغم أن الكتاب أرخص الأشياء سعراً وأعظمها فائدةً ولعل أوضح مثال إعادة انتخاب الناس للفاسدين والظالمين بعد أن يعضّوا على أصابع الندم لانتخابهم في المرحلة السابقة ويقولون سنقطع أصابعنا التي تلوّنت بحبر الانتخاب، هكذا يُساق الشعب الى الظلم والخراب والقتل طائعاً مختاراً بفعل ما تقوم به الجهات الدينية والسياسية من مكر وخداع وتجهيل وتقديس الأصنام.

الفتنة القذرة:الحرب الطائفية وتقسيم البلد:

وإن أخطر المشاكل التي صنعوها للعراق وأقذرها فتنة الحرب الطائفية التي لا ثمرة فيها ويخرج الجميع منها خاسرين وتمتاز بالقسوة وفقدان البصيرة وعدم التورع عن ممارسة ابشع الاساليب الوحشية لانها تجري بأسم الدين والمذهب وتُرّوج على انها حرب مقدسة.

والمشكلة الخطيرة الاخرى مشروع تقسيم البلاد التي تؤدي الى تمزيق أهله وإدخالهم في صراعات دموية مدمرة لا نهاية لها، فتتحارب هذه القومية وتلك وهذه الطائفة وتلك وهذا الاقليم وذاك وهذه المحافظة وتلك وهذه العشيرة وتلك، مع ضعف الدولة وعجزها عن إطفاء هذا الاتون الملتهب، بل أن الكثير من السياسيين والانتهازيين وأصحاب الأجندات الهدّامة يغذّون هذه الصراعات لأنهم يعتاشون عليها وتديم وجودهم ونفوذهم.

ص: 147

وفي خضم هذه الصراعات انمحت الهوية الوطنية ولم يبق شعور بالانتماء الى العراق أو تدفق الاحساس بالوطنية ولم يعد يوجد ما يوحد العراقيين ويلهب مشاعرهم الا بعض الحالات النادرة، بل لا يستحي بعضهم من الحديث عن عدم وجود أي شيء إسمه العراق.

الأزمة الاقتصادية:

ومنها سوء ادارة اقتصاد البلد وعدم وجود خطط مدروسة لاستثمار ثرواته، فضاع بسبب ذلك مئات المليارات من الدولارات واقصي المتخصصون والخبراء المهنيون، وهذا ما حصل في كل مؤسسات الدولة التي عبثت بها الاحزاب ورؤساؤها من امراء الحروب وآخر ما تفتقت عنه شيطنة الفساد عند المتسلطين هو عرض قطاع الكهرباء للخصخصة وان حاله لا ينصلح الا بإحالته الى المستثمرين، هذا بعد صرف اكثر من 35 مليار دولار من اموال الشعب على هذا القطاع، ولنا تجربة مؤلمة مع احالة مؤسسات الدولة الى القطاع الخاص الذي قامت به وزارة الصناعة وعقود التراخيص لوزارة النفط وبيع اموال وعقارات الدولة حيث تباع بسعر التراب الى المستثمرين ويأخذ المسؤول عمولته من السحت الحرام ثم يحسبها المستثمر بمليارات الدولارات في فاتورة حسابات المشروع الاستثماري ليستوفوا اجور عالية من الشعب المسكين، فهل التفت المتظاهرون المتحمسون لحقيقة ما يجري.

العراق يشبه الحسين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في وحدته ومظلوميته:

هذه وغيرها بعض مشكلات العراق والتحديات التي تواجهه بل الطعنات التي توجه اليه من القريب قبل البعيد ومن أبنائه قبل أعدائه، ومن الجار والأخ قبل

ص: 148

الغريب والأجنبي لأنهم ينفّذون طوعاً وبذلةِ التبعية وبيع الضمائر والولاءات أجندات أعداء العراق، فتتابعت عليه النكبة بعد النكبة والجرح على الجرح والكارثة على الكارثة، وحينما أتصور العراق بهذه الحالة ينتقل ذهني الى الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم عاشوراء وهو ينزف دماً قد أصابته مئات الجراحات لأن الطعنة على الطعنة والضربة على الضربة والرمية على الرمية، لكنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كان واقفاً شامخاً أبياً عزيزاً منتصراً وأعداؤه مهزومون خائفون مرعوبون قلقون من مستقبلهم المظلم، وهكذا العراق يبقى ثابتاً شامخاً عصياً على الأعداء بإذن الله تعالى وبما ضمَّ في ترابه من أجساد الائمة الطاهرين والأنبياء العظام (صلوات الله عليهم اجمعين) والمشاهد المشرفة، وبوجود ثلة مؤمنة مخلصة شجاعة تمتلك الهمة العالية والروح الكبيرة.

مسؤولياتنا أمام كل الأعداء:درس من سورة الأحزاب:

وهنا أمام هذا الحشد المرعب من الأعداء المجرمين مصاصي الدماء وناهبي ثروات الشعوب وأعداء الحياة والحضارة والإنسانية الذين تحزّبوا وأعدّوا عدتهم للهيمنة على العراق واستعباد أهله واستئصال كل غيور حر شريف علينا أن نستلهم موقفنا مما حكاه الله تعالى من سورة الأحزاب ازاء ما يتعرض له العراقيون من اشتداد البلاءات وكثرتها وتحزب شياطين الإنس والجن عليه، لأنه مركز النور ومنطلق الهداية للعالم أجمع، فيخاف الجميع من نهضته وقيامه وكل منهم ينطلق من زاويته في النظر الى ما يقلقه من العراق، فعلينا ان نستلهم الموقف مما ذكره الله تعالى في سورة الاحزاب.

ص: 149

القبس /124: سورة الأحزاب:41

اشارة

(يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكرا كَثِيرا)

موضوع القبس :ذكر الله تعالى على كل حال

الذكر في القرآن الكريم:

لقد أولى القرآن الكريم قضية (الذِكر) أي ذكر الله تعالى اهتماماً بالغاً لأهميتها وعظيم آثارها، حتى أن هذه المفردة ومشتقاتها تكررت في عشرات الآيات، والملاحظ أن ورودها في الآيات المكية حوالي ثلاثة أضعاف الآيات المدنية تقريباً حيث كان القرآن المكي يركّز على بناء عقيدة التوحيد وعلاقة المسلم بالله تعالى ونبذ الشركاء والأنداد وتطهير القلب وتهذيب النفس.

قال تعالى:{وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} (آل عمران:41) وقال تعالى:{وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} (الأعراف:205) وقال تعالى:{وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (الكهف:24)، وقال تعالى:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} (البقرة:152) وقال تعالى:{وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} (البقرة:203)، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} (الأحزاب:9)، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً،

ص: 150

وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الأحزاب:41-42)، وقال تعالى:{وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الجمعة :10) وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِ-رُونَ} (الأعراف :201) وقال تعالى:{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ} (آل عمران:191) وقال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد :28) وقال تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} (العنكبوت:45) وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (المنافقون :9) وقال تعالى:{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} (المزمل:8). وجاءت الأحاديث الشريفة لتؤكد هذه الأهمية، وتدعوا المؤمنين إلى ذكر الله تعالى على كل حال، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(أكثروا من التهليل والتكبير فإنه ليس شيء أحبَّ إلى الله من التكبير والتهليل)(1)، ويشرح الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) معنى التكبير في رواية عن أحد أصحابه قال:(قال لي أبو عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):أي شيء الله أكبر؟ فقلتُ:الله أكبر من كل شيء، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):فكان ثَمَّ شيء فيكون أكبر منه؟ فقلت:فما هو؟ فقال:الله أكبر من أن يوصف)(2).

وفي رواية أخرى (قال رجلٌ عنده:الله أكبر، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):الله أكبر من أي11

ص: 151


1- ثواب الأعمال: 18، باب ثواب لا إله إلا الله، ح13.
2- الحديث والذي يليه في معاني الأخبار: 11

شيء؟ فقال:من كل شيء، فقال أبو عبد الله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):حدّدته! فقال الرجل:وكيف أقول؟ فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):الله أكبر من أن يوصف).وروى الحسن بن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):بادروا إلى رياض الجنة، فقالوا:وما رياض الجنة؟ قال:حَلَقُ الذِكر)(1)، حتى عُدَّ الذكر زينة المؤمنين في الخصال روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله:(زيّنوا أعيادكم بالتكبير) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(زيّنوا العيدين بالتهليل والتكبير والتحميد والتقديس)(2).

معنى (ذكر الله تعالى على كل حال):

في الخصال عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):يا علي سيد الأعمال ثلاث خصال:إنصافك الناس من نفسك، ومواساتك الأخ في الله عز وجل، وذكر الله تعالى على كل حال)،

ونفهم من (على كل حال) عدة مستويات وكلها صحيحة ومستفادة من الآيات المتقدمة:

1-أي في كل زمان وفي كل آن، كما في الآية (41 من آل عمران) {بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} و (الآية 205 من الأعراف) {بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} عن أبي جعفر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(مكتوب في التوراة أن موسى سأل ربه فقال:إني أكون في حال أُجِلُّك أن أذكرك فيها، قال:يا موسى اذكرني على كل حال وفي كل أوان)(3).

ص: 152


1- معاني الأخبار: 321، أمالي الصدوق: 297، المجلس 58، ح2.
2- ميزان الحكمة: 6/ 323، باب 2962.
3- هذا الحديث وما بعده بحار الأنوار: 93/ 160.

2-أي في كل وضع من أوضاع الإنسان قائماً وقاعداً وعلى جنوبهم كما في (الآية 191 من آل عمران) {قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ}، وعن الإمام الباقر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لا يزال المؤمن في صلاة ما كان في ذكر الله قائماً كان أو جالساً أو مضطجعاً إن الله تعالى يقول:{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ}).

3-في كل مكان وموضع كان فيه، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إن سمعت الأذان وأنت على الخلاء فقل مثل ما يقول المؤذن ولا تدع ذكر الله عز وجل في تلك الحال لأن ذكر الله حسن على كل حال) ثم ذكر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) المكتوب في التوراة أعلاه، وفي كتاب الخصال في حديث الأربعمائة قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(اذكروا الله في كل مكان فإنه معكم، وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(أكثروا ذكر الله عز وجل إذا دخلتم الأسواق وعند اشتغال الناس فإنه كفارة للذنوب وزيادة في الحسنات ولا تُكتبوا من الغافلين)(1).

4-في كل قضية تعرض لك وكل معاملة وكل قضية، فإن كان فيها رضا الله سبحانه فعلتها، وإلا تركتها، روي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(ألا أحِّدثك بأشد ما فرض الله عز وجل على خلقه، قلتُ بلى، قال، قال:إنصاف الناس من نفسك مواساتك لأخيك وذكر الله في كل موطن، أما إني لا أقول:سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر –وإن كان هذا من ذاك- ولكن ذكر الله في كل موطن إذا هجمت على طاعته أو معصيته)(2). وفي حديث آخر عنه:(وذكر2.

ص: 153


1- الخصال: 2/ 614، باب الأربعمائة، ح10.
2- معاني الأخبار: 192.

الله على كل حال فإن عرضت له طاعة لله عمل بها وإن عرضت له معصية تركها)(1)الكافي: 2/ 183.(2).5-في كل حال من أحوال النفس من الغضب أو الرضا، والفرح أو الحزن، والغم والضيق أو الانشراح والسرور، روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(يقول الله عز وجل:يا ابن آدم، اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب، ولا أمحقك في من أمحق)(3). وفي حديث:(إنما المؤمن الذي إذا غضب لم يخرجه غضبه من حق وإذا رضي لم يدخله رضاه في باطل وإذا قدر لم يأخذ أكثر مما له)(3).

6-أن يُعِدَّ لكل حالٍ ذِكره الخاص به، فللنعمة ذكر وللمصيبة ذكر وللقتال ذكر وللوضوء ذكر ولتناول الطعام ذكر وللنوم ذكر وللنكاح ذكر وللتخلي ذكر ولركوب السيارة ذكر، وهكذا، وهذا معنى شرحناه مفصلاً في كتاب (شكوى القرآن)(4).

وخلاصة الوجوه أن معنى الذكر الكثير أن يكون الإنسان في جميع أحواله مطيعاً لله تبارك وتعالى، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):من أطاع الله فقد ذكر الله وإن قلّت صلاته وصيامه وتلاوته، ومن عصى83

ص: 154


1- أمالي الطوسي: 88، المجلس
2- ، ح135.
3- أمالي الطوسي: 279، المجلس (10) ح 532.
4- أنظر: ملحق (شكوى القران), من نور القرآن: 3/ 283

الله فقد نسي الله وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته)(1).

جزاء الذكر وآثاره وفضل مجالس الذكر:

فضل مجالس الذكر:كهذا الحشد الذي نذكر فيه الله تعالى، وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة منها:

1-عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(ما جلس قومٌ يذكرون الله إلا ناداهم منادٍ من السماء:قوموا فقد بدّلتُ سيئاتكم حسنات وغفرت لكم جميعاً، وما قعد عدة من أهل الأرض يذكرون الله إلا قعد معهم عدة من الملائكة)(2).

2-وروي أن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) خرج على أصحابه فقال:(ارتعوا في رياض الجنة، قالوا:يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال:مجالس الذكر، اغدوا وروحوا واذكروا، ومن كان يحبّ أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده، فإن الله تعالى ينزل العبد حيث أنزل العبدُ اللهَ من نفسه، واعلموا أن خير أعمالكم عند مليككم وأزكاها وأرفعها في درجاتكم وخير ما طلعت عليه الشمس ذكر الله تعالى، فإنه تعالى أخبر عن نفسه فقال:أنا جليس من ذكرني)(3).

3-وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:ذاكر الله في الغافلين كالمقاتل في الفارّين والمقاتل في الفارّين نزوله الجنة)(4) فأكثر اجتماعات الناس تتخللها أحاديث فارغة لا جدوى منها، وقد

ص: 155


1- معاني الأخبار: 399.
2- وسائل الشيعة (آل البيت): 7/ 153/ح3
3- بحار الأنوار- المجلسي: 90/ 163
4- المحاسن: 1/ 110، ح99.

تتضمن محرمات، فمن يلتفت حينئذٍ إلى ذكر الله تعالى يكون من أهل هذا الحديث.4-وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(البيت الذي يُقرأ فيه القرآن ويذكر الله فيه تكثر بركته وتحضره الملائكة وتهجره الشياطين ويضيء لأهل السماء كما تضيء الكواكب لأهل الأرض)(1) ولتلافي الغفلة التي تحصل في بعض المجالس والأحاديث، فقد ورد استحباب أن يقول الشخص عند قيامه من المجلس:{سُبحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى المُرسَلِينَ، وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ}(الصافات:180-182)(2).

جزاء الذكر وآثاره:

إن التوفيق لذكر الله تعالى من أعظم النعم على العبد، من دعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إلهي لولا الواجب من قبول أمرك لنزّهتك عن ذكري إياك، على أن ذكري لك بقدري لا بقدرك، وما عسى أن يبلغ مقداري حتى أُجعلَ محلاً لتقديسك، ومن أعظم النعم علينا جريان ذكرك على ألسنتنا) إلى أن يقول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(وقلتَ وقولك الحق:(فَاذكُرُونِي أذكُركُم) فأمرتنا بذكرك ووعدتنا عليه أن تذكرنا تشريفاً لنا وتفخيماً وإعظاماً، وها نحن ذاكروك كما أمرتنا، فأنجز لنا ما وعدتنا، يا ذاكر الذاكرين)(3).

ص: 156


1- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 610/ح3
2- بحار الأنوار- المجلسي: 83/ 23
3- مفاتيح الجنان: 206، المناجاة (13) مناجاة الذاكرين.

ومما ورد في كتاب الله تعالى:-1-ذكر الله سبب لطمأنينة القلب وما أعظمها من نتيجة، قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد:28)، ومن آثار الطمأنينة الأُنس، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ذكر الله ينير البصائر ويؤنس الضمائر)(1) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ذاكر الله مؤانسه) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إذا رأيت الله سبحانه يؤنسك بذكره فقد أحبّك، وإذا رأيت الله يؤنسك بخلقه ويوحشك من ذكره فقد أبغضك).

2-أنه سبب ليقظة القلب من غفلته، وحياته بعد قسوته، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف :201)، وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من ذكر الله استبصر) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من كثر ذكره استنار لبّه) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(دوام الذكر ينير القلب والفِكر).

3-إن الله تعالى يذكر من ذكره، قال تعالى:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} (البقرة :152)، وفي عدة الداعي:(يعني اذكروني بالطاعة والعبادة أذكركم بالنعم والإحسان والرحمة والرضوان، وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال الله تعالى:يا ابن آدم اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي، ابن آدم اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي، ابن آدم اذكرني في الخلاء أذكرك في خلاء، ابن آدم اذكرني في ملأ أذكرك في ملأ خير من ملأك، وقال:ما70

ص: 157


1- الحديث وما بعده تجدها في ميزان الحكمة- الريشهري: 2/ 970

من عبد يذكر الله في ملأ من الناس إلا ذكره الله في ملأ من الملائكة)(1).4-إن الذكر سبيل موصل إلى الله تعالى، قال تعالى:{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} (المزّمِّل:19) (الإنسان:29).

جزاء الذكر في الأحاديث الشريفة:

أما الأحاديث الشريفة فقد ورد فيها الشيء الكثير:-

1-إن الذكر يوجب محبة الله تعالى للذاكر، عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال:(يا ربّ وددتُ أن أعلم من تحبُ من عبادك فأحبّه، فقال:إذا رأيت عبدي يكثر ذكري فأنا أذنت له في ذلك وأنا أحبُّه، وإذا رأيت عبدي لا يذكرني فأنا حجبته وأنا أبغضته)، وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من أكثر ذكر الله أحبَّه).

2-وأن الله تعالى يتولى أمر الذاكر وجميع شؤون حياته في دنياه وآخرته، فكم يكون الإنسان سعيداً حينما يتولى شؤونه محبٌّ له شفيق عليه حكيم بأفعاله عالم بكل شيء إلى غيرها من الأسماء الحسنى، ففي بعض الأحاديث القدسية قال الله تعالى:(أيما عبدٍ اطلعتُ على قلبه فرأيتُ الغالب عليه التمسك بذكري تولّيتُ سياسته وكنتُ جليسَه ومحادثه وأنيسه)، وعن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(قال الله سبحانه إذا علمت أن الغالب على عبدي الاشتغال بي نقلتُ شهوته في مسألتي ومناجاتي، فإذا كان عبدي كذلك فأراد أن يسهو حِلتُ بينه

ص: 158


1- أكثر الأحاديث المذكورة نقلناها عن مصادرها بواسطة: بحار الأنوار: 93/ 148-175، وميزان الحكمة: 3/ 341-360.

وبين أن يسهو، أولئك أوليائي حقاً، أولئك الأبطال حقاً، أولئك الذين إذا أردتُ أن أهلك أهل الأرض عقوبةً زيتها عنهم من أجل أولئك الأبطال)، وروي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(إن الله تبارك وتعالى يقول:من شُغِل بذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي مَن سألني)، وروي فيما ناجى به موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ربَّه عز وجل:(إلهي ما جزاء من ذكرك بلسانه وقلبه؟ قال:يا موسى أُظلُّه بظل عرشي وأجعله في كنفي)(1).3-أنه يوجب الثواب العظيم فعنهم (سلام الله عليهم):(إن في الجنة قيعاناً فإذا أخذ الذاكر في الذكر أخذت الملائكة في غرس الأشجار فربما وقف بعض الملائكة فيقال له:لم وقفت؟ فيقول:إن صاحبي قد فتر، يعني عن الذكر)(2). وعن أحد الإمامين الصادقين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لا يكتب الملك إلا ما أسمع نفسه وقال الله:{وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} قال:لا يعلم ثواب ذلك الذكر في نفس العبد لعظمته إلا الله)(3).

4-الذكر الطيب، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من اشتغل بذكر الله طيّب الله ذكره)، ومن وصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأبي ذر قال:(عليك بتلاوة القرآن وذكر الله كثيراً فإنه ذكر لك في السماء ونورٌ لك في الأرض)(4).

5-يقيه الكثير من الحوادث، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إن الصاعقة لا3.

ص: 159


1- أمالي الصدوق: 173، المجلس (37) ح8.
2- بحار الأنوار: 93/ 162-164.
3- بحار الأنوار: 93/ 159، ح36.
4- معاني الأخبار: 334، الخصال: 2/ 525، أبواب العشرين وما فوقه، ح13.

تصيب ذاكراً لله عز وجل)(1).6-في الذكر إعمار القلب وصلاحه وهذا القلب هو الذي ينجو صاحبه يوم القيامة، من وصية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لولده الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(أوصيك بتقوى الله أيْ بُني، ولزوم أمره، وعمارة قلبك بذكره) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(وأصل صلاح القلب اشتغاله بذكر الله) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(مداومة الذكر قوت الأرواح ومفتاح الصلاح) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من عمر قلبه بدوام الذكر حسنت أفعاله في السر والجهر).

7-وبالذكر تحيى القلوب، روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله:(بذكر الله تحيى القلوب، وبنسيانه موتها)، وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(اذكروا الله ذكراً خالصاً تحيوا به أفضل الحياة وتسلكوا به طرق النجاة) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من ذكر الله سبحانه أحيى الله قلبه ونوّر عقله ولبّه).

8-وبه شفاء القلوب، قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(ذكر الله شفاء القلوب)، وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(عليكم بذكر الله فإنه شفاء، وإياكم وذكر الناس فإنه داء)، وفي دعاء كميل:(يا من اسمه دواء وذكره شفاء).

9-بالذكر يطرد الشيطان، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(إن الشيطان واضع خطمه –أي فمه- على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله سبحانه خنس، وإذا نسي التقم قلبه، فذلك الوسواس الخنّاس) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ذكر الله مطردة الشيطان) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ذكر الله رأس مال كل مؤمن، وربحه السلامة من الشيطان).3.

ص: 160


1- أمالي الصدوق: 375، المجلس (71) ح3.

10-وأن في الذكر أماناً من النفاق، عن رسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(من أكثر من ذكر الله فقد برئ من النفاق).

خطبة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في فضل الذكر:

ولأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) خطبة جامعة في فضل الذكر والذاكرين قالها عند تلاوته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قولَه تعالى:{رَجَالٌ لا تُلهِيهِم تِجَارَةٌ وَلا بَيعٌ عَن ذِكرِ اللهِ} قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إن الله سبحانه جعل الذكر جلاءً للقلوب، تسمع به بعد الوَقْرة، وتُبصر به بعد العَشوة، وتنقاد به بعد المعاندة، وما برح للهِ عزّت آلاؤه في البرهة بعد البرهة، وفي أزمان الفترات، عبادٌ ناجاهم في فكرهم، وكلّمهم في ذات عقولهم، فاستصبحوا بنور يقظة في الأسماع والأبصار والأفئدة، يذكّرون بأيام الله، ويخوّفون مقامه، بمنزلة الأدلّة في الفلوات، من أخذ القصد حمدوا إليه طريقه، وبشّروه بالنجاة ومن أخذ يميناً وشمالاً ذمّوا إليه الطريق وحذّروه من الهلكة. وكانوا كذلك مصابيح تلك الظلمات وأدلة تلك الشبهات. وإن للذكر لأهلاً أخذوه من الدنيا بدلاً، فلم تشغلهم تجارة ولا بيع عنه، يقطعون به أيام الحياة ويهتفون بالزواجر عن محارم الله في أسماع الغافلين)(1).

من مصاديق الذكر الكثير:

1)تسبيح الزهراء (س) عقب كل فريضة، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حديث يقول في آخره:(تسبيح فاطمة من الذكر الكثير الذي قاله عز

ص: 161


1- نهج البلاغة: الخطبة: 211، ص211.

وجل:{فَاذْكُرُونِي أَذكُركُم}(1) وفي رواية أخرى عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):إنه (التسبيح في دُبُر كل صلاة ثلاثين مرة)(2).2)وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه (صلوات الله عليهم وسلامه) قال:(قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من أطاع الله فقد ذكر الله وإن قلّت صلاته وصيامه وتلاوته، ومن عصى الله فقد نسي الله وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته).

3)وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قوله تعالى:{اذْكُرُوا اللهَ ذِكراً كَثِيراً} قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إذا ذكر العبد ربَّه في اليوم مائة مرة كان ذلك كثيراً)(3).

4)وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(من ذكر الله في السر فقد ذكر الله كثيراً، إن المنافقين يذكرون الله علانية ولا يذكرونه في السر قال تعالى:{يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} (النساء:142))(4).

خسارة الغفلة والإعراض عن الذكر:

قال تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَ-ى} (طه:124-126)، وقال تعالى:{وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (الزخرف:36) وقال

ص: 162


1- معاني الأخبار: 194.
2- ميزان الحكمة: 3/ 344.
3- بحار الأنوار: 93/ 160، ح38.
4- بحار الأنوار: 93/ 160، ح41.

تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (الحشر:19).

الروايات المحذرة من الغفلة:

ومن الروايات المحذِّرة من الغفلة عن ذكر الله تعالى:

1-روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله:(ما من ساعة تمرُّ بابن آدم لم يذكر الله فيها إلا حسِر عليها يوم القيامة)(1).

2-وفي عدة الداعي روى الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال:(ما من قوم اجتمعوا في مجلس فلم يذكروا الله ولم يصلّوا على نبيّهم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلا كان ذلك المجلس حسرة ووبالاً عليهم).

3-وفي تتمة الحديث السابق(2) عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(والبيت الذي لا يُقرأ فيه القرآن ولا يذكر فيه الله تقل بركته وتهجره الملائكة وتحضره الشياطين).

4-وروى الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن أبيه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(أوحى الله تبارك وتعالى إلى موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):لا تفرح بكثرة المال ولا تدع ذكري على كل حال، فإن كثرة المال تنسي الذنوب وترك ذكري تقسي القلوب)(3).

ص: 163


1- ميزان الحكمة: 3/ 344.
2- مرّ الحديث في كلام سماحته في النقطة الرابعة من (فضل مجالس الذكر) وهو قول الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (البيت الذي يقرأ فيه القرآن ويذكر الله فيه تكثر بركته ..) الحديث.
3- الخصال: 1/ 39، باب الاثنين، ح23.

5-عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من (نسي الله سبحانه أنساه الله نفسه وأعمى قلبه)(1).

حقيقة الذكر:

قالوا:إن الذكر بمعنى الحفظ، إلا أن الاختلاف بينهما باللحاظ، فيقال الحفظ باعتبار إحراز المحفوظ، والذكر يقال اعتباراً باستحضاره.

وأقول:إنه تارةً يراد بالذكر معناه المصدري فيكون معناه حضور الشيء في القلب أو على اللسان، وتارة يراد به المعنى اسم المصدري، فيعبر عن قابلية عقلية وقلبية بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة.

والمعنى الحقيقي لذكر الله تعالى هو حضوره في القلب والالتفات إليه لأنه الذي تتحقق به الآثار، أما حركة اللسان به فهي تعبير وكاشف عنه ومظهر ومبرز له، وليست ذكراً حقيقياً إلا من باب ذكر الدال وإرادة المدلول به، ولا تترتب الآثار المتقدمة عليه وحده.

أترى لو أن إنساناً كان له حصن يحميه من عدوه فهل يكفيه أن يكرّر:أعوذ بهذا الحصن من عدوي لحمايته من العدو إذا هجم عليه، أم المطلوب الدخول فعلاً في الحصن، وهكذا كل الأذكار لها حقائق تترتب عليها الآثار ولا يكفي مجرد لقلقة اللسان، كما في الرواية عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في نهج البلاغة لرجل قال بحضرته:أستغفر الله، فعلّمه الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حقيقة الاستغفار.

لكن الله تعالى بكرمه جعل ثواباً حتى على مجرد تحريك اللسان بالذكر

ص: 164


1- غرر الحكم:8875.

وإن كان ليس ذا قيمة مقابل ما يقترن بالذكر القلبي، لذا لا ينبغي الالتفات إلى ما يقوله بعض الصوفية من أن الذكر باللسان دون حضور القلب لا قيمة له وتركه أولى، فهذا من تسويلات الشيطان، لأن لكل جارحة ذكراً، والذكر اللساني يحقق طاعة بمقداره ويصونه من استعماله في المعاصي اللسانية بمقداره أيضاً، وفيه إرغام للشيطان ولو بأدنى مستوياته فلا ينبغي تركه. يقول السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) عن قيمة الذكر القلبي إنه ((من أعظم الرياضات التي توصل إلى المدارج والمقامات التي فوقه بلطف الله سبحانه. وإن من أفضل أشكال الذكر القلبي هو استحضار مضمون الأسماء الحسنى ذات المدلول الطيب أعني ليس من قبيل (شديد العقاب) و (ذو الانتقام) ونحوها، بل نحو (العظيم) و (الرحيم) و (الحليم) و (الغفور) و (الشكور) وغيرها.

ثم التفكير في الخلق الذي يرجع إلى مضمون مجموعة أخرى من الأسماء الحسنى كالخالق والرازق والمدبّر والمنعم والمعطي والحنّان والمنّان ونحوها.

ثم التفكير في شأن الفرد أمام خالقه من القصور والجهل والذنب والتقصير وحسن الظن به تبارك وتعالى وكونه محل لطفه ونعمه وسبحانه ونحو ذلك))(1).

مجالس أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من الذكر:

ومن حلق الذكر التي وصفتها الأحاديث الشريفة بأنها رياض الجنة:المجالس التي تعقد لذكر فضائل أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ومصائبهم، وللوعظ

ص: 165


1- قناديل العارفين: 148.

والإرشاد وتعليم أحكام الشريعة، عن الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(ليس من عبد يذكر عنده أهل البيت فيرق لذكرنا إلا مسحت الملائكة ظهره وغفر له ذنوبه كلها، إلا أن يجيء بذنب يخرجه من الإيمان)(1)، وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(شيعتنا الرحماء بينهم، الذين إذا خلوا ذكروا الله (إن ذِكرنا من ذكر الله) إنّا إذا ذُكرنا ذُكر الله وإذا ذُكر عدونا ذُكر الشيطان)(2).1.

ص: 166


1- سفينة البحار: 3/ 207.
2- الكافي، ج2، باب تذاكر الإخوان، ح1.

القبس /125: سورة سبأ:20

{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ}

لما عصى إبليس أمر ربه تبارك وتعالى في السجود لآدم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وطرد من زمرة الملائكة أطلق تهديداً خطيراً واستراتيجياً يستمر إلى يوم يبعثون {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (الحجر:36) (ص:79) فهدّد بقوله الذي حكاه القرآن الكريم {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (ص:82-83) وفي آية أخرى {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (الحجر:39-40) وفي آية ثالثة {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف:16-17).

وهو -لعنة الله عليه- حينما أطلق هذا التهديد لم يكن يعلم الغيب ليجزم بهذه النتيجة، وإنّما كان يهدّد ويأمل أن يحقّق هذه النتيجة ويبذل وسعه لتحقيقها وهي غواية جميع البشر إلاّ عباد الله الذين استخلصهم لنفسه، ولا أدري إن كان يحتمل نجاحه في هذه العملية وهو يعلم أنّه يُقابل حشداً إلهياً فيه لطف رباني عميم ورحمة واسعة وإرادة دائمة لهداية البشر وصلاحهم وتواتر الحجج والبيّنات

ص: 167

ظاهرة وباطنة (لا تخلو الأرض من حجّة)(1) مضافاً إلى مواسم كثيرة تُغلُّ فيها الشياطين خصوصاً في شهر رمضان ورميهم بالشهب الثاقبة، بينما لا يملك إبليس إلاّ الدعوة والتزيين {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} (إبراهيم:22) لذا قال تعالى {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} (النساء:76).لكن المفاجئة إن البشر أعرضوا عن الاستجابة لداعي ربّهم مع هذه الألطاف والتأييدات المعدّة للهداية وأقرّوا عين إبليس ولم يخيّبوا ظنّه، قال تعالى {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} (سبأ:20-21) والمراد بظنّ ابليس الذي صدقوه تهديداته السابقة، بل ما أسرع استجابتهم له بمجرّد أن دعاهم.

وتسجّل السيّدة الزهراء (س)هذا التعجّب والاستغراب في خطبتها:(وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم فألفاكم لدعوته مستجيبين وللعزّة فيه ملاحظين، ثمّ استنهضكم فوجدكم خفافاً وأحشمكم فألفاكم غضاباً) (2)، أي وجدهم الشيطان مسارعين خفافاً للاستجابة له وترك وصيّة الله تعالى رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

لذا يحذّر أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الناس من الاغترار بهذه الدعوة والاستجابة30

ص: 168


1- أنظر: الكافي- الشيخ الكليني: 1/ 178
2- الاحتجاج: 1/ 130

لها، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللَّهِ عَدُوَّ اللَّهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ وَأَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ بِنِدَائِهِ)(1).ولم يأخذ بهذا التحذير إلاّ القلة {إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} (سبأ:20) وبثبات هذه القلة وإخلاصها وعملها الدؤوب حفظ الله تعالى هذا الدين وبارك في عطائهم وجعلهم مناراً للأجيال، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أولئك هم الأقلون عدداً والأكثرون عند الله قدراً)(2).

أمّا أكثر الناس فقد سقطوا في فخوخ الشياطين، قال تعالى:{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} (يس:62).

ولم يكتفِ منهم اللعين بالغواية في موقف أو حالة أو زمان بل ظلّ يمعن في غوايتهم وإضلالهم حتّى نزع من قلوبهم الاطمئنان بالآخرة فجعلهم يشكون فيها، وعدم الإيمان بالآخرة تعني التحلّل من كلّ رادعٍ عن الفساد والانحراف والظلم والانحطاط والحيوانية.

وقوله تعالى في آية سورة سبأ المتقدّمة (لنعلم) ليس علماً بعد جهل تعالى الله عن ذلك، وإنّما معناه لنظهر لهم حقائقهم وبواطنهم حتى يعرفوا أنهم نالوا العذاب باستحقاق ولا يعترضوا لو عوقبوا بناءً على العلم الإلهي من دون إبراز لحقائق أعمالهم بأنهم لو اعطوا الفرصة لكانوا على خير.

ولكنّ الله تعالى يحذّرهم بحقيقة يجب أن ينتبهوا إليها وهي أنّه محيط بأفعالهم ونياتهم لأنّه تعالى حفيظ على كل شيء {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي7.

ص: 169


1- نهج البلاغة، الخطبة 192.
2- نهج البلاغة، قصار الكلمات: 147.

السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} (سبأ:3) (يونس:61).وهكذا كان الناس في كلّ موقف وفي كل مفصل من مراحل التاريخ ينحازون إلى صفّ إبليس إلاّ قليل ممن عصم الله تعالى {إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} (سبأ:20)، في تفسير القمي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لما أمر الله نبيّه أن ينصّب أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) للناس في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} في علي بغدير خم فقال:من كنت مولاه فعلي مولاه، فجاءت الأبالسة إلى إبليس الأكبر وحثوا التراب على وجوههم، فقال لهم إبليس:مالكم؟ قالوا:إن هذا الرجل، قد عقد اليوم عقدة لا يحلها شيء إلى يوم القيامة. فقال لهم إبليس:كلا إنّ الذين حوله قد وعدوني فيه عدة، فأنزل الله على رسوله(1) {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} (سبأ:20).

ويجب أن نفهم من إقرار عين إبليس باتباعه له مراتب وإذا عجز اللعين عن المرتبة الشديدة للانحطاط فإنّه يقبل بما هو أهون منها والمهم عنده الإبعاد عن رضوان الله تعالى ولو درجة وإيجاد النقص في ما يقرّب إلى الله تعالى، فلا يقتصر عمله على الغواية إلى حدّ الكفر والشرك أو إلى حد ارتكاب المعاصي من المؤمنين، بل يعمل-في حالة عجزه عن ذلك- على التزيين لترك الأولى بفعل المكروه أو ترك المستحب.

روى الشيخ الطوسي في الأمالي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إنّ إبليس كان يأتي الأنبياء من لدن آدم حتّى عيسى (صلوات الله عليهم أجمعين) ويحادثهم،7.

ص: 170


1- البرهان: 8 /68 عن تفسير القمي: 2/ 201، الأمثل: 10/ 547.

وفي إحداها (قال يحيى بن زكريا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):فهل ظفرت بي ساعة قط، قال:لا، ولكن فيك خصلة تعجبني. قال يحيى:فما هي؟. قال:أنت رجل أكول فإذا أفطرت أكلت وبَشَمَت –أي امتلأت- فيمنعك ذلك من بعض صلاتك وقيامك بالليل، قال يحيى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):فإنّي أعطي الله عهداً أن لا أشبع من الطعام حتّى ألقاه، قال له ابليس:وأنا أعطي الله عهداً إني لا أنصح مسلماً حتّى ألقاه. ثمّ خرج فما عاد إليه بعد ذلك.)(1)هذا مثال على صعيد الفرد، أما على صعيد الأمة –وفي نفس المستوى من الحديث- فإنّ مما يسعد إبليس اللعين إعراض أغلب الناس عن نصرة واتباع المرجعية الرسالية العاملة المخلصة المتأسيّة بوصف أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (طبيب دوّار بطبّه)(2) ورجوعهم في المرجعية والقيادة إلى الحوزة المتقاعسة عن تحمّل مسؤولياتها اتجاه الدين والأمة مع اعترافنا بأنّها تقيم طقوس الدين، إلاّ أنّها لا تهتم بأمور الإسلام ولا المسلمين ولا تشعر بالغيرة عليهما والرحمة بهما وهذه أوصاف مأخوذة من طبيعة عملها ومنهجها الذي اختارته فلا ينبغي لها الاستياء من هذا التوصيف.

ولقد دلّت الأحاديث الشريفة على أنّ المرجعية الأولى أشدّ على إبليس من الثانية عن معاوية بن عمّار قال:(قلت لأبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) رجل راوية لحديثكم يبُثُّ ذلك في الناس ويشدّده في قلوبكم وقلوب شيعتكم، ولعلّ عابداً من شيعتكم ليست له هذه الرواية أيّهما أفضل، قال:الراوية لحديثنا يشدُّ به قلوب شيعتنا أفضل08

ص: 171


1- أمالي الطوسي: 348- 349، بحار الأنوار: 13/ 173.
2- نهج البلاغة: 207/ خطبة رقم: 108

من ألف عابد)(1) ومن المعلوم أنّ شدّ قلوب الشيعة لا يتحقّق بمجرد كتابة الرسالة العملية.وفي الاحتجاج وتفسير العسكري عن الإمام الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(لولا من يبقى بعد غيبة قائمنا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من العلماء الداعين إليه والدالّين عليه والذابين عن دينه بحجج الله والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك ابليس ومردته ومن فخاخ النواصب لما بقي أحدٌ إلاّ ارتدّ عن دين الله ولكنّهم الذين يمسكون أزمّة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكّانها، أولئك هم الأفضلون عند الله عزّ وجل)(2) وهذا ما تقوم به المرجعية الرسالية العاملة كما هو واضح، والأدلة كثيرة، فإنّ قولهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (الفقهاء قادة)(3) وأنّم نوّاب الأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) الذين هم (ساسة العباد)(4) لا ينطبق إلاّ على المرجعية العاملة.

إنّ تصدّي الحوزة غير العاملة للمرجعية، يتسبّب في نتائج خطيرة تساعد اللعين في مشاريعه، منها:

1-تعطيل فرائض مهمة كصلاة الجمعة التي عُطّلت مئات السنين وهي عنوان عزّة الأمة وكرامتها ومصدر وعيها وتربيتها، وكفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتي وصفها الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بأنّها أسمى الفرائض وأشرفها (وأنّها سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب59

ص: 172


1- أصول الكافي، ج1، كتاب فضل العلم، باب فضل العلماء، ح9.
2- بحار الأنوار: 2/ 6.
3- الأمالي- الشيخ الطوسي: 225
4- بحار الأنوار- المجلسي: 26/ 259

وتحلّ المكاسب وتردّ المظالم وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر)(1)، والمتابع يلاحظ كيف أن المنكر يجري على مرأى منهم فلا يغيّرونه وفيهم نزل تقريع الله تبارك وتعالى وتهديده {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} (المائدة:63) وقوله تعالى:(كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) (المائدة:79) وقوله تعالى:{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} (الأعراف:165).2-تراجع العمل الاجتماعي للحوزة العلمية إلى حدّ الإصابة بالشلل أحياناً لأنّ كلّ مؤسسة تقوم برأسها وعقلها المدبّر، فالحوزة مرهونة بمرجعيتها وطريقة تفكيرها ومنهجها في التعاطي مع شؤون الأمة، فتجد في مرجعية الشهيدين الصدرين (قدس الله روحيهما) كيف انطلق وكلاؤهما وطلبتهما في الإصلاح الاجتماعي وإيجاد يقظة وصحوة لدى المجتمع.

3-ضعف الحالة الدينية في المجتمع وانتشار الفساد والظلم والجهل وترك الواجبات الشرعية وهي نتيجة طبيعية للعاملين أعلاه، وكشاهد على ذلك نذكر وضع المجتمع العراقي في السبعينيات قبل نهضة السيد الشهيد الصدر الأول وقبل نهضة الشهيد الصدر الثاني في التسعينيات.

4-خمول الحركة الإسلامية وتعطيل المشاريع الإسلامية عن الانتشار والتوسع والنمو والإزدهار لتخلي سدنته وحفاظه عنه بينما في عهد مرجعية55

ص: 173


1- الكافي- الشيخ الكليني: 5/ 55

الشهيدين الصدرين (قدس الله سرهما) يقدّم الإسلام كمشروع يقود الحياة ويعيد للأمة هيبتها وعزّتها وكرامتها وريادتها ويقيم الحجّة على الأنظمة الوضعية الأخرى.5-عدم وجود من يرعى شؤون الأمة ومصالحها ومن يستمع لهموم الناس ويقضي حوائجهم ويرفع الظلم عنهم ويدافع عن حقوقهم خلافاً للعهد الذي أخذ عليهم، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كِظّةِ ظالم ولا سغب مظلوم)(1).

6-بسبب تقوقع هذه الجهة وانكفائها على ذاتها وأنانيتها فيحصل لديها ضعف الوعي بقضايا الأمّة والظروف والملابسات المحيطة بها ونتيجته فقدان الرؤية الصحيحة لمعالجتها واتخاذ المواقف الحكيمة وفي ذلك مخالفة لتوجيهات أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) حيث ورد عنهم:(العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس)(2).

وغيرها من الأمور التي تظهر لمن يتابع حركة المرجعية في حياة الأمة وعلاقتها معها.

والأمر لا يقتصر على إبليس فإنّ شياطين الإنس أيضاً يصدق ظنهم على هؤلاء الناس فيستجيبون لهم بشكل غريب، هذا فرعون يحكي عنه القرآن الكريم {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} (الزخرف:54) أي أنّه بمجرد دعوته للناس لاتباعه والاستجابة لعبادته وجدهم يسارعون خفافاً لطاعته، لا لأهلية عند فرعون ولا لقوة ذاتية يملكها وإنّما لأنهم قوم فاسقون يسرعون إلى7.

ص: 174


1- نهج البلاغة: 44 الخطبة الشقشقية.
2- الكافي: ج1 ص27.

الباطل.وهذا عبيد الله بن زياد كان يتوقّع انقلاباً عليه من أهل الكوفة حينما وصل الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأهل بيته لأنّه من غير المعقول أن تتخاذل الناس عن ابن بنت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الإمام المعصوم الطاهر وتنصر الخبثاء أولاد الحرام، فعبأ جيشاً يعادل ألف مرة أصحاب الحسين وأسنده بقوّاتٍ من كربلاء إلى الكوفة، لكن شيعة آل أبي سفيان(1) – كما وصفهم الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- لم يخيّبوا ظنّ ابن زياد وصدّقوا عليهم ظنّه واتبعوه ونفّذوا إرادة ابن زياد بوحشية فاقت ما طلبه منهم.

ومن ذلك ما يجري اليوم من تكاثر أدعياء الزعامات والعناوين المقدّسة وكلّ منهم يصاحبه القلق في بداية دعوته لأنه يتوقع أنّ الناس ستسأله عن أصله ومؤهلاته وتوفّر الشروط فيه وإنّ الأمة ستراقب حركته ليتأكدوا من مصداقيته، لكن شيئاً من ذلك لا يحدث ويصدّق هؤلاء المدعون على الناس ظنّهم فيتخذونهم ألعوبة بأيديهم.

نسأل الله تعالى العصمة والتوفيق والتأييد (وإن خذلني نصرك عند محاربة النفس والشيطان فقد أسلمني خذلانك إلى حيث النصب والحرمان)(2).اح

ص: 175


1- اللهوف في قتلى الطفوف- ابن طاووس: 71
2- مفاتيح الجنان: 93, دعاء الصباح

القبس /126: سورة سبأ:32

اشارة

(قَالَ ٱلَّذِينَ ٱستَكبَرُواْ لِلَّذِينَ ٱستُضعِفُواْ)

موضوع القبس:حوار يوم القيامة بين القادة واتباعهم

حكى لنا القرآن الكريم حوارات كثيرة تجري يوم القيامة لنتأمل فيها ونأخذ العظة والعبرة من الحقائق التي تبيّنها لنا ونتخذ الإجراءات اللازمة ازاءها ولا نصطدم بتلك الحقائق يوم القيامة حيث لا توجد فرصة للمراجعة وإعادة الحسابات وإصلاح الحال.

وهذا البيان من شفقة الله تعالى على عباده ورحمته بهم وحبّه لهم والا فانه يمكنه الاكتفاء بأوامره ونواهيه ومن يخالف فانه يستحق العقوبة ولا يستطيع ان يقول لم أكن أعلم ونحو ذلك {فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} (الأنعام:149).

وتجري بعض الحوارات بين الله تبارك وتعالى وعباده، وأخرى بين أهل الجنة وأهل النار، وبعضها بين الشيطان واتباعه الذين اغراهم بتسويلاته، ومحل الحديث هنا الحوار الاتي بين الاتباع وقياداتهم وزعمائهم ورؤسائهم سواء كانوا زعماء دينيين أو اجتماعيين كرؤساء العشائر أو سياسيين أو فكريين وغير ذلك فاتبعوهم وانقادوا لهم وسلّموا لأوامرهم ونفذّوا رغباتهم واعتقدوا بوجوب طاعتهم من دون ان يتأكدوا من مطابقة هذه الأوامر للشريعة الإلهية التي أُمروا بالالتزام بها وجعلها بوصلة حياتهم {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا

ص: 176

شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} (النساء:65).والحوار الآتي الوارد في سورة سبأ (الآيات 31-33) يكشف عن عمق الخيبة والخسران الذي يشعر به العصاة والمتمردون والمنحرفون عن شريعة الله تعالى فيتوجهون باللوم والتقريع الى قادتهم وزعمائهم الذين ساقوهم الى هذه النتيجة ويحملّونهم مسؤوليتها، وهو تبرير لا يجديهم نفعاً لأن قادتهم سيتبراون منهم ويلقون اللوم عليهم بأنهم اساؤوا الاختيار ولم يبذلوا الجهد الكافي للوصول الى الحقيقة والالتزام بها.

قال الله تبارك وتعالى {وَلَوْ تَرَى} أيها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ليتك تكون حاضراً لتشهد هذا الحوار يوم القيامة أو ترى بقلبك ما سنقصه عليك والخطاب موجه الى الجميع {إِذِ الظَّالِمُونَ} الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي والابتعاد عن المنهج الإلهي وظلموا أمتهم {مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ} محبوسون في التوقيف بأسوأ حال كالمجرمين الذين تلقي الشرطة القبض عليهم وتودعهم في مراكز الشرطة الى حين احالتهم الى القضاء والتحقيق في تهمهم، فأوقف هؤلاء الظالمون عند ربّهم ويا للفضيحة ان يحبسوا بمخالفتهم عند ربهم الذي تولى تربيتهم بالحسنى واغدق عليهم النعم وهم يعصونه ولا يستطيعون انكار شيء من افعالهم لأنه تعالى شاهد عليهم في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها.

{يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} يؤنب بعضهم بعضاً، ويتبادلون اللوم بينهم وكل منهم يلقي الكلام الى الآخر، وكلهم ظالمون لأنفسهم لكن بعضهم

ص: 177

كانوا قادة وزعماء استكبروا وطغوا بما عندهم وكان البعض الآخر تابعين لهم منفذين لأوامرهم، فظلمهم درجات, {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} وهم الاتباع الذين لم يكونوا ضعفاء لأن الله تعالى وهبهم العقل والقدرة على التمييز والاختيار، ولكنهم استضعفوا قدراتهم ولم يستعملوها بما ينفعهم، واستضعفهم القادة بما يملكون من أدوات القوة كالمال والسلاح والرجال وأساليب المكر والخداع والتجهيل وتسطيح العقول فساروا وراءهم من دون رؤية وتفكير وتدبّر وحكمة، فوجهوا كلامهم {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا}(1) الذين طغوا بما آتاهم الله تعالى من أسباب القوة وعلوا في الأرض، وهم في ذاتهم ضعاف عاجزون لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يدفعون عن أنفسهم موتاً فهم مستكبرون وليسوا كباراً {لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} أنتم الذين حرمتمونا من نعمة الايمان والهداية ولولاكم لاتبّعنا طريق الهداية والصلاح.{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم} فالزعماء والقادة يعيدون اللوم في الانحراف على نفس الاتباع وان فرصة الهداية واتباع الحق كانت متاحة لكم بأوسع اشكالها وأيسر أسبابها إذ وصلت اليكم سهلة سمحاء على يد الأنبياء والمرسلين والائمة المعصومين (سلام الله عليهم أجمعين) والعلماء العاملين المخلصين، فيحمّلونهم مسؤولية الانحراف وارتكاب المعاصي ويذكرون لهم ان السبب كامن فيهم {بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ}ا.

ص: 178


1- يتبجح البعض بوصف نفسه كبيراً أو الأحزاب تصف نفسها بالكبيرة ولا يعلمون ان هذا يحمّلهم مسؤولية إضافية ويحاسبون على قدر مسؤوليتهم الكبيرة التي ادّعوها وتحملّوها.

فأنتم أيها الاتباع ذوو نفوس ضعيفة ميّالة الى اتباع الأهواء وتعطيل العقول ولديكم الاستعداد لتوجيهكم نحو العبودية والذل واتباع القادة المنحرفين، فالسبب موجود فيكم.{وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} وهنا يرجع الاتباع الخطاب الى قادتهم وزعمائهم رافضين تبرئة أنفسهم من الهاوية التي اوقعوهم فيها ويذكّرونهم بدورهم في ذلك {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} فيعللون انحرافهم بأنه كان نتيجة أساليب المكر والخداع والتضليل وخلط الأوراق الذي استعمله القادة معهم {إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ} فشبّهوا عليهم وصورّوا لهم الباطل حقاً والمنكر معروفاً والمعروف منكراً، وابعدوهم عن القادة الصادقين المخلصين وشوهوا صورتهم امامهم ليبعدوهم عنهم ويحرموهم من الاستماع لصوت الحق والهدى والإخلاص والمحبة والحرية الحقيقية.

{وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً} فيعترف الاتباع ان قادتهم جعلوا لهم آلهة تعبد وتطاع من دون الله تعالى إذ صنع المستكبرون من ذواتهم وانانياتهم وشهواتهم والأفكار التي يريدون تسويقها اصناماً والهة تُقدّس وتطاع من دون الالتفات الى ما يريده الله تعالى ولو أمروهم بالمعاصي كسفك الدماء الزكية. {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ} وهنا شعر الجميع - في داخلهم من دون البوح به خجلاً وإقرار بالذم - بالندامة والاسف لما صدر منهم ولما ضيّعوا وفرّطوا في جنب الله تعالى ولم تنفعهم دنياهم التي اغترّوا بها وجعلوها غاية همّهم ومنتهى آمالهم فاكتشفوا أنها سراب والأمور بخواتيمها، فكانت عاقبتهم مؤلمة {لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} فلم تجدِ هذه

ص: 179

التبريرات والقاء اللوم على الآخر نفعاً في تخفيف العذاب عنهم، فالكل مجرمون آثمون وإن تفاوتوا في شدة العقوبة، {وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فالأغلال التي جعلت في اعناقهم يوم القيامة هم صنعوها بأفعالهم وغلّوا بها عقولهم وقلوبهم ونفوسهم مثل العبودية والاستكبار والاستضعاف واتباع الهوى والانانية والجهل وعدم الانصات الى الحق وغيرها مما ذكرناه في تفسير قوله تعالى {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف:157).إن هذا الحوار يتضمن الدعوة الى التثبت من حال القيادات والزعامات التي تتبعوها وان لا تركضوا وراء كل صيحة وتلبّوا كل دعوة كالذي يحصل اليوم حيث يتحرك الكثيرون وراء منشور في وسائل التواصل الاجتماعي ويبنون عليه مواقفهم وربما يكلفهم ذلك تضحيات بالنفس أو المال أو الجهد والوقت، أو يصدّقون نكرات مجهولين لا يُعرف لهم اصل في ادعاءات كبيرة يتخذونهم سلماً لتحقيق مآربهم ووقوداً لنيران صراعاتهم، والصحيح هو الرجوع الى العلماء الربانيين الذين أمر الائمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) باتباعهم والسير على نهجهم لأنهم يحبّون الناس ويضحّون من أجلهم ويحرصون على صلاحهم وسعادتهم.

ص: 180

القبس /127: سورة سبأ:46

اشارة

(قُل إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَٰحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثنَىٰ وَفُرَٰدَىٰ)

معنى:قُلْ

(قل) يا رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لجميع الناس وأبلغهم رسالة من الله تعالى واستعمال (قل) للتأكيد على كون متعلقها مما أمر النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بتبليغه للناس، وإن كان كل القرآن هكذا، {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل/44) إلا ان استعمال (قل) يعني الاهتمام بالقضية الملقاة وإيصالها إلى الناس.

في معنى:أَعِظُكُم

ولإعطاء هذه القضية زخماً من التأثير الواسع في المجتمع فقد أمر(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يبلغ هذه الرسالة على نحو الموعظة (أعظكم) ولا يكتفي بمجرد ابلاغها لهم على أي نحو كان، والوعظ (هو التذكير بالخير فيما يرقُّ له القلب) كما في المفردات عن الخليل، فالمراد اختيار الطريقة الرقيقة الشفيقة الرحيمة التي تتجاوز

الاذن وتدخل القلب وتدفعه إلى التسليم بها لتحقيق الخير والصلاح لكم.

وللتأكيد على أهمية هذه القضية وتركيز النظر عليها فقد استعمل اسلوبان للدلالة على انحصار تحقق الغرض بهذه الوسيلة، احدهما اداة الحصر (إنما) وتأكيدها بكلمة (واحدة) أي لا ثانية لها فلا يوجد امامكم الا طريقة واحدة إن أخذتم بها تحققت الغاية ووصلتم إلى الهدف واستقمتم على الطريق الصحيح.

ص: 181

اكسروا أغلال الهوى:

والقضية بسيطة منسجمة مع الطبيعة البشرية ومع الفطرة، لكنّها واسعة بسعة حاجات الانسان وطموحاته ومشاكله حاصلها:أيها الناس إنكم في كل حقيقة تريدون البحث عنها وفي كل موقف تريدون اتخاذه، وكل مشروع تودون الاقدام عليه، وفي كل محنة تنزل بكم وكل مشكلة تعجزون عن حلها وكل كارثة تحيط بكم وكل قضية تقلقكم لا حلَّ لكم ولا علاج إلا بواحدة، وذلك بأن (تقوموا) وتنهضوا وتتهيأوا وتستيقظوا وتكونوا على أهبة الاستعداد لأي شيء للرجوع إلى ربكم والتسليم لأمره، والالتزام الكامل بما يريده الله تعالى منكم، وتكسروا اغلال الهوى والتعصب والجهل والميول.

لأن الفرد والأمة إن لم يأخذوا بهذه الوسيلة ورضوا بأن يكونوا في غفلة وفي سبات وفي جهل وعمى فإنهم يتخبطون ويقعون بأيدي اللصوص وقطاع الطرق من شياطين الإنس والجن.

قوموا بإخلاص:

وان يكون قيامكم ونهضتكم خالصاً (لله) تعالى وليس اتباعاً لأهواء أو ميول أو عواطف أو تعصبات وتحزبات أو لنيل مغانم دنيوية أو تحت مؤثرات من صنع البشر.

ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا:

والمطلوب من هذه النهضة إعمال الفكر (ثم تتفكروا) في القضية المقصودة وسيلهمكم الله تعالى الحل ويّدلكم على الفعل المناسب وييسّر لكم

ص: 182

اسبابه ومقدماته، وفي الآية دلالة على أهمية الفكر والتفكير العقلاني المتحرر من اغلال التعصب والهوى فإن مثل هذا الفكر الحر هو حجر الأساس في بناء الهداية والكمال ومفتاح الوصول إليهما، ولإنجاز كل مشروع اجتماعي أو علمي أو سياسي أو اقتصادي ونحو ذلك.وهذا التفكر يكون مقدمة لمعرفة ما يتطلبه الأمر الإلهي في تلك القضية والتسليم التام لما يريده الله تعالى منك فتأتمر بأمره وتنتهي بنهيه، وقد اطلقت الآية التفكير فلم تقيّده بماذا لكي تجعل هذه القاعدة عامة لكل قضية ولكل مسألة ابتداءاً من القضية المحورية الكبرى وهي التوحيد والإيمان بالله تعالى والمعاد يوم القيامة {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} (سبأ:46) عندما يخاطَبْ المشركون والكافرون بهذه الآية، إلى قضية النبوة والرسالة للمنكرين لها {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} (سبأ:46) إلى قضية الإمامة والولاية للجاحدين بها إلى سائر القضايا الحياتية الأخرى الصغيرة والكبيرة.

مَثْنَى وَفُرَادَى:

وليكن قيامكم ونهضتكم (فرادى) أي مع أنفسكم لكي تخلوا بربكم وتنفتحوا عليه ويكون ادعى للتأمل والتفكر، واتخذوا أيضاً شخصا اخر (مثنى) أي اثنين اثنين ليكون رفيقا لكم وناصحا ومرآة (المؤمن مرآة المؤمن)(1) فيعينك على التعرف على اخطائك وعيوبك وتستشيره فيما ينبغي فعله ويعينك على الخير، وتجنبوا الانسياق وراء العامة وكثرة الناس مما يعرف بالسلوك الجمعي وقيل فيه

ص: 183


1- بحار الأنوار- المجلسي: 74/ 269

(حشر مع الناس عيد) فان هذا الانسياق مذموم ويوردك مواطن الهلكة والبوار لأنه انفعالي عاطفي يسِّيره اهل المكر والخديعة والباطل {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ} (الأنعام:116) {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف:103) {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف:106).

البيئة الصالحة للتكامل:

وهذه العناصر الثلاثة التي تُفهم من الآية كفيلة بصنع البيئة المناسبة للتكامل والتي تأخذ بيد الانسان نحو الكمال وقد جمعها الامام الجواد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بقوله (المؤمن يحتاج الى توفيق من الله وواعظ من نفسه وقبول ممن ينصحه)(1)، فالواعظ من نفسه ثمرة القيام فرادى والقبول ممن ينصحه ثمرة القيام مثنى والتوفيق من الله ثمرة القيام لله.

وهذه القاعدة التي يقدمها الله تعالى هدية لنا من خلال كتابه الكريم هي البداية الصحيحة لكل مشروع، وتقيّم من خلالها كل حركة او دعوة، وتواجه بها كل مشكلة، اما اتخاذ المواقف الارتجالية والانفعالية العاطفية فهو فعل غير منتج.

لا عزّ إلا بالله:

فلنغتنم هذه الهدية الالهية المباركة في كل حياتنا خصوصا في وقت الازمات والمحن كالتي تمر بها البلاد اليوم حيث يعيث فيها الارهاب الاعمى فسادا وقتلا وتشريدا واجراما، فقبل ان نلهث وراء هذا وذاك ونستجدي منه النصرة

ص: 184


1- تحف العقول: 290.

والعون وهو يزيدنا اذلالا واهانة، علينا ان ننتفض على انفسنا واهوائنا لان الاغلب غفلوا عن الله تعالى ونسوه تبارك وتعالى فأنساهم الله انفسهم وتركوا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بل صاروا عقبة كؤود في طريق المصلحين والآمرين بالمعروف والنهي عن المنكر وكثير منهم ممن يرجى ان يكون عوناً على طاعة الله تعالى ولذا تحققت النتيجة التي حذر منها المعصومون (سلام الله تعالى عليهم) كقول الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر، او ليستعملن عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لكم)(1)، فهذا هو سبب تسلّط الأشرار الارهابيين والمجرمين.

لا وسيلة للنجاة إلا بواحدة:

فلا وسيلة لنا ولا حل ينجينا الا بواحدة {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} وهي ان ننهض لله وفي سبيل الله ونرجع إلى الله تبارك وتعالى، وندعوه ونتوسل بأقرب الوسائل إليه تعالى:حبيبه محمد المصطفى وآله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين ونستغيث بصاحب العصر والزمان (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ليشملنا بألطافه ورعايته وسيلهمنا الله تعالى الحلول الصحيحة ويعيننا على تنفيذها والعمل بها، خصوصاً ونحن نستقبل شهر الله الكريم شهر المغفرة والرحمة والفوز بالجنة والنجاة من النار.

ص: 185


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 38، ح10.

نموذج من الرجوع الى الله تعالى:

روى السيد ابن طاووس بالإسناد عن اليسع بن حمزة القمي(1) فقال:أخبرني عمرو بن مسعدة وزير المعتصم الخليفة إنه جاء علي بالمكروه الفظيع حتى تخوفته على اراقة دمي وفقر عقبي، فكتبت إلى سيدي أبي الحسن العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) –أي الإمام الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- أشكو إليه ما حلَّ بي، فكتب إليّ:لا روع عليك ولا بأس، فادع(2) الله بهذه الكلمات، يخلّصك الله وشيكاً مما وقعت فيه، ويجعل لك فرجاً، فإن آل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يدعون بها عند إشراف البلاء وظهور الأعداء وعند تخوّف الفقر وضيق الصدر.

قال اليسع بن حمزة فدعوت الله بالكلمات التي كتب إليّ سيدي بها في صدر النهار فوالله ما مضى شطره حتى جائني رسول عمرو بن مسعدة فقال لي:أجب الوزير، فنهضت ودخلت عليه، فلما بصُر بي تبسّم إليّ وأمر بالحديد ففُكَّ عني، وبالأغلال فحُلَت مني، وأمر لي بخلعه من فاخر ثيابه، واتحفني بطيب، ثم أدناني وقرّبني وجعل يحدثني ويعتذر إليّ، وردّ عليّ جميع ما كان استخرجه مني وأحسن رفدي.

وكان الدعاء:يا من تحلُّ به عقد المكاره)(3)، والموجود في الصحيفة

ص: 186


1- لعل الصحيح أحمد بن حمزة بن اليسع الذي وُصف بأنه (ثقة ثقة) لأنه من أصحاب الإمام الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أما اليسع بن حمزة فذُكر في أصحاب الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو مجهول.
2- لاحظ تعبير الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فأدع) اي اطلب بصدق ووفّر حقيقة الدعاء في باطنك ووجدانك ولم يقل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فاقرأ) اي مجرد تحريك اللسان بكلمات.
3- مهج الدعوات: 271.

السجادية(1).

لنستمطر غمام رحمته:

فبهذا الدعاء وأدعية الفرج الأخرى نستمطر رحمة الله تعالى ومغفرته وأن يرفع عنّا البلايا والفتن، ولنجعل هذه العودة إلى الله تعالى والانتباه من الغفلة واحدة من منافع المرور بهذا البلاء الشديد والتعرّض لهذه الصدمة(2) ليكون بلاء خير لنا وليس جزاءً لسوء أفعالنا، تصديقاً لعنوان البيان الذي أصدرناه تعليقاً على هذه الأحداث (ربّ ضارة نافعة)، ولا تخفى المنافع الأخرى التي تحققت حيث:

1-أعادت تذكير الناس بإمام زمانهم الذي غفلوا عنه وما غفل عنهم بدعائه وعنايته واستشعروا الحاجة لظهوره وتولّيه بنفسه الشريفة قيادة البشرية نحو الهدى والصلاح والقضاء على الباطل والانحراف والجاهلية.

2- التفّ الناس حول مرجعيتهم الدينية واستجابوا لنداءاتها حتى التطوع للقتال وملأوا معسكرات التدريب وألقوا الحجة عليها لتنهض بمسؤوليتها وأفشلوا خطط من حاولوا اضعاف المرجعية الدينية وفصل القواعد عنها.

3-انبعثت الروح الوطنية بعد أن ضاعت في هوس الانتماءات القومية والطائفية والايدلوجية وتفرّق الشعب أيدي سبأ.

ص: 187


1- ص57.
2- كلمة وجهها سماحة المرجع اليعقوبي من خلال قناة النعيم الفضائية يوم الجمعة 28-شعبان-1435 المصادف 27/ 6-2014 للتذكير بالمعالجة الاخلاقية للمحنة التي تمر بها البلاد بعد احتلال التكفيريين لمناطق شاسعة من البلاد، ولتتميم المعالجتين العسكرية والسياسية. (راجع كتاب خطاب المرحلة للتعرّف عليها).

4-صحا المسؤولون السياسيون والعسكريون من سكر المغانم التي انهمكوا في جمعها وحيازتها من مواقعهم بغير حق.

5-نسي الكثير خلافاتهم واتحدوا على هدف واحد وهو دفع هذا الخطر الخبيث.

وغيرها من النتائج التي ينبغي للعقلاء الالتفات إليها من دون الحاجة إلى تعريضهم لهذا البلاء الشديد كما ورد في الدعاء (الهي لا تؤدبني بعقوبتك ولا تمكر بي في حيلتك) (1).لي

ص: 188


1- مفاتيح الجنان: 240, دعاء أبي حمزة الثمالي

القبس /128: سورة فاطر:5

(يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعدَ ٱللَّهِ حَقّ ۖ)

قال تعالى:{يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعدَ ٱللَّهِ حَقّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ ٱلحَيَوٰةُ ٱلدُّنيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلغَرُورُ 5 إِنَّ ٱلشَّيطَٰنَ لَكُم عَدُوّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدعُواْ حِزبَهُۥ لِيَكُونُواْ مِن أَصحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ} (فاطر:6)

{يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ} نداء لكل البشر وليس فقط الكافرين او الفاسقين او الذين اسلموا او الذين امنوا لان الناس كلهم معنيون بهذا النداء ومن المتعارف ان من يصيح يا أيها الناس فان الناس يلتفتون اليه ويصغون لما يقول لان مثل هذا النداء يتبعه امر مهم او تحذير من شيء خطير او نحو ذلك، فكيف اذا كان المنادي رب العزة والجلال على لسان مئة وأربعة وعشرين الف نبي ومرسل.

{إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} هذه هي القضية المنادى بها وقد تكرر ذكرها في غير موضع من كتاب الله كقوله تعالى {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (لقمان:33) وحاصلها ان ما وعدكم الله به من انتهاء حياتكم الدنيا بالموت ووجود حياة بعد الموت يكافأ فيها المحسن على أساس احسانه ويعاقب المسيء على اساءته ولكل من المثوبة والعقوبة درجات ودركات، كله حق لابد ان يقع والا كان ظلماً {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (آل عمران/182) لانه يعني مساواة الظالم والمظلوم والجلاد والضحية والمسيء

ص: 189

والمحسن وهذا باطل وخلاف الحكمة والعدالة {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران:191) {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ}(الأنبياء:16).وهذا الاعلان عن الوعد الحق فيه تحذير للعاصين والظالمين حتى يرتدعوا، وفيه تطمين المظلوم والمحروم بانه سيأتي اليوم الذي يعوضه الله تعالى فيه ويرد اليه الحق فيستقر ويهدأ.

ومادام الموت حق ومنكر ونكير حقاً والنشور حقاً والحساب حقاً والجنة والنار حقاً وكل ما اخبر به الأنبياء والرسل، اذن {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} فلا تخدعكم الدنيا بزينتها ومظاهرها الخلابة من مال وبنين وعشيرة وجاه وزعامة ومواقع في السلطة واي شيء اخر فأنها كلها تزول لذتها وتبقى تبعتها فالمظاهر الدنيوية التي تبعدكم عن الله تعالى عدو لكم فاحذروها وعليكم ان توظّفوا ما خولكم الله تعالى به من أمور الدنيا للفوز بالأخرة واكتساب الجنان (الدنيا مزرعة الاخرة)(1).

{وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} وهذا هو العدو الآخر، أنه الشيطان (الْغَرُورُ) وهي صفة مشبهة او صيغة مبالغة من الغرور أي إن التغرير بالأخرين صفته اللازمة لذاته ووظيفته التي لا يتوقف عنها، ويواجه الانسان مع هذين العدوين العدو الأول والاكبر وهي النفس الامارة بالسوء الميالة الى اللهو واللعب وارتكاب المعاصي والمليئة بالشهوات والغرائز النهمة التي لا تشبع في الحديث الشريف عن رسول6.

ص: 190


1- غوالي اللآلي 267:1 / ح 66.

الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك)(1)، وكل ما يقوم به العدوان الاخران (الشيطان والدنيا) هو استثارة هذه الشهوات والغرائز وتزيينها والتعمية على العقل والفطرة بالخداع والتغرير وخلط الأوراق وتشبيه الباطل بالحق ونحو ذلك، أي انها كالعامل المساعد في علم الكيمياء الذي يساعد على التفاعل ويسرّعه كوجود النفط او البنزين على الخشبة المحترقة َ(وقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم) (إبراهيم:22).وتغرير الشيطان يكون من طريقين:

1-تزيين مشتهيات النفس واهوائها كالشهوة والغضب والعصبية والحسد وغيرها وكذلك تزيين زخارف الدنيا وبهارجها بغضّ النظر عن موافقتها لما يرضي الله تبارك وتعالى وعدمها.

2-الاغترار بحلم الله تعالى وطول اناته عن الظالمين وعفوه وكرمه فيدعوه ذلك الى تسويف التوبة والتمادي والاستمرار على المعصية، والا ما الذي يدعو العاصي الى ارتكاب المعاصي وهو يعلم انها معصية وفيها غضب الله تبارك وتعالى وسوء العاقبة في الدنيا والاخرة لولا هذا الاغترار وفي دعاء ابي حمزة الثمالي عن الامام السجاد {إِلهِي لَمْ أَعْصِكَ حِيْنَ عَصَيْتُكَ وَأَنا بِرُبُوبِيَّتِكَ جاحِدٌ6.

ص: 191


1- المجلسي- محمد باقر- بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة- ج67 ص36.

وَلا بِأَمْرِكَ مُسْتَخِفٌ وَلا لِعُقُوبَتِكَ مُتَعَرِّضٌ وَلا لِوَعِيدِكَ مُتَهاوِنٌ، لكِنْ خَطِيئَةٌ عَرَضَتْ وَسَوَّلَتْ لِي نَفْسِي وَغَلَبَنِي هَوَايَ وَأَعانَنِي عَلَيْها شِقْوَتِي وَغَرَّنِي سِتْرُكَ المُرْخَى عَلَيَّ}(1) وقد يستغل الشيطان حالة الاستدراج والاغراق بالنعم التي يملي بها الله تعالى العاصين ليوهمه بأنه على صواب وان الخير كل الخير هو في الاستمرار على هذا المنهج الذي هو باطل ومنحرف، مادام يجلب له هذه السعادة الموهومة فيستمر على عصيانه ويتسافل اكثر في جهنم.وتعلل الآية التالية هذا الفعل من الشيطان وسببه {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} وقد أعلن هذا العداء منذ بدأ الخليقة حينما لعن وطرد من زمرة الملائكة عقب استكباره عن السجود لآدم، وقد شهر سلاحه ونصب فخوخه لكم بجميع الاتجاهات {قالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف:16- 17).

فعداؤه لكم دائم ودائب من حيث تتوقعون ومن حيث لا تتوقعون {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:27) وهذا الخفاء يعقد المواجهة ويصعبّها، تصوروا ان واحد من فخوخه وخدعه وهو الشرك الخفي كالرياء يوصف خفاؤه في باطن الانسان في الحديث النبوي الشريف (ان الشرك اخفى من دبيب النمل على صفاة- أين.

ص: 192


1- أنظر: مفاتيح الجنان: 240 دعاء أبي حمزة الثمالي للإمام علي ابن الحسين زين العابدين.

صخرة- سوداء في ليلة مظلمة)(1) أذن كيف يمكن معرفة كل فخوخه وخدعه لولا لطف الله تعالى.وامام هذا الهجوم الشرس والمستمر بكل الوسائل والخدع والمكائد فعليكم ان تقابلوه بالمثل {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} وليس من العقل والحكمة أن تغفلوا عنه وتتسامحوا مع خططه وأساليبه فضلاً عن اتباعه والانسياق وراء تسويلاته وتزيينه {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} (الكهف:50) ولعله اليوم أكثر خبرة وتقنية مما سبق وقد استطاع في أول محاولة مخادعة آدم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ} (الأعراف:22) فكيف اليوم وقد كثرت أدواته وتفنن فيها شياطين الانس والجن {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ، وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ، وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} (يس:60-62).

وهذا الشيطان لا يرضى من الناس إلا ان يرميهم في السعير {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ} (فاطر:6) واتباعه والحزب الجماعة الذين يوحدّهم هدف معين ولهم تأثير وفاعلية {لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} كما ان شياطين الانس ودوائر الاستكبار والماسونية لا ترضى من الناس الا ان ينحّطوا الى اخّس درجات الهمجية التي تترفع حتى الوحوش عن ممارستها بحيث يُسنّ الشذوذ الجنسي المسمى بزواج المثليين بقانون رسمي تُباركه الحكومات التي تدعي التحضّر.

اما سلاح الانسان في هذه المواجهة الشرسة والمعقدة والمفتنة على الجميع2.

ص: 193


1- بحار الانوار: 72/ 93 ح2.

الاتجاهات فانه أولا بعد التوكل على الله تعالى وطلب العصمة والتسديد والتأييد ففي دعاء نهار شهر رمضان (اَللّ-هُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَاَعِذْني فيهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجيمِ وَهَمْزِهِ وَلَمْزِهِ وَنُفْثِهِ وَنُفْخِهِ وَوَسْوَسَتِهِ وَتَثْبيطِهِ وَبَطْشِه وَكَيْدِهِ وَمَكْرِهِ وَحبائِلِهِ وَخُدَعِهِ وَاَمانِيِّهِ وَغُرُورِهِ وَفِتْنَتِهِ وَشَرَكِهِ وَاَحْزَابِهِ وَاَتْباعِهِ واَشْياعِهِ وَاَوْلِيائِهِ وَشُرَكائِهِ وَجَميعِ مَكائِدِهِ)(1).وثانيا:الحذر والحيطة والتحفز والانتباه الى كل اشكال المكر والخداع حتى وإن اُلبست ثوب الخير والطاعة والدين والنصيحة، فان الشيطان يأتي لكل فرد أو جماعة من الجهة التي يخدعهم بها فعنده أدوات لعلماء الدين وأخرى للتجار وأخرى للسياسيين وأخرى للزعماء والوجهاء وأخرى للنساء وأخرى للشباب وهكذا مما يتطلب ذكرها الى تفصيل، ورد عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ان من وصايا الله عز وجل الى موسى بن عمران (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) التي أوصاه بحفظها (ما دمت لا ترى الشيطان ميتاً فلا تأمن مكره)(2)، والجزء الاخر من الأمور كلها على ميزان العقل والفطرة والدين واتباع من أمر الله تعالى باتباعه.

وثالثا:كان المرحوم الشيخ جعفر الشوشتري صاحب كتاب الخصائص الحسينية (توفي سنة 1303ه-) واعظاً مؤثراً وله منبر وعظ في الصحن الحيدري الشريف يحضر عنده العلماء والفضلاء وعامة الناس، وذات يوم قال للحاضرين بلغني من مخبرين ثقات ان سراقاً تخللوا صفوفكم ليقتنصوا الفرصة ويسرقون ما في جيوبكم فأوصيكم بالحذر والانتباه، وهنا هاج الناس ولملموا ثيابهم وصاروا7.

ص: 194


1- مفاتيح الجنان: 257
2- الخصال: 1/ 217.

يراقبون كل حركة ولما سكن المجلس قال لهم:ألا تعجبون من غفلتنا وتقصيرنا إذ نهتم كل هذا الاهتمام بدرهم نخشى سرقته وهو متاع زائل ولا نكترث لنداء الله تعالى وانبيائه ورسله بأن الشيطان لكم عدو متربص بكم ويريد أن يسرق منكم دينكم وتقواكم وهو أثمن ما يجب المحافظة عليه لأنه سبب نجاتكم وفوزكم في الآخرة فكيف نغفل عنه ونسقط في تسويلاته.

ص: 195

القبس /129: سورة فاطر:32

اشارة

(وَمِنهُم سَابِقُ ۢ بِٱلخَيرَٰتِ بِإِذنِ ٱللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلفَضلُ ٱلكَبِيرُ)

موضوع القبس:القرآن الكريم يدعو الى التعامل مع الحياة بإيجابية

معنى أن نقول المؤمن خَيِّر:

قال الله تبارك وتعالى مخاطبا نبيه الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ){وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء :107) وقال تعالى {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (الكوثر:1) والكوثر تعني الخير الكثير، وقال تعالى على لسان زكريا في دعائه لطلب الولد {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} (مريم :6) وقال على لسان عيسى بن مريم {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} (مريم :31) أي كثير البركة والعطاء، ونحو ذلك من الآيات التي ضمت مجموعة من صفات الإنسان الصالح ويجمعها الوصف الذي نطلقه على المؤمن بانه (خَيِّر) وهي من صيغ المبالغة أي لا ترى منه إلا الخير، لذا وصفته بعض الاحاديث الشريفة بانه (الخير منه مأمول والشر منه مأمون)(1).

الحث على قضاء الحوائج وإدخال السرور:

ووردت احاديث كثيرة تدعو إلى ان يكون الأنسان مصدر خير وعطاء

ص: 196


1- علل الشرائع- الشيخ الصدوق: 1/ 116

وعنصرا مثمرا في المجتمع كالاحاديث التي تحث على السعي في قضاء حوائج الناس ومساعدتهم وإدخال السرور(1) عليهم ورفع الأذى عنهم وفعل المعروف لجميع الناس بغضّ النظر عن الدين أو القومية أو النسب ونحو ذلك وتذكر لهذه الأعمال الإنسانية الصالحة ثوابا عظيما يفوق اكثر العبادات أهمية.

العفو والصفح عن الإساءة:

وأكمل الشارع المقدس هذه الصورة الحسنة لسلوك المؤمن فطالبهُ بالعفو والصفح عن إساءة الآخرين، قال تعالى {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} (النور :22) وامر بنسيان إساءة الآخرين وكأنها لم تقع وان يبقى دائما يتذكر إحسان الآخرين اليه بل دعا الى مقابلة السيئة بالحسنة {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت :34)، كما امر بان يكون على عكس ذلك في العلاقة مع نفسه، وذلك بان يتذكر دائماً أساءته للآخرين حتى يكون رادعا عن تكرارها، وان ينسى إحسانه للآخرين حتى لا يحصل عنده شعور بالعجب والمنّ و التفضّل عليهم فيمنعه ذلك من الاستمرار في فعل المعروف، ففي الحديث الشريف ما مضمونه (انسى اثنين :إحسانك إلى الغير وإساءة الغير اليك، واذكر اثنين:أساءتك إلى الغير وإحسان الغير اليك)(2).

ص: 197


1- اذكر حديثا واحدا عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (فوالذي وسع سمعه الأصوات ، ما من احد أودع قلبا سرورا ألا وخلق الله له من ذلك السرور لطفا، فاذا نزلت به نائبة جرى اليها كالماء في انحداره حتى يطردها عنه ، كما تطرد غريبة الابل) (نهج البلاغة/ الحكمة 257).
2- للوقوف على مضامين هذه الأحاديث أنظر: ميزان الحكمة- الريشهري: 1/ 641

الحمل على الحسن:

وطلب الشارع المقدس أن تختار الأحسن والأفضل للآخرين عندما تكون بين خيارين أو بين موقفين أو سلوكين فأمر بان تحمل فعل أو قول أخيك على سبعين محملاً حسنا، وان كان ظاهره السوء، لكنه مادام يحتمل أن يكون حسناً فلا تقصّر في الأخذ بهذا الاحتمال، حتى وان تجاوزت السبعين احتمالا، وهو رقم يقال للتعبير عن الكثرة فلا يمنع من الأزيد .

وان يكون هذا هو منهج حياتك بان تفتش عن أحسن ما عند الآخرين فتنظر اليه على أساسه، وان تفتش عن أسوء ما في نفسك فتُقيّمها على أساسه لتكون بين هذا وذلك أنسانا صالحا يسعى نحو الكمال ويحب الخير للناس .

روي أن أخوة يوسف الصديق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما تعارفوا معه واعترفوا بجريمتهم تملكهم الحياء مما صنعوا به لكنه خففّ عليهم واعتبرهم أصحاب فضل عليه لانهم عرفّوه الى أهل مصر انه ابن الأنبياء الكرام وكان يُنظر اليه على انه عبد كنعاني أُشتريَ من سوق النخّاسين، فهل يوجد سمو في التعاطي مع الأمور مثل هذا ؟

فيما روي من مواعظ النبي الكريم عيسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انه مرَّ هو وأصحابه على جيفة كلب ميت فقال بعضهم ما انتن ريحه وقال الآخر ما اقبح منظره وهكذا، لكن النبي الكريم المتأدب بخلق الله تعالى قال (ما اشَّد بياض أسنانه)(1).

ص: 198


1- حلية الأولياء لابي نعيم الأصبهاني بحار الأنوار- المجلسي: 14/ 327.

بركة الانسجام مع الكون:

إن الإنسان حينما يسير وفق هذه الرؤية ويتبع هذا المنهج من التفكير يحصل على ثمرات عديدة، منها القرب إلى الله تعالى، وراحة البال، والسعادة(1) وحسن الذكر عند الناس مضافا الى شيء مهم يحسُن الالتفات اليه وهو انه ستتجاوب معه كل عناصر الخير في الكون لأنه محكوم بسنن الهية ثابتة فمن اخذ بها نال كل خيراتها وبركاتها، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (الأعراف :96).

وبذلك يكون قوله تعالى {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (إبراهيم :7) على القاعدة الطبيعية- كما يقال - وليس بالجعل التشريعي لزيادة النعم مقابل الشكر، وإنما هي حالة تكوينية طبيعية فان الإنسان الشاكر يكون جزءا منسجماً مع الكون فيحظى ببركات القوانين الإلهية التي تنظم حركة الكون .

وهذا ما يعترف به غير الموحدين أيضا فانهم يقولون إن الإنسان يجب أن يكون ممتنا شاكرا للكون - بحسب تعبيرهم لانهم لا يعتقدون بوجود الله سبحانه - على نعمه لكي يحصل الإنسان على المزيد من النعم وغيرها مما تستحق أن يسعى اليها الإنسان.

أهمية التفكير الإيجابي في التنمية البشرية:

هذا المنهج والسلوك الذي أسس له الشارع المقدّس اصبح اليوم من اهم

ص: 199


1- واذكر حديثاً واحداً في ذلك باختصار وهو قول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (السرور يبُسُط النفس ويثير النشاط، الغمّ يقبِضُ النفس ويطوي الانبساط) (غرر الحكم:2203و2024).

قضايا علم الاجتماع والتنمية البشرية التي يهتم بها العالم المتحضر فتؤلف الكتب وتعقد الندوات وتقدّم البرامج التلفزيونية التي تتحدث عن ((أهمية التفكير الإيجابي)) وتوصلوا فيها إلى جملة من النتائج التي بيّنها الشارع المقدس .ونُقل لي أنّ من الكتب الواسعة الانتشار في هذا المجال كتاب (السر) ومما جاء فيه ((إن للأفكار قوة مغناطيسية ولها تردد وعندها قدرة على الأرسال والاستقبال مثل الموجات الكهرومغناطيسية ويتم أرسال الأفكار هذه إلى الكون فتنجذب لها مغناطيسياً كل الأشياء التي تشبهها ثم ترجع ثانياً إلى المصدر الذي هو نفس الشخص، وان الإنسان اذا كان إيجابيا فانه يجذب كل خير اليه)).

وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ:

إن الشارع المقدس علَّم الإنسان أن يكون تفكيره إيجابيا في كل حالاته حتى عندما يشتد عليه البلاء من خلال إعطائه ثقافة إيجابية توجه سلوكه فانه وعده بالأجر العظيم اذا صبر واحتسب وأن هذا البلاء كفارة لذنوبه التي اجترحها وبذلك يكون فرصة للإنسان حتى يراجع نفسه ويحاسبها ويصلح أخطاءه، ووعده بالفرج وزوال البلاء مع ثبات الأجر، {وَبَشِّ-رِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} (البقرة :155-156)، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (الطلاق :2-3) وبذلك يكون الإنسان سعيداً وهو في اشدَّ حالات البلاء كالذي مرّ به الأنبياء والأئمة صلوات الله عليهم أجمعين .

ص: 200

أمثلة من التفكير الإيجابي:

خذ مثلاً ما جرى في واقعة كربلاء التي مثلّت اشرس جريمة عبر التاريخ لكن أصحاب الأمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كانوا فرحين سعداء لانهم نظروا إلى صورتها الأخرى المتمثلة فيما اعدَّ لهم من الكرامة والمقام المحمود عنده تبارك وتعالى والبركات العظيمة التي تثمرها إلى نهاية الدنيا.

وحينما حاول ابن زياد أن يظهر حقده وسمومه على عقائل النبوة وخاطب العقيلة زينب شامتاً (أرايت صنع الله بأخيك والعتاة المردة من أهل بيتك) قالت (س) (ما رأيت إلا جميلاً أولئك قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك أمك يأبن مرجانة)(1) فوصفت ما حصل بانه جميل .

والإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قعر السجون المظلمة والتعذيب وقيود الحديد لكنه كان يرى الجانب الآخر من الصورة ويقول في مناجاته (اللهم إنك تعلم أني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، اللهم وقد فعلت فلك الحمد)(2).

وهكذا النبي الكريم يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} (يوسف :33) فالسجن مع عذابه ومشقته وضيقه يرى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فيه الصورة الأخرى وهي نجاته من مكائد النسوة وفخوخ الشيطان لإيقاعه في معصية الله تعالى والأمثلة كثيرة .

ص: 201


1- بحار الأنوار- المجلسي: 45/ 116
2- الإرشاد- الشيخ المفيد: 2/ 240

نتيجة التفكير السلبي:

أما من يتعامل مع الأمور والأحداث بسلبية فانه يكون في شقاء وتعاسة ويكون عيشه منكدا ونحو الأسوأ من دون ان يغيِّر في الواقع شيئاً لان الأحداث جارية شاء أم أبى عن أمير المؤمنين عليه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إنك إن صبرت جرت عليك المقادير وأنت ماجور، وان جزعت جرت عليك المقادير وأنت مأزور)(1)

حكي إن مكتشف الكهرباء اجرى 2000 تجربة على نماذج المصباح الكهربائي قبل أن يصل إلى مراده فسخروا منه وانك أتعبت نفسك وخسرت الكثير في أجراء هذه التجارب الفاشلة فقال :ليس الأمر كذلك فقد استفدت معلومة وهي أن هذه الألفي طريقة للعمل غير منتجة.

مثال عن التفكير السلبي:

تقول احدى النساء أنها كانت أمّاً لطفلين ثم حصلت مشاكل مع زوجها وانفصلت عنه وكانت تشعر بضيق وحزن ومتعبة نفسيا وغاضبة على زوجها لأنه تركها وترك مسؤولية إعالة الأطفال على عاتقها حيث كانت مسؤولة عن دفع إيجار المنزل وفواتير الكهرباء والماء وغيرها وكانت الديون تتراكم عليها فبسبب كل تلك الضغوط كانت تشعر بالحقد والكره الشديد تجاه زوجها وبسبب الضغوط النفسية اصبح ذلك يؤثر على عملها فكانت ترتكب أخطاء في العمل وتتأخر في إنجاز ما هو مطلوب منها في العمل لأنها محطمة ولا تستطيع العمل بكفاءة عالية لإنجاز الأعمال المطلوب منها في وظيفتها ولكنها عندما قرات كتاب

ص: 202


1- ميزان الحكمة:5/ 26.

السر بدأت تغير طريقة تفكيرها وبدأت تنظر إلى الجوانب الإيجابية الموجودة في حياتها حيث قالت إن الجانب الإيجابي الذي استفدته من زواجي هو الحصول على طفلين جميلين وانها سعيدة بهم وبوجودهم بحياتها ولا تتحمل فكره فقدانهم أو عدم وجودهم بحياتها فعندما بدأت تركز على الأمور الإيجابية والنعم الموجودة عندها في حياتها أصبحت اكثر راحة وأصبحت ممتنة لله وشاكرة لله على النعم الذي انعمها عليها وأصبحت مشاعرها إيجابية وبالتالي تركيزها وكفاءتها في عملها اصبح افضل وإنتاجها في العمل اصبح اكثر وبالتالي بداء راتبها يزداد وبدأت تستطيع تسديد الفواتير ....

لكي تفكر بإيجابية:

ولكي يكون الإنسان معطاءاً محّبا للخير صبوراً عند الشدائد متفائلا عليه ان يصلح عقائده وتصوراته ونظرته للحياة أولا لأنها هي التي توجّه سلوكه، لذا ينبغي ان يلتفت إلى أمور:

1-إن كل ما حوله هو خلق الله وان الناس عيال الله تعالى، عن النَّبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (الخلقُ كُلُّهم عِيالُ الله عزَّ وجلَّ، فأَحَبُّ خلقِه إليه أنفعُهم لعِيالِه)(1) وفي دعاء الإمام السجاد(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) برواية أبي حمزة الثمالي (والخلق كلهم عيالك)(2) فلابد أن يكون كريماً معهم رحيماً بهم محبّا لهم مهما كانوا.

ص: 203


1- أخرجه البزار (2/ 398/ح1949 - كشف الأستار - و البيهقي في شعب الايمان (6/ 6/ 42-43 ح 7446-7447).
2- مفاتيح الجنان: 248

2-إن ما يجري هو بقضاء الله وقدره {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (التوبة :51) وما دام الله مولانا وهو الذي يتولى أمورنا فلا يختار لنا إلا خيرا ولكننا قد لا نفهم ذلك {وَعَسَ-ى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَ-ى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} (البقرة:216) فلابد من التسليم له والرضا به لان الاعتراض والسخط له عواقب وخيمة في الدنيا و الآخرة.

3-إن الله تعالى يقول (انا عند ظن عبدي بي ان ظن خيرا فله، وان ظن شراً فله)(1) فمن يكون ظنه حسناً ويبحث عن الأمور الحسنة في الحياة فانه سيتحقق له ذلك بأذن الله تعالى

4 -إن الدنيا زائلة ولا يستحق أي شيء فيها أن يكون محط الاهتمام إلا ما يقرّب إلى الله تعالى وينفع في الآخرة

5-إن من ينظر إلى الجوانب الإيجابية الحسنة للأمور وان لم تكن كذلك حقيقة يكون سعيدا مرتاح البال وكفى بذلك ثمرة طيبة فالسعادة ليست في تحقيق كل ما تتمنى وتريد بل في كونك في طريق الوصول اليها وفي أجواء العمل من اجل تحقيقها.

6-أما من ينظر إلى الأمور بسلبية فانه يكون في تعاسة وشقاء من دون أن يتغير حاله إلى الأفضل بل إلى الأسوأ.3.

ص: 204


1- الترغيب والترهيب – الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 72/ح3.

القبس /130: سورة الصافات:24

اشارة

{وَقِفُوهُم ۖ إِنَّهُم مَّسُٔولُونَ}

موضوع القبس:المسؤوليات الثابتة والمتحركة

لكي نؤدي مسؤوليتنا:

قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} (الصافات:24).

قال امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اتقوا الله في عباده وبلاده فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم)(1).

فمسؤولية الإنسان إذن لا تنتهي بالموت، بل لا بد من وقوفه في يومٍ للسؤال عن كل ما صدر منه صغيراً كان أو كبيراً {فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} (طه:52) وسيقف الإنسان يومئذٍ مبهوتاً متعجباً مستسلماً {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (الكهف:49).

ص: 205


1- نهج البلاغة:ج 2 - ص 80/ رقم الخطبة 167 من خطبه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في اول خلافته

ولو أنا إذا مِتنا تُركنا *** لكان الموتُ غايةَ كل حيِّ(1)

ولكنّا إذا متنا بُعثنا *** ونسألُ بعدها عن كلّ شيِّ

فعلى الإنسان أن يستعد ليوم السؤال وأن يحضّر أجوبته عن كل أفعاله ومعتقداته لكي لا يُفاجأ بصحائف أعماله ويجد فيها ما جنت يداه ولا يستطيع التدارك فلا ينفعه الندم {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} (ص:3) وأن يعي مسؤولياته أي ما سيُسألُ عنه -لأن المسؤولية اسم شيء مشتق مما يُسألُ عنه- لكي يؤديها بالشكل الصحيح.

أصناف المسؤوليات:

والمسؤوليات على صنفين:ثابتة ومتغيرة، ولا نعني بالمتغيرة:أن حكمها يتغير لأن (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة)(2) وإنما نعني حصول التغيّر في الموضوع والعناوين فيتغير الحكم تبعاً لها، فالخمر حرام لكن إذا عولجت وانقلبت خلاً صارت حلالاً لتغير الموضوع، والميتة حرام ولكن لمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ تكون حلالاً لطروّ عنوان ثانوي عليها وهو الاضطرار، فالتغير ليس في أصل الأحكام وإنما في تطبيقاتها.

والتكاليف الثابتة معلومة على مستوى العقائد كالإيمان بوجود الله تبارك وتعالى ووحدانيته وصفاته الحسنى والأنبياء والرسل والأئمة سلام الله عليهم،

ص: 206


1- تُنسب هذه الأبيات الى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنظر ديوان الإمام علي- محمد الخفاجي: 156- ونسبت الى غيره, أنظر: تاريخ بغداد- الخطيب البغدادي: 14/ 407
2- الكافي- الشيخ الكليني: 1/ 58/ح19

وعلى مستوى الأحكام كوجوب الصلاة والصوم والخمس وحرمة شرب الخمر والزنا والغيبة وغيرها أو على مستوى الأخلاق كمحبوبية الصدق والكرم والحلم ومبغوضية الحسد والأنانية والتهور وغيرها.أما المتغيرة فيمكن أن تتأثر بعناصر عديدة:

التأثر بالموقع:

منها:الموقع، فإن الإنسان العادي مسؤول عن نفسه وأهله وما يرتبط به، وحينما يكون وزيراً مثلاً فإنه مسؤول عن مؤسسات كاملة وإدارة كل الشؤون المرتبطة بوزارته ورعاية مصالح جميع الناس بما يرتبط بوظيفته، وحينما يكون إماماً في مسجد فإنه يكون مسؤولاً عن أبناء تلك المنطقة فيتفقدهم ويصلهم ويقضي حوائجهم ويساعدهم ويهديهم ويصلح شأنهم، فإذا أصبح قائداً أو مرجعاً دينياً شملت مسؤوليته الملايين من الناس في شرق الأرض وغربها، ولذا نجد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول وهو بالكوفة (ولعلَّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع)(1)، ويروي التأريخ أن المعتصم العباسي وصلته استغاثة امرأة في عمورية من بلاد الروم نادت:وامعتصماه، فقاد جيشاً كبيراً وخرج بنفسه لتأديب الروم وإغاثة المرأة(2).

وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم ومن سمع رجلاً ينادي:يا للمسلمين فلم يجبه فليس

ص: 207


1- نهج البلاغة: 70/ كتاب رقم 45
2- الكامل في التاريخ- ابن الأثير: 6/ 480

بمسلم)(1).وكم من فقير وجائع ومكروب ومهجّر ومريض ومسجون بغير حقٍّ ينادي اليوم:يا للمسلمين، يا للحكومات، يا لعلماء الدين، يا للمرجعيات.

فليعلم كل واحدٍ مسؤوليته وإذا عجز عن حل المشكلة وقضاء الحاجة فلا أقل من التفاعل مع القضايا ونصرة أصحابها بالكلمة والموقف، عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إن المؤمن لترد عليه الحاجة لأخيه فلا تكون عنده فيهتمّ بها قلبُه فيدخله الله تبارك وتعالى بهمِّه الجنة)(2)، أما الذين في موقع يسعهم قضاء حوائج الناس ويقدرون عليها فلا يهتمون ويقصرون في إنجازها فقد خرجوا من ولاية الله تبارك وتعالى، ففي الحديث عن موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من قصد إليه رجل من إخوانه مستجيراً به في بعض أحواله فلم يُجره بعد أن يقدر عليه فقد قطع ولاية الله عز وجل)(3)، وعن الإمام الصادق(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لم يَدَعْ رجلٌ معونةَ أخيه المسلم حتى يسعى فيها ويواسيه إلا ابتلي بمعونة من يأثم ولا يؤجر)(4).

تأثر المسؤولية بالظروف المحيطة:

ومنها:الظروف المحيطة به، فنحن في العراق نعيش حالة احتلال وصراع سياسي وفقر وحرمان وقتل وتهجير واختطاف وفساد إداري وسرقة للمال العام

ص: 208


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب فعل المعروف، باب18، ح3.
2- المصدر السابق، ح4.
3- المصدر السابق، باب 37، ح4.
4- المصدر السابق: ح5.

واعتقال للأبرياء وغيرها من القضايا التي تحتم اتخاذ مواقف بإزائها لم نكن مكلفين بها قبل وجودها، ولا يعذر الإنسان حين يصمّ آذانه عن كل هذه القضايا من دون أن يقوم بواجبه تجاهها، كما لا تعذر الحكومة حين تصمُّ آذانها عن مطالبة عوائل الأبرياء المعتقلين للإفراج عنهم أو تصمّ آذانها عن سماع الشعب العراقي المحروم الذي يطالب بتوفير مفردات البطاقة التموينية وتحسينها فتَفعل الحكومة العكس وتعلن عزمها على تقليل المفردات إلى النصف.

تأثر المسؤولية بالبلد:

ومنها:البلد الذي يؤثر في نوع المسؤولية، فالشخص الذي يسكن العراق له تكاليف تختلف عن الذي يسكن في بلاد الغرب مثلاً فهذا تبرز عنده وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنه يعيش في وسط مجتمع مسلم فوظيفته تقويم الانحراف داخل المجتمع المسلم بهذه الوظيفة، أما المقيم في الغرب فتبرز عنده وظيفة الدعوة إلى الإسلام لأنه يحاور غير المسلمين.

ويؤثّر في حجم المسؤولية ومقدارها وجرّبتم لو أن مجموعة من الطلبة الجامعيين ينتمون إلى محافظات متعددة صدر منهم تصرف معين فإن الطالب النجفي يحاسب أكثر من غيره، ومعذّريته أقل.

تأثر المسؤولية بالعلم:

ومنها:العلم، فكلما ازداد الإنسان علماً ازدادت مسؤوليته بكلا شقّيها أي من حيث الثواب على الإحسان والعقاب على الإساءة لذا ورد في الحديث أن الجاهل

ص: 209

يغفر له سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد(1).

تأثر المسؤولية بالمعرفة الإلهية:

ومنها:المعرفة بالله تبارك وتعالى، فكلما ازدادت معرفته ازدادت مسؤوليته، فقد تكون حالة مباحة وليست في دائرة المسؤولية ضمن مستوى معين ولكنها تكون ضمن دائرة المسؤولية في المستوى الآخر، لذا قيل (حسنات الأبرار سيئات المقرّبين) (2) فهي ليست سيئات بالمعنى المتعارف وإلا لما أصبحت حسنات بالنسبة للأبرار، فهي سيئات بالمعنى المناسب للمقربين.

مثلاً يستغفر البعض لأنه غفل فلبس الحذاء الأيسر قبل الأيمن على خلاف الاستحباب، وروي عن بعض العلماء أنه كان يبكي لما دنت منه الوفاة رغم أنه أنفق كل ما عنده لقضاء حوائج الناس لكنه يبكي لأنه كان يستطيع أن يستعمل جاهه لخدمة مزيد من الناس.

روى سيدنا الشهيد الصدر (قدس سره) أنه صلى ركعتي استغفار ذات مرة لأنه التقى بشخص لم يره منذ مدة فقال له:مشتاقين. ولما عاد إلى نفسه خشي أن لا يكون صادقاً.

ومستويات الناس من هذه الناحية متباينة جداً ومتفاوتة بدرجات لا تنتهي لأن الكمال لا ينتهي، وقد ورد ما يدلّ على ذلك في حديث عن الأمام علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه جاء إليه رجل فسأله (فقال له:ما الزهد؟ فقال:الزهد عشرة

ص: 210


1- الكافي: 1 / 47، ح1.
2- بحار الأنوار- المجلسي: 25/ 205,- 70/ 316

أجزاء فأعلى درجات الزهد أدنى درجات الورع، وأعلى درجات الورع أدنى درجات اليقين، وأعلى درجات اليقين أدنى درجات الرضا، وإن الزهد في آية من كتاب الله عز وجلّ {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ})(1).

الإيمان عشر درجات:

وقد ورد عن المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) عدم جواز استعلاء صاحب الدرجة الأرقى على من هو دونه والاستخفاف به أو عدم مراعاة حاله، ففي كتاب الخصال للشيخ الصدوق (رضوان الله عليه) عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله لأحد أصحابه واسمه عبد العزيز:(يا عبد العزيز الإيمان عشر درجات بمنزلة السُلّم له عشر مراقي وترتقي منه مرقاة بعد مرقاة فلا يقولن صاحب الواحدة لصاحب الثانية لست على شيء، ولا يقولن صاحب الثانية لصاحب الثالثة لست على شيء ... حتى انتهى إلى العاشرة، قال:وكان سلمان في العاشرة، وأبو ذر في التاسعة، والمقداد في الثامنة، يا عبد العزيز لا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك، إذا رأيت الذي هو دونك فقدرت أن ترفعه إلى درجتك رفعاً رفيقاً فافعل، ولا تحملنَّ عليه ما لا يطيقه فتكسره فإنه من كسر مؤمناً فعليه جبره)(2).

قصة للجد الشيخ اليعقوبي مع الميرزا النائيني:

وروى(3) السيد الصدر (قدس سره) أن جدي اليعقوبي كان يقيم مجالس العزاء

ص: 211


1- الخصال للشيخ الصدوق، باب العشرة، ص 437.
2- الخصال للشيخ الصدوق، أبواب العشرة، ص 448.
3- قناديل العارفين: ص92.

الحسيني في دار الميرزا النائيني (قدس سره) المرجع الديني في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي فإذا أنهى المجلس قال الناس:أحسنت وأمثالها إلا النائيني فكان يقول:غفر الله لك، فسأله الشيخ اليعقوبي عن سرّ ذلك فقال له النائيني (قدس سره):لأنك تأتي في كلامك بروايات لم تثبت صحتها فأطلب لك المغفرة لذلك، فالتزم الشيخ اليعقوبي (قدس سره) في اليوم التالي بالتحقيق في سند الروايات وعدم ذكر إلا ما يصحّ منها فلم يؤثر في الجالسين ولم تتحرك عواطفهم ولم يتفاعلوا مع المصيبة فأذن له الشيخ النائيني (قدس سره) بالعودة إلى طريقة التسامح في الروايات أي ما يسمى بقاعدة التسامح في أدلة السنن والمستحبات، وعلّق السيد الصدر (قدس سره) بأن (حال) اليعقوبي أو درجته هي (من بكى أو أبكى أو تباكى كان له كذا من الأجر) وحال الشيخ النائيني (قدس سره) (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) فتكليفهما مختلف.

تأثر المسؤولية بالانتماء:

ومنها:الانتماء، فالذي يوالي أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) عليه مسؤوليات أكثر من غيره من المسلمين والذي ينتمي إلى المرجعية الناطقة الحركية يشعر بالمسؤولية عن دينه ومجتمعه أكثر ممن ينتمي إلى المرجعيات التقليدية الساكنة لذا تجد الحيوية والاندفاع والسبق إلى تنفيذ المشاريع التي تعلي كلمة الله تبارك وتعالى وترفع راية الإسلام في أتباع المرجعية الأولى أكثر.

مسؤولية الإيمان بالإمام المهدي (عج):

ولعل من أهم المسؤوليات التي يتحملها من ينتمي إلى مدرسة أهل البيت

ص: 212

(سلام الله عليهم) هو الإيمان بالإمام المهدي (عج) والتفاعل مع قضيته واستشعار مراقبته ورعايته واطلاعه على أعمال العباد والعمل على تعجيل ظهوره الشريف وإقامة دولته المباركة.

ما الذي نفهمه من دعاء الفرج؟

وأشير هنا إلى واحدة من تلك المسؤوليات وهي ما ورد في الدعاء الشريف (اللهمّ كُنْ لِوليِّكَ الحجةِ بن الحسنِ صَلواتُكَ عَليهِ وعلى آبائِهِ)(1) إلى أن يقول (حتى تُسكِنهُ أرضك طوعاً) أي طواعية وسلماً من دون قتال أو صعوبات أو معوقات. والدعاء عند أهل البيت ليس فقط كلمات تتلى للثواب وإنما هو وسيلة لإلقاء العلوم والمعارف إلى شيعتهم.

ويمكن أن نفهم هذه الفقرة بعدة أشكال:

1-الطلب من الله تبارك وتعالى أن يذلل للإمام (سلام الله عليه) السماوات والأرض والبحار فتكون في أوضاع مناسبة لحركته المباركة وأن توظف لخدمته وتكون عوامل مساعدة لعمله المبارك كما نصر الله تبارك وتعالى رسول الله (ص وسلم) في معركة بدر بألفٍ من الملائكة والنعاس والمطر والرعب في قلوب الكفّار، قال تعالى {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ، وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ

ص: 213


1- مفاتيح الجنان: 290

الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ، إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (الأنفال:9-12) وكيف أرسل الله تبارك وتعالى الرياح العاتية على الأحزاب فقلّعت خيامهم وهزمتهم حتى انسحبوا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} (الأحزاب:9).2-أن يمكّن المؤمنين من الوصول إلى مواقع النفوذ والسلطة والحكم في البلاد التي ينطلق منها الإمام (عج) لتأسيس دولته الكريمة وهؤلاء يهيئون تسليم الحكم للإمام (عج) بكل طاعة وولاء أما إذا كانت بأيدي المنافقين والكفار والمعادين فإن الإمام سيبذل كثيراً من الجهد والتضحيات لفتح هذه البلاد، وقد وردت روايات تسمي فيها بعض القيادات الصالحة التي تلتحق بالإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مع قواتها سلماً وتسلّم له القيادة في العراق في حين تحاربه جيوش من بعض الدول المجاورة وبعض المنافقين في هذه البلاد.

3-إن البشرية ستكون قريباً من الظهور مستعدة لاستقبال المصلح الموعود بسبب الأزمات الخانقة التي تعجز عن حلها سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو بيئية أو صحية أو عسكرية وغيرها فحينما تبلغهم دعوة الإمام (عج) لإقامة الحق والعدل وسعادة البشرية وإنصاف المظلومين والمحرومين واجتثاث أصول الفساد فسينقادون إليه ويؤمنون به، ويساهم السيد المسيح (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بدور

ص: 214

فاعل في إذعان الأمم المسيحية للإمام المهدي (عج)، بحسب ما ورد في الروايات.

تكاليفنا تجاه أحداث الظهور:

فكلّ من هذه المحاور يوجب تكليفاً بإزائه، فالشكل الأول يدعو إلى ديمومة الدعاء للإمام (عج)، والشكل الثاني يدعو شيعة الإمام (عج) التواقين لظهوره الميمون أن يزيدوا من خبرتهم في الإدارة والحكم وينظموا صفوفهم ويعبئوا طاقاتهم للوصول إلى هذه المواقع وبذل الوسع في النجاح في أداء مهامهم حتى يتمكنوا في الأرض وينجحوا ثم يسلّموا مقاليد الأمور إلى بقية الله الأعظم (عج).

والشكل الثالث يقضي بأن لا يقصّر المؤمنون في عرض الإسلام النقي الأصيل كما ورد عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وآله الطاهرين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على شعوب العالم وأن يبينوا لهم محاسنه ويرغبوهم بالدخول فيه ويشوّقونهم إلى اليوم الذي تسود فيه مبادئ الإسلام -التي هي مبادئ الإنسانية- الأرضَ كلها مستفيدين من وسائل الإعلام والاتصالات التي بلغت حداً عظيماً، ويشرحون لهم الحال المزرية التي أوصلتهم إليها أنظمتهم التي وضعها البشر بجهله وغروره من أمراض فتاكة كالآيدز ومن قلق ورعب ومستقبل مجهول وتفكك اجتماعي وضياع وأزمات اقتصادية وتلوث بيئة وغيرها من المشاكل المستعصية.

لا تكونوا من المطففين:

إن كل العناصر السابقة كولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أو الكون في موقع مهم

ص: 215

يمكن أن تكون سبباً لامتيازات يحصل عليها الإنسان في الدنيا والآخرة، ومقتضى العدالة والإنصاف أن يفي بالمسؤوليات التي تقابلها وإلا كان من المطففين الذين يأخذون أكثر مما يعطون فهدّدهم الله تبارك وتعالى بالويل {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (المطففين:1-6).روي أن الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كان يذهب إلى مكة(1) ماشياً على قدميه وإن النجائب المعدّة للركوب تُقاد بين يديه تعظيماً لله تبارك وتعالى، ولكنه كان يتنكب عن الطريق العام فقيل له في ذلك، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(أخشى أن أأخذ من رسول الله أكثر مما أعطيه) فالحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) صاحب أعظم عطاء في البشرية يستقلّ ما يقدم إزاء ما يأخذ من امتيازات كالتقديس والحب والتبرك وغيرها.

لنحاسب أنفسنا على ما أدينا من مسؤوليات:

أيها الأحبة:

أمام هذه المديات الواسعة والتنوع الكبير والتباين الهائل في المسؤوليات والاستحقاقات والامتيازات ينبغي للإنسان أن يراجع نفسه ويقيّم أعماله ويجري محاسبة يومية انطلاقاً من الأحاديث الشريفة كقول الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه)(2)

ص: 216


1- تاريخ مدينة دمشق- ابن عساكر: 14/ 180
2- وسائل الشيعة: ج11، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب69، ح1، 2.

وقول الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا عليها، فإن للقيامة خمسين موقفاً كل موقف مقداره ألف سنة، ثم تلا قوله تعالى {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ})(1)، ولا أقل من استغلال الأيام الشريفة لهذه المراجعة والتأمل فيما قدّم وأخّر كيوم عرفة يوم التوبة العالمي والاستغفار والإنابة إلى الله تعالى وفي يوم العيد الذي يعني العود والرجوع إلى الله تبارك وتعالى، وكان من المعالم البارزة لإحياء هذه الشعائر الحشد الكبير الذي غصّ بهم الصحن الحسيني المطهّر أمس لتلاوة دعاء الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم عرفة وهم يبكون ويتضرّعون ونقلته لنا بعض الفضائيات، ومثل هذا الاجتماع المبارك سبب مهم لرفع البلاء عن هذه الأمة.

ما الذي يقتضيه الشعور بالمسؤولية؟

إن الشعور بهذه المسؤوليات والالتفات إليها يقتضي عملين:

الأول:رفع التقصير عما لم يقم به الإنسان والندم عليه وتداركه.

الثاني:شحذ الهمّة والعزيمة ورفع مستوى الطموح ليبلغ أعلى هذه الدرجات ويستوعب أكبر مساحة من المسؤوليات ليحظى بأعلى الامتيازات عند الله تبارك وتعالى {وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة:72) {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ

ص: 217


1- وسائل الشيعة: ج11، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب69، ح1، 2.

النَّارِ، الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} (آل عمران:15-17).

ملحق :صفات المسؤول

روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (الا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راعٍ، وهو مسؤول عن رعيته والرجل راعٍ على اهل بيته وهو مسؤول عنهم والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم)(1).

وعن امير المؤمنين قال:اتّقوا اللّه في عباده وبلاده فإنّكم مسؤولون حتّى عن البقاع والبهائم، وأطيعوا اللّه ولا تعصوه)(2).

اذن كلنا مسؤولون، ولكن قد تختلف دائرة المسؤولية سعةً وضيقاً ولا يخلو احدٌ منها فانه مسؤول عن نفسه اولاً بتهذيبها وإصلاحها ثم عن اسرته وعائلته ثانياً وعن أصدقائه وزملائه في العمل وعن جيرانه وعن مجتمعه إذا كان في موقع المسؤولية السياسية او الدينية وهكذا الى ان تصل الى ولاية أمور الامة والمسؤولية العامة عن الناس وإدارة امورهم ورعاية شؤونهم.

وقد ذكرت الروايات الشريفة الصفات والخصائص التي ينبغي توفرها في المسؤول لينجح في عمله واداء وظيفته وليُعَّد محسناً عند الله تبارك وتعالى فينال رضاه، ورأيتها تركّز على صفة (الابوة) في المسؤول وأغلب الصفات المطلوبة في

ص: 218


1- صحيح مسلم: 3/ 1459/ 20
2- نهج البلاغة: الخطبة 167

المسؤول – بأي مستوى كان – مندرجة في هذا العنوان بحيث ان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) اختار هذا العنوان ليصف به نفسه واخاه امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (انا وعلي بن ابي طالب ابوا هذه الامة)(1).واقول لكم بصراحة ان اكثر صفة نفتقدها في الذين يتولون امراً ما صغيراً كان او كبيراً هي هذه الصفة وفقدانها سبب رئيسي لفشل عمل اكثر مؤسساتنا ليس فقط الرسمية بل حتى الخيرية والدينية والاجتماعية والثقافية.

روى الشيخ الكليني (قده) بسنده عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) :لا تصلح الامامة إلا لرجل فيه ثلاث خصال :ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم)(2).

وروى في نفس المصدر أنه (جاء الى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عسل وتين من همدان وحلوان فأمر العرفاء –أي المسؤولين ورؤساء اللجان- أن يأتوا باليتامى، فأمكنهم من رؤوس الازقاق يلعقونها وهو يقسمها للناس قدحاً قدحاً، فقيل له :يا أمير المؤمنين ما لهم يلعقونها؟ فقال :إن الامام ابو اليتامى وإنما العقتهم هذا برعاية الاباء)(3).

فما هي صفات وسلوكيات الوالد الرحيم التي ارادت الاحاديث الشريفة من .

ص: 219


1- بحار الانوار: 36/ 6-9 والتفاصيل في خطاب المرحلة 9/ 64.
2- اصول الكافي، ج1، كتاب الحجة، باب:ما يجب من حق الامام على الرعية، وحق الرعية على الامام.
3- اصول الكافى (الجزء الاول من الطبعة الحديثة):406 .

كل مسؤول الاتصاف بها؟اولاً :لنحققها في انفسنا ونعمل بها لأنها من مكارم الاخلاق ومحاسنها التي تنال بها الدرجات الرفيعة عند الله تعالى وهذا مما لا يلتفت اليه اكثر الناس ويغفلون عن هذه الوسيلة العظيمة المقرِّبة الى الله تعالى، عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة وشرف المنازل وانه لضعيف العبادة) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (ما من شيء اثقل في الميزان من حسن الخلق)(1) وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال :(ما يَقْدِم المؤمنُ على الله عزّ وجلّ بعملٍ بعد الفرائض أحبَّ إلى الله تعالى مِن أن يَسَع الناسَ بخُلقه)(2) .

ثانياً:ولأننا محاسبون عليها كما نطقت به الآيات الشريفة، {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} (الصافات:24) {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الحجر:92-93).

ثالثا:ولنأخذ دروساً في تربية الأبناء تربية صحيحة وفق تعاليم اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وينبغي الالتفات الى ان بعض الصفات قد نعرضها من جانب مسؤولية الآباء في الاسرة ولكن لما طلبت الروايات المتقدمة من كل مسؤول يلي أمور مجموعة من الناس ان يكون كالوالد الرحيم لهم فعلينا تجريد هذه الروايات من خصوصياتها وتعميمها الى المسؤوليات الأخرى:

1- الحب للولد او للرعية إذا نظرنا الى المسؤولية الاجتماعية:عن الامام 4

ص: 220


1- ميزان الحكمة:3/ 134
2- الكافي 100:2 /ح 4

جعفر الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال :(قال موسى بن عمران:يا رب، أي الاعمال أفضل عندك؟ فقال عز وجل:حبُ الاطفال، فأني فطرتهم على توحيدي، فإن أمتُّهم أدخلتهم برحمتي وجنتي)(1).وعن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(أحبوا الصبيان وارحموهم...)(2).

وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(نظر الوالد الى ولده حباً له عبادة)(3).

عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إن الله عز وجل ليرحم العبد لشدة حبه لولده)(4) وفي الحقيقة فان الحب ينبغي ان يشمل كل الناس لانهم صنع الله تعالى وآثار قدرته والمحب يحب كل آثار محبوبه وما يرتبط به .

2-الرحمة:قال تعالى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}(آل عمران :159) وفي عهد امير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لمالك الاشتر لما ولاه مصر {وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، والْمَحَبَّةَ لَهُمْ، واللُّطْفَ بِهِمْ . ولا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً، تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ :إِمَّا أَخٌ لَ-كَ فِ-ي الدِّينِ، وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ}(5) .

وفيما نحن فيه من علاقة الاب بأولاده، ورد عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(أحبواصر

ص: 221


1- البرقي، المحاسن،ج1،ص200،باب المحبوبات، ح15.
2- الكافي، ج6،ص49.
3- مستدرك الوسائل، ج15،ص170،ح17894.
4- اصول الكافي، ج 6، ص 50.
5- جواهر البحار – كتاب الروضة: باب عهد أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى الأشتر حين ولاه مصر

الصبيان وارحموهم...)(1). ومن مظاهر حب الولد والرحمة به:تقبيله، وتفريحه، وإرضاؤه، وإدخال السرور على قلبه، والمسح على رأسه، والنظر برحمة إليه...

عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(من قبل ولده كتب الله عز وجل له حسنة، ومن فرحه فرحه الله يوم القيامة، ومن علمه القرآن دعي بالأبوين فيكسيان حلتين يضيء من نورهما وجوه أهل الجنة)(2).

وعنه(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(قبلوا أولادكم فإن لكم بكل قبلة درجة في الجنة ما بين كل درجتين خمسمائة عام)(3).

وعنه(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لما قبل الحسن والحسين، فقال الأقرع بن حابس:إن لي عشرة من الأولاد ما قبلت واحدا منهم، فقال رسول الله:(ما علي إن نزع الله الرحمة منك)(4).

وكان رسول الله يقبل الحسن والحسين، فقال عيينة :إن لي عشرة ما قبلت واحدا منهم قط فقال:(من لا يرحم لا يُرحم)(5).

عن الإمام موسى الكاظم عن آبائه ع)عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):

(إذا نظر الوالد الى ولده فسرّه، كان للوالد عتق نسمة، قيل:يا رسول الله،7.

ص: 222


1- الكافي ح6/ص49 .
2- الكافي ج6 ص 49 .
3- مكارم الاخلاق ص 220 .
4- مكارم الاخلاق ص 220 .
5- وسائل الشيعة ، ح27657.

وإن نظر ستين وثلاثمائة نظرة؟! قال:الله أكبر)(1).وكان النبي إذا أصبح مسح على رؤوس ولده وولد ولده (2).

عن الإمام علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(قبلة الولد رحمة)(3).

وعن رسول الله لما خرج على عثمان بن مظعون ومعه صبي له صغير يلثمه، قال له:(ابنك هذا؟ قال نعم. قال:أتحبه يا عثمان؟ قال إي والله يا رسول الله، إني أحبه! قال(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):أفلا أزيدك له حباً؟ قال:بلى، فداك أبي وأمي !قال(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):إنه من يرضي صبيا له صغيرا من نسله حتى يرضى ترضاه الله يوم القيامة حتى يرضى)(4).

3- التغافل:وغضّ النظر عّما فعل وكأنك لم تعلم بما صدر منه من خطأ لكن مع الانتباه والمراقبة لما يفعل من طرف خفي.

وقد ورد هذا المعنى في بعض روايات ائمة اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) عن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إن العاقل نصفه احتمال، ونصفه تغافل)(5) .

وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال :(اشرف اعمال – او أحوال- الكريم غفلته عما يعلم)(6).

وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال :(صلاح حال التعايش والتعاشر ملء23

ص: 223


1- مستدرك الوسائل ج15 / ص 169، ح17886
2- عدة الداعي ، ص87
3- مكارم الاخلاق ، ص220
4- كنز العمال ح 45958
5- غرر الحكم: 2378
6- نهج البلاغة / الحكمة 323

مكيال، ثلثاه فطنة، وثلثه تغافل) (1) .وعن الامام علي بن الحسين السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال :(اعلم يا بني ان صلاح الدنيا بحذافيرها في كلمتين :اصلاح شأن المعايش ملء مكيال ثلثاه فطنه وثلثه تغافل، لان الانسان لا يتغافل الا عن شيء قد عرفه ففطن له)(2).

4- المداراة واللين والرفق بهم، وهو أدب عام من آداب المعاشرة مع الناس، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض)(3) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(مداراة الناس نصف الإيمان، والرفق بهم نف العيش)(4) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف)(5).

فالرفق من صفات الله تعالى، ومقتضى التوحيد العملي – كما في المصطلح – أن يتخلق الانسان بأخلاق الله فيكون رفيقاً، ويترك العنف والغلظة في الأفعال والاقوال على الخلق في جميع الأحوال، سواء صدر عنهم بالنسبة اليه خلاف الآداب او لم يصدر.0.

ص: 224


1- تحف العقول ص 393
2- الخزاز القمي / علي ابن محمد ، كفاية الاثر ص240 . تحقيق عبد اللطيف الحسني ، انتشارات بيدار ن مطبعة الخيام قم 1401 م
3- الكافي: 2/ 117.
4- الكافي: 2/ 117.
5- الكافي: 2/ 120.

وروي عنه قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(خذوا بالناس الميسَّر ولا تملّوهم)(1).وعن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال :(إن الله يحب الرفق، ويعين عليه)(2).

وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(لو كان الرفق خلقاً ما كان مما خلق الله شيء أحسن منه)(3).

وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(إن في الرفق الزيادة والبركة، ومن يحرم الرفق يحرم الخير)(4).

وعن الامام جعفر الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من كان رفيقاً في أمره نال ما يريد من الناس)(5).

وكان آخر ما اوصى به الخضر، موسى بن عمران (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن قال له (وإن أحب الأمور الى الله عز وجل ثلاثة.....الرفق بعباد الله، وما رفق أحد بأحد في الدنيا إلا رفق الله عزّ وجلّ به يوم القيامة)(6).

وهو من آداب الدعوة إلى الله تعالى وإلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:قال تعالى مخاطباً نبيه الكريم موسى وأخاه هارون (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):{اذْهَبَا إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ1.

ص: 225


1- كنز العمال: ح 5393.
2- الكافي،ن.م،ح12.
3- الكافي،ن.م،ح 13.
4- الكافي،ن.م،ح 7.
5- الكافي،ن.م،ح 16.
6- الصدوق، الخصال، ص111.

يَخْش-َى} (طه:43-44)، وهذا الأدب له آثار نفسية واجتماعية كبيرة(1) ويزيد من فرص التأثير والترغيب، أما الشدة والغلظة فتوجب النفور والعناد(2)، وقال تعالى:{ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل:125) وقال تعالى:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت:34).ويتأكد هذا الادب في علاقة الوالدين بالأبناء.

5- العفو عنه :بمعنى عدم معاتبته ولا معاقبته او توبيخه، وقد اكد القران الكريم والنبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)في منهاجه على مبدأ العفو في العلاقات الاجتماعيةى.

ص: 226


1- من الفوائد المرتبطة بالآية ما رواه الشيخ (قدس سره) في التهذيب بسنده عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال: (إن الحرب خدعة.. واعلم أن الله عز وجل قال لموسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حين أرسله إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} وقد علم أنه لا يتذكر ولا يخشى ولكن ليكون ذلك أحرص لموسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على الذهاب) (التهذيب: 6 /163 /299)، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} (النساء:142) –أي مجازيهم بالخداع-. والخداع كما عن مفردات الراغب: (إنزال الغير عما هو بصدده بأمر يبديه على خلاف ما يخفيه) والمكر: (صرف الغير عما يقصده بحيله وهو محمود ومذموم بحسب ما يراد منه، والاستدراج والإمهال من مكر الله).
2- هذا بحسب الغالب أو بحسب ما يناسب مع مراعاة المراتب وبعضها غليظ كما هو واضح، كما عبّر الشاعر بقوله: ووضع الندى في موضع السيف في العلا مُضِرٌٌّ كوضع السيف في موضع الندى.

داخل الاسرة وخارجها بشكل عام.قال تعالى:{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُ-ورٌ رَحِيمٌ} (النور:22) {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} (البقرة :109)،{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} (البقرة :219)، {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (البقرة :237)، {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} (النساء :149).

فالله تعالى رغم قدرته على العقاب وصف نفسه بانه عفو، ونحن مأمورون بان نتأدب بأدب الله تعالى {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(النحل:60) ونتخلق بأخلاقه أي اسمائه الحسنى (تخلقوا بأخلاق الله)(1) ففيما ناجى الله تعالى به نبي الله عيسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (طوبى لك ان اخذت بأدب الهك)(2) .

عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) :(رحم الله من اعان ولده على بره، وهو ان يعفو عن سيئته ويدعو له فيما بينه وبين الله)(3).

6- المشاورة والمشاركة في الرأي، قال تعالى{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (آلم.

ص: 227


1- الجامع الحديثي الثانوي كتاب بحار الأنوار للعلامة المجلسي.
2- الكافي:ج8/ ص135.
3- الحلي احمد ابن فهد عدة الداعي ونجاح الساعي ، ص 86 مؤسسة الرسول الاعظم ، العراق ط1 2010 م.

.عمران:159) ولأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عشرات الكلمات في المشاورة(1) منها قوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الشركة في الرأي تؤدي الى الصواب)(2) و(حقٌ على العاقل أن يضيف الى رأيه رأي العقلاء، ويضمَّ الى عمله علوم الحكماء)(3) و(من شاور الرجال شاركها في عقولها)(4) و(ما استنبط الصواب بمثل المشاورة)(5) وعلى صعيد العلاقة مع الولد فقد قيل في المثل العامي (إذا كبر ابنك خاويه) أي أجعل أبنك أخاً لك إذا بلغ الرشد.وعن ابي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال :قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) :(عليكم بالعفو، فان العفو لا يزيد العبد الا عزا، فتعافوا يعزكم الله) (6).

فعلى المسؤول والمربي والمؤدب ان لا يلجأ الى استعمال اسلوب العقوبة مباشرة، بل يوازن بين اسلوب العفو واسلوب العقوبة، فلعل اسلوب العفو عن العقوبة على السلوك غير المرغوب فيه يكون له فائدة اشد تأثيرا في العملية التربوية.

7- بر الولد واعانته على البر:عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال :(قال رجل من08

ص: 228


1- هداية العلم في تنظيم غرر الحكم:311.
2- غرر الحكم: 1942
3- غرر الحكم: 4920
4- غرر الحكم: 8652
5- غرر الحكم: 9527
6- الكافي:ج2/ ص 108

الانصار للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) :من أبر ؟ قال :والديك . قال قد مضيا . قال:برّ ولدك)(1).وعن يونس بن رباط، عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (رحم الله من اعان ولده على بره، قال :قلت :كيف يعينه على بره؟ قال :يقبل ميسوره، ويتجاوز عن معسوره، ولا يرهقه، ولا يخرق به)(2).

وعن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال :(رحم الله والداً أعان ولده على البر)(3).

وهكذا ينبغي للمسؤول اعانة رعيته على بِّره وطاعته من خلال أدائه لمسؤولياته كما ينبغي.

8- التصابي معه:فقد وجدنا الأحاديث الشريفة تحث الوالد على اللعب مع الطفل، والتصابي معه، بمعنى النزول الى مستوى مدارك الطفل الحسية والحركية وتعامل الاب معه كأنه صبي مثله.

عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) :(من كان عنده صبي فليتصاب له)(4).

وعن الامام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من كان له ولد صبا)(5).

وعن جابر بن عبد الله الانصاري قال : (دخلت على النبي، والحسن50

ص: 229


1- الكافي ج6، ص49
2- الطوسي محمد بن الحسن ، تهذيب الاحكام في شرح المقنعة ج8/ص113 ح390 تحقيق الموسوي الخرسان ، دار الكتب الاسلامية طهران،1365ه- شرح مفردات الحديث (لايرهقه): أى لا يسفه عليه ولا يظلمه من الرهق محركة او يحمل عليه ما لا يطيقه. و(الخرق) بالضم: الحمق والجهل اى لا ينسب اليه الحمق.
3- مستدرك الوسائل ،ج15/ ص168/ ح17885
4- من لا يحضره الفقيه ج3،ص483، ح4707
5- الكافي ج6/ص50

والحسين على ظهره، وهو يجثو لهما، ويقول :(نعم الجمل جملكما، ونعم العِدلان(1) انتما)(2).وعن سعد بن ابي وقاص :دخلت على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والحسن والحسين يلعبان على بطنه فقلت يا رسول الله أتحبهما فقال وما لي لا أحبهما وهما ريحانتاي)(3).

وعن أبي هريرة قال:كنا نصلي مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)العشاء, فإذا سجد, وثب الحسن والحسين على ظهره، فإذا رفع رأسه, أخذهما بيده من خلفه أخذا رفيقا, ويضعهما على الأرض، فإذا عاد, عادا، حتى إذا قضى صلاته, أقعدهما على فخذيه...)(4).

واذا اردنا نقل هذا المعنى الى الحالة العامة فنفهم منها رفع الحواجز بين المسؤول والناس ومشاركة الناس في فعالياتهم ومشاركتهم همومهم وافراحهم واحزانهم ولا نقصد بالحواجز المادية فقط وانما المعنوية اي بجعل الحواشين.

ص: 230


1- العدلان مثنى العِدل وهو نصف الحمل على احد شقي الجمل وسميا بذلك لتساويهما
2- ابن شهر آشوب ، محمد بن علي ، مناقب آل ابي طالب ج3/ص158 تحقيق لجنة اساتذة من النجف الاشرف المطبعة الحيدرية 1376ه- -1956 م والطبراني ، سليمان بن احمد المعجم الكبير ج3/ص52، تحقيق عبد المجيد السلفي ، دار احياء التراث العربي ط2، 1404ه- 1984م.
3- الهيثمي- المصدر: مجمع الزوائد - الصفحة أو الرقم: 9/ 184 خلاصة حكم المحدث: رجاله رجال الصحيح.
4- (حم) 10669، انظر الصحيحة: 3325، وقال الأرناؤوط: إسناده حسن.

والحجّاب المانعين من وصول المظلومين والمحتاجين والبوح بمطالبهم من دون اي حزازة وقد يكون الحجاب بايجاد (اتكيت) او (برستيج) خاص كالتي كانت تعرف في زمن الامويين والعباسيين (رسوم دار الخلافة) وألفّت الكتب فيها، تعرف احياناً في اوساطنا بالشأنية، فهذه كلها من مبتدعات الحكّام وليست من خصال الانبياء (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والائمة وورثتهم من العلماء الصالحين، حيث لم يمّيز احد منهم نفسه عن الناس كما وصف احدهم امير المؤمنين بقوله (كان فينا كأحدنا).9- العدل والمساواة بينهم :عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(... اتقوا الله واعدلوا بين اولادكم ...)(1) .

وعنه (إن لهم عليك من الحق أن تعدل بينهم كما لك عليهم من الحق أن يبروك) (2).

وعنه :(ساووا بين اولادكم في العطية)(3).

وعنه :(إن الله تعالى يحب ان تعدلوا بين اولادكم حتى في القُبل)(4).

وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال : (نظر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الى رجل له ابنان، فقبّل احدهما وترك الآخر، فقال له النبي :فهلا واسيت بينهما؟)(5).3.

ص: 231


1- كنز العمال ، ج16ص445.
2- كتاب السنن الكبرى – عن ابي داوود.
3- كتاب حديث خالد بن مرداس السراج /حديث 12 .
4- ميزان الحكمة – ج4/ص3673.
5- من لا يحضره الفقيه ج3/ص483.

وعن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(من كان له ابنة، فلم يؤذها، ولم يهنها، ولم يؤثر ولده عليها ادخله الله الجنة) (1).وعن سعد بن سعد الاشعري قال :سألت ابا الحسن الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ...(فقلت جعلت فداك، الرجل يكون بناته احب اليه من بنيه؟ قال الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):البنات والبنون في ذلك سواء، انما هو بقدر ما ينزلهم الله عزّ وجلّ منه)(2).

وتطبيقه ان من يلي امر مجموعة من الناس عليه ان يعدل بينهم فلا يحابي او يجامل او يقرّب هذا وذاك لانه ذو مال او جاه او موقع ونحو ذلك.

10- الاكرام والاحسان والتآلف :عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال :(اكرموا اولادكم، واحسنوا آدابهم)(3).

وعنه قال :(رحم الله عبداً أعان ولده على بره بالإحسان اليه، والتآلف له وتعليمه وتأديبه)(4).

11- الشفقة :عن الامام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال :(يجب عليك ان تشفق على ولدك اكثر من اشفاقه عليك) (5) وهي مطلوبة في التعامل مع جميع الخلق، في الحديث القدسي (الخلق عيالي فاحّبهم اليَّ اشفقهم على عيالي)(6).93

ص: 232


1- عوالي اللئالي، ج1،ص181.
2- الكافي ج6 / ص51.
3- مستدرك الوسائل ج15/ص167،ح17883
4- مستدرك الوسائل ج15/ص167،ح17886
5- شرح نهج البلاغة:ج20 / الحكم المنسوبة الى امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ح 152
6- دعائم الإسلام ج2 ص320 ح1207. وشرح نهج البلاغة: ج20 ص340 الرقم 893

وهي منزلة عظيمة ينالها الانسان حيث يكون أحبَّ الخلق الى الله تعالى بكثرة شفقته على الخلق، والخلق لا تقتصر على الانسان بل تشمل الحيوانات والحشرات وكل شيء من خلق الله تعالى .12-الوفاء بالوعد:عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(أحبوا الصبيان، وأرحموهم، وإذا وعدتموهم شيئا فوفوا لهم، فإنهم لا يدرون إلا أنكم ترزقونهم)(1).

وعن الإمام علي بن أبي طالب(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ،قال:قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(إذا واعد أحدكم صبيه فلينجز)(2).

وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ،قال:(لا يصلح من الكذب جدُّ ولا هزل، ولا أن يعد أحدكم صبيه ثم لا يفي له، إن الكذب يهدي الى الفجور، والفجور يهدي الى النار.....)(3).

وعن أبي الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ،قال:(إذا وعدتم الصبيان فوفوا لهم ،فإنهم يَرَوْن أنكم الذين ترزقونهم ،إن الله عز وجل ليس يغضب لشيء كغضبه للنساء والصبيان)(4).

وهكذا المسؤول عليه ان يفي لرعيته بوعوده التي قطعها على نفسه ولا يجعلها خديعة ليعطيه الناس اصواتهم ثم يدير ظهره لهم بعد تحقيق مبتغاه .50

ص: 233


1- الكافي ج6، ص49
2- مستدرك الوسائل ، ج15،ص 170، ح 17893
3- الصدوق / الامالي ،ص505ن ح696 تحقيق قسم الدراسات الاسلامية – مؤسسة البعثة، طهران ط1،1417ه-
4- الكافي ج6، ص 50

13- ايثارهم على النفس قال تعالى {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر:9) فالأبوان يجوعان ليشبعا أطفالهما ويهجران لذيذ النوم من اجلهم ويشقيان في الحياة من اجل اسعادهم وهكذا يكون المسؤول كالوالد الرحيم للرعية وهذه الخصلة مما وصفت به السيدة الزهراء (س) امير المؤمنين في خطبتها قالت :(س) عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ولم يكن يتحلى من الدنيا بطائل، ولا يحظى منها بنائل، غير ري الناهل وشبعة الكافل)(1) .

14- ومن صفات المسؤول:سعة الصدر في الحديث الشريف عن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (آلة الرئاسة سعة الصدر)(2) .

15- ومن لوازم موقع المسؤولية النصيحة عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال :(طلبت الرئاسة فوجدتها في النصيحة لعباد الله)(3).10

ص: 234


1- الاحتجاج: 1/ 139
2- نهج البلاغة / الحكمة 176
3- مستدرك الوسائل:12/ 173/ ح 13810

القبس /131: سورة ص:24

اشارة

{وَإِنَّ كَثِيرا مِّنَ ٱلخُلَطَاءِ لَيَبغِي بَعضُهُم عَلَىٰ بَعضٍ}

موضوع القبس:ضع الله تعالى نصب عينيك عندما تكون في خلاف مع الآخر

قال الله تبارك وتعالى:{وَإِنَّ كَثِيرا مِّنَ ٱلخُلَطَاءِ لَيَبغِي بَعضُهُم عَلَىٰ بَعضٍ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَقَلِيل مَّا هُم ۗ} (ص:24).

تشخّص الآية الكريمة ظاهرة اجتماعية خطيرة وحالة لا إنسانية متفشية في المجتمع، وقد وردت الكلمة في سياق قضية الخصمين اللذين احتكما إلى نبي الله تعالى داود (صلوات الله عليه وعلى نبينا) {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} (ص :22) والخلطاء الاشخاص الذين بينهم نحو من انحاء الاختلاط ولا يختص بالشركة المالية حتى يقال انه لا دلالة في الآية على وجود شراكة بينهما فيمكن أن يكون اختلاطهما بسبب الرعي المشترك أو تجاورهما أو أي سبب آخر، ويمكن أن تكون نفس هذه المنازعة اختلاطاً بينهما.

والقرآن الكريم يشخّص هذه الحالة المذمومة التي تحصل بين الخلطاء وهي بغي بعضهم على بعض ومحاولة كل منهما الاستئثار بالكل وانتزاع ما في يد الآخر بشتى الوسائل كالدعوى الباطلة وتزوير الشهادات والوثائق والكلام المعسول وقد يتوسل بالقوة لتحقيق ذلك (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً

ص: 235

وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) (ص :23) أي طلب مني ضم نعجتي إلى نعاجه وغلبني بكلامه وحججه وخدعه.ولعل تسجيل هذا المورد من الظلم والبغي مع أن مواردهما كثيرة لالفات النظر إلى خطورة هذه الظاهرة ولؤم الباغي فيها لان المفروض أن خلطتهما وتواصلهما المستمر يكون سبباً لتبادل الثقة والمودة بينهما وأن يكون كل منهما أميناً على حق الآخر وحافظاً له وان لا يتوقع كل منهما صدور الظلم والبغي من الآخر.

وقد استثنت الآية المؤمنين ذوي السيرة الصالحة لكنهم الاقلّون عدداً فانهم يصمدون بايمانهم امام اهواء النفس وانانيتها وطمعها وحبّها للغلبة والاستعلاء وحسدها، وهذا يعني ان ما يعصم من الوقوع في هذا البغي والظلم هو الايمان الصادق الذي يتمظهر في العمل الصالح والسيرة الحسنة، ومراعاة حقوق الاخوة والمعاشرة، هذه الرقابة الداخلية من الضمير الحي والقلب المفعم بالحب والرحمة وتقوى الله تعالى هو ما يجعل صاحبه لا يفكّر الا بالخير للآخرين اما أي رقابة أخرى كالسلطة والقانون والعقوبات فانها يمكن التخلص منها والتحايل عليها والاحتماء منها، وهذا الفرق يظهر لنا أحد مميزات الدين والالتزام به ودور الدين في حياة الانسان.

ونذكر هنا حديثين نبويين شريفين لردع من تسوِّل له نفسه التجاوز على حق خليطه ومن له نزاع او اختلاف معه مستخدماً شتى الوسائل والذرائع.

1- روى الشيخ الطوسي في كتابه الآمالي عن عدي قال (اختصم امرؤ القيس ورجل من حضرموت إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في أرض، فقال:ألك بينّة ؟)

ص: 236

باعتبار ان القاعدة المعمول بها في حل النزاعات هي بأن يقدّم المدّعي بينّة واضحة على ما يدعيه (قال :لا، قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):فيمينه) لان المدعي اذا لم تكن لديه بيّنة يحلف المدّعى عليه وهو المنكر للدعوى على نفسها فيحكم له بالحق (قال :إذن والله يذهب بأرضي) أي ان المدعي خاف من ان خصمه لا يتورع عن الحلف كذباً فيحكم له بالأرض (قال:إن ذهب بأرضك بيمينه كان ممن لا ينظر الله إليه يوم القيامة، ولا يزكيه، وله عذاب اليم، قال :ففزع الرجل وردّها إليه)(1)2- صحيحة هشام بن الحكم، عن أبي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) :إنما اقضي بينكم بالبينات والايمان وبعضكم ألحن بحجته – أي افطن لها - من بعض، فأيما رجل قطعتُ له من مال أخيه شيئا، فإنما قطعت له به قطعة من النار) (2).

ومن الواضح ان هذه الظاهرة لها مدى واسع في حياة المجتمع فيمكن ان تكون بين زوجين مختلفين فيحاول كل منهما ان يثبت انه على الحق وان الاخر هو المخطئ ويكشف من اسراره وخصوصياته ويسعى لتسقيطه وتشويه صورته، ويبالغ كل منهما في تحميل الآخر مبالغ واستحقاقات كبيرة بالاستفادة من القانون الوضعي الحاكم.

او بين متنازعين في السوق وما أكثر الاختلافات بين المتعاملين، او النزاع بين ورثة او أي شركاء فيعمل كل منهما على كسب الشيء له بلا وازع من دين او ضمير او اخلاق .1.

ص: 237


1- وسائل الشيعة: 27/ 235، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم/ باب 3/ح7.
2- وسائل الشيعة: 27/ 232، باب 2/ح1.

وتتوسع الأمثلة الى الشركاء السياسيين او حكومات الدول المختلفة فأنها مبنية على الاستئثار والهيمنة وتجريد الاخر من حقوقه وليس على أساس العدالة والانصاف والمرؤة والحقوق المتبادلة الا من عصم الله تعالى كما ذكرت الآية. فالدرس الذي نستفيده من الآية أنه يجب على الانسان أن يضع الله نصب عينيه حينما يكون في نزاع مع الآخر فلا يكون همه الا إحقاق الحق لا الغلبة على الآخر، وتقرّر الآية أن من يكونون كذلك قليلون.

ولأجل هذا كُرهت الشركة الا اذا وجدت مُبررّاتها وضماناتها، روي عن امير المؤمنين ((عَلَيْهِ السَّلاَمُ)) قوله (الشركة في الملك تؤدي الى الاضطراب) (1)

نعم تستحب الشركة في الرأي أي المشاورة واستمزاج الرأي (الشركة في الرأي تؤدي الى الصواب) (2)42

ص: 238


1- غرر الحكم: 1941
2- غرر الحكم: 1942

القبس /132: سورة الزمر:30

اشارة

{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}

موضوع القبس:دروس وعبر من وفاة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)

خطاب موجه الى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولجميع البشر استعمل فيه لفظ الفعلية بصيغة الصفة المشبهة (ميّت) رغم انهم مازالوا أحياء ولم يقل انك ستموت لافادة التحقق القطعي وانهم صائرون اليه لا محالة، قال تعالى {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (آل عمران :185).

ان الموت لا يعني الفناء بل التحرر من البدن والانتقال من عالم الدنيا الى عالم الاخرة الذي ستكون فيه الحياة الحقيقية {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} (العنكبوت :64) وستظهر للإنسان حينئذ حقيقة {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} (العنكبوت :64)، وسيندم على عدم اخذه من حياته الدنيا الزائلة ما ينفعه في تلك الحياة الباقية ويقول {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} (الفجر :24)، وقوله هذا اعتراف صريح بأن الاخرة هي الحياة ولكنه لم يقدم لها شيئاً.

وقد عقدنا هذا القبس لبيان دلالات موت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)وآثاره، منها

الأول:كانت وفاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) شهادة من الله تعالى على أن البقاء لله وحده قال تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (الزمر:30) وقال الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ليلة

ص: 239

عاشوراء لأخته العقيلة زينب (س):(إن أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون)(1) ولو استحق أحد أن يبقى لكان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأنه أكمل الخلق وأفضلهم وجعل الكون بما فيه طوع إرادته وهو عند الله تعالى أكرم من نبيه سليمان بن داود الذي قال فيه أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ولو أن أحداً يجد إلى البقاء سلّماً، أو لدفع الموت سبيلاً، لكان ذلك سليمان بن داود (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، الذي سُخّر له مُلك الجن والإنس، مع النبوة وعظيم الزلفة. فلما استوفى طُعمته، واستكمل مدّته، رمَته قِسيُّ الفناء بنبال الموت، وأصبحت الديار منه خالية والمساكن معطّلة، وورثها قومٌ آخرون)(2) وفي ذلك موعظة للخلق جميعاً.الثاني:هوان الدنيا على الله تبارك وتعالى حين يُخليها من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فما قيمتها بدونه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فأصبحت الدنيا بفقده مظلمة، والآخرة بنوره مزهرة، وفي ذلك عبرة لمن تطمح عينه إلى الدنيا ويجعلها هدفاً لحياته، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ولقد كان في رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كافٍ لك في الأسوة، ودليل لك على ذم الدنيا وعيبها، وكثرة مخازيها ومساويها، إذ قُبضت عنه أطرافها، وَوُطِّئت لغيره أكنافها، وفُطمَ عن رضاعها، وزوي عن زخارفها) (فتأسَّ بنبيِّك الأطيب الأطهر (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فإن فيه أسوةً لمن تأسّى، وعزاءً لمن تعزّى. وأحبُّ العباد إلى الله المتأسّي بنبيه والمقتصّ لأثَرِه) (عُرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها، وعلمَ أن الله سبحانه أبغضَ شيئاً فأبغضه، وحقَّر شيئاً فحقّره، وصغّر شيئاً فصغّره. ولو لم يكن فينا إلا حبُّنا ما أبغضَ اللهُ ورسولُه وتعظيمُنا ما صغّرَ اللهُ ورسولُه، لكفى به شقاقاً لله،7.

ص: 240


1- الارشاد للمفيد:2/ 94.
2- نهج البلاغة، الخطبة 182، صفحة 262، شرح د. صبحي الصالح، بيروت 1967.

ومحادَّةً عن أمر الله)(1)الثالث:انقطاع جملة من البركات كانت مرتبطة بشخصه المبارك ووجوده بين الناس (منها) الوحي المباشر الذي كان ينزل عليه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (ومنها) ارتفاع ألوان من العذاب، قال تعالى:{وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (الأنفال:33) وورد في أخبار الفريقين أن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(أنزلَ الله عليَّ أمانين لأمتي:{وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة)(2) ومع ذلك فإن خيره وبركاته متواصلة حتى بعد وفاته، عن أبي جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):مقامي بين أظهركم خير لكم فإن الله يقول: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} ومفارقتي إياكم خير لكم. فقالوا:يا رسول الله مقامك بين أظهرنا خير لنا فكيف يكون مفارقتك خير لنا؟ فقال:أما مفارقتي لكم خير لكم فإن أعمالكم تعرض علي كل خميس واثنين فما كان من حسنة حمدت الله عليها، وما كان من سيئة أستغفر الله لكم)(3).

الرابع:انفتاح باب الظلم والعدوان على آل بيت النبي (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) وقد قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأهل بيته:(أنتم المستضعفون بعدي)(4) وحصل3.

ص: 241


1- نهج البلاغة، الخطبة 160، صفحة 226-228.
2- الميزان في تفسير القرآن، في ذيل الآية 33 من سورة الأنفال.
3- الميزان في تفسير القرآن: 9/ 86.
4- بحار الأنوار: 22/ 469 عن كتاب (إعلام الورى بأعلام الهدى: 140-143. والإرشاد: 96-100. وأورد الحديث الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا: 2/ 72/ باب31 ح303.

ما حصل على دار علي وفاطمة (صلوات الله عليهما وآلهما) - لذا لا يكاد ينفك الحديث عن وفاة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من الحديث عما تعرضت له الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (س)- مخالفين بذلك قول الله تبارك وتعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (الشورى:23) ووصايا نبيه الأكرم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الكثيرة.الخامس:الانقلاب على الأعقاب ومخالفة وصية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالإمامة والخلافة، قال تعالى:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران:144) وهذه أهم قضية بلّغها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأدّاها عن ربه بنص القرآن الكريم قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة:67).

وكل واحد من هذه الأمور يستحق أن نطيل الوقوف عنده والتأمل فيه، ولكن الوقت لا يسع لذلك فنقتصر على الأخير لأهميته.

إن قضية الإمامة والخلافة أعظم قضية في الإسلام فهي مفتاح كل خير لو أن الأمة اهتدت إليها وأخذت بها، ومفتاح كل شرّ - والعياذ بالله- من سفك دماءٍ وتخريب ديار وانحرافٍ عن الدين، عندما يتخلفون عنها، وقد كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بدأ التصريح بها والدعوة إليها منذ أيام الإسلام الأولى عندما نزلت الآية الشريفة {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء:214) فقد روى الفريقان أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)

ص: 242

جمع بني عبد المطلب وكانوا أربعين رجلاً ودعاهم إلى الإيمان ومؤازرته واختار علياً ليكون وصيه وخليفته(1) ثم والى (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الإعلان والتبليغ بها حتى دعاه الله تبارك وتعالى إلى إكمال الدين وإتمام النعمة بإلزام المؤمنين بولاية علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في غدير خم قبل وفاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بشهرين وعشرة أيام، لكن بعض الصحابة ولأسباب معلومة نكثوا البيعة، وعندما حاول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تأكيدها قبل وفاته بأربعة أيام أي يوم الخميس الذي سبق وفاته يوم الاثنين حصل لغط وخلاف بين الصحابة فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لهم:قوموا، ثم أوصى أهل بيته بالاستعداد للبلاء واتخاذ الصبر جلباباً، هذه الحادثة التي أطلق عليها عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن:(رزيّة يوم الخميس)(2) لأنها أساس المصائب والانحراف عن خط الرسالة.الانحراف الذي –كأي خط مائل عن الصراط المستقيم- يزداد بعداً كلما تقدم الزمن فبدأت عُرى الإسلام تُنقَض، ومقدساته تنتهك ولم تبق حرمة له حتى آلت الخلافة إلى أناس يقتلون أولاد النبيين ويحرقون الكعبة ويشربون الخمر ويفعلون المنكرات جهاراً على منابر المسلمين، ونشأت أجيال من المسلمين لا تفقه من أحكام الإسلام شيئاً لأن الناس على دين ملوكهم، ولا سبيل للوصول إلى الأئمة الهداة الحقيقيين فهم معتقلون ومعذبون ومحاصرون، وكان الداخلون الجُدد في الإسلام من الأمم التي غزاها المسلمون لا يرون من الإسلام إلا ما يظهر على سلوك الأمراء، ولولا جهاد وجهود الأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) والثلة36

ص: 243


1- الميزان في تفسير القرآن: ذيل تفسير الآية 214 من سورة الشعراء.
2- بحار الأنوار- المجلسي: 30/ 536

المباركة من أصحابهم لما بقي للدين عين ولا أثر(1) كأبان بن تغلب الذي قال فيه الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما بلغه موته:(لقد اوجع قلبي موت أبان)(2)، وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في بعض أصحابه لعله زرارة او محمد بن مسلم (لولا فلان لمات فقه أبي)وكان لهذا الانقلاب على وصية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في مستحقي الإمامة والخلافة من بعده وإقصاء القادة الحقيقيين للأمة آثار(3) كارثية وويلات عظيمة على الأمة:

منها:تصدي غير المؤهلين للخلافة بل الفاسدين من بني أمية وبني العباس وأضرابهم مما أدى إلى:

1-تشوّه صورة الإسلام نفسه لأن أي دين أو نظام أو آيديولوجية تُقيَّم من خلال سلوك القائمين عليها لعدم التفكيك بين النظرية والممارسة والتطبيق، فلما يتصدى للحكم باسم الإسلام قتلةٌ ومجرمون وفاسدون فإنهم يشوّهون صورته.

2- طمع أعداء الإسلام في الكيد له واستئصال قواعده وتعاليمه حيث وجدوا لهم منفذاً بل حظوة لدى أولئك المتسلطين الجبابرة.

3- ضياع مقاييس ومعايير الاستحقاق لهذا المنصب العظيم فأصبحت هدفاً لكل الطامعين في السلطة والحكم ولو بالقهر والسيف ما دام الحكم لمن غلب.

ومنها:ابتداع وسائل من صنع الإنسان للوصول إلى التشريعات كالقياس97

ص: 244


1- أنظر: وسائل الشيعة (آل البيت): 27/ 142
2- رجال النجاشي: 10, الفهرست للشيخ الطوسي: 57
3- تجد تفصيل هذه النقاط في القبس/15, {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (آل عمران:144), من نور القرآن: 1/ 197

والشورى وأمثالها لابتعادهم عن مصادر التشريع الأصلية ولحاجتهم إلى قوانين تؤصّل لسلطتهم وتعطيهم الشرعية، لذا تبدلت الأحكام وصارت القوانين التي تحكم الحياة وضعية وليست إلهية.ومنها:عرقلة تربية البشرية وتكاملها، لأن المعلم يجب أن يكون عالماً والواعظ متّعظاً والمصلح صالحاً فكيف يربي الأمة من يتبع هواه ويطلق لنفسه الأمارة بالسوء العنان وقد جعل الشيطان ولياً له من دون الله العظيم فافتقدت الأمة الأسوة الحسنة والمربي الصالح الحنون إلا القليل ممن اهتدى إلى الحق ورزقه الله اتباعه، وعلى العكس من ذلك فقد شجعت تلك السلطات الفساد والانحراف وكانت تمارسه علناً وتوفّر أسبابه.

ومنها:تمزّق الأمة وتشتتها إلى فرق وأحزاب وطوائف متناحرة يستحل بعضهم دماء البعض الآخر {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون:53) ولم يلتفتوا إلى وصية الله تبارك وتعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} (آل عمران:103) وقوله تعالى:{وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال:46) وقد فسّرت الأحاديث الشريفة حبل الله بالقرآن الكريم وعترة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأهل بيته(1).

ومنها:انحسار دور الدين عن التأثير في حياة الأمة، فبعد أن كانت رسالته تنظيم شؤون الحياة كلها اقتصر أثره على عدد من المتدينين من خلال طقوس وعبادات يؤدونها، وقد عمل الطغاة على ذلك لأنهم يعلمون أن إعطاء دور شامل للدين يعني94

ص: 245


1- أنظر: تفسير العياشي: 1/ 194

الحاجة إلى الرجوع إلى القيّمين الحقيقيين عليه مما يعني خسارة الحكام الجائرين لسلطتهم ومواقعهم فقرروا عزل الدين ليعزلوا أئمته والأدلاّء عليه.ومنها:تأخر ركب الحضارة الإنسانية، لأن أوصياء النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان لديهم كل ما تحتاجه البشرية من علوم وقد احتوت المصادر على نظريات علمية في الفيزياء والفلك والرياضيات والفسلجة والكيمياء والطب وغيرها لأئمة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) (راجع كتاب قضاء أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وتوحيد المفضّل ورسائل جابر بن حيّان في الكيمياء) فلو أُتيحت الفرصة لأئمة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لإظهار علومهم وثنيت لهم الوسادة، لما احتجنا إلى أربعة عشر قرناً لنصنع الطائرة والكومبيوتر والإنسان الآلي والتكنولوجيا النووية وغيرها مما يضمن للبشرية حياةً أفضل وأهنأ وأسعد.

وعلى أي حال فقد كانت خسارتنا برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عظيمة بعظم النتائج التي حصلت بوفاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فما أصيبت البشرية بمثل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعلى مثله فليبك الباكون وليندب النادبون:

أنسَتْ رزيّتُكم رزايانا التي *** سلفتْ وهوّنت الرزايا الآتية(1)89

ص: 246


1- بيت من قصيدة مطولة للشيخ عبد الحسين الأعسم، أنظر أدب الطف- السيد جواد شبر: 6/ 289

القبس /133: سورة الزمر:54

اشارة

{وَأَنِيبُواْ إِلَىٰ رَبِّكُم وَأَسلِمُواْ لَهُۥ مِن قَبلِ أَن يَأتِيَكُمُ ٱلعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ}

موضوع القبس:دعوة إلى الرجوع إلى الله تعالى والانقياد له

هذه وصية من ربكم أوصلها إليكم من خلال رسالته العظيمة إلى الناس، أعني القرآن الكريم وهو مليء بالموعظة لأنه كتاب هداية وصلاح وحياة للقلوب والموعظة أهم ادواتها، ومنها هذه الآيات الكريمة في سورة الزّمر الحافلة بهذه المواعظ وهي تحذّر من عاقبة الافعال السيئة. وتتضمن الوصية حركتين:

الأولى:قوله تعالى {وَأَنِيبُوا} أي ارجعوا عن ذنوبكم واخطائكم وغيّروا طريقة حياتكم البعيدة عن الله تعالى ولا تغرّنكم الحياة الدنيا بشهواتها واطماعها وزخارفها فأنها كلها أوهام زائلة، وعودوا {إِلَى رَبِّكُمْ} واختيار هذا الوصف للتذكير بصفة الربوبية والرعاية والتربية والتنشئة من عالم إلى عالم ومن حال إلى حال.

وباب التوبة هذه والرجوع إلى الله تعالى مفتوحة لكل أحد مهما عظم ذنبه وقد أطلقت الآية السابقة هذه الحقيقة لتفتح الباب على مصراعيه امام الجميع {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر:53) فهذه الانابة والتوبة هي الخطوة الأولى وهي ممهدة للتالية.

ص: 247

الثانية: {وَأَسْلِمُوا لَهُ} أي اطيعوا رّبكم وانقادوا لأحكامه ولا تجعلوا لغيره نصيباً في قلوبكم ولا تأثير لغيره في افعالكم سواء كان هذا الغير الذي تطيعونه وتتبعونه هي انانيتكم وأهواءكم واطماعكم أو اعرافكم الاجتماعية أو العشائرية أو الرموز التي تتبعونها أو الجماعات والأحزاب التي تنتمون اليها وغير ذلك.هاتان الخطوتان تضمنان لكم السعادة والفوز والنجاة من عذاب معصية الله تعالى والتمرد على طاعته والابتعاد عن دينه فبادورا اليهما الآن وفي هذه اللحظة لأن المستقبل غير مضمون والموت يأتي بغتة وبشكل مفاجئ ولا يعلم وقته الا الله تعالى.

{مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ} لأن الانسان اذا لم يتدارك أمره ويعود إلى ربه فانه قد حكم على نفسه بالشقاء والتعاسة وعندما يموت يغلق عليه باب العمل، ويحرم من الفرص الكثيرة التي اتاحها الله تعالى له.

{ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} لا ينصركم شيء مما كرستم له حياتكم من مال أو أولاد أو منصب أو جاه أو اتباع أو غير ذلك {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} (البقرة:166).

ولا ينفع الندم وتمني العودة والرجوع {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} (الفرقان:27) من وصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأبي ذر (رضوان الله تعالى عليه) (يا أبا ذر اغتنم خمسا قبل خمس:شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل

ص: 248

موتك)(1) ومن كلام لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في المبادرة إلى التوبة والعمل الصالح (أيها الناس! الآن الآن ما دام الوثاق مطلقاً -- أي الحياة وفرصة العمل موجودة -- والسراج منيراً، وباب التوبة مفتوحاً، من قبل أن يجفَّ القلم وتُطوى الصحف، فلا رزق ينزل، ولا عمل يصعد، المضمار اليوم والسباق غداً وانكم لا تدرون إلى جنة أو إلى نار ! ! ! وأستغفر الله لي ولكم)(2).ثم تبيّن الآية التالية ما أجملته الآية السابقة {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم} (الزمر:55) وهو هذا القرآن العظيم الذي فيه تبيان كل شيء فعليكم العمل به وتدبر معانيه واتخاذه هادياً ومرشداً وقائداً ولكن عقولنا تقصر عن الإحاطة بتفاصيله فيأتي دور كلام المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في بيانه.

وتتكرر المطالبة بالمبادرة والمسارعة واغتنام الفرصة قبل فواتها {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} (الزمر:55) فإن باب التوبة قد يغلق {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} (غافر:85).

وحينئذٍ لا ينفع الندم ولا الحسرة ولا التأسف لأن هذه الحقيقة قد بيّنها الله تعالى للناس وحذرهم منها فلا عذر لهم {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} (الزمر:56) في كل ما يرتبط بالله تعالى من دين وأئمة وقادة هداة، وسيندم على استخفافه واستهزائه بهذا كله {وَإِن كُنتُ لَمِنَ86

ص: 249


1- مكارم الاخلاق للطبرسي: 626
2- أمالي الشيخ الطوسي: 686

السَّاخِرِينَ} (الزمر:56) فقد كان يسخر ممن يدعوه إلى الله تعالى ويسخّف كلامه ويتهم دعوته بأنواع الأوصاف المنفرّة، فاذا طلبت منهم، إقامة شريعة الله تعالى والالتزام بقوانينها عارضوك ووصفوها بأنها رجعية وتخلّف أو أن الوقت غير مناسب لتطبيقها، لاحظوا معي هذا المشهد لهم يوم القيامة {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الأنعام:27).فكل إعراض عن الشريعة وصدُّ عنها وعن العمل بها هو تفريط في جنب الله تعالى، وكل نكران لنبوة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وإمامة آله الكرام هو تفريط في جنب الله ففي الكافي بسنده عن موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (جنب الله أمير المؤمنين)(1)، وفي بصائر الدرجات عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول (أنا عين الله، وأنا جنب الله، وأنا يد الله، وأنا باب الله)(2) وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (انا شجرة من جنب الله فمن وصلنا وصله الله)(3) وفي المناقب بسنده عن ابي ذر في خبر عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (يا ابى ذر يؤتى بجاحد علي يوم القيامة أعمى أبكم يتكبكب في ظلمات يوم القيامة ينادي {يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} وفي عنقه طوق من نار)(4) .64

ص: 250


1- الكافي: ج1 ص 145
2- بصائر الدرجات:19
3- بصائر الدرجات:19
4- مناقب آل أبي طالب 3: 64

فالله تعالى يدعونا دائماً إلى تذكر هذه الحقائق ونحن في هذه الدنيا لنستطيع معالجة الخلل وتدارك التقصير قبل فوات الأوان، ورد في الحديث عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (أكثروا من ذكر هادم اللذات، فأنكم إن كنتم في ضيق وسعه عليكم فرضيتم به فأثبتم، وإن كنتم في غنى بغضّه اليكم فجُدتم به - أي أنفقتم منه - فأُجِرتم، ألا إن المنايا قاطعات الآمال، والليالي مدنيات الآجال، وان المرء عند خروج نفسه وحلول رمسه يرى جزاء ما قدَّم وقلة غنى ما خلَّف، ولعله من باطل جمعه ومن حق منعه)(1).إن هذه الآيات الكريمة فيها قانون عظيم لإصلاح المجتمع بفتحه باب العودة إلى الصواب والاندماج في المجتمع من جديد مهما كان خطؤه عظيماً، لأن كثيراً ممن يرتكبون مثل هذه الأخطاء يفقدون الأمل ويظنون ان باب التوبة اغلق في وجوههم فيقدمون على الانتحار للتخلص من آلام تأنيب الضمير أو يندفعون نحو الجريمة أكثر لإسكات صوت الضمير وإماتته، وما يريده الله تعالى من الانسان اعترافه بخطئه ورجوعه عنه إلى طاعة الله تعالى، وسيقبله ويمحو ما سبق منه.

أيها المؤمنون الموالون للصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (س)

لقد ارادت السيدة فاطمة الزهراء (س) بقيامها المبارك أن تعيد الأمة إلى رشدها وأن تعمل بهذه الوصية من ربها لأنهم ارتكبوا اثماً عظيماً بانقلابهم على اعقابهم ومخالفتهم لنبيّهم وعصيانهم لإمامهم وأسسّوا خطاً باطلاً منحرفاً ويزيد

ص: 251


1- ارشاد القلوب:1/ 48

ابتعاده عن الحق كلما مرّ عليه الزمن، تأملوا في قولها سلام الله عليها (وكيف بكم وانى تؤفكون وكتاب الله بين اظهركم، اموره ظاهرة واحكامه زاهرة واعلامه باهرة وزواجره لائحة وأوامره واضحة، وقد خلّفتموه وراء ظهوركم، أرغبة عنه تريدون؟ ام بغيره تحكمون؟ بئس للظالمين بدلا {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:85) (أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون؟! أفلا تعلمون؟))(1) .وتذكّر الأمة بأن الانابة إلى الله تعالى والإسلام له يتحققان بطاعة ولي الأمر الذي فرض الله طاعته، قالت (س) (أما والله لو تركوا الحقّ على أهله، واتبعوا عترة نبيّه، لما اختلف في الله اثنان، ولورثها سلف عن سلف، وخلف بعد خلف، حتّى يقوم قائمنا التاسع من ولد الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).. ولكن قدّموا من أخّره الله، وأخّروا من قدّمه الله، حتّى إذا ألحدوا المبعوث -- أي دفنوا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وأودعوه الجدث المجدوث، اختاروا بشهوتهم وعملوا بآرائهم، تبّاً لهم! أوَلم يسمعوا الله يقول {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} (القصص:68) بل سمعوا ولكنّهم كما قال الله سبحانه {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج:46) هيهات! بسطوا في الدنيا آمالهم ونسوا آجالهم فتعساً لهم وأضلّ أعمالهم، أعوذ بك يا ربّ من الحَوَر بعد31

ص: 252


1- الاحتجاج للطبرسي: 1/ 131

الكور)(1) .

أيها الأحبَّة :

لا يمكن ان يجتمع حب فاطمة وموالاتها وطلب شفاعتها مع ما انحدر اليه المجتمع من مفاسد وانحراف وانحلال بلغ مديات غير معقولة من فساد مالي تحَّول إلى ثقافة عامة فأدى إلى تخريب مؤسسات الدولة وشمل حتى الخدمات الحيوية كالصحة والتعليم والقضاء والأمن ومن تجارة للمخدرات وادمان عليها إلى احتفالات الفسق والفجور إلى العلاقة المشبوهة بين الجنسين مما أدى إلى كثرة حالات الطلاق والانتحار، وازدادت الصراعات العشائرية التي تخلّف ضحايا وخسائر بالأموال وتغذيها أحياناً بعض الأحزاب المتنفذة للحفاظ على مصالحها الشخصية، وانتشرت الملاهي ومحلات بيع الخمور بشكل غير مسبوق وأصبحت متاحة حتى للصبيان وتمارس عملها بشكل علني وبحماية السلطة وبعض الجهات المتنفذة، والتشكيك في العقائد الحقة والثابتة بل الاستهزاء بها والدعوات إلى نبذها أصبحت علنية بلا حياء ولا مراعاة لمقدسات المجتمع وحرماته.

هل من المعقول أن يحصل كل هذا على أرض ضمت الأجساد الطاهرة لأمير المؤمنين والحسين والكاظمين والعسكريين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وفي ظل حكومات يتسيّدها الإسلاميون وتدعي الالتزام بتوجيهات المرجعية الدينية؟

وهل يمكن أن نرجو شفاعة الزهراء (س) ونعدُّ أنفسنا من شيعتها الذين

ص: 253


1- موسوعة المصطفى والعترة للشاكري: 4/ 362، عن عوالم المعارف:11/ 228، والحور بعد الكور أي النقصان بعد الزيادة.

تلتقطهم يوم المحشر لتشفع لهم، ونحن نرى كل هذا الظلم والانحراف ولا نتحرك بالشكل الكافي لمواجهته. روى الشيخ الطوسي في مجالسه بسنده قال (كان يقال:لا يحل لعين مؤمنة ترى الله يُعصى فتطرف حتى تغيّره)(1) .وقد جعلت سلام الله عليها معياراً لمن يستحق عنوان شيعة فاطمة قالت (س) (إن كنت تعمل بما أمرناك، وتنتهي عما زجرناك عنه فأنت من شيعتنا)(2) .

ان الله تعالى يستنهض عباده المؤمنين خصوصاً النخبة العاملة الرسالية الواعية للدفاع عن المحرومين والمستضعفين الذين لا حول لهم ولا قوة الا بالله العلي العظيم(3) ويدعوهم الى التحرك لإنقاذ إخوانهم من ضعاف الايمان والعقيدة والجاهلين بأحكام الشريعة فيرفعون عنهم الشبهات والشكوك ويعلمونهم الاحكام الدينية ويطلعونهم على سيرة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وأخلاقهم وتعاليمهم وليغيّرون الظلم والفساد، قال تعالى {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران:104).

كما يستنهضهم لدفع الظلم والحرمان والاضطهاد عن المؤمنين الذين لا حول لهم ولا قوة فيطلبون النجدة من إخوانهم {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ16

ص: 254


1- وسائل الشيعة: 16 / 125 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الباب 1 ح 25.
2- بحار الأنوار: 68/ 155.
3- راجع القبس/26, {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} (النساء:75), من نور القرآن: 1/ 316

هَ-ذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً} (النساء:75).ويستنكر في أحاديث شريفة على المتقاعسين عن هذه الواجبات كالحديث المروي عن الامامين الباقر والصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ويل لقوم لا يدينون الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)(1) وعن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (بئس القوم قوم يعيبون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)(2) وروي الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن جده رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (اذا أمتي تواكلت -- أي اتكّل بعضهم على بعض فتركوا فريضته -- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من الله)(3) .

أيها الأخوة والاخوات

إذن نحن بحاجة إلى أن نحيي في أنفسنا هذه الغيرة الفاطمية ونستمد من القيام الفاطمي العزم والقوة للتحرك في جميع الساحات وبكل الوسائل الفاعلة والمؤثرة للعمل بما أمرت به هذه الآية الشريفة اداءً لرسالة الصلاح ولمكافحة الفساد والانحراف والضلال والظلم أسوة بالأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين).

ص: 255


1- وسائل الشيعة: 16 / 111-118 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باب 1.
2- - وسائل الشيعة: 16 / 111-118 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باب 1.
3- وسائل الشيعة: 16 / 111-118 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باب 1.

القبس /134: سورة الزمر:67

اشارة

{وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدرِهِ}(1)

معنى وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ:

أي ما عرفوا الله حق معرفته ولا أعطوه المنزلة التي يستحقّها ويتميّز بها عن غيره من المخلوقات، ولا أحسنوا فهم صفاته وأسمائه المباركة، ففي الآية عتابٌ وتوبيخٌ لهذا التقصير في إدراك حقوق الربوبية ووظائف العبودية أمام الله تبارك وتعالى، وبنفس الوقت تستبطن الآية الدعوة لتحصيل هذه المعرفة، مع الاعتراف بالعجز عن إدراك الحقيقة الإلهية، روى في الكافي عن الفضيل بن يسار، قال:سمعت أبا عبد الله يقول:(إن الله لا يوصف، وكيف يوصف وقد قال الله في كتابه {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} فلا يوصف بقدر الا كان أعظم من ذلك)(2). وفي الحديث المشهور عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (ما عرفناك حقَّ معرفتك، وما عبدناك حقَّ عبادتك)(3)، وهذا معنى للتكبير (الله اكبر) أي أكبر من أن يوصف، إذ ليس لله تعالى قدر، وإنما يقدِّر المخلوقون {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرا} (الطلاق:3).

ص: 256


1- وردت هذه الآية في سورة الانعام:91, وسورة الحج:74, أيضاً.
2- الكافي: 1/ 80 ح11.
3- بحار الانوار: 71/ 23.

بل نحن عاجزون عن إدراك اسمٍ من اسمائه تعالى وصفةٍ من صفاته كالمنعم، قال الله تعالى {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} (النحل:18)، روي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال:(أوحى الله تعالى الى موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):يا موسى اشكرني حقَّ شكري، فقال:يا ربِ كيف أشكرك حقَّ شكرك، وليس من شكرٍ أشكرك به الا وأنت أنعمت به عليَّ؟ فقال:يا موسى شكرتني حق شكري حين علمت أن ذلك مني)(1) وهذا فضلٌ من الله تعالى وكرمٌ حين جعل الاعتراف بالعجز أداءاً للحق، فإذا كنّا عاجزين عن معرفة اسم من اسمائه فكيف نقدر على معرفته حق المعرفة سبحانه وتعالى.

معنى الزجر والتوبيخ في الآية:

فالاستغراب والزجر والتوبيخ ليس من عدم معرفة الخلق للخالق حق معرفته، لانهم عاجزون عن بلوغ ذلك، ولكن الاستغراب والتوبيخ من عدم سعيهم لتحصيلها بالمقدار الممكن لهم أولا ولاستكبارهم على ربّهم مع هذا العجز ثانياً.

والآية شاملة لكل الناس فكل الناس ما قدروا الله حَقَّ قدره، وكان النبي وأهل بيته(صلوات الله عليهم اجمعين) الذين نخاطبهم بوصف (التامين في معرفة الله)(2) اكثر الناس اقرارا بالعجز عن معرفة الله تعالى، لان الانسان كلما ازداد معرفة ازداد ادراكا لقصوره وتقصيره وخضوعه وتذلله لله تعالى، وانما يستكبر الجاهل {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} (الإسراء :43)، نعم كما أن

ص: 257


1- ميزان الحكمة: 4/ 473.
2- من زيارة الجامعة الكبيرة.

الناس على درجات متسافلة في عدم إعطاء الله تعالى حق قدره كذلك هم درجات متصاعدة في تعظيم قدر الله تعالى.فبعض الذين ما قدروا الله تعالى حقَّ قدره أنكر وجوده تعالى وبعضٌ أشرك به غيره بل قدّموا غيره تعالى عليه فعبدوا الغير من دون الله تعالى فهؤلاء ما قدروا ربوبيته والوهيته حق قدرها، وبعض أنكر وحيه وبعثة الانبياء والرسل وانزال الكتب فهؤلاء ما قدروا لطفه ورحمته وحكمته وعلمه حق قدرها هذه الاسماء الحسنى التي تقتضي بعث الانبياء والرسل اذ ان الله تعالى يعلم ان الانسان عاجز عن الوصول بمفرده الى الكمال والسعادة ما لم يهده الله تعالى ببعث الانبياء وانزال الكتب، وان رحمته بعباده وحكمته تقتضيان ذلك ولا بخل في ساحته فكيف ينكرون بعث الانبياء والرسل.

وبعض أنكر المعاد يوم القيامة، فهؤلاء ما قدروا عدله وقدرته حق قدرها وبعض انكر صفاته وأسماءه كالقدرة على تدبير الكون والغلبة على اعدائه، قال تعالى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الزمر:67).

وقال تعالى:{مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج:74).

وقال تعالى:{وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الانعام:91) فينزِّه الله تعالى نفسه عن هذه

ص: 258

الأباطيل {سبحانه و تعالى عما يشركون} (النحل:1)، اذ حق قدره ان يوحَّد في الوهيته وربوبيته وفي انه المبدأ واليه المعاد وله ما بينهما، وننزهه عن كل نقص وانه لا يشبهه شيء (وتنزه عن مجانسة مخلوقاته).

الهيمنة اللا محدودة:

وتذكر الآية في سورة الزمر مظهراً من مظاهر قدرته فالسماوات والأرضون كلها في قبضته وتحت هيمنته اللامحدودة كما أن الورقة حينما تُطوى تكون في القبضة فهو تعبير عن التسلط التام على السماوات والأرضين، وهو كذلك في الدنيا وليس في الآخرة فقط، لكن الفرق أنه تعالى في الدنيا خَوّل عباده ببعض الملك وأنحاء التصرفات، لكن الإنسان يأتي في الآخرة مجرداً عن كل ذلك {تَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ} (الأنعام:94).

المؤمنون ما قدروا حق ربهم:

وننتقل الآن الى دائرة أضيق من الذين ما قدروا الله حق قدره وهم المؤمنون بالله تعالى فإنهم أيضا ما قدروه حق قدره بأشكال عديدة، أوضحها ارتكاب الذنوب والمعاصي فإن فيها استخفافاً بحقوق الربوبية، روى إسحاق بن عمار عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)حديثاً جاء فيه:(يا إسحاق خَفِ الله كأنك تراه فإن كنت لا تراه فإنه يراك، فإن شككت أنه يراك فقد كفرت وإن أيقنت أنه يراك ثم بارزته بالمعصية فقد جعلته أهون الناظرين اليك)(1).

ص: 259


1- بحار الانوار: 5/ 323 عن ثواب الاعمال ورجال الكشي وقضاء حقوق المؤمنين.

من أشكال (َمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ):

ومن أشكال {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} عدم مراعاة حقّ من أمر الله تعالى بمراعاة حقه، كالنبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) والحجج من بعدهم، وفي موارد كثيرة اخرى وردت في الروايات.

كقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ومن لم يوقّر القرآن فقد استخف بحرمة الله)(1)، ومن مصاديق عدم توقير القرآن نبذ احكامه والعمل بالقوانين الوضعية التي يصنعها البشر .

وقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(الا ومن استخف بفقيرٍ مسلمٍ فقد استخف بحق الله والله يستخفُّ به يوم القيامة إلا أن يتوب)(2).

وفي الحديث القدسي قوله تعالى:(يا موسى إن من إعظام جلالي إكرام عبدي الذي أنلتُهُ حظاً من حطام الدنيا عبداً من عبادي مؤمناً قَصُرَتْ يدُهُ في الدنيا، فإن تكّبر عليه فقد استخف بعظيم جلالي)(3).

ومن أشكال {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الاعتقاد بأن الاسباب المخلوقة هي المؤثرة من دون الله تعالى كقول البعض (لولا فلان لما حصل كذا)، ومنها طاعة المخلوقين في غير ما امر الله تعالى به، أو تطبيق القوانين الوضعية في الحياة وترك القوانين الالهية وهكذا. وآية سورة الحج صريحة في ذلك فقد سبقها قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ

ص: 260


1- البحار: 89/ 19 ح18.
2- البحار:69/ 38 ح30.
3- البحار: 23/ 267 ح12.

لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} (الحج:73) فلا فرق بين من كان في الأزمنة السابقة يعبد الأصنام طمعاً في منفعة أو دفعاً لمضرةٍ بحسب اعتقاده وبين من يلتجئ اليوم الى المخلوقين من دون الله تعالى لنفس الغرض مهما كانت القوة والقدرة الموجودة عند المخلوقين كأمريكا التي يسمونها (القوة العظمى) أو أي دول أو شخصيات متفرعنة اخرى {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} فهؤلاء كلهم ما قدروا الله حق قدره (إنَّ الله لقوي عزيز) فالعزة والقدرة والعظمة لله تبارك وتعالى.

علاقة غير منصفة مع الله تعالى:

تتناول بعض الأحاديث القدسية هذه العلاقة غير المنصفة بين الناس وخالقهم، روى الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن أباه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):يقول الله تبارك وتعالى يا بن آدم ما تنصفني أتحبّب اليك بالنعم، وتتمقّت اليّ بالمعاصي، خيري اليك نازل وشرك اليّ صاعد ولا يزال ملك كريم يأتيني عنك في كل يوم وليلة بعمل قبيح يا بن آدم لو سمعت وصفك من غيرك وأنت لا تعلم من الموصوف لسارعت الى مقته)(1).

هذا النقص والتقصير في معرفة الله تعالى بسبب الجهل أو التعصب أو اتبّاع الهوى أو التلقّي من وسائل غير صحيحة وبأدوات غير طاهرة يأخذه الإنسان الى يوم القيامة أيضاً ويجادل فيه {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} (الكهف :54) فيريد أن يعرف ربه من خلال تلك القنوات المعرفيّة المشوّهة المملوءة بالشوائب،

ص: 261


1- بحار الانوار: 77/ 19 ح2 عن عيون اخبار الرضا: 2/ 28.

أي يفصِّل له رباً على طبق معتقداته المستندة الى الأوهام التي ذكرناها آنفاً فلو تجلى له ربه بما يليق بقدسه وجلاله فانه ينكر ربه لانه يريد رباً يصوره هو ويعرفه هو ويتناغم مع هواه، مثلاً كان في الدنيا يتعصب لشخص او جهة او كان يؤمن بعقيدة معينة او باتجاه ما واخبره ربه في الاخرة ان محبوبه الذي يتعصب له وهم باطل فانه سيقول له انت لست ربي حقيقة، ولو كنت ربا حقا لقلت لي ان هذا الشخص او العقيدة او الحالة حق(1)، فهم يحكمون على الله تعالى بما عندهم من غث وسمين وليس العكس بأن يحكّمون الله تعالى فيما عندهم، والاول هو الذي يسميه بعض أهل المعرفة بالرب المقيد بتصوراتنا واوهامنا والثاني بالرب المطلق الذي لاتحددّه اوهامنا وعقولنا واهواؤنا وهو الاعتقاد الصحيح. وتوجد رواية يظهر منها هذا المعنى عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول من كان يعبد شيئا فليتبعه، فيتّبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت(2)، وتبقى هذه الامة فيها منافقوها، فياتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول:انا ربكم، فيقولون:نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى).

ص: 262


1- مثلاً الذين يقدّسون بعض الطقوس التي اضيفت الى الشعائر الحسينية فلو تجلى لهم رب العزة والجلال وقال لهم هذا الفعل ليس من الشعائر الحسينية وانما هو طقس وفعالية ابتدعها البعض للتعبير عن تفاعله مع قضية الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فان هؤلاء سيقولون انت لست رباً حقاً، ولو كنت الرب الحقيقي لقلت لنا أن الدين هو هذا الفعل.
2- وقد يكون هؤلاء الطواغيت متلبسين بزي علماء الدين {تَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (التوبة:31).

ياتينا ربّنا فاذا جاء ربنا عرفناه فياتيهم الله تعالى في صورته التي يعرفون، فيقول:انا ربكم فيقولون:انت ربنا فيتبعونه)(1).فإذا أردنا معرفة الله حق معرفته فلنأخذها من أهل لها وهم أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) عدل القرآن وصنوه والقرآن الناطق، ومن ادعية أمير المؤمنين والامام الحسين والامام السجاد (صلوات الله عليهم اجمعين) والكلمات الاخرى للائمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).9.

ص: 263


1- صحيح مسلم: 82، باب 81 معرفة طريق الرؤية، ح 299.

القبس /135: سورة الزمر:73

اشارة

{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً}

موضوع القبس:الأنس بالامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يشغل الذين اتقوا عن دخّول الجنة

قال الله تعالى في كتابه الكريم:{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} (الزمر:73).

قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في وصف أحوال هؤلاء عندما قرأ الآية قال:(قد أُمِنَ العذاب، وانقطع العتاب. وزُحزحوا عن النار، واطمأنت بهم الدار، ورضوا المثوى والقرار. الذين كانت أعمالهم في الدنيا زاكية، وأعينهم باكية. وكان ليلهم في دنياهم نهاراً، تخشّعاً واستغفاراً. وكان نهارهم ليلاً، توحشاً وانقطاعاً. فجعل الله لهم الجنة مآباً، والجزاء ثواباً. وكانوا أحق بها وأهلها. في ملك دائم، ونعيم قائم)(1).

(سِيْقَ) فعل مبني للمجهول من (ساق) والسائق هم الملائكة، قال تعالى:{وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} (ق:21)، وفي المفردات ((سوق

ص: 264


1- نهج البلاغة: 2/ 132، شرح محمد عبده.

الإبل جلبها وطردها يقال:سقته فانساق)) ومنه (لا أستطيع أن أسوق إلى نفسي خير ما أرجو) أي أجلب، وسمي مهر المرأة سياقاً لأن الأصل فيه كان من الإبل والغنم يسوقها الرجل إلى المرأة، وعُبِّر عن النزع الأخير للإنسان في حال الاحتضار ((السَوْق)) لأن روحه تُساق لتخرج من البدن، وفي قول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لعثمان:(فلا تكونن لمروان سِيقة يسوقك حيث شاء) والسيقة الناقة التي ساقها العدو(1).والزُمَر جمع (زمرة) وهي الجماعة فيُساقون على شكل جماعات، ربما ليأنس بعضهم ببعض ويعوَّضهم عن الوحشة والخذلان الذي لاقوه في الدنيا بحيث أصبحوا معزولين عن أغلبية المجتمع من أهل الدنيا(2).

ولأنهم على درجات متفاوتة وللجنة أبواب بحسب ما يناسب هذه الدرجات، كما أن أهل النار يساقون جماعات فقالت فيهم الآية السابقة:{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً} لأنهم على دركات متفاوتة {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ) (الحجر:44)، وللجنة ثمانية أبواب روى أنس بن مالك عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال:(إن للجنة ثمانية أبواب، وللنار سبعة).

ص: 265


1- مجمع البحرين: 5-6 /118، مادة (سوق).
2- بعكس زمر الكافرين وجماعتهم فهي تزيدهم وحشة بعضهم من بعض لأنهم كما قال تعالى: {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (الزخرف: 67)؛ لأنهم يذكّرونهم بصحبتهم السيئة وأفعالهم المشينة {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} (آل عمران:30).

أبواب)(1)، وروي عن أمير المؤمنين علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إن للجنة ثمانية أبواب:باب يدخل منه النَبيُّون والصِّدِّيقون، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون. وخمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومُحِبُّونا، وباب يدخل منه سائر المسلمين، مِمَّن شهد أن لا إله إلا الله، ولم يكن في قلبه مقدار ذَرَّة من بغضنا أهل البيت)(2)، وروي عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(أحسنوا الظن بالله تعالى واعلموا أن للجنة ثمانية أبواب عرض كل باب منها مسيرة أربعين سنة)(3).ولا يخفى ما في التعبير بالزمر من إيحاء إلى تأثير الانتماء إلى الجماعة في سلوك الفرد حتى أنه يُحشر إلى الجنة أو النار بلحاظ انتمائه، وقد ورد التأكيد في الروايات على أن معرفة الشخص تتم من خلال معرفة الجماعة التي ينتمي إليها فإن كانوا من أهل الصلاح كان منهم ظاهراً وإن كان من أهل الضلال كان منهم كذلك، ففي وصية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لولده الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(قارن أهل الخير تكن منهم وباين أهل الشر تبِن عنهم)(4)، ومما روي عن نبي الله سليمان (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(لا تحكموا على رجل بشيء حتى تنظروا الى من يصاحب فإنما يُعرف الرجل بأشكال أقرانه ويُنسب إلى أصحابه وأخدانه)(5).6.

ص: 266


1- وسائل الشيعة: 3/ 246، أبواب الدفن وما يناسبه، باب 72، ح11. عن أمالي الصدوق: 123.
2- الخصال: 406.
3- بحار الأنوار: 8/ 131، عن كتاب الخصال: 2/ 39.
4- نهج البلاغة: 3/ 52، بشرح الشيخ محمد عبده.
5- بحار الأنوار: 71/ 188، عن كنز الفوائد لأبي الفتح محمد بن علي الكراجكي (ت 449 هج-): 36.

والملفت أن زمر النار قال تعالى فيهم:{حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} بينما قال في أهل الجنة {حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} ولعل الاختلاف يُشعر بأن أبواب النار تكون مغلقة وتفتح عند وصول مستحقيها إليها، كأبواب السجون المغلقة على أهلها وتفتح عندما يصل محكوم بالسجن إلى الباب، أما الجنة فأبوابها مفتوحة قبل وصولهم إليها لأن الواو حالية أي أن المتقين جاؤوها حال كونها مفتوحة لانها تكون مهيئة لاستقبالهم بالزينة والتكريم.ويثار هنا سؤال(1):أن السوق بالنسبة لأهل النار معلوم لأنهم يرغمون على دخولها ويُدفعون إليها دفعاً، قال تعالى:{يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً} (الطور:13) وقال تعالى:{وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} (مريم:86)، لكن سَوقَ الذين اتقوا غير واضح لأن المفروض أنهم يسرعون إليها مبادرين لأنها غاية مناهم وقد تحققت.

وبتعبير آخر قاله بعض المفسرين:((استعمال لفظ (سيق) أثار التساؤل، كما لفت أنظار الكثير من المفسرين لأن هذا التعبير يستخدم في موارد يكون تنفيذ العمل فيها من دون أي اشتياق ورغبة في تنفيذه، ولذلك فإن هذه العبارة صحيحة بالنسبة لأهل جهنم، ولكن لمَ استعملت بشأن أهل الجنة الذين يتوجهون إلى الجنة بتلهف واشتياق))(2).9.

ص: 267


1- أثاره سماحة الشيخ في إحدى جلساته اليومية في شوال /1439 الموافق تموز /2018 لتحريك أذهان الجالسين وحثهم على التدبر في الآيات القرآنية ووعد سماحته بكتابة قبس في ذلك.
2- الأمثل في تفسير القرآن للشيخ مكارم الشيرازي: 11/ 579.

ويمكن أن نذكر هنا عدة أجوبة:-1- أن نسلّم بالإشكال ونقول إن اللفظ استُعمل من باب المشاكلة وهو من أساليب البديع المعروفة في الأدب العربي ومثاله قوله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (البقرة:194) والمقابلة بالمثل واستنقاذ الحق ليس عدواناً لكن أحد وجوه استعمال اللفظ أنه استُعمل من باب المشاكلة، وتوجد وجوه أخرى ذكرناها في قبس آخر.

2- إن نفس مفردة (السوق) لا تتضمن معنى التعنيف والزجر والإهانة، ولعل صاحب المفردات شرحها بلحاظ سوق الإبل، وإن جهود أهل اللغة مبنية على الاستقراء وهو قد يكون ناقصاً كقوله في مادة حشر:((إخراج الجماعة من مقرّهم وإزعاجهم عنها إلى الحرب وغيرها))(1) وهو لا يلائم قوله تعالى:{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً} (مريم :85)، لذا عرّف ابن فارس في معجم مقاييس اللغة السوق بأنه ((حدو الشيء))(2) من دون أن يتضمن معنى الزجر أو التعنيف، وعرّفه الشيخ الطبرسي في مجمع البيان بأنه ((الحث على السير))(3)، وقال بعض المحققين:((حث على سير من خلف في ظاهر أو معنى فالسوق في الظاهر كما في {فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ} (فاطر:9) والسوق المعنوي كما في {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} (القيامة :30) والسوق في ما وراء المادة، كما في1.

ص: 268


1- مفردات غريب القرآن- الأصفهانى: 119
2- معجم مقاييس اللغة- ابن فارس: 3/ 117
3- مجمع البيان للشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي: 8/ 221.

{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً} (الزمر:71) {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً} (الزمر:72)، فكما أن السحاب يساق إلى بلد ميت لحفظ النظم وتتميم اللطف والفضل، كذلك يساق الكافر إلى جهنم، ويساق المؤمن إلى الجنة، حفظاً للنظم وإجراءً للعدل وإعطاءً لما تقتضيه الطبائع، وتطلبه النفوس من لوازم الضلال والهداية {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} (القيامة:36)))(1).وعلى هذا فيمكن استعمال لفظ السوق في المحبوب والمكروه ويُعرف ذلك من القرائن او من الغرض المقصود للسوق كلفظ البشرى الذي يُفهم منه الأمور المفرحة لكنه يستعمل أيضاً في الأمور السيئة {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (آل عمران:21)، فقد يكون السوق للتكريم والتبجيل كمن يلتمس ضيفاً على الباب لدخول داره فيأخذ بكتفيه او بيديه ويدخله الدار فهذا سوق للتكريم، وهو ما يقوم به بكل إخلاص وسرور أصحاب المواكب الحسينية في أيام زيارة الأربعين فيعزمون على المشاة أن يستريحوا في مواكبهم ويتناولوا من طعامهم وشرابهم.

فاشتياق المتقين إلى الجنة مهما كان عظيماً فإن الجنة وملائكتها وحورها مشتاقون إليهم أكثر ويتلهفون إلى لقائهم فيسوقونهم إليهم بتكريم وحث، لذا فسّر في مجمع البيان سوق الذين كفروا بأنهم ((يساقون سوقاً في عنف)) وقال عن سوق الذين اتقوا:((أي يُساقون مكرمين)) ولم يجد في ذلك بأساً لأن الحال لم يستظهره من اللفظ وإنما من القرائن.0.

ص: 269


1- التحقيق في كلمات القرآن الكريم للعلامة حسن المصطفوي: 5/ 330.

وبذلك يقترب معنى السوق من الدلالة والهداية، لذا يستعمل أهل المعرفة لبيان غرض القرآن أو الدين عموماً تعبير السوق نحو الكمال، والهداية قد تكون إلى الجنة وهو معروف وقد تكون إلى النار، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً، إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً} (النساء:168-169)، وقال تعالى:{شَيطَاناً مَرِيداً، كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} (الحج :3-4)، فسوقَ الذين اتقوا الى الجنة لانهم يحتاجون من يهديهم إليها ويدلّهم عليها في تلك الأجواء الرهيبة في محشر القيامة.3- أو أن الذين اتقوا لمَّا يُنادى بهم لدخول الجنة يبقون في المحشر لأمرٍ ما كالشفاعة في ذويهم ومحبيهم {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} (الطور :21) كالذي ورد في صحيحة محمد بن مسلم عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن السقط يجيء محبنطئاً على باب الجنة فيقال له:ادخل الجنة، فيقول:لا، حتى يدخل أبواي الجنة قبلي)(1).

أو للوفاء بالعهد مع إخوانهم المؤمنين كما في المؤاخاة المذكورة في أعمال يوم الغدير (أن لا أدخل الجنة إلا وأنت معي)(2).

أو أنهم لتواضعهم وحسن أدبهم لا يريدون سبق إخوانهم في الدخول إلى الجنة فينتظرون الرفقة ليدخلوا زمراً وجماعات.79

ص: 270


1- وسائل الشيعة: 20/ 1، كتاب النكاح، أبواب المقدمات، باب 1، ح2.
2- مستدرك الوسائل- المحدث النوري: 6/ 279

أو لكي يُعرف قدرهم كما في الحديث الوارد في شفاعة الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (س) أنها إذا (صارت عند باب الجنة تلتفت، فيقول الله:يا بنت حبيبي ما التفاتك وقد أمرت بك إلى جنتي؟ فتقول:يا رب أحببت أن يُعرف قدري في مثل هذا اليوم، فيقول الله:يا بنت حبيبي ارجعي فانظري من كان في قلبه حب لك أو لأحد من ذريتك خذي بيده فأدخليه، الجنة، قال أبو جعفر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):والله يا جابر إنها ذلك اليوم لتلتقط شيعتها ومحبيها كما يلتقط الطير الحب الجيد من الحب الرديء، فإذا صار شيعتها معها عند باب الجنة يلقي الله في قلوبهم أن يلتفتوا، فإذا التفتوا يقول الله:يا أحبائي ما التفاتكم وقد شفعت فيكم فاطمة بنت حبيبي؟ فيقولون:يا رب أحببنا أن يعرف قدرنا في مثل هذا اليوم، فيقول الله:يا أحبائي ارجعوا وانظروا من أحبكم لحب فاطمة، انظروا من أطعمكم لحب فاطمة، انظروا من كساكم لحب فاطمة، انظروا من سقاكم شربة في حب فاطمة، انظروا من ردّ عنكم غيبة في حب فاطمة فخذوا بيده وأدخلوه الجنة، قال أبو جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):والله لا يبقى في الناس إلا شاك أو كافر أو منافق فإذا صاروا بين الطبقات نادوا كما قال الله تعالى:{فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ، وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} فيقولون:{فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قال أبو جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):هيهات هيهات منعوا ما طلبوا {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ})(1).فلهذه الأسباب وغيرها يتأخرون عن دخول الجنة فتحثّهم الملائكة على دخولها وهو معنى السوق.5.

ص: 271


1- بحار الأنوار: 8/ 52 عن تفسير فرات الكوفي: 113-115.

4- إن الذين اتقوا لا تؤهلهم أعمالهم إلى دخول الجنة فلا تحركهم الحركة الكافية نحوها، ولكن لطف الله تعالى ورحمته تشملهم فتعطيهم زخماً وتسرّع بهم نحو الجنة فهم يحتاجون إلى (سوق) أيضاً ليدخلوا الجنة بلا تأخير، وهذا السوق ورد في (الذين اتقوا) وليس في (المتقين) وبينهما فرق فالذين اتقوا حالة قد يحصل معها ما ينافيها كما في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف :201) والمتقون مقام تحولت التقوى عند أهَله إلى صفة ثابتة ولازمة لذواتهم، لذا لم يستعمل معهم لفظ السوق، قال تعالى:{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً، وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} (مريم :85-86) والخلاصة أن أهل التقوى على درجات فبعضهم تكون حاله غير تامة فيحتاجون إلى تكميلها بسوق وبعضهم تكون عندهم تامة فلا يحتاجون.

5- إن السوق ليس للذين اتقوا وإنما لذويهم ومتعلقيهم ومحبيهم وقد وعد الله تعالى أن يلحقهم بهم {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (الطور:21) وهؤلاء يحتاجون إلى سوق لأن منزلتهم ليست بدرجة الذين اتقوا وإنما نسب السوق إلى الذين اتقوا لأنهم هم الملحوظون والمقصودون بالتكريم ودخول الجنة، فكل واحد منهم يمثل جماعة ويعادل جماعة نظير قوله تعالى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} (النحل:120) كما أن الملك حينما يدعى يساق معه رفاقه وحاشيته وينسب السوق إلى الجميع.

ص: 272

6- إن الذين اتقوا لما يرون ما أعد الله لهم من الكرامة والفوز العظيم الذي تحقق لهم تخرج أرواحهم من أبدانهم فرحاً وشكراً وشوقاً إلى المنعم المتفضل فتساق أرواحهم إلى أبدانهم ليدخلوا الجنة وهم كانوا هكذا في الدنيا كما وصفهم أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في خطبته في صفة المتقين (ولولا الأجل الذي كُتب لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى الثواب، وخوفاً من العقاب)(1).

7- ما يُستفاد من بعض الروايات في فضل زيارة الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ونصرته لإقامة دين الله تعالى ونشر ولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وهي من سيماء الذين اتقوا {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج:32)، فقد روى زرارة عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أو الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال:(يا زرارة إذا كان يوم القيامة جلس الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في ظل العرش وجمع الله زواره وشيعته ليبصروا من الكرامة والنصرة والبهجة والسرور إلى أمر لا يُعلم صفته إلا الله فيأتيهم رسل أزواجهم من الحور العين من الجنة فيقولون إنا رُسل أزواجكم إليكم يقلن:إنا قد اشتقناكم وأبطأتم عنا فيحملهم ما هم فيه من السرور والكرامة على أن يقولوا لرسلهن:سوف نجيئكم إن شاء الله)(2).

ورويت بشكل آخر أكثر تفصيلاً في كامل الزيارات عن زرارة وفيها (وما من عبد يُحشَرُ إلاّ وعيناه باكيةً إلاّ الباكين على جدِّيَ الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فإنّه يحشر وعينه قَريرة، والبشارة تلقاه والسّرور (بيّن) على وجهه، والخلق في الفزع وهم3.

ص: 273


1- نهج البلاغة: 2/ 161، خطبة 193، في وصف المتقين.
2- بحار الأنوار: 101/ 75، ح25 عن نوادر علي بن أسباط ضمن الأصول الستة عشر: 123.

آمنون، والخلق يعرضون وهم حدّاث(1) الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تحت العرش وفي ظلِّ العرش، لا يخافون سوءَ يوم الحساب، يقال لهم:ادخلوا الجنّة، فيأبون ويختارون مجلسه وحديثه، وأنَّ الحور لترسل إليهم أنّا قد اشتقناكم مع الولدان المخلّدين فما يرفعون رؤوسهم إليهم لما يرون في مجلسهم مِنَ السُّرور والكَرامَة، وإنَّ أعداءَ هم مِن بين مَسْحوب بناصيته إلى النّار، ومِن قائل:(ما لَنا مِن شافِعينَ وَلا صَدِيقٍ حَميم)، وإنّهم ليرون منزلهم، وما يقدرون أن يدنوا إليهم ولا يصلون إليهم، وإنَّ الملائكة لتأتيهم بالرِّسالة مِن أزواجهم ومِن خُزّانهم على ما أُعطوا مِن الكَرامة فيقولون:نأتيكم إن شاء الله، فيرجعون إلى أزواجهم بمقالاتهم، فيزدادون إليهم شوقاً إذا هم خبّروهم بما هم فيه مِنَ الكَرامة وقُربهم مِن الحسين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فيقولون:الحمد لله الَّذي كفانا الفَزَع الأكبرَ، وأهوال القيامة، ونجّانا ممّا كنّا نخاف، ويؤتون بالمراكب والرِّحال على النَّجائب، فيستوون عليها، وهم في الثَّناء على الله والحمد لله والصَّلاة على محمَّدٍ وآله، حتّى يَنْتَهوا إلى منازلهم)(2)، فهؤلاء المتقون من زوار الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وشيعته والمقيمين لشعائره باخلاص يفضلون النظر إلى وجهه الكريم على المصير إلى الجنة وينشغلون به عنها فتأخذهم الملائكة برفق وتكريم إلى الجنة حينما أذن الله تعالى بذلك.والرواية لم تطبق هذه الحالة على الآية الكريمة لذلك لم يلتفت اليها أصحاب التفاسير بالروايات كالبرهان ونور الثقلين إلا أن معناها واضح الانطباق على الآية.4.

ص: 274


1- أي يتحدثون مع الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)
2- كامل الزيارة: 84.

القبس /136: سورة غافر:60

اشارة

{ٱدعُونِي أَستَجِب لَكُم ۚ}

موضوع القبس:الدعاء:فضله وظروف استجابته

الأعمال بآثارها وخواتيمها:

قال الله تبارك وتعالى:{ادْعُونِي أستَجِبْ لَكُم} وقال تعالى:{وإذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَاعِ إذَا دَعَانِ فَليَستَجِيبُوا لِي وَليُؤمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ} (البقرة:186).

ورد عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير قوله تعالى{مَا يَفتَحِ اللهُ للنَاسِ مِنْ رَحمَةٍ فَلا مُمسِك لَهَا} (فاطر:2) قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(الدعاء)(1).

الدعاء أيسر الوسائل إلى أعظم الخزائن:

أيها الأحبة..

هذه حقيقة نغفل عنها وهي امتلاكنا لهذه الوسيلة التي تفتح خزائن رحمة الله تبارك وتعالى التي وسعت كل شيء من خلال الدعاء، تصوروا لو أن لأحدكم وسيلة إلى مسؤول كبير وشخصية ذات نفوذ وقوة فإنه سيكون حريصاً على إبقاء

ص: 275


1- الروايات الواردة في الخطبة موجودة في كتاب بحار الأنوار، المجلد التاسع عشر، عن مصادرها الأصلية، وأصول الكافي.

تلك الوسيلة والاستفادة منها، وها نحن نمتلك أيسر الوسائل إلى أعظم الخزائن وهو الدعاء، ولا نستثمره، يقول الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ولو دلّ مخلوق مخلوقاً من نفسه على مثل الذي دللت عليه عبادك منك، كان موصوفاً بالإحسان ومنعوتاً بالامتثال ومحموداً بكل لسان، فلك الحمد ما وُجِد في حمدك مذهب، وما بقي للحمد لفظ تُحمد به، ومعنى ينصرف إليه)(1)، يقول الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(فأكثر من الدعاء فإنه مفتاح كل رحمة ونجاح كل حاجة ولا ينال ما عند الله إلا بالدعاء، فإنه ليس من باب يكثر قرعه إلا أوشك أن يُفتح لصاحبه)(2).وللدعاء أهمية كبرى في كتاب الله تبارك وتعالى والأحاديث الشريفة عن أهل بيت العصمة (صلوات الله وسلامه عليهم) ففي خبر صحيح عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير قول الله تبارك وتعالى:{إَنَّ الذِينَ يَستَكبِرُونَ عَن عِبَادَتِي سَيَدخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر:60) قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(هو الدعاء وأفضل العبادة الدعاء) ويشهد لذلك صدر الآية {ادْعُونِي أَستَجِبْ لَكُم}، وفي تفسير قوله تعالى:{إنَّ إِبرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} (التوبة:144) قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(الأواه هو الدَعّاء) وقال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(وكان أمير المؤمنين رجلاَ دَعّاءً)(3).

وقال تعالى:{قُلْ مَا يَعبَؤ بِكُم رَبّي لَولا دُعاؤُكُم فَقَد كّذّبتُم فَسَوفَ يَكونُ لِزَاماً} (الفرقان:77) وقال تعالى:{وَاسأَلُوا اللهَ مِن فَضلِهِ إنَّ اللهَ كَانَ68

ص: 276


1- الصحيفة السجادية، من دعائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في وداع شهر رمضان.
2- الكافي:ج 2 /ص 470
3- الكافي:ج 2 /ص 468

بِكُلِّ شيءٍ عَلِيماً} (النساء:32).

الدعاء لكل حاجة:

والدعاء لكل حاجة مهما صغرت ونحن في كل نفس وكل طرفة عين محتاجون إلى الله تبارك وتعالى الغني فلا نتوقف عن اللجوء إلى الله تبارك وتعالى في كل شيء حتى إذا كان تافهاً بنظرك أو أن الحصول عليه سهل يسير فقد روي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال:(سلوا الله عز وجل ما بدا لكم من حوائجكم حتى شسع النعل فإنه إن لم ييسره لم يتيسر، وقال:ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع)(1) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(ألا أدلّكم على سلاح ينجيكم من عدوكم ويدرّ أرزاقكم؟ قالوا:نعم، قال:تدعون بالليل والنهار فإن سلاح المؤمن الدعاء)(2) وروي أن الإمام الكاظم سئل عما قيل:لكل داء دواء فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(لكل داء دعاء فإذا أُلهم العليل الدعاء فقد أُذن في شفائه)(3)، وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(عليكم بالدعاء، فإنكم لا تقربون بمثله، ولا تتركوا صغيرة لصغرها أن تدعوا بها، إن صاحب الصغار هو صاحب الكبار)(4).

الدعاء في كل زمان:

والدعاء في كل زمان حتى زمان اليسر والرخاء ويشتد في زمان العسر

ص: 277


1- بحار الأنوار:ج 90 /ص 295
2- الكافي:ج 2 /ص 468
3- فقه الرضا:الصفحة 345
4- الكافي:ج 2 /ص 467

والضيق والبلاء، يروي أحد أصحاب الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الثقات في شدة المحنة التي فرضها المنصور العباسي بعد استشهاد الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وسيفه يقطر دماً من شيعة أهل البيت يقول:(دخلت على أبي الحسن موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالمدينة وكان معي شيء فأوصلته إليه فقال:أبلغ أصحابك وقل لهم:اتقوا الله عز وجل فإنكم في إمارة جبار -يعني أبا الدوانيق- فأمسكوا ألسنتكم وتوقّوا على أنفسكم وادفعوا ما تحذرون علينا وعليكم منه بالدعاء، فإن الدعاء - والله- والطلب إلى الله يرد البلاء وقد قدّر وقضي ولم يبق إلا إمضاؤه فإذا دعي الله وسئل:صُرف البلاء صرفاً، فألحوا في الدعاء أن يكفيكموه الله، قال أبو ولاّد:فلما بلّغت أصحابي مقالة أبي الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:ففعلوا ودعوا عليه وكان ذلك في السنة التي خرج فيها أبو الدوانيق إلى مكة فمات عند بئر ميمون قبل أن يقضي نسكه فأراحنا الله منه، قال الراوي:وكنت تلك السنة حاجاً فدخلت على أبي الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال:يا أبا ولاد كيف رأيتم نجاح ما أمرتكم به وحثثتكم عليه من الدعاء على أبي الدوانيق، يا أبا ولاد:ما من بلاء ينزل على عبد مؤمن فيلهمه الله الدعاء إلا كان كشف ذلك البلاء وشيكاً، وما من بلاء ينزل على عبد مؤمن فيمسك عن الدعاء إلا كان ذلك البلاء طويلاً فإذا نزل البلاء فعليكم بالدعاء)(1).وقد ورد عن الإمام الهادي في حق دعاء (يا من تُحَلُّ به عُقَدُ المكاره) وهو من أدعية الصحيفة السجادية:(إن آل محمد صلى الله عليهم أجمعين يدعون بهذه الكلمات عند إشراف البلاء وظهور الأعداء وخوف الفقر وضيق الصدر)(2).29

ص: 278


1- بحار الأنوار: ج 90 /ص298
2- بحار الأنوار: ج 92 /ص 229

الدعاء يمنع اليأس والإحباط:

ولمنع الإنسان من الوقوع في حالة اليأس والإحباط والقنوط والاستسلام لما يصيبه فقد نبّه الأئمة سلام الله عليهم إلى أن الدعاء يبقى مؤثراً وكفيلاً بتغيير الحال حتى لو أحكم القضاء والقدر ومهما كان التغيير عسيراً قال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ادع ولا تقل:إن الأمر قد فرغ منه. إن عند الله عز وجل منزلة لا تنال إلا بمسألة، ولو أن عبدا سد فاه ولم يسأل لم يعط شيئا فسل تعط)(1) وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال:(الدعاء يرد القضاء بعدما أُبرم إبراماً)(2).

وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ما زالت نعمة عن قوم ولا نضارة عيش إلا بذنوب اجترحوها، إن الله ليس بظلاّم للعبيد، ولو أنهم استقبلوا ذلك بالدعاء والإنابة لم تنزل، ولو أنهم إذا نزلت بهم النقم وزالت عنهم النعم فزعوا إلى الله بصدق من نيّاتهم ولم يهنوا ولم يسرفوا:لأصلح الله لهم كل فاسد ولرد عليهم كل صالح)(3).

ظروف استجابة الدعاء:

ولا شك أن ليس كل لقلقة لسان هو دعاء بل لا بد من توفّر ظروف لاستجابة الدعاء، روي أن رجلاً من أصحاب الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (قال:إني لأجد آيتين في كتاب الله أطلبهما فلا أجدهما، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):وما هما؟ قال الرجل: {ادْعُونِيْ أَسْتَجِبْ لَكُمْ} فندعوه فلا نرى إجابة، قال:أفتَرى الله أخلف وعده؟

ص: 279


1- شرح أصول الكافي:ج 10 /ص 229
2- شرح أصول الكافي:ج 10 /ص 237
3- بحار الأنوار:ج 90/ص 289

قلت:لا، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):فمه؟ قلت:لا أدري، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):لكني أخبرك:من أطاع الله فيما أمر به ثم دعاه من جهة الدعاء أجابه، قال الرجل:وما جهة الدعاء؟ قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):تبدأ فتحمد الله وتمجّده وتذكر نعمه عليك فتشكره ثم تصلّي على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ثم تذكر ذنوبك فتقرّ بها ثم تستغفر منها فهذه جهة الدعاء، ثم قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):وما الآية الأخرى؟ قلت:قوله:{وَمَا أَنفَقتُم مِن شَيءٍ فهُوَ يُخلِفُهُ} وأراني أنفق ولا أرى خلفاً، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):أفتَرى الله أخلف وعده؟ قلت:لا، قال:فمه؟ قلت:لا أدري، قال:لو أن أحدكم اكتسب المال من حله وأنفقه في حقه لم ينفق درهما إلا أخلف الله عليه)(1).

إشكال ورد:

وهنا نصحح فكرة وهي أننا حينما نقول:إن لاستجابة الدعاء ظروفاً فهذا لا يعني تضييقاً في كرم الله تبارك وتعالى وأنه سبحانه يشترط شيئاً لعطائه فإن نعمه تفضلٌ ويبتدئ بها من لا يستحق كما ورد في أدعية شهر رجب (يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنناً منه ورحمة)، والإنسان الكريم لا يشترط ثمناً لعطائه فكيف يشترطها الكريم الحقيقي، يقول الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاء يوم عرفة:(إلهي تقدس رضاك أن يكون له علّة منك، فكيف يكون له علة مني)(2) وهكذا كل صفاته عز شأنه ومنها الكرم تقدست أن يكون لها علة منه تبارك وتعالى لأنها ذاتية فكيف يكون لكرمه سبب من خلقه. وإنما أراد الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)

ص: 280


1- بحار الأنوار:ج 90 /ص 317
2- مفاتيح الجنان: 341

بذكر تلك الظروف تربية الإنسان وتكامله ليسعد وليكون لائقاً بمقام العبودية لله تبارك وتعالى ومحلاً قابلاً لنزول الفيوضات الإلهية، هذا المقام الذي يفخر به أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حين يقول:(إلهي كفى بي فخراً أن تكون لي ربّاً، وكفى بي عزّاً أن أكون لك عبداً، إلهي أنت كما أحب فاجعلني كما تحب)(1).

ظروف الاستجابة بحسب الأحاديث:

ويمكن من خلال الأحاديث الشريفة الحصول على ظروف الاستجابة.

فمنها:زمانية، كليلة الجمعة ويومها وما بين الطلوعين وعند الزوال وأيام الأعياد كهذا اليوم وغيرها من المذكورات في كتب السنن والمستحبات.

ومنها:مكانية، كالروضات الشريفة للمعصومين (سلام الله عليهم) والمساجد خصوصاً الأربعة المعظمة وعند قبر الوالدين ونحوها.

ومنها:حالية، كحال نزول المطر وإذا كان الدعاء جماعياً وإذا كان يدعو لغيره.

ومنها:ذاتية مرتبطة بنفس الشخص، ككونه متطهراً وفي حالة السجود وبعد الصلاة خصوصاً الفريضة فإن للمؤمن دعوة مستجابة إثر كل صلاة مفروضة(2) وأن يسبق الدعاء بالحمد والثناء على الله تبارك وتعالى والصلاة على النبي وآله (صلوات الله عليهم أجمعين) وأن يعترف بذنبه ويستغفر وأن يكون متوجهاً لما يقول وليس ساهياً(3) غافلاً ويلحّ في الدعاء ولا يمل من تكراره وأن يكون بحال

ص: 281


1- بحار الأنوار- المجلسي: 91/ 94
2- عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (من أدّى فريضة فله عند الله دعوة مستجابة).
3- عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إن الله لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساهٍ، فإذا دعوت فأقبل

الاضطرار ومن تقطعت به الأسباب واثقاً بالإجابة وإن تأخرت فلعل تأخيرها خير له(1) وأن يدعو لإخوانه المؤمنين أولاً بالمغفرة والرحمة وقضاء الحوائج(2) وأن يطلب من الغير أن يدعو له(3) خصوصاً الإمام العادل والوالدين(4).).

ص: 282


1- في صحيحة البزنطي عن الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (والله لَمَا أخَّرَ اللهُ عن المؤمنين مما يطلبون في هذه الدنيا خير لهم مما عجل لهم منها) ثم قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) له: (أخبرني عنك لو أني قلت قولاً كنت تثق به مني؟ قلت له: جعلت فداك: وإذا لم أثق بقولك فبمن أثق وأنت حجة الله تبارك وتعالى على خلقه، قال: فكن بالله أوثق فإنك على موعد من الله، أليس الله تبارك وتعالى: (وَإذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَاعِ إذا دعَانِ) وقال: (وَلا تَقنَطُوا مِن رَحمَةِ اللهِ) وقال: (وَاللهُ يَعِدُكُم مَغفِرَةً مِنهُ وفَضلاً) فكن بالله عز وجل أوثق منك بغيره، ولا تجعلوا في أنفسكم إلا خيراً فإنكم مغفورٌ لكم.
2- عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (إذا دعا أحد فليعم فإنه أوجب للدعاء ومن قدم أربعين رجلاً من إخوانه قبل أن يدعو لنفسه استجيب له فيهم وفي نفسه) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (ما من مؤمن أو مؤمنة مضى من أول الدهر أو هو آتٍ إلى يوم القيامة إلا وهم شفعاء لمن يقول في دعائه: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات وإن العبد ليؤمر به إلى النار يوم القيامة فيسحب، فيقول المؤمنون والمؤمنات: هذا الذي كان يدعو لنا فشفّعنا فيه فيشفعهم الله فينجو).
3- روي أن الله سبحانه أوحى إلى موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (يا موسى ادعني على لسان لم تعصني به، فقال: أنى لي بذلك؟ فقال: ادعني على لسان غيرك)، وبذل الإمام الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مالاً لأحد أصحابه كي يذهب إلى كربلاء ويزور جده الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ويدعو له.
4- عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (أربع لا ترد لهم دعوة: الإمام العادل لرعيته، والأخ لأخيه بظهر الغيب يوكل الله به ملكاً يقول له ولك مثل ما دعوت لأخيك، والوالد لولده، والمظلوم يقول الرب عز وجل: وعزّتي وجلالي لأنتقمن لك ولو بعد حين).

إن من مفاخر شيعة أهل البيت (سلام الله عليهم) هذا العطاء المبارك الوفير من الأدعية التي صدرت عن أهل بيت العصمة وغطّت كل حاجات الإنسان، ولولا أنهم (سلام الله عليهم) علّمونا كيف ندعو الله تبارك وتعالى وأدب الوقوف بين يديه لما علمنا كيف نناجي ربنا، وماذا تقتضي وظائف العبودية لله العظيم سبحانه.لقد تضمنت تلك الأدعية أرقى معاني المعرفة بالله تبارك وتعالى وأسمى الأخلاق الكريمة وأفضل العلاقات الإنسانية وأعمق العلوم مما لا يمكن صدوره عن غيرهم (سلام الله عليهم) وليتأمل من يطلب الشواهد على ذلك في الأدعية الواردة عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمير المؤمنين والإمام الحسين والإمام السجاد (سلام الله عليهم أجمعين) ومنها الأدعية التي ورد الحث على المواظبة عليها كدعاء كميل ودعاء الصباح والمناجاة الشعبانية ودعاء الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم عرفة.

فوائد الدعاء:

إن الأدعية المأثورة لا تتلى فقط لأنها عبادة بل أفضل العبادة كما ذكرنا ولا طلباً للثواب المرصود لها وإن كان عظيماً وإنما للتزود مما فيها من علوم ومعارف، وللتعرض للنفحات والألطاف الإلهية المودعة فيها فيطلب من الله تبارك وتعالى أن يحققها له ويتحفه بها، ولمعرفة الحلول لكل المشاكل والعقد النفسية والاجتماعية والفكرية والعقائدية والأخلاقية، بل حتى السياسية والاقتصادية.

وخلاصة ما تقدم أن نكثر من الدعاء في كل صغيرة وكبيرة وأن نحرص على توفير ظروف استجابته وهي يسيرة ومتوفرة وأيسرها أن لا ننفتل من صلاتنا

ص: 283

المفروضة حتى نسبّح تسبيح الزهراء (س) ونسجد شكراً لله تعالى ثم نقول:(يا أرحم الراحمين) سبعاً ونصلّي على النبي وآله أجمعين ثم نستغفر الله تعالى مما صدر منا ونطلب العصمة منه تبارك وتعالى لما يأتي وندعو لإخواننا المؤمنين والمؤمنات بحوائجهم العامة والخاصة ثم ندعو لأنفسنا.والأفضل أن نضم إليه مجالس الدعاء الجماعي في المساجد وعقيب صلاة الجماعة وغيرها وبذلك تحققون أكثر ظروف الاستجابة المذكورة.

اللهم صلِ على محمد وآل محمد (صلاة لا يقوى على إحصائها إلا أنت، وأن تشركنا في صالح من دعاك في هذا اليوم من عبادك المؤمنين يا ربَّ العالمين، وأن تغفر لنا ولهم إنك على كل شيء قدير، اللهم إليك تعمدّت بحاجتي، وبك أنزلت اليوم فقري وفاقتي ومسكنتي، وإني بمغفرتك ورحمتك أوثق مني بعملي، ولَمغفرتك ورحمتك أوسع من ذنوبي، فصلّ على محمد وآل محمد وتولَّ قضاء كل حاجة هي لي بقدرتك عليها، وتيسير ذاك عليك، وبفقري إليك، وغناك عني، فإني لم أُصِب خيراً قطّ إلا منك، ولم يَصرف عني سوءاً قط أحدٌ غيرك، ولا أرجو لأمر آخرتي ودنياي سواك)(1).

وأفضل الدعاء وأكمله لسيدنا ومولانا صاحب العصر والزمان (أرواحنا له الفداء) أن يجمع الله تبارك وتعالى له الخير كله.ى.

ص: 284


1- الصحيفة السجادية، من دعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في يوم الأضحى.

القبس /137: سورة فُصلت36

اشارة

{وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيطَٰنِ نَزغ فَٱستَعِذ بِٱللَّهِ ۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلعَلِيمُ}

موضوع القبس:الاستعاذة بالله تعالى من شياطين الجن والانس

ومثلها قوله تعالى:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأعراف:200) الا انهما تختلفان في ان الآية عنوان البحث ظاهرة في الحصر بأن الله تعالى وحده هو الذي يسمع استعاذتك واستجارتك وهو العليم الذي يعلم بحاجتك واضطرارك بينما اكتفت آية الأعراف بالوصف دون الحصر، ولذا يستحب (1) ذكر هذين الاسمين من الأسماء الحسنى في الاستعاذة فتقول مثلاً (اعوذ بالله السميع العليم من الشيطان اللعين الرجيم).

والنزغ يعني الضغط بطرف قضيب او الاصبع بعنف مؤلم واستعمل هنا بمعنى الوسوسة الباعثة على الشر لذا عرّفه الراغب وغيره بأنه الدخول في الامر لإفساده قال تعالى {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} (الإسراء:53) وقال تعالى {مِن بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} (يوسف:100).

ص: 285


1- في تفسير العياشي: 2 / 270 ح 67 عن سماعه عن ابي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قول الله (فاذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) قلت: كيف أقول: قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (تقول: استعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم)

فالآية الكريمة ترشد الانسان إلى انه اذا تعرض لتسويل من النفس الامارة بالسوء وتزيين من الشيطان او اغراء من الآخرين او هيجان للشهوة او غريزة الغضب فليستعذ بالله تعالى خاصة دون غيره ويطلب منه بصدق ان يحميه من الزيغ والانحراف والاستجابة لدعوة الشيطان, ولا يتهاون بالأمر ويترك الاستعاذة والاحتراز، وأن لا يتكل على قدراته الذاتية في الاعتصام من الذنوب والاخطاء كما يتصور بعض المعتدين بأنفسهم ويجازف احياناً ويصل الى حدود الذنب -- كمجالسة الفسّاق أو الخلوة بالأجنبية -- ولا يمتنع من ان يحوم حول حدود المعصية معتمداً على ثقته بانه قادر على أن يملك زمام نفسه والامتناع من الوقوع فيها، ولا يعلم أنه بمفرده عاجز عن مواجهة الشيطان الخبيث الماكر الطامع، فيجب عليه بمقتضى الآية الكريمة اتخاذ اجرائين عندما تسوِّل له نفسه امراً ويزيّنه الشيطان ويتحرك فيه داعي المعصية والباعث نحو الشر:أولهما الاستعاذة {فَاسْتَعِذْ} وثانيهما أن تكون {بِاللَّهِ}.يضرب بعض أهل المعرفة مثالاً ليقرًب الفكرة فيقول لأحد تلاميذه لو أنك كنت في طريق زراعي وكان هناك قطيع من الغنم يرعاه صاحبه ومعه كلب الحراسة فنبح عليك الكلب وأراد مهاجمتك فماذا ستفعل؟ قال:ألتقط حجراً وأرميه به لزجره, قال المعلم فلو لم يرتدع الكلب وعاد الى النباح والمهاجمة قال الطالب أرميه بآخر قال المعلم فأن لم ينفع ذلك ثانيةً وثالثة , فسكت الطالب , وهنا قال المعلم :أما كان الاجدر بك أن تطلب من الراعي ليبعد الكلب عن طريقك فإنه قادر على توجيهه ويأتمر بأمره .

وتقريب الفكرة إننا لا نملك القدرة لوحدنا على مواجهة مكائد الشيطان

ص: 286

وخدعه وتسويلاته ووسوسته إلا أن نستعيذ بالله تعالى القادر عليه والماسك بزمام أمره.روي عن أمير المؤمنين ((عَلَيْهِ السَّلاَمُ)) قوله (اذا وسوس الشيطان الى أحدكم فليستعذ بالله وليقل :آمنت بالله مخلصاً له الدين)(1).

وروى الحاكم بسنده عن سليمان بن صرد قال (استبّ رجلان عند النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فأشتد غضب احدهما فقال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الغضب:اعوذ بالله من الشيطان الرجيم فقال الرجل:امجنون (2) تراني؟ فتلا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ}(3).

ولابد ان نلتفت الى ان الاستعاذة المنتجة والمؤثرة ليست مجرد لقلقة لسان بل هي حالة معنوية لابد فيها من حضور الذكر في القلب والتقوى في النفس والإخلاص في العمل، اما من كان باطنه ملوثاً فلا ينفعه تحريك اللسان بالاستعاذة، لاحظ قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (الأعراف:201) أي ان ذهاب مس الشيطان متوقف على التذكر، فهذه الآية مشابهة لما نحن فيه وعبرت عن النزغ بالمس ومن المقابلة يعرف ان الاستعاذة تلزم التذكر بأن تذكروا نعمة الله عليهم واستحقاق الشكر عليها25

ص: 287


1- كتاب الخصال:باب الاربعمائة
2- ربما يقصد هل انه فيه مسّ من الشيطان حتى تعوذه فيه حيث كانوا يعتبرون المجنون مساً من الشيطان او انه يستنكر اعتراض رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على غضبه ولا يرى سلوكه المتعصب خارجاً عن تصرف العقلاء.
3- روح المعاني :24/ 125

وتذكروا العاقبة الوخيمة لاتباع الشيطان في الدنيا والآخرة وتذكروا تفاهة ما يمنيهّم الشيطان به وان بدا مغرياً لذيذا فبهذا الذكر والحضور الوجداني لله تعالى وهذه القوة المعنوية الحاصلة له يعصمه الله تعالى من الشيطان والتي تنتجها الاستعاذة لكن ليس مجرد الكلمات الخالية من المعاني.الا ترى ان من هاجمه حيوان مفترس فانه لا يتخلص منه بان يقف مكانه ويقول بلسانه اعوذ بهذا المكان الحصين من هذا الحيوان بل عليه ان يدخله ويغلق بابه بإحكام لينجوا، وقد وعد تعالى من يستعيذ به بالنجاة من مكائد الشيطان، قال تعالى {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْ-رِكُونَ} (النحل:99-100) وقال تعالى {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (ص:82-83) وقال تعالى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} (الإسراء:65).

ويظهر من هذه الآيات الكريمة أن أهم شروط الاستعاذة المؤثرة الإخلاص: وفي الحديث القدسي (لا إله الا الله حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي) (1) فالإخلاص في التوحيد ونفي سائر المعبودات غير الله تعالى فلا طاعة للهوى ولا للشهوة ولا لذوي النفوذ والجاه وأصحاب الأموال وانما لله تعالى وحده فهذا هو الحصن الذي يحمي من العذاب ومكائد الشيطان والإخلاص له مراتب فيتخلص من شر الشياطين بنفس مقدار إخلاصه.

ومن شروطها:الايمان والتقوى والتوكل على الله تعالى وحده دون غيره من92

ص: 288


1- التوحيد للصدوق: 25، بحار الأنوار: 3/ 13، 90/ 192

الأسباب واستشعار معنى العبودية لله تعالى وأداء استحقاقاتها كما نطقت به الآيات المتقدمة وغيرها.هذا من جانب الأمور القلبية، وهناك إجراءات محصّنة على صعيد العملي ففي الحديث عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (قال ابليس:خمسة ليس لي فيهنّ حيلة وسائر الناس في قبضتي:من اعتصم بالله عن نية صادقة، واتكلَّ عليه في جميع اموره، ومن كثر تسبيحة في ليله ونهاره، ومن رضي لأخيه المؤمن بما يرضاه لنفسه، ومن لم يجزع على المصيبة حين تصيبّه، ومن رضي بما قسم الله له ولم يهتمّ لرزقه)(1). وروى الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):ألا أخبركم بشيء إن أنتم فعلتموه تباعد الشيطان منكم كما تباعد المشرق من المغرب؟ قالوا:بلى، قال:الصوم يسوِّد وجهه، والصدقة تكسر ظهره، والحب في الله والمؤازرة على العمل الصالح يقطعان دابره، والاستغفار يقطع وتينه)(2).

فهذه الشروط والملكات الباطنية التي تبرزها مثل هذه الاعمال الصالحة تجعل الحالة المعنوية قويّة وعصيّة على اختراق الشيطان. لان الوساوس الشيطانية كالجراثيم الضارة لا تخترق الا الابدان الضعيفة ذات المناعة القليلة ولا تقدر على اختراق الابدان القوية ذات المناعة العالية.

أيها الأحبة:

اننا مطالبون بالاستعاذة من الشيطان على الدوام لأنه توعدّ البشر بالقعود على02

ص: 289


1- الخصال: 285 ح 37
2- أمالي الشيخ الصدوق: 117 ح 102

الصراط {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} (الأعراف:16) لحرفهم عن الاستقامة أو ردّهم ومنعهم من السير نحو الكمال كقطّاع الطرق ولا يدع الانسان حتى يجعله من اتباعه بلا فرق بين شياطين الجن والانس فان دأبهم صد البشر عن التقرب من الله تعالى {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً} (النساء:60) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ} (المائدة:91).وتتأكد الحاجة إلى الاستعاذة اليوم اكثر، لأنّ زماننا اعقد من أي زمان مضى في كثرة ابتلاءاته وتحدياته وصعوباته وتنوع ادواتها واساليبها وقوة تأثيرها الفائقة، وقد توعدّ شياطين الأنس بإيصال آلات الافساد والضلال الى داخل غرف النوم ولا يوجد احد بمنأى منها الا من تحصّن بدرع الله تعالى الحصينة، لذا تركّز الادعية المباركة على طلب العصمة من الذنوب والقدرة على النجاح في تجاوز المحن والصعوبات من الله تعالى وعدم الاتكال على النفس والقدرات الذاتية، كدعاء الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في صحيفته المباركة (اللهم احْصُرْنِي -- أي امنعني -- عَن الذُّنُوبِ، وَوَرِّعْنِي عَنِ الْمَحَارِمِ، وَلا تُجَرِّئْنِي عَلَى الْمَعَاصِي) وفي دعاء اخر قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وَأَوْهِنْ قُوَّتَنَا عَمَّا يُسْخِطُكَ عَلَيْنَا وَلَا تُخَلِّ فِي ذَلِكَ بَيْنَ نُفُوسِنَا وَاخْتِيَارِهَا، فَإِنَّهَا مُخْتَارَةٌ لِلْبَاطِلِ إِلَّا مَا وَفَّقْتَ، أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمْتَ) (1) تصوّروا ان الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الذي يقول في دعاء آخر (لا تؤدّبني بعقوبتك) أي اجعل تأديبك ايايّ من دون بلاء وسلب للنعم كأن يكون بالموعظة والتعليمسع

ص: 290


1- الصحيفة السجادية: الدعاء التاسع

والتبصّر والاستفادة من تجارب الآخرين، لكن لما لم تفلح هذه الأساليب في الردع عن المعصية يطلب الاجتناب عنها ولو بسلب بعض القوى والأدوات التي يعصي بها الانسان ربّه المنعم.لقد تفتقت الذهنيات الشيطانية عن خطط ماكرة وخبيثة لاستدراج الشخص وايقاعه في فخ المعاصي والخطايا والذنوب كالاتصال بأجهزة النقال مع نساء لا على التعيين وخداعهن بكلمات الحب والمشاعر العاطفية الجياشة التي تنطلي على المرأة الساذجة حتى تثق بهم وتلتقي بهم او تعطيهم صورا شخصية فيهددونها بالفضيحة او ابتزازها في اعمال منكرة او اغراء الشباب بمستقبل زاهر وحياة هنيئة ليكون جزءا من فسادهم واداة لتحقيق مآربهم.

ان الله تعالى يقدٍّر ضعف الانسان وعجزه عن مواجهة شياطين الجن والانس فجعل له ملائكة يحفظونه ويدافعون عنه (1)، وفي بعض الروايات (2) انه لو كشف لكم الغطاء لرأيتم العدد الكبير من الشياطين الذين يحيطون بكم ويتربصون بكم، لكن الله تعالى جعل الملائكة الحافظة لدفعهم.

وجعل بلطفه وكرمه شهر رمضان المبارك الذي تُغّلَ فيه الشياطين ففي خطبة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في استقبال شهر رمضان (و -- إن -- الشياطين مغلولة -- في هذا).

ص: 291


1- راجع القبس/69 {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (الرعد:11), من نور القرآن: 2/ 296
2- في الحديث عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اذا مات المؤمن خُلِّي على جيرانه من الشياطين عدد ربيعة ومضر كانوا مشتغلين به) (الكافي:2 / 251 ح 10) وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إن الشياطين اكثر على المؤمنين من الزنابير على اللحم) (بحار الأنوار: 81 / 211 ح 27).

الشهر -- فسلوا ربكم أن لا يسلطها عليكم) واذا استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا فقد فتح لهم باب التوبة ليعودوا إلى الحالة النقية الطاهرة خصوصاً في هذا الشهر الكريم حيث تغفر فيه الذنوب بدرجة لا يحرم منها الا الاشقياء (فان الشقي من حُرِمَ غفران الله في هذا الشهر العظيم) (1), وفي رواية صحيحة عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من لم يغفر له في شهر رمضان لم يُغفر له إلى قابل الا أن يشهد عرفة) (2) .6.

ص: 292


1- مفاتيح الجنان: خطبة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في اخر جمعة من شعبان .
2- وسائل الشيعة: 10 / 305 أبواب احكام شهر رمضان، باب 18 ح 6.

القبس /138: سورة الشورى:13

اشارة

{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}

موضوع القبس:مسؤوليتنا عن إقامة الدين ووحدة الأمة

قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} (الشورى:13).

الشرع كمصدر -- هو نهج الطريق الواضح البيّن، وأطلق كإسم على المنهج الإلهي، والشارع هو الطريق الواضح وشريعة الماء:المكان السهل على جرف النهر لاستقاء الماء، وفي الآية دلالات عديدة:

1- ان أصحاب الشرائع والأديان هم هؤلاء الخمسة لأن الآية في سياق كونها جامعة لهم ولم تذكر غيرهم وهؤلاء هم اولو العزم وقد ورد هذا التحديد في آيات أُخر، كقوله تعالى {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} (الأحزاب:7)، ولازم ذلك عدم وجود شريعة بمعنى الاحكام والقوانين التي تنظّم

ص: 293

حياة البشر وترفع اختلافاتهم قبل النبي نوح (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو معنى تفيده الآية الكريمة {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} (البقرة:213).2- ان الدين الذي أنزله الله تعالى إليكم -- وهو الإسلام -- والأديان التي سبقته مصدرها واحد وهو الله تبارك وتعالى وهي الحقيقة التي افتتحت السورة بها، قال تعالى {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الشورى:3) وأكدّتها آيات أخر كقوله تعالى {مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} (فصلت:43).

وفي ذلك لمسة روحية رقيقة تثبّت قلوب المؤمنين وتطمئنهم خصوصاً العاملين الرساليين منهم الذين يتعرضون لضغوط اجتماعية ونفسية عظيمة بسبب حملهم رسالة الإصلاح فيحتاجون إلى تسلية ودعم معنوي كما يقال فتأتي هذه الآية وامثالها لتقول لهم:انكم لستم وحدكم على هذا الطريق الإلهي الواضح بل أنتم حلقة في سلسلة طويلة من كرام الخلق وسادتهم عبر التاريخ كالمعنى الذي تكشف عنه زيارة الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) المعروفة ب- ((وارث))(1) حيث تجتمع لديه وراثة جميع الأنبياء والمرسلين فيزيدهم ذلك ثباتاً وسروراً بما وفقهم الله تعالى إليه.

3- وعلى غرار وحدة المصدر فانها تؤكد على وحدة الصادر أي مضمون هذه الرسالات بأنه واحد وان تنوعت بلحاظ الاجمال والتفصيل لكن ما تدعوهم اليه دين واحد وان تعدّدت الشرائع والطرق الواضحة البيّنة الموصلة إليه قال تعالى02

ص: 294


1- مفاتيح الجنان: 502

{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (المائدة:48) فأراد الله تعالى بهذا التنوع في الشرائع ليختبر طاعتكم وامتثالكم وعدم تحيّزكم وتحزبكم لشريعتكم السابقة، والدنيا دار الامتحان والاختبار وهذا التنوع في الشرائع ضرورة لتواكب ما يطرأ على البشرية من تغيرات حتى جاء بالشريعة الكاملة الخاتمة فكون الشريعة الإسلامية خاصة بالمسلمين وفق الآية الآنفة لا ينافي جامعيتها، والمطلوب منكم الالتزام بالطاعة والتسليم واستباق الخيرات. وفي ذلك حجة على أهل الكتاب ورفض لمواقفهم العدوانية تجاه الإسلام لأنها لا مبرر لها بعد أن ثبت ان هذه الأديان كلها من مصدر واحد وبمحتوى واحد وعليهم جميعاً أن يدخلوا في هذا الدين لأنه جامع لكل الأديان السابقة وقيّم عليها {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (التوبة:36).4- تلّخص الآية ما تدعو اليه تلك الشرائع على محورين:إقامة الدين الواحد واتحاد الأمة على أساسه وعدم التفرق فيه {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (المؤمنون:52) فعلى جميع المؤمنين بالله تعالى أن يلتزموا بهاتين الغايتين العظيمتين وان يبذلوا جهودهم في سبيل تحقيقهما والتعبير ب (وصيّنا) يشعر بهذا الاهتمام إذ لا يوصى الا بالشيء المهم، لأن الوصية لغة ((التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترناً بوعظ)) قال تعالى {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (الجاثية:18) وقد عبّر تعالى عن الدين بالأمر لأن الدين هو الطاعة أي طاعة الأوامر والتشريعات الإلهية، ولعل

ص: 295

التعبير عن شريعة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ب- (أوحينا) وعن شريعة الأنبياء الآخرين بالوصيّة ((ان المراد بما أوحى إليه ما اختصت به شريعته من المعارف والاحكام، وإنما عبَّر عن ذلك بالايحاء دون التوصية، لأن التوصية كما تقدم إنما تتعلق من الأمور بما يهتم به ويعتني بشأنه خاصة وهو أهم العقائد والاعمال، وشريعته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) جامعة لكل ما جلَّ ودقّ محتوية على الأهم وغيره بخلاف شرائع غيره فقد كانت محدودة بما هو الأهم المناسب لحال أممهم والموافق لمبلغ استعدادهم))(1) .فعلينا إذن واجبان عظيمان ورسالتان يجب ان نؤديهما هما خلاصة كل الأديان والشرائع:

1- إقامة الدين والمنهج الإلهي في الحياة بكل تفاصيلها، عباداتها ومعاملاتها وإقامة الشيء تعني توفيته حقه علماً وعملاً، فإقامة الدين تتحقق بأن يتحول الدين إلى نظام شاخص في حياتنا تكون له الهيمنة والقيمومة على كل القوانين والتشريعات والأعراف والأنظمة وكل ما خالف الدين منها فهو عصيان لهذا الأمر الإلهي، وإن إقامة الدين لابد أن تكون على أساس الشريعة الحاضرة الفعلية لا الشرائع السابقة ((فإن إقامة الدين في كل دور هي إقامة طاعة الله في أمره الحاضر في شرعته الحاضرة، فالتصلّب على الغابرة عصيان للأمر وتضييع للدين)) (2) .

{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} (آل عمران:19) لأن الدين أصول وفروع ومنظومة17

ص: 296


1- الميزان في تفسير القرآن:18/ 28
2- الفرقان في تفسير القرآن:25/ 217

كاملة من العقائد والأخلاق والتشريعات العبادية وضوابط المعاملات لا تتحقق إقامة الدين الا بإقامتها (1) معاً.2- وحدة الأمة وعدم التفرق تحت أي عنوان كان كالطائفة والقومية والوطن والأيدلوجية والانتماء العشائري أو الحزبي أو الاجتماعي أو الفئوي أو أي سبب كان فان التفرق من علامات الجاهلية وان أهم علامة لإقامة الدين اجتماعكم ووحدتكم لأنه ينظّم حياتكم بتوازن وعدالة ويسعدكم فتفرقكم وتنازعكم يعني عدم إقامتكم الدين، قال تعالى {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (آل عمران:103) وتفرقكم يفرح الكفّار ويدعوهم إلى التمسك بضلالهم لأنهم يرونكم متفرقين مثلهم {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم:32) والتفرق يحصل نتيجة اتباع الاهواء والشهوات والابتعاد عن الدين وتزيين المضلّين والمنحرفين، وفي الحديث عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (وما على ديني من استعمل القياس في ديني)(2) لأن استعمال القياس يعني ادخال الرأي البشري والأهواء في الدين وهو ليس منه.45

ص: 297


1- لاحظ رواية السيد عبد العظيم الحسني عندما عرض دينه بين يدي الامام الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فأنه أتى على الأصول والفروع فقال له الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (يا أبا القاسم هذا والله دين الله الذي ارتضاه لعباده فاثبت عليه ثبّتك الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) (مستدرك الوسائل:12/ 283).
2- وسائل الشيعة:27/ 45

والمطلوب في ضوء ما ذكرناه في الغاية الأولى وحدة البشرية جميعاً على الدين العالمي الخاتم الكامل فالتفرق في الدين الى يهود ونصارى ومسلمين فضلاً عن غيرها من الديانات والملل غير التوحيدية هي خروج عن سنة الله تعالى وفطرته التي أراد لخلقه السير عليها.فالأديان الإلهية وإن اتفقت على أصل التوحيد الا أن هذا لابد أن يكتمل باجتماعهم على دين التوحيد أيضاً وليس فقط أصل التوحيد أي الشريعة الخاتمة أيضاً لأنها الطريق الواضح البيّن الى الله تبارك وتعالى بعد نزولها، فاللام هنا في الدين عهدية أي هذا الدين الذي شرع لكم، وان ما اختصوا به من احكام ثبت نسخه وارتفاعه.

وقد خاطب القرآن الكريم جميع المنتمين للرسالات السماوية بأن ادعاءهم هذا لا قيمة له اذا لم يقيموا الدين في حياتهم {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} (المائدة:68) وبالتأكيد سوف لا يذعن الأعداء والحسّاد والمنتفعون لهذا الأمر ولا يقفون مكتوفي الأيدي بل سيعملون بكل ما في وسعهم لمنع تحقيق هذين الهدفين {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} أي عظم على الأعداء وتحرجوا من قبول ما تدعوهم -- يا رسول الله -- اليه من دين التوحيد ومن وحدة المعبود لأنهم يريدون آلهة متعددة لكل عشيرة إله ولكل حزب إله ولكل قوم إله وفي الروايات أنه كان حول البيت الحرام (360) صنماً يتاجرون بها ويخدعون السذّج والجهلة

ص: 298

وتجلب لهم المصالح والامتيازات {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص:5) .وكبر عليهم ما تدعون اليه من الوحدة والوئام في ظل هذا الدين الواحد لأنهم تعودّوا أن يكونوا أحزاباً متفرقين متصارعين {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم:32).

وكبر عليهم من قبل نزول الوحي عليك واختيارك للنبوة والرسالة مع وجود من هو أكثر مالاً واولاداً منك فهو أجدر بنزول الوحي بحسب زعمهم {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزخرف:31).

وكبر عليهم ما تقوله من أنَّ آباءهم واسلافهم كانوا على ضلال وان عاقبتهم سيئة فتعصّبوا لآبائهم.

كما كبر على أهل الكتاب خصوصاً اليهود أن يبعث نبي آخر الزمان من بني إسماعيل وليس من بني إسرائيل {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ} (البقرة:89).

ولكن الله تعالى يجيبهم جميعاً في نهاية الآية الكريمة بأن هذا اختيار إلهي ليس خاضعاً لأهواءكم ومقاساتكم {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} وهو سبحانه من اختار النبي الأكرم محمداً (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام:124) واختار دينه الإسلام {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا}

ص: 299

(المائدة:3) ولكن لا يذعن بهذه الحقيقة الا من رجع الى الله تعالى بصدق وطلب منه الهدى والاستقامة {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} (الشورى:13).ويمكن أن يكون معناها بناء على وحدة مرجع الضمير في (اليه) في المواضع الثلاثة وهو دين التوحيد ان الله تعالى ((يجمع ويجتلب الى دين التوحيد -- وهو ما تدعوهم اليه -- من يشاء من عباده ويهدي إليه من يرجع اليه فيكون في معنى قوله {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} (الحج:78)))(1) .

أيها الأحبّة

هذه هي مسؤوليتنا التي نسعى بكل طاقتنا الى ان نتشرف بالتصدي لها وحملها اسوة بالأنبياء العظام والأئمة الكرام (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) فهي وصية الله تعالى ورسالتهم جميعاً:إقامة الدين في جميع مفاصل الحياة وتوحيد الأمة على ذلك لا تثنينا عن ذلك سعة التحديات وخطورة العوائق وصعوبة المشاكل، وأن لا يثبط عزائمنا وساوس شياطين الانس والجن ولا نحرف مسارنا مثل ما فعلت أحبار وكهنة الديانات السابقة عندما مالوا إلى الدنيا فاضطروا لتقديم التنازلات حفاظاً على مصالحهم واستمالة لاتباعهم، فلا يحقّ لنا أن ننزل بالدين إلى مستوى الناس وإنما يجب علينا أن نرتقي بالناس إلى مستوى الدين واذا لم يستجيبوا فعلينا أن نضاعف الجهود ونخلص النوايا ونتجرد عن الانانيات وننوِّع آليات العمل من دون أن نتنازل عما وصى به الله تعالى أنبيائه العظام.30

ص: 300


1- الميزان في تفسير القرآن:18/ 30

القبس /139: سورة الشورى:30

{وَمَا أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَة فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم وَيَعفُواْ عَن كَثِير}

حقيقة قرآنية تكشف عن واحدة من السنن الإلهية الجارية في العباد، فالمصيبة هي النازلة والنائبة التي تحل بالإنسان وسُميت بذلك لأنها تصيب الإنسان المقصود والمستهدف بها وتحقق الغرض المطلوب كما يصيب السهم الهدف بدقة، وسياق الآية ظاهر في كون المراد من {كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} خصوص السيئات والمعاصي وستأتي الإشارة إلى احتمال آخر بإذن الله تعالى، والباء سببية.

فيكون معنى الآية ان المصائب التي تنزل بكم أيها الناس في دينكم أو أنفسكم أو أهليكم أو أموالكم أو امتيازاتكم وسائر ما أنعم الله به عليكم من نعم معنوية ومادية هي بسبب بعض ما صدر منكم من الذنوب وليس كلها، لأن الله تعالى {يَعْفُو عَن كَثِيرٍ} ابتداءاً بالفضل أو جزاءاً على عمل صالح، قال تعالى {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (النساء:31).

وكون المصائب بسبب افعالكم لا يلغي كونها من عند الله وبإذن الله لأنه تعالى مسبب الأسباب ومدبّر الأمور فالأسباب طولية، فالمصائب تقع بسبب أفعال العباد المباشرة وغير المباشرة لكن بإذن الله تعالى وبفعل القوانين التي جعلها الله تعالى للموجودات ولو شاء سبحانه لدفع عنهم {وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} لكن الله تعالى يتركهم أحياناً أهدافاً للسهام التي اعدّوها هم لأنفسهم لتصيبهم بفعل

ص: 301

القوانين الطبيعية التي جعلها الله تعالى، كمن يسقط من شاهق بفعل الجاذبية الأرضية فتتكسر عظامه فان ما أصيب به نتيجة فعله ولو شاء الله تعالى لعطّل قانون الجاذبية كما عطّل قانون الاحراق للنار التي اوقدت للنبي إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لكن حكمة الله تعالى اقتضت جريان قانون الجاذبية لتستقر الحياة وتنتظم، قال تعالى {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (التغابن:11).ومن هنا يتضح الفرق بين السيئة التي فيها رفع يد وعدم دفع من الله تعالى وبين الحسنة التي هي بتوفيق وتمكين مباشر من الله ومن عند الله قال تعالى {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَ-ذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَ-ذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَ-ؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً، مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} (النساء:78-79).

وقد أضاف الله تعالى مزيداً من فضله بأن جعل هذه البلاءات التي تمرّ على الانسان بسبب أفعاله أو أفعال المجتمع كفارة لذنوبه وعلواً في درجاته، لذا دلَّت بعض الروايات على ان هذه الآية من أكثر الآيات الكريمة التي تعيد الأمل والرجاء إلى العاصين لما تضمنّته من البشارة بسقوط الكثير من الذنوب بالمصائب والبلاءات أو العفو والمغفرة ابتداءاً بإذن الله تعالى ففي مجمع البيان والدر المنثور عن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (خير آية في كتاب الله هذه الآية:يا علي ما من خدش عود ولا نكبة قدم الا بذنب، وما عفا الله عنه في الدنيا فهو أكرم من أن يعود فيه، وما عاقب في الدنيا فهو أعدل من ان يثني على عبده)، وروي

ص: 302

عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (إني احدثكم بحديث ينبغي لكل مسلم أن يعيه:ما عاقب الله عبداً مؤمناً في هذه الدنيا الا كان أحلم وأجود وأمجد من أن يعود في عتابه يوم القيامة)(1).فالآية فيها تطمين بكرم الله تعالى ورحمته اذ إن ما يحل بهم من مصائب هو بعين الله تعالى وفيه تخفيف للذنوب والاوزار التي تثقل الظهر، والله تعالى شفيق رؤوف بعباده فيختار لهم الحال الذي يناسب صلاحهم، ففي مجمع البيان:روى أنس عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن جبرئيل عن الله جل ذكره (إن من عبادي من لا يصلحه الا السقم ولو صححته لأفسده، وإن من عبادي من لا يصلحه الا الصحة ولو اسقمته لأفسده، وإن من عبادي من لا يصلحه الا الغنى ولو أفقرته لأفسده، وذلك أني ادبّر عبادي لعلمي بقلوبهم)(2).

وفيها تحذير أيضاً من اقتراف المعاصي لأنها ستكون سبباً لتعرضهم لمزيد من البلاء في الدنيا فاذا أرادوا دفع هذا البلاء أو تقليله فليتجنبوا أسبابه وهي الذنوب، فهذا التحذير رحمة أخرى بالإنسان وشفقة عليه، روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (توقوا الذنوب، فما من نكبة ولا نقص رزق الا بذنب حتى الخدش والكبوة والمصيبة، قال الله تعالى:{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} وأوفوا بالعهد إذا عاهدتم، فما زالت نعمة ولا نضارة عيش الا بذنوب اجترحوها ان الله ليس بظلام للعبيد، ولو أنهم استقبلوا ذلك بالدعاء والإنابة لما نزلت، ولو أنهم إذا نزلت بهم النقم وزالت عنهم النعم فزعوا52

ص: 303


1- نور الثقلين: 4/ 580 ح 94
2- مجمع البيان- الشيخ الطبرسي: 9/ 52

إلى الله عز وجل بصدق من نياتهم ولم ينهوا ولم يسرفوا لأصلح لهم كل فاسد ولرد عليهم كل صالح.)(1) وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن العبد اذا كثرت ذنوبه، ولم يكن عنده من العمل ما يكفّرها، ابتلاه بالحزن ليكفرها)(2) وعلى هذا فالآية عامة للمؤمنين والكافرين.وهنا تثار عدة أسئلة حول مضمون الآية:

الأول:كيف نطّبق الآية على ما يصيب الأنبياء والائمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من البلاءات وهم معصومون من الزلل والذنب؟ أو الأطفال الذين هم دون سن التكليف مثلاً؟ والجواب يمكن أن يكون بوجوه:

1.ان يقال ان المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) خارجون من موضوع الآية وهم الناس الذين يكونون عرضة للمعاصي بعد ان علمنا ان المقصود بها المصائب التي تحصل بسبب الذنوب فالمخاطب بها من يجوز صدور المعصية منه، والأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) معصومون منها فهم خارجون من الخطاب أصلاً أي تخصصاً لا تخصيصاً.

وان بلاءاتهم تكون لرفع مقاماتهم عند الله تبارك وتعالى ففي الكافي بإسناده عن علي بن رئاب(3) قال (سألت أبا عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن قول الله عزوجل {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} أرأيت ما أصاب علياً وأهل بيته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من بعده أهو بما كسبت أيديهم وهم أهل بيت طهارة معصومون؟ فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان يتوب إلى الله ويستغفر في كل يوم وليلة0.

ص: 304


1- نور الثقلين: 4/ 582 ح 101 عن كتاب الخصال في باب الاربعمائة.
2- أصول الكافي: ج 2، كتاب الايمان والكفر، باب تعجيل عقوبة الذنب، ح 2
3- بحار الأنوار- المجلسي: 78/ 180.

مائة مرة من غير ذنب، إن الله يخصُّ اولياءه بالمصائب ليأجرهم عليها) وفي قول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لسبطه الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن لك عند الله مقامات لن تنالها الا بالشهادة)(1).فبلاءاتهم (سلام الله عليهم) مشمولة بخطاباتها المناسبة فقد ورد عن أميرالمؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (إن البلاء للظالم أدب وللمؤمن امتحان وللأنبياء درجة وللأولياء كرامة)(2) وهذا مستفاد من الحوار الذي جرى بين الامام زين العابدين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والملعون يزيد، حينما أُدخل أهل بيت النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على يزيد فقال للإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) متشفياً شامتاً:يا علي:ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم) فأجاب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (كلا، ما نزلت هذه فينا، إنما نزل فينا {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (الحديد:22 –23) فنحن الذين لا نأسى على ما فاتنا من أمر الدنيا ولا نفرح بما أوتينا)(3). فيمكن ان يكون البلاء للتزهيد في الدنيا وزيادة التبصرة في حقيقتها.

2.ان يقال ان الخطاب في الآية ليس موجهاً لأفراد الناس بما هم افراد أي لكل فرد على حدة بل بما هم مجموع فالعموم هنا مجموعي وليس استغراقياً، أي أن ما أصابكم كمجتمع من بلاءات خاصة أو عامة كالمجاعة والزلازل والفتنم.

ص: 305


1- ينابيع المودة لذوي القربى، للقندوزي،ج3،ص46.
2- بحار الانوار: 81 / 198
3- نور الثقلين: 4 / 580 عن تفسير علي بن إبراهيم.

الداخلية والعدوان الخارجي ونحو ذلك هي بسبب ما صدر من بعضكم من معاصي وسكوت أو رضا بعض آخر فأصاب البلاء الجميع بلا استثناء حتى من لم يكن من هذين القسمين ويكون البلاء رحمة للمؤمنين ونقمة على الكافرين، وحينئذٍ يكون ضمير (كم) في (أصابكم) أعم من (كم) في (أيديكم) لان الأول يشير إلى الكل والثاني إلى البعض، وتكون حينئذ الآية بمعنى قوله تعالى {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الأنفال:25) وقوله تعالى {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم:41). وفي الحديث الشريف عن محمد بن عرفة قال (سمعت أبا الحسن الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول:لتأمرن بالمعروف، ولتنهن عن المنكر، أو ليستعملن عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم.)(1).3.أن نقول كأطروحة ان {مَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} تشمل الحسنات أيضاً فتكون المصائب التي تقع على الصالحين هي بما كسبت أيديهم ولكن من الحسنات لأنها تثير حسد الأعداء وتوغر صدورهم ويزين لهم الشيطان الانتقام من الصالحين بألوان الظلم والعدوان قال تعالى {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ} (النساء:54) فتكون اصابتهم في سبيل الله على يد أعداء الله ويكون للآية حينئذٍ دور في تخفيف الآم ومعاناة الصالحين والعاملين الرساليين بأن ما يصيبهم نتيجة نجاحهم وتألقهم.30

ص: 306


1- وسائل الشيعة: 21130

الثاني:ان المعروف ان الدنيا دار عمل ولا حساب، والآخرة دار حساب ولا عمل فكيف حصل الجزاء في الدنيا؟ والجواب يكون بأكثر من وجه أيضاً:1.ان هذا المعنى المعروف صحيح في الجملة وعلى القاعدة الا أنه ليس بشكل مطلق ولا يمنع من حصول جزاء في الدنيا تخفيفاً على العبد واشفاقاً عليه حتى لا يتعذب بها في الآخرة كما أسلفنا والأول لا يقارن بالثاني كما في دعاء أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) المعروف بدعاء كميل (وَأَنْتَ تَعْلَمُ ضَعْفِي عَنْ قَلِيلٍ مِنْ بَلاءِ الدُّنْيا وَعُقُوباتِها..)(1) (فَكَيْفَ احْتِمالِي لِبَلاءِ الآخِرَةِ وَجَلِيلِ وُقُوعِ المَكارِهِ فِيها، وَهُوَ بَلاءٌ تَطُولُ مُدَّتُهُ..)، أو تحذيراً للعبد حتى يراقب نفسه أكثر ويجتنب المعاصي.

كما أن الانتقال إلى الآخرة لا يمنع من استمرار العمل ووصول الأجر على العمل ففي الحديث الشريف (اذا مات المؤمن انقطع عمله الا من ثلاث:صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)(2) وقال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (من سن سنة حسنة فله اجرها واجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء)(3) .

2.ان هذه المصائب ليست جزاءاً للأعمال وإنما هي آثار طبيعية لها اقتضتها العلاقات الوثيقة والسنن الكونية الرابطة بين المخلوقات والقوانين اذ تؤكد الآيات الشريفة ان الناس كلما وافقوا النظام الكوني وانسجمت طاعتهم للقوانين التشريعية مع انقيادهم للقوانين الكونية فانهم سينالون بركات كثيرة وان خالفوها أصابتهم27

ص: 307


1- مفاتيح الجنان: 96
2- البحار: ج2 ص22 ، جامع الأخبار: ص105
3- جامع أحاديث الشيعة - السيد البروجردي - ج 14 - ص 27

الكوارث قال تعالى {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَ-كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (الأعراف:96).ويظهر هذا الارتباط الوثيق من قوله تعالى {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد:11) فأن حالهم في جميع نواحي الحياة المادية والمعنوية يتغير من الصلاح إلى الفساد وبالعكس بحسب سلوكهم هم في هذا الاتجاه او ذاك.

هذا بغضّ النظر عمّا تقتضيه بعض الاستثناءات أحياناً كالابتلاء لرفع الدرجات أو اغداق النعم للاستدراج {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} (الأعراف:95).

الثالث:ان مقتضى الآية حينئذٍ عدم بقاء ذنوب على الناس لأنها بين مكفّرة بالمصائب أو مُعفى عنها فلا يؤاخذون على ذنب في برزخ او قيامة وهو خلاف ما دلّ على وجود العذاب والمؤاخذة في القبر وفي القيامة، قال تعالى {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (آل عمران:185) وقال تعالى {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (النحل:61) فكل مظلمة وذنب يؤاخذ بها في البرزخ أو القيامة الا ما غفرت بالتوبة أو تذهب بحسنة أو بشفاعة في الآخرة ونحو ذلك، ويزداد الاشكال في الكافرين باعتبار شمول الآية للمؤمنين

ص: 308

والكافرين.والجواب:

1.لا مانع من الالتزام بعدم بقاء ذنوب على من محصّهم البلاء وطهرهمّ في الدنيا ولو لخصوص المؤمنين بفضل الله تعالى وكرمه وقد ورد هذا المعنى في بعض الروايات كقول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (لا يزال البلاء في المؤمن والمؤمنة في جسده وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة)(1) .

2.ان الآية لا تفيد هذا المعنى لأنها بصدد بيان الترابط بين الذنوب وآثارها الوضعية في الدنيا بإصابته بأنواع البلاء وليست بصدد بيان المجازاة على الأفعال مع ملاحظة العفو عن كثير بلطف الله تعالى وكرمه حيث جعل اسباباً لتكفير الذنوب والعفو عنها كالصدقة والدعاء والاستغفار وفعل الحسنات ونحو ذلك.

وفي الختام ينبغي الانتباه إلى ان هذه المعنى للآية لا يبرّر الاستسلام للمصاعب والمشاكل وعدم السعي لمعالجتها وإزالتها بإذن الله تعالى على أساس أن الله تعالى أرادها أن تكون كذلك فهذا فهم غير مستقيم، وإنما على المؤمن التوسل بالأسباب لدفع الضرر والاذى والسوء، فاذا لم ينجح في دفعها لاحظ المعنى المذكور في الآية وحينئذٍ تحصل له حالة الندم على فعل المعصية فيستغفر منها ويعقد العزم على عدم العودة إليها.

فتكون الآية وسيلة تربوية ناجحة لعودة الانسان إلى رشده وإعادة الأمل إليه، وتكشف عن مظهر من مظاهر الرحمة الإلهية.85

ص: 309


1- بحار الأنوار: 67 / 236 ح 54 وأحاديث أخرى في ميزان الحكمة: 3/ 385

القبس /140: سورة الزُخرف:54

اشارة

{فَٱستَخَفَّ قَومَهُۥ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُم كَانُواْ قَوما فَٰسِقِينَ}

موضوع القبس:قابلية الشعوب على الاستعباد

لو قرآنا الآية بمعزل عن السياق لكان ظاهرها ان فرعون أمر قومه ان يخفوا ويسرعوا لنصرته ويبادروا للخروج معه للقضاء على النبي موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واتباعه وهم أطاعوه واستجابوا لدعوته التي اشير اليها في قوله تعالى {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} (الشعراء:53) وبهذا المعنى ورد في خطبة السيدة الزهراء (س) في مسجد أبيها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (وأطْلَعَ الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم، ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً)(1) بعكس التثاقل الذي يعني التباطؤ والتكاسل قال تعالى {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} (التوبة:38).

لكننا لو قرآنا الآية ضمن سياقها فإنها تعني ان فرعون استخف بعقول قومه ووجدهم سلسي القياد طائشين نزقين لا حكمة لهم ولا رشد ولا وعي ولا بصيرة ينعقون مع كل ناعق فمضى في مشروعه الاستكباري والاستعلائي واستعباد الناس

ص: 310


1- الاحتجاج: 1/ 130

وتسييرهم وفق هواه، وهم صدّقوا ظنه فيهم حين أطاعوه ورضوا بحالة العبودية فهي هنا كما في قوله تعالى {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} (الروم:60) أي لا يذهبن بحلمك وعقلك ما يفعله المشركون.وتعلّل الآية الكريمة هذه الحالة عند قوم فرعون بأنهم كانوا فاسقين خارجين عن حدود العقل والفطرة ومجردين من الخصائص الإنسانية الكريمة، ورضوا لأنفسهم حياة الذل والهوان والعبودية، والفسق لغةً هو الخروج، وفي لغة العرب (فسق الرطب) إذا خرج عن قشره، وفي المصطلح:الفسق هو الخروج عن حدود الشريعة والعقل والفطرة.

وهذا يعني انهم لو لم يكونوا فاسقين خارجين عن صراط الحق طائعين لأهوائهم لما استطاع فرعون ان يستعبدهم ويستخف بهم، فالمظالم والكبائر التي يرتكبها الطغاة ليسوا فقط هم المسؤولين عنها، وإنما تتحمل الشعوب جزءاً من المسؤولية إزاء ما يحلّ بها لأنها مكنّتهم من ذلك بفسقها وانحرافها، واستسلموا لخداع ومكر الزعامات والمتسلطين، فأعانوا عدوهم – من شياطين الانس والجن – على أنفسهم، أما المؤمنون المتبعون للقيادة الحقة فأنه يصعب خداعهم وسوقهم.

فالآية تقدّم لنا حقيقة سبق اليها القرآن الكريم وقررّها قبل ان يتوصل اليها علماء الاجتماع بعد قرون طويلة وهي ان الشعوب المستضعفة والمستعبدة من قبل الطواغيت او القوى الخارجية المحتلة لا تسقط في هذه الانتكاسة إلا لأنها تتوفر فيها قابلية الاستعباد، وعلى تعبير بعضهم قابلية الاستعمار، وعلى تعبير آخر:قابلية الاستحمار لان الشعوب حينئذٍ تُقادُ الى حيث يريد مستعبدوها بلا بصيرة ولا وعي

ص: 311

وإدراك لمصيرها البائس الذي تسير اليه بحيث تغفل هذه الشعوب عن أشد المظالم وأوضح الجرائم بحقها وتصرّ على السير خلف الظالمين المستبدين فيسوقونهم الى الموت ويسلبون أموالهم ويُسخرونهم لتحقيق نزواتهم وهم يصفِّقون لهم ويقدسونهم ويطيعونهم طاعة عمياء.والتأمل في سلوك فرعون مع شعبه الذي حكته الآيات الشريفة السابقة يشير الى الأساليب التي يتبعها الطواغيت والمستكبرون لتدجين الشعوب واستخفافها وهي لا تختلف عن أساليب اليوم إلا من حيث الشكل والأدوات التي تتغير تبعاً للزمان وإلا فالحقيقة واحدة.

قال تعالى {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ، أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ، فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ،فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ}(الزخرف:51-54).

والأساليب هي:

1-سلب حالة الوعي والادراك والفطنة التي عبّر عنها القرآن الكريم ب-(البصيرة) وتكريس حالة الجهل والتخلف والانقطاع عن أسباب المعرفة الحقيقية والاهتمام بالقشور وقلب موازين التقييم من معنوية حقيقية جوهرية الى مادية سطحية زائفة وهكذا ضمن عملية غسل دماغ تسلب عقولهم ووعيهم ويتحولون الى قطيع منفذ للأوامر، ولذا قال لهم {أَفَلَا تُبْصِ-رُونَ} فدعاهم الى النظر الحسّي ولم يدعوهم الى التأمل والتدبر والتفكر لئلا تظهر الحقائق ويُفتضح

ص: 312

المخادع، والأمور التي دعاهم فرعون الى إبصارها قريبة محسوسة أما موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فيدعوهم الى الايمان بامورٍ غيبيةٍ بعيدة عن إدراك الناس الغافلين.وتحاط عملية غسل الدماغ احياناً بالقدسية والخطوط الحمراء التي لا تقبل النقاش، وهنا يكون دور لعلماء الدين المحبين للدنيا والواجهات المؤثرة في المجتمع (السحرة ومعبرو الاحلام في قوم فرعون) لإضفاء هذه القدسية وشرعنة ما يفعله الطغاة وإدامة سلطتهم وهيمنتهم وإحكام الطوق على الشعوب المستعبدة باسم الدين وشعائره، لكن أي دين؟ لقد وصفهم أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بأنهم (لبسوا الإسلام لبس الفرو مقلوباً)(1).

وهذا ما يدفع الزعامات الحريصة على مواقعها الى استخدام كل أساليب البطش والقسوة المادية والمعنوية بحق المصلحين الواعين الذين ينهضون لإيقاظ الأمة وتبصرتها وترشيد سلوكها, وتحريرها من الاغلال والآصار التي تُحجرّ على عقولهم وتلّوث باطنهم وفطرتهم(2).

2-استحقار الآخر (فرداً او شعباً) والاستهزاء به لسحق شخصيته وإظهار عجزه وضعفه ليقتنع بأنه مخلوق ليكون تابعاً لغيره فموسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عند فرعون (مهين) لأنه من بني إسرائيل المستضعفين المواطنين من الدرجة الثانية الذين لا يحق لهم العمل إلا في المجالات المتدنية كرعي الأغنام وخدمة الأغنياء والمترفين، وكان المظهر الخارجي لموسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) متواضعاً قال أمير المؤمنين في6.

ص: 313


1- شرح نهج البلاغة ج7 ابن أبي الحديد ص191.
2- راجع القبس/44 {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف:157), من نور القرآن: 2/ 56.

وصفه (وَلَقَدْ دَخَلَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَمَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عَلَى فِرْعَوْنَ وَعَلَيْهِمَا مَدَارِعُ الصُّوفِ وَبِأَيْدِيهِمَا الْعِصِيُّ فَشَرَطَا لَهُ إِنْ أَسْلَمَ بَقَاءَ مُلْكِهِ وَدَوَامَ عِزِّهِ فَقَالَ أَلا تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَيْنِ يَشْرِطَانِ لِي دَوَامَ الْعِزِّ وَبَقَاءَ الْمُلْكِ وَهُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ وَالذُّلِّ فَهَلا أُلْقِيَ عَلَيْهِمَا أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وَجَمْعِهِ وَاحْتِقَاراً لِلصُّوفِ وَلُبْسِهِ)(1).ووصفه فرعون ثانية بأنه (ولا يكاد يبين) مستغلاً ما كان معروفاً عن موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قبل خروجه من مصر بأنه كانت له عقدة في لسانه فلا يكاد يبّين ما يريد قوله بوضوح فخدعهم بهذه الحالة التي كانت قبل بعثه بالنبوة، فلما بعثه الله تعالى بها شكى حاجته {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ}).

ص: 314


1- نهج البلاغة: الخطبة 192 ويشير الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الى الحكمة في ذلك، وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ الذِّهْبَانِ وَمَعَادِنَ الْعِقْيَانِ وَمَغَارِسَ الْجِنَانِ وَأَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُيُورَ السَّمَاءِ وَوُحُوشَ الْأَرَضِينَ لَفَعَلَ وَلَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلَاءُ وَبَطَلَ الْجَزَاءُ وَاضْمَحَلَّتِ الْأَنْبَاءُ وَلَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ الْمُبْتَلَيْنَ وَلَا اسْتَحَقَّ الْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ الْمُحْسِنِينَ وَلَا لَزِمَتِ الْأَسْمَاءُ مَعَانِيَهَا وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِهِمْ وَضَعَفَةً فِيمَا تَرَى الْأَعْيُنُ مِنْ حَالَاتِهِمْ مَعَ قَنَاعَةٍ تَمْلَأُ الْقُلُوبَ وَالْعُيُونَ غِنًى وَخَصَاصَةٍ تَمْلَأُ الْأَبْصَارَ وَالْأَسْمَاعَ أَذًى وَلَوْ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ أَهْلَ قُوَّةٍ لَا تُرَامُ وَعِزَّةٍ لَا تُضَامُ وَمُلْكٍ تُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ وَتُشَدُّ إِلَيْهِ عُقَدُ الرِّحَالِ لَكَانَ ذَلِكَ أَهْوَنَ عَلَى الْخَلْقِ فِي الِاعْتِبَارِ وَأَبْعَدَ لَهُمْ فِي الِاسْتِكْبَارِ وَلَآمَنُوا عَنْ رَهْبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهُمْ أَوْ رَغْبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِمْ فَكَانَتِ النِّيَّاتُ مُشْتَرَكَةً وَالْحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَةً وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الِاتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ وَالتَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ وَالْخُشُوعُ لِوَجْهِهِ وَالِاسْتِكَانَةُ لِأَمْرِهِ وَالِاسْتِسْلَامُ لِطَاعَتِهِ أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً لَا تَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ وَكُلَّمَا كَانَتِ الْبَلْوَى وَالِاخْتِبَارُ أَعْظَمَ كَانَتِ الْمَثُوبَةُ وَالْجَزَاءُ أَجْزَلَ).

(الشعراء:13) {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً} (القصص:34) ودعا ربّه بإطلاق لسانه {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي} (طه:27- 28) وقد استجاب الله تعالى دعاءه وأطلق لسانه {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} (طه:36).3-إقناعهم بحاجتهم لهؤلاء المستكبرين وانهم لا يستطيعون الحياة بدونهم وخلق حالة رعب وقلق وخوف (فوبيا) من البديل {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} كان نهر النيل والانهار والجداول المتفرعة عنه التي روي انها وصلت الى 360 فرعاً مصدر حياة المصريين ورخائهم وازدهارهم وفخرهم وعزتهم، فصّور لهم ان هذه الشبكة الإروائية تجري بأمره ووفق تدبيره وهي تحت سلطته وقدرته، وموسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لا يملك شيئاً من هذا والذهاب معه يحرمكم من هذه العزة والرخاء.

4-خلق حالة الانبهار به لدى الطرف الآخر وجعله باهتاً امام هذه الجبروت والعظمة التي هي زائفة في الحقيقة فتأخذ بألباب الناس ومجامع قلوبهم وعقولهم ويكون غاية هم الناس أن ينالوا شيئاً من فتات دنياهم {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي} {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} وحالة الانبهار تولد تبعية وانقياد لما أنبهر به:ولا يفكر المنبهرون حينئذٍ في الخروج عن طاعتهم فضلاً عن التفكير في إزالتهم وإقامة النظام البديل.

فالمستكبرون يوهمون الناس بأن من يتطلّع الى القيادة والأمرة لابد ان

ص: 315

يكون كالفراعنة متزيناً بالذهب والفضة ويملك الثروة طائلة، وهذا غاية الاستخفاف بالناس أن يجعل دليل صدق النبوة والسفارة الإلهية وتبليغ رسالة الله تعالى حيازته للثروة والذهب والاعراض عن الآيات والبينات التي جاءهم بها وهو نفس إشكال قريش في الآية (31) من سورة الزخرف {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}.وكان سرد هذه الحكاية عن آل فرعون هو موعظة وتحذير لقريش من سلوك هذا المنهج الضال، ولا شك ان عملية الإصلاح في المجتمع المترف اقتصادياً والمستقر يكون أصعب ويواجه عقبات جمة ورفضاً من عامة الناس فضلاً عن المتسلطين.

وكرّر فرعون الاشكال الذي أثارته الأمم المكذّبة على انبيائها بأن الله تعالى لو شاء أن يبعث رسولاً لجعله ملكاً ولو اختاره انساناً فلابد أن تأتي معه الملائكة {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً} (الإسراء:92).

ولم يغب عن فرعون إثارة النعرات والعصبيات الجاهلية بقوله (يا قوم) وهم الاقباط المتسيّدون قوم فرعون لعزل موسى ومن معه من بني اسرائيل.

وهنا يأتي قوله تعالى {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} وفيه إشارة الى ان فرعون كان يعرف انه مخادع وأن أدلته لا قيمة لها لكنه استخف بعقول قومه واستصغر شأنهم واستعمل وسائل الخداع والمكر مع الاغراء والترهيب فوجدهم طائعين ومسلّمين له.

ص: 316

هذا السلوك الفرعوني هو ديدن الطواغيت والمستكبرين والطامحين الى الزعامة والتسلط على رقاب الناس في كل زمان ومكان وأدواتها في تطور مستمر، لاحظ سلوك الحكومات الغربية تجاه شعوبنا الإسلامية من أجل السيطرة عليها وسلب خيراتها والتحكم في شؤونها مما يسمى بالاستعمار، فهم يسحقون شخصية هذه الشعوب ويشعرونها دائماً بالدونية وجعلهم مستهلكين غير قادرين على بناء حضارة متينة قادرة على البقاء والتقدم وإن كانوا من حيث المظاهر المادية في أرقى صورها – كدول الخليج مثلاً – فهم دائماً مرتهنون لأولئك المتحكمين.كما استطاعوا أن يبهروا شعوب المنطقة بإبراز مظاهر التقدم العلمي والتكنولوجي وهذا الانبهار أدى الى الانسياق وراء كل ما يصدرّونه الينا من تقاليد وأفكار وسلوكيات كشرب الخمر والانحلال الخلقي تحت شتى العناوين وإشاعة الفاحشة باسم الفن او الرياضة او الحرية، والبحث عن اللهو والعبث واللعب وهكذا في سائر أنماط الحياة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية، حتى سوقوا أكثر الجرائم انحطاطاً كزواج المثليين بقوانين رسمية تحت عنوان الحرية الشخصية وامثالها والاعتداء على الإسلام ورسوله الكريم محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بذريعة حرية التعبير عن الرأي وأمثالها من الامور التي جعلوها مقدسة لا يجوز المساس بها ما دامت تصب في مصالحهم بينما يعاقبون بشدة من يتحدث بمظالمهم ويفضح ادعاءاتهم – كمعاداة السامية – ولا يشفع له حرية التعبير عن الرأي.

واستغلوا أنس الناس الغافلين بالماديات المحسوسة وسرعة التصديق بها لينكروا الغيبيات وما وراء المادة، والناس لا تفرّق بين ما يدرك بالحواس المادية وما يدرك بالعقل والفطرة الإنسانية السليمة. ولجعل الشعوب في غفلة دائمة

ص: 317

وإشغال فكرهم اعتمدوا سياسة الالهاء تارة بالسباقات الرياضية التي ما ان تنتهي واحدة حتى تبدأ الأخرى، وبالحرية الجنسية وبوسائل التواصل الاجتماعي وتقنيات وسائل الاعلام والمواقع الالكترونية وشبكة الانترنت التي تقدّم باستمرار الجديد والمثير والجذّاب فينشغل الناس بهذه ولا يفكرون في مناقشة أوضاعهم الاجتماعية وإصلاحها ولا يبقى عندهم وقت للتأمل والتدبر قال تعالى {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ، لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَ-رٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} (الأنبياء:2-3).خذ مثلاً تصويت أغلب البريطانيين قبل أيام(1) لصالح انسحابهم من الاتحاد الأوربي مع انه قرار ليس لصالحهم لكن الدوائر الاستكبارية التي تريد تمزيق الاتحاد الأوربي نجحت في خداع هذه الاغلبية بالأكاذيب والمخاوف المفتعلة والغريب ان البريطانيين بعد أن صوتوا للخروج ذهبوا بالملايين الى المواقع الإلكترونية ليسألوا عن ماهية الاتحاد الأوربي والفوائد التي تجنيها بريطانيا من بقاءها فيه، فكيف صوتوا وهم لا يعرفون شيئاً عن أصل الموضوع.

وفي الختام نشير الى ان علاج هذه الحالة –أي قابلية الاستعباد- التي تؤسس للانحطاط يبدأ باجتثاثها من عقل الانسان وقلبه ونفسه وقد اختصره أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بقوله (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً)(2) أياً كان هذا1.

ص: 318


1- تاريخ القاء القبس 27/رمضان/1437 الموافق 3/ 7/ 2016
2- غرر الحكم / ح 10371.

الغير:أهواء النفس الأمّارة بالسوء او الطواغيت والزعامات المصطنعة، أو شياطين الجن والانس.

ص: 319

القبس /141: سورة الأحقاف:13

اشارة

{إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱستَقَٰمُواْ}

موضوع القبس:الاستقامة

لنستفد من القرآن الكريم:

البعض يقرأ القرآن بلسانه طلباً للثواب الذي أفادته الروايات الكثيرة، والبعض يقرأ القرآن بعقله ليستخرج منه نظرية علمية أو يستدل به على مطلب ما، كاستدلال الأصولي بآية النفر(1) على حجية خبر الواحد، أو استدلال النحوي على بعض القواعد الإعرابية، والبعض يقرأ القرآن ليتدبر في آياته، ويثير مكنوناته ليأخذ منه علاجاً لأمراضه المعنوية، وبرنامجاً لسيره التكاملي لنيل رضا الله تعالى.

فالذي يريد أن يكون من المفلحين الفائزين بما عند الله تبارك وتعالى يجد وصفة العلاج المتضمنة لعدة فقرات في قوله تعالى في أول سورة المؤمنون:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ..}

ص: 320


1- يعني بها سماحة الشيخ (دام ظله) قوله تعالى: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمَْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة:122) والاستدلال بها مذكور في كتب أصول الفقه.

إلى قوله تعالى:{أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (المؤمنون:1-11).وهكذا الآيات التي تصف عباد الرحمن أو المتقين وغيرهم.

مفردة الاستقامة:

واليوم نقف عند آية مباركة تتحدث عن امتيازات جليلة ومنن عظيمة وهي قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ، نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} (فصلت:30-31-32) ووردت بتفصيل أقل في موضع آخر {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (الأحقاف:13) فنحن أما مفردة قرآنية هي (الاستقامة) تتحقق بها آثار عظيمة نطقت بها آية سورة فصلت.

تتنزل عليهم الملائكة فتطمّئنهم أن لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، وقد قيل في الفرق بين الخوف والحزن أن الأول من الأمور القادمة والثاني من الأسى على ما مضى، فلا يخافون من القادم في القبر أو أهوال يوم القيامة أو مما يخوفونهم به في الدنيا بسبب رفضهم الانصياع لما سوى الله تعالى من طواغيت أو تقاليد اجتماعية وغيرها، ولا يحزنون على ما فاتهم في الدنيا من أمورها الزائلة، لأنهم سيجدون أن الله تعالى قد عوّضهم بكرمه بما هو خير وأبقى. وقيل إن ((الخوف إنما يكون من مكروه متوقع كالعذاب الذي يخافونه والحرمان من

ص: 321

الجنة الذي يخشونه، والحزن إنما يكون من مكروه واقع وشر لازم كالسيئات التي يحزنون من اكتسابها، والخيرات التي يحزنون لفوتها عنهم، فتطيّب الملائكة أنفسهم أنهم في أمن من أن يخافوا شيئاً أو يحزنوا لشيء فالذنوب مغفورة لهم والعذاب مصروف عنهم))(1).

ثمرات الاستقامة:

وتبشّرهم الملائكة بالجنة التي وُعدوا بها على لسان القرآن الكريم والناطقين به (صلوات الله عليهم أجمعين) بما تتضمن من نِعم وما لا عين رأت ولا أذن سمعت خالدين فيها.

وتتولى أمورهم الملائكة بإذن الله تعالى مدبر الأمور وليسوا هم البشر الضعيف الجاهل الضال العاجز عن أن يتولى أموره، وإذا تولّتها الملائكة فإنها لا تأتي إلا بالخير وترعاهم وتداريهم أكثر مما تداوي الأم الشفيقة ولدها،وتجنّبهم كل سوء، في كل المواطن التي يحتاج فيها إلى المعونة حيث لا ناصر إلا الله تعالى في صعوبات الدنيا وعند سكرات الموت وعندما يترك وحيداً في قبره وفي أهوال القيامة وعتباتها، وتعوّضهم عما سيفقدونه من إخوان وأصدقاء وأصحاب بسبب استقامتهم على الحق وسقوط الآخرين وابتعادهم عن الاستقامة، كما نُسِب إلى أبي ذر (رضي الله عنه):(ما ترك الحق لي صديقاً)(2).

لهم في الجنة ما تشتهي أنفسهم بل أوسع من ذلك فلهم كل ما يتمنون من

ص: 322


1- الميزان في تفسير القرآن، تفسير الآية 30 من سورة فصلت.
2- بحار الأنوار: 31/ 180.

النعم المعنوية والحسّية من دون أن يطلبها، عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من حديث عن نعم الله تعالى في الجنة قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فيه:(فإذا دعا وليُّ الله بغذائه أُتي بما تشتهي نفسه عند طلبه الغذاء من غير أن يسمي شهوته)(1) وهكذا ما يدّعي.وأعظم النعم التي ذكرتها الآية الكريمة لهم أنهم يَحُلُّون ضيوفاً عند الله الغفور الرحيم معززين مكرمين مرَحَبّاً بهم وتكون النُزُل التي تقّدم للضيوف كما يليق بأي ضيف كريم عند الرب العظيم.

هذه المواهب الجليلة لا تُعطى للإنسان لمجرد أن يؤمن بالله تعالى بلسانه من دون استقامة على التوحيد ورفض الخضوع والانقياد لكل الآلهة المصطنعة من دونه، وأولها النفس الأمّارة بالسوء، وهذا أمر طبيعي، إذ لا يبقى للتوحيد معنى إذا لم يستقم عليه، ويلتزم بمتطلباته.

والإيمان الحقيقي يدعو إلى الاستقامة وهي من ثمراته كما يدعو إلى العمل الصالح، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعد أن تلا الآية الشريفة المتقدمة:(وقد قلتم (رَبُّنَا اللهُ) فاستقيموا على كتابه، وعلى منهاج أمره، وعلى الطريقة الصالحة من عبادته، ثم لا تمرقوا منها، ولا تبتدعوا فيها، ولا تخالفوا عنها، فإن أهل المروق منقطع بهم عن الله يوم القيامة)(2).

معنى الاستقامة:

وفي ضوء كلمة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يظهر أن الاستقامة تتضمن عدة معانٍ:

ص: 323


1- الكافي: 8/ 99.
2- نهج البلاغة: الخطبة (176).

(أولها) الثبات وعدم الميلان والانحراف تحت ضغط الشهوة أو الخوف أو الحرص على منصب أو المجاملة أو التقليد ونحوها فيخرج عن حد الاستقامة، في حديث عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بعد أن تلا هذه الآية قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(قد قالها الناس – أي كلمة الإيمان - ثم كفر أكثرهم فمن قالها حتى يموت فهو ممن استقام عليها)(1)، فعلامة الاستقامة عدم الزيغ والانحراف باتجاه المعصية أو التقصير في الطاعة، يقول الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في معنى قوله تعالى: {اهدِنَا الصِرَاطَ المُستَقِيمَ} يعني أرشدنا إلى لزوم الطريق المؤدي إلى محبّتك، والمبلّغ إلى جنتك، والمانع من أن نتبع أهواءنا فنعطب، أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك)(2).(ثانيها) المداومة على الطاعة وعمل الخير والاستمرارية فيه، إذ لا

يصل الإنسان إلى الهدف بمجرد وضع قدمه على الطريق الصحيح بل لا بد من الحركة الصحيحة باستمرار على الطريق الصحيح، عن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في معنى قوله تعالى{اهدِنَا الصِرَاطَ المُستَقِيمَ} :(يعني أدِم لنا توفيقك الذي أطعناك به في ماضي أيامنا، حتى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا)(3).

(ثالثها) الاعتدال فلا إفراط ولا تفريط، لأن كلاً منهما ابتعاد عن الاستقامة، قال تعالى:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (هود:112) والطغيان هو الخروج عن حد الاعتدال.3.

ص: 324


1- مجمع البيان في ذيل تفسير آية (30) من سورة فصلت.
2- معاني الأخبار: ص33.
3- معاني الأخبار: ص33.

(رابعها) الوضوح في الإيصال إلى الهدف فلا شبهات ولا شكوك ولا غموض ولا التفاف ولا حيرة أو تردد، كما أن من صفات استقامة الطريق ذلك ليتحقق المطلوب منه بشكل كامل ولا يضل السائر عليه.(خامسها) الإخلاص، فالاستقامة لا تكون إلا إذا كانت لله تبارك وتعالى وعلى الصراط الذي أمر باتباعه، وليس لنيل غاية معينة من شهرة أو مال أو منصب أو جاه، قال تعالى:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} لا كما تشتهي ولا أي نحو آخر.

صعوبة الاستقامة:

إن الوصول إلى النجاح أو القمة أيسر من الثبات عليها والمحافظة على التمسك بها، وهذا معروف لدى المتنافسين في كل المجالات وهو أمر شاق لا ينال إلا بلطف من الله تبارك وتعالى، لذا يظهر من الآية الشريفة أن الخطوة الأولى من العبد بأن يستقيم وحينئذٍ يستحق مزيداً من اللطف الإلهي فتنزل عليه الملائكة لتتولى أمره وتقوده إلى الخير، وتثبته على الاستقامة، قال تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} (النساء:66).

ويكون الأمر أشق حينما يكلَّف الإنسان بأن يأخذ بيد من معه في طريق الاستقامة، قال تعالى:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (هود:112)، روى في الدر المنثور بسنده عن الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لما نزلت هذه الآية :{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ} قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):شمِّروا شمِّروا، فما رؤي ضاحكاً) وفي مجمع البيان في قوله تعالى (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) ((قال ابن عباس:ما نزل على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) آية كانت أشدَّ عليه ولا أشقّ من

ص: 325

هذه الآية، ولذلك قال لأصحابه -حيث قالوا له:أسرعَ إليك الشيب يا رسول الله-:(شيّبتني هود والواقعة))(1).وأرجع البعض سبب ذلك إلى تكليفه بمن معه، لأن آية أخرى أمرت بالاستقامة وليس فيها هذا الذيل فلم يذكرها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وهو قوله تعالى:{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} (الشورى:15).

فالمسؤوليات شاقة وعديدة، إذ عليه الاستقامة في كل لحظة وفي كل قول وفعل، وهو أمر شاق، وأن يكون كل ذلك خالصاً لله تعالى وهو أشق، ثم عليه أن يقوّم الآخرين على هذا الطريق على اختلاف طباعهم وتباين مستوياتهم وتنوع اتجاهاتهم، وتتسع هذه المسؤولية وتزداد المشقة بسعة من كلّف بقيادتهم، حتى تكون بمستوى ولاية أمر المسلمين، وبمستوى المواجهة التي نشهدها اليوم حيث برز الشرك والكفر والفسوق والظلم والاستبداد بكامل عدته وعدده.

لنحقق الاستقامة:

هذه الاستقامة على الصراط الذي ارتضاه الله تعالى وسار عليه الصالحون من عباده، علّمنا الله تبارك وتعالى أن نسأله إياها ونطلبها منه يومياً عشر مرات على الأقل في صلاتنا، لأنه متضمن لكل خصال الخير قال تعالى:{اهدِنَ-ا الصِّرَاطًَ.

ص: 326


1- سورة الواقعة ليس فيها أمر بالاستقامة ومما قيل في وجه الاشتراك مع سورة هود أنها متشابهة في ذكر أهوال يوم الفصل وأحوال القيامة الأمر الذي يخشاه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على أمته لما علمه من عدم استقامة الكثير منهم على الصراط من بعده رغم أنهم أقروا بالإيمان بالله لساناً.

المُستَقِيمَ} (الفاتحة:6)، ويعرفنا الله تبارك وتعالى بهذا الصراط ويدلنا على معالمه فيصفه بأنه:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} (الفاتحة:7) ومَن هؤلاء الذين أنعم الله عليهم؟، قال تعالى:{وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَ-ئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَ-ئِكَ رَفِيقاً} (النساء:69).فالاستقامة تتحقق بطاعة الله تبارك وتعالى ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومَن أمر بطاعته بعده وهم الأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ثم نوّابهم بالحق، فاتباع القيادة الدينية الحقة ضمان للبقاء على الاستقامة على الصراط المستقيم، وفي مجمع البيان عن الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أنه سُئل:ما الاستقامة؟ قال:هي والله ما أنتم عليه) وفي تفسير القمي في تفسير قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قال: (ثم استقاموا على ولاية علي أمير المؤمنين)، وفي الكافي بسنده عن محمد بن مسلم قال:(سألت أبا عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن قول الله عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} فقال أبو عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):استقاموا على الأئمة واحداً بعد واحد {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ}.وفي معاني الأخبار في تفسير قوله تعالى {اهدِنَ-ا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} (الفاتحة:6) عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وهي الطريق إلى معرفة الله، وهما صراطان:صراط في الدنيا، وصراط في الآخرة، فأما الصراط الذي في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة من عرفه بالدنيا واقتدى بهداه مَّر على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، ومن لم يعرفه في الدنيا زلت

ص: 327

قدمه عن الصراط في الآخرة فتردّى في نار جهنم(1).إن الإنسان إذا استقام على طاعة الله ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والأئمة الطاهرين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من بعده يتنعم في الدنيا فضلاً عن امتيازات الآخرة التي ذكرناها، قال تعالى:{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً} (الجن:16) في الكافي بسنده عن الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (في قوله تعالى {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً} قال:يعني لو استقاموا على ولاية علي بن أبي طالب أمير المؤمنين والأوصياء من وُلدِه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقبلوا طاعتهم في أمرهم ونهيهم لأسقيناهم ماءً غدقاً، يقول:لأشربنا قلوبهم الإيمان، والطريقة هي الإيمان بولاية علي والأوصياء.

كيف نحقق الاستقامة؟

أيها الأحبة:

إن تحقق الاستقامة والثبات عليها التي نطلبها يومياً في صلاتنا –مما يعني أنها شيء يجب السعي لتحصيله- تتطلب أموراً:

1-العزم والإرادة الصادقة والشجاعة في اتخاذ القرارات والمواقف وإنجاز الأعمال المطلوبة.

2-الوعي والمعرفة والمطالعة الواسعة لروايات المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وآثار السلف الصالح لأن أي عمل لا بد أن تسبقه معرفة، وبعد العمل يكتسب معرفة جديدة.

3-الالتفات إلى موجبات الانحراف عن صراط الاستقامة مقدمة لاجتنابها

ص: 328


1- معاني الأخبار: ص2 ح1، تفسير الصافي: 1/ 126.

وهي اتباع الشهوات والركون إلى الدنيا بزخارفها الباطلة أو الخوف من فقدان شيء أو القلق من فوات أمور، ومن موجبات الانحراف أيضاً أمور تبدو خارجة عن إرادة الإنسان، لكن مقدماتها بيده فيستطيع تجنبها بإزالة مقدماتها كالجهل والنسيان والغفلة والسهو فقد يشذّ الإنسان عن الصراط المستقيم لا عن عمدٍ بل جهلاً وغفلة، وبالنتيجة فقد فاته خير كثير.ولذلك فإن الإنسان يدعو يومياً عشر مرات على الأقل في صلواته بعد طلب الهداية للصراط المستقيم أن يعصمه الله ويحميه من كلا النوعين من موجبات الانحراف عن الاستقامة، ابتداءً واستدامة لأنه معرض في أي لحظة للزلل والانحراف والإغواء إلا أن يمدَّه الله تعالى بلطفه ونوره.

مفردات عملية لتحقيق الاستقامة:

ولتحصيل الاستقامة مفردات عملية وبرامج ذكرتها الآيات الكريمة والروايات الشريفة، ولو التفتنا فإن الآيات التالية لقوله تعالى:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} تتضمن مفردات أساسية لهذا البرنامج وهي عدم الركون إلى الظالمين والمحافظة على الصلاة في أوقاتها والصبر، قال تبارك وتعالى:{وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَ-رُونَ، وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّ-يِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ، وَاصْبِرْ فإن اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (هود:113-115).

ص: 329

موعظة وتذكير:

وأُورد هنا للموعظة والتذكير روايتين تتضمنان وصفتين مهمتين لتطهير القلب وتهذيب النفس لمن أراد الكمال على طريق تحقيق الاستقامة.

(الأولى):رواية صحيحة رواها الثقات في كتبهم جميعاً كالكليني والصدوق والشيخ الطوسي (قدس الله أسرارهم والبرقي في المحاسن عن أبي جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):يا علي أوصيك في نفسك بخصال فاحفظها، ثم قال:اللهم أعنه، أما الأولى:فالصدق لا يخرجن من فيك كذبة أبداً، والثانية:الورع لا تجترين على خيانة أبداً، والثالثة:الخوف من الله كأنك تراه، والرابعة:كثرة البكاء من خشية الله عز وجل يبنى لك بكل دمعة بيت في الجنة، والخامسة:بذل مالك ودمك دون دينك، والسادسة:الأخذ بسنتي في صلاتي وصيامي وصدقتي، أما الصلاة فالخمسون ركعة، وأما الصوم فثلاثة أيام في كل شهر خميس في أوله، وأربعاء في وسطه، وخميس في آخره، وأما الصدقة فجهدك حتى يقال:أسرفت ولم تسرف، وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الليل، وعليك بصلاة الزوال، وعليك بقراءة القرآن على كل حال، وعليك برفع يديك في الصلاة، وتقليبهما، عليك بالسواك عند كل وضوء وصلاة، عليك بمحاسن الأخلاق فاركبها، عليك بمساوي الأخلاق فاجتنبها، فإن لم تفعل فلا تلومنّ إلا نفسك)(1).

(الثانية) وصية الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لعنوان البصري وكان شيخاً كبيراً حضر عند مالك بن أنس ثم هداه الله إلى الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وجاء في الرواية

ص: 330


1- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس وما يناسبه، باب 4، ح2.

(ثم قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):ما مسألتك؟ فقلت:سألت الله أن يعطف قلبك علي ويرزقني من علمك، وأرجو أن الله تعالى أجابني في الشريف ما سألته، فقال:يا أبا عبد الله (وهي كُنية عنوان البصري أيضاً) ليس العلم بالتعلم، إنما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه، فإن أردت العلم فاطلب أولاً في نفسك حقيقة العبودية، واطلب العلم باستعماله، واستفهم الله يفهمك. قلت:يا شريف فقال:قل يا أبا عبد الله، قلت:يا أبا عبد الله ما حقيقة العبودية؟ قال:ثلاثة أشياء:أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله الله ملكاً، لأن العبيد لا يكون لهم ملك يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله به، ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيراً، وجملة اشتغاله فيما أمره تعالى به ونهاه عنه، فإذا لم يرَ العبد لنفسه فيما خوّله الله تعالى ملكاً هان عليه الإنفاق فيما أمره الله تعالى أن ينفق فيه، وإذا فوض العبد تدبير نفسه على مدبره هان عليه مصائب الدنيا، وإذا اشتغل العبد بما أمره الله تعالى ونهاه لا يتفرغ منهما إلى المراء والمباهاة مع الناس، فإذا أكرم الله العبد بهذه الثلاثة هان عليه الدنيا، وإبليس، والخلق، ولا يطلب الدنيا تكاثراً وتفاخراً، ولا يطلب ما عند الناس عزاً وعلوّاً، ولا يدع أيامه باطلاً، فهذا أول درجة التقى، قال الله تبارك وتعالى:{تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}. قلت:يا أبا عبد الله أوصني، قال:أوصيك بتسعة أشياء فإنها وصيتي لمريدي الطريق إلى الله تعالى، والله أسأل أن يوفقك لاستعماله، ثلاثة منها في رياضة النفس، وثلاثة منها في الحلم، وثلاثة منها في العلم، فاحفظها وإياك

ص: 331

والتهاون بها، قال عنوان:ففرغت قلبي له. فقال:أما اللواتي في الرياضة:فإياك أن تأكل ما لا تشتهيه(1) فإنه يورث الحماقة والبله، ولا تأكل إلا عند الجوع، وإذا أكلت فكل حلالاً وسمّ الله، واذكر حديث الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):ما ملأ آدمي وعاءً شرّاً من بطنه فإن كان ولا بد فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه.وأما اللواتي في الحلم:فمن قال لك:إن قلت واحدة سمعت عشراً فقل:إن قلت عشراً لم تسمع واحدة، ومن شتمك فقل له:إن كنت صادقاً فيما تقول فأسأل الله أن يغفر لي، وإن كنت كاذباً فيما تقول فالله أسأل أن يغفر لك، ومن وعدك بالخنى(2) فعده بالنصيحة والرعاء.

وأما اللواتي في العلم:فاسأل العلماء ما جهلت، وإياك أن تسألهم تعنتاً وتجربة وإياك أن تعمل برأيك شيئاً، وخذ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلاً، و اهرب من الفتيا هربك من الأسد، ولا تجعل رقبتك للناس جسراً.

قم عني يا أبا عبد الله فقد نصحت لك ولا تفسد علي وِردي، فإني امرؤٌ ضنين بنفسي)(3).4.

ص: 332


1- أي لا تأكل شيئاً قبل أن تجوع فتشتهي.
2- الخنى: الفحش في الكلام.
3- بحار الأنوار: 1/ 224.

القبس /142: سورة الأحقاف:35

اشارة

{وَلَا تَستَعجِل لَّهُم ۚ}(1)

موضوع القبس:لا تعاجل الذنب بالعقوبة

من كلمات الامام الحسن السبط الزكي المجتبى (صلوات الله عليه) في بيان أحد الأداب العامة لتنظيم العلاقة الإيجابية مع الآخرين خصوصاً للمربين وأولياء الأمور كالأب في البيت او معلم المدرسة أو مدير الدائرة أو رئيس العمال ونحو ذلك، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لا تعاجل الذنب بالعقوبة وأجعل بينهما للاعتذار طريقاً)(2).

والمعنى واضح فالإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ينهى عن المبادرة الى معاقبة من يخطأ أو يذنب أو يقصِّر فهذا التريث والإمهال وغض النظر المؤقت يُعطي المذنب فرصة للتأمل والتفكير والمراجعة وسيدفعه ذلك إلى الاعتذار والاعتراف بالتقصير وتدارك التقصير وهذه نتيجة طيبة لجميع الأطراف، أما المبادرة الى المحاسبة والمعاقبة بغض النظر عن كون العقوبة بمستوى الذنب أو أقل أو أكثر فأنها تؤدي الى التشنج والتعصب وتأخذه العزة بالإثم.

وهذا الادب يندرج ضمن التأسي بالصفات الإلهية فأن الله تعالى كتب

ص: 333


1- أُلقيت يوم الاثنين 13 صفر 1438 الموافق 14/ 11/ 2016 تزامناً مع ذكرى استشهاد الامام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).
2- المجالس السنية: 5/ 348، موسوعة المصطفى والعترة: 5/ 126-128.

على نفسه الرحمة بأن لا يُعاجل العباد العقوبة حتى الكفار والمتجبرين والمتمردين قال تعالى {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} (الأحقاف:35) وقال تعالى {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} (يونس:11) وقال تعالى {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} (الطارق:17) فإن ثابوا الى رشدهم وعادوا الى الطريق كان فيه خير الدنيا والاخرة للجميع ولا نفقد الامل بهداية أي أحد وهذا ما عبّر عنه بعض الربانيين لما قال لهم بعض اليائسين والمتقاعسين {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} كان جوابهم الأمل والاندفاع {قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}(الأعراف:164) حتى في مثل فرعون الذي كان يقول {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (النازعات:24) و{مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} (غافر:29) فأن الله تعالى أبقى الامل في نفس موسى وهارون (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال تعالى {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى،فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه:43-44).وإن استمروا بالعصيان والاستكبار كان أبلغ بالحجة عليهم وأقطع لعذرهم قال تعالى {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (آل عمران:178).

ويتأكد هذا الادب كلما ازدادت أواصر القرب والعلاقة ويبلغ ذروته مع الموالين لأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فترى الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يُعلل تريثه في اتخاذ الإجراءات ضد قيادات من أصحابه أنشقّوا عنه وخانوه في الأموال العظيمة التي أودعها عندهم بأنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يأمل منهم ان يتقدموا خطوة ليحظوا باللطف الالهي

ص: 334

قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ولولا ما قال أبو جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حين يقول:لا تعجلوا على شيعتنا إن تزلّ قدم تثبت أخرى، وقال:من لك بأخيك كله:لكان مني من القول في ابن أبي حمزة وابن السراج وأصحاب ابن ابي حمزة)(1).وهذه الميزة لشيعة أمير المؤمنين الموالين وردت في حديث سابق عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(ما ثبتّ الله حب علي في قلب مؤمن فزلَّت به قدمٌ إلا ثبت الله قدماً يوم القيامة على الصراط)(2).

وقد جسّد الأئمة (سلام الله عليهم أجمعين) هذا الادب في حياتهم بصوره المتنوعة، فقد انتظر أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ما يقارب السنة قبل ان يتوجه لمقاتلة الباغين معاوية وأصحابه وأكثر إرسال المواعظ اليهم لعلهم يعودون الى الهدى والرشد حتى بدأ المرجفون والمنافقون يشيعون أن علياً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) شاك في أمر أهل الشام ولا يجد مسوغاً لقتالهم فصعد الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على المنبر وبيّن لهم انه لم يشكّ طرفة عين في ظلال معاوية واصحابه وكونهم بغاة يستحقون القتل والقتال وانما تأخّر إمهالاً لهم لعلهم يثوبوا الى رشدهم ويفيئوا الى أمر الله وليستضيئوا بنور أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(أما قولكم:أكلُّ ذلك كراهية الموت، فوالله ما أبالي، دخلتُ الى الموت أو خرج الموت إليَّ، وأما قولكم شكاً في أهل الشام! فوالله ما دفعتُ الحرب يوماً إلا وأنا أطمع ان تلحق بي طائفة فتهتدي بي وتعشو الى ضوئي، وذلك أحبُّ إليَّ من أقتلها على ضلالها، وإن كانت تبوء بآثامها)(3)4.

ص: 335


1- بحار الانوار: 49/ 267-268 عن قرب الاسناد: 348-352/ ح1260.
2- كنز العمال: 11/ 621/ ح 33022.
3- نهج البلاغة الخطبة 54.

ومن رسالة له (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعثها الى معاوية قال:(وليس أبطأني عنك إلا ترقباً لما أنت له مكذب وأنا له مصدّق)(1) وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(اني قلبت أمري وأمرهم ظهرا لبطن، فما وجدت إلا قتالهم أو الكفر بما جاء محمد(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ))(2).كما كان (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يمنع افراد جيشه من ان يدعو أحدهم للمبارزة، وكانوا لا يبدؤون اعداءهم بقتال ففي يوم عاشوراء حينما حاول بعض أصحاب الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن يرمي شمراً أو بعض الأعداء أن يرميه بسهم فمنعه لهذا الغرض النبيل حتى رمى عمر بن سعد بسهم نحو معسكر الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وتبعه جيشه لهذا نادى الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أصحابه قائلاً قوموا الى الموت الذي لابد منه فهذه رُسل القوم اليكم(3).

وقد أثمر هذا الادب عن توبة قائد كبير في جيش بني أمية وهو الحر الرياحي ولو استعجل الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مواجهته في الطريق لما حظي بهذه السعادة الابدية.60

ص: 336


1- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: 4/ 50.
2- علل الشرائع: 220 باب 160، بحار الأنوار: ج 44، ص35.
3- أنظر: اللهوف في قتلى الطفوف- ابن طاووس: 60

القبس /143: سورة محمد:7

اشارة

{إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُركُم وَيُثَبِّت أَقدَامَكُم}

من السنن الإلهية:

قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد7) تبيّن الآية إحدى القواعد والسنن الالهية، وهي ثنائية متلازمة عبّر القران الكريم المعَبّر عنها بجملة شرطية، الشرط فيها {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ} والجزاء {يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} وهي متلازمة تكرّرت في القرآن الكريم كقوله تعالى {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج40).

معنى نصرة الله تعالى:

ولا بدّ أن نفهم أولاً معنى نصرة الله لأن الله تعالى غنيّ عن العالمين ولا يحتاج الى معونة ونصرة احد بل الكل محتاج اليه، وفي نهج البلاغة قول امير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فَلَمْ يَسْتَنْصِرْكُمْ مِنْ ذُلٍّ وَلَمْ يَسْتَقْرِضْكُمْ مِنْ قُلٍّ اسْتَنْصَرَكُمْ وَلَهُ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَاسْتَقْرَضَكُمْ وَلَهُ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)(1) فنصرة الله بنصرةِ رسوله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأوليائه وحججه الذين يدعون الى طاعته ويقيمون الدين

ص: 337


1- نهج البلاغة:183 / الوصية بالتقوى.

ويعملون لتطبيق منهج الله تبارك وتعالى في الأرض وتتحقق نصرة الله بنصرة دينه وتحكيم شريعته واحكامه في واقع الحياة، قال تعالى {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ الله} (الصف:14) فنصرة الله تعالى تعني نصرة السائرين الى الله تعالى والهادين الى الله تعالى والعاملين لإعلاء كلمة الله تعالى، فهي نصرة لهؤلاء قال تعالى {وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (الحشر8) وإنما نسبها الى الله تعالى لأكثر من نكتة:1-لإعطائها أهمية بنسبتها الى الله تعالى ولو نُسِبَتْ النصرة الى رسوله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أو أوليائه فقط لكانت أقل زخماً لذا قرن الله تعالى نصرة رسوله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بنصرته تبارك وتعالى {وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (الحشر8).

2-للتنبيه الى شرط القبول وإعطاء الجزاء بأن تكون النصرة وسائر الأعمال خالصة لله تعالى اي ان الجزاء يتحقق حينما تكون نصرة اولياء الله تعالى نصرة لله، هذا الذي يقال في الاصول ان تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية، فقد ينصر الشخص رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أو الإمام ويخرج معه لكنه لهدف آخر غير خالص كالرياء أو الشهرة أو تحصيل منفعة دنيوية أو تعصباً لمدينته أو قبيلته ونحو ذلك فهذه النصرة لا قيمة لها عند الله تعالى.

في صحاح العامة عن أبي موسى قال (سُئل رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حميةً ويقاتل رياءً، أيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال:(من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله))(1).ي.

ص: 338


1- اخرجه الشيخان وابو داوود والترمذي والنسائي.

موارد من الالتفاتات حول الآية:

ونلفت النظر الى جملة امور قد لا يلتفت اليها الكثيرون ممن يتداولون هذه الآية ويجعلونها عنواناً لبياناتهم وخطاباتهم:

1-إن نصرة الله تعالى مفتوحة على كل المجالات وإن كان أرقاها والذي كانت الآيات بصدده هو القتال في سبيل الله لكن نصرة الله تعالى تتحقق بما لا يحصى من الطرق فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نصرة لله تعالى وغضب له أذا عُصي، وكذا دعوة الناس الى الله تعالى وهدايتهم وإصلاحهم، وتتحقق أيضاً بأي مشروع فيه رضا الله تعالى وصلاح العباد، وبأي حوار تردّ به الإشكالات الموجهة الى الدين أو فيها انتقاص من قادته العظام، وحينما نؤيد مسعى لتطبيق قوانين الله تعالى وأحكامه في حياة الناس كمشروع القانون الجعفري فهذه نصرة لله تعالى، وتتحقق أيضاً بأي خدمة تقدمها للناس المحتاجين لأنك بذلك تدفع عنهم الاعتراض على قضاء الله وقدره فهو نصرة لله تعالى ودفاع عنه كما ورد عن أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما سُئل عن لبسه القميص المرقّع البالي وتوزيعه المساعدات بنفسه على بيوت الفقراء والايتام قال: لكيلا يتبيّغ بالفقير فقره)(1) أي لكيلا يغلبه الفقر ويقهره فيؤدي الى الاعتراض على الله تبارك وتعالى.

وهكذا تتعدد أشكال نصرة الله تعالى ويتحقق معها الجزاء وهو أن ينصركم الله ويؤيدكم في سائر شؤونكم ويزيد من توفيقكم ويهيئ لكم الاسباب والمقدمات للتقدم ومزيد من الانتصارات، وكلما ازددت نصرة لله تعالى، زاد الله من نصرته لك وتسديدك.

ص: 339


1- نهج البلاغة 2: 204.

2-إن الكثيرين يستشهدون بالآية الى قوله تعالى (ينصركم) ويعتقدون ان هذا كافٍ وان هذا هو موضع الحاجة ولا يلتفتون الى ما هو أهم من النصر وهو الثبات عليه الذي ذكرته فإن النصر قد يتحقق لكنه لا يدوم لعدم توفير إمكانية المحافظة عليه، أو لأنهم بعد أن انتصروا تغيرّت نواياهم وانحرفت فلم يعودوا مستحقين للنصر، وتزول عنهم نعمة الانتصار ويكون بلا قيمة، كالجيش الذي يهجم على العدو ويأخذ مواقعه لكنه لا يستطيع الامساك بالأرض فيتراجع عنها ويعود العدو اليها وربما يستغل العدو هذا التراجع ويستفيد من زخم العودة ليتقدم أكثر في عمق هذا الطرف الذي انتصر اولاً، وكمثال من التاريخ نذكر ما حصل للمسلمين في معركة أُحُد فانهم انتصروا(1) في بداية المعركة لكنهم لما عصوا اوامر رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) واتبعوا اهوائهم والتفتوا الى جمع الغنائم لم يدم ذلك النصر وانقلب الى هزيمة وخسروا شهداء كثيرين، لذا كان التوجيه الرباني بعد ان فتح الله تبارك وتعالى مكة للنبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وللمسلمين ونصرهم على قريش بحسب سورة النصر {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ 1 وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا 2}فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا 3} (النصر:1- 3) فعليك ان تسبح الله وتنزهه عن اي وهم وظن بانك صاحب القدرة في تحقيق النصر وتستغفره من كل ما يفقدك هذا النصر ويزيل اسبابه، وهكذا التاريخ حافل بالمنقلبين على الاعقاب.

فقيمة الانتصار في الثبات عليه وإدامته بإدامة الأسباب الموجبة له، ولا شك48

ص: 340


1- أنظر: الكامل في التاريخ- ابن الأثير: 2/ 148

أن هذا التثبيت هو من مصاديق الجزاء (ينصركم) وأحد مفرداته فيكون من قبيل ذكر الخاص بعد العام كما يقال وانما ذكر تثبيت الاقدام مع انه داخل في عنوان (ينصركم) لأكثر من نكتة:أ-إلفات النظر اليه والاهتمام به.

ب-ولتمييزه عن ثبات آخر يسبق النصر لا بد أن يحققه العبد الناصر لربه بشجاعة وإصرار ليتحقق الانتصار على العدو كقول طالوت لما بارز جالوت الطاغية {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة250) فتلاحظ ان ثبات الاقدام كان مقدمة للنصر، فيوجد ثبات يسبق النصر وتثبيت يلحقه.

3-إن كل هذه الألوان من النصرة بما فيها القتال المؤدي الى الموت إنما هي على مستوى (الجهاد الأصغر)، والأسمى من ذلك تطبيق هذه المعادلة على (الجهاد الأكبر) أي على صعيد مجاهدة النفس ومنعها من اتباع الاهواء والشهوات وتطبيعها على طاعة الله تبارك وتعالى والورع والتقوى وتتجرد عما سوى الله تبارك وتعالى حتى تكون احبّ الى الشخص من نفسه ومن كل ما سوى الله تبارك وتعالى، وفي الحديث الشريف (أعدى أعداءك نفسك التي بين جنبيك)(1) فهي تهشّ الى المعصية ويزيّنها الشيطان فمقاومتها نصرة لله تبارك وتعالى على ادعائه الشيطان وأوليائه والنفس الأمارة بالسوء، وحينئذ ينصرك الله تعالى ويزيدك قوة وعزيمة ويرقّيك في درجات التكامل، من دعاء الصباح لأمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وَإِنْ خَذَلَنِي نَصْرُكَ عِنْدَ مُحارَبَةِ النَّفْسِ وَالشَّيْطانِ، فَقَدْ وَكَلَنِي خِذْلانُكَ إِلى حَيْثُ4.

ص: 341


1- عدة الداعي ص 314.

النَّصَبِ وَالحِرْمانِ)(1)، فاذا اعانك الله تعالى ونصرك على نفسك ونجحت في الامتحان وحققت تقدماً في هذه الاشهر المباركة او المشاهد المشرّفة او بحضورك مجالس الصالحين وفي المساجد وصلوات الجمعة والجماعة وغيرها فثبت عليه وادمه ولا تضيّعه بسبب شهوة او غضب او تزيين من شياطين الانس والجن، فان السقوط في الهاوية حينذٍ يكون مريعاً والعياذ بالله تعالى.ايها الاخوة:

أنتم بفضل الله تبارك وتعالى بإقامتكم لهذه الشعيرة المباركة:السير على الأقدام من حرم أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الى حرم الإمام الحسين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لزيارة الإمام الحسين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في النصف من رجب ولإحياء وفاة عقيلة الهاشميين السيدة زينب بنت أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وفاطمة الزهراء(س) بنت رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):وبإدامتكم لها منذ بضع سنوات:تنصرون الله تبارك وتعالى بعدة أشكال تتضح من خلال ما ذكرناه سابقاً فأسأل الله تعالى أن ينصركم ويثبت أقدامكم.4.

ص: 342


1- مفاتيح الجنان: 94.

القبس /144: سورة محمد:11

اشارة

{ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَولَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَأَنَّ ٱلكَٰفِرِينَ لَا مَولَىٰ لَهُم}

المولى بمعنى الولي الذي له ولاية ما خاصة كولاية السيد على العبد او عامة كولاية الله تعالى على خلقه في التصرف والتدبير وله سبحانه ولاية التشريع وهداية العباد إلى ما يصلح شؤونهم، والظاهر انها هنا تشير الى ولاية النصر والتأييد.

والآية تبين واحدة من ثمرات الايمان بالله تعالى وأحد الفروق بين المؤمنين وغيرهم وهو ان للمؤمنين مولى ورباً. يرعاهم ويدبر شؤونهم ويهديهم وينصرهم ويسدّدهم ويرشدهم ويشفق عليهم ويرحمهم بالرحمة والرعاية الخاصة (أما الولاية العامة فشاملة لجميع المخلوقات) قال تعالى {وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} (يونس:30).

أما غير المؤمنين بالله تعالى سواء كانوا من المنكرين للخالق والملحدين والمشركين الذين يعبدون آلهة أخرى من دون الله تعالى - وهو عنوان يشمل في بعض مراتبه الذين هم مسلمون بحسب العنوان الا أنهم عملياً لا يعبدون الله تعالى وإنما يطيعون شهواتهم ونزواتهم وغرائزهم وما تدعوه إليه انانيتهم ويقدّسون رموزاً ويطيعونها من دون عرض أفعالهم على ما يريده الله تعالى ويرضاه - فهؤلاء قد يكون لهم مولى وناصر ومعين من سلطة أو عشيرة أو مال أو جاه أو حزب أو

ص: 343

قوى خارجية يسمونها بالعظمى أو غيرها كقول المشركين للمسلمين يوم أحد (لنا العّزى ولا عزى لكم) فاجابهم المسلمون (الله مولانا ولا مولى لكم)(1) الا أن الآية الكريمة تعتبر هؤلاء الموالي أوهاماً لا قيمة لها وتنفي وجودهم على نحو الحقيقة (وان الكافرين لَا مَوْلَى لَهُمْ) فكأنهم لاشيء وهم كذلك، قال تعالى {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ} (العنكبوت:41) واذا أثبتت آيات أخرى ولاية لهؤلاء فأنما هي ولاية الاغواء والاضلال والافساد {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:27) {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِ-رُونَ} (الأعراف:202) {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَ-ئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:257).فمن لم يكن مولاه ومعبوده ومطاعه الله تعالى فان الهه هواه والشيطان شاء ام ابى {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (الفرقان :43) وان اعطى عناوين محببّه لها كأن يسمّون اتباع الاهواء الشخصية غير المنضبطة بالحرية وهي في الحقيقة عبودية للهوى. ويذكر القرآن الكريم الفرق بين المنهجين في الطاعة والاتباع كقوله تعالى {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة :268)

ولتقريب هذا الفرق بين الولايتين تصوّر وجود أطفال لهم أب يربّيهم30

ص: 344


1- أنظر: تاريخ الطبري: 2/ 202,- صحيح البخاري: 5/ 30

ويرشدهم ويصرف عليهم ويرعاهم ويدافع عنهم ويوفّر لهم أسباب الحياة الكريمة وأطفالاً آخرين أيتاماً ليس لهم من يعيلهم فهم في ضياع واحتياج وحرمان قد سقطوا في حبال عصابة شريرة مفسدة فاستخدمتهم لأغراضها الشيطانية، مع ان حاجتنا إلى رعاية الله تعالى لا تقارن بحاجة الأطفال إلى أبيهم أو أمهم.وتبين الآية التالية محل البحث النتيجة التي سيؤول إليها أمر الفريقين {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} (محمد:12).

ومظاهر هذه الولاية الإلهية في حياة الانسان لا تعد ولا تحصى، نجد في دعاء الافتتاح بياناً لجوانب منها (فَكَمْ ياإِلهِي مِنْ كُرْبَةٍ قَدْ فَرَّجْتَها، وَهُمُومٍ قَدْ كَشَفْتَها، وَعَثْرَةٍ قَدْ أَقَلْتَها، وَرَحْمَةٍ قَدْ نَشَرْتَها، وَحَلْقَةِ بَلاٍ قَدْ فَكَكْتَها) (1).

ومن مظاهر هذه الولاية الإلهية للناس انه تعالى أنزل لهم شريعة سمحاء تتكفل بسعادتهم في الدنيا وفلاحهم في الآخرة، وهذه الولاية يتنعمون فيها وبها حتى وهم في أشد الظروف قسوة ولعلهم يجدون في أنفسهم شيئاً لأن الله تعالى لم يستجب لدعائهم (فَإنْ أَبْطاء عَنِّي عَتِبْتُ بِجَهْلِي عَلَيْكَ، وَلَعَلَّ الَّذِي أَبْطَاءَ عَنِّي هُوَ خَيْرٌ لِي لِعِلْمِكَ بِعاقِبَةِ الاُمُورِ) فأنه تبارك وتعالى لم ولن يتخلى عنهم ولا يخلفهم وعده {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} (الشرح:5) ولكن التأخير لمصلحتهم أمارك

ص: 345


1- فقرات من دعاء الافتتاح الذي يقرأ في ليالي شهر رمضان المبارك

في الدنيا أو في الآخرة، بينما يتخبط غير المؤمنين بقوانين وأنظمة تجلب لهم الشقاء والتعاسة.وهذه الولاية الإلهية مستمرة في الحياة الدنيا وفي الآخرة ما بعد الموت، قال تعالى {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} (إبراهيم:27) وقال تعالى {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (غافر:51) وقال تعالى {الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (يونس:63-64) .

واذكر لكم مثالا على ولاية الله الشفيقة بعباده بعد الموت (قيل: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: لطفي بالعصاة من أهل القبور، كلما بليت أبدانهم غفرت لهم، وكلما صارت عظامهم نخرة محوت عنهم ذنوبهم جوداً مني وكرماً. يا موسى، إني لم أنسهم أحياء مرزوقين، فكيف أنساهم وهم موتى مقبورين، ما من عاصي عصاني حتى إذا كان في كرب الموت لم أنظر إلى جهله وتقصيره، ولكن أنظر إلى ضعفه ومسكنته، وإذا نظرت إلى حاله ألهمته وحدانيتي أريد له بها النجاة، الله لطيف بعباده، خلقي خلقتهم، وعبادي رزقتهم وجعلت ذنوبهم مستورة مغفورة، وجعلت لهم محمداً صلى الله عليه وسلم شفيعاً، وأن الله تعالى لا ينظر إلى شيء إلا رحمه، ولو نظر إلى أهل النار لرحمهم، ولكن قضى الله لا ينظر إليهم)(1)15

ص: 346


1- الزهر الفائح- ابن الجزري: 115

وفي المناجاة الشعبانية لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إِلَهِي لَمْ يَزَلْ بِرُّكَ عَلَيَّ أَيّامَ حَيَاتِي فَلاَ تَقْطَعْ بِرَّكَ عَنِّي فِي مَمَاتِي) أما البعيدون عن الله تعالى على اختلاف اشكالهم فأنهم حرموا أنفسهم من هذه الولاية الإلهية الخاصة {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَ-كِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (النحل:118) ومع ذلك فان الله تعالى لم يتخلى عنهم ولم يمنعهم من رحمته الواسعة (يا من يعطيّ من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنناً منه ورحمة) وبدلاً من ان يشعرهم هذا بالخجل والحياء من رب العالمين ويدعوهم إلى العودة إليه سريعاً فأنهم يتمادون في غيّهم وعصيانهم وابتعادهم عنه تبارك وتعالى (فَلَمْ أَرَ مَوْلىً كَرِيماً أَصْبَرَ عَلى عبْدٍ لَئِيمٍ مِنْكَ عَلَيَّ يارَبِّ، إِنَّكَ تَدْعُونِي فَأُوَلِّي عَنْكَ، وَتَتَحَبَّبُ إِلَيَّ فَأَتَبَغَّضُ إِلَيْكَ، وَتَتَوَدَّدُ إِلَيَّ فَلا أَقْبَلُ مِنْكَ، كَأَنَ لِيَ التَّطَوُّلَ عَلَيْكَ، فَلَمْ يَمْنَعْكَ ذلِكَ مِنَ الرَّحْمَةِ لِي وَالاِحْسانِ إِلَيَّ، وَالتَّفَضُّلِ عَلَيَّ بِجُودِكَ وَكَرَمِكَ، فَأرْحَمْ عَبْدَكَ الجاهِلَ، وَجُدْ عَلَيْهِ بِفَضْلِ إِحْسانِكَ إِنَّكَ جَوادٌ كَرِيمٌ) (1) فليعتز المؤمنون بهذه النعمة الإلهية العظيمة وليقولوا كما قال الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاءه يوم عرفة مفتخرا برّبه العظيم (ماذا وجد من فقدك وما الذي فقد من وجدك) وليجدّوا ويجتهدوا في دعوة غيرهم إليها {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى:11) ولتكن دعوتهم برفق ولين وحجة وبرهان {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل:125).رك

ص: 347


1- فقرات من دعاء الافتتاح الذي يقرأ في ليالي شهر رمضان المبارك

القبس /145: سورة محمد:19

اشارة

{فَٱعلَم أَنَّهُۥ لَا إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ}

موضوع القبس:نبذ الآلهة من دون الله تعالى

ما المراد من رمي الجمرات؟

موضوع القبس:نبذ الآلهة من دون الله تعالى(1)

من مناسك الحج رمي الجمرات الثلاث في منى بالحصى، وقد ورد في الروايات عن أصلها(2) بأن خليل الرحمن إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما أخذ ولده إسماعيل لذبحه امتثالاً لأمر الله تبارك وتعالى اعترضه إبليس في الموضع الأول ليردّه ويخذلّه ويحرّك عواطفه حتى يتراجع عن تنفيذ ما أمر الله تعالى فرماه إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالحصى فانهزم اللعين، ثم تمثّل له مرة أخرى في الموضع الثاني والثالث وكان رد إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الحازم هو هو فتحوّل إلى منسك يؤديه الموحدّون لرمي الشياطين.

وقد يثار هنا إشكال حاصله إن رمي الجمرات في الإسلام تعبير عن نبذ أصنام الجاهلية ورفض عبادتها، وقد كان هذا العمل مبرراً وله وجه في صدر الإسلام حيث كانوا حديثي عهد بالجاهلية فأراد لهم الشارع المقدس قلع عبادة

ص: 348


1- أقام سماحة الشيخ (دام ظله) صلاة الجمعة الثانية في مقر إقامته في مكة المكرمة يوم 6/ذو الحجة/1431 المصادف 12/ 11/ 2010، وما في المتن هو الخطبة الثانية منها.
2- أنظر: علل الشرائع- الشيخ الصدوق: 2/ 432

الأصنام بالكلية من داخل نفوسهم وترسيخ رفضها، أما اليوم حيث لم تعد توجد أصنام تُعبد من دون الله تعالى فلا يبقى معنى لأداء هذا المنسك. وأجوبة هذا الإشكال عديدة نريد أن نجعل واحداً منها محور خطبتنا.

الاصنام التي تعبد من دون الله تعالى:

وهو أن الأصنام والآلهة التي تُعبد من دون الله تعالى عديدة ومتنوعة وباقية ما بقي البشر إلا أن يملأ الله تبارك وتعالى الأرض قسطاً وعدلاً ويبسط كلمة التوحيد على إرجاء الأرض، ولئن زال أحد أشكالها وهي الأصنام والأوثان التي تُصنع من الحجر والخشب وربما التمر ثم تعبد من دون الله وتقدس وتقدم لها النذور والقرابين، فإن أشكالاً أخرى من الأصنام تعبد وتقدس وهي أشد وطئاً على الإنسان وأكثر إذلالاً للبشرية وتكلف الناس أضعاف ما كانت تكلفهم تلك الأصنام، وأولها هوى النفس وشهواتها وأطماعها وغرائزها التي يطيعها الإنسان ويسعى لتنفيذ إرادتها ويخضع لسلطتها وإن كان في ذلك معصية الله تبارك وتعالى، فأصبح الهوى إلهاً يعبد من دون الله تعالى لأن معنى العبادة هي الطاعة والانقياد والاستسلام بحيث ورد عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(من أصغى إلى ناطق فقد عبده فإن كان الناطق يؤدي عن الله عز وجل فقد عبد الله وإن كان الناطق يؤدي عن الشيطان فقد عبد الشيطان)(1)، وقد سمى الله تبارك وتعالى الهوى إلهاً في قوله تعالى {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ...} (الجاثية:23)، كم من تاجر تعرض له معاملة مشبوهة ينهى عنها الشرع المقدس

ص: 349


1- الكافي: ج6 ص434.

لكن ربحها يسيل لعابه ويثير طمعه فيرتكبها؟ وكم من امرأة تعلم أن السفور حرام وإن إبداء مفاتنها أمام الرجل الأجنبي معصية فتفعله إرضاءً لغرائزها؟ وكم من شاب يعلم أن الصلاة واجبة عليه وأنها عمود الدين وهوية المسلم لكنه يتركها كسلاً وحباً للراحة والدعة؟ أليس كل هؤلاء وأمثالهم قد نصبوا من أهوائهم وأنفسهم الأمّارة بالسوء أصناماً وآلهة يعبدونها ويطيعونها من دون الله تبارك وتعالى؟

التشريعات البشرية:

وثاني الآلهة التشريعات التي تُسنُّها عقول الناس القاصرة وبحسب ما يقدرونها من مصالح بنظرهم الضيّق ويتعبدون بها ويلتزمون بها ويعاقبون على مخالفتها من دون الرجوع إلى شريعة الله تبارك وتعالى تحت عناوين مختلفة كالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وحاكمية الشعب والقوانين والدساتير الوضعية وغيرها، وهذا الوضع قائم حتى في الدول التي تصف نفسها بأنها إسلامية، وقد ذكر الله تبارك وتعالى هذه الآلهة وهذه الأرباب في قوله تعالى:{اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَ-هاً وَاحِداً لاَّ إِلَ-هَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْ-رِكُونَ} (التوبة:31) وورد في تفسيرها عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم ما أجابوهم، ولكن أحلوا لهم حراماً، وحرموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون)(1) فانطبق عليهم اتخاذهم أرباباً

ص: 350


1- الكافي: ج6 ص434.

من دون الله تعالى لأنهم شرّعوا لهم من أنفسهم قوانينَ تحكمهم من دون الرجوع إلى الشريعة الإلهية.وهذه الرواية تنطبق على كثير مما يجري في مجتمعاتنا كبعض القوانين التي يسنّها البرلمان، والسنينة العشائرية التي يضعها ناس جاهلون بأحكام الشريعة وتفاصيلها فتأتي مليئة بالمظالم والفساد والانحراف.

آلهة الأعراف والتقاليد غير الصحيحة:

ومن الآلهة الأخرى الأعراف والتقاليد الاجتماعية التي يضعها الناس ثم يعطونها قداسة وأهمية بحيث لا يستطيع الفرد الخروج عنها خشية العار والفضيحة والضغط الاجتماعي ونحوها.

فبعض السادة التزموا بعدم تزوج بناتهم العلويات إلا من سادة ولو أدى ذلك إلى عنوستهن وحرمانهن من هذا الحق المقدس رغم إقدام الشباب الأكفاء على خطبتهن، أو إلزامهن التزويج من أبن العم فلو نهى عليها ابن عمها فلا يحق لأي أحدٍ خطبتها ولو أعرض عنها ابن العم ولم يتزوجها.

أو المغالاة في المهور الذي حرم الكثير من الشباب عن التفكير في الزواج لعدم قدرته على هذه التكاليف الباهظة، وكل هذه الأعراف والتقاليد مخالفة للشريعة ولوصايا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الذي روي عنه:(إن جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوّجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفسادٌ كبير)(1) وقوله

ص: 351


1- عوالي اللئالي: ج3 ص340.

(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(النكاح سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني)(1) ومثلهم بعض النساء اللواتي يلزمن أزواجهن بتوفير احتياجات باهظة كلبس بدلة جديدة في كل مناسبة أو تغيير أثاث بيت في كل سنة أو موسم مما يكلف الزوج كثيراً وقد يضطر إلى الإغماض عن مصدر الأموال الواردة إليه ليلبي رغبة امرأته، فهؤلاء يعبدون هذه الأعراف والتقاليد ويقدّسونها من دون الله تعالى.

الحكام والطواغيت:

ومن تلك الآلهة الحكام والطواغيت الذين يريدون من شعوبهم الاستسلام لهم وتنفيذ أطماعهم ونزواتهم والتضحية من أجل إدامة حكمهم وتقديم الشعب كله قرابين لهم، وهكذا سائر النظم الاقتصادية والسياسية والقوانين الوضعية المتبعة في المحاكم والكيانات المتنفذة كالمصارف وغيرها مما صنعه البشر من دون الرجوع إلى حكم الله تعالى {آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ} (يونس:59).

كونوا موحدين:

هذه نماذج من الآلهة التي تُعبد وتطاع من دون الله تعالى ومن الأصنام التي لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً ولكنها تُقدَّس وتُتخذ أرباباً للبشر الذين يصنعونها بأيديهم ويعلمون أنها زائفة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً

ص: 352


1- كنز العمال: ج16 ص272.

لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} (الحج:73)، يَسخر الناس اليوم من عقول أسلافهم في الجاهلية ويسخفونهم حيث اتخذوا آلهة من أصنام يصنعونها بأيديهم وهاهم اليوم يفعلون فعلتهم وينقادون لأصنام وآلهة من صنعهم وإن كان من نوعٍ آخر.هذه الحقيقة التي يدمغ اللهُ تبارك وتعالى بها الناس في قوله تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف:106).

موعظة الشيخ جعفر الشوشتري:

نُقل عن الواعظ الشهير الشيخ جعفر الشوشتري (توفي عام 1303 هجرية) صاحب كتاب الخصائص الحُسينية وقد كان له منبر وعظ في الصحن الحيدري الشريف يحضره المجتهدون والعلماء والفضلاء وعامة الناس، نُقل عنه أنه قال يوماً:أيها الناس أن مئة وأربع وعشرين ألف نبي بعثهم الله تعالى كلهم يقولون للناس:(كونوا موحدين وأنا أقول كونوا مشركين) فتعجب الناس من كلامه ولم يفهموا مرامه فأمهلهم حتى قال لهم:(إنكم أصبحتم كلكم للدنيا وأنا أدعوكم إلى أن تجعلوا لله نصيباً من حياتكم فأشركوه في أعمالكم).

خسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيباً:

وستجدون في دعاء الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم عرفة:(إلهي عميت عينٌ لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيباً)(1) وهذه هي الخسارة الحقيقية أن لا يخلص الإنسان عمله لله تبارك وتعالى ويوحّد هدفه في

ص: 353


1- مفاتيح الجنان: ص331.

هذه الحياة ليجعله رضا الله تبارك وتعالى، ولا يُثبت على الصراط المستقيم ويتيه يمنة ويسرة بين هذه الآلهة والأرباب المصطنعة.إن رسول الله (ص وسلم) بُعث ليحرّر الإنسان من هذه التبعية المقيتة التي تُكبّله بقيود وأغلال وآصار تعيقه عن التكامل ونيل رضوان الله تبارك وتعالى {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف:157)، فلا يحق للإنسان الحر أن يعيد إلى عنقه تلك الأغلال ويحيط نفسه بتلك القيود.

وهذه بعض معاني رمي الجمرات أن نرفض كل الآلهة التي تُعبد وتُطاع والأرباب التي تتخذ من دون الله تبارك وتعالى.

ص: 354

القبس /146: سورة محمد:38

اشارة

{وَإِن تَتَوَلَّواْ يَستَبدِل قَومًا غَيرَكُم ثُمَّ لَا يَكُونُواْ أَمثَٰلَكُم}

موضوع القبس:سنة الاستبدال

من السنن الإلهية:

تبيّن الآية سنة إلهية وقانوناً ثابتاً وفي نفس الوقت توجّه تحذيراً لكل الناس، مفاده أن المشروع الإلهي الذي حملته رسالة الاسلام العظيمة ماضٍ وسائر في طريق تحقيق الأهداف المرسومة له، وإنَّ تقاعسَ واعراض البعض –مهما كثر عددهم- لا يعرقل هذه المسيرة الإلهية وإنما تُعرض الرسالة عليهم وتطلب النصرة منهم لطفاً بهم من الله تعالى وامتناناً عليهم ليحصلوا على شرف المشاركة وثواب العاملين في الدنيا والآخرة، فإذا أعرضوا عن هذا التكليف ولم يتحملوه فإنهم هم الخاسرون وسيوفق الله تعالى أقواماً غيرهم لينهضوا بهذه المسؤولية ويحصلوا على نتائجها المباركة.

والخطابات القرآنية عامة شاملة لكل الأجيال ولكل الأزمان فلا يتصور أحد أن هذه الآية خاصة بالقوم الذين كانوا حول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وإنه تهديد لهم فقط، وإنما هي سنة إلهية عامة ثابتة {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر:43) وقد أشارت عدة آيات قرآنية إلى هذه السنة الإلهية ،قال تعالى {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُ-رُّوهُ

ص: 355

شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (التوبة:39) {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الواقعة:60- 61) ،{إِنَّا لَقَادِرُونَ، عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} (المعارج:41).

لماذا التقاعس والارتماء في الايديولوجيات الفاسدة؟

وقد تركت الآية كلمة (تتولوا) بلا ذكر لمتعلقها، وإن التولي يكون عن ماذا؟ لتكون مطلقة وتكون السُنة جارية في كل تولي واعراض سواء تعلق بأصول الدين أو فروعه أي مطلق طاعة الله تعالى.

إذ من الناس من يعرض ويتولى عن أصل الإيمان والدين ويتجرد منه ويتحول إلى لا ديني ويتبنى أفكاراً وأيديولوجيات مناهضة للدين ومشككة فيه بأي عنوان كان كالملحد أو الكافر ونحو ذلك، وهذا المورد من التولي والاعراض ذكرته آية أخرى قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} (المائدة:54).

ومنهم من يؤمن نظرياً بالإسلام لكنه لا يقوم بالتزاماته وقد ذكرت الآيات المتقدمة على الآية محل البحث من سورة الحديد صوراً من الخذلان الذي يصيب الانسان كعدم الانفاق في سبيل الله تعالى وكالقعود عن الجهاد في آية سورة التوبة المتقدمة، أو أي فرصة من فرص الطاعة التي يهيئها الله تعالى للإنسان كمساعدة محتاج أو قضاء حاجة مؤمن فإنه إن فوّتها ولم يستثمرها فإن الله تعالى سيقيِّض من يقوم بها وهو شاكر لله تعالى على توفيقه.

ص: 356

الإعراض عن طاعة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):

ولا شك أنّ من أكثر الموارد التي تظهر فيها هذه السنة الإلهية هي طاعة من أمر الله تعالى بطاعته وهو النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومن بعده الأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ثم العلماء العاملون المخلصون النوّاب عن الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في غيبته، فإنّ من يتقاعس عن طاعتهم والالتزام بتوجيهاتهم فضلاً عمّن يشكّك فيهم ويفتري عليهم ويسقّطهم فإن التوفيق يُسلبُ منه ويُمنَح إلى آخرين مطيعين مخلصين {ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد:38) بل يكونون ثابتي الإيمان ذوي همم عالية وإصرار على العمل.

وهذا الابتلاء مرّت به الامم ففشل اكثرهم وتولّوا واعرضوا فاصيبوا بأسوء النتائج، ماذا كان دعاء أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حينما خذله أصحابه وتقاعسوا وتفرقوا، (قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في سحرة اليوم الذي ضُرب فيه:ملكتني عيني وأنا جالس، فسنح لي رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقلت:يا رسول الله، ماذا لقيتُ من امتك من الأَوَد –أي الاعوجاج- واللَدد- أي الخصام-؟ فقال:ادع عليهم، فقلتُ:أبدلني الله بهم خيراً منهم وأبدلهم بي شراً لهم مني)(1).

نموذج معاصر من الإعراض عن طاعة الله تعالى:

خذ مثلاً السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) فإن كثيراً من العناوين الكبيرة وغيرهم داخل الحوزة وخارجها خذلوه وعارضوه وشككوا فيه وفي حركته فحرموا من هذا اللطف الإلهي، وهيّأ الله تعالى للسيد الشهيد شباباً مليئين بالإيمان

ص: 357


1- نهج البلاغة: 135، الخطبة 70.

والحيوية والتفاني أخذوا المواقع المخصّصة لأولئك الذين حرموا أنفسهم من هذا الفضل العظيم، واستمرت هذه الحركة المباركة حتى بعد استشهاده ومرور (16) سنة على رحيله، لكن صدى حركته اليوم وآثارها المباركة أوسع مما كانت في حياته الشريفة.

نموذج تاريخي في وجدان الطف:

وإذا أردنا أن نعرّج على كربلاء ونأخذ الشواهد منها، فهناك شخصان نقرّب جريان سنة الاستبدال عليهما بحسب الظاهر.

أحدهما:عبيد الله بن الحر الجعفي أحد الفرسان المعروفين بالفتك وهو معدود من شيعة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وله نسخة يرويها عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) – بحسب رجال النجاشي-، التقاه الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في طريقه إلى كربلاء ودعاه إلى نصرته فامتنع عبيد الله عن الإجابة وقدّم للحسين فرسه المسماة بالمحلّقة وقال ((هذه فرسي المحلّقة فاركبها فوالله ما طلبت عليها شيئاً إلاّ أدركته ولا طلبني أحد إلا فتّته حتى تلتحق بمأمنك وأنا ضمين بعيالاتك أؤديهم إليك))، فقال الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(لا حاجة لنا فيك ولا في فرسك، وما كنت متخذ المضلّين عضداً)(1) فنصحه الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بأن يغيّب وجهه ولا يشهد واعيته وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فوالله لا يسمع اليوم واعيتنا أحد ثم لا يعيننا إلاّ كبّه الله على منخريه في النار).

ثانيهما:الحر الرياحي الذي كان قائداً كبيراً في جيش الأمويين وهو الذي

ص: 358


1- راجع تفصيل ترجمته ومصادرها في أدب الطف للمرحوم الخطيب السيد جواد شبر: 1/ 94-100.

قاد الكتيبة التي اعترضت الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في طريقه ومنعته من العودة إلى أهله ودياره ورافقته حتى نزل كربلاء لكنه في لحظة من لحظات التوفيق والألطاف الإلهية وقف وتأمل في مصيره وعاقبته وخيّر نفسه بين الدنيا المزخرفة التي كان يتمتع بها في ركاب بني أمية لكن عاقبتها النار، وبين القتال والشهادة بين يدي أبي عبد الله الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وختامها مسك والفوز والجنة ورضوان الله فقال كلمته التي نقلت عبر الأثير إلى كل الأجيال (لا أختار على الجنة شيئاً أبداً) (1).محل الشاهد ان هذا المقعد في قافلة شهداء الخلود لما تولى عنه عبيد الله وأعرض عنه ملأه غيره وهو الحر الرياحي وفاز به ومضت القافلة في طريقها، وبقي عبيد الله نادماً متحسراً على تفويت هذه الفرصة فالتحق بالمختار لأخذ الثأر ثم اختلف معه والتحق بمصعب ثم اختلف معه وقاتله. ومن شعره المعبّر عن عظيم حسرته:

فيا لَكِ حسرةً ما دمتُ حياً *** تَردُّد بين حلقي والتراقي

حسين حين يطلبْ بذل نصري *** على أهل الضلالة والنفاق

غداة يقول لي بالقصر قولاً *** أتتركنا وتزمع بالفراق

ولو أني أواسيه بنفسي *** لنلت كرامة يوم التلاق

مع ابن المصطفى نفسي فداه *** تولى ثم ودّع بانطلاق

فلو فلق التلهف قلبَ حي *** لهمَّ اليوم قلبي بانفلاق21

ص: 359


1- تاريخ الطبري: 4/ 325,- مقتل الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- أبو مخنف الأزدي: 121

فقد فاز الاولى نصروا حسيناً *** وخاب الآخرون إلى النفاق(1)

الهزيمة الداخلية هي التي انتجت الاستبدال:

ولابد أن نلتفت إلى أن هذا الاستبدال من الله تعالى ما كان ليحصل في الخارج إن لم يسبقه استبدال في داخل النفس من قبل الشخص نفسه فاستحق ذلك التبديل {أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} (التوبة:38) {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} (البقرة:61) .

وهذا كله تطبيق لسنة الله تعالى {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد:11) سواء بإتجاه الخير أو الشر، ولذا كان من الادعية الواردة عن اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) (وتجعلني ممن تنتصر به لدينك ولا تستبدل بي غيري)(2).

فعلينا أن نكون حذرين يقظين ونبادر إلى أي فرصة للطاعة ولا نفوّتها أو نؤخرها أو نعتقد أنه لا أحد يستطيع أن يأخذها منّا ويملأ مكاننا فيها، فإن الله تعالى غني عن خلقه ويستبدل بالمقصرين والعاصين من يحبّهم الله تعالى ويحبونه ثم لا يكونوا أمثالكم.

ص: 360


1- أدب الطف أو شعراء الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) للمرحوم السيد جواد شبر: 1/ 96.
2- مفاتيح الجنان :327 ادعية ليالي شهر رمضان.

القبس /147: سورة الفتح:2

اشارة

{لِّيَغفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَن ۢبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}

موضوع القبس:معنى استغفار المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من الذنوب

إثارة لإشكال:

عند تلاوة هذه الآية يُثار سؤال أو إشكال من جهة المنافاة ظاهراً بين ما نعتقده من عصمة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وعدم صدور الذنب والمعصية منهم، وبين ما يظهر من الآية من الأخبار عن صدور الذنب من النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ويكون الإشكال أوضح في الإقرار والاعتراف الوارد في الأدعية والمناجاة عن الأئمة (سلام الله عليهم).

مثلاً ما ورد في دعاء الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم عرفة:(ثم إني يا إلهي المعترف بذنوبي فاغفرها لي، أنا الذي أخطأت أنا الذي هممت، أنا الذي جهلت..) إلى أن يقول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إلهي أمرتني فعصيتك ونهيتني فارتكبت نهيك).

ومثل هذا الاعتراف بالذنب بين يدي الله تبارك وتعالى تكرر كثيراً في أدعيتهم ومناجاتهم (سلام الله عليهم) كقول الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاء أبي حمزة:(أنا يا رب الذي لم أستحيك في الخلاء ولم أراقبك في الملأ أنا صاحب الدواهي العظمى أنا الذي على سيده اجترا، أنا الذي عصيت جبار السما، أنا الذي أعطيت على معاصي الجليل الرُشى، أنا الذي حين بُشرت بها خرجت إليها أسعى،

ص: 361

أنا الذي أمهلتني فما ارعويت وسترت عليَّ فما استحييت وعملت بالمعاصي فتعديت)(1).

جواب الإشكال:

ويقال في الجواب أحياناً أنهم إنما يتحدثون بلسان الناس الآخرين لأنهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في مقام التعليم للناس فيلقنونهم ما يقولون عندما يقفون بين يدي الله تبارك وتعالى، كما علّم الله تعالى عباده في سورة الحمد ما يقولون عندما يقفون بين يدي الله تبارك وتعالى في الصلاة وغيرها.

وهذا الجواب قد يناسب صدور بعض تلك الأدعية لكنه لا يفسّرها كلها، لأن الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يعبر فيها فعلاً عن وجدانه وعن مشاعره تجاه الخالق العظيم.

ويروى هذا الجواب عن ابن طاووس، فقد قال الأربلي في كشف الغمة:(كنت أرى الدعاء الذي كان يقوله أبو الحسن موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في سجدة الشكر وهو (ربِّ عصيتك بلساني ولو شئت وعزّتك لأخرستني، وعصيتك ببصري ولو شئتَ وعزتك لأكمهتني.. وعصيتك بجميع جوارحي التي أنعمتَ بها عليّ لم يكن هذا جزاك مني) فكنت أفكر في معناه وأقول كيف يتنزل على ما تعتقده الشيعة من القول بالعصمة وما اتضح لي ما يدفع التردد الذي يوجبه).

فاجتمع بالسيد علي بن طاووس (قدس الله روحه) وسأله عن ذلك فقال:(إن الوزير مؤيد الدين العلقمي (رحمه الله) سألني عنه فقلت كان يقول هذا ليعلم الناس، ثم إني فكرت بعد ذلك فقلت هذا كان يقوله في سجدته في الليل وليس عنده

ص: 362


1- مفاتيح الجنان:240

من يعلّمه).(ومات السيد ابن طاووس (رحمه الله) فهداني الله إلى معناه ووفقني على فحواه فكان الوقوف عليه والعلم به وكشف حجابه بعد السنين المتطاولة والأحوال المحرمة والأدوار المكررة من كرامات الإمام موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ومعجزاته ولتصح نسبه العصمة إليه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وتصدق على آبائه وأبنائه البررة الكرام وتزول الشبهة التي عرضت من ظاهر هذا الكلام.

وتقريره أن الأنبياء والأئمة ع تكون أوقاتهم مشغولة بالله تعالى وقلوبهم مملوءة به وخواطرهم متعلقة بالملأ الأعلى وهم أبداً في المراقبة كما قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) اعبد الله كأنك تراه فإن لم تره فإنه يراك.

فهم أبداً متوجهون إليه ومقبلون بكلهم عليه فمتى انحطوا عن تلك الرتبة العالية والمنزلة الرفيعة إلى الاشتغال بالمأكل والمشرب والتفرغ إلى النكاح وغيره من المباحات عدوه ذنباً واعتقدوه خطيئة واستغفروا منه.

ألا ترى أن بعض عبيد أبناء الدنيا لو قعد وأكل وشرب ونكح وهو يعلم أنه بمرأى من سيده ومسمع لكان ملوماً عند الناس ومقصراً فيما يجب عليه من خدمة سيده ومالكه فما ظنك بسيد السادات وملك الأملاك. وإلى هذا أشار (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه ليران على قلبي وأني لأستغفر بالنهار سبعين مرة ولفظه السبعين إنما هي لعد الاستغفار لا إلى الرين وقوله حسنات الأبرار سيئات المقربين)(1).

ثم قال:(ونزيده إيضاحاً من لفظه ليكون أبلغ من التأويل ويظهر من قوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(وعصيتك بفرجي ولو شئت وعزتك لأعقمتني) أعقمتني والعقيم الذي لا8.

ص: 363


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: 3/ 47-48.

يولد له والذي يولد من السفاح لا يكون ولداً فقد بان بهذا أنه كان يعد اشتغاله في وقت ما بما هو ضرورة للأبدان معصية يستغفر الله منها وعلى هذا فقس البواقي وكلما يرد عليك من أمثالها).

وجوه أخرى لجواب الإشكال:

وقد ذكر العلامة المجلسي (قدس سره) هذا الوجه ووجوهاً أخرى لفهم صدور هذه الأقوال منهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، قال (قدس سره):((فأما ما يوهم خلاف ذلك –أي عصمتهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- من الأخبار والأدعية وهي مؤولة بوجوه:

1-أن ترك المستحب وفعل المكروه قد يسمى ذنباً وعصياناً بل ارتكاب بعض المباحات أيضا بالنسبة إلى رفعة شأنهم وجلالتهم ربما عبروا عنه بالذنب لانحطاط ذلك عن سائر أحوالهم كما مرت الإشارة إليه في كلام الأردبلي (رحمه الله).

2-إنهم بعد انصرافهم عن بعض الطاعات التي أُمروا بها من معاشرة الخلق وتكميلهم وهدايتهم ورجوعهم عنها إلى مقام القرب والوصال ومناجاة ذي لجلال ربما وجدوا أنفسهم لانحطاط تلك الأحوال عن هذه المرتبة العظمى مقصرين، فيتضرعون لذلك وإن كان بأمره تعالى، كما أن أحداً من ملوك الدنيا إذا بعث واحداً من مقربي حضرته إلى خدمة من خدماته التي يحرم بها من مجلس الحضور والوصال فهو بعد رجوعه يبكي ويتضرع وينسب نفسه إلى الجرم والتقصير لحرمانه عن هذا المقام الخطير.

3-إن كمالاتهم وعلومهم وفضائلهم لما كانت من فضله تعالى، ولولا ذلك لأمكن أن يصدر منهم أنواع المعاصي، فإذا نظروا إلى أنفسهم وإلى تلك

ص: 364

الحال أقروا بفضل ربهم وعجز نفسهم بهذه العبارات الموهمة لصدور السيئات فمفادها أني أذنبت لولا توفيقك، وأخطأت لولا هدايتك)).أقول:هذا المعنى ذكره الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في أدعيتهم كما في دعاء الصباح عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إلهي إن لم تبتدئني الرحمة منك بحسن التوفيق، فمن السالك بي إليك في واضح الطريق؟ وإن أسلمتني أناتك لقائد الأمل والمنى فمن المقيل عثراتي من كبوات الهوى؟ وإن خذلني نصرك عند محاربة النفس والشيطان فقد وكلني خذلانك إلى حيث النصب والحرمان).

4-(إنهم لما كانوا في مقام الترقي في الكمالات والصعود على مدارج الترقيات في كل آن من الآنات في معرفة الرب تعالى وما يتبعها من السعادات فإذا نظروا إلى معرفتهم السابقة وعملهم معها اعترفوا بالتقصير وتابوا منه، ويمكن أن ينزل عليه قول النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(وإني لاستغفر الله في كل يوم سبعين مرة)).

أقول:هذا معنى مجرَّب في حياتنا فالعالم أو الباحث الذي ينضجّ علمه ويتعمق ويتسع تدريجياً عندما يراجع ما كتبه وما قدّمه قبل سنين فإنه يخجل منه ويعترف بالتقصير إزاءه وربما يطلب إتلافه وتغييبه مع أنه كان يمثل قدراته في ذلك الوقت وكان مقتنعاً به، إلا أنه لما ترقّى صار يراه موجباً للخجل والاعتذار.

أما كونهم (صلوات الله عليهم أجمعين) في ارتقاء وزيادة حتى بعد وفاتهم فهذا ما نطقت به الروايات لذا ورد الحث على الدعاء لهم بطلب الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود والصلاة عليهم، وورد في ذلك قول الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(لولا أنّا نزداد لأنفدنا)(1).م.

ص: 365


1- أصول الكافي: ج1، كتاب الحجة، باب: لو أن الأئمة يزدادون لنفد ما عندهم.

5-إنهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما كانوا في غاية المعرفة لمعبودهم فكل ما أتوا به من الأعمال بغاية جهدهم ثم نظروا إلى قصورها عن أن يليق بجناب ربهم عدوا طاعاتهم من المعاصي واستغفروا منها كما يستغفر المذنب العاصي.

ومن ذاق من كأس المحبة جرعة شائقة لا يأبى عن قبول تلك الوجوه الرائقة، والعارف المحب الكامل إذا نظر إلى غير محبوبه أو توجه إلى غير مطلوبه يرى نفسه من أعظم الخاطئين، رزقنا الله الوصول إلى درجات المحبين))(1).

وهذا المعنى عرفي أيضاً فإن من حلّ به ضيف عالي الشأن وقدّم له غاية جهده إلا أنه يواصل اعتذاره عن التقصير، لأنه يرى أن ما قدّمه وإن كان كل ما يستطيع تقديمه إلا أنه بلحاظ مقام ذلك الضيف يرى كل ما قدّمه موجباً للخجل والاعتذار.

وجوه أخرى لفهم معنى استغفارهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من الذنوب:

ونضيف وجوهاً أخرى إلى ما ذكره (قدس سره) مع المحافظة على الترتيب:

6-إنهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يستغفرون من الذنوب التي تحسب عليهم بما اجترح أتباعهم، وهذا معنى أخلاقي جرت عليه السيرة العقلائية، فإن المرجع يتحمل أوزار أتباعه إذا أساؤوا، والأب يعتبر نفسه مسؤولاً عما جناه ابنه، والمدير لمؤسسةٍ ما يعتبر نفسه مسؤولاً عن تقصير أحد موظفيه، أو خيانتهم، فيقدم الاعتذار ويتحمّل التبعة وقد يستقيل من موقعه.

ص: 366


1- بحار الأنوار: 25/ 210.

فالمعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) يستغفرون الله تعالى من التبعات التي لحقتهم بسبب سوء تصرفات أتباعهم بل هم آباء لهذه الأمة بنص الحديث النبوي الشريف:(يا علي أنا وأنت أبوا هذه الأمة)(1)، فما يصدر من الأمة يحسب عليهم.ووردت في بعض الروايات كما في تفسير القمي بسنده عن عمر بن يزيد قال:(قلت لأبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قول الله عز وجل في كتابه {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):ما كان له ذنب ولا همَّ بذنب ولكن الله حمّله ذنوب شيعته ثم غفرها له)(2).

لذا وردت الوصايا عن المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لشيعتهم:(كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً)(3).

7-إنهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يعتبرون أنفسهم مذنبين ومقصّرين ما دام يوجد فرد في هذه الدنيا لم يتكامل ولم يحقق العبودية الكاملة في حياته، لأن هذا يعني أنهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لم يحققوا هدفهم ولم تنجح وظيفتهم بشكل كامل وهي بسط التوحيد الخالص في الأرض، فكيف إذا كانت أكثر البشرية ضالة {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف:103).

وهذا النقص في تحقيق الغرض وإن كان بسبب خارج عنهم وهو سوء اختيار المتلقي من الناس وعدم استجابتهم لداعي الحق، أي في قابلية القابل وليس في فاعلية الفاعل كما يعبّرون، إلا أنهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على أي حال يشعرون بالذنب84

ص: 367


1- بحار الأنوار- المجلسي: 36/ 11
2- تفسير القمي: 2/ 290 وأوردها عنه العلامة المجلسي في البحار: 17/ 89 ح19.
3- الأمالي- الشيخ الصدوق: 484

والتقصير وحرقة القلب لعدم اكتمال أهداف رسالتهم، ويطلبون من الله تعالى العفو والصفح.ولذا وردت تطمينات من الله تبارك وتعالى لنبيه وعفو عن مسؤولية هذه النتائج المؤسفة، وتطييب لقلبه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، قال تعالى:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ(1) نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} (الكهف:6) وقال تعالى:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (الشعراء:3).

8-في ضوء الحديث المروي عن أبي جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):لم يُعبد الله عز وجل بشيء أفضل من العقل، ولا يكون المؤمن عاقلاً حتى يجتمع فيه عشر خصال) إلى أن قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(والعاشرة وما العاشرة:لا يرى أحداً إلا قال:هو خير مني وأتقى، إنما الناس رجلان فرجلٌ هو خير منه وأتقى، وآخر هو شر منه وأدنى، فإذا رأى من هو خير منه وأتقى تواضع له ليلحق به، وإذا لقي الذي هو شرٌّ منه وأدنى قال:عسى خير هذا باطن وشره ظاهر، وعسى أن يختم له بخير، فإذا فعل ذلك فقد علا مجده، وساد أهل زمانه)(2).

أقول:عقول المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) هي أكمل العقول فهذا التواضع وهذا الشعور بأنه أقل الخلق أمام الله تعالى في أعلى درجاته عندهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، لأنهم لا ينظرون إلى أنفسهم ولا يتّكلون على أعمالهم مهما عظمت وخلصت ولا يأمنون مكر الله تعالى وهم يتلون خطاب الله لجدهم المصطفى (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سيد7.

ص: 368


1- باخع: أي قاتل.
2- الخصال للشيخ الصدوق (رضوان الله عليه): 2/ 433 أبواب العشرة، ح17.

الخلق:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الزمر:65) ويقول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(لو عصيت لهويت)(1).والحكاية المروية عن كليم الله موسى بن عمران (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إن الله سبحانه أوحى إلى موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):إذا جئت للمناجاة فاصحب معك من تكون خيراً منه، فجعل موسى لا يعترض (يعرض) أحداً إلا وهو لا يجسر (يجتري) أن يقول:إني خير منه، فنزل عن الناس وشرع في أصناف الحيوانات حتى مر بكلب أجرب فقال:أصحب هذا فجعل في عنقه حبلا ثم جرّ به فلما كان في بعض الطريق شمر الكلب من الحبل وأرسله، فلما جاء إلى مناجاة الرب سبحانه قال:يا موسى أين ما أمرتك به؟ قال:يا رب لم أجده فقال الله تعالى:وعزتي وجلالي لو أتيتني بأحد لمحوتك من ديوان النبوة)(2).

9-إن استغفار المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) إنما هو من وجود مقتضيات الذنب والمعصية فيهم فعندهم شهوة جنسية وقوة غضبية وحاجة للطعام ونحو ذلك وإن كانت عندهم الملكة القدسية الرادعة عن توظيفها إلا في طاعة الله تبارك وتعالى، فتعتبر الشهوة الجنسية شراً بمعنى من المعاني، وكذا الغضب لأنها مناشئ الذنوب، ففي الخصال بسنده عن هشام بن الحكم في تفسير عصمة الإمام قال:((إن جميع الذنوب لها أربعة أوجه لا خامس لها:الحرص والحسد والغضب والشهوة فهذه منتفية عنه))(3).6.

ص: 369


1- بحار الأنوار- المجلسي: 22/ 467
2- عدة الداعي لابن فهد الحلي: 204
3- الخصال: 1/ 215 أبواب الأربعة، ح36.

فالأئمة يستغفرون من وجود هذه المقتضيات للذنوب عندهم وإن كانوا بلطف الله تبارك وتعالى لا يستعملونها إلا في ما يرضي الله تبارك وتعالى كما في معاني الأخبار بسنده عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(المعصوم وهو الممتنع بالله من جميع محارم الله وقد قال تبارك وتعالى:{وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (آل عمران:101))(1).10-إن الله تعالى يقول:{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} (إبراهيم:34) فإذا كان الإنسان عاجزاً عن معرفة نعم الله وعدّها فكيف يتسنى له شكرها فهو عن أداء الشكر أعجز وفي ذلك ورد في دعاء للإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ونعماؤك كثيرة قصُر فهمي عن إدراكها فضلاً عن استقصائها، فكيف لي بتحصيل الشكر وشكري إياك يفتقر إلى شكر، فكلما قلت لك الحمد وجبَ عليَّ لذلك أن أقول لك الحمد)(2).

فإذا ضممنا إلى ذلك مقدمة أخرى مأخوذة من وصية الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) المشهورة لهشام بن الحكم وفيها (يا هشام إن كل نعمة عجزت عن شكرها بمنزلة سيئة تؤاخذ بها)(3) ينتج وجه جديد لفهم الذنوب وهو العجز عن أداء شكر النعم، ويكون الشعور بالذنب أكبر كلما كانت النعم أكثر، ولذا يشعر الأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أنهم أكثر الخلق ذنوباً كقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(وما في الورى شخص جنا كجنايتي)2.

ص: 370


1- معاني الأخبار: 132 باب 64، ح2.
2- مفاتيح الجنان: 198 مناجاة الشاكرين.
3- تحف العقول: 383-402.

لأنهم حُبوا بأعظم النعم فقد أعطاهم الله تعالى منزلة يغبطهم عليها الأولون والآخرون وخلق الكون لأجلهم.

ما الذي استفدناه من هذه الإثارات:

أيها الأحبة:حينما نذكر هذه الوجوه التي هي صحيحة وقد يناسب بعضها بعض الموارد وبعضها موارد غيرها، فإنما نريد تحصيل عدة أمور:

1-دفع هذا الإشكال والدفاع عن عقيدتنا في عصمة النبي وأهل البيت (صلوات الله عليهم) التي هي ثابتة بأدلة قطعية تفوق الحصر والاستقصاء، وفهم الآية الكريمة وفق هذه العقيدة.

2-أن نتعرف على طبيعة العلاقة مع الله تبارك وتعالى من خلال التأسّي بما كان يقوم به المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).

أن نستشعر المسؤولية تجاه أفعالنا بل أفعال كل من يمكن أن تُحسب تصرفاته علينا، وتزداد سعة التبعة بسعة دائرة المسؤولية، فلا بد أن نكون مراقبين متابعين محاسبين حازمين والله المستعان.

ص: 371

القبس /148: سورة الفتح:25

اشارة

{وَلَولَارِجَال مُّؤمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤمِنَٰت.....لَعَذَّبنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنهُم عَذَابًا أَلِيمًا}

قال تعالى:{وَلَولَا رِجَال مُّؤمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤمِنَٰت لَّم تَعلَمُوهُم أَن تَطَُٔوهُم فَتُصِيبَكُم مِّنهُم مَّعَرَّةُ ۢ بِغَيرِ عِلم ۖ لِّيُدخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۚ لَو تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنهُم عَذَابًا أَلِيمًا} (الفتح:25).

السياقات التاريخية للآية الكريمة:

الآية من سورة الفتح التي سجّلت الفتح المبين الذي منّ الله تعالى به على نبيه الكريم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعلى المسلمين بصلح الحديبية الذي انقلبت فيه موازين القوى ومعادلة الصراع بين المؤمنين والمشركين حيث كسر الله تعالى شوكة المشركين بقيادة قريش وشتت شملهم واصبحوا يُغزون في عقر دارهم وكانوا قبل عام من ذلك يحشدون عشرة الاف من الاحزاب ويحاصرون المدينة وأهلها، فصاروا يطلبون من النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الصُّلح والرجوع عن مكة ذلك العام، مما مهد الطريق لانتشار الاسلام في جزيرة العرب وفتح مكة، وكل ذلك تحقق بدون قتال، قال تعالى {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} (الفتح:24)، ودع عنك

ص: 372

ذكر بعض اصحاب النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الذين لم يفهموا هذا الفتح المبين فاعترضوا على رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وشككوا في مصداقيته كما ورد في كتب العامة(1).

معنى الآية الكريمة:

وجواب (لولا) في الآية محل البحث غير مذكور ولكنه يعرف من هذه الآية السابقة عليها، أي لولا وجود هؤلاء لما كفّ الله تعالى أيديكم وأيديهم عن القتال الذي كان سينتهي حتماً بانتصار المسلمين كما في الآية السابقة عليهما {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً} (الفتح:22).

فيكون معنى الآية انه لولا وجود رجال مؤمنين ونساء مؤمنات ما زالوا يقيمون بين المشركين يخفون اسلامهم تقية واستضعافاً او لمصالح معينة لكونهم عيوناً للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على المشركين وانتم لا تعرفونهم، لأوقع الله تعالى القتال بينكم وبين قريش وقد اقتحمتم عليهم ديارهم والنصرُ لكم، لكن الله تعالى كفّ أيديكم وأيديهم عن القتال، حمايةً لكم ولأولئك المؤمنين، لأنكم بسبب جهلكم بهم فيخشى عليكم من إصابتهم بقتل أو جرح فتصيبكم بسبب ذلك (معرّة) أي ضرر وعار في الدنيا أو الآخرة، لأن المشركين سيعيرّون المسلمين ويقولون أن هؤلاء مجرمون قساة لم يرحموا حتى جماعتهم المؤمنين، وسيقولون أيضاً أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يراعي حرمة بيت الله الآمن فقاتل على أرض الحرم.

ولو تزَّيل هؤلاء المؤمنون أي انفصلوا وتباينوا عن مجتمع المشركين لوقع

ص: 373


1- أنظر: جامع البيان- إبن جرير الطبري/ 26/ 138/ح24461,- تفسير القمي: 2/ 315

العقاب على الكافرين خاصة {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا} من دون محذور، كما ان الفريقين متزايلون يوم القيامة فيحل العذاب بالكافرين.والغرض الاخر الذي لوحظ في تجنب القتال وكفّ الايدي عنه هو قوله تعالى {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} (الفتح :25) اي لإعطاء مزيد من الوقت والفرصة حتى يخرج المؤمنون من وسط قريش ويأووا الى كهف رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الرحيم، او حتى يهتدي من يشاء الله من هؤلاء المشركين والمعاندين، وهؤلاء لا تعرفون عنهم شيئا اكيدا، فلو تزيل هؤلاء اي تحقق الغرض بهداية من يُريد الله تعالى هدايته وانفصالهم عن المشركين لعذبنا الذين كفروا فالكفّ عن القتال يحقق مصلحتين:

1-دفع الخطر عن المؤمنين غير المعروفين ودفع المعّرة عن المسلمين.

2-اعطاء الفرصة لهداية المزيد من الاعداء للإيمان.

من معاني الرحمة في الآية:

وهذه الرحمة لا تختص بالقوم الموجودين في ذلك الزمان، بل يشمل من سيأتون لاحقا كما ورد عن أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في عدة روايات(1)، وفي إحداها قال الراوي للإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):ما بال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لم يقاتل فلاناً وفلانا؟ قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لأيةٍ في كتاب الله عز وجل {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} (الفتح:25) قال:قلت:وما يعني بتزايلهم؟ قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين، وكذلك القائم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لن يظهر أبدا حتى

ص: 374


1- ذكرها في تفسير البرهان: 9/ 71.

تخرج ودائع الله عز وجل, فإذا خرجت ظهر على من ظهر من أعداء الله عز وجل فقتلهم)(1).

سنة الله في عباده:

وهذه سنة الهية ثبّتها القرآن الكريم في قصة النبي نوح (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، لذلك فإنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لم يستنزل العذاب على قومه إلا بعد أن حصل عنده اليأس من ولادة شخص مؤمن، قال تعالى {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً، إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّارا} (نوح:26-27) ولكن العذاب لم ينزل إلا عندما أخبره الله تعالى بهذه الحقيقة وعندئذٍ أيقن النبي نوح (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بنزول العذاب، قال تعالى {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ، وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} (هود:36-37).

دروس من الآية:

والآن بعد أن فهمنا أكثر من وجه لتفسير الآية نستطيع استنباط عدة دروس من الآية:

1-ان الغرض الذي يجب أن يكون ماثلاً دائماً أمام كل القادة والعاملين في السلم وفي الحرب وفي كل عمل هو إدخال الناس في الرحمة الإلهية {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ} لأن الغرض من الخلق رحمتهم {إِلاَّ مَن

ص: 375


1- عن كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق:641.

رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود:119) فالرحمة المُشار اليها في الآية يمكن أن يكون المقصود بتحصيلها المؤمنين المستضعفين المتخفين بإيمانهم، أو المؤمنين الموجودين في أصلاب المشركين ولو بعد عدة أجيال، أو لنفس المشركين بأن يُوفقوا للإيمان، وقوله تعالى (من يشاء) ليس اعتباطياً وإنما مبني على أهلية الشخص وقابليته وحسن اختياره، لأن الله تعالى حكيم والحكيم يضع الاشياء في مواضعها.فليست الحرب في الاسلام لتوسيع النفوذ وبسط السلطة وجني المزيد من المكاسب والمغانم وإنما لشمول الناس بالنفحات الالهية فإذا تحقق ذلك بالسلم والكفّ عن القتال فقد تحقق الغرض ولا معنى للحرب، فليفهم المعترضون على تشريع الاسلام للقتال.

2-إن الآية تعطينا تفسيراً لصبر أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على الظلم الذي لحق به وبالصديقة الزهراء (س) بعد وفاة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعجز الكثيرون عن فهم موقفه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لذا بادروا الى إنكار أصل الموضوع مع تسليم المصادر بوقوعه، لكن أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كان يعلم بما علّمه الله تعالى من أن في أصلاب هؤلاء من يكونون موالين عاجلاً أو آجلاً ولو قتلهم فأنه سيقطع نسلهم ويحرم اولئك من الكمال.

3-وتعرّفنا أيضاً على سرّ من أسرار طول غيبة الامام المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو استفراغ الوسّع في إخراج المؤمنين من أصلاب الكافرين والمنافقين وتوفر فرصة الهداية لكل البشر كما ان النبي نوح (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لبث طويلاً في قومه {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} (العنكبوت:14) للوصول الى هذه النتيجة فلا نستغرب من طول

ص: 376

غيبة الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) - وان ضاقت صدور المؤمنين بذلك- لإنه مُدّخر لإقامة دولة العدل الالهي، واذا كان النبي المعصوم المزوّد بالعلم اللدنّي يعجز عن معرفة هذا الوقت فيظن انهم لا يلدون الا فاجراً كفار فكيف يعرفه الجهلة، وفي هذا جواب للمشككين والمتسائلين.4-ان الله تعالى يدفع بالمؤمنين عن غيرهم {وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ.... لَعَذَّبْنَا} وفي رواية عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إن الله يدفع بمن يصلي من شيعتنا عمن لا يصلي من شيعتنا، ولو اجتمعوا على ترك الصلاة لهلكوا. وإن الله ليدفع بمن يزكي من شيعتنا عمن لا يزكي من شيعتنا، ولو اجتمعوا على ترك الزكاة لهلكوا. وإن الله ليدفع بمن يحج من شيعتنا عمن لا يحج، ولو اجتمعوا على ترك الحج لهلكوا وهو قول الله عز وجل:{وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ}(1).

وقد قلت في الخطاب الفاطمي في نيسان من العام الماضي ان تخاذل الكثيرين عن نصرة القانون الجعفري ومعارضة البعض الآخر حتى أجهضوه كانت سبباً في التقدير الإلهي لنزول بلاء عام لولا نصرة البعض للقانون وحماسهم للدفاع عن إقراره وتثقيف الأمة على المطالبة به، وبعد شهرين من ذلك نزلت بلاءات لم نكن نعهدها من سقوط عدة محافظات بيد داعش وتهجير الملايين وتدمير المدن وأخذ النساء سبايا ووقوع مذابح بالآلاف جملة واحدة وكادت تسقط بعض المدن المقدسة لولا أن الله تعالى رفع جزءاً من البلاء ببركة تلك النصرة، فأقرأوا5.

ص: 377


1- البرهان :2/ 145 نقلاً عن تفسير العياشي 446.1/ 135.

جيداً السنن الإلهية وتأثيرها في الحياة لئلا تتكرر الاخطاء والخطايا الكارثية.ولا زالت الفرصة موجودة لانهم قرّروا في حينها تشكيل لجنة علمائية للنظر في القانون وآلية اقراره وقد مرّت مدة كافية لإنجاز هذا الامر والله المستعان.

5-إن الكف عن القتال كان رعاية لجمع من المؤمنين أن يصيبهم ضرر جهلاً بغير علم {لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ} وهذا يكشف حكمة المرجعية الرشيدة في توقفها عن الاذن بالتشكيلات الشعبية المسلحة إلا في ساحات المواجهة والدفاع عن الدين والنفس والعرض والمال، واشترطت أن يكون العمل العسكري منضبطا ومحدودا بإشراف قيادات مهنية وكفوءة ومخلصة ونزيهة وأن ينالَ المتطوعون تثقيفاً كاملاً حول واجباتهم الدينية والوطنية وتدريباً جيداً وتسليحاً يناسب المعارك التي يدخلونها، أما اطلاق الدعوة للناس عامة من دون وضع التدابير والخطط لتحقيق هذه الشروط وتنظيم العمل والسيطرة عليه، فأنه تقع هذه المحاذير التي ذكرتها الآية الشريفة، حيث تتناول وسائل الاعلام هذه الايام وقبلها اخباراً عن وقوع انتهاكات وجرائم بحق الابرياء من قبل المندسين والجهلة والمتعصبين والنزقين الذين لم يتعرفوا على أداب وأخلاق العمل العسكري وأهدافه وقوانينه الشرعية والمهنية، فالجهد الشعبي غير المنظم يلزم منه الوقوع في هذه الكوارث، فكيف وهم لا يعلمون ولا يميزون المسلمين الابرياء (لم تعلموهم)(بغير علم).

6-عدم اليأس من صلاح الناس وهدايتهم مهما رتعوا في الكفر والشرك فمن الممكن شمولهم بالرحمة الالهية فقد دخل المشركون بعد ذلك في الاسلام طوعاً أو طمعاً أو لأي سبب آخر، وعلى العاملين أن يستمروا في محاولاتهم فأن

ص: 378

كل شيء ممكن عند الله تعالى {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِر} (الغاشية:21-22) وان الاسلام قادر على استيعاب حتى اعتى الناس واكثرهم همجية ووحشية كالمغول الذين اكتسحوا العالم الاسلامي وأوغلوا فيه قتلاً وتدميراً، وما اسرع ما دخلوا في الاسلام واصبحوا جزءاً من المجتمع المسلم وآمن كثير منهم بولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).وقد وجهّت في عدد من لقاءاتي مع المسؤولين بأن يكون من اولوياتنا في مواجهة داعش والقاعدة والتنظيمات الارهابية الأخرى هدايتهم وإقناعهم وإلقاء الحجج عليهم وإزالة الشبهات والأوهام عن اذهانهم والغشاوة عن بصائرهم لان أكثرهم مضلّلون تعرضوا لغسيل الدماغ وقد تناقلت وسائل الاعلام خلال المدة الماضية رجوع كثير منهم الى بلدانهم والتبرّي من داعش والقاعدة بعد ان اطّلعوا على التصرفات المشينة والوحشية لقياداتهم والتقطت عدة رسائل نصية وبريدية لمقاتلين اجانب في العراق وسوريا تبيّن شعورهم بانهم قد خُدِعوا واتخذهم الذين جنّدوهم كبش فداء لاغراضهم الشيطانية.

فيمكن الاستفادة من مواقع التواصل الاجتماعي للحوار معهم وسلوك الطرق الممكنة للوصول الى عقولهم وقلوبهم وفضح الاجندات المعدّة له، كما فعل امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مع أسلافهم من الخوارج عندما حاججهم وناظرهم قبل خوض معركة أمير المؤمنين فتاب ثلثا عددهم (ستة الاف من تسعة)(1) وتركوا عقيدتهم وهو إنجاز عظيم، والشواهد الحاضرة كثيرة أيضاً حيث أن كثيراً من76

ص: 379


1- الاحتجاج- الشيخ الطبرسي: 1/ 276

الوهابيين والسلفيين استبصروا بعد الاطلاع على حجج وبراهين أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) عندما تلقى اليهم بالحكمة والموعظة الحسنة من دون استفزاز في بعض البرامج والحوارات الرصينة التي تعرضها الفضائيات فلا نقلل من اهمية هذا التوجه ولنباشر به جميعاً، ولنعطه الجهد الذي يستحقه.

ص: 380

القبس /149: سورة الفتح:26

اشارة

{إِذ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ٱلجَٰهِلِيَّةِ}

موضوع القبس:السياسة النبوية المباركة في مكافحة داء التعصب

تقع الآية في سياق الحديث عمّا وقع من أحداث انتهت إلى توقيع صلح الحديبية بين النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقريش حيث عزم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومعه أصحابه على أداء العمرة وزيارة البيت الحرام في السنة السادسة للهجرة بعد واقعة الأحزاب وحين شارفوا على مكة محرمين ملبّين من غير سلاح منعتهم قريش من دخولها ومن الهدي أن يبلغ محله أنفةً واستكباراً وعتواً إذ إن البيت الحرام آمن للجميع وليس من حق قريش منع أحد يقصده لكنهم أنفوا أن يدخل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مكة وزعموا أن في هذا إهانة لهم امام العرب فصدّوا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) واصحابه عن أداء نسكهم وانتهت العملية بصلح الحديبية ورجوع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على أن يؤدي العمرة في السنة الآتية(1).

فالآية الكريمة تصف بعض أحوال مشركي قريش في مواجهتهم مع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وتشخص داءاً اجتماعياً فتاكاً يؤدي بصاحبه إلى الصدود عن الحق والابتعاد عن التفكير العقلائي ومنطق الحكمة وهو التعصب وحمية الجاهلية،

ص: 381


1- أنظر: مجمع البيان- الشيخ الطبرسي: 9/ 210,- تفسير القرطبي: 16/ 288

حيث يصرّ المبتلى به على موقفه ورأيه ومعتقده ولا يريد أن يصغي إلى الآخر ولا يعطي لعقله الفرصة حتى يتعرف على ما هو الحق ليتبعه، وهو داء كان ولا يزال يفتك بالأمم ويمزِّقها وينهي وجودها فلابد من الاستفادة من هذا الدرس القرآني لمعالجة هذا المرض الاجتماعي الخطير.{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا} فهم باختيارهم أوجدوا في قلوبهم عصبية الجاهلية وصيّروا الغضب المودع في نفوسهم وقلوبهم لنصرة الحق والدفاع عن المقدسات والمبادئ النبيلة، غضباً جاهلياً فحرموا أنفسهم من رؤية الحق وإتباعه.

والحمية هي الغضب اذا اشتد وازداد حتى تشتعل حماوته في القلب، اما الجاهلية فهي من الجهل، والمعروف في ثقافتنا العامة ان الجهل مقابل العلم فيطلق على حالة عدم العلم، لكنه في المصطلح القرآني يراد به ما يخالف الحكمة، ووضع الشيء في غير موضعه، وفعل الشيء على خلاف ما يستحقه سواء على صعيد العلم أو العمل وبه صرحت الآية الكريمة {يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} {آل عمران:154} فجعل الجهل ما يقابل الحق، أما جعله في ثقافتنا مقابل العلم فباعتبار أن عدم العلم هو سبب الوقوع في ما يخالف الحكمة والحق.

واستقراء الآيات الكريمة يؤكّد هذا المعنى وهو ان الجاهلية حالة وأوضاع تعيشها الأمة عندما تبتعد عن المنهج الإلهي في العقائد والتشريعات والسلوك ولا تختص بزمن معين، لاحظوا الآيات التالية التي ورد فيها لفظ الجاهلية، والمجالات العديدة التي تتناولها:

ص: 382

1- {يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} (آل عمران:154) وهي تشير إلى جاهلية الاعتقادات والتصورات حينما لا يعتقد الانسان بالخالق أو لا يعرف صفاته سبحانه، أو يتعلق بالمؤثرات والأسباب دونه سبحانه أو يجعل له شركاء في التدبير، أو يراقب غيره في الملأ أكثر مما يراقبه تعالى في الخلوة، ونحو ذلك، فهذه كلها اعتقادات وظنون جاهلية.

2- {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة:50) وهي جاهلية التشريعات ووضع القوانين وفق ما تمليه اهواء الناس ومصالحهم وما تقتضيه ظنونهم وأنظارهم القاصرة من دون مراعاة الشريعة الإلهية، وقد وضع الأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) حداً فاصلاً وحازماً في ذلك، روى الشيخ الكليني بسند صحيح عن أبي بصير عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(الحكم حكمان:حكم الله وحكم الجاهلية، وقد قال الله عزوجل:{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} وأشهدوا على زيد بن ثابت لقد حكم في الفرائض بحكم الجاهلية)(1).

3- {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (الأحزاب:33) وهي جاهلية السلوك المنحرف عن تعاليم الشريعة والمخالف لما يريده الله تبارك وتعالى وقد فاقت جاهلية اليوم التصور في الانحلال والفساد والرجوع إلى أسوء حالات التخلف والحيوانية، وزادت على الجاهليات السابقة فكيف نحصر الجاهلية بزمان قبل الإسلام؟1.

ص: 383


1- الكافي: 7/ 407/ح1.

4- {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} (الفتح:26) وهي جاهلية الفكر والثقافة والنزعات النفسية وسائر الدوافع التي تحرك الانسان في حياته ويبني عليها سلوكه وتصرفاته ويبرمج عليها سائر شؤونه.

لذا قلنا في كتاب (شكوى القرآن)(1) وغيره ان الوقوف على المعنى المدرسي المتداول للجاهلية والذي يراد به الفترة الزمنية التي سبقت الإسلام خاصة ليس دقيقاً ولا يطابق المصطلح القرآني، ونعتبره افراغاً لهذا المصطلح المهم من معناه الذي تترتب عليه آثار عظيمة ومسؤوليات كبيرة على مستوى إصلاح الفرد والمجتمع، وربما يكون عذرهم أنه تقسيم فني للفترات الزمنية، لكنه قد يكون فعلاً متعمداً لخلق شعور لدى الأمة الإسلامية بالاسترخاء والراحة والدعة باعتبارهم قد أدّوا ما عليهم وأصبح الناس مسلمين والمجتمع إسلامياً وما يستلزم ذلك من التخلي عن مسؤولية الدعوة إلى الله تبارك وتعالى ووعي تفاصيل ما جاء به النبي محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والالتزام بالشريعة على مستوى الفرد والمجتمع، وما يستلزم أيضاً من انتهاء وظيفة القرآن بإخراج الناس من الظلمات إلى النور، بينما الجاهلية بأشكالها المتعددة مستمرة ومسؤوليتنا في هداية الناس ورجوعهم الى الله تعالى متواصلة حتى يأذن الله تعالى بتطهير الأرض من الظلم والفساد والانحراف وإقامة دولة الحق والعدل.

وعلى أي حال، فان الآية محل كلامنا تتناول الشكل الرابع من مظاهر الجاهلية التي كانت تتحكم في المعسكر المقابل للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقد كانت قريش83

ص: 384


1- أنظر: ملحق (شكوى القران), من نور القرآن: 3/ 283

مصابة بمرض الانانية والتكبّر والعناد والتعنت والرياء والبطر وكان التعصب يقودهم ويذكي في قلوبهم تلك الأمراض فتتحول إلى نيران تغلي في صدورهم ثم يصير غضبهم حمماً من الكراهية والعنف والحقد والحسد والانتقام مما يزيد في ولوغهم في الجريمة والانحطاط والضلال، ويصرّون على عبادة أصنام يصنعونها بأيديهم من الخشب والحجارة ثم يعبدونها من دون الله تعالى العظيم خالق السماوات والأرض، فأي حمية وعصبية اسوأ من هذه؟بينما الفريق المقابل لهم وهم المؤمنون يتمتعون بالسكينة والاطمئنان والحكمة وحب الخير للجميع {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى - أي جعلها ملازمة لهم- وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا - لأنهم يستحقونها وهم حملتها من دون الناس- وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} (الفتح:26) فقد سلّموا لأمر الله تعالى ورسوله ورجعوا عن زيارة البيت الحرام وخالفوا هواهم ورغبتهم في دخول مكة ولو عنوة.

ذم التعصب:

وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن التعصب لغير الحق، منها ما روي في الكافي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(من تعصّب أو تُعصِّب له فقد خلع رِبَق(1) الايمان من عنقه)(2) فالمتعصَّب له شريك في الذم لأنه رضي بفعلهم ولم ينههم

ص: 385


1- رِبَق جمع رِبقة وهي: كل ما يشدُّه إلى الايمان ويمسكه بها من عقائد واحكام وأخلاق. والرِبقة في الأصل عروة في حبل تجعل في عنق البهيمة أو يدة تمسكها.
2- الكافي: 2/ 308/ح2.

عنها بل هيّأ الأجواء لها وزيّنها لهم، وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(من كان في قلبه حبّةُ من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع اعراب الجاهلية)(1).وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية)(2).

وقال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في بعض خطبه:(فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ وَأَحْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّمَا تِلْكَ الْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ وَنَخَوَاتِهِ وَنَزَغَاتِهِ وَنَفَثَاتِهِ) وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فيها:(فَاللَّهَ اللَّهَ فِي كِبْرِ الْحَمِيَّةِ وَفَخْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مَلَاقِحُ الشَّنَئَانِ - أي البغض- وَمَنَافِخُ الشَّيْطَانِ الَّتِي خَدَعَ بِهَا الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ وَالْقُرُونَ الْخَالِيَةَ حَتَّى أَعْنَقُوا فِي حَنَادِسِ جَهَالَتِهِ وَمَهَاوِي ضَلَالَتِهِ)(3).

ما هو التعصب:

التعصب يعني الانحياز للانتماء الشخصي أو الفئوي والتشدد في الدفاع عنه بغضّ النظر عن كون موقفه حقاً أو لا، فالمقياس عنده نصرة جهته وليس نصرة الحق ولو ظهر له الحق بالبرهان والدليل فانه يصرّ على ما هو عليه من معتقد أو موقف.

ص: 386


1- الكافي: 2/ 308/ح3.
2- سنن أبي داود: 4/ 332/ح5121.
3- نهج البلاغة: الخطبة192.

روي ان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سئل عن العصبية فقال:(أن تعين قومك على الظلم)(1) وأجاب الامام زين العابدين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قومٍ آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم)(2).وروى في البحار عن كتاب الزهد للحسين بن سعيد بسند صحيح عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لما كان فتح يوم مكة قام رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في الناس خطيباً فحمد الله واثنى عليه ثم قال:ايها الناس ليبلغ الشاهد الغائب ان الله تبارك وتعالى قد اذهب عنكم بالإسلام نخوة الجاهلية والتفاخر بآبائها وعشائرها ايها الناس انكم من آدم وآدم من طين ألا وان خيركم عند الله واكرمكم عليه اليوم اتقاكم واطوعكم له ألا وان العربية ليست بأب والد ولكنها لسان ناطق فمن طعن بينكم وعلم انه يبلغه رضوان الله حسبه الا وان كل دم أو مظلمة أو احنة كانت في الجاهلية فهي تظل تحت قدمي الى يوم القيامة)(3).

وقد تنوعت وتشعبت العناوين التي يتعصب لها الناس فالعصبية يمكن أن تكون للأنا أو للعشيرة أو للحزب أو للقومية أو المصالح المادية أو اللون أو للمدينة أو للدولة أو للفريق الرياضي أو لشخص يهواه وقد يكون التعصب لأمور تافهة، وأشدها خطورة وأكثرها قسوة التعصب المغلّف بالعناوين المقدسة التي يراد منها سوق الناس لأغراض دنيوية كالحروب الصليبية أو الفتن الطائفية التي0.

ص: 387


1- سنن أب داود: 4/ 331/ح5119.
2- الكافي: 2/ 308/ح7.
3- بحار الأنوار: 73/ 292/ح24, عن كتاب الزهد: 56/ح150.

تقع بين اتباع المذاهب داخل الدين الواحد ويذكر التاريخ الكثير من هذه الحروب والفتن الدامية، ومكمن خطورة هذا التعصب من جهة قوة تأثير الدين والمذهب على سلوك الانسان وتوجيهه، ومن جهة ان القداسة الدينية التي يغلّفون بها مأربهم الدنيوية تسدُّ على الناس منافذ التفكير العقلائي وتغيِّب منطق الحكمة خصوصاً اذا احاطوها بضجيج من التحشيد بكل الأدوات.والتعصب من المهلكات التي تزّل فيها الأقدام وتكمن خطورته في انه يعمي صاحبه عن رؤية الحق ويفقده البصيرة فلا يقبل برأي الآخر وليس عنده الاستعداد لسماعه والتأمل فيه لأنه يعتقد أنه هو وحده صاحب الحق وانه وحده يمتلك الحقيقة وان غيره على باطل وضلال، مضافاً إلى أنه يؤجج في قلبه نيران الحقد والانتقام فيسير إلى شفاء غليله على غير هدى ويتخبط ويرتكب أفعال المجانين، روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(الحِدّةُ ضرب من الجنون لأن صاحبها يندم، فإن لم يندم فجنونه مستحكم)(1) وعن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إن هذا الغضب جمرة من الشيطان تتوقد في قلب ابن آدم، وإن أحدكم اذا غضب احمرّت عيناه وانتفخت أوداجه ودخل الشيطان فيه)(2).

تاريخ التعصب وما يتعصب له:

والعصبية متجذرة في بني آدم منذ أول الخلقة وكانت سبباً لهلاك ابليس وخروجه عن طاعة الله تعالى {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}

ص: 388


1- نهج البلاغة: الحكمة255.
2- بحار الأنوار: 73/ 267/ح21.

(الأعراف:12) {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} (الإسراء:61) قد أتخذها ابليس فخاً لإفساد الناس بعد أن تورط بها، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):في ذم ابليس (فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ وَتَعَصَّبَ عَلَيْهِ لِأَصْلِهِ فَعَدُوُّ اللَّهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ وَسَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ وَنَازَعَ اللَّهَ رِدَاءَ الْجَبْرِيَّةِ وَادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ وَخَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ..)(1).وابتلي بها الناس من بعد ذلك، حتى في عصر النبوة والوحي والنور ترى العصبية الجاهلية تحرك بعض الناس كالتي حصلت بين الأوس والخزرج(2) حتى5.

ص: 389


1- نهج البلاغة: الخطبة192, وهي خطبة جليلة مطوّلة في ذم العصبية والتحذير منها وبيان علاجها.
2- حكى العلامة المجلسي في بحار الأنوار: 9/ 72 عن العلامة الشيخ الطبرسي (رحمه الله) في مجمع البيان في قوله تعالى: {لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} (آل عمران:99) قيل أنهم - أي اليهود- كانوا يغرون بين الأوس والخزرج يذكرونهم الحروب التي كانت بينهم في الجاهلية حتى تدخلهم الحمية والعصبية فينسلخوا عن الدين. وروى بعض مفسري العامة في سبب نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} (آل عمران:100) (انها نزلت في شاس بن قيس وهو يهودي أراد تجديد الفتنة بين الأوس والخزرج بعد انقطاعها بالنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فجلس بينهم وأنشدهم شعراً قاله أحد الحيين في حربهم. فقال الحي الآخر: قد قال شاعرنا في يوم كذا وكذا، فكأنهم دخلهم من ذلك شئ، فقالوا: تعالوا نرد الحرب جذعاء كما كانت. فنادى هؤلاء: يا آل أوس. ونادى هؤلاء. يا آل خزرج، فاجتمعوا وأخذوا السلاح واصطفوا للقتال فنزلت هذه الآية، فجاء النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى وقف بين الصفين فقرأها ورفع صوته، فلما سمعوا صوته انصتوا له وجعلوا يستمعون، فلما فرغ ألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا وجعلوا يبكون، عن عكرمة وابن زيد وابن عباس. والذي فعل ذلك شاس بن قيس اليهودي، دس على الأوس والخزرج من يذكرهم ما كان بينهم من الحروب، وأن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أتاهم وذكرهم، فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سامعين مطيعين، فأنزل الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا} يعنى الأوس والخزرج. {إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب} يعنى شاسا وأصحابه. {يردوكم بعد إيمانكم كافرين} قال جابر بن عبد الله: ما كان طالع أكره إلينا من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فأومأ إلينا بيده فكففنا وأصلح الله تعالى ما بيننا، فما كان شخص أحب إلينا من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فما رأيت يوما أقبح ولا أوحش أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم). تفسير القرطبي: 4/ 155.

تواعدوا القتال على طريقتهم في الجاهلية لو لا ان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بادر بسرعة واطفأ نار الفتنة.وكذا الفتنة التي كادت تشتعل بسبب العصبية بين المهاجرين والأنصار وهي التي أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى:{يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (المنافقون:8) روى البخاري بسنده عن جابر بن عبدالله قال:(كنا في غزاة فكسع - أي ضرب دبره بيده- رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فقال الأنصاري يا للأنصار وقال المهاجري يا للمهاجرين فسمّعها الله ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال:ما هذا، فقالوا يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فقال الأنصاري:يا للأنصار وقال المهاجري يا للمهاجرين، فقال النبي

ص: 390

(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):دعوها فإنها منتنة)(1) فسمع بذلك عبد الله بن أبي فقال:فعلوها أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.وفي تفسير علي بن إبراهيم(رحمه الله) ان الحادثة وقعت والنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) خارج في غزوة المريسيع فأسرع (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في رجوعه إلى المدينة وواصل سيره ليلاً ونهاراً(2) ليصل المدينة قبل وقوع المحذور.

وكان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حازماً في مواجهة العصبية ولو بأبسط اشكالها.

روى في تفسير القمي أن قوله تعالى:{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} (الحجرات:17) ((نزلت في عثكن - كناية عن عثمان وصرحت بذلك روايات أخرى- يوم الخندق وذلك أنه مر بعمار بن ياسر وهو يحفر الخندق وقد ارتفع الغبار من الحفر فوضع كمه على أنفه ومر، فأنشد عمار الرجز المروي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):

لا يستوي من يعمر المساجدا *** يظلّ فيها راكعاً وساجدا

كمن يمرّ بالغبار حائداً *** يعرض عنه جاحداً معاندا

فالتفت إليه عثكن فقال:يا بن السوداء إياي تعنى، ثم اتى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال له لم ندخل معك لتسب أعراضنا، فقال له رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قد أقلتك إسلامك فاذهب فأنزل الله {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ3.

ص: 391


1- صحيح البخاري: ح4907/ كتاب تفسير القرآن.
2- تفسير القمي: 2/ 368/ البرهان: 9/ 302/ح3.

إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}))(1).وروى الثمالي عن الإمامين الباقر والصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إن أبا ذر عيّر رجلاً على عهد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأمه فقال له:يا ابن السوداء، وكانت أمه سوداء، فقال له رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):تعيره بأمه يا أبا ذر؟ قال:فلم يزل أبو ذر يمرغ وجهه في التراب ورأسه حتى رضي رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عنه)(2).

وهكذا كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حازماً في مواجهة التعصب ومحاولات التفرقة وإلقاء الفتنة، كما كان مهتماً بنشر قيم الوحدة والتألف والمودّة وله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مشاريع عملية في تعزيز هذه القيم الإنسانية النبيلة، انتهت بالمجتمع المسلم الى أن يصفه الله تبارك وتعالى:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(3) (الحشر:9).

لقد حكى القرآن الكريم نماذج من التعصب كتعصب فرعون لأصله واستعلائه على بني إسرائيل {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (القصص:4)، وكتعصب بني إسرائيل وشعورهم بالأفضلية علىة.

ص: 392


1- بحار الأنوار:9/ 238 ح 136 عن تفسير القمي:2/ 297 - 298
2- بحار الأنوار:22 /481 ح28 عن كتاب الزهد للحسين بن سعيد:78 ب 5 ح 109
3- راجع بعض قصص الايثار في ظل السياسة النبوية المباركة في أسباب نزول هذه الآية في تفسير البرهان: 9/ 268 وفي تفاسير العامة.

سائر الناس وأنهم شعب الله المختار، وتعصب اليهود والنصارى لديانتهم {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة:111) {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} (المائدة:18) {قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} (آل عمران:75) وتعصب العرب لقوميتهم {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ 198 فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} (الشعراء:199) أو التعصب للمال والولد {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَ-ؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا} (الأنعام:53) {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} (الكهف:34) {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ 52 فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ} (الزخرف:53).وتعصب الرجال لجنسهم مما دفعهم إلى اضطهاد المرأة وحرمانها من حقوقها حتى حق الحياة فكانوا يقتلون المولودة الأنثى {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ 8 بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} (التكوير:9) {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} (النحل:58).

وتعصب بعض العشائر والقبائل لنفسها والافتخار على غيرها وانها افضل من الآخرين فلا تزوِّج بناتها لغيرهم لكنهم يتزوجون من غيرهم ويسمون أنفسهم (الحُمس) وقد انتقلت هذه العادة الجاهلية إلى بعض المنتمين نسبياً إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

ص: 393

ويكشف أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن ألمه لتفشي داء التعصب في الأمة بلا رويّة ولا حكمة ولا سبب وجيه يقول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في ذلك (ولقد نظرت فما وجدت أحدا من العالمين يتعصب لشيء من الأشياء إلا عن علة تحتمل تمويه الجهلاء، أو حجة تليط بعقول السفهاء، غيركم، فإنكم تتعصبون لأمر ما يعرف له سبب ولا علة، أما إبليس فتعصب على آدم لأصله، وطعن عليه في خلقته، فقال:أنا ناري وأنت طيني، وأما الأغنياء من مترفة الأمم فتعصبوا لآثار مواقع النعم، فقالوا:نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين)(1).

علاج التعصب:

الخطوة الأولى:إن علاج التعصب يبدأ من رفع مستوى الوعي والفكر والثقافة لدى الأمة وإدراك أن التنوع في الجنس واللون والعرق واللغة، وحالة الاختلاف والتعدد في الآراء والأفكار والتوجهات حالة طبيعية اقتضتها طبيعة الناس وإنها من السنن الجارية في الناس ولا يدل شيء منها على أفضلية أحد على أحد وإنما التفاضل بالتقوى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات:13) وقال تعالى:{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} (هود:118)، حتى الاختلاف في الهداية والضلال فأنها طبيعية اقتضتها حرية الاختيار للإنسان {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة:256) ولو أراد الله تعالى أن يكون

ص: 394


1- نهج البلاغة: الخطبة192.

كل البشر مهتدين إلى دينه لما أعجزه ذلك {وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} (الأنعام:35) {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَ-كِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم} (المائدة:48).والخطوة الثانية:في العلاج هو الحوار والاستماع إلى الآخر والانفتاح عليه وافتراض ان كل الاحتمالات مفتوحة وان كل النتائج ممكنة والاتفاق على مبادئ يبنى عليها الحوار {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا} (آل عمران:64) {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (سبأ:24) وتمثل ارقى مراتب التواضع العلمي والحوار المنفتح فيجعل نفسه - مع انه الحق المطلق- مع الآخر في خط شروع واحد في بداية الحوار فلا توجد بيننا أفضلية أو شروط مسبقة.

والخطوة الثالثة:تربية النفس والمجتمع على مبادئ الإنسانية العليا كالتسامح والعفو والرحمة والتعاون والعدالة والانصاف {وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ} (هود:85) {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة:8), وتعزيز القيم التي توحِّد الناس وتجمعهم كالمواطنة التي تؤسس لمساواة أبناء الوطن الواحد في الحقوق والواجبات من دون تميز قومية أو ديانة أو عشيرة أو مدينة ونحو ذلك.

ونبذ الثقافة الهدامة التي تدعو إلى التعصب والتكفير والحقد والكراهية والاستعلاء والاستبداد والاستئثار والتحذير من مثيري الفتن الذين يجترون بعض

ص: 395

خلافات الماضي ويريدون جرّ الأمة إلى الوراء ولا يريدون لها ان تعيش حاضرها ومستقبلها.

التعصب المحمود:

إن الحميّة تكون محمودة اذا كانت لنصرة الدين والأخلاق الفاضلة والدفاع عن الحرمات والنصرة المستندة إلى الحجة والبرهان والدليل وليس إلى الاهواء والمطامع والانتماء إلى الحزب أو العشيرة أو البلد ونحو ذلك، روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن كنتم لا محالة متعصبين فتعصبوا لنصرة الحق وإغاثة الملهوف)(1)، وقال موبخاً المتخاذلين ومحرضاً لهم {مُنِيتُ بِمَنْ لَا يُطِيعُ إِذَا أَمَرْتُ وَلَا يُجِيبُ إِذَا دَعَوْتُ لَا أَبَا لَكُمْ مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِكُمْ رَبَّكُمْ أَ مَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ وَلَا حَمِيَّةَ تُحْمِشُكُمْ}(2) - أي تثير غضبكم- .

وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(فإن كان لابد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد الأفعال، ومحاسن الأمور، التي تفاضلت فيها المجداء النجداء من بيوتات العرب، ويعاسيب القبائل، بالأخلاق الرغيبة، والأحلام العظيمة، والأخطار الجليلة، والآثار المحمودة. فتعصبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار. والوفاء بالذمام، والطاعة للبر، والمعصية للكبر، والأخذ بالفضل، والكف عن البغي،

ص: 396


1- غرر الحكم: 3738.
2- نهج البلاغة: الخطبة39.

والإعظام للقتل، والإنصاف للخلق، والكظم للغيظ، واجتناب الفساد في الأرض)(1).وهذه الحمية والغضب للحق تكون سبباً للتوفيق ودافعاً لفعل الطاعات، روي عن الامام زين العابدين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال:(لم يدخل الجنة حمية غير حمية حمزة بن عبدالمطلب - وذلك حين أسلم- غضباً للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حديث السِّلا الذي القي على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ))(2).

إن من الخطوات المهمة على طريق التمهيد لدولة الحق والعدل تنقية المجتمع من رواسب الجاهلية ومنها التعصب وتربيته على مبادئ الإسلام الأصيل المستقاة من أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).

وتظهر هذه القيم السامية بشكل جلي وواضح في سلوك اتباع أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أيام الزيارة الأربعينية ويعكسون صوراً من التفاني والايثار والمحبة والتضحية ليس لها نظير والمطلوب ادامة هذا السلوك على مدار السنة ما دمنا نعتقد انه حق وفيه رضا لله سبحانه ولأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وعدم العودة الى ما يشين وما يسخط الله تعالى وأولياءه.ي.

ص: 397


1- نهج البلاغة: الخطبة192.
2- الكافي: 2/ 308/ح5. وقد ذكرت جملة من المصادر قصة اسلام حمزة منها بحار الأنوار: 18/ 211 و73/ 285, والسلا: هو ما يُرافق جنين الحيوان عند ولادته كالجلد الرقيق الذي يحيط به وأن أبا جهل وضع سلا جزور على رأس رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو يصلي.

القبس /150: سورة الحُجُرات: 10

اشارة

{إِنَّمَا ٱلمُؤمِنُونَ إِخوَة}

موضوع القبس:ماذا يعني عقد المؤاخاة يوم الغدير

تضمّن يوم الغدير كبقية الأيام الشريفة سنناً ومستحبات(1) كالصوم والغسل والصلوات والادعية والاذكار طلباً لرضوان الله تعالى وطمعاً في مضاعفة الأجر وتحصيل العفو والمغفرة.

لكن عيد الغدير تميّز بعمل انفرد به عن بقية المناسبات وهو إجراء المؤاخاة بين المؤمنين وتعهّد بعضهم لبعض ان لا يدخل الجنة الا وهو معه فيقول احدهما للآخر (آخيتك في الله وصافيتك في الله وصافحتك في الله) إلى آخر المؤاخاة، وهذه الفعالية المباركة تعني -- فيما تعني -- ان علامة اكتمال وصدق الولاية للنبي وآله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هي مودة المؤمنين ومؤاخاتهم وان يضمر لهم كل خير، حتى لمن اساء إليه وظلمه بغيبة أو انتقاص أو فحش من القول أو إهانة أو تقصير في سائر حقوقه، لذا تضمن عقد المؤاخاة ان يقول للآخر (اسقطت عنك كل حقوق الاخوة) وهي عامة مطلقة تشمل كل الحقوق المادية والمعنوية.

فاذا سرنا بهذا المنهج والتزمنا بهذا السلوك السامي وتغاضينا عن الأخطاء والكلمة الجارحة والتصرف الجاهل فسوف ننشئ أمة متماسكة متحدة قوية

ص: 398


1- أنظر: مفاتيح الجنان: 344

فاعلة، ونسدّ أبواب النزاع والتخاصم والخلاف الذي نخر بالأمة وأهدر طاقاتها واعاق تقدمها وازدهارها سواء على مستوى العائلة حيث تتصاعد ارقام حالات الطلاق وما يعنيه من تهديم الاسرة وضياع الأطفال وتفشي الضغينة والاحقاد وتضييع الأموال والاوقات على مراجعة المحاكم.أو على مستوى العشائر حيث ازدادت الصراعات والمعارك بينها بمختلف أنواع الأسلحة ونقلت الاخبار حصول معارك برمائية بين بعض العشائر في جنوب العراق أو على أي مستوى آخر من الصراعات.

إن هذه الصراعات والخلافات والمهاترات وتغذيتها بالأحقاد والضغائن التي تصدّ عن ذكر الله تعالى وتعيق عمل المعروف تحقق رغبة الشيطان وامنيته {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء} (المائدة:91).

ومن يتتبع سيرة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقيادته الربانية المباركة يجد ان اول ما قام به من عمل بعد هجرته الى المدينة هو إيقاع المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وبين الأنصار أنفسهم من أوس وخزرج وبناء المسجد ليكون محلاً لاجتماع الأمة ولم شملها وإظهار عزّتها ووحدتها(1).

وسار الأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) على هذا النهج فوجّهوا اتباعهم إلى التحلي بأقصى صفات الأخوّة والمودّة بين المؤمنين، روى عبدالله بن المبارك قال:(قال لنا أبو جعفر محمد بن علي:يدخل أحدكم يده في كم صاحبه (أي جيبه) فيأخذ ما يريد؟ فقال:قلنا:لا، قال:لستم بإخوان كما تزعمون)(2).1.

ص: 399


1- أنظر: السيرة النبوية- ابن هشام: 2/ 351
2- حلية الاولياء: 3/ 187- البداية والنهاية: 9/ 341.

وعن الحجاج بن أرطاة قال له الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(يا حجاج كيف تواسيكم - أي مواساة بعضكم لبعض-, قلت:صالح يا أبا جعفر، قال:يدخل أحدكم يده في كيس أخيه فيأخذ حاجته اذا احتاج اليه؟ قلت:أما هذه فلا، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):أما لو فعلتم لما احتجتم)(1).وهذا يعني ان من شروط تمام الولاية وكمالها الارتقاء بالعلاقة مع الآخرين إلى هذا المستوى.

ولأهمية هذه الصفة المباركة يطلبها الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في ادعيته، ومن ذلك قوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (اللَّهُمَّ وَأَيُّمَا عَبْد نالَ مِنِّي مَا حَظَرْتَ عَلَيْهِ - كالغيبة والكلمة الجارحة مما حُرِّم-، وَانْتَهَكَ مِنِّي مَا حَجَرْتَ عَلَيْهِ، فَمَضَى بِظُلاَمَتِي مَيِّتاً، أَوْ حَصَلْتَ لِيْ قِبَلَهُ حَيّاً، فَاغْفِرْ لَهُ مَا أَلَمَّ بِهِ مِنِّي، وَاعْفُ لَهُ عَمَّا أَدْبَرَ بِهِ عَنِّي، وَلاَ تَقِفْ-هُ عَلَى مَا ارْتَكَبَ فِيَّ، وَلاَ تَكْشِفْهُ عَمَّا اكْتَسَبَ بِيْ، وَاجْعَلْ مَا سَمَحْتُ بِ-هِ مِنَ الْعَفْ-وِ عَنْهُمْ، وَتَبَ-رَّعْتُ بِ-هِ مِنَ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ، أَزْكَى صَدَقَاتِ الْمُتَصَدِّقِينَ، وَأَعْلَى صِلاَتِ الْمُتَقَرِّبِينَ، وَعَوِّضْنِي مِنْ عَفْوِي عَنْهُمْ عَفْوَكَ، وَمِنْ دُعَائِي لَهُمْ رَحْمَتَكَ، حَتَّى يَسْعَدَ كُلُّ وَاحِد مِنَّا بِفَضْلِكَ، وَيَنْجُوَ كُلٌّ مِنَّا بِمَنِّكَ)(2).

فالإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يعتبر هذا العفو عن الآخرين من أفضل الصدقات وأكثرها بركة وانها سبب لنيل عفو الله تعالى ورضوانه ورحمته، وبذلك يسعد جميع الأطراف.88

ص: 400


1- كشف الغمة: 2/ 333 - بحار الأنوار: 75/ 185/ح12.
2- الصحيفة السجادية (أبطحي): 188

وقد صدرت عن المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) مئات الأحاديث في حقوق الأخوّة وآداب العلاقة مع الآخرين جمعها الأصحاب في كتب بعنوان (آداب العشرة)(1) وتعرضت لأدق التفاصيل واعطت قيمة كبيرة للإصلاح بين المؤمنين وحل خلافاتهم ومشاكلهم حتى جعلته أفضل من الصلاة والصوم، وقد روى الشيخ الكليني في الكافي عن الامام موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وصية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لولده الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وجاء فيها (سمعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول:صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام، وإن المبيرة الحالقة للدين فساد ذات البين، ولا وقوة إلاّ بالله العلي العظيم)(2).إن البركة والخير والتقدم والازدهار لا يتحقق الا في ظل الايمان بولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) والعمل بتعاليمهم المباركة ووحدة الأمة، وهذا ما خطّته السيدة فاطمة الزهراء (س) من أول يوم بعد وفاة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لترسم للأمة المسار النقي الأصيل الذي يحفظ عزّتها وكرامتها فقالت (س) (وطاعتنا :نظاماً للملة، وامامتنا:اماناً للفرقة)(3).4.

ص: 401


1- راجع مثلاً كتاب وسائل الشيعة/ الجزء الثامن من طبعة الإسلامية.
2- فروع الكافي: 7/ 51 -52 - بحار الأنوار: 42/ 248/ح51.
3- الاحتجاج: 1/ 134.

القبس /151: سورة الحُجُرات:13

اشارة

{وَجَعَلنَٰكُم شُعُوبا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ ۚ}

موضوع القبس:تقييم الواقع العشائري

وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا:

قال الله تبارك وتعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات:13).

فالغرض من جعل الشعوب والقبائل والعشائر لتُعرفوا بها ولتتميز الأنساب فإن الأسماء كثيراً ما تتشابه وإنما تتميز بالعشيرة واللقب، والمعنى الآخر لقوله تعالى:{لِتَعَارَفُوا} أي لتتعارفوا بينكم وتتواصلوا وتنسجموا ويتكامل بعضكم بالبعض الآخر ويسودكم عمل المعروف فيما بينكم. وليس لتتفاخروا بأنسابكم أو لتتنابزوا بالألقاب بينكم أو لتتباهوا بكثرتكم أو لتتحزبوا لعشائركم وتتعصبوا لها حتى وإن كانت على باطل.

أهمية الرابطة العشائرية:

هذا ما أراده الله تبارك وتعالى ورتّب عليه آثاراً وهي صلة الأرحام والإحسان إليهم ورعايتهم وعظّم حرمة الرحم فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ

ص: 402

رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (النساء:1) وكان أول ما بدأ به رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حين بعثه الله تعالى بالنبوة أن جمع عشيرته ودعاهم إلى هذا الخير الكثير حينما نزل قوله تعالى:{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء:214).مضافاً إلى أن النظام العشائري يجعل من الأفراد كياناً فيكسبهم قوة إلى قوتهم وتنظيماً لشؤونهم والتنظيم قوة، وفي ذلك يوصي أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (صل عشيرتك فإنهم جناحك الذين بهم تطير)(1).

انحراف الرابطة العشائرية عن أهدافها:

لكن هذه الرابطة التي جعلها الله تعالى لتلك الأغراض الإنسانية تحوّلت منذ القدم إلى نظام اجتماعي يحكم أبناءه ويدير شؤونهم وربما أملاه نمط الحياة التي يعيشونها كمجتمعات بداوة ونمط الأعمال كامتلاك الثروة الحيوانية ورعيها أو الزراعة ونحوها، وأصبح بديلاً للنظام السياسي والدولة والحكومة كما هو المعروف من حال العرب قبل الإسلام، وكان نظاماً متخلفاً متعصباً قائماً على التفرد وإلغاء الآخر ولو بإبادته ومصادرة ممتلكاته فأزهقت الأرواح وانتهكت الأعراض وسالت أبحر من الدماء لا لشيء إلا لتلبية نداء هذه العصبية الجاهلية، وكان من أيسر الأمور إذكاء الحروب الجنونية بين القبائل لأتفه الأمور كحرب

ص: 403


1- نهج البلاغة: 5/ 57

داحس والغبراء(1) التي استمرت أربعين سنة على إثر مسابقة للخيول، وأشعلت حرب أخرى لأن شخصاً قتل كلباً كان شيخ العشيرة الأخرى قد أجاره ونحو هذه الأمور مما لا يصدقها عاقل لولا أنها قد وقعت فعلاً.وكان حول العرب أمم نبذت هذا النظام وأنشأت لنفسها أنظمة سياسية للدولة والحكم فتقدمت مادياً وأنشأت حضارات مرموقة كالرومان والفرس.

حتى بعث الله تعالى نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله أي على كل الأنظمة والقوانين التي حكمت البشر وأردتهم في الهلاك فذوَّب هذه الانتماءات وآخى بين المهاجرين والأنصار والذين جاءوا بعدهم من سائر الذين اعتنقوا دين الإسلام، فكانوا كما وصفهم الله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات:10) ووصف حالهم السابق من التشرذم والتفرق وما آلوا إليه من الوحدة والأخوة فقال تعالى:{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران:103).

ولكن لما ارتحل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلى الرفيق الأعلى وانقلبت الأمة على الأعقاب رجعت إليها بعض العادات الجاهلية ومنها العصبية القبلية وكان بنو أمية يغذّون هذا التقسيم ويذكون التفرقة ويقرّبون بعض القبائل على حساب بعض ليملكوا زمام الجميع.66

ص: 404


1- أنظر: الكامل في التاريخ- ابن الأثير: 1/ 566

حال العشائر اليوم:

واليوم حينما تنظر إلى وضع العشائر تجده في حال سيئ وتعيس ومتخلف، والغالب في رؤساء العشائر ومن بيدهم الأمر والنهي أنهم يحكمون بغير ما أنزل الله تعالى، والظلم متفشي في أرجائها وعلى مختلف الأصعدة، ويئن أبناء العشائر من قساوة هذا النظام وأحكامه الجائرة ولكنهم لا يستطيعون الخروج من قبضته، أو يستطيعون ولكنهم لا يملكون الشجاعة لاتخاذ مثل هذا القرار.

جهود المرجعية الرشيدة في إصلاح الواقع العشائري:

لقد بذلت المرجعية الرسالية جهداً في سبيل إصلاح نظام العشائر وكتب سيدنا الشهيد الصدر (قدس سره) كتاب (فقه العشائر) لتصحيح تصرفاتهم وأحكامهم على وفق الشريعة، ووضع سنينة عشائرية على طبق التشريع الإسلامي لتكون بديلاً عن السنينة العشائرية المتعارفة.

وأصدرنا بعده كتاب (رؤى إسلامية في نظام العشائر وتقاليدها) لتصحيح الجانب الفكري والثقافي لدى العشائر وإقناعهم بتطبيق النظام الإسلامي، وتبعته فتاوى كثيرة في ما يتعرضون له من حالات، لكن هذا الجهد كله لم يُجدِ نفعاً إلا عند القلة ممن وفقهم الله تعالى لطاعته، وتردى الحال إلى الأسوأ بعد سقوط صدام واختلال النظام وانتشار الفوضى والعنف ووقوع السلاح بيد الجهلة والغوغائيين، ولم يعد للدولة والسلطة وجود مهاب مما شجع على بروز قيادات محلية اجتماعية أو دينية أو عشائرية وأصبح كل منهم حاكماً في مساحته ويحصل الصدام بينهم أحياناً بحسب تضارب المصالح والولاءات.

ص: 405

الايجابي والسلبي من مبررات النظام العشائري:

إننا نفهم بعض المبررات لوجود النظام العشائري كحفظ الأرض وزراعتها والدفاع عنها وتقارب ذوي الأرحام لزيادة الأواصر بينهم، ولكن ما لا نفهمه ولا نقبله تحوّله إلى نظام استبدادي ظالم يحكم بالأهواء والعصبية وشهوات النفس والأنانية، ونحذّر من تحوله إلى نظام متخلف يكون غالباً من أكبر المعوقات لقيام مجتمع مدني متحضّر، وإذا بقي على وضعه الحالي فسيبقى التخلف والجهل سائداً في أمة كبيرة تخضع لقوانينه، وقد أثبتت التجارب التي أشرنا إليها أن محاولات إصلاحه غير مجدية ما دام يدار بنفس الذهنية السائدة.

العشائر والعمل الجماعي المشترك:

أيها الأحبة..

أنتم تعلمون أنا جميعاً مطالبون بأن يكون لنا دور في التمهيد لظهور الإمام (أرواحنا له الفداء) وتمكينه من إقامة دولة العدل الإلهي، والجميع مشتركون بدورهم كأفراد وأعني به أن يكونوا صالحين يعملون ما يرضي الله تبارك وتعالى ويجتنبون ما يسخطه تعالى ويبعدهم عنه وهو باب ينفتح منه ألف باب كما هو واضح.

ومضافاً إلى هذا الدور الفردي فإن على كل فرد تكاليف اجتماعية أوسع من ذلك وهي متباينة ومتفاوتة من فرد لآخر بحسب موقعه وعنوانه ومؤهلاته والأدوات المتاحة لديه مادياً –كالمال- ومعنوياً –كالعلم أو الجاه أو النفوذ- ونحوها. ولعل الأغلب إن لم يكن الكل مشمولون بهذا التكليف أيضاً لأن لهم شيئاً مما ذكرنا وإن تفاوتوا فيه. وتدخل في هذا التكليف وظيفة الأمر بالمعروف

ص: 406

والنهي عن المنكر وتشييد مشاريع الخير والجهاد لإقامة السنن الصالحة وإقامة الشعائر الدينية وغيرها كثير.

دور العشائر في التمهيد للظهور الميمون:

ورؤساء العشائر ممن لهم تكليف واسع على النحو الثاني لامتلاكهم عناصر تأثير عديدة كالجاه والنفوذ والسطوة وكثرة الأتباع والقوة وربما المال والسلاح وغيرها، وهذا يعني أن مسؤوليتهم أوسع من غيرهم بكثير، لأن هذه كلها نعمٌ يُسأل الإنسان عن توظيفها في طاعة الله تعالى، قال عز من قائل:{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} (التكاثر:8) والنعيم شامل لكل نعمة أنعم بها الله تعالى على عبده، وقال تعالى:{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} (الصافات:24) وهذه المساءلة شاملة لكل أنحاء المسؤولية وأشكالها، وأعتقد أن رؤساء العشائر وغيرهم من المسؤولين -كأعضاء الحكومة وأصحاب السلطان- لو كُشف لهم الغطاء وعرفوا خطورة موقعهم وطول وقوفهم للسؤال بين يدي الله تعالى لما تنافسوا على شيء من هذا، ولنبذوه وراء ظهورهم وهربوا منه.

التحذير من الرئاسات الباطلة:

وقد ورد في الحديث عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (ألا ومن تولى عرافة قوم حبسه الله عز وجل على شفير جهنم بكل يوم ألف سنة وحشر يوم القيامة ويداه مغلولتان إلى عنقه، فإن قام فيهم بأمر الله أطلقه الله، وإن كان ظالما هوى به في نار جهنم وبئس المصير)(1).

ص: 407


1- بحار الأنوار: 72/ 343 في مناهي النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

وقد بيّن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والأئمة الطاهرون (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لأصحابهم الواعين الصادقين في طاعة ربهم هذه الحقيقة، روى الشيخ الطوسي في كتاب الأمالي عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(يا أبا ذر إني أحبّ لك ما أحبّ لنفسي، إني أراك ضعيفاً فلا تأمّرنّ على اثنين ولا تولّينّ مال يتيم)(1) فإذا كان مثل أبي ذر الذي تشتاق له الجنة والذي قال فيه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر)(2) يشفق عليه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ويدعوه إلى عدم الإمرة ولو على اثنين لأنه يعجز عن القيام بالأمر كما يجب فكيف بغيره؟ خصوصاً رؤساء العشائر الذين نعلم افتقاد أكثرهم لمؤهلات الإمرة وهي العلم بأحكام الدين والورع والحلم والحكمة والرحمة والشفقة على الناس.

على العشائر أن تكون زيناً لا شيناً:

فالذي نأمله من رؤساء العشائر وهم مسلمون موالون لأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وأولى الناس باتباعهم أن يكونوا لهم زيناً كما قال إمامنا جعفر الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولا يكونوا عليهم شيناً، ومن المقترحات التي نتبناها في هذا المجال أن ننظم لهم دورات دراسية في النجف الأشرف، مدة الدورة شهر واحد، نستضيفهم فيها ونعطيهم ما يحتاجونه في عملهم من دروس في الفقه والعقائد والأخلاق والعلاقات الإنسانية والإدارة ليكونوا مباركين دالين على الخير وآمرين بالمعروف

ص: 408


1- بحار الأنوار: 75/ 4.
2- الأمالي- الشيخ الطوسي: 710

وناهين عن المنكر(1).

خطوات عملية في إصلاح النظام العشائري:

وندعوهم كما ندعو كل أبناء العشائر إلى اتخاذ خطوات عملية لتحويل مجتمعهم إلى أمة متحضرة متمدنة واعية منها:

1- المطالبة بإنشاء المدارس الأكاديمية في كل تجمع من الناس مهما كان نائياً ولو بأبسط صورها - كالمدارس المتنقلة - والقضاء على الأمية تماماً وإلزام الفئات العمرية جميعاً بالالتحاق بها.

2- نشر المؤسسات الثقافية والإنسانية والصحية والاجتماعية والخيرية والدينية مما يعرف بمؤسسات المجتمع المدني في كل العشائر والقرى والأرياف والمدن في أنحاء البلاد لتؤدي كل منها دورها بحسب الغرض الذي أسست له.

3- دعوة الخطباء والمبلغين إلى كل ناحية أو قرية أو عشيرة أو أي مكان ممكن لتعليم الأحكام وإرشاد الناس ووعظهم.

4- انخراط أبناء العشائر في الوظائف وتحصيل الشهادات العلمية العالية وتشجيع من يتمكن منهم على السكن في المدن.

5- وضع القوانين الرسمية الصارمة التي تحرّم بعض التقاليد العشائرية البالية وتعاقب عليها بحسب نوع الجناية أو الخطأ كالنهوة أو القتل لغسل العار في غير ما حددته الشريعة وسائر الأحكام الظالمة الأخرى.

ص: 409


1- استجاب جمع من وجهاء العشائر لهذه الدورة ومكثوا في النجف أياماً تلقوا خلالها تلك الدروس، راجع تفصيل الخبر في الجزء السادس من كتاب خطاب المرحلة.

الخطر من الانفتاح على المفاسد الإخلاقية:

وهنا قد يقال بأن تحويل المجتمع العشائري إلى مجتمع مدني -كما لو فتحت فيه الجامعات والمؤسسات الحكومية- يعني الانفتاح على المفاسد الأخلاقية ونحوها.

والجواب:

1- إن حالات الفساد والانحراف في العشائر ليست قليلة كالقتل بلا ذنب والزنا والنهوة والنهيبة والظلم والبطش وامتهان المرأة وغيرها.

2- إن الخلل المذكور ليس بسبب كون المجتمع مدنياً وإنما بسبب النفوس الأمارة بالسوء وقلة الواعظين والمتعظين فالجميع معرضون للفساد والانحراف إلا من عصم الله تعالى.

3- إننا لو سلّمنا الإشكال فإن عملية الإصلاح في مجتمع متحضر ومثقف أسلس وأثبت مما في مجتمع عشائري متخلف ونحن نجد اليوم كيف انغمست العشائر أكثر من ذي قبل في الظلم وابتداع العادات والتقاليد المنكرة.

إن مما يؤسف له أن الكثير من القيادات الدينية والسياسية تعي حقيقة هذا الوضع البالي الذي يعيشه حوالي نصف المجتمع العراقي ولكنهم لا يتحركون لإصلاحه، بل قد يعملون على إبقائه ودعم رؤساء العشائر من أجل المحافظة على مواقعهم وسلطتهم كما يحصل قبيل الانتخابات، فيتحمل هؤلاء وزر هذا الوجود ودوامه وإذا كانوا لا يعون ذلك فالمصيبة أعظم.

وإزاء هذا كله لا يحل لنا أن نهمل الإشادة بدور بعض زعماء العشائر أو الأفخاذ الذين وعوا مسؤوليتهم أمام ربّهم وقادتهم المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فأصلحوا

ص: 410

أنفسهم وسعوا بحزم وشجاعة إلى إصلاح وضع عشائرهم فطوبى لهم، وضاعف الله تعالى لهم الحسنات بعدد من اهتدى بهم من الموجودين ومن الذين يأتون بعدهم والله ولي التوفيق.

ص: 411

الصورة

ص: 412

الفهرس الإجمالی

الصورة

ص: 413

الصورة

ص: 414

الصورة

ص: 415

الصورة

ص: 416

الصورة

ص: 417

المجلد 5

هوية الكتاب

اسم الكتاب: من نور القرآن

تأليف : سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

الموضوع : التفسير

مشخصات : 5 ج

الطبعة : الرابعة

التاريخ : 1442ه - 2021م

ص: 1

اشارة

من نور القرآن

ص: 2

ص: 3

من نور القرآن

تفسير موضوعي حركي يقتبس من القرآن الكريم

ما يلقي ضوءاً على قضايا عقائدية أو أخلاقية

أو فكرية أو اجتماعية

سماحة المرجع الدینی الشیخ محمد الیعقوبی

الجزء الخامس

سورة ق – سورة الناس

دار الصادقين

ص: 4

القبس/152: سورة ق:22

اشارة

{لَّقَد كُنتَ فِي غَفلَة مِّن هَذَا}

التدبر في القرآن الكريم:

لا ينبغي لكم وأنتم مثقفون واعون وشباب رساليون أن تكتفوا من قراءة القرآن بتلاوة حروفه، بل لابد من التدبر في معانيه للوصول إلى حقائقه، وقد قدّمت في أحاديث سابقة أنماطاً للتدبر، ومنها ما أذكره اليوم وذلك بأن تلتفت بلطف الله تعالى إلى قضية معينة لها مساس بالواقع المعاش، ثم تجمِّع ما ورد فيها من آيات شريفة حتى تكتمل صورتها، وسيفتح الله عليك وستظهر أمامك حقائق عن تلك القضية، لم تكن ملتفتاً إليها عندما كنت تقرأ كل آية على حدة فتعرف كيفية تشخيصها، وأسباب حصولها، والأثار المترتبة عليها وهكذا.

وليس من الصعب تجميع الآيات المتعلقة بقضية معينة من خلال مراجعة معاجم وفهارس ألفاظ القرآن الكريم كفهرس الألفاظ الملحق بتفسير شبر او تفسير المعين.

ثم تنتقل بنفس الطريقة إلى معاجم كلمات المعصومين ككتاب (غرر الحكم) و (ميزان الحكمة) لتأخذ منها ما يزيد الأمر وضوحاً.

غفلة الإنسان عن نفسه:

وأشير اليوم إلى واحدة من هذه القضايا المهمة وهي غفلة الإنسان عن

ص: 5

نفسه، فالإنسان في هذه الدنيا في غفلة (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا)(1) وقد تحدثنا في خطاب سابق عن غفلة الإنسان عن قيادته الحقة وهو أمر متصور بسبب الجهل والتشويش والشبهات، ولكن أن يغفل الإنسان عن نفسه أعز الأنفس عليه وأثمن شيء عنده لأنه يستطيع أن يكتسب بها الجنان، فهذا أمر مستغرب.

التعاطي مع النفس:

ومن خلال الآيات الكريمة ستجد التباين الواسع بين البشر في التعاطي مع أنفسهم، فمن مستثمر لها كأفضل ما يكون يقول عنه الله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ} (البقرة:270) فتساعده نفسه على الطاعة والتثبيت على الاستقامة {يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ} (البقرة:265) فيخاطبهم الله تعالى {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي} (الفجر:27 28 29 30).

إلى آخرين فشلوا في الاستفادة منها فكانوا كما وصفهم الله تعالى {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (الأنعام:26) {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (النحل:118) {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم} (البقرة:9) {قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} (الأعراف:53)، ويبيّن القرآن الكريم سبب انحدارهم إلى هذه النتيجة وذلك

ص: 6


1- البحار: ج4 ص43.

لانهم {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (الحشر:19) {يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ} (البقرة:9)، {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} (الأنعام:24) فهذه أسباب خسران الإنسان نفسه من خلال مخادعة الإنسان نفسه ونسيان الله تبارك وتعالى والركون إلى الدنيا، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (إن الصفاة الزلال الذي لا تثبت عليه أقدام العلماء الطمع)(1).وتنتهي النتيجة إلى أعظم الخسارة وهي خسارة الإنسان نفسه، فيجعل ثمنها نار جهنم وكان يستطيع أن يجعلها سبباً لنيل جنات المقربين {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (الزمر:15) .

مواعظ عن النفس من كلمات أهل العصمة (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):

وإذا انتقلنا إلى أحاديث المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فسنجد مواعظ قيمة، فعن علي أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من باع نفسه بغير الجنة فقد عظمت عليه المحنة) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من باع نفسه بغير نعيم الجنة فقد ظلمها)(2) وفي نهج البلاغة (عباد الله... الله الله في أعزّ الأنفس عليكم، وأحبّها إليكم، فإن الله قد أوضح لكم سبيل الحق، وأنار طرقه فشقوة لازمة، أو سعادة دائمة)(3).

ص: 7


1- ميزان الحكمة : 2/ 1740.
2- غرر الحكم.
3- نهج البلاغة، خطبة 157.

وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أما ترحم من نفسك، ما ترحم من غيرك، فلربما ترى الضاحي من حر الشمس فتظلله، أو ترى المبتلى بألم يمض جسده فتبكي رحمة له، فما صبرك على ذاتك، وجلدك على مصابك، وعزاك عن البكاء على نفسك، وهي أعز الأنفس عليك)(1).وعن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(كتب رجل إلى أبي ذر (رضي الله عنه):يا أبا ذر أطرفني بشيء من الحكمة، فكتب إليه أن العمل كثير، ولكن إن قدرت أن لا تسيء إلى من تحبّه فافعل.

قال:فقال الرجل:وهل رأيت أحداً يسيء إلى من يحبّه؟ فقال له:نعم، نفسك، أحب الأنفس إليك، فإذا أنت عصيت الله فقد أسأت إليها)(2).

وفي غرر الحكم عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (عجبتُ لمن ينشد ضالته، وقد أضلَّ نفسه فلا يطلبها).

الواعظ الداخلي:

ولرحمة الله تعالى الواسعة بعباده فإنه لم يكتفِ بالواعظ الخارجي وهم الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) وحملة علومهم، فجعل لهم واعظاً من داخل أنفسهم ينبِّههم إلى الخطأ وهو ما يعرف ب(الضمير) يحذره من الخطأ قبل وقوعه، ويؤنبه بعد ارتكابه لردعه عن تكراره، بحيث انتشر مصطلح (وخز الضمير) أو (تأنيب الضمير) وهي عبارة عن حالة تألم ورفض داخل النفس تؤدي

ص: 8


1- نهج البلاغة: خطبة 233.
2- الكافي: 2/ 458.

إلى كربة في القلب، تدعو صاحبها لمراجعة نفسه والعودة إلى رشده.ولكن الإنسان لسوء اختياره يصمّ أذنه عن سماع الواعظ الخارجي ويكبت واعظه الداخلي، اما بمخادعة نفسه وقلب الحقائق ليوهم نفسه إنه ليس على خطأ، وربما يحاول الهروب من صراعه الداخلي من خلال احتساء الخمر وتناول المخدرات، أو بالانزلاق أكثر في ارتكاب الأخطاء ليعتاد عليها ويميت ضميره.

قصة في من يخدع نفسه:

كثير من الناس يتصور أنه يخدع الآخرين ولكنه في الحقيقة يخدع نفسه، مثلاً شابٌ ينشئ علاقة غير شريفة مع فتاة فيتبجح أمام زملائه بذلك وكأنّه حقق انتصاراً واستدرج هذه الفتاة، ولا يعلم انها هي التي استدرجته وخدعه الشيطان بها لأنها سلبت منه دينه وخسر نفسه.

يروى أن أحد الوعّاظ في بلد مقدس يقصده الزوار من دول العالم جمع التجار والكسبة في السوق وقال لهم إنني أحذركم من هؤلاء الزوار أن يخدعوكم، قالوا:كيف ذلك وهم غرباء لا يعلمون شيئاً ونحن نخدعهم ونبيع إليهم الأشياء بأضعاف سعرها، قال لهم:هذا ما عنيته بكلامي فلا يخدعونكم ويورطونكم في المعصية.

وأنتم –أيها الشباب أكثر المراحل العمرية عرضة للانخداع والغفلة عن النفس، فقد ورد في الحديث الشريف (السكر في أربعة)(1) أحدها سكر الشباب، فمرحلة الشباب سبب للغفلة والطيش والغرور.

ص: 9


1- تحف العقول ابن شعبة الحراني: ص124

إن الشباب والفراغ والجده *** مفسدة للمرء أي مفسدة

ولا نغفل تأثير الجو الاجتماعي العام الذي يساهم بشكل كبير في هذا التمويه والخداع وقلب الحقائق فيقول لك أنت شاب وعليك أن تتمتع وتلهو وتلعب، ليس هذا وقت الجدِّ والعمل، وإذا أراد الموظف أن يكون نزيهاً قيل له:حشر مع الناس عيد، وهل تستطيع بنزاهتك أن تقضي على الفساد، وهكذا حتى يموت الضمير ويخمد بريقه.

ص: 10

ملحق:الغنى والفقر بعد العرض على الله تعالى

من قصار كلمات أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الموعظة قوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الغنى والفقر بعد العرض على الله تعالى)(1) فالإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يصحّح هنا بعض المقاييس التي نتعامل بها ونقيّم الأمور على أساسها، ففي ثقافتنا واذهاننا ان الغني من ملك الأموال والعقارات والسيارات الفارهة ونحو ذلك وان الفقير من لا يوجد عنده ذلك حتى انه لا يستطيع سدَّ احتياجاته.

وهذا المفهوم صحيح بدرجة من الدرجات لكنه ليس حقيقياً لأن هذه الأموال زائلة والى نفاد فان صاحبها سيموت ويتركها خلفه، وبالعكس فقد تكون وبالاً عليه اذا جمعها من مصادر غير مشروعة أو صرفها في موارد غير مقبولة أو انه لم يخرج منها الحقوق المتعلقة بها لله تعالى كالخمس أو الزكاة أو للناس كردّ المظالم والديون وحينئذٍ سيتمنى دفع كل هذه الأموال مقابل تخليصه من العذاب الذي هو فيه، {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (الزمر:47) {لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ} (الرعد:18) و هذا ليس في الآخرة فقط، بل في الدنيا يشعر بعض الأثرياء بعذاب الباطن وألم الضمير لما اقترفت يداه من ظلم وغصب لحقوق الآخرين وقد يؤدي به هذا الى الانتحار.

وهنا يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ان الغنى الحقيقي الدائم الذي يتعقبه الفوز والسعادة هو عندما تعرض اعمال العبد على الله تعالى يوم القيامة فيجد ميزانه ثقيلاً

ص: 11


1- نهج البلاغة: الحكمة 452.

بالأعمال الصالحة الموجبة لرضا الله تبارك وتعالى، والفقير الحقيقي هو من خلت موازنية من اعمال تنجيه من النار وتوجب له الجنة {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ 6 فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ 7 وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ 8 فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ 9 وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ 10 نَارٌ حَامِيَةٌ 11} (القارعة:611).روي ان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال يوماً لاصحابه (أتدرون من المفَّلس:إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى بها عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)(1) .

والانسان العاقل اللبيب ذو البصيرة هو من يدرك هذه الحقيقة في الدنيا ويعمل على أساسها ولا تغريه أوهام الدنيا وإنما يعمل وفق المقاييس التي ترضي الله تبارك وتعالى، ولا ينتظر الآخرة ليكتشف هذه الحقيقة لأنه حينئذٍ لا يكون قادراً على تصحيح الأخطاء وإصلاح الخطايا والتبعات.

ويكون من توفيق الانسان ان يرزقه الله تعالى مالاً وفيراً من مصادره المحللة ويوفقه لإنفاقه في الموارد التي أمر الله تعالى بها وتوجب رضاه والجنة كمساعدة المحتاجين وتزويج الشباب المتعففين ونشر كتب الوعي والإصلاح والهداية وإعمار المساجد وغير ذلك فيكون قد جمع الله تعالى له خير الدنيا والآخرة،

ص: 12


1- كنز العمال: 4/ 127 ح 10327 ، تاريخ بغداد: 4/ 242، تفسير القرطبي: 15/ 255 ، صحيح ابن حبان:16/ 359

وادعية طلب الرزق تقيده بأن يكون من حلال (سعة في الحال من الرزق الحلال)(1) .وإن بعض الذين يقومون بمشاريع كبيرة واسعة البركة قد لا يمتلكون مالاً كثيراً لكن الله تعالى يبارك لهم في انفاقهم والله ذو الفضل العظيم.

ص: 13


1- من دعاء الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ليوم الاربعاء.

القبس/153: سورة الذَّاريات:50

{فَفِرُّواْ إِلَى ٱللَّهِ}

قال الله تعالى:{فَفِرُّواْ إِلَى ٱللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنهُ نَذِير مُّبِين} (الذاريات:50)، في هذه الآية الشريفة عدة دلالات وإرشادات نهتدي بها في حياتنا العملية وفي طريق التكامل إن شاء الله تعالى.

1 إن الأمر بالفرار يعني التسليم بأننا في وضع يوجب الفرار منه؛ لأن الفرار والهرب لا يكون إلا من خطر وضيق وعسر ومشقة، فالأمر بالفرار يعني أننا واقعون فعلاً فيه أو أننا في معرض الوقوع فيه سواء التفتنا إليه أو لم نلتفت لغفلتنا وجهلنا بحقائق الأمور، وما يستوجب الفرار كثير مما نواجه في الدنيا وفي الآخرة، ففي الدنيا:الفرار من المشاكل والتعقيدات والأزمات والصعوبات والقلق والأخطار وقساوة الحياة، أما في الآخرة فالفرار من طول الموقف وسوء الحساب وشدة العقوبة والعذاب، وهذه كلها تلزم كل عاقل بأن يهرب منها إلى ملجأ يحميه ويوفر له الأمن والاستقرار والسعادة، وقد كرّر تعالى في هذه الآية والتي تليها {إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} للتنبيه من الغفلة وإيقاظ العقول والتأكيد على هذه المخاطر.

2 إن الأمر بالفرار يستلزم من الآمر تحديد المهرب والملاذ الآمن كما أن الدول حينما تقوم بعملية عسكرية لتطهير مدينة أو موضع من إرهابيين ومجرمين

ص: 14

فإنها تحدد مسارات وملاجئ آمنة لخروج المدنيين الأبرياء، وقد حدّدت الآية الجهة التي نفرّ إليها وهي جهة النجاة الوحيدة إنه الله تبارك وتعالى ولا يوجد مفرّ إلا إليه {يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرّ، كَلا لا وَزَرَ، إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ، يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} (القيامة:1013)، وهي بهذا المعنى تلتقي مع آيات عديدة {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} (العلق:8) {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى} (النجم:42) (النجم:42) {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} (البقرة:156).وهذا المعنى الذي عبّر عنه الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في العديد من الأدعية والمناجاة كقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في مناجاة الراجين (يا من كل هارب إليه يلتجئ، وكل طالب إياه يرتجي) وفيها (كيف أرجو غيرك والخير كله بيدك، وكيف أؤمل سواك والخلق والأمر لك) وفي مناجاة التائبين (إلهي هل يرجع العبد الآبق إلا إلى مولاه، أم هل يجيره من سخطه أحد سواه) وفي مناجاة المطيعين لله قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(فإنا بك ولك ولا وسيلة لنا إليك إلا أنت) وفي مناجاة المفتقرين (إلهي كسري لا يجبره إلا لطفك وحنانك، وفقري لا يغنيه إلا عطفك وإحسانك، وروعتي لا يسكّنها إلا أمانك، وذلّتي لا يعزها إلا سلطانك، وأمنيتي لا يبلغنيها إلا فضلك) إلى غيرها من الفقرات التي اغتنت بها الصحيفة السجادية المباركة وأدعية الإمام السجاد الأخرى الملحقة بها.

3 ارتبطت الآية بفاء التفريع (فَفِرُّوا) فالأمر بالفرار إلى الله جاء تفريعاً ونتيجة على ما ذكر في الآيات السابقة التي ذكرت الأسباب الموجبة لكون الله تعالى الجهة الوحيدة التي نفر إليها وهي ثلاثة.

فالآية (47) بيّنت مثالاً لعظمة الله تعالى وقدرته {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا

ص: 15

لَمُوسِعُونَ} (الذاريات:47) التي تعني في بعض الوجوه استمرار توسع الكون وتمدده وقد اكتشف العلم الحديث التوسع الهائل الذي تتجه فيه النجوم والمجرّات بسرعة تصل إلى 66 ألف كيلومتراً في الثانية(1). والآية (48) بيّنت رعاية الله لخلقه وإغداقه النعم عليهم {وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} (الذاريات:48) فبسط لنا الأرض وجعل لها حركة هادئة مريحة وزودها بكل ما يوفر للإنسان السعادة والراحة والمتعة كما تفرش الأم مهد صغيرها وتجهّزه بكل وسائل الراحة والسعادة.

ثم عطفت الآية التالية على ذلك بيان شكل من أشكال فقر المخلوقات - كل المخلوقات ونقصها الذاتي واحتياجها إلى ربها الغني من خلال إظهار حاجتها إلى غيرها ووجود ما يضادها، {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الذاريات:49) إذ الزوجية هنا تعني أعم من الزوجية الجنسية كالذكر والأنثى، وزوجية السالب والموجب كشحنتي الإلكترون والبروتون في الذرة، وزوجية التضاد كالظلمة والنور أو زوجية الظاهر والباطن وغير ذلك؛ فالأشياء كلها إذن فقيرة ناقصة محتاجة في ذاتها.

فالفرار إلى الله تعالى لأن القدرة بيده والخير منه والسعادة عنده والكل محتاجون إليه.

فالآيات تقرر هذه الحقيقة وتدعو الناس إلى وعيها والالتفات إليها وتذكّرها دائماً لترتيب الأثر عليها وأخذ العبرة منها {لَعَلَّكُم تَذَكَّرُونَ} فمن

ص: 16


1- تفسير الأمثل: 13/ 236 عن كتاب (حدود النجوم) ل(فرد هويل).

الطبيعي أن تتفرع الآية التالية عليها {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} (الذاريات:50) فإن الله تعالى لشفقته على عباده وحبّه لهم ولطفه بهم لم يتركهم سدىً ولم يوكل أمورهم إلى الصدفة أو إلى حماقة الجهّال من البشر ولم يتركهم يجربون طريقة المحاولة والخطأ (tryial error) للتوصل إلى القوانين التي تكفل سعادتهم في الدنيا والآخرة وإنما أرسل إليهم منه الأنبياء والرسل لينذروهم ويبينوا لهم هذه الحقائق والمعارف كرماً منه وفضلاً {إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}.4 ولما كان الله تعالى أجلّ من أن تكون له جهة أو مكان أو حيّز يشغله فالفرار إليه ليس كالفرار إلى حصن أو أي مكان آمن يتوجه إليه الهارب، وإنما الفرار إليه يعني التمسك بالوسائل الموصلة إليه تبارك وتعالى وفعل ما يوجب قربه ورضاه وتجنب ما يسخطه سبحانه ويوجب غضبه؛ لذلك كانت الآية التالية كالبيان لمعنى الفرار ووسيلته {وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} فالفرار إلى الله تعالى يستند إلى الإيمان به وتوحيده ويبدأ من نفي الشركاء عنه.

والفرار إلى الله يعني الهروب من المعاصي والذنوب وكل ما يسخط الله تبارك وتعالى إلى طاعته ورضاه، ويعني الهروب من عذاب الله تعالى وعقابه إلى رحمته ورضوانه، من مناجاة الراغبين للإمام السجّاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(وها أنا فارٌّ من سخطك إلى رضاك وهارب منك إليك).

والفرار إلى الله تعالى يعني الانقطاع عما سواه والتحرر من كل الآصار،

ص: 17

والأغلال التي تعيق حركته نحو التكامل وتثقله إلى الأرض وتوجب عبوديته وأسره {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف:157).والفرار يعني الهروب والتحرر من ذل اتّباع كل الآلهة والمعبودات التي تطاع من دون الله سواء كانت بشرية أو أصناماً حجرية أو أهواء وشهوات وغرائز أو أنظمة وقوانين من صنع البشر أو أعراف وتقاليد اجتماعية أو عشائرية أو سلطات وزعامات تحكم بغير ما أنزل الله، أو ضلالات أو أفكار مبتدعة أو أوضاع اجتماعية خارجة عما يريده الله تعالى بحيث صارت الدول التي تصف نفسها بالتحضر والعظمة تبيح الشذوذ الجنسي بين المثليين بقوانين رسمية تحت عنوان الحرية والديمقراطية وأمثالها، فالفرار يعني الهروب من كل هذه المعبودات المطاعة إلى الإله الواحد القهار وهو الله تبارك وتعالى.

بل المطلوب أكثر من ذلك وهو السعي الحثيث لتحرير البشرية منها وإزالتها وليس الانعزال السلبي فضلاً عن مداهنة أتباعها ومسايرتهم كالذي حصل قبل أيام حينما نجح بعض الإخوة في استصدار قرار من البرلمان يحظر تجارة المسكرات(1) وتناولها في محلات علنية وهو موافق للدستور الذي يمنع من مخالفة ثوابت الإسلام، ومن ما يخالف الديمقراطية وقد نال القرار موافقة الأغلبية، فانبرت أصوات منبوذة لرفض القرار حتى قال أحدهم أن هذا القرار يثبّط عزائم الحشد الذي يقاتل داعش لأنهم يشربون الخمر وقاتلوا داعش لأنها

ص: 18


1- صوت البرلمان العراقي بأغلبية الحاضرين البالغين (229) عضواً يوم السبت 20/ محرم/ 1438 الموافق 22/ 10/ 2016 على قرار منع استيراد وصناعة وبيع المشروبات الكحولية وتغريم المخالفين وكان لكتلة الفضيلة دور في النجاح وحصل بعده جدل كثير واعتراض من العلمانيين.

منعتهم منها، ولم يمتلك أكثر مدعي الشعارات الإسلامية الشجاعة في نصرة الحق والإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على نهج أبي عبد الله الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فكانوا على عكس ما أرادت منهم الآية الكريمة فاريّن من الله تعالى وليس اليه سبحانه فبئست الصفقة.5ولما كانت هذه الوسائل على درجات، فإن الفرار إلى الله تعالى له درجات متصاعدة في الكمال، كما أن الابتعاد عنه تعالى له دركات في الانحطاط، فأُولى درجات الفرار وأساسها توحيد الله تعالى ونبذ الشركاء عنه، وأرقاها الانقطاع عما سواه حتى عن نفسه فيصبح مخلَصاً لله تعالى فاراً مما سواه، مستقراً عنده عز وجل {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} (القيامة:12).

6ووسائل الفرار إلى الله تعالى غير منحصرة فالقيام بكل عمل صالح ومثمر ومفيد للشخص أو المجتمع هو فرار إلى الله تعالى واجتناب كل فعل سيئ مضرّ لا ينسجم مع التعاليم الإلهية هو فرار إلى الله تعالى، وأساس كل ذلك التوحيد كما في الآية أعلاه ومفتاحه ولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) والأخذ عنهم والتمسّك بنهجهم قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} (المائدة:35) فهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أوضح الوسائل إلى الله تعالى كما أفادت الروايات(1)، وقد ذكرت الروايات مصاديق أخرى، فقد روى الكليني في الكافي والصدوق في معاني الأخبار بالإسناد عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير الآية قال:(حجّوا إلى الله عز وجل) وهذا من باب ذكر بعض المصاديق وهي واسعة ولعل الحج هنا يراد به معناه اللغوي أي القصد إلى الله تعالى وتدل عليه رواية الشيخ الصدوق في (مَن لا

ص: 19


1- راجع تفسير البرهان: 3/ 232.

يحضره الفقيه) بسنده عن زيد الشهيد عن أبيه الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(يعني حجّوا إلى بيت الله، يا بني إن الكعبة بيت الله، فمن حجّ بيت الله قصد إلى الله، والمساجد بيوت الله، فمن سعى إليها فقد سعى إلى الله وقصد إليه)(1).وقد دلّت بعض المنقولات على أن أوسع وسائل النجاة والفرار إلى الله تعالى إحياء ذكر أبي عبد الله الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والعمل على تحقيق أهدافه المباركة في إصلاح الأمة وإحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى قال الشاعر الشعبي (غير حسين ما عدنا وسيلة) أي أنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أيسر وأسرع سفن النجاة.

ص: 20


1- راجع مصادرها في تفسير البرهان: 9/ 134.

القبس/154: سورة الرحمن 60

اشارة

{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}

قاعدة يتسالم عليها العقلاء وتدعو اليها الفطرة الانسانية يقررّنا الله تبارك وتعالى عليها بصيغة الاستفهام الاقراري لتعليل ما سبق ذكره من النعم، حيث جاءت الآية من سورة الرحمن في هذا السياق حيث بدأ المقطع بقوله تعالى {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} {الرحمن:46}، وذكر عدة من نعم الجنان، وليطمئننا بأن الأعمال الحسنة لا تضيع لأن الاحسان لا يجازى إلا بالإحسان {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} {الكهف:30}.

وقد كتب الله تبارك وتعالى على نفسه إجراء هذه القاعدة في تعامله مع عباده، فإنه لم يعاملهم بمقتضى العدل والمجازاة بالمثل، وانما كافأهم على اساس الاحسان والفضل مع انه هو المنعم والهادي والممكّن لعبده في فعل الاحسان {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (الحجرات:17)، وفي آمالي الصدوق بسنده عن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (سمعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول:ان الله عز وجل قال ما جزاء من أنعمتُ عليه بالتوحيد إلا الجنة)(1)، ومع انه غني عن عباده وحينما يحسنون فإنما يحسنون

ص: 21


1- آمالي الصدوق : 316 ح7.

لأنفسهم {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} {الإسراء:7}، فعطاؤه تعالى إحسان في إحسان، في نهج البلاغة من كلام لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(وَلَوْ كَانَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْرِيَ لَهُ وَلَا يَجْرِيَ عَلَيْهِ، لَكَانَ ذَلِكَ خَالِصاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَلِعَدْلِهِ فِي كُلِّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ قَضَائِهِ، وَلَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ حَقَّهُ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يُطِيعُوهُ وَجَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَيْهِ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ تَفَضُّلًا مِنْهُ وَتَوَسُّعاً بِمَا هُوَ مِنَ الْمَزِيدِ أَهْلُهُ)(1).ومن المعلوم أن الاحسان فوق العدل، لان العدل منح الاستحقاق فيأخذ ماله ويعطي ما عليه، اما الاحسان فإعطاء ما لا يلزمه من الخير والتنازل عما يستحقه، وقد أشارت آيات كثيرة الى هذا الاحسان، قال تعالى {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} {يونس:26} وقال تعالى {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} {الأنعام:160} وقال تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} {النساء:40}، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} {النمل:89} {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} {البقرة:261} .

ومن الروايات التي تصورّ لنا إحسان الله تبارك وتعالى ما ورد عن فضيل بن

ص: 22


1- نهج البلاغة : 333 خطبة 216.

عثمان المرادي قال:سمعت أبا عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):أربع من كن فيه لم يهلك على الله بعدهن إلا هالك، يهم العبد بالحسنة فيعملها فإن هو لم يعملها كتب الله له حسنة بحسن نيته، وإن هو عملها كتب الله له عشرا. ويهم بالسيئة أن يعملها فإن لم يعملها لم يكتب عليه شئ وإن هو عملها اجل سبع ساعات وقال صاحب الحسنات لصاحب السيئات وهو صاحب الشمال:لا تعجل عسى أن يتبعها بحسنة تمحوها، فإن الله عز وجل يقول: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (هود:114), أو الاستغفار فإن هو قال:" أستغفر الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم الغفور الرحيم ذو الجلال والإكرام وأتوب إليه " لم يكتب عليه شئ، وإن مضت سبع ساعات ولم يتبعها بحسنة واستغفار قال صاحب الحسنات لصاحب السيئات:اكتب على الشقي المحروم)(1)، ومع ذلك فأنه يمنح عدة فرص:(منها) فتح باب التوبة ما دام في هذه الدنيا، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(من تاب قبل أن يعاين قَبِل الله توبته) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال :(إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)(2).

و(منها) انه إذا فعل حسنات فانها تكفر السيئات بل تبدّلها الى حسنات {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} {هود:114}، {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}

ص: 23


1- شرح أصول الكافي المازندراني: 10/ 166
2- راجع مصادرها في ميزان الحكمة :1/ 514.

{الفرقان:70}.و(منها) اعتبار البلايا والصعوبات والالام التي يمر بها الانسان كفارة لذنوبه، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال :(الحمد لله الذي جعل تمحيص ذنوب شيعتنا في الدنيا بمحنتهم لتسلم بها طاعاتهم ويستحقوا عليها ثوابها)(1).

و(منها) العفو والصفح ابتداءاً تكرماً من الله تعالى وفضلاً من غير تسبيب العبد {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} {الشورى:30} .

عموم الآية للمسلم وغيره:-

والآية عامة لا تختص بالمؤمنين فكل من يصدر منه فعل الاحسان يكافئه الله تعالى بالإحسان مؤمنا كان او غير مؤمن على اختلاف درجاتهم في الكفر والشرك اوالجهل بالخالق، روى عبد الله بن مسعود قال:قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (ما أحسن محسن من مسلم، ولا كافر إلا أثابه الله :فقلنا:يا رسول الله، ما إثابة الكافر ؟ قال:إن كان قد وصل رحما، أو تصدق بصدقة، أو عمل حسنة أثابه الله المال والولد والصحة وأشباه ذلك، قال:فقلنا:فما إثابته في الآخرة ؟ قال:عذابا دون العذاب، وقرأ {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}(2) (غافر:46) .

هذا بالنسبة للمعاند اما غير المعاند فيكافئه الله تعالى بالهداية الى الاسلام والايمان وطريق الجنة والشواهد كثيرة على حصول مكافأة كبيرة لمن قام بعمل

ص: 24


1- بحار الانوار :67/ 232/ح48.
2- تفسير ابن كثير : 7/ 138.

يسير كتلك المرأة الفاسقة التي دخلت الجنة لأنها سقت قطة عطشى ماءاً، او الحر الرياحي(1) الذي لم يرّد على الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حين قال له ثكلتك امك يا حر لان امه الزهراء (س) فكوفئ بنيل الشهادة والسعادة الابدية.ونقل بعض المفسرين ان شخصا مسلماً شاهد امرأة كافرة تنثر الحب للطيور في الشتاء فقال لها:لا يقبل العمل من امثالك، فأجابته:اني اعمل هذا سواء قبل ام لم يقبل، ولم يمض وقت طويل حتى رأى الرجل هذه المراءة في حرم الكعبة، فقالت له يا هذا ان الله تفضل علي بنعمة الاسلام ببركة الحبوب القليلة(2).

ثمرة عملية لذكر الآية

أراد الله تعالى بتذكيرنا بهذا القانون الفطري وبتعامله معنا على اساسه أن يؤدبنا بهذا الأدب وان نتعامل بهذه القاعدة العقلائية الفطرية مع الله تبارك وتعالى المحسن المتفضل، وكذلك بيننا نحن البشر وإن خالفونا في الدين، فنجازي الاحسان بالإحسان، روى علي بن سالم قال: (سمعت ابا عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول: آية في كتاب الله مسجّلة، قلت:وما هي؟ قال:قول الله تبارك وتعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}, جرت في المؤمن والكافر والبرّ والفاجر، من صُنِع إليه معروف فعليه أن يكافىء به، وليس المكافأة أن يصنع كما صنع به، بل حتّى يرى مع فعله، لذلك ان له فضل المبتدى)(3).

وقد حثت الآيات الكريمة والروايات الشريفة على اتباع طريقة الاحسان في

ص: 25


1- الارشاد الشيخ المفيد: 78
2- تفسير الامثل: 13/ 475 حكاها عن روح البيان : 9/ 310.
3- تفسير البرهان : 9 / 193.

التعامل مع الاخرين وانه من افضل القربات التي توجب المحبة الالهية، قال تعالى {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (البقرة:195)،{وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت:69) ،{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (النحل:128)، ومن كلمات امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (عَلَيْكَ بِالإحْسانِ فَإنَّهُ أفْضَلُ زِراعَة وَ أرْبَحُ بِضاعَة) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)(رَأْسُ الإيمانِ اَلإحْسانُ إلَى النّاسِ) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (نِعْمَ زادُ المَعادِ الإحْسانُ إلَى العِبادِ) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)(لَوْ رَأيْتُمُ الإحْسانَ شَخْصاً لَرَأَيْتُمُوهُ شَكْلاً جَميلاً يَفُوقُ العالَمينَ)(1).

الانسان يخالف هذه القاعدة:

لكن الانسان العنود الكنود المجادل الجهول الظلوم خالف هذه القاعدة في علاقته مع ربّه ولم ينصفه بأدنى درجات الانصاف فيكون الاستفهام في الآية استنكارياً بهذا اللحاظ، ويكون فيها عتاب للإنسان بأنه لا يعمل بها بعد أخذ اقراره بها في عيون اخبار الرضا وآمالي الطوسي بالإسناد عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه الطاهرين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(حدثني أخي رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال :يقول الله عز وجل:يا أبن آدم ما تنصفني ! أتحبّبُ اليك بالنعم، وتتمّقت اليَّ بالمعاصي، خيري اليك نازل وشرُّك اليَّ صاعد، ولا يزال ملكُ كريم يأتيني عنك في كل يوم بعملٍ غير صالح، يا ابن آدم لو سمعت وصفك من غيرك

ص: 26


1- ميزان الحكمة 2:391.

وانت لا تدري من الموصوف لسارعت الى مقته)(1). وورد هذا المعنى في دعاء الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) المروي عن طريق ابي حمزة الثمالي (ذُنُوبُنا بَيْنَ يَدَيْكَ نَسْتَغْفِرُكَ الّلهُمَّ مِنْها وَنَتُوبُ اِلَيْكَ، تَتَحَبَّبُ اِلَيْنا بِالنِّعَمِ وَنُعارِضُكَ بِالذُّنُوبِ، خَيْرُكَ اِلَيْنا نازِلٌ، وَشُّرنا اِلَيْكَ صاعِدٌ، وَلَمْ يَزَلْ وَلا يَزالُ مَلَكٌ كَريمٌ يَأتيكَ عَنّا بِعَمَل قَبيح، فَلا يَمْنَعُكَ ذلِكَ مِنْ اَنْ تَحُوطَنا بِنِعَمِكَ، وَتَتَفَضَّلَ عَلَيْنا بِآلائِكَ، فَسُبْحانَكَ ما اَحْلَمَكَ وَاَعْظَمَكَ وَاَكْرَمَكَ مُبْدِئاً وَمُعيداً، تَقَدَّسَتْ اَسْماؤكَ وَجَلَّ ثَناؤُكَ، وَكَرُمَ صَنائِعُكَ وَفِعالُكَ)(2).

اما الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فيفصّل أكثر في بيان هذه العلاقة غير المنصفة بين الانسان وربّه في دعائه العظيم يوم عرفة فبعد ان قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (يا من قل له شكري فلم يحرمني، وعظمت خطيئتي فلم يفضحني، ورآني على المعاصي فلم يخذلني، يا من حفظني في صغري يا من رزقني في كبرى، يا من أياديه عندي لا تحصى، يا من نعمه عندي لا تجازى يا من عارضني بالخير والاحسان، وعارضته بالإساءة والعصيان) بدأ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بتفصيل عدم انصاف الانسان لربه، فيقول عن ربه تعالى (يا مَوْلاىَ اَنْتَ الَّذى مَنْنْتَ، اَنْتَ الَّذى اَنْعَمْتَ، اَنْتَ الَّذى اَحْسَنْتَ، اَنْتَ الَّذى اَجْمَلْتَ، اَنْتَ الَّذى اَفْضَلْتَ، اَنْتَ الَّذى اَكْمَلْتَ، اَنْتَ الَّذى رَزَقْتَ، اَنْتَ الَّذى وَفَّقْتَ، اَنْتَ الَّذى اَعْطَيْتَ، اَنْتَ الَّذى اَغْنَيْتَ، اَنْتَ الَّذى اَقْنَيْتَ، اَنْتَ الَّذى آوَيْتَ، اَنْتَ الَّذى كَفَيْتَ، اَنْتَ الَّذى هَدَيْتَ، اَنْتَ الَّذى عَصَمْتَ، اَنْتَ الَّذى سَتَرْتَ، اَنْتَ الَّذى غَفَرْتَ، اَنْتَ الَّذى اَقَلْتَ، اَنْتَ الَّذى مَكَّنْتَ، اَنْتَ الَّذى اَعْزَزْتَ، اَنْتَ الَّذى

ص: 27


1- امالي الطوسي : 202 ح 10 من الجزء الخامس ،عيون اخبار الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) :2/ 28.
2- مفاتيح الجنان : 337.

اَعَنْتَ، اَنْتَ الَّذى عَضَدْتَ، اَنْتَ الَّذى اَيَّدْتَ، اَنْتَ الَّذى نَصَرْتَ، اَنْتَ الَّذى شَفَيْتَ، اَنْتَ الَّذى عافَيْتَ) الى اخر ما قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) .وماذا عن العبد ؟ قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، (ثُمَّ أَنَا يَا إِلَهِي الْمُعْتَرِفُ بِذُنُوبِي فَاغْفِرْهَا لِي، أَنَا الَّذِي أسأت، أنا الّذي أَخْطَأْتُ، أَنَا الَّذِي جَهِلْتُ، أَنَا الَّذِي غفَلْتُ، أَنَا الَّذِي سَهَوْتُ، أَنَا الَّذِي اعْتَمَدْتُ، أَنَا الَّذِي تَعَمَّدْتُ، أَنَا الَّذِي وَعَدْتُ، أَنَا الَّذِي أَخْلَفْتُ، أَنَا الَّذِي نَكَثْتُ، أَنَا الَّذِي أَقْرَرْتُ، أنا الّذي اعترفت بِنِعْمَتِكَ عِليَّ وعنْدِي، وَأَبُوءُ بِذُنُوبِي فَاغْفِرها لِي)(1).

وإذا كان السائد على علاقة الانسان مع ربّه وخالقه هو عدم الانصاف، فهو كذلك مع الناس حيث يسود الناس الظلم والفساد والغش والخداع والاحتيال قال تعالى {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} (الروم:41) خلافاً للأدب الذي أمرنا الله تعالى به أن نجازي بالإحسان من احسن الينا وعلى رأسهم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والائمة الطاهرون (صلوات الله عليهم اجمعين) والعلماء العاملون المخلصون والوالدان {بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} (البقرة:83) وجيراننا وارحامنا والذين علّمونا والذين ربّونا وهكذا كل من أحسن الينا.

بل أمرنا بالإحسان حتى لمن اساء الينا، قال تعالى:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} (المؤمنون :96) {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلّت:34).

ص: 28


1- مفاتيح الجنان : 467 اعمال شهر ذي الحجة.

القبس/155: سورة الحديد:4

اشارة

{وَهُوَ مَعَكُم أَينَ مَا كُنتُمۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِير}

موضوع القبس:المعية الإلهية ... الثمرات والمراتب

تنبّه الآية الكريمة إلى حقيقة قرآنية عظيمة تزيد الانسان كمالاً ومعرفة بربّه كلما ازداد ايماناً بها واستحضرها في وجدانه فعلاً.

تلك الحقيقة هي ان الله تعالى معكم في جميع مراحل تكوّنكم في الدنيا والآخرة وفي كل مكان تكونون فيه ومهما اعتقدتم انكم في خلوة وانفراد فانه معكم، وهو تعالى معكم في كل زمان وفي كل حالة من حالاتكم ومطلّع عليكم ومحيط بكم {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (سبأ:3) فالمعيّة الإلهية متحققة من جميع الجهات، وان لفظ (اين ما) الوارد في الآية لا يحدّدها بالمعية المكانية، ولعل ذكرها باعتبار ان المعية المكانية هي الاوضح في الاذهان للتعبير عن الاقتران وكذا الغيبة المكانية أوضح في التعبير عن الافتراق.

ولذا جاءت الفقرة التالية لها {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} كالنتيجة لهذه الحقيقة لان لازم حضوره معكم وعدم احتجابكم عنه وإحاطة علمه بكم أن يكون بصيراً بأعمالكم عالماً بنيّاتكم وأغراضكم أي يعلم ظاهر الاعمال وباطنها.

وقد تكرر هذا المعنى في آيات كريمة أخرى كقوله تعالى {أَلَمْ تَرَ أَنَّ

ص: 29

اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (المجادلة:7) وقال تعالى {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} (النساء:108).وقد استلهم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هذه الحقيقة وقدّم توجيهاً تربوياً في وصيته لأبي ذر (رضوان الله تعالى عليه) بقوله (أعبد الله كأنك تراه فان كنت لا تراه فأنه يراك)(1) والعبادة تسري في كل شؤون الحياة.

إن الايمان بهذه الحقيقة له عدة آثار في حياة الانسان:

1 سيشعر انه ليس وحيداً في مواجهة الصعوبات والمحن والبلاءات وانما يكون معه رب رؤوف رحيم يشفق عليه ويرعاه ويدفع عنه ويحميه ويستجيب لدعائه وطلباته واذا تأخرت الإجابة فلمصلحته لانَّ ربه يختار له الخير ويكافئه على الاحسان ويعفو عن الإساءة وينصره عند الضعف والانقطاع {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} (الشعراء:62) {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ، وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} (الشعراء:7882) فهي معيّة الايجاد والهداية ومعيّة الاطعام والسقي ومعيّة الشفاء من المرض ومعيّة البعث والنشور. وبذلك يتحول عجز الانسان وضعفه إلى قوة واقتدار ويتبدل خوفه وقلقه

ص: 30


1- مكارم الاخلاق للطبرسي: 626

بفضل الله تعالى إلى أمن وطمأنينة قال تعالى {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} (محمد:35) وقال تعالى {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} (التوبة:40). روى الشيخ الصدوق عن إمامنا الْعَسْكَرِيِّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أَنَّهُ سُئِلَ إمامنا الصَّادِقُ عَنِ اللَّهِ؟ فَقَالَ لِلسَّائِلِ:" يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، هَلْ رَكِبْتَ سَفِينَةً قَطُّ "؟ قَالَ:بَلَى. قَالَ:" فَهَلْ كُسِرَ بِكَ حَيْثُ لَا سَفِينَةَ تُنْجِيكَ، وَلَا سِبَاحَةَ تُغْنِيكَ "؟ أي حالة انقطاع أسباب النجاة قَالَ:بَلَى. قَالَ:" فَهَلْ تَعَلَّقَ قَلْبُكَ هُنَاكَ أَنَّ شَيْئاً مِنَ الْأَشْيَاءِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُخَلِّصَكَ مِنْ وَرْطَتِكَ "؟ قَالَ:بَلَى. قَالَ الصَّادِقُ:" فَذَلِكَ الشَّيْ ءُ هُوَ اللَّهُ الْقَادِرُ عَلَى الْإِنْجَاءِ حِينَ لَا مُنْجِيَ، وَعَلَى الْإِغَاثَةِ حِينَ لَا مُغِيثَ ")(1) لاحظوا عظمة النعمة بحضور الله تعالى معنا، وأي وحشة وعجز وضعف يحسّ به المنكر للخالق.

وتزداد معية التوفيق والتأييد كلما ازداد العبد قرباً من ربّه {وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي} (المائدة:12) أي ان بعض مراتب المعيّة العالية مشروطة بالإيمان والعمل الصالح.

وفي الحديث الشريف (انا عند المنكسرة قلوبهم)(2) أي ان الالطاف الإلهية الخاصة تحضر عند انكسار القلب لاي سبب كان سواء من خشية الله تعالى او عند

ص: 31


1- التوحيد للصدوق: 231، معاني الأخبار: 4 / ح 2، بحار الانوار:64/ 137
2- منية المريد، ص 123، وفيه: (أنا عند المنكسرة قلوبهم) ودعوات الراوندي: ص 276، وفيه: روي أن داود (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: إلهي هل يذكر أحد الأموات حين درست قبورهم؟ قال: يا داود إني لم أنسهم أحياء مرزوقين، فكيف أنساهم أمواتاً مرحومين! كلما قطعت لهم إرباً غفرت لهم ذنباً وأغفر لهم بكل شعرة سقطت وبكل عظم بلي وأنا أرحم الراحمين.

التعرض لمظلومية وعدوان وغير ذلك . 2 وسيشعر أيضاً أنه ليس مطلق السراح في اتباع شهواته ونزواته واهوائه ويفعل ما يشاء من جرائم ومنكرات وظلم للآخرين وإنما هو تحت الرقابة الإلهية التي لا تحيط فقط بظاهر الاعمال بل تنفذ إلى باطن العمل فتعلم النية والغرض، فقد يكون العمل حسناً بحسب الظاهر الا انه في حقيقته سيئ لان نية صاحبه سيئة كما لو قام به رياء او طلباً للسمعة والجاه ونحو ذلك ولم يكن يبتغي به وجه الله تعالى لان الناقد بصير وهيهات لن يخدع الله عن جنته(1) كما ورد في كلمات أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

وهذا الشعور يدفع العباد إلى القيام بالمزيد من الاعمال الصالحة وتخليص النيات من الشوائب وتجنب الاعمال السيئة والظلم والعدوان، فهذه الرقابة الإلهية لمصلحة الإنسان وهي توجّه بوصلة حياته نحو الخير وتضبط استقامته وليست شيئاً قسرياً مفروضاً عليه.

وهي رقابة داخلية تستقر في ضمير الانسان وتكون حاضرة اذا غابت عنه رقابة الأجهزة والقوانين الحكومية أو الأعراف الاجتماعية.

ولأهمية هذه الحقيقة فقد ورد في الحديث الشريف عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (من أفضل ايمان المرء أن يعلم أن الله تعالى معه حيث كان)(2).

أيها الاحبّة:

لقد أرادت السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء (س) أن ترسّخ هذه الحقيقة في

ص: 32


1- نهج البلاغة: 2/ 12
2- سند أبي داود ح 1582، الدر المنثور: 6/ 171

قلوب وعقول الأمة لما رأت غفلة الكثيرين عنها وأن سلوكهم كان لا ينمّ عن إيمان حقيقي بها وإن اعتقدوا بها ظاهراً فخاطبت جمعهم بقولها (أنتم عباد الله نصب أمره ونهيه) وقالت (س) (فاتقوا الله حق تقاته ولا تموُّتن الا وانتم مسلمون، واطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه)(1). وتحذّر (سلام الله عليها) من عدم الالتفات إلى هذه الحقيقة والعمل بها فقالت (لتجدنّ والله محمله ثقيلاً، وغّبه - أي عاقبته - وبيلا اذا كشف لكم الغطاء، وبان ما وراءه الضراء، وبدا لكم من ربّكم مالم تكونوا تحتسبون وخسر هناك المبطلون)(2).

من هذا نعرف الخسارة العظمى التي تحل بالإنسان حينما يغفل عن هذه الحقيقة او ينفيها او يتسافل اكثر فينكر وجود الخالق ونعرف حجم الخسارة التي تحل بالأمة حينما يروّج البعض فيها إنكار هذه الحقيقة ويدعو إلى الالحاد ونبذ الدين ونحو ذلك، لا لشيء الا لكي يطلقوا العنان لشهواتهم واتباع اهوائهم ولكي لا يؤنّبهم ضميرهم وليغطّوا على الشعور بالذنب والخطيئة {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} (النمل:56) فيخدعون أنفسهم بإنكار هذه الحقيقة العظمى أعني وجود الخالق فيكون حالهم كالوصف المنقول عن النعامة أنها اذا أحدق بها الخطر دفنت رأسها في التراب لكي لا تراه وتخدع نفسها بالتخلص منه.

هذا هو الدافع الحقيقي لمن يقف وراء دعوات الالحاد ونبذ الدين اما

ص: 33


1- الاحتجاج للطبرسي: 1/ 128
2- الاحتجاج للطبرسي: 1/ 136

التابعون لهم فهم مخدوعون ببعض الشعارات والادعاءات، وإلا فإن دعاوى إنكار الخالق أو الشرك به أوهام باطلة من صنع خيالات فاسدة ولا يساعد عليها عقل ولا منطق عقلائي بل أن العقل السليم يسخر من هذه الأفكار لان أبسط جهاز أو آلة حولنا لا يمكن أن نصدّق انه وُجد بلا صانع عاقل فكيف بالكون المترامي الذي يتحرك بنسق متناهي الدقة ووفق قوانين محكمة أتاحت المجال لعلماء الفلك أن يحسبوها ويستفيدوا منها في الرحلات الفضائية.فأحذروا أيها الأحبة من كل سبب يؤدي الى الغفلة عن الله تعالى، وحذّروا الناس من كل الدعوات التي تريد تغييب الله تعالى عن الحياة وعزله والتحلل من هذا الالتزام معه سبحانه وتعالى، واعملوا على ترسيخ حقيقة أن الله معنا لدى عموم الناس، وادعوا بالحكمة والموعظة الحسنة المتأثرين بما ينشر في مواقع التواصل لتنقذوهم من ضلالهم حتى يستشعروا هذه النعمة العظيمة والمسؤوليات تجاهها، وذلك بعد ان تتسلحوا بالعلم والمعرفة ولو على المستوى الفطري والعقلائي الذي لا يحتاج إلى دراسات معّمقة ومتخصصة.

وقد ورد في رواية (1) عن السيدة الزهراء فيمن يقوي الايمان والدين وينصر المؤمنين ويدحض شبهات المضلّين والمنحرفين ان الله تعالى يضاعف له ما اعدَّ له من المنزلة الكريمة المستحقة له في الجنان الف الف ضعف، فعلى الجميع ان لا يتقاعسوا عن نصرة الدين وهداية الناس وخدمتهم، وقد حذّرت السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء (س) من ان حب الراحة والدعة واللامبالاة والكسل أسباب حقيقية لتضييع الحق وحذّرتهم من خذلانه فقالت (س) (الا وقد أرى أن قد

ص: 34


1- بحار الانوار : 2/ 8، ح 15

اخلدتم إلى الخفض - أي الحياة المرفّهة - وأبعدتم من هو أحقّ بالبسط والقبض، وخلوتم بالدعة - أي الراحة والسكون -)(1).وفقنا الله تعالى وإياكم لنصرة الدين وإعلاء كلمة الله رب العالمين ونشر شريعة سيد المرسلين (صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين).

ص: 35


1- الاحتجاج: 1/ 133.

القبس/156: سورة الحديد:12

اشارة

{يَومَ تَرَى ٱلمُؤمِنِينَ وَٱلمُؤمِنَتِ يَسعَى نُورُهُم}

موضوع القبس:موعظة من سورة الحديد

{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 12 يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ 13 يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ 14 فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ15}

أهمية المسبحات:

سورة الحديد من السور المباركة التي كان يهتم بها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وروي انه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان حينما يأوي إلى فراشه للنوم يتلو سور المسبّحات(1)، وهي السور التي تبدأ بكلمات التسبيح، وأولها سورة الحديد ومعها سورة الحشر

ص: 36


1- أنظر مستدرك الوسائل: ج4 ص289.

والصف والجمعة والتغابن وهي في الجزء الثامن والعشرين من المصحف الشريف. وروى العلامة الطبرسي في مجمع البيان عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (من قرأ المسبحات كلّها قبل ان ينام لم يمت حتى يدرك القائم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وان مات كان في جوار رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)(1).

سورة الحديد ومحاسبة النفس:

وسورة الحديد من السور النافعة في الموعظة وترقيق القلب، فإدامة تلاوتها قبل النوم يساعد على إجراء المراجعة مع النفس في نهاية كلِ يوم، وهي المحاسبة التي أمرنا المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بها، وقالوا في ذلك (ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم)(2) فمن يحاسب نفسه كل ليلة يكون منهم ومعهم (صلوات الله عليهم أجمعين) وهذا أحد وجوه تفسير الحديث السابق في ثواب قراءة المسبحات.

معاني الآية والموعظة منها:

ونأخذ منها اليوم مقطعاً يعطينا قاعدة في السلوك المعنوي خصوصاً لكم أيها الشباب الجامعيون ونستقي منه أيضاً درساً في الموعظة يعرض مشهداً من مشاهد يوم القيامة، ذلك اليوم المهول الذي ورد وصفه في القران الكريم بأوصاف مذهلة

ص: 37


1- مجمع البيان 9/ 345.
2- وسائل الشيعة: باب وجوب محاسبة النفس كل يوم وملاحظتها وحمد الله على الحسنات وتدارك السيئات، ح1، ج16 ص95.

{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (الحديد:12) يستعرض المشهد مقارنة بين حالي المؤمنين والمنافقين وحواراً، اما المؤمنون والمؤمنات فانهم {يَسْعَى نُورُهُمْ} في ذلك اليوم الذي تنكسف به الشمس وتنكدر النجوم وتكون الجبال كالقطن المنفوش وتشتد الظلمات بعضها فوق بعض، يلطف الله تعالى بالمؤمنين والمؤمنات فيوفّر لهم نوراً يسعى بهم الى الجنة والسعادة، والسعي هو السير الحثيث فهو يسرع بهم الى الجنة، ولما كان النور ينبعث منهم، فإنهم في الحقيقة هم الذين يسعون لأنهم مصدر النور، ونسب السعي إليه لأنه يتقدمهم.{بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} هذا النور ينبعث من امامهم ومن ايمانهم، ولعل الذي من امامهم هو نور الايمان وعقائدهم الحقة في التوحيد والنبوة والإمامة، لذا ورد في الكافي بسنده عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن النور قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أئمة المؤمنين يوم القيامة تسعى بين يدي المؤمنين وبإيمانهم حتى ينزلوهم منازل أهل الجنة)(1)، ولعله نور ذواتهم الطيبة المحبوبة عند الله تعالى، أما النور من يمينهم فهو نور أعمالهم الصالحة حيث يؤتى المؤمن كتابه بيمنه {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ، إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ، فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ، قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ،} (الحاقة:1924).

{بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (الحديد:12) وما دامت هذه عاقبتهم، فإنها بشرى حقيقية

ص: 38


1- الكافي: 1/ 151 ح5.

ويستحقون التهنئة على هذا الفوز العظيم وما أعظمه من فوز ومن خاتمة حسنة في تلك الحياة الخالدة.{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} (الحديد:13) هذه هي الصورة المقابلة للبائسين الخاسرين من المنافقين والمنافقات فإنهم في ظلمات وخوف ورعب وعذاب وألم، فالتفتوا إلى المؤمنين والمؤمنات وهم في ذلك العيش الرغيد وطلبوا منهم أن يلتفتوا إليهم ويسعفوهم بقبس من النور يخفّف عنهم بعض الأهوال.

{قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} (الحديد:13), فجاءهم الجواب إنّ الفرصة قد فاتت الآن لتحصيل النور لأنّه حصيلة أعمالكم الّتي اكتسبتموها في الدنيا، فكان عليكم أن تلتفتوا إلى هذه الحقيقة في الدنيا فتؤمنوا وتعملوا الصالحات لتتحول إلى نور في هذا اليوم، فإن استطعتم أن ترجعوا إلى الدنيا لتحصيل النور، وذلك مستحيل {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} (ص:3).

{فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} (الحديد:13), ففصل بينهم بجدار عازل كما كانوا في الدنيا منفصلين ومتباينين في سلوكهم واعتقاداتهم ونظرتهم إلى الحياة، وإن كانوا متعايشين في مجتمع واحد وبيئة واحدة فجُسِّدَت تلك المباينة بسور عازل (له باب) لينظر بعضهم إلى بعض من خلاله وليجري بينهم هذا الحديث وليقارن كل من الفريقين حاله مع حال الآخر فيزداد المؤمنون والمؤمنات شكراً لله تعالى على ما انعم، والمنافقون والمنافقات ألماً وحسرة وندامة على ما فرطوا في أمر آخرتهم.

ص: 39

{بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} (الحديد:13), صفة هذا السور أن ما بداخله الرحمة والسعادة والعيش الهنيء وهو محل المؤمنين، أما خارجه فالعذاب والوحشة والخوف والألم وهو محل المنافقين والمنافقات، ومثاله المدن في ذلك الزمان عندما كانت تحاط بسور متين يحميها من هجمات الأعداء واللصوص والمحتلين والمجرمين، فتجد داخل المدينة البيوت المريحة والشوارع المنظّمة والأسواق العامرة والمياه العذبة وسائر أسباب الرفاهية، أما خارجها فالصحراء والوحشة والمخاطر والجوع والظمأ والخوف، وهذا مثال حال يوم القيامة.{يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} (الحديد:14)، وحينئذ نادى المنافقون والمنافقات المؤمنين والمؤمنات، وعبَّر بالمناداة وليس (قالوا) ونحوها للبينونة البعيدة بينهما ولم تكن مواضعهم متقاربة، فخاطب المنافقون المؤمنين الذين يعرفونهم ألم نكن معكم في مدينة واحدة وجامعة واحدة ودائرة واحدة ومجتمع واحد بل ربما في بيت واحد كنا نعيش سوية فلماذا حصل هذا التفاوت العظيم بيننا.

ويظهر من بعض الروايات ان المراد بهم المنحرفون عن ولاية أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فيناديكم أعداؤنا وأعداؤكم من الباب الذي في السور ظاهره العذاب:ألم نكن معكم في الدنيا، نبيّنا ونبيّكم واحد، وصلاتنا وصلاتكم واحدة، وصومنا وصومكم واحد، وحجُّنا وحجُّكم واحد).(1)

ص: 40


1- تفسير البرهان: 9/ 225.

{قَالُوا بَلَى} فأجاب المؤمنون نعم كنّا هكذا سوية بأبداننا لكن أرواحنا وعقائدنا وسلوكياتنا كانت متباعدة ومتباينة، ولنضرب مثالاً من واقعكم أنتم الشباب الجامعي فأنتم الموجودون هنا تأتون إلى زيارة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وتستمعون إلى المواعظ والتوجيهات بينما ذهب آخرون من زملائكم إلى حيث اللّهو والعبث والمجون، فيوجد انفصال بينكم في السلوك والرؤى وهذا هو الذي جسّد هذا التفاوت بيننا يوم القيامة. {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (الحديد:14) ومن هنا يبدأ تعداد الأسباب التي جعلت مساراتنا في الحياة الدنيا متباينة، انكم فتنتم أنفسكم واتبعتم الشهوات وسرتم وراء أهوائكم من دون بصيرة وتعقل واتباع لشرائع الله تعالى.

{وَتَرَبَّصْتُمْ} إذ كنتم تترقبون زوال الدين والقضاء على أهله وإسكات صوت الحق الذي كان يقض مضاجعكم ويسبب لكم ألماً باطنياً ووخز الضمير.

{وَارْتَبْتُمْ} حيث كنتم تشككون بالعقائد والأحكام الإلهية وتثيرون الشكوك والشبهات حولها لتجعلوا لأنفسكم مبررات لعدم الالتزام بها، وتفاقم ارتيابكم ليشمل حتى أقدس المقدسات كما نسمع اليوم من بعض أدعياء الحداثة تشكيكات في أصل نبوة النبي محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وكون القرآن نازلاً من الله وهم مسلمون!!!

{وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} خدعتكم وعود الشيطان وأوليائه وعبيده بدنيا مزيّفة وأموال ومواقع وشهوات ونحوها.

{حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} حتى فاجأكم الموت وطويت صفحة أعمالكم

ص: 41

وانقطعت عنكم فرصة التدارك والتعويض والإصلاح والمراجعة.{وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} ونجح الشيطان بخداعكم والمكر والتغرير بكم وأنتم تتحملون المسؤولية باتّباعكم إيّاه رغم التحذير الشديد من قبل الله تعالى {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} (الإسراء:53) {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} (البقرة:168).

{فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (الحديد:15)، وكانت هذه النتيجة الحتمية لسوء أعمالهم أن يجتمعوا مع الكفّار في النار والعذاب الأليم لأنها هي الأولى بهم والأليق لخبثهم حتّى تطهرهم النار وتزيل أدرانهم.

وهنا يلتفت الله تعالى إلى المؤمنين والمؤمنات ويخاطبهم بعتاب رقيق وتساؤل ملؤه الحنان والشفقة بأن يستفيدوا من هذه المواعظ ويطهروا بها قلوبهم ويهذّبوا أنفسهم، وإلا فإنها تقسو وتسوَّد بطول الأعراض عن الموعظة وذكر الله تعالى والانغماس في الملذات واللهاث من أجل التوسع في الدنيا، حتى يطبع عليها فلا تنفع معها موعظة والعياذ بالله تعالى {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد:16).

قدّمت لكم هذا النموذج مما أدعو إليه من التفسير المبسّط للقرآن الكريم الذي يعيننا على التدبّر في آياته من دون الحاجة إلى الكتب المعمّقة في التفسير.

ص: 42

قاعدة مهمة في السير الى الله تعالى:

وأريد أن أركّز من خلاله على الوصف الذي ورد في المقطع {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} فهذه قاعدة مهمة في السلوك المعنوي إلى الله تعالى، وهي الالتفات إلى حقائق الأمور لاتخاذ المواقف الصحيحة، وعدم الانخداع بالظاهر وبناء القرارات عليه.

فإن كثيراً من الأفعال والمواقف تبدو في ظاهرها لذيذة ممتعة إلا أنّها تستبطن الشقاء والعذاب والألم، وعلى العكس من ذلك فإن بعضاً آخر منها يبدو ظاهره متعباً مكروهاً إلا أن حقيقته السعادة والنعيم، لذا ورد في الحديث (حُفّت الجنة بالمكاره والنار بالشهوات)(1).

أمثلة للشباب:

ولنأخذ أمثلة من واقعكم الشبابي الجامعي، فإن البعض قد يتصور ان إقامة علاقات غير مشروعة مع الجنس الآخر فيها لذة ومتعة وسعادة ولكن الحقيقة خلاف ذلك لأن المجتمع سيرفضهما خصوصاً البنت وسيؤثر ذلك على مستقبلها وتسبّب تلك العلاقة شقائها، وربما بعض ردود الأفعال المؤلمة، هذا في الدنيا أما ما بعد الموت وفي الآخرة فسيعيشون حالة الألم والندامة والعذاب.

والمثال الآخر بعض الشباب المهووسين بالسفر إلى بلاد الغرب ليعيش حياة مرفهة سعيدة لكنه يضيّع دينه وأسرته وتكون زوجته وأولاده متمردين عليه وخارجين عن إرادته بسبب القوانين المعمول بها هناك.

ص: 43


1- بحار الأنوار: ج68 ص72.

ومن أمثلتها من يلتحق بجهة سياسية أو دينية أو اجتماعية من دون أن يتحقق من إخلاصها واستقامة سيرتها ومصداقيتها في العمل بما يرضي الله تعالى، يغرونه بمواقع النفوذ وتحصيل المال والامتيازات فتزل قدمه ويبتعد عن جادة الاستقامة وتكون عاقبته زلل قدمه عن الصراط.فهذه كلها امور ظاهرها أنيق وفيها الراحة والدعة والترف والانسياق مع التيار العام إلا أن عاقبتها وخيمة.

وفي مقابل ذلك توجد نماذج أخرى كتعرض الفتاة الجامعية المحجّبةالعفيفة إلى ضغط اجتماعي بأن مظهرها غير أنيق وانها متخلفة أو معقدة ونحوها من الأوصاف الاستفزازية.

وكذا الشاب الذي يلتزم بالمظهر المهذّب أو يلتزم بالآداب والأحكام الشرعية فيضغط عليه بنفس الطريقة ليستسلم وينهار وينساق معهم، وربما يتبارى زملاؤه الفسّاق في استدراجه معهم وإنهاء مقاومته.

أو الموظّف الأمين الملتزم الذي لا يخون الأمانة التي تحت يده فإنه يعاني من استفزاز أقرانه وانه سوف لا يستطيع أن يعيش كأقرانه ويبقى في الحضيض ولا يتقدم، وما ذلك إلا لحسدهم إياه على سمّوه وعجزهم وضعفهم عن الوصول إلى قمّته.

أو محاولة البعض لثني الملتزمين بالدين – كالصوم في الأيام الحارة أو القيام في الليل البارد للعبادة ونحوها - عن عمله وإيجاد المبررات لترك العمل.

فهذه كلها أمور قد تبدو مكلفة ومتعبة وتحتاج إلى صبر ومصابرة وتحمّل للمكاره، إلا أن فيها الفوز والفلاح وحسن الخاتمة.

ص: 44

الاختبار مستمر في الدنيا:

وهذا الاختبار مستمر ما دمنا في الحياة الدنيا، والنجاح فيه يكشف عن الفوز في الآخرة، وستتجلى هذه الحقيقة بوضوح في عصر الظهور، ففي الرواية (يخرج الدجال عدو الله ومعه جنود من اليهود وأصناف الناس، معه جنة ونار ورجال يقتلهم ثم يحييهم، ومعه جبل من ثريد ونهر من ماء. وإني سأنعت لكم نعته إنه يخرج ممسوح العين في جبهته مكتوب كافر يقرأه كل من يحسن الكتاب ومن لا يحسن، فجنته نار وناره جنة، وهو المسيح الكذاب، ويتبعه من نساء اليهود ثلاثة عشر آلاف امرأة فرحم الله رجلا منع سفيهه أن يتبعه، والقوة عليه يومئذ القرآن فإن شانه بلاء شديد، يبعث الله الشياطين من مشارق الأرض ومغاربها فيقولون له استعن بنا على ما شئت)(1).

فالالتفات إلى القاعدة التي ذكرناها يعين على النجاح في تلك الاختبارات وبناء مستقبل معنوي متكامل بلطف الله تبارك وتعالى، وإنما سميناها قاعدة لأنها تعطي رؤية تبرمج حياة الإنسان وتنظم أموره والله المستعان.

ص: 45


1- الدر المنثور : ج 5 ص 354.

القبس/157: سورة المجادلة:6

اشارة

{أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ}

موضوع القبس: ذنوبٌ قلّما نلتفت إليها

قال الله تبارك وتعالى {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (المجادلة:6)

الناس بكل مستوياتهم ودرجاتهم في التكامل او التسافل سيبعثهم الله تعالى يوم القيامة ويخبرهم بأعمالهم تفصيلاً كما هي، وسيفاجأون لأنهم كانوا غافلين عما يصدر منهم من قول او فعل {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (ق:22) وكانوا لا يراقبون الله تعالى في افعالهم فوقعوا فيما وقعوا فيه.

لكن الله تعالى احصاه لأنه {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (الحج:17) {أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} (فصلت:54)، وتؤكد الآية التالية هذه الشهادة وهذه الإحاطة {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (المجادلة:7)، وله شهود من نفس الانسان {يَوْمَ تَشْهَدُ

ص: 46

عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النور:24)، هذا غير الملائكة التي تسجل افعال العباد وبقاع الأرض تشهد على ما جرى عليها وغير ذلك.وفي الآية طمأنة لمن عمل الطاعات بانها لا تضيع وأنها بعين الله تعالى {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} (الكهف:30) وتحذير لمن عمل المعاصي بانها مسجلة عليه ويحاسب عليها {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة:78).

هذه هي الحالة العامة للناس، وقد تخفى بعض الذنوب حتى على المراقبين والملتفتين ونتحدث الان عن حالة وردت في أدعية الصحيفة السجادية وهي إلفات نظر العبد إلى ذنوبٍ يغفل عنها تماماً، فقد يرضى البعض عن نفسه، ويعتقد أنه على خير ما دام قد أدّى الواجبات الرئيسية كالصلوات المفروضة وصيام شهر رمضان ودفع ما بذمته من خمس ونحوه من الحقوق الشرعية، وما دام قد اجتنب المحرّمات الرئيسية كالزنا وشرب الخمر واللواط والسرقة والقتل بغير حق ونحوها.

وهو لعمري خيرٌ كثير أن يلتزم العبد بذلك، لكن حالة الرضا عن النفس حالة غير صحيحة لأنّ أموراً أخرى كثيرة لا يلتفت إليها الإنسان، لكنّها مؤثرة في ميزان أعماله، وقد تقلب هذا الميزان رأساً على عقب باتجاه الفوز أو باتجاه السقوط والعياذ بالله تعالى.

وكلامنا في الحالة الثانية إذ قد يظنّ الإنسان أنه على خير، ولا يعلم ما سوّد به صحائفه، ولا يلتفت إليها أصلاً إمّا لغفلته، أو لجهله بأنّ هذه ذنوب، أو انّه يعلم

ص: 47

ذلك ولكنه يتساهل فيها ويقلّل من شأنها وتأثيرها، ولذا ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) التحذير من المحقّرات من الذنوب قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اتقوا المحقرات من الذنوب فإنّها لا تغفر، قلت:وما المحقرات ؟ قال:الرجل يذنب الذنب فيقول:طوبى لي إن لم يكن لي غير ذلك)(1).وأعطى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) درساً عملياً في ذلك التأثير لأصحابه كما في الرواية عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (أنّ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نزل بأرض قرعاء، فقال لأصحابه: ائتوا بحطب، فقالوا:يا رسول الله، نحن بأرض قرعاء! قال:فليأت كلّ إنسان بما قدر عليه. فجاؤوا به حتّى رموا بين يديه، بعضه على بعض، فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ). هكذا تجمع الذنوب، ثمّ قال:إيّاكم والمحقّرات من الذنوب، فإنّ لكلّ شيء طالباً، ألا وإنّ طالبها يكتب ما قدّموا وآثارهم وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين)(2).

أقول:هكذا تجتمع الذنوب التي يستصغرها صاحبها ويقدم عليها بلا اكتراث وتترك آثارها عليه حتّى تطبع على قلبه فتورده النار والعياذ بالله.

حُكيَ أنّ أحد التجّار كان يصنع القماش ليبيعه فيعاد عليه لعيب يوجد فيه، ففرّغ نفسه مدة وأتقن صنع القماش لكيلا يرد عليه، وباعه بعد أن تأكّد من سلامته من العيوب، وما لبث أن رجع إليه المشتري وأخبره بعيوب قماشه، فجلس التاجر يبكي والمشتري يطيّب خاطره ويقول له سأقبل القماش ولا أرجعه فلا تتأثّر، لكن التاجر (الواعي) قال:ما لإرجاع القماش أبكي، ولكن أبكي لأعمالي إذا عُرضت

ص: 48


1- وسائل الشيعة كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب 43، حديث 1، 3.
2- وسائل الشيعة كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب 43، حديث 1، 3.

على الناقد البصير، كم سيجد فيها من العيوب، وكيف سيردّها عليّ، وما موقفي غداً، إذا كان المخلوق القاصرُ يجد كل هذه العيوب في قماش أتقنت صُنعه.وقد يبقى الإنسان على غفلته ولا يلتفت منها حتى يأتيه الموت {لقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (ق:22) وقال تعالى{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (المجادلة:6) وقال تعالى {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} (الأنعام:60).

وقد ذكرنا آنفاً أسباب هذه الحالة، أمّا علاجها فيمكن أن يكون بعدّة إجراءات وردت في الأحاديث الشريفة منها:

1الإستغفار المستمر وطلب التوبة مما يعلم ومما لا يعلم من الذنوب، وقد وردت دعوات كثيرة يومية للاستغفار في تعقيبات الفرائض اليومية وفي صلاة الليل.

2أداء الصلاة في أوقاتها لأنّها كفّارة لما بينها ولأن فيها تذكيراً بالله تعالى وعودة إليه {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (طه:14) وفي الرواية عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله لو كان على باب دار أحدكم نهر فاغتسل في كلّ يوم منه خمس مرّات، أكان يبقى في جسده من الدرن شيء؟ قلنا:لا، قال:فإنّ مثل الصلاة كمثل النهر الجاري، كلّما صلّى صلاة كفّرت ما بينهما من الذنوب)(1).

ص: 49


1- وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب اعداد الفرائض ونوافلها، باب2 ح3.

3الإكثار من الطاعات لأن الحسنات يذهبن السيئات، قال تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (هود:114) وقال تعالى {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} (الفرقان:70).

4تجنّب الغفلة لأنّها الأصل في الوقوع بالمعاصي.

5محاسبة النفس يومياً، لأن المحاسبة والتدقيق والمراجعة تكشف أموراً يغفل عنها لو لم يُجرِ هذه المحاسبة، وهذا معلوم بالتجربة لرجال الأعمال، وفي وصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأبي ذر (يا أبا ذر لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة الشريك شريكه)(1) وعن الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسنا استزاد الله، وإن عمل سيئا استغفر الله منه وتاب إليه)(2)

6مطالعة كتب الأخلاق والموعظة، وزيادة المعرفة بالله تعالى لأنّها أصل الدين وأساسه.

7مجالسة الصالحين والتردد على المساجد والمشاهد الشريفة.

8الاعتراف أمام الله بالتقصير وكثرة الذنوب مما نعجز عن عدّه وإيكال الأمر إلى عفوه ومغفرته وصفحه وإحسانه وكرمه.

ص: 50


1- وسائل الشيعة (آل البيت): 16/ 98/ح7
2- وسائل الشيعة : ج 16 /ص 95

وكما أنّ الحسنات يذهبن السيئات، فإنّ بعض السيئات تُذهب الحسنات وتُحرقها، ففي كتاب الأمالي(1)للشيخ الصدوق (قدس سره) بسنده عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من قال سبحان الله غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال الحمد لله غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال لا إله إلا الله غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال الله أكبر غرس الله له بها شجرة في الجنة، فقال رجلٌ من قريش يا رسول الله إنّ شجرنا في الجنة لكثير، قال نعم ولكن إيّاكم أن تُرسلوا عليها نيراناً فتحرقوها، وذلك إنّ الله عزّ وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (محمد:33) ومن تلك النيران المناسبة للرجل من قريش إنكار ولاية علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وبقرينة الآية التي استدل بها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الآمرة بطاعة الله تعالى ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، ومن تلك الذنوب الغيبة فعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الآكلة في جوفه)(2).وأنقل لكم نصاً من الصحيفة السجادية يلفت نظرنا إلى ذنوب نغفل عنها وهي تتعلق بالعلاقات مع الآخرين، ولك أن تقيس عليها غيرها مما لا يعلمه إلاّ الله تبارك وتعالى، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الاعتذار من تبعات العباد ومن التقصير في حقوقهم (اللهم إنّي اعتذر إليك من مظلوم ظُلم بحضرتي فلم أنصره، ومن معروف أسدي إليّ فلم أشكره، ومن مسيئٍ اعتذر إليّ فلم أعذره، ومن ذي فاقة سألني فلم أوثره.

ص: 51


1- أوردها عنه في البحار: 93/ 168.
2- أصول الكافي، ج2، باب الغيبة والبهتان، ح1، وفي القاموس المحيط: أنّ الآكلة داء في العضو يأتكل منه.

ومن حقّ ذي حقٍ لزمني فلم أوّفره، ومن عيب مؤمن ظهر لي فلم أستره، ومن كل إثم عرض لي فلم أهجره)(1)، فالسيئات لا تقتصر على ما صدر منه من أمثالها، بل على ما فوّت مما ينبغي فعله، فلا ينشغل الإنسان بالنظر إلى ما قدّم من طاعة أو معروف بين الناس، بل إلى ما كان يجب عليه فعله ولم يفعله. كالشخص يفرح بما أنفق في سبيل الله، ويغفل عن مورد قصده فيه صاحب حاجة وكان قادراً على قضائها فلم يفعل، ووردت في ذلك روايات شديدة كالذي روي عن أبي الحسن(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال(من أتاه أخوه المؤمن في حاجة فإنّما هي رحمة من الله تبارك وتعالى ساقها إليه، فإن قبل ذلك فقد وصله بولايتنا وهو موصول بولاية الله وإن ردّه عن حاجته وهو يقدر على قضائها سلّط الله عليه شجاعاً من نار ينهشه في قبره إلى يوم القيامة مغفوراً له أو مُعذّباً فإن عذره الطالب(2)كان أسوأ حالاً).(3)فهذا شكل من السيئات يخفى على الإنسان، مضافاً إلى ما صدر منه فعلاً، ومن دعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ليوم الإثنين (وأسألك في مظالم عبادك عندي، فأيّما عبد من عبيدك أو أمةٍ من إمائك كانت له قبلي مظلمة ظلمتها إياه في نفسه أو في عرضه أو في ماله أو في أهله وَولده، أو غيبةٌ اغتبته بها، أو تحامل عليه بميل أو هوى، أو أنفة أو حميّة أو رياء أو عصبية، غائباً كان أو شاهداً، وحيّا كان أو

ص: 52


1- الصحيفة السجادية (ابطحي): 187
2- قال الشارع: (أي المطلوب منه الحاجة، ووجهه إنه إذا عذره صاحبها لم يندم ولم يتب ولم يستغفر، بل ظن عدم تقصيره في حق الطالب فاجترأ على منع غيره).
3- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب فعل المعروف، باب 25، ح9.

ميتاً، فقصرت يدي، وضاق وسعي عن ردّها إليه، والتحلل منه، فأسألك يا من يملك الحاجات وهي مستجيبة لمشيئته، ومسرعة إلى إرادته، أن تصلّي على محمد وآل محمد وأن ترضيه عني بما شئت، وتهب لي من عندك رحمة)(1).وفي ضوء هذه الحقيقة التي لا يلتفت إليها إلاّ الأقلّون، يمكن أن نفهم ما ورد في الحديث الشريف عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (لم يعبد الله عز وجل بشيء أفضل من العقل، ولا يكون المؤمن عاقلاً حتى يجتمع فيه عشر خصال)(2) إلى أن قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (والعاشرة وما العاشرة لا يرى أحداً إلا قال هو خير مني وأتقى)(3) وقد شرحت بعض فقرات الحديث في محاضرة سابقة.

نسأل الله تعالى أن ينبّهنا من نومة الغافلين المُبعدين بعفوه وكرمه.

ص: 53


1- مفاتيح الجنان: 51
2- الخصال الشيخ الصدوق: 2/ 433/ح17, وورد: (وقد شرحت بعض فقرات الحديث في محاضرة سابقة) راجع: القبس/143 {لِّيَغفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} (الفتح:2), من نور القرآن: 4/ 339
3- الخصال الشيخ الصدوق: 2/ 433/ح17

ملحق:كيفية الاعتصام من الذنوب

سألني أحدكم أن أتحدث عن كيفية المحافظة على حالة التوبة, والاعتصام من الذنوب التي يتوجه إليها الإنسان في يوم عرفة, يوم الدعاء وطلب التوبة، وقد ذكّرني سؤاله بفقرة, وردت في أحد أدعية شهر رجب وهي:(وَاعْصِمْنا مِنَ الذُّنُوِب خَيْرَ العِصَمِ)(1), وهذا يعني وجود أشكال عديدة من العواصم عن الذنوب, بعضها, خير من بعض.

وهو معنىً صحيح، إذا التفتنا إلى أنَّ من العواصم أن يفقد الإنسان النعمة التي يرتكب بها الذنب، كفقد نعمة البصر فيتخلص من النظرة المحرمة، أو يفقد الإحساس بالشهوة الجنسية، التي هي نعمة أودعها الله تبارك وتعالى في الإنسان ليدفعه نحو الزواج والإنجاب، ولولاها لما أقدم البعض على تحمل مسؤولية الأسرة، والأطفال، ومشاق التربية, والرعاية، فإذا فقد هذه النعمة فستزول تلقائياً فرصة ارتكاب جريمة الزنا والعياذ بالله تعالى.

لكن الإنسان لا يريد بالتأكيد هذه الطريقة من الاعتصام من الذنوب؛ لأنه يدعو الله تبارك وتعالى أن يمتعه بالعافية, وبحواسه من السمع والبصر. وغيرهما, (اللهم متعني بسمعي وبصري، واجعلهما الوارثين مني...)(2).

ص: 54


1- وهو الدعاء الوارد عن الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) بواسطة سفيره محمد بن عثمان بن سعيد وأوله (اللّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِمَعانِي...). مصباح المتهجد الشيخ الطوسي: 803.- مفاتيح الجنان عباس القمي:183.
2- بحار الأنوار المجلسي: 83/ 130.

ومع ذلك قد تكون هذه الطريقة؛ هي ما يختارها الله تبارك وتعالى لبعض عباده، يُحكى أن أبا بصير - وهو مكفوف دخل على الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), وسأله أن يدعو الله تبارك وتعالى ليرفع عنه البلاء, ويعيد إليه بصره، فدعا الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) له فردّ الله تعالى بصره, وصار يبصر, وفرح بذلك، فقال له الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), إن شئت مضيت على حالتك الجديدة هذه وتحاسب يوم القيامة كما يحاسب الخلق, أو ترجع إلى حالتك الأولى وتدخل الجنة بغير حساب، فاختار أن يعود إلى حالته الأولى ليضمن له الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الجنة.وعلى أي حال فهذا شكل من أشكال الاعتصام من الذنوب، ومن الأشكال الأخرى:أن يكون للإنسان رادع من نفسه عن الذنوب, أما حياءً من الله تعالى لما انعم عليه من النعم التي لا تعد ولا تحصى، أو خوفاً منه عز وجل، أو خشية الفضيحة, والعار, خصوصاً يوم القيامة, عندما تعرض الأعمال أمام الأشهاد, وتبدو السرائر، - نسأل الله تعالى عفوه وستره، وهذا الرادع يؤتاه الإنسان؛ بفضل الله تبارك وتعالى؛ حينما يخلص لله تعالى, ويكون صادقاً معه, ففي الحديث الشريف (إذا أراد الله تعالى بعبد خيراً, جعل له واعظا من نفسه, يأمره, وينهاه)(1).

ومن العواصم عن الذنوب:ذكر الله تعالى على كل حال, والتفات الإنسان إلى أنه دوماً في محضر ربّه, وإن ربّه مطّلع عليه, {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت:53), {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق:18), {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا}

ص: 55


1- كنز العمال المتقي الهندي: 11/ 95.

(الكهف:49), فمع حالة الالتفات هذه, لا يُقدم الإنسان على الذنب, وإلا كان مستخفاً بربه، وإنما يرتكب الذنب بغفلة, وجهالة, فإذا التفت, وتذكّر, ندم, وتاب {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف:201).ومن العواصم:أن يلتفت الإنسان إلى قبح الذنب, ونتن صورته الواقعية التي تُدرك بالبصيرة لا بالبصر, كما ورد في القرآن الكريم من تصوير الغيبة بأكل لحم الأخ ميتاً؛ وهي صورة مقززة تنفر منها النفوس، وكتصوير الدنيا في كلام أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالجيفة لميتة الحيوان, وحولها الكلاب تنهشها, وتقطعها, فمن يرضى أن يشارك الكلاب في هذه الجيفة، أو تصوير أكل الحرام بأنهم {يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} (النساء:10), أو تصوير حبس الحقوق الشرعية والبخل بها بأنها {يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} (التوبة:35), وغيرها من الصور المرعبة التي وردت في الآيات الكريمة, والأحاديث الشريفة, فكيف يُقدم عليها الإنسان بعد معرفته بحقيقتها؟

ومن العواصم أن يبتعد عن البيئة المساعدة لارتكاب الذنوب, كمجالس البطالين والفسقة, ويتواجد في البيئة المحفزة على الطاعة كالمساجد, والمشاهد المقدسة, ومجالس الذكر, والشعائر الدينية. ولا أقل من أن يشغل الإنسان نفسه بالمباحات, والأعمال الأخرى, فضلاً عن الطاعات, كالدراسة, ومطالعة الكتب, واللقاء مع الإخوان, وحينئذٍ لا يبقى مجال ولا فرصة للمعصية, والذنب؛ لأن من

ص: 56

أسباب ارتكابها الفراغ، قال الشاعر:

إن الشباب والفراغ والجِدَة *** مفسدة للمرء أي مفسدة(1)

ومن العواصم ما ورد في كلمة امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته)(2)ومعرفة قيمة النفس سبب لاجتناب المعاصي.

يعلّمنا أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بهذه الكلمة القصيرة طريقة للتخلص من الوقوع في المعاصي، لأن سبب ارتكاب الذنوب مع معرفة خطرها في الدنيا وعقوبتها في الآخرة هو اتباع الشهوات، فالشهوة الجنسية تدفعه إلى النظرة المحرّمة والعلاقة غير المشروعة بكل مستوياتها، والشهوة الغضبية تدفعه إلى الظلم والعدوان على الآخرين، وشهوة المال تدفعه إلى الكسب غير المشروع والاستيلاء على أموال الآخرين، والانانية تدعوه الى انتقاص الآخرين وغيبتهم والتكبّر وحب الجاه والسمعة ونحو ذلك، وفي هذا المعنى كلمة قصيرة أخرى لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من كساه الحياء ثوبه، لم ير الناس عيبه)(3) .

وعلاج هذا الاندفاع وراء الشهوات لا يكون باستئصالها وازالتها لأنها غرائز أودّعها الله تعالى في الانسان لتؤدي غرضاً ايجابياً مثمراً، فالشهوة الجنسية لحثه على الزواج والانجاب حتى تتكاثر البشرية وتنمو وبدون هذا الدافع القوي لا يسعى الشخص الى تحمل مسؤوليات الزواج والاسرة واعبائها، واودعت الشهوة الغضبية ليدافع عن المقدسات ويواجه من ينتهك الحرمات ونحو ذلك.

ص: 57


1- يُنسب هذا البيت الى أبي العتاهية. أنظر: سير أعلام النبلاء الذهبي: 10/ 196.
2- نهج البلاغة: الحكم، الحكمة 446
3- نهج البلاغة: الحكم، الحكمة 220

فالعلاج إذن في ضبط هذه الشهوات وجعلها تحت السيطرة لتتحرك نحو الهدف الإيجابي فقط وتؤدي غرضها المنشود، وفي هذه الكلمة القصيرة لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يلفت نظرنا إلى ما يساعدنا على عملية الضبط هذه من خلال التفات الانسان إلى أهمية نفسه وقيمتها الكبرى فانها نفخة الهية في جسد الانسان {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} (الحجر:29) لينال بها الجنان والحياة الكريمة في ظل رحمة الله تعالى ولا يقبل لها ثمناً غير هذا فانه بذلك يحفظ قيمتها وكرامتها، اما من يتبع شهواته ويرتكب الذنوب والمعاصي فانه يهينها ويحتقرها ويهدر قيمتها الثمينة، ويكتسب بها النيران بدل الجنان ويضيّع عليه هذا الرأسمال العظيم، ولا اعتقد أن عاقلاً يقبل بأن يجلب بماله على نفسه الجحيم بدل الفوز بالنعيم.علماً بأن التجربة لا تتكرر ومن يموت لا يرجع الى الحياة مرة أخرى ليصحح اخطاءه، وهذا المعنى ورد في حديث للإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (اتقوا الله وانظروا لأنفسكم، فإن أحقّ من نظر اليها أنتم، لو كان لاحدكم نفسان فقدم احداهما وجرّب بها استقبل التوبة بالأخرى ولكنها نفس واحدة اذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة)(1) .

وفي الرواية الأخرى تكملة (فأنتم أحق أن تختاروا لأنفسكم)(2).

فلا تغرنكم بعض الدعوات الخادعة باسم الحرية أو المجتمع المدني أو حقوق المرأة ونحو ذلك والتي تهدف الى تحويل الانسان إلى عبد للشهوات والغرائز فان فيها امتهاناً لكرامة الانسان وحط قيمته وربما يسعون الى سن قوانين

ص: 58


1- وسائل الشيعة: 15/ 53 أبواب جهاد العدو، باب 13 ح 10
2- وسائل الشيعة (آل البيت): 15/ 50/ح1

لشرعنة ذلك كبعض المواد التي تضمنها قانون العنف الأسري المقدَّم إلى البرلمان.ولله تبارك وتعالى مع أوليائه حالات من العصمة عن الذنوب لا يعرفها إلا أهلها، ولا يُنال كل ذلك إلا بالاعتصام بالله تعالى, والتوسل إليه بطلب التسديد, كما ورد في الدعاء (اللّهُمَّ ارْزُقْنا تَوْفِيقَ الطَّاعَةِ وَبُعْدَ المَعْصِيَةِ) (اللهم ارزقني توفيق الطاعة وبعد المعصية)(1).

ص: 59


1- المصباح – الكفعمي: 280.- مفاتيح الجنان عباس القمي: 163.

القبس/158: سورة الحشر:18

اشارة

{وَلتَنظُر نَفس مَّا قَدَّمَت لِغَد}(1)

لنراجع أنفسنا:

قال الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز:{يَأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلتَنظُر نَفس مَّا قَدَّمَت لِغَد وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعمَلُونَ 18

وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىهُم أَنفُسَهُمۚ أُوْلَئِكَ هُمُ ٱلفَسِقُونَ} (الحشر:19).

{وَلتَنظُر نَفس مَّا قَدَّمَت لِغَد}, هذا الغد ليس يوماً واحداً وإنما هو زمان واسع فسيح يبدأ من موت الإنسان ولا ينتهي عند عرصات القيامة والحساب بل هم فيها خالدون:فريق في الجنة وفريق في السعير نعوذ بالله.

ص: 60


1- في يوم الجمعة 27/ذو القعدة/1431 ه الموافق 5/ 11/ 2010 م أقدم سماحة الشيخ (دام ظله الشريف) على خطوة تأريخية مباركة وغير مسبوقة –على الأقل في العقود القريبة المنصرمة فقد أقام سماحته أول صلاة جمعة في مكة المكرمة في مقر إقامته، وقد ألقى سماحته خطبتي صلاة الجمعة مرتدياً ثوب إحرامه حيث أعاد إلى الأذهان تلك الأجواء التي عاشها المؤمنون في العراق أيام إقامة صلاة الجمعة في مسجد الكوفة المعظم من قبل السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وبكى فيها (دام ظله) وأبكى العيون لأكثر من مرة لما تضمنته الخطبة من مواعظ. وما في المتن الخطبة الأولى منها.

فالله تبارك وتعالى يدعونا في هذه الآية إلى أن نراجع أنفسنا وننظر ماذا قدمنا لهذا الغد المجهول العصيب الذي فيه أهوال وصعوبات لا يعلمها إلا هو تبارك وتعالى، لا نعرف نحن عنه شيئاً ولا نعرف ما معنى أن ننظر لهذا الغد حتى نستعد له ونهيئ له ما يناسبه، لكن الله تبارك وتعالى هو ولي هذا الغد وملك هذا الغد وخالق هذا الغد بيّن لنا ما ينفعنا في تلك الحياة وحاشا لله تبارك وتعالى الرحيم الرؤوف بعباده المحسن إليهم أن يتركهم سدى، قال تعالى {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (البقرة:197).

سفر الآخرة:

خذوا مثالاً:سفركم هذا إلى الحج وهو سفر قصير لا تتجاوز مدته الشهر ومعكم إدلاء يرشدونكم ومتعهدون يتولون إدارة شؤونكم ورفقة وإخوان وجهات توفر لكم الخدمة والمنزل والطعام ومع ذلك فإن أحدكم يستعد له منذ مدة طويلة ويتحسب لكل احتمال ويُعدّ كل ما يحتاجه من دقائق الأمور ويعيد النظر في جهازه خشية أن يكون قد نسي شيئاً.

فكيف بسفر الآخرة الذي لا أمد له ولا مُعين ولا رفيق ولا زاد إلا عملك فإنه قرينك صالحاً كان أو سيئاً والعياذ بالله تعالى وزادك التقوى التي يطلبها الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاء يوم عرفة (اللهم اجعلني أخشاك كأني أراك وأسعدني بتقواك ولا تشقني بمعصيتك)(1).

وهذا المستوى الذي يطلبه الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ويحثّ على الوصول إليه

ص: 61


1- مفاتيح الجنان: ص413.

هو مستوى {اتّقُوا اللهَ مَا استَطَعتُمْ} (التغابن:16), وهو لا يتيسر إلا لعباد الله المخلصين ولكن لا مانع من طلبة والسعي لتحصيله من خلال تطبيق الآية الأخرى (اتّقُوا اللهَ مَا استَطَعتُمْ) فإن الله تعالى تكفّل لمن يعمل بما يتيسّر له أن يوفقه ما لم يكن يستطيعه بلطفه وكرمه.

التقوى حركات وسكنات:

وهذه الفريضة الإلهية التي وفقكم الله تعالى إليها فدعاكم لضيافته والوفود إلى بيته الآمن المحرم هي من أعظم مصاديق التقوى وأوثق الأسباب لتحصيلها بل أن آية {وَتَزَوَّدُوا} وردت في سياقها قال تعالى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} (البقرة:197).

والتقوى عنوان يتحلل إلى الكثير من الحركات والسكنات:الحركات باتجاه الأعمال الصالحة سواء كانت على نحو الواجبات أو المستحبات وهي أضعاف الأولى، والسكنات أي التوقف إزاء الأعمال غير الصالحة سواء كانت على نحو المحرمات أو المكروهات، وقد حفلت الكتب بتسجيلها جميعاً حتى دقائقها ولا يستطيع أحد استقصائها.

من حكمة الله تعالى تنوع القابليات:

ومن حكمة الله تعالى ورحمته بعباده أنه نوّع القابليات والقدرات والمؤهلات عند خلقه لتُغطّي كل مساحات عمل الخير ولكي لا يحرم أحد منها، فأعطى للبعض ثروة مالية فهو يتصدق منها ويساعد الفقراء والمحتاجين ويزوّج

ص: 62

الشباب المعسرين ويحج ويزور ويبني المساجد ويشيّد المشاريع الخيرية وآخر لم يعطه مالاً لكنه أعطاه علماً نافعاً فهو يرشد الناس ويهديهم ويصلح ما فسد من أمور دينهم ودنياهم ويوجههم ويعلمهم أمور دينهم.وآخر لم يُعطَ مالا ولا علماً لكنه أعطى أخلاقا حسنة فهو يعاشر الناس بالمعروف ويفشي السلام ويتصدق بالكلمات الطيبة، كما ورد في قول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعمه العباس:(يا بني عبد المطلب إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم)(1).ففرص الطاعة والتقرب إلى الله تعالى متكافئة للجميع لكنها منوّعة بحسبهم، روي أن مجموعة من النسوة شكت إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تفضيل الرجال عليهن بإعطائهم فرصة الجهاد الذي هو (باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه)(2) –كما وصفه أمير المؤمنين وسقط عنهنّ، فأجاب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأن (جهاد المرأة حسن التبعّل)(3) فالتساوي في فرص التكامل مكفولة للجميع. وكذلك فرصة الحج التي منحت للمستطيعين لم يُحرم منها الفقراء فورد فيهم (صلاة الجمعة حج المساكين)(4).

وهذه من عدالة الله تبارك وتعالى ومن حكمته لتُملأ كل مساحات عمل الخير بحسب اختلاف إمكانيات الناس وتوجهاتهم، وإذا قال أحد أنه لم يعطني الله شيئاً فليراجع نفسه وسيجد ما يتقرب به وتلقي ما ورد في الحديث الشريف (ما

ص: 63


1- بحار الأنوار: 71/ 169.
2- نهج البلاغة: خطبة 27.
3- بحار الأنوار: 18/ 107.
4- بحار الأنوار: 86/ 199.

عُبِد الله بشيء كالفرائض)(1). ونعود إلى ما بدأنا به من قوله تعالى (ولتنظر نفس ما قدمت لغد).

ص: 64


1- تحف العقول: 286 وفيه (ولا طاعة كأداء الفرائض).

القبس/159: سورة الممتحنة:1

اشارة

{يَأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُم أَولِيَاءَ تُلقُونَ إِلَيهِم بِٱلمَوَدَّةِ}

موضوع القبس:درس نبوي في المصالحة المجتمعية

قال تعالى:{يَأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُم أَولِيَاءَ تُلقُونَ إِلَيهِم بِٱلمَوَدَّةِ وَقَد كَفَرُواْ بِمَا جَاءَكُم مِّنَ ٱلحَقِّ يُخرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُم أَن تُؤمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُم إِن كُنتُم خَرَجتُم جِهَدا فِي سَبِيلِي وَٱبتِغَاءَ مَرضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيهِم بِٱلمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعلَمُ بِمَا أَخفَيتُم وَمَا أَعلَنتُمۚ وَمَن يَفعَلهُ مِنكُم فَقَد ضَلَّ سَوَاءَ ٱلسَّبِيلِ} (الممتحنة:1).

هذه الآيات الأولى من سورة الممتحنة فيها بحوث مهمة تتعلق بالموالاة والبراءة لكننا نتحدث الآن عن درس مستفاد من الحادثة التي نزلت بسببها هذه الآيات وتصرف النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أزائها، فقد روى علي بن إبراهيم في تفسيره سبب نزول الآيات قال (نزلت في حاطب بن ابي بلتعة(1)، ولفظ الآية عام ومعناه خاص،

ص: 65


1- حاطب بن بلتعة اللخمي من اليمن كان حليفاً لقريش، هاجر الى المدينة وشهد بدراً والحديبية والمشاهد كلها، وفي الإصابة (ج1/ص300 رقم الترجمة 1538) عن المرزباني في معجم الشعراء أنه كان أحد فرسان قريش في الجاهلية والإسلام، وقد يبعّد ذلك ما ذكره في الإصابة انه مات سنة 30

وكان سبب ذلك ان حاطب بن ابي بلتعة كان قد اسلم وهاجر إلى المدينة وكان عياله بمكة وكانت قريش تخاف ان يغزوهم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فصاروا إلى عيال حاطب وسألوهم ان يكتبوا إلى حاطب يسألوه عن خبر محمد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهل يريد ان يغزو مكة؟ فكتبوا إلى حاطب يسألونه عن ذلك فكتب اليهم حاطب ان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يريد ذلك، ودفع الكتاب إلى امرأة تسمى صفية(1)، فوضعته في قرنها ومرت، فنزل جبرئيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فاخبره بذلك فبعث رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والزبير بن العوام في طلبها فلحقوها، فقال لها امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):أين الكتاب؟ فقالت:ما معي، ففتشوها فلم يجدوا معها شيئا، فقال الزبير:ما نرى معها شيئا فقال امير المؤمنين:والله ما كذبنا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولا كذب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على جبرئيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولا كذب جبرئيل على الله جل ثناؤه والله لتظهرن لي الكتاب او لأوردن رأسك إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فقالت تنحيا حتى أخرجه فأخرجت الكتاب من قرنها فأخذه امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وجاء به إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):يا حاطب ! ما هذا؟ فقال حاطب:والله يا رسول الله ما نافقت ولا غيرت ولا بدلت واني أشهد أن لا إله إلا الله وانك رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حقا ولكن أهلي وعيالي كتبوا إلى بحسن صنيع قريش

ص: 66


1- وفي (سيرة ابن هشام: 4/ 29) أن اسمها سارة مولاة لبني عبد المطلب وقال في موضع أخر كانت ممن يؤذي رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في مكة، وهي ممن أهدر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) دمها حين فتح مكة ثم توسطوا لها وطلبوا لها الأمان فآمنها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

اليهم، فأحببت ان اجازي قريشا بحسن معاشرتهم فانزل الله جل ثناؤه على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ - إلى قوله - لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (1).أقول:تضافرت روايات العامة في نقل هذه الحادثة ايضاً كالبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي والبيهقي وأبي نعيم وغيرهم(2) وفي هذا التصرف النبوي الشريف مثل أعلى يستحق ان يدرسه القادة والحكام في المصالحة المجتمعية والعفو عن الذين تزلّ أقدامهم من أبناء المجتمع ويخرجون على الدولة ويخرقون النظام بسبب ضعف النفس او الجهل او سوء التقدير أو أي سبب آخر، بينما الجرم الذي ارتكبه حاطب يدخل فيما يسمى بالخيانة العظمى لتسريبه اسراراً عسكرية تتعلق بأمن الدولة الى أعداء في حالة حرب مع الدولة، والقوانين المعاصرة تحكم على مرتكب هذا الجرم بالإعدام، لكن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قبل عذره وزجر عمر بن الخطاب لأنه طلب من النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يأمر بقتله.

ولم يكتفي النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بل قام بما يسمى اليوم بإعادة تأهيله ودمجه في المجتمع وإزالة كل المضاعفات الاجتماعية التي حصلت له بسبب إرتكابه لهذه الجريمة فأرسله النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بكتابه الى المقوقس حاكم مصر في الإسكندرية حينما بعث برسائله الى ملوك العصر يدعوهم الى التوحيد وطاعة الله تعالى ومنهم:كسرى ملك الفرس وهرقل ملك الروم والنجاشي ملك الحبشة وملوك اليمن وعمان والبحرين وغيرهم، وعاد الى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومعه هدايا ومارية

ص: 67


1- تفسير القمي: 2/ 361، تفسير البرهان: 9/ 279.
2- الدر المنثور: 8/ 125.

القبطية التي تزوجّها وولدت أبنه الوحيد إبراهيم.وفي كتاب الاستيعاب(1) ان بعثه كان في السنة السادسة من الهجرة بعد صلح الحديبية أي قبل أحداث فتح مكة وربما يظهر ذلك ايضاً من سياق حديث ابن هشام في السيرة(2).

فعلينا ان نبرز هذه الصور المشرقة من رسالة الإسلام وقادته العظام لنعرف العالم بهذا الدين الرباني الذي هو أعظم هدية من الله تعالى خالق البشرية الى الانسان ليسعده.

ومضافاً الى هذا فأننا يمكن ان نستخلص عدة دروس أخرى من الآية الكريمة:

1 الانصاف والموضوعية حينما بدأ الخطاب ب{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} والخطاب وإن كان عاماً إلا انه نزل في حادثة حاطب فلم يخرجه عن الايمان بارتكاب هذه الجريمة الكبرى فالذين يكفرّون الناس لاختلافهم معهم في بعض الاحكام أو في فهم بعض العقائد الدينية مخالفون لمنهج القرآن وأدبه.

2 الطاعة والتسليم التام للقائد الذي تجلى في إصرار أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على تنفيذ أمر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعدم التهاون فيه كما حصل للزبير.

ص: 68


1- المطبوع بهامش الإصابة: 1/ 350.
2- السيرة النبوية لابن هشام: 4/ 188.

القبس/160: سورة الجمعة:6

اشارة

{إِن زَعَمتُم أَنَّكُم أَولِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلمَوتَ}

موضوع القبس:الاستعداد للموت:علامة صدق الايمان

قال تعالى:{قُل يَأَيُّهَا ٱلَّذِينَ هَادُواْ إِن زَعَمتُم أَنَّكُم أَولِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلمَوتَ إِن كُنتُم صَدِقِينَ 6 وَلَا يَتَمَنَّونَهُۥ أَبَدَۢا بِمَا قَدَّمَت أَيدِيهِمۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِٱلظَّلِمِينَ} (الجمعة:7).

الَهْود بمعنى الرجوع والميل والذين هادوا هم اليهود ومن وجهة نظرهم فإن منشأ التسمية لأنهم رجعوا عن عبادة العجل إلى عبادة الله تعالى، ولكن القرآن الكريم يرى فيهم أنهم مالوا عن الله تعالى وعن الحق.

ومن الشواهد على ذلك هذا التحدي الذي ذكرته الآية الكريمة، وهو ليس خاصاً باليهود وانما يتوجه إلى كل من يدعي القرب من الله تعالى والمنزلة الرفيعة في الآخرة وقد ورد هذا المعنى في آية أخرى بهذا العموم قال تعالى {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ} (البقرة:9495).

فالآية الكريمة تتحدى اليهود الذين زعموا أنهم أولياء الله وشعبه المختار

ص: 69

وان الجنة خالصة لهم وانهم أبناء الله وأحباؤه {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} (المائدة:18) وتُبيِّن لهم ان علامة صدق الايمان ومحبة الله تعالى الشوق للقائه وتمني الموت والخروج من هذه الدنيا وعلائقها المادية حتى تزول موانع اللقاء مع الحبيب والفوز بالنعيم فليتمنوه إن كانوا صادقين في دعاواهم، ومطمئنين لنتيجتهم، وعليهم أن لا يخافوا من تعرضهم لأسبابه كالجهاد الموجب للقتل، ولكنهم يعلمون أنهم محبون للدنيا وليس لله تعالى في قلوبهم وعقولهم أي نصيب خصوصاً أحبارهم الذين بنوا قداستهم المزيفّة على مثل هذه الأوهام والادعاءات، لذا فهم حريصون على البقاء فيها، ويكرهون الموت لأنه يحرمهم من وصال ما أحبّوه من الدنيا الدنيّة {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} (البقرة:96). ويكرهون الموت أيضاً ولا يتمنونه لأنهم اوغلوا في الظلم وفعل الموبقات واقتراف السيئات فهم لا يريدون الموت لأنه ينقلهم إلى دار الجزاء وهم يخافون مما سيواجهونه من العقاب {وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ} (البقرة:95) والآية تفيد التأبيد فهم لم ولن يتمنوا الموت والواقع يشهد بصدق هذه الحقيقة.

لكن الآية الكريمة التالية تصدمهم بقوة وتذكرّهم بحقيقة حتمية لا يمكن التغافل عنها حاصلها ان الموت الذي تفرّون منه سينزل بكم يوماً {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ

ص: 70

فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الجمعة:8) وعندما يأتيكم الموت فأنكم ستجدون أنفسكم بين يدي الله تعالى ليخبركم بما قدمتم من اعمال، فاذا كنتم تريدون الفرار من الموت ففروا إلى الله تعالى فأنه لا ملجأ منه الا إليه، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (أيها الناس كل امرئ لاق في فراره ما منه يفر، والأجل مساق النفس اليه، والهرب منه موافاته)(1).فإذن أنتم ستلاقون هذا الآتي مهما هربتم من أسبابه، بل انكم (ملاقوه) فعلاً الآن ومستمرون على ملاقاته بعد الآن بحسب دلالة اسم الفاعل (ملاقي) على الاستمرارية.

ولهذه الملاقاة الآنية للموت مع أنهم أحياء ظاهراً في هذه الدنيا أكثر من تفسير:

1 أنّهم موتى روحياً ومعنوياً وضمائرهم ميتة وجوارحهم لا ينتفعون بها {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وََلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف:179) فليس لديهم ما يدلّ على حياتهم المعنوية إلى ان يحين موعد قبض الروح بواسطة ملك الموت فيتحقق الموت الجسدي أيضاً.

2 ويمكن أن يكون استمرار الملاقاة ناشئاً من كون أعمارهم في كل يوم يمر عليهم في نقصان واقتراب من الأجل فكأنهم داخلون في مقدمات الموت، روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (عجبت لمن يرى أنه يُنقص كلَّ يوم في نفسه

ص: 71


1- الكافي 1:299، البحار 42:206

وعمره وهو لا يتأهب للموت)(1). وقد تسأل:ان اليهود الذين كانوا في عهد نزول الخطاب لماذا لم يتحدوا الآية الكريمة فلم يدّعوا تمني الموت ولو بألسنتهم لإثبات صدقهم

والجواب:ان هذا الخطاب كان دعوة على نحو المباهلة بين النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) واليهود لأنهم كانوا يدعّون أنهم على الحق وان دعوة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لا تشملهم وانها موجهة إلى الأميّين - أو الأمميين - بحسب تقسيمهم {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} (آل عمران:75) فدُعُوا إلى المباهلة ولازمها نزول العذاب على الكاذب منهما وهم يعلمون أنهم كاذبون فخافوا من نزول العذاب ورفضوا التحدي والمباهلة، وروي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالا)(2).

ولابد أن نلتفت إلى معنى مناسب لتمني الموت تدعو إليه الآية الكريمة لأن تمني الموت أمر غير مرغوب في الشريعة المقدسة كما اشارت إليه الأحاديث الشريفة كالحديث النبوي الشريف (لا يتمنى أحدكم الموت) (3) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (لا تمنوا الموت فأنه يقطع العمل ولا يُردُّ الرجل فيستعتب) (4) وعنه

ص: 72


1- غرر الحكم: 6253
2- رواه البخاري والترمذي والنسائي
3- كنز العمال: 42152.
4- كنز العمال42155 ، 42147.

(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (لا يتمنينّ أحدكم الموت فإنه لا يدري ما قدَّم لنفسه) (1) وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انه قال لرجل يتمنى الموت (تمنَّ الحياة لتطيع لا لتعصي، فلأن تعيش فتطيع خير لك من أن تموت فلا تعصي ولا تطيع)(2).فحينئذٍ نفهم لتمني الموت في الآية معنى آخر وهو عدم كراهيته وعدم المفاجأة به والرضا بقضاء الله وقدره اذا اختاره الله تعالى أو يراد به لازمه وهو الاستعداد للموت، روي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (إن النّور إذا دخل الصدر انفسح، قيل:هل لذلك من علم يعرف به؟ قال:نعم، التّجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله)(3).

ان اغلب الناس يخافون من الموت ويكرهونه ويحبّون الدنيا ولعل ذلك يرجع إلى أكثر من سبب:

1 إنكار وجود حياة ما بعد الموت ويعتبرونه فناءاً وعدماً فلا يريدون الانتقال من الوجود إلى العدم وهذه قضية غريزية كخوف الانسان من الظلمة التي هي عدم النور وهؤلاء يجب اعادتهم إلى العقيدة الحقة بالبعث والنشور يوم القيامة واقناعهم بالحجة والبرهان وإزالة شكوكهم بذكر امثلة واقعية على طريقة القرآن الكريم.

2 عدم الاستعداد للموت وعدم اعداد الزاد للرحلة الأبدية كالطالب الذي يكره حلول وقت الامتحان اذا لم يكن مستعداً له بينما يستعجله ويحب تحقق وقته

ص: 73


1- كنز العمال42149 ، 42153، 42154.
2- بحار الأنوار: 6 / 128 ، ميزان الحكمة: 8/ 228.
3- ميزان الحكمة: ج 8 / 223 ح 19253.

اذا كان مستعداً له، فهؤلاء الذين يكرهون الموت لم يلتزموا بما نبّههم الله تعالى إليه {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (البقرة:197) وانما شغلتهم الدنيا وافنوا أعمالهم في اللعب واللهو وتضييع الأوقات فيما لا ينفعهم، روي ان رجلاً سأل الامام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ما بالنا نكره الموت ولا نحبه، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لأنكم أخربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم وانتم تكرهون النُقلة من العمران إلى الخراب)(1).روي ان رجلاً سأل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (يا رسول الله مالي لا احبُّ الموت؟ قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):هل لك مال؟ فقدّم مالك بين يدك، فان المرء مع ماله، إن قدمَّه أحبَّ أن يلحقه، وإن خلّفه أحبّ أن يتخلفّ معه)(2).

لذا وردت الاحاديث الكثيرة في الحث على الاستعداد للموت، روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (من ارتقب الموت سارع في الخيرات)(3). وروي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (استعدّوا للموت فقد أظلكم، وكونوا قوماً صيح بهم فانتبهوا، وعلموا ان الدنيا ليست لهم بدارٍ فاستبدلوا... وما بين أحدكم وبين الجنّة أو النار إلا الموت أن ينزل به... نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم ممن لا تُبطره نعمة، ولا تقصِّر به عن طاعة ربِّه غايةٌ، ولا تحلُّ به بعد الموت ندامةٌ ولا كآبة)(4).

3 عدم معرفة حقيقة الموت وتفسيره وانه انتقاله من عالم ضيق منغص إلى

ص: 74


1- معاني الاخبار: 390 ح 29.
2- كنز العمال: ح 42139.
3- بحار الأنوار: 77/ 171 ح 7.
4- ميزان الحكمة: ج 8 / 223 ح 19255، عن نهج البلاغة: الخطبة 64.

عالم فسيح أنيق كانتقال الجنين من رحم أمه الضيق إلى الدنيا الفسيحة بالولادة واحتضان والديه له وحنوهما عليه واغداق أنواع النعم التي لم يكن يتصورها في بطن أمه وهو كان خائفاً متوجساً قبل الخروج إلى الدنيا لأنه لم يكن يعرف عنها شيئاً، فالموت كذلك نقلة إلى حالة أفضل وأكثر سعادة وانطلاقاً نحو النعيم وفيها خلاص من الظلم والشر ولئام الناس، فلو عرف الانسان ذلك لما كره الموت بل فرح به من دعاء الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم الثلاثاء (وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي فَإنَّهَا دارُ مَقَرِّي، وَإلَيْها مِنْ مُجاوَرَةِ اللِّئامِ مَفَرِّي)(1). وفي الحديث الشريف (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)(2), روي عن الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(كان الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وبعض من معه من خصائصه تشرق الوانهم وتهدأ جوارحهم وتسكنً نفوسهم، فقال:بعضهم لبعض:انظروا لا يبالي بالموت:فقال لهم الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):صبراً بني الكرام:فما الموت الا قنطرة تعبرُ بكم من البؤس والضراء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة، فأيُّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر)(3). وروي عن الامام الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(قيل لمحمد بن علي ابن موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):ما بال هؤلاء المسلمين يكرهون الموت؟ قال:لأنهم جهلوه فكرهوه، ولو عرفوه وكانوا من أولياء الله عز وجل لأحبّوه، ولعلموا أن الآخرة خيرٌ لهم من الدنيا، ثم قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):يا أبا عبدالله، ما بال الصبي والمجنون يمتنع من الدواء المُنقي لبدنه والنّافي للألم عنه؟ قال:لجهلهم بنفع الدواء. قال:والذي بعث محمداً

ص: 75


1- الصحيفة السجادية: الإمام زين العابدين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) / ص 548 / 241
2- البحار: 1/ 603
3- معاني الاخبار: 288 ح 3

بالحق نبياً إن من استعد للموت حق الاستعداد فهو أنفع له من هذا الدواء لهذا المتعالج، أما إنّهم لو عرفوا ما يؤدّي إليه الموت من النعيم لاستدعوه وأحبّوه أشدّ ما يستدعي العاقل الحازم الدّواء لدفع الآفات واجتلاب السلامات)(1).وروي عن الامام العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (دخل علي بن محمد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على مريضٍ من أصحابه وهو يبكي ويجزع من الموت، فقال له:يا عبد الله، تخاف من الموت لأنك لا تعرفه، أرأيتك إذا اتَّسخت وتقذّرت وتأذَّيت من كثرة القذر والوسخ عليك وأصابك قروح وجرب وعلمت أن الغسل في حمام يُزيل ذلك كله أما تريد أن تدخله فتغسل ذلك عنك؟ أو ما تكره أن لا تدخله فيبقى ذلك عليك؟ قال:بلى يا بن رسول الله. قال:فذاك الموت هو ذلك الحمام، وهو آخر ما بقي عليك من تمحيص ذنوبك وتنقيتك من سيئاتك، فإذا انت وردت عليه وجاوزته فقد نجوت من كُلِّ غَمٍّ وهَمٍّ وأذى، ووصلت إلى كُلِّ سرور وفرح، فسكن الرجل واستسلم ونشط وغمًّض عين نفسه ومضى لسبيله)(2).

وفي عيون أخبار الرضا:سئل الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن الموت فقال (للمؤمن كأطيب ريحٍ يشمُّهُ فينعسُ لطيبهِ وينقطع التَّعبُ والألمُ كلُّهُ عنه، وللكافر كلسع الأفاعي ولدغ العقارب وأشدَّ! قيل:فإن قوماً يقولون:إنه أشدُّ من نشرٍ بالمناشير، وقرضٍ بالمقاريض، ورضخٍ بالأحجار، وتدوير قُطب الأرحية على الأحداق! قال:كذلك هو على بعض الكافرين والفاجرين...)(3).

ص: 76


1- معاني الاخبار: 290 ح 8
2- معاني الاخبار: 290 ح 9
3- عيون أخبار الرضا: 1/ 274/ 9

وخير نموذج لمن فهم حقيقة الموت وسعادة من لاقاه في سبيل الله تعالى أصحاب الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأهل بيته حيث كانوا يتسابقون إلى ساحة المعركة لنيل الشهادة بين يدي الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قومٌ إذا نُودُوا لِدَفْع مُلِمَّة *** والخيلُ بين مُدَعَّس وَمُكَرْدَسِ(1)

لَبسوا القُلُوبَ على الدروعِ وأقبلوا *** يَتَهَافتون على ذَهَابِ الأَنْفُسِ

ومن كلام علي الأكبر مع أبيه الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما نعى نفسه واسترجع في طريقه إلى كربلاء (يا أبتِ لا اراك الله سوءاً ألسنا على الحق؟ قال:بلى والذي إليه مرجع العباد، قال:يا أبتِ إذن لا نبالي نموت محقين. فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) له:جزاك الله من ولدٍ خير ما جزى ولداً عن والده)(2).

وكان أصحاب الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فرحين مستبشرين تعلو وجوههم الابتسامة ويتمازحون بينهم قبل نزولهم إلى الميدان فقال أحدهم لبرير (دعنا فوالله ما هذه بساعة باطل! فقال له بُرير:والله، لقد علم قومي أنّي ما أحببت الباطل شاباً ولا كهلاً، ولكن والله إنّي لمستبشر بما نحن لاقون، والله أنّ بيننا وبين الحور العين إلّا أن يميل هؤلاء علينا بأسيافهم، ولوددت أنّهم قد مالوا علينا بأسيافهم)(3).

ص: 77


1- اللهوف في قتلى الطفوف ابن طاووس: 66
2- تاريخ الطبري: 5 / 407 الكامل: 2/ 555، مقاتل الطالبين: 112، الارشاد: 2/ 82، سير اعلام النبلاء: 3/ 298 وغيرها.
3- مقتل الحسين لأبي مخنف: 115.

ملحق:كيفية الاستعداد للموت

من الادعية التي يستحب تكرارها ما روي عن الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انه كان يلهج به في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان وهو قوله (اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي التَّجافِي عَنْ دارِ الْغُرُورِ، وَالإِنابَةَ إِلى دارِ الْخُلُودِ، وَالاسْتِعْدادَ لِلْمَوْتِ قَبْلَ حُلُولِ الْفَوْتِ)(1) ففي هذا الدعاء القصير تذكير لما يجب ان يكون عليه الانسان الواعي وهو أن يكون مستعداً لملاقاة أجله متى حلَّ به لأنه يأتيه بغتة ولا يعذر بتركه، وقد وردت أحاديث كثيرة(2) في الحث على الاستعداد للموت، منها عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إن العاقل ينبغي ان يحذر الموت في هذه الدار، ويُحسِن له التأهب قبل أن يصل إلى دار يتمنى فيها الموت فلا يجده) (3) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (بادروا الموت الذي إن هربتم منه ادرككم، وإن اقمتم أخذكم وان نسيتموه ذكركم) (4).

وتشير بعض الآيات الكريمة إلى ان الاستعداد للموت وعدم كراهة لقائه علامة على صدق الايمان وحب الله تعالى، قال عز من قائل {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (الجمعة:6) وقد تقدم الكلام عنها.

ولمعرفة كيفية الاستعداد للموت اكتفي بهذه الرواية التي ذكرتها بعض كتب الاخلاق وعنوانها (الهدايا العشر) ووردت بعض فقراتها في روايات مختلفة وهي

ص: 78


1- الصحيفة السجادية (ابطحي): 277
2- راجع ميزان الحكمة: 8/ 223
3- غرر الحكم: 3611
4- نهج البلاغة، الحكمة: 203

متدرجة بحسب المراحل التي يواجهها الانسان في رحلة الآخرة (جاء رجل إلى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال له:أتأذن لي أن أتمَّنى الموت؟ فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):الموت شيء لا بدّ منه، وسفر طويل ينبغي لمَن أراده أن يرفع عشر هدايا) فكأن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) صحّح القصد من السؤال لأن المؤمن لا يتمنى الموت بمعنى التمني المعروف ولا يقترح على الله تعالى فيما يختار له، ووردت أحاديث كثيرة في النهي عن تمني الموت كقول رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (لا تمنّو الموت، فأنه يقطع العمل، ولا يُردُّ الرجل فيستعتب) (1) فعليه أن يسأل عن كيفية الاستعداد للموت وماذا يهيء لرحلة الآخرة.(فقال:وما هي؟ فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):هديّة عزرائيل - وهو ملك الموت -، وهديّة القبر، وهديّة منكر ونكير، وهديّة الميزان، وهديّة الصّراط، وهديّة مالك - وهو خازن النيران -، وهديّة رضوان - وهو خازن الجنان -، وهديّة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وهديّة جبرائيل، وهديّة الله تعالى.

أمّا هديّة عزرائيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فأربعة أشياء:إرضاء الخُصماء، وقضاء الفوائت والشّوق إلى الله تعالى، والتّمنّي للموت) فأول خطوة عليه أن يبادر إلى رد حقوق الناس المادية والمعنوية واسترضائهم، وتمني الموت يعني الاستعداد له وعدم كراهة لقاء الله تعالى.

(وهديّة القبر أربعة أشياء:ترك النّميمة، والاستبراء من البول، وقراءة القرآن - باستمرار ولا يقتصر على شهر رمضان -، وصلاة اللّيل) وتوجد أحاديث في أن الميت يتعذب في قبره بسبب النميمة وترك الاستبراء - أي الخرطات التسعة لتنقية

ص: 79


1- ميزان الحكمة: 8/ 228 عن كنز العمال: 42127

المجرى من البول - بعد التبول.(وهديّة منكر ونكير أربعة أشياء:صدق اللّسان، وترك الغيبة، وقول الحقّ - ولو على نفسك ولا تكتم شهادة الحق -، والتواضع لكلّ أحد) بأن تسلِّم على الجميع وتجلس حيثما تيسَّر.

(وهديّة الميزان أربعة أشياء:كظم الغيظ إذا ازعجك شيء أو استفزك أحد، وورع صادق، والمشي إلى الجماعات - في صلوات الجمعة والجماعة والشعائر الحسينية ونحو ذلك -، والتداعي إلى المغفرات - أي المسارعة إلى أسبابها الموجبة لها كقوله تعالى {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} (آل عمران:133).

وهديّة الصّراط أربعة أشياء:إخلاص العمل - لله تعالى من أي شائبة وترك الرياء والعجب والمنّ -، وحُسن الخُلق، وكثرة ذكر الله، واحتمال الأذى) خصوصاً من القريبين منك كالوالدين والزوجة والجار ورفيق السفر. وإن الانسان ليبلغ بحسن أخلاقه وكثرة ذكر الله تعالى درجة الصديّقين.

(وهديّة مالك أربعة أشياء:البكاء من خشية الله، وصدقة السّرّ، وترك المعاصي، وبِرّ الوالدين.

وهديّة رضوان أربعة أشياء:الصبر على المكاره، والشكر على نعم الله، وإنفاق المال في طاعته، وحفظ الأمانة.

وهديّة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) - الذي ترجو شفاعته - أربعة أشياء:محبّته، والاقتداء بسنّته - كما في دعاء شهر شعبان:واعّنا على الاستنان بسنته فيه ونيل الشفاعة لديه، ومحبّة أهل بيته وحفظ اللّسان عن الفحشاء) لأن لسانك أصبح محلاً لذكر الله تعالى وتلاوة القرآن فلا يليق به أن يتلفظ بسوء أو أذى أو فحش.

ص: 80

(وهديّة جبرائيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أربعة أشياء:قِلّة الأكل، وقِلّة النّوم، وقِلّة الكلام ومداومة الحمد.وهديّة الله تعالى أربعة أشياء:الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، والنّصيحة للخلق، والرّحمة على كل أحد) (1) .

والملفت ان الهدية التي ادخرها الله تعالى لنفسه تتعلق بمخلوقاته كإصلاحهم وهدايتهم والرحمة بهم والشفقة عليهم وقضاء حوائجهم وإدخال السرور عليهم ولم يجعلها كثرة صلاة أو صوم أو أي عبادة أخرى مما يبرز عظمة هذه الخصال عند الله تعالى وأهمية العلاقات الإنسانية النبيلة في الدين.

ص: 81


1- كتاب ادخال السرور على اهل القبور: للسيد حسين نجيب محمد، ص207

القبس/161: سورة التغابن:9

اشارة

{ذَلِكَ يَومُ ٱلتَّغَابُنِۗ}

من أسماء يوم القيامة:

ليوم القيامة أسماء عديدة في القرآن الكريم كيوم الدين ويوم الحسرة والندامة ويوم الفصل ويوم الذهول ويوم الزلزلة ويوم الجمع ويوم الورود ويوم النشور ويوم الحشر ويوم البعث ويوم الحساب والصاخّة والطامة الكبرى، وهي أسماء مشتقة من صفات ذلك اليوم المهول وخصائصه وما يجري فيه، ومن تلك الأسماء يوم التغابن، قال تعالى:{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} (التغابن:9).

والغبن (أن تبخس صاحبك في معاملة بينك وبينه بضرب من الإخفاء)(1) فالبائع إذا أحسّ أنّه باع بأقل من استحقاق الشيء كان مغبوناً، وإذا شعر المشتري أنّه دفع أكثر مما يستحق الشيء كان مغبوناً.

المعاملة المغبونة والفائزة يوم القيامة:

فما هي المعاملة التي سيظهر فيها الغبن يوم القيامة؟ والجواب أنّها الصفقة التي عقدها الله تعالى مع عباده حينما جمعهم في عالم الذر {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن

ص: 82


1- المفردات للراغب، مادة (غبن).

بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (الأعراف:172) فأخذ تعالى العهد على عباده أن يعبدوه ويطيعوه ولهم جميع ما في الأرض على أن يسيروا وفق منهجه الرباني، ولهم بذلك الجنّة التي عرضها السماوات والأرض.هذه الصفقة أشير إليها في القرآن الكريم كثيراً كقوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ} (البقرة:207) {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة:111).

فمن وفى بهذه الصفقة ونال جزاءه الأوفى فهو الفائز، وأمّا المغبون فهو من لم يلتزم بتعهداته في تلك الصفقة وأضاعها وأضاع تلك المبايعة، قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} (آل عمران:77)، روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(المغبون من باعَ جنّة عليّة المرتبة بمعصية دنيّة)(1) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(المغبون من شُغِل بالدنيا، وفاته حظّه من الآخرة)(2) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من باع نفسه بغير نعيم الجنة فقد ظلمها)(3) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (المغبون من غبن نفسه من الله)(4) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(المغبون من غبن دينه)(5) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إنّ المغبون من غبن

ص: 83


1- غرر الحكم/ 1352.
2- غرر الحكم/ 2010.
3- غرر الحكم/ 9164.
4- بحار الأنوار: 77/ 215.
5- ميزان الحكمة: 6/ 357.

عُمَره، وإنّ المغبوط من أنفذ عمره في طاعة ربّه)(1).

الخاسر المغبون ومنزلته:

ويزداد فرح المؤمن الفائز وحزن الفاسق والكافر الخاسر المغبون حينما يُعرض عليهما منزلاهما في الجنة والنار، ففي الرواية (في مجمع البيان روى عن النبي ص أنه قال:ما منكم من أحد إلا له منزلان:منزل في الجنة ومنزل في النار، فان مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله)(2) فمن فقد منزله في الجنة يعاني ألمين، ألم العذاب في النار وألم الحسرة على منزله في الجنة وهو ينظر إليه.

وقد أشارت سورة التغابن إلى هذين الفريقين بعد وصف يوم القيامة بأنّه يوم التغابن، قال تعالى:{وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (التغابن:910).

وقد تقدّم في تعريف الغبن أنّه البخس بضرب من الإخفاء، والخفاء هنا هو ظهور الجزاء يومئذٍ للجميع بشكل لم يتوقعوه ولم يتصوروه قال تعالى بالنسبة للفريق الأول:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة:17) وقال تعالى في الفريق الثاني:{وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ

ص: 84


1- غرر الحكم/ 3502.
2- تفسير نور الثقلين: ج3/ 532.

يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} (الزمر:47) فهناك تبدو لهم الأمور مختلفة تماماً عن مقاييسهم في الدنيا {وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ، أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ، إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} (ص:6264).

من أشكال الغبن:

هذا الشكل من الغبن واضح، لكن شكلاً آخراً منه يحتاج إلى التفات وتأمّل، وهو أنّ نفس المؤمنين يشعرون بالغبن أيضاً لأنّهم سيكتشفون بعد ارتفاع حجاب الغفلة عن بصائرهم أنّهم فوّتوا على أنفسهم فرصاً عظيمة للطاعة ولو استثمروها لحصلوا على درجة أعلى ومقاماً أرفع وقرب متزايد من رضوان الله تعالى وأوليائه العظام، روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(من أغبن ممّن باع الله سبحانه بغيره)(1) وغير الله تعالى مطلق يشمل ما يرجوه عامة المؤمنين من نعيم الجنّة كالحور العين ولحم الطير وفواكه ممّا يشتهون.

وأشار السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) إلى هذا في إحدى رسائله إليّ قال فيها:(وأمّا الندم فهو للمؤمن لا للكافر، إن الكافر سوف يلهو بآلامه المبرحة في النار وأما المؤمن فسيعض على شفته ندماً من أنّه قضى حياته الدنيا (وهي بيت الطاعة) يطفّر كالقبّرة ولم ينل إلاّ هذا المقدار من الثواب.

إنّ ما ناله مهما كان ضخماً وعظيماً فإنّه مثل قشّة تجاه الدنيا وما فيها أزاء ما يرى من مقامات الأولياء وهذه المقامات تعرض عليه قليلاً ليعرف المؤمن ما

ص: 85


1- غرر الحكم/ 8083.

فوّته على نفسه، ثمّ تختفي لقلّة تحمله في النظر إليها)(1).ومثاله التاجر الذي يملك مالاً كثيراً ونفوذاً واسعاً وفرصاً جيدة للاستثمار ولا يوجد أيّ عائق في طريقه لكنّه يضع أمواله في أمور بسيطة لا تناسب المأمول فإنّه يشعر بالخسارة والغبن، فرأس مال الإنسان في هذه الدنيا عمره أيّاماً وليالي بل ساعات ودقائق لأنّها كلها يمكن أن تستثمر بطاعة ترفع درجته يوم القيامة بدل قضائها في أحاديث فارغة أو لهواً أو فضول أو أي عمل غير مثمر، ففي بعض الروايات أنّ ساعات عمر الإنسان تُعرض عليه على نحو صناديق بأشكال ثلاثة، ساعة الطاعة وساعة المعصية وساعة الفراغ فساعة الطاعة يفرح بها وساعة المعصية يتعذّب بها وساعة الفراغ يندم عليها، في الحديث عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(ما من ساعة تمرُّ بابن آدم لم يذكر الله فيها إلا حَسِر عليها يوم القيامة)(2).

تجارة مربحة:

إنّ كل ثانية من حياة الإنسان يمكن أن يحولّها إلى طاعة عظيمة كما لو شغلها بتسبيحة ليغرس الله تعالى له بكل تسبيحة عشرة أشجار في الجنة وفي رواية أخرى شجرة، ففي أمالي الصدوق بسنده عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(من قال سبحان الله غرس الله له بها شجره في الجنة ومن قال الحمد لله غرس الله له بها شجره في الجنة ومن قال لا اله الا الله غرس الله له بها شجره في الجنة ومن قال الله اكبر غرس الله له بها شجره في الجنة

ص: 86


1- قناديل العارفين: ص87.
2- كنز العمّال: 1819.

فقال رجل من قريش(1) يا رسول الله إن شجرنا في الجنة لكثير قال نعم ولكن إياكم أن ترسلوا عليها نيرانا فتحرقوها و ذلك إن الله عز وجل يقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (محمد:33)(2).إنّ هذه الطاعة التي قد لا تستغرق أكثر من ثانية واحدة من وقت الإنسان قد يكون لها دور خطير عندما تتساوى حسنات الإنسان وسيئاته فيحتاج إلى حسنة واحدة لترجيح كفّة الحسنات، فيتحسّر على ثوان يتمنى لو كان استثمرها في تسبيحة من عمره الكثير الذي أضاعه من دون فائدة.

الغبن فيما يخلّفه المؤمن بعد موته:

وينبغي الالتفات إلى حالة أخرى من الغبن يشعر بها حتى من استثمر عمره في الطاعة لكنّه لم يستفد من العمر الإضافي الذي يُعطى له لاكتساب المزيد من الحسنات، وهو الذي أشير إليه في الحديث الشريف (إذا مات المرء انقطع عمله إلا من ثلاث:علم يُنتفع به، صدقة جارية، ولد صالح يدعو له)(3) فيستطيع الإنسان بفضل الله تبارك وتعالى أن يستمر في اكتساب الحسنات حتى بعد وفاته بأن يصبح من أهل العلم الذين يخلّفون أثراً نافعاً أو يؤسس مشروعاً مباركاً يكون صدقة جارية كمسجد أو شقق سكنية للفقراء أو طلبة العلم أو مدرسة دينية أو مركزاً صحيّاً أو يجري شبكة ماء.

والمصدر الثالث هو الولد الصالح بأن يتزوج امرأة صالحة ويتعب نفسه في

ص: 87


1- لا يخفى على الفطِنْ من هو بقرينة الآية التي استشهد بها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في ذيل الرواية.
2- بحار الأنوار: 93/ 168 ح3.
3- شرح أصول الكافي، ج6، ص137.

تربية أولاده ليكونوا صالحين ثمّ يؤسس كلّ منهم أسرة صالحة وهكذا يتكاثرون وفق متوالية هندسية على مرِّ الأجيال أي أنّ الاثنين يصبحون أربعة والأربعة ستة عشر بل أكثر بفضل الله تبارك وتعالى، وإذا به بعد أجيال يكون من ذريته الآلاف من الصالحين وتستمر حسناته بالزيادة، فاغتنموا هذه الفرص بفضل الله تعالى ولطفه.

ص: 88

القبس/162: سورة التحريم:6

اشارة

{يَأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَارا}

قال الله تعالى:{يَأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَارا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلحِجَارَةُ عَلَيهَا مَلَئِكَةٌ غِلَاظ شِدَاد لَّا يَعصُونَ ٱللَّهَ مَا أَمَرَهُم وَيَفعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ} (التحريم:6).

درس في الأسرة الصالحة:

الآية الشريفة تتضمن درساً في المسؤولية الأسرية والاجتماعية انطلاقاً من الحديث الشريف (ألا كُلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على أهل بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)(1).

وتبرز أهمية هذه المسؤولية اليوم بشكل واضح لامتلاك الفساد والضلال والانحراف وسائل وتقنيات وأدوات متطورة وفاعلة ومثيرة وجاذبة مما يوجب أكثر من ذي قبل الاهتمام بهذا الأمر الإلهي العظيم ووضع الآليات المناسبة للالتزام به.

ص: 89


1- الأمثل في تفسير القرآن: 14/ 29 عن مجموعة ورام: 1/ 6.

في معنى مفردات الآية:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} خطاب عام موجّه لجميع المؤمنين والمؤمنات.

{قُوا} فعل أمر من الوقاية، و(الوقاية حفظ الشيء عما يؤذيه ويضرّه، قال تعالى:{فَوَقَاهُم اللهُ} (الإنسان:11) وقال تعالى: {وَوَقَاهُم عَذَابَ الجَحِيمِ} (الدخان:56)، والتقوى جعل النفس في وقاية مما يُخاف، وصار التقوى في تعارف الشرع حفظ النفس عما يؤثم، وذلك بترك المحظور، ويتم ذلك بترك بعض المباحات لما روي (الحلال بيِّن والحرام بيِّن ومن رتع حول الحمى فحقيق أن يقع فيه)(1).

{أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ} وجوب وقاية النفس وحفظها من النار ثابت وواضح، والجديد في الآية أنها تقرن الأهل بالنفس في حفظهم من ارتكاب ما يوجب النار التي وصفتها الآية الشريفة بأوصاف مرعبة.

الوجوب المؤكد بوقاية الأسرة:

وقد نبه القرآن الكريم إلى هذه العناية الخاصة بالأهل في آيات كثيرة، كقوله تعالى مخاطباً نبيه الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (طه:132) وكان من أوائل ما نزل عليه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في بداية الدعوة الإسلامية:{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء:214) وحكى عن إسماعيل صادق الوعد بقوله تعالى:{وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} (مريم:55). فهناك

ص: 90


1- المفردات للراغب: 881، مادة (وقى).

إذن مسؤولية خاصة عن الأهل جمعها قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} (التحريم:6). ويشهد لهذا الوجوب المؤكد نصوص شريفة أخرى، كقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدّبوهم)(1) كما يشهد له ورود تطبيقات لهذه المسؤولية الخاصة كتأديب الصبيان على الصلاة من عمر ست أو سبع سنين(2)، أو ما ورد في أعمال ليلة القدر أن السيدة الزهراء(س) كانت لا تدع أهلها ينامون في تلك الليلة وتعالجهم بقلة الطعام وتتأهب لها من النهار أي كانت تأمرهم بالنوم نهاراً لئلا يغلب عليهم النعاس ليلاً، وكان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يوقظ أهله في تلك الليلة ويرشّ وجوه النيام بالماء(3).

حدود المسؤولية في الأسرة:

ولا تعني هذه الدعوة التي أطلقتها الآية لوقاية الأهل من النار إكراههم على شيء، فقد شرحت حدود هذه المسؤولية روايات عديدة رواها الشيخ الكليني في الكافي(4):

(منها) عن أبي بصير عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قول الله عز وجل: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً}، قلتُ:كيف أقيهم؟ قال:تأمرهم بما أمر الله، وتنهاهم

ص: 91


1- كنز العمال:2/ 539، ح 4676.
2- وسائل الشيعة: 4/ 18، أبواب أعداد الفرائض، باب 3.
3- مفاتيح الجنان عن دعائم الإسلام.
4- الكافي:5/ 62، ح1، 2.

عما نهى الله، فإن أطاعوك كنت قد وقيتهم، وإن عصوك كنت قد قضيت ما عليك). (ومنها) عن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لما نزلت هذه الآية:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} جلس رجلٌ من المسلمين يبكي، وقال:أنا عجزت عن نفسي وكُلّفت أهلي! فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك، وتنهاهم عما تنهى عنه نفسك).

المطلوب من وعظ الأسرة:

فالمطلوب بمقتضى هذه الآية أن يحفظ الإنسان أهله من الوقوع في المعاصي وما يسخط الله تعالى بأن يرشدهم إلى الطاعة ويقرّبهم منها ويزيّنها لهم ويقنعهم بها ويكافئهم على فعلها، وبنفس الوقت يحذّرهم من المعصية ويردعهم عنها ويحميهم من الوقوع فيها.

وقد ذكر العلماء (قدس الله أرواحهم) في رسائلهم العملية أمثلة لهذه المسؤولية فقالوا:(يجب عليه إذا رأى من أهله التهاون في الواجبات، كالصلاة وأجزائها وشرائطها بأن لا يأتون بها على وجهها لعدم صحة القراءة والأذكار الواجبة منهم، أو أنهم لا يتوضأون وضوءاً صحيحاً، أو لا يطهرون أبدانهم ولباسهم من النجاسة على الوجه الصحيح، فيجب عليه تعليمهم وأمرهم ونهيهم على الترتيب المتقدم حتى يأتوا بها على وجهها الصحيح. وكذا الحال في بقية الواجبات، وكذلك في المعاملات وسائر الأحكام. وكذا إذا رأى منهم التهاون في المحرمات كالغيبة والنميمة والعدوان بين بعضهم على بعض أو على غيرهم

ص: 92

أو الزنا أو شرب الخمر أو السرقة، فإنه يجب عليه أن ينهاهم عن المنكر، حتى يرتدعوا عن المعصية)(1).

مناشئ المسؤولية تجاه الأسرة:

ويمكن أن نفهم لهذه المسؤولية المؤكدة عدة ملاكات ومناشئ:-

1إن هذا التأكيد وقرن الأهل بالنفس في الخير والشر يلاحظ أمراً فطرياً ونزعة لدى الإنسان فإنه يعتبر أهله كنفسه يصيبه ما يصيبهم، من وصية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لولده الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(ووجدتك بعضي، بل وجدتك كلي، حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني، وكأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي)(2). وقد حكى القرآن الكريم عن جملة من الأنبياء(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هذه الغريزة الإنسانية، قال تعالى عن إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):{قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي} (البقرة:124) وقال عن النبي نوح (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):{وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} (هود:45) وقال تعالى عن النبي لوط (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):{رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} (الشعراء:169). ومن الأدعية التي وردت في القرآن الكريم {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} (الأحقاف:15) والخلاصة أن الأمر بوقاية الأهل ينبّه الإنسان على أنك إن أردت الخير لأهلك

ص: 93


1- منهج الصالحين: 2/ 240، المسألة (888)، منهاج الصالحين للسيد الحكيم قدس سره: 1/ 490، مسألة (8)، وللسيد الخوئي قدس سره: 1/ 353، مسألة (1274).
2- نهج البلاغة: 616، قسم الرسائل والكتب، العدد 31.

وأن يلتحقوا بك في الجنة فعلّمهم ما يتقون.2إن للشخص سلطنة وقيمومة وولاية عرفية واجتماعية وشرعية خاصة على أهله وذويه مما تعطيه قوة في التأثير ومن غير المتوقع وجود موانع من ممارسة الفريضة كالتي يمكن أن تحصل مع الغير مثل حصول الضرر أو اختلال النظام ونحو ذلك، فتكون مسؤوليته أكبر لأن وجود المقتضي أقوى والمانع يكاد يكون مفقوداً.

3إن الأسرة هي الوحدة الأساسية للمجتمع فإذا صلحت هذه الأسرة وتلك وتلك صلح المجتمع، فصلاح المجتمع –الذي هو الهدف يتحقق بقيام كل فرد بإصلاح أسرته، فكأن الشارع المقدس بتأكيده على إصلاح الأسرة يضع لنا المنهج والطريق لإصلاح المجتمع.

4إن الفرد مسؤول اجتماعياً عن أسرته فإذا صدر منهم ما يزين كان له، وإذا صدر منهم ما يشين كان عليه؛ لذلك ورد عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مخاطباً شيعته:(كونوا زيناً لنا ولا تكونوا علينا شيناً)(1) لأنهم محسوبون على الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يتسمون باسمه، فإصلاح الفرد لأسرته إنما هو عمل يقدّمه لنفسه لأن الثناء يعود إليه فيما لو صلحوا وأحسنوا، كما أن الولد المنحرف يعيَّر به ويعتذر عن إساءته. وقد ورد مثل هذا الوجه في تعليل اشتراط إذن ولي الأمر في الدخول بالباكر (في

ص: 94


1- من لا يحضره الفقيه: 1/ 383، ح 1128وفيه: (يا زيد خالفوا الناس بأخلاقهم، صلّوا في مساجدهم، وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، وإن استطعتم أن تكونوا الأئمّة والمؤذنين فافعلوا فإنّكم إذا فعلتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية ما كان أحسن ما يؤدّب أصحابه، وإذا تركتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية فعل بجعفر ما كان أسوأ ما يؤدّب أصحابه).

زواج المتعة) لأن عارها يرجع على أهلها قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(يكره للعيب على أهلها) وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(كراهية العيب على أهلها)(1). .5إن عدم صلاح الأهل يضعف موقف الفرد عند قيامه بواجبه في ممارسة الأمر والنهي في المجتمع؛ لأنهم سيردّون عليه بأنه ليبدأ أولاً بإصلاح أهله، مما يجعله في حرج من ممارسة هذه الفريضة العظيمة.

6إن الأسرة وحدة مصغرة من المجتمع وفيها تنوع نفسي وفكري وثقافي فتصلح أن تكون معسكراً تدريبياً –كما يقال لأداء الوظيفة في المجتمع فيستفيد العامل من كيفية التعاطي مع الأهل مع تنوعهم في التعاطي مع المجتمع وهو أحد وجوه فهم الحديث النبوي الشريف (خيركم خركم لأهله وأنا خيركم لأهله)(2) وكذلك حديث (من عرف نفسه فقد عرف ربّه)(3).

الأسرة الصالحة تبدأ باختيار الزوجة الصالحة:

وما أكثر مصاديق هذا الوجوب المؤكد اليوم كتوفير البيئة الصالحة لهم في البيت بدءاً من اختيار الزوجة المؤمنة العفيفة المتفقهة، وأن يكون لهم أسوة حسنة لأن رب الأسرة يكون المثل الأعلى لهم، وأن يجنبهم أصدقاء السوء، وأن يعلمهم ويرشدهم إلى كل ما فيه صلاح الدنيا والآخرة، وأن لا يهمل أمر متابعتهم وتفقد شؤونهم بعذر الانشغال بالكسب أو أي أمر آخر، وأن ينبههم إلى أوقات الصلاة برفع الأذان في البيت –وقد ورد فيه عن الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):أنه مما يوجب كثرة

ص: 95


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب 11.
2- وسائل الشيعة (آل البيت): 20/ 171/ح8
3- بحار الأنوار المجلسي: 2/ 32

الولد والشفاء من الأمراض(1)- ويصلي بهم جماعة إن استطاع، وأن يختار لهم أحمد السبل وأرشدها في دراستهم وكسبهم وأوضاعهم الاجتماعية ونحو ذلك.وهذه المسؤولية ممتدة طول الزمان لأن الإنسان لا يخلو من المسؤولية عن الاهل فهو إما أن يكون ابناً أو أباً أو زوجاً أو أخاً، وكذلك بالنسبة للمرأة، أما مسؤوليته عن أسرته الخاصة فلا بد من الالتفات إليها ورعايتها من قبل الزواج باختيار المرأة الصالحة المؤهلة لحفظ بيته وماله وتربية أولاده.

ص: 96


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب أحكام الأولاد، باب 11، ح10.

القبس/163: سورة التحريم:11

اشارة

{وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱمرَأَتَ فِرعَونَ}

موضوع القبس:امرأة فرعون أسوة حسنة للرجال والنساء

قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم:{وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱمرَأَتَ فِرعَونَ إِذ قَالَت رَبِّ ٱبنِ لِي عِندَكَ بَيتا فِي ٱلجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرعَونَ وَعَمَلِهِۦ وَنَجِّنِي مِنَ ٱلقَومِ ٱلظَّلِمِينَ} (التحريم:11).

مثل يضربه الله تعالى ليتأسى به {الَّذِينَ آمَنُوا} جميعاً في جميع الأجيال رجالاً ونساءاً وليس النساء فقط وليأخذوا منه الدروس والعبر وهكذا كل الأمثال والقصص فليست هي للتسلية ولا لقضاء أوقات الفراغ قال تعالى {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر:21).

وهذا المثل شاهد على ما يمكن أن تصل إليه المرأة من مكانة سامية بحيث تصبح مثلاً وقدوة لجميع المؤمنين، انها امرأة فرعون التي ذكرت الروايات أن اسمها آسية.

وقدّم الله تعالى الآية التي تذكرها على الآية التي تذكر المثل الآخر وهي مريم ابنة عمران ربما لامتياز في آسية وهي انها عاشت في بيت كافر بل في قمة الكفر والتحدي لله تعالى حيث يزعم فرعون أنه ربهم الأعلى فاختيارها الايمان

ص: 97

كان على خلاف العادة وفيه مشقة كبيرة ومجاهدة عظيمة اما مريم فقد ولدت في بيئة صالحة وهم آل عمران الذين اصطفاهم الله تعالى وكانوا يقولون لمريم (س) {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} (مريم:28) ونشأت برعاية نبي {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} (آل عمران:37) فسمّوها وكمالها يكون منسجماً مع تلك الظروف.إن امرأة فرعون سجّلت موقفاً نادراً يصعب تصوره ويذهل المتأمل فيه فقد كانت زوجة فرعون مصر والسيدة الأولى في الإمبراطورية الفرعونية التي تنفذ كل رغباتها بلا مناقشة ولها مكانتها العظيمة في قلب فرعون وكانت تتقلب في حياة الترف والنعيم في قصور فرعون الباهرة مما تحلم به أي امرأة، وفي تلك الأبهة التي اشير الى بعض جوانبها في القرآن الكريم على لسان فرعون {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ} (الزخرف:5153). وكان أيضاً في قمة الطغيان والجبروت بحيث ينهار أمامه أشرس الأبطال الشجعان.

واذا بهذه المرأة تتنازل عن ذلك النعيم كله وتواجه ذلك الطغيان كله وتتحول إلى صف المؤمنين بموسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما سمعت دعوته إلى الله تبارك وتعالى ورأت آياته المعجزة في مواجهته مع السحرة وهي تعرف قبل ذلك صدق موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واستقامته وسمو اخلاقه عندما تبنته طفلاً رضيعاً لما وضعته أمه في تابوت وألقته في اليم {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} (القصص:8) وطلبت من فرعون أن يبقي على حياته {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى

ص: 98

أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (القصص:9)، روى الشيخ الصدوق في كتابه الخصال بسنده عن جابر بن عبدالله قال (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ثلاثة لم يكفروا بالوحي طرفة عين مؤمن آل ياسين وعلي بن أبي طالب وآسية امرأة فرعون)(1) .وفي بعض الروايات انها كانت من بني إسرائيل وهي من خيار النساء من بنات الأنبياء وكانت أماً للمؤمنين ترحمهم وتتصدق عليهم(2) .

وقد أخفت ايمانها في البداية لكن هذا التغير في حياتها وسلوكها لم يكن ليخفى على زوجها اللصيق بها فرعون فعلم بذلك وطلب منها الرجوع إلى كفرها فرفضت ثم تعرضت للضغط الاجتماعي حيث ابتدأ بأمها لتستعمل العاطفة لإرجاعها إلى دين فرعون، ثم حذروها من خسارتها لكل هذه الحياة المترفة في قصر فرعون ومن بطشه وعذابه فلم يفلحوا معها ثم وصفوها بالجنون واستهزؤا بقرارها وسخروا من هذا الانقلاب في حياتها وتفضيلها وعوداً غيبية مؤجلة يقدّمها النبي موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على نعيم عظيم حاضر تتمتع به لكنها أصرّت على الايمان فهدّدها فرعون بتعذيب غير مسبوق فلم تتراجع حتى نفّذ تهديده ليثبت بذلك هزيمة الطواغيت والفراعنة بكل جبروتهم امام ثبات وإصرار امرأة على الحق.

وروى الطبرسي ان فرعون أوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد وألقاها في الشمس ثم أمر أن يلقى عليها صخرة عظيمة وروى انها كانت ترمق السماء وتدعو بما ذكرته الآية الشريفة فمرّ عليها موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فدعا لها أن يخفّف عنها فلم

ص: 99


1- الخصال: 174، باب 3 ح 230
2- بحار الأنوار: 13/ 16

تجد للعذاب أثراً وأوحى الله تعالى إليها أن ارفعي رأسك ففعلت فرأت البيت في الجنة فضحكت، فقال فرعون:انظروا إلى الجنون التي بها تضحك وهي في العذاب(1) .فلا عجب أن تثني عليها الأحاديث الشريفة وتذكر درجتها في الجنة رابعة أربعة مع فضليات نساء الدنيا فاطمة الزهراء (س) وخديجة بنت خويلد ومريم بنت عمرآن(2) .

ان دعاءها الذي ذكرته يكشف عن كمال معرفتها وسمو ذاتها لخصت فيه هدفها في الحياة والغرض الذي ضحَّت من أجله فقد بدأته بقولها (ربِّ) للاعتراف بين يدي الله تعالى بالتربية الإلهية الخاصة التي حظيت بها وترجو أن يديمها ربها عليها وطلبت أن ينجيها الله تعالى من مكائد فرعون وضغوطه وفتنته وأن لا تكون جزءاً من نظامه الفاسد {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ} (القصص:17) لأنها رافضة لكفره ولسلوكه الشيطاني ومن كل أعمال المجتمع الفرعوني الغارق بالكفر والمعاصي، وتوجهت بقلبها وعقلها إلى ما عند الله تبارك وتعالى وزهدت بنعيم فرعون الذي فيه ما تشتهيه الأنفس وتهفو إليه القلوب بما يفوق التصور لكنها ادركت ببصيرتها أنه متاع دنيوي زائل ولم تكتفِ بطلب بيت في الجنة الذي فيه عوض عما زهدت به في الدنيا بل أن يكون هذا البيت عند الله تعالى وهي ما ارادت بالعندية عندية المكان لأن الله تعالى لا

ص: 100


1- بحار الأنوار:13: 164165
2- الخصال:205 206 باب 4 ح 22،23

يحدّه مكان وإنما ارادت عندية المكانة في جواره وقربه تعالى وفي ذلك كرامة معنوية فائقة.وهي بذلك تضرب مثلاً سامياً في قوة الإرادة والثبات على الايمان والإخلاص في العبودية لله تعالى والتنزه عن زخارف الدنيا الوهمية حيث كانت ترى قصر فرعون والدنيا عموماً سجناً تضيق نفسها بالحياة فيه فتطلعت إلى بيت تبنيه الإرادة الإلهية بدون واسطة حتى الملائكة.

إننا بحاجة ماسة إلى احياء ذكر هذه القمم لنزيد من همتنا في طاعة الله تعالى ومن مقاومتنا لكل مشاريع الفساد والانحلال والابتعاد عن الله تعالى مهما كانت الاغراءات أو الضغوط حتى تصبح هذه الظواهر المنحرفة التي تحصل هنا وهناك كالذي تقوم به بعض النساء في احتفالات الاعراس او على صفحات التواصل الاجتماعي او العلاقات المشبوهة ونحو ذلك تصبح ممقوتة ومثيرة للاشمئزاز فضلاً عن التأثّر بها والانسياق معها.

وهذه المرأة العظيمة حجة علينا جميعاً لأننا مهما تعرضنا لإغراءات الدنيا فهي دون ما كان متاحاً لامرأة فرعون وطوع ارادتها ومهما تعرضنا لضغوط وتهديدات فهي دون ما لاقت (رضوان الله تعالى عليها) وماتت تحت تعذيب ومع ذلك فقد صمدت وثبتت وازدادت سمواً وإخلاصاً حتى لاقت ربها وماتت تحت التعذيب شهيدة راضية مرضية، فما هو عذرنا(1) وما هي مبرراتنا إن ضعفنا أو قصرّنا.

ص: 101


1- الكلمة القاها سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) مع إدارة ملتقى العلم والدين النسوي في النجف والمحافظات يوم الخميس 8/جمادي ثاني/1440 الموافق 14/ 2/ 2019.

القبس/164: سورة المُلك:2

اشارة

{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}

موضوع القبس:مقوِّمات إحسان العمل

من علامات قدرة الله تبارك وتعالى وهيمنته وحكمته أنه {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} وقدّرهما على بني البشر وفي الحديث الشريف عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(الحياة والموت خلقان من خلق الله)(1)، وقد جرت سنة الفناء في سائر المخلوقات كما في قول الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ان أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون)(2).

ثم تبّين الآية الغرض من اخراجكم الى هذه الدنيا {لِيَبْلُوَكُمْ} ويختبركم بالأوامر والنواهي والترغيب والتخويف حتى تتميزوا وتتفاضلوا أيّكم أحسن عملاً وتظهر معادنكم وحقيقتكم، ليُكافأ من أحسن بجنان الخلد ويحرم منها من اساء.

فلابد للإنسان أن يكون ملتفتاً للغرض الذي خُلِق من أجله، وأن يستحضر هذه الحقيقة دائماً ويجعلها ماثلة أمامه ولا يجعل للغفلة طريقاً إليه ولا للأهواء والمغريات وأسباب الضلال والانحراف سلطة عليه ويكرّس حياته لأفضل حرث

ص: 102


1- الكافي:3/ 259 ح 34
2- الإرشاد : ج2/ ص 94

وهو أحسن العمل. ويظهر من الآية ان الموت والحياة لهما مدخلية في هذا الاختبار اما الحياة فلأنها ساحة العمل ووسيلة اكتساب الأعمال (الدنيا مزرعة الآخرة)(1) واما الموت فلأن الاعتقاد به وبما بعده من البعث والنشور والحساب والجزاء يمثل أقوى باعث على العمل ولولا الآخرة وطلب رضا الله تعالى لا يوجد حافز على الجهد والتضحية والبذل والعطاء والايثار والتمايز بهدف الوصول الى ما يستحقه من الجزاء.

والموت ليس فقط جزءاً من عملية الاختبار والابتلاء بل هو مظهر للحكمة وللرحمة أيضاً اذ لو لم يكتب الموت على الناس وبقيت الأجيال البشرية من لدن آدم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى نهاية الدنيا كيف ستسعهم الأرض، وكذا الحيوانات في الأرض أو الماء فانها ستغطي كل الأرض والماء بعدة طبقات، فكان الموت سبباً لحفظ التوازن البيئي والبشري.

والموت يأتي بعد الحياة لأنه إعدام الحياة ولا يقال للعدم السابق على الحياة أنه موت، وروي في ذلك قول الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(وخلق الحياة قبل الموت)(2) .

وإنما قدِّم ذكر الموت على الحياة لوجوه محتملة:

1 لوجه بلاغي وهو ظاهر.

2 لأن الحياة لا تعرف قيمتها الا بمقابلتها بالموت من باب الأمور تعرف

ص: 103


1- عوالي اللئالي : 1 / 267 / 66
2- الكافي: 8/ 145

بأضدادها، أو ان النعم لا تعرف الا اذا فقدت.3 لأن ظهور قدرة الله تعالى وعزّته وهيمنته وعظيم سلطانه تظهر بالموت أكثر من الحياة في أذهان البشر وورد في الدعاء (وقهر عباده بالموت والفناء)(1) .

4 ان تأخير الحياة لأنها هي ساحة التسابق والاختبار وتحصيل أحسن الأعمال فيناسبها أن تلتصق بقوله تعالى {لِيَبْلُوَكُمْ}.

ومن الواضح ان الآية تحدد ان الغرض المقصود من الاختبار والامتحان في هذه الدنيا هو الوصول الى حالة أحسن العمل، وان التفاضل بين الناس هو على أساس تقديم أحسن العمل، فبم يتحقق حسن العمل وما هي ضوابط ومعايير كونه أحسن العمل.

روى في مجمع البيان عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله في معنى ايكم أحسن عملاً قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(أيكم أحسن عقلاً، ثم قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):اتمكم عقلاً وأشدكم لله خوفاً وأحسنكم فيما أمر الله عزوجل به ونهى عنه نظراً، وإن كان أقلَّكم تطوعاً) فحسن العمل ليس بكثرة العبادات والطاعات وانما بنوعيتها وفي حديث آخر عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(ايكم أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله)(2) وروي عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (الاحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فاذا فعلت ذلك فقد أحسنت)(3).

ص: 104


1- بحار الأنوار: 84/ 339 ، مفاتيح الجنان: دعاء الصباح لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)
2- تفسير نور الثقلين: 5/ 230 ح 12،13
3- كنزل العمال: 3/ 16 ح 5254

في مجمع البيان عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(ان الرجل ليكون من اهل الجهاد ومن اهل الصلاة والصيام وممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وما يُجزى يوم القيامة الا على قدر عقله) وروى انس ابن مالك قال:(أثنى قومٌ على رجل عند رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كيف عقله؟ قالوا:يا رسول الله نخبرك عن اجتهاده في العبادة واصناف الخير وتسألنا عن عقله؟ فقال:ان الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وانما يرتفع العباد غداً في الدرجات وينالوا الزلفى من ربّهم على قدر عقولهم)(1) .روى الشيخ الكليني بسنده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير الآية قوله (ليس يعني أكثر عملاً ولكن أصوبكم عملاً وإنما الإصابة خشية الله والنية الصادقة والحسنة، ثم قال:الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد ان يحمدك عليه أحد الا الله عزوجل والنية أفضل من العمل، الا وإن النية هي العمل ثم تلا قوله عزوجل {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} (الإسراء:84) يعني على نيته)(2).

ويظهر من هذه الروايات:ان العمل لا يختص بأعمال الجوارح البدنية وإنما يشمل الأعمال القلبية أي ليس الظاهرية فقط وإنما الباطنية أيضاً بل لعلها الأهم.

ويظهر أيضاً إن من الاعمال ما هو حسن وأحسن منه كما أن منه ما هو سيء وأسوء، وان مقابل الأحسنين أعمالاً يوجد الأخسرون أعمالاً الذين ذكرتهم الآية

ص: 105


1- تفسير نور الثقلين: 5/ 231 ح 20، 21
2- أصول الكافي: 2/ 13 ح 4

الكريمة {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (الكهف:103104) .ولا تخلو الآية الكريمة من إشارة الى أن الهدف من خلق الحياة والوجود هو تحصيل الأحسنين أعمالاً اما غيرهم فهم مخلوقون لأجلهم، وقد أثبتت الامتحانات التي مرّ بها النبي وآله (صلوات الله عليهم أجمعين) أنهم أحسن الخلق أعمالاً مما يصحح ما دل من الروايات(1) على ان الموجودات خلقت لأجلهم، لأن الغرض من الوجود تحقق بهن فيصح انهم خلق من أجلهم.

وهذا الاختبار خاص بالبشر {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (الإنسان:3) وورد في الرواية الصحيحة عن ابي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(لما خلق الله العقل استنطقه، ثم قال له:أقبل فأقبل، ثم قال له:أدبر فأدبر، ثم قال:وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إلي منك، ولا أكملتك إلا فيمن أحب، أما إني إياك آمر،

ص: 106


1- العلل ، والعيون ، والإكمال : عن الرضا ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين ((عَلَيْهِ السَّلاَمُ)) قال : قال رسول الله ((صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)): ما خلق الله عز وجل خلقا أفضل مني ولا أكرم عليه مني - إلى أن قال : - يا علي ، لولا نحن ما خلق آدم ولا حواء ولا الجنة ولا النار ولا السماء ولا الأرض – الخبر. (عيون أخبار الرضا(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): الجزء 2/ صفحة 237) ، قال الشيخ المفيد (رحمه الله) في المسائل السرويّة : والصحيح من حديث الأشباح الرواية التي جاءت عن الثقات : بأن آدم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) رأي على العرش أشباحاً يلمع نورها ، فسأل الله تعالى عنها ، فأوحى إليه : أنها أشباح رسول الله وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم " وأعلمه أن لولا الأشباح التي رآها ما خلقه ولا خلق سماء ولا أرضاً . . . (المسائل السروية:الجزء:1،صفحة : 39)

وإياك أنهى، وإياك أعاقب، وإياك أثيب)(1). اما الموجودات الأخرى فهي سائرة بدقة في حركتها لتؤدي أحسن العمل المطلوب منها.وتصرّح الآيات الكريمة بأن احسان العمل له آثار مباركة عظيمة في الدنيا والآخرة كقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (البقرة:195) وكفى بذلك شرفاً وفضلاً، وقوله تعالى {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (الأعراف:56) وقوله تعالى {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} (الكهف:30) وقوله تعالى {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (الرحمن:60) وقوله تعالى {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (يونس:26) وقوله تعالى {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} (النحل:30) وقوله تعالى {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} (الحج:37) وقوله تعالى {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت:69) وقوله تعالى {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} (الزمر:34) وغيرها كثير.

وفي ضوء ما تقدم فأن مقوِّمات احسان العمل أمور:

1.ان يكون العمل حسناً محبوباً في نفسه ليصّح التقرب إلى الله تعالى بإحسانه والا لا معنى للتقرب بفعل اذا كان قبيحاً لذا لا يصح أن يكون متعلق النذر واليمين أمراً مرجوحاً كمقاطعة الأرحام أو ظلم أحد حقه أو ترك واجب أو فعل محرم، ولا معنى للحديث عن تحسين فعل اذا لم يكن حسناً في نفسه فلا يصحّ إضفاء عناوين حسنة على أفعال مبتدعة من وضع الناس لم يثبت حسنها في

ص: 107


1- وسائل الشيعة: 1/ 39 باب 3 ح1.

ذاتها.2.اخلاص النية لله تبارك وتعالى وعدم شوبها بالرياء والعجب أو استهداف أغراض دنيوية كتحصيل الجاه والسمعة والثناء من الآخرين أو مكاسب مالية أو إرضاءاً لأشخاص آخرين ففي الحديث المشهور (إنما الاعمال بالنيات ولكل أمرئ ما نوى)(1) وفي وصيته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأبي ذر (يا أبا ذر، ليكون لك في كل شيء نية حتى في النوم والأكل)(2) فالعاقل لا يجعل حركته تذهب هدراً فضلاً عن حبط اعماله روى عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (إعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله)(3).

3.ان يزيِّن العمل بالورع والتقوى ليبلغ غايته، في الحديث (عن مفضل بن عمر قال:كنت عند أبي عبد الله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فذكرنا الأعمال، فقلت أنا:ما أضعف عملي؟ فقال:مه استغفر الله، ثم قال لي:إن قليل العمل مع التقوى خير من كثير بلا تقوى قلت:كيف يكون كثير بلا تقوى؟ قال:نعم مثل الرجل يطعم طعامه، ويرفق جيرانه، ويوطئ رحله، فإذا ارتفع له الباب من الحرام دخل فيه، فهذا العمل بلا تقوى، ويكون الآخر ليس عنده فإذا ارتفع له الباب من الحرام لم يدخل فيه)(4) وفي كلمة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد)(5) وروي

ص: 108


1- وسائل الشيعة: 1/ 49 ، أبواب مقدمة العبادات، باب 5 ح 10
2- وسائل الشيعة: 1/ 48 باب 5 ح 7/ 8
3- وسائل الشيعة: 1/ 100 باب 23 ح 6
4- بحار الأنوار: ج 67 / ص 104
5- بحار الأنوار: ج 40 / ص 340

عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(اذا أحسن المؤمن ضاعف الله عمله لكل حسنة سبعمائة فأحسنوا أعمالكم التي تعملونها لثواب الله - الى ان قال - وكل عمل تعمله لله فليكن نقياً من الدنس)(1).فمن علامات حسن العمل اقترانه بالتقوى وتنقيته من الشوائب التي ذكرناها، ومن كل ما يشين، ونذكر ضمن هذه النقطة الحديث الشريف عن الامام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ليس حسن الجوار كف الأذى ولكن حسن الجوار الصبر على الأذى)(2) وهذا معنى يجري في كثير من القضايا كحسن التبعل مثلاً وغيره.

4.دوام العمل بالمواظبة عليه ان أمكن كصلاة الليل او تلاوة القرآن وان لم يمكن كالحج مثلاً فبإدامة آثاره وحبّه وعقد العزم على الاتيان به اذا تيسرت ظروفه عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(أحب الأعمال الى الله عزوجل ما داوم العبد عليه وان قل)(3) وسنفصّل الكلام في هذه النقطة في الملحق الآتي إن شاء الله تعالى.

5.الرفق في العمل وعدم الافراط في تحميل النفس الى حد التمرد ورفض الطاعة فقد روي عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (لا تكرِّهوا الى أنفسكم العبادة)(4) وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اجتهدت في العبادة وأنا شاب فقال لي أبي:يا بني، دون ما اراك تصنع فان الله عزوجل اذا أحبّ عبداً رضي منه باليسير)(5).

ص: 109


1- الوسائل: 1/ 61 باب 8 ح 10
2- تحف العقول: 409، الكافي: 2/ 667 ح 9
3- الوسائل: 1/ 94 باب 21 ح 5
4- وسائل الشيعة: 1/ 108 باب 26 ح 1.
5- وسائل الشيعة: 1/ 108 باب 26 ح 2.

6.المبادرة الى فعل الخيرات وتقدم الحديث الشريف في تفسير {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} أي (اسرع في طاعة الله) وروي عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (إذا هممت بشيء من الخير فلا تؤخره، فإن الله عز وجل ربما اطلع على العبد وهو على شيء من الطاعة، فيقول:وعزتي وجلالي، لا أعذبك بعدها أبدا، وإذا هممت بسيئة فلا تعملها، فإنه ربما اطلع الله على العبد وهو على شيء من المعصية، فيقول:وعزتي وجلالي لا أغفر لك بعدها أبدا)(1) .

7.التفقه في الدين ومعرفة كل ما يرتبط بالعمل من مقدمات وأجزاء وشرائط وما يسبب الخلل فيه لإتقانه والا فانه قد يأتي بما يفسد العمل من حيث لا يعلم، وتقدم في الحديث النبوي الشريف في تفسير {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (أحسنكم فيما أمر الله عزوجل به ونهى عنه نظراً).

8.معرفة الأولويات وتقديم الأهم على المهم اذ قد يكون الفعل حسناً في نفسه الا انه ليس أحسن لأن الأولى ان يقوم بالطاعة الأخرى لأنها أهم عند تزاحم الطاعتين وكمثال اذكر الرواية التالية:(أتى رسولَ اللَّه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) رجلُ فقال إني رجل شاب نشيط وأحب الجهاد ولي والدة تكره ذلك فقال له النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ارجع فكن مع والدتك فو الذي بعثني بالحق لأنسها بك ليلة خير من جهاد في سبيل اللَّه سنة)(2). فقدَّم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) برّ الوالدين والإحسان اليهما على الجهاد الذي هو من أعظم الطاعات.

ص: 110


1- وسائل الشيعة: 1/ 112 ح 6.
2- الكافي: 10/ 2/ 163.

وفي الرواية الصحيحة عن هشام بن المثنى قال (سأل رجل أبا عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن قول الله عزوجل {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأنعام:141) فقال:كان فلان بن فلان الأنصاري - سمّاه - وكان له حرث فكان اذا أخذ يتصدق به فيبقى هو وعياله بغير شيء، فجعل الله عزوجل ذلك سرفاً)(1)، فعندما تؤثر الصدقة على نفقة العيال والتوسعة عليهم لا تكون أحسن.9.وعي حقيقة العمل واتيانه عن بصيرة والتفات للأغراض الحقيقية منه فيعرف ان الغرض من الصلاة ادامة ذكر الله تعالى {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (طه:14) والانتهاء عن الفحشاء والمنكر {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (العنكبوت:45) كما في الحديث النبوي الشريف (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله الا بعداً)(2) .

وان الصوم لتقوية الإرادة والقدرة على الامتناع عن كل ما يسخط الله تعالى ولمواساة الفقراء والمحرومين والالتفات الى هذه الحالات في المجتمع ونحو ذلك.

ومن الشواهد الجليلة في هذا المجال موعظة الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) للشبلي في بيان الاسرار المعنوية للحج وهي مطولة تجدها في كتاب مناسك الحج، منها قوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) له:« حججت يا شبلي؟ قال:نعم يا أبن رسول الله، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):«أنزلت

ص: 111


1- وسائل الشيعة: 9/ 46 ، أبواب الصدقة، باب 42 ح 3.
2- ميزان الحكمة: 5/ 109 ح10705

الميقات وتجرّدت عن مخيط الثياب واغتسلت؟ قال:نعم، قال:« فحين نزلت الميقات نويت أنّك خلعت ثوب المعصية، ولبست ثوب الطاعة؟ قال:لا، قال:« فحين تجرّدت عن مخيط ثيابك، نويت أنّك تجرّدت من الرياء والنفاق والدخول في الشبهات؟ قال:لا، قال:« فحين اغتسلت نويت أنّك اغتسلت من الخطايا والذنوب؟ قال:لا، قال:« فما نزلت الميقات، ولا تجردت عن مخيط الثياب، ولا اغتسلت)(1) أي لم تحقق الغرض المطلوب من هذه المناسك.10.ومن تمام إحسان العمل نشره وحثّ الآخرين عليه، قال تعالى {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى:11) والنعمة هنا لا تقتصر على النعم المادية كالأموال والبنين والجاه الاجتماعي وإنما تشمل النعم المعنوية وهي عموم(2) الطاعات وأولها نعمة الإسلام والايمان، لذا فسّرتها بعض الروايات بولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لأنها أكمل مصاديقها وقد أمرت الآية بالتحديث بها وذلك بأن يدعو الناس اليها، لذا وعدت الأحاديث الشريفة بمضاعفة الثواب لمن ينشر الطاعة ويؤسس لها كحالة اجتماعية عامة ومنها الحديث النبوي المشهور (من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينتقص من أجورهم شيء)(3) .

وورد في الروايات استحباب تحسين العبادة ليُقتدى بالفاعل وللترغيب في اتباع الحق فقد روى عبيد بن زرارة قال (قلت لأبي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الرجل يدخل

ص: 112


1- وسائل الشيعة: 10/ 166 – 172.
2- راجع القبس/175, ص250.
3- الكافي: 5/ 9.

في الصلاة فيجّود صلاته ويحسّنها رجاء أن يستجّر - أي يجتذب - بعض من يراه إلى هواه، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):ليس هذا من الرياء)(1) .لهذا كله دلت الأحاديث الشريفة على ان الثواب الذي يعطى للعالم العارف البصير على عمل قليل اضعاف ما يعطى العابد غير العارف بهذه الحقائق على العمل الكثير.

وقد حثت الأحاديث الشريفة على الاحسان في كل شيء حتى على مستوى اختيار الاسم فجعلت من حقوق الولد على أبيه ان يحسن تسميته(2) اما الاحسان الى الآخرين فقد وردت فيه روايات لا تحصى كثرة وفي القرآن الكريم {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (القصص:77) وبيّنت ان من الثمرات المعجلة للإحسان الى الآخرين ان يُحسن اليك ومن وصايا أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الى نوف البكالي (أحسن يُحسن اليك)(3).

وقد اختصر أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الكلام في الاحسان بان جعل قيمة كل انسان بمقدار ما يحسنه من اعمال وصفات وملكات وبمقدار ما يُحسن للآخرين فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (قيمة كل امرئ ما يحسنه)(4) وهي كلمة مقتبسة من نور الآية

ص: 113


1- وسائل الشيعة: 1/ 76 باب 16 ح 3.
2- وسائل الشيعة: 15 / 122 احكام الأولاد / باب استحباب تسمية الولد باسم حسن ، وتغيير اسمه إن كان غير حسن 22.
3- بحار الأنوار: 77/ 385 عن امالي الصدوق: 174 المجلس 37 ح 9.
4- نهج البلاغة: ج 4 ، قصار الكلمات، 81 ، عيون أخبار الرضا : 2/ 53 ، الامالي : 362 المجلس 168 ح 9.

الكريمة التي نحن بصددها {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} ان نتيجة الامتحان تعطي قيمة اكبر لمن كان اكثر احساناً في عمله وقد قلت في بعض احاديثي السابقة (انه قد خطر على ذهني ذات مرة وأنا في الحضرة العلوية الشريفة هذا المعنى للحديث الشريف:(قيمة كل امرئ ما يحسنه)، أي أن درجته عند الله تبارك وتعالى تكون بمقدار ما يحمل من الصفات الحسنى لله تبارك وتعالى، فكلما ازدادت رحمته كان أقرب إلى الله، لأن الرحيم من الأسماء الحسنى، وكلما ازداد عفوه كان أقرب، لأن العفو من الأسماء الحسنى، وهكذا كلما ازداد كرمه وحلمه وعلمه وحكمته وصبره على أن تكون هذه الصفات ذاتية له وراسخة فيه وليست طارئة عليه ولا تصدر منه بتكلف)(1) وهو على أي حال تطبيق لقوله تعالى {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} (النحل:60).ان المطلوب منّا أن نتقدم خطوة أخرى بعد إحسان العمل وهي مكافأة المحسن على إحسانه فإنه من الإحسان لتشجيع الناس على الأعمال الحسنة وقد ضرب لنا الأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أروع الأمثلة لهذا السلوك، روى الخطيب البغدادي في كتابه المعروف (تاريخ بغداد):عن الإمام الحسن بن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انه كان ماراً في حيطان (أي بساتين) المدينة فرأى عبداً أسوداً بيده رغيف خبز يأكل ويطعم كلبه لقمة إلى أن شاطره طعامه في الرغيف)، ومثل الامام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في منزلته الاجتماعية لا يهتم بعبد أسود معه كلب يأكل، لكن الامام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) توقف عنده (فقال له الإمام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ما حملك على ما عملت

ص: 114


1- خطاب المرحلة: 2/ 104

وشاطرته؟ فقال الغلام:استحيت عيناي من عينه.) وفي رواية أخرى ان العبد قال:أشعر بضيق في صدري وكآبة فأردت ان أدخل السرور على هذا الكلب لعل الله تعالى يرفع عني هذا الهم بذلك (فقال الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):غلام من أنت؟ أي سأله عن مالكه (فقال:غلام أبان بن عثمان، فقال:والحائط؟ قال:لأبان بن عثمان. فقال له الإمام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أقسمتُ عليك لا برحت حتى أعود عليك. فمَّر على صاحب الحائط فاشترى الحائط والغلام معاً، وجاء إلى الغلام، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يا غلام قد اشتريتك فقام الغلام قائماً) أي قام ليذهب مع مالكه الجديد وهو الامام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وقال:السمع والطاعة لله ولرسوله ولك يا مولاي. قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):وقد اشتريت الحائط، وأنت حرٌ لوجه الله، والحائط هبة مني إليك. فقال الغلام:(يا مولاي قد وهبتُ الحائط للذي وهبتني له)(1).أقول:لقد تعلّم الغلام هذا الأدب من الإمام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) نفسه، فقد روى أحدهم قال:(رأيت الحسن بن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يأكل وبين يديه كلب، كلما أكل لقمة طرح للكلب مثلها، فقلت له:يا بن رسول الله، ألا أرجم هذا الكلب عن طعامك؟ قال:دعه:إني لاستحيي من الله عز وجل أن يكون ذو روح ينظر في وجهي وأنا آكل ثم لا أطعمه)(2).

وهذه هي سيرة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فانهم لا يكتفون بفعل المعروف والإحسان الى الآخرين بل كانوا يكافئون من يقوم بفعل حسن ويكرّمونه بأضعاف ما قام به ليشجّعوا على نشر المعروف وتحويله الى ظاهرة وثقافة

ص: 115


1- تاريخ بغداد: 6/ 34
2- بحار الأنوار: 43/ 352 ح29 عن مقتل الحسين للخوارزمي: 1/ 102103.

عامة لدى المجتمع.وعلى اتباع أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) التأسي بهذه الاخلاق الكريمة بأن يحسنوا في أعمالهم في سائر المواقع والمسؤوليات التي هم فيها.

فالطالب يبذل وسعه في المطالعة والمذاكرة حتى يحقق نتائج راقية يدخل بها السرور على أهله ومحبيه ويكون فخراً وعزاً وطاقة هائلة لوطنه وشعبه.

والموظف يتقن عمله ويؤدي واجبه في كل الوقت المطلوب منه ولا يقصّر في خدمة الناس واستيعابهم.

والمدّرس يبذل وسعه في تعليم الطلبة والارتقاء بمستواهم العلمي ومساعدتهم في كل ما يحتاجون.

والمهندس يراعي شروط المتانة والامان والجدوى عند تنفيذ المشاريع ويكون اميناً ونزيهاً، وهكذا.

هذا على مستوى احسان العمل، ويبقى علينا ان نتقدم خطوة أخرى بتشجيع المحسنين في أعمالهم ومكافئتهم، فالامام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مع هيبته وجلاله وسمو مقامه في المجتمع بحيث اذا جلس على الطريق انقطع المارّة وتهيّبوا المرور بين يديه، واذا مشى لم يبق أحدٌ راكباً ومع ذلك تراه توقّف عند العبد ولم يمرّ على هذا الموقف دون تكريم، اما الذين يثبّطون العاملين ويستهزئون بهمتهم وحركتهم الدائبة فهؤلاء لم يستفيدوا

ص: 116

من سيرة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ولم يتأسوا بهم.ويكفي المحسنين في عملهم وساماً يفتخرون به:محبة الله تعالى لهم {وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (البقرة:195).

ص: 117

ملحق:إدامة الآثار المعنوية للطاعات

ينتاب المؤمن في نهاية أي مناسبة لطاعة الله تعالى زمانية كموسم الحج وشهر رمضان أو مكانية كمشاهد المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) شعور بالأسى والحزن لفراقها والحرمان من استمرار تلك الفيوضات الإلهية التي تقترن بها ولنركّز حديثنا عن شهر رمضان كمثال عليها، فقد عبرّت عن هذا الحزن أدعية وداع شهر رمضان، وهذا الشعور له ما يبرّره، لأن شهر رمضان من أعظم محطات التزوّد بالتقوى والطاقة المعنوية حيث يحسُّ المؤمنون بسموٍّ وارتقاءٍ في حالتهم المعنوية وإقبالاً على الطاعات في شهر رمضان المبارك، وهذه واحدة من بركات موائد هذا الشهر في ضيافة الله تبارك وتعالى، ولا شك أن المؤمنين يتفاوتون في هذا التحصيل تبعاً لتفاوت درجاتهم وسعة آنيتهم التي يغترفون بها من عطاء الله تبارك وتعالى {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} (الرعد:17)، فبعضهم قد تنتهي عنده هذه الحالة بمجرد إنتهاء الشهر فيعود في العيد الى ما كان عليه حتى المعاصي والعياذ بالله، وبعض آخر تستمر حالته أكثر من ذلك ولكنّها تنتهي مالم يزوّدها بوقود جديد، وبعضٌ تدوم عنده وتثبت معه الى شهر رمضان المقبل كالاجسام التي تلامس النار، فبعضها يفقد الحرارة بمجرد ابعاده عنها، واخرى تحتفظ بها مدة ثم تفقدها، واخرى كالفحم تتحول الى جمرة متّقدة تهب النور والدفء الى الاخرين والسؤال كيف نستطيع إدامة هذه الحالة أكبر قدر ممكن بفضل الله تعالى {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (مريم:64) وما الذي يجدّد فينا الامل والرغبة لاستمرار الزخم الايماني

ص: 118

الذي استفدناه من هذه المحطة الشريفة. ويمكن طرح السؤال بصياغة اخرى وهو أنه ورد في الحديث الشريف (من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخرُ يوميه شرَّهما فهو ملعون، ومن لم يعرف الزيادة في نفسه كان إلى النقصان أقرب، ومن كان إلى النقصان أقرب فالموت خيرٌ له من الحياة) (1) ونحن نرى أن أيامنا في شهر رمضان خير من أيامنا في غيره حيث سنُحرم من موائد شهر رمضان ومن ضيافة الرحمن (أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة ودعائكم فيه مستجاب.....الخ) (2) وتلاوة آية فيه تعدل تلاوة القرآن كله في غيره ونحو ذلك فهل سيكون يومنا في شهر رمضان خيراً من غدنا في ما بعد شهر رمضان، ويكون امرنا الى النقصان ونصبح من اهل هذه الحالة المذمومة في الحديث الشريف فالأمر موجب للقلق وإيجاد الحل له.

ولرفع الشعور بالاسى والحزن لفراق شهر رمضان، ولتجديد الامل والرغبة بدوام بركاته ونفحاته، ولدفع القلق الناشئ من احتمال هبوط المعنويات نذكر عدة وجوه:

1إن شهر رمضان إذا انقضى ورُفِعَتْ موائده وبركاته فإن رب شهر رمضان باقٍ وهو الذي منَّ على عباده بتلك العطايا والمنن، قال تعالى:{وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} (البقرة:166) فليكن تعلقنا بالخالق لا بالمخلوق وبمسبب الأسباب لا بالأسباب نفسها، وهو قادر بكرمه على أن يجعل من الكرامة في غير شهر رمضان لعمل أكثر مما يعطي في شهر رمضان المبارك فان الله تعالى اخفى رضاه في اي

ص: 119


1- أمالي الصدوق: 766.
2- أمالي الصدوق : ص 93.

طاعة من طاعاته ولا يعلمها العبد، فلعلك ترحم انسانا ضعيفاً او تزوج شاباً عفيفاً لا يجد مؤونة الزواج فيكون لك من المنزلة عند الله تعالى اكثر مما نلته من شهر رمضان، فلا يشغلنا الأسف على فوات شهر رمضان عن الأمل بكرم ربِّ شهر رمضان.2إن الله تعالى الذي أوجب علينا الصوم في شهر رمضان هو الذي رفع هذا الوجوب في غيره، وعلينا ان نعبد الله تعالى من حيث هو يريد لا من حيث نحن نريد فكما نطيعه في وجوب الصوم نطيعه تعالى في عدم الوجوب، والحديث يقول (إنَّ اللهَ يُحِبُّ أن تُؤتى رُخَصُهُ - أي عدم إلزاماته كَما يُحِبُّ أن تُؤتى عَزائِمُهُ أي إلزاماته في الوجوب والحرمة)(1)، فهذه الإنتقالة بمشيئة الله تعالى وطاعة له، لذا فهي ليست مشمولة للحديث الشريف (ومن كان آخرُ يوميه........)(2).

3إن هذا التقلب في الحالات فيه أكثر من ثمرة مباركة فهو من جهة رحمة ورأفة من الله تعالى بالإنسان لأنه يعجز عن الاستمرار على الحالة العالية والدوام عليها حتى قيل (دوام الحال من المحال) (3)، فهذه الإنتقالة الى الحالة الأدنى فيها تخفيف عنه وإشفاق به، في الحديث الشريف (إن للقلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلت فتنفلوا وإذا أدبرت فعليكم بالفريضة) (4) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال

ص: 120


1- بحار الأنوار : 93 / 29
2- امالي الصدوق: 776
3- مثل عربي.
4- الكافي: ج3/ 454

(إِنَّ هذِهِ الْقُلُوبَ تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الأَبْدَانُ فَابْتَغُوا لَهَا طَرَائِفَ الْحِكْمَةِ) (1).والثمرة الاخرى في هذا التقلّب:هو ترسيخ عقيدة التوحيد والإيمان بأن الله تعالى هو المتصرّف بعباده والمدبّر لشؤونهم وهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً، هذا المعنى الذي عبّر عنه الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعائه يوم عرفة بقوله (إلهي إنَّ اختلافَ تدبيِركَ وسرعةَ طواءِ مقاديرِكَ منعا عبادَكَ العارفينَ بك عَنِ السُّكونِ إلى عطاءٍ واليأسِ منكَ في بلاءٍ) (2) وقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وورد في نفس الدعاء (الهي علمت باختلاف الآثار وتنقلات الأطوار أن مرادك مني أن تتعرّف اليّ في كل شيء حتى لا أجهلك في شيء) (3).

4إن ثواب العمل يمكن تحصيله وإدامته بالنية، فمادام الإنسان راغبا في عمل ويحب القيام به اذا تحقّق موضوعه –كشهر رمضان وسنحت فرصته فانه يُعطى اجر ذلك العمل وان لم يقم به وان من احبّ عمل قوم أُشرك معهم محباً لعمله فإنه يُشْرَك في أجره كما في الرواية بعد معركة الجمل لما تمنى شخص أن يكون أخوه شاهداً المعركة ليشاركهم الأجر ويفرح بانتصار امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(أهوى أخيك معنا؟ فقال نعم، قال:فقد شَهَدَنا. ولقد شَهَدَنا في عسكرنا هذا أقوامٌ في أصلاب الرجال وأرحام النساء، سيرعف(4) بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان) (5)

ص: 121


1- نهج البلاغة: باب الحكم: الحكمة 194
2- مفاتيح الجنان: دعاء الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في يوم عرفة
3- نفس المصدر
4- يرعف : يجود.
5- نهج البلاغة: الخطبة 12.

وهذا باب واسع من كرم ربِّ العالمين لزيادة رصيد العبد من الطاعات والقربات، ويعبّر الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعائه يوم عرفة عن هذه الحالة (إلهي إنك تعلم أني وإن لم تدم الطاعة مني فعلاً جزماً فقد دامت محبة وعزماً) (1) وهذا الدوام في النية هو ايضاً من لطف الله تبارك وتعالى فكأننا نقدّمه عذراً بين يدي الله تعالى على تقصيرنا في العمل.5إن الله تعالى جعل بكرمه أسباباً اخرى تؤدي هذا الغرض –أي إدامة العمل فبخصوص الصوم ورد أنه (من صام ثلاثة أيام من كل شهر، كان كمن صام الدهر، لأن الله عز وجل يقول "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها")(2) وهي أول خميس وآخر خميس والأربعاء في الوسط، فإذا واظب عليها المؤمن كان في حالة صوم دائم ولم يفقد شيئا وهو من الأعمال التي أكّد عليها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في وصيته لأمير المؤمنين والتي جاء فيها (يَا عَلِيُّ أُوصِيكَ فِي نَفْسِكَ بِخِصَالٍ فَاحْفَظْهَا عَنِّي ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ أَعِنْهُ) الى ان قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (وَأَمَّا الصِّيَامُ فَثَلاثَةُ أَيَّامٍ فِي الشَّهْرِ الْخَمِيسُ فِي أَوَّلِهِ وَالأرْبِعَاءُ فِي وَسَطِهِ وَالْخَمِيسُ فِي آخِرِهِ) (3) ومن البدائل الواردة عن الحج قول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (الجمعة حج المساكين)(4) بل ورد في صحيحه ابي بصير ويونس بن ظبّيان عن أبي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (صلاة فريضة

ص: 122


1- مفاتيح الجنان: دعاء الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في يوم عرفة.
2- ميزان الحكمة/ ص 474 الحديث رقم 10668.
3- الكافىج8 ص79.
4- بحار الأنوار: 89 / 212

أفضل من عشرين حجة وحجة خيرٌ من بيت مملوء من ذهب يتصدق به حتى لا يبقى منه شيء)(1) .6إن للتشريعات الالهية أسراراً وعللاً وأن أوامر الله تعالى ونواهيه لم ترد عبثاً وإنما المصالح ترجع الى العباد {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سبحانك} (آل عمران:191) {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} (المؤمنون:115) فالمطلوب من هذه الأعمال ليس حركاتها الخارجية وشكلياتها فقط وإنما حقائقها، وما هذه الأفعال الخارجية الا وسيلة لتحصيل تلك الحقائق قال تعالى {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} (الحج:37) فأثر الصلاة النهي عن الفحشاء والمنكر {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} (العنكبوت:45) فالغرض من تشريع الصوم هو تحصيل التقوى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:183) وإنما تكتسب هذه الأعمال قيمتها بمقدار تحقق الغرض منها كما في الرواية أن (مَن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلاّ بُعداً) (2) ولما كان المراد من الأعمال هذه الحقائق الواقعية لها فإدامتها يكون بإدامة آثارها، أعني التقوى من الصوم فكلما كان محافظاً على الصوم كان محافظا على التقوى والاحسان في

ص: 123


1- وسائل الشيعة 4 / 40
2- مجمع البيان: 8/ 285

العمل فهو في ضيافة الله تعالى وينهل من موائده المباركة وإن لم يكن في شهر رمضان، وعن ادامة اثر الحج روى في الكافي والتهذيب بالإسناد عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (الحاج لا يزال عليه نور الحج ما لم يلم بذنب)(1) قال تعالى {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (النحل:128).

ص: 124


1- الكافي: 4/ 255

ملحق:زيادة قيمة العمل بإهدائه

(الدنيا مزرعة الآخرة)(1)ومتجر أولياء الله تعالى وقد عبّر القرآن الكريم عن عمل الانسان في الدنيا وسعيه بالتجارة {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم} (الصف:10) {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} (فاطر:29) فمنها يكتسب الانسان نعيم الجنان في الآخرة وفيها يزرع الثمر المبارك الذي يحتاجه في حياته الباقية، وهذه الحقيقة تدفع الانسان الواعي البصير إلى السعي الحثيث لزيادة أرباحه ورصيد حسناته عند الله تبارك وتعالى.

ولزيادة الأرباح اسلوبان:

1 بأن يزيد من اعماله الصالحة ويستثمر كل ما يستطيع من اوقاته في اكتسابها وتجنب السيئات.

2 زيادة قيمة اعماله حتى يحصل على أجر ازيد في نفس العمل.

وكلامنا في الأسلوب الثاني فمثلاً ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(صلاة متطيب أفضل من سبعين صلاة بغير طيب)(2) فمسحة من العطر تضاعف قيمة الصلاة سبعين مرة، وفي حديث آخر عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ركعتان يصليهما متزوج أفضل من سبعين ركعة يصليها غير المتزوج)(3) فالتزويج يضاعف قيمة الصلاة سبعين ضعفاً، وورد في الاحاديث ان الصلاة في المسجد تعدل كذا صلاة في غيره، والصلاة جماعة تعدل كذا، فإذا استطاع

ص: 125


1- عوالي اللئالي: 1/ 267 ح 66
2- الكافي: 6 / 511 / 7
3- بحار الأنوار: 103/ 219 ح 15

المؤمن بالالتزام بهذه الأمور من مضاعفة صلاته الاف المرات بضرب هذه الاعداد ببعضها.ومما يزيد قيمة العمل اهداؤه إلى الآخرين، فان الاجر على العمل يتضاعف بعدد من اهدي إليهم وليس يُقسَّم ثوابه على من اهداه اليهم، لذا ورد الخبر عن أبي الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال أبو عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):لو أشركت ألفا في حجتك لكان لكل واحد حجة من غير ان تنقص حجتك شيئاً)(1) وقد تزيد قيمته اكثر اذا اهداه الى والديه لأنه يكتب له برَّ بهما او إلى قرابته لأنه سيضاف إليه ثواب صلة الرحم ففي صحيحة هشام بن الحكم عن ابي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (في الرجل يشرك أباه وأخاه وقرابته في حجه؟ فقال:اذن يكتب لك حج مثل حجتهم وتزاد أجراً بما وصلت)(2).

ومما ورد في ذلك (موثقة إسحاق بن عمار عن ابي إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:سألته عن الرجل يحج فيجعل حجته عمرته أو بعض طوافه لبعض اهله وهو عنه غائب ببلد آخر ،قال:قلت:فينقض ذلك من أجره؟ قال:لا هي له ولصاحبه وله أجر سوى ذلك بما وصل، قلت:وهو ميت هل يدخل ذلك عليه؟ قال:نعم، حتى يكون مسخوطاً عليه فيغفر له، أو يكون مضيقاً عليه فيوسع عليه، قلت:فيعلم هو في مكانه أن عمل ذلك لحقه؟ قال:نعم، قلت:وإن كان ناصبياً ينفعه ذلك؟ قال:نعم، يخفف عنه)(3) .

ص: 126


1- و (2) و(3) الكافي: ج2 من الفروع، كتاب الحج، باب: من يشرك قرابته وإخوته في حجته أو يصلهم بحجة، الأحاديث: ح4،ح6،ح10

وأفضل ما يكون الاهداء والنيابة عن المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فقد روى عن موسى بن القاسم قال: (قلت لابي جعفر الثاني (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):قد أردت أن أطوف عنك وعن أبيك فقيل لي:إن الاوصياء لا يطاف عنهم، فقال لي بل طف ما أمكنك فإنه جائز. ثم قلت له بعد ذلك بثلاث سنين:إني كنت أستاذنتك في الطواف عنك وعن أبيك فأذنت لي في ذلك فطفت عنكما ما شاء الله ثم وقع في قلبي شيء فعملت به قال:وما هو؟ قلت:طفت يوما عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال:ثلاث مرات صلى الله على رسول الله، ثم اليوم الثاني عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ثم طفت اليوم الثالث عن الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والرابع عن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والخامس عن علي ابن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والسادس عن أبي جعفر محمد بن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واليوم السابع عن جعفر بن محمد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واليوم الثامن عن أبيك موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واليوم التاسع عن أبيك علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واليوم العاشر عنك يا سيدي وهؤلاء الذين أدين الله بولايتهم فقال:إذن والله تدين بالدين الذي لا يقبل من العباد غيره، قلت:وربما طفت عن أمك فاطمة (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وربما لم أطف، فقال:استكثر من هذا فإنه أفضل، ما أنت عامله إن شاء الله)(1) .وتذكر بعض الروايات ثواباً عظيماً لمن يهدي الاعمال الصالحة للمعصومين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بان يكون معهم في درجتهم فقد روى علي بن المغيرة، عن أبي الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:قلت له:إن أبي سأل جدك، عن ختم القرآن في كل ليلة، فقال له جدك:كل ليلة، فقال له:في شهر رمضان، فقال له جدك:في شهر رمضان، فقال له أبي:نعم ما استطعت.

ص: 127


1- فروع الكافي: ج2 ، كتاب الحج، باب الطواف والحج عن الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ، ح 2.

فكان أبي يختمه أربعين ختمة في شهر رمضان، ثم ختمته بعد أبي فربما زدت وربما نقصت على قدر فراغي وشغلي ونشاطي وكسلي فإذا كان في يوم الفطر جعلت لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ختمة ولعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أخرى ولفاطمة (س) أخرى، ثم للأئمة (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حتى انتهيت إليك فصيرت لك واحدة منذ صرت في هذا الحال - أي منذ التفت إلى ولايتكم أو الى هذه الفكرة - فأي شيء لي بذلك؟ قال:لك بذلك أن تكون معهم يوم القيامة، قلت:الله أكبر فلي بذلك؟! قال:نعم، ثلاث مرات)(1) .وهذا كله من فضل الله تعالى وكرمه، وفي الحديث القدسي (إنما خلقت الخلق ليربحوا علىّ ولم أخلقهم لأربح عليهم)(2) .

وقد اشرت في بحثي الفقهي عندما تناولت مسألة (الفصل بين عمرتين)(3) إلى ما يذهب إليه المشهور من عدم صحة العمرتين في شهر واحد وانا أخالفهم في ذلك ولكن على المشهور فليس الاجراء الصحيح أن نعتمر مرة واحدة في شهر ما ثم ننتظر دخول الشهر الثاني للاعتمار مرة ثانية، بل الصحيح أن نكرر العمرة ولو في كل يوم مرة أو مرتين لكن بالنيابة عن المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، لأن ما اشترطوه من الفصل بين عمرتين بشهر واحد كاف عن نفسه اما النيابة فله أن يكرّرها.

ص: 128


1- الكافي: ج 2 ، ص 618
2- جامع السعادات - محمد مهدي النراقي - ج 1 - ص 228
3- راجع: فقه الخلاف: 7/ 425, ط. الثانية

القبس/165: سورة المُلك:13

اشارة

{وَهُوَ اللَّطِيفُ}

موضوع القبس: دلالات معنى اسم اللطيف

قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك:14) ونريد في هذا القبس أن نستوحي دلالات ومعاني اسم اللطيف الذي هو من الأسماء الحسنى وقد تكرر ذكره في القرآن الكريم كقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (الحج:63) (لقمان:16) {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} (الأحزاب:34) وغيرها كما سياتي.

واللطيف صفة مشبهة على وزن فعيل بمعنى اسم الفاعل مثل شهيد بمعنى شاهد للدلالة على ثبات الصفة ورسوخها، ومنشأ الاسم أكثر من وجه:

الأول: إن اللطيف هو كل ما خفي عن الحواس لدقته أو شفافيته أو أي سبب آخر بحيث تعجز عن إدراكه، والله تبارك وتعالى لطيف بهذا المعنى فهو لا تدركه الأبصار وبَعُد حتى عن خطرات الظنون، وهذا المعنى ورد في قوله تعالى {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الأنعام:103) .

الثاني: إنه تعالى لطيف لعلمه بالأشياء اللطيفة أي الدقيقة وإحاطته بها وفي

ص: 129

الحديث عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إنما قلنا اللطيف، للخلق اللطيف، ولعلمه بالشيء اللطيف)(1) وهو المعنى الذي تساءلت عنه الآية محل البحث باستنكار {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك:14) وفي قوله تعالى {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (لقمان:16) فهو سبحانه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.الثالث: وهو سبحانه لطيف لأن تدابيره لعباده لطيفة لا تتوصل اليها المخلوقات لذا عبَّر تعالى عن تدبيره للنبي يوسف (صلوات الله عليه) حين القاه اخوته في الجب واذا به يصبح عزيز مصر، قال تعالى {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (يوسف:100) وأمثلة تدابيره اللطيفة بخلقه تفوق حد الإحصاء في كل مخلوق فضلاً عن جميع خلقه كما في الشعر المنسوب(2) لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):

وَكَم لِلّهِ مِن لُطفٍ خَفيٍّ *** يَدِقُّ خَفاهُ عَن فَهمِ الذَكيِّ

وَكَم يُسرٍ أَتى مِن بَعدِ عُسرٍ *** فَفَرَّجَ كَربَهُ القَلبُ الشَجيِّ

وَكَم أَمرٍ تُساءُ بِهِ صَباحاً *** وَتَأتيكَ المَسَرَّةُ بِالعَشيِّ

إِذا ضاقَت بِكَ الأَحوالُ يَوماً *** فَثِق بِالواحِدِ الفَردِ العَلِيِّ

ص: 130


1- التّوحيد للشيخ الصدوق: الجزء: 1، الصفحة: 186
2- اعيان الشيعة: 7/ 306، وفيه تخميس الأبيات للشاعر سليمان السراوي

تَوَسَّل بِالنَبِي فكُلُّ خَطبٍ *** يَهونُ إِذا تُوُسِّلَ بِالنَبيِّ

وَلا تَجزَع إِذا ما نابَ خَطبٌ *** فَكَم لِلّهِ مِن لُطفٍ خَفيِّ

واللطائف القرآنية هي المعاني الدقيقة التي لا يلتفت اليها الا ذو البصيرة النافذة.

الرابع: وهو عظمت الاؤه لطيف لأنه رفيق بمخلوقاته من اللطف وهو الرفق، قال تعالى {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} (الشورى:19) والله لطيف بعباده ومخلوقاته أي رفيق بهم فينعم عليهم بما ينفعهم وما فيه صلاحهم في دنياهم وآخرتهم من حيث لا يعلمون ولا يحتسبون.

ويمكن إرجاع بعض المعاني الى بعض، فالألطاف الإلهية بالعباد خفية لا يدركونها وهم يتنعمون فيها رفقاً بهم فاللطف يتضمن معنيين: الدقة والرفق ففيه معرفة دقيقة وإحاطة بالأشياء واتخاذ التدابير الرفيقة العطوفة الودودة اللينة، ولذا اقترن اسم اللطيف بالخبير في الآيات الكريمة، لأن تحقق اللطف يستلزم الإحاطة والخبرة. في حديث عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (واما الخبير فالذي لا يعزب عنه شيء ولا يفوته ليس للتجربة ولا للاعتبار بالاشياء)(1).

الخامس: اللطف في المصطلح الكلامي هو كل ما يقرّب من الطاعة ويبعّد عن المعصية قال تعالى {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي

ص: 131


1- الكافي: الجزء: 1، صفحة: 122

قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} (الحجرات:7) من دون أن يصل إلى درجة الإلجاء وسلب الاختيار لمنافاته لاستحقاق الثواب والعقاب ولذا ورد في الرواية (لا جبر ولا تفويض، قلت: فماذا؟ قال: لطف من ربك بين ذلك)(1).وألطاف الله تبارك وتعالى على العبد لا تعد ولا تحصى، فخلقه وايجاده لطف إذ لو كان معدوماً لما استطاع أن يعمل ويتكامل، والهداية إلى الإيمان بالله ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لطف، فلو لم يهدنا الله تبارك وتعالى لما عرفنا الطريق الموصل إلى الكمال {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} (الأعراف:43)، وأعضاء البدن لطف إذ لو لم يكن له بدن لما استطاع أن يقوم بالعبادات المقرّبة لله تبارك وتعالى، والمال لطف فبدونه لا يستطيع الإتيان بالكثير من القربات كالحج والزيارة والإنفاق في سبيل الله تعالى والتوسعة على العيال إلى مالا يحصى من الألطاف المقربة من الطاعة والمعينة عليها.

والأدعية والمناجاة وسائر الأذكار لطف، إذ بدونها لا نعرف ماذا نقول بين يدي الله تبارك وتعالى وما هو مقتضى آداب العبودية، بل لا نعلم هل يحق لنا أن نقف بين يديه تبارك وتعالى ونخاطبه، ونحن نرى أن إنساناً وضيعاً يتبوأ موقعاً لا قيمة له كوزير أو ملك، يوضع (أتكيت) لزيارته ومحادثته والآداب الواجب إتباعها بحضرته، بينما نخاطب رب

ص: 132


1- الكافي: الجزء 1 :، صفحة : 159.

العالمين متى شئنا وبما شئنا وبأي لغة نشاء (الحمد لله الذي ادعوه فيجيبني، وإن كنت بطيئاً حين يدعوني، والحمد لله الذي اسأله فيعطيني وان كنت بخيلاً حين يستقرضني، والحمد لله الذي اناديه كلما شئت لحاجتي، واخلو به حيث شئت لسري بغير شفيع، فيقضي لي حاجتي)(1) وهو جل جلاله يقبل علينا ويسمع منا ويبادلنا من الحب والرحمة أكثر مما نعطي، وهذا اللطف عبَّر عنه الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في مناجاة الذاكرين بقوله (ومن أعظم النعم علينا جريان ذكرك على ألسنتنا، وإذنك لنا بدعائك وتنزيهك وتسبيحك)(2).ومن أعظم الألطاف الإلهية البعثة النبوية الشريفة، فقد شكلت أعظم نقلة في تاريخ البشرية لأمة كانت متهرئة متخلفة يقتل بعضها بعضاً وتتفاخر بالموبقات والجرائم كوأد البنات والزنا وشرب الخمر وهي مشتتة متفرقة أحاطت بها دول قوية تنهشها، حوت جميع المنكرات والمفاسد، فأصبحت ببركة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أمة متحضرة مدنية تقود العالم وتهدي البشرية وتقدم لبني الإنسان أعظم قانون يكفل السعادة والصلاح.

ولو لم يبعث النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتُركت الجاهلية على حالها فإنه لا يعلم إلا الله تعالى ما صرنا إليه اليوم، إذا كان حال أولئك وهم أقرب عهداً للرسالات والديانات السماوية ولهم فرص أقل من الفساد هو ما ذكرناه

ص: 133


1- مفاتيح الجنان: دعاء ابي حمزة الثمالي
2- الصحيفة السجادية: مناجاة الذاكرين (13)

فكيف إذا طال عليهم الأمد إلى اليوم مع تنوع أدوات الضلال والفساد والجريمة وتقنينه بالشكل المذهل الذي نعاصره.فكل خير يصل إلينا وكل مكرمة يمكن أن توجد فينا بل كل وجودنا فنحن مدينون بفضله لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبركات بعثته الشريفة، التي هي من الألطاف الإلهية الخاصة لهذه الأجيال، فاعرفوا حق رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأكثروا من الصلاة عليه والدعاء له.

وهنا نشير إلى نكتة وهي أن اسم (اللطيف) يستعمل في موارد اللطف، وهذا من بلاغة القرآن الكريم حيث تنتهي الآية بما يناسب مضمونها، فإذا كان المضمون حكماً صارماً وموقفاً حازماً (كآية القطع في السرقة فإنها تنتهي بالعزيز الحكيم، وإذا كان مورد رحمة ورفق انتهت بالرؤوف الرحيم، وعلى هذا جرت السنة الشريفة، فدققوا في الموارد التي ذكر فيها اسم (اللطيف) لتعرفوا موارد اللطف، وأوضحها في أذهانكم حديث الثقلين المشهور الذي ألزم الأمة بالتمسك بالثقلين وفيه (وقد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)(1).

وأي لطف أعظم على الأمة بعد البعثة النبوية الشريفة من لطف الثقلين القرآن والإمامة؟

ونريد هنا أن نأخذ درسين من هذا الاسم المبارك (اللطيف):

1 إننا أمرنا بالتخلق بأخلاق الله تبارك وتعالى كما ورد في الحديث

ص: 134


1- بحار الأنوار: الجزء 37 - الصفحة 114

الشريف (تخلّقوا بأخلاق الله)(1) وأن نتصف بأسمائه الحسنى، ومنها هذا الاسم المبارك (اللطيف) فإن الله تعالى لطيف بعباده يقربهم من الطاعة ويبعدهم عن المعصية، وخصوصاً أنتم أتباع أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فإنكم تحظون بألطاف خاصة دون غيركم لذا تجدون هذا الحماس والاندفاع والتضحية في سبيل الله تعالى مما لا يوجد عند غيركم وهذا يكشف عن هذه الألطاف الخاصة.فلا تتهيبوا أي طاعة ولا تستصعبوها بل أقدموا عليها وأحبّوها وتشوقوا إليها فإنها مهما كانت صعبة كالحج -- مثلاً -- الذي يجمع مشاق كل العبادات وقد تكفل الله تعالى بتيسيره وتذليل صعوباته، وحتى لو لم تتمكنوا من أداء الطاعة فانووا فعلها فإنكم تؤجرون على النية، فقد ورد في الحديث الشريف: عن الامامين الباقر او الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ان الله تبارك وتعالى جعل لآدم في ذريته أن من همَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن همَّ بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه، ومن همَّ بها وعملها كتبت عليه سيئة)(2).

وكونوا ممن يلبي دعوة الله تعالى إلى الطاعة وامتثلوا قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال:24) وقوله تعالى {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ} (الشورى:47)، ولا

ص: 135


1- بحار الأنوار: الجزء 58 - الصفحة 129.
2- وسائل الشيعة: 1/ 51 أبواب مقدمة العبادات، باب 6 ح6.

تلتفوا إلى الشيطان الذي يعمل عكس ذلك فيزيّن المعصية والفسوق ويصعّب الأعمال الصالحة ويجعل أمام الإنسان الاحتمالات والتصورات السيئة ويثير في النفس المخاوف والقلق والمثبطات {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} (الأنفال:48) .يضرب لنا الله تبارك وتعالى مثلاً من بني إسرائيل لأنحاء من التقاعس عن الطاعة بسبب تثبيط الشيطان، قال تعالى حاكياً عن نبيه الكريم موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقومه {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} (المائدة: 2122).

وهذا هو موقف أغلب الناس مع الأسف، لكن الأرض لا تخلو من المخلصين الصادقين {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (المائدة:23)، فالمطلوب منك الإقدام على الطاعة وعدم التهيب وامتلاك الحزم والشجاعة ودخول الباب كما في الآية وسيمنحكم الله تعالى القوة والغلبة وإنجاز العمل بفضله وكرمه.

فليكن كل منا لطيفاً بهذا المعنى أي يكون مقرباً للناس من الطاعة ويزينها لهم وييّسرها لهم بتهيئة اسبابها ويحثهم عليها، ويبعدهم عن

ص: 136

المعصية ببيان مساوئها وأضرارها وأخطارها في الدنيا والآخرة ويوجد البدائل الصالحة عنها، كمن يؤذِّن لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة ودعوتهم اليها، او يشوِّق الآخرين للحضور في المساجد والمشاركة في صلوات الجمعة والجماعة لما فيها من البركات والثواب او يتبرع بأجور سيارة لنقل الزائرين الى مشاهد المعصومين (سلام الله عليهم) أو يدفع نفقات حاج او معتمر او يسعى لتزويج مؤمن ومؤمنة عفّاً عن الحرام ولم يستطيعا الزواج ونحو ذلك. وليعرف من يعمل على عكس ذلك بانه يثبّط عزائم المؤمنين عن فعل الطاعات أنه بعيد عن الله تعالى وغير متصف بأسمائه، كما نرى من بعض المتدينين صدور بعض التصرفات المنفرة عن الدين بحيث أن البعض ممن يراد هدايتهم ودعوتهم إلى الالتزام بالدين يجيب: لا حاجة لي بالدين وانظر إلى المتدينين كيف يفعلون كذا وكذا.

وهو مخطئ طبعاً بهذا التصور، ولكن هذه النتيجة قد حصلت على أي حال.

وقد يحصل التنفير من الطاعة بأن نحمل الناس ما لا يطيقون ولا نراعي الدرجات المتفاوتة لإيمانهم، فنثقل مثلاً على الشباب المهتدي حديثاً للإيمان بقائمة طويلة من المستحبات والمكروهات ونحاسبه على بعض تصرفاته التي يمكن غض النظر عنها فينفر منها ومن الواجبات أيضاً.

إن كلاً منكم يستطيع أن يحقق صفة (اللطيف) بحسب عنوانه وموقعه ومساحة تأثيره ولا أقل من نفسه أولاً ثم أسرته وأصدقائه وزملائه في

ص: 137

العمل، ولعل الحوزة العلمية تتمتع بأوسع الفرص من هذه الناحية، ومعها النخبة الواعية المتفقهة من أبناء المجتمع.2 إن هذا الاسم المبارك دليل على وجود الامام المهدي المنتظر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واستمرار المرجعية الدينية الرشيدة النائبة عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالنيابة العامة. وبيان ذلك: أن اللطف واجب على الله تعالى كما يقولون في كتب العقائد. بمعنى أنه سبحانه كتب على نفسه اللطف بعباده وقد ظهر هذا - فيما ظهر في بعث الأنبياء وإرسال الرسل وإنزال الكتب، ثم واصلها بنصب الأئمة الطاهرين (سلام الله عليهم).

ولا ينقطع اللطف بانقطاع الوجود الظاهري للأئمة (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لأن أسماء الله الحسنى ثابتة له تبارك وتعالى، فاللطف يقتضي وجود امتداد لهذه السلسلة المباركة من الأنبياء والأئمة متمثلاً بالعلماء السائرين على نهجهم والمقتفين لآثارهم ولا تخلوا الأرض منهم، ومرور أربعة عشر قرناً حافلة بالأساطين منهم شاهد على ذلك وسيبقى حتى ظهور القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف).

وعلى هذا فمن يقول: أننا لا نحتاج إلى المرجعية وأننا مستغنون عن تقليد أحد من مراجع الدين لأن عندنا من الرسائل العملية ما يكفينا، أو أنه لا توجد مرجعية نقلدها، فمثل هذا بعيد عن الصواب ولو حللنا كلامه فإنه ينكر هذا اللطف الدائم من اللطيف الخبير والعياذ بالله.

ص: 138

القبس/166: سورة المُلك:30

اشارة

{قُل أَرَءَيتُم إِن أَصبَحَ مَاؤُكُم غَورا فَمَن يَأتِيكُم بِمَاء مَّعِينِۢ}

من النعم الإلهية:

الماء من النعم الإلهية العظيمة التي يغفل عنها الإنسان لاعتياده لها وتوفرها حوله، فالماء قوام الوجود في هذه الدنيا وبه تقوم الحياة ولا يمكن للمخلوقات (بشراً وحيوانات ونباتات) أن تحيا إلاّ بالماء، قال تعالى {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْء حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ٍ} (الأنبياء:30) وقال تعالى {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء} (النور:45).

وقد ذكر الله تعالى الماء في القرآن الكريم في عشرات المواضع ليذكّر الناس بهذه النعمة لعلهم يتعظون ويعودون إلى ربهم قال تعالى {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ، لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} (الواقعة:6870) {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} (النمل:60) {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (العنكبوت:63) {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى

ص: 139

الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} (السجدة:27).

تأثير الماء في الناس:

وتأثير الماء في حياة الإنسان واسع جداً فبه يتطهّرون ومنه يشربون وبه يهيئون طعامهم ويحمل أثقالهم إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلاّ بشقّ الأنفس ويستخرجون منه لحماً طريّاً وحليّة يلبسونها، ويضفي جمالاً وسعادة على الحياة:

ثلاثة للناس ينفين الحزن *** الماء والخضراء والوجه الحسن

فلابد أن نستذكر عظيم نعمة الله تعالى عند تناول الماء أو استعماله ونتلذّذ بذكر الله وعظيم نعمته، في ثواب الأعمال عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(من تلذّذ بالماء في الدنيا لذّذه الله (تعالى) من أشربة الجنّة)(1).

التأويل المعنوي للماء:

ولا ينبغي أن نغفل عن التأويل المعنوي للماء في الآيات الكريمة والروايات الشريفة حيث يراد به العلم والمعرفة التي تُحيي قلب الإنسان وتُسعده في حياته المعنوية، ووجه المقاربة أنّ الماء قوام الحياة الطبيعية، والمعرفة قوام الحياة المعنوية فيتشابهان من جهة كونهما قوام الحياة في عالمهما المناسب لهما.

وكثيراً ما يعتمد القرآن الكريم أسلوب ضرب الأمثلة لتقريب الفكرة، والاحتجاج بالمثال للنقض على المنكرين والمشكّكين، كمن ينكر البعث يوم

ص: 140


1- سفينة البحار: 8/ 143.

القيامة فيمثّل له بالأرض الميّتة التي نزل عليها الماء وإذا هي اهتزّت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج وهكذا، ومن ثمرات ضرب الأمثلة فتح الذهن أمام طلاب الكمالات للتأمّل في المعارف الإلهية كقوله تعالى {وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (البقرة:164) فتأويلها أن لا ييأس المذنبون الذين جفّت أرض نفوسهم من حياة الإيمان والحبّ الإلهي من أن تشملهم الرحمة واللطف الإلهي فينزل عليهم ماء المعرفة فينبت فيها الإيمان والحب ويزدهر القلب.وفي تفسير قوله تعالى {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً} (الرعد:17) قال علي بن إبراهيم (أنزل الحق من السماء فاحتملته القلوب بأهوائها، ذو اليقين على قدر يقينه، وذو الشك على قدر شكّه، فاحتمل الهوى باطلاً كثيراً وجفاءا، فالماء هو الحق، والأودية هي القلوب، والسيل هو الهواء، والزبد هو الباطل)(1).

وفي قوله تعالى {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً} (الجن:16) ورد تفسير(2) الطريقة بولاية أمير المؤمنين والمعصومين من بنيه (صلوات الله عليهم أجمعين) والماء بالإيمان والعلم الذي يتلقونه من الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).

وكالآية محل البحث فإن ظاهرها الامتنان على العباد والاحتجاج عليهم

ص: 141


1- المصدر: 5/ 200.
2- المصدر: 10/ 48.

وتذكيرهم بهذه النعمة العظيمة التي تعرف قيمتها فيما لو تصوّروا فقدانها بأن يصبح الماء غائراً في الأرض فلا يستطيعون تحصيله قال تعالى {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً} (الكهف:41) فلو لم تكن في الأرض خاصية عدم النفاذ لما بقي الماء على سطحها لتتناولوه لأنه سيغور في أعماق الأرض، ولو لم تكن فيه خاصية النفاذ لبقي جميع الماء على سطحها وغرقت اليابسة كلها، أما تأويلها فقد وردت فيه الرواية عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قُلت:ما تأويل قول الله عز وجل {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ}؟ فقال:إذا فقدتم إمامكم فلم تروه فماذا تصنعون) وفي رواية عن الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قوله تعالى {فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ} قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (يعني بعلم الإمام)(1).

الماء والأحكام الصحية والاجتماعية:

ولارتباط الماء بتفاصيل الشؤون الحياتية للإنسان فقد ورد الكثير من الروايات الشريفة لبيان أحكامه وآدابه، وأول ما تبدأ كتب الفقه بأحكام المياه لاشتراط العبادات بالطهارة، وتناولت آداب شرب الماء الصحية والاجتماعية والمعنوية، كما تعرضت لأحكام استعمال الماء والتصرّف فيه باعتباره من المباحات العامة واشتراك الناس فيه على حد سواء.

وقد نظم المرحوم الفقيه الشيخ محمد علي الأعسم آداب شرب الماء في أرجوزته في الأطعمة والأشربة، ومما قال (قدس سره):

ص: 142


1- راجع الروايات ومصادرها في تفسير البرهان: 9/ 348 350.

سيدُ كلِّ المائعات الماءُ *** ما عنه في جميعها غناءُ

أما ترى الوحيَ إلى النبي *** منهُ جعلنا كلّ شيء حيِّ

ويكره الإكثار منه للنصِّ(1) *** وعبُّه أي شربه بلا مصِّ

يروى به التوريث للكُبادِ *** بالضمِّ أعني وجعُ الأكبادِ

ومن ينحيه ويشتهيه *** ويحمدُ الله تعالى فيه

ثلاث مرات فيروى أنّه *** يوجب للمرء دخول الجنّة(2)

وفي ابتداء هذه المرّات *** جميعها بسمل لنص آتِ

وليجتنب موضع كسر الآنية *** وموضع العروة للكراهية

تشربه في الليل قاعداً لما *** رووه واشرب في النهار قائما

ويندُب الشرب لسؤر المؤمن *** وان أدير يُبتدأ بالأيمنِ

من أفضل الآداب ذكر الإمام الحسين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):

ومن أفضل الآداب والسنن عند شرب الماء ذكر الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والسلام عليه وعلى الشهداء بين يديه، لأنّ ذكر الماء يلازم ذكر الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فلا يكاد يُذكر الماء أو يُشرب أو يُلتذّ ببارده إلا ويستحضر الموالي ذكر الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لأنه حُرم منه حتى قُتل ظمآناً إلى جنب الفرات، لقد حرموا الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من الماء وهو الإمام المعصوم حجة الله في أرضه الذي

ص: 143


1- في المحاسن عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إياكم والإكثار من الماء فإنّه مادة لكل داء) وعن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إذا أكل الدسم أقلّ من شرب الماء ويقول: هو أمرأ لطعامي وفي طب الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من أراد أن لا تؤذيه معدته فلا يشرب بين طعامه ماءاً حتى يفرغ).
2- روي (من شرب الماء فنحاه وهو يشتهيه فحمد الله يفعل ذلك ثلاثاً وجبت له الجنة) (سفينة البحار: 8:143).

خلق الكون لأجلهم،مضافاً إلى أنّ له (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أكثر من حق خاص وعام فيه(1)، فله حق خاص في نهر الفرات باعتباره مهر أمّه الزهراء (س)، وله حق خاص على أهل الكوفة لأنّه سقاهم في صفّين وسقى طليعة الجيش بقيادة الحر في القادسية أثناء الطريق وله حق عام لشموله مع كل الناس باعتبار ما ورد في النبوي الشريف (ثلاثة أشياء الناس فيها شرع سواء الماء والكلأ والنار) وله حق عام يشترك به مع كل ذي روح حتى الحيوان لوجوب حفظ حياته لذا لو دار استعمال الماء بين الوضوء وحفظ حياة حيوان محترم وجب صرفه في الثاني.يقول الشيخ الشوشتري، مقابل هذه الحقوق الأربعة التي ضيّعوها جعل الله تعالى له مياهاً أربعة، ماء الكوثر فقد كان شهداء كربلاء يسقون منها قبل خروجهم من الدنيا كما أخبر علي الأكبر، وماء الدموع فهو (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قتيل العبرة ما ذكره مؤمن إلاّ استعبر وماء الحيوان في الجنان يمزج بدموع الباكين ليزيد من عذوبته وفيه رواية معتبرة، وكل ماء بارد يشربه محبّوه والموالون له فإن للحسين حق ذكره عند شربه.

التأسيس لذكر الإمام الحسين ع:

وقد أسّس الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هذه السنة الشريفة وحادثته في سوق القصّابين معروفة، وروى داود الرقي قال (كنت عند الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فشرب ماء واغرورقت عيناه بالدموع فقال:ما أنغص ذكر الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) للعيش إني ما

ص: 144


1- أشار إلى هذا المعنى المرحوم الشيخ جعفر الشوشتري في كتاب الخصائص الحسينية 117 الموضوع الرابع.

شربتُ ماءاً بارداً إلاّ وذكرت الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)(1)، أي أنّ ذكر مصيبة الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) نغّص عليّ حياتي وأنا دائم الذكر لها.

إذا شربتم عذب ماء فاذكروني:

وقد أحبّ الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من شيعتهم هذا التذكر ووعدوهم بالأجر العظيم فروي أن (من شرب الماء فذكر الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولعن قاتله كتب له مائة ألف حسنة وحُطّ عنه مائة ألف سيئة ورفع له مائة ألف درجة وكأنما أعتق مائة ألف نسمة)(2) وروي عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مثل ذلك بزيادة (وحشره الله يوم القيامة ثلج الفؤاد).

وإلى هذا المعنى أشار المرحوم الأعسم:

والماء إن تفرغ من الشراب له *** صلِّ على الحسين والعن قاتله

تؤجر بآلافٍ عدادها مائة *** من عتق مملوك وحط سيئة

ودُرُج وحسنات ترفعُ *** فهي إذا مئاتُ ألف أربعُ

وقد نقل عن الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله بلسان الحال:شيعتي ما إن شربتم عذب ماء فاذكروني(3).

فضل الحسين ع على المسلمين:

أداءاً لحقّه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على جميع البشرية بل المخلوقات وليس على شيعته فقط

ص: 145


1- أمالي الصدوق: 122، كامل الزيارات:106 وأورده عنهما في البحار: 44/ 303.
2- سفينة للبحار: 8/ 144.
3- الخصائص الحسينية: 183 عن مصباح الكفعمي: 741.

واستذكاراً لموقفه العظيم وطلباً لما تقدم ذكره من الأجر الكبير، والمهم أن نلتفت إلى التأويل(1) المعنوي لهذا التذكر بأن نتذكر الحسين ونصلّي ونسلّم عليه كلما استفدنا من علوم أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ومعارفهم وكلما نفحتنا الألطاف الإلهية وكلما عمر زمان كشهر رمضان أو شهري محرم وصفر، أو مكانٌ كمسجد أو حسينية بذكر الله تعالى، لأن هذا الماء المعين العذب سقينا به ببركة أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، ولولا تضحياته لا ندرس الدين من ذلك الزمان وعاد الناس إلى أشنع من جاهليتهم الأولى، وشعر يزيد يشهد بذلك:لعبت هاشم بالملك فلا *** خبر جاء ولا وحي نزل(2)

لستُ من خندق إن لم أنتقم *** من بني أحمد ما كان فعل

قد قتلنا القرم من ساداتهم *** وعدلناه ببدر فاعتدل

وهذا هو تأويل الآية التي جعلناها عنوان البحث فإن الدين لو اندرس بفعل آل أمية وأمثالهم من الطواغيت ولم ينهض الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فمن الذي كان سيأتينا بهذه العلوم والمعارف والأحكام الإلهية.

تأويل الماء بالإمام المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)

وجاء تأويلها أيضاً بالإمامة وولاية أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وعليه حُمل القول المشهور (ما عرض الماء على عاقل فأبى) أي ولاية أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فإنها لا يرفضها

ص: 146


1- التفت إلى هذا المعنى المرحوم السيد عبد الحسين دستغيب في كتاب (سيد الشهداء عقائد ومفاهيم:31).
2- مقاتل الطالبيين الأصفهاني: 80

عاقل، وورد تفسير الآية في بعض الروايات بغَيبة الإمام المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (نزلت في الإمام القائم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول:إن أصبح إمامكم غائباً عنكم لا تدرون أين هو؟ فمن يأتيكم بإمام ظاهر يأتيكم بأخبار السماوات والأرض، وحلال الله وحرامه؟ ثم قال:والله ما جاء تأويل هذه الآية ولابد أن يجيء تأويلها)(1). وهكذا كل مصادر الهداية والصلاح إن فقدتموها فمن يأتيكم بها إلاّ الله تبارك وتعالى. فاشكروا الله تعالى ليديم بركتها عليكم.

ص: 147


1- كمال الدين وتمام النعمة الصدوق: 354

القبس/167: سورة القلم:4

اشارة

{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}

معجزة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في أخلاقه

الآية تخاطب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهي تقع ضمن مجموعة من الآيات الكريمة التي يظهر منها أنها نزلت لتسليته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتطييب خاطره والدفاع عن حريمه المقدَّس بعد الهجمات الشرسة التي شنها عليه طواغيت قريش فرموه بكل وصف قبيح لتنفير الناس عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)وعدم الاصغاء اليه{مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ، وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} (القلم:23) فالآية تعطيه أعظم المقامات واختار الله تعالى من بينها أن يصفه بهذه الخصلة العظيمة.

وفي الآية تأكيد بعد تأكيد على اخلاقه العظيمة باستعمال (إِنَّ) و(اللام) ثم صيغة الوصف (عَلَى خُلُقٍ) لتدل على رسوخها وثباتها فيه بحيث أنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تمكّن منها واستعلى عليها وجعلها تحت سلطته وتحولت الى ملكات وسجايا ذاتية، ولو قال (إن لك خلقاً عظيماً) فانها تدل على الاتصاف من دون إفادة الثبات واللزوم إذ ان ما يملك يمكن ان يفقد.

ص: 148

وكيف لا يكون (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على هذه الاخلاق العظيمة وقد صنعهُّ ربه بيديه وأدّبه وربّاه وبلغ به الغاية فيما يريد قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (أدبني ربّي فأحسن تأديبي)(1) حتى بلغ الكمال، روي عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (إن الله تبارك وتعالى أدبَّ نبيّه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فلما انتهى به الى ما أراد قال الله تعالى له {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(2) وفي رواية أخرى عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إن الله عزوجل:أدبَّ نبيه فأحسن أدبه، فلما أكمل له الأدب قال:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(3) وقال تعالى في ذلك {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} (آل عمران:159) فما ناله النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان برحمة الله تعالى وحسن رعايته.وعنوان حسن الخلق وان كان عاماً يشمل كل الاخلاق الحسنة والسجايا الكريمة، الا انه يطلق غالباً على جزء خاص منها وهو حسن المعاشرة مع الناس ومخالطتهم بالجميل والإحسان وبهذا اللحاظ يذكر حسن الخلق في عرض اخلاق حسنة أخرى رغم أنه يشملها بعنوانه العام كقول الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اربع من كنّ فيه كمل ايمانه وإن كان من قرنه الى قدمه ذنوباً لم ينقصه ذلك قال:وهو الصدق وأداء الأمانة والحياء وحسن الخلق)(4) ولعل مراده (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بقوله (وإن كان) مجرد فرض او

ص: 149


1- مجمع البيان: 10/ 50، بحار الأنوار: 68/ 382
2- أصول الكافي: 1/ 266
3- أصول الكافي: 1/ 266
4- أصول الكافي: 2/ 99، ح3 باب حسن الخلق.

المبالغة والا فأن صاحب هذه الخصال لا يكون كذلك لأن كل صفة من الأربع كفيلة بمعالجة الكثير من الذنوب كما هو واضح. وتشير الروايات أيضاً إلى ان هذا المعنى الذي ذكرناه لحسن الخلق هو المقصود في الآية فقد روى البرقي في بصائر الدرجات عنهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن الله أدبّ نبيّه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فأحسن تأديبه فقال {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف:199) فلما كان ذلك انزل الله {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(1) .

وروي أيضاً ان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان يمشي ومعه بعض أصحابه فأدركه اعرابي فجذبه جذباً شديداً، وكان عليه بُرد نجراني غليظ الحاشية فأثرّت الحاشية في عنقه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من شدة جذبه، ثم قال:يا محمد هب لي من مال الله الذي عندك، فالتفت اليه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فضحك ثم أمر باعطائه، ولما اكثرت قريش اذاه وضربه قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):اللهم اغفر لقومي فأنهم لا يعلمون فلذلك قال الله تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (2) .

ويؤيد كون المراد من الآية هذه الاخلاق وليست كل الاخلاق الحسنة التي اتصف بها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنها الأنسب بسياق السورة التي تقارن بين سلوكه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وسلوك المشركين وعاقبة كل منهما،، قال السيد الطباطبائي (قدس) (والآية وإن كانت في نفسها تمدح حسن خلقه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)

ص: 150


1- بصائر الدرجات: 378
2- تنبيه الخواطر: 1/ 99

وتعظمه غير أنها بالنظر الى خصوص السياق ناظرة الى اخلاقه الجميلة الاجتماعية المتعلقة بالمعاشرة كالثبات على الحق والصبر على اذى الناس وجفاء اجلافهم والعفو والاغماض وسعة البذل والرفق والمداراة والتواضع وغير ذلك)(1) .أقول:لكن هذا كله لا يقيّد اطلاق اخلاقه وليست كل الاخلاق الحسنة التي اتصف بها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) العظيمة على جميع المستويات.

وبهذه الاخلاق كسب قلوب الناس فاهتدوا ببركتها الى الإسلام، في الرواية (كان رسول الله أجود الناس كفّاً وأكرمهم عِشرة، من خالطه فعرفه أحبَّه)(2) وكان اعداؤه قبل اتباعه يعلمون عظمة اخلاق رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، لما فتح النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مكة ومكّنه الله تعالى من قريش التي اذاقته القتل والتجويع والتهجير والوان الأذى والعذاب (ودخل صناديد قريش الكعبة وهم يظنون أن السيف لايرفع عنهم، فأتى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) البيت وأخذ بعضادتي الباب ثم قال:لا إله إلا الله أنجز وعده، ونصر عبده، وغلب الاحزاب وحده، ثم قال: ما تظنون؟ وما أنتم قائلون؟ فقال سهيل بن عمرو: نقول خيراً و نظن خيراً، أخ كريم وابن عم، قال: فإني أقول لكم كما قال أخي يوسف: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}(3).

ص: 151


1- الميزان في تفسير القرآن: 19/ 385
2- بحار الأنوار: 16/ 231
3- بحار الأنوار: 21/ 132

وروى في الكافي بسنده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (نزل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في غزوة ذات الرقاع تحت شجرة على شفير واد، فأقبل سيل فحال بينه وبين أصحابه فرآه رجل من المشركين والمسلمون قيام على شفير الوادي ينتظرون متى ينقطع السيل فقال رجل من المشركين لقومه: أنا أقتل محمداً فجاء وشد على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالسيف، ثم قال: من ينجيك مني يا محمد؟ فقال:ربي وربك فنسفه جبرئيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن فرسه فسقط على ظهره، فقام رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأخذ السيف وجلس على صدره وقال: من ينجيك مني يا غورث فقال جودك وكرمك يا محمد، فتركه فقام وهو يقول:والله لانت خير مني وأكرم)(1) وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنكم خلقاً وخيركم لأهله)(2).وان أهم الشواهد على عظمة أخلاقه تلقيه هذا الثناء وهذه الشهادة من الخالق العظيم دون ان تضطرب أفكاره أو يفقد اتزان شخصيته او يتملكه عارض غير حسن فتلقى هذا التكريم من ربّه العظيم بنفس مطمئنة راضية متواضعة وقد حفلت كتب السيرة والحديث والتاريخ بشواهد لا تحصى من أخلاقه العظيمة.

إن هذه الاخلاق السامية التي اتصف بها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) دليلٌ واضحٌ على نبوته ورسالته وانه من صنع الله تعالى فحسب ولم يكن من صنع بيئته وظروفه أو تلقيّه من أحد لأن هذه المسمّيات كلها عاجزة عن

ص: 152


1- الكافي: 8/ 127 ح 97 ، بحار النوار: 20/ 179 ح 6.
2- عيون اخبار الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 2/ 38.

انتاج مثل شخصية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كانت تلك البيئة والمجتمعات غارقة في الانحراف والفساد والجهل والضلال والتخلف.إن أخلاق النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) معجزة يتحدى بها الله تعالى من يدعون من دونه ليأتوا بنسخة مماثلة له (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأنى لهم ذلك، فالآية نظير قوله تعالى {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} (لقمان:11) وهذه اخلاق الله تعالى فما هي أخلاق الذين من دونه؟ بأنهم على النقيض من ذلك، وقد صوّرت السورة بعد أن بيّنت ما عليه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من الخلق العظيم والأجر غير المنقطع الذين يتصدون لمقاومته بما يستحقون من الأوصاف القبيحة ونهت عن اتباعهم {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ(1) مَهِينٍ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ، أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ، إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} (القلم:1016)، وهذه هي اوصاف المستهزئين برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أمس واليوم كما هو واضح.

ان اختيار هذه الصّفة في رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لتمجيدها والثناء عليها دليل على ثقل الاخلاق الحسنة في الميزان الإلهي والأمر كذلك حتى انك لتجد الغرض المطلوب من العقائد والتشريعات هو الاتصاف بهذه

ص: 153


1- (حَلَّافٍ) كثير الحلف واليمين (مَهِينٍ) وضيع ضعيف الرأي حقير، (هَمَّازٍ) طعّان في اعراض الناس عيّاب (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) يمشي بالنميمة بين الناس فيفرّق بينهم ويلقي العداوة والبغضاء (مَنَّاعٍ) ممسك عن الانفاق بخيل (مُعْتَدٍ) ظالم متجاوز الحدود (أَثِيمٍ) كثير الأثم والخطايا (عُتُلٍّ) غليظ جافي (زَنِيمٍ) دعيّ لا يُعرف أبوه.

الاخلاق الحسنة وتربية الأمة عليها وقد لُخِّص الغرض في قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل:90) وقد صرّح النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بهذا الغرض بقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (إنما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق)(1)، ولخّص شريعة الإسلام بالأخلاق الحسنة قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (الإسلام حسن الخلق)(2).وكان (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يحث اتباعه على حسن الخلق كأفضل ما يدعو اليه، روي عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ما من شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق)(3)، وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (إن صاحب الخلق الحسن له مثل أجر الصائم القائم)(4) ونقل الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قول جده رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (أكثر ما تلج به أمتي الجنة تقوى الله وحسن الخلق)(5) وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (ثلاث من لم تكن فيه فليس مني ولا من الله عزوجل، قيل: يا رسول الله وما هنَّ، قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):حِلْمُ يرد به جهل الجاهل، وحُسن خلق يعيش به في الناس، وورع يحجزه عن معاصي الله عزوجل)(5).

ص: 154


1- مجمع البيان: ج 10ص 500
2- كنز العمال: 5225، ميزان الحكمة: 3/ 133
3- عيون أخبار الرضا: 2 : 37 / 98
4- و(5) أصول الكافي: 2/ 100 ح 4، 6 باب حسن الخلق.
5- الخصال: 145 ح 172

وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (أفاضلكم أحسنكم أخلاقاً)(1) وقال لزوجه ام سلمة (يا أم سلمة ان حسن الخلق ذهب بخير الدنيا والآخرة)(2).ان حسن الأخلاق ليس أمراً ترفياً أو كمالياً بل فيه قوام الحياة، قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (لو يعلم العبد ما في حسن الخلق لعلم أنه محتاج أن يكون له خلق حسن)(3) وبه سعادة الآخرة كما تقدم في الأحاديث الشريفة مع سعادة الدنيا، قال الامام الصادق (لا عيش أهنأ من حسن الخلق)(4) وتزداد الحاجة اليه لمن يكون في مواقع المسؤولية على اختلاف درجاتها كرب الأسرة ومدير الدائرة والمعلم في مدرسته والمربي والحاكم وغيرهم، روى الامام الجواد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بطلاقة الوجه وحسن اللقاء فاني سمعت رسول الله يقول:إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم)(5) وفي أحاديث أخرى خاطب (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بني هاشم بهذا.

وأساس الأخلاق الحسنة الإسلام والايمان بالله تعالى، ففي معاني الأخبار عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قول الله عزوجل {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ

ص: 155


1- تفسير البرهان: ح 9 ، عن تفسير علي بن ابراهيم
2- الخصال: 1/ 42
3- بحار الأنوار: 10 / 369 ح 20
4- علل الشرائع: 560/ ح1 ، ميزان الحكمة: 3/ 134
5- عيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) : 2/ 53، امالي الصدوق: 362/ المجلسي 68 ح 9

عَظِيمٍ} قال:(هو الإسلام)(1) وروي ان الخلق العظيم هو الدين العظيم(2) فان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) جسّد القرآن وتعاليم الإسلام في حياته فكان أعظم الناس أخلاقاً حتى وصفه الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (كان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) خلقه القرآن)(3) وهذا يعني ان طريق الوصول الى المقامات الرفيعة يمرّ من خلال القرآن، وكل شخص يرتفع سهمه من الاخلاق كلما ازداد اتباعاً للقرآن والتزاماً بالإسلام مما يدل على أنَّ الاخلاق التي يدعو اليها الإسلام ليست مقتصرة على الاخلاق الشخصية كالصدق والأمانة والشجاعة والكرم والإحسان ونحو ذلك وإنما يسعى إلى تأسيس منظومة اخلاقية اجتماعية متكاملة تؤسس لمنهج عادل قويم يحفظ كرامة الانسان ويكفل له سعادته.ومن هنا ينفتح الحديث عن الاخلاق الاجتماعية أي اخلاق الأمة كأمة غير اخلاق الأفراد كأفراد ويجعل الأمة كلها مسؤولة عنها ومن تلك الاخلاق، القيام بواجبات المواطنة وحفظ مصالح الدولة والشعب وحقوق الأقليات والتكافل والتعاون على البِّر والتقوى والعدالة الاجتماعية والتناصح والتواصي بالحق والصبر والمرابطة في ثغورها وتحصين الأمة فكرياً وعقائدياً وثقافياً وسلوكياً والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى رأس الاخلاق الاجتماعية إقامة الدين وحفظ وحدة الأمة

ص: 156


1- معاني الأخبار: 1/ 188
2- تفسير البرهان: 3/ 237 ح 25 عن تفسير علي بن ابراهيم
3- تنبيه الخواطر: 72، ميزان الحكمة: 3/ 135

وتماسكها {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى:13) وقد سمّينا في بعض بحوثنا مثل هذه الواجبات بالواجبات الاجتماعية في مقابل مصطلح الوجوب الكفائي(1) الذي يردده المشهور وشرحنا الوجه في ذلك.ان سلوك الانسان وعاداته وصفاته قابلة للإصلاح والتغيير فليس صحيحاً ما يقال من انها غير قابلة لذلك وإن الانسان مسيَّر وفق ما جبلت عليه نفسه، قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد:11) ولذا تواترت الأنبياء والرسل لهداية الخلق وإصلاحهم، وألفّ العلماء كتباً في تهذيب الأخلاق واودعوها برامج في سلوك هذا الطريق، نقل العلامة المجلسي (قدس) عن الراواندي (رحمه الله) قال (الخلق السجيّة والطبيعة ثم يستعمل في العادات التي يتعودها الانسان من خير أو شر، والخُلق ما يوصف العبد بالقدرة عليه، ولذا يُمدَح ويُذّم، ويدل على ذلك قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) خالق الناس بخلق حسن)(2).

إن مساحة الأخلاق الحسنة كلما اتسعت في المجتمع فانها تعود بالخير على الجميع، وقد يمنّ الله تعالى على اعدائه ببعض الاخلاق الحسنة لمصلحة اوليائه ففي الكافي ان الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ان الله عزوجل أعار اعدائه اخلاقاً من اخلاق اوليائه لتعيش اولياؤه مع اعدائه في

ص: 157


1- راجع: فقه الخلاف: 8/ 159, ط. الثانية
2- بحار الأنوار: 71/ 374

دولاتهم، وفي رواية أخرى:ولو لا ذلك لما تركو ولياً لله عزوجل الا قتلوه)(1).

تطبيق:معجزة لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تبيّن أخلاقه

روى لنا أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) معجزة تحققت لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وكان شاهداً عليها، نذكرها تبركاً وإحياءاً لهذه المنقبة العظيمة ولنأخذ منها بعض الخصائص النفسية والسمو الأخلاقي عند رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فمن خطبة جليلة لأمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تسمى القاصعة قال (ولَقد كُنتُ مَعَهُ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لَمَّا أتاهُ المَلأُ مِن قُرَيشٍ، فَقالوا لَهُ: (يا مُحَمَّدُ، إنَّكَ قَدِ ادَّعَيتَ عَظيما لَم يَدَّعِهِ آباؤكَ، ولا أحَدٌ مِن بَيتِكَ، ونحنُ نَسألُكَ أمرا إن أنتَ أجَبتَنا إلَيهِ، وأرَيتَناهُ عَلِمنا أنَّكَ نَبِيٌّ ورسولٌ، وإن لَم تَفعَل عَلِمنا أنَّكَ ساحِرٌ كَذَّابٌ). فَقالَ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (وما تَسألونَ؟) قالوا: (تَدعو لَنا هذهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنقَلِعَ بِعُروقِها وتَقِفَ بَينَ يَدَيكَ)، فَقالَ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَي ءٍ قَديرٌ، فَإن فَعَلَ اللّهُ لَكُم ذلِكَ أتُؤمنونَ وتَشهَدونَ بِالحَقِّ؟) قالوا: (نَعَم). قالَ:(فَإنِّي سَأُريكُم ما تَطلُبونَ، وإنِّي لَأعلَمُ أ نَّكُم لا تَفيؤونَ إلى خَيرٍ، وإنَّ فيكُم مَن يُطرَحُ فِي القَليبِ، ومَن يُحَزِّبُ الأحزابَ) ثُمَّ قالَ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (يا أيَّتُها الشَّجَرَةُ إن كُنتِ تُؤمنينَ بِاللّهِ وَاليَومِ الآخِرِ، وتَعلَمينَ أنِّي رَسولُ اللّهِ، فَانقَلِعي بِعُروقِكِ حَتَّى تَقِفي بَينَ يَدَيَّ بِإذنِ اللّهِ!).

فَوَالَّذي بَعَثَهُ بِالحَقِّ لَانقَلَعَت بِعُروقِها، وجاءَت ولَها دَوِيٌّ شَديدٌ، وقَصفٌ كَقَصفِ أجنِحَةِ الطَّيرِ، حَتَّى وَقَفَت بَينَ يَدَي رَسولِ اللّهِ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مُرَفرِفَةً، وألقَت

ص: 158


1- الكافي: الجزء :2ص:101

بِغُصنِها الأعلى عَلى رَسولِ اللّهِ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وبِبَعضِ أغصانِها عَلى مَنكِبي، وكنتُ عَن يَمينِهِ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ). فَلَمَّا نَظَرَ القَومُ إلى ذلِكَ قالوا عُلُوَّا وَاستِكبارا: (فَمُرها فَليَأتِكَ نِصفُها ويَبقى نِصفُها)، فَأمَرَها بِذلِكَ، فَأقبَلَ إلَيهِ نِصفُها كَأعجَبِ إقبالٍ وأشَدِّهِ دَوِيَّا، فَكادَت تَلتَفُّ بِرَسولِ اللّهِ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فَقالوا كُفرا وعُتُوَّا:(فَمُر هذا النِّصفَ فَليَرجِع إلى نِصفِهِ كَما كانَ، فَأمرَهُ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فَرَجَعَ، فَقُلتُ أنا: (لا إلهَ إلا اللّهُ، إنِّي أوَّلُ مُؤمنٍ بِكَ يا رَسولَ اللّهِ، وأوَّلُ مَن أقرَّ بِأنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَت ما فَعَلَت بِأمرِ اللّهِ تَعالى تَصديقا بِنُبُوَّتِكَ، وإجلالا لِكَلِمَتِكَ)، فَقالَ القَومُ كُلُّهُم: (بَل ساحِرٌ كَذَّابٌ، عَجيبُ السِّحرِ خَفيفٌ فيهِ، وهَل يُصَدِّقُكَ في أمرِكَ إلا مِثلُ هذا؟) (يَعنونَني)(1).

ما الذي نستفيده؟

أقول:مما نستفيده منها باختصار:-

1أدبه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مع ربه تبارك وتعالى ومعرفته التامة بالله تعالى وأنه لا يملك شيئاً أمام ربّه وأنّه (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) فيقول للمشركين لما سألوه (فإن فعل الله لكم ذلك) ولم ينسب الفعل إلى نفسه فما من شيء يتحقق له إلا بلطف الله تعالى وفضله وكرمه، بعكس منطق الغافلين والبعيدين عن الله تعالى فإنّهم يرون لأنفسهم شيئاً ويتبجحون به ويتفاخرون ويطغون، كما حكى الله تعالى عن قارون قوله {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} (القصص:78)، ويأتي التعليق الإلهي {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} (القصص:78).

والقرآن الكريم حرص كثيراً على ترسيخ هذه المعرفة قال تعالى {وَما

ص: 159


1- نهج البلاغة: 2/ 412 الخطبة/ 190.

رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى} (الأنفال:17) وقال تعالى في فرعون وقومه {فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ،وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} (الشعراء:5758) مع أن فرعون وجيوشه هم الذين قرروا الخروج لكن بتدبير إلهي.2عدم اليأس من هداية الناس والدعوة إلى الله تبارك وتعالى وإصلاح الأمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوعظ والإرشاد والتوجيه، حتى لو كان يعلم بعناد الآخر وإصراره على الخطأ فيقول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (وإني لأعلم أنكم لا تفيئون إلى خير) فلم يتوقف ويقول ما الفائدة من دعوة هؤلاء وهم لا يُرجى منهم خير؟ لأن الأمور والنتائج والعواقب بيد مدبّرها الحقيقي، وليس على الإنسان إلا السعي الحثيث بكل ما أتاه الله تعالى، وقد مدح الله تعالى قوماً وأنجاهم من العذاب لأنّهم لم يتقاعسوا عن أداء وظائفهم الإلهية مع اليأس ظاهراً من هدايتهم، قال تعالى {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الأعراف:164).

3اعتماد لغة الحوار والحجة والبينة مع الآخر لتحصيل القناعة بالأمر وعدم إكراههم على شيء أو استخدام وسائل العنف والضغط لإجبارهم على اعتناق ما تعتقد به، ولو كنت تملك القوى الخارقة الغيبية، وهذا هو منطق القرآن الكريم {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة:256) {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (الأحقاف:4).

4قساوة القوم الذين بُعث لهم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهمجيتهم بحيث يجري لهم كل هذه المعجزات وهم يصرّون على عنادهم واستكبارهم قال تعالى فيهم {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ

ص: 160

الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ} (البقرة:74) وقلوب أولئك كانت من القسوة بحيث لم تسمح بتفجير شيء من ينابيع المعرفة والإيمان فيها، فالجبل يتصدع من هذه الكلمات وهم موتى لا حراك فيهم {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (الحشر:21) وإلى اليوم نرى مثل هؤلاء الأقوام الذين تقام عليهم الحجج والبيّنات الدامغة، ولا جواب لهم إلا العناد والاستكبار والمضي على منهجهم المنحرف ومثل هؤلاء أتذكرهم عندما أصل إلى قوله تعالى {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (البقرة:75).5شفقة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) التي لا حدود لها وقلبه الكبير بحيث لا يتوانى عن تقديم أي عمل ما دام يُرجى منه صلاح الآخرين وهدايتهم رحمةً بهم لانقاذهم مما هم فيه من الضلال حتى لو كانوا من أسوأ خلق الله تعالى وأقساهم فلم يكن (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كأسلافه الصالحين من الأنبياء الذين دعوا على أقوامهم بالهلاك {لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} (نوح:26) وغاية ما كان يقول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عندما يصيبوه بالأذى والتكذيب (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)(1) ولم يثنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن المضي معهم استهزاؤهم وسخريتهم الواضحة من مطلبهم التعجيزي وكأنهم يتهكمون برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ويسفّهون دعوته.

إن وجود مثل هذا القلب الشفيق الرحيم خير حافز على العمل الإنساني النبيل، وهو موجود لدى الكثيرين ولكنه يحتاج إلى تحريك وإثارة والدليل على ذلك انه عندما يوجد انسان مبتلى أو مصاب بنكبة أو عاهة أو معدم يحتاج إلى

ص: 161


1- إقبال الأعمال الشيخ الصدوق: 385

مساعدة فإن الكثيرين تهتز قلوبهم بالشفقة والرحمة ويهبون لنجدته ومساعدته، وهذا عمل عظيم ولكن أليس أهم منه أن نهَّب لهداية الضّال وفاقد البصيرة والمنحرف والجاهل وهؤلاء أولى بالمساعدة والشفقة والرحمة، لأن حياتهم الباقية الدائمة في خطر، وهي أهم من حياتهم الدنيا.6والدرس الأخير نأخذه من أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بروايته لهذه المنقبة النبوية الشريفة، ولعلها كانت تضيع علينا لو لم ينقلها لنا أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فلنتعلم منه أن لا نبخل على الناس بما نتعلمه من مسألة شرعية أو موعظة أو نصيحة أو منقبة وفضيلة لأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أو شيء من سيرتهم الصالحة وأخلاقهم السامية، أو كلمات العلماء ومواقفهم ومآثرهم وبذلك تنتشر الهداية ويزكو العلم والعمل الصالح وينمو ففي الحديث (العلم يزكو بالإنفاق)(1).

ص: 162


1- البحار: ج75 ص76.

القبس/168: سورة القلم:9

اشارة

{وَدُّواْ لَو تُدهِنُ فَيُدهِنُونَ}

موضوع القبس:لا مساومة على المبادئ الحقّة

تكشف الآية الكريمة لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن خدعة يتخذها الكفار والمشركون والمكذبوّن كأسلوب لمواجهة دعوته المباركة وإيقاف انتشارها وذلك من خلال سعيهم بكل رغبة واهتمام إلى أن تداهنهم(1) وتتوصل معهم إلى انصاف حلول - كما يقال - ترضيهم ويرضونك فتتنازل عن بعض مبادئك وتقبل بواقعهم الفاسد والمنحرف مقابل ان يعترفوا بك وبألهك ورسالتك ويخففّوا من ضّغطهم عليك أو يتقاسمون معك المنافع والامتيازات.

وقدّموا عروضاً في ذلك كقول عتبة بن ربيعة (يا ابن أخي إنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرّقت به جماعتهم، وسفّهت به احلامهم، وعبت به ألهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من أبائهم فاسمع مني اعرض عليك اموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها، قال:فقال له رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):قل أبا الوليد أسمع، قال:يا ابن أخي:إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من اموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تريد به شرفاً سوّدناك علينا حتى لا نقطع

ص: 163


1- أي تلاطفهم وتلاينهم وتكون مرناً معهم، مأخوذة من الدهن الذي يليّن الاجسام الصلبة ويسّهل حركتها ويستعمل لفظ المداهنة في الحالة المذمومة.

أمراً دونك، وان كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا)(1).وفي مرة أخرى جاءه مجموعة من اسياد قريش وطواغيتهم فقالوا (يا محمد هلم فلتعبد ما نعبد ونعبد ما تعبد، ولنشترك نحن وانت في امرنا كله، فإن كان الذي نحن عليه أصح من الذي أنت عليه كنت قد أخذت منه حظاً، وإن كان الذي أنت عليه أصح من الذي نحن عليه كنّا قد أخذنا منه حظاً)(2).

وكان الرد الحاسم على مثل هذه المحاولات في الآية السابقة عليها (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) (القلم:8) وفي سورة الكافرون {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} (الكافرون:12) وفي آية أخرى {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ} (المائدة:49) فقطع عليهم كل طرق المساومة والمداهنة رغم انه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان في اصعب الظروف واحلكها ويعاني الوان الألم والتضييق والتجويع والتعذيب والقتل.

ويتوجه أهل الباطل إلى هذا الأسلوب بعد أن يعجزوا عن القضاء على الحق وتطويقه ومنع الناس من اتباعه ويصبح امراً واقعاً لا يستطيعون الغاءه فيلجأون إلى المساومة وعقد الصفقات ويتخذون مختلف الوسائل لدفع أهل الحق للقبول بهذه المساومة فيهددونهم بالقتل والتجويع تارة أو يطمعوّنهم تارة أخرى أو يبثوا عليهم الاشاعات بإعلام قوي فاعل للضغط عليهم نفسياً وعزلهم اجتماعياً أو التأثير على

ص: 164


1- سيرة ابن هشام: 1/ 293
2- الدر المنثور: 8/ 655

اتباعهم لينفضّوا عنهم.وهم بذلك يحصلون على أكثر من هدف:

1 كسب الشرعية لباطلهم من دون ان يخسروا شيئاً لان ما عندهم أوهام وضلالات ودنيا زائفة لذلك فانهم يريدون منك المداهنه اولاً لانهم مستعدون لكل شيء يحفظ مصالحهم كلها او بعضها.

2 اسقاط أهل الحق في أعين اتباعهم حين يتنازلون عن بعض مبادئهم وإظهارهم منافقين يبتغون الدنيا بالدين.

وفي هذا الادب الإلهي لنبيه الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) درس لكل الرساليين وأصحاب المبادئ أن يحافظوا على استقامتهم ويتمسكوا بالحق الذي امنوا به وساروا عليه ولا ينساقوا وراء المطامع فيدخلوا في صفقات مع أهل الباطل، وهذا الامتحان جارٍ في كل حقول الحياة ولا يختص بمجال العقيدة فيشمل السياسة والتجارة والعمل الوظيفي وأصحاب المهن فكل هؤلاء وغيرهم يتعرضون لهذه المساومات وطلب المداهنة على حساب المبادئ والاستقامة وحتى الزعامات الدينية أيضاً فانهم معرضون لهذا الابتلاء وحينئذٍ يمتاز أهل المبادئ حقاً الذين لا يساومون عليها عن الذين يتاجرون بها ويضحّون بها في اول مغنم يعرض عليهم، فيصبحون العوبة بيد أهل الباطل يسيرّونهم وفق اغراضهم، لا يفرّق في ذلك بين رجال الدين او غيرهم.

وكثيرةً هي التحالفات التي وقعت بين الحكومات الجائرة والسلطة الدينية فالثاني يوفر للأول الغطاء الشرعي ويمكّنه من رقاب الناس ويوفر الأول للثاني الامتيازات والمنافع والجاه والنفوذ ويقف الاثنان معاً متحدين في مواجهة العاملين

ص: 165

الرساليين الذين يريدون ايقاظ الأمة وتوعيتها وتوجيهها نحو الصلاح، والمشكلة جارية حتى على صعيد الافراد فانهم يفضلّون الزعامات الدينية التي تؤمّن لهم هذه المصالح والامتيازات وتغضّ الطرف عن انحرافاتهم ومظالمهم مقابل ما يوصلون اليهم من أموال يفضّلونهم على القيادات الرسالية التي تنصحهم وتبيّن لهم عيوبهم ولا تداهنهم ولا تجاملهم، وهذا انحراف كبير في ثقافة الأمة وتديّنها لذا كان القرآن الكريم حازماً في رفض هذه الحالة {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} (المائدة:63).فالدرس الذي أخذناه من النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والقرآن الكريم أن لا مساومة على المبادئ الحقة وسار على هذا النهج الائمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لذا نجد في صفاتهم التي تسجّلها نصوص زياراتهم (ولا لأحداً فيك مطمع).

ص: 166

القبس/169: سورة القلم:44

اشارة

{سَنَستَدرِجُهُم مِّن حَيثُ لَا يَعلَمُونَ}(1)

موضوع القبس:سُنة الاستدراج

من سنن الله تعالى الجارية في عباده سنة (الاستدراج) وهي من الابتلاءات العظيمة التي يمر بها الفرد والمجتمع، عن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ما ابتلى الله أحداً بمثل الإملاء له)(2) وقد ذكرها القرآن الكريم صريحاً في موضعين بنفس النص في العنوان، لكن مضمونها ورد في آيات عديدة أخرى كما سيأتي ان شاء الله تعالى.

والاستدراج يعني الايقاع بالكافرين والمنافقين واهل المعاصي تدريجياً درجة بعد درجة من حيث لا يعلمون فكلما ازدادوا في المعاصي ازدادت عليهم النعم والشواغل والملهيات عن التوبة والرجوع وهكذا حتى تنتهي مهلتهم و يتفاجاؤا بالعذاب الذي يستحقونه وقد أحاط بهم وهم في ذروة سكر النعم واقبال الدنيا وورد عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير هذه الآية قال (هو العبد يذنب الذنب فتجدد له النعمة معه، تلّهيه تلك النعمة عن الاستغفار عن ذلك الذنب)(3).

ص: 167


1- وردت هذه الآية في سورة الأعراف:182, أيضاً.
2- نهج البلاغة: قصار الكلمات: 116.
3- الكافي: 2/ 452 ح 3

والذي يوقعهم في هذا الاستدراج ما ذكرته الآية التالية في الموضعين {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (القلم:44) أي اغترارهم بالإمهال والاملاء وعدم التعجيل بالعقوبة على الذنوب {وَأُمْلِي لَهُمْ} الذي هو رحمة وشفقة وإعطاء مزيد من الفرص للتوبة وليس عجزاً أو ضعفاً لأن الاستعجال ديدن من يخاف الفوت فيتوهمون أنهم على خير ولم يصدر معهم شيء سيء وإنهم يستحقون من الله تعالى إغداق النعم كقول قارون لما نصحه قومه بالإحسان كما أحسن الله تعالى إليه وعدم البغي والفساد في الأرض {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} (القصص:78).فيتملكهم الغرور وتستولي عليهم الغفلة حتى ينتهوا إلى سوء المصير، قال تعالى {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (آل عمران:178).

وسنة الاستدراج تأتي بعد الموعظة والتذكير والانذار والتحذير والتعريض لبعض الابتلاءات لعله يصحو من غفلته وينتبه إلى نفسه فاذا استمر بعصيانه وتمرده تواترت عليه النعم فينسى ربه وينسى نفسه {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} (الحشر:19).

ومن الآيات الكريمة التي اشارت إلى هذه المراتب قوله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ، ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} (الأعراف:9495) وفي كتاب الكافي عن

ص: 168

الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ان الله اذا أراد بعبد خيراً فأذنب ذنباً أتبعه بنقمة ويذكره الاستغفار، واذا أراد بعبد شراً أتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار ويتمادى بها وهو قول الله عز وجل {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} بالنعم عند المعاصي)(1).في الحديث عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إذا أحدث العبد ذنباً جدّد له نعمه فيدع الاستغفار، فهو الاستدراج)(2).

لذا يجب على الانسان العاقل أن يكون حذراً عندما تقبل النعم عليه قال امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أولى الناس بالحذر اسُلمُهم عن الغيَر)(3) أي من لا يتعرض للابتلاءات والصعوبات ويرفل بالنعم وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اذا رأيت ربَّك يتابع عليك النعم فاحذره) (4) بأن لا تبطره النعمة ولا يشعر بالعجب والزهو وان يتعاهد نفسه بالمحاسبة دائماً ولا يغفل عن أداء حق الله تعالى عليه في هذه النعم، فنعمة الايمان عليها حقوق ونعمة العقل عليها حقوق، ونعمة الصحة والعافية عليها حقوق، ونعمة المال عليها حقوق، ونعمة الجاه والوالدين والأولاد والعلم وغيرها فيها حقوق لله تعالى (راجع رسالة الحقوق للإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لتعرف تفصيلاً عن هذه الحقوق).

روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله في نهج البلاغة (أنه من وسع عليه في

ص: 169


1- نور الثقلين: 5/ 397 عن كتاب علل الشرائع
2- مجمع البيان: 10/ 340
3- غرر الحكم : رقم 3096
4- غرر الحكم : رقم 4082

ذات يده فلم يَر ذلك استدراجاً فقد أمن مخوفاً)(1).ومن كلماته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (كم من مستدرج بالإحسان إليه، ومغرور بالستر عليه، ومفتون بحسن القول فيه، وما أبتلى الله أحداً بمثل الاملاء له)(2).

وعن الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (الاستدراج من الله سبحانه أن يسبغ عليه النعم ويسلبه الشكر)(3).

وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (كم من مغرورٍ بما قد أنعم الله عليه، وكم من مستدرج يستر الله عليه، وكم من مفتون بثناء الناس عليه)(4).

وكان أصحاب الائمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) واعين لهذه الحالة وحذرين منها فروي أن أحد أصحاب الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إني سألت الله تبارك وتعالى أن يرزقني مالاً فرزقني، وإني سألت الله تبارك وتعالى أن يرزقني ولداً فرزقني، وسألته أن يرزقني داراً فرزقني، وقد خفت أن يكون ذلك استدراجاً؟ فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(أما مع الحمد فلا)(5) والمقصود بالحمد العملي منه وليس فقط القولي، و(أقل ما يلزمك لله تعالى ان لا تستعينوا بنعمه على معاصيه)(6)

هذا هو المعنى المعروف للاستدراج، ويستشف من القران الكريم معنى

ص: 170


1- نهج البلاغة: قصار الكلمات رقم 358، بحار الانوار: 5/ 220
2- نهج البلاغة: الحكمة 116
3- بحار الانوار: 78/ 117 ح 7
4- الكافي: 2/ 452 ح 4
5- أصول الكافي: 2/ 97 ح 17
6- كلمة لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في غرر الحكم : رقم 3330

آخر له، بأن يكون الاستدراج على شكل تزيين المعصية وتيسيرها بحيث تضعف مقاومة النفس عن تجنبها كما يحكي القرآن عن أصحاب السبت من اليهود، حيث حرم الله تعالى عليهم صيد السمك يوم السبت فكانت تأتي بكثرة يوم السبت وتكون في متناول أيديهم ولا يجدونها في غير السبت، فعملوا حيلة لحجزها يوم السبت ثم اصطيادها يوم الاحد فقال تعالى {واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (الأعراف:163). فمسخوا قردة وخنازير(1) . ومثل الصيد الذي حرمه الله تعالى على المحرم واذا به يكثر حولهم وهم محرمون ليبتلي صبرهم على الالتزام بالحكم الشرعي للمحرم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (المائدة:94).

فالمستفاد من الآية عدة دروس:

1 عدم الاغترار بالنعم والأمن من العقوبة لأن ذلك امهالاً وليس اهمالاً وأن العاقبة السيئة قد تحل به في أي لحظة في الدنيا والآخرة، مثلا الزعماء السياسيون عليهم أن لا تغرّهم الرئاسة والقدرة وكثرة الاتباع وضجيجهم وتداول

ص: 171


1- في تفسير العسكري: عن الامام علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال : (ان الله تعالى مسخ هؤلاء لاصطياد السمك فكيف ترى عند الله عز وجل يكون حال من قتل أولاد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهتك حريمه، ان الله تعالى وان لم يمسخهم في الدنيا فان المعدَّ لهم من عذاب الاخرة اضعاف اضعاف هذا المسخ) (تفسير البرهان : 4/ 129).

وسائل الاعلام فتتضخم الانا عند احدهم ويتصور أنه قادر على كل شيء وأنه بمتناول يده أن يفعل ما يشاء فيتخلى عن مبادئه وينسى واجباته تجاه شعبه وبلده وينحرف مبتعداً عن جادة الصواب ويصمّ اذنه عن سماع النصيحة ويغفل عن قدرة الله عليه، او أصحاب الأموال يرون أموالهم تتكاثر بسرعة وتأتيهم من حيث لا يحتسبون، فيغتروا بها ويغضوا الطرف عن مصادرها وإخراج الحقوق الشرعية منها ويبقون في هذا الوهم حتى تذهب لذتها وتبقى تبعتها .2 أن لا ننساق وراء شهوات النفس واطماعها فنسقط في المعصية مهما بدت لذيذة وسهلة ومغرية وفي متناول اليد كالأموال الطائلة التي يبذلها الفاسدون من أجل تمرير باطلهم أو السكوت عنه، فيغتر بها ضعاف النفوس ويسقطون في فخوخهم أو كالعلاقات الجنسية التي تبذل بيسر للشباب في المجتمعات المختلطة أو على وسائل التواصل الاجتماعي والتقنيات الحديثة أو أي مجال آخر، فالحذر من كل ذلك لأن القدم اذا زلَّت فأن الانحراف يزداد بمرور الوقت وتصعب العودة إلى جادة الصواب.

3 الثقة بوعد الله تعالى وأنه لا يضيّع أجر المحسنين ولا يسكت عن ظلم او جور وأنه ينصر عباده المؤمنين ولكننا لا نستطيع توقيت ذلك وما يفعله الله تعالى هو الخير.

4 أن نعي هذه السنة الإلهية (الاستدراج) حتى لا يتحول الاغترار بها إلى ظاهرة خطيرة حينما ينخدع المجتمع ببعض المظاهر الجذابة المبهرة التي يتنعم بها المستدرجون فيتمنى أن يكون مثلهم ولا يعلم العاقبة الوخيمة التي تنتظرهم كما ابتلي الكثير من أبناء المجتمع اليوم بهوس السلطة والصراع على المغانم ونيل

ص: 172

الثراء الفاحش بسرعة، قال تعالى {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} (آل عمران:196197) ويحكي القرآن الكريم حادثة قارون من بني إسرائيل للتحذير من هذه الظاهرة الخطيرة حيث آتاه الله تعالى أموالا عظيمة {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} فنصحه قومه فلم يستجب{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} (القصص:78) أي ان هذه النعم حصلت عليها بقدراتي وامكانياتي الشخصية وهنا ترد الإشارة الى هذه الظاهرة {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ، وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ، فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ، وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ، تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (القصص:7683)، فلنحذر من السقوط في مقولة (ياليت لنا مثل ما اوتي قارون إنه لذو حظ عظيم) لان عاقبته الندم الكبير حيث لا ينفع الندم.

ويقدّم السيد الطباطبائي (قدس سره) تحليلاً لاستدراج هؤلاء ووقوعهم في العذاب الدنيوي قبل الآخرة، قال (قدس سره) ((ومن وجه آخر) لما انقطع هؤلاء عن ذكر ربهم وكذبوا بآياته سُلبِوا اطمئنان القلوب وأمنها للتشبث بذيل الأسباب التي

ص: 173

من دون الله، وعذبوا باضطراب النفوس وقلق القلوب وقصور الأسباب وتراكم النوائب، وهم يظنون انها الحياة ناسين معنى حقيقة الحياة السعيدة فلا يزالون يستزيدون من مهلكات زخارف الدنيا فيزدادون عذاباً وهم يحسبونه زيادة في النعمة حتى يردوا عذاب الآخرة وهو أمر وأدهى، فهم يستدرجون في العذاب من لدن تكذيبهم بآيات ربهم حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون)(1).

ص: 174


1- الميزان في تفسير القرآن: 8/ 351 تفسير الآية 182 من سورة الأعراف.

القبس/170: سورة المُدّثّر:2

{يَأَيُّهَا ٱلمُدَّثِّرُ 1 قُم فَأَنذِر}

{الْمُدَّثِّرُ} أصلها المتدثر والمخاطب هو رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى ورد في الرواية (1) أن من اسمائه ذلك ويعني عرفاً من ألقى عليه كساءً أو غطاءً وتلفّف به لأجل النوم أو وقاية من البرد ونحو ذلك.

وهو في اللغة أوسع من ذلك إذ يعني التدثر (تضاعف شيء وتناضد بعضه على بعض)(2) كما في معجم مقاييس اللغة أي تراكم وتكاثر شيء على شيء ولذا يطلق على المال الكثير:الدثر، فالمعنى الاوسع للمتدثر هو المحاط والمتغطي بما يمنعه من الحركة والفعالية سواء كان مادياً كما يفهم العرف أو معنوياً كالكسل والترف وحب الراحة والخوف والقلق والاغلال الدنيوية التي تعيق الحركة نحو التكامل مثل المال والمكانة الاجتماعية والأهل والولد وغير ذلك.

فالآيات الكريمة تأمر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأن ينهض من دثاره ويقوم بالإنذار وتبليغ الرسالة الإلهية التي كُلِّف بها، ويشهد سياق الآيات أنها من أوائل ما نزل

ص: 175


1- روى الكلبي عن ابي عبدالله الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (قال لي: كم لمحمد اسم في القرآن؟ فقلت به اسمان أو ثلاث فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): يا كلبي له عشرة أسماء) ثم ذكر منها ما في آية المدثِّر (راجع بحار الأنوار: 16 / 101)
2- معجم مقاييس اللغة ابن فارس: 2/ 328

من القرآن الكريم حتى روى بعضهم أنها أول ما نزل منه ففسّر الدثار بأنه ((اعتزاله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وغيبته عن النظر فهو خطاب له بما كان عليه في غار حراء))(1)، لكن ما ورد في سبب نزولها وتعّرف النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على الوحي النازل عليه من قبل، مضافاً إلى تضمن الآيات لتكذيب قريش يدل على أنها مسبوقة بآيات البعثة النبوية الشريفة، فربما كانت الآيات الأولى التي أمرت بإعلان الدعوة إلى الإسلام والجهر بها بعد ان كانت سرّية في بدايتها، أو ان المقطع الأول من السورة نزل أولاً قبل التكذيب لإعداد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للمسؤولية القادمة شأنها في ذلك شأن مطلع سورة المزمِّل من دون ان تدل على ان حالة التدثر أو التزمل موجودة فعلاً وبذلك يصح القول بأنها أول ما نزل من القرآن بعد العلق أو هي والحمد ونحو ذلك.ويمكن أن يراد بالدثار مرحلتين زمنيتين من مراحل الرسالة الإسلامية:

الأولى:بعد نزول الوحي مباشرةً حيث امتلأ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هيبة من ثقل الرسالة التي كلِّف بها وحلّت به رعشة وقشعريرة فتدثّر وهنا جاءه الأمر بأن يتجاوز هذه الحالة ويستعد نفسياً وروحياً لحمل الرسالة الإلهية.

روى في الدر المنثور عن البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم بالإسناد عن يحيى بن ابي كثير قال (سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن فقال:يا أيها المدثر قلت:يقولون اقرأ باسم ربك الذي خلق فقال أبو سلمة:سألت جابر بن عبد الله عن ذلك قلت له مثل ما قلت، قال جابر:لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:جاورت بحراء فلما قضيت جواري فنوديت

ص: 176


1- حكاه السيد الطباطبائي (قدس سره) في تفسير الميزان: 2/ 87

فنظرت عن يميني فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ونظرت خلفي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجئثت منه رعبا فرجعت فقلت:دثروني فدثروني، فنزلت يا أيها المدثر قم فأنذر إلى قوله:والرجز فاهجر) (1)الثانية:بعد ما لاقاه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من تكذيب قريش واستهزائهم بالرسالة وتحشيد المجتمع ضد الرسول الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فبلغ به الغم والضغط النفسي مبلغاً كبيراً فتدثر بسبب الشعور بالاحباط لالتقاط الأنفاس كما يقال والتخفيف عن نفسه الشريفة فأمره الله تعالى أن يخرج من حالة الانكفاء على الذات وان لا يكترث بجمعهم وحشدهم وقوتهم فأن الله تعالى سيتكفل بدحرهم جميعاً ولينطلق هو (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بمشروعه الإلهي.

روى في الدر المنثور بسنده عن ابن عبّاسٍ أنّ الوليد بن المغيرة صنع لقريشٍ طعامًا، فلمّا أكلوا قال:ما تقولون في هذا الرّجل؟ فقال بعضهم:ساحرٌ، وقال بعضهم:ليس بساحرٍ، وقال بعضهم:كاهنٌ، وقال بعضهم:ليس بكاهنٍ، وقال بعضهم:شاعرٌ، وقال بعضهم:ليس بشاعرٍ، وقال بعضهم:سحرٌ يؤثر (وأجمع قولهم على أنّه سحرٌ يؤثر) فبلغ ذلك النّبيّ - (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سلّم - فحزن وقنّع رأسه وتدثّر، فأنزل اللّه - عزّ وجلّ - {يا أيّها المدّثّر ، قم فأنذر ، وربّك فكبّر ، وثيابك فطهّر ، والرّجز فاهجر ، ولا تمنن تستكثر ، ولربّك فاصبر،} (المدثر:17).

ص: 177


1- الدر المنثور: 8 / 324

فالآيات الكريمة فيها معنى كنائي وتعبير عن الانتقال من مسؤولية العمل على إصلاح الذات وتهذيب النفس - حيث كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يتعبد لوحده - إلى مسؤولية العمل الاجتماعي وإصلاح الأمة والفرق بينهما واسع بحيث ان الأول كالقعود مقابل القيام والآن انتهى زمن القعود والخلّو عن المسؤولية الكبيرة وحان زمن العمل. وفي ضوء هذه الرواية والتفسير فأن الآيات الكريمة تفيد ان اشعال الحروب والتعامل بقسوة وبطش وخلق العراقيل متوقعة ممن يخافون على مصالحهم من كل أصحاب الدعوات الرسالية وليس دعوة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقط فلايصح مواجهتها بالتوقف عن العمل والانحسار والانغلاق على الذات لأن العمر أقصر من ان يضيّع بالقعود والتدثر والنفس ميّالة إلى الدعة والراحة فلابد من ملئ الحياة بالقيام والنهوض والحركة والاقدام واقتحام الصعاب وتعبئة كل الطاقات المادية والمعنوية وإبلاغ الرسالة {وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ} (البقرة:238) {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى:13) ولابد من هذا القيام لله تعالى وإن كان الشخص صالحاً في نفسه وملتزماً بالشريعة الا ان هذا لا يكفي بل عليه ممارسة الإنذار والإصلاح للمجتمع ما دام في المجتمع باطل وانحراف وفساد حيث يجب عليه تغييره والنهي عنه وهو المعنى الذي تفيده سورة العصر وغيرها.

والسمة الواضحة لهذه الرسالة الإنذار والتخويف من عاقبة الخروج عن أوامر الله تعالى ونواهيه {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً} (مريم:97) {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ} (القصص:46)

ص: 178

وعدم ارسال النذر اليهم يشعرهم بالطمأنينة والراحة ونسيان الله تعالى {حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء} (الأعراف:95) فان العامة لا يصلحهم الا الخوف، روي (عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), قَال الْمُؤْمِنُ بَيْنَ مَخَافَتَيْنِ ذَنْبٍ قَدْ مَضَى لَا يَدْرِي مَا صَنَعَ الله فِيه وعُمُرٍ قَدْ بَقِيَ لَا يَدْرِي مَا يَكْتَسِبُ فِيه مِنَ الْمَهَالِكِ فَهُوَ لَا يُصْبِحُ إِلَّا خَائِفاً ولَا يُصْلِحُه إِلَّا الْخَوْفُ)(1) ثم تأتي البشارة بعد التخويف والإنذار.وفي هذا الإنذار التنبيه إلى الخطر القريب في الدنيا والآخرة رحمة للناس لأن الله تعالى غني عنهم لكن شفقته على عباده أوجبت أن يواتر إليهم رسله بالإنذار ليجنبّهم المخاطر.

وتذكر الآيات التي تليها الأسس التي يرتكز عليها العاملون الرساليون الذين يسعون إلى الاصلاح في دعوتهم إلى الله تبارك وتعالى، نشير إليها باختصار:

1 {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (المدثر:3) ان تؤمن بان الله تعالى أكبر من ان يوصف ولا يعجزه شيء وكل قوة مهما كانت عظيمة فهي أمامه أوهن من بيت العنكبوت فلا موجب للخوف من أي قوة معارضة تمتلك المال والسلطة والجيوش لأن الخوف سيؤدي إلى المداهنة والتخلي عن المبادئ وهذا يعني الهزيمة وعلى المؤمنين العاملين أن يكونوا كما وصفهم أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم)(2) وعليهم أن يسقطوا من اعتبارهم كل ما دون الله تبارك وتعالى ولا يجعلوه من اهتمامهم.

2 {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (المدثر:4) ويمكن فهمها عن ظاهرها أي تطهير

ص: 179


1- الكافي، ج 2، ص 71
2- نهج البلاغة: الخطبة 193

الثياب وهو صحيح موافق للأحكام الشرعية أو عدم إطالة الثياب فتخطّ في الأرض كما في بعض الروايات، ولعل المراد بها المعنى الكنائي ويكون المراد من تطهير الثياب الاتصاف بالنزاهة وعفة اللسان واليد والجوارح كلها وطهارة القلب وسمو الاخلاق وحسن السيرة والالتزام بأحكام الشريعة، وجامع هذه الخصال التقوى وقد وصف القرآن الكريم التقوى باللباس قال تعالى {وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ} (الأعراف: 26) وهذا التعبير متداول في اللغة العربية ففي خطبة الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أنا ابن نقيات الجيوب)(1) وقال الشاعر في مدح أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)

مطهرون نقيات ثيابهم *** تجري الصلاة عليهم كلما ذكروا

ويطلق اللباس على الزوجة، قال تعالى {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} (البقرة:187) فتكون الآية آمرة باختيار الزوجة الصالحة لأهمية دورها في حياة العاملين الرساليين من عدة جهات.

3 {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (المدثر:5) فيجب تجنب كل أشكال المعاصي والمظالم وعدم الانجرار وراء الفتن ومكائد الشيطان واهواء النفس الأمارة بالسوء وعليهم التثبت مما يقال وعدم مداهنة الظالمين والجائرين.

4 {وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} (المدثر:6) فلا تعتد بنفسك ولا تثق بعملك ولا تمنّ به على الله تعالى ولا على الناس فان ما عندك هو من فضل الله تعالى ورحمته {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ

ص: 180


1- بحار الأنوار المجلسي: 45/ 174

أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (الحجرات:17) فالمن يبطل العمل ويحبطه ويعرّض صاحبه لغضب الله تعالى فيمحوا اسمه من المؤمنين، من وصية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لمالك الأشتر {وَإِيَّاكَ وَالْمَنَّ عَلَى رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ فَإِنَّ الْمَنَّ يُبْطِلُ الْإِحْسَانَ}(1) فاذا تواضع لله تعالى وعرف ان ما عنده توفيق من الله تعالى وواظب على الشكر عليه أغدق الله تعالى عليه المزيد من النعم.5 {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} (المدثر:7) لأن العمل شائك ويسير العامل في حقول من الألغام المادية والمعنوية حتى وصفت مواجهتها بالجهاد الأكبر فلابد من ان يتمسك بالصبر على الصعاب ليواصل الطريق ويثبت على خط الاستقامة وان يكون صبره في الله ولله تعالى.

إذن لنتأسى بالنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في هذا الخطاب القرآني وننفض دثار الكسل والتردد وسائر الأمور المحبطة وننطلق في ميدان الدعوة الى الله تبارك وتعالى بالحكمة والموعظة الحسنة بعد ان نبني أنفسنا بالخصال الكريمة التي ذكرتها الآيات الشريفة.

ص: 181


1- نهج البلاغة، كتاب 53

القبس/171: سورة القيامة:2

اشارة

{وَلَا أُقسِمُ بِٱلنَّفسِ ٱللَّوَّامَةِ}

موضوع القبس:محكمة الضمير دليل على وجود محكمة القيامة

قيل ان {لَا} زائدة للتأكيد وليست للنفي باعتبار ان الآية ظاهرة في إثبات القسم لا نفيه ولو بمعنى السياق، لذا وقيل هي (نافية) لكنها هنا ليست لنفي القسم وإنما كناية عن عظمة المقسم به أو وضوحه بحيث يستغنى عن القسم لإثباته وما يهمّنا هنا دلالة الآية على عظمة المقسم به وجلالة قدره وأهميته وهذا السياق متكرر في القرآن الكريم كقوله تعالى {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} (الواقعة:7576).

ويشير القرآن الكريم إلى ثلاث مراتب من النفس الإنسانية:

1 المطمئنة التي اكتملت فيها العبودية لله تعالى والطاعة والتسليم له تبارك وتعالى عن رضا واطمئنان، قال تعالى {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} (الفجر:2728).

2 الامّارة بالسوء التي دأبت على الاستسلام للشهوات واتباع الاهواء فهي تأمر بالسوء وتدعو إلى الفحشاء والمنكر من دون أي رادع، قال تعالى {إِنَّ

ص: 182

النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ} (يوسف:53) وقال تعالى {وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا} (يونس:7) وقد تتمرد هذه النفس أكثر فتصبح داعية للفساد والانحراف والضلال وساخرة من أهل الطاعة والايمان ومستهزئة بالدين، هذه النفس التي يصفها الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من خلال الشكوى منها، ويطلب من الله تعالى العون عليها (إلهِي إليْكَ أَشْكُو نَفْساً بِالسُّوءِ أَمَّارَةً، وَإلَى الْخَطيئَةِ مُبادِرَةً، وَبِمَعاصِيكَ مُولَعَةً، وَلِسَخَطِكَ مُتَعَرِّضَةً، تسْلُكُ بِي مَسالِكَ الْمَهالِكِ، وَتَجْعَلُنِي عِنْدَكَ أَهْوَنَ هالِك، كَثِيرَةَ الْعِلَلِ طَوِيلَةَ الاَمَلِ، إنْ مَسَّهَا الشَّرُّ تَجْزَعُ، وَإنْ مَسَّهَا الْخَيْرُ تَمْنَعُ، مَيَّالَةً إلَى اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ، مَمْلُوَّةً بِالْغَفْلَةِ وَالسَّهُوِ، تُسْرِعُ بِي إلَى الْحَوْبَةِ، وَتُسَوِّفُنِي بِالتَّوْبَةِ) (1).3 النفس اللوّامة وهي عنوان البحث وهي بين المرتبتين ويمكن ان ترتقي إلى الأولى او تتسافل إلى الثانية فهي نفس ليست بعيدة عن الصلاح ومحبّة للطاعة الا انها تضعف احياناً فتقود صاحبها الى الوقوع في المعاصي والذنوب فتحصل عندها حالة اللوم وتأنيب الضمير والندم فتحاسب نفسها باستمرار.

وقد تحصل هذه الحالة من اللوم لأجل التقصير في عمل الخير وعدم الاستثمار الأقصى للنعم الممنوحة له ولفرص الطاعة المتاحة اذ كان يمكنه الاستزادة منها ولم يفعل، وهذا الشعور يصحب الانسان إلى يوم القيامة فيشعر بالندم والغبن على تفريطه ببعض الفرص، لذا كان من اسمائه (يوم التغابن).

وهذه الحالة من تأنيب الضمير والشعور بكربة (2) في القلب إنما تحصل

ص: 183


1- الصحيفة السجادية، مناجاة الشاكين
2- أشار السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) إلى هذا المصطلح مراراً في كتاب (قناديل العارفين)

بقرار تصدره محكمة الوجدان وهي نعمة من الله تعالى على الانسان ودليل من باطنه ينبهه الى الوقوع في المحذور واقترابه من الخطر ويحذرّه من عاقبته ويدعو الى التصحيح والمعالجة، وهذا يعني ان ضميره لا زال حياً ويمكن الاطمئنان إلى حركته وقراراته ولذا يحيل إليه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عند الحكم في الأمور المشتبهة حيث روي قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (استفت قلبك، استفت نفسك، البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك)(1) .فعلى الانسان ان يبقي هذا الضمير حياً ليكون له واعظاً من نفسه ولا يميته باتباع الشهوات والانغماس في الرذائل والإصرار على الخطأ والخطيئة والتعصب والانانية. روي عن الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَا تَزَالُ بِخَيْرٍ مَا كَانَ لَكَ وَاعِظٌ مِنْ نَفْسِكَ وَمَا كَانَتِ الْمُحَاسَبَةُ مِنْ هَمِّكَ)(2)، وروي عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (من لم يجعل الله له من نفسه واعظا، فإن مواعظ الناس لن تغني عنه شيئاً)(3).

وهذا يبين احد وجوه البلاغة في الإتيان بهذا القسم مع القسم بيوم القيامة في الآية السابقة {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} فان محكمة الضمير صورة مصغرة للمحكمة الإلهية الكبرى فالحاكم واحد وهو الله تعالى، والشهود نفس الشهود وهم الجوارح والضمير، والقضايا حاضرة لا تحتاج الى تهيئة واعداد وجمع

ص: 184


1- كنز العمال: 7312، مسند احمد: 4/ 228
2- وسائل الشيعة: 16/ 96
3- تحف العقول: 294

المعلومات، والمجازاة نفسها في الروح بل والجسد حيث يقوم بعض المجرمين أحياناً بإيذاء جسده ندماً ولوماً مضافاً إلى كونها محكمة حق لا جور فيها ولا تحتاج الى مراجعة واستئناف للحكم {وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (الرعد:41). فهذه المحكمة في باطن الانسان دليل وجداني وفطري على وجود يوم القيامة والحساب والجزاء حيث لم يخلو الانسان من هذه المحكمة وهو ذرة صغيرة فكيف يعقل خلو الوجود الواسع من المحكمة الإلهية.

ويظهر ان هذه الملازمة معروفة حتى لغير المؤمنين لذا فإنهم لكي يتخلصوا من عذاب الضمير وتأنيبه عند انغماسه في الشهوات والظلم والعدوان يخدعون أنفسهم بنفي وجود يوم القيامة والحساب والجزاء، هذا ما أكدته بعض الآيات التالية لهذه {بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} (القيامة:5) أي انه يكذب بما هو واقع امامه من البعث والحساب ليستمر على فجوره والتحرر من الالتزام بالشريعة.

ويحسّ الانسان في وجدانه بهذا الجزاء قبل يوم القيامة، إذ إن هذا الضمير ينشر السعادة والانشراح والاطمئنان في باطن الانسان عندما يقوم بعمل صالح وتزداد السعادة كلما ازداد العمل أهمية وقيمة وكأنه يعجّل المكافأة لصاحبه، واذا صدر منه فعل سيء فانه سيبادر الى معاقبته بألم وعذاب في القلب لا يلبث ان ينعكس على شكل اعراض مرضية في البدن وقد يلجأ صاحبه الى تسليم نفسه للعقوبات كالسجن في المحاكم الوضعية ليتخلص من الألم وعذاب الضمير.

ولأهمية هذا الضمير الحي ودوره في تربية الانسان وتقويم سلوكه وتخليص صاحبه من اثار اعماله فقد استحق القسم به.

ص: 185

إذن علينا أن نمثل امام محكمة الوجدان والضمير يومياً وباستمرار، ونبادر إلى إثبات برائتنا ونقاوتنا أمام هذه المحكمة قبل يوم القيامة لنذهب إلى لقاء ربّنا ونحن مبرّئون من الذنوب بفضل الله ورحمته، ولنشعر بالسعادة والاطمئنان ولذا ورد التأكيد على محاسبة النفس باستمرار كقول رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (حاسبوا انفسكم قبل ان تحاسبوا، وزنوها قبل ان توزنوا) (1) وقال الامام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم فان عمل حسنة استزاد الله تعالى وان عمل سيئة استغفر الله تعالى)(2).وتصوروا لو أن الأمة عملت بهذا المنهج وهذه الثقافة فكيف ستكون سعيدة ناجحة لكن مشكلتنا الرئيسية في غياب هذه المبادئ الأخلاقية.

ص: 186


1- وسائل الشيعة ج16ص95
2- كتاب الزهد : 76 ، 203، وسائل الشيعة (آل البيت): 16/ 95/ح1

القبس/172: سورة الإنسان:8

{وَيُطعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِۦ}

الآية حلقة من سلسلة آيات نزلت في امير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حادثة مشهورة لدى الفريقين، وعدَّ المرحوم الاميني في كتاب الغدير(1)(34) ممن أوردها من علماء السنة، والف الحافظ أبو محمد العاصمي كتاباً في مجلدين اسماه(زين الفتى في شرح سورة هل اتى) ووصف الالوسي في روح المعاني خبر الواقعة بانه مشهور.

وخلاصة الحادثة في مصادر العامة كما أوردها العلامة الاميني (قده) عن ابن عباس قال إن الحسن والحسين مرضا فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس معه فقالوا:

يا أبا الحسن؟ لو نذرت على ولدك. فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما إن برئا مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام.

فشفيا وما معهم شيء، فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث أصوع من شعير، فطحنت فاطمة صاعا واختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال:السلام عليكم أهل بيت محمد؟ مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة.

ص: 187


1- الغدير: 3م107111 من الطبعة الاصلية، و 4/ 154161 من طبعة دار الغدير.

فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صياما، فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فأثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك، فلما أصبحوا أخذ علي رضي الله عنه بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال:ما أشد ما يسوئني ما أرى بكم؟! وقام فانطلق معهم، فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها، وغارت عيناها، فساء ذلك فنزل جبريل وقال:خذها يا محمد؟ هنأك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة.وحاول البعض التشكيك في نزولها في علي واهل بيته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) رغم شهرتها وكثرة مصادرها، ومما قالوه:ان السورة مكية والحادثة وقعت في المدينة بعد زواج امير المؤمنين وولادة الحسنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وجوابه:عدم الوثوق بما دل على مكية السورة بل الدليل على العكس أي مدنية السورة، لوجود ذكر الأسير فيها، ولم يكن للمسلمين اسرى في مكة بل كانوا قلة مستضعفين وانما قويت شوكتهم واصبح لديهم اسرى في المدينة، ولو تنزلنا فان مكية السورة لا ينافي كون بعض آياتها مدنية وهي 18 اية من قوله تعالى {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} (الإنسان:5) الى الآية 22 {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} (الإنسان:22).

وقد دلت عدة روايات من الفريقين على ان السورة مدنية ومنها ما دل على خصوص الآيات المذكورة كرواية للمفيد في الاختصاص بسنده الى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وفيها قوله مخاطباً امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (هل عملت شيئا غير هذا فان الله قد انزل عليَّ سبع عشر اية يتلو بعضها بعضاً، من قوله (ان الابرار)الى قوله (وكان

ص: 188

سعيكم مشكوراً)(1).ولشهرة الخبر فقد نظمها الشعراء في قصائدهم، ومنها قول الوزير الصاحب بن عباد:

وسائلٍ هل أتى نص بحق علي قلت (هل أتى) نص بحق علي(2)

ونحن لا نريد بهذا الحديث الاكتفاء بالتذكير بهذه المنقبة لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واهل بيته في ذكرى نزول هذه السورة في 25:ذي الحجة وانما نريد ان نستلهم بعض الدروس والعبر.

1 كرامة الانسان في الإسلام والإحسان اليه حتى لو كان مشركا محاربا كأسير الحرب مع الدولة النبوية الكريمة فلم يتخذ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سجناً لاسراه وانما كان يوزّع الاسرى على المسلمين ليحافظوا عليهم ويحسنوا اليهم حتى يجعل الله تعالى لهم فرجاً وورد في ذلك قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (استوصوا بالأسرى خيراً)(3)، (وقد كان يؤتى الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالأسير فيدفعه الى بعض المسلمين فيقول:احسن اليه فيكون عنده اليومين والثلاثة فيؤثره على نفسه)(4) واذا لم يجد الأسير ما يحفظ كرامته عند مضيفه فتعطى حريته ويذهب لينال ما يريد، ويختار ومنها ما في هذه الحادثة لذا قصد هذا الأسير دار علي وفاطمة (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما بلغهُ من ايثارهما على انفسهما وتكريمهما السائل والمحتاج .

ص: 189


1- البرهان في تفسير القرآن: 10/ 79 ح 5 عن الاختصاص :150 .
2- هذا البيت يُنسب الى عبد الباقي الفاروقي العمري أنظر: (أدب الطّف جواد شبر:7/ 134
3- الأمثل: 14/ 524 عن الكامل لابن الاثير: 2/ 131.
4- روح المعاني للألوسي: 29/ 155 عن الحسن .

2 الأولوية والاهمية التي يحظى بها اطعام المحتاجين والمعوزين من بين اعمال البر الكثيرة، وقد اشير اليه في الآيات الكريمة والاحاديث الشريفة كثيرا، قال تعالى {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} (البلد:11 - 16) روي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (من اطعم ثلاث نفر من المسلمين اطعمه الله من ثلاث جنان في ملكوت السماوات) والحديث مطلق ولم يقيّد المدعوّين للطعام لكونهم فقراء أو محتاجين وهذا يعني أن الاطعام مستحب بغض النظر عن كون الاكلين ذوي حاجة لما فيه من تقوية أواصر المحبة والموّدة وانفتاح النفوس على بعضها وزوال ما بينها من شحناء وبغض.

وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(من اطعم مؤمنا حتى يشبعه لم يدري احد من خلق الله ماله من الاجر في الاخرة لا ملك مقرب ولا نبي مرسل الى الله رب العالمين)(1).

وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(من افضل الاعمال عند الله ابراد الكباد الحارة واشباع الكباد الجائعة)(2) وهو حديث مطلق يشمل كل ذي كبد حتى الحيوانات، وتعززه روايات أخرى ففي بعضها ان أمراءه فاسقة غفر لها لأنها سقت قطة عطشى ماءاً، تضمنت تتمة الحديث تهديد المقصر في ذلك قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (والذي نفس محمد بيده لا يؤمن بي عبد يبت شبعاناً واخوه او قال جاره المسلم الجائع) .

ص: 190


1- أصول الكافي: 2/ 200 – 302 باب اطعام المؤمن .
2- بحار الانوار: 74:369.

ولو ألتزمت البشرية بهذه التوصيات لما مات ملايين البشر جوعاً بينما تتلف دول الغرب المترفة الاف الاطنان من الأغذية للمحافظة على الأسعار ونحو ذلك.3 ويمكن ان يتوسع معنى الأسير ليشمل كل محتاج الى رعاية غيره واعالته مادياً، كالمروي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في المديون لغيره:(غريمك اسيرك فأحسن الى اسيرك) (1)ومنهم عيال الرجل وأسرته عن الامام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ينبغي للرجل ان يوسع على عياله لئلاّ يتمنوا موته وتلى هذه الآية {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} قال:الأسير عيال الرجل ينبغي له اذا زيد في النعمة ان يزيد اسراءه في السعة عليهم)، ثم قال (ان فلاناً انعم الله عليه بنعمة فمنعها اسرائه وجعلها عند فلان فذهب الله بها، قال الراوي:وكان فلان حاضرا)(2).

وروي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله:(اتقوا الله في النساء فأنهن عندكم أعوان)(3) آي اسراؤه، وهكذا تشمل التوصية بالأسرى خيراً كل من كان راعياً لغيره في مؤسسة أو دائرة او كيان ونحو ذلك.

ويتوسع المعنى الى الحاجة المعنوية أيضاً فيشمل من هو في حاجة اليه فكرياً وعقائدياً واجتماعياً وهذا المعنى قد ورد في اليتيم في الاحاديث الشريفة

ص: 191


1- روح المعاني للألوسي: 29/ 156
2- فروع الكافي: 4/ 11 كتاب الصدقة باب 7: كفاية العيال والتوسيع عليهم، ح3
3- الفرقان في تفسير القران: 29/236 عن تفسير الرازي :30/ 245

وقد تناولناها في كلمة سابقة(1).4 ان الاطعام حصل (على حبّه) أي رغم وجود الحب للطعام لا من جهة نهم الاكولين والميّل الشهوي والتلذذ به فهم ابعد ما يكونون عن ذلك وهم المخلصون لله تبارك وتعالى، بل لحاجتهم اليه بحسب ما وصفتهم الروايات في الحادثة كما ذكرناها، ولأنهم يريدون التقّوي به على الصوم وسائر طاعة الله تعالى. ولكنهم آثروا الثلاثة على أنفسهم وقدّموا ما يريده الله تعالى على ما تريده نفوسهم لانهم يرون انفسهم عبيداً خالصين لله تبارك وتعالى ولا يملكون لها خيارا ولا إرادة ولا فعلاً الا لله تعالى فاخلصوا العبودية لله تعالى مما اكسب فعلهم قيمة اكبر.

ويمكن ان يكون معنى حبّه:حسنه وافضليته وطيبه ليكون ادعى للقبول قال تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران:92) أي من أفضل ما عندكم واحسنه الذين تحبّونه لأنفسكم.

وقد ارجع بعضهم الضمير في حبه الى الله تبارك وتعالى وكأنه لم يستسغ ارجاعه الى الطعام لكنه تصرف بعيد بحسب السياق ولان هذا المعنى سيأتي في الآيات اللاحقة ولان الضمير لو كان عائدا الى الله تعالى لكان الأولى التعبير (في حبّه) ولعدم الغرابة في عودة الضمير الى الطعام بعد الذي ذكرناه، وقد روى البرقي في المحاسن بسند صحيح عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في هذه الآية قال

ص: 192


1- خطاب المرحلة: (250) ... هل تريد أن تكون مع الصديقة الزهراء (س) في درجتها؟، أنظر: خطاب المرحلة: 6/ 258.

الراوي (قلت:حب الله او حب الطعام؟ قال:حب الطعام) (1)، فهذا الايثار الذي صاحب فعلهم (صلوات الله عليهم أجمعين) هو المنشأ الأول لإعطائه هذه القيمة الكبرى بحيث تنزّل فيهم سورة مباركة تتلّى الى نهاية الدنيا، مع أنه فعل بسيط في نفسه لا يعدو إنفاق خمسة أرغفة من شعير وليس من حنطة.5 والمنشأ الثاني والاهم الذي اعطى فعلهم (صلوات الله عليهم اجمعين) القيمة العظمى ان اطعامهم كان خالصاً لله تعالى {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} (الإنسان:9) فهم لم يبتغوا شكر المعطى وثناءه ولا جزاء منه ولو كان العطاء مشروطاً بالجزاء لحرم كثيرُ من المحتاجين لعدم امتلاكهم الجزاء، ولو كان مشروطاً بالشكر للزم منه توهين المعطى واذلاله.

فلكي يكون الاطعام طيباً هنيئاً لابد ان يكون مجردا من طلب الجزاء او الشكر، كإطعام عليٌ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واهل بيته فقد كان اطعامهم خالصا لوجه الله لا يبتغون عليه جزاء بجلب ثواب او دفع عقاب حتى من الله تبارك وتعالى. لان عبادتهم عبادة احرار وليست فعل التجار الذين يعبدون الله طمعاً في جنته ولا العبيد الذين يعبدون الله خوفاً من ناره بحسب تقسيم امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لعبادة الناس، ومن كلماته المشهورة (إلهي ما عبدتك خوفاً من عقابك، ولا طمعاً في ثوابك، ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك)(2).

وقد حصر القصد بإرادة وجه الله تعالى خالصاً باستعمال أداة الحصر (انما) أما ما ورد في الآية التالية {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً}

ص: 193


1- المحاسن: 397 ح71
2- البحار:41/ 14.

(الإنسان:10) فهو لا ينافي قصد وجه الله تعالى لأنه خوف من آثاره ورشحاته وليس مستقلاً عنه حتى يدخل في عبادة العبيد، بل خوف البعد عنه تبارك وتعالى وعدم نيل رضاه وبلوغ كمال معرفته.6 لم يسبق قولهم {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً} (الإنسان:9) بكلمة (قالوا) وهذا يعني أنهم لم يقولوا هذا الكلام للثلاثة المطعمين وهذا الاستظهار يناسب مقامهم السامي وكون إطعامهم لوجه الله، أما التفوّه بهذه الكلمات أمام المطعمين فأنه لا يخلو من توهين وترفّع عنهم، فالظاهر ان هذا التعبير من الله تبارك وتعالى لبيان حالهم ومقامهم الذي علمه الله تعالى منهم والروايات تدل على ذلك، فقد روى الشيخ المفيد في الاختصاص (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(أما ان علياً لم يقل في موضع:إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً، ولكن الله تعالى علم من قلبه أن ما أطعم لله، فأخبره بما يعلم من قلبه من غير أن ينطق به)(1).

7 إن هذه القيمة الكبرى التي اكتسبها الاطعام بالإخلاص لله تعالى لا تختص به بل يمكن أن تكتسبها أي طاعة لله تعالى فالآية نموذج للتربية القرآنية للإنسان على ان يبادر الى فعل الخير ويسارع اليه لا لشيء إلا لأن فيه رضا الله تبارك وتعالى لا ينتظر جزاءاً ولا شكوراً من أي أحد ولا يثبطه ولا يشعره بالإحباط واليأس عدم حصوله على الثناء والشكر والإشادة بعمله بل ربما يتعرض

ص: 194


1- البرهان في تفسير القران: 10/ 79 ح 6 عن الاختصاص :151 ورواها الشيخ الصدوق في الامالي عن الامام الصادق عن ابيه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)

للإساءة من نفس الذين يحسن اليهم لؤماً منهم وهو يمضي في معروفه وإحسانه متأسياً بربّه الذي يغدق على عباده بالنعم وهم يعصونه ويتمردون عليه ويشركون به ويعبدون غيره (مني ما يليق بلؤمي منك ما يليق بكرمك)(1).8 وهذا السلوك القرآني والسير على منهجه ثابت في سيرة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) – وهم القرآن الناطق – فقد روت كتب التاريخ والمقاتل أن الحر الرياحي وكتيبته البالغة ألف فارس من جيش الأمويين لما خرجوا لاعتراض ركب الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الطريق بلغ بهم العطش والاعياء أقصاه فتلقاهم الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وسقاهم ثم سقى خيولهم بيده الشريفة، ولما حاصره القوم في كربلاء ومنعوه واصحابه حتى الرضع من الماء حتى قضوا عطشى لم يروِ أحد أن الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ذكرهم بموقفهم ذاك أو قال لهم اسقوني كما سقيتكم في الطريق، لأنه من أولئك الذين قال الله تعالى {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً}.

فسلام الله عليك يا أبا عبد الله يا رمز الإباء والسمو والإنسانية.

ص: 195


1- مفاتيح الجنان: 339, دعاء عرفة

القبس/173: سورة عبس:24

{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}

{فَلْيَنْظُرِ} دعوة من الله تعالى للنظر بتدبر وتأمل وتفكر وليس مجرد النظر بالعين، وإن كان هذا النظر فيه فائدة نفسية وصحية كما أثبت العلم الحديث خلال هذه الأيام.

وهذه الدعوة موجهة الى {الْإِنْسَانُ} كل انسان يمتلك مقومات الإنسانية بأن يكون له عينٌ يبصر بها وله اذن يسمع بها، وله عقلٌ يفهم به، وليس كالذين {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف:179).

والحياة كلها حولنا مليئة بالعبر والدروس، لكن الله تعالى اختار لنا الطعام لنتدبر فيه ونأخذ منه الموعظة لأنه ألصق الاشياء بالإنسان في هذه الدنيا وحاجته اليه يومية ومستمرة وبه ديمومة الحياة، فأخذ العبرة منه يكون سهلاً ومؤثراً.

وحينئذٍ يحصل الانسان من هذا النظر والتأمل على عدة دروس ويلتفت الى عدة امور:

الأول:في الأية احتجاج على منكري وجود الخالق فيُخاطب عقولهم ويقول لهم أنظروا الى هذه المفردة في حياتكم التي تشتركون جميعاً في التعاطي معها ،كيف وجدت وهُيئت لها الظروف المناسبة ولاحظوا تنوع النباتات وكلها ترجع

ص: 196

في أصلها الى عناصر واحدة وهي المعروفة كيميائياً وانما أختلفت في نسب تركيبها ،ولاحظوا تنوع استخداماتها فبعضها طعامٌ أساسي وبعضها فواكه للتمتع لكم وبعضها للإنعام وبعضها للدواء وبعضها للألبسة أو الفراش كالقطن والكتان ونحو ذلك ،وحينئذٍ لابد أن يحكم العقل بوجود خالق مدبر حكيم عالم قادر ولا يمكن ان تحصل كل هذه التفاصيل في هذا الطعام من دونه، ومن يقول ذلك –كالملحدين أو يجعل له شريكاً لا يمتلك هذه الصفات فإنّه لا يحترم عقله .الثاني:وفي الآية احتجاج على منكري المعاد ودليل على قدرة الله تعالى على بعث الأموات ونشرهم فكما أن الأرض الميتة إذا سقيت بالماء تنبعث فيها الحياة وتخرجُ منها انواع الشجر والثمار فكذلك يكون بعث الموتى من قبورهم ،ومثل هذه الاحتجاجات كثيرة في القرآن الكريم كقوله تعالى {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} (فاطر:9) {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ،ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الحج:56) ،وقال تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (فصلت:39).

الثالث:شكر الله تعالى والاعتراف بالعجز عن تعداد نعمه فضلاً عن شكرها ،فلو تأمل الانسان في الطعام وانواعه وكيفية وصوله اليه لأيقنَ بان نعم الله تعالى لا تُعّد ولا تحصى ،خُذ مثلاً رغيف الخبز الذي يشترك كل الناس في تناوله وهو الجزء الاساسي من الطعام وتأمل فيه النعم ابتداءاً من خلق الأرض وشقها حتى تستطيع

ص: 197

مص الماء واخراج النبات وتجهيزها بالعناصر الأساسية لتغذية النباتات وقابلياتها على الانبات ،ومن فلق الحبة وخلق البذرة التي هي أصل النبات ،وأنزل من السماء الماء الذي هو أصل كل شيء حي وفق منظومة عجيبة من تبخر الماء وتكاثفه ونزوله، وخلق الشمس والهواء الضرورية لنمو النبات وتغذيته ،ومن ثم تعليم الانسان الزراعة والعناية بالسنابل حتى تنضج ثم حصدها وتنقيتها ثم نقلها وطحنها وعجنها وخبزها فكم من الناس عملوا ،وكم من الاجهزة والآلات سُخرت لك حتى يصل اليك هذا الرغيف الذي لا يلتفت اليه أحد ولا ينظر الى ما وراءه من النعم ،لاحظ بقية الآية {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ،ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ،فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا، وَعِنَبًا وَقَضْبًا، وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا، وَحَدَائِقَ غُلْبًا، وَفَاكِهَةً وَأَبًّا، مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} (عبس:24 – 32).الرابع:أن ينظر الانسان في طعامه ليتأكد من كونه حلالاً طيباً، لأن الذين يأكلون الحرام {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (النساء:10)، ولكي يكون الطعام حلالاً لابد ان تنظر في عدة جهات:

- (منها) نفس الطعام كأن يكون اللحم مذكى وغير مخلوط بمادة محرمة او نجسة كبعض الحلويات المخلوطة بجيلاتين حيواني من دولة غير مسلمة أو الصمون الذي يُطلى بفرشاة مصنوعة من شعر الخنزير، أو يكون الطعام غير مأذون في تناوله من قبل صاحبه لسبب أو أخر.

- (ومنها) طريقة تحصيله وكسبه فلا يكون بمعاملة محرمة وما أكثرها في

ص: 198

السوق حتى ورد في الحديث الشريف عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (من أراد التجارة فليتفقه في دينه ليعلم بذلك ما يحلّ لهُ مما يحرم عليه ،ومن لم يتفقه في دينه ثم أتجرّ تورط في الشبهات) (1) .أو يسرق المال العام بطريقة غير شرعية، أو يأخذ حق غيره بحيلةٍ وخداع ونحو ذلك، فهذه الأمور كلها يجب الانتباه اليها حتى يضمن كون الطعام حلالاً طيباً ،ولكل شريحة في المجتمع كالأطباء والمحامين والتجار والصيادلة والعمال والمدرسين وغيرهم فقهٌ خاص بهم ،وقد نشرنا العشرات من الكراريس في هذا المجال.

الخامس:أن يلتفت الى الجانب المعنوي للأية فان الطعام يُضرب مثالاً للعلم والمعرفة لأن كلاً منهما غذاء ،فأحدهما للبدن والأخر للروح عن زيد الشحام عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) :(في قول الله عز وجل {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} قلتُ :ما طعامه قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):علمه الذي يأخذه عمن يأخذهُ) (2).

وكما ان حاجة البدن للطعام دائمة ومستمرة ،فأن حاجة الروح والقلب للعلم والمعرفة والموعظة والتذكير بالله تعالى دائمة ومستمرة قال تعالى {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه:114) ،وروي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (إذا اتى عليَّ يومٌ لا أزداد فيه علماً يُقربني الى الله فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم) (3) .

فلابد أن ينظر الانسان في أحكامه الشرعية ومواقفه في مختلف شؤون الحياة ومنهجه وسلوكه عمن يأخذها ،وهل إن ذلك الأخذ والرجوع بحجة شرعية

ص: 199


1- وسائل الشيعة : 12/ 283 أبواب أداب التجارة باب 1 ح 4.
2- الكافي :1/ 39 حديث 8.
3- ميزان الحكمة : 6/ 145 عن كنز العمال حديث 28687.

معتبرة أم لا ،فيلتفت الى كون مصادرها صالحة ليسعد الانسان روي عن الامام الجواد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (من أصغى الى ناطقٍ فقد عبدهُ ،فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق ينطق عن لسان ابليس فقد عبد ابليس)(1) وهذا هو حال أغلب الناس ينعقون مع كل ناعق ويميلون مع كل ريح بحسب اهوائهم وامزجتهم وانفعالاتهم فيصبحون لقمة سائغة لكل من يريد أن يعبّئهم لمشروعه الخاص. وتراهم يستسلمون للإشاعات والأكاذيب التي تروجها وسائل الاعلام وكأنها حقائق حتى أصبحت هذه الاشاعات من أفتك الاسلحة التي توجه الى الخصوم لتقضي عليهم من دون قتال وتم القضاء معنوياً على جيوشٍ وعلى شخصياتٍ بالإشاعة والافتراء والتسقيط كمكائد عمرو بن العاص ومعاوية(2) ضد جيش أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وتسقيط سعد بن عبادة وما حصل للإمام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مع جيشه وغيرها من الشواهد، وما تمر به البلاد من كارثة أمنية وإنسانية شاهد حي على ذلك.

ولو أخذ الناس بالتعاليم القرآنية وتحققوا عن مصادر الخبر لما وقعوا في الأوهام والشكوك قال تعالى {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء:83)، وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات:6).

ص: 200


1- تحف العقول :336.
2- أنظر: الطبقات الكبرى محمد بن سعد: 4/ 257,- موسوعة الإمام علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الكتاب والسنة والتاريخ الريشهري: 6/ 266

القبس/174: سورة الانفطار:6

{يَأَيُّهَا ٱلإِنسَنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلكَرِيمِ}

قال الله تبارك وتعالى:{يَأَيُّهَا ٱلإِنسَنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلكَرِيمِ} (الانفطار:6) وهو خطاب موجّه الى الانسان على شكل سؤال واستفهام لكنه ليس لطلب المعرفة لان الله تعالى محيط بكل شيء علما، وإنما هو استنكاري لتوبيخ وعتاب المخاطب وتعجب من عصيان الانسان لربّه الكريم وتنبيه العاصي لقبيح فعله، فظاهر السؤال عن العلة وسبب الاغترار وحقيقته عن النتيجة وما حصل بالاغترار أي محاسبته على ما صدر منه من معاصي فيسأله ما الذي غرّر بك ودفعك وسوَّل لك حتى عصيت ربك الكريم وتمرّدت عليه، وهذا فعلٌ مخالف للفطرة الإنسانية التي توجب مقابلة الإحسان بالإحسان، لذا يصفه أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بقوله (أحمق الحمق الاغترار)(1).

وقد ذكرت الآية عدة عناصر تجعل الحجة أبلغ والتوبيخ أعنف:

(أولها) توجيه الخطاب اليه بما انه انسان عاقل مدرك للمسؤولية ولقواعد التعامل وقد أنعم الله تعالى عليه بنعم لا تعد ولا تحصى وقد ذكرت الآيات التالية بعضاً منها {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} (الانفطار:7) الخ، وليذكّره بأنَّ انسانيته هي أعظم النعم {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون:14).

ص: 201


1- غرر الحكم: رقم 2915

(ثانيها) ويقول له:انك بمعصيتك تجاوزت على ربَّك الذي تّولى تربيتك ورعايتك وصناعتك ودبّر شؤونك كلها وانت لا تعلم.(ثالثها) وتعديّتَ على الكريم الذي أغدق عليك النعم من دون مقابل ولا توقع نفع منك فإنه تعالى غني عن العالمين، وقد كان من كرمه أنه حلم عنك ولم يعاجلك بالعقوبة وفتح لك باب التوبة والرجوع ولم يمنعه طول العكوف على المعصية من الاستمرار في إحسانه، ولم يقف كرمه عند العفو عن السيئات بل يبدلها إلى حسنات وغير ذلك من مظاهر الكرم.

والتغرير:الخداع والاستغفال والتجهيل بإراءة ظاهر محبوب تميل اليه النفس لكنه لا حقيقة له واخفاء الباطن والحقيقة حتى يسوقه الى الغرض الذي يريده على غفلة منه فإثارة السؤال فيه تنبيه من الغفلة والفات نظر الانسان إلى ما هو عليه من حالة الاغترار الذي ادى به لهذا التجاوز الكبير وتحذير من الوقوع فيه، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (سكر الغفلة والغرور أبعد إفاقة من سكر الخمور)(1).

والمستفاد من الآيات الكريمة والاحاديث الشريفة أن أسباب الاغترار الموجب للوقوع في المعصية عديدة منها:

1المظاهر الدنيوية الخداعة من مال وجاه ومناصب وانتماءات وعصبيات {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} (الأنعام:70) {وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} (آل عمران:185) اي الخداع والوهم، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (لا تغرنَّك العاجلة بزور الملاهي، فإن اللهو ينقطع ويلزمك ما

ص: 202


1- غرر الحكم: رقم 5651

اكتسبت من المآثم)(1).2تزيين إبليس وجنوده {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (لقمان:33) والغَرور صفة مشبّهة لكل من تأصّل فيه تغرير الآخرين لذا فُسِّر بالشيطان لانه كذلك {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} (النساء:120).

3أماني النفس واهواؤها وميلها الى اللذات واتباع الشهوات والعجب والاتكال على الذات {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (الحديد:14). من وصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لابن مسعود (لا تغترّنَ بصلاحك وعلمك وعملك وبّرك وعبادتك)(2) وروي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (جماع الشرّ في الاغترار بالمَهَل، والاتّكال على العمل) وقوله (غرور الأمل يفسد العمل) وقوله (كفى بالمرء غروراً أن يثق بكل ما تسوّل له نفسه)(3).

4مكر شياطين الانس وطواغيتهم ودّجاليهم والخداع والتضليل الذي يمارسونه والشبهات التي يلقونها {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} (آل عمران:24). روي عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (لا تغرّنك الناس من نفسك، فإن الأمر يصل اليك دونهم)(4) أي لا تغرّنك الناس من حولك ويوهمونك بأمور تسبب اغترارك، فإنك المسؤول عن افعالك وسوف يتخلّون عنك ولا ينفعونك

ص: 203


1- غرر الحكم: رقم 10363
2- مكارم الاخلاق: 2/ 350
3- غرر الحكم: رقم 4771، 6390، 7053
4- بحار الانوار: 72/ 323 ح 2.

بشيء وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لا يغرنّك بكاؤهم، فإن التقوى في القلب)(1).ومنشأ الوقوع في هذه الاسباب يرجع الى الجهل روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) انه لما تلا الآية عقّب مجيباً على السؤال:(جهله)(2)، هذا الجهل يشمل جهل الإنسان بربّه وحقوقه عليه ولزوم طاعته وعليه أن يْؤثر رضا ربّه على رضا نفسه أو أي أحد من المخلوقات، وان يتيقن انه بمحضر خالقه وتحت نظره سبحانه (عميت عين لا تراك عليها رقيبا)(3)، والجهل بمبدأ الانسان ومعاده ومآله، والجهل بحقيقة الدنيا الزائلة، والجهل بحقيقة الشيطان ومكره وخدعه وعداوته لبني آدم ونحو ذلك.

اما الانسان الصالح فانه كلما ازداد معرفة بربه الكريم يزداد طاعة ومحبة له تبارك وتعالى ويزداد خوفاً من عصيانه وغضبه سبحانه (سبحانك وبحمدك من ذا يعرف قدرك فلا يخافك، ومن ذا يعلم ما انت فلا يهابك)(4).

لذا قد يُنسب التغرير الى أسباب أخرى ليست هي بنفسها موجبة له، لكن الانسان لجهله وغفلته عن حقائق الأمور وعواقبها اغترَّ بها كحلم الله تعالى وعدم اخذه العاصين بالعقوبة عند صدور كل ذنب، واغداقه النعم على الكفار، وستره على قبائح العباد، وهذه كلها من الصفات الحسنى وكرم من الله تعالى ورحمة بالعباد لكن الانسان لجهله يسيء الاستفادة منها قال الله تبارك وتعالى {لاَ يَغُرَّنَّكَ

ص: 204


1- بحار الانوار: 70/ 283 ح 4.
2- الدر المنثور للسيوطي: 8/ 439.
3- مفاتيح الجنان، دعاء الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم عرفة.
4- مفاتيح الجنان، من دعاء الصباح عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} (آل عمران:196197) أي لا تجعل حلم الله تعالى بإمهال الكفار وعدم معالجتهم بالعقوبة سبباً للاغترار والغفلة عن الحساب والعقاب.وفي دعاء الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في ليالي شهر رمضان المعروف بدعاء ابي حمزة الثمالي (وَيَحْمِلُني وَيُجَرَّئُني عَلى مَعْصِيَتِكَ حِلْمُكَ عَنّي، وَيَدْعُوني اِلى قِلَّةِ الْحَياءِ سِتْرُكَ عَلَيَّ، وَيُسْرِعُني اِلَى التَّوَثُّبِ عَلى مَحارِمِكَ مَعْرِفَتي بِسِعَةِ رَحْمَتِكَ، وَعَظيمِ عَفْوِكَ)(1) وفيه أيضاً (اِلهي لَمْ اَعْصِكَ حينَ عَصَيْتُكَ وَاَنَا بِرُبُوبِيَّتِكَ جاحِدٌ، وَلا بِاَمْرِكَ مُسْتَخِفٌّ، وَلا لِعُقُوبَتِكَ مُتَعَرِّضٌّ، وَلا لِوَعيدِكَ مُتَهاوِنٌ، لكِنْ خَطيئَةٌ عَرَضَتْ وَسَوَّلَتْ لي نَفْسي، وَغَلَبَني هَوايَ، واَعانَني عَلَيْها شِقْوَتي، وَغَرَّني سِتْرُكَ الْمُرْخى عَلَيَّ).

اذن بهذا التقريب يمكن فهم معنى نسبة الاغترار الى حلم الله تعالى أو كرمه أو رحمته، وهذا دفع بعض المفسرين الى القول: (وانما قال الكريم دون سائر اسمائه وصفاته لانه كان لقنه الإجابة حتى يقول غرّني كرم الكريم)(2). وهذا التلقين بحد ذاته مظهر آخر للكرم الإلهي.

لكن السيد الطباطبائي (قدس سره) اعترض على هذا الفهم قائلاً: (ومن هنا يظهر ان لا محل لقول بعضهم:ان توصيف الرب بالكريم من قبيل تلقين الحجة وهو من الكرم ايضاً، كيف؟ والسياق سياق الوعيد، والكلام ينتهي الى مثل قوله {وَإِنَّ

ص: 205


1- مفاتيح الجنان للشيخ عباس القمي: 340، 335.
2- حكاه في مجمع البحرين: مج 2/ 263 مادة (غرر) عن الشيخ ابي علي وفي مادة (لقن) ايضاً وذكره آخرون.

الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ، يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ} (الانفطار:14 15)، ولو كفى الانسان العاصي قوله (غرني كرمك) لصرف العذاب عن الكافر المعاند كما يصرفه عن المؤمن العاصي، ولا عذر بعد البيان)(1).أقول:لا نجد وجهاً للاعتراض:

1 لان هذا المعنى وارد في كلام المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) كما تقدم.

2 واتضح مما تقدم ان الكرم والرحمة ونحوهما ليست هي السبب المباشر للاغترار الانسان حتى يعترض عليه، وانما السبب سوء استفادة الانسان منها وهي حالة موجودة حتى مع كرام الخلق كما في الرواية عن الإمام الحسن المجتبى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(انه وجد شاة له قد كُسرت رجلها، فقال لغلام له:من فعل هذا؟ قال الغلام:أنا، قال:لم فعلت ذلك، قال:لأجلب لك الهم والغم، فتبسم الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقال:لأسرُّك فاعتقه وأجزل له العطاء)(2). (ان علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) دعا مملوكه مرتين فلم يجبه فلما أجابه في الثالثة قال له:يا بني اما سمعت صوتي قال:بلى، قال فما بالك لم تجبني، قال:أمنتك، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):الحمدلله الذي جعل مملوكي يأمنّي)(3).

3 ان هذا الاعتراف لا يفيد العاصي بل يوجب استحقاقه للعقوبة المضاعفة، لانه قابل الكرم والحلم والعفو بالعصيان والتمرد واغّتر بالحسنة والنعمة فحوّلها الى سيئة ونقمة بدل شكرها وأداء حقها وأمن مكر الله تعالى، واذا نفعه

ص: 206


1- الميزان في تفسير القرآن: 20/ 248.
2- موسوعة المصطفى والعترة (صلى الله عليهم أجمعين) للشاكري: 5/ 90.
3- بحار الانوار: 46/ 56 ح 6 عن ارشاد المفيد ومناقب ابن شهراشوب إعلام الورى.

هذا الجواب فلما فيه من الاعتراف بسعة كرم الله تعالى حتى طمع في معصيته وهذا الاعتراف أمر يحصل في الآخرة ولا علاقة له بمعاصيه في الدنيا.4 ان الكافر لا يستطيع ان يقول هذا الكلام لانه لم يكن يعتقده ولا يعرفه، وليس كرم الله تعالى الذي غرّه بالمعصية وإنما غرّه هواه وتسويل الشيطان وزخارف الدنيا. كما صرحت الآيات الكثيرة التي اوردناها في أسباب الاغترار.

5 ان هذا التلقين لا يفهمه الا أهل المعرفة خصوصاً وان الآية لم تذكر بصراحة ووضوح:أيها الكافر او العاصي قل (غرّني كرمك) عندما تسأل:لماذا كفرت وعصيت، وانما اكتفت بوصف الرب بالكريم وفهم أهل المعرفة من ذكر هذا الاسم دون غيره انه إشارة الى هذا المعنى، فهذا التلقين للحجة لا يفهمه الا من يستحقه ومثل هذا لا يغريه كرم الله تعالى بالمعصية وانما بمزيد من الطاعات واجتناب المعاصي والاعتراف بالعجز والتقصير ((فاذا كان الفرد مستحقاً لفهمها كان مستحقاً لتطبيقها ويتحمل مسؤوليتها، اما السائرون في المعصية والموغلون في الرذيلة فلا يعرفونها ولا يفهمونها ابداً، وليس لهم التوفيق في الرجوع الى مصادر التفسير))(1).

اقول:ولو قرأوها في التفاسير أو سمعوها من أحد فانهم لا ينتفعون بها لأنهم سيذهلون عنها.

6ان هذا السؤال يقع يوم القيامة بحسب الظاهر حيث يكون باب العمل والتكليف مغلقاً، وليس في الدنيا حتى يكون سبباً للتغرير بالعاصي، فقول (غرني كرمك) يكون لاستدرار الرحمة والعفو وليس للتمادي في الذنوب.

ص: 207


1- منّة المّنان في الدفاع عن القرآن للسيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر: 4/ 379.

7 ان السيد الطباطبائي يعلم ان هذا المعنى يليق بكرم الله تعالى، وان الله تعالى عند حسن ظن عبده، وانه عز وجل أكرم من ذلك، فقد يجيز كذب العبد اذا ادعّاه تطبيقاً لقوله تعالى {وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ} (يس:57) ففي تفسير القمي بسنده عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبدالله الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (إن آخر عبد يؤمر به الى النار، فاذا أٌمر به التفت، فيقول الجبار جلّ جلاله:ردّوه فيردّونه فيقول:لم التفتَّ إليَّ؟ فيقول:يا ربِّ لم يكن ظني بك هذا، فيقول:وما كان ظنّك بي؟ فيقول:يا ربِّ كان ظني بك ان تغفر لي خطيئتي وتسكنني جنتّك، قال:فيقول الجبار:يا ملائكتي، وعزّتي وجلالي وآلائي وعلّوي وارتفاع مكاني، ما ظنّ بي عبدي هذا ساعة من خير قطّ ولو ظن بي ساعة من خير ما روّعته بالنار، أجيزوا له كذبه فأدخلوه الجنة)(1).

8 اننا إنما نذكر هذه المعاني والروايات لنزداد معرفة بالله تعالى فنزداد حباً له تعالى وطاعة له سبحانه وتعلقاً به ونزداد فخراً واعتزازاً بأن ربنا ومولانا هو هذا الرب الكريم وليس مثل الكفار والمشركين والملحدين واللادينين الذين لهم آلهة وهمية مزيفة (إلهي كفى بي عزاً أن أكون لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي ربا)(2)

وقد استقرب السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) إفادة الآية لتلقين الحجة، واحتمل وجهاً لاعتراض السيد الطباطبائي على هذا المعنى قال فيه: ((ولعل الذي

ص: 208


1- بحار الانوار 7/ 87 عن ثواب الاعمال، وحكاه في هامش منّة المّنان: 4/ 382 عن تفسير القمي: 2/ 262265
2- بحار الأنوار المجلسي: 91/ 94

حدى بالسيد الطباطبائي الى نفي هذا المعنى لكي لا يكون كلام المشهور سبباً للذنوب، فجزاه الله خيرا، فقد سدَّ الباب وبيّن ان هذه الآية لا تعطي ذلك اطلاقاً حتى ان الناس اذا قرأوا القرآن او قرأوا التفاسير لا يكونون مطمئنين لذنوبهم، والا لو لا هذا العنوان الثانوي في الحقيقة – وهو انسداد باب الذنوب – فإن الآية تعطي ذلك حقاً (غرني كرمك) ولذا اوصي المبلغين وقادة المجتمع ان لا يركزوا على الروايات الباعثة على الاطمئنان والشفاعة وغفران الذنوب، لان الناس ليسوا على مستوى التطميع برحمة الله، فينفتح باب الذنوب ويستغل الشيطان هذه الثغرة للمرور إلى نفوس الناس وإغوائهم، وتكون ذممكم مشغولة من هذه الناحية، واذكر اني كنت ذات يوم في مجلس تعزية فصاح أحدهم (من صلّى عليَّ مرة لم تبقَ من ذنوبه مرة)(1) فهذا القول قد يكون صدر من النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) غير أنه صدر للمستحق لا لمن لا يستحق، اما ان يعلن في مجلس عام فهو مصيبة من المصائب، لانها اذا وصلت الى غير المستحقين يتذرعون بها لاقتراف الذنوب واقتحام المعاصي، وحينها اعترضت على صاحب المجلس (رحمه الله)- وكان من فضلاء الحوزة – ان لا يسمح بمثل ذلك)).أقول:هذه المخاوف في محلها إذ ان هذا الفهم قد اسيء استخدامه لدى العامة فعلاً فتراهم يوغلون في المعاصي والمنكرات ولما تنهى أحدهم يقول (الله كريم) وهذا جهلٌ فظيع بعلاقة العبد بربّه، وكأنهم لم يسمعوا الآيات الكثيرة كقوله تعالى {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم:7) وقوله تعالى {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ

ص: 209


1- بحار الانوار: 91/ 63، مستدرك الوسائل: 5/ 234 أبواب الذكر، الباب 31 ح 13.

الْعَذَابُ الأَلِيمَ} (الحجر:4950) وفي دعاء الافتتاح في ليالي شهر رمضان (وأيقنت أنك أنت أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة، وأشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة) فلابد من وضع هذه الإشارات الكريمة في سياقها الإيجابي الذي ذكرناه في النقطة (8) وليس سياقها السلبي، وهذا المعنى للآية إنما يُذكر شاهداً على سعة كرم الله تعالى ليزداد المؤمن محبة وتعلقاً بربه وليس فيه دفع للمعاصي والعياذ بالله بل إن فيه تأكيداً للحجة البالغة على العاصين.قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عند تلاوته هذه الآية (أَدْحَضُ مَسْئُولٍ حُجَّةً وَأَقْطَعُ مُغْتَرٍّ مَعْذِرَةً لَقَدْ أَبْرَحَ جَهَالَةً بِنَفْسِهِ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا جَرَّأَكَ عَلَى ذَنْبِكَ وَمَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ وَمَا أَنَّسَكَ بِهَلَكَةِ نَفْسِكَ أَمَا مِنْ دَائِكَ بُلُولٌ أَمْ لَيْسَ مِنْ نَوْمَتِكَ يَقَظَةٌ أَمَا تَرْحَمُ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَرْحَمُ مِنْ غَيْرِكَ فَلَرُبَّمَا تَرَى الضَّاحِيَ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ فَتُظِلُّهُ أَوْ تَرَى الْمُبْتَلَى بِأَلَمٍ يُمِضُّ جَسَدَهُ فَتَبْكِي رَحْمَةً لَهُ فَمَا صَبَّرَكَ عَلَى دَائِكَ وَجَلَّدَكَ عَلَى مُصَابِكَ وَعَزَّاكَ عَنِ الْبُكَاءِ عَلَى نَفْسِكَ وَهِيَ أَعَزُّ الْأَنْفُسِ عَلَيْكَ وَكَيْفَ لَا يُوقِظُكَ خَوْفُ بَيَاتِ نِقْمَةٍ وَقَدْ تَوَرَّطْتَ بِمَعَاصِيهِ مَدَارِجَ سَطَوَاتِهِ فَتَدَاوَ مِنْ دَاءِ الْفَتْرَةِ فِي قَلْبِكَ بِعَزِيمَةٍ وَمِنْ كَرَى الْغَفْلَةِ فِي نَاظِرِكَ بِيَقَظَةٍ وَكُنْ لِلَّهِ مُطِيعاً وَبِذِكْرِهِ آنِساً وَتَمَثَّلْ فِي حَالِ تَوَلِّيكَ عَنْهُ إِقْبَالَهُ عَلَيْكَ يَدْعُوكَ إِلَى عَفْوِهِ وَيَتَغَمَّدُكَ بِفَضْلِهِ وَأَنْتَ مُتَوَلٍّ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ فَتَعَالَى مِنْ قَوِيٍّ مَا أَكْرَمَهُ وَتَوَاضَعْتَ مِنْ ضَعِيفٍ مَا أَجْرَأَكَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَأَنْتَ فِي كَنَفِ سِتْرِهِ مُقِيمٌ وَفِي سَعَةِ فَضْلِهِ مُتَقَلِّبٌ فَلَمْ يَمْنَعْكَ فَضْلَهُ وَلَمْ يَهْتِكْ عَنْكَ سِتْرَهُ بَلْ لَمْ تَخْلُ مِنْ لُطْفِهِ مَطْرَفَ عَيْنٍ فِي نِعْمَةٍ يُحْدِثُهَا لَكَ أَوْ سَيِّئَةٍ يَسْتُرُهَا عَلَيْكَ أَوْ بَلِيَّةٍ يَصْرِفُهَا عَنْكَ فَمَا ظَنُّكَ بِهِ لَوْ أَطَعْتَهُ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ كَانَتْ فِي مُتَّفِقَيْنِ فِي الْقُوَّةِ مُتَوَازِيَيْنِ فِي الْقُدْرَةِ لَكُنْتَ أَوَّلَ

ص: 210

حَاكِمٍ عَلَى نَفْسِكَ بِذَمِيمِ الْأَخْلَاقِ وَمَسَاوِئِ الْأَعْمَالِ وَحَقّاً أَقُولُ مَا الدُّنْيَا غَرَّتْكَ وَلَكِنْ بِهَا اغْتَرَرْتَ وَلَقَدْ كَاشَفَتْكَ الْعِظَاتِ وَآذَنَتْكَ عَلَى سَوَاءٍ وَلَهِيَ بِمَا تَعِدُكَ مِنْ نُزُولِ الْبَلَاءِ بِجِسْمِكَ وَالنَّقْصِ فِي قُوَّتِكَ أَصْدَقُ وَأَوْفَى مِنْ أَنْ تَكْذِبَكَ أَوْ تَغُرَّكَ وَلَرُبَّ نَاصِحٍ لَهَا عِنْدَكَ مُتَّهَمٌ وَصَادِقٍ مِنْ خَبَرِهَا مُكَذَّبٌ وَلَئِنْ تَعَرَّفْتَهَا فِي الدِّيَارِ الْخَاوِيَةِ وَالرُّبُوعِ الْخَالِيَةِ لَتَجِدَنَّهَا مِنْ حُسْنِ تَذْكِيرِكَ وَبَلَاغِ مَوْعِظَتِكَ بِمَحَلَّةِ الشَّفِيقِ عَلَيْكَ وَالشَّحِيحِ بِكَ وَلَنِعْمَ دَارُ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِهَا دَاراً وَمَحَلُّ مَنْ لَمْ يُوَطِّنْهَا مَحَلًّا وَإِنَّ السُّعَدَاءَ بِالدُّنْيَا غَداً هُمُ الْهَارِبُونَ مِنْهَا الْيَوْمَ إِذَا رَجَفَتِ الرَّاجِفَةُ وَحَقَّتْ بِجَلَائِلِهَا الْقِيَامَةُ وَلَحِقَ بِكُلِّ مَنْسَكٍ أَهْلُهُ وَبِكُلِّ مَعْبُودٍ عَبَدَتُهُ وَبِكُلِّ مُطَاعٍ أَهْلُ طَاعَتِهِ فَلَمْ يُجْزَ فِي عَدْلِهِ وَقِسْطِهِ يَوْمَئِذٍ خَرْقُ بَصَرٍ فِي الْهَوَاءِ وَلَا هَمْسُ قَدَمٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا بِحَقِّهِ فَكَمْ حُجَّةٍ يَوْمَ ذَاكَ دَاحِضَةٌ وَعَلَائِقِ عُذْرٍ مُنْقَطِعَةٌ)(1).علماً بأن المؤمن الذي يتأسى بربّه وُصِفَ في بعض الأحاديث الشريفة بانه لكرمه يغري الآخر بالتجاوز عليه(المؤمن غرّ كريم)(2) لانه لا يظن الشر والسوء ولا يحتمله في الآخر ويتغافل عنه كرماً منه وإحساناً في أخلاقه لا جهلاً ولا لقلة فطنته ويظن الآخر أنه قد خدعه كالذي يروى عن أحد أسرى بدر حينما توسل لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يفك أسره ويبقيه للصبية والعيال فعفا عنه رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولما عاد الى مكة قال لقريش قال لهم:(خدعت كريماً فانخدع (3)،ثم أُسِر في المعركة التالية وأعاد نفس الطلب لكن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يمنحه فرصة أخرى

ص: 211


1- نهج البلاغة خطبة 223.
2- امالي الطوسي ج 2 ص 77.
3- البداية والنهاية ابن كثير: 5/ 447, ط. هجر

وعاقبه بما يستحقه.وبعيداً عن هذا المعنى وإشكالاته فإنه يمكن أن يكون إيراد لفظ الكريم لبيان أن الله تعالى لا يريد من سؤاله هذا نفعاً أو فائدة لأنه كريم لا يريد بعطائه جزاءً ولا شكورا ولا تضرّه معاصي العاصين كما لا تنفعه طاعة المطيعين وإنما يراد هداية العباد وصلاحهم قال تعالى {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (النمل:40).

ويمكن أن نفهم الآية على نحو آخر بحيث لا يكون المخاطب فيها الانسان العاصي، بل المطيع الطامع بمراتب الكمال، فيُسأل ما الذي اغراك وطمّعك حتى صرت تطلب هذه المنازل السامية، فيقول:أطمعني كرمك يا ربّي لانني اراك تعطي الكثير بالقليل وتبتدى بالنعم من لا يستحق وتعطي من سألك ومن لم يسألك ومن لم يعرفك، فالتعجب في الآية قد يكون من انحطاط الانسان وتسافله وقد يكون من رقيّه وتساميه اذا نظرنا الى الآية بمعزل عن السياق الدال على الأول.

ونذكر الآن رواية عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تتضمن مثالاً للمغّتر بما تمنيه نفسه ويملي عليه جهله، ومثالاً لاغترار الناس بنماذج ظاهرها التدين والعمل الصالح الا انها في الحقيقة على العكس من ذلك، فقد روي عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال (قوله عز وجل: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ}، قال (يقول ارشدنا الى الصراط المستقيم ارشدنا للزوم الطريق المؤدي الى محبتك، والمبلّغ الى دينك والمانع من ان نتّبع اهواءنا فنعطب او نأخذ بآرائنا فنهلك) ثم قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فان من اتبع هواه وأعجب برأيه كان كرجل سمعت غثاء العامة تعظمه وتصفه فأحببت لقاءه من حيث لا يعرفني، فرأيته قد أحدق به خلق كثير من غثاء العامة، فما زال يراوغهم

ص: 212

حتى فارقهم ولم يقر، فتبعته فلم يلبث أن مر بخباز فتغفله فأخذ من دكانه رغيفين مسارقة فتعجبت منه، ثم قلت في نفسي:لعله معاملة، ثم مر بعده بصاحب رمان فما زال به حتى تغفله وأخذ من عنده رمانتين مسارقه فتعجبت منه، ثم قلت في نفسي:لعله معاملة، ثم أقول:وما حاجته إذاً إلى المسارقة؟! ثم لم أزل أتبعه حتى مر بمريض فوضع الرغيفين والرمانتين بين يديه - ثم ذكر أنه سأله عن فعله - فقال له:لعلك جعفر بن محمد؟ قلت:بلى، فقال لي:فما ينفعك شرف أصلك مع جهلك؟! فقلت:وما الذي جهلت منه؟ قال:قول الله عزّ وجلّ {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} (الأنعام:160)، وإني لما سرقت الرغيفين كانت سيئتين، ولما سرقت الرمانتين كانت سيئتين، فهذه أربع سيئات، فلما تصدقت بكل واحدة منها كان لي أربعين حسنة، فانتقص من أربعين حسنة أربع سيئات وبقى لي ست وثلاثون حسنة، فقلت له:ثكلتك امك، أنت الجاهل بكتاب الله، أما سمعت الله عزّ وجلّ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة:27) إنك لما سرقت رغيفين كانت سيئتين، ولما سرقت رمانتين كانت أيضا سيئتين، ولما دفعتهما إلى غير صاحبهما بغير أمر صاحبهما كنت إنما أضفت أربع سيئات إلى أربع سيئات، ولم تضف أربعين حسنة إلى أربع سيئات فجعل يلاحظني فانصرفت وتركته، قال الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):بمثل هذا التأويل القبيح المستكره يضلون ويضلون)(1).

ص: 213


1- وسائل الشيعة: 9/ 467 كتاب الزكاة ، أبواب الصدقة باب 46، ح 6.

القبس/175: سورة المطففين:26

{وَفِي ذَلِكَ فَليَتَنَافَسِ ٱلمُتَنَفِسُونَ}

جاءت الآية بعد سلسلة من الآيات التي تصف العاقبة الحسنة للأبرار {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ، يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ} (المطففين:2225). ففي مثل هذا النعيم يجب أن يكون التنافس على السبق والتحصيل، وقد دّلت لام الامر على الطلب والدعوة.

ولعل في تقديم (وفي ذلك) بدل تأخيرها كما هو مقتضى القاعدة نكتة إفادةَ الحصر أي ان التنافس لا يكون الا في مثل هذا النعيم، وإن هذا وحده يستحق التنافس دون غيره مهما كان ذلك الغير عظيماً في نظر الناس كالمال أو الجاه أو السلطة ونحو ذلك، وهو معنى يقتضيه لفظ التنافس، الذي هو بذل الجهد وإتعاب النفس وسبق الغير لتحصيل النفيس من دون إضرار بذلك الغير ولا كيد له ولا حرمان منه. ولا نفيس الا في ما يرضي الله تبارك وتعالى والفوز في الآخرة اما ما سواها فهي لذة ومتعة آنية فانية ولا قيمة لما في الدنيا الا بمقدار ما يقدّم للآخرة، فتكون الآية بمعنى قوله تعالى {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ} (الحديد:21) وقوله {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ} (البقرة:148) وقوله {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} (الأنبياء:90).

ص: 214

وعليه فما يرد في الكلام المتداول من تقسيم التنافس إلى شريف وغير شريف هو تعبير غير دقيق لان التنافس لا يكون الا شريفاً، أما التنافس غير الشريف لكون أغراضه كذلك أو ان وسائله كذلك فانه ليس تنافساً أصلاً لأنه ليس مسابقة على أمر نفيس بل على أمر وضيع فيخرج من موضوع التنافس، ولعل هذا التقسيم مبني على فهم التنافس بمعنى التغالب بشكل عام فيشمل القسمين، قال السيد الطباطبائي (قدس سره) (التنافس:التغالب على الشيء) وقال الشهيد السيد الصدر الثاني (قدس سره) (التنافس:التغالب على هدف معين، كل واحد منهم يجب أن يكون أسرع من صاحبه في الوصول إليه))(1).أقول:تضمين التنافس معنى التغالب مأخوذ من تداول استعمال اللفظ بهذا المعنى وشهرته والا فأنه لا يقتضي ذلك كما قدمّنا ولعلهم أخذوا المعنى من كون المرتكز في ذهن المشهور أن صيغة (تفاعل) تدل على الفعل المتبادل بين أثنين أو أكثر وهو غير لازم لورود الصيغة في معنى الثلاثي نحو (تعالى الله) أي علا وقد يستعمل للوقوع التدريجي نحو (تقاطر المطر) أو للدلالة على خلاف الواقع نحو (تظاهر وتمارض) وغير ذلك.

فالتنافس لا يعني المغالبة بل ما ذكرنا من المسارعة والاستباق لتحصيل الامر النفيس من نعيم الآخرة وهو لا حدود له ولا نفاد ولا اختصاص لاحد دون آخر {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} (ص:54) أما المغالبة فأنما تحصل في الأمور الدنيوية لمحدودية موجوداتها فيحرص كل واحد أن يغلب الآخر للحصول عليه دونه، والآخرة ليست كذلك فلا تحتاج إلى المغالبة، قال في مجمع

ص: 215


1- الميزان في تفسير القرآن: 20/ 263، منة المنّان: 4/ 271.

البيان ("التنافس":تمنّى كل واحد من النفسين مثل الشيء النفيس الذي للنفس الأخرى أن يكون له)(1).ولذا فان التنافس الحقيقي لبلوغ نعيم الآخرة يرتقي ويسمو بجميع المتنافسين إلى اعلى الدرجات،اما التنافس على أمور الدنيا كالسلطة او المال او الأرض وفي غير ذلك، فانه يجعل المتنافسين في صراع قد يحرق الأخضر واليابس كما هو المشاهد عبر التاريخ.

ومما تقدم تلخّص لدينا عدة وجوه لحصر الآية استحقاق التنافس في أمر الآخرة فقط، وهي تظهر الفوارق بين التنافس الدنيوي والآخروي:

1 لان نعيم الآخرة دائم وحقيقي {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} بينما لذات الدنيا ومغانمها فانية زائلة ومحدودة.

2 ان التنافس على نعيم الآخرة يؤدي إلى إعمار الحياة بالخير والعدل والإحسان والرحمة بينما التنافس على الدنيا يدع الأرض بلاقع ويهلك الحرث والنسل.

3 ان المتنافسين على الآخرة يسمون بتنافسهم ويزدّادون مودة ومحبة بينما يمتلئ المتنافسون على الدنيا ضغينة وحقداً وحسداً.

4 ان المتنافسين على الدنيا يبقون في دائرة ضيقة هابطة لان همهم إرضاء انانّياتهم واشباع نزواتهم وتلبية شهواتهم بينما يتسع أفق المتنافسين على الآخرة وترنو ابصارهم الى ما وراء هذا الكون العظيم.

ص: 216


1- مجمع البيان الطبرسي: 10/ 295

والاتيان بهذا المشهد من جنة الابرار ونعيمهم في سورة المطففين ثم التعقيب بالآية محل البحث يلفت النظر ويفتح الذهن على هذه المقارنة لإدراك ما يستحق المنافسة فالمطففون لا يتورعون ولا يخافون سوء الحساب فيظلمون الناس ويأكلون أموالهم بالباطل ويمضون حياتهم في التكالب على هذه الدنيا الدنية ومتاعها الرخيص ويتباهون بما يحصلون عليه منها ويزيد بذلك الاوزار والتبعات على ظهره فتذكر السورة مصيرهم {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} (المطففين:1) إلى ان يقول سبحانه {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} (المطففين:7) {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} (المطففين:16) إلى آخر الآيات.والدعوة في الآية الكريمة عامة لكل الناس ولا يضّر بعمومها إنها موجّهة للمتنافسين فان هذا ليس من باب التخصيص لان كل الناس داخلون في عنوان المتنافسين بعد ملاحظة ما هو مغروس في فطرة الانسان من حب التنافس والحرص على تحصيل النفيس لكنها توجّه هذه النزعة الإنسانية نحو حب الخير والازدياد منه فوجّهت تنافسهم إلى الهدف الصحيح الذي ربما كانوا غافلين عنه حتى المتدينون منهم ومن هنا يظهر أحد وجوه أهمية الدين في حياة الانسان بتوجيه تنافسه نحو الخير والعدل والإحسان {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} (النحل:90) بينما الماديون يتوجه تنافسهم على المصالح الدنيوية فتحصل الحروب والمنازعات وما يتبعها من دمار وخراب فلينتبه المنادون بإقصاء الدين عن الحياة إلى الكارثة التي يريدون جر المجتمع اليها.

واروع ما في هذه المنافسة أن فاعل الخير والحسن يُعطى أجره وإن لم يقصد بعمله نيل ما عند الله تعالى، ففي كتاب الكافي:ان من وصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)

ص: 217

لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (يا علي من ترك الخمر لغير الله سقاه الله من الرحيق المختوم، فقال علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):لغير الله؟ قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):نعم والله صيانة لنفسه يشكره الله على ذلك)(1).والآية تدعو الى التنافس و المسابقة والمسارعة الى فعل الخير والطاعة مطلقاً سواء كان على نحو الواجب او المستحب، وقد استعمل فيها لفظ (في) وليس على ولعله لبيان ان التنافس والتسابق الى الخير هو بنفسه خير، وهذا واضح لان في الاحاديث:ان من نوى حسنةً او همَّ بها ولم يفعلها كتبت له حسنة(2) .

واثار السيد الشهيد الصدر الثانيقدس سره سؤالاً هنا يناسب ذوقه العرفاني قال فيه ((ان السياق السابق للآيات هو وصف ثواب الابرار، وهو ليس هدفاً حقيقياً، وإنما حال المقرّبين هو الهدف الحقيقي(3) فلماذا امر بالتنافس على حال الابرار؟)) ثم ذكر عدة وجوه في الجواب قال منها:

1 انه هدف في الجملة جيد جداً لمن يكون دون ذلك.

2 انه هو الهدف الغالبي؛ لأن الأعمّ ألأغلب من الناس هم دون ذلك لا محالة، فالمنظور هو الغالبية.

ص: 218


1- الكافي: 6/ 430.
2- عن ابن عباس عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى انه قال: (ان الله كتب الحسنات والسيئات ثم بيَّن ذلك، فمن همَّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وان همَّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى اضعاف كثيرة، وان هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وان هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة) رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما بهذه الحروف.
3- كما في الترتيب الذي ورد في سورة الواقعة.

3 ان التنافس يصحّ فقط على هذا الهدف، واما هدف المقربين فلا يصح فيه التنافس، لأنه مما لا يتحمله الناس ولا يقيمونه، فلا ينبغي ان يؤمروا بالتسبيب اليه.

4 ان التنافس انما يكون في هذا الهدف فقط، اما هدف المقربين فلا يمكن التنافس فيه، لأنه انما هو عطاء محض من قبل الله سبحانه، وليس بيد العبد التسبيب إليه، كما قال في الدعاء:(بخدمةٍ توصلني إليك)(1) وقال:(يامن دلّ على ذاته بذاته)(2).

5 ان التنافس انما يمكن في هذا الهدف فقط دون هدف المقرّبين؛ لأن المقرّبين في حالة فناءٍ، فلا يصلحون للتنافس، وانما التنافس يكون في عالم الأسباب والنظر الاستقلالي إلى الأشياء، وهو مناسب مع نظر الابرار لا مع نظر المقرّبين. والا فهذا التنافس هو عين الشرك بالنسبة إلى المقرّبين، ومن هنا لزم ان يكون هذا خطاباً للمستويات التي تناسبه، والتي يكون هذا التنافس نافعاً لها ومنتجاً لنتائجه الحسنة فيها.)(3)

أقول:بغضّ النظر عن المناقشة في بعض تعبيراته (قدس سره) فان هذا السؤال واجوبته تناسب ذقوه ومستواه العرفاني (قدس سره)، ويمكن ان نضيف أجوبة أخرى:

1 ان السؤال لا موضوع له اصلاً لانه مبني على التقسيم المصطلح لدى اهل الفن من تقسيم المقامات كالموجود في سورة الواقعة إلى المقرّبين

ص: 219


1- مفاتيح الجنان: 340, دعاء عرفة
2- مفاتيح الجنان: 93, دعاء الصباح
3- منة المنان: 4/ 271.

وأصحاب اليمين، والا فلا مانع من دخول المقرّبين في عنوان الابرار وقد دلّت عليه الروايات الشريفة فقد روى القمي في تفسيره بسنده عن جعفر بن محمد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في المراد من الابرار قوله (وهم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والائمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)(1)، وهم سادة المقرّبين والخلق جميعاً. ويمكن ان يستظهر ذلك من صريح الآيتين التاليتين {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ، عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} (المطففين:2728) لكن التدقيق فيهما يؤيد التقسيم الذي ذكره السيد الشهيد لأن الآية تشير إلى ان المقربين يشربون من عين تسنيم صافياً اما الابرار فيخرج شرابهم منها.

2 ان الآية تراعي المرحلية والتدريج فان المتنافسين اذا بلغوا مرتبة الابرار لم يقفوا عندها لطموحهم المستمر إلى التكامل فيتنافسون للوصول إلى مقام المقربين فتكون نظير قوله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن:16) للوصول إلى مقام آية {اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (آل عمران:102) ولو طلب منهم مقام الثانية رأساً لعجزوا ويأسوا.

ويوجد هنا اشكال نقله السيد الطباطبائي (قدس سره) قال فيه: ((واستشكل في الآية بأن فيها دخول العاطف على العاطف اذ التقدير:فليتنافس في ذلك الخ))(2).

أقول:وبيانه:ان حق العبارة ان يؤخرّ الظرف (في ذلك) فتصبح الجملة وفليتنافس المتنافسون في ذلك فجيئ بعاطفين متتالين وهم الواو والفاء وهو مخلّ

ص: 220


1- البرهان في تفسير القرآن: 10/ 123 عن تفسير القمي: 2/ 410.
2- الميزان في تفسير القرآن: 20 /264.

بالبلاغة ومستهجن وحكى السيد قدس سره جواباً وأضاف جواباً ثانياً وكلاهما بعيدان ومبنيان على تقديرات غير عرفية لا نحتاج إلى بيان تفاصيلهما.والجواب الصحيح ان الاشكال لا موضوع له لانه مبني على افتراض وتقدير وليس على واقع الجملة للفصل بين العاطفين بالظرف وقد علمنا في بداية الكلام وجه تقديم الظرف بل ان هذه الصياغة ابلغ التعابير فلو حذف أحد العاطفين او حصل تقديم وتأخير فانها سوف لا تؤدي الغرض المطلوب.

وخير مثال على المتنافسين في هذا النعيم والمسارعين عليه أصحاب الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأهل بيته حيث وصفهم الامام بذلك، فقد روى بعض ارباب المقاتل والتواريخ انهم تنافسوا فيمن يسبق إلى الموت اولاً ويبرز لمقاتلة الأعداء فقال بنو هاشم نحن اولاً لأننا أولى بالتضحية في سبيل رسالة جدنا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقال الاصحاب لا يمكن ان تُقتلوا ونحن ننظر إليكم فما عذرنا غداً يوم القيامة من جدّكم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وحينئذٍ اذن الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) للأصحاب اولاً حتى استشهدوا جميعاً ثم لحقهم آل الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ووقف الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على أجسادهم الطاهرة يناديهم باسمائهم يؤبنّهم ويثني على موقعهم ويستنصرهم اذ بقي وحيداً بعدهم وينسب إليه قوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)

قوم اذا نودوا لدفع ملمة *** والخيل بين مدعس و مكردس

لبسوا القلوب على الدروع واقبلوا *** يتهافتون على ذهاب الانفس(1)

أي يتسابقون إلى الموت ويتنافسون على الفوز بالشهادة بين يدي الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

ص: 221


1- مقتل ابي مخنف : 133، ناسخ التواريخ : 2/ 377، معالي السبطين: 2/ 19.

القبس/176: سورة الشمس:12

اشارة

{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا1وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا}

موضوع القبس: وجه تشبيه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والائمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بالشمس

قسم من الله تبارك وتعالى بالشمس وفي حديث عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (ان لله عز وجل ان يقسم من خلقه بما يشاء وليس لخلقه ان يقسموا الا به)(1) وفي القَسّم بالشمس إلفات نظر الناس الى عظمة خلقتها وجميل منافعها بحيث ان حياة الانسان والحيوان والنبات قائمة بها كما هو واضح، لكن الانسان يغفل عن النعم التي يألفها وتتكرر عليه.

وفي شروق الشمس وغروبها وحركتها وحركة الكواكب والاقمار آيات ومعاجز لذوي العقول والبصائر، روى الشيخ الصدوق بسنده عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير قوله تعالى {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} (الإسراء:72) قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من لم يدلّه خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ودوران الفلك والشمس والقمر والآيات العجيبات على ان وراء ذلك امراً اعظم منه فهو في الاخرة

ص: 222


1- الكافي: 7/ 449

اعمى واضل سبيلاً).(1)والقمر يتلو الشمس أي يتبعها سواء في حركته او في اضائته اذ انه لا يؤثر الا بعد ان تغيب الشمس وهو يستقي نوره منها، لذا ورد التعبير عن الشمس بالضياء والقمر بالنور {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} (يونس:5)، وقيل في وجه ذلك: إن الضوء ما كان ذاتياً وبالاصالة، اما النور فيشمل ما ينعكس عن غيره، والقمر يعكس نور الشمس.

وما نريد ان نعرضه في هذا القبس التفسير المعنوي للشمس والقمر فقد روى علي بن إبراهيم في تفسيره، والكليني في روضة الكافي باسنادهما عن ابي بصير عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (سألته عن قول الله عز وجل والشمس وضحاها، قال: الشمس رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أوضح الله به للناس دينهم قلت: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} قال ذلك أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قلت: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} قال: ذلك أئمة الجور الذين استبدوا للامر دون آل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وجلسوا مجلسا كان آل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أولى به منهم، فغشوا دين رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالظلم والجور وهو قوله: والليل إذا يغشاها، قال: يغشى ظلمهم ضوء النهار، قلت: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} قال: ذلك الامام من ذرية فاطمة (س) يسئل عن دين رسول

ص: 223


1- التوحيد: 455 باب 67 النهي عن الجدال والمراء في الله عز وجل،ح6

الله فيجلى لمن يسأله، فحكى الله قوله: والنهار إذا جلاها) (1).وروى مجاهد عن ابن عباس قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مثلي فيكم مثل الشمس، ومثل علي مثل القمر، فاذا غابت الشمس فاهتدوا بالقمر).(2)

وهو واضح لان ما عند امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) اخذه من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، قال: (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) علمني الف باب من الحلال والحرام مما كان الى يوم القيامة كل باب منها يفتح الف باب فذلك الف الف باب حتى علمت علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب).(3) وهو خليفة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ويتلوه في امامة الامة وقيادتها وهدايتها.

فاذا قيس امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فهو قمر يتلو الشمس، واذا نُظِر اليه بلحاظ المخلوقين فهو شمس يستضيئون بنوره قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الا وان لكل مأموم امام يقتدي به ويستضيئ بنور علمه)(4).

وهكذا الائمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من اهل البيت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فهم أقمار يتلقون معارفهم من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهم شموس للبشرية جميعاً، لذا ورد وصفهم(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالنجوم في الروايات والنجوم شموس بعيدة عنّا فنراها صغيرة، ورد في تفسير قوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ

ص: 224


1- روضة الكافي: 8/ 50، ح12 ، تفسير القمي: 2/ 424، البرهان في تفسير القران: 10:170/ ح1، نور الثقلين: 5/ 352،ح3
2- البرهان في تفسير القران: 10/ 170/ح4 عن تأويل الايات: 2/ 806/ح5
3- الخصال: 481
4- نهج البلاغة

لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا} (الأنعام:97)، عن علي بن إبراهيم ان (النجوم: آل محمد)(1). ووردت عدة روايات بهذا المعنى في تفسير(2) قوله تعالى {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (النحل:16) منها عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) النجم، والعلامات هم الائمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بهم يهتدون)(3).

وقد وصفت الروايات الامام المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وغيبته بالشمس اذا جلّلها السحاب، ففي اكمال الدين للصدوق بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إنّه ذكر الإمام القائم في حديث وقال (ذاك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلاّ من امتحن الله قلبه بالإيمان، قال جابر: فقلتُ له: يا رسول الله فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته؟ فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): أي والذي بعثني بالنبوة إنّهم يستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن تجلّلها سحاب).(4).

وفي الأمالي للصدوق بسنده عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (لم تخلو الأرض منذ خلق الله تعالى آدم من حجة لله فيها ظاهرٌ مشهور أو غائب مستور ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجة لله فيها ولولاهُ لم

ص: 225


1- تفسير القمي: 1/ 211
2- (راجع: القبس/78, {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (النحل:16), من نور القرآن: 3/ 5
3- الكافي: 1/ 160/ح1 وتجد مجموعة الروايات في البرهان:5/ 328
4- كمال الدين: 1/ 241 باب: نص الله تعالى على القائم، ح3.

يُعبد الله، فقلتُ للصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): فكيف ينتفع الناس بالحجة الغائب المستور؟ قال: كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب). (1)وفي الاحتجاج ورد توقيع من الناحية المقدسة على يد السفير محمد بن عثمان وفيه (وأما الانتفاع بي في غيبتي فكالإنتفاع بالشمس إذا غيّبها عن الأبصار السحاب وإني لأمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء فاغلقوا أبواب السؤال عمّا لا يعنيكم). (2)

أقول: في هذه الروايات تشبيهان، أحدهما تشبيهُ الإمام بالشمس، والآخر تشبيه غيبته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالشمس إذا غطّاها السحاب، ونريد الآن أن نبيّن وجوهاً لفهم تشبيه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والمعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من اهل بيته بالشمس وهم أئمة الخلق وقادتهم وسادتهم مما يوفّق الله تعالى له، ونؤجل وجوه التشبيه الثاني الى الملحق.

ولتشبيه الامام بمعناه العام الشامل للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والائمة من آله بالشمس عدة وجوه:

1إنّ الشمس أصل الحياة وبدونها تنعدم الموجودات وهي الواسطة لإفاضة الحياة على الموجودات، وهكذا الإمام علة الوجود وواسطة الفيض الإلهي على جميع الموجودات وهم علة الوجود ولأجلهم خلق، ولولاه ساخت الأرض بأهلها كما في الحديث الشريف وفي دعاء العديلة (ببقائه بقيت الدنيا وبيمينه رُزق الورى، وبوجوده ثبتت

ص: 226


1- نقلتهما بواسطة بحار الأنوار: 52/ 92
2- نقلتهما بواسطة بحار الأنوار: 52/ 93

الارض والسماء)(1).2ولأن الشمس أصل الحياة فقد وُجدت قبل أي شيء آخر، وكذلك نور محمد وآل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين) وجدوا قبل الخلق، روى الشيخ الصدوق عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (الحجّة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق)(2).

3إن الشمس مصدر النور وهي التي تنير الأشياء وتجعلها منظورة بالعين ويمكن التعرّف عليها ولولا هذا النور لما أمكن التعرّف على الشيء، وكذلك الإمام هو مصدر المعارف الإلهية والعلوم ولولا تأصيلات الأئمة الأطهار (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما أمكن الاهتداء إلى شيء منها، وما يؤخذ عن غيرهم فهو زخرف من القول.

4ان نفع الشمس عام لا تمنعه عن شيء من الموجودات، وهم (صلوات الله عليهم اجمعين) كالشمس في عموم نفعهم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107) وإنما لا ينتفع بهم من أراد لنفسه أن يكون أعمى لا يستفيد من نور الشمس، في الخصال من حديث الأربعمائة عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (أشدّ العمى من عمي عن فضلنا وناصبنا العداوة بلا ذنب سبق إليه منا إلاّ أنّا دعونا إلى الحق ودعاهُ من سوانا إلى الفتنة والدنيا فأتاهما ونصب البراءة منّا والعداوة لنا) (3).

ص: 227


1- مفاتيح الجنان: 128
2- كمال الدين: 1/ 16.
3- الخصال: 474.

وروى الشيخ الصدوق في كتاب التوحيد بسند صحيح عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قوله تعالى {وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} (الإسراء:72)، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من لم يدلّه خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار ودوران الفلك والشمس والقمر، والآيات العجيبات على أنّ وراء ذلك أمر أعظم منه فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلاً). (1)5إن الشمس من المطهرات –كما هو الصحيح فهي تطهّر من النجاسة المادية، فكذلك ولاية الإمام المعصوم وحبّه واتباعه من المطهّرات المعنوية فبها تقبل الأعمال وتكفّر الذنوب وفي ذلك أحاديث كثيرة، لأنها من أعظم الحسنات والقربات إلى الله تعالى، والآية الشريفة تقول {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (هود:114).

6ان أي شيء يقترب من الشمس يصلى بحرارتها ويحترق تدريجيا حتى يفنى في نورها، وكذلك من يتقرب من اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بطاعتهم وحبّهم والسير على هديهم يفنى فيهم وتذوب انانيته ونفسه الامارة بالسوء {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} (إبراهيم:36) وفي الحديث النبوي الشريف (سلمان مّنا اهل البيت) (2) .

7كما أنّ الناس متفاوتون في الاستفادة من نور الشمس فبعضهم

ص: 228


1- التوحيد: 455 باب 67 النهي عن الجدال والمراء في الله عز وجل، ح6.
2- رواه الحاكم في المستدرك (3/ 598) ، والطبراني (6/ 261) .

يمنعها من الدخول إلى داره فيغلق الأستار والنوافذ ولا يستفيد من ضوء الشمس، وبعضهم يفتح منافذ بسيطة للإنارة والآخر يملأ داره بالفتحات والآخر يستفيد منها في الزراعة وآخر لتوليد الطاقة الشمسية، فكذلك نور الهداية المتصلة بالمعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) التي تركوها لنا من خلال أحاديثهم الشريفة، تتفاوت الناس في الاستفادة منها والعمل بها، فربّما أغلق البعض نوافذ قلبه وعقله لمنع نور الهداية من دخولهما، بينما فتح آخر كلّ حواسه ومنافذه الظاهرية والباطنية لتلقي هذه العلوم والمعارف والكمالات اللاّمحدودة بإذن الله تعالى.

ص: 229

ملحق: في وجه تشبيه غيبة الإمام بالشمس إذا جلّلها السحاب

ويمكن أن نفهم له عدة وجوه:

1كما ان احتجاب الشمس بالسحاب لا يؤثر على حقيقة وجودها ولا يصح لعاقل أن يستدل على عدم وجودها لعدم ظهورها للعين بسبب تغطية السحاب لها، فكذلك لا يمكن إنكار وجود الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لمجرّد عدم ظهوره للناس فهو (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) موجود وتوجد معه آثاره المباركة وألطافه الكريمة ورعايته الحانية.

2إنّ جملة من منافع الشمس لا تتوقف على ظهورها المباشر وبتعبير آخر أن فائدة الشمس لا تقتصر على التعرض لأشعتها المباشرة حتى يُقال بعدم الانتفاع منها إذا حجب السحاب أشعتها، فاحتجابها بالسحاب لا يمنع من الانتفاع بها وتبقى تؤدي دورها في حفظ نظام الحياة واستقرار المجموعة الشمسية وحركة الافلاك، وكذلك الانتفاع بوجود الإمام وفيوضاته المباركة لا تتوقف على ظهوره المباشر وإن حرم الناس من بعض تلك الانتفاعات بسبب غيبته، ومنها ما تقدم في الرواية الشريفة من كونه اماناً لأهل الارض ورد في رسالته الشريفة (إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، لولا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء). (1)

3إن احتجاب الشمس بالغيوم إنما هو لمن كان على الأرض فلو خرج من جو الأرض كالذي يحصل لركاب الطائرة عندما ترتفع فوق الغيوم فإنهم سيرون

ص: 230


1- الاحتجاج: رسالة الناحية المقدسة إلى الشيخ المفيد (قدس سره).

السماء صافية والشمس ظاهرة، فكذلك الإمام فإنه غير مشخّص لذوي الدرجات الاعتيادية والمتدنّية، أما الأنقياء المخلصون ومن حلّقوا في سماء الكمالات المعنوية فإنّ الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يظهر لهم ويرونه ويعرفونه ويتعاملون معه، وما على المؤمن إلاّ أن يسمو ويرتقي ويخرج من الحجب الأرضية لتكتحل عينه بالنظر إلى الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).4إن تغطية السحاب للشمس فيه رحمة بالناس وفيها مصلحة لهم أما من جهة نفس الغيوم لكونها تحمل أمطاراً تحيي الأرض الميتة، أو لعجز الناس عن تحمّل الأشعة المباشرة للشمس فتضر أبصارهم وتصيب رؤوسهم بضربة الشمس وربما اضطروا إلى السكون في منازلهم والقعود عن أعمالهم حذراً من أشعة الشمس، وكذلك غيبة الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فيها مصلحة للناس، من عدة جهات كالتفاتهم إلى ذنوبهم التي أوجبت حرمانهم من الاتصال المباشر بالإمام أو لأنّ إيمانهم ليس قوياً يحتمل القيادة المباشرة والنظر المباشر للإمام، كالذين لم يتحملوا قيادة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ففشلوا وخسروا الدنيا والآخرة، فعدم الابتلاء بالقيادة المباشرة رحمة بالناس لئلاّ تزيغ بصائرهم كتضرّر بصر من ينظر إلى الشمس مباشرة ويفشلوا في الامتحان نظير نصيحة الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لبعض من تخاذلوا(1) عن نصرته بأن يبتعدوا لئلاّ يسمعوا صرخة الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فتصيبهم الكارثة، فمثل هؤلاء يكون من الرحمة بهم تربيتهم بعيداً عن القيادة المباشرة للمعصوم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقبولهم على ما هم عليه.

5إن احتجاب الشمس بالسحاب أمر نسبي أي لبعض الناس إذ يمكن أن

ص: 231


1- أنظر: الأمالي الشيخ الصدوق: 199/ح7

تكون الشمس في نفس الوقت ظاهرة لبعض في بلد آخر لا يحجبهم السحاب، كما يقال في النشرة الجوية غائم جزئي فكذلك غيبة الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) نسبية لبعض الخلق دون بعض فهو ظاهر لبعض الخلق (وما في ثلاثين من وحشة)(1).6إن احتجاب نور الشمس لا لسبب منها أي لا لقصور في المقتضي كما يقال وانما لوجود المانع وهو السحاب فمتى ما زال السحاب اشرقت الشمس على الموجودات، وكذلك الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لم يحتجب لسبب منه فان اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ابواب رحمة الله وكرمه وفضله، وهو تبارك وتعالى لا بخل في ساحته (بابك مفتوح للراغبين وخيرك مبذول للطالبين وفضلك مباح للسائلين ونيلك متاح للآملين ورزقك مبسوط لمن عصاك وحلمك معترض لمن ناواك)(2).

وسبب احتجابه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يعود الى الخلق أنفسهم (الا ان تحجبهم الذنوب دونك).

(كما أن الشمس المحجوبة بالسحاب مع انتفاع الناس بها ينتظرون في كل آن انكشاف السحاب عنها وظهورها ليكون انتفاعهم بها أكثر فكذلك في أيام غيبته ينتظر المخلصون من شيعته خروجه وظهوره في كل وقت وزمان ولا ييأسون منه). (3)

ص: 232


1- الكافي الشيخ الكليني: 1/ 340/ح16
2- مفاتيح الجنان : 168 من ادعية شهر رجب
3- بحار الأنوار: 52/ 93.

القبس/177: سورة الضُحى9

اشارة

{فَأَمَّا ٱليَتِيمَ فَلَا تَقهَر}

موضوع القبس:كافل اليتيم المادي والمعنوي مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)

اليتم يعني الانقطاع والانفراد فاليتيم في الانسان انقطاع الطفل الذي لم يبلغ عن أبيه حيث (لا يتم بعد احتلام)(1)، أما في الحيوانات فهو الانقطاع عن الأم والجامع بينهما هو الانقطاع عن الكافل والرازق والمدبِّر والمدير، وبلحاظ معنى التفرّد والانقطاع يكون معنى اللفظ واسعاً فيشمل كل متفرد منقطع النظير فيقال جوهرة يتيمة أي انقطعت مادتها التي أخرجت منها فلا يوجد مماثل لها وقصيدة يتيمة أي لا نظير لها وهكذا.

وبهذا المعنى فسرَّت بعض الروايات يُتُم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقد روى العياشي في تفسيره عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عند تفسير قوله تعالى لنبيه محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} (الضحى:6) قال (فرداً لا مثل لك في المخلوقين فآوى الناس اليك)(2) وروى الشيخ الصدوق مثله عن ابن عباس(3) وقال علي بن إبراهيم في تفسيره (اليتيم الذي لا مثل له ولذا

ص: 233


1- وسائل الشيعة: 1/ 45 أبواب مقدمات العبادات، باب 4 ح 9
2- تفسير نور الثقلين: 5/ 358 سورة الضحى ح 13
3- معاني الاخبار: 52 ح 4

سميت الدرة اليتيمة لأنه لا مثل لها)(1)، واذا صح صدور الحديث عن الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فلا كلام وإن كان فهماً من بعض الرواة فهو خلاف الظاهر خصوصاً بمقابلته مع تفريع آية {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} (الضحى:9) عليها ويمكن قبول هذا المعنى اذا نُظر إلى الآية مستقلة عن الآية الأخرى. واليتم حاله تثير الشفقة والتعاطف بشكل عاصف وتثير كوامن الإنسانية وهي محل لاختبار كرم الاخلاق من لؤمها وفي ذلك نسب إلى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):

ما إن تأوهت من شيء رزئت به *** كما تأوهت للأطفال في الصغر(2)

قد مات والدهم من كان يكفلهم *** في النائبات وفي الاسفار والحضر

ونجد في القرآن الكريم التأكيدات المتكررة على الإحسان إلى الأيتام ورعايتهم مثل قوله تعالى {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ} (البقرة:177) وقوله تعالى {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى} (البقرة:215) وقوله تعالى {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} (النساء:36) ويصل التأكيد إلى ذروته عندما قرنها الله تعالى بتوحيده وبأفضل العبادات في قوله تعالى {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} (البقرة:83).

وحذرت الآيات الكريمة من عقوبة من تمتد يده إلى أموال اليتامى بغير حق مستغلاً ضعفهم وقلة حيلتهم وعدم معرفتهم بالأمور كقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ

ص: 234


1- تفسير نور الثقلين : 5/ 358 ح 17
2- بحار الأنوار المجلسي: 33/ 47

يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (النساء:10) وجعل تبارك وتعالى عدم اكرام اليتيم من علامات ضعف الايمان قال تعالى {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} (الفجر:17) بل من علامات عدم الايمان بالآخرة قال تعالى {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} (الماعون:12) لأنه لو كان يؤمن بالآخرة حقاً لسعى إليها سعيها.فالآية الكريمة محل البحث موجهة الى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومنه إلى البشر كافة بأن يهتم باليتيم وايوائه والاعتناء به ولا يتسبب في إيلامه وإزعاجه وإذلاله وتسليط من لا يرحمه عليه، قال تعالى له ذلك بعد ان ذكّره في الآيات السابقة بنعمة الله تعالى عليه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) اذ كان يتيماً فآواه وكفله وأعزّه ونصره {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} (الضحى:6) فأنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقد أباه وهو حمل في بطن أمه فكفله جده عبدالمطلب سيد البطحاء ثم توفيت أمه وهو في الشهر السادس من عمره، وتوفي جده وهو في الثامنة من عمره فكفله عمه أبو طالب ونصره وحماه من أذى قريش وغيرهم.

ولا شك في ان أكثر من يقدّر معاناة اليتيم وآلامه وانكساره وآثاره النفسية والاجتماعية هو من ذاق اليتم ومن هنا ارتبطت الآية بفاء التفريع والتسبيب {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} أي اجعل تذكرك لحالة اليتم التي عشتها سبباً لإكرام اليتيم والإحسان اليه وعدم اشعاره بالنقص الذي تسبّب بفقدان كافله ومعيله ومربّيه.

وقد أوصل (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هذا التوجيه إلى الأمة بكل وضوح وبأبلغ التعابير واعلى الاثمان فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (من عال يتيماً حتى يستغنى عنه أوجب الله عزوجل له بذلك

ص: 235

الجنة كما أوجب الله لآكل مال اليتيم النار)(1) وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (إن في الجنة داراً يقال لها:دار الفرح، لا يدخلها الا من فرّح يتامى المؤمنين)(2) وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(إن اليتيم اذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن، فيقول الله لملائكته يا ملائكتي من ابكى هذا اليتيم الذي غُيِّب أبوه في التراب، فتقول الملائكة:أنت أعلم، فيقول الله تعالى:يا ملائكتي فإني أشهدكم ان لمن أسكته وأرضاه أن أرضيه يوم القيامة)(3). ويصل تكريم كافل اليتيم إلى ذروته بقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(من كفل يتيماً وكفل نفقته كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وقرن بين إصبعيه المسبّحة والوسطى)(4)وفي رواية أخرى قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): ((أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة إذا اتقى الله عز وجل)) وأشار بالوسطى والتي تليها)(5)، والحديث مشهور، وإن كان ينقل من دون جزئه الأخير الذي هو شرط قبول الأعمال، قال تعالى{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة:27) لكنه هنا شرط لكون كافل اليتيم في درجة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وليس شرطاً لإعطاء الجزاء، لأن أعمال البر والإحسان يثاب عليها الإنسان ولو لم يقصد بها وجه الله تعالى.

وقد أكدت الآية الكريمة على الجانب المعنوي في رعاية الأيتام {فَلَا تَقْهَرْ} أي لا تذلّ ولا تهن ولا تستضعف اليتيم لأن حاجة اليتيم اليه أشدّ إذ قد يكون

ص: 236


1- بحار الأنوار: 75/4 ح 8
2- كنز العمال: 6008
3- مجمع البيان: 10 /214
4- بحار الأنوار: 3/ 75 عن قرب الإسناد بسند مقبول
5- تفسير نور الثقلين: 597/ 5

مكتفياً مادياً لأن أباه ترك له مالاً يعيش منه لكن الجانب المعنوي تبقى الحاجة إليه وقد حثت عليه الأحاديث الشريفة حتى بأبسط صورة كالمروي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (من مسح على رأس يتيم كان له بكل شعرة تمر على يده نور يوم القيامة)(1) .وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ما من مؤمن ولا مؤمنة يضع يده على رأس يتيم ترحماً الا كتب الله له بكل شعرة مرّت يده عليها حسنة)(2).

وتذكر الروايات ان ذلك يعود بالفيض المعنوي على الماسح نفسه فقد قال (رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لرجل يشكو قسوة في قلبه: أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم وأمسح رأسه واطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك)(3).

إن كفالة الأيتام والإحسان اليهم ليس فقط عملاً شخصياً يتقرب به الانسان إلى الله تعالى وينال به الدرجات المذكورة وانما هي مسؤولية اجتماعية لأن استمرار شعور اليتيم بالنقص والحرمان وانه ادون من الآخرين وعدم معالجة هذه الحالة عنده تجعله عنصراً مأزوماً محتقناً ويتحيّن الفرص للانتقام من المجتمع الذي لم يعوضه عن هذا النقص ويتحول الايتام إلى قنابل موقوته في المجتمع ما لم يتم دمجهم كافراد طبيعيين صالحين فيه، وهذا يعطي رساله إطمئنان لكل الناس بأن حقوقهم وحقوق أبنائهم مكفولة بأحسن صورة حتى لو خلفوا ايتاماً،

ص: 237


1- تفسير مجمع البيان: 10 / 214
2- بحار النوار: 75/ 4 ح 9
3- ميزان الحكمة: 9/ 614

وورد هذا المعنى في حديث عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (حُرِّم أكل مال اليتيم ظلماً لعلل كثيرة من وجوه الفساد) إلى أن قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فاذا أكل ماله فكأنه قد قتله وصيّره إلى الفقر والفاقة، مع ما في ذلك من طلب اليتيم بثأره اذا أدرك، ووقوع الشحناء والعداوة والبغضاء حتى يتفانوا)(1)ولابد من الالتفات الى المعنى الواسع لآكل مال اليتيم فان عدم دفع الحقوق الشرعية الى مستحقيها من مصاديق هذا العنوان ففي رواية صحيحة عن أبي بصير قال (قلت لأبي جعفر - الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) - ما أيسر ما يدخل به العبد النار؟ قال:من أكل من مال اليتيم درهماً، ونحن اليتيم)(2).

وان ما يأكله السياسيون الفاسدون من أموال الشعب بغير حق هو أكل لمال اليتيم بالباطل لأن المسؤول في موقع الأبّوة والكفالة والرعاية للشعب انطلاقاً من الحديث النبوي الشريف (يا علي أنا وأنت أبوا هذه الأمة)(3) فالشعب منقطع عن ثرواته ومصالحه وامكانياته المتنوعة التي اودعها الله تعالى في أرضه واستأمن المسؤولين في السلطة عليها فاذا مدّ المسؤول يده اليها ولم يحسن وضعها في محلها فأنه أكل أموال هؤلاء الأيتام المنقطعين.

ان كل ما تقدم يلزمنا بإيجاد المؤسسات الخيرية والثقافية والتربوية والتعليمية التي تعنى برعاية الأيتام وكفالتهم وحسن تربيتهم وتعليمهم وتثقيفهم حتى يكونوا افراداً صالحين في المجتمع بل ربما من قادته، وقد أورد الفقهاء مسائل شرعية

ص: 238


1- علل الشرائع: 480 ح 1
2- وسائل الشيعة: 9/ 483 أبواب ما يجب فيه الخمس، باب 1 ح 1
3- بحار الأنوار: ج 36 / ص 11

مفصّلة لحفظ أموال الأيتام وادارتها بما فيه مصلحة الصغير ووضعت شروطاً لمن يتولى القيمومة على الصغار والتصرف بأموالهم. وعلينا ان نتذكر أن أكمل الخلق وأشرفهم وهو نبينا محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان يتيماً، وان فاطمة الزهراء (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سيدة نساء العالمين فقدت أمها وهي في الخامسة من عمرها وعاشت وحيدة مع أبيها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وان من أكمل سيدات النساء عبر التاريخ وهي الصديقة مريم كانت يتيمة توفى أبوها وهي حمل في بطن أمها لكن الله تعالى هيأ لها كفيلاً من انبيائه العظام {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} (آل عمران:37) فحسن كفالة الايتام تصنع منهم عناصر مثمرة مباركة في المجتمع.

وكان لأئمة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) سلوك متميز مع الايتام فقد روى الشيخ الكليني في الكافي انه (جاء إلى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عسل وتين من همدان وحلوان فأمر العرفاء أن يأتوا باليتامى، فأمكنهم من رؤوس الازقاق يلعقونها وهو يقسمها للناس قدحا، قدحا، فقيل له:يا أمير المؤمنين ما لهم يلعقونها؟ فقال:إن الإمام أبو اليتامى وإنما ألعقهم هذا برعاية الآباء)(1) وبهذا أوصى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بقوله (كن لليتيم كالأب الرحيم)(2) (ونظر علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى امرأة على كتفها قربة ماء، فأخذ منها القربة فحملها إلى موضعها، وسألها عن حالها فقالت:بعث علي بن أبي طالب صاحبي إلى بعض الثغور فقتل، وترك علي صبيانا يتامى، وليس عندي شيء، فقد ألجأتني الضرورة إلى خدمة الناس، فانصرف وبات ليلته قلقا، فلما أصبح حمل زنبيلا فيه طعام، فقال بعضهم:أعطني أحمله عنك، فقال:من يحمل

ص: 239


1- الكافي: 1/ 406، بحار الأنوار: 41/ 123 ح 3
2- بحار الأنوار: 77/ 171 ح 7

وزري عني يوم القيامة؟ فأتى وقرع الباب، فقالت:من هذا؟ قال:أنا ذلك العبد الذي حمل معك القربة، فافتحي فإن معي شيئا للصبيان، فقالت:رضي الله عنك وحكم بيني وبين علي بن أبي طالب، فدخل وقال:إني أحببت اكتساب الثواب، فاختاري بين أن تعجنين وتخبزين وبين أن تعللين الصبيان لاخبز أنا، فقالت:أنا بالخبز أبصر وعليه أقدر، ولكن شأنك والصبيان، فعللهم حتى أفرغ من الخبز، قال:فعمدت إلى الدقيق فعجنته، وعمد علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى اللحم فطبخه، وجعل يلقم الصبيان من اللحم والتمر وغيره، فكلما ناول الصبيان من ذلك شيئا قال له:يا بني اجعل علي بن أبي طالب في حل مما أمر في أمرك، فلما اختمر العجين قالت:يا عبدالله اسجر التنور فبادر لسجره فلما أشعله ولفح في وجهه جعل يقول:ذق يا علي هذا جزاء من ضيع الارامل واليتامى، فرأته امرأة تعرفه فقالت:ويحك هذا أمير المؤمنين، قال:فبادرت المرأة وهي تقول:واحيائي منك يا أمير المؤمنين، فقال:بل واحيائي منك يا أمة الله فيما قصرت في أمرك)(1).

كفالة الأيتام المعنويين:

ويوجد أيتام من نوع آخر هم أكثر عدداً يكاد يمثلون أغلب الناس، وكفالتهم لا تحتاج إلى المال، بل إلى الجهد والهمة والإخلاص، وكافلهم

ص: 240


1- بحار الأنوار: 41/ 52 ح 3 عن مناقب ابن شهرآشوب: 2/ 114

يكون أقرب إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من الأول، تعرّفهم لنا جملة من الأحاديث الشريفة(1) وتبين منزلتهم (الكافلين) عند النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأهل بيته المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) عن الإمام أبي محمد الحسن العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال:أشد من يُتم اليتيم الذي انقطع عن أبيه يتم يتيم انقطع عن إمامه ولا يقدر على الوصول إليه ولا يدري كيف حكمه فيما يبتلى به من شرائع دينه ألا فمن كان من شيعتنا عالماً بعلومنا وهذا الجاهل بشريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا يتيم في حجره ألا فمن هداه وأرشده وعلمه شريعتنا كان معنا في الرفيق الأعلى)(2).وعن أبي محمد العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (قال الحسن بن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):فضل كافل يتيم آل محمد المنقطع عن مواليه الناشب في رتبة الجهل يخرجه من جهله، ويوضح له ما اشتبه عليه، على فضل كافل يتيم يطعمه ويسقيه كفضل الشمس على السها. (3)

وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال الحسين بن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من كفل لنا يتيماً قطعته عنا محبتنا(4) باستتارنا فواساه من علومنا التي سقطت إليه حتى أرشده وهداه، قال الله

ص: 241


1- هذه المجموعة من الأحاديث أثبتها العلامة المجلسي (قده) في بحار الأنوار: 2/ 26 في الباب 8 من كتاب العقل والعلم والجهل، أبواب العقل والجهل، عن التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وكتاب الاحتجاج للطبرسي.
2- الأحاديث من بحار الأنوار الباب المذكور على التسلسل: 1، 4، 5، 9، 10، 11.
3- السها في لغة العرب کوکب صغير خفي الضوء، والناس يمتحنون به أبصارهم لصغره وخفائه.
4- أي كان سبب انقطاعه عنا رغبتنا في الاستتار رعاية الحكمة إلهية عظمى. وفي نسخة (محنتنا) وهو أظهر.

عز وجل:يا أيها العبد الكريم المواسي أنا أولى بالكرم منك، اجعلوا له يا ملائكتي في الجنان بعدد كل حرف علّمه ألف ألف قصر، وضموا إليها ما يليق بها من سائر النعم). وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):فقيه واحد ينقذ يتيماً من أيتامنا المنقطعين عنا وعن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه أشد على ابليس من ألف عابد؛ لأن العابد همّه ذات نفسه فقط، وهذا همّه مع ذات نفسه ذات عباد الله وإمائه لينقذهم من يد إبليس ومردته، فذلك هو أفضل عند الله من ألف ألف عابد، وألف ألف عابدة).

وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال علي بن موسى الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):يقال للعابد يوم القيامة:نعم الرجل كنت همتك ذات نفسك وكفيت الناس مؤونتك فادخل الجنة، ألا إن الفقيه من أفاض على الناس خيره، وأنقذهم من أعدائهم، ووفّر عليهم نعم جنان الله وحصل لهم رضوان الله تعالى. ويقال للفقيه:يا أيها الكافل لأيتام آل محمد الهادي لضعفاء محبيهم ومواليهم قف حتى تشفع لمن أخذ عنك، أو تعلَّم منك فيقف فيدخل الجنة معه فئاماً وفئاماً(1) حتى قال عشرة).

وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال محمد بن علي الجواد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):من تكفل بأيتام آل محمد المنقطعين عن إمامهم المتحيرين في جهلهم، الأُسراء في أيدي شياطينهم، وفي أيدي النواصب من أعدائنا فاستنقذهم منهم، وأخرجهم من حيرتهم، وقهر الشياطين برد وساوسهم، وقهر الناصبين بحجج ربهم ودليل أئمتهم لَيُفضّلون عند الله تعالى على العباد بأفضل المواقع بأكثر من فضل السماء على الأرض والعرش

ص: 242


1- فئام: الجماعات الكبيرة من الناس، وطبقت في بعض الموارد -- كيوم الغدير -- على مئة ألف.

والكرسي والحجب على السماء، وفضلهم على هذا العابد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء).

الزهراء (س) تكفل الأيتام:

وقد كانت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (س) تحذو حذو أبيها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في أقواله وأفعاله وخصاله الكريمة وهديه وسمته، فقد أدت ما عليها ووفت بما عاهدت ربها عليه من الالتزامات فنجحت في الامتحان بأعلى درجات النجاح.

الأيتام بكلا النوعين:

ومن مورد صدقها فيما امتُحنت به كفالة الأيتام بالمستويين اللذين ذكرناهما.

أما الأول فقد شهد الله تبارك وتعالى لها ولزوجها أمير المؤمنين وولديها الحسن والحسين (صلوات الله عليهم) في القرآن الكريم بإطعامهم اليتيم مع حاجتهم للطعام حباً لله تبارك وتعالى وإخلاصاً لوجهه الكريم {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} (الإنسان:89).

ونقرأ في سيرتها (صلوات الله عليها) أنها طحنت بالرحى حتى مجلت يداها وأشعلت التنور حتى دكنت ثيابها وما ذلك لإطعام زوجها وبنيها لأنهم خمص البطون، وكانوا يكتفون من الطعام بما يسد رمقهم، وإنما كان ذلك لكثرة من تطعمهم وتتكفل بهم كما تشهد به روايات أخر، ولم تغب عنها الوصية بالأيتام وهي تودع الحياة الدنيا، روي أنه جاء في وصيتها (س) لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)

ص: 243

بالحسن والحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(يا أبا الحسن ولا تصح في وجهيهما فإنهما سيصبحان يتيمين من بعدي، بالأمس فقدا جدهما واليوم يفقدان أمهما)(1).وأما على المستوى الثاني لكفالة الأيتام فقد كانت لها حركة دؤوبة وهمة لا تعرف التواني والتقصير، روي عن الإمام أبي محمد العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال:(حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء (س) فقالت:إن لي والدة ضعيفة وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بعثتني إليك أسألك، فأجابتها فاطمة (س) عن ذلك، فثنت فأجابت ثم ثلثت إلى أن عشّرت فأجابت ثم خجلت من الكثرة فقالت:لا أشق عليك يا ابنة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، قالت فاطمة (س):هاتي وسلي عما بدا لك، أرأيت من اكترى يوماً يصعد إلى سطح بحمل ثقيل وكراه مائة ألف دينار يثقل عليه؟ فقالت:لا. فقالت:اكتريت أنا لكل مسألة بأكثر من ملء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤاً فأحرى أن لا يثقل عليّ، سمعت أبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول:إن علماء شيعتنا يحشرون فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدهم في إرشاد عباد الله حتى يخلع على الواحد منهم ألف ألف حلة من نور ثم ينادي منادي ربنا عز وجل:أيها الكافلون لأيتام آل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الذين هم أئمتهم، هؤلاء تلامذتكم والأيتام الذين كفلتموهم ونعشتموهم فاخلعوا عليهم خلع العلوم في الدنيا فيخلعون على كل واحد من أولئك الأيتام على قدر ما أخذوا عنهم من العلوم حتى أن فيهم يعني في الأيتام لمن يخلع عليه مائة ألف خلعة وكذلك يخلع هؤلاء الأيتام على من تعلم منهم، ثم إن الله تعالى يقول:أعيدوا على هؤلاء العلماء

ص: 244


1- بحار الأنوار: 43/ 178

الكافلين للأيتام حتى تتموا لهم خلعهم، وتضعفوها لهم فيتم لهم ما كان لهم قبل أن يخلعوا عليهم، ويضاعف لهم، وكذلك من يليهم ممن خلع على من يليهم. وقالت فاطمة (س):يا أمة الله إن سلكة من تلك الخلع لأفضل مما طلعت عليه الشمس ألف ألف مرة وما فضل فإنه مشوب بالتنغيص والكدر)(1).وروي عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):من قو ّى مسكيناً في دينه ضعيفاً في معرفته على ناصب مخالف فأفحمه لقنه الله يوم يُدلي في قبره أن يقول:الله ربي، ومحمد نبيي، وعلي وليي، والكعبة قبلتي، والقرآن بهجتي وعدتي، والمؤمنون إخواني. فيقول الله:أدليت بالحجة فوجبت لك أعالي درجات الجنة فعند ذلك يتحول عليه قبره أنزه رياض الجنة)(2).

وان حديث النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة) يجري في هذه الكفالة أيضاً وقد شهد الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بذلك للراوي الجليل بكير بن أعين فأنه لما بلغ الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) موته قال (أما والله لقد أنزله الله بين رسوله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما)(3) .

وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في أخيه حمران (نعم الشفيع أنا وآبائي لحمران بن أعين يوم القيامة، نأخذ بيده ولا نزايله حتى ندخل الجنة جميعا)(4).

ص: 245


1- بحار الأنوار: 43/ 178 ح 3
2- بحار الأنوار: 43/ 178 ح 14
3- معجم رجال الحديث: 4/ 266
4- معجم رجال الحديث: 7/ 272

مسؤوليتنا عن كفالة كلا النوعين من الأيتام:

أيها الأخوة والأخوات:لنتأسّ بالصديقة الطاهرة الزهراء (س) حتى نكون معها ومع أبيها الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما) في درجتهما في الجنة بكفالة كلا النوعين من الأيتام. فبلدنا اليوم يعج بمئات الآلاف من الأيتام بسبب ما تعرض له من جرائم القتل والبطش والحروب والمقابر الجماعية في عهد صدام ولجرائم القتل المنظم والإرهاب والفوضى المتعمدة والقتل العشوائي في عهد الاحتلال، وهؤلاء الأيتام في الوقت الذي يشكلون فيه مسؤولية على الأمة جميعاً تقتضي احتضانهم ورعايتهم وتربيتهم، وإلا تحولوا إلى جيل كامل من المجرمين والقتلة والمرضى النفسيين والمنحرفين أخلاقياً والحاقدين على المجتمع، في الوقت نفسه هم يمثلون فرصة عظيمة للطاعة امتثالاً للتوجيهات النبوية الشريفة المتقدمة.

أما النوع الثاني من اليتيم فهو صفة أكثر الناس فإنهم بين جاهل بالشريعة لا يعرف حتى الأحكام الأساسية التي يبتلى بها يومياً كالوضوء والصلاة والغسل وبعض المعاملات، وبين مفتون قد اضطربت في ذهنه الأفكار وعصفت به الضلالات، وبين متورط في المعاصي بسبب غفلته وعدم وجود من يعظه ويذكره بالله تعالى، وبين إمّعةٍ ينعقون مع كل ناعق - كما وصفهم الحديث الشريف - وبين ضعيف أو مستضعف يحتاج إلى من يقوي فيه عقائده ويشدّ إيمانه، ولعلكم تعرفون أكثر مني مصاديق ذلك من خلال احتكاككم بالناس واطلاعكم على البيئة التي تعيشون فيها، ولعل بعضكم اطلع على الكثير مما ذكرت من خلال التجمعات الكبيرة التي تحصل في بعض المناسبات الاجتماعية والدينية وغيرها.

ص: 246

فأمامكم فرصة واسعة النيل القرب من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (س) برعاية الأيتام من النوع الأول وكفالتهم بالمساعدات المالية ورعايتهم وتربيتهم وإنشاء مؤسسات الحضانة والتعليم والترفيه لهم ونحوها، وقد أذنت المرجعية بصرف قسم كبير من الحقوق الشرعية لكفالة الأيتام.والفرصة الأوسع التي أمامكم هي كفالة الأيتام من النوع الثاني وهي متاحة للجميع إذ ما من أحد منا إلا ويعرف مسألةً شرعيةً أو حديثاً شريفاً أو نصيحةً مفيدةً فلنُنظّم جميعاً ببركة الزهراء (س) حملة واسعة نقوم خلالها بتعليم الناس كل كلمة مفيدة أو موعظة تسمعونها أو مسألة شرعية تتعلمونها أو عمل صالح تهتدون إليه، أو نصيحة ترشدهم وتصحح أخطاءهم وغيرها كثير.

فلا تبخلوا بكل ذلك على الناس سواء داخل الأسرة أو لزملائكم في العمل أو المنطقة أو رفقائك في السفر، وانقلوها لأكبر عدد منهم ليزداد أجركم وتحظون برضا الله تبارك وتعالى والمنزلة الرفيعة عند رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والصديقة الطاهرة الزهراء (صلوات الله عليها)، فهذه الوظيفة ليست حكراً على الحوزة العلمية ونحوها بل هي مسؤولية كل من تعلم ولو مسألة واحدة وأنتم شيعة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فاحفظوا وصيته بالأيتام عند وفاته (صلوات الله عليه) وقد رويت في الكافي بسند صحيح ومما جاء فيها:(الله الله في الأيتام؛ فلا تغبّوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم، فقد سمعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)

ص: 247

يقول:من عال يتيماً حتى يستغني أوجب الله عز وجل له بذلك الجنة كما أوجب الله لآكل مال اليتيم النار)(1).

التأسي بصاحب الزمان (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):

وتأسوا بإمامكم المهدي الموعود (صلوات الله عليه) فإنه مع ما يعانيه من ألم الابتعاد عن ممارسة دوره الكامل في حياة الأمة فإنه لم يغفل

لحظة عن رعاية شيعته، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(نحن وإن كنا ناوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي أرانا الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الفاسقين، فإننا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يعزب عنا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم، مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون. إنا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكر كم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء فاتقوا الله جل جلاله..)(2) .

ص: 248


1- الكافي: 7/ 5152 باب صدقات النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وفاطمة والأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ووصاياهم، ح 7
2- الاحتجاج للطبرسي: 2/ 323

القبس/178: سورة الضُحى11

اشارة

{وَأَمَّا بِنِعمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث}

موضوع القبس:التحديث بولاية أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ونشرها

ماذا يتوجب علينا مع حصول النعمة؟

إذا حصلت للإنسان نعمة ما مادية كانت او معنوية فان هذا يوجب عليه أموراً(1) عديدة:

(منها) شكر هذه النعمة باللسان وبالفعل كسجدة الشكر او صلاة الشكر.

(ومنها) استعمالها في طاعة المنعم ونيل رضاه وأداء ما افترض الله تعالى من حقوق فيها كالحقوق المالية او حق الزوج والزوجة أو حق الوالدين او المعلم او القائد الصالح كما رسمها الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في رسالة الحقوق.

(ومنها) بذلها للناس وعدم التقصير في سد احتياجاتهم منها، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(إن لله عباداً أختصهم بالنعم يقرّها فيهم ما بذلوها للناس فإذا منعوها حوّلها منهم الى غيرهم)(2) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(من كثرت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس اليه، فمن قام لله فيها بما يجب فيها عرّضها للدوام

ص: 249


1- شرحناها بتفصيل أوسع في القبس/180 {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} (التكاثر:8) القادم, ص292, وفي القبس/73 {الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً} (إبراهيم:28), من نور القرآن: 2/ 331
2- بحار الأنوار المجلسي: 72/ 353

والبقاء، ومن لم يقم فيها بما يجب عرّضها للزوال والفناء)(1).

كيف نعرِّف بالنعمة ولا نُصاب بالعجب أو الرياء؟

(ومنها) ما ذكرته الآية الشريفة من وجوب التحديث بهذه النعمة، اذ الامر فيها لا يختص بالمخاطب وهو رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كما هو واضح في آيات القران الكريم، وقد يبدو الأمر غريباً إذا تعلق بالأمور المادية إذ من غير المألوف أن يتحدث الانسان في مجالسه بما عنده من اموال أو بنين او عقارات او نفوذ اجتماعي ونحو ذلك، وكذا الحديث في الأمور المعنوية فقد يدخل في باب الرياء او العجب ان يتحدث الانسان عن الطاعات التي قام بها من صلاة او صوم او صدقة ونحو ذلك، إذن كيف نفهم هذا الامر بالتحديث بالنعمة.

والجواب يتحقق من خلال فهم معنى (النعمة) او (التحديث) يناسب الامر الوارد في الآية، والتأمل فيهما يؤدي الى عدة وجوه :

1ان التحديث بالنعمة لا يكون بعنوان كونها إنجازاً شخصياً للاستعلاء والتفاخر وإنما بما هي منسوبة الى الله تبارك وتعالى لبيان فضله وكرمه وابتداءه بالنعم لتحبيبه تعالى الى الناس وتذكيرهم بما أنعم الله تعالى عليهم، لذلك أضافت الآية النعمة الى الرب {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}.

2ان التحديث بالنعمة لا يقتصر على الحديث اللساني وإنما يشتمل التحديث العملي بإظهار تلك النعمة أمام الآخرين روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)

ص: 250


1- وسائل الشيعة (آل البيت): 16/ 325/ح9

قوله:(إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده)(1) وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إذا أنعم الله على عبده بنعمة فظهرت عليه سُميّ حبيب الله محدثاً بنعمة الله، وإذا أنعم الله على عبد بنعمة فلم تظهر عليه سمّي بغيض الله مكذباً بنعمة الله)(2) ويكون ثمرة هذا التحديث للتأسي في فعلها أو السعي بنفس المقدمات التي تؤدي الى تحصيل تلك النعم ونحو ذلك روي عن الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(إذا عملت خيراً فحدّث إخوانك ليقتدوا بك)(3).3يحتمل في التحديث معانٍ آخر غير معنى التكلم بها وإطلاع الآخرين عليها، قال السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) الشريف (أمكن أن يُراد بمادة (حدّث) أمران أخران :

الأول:الحدوث.

والثاني:التحديث بمعنى الجدة.

فعلى الاوّل يعني:أوجد نعمة ربّك، أي :سبّب إلى وجودها في حدود إمكانك، وهو أمر معنوي.

وعلى الثاني يعني:جدّد نعمة ربّك:إما بالتسبيب إلى تكرارها وإما بتذكّرها. وإما أن يكون الحديث بمعنى التذكّر يعني:حدّث نفسك أو حدّث ربّك، ولم يقل حدّث الآخرين، وهو مجازٌ في التذكّر، وفيه ثوابٌ وتكاملٌ، أو إنَّك إنَّما تفعل ذلك كلّه بنعمة الربّ سبحانه.

ص: 251


1- بحار الأنوار المجلسي: 76/ 299
2- الكافي الشيخ الكليني: 6/ 438/ح2
3- مفاتيح الغيب :31/ 201.

وبتعبيرٍ آخر:تارةً يكون التركيز على النعمة وأخرى على التحديث بها، ويكون الآخر تابعاً نحو: العيش برزق الله)(1).4إن الآية لم تذكر صاحب النعمة التي يجري التحديث بها فقد لا يكون المقصود التحدث بنعمة الله على المتحدث نفسه بل على الآخرين لتذكيرهم ولتقريبهم الى الطاعة او لتسليتهم عن أمر فقدوه ولامتصاص غضبهم وسخطهم على ما فاتهم فيذكرهم بالنعمة التي أستفادوها ونحو ذلك، ورد أن الله تعالى قال لموسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (حبّبني الى خلقي وحبّب خلقي اليّ، قال:يا رب .. كيف أفعل ؟ قال:ذكرّهم آلائي ونعمائي ليحبّوني)(2).

النعمة هي الاسلام وولاية اهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ):

5الوجوه السابقة كلها مقبولة ومفيدة الا ان الوجه الادق والاهم هو أن نفهم من نعمة الرب مصداقاً يتناسب مع الأمر بالتحديث بها، وهذا موجود، لأن آيات عديدة وروايات كثيرة أفادت بأن هذه النعمة هي الاسلام وولاية أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، ومنها قوله تعالى {فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (آل عمران:103) ونعمة الله التي ألفت بينهم ووحدّت قلوبهم هو رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) برسالة الاسلام، عن الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال في تفسير هذه الآية (أمره أن يحدِّث بما أنعم الله عليه من دينّه)(3) ويكون هذا المعنى ظاهرا بمقتضى المقابلة بين الآيات في سورة

ص: 252


1- منة المنان في الدفاع عن القرآن: 2/ 96.
2- الأمالي : 484.
3- المحاسن البرقي: 1/ 218/ح115

الضحى فان هذه الآية قابلت قوله تعالى {وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى} (الضحى:7) فالنعمة التي امر بالتحدث بها هي نعمة الهداية الى دين الله تبارك وتعالى.وتمام هذه النعمة وكمال هذا الدين ولاية علي بن ابي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لقوله تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} (المائدة:3)، وورد عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير قوله تعالى {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} (التكاثر:8) قول الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى أبي حنيفة:(نحن – أهل البيت – النعيم الذي أنعم الله بنا على العباد وبنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين وبنا ألفّ الله بين قلوبهم وجعلهم إخواناً بعد أن كانوا أعداءاً وبنا هداهم الله الى الاسلام وهي النعمة التي لا تنقطع والله سائلهم عن حق النعيم الذي أنعم الله به عليهم وهو النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعترته)(1)، وقد يكون هذا المعنى هو المقصود لا غيره إذا لم نفهم اطلاق النعم وعمومها من قوله تعالى {بنِعْمَةِ رَبِّكَ} بأن يكون المراد التنويه بنعمة معينة فتكون هذه لا غيرها واكتفى بالإشارة اليها لعظمتها واهميتها على سائر النعم.

وورد عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير قوله تعالى {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (لقمان:20) قال:(النعمة الظاهرة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وما جاء به النبي من معرفة الله عز وجل وتوحيده، وأما النعمة الباطنة ولايتنا أهل البيت وعقد مودتنا)(2).

ص: 253


1- تفسير العياشي ص 258
2- تفسير القمي: 2/ 166

وقد عمل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بهذه الآية المباركة وتحدّث بفضل اهل بيته ومقاماتهم الرفيعة وجعلهم صنو القرآن والزم الامة بالرجوع اليهم فظن بعض الاصحاب انه منحاز الى قومه ويتحدث بدافع العاطفة نحو اهل بيته(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو المنزّه عن كل ذلك {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم34) فعمله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هذا كان التزاماً بالآية الكريمة.

آليات التحديث بالنعمة:

فالتحديث بهذه النعمة يكون بالتعرف عليها والتفقه فيها ثم نشرها بين الناس ودعوتهم اليها، وإذا أردنا أن نكون من الشاكرين على هذه النعمة فلابد أن نظهرها ونعظّمها ونبّين فضائل أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ومناقبهم ومكارم أخلاقهم وننشر مواعظهم وأحكامهم ومحاسن كلامهم ونوصلها الى البشرية جمعاء بكل صنوفها ولغاتها، وعلينا أن نحيي شعائرهم وأمرهم كما دعوا(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الى ذلك (احيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا)(1) ومن قصَّر في إظهار نعمة ولاية أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ولم يدعُ الناس اليها وإقناعهم بها بأي وسيلة ممكنة، أو لم يحفظ حرمة أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في سلوكه وصفاته فهو ممن لم يؤدِ حق هذه النعمة ولم يشكرها.

وكما تقدّم في قول الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فأنه أعتبر من لم يحدث بنعمة الله ولم يظهرها مكذباً بنعمة الله وبغيض الله، فليتفقه كل شيعة اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في دينهم وليطلعوا بعمق ووعي على سيرة أئمتهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ليستطيعوا إيصال هذه الرسالة العظيمة الى العالم كله بأمانة وإتقان (فإن الناس لو علموا محاسن

ص: 254


1- عيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- الشيخ الصدوق: 2/ 275

كلامنا لأتبعونا)(1).

مسؤولية التشيع اليوم:

أقول:بناءاً على هذه المسؤولية الكبيرة التي حملّتنا هذه الآية مع توفر أثمن فرصة اليوم لنشر تعاليم أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) والتمهيد لدولة العدل الإلهي بسبب:

1عظمة ما أحتوت عليه كلمات أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من احكام وإرشادات ومواعظ قال الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لأتبعونا)(2) وهذا ما تشهد به التجارب التي حدثنا بها الاخوة المبلغون في شرق الارض وغربها وما لمسوه من إقبال واسع وسريع لمذهب أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).

2فشل الأنظمة المادية التي صنعتها البشرية وعجزها عن توفير السعادة للإنسان.

3الصورة المشوهة للإسلام التي طرحتها المدارس البعيدة عن أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) حيث كان نتاجها التكفير والقتل والارهاب والتدمير وتخريب الحضارة.

فتوجهت الانظار كلها الى مدرسة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لذا كان لزاماً علينا في الحوزات العلمية والنخب الفكرية(3) والثقافية والمراكز العلمية والبحثية أن تضع البرامج والآليات للتحرك بهذه الرسالة العظيمة وسيفتح الله تعالى لهم العالم بأسره

ص: 255


1- معاني الأخبار الشيخ الصدوق: 180
2- معاني الأخبار الشيخ الصدوق: 180
3- حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع الضيوف المشاركين في مؤتمر الطف الدولي السابع الذي اقامته كلية الآداب في الجامعة المستنصرية وقد زاروا سماحة المرجع يوم الاربعاء 26/صفر/1437 المصادف 9/ 12/ 2015 وهم من دول عربية واسلامية واجنبية.

ولا نتخوف من الحكومات فإننا إذا توجهنا بخطابنا الى الرأي العام وصنعنا قضية أمامه من خلال مراكز اعلامية وفكرية وبحثية صانعة للمواقف ومقنعة للرأي العام على شكل (لوبيات) مؤثرة وفاعلة في مختلف دول العالم، فان الرأي العام سيقتنع بها ويضغط على أصحاب القرار ويجبره على الانصياع للرأي العام الذي تخشاه الحكومات.وأذكر كمثال مظلومية الشعب العراقي وإضطهاد صدام المقبور له، فعندما تحركت المعارضة العراقية يومئذٍ وشرحت هذه المظلومية كوّنت رأياً عاماً متعاطفاً معها وارتقى بهم الأمر حتى أقنعوا حكومات الدول الكبرى بضرورة إتخاذ إجراء وهذا ما حصل، كما ان القناعة حصلت لاثنتين من كبريات الصحف البريطانية والامريكية فنشرت مقالين عن زيارة الاربعين هذا العام واشارت الى الارقام القياسية المتحققة فيها من حيث عدد المشاركين في المشي وعدد المتطوعين للخدمة المجانية وعدد وجبات الطعام المجانية المقدّمة (قدروها ب 200 مليون وجبة) واطول مائدة طعام في العالم في اكبر حشد بشري، كما عتب كاتبا المقالين على وسائل الاعلام العالمية لإغفالها هذا الحدث مع انها تغطي تجمعا لعشرات في هذه الدولة او تلك.

وهذا كله يثبت اننا قادرون على صناعة وتوجيه الرأي العام العالمي اذا توفرت الارادة والعزم والسعي.

فلماذا نتخلى عن مشروعنا هذا بمجرد الوصول الى السلطة، فهل السلطة غايتنا أم إنها وسيلة لإحقاق الحق وإزالة الظلم والفساد.

ص: 256

القبس/179: سورة العلق:1

اشارة

{ٱقرَأ بِٱسمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ}

موضوع القبس:لنكن أمة {ٱقرَأ}

أمة القراءة:

بمناسبة البعثة النبوية الشريفة نريد أن نأخذ درساً من أول كلمة القاها الوحي على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إيذاناً بتحقق الوعد الالهي للبشرية الضالة الجاهلة المتعبة أن ينقذهم بالرسالة الكاملة الخاتمة ويأخذ بهم في هذه النقلة الهائلة التي لا تُقاس بها النقلة من الأرض الى السماء، فمن حقنا أن نفخر نحن أُمة الإسلام بأننا أُمة القراءة وطلب العلم وأن أول كلمة نزلت على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عند بعثه بالرسالة الإسلامية هي (إقرأ) أي الأمر بالقراءة، وإن معجزة الإسلام الخالدة (القرآن) هو كتاب مقروء وهو مصدر اشتق إسمه من القراءة.

النعمة الأولى:

وإن أول نعمة ذكّر الله تعالى بها عباده ممتناً عليهم القراءة والتعليم {إقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الأِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق 35)، فالإنسان خُلِقَ من علقةٍ وهي قطعة الدم الجامدة ووُلِدَ صفحة بيضاء خالية من المعارف والعلوم عدا ما توجهه به فطرته لكن الله تبارك وتعالى جهزّه ووفر له ما

ص: 257

يملأ به صحيفته من العلوم والمعارف مما لم يكن يعلمها من قبل وكلما حصل على معلومة تولّد له إحساسُ بجهله بجمع كبير من المعلومات، وهو تفسير كلمة بعضهم (كلما ازددنا علماً ازددنا جهلاً)(1).

في معنى:(عَلَّمَ بِالْقَلَمِ)

{عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} أي علّم البشر الكتابة واستعمال القلم أو بمعنى أنه تعالى علَّمهم ما لا يعلمون بواسطة القلم والكتابة وهو ابرز حدث في تاريخ البشر ولولاه لما تكاملت الحضارات ولما انتقلت العلوم واستفادت الامم من إنجازات غيرها، ولا تستطيع أُمة أن تتقدم وتبني حضارة إذا لم تُحسن الاستفادة من الكتاب والقلم. وبلغ تعظيم القلم الى مستوى القسم به {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (القلم:1).

في معنى:(عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)

{عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق:5) فالمصدر الاول للعلوم والمعارف هو الله تبارك وتعالى من خلال بعث الانبياء والرسل وانزال الشرائع السماوية والايحاء الى الانبياء والاولياء بما تحتاج اليه البشرية، وظلّت الالطاف الالهية مصدر الهام لكثير من المخترعين والمبدعين واصحاب النظريات الخلاقة كما اعترف جملة منهم بذلك، والتاريخ يشهد أن ازدهار العلوم وتدوينها وتعميقها شهد نقلة غير مسبوقة على يد المسلمين وأصبحت الكتابة والتعليم واسعة الإنتشار

ص: 258


1- العلل أحمد بن حنبل: 1/ 177/ح127

ومتيسرة الحصول لجميع الناس بعد أن كانت مقتصرة على نخبة محددة، هذا في الامم المتمدنة كالروم والفرس، أما العرب في الجزيرة فكان الذين يعرفون الكتابة بعدد الأصابع تقريباً وكان الذي يعرف الكتابة وبعض الفعاليات الاخرى كالرمي يسمى ب (الكامل)(1).

الوصيّة بالعلم:

وظل هذا الاهتمام بالقراءة وطلب العلم والمعرفة توجيهاً دائمياً في القرآن الكريم وقد أدّبَ الله تعالى نبيه بذلك، قال الله تعالى{وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْما} (طه:114) وفي الحديث النبوي الشريف (إذا أتى علي يوم لا أزداد فيه علما - يقربني إلى الله - فلا بارك الله لي في طلوع شمسه - شمس ذلك اليوم)(2)، وكانت الفدية(3) التي جعلها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأسرى المشركين في معركة بدر من الذين يعرفون الكتابة ان يعلّم الواحد منهم عشرة من المسلمين مقابل اطلاق سراحه فانتشرت المعرفة بالكتابة لدى المسلمين بهذه المبادرة المباركة وفي اصول الكافي بسنده عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(تذاكروا وتلاقوا وتحدثوا فإن الحديث جلاء للقلوب، إن القلوب لترين كما يرين السيف جلاؤها الحديث)(4).

ص: 259


1- أنظر: تهذيب التهذيب ابن حجر العسقلاني: 3/ 475
2- مجمع البيان للطبرسي: المجلد الأول ص6.
3- أنظر: موسوعة التاريخ الإسلامي محمد هادي اليوسفي: 1/ 79
4- اصول الكافي، كتاب العلم، باب سؤال العلم وتذاكره ح 8.

صاحبوا المعرفة:

وفي حديث آخر قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، الا وإن الله يحب بغاة العلم)(1) وهذه الوصايا لا تحتاج الى مؤونة لنتفهّم ملاكاتها ومصالحها فإن حياة الامم وسعادتها وتقدمها بالقراءة والتعلم، أما الامم الجاهلة المتخلفة فان ممارستها لا تفترق عن حياة الحيوانات قال تبارك وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال:24).

ولا شك أن الثقافة والعلم من مقومات حياة الامم فالآية الكريمة تدعونا الى التجاوب مع كل مصدر يزودنا بهما.

فعلى كل شخص أن يقرأ ويصاحب الكتاب وكل مصادر المعرفة الأُخرى ويتزود منها ليكون إنساناً بمعنى الإنسان الحقيقي لا الشكلي وليكون حياً فاعلاً في المجتمع، ولينسجم مع متطلبات الفطرة التي تنزع نحو الكمال، وليحظى برضى الله تبارك وتعالى ويتأسى برسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

في الثقافة الموجّهة لا العشوائية:

ومن وجهة نظري بغض النظر عن التعريفات التي قيلت فإن الثقافة هي منظومة الأفكار التي تجعل للإنسان رؤية فيما حوله ولا يكون إمّعةً من غثاء الناس ينعق مع كل ناعق ويسيّرَه السلوك الجمعي بلا رؤية وتأمل فيما يفعل، وفي الآية الكريمة إشارة الى ذلك {إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ

ص: 260


1- اصول الكافي، كتاب العلم: باب فرض العلم: ح / 5/ 7/ 8.

الَّذِي خَلَقَ} أي أن الامر بالقراءة ليس عشوائياً وبلا هدف وبلا محدِّدات بل تقرأ بإسم ربك ومن أجل ربك وضمن ما خطّط له ربُّك الذي خلقك فيجب عليك ان تسير بهداه جاعلا أمامك الغرض الذي خلقك الله تعالى من أجله واستخلفك في الأرض لتحقيقه وهو إعمار الحياة بكل خير وعطاء نافع واستثمار كل الأدوات والظروف التي هيأها الله تعالى لتوفير السعادة والصلاح للبشر {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود:61).

تفقهوا في الدين:

فالدعوة الى القراءة لا تختص بالمعارف الدينية بمختلف فروعها وإن كانت منها بل هي من أساسياتها، في حديث عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(عليكم بالتفقه في دين الله، ولا تكونوا أعراباً فإنه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله اليه يوم القيامة ولم يزكِّ له عملاً)(1) وروي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أيضاً أنه قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أُفٍّ لرجلٍوفي رواية لكل مسلم لا يُفَرِّغ نفسه في كل جمعة لأمر دينه فيتعاهده ويسأل عن دينه)(2) ويصل الحثّ الى حد الإلزام والعقوبة على الترك، ففي رواية عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لوددتُّ أن أصحابي ضربت

ص: 261


1- اصول الكافي كتاب العلم باب فرض العلم ح / 7.
2- اصول الكافي كتاب العلم، باب سؤال العلم وتذاكره: 15 / ح 8.

رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا)(1).

السعادة بمصاحبة الكتاب:

أقول:لكن القراءة لا تختص بهذا المجال بل كل كتاب نافع يساهم في تكوين تلك المنظومة الثقافية الصحيحة، فكتاب "كيف تكسب الأصدقاء" لمؤلف غير مسلم لكنه غني بالتوجيهات الرشيدة التي ترسم لك بوصلة العلاقات الناجحة والإيجابية مع الآخرين.

وهكذا كل كتب التنمية البشرية أو إدارة الوقت والاستفادة منه، أو كتب تعليم أسرار النجاح ومفاتيحه، أو التجارب الاجتماعية وغيرها كثير.

وقد جرّب مَن صاحبَ الكتاب وتولّع بالقراءة أيّ أُنسٍ وسعادةٍ يحياها برفقة الكتاب حتى لا يشعر احياناً بما يجري حوله وتمر عليه الساعات دون ان يدري وكأنه في روضة غنّاء ضمّت كل ما تهفو اليه النفس وتلذ به العين، وكان بعض العلماء يطرب اثناء أُنسه بالكتاب ويقول:أين الملوك وابناء الملوك من هذه اللذات، ومعه حق فما قيمة اللذات الجسدية التي يبحث عنها المترفون من لذة القراءة ومطالعة الكتاب.

لكي نستعيد مجد الأمة المهدور:

علينا ان نستعيد امجادنا ونكون امة القراءة والكتاب فعلاً ونقود

ص: 262


1- اصول الكافي كتاب العلم باب فرض العلم ح / 8.

نهضة ثقافية عامة تدعو الى قراءة الكتاب بمختلف اشكاله والاهتمام به ولننشره ولنشجع الناس على القراءة ونبتكر كل الاساليب التي ترفع مستوى الثقافة لدى الناس من خلال نشر معارض الكتب وتوفيرها بأسعار زهيدة وطباعتها بشكل جاذب للقراء، وتيسير بيانها، وتنويع مواضيعها، وان تكون ذات مساس بواقع الامة وهمومها وآمالها وتساهم في صنع شخصية الانسان وان تكون بحجوم مختلفة من الدورات ذات المجلدات العديدة الى المجلد الواحد الى الكتيبات والكراريس والمنشورات والمقالات المختصرة.إذن علينا ان نواصل القراءة لنكون امة حية حضارية متقدمة.

وعلى كل شخص ان يقرا ليكون انساناً حقيقياً.

وعليناً ان نقرأ لنرضي الله تعالى ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والاولياء العظام ونستجيب لدعوته الى ما يحيينا.

ونقرأ لنعيش حياة الانسِ والسعادةِ والسموِّ والارتقاء.

ص: 263

القبس/180: سورة العلق:7

اشارة

{كَلَّا إِنَّ ٱلإِنسَنَ لَيَطغَى 6 أَن رَّءَاهُ ٱستَغنَى}

الشعور بالغنى:

متلازمة ثنائية بين الشعور بالاستغناء والطغيان يشير إليها القرآن الكريم بأسف وحسرة يدل عليها استعمال لفظ (كلا) التي قيل عنها أنها تعبير عن الردع(1)، وإذا طبّقنا هذا المعنى على الآية فتكون ردعاً عن تصور السلوك الطبيعي الفطري الذي تقتضيه الآيات السابقة في بداية سورة العلق من الشكر والطاعة، فتكون بمعنى أداة الاستدراك (لكنّ)، وقيل أن معناها (حقاً).

من الأمراض المعنوية:غرور الغنى:

الأسف والحسرة لوجود هذا المرض المعنوي في الإنسان على خلاف

ص: 264


1- الردع هنا يمكن تصوره عن توقّع النتيجة الطبيعية لاغداق النعم وهو الشكر وطاعة المنعم لأن الذي يحصل على خلاف ذلك وبذلك نردّ إشكال سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) حين قال: (وفكرة الردع خطأ فضيع، لأنه ليس في الآيات السابقات إلاّ الحق فلا معنى للردع عنها) (منة المنان: 1/ 568) فيجاب على القول بأن (كلا) موضوعة للردع بما قربنا من إمكان حملها على هذا المعنى، ويمكن أن يكون الردع عما يليه من الكلام أي عن مقام الطغيان كما في بعض التفاسير، أو نفسرها بمعنى قريب من الردع بناءً على تقريب تعرضها لجملة من التحوّلات بمقتضى القرائن إلى معنى غير مقطوع الصلة عن الأصل، كمعنى الاستدراك الذي ذكرناه ولا مانع من ذلك.

الفطرة وحكم العقل، إذ المفروض أن يكون رد الفعل على تحصيل الغنى هو الشكر والتواضع والاحسان، لا الطغيان والكفر والجحود والتمرد، وهذه المتلازمة المرضية في عالم القلب والنفس أخطر من المتلازمة المرضية في عالم الجسد كمرض الايدز لأن الثاني يفتك بالحياة الدنيوية الزائلة أما الأول فيفتك بالحياة المعنوية الباقية.والغريب أن تكون هذه الثنائية هي الحالة العامة لدى (الإنسان) الذي تذكره الآية وكأنه ملازم لذاته بحيث صحّت نسبتها إلى الإنسان كجنس إلا من عصم الله تعالى، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(الغنى يطغي)(1)، وكأن هذه العلاقة دائمية مطلقة، وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(غرور الغنى يوجب الأشر)(2) وهو أسوأ من البطر ويحذر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من هذه النتيجة بسبب الشعور بالغنى، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إستعيذوا بالله من سكرة الغِنى، فإن له سكرة بعيدة الإفاقة)(3).

معنى الطغيان:

والطغيان في اللغة بمعنى تجاوز الحد، قال تعالى:{إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء} (الحاقة:11) وعبّر تعالى عن الفيضان بالطغيان قال تعالى:{فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} (الحاقة:5)، فتفيد الآية إن الإنسان يتجاوز حدود الشرع والعقل والفطرة فيتمرد على خالقه ويخرج عن زي العبودية، ثم يطغى على الناس ويتجاوز عليهم بمجرد

ص: 265


1- غرر الحكم: رقم 23.
2- عيون الحكم والمواعظ الليثي الواسطي: 349
3- غرر الحكم: رقم 2555.

أنه يرى نفسه قد استغنى بتوفر بعض الأسباب لديه، وهو شعور باطل لذا كان تعبير القرآن الكريم دقيقاً كما هو شأنه إذ قال (أن رآه) ولم يقل (أن استغنى) لأن شعوره بالغنى وهْم، إذ لا غني حقيقة إلا الله تعالى وكل الخلق محتاجون إليه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (فاطر:15) وفي دعاء الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم عرفة (إلهي أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيراً في فقري)(1)، وإذا وُصف أحدٌ بالغنى فهو نسبي أي بلحاظ توفّر احتياجاته المعاشية واستغنائه عن الطلب من الآخرين.والذي ينصرف إليه لفظ الغنى الموجب للطغيان هو غنى المال وهو معنى صحيح، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(إنما أتخوف على أمتي من بعدي ثلاث خلال:أن يتأوّلوا القرآن على غير تأويله، أو يتبّعوا زلة العالم(2)، أو يظهر فيهم المال حتى يطغوا ويبطروا)(3).

من الموعظة:

ومن كلمات أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في صفة أعجب ما في الإنسان وهو القلب قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إن أفاد مالاً أطغاه الغنى وإن أصابته مصيبة فضحه الجزع)(4)، وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير العمل... إن استغنى بَطِر وفُتِن، وإن

ص: 266


1- مفاتيح الجنان: 473.
2- أي يتتبعون أخطاء العلماء وينشرونها لتسقيطهم، أو انهم يتبعون ما تشابه من سلوك العالم ويجعلونه ذريعة لزلاّتهم.
3- بحار الأنوار: 72/ 63ح7.
4- نهج البلاغة: الحكمة 108.

افتقر قنط ووهن)(1)، فما أعجب هذا الإنسان الذي لا يلتفت إلى مكامن ضعفه وانحرافه.ومن الحكايات في هذا المجال ننقلها للاتعاظ:ما روي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال جاء رجل موسر إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نقي الثوب فجلس إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فجاء رجل معسر درن الثوب فجلس إلى جنب الموسر، فقبض الموسر ثيابه من تحت فخذيه، فقال له رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (أخِفتَ أن يمسّك من فقره شيء؟ قال:لا، قال:فخفتَ أن يصيبه من غناك شيء؟ قال:لا، قال:فما حملك على ما صنعت؟ فقال:يا رسول الله:إنّ لي قريناً يزيّن لي كل قبيح، ويقبّح لي كل حسن، وقد جعلتُ له نصف مالي. فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):أتقبل؟ قال:لا، فقال له الرجل:ولمَ؟ قال:أخاف أن يدخلني ما دخلك)(2).

موجبات الطغيان عند الشعور بالغنى:

أقول:هذا الفهم - أي كون غنى المال موجب للطغيان صحيح إلا أن الأمر لا يقتصر عليه، فقد يطغى الإنسان بكثرة الولد والأنصار، قال تعالى:{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} (التكاثر:12) وقال تعالى:{واعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ و تَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} (الحديد:20) وقد يطغى بالعلم فيعتدُّ بنفسه {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيّ، قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ

ص: 267


1- نهج البلاغة: الحكمة 150.
2- الكافي: 2/ 262 ح1.

سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} (طه:95 96) {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} (القصص:78).ولاشك أن من أقوى أسباب الطغيان السلطة بكل أشكالها وليس الحكّام فقط، كما حصل لفرعون {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} (طه:24) حتى بلغ به الطغيان حدّاً أن يقول {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (النازعات:24) لأن السلطة تتضمن أدوات القوة والهيمنة والنفوذ {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (الزخرف:51).

السبب الجامع للطغيان:

والسبب الجامع للطغيان هو حب الدنيا والركون إليها والتعلّق بزخارفها {فَأَمَّا مَن طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعات:3739)، والأنانية وتزيين الشيطان، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(من شغل نفسه بغير نفسه تحيّر في الظلمات، وارتبك في الهلكات، ومدّت به شياطينه في طغيانه)(1).

الشعور بالاستقلالية:

وهنا ننقل التفاتة أخلاقية لسيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) قال: ((وإنما يشعر بالاستغناء إذا (رآه) يعني رأى نفسه بالجنبة الاستقلالية، أو رأى نفسه مستغنياً، أو أنّ رؤيته للنفس هي الاستغناء، أو أنّ هناك ملازمة بين رؤية النفس والاستغناء، فيكون المحصَّل:إن رؤية النفس سببٌ للشعور بالاستغناء،

ص: 268


1- نهج البلاغة: الخطبة 157.

والشعور بالاستغناء سبب للطغيان، أعاذنا الله من كل شر))(1).

عاقبة الطغيان:

فلينتبه الطاغي بكل مستوياته وأشكاله الى أن عاقبته سيئة في الدنيا والآخرة {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} (طه:81) {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} (ص:55) {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً، لِلْطَّاغِينَ مَآباً} (النبأ:2122) {فَأَمَّا مَن طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعات:3739)، وضرره في الدنيا خطير وسريع، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ما أسرع صرعة الطاغي)(2).

أسوأ الطغيان:

ولا شك أن من أسوأ اشكال الطغيان عصيان أوامر الإمام الحجة المنصوب على الخلق ومن نصّبه الأئمة المعصومون(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) حججاً على الخلق ورد في تفسير قوله تعالى {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ،أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} (الرحمن:78)، عن الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (الميزان أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) نصبه لخلقه) وفي معنى (ألا تطغوا في الميزان) قال (لا تعصوا الإمام)، ومثلها رواية عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (لا تطغوا في الإمام بالعصيان والخلاف)، وقال:(أطيعوا الإمام بالعدل ولا تبخسوه حقه)(3).

وورد عن الإمام الصادق في تفسير قوله تعالى {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ

ص: 269


1- منّة المنان: 1/ 569.
2- غرر الحكم: 9526.
3- راجع مصادرها في تفسير البرهان: 9/ 181.

أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} (الزمر:17)، فخاطب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أحد أصحابه بالبشارة في هذه الآية (أنتم هم أي المقصودون بقوله تعالى فبشر عباد ومن أطاع جباراً فقد عبده) وعن الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (أيها المؤمنون لا يفتننّكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في الدنيا) وعن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إياكم والولائج فإن كل وليجة دوننا فهي طاغوت).وروي عن الإمام الصادق قال (مرَّ عيسى بن مريم على قرية قد مات أهلها... فقال:يا أهل هذه القرية فأجابه منهم مجيب:لبّيك يا روح الله وكلمته، فقال:ويحكم ما كانت أعمالكم؟ قال:عبادة الطاغوت وحب الدنيا... قال:كيف كانت عبادتكم للطاغوت؟ قال:الطاعة لأهل المعاصي).

حينما يتجذر الطغيان في النفس:

ولأن الطغيان يزداد ويتركز في سلوك الفرد إذا استكبر عن سماع النصيحة والموعظة والارشاد، ولم يراجع نفسه ويحاسبها، {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} (الذاريات:53) {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} (الطور:32)، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(ومن طغى ضلّ على عمد بلا حجة)(1) وحينئذ يتجذّر في ذات الإنسان وطبيعته حتى يصبح صاحبه مثالاً للطغيان فيسمّى (طاغوتاً) وحينئذ يكون قدوةً للطغيان والتمرد والمعصية وداعياً لها ومعيناً عليها ويسنّ القوانين المخالفة لشريعة الله تعالى بسوء توفيقه فيضل أمة من الناس باتباعه، قال تعالى {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى

ص: 270


1- الكافي: 2 / 394.

الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:257).

ليحذر الرساليون من مجاملة المستغنين:

ولذا كانت مجاملة المستغنين الطاغين ومداهنتهم بحجة كسبهم وهدايتهم من التصرفات الخطرة على الدين خصوصاً للمتصدّين في العمل الرسالي لأنها تؤدي إلى مزيد من التمرد والطغيان وإغراء لهم بالمضي في هذا الطريق وإقصاء الفقير، قال تعالى ملفتاً نظر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلى هذه الحقيقة ومحذراً منها {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى} (عبس:510).

العلاج القرآني لحالة الشعور بالغنى:

وانتهت الآيتان محل البحث بإعطاء العلاج لتطهير القلب والنفس من هذه الرذيلة {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} (العلق:8) فإذا التفت إلى هذه الحقيقة وإنه سيموت ويرجع إلى ربِّه، فإنه يتيقن من أن غناه وهمٌ زائل وإن كل ما بيده سيفنى ويزول، وسيحاسبه ربّه على طغيانه وتمرده ويأوي إلى شر مآب، ولذا ورد في بعض الأدعية ما يذكّرنا بهذه الحقيقة (الحمد لله الذي قهر عباده بالموت والفناء)(1) ليرغم أنف الطاغين.

في التطبيقات الاجتماعية:

وإذا انتقلنا إلى تطبيقات الآية لنحوّل القرآن الكريم إلى واقع عملي، فإنّ هذه المتلازمة المنافية لمنطق العقل تتجلى في حياة الإنسان فرداً ومجتمعاً، ولنبدأ من داخل الأسرة حيث يغترّ الرجل بسلطته وقيمومته فيطغى ويظلم أهل بيته وكم

ص: 271


1- مفاتيح الجنان: 95, دعاء الصباح

رأينا من رجال لما صار بأيديهم مال أهملوا أهلهم وتوجهوا إلى اللهو والمتعة أو الوقوع في أسر الشهوات الجنسية أو عدم مراعاة مشاعر زوجته ونحو ذلك فيخرب بيته بيده.والمرأة تعتدّ بنفسها لجمالها أو لأنها من الأسرة الفلانية أو لأن لها مرتباً شهرياً جيداً أو لشهادتها الراقية ونحو ذلك فتشعر بالاستغناء عن الرجل وتطغى وتتمرد وتتعالى وتقصّر في واجباتها فتنهدم أواصر العلاقة الزوجية.

ومن الأمثلة على ذلك طغيان بعض حملة العلم واستعلاؤهم وترفعهم عن الآخرين ورفضهم النصح والتذكير واستهزاؤهم بمن يقوم بذلك، وفرض وضع خاص للتعامل معهم كعدم الرضا الا بتقبيل اليد وإظهار التبجيل والتعظيم لهم ونحو ذلك.

أما طغيان الزعامات ومن بيدهم شيء من السلطة فقد ملأ التاريخ بمصائبه وكوارثه، وكذا الزعامات الاجتماعية كبعض رؤساء العشائر والمتنفذين وأمثالهم.

خذ مثلاً أيضاً الغرب الذي اغترّ بالتقدم العلمي الذي توفّر لديه حتى غزا الفضاء وظن أنه قادرٌ على أن يحقق كل ما يريد فطغى وتجبر واستغنى عن ربّه وكفر به وصار التفكير المادي هو قائده ورائده ونسي ضعفه وعجزه وقصوره ونحوها من اللوازم لذاته حتى يأتيهم أمر ربهم {حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (يونس:24).

ص: 272

بأس الله تعالى في المستغنين:

وقد شهد التاريخ الماضي والحاضر كيف ينهار الطغاة وهم في أوج عنفوانهم كفرعون، {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ، إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} (الشعراء:5354) وكان جزاؤهم {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} (طه:78) وكقارون {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} (القصص:81) وكهارون العباسي الذي يخاطب السحاب (أينما تمطري فخراجك لي)(1) وإذا به يمرض مرض الموت وهو في ريعان الشباب فيأمر بحفر قبره وكان يقف عليه ويقرأ الآيات الكريمة {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ} (الحاقة:2829) وشهدنا في العصر الحديث كيف قُتل الرئيس المصري أنور السادات عام 1981 وهو في قمة طغيانه ويستعرض قواته المسلحة في ذكرى حرب 6:تشرين الأول ويملؤه زهو القوة والمقدرة، وهكذا.

على كل هؤلاء وكل من يطغى ويتمرد ويستكبر أن يستحضر قدرة الله تعالى، قال تعالى {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} (فصلت:15) أعاذنا الله تعالى وإياكم من تزيين الشيطان وخداع الدنيا والنفس الأمارة بالسوء.

ص: 273


1- تفسير الأمثل ناصر مكارم الشيرازي: 18/ 596, نقلها عن سفينة البحار

القبس/181: سورة القدر:3

اشارة

{لَيلَةُ ٱلقَدرِ خَير مِّن أَلفِ شَهر}

كيف تكون ليلة القدر خيراً من ألف شهر؟

قال الله تبارك وتعالى في فضل وشرف ليلة القدر التي هي أفضل ليالي السنة:{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} (القدر:3) والمشهور في فهمها أن العمل فيها يتضاعف برحمة الله تعالى وفضله ليكون خيراً من عمل ألف شهر، وهو معنى صحيح مَنَّ الله تعالى به على عباده ليزيدهم من عطائه كرماً منه، وقد دلت عليه الروايات ففي الكافي عن أبي عبد الله الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، (قال له بعض أصحابنا:كيف تكون ليلة القدر خيراً من ألف شهر؟ قال:العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر)(1)، ويدلّ عليه وصفها بالمباركة في قوله تعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} (الدخان:3) ومن بركاتها زيادة الأجر على الأعمال عن غيرها من الليالي والأيام.

من معاني ليلة القدر:

وهذا المعنى مأخوذ من اسمها؛ لأن القدر – الذي هو بمعنى الشأن العظيم فيقال عالي القدر متحقق فيها فلها قدر عظيم، كما أنه متحقق في غيرها بدرجات

ص: 274


1- من لا يحضره الفقيه الشيخ الصدوق: 2/ 158/ح2025

متفاوتة من الفضل في أمكنة وأزمنة متعددة كالصلاة في المساجد الأربعة وعند أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فإنها بآلاف الصلوات، وفي ليلة الجمعة ويومها وليالي شريفة متعددة تتضاعف الأعمال أيضاً.وهناك معنى آخر لهذه الليلة مأخوذ من اسمها بالمعنى الآخر وهو القدر بمعنى التقدير أي اتخاذ القرار والبت في الأمر وقد ورد هذا التفسير في الكافي بإسناده عن الإمام الباقر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في رواية جاء فيها:(يقدّر في ليلة القدر كل شيء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل:خير وشر وطاعة ومعصية ومولود وأجل أو رزق فما قدّر في تلك الليلة وقضي فهو المحتوم ولله عز وجل فيه المشيئة)(1).

ويكون معنى الآية حينئذٍ، أن الله تعالى يقدِّر في ليلة القدر مصائر العباد وأرزاقهم وأمورهم المستقبلية قال تعالى:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} ومعنى كونها خيراً من ألف شهر أن العبد قد يحظى بالتفاتة من ربه ويناله لطف خاص فيقدّر الله تبارك وتعالى له في هذه الليلة أمراً يساوي حياته كلها التي تمتد في المعدل ألف شهر وهي حوالي 83 سنة.

ولذا ورد في أدعية هذه الليلة (وإن كنت من الأشقياء فامحني من الأشقياء واكتبني من السعداء فإنك قلت في كتابك المنزل على نبيك المرسل صلواتك عليه وآله:{يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ})(2) فمثل هذا التغيير في القضاء إذا حصل في هذه الليلة فإنه يعادل العمر كله؛ لأن غاية سعي الإنسان في حياته هو بلوغ السعادة الحقيقية بفضل الله تبارك وتعالى.

ص: 275


1- الكافي الشيخ الكليني: 4/ 157/ح6
2- الكافي الشيخ الكليني: 4/ 157/ح6

إحياء ليالي القدر:

وكان الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) يعطون لهذه الليلة أهمية خاصة ويوجّهون شيعتهم لإحيائها بما يقرّبهم إلى الله تبارك وتعالى. روى الشيخ الطوسي (قدس سره) في التهذيب بسند معتبر عن زرارة عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(سألته عن ليلة القدر، قال:هي ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين، قلت:أليس إنما هي ليلة؟ قال:بلى، قلت:فأخبرني بها، قال:وما عليك أن تفعل خيراً في ليلتين)(1).

وعن الفضيل بن يسار قال:(كان أبو جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إذا كانت ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين أخذ في الدعاء حتى يزول الليل، فإذا زال الليل صلّى)(2).

وروي عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال:(أتى رسولَ الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) رجلٌ من جهينة فقال:يا رسول الله إن لي إبلاً وغنماً وغُلمة وعمَلةً فأحب أن تأمرني بليلة أدخل فيها فأشهد الصلاة، وذلك في شهر رمضان، فدعاه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فسارّه في أذنه، فكان الجهني إذا كانت ليلة ثلاثة وعشرين دخل بإبله وغنمه وأهله فبات تلك الليلة بالمدينة فإذا أصبح خرج بمن دخل به فرجع إلى مكانه)(3).

وعن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إن ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان هي ليلة الجهني فيها يفرق كل أمر حكيم وفيها تثبت البلايا والمنايا والآجال والأرزاق والقضايا، وجميع ما يُحدث الله عز وجل فيها إلى مثلها من الحول، فطوبى لعبد

ص: 276


1- التهذيب: 3/ 58.
2- الكافي: 4/ 155، الخصال: 519.
3- التهذيب: 4/ 330، الدعائم: 1/ 282، بحار الأنوار: 83/ 128.

أحياها راكعاً وساجداً ومثّل خطاياه بين عينيه ويبكي عليها فإذا فعل ذلك رجوت أن لا يخيب إن شاء الله تعالى)(1).

حول أعمال ليلة القدر:

ولذلك ينبغي للمؤمن أن يلح في مثل هذا الطلب في ليلة القدر لعله يحظى بالقبول، فإن رحمة الله واسعة وفضله مبذول لمن سأله وأن يكون دعاؤه بالحال الذي وصفه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة) وينبغي أن يقوم بالأعمال التي تحقق له أهلية الاستجابة والقبول في ليلة القدر –كالإكثار من الصلوات المستحبة كصلاة مائة ركعة والدعاء والرحمة بالآخرين وسماع الموعظة وذكر فضائل أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ومصائبهم مما يحيي القلب وينقيه ويخلص النية، ومن أعمالها المؤكدة زيارة الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولو من بُعد لمن يتعذر عليه زيارة تربته المقدّسة فقد وردت فيها روايات عديدة منها ما في التهذيب عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وفيها:(نادى منادٍ تلك الليلة من بطنان العرش إن الله قد غفر لمن أتى قبر الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في هذه الليلة)(2).

وإذا وجد في عمل رتابة وملل فلينوِّع ولينتقل إلى عمل آخر، فإن الأعمال المذكورة لهذه الليالي كثيرة ومتنوعة، وأحد أهداف تنوعها هو منع الكسل والملل والرتابة، ولإحداث الحيوية، ولإعطاء الفرصة لكل شخص أن يأخذ ما يناسبه ويتفاعل معه من أعمال الجوارح والجوانح.

ص: 277


1- دعوات الراوندي: 207.
2- تهذيب الأحكام الشيخ الطوسي: 6/ 49/ح26

بماذا نستعد لليلة القدر؟

وينبغي الاستعداد لليلة القدر من قبلها بالورع عن معاصي الله تبارك وتعالى والإقبال على طاعته، ومن أشكال الاستعداد أن يأتي بأعمالها منذ ليلة التاسع عشر كما هو مقرَّر مع أنها لا يحتمل أن تكون ليلة القدر لأن المروي أن ليلة القدر تقع في العشر الأواخر من شهر رمضان لكن ليلة التاسع عشر جعلت منها وشملت بأعمالها ليوفّق المؤمن لليلة القدر، ومن يتهاون بها فلعله يحرم من شيء من فضل ليلة القدر إلا أن يتداركه الله تعالى بفضله وكرمه.

ولتوضيح مسألة دخول ليلة التاسع عشر في أعمال ليالي القدر –مع أن الليلة متعينة في العشر الأواخر من شهر رمضان نقول:إن أي طلب يمر بعدة مراحل من النظر فيه ثم دراسة كيفية تلبية وتهيئة ظروف استجابته، ثم اتخاذ القرار بالاستجابة له، ثم تنفيذ هذا القرار وتحقيق المراد، ففي الليلة التاسعة عشرة يبدأ المؤمنون بتقديم طلباتهم ويُنظر في تلبيتها لهم، وفي الليلة الحادية والعشرين:تتخذ القرارات بالاستجابة لمن يشمله اللطف الإلهي الواسع، لكن يبقى قلم المحو والإثبات لم يجفّ، وفي الليلة الثالثة والعشرين:تمضى تلك الأوامر نفياً أو إثباتاً، ولذا تكرر وصف القضاء الإلهي في ليلة القدر بأنه لا يرد ولا يبدَّل كما في دعاء الإمامين الصادق والكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعد كل فريضة، وفيه:(اللهم إني أسألك في ما تقضي وتقدّر من القضاء الذي لا يرد ولا يبدل)(1) إلى آخر الدعاء.

وهذا المعنى ورد في رواية ذكرها الشيخ الكليني في الكافي بإسناده عن زرارة قال:(قال أبو عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):التقدير في تسع عشرة، والإبرام في إحدى

ص: 278


1- مفاتيح الجنان: 289

وعشرين، والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين)(1).ويكفي دليلاً على عظمة التغييرات التي تحصل للفرد وللبشرية جميعاً في ليلة القدر أن نزول القرآن كان فيها، القرآن الذي قلَبَ حياة البشرية وسما بها من حيوانية الجاهلية إلى قمة التوحيد وفتح آفاقاً واسعة للعلوم والمعارف والحضارات وأرسى أسس الحياة السعيدة، فكانت تلك الليلة خيراً من آلاف الشهور والسنين –لأن الألف لم تذكر للتحديد وإنما للتعبير عن الكثرة - التي قضتها البشرية في ظلمات الجاهلية.

وتبقى الأمة سعيدة ما دامت ملتفتة إلى عظمة ليلة القدر والقرآن الذي نزل فيها وملتزمة به ومستفيدة منه، وإلا فإنه لا يغنيها ما أصابته من عرض الدنيا وحطامها.

علاقة الزهراء (س) بليلة القدر:

وبهذا المعنى كان من ألقاب الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء (س) أنها ليلة القدر؛ لأن موقفها صحّح مسيرة الأمة إلى قيام يوم الساعة، فهذا الانقلاب الإيجابي المضاد الذي أحدثته الزهراء (س) بموقفها يعدل عمل الأمة آلاف السنين إلى آخر عمرها فيما لو لم تهتدِ إليه.

وكان لليلة القدر مكانة في قلب الزهراء (س)، فقد روي (أن فاطمة (س) كانت لا تدعْ أحداً من أهلها ينام تلك الليلة (ليلة القدر) وتداويهم بقلة الطعام

ص: 279


1- الكافي الشيخ الكليني: 4/ 159/ح9

وتتأهب لها من النهار، وتقول:محروم من حُرِمَ خيرها)(1).وعلى أي حال فإن الاهتمام بليلة القدر والتركيز على إحيائها لا يعني أن الإنسان يتكاسل في أيامه كلها ويتهاون ويفرّغ نفسه في الليالي المحتملة لليلة القدر، فهذا لا يناسب العاملين الراغبين فيما عند الله تبارك وتعالى، ولا أن ييأس إذا لم يشعر أنه قد وفق لإحياء ليلة القدر؛ لأن هذه الليلة وشهر رمضان وغيرها من أبواب اللطف الإلهي فإذا انقضت فإن رب شهر رمضان ورب ليلة القدر باقٍ ورحمته واسعة.

تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة:

إنَّ نفس هذا المعنى الذي شرحنا به الآية ورد في موضوع آخر ففي الرواية (تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة)(2) وهو مضافاً إلى معناه المنسبق إلى الذهن وهو أن التفكير والتأمل والفهم هو حقيقة العمل والغاية المنشودة منه لا الحركات الخارجية التي إنما تكتسب قيمتها من محتواها وهو التفكر والتأمل المنتج للخشوع والحب والرغبة والرهبة.

فإن للحديث معنى آخر كالذي ذكرناه عن ليلة القدر وهو أن الإنسان قد يقف ساعة للتفكر والمراجعة والتحقيق في مسيرة حياته وهدفه الذي يريد أن يصل إليه، ونيته في أعماله، والقيادة التي يرجع إليها في أموره، وإذا به يتخذ قراراً يقلب كل مسيرة حياته ويغير وجهتها إلى الهدف الصحيح، فتكون هذه الساعة

ص: 280


1- بحار الأنوار: 97/ 10.
2- بحار الأنوار المجلسي: 68/ 327

من المراجعة والتأمل خيراً من كل ما يؤديه خلال حياته عن غير بصيرة وهدى وكان يظن أنه يحسن صنعاً.وأوضح مثال على هذه الحالة الحر الرياحي(1) الذي أمضى ستين سنة من عمره بعيداً عن ولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وإتباع منهجهم، فوقف ساعة يوم عاشوراء وتأمل في حاله وأرجع نفسه واتخذ القرار الشجاع بالانتقال إلى معسكر الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وتحول من الشقاوة الأبدية إلى السعادة الأبدية، فقد كانت هذه الساعة هي كل حياته وليس تلك السنين الطويلة التي قضاها بعيداً عن الحق.

ليلة القدر مرتبطة بصاحب ليلة القدر:

ومما ينبغي التركيز عليه في هذه الليلة الدعاء للإمام صاحب العصر (أرواحنا له الفداء) لأنه صلوات الله عليه وسلامه هو صاحب هذه الليلة ويزداد فيها شرفاً وكرامة، سُئل الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عما إذا كان يعرف ليلة القدر؟ قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(كيف لا نعرف والملائكة تطوف بنا فيها)(2)، وعليه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تنزَّل الملائكة وتعرض عليه ما قضى الله تبارك وتعالى به على العباد في تلك الليلة إلى العام المقبل فينظر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فيها ويدعو لأصحابها بما يناسبهم، لأنه حجة الله تعالى الفعلية على المخلوقات، ويستحب الإكثار من دعاء (اللهم كن لوليّك الحجة بن الحسن) عسى أن نحظى بنظرة كريمة منه نستكمل بها الكرامة عند الله تبارك وتعالى ثم لا يصرفها عنا بجوده وكرمه.

ص: 281


1- الإرشاد الشيخ المفيد: 2/ 99
2- تفسير البرهان: 4/ 488، ح29.

تنبيه عن أعمال ليلة القدر:

وينبغي الالتفات أيضاً إلى أن أعمال ليلة القدر منتشرة في كتب السنن والمستحبات ك(مفاتيح الجنان) و(مصابيح الجنان) تحت أكثر من عنوان، فتوجد أعمال خاصة بالليلة وتوجد غيرها تحت عنوان (الأعمال المشتركة لليالي القدر وأخرى تحت عنوان العشر الأواخر من شهر رمضان وأخرى تحت عنوان الأعمال العامة لشهر رمضان، فالتهيؤ والاستعداد يشمل تجميع هذه المفردات في برنامج عمل يأخذ منه كل شخص بما يناسبه وما ييسّره الله تبارك وتعالى.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل ليلة القدر وأن يقسم لنا فيها خير ما قسم لأحد من عباده الصالحين إنه واسع كريم.

ص: 282

القبس/182: سورة البينة:7

اشارة

{أُوْلَئِكَ هُم خَيرُ ٱلبَرِيَّةِ}

موضوع القبس:حيَّ على خير العمل

والدعوة الى ولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)

(حيَّ على خير العمل) من فقرات الاذان والإقامة المستحبين الاكيدين قبل الصلاة وقال البعض بالوجوب(1)، وفي هذه الفقرة حث ودعوة مع طلب المبادرة الى خير العمل، ويمكن أن يكون المراد من (خير العمل) كل عمل خير من باب إضافة الصفة الى موصوفها وبهذا المعنى تكون الدعوة شاملة لكل أفعال الخير المرضية عند الله تعالى فتتطابق مع الآية الكريمة {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} (المائدة:48).

وقد يراد ب(خير العمل) عمل مخصوص هو خير الاعمال وأفضلها والدعوة تؤكد المبادرة اليه، والمستفاد من الروايات أن المقصود بهذا العمل أمران ظاهري عام وآخر خاص.

(أما) (المعنى الظاهري) فهو الصلاة نفسها التي هي عمود الدين إن قُبلت قبل ما سواها وإن رُدَّت رُدَّ ما سواها، روي عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن علة الأمر

ص: 283


1- أنظر: مختلف الشيعة العلامة الحلي: 2/ 120

بالآذان، الى أن قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ثم دعا الى خير العمل مرغباً فيه – أي الصلاة – وفي عملها وفي أدائها)(1).وفي رواية محمد بن الحنفية عن معراج النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وإمامته للصلاة في السماء السادسة والنداء الأول بالآذان يومئذٍ من قبل مَلَك خاص الى أن قال (حي على الصلاة، قال الله جل جلاله:فرضتها على عبادي وجعلتها لي ديناً، ثم قال:حيَّ على الفلاح، قال الله عز وجل:أفلح من مشى اليها وواظب عليها ابتغاء وجهي، ثم قال حيَّ على خير العمل، قال الله جل جلاله:هي أفضل الاعمال وأزكاها عندي)(2).

وفي رواية عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير الاذان قال:(وإذا قال حي على خير العمل فأنه يقول ترحموا على أنفسكم فأنه لا أعلم لكم عملاً أفضل من هذه فتفرغوا لصلاتكم قبل الندامة)(3).

(واما المعنى الخاص وهو الاكمل) فيراد بخير العمل ولاية علي بن ابي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأهل بيت النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) المعصومين، ففي معاني الاخبار وعلل الشرائع للشيخ الصدوق بسنده عن أبي جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (أتدري ما تفسير حيَّ على خير العمل، قال:قلت لا،

ص: 284


1- بحار الانوار: 84/ 144 عن علل الشرائع: 1/ 258 الباب 182 ح9، عيون أخبار الرضا: 2/ 105 الباب 34 ح1.
2- بحار الانوار: 84/ 141 عن معاني الاخبار: 42 ح4.
3- بحار الانوار: 84/ 154 عن جامع الأخبار: 171 الحديث 405.

قال:دعاك الى البر، أتدري برّ من؟ قلت:لا، قال:دعاك الى بر فاطمة وولدها (عَلَيْهِ السَّلاَمُ))(1)، وروايات أخرى ستأتي إن شاء الله تعالى.وليس في هذا المعنى أي غرابة فان ولاية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كمال دين التوحيد وتمام نعمة الإسلام وقد أعلم الله تعالى نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأنه إن لم يبلغ الولاية فكأنه لم يبلّغ رسالة الإسلام أصلاً بنص الآية الشريفة {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (المائدة:67) وقوله تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} (المائدة:3) فهذا وجه لكون (خير العمل) ولاية أمير المؤمنين والأئمة من بنيه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، باعتبارها ذروة الإسلام وخلاصة التوحيد والايمان بالله تعالى.

والوجه الآخر، أن بها تقبل الاعمال وتزكى الأفعال، وفي كتاب العلل (وقوله حيَّ على خير العمل أي حث على الولاية وعلة أنها خير العمل أن الاعمال كلها بها تقبل)(2).

وسنشير الى وجهين آخرين إن شاء الله تعالى.

وقد صرحت الروايات بأن هذه الفقرة كانت موجودة في الاذان على عهد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لكن الثاني هو من أسقطها روى صاحب كتاب (دعائم الإسلام) عن ابي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(كان الاذان بحيَّ على خير العمل على عهد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبه امروا أيام ابي بكر وصدراً من أيام عمر، ثم امر عمر بقطعه

ص: 285


1- بحار الأنوار:81: 141 عن معاني الأخبار: 42، وعلل الشرائع: 368 الباب 89.
2- بحار الانوار: 84/ 170.

وحذفه من الاذان والإقامة، فقيل له في ذلك، فقال:إذا سمع الناس أن الصلاة خير العمل تهاونوا بالجهاد وتخلّفوا عنه)(1).وهذا فعل منكر لعدم جواز الاجتهاد مقابل النص، مضافاً الى أن في هذا توهيناً لمقام النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إذ كيف خفي عليه هذا التأثير السلبي للنداء ولماذا لم يحذفه حتى تفتقت عنه ذهنية الثاني، وهل ثبّط هذا النداء عزائم المسلمين في الجهاد أيام النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وما بعده من حروب الردة والفتوحات الإسلامية، حتى يدعّي مثل هذا السبب.

فالظاهر أن هذا السبب المعلن ليس هو الحقيقي، وإنما السبب الحقيقي هو طمس المعنى الثاني ومحاولة إطفاء نور الله تعالى المتمثل بأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لان تكرار هذا النداء في الصلاة سيدفع الناس الى السؤال عن خير العمل حتى يبادروا اليه ويلتزموا به فأراد غلق باب السؤال لدى الناس عن خير العمل فألغى الفقرة من أصلها.

فقد روى الشيخ الصدوق بسنده عن محمد بن ابي عمير أنه (سأل أبا الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) – موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) – عن حي على خير العمل لم تركت من الاذان؟ فقال:تريد العلة الظاهرة أو الباطنة، قلت أريدهما جميعاً، فقال:أما العلة الظاهرة فلئلا يدع الناس الجهاد إتكالاً على الصلاة، وأما الباطنة فأن خير العمل الولاية، فأراد من أمر بترك حي على خير العمل من الاذان أن لا يقع حث عليها ودعاء اليها)(2).

ص: 286


1- بحار الانوار: 84/ 156 عن دعائم الإسلام: 1/ 142.
2- بحار الانوار: 84/ 140 عن علل الشرائع: 2/ 368 الباب 89 ح4.

وهذه واحدة من محاولاتهم المحمومة لاستئصال أهل بيت النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) واقصائهم عن قيادة الأمة بل عن مسرح الحياة لولا لطف الله تعالى وحفظه، روى الكشي في رجاله عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لما قُبِض رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) جهد الناس في إطفاء نور الله فأبى الله إلا ان يتم نوره بأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)(1).وأمتدت محاولاتهم لتصل الى إزالة ذكر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من أصله وكل ما يمتّ اليه بصلة من معالم الدين وشعائره وإعادة الناس الى جاهليتهم الأولى لولا خشيتهم من انقلاب الرأي العام عليهم وإبقاءاً لشعرة معاوية مع الدين الذي به تسلّطوا على الأمة، ولنستمع الى هذا النص الذي اثبته بن ابي الحديد المعتزلي وهو من علماء العامة، روي أن المطرّف بن المغيرة بن شعبة(2) قال:دخلت مع أبي على معاوية - وكان أبي يأتيه فيتحدث معه ثم ينصرف إلي، فيذكر معاوية وعقله، و يُعجب بما يرى منه - إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء، ورأيته مغتماً فانتظرته ساعة، وظننت أنه لأمر حدث فينا، فقلت:ما لي أراك مغتماً منذ الليلة؟ فقال:يا بني جئتُ من عند أكفر الناس وأخبثهم! قلت:و ما ذاك؟ قال:قلت له وقد خلوت به:إنك قد بلغت سناً يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلا وبسطت خيراً، فإنك قد كبرت، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم، فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه، وإن ذلك مما يبقى لك ذكره و ثوابه .

ص: 287


1- معجم رجال الحديث:12/ 239 في ترجمة علي بن ابي حمزة البطائني عن رجال الكشي رقم 310.
2- المغيرة بن شعبة من دهاة العرب وكان له دور خفي في الاحداث منذ عهد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وما بعده، وغلامه أبو لؤلؤة الفارسي هو من قتل عمر وقد ساعد معاوية في تشييد ملكه فكافئه بولاية الكوفة وتزلّف اليه بأن القى اليه بدعة استخلاف ولده يزيد .

فقال:هيهات هيهات، أي ذكر أرجو بقاءه مَلكَ أخو تيم - أي أبو بكر فعدل، و فعل ما فعل، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلاّ أن يقول قائل:أبو بكر، ثم ملك أخو عدي - أي عمر فاجتهد و شمّر عشر سنين، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلاّ أن يقول قائل:عمر، وإن ابن أبي كبشة - أي النبي محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فهو يستكبر عن الاعتراف بنبوته - ليُصاح به كل يوم خمس مرات " أشهد أن محمداً رسول الله، فأيُّ عمل يبقى و أيُّ ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك، لا والله إلاّ دفناً دفناً !! (1).ومن هذا تبرز أهمية الحث على خير العمل بمعنى الدعاء الى ولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وبيان فضائلهم ومحاسن كلامهم وسيرتهم المباركة (فأن الناس لو سمعوا محاسن كلامنا لأتبعونا)(2) فبهم قوام الدين وديمومته وحفظه من التحريف والشبهات والتزييف والكذب والافتراء وإفشال هذه المحاولات الشيطانية الهدّامة ولولا وجود الأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وقيامهم بأمر الدين لنُقِض بناؤه حجراً حجر من أول يوم كما دلَّت عليه الروايات المتقدمة وقد تواصوا بهذه الجريمة جيلاً بعد جيل وكان الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لهم بالمرصاد {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ} (المائدة:64) فوصف ولاية أهل البيت والدعوة اليها والتمسك بها بخير العمل في محله لان بها يُحفظ الدين وكل الطاعات والاعمال الصالحة، وهذا وجه ثالث.

ص: 288


1- شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد ج5 ص129.
2- بحار الأنوار: ج 2 ص 30.

والوجه الرابع:ما ورد في تفسير قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} (البينة:7) من كتب الفريقين أنها نزلت في علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وشيعته، كالذي رواه الحسكاني في شواهد التنزيل وموفق بن أحمد في كتاب المناقب بالإسناد عن علي أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(حدثني رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأنا مسنده الى صدري، فقال:أي علي، ألم تسمع قول الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} أنت وشيعتك، وموعدي وموعدكم الحوض، إذا جثت الأمم للحساب تدعون غرّا محجلين) وهي مما احتج بها أمير المؤمنين على أهل الشورى حينما عدَّد مناقبه وان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال للمسلمين (إن هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة، فنزلت الآية (فكبرَّ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وكبرّتم وهنأتموني بأجمعكم فهل تعلمون أن ذلك كذلك؟ قالوا:اللهم نعم) (1).ولكي يتم الاستدلال بالآية على ما نريد نضمّ اليها قوله تعالى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (الملك:2) وقوله تعالى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات:13) ونحوهما الدالة على ان معيار التفاضل وتفاوت المنزلة عند الله تعالى هو خير العمل وأحسنه فتتحقق النتيجة وهي أن أكرم الناس وخير البرية هم أهل خير العمل وأفضله وأحسنه وقد أفادت آية البينة أن خير البرية هم علي ومن تمسك بولايته وسار على منهجه، فالنتيجة أن أهل خير العمل هم علي وشيعته المتمسكون بولايته ولازمه ان خير العمل هو هذا.

ص: 289


1- راجع مصادر الروايات في تفسير البرهان: 10/ 206.

اذن علينا أيها الاحبة(1) أن نلبي – كل من موقعه:علماء وخطباء ومثقفين وكتّاب وشعراء وناشطين على مواقع التواصل وغير ذلك - هذا النداء (حيَّ على خير العمل) بعد أن نفهم معناه ونواظّب عليه ونبذل وسعنا في دعوة الناس كافة الى الاستجابة لهذا النداء لنكون من خير البرية الذين وصفتهم الآية الكريمة {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} (البينة:7)، وقد أتانا الله تعالى من آليات العمل ووسائل التواصل ما يغبطنا عليه سائر الأجيال لسعة الفرصة وقوة التأثير وحسن الاستجابة بتوفيق الله تعالى تمهيداً وتعجيلاً للظهور الميمون المبارك وإقامة دولة العدل الالهية.

ص: 290


1- كلمة متلفزة وجهّها سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) الى مؤتمر المبلّغين الذي عقده مكتب المرجع في قم المقدسة يوم الخميس 20/ ذي الحجة/ 1437 الموافق 22/ 9/ 2016 بمناسبة عيد الغدير الآغر وقرب حلول موسم التبليغ في شهري محرم وصفر.

القبس/183: سورة التكاثر:8

اشارة

{ثُمَّ لَتُسَٔلُنَّ يَومَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ}

موضوع القبس:نعمة ولاية اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)

الالتفات الى نعم الله تعالى:

قال الله تبارك وتعالى في أكثر من موضع من كتابه الكريم {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} (إبراهيم:34) (النحل:18)، ولو أجهد الإنسان نفسه لإحصاء هذه النعم فإنه يعجز فعلاً، بل إن كل نعمة يذكرها –كصحة وسلامة البدن هي في الحقيقة مجموعة من النعم لا تُعدّ ولا تحصى، فكل نفس من الهواء يستنشقه هو نعمة، وكل قطرة دم تسري في عروقه هي نعمة وكل نبضة من قلبه هي نعمة وهكذا، وإذا أراد الإنسان أن يعرف أهمية هذه النعم التفصيلية فليلتفت إلى ما يحصل لو حُرم منها.

وهكذا كل نعمة كرغيف الخبز الذي يأكله كل إنسان يومياً ويعتبره أمراً عادياً، فليتأمل كيف وصل إليه وكم نعمة اشتركت في إعداده، من الأرض التي جعلت صالحة للزراعة والماء الذي يسقيها، والحب الذي ينبت في تلك الأرض، والزارع الذي يصلح الأرض ويداري الزرع إلى أن يحصده ويخرج الحب من سنبله، ثم التاجر الذي ينقله، إلى الطحان والعجان والخباز والبائع، وأودع الله تعالى في هؤلاء غرائز تدفعهم إلى القيام بهذه الأعمال وتحمل المشاق

ص: 291

والصعوبات كحب البقاء.

علينا أن نشكر الله تعالى على نعمه:

ولكن الإنسان يغفل عن هذه النعم، وحتى لو التفت إليها فإنه لا يشكرها ولا يؤدي حقها، قال تعالى في ذيل الآية في موضعها الأول من سورة إبراهيم {إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (إبراهيم:34) فهو يظلم ربّه إذ لا يوفيه حقه، ويظلم نفسه لأنه يوقعها في الخسران العظيم، وهو كفار لأنه جاحد ومتنكر لهذه النعم، لكن الله الرحمن الرحيم خالق هذا الإنسان والعالم بمكوناته غفر له هذا التقصير، قال تعالى في ذيل الآية في موضعها الثاني من سورة النحل {إنّ اللهَ لغفورٌ رحيم}.

ومن رحمته أن جعل الاعتراف بالقصور والتقصير عن إحصاء النعم فضلاً عن شكرها هو حق الشكر له تبارك وتعالى، كما روي في أخبار الرسول الكريم موسى بن عمران (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن الله تعالى أوحى إليه أن يا موسى اشكرني حق شكري، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأنّى لي أن أشكرك حقّ شكرك، فأوحى الله إليه:إن هذا الاعتراف بالعجز هو حق شكري.

وفي الكافي (كان الإمام علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إذا قرأ هذه الآية (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا)(1) يقول:سبحان الذي لم يجعل في أحد من معرفة نعمة إلا المعرفة بالتقصير عن معرفتها، كما لم يجعل في أحد من معرفة إدراكه أكثر من العلم أنه لا يدركه، فشكر جل وعز معرفة العارفين بالتقصير عن معرفة شكره فجعل معرفتهم بالتقصير شكراً، كما عَلِم عِلْم العالمين أنهم لا يدركونه

ص: 292


1- الكافي الشيخ الكليني: 8/ 394/ح592

فجعله علماً). وفي مناجاة الشاكرين للإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فآلاؤك جمّة ضعف لساني عن إحصائها، ونعمائك كثيرة قصُر فهمي عن إدراكها، فضلاً عن استقصائها، فكيف لي بتحصيل الشكر وشكري إياك يفتقر إلى شكر، فكلّما قلتُ لك الحمد وجب عليّ لذلك أن أقول لك الحمد)(1).

شكر النعم المعنوية:

هذا كله في النعم المادية – إذا أمكن تسميتها وهي ملتفت إليها في الجملة، لكن ما لا نلتفت إليه إلا نادراً النعم المعنوية وعلى رأسها الإيمان بالله تعالى وبرسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وما جاء به، الذي هو وسيلة النجاة والفلاح في الحياة الباقية، وهو من أعظم النعم على الإنسان، بل به يصبح الإنسان إنساناً، أما غير المؤمنين فهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً.

نعمة الولاية لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):

ثم نعمة ولاية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والأئمة من بنيه (صلوات الله عليهم أجمعين)، في الكافي وتفسير القمي (قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} (إبراهيم:2829).

قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):ما بال أقوام غيّروا سنة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعدلوا عن وصيّه ولا يتخوّفون أن ينزل بهم العذاب:ثم تلا الآية ثم قال:نحن النعمة التي أنعم الله على

ص: 293


1- مفاتيح الجنان: 170

عباده وبنا يفوز من فاز يوم القيامة)(1) وورد في هؤلاء المبدلين لنعمة الله تعالى من طرق الفريقين عن علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وعمر بن الخطاب (هما الأفجران من قريش بنو أمية وبنو المغيرة، فقطع الله دابرهم يوم بدر وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين) وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (عنى بها قريش قاطبة الذين عادوا رسول الله ونصبوا له الحرب وجحدوا وصيه).وهذا التفسير شاهد على أن النعمة المقصودة هي الإيمان بالله تعالى وبرسوله الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وقد جاءت الآية محل البحث في ختام هذا السياق من الآيات المباركة.

تذكير الناس:

وفي ضوء هذا فقد كان الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) يصححون هذا الفهم لدى الناس وينبهونهم من غفلتهم، فقد ورد في تفسير قوله تعالى {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} (التكاثر:8) عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن النعيم الذي يُسأل عنه:رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومن حلّ محله من أصفياء الله، فإن الله أنعم بهم على من أتبعهم من أوليائهم).

وفي تفسير العياشي عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أنه سأله أبو حنيفة عن هذه الآية، فقال له:ما النعيم عندك يا نعمان؟ قال:القوت من الطعام والماء البارد، فقال:لئن أوقفك الله يوم القيامة بين يديه حتى يسألك عن كل أكلة أكلتها أو شربة شربتها

ص: 294


1- تفسير الصافي4/ 240 عن الكافي، باب أن النعمة التي ذكرها الله عز وجل في كتابه الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).

ليطولّن وقوفك بين يديه، قال:فما النعيم جعلت فداك؟ فقال:نحن أهل البيت النعيم الذي أنعم الله بنا على العباد، وبنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين(1)، وبنا ألّف الله بين قلوبهم وجعلهم إخواناً بعد أن كانوا أعداءً. وبنا هداهم الله للإسلام، وهو النعمة التي لا تنقطع، والله سائلهم عن حق النعيم الذي أنعم به عليهم، وهو النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعترته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).وفي رواية:(انه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال له:بلغني انك تفسّر النعيم في هذه الآية بالطعام، والطيب، والماء البارد في اليوم الصائف؟ قال:نعم، قال:لو دعاك رجل وأطعمك طعاماً طيباً وسقاك ماءً بارداً ثم امتنّ عليك به إلى ما كنت تنسبه؟ قال:إلى البخل، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):أفيبخل الله تعالى؟ قال فما هو؟ قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):حبنا أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)(2).

وروايات أخر بهذه المضامين(3).

نعمة حسن الخلق:

ومن هذه النعم المعنوية حُسن الخلق وبها امتدح الله تعالى نبيه الكريم

ص: 295


1- هذا تطبيق منه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لقوله تعالى: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (آل عمران:103).
2- أقول: ذكر الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هذا لتصحيح فهم أبي حنيفة وإلا فإن الإنسان يُسأل عن ماله مم اكتسبه وفيم أنفقه، وعن أولاده كيف ربّاهم ومم أنفق عليهم وهكذا، نعم لا يُسأل عن ضرورات حياته وهذا وجه للجمع بين الروايات، ويشهد له صحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (ثلاثة أشياء لا يحاسب عليهن المؤمن: طعام يأكله، وثوب يلبسه، وزوجة صالحة تعاونه ويحصن بها فرجه) (وسائل الشيعة، أبواب مقدمات النكاح، باب9، ح1).
3- نقلها تفسير الصافي: 7/ 547548 عن تفسير القمي والعياشي وعيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والكافي والمحاسن.

{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4) والناس لا تلتفت إلى هذه النعم ولا تعيرها اهتماماً ولذا فإنهم لا يحسدون صاحبها عليها، وقد ورد في التواضع ما مضمونه انه نعمة لا يحسد عليها صاحبها، فهل يلتفت المجتمع إلى تهنئة من يكتسب خلقاً كريماً أو يؤدي طاعة عظيمة كصلاة الليل أو بر الوالدين أو قضاء حوائج الناس أو المواظبة على صلاة الجماعة في المساجد كما يهنئون من يرزق مالاً أو ولداً، وهل يعزّون أحداً على فوات شيء من ذلك كنومه عن صلاة الصبح أو عقوق الوالدين أو الإفطار في شهر رمضان كما يعزون على فقدان عزيز أو حصول خسارة.

نعمة الزوجة الصالحة:

ومن هذه النعم الزوجة الصالحة، ففي الحديث الشريف عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد الإسلام أفضل من زوجة مسلمة تسرّهُ إذا نظر إليها، وتطيعه إذا أمرها، وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله).(1)

علينا أن نتحدث بالنعم المعنوية:

هذه النعم المعنوية (الإيمان بالله وبرسوله وولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وحسن الأخلاق) هي الأوضح في عدم قبولها الإحصاء والاستقصاء لأنها تمتد إلى الحياة الباقية الخالدة، ولان بركاتها وأثارها واسعة، ولأنها مستمرة بالعطاء لا تنقطع كما عبّر الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حديثه مع أبي حنيفة وهذه النعم هي التي طلب الله تعالى من عباده أن يتحدثوا بها وينشروها ويدعوا الناس إليها لتغمرهم سعادتها، قال تعالى {وأمّا بنعمةِ ربّك فحدّث}.

ص: 296


1- وسائل الشيعة، كتاب النكاح، أبواب مقدماته وآدابه، باب9، ح10.

عن الحسين بن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(أمره أن يحدِّث بما أنعم الله عليه من دينه)(1).ولا نتوقع أن المطلوب أن يتحدّث الإنسان بما عنده من أموال وعقارات وأولاد ونحوها، نعم ورد في تطبيق الآية على هذا المستوى أن يُظهر الإنسان نعمة الله عليه، لأن التظاهر بعكسها كذب في الفعل وإخفاء لنعمة الله عليه، ففي الكافي عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إذا أنعم الله على عبده بنعمة فظهرت عليه سمي حبيب الله محدّثاً بنعمة الله، وإذا أنعم الله على عبده بنعمة فلم تظهر عليه، سمي بغيض الله مكذّباً بنعمة الله).(2)

شهر رمضان:من النعم المعنوية:

ومن تلك النعم المعنوية التي أكرمنا الله تعالى بها شهر رمضان الذي أطلّ علينا. بفضل الله تبارك وتعالى، فاستقبلوه بمعرفة فضله، وعظيم نعمة الله تعالى به، وأنّى لنا أن نعرفه حق معرفته لولا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأهل بيته الكرام، فاعرفوا حقه وقدره من خطبة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في آخر جمعة من شعبان(3) وتأملوا فيها جيداً.

واعرفوه أيضاً من دعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في استقباله، ودعائه في وداع شهر رمضان الذي نصحتُ مراراً بقراءته قبل دخول الشهر لنزداد بصيرة بعظمة هذا الشهر الشريف ونستعد له، والدعاءان موجودان في الصحيفة السجادية.

ومما ورد في ثانيهما في بيان عظيم نعمة الله تعالى بهذا الشهر الشريف قوله

ص: 297


1- تفسير الصافي: 70/ 504 عن المحاسن للبرقي.
2- المصدر نفسه عن الكافي: باب التجمّل وإظهار النعمة.
3- راجعها في مفاتيح الجنان في فضلِ شهر رَمضان وأعمالِه.

(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ما أفشى فينا نعمتك، وأسبغ علينا منّتك، وأخصّنا ببرّك، هديتنا لدينك الذي اصطفيت، وملتّك التي ارتضيت، وسبيلك الذي سهّلت، وبصّرتنا الزلفة لديك، والوصول إلى كرامتك) ثم قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اللهم وأنت جعلت من صفايا تلك الوظائف وخصائص تلك الفروض شهر رمضان الذي اختصصته من سائر الشهور، وتخيّرته من جميع الأزمنة والدهور، وآثرته على كل أوقات السنة، بما أنزلت فيه من القرآن والنور. وضاعفت فيه من الإيمان، وفرضت فيه من الصيام، ورغّبت فيه من القيام) إلى أن قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وقد أقام فينا هذا الشهر مُقام حمد، وصحبنا صحبة مبرور، وأربحنا أفضل أرباح العالمين)، وقد شرح النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هذه الأرباح في خطبته التي اشرنا إليها، وهي حقاً أفضل أرباح العالمين.

وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ:

والتزاماً بالآية الشريفة {وأما بنعمة ربك فحدّث} ينبغي لنا أن نستقبل هذا الشهر الشريف وهذه النعمة المباركة بمعرفته والاستعداد له بالتوبة والاستغفار والعزم على مضاعفة الهمة في الطاعات والورع عما حرّم الله تعالى، وصيام الأيام الأخيرة من شعبان ولو للقضاء عما في الذمة، وأن نضع لنا برامج نقضي بها أيامه ولياليه الشريفة تتضمن أداء صلوات مستحبة وأدعية وتلاوة القرآن لأنه شهر رمضان ربيع القرآن،وتتضمن حضور المساجد لأداء صلاة الجماعة والاستماع إلى محاضرات الوعظ والإرشاد مباشرة أو التي تنقلها الفضائيات بفضل الله تبارك وتعالى. وان نتحدث بفضل هذا الشهر وعظمته، وندعو الناس إلى أداء حق الله تعالى فيه أكثر مما في غيره من لزوم الطاعات واجتناب المعاصي، وان نقيم الفعاليات التي تحفّز المجتمع على طاعة الله تبارك وتعالى وذم معصيته بنشر

ص: 298

اللوحات الجدارية والبوسترات التي تتضمن الأحاديث الشريفة.ونذكركم بما قلناه سابقاً من وضع مكبرات الصوت على السيارات وتجوب شوارع المدن مرحبّة بالشهر الشريف ومبيّنة لعظمته وثواب الطاعة فيه وعقوبة المخالفين، إقامة المسيرات والمهرجانات الاحتفالية بقدوم هذا الشهر المبارك وتلبية الدعوة لضيافة الرحمن والتزوّد من الموائد الإلهية.

ماذا علينا تجاه النعم المعنوية؟

أقول كلامي هذا:

1 لنلتفت إلى النعم الحقيقية التي تبقى ونعمل على تحصيلها.

2 ولنزهد في ما سواها من النعم الزائلة التي يفني الغافل عمره في جمعها والعناية بها ومتابعتها فيكون خادماً لها بدل أن تكون هي خادمة له، فصاحبها لا يحسد عليها حقيقة.

3 وأن نبذل الوسع في التحدث بهذه النعم الحقيقية وندعو الناس إليها ونرغّبهم فيها.

4 ولنتجنّب هذا التزاحم والتغالب والصراع على تلك الأمور الوهمية التي يُخدع بها الغافلون.

قال تعالى في المقارنة بين النوعين من النعم {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ، قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا

ص: 299

الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (آل عمران:1415) إن اختيار اسم (النعيم) لهذه الفضائية(1) التي أنطلق بثها تزامناً مع حلول شهر رمضان المبارك، يحملّها مسؤولية التحدث بهذه النعم العظيمة.

أسأل الله تعالى أن يجعل هذه القناة منبراً لبيان النعم الحقيقية ودعوة الناس إليها وخلق الحوافز لديهم للتمسك بها مع عدم إهمال الحديث عن النعم المادية كسعة المال وصحة البدن والأمن والعافية والولد والاستقرار وكيفية استثمارها في طاعة الله تبارك وتعالى.

وأن تكون هذه القناة نافذةً يُطلّ منها العلماء والمفكرون والعاملون المخلصون على الدنيا لتسمع منهم وتهتدي بهم ويحققوا أمل الأئمة الأطهار (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عندما حثوا شيعتهم على إيصال صوتهم للبشرية جمعاء وقالوا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا)(2) فلتتحدث القناة بهذه النعم الإلهية وتدعو الناس إليها، فإن اختيار الاسم للقنّاة جاء منسجماً مع هذه المسؤولية {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (المطففين:26).

ص: 300


1- كلمة سجّلها سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) إلى قناة النعيم الفضائية لمباركة انطلاقتها تزامناً مع حلول شهر رمضان المبارك يوم الجمعة 27/شعبان/1432 المصادف 29/ 7/ 2011.
2- معاني الأخبار الشيخ الصدوق: 180

القبس/184: سورة العصر:3

اشارة

{وَتَوَاصَواْ بِٱلحَقِّ وَتَوَاصَواْ بِٱلصَّبرِ}(1)

أهمية سورة العصر:

سورة (العصر) قصيرة جداً في كلماتها لا تتجاوز السطرين لكنّها عظيمة في فضلها، خطيرة في مضمونها، وإنها مظهر من مظاهر إعجاز القرآن حينما يُقدِّم في سطر واحد منهجاً متكاملاً لنجاح البشريّة من أوّل الخلقة إلى نهايتها ويعرِّف هويّة الأمّة الرابحة الفائزة ويعلّمها وظائفها في هذا السطر.

روى الشيخ الصدوق بسنده عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(من قرأ (والعصر) في نوافله بعثه الله يوم القيامة مشرقاً وجهه ضاحكاً سنّه، قريرة عينه حتّى يدخل الجنة)(2)، ولأهمية ما جاء فيها فقد ورد أن أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كانوا اذا اجتمعوا لا يفترقون إلاّ بعد تلاوة سورة (والعصر) ويتذاكروا في مضامينها(3).

ص: 301


1- كلمة سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من منتسبي هيئة الحج والعمرة في بغداد والمحافظات يوم الخميس 2/ج1/ 1434 الموافق 14/ 3/ 2013.
2- ثواب الأعمال: 125.
3- الدر المنثور: 6/ 392.

معنى (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ):

يبتدئ الله تبارك وتعالى السورة بالقسم (والعصر) بمعانيه المختلفة كما وردت في التفاسير، فيقسم الله عزّ من قائل – وهو أصدق القائلين لتأكيد الكلام ولإثارة انتباه المخاطب إلى الحقيقة التي سيقولها، لأنّها حقيقة خطيرة {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} ليس الإنسان بحسب تكوينه وأصل خلقته، لأنّه خُلق للكمال وللمعرفة بالله تعالى ولإخلاص الطاعة له سُبحانه والاستقامة على ما أراد منه، لذلك أسجد له ملائكته وقال تعالى {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة:30), فليس الإنسان بالحمل الأولي –كما في المصطلح هو في خسر، بل الإنسان الموجود على أرض الواقع أي بلحاظ سلوكه وسيرته أي أفراد الإنسان ومصاديقه بالحمل الشائع –كما في المصطلح الذي يخالف فطرته حينما يخرج إلى هذه الدنيا وينسى عهده مع ربّه الذي واثقه عليه {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (الأعراف:172).

فهذا الإنسان الذي خلق للسمو والتكامل، تراه ينحدر ويتسافل ويعرض عن ذكر ربّه، فيخسر رأس ماله وكلّ القوى التي زوّدها الله تعالى بها لتحقيق الغرض المنشود من حياة ووجود وعقل وفكر وبدن وثروة وجاه وعلاقات وأسرة وعشيرة وموقع وغيرها، حتّى الأشياء البسيطة الدقيقة التي يمكن أن تُكتسب بها الجنان {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} (الزلزلة 7)، كتسبيحة أو ذكر مع كل شهيق وزفير وفي كل طرفة عين.

وإذا به على العكس يسخّرها للشقاء والعذاب، فإذن هو فعلاً (في خسر)، بل

ص: 302

خسر عظيم، قال تعالى {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}(الزمر15)، كمن يزوّد برأس مال عظيم وتوفَّر له كلّ فرص النجاح والاستثمار وتقدِّم له كلّ معونة والتسهيلات في السوق، لكنّه بحماقته وضيق نظره يخسر كلّ ذلك، عن الإمام الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الدنيا سوق ربح فيها قوم وخسر آخرون)(1).

ثمن النفس هو الجنة:

هذه الصفقة التي أنشأها الله تعالى مع عباده {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} (التوبة:111) فلا ثمن لهذه النفس إلاّ الوفاء بهذه الصفقة، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إنّه ليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنّة فلا تبيعوها إلاّ بها)(2).

والتعبير يمزج مع التحذير والتهديد والتوبيخ استغراباً وعتاباً، لأنّ الله تعالى خلقهم للرحمة والسعادة والفوز وأعطاهم كلّ ما يوصلهم إلى هذه النتيجة من أسباب معنوية ومادّية قال تعالى {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود 119), وروي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (يقول الله تعالى:يا ابن آدم، لم أخلقك لأربح عليك، إنّما خلقتك لتربح عليّ, فاتخذني بدلاً من كل شيء، فإني ناصر لك من كل شيء)(3).

ص: 303


1- بحار الأنوار: 72/ 366 ح1، تحف العقول: 361.
2- نهج البلاغة: قصار الكلمات، رقم 74.
3- ميزان الحكمة: 1/ 334 الحديث 1604 عن شرح نهج البلاغة: 20/ 319، 665.

لماذا يحصل الخسران؟

فلماذا يخسرون كلّ ذلك بتوظيفه في عكس الهدف الذي خلقوا من أجله {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} (يس30)، لذلك يسجّل القرآن الكريم استغرابه من دخول أهل النار إليها، قال تعالى {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} (المدثر42)، ولم يسجّل استغرابه من دخول أهل الجنة فيها لأن وجودهم على القاعدة ومع الهدف الذي خُلقوا من أجله.

والمرعب في هذه الحقيقة إطلاقها وعمومها (إن الإنسان) مطلقاً فتكون كقوله تعالى {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } (مريم:7172).

المستثنون من الخسران:

نعم استثني من هذه النتيجة المهولة بعض توفّرت فيه أربع خصائص مجتمعة:

1(إلاّ الذين آمنوا) واعتقدوا صدقاً وإخلاصاً بكل العقائد الحقّة بتوحيد الله تعالى والرسالة للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وولاية أمير المؤمنين والأئمة المعصومين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وسائر العقائد الحقّة.

2(وعملوا الصالحات) لأنّ الإيمان لا يكون حقيقياً وصادقاً إلاّ أن يظهر إلى الخارج بعمل صالح يكون موافقاً لما يريده الله تبارك وتعالى.

وهذا المقدار مفهوم وواضح وذكرته آيات عديدة، لكنّ الأهمية والخطورة التي أشرنا إليها في هذه السورة هي فيما أضافته الآية من شرطين للفوز والنجاة

ص: 304

من الخسران، حيث لم تكتفي بالركنين السابقين، وهما:3(وتواصوا بالحق) فلا يكتفون بكونهم صالحين في أنفسهم مؤمنين يعملون الصالحات بل يتحركون برسالتهم في المجتمع فيوصي بعضهم بعضاً بالتزام الحق والعمل به، والتعبير بالتواصي يتضمّن معنى الإستمرارية والتواصل، والحق الذي يتواصون به له مساحة واسعة، فكلّ خير وكل ما هو مثمر وكلّ ما يوصل إلى الله تبارك وتعالى ويعين على طاعته ويجنّب معصيته هو حق فيتواصون به.

وهذا له مدى واسع فيشمل الدعوة إلى الله تبارك وتعالى والإسلام وولاية اهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ونشر فضائل أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ومظلوميتهم من الأعداء، ونشر أحكام الدين وتقديم النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحقوق التفصيلية الكثيرة كالتي تضمنتها رسالة الحقوق للإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

ولا بدّ لمن يقوم بهذه الوظيفة أن يكون ملتفتاً قبل ذلك إلى نفسه فيتعاهدها ويتواصى معها ويشارطها على الهدى والصلاح والثبات، لأنّها أعز وأثمن من يتواصى معه.

إن الحقّ إذا لم يتم التواصي به والتواصل معه جيلاً بعد جيل وبين عامة الجيل الواحد أي التحرّك به أفقياً وعمودياً فإنّه يضيع كما ضاعت حقوق كثيرة وعلى رأسها حقّ الإمامة وولاية أمر الأمة لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأولاده المعصومين (سلام الله عليهم أجمعين).

قال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إنّ حقوق الناس تثبت بشهادة شخصين، وقد أنكِرَ حق جدّي أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وعليه سبعون ألف شاهد كانوا مع رسول

ص: 305

الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في غدير خم)(1).4(وتواصوا بالصبر) فإنّ من يسير بهذا الطريق الذي تخلّى عنه أكثر الناس وأصبحوا ينظرون إليه بازدراء وسخرية سيلقى الكثير من المشقّة والعنت والأذى وسيتطلب منه تضحية كثيرة بأعز ما لديه فيحتاج إلى صبر ومصابرة ومرابطة وثبات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(آل عمران:200)، فيوصي هؤلاء الثلة القليلة بعضهم بعضاً بالصبر والمضي على هذا النهج المقدّس المبارك.

إصلاح الآخرين:

إنّ الحقيقة الخطيرة التي أضافتها هذه السورة المباركة أن الإيمان والعمل الصالح على مستوى النفس غير كافٍ للفوز وللنجاة من الخسران الشامل لأفراد الإنسان، بل لابد أن ينضم له التحرّك بهذه الوظيفة في المجتمع والاستمرار على ذلك والثبات عليه وتحمّل أعبائه.

وبتعبير مختصر أنّ صلاح الفرد الشخصي لا يكفي من دون أن يضم له العمل على إصلاح الآخرين، وهي مسؤولية كبيرة لكن منزلتها عظيمة لا مكان فيها للمتقاعس والمتكاسل الذي لا يكترث بما يعجّ به المجتمع من مفاسد وظلم وانحراف وضلالات وشبهات وخرافات وجهل وغير ذلك.

حينئذٍ يتحقق صلاح الفرد وصلاح المجتمع أيضاً، ونجاة الفرد ونجاة المجتمع وعزّتهما معاً بفضل الله تبارك وتعالى.

ص: 306


1- بحار الأنوار: 37/ 158 باب52.

التواصي بالحق والتواصي بالصبر:

وإذا قابلنا هذه الآية مع الآيتين المتقدّمتين من سورة {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} (مريم:72) نحصل على تعريف للتقوى فتكون حقيقتها الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر بمقتضى المطابقة وتحقيق ما تحصل به النجاة من النار والخسران.

وهذه الحقيقة طبيعية لأنّ الإيمان يدعو إلى العمل الصالح، والعمل الصالح لا يعرف الإنزواء والجمود والتقوقع، وإنّما يدعو للحركة المثمرة لهداية الآخرين وإرشادهم ونصحهم ومساعدتهم، فإنّ من أعظم الأعمال الصالحة ما كانت مندرجة في هذه الحركة الاجتماعية لذا ورد في بعض الروايات تفسير عمل الصالحات بمواساة الإخوان(1).

إن مسؤولية التواصي بالحق والتواصي بالصبر لا تختص بالمبلغين والمرشدين من الحوزة العلمية بل هي شاملة لكل الناس خصوصاً مع توفّر سبل الهداية وقنوات الإصلاح والتأثير لكل العاملين على شبكات المعلومات وصفحات التواصل الاجتماعي والفضائيات.

ص: 307


1- كمال الدين وإتمام النعمة: 656 ح1.

القبس/185: سورة الناس:4

اشارة

{مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}

موضوع القبس: احذروا مكر شياطين الجن والإنس

سورتا المعوذتين من كرائم السور القرآنية وفيهما بركات كثيرة روى عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (من قرأها عند النوم كان في حرز الله تعالى حتى يصبح، وهي عوذة من كل ألم ووجع وآفة وهي شفاء لمن قرأها)(1) .

وأخرج في مجمع البيان من حديث أبي (من قرأ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) فكأنما قرأ جميع الكتب التي أنزلها الله على الأنبياء)(2) وفيه أيضاً عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (جاء جبرئيل إلى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو شاكٍ فرقاه بالمعوذتين وقل هو الله أحد وقال: بسم الله ارقيك والله يشفيك من كل داء يؤذيك، خذها فلتهنئك).

وروى علي بن إبراهيم في تفسيره عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال (كان سبب نزول المعوذتين انه وعك رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فنزل عليه جبرئيل

ص: 308


1- البرهان في تفسير القرآن: 10/ 281
2- مجمع البيان: 10/ 278

(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بهاتين السورتين فعوذه بهما)(1) ولاجل ذلك اشتبه بعض الصحابة فظنهما تعويذتين وليستا من القرآن لكن الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) صححوا هذا الاشتباه، فقد روى القمي في تفسيره بسنده عن الحضرمي قال (قلت لأبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):ان ابن مسعود كان يمحو المعوذتين من المصحف فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):كان أبي يقول: إنما فعل ذلك ابن المسعود برأيه وهما من القرآن)(2) وفي رواية أخرى (أمَّنا أبو عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في صلاة المغرب فقرأ المعوذتين ثم قال: هما من القرآن)(3) .والسورتان عظيمتا البركة والتأثير وقد دخلتا في عدد كبير من السنن والمستحبات روي عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) اذا كسل أو أصابته عين أو صداع بسط يده فقرأ فاتحة الكتاب والمعوذتين ثم يمسح يده على وجهه فيذهب ما كان يجده)(4)، روي عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (من أوتر بالمعوذتين وقل هو الله أحد) قيل له:يا عبدالله، أبشر فقد قبل الله وترك)(5) .

والوسوسة: الحديث الخفي في باطن الانسان الذي لا كلام فيه وإنما هي معاني تخطر في الذهن وتسويلات وأوهام تلقى في مخيلة الإنسان

ص: 309


1- تفسير القمي: 2/ 450
2- تفسير القمي: 2/ 450
3- الكافي: 3/ 317 ح 26
4- مكارم الأخلاق: 2/ 203 ح 2523
5- ثواب الأعمال:129

ليقع تحت تأثيرها ويسير باتجاه امتثالها قبل التدقيق فيها لتمييز صوابها من خطأها، وعدم تحكيم العقل الرادع عنها. وهذه الوساوس قد يكون مصدرها النفس الأمّارة بالسوء {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} (ق:16) أو ابليس {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} (الأعراف:20) أو عموم شياطين الأنس والجن {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} (الناس:46)، في امالي الصدوق بإسناده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: لما نزلت هذه الآية {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} (آل عمران:135) صعد إبليس جبلاً بمكة يقال له ثور، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه. فقالوا: يا سيدنا، لم دعوتنا؟ قال: نزلت هذه الآية، فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين، فقال: أنا لها بكذا وكذا. قال: لست لها. فقام آخر فقال مثل ذلك، فقال: لست لها. فقال الوسواس الخناس: أنا لها. قال: بماذا؟ قال: أعدهم وأمنيهم حتى يواقعوا الخطيئة، فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الاستغفار، فقال: أنت لها، فوكله بها إلى يوم القيامة)(1) .

وفي مقابل هذه الوسوسة يوجد حديث خفي رحماني يوجه الانسان نحو الخير والصلاح يسمى الهاماً أو ايحاءاً {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} (القصص:7) {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} (الأنبياء:73).

ص: 310


1- امالي الصدوق: 1/ 551

وهو من الالطاف الإلهية التي تجلب الخير والسعادة للإنسان ويتدافع هذان الحديثان داخل الانسان كسائر جنود الرحمن والشيطان البالغ خمسة وسبعين لكل منهم(1) وفي الحديث الشريف عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ما من قلب الا وله أُذنان، على أحدهم ملك مرشد وعلى الآخر شيطان مفتِّن، هذا يأمره وهذا يزجره، وكذلك من الناس شيطان يحمل الناس على المعاصي، كما يحمل الشيطان من الجن)(2) .هذا التدافع يحسُّه كل واحد منّا إزاء مختلف المواقف التي يواجهها والانسان بأختياره يرِّجح هذا الدافع او ذاك، وممن عبّر عن هذه الحالة عمر بن سعد ليلة تكليفه بقيادة الجيش لحرب الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بأبياته المعروفة ومنها:

أأترك ملك الري والري منيتي *** أم ارجع مأثوماً بقتل حسينِ

روى الشيخ الكليني(3) بسند صحيح عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ما من مؤمن الا ولقلبه أُذنان في جوفه، أذن ينفث فيه الوسواس الخناس، وأُذن ينفث فيه الملك فيؤيد الله المؤمن بالملك فذلك قوله تعالى {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} (المجادلة:22) .

والخنس: الاستتار والتخفي بعد الظهور والانقباض والتراجع والتأخر والابتعاد، قال تعالى {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} (التكوير:15) وهي النجوم

ص: 311


1- الكافي ط الإسلامية: ج: 1 ص : 21
2- تفسير القمي: 2/ 450
3- الكافي: 2/ 206 ح 3

اذا غابت وسمي الشيطان خناساً لأنه ينقبض ويتراجع عن وسوسته عندما يُذَكر الله تعالى وتبعه على ذلك شياطين الانس {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} (الزمر:45) وقد ورد في الحديث الشريف عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (ان الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فاذا ذكر الله سبحانه خنس واذا نسي التقم قلبه فذلك الوسواس الخناس)(1) .فالآية الكريمة تبين طبيعة عمل الشيطان وحدود تأثيره على الانسان اذ لا يزيد عمله على الوسوسة مستتراً متخفيّاً مبتعداً عمَّن يوسوس له، لذا فالانتصار عليه مقدور بترك الانسياق وراء وسوسته وتزيينه، ويعترف الشيطان يوم القيامة بانه لم يقم بغير هذا {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} (إبراهيم:22)، روى علي بن ابراهيم في تفسير الوسواس الخناس (اسم الشيطان الذي في صدور الناس يوسوس فيها ويؤيسهم من الخير ويعدهم الفقر، ويحملهم على المعاصي والفواحش، وهو قول الله عزوجل {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} (البقرة:268))(2).

فيأمر الله تعالى نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومن خلاله الناس جميعاً ان يستعيذ بالله تعالى من شر هذا الوسواس المخادع {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} (الأعراف:20) وهو يأمل من

ص: 312


1- مجمع البيان: 10/ 281
2- البرهان: 10 / 281 ح 1

وسوسته انه حتى لو لم ينجح في إضلال الشخص وايقاعه في المعصية فلا أقل من تشويش ذهنه واضطراب نفسه وتضييع وقته وزيادة همه، قال تعالى {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (المجادلة:10). وتُعلمنا السورة ان لا طريق للتخلص من تأثيرات هذه الوساوس الشيطانية الا باللجوء الى الله تبارك وتعالى حتى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) المعصوم طلب منه ذلك لأنه ما كان ليصل إلى هذه المرتبة لو لا لطف الله تعالى وتأييده {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} (الإسراء:74) فغيره (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أولى بهذه الاستعاذة بالله تعالى. لأنه سبحانه جامع لكل ما يوجب اللجوء اليه والاستعاذة به.

{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ} (الناس:13) فان من طبع الإنسان إذا أقبل عليه شر يحذره ويخافه على نفسه وأحسَّ من نفسه الضعف أن يلتجئ بمن يقوى على دفعه ويكفيه وقوعه، والذي يراه صالحاً للعوذ والاعتصام به أحد ثلاثة إما رب يلي أمره ويدبره ويربيه ويرجع إليه في حوائجه عامة، ومما يحتاج إليه في بقائه دفع ما يهدده من الشر، وهذا سبب تام في نفسه.

وإما ذو قوة وسلطان بالغة قدرته نافذ حكمه يجيره إذا استجاره فيدفع عنه الشر بسلطته كملك من الملوك، وهذا أيضاً سبب تام مستقل في نفسه.

وهناك سبب ثالث وهو الإله المعبود فإن لازم معبودية الإله وخاصة إذا كان واحداً لا شريك له إخلاص العبد نفسه له فلا يدعو إلا إياه ولا

ص: 313

يرجع في شيء من حوائجه إلا إليه فلا يريد إلا ما أراده ولا يعمل إلا ما يشاؤه.والله سبحانه رب الناس وملك الناس وإله الناس كما جمع الصفات الثلاث لنفسه في قوله {ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (الزمر:6)(1) .

أقول: ولعل عدم العطف بينهما بالواو للإشارة إلى استقلالية كل صفة في السببية.

ويحتمل في مقابل ذلك أن يكون كل سبب لاحق مكمل للاحق فان الرب والمربي قد لا يقدر على إجارة من يربيه من كل سوء الا أن يكون عنده الملك والسلطنة والقدرة وهذا أيضاً قد يعجزه شيء ما الا اذا كان إلهاً حكيماً عليماً قادراً مهيمناً.

والاستعاذة لا يكفي فيها تحريك اللسان من دون تعلق صادق بالله تعالى والتزام بما أمر به تعالى من شريعة وأحكام وسلوك ومعتقدات ونظام متكامل للحياة منهجاً وسلوكاً، غاية وأدوات والابتعاد عن أصدقاء السوء وأبواق الشيطان ومجالس اللهو والباطل التي تكون مرتعاً للشياطين.

(على المستعيذ الحقيقي ان يقرن قوله (رَبِّ النَّاسِ) بالاعتراف بربوبية الله تعالى، وبالانضواء تحت تربيته، وان يقرن قوله (مَلِكِ النَّاسِ) بالخضوع لمالكيته، وبالطاعة التامة لأوامره، وان يقرن قوله (إِلَهِ النَّاسِ) بالسير في

ص: 314


1- الميزان في تفسير القرآن: 20/ 458

طريق عبوديته، وتجنب عبادة غيره، ومن كان مؤمناً بهذه الصفات الثلاثة، وجعل سلوكه منطلقاً من هذا الايمان فهو دون شك سيكون في مأمن من شر الموسوسين)(1) .علينا ان لا نستهين بوسوسة الشياطين ولا نقلل من تأثيرهم لأنهم يزينون الأعمال القبيحة ويصورونها وكأنها نافعة لهم وفي مصلحتهم ويلبسون الباطل ثوب الحق بطرق ماكرة خفية تنطلي على الشخص نفسه، في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إنما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق فأما أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين ودليلهم سمت الهدى، واما أعداء الله فدعاؤهم فيها الضلال ودليلهم العمى)(2).

وهكذا تختلط الأمور بسبب وسوسة الشياطين قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين - أي الطالبين - ولو أنّ الحق خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين، ولكن يؤخذ من هذا ضغث - أي قبضة - ومن هذا ضغث فيمزجان، فهناك يستولى الشيطان على اوليائه وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى)(3) وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (احذروا الشبهة فانها وضعت للفتنة)(4) .

ص: 315


1- الأمثل: 15/ 627
2- نهج البلاغة: الخطبة 38
3- نهج البلاغة: الخطبة 50
4- تحف العقول : 155

والوسوسة لها درجات وانماط كثيرة بحسب مناعة الشخص وورعه فبعضهم يغريه بالمعصية مباشرة كتزينه العلاقة مع امرأة أجنبية لذا ورد في التحذير من الخلوة بالمرأة عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (لا يخلون رجل بإمرأة فما من رجل خلا بامرأة إلاّ كان الشيطان ثالثهما)(1).أو انه مؤتمن على مال أو موقع فيزين له أن يمدّ يده إليه ويحوِّله الى مغانم شخصية على حساب الشعب أو من ائتمنه عليه.

وقد يكون الشخص ورعاً فلا يغريه بالمعصية وإنما يأتيه من جهة تدينه وورعه فيدعوه تحت عنوان الاحتياط إلى التشدّد في العبادات والمبالغة وعدم القناعة بالأعمال التي يؤديها فيعيدها ويلّح فيها لكي يتعبه ويرهق اعصابه ويضيّع وقته وينفّره من العبادات.

روى الشيخ الكليني (قدس سره) بسند صحيح عن عبدالله بن سنان قال (ذكرت لأبي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) رجلاً مبتلى بالوضوء والصلاة، وقلت: هو رجل عاقل، فقال أبو عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):واي عقل له وهو يطيع الشيطان؟ فقلت له: وكيف يطيع الشيطان؟ فقال: سله: هذا الذي يأتيه من أي شيء هو؟ فيقول لك: من عمل الشيطان)(2) .

ونحن نرى اليوم شياطين الانس يلبسون مشاريعهم الخبيثة التي تدعو الى الابتعاد عن الله تعالى ونبذ القيم الدينية والاجتماعية السامية وتفكيك أواصر الاسرة والمجتمع والدعوة الى الشهوات والانفلات تحت عناوين خادعة، ولو

ص: 316


1- جامع أحاديث الشيعة، ج20، ص309.
2- وسائل الشيعة: 1/ 63 ، باب 10 ح 1

أنهم اظهروا صورهم الحقيقية أمام الناس وتحدّثوا بصراحة عما يريدون لرفضوهم وطردوهم، مسخرين امكانياتهم المالية والإعلامية ومؤسساتهم واقلامهم وكُتابهم ومؤتمراتهم ومهرجاناتهم لخلط السم بالعسل وتسويق خططهم الشيطانية فيندفع وراءها كثير من المخدوعين والسذّج الذين لم يلتجأوا الى الله تعالى ولم يتحصنوا به من مكرهم وخبثهم، وقد يستعمل الطواغيت المتسلطون قوتهم العسكرية وأدوات بطشهم وقسوتهم أي القوة الخشنة مضافاً إلى القوى الناعمة لإجبار الشعوب على التخلي عن دينها.لقد كثرت وصايا المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بالامتناع عن السير وراء من لم تعرف صلاحهم وحجتهم البالغة من الله تعالى لنكون في مأمن من شر الموسوسين، وحذرونا من اقتحام الأمور المشتبهة، فروي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فمن رعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه)(1) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (لا ورع كالوقوف عند الشبهة)(2) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (حلال بيِّن وحرام بيِّن وشبهات بين ذلك فمن ترك ما اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبان له أترك)(3).

ان الوسوسة قد تتحول الى حالة مرضية غير طبيعية شخّصها الطب وتسمى بالوسواس القهري، وقد ذكرت الروايات بعض العلامات التي تكشف بلغة الجسد عن ان صاحبها مبتلى بدرجة من درجات الوسوسة كالحديث الذي رواه الشيخ

ص: 317


1- ميزان الحكمة: 4/ 361 ح 9293
2- نهج البلاغة : الحكمة: 113
3- من لا يحضره الفقيه: 4/ 75 ح 5149

الصدوق في الخصال فيما أوصى به النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) علياً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (يا علي ثلاث من الوسواس: أكل الطين وتقليم الأظافر بالأسنان وأكل اللحية)(1).فبعض الناس يبتلى بالوسوسة في عقيدته وتتحدث نفسه معه بأحاديث الكفر في ذات الله تعالى فيظن انه لم يعد مؤمناً والحقيقة غير ذلك بدليل رفضه لهذا الحديث الباطني، فقد روى الشيخ الصدوق بسند صحيح عن عبدالله بن سنان قال (كنّا جلوساً عند ابي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) اذ قال له رجل: أتخاف عليَّ أن أكون منافقاً؟ فقال له: اذا خلوت في بيتك نهاراً أو ليلاً أليس تصلي؟ فقال: بلى:فقال فلمن تصلي؟ قال: لله عزوجل، فقال: فكيف تكون منافقاً وأنت تصلي لله عزوجل لا لغيره)(2).

وان كثيراً من الناس يبتلى بالوسوسة في صلاته ووضوئه وطهارته ويلبسّها عليه الشيطان باعتقاد انها من الاحتياط الحسن واتقان العمل والأمر غير ذلك كما تقدم في الرواية عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الرد على من اعتبرها من العقل.

ويبتلى آخرون بالوسوسة في علاقاتهم مع الاخرين فيشك في زوجته ويتهمها بالخيانة الزوجية ويحاول اقناع نفسه بأدلة تضحك الثكلى وآخر يشك في بنته وكم من سلطان شك في ان ابنه يتآمر عليه فيأمر بقتله كالشاه عباس الصفوي وآخرون يبتلون بالوسواس في حياتهم العامة فتراه ينجز عملاً ما ثم يشك هل قام به ام لا ونحو ذلك.

ص: 318


1- بحار الأنوار: 76/ 108
2- وسائل الشيعة: 1/ 60 ، باب 8 ح 6

وقد وضع الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) قاعدة عامة للقضاء على هذه الحالة صاغها الفقهاء بقولهم (لا شك لكثير الشك)(1) و(كثير الشك لا يعتني بشكه) فالعلاج ان يعرض عن هذه الوساوس ولا يلتفت اليها ويهملها ولا يرتب عليها أي اثر فانها ستزول بإذن الله تعالى اما اذا استجاب لها وبنى عليها عملياً واقتنع بها فانها ستتركز وتتعمق في نفسه حتى تصبح شغله الشاغل ولا تفارقه حتى تخرّب عليه دينه وتنكد حياته وتحرمه من الاستقرار وراحة البال، قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (إذا تطيرت فامض، وإذا ظننت فلا تقض)(2) أي اذا حصل عندك شك وتردد ووسوسة فلا تلتفت اليه وامضِ الى ما عزمت عليه .كما تضمنت الروايات ذكر بعض الأغذية المفيدة في دفع الوسوسة كالذي رواه الشيخ الكليني في الكافي بسنده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من أكل حبة من الرمان أمرضت شيطان الوسوسة أربعين يوماً)(3) .

ص: 319


1- تعبيران عن قاعدة فقهية معروفة، قد ذُكرت في أغلب بحوث القواعد الفقهية, وكذلك وردت كثيراً على لسان الفقهاء, ولم يخدش فيها أحد منهم؛ مما يدل على قبولها. اُنظر: البجنوردي، محمد حسن، القواعد الفقهية: ج2، ص345
2- وسائل الشيعة: 18/ 38
3- الكافي: 6/ 353

اضاءات قرآنية

إضاءة(1) :أعطوا للقرآن الكريم دوراً متميزاً في حياتكم

بعض المتحدثين حينما ترد الآيات القرآنية في كلامه يميّزها بالإلقاء عن بقية كلامه فيرتّلها، وكذلك دأبت دور النشر في السنين الأخيرة على تمييز الآيات القرآنية بالخط عن بقية الكتاب فتوضع بنفس الرسم القرآني، ولعل غرضهم في ذلك لتنبيه القارئ إلى عدم مسِّها إلا بطهور ونحوها من الأغراض.

وهذا الفعل المبارك وهو تمييز النصوص القرآنية عن غيرها في محلّه لكننّا نفهم منه معنى أوسع من هذا الذي أرادوه، لأنّ نظم القرآن ومعانيه من صنع الخالق تبارك وتعالى فمن الطبيعي أن تتميّز عن صنع المخلوقين مهما كانوا متقنين للفصاحة والبلاغة.

يروي صاحب كتاب (في ظلال القرآن) انه كان على ظهر باخرة مسافراً إلى الولايات المتحدّة وفي يوم الجمعة أقام صلاة الجمعة وألقى خطبتيها، وكان المسافرون من أديان شتّى ولغات مختلفة، فوقف غير المسلمين ينظرون إلى هذا المشهد الغريب عنهم، بينهم سيّدة يوغوسلافية كانت تنصت وتتابع حتى انتهى من الصلاة فسألها عن معنى انشدادها وهي لا تفهم العربية، فقالت:لا أدري لكنّني وجدت نفسي منجذبة إلى الجو الذي أوجدته كلماتك وقالت أن الذي لم أستطع تفسيره هو أن كلمات تخللتها خطبتك كانت تشدّني وتجذبني أكثر ولا أعرف لماذا؟ يقول سيد قطب لكنني أعرف أنها الآيات القرآنية التي كنت أضمّنها في خطابي.

ص: 320

هذا هو القرآن الكريم في تأثيره على النفوس وبشفائه للروح وانسجامه مع الفطرة وتطهيره القلب الذي لم يطبع عليه الرين حتى وإن لم يكن يفهم ألفاظه، وهذا هو القرآن الكريم في تميّزه عن كلام المخلوقين، وهذا مظهر من مظاهر إعجازه، وربّانية صنعه ومصدره.خلافاً لما يرد في الإشكال الذي واجهه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ويردّده اليوم مدّعو الحداثة والتجديد الفوضوي غير المنضبط، وهو أن القرآن من صنع البشر سواء كان النبي محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نفسه أو غيره ممن يزعمون أنّه علّمه، وأجاب القرآن بوضوح {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (النحل:103) وقال تعالى {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} (النساء:82).

هذا التمييز للقرآن الكريم يجب أن نحافظ عليه في حياتنا فنعطيه هذا الدور المتميّز عن غيره من سائر أولوياتنا فنواظب على تلاوته ونتدبر في آياته ونتخذه دستوراً في حياتنا لا نحيد عنه، ونبراساً يضيء لنا الدرب، ومرجعاً لنا في كل قضايانا وحل مشاكلنا.

فلا نبخل على القرآن بدقائق يومياً في أوقات صلواتنا أو فراغنا لنتلو عدداً من الآيات الكريمة، وقلت مراراً أن الأولى أن تكون في مصحف مؤطّر بتفسير بسيط لمفرداته وآياته كتفسير شبر لنحيط ولو إجمالاً بالمعاني العامة للقرآن الكريم، وهو كتاب جليل وضعه مؤلفه بعد مراجعة عدة تفاسير واطّلع على الأقوال المختلفة. وليكن لكل فرد من الأسرة نسخة واحدة على الأقل من

ص: 321

المصحف تختص به، والأفضل أكثر من نسخة، هذا غير المصاحف الأخرى الموجودة في الدار.وأؤكد عليكم أيها الشباب بالعمل بهذه النصيحة فإنكم في بداية حياتكم ونقطة الانطلاق لتأسيس مستقبلكم، فعندما يكون الأساس هو القرآن الكريم وعلومه ومعارفه فإن المستقبل يكون سعيداً قوياً مثمراً بلطف الله تبارك وتعالى، وفي كل الميادين سواء في دراستك أو عملك وكسبك أو في علاقاتك مع أهلك والآخرين، فضلاً عن العلاقة السامية مع ربك والنبي وآله الطاهرين (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

وقد جّربت ذلك في حياتي عندما كنت في بداية العشرينيات من عمري ومنّ الله تعالى عليّ بالأنس بالقرآن وملازمة له ولازلت أحيى بركاته والحمد لله وحده.

ص: 322

الصورة

ص: 323

ص: 324

الفهرست الإجمالی

الصورة

ص: 325

الصورة

ص: 326

الصورة

ص: 327

الصورة

ص: 328

الفهارس

ص: 329

ص: 330

الصورة

ص: 331

الصورة

ص: 332

الصورة

ص: 333

الصورة

ص: 334

الصورة

ص: 335

الصورة

ص: 336

الصورة

ص: 337

الصورة

ص: 338

الصورة

ص: 339

الصورة

ص: 340

الصورة

ص: 341

الصورة

ص: 342

الصورة

ص: 343

الصورة

ص: 344

الصورة

ص: 345

الصورة

ص: 346

الصورة

ص: 347

الصورة

ص: 348

الصورة

ص: 349

الصورة

ص: 350

الصورة

ص: 351

الصورة

ص: 352

الصورة

ص: 353

الصورة

ص: 354

الصورة

ص: 355

الصورة

ص: 356

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.